نتائج البحث عن (فَخَرْجَ)
1-العربية المعاصرة (حرب)
حرَبَ يَحرُب، حَرْبًا، فهو حارب، والمفعول مَحْروب.* حرَبه بالحَرْبةِ: طعَنه بها (أخذ المقاتلُ يحرُب كلَّ من يقابله لنفاد ذخيرته).
* حرَب الشَّخصَ: سلَبه جميعَ ما يملك (حرَب قطّاعُ الطُّرق المسافرين).
حرِبَ يَحرَب، حَرَبًا، فهو حَرِب.
* حرِب الرَّجلُ: اشتدّ غضبُه.
احتربَ يحترب، احْترابًا، فهو مُحترِب.
* احترب القومُ: قاتل بعضُهم بَعْضًا (يجب العمل على إزالة أسباب الصِّراع والاحتراب القَبَليّ).
تحاربَ يتحارب، تَحارُبًا، فهو مُتحارِب.
* تحاربَ الخصمان: تقاتلا، حارب أحدُهما الآخرَ (ليس من الإسلام تحارُبُ المسلمين).
حاربَ يحارب، مُحارَبةً وحِرابًا، فهو مُحارِب، والمفعول مُحارَب.
* حارَب العدوَّ: عاداه، قاتله وقاومه (مسئوليّة الجيش الأولى أن يحارب من يعتدي على الوطن- حارب بِدْعة- حارب في سبيل قضيّة) (*) محارب قديم/محاربون قدماء/محاربون قدامى: من شارك أو شاركوا في حروب سابقة- يحارب طواحينَ الهواء: يعيش في الأوهام، يخطِّط بأسلوبٍ غير علميّ.
* حارب اللهَ: عصاه وكأنَّه أقام عليه الحرب {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا} [قرآن].
حِرابة [مفرد]:
1 - محاربة وقتال.
2 - قَطْعُ الطَّريق على المارّة وسلبهم بقوّة السِّلاح.
حَرْب [مفرد]: جمعه حُروب (لغير المصدر):
1 - مصدر حرَبَ.
2 - قتال ونِزال بين فئتين، عكسه سِلْم (إذا أردت السِّلْمَ فاستعدّ للحرب- وما شهداءُ الحرب إلاّ عمادها.. وإن شيَّد الأحياءُ فيها وطنَّبوا- الْحَرْبُ خُدْعَةٌ [حديث] - {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [قرآن]: حتَّى تنتهي وينقضي أمرُها- {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ} [قرآن]: كلّما أثاروا الفتن ودبَّروا المكائدَ التي تؤدّي إلى وقوع الحرب بين النّاس أطفأ الله مساعيهم) (*) حَرْبُ الاستِنْزاف: مناوشات حربيَّة غير متّصلة بقصد استهلاك قوى العدوّ وإفناء موارده- حَرْبٌ إعلاميّة: تقوم بين أجهزة الإعلام في الدُّول المتنازعة- صندوق الحرب: تجميع الأموال لتمويل المجهود الحربيّ- صَيْحة الحرب: صَيْحة يطلقها المحاربون عند الهجوم- استعرتِ الحربُ: اشتدَّت واحتدمت- الحرب بينهم سِجال: مستمرَّة بين الطّرفين دون انتصارِ طرف أو هزيمة آخر- حَرْبٌ أهليَّة/حَرْبٌ طائفيّة: صراع مسلَّح يقع بين أبناء الوطن الواحد- حَرْبٌ خاطفة: هجوم سريع ومفاجئ تشارك فيه القوات الجوِّيَّة والبرِّيَّة، مبنيّة على مبدأ الهجوم الصاعق- حَرْبٌ عالميّة: تشترك فيها دول العالم- أركان الحرب: قواد الجيش الحاصلون على مؤهّلات عليا في العلوم العسكرية، جماعة القُوّاد الذين تصدر عنهم خُطط قيادة الجيش، والمكان الذي يجتمع فيه هؤلاء القوّاد- وضَعت الحربُ أوزارَها: انقضت، لم يبق قتال- حَرْبُ الأعصاب: حربٌ نفسيَّة تهدف إلى إرباك وإنقاص الرُّوح المعنويَّة للخصم- دَقَّ طُبولَ الحرب: أعلنها، أثارها- حَرْبُ الجراثيم/حَرْبٌ جُرْثوميّة: حرب تُستخدم فيها الجراثيم المؤذية كالبكتيريا والفيروسات- أوقد نارَ الحرب: أثارها وهيَّجها- أطفأ الحرب: أهمدها حتى تبرد- حَرْبُ العِصابات: حربٌ يكون أحدُ طرفَي القتال فيها جنود غير نظاميين يهاجمون عدوَّهم كلَّما سنحت لهم فرصة مناسبة ثمَّ يَفرُّون إلى مكانٍ آمِن- أنت حربٌ علينا/أنت حربٌ لنا: عدوّ- حَرْبٌ نفسيَّة: محاولة التَّأثير على المعنويَّات في أوقات الحرب- حَرْبٌ وقائيّة: حرب يدّعي مثيروها أنّها حرب دفاعيَّة يريدون بها حماية بلادهم من غزوٍ مُحتمَل- رَجُل حَرْب: خبير في إدارة المعارك الحربيّة- قامتِ الحربُ على قَدَم وساق: اشتدّ الأمر وصعب الخلاص منه- الحرب العالميَّة الأولى: تُسمَّى الحرب العظمى وقعت بين عامي 1333 - 1337ه/1914 - 1918م- الحرب العالميّة الثَّانية: وقعت بين عامي 1358 - 1365ه/1939 - 1945م بين دول المحور (ألمانيا- إيطاليا- اليابان) والحلفاء (بريطانيا- فرنسا- الولايات المتحدة- روسيا) وانتهت بانتصار الحلفاء- الحروب الصَّليبيّة: وقعت بين جيوش من نصارى أوربَّا والشَّرق الإسلاميّ أثناء القرون 11و 12و 13 الميلاديّة بدعوى تخليص بيت المقدس وما حوله- الحرب النَّوويَّة: ما تستخدم فيه الطّاقة النَّوويّة أو القنبلة الذَّرِّيَّة- دارَت رحى الحرب: اشتعلت واشتدَّت- ابن الحرب: الشُّجاع الذي تعوَّد الحربَ وألِفها- كشَفتِ الحربُ عن ساقِها/شمَّرتِ الحربُ عن ساقِها: قويت واشتدّت- جرائم الحرب: جرائم تحدث في الحروب مثل التَّطهير العرقيّ وإساءة معاملة سُجناء الحرب ممّا يُعدّ خرقًا لأعراف الحرب.
* الحرب البارِدة: حرب سلاحها الدِّعاية والكلام واختلاق الإشاعات والتصريحات الاستفزازيّة.
* حرب الشَّوارع: [في العلوم العسكرية] معارك تدور بين قوّات الغزو وأهل البلد المغزوّ وتُسمَّى كذلك حرب المدن (فوجئ الاحتلال الفرنسيّ لبلدة رشيد بحرب شوارع ضارية أجبرته على التراجع).
حَرَب [مفرد]:
1 - مصدر حرِبَ (*) واحَرَباه: عبارة تقال لإظهار الحزن والتأسُّف.
2 - ويل وهلاك (الدَّيْنُ أوَّلُه همٌّ وآخرُه حَرَب).
حَرِب [مفرد]: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من حرِبَ: شديد الغضب سريع الانفعال.
حِرْباء [مفرد]: جمعه حَرابيُّ، والمؤنث حرباءة: [في الحيوان] دُوَيْبَّة من الزَّواحف ذات قوائم أربعة، دقيقة الرأس، مخطَّطة الظَّهر، لها عينان كبيرتان، تحرِّك كُلّ واحدة في اتِّجاه يختلف عن اتِّجاه الأخرى، تستقبل الشَّمس نهارَها وتدور معها كيف دارت، وتتلوَّن ألوانًا مختلفة، ويُضرب بها المثلُ في الحزم والتلوّن (يتلوّن في مواقفه تلوّن الحرباء- أحزم من حرباء [مثل]).
حِرْبائيّ [مفرد]:
1 - اسم منسوب إلى حِرْباء.
2 - انتهازيّ، يتقلّب ويتلوَّن بتلّون الأحداث كالحِرباء (شخصية حِربائيّة).
حَرْبَة [مفرد]: جمعه حَرَبات وحَرْبات وحِراب:
1 - آلة قصيرة من الحديد محدَّدة الرأس تستعمل في الحرب، أو سلاح أقصر من الرُّمح، عريض النَّصل (*) رأَْس الحَرْبة: قسم من جهاز عسكريّ يعمل مباشرة ضدّ العدوّ، لاعب مهاجم في كرة القدم يقود الفريق في منطقة المناورات أمام مرمى الخصم، مهمَّته إحراز الأهداف ومراوغة المدافعين.
2 - حديدة محدَّدة الرأس ذات عقّافة أو عقّافات مركَّزة في مقبض طويل، تستعمل لصيد الأسماك الكبيرة وخصوصًا الحيتان.
حَرْبيَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى حَرْب: (معدَّات حَرْبيَّة: أسلحة وتجهيزات عسكرية).
2 - مصدر صناعيّ من حَرْب: ما يتّصل بشئون الحرب والدفاع (وزارة الحربيّة).
مِحْراب [مفرد]: جمعه مَحاريبُ:
1 - مقام الإمام من المسجد (مِحْراب المسجد).
2 - حجرة في صدر المعبد أو المسجد {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} [قرآن].
3 - صدر البيت وأكرم موضع فيه.
4 - غُرْفَة {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} [قرآن].
5 - قَصْر، بناء مرتفع {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} [قرآن].
6 - مسجد، مكان للخلوة والعبادة {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} [قرآن].
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
2-العربية المعاصرة (رقب)
رقَبَ يَرقُب، رَقابةً ورَقْبًا ورُقوبًا، فهو راقب ورقيب، والمفعول مَرْقوب.* رقَب الشَّيءَ: انتظره (يرقُب وصول الطَّائرة بلهفة- {وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيْبٌ} [قرآن] - {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [قرآن]) (*) أرقب لك صبحًا.
* رقَب فلانًا: حَرَسَه وحفِظه (ارْقُبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ [حديث] - {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [قرآن]).
* رقَب النَّجمَ: رصَده (بات يرقب النجم: أَرِق فلم ينم).
* رقَب الأمرَ: لاحظه وراعاه (يتصرف بلا رقيب ولا حسيب- ارقب المسجون حتى لا يهرب) - لا يَرقُب فيه إلاًّ ولا ذمَّة: لا يراعي عهدًا ولا حقًّا.
رقِبَ يَرقَب، رَقَبًا، فهو أَرقَبُ.
* رقِب الشَّخصُ: غلُظت رقبتُه (رجلٌ أرقبُ).
أرقبَ يُرقب، إرقابًا، فهو مُرقِب، والمفعول مُرقَب.
* أرقبه دارًا أو أرضًا أو نحوَهما: جعلها له فإن مات أحدهما صارت للحيّ منهما، وهو من الرُّقبى؛ لأن كلَّ واحدٍ منهما ينتظر أو يرقب موت الآخر، لتكون له الدّار، أو الأرض، أو نحوهما.
ارتقبَ يرتقب، ارتقابًا، فهو مُرتقِب، والمفعول مُرتقَب.
* ارتقبَ الشَّيءَ: رقَبه، انتظره وتوقَّعه (ارتقب الفرصةَ- من المرتقب وصول الوفد الدبلوماسيّ غدًا- {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [قرآن]).
تراقبَ يتراقب، تراقبًا، فهو مُتراقِب.
* تراقب الشَّخصان: راقب كلٌّ منهما الآخر أي لاحظه وحرسه (كان كل منهما يحذر الآخر فأخذا يتراقبان).
ترقَّبَ يترقَّب، ترقُّبًا، فهو مُترقِّب، والمفعول مُترقَّب (للمتعدِّي).
* ترقَّب الرَّجُلُ:
1 - انتظر ما يحصل له من فَرَجٍ أو مكروه {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [قرآن].
2 - ترصَّد الأخبار {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [قرآن].
* ترقَّب الشَّيءَ: رقَبَه؛ انتظره وتوقَّعه (ترقَّب النتيجةَ/لحظة صدور الحكم/طلوع الفجر- ترقَّب الفرصة: تحيَّنها- مجابهة المخاطر خيرٌ من ترقُّبها في خوف دائم [مثل أجنبيّ]: يماثله في المعنى المثل العربيّ: توقّع الشّرّ أشرّ) (*) سياسَةُ الانتظار والتَّرقُّب.
راقبَ يراقب، مُراقبةً، فهو مُراقِب، والمفعول مُراقَب.
* راقبَ الشَّخصَ أو الشَّيءَ: رقَبه، حرَسه ولاحظه ورصَده (راقب العدوَّ- راقب النَّجمَ: رصده- مُراقِب امتحان/المشروع- من راقَب ما عند الغير لم يعجبه ما عنده) (*) غير مراقَب: لم يتم فحصه أو إخضاعه للرَّقابة أو إعطاؤه تصنيفًا لتضمنه مواد غير لائقة- يراقب بانتباه: يتّبع شخصًا أو اتجاهًا باهتمام مستمرّ.
* راقَب اللهَ في أموره: خافه وخشيه.
أَرْقَبُ [مفرد]: جمعه رُقْب، والمؤنث رَقْباء، والجمع المؤنث رُقْب ورَقْباوات: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من رقِبَ: غليظ الرَّقبة.
رَقابة [مفرد]:
1 - مصدر رقَبَ (*) حقُّ الرَّقابة: حق القيام بالمراقبة والإشراف على عمل.
2 - مهنة مَنْ يراقب ويطَّلع على المطبوعات قبل نشرها (تم فرض رقابة مشدّدة على المصنّفات الفنيّة/الأسعار) (*) الرَّقابة الصَّحفيّة/الرَّقابة الصُّحفيّة: اطِّلاع السُّلطة على الصُّحف قبل نشرها- رقابة المطبوعات: عمل من يراقب الكتب والمطبوعات والأفلام والمسجّلات قبل التَّصريح بتداولها.
3 - [في علوم النفس] منع الأفكار والمشاعر عن الوصول إلى الوعي إلا بشكل مقنع.
* الرَّقابة الإداريَّة: مراقبة الإدارة للتأكُّد من مطابقة تصرُّفاتها للقانون، وذلك بناءً على طلب الأفراد أو من تلقاء نفسها (*) رَقابة البريد: عمل من يراقب المراسلات البريديّة.
* رَقابة الصَّرْف: [في الاقتصاد] تدخّل الحكومة أو المصرف المركزيّ في سعر الصَّرف للعملات.
رَقْب [مفرد]: مصدر رقَبَ.
رَقَب [مفرد]: مصدر رقِبَ.
رَقَبانيّ [مفرد]: اسم منسوب إلى رَقَبة: على غير قياس: عظيم الرقبة.
رَقَبة [مفرد]: جمعه رَقَبات ورِقاب ورَقَب:
1 - عُنُق (اقطع رقبة عَدُوِّك بالسَّيف- لا تدع لسانك يقطع رقبتك [مثل أجنبيّ]: يماثله في المعنى المثل العربيّ: كم في المقابر من قتيل لسانه- {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [قرآن]: وهو مجاز عن القتل) (*) الأحداث يأخذ بعضها برقاب بعض: تتوالى بسرعة- الموتُ على الرِّقاب: لا ينجو منه أحد- رقبتي سَدَّادة: وعد بالمساعدة بكل ما يملك- غليظُ الرَّقبة: جِلْف، عنيد- منديل الرَّقبة: منديل من القماش يوضع حول الرَّقبة- هذا الأمرُ في رَقَبتك: مَنوطٌ بك.
2 - جميع ذات الإنسان أو الشَّيء، وذلك من تسمية الشَّيء باسم بعضه لشرفه (دَيْنُك في رقبتي- لنا رِقابُ الأرض: ذاتُها ونفسُها).
3 - مملوك، أسير، رقيق {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [قرآن] (*) فكَّ رقبتَه: أعتقه.
* رَقَبة الكمان أو العود: [في الموسيقى] الجزءُ العلويّ بعد الصندوق.
* رقبة الطَّريق: الأرض التي تمرّ فيها الطّريق (يملك رقبة الطَّريق: أرضها).
رُقْبَى [مفرد]: أن يُعطي إنسانٌ آخرَ دارًا أو أرضًا، فإن مات أحدُهما كانت للحيّ، فكلاهما ينتظر وفاةَ صاحبه ويترقّبها.
رَقوب [مفرد]:
1 - مَنْ لا يستطيع الكسب من الشيوخ والأرامل لأنه يرتقب أو ينتظر معروفًا أو صلة (*) أمُّ الرَّقوب: الداهية.
2 - امرأة تراقِب وتنتظر موت زوجها لترثه أو تتزوَّج غيره.
3 - زوجان لا يبقى لهما ولد.
رُقوب [مفرد]: مصدر رقَبَ.
رقيب [مفرد]: جمعه رُقَبَاءُ:
1 - صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من رقَبَ (*) رقيبٌ عتيد: مراقب حاضر يَقِظ- هو رقيب الجيش والقوم: طليعتهم- هو رَقيب نفسه: أي ينتقد أعمالَه فلا يدع سبيلًا للنَّاس إلى لومه.
2 - مَنْ يُراجع الصُّحُف والرسائل والكتب والأفلام قبل تداولها أو الإفراج عنها ليمنع ما يخدش الحياء أو يخالف سياسة الحكومة.
3 - [في العلوم العسكرية] رَتْبة في الجيش والشُّرطة، فوق العريف ودون الرقيب أوّل (بدرجة رقيب).
4 - جنديّ مكلَّف بمراقبة الدوريّة.
5 - موظف يعيَّن لإبقاء النظام والحفاظ على الأمن ضمن منظمة تشريعيَّة أو قضائية أو تنظيم اجتماعيّ معين.
6 - [في علوم النفس] قوة نفسيَّة في اللاوعي مسئولة عن الرَّقابة.
* الرَّقيب: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء، ولا تخفى عليه خافية، والذي لا يغفل عمّا خلق، والمترقِّب المنتظِر من عباده خضوعَهم له، وخشيتَهم منه، وخشوعَهم لعظمته ({إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [قرآن]: مراعيًا حافظًا).
مُراقِب [مفرد]:
1 - اسم فاعل من راقبَ (*) مراقب الامتحانات: ملاحظ يشرف على التزام الطُّلاب أثناء الامتحان بقواعد اللجنة.
2 - [في الرياضة والتربية البدنية] مَن يراقب ويحمي المتمرِّن خلال التدريب لمنع الإصابة، كما في التمرينات الرياضيَّة.
* مُراقِب الحسابات: [في التجارة] أحد المحاسبين المتخصصين يختار لمراجعة حسابات الشَّركة والتأكّد من سلامتها، ويلتزم بتقديم تقرير عن عمله في نهاية السَّنة الماليَّة للشَّركة.
مُراقَبة [مفرد]: جمعه مُراقَبات:
1 - مصدر راقبَ (*) بُرْج المراقبة: برج في المطار يتولَّى تنظيم إقلاع الطائرات وهبوطها، بناء يُخصَّص لمراقبة السُّفن أو الطَّائرات والبوارج وغيرها لغرض المراقبة للطَّائرات بالتَّحليق أو الهبوط- رسالة مراقبة: فتحت بمعرفة الحارس- مراقبة الأسعار: تحديد أسعار الموادّ والسِّلع لمنع حدوث تضخّم- مراقبة الإنتاج: عمليّة إجراء الاختبارات والقياسات اللازمة للتَّحقُّق من مطابقة المنتجات للمواصفات المحدَّدة لها في التصميمات- مَوْضوع تحت المراقبة: يحدث هذا عادة للخطرين على الأمن أو المُفْرَج عنهم حديثًا- نُقْطة مراقبة.
2 - عمل الحارس الخفير.
3 - قسم من أقسام الإدارة (مُراقَبة الامتحانات/المطبوعات/الأسلحة- مُراقَبة ماليَّة).
4 - [في القانون] تعليق حكم على شخص مدان بتهمة ومنحه حريّة مؤقَّتة على أساس التعهُّد بحسن السلوك (*) ضابط المراقبة: ضابط مسئول عن مراقبة المدانين الطلقاء ذوي الأحكام المعلَّقة أو الموضوعين تحت المراقبة.
مَرْقَب [مفرد]: جمعه مَراقِبُ: اسم مكان من رقَبَ: مكان عالٍ يوقف عليه لتتسع الرؤية للمراقبة (صَعِد إلى المَرْقَب ليتابع حركة المرور في الميدان- مَرْقَب فلكيّ).
مِرْقَب [مفرد]: اسم آلة من رقَبَ: راصدة وهي آلة مجهَّزة لرصد كواكب الفلك وسيّاراته.
مَرْقَبَة [مفرد]: جمعه مَراقِبُ: مَرْقَب؛ موضِع المراقبة (من المَرْقَبَة تضبط تحركات العدوّ).
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
3-العربية المعاصرة (راب)
رابَ يَروب، رُبْ، رَوْبًا ورُءوبًا، فهو رائب.* رابَ اللَّبنُ: خثُرَ، أو مُخِض فخَرج زُبْدُه (*) راب دمُه: حان هلاكُه.
* راب الأمرُ: صار شائكًا، فيه شُبهةٌ.
أرابَ يُريب، أَرِبْ، إرابةً، فهو مُريب، والمفعول مُراب.
* أراب اللَّبنَ: جعله خاثرًا، أو مخضه فخرج زُبدُه.
روَّبَ يُروِّب، تَرْويبًا، فهو مُرَوِّب، والمفعول مُرَوَّب.
* روَّب اللَّبنَ: جعله رائبًا، مخضه فخرج زُبْدُه (تروِّب الفلاَّحة لبنَ بقرتها).
إرابَة [مفرد]: مصدر أرابَ.
رُءوب [مفرد]: مصدر رابَ.
رائب [مفرد]: جمعه رَوْبَى:
1 - اسم فاعل من رابَ.
2 - ما ليس فيه شُبْهَةٌ ولا كَدَرٌ من الأمور.
رَوْب [مفرد]: مصدر رابَ (*) لا شَوْبٌ ولا رَوْب: لا غشٌّ ولا تخليط ولا خداع في البيع، وأصل الشَّوْب الخلط، والرَّوب من اللَّبن الرَّائب لخلطه بالماء.
رُوب [مفرد]: جمعه أَرْواب: نوع من الثِّياب يشبه العباءة (رُوب المحاماة- الرُّوب الجامعيّ).
رَوْبَة [مفرد]: جمعه رَوَبات ورَوْبات: خميرة من الحامض تُلْقى في اللَّبن ليخثُر (ليتحوَّل سُكَّرُه إلى حامضٍ لبنيّ) (أَلقَى الرَّوْبةَ في اللَّبن الحليب).
مِرْوَب [مفرد]: جمعه مَراوِبُ: اسم آلة من رابَ: وعاءٌ يخثُر فيه اللَّبن (من الأفضل أن يصنع المِرْوَبُ من الفخَّار).
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
4-العربية المعاصرة (زان)
زانَ يَزين، زِنْ، زَيْنًا، فهو زائن، والمفعول مَزِين.* زان كلامَه: حسَّنه وجمَّله، نقيض شان (زان الصورة- فيارَبِّ إذ صّيرْتَ لَيْلى لِي الهوى.. فِزِنِّي لعينيها كما زِنتها ليَا).
ازدانَ ب يَزدان، ازْدَنْ، ازْدِيانًا، فهو مُزدان، والمفعول مزدان به.
* ازدانتِ الحديقةُ بالأزهار: حسُنت وجمُلت (ازدانت العاصمةُ بالأعلام في عيد النصر- ازدانت الأرضُ بعشبها) (*) ازدان فراشُه بمولودٍ: رُزق بمولود جديد.
ازَّيَّنَ يَزَّيَّن، فهو مُزَّيِّن.
* ازَّيَّن الشَّيءُ: تزيَّن، ازدان، حسُن وجمُل (ازيَّنتِ الأرضُ بعُشبها- {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} [قرآن]: تجمَّلت بالحبوب والثمار والأزهار).
تزيَّنَ يَتزيَّن، تزيُّنًا، فهو متزيِّن.
* تزيَّنت المدينةُ: ازدانت، حسُنت وجمُلت (تزينت المرأةُ لزوجها- {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَتَزَيَّنَتْ} [قرآن]).
زيَّنَ/زيَّنَ ل يزيِّن، تزيينًا، فهو مُزيِّن، والمفعول مُزيَّن.
* زيَّن الصُّورةَ: زخرَفها.
* زيَّنت المرأةُ وجهَها: جمَّلته وحسَّنته (ليس الجمال بأثواب تُزيِّننا.. إن الجمال جمالُ العلم والأدبِ- {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [قرآن]).
* زيَّن عقلَه: أغناه (كثرة الاطِّلاع تزيِّن العقول).
* زيَّن الشَّيطانُ لفلان: وسوس له وأغواه ({وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [قرآن]: خدعهم؛ فجعل أعمالهم حسنة في أعينهم).
ازديان [مفرد]: مصدر ازدانَ ب.
زائن [مفرد]: اسم فاعل من زانَ.
زِيانة [مفرد]: حرفة المُزيِّن.
* زيانَة العريس: ما يقوم به المُزيِّن لتجميله (التفّ حوله الأصدقاء في ليلة عُرْسه وشاهدوا زيانته وحنّاءه).
زَيْن [مفرد]: جمعه أزيان (لغير المصدر):
1 - مصدر زانَ.
2 - كلّ ما يُزيَّن به (*) زَيْن الديك: عُرْفه.
زِينة [مفرد]: جمعه زِينات وزِيَن:
1 - مايُتزيَّن به (زينة الوجه- شجر الزِّينة- {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [قرآن] - {يَابَنِي ءَادَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [قرآن]: أطهر الثياب وأحسنها) (*) أمراض الزِّينة: مايكون منها بالشَّعر والجلد والأظفار كالكلف والنَّمش وغير ذلك- يَوْمُ الزِّينة: يوم العيد.
2 - كل ما يفاخر به في الدنيا من مال وأثاث وجاه {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [قرآن].
زَيْنُون/زِينُون [مفرد]: [في الكيمياء والصيدلة] عنصر خامل يُوجد في الهواء الجويّ بكميّات ضئيلة تملأ به المصابيح الكهربيّة.
مُزْدان [مفرد]:
1 - اسم فاعل من ازدانَ ب.
2 - اسم مفعول من ازدانَ ب.
مُزَيِّن [مفرد]:
1 - اسم فاعل من زيَّنَ/زيَّنَ ل.
2 - حَلاّق (مُزَيِّن عصريّ).
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
5-العربية المعاصرة (سكع)
سكَعَ يَسكَع، سَكْعًا، فهو ساكِع وسُكَع، والمفعول مَسْكوع (للمتعدِّي).* سكَع الرَّجلُ: مشى متعسِّفًا بلا هدف لا يدري أين يأخذ من البلاد، ضلَّ وتحيَّر (من لم يشاور الحكماء سكَع).
* سكَع فلانًا: ضَرَبه على رأسِه أو على قفاه.
تسكَّعَ/تسكَّعَ في يتسكَّع، تسكُّعًا، فهو مُتَسَكِّع، والمفعول مُتسكَّعٌ فيه.
* تسكَّع الشَّخصُ/تسكَّع الشَّخصُ في الظلام: مُطاوع سكَّعَ: سكع، تخبَّط، مشى لا يدري له وُجْهة (ملّ من الجلوس في البيت فخرج يتسكّع في الشوارع- تسكَّع المجرمُ في غيِّه: تمادى فيه) (*) تسكّع في أمره: لم يهتدِ لوجهته.
سكَّعَ يُسكِّع، تَسْكِيعًا، فهو مُسَكِّع، والمفعول مُسَكَّع.
* سكَّعته البطالةُ: جعلته هائمًا على وجهه لا يدري له وجهة.
سَكْع [مفرد]: مصدر سكَعَ.
سُكَع [مفرد]: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من سكَعَ.
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
6-العربية المعاصرة (عصر)
عصَرَ يعصُر ويَعصِر، عَصْرًا، فهو عاصِر، والمفعول مَعْصور.* عصَر البرتقالَ ونحوَه: ضغطه واستخرج ما فيه من سائل (عصر الدُّمَّلَ: استخرج مِدَّتَه- عصَر اللَّيمونَ- {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [قرآن]).
* عصَر الثَّوبَ: استخرج ماءه بلَيِّه (عصرَ غسيلًا- لا تكن رطبًا فتُعْصَر ولا يابسًا فتكسر- {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [قرآن]: تنجون من البلاء).
اعتصرَ يعتصر، اعتصارًا، فهو مُعْتَصِر، والمفعول مُعْتَصَر.
* اعتصرَ البرتقالَ ونحوَه: عصرَه؛ ضغطه واستخرج ما فيه من سائل واتّخذَه عصيرًا يُشْرَب (اعتصر عنبًا- {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْتَصِرُونَ} [قرآن]) (*) اعتصر القلقُ قلبَه: اشتدَّ به وأحزنه وأغمَّه- اعتصره الهَمُّ: أضناه، وأنهكه.
* اعتصر الثَّوبَ: عصره؛ استخرج ماءَه بلَيّه.
انعصرَ ينعصر، انعصارًا، فهو مُنْعَصِر.
* انعصر الشَّيءُ: مُطاوع عصَرَ: عُصِرَ، ضُغِط عليه فخرج ما فيه من ماءٍ أو دُهْنٍ أو سائلٍ (انعصرتِ الفاكهةُ- انعصر العنبُ) (*) انعصر فؤادُها حُزْنًا: أي كأنّما ضغطه الحزنُ حتَّى كاد يسيل منه الدَّمُ، مبالغة في تصوير شدّة الحزن.
تعاصرَ يتعاصر، تعاصُرًا، فهو متعاصر.
* تعاصر الشَّخصان: كانا في عصر واحد (تعاصر أحمد شوقي وحافظ إبراهيم).
تعصَّرَ يتعصَّر، تعصُّرًا، فهو مُتَعَصِّر.
* تعصَّر البرتقالُ:
1 - مُطاوع عصَّرَ: ضُغِط حتَّى خرج ما فيه من سائل (تعصَّرتِ الطَّماطمُ) (*) تعصَّر قلبهُ حزنًا: انفطر.
2 - تجدَّد، ماشَى روحَ العصر (تعصَّرت المؤسساتُ الحكوميّةُ- تعصَّرت الأجهزةُ المطبعيّة).
عاصرَ يعاصر، مُعاصرةً، فهو مُعاصِر، والمفعول مُعاصَر.
* عاصَره: عاش معه في عصرٍ واحدٍ، أي في زمن واحد (عاصَرَ الخلفاءُ الرّاشدون النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم- عاصر أحداثًا جسيمة- شاعرٌ معاصرٌ: يعيش في عصرنا) (*) الإنسان المعاصر: الجنس الموجود الآن بعد الفصائل المنقرضة منه.
عصَّرَ يعصِّر، تعصيرًا، فهو معصِّر، والمفعول معصَّر.
* عصَّرَ الثَّوبَ: عصَره مرَّة بعد مرَّة.
* عصَّر المؤسَّسة: جدَّدها وحدَّثها.
إعصار [مفرد]: جمعه أعاصرُ وأعاصيرُ: [في الجغرافيا] منطقة ضغط جوّي منخفض، تتحرّك فيها الرِّياح بشدّة حلزونيًّا نحو مركزها، وتكون عكس اتّجاه عقارب الساعة في نصف الكرة الشماليّ، بينما تتّفق واتِّجاه عقارب الساعة في نصف الكرة الجنوبي (أعاصيرُ جوّيَّةٌ- {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} [قرآن]) (*) إنْ كنت ريحًا فقد لاقيتَ إعصارًا [مثل]: يُضرب للمُدِلّ بنفسه إذا صلِي بنارِ مَنْ هو أدهى منه وأشدّ- زمجرة الأعاصير: عَصْفُها.
عاصرة [مفرد]: جمعه عواصِرُ:
1 - صيغة المؤنَّث لفاعل عصَرَ.
2 - اسم آلة من عصَرَ: آلة تُضغط بها بعض الثِّمار أو بعض البذور الزّيتيّة لاستخراج عصارتها (ارتفع سعر العاصرات الكهربائيّة).
* عَضَلة عاصرة: [في التشريح] حلقة من ألياف عضليَّة تغلق مجرى أو فتحة إذا ما انقبضت.
عُصارة [مفرد]:
1 - عصير، ما يُستخرج من الشَّيء المعصور، ما سال عن العصر (عُصارةُ العنب/البرتقال) (*) عُصارةُ فكرِه: خلاصة ما عنده من أفكار- عُصارةٌ هضميَّةٌ: إفرازات تساعد على الهضم.
2 - ثُفْل، نُفاية ما يُعصَر.
3 - [في الأحياء] أملاح معدنيَّة أو عضويَّة ذائبة في الماء الموجود داخل أنسجة وخلايا النبات.
* العُصارة المعديَّة: [في الطب] سائل يفرزه جدارالمعدة يحوي خمائر وحمض الهيدروكلوريك للهضم.
* العُصارة المعويَّة: سائل حامضيّ التَّركيب، وظيفته متابعة عمل العصارة المعديّة في هضم الطّعام واستخلاص موادّه الغذائيّة.
عَصْر [مفرد]: جمعه أعصُر (لغير المصدر) وعُصُور (لغير المصدر):
1 - مصدر عصَرَ.
2 - وقت في آخر النَّهار إلى ما قبل غروب الشَّمس (وصَل عَصْر اليوم- {وَالْعَصْرِ. إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [قرآن]) (*) صلاة العَصْر: الصَّلاة التي تُؤَدَّى وقت العصر.
3 - مرحلة زمنيّة تُنسب إلى ملك أو دولة، أو إلى تطورات طبيعيّة أو اجتماعيّة أو علميَّة، فيقال عصر هارون الرشيد وعصر الدولة العباسيَّة، وعصر البخار والكهرباء وعصر الذرّة والعصر الحديث (العَصْر العباسيّ/الجليدي- عَصْر الذَرّة/الفضاء- عَصْر الرَّسول صلّى الله عليه وسلّم- هو سابقٌ لعَصْره- عَصْر الظَّلام: فترة قمع وجهل) (*) العَصْر الفضّيّ: فترة من التَّاريخ تتميَّز بمنجزات هامَّة ولكنَّها تُعَدّ ثانويَّة بالنِّسبة لمنجزات العَصْر الذَّهبيّ- تولّى عَصْرُك: أي رهطك وعشيرتك.
4 - [في البيئة والجيولوجيا] مدّة زمنيّة طويلة، تقدَّر بعشرات الملايين من السِّنين، تمتاز بتكوُّن خاصّ لبعض طبقات الأرض، مثل العصر الفحميّ والعصر الطباشيريّ (عصور وُسْطَى: الحقبة الواقعة بين العصور القديمة والأزمنة الحديثة في أوربا- العَصْر الحجريّ/الحديديّ) (*) روح العَصْر: ما يميِّز فترة زمنيّة ما عن غيرها من الفترات- شمس العَصْر: مثل للشيخ المُسِن الذي بلغ ساحل الحياة- عَصْر ذهبيّ: حِقْبة من الزمن تميّزت بالازدهار والمنجزات الثَّقافيّة والعمليَّة.
* العَصْر: اسم سورة من سور القرآن الكريم، وهي السُّورة رقم 103 في ترتيب المصحف، مكِّيَّة، عدد آياتها ثلاث آيات.
* عَصْر الفضاء: الفترة الممتدَّة بين 1957 وحتَّى وقتنا الحاضر، وفيها تمَّ إرسال مركبات فضائيَّة لتدور في مدار حول الأرض وأُرسلت لاكتشاف الأجسام السَّماويَّة.
عَصْرنَة [مفرد]: جعل الشَّيء عصريًّا متمشِّيًا مع روح العصر، تطوير مؤسّسة أو منظَّمة (يجب علينا عَصْرنَة أفكارنا).
عَصْريَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى عَصْر: (مفاهيم/آلات عَصْريَّة).
2 - مصدر صناعيّ من عَصْر: حداثة، ما هو سائر على نهج العصر الحديث (مفاهيم/آلات عَصْريَّة).
عَصَّارة [مفرد]: اسم آلة من عصَرَ: آلةٌ لعَصْر الفواكه أو القصب ونحوه (عصَّارة ليمون/برتقال- انتشرت عصَّارات قصب السُّكَّر الآليّة).
عصير [مفرد]: جمعه عصائر: سائلٌ سُكَّريٌّ يُستخرج من بعض الثّمار عند عَصْرها (عصير ليمون/برتقال/قصب/عنب).
مُعاصَرة [مفرد]:
1 - مصدر عاصرَ (*) المعاصرة حجاب: وجود شخصين متنافسين في عصر واحد يحجب شهادة كلٍّ منهما في الآخر.
2 - حداثة وجدة (دار العلوم تمثِّل الأصالة والمُعاصرة).
* المُعاصَرة: معايشة الحاضر بالوجدان والسُّلوك والإفادة من كلّ منجزاته العلميَّة والفكريَّة وتسخيرها لخدمة الإنسان ورقيّه.
مِعْصَر [مفرد]: جمعه مَعَاصِرُ: اسم آلة من عصَرَ: جهاز تُعصَرُ فيه البذور ونحوها لاستخراج الزَّيت ونحوه منها عن طريق الضَّغط (مِعْصَر زيتون/بذور القطن).
مُعْصِرات [جمع]: مفرده مُعْصِرة: سحائب تجود بالمطر إذ تَعْصُرها الرِّياح {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} [قرآن].
مَعْصَرة/مِعْصَرة [مفرد]: جمعه مَعَاصِرُ:
1 - مصنع لعصر البذور ونحوها لاستخراج ما بها من عصير أو زيت (مَعْصَرةُ العنب/الزيتون- مَعَاصِرُ البذور).
2 - جهاز تُعْصَر فيه البذور وغيرها لاستخراج الزَّيت.
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
7-العربية المعاصرة (فح)
فَحَّ فَحَحْتُ، يَفُحّ ويفِحّ، افْحُحْ/فُحَّ وافْحِحْ/فِحَّ، فَحًّا وفحيحًا، فهو فاح.* فحَّت الأفعى: صوّتت من فمها، صوَّتت بشدَّة فخرج الصَّوتُ من جوفها كأنّها تتنفَّس.
* فَحَّ الشَّخصُ: نفخ في نومه.
فَحّ [مفرد]: مصدر فَحَّ.
فَحيح [مفرد]:
1 - مصدر فَحَّ.
2 - صوت الأفعى من فمها (له صوت يشبه الفحيح) (*) صوته كفحيح الأفعى: قبيح.
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
8-العربية المعاصرة (نار)
نارَ يَنُور، نُرْ، نَوْرًا، فهو نَائِر، والمفعول مَنُور (للمتعدِّي).* نارَتِ النارُ: أضاءَت (نار الصبحُ).
* نارَ الزّهرُ: أشرق وحَسُن لونُه (نار وجهُه).
* نارَتِ الفتنةُ: تفشَّت، وقعت وانتشرت (كثرت الدَّسائسُ فنارت الحربُ).
* نارَ السِّلعةَ: جعل عليها علامةً تميّزها.
أنارَ يُنير، أنِرْ، إنارةً، فهو مُنِير، والمفعول مُنَار (للمتعدِّي).
* أنارَ الشَّجرُ: أزهَرَ، خرج نُوَّارُه.
* أنار النَّباتُ: ظهرَ وحَسُن (الحقُّ منير: ظاهر واضح).
* أنار الضَّيفُ: أشرق وحسُن لونُه (أنار وجهُه- أتانا بطلعة منيرة).
* أنارَ المكانَ: أضاءَه (أنار غرفةً/البيتَ).
* أنار الأمرَ: وضّحه وبيّنه (شرح الموضوعَ وأنار غوامضَه- هذا رأي منير) (*) هو يُسدي الأمورَ وينيرُها: يُحْكِمُها ويُبرِمُها.
استنارَ/استنارَ ب يستنير، اسْتَنِرْ، استنارةً، فهو مُستنِير، والمفعول مستنَار به.
* استنارَ المكانُ: أضاء (استنارتِ الغرفةُ- استنار الصُّبْحُ) (*) استنارَ الشَّعبُ: صار مثقّفًا واعيًا.
* استنار بالمصباح الكهربائيّ: استمدّ الضّوءَ والنورَ منه.
ناورَ يناور، مُناورةً، فهو مُنَاوِر، والمفعول مُناوَر (للمتعدِّي).
* ناورت فِرَقُ الجيش:
1 - قاتل بعضُها بعضًا على سبيل التَّمثيل والتَّدريب.
2 - تحرّكت حسب خطَّة حربيَّة (أدَّى الجنودُ المناورةَ بمهارة فائقة).
* ناور خصمَه:
1 - شاتَمَه (ناور عَدُوَّه).
2 - تصرّف معه بحذق ومهارة (رجال السّياسة يحسنون المناورةَ).
نوَّرَ/نوَّرَ على ينوِّر، تَنْويرًا، فهو مُنَوِّر، والمفعول مُنوَّر (للمتعدِّي).
* نوّر الصُّبحُ: أسفَرَ وظهر نورُه (صاح الدِّيكُ قبل أن ينوّر الصُّبحُ).
* نوَّر الشّجرُ: خرج نُوَّارُه.
* نوَّر المكانَ:
1 - أضاءَه (نوّرتِ البلديّةُ الشوارعَ بالفوانيس- {اللهُ نَوَّرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [قرآن]).
2 - جعله زاهيًا (نوّر الحجرةَ بالستائر الملونة).
* نوَّر الرَّأيَ: أوضحه وبيَّنه.
* نوّره: حرّره من الوهم أو الاعتقاد الخاطئ (*) نوَّر اللهُ قلبَه: هداه إلى الخير والحقّ.
* نوَّر على فلان: أرشده وبيّن له الأمرَ على حقيقته.
إنارة [مفرد]: مصدر أنارَ.
أَنْوَرُ [مفرد]:
1 - اسم تفضيل من نارَ: أكثر نورًا من غيره أو أوضح وأبين (أسلوبه في الكتابة أنورُ من أسلوب زميله).
2 - حسن مشرق اللَّون (بستانٌ أنور: وروده وأزهاره مشرقة الألوان).
استنارة [مفرد]: مصدر استنارَ/استنارَ ب (*) استنارة العقل: إشراقه واستضاءته.
تنوير [مفرد]: مصدر نوَّرَ/نوَّرَ على.
* التَّنوير:
1 - [في الفلسفة والتصوُّف] حركة فلسفيّة بدأت في القرن الثَّامن عشر تتميّز بفكرة التَّقدُّم وعدم الثِّقة بالتَّقاليد وبالتَّفاؤل والإيمان بالعقل والعلم والتَّجريب.
2 - [في النبات] الإزهار.
تنويريَّة [مفرد]: اسم مؤنَّث منسوب إلى تنوير: (أفكار/مشروعات/مواقف/ثورة تنويريَّة- الحضارة الغربيَّة التّنويريَّة).
* حركة تنويريَّة: [في الفلسفة والتصوُّف] حركة فلسفيّة تتميّز بفكرة التقدُّم والتّفاؤل والإيمان بالعقل وعدم الثِّقة بالتّقاليد.
مَنار [مفرد]: جمعه مَنَارات ومَناوِرُ:
1 - موضع أو مصدر النّور.
2 - عَلَم يُجعَل للاهتداء به في الطَّريق (مناور الطَّريق الصّحراوي- منار الحرم).
3 - ما يُوضَعُ بين الشَّيئين لتبيين الحدود.
4 - شخص بارز في اختصاصه (منارٌ أمام تلاميذه: يرشدهم وينوّر أمامهم ما أظلم عليهم في عملهم).
5 - مصباح قويّ الضَّوء يُنصب على سارية عالية أو برج مرتفع لإرشاد السُّفن في البحار إلى طُرُق السَّير وتجنُّب مواطن الخطر (منار ميناء).
مَنارة [مفرد]: جمعه منائِرُ ومَناوِرُ:
1 - شمعة ذات سِرَاج.
2 - بناءٌ مرتفع يُقام في الموانئ ينطلِق من أعلاه نورٌ ساطعٌ دوّارٌ تهتدي به السُّفن والطَّائراتُ (منارة الإسكندريّة: إحدى عجائب الدُّنيا السَّبع- منارة الحرِّيَّة- منارة بحريَّة) (*) المنارة الرَّاداريَّة: وسيلة لإرسال واستقبال إشارة الرَّادار- المنارة العائمة: سفينة مضادّة في موضع خطر على السُّفن المبحرة تحذيرًا لها- المنارة اللاَّسلكيّة: منارة تقوم بإرسال إشارات كنوع من المساعدة الملاحيّة.
3 - مِئذنة (منارة المسجد الحرام).
4 - منار، موضع النُّور.
مُناوَرَة [مفرد]:
1 - مصدر ناورَ.
2 - عمل محسوب لإحباط خصم أو اكتساب ميزة بطريقة غير مباشرة أو مخادعة (إنّه ماهر بالمناورات السِّياسيّة).
3 - تغيير مُسيطَر عليه لاتِّجاه أو حركة مَرْكَبة أو سفينة أو طائرة.
4 - [في العلوم العسكرية] عمليّة عسكريّة يقوم بها فرق من الجيش يُقاتل بعضُها بعضًا على سبيل التَّدريب، تدريب عسكريّ على استعمال السِّلاح وفنون القتال (مناورة دفاعيَّة- مناورات النّجم الساطع: عمليّات عسكريّة سنويّة لرفع كفاءة المقاتلين).
5 - [في العلوم العسكرية] فنّ إدارة الجيوش في ساحة القتال.
مَنْوَر [مفرد]: جمعه مَناوِرُ:
1 - كوّة أو فراغ يدخل منه النُّورُ، نافذة صغيرة (منور في جدار بُرْج).
2 - فتحة في السَّقف تسمح بمرور ضوء النَّهار.
3 - جزء من بناية يكون سقفه من زجاج.
4 - نافذة سميكة في جانب السَّفينة أو على ظهرها.
مُنير [مفرد]: اسم فاعل من أنارَ.
* المُنير: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: باعث النُّور والهداية في النُّفوس.
نائر [مفرد]: اسم فاعل من نارَ.
نار [مفرد]: جمعه نِيران:
1 - عنصُر طبيعيٌّ فعّال، يُمثِّله النُّورُ والحرارةُ المحرقة، وتطلق على اللَّهب الذي يبدو للحاسّة، كما تطلق على الحرارة المحرقة، شيء مُحرِق مضيء، ناجم عن احتراق المادَّة (كان طُعمةً للنِّيران- أشعل النّار- {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [قرآن]) (*) أشهر من نارٍ على عَلَم: ذائع الصِّيت- أوقد نارَ الحرب/أوقد نارَ الغيرة: أثارها وهيَّجها- استضاء بناره: استشاره وأخذ برأيه- بالحديد والنَّار: بقوة السِّلاح، بالقوَّة والشِّدَّة- بين نارَيْن: بين أمرين كلاهما شرّ أو غير مقبول- جَبَلُ النَّار: البركان- شيخُ النّار: إبليس الملعون- كان على نار/جلس على نار: كان متلهفًا، متطلِّعًا، قلقًا- لا تتراءى نارهما: لا يجتمعان- نار إبراهيم: يُضرَب بها المثل في البَرد والسلامة- نار الحراسة: نار تبقى مشتعلة ليلًا لإعطاء إشارة مثلًا- يلعب بالنَّار: يُخاطر.
2 - بارود (تبادل إطلاق النّار- تجدُّد إطلاق النار: تجدُّد الحرب- تحت نيران العدوّ- {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ} [قرآن]).
3 - يُكنى بها عن جهنّم (نار الله: جهنّم التي أوعدها الله عبادَه العاصين).
* نيران صديقة: [في العلوم العسكرية] تعبير يطلق على قتل الجنود خطأ برصاص زملائهم.
* خطُّ النَّار: الموضع الأماميّ في ميدان القتال.
ناريّ [مفرد]: اسم منسوب إلى نَار.
* العيار النَّاريّ: قذيفة تُطلق من المسدّس أو البندقيَّة على وزنٍ خاصّ.
ناريَّة [مفرد]: اسم مؤنَّث منسوب إلى نَار: (طلقة/عجلة/ألعاب/أسهم ناريّة).
* دراجة ناريَّة: مركبة أو وسيلة نقل ذات عجلتين إحداهما خلف الأخرى بمحرِّك داخلي الاحتراق وأحيانا تحتوي عربة جانبيّة بعجلة ثالثة.
* كُرة ناريّة:
1 - [في الطبيعة والفيزياء] سحابة من الغبار وبخار الماء تتولَّد من انفجار نوويّ.
2 - [في الفلك] نيزك أشدّ لمعانًا ممَّا نألفه.
نَوْر [مفرد]: مصدر نارَ.
نَوْر [جمع]: وجمع الجمع أنْوار (لغير المصدر)، ومفرده نَوْرَة.
* النَّوْر: الزّهْرُ، أو الأبيض منه (نَوْرُ البرتقال في الربيع- نَوْرة ذابلة- أضحتْ تصوغُ بطونُها لظهورها.. نَوْرًا تكاد له القلوب تنوّرُ).
نُور [مفرد]: جمعه أنْوار:
1 - ضَوْءٌ وسطوع، ضدّ الظُّلمة (نورٌ برّاقٌ/وهّاج- أنوار كشَّافة/خفيَّة) (*) أمُّ النُّور: السَّيدة مريم- العِلْم نور: مرشد- انطفأ نورُ عينيه: أُصيب بالعمى- جَبَلُ النُّور: جبل حِرَاء- خرَج العملُ إلى النُّور: ظهر- خَنْق الأنوار: التَّعتيم من أجل السَّلامة العسكريّة- ذو النُّورين: عثمان بن عفّان رضي الله عنه لتزوّجه بنتي الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم- رأى النُّورَ: ظهر وانكشف- على نور: على بيِّنة- على وَجْهه نور: أثر الصَّلاح والتقوى- عليك نور: وُفِّقْتَ، أو أحسنتَ القولَ- نور العين: الحبيب.
2 - عامل طبيعيّ عبارة عن تموُّجات مغنطيسيّة تُعين على رؤية الأشياء (أنوارٌ كشَّافة/خفيَّة- نور كهربائيّ).
* سبت النُّور: [في الديانات] السبت الذي قبل عيد الفصح عند النّصارى.
* النُّور:
1 - اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: صاحب النّور، والذي نوّر السّموات والأرضَ بما بيّنه من حجج وبراهين وحدانيّته {اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [قرآن].
2 - لقبٌ لرسول الله محمّد صلَّى الله عليه وسلَّم.
3 - لقب السَّيِّد المسيح عند النَّصارى.
4 - اسم سورة من سور القرآن الكريم، وهي السُّورة رقم 24 في ترتيب المصحف، مدنيَّة، عدد آياتها أربعٌ وستُّون آية.
نُورانيّ [مفرد]: اسم منسوب إلى نُور: على غير قياس (كائن/وَحْي نورانيّ).
نُورانيَّة [مفرد]:
1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى نُور: على غير قياس (حروف نورانيّة- أجسام سماويّة نورانيّة).
2 - مصدر صناعيّ من نُور: شفافية، إشراق ولمعان (ازداد وجهُه نورانيّةً وبهاءً).
3 - ملائكيّة، اسم لما هو نورانيّ (تكبّر إبليس فخرج من النورانيّة إلى الناريّة).
نَوّار [مفرد]: صيغة مبالغة من نارَ.
نُوَّار [جمع]: وجمع الجمع نواويرُ، ومفرده نُوّارَة: زهر (يتفتّح النُّوّارُ في الرَّبيع).
نَيِّر [مفرد]:
1 - منيرٌ حسنٌ مُشرِقٌ (وجهٌ نيِّر- آراءٌ نيِّرَة).
2 - مُضِيءٌ (عقلٌ نيِّر) (*) نيِّرات اللّيل: الكواكب والنجوم.
3 - [في الطبيعة والفيزياء] باعث الضوء.
* النَّيِّران: الشَّمسُ والقمر.
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
9-المعجم الوسيط (الأدْلَقُ)
[الأدْلَقُ]: الذي تكسرت أَسنانُه من الكبر فخرجُ الماءُ من فمه.وهي دلْقَاءُ.
المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م
10-المعجم الوسيط (المِحْرَابُ)
[المِحْرَابُ]: الغُرفة.وفسِّرَ به قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِن الْمِحْرابِ} [مريم: 11].
و- القَصْر.
وفي التنزيل العزيز: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَاريبَ} [سبأ: 13].
و- صدر البيت وأَكرمُ موضعٍ فيه.
و- مقام الإمام من المسْجد.
ويُقال: رجل مِحْراب: خبير بالحَرب شجاعٌ.
(والجمع): محاريب.
المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م
11-المعجم الوسيط (اندالَ)
[اندالَ] القومُ: تحوّلُوا من مكان إِلى مكانٍ.و- الشيءُ: تَعَلَّق.
و- بطنُه: دَالَ.
و- ما في بطنه من مِعًى أو صِفاقٍ: طُعِن فخرجَ ذلك.
المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م
12-المعجم الوسيط (أَمْغرَتِ)
[أَمْغرَتِ] الشاةُ أَو الناقةُ: خالط لبنَها دمٌ من داءٍ.و- فلانًا بالسهم: أَمرقه به فخرج من الجانب الآخر.
المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م
13-المعجم الوسيط (تَعَيَّطَتِ)
[تَعَيَّطَتِ] العُنُقُ: عاطَتْ.و- المرأةُ: عاطَتْ.
و- العُودُ: نَبَعَ فخرَجَ منهُ شبهُ ماءٍ فيُصْمِغُ أو يسيل.
و- الرجلُ: غَضِبَ.
و- القومُ: صَاحُوا وأَجْلَبُوا.
المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م
14-المعجم الوسيط (رابَ)
[رابَ] اللَّبَنُ -ُ رَوْبا: خَثُرَ.و- مُخِضَ فخرج زُبْدُهُ.
وفلان: تحيَّر.
و- فَتَرت نَفْسُهُ من شِبَع أو نُعاس، أو من شُرْب اللَّبن الرَّائب.
و- كذَب.
و- اختلَط عقلُهُ ورأْيُهُ.
ويقال: رَاب دَمُهُ: حان هلاكُه وتَعَرَّضَ للقتْل.
المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م
15-المعجم الوسيط (فَقَأ)
[فَقَأ] العيْنَ أَو البثْرةَ ونحوها - فَقْأ: شقّها فخرج ما فيها.و- حبّ الرمان ونحوه: ضغطَه وعَصَرَه.
المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م
16-المعجم الوسيط (نَدَصَ)
[نَدَصَ] الشيءُ من الشيء -َ نَدْصًا، ونُدوصًا: امترق.يقال: نَدَصتِ النَّواةُ من التّمْرة، والقَيْحُ من البَثْرَة.
و- العينُ: جَحَظت.
و- البَثْرةَ: غَمَزَها فخرج ما فيها.
و- القومَ: نالَهُم بشرِّه.
المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م
17-شمس العلوم (الجارُود)
الكلمة: الجارُود. الجذر: جرد. الوزن: فَاعُول.[الجارُود]: لقب رجل من عبد القيس، واسمه بشر بن عمرو، ولقب الجارود لأنه أصاب إِبلَه داءٌ فخرج بها إِلى أخواله من بكر بن وائل، ففشا ذلك الداء في إِبلهم فأهلكها، فضربت به العرب المثل في الشؤم، قال:
...
*** كما جَرَدَ الجَارُودُ بكرَ بنَ وائِلِ
والجارُود: المشؤوم.
والجَارُودِيَّة: فرقة من الشيعة ينسبون إِلى الزيدية (وليسوا منهم).
نسبوا إِلى رئيس لهم من أهل خراسان، يقال له: أبو الجارود، كان يسبّ أبا بكر وعمر وعثمان لتقدُّمهم على عليّ رضياللهعنهم.
وكان زيد بن علي ينهَى عن سبّهم ويعاقب عليه.
شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
18-شمس العلوم (الجَلَعْلع)
الكلمة: الجَلَعْلع. الجذر: جلع. الوزن: فَعَلْعَل.[الجَلَعْلع] من الإِبل: الحديد النفس.
قال أبو بكر: والجُلَعْلَع، بضم الجيم.
قال: والجُلُعْلُع، بالضم: الجُعَل.
وذكر أبو حاتم عن الأصمعي قال: عطس أعرابي كان يكثر أكل التراب، فخرج من أنفه خنفساء.
نصفها طين، ونصفها خَلْق، فقال رجلٌ منهم: خرج من أنفه جُلَعْلَعَة، قال: فلا أنسى فرحي بهذه الكلمة.
هكذا روى أبو بكر بضم الجيم.
وقال بعضهم: الجَلَعْلعة، بالفتح: الخنفساء.
شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
19-شمس العلوم (المحراب)
الكلمة: المحراب. الجذر: حرب. الوزن: مِفْعَال.[المحراب]: محراب المسجد: صَدْرُه.
ومحراب المجلس: صَدْرُه، ومنه محراب المسجد.
والمحراب: الغرفة في قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ}.
وجمعها محاريب.
قال:
مبلّطٌ بالرخامِ أسفلُهُ *** له محاريب بينها العُمُدْ
شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
20-شمس العلوم (أَخْرَجْتُه)
الكلمة: أَخْرَجْتُه. الجذر: خرج. الوزن: الْإِفْعَال.[أَخْرَجْتُه] فَخَرَجَ، قال الله تعالى: {وَمِنْها تُخْرَجُونَ} وقرأ نافع وأبو عمرو ويعقوب يُخْرَجُ مِنْهُمَا اللُؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ وقرأ سائرهم بفتح الياء وضم الراء.
شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
21-شمس العلوم (الخَسِيْف)
الكلمة: الخَسِيْف. الجذر: خسف. الوزن: فَعِيل.[الخَسِيْف]: يقال: بئرٌ خَسيف: إِذا حفر جبلها فخرج ماؤها كثيرًا لا ينزف، والجميع: خُسُفٌ.
وقيل: الخسيف: التي سقط جبلها فغار ماؤها، والصحيح القول الأول.
ويقال للسحاب الكثير الماء: خسيف.
شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
22-شمس العلوم (الخَنْدَفة)
الكلمة: الخَنْدَفة. الجذر: خندف. الوزن: الْفَعْلَلَة.[الخَنْدَفة]: مِشية، يقال: خندف الرجل: إِذا مشى مُفَاجًّا يقلب قدميه كأنه يغترف بهما، قالت بنت حلوان بن عمران ابن الحاف بن قضاعة لزوجها إِلياس بن مضر بن نزار: ما زلت أخندف في أثركم.
قال لها: فأنت خِنْدِف.
فذهب عليها هذا الاسم وعلى ولدها فصارت مضر نسلين، أحدهما: خندف والآخر: قيس عَيلان.
وصاح رجل في وقت الزبير بن العوام: يا لخندف فخرج الزبير وبيده السيف وهو يقول: أَخَنْدِفُ إِليكَ أيّها المُخَنْدِف، والله، لئن كنت مظلومًا لأَنْصُرَنَّك.
شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
23-شمس العلوم (الإِدرام)
الكلمة: الإِدرام. الجذر: درم. الوزن: الْإِفْعَال.[الإِدرام]: يقال: أدرم الفرس: إِذا سقطت سنه فخرج من الإِثناء إِلى الإِرباعِ.
ويقال: أدرمت الإِبل للإِجذاع: إِذا ذهبت رواضعها وطلع غيرها.
شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
24-شمس العلوم (صَلَدَ يَصْلِدُ)
الكلمة: صَلَدَ يَصْلِدُ. الجذر: صلد. الوزن: فَعَلَ/يَفْعِلُ.[صَلَد] الزندُ: إِذا صوّت ولم يخرج نارًا.
وصَلَد: إِذا برق، وفي الحديث: «شرب عمر لبنًا حين طعن فخرج من الطعنة أبيض يصلِد»
شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
25-شمس العلوم (الإِمخاط)
الكلمة: الإِمخاط. الجذر: مخط. الوزن: الْإِفْعَال.[الإِمخاط]: أمخط الرامي السهمَ: إِذا أنفذه فخرج من الرميَّة.
شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
26-شمس العلوم (الإِمغار)
الكلمة: الإِمغار. الجذر: مغر. الوزن: الْإِفْعَال.[الإِمغار]: أمغرت الشاة: إِذا حُلبت فخرج مع لبنها دم.
شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
27-شمس العلوم (الإِنغار)
الكلمة: الإِنغار. الجذر: نغر. الوزن: الْإِفْعَال.[الإِنغار]: أنغرت الشاةُ: إِذا حُلبت فخرج مع لبنها دمٌ.
شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
28-شمس العلوم (الاستنواق)
الكلمة: الاستنواق. الجذر: نوق. الوزن: الِاسْتِفْعَال.[الاستنواق]: استنوق الجملُ: إِذا تشبه بالناقة ويروى أن طرفة بن العبد الشاعر وهو غلام حدث سمع شعرًا للحارث بن حِلِزّه وصف فيه جملًا فخرج من وصفه إِلى وصف ناقة فضحك وقال: «استنوق الجمل».
شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
29-معجم ما استعجم (أنف)
أنف: بفتح الهمزة، على لفظ أنف الإنسان: بلد يلى ديار بنى سليم، من ديار هذيل. وقال السّكّرى: أنف داران، إحداهما فوق الأخرى، بينهما قريب من ميل. ويقال: أنف عاذ، فيضاف هكذا يقول السّكّرى: عاذ، بالعين مهملة، والذال معجمة؛ وأبو عمرو يرويها بدال مهملة، وقد بيّنت الروايتين فى حرف العين، وذكرت اشتقاقهما.وبأنف لسعت أبا خراش الأفعى التى قتلته، قال:
«لقد أهلكت حيّة بطن واد *** على الأحداث ساقا ذات فقد»
وقال عبد مناف بن ربع فى رواية السّكّرىّ:
«من الأسى أهل أنف يوم جاءهم *** جيش الحمار فلاقوا عارضا بردا»
وكانت بنو ظفر من بنى سليم حربا لهذيل، فخرج المعترض بن حنواء
الظّفرىّ، هكذا يقول السّكّرى، وأبو علىّ القالىّ يرويه المعترض بن حنو، والصحيح رواية السّكّرى، لقول عبد مناف بن ربع:
«تركنا ابن حنواء الجعور مجدّلا *** لدى نفر رءوسهم كالفياشل»
فخرج المعترض يغزو بنى قرد من هذيل، وفى بنى سليم رجل من أنفسهم، كان دليل القوم على أخواله من هذيل، وأمّه امرأة من بنى جريب بن سعد، واسمه دبيّة، فوجد بنى قرد بأنف وبنو سليم يومئذ مئتا رجل، فلمّا جاء دبيّة بنى قرد قالوا له: أى ابن أختنا، أتخشى علينا من قومك مخشى؟
قال: لا، فصدّقوه واطعموه، وتحدّثوا معه هويّا من الليل. ثم قام كلّ رجل منهم إلى بيته، وأحدهم قد أوجس منه خيفة، فرمقه، حتى إذا هدأ أهل الدار، فلم يسمع ركز أحد، لم ير إلّا إيّاه قد انسلّ من تحت لحاف أصحابه، فحذر بنى قرد لذلك، فقعد كلّ رجل منهم فى جوف بيته، آخذا بقائم سيفه، أو عجس قوسه، وحدّث دبيّة أصحابه بمكان الدارين، فقدموا مئة نحو الدار العليا، وتواعدوا لطلوع القمر، وهى ليلة خمس وعشرين من الشهر، والدار فى صفح الجبل، فبدا القمر للأسفلين قبل الأعلين فأغار الذين بدا لهم القمر، فقتلوا رجلا من بنى قرد، فخرجوا من بيوتهم، فشدّوا عليهم، فهزموهم، فلم يرع الأعلين إلّا بنو قرد يطردون أصحابهم بالسيوف، فزعموا أنّه لم ينج منهم
يومئذ إلّا ستّون رجلا من المئتين، وقتل دبيّة، وأدرك المعترض وهو يرتجز ويقول:
«إن أقتل اليوم فماذا أفعل *** شفيت نفسى من بنى مؤمّل»»
«ومن بنى واثلة بن مطحل *** وخالد ربّ اللّقاح البهّل»
يعلّ سيفى فيهم وينهل
فقتل يومئذ، فهو يوم أنف عاذ.
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
30-معجم ما استعجم (بانقيا)
بانقيا: بزيادة ألف بين الباء والنون، وكسر النون، بعدها قاف وياء معجمة باثنتين من تحتها: أرض بالنّجف دون الكوفة؛ قال الأغشى:«فما نيل مصر إذ تسامى عبابه *** ولا بحر بانقيا إذا راح مفعما»
وقال أيضا:
«قد طفت ما بين بانقيا إلى عدن *** وطال فى العجم ترحالى وتسيارى»
وقال أحمد بن يحيى ثعلب فى شرحه لشعر الأعشى، عند ذكر هذا البيت:
سبب بانقيا الذي سمّيت به، أن إبراهيم ولوطا عليهما السلام مرّا بها، يريدان بيت المقدس مهاجرين، فنزلا بها، وكانت تزلزل فى كلّ ليلة، وكانت ضخمة جدّا، فراسخ، فلمّا باتا بها لم تزلزل، فمشى بعضهم إلى بعض، تعجّبا من عافيتهم فى ليلتهم. فقال صاحب منزل إبراهيم: ما دفع عنكم إلّا بشيخ بات عندى، كان يصلّى ليله ويبكى؛ فاجتمعوا إليه، فسألوه المقام عندهم، على أن يجمعوا له من أموالهم، فيكون أكثرهم مالا؛ فقال: لم أومر بذلك، وإنما أمرت بالهجرة. فخرج حتّى أتى النّجف، فلمّا رآه رجع أدراجه، فتباشروا برجوعه، وظنّوا أنه رغب فيما عندهم، فقال: لمن تلك الأرض؟
يعنى النّجف. قالوا: لنا. قال: فتبيعونيها؟ قالوا: هى لك، فو الله ما تنبت شيئا. فقال: لا أحبّ إلّا أن تكون شراء؛ فدفع إليهم غنيمات كنّ معه، والغنم بالنبطية يقال لها نقيا. وذكر إبراهيم عليه السلام أنّه يحشر من ولده من ذلك الظهر سبعون ألف شهيد. فاليهود تنقل موتاها إلى بانقيا، لمكان هذا الحديث.
ثم نزل إبراهيم القادسية، فغسل بها رأسه، ثم دعا لها أن يقدّسها الله، فسمّت القادسية؛ ثم أخذ فضل الماء، فصبّه يمنة ويسرة، فحيث انتهى ذلك الماء منتهى العمران؛ ثم ارتحل إلى البيت الحرام. قال: وزعم الكلبى أن القادسية سمّيت بالنّريمان الهروىّ، وكان من أهل قادس هراة، أنزله كسرى بها فى أربعة آلاف، مسلحة بينه وبين العرب، وقال له: لا ترى قادس هراة أبدا.
وروى أبو عبيد فى كتاب الأموال، عن عبّاد بن العوّام، عن حجّاج عن الحكم، عن عبد الله بن مغفل، أنّه قال: لا تشترين من أرض السواد إلّا من أهل الحيرة وأهل بانقيا وأهل ألّيس. يعنى أن أرض السواد افتتحت عنوة، إلّا أن أهل الحيرة كان خالد بن الوليد صالحهم فى خلافة أبى بكر رضى الله عنه. وأمّا أهل بانقيا وألّيس فإنهم دلّوا أبا عبيد وجرير بن عبد الله على مخاضة، حتّى عبروا إلى فارس، فذلك كان صلحهم وأمانهم، وفيه أحاديث، وأبو عبيد هذا هو أبو المختار، وكان له هنالك مشاهد وآثار.
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
31-معجم ما استعجم (تبوك)
تبوك: بفتح التاء، وهى أقصى أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهى من أدنى أرض الشام. وذكر القتبىّ من رواية موسى بن شيبة، عن محمّد بن كليب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فى غزوة تبوك وهم يبوكون حسيها بقدح، فقال: ما زلتم تبوكونها بعد؟ فسمّت تبوك.ومعنى تبوكون: تدخلون فيه السّهم وتحركونه، ليخرج ماؤه.
وقال بحير بن بجرة الطائىّ:
«تبارك سائق البقرات إنّى *** رأيت الله يهدى كلّ هاد»
«فمن يك حائدا عن ذى تبوك *** فإنّا قد أمرنا بالجهاد»
ومعنى قوله تبارك سائق البقرات: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد من تبوك إلى أكيدر دومة، رجل من كندة نصرانىّ كان عليها، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد إنّك ستجده يصيد البقر.
فخرج خالد حتّى إذا كان من حصنه بمنظر، فى ليلة مقمرة، وهو على سطح له، فباتت بقر الوحش تحكّ قرونها بباب القصر، فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قطّ؟ قال: لا والله، فنزل، فأمر بفرسه، فأسرج له، فركب، وركب معه نفر من أهل بيته، فيهم أخ له يقال له حسّان، وخرجوا معهم
بمطاردهم، فتلقّتهم خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذته، وقتلوا أخاه وعليه قباء ديباج مخوّص بالذهب؛ وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لمناديل سعد بن معاذ فى الجنّة أحسن منه. فحقن رسول الله صلى الله عليه وسلم دم أكيدر بن عبد الملك، وصالحه على الجزية.
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
32-معجم ما استعجم (ثمغ)
ثمغ: بفتح أوّله، وإسكان ثانيه، بعده غين معجمة: موضع تلقاء المدينة، كان فيه مال لعمر بن الخطّاب، فخرج إليه يوما، ففاتته صلاة العصر، فقال شغلتنى ثمغ عن الصلاة أشهدكم أنّها صدقة.معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
33-معجم ما استعجم (داءة)
داءة: على مثال داعة: بلد قريب من مكّة؛ ونعمان من داءة؛ قال دريد ابن الصّمّة:«أو الأثأب العمّ المحرّم سوقه *** بداءة لم يخبط ولم يتعضّد»
قال الحلوانى: نا أبو سعيد السّكّرى، قال: كان الأسود بن مرّة أخو أبى خراش وأبى جندب وزهير، بنى مرّة الهذليّين، على ماء من داءة، وهو يومئذ غلام شابّ، فوردت عليه إبل رئاب بن ناصرة من بنى لحيان، فرمى الأسود ضرع ناقة منها، فغضب رئاب، فضر به بالسيف فقتله، فغضب إخوته، فكلّمهم فى ذلك رجال؛ وكان أشدّهم فى ذلك أبو جندب، فجمعوا العقل، فأتوا به، وقالوا لأبى جندب: خذ عقل أخيك، واستبق ابن عمّك.
فأطال الصمت، ثم قال: إنّى أريد أن أعتمر، فأمسكوه حتّى أرجع، فإن هلكت فلأمر ما أنتم؛ وإن أرجع فسترون أمرى. فخرج، ودعا عليه رجال من قومه. فلمّا قدم مكّة وعد كلّ خليع وفاتك فى الحرم، أن يأتوه يوم كذا وكذا، فيغير بهم على قومه من بنى لحيان. فأخذته الذّبحة، فمات فى جانب الحرم. وأمّا زهير بن مرّة فخرج معتمرا، وتقلّد من لحاء شجر الحرم، حتّى ورد ذات الأقبر، من نعمان من داءة، فبينا هو يسقى إبلا، أغار عليهم قوم من ثمالة، فقتلوه، فانبعث أبو خراش يغزوهم ويقتلهم ويقول:
«خذوا ذلكم بالصلح إنّى رأيتكم *** قتلتم زهيرا محرما وهو مهمل»
«قتلتم فتى لا يفجر الله عامدا *** ولا يجتويه جاره عام يمحل»
والدّاءات
على لفظ جمع الذي قبله: موضع مذكور فى رسم ضريّة.
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
34-معجم ما استعجم (ذفرة)
ذفرة: بفتح أوّله، وسكون ثانيه، وبالراء المهملة، على وزن فعلة؛ وذفرة:موضع تلقاء الحفير المحدود فى موضعه؛ قال الشّمّاخ:
«عفت ذفرة من أهلها فحفيرها *** فخرج المروراة الدّوانى فدورها»
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
35-معجم ما استعجم (رضوى)
رضوى: جبل ضخم من جبال تهامة.قال السّكونى: أملى علىّ أبو الأشعث عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الكندىّ، قال: أملى عليّ عرّام بن أصبغ السّلمىّ أسماء جبال تهامة وسكّانها، وما فيها من القرى والمياه، وما تنبت من الأشجار.
فأوّلها: رضوى، وهى من ينبع على يوم، ومن المدينة على سبع مراحل، ميامنة طريق المدينة، ومياسرة طريق البرّ لمن كان مصعدا إلى مكة، وعلى ليلتين من البحر، قال بشر:
«لو يوزنون كيالا أو معايرة *** مالوا برضوى ولم يفضلهم أحد»
«القائمون إذا ما الجهل قيم به *** والثاقبون إذا ما معشر خمدوا»
وبحذاء رضوى عزور، بينهما قدر شوط الفرس، وهما جبلان شاهقان منيعان، لا يرومهما أحد، وبينهما طريق المعرقة، تختصره العرب إلى إلى الشام وإلى مكّة. وهذان الجبلان ينبتان الشّوحط والنّبع والقرظ والرّنف؛ وفيهما جميعا مياه وأوشال لا تجاوز الشّقّة، تخرج من شواهقه، لا يعلم متفجّرها. ومن حديث عامر بن سعد عن أبيه: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خرج من مكّة ومعه أصحابه، حتّى إذا هبط من عزور، تياسرت به القصواء.
ويسكن هذين الجبلين نهد وجهينة، فى الوبر خاصّة دون المدر، ولهم هناك يسار ظاهر، ويصبّ الجبلان فى وادى غيقة؛ وغيقة تصبّ فى البحر، ولها مسك تمسك الماء، واحدها مساك.
وينبع: عن يمين رضوى لمن كان منحدرا من المدينة إلى البحر، وهى قرية كبيرة، وبها عيون عذاب غزيرة. زعم محمّد بن عبد المجيد ابن الصّبّاح أنّ بها مئة عين إلّا عينا. ووادى ينبع يليل، يصبّ فى غيقة، قال جرير:
«نظرت إليك بمثل عينى مغزل *** قطعت حبائلها بأعلى يليل»
ويسكن ينبع الأنصار وجهينة وليث. ومن حديث محمّد بن عمر بن علىّ ابن أبى طالب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى فى مسجد ينبع. ومن حديث واقد بن عبد الله الجهنىّ، عن عمه، عن جدّه كشد بن مالك، قال: نزل طلحة ابن عبيد الله وسعيد بن زيد علىّ بالتّجبار، وهو موضع بين حورة السّفلى
وبين منخوس، على طريق التّجار إلى الشام، حين بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم يترقّبان عير قريش، وفيها أبو سفيان، فنزلا على كشد، فأجارهما.
فلمّا أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبع أقطعها الكشد، فقال: يا رسول الله، إنّى كبير، ولكن أقطعها ابن أخى؛ فأقطعه إياها، فابتاعها منه عبد الرحمن ابن أسعد بن زرارة بثلاثين ألفا، فخرج عبد الرحمن إليها، فاستوبأها ورمد بها، وكرّ راجعا؛ فلقيه علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، فقال له: من أين جئت؟ قال:
من ينبع، قد شنفتها، فهل لك أن تبتاعها؟ قال علىّ: قد أخذتها بالثلاثين.
قال: هى لك. فخرج إليها، فكان أوّل شىء عمله فيها البغيبعة.
قال محمد بن يزيد: ثنا أبو محلّم محمّد بن هشام، فى إسناد ذكره، آخره أبو نيزر. وكان أبو نيزر من بعض أولاد ملوك الأعاجم. قال: وصحّ عندى بعد أنّه من ولد النّجاشى، فرغب فى الإسلام صغيرا، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم، وكان معه فى بيوته. فلمّا توفّى صلى الله عليه وسلم وشرّف وكرّم، صار مع فاطمة وولدها: قال أبو نيزر: جاءنى علىّ وأنا أقوم بالضّيعتين: عين أبى نيزر والبغيبغة، فقال: هل عندك من طعام؟ قلت:
طعام لا أرضاه لأمير المؤمنين، قرع من قرع الضيعة، صنعته بإهالة سنخة. فقال: علىّ به. فقام إلى الرّبيع، فغسل يديه، ثم أصاب من
ذلك شيئا، ثم رجع إلى الرّبيع، فغسل يديه بالرمل حتّى أنقاهما، ثم ضمّ، يديه كلّ واحدة منهما إلى أختها، وشرب بهما حسا من الرّبيع، ثم قال:
يا أبا نيزر، إنّ الأكفّ أنظف الآنية، ثم مسح كفيه على بطنه، وقال:
من أدخله بطنه النار فأبعده الله. ثم أخذ المعول، وانحدر فى العين، وجعل يضرب، وأبطأ عليه الماء، فخرج وقد تفضّج جبينه عرقا، فانتكف العرق عن جبينه، ثم أخذ المعول، وعاد إلى العين، فأقبل يضرب فيها، وجعل يهمهم، فانثالت كأنّها عنق جزور، فخرج مسرعا، وقال: أشهد الله أنّها صدقة: علىّ بدواة وصحيفة. قال: فعجلت بهما إليه، فكتب:
قال محمد بن هشام:
فركب الحسين دين، فحمل إليه معاوية بعين أبى نيزر مائتى ألف، فأبى أن يبيعها، وقال: إنّما تصدّق بها أبى، ليقى الله بها وجهه حرّ النار.
وذكر الزّبيريّون فى حديث طويل: أن الحسين نحل البغيبغة أمّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر، حين رغّبها فى نكاح ابن عمّها القاسم ابن محمد بن جعفر، وقد خطبها معاوية على ابنه يزيد؛ فلم تزل هذه الضيعة بأيدى بنى جعفر، حتّى صار الأمر إلى المأمون، فعوّضهم منها، وردّها إلى ما كانت عليه، وقال: هذه وقف علىّ بن أبى طالب.
وقال السّكونىّ، بإسناده عن موسى بن إسحاق بن عمارة، قال: مررنا بالبغيبغة مع محمّد بن عبد الله بن حسن، وهى عامرة، فقال: أتعجبون لها، والله لتموتنّ حتّى لا يبقى فيها خضراء، ثم لتعيشنّ، ثم لتموتنّ.
وقال السّكونى فى ذكر مياه ضمرة: كانت البغيبغة وغيقة وأذناب الصفراء مياها لبنى غفار، من بنى ضمرة.
قال السّكونى: كان العبّاس بن الحسن يكثر صفة ينبع للرشيد، فقال له يوما: قرّب لى صفتها، فقال:
«يا وادى القصر نعم القصر والوادى *** من منزل حاضر إن شئت أو بادى»
«تلفى قراقيره بالعقر واقفة *** والضّبّ والنون والملّاح والحادى»
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
36-معجم ما استعجم (روذة)
روذة: بضم أوله، وبالذال المعجمة أيضا: موضع من قرى نهاوند، قد تقدّم ذكره فى رسم دستبى.قال ابن الكلبىّ: خرج عمرو بن معدى كرب الزّبيدىّ فى جماعة من مذحج زمان عثمان، يريد الرّىّ ودستبى، فنزلوا خانا من تلك الخانات، وكان عمرو إذا أراد الحاجة لم يستعجل عنها، فأمعن عمرو فى حاجته وأبطأ، وأرادوا الرحيل، وكره كلّ واحد منهم أن يدعوه، وذلك من إعظامهم إيّاه، حتى طال عليهم، فجعلوا يقولون: أى أبا ثور، أى أبا ثور، وجعلوا يسمعون علزا ونفسا شديدا. قال: فخرج عليهم محمرّة عيناه، مائل الشّق والوجه مفلوجا، وإذا الشيطان قد ساوره، فسار معهم محمولا، مرحلة أو دونها، فمات، فدفن بروذة، وقالت امرأته ترثيه:
«لقد غادر الركب الذين تحمّلوا *** بروذة شخصا لا ضعيفا ولا غمرا»
وروى أيضا أنه شهد فتح نهاوند مع النّعمان بن مقرّن، وقاتل يومئذ،
فأثبته جراحات. فحمل فمات بروذة من قرى نهاوند. وقال ابن دريد: مات عمرو بن معدى كرب على فراشه، من حيّة لسعته.
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
37-معجم ما استعجم (سويقة)
سويقة: بضمّ أوّله، وفتح ثانيه، على لفظ التصغير: موضع بشقّ اليمامة. قال سوادة بن عدىّ بن زيد:«ولقد أفود بعاتق فسويقة *** رحب الجوانح كالصّليف مشذّبا»
العاتق: موضع هناك أيضا. والصّليف: العود المعترض فى القتب.
وسويقة أخرى: مذكورة فى رسم ضريّة، وفى رسم الأشعر، وهى على مقربة من المدينة، وبها كانت منازل بنى حسن بن حسن بن علىّ.
وحدّث يموت بن المزرّع، عن ابن الملّاح، عن أبيه، عن إسماعيل ابن جعفر بن إبراهيم، عن موسى بن عبد الله بن حسن، قال: خرجت من منالنا بسويقة جنح وليل، وذلك قبل خروج محمّد أخى، فإذا أنا بنسوة توهّمت أنّهنّ خرجن من دارنا، فأدركتنى الغيرة، فاتّبعتهنّ لأنظر حيث يردن، حتّى إذا كان بطرف الجمير، التفتت إحداهنّ وهى تقول:
«سويقة بعد ساكنها يباب *** لقد أمست أجدّ بها الخراب»
فقلت لهنّ: أمن الإنس أنتنّ فلم يراجعننى. فخرج محمّد بعد هذا، فقتل وخرّبت ديارنا.
وبالإسناد عن إسماعيل، قال: لقينى موسى بن عبد الله، فقال لى: هلمّ حتّى أريك ما صنع بنا بسويقة، فانطلقت معه، فإذا بنخلها قد عضد من آخره، ومصانعها قد خرّبت، فخنقتنى العبرة. فقال: إليك، فنحن والله كما قال دريد بن الصّمّة:
«تقول ألا تبكى أخاك وقد أرى *** مكان البكا لكن جبلت على الصّبر»
وقال سعيد بن عقبة: نزلت ببطحاء سويقة، فاستوحشت لخرابها، إلى أن خرجت ضبع من دار عبد الله بن حسن، فقلت:
«إنّى مررت على دار فأحزننى *** لمّا مررت عليها منظر الدار»
«وحشا خرابا كأن لم تغن عامرة *** بخير أهل لمعتر وزوّار»
«لا يبعد الله قوما كان يجمعهم *** جنبا سويقة أخيارا لأخيار»
«الرافعين لسارى الليل نارهم *** حتّى يؤمّ على ضوء من النار»
«والرافعين عن المحتاج خلّته *** حتّى يجوز الغنى من بعد إقتار»
وقال الفرزدق:
«ألم تر أنى يوم جوّ سويقة *** بكيت فنادتنى هنيدة ماليا»
وقال دريد بن الصّمّة:
«تأبّد من أهله معشر *** فحزم سويقة فالأصفر»
«فجزع الحليف إلى واسط *** فذلك مبدى وذا محضر»
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
38-معجم ما استعجم (ضمير)
ضمير: بضمّ أوّله، على لفظ تصغير الذي قبله: موضع على خمسة عشر ميلا من دمشق، مات فيه عبيد الله بن معمر التيمىّ القرشىّ. وكان سبب موته أن ابن أخيه عمر بن موسى بن معمر، خرج مع ابن الأشعث، فأخذه الحجّاج، فبلغ ذلك عبيد الله وهو بالمدينة، فخرج يطلب فيه إلى عبد الملك، فلمّا بلغ ضميرا بلغه أن الحجّاج ضرب عنقه، فمات كمدا هناك. قال أبو الطيّب فصغّرا ضمرا:«لئن جعلن ضميرا عن ميامننا *** ليحدثنّ لمن ودّعتهم ندم»
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
39-معجم ما استعجم (طمية)
طميّة: بضمّ أوّله، وفتح ثانيه، وتشديد الياء أخت الواو، على لفظ التصغير: موضع قد حددته فى رسم المجيمر، فانظره هناك.وروى هذا الاسم فى شعر أبى دواد: طميّة، بفتح أوّله وكسر ثانيه، وسيرد ذلك فى رسم عوق إن شاء الله. وكذلك رواه الأخفش عن رجاله، عن المفضّل، وعن الأصمعىّ، وأنشد للحصين بن الحمام:
«أما تعلمون يوم حلف طميّة *** وحلفا بصحراء الشّطون ومقسما»
يقول ذلك لبنى ذبيان. فدلّك أن طميّة فى بلاد غطفان، وكذلك الشّطون.
والمقسم: الموضع الذي تحالف فيه، وتقاسموا على الوفاء.
والمفجّع يرويه: ظميّة، بالظاء معجمة. قال: تقول: والله ما أظميته، وأنت تريد: ما أتيت به ظميّة، وأنشد بيت أبى داود، بظاء معجمة. وفى أخبار أبى وجزة أنّ ظمية بضم أوّله مكبّر: فى ديار بنى سليم، وذلك أن أصل أبيه عبيد من بنى سليم، وقع عليه سباء فى صغره، فاشتراه رهيب بن خالد السّعدىّ، فلطمه ذات يوم، فخرج إلى عمران ابن الخطّاب مستعديا، فقال:
أصابنى سباء وأنا من بنى سليم، وبلغنى أنّه لارقّ على عربىّ. فأتى وهيب عمر وقال: والله يا أمير المؤمنين ما لطمته قطّ غير هذه اللّطمة، وأشهدك أنه حر. فرجع مع وهيب، وانتسب فى بنى سعد، وتزوّج عرفطة المزنيّة، فولدت له يزيد أبا وجزة وأخاه، فلمّا شبّا طالباه أن يلحق بقومه، فقال: لا أترك من يشرّفنى، وأمضى إلى من يعيّرنى؛ لا أرعى ظمية، ولا أورد جمّة إلّا قالوا يا عبد بنى سعد. قال: وظمية: جبل لبنى سليم.
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
40-معجم ما استعجم (غران)
غران: بضم أوّله، وتخفيف ثانيه، على وزن فعال: موضع بناحية عسفان، ينزله بنو سراقة بن معتمر، من بنى عدىّ بن كعب، ولهم بها أموال كثيرة.وقال الأصمعىّ: هو ببلاد هذيل بعسفان، وقد رأيته، وأنشد لأبى جندب:
«تخذت غران إثرهم دليلا *** وفرّوا فى الحجاز ليعجزونى»
«وقد عصّبت أهل العرج منهم *** بأهل صوائق إذ عصّبونى»
قال أبو الفتح غران: فعال من الغرين، والغرين والغريل: هو الطين ينضب عنه الماء، فيجفّ فى أسفل الغدير، ويتشقق، قال كثيّر:
«رسا بغران واستدارت به الرّحا *** كما يستدبر الزاحف المتغيف»
وقال ابن إسحاق: غران: واد بين أمج وعسفان، يمتدّ إلى ساية، وهو منازل بنى لحيان؛ وإليه انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوته بعد فتح بنى قريظة يريد بنى لحيان، يطلب بأصحاب الرجيع، فسلك على غراب: جبل بناحية المدينة على طريق الشام، ثم على محمض، ثم على البتراء، ثم صفّق على ذات اليسار، فخرج على يين، ثم على صخيرات اليمام، ثم استقام به الطريق، فأغذّ السّير حتى نزل غران، فوجد بنى لحيان قد حذروا وامتنعوا فى الجبال.
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
41-معجم ما استعجم (الكوفة)
الكوفة: معروفة. ويقال لها أيضا: كوفان. قال جحدر اللّصّ وهو فى سجن الحجّاج بالكوفة:«يا ربّ أبغض بيت أنت خالقه *** بيت بكوفان منه استعجلت سقر»
وإنّما سمّيت الكوفة، لأنّ سعدا لمّا افتتح القادسيّة، نزل المسلمون الأنبار،
فآذاهم البقّ، فخرج، فارتاد لهم موضع الكوفة، وقال: تكوّفوا فى هذا الموضع، أى اجتمعوا. والتّكوّف: التّجمّع. قال القتبىّ: والكوفة: رملة مستديرة، ومنه قولهم: كأنّهم يدورون فى كوفان، بضمّ الكاف وبفتحها، وقد تشدّد الواو، أى فى شىء مستدير. وقال محمّد بن سهل: سمّيت الكوفة، لأنّ جبل ساتيد ما محيط بها كالكفافة عليها. قال: وكانت الكوفة منزل نوح، وهو بنى مسجدها، ثم مصرّها سعد بن أبى وقّاص، بأمر عمر بن الخطّاب رضى الله عنه. وقيل: بل سمّيت بجبيل صغير كان فيها يسمّى كوفان، اختطّته مهرة وكوفة الخلد، بضم الخاء المعجمة وبعد اللام دال مهملة: موضع؛ أنشد أبو زيد فى نوادره لعبدة بن الطبيب:
«إنّ التى وضعت بيتا مهاجرة *** بكوفة الخلد قد غالت بها غول»
وقال الأصمعىّ: إنّما هو بكوفة الجند. والأول تصحيف. وهكذا نقلته من خطّ أبى علىّ القالىّ.
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
42-معجم ما استعجم (مدين)
مدين: بلد بالشام معلوم تلقاء غزّة، وهو المذكور فى كتاب الله تعالى.وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سريّة إلى مدين، أميرهم زيد بن حارثة، فأصاب سبيا من أهل ميناء، قال ابن إسحاق: وميناء هى السواحل، فبيعوا، وفرّق بين الأمّهات وأولادهنّ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكون، فقال: ما لهم؟ فأخبر خبرهم، فقال: لا بيعوهم إلّا جميعا.
ومدين: منازل جذام. والصحيح فى نسبه أنه جذام بن عدىّ بن الحارث ابن مرّة بن أدد بن زيد بن عمرو بن عريب بن زيد بن كهلان. وشعيب النّبيّ عليه السلام المبعوث إلى أهل مدين أحد بنى وائل من جذام. وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لوفد جذام: مرحبا بقوم شعيب، وأصهار موسى، ولا تقوم الساعة حتّى يتزوّج فيكم المسيح، ويولد له.
قال محمّد بن سهل الأحول: ومدين من أعراض المدينة أيضا، مثل فدك والفرع ورهاط.
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
43-معجم ما استعجم (النبيت)
النّبيت: بفتح أوّله، وكسر ثانيه، بعده الياء أخت الواو، ثم التاء المعجمة باثنتين من فوقها: جبل بصدر قناة، على بريد من المدينة، قال عمر ابن أبى ربيعة.«بفرع النّبيت فالشّرى خفّ أهله *** وبدّل أرواحا جنوبا وأشملا»
وكان أبو سفيان لمّا انصرف من بدر ن؟ ر ألّا يمسّ رأسه ماء حتّى يغزو محمّدا، فخرج فى مئتى راكب، ليبرّ يمينه، فسلك النّجديّة، حتّى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له النّبيت، فبعث رجالا إلى المدينة، فأتوا ناحية يقال لها العريض، فحرّقوا فى أصوار نخل بها، وقتلوا رجلا من الأنصار وحليفا له فى حرث لهما، فنذر بهم الناس، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى طلبهم، حتّى بلغ قرقرة الكدر، وقد فاته أبو سفيان، فهى غزوة السّويق.
وروى أبو داود، عن محمّد بن إسحاق، عن محمد بن أبى أمامة بن سهل بن
حنيف، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه: أنّه كان إذا إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحّم لأسعد بن زرارة. قال: فقلت له: مالك إذا سمعت النداء ترّحمت لأسعد بن زرارة؟ قال: لأنّه أوّل من جمع بنا فى هزم النّبيت من حرّة بنى بياضة؛ فى نقيع يقال له نقيع الخضمات، فقلت:
كم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون.
معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م
44-معجم متن اللغة (زبب العنب)
زبب العنب: صار زبيبًا.و – شدقا الرجل وصماغاه: أكثر الكلام فخرج الزبد من جانبي شدقيه (ز).
و – فمه: رأيت له زبيبتين عند ملتقى شفتيه مما يلي اللسان (ز) يعني ريقًا يابسًا.
و – ت الشمس: دنت للغروب (ز).
معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م
45-معجم متن اللغة (صفق فلان)
صفق فلان: ضرب باطن كفه بباطن الأخرى.و- الشراب: حوله من إناء إلى إناء ليصفو.
و- ت الريح الماء: ضربته فصفا؛ والماء مصفق.
و- السحاب وغيره: رد له قلته يمينًا وشمالًا.
و- ت الريح الأشجار: هزتها.
و- الثياب: حركتها فناست.
و- الطائر بجناحيه: ضرب بهما.
و- فلان: ذهب في البلاد فأبعد.
و- الإبل: حولها من مرعى إلى مرعى.
و- القربة: صب فيها ماء وحركها وهي جديدة فخرج الماء أصفر؛ "
والماء مصفق.
و- الشراب: مزجه.
و-فلان: نوى نية وعزم عليها ثم رد نيته.
معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م
46-معجم متن اللغة (الصفق والصفق)
الصفق والصفق: الماء يخرج أصفر من أديم جديد صب عليه؛ أو صب فيه وحرك فخرج أصفر.و-: آخر الدماغ.
معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م
47-معجم متن اللغة (ضهل ضهل وضهول اللبن)
ضهل= ضهلً وضهولً اللبن: اجتمع.و- ماء البئر: اجتمع شيئً بعد شيء.
و- ت الناقة والشاة: قل لبنها فخرج قليلً قليلً، فهي ضهول ج ضهل.
و- الشراب: قل ورق.
و- إليه: رجع أو رجع على غير وجه القتال والمغالبة.
و- هـ ضهلً حقه: نقصه إياه (ز) أو أبطله عليه (ز).
و- هـ: دفع إليه شيئً قليلً، وهو من الماء الضهل.
و- إليه خير: وقع.
معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م
48-معجم متن اللغة (العتر)
العتر: الأصل: الصنم يعتر له- يذبح له- وكل ما ذبح له.و-: شاة كانوا يذبحونها في"
رجب لآلهتهم كالعتيرة ج عتائر.
و-: نبت ينبت مثل المرزنجوش متفرقا أو هو المزرنجوش نفسه أو العرفج؛ أو شجر صغار له جراء كجراء الخشخاش؛ أو بقلة إذا طالت قطع أصلها فخرج منه شبه اللبن وهي متفرقة في منبتها.
معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م
49-معجم متن اللغة (الغسلين)
الغسلين: ما يسيل من الجرح والدبر كالقيح ونحوه: ما يسيل من جلود أهل النار.و-: الشديد الحر.
و-: ما يغسل من الثوب.
وكل جرح غسلته فخرج منه شيء فهو غسلين.
معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م
50-معجم متن اللغة (تنبغت بنات أوبر)
تنبغت بنات أوبر: يبست فخرج منها مثل الدقيق.معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م
51-معجم متن اللغة (ندصت)
ندصت: ندصا وندوصا عينه: جحظت: ندرت وكادت تخرج من قلتها –من وقبها- كما تندر عين الخنيق.و- عليهم: طلع عليهم بما يكرهون ونالهم بشر (ز).
و- ت البثرة: غمزت فخرج ما فيها.
و- الرجل: خرج.
و- الشئ من الشئ: امترق.
معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م
52-معجم متن اللغة (ندصت)
ندصت: ندصا البثرة: غمزت فخرج ما فيها.معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م
53-معجم متن اللغة (هاع هيعا وهاعا وهيوعا وهيعة وهيعانا وهيعوعة)
هاع- هيعًا وهاعًا وهيوعًا وهيعة وهيعانا وهيعوعة: جاع فخرج وشكا: جبن: استخف عند الجزع.معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م
54-جمهرة اللغة (ضبب ضب)
واستُعمل من معكوسه؛ ضَبَّتْ لِثَتُه: تَضِبُّ ضَبًا، إذا تحلّب ريقُها.قال الشاعر- يخاطب قومًا ويقول: نمتنع من إرادتكم ونقاتلكم حتى لا تحوزوا السبي:
«أبَيْنا أبَيْنا أن تَضِبَّ لِثـاتُـكـم*** على خرَّد مثل الظباء وجامل»
والضَبُّ: هذه الدابّة المعروفة، والأنثى ضَبة.
وضَبَّبْت على الضبّ تضبيبًا، إذا حرّشته فخرج إليك مذنِّبًا فأخذت بذنَبه.
وصبة الحديد: التي تجمع بين الشيئين.
وأرص مضبه: ذات ضِباب، ومضِبّة، مثل فئِرَة من الفأر، وجَرذَة من الجِرذان.
وأضَبَّت أرضُ بني فلان، إذا كثر ضِبابها.
والضَّبّ: موضع.
والضَبّ: وَرَم يكون في صدر البعير ويقال في خُفّه، فإذا أصاب ذلك البعيرَ فالبعيرُ أسرُّ والناقةُ سَرّاء.
قال الشاعر:
«وأبِيت كالسَّرّاءِ يربو ضَبُّـهـا*** فإذا تَحَزْحَزُ عن عِداء ضجتِ»
ويروى: تزحزح.
يقال: أسر بيِّن السّرَر، وهو داء يصيب البعير في صدره، فإذا بركَ تجافى.
قال الأصمعي: السُّرَر: ورم يصيب البعيرَ في صدره.
والضَّب: داء يصيبه في خُفّه، فإذا بركَ البعير وبه السَّرَر والضبّ تجافى في مبركه، فشبّه تجافيه عن فراشه بتجافي هذا البعير في مَبْركه.
والضَّبُّ: الحِقد.
قال كثير عَزَّة:
«فما زالت رُقاكَ تَسُل ضِغْني*** وتُخْرِجُ من مَكامنها ضِبابي»
والضبّ: أن يجمع الحالبُ خِلْفَي الناقة في كفّيه.
قال الشاعر:
«جَمَعْتُ له كفيَّ بالرُّمح طـاعِـنـًا*** كما جمع الخِلْفينِ في الضَّبِّ حالِبُ»
وأضَبَّ الرجلُ على الشيء يُضِبُّ إضبابًا، إذا لزمه لزومًا شديدًا فلم يفارقه.
والضُّبَيب: فرس من خيل العرب معروف وله حديث.
ويقال للطلْعَة قبل أن تنفلق: ضَبَّة، والجمع ضِباب، وإنما يقال ذلك لطلعة الفُحّال خاصة.
قال الشاعر:
«يطِفْنَ بفُحالٍ كأن ضِـبـابَـه*** بطونُ المَوالي يومَ عيدٍ تَغَدَّتِ»
الفُحّال: فُحّال النخل، وهو ذكرُها، فأما للحيوان ففحل، خفيف، وإذا خرج طَلْعُها تامًّا فهو ضِبابها.
هذا عن أبي مالك من النوادر.
وقد سمَّت العرب ضبة وضَبّا.
وبنو ضَبَّةَ: بطن منهم، وكذلك الضِّباب: بطن أيضًا.
وضَبّ: اسم الجبل الذي مسجدُ الخَيْفِ في أصله.
والضَّبابُ: السحاب الرقيق، معروف ستراه في بابه إن شاء اللّه.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
55-جمهرة اللغة (ضبب ضب)
واستُعمل من معكوسه؛ ضَبَّتْ لِثَتُه: تَضِبُّ ضَبًا، إذا تحلّب ريقُها.قال الشاعر- يخاطب قومًا ويقول: نمتنع من إرادتكم ونقاتلكم حتى لا تحوزوا السبي:
«أبَيْنا أبَيْنا أن تَضِبَّ لِثـاتُـكـم*** على خرَّد مثل الظباء وجامل»
والضَبُّ: هذه الدابّة المعروفة، والأنثى ضَبة.
وضَبَّبْت على الضبّ تضبيبًا، إذا حرّشته فخرج إليك مذنِّبًا فأخذت بذنَبه.
وصبة الحديد: التي تجمع بين الشيئين.
وأرص مضبه: ذات ضِباب، ومضِبّة، مثل فئِرَة من الفأر، وجَرذَة من الجِرذان.
وأضَبَّت أرضُ بني فلان، إذا كثر ضِبابها.
والضَّبّ: موضع.
والضَبّ: وَرَم يكون في صدر البعير ويقال في خُفّه، فإذا أصاب ذلك البعيرَ فالبعيرُ أسرُّ والناقةُ سَرّاء.
قال الشاعر:
«وأبِيت كالسَّرّاءِ يربو ضَبُّـهـا*** فإذا تَحَزْحَزُ عن عِداء ضجتِ»
ويروى: تزحزح.
يقال: أسر بيِّن السّرَر، وهو داء يصيب البعير في صدره، فإذا بركَ تجافى.
قال الأصمعي: السُّرَر: ورم يصيب البعيرَ في صدره.
والضَّب: داء يصيبه في خُفّه، فإذا بركَ البعير وبه السَّرَر والضبّ تجافى في مبركه، فشبّه تجافيه عن فراشه بتجافي هذا البعير في مَبْركه.
والضَّبُّ: الحِقد.
قال كثير عَزَّة:
«فما زالت رُقاكَ تَسُل ضِغْني*** وتُخْرِجُ من مَكامنها ضِبابي»
والضبّ: أن يجمع الحالبُ خِلْفَي الناقة في كفّيه.
قال الشاعر:
«جَمَعْتُ له كفيَّ بالرُّمح طـاعِـنـًا*** كما جمع الخِلْفينِ في الضَّبِّ حالِبُ»
وأضَبَّ الرجلُ على الشيء يُضِبُّ إضبابًا، إذا لزمه لزومًا شديدًا فلم يفارقه.
والضُّبَيب: فرس من خيل العرب معروف وله حديث.
ويقال للطلْعَة قبل أن تنفلق: ضَبَّة، والجمع ضِباب، وإنما يقال ذلك لطلعة الفُحّال خاصة.
قال الشاعر:
«يطِفْنَ بفُحالٍ كأن ضِـبـابَـه*** بطونُ المَوالي يومَ عيدٍ تَغَدَّتِ»
الفُحّال: فُحّال النخل، وهو ذكرُها، فأما للحيوان ففحل، خفيف، وإذا خرج طَلْعُها تامًّا فهو ضِبابها.
هذا عن أبي مالك من النوادر.
وقد سمَّت العرب ضبة وضَبّا.
وبنو ضَبَّةَ: بطن منهم، وكذلك الضِّباب: بطن أيضًا.
وضَبّ: اسم الجبل الذي مسجدُ الخَيْفِ في أصله.
والضَّبابُ: السحاب الرقيق، معروف ستراه في بابه إن شاء اللّه.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
56-جمهرة اللغة (غقق غق)
غِقَّ القِدْرُ وما أشبهه يَغِقّ غَقًا وغَقيقًا، إذا غلى فسمعتَ صوته.وامرأة غَقّاقة: عيب مذموم، إذا سمعتَ لها صوتًا عند الجِماع.
وسمعت غَق الماء وغَقِيقَه؛ إذا جرى فخرج من ضِيق إلى سعة أو من سعة إلى ضِيق.
وغَقّ الغُداف: حكاية لغِلَظ صوته.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
57-جمهرة اللغة (خرط خطر رخط رطخ طخر طرخ)
خرطتُ العودَ وغيرَه أخرِطه وأخرُطه خَرْطًا، إذا قشرت عنه نَجَبَه وهو لِحاؤه.ومثل من أمثالهم: "دون ذلك خَرْطُ القَتاد"، وذلك أن القتاد متظاهر الشّوك لا يُستطاع لمسُه ولا خرطُه.
والخِرْط: اللبن الذي يتعقّد ويعلوه ماء أصفر.
وناقة مِخْراط، إذا كان من عادتها أن تُحلب خِرْطًا.
وناقة مُخْرِط، إذا حدث ذلك فيها، وقال أيضًا: فإذا أصابها ذلك من داء ولم يكن عادتَها في مُخْرِط.
والمَخاريط: الحيّات التى سَلَخَتْ جلودها.
قال الشاعر:
«إني كساني أبو قابوسَ مُرْفَلَةً***كأنّها سَلْخُ أبكار المَخاريطِ»
والخريطة: وعاء من أدَم يُشْرَج على ما فيه.
والخُرّاط: نبت يشبه البَرْديّ.
والإخْريط: نبت أيضًا.
وفرس خَروط، إذا كان يَخْرِط عنانَه من رأسه.
والخَطْر: تحريك الرجل يدَه في مشيه وضربُه بها مرَّ فلان يَخْطِر خَطْرًا.
وخَطَرَ البعير بذَنَبه خَطْرًا وخَطَرانًا، إذا حرّكه للصِّيال أو للنُّزاء وتخاطرَ البعيران، إذا فعلا ذلك ليتصاولا.
والخَطْر: ما تعلق وتلبَّد على أوراك الإبل من أبوالها وأبعارها، إذا خطرت بأذنابها.
قال الشاعر:
«وقَربْنَ بالزُّرْق الجمائلَ بعـدمـا***تقَوَّبَ عن غِرْبان أوراكها الخَطْرُ»
تقوَّبَ: مثل تقوَّرَ، والقُوَباء من هذا اشتُقّ والزُّرْق: موضع والجَمائل: جمع جِمال والغُرابان: حَرْفا الوَرِكين المشرفان على القطاتين من الإبل والخيل.
وأنشد:
«يا عَجَبًا للعَجَبِ العُجابِ *** خمسةُ غِرْبانٍ على غُرابِ»
يقول: خمسة غِربان على دَبَرَة بعير على موضع الغُرابَيْن منه.
وأنشد:
«ترى مِنْبَرَ العبد اللّئيم كأنّما***ثلاثةُ غِرْبانٍ عليه وقوعُ»
هذا الشِّعر للَّعين المِنْقَري يقوله لإبراهيم بن عربي صاحب اليمامة، يعني يديه ورأسه وكان إبراهيم أسودَ.
وأنشد للفرزدق، يقوله لنُصَيْب وقد دخل إلى بعض وَلَدِ عبد الملك فخرج وقد خُلعت عليه ثيابٌ من قَباطيّ مصرَ فقال:
«كأنّه لمّا بـدا لـلـنـاسِ*** أَيرُ حِمارٍ لُفَّ في قِرْطاسِ»
والخِطْر: شجر يُخضب به الشّعر نحو الكَتَم وما أشبهه.
لمّا رأت سِنًّا له مثلَمَهْ
ولحيةً مخطورةً مكتَّمَهْ
أي قد خُضبت بالخِطْر والكَتَم.
والخِطْر أيضًا بكسر الخاء: ما بين الثلاثمائة إلى الأربعمائة من الإبل.
والخَطَر: من قولهم: أمسى فلان على خطر عظيم، أي على شَفا هلاك.
وتخاطرَ الرجلان، إذا تواضعا على شيء فكل واحد منهما على خَطَرٍ أن يُغلب.
وما خطر هذا الأمر بقلبي، أي لم يُلْمِمْ به.
والخاطِر: الفكر، والجمع خواطر.
وقد سمّت العرب خَطّارًا.
ويقال: خَطَرَ الرجلُ بالسّيف، إذا مشى به بين صفَّين في الحرب تشبيهًا بخَطْر الإبل، لأن الفحل من الإبل يَخْطِر بذَنَبه تهديدًا وتوعُّدًا، فكأنّ هذا الرجل إذا خطر بسلاحه تهدَّد وتوعَّد.
وسُمِّيت الرماحُ الخواطرَ لاهتزازها واضطرابها.
ويقال: إن فلانًا لذو خَطَرٍ، إذا كان ذا قَدْرٍ، وهو رجل خطير من قوم ذوي أخطارة وكذلك كل مَتاعٍ نفيسٍ خطيرٌ.
وبفلان خَطْرَة من الجِنّ، أي مَسَّ منهم.
والطَّخْر: غيم رقيق في جوانب السماء.
يقال: في جوانب السماء طَخْر وطَخارير، وواحد الطَّخارير طُخرور.
قال الراجز:
«وهنَّ إن طارت طَخاريرُ القَزَعْ *** موفِّياتُ الكَيْل بالمِلْء الـنَّـزَعْ»
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
58-جمهرة اللغة (ذرع ذعر رذع رعذ عذر عرذ)
الذَّرْع من قولهم: ضاق ذَرْعي عن كذا وكذا، إذا لم أُطِقْه، وضقت ذرعًا وذِراعًا كذلك.وذِراع الإنسان والدابّة: معروفة، والجمع أذْرُع، مؤنثة.
وفرس ذَريع بَيِّنُ الذَّراعة، إذا كان واسعَ الشّحْوَة كثيرَ الأخذ من الأرض بقوائمه.
وتكلّم فلانٌ فأذرعَ في كلامه، إذا اتّسع فيه، والمصدر الإذراع.
وذَرَعَه القيءُ، إذا سبقه فخرج من فيه.
والذَّرَع: ولد البقرة الوحشية، والجمع ذِرعان.
ومِذْراع الدابّة: أحد قوائمها، والجمع مَذارع.
وذكر الخليل أن مِذْراع الأرض نواحيها، ولم يجئ به البصريون.
وأذْرِعات: مكان معروف.
وتذرَّعت المرأةُ، إذا شقّت الخُوص لتجعل منه حصيرًا.
ويقال للكلاب: أولاد ذارعٍ، وأولاد زارعٍ، بالزاي، وأولاد وازعٍ.
والذّريعة: جمل يستتر به الصائد لئلا يراه الصيد ثم يرميه؛ وفلان ذريعتي الى فلان، إذا تسبّبت به إليه.
وتذرّع فلان في الكلام: مثل أذرعَ.
ووردت الإبلُ الكَرَعَ فتذرّعته، أي وردته فخاضته بأذْرُعها.
وضَبُع مذرَّعة، إذا كان في يديها خطوط سود.
والذِّراع: نجم من نجوم السماء.
وأمر ذريع: واسع.
وبقرة مُذْرِع، إذا كان معها ذَرَع، والجمع مُذْرِعات.
وذَرَعْتُ البعيرَ أذرَعه ذَرْعًا، إذا وطئتَ ذراعَه ليركب صاحبُك.
والذُّعر: الفزع؛ ذَعَرْتُ الرجلَ أذعَره فهو مذعور وأنا ذاعر.
وذو الأذعار: ملك من ملوك حِمير.
قال ابن الكلبي: جلب النِّسْناسَ الى اليمن فذُعر الناسُ منهم فسُمِّي ذا الأذعار.
والذُّعَرَة: طائر.
والعُذْر: معروف؛ عَذَرْتُ الرجلَ أعذِره عُذْرًا ومعذِرةً وعِذْرَة.
وجمع مَعذِرة مَعاذر.
وفسّر قوم قوله جلّ ثناؤه: {ولو ألْقى معاذيرَه}، قالوا: السِّتر، لغة أزدية، الواحد مِعْذار.
قال الشاعر:
«لَمَحَتْ لمحةً كجانب قرن ال***شمس بين القِرامِ والمِعْذارِ»
القِرام: سِتر رقيق.
ويقول الرجل: لا عُذْرَى لي مِن كذا وكذا، أي لا معذرة لي منه.
قال الشاعر - أنشدَناه أبو رياش أحمد بن أبي هاشم بن شُبيل القيسي رحمه الله:
«لله دَرُّكِ إني قـد رمـيتـهـمُ***إني حُدِدْتُ ولا عُذْرَى لمحدودِ»
وعذَّرتُ في الأمر تعذيرًا، إذا قصّرت فيه ولم تبالغ؛ وأعذرتُ فيه إعذارًا، إذا بالغت فيه.
وأعذرتُ الى الرجل إعذارًا، إذا بالغت في التقدمة إليه.
وتقول العرب: عِذْرَةً إليك ومعْذِرَةً إليك، أي اعتذارًا.
ومَن عَذيري من فلان، أي من يعذرني منه.
وتقول: إليك العُذْرَى، أي العُذْر.
وساء عذيرُ فلان، أي ساءت حاله.
والعاذر: ذو البطن من الرّجيع.
وأنشد:
«حتى اتّقاه بعاذرِ»
أي بذي بطنه.
والعاذِر: وجع يصيب الإنسانَ في حلقه، فالذي يصيبه ذلك الداء معذور.
قال جرير:
«غَمَزَ ابنُ مُرّةَ يا فرزدقُ كَيْنَها***غَمْزَ الطبيبِ نغانغَ المعذورِ»
والعاذر: الأثر في الجسد؛ يقال: به عاذرٌ من أثر ضرب واسع.
والعَذِرَة: عَذِرَة الدار، أي ساحتها وفِناؤها، وإنما سمّيت العَذِرَة التي يعرفها الناس كناية لأنهم كانوا يلقون ذلك بأفنيتهم.
ومنه الحديث: (اليهود أنْتَنُ الناس عَذِراتٍ)، أي أفنيةً.
قال الحطيئة:
«لَعَمري لقد جرّبتُكم فوجدتُكم***قِباحَ الوجوهِ سيّئي العَذِراتِ»
وفي الحديث: (نظّفوا عَذِراتِكم)، أي أفنيتَكم.
والعُذْرَة: عُذرة العَذراء التي تُفتضّ بها؛ وللجارية عُذرتان: خَفْضُها وافتضاضُها.
والعُذْرَة: الخِتان؛ عَذَرْتُ الغلامَ فهو معذور، وأعذرتُه فهو مُعْذَر، وعذَّرتُه، إذا ختنته.
قال الراجز:
«فهو يلوّي باللِّحاء الأقشرِ *** تَلْويةَ الخاتنِ زُبَّ المُعذَرِ»
ويقال: عذَرْتُ الغلامَ وخَفَضْتُ الجارية، ولا يقال خفضتُ الغلام ولا عذرتُ الجارية.
وفي الحديث: (كنّا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إعذارَ عام)، أي خُتِنّا في عام واحد.
والإعذار عندهم: طعام الخِتان، قال الراجز:
«كلَّ الطعام تشتهي ربيعَهْ*** الخُرْسُ والإعذارُ والنَّقيعَهْ»
وبنو عُذْرة: حي من العرب.
وعِذار الفرس: ما على خدّيه من لِجامه.
وموضع العِذار: المعذَّر.
وفرس أسيل المعذَّر، إذا كان طويلَ اللَّحْيَيْن سَبِطَ الخدّين.
والعِذار من الأرض: ارتفاع يستطيل في عُرْض الفلاة فيحجب ما وراءه، والجمع عُذُر.
وعِذار العِراق: ما انفسح عن الطَّفّ.
والعَذْراء: برج من بروج السماء وليس مما تعرفه العرب.
قال النجّامون: هي السُّنبلة، وقال قوم: بل العذراء الجوزاء.
والعُذْرة: داء يصيب الصبيَّ في حلقه، فإذا غُمز فهو معذور.
والعَذَوَّر: السيّئ الخُلق.
قال الشاعر:
«لا يُمْسِكُ الفحشاءَ تحت ثيابه***حُلْوٌ حلالُ الماءِ غيرُ عَذَوَّرِ»
أي ماؤه وحوضه مُباح.
والعُذرة: نجم من منازل القمر.
والعُذْرَة: الخُصلة من الشعر، والجمع عُذُر.
قال العجّاج:
«خُوصًا يساقطن المِهارَ والمُهَرْ *** يَنْفُضْنَ أفنانَ السَّيبِ والعُذَرْ»
والعَذير: الحال.
قال عديّ بن زيد:
«إنّ ربّي لولا تدارُكُه المُـلْ***كَ لأهل العراق ساءَ العَذيرُ»
ومرج عَذْرَى: موضع بالشام.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
59-جمهرة اللغة (رضع رعض ضرع ضعر عرض عضر)
الرَّعَش: الرِّعدة، رَعِشَ يرعَش رَعشًا ورَعشًا ورَعشانًا فهو راعش.وشَمِر يَرْعش: ملك من ملوك حمير كان به ارتعاش فسمّي يَرْعَش.
والشَّعَر: معروف، بتحريك العين وتسكينها، وتقول العرب: ما شعرتُ به شِعْرًا وشِعْرَة وشعورةً.
والشاعر سمّي شاعرًا لأنه يشعر للكلام.
وقولهم: ليت شِعري، أي ليتني أشعر بكذا وكذا.
والشَّعير: حَبّ معروف.
وشَعائر اللهّ: المناسك، وهي أنصاب الحَرَم، واحدتها شَعيرة هكذا يقول أبو عُبيدة، والمَشاعر التي هي مَناسك الحج واحدها مَشْعَر، وهي الأنصاب أيضًا.
وأشعرتُ البَدَنَة، إذا طعنت في سَنامها بمِشْقَص أو سِكَّين لتدمى فيُعلم أنها بَدَنَة.
وشَعيرة الّسيف من فضة أو حديد، وهي رأس الكَلْب، والكَلْب: المِسمار في قائم السيف.
والشِّعار: كل شيء لبسته تحت ثوب فهو شعار له.
وشِعار القوم: ما تداعوا به عند الحرب من ذِكر أب أو أم أو غير ذلك.
وأشعرَ فلانٌ فلانًا شرًّا، إذا غشِيَه به.
وأشعرَه الحبُّ مرضًا، إذا أبطنه إياه.
والشَّعْراء: ضرب من الذُّباب أزرق.
والشَعْراء أيضًا: هذا الخوخ المعروف.
والشُعَيْراء: ابنة ضَبَّةَ بن أُدّ ولدت لبكر بن مُرّ أخي تميم ابن مُرّ ولده، فهم بنو الشُّعيراء.
وقال قوم: بل الشُّعَيْراء لقب بكر بن مُرّ نفسه.
والشِّعْرَيان: نجمان، وهما الشِّعْرَى العَبور والشِّعْرَى الغُمَيْصاء.
قال أبو بكر: إنما سُمّيت الغُمَيْصاء لأنها أقلّ نورًا من العَبور، وسُمّيت العَبور لأنها تعبُر المَجَرَّة، هكذا يقول قوم.
وأشاعر الفرس: ما حول حافره من الشَّعَر.
وأشاعر الناقة: جوانب حَيائها.
ويقال: داهية شَعْراء وداهية وَبْراء.
ومن كلامهم للرجل إذا تكلم بما يُنكر عليه: جئت بها شَعْراءَ ذاتَ وَبَر.
والشَعْرَة: العانة.
وخُفٌّ مُشْعَر: مبطَّن بِشَعَر.
وشَعْر: جبل معروف، غير مصروف.
والأشْعَر والأقْرَع: جبلان بالحجاز معروفان.
ورجل أشْعَرُ وامرأة شَعْراءُ: كثير الشَّعَر.
والشُّعرور: نبت.
وتفرَّق القومُ شَعاريرَ شذَر مذَرَ، وشعاريرَ قِنْدَحْرَة.
وجاء أميّة بن أبي الصَّلت في شعره بالشَّيْتَعور، وزعم قوم أنه الشعير، ولا أدري ما صحّته.
وروضة شَعْراء: كثيرة الشجر.
ورملة شَعْراء: تُنبت النَّصِيَ وما أشبهه.
والشِّرْع: الوَتَر، والجمع شِراع وشِرَع.
قال الهذلي:
«وعاوَدني ديني فبـت كـأنّـمـا***خلالَ ضُلوع الصّدرِ شِرْعٌ ممدَّدُ»
وشَريعة النّهر ومَشْرَعَته: حيث ينحدر إلى الماء منه، ومنه سُمّيت شريعة الدِّين إن شاء الله تعالى لأنها المَدْخَل إليه، وهي الشِّرْعَة أيضًا.
وأشرعَ القومُ الرِّماحَ للطعن، إذا هم صوّبوها.
ودُور شوارعُ: على نهج واضح.
والشِّراع، شِراع السفينة: معروف.
وما لهم بينهم شَرَعٌ واحد وشَرعٌ واحد، والفتح أعلى، أي هم سواء، وله في المال سهمٌ شَرَع.
وسقى إبلَه التشريعَ، إذا أوردها شِراعَ الماءَ فشربت ولم يستقِ لها.
ومثل من أمثالهم: "أهوَنُ السَّقي التشريعُ ".
والعَشْر: عَقْد معروف.
والعَشْر: عَشْر ذي الحجَّة.
والعُشْر: جزء من عشرة أجزاء.
وأما قولهم: عِشرون فمأخوذ من أظماء الإبل، أرادوا عِشْرًا وعِشْرًا وبعضَ عشْرٍ ثالث، فلما جاء البعضُ جعلوها ثلاثة أعشار فجمعوا عِشرين على فِعْلين فقالوا: عِشرين وذلك أن الإبل ترعى ستّة أيام وتقرب يومين وتَرِد في اليوم التاسع وكذلك العِشر الثاني، فصار العِشران ثمانية عشرَ يومًا وبقي يومان من العِشْر الثالث فأقاموه مقام عِشْر.
والعِشْر: آخر الأظماء.
قال ذو الرمّة:
«حنينَ اللِّقاح الخُـورِ حـرَّق نـارَه***بجَرْعاءِ حُزْوَى فوق أكبادها العِشْرُ»
وعاشوراء: يوم سُمّي في الإسلام ولم يُعرف في الجاهلية.
قال أبو بكر: وليس في كلام العرب فاعولاء ممدودًا إلاّ عاشوراء، هكذا قال البصريون، وزعم ابن الأعرابي أنه سمع خابوراء، أخبرني بذلك حامد بن طرفة عنه، ولم يجىء بهذا الحرف أصحابُنا، ولا أدري ما صحّته.
وناقة عُشَراء، إذا بلغت في حملها عشرة أشهر وقرُب وِلادها، والجمع عِشار.
قال الشاعر:
«بلاد رَحْبَةٌ وبها عِـشـارُ***يَدُلُّ بها أخا الركْبِ العِشارُ»
وكذا فسّروا في التنزيل: {وإذا العِشارُ عُطِّلَتْ}، قالوا: هي الإبل الحوامل، كذا قال أبو عُبيدة والله أعلم.
وعشَّر الحمارُ تعشيرًا، إذا نَهَقَ عَشْرًا في طَلَق واحد.
وعشيرة الرجل: بنو أبيه الأدنَون الذي يعاشرونه، وهكذا ذكر أصحاب المغازي أن النبي صلى اللهّ عليه وآله وسلم لما أنزل عليه: "وأنذِرْ عشيرتَك الأقربِينَ" قام فنادى: يا بني عبد مَناف.
وعشير الرجل: امرأته التي تعاشره في بيته، وهو عشيرها أيضًا.
ولك عُشر هذا المال وعَشيره ومِعْشاره.
والعُشَر: نبت معروف.
وأعشار الجَزور: أنصباؤها إذا قُسمت بين الناس.
وعشّر الجزارُ خِيرة اللحم، إذا أخذ منه أطايبَه.
وذو العُشَيْرة: موضع معروف غزاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وبنو العُشَراء: قوم من العرب في غَطَفان لهم حديث لا أستجيز ذِكره.
وقِدْر أعشار: عظيمة، وقد فسّروا بيت امرئ القيس:
«وما ذَرَفَت عيناكِ إلاّ لتضربِي***بسهميكِ في أعشار قلبٍ مقتَّل»
قال البصريون: أراد أن قلبه كُسِرَ ثم شُعِبَ كما تُشعب القِدر.
وقال آخرون: بل أراد أن قلبه قُسم أعشارًا كأعشار الجَزور فضربت بسهميها فخرج الثالث وهو الرقيب فأخذت ثلاثة أنصباء ثم ثنّت فخرج السابع وهو المعلَّى فأخذت سبعة أنصباء فاحتازت قلبَه أجمعَ، وهو أحسن التفسيرين.
وفلان حَسَنُ العشرة والمعاشَرة.
والعَرْش: السرير.
والعَريش: ظُلَّة من شجر أو نحوه، والجمع عُرُش.
والعُرْشان من الفرس: آخر شَعَر العُرْف.
ويقال: ثلّت عروشُ بني فلان، إذا تشتَّتت أمورهم.
ويقال: ضربه فثَل عُرْشَيْه، إذا قتله.
قال ذو الرمّة:
«وعَبْد يَغُوثَ تَحْجلُ الطيرُ حوله***وقد ثَلَّ عُرْشَيْه الحُسامُ المذكّر»
ويُروى عَرْشَيْه "أيضًا.
وبئر معروشة، إذا طُرح عليها خشب يقف عليه الساقي.
فيُشرف عليها، وربما سُمّيت معروشةً أيضًا إذا ظُلِّلت.
قال الشاعر:
«ولما رأيتُ الأمز عَرْش هَوِيَّةٍ***تسلّيت حاجاتِ الفؤادِ بزَيْمَرا»
زيْمَر: اسم ناقته.
وعرّشتُ الكرمَ تعريشًا وعَرَشْتُه عَرْشًا، إذا جعلت تحته خشبًا ليمتدّ عليها، وكرم معروش ومعرَّش.
وعرْشان: اسم رجل.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
60-جمهرة اللغة (فكو فوك كفو كوف وفك وكف)
التكوّف: التجمّع؛ هكذا يقول الأصمعي، قال: وبه سُمّيت الكوفة لأن سعدًا لما افتتح القادسيّةَ نزل المسلمون الأنبارَ فآذاهم البَقُّ فخرج فارتاد لهم موضع الكوفة وقال: تكوّفوا في هذا الموضع، أي اجتمِعوا فيه.وكان المفضَّل يقول: إنما قال لهم: كوِّفوا هذا الرمل، أي نَحّوا رملَه وانزلوا.
قال أبو بكر: والكُوَيْفة أيضًا يقال لها كُوَيْفة عمرو، وهو عمرو بن قيس من الأزْد، وكان أبْرَوِيز لمّا انهزم من بَهْرام جُويِين نزل به فقَراه وحمله فلما رجل الى ملكه أقطعه ذلك الموضع.
وتقول: تركتُ القومَ في كُوفانٍ، وفي مثل كُوفان، أي في أمر مختلط.
والكُوَيْفة: موضع أيضًا.
والكُفْء مهموز، وربما لم يُهمز فقالوا: كُفْوٌ، وستراه في بابه إن شاء الله.
والوَكْف: مصدر وَكَفَ البيتُ يكِف وَكْفًا ووكيفًا، ومنه قولهم: ليس في هذا الأمر وَكْف ولا وَكَف، أي فساد وضعف.
وتوكّفتُ خبر فلان، أي انتظرته.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
61-جمهرة اللغة (الباء والثاء)
جَرْثَب أو جُرْثُب: موضع، وقد جاء في الشعر.وبُعْثُج: صلب شديد.
وبَثْجَل: موضع.
والحُرْبُث: نبت.
والحَثْرَبة لغة في الحَثْرَبة، وهي الناتئة في وسط الشفة العليا من الإنسان، وهي الحِثرِمة أيضًا.
وقد سمّوا حِثْرِمًا، وأحسبه بالخاء أيضًا.
وبَحْثَرٌ من قولهم: بحثرتُ الشيءَ، إذا بدّدته.
والحِثْلِب: عَكَر الدهن أو السمن في بعض اللغات.
وحَنْبَث: اسم.
والبَخْثَرة: الكَدَر في ماء أو ثوب.
وبَخْثَع: اسم، زعموا، وليس بثَبْت.
ورجل خُنْبُث وخُنابِث: مذموم، يراد به الخيانة وما أشبهها.
وبُرْثُع: اسم.
وعُبْثُر من العَبَيْثُران اشتقاقه، وهو ضرب من النبت له رائحة طيبة.
وبعثرتُ القبرَ وغيرَه، إذا بدّدت ترابه.
وفي التنزيل: {وإذا القبورُ بُعثرت}.
وبَرْعَث: مكان، والجمع براعث.
والبَغْثَر: الأحمق الضعيف.
قال الراجز:
«لِيَعْلَمَنّ البَغْثَرُ ابنُ البَغْثَرَهْ»
والبَرْغَثة: لون شبيه بالطُّحلة، ومنه اشتقاق البُرغوث، وهو فُعلول من ذلك.
والقُبْثُر، رجل قُبْثُر وقُباثِر، وهو الخسيس الخامل.
وبُرْثُم: اسم.
والبُرْثُن لما يؤكل من الطير مثل المِخْلَب لما لا يؤكل.
والثَّبْرَة: الأرض السهلة.
وثَبْرَة: موضع بعينه.
قال الراجز:
«نجّيتُ نفسي وتركتُ حَزْرَهْ *** نِعْمَ الفَتَى غادرتُه بثَبْرَهْ»
والثَّبْرَة أيضًا، يقال: بلغتِ النخلةُ إلى ثَبْرَة من الأرض فلم تَسْرِ عروقُها فيها، وهي شبيه بالنُّورة تكون بين ظهري الأرَض فإذا بلغ عرقُ النخلة إليه وقف.
وشَنْبَث وشُنابث: الغليظ من الناس وغيرهم.
وضَبْثَم: اسم، وهو الشديد، واشتقاقه من الضَّبْث، والميم زائدة، وبه سُمّي الأسد ضُباثًا.
والبَعثقة: خروج الماء من غائل حوض أو من جابية، تَبعثقَ الماءُ من الحوض، إذا انكسر منه ناحيةٌ فخرج منها.
ورجل بَلْعَث وامرأة بَلْعَثة، وهي الرَّخاوة في غِلَظ عيش.
والثَّعلب: معروف، والأنثى ثَعلبة، وتسمّى الاست أيضًا ثَعلبة.
والثُّعْلُبان: الذَّكر من الثعالب أيضًا.
والثَّعلب: طرف الرمح الذي يَدخل في جُبّة السِّنان.
قال الراجز:
«وأطعُنُ النجلاءَ تَهوي وتَهِرّْ *** لها من الجوف رَشاشٌ منهمِرْ»
«وثعلبُ العاملِ فيهما منكسِرْ»
والثَّعلب أيضًا: مخرج الماء من جَرِين التمر والمِرْبَد.
وثُعَيْلِبات: موضع.
والثعالب: قبائل من العرب شتّى: ثَعلبة في بني أسد، وثَعلبة في بني قيس، وثَعلبة بن جعفر بن يربوع في بني تميم، وثَعلبة في طيّىء، وثَعلبة في ربيعة.
ويقال: عثلبتُ الحوضَ عَثلبةً وعِثلابًا، إذا هدمته، وكذلك البيت.
قال الراجز:
«والنُّؤيُ بعد عهده المُعَثْلَبُ»
ويُروى:
«والنُّؤيُ أمسى جَدْرُه مُعَثْلَبا»
وعُبْثُم: اسم.
وعَنْبَث، والجمع عَنابث: شُجيرة، زعموا وليس بثَبْت.
وغثلبَ الماءَ يغثلبه غثلبةً، إذا جرِعه جرعًا شديدًا.
وبَغْثَم: اسم.
ورجل كَلْبَث وكُلابِث: متقبّض بخيل.
وكُنْبُث وكُنابِث، وهو الصلب الشديد، يقال: تكنبثَ الرجلُ وكَنْبَثَ، إذا تقبّض.
والبهْكَثة: السرعة فيما أخذ فيه من عمل.
والبَثْنَة: الأرض السهلة الليّنة، وبه سُمّيت المرأة بَثْنَة وبُثينة.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
62-جمهرة اللغة (باب ما جاء على فععللة)
قالوا: ثُرُعْطُطة وثُرُعطَطة، وهو حساء رقيق.وجُلُعْلُعة وجُلُعْلَعة، وهي خُنْفَساء نصفها طين ونصفها حيوان.
قال أبو حاتم: قال الأصمعي: صمعتُ أعرابيًا يقول: عطس فلانٌ فخرج من أنفه جُلُعْلَعة فسألته عن الكلمة ففسّر هذا التفسير فلا أنسى فرحي بهذه الفائدة.
والجُلُعْلُع من أسماء الضَّبُع.
وقُرُعْطُبة وقُرُطْعُبة، يقال: ما لفلان قُرُعْطُبة ولا قُرُطْعُبة، أي ما له قليل ولا كثير.
قال الراجز:
«فما عليه من لباسٍ طِحْرِبَهْ *** وما له ن نَشَبٍ قُرُطْعُبَهْ»
وروى أبو زيد: قُرُعْطُبة.
وعُقُنْقُصة: دُوَيبة.
وأسد خُبَعْثِنة، وقالوا خُبَعْثَنة، أي غليظ.
وقُفَرْنِيَة: امرأة قصيرة زريّة.
قال الشاعر:
«قُفَرْنِيةٌ كأنّ بطُبْطُبـيهـا*** وقُنْفُعِها طِلاءَ الأرْجُوانِ»
وقُرُنْبُضة: قصيرة أيضًا.
وخُرُنْفُقة: قصيرة أيضًا.
وجُلُنْدُحة: صلبة شديدة.
وصُلُنْدُحة وصُلُنْدَحة: صلبة، ولا يكاد يوصف به إلا الإناث.
وزُلُنْقُطة: زريّة قصيرة، وربما قيل للذكر زُلُنْقُطة.
ويقال: هو في بُلَهْنيَة من عيشه، إذا كان في رخاء وعزّة.
قال الشاعر:
«ما لي أراكم نيامًا في بُـلَـهْـنِـيَةٍ*** وقد تَرَوْنَ شِهابَ الحرب قد سَطَعا»
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
63-جمهرة اللغة (باب آخر على فعلان)
الشَّبَهان: ضرب من النبت، وقالوا: هو الثُّمام.قال الشاعر:
«بوادٍ يَمانٍ يُنْبِتُ الشَّثَّ فَرْعُه*** وأسفلُه بالمَرْخ والشَّبَهـانِ»
الباء هاهنا زائدة وهي باء التعليق، كما قال اللّه عزّ وجلّ: {تَنْبُتُ بالدُّهن}.
قال الشاعر:
«هنّ الحَرائرُ لا رَبّاتُ أخمـرةٍ*** سودُ المحاجر لا يقرأن بالسُّوَرِ»
والعَلَجان: نبت أيضًا.
قال سُحيم:
«فَبِتْنا وِسادانا إلى عَلَـجـانةٍ*** وحِقْفٍ تهاداه الرياحُ تَهاديا»
ورَدَفان: موضع.
وقَفَدان، وهي خريطة العطّار التي يجعل فيها طِيبه.
قال الراجز:
«في جَونةٍ كقَفَدان العطّارْ»
وشَدوان: موضع.
قال الشاعر:
«فليتَ لنا من ماء زَمْزَمَ شَرْبَةً*** مبرَدةً باتت علـى شَـدَوانِ»
ونَعَم عَكَنان: كثير.
وظبي عَنَبان: مُسِنّ.
ويَرَقان: داءٍ يصيب الزرع، وقد قالوا: الأرَقان.
وفرس سَرَطان: يسترط العَدو، أي يلتهمه لجودة عدوه.
والسَّرَطان: دابّة من دوابّ الماء.
والسَّرَطان: داءٍ يصيب الناس والدوابّ.
فأما السَّرَطان الذي يعرفه النجّامون فليس تعرفه العرب.
وفرس عَدَوان: شديد العدو.
قال الشاعر:
«وصخرُ بنُ عمرو بن الشريد فإنه*** أخو الحرب فوق السابح العَدَاونِ»
قال أبو بكر: يرويه الكوفيون: فوق القارح الغفوان، وليس بشيء.
وفرس غَذَوان: يغذّي ببوله إذا جرى.
ويقال للدَّبَران عين الثور والمِجْدَح والحادي.
وصَمَيان: الذي ينصمي على الناس يتدرّأ عليهم.
وقَطَوان، وهو القصير المتقارب الخَطْو.
وغَطَفان: اسم أبي قبيلة، واشتقاقه من الغَطَف، وهو قلّة شَعَر هُدْب العين.
وخَفَدان: موضع.
ورجل صَبَحان، إذا كان يعجِّل الصَّبوحَ.
ومثل من أمثالهم: "أكذبُ من الأخيذ الصَّبَحان".
قال أبو بكر: الأصل في هذا المثل أن شيخًا استُرشد عن الحيّ فكذَبَهم فطعنوه فخرج الدمُ واللبنُ، والأخيذ: الأسير، وقال أبو عبيدة: هو الأسير يؤخذ فإذا أصبح قال: فعلتُ كذا وفعلتُ كذا.
ورَوَحان: موضع.
ورجل صَلَتان: منصلِت في أموره.
وسَفَوان: موضع.
وكَرَوان: طائر.
ودَبَران: نجم.
وصَرَفان: ضرب من التمر.
والصَّرَفان: الرصاص، زعموا.
وأنشدوا بيت الزَّبّاء:
«ما للجِمال مَشْيُها وَئيدا *** أجَنْدَلًا يَحْمِلْنَ أم حديدا»
«أم صَرَفانًا باردًا شديدا *** أم الرجال جُثَمًا قُعودا»
ويقال: الصرَفان: الموت.
ورجل رَقَبان: غليظ الرقبة.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
64-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (ميفعة)
ميفعةهي أرض واسعة، فيها قرى وآبار كثيرة، عاصمتها قرية في أثنائها تسمّى: أصبعون، على شفا جرف هار من الدّمار.
وهي في شرقيّ عزّان، بينها وبينه مسافة نحو ساعتين، ومن أرباض ميفعة في جنوبها: الصّعيد، وجول آل عبد المانع، والحوش، ورضوم، وفي شمالها: الرّقّة، والعطوف، وريدة آل بارشيد.
وفي عطفها: جماعة من أعقاب السّيّد فدعق بن محمّد بن عبد الله بن امبارك بن عبد الله المشهور بوطب.
ولآل باقطميّ اعتقاد في شريفة مقبورة هناك، يقال لها: علويّة، يشاع أنّها من آل البغداديّ، والأثبت: أنّها من آل جنيد سكّان عزّان.
ومن شرطهم: أن لا يكون القائم بمنصبتها إلّا بنت بكر من أسرتها، ولا يمكن لها أن تتزوّج.
وعلى منصبتها اليوم شريفة يقال لها: سيده، تبرز للرّجال وتحادثهم، ولها جاه واسع لدى آل باقطمي وغيرهم، وهي تكرم الضّيفان.
وفي ميفعة كانت وفاة الشّيخ عبد الله الصّالح المغربيّ، وكان من خبره: أنّ الشّيخ أبا مدين أرسل بخرقة التّصوّف للفقيه محمّد بن عليّ بن محمّد، بمعيّة الشّيخ عبد الرّحمن بن محمّد الحضرميّ، فأدركته الوفاة بمكّة المشرّفة، فعهد للشّيخ عبد الله الصّالح المغربيّ بإيصالها للفقيه المقدّم، فألبسه إيّاها، وغضب لذلك شيخه عليّ بامروان، وقال له: أذهبت نورك بعد أن رجوت أن تكون كابن فورك، فتفقّرت.
فقال له الأستاذ الفقيه المقدّم: الفقر فخري.
ثمّ سار الشّيخ الصّالح لإلباس الشّيخ سعيد بن عيسى العموديّ عن إشارة الشّيخ أبي مدين، ثمّ توجّه إلى ميفعة، وفي طريقه إليها ألبس صاحب عورة: الشّيخ باعمر، عن نفسه لا عن الشّيخ أبي مدين، ولمّا صعد إلى ميفعة.. اتّصل بباحمران.
وذكر الشّلّيّ [2 / 12] وغيره: أنّ الفقيه المقدّم سار إلى ميفعة لعيادة الشّيخ عبد الله الصّالح ـ وكان بلغه توعّكه ـ وهناك اجتمع به وبتلاميذه، وشهدوا وفاته ودفنه بميفعة، ولم يذكروا تاريخ موته، غير أنّه كان قبل موت الفقيه الّذي كانت وفاته سنة (653 ه).
ومن العجب أنّ العلّامة السّيّد عليّ بن حسن العطّاس يقول في «سفينة البضائع»: (إنّ الفقيه المقدّم، والشّيخ سعيد بن عيسى العموديّ، والشّيخ عبد الله بن عمر صاحب الدّلق، والشّيخ باحمران.. اجتمعوا بشيخهم الشّيخ عبد الله الصّالح المقبور ببلد كنينة ـ بلد بالشّقّ البحريّ، قريب من حجر ـ وهي الجهة الّتي يقال لها: ميفع) اه ففيه أوهام، وكأنّ النّظر انتقل عليه من ميفعة إلى ميفع، ثمّ ما كان الشّيخ الصّالح بشيخ للمقدّم ولا للعموديّ، وإنّما هو سفير محض في إيصال الخرقة لهما.
ونقل الحبيب شيخ الجفريّ في «كنز البراهين» عن الشّيخ عبد القادر العيدروس: (أنّ الشّيخ عبد الله الصّالح لمّا رجع إلى حضرموت.. أقام بميفعة، وهي بلد أقصى حضرموت، قريب من ساحل عين بامعبد، وتزوّج بقرية من قراها، يقال لها: السوق، أعلى من أصبعون، فوق الرّبوة، وكان له بنتان؛ حمادة ومحمودة، فلمّا مرض.. جاء المشايخ الّذين حكّمهم رضي الله عنهم يزورونه، وهم: الفقيه المقدّم، والشّيخ سعيد العموديّ، وباعمر، وباحمران، وقالوا: تشير إلى أحد بعدك؟ فسكت ساعة، ثم قال: يا أولادي؛ ما استقلّ منكم إلّا صاحب السّبحة، وأنتم مشايخ، وميراثي أرباع بينكم، والبنتان على يدك يا شيخ سعيد، فلمّا مات.. قسموا ميراثه بالقرعة، فخرج المشعل والقدر للشّيخ سعيد، والسّبحة والعكّاز للفقيه المقدّم ـ فكان هو المشار إليه بالاستقلال ـ والدلق لباعمر، صاحب عورة، والحبوة والبسطة لباحمران. وقبر الشّيخ الصّالح بأصبعون) اه
وقسمة الميراث بين هؤلاء إشكال؛ لأنّه إن أراد السّرّ.. غبّر عليه ذكر المقتسمات، ولعلّ المراد الوصيّة، والسّرّ تبع لما جرت فيه القسمة، ثمّ إنّ قوله يا أولادي لا يخالف ما نقلوه أن ليس له مشيخة على الفقيه ولا على العموديّ؛ إذ لا مانع من التّغليب وتقدّم السّنّ.
وفي ميفعة باحمران آخر غير الأوّل، هو من تلاميذ السّيّد عبد الله باعلويّ.
وكان في ميفعة جماعة من علماء الإباضيّة، حسبما يعرف من شعر الإمام إبراهيم بن قيس الآتي في ذكر شبام.
أمّا سلطنة ميفعة وحبّان: فقد كانت في القرن التّاسع للدّولة الطّاهريّة.
وأمّا في القرن العاشر.. فسلطنة حبّان للواحديّ، ومنهم: عبد الواحد بن صلاح بن عبد الله بن عبد الواحد بن صلاح بن روضان، وهو ممدوح الشّيخ محمّد بن عبد القادر بن أحمد الإسرائيليّ.
توفّي عبد الواحد المذكور في سنة (991 ه) وسلطنة ميفعة لابن سدّة.
وكثيرا ما جاء ذكره في «ديوان» الشّيخ عمر بن عبد الله بامخرمة، فمن ذلك قوله يهيّج بدر بوطويرق عليه:
«فالمره زاهله للعقد ما عاد عدّه *** ما تبا الّا حصانك قل لعبدك يشدّه »
حجر في شهرنا والعولقي وابن سدّه
وهو وآل عبد المانع وآل ابن عبد الواحد سلاطين الظّاهر، يرجعون إلى بني أميّة في النّسب.
وفي حوادث سنة (915 ه) من «تاريخ شنبل» [ص 237 ـ 248]: أنّ عبد الودود بن سدّة صال على بيحان، فأفسد ضمرا فيها، ثمّ لاقاه آل بيحان مع رجوعه عن واديهم، فقتلوا من عسكره أكثر من عشرين، وأخذوا عليه عبيدا وعتادا وأسلحة.
ومنه: في أخبار سنة (917 ه) [ص 253]: توفّي السّلطان العادل عبد الودود بن سدّة.
وينهر إلى ميفعة كلّ من جبال عمقين ووادي هدى ووادي سلمون، وكان بينها وبين وادي حبّان جبل يمنع من وصول مائه إليها، ولكنّ أحد الملوك السابقين فتح فيه نفقا يخترقه، فصار ماء حبّان يفيض فيه إلى ميفعة. كذا أخبرني بعضهم عن مشاهدة، وإنّها لأمارة ملك ضخم وسلطان عظيم.
وما بين عطف ميفعة المسمّى عطف بالرشيد وميفعة.. آثار مدينة قديمة يقال لها: الهجر، كان يقال: إنّها ثاني بلاد ذلك الصّقع بعد مدينة شبوة، ولا تزال آثارها ماثلة وأساطينها قائمة، وعليها كتابات كثيرة بالمسند، وحجاراتها منجورة، وضخامتها تدلّ على أنّه كانت عندهم آلات غريبة للنّقل؛ لأنّ نقل تلك الحجارة الضّخمة لا يسهل للجمال ولا للرّجال.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
65-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (المكلا)
المكلّاهو اسم دالّ على مسمّاه؛ إذ جاء في مادّة (كلأ) من «التّاج» و «أصله»: (أنّ الكلّاء ـ ككتّان ـ مرفأ السّفن. وهو عند سيبويه: فعّال، مثل جبّار؛ لأنّه يكلأ السّفن من الرّيح. وساحل كلّ نهر كالمكلّا، مهموز مقصور) اه باختصار.
ومنه تعرف أنّه عربيّ فصيح، لم تتصرّف فيه العامّة على ممرّ السّنين إلّا بالشّيء اليسير.
وكانت المكلّا خيصة صغيرة لبني حسن والعكابرة، وملجأ تعوذ به سفائن أهل الشّحر، والواردين إليه من الآفاق عندما يهتاج البحر في أيّام الخريف؛ لتأمن به من عواصف الرّياح؛ لأنّه مصون بالجبال، بخلاف ساحل الشّحر.. فإنّه مكشوف.
وقد اتّخذ الصّيّادون به أكواخا، ففرضت عليهم العكابرة ضريبة خفيفة إزاء استيطانهم بها؛ لأنّها من حدود أرضهم، ثمّ ازدادت الأكواخ، واستوطنها كثير من العكابرة أنفسهم وناس من أهل روكب.
ويقال: إنّ آل الجديانيّ ـ وهم من يافع ـ مرّوا بها في أواخر سنة (980 ه) مجتازين، فأعجبتهم، فاستوطنوها، وصار أمر أهل تلك الخيصة إلى رئيسهم يشاورونه في أمورهم حتّى صار أميرا عليهم.
وكان كبير آل كساد ـ واسمه: سالم ـ موجودا بالمكلّا إذ ذاك، فاغتال الجديانيّ واستقلّ بأمر المكلّا.
ثمّ جاء سالم بن أحمد بن بحجم الكساديّ ومعه ولده صلاح وأخوه مقبل، فاغتالوا سالم الكساديّ في البير المعروفة إلى اليوم ببير بشهر، واستولى سالم بن أحمد بن بحجم على البلاد، وحكمها سنة ثمّ مات، وخلفه عليها ابنه صلاح ثمّ مات، وله ثلاثة أولاد: عبد الرّبّ، وعبد الحبيب، وعبد النّبيّ.
وكان النّفوذ لعبد الحبيب؛ لأنّه الأكبر، ولمّا مات.. خلفه عليها أخوه عبد الرّبّ، وبقي يحكم المكلّا إلى أن توفّي في سنة (1142 ه)، وخلفه عليها ابنه صلاح، فأخذ محمّد بن عبد الحبيب ينازعه حتّى اتّفقوا على تحكيم صاحب عدن، فركبوا إليها، فقضى بها لمحمّد بن عبد الحبيب.
فسافر صلاح وأخوه مطلق وعمّهم عبد النّبيّ إلى السّواحل الإفريقيّة، وبقي محمّد عبد الحبيب يحكم المكلّا.
وفي أيّامه بنيت حافة العبيد، وسمّيت بذلك؛ لأنّ أوّل ما بني بها بيت لعبيد آل كساد.
ولمّا مات محمّد عبد الحبيب في سنة (1207 ه).. قام من بعده ولده صلاح بن محمّد بن عبد الحبيب، وكان عمّه عبد الله بن عبد الحبيب ينازعه الإمارة، ولكنّه تغلّب عليه بمساعدة عمّه عليّ بن عبد الحبيب، وبقي على حكم المكلّا إلى أن مات في سنة (1290 ه).
وقام بعده ولده عمر بن صلاح، وكان صلاح في أيّامه استدان مئة ألف ريال من عوض بن عمر القعيطيّ في سنة (1285 ه) ـ وهي حصّته في نفقة غزوة المحائل عامئذ ـ وبإثر موته.. وصل عوض من الهند إلى الشّحر، وأقام بها أشهرا، ثمّ سار إلى المكلّا بهيئة التّعزية، وبعد أن اجتمع له بها من عسكره نحو ثلاث مئة دخلوا أرسالا.. طالب بذلك الدّين، فسفر النّاس بين عمر بن صلاح والقعيطيّ على أن يحتلّ القعيطيّ ناصفة المكلّا إلى أن يستوفي ماله من الدّين، ولكنّ عمر صلاح استدعى عسكره من كلّ ناحية، وأذكى نار الحرب، وعندما أحسّ القعيطيّ بالهزيمة.. استوقف الحرب، ونجا بنفسه.
هذه إحدى الرّوايات في إمارة آل كساد على المكلّا.
والأخرى: (أنّ في أواخر القرن الحادي عشر ـ أو أوائل الثّاني عشر ـ ورد المكلّا أحد آل ذي ناخب وهو جدّ آل كساد، وبمجرّد ما استقرّت قدمه بالمكلّا.. اتّجهت همّته للتّجارة والمضاربة مع أهل السّفن، ثمّ اتّفق هو وإيّاهم على شيء يدفعونه إليه برسم الحراسة، يعطي العكابرة وبني حسن بعضه، ويستأثر بالباقي، إلى أن استقوى أمره، وضعف أمر أولئك وانشقّ رأيهم، فما زال يتدرّج حتّى صار أمير المكلّا).
والثّالثة: عن الشّيخ المعمّر أحمد بن مرعيّ بن عليّ بن ناجي الثّاني: (أنّ صلاح بن سالم الكساديّ كان بغيل ابن يمين، فكثر شرّه، فطرده اليافعيّون الشّناظير، فالتجأ إلى علي ناجي الأوّل بن بريك بالشّحر، فأجاره هو وأولاده: عبد الحبيب، وعبد الرّبّ، وعبد النّبيّ.
وكانت لصلاح بنت تدعى عائشة، جميلة الطّلعة، استهوت قلب عليّ ناجي، فطلب يدها، واستاء آل بريك من بنائه عليها؛ لما يعلمون من شيطنة صلاح، وخافوا أن يستولي بواسطة بنته على خاطر السّلطان علي ناجي فيتنمّر لهم، فبيّتوا قتل صلاح بن سالم الكساديّ، فغدر بهم عليّ ناجي.
فذهب به إلى المكلّا ـ وهي إذ ذاك خيصة للعكابرة وبني حسن ـ فبنى بها السّلطان عليّ ناجي حصنا على ساحل البحر، سمّاه: حصن عبد النّبيّ؛ احتفاظا بالاسم لولده، وعاهد أهل المكلّا لعمّه صلاح بن سالم، وأجلسه بها مع عائلته) اه
وقد نزغ الشّيطان آخرا بين علي ناجي وعبد الرّبّ بن صلاح بن سالم الكساديّ. وجاء في «تاريخ باحسن الشّحريّ» [2 / 98 ـ 99 خ]: (أنّ علي ناجي نفى آل همام إلى المكلّا، فاستنجدوا بعبد الرّبّ بن صلاح ـ صاحب المكلّا ـ فجهّز قوما التقوا بعسكر علي ناجي في الحدبة، وقتل محسن بن جابر بن همام، وانكسر عسكر الكساديّ، وغنم آل بريك جميع ما معهم) اه
وسيأتي في تريم أنّ الكساديّ لم يجىء إلى المكلّا إلّا بعد سنة (1117 ه).
وفي أواخر سنة (1163 ه): غزا ناجي بن بريك المكلّا بسبع مئة من الحموم وغيرهم، فلاقاهم آل كساد إلى رأس الجبل، فهزموهم، وقتلوا منهم نحو العشرين، ولم يقتل من الكساديّ إلّا أربعة، ولا تزال قبورهم ظاهرة برأس الجبل.
ولمّا مات صلاح بن سالم ـ على هذه الرّواية ـ خلفه على المكلّا ولده عبد الرّبّ بن صلاح، ثمّ أخوه عبد الحبيب، وكان شهما صارما حازما. ثمّ تولّى بعده ولده محمّد.
وفي أيّامه: أخذ آل عبد الرّبّ بن صلاح يدبّرون المكايد لاغتياله، فأحسّ بذلك، فوطّأ لهم كنفه، وكان ذلك في اقتبال رمضان، فأظهر النّسك واشتغل بالعبادة، فخفّ حقدهم عليه، وهو يعمل عمله ليتغدّاهم قبل أن يتعشّوه.
وفي اللّيلة السّابعة والعشرين من رمضان: هجم عليهم وهم غارّون نائمون، بعد أن اشترى ذمم عبيدهم ففتحوا له الباب، فأباد خضراءهم، وقتل منهم ومن حاشيتهم ثلاثة عشر رجلا في ساعة واحدة، وهرب من بقي منهم بخيط رقبته إلى السّواحل الإفريقيّة.
ولمّا مات محمّد بن عبد الحبيب.. وقعت عصابته على ابنه صلاح بن محمّد بن عبد الحبيب، وكانت له محاسن، وعدل تامّ، وشدّة قاسية على أهل الفساد، ولم يزل على ذلك إلى أن توفّي في ربيع الثّاني من سنة (1290 ه).
وخلفه ولده عمر بن صلاح، وجرت بينه وبين السّلطان عوض بن عمر القعيطيّ خطوب انهزم في أوّلها القعيطيّ، ثمّ استعان بحكومة عدن، فاستدعت عمر صلاح، وخيّرته ـ بعد أن أخذت التّحكيم من الطّرفين ـ بين أن: يدفع المئة الألف حالا، أو يتسلّم مئة ألف ريال من القعيطيّ، ويترك له البلاد. وبين أن يتسلّم بروما من القعيطيّ، وقدرا دون الأوّل من الرّيالات. فلم يقبل، فأجبروه على الجلاء من المكلّا، فذهب إلى السّواحل الإفريقيّة ـ حسبما فصّلناه ب «الأصل» ـ واحتفظوا لأنفسهم منّة كبرى على القعيطيّ بهذا الصّنيع.
وكان ليوم سفر النّقيب من المكلّا رنّة حزن في جميع الدّيار؛ لأنّهم كانوا متفانين في محبّته.
«سارت سفائنهم والنّوح يتبعها *** كأنّها إبل يحدو بها الحادي »
«والنّاس قد ملؤوا العبرين واعتبروا *** وأرسلوا الدّمع حتّى سال بالوادي »
«كم سال في البحر من دمع وكم حملت *** تلك القطائع من أفلاذ أكباد »
هذا حال أهل المكلّا في توديعهم، وأمّا هم (أعني آل النقيب).. فكما قال الرّضيّ [في «ديوانه» 2 / 571 من الطّويل]:
«ترحّلت عنكم لي أمامي نظرة *** وعشر وعشر نحوكم من ورائيا»
وزعم بعضهم أنّ صاحب زنجبار لذلك العهد ـ وهو السّلطان سعيد بن سلطان ـ منع السّلطان عمر بن صلاح من النّزول ببلاده؛ لما سبق من فعلة جدّه الشّنعاء بأقاربه، وكاد يرجع أدراجه، ولكنّ بقايا الموتورين من آل عبد الرّبّ أظأرتهم الرّحم عليه، فشفعوا إلى سلطان زنجبار في قبوله، فقبل نزوله. ولا تزال الدّراهم مرصّدة له بأرباحها في خزينة عدن، كذا يقول بعضهم.
ويزعم آخرون أنّ الحكومة اختلقت مبرّرا لحرمانه منها. ولا بأس بإيراد وثيقتين تتعلّقان بالقضيّة. هذه صورة الأولى:
"بسم الله الرّحمن الرّحيم
أقرّ أنا عمر صلاح، نقيب بندر المكلّا بأنّي قد قبلت بتوقيف وقطع العداوة التي بيني وبين عوض بن عمر القعيطيّ وأخيه عبد الله بن عمر حاكم بندر الشّحر، وأن ""أجري وأقبل صلح هدنة لمدّة سنتين من هذا التّاريخ، وكذلك أقبل وألزم نفسي بنيّة صالحة بأن لا أعاون ولا أساعد بأيّ وجه كان ظاهرا أو باطنا كلّ عدوّ للقعيطيّ المذكور في أثناء هذه الهدنة السنتين المذكورة، وقد رضيت وصحّحت هذه الشّروط برضاي واختياري، والله خير الشّاهدين.
النقيب عمر صلاح
ثم الختم
حرّر في المركب كونتنك
""
الدّولة العظمى الإنكليزيّة (22) ديسمبر سنة (1876 م)، (6) الحجة سنة (1295 ه).
والأخرى:
"بسم الله الرّحمن الرّحيم
أقرّ أنا الجمعدار عبد الله بن عمر القعيطيّ حاكم بندر الشّحر بأنّي قبلت بتوقيف وقطع العداوة التي بيني وبين النّقيب عمر صلاح نقيب المكلّا، وأن أجري وأقبل صلح هدنة لمدّة سنة واحدة من هذا التّاريخ، وكذلك أقبل وألزم نفسي بنيّة صالحة بأن لا أعاون ولا أساعد بأيّ وجه كان ظاهرا أو باطنا كلّ عدوّ للنّقيب عمر في أثناء هذه الهدنة السّنة المذكورة، وقد رضيت وصحّحت هذه الشّروط برضاي واختياري، والله خير الشّاهدين.
صحيح عبد الله بن عمر القعيطيّ
حرر في المركب الحربيّ المسمّى: عرب تعلق الدّولة العظمى في (7) مي سنة (1879 م)، الموافق (12) جمادى أولى سنة (1296 ه).
وفي الأولى إمضاء الوكيل السّياسيّ صالح جعفر، وفي الأخرى كومندور الدّراعة فرانسيس لوك، المقيم السياسيّ. عدن.
وفي معنى الوثيقة الأولى ولفظها وتاريخها وموضعها وثيقة بإمضاء السّلطان
عوض بن عمر، وهو: صحيح عوض بن عمر القعيطيّ عن نفسه وعن أخيه عبد الله بن عمر حاكم الشّحر.
ثمّ وجدت عريضة تضمّ ما انتشر، وتفصّل ما أجمل، تشبه أن تكون بأمر النّقيب عمر صلاح قدّمها فيما يظنّ لدولة الإنكليز، جاء فيها:
أولا: كان بين النّقيب صلاح بن محمّد الكساديّ سلطان المكلّا، وبين الجمعداريّة صالح وعبد الله وعوض أبناء عمر بن عوض القعيطيّ صداقة، وكانوا تابعين للنّقيب، حتّى عزم على حرب الشّحر، فجهز ومعه عوض بن عمر على الشّحر، وأخذوها على أنّها أنصاف بينهم، وبقي عوض بن عمر حاكما عليها.
وبعد ستّ سنين من أخذ الشّحر.. توفّي النّقيب صلاح بن محمّد، وخلفه ولده عمر صلاح، فاشتبك في حرب مع آل العموديّ وقبائل دوعن، فانتهز عوض بن عمر الفرصة، واستأذن في الوصول إلى المكلّا؛ للتّوسّط بين النّقيب عمر صلاح وآل دوعن في الصّلح، فوصل على حين غفلة، فخرج عمر صلاح لاستقباله.. فاستنكر كثرة العساكر التّي جاء بها معه؛ لأنّها تقدّر بسبع مئة، فقال له: لم لم تبعث برسول يخبرنا بوصولك؟
فاعتذر وأظهر أنّ قصده المصالحة بين النّقيب وبين قبائل دوعن، وفي ثاني يوم وصوله.. ادّعى بمئة وستين ألف ريال عند النّقيب صلاح بن محمّد.. فأجابه النّقيب عمر ب: (لا أعلم شيئا على والدي، وقد عاش ستّ سنين بعد أخذ الشّحر ولم تطلبوا بشيء، وإن كان بها سند صحيح على والدي.. فأنا مستعدّ للوفاء).
لكنّ عوض بن عمر لمّا رأى المكلّا خالية.. اعتمد على القوّة، وقال لعمر صلاح: إن لم تمض على بيع ناصفة المكلّا لي بالمبلغ المذكور.. أخذتها بالقوّة، فأمضى النّقيب مضطرّا، ثمّ استدعى عساكره من دوعن، وحصل من عسكر القعيطيّ تعدّ بقتل أحد عسكر النّقيب، فنشبت الحرب ثلاثة أيّام، انهزم في آخرها عوض بن عمر، فطلب الأمان لنفسه.. فأمّنه النّقيب.
فسار إلى الشّحر بسلاحه وعساكره في عدّة سفن، وبعد وصوله إلى الشّحر.. استمرّت المناوشات بين النّقيب والقعيطيّ ثلاث سنين، حتّى وصل الجنرال سندر من عدن، وعقد هدنة لمدّة سنتين، ولمّا انقضت.. وصل والي عدن فرانسيس لوك، وعقد هدنة لمدّة سنة، ولمّا انقضت.. منع الطّرفين عن جهة البحر، ولكنّ عبد القعيطيّ جهّز عساكره بحرا، وهجم على بروم في اللّيل، واستولى عليها، وأرسل النّقيب سلطان المكلّا خبرا لوالي عدن.. فتغافل عن تعدّي القعيطيّ، فطلب النّقيب آل كثير، وجهّز على بروم، وجهّز عسكر القعيطيّ بها من جهة البرّ.
وفي (25) ديسمبر سنة (1881 م) وصل مركب إنكليزيّ فيه صالح جعفر مندوب من والي عدن.. فوجد عسكر القعيطيّ محصورين في بروم، وسفنه في المرسى ملآنة بالرّصاص والزانة، فربط سفينتين منها بمركبه إلى عدن، وهربت أربع سفن إلى الشّحر، ثمّ أرسل الوالي بمركب حربيّ اسمه (سيجل)، يرأسه القبطان بيلس، وأقام هدنة خمسة عشر يوما.
وفي (22) فبروري وصل المركب (دجمار) وفيه صالح جعفر ووكيل القعيطيّ الواصل من الهند.. فدفع صالح جعفر للنّقيب عمر كتابا من والي عدن يقول له فيه: واصلك مرسولنا صالح جعفر.. فاقبل ما أودعناه لك من خطاب، فقال صالح جعفر: إنّ الدّولة حرّرت بينكم معاهدة على ثلاثة شروط، كلّ شرط في ورقة؛ لتخرج عساكر القعيطيّ من بروم بغير سفك دماء، وبعد خروج عساكر القعيطيّ بانسلّمها لك، وبانعطيك حماية لبلادك، وتكون تبع للدّولة الإنكليزيّة.
فلمّا وقف النّقيب على الشّروط الثّلاثة.. امتنع عن الإمضاء، وبقي صالح جعفر يرغّبه ويقول له: إنّما هي وسيلة إلى خروج عسكر القعيطيّ من بروم، وتكون الشّروط تحت اختيارك بعد ذلك، وكان النّقيب واثقا بصالح جعفر.. فأمضى على الشّروط الثّلاثة، كلّ شرط في ورقة، فتوجّه صالح جعفر ونزعوا عساكر القعيطيّ من بروم، وسلّموها للنّقيب.
وبعد أربعين يوما.. وصل القبطان هنتر وصالح جعفر، وقالوا للنّقيب: إنّ والي
عدن استحسن أن تبيع بلادك المكلّا لعدوّك القعيطيّ بثلاثة لكّ ريال، وطلب إمضاءه على ورقة بيع مكتوبة بالإنكليزيّة.. فأبى، فألزموه أن يواجه الوالي بنفسه في عدن، فتوجّه على أمل من إنصاف الوالي، فلم يكن منه إلّا أن ألزمه الإمضاء على ورقة البيع.. فامتنع، وبقي خمسة وعشرين يوما في مراجعة مع الوالي.
ثمّ عاد إلى المكلّا في نفس المركب الّذي سار فيه، واسمه (دجمار) ومعه صالح جعفر، ولمّا وصل المكلّا.. وجد المنور الحربيّ المسمّى (دراقين) راسيا بالمكلّا، وفي اليوم الثّاني.. نزل قبطانه ـ واسمه هلتن ـ ورافقه صالح جعفر وأعطى للنّقيب ورقة مكتوبة بالعربيّ: إنّك راضي أن تفارق بلدك وحدودك ما عدا بروم، ونسلّم لك لاكين وعشرين ألف ريال، فامتنع النّقيب عن الإمضاء عليها، فعاد هلتن للمنور المسمّى (دراقين) ومعه صالح جعفر.. فضربوا ثلاثة مدافع؛ إعلانا بحصر المكلّا ومنعوا السّفن الواردة، فضربوا السّفن الرّاسية، وبقي ذلك المنور محاصرا للمكلّا ستّة أشهر، وبعدما وصل المنور (دجمار) من عدن وفيه حاكم صغير اسمه (والش).. قال للنّقيب عمر: إنّ دولة الإنكليز رفعت الحصر عن بلادك، وإنّها لا تتداخل بينك وبين القعيطيّ.
وبعد عشرين يوما وصلت المناور الحربيّة (دراقين) و (عرب) و (دجمار)، وفيها القبطان (هولتن) والقبطان (هنتر)، وألزموا النّقيب صلاح يصحّح على ورقة بيع بلاده للقعيطيّ بثلاثة لكّ ريال.. فامتنع، فتوجّه المنور (دراقين) والمنور (دجمار) إلى الشّحر عند القعيطيّ، وأقاما خمسة أيّام، وفي اليوم السّادس.. وصلت مناور إنكليزيّة شاحنة بعسكر القعيطيّ وآلات الحرب، ومعهم عبد الله بن عمر القعيطيّ، ونزل هنتر إلى بروم، وقال لحاميتها: إن لم تفرغوها.. أثرنا عليكم الحرب، وفي أوّل يوم من نوفمبر سنة (1881 م).. أطلقوا المدافع، وهدموا القلاع، فهزمت عسكر النّقيب، واستولت المناور على بروم، ثمّ سلّموها لعبد الله بن عمر القعيطيّ، ثمّ توجّه (دراقين) وسفن القعيطي بحرا، وبعض عساكره برّا حتّى وصلوا بلاد فوّة، فنزل هولتن وطرد عسكر النّقيب، وسلّم فوة للقعيطيّ.
ثمّ توجّه المنور والسّفن إلى المكلّا، وحصروا المكلّا، وقطعوا وارد الماء من البرّ، فطفق النّقيب يخاطب هولتن ويذكّره الصّداقة والمعاهدة، ولمّا رآه مصمّما على حربه بما لا طاقة له به.. طلب الأمان، وسلّم بلاده للقبطان هولتن، ونزلت عساكر الإنكليز، وركب النّقيب عمر صلاح في حاشيته ونسائه وأطفاله ورجاله المقدّرين بألفين وسبع مئة نفس، سار بهم القبطان هولتن إلى عدن بعد أن سلّم المكلّا للقعيطيّ، ولمّا وصل النّقيب بحاشيته إلى مرسى عدن.. طلب مواجهة الوالي.. فلم يجبه، بل شدّد عليه الحصر في السّفن، ومنعهم النّزول إلى البرّ، واشتدّ عليهم الضّيق والزّحام حتّى مات منهم نحو مئتي نفس، وبقوا في الحصر اثنين وعشرين يوما، يطلع إليهم هنتر وصالح جعفر إلى البحر في كلّ يوم يتهدّدون النّقيب عمر بالحبس والقيد إذا لم يمض على خطّ البيع.. فلم يوافقهم، ولمّا أيسوا من موافقته.. نزّلوا فرقة من عسكره تقدّر بسبع مئة إلى برّ عدن، ورخّصوا له بالسّفر، فتوجّه مظلوما مقهورا من مأموري عدن إلى بندر زنجبار، والآن له مدّة سنتين يخاطب دولة الهند فيما حصل من ظلم مأموري عدن، ويطلب الإنصاف من دولة الإنكليز بوجه الحقّ.. فلم تفده بجواب، وهو في انتظار الإنصاف إلى هذا الوقت، وقد حرّر هذا لأعتاب دولتكم؛ ليكون الأمر معلوما، والسّلام. اه بنوع اختصار.
ومنها يعرف أنّ الوثيقة الأولى هي الّتي انعقدت على يد سندر سنة (1295 ه)، والثّانية هي الّتي انعقدت على يد فرانسيس لوك سنة (1296 ه)، والله أعلم.
ومن ذلك اليوم صفت المكلّا لآل القعيطيّ، يتداول حكمها بين السّلطان عوض وأخيه عبد الله بن عمر، إلى أن مات الثّاني في سنة (1306 ه) عن ولدين، كان لهما مع عمّهما عوض نبأ يأتي ذكر بعضه في الشّحر.
وفي سنة (1888 ميلاديّة) ـ ولعلّها موافقة سنة (1305 هجريّة) ـ انعقدت معاهدة بين الحكومة الإنكليزيّة والحكومة القعيطيّة، هذا نصّها:
المادة الأولى: تلبية لرغبة الموقّع أدناه: عبد الله بن عمر القعيطيّ، بالأصالة عن نفسه، وبالنّيابة عن أخيه عوض.. تتعهّد الحكومة البريطانيّة بأن تمدّ إلى المكلّا والشّحر ومتعلّقاتهما الّتي في دائرة تفويضهما وحكمهما المنّة السّامية، وحماية صاحبة الجلالة الملكة الإمبراطورة.
المادة الثّانية: يرتضي ويتعهّد عبد الله بن عمر القعيطيّ، بالأصالة عن نفسه، وبالنّيابة عن أخيه عوض وورثائهما وحلفائهما.. بأن يتجنّب الدّخول في مكاتبات أو اتفاقيّات أو معاهدات، مع أيّ شعب أو دولة أجنبيّة إلّا بعلم وموافقة الحكومة البريطانيّة.
ويتعهّد أيضا: بأن يقدّم إعلاما سريعا لوالي عدن، أو لضابط بريطانيّ آخر عند محاولة أيّة دولة أخرى في التّدخّل في شؤون المكلّا والشّحر ومتعلّقاتهما.
المادة الثّالثة: يسري مفعول هذه المعاهدة من هذا التّاريخ.
وشهادة على ذلك فقد وضع الموقّعون أدناه إمضاءاتهم أو ختوماتهم في الشّحر باليوم من شهر مايو سنة (1888 م) اه
وكنت أتوهّم هذه أوّل معاهدة بين القعيطيّ والإنكليز، ولكن رأيت قبلها أخرى بواسطة (جايمس بلار) والي عدن بتاريخ (29) مارس سنة (1882 م) و (12) رجب سنة (1299 ه) جاء فيها ما يوافق الّتي قبلها، مع زيادات:
أولاها: أنّ عبد الله بن عمر وأخاه عوض بن عمر تمكّنا ـ بواسطة المساعدة لهما من الحكومة البريطانيّة ـ من الاستيلاء على مرفأي بروم والمكلّا في أكتوبر سنة (1881 م)، وعلى الأراضي الّتي كان يحتلّها النّقيب.
وبما أنّ الحكومة قد أسدت إليهما مساعدات ومننا أخرى.. فقد وافقوا على المعاهدة الآتية، وهي معاهدة سنة (1888 م).
والزّيادة الثّانية هي: بما أنّ الممتلكات الّتي كانت سابقا في قبضة النّقيب عمر بن صلاح قد انتقلت إلى يد عبد الله بن عمر القعيطيّ، وهو قد دفع مئة ألف ريال للوالي
في عدن لقاء نفقات النّقيب عمر بن صلاح.. فإنّ هذا المبلغ سيصرف بنظر الوالي في عدن عن النّقيب عمر بن صلاح المذكور.
والزّيادة الثّالثة هي: تعهّد الحكومة البريطانيّة بمعاش سنويّ لآل القعيطيّ، قدره: ثلاث مئة وستّون ربيّة، ما داموا قائمين بشروط هذه المعاهدة. اه
ولكنّ آل القعيطيّ ترفّعوا عن ذلك المعاش الزّهيد، ولم يقبضوا منه شيئا من يوم المعاهدة إلى اليوم.
ومقدّم تربة المكلّا هو: الشّيخ يعقوب بن يوسف باوزير، وهو آخر من وصل إليه العلم من أجداده المشايخ آل باوزير، وكانت وفاته بالمكلّا في سنة (553 ه).
وقال السّيّد علويّ بن حسن مدهر: (إنّ آل باوزير يرجعون إلى الشّيخ حسن الطّرفيّ، المقبور بجزيرة كمران).
وقال الشّيخ عبد الله بن عمر بامخرمة: (إنّ آل باوزير ينسبون إلى قرية يقال لها: وزيريّة من شرعب باليمن، على مقربة من تعزّ، بينهما مرحلة، تطلّ على تهامة)
وقد اجتمعت بالفاضل السّيّد: محمّد بن محمّد بن عبد الله بن المتوكّل، فحدّثني عن وزيريّة هذه وقال: (إنّها الوزيرة لا وزيريّة، وهي ما بين شرعب والعدين، بلاد خصبة جدّا، يمرّ فيها غيل غزير، لا تزال به خضراء صيفا وشتاء).
وزعم قوم: أنّ الشّيخ يعقوب بن يوسف من آل الجيلانيّ.
وكان لآل باوزير منصب عظيم، وجاه واسع، حتّى لقد كانت لهم دولة بأنقزيجة وهي من جزائر القمر، وآخر سلاطينهم بها يقال له: (مرسى فوم)، ولكنّ السّيّد عليّ بن عمر المسيليّ طلب منه أن يولّيه على بعض البلاد.. فلم يرض، فخرج عن طاعته، واستعان بفرنسا.. فساعدته بالأموال والعتاد، وبباخرة حربيّة حاصر بها مرسى فوم، ولمّا رغب في الصّلح.. اتّعد هو وإيّاه إلى مكان أعدّ فيه الرّجال، وبمجرّد ما وصل.. غدر به وقتله خنقا، واستولى على ملكه، وكان جبّارا ظالما، معاصرا لسيّدي أحمد بن أبي بكر بن سميط، ولا تزال لأولاده سلطنة اسميّة إلى اليوم، وأمّه من ذرّيّة السّيّد أحمد بن عليّ، أحد آل الشّيخ أبي بكر بن سالم، وكان له أولاد يزيدون عن المئة، وسلطته على أنقزيجة انتهت بآل باوزير، ثمّ انتهت دولة آل باوزير بحكم عليّ بن عمر، وليس من آل الشّيخ أبي بكر، ولكنّ أمّه منهم، وأمّا هو.. فمن آل المسيلة، ولهذا قيل له: المسيلي.
وللمكلّا ذكر كثير في أخبار بدر ـ أبو طويرق ـ الكثيريّ، المتوفّى بسيئون سنة (977 ه)، وشيء من ذلك لا ينافي كونها خيصة صغيرة لذلك العهد، لم تعمّر إلّا في أيّام الكساديّ؛ لأنّه لا ينكر وجودها من زمن متقدّم، وصغرها لا يمنع ذكرها، فمن ذكرها.. فقد نظر إلى مجرّد وجودها، ومن لم يذكرها.. فلحقارتها، ولأنّها لا تستحقّ الذّكر إذ ذاك.
إلّا أنّه يشكل على ذلك شيئان:
أحدهما: أنّ الشّيخ عمر بن صالح هرهره لم يذكرها في «رحلته» الّتي استولى فيها على حضرموت والشّحر، ولقد ذكر فيها أنّه أقام بالشّحر ثلاثة أشهر، وأنّ ما جباه منها في هذه المدّة: خمسة وثلاثون ألف ريال، مع أنّه متأخّر الزّمان في سنة (1117 ه)؛ فإنّ هذا يدلّ على فرط تأخّرها، إلّا أن يقال: إنّ الشّيخ عمر صالح احترمها لمكان إخوانه اليافعيّين فيها، ولكنّه لا يصلح إلّا جوابا عن الغزو لا عن الذّكر.
وثانيهما: أنّ كثرة المقابر بها تدلّ على عمران قديم.
وقد يجاب بأنّها: ربّما كانت كلّها مقبرة للعكابرة وبني حسن ومن داناهم؛ حرصا على مجاورة الشّيخ يعقوب، كما هي عادة أهل البلاد، وأهل البادية أكثر النّاس حرصا على مثل ذلك.
وقد عمّر كثير من تلك المقابر بعد دثورها مساكن ومساجد، وكنت أشتدّ في إنكار ذلك، حتّى رأيت كلام «التّحفة» و «الإيعاب» في ذلك.
وحاصل ما فيهما: (أنّ الموات المعتاد للدّفن بلا مانع يدخل في قسم المسبّل، ويجوز زرعه وبناؤه متى تيقّن بلاء من دفن به، ولا سيّما إذا أعرض أهل البلد عن الدّفن فيه حالا واستقبالا. وإنّما يمتنع الإحياء والتّصرّف فيما تيقّن وقفها، أو أنّ مالكا سبّلها)
وقال العينيّ ـ وهو من الحنفيّة ـ: (ذكر أصحابنا أنّ المقبرة إذا دثرت.. تعود لأربابها، فإن لم يعرف أربابها.. كانت لبيت المال). اه وفي شروح «المنهاج» ما يوافقه.
وقال ابن القاسم من المالكيّة: (لو أنّ مقبرة عفت، فبنى عليها قوم مسجدا.. لم أر بذلك بأسا) اه
وهذا شامل لما تحقّق وقفها أو تسبيل مسبّل لها.
أمّا ما لم يتحقّق فيه ذلك.. فنحن وإيّاهم على اتّفاق في جواز إحيائه والتّصرّف فيه.
وقال بعض الحنابلة: (إذا صار الميت رميما.. جازت زراعة المقبرة والبناء عليها)
وهذا في غير قبور الأولياء والعلماء والصّحابة؛ أمّا هؤلاء.. فلا تجوز على قبورهم مطلقا.
وفي شرحي بيتي السّلطان غالب بن محسن من ثالث أجزاء «الأصل» ما يصرّح بأنّ المكلّا لم تزل خيصة في سنة (1249 ه)، وأنّ سكّانها إذ ذاك لا يزيدون عن أربعة آلاف وخمس مئة نفس.
ثمّ إنّه لم يكن للعلم شأن يذكر بالمكلّا ونواحيها؛ لانصراف وزير الحكومة القعيطيّة السّيّد حسين بن حامد المحضار إذ ذاك عن هذه النّاحية، بل كان ـ رحمه الله ـ يتعمّد ذلك؛ لأنّ في العلم والمدارس تنبيه الأفكار، وهو يكره وجود النّابغين؛ لئلّا يزاحموه أو يغلبوه على السّلطان، أو يطالبوه بحقوقهم.
وإنّما كان يوجد فيها الأفذاذ النّاقلون بحكم الفلتات؛ كالشّيخ عوض بن سعيد بن محمّد بن ثعلب، الّذي تولّى القضاء بها فيما قبل سنة (1313 ه)، وكالشّيخ عبد الله بن عوض باحشوان، والشّيخ سعيد بن امبارك باعامر في قليل من أمثالهم، لا تحضرني أسماؤهم.
ومن أواخرهم: الشّيخ عبد الله بن محمّد بن عبد الله بن عوض باوزير، قرأ على الشّيخ محمّد بن سلم، وله رحلات في طلب العلم إلى الحجاز وعدن وحضرموت، وكان ذا لسان ونفس طيّب في الوعظ والتّذكير، توفّي بالغيل في سنة (1354 ه)، ودفن إلى جانب شيخه ابن سلم.
وبإثر وصول السّادة آل الدّبّاغ إلى المكلّا في حدود سنة (1343 ه).. فتحوا المدارس وأحسنوا التّعليم، وكان حزب الأحرار الحجازيّ يغدق عليهم الأموال، وتصلهم مع ذلك المواساة من العراق.
إلّا أنّهم كانوا يضمرون من التّعليم غير ما يظهرون، وحاولوا تربية الأولاد على الطّريقة الحربيّة؛ ليعدّوهم لغزو الحجاز، واستمالوا رؤساء يافع، وكان لهم إذ ذاك أكبر النّفوذ في المكلّا، وربّما تركوا صندوق الذّهب مفتوحا ليروه عندما يزورونهم، وبالآخرة طالبوهم بعسكر على أن يدفعوا لهم مرتّبات ضخمة، فالتزموا لهم بخمسة وأربعين ألف مقاتل من يافع، ولكنّ آل الدّبّاغ تأخّروا بعد ذلك لمؤثّر إمّا من الحجاز، وإمّا من العراق، وحاولوا إثارة حفيظة ملك العراق لغزو المكلّا وحضرموت.
وفيما كانت فرقة الكشّافة مارّة بسوق المكلّا، ترفرف عليها الأعلام العراقيّة.. تكدّر لذلك الشّيخ الأديب عبد الله أحمد النّاخبيّ، وكان شريكهم في التّعليم، ولكنّه لم يصبر على هذا التّطرّف، فنبّه الوزير، ولكنّه خاف من يافع ـ وكان خوّارا ـ فسكت على مضض، حتّى قدم الفاضل السّيّد طاهر الدّبّاغ، فعرف تهوّر أصحابه فقذعهم، ولكنّه بارح المكلّا وشيكا، فعادت القضيّة إلى أسوأ ممّا كانت، إلّا أنّ المسألة انحلّت بطبيعة الحال؛ إذ سافر عليّ الدّبّاغ إلى جازان؛ لتدبير الثّورة، فغرق هناك، وكان آخر العهد به.
وأمّا حسين: فلم يزل مصرّا على رأيه في الانتقام من الحكومة السّعوديّة، وكانت خاتمة أمره أن نزل بالحالمين من بلاد يافع، فمنعه أهلها آل مفلح، فلم يقدر عليه أحد، ثمّ نشبت بينهم وبين جيرانهم من يافع أيضا فتنة، ولمّا علموا أنّه السّبب فيها.. اعتزموا قتله، فغدر بهم فهرب ـ كما فعل الكميت ـ في زيّ امرأة، وذهب إلى الحمراء في آخر حدود يافع، فأذكى شرّا بينهم وبين آل القويمي من الزّيديّة، وكثرت بينهم القتلى.
«ولمّا أحسّ بالفشل.. هرب إلى ***...»
القطيب ـ وهي إحدى المحميّات ـ فألفى هناك ضابطا إنكليزيّا، فأغرى به بدويّا فقتله بجعل دفعه له، فطلبته حكومة عدن، بهذه التّهمة فحماه حسن بن عليّ القطيبيّ، وأبى أن يخيّس بجواره وذمّته، وبعد أن أقام لديه مدّة.. خطر له أن يخرج متنكّرا إلى حضرموت، وكانت الحكومة الإنكليزيّة جعلت أربعة آلاف ربيّة لمن يلقي القبض عليه، فلمّا انتهى إلى أرباض الهجرين.. أمسك به عاملها ـ وهو الشّيخ محمّد بن عوض النّقيب، وكان أحد تلاميذه بمدرسة النّجاح بالمكلّا ـ وهناك أخذه الضّابط السّياسيّ انجرامس وهو يصيح ويستثير حفائظ المسلمين، وقد حضر كثير فلم يتحرّك من أحد عرق.
ولمّا وصلوا به إلى عدن.. طلبه ملك الحجاز، وأمر بإنزاله مكرّما في جيزان، وأعلن له عاملها عفو الملك عنه، وأنّه حرّ في نفسه تحت حراسة عسكر بمثابة خدم له، حتّى يعرف سلوكه.
فلم يزل يخاطب رؤساء العشائر، ويعمل أعمالا لا تنطبق مع المنطق، وكان ذلك إثر مرض لم يزل يتزايد به حتّى توفّي وهو مشمول بإكرام الحكومة السّعوديّة وسماحها.
فمن حين فتح آل الدّبّاغ المدارس.. بدأت المعارف تتقدّم بخطى قصيرة، حتّى لقد عنيت مدارس المكلّا بما ذكرته في مقدّمة كتابي «النّجم المضيّ في نقد عبقريّة الرّضيّ».
إلّا أنّ السّلطان الحاليّ لمّا كان من جملة العلماء.. أخذ يناصر المدارس، وأغدق عليها الأموال، حتّى لقد قيل لي: إنّ ما ينفقه عليها سنويّا أكثر من ثلاث مئة ألف ربيّة، عبارة عمّا يقارب ربع إيراد المكلّا. وقد استجلب لها ناظرا خبيرا محنّكا من السّودان، هو الفاضل الشّيخ سعيد القدال، فأدارها أحسن إدارة، وظهر الأثر وينع الثّمر. فالمكلّا بل وسائر الموانىء اليوم في المعارف غيرها بالأمس.
إلّا أنّني اقترحت على السّلطان يوم كان بمنزلي في سنة (1365 ه) أن يهتمّ بإيجاد مدرسة تحضيريّة لتربية التّلاميذ على الأخلاق الفاضلة؛ فإنّ الهمم قد سقطت، والذّمم قد خربت، ولن تعود سيرتها الأولى إلّا بمدرسة تأخذ بطريق التّربية الصّوفيّة، أو قريب منها، مع الابتعاد عن الخلطة؛ لأنّ أكبر المؤثّرات على الصّبيان المشاهدة، فلن ينفعهم ما يسمعون إذا خالفه ما ينظرون؛ إذ المنظور لا ينمحي من الذّاكرة، بخلاف المسموع.. فإنّه لا يبقى إلّا عند صدق التّوجّه، فلا مطمع في إصلاح نشء مع اختلاطه بمن لا تحمد سيرته البتّة؛ ولذا لم يكن لبني إسرائيل علاج من أمراضهم الأخلاقيّة إلّا بإهلاك الجيل الفاسد في التّيه، وتكوين ناشئة لم تتأثّر بهم.
وفي «الصّحيح» [خ 1319]: «كلّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، أو ينصّرانه، أو يمجّسانه».
فنحن بحاجة ماسّة إلى إيجاد البشريّة الصّحيحة قبل العالميّة، ومعلوم أنّ التّخلية مقدّمة على التّخلية، والتّلاميذ ظلّ آبائهم وأمّهاتهم ومعلّميهم، إن خيرا.. فخير، وإن شرّا.. فشرّ، وكثيرا ما أذكّر المعلّمين بخاتمة قصيدة جزلة لي في الموضوع، وتلك الخاتمة هي قولي [في «ديوان المؤلّف» 207 من البسيط]:
«وفّوا الكلام وكونوا في الذّمام وفي *** خوف الملام على ما كانت العرب »
ثمّ إنّه لم يكن عندي تصّور لمناحي التّعليم وأخلاق الطّلّاب والمدرّسين بالسّاحل.. حتّى يسوغ لي الحكم؛ فإنّما يتناول ثنائي ما ظهر من جمال الأسلوب، وحركة الانقلاب، وعموم التّيقّظ والانتباه، وإجادة بعضهم في الشّعر حتّى يسوغ لي الحكم.
وفي المكلّا: ديوان للحكومة، وإدارة للكهرباء ووزارة للماليّة، وليس للسّلطان إلّا مرتّب مخصوص قدره عشرة آلاف ربيّة في الشّهر، ثمّ رفع إلى خمسة عشر ألف ربيّة، مع إضافات معيّنة لا يتجاوزها.
وفيها غرفة تجاريّة تراعي أغراض التّجّار وتقدّمها على مصالح الشّعب.
وفيها إدارة للقضاء، ومجلس عال، لكنّ ذلك المجلس العالي هو أكبر حجار العثار في طريق العدالة! !
فالحقوق مهضومة، والحقائق مكتومة، وطالما رفعت إليّ أحكام ذلك المجلس.. فإذا بها شرّ ممّا نتألّم منه بسيئون؛ وذلك أنّ وزير الدّولة الّذي يقولون له: (السكرتير) ـ وهو الشّيخ سيف أبو عليّ ـ جعل كلمة ذلك المجلس النّهائيّة لا معقّب لها بحال، فسقطت عنه مؤنة التّحفّظ، ولم يحتج إلى مراجعة الكتب؛ إذ هو في أمان من النّقض، والشّعب ميت، والخاصّة نفعيّون يتساكتون.
وإلّا.. فلو احتجّوا لدى السّلطان.. لعدّل الأمر؛ لأنّه يكره الجور.
أمّا الآن.. فإنّ المجلس يفعل ما يشاء بدون رقيب؛ فبعد أن ينشق الخصوم إنشاق الخردل.. يصكّهم بتلك الأحكام ـ المضحكة المبكية ـ صكّ الجندل.
ولله درّ العبسيّ في قوله [في «البيان والتبيين» 1 / 164 من البسيط]:
«إنّ المحكّم ما لم يرتقب حسبا *** أو يرهب السّيف أو حدّ القنا.. جنفا»
ودفاتر التّسجيل شاهدة بصدق ما أقول، لا تخفى على من له أدنى إلمام بالفقه.
وفي الحفظ عن «جمع الجوامع»: (أنّه لم يقع أن قيل لنبيّ من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم: احكم بما شئت ففيه الصّواب، وإنّما الاختلاف في الجواز).
غير أنّ الحفظ يخون، والعهد بعيد.
ومثله عند غيره من أهل الأصول، وقد قال تعالى لأشرف الخلق: (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) وقال لداود عليه السّلام: (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)
فإن قيل: إنّ في قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) تفويضا مطلقا.. قيل: لا، وإنّما هو بما أراه الله من الحقّ، كما يشهد السّياق، وقد جاء في «التّحفة» [7 / 98] قبيل (الوديعة) ما نصّه: (قال بعضهم: وفيما إذا فوّض للوصيّ التّفرقة بحسب ما يراه.. يلزمه تفضيل أهل الحاجة... إلخ).
على اتّساع شقّة الفرق بين ما تراه وبين ما أراك الله، وقد روي عن عمر رضي الله عنه: لا يقولنّ أحدكم: قضيت بما أراني الله؛ فإنّ الله لم يجعل ذلك إلّا لنبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم. ولكن ليجتهد رأيه؛ لأنّ الرأي من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان مصيبا؛ لأنّ الله كان يريه إيّاه، وهو منّا الظّنّ والتّكلّف. ثمّ ما أبعد البون بين ما تراه الأدنى ممّا أراك الله ـ كما تقدّم ـ وبين ما تشاء في الآية (48) من (المائدة): (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) وفي الّتي بعدها: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ)
ولكنّ المجلس العالي بالمكلّا وقع من وزير الدّولة على ما لم تحصل عليه الأنبياء من ربّها، فصارت أحكامه شرّا من الأحكام العرفيّة؛ لأنّها ليست إلّا عبارة عن مشيئة وهوى الاستئناف، بل رئيسه فقط، من دون تقيّد بقانون شرعيّ ولا عرفيّ، وإنّما قلنا شرّا من الحكم العرفيّ؛ لأنّ الحاكم العرفيّ بمصر وغيرها يكون تحت مراقبة البرلمان، بخلاف هذا.. فلا مراقبة عليه أصلا، وهل تقبل هذا أمّة في بعض أفرادها نبض من الحياة؟! ! كلّا، ولكنّ المتنبّي يقول [في «العكبريّ» 4 / 94 من الخفيف]:
«من يهن يسهل الهوان عليه *** ما لجرح بميّت إيلام »
هذا مع أنّ هوى السّلطان ـ كما سبق ـ العدل، وغاية ما يتمنّاه الإنصاف، لكنّ الأمّة انتهت إلى ذلك الحدّ من السّقوط والانحطاط.. فسحقا، سحقا.
وسيأتي في الظّاهرة من أرض الكسر ما يستخرج عند التّمثيل العجب العجاب، ويستلفت أنظار طالبي الحقيقة في هذا الباب.
وسكّان المكلّا اليوم يزيدون عن خمسة وعشرين ألفا.
"وفيها عدّة مساجد، أشهرها:
الجامع القديم. ومسجد الرّوضة: بناه صاحب الأحوال الغريبة، السّيّد عمر ـ المشهور ببو علامة ـ ابن عليّ بن شيخ بن أحمد بن عليّ ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم، المتوفّى في شبام سنة (1278 ه)، وقد أنكر عليه بعضهم بناءه بشطّ البحر محتجّا بما جاء في رسالة للسّيوطيّ في الموضوع، وهي مدرجة ب «الحاوي». وجامع السّلطان عمر: وهو أنزه مسجد رأيت.
ومسجد النّور. ومسجد باحليوة. ومسجد السّلطان غالب بن عوض. وغيرها.
وبها كانت وفاة العلّامة الجليل الصّادع بالحقّ، النّاطق بالصّدق، السّيّد شيخان بن عليّ بن هاشم السّقّاف العلويّ، وكان رباؤه بالغرفة، ثمّ تنقّل في القرى، ثمّ سار إلى جاوة، ثمّ عاد إلى الوهط ولحج، وكان له جاه عند سلاطينها عظيم، ثمّ عاد إلى الشّحر، وجرت بينه وبين السّيّد عبد الله عيديد أمور، ثمّ سار إلى المكلّا، وبها توفّي سنة (1313 ه)، وعليه قبّة صغيرة لا يزال أبناؤه في شجار بشأنها؛ إذ كان علويّ يحمل صكّا بشرائها، وعمر يدّعي تسبيلها.
وترك أولادا: أحدهم: محمّد بلحج. والثّاني: جعفر، وهو حافظ للقرآن، مشهور بالصّلاح، بسربايا من أرض جاوة. والثّالث: عبد الله كان خفيف الظّلّ، مقبولا، راوية لأخبار من اتّصل بهم من الرّجال، وفيهم كثرة. والرّابع: ـ وهو أكبرهم ـ: علويّ، بالمكلّا، وله أولاد فتحوا بها مدرسة أهليّة منذ عشر سنوات. والخامس: عمر، وهو أصغرهم، بالمكلّا أيضا.
ولئن قلّ العلم بالمكلّا في الأزمنة السّابقة.. فقد كانت ملأى بفحول الرّجال.
ولقد أخبرني الثّقة أنّ وسط البقعة ـ المسمّاة بالحارة منها ـ كان مزدانا ـ في حدود سنة (1328 ه) ـ برجال لم تعوّض عنهم؛ كالسّيّد حسين بن حامد، وأخيه عبد الرّحمن، وسعيد وأحمد وعوض آل بو سبعة، وعليّ بامختار وأولاده، وآل زيّاد من يافع، وسعيد باعمر، وعبد الله بن عوض باحشوان وعوض بن سعيد بن ثعلب السّابق ذكرهما، وعمر وأحمد وعبد الرّحمن آل لعجم، وعقيل بن عوض بلربيعة الشباميّين، وبو بكر وعبد الصّمد وعبد الكريم آل بفلح، وسالم عمر وعوض عمر آل قيسان، والشّيخ عمر بن عبد الله عبّاد، وابن عمّه الشّيخ حسن بن عبد الرّحمن عبّاد، وأحمد ومحمّد وسعيد آل مسلّم الغرفيّين، وعمر الجرو، وولديه: عبد الله وعليّ، وسالم وسعيد آل بشير هؤلاء من خلع راشد، والشّيخ عبد الله بارحيم، وآل غزّي، وآل غريب، وغيرهم.
فهؤلاء كلّهم من نقطة صغيرة من الحارة ـ دع ما سواها ـ كانت العيون بقربهم تقرّ، والنّفوس بجوارهم تستبشر، فتواتر نعيهم، واشتدّت الواعية بهم.
«فلو قيل هاتوا فيكم اليوم مثلهم *** لعزّ عليكم أن تجيئوا بواحد »
وفي غربيّ المكلّا قرية يقال لها: شرج باسالم، وفي شمالها إلى الغرب بستان مسوّر يسمّى (القرية)، وذلك أنّ كثيرا من الأيتام نجعوا من المنطقة الكثيريّة بحضرموت في أيّام المجاعة الّتي ابتدأت من سنة (1360 ه) إلى المكلّا، فأدركهم عطف السّلطان، وتصدّق عليهم بذلك البستان، وبنوا لهم فيه بنايات تؤويهم، فأنقذوهم من المجاعة، وعلّموهم من الجهالة، وقد نيّف عددهم على المئتين والخمسين، ولكنّ كلّ من اشتدّ ساعده، وعرف أهله.. رجع إليهم، والباقون بها اليوم يزيدون على المئة، في عيش رغيد، وتعليم نافع، وحال مشكور.
وفي شمالها: البقرين، والدّيس. ثمّ: الخربة. والحرشيّات. وثلة عضد.
وهذه هي ضواحي المكلّا وأرباضها ومخترفات أهاليها.
وفي شرقيّ المكلّا على السّاحل: روكب وفيها جامع. ثمّ: بويش، تبعد قليلا عن السّاحل، وفيها عيون ماء جارية، ومزارع.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
66-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (جحي الخنابشة)
جحي الخنابشةوهو قرية للخنابشة الآتي ذرو من أخبارهم في آخر قيدون؛ منهم الآن: الشّيخ عبد الله بن سعيد بن سالم الخنبشيّ، مضياف، وله مروءة.
وفيها ناس من السّادة آل مقيبل، منهم: السّيّد الغريب الحال، الطّاهر البال: عبد الله بن أبي بكر الملقّب بالنوّام، لكثرة نومه، حتّى أنّه لينام على حماره ويسقط ولا يشعر.
وله أحوال شريفة؛ منها: أنّه تذوكر إشراق النّور عند تلاوة القرآن والصّلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.. فقال: هل ينكر ذلك أحد؟! فقال الحاضرون: هل تقدر أن ترينا ذلك؟ قال: نعم، فتوضّأ وصلّى ركعتين، ثمّ أمرهم بإطفاء السّرج ـ وكان الوقت ليلا مظلما ـ وشرع يقرأ: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) فأشرق المنزل بمثل ضياء الشّمس، فبهت الحاضرون، ولمّا انتهى الخبر إلى العلّامة السّيّد عبد الله بن هادون بن أحمد المحضار.. قال لآل مقيبل: لا تلوموا صاحبكم على شرب الدّخان؛ وإلّا.. أوشك أن يطير عنكم.
وله مراء صادقة؛ منها: أنّه انتبه مرّة منزعجا يقول: قتلوه، قتلوه.. فجاء الخبر بمقتل سليم بن عيبان بالقوينص السّابق ذكر خبره في الكسر في تلك السّاعة.
ومن آل مقيبل بالجحي الآن: السّيّد حسين بن علويّ مقيبل.
ومنها: الشّيخ سعيد باحفظ الله السّابق ذكره في الرّشيد، وكان يحبّ الخير، وهو الّذي بنى جامع الجحي، وله في القراءات إتقان بديع، ومعرفة جيّدة، وهو صاحب التّاريخ الّذي أخذه باصرّة ولم يردّه، توفّي بعد الثّلاث مئة وألف.
ومنها: صاحبنا الفاضل، الشّيخ عبد الله بن سعيد باجنيد، طلب العلم بمكّة، وولي قضاء دوعن والمكلّا عدّة مرّات، ودرّس مدّة طويلة بمسيلة آل شيخ، وكان في سنة (1325 ه) بحوطة آل أحمد بن زين الحبشيّ يدرّس بها، وله باع في الفقه، وبضاعته مزجاة في النّحو، ومع ذلك فقد درّس فيه بالحوطة، وكان ليّن العريكة، سهل الجانب، عذب الرّوح، دمث الأخلاق، واسع الصّدر، توفّي بالجحي سنة (1359 ه)، وله ولد اسمه محمّد، تولّى القضاء بالمكلّا، وكان طلب العلم بمصر، ثمّ فصل عن قضاء المكلّا وجعل من أعضاء الاستئناف بها.
وآل باجنيد منتشرون في رحاب وهدون والجحي والمكلّا وعدن والحجاز، ومثراهم بالخريبة، حتّى لقد روي عن الحبيب حامد بن أحمد المحضار أنّه قال: دخلت الخريبة.. فإذا عالمها: باجنيد، وقاضيها: باجنيد، وتاجرها: باجنيد، ودلّالها: باجنيد، وقصّابها: باجنيد، ونجّارها: باجنيد، وسائر أعمالها بأيدي آل باجنيد.
وكانت الخريبة أولى بأخبارهم، ولكنّها تدحرجت علينا إلى هنا، ومنهم اليوم بعدن الشّابّ الغيور عبد الله بن سعيد بن بو بكر بن عبد الباسط، له دين متين، واهتمام بأمر المسلمين، وأخوه المكرّم محمّد، وابن عمّهم الشّيخ عبد القادر، والشّيخ جنيد بن محمّد، وكلّهم طيّبون مشكورون.
ومنهم: العلّامة الجليل الشّيخ عمر بن أبي بكر باجنيد، الغني باسمه عن كلّ تعريف وهو أحد أكابر علماء مكّة المشرّفة، بل إليه انتهت رئاسة الشّافعيّة بها بعد شيخه العلّامة الشّيخ محمّد سعيد بابصيل ـ وقد أخذنا عن الاثنين ـ توفّي الشّيخ عمر بمكّة المكرّمة سنة (1354 ه)، وقد سبق في الخريبة عن الحبيب أحمد بن محمّد المحضار ما يصرّح برجوع نسبهم إلى مضر.
ومن النّوادر: أنّ الشّيخ سعيد بن بو بكر باجنيد عمل للفاضل السّيّد حسين بن حامد المحضار ضيافة بداره في الخريبة سنة (1337 ه)، وما كاد يستقرّ به المجلس
حتّى قال له: خبّرونا عن نسبكم إلى من يرجع يا آل باجنيد، إلى الحبوش أو السّواحليّة؟ فلم يزد الشّيخ سعيد على أن قال له: هذا جزاؤنا لمّا زوّجناك وضيّفناك.
هكذا أخبرني الشّيخ عمر بن أحمد باسودان ـ وكان حاضرا ـ ولو أنّ الشّيخ سعيد بن أبي بكر حفظ شعر الحبيب أحمد المحضار السّابق في الخريبة.. لرماه بحجره.
ثمّ يأتي من قرى الوادي الأيسر عرض باقار. ثمّ عرض باهيثم. ثمّ الجديدة. ثمّ جريف، وهي قرى صغيرة كما يعرف من الإحصاء الآتي.
ومن جريف: السّيّد محمّد بن شيخ وولده علويّ، فاضلان جليلان.
ثمّ صبيخ، وهي قرية واسعة ـ كما يعرف من الكشف ـ وفيها السّيّد الجليل جعفر بن محمّد العطّاس، أحد تلاميذ العلّامة السّيّد عليّ بن حسن العطّاس وزوج إحدى بناته، وقد سبق ذكر ولده محمّد بن جعفر بغيل باوزير.
وكانت صبيخ مهد علم ومغرس معارف حتّى لقد اجتمع فيها أربعون عذراء يحفظن «إرشاد ابن المقري».
وأكثر سكّانها من آل العموديّ، ومنهم الشّيخ الوقور محمّد بن أحمد المخشّب، له مساع مشكورة في إصلاح ذات البين، وقد تزعّم حركة الإصلاح في وادي الأيسر لمّا اشتدّ عليهم الجور من أيّام الوزارة المحضاريّة، وكان الشّيخ سالم عبود بلّعمش يساعده، وهو لسانه وقلمه، وصلا معا إلى سيئون وأقاما بها نحوا من (18) يوما للمفاوضة مع المستشار.
وكانت صبيخ تحت سلطة ابن خالد العموديّ، وكان مضرب المثل في الجور والظّلم حسبما في «الأصل»، وفي ذلك يقول شاعرهم:
«يا نوب زنحي عامد الحيد البرق *** عامد في الغرفه وهي محميّه »
«لا شي عسل منّه ولا هو ذي فرق *** يرعى علوب الناس بالغصبيّه »
فأجابه بادحدح بقوله:
«الدّبر والعثّة يجيبه بالمدى *** والطير لخضر بايجيبه بالدوام »
«لا عذر ما تمسي جبوحه خاليه *** البطل ما له تاليه هو والحرام »
و (الدبر): معروف. و (العثّة) و (الطير الأخضر): آفات النّوب.
ثمّ قرى صغيرة.
ثمّ تولبة، وهي قرية متوسّطة، بينها وبين ضريح الشّيخ عمر نحو ساعة.
وفي رأس الوادي قرية على قلّة جبل مقطوع الرّأس من الجهات كلّها، لا طريق له إلّا من الجهة الغربيّة في غاية الوعورة، تتراءى ديارها الغبراء القليلة كما تتراءى طيور القطا، يقال لها: حيد الجزيل، مشهورة بزيادة حسن عسلها وهي على مقربة من ضريح الشّيخ عمر مولى خضمّ ابن الشّيخ محمّد بن سعيد العموديّ، الّذي ينسب إليه وادي الأيسر كلّه، فيقال: وادي عمر، يعنونه.
وأوّل ما يكون على يسار الدّاخل إلى وادي الأيسر: حصن الخنابشة.
ثمّ الدّوفة، وفيها السّادة آل مقيبل، يرأسهم الآن: السّيّد محمّد بن بو بكر وأخوه عبد الله.
وفيها آل العموديّ، ومنهم: الشّيخ عبد الله بن عثمان، كان الحبيب عبد الله بن علويّ الحدّاد كثير الثّناء عليه، ويقول: ما نحن مستأمنين بأهل الوديان إلّا على السّيّد حسين بن عمر العطّاس، والشّيخ عبد الله بن عثمان صاحب الدّوفة. وهو من مشايخ السّيّد عليّ بن حسن العطّاس صاحب المشهد.
ومنهم: العلّامة الشّيخ أحمد بن عبد الرّحيم العموديّ.
وفي حدود سنة (1362 ه) كان النّزاع قائما بين آل العموديّ آل باظفاريّ والخنابشة على جريب من الأرض، ملكه لآل باظفاريّ، ونشره للخنابشة، فخرج آل العموديّ لحرثه فمنعهم أحد الخنابشة، فلم يبالوا به، فأقبل ثلاثة نفر من الخنابشة.. لاقاهم اثنان من آل العموديّ، فاجتلدوا بالعصيّ ساعة، ثمّ لم يشعر النّاس إلّا بواحد يمكّن خنجره من خاصرة عبود بن محمّد بن العسكر العموديّ، فكانت القاضية.
واختلفت الرّواية، فقيل: إنّ عبودا هذا من المشتركين في المخاصمة على الجريب. وقيل: إنّما كان من النّظارة فقط.
وقد طلّ دمه؛ إذ لم يتعيّن القاتل بالحجّة الشّرعيّة، والتّهمة تحوم حول الخنابشة واللّوث الشّرعيّ ظاهر، ولكنّهم إمّا لا يعرفون القسامة، وإمّا لأنّهم لا يرون الأخذ بها تشفيا، وإمّا لأنّهم لا يرون لها منفذا.
ثمّ انحطّت التّهمة على سعيد بن سالم الخضر.. فأودع السّجن ثلاثة أعوام، ثمّ أطلق سراحه، ولكن! بعدما تغيّر مزاجه، وانحرفت صحّته، فلم يعش بعد تخلية سبيله إلّا مدّة يسيرة.
وكما اختلفت الرّواية في مقتل عبود.. اختلفت في مبدئه، فقيل: إنّه كمثل أخيه عثمان، على رأي الإرشاديّين، وإنّ لذلك مدخلا في قتله.
وقيل: إنّه إنّما كان يجامل أخاه بالتّظاهر بالإرشاد؛ لأنّه وليّ نعمته، وليس بالجادّ فيه.
ثمّ خيله، وهي حصون قليلة لآل بقشان، ومنهم: أحمد وعبد الله ابني سعيد بن سليمان بقشان، من الحالكة، لهم أشغال مهمّة بالحجاز، واتّصال أكيد بحكومة الملك الجليل ابن السّعود، وعليهم يعتمد في كثير من الأمور ـ وهم عرضة ذلك أمانة وكفاية ـ وهم لا يقصّرون في حمل الكلّ وإعانة المنقطع، ومساعدة المحتاج.
ثمّ حصن باخطيب.
ثمّ ضري ـ زنة (جري)، وهو مصدر (جرى) ـ وهي من أكبر بلاد الوادي الأيسر، وفيها آل علويّ بن ناصر، سادة من آل شيخان.
وفيها ناس من آل باوزير وآل بالبيد وآل باسلم، وناس من السّوقة.
وقد بتنا بها ليلة في سنة (1360 ه) بمنزل المكرّم الشّهم محمّد بن عوض اليافعيّ، في دار جميلة، مؤثّثة بالأثاث الطّيّب، في دار قوراء، جديدة العمارة على أحسن طراز.
ثمّ حوفة، فيها جماعة من ذرّيّة السّيّد عبد الله بن عبد الرّحمن الجفريّ.
قال شيخنا المشهور في «شمس الظّهيرة» [2 / 428]: (ومنهم الآن ـ يعني سنة (1307 ه) ـ: أحمد بن محمّد بن أحمد، شريف متواضع)، وهو جدّ السّيّد أحمد بن محمّد الجفريّ الّذي يعمل الآن في بير امبارك بسيئون للمكرّم سالم باحبيشيّ، وهو سيّد لطيف نشيط متواضع، مطرب الحداء، جميل الصّوت، يحفظ كثيرا من القصائد النّبويّة والصّوفيّة.
ومنهم: السّيّد صافي بن عبد الرّحمن بن صالح بن أحمد بن محمّد بن صالح بن عبد الله بن عبد الرّحمن مولى العرشة، ذكره في «شمس الظّهيرة» وقال: (إنّه ذو جاه وحشمة وثروة) اه
وقد نجع من حوفة إلى المدينة المشرّفة، ولم يكن له عمل إلّا الإنشاد على ضرب الطّار، حتّى ضمّه حفل مع شيخ السّادة بها، وهو السّيّد الجليل عبد الرّحيم بن سالم ـ الآتي ذكره في اللّسك ـ فلم يرقه أن يكون علويّ قوّالا، فأخذه إلى بيته وعاتبه.. فاعتذر بالحاجة، فقال له: الزم بيتي وأنا أكفيك المؤنة، ففعل وخدم بنشاط، فأحبّه وزوّجه من بنته آمنة، ولم يزل معه في حال طيّب حتّى جاء الأمر من السّلطان عبد المجيد باستقدام شيخ السّادة هذا، أو السّيّد المجمع على صلاحه وولايته: عمر بن عبد الله الجفريّ، للتبرّك بأحدهما والصّلاة خلفه، فلم يرغب في ذلك، ولم يكن بدّ من إجابة الطّلب.. فبعث شيخ السّادة بختنه السّيّد صافي، فكان له هناك جاه واسع حتّى إنّ السّلطان أطلق يده في تحف القصر، فكان في جملة ما أخذ: ستّة صحون من الذّهب مرصّعة بالجواهر، قوّمت في تركته باثني عشر ألف جنيه.
وبإثر رجوعه إلى المدينة.. أمر السلطان عبد المجيد بزيادته المعروفة في الحرم الشّريف، فكانت النّفقة على يد السّيّد صافي، فابتنى له عدّة قصور شاهقة، وتأثّل أموالا طائلة كان بها أغنى أهل المدينة، إلّا أنّ الأيّام تذكّره بما كان فيه أوّلا، فلم تنبسط يده في معروف، ثمّ لم يحمد المآل بينه وبين وليّ نعمته السّيّد عبد الرّحيم، فأبعده السّلطان عبد المجيد عن المدينة، ثمّ لم يقدر على الرّجوع إلّا بعد انحلال دولة السّلطان عبد المجيد بعد أن خرّف وذهب أكثر شعوره، وبها مات عن مئة وعشرين عاما.
وفيها جماعة من أعقاب السّيّد عقيل ابن سيّدنا عبد الرّحمن السّقّاف، منهم: عقيل بن أبي بكر.
ومن حوفة: آل باحبيشي، نجعوا إلى أسمرة، ومن ذرّيّتهم بها الآن أحمد وعمر وسعيد وسالم بنو عبيد باحبيشي، لهم تجارة واسعة، وثروة طائلة، ومآثر كريمة، منها: مكتبة بنوها إلى جانب جامع أسمرة، جمعوا لها نفائس الكتب وأعزّ دواوين الإسلام، ومن محاسنهم إجراء عين ماء إلى حوفة... إلى غير ذلك من مكارم الأخلاق وجلائل الأعمال، ولكبيرهم أحمد شجاعة وصرامة وشهامة، وبعد عن الذّلّ واحتمال الضّيم، ولسالم تعلّق بالصّحف والأخبار إلى تواضع عند الجميع.
وفي حوفة جماعة من آل باضريس، يتّفقون بالنّسب مع أهل الغرفة؛ منهم الشّيخ أحمد بن عمر بن عبد الله بن عليّ باضريس، كريم الخيم، نقيّ الأديم، طاهر السّيرة، أبيض السّريرة، نجع إلى مكّة المشرّفة من نحو سبع وأربعين عاما، يحترف بالتّجارة، ومع ذلك.. فقلّما فاتته فريضة في المسجد الحرام، وعليه كان نزولي في سنة (1354 ه)، فبالغ في راحتي، وسهر على خدمتي حتّى كأنّني في أهلي، فأسأل الله العظيم ربّ العرش الكريم أن يجازيه عنّي بأفضل الجزاء وأن يتقبّل ذلك منه بفضله وجوده.
وفي حوفة كثير من آل باعيسى العموديّين، وهي مقرّ آل بلّحمر، ومنهم: المقدّم الحاليّ سعيد بن عمر بلّحمر، صاحب الرّئاسة العامّة على جميع سيبان، وقد فصّلنا
أخباره في «الأصل» ويأتي شيء منها في قيدون.
وقد سبق في دوعن أن أحلنا على ما هنا في تسمية دوعن بهذا الاسم، قال الطّيّب بامخرمة: (ودوعان مركّب؛ ف (دو) بكلام فارس: عدد اثنين، و (عان) المعدّ المرتفع من الأودية، وهذان العانان أحدهما يمنة والآخر يسرة، فالأيمن مدينة الخريبة ـ وقد تقدّم ذكرها في حرف الخاء ـ والأيسر مدينة الدّوفة، وسيأتي ذكرها في هذا الحرف) اه
وأهل وادي ليسر ينبزون مع مأثور شجاعتهم بشيء من اللّيونة في الكلام كآل دمّون الواقعة بأسفل حضرموت، قال أحد شعراء الأيسر:
«يا الله على روس ليسر من قنيف انبطح *** تسمع رعوده كما ضفع البقر طح طح »
وقد أغفلنا كثيرا من القرى الصّغيرة في الواديين؛ لقلّة الأهميّة، ولكنّني كلّفت الولد الفاضل محمّد بن سالم بن حفيظ بن عبد الله ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم مع زيارته الأخيرة إلى دوعن أن يسأل أهل الخبرة ويكتب لي ما يتلقّاه منهم، ففعل كما تراه في الكشف الّذي يلي:
اسم البلد /عدد السّكان بالتّقريب /القبائل السّاكنة من سادة ومشايخ وغيرهم
كوكه /30/قبائل من الحالكة، يقال لهم: البلاغيث
خديش /500/سادة آل بروم، وآل العموديّ، وقبائل من الحالكة، وسوقة وغيرهم.
بلاد الماء /700/آل بروم، وآل خرد، وآل العموديّ، والحالكة، والسّوقة
بضه /3000/آل العطّاس، وآل خرد، وآل الجفريّ، وآل العموديّ، والسّوقة
حصن باعبد الصّمد /150/آل خرد، وآل العموديّ، وسوقة
الجبيل وقرن باجندوح /500/آل الشّيخ بو بكر، وآل باقيس، وقثم، ونوّح، وسوقة
مطروح /600/آل باجمّال، وقثم، ونوّح
عرض باسويد /100/نوّح
ظاهر /200/نوّح
حزم آل خالد /20/آل العموديّ
حويبة /20/أخدام آل المحضار
حلبون /500/آل باقيس، وآل باجبع، وسوقة، وعبيد
القويرة /900/آل المحضار، وآل باحسين، وآل باجبع، وسوقة
الرّشيد /1000/آل الحبشيّ، وآل باناجة، وآل بازرعة، والخامعة
باشعيب /15/الخامعة
حصن باعوم /7/آل باعوم
ذي بحور /100/مشايخ يقال لهم: آل محسن
الخريبة /3800/آل البار، وآل العطّاس، وآل الجفريّ، وآل باهارون، وآل العيدروس، وآل الجيلانيّ، وآل باسودان، وآل باراس، وآل حنشل، وآل باحويرث، وآل باجنيد، وسوقة
عرض آل منصّر /60/آل العموديّ، وسوقة
حصن خشامر /1/ليس فيه إلّا امرأة واحدة من آل العموديّ
قرن باحكيم /800/آل باحكيم، وآل باحشوان، ودار من آل العطّاس، وسوقة.
الحسوسة /40/آل باشحبل، وآل بامعلّم، وسوقة
حصن تنسبه /0/فارغ
قرحة آل باحميش /200/آل باحميش، وسوقة
غيل باحكوم /60/آل باحكوم
قرن ماجد /170/آل العموديّ، وسوقة
غيل بلخير /200/آل بلخير، وآل باطرفيّ
قارة الخزب /50/آل بافنع
خسوفر /170/آل بغلف، وسوقة
حصن الجبوب /30/قثم
هدون /600/آل باشيخ، وآل باخشوين من سيبان، وسوقة
رحاب /1100/آل الجفريّ، وآل الحبشيّ، وآل باعبد الله، وآل شماخ، وسوقة
القرين /1700/آل البار، وآل بلفقيه، وآل بامشموس، وسوقة
عورة /600/آل باصرّة، وآل باشنفر، وسوقة
الشّقّ الشّرقيّ /70/الخامعة من سيبان
باجاس /5/من سيبان
شويطة /50/من سيبان
شرق وحصن باقعر /350/آل باسودان وذيابنة، وآل بامقر، وآل بن زيد
حصن باحكيم /0/فارغ
حصن المكعمة /1/جنديّ واحد فقط
حصن باصمّ /200/آل باصم من نوّح
منوه /40/سوقة
رباط باعشن /2500/آل العطّاس، وآل الحامد، وآل الصّافي، وآل باعشن، وآل باسندوة، وسوقة
ليسر العرسمة /700/آل باشميل، والحالكة، وسوقة
جحي الخنابشة /450/آل مقيبل سادة، وآل باجنيد، والخنابشة من سيبان
عرض باقار /60/آل باقار من قبائل بني حسن
عرض باهيثم /100/آل باهيثم
الجديدة /220/الخنابشة
جريف /... /سادة من آل باصرّة، وآل باهبريّ، وسوقة
صبيخ /1000/آل العطّاس، وآل العموديّ، والحالكة، والخنابشة، وسوقة
حصن بقشان /70/آل بقشان من الحالكة
المشقعة /150/آل باوزير
حصن بعسر /40/آل بعسر من سيبان
حصن ابن العمر /50/آل باسعد من الحالكة
تولبة /500/آل باعقيل، وآل العموديّ، وسوقة
حيد الجزيل /150/آل العموديّ
حصن الخنابشة /60/الخنابشة من سيبان
الدّوفة /900/آل مقيبل، وآل جمل اللّيل، وآل العموديّ، والخنابشة، وحالكة، وسوقة
خيله /150/الحالكة من سيبان
ضري /700/آل علويّ بن ناصر، وآل باوزير، وغيرهم
حوفة وعرض الحمران /1500/آل الجفريّ، وآل السّقّاف، وآل المحضار، وآل باصرّة، وآل العطّاس، وآل العموديّ، وحالكة من سيبان، وسوقة
خليف آل باعبود /50/آل العموديّ
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
67-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (حوره)
حورهقال ابن الحائك في موضع من «صفة جزيرة العرب» [168]: (هي مدينة عظيمة لبني حارثة من كندة).
وقال في آخر [171]: (ولبدّا قرية أخرى، يقال لها: حوره، فيها بطنان يقال لهما: بنو حارثة، وبنو محرية من تجيب، ورأسهم اليوم: حارثة بن نعيم، ومحمّد، ومحرية أبناء الأعجم) اه
وقوله: (قرية) لا يخالف قوله: (مدينة عظيمة)؛ لأنّ القرية قد تطلق عليها، وقد سمّى الله مكّة قرية، بل هي أمّ القرى.
وفي الجزء الثّامن [ص 90] من «الإكليل»: (أنّ حوره من حصون حمير بحضرموت، فيها كندة اليوم) اه
وكانت حوره في الأزمنة المتأخّرة تحت حكم النّقيب بركات بن معوضة اليافعيّ، وله مكاتبات من الحبيب عليّ بن حسن العطّاس، ثمّ استولت عليها عساكر السّلطان عبد العزيز بن محمّد بن سعود، أو ولده سعود المتوفّى سنة (1229 ه) ـ حسبما سبق في الشّحر ـ وطردوا النّقباء اليافعيّين.
وكانوا وصلوا إلى حضرموت سنة (1219 ه)، ولكنّهم كانوا قليلا إذ ذاك فصدّهم السّلطان جعفر بن عليّ الكثيريّ عن شبام:
فإمّا أن يكونوا انحازوا من عامهم ذلك إلى حوره، وطردوا النّقباء اليافعيّين منها. أو صالحوهم لاتّفاق في المبادىء؛ فقد سمعت كلّا من أفواه المعمّرين.
وإمّا أن يكونوا عادوا أدراجهم واستأنفوا التّجهيز على حضرموت في سنة (1223 ه)، واستولوا به عليها، وأقاموا بها ردحا من الزّمن، يبعثون البعوث بقيادة الأمير عليّ بن قملا وأخيه ناجي.
ففي سنة (1224 ه) استولوا على حضرموت، وهدموا القباب بها، إلّا قبّة السّيّد أحمد بن زين الحبشيّ؛ فإنّهم لم يعرّجوا عليها مراعاة لخواطر آل كثير الّذين فتحوا لهم الطّريق ولم يعارضوهم في شيء. وكذلك هاجموا حضرموت في سنة (1226 ه)، واختلفت الأقوال:
فقيل: إنّهم انكسروا دون شبام بقيادة الحبيب حسن بن صالح البحر. وقيل: إنّهم استولوا عليها، كما اكتسحوها في سنة (1224 ه).
ولم يكن سيّدنا الحسن البحر من المتعصّبين على الوهّابيّة، ولا من المتشدّدين في إنكار مذهبهم كما يعرف من مواضع من هذا الكتاب، منها: ما يأتي في تريس.. فلا يبعد أن يقود الجيوش لمحاربتهم؛ لأنّه ينكر على غلاتهم تكفير المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم.
وفي «الأصل»: أنّ الجدّ علويّ بن سقّاف كتب للسّيّد عمر بن أحمد الحدّاد جاء فيه: أنّ المكرميّ خرج إلى حضرموت سنة (1218 ه)، ولا يمكن أن يكون سيّد الوادي الحبيب حسن بن صالح تساند هو والسلطان جعفر بن عليّ في دحرهم؛ لأنّ ظهور جعفر هذا إنّما كان في سنة (1219 ه).
وفي أشعار الحضارمة ومكاتباتهم ـ الموجود شيء منها ب «الأصل» ـ ما يدلّ على طول زمان الوهابيّة بحوره، وأنّهم لبثوا مدّة ليست بالقصيرة يتجاذبون الحبال مع قبائل حضرموت مصالحة ومحاربة، وكان أكثر من يتولّاهم يافع، وأكثر من ينازعهم ناس من آل كثير، وللحديث عنهم بقيّة تأتي في تريم وعينات إن شاء الله تعالى.
وبعد ارتفاع أصحاب ابن قملا عن حوره.. استولى عليها عمر بن جعفر بن صالح بن مطلق، من آل عمر بن جعفر آل عمد، ثمّ ولده جعفر، ثمّ ولده صالح، ثمّ ولده مقبل بن صالح.
ثمّ أخذ القعيطيّ يسايسهم حتّى أدخلوه إليها، وبقي نائبه هو وإيّاهم بحصنها، يديرون أمرها معا، حتّى استولى القعيطيّ على شبام، فعندئذ قال نائبه بحوره لصالح بن مقبل: لا مقام لك بعد اليوم، فإن شئت الخروج بالأمان، وإلّا.. ناجزتك. فخرج إلى النّقعة عند المشايخ آل باوزير، فأوصلوه ومن معه إلى العجلانيّة حيث يقيم بها أعقابه إلى اليوم.
وكان استيلاء القعيطيّ على حوره كلّها في سنة (1272 ه)، وكانت هي وشبام أحبّ بلاده إليه، وقد خصّهما الأمير الحاجّ عمر بن عوض القعيطيّ ـ وكذلك ابنه السّلطان عوض بن عمر ـ بحصّة وافرة من البرّ والإحسان في وصيّتهما، وقد أوردنا وصيّة الأوّل ب «الأصل»، وأمّا وصيّة الثّاني.. فإنّها مطبوعة منشورة، وهي مع ذلك لا تخرج عن معنى وصيّة أبيه.
ثمّ رأيت معاهدة بين السّلطان أحمد بن جعفر بن عبد الله بن جعفر بن عمر عنه وعن أولاده والّسّلطان مقبل بن صالح بن مطلق بن جعفر بن عمر عنه وعن أولاده من جهة، ومن الأخرى الجمعدار محمّد بن عمر بن عوض القعيطيّ بتاريخ صفر من سنة (1272 ه).
وفيها: أنّهم تناصفوا في بلد حوره ومصنعتها وجميع ما يتعلّق بها.. فلأحمد ومقبل ناصفة، ولمحمّد بن عمر ناصفة في الحصن والبلاد والمراتب وكلّ ما يعتادونه في البلاد وخليانها وسدبة.
وفيها: أنّ الدّولة يشلّون أنفسهم وحاشيتهم عشر سنين، وإن بدت فتنة في العشر السّنين.. فعلى محمّد بن عمر ثقلها، وبعد العشر السّنين هم إخوة متّحدون في فائدة وخسارة.
والشّهود على ذلك الخطّ: عليّ بن سعيد بن عليّ، وأحمد حسين بن عامر آل عمر نقيب القعطة، وعبد الله بن عمر بن عوض القعيطيّ، ومحمد بن سعيد بن محمّد بن سالم بن جنيد، وعبد الله بن عليّ بن عبود بن طاهر، ومحمّد بن سالم بن محمّد بن سالم بن عليّ بن جنيد.
وفي القرن العاشر عمّر الشّيخ عمر بن عبد الله بن عبد الرحمن باوزير ضميرا لسقي أطيان حوره ونخيلها، فمانعه بنو معاذ وأهل غنيمة والسّحارى والخطّة والمخينيق وحريز والعدان، وقاموا عليه، وساعدهم عليّ بن ظفر والي المخينيق، وبنو ظنّة أهل السّور، وبنو قيس، والمقاديم والظّلفان من نهد، وأمدّهم التّجّار بالمال، وهم: أبو منذر، وبو عيران، وبو عسكر، وحصل منهم ضرر عظيم على أهل حوره، وعلى أهل عرض مخاشن.
وقام مع الشّيخ عمر باوزير آل عامر وآل بدر وآل بشر وآل فارس المجلف، وامتدّ أمد الحرب، وقتل خلق كثير من مذحج، وانتهى الأمر بفوز الشّيخ عمر وانهزام أصحاب المخينيق والسّور، وجاء من السّيل ما يكفي لحوره والنّقعة ولعرض آل مخاشن، مع أنّ آل مخاشن لم يشتركوا في الحرب، ولم يساعدوا بحارّة ولا باردة؛ ولهذا استحقّوا الهجاء اللّاذع من الشّيخ في قصيدته المذكورة ب «الأصل».
وبما أنّ وادي العين هو وادي المشايخ آل باوزير وقبائلهم العوابثة.. فقد تدير كثير منهم بحوره، وأظنّ السّابق منهم إليها هو: الشّيخ أبو بكر مولى حوره، بن محمّد ـ مولى عرف ـ ابن سالم بن عبد الله بن عمر ابن الشّيخ يعقوب بن يوسف.
وأبو بكر مقبور بحوره، وأخوه سعيد صاحب الجحش مقبور عند رجليه.
قال البكري: (حوره: موضع في ديار بني مرّة، وقد شكّ أبو عبيدة في هذا الاسم، وقال نصيب [من الطّويل]:
«عفا منقل من أهله فنقيب *** فسرح اللّوى من ساهر فمريب »
«فذو المرخ أقوى فالبراق كأنّها *** بحورة لم يحلل بهنّ عريب »
وقال في مادّة «رضوى» من حديث واقد بن عبد الله عن عمّه عن جدّه قال: نزل طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد عليّ بالتّجبار ـ وهو موضع بين حوره السّفلى وبين منخوس، على طريق التّجّار إلى الشّام ـ حين بعثهما رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يترقّبان عير قريش).
وذكر حديثا طويلا يؤكّد أنّها ليست بالّتي نحن في سبيلها.
ثمّ رأيت الطّيّب بامخرمة يقول: (قال القاضي مسعود باشكيل: حوره اسم لقريتين باليمن:
إحداهما: قرية كبيرة لها قلعة حصينة من أرض حضرموت، تسقى من وادي العين، وسكّان تلك القلعة آل الملكيّ، وسكّان أسفل القلعة آل باوزير المتصوّفة، وبها قبور جماعة منهم، أشهرهم وأقدمهم: أبو بكر وسعيد ابنا محمّد بن سالم، والباقون أسباطهم، نفع الله بهم أجمعين.
والثّانية: قرية كبيرة شرقيّ أحور، سكّانها قوم من حمير ـ وبها قوم صالحون يسمّون الشّهداء ـ يطعمون القادم عليهم، وهي على ساحل بحر يصطادون السّمك، ويحرثون على البقر) اه ما ذكره القاضي مسعود، وهو آخر كلام بامخرمة.
وقوله: تسقى من وادي العين.. يدلّ على أنّ الشّيخ عمر باوزير لم يبتدي ذلك الضّمير؛ لأنّ القاضي مسعودا أقدم منه.
وقال الطّيّب في موضع آخر: (وآل الملكيّ ـ بفتحتين وكاف ـ جماعة من مسلمي الرّوم النّصارى) وقد استبهم عليّ أمرهم في «الأصل»، ووقعت في إشكالات لم تنحلّ بهذا، ولكنّها تنكشف بما سيأتي في مريمة، ومنه يعرف كثرة من نجع إلى حضرموت من العجم، وقد سمعت بمؤلّف في خصوص ذلك.
وفي حضرموت أسماء عجميّة لكثير من البلدان، كما سبق أنّ دوعان مؤلّف من (دو) وهو الاثنان، و (عان) وهو المكان المرتفع؛ يعني واديين مرتفعين.
وفي «صفة جزيرة العرب» للهمدانيّ [ص 278]: (يبرين في شرقيّ اليمامة، وهي على محجّة عمان إلى مكّة، وبينها وبين حضرموت العجم بلد واسع).
وبما أنّ اسم دوعن فارسيّ.. فالظّاهر أنّ كثرة أعاجمها منهم؛ بأمارة: أنّ صعبة أمّ طلحة بن عبيد الله من بنات فارس، وهي حضرميّة أخت العلاء بن الحضرميّ، وكانت تحت أبي سفيان بن حرب، فلم تزل به هند حتّى طلّقها وتبعتها نفسه، فقال [من المتقارب]:
«إنّا وصعبة فيما ترى *** بعيدان والودّ ودّ قريب »
«فإلّا يكن نسب ثاقب *** فعند الفتاة جمال وطيب »
«لها عند سرّي بها نخرة *** يزول بها يذبل أو عسيب »
ذكره ابن قتيبة في «عيون الأخبار»، وذكره أيضا غيره، والبيت الأوّل منها مخروم، وفي (ص 388 ج 2) من «الخزانة» عن السّهيليّ: أنّ ابن أبي عمرو مات في صعبة بنت الحضرميّ، وعن «الأغاني»: أنّه مات في حبّ هند بنت عتبة، ثمّ بسط القصّة.
وفي «غرر البهاء الضويّ» للعلّامة المحدّث محمّد بن عليّ خرد ما يفيد أنّ حوره هي الحوطة في عرف أهل اليمن، وقد مرّ في النّقعة أنّها مرادفة للحوطة أيضا عند أهل اليمن.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
68-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (القارة)
القارةهي قرية آل ثابت، وإلى جانبها قارة كان عليها حصن يقال له: حصن قشاقش.
وآل ثابت ليوث خفيّة، وكان رئيسهم الشّيخ عبد الله بن ثابت توفّي سنة (1328 ه)، وخلفه ولده الشّيخ صالح بن عبد الله بن ثابت بن سلطان بن عبد الله بن ثابت بن علي بن فارس بن عقيل بن عيسى بن محمد بن عامر بن فضالة. أحد فحول الرّجال، وحكّام العرب، وأولي رأيها، قتل في الحرب الّتي جرت بينهم وبين آل عجّاج، في ليلة مظلمة، فسمع فيها أصوات عبيد آل عجّاج.. فخرج عليهم بنفسه، فأبصروه قبل أن يراهم.. فأطلقوا عليه الرّصاص سنة (1351 ه) فجاء موضع قول بشّار بن حزن [من البسيط]:
«إنّا لنرخص يوم الرّوع أنفسنا *** ولو نسام بها في الأمن أغلينا»
قال المبرّد [في «الكامل» 1 / 150]: هو من الأجدع بن مسروق [من الطّويل]:
«وأبذل في الهيجاء وجهي وإنّني *** له في سوى الهيجاء غير بذول »
أو من قول القتّال الكلابيّ [من الوافر]:
«نعرّض للطّعان إذا التقينا *** وجوها لا تعرّض للسّباب »
وخلفه ولده عليّ بن صالح، شابّ نشيط ظاهر الشّهامة، جزل الرّأي، كثير الرّماد.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
69-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (شبام)
شبامقال ياقوت: (وشبام حضرموت: إحدى مدينتيها، والأخرى تريم.
قال عمارة اليمنيّ: وكان حسين بن سلامة ـ وهو عبد نوبيّ وزر لأبي الجيش بن زياد صاحب اليمن ـ أنشأ الجوامع الكبار، والمنائر الطّوال من حضرموت إلى مكّة، وطول المسافة الّتي بنى فيها ستّون يوما، وحفر الآبار المروية، والقلب العاديّة، فأوّلها شبام وتريم مدينتا حضرموت، واتّصلت عمارة الجوامع منها إلى عدن عشرون مرحلة، في كلّ مرحلة جامع ومئذنة وبئر) اه
وقد سبق في شبوة ما لاحظناه على ابن الحائك في تسميتها، وفي «روضة الألباب» للشّريف أبي علامة اليمانيّ: أنّ تريما وشباما وسنا.. هم بنو السّكون بن الأشرس بن كندة. وفيها ـ أيضا ـ: أنّ تريما والأسنى بحضرموت.
وأكثر النّاس على أنّ شباما لقب عبد الله بن أسعد بن جشم بن حاشد بن جشم بن حيران بن نوف بن همدان، وبهذه القبيلة سمّيت المدينة اليمانيّة الواقعة في قضاء كوكبان، وبها أيضا سمّيت القلعة الواقعة بقمّة الجبل الخشام، المسمّى باسمها أيضا، وهو واقع في قضاء حراز ما بين الحديدة وصنعاء، وقد نزل بعض تلك القبيلة بحضرموت، وسكنوا شباما فسمّيت بهم أيضا، وبه يتأكّد أنّ أهل شبام وأهل قارة آل عبد العزيز من نهد همدان، لا من نهد قضاعة.
أمّا حنظلة بن عبد الله الشّباميّ الّذي قتل مع الحسين عليه السّلام.. فيحتمل أنّه من شبام حضرموت، ويحتمل أنّه من شبام اليمن.
ومن العجب أنّ صاحب «التّاج» قال في مادّة (كثر): (وآل باكثير ـ كأمير ـ: قبيلة بحضرموت، فيهم محدّثون، منهم: الإمام المحدّث المعمّر عبد المعطي بن حسن بن عبد الله باكثير الحضرميّ، المتوفّى ب (أحمدآباد)، ولد سنة (905 ه) وتوفّي سنة (989 ه)، أجازه شيخ الإسلام زكريّا، وعنه أخذ عبد القادر بن شيخ بالإجازة.
ومنهم: عبد الله بن أحمد بن محمّد بن عمر باكثير الشّباميّ، ممّن أخذ عن البخاريّ) اه
ووجود اسم عمر في عمود هذا النّسب ممّا يتأكّد به ما قرّرته في قول شيخنا المشهور، وشيخه أحمد الجنيد ـ: إنّ العلويّين كانوا يجتنبون اسم أبي بكر وعمر؛ لأنّ أهل حضرموت شيعة ـ من تخصيص التّشيّع بالعلويّين ومن على شاكلتهم.
وإنّي بتمعّني العموم، وأكثر أهل حضرموت إذ ذاك إباضيّة، وقد راجعت «تهذيب التّهذيب» للحافظ ابن حجر فلم أر لعبد الله بن أحمد هذا ذكرا، ولكن.. من حفظ حجّة على من لم يحفظ.
ولكنّي تبيّنت بعد ـ كما يأتي في تريس ـ أنّ البخاريّ في «التّاج» ليس إلّا محرّفا تحريفا مطبعيا عن السّخاوي، فقد جاء في «الضّوء اللّامع» له ذكر: عبد الله بن أحمد هذا وأنّه أخذ عنه، ويتأكّد بتأخير «التّاج» له عن عبد المعطي، ولو كان قديما.. لقدّمه عليه.
أمّا عبد الجبّار بن العبّاس الهمدانيّ الشّباميّ، المحتمل النّسبة إلى شبام هذه وإلى غيرها.. فقد أخرج له التّرمذيّ وأبو داود في (القدر)، والبخاريّ في «الأدب المفرد»
وفي شبام جماعة كثيرة من آل باكثير، منهم: الشّيخ عبد الله بن صالح بن أحمد بن عبد الله بن محمّد بن أحمد بن محمّد بن سلمة باكثير، ترجم له السّيّد محمّد بن زين بن سميط في كتابه: «غاية القصد والمراد»، وكان من خواصّ القطب الحدّاد، وله منه مكاتبات كثيرة، توجد في «مجموعها»، توفّي بشبام.
ومن «تاريخ باشراحيل» أنّه: (وقع وباء شديد في سنة «784 ه»، مات منه خلق كثير بشبام، كان منهم: الشّيخ محمّد بن عبد الله باجمّال، والشّيخ عبد الرّحمن ابن عبد الله باعبّاد، والشّيخ عبد الله ابن الفقيه محمّد بن أبي بكر عبّاد، والفقيه عمر بن عبد الله بامهرة، والفقيه أحمد بن أبي بكر حفص، والفقيه ابن مزروع، ودام ذلك الوباء نحوا من أربعة أشهر.. ثمّ زال) اه
ومن هذه السّياقة.. تعرف ما كانت عليه شبام من الثّروة العلميّة.
ومن فقهاء شبام وعلمائها: الشّيخ محمّد بن أبي بكر عبّاد، كان الشّيخ عبد الرّحمن السّقّاف يقصده من تريم إلى شبام للقراءة عليه.
وفي الحكاية (308) من «الجوهر» [2 / 58]: عن محمّد بن أبي سلمة باكثير قال: (صعدت مع بعض آل باوزير إلى شبام، فبينما نحن عند العارف بالله محمّد بن أبي بكر عبّاد ـ وهو في آخر عمره ـ إذ جاء الشّيخ عبد الرّحمن السّقّاف، فأجلّه واحترمه، وأخذا يتذاكران من الضّحى إلى الاصفرار، لا يرفعان مجلسهما إلّا للضّروريّات، وكان الفقيه باعبّاد شيخ السّقّاف، ولكنّه يحترمه) اه بمعناه.
وفي سنة (752 ه) قدم الشّيخ يحيى بن أبي بكر بن عبد القويّ التّونسيّ إلى شبام في رجب، وسافر في رمضان من تلك السّنة، وقد ترجمه الطّيّب بامخرمة، وذكرت في «الأصل» أنّ قدومه إلى حضرموت كان في سنة (772 ه) بناء على ما وجد بخطّ سيّدنا الأستاذ الأبرّ، لكنّ الّذي في «سفينة البضائع» للحبيب عليّ بن حسن العطّاس و «عقود اللآل» لسيّدي الأستاذ الأبر: أنّ قدومه لم يكن إلّا سنة (752 ه)، وتكرّر عنه أخذ الشّيخ محمّد بن أبي بكر عبّاد.
ونقل الطّيّب أنّه وقع موت كثير بحضرموت أوائل سنة (930 ه)، وفيها توفّي الفقيه شجاع الدّين عمر بن عقيل بلربيعة، وعبد الله بن عمر باعقبة، وأخوه أحمد بن عمر باعقبة، وعمر بن أبي بكر باذيب في نحو أربع مئة جنازة من شبام وحدها.
وكان الشّيخ أبو بكر بن سالم يتردّد إلى شبام للأخذ عن الشّيخ معروف باجمّال، وكذلك السّيّد أحمد بن حسين بن عبد الله العيدروس المتوفّى سنة (968 ه) يتردّد على الشّيخ معروف، والسّيّد أحمد بن حسين هذا من كمّل الرّجال، قال الشّيخ عمر بن زيد الدّوعنيّ: (خرجت من بلدي أطلب مربّيا، فلمّا دخلت إلى تريم.. دلّوني على الشّيخ أحمد بن حسين، فخدمته ولازمته، وفتح عليّ من الفضل والخير ما لم يبق فيّ اتّساعا للغير).
والشّيخ معروف أوحد صوفيّة شبام في زمانه، ولقيته محن شديدة.. فزال عن شبام ثلاث مرّات:
ـ الأولى: سنة (944 ه) إلى السّور، وكان معه في هذه المرّة عشرة من تلاميذه وفقرائه؛ منهم: محمّد بن عمر جمّال، وعمر بن محمّد جمّال، ومحمّد بن شعيب، وأحمد معدان، وأحمد مصفّر، وحيدرة بن عمر، ومحمّد باكحيل، وعمر قعيطيّ، وامبارك بازياد. وأقام بالسّور نحو سنة، ثمّ عاد إلى شبام سنة (945 ه).
ـ ثمّ خرج إلى عندل بالكسر أواخر عمد سنة (945 ه)، وعاد بعد سنة.
ـ ولمّا استولى بدر بوطويرق على شبام.. أهانه إهانة بالغة، حتّى لقد طافوا به في شوارع شبام وفي جيده حبل من مسد، فخرج إلى بضه في سنة (957 ه)، وبقي بها في ضيافة أمير دوعن الشّيخ الجليل عثمان بن أحمد العموديّ إلى أن توفّي بها سنة (969 ه) عن ستّ وسبعين عاما.
وكان محلّ دعوة الشّيخ معروف بشبام.. هو مسجد الخوقة.
ثمّ في سنة (932 ه) أمر بعمارة مسجد المقدشيّ، وكان بناؤه في سنة (936 ه)، ولكنّه اندثر، ولم يبق له أثر، حتّى جدّده الشّيخ معروف.
وكان الحبيب أحمد بن زين الحبشيّ يذهب إلى شبام كلّ خميس وكلّ إثنين ماشيا؛ للقراءة على الشّيخ الأنور: أحمد بن عبد الله باشراحيل، وكان يثني عليه، ويسند كثيرا من مرويّاته إليه، والشّيخ أحمد هذا من الآخذين عن الحبيب عمر بن عبد الرّحمن العطّاس، ثمّ عن تلميذه القطب الحدّاد، وله أخذ أيضا عن الحبيب عبد الله بن أحمد بلفقيه.
ومن الصّالحين المشار إليهم بالولاية في شبام: الشّيخ أبو بكر بن عبد الله باصهي. والشّيخ المجذوب أحمد بن جبير شراحيل.
ومن أكابر علماء شبام: العلّامة الفقيه عمر بن عبد الله الشّباميّ، مؤلّف كتاب «قوارع القلوب»، وهو إمام جليل، من أكابر أعيان القرن العاشر، معاصر للفقيه عبد الله بلحاج وابن مزروع. قاله أحمد مؤذن، ونقله عنه جدّنا طه بن عمر في «مجموعه».
"ومن علماء شبام:
الشّيخ عمر بن سالم باذيب. والشّيخ سالم بن عليّ عبّاد. والشّيخ عمر باشراحيل، له ذكر في «مجموع الأجداد».
ونقل المناويّ في «طبقاته» عن الشّيخ أحمد بن عقبة الشّباميّ الحضرميّ أنّه قال: (ارتفعت التّربية بالاصطلاح من سنة (824 ه) ولم يبق إلّا الإفادة).
وآل عقبة الشّباميّون من كندة، وهم غير آل عقبة الخولانيّين السّابق ذكر شاعرهم بالهجرين.
ومنهم: العلّامة الفقيه عليّ بن عمر عقبة تلميذ الشّيخ محمّد بن أبي بكر عباد.
ومن «رحلة السّيّد يوسف بن عابد الحسني» [ص 105 ـ 106] أنّ الشّيخ أحمد بن عبد القادر بن عقبة انتفع بالشّيخ عبد الله بن أبي بكر العيدروس، وهو الّذي أشار عليه بالسّفر من شبام إلى الحجاز، ثمّ جاء إلى مصر واستوطنها، وفيها اتّفق بالشّيخ زرّوق، وكان من أمرهما ما اشتهر في رسائل زرّوق و «مناقب الشّيخ أحمد عقبة».
وممّن سكن شباما: السّادة آل سميط، وأوّلهم: العلّامة الجليل محمّد بن زين بن علويّ بن سميط، وصلها لغرض السّفر منها إلى القبلة، فأبطأت عليه القوافل، فأشار عليه الحبيب أحمد بن زين الحبشيّ أن يتديّرها للإرشاد والتّعليم، وقال له: إنّ آل شبام أهل اعتقاد وانتقاد، فامتثل وبقي بها إلى أن توفّي بها سنة (1172 ه)، ترجمه الشّيخ معروف بن محمّد باجمال بكتاب كامل سمّاه: «مجمع البحرين».
وكان الشّيخ عليّ بن محمّد لعجم يسير إلى حذية عند الشّيخ عمر باهرمز، فإذا أنشد قول القائل [من الوافر]:
«سألت النّاس عن خلّ وفيّ *** فقالوا ما إلى هذا سبيل »
«تمسّك إن ظفرت بودّ حرّ *** فإنّ الحرّ في الدّنيا قليل »
.. يقول باهرمز: تدري من الحرّ اليوم يا عليّ؟ فيقول باهرمز: إنّه محمّد بن زين بن سميط. وخلّف ولدين: أحدهما: عبد الرّحمن، وقد تزوّج بابنة سيّدنا عليّ بن عبد الله السّقّاف، وأخذ عنه، وانتفع به. والثّاني: زين، وكان من الصّالحين. وأعقبه بها أخوه الفاضل البدل عمر بن زين، المتوفّى سنة (1207 ه) عن تسعين عاما قضاها في الخير ونشر الدّعوة إلى الله، وكانت سكناه بشبام لمّا توفّي أخوه محمّد، وترك ـ أعني الحبيب عمر ـ ستّة أولاد ذكورا، وهم: عليّ وعبد الرّحمن وحسين وأبو بكر وأحمد ومحمّد، ومن كلامه ـ كما يرويه ابنه العلّامة أحمد بن عمر ـ: أن تسعة أعشار أهل حضرموت كانوا لا يصلّون، والعشر الّذي يصلّي لا أدري ما صلاته.
قال سيّدي الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر: إنّ الحبيب عمر بن زين مكث سبعة عشر عاما لا يضع جنبه على الأرض؛ اجتهادا في العلم والعبادة، وكان ولده أحمد بن عمر أكثر من يقرأ عليه الكتب، وإذا غلبه النّوم.. أعطاه شيئا من اللّوز والزّبيب؛ ليطرد به النّعاس وينشط للقراءة.
وممّن أثنى عليه العلّامة السّيّد عبد الله بن حسين بن طاهر من آل سميط: الفاضل الجليل عبد الرّحمن بن محمّد بن سميط، وابنه العبّاد الإمام عليّ بن عبد الرّحمن.
ومنهم: القطب المجدّد الدّاعي إلى الله ابنه أحمد بن عمر بن زين بن سميط، لقد كان علم هدى، ونبراس دجى، ونور إسلام، وفرد أعلام، أردت أن أتمثّل له بما يناسب، ولكن رأيت مقاما عظيم الشّأن حيّرني، فلم يحضرني إلّا قول الشّريف الرّضيّ [في «ديوانه» 2 / 298 ـ 299 من الرّمل]:
«إرث آباء علوا، فاقتعدوا *** عجز المجد، وأعطوه السّناما»
«شغلوا قدما عن النّاس العلا *** ورموا عن ثغر المجد الأناما»
«لم يعش من عاش مذموما ولا *** مات أقوام إذا ماتوا كراما»
«يعظم النّاس، فإن جئنا بكم *** كنتم الرّاعين، والنّاس السّواما»
وهو الّذي اهتمّ بإقامة دولة ل (حضرموت)، واشتدّ لذلك أسفه، وتوالى لهفه، ولئن مات بحسرة على ذلك.. فقد كلّل الله أعماله بالنّجاح في نشر الدّعوة إلى الله، حتّى انقشعت الجهالة، واندفعت الضّلالة، وانتبه الجمّاء من النّوم، وتقيّل آثاره أراكين القوم؛ كسادتي: حسن بن صالح البحر، وجدّي المحسن، والحبيب عبد الله بن حسين بن طاهر وغيرهم، حتّى لقد مرّ بعضهم وإحدى بنات آل همّام بحصن تريم تقول: جاء جبريل إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتكرّر حديث الدّين، فقال: (ما كان جبريل ليدخل دار آل همّام لو لا أحمد بن عمر). توفّي بشبام سنة (1257 ه).
وخلفه على منهاجه العلّامة الجليل، الصّادع بالحقّ، النّاطق بالصّدق، عمر بن محمّد ابن سميط.
«القائل الحقّ فيه ما يضرّ به *** والواحد الحالتين السّرّ والعلن »
فكان يغلظ القول للسّلطان عوض بن عمر وهو إلى جانب منبر شبام في جامعها، ويقول: إنّ العدنيّ يقول من قصيدة [في «ديوانه» 188]:
«نرميه باسهمنا ولا يرانا ***...»
ونحن نرميه بأسهمنا وهو يرانا، والسّلطان عوض يحتمل ذاك؛ لأنّه يعظّم أهل الدّين، والعلماء إذ ذاك يكرّمون أنفسهم، ويصونون العلم، ومقامه كبير في العيون، جليل في الصّدور، ولم يزل ناشر الدّعوة، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، حتّى توفّي بشبام سنة (1285 ه)، ووقع رداؤه على ابنه ـ الخليفة القانت الأوّاب، الّذي لا يداهن ولا يهاب ـ: عبد الله بن عمر، المتوفّى بها سنة (1312 ه).
ومنهم: السّمح الكريم، الرّاوية لأخبار السّلف الطّيّب: حسن بن أحمد بن زين بن سميط، المتوفّى بها سنة (1323 ه)، وقد رثيته بقصيدة توجد بمحلّها من «الدّيوان».
ومنهم: السّيّد الواعظ الفقيه: طاهر بن عبد الله بن عبد الرّحمن، المتوفّى بها سنة (1331 ه).
ومنهم: السّيّد الجليل المقدار: أحمد بن حامد بن عمر بن زين، المتوفّى بها سنة (1331 ه).
ومنهم:
«علّامة العلماء واللّجّ الّذي *** لا ينتهي ولكلّ لجّ ساحل »
الفاضل الجليل العلّامة المحقّق المتفنّن: أحمد بن أبي بكر بن عبد الله بن عبد الرّحمن بن محمّد بن زين، ولد بأنزيجة من السّواحل الأفريقيّة، وبها تعلّم، وأخذ العلوم عن أبيه وعن غيره، وقدم حضرموت عدّة مرّات، منها: سنة (1298 ه)، ومنها: سنة (1316 ه)، وآخر مرّة قدمها سنة (1325 ه) وشهد زيارة هود عليه السّلام، وكان له بوالدي اتّصال عظيم، وارتباط وثيق، وأخذ تامّ، وله مؤلّفات كثيرة، وأشعار جزلة:
«من كلّ قافية فيها إذا اجتنيت *** من كلّ ما يشتهيه المدنف الوصب »
«حسيبة في صميم المدح منصبها *** إذ أكثر الشّعر ملقى ما له حسب »
توفّي في زنجبار سنة (1343 ه).
ومن اللّطائف: أنّني عملت احتفالا لتأبينه والتّعزية به في مسجد طه، وأعددت كلمة في نفسي، وإذا بمؤبّر نخلي يكرّر ويتغنّى بقوله: (لا حلّ للموت) فقط، فبقيت على أحرّ من الجمر في انتظار الباقي، حتّى قال:
«لا حلّ للموت ما *** خلّى كبد ساليه »
«شلّ الوجيه الرضي *** يّه واللّحى الغاليه »
فذهب ما في نفسي، وأخذني شأن عظيم درّ به كلام أحسن وأبلغ وأنجع ممّا كنت أعددته؛ لأنّ ذلك الوصف منطبق عليه.
«ولم ينس سعي العلم خلف سريره *** بأكسف بال يستقيم ويظلع »
«وتكبيره خمسا عليه معالنا *** على أنّ تكبير المصلّين أربع »
فعظمت بموته الرّزيّة، ولكن كان ولده عمر بقيّة.
«فإنّه نحوه في حسن سيرته *** منذ الشّبيبة وهو الآن مكتهل »
«أضحى لنا بدلا عن فقد والده *** والشّبل من ليثه إمّا مضى بدل »
فخلاه اللّوم؛ إذ سدّ مسدّ القوم، لم ينقطع رشاه، ولا قالوا: فلان رشاه.
وما رأيت أحدا بعد أستاذي الأبرّ عيدروس بن عمر، وسيّدي عبد الله بن حسن البحر يستجهر النّاس بفرط الوسام، وبسطة الأجسام؛ كالسّادة آل سميط، لا يراهم النّاظر.. إلّا تذكّر قول جرير [في «ديوانه»: 456 من الطّويل]:
«تعالوا ففاتونا ففي الحقّ مقنع *** إلى الغرّ من أهل البطاح الأكارم »
«فإنّي أرضي عبد شمس وما قضت *** وأرضي الطّوال البيض من آل هاشم »
فأولئك البيض الطّوال، وثمّة الهمم العوال.
«آراؤهم ووجوههم وعلومهم *** في الحادثات إذا دجون نجوم »
«فيها معالم للهدى ومصابح *** تجلو الدّجى والأخريات رجوم »
فأحوالهم جليلة، وأخلاقهم جميلة، وأخبارهم عريضة طويلة، ينطبق عليهم قول المسيّب بن علس [من المتقارب]:
«وكالشّهد بالرّاح أخلاقهم *** وأحلامهم منهما أعذب »
«وكالمسك ترب مقاماتهم *** وترب قبورهم أطيب »
ومن متأخّري علماء شبام: الشّيخ سالم بن عبد الرّحمن باصهي، أحد تلاميذ والدي، وشيخ العلّامة الجليل الأمير محمّد بن عليّ الإدريسيّ، وكان هو همزة الوصل بيني وبينه في المعرفة الّتي كان أوّلها تعزية منه لي بواسطته في والدي، ثمّ استمرّت المواصلات والمراسلات بما آثارها من القصائد موجودة بمواضعها من «الدّيوان» [371 و 384].
ومن علماء شبام ـ فيما رأينا بأبصارنا ـ أربعة إخوان، كلّهم علماء؛ وهم: أحمد، ومحمّد، وعمر، وعبد الرّحمن أبناء أبي بكر باذيب.
ومن كبار علمائهم ومصاقع شعرائهم: الشّيخ أحمد بن محمّد باذيب، المتوفّى بسنغافورة في حدود سنة (1279 ه).
وعن الشّيخ سالم بن عبد الرّحمن باسويدان وغيره: أنّ سبب سفره من شبام هو أنّ خطيب الجمعة تأخّر مرّة، فأشار عليه الحبيب أحمد بن عمر بن سميط أن يقوم بأداء الواجب من أركان الخطبة، فارتجل ما ملأ الأسماع إعجابا، والنّفوس إطرابا، فخشي عليه العين، فأمره بمغادرة البلاد وكان آخر العهد به وكان أهل شبام معروفين بالإصابة بالعين. ومن أواخرهم المتّهمين بذلك: الشّيخ معروف باذيب، والشّيخ سالم بن هادي التّويّ.
ومن عيون صلحائها وأفاضلها الشّيخ عوض بن محمّد باذيب، وأولاده عليّ وأحمد ومحمّد، لهم مروءة حيّة، واعتبار تامّ، ودين ثابت، وكانت الأعيان تزور الشّيخ عوض وتتبّرك برؤيته ودعائه.
ومن متأخّري علمائها: الشّيخ عبد الرّحمن حميد، وولده عبد الله.
ومن آل شبام: آل جبر، وآل التّويّ، وآل باعبيد، وهم أربعة إخوة: محمّد وعمر وعوض وأحمد بنو سالم باعبيد، إليهم الآن أزمّة التّجارة بشبام، ولهم مراكز في عدن وغيرها، وقد مات عمّا قريب أحبّهم إليّ، وهو أحمد، فرحمه الله وأخلفه بخلف صالح.
وممّن تديّر شباما الحبيب علويّ بن أحمد بن زين الحبشيّ، وبها توفي.
وفي «كلام الحبيب أحمد بن عمر بن سميط»: أنّ والده لمّا مات.. قال: مات من يستحيا منه، وإنّ آل شبام كانوا يهابونه، وكان آل أحمد بن زين يزورونه في محرّم من كلّ سنة، ومتى قاربوا شبام.. تنابز غوغاؤهم مع آل شبام بالألقاب، وقالوا: (الهر لعل القعيطي يفر) فأوقفهم منصّر بن عبد الله طائفة من النّهار في الشّمس، فتركوا الزّيارة، ولمّا زال منصّر وشيكا.. كتب لهم صلاح بن محمّد بالاعتذار، فأعادوها.
ومن أدبائهم وأكابر أولي المروءة منهم: الشّيخ سالم بن عبد الرّحمن باسويدان.
وفي مبحث صلاة الجمعة من «مجموع الأجداد»: (أنّ شباما من كراسي حضرموت، بل لا مدينة في حضرموت إلّا هي وتريم، هاتان المدينتان المذكورتان في التّواريخ فقط، ويكاد أن يكون ما يتعلّق بشبام ومن سكنها من المشايخ والعلماء، ومن له فيها أثر من مسجد وغيره من دائم النّفع، يكوّن نبذة صالحة) اه
ولأهلها مناقب كثيرة، ومحاسن شهيرة، ولا سيّما في الورع وصدق المعاملة مع الله، وحمل الكلّ، وفعل المعروف، والإعانة على نوائب الحقّ، أخبرني المكرّم الشّيخ كرامة بن أحمد بن عبد الله بركات قال: كنت بمقدشوه في سنة (1334 ه) فأرسلت بثلاث مئة وخمسين ربّية برعما ـ وهو نوى القطن ـ إلى عدن عند الشّيخ أحمد بن عمر بلفقيه، فباعه لي وأربحني النّصف، وأبرق إليّ: أن خذ كلّ ما تقدر عليه منه وحوّل لي بالثّمن، فاشتريت أوّلا بنحو من ألف ربّية، وثانيا بمثله، وقدّمت له حسابا في ثمنه وسائر مصاريفه، وخدمته ولم يبق لي عنده بحسب ما قرّرته في دفتري إلّا أربعون ربّية فقط، ولمّا وصلت عدن بعد خمس سنوات.. أعطاني كاتبه ـ وهو الشّيخ محمّد بن سالم باعبيد ـ تحويلا إلى شبام في ألفين ونحو خمس مئة ربّية، فشككت فيها، وتوهّمته غالطا، ولمّا قدمت شباما.. أخبرت الوالد أحمد بن عمر بلفقيه، فأخذ بأذني وقال: إذا لم نربّك نحن.. فمن يربّيكم؟ وقد ربّانا ناس على مثل هذا، فنحن مدينون به.
وإذا به قيّد لي أرباح البرعم بأسرها، فرحمة الله على هذا الإنسان وعلى جميع أهل الإحسان.
وبلغني أنّ الشّيخ عوض بن عبد الله باذيب اشترى خرابة من الأمير عليّ بن صلاح، قيل: إنّ بعض أهلها معروف في غيبته الطّويلة، وأنفق على بنائها سبعة آلاف ريال، ولمّا احتاج ورثته لبيعها.. لم تنفق إلّا على واحد من آل باهرمز بألفين من الرّيالات فقط؛ لأنّ آل شبام ـ بما بقي في قلوبهم من هيبة الدّين والورع ـ تحاموها، وإلى الآن وهم يتحامون عن شراء التّمر الّذي يجمعه من المكس صاحب السّدّة؛ مع أنّه أرخص من غيره بثلث القيمة.
وبلغني أنّ لبعضهم رسائل في سير آل شبام وأخبارهم الشّاهدة بالتّقوى والورع، وهي من أنفع ما يكون لهم لو تدارسوها على عادتهم في درس يوم الثّلاثاء الّذي رتّبه الحبيب أحمد بن عمر بن سميط، ـ متنقلا في ديارهم؛ سياسة في حضورهم؛ إذ هي خير حافز للأحفاد على ترسّم آثار الأجداد، ومن كلامه المنثور: إنّ شباما كانت بلاد المنقود، وأنّ أحد أهل شبام أخذ دراهم من أحمد ناصر اليافعيّ، فهجروه حتّى ردّها.
وأنّ ثمانين حملا من الحوير وردت شباما، وفيها حمل لأحد آل كثير بن سلامة، فاشتروها بأسرها إلّا ذلك الحمل لم يأخذه أحد وعاد به صاحبه.
وفي كلامه ثناء كثير على محمّد بن عوض باذيب، وعلى أخيه عبود، وأنّه حصل عليهما خلل فشاورا الحبيب عبد الله الحدّاد فقال لهما: بيعا جميع ما معكما ولو لم يخلف لكم إلّا حليّ نسائكم، فباعاه وقضيا ما عليهما من الدّيون، وبقيت ثلاث مئة ريال، فذهبا إلى الحاوي، ولمّا وصلا.. قال محمد لعبود: إن وافقتني.. أعطينا الحبيب عبد الله مئة واقتنعنا بالمئتين، فوافقه، فقبلها الحبيب وأشار على محمّد بالسّفر إلى الشّحر، وبقي يتردّد إليها، ويقيم بها شهرين أيّام الموسم، ويمرّ في ذهابه وإيابه بالحاوي.
ولمّا علم الحبيب عمر البارّ بقصّة المئة.. قال لمن حضره: أيصحّ أنّ أحدا يتصدّق بثلث ماله؟! وكان عنده دلّال من آل باخيضر. فقال: إن كان من آل شبام.. فنعم.
ومنه: أنّ محمّد لعجم من السّابقين؛ لأنّه سبق سلفه.
ومنه: أنه لمّا توفّي أحمد بكار لعجم.. قال والدي: توفّي وهو خير من بالبلد.
ولمّا توفّي عبد الله بن عمر لعجم.. قال الحبيب أحمد بن عمر بن سميط: إنّه من الأخيار الّذين يدفع الله بهم البلاء، ومن الّذين يحييهم ويميتهم الله في عافية، وكانت وفاته بسبب الوباء الّذي وقع بشبام وسيئون وبور في سنة (1250 ه).
ومنه: أنّ الحبيب محمّد بن زين بن سميط قال: ما تحقّقت أنّ أحدا يحبّ للمسلمين ما يحبّ لنفسه إلّا عبد الله بن زين الحبشيّ صاحب ثبيّ، وبكّار بن عوض لعجم؛ فإنّ هذا يقوم إليّ في الدّرس ويقول: تكلّم في كذا؛ فإنّ النّاس واقعون فيه.
ومنه: أنّ الشّيخ أحمد صلعان ممّن ترجم له الحبيب محمّد بن سميط، وأن محمّد صلعان كثيرا ما يستشهد بحكم ابن عطاء الله يكاد يحفظها، وأنّ القرآن معجون بمحمّد بن عقبة سديس.
ومنه: أنّ المرحوم محمّد بن أحمد بايوسف ـ جدّ آل بايوسف ـ من الصّالحين، وكذلك ولده أحمد.
ومنه: أخبرني عبد الله باسعود عن الحبيب جعفر بن أحمد بن زين قال: أدركنا أهل شبام ثلاث طبقات: أوّل طبقة لباسهم كوافي بيض وأردية شمال، وثاني طبقة كوافي سوسي وملاحف بيض، وثالث طبقة كوافي صنعانيات من نصف ريال وملاحف سود.
قال: ومن بعد توسّعوا مصانف وكوافي صنعانيّات من ريالين.
ومنه: أنّه لمّا توفّي عمر بن أحمد معاشر.. قال: إنّه من الّذين يمشون على الأرض هونا، وقال مثل ذلك لمّا مات أحمد بن محمّد جبر.
ونقل الشّيخ عليّ بن عبد الرّحيم بن قاضي في ترجمته لنفسه: أنّ والده تولّى القضاء بشبام أكثر من سنتين، وأنّه يثني على أهلها بالتّناصف والتّعاون على الحقّ، وأنّه كان يزورهم ويأتي إليهم من تريم لحسن حالهم. اه
ولو أرسلنا القلم ملء فروجه في مكارم الشّيخ عبد الرّحمن باصهي، الملقّب بالطّويل.. لاندقّت عنقه قبل أن نبلغ منه ما نريد، وهي مشهورة، وآخرها: وصيّته بأن تبقى يده مكشوفة مع تشييعه في الجنازة؛ لاستخراج الاعتبار بأنّه مع ما كان من ثروته الطّائلة لم يخرج من الدّنيا إلّا صفر اليد وقد نفّذوها على ما فيها من الاختلاف بين الرّمليّ وابن حجر؛ لما في ذلك من المصلحة والعظة البالغة.
وكان سيّدي حسن بن أحمد بن سميط يتفتّح عن ثبج بحر عندما يفيض فيها، إلّا أنّ تلك المكارم انطوى نشرها، ولم يبق إلّا ذكرها.
«ونذكر تلك المكرمات وحسنها *** وآخر ما يبقى من الذّاهب الذّكر »
ولآل شبام عامّة وآل باصهي خاصّة، نجوع إلى صنعاء وإلى البيضاء من أرض الظّاهر، وقد وقفت على وثيقة من الإمام المهديّ لدين الله، هذا نصّها:
الخطّ الكريم والرّسم العالي الفخيم الإماميّ المهدويّ أعزّه الله، وأقرّ عين المتمسّكين به وأرضاه، وأنفذه في جميع الأقطار الإماميّة وأسماه، إن شاء الله، بيد الحاجّ الأكرم جمال الدين سالم بن عبد الله باصهي وكافّة إخوته وبني عمّه، قاض لهم بالإجلال والإكرام، والرّعاية والاحترام، والإعزاز والإعظام، فيجرون على أجمل العوائد وأتمّ القواعد، ليس عليهم حال يخشونه، ولا أمر يتوقّونه، وأنّهم منّا وإلينا، وممّن تحوطه شفقتنا، وأنّ واجباتهم الشّرعيّة يسلّمونها بالأمانة، ليس على أموالهم حيث كانت حرص ولا اعتراض بمحروس البيضاء وحضرموت.
وأنّهم يخرجون ما دخل فيه غيرهم من الفرق والمطالب والسّوائب والنّوائب.
وليس عليهم إلّا الحقّ الواجب وزكاة الأموال وزكاة التّجارة والفطرة، يسلّمونها إلى العمّال بالأمانة من غير واسطة.
وليس عليهم مجبى أينما توجّهوا في البلاد الإماميّة، في جميع الأسواق والمراسي والطّرقات والبنادر، فلا يعترضوا بشيء من ذلك، وذلك لما هم عليه من المحبّة والنّصيحة لهم ولسلفهم، فيجرون على ذلك وتقرّ أعينهم بما هنالك، وعليهم التّوقّف على أمرنا، والكون عند رأينا، وموالاة الموالي، ومعاداة المعادي، فليثقوا بذلك، وبالله الثّقة، وبه الحول والقوّة، وهو حسبنا وكفى، ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النّصير.
حرّر في محرّم الحرام عام سبعة وثمانين وألف (1087 ه)، وكان الشّيخ عبد الرّحمن باصهي معاصرا للحبيب أحمد بن زين الحبشيّ، وعرض عليه أن يحجّ هو ومن معه على نفقته، فلم يقبل، كما في «كلام الحبيب أحمد بن عمر بن سميط».
ولم يبق بأيدي آل شبام اليوم من المناقب الشّريفة السّابقة لأهلهم.. إلّا حسن التّأسّي فيما بينهم، ومساعدة الضّعيف، وقضاء الحاجة، وجبر المنكوب، حتّى لقلّما ترفع من أولي مروءتهم دعوى إلى القاضي، وإنّما يسوّون أمورهم فيما بينهم بالإصلاح، وهذا ليس بالقليل مع تراذل الزّمان.
وذكر ابن الحائك: (أنّ مصبّ مياه الأودية الغربيّة كلّها كان في شمال شبام، بينها وبين القارة).
وهو صادق في ذلك؛ لأنّه الواقع فيما قبل.. حتّى كان السّيل العظيم الهائل في سنة (699 ه) فأخرب الأحجاز، وأخذ كثيرا من البشر ومن المواشي، وانتقل بقوّته من شمال شبام واتّخذ له أخدودا بجنوبها؛ إذ قد اجتاح كثيرا من الخبّة الّتي كانت متّصلة بشبام، ثمّ عمّرت شيئا فشيئا، وما زالت معمورة حتّى اجتاحها سيل الإكليل الجارف في سنة (1049 ه).
ثمّ أحبّ آل شبام التّنزّه.. فعمّروها واحدا واحدا، حتّى صارت قرية، وعند ذلك ابتنى السّيّد عقيل بن عليّ السّقّاف مسجدا في حدود سنة (1063 ه)، وأحبّ أن يجمّع فيه، فاختلف عليه العلماء ـ حسبما فصّلناه ب «الأصل» ـ فامتنعت الجمعة
وما يفهمه قول ياقوت السّابق: (إنّ الحسين بن سلامة ابتنى جامع شبام) محمول على التّجديد أو التّرميم، وإلّا.. فقد كان جامعها مبنيّا قبل ذلك بزمان؛ ففي تاريخ القاضي محمّد بن عبد الرّحمن باشراحيل أنّه (بني في سنة «215 ه»، وأنّه كالقطب الّذي تدور عليه غالب شعائر الدّين بشبام).
وله أوقاف تنسب إلى هارون الرّشيد، وهو شاهد بأنّ بناءه كان متقدّما على هذا التّاريخ الّذي ذكره باشراحيل؛ لأنّ وفاة الرّشيد كانت في سنة (193 ه).
وممّا يدلّ لتقدّمه: ما نقله الشّيخ العلّامة عبد الله بلحاج، عن العلّامة الشّيخ محمّد بن سعيد باشكيل: (أنّ آل باذيب من الأزد، وأصلهم من البصرة، ثمّ استوطنوا شباما.
قال: وذكر عمر بن عبد الله باجمّال الشّباميّ: أنّ آل باذيب خرجوا من البصرة إلى حضرموت في أيّام الحجّاج، وبقيت طائفة منهم بالبصرة، ولهم حافّة عظيمة بالبصرة، يقال لها: حافّة الأسد ـ بالسّين، لغة في الأزد، بالزّاي ـ ولمّا وصلوا حضرموت.. آواهم أمير شبام وأجلّهم، وكان فيهم قضاة الدّين وقضاة الدّولة بشبام، وقد اجتمع منهم في زمن واحد سبعة مفتون، وقاضيان: شافعيّ وحنفيّ) اه
وهذه فائدة نفيسة، ونقل عزيز نحتاجه في كثير من المواضع، ونضرب عليها بنغمات متعدّدة، وبعيد أن ينتشر فيها الإسلام والمسلمون ثمّ لا يبنى بها جامع إلّا في آخر القرن الثّاني، هذا ما لا يتمعنى بحال، لا سيّما وأنّها كانت دار إقامة زياد بن لبيد الصّحابيّ المشهور، كما في «مفتاح السّعادة والخير» لمؤلّف «القلائد»، وغيره.
وفي سنة (532 ه) عمّر مقدّم جامع شبام، وجدّد منبره بأمر الملك المنصور الرّسوليّ، وذلك المنبر هو الّذي يخطب عليه إلى اليوم. وكانت هذه العمارة على يد عبد الرّحمن بن راشد في ولاية نصّار بن جميل السعديّ.
وفي موضع من «صفة جزيرة العرب» لابن الحائك [ص 169] يقول: (وأمّا شبام: فهي مدينة الجميع الكبيرة، ويسكنها حضرموت، وبها ثلاثون مسجدا، ونصفها خراب، أخربته كندة، وهي أوّل بلد حمير ثمّ. وساكن شبام: بنو فهد من حمير) اه
وأقول: أمّا فهد.. فهو ابن القيل بن يعفر بن مرّة بن حضرموت بن أحمد بن قحطان بن العوم بن عبد الله بن محمّد بن فهد بن القيل.. إلى آخر النّسب.
وسيأتي بيت نشوان مع ما يتعلّق به عمّا قليل.
أمّا مسجدهم الباقي بين منازلهم الخاصّة في جانب خبّة شبام الغربيّ المسمّى الآن: مسجد الطّيّب.. فقد بقي بأيديهم، والظّاهر أنّه وقع فيما اجتاحه سيل سنة (699 ه) الآتي ذكره، وإلّا.. لما طمع السّيّد عقيل ـ حسبما يأتي ـ في التّجميع بمسجده الّذي بناه بجانب خبّة شبام الشّرقيّ، إلّا أن يكون اختلاف المذهب داخلا تحت عسر الاجتماع، المسوّغ للتّعدّد.. فللبحث مجال، وبين العلماء اختلاف حتّى بين المتأخّرين من الحضارم؛ كابن يحيى، وبلفقيه، والسّيّد عثمان بن يحيى، وبعض علماء الحجاز، وهو معمور إلى الآن.
وأمّا كثرة المساجد بها.. فإنّما كانت قبل أن تجتاح أطرافها السّيول، ويكون مجراها في جنوبها. وكان مسجد الخوقة بشبام هو مسجد الإباضيّة إلى أن غلبهم الأشاعرة عليه في سنة (591 ه).
ومن أشعار إمام الإباضيّة بحضرموت في القرن الخامس إبراهيم بن قيس قوله [من الطّويل]:
«فقلت: وما يبكيك يا خود؟ لا بكت *** لك العين ما هبّت رياح زعازع »
«فقالت: بكيت الدّين إذ رثّ حبله *** وللعلما لمّا حوتهم بلاقع »
«فأين الألى إن خوطبوا عن دقائق *** من العلم.. أفتوا سائليهم وسارعوا؟!»
«فقلت لها: هم في شبام ومنهم *** بميفعة قوم حوتهم ميافع »
«وفي هينن منهم أناس ومنهم *** بذي أصبح حيث الرّضا والصّمادع »
«ومنهم بوادي حضرموت جماعة *** وأرض عمان سيلهم ثمّ دافع »
وفي أوائل القرن التّاسع كان قضاء شبام للشّيخ عبد الرّحمن باصهي، وله قصّة مع عليّ بن سعيد باصليب، الملقّب بالرّخيلة، مذكورة في الحكاية (457) من «الجوهر الشّفّاف».
ومن قضاة شبام في القرن الثّاني عشر: السّيّد عليّ بن علويّ عيديد.
وكان بشبام جماعة من آل بامهرة فيهم العلماء والقضاة، وجماعة من آل شعيب مشهورون بالعلم؛ منهم:
الشّيخ عبد الرّحمن بن عبد الله شعيب. والشّيخ أبو بكر بن شعيب، له شرح على «المنهاج». ولا اتّصال لهؤلاء بآل باشعيب الآتي ذكرهم في الواسط.
وذكر الطّيّب بامخرمة في «تاريخ عدن»: (أنّ العلماء آل الشّمّاخ أصل جدّهم من حضرموت، تفقّه بزبيد، ولمّا أراد الرّجوع.. رغّبه السّلطان عمر بن المظفّر فأقام هناك إلى أن مات، فآل الشّمّاخ من ذرّيّته) اه
وقريب جدّا أن يكون آل شمّاخ الموجودون بشبام إلى اليوم متفرّعين عن ذلك الأصل الّذي نجع منه جدّ آل الشّمّاخ إلى زبيد.
ولمّا ذكر علّامة اليمن السّيّد عبد الرّحمن بن سليمان الأهدل عادة آل زبيد في قراءة «البخاريّ» بشهر رجب.. قال: إنّها ـ فيما أحسب ـ من أيّام الشّيخين: أحمد بن أبي الخير منصور الشّمّاخيّ، ووالده الفقيه أبي الخير منصور الشّمّاخيّ السّعديّ نسبا، الحضرميّ أصلا، الزّبيديّ مهاجرا، الآخذ عن جماعة من أصحاب الحافظ السّلفيّ، توفّي بمدينة زبيد سنة (680 ه).
ولآل شبام نوادر، لو لم يكن إلّا ما يروى عن السّيّد زين بن أحمد بن سميط.. لكفى، فمن ذلك:
أنّ لآل الشّحر اعتقادا فيه، حتّى إنّهم ببساطتهم يمكّنون نساءهم من مصافحته، مع أنّه لا يتورّع بعض الأحيان من غمز إحداهنّ، فدخل عليه الشّيخ أبو بكر بن سعيد الزّبيديّ وعنده فتاة جميلة، فعلقتها نفسه، وتبعها هواه، فتوسّل إليه أن يخطبها له، فقال له: يمنعك عنها بخلك. فقال له: اطلب لها ما تريد. فخرج، ثمّ عاد، وقال: إنّ أهلها يطلبون ثلاث مئة ريال. فنجع بها طيّبة نفسه، فواعده أن يجيء إلى ذلك المكان من آخر ليلته، وعقد له بعجوز قد تغضّن وجهها، وانتثرت أسنانها، وانطبق عليها قول البحتريّ [في «ديوانه»: 2 / 272 من المنسرح]:
«والسّنّ قد بيّنت فناءك في *** شدق على الماضغين منخسف »
ودفع لتلك العجوز عشرة ريالات، وهرب هو بالباقي إلى شبام حضرموت، وكانت سفرة طيّبة، ووقع الشّيخ في الشّبكة.
ومنها: أنّ الجمعدار عبد الله كان يأنس به، ويتسلّى بأحاديثه عن أنكاد حوادث صداع، ومعه السّيّد حسين بن حامد المحضار، وكان لا يصبر لهم إلّا إذا سلّموا له إمامة الصّلاة، فأذعنوا له بها، حتّى جاءهم أحد العلماء.. فاستحيوا أن يقدّموا عليه زينا؛ مع ما عرف به من التّهاون في الطّهارة ونواقض الوضوء، فصلّى بهم الشّيخ العشاء، وقرأ في الأولى (الضّحى) فلم يجد إليه زين سبيلا، ولمّا قرأ في الثّانية ب (الزّلزلة).. سنحت له الفرصة، فقطع الصّلاة، وقال له: زلزل الله بوالديك يا شرّ المشايخ! وهل للزّلزلة مكان بعد ما نحن فيه؟ الجمعدار مزلزل، والمحضار مبهذل، وأنا مسفّل، ثمّ تأتي لنا فوق ذلك بالزّلزلة.
وهكذا سمعتها، ولكنّ وجود السّيّد حسين بن حامد لذلك العهد بصفة النّديم أو نحوه للجمعدار عبد الله.. لا يخلو من البعد.. فلعلّ النّظر انتقل عن أبيه أو غيره إليه.
ومنها: أنّه مرّ بشباميّ ويهوديّ يتلاطمان في عدن، فلمّا أراد أن يبطش بالّذي هو عدوّ لهما.. انسلّ الشّباميّ، وترك زينا مع اليهوديّ، حتّى حجز بينهما الشّرط، وساقوهما إلى السّجن، فسأل زين عن المقرّبين لدى الحكومة، فقيل له: صالح جعفر، فأرسل إليه.. فوصل، فاستخفّ روحه، فضمن عليه وأخذه إلى داره وأكرم مثواه، فرأى عنده من النّعمة ما لا يعرف شيئا منه في بيوت آل شبام بعدن، فانقطع عنهم، وما زالوا يبحثون عنه حتّى ظفروا به، فسبّهم وقال: لقد خرجت من النّار إلى الجنّة. قالوا: لكنّك لا تدري ما حال صالح جعفر. قال: وما حاله؟ قالوا: يبغض الشّيخين أبا بكر وعمر. فاستعظمها، وقال: إذا كان يبغض هذين.. فأيّ دين له، ومن يحبّ؟ قالوا: لا يحبّ إلّا فاطمة وزوجها وأولادها رضي الله عنهم. فازدهر وجهه بعد العبوس، وقال: أمّا إذا كان يحبّ أهلي.. فليبغض من شاء، وأنا كبدي محترقة من بو بكر لعجم وعمر بن بو بكر باذيب، فسألعنهما جبرا لخاطره.
ثمّ نهض من فوره ودخل على صالح جعفر فأوهم أنّه عثر.. فقال: لعنة الله على أبي بكر وعمر.
وللشّيخ أحمد بركات من هذا القبيل ما ليس بالقليل، إلا أنّه لم يكن كالسّيّد زين في خفّة الظّلّ؛ لأنّ عنده شيئا من الكلفة؛ من نوادره:
أنّ شيخنا الشّهير أحمد بن حسن العطّاس مرّ بداره فناداه: أعندك رطوبة نطلع لها؟
قال له: احذف الطّاء واطلع. يعني أنّ عنده روبة.
وبها ذكرت أنّ ابن عمّار قال للدّاني: اجلس يا داني بلا (ألف)، فقال: نعم يا ابن عمار بلا (ميم).
وكان سنة (1318 ه) بدوعن في منزل استأجره، فاتّفق أنّ بنتا لأهل المنزل استعارت ثوبا من أمها لتلبسه في وليمة زواج، ففقد لهم عقد من الفضّة يسمّونه (مريّة)، فاتّهموا بها الشّيخ أحمد، فقال لهم: كم ثمنها؟ فقالوا: ستّة ريال. فدفعها لهم، ولمّا عادت البنت بالثّوب.. ألفوا المريّة معها؛ لأنها كانت بين طيّات الثّوب، فردّوا ريالات الشّيخ أحمد واعتذروا له، ولمّا انتهى الخبر إلى باصرّة.. عاتب الشّيخ أحمد وقال: لو رضيت برفعهم أمرك إليّ.. لما ألزمتك بشيء، فقال: من يدفع التّهمة بعد الرّفع؛ إذ لا بدّ من علوقها على أيّ حال، فاخترت السّتر احتفاظا بالمروءة، لا سيّما والمبلغ زهيد.
ودخل أحد أهل شبام على صديق له بها وهو يتغدّى، فقال له: أما عندك ثمانية وسبعون؟ يعني لحم.
قال: لا، ولكن عندي مئة وخمسون. وأحضر له عكّة السّمن، وكلّ ذلك على الرّويّة من دون تفكير.
وكان لهم ـ كما سبق عن الحبيب أحمد بن عمر ـ في نقد الرّجال الفهم الوقّاد، وعندهم من الإزكان والتّخمين ما لا يحصره التّعداد. من ذلك:
أنّ امرأة لأحدهم كثيرا ما تأكل اللّحم وتعتذر بالهرّة، فلم يكن منه إلّا أن وزن الهرّة عند السّاعة الّتي يتّهمها فيها بأكل اللّحم، وخرج من الدّار، ثمّ عاد وقال لها: أين اللّحم؟ فقالت: أكلته الهرّة. فوزنها ثانيا، فلم يزد فيها شيء، فانكشف الخيم، وانهتك الحريم.
وآل شبام يغضبون من وزن الهرّة إلى اليوم لذلك السّبب، بل يكرهون من غيرهم لفظ الوزن وإن لم يذكر معه الهرّ.
حدّثني المرحوم الوالد أحمد بن عمر بن يحيى قال: كتب إليّ بعض أهل التّيمور يطلب كميّة من البقر فأخذتها، وفي العشيّ كنت أنا والشّيخ الفاضل سالم بن عبد الرّحمن باسويدان بمنزل أمير الإحسان، السّيّد محمّد بن أحمد السّقّاف بسنغافورة، فذكرت شراء البقر، فقالوا: كيف كان شراؤك لها؟
فقلت لهم: بالوزن. فغضب الشّيخ سالم، وظنّ أنّ فيه تنكيتا عليه، وأنا لم أتعمّد شيئا من ذلك، وإنّما أرسلتها بحسب السّجيّة، وبقي على غضبه مدّة ليست باليسيرة.
ولسماسرة شبام اليد الطّولى في سنّ الفاتر، وتعيير العائب، إلّا أنّهم لا يسلمون من التّحريش بين النّاس؛ بينما أحد شعرائهم بالسّوق ـ واسمه عليّ ـ.. إذ ظهر قرنه الّذي يهاجيه ـ وهو بازياد ـ فأشلوه عليه، فتفطّن لها بازياد وقال:
«يا علي خذ لك نصيحه *** من رفيقك بازياد»
«الشّتم بيني وبينك *** والضّحك لاهل البلاد»
فارعوى عليّ، وكان ذلك سبب الصّلح بينهما.
ولشبام ذكر عند الطّيّب بامخرمة ولكنّه قليل؛ إذ لم يزد على قوله: (شبام مدينة عظيمة بحضرموت، بينها وبين تريم سبعة فراسخ، إليها ينسب جمع كثير، وخرج منها جماعة من الفضلاء والعلماء والصّالحين، منهم: الفقهاء بنو شراحيل، والفقيه أبو بكر بامهرة، والفقيه الإمام محمّد بن أبي بكر عبّاد، والفقيه الصّالح برهان الدّين إبراهيم بن محمّد الشّباميّون. ومنهم: الفقيه وجيه الدّين عبد الرّحمن بن مزروع، والفقيه الصّالح محمّد بن عبد الرّحمن باصهي) اه أمّا أحوال شبام السّياسيّة: فقد تقلّبت كسائر بلاد حضرموت؛ إذ كانت أوّلا لحمير، ثمّ تجاذبت فيها الحبال قبيلتا كندة وحضرموت، وقد ذكرنا من ملوكهم ما انتهى إليه العلم في «الأصل»، على ما في تلك الأخبار من الاضطراب والتّناقض.
ونزيد هنا ما جاء في «النّفحة الملوكيّة» (ص 84): (أنّ مدّة ملوك كندة بالحجاز كانت من سنة (450) إلى سنة (530) ميلاديّة، وأوّل من ملك منهم: حجر بن عمرو آكل المرار.
وكانت كندة ـ قبل أن يملّك عليهم ـ فوضى، يأكل قويّهم ضعيفهم، فلمّا تملّك حجر عليهم.. سدّد أمورهم، وانتزع ما كان بأيدي اللّخميّين من أرض بكر بن وائل.
وكان ابتداء ملكه ـ حسبما مرّ ـ من سنة (450) ميلاديّة، ولمّا مات.. تملّك بعده ابنه عمرو بن حجر، الملقّب بالمقصور؛ لأنّه اقتصر على ملك أبيه فلم يتجاوزه.
وأقام ما شاء الله في الملك، إلى أن ق
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
70-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (بحيره)
بحيرههي في شرقيّ القروقر، وهي قسمان:
جانبها القبليّ لآل محمّد بن عمر، من فصيلة آل عامر تغلب عليهم البساطة والسّلامة؛ فهم أسلم آل كثير اليوم جانبا؛ لأنّهم يمشون بسوق الطّبيعة، ولا يزيد عدد رجالهم اليوم عن عشرين.
وجانبها الشّرقيّ: لآل كدّه من آل عامر أيضا، ولا يزيد عدد رجالهم عن عشرة.
وكان فيها جماعة من ذرّيّة السّيّد عيدروس بن سالم بن عمر بن الحامد ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم، ولكن استأثرت بهم الغرب والمنايا، ولم يبق منهم باقية إلّا النّساء.
وكان ينتابها الشّيخ عتيق باجبير، وهو رجل تقيّ نقيّ، صادع بالحقّ، آمر بالمعروف، ناه عن المنكر، كثيرا ما يجابه الجائرين بقول الحقّ، لا يهاب ولا يداهن، وكان مع ذلك مضحاكا مزّاحا، وله دالة عظمى على الأكابر.
وأصله من الحوطة، وله بها مسكن صغير؛ مرّ الحبيب حسن بن صالح البحر تحته مرّة فناداه: يا حسن؛ ألا تحبّ أن تزور الملك ـ يعني نفسه ـ في قصره؟ فقال له: بلى.
ولمّا عزم على الدّخول ـ وكان الباب قصيرا ـ.. قال له: طأطىء رأسك كما هي العادة في الدّخول على الملوك، ففعل، ثمّ قدّم له طاسة من الفخّار تفهق بالماء، وقال له: اشرب؛ فإنّ هذا كأس الملك، وسيّد الوادي يمتثل كلّ ما يقول بصدر مشروح وخاطر مبسوط.
ولعتيق هذا نوادر:
منها: أنّه أراد أن يختبر أهل بلاده بحيره، وكان إمامهم وخطيبهم ومعلم أولادهم، فقال لهم: إنّ لي شغلا يوم الجمعة بشبام، وأنتم بالخيار:
إمّا أن تكفوا أنفسكم بغيري يقوم بالواجب.
وإمّا أن تتركوها.
وإمّا أن نقدّمها يوم الخميس؟ فاختاروا هذه، فجمّع لهم يوم الخميس.
وقال في الدّعاء: لكم الهجّ والرّجّ والحصا المدحرج، فقالوا: آمين!
وقد رأيت في بعض التّواريخ أنّ عمرو بن العاصي أشار على معاوية أن يختبر طواعية أهل الشّام بتقديم الجمعة، فرضوا، وصلّاها بهم يوم الثّلاثاء.
وكان ذلك أيّام خروجهم إلى صفّين، ففي ذلك أسوة ليست بالحسنة.
ومنها: أنّ أحد أعيان السّادة آل أحمد بن زين الحبشيّ طلب إليه أن يذهب معه إلى هينن، فرضي على شرط أن يعقبه على الفرس إذا تعب، وأن لا يأكل إلا ويده معه.
فلم يف السّيّد بالشّرط، فركب فرسه على غفلة منه، وأقبل على الحوطة يصيح بنعيه، فصلّوا عليه، واقتسموا تركته، ولبست ثياب الحداد امرأته!
ولمّا أقبل السّيّد يقضم الإرمّ عليه من الغيظ، عازما على قتله لأخذه الفرس.. وجد أنّ الأمر أدهى وأمرّ، ولكنّ عتيقا لاذ بالمنصب فأدخله بين عياله حتّى سوّيت المسألة.
ومرّة: دعا آل أحمد بن زين من الحوطة إلى سيئون في رمضان للإفطار والعشاء عنده في أيّام الخريف، ولمّا تتامّوا في البيت بعد أن نفخ القرب وأشعل النّار في المطبخ.. أغلق الدّار عليهم، وركب أحد خيلهم إلى الحوطة حيث استجار بالمنصب ـ وكان أحدهم يتظاهر بالشّجاعة ـ فتصور له بصورة منكرة، يوهم أنّه جنّيّ، وتسوّر عليه الجابية وصاح في وجهه، فخرج السّيّد عريانا، فلاقاه مع جماعة أعدّهم له، وقال له: أين الشّجاعة الّتي تدّعيها؟
ومرّة: نادى سيّد الوادي الحبيب حسن بن صالح البحر بصلح ما بين قبائل آل كثير بأسرها، ولمّا فرغ المنادي من ذلك.. قام عتيق ينادي ويقول: حسن بن صالح عقد صلح بين القبائل على المساكين؛ ليتفرّغوا لهم ويفعلوا فيهم ما يشاؤون من التّعدّي والجور، فأمر البحر المنادي أوّلا بأن يقول: ومن تعرّض لمسكين.. فهو خارج عن الصّلح.
وكان النّاس إذ ذاك يوفون الكلام ويبلغون الذّمام، فمرّت الأيّام بسلام.
وله من الجرأة على العلماء والكبراء في الممازح ما لا يحصى.
«فلله منه جانب لا يضيعه *** وللهو منه والبطالة جانب »
وأخباره في المعنى لا يرقى إليها الحصر، ولا تنالها الأعداد.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
71-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (ذي أصبح)
ذي أصبحهي من قدامى بلدان حضرموت، لها ذكر عند الهمدانيّ وغيره. وكان بها كثير من الإباضية كما ينطق بذلك ما سبق في شبام من شعر إمامهم إبراهيم بن قيس.
واقتصر الطّيّب بامخرمة في كتابه «نسبة البلدان» [خ / 124] على قوله: (وذي أصبح قرية بحضرموت لآل باعبّاد) اه
وصدق في قوله: (لآل باعبّاد)؛ فكلّ من أراد أن يبني بها.. لا بدّ وأن يأخذ إجازة منهم؛ لأنّ أراضيها من جملة أوقافهم، ولكنّها قد اندثرت وجهلت مقاديرها، وكثير من بقاعها.
وجامعها الموجود الآن هو من بناء المكرّم عون بن سعيد بن روّاس السّابق ذكره بالحزم.
ومنها كان العلّامة الجليل الشّيخ عبد الله بن سعد بن سمير، وهو الشّيخ (19) من مشايخ سيّدي الأستاذ الأبرّ، توفّي سنة (1262 ه)، وخلفه علما وصلاحا ولده العلّامة سالم بن عبد الله، وكان السّيّد عبد الله بن عمر بن يحيى جعله وزيرا للسّلطان عبد الله بن محسن بن أحمد حينما كان نائبا عن أخيه غالب في أوائل دولتهم، واشترط عليه أن لا يخرج عن رأيه، وأن لا يخلو بأحد إلّا وهو معه، فبقي على ذلك مدّة يطالع السّيّد عبد الله بن عمر فيها بكلّ ما يجري، وينفّذ كلّ ما يشير به عليه، ولكنّ السّلطان عبد الله لم يقدر على ذلك.. فنقضه، وكان السّيّد عبد الله بن عمر يرشحه لقضاء تريم ليكون تحت إشارته في كلّ كبير وصغير، ولكن كان أهل تريم وفي مقدّمتهم الجليل عبد الله بن حسين بلفقيه ـ الشّيخ (12) للأستاذ الأبرّ ـ مخالفا للسّيّد عبد الله بن يحيى على خطّ مستقيم؛ حتّى لو قال أحدهما: (تمرة).. لقال الآخر: (جمرة)، وما نظنّ بهما إلّا الحقّ، غير أنّ الهوى يصوّر الشّيء في عين صاحبه بغير ما هو عليه، وكلّ يؤخذ من كلامه ويترك.
وكان الشّيخ عبد الله أحمد باسودان يفضّل بلفقيه في سعة العلم وغزارة المادّة.
ثمّ إنّ الشّيخ سالم بن عبد الله بن سمير توجّه إلى جاوة ومات ببتاوي في سنة (1270 ه).
وبذي أصبح سكن قطب الجود، وكعبة الوفود، سيّدنا الإمام حسن بن صالح
البحر، لقد كان علم هدى، ومصباح دجى، ومناط آمال، وحمّال أثقال، وغرّة زمان، وحرز أمان، ومعقل إيمان، عقل الدّين عقل وعاية ورعاية، لا عقل تدريس ورواية، أمّا العبادة.. فيبيت صافّا قدميه إذا استثقلت بالمؤمنين الوسادة.
«يبيت يجافي جنبه عن فراشه *** إذا استثقلت بالمخلصين المضاجع »
فلو زلزلت الأرض زلزالها.. لم يشعر بشيء مع استغراقه بالتّهجّد، ولقد جرت له في ذلك أخبار لا نطيل بها، من جنس ما وقع لابن الزّبير؛ إذ صبّوا على رأسه الماء الشّديد الحرارة لمّا اتّهموه بالرّياء وهو ساجد فما أحسّ به.
ولقد كان يصلّي مرّة ومن ورائه الحبيب محمّد بن أحمد الحبشيّ وأخوه صالح وعتيق ـ السّابق ذكره، الّذي كان لا يجازف قيد شعرة في تصوير الرّجال ـ ولمّا فرغوا.. قال عتيق: لقد تمثّلت واحدا نثر أمامنا صرّة من الرّيالات ونحن نصلّي، فقلت في نفسي: أمّا حسن.. فلن يشعر بها أصلا، وأمّا صالح.. فسيطاعن عليها، وأمّا محمد.. فسيجمع بيديه ويقول: سبحان الله، سبحان الله، فبكى محمّد وقال: لقد جعلتني شرّهم؛ إذ تلك سمة المنافقين.
وما تفرّسه عتيق هو عين الحقيقة؛ أمّا الإمام البحر.. فقد زمّت التّقوى أموره، وامتلك الإحسان شعوره، فما هو إلّا ملك في المعنى وإن بقي إنسانا في الصورة.
«فما دهره إلّا جهاد يقوده *** لإحقاق حقّ أو صلاة يقيمها »
كلّما حزبه أمر.. فزع إلى الصّلاة، فيصير عندها الجبل الخشام كرمل الفلاة.
وأمّا الشّجاعة: فقد رادى جبال الجور فأزالها، وكان لهاشم في النّجدة مثالها:
«رسا جبلا في الدّين فهو بنصره *** إذا ما تراخى الصّادقون مكلّف »
«ترى ملكا في بردتيه وتارة *** ترى اللّيث من أعطافه الموت ينطف »
«إذا سار هزّ الأرض بأسا وقلبه *** إذا قام في المحراب بالذّكر يرجف »
«يلوح التّقى في وجهه فكأنّه *** سنا قمر أو بارق يتكشّف »
فكثيرا ما قاد الكتائب للطّعان، ونصب صدره للأقران، فلقد صدّ عادية قوم في غربيّ شبام جاؤوا ليجتاحوا حضرموت، وأوقع بهم شرّ هزيمة، وقد أشكل عليّ أمر أولئك أوّلا، يمكن أن يكون المكارمة الّذين جاؤوا في سنة (1218 ه)، والنّاس يقولون: إنّهم الوهّابيّة، ولكنّ بعض أهل حضرموت يطلقون على المكارمة الباطنيّة لقب: الوهّابيّة؛ لأنّهم لا يفرّقون بينهم ـ على ما بينهم من البون ـ فالصّواب ـ كما يعرف من بعض المسوّدات ـ: أنّهم المكارمة، جاؤوا هاجمين مرّة أخرى غير الأولى فكسرهم، ولكنّ الّذي نقله والدي عن الأستاذ الأبرّ: أنّ بعض آل كثير قاوموا الوهابيّة، وساعدهم بعض السّادة، وحملوا السّلاح، وجرح السّيّد شيخ بن عبد الله الحبشيّ جرحا خطيرا، فشفاه الله بدعاء سيّدنا الحسن البحر، ولم يفصح سيّدي الوالد فيما كتبه بأنّ أمير القوم إذ ذاك هو سيّد الوادي مولانا الحسن البحر، ولكنّني سمعت من لسانه ذات المرّات أنّه هو، وقد مرّت الإشارة إليه في حوره.
وكان سيّدنا الحسن البحر لا يقرّ على كظّة ظالم، ولا على سغب مظلوم، ولقد جمع كلمة الشّنافر بعد جهد جهيد على ردّ الحقوق وإقامة الحدود، وأخذ منهم العهود والرّهائن، حتّى توجّه على رئيس منهم قصاص في قتل، ولمّا صمّم على استيفائه.. احتال بعضهم على امرأة المقتول ـ وكانت أجنبيّة ـ فعفت، فدخل الوهن على تلك الجمعيّة؛ لأنّ أكثرهم بسطاء لا يفهمون، ولو أنّه اطّلع على قول بعضهم بتحتّم القصاص إذا التزم الكاملون من الورثة بنصيب القاصرين، أو الّذين يعفون من الدّية.. لأخذ به؛ لأنّه مع قوّة عزيمته كان من أهل الاجتهاد والتّرجيح.
وكان لا يقوم أحد لغضبه إذا انتهكت حرمة الله أو اعتدي على من لا ناصر له سواه، وكان لا يخاطب عبد الله عوض غرامة فمن دونه من الرّؤساء في المعتبة إلّا باسمه، مجرّدا عن كلّ صفة، يسكت لغرامة على آرائه الوهّابيّة؛ لأنّ بعضها يوافق ما عنده من تجريد التّوحيد، ولكن لا هوادة له عنده متى انبسطت يده في ظلم من لا ناصر له إلّا الله، فهو ركن الإسلام، وموئل الأنام.
«ترى النّاس أفواجا إلى باب داره *** كأنّهم رجلا دبى وجراد »
قلّما تجد جذعا من النّخيل الحافّة بداره إلّا مربوطا بها ـ في أيّامه ـ حصان أو حمار.
ولقد رأى كثرة الوفود مرّة ببابه.. فخرج بمنجله يحتطب، ثمّ جاء أمامهم بحزمة على رأسه، وقال لبعض خاصّته: لقد أعجبتني نفسي فعمدت إلى وقذها، ومازال بها حتّى أماتها كما فعل ابن الخطّاب رضي الله عنه.
وإن كان ليقوم بالمصحف في الجامع، فقال له السّيّد عقيل الجفري ـ وكان آية في الإخلاص والنّصح ـ: نعم هذا لو كان في بيتك، فما أجابه إلّا بقول ابن الفارض [في «ديوانه» 46 من الطّويل]:
«فأبثثتها ما بي ولم يك حاضري *** رقيب لها حاظ بخلوة جلوتي »
فاقتنع؛ إذ كان لا يختلجه أدنى ريب في صدقه.
وبحقّ يقول فيه الإمام المحضار:
«ومن في (ذي صبح) أصبح *** وذبّاح بها يذبح »
«وطبّاخ بها يطبخ *** وبو صالح بها ينضح »
بلا عجب ولا كبر وكان في الجود آية، وفي الشّفقة بالأيامى واليتامى والضّعاف غاية، وإن كان جاهه الضّخم في آخر أيّامه ليدرّ عليه بالأموال الطّائلة من شرق الأرض وغربها، ثمّ لا يبيت عنده دينار ولا درهم، ولقد أراد جماعة من محبّيه أن يشتروا له عقارا.. فغضب عليهم.
وورده مرّة ألف ريال فلم يمس منه شيء.
«جود يحرّك منه كلّ عاطفة *** ورحمة رفرفت منه على الأمم »
ولقد كاد مع وقار ركنه يطير طربا عندما تمثّل له جدّي في مناسبة بقول جوبة بن النّضر [من البسيط]:
«إنّا إذا اجتمعت يوما دراهمنا *** ظلّت إلى طرق المعروف تستبق »
«لا يعرف الدّرهم المضروب صرّتنا *** لكن يمرّ عليها وهو منطلق »
لأنّ ذلك حاله رضوان الله عليه، لا ينزل موضعا إلّا عمّه نورا، وملأه سرورا.
«إن ضنّ غيث أو خبا قمر *** فجبينه ويمينه البدل »
وله من التّحنّن على الفقراء ما من أمثلته: أنّ جدّي المحسن طلب يد بنته بهيّة، فعمل لهم ضيافة حسب العادة، وبينما هو في انتظارهم.. أطلّ من النّافذة، فإذا الدّار محفوف بالنّظّارة من المساكين، فأمر بإدخالهم وتقديم الطّعام لهم، ثمّ لمّا أقبل جدّي بخيوله ومركبه وطبوله.. استأنف لهم الذّبائح والطّبخ. وله من هذا النّوع أمثال كثيرة، يعظّم أهل الدّين، ويكرم الفقراء والمساكين، وإن كان الأغنياء والرّؤساء في مجلسه لأذلّ منهم في مجلس سفيان الثّوريّ، وأخرج أبو نعيم [6 / 365] بسنده إلى عيسى بن يونس قال: (ما رأينا الأغنياء والسّلاطين في مجلس قطّ أحقر منهم في مجلس الأعمش، وهو محتاج إلى درهم)، ولئن صحّ هذا أو لا.. فقد جاء العيان بسيّد الوادي فألوى بالأسانيد.
«مناقب يبديها العيان كما ترى *** وإن نحن حدّثنا بها دفع العقل »
وقد اعترف السّيّد أحمد بن عليّ الجنيد ـ وهو من أقرانه ـ بالعيّ عن وصف ما شاهده من أعماله واجتهاده في سفره.. فكيف بمثلي؟
وهو بذلك جدير؛ إذ الإمام البحر أكبر من قول أبي الطّيّب [في «العكبريّ» 1 / 352 من البسيط]:
«لم أجر غاية فكري منه في صفة *** إلّا وجدت مداها غاية الأبد»
على أنّني لا أريد من عدم النّفاد إلّا ضيق العبارة عن سعة المعاني، وإلّا.. فكلّ شيء في الحياة نافد ما عداه جلّ جلاله.
وكان جدّي المحسن كثيرا ما يقول: إنّنا لا نعني الجوارح إلّا بطريق المجاز عندما نقول: اللهمّ متّعنا بأسماعنا وأبصارنا، وأمّا على الحقيقة.. فلا نقصد إلّا حسن بن صالح، وأحمد بن عمر بن سميط، وعبد الله بن حسين بن طاهر، فهؤلاء الثّلاثة هم أركان الإسلام والشّرف لذلك العهد، فلله درّ البحتريّ في قوله [في «ديوانه» 2 / 77 من الطّويل]:
«فأركانهم أركان (رضوى) (ويذبل) *** وأيديهم بأس اللّيالي وجودها»
وقد كان بينهم من التّصافي والاتّحاد ما يشبه امتزاج الماء بالرّاح، والأجسام بالأرواح، وكلّ واحد منهم أمّة تنكشف به الغمّة.
«لعمرك ما كانوا ثلاثة إخوة *** ولكنّهم كانوا ثلاث قبائل »
والمفاضلة بينهم لا تليق بمثلي، ومن دون ذلك الفلوات الفيح والعقبات الكأداء، غير أنّ ما يتفضّل به علينا التّاريخ من يوم إلى آخر يجعلنا لا نعدل بالحبيب حسن أحدا، لا في شهامته، ولا في شدّته في الله، ولا في قوّة ثقته به وفرط توكّله عليه وتفانيه في مواقع رضاه.
وبهذه المناسبة ذكرت شيئين:
أحدهما: ما رواه غير واحد أنّ الإمام أبا حنيفة سئل عن الأسود وعلقمة وعطاء أيّهم أفضل؟ فقال: والله ما قدري أن أذكرهم إلّا بالدّعاء والاستغفار؛ إجلالا لهم، فكيف أفاضل بينهم؟
هذا ما يقوله أبو حنيفة عن هضم للنّفس فيما نخال، وإذا نحن قلنا نحوه في أمثال هؤلاء.. فإنّما نتحدّث بالواقع، ونخبر عن الحقيقة؛ لأنّ الحكم بالشّيء فرع تصوّره، والأمر كما قال البوصيريّ [من الخفيف]:
«فورى السّائرين وهو أمامي *** سبل وعرة وأرض عراء»
والثّاني: ما ذكره ابن السّبكيّ في «طبقاته» [5 / 353] وياقوت في مادّة (المقدس) من «معجمه» [54 / 172] وغيرهما ـ عن بعض أهل العلم قال: (صحبت أبا المعالي الجوينيّ بخراسان، ثمّ قدمت العراق، فصحبت الشّيخ أبا إسحاق الشّيرازيّ، فكانت طريقته عندي أفضل من طريقة الجوينيّ، ثمّ قدمت الشّام فرأيت الفقيه أبا الفتح نصر بن إبراهيم المقدسيّ، فكانت طريقته أحسن من طريقتهما جميعا).
وقد ميّلت بين الجوينيّ والشّيرازيّ في «العود الهنديّ» قبل اطّلاعي على هذا بزمان طويل بما لا يبعد عنه، وما ظنّي بالرّاوي لو اطّلع على ثلاثتنا.. إلّا تفضيلهم في التّقوى والدّين، وإن كان أولئك أغزر في العلم.
«فما كان بين الهضب فرق وبينهم *** سوى أنّهم زالوا وما زالت الهضب »
وكلّا والله لم يزولوا ولكنّهم انتقلوا فعولوا، وقد جاء فيما يقولوا [من الكامل]:
«وإذا الكريم مضى وولّى عمره *** كفل الثّناء له بعمر ثاني »
وما أحسن قول أبي القاسم ابن ناقياء في رثائه لأبي إسحاق الشيّرازيّ [من الكامل]:
«إن قيل مات فلم يمت من ذكره *** حيّ على مرّ اللّيالي باقي »
والله أعلم بحقائق الأمور والمطّلع على خفيّ ما في الصّدور.
ولمّا توفّي في سنة (1273 ه) بقرية ذي أصبح عن عدّة أولاد.. لم يرث حاله منهم إلّا ولده عبد الله، وكان يسمّيه: قرّة العين، بسبب أنّه وصل له مال دثر فقال لأولاده: خذوا ما شئتم، فكلّ أخذ من الرّيالات ما يقدر على حمله.. إلّا عبد الله فإنّه اقتصر على طلب الدّعاء بالثّبات على الإيمان، فقال له: قرّت بك عيني يا ولدي، فأطلق عليه ذلك اللقب من يومئذ، فكان هو خليفته ووارث سرّه.
«أبقى لنا العبّاس غرّتك ابنه *** مرأى لنا وإلى القيامة مسمعا »
لقد كان ركن إسلام، وطود تقوى، وعمود محراب، وثمال أيامى، وموئل يتامى، ومعاذ مظلوم.. وحامي حمى، وحارس حدود.
«مزايد نفس في تقى الله لم تدع *** له غاية في جدّها واجتهادها »
«فما مالت الدّنيا به حين أشرقت *** له في تناهي حسنها واحتشادها»
«لسجّادة السّجّاد أحسن منظرا *** من التّاج في أحجاره واتّقادها»
لقد كان يستجهر النّاس بوسامته وما على جبينه من آثار القبول وارتسامه، ولا سيّما إذا قام في محفل يذكّرهم بالجلالة، بوجه جميل، عاليه جلالة، وتغشاه من الأنوار هالة.
«من البيض الوجوه بني عليّ *** لو انّك تستضيء بهم أضاؤوا »
«هم حلّوا من الشّرف المعلّى *** ومن كرم العشيرة حيث شاؤوا»
تزيده تلك السّجّادة نورا، فتمتلىء بمرآه القلوب سرورا، وما زال كأبيه علم المهتدين، وأسوة المقتدين، ومنهل الشّاربين، ومأمن الخائفين إلى أن دعاه الحمام، وهو يردّد كلمة الإسلام بقريته ذي أصبح، في سنة (1319 ه) عن غير أولاد ذكور.
وكانت صغرى بناته، وموضع رعايته، وأحبهنّ إليه.. هي زوجتي المعمّة المخولة؛ إذ كانت أمّها هي البرّة التّقيّة رقوان بنت سيّدنا الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر، المتوفّاة على أبلغ ما يكون من الثّبات على الإيمان في الحجّة من سنة (1362 ه).
«تخيّرتها من بنات الكرام *** ومن أشرف النّاس عمّا وخالا »
وهي أمّ أولادي: حسن، ومحمّد، وعيدروس، وأحمد، وعلويّ، وشقائقهم الموجودين اليوم، وقد مات لي منها: بصريّ، واشتدّ حزني عليه، ورثيته بعدّة مراث توجد بمواضعها من «الدّيوان»، وعليّ، ورثيته بمرثاة واحدة، وأكبر وجدي عليه؛ لأنّه جدّد الجروح الّتي لم تكن لتندمل على بصريّ [من الطّويل]:
«فما سرّ قلبي منذ شطّت به النّوى *** نعيم ولا كأس ولا متصرّف »
«وما ذقت طعم الماء إلّا وجدته *** سوى ذلك الماء الّذي كنت أعرف »
«ولم أشهد اللّذّات إلّا تكلّفا *** وأيّ نعيم يقتضيه التّكلّف »
وقد أشرت في بعض مراثيه إلى تكذيب زهير بن جناب في قوله [في «ديوان الحماسة» 2 / 102 من الوافر]:
«إذا ما شئت أن تنسى حبيبا *** فأكثر دونه عدّ اللّيالي »
وممّا صغّر المعرّيّ في نفسي قوله [في «سقط الزّند» 20 من الطّويل]:
«فإنّي رأيت الحزن للحزن ماحيا *** كما خطّ في القرطاس رسم على رسم »
فله اليوم منذ قضى سبع وعشرون عاما، والجرح عاند، والصّبر يعاند، ولا أزال أتمثّل بقول البهاء زهير [من الوافر]:
«فيا من غاب عنّي وهو روحي *** وكيف أطيق من روحي انفكاكا»
«يعزّ عليّ حين أدير عيني *** أفتّش في مكانك لا أراكا»
«ختمت على ودادك في ضميري *** وليس يزال مختوما هناكا»
«فوا أسفي لجسمك كيف يبلى *** ويذهب بعد بهجته سناكا»
ويعجبني قول ابن الرّوميّ في رثائه ليحيى بن عمر بن حسين بن زيد بن عليّ [من الطّويل]:
«مضى ومضى الفرّاط من أهل بيته *** يؤمّ بهم ورد المنيّة منهج »
«فلا هو أنساني أساي عليهم *** بلى هاجه والشّجو للشّجو أهيج »
وقول المرار العدويّ [من البسيط]:
«لم ينسني ذكركم مذ لم ألاقكم *** عيش سلوت به عنكم ولا قدم »
وقد مات لي منها أيضا غير هذين، ومع فرط الحزن.. فلم نتدرّع إلّا بالصّبر، ولم نستشعر إلّا الرّضا، ونحتسبهم عند الله فرطا وذخرا، ونرجو بهم مثل ما رآه مالك بن دينار عن بنته في الدّار الأخرى:
«وهوّن بعض الوجد عنّي أنّني *** أجاوره في داره اليوم أو غدا»
ويعجبني قول شبيب بن شبّة للمهديّ في التّعزية عن بنت: ثواب الله خير لك منها، ورحمة الله خير لها منك، وأحقّ ما صبر عليه.. ما لا سبيل إلى ردّه، وهو مثل قول الآخر [من الكامل]:
«اصبر نكن بك صابرين فإنّما *** صبر الّرعيّة بعد صبر الرّاس »
«خير من العبّاس ربّك بعده *** والله خير منك للعبّاس »
وخير منه ما عزّى الأشعث به ابن أبي طالب، وأشار إليه أبو تمّام بما لا حاجة إلى
الإملال به، وقد أشرت في بعض المراثي إلى أنّ نصيبي من الرّحمة كان أوفر، وأنّ حظّها من الرّضا بقضاء الله كان أكثر، وهي كما قال حسّان [في «ديوانه» 377 من الطّويل]:
«حصان رزان ما تزنّ بريبة *** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل »
راضية بعيشها، قانعة برزقها، مصونة في قصرها، من اللّاء يقول في مثلهنّ الفرزدق [في «ديوانه» 1 / 407 من الكامل]:
«رجح ولسن من اللّواتي بالضّحى *** لذيولهنّ على الطّريق غبار »
وكما يقول قيس بن الأسلت [من الطّويل]:
«ويكرمنها جاراتها فيزرنها *** وتعتلّ عن إتيانهنّ فتعذر»
«وليس بها أن تستهين بجارة *** ولكنّها من ذاك تحيا وتخفر»
وقول عليّة بنت المهديّ [من الطّويل]:
«فما خرّقت خفّا ولم تبل جوربا *** وأمّا سراويلاتها فتمزّق »
أي: لشدّة لزامها؛ من فرط الصّون والعفاف.
قائمة بحقّ ربّها، صالحة في دينها على جانب واسع من المعرفة والأدب، لا يعرض لها حال إلّا تمثّلت ببعض بيت؛ إذ كان عندها مئات الأطراف من الأبيات، ولكنّها بالأكثر لا تستوفي البيت حفظا ولا تقيمه لحنا، غير أنّها متى أنشدت بجملة منه.. ذكّرتني بباقيه فأنشدته إن حضرت.
وكانت إحدى بناتها ـ وعندها شيء من العلم ـ لا تقتدي بها؛ تزعم أنّها لا تحسن الضّاد، بل تبدلها ظاء، ولكنّ أكثر أهل العلم كما ذكره ابن كثير في «تفسيره» [1 / 31] على اغتفاره.
وأنا وإيّاها ـ ولله الحمد ـ في عيش طيّب، وبال رخيّ، وسكون تامّ، ومودّة ورحمة، واسترسال ومؤازرة، لا نختلف في شيء قطّ من أمر الدّنيا، وإليها ـ مع أنّها أمّيّة لا تكتب ولا تحسب ـ أمر البيت كما قضى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بين عليّ وفاطمة، إلّا أنّ من شأنها:
1 ـ بطء الحركة، ومن طبيعتي الاستعجال.
2 ـ وهي مبتلاة بضياع المفاتيح ـ وكلّها في يدها ـ فكثيرا ما أعدم حاجتي عند طلبها.
3 ـ وقد تقصر عن فهم إشارتي ولا تستوضحها؛ اعتمادا على فهمها، أو خشية أن تقطع عليّ فكرا أو كتابة أو مطالعة، من أمثلة ذلك: أنّه وردني ضيف وهو السّيّد عبد القادر بن عمر بن محمّد بن أحمد الحبشيّ بعد ما ترجّل النّهار، فأشرت بذبح جدي لا تزيد قيمته عن أربع روبيّات، فذهب وهمها إلى شاة تزيد عن ثلاثين، وأدخلوا اللّحم على حاله لم تؤثّر فيه النّار.
4 ـ وأنّها لا تلوم أحدا من أولادها.. إلّا كنت معها عليه، ومتى انعكست القضيّة.. كانت معه إلبا عليّ، مع اعتقادي أنّي مصيب في الحالين.
أمّا من هذه المواضع.. فإنّ الشّيطان يجد السّبيل المهيع، فيذكي جمرات الغضب، ويثير معركة النّزاع، ويقف مع النّظّارة، ولا تسل عمّا يجري حينئذ.
وربّما يكون أوّل المعركة العتب الجميل لشيء صغير من أنواع ما تقدّم، فيحصل في الاعتذار لون من التّلبيس، فعند ذلك يشتعل الوطيس، ويبلغ ما يريده الشّيخ إبليس.
ومن سيّئاتها: أنّها لم تغرس لنفسها هيبة في صدور أولادها تعينها على ما يجب على الأمّ من التّأديب والتّثقيف والتّعليم والتّهذيب.. بل تلقي لهم الحبال على الغوارب، فلا تعاتب أحدا على تقصير، ولا تزجره عن إساءة أدب، ولا تكلّف أحدا بعمل ينفعه عند الحاجة، فهي تسيء إليهم من حيث تريد الإحسان.
غير أنّه يكفّ من ثورتي عليها لذلك قول الإمام مالك: (الأدب أدب الله لا أدب الآباء والأمّهات)، وقول الشّعرانيّ: (لقد كنت في عناء من تأديب ولدي عبد الرّحمن، حتّى وكلت أمره إلى الله.. فصلح) أو ما يقرب من هذا.
ومن جرّاء ذلك: استهان الخدم بأوامرها؛ ولطالما أشرت عليها أن تعزم عليهم بقشر الباذنجان الأحمر ـ لأنّي أكره قشره وبذره ـ.. فلم يفعلوا يوما ما، وإنّه ليأتيني في كلّ وجبة بقشره وبذره على ما لا أحبّ، فإما أن تكون مستخفّة بعتبي ـ على شدّته في بعض الأحيان ـ وإمّا أن يكون الطّهاة غير مبالين بأمرها وإرشادها، ومهما يكن من الأمر.. فإنّ إفراطها في المياسرة مع رعيّتها.. قد أتعبنا وإيّاها، وأدى إلى خسائر جسيمة وإلى خلل لا يحتمل، ولا سيّما في تدبير أمر البيت؛ لأنّني أجعل تبعة تقصيرهم عليها؛ بحكم قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسؤولة عن رعيّتها».
ومتى عاتبتها وأجابت بما لم ترعو عنه من الأجوبة الباردة.. أصعبت لها القول، وناشبتها الشّرّ، فزاد النّكد، واشتدّ التّعب، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.
ومن النّوادر: أنّني لمّا ذاكرتها مرة بمسألة الشّاة.. تنصّلت من الذّنب، وأحالته على شؤم ناصية الضّيف، وقالت: إنّه قد جاءك مرّة، وأرسلت في شراء لحم له فأنسي الرّسول، ثمّ استأنفت رسولا فجاء به متأخّرا، واقتضى الوقت إدخاله عليه في مثل حال لحم الشّاة.
وأخرى، وهي: أنّ سروات النّساء يقصدنها للمشاورة في أمورهنّ، فيحمدن عاقبة رأيها لهنّ، ولكنّي لست كذلك؛ ولئن وجد عندي ضعف في مشاورة النّساء عندما تكلّمت على انطلاق خديجة برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى ورقة بن نوفل في كتابي «بلابل التغريد».. فما هو إلّا من هذه البابة، وأسأل الله أن ييسّرني وإيّاها وأولادنا لليسرى، وأن يجنّبنا وإيّاها العسرى، وأن يجمع لنا ولهم بين خيرات الدّنيا والأخرى، وأن يحسن عاقبتنا وعاقبتهم في الأمور كلّها، ويجيرنا وإيّاهم من خزي الدّنيا وعذاب الآخرة، وأن يبارك لي فيها وفي أولادها، ولا يضرّهم، وأن يجنّبنا وإيّاهم الشّيطان، ويرزقنا برّهم، وأن يطيل لنا ولهم الأعمار في خير ولطف وعافية وثبات على الإيمان، بمنّه وجوده.
ومن آل ذي أصبح: العلّامة الجليل، الشّيخ عبد الله بن سعد بن سمير، وهو الشّيخ التّاسع عشر من أشياخ أستاذنا الأبرّ، توفّي سنة (1262 ه).
وكانت وفاة ابنه العلّامة سالم بن عبد الله في بتاوي سنة (1270 ه)، وكان العلويّون جعلوه وزيرا للسّلطان عبد الله بن محسن حينما كان نائبا من أخيه أوائل دولتهم، واشترطوا عليه أن لا يخرج عن رأيه، وأن لا يخلو بأحد إلّا وهو معه، فنقض ذلك، وسار الشّيخ إلى جاوة.
وفي «مجموع الجدّ طه بن عمر» ذكر للشّيخ عبد الوهّاب بن عمر بن عبد الله بن عبد الرّحمن بن أحمد بن سمير، ولكتابه «الرّوضة الأنيقة».
وأكثر سكّان ذي أصبح من الحاكة والأكرة، وكانوا يبلغون أربع مئة نفس، لكنّ الأزمة اجتاحتهم، فلن يبلغوا اليوم الأربعين، فهي خاوية على عروشها بعد تلك العهود، وازدحام الوفود.
«أقوت فلم أذكر بها لمّا خلت *** إلّا منى لمّا تقضّى الموسم »
«ولقد أراها وهي عرس حقبة *** فاليوم أضحت وهي ثكلى أيّم »
نسأل الله أن يعمر الدّيار بأهلها، وأن يديل حزن الأيّام بسهلها.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
72-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (الشعب)
الشّعبهي قرية تحاذي ذي أصبح في جنوبها بسفح الجبل الواقع عن يسار الذّاهب غربا في الطّريق السّلطانيّة، فيه جماعة من آل كثير، يقال لهم: آل جعفر بن طالب، تنتهي إليهم زعامة آل كثير، منهم: عبد الله بن سعيد، ثمّ ولده سالمين بن عبد الله الّذي يضرب به المثل، فيقال: (سالمين في الخرابة) وشرحه: أنّ آل كثير انهزموا في حرب بينهم وبين يافع، وركبت يافع أكتافهم، ولكنّهم لم يقدروا على خرابة كان فيها سالمين بن عبد الله هذا، وكلّما همّوا بالهجوم عليها وقيل لهم: سالمين في الخرابة.. تراجعوا.
وخلفه ولده صالح بن سالمين، ثمّ أخوه عائظ بن سالمين، وكان جمرة حرب، شجاعا، وهّابا نهّابا لا يزال منه آل شبام على وجل؛ إذ كانت غاراته تترى على ضواحيها، وهو كما قال الأعشى [الباهليّ من البسيط]:
«لا يأمن النّاس ممساه ومصبحه *** إن يغز.. يؤذ وإن لم يغز ينتظر»
قال الشّريف الرّضيّ [في «ديوانه» 1 / 369 من الطّويل]:
«فقل للعدا أمنا على كلّ جانب *** من الأرض أو نوما على كلّ مرقد»
«فقد زال من كانت طلائع خوفه *** تعارضكم في كلّ مرعى ومورد»
وبه تأطّدت دولة آل كثير.
وكان ذكر الصّلح بين القعيطيّ وآل كثير أكبر العار والغدر في أيّامه، وهكذا تفعل الدّعايات في تكبير الأمر وتفخيمه، ونظير ذلك: ما انتشرت به الدّعايات اليوم لفلسطين، مع أنّ غيرها من بلاد المسلمين لا يقلّ عنها أهميّة وخطرا، ولم يكن لها ولا معشار صدى فلسطين؛ كحيدر أباد، والمسلمين في الحبشة، وجاوة وليبيا وغيرها.
مع أنّي لا آمن أن يكون في الفلسطينيّين من يوطّىء مناكب قومه لليهود، بل رأيت في العدد الصّادر (13) رجب من هذا العام ـ أعني سنة (1367 ه) من «أخبار اليوم»: أنّ عمدة سمخ ورئيس اللّجنة القوميّة فيها حضر لدى المسؤولين، وقال: أعطونا مالا وذخيرة وبنادق، وإلّا.. فسنضطرّ إلى التّسليم. ولمّا أعطوه.. باع الذّخيرة والبنادق لليهود! !
ومن ذلك العدد أيضا أنّ سمخ ـ وهي قرية عربيّة ـ باعتها اللّجنة القوميّة.. فحرّرتها
الجيوش السّوريّة، على حين لم يبق منها إلّا أطلال، ولهذا فإنّي لا أخلو عن ظنّ سيّء بمن تقدّمت في تاريخه مع المسلمين نقاط سوداء، وأرى أن لا أمل فيمن لا يستمدّ نفوذه أو إمارته إلّا من الأجانب؛ لأنّهم من أعرف الخلق بشراء الضّمائر، فلن ينصّبوا ولن يرشّحوا إلّا من يملأ هواهم، ويتابع رضاهم، ويتفيّأ حيثما مال ريحهم، ويدور حيثما دارت زجاجاتهم، حتّى لقد عزمت أن أبرق إلى عزّام باشا ـ لنوع تعارف بيننا ـ بما هذه صورته: إنّي لأحذّركم أن يكون جيشكم تمام العشرين، ولكن:
«تكنّفني الوشاة فأزعجوني *** فيا لله للواشي المطاع »
ولا سيّما بعد أن فسّرت لهم معناه، وما أشير به إليه.
ومهما يكن من الأمر.. فالمستقبل كشّاف الحقائق، والفشل مأمون، والنّصر بشرطه مضمون، ولكنّه بيد الله يؤتيه من يشاء، وإنّما الواجب على الزّعماء والصّحفيّين وغيرهم أن يشرحوا الوقائع ناصعة، ويلزموا كلّ طائر عنقه، ويذكروا المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، وإلّا ساء الظّنّ بهم أجمعين.
ومن اللّطائف: أنّا كنّا يوما نتذاكر مساعدة فلسطين، فقال لنا بدويّ من آل كثير، واسمه محمّد بن سالمين: ولم هذه المساعدة؟ قلنا له: إنّ اليهود يريدون الاستيلاء على بلاد العرب.
فقال: أو ليس النّصارى مثل اليهود؟ وقد سعى بعضكم ـ أيّها السّادة ـ في بيع حضرموت عليهم، والثّمن مع ذلك منهم لا من النّصارى. فكان جوابا مسكتا.
وكان القعيطيّ حريصا على محالفته بما شاء فلم يفعل وكيف يفعل وللدّعاية ذلك التأثير العظيم يومئذ.
وكان على سنّة العرب في إكرام الضّيفان، ونقل الجفان، وإغلاء الكلام، وتوفية الذمام. وبه كان صدع آل كثير منشعبا، ووهيهم منجبرا، وشتّهم مجتمعا، يسعى بذمّتهم أدناهم، ولا تزال مطيّته مرحولة لرتق فتوقهم، وإصلاح شؤونهم، وهم أتبع له من الظّلّ، وأطوع من الخاتم.
ولمّا كان الهاجريّ أدناهم إلى شبام مع قلّة المال والرّجال.. جعل إليه الخفارة، فكلّ من أخذ منه شفرة أو نحوها.. أمن بها ومرّ على رؤوس العفاريت. قتل في سنة (1308 ه) بعد أن:
«ملأ الزّمان جرائحا ومنائحا *** خبطا ببؤسى في الرّجال وأنعم »
«فغدت عرانين العلا وأكفّها *** من بين أجدع بعده أو أجذم »
وسبب قتله: أنّ أحد آل كدّه أخذ عذق خريف من نخيلهم فقتلوه، فكبر عليهم قتل ولدهم في عذق خريف ولا سيّما بعدما عيّرهم سماسرة شبام، فكمنوا من اللّيل على مقربة من الشّعب، وفي الصّباح أطلقوا عليه البنادق، فخرج عليهم عائظ بأصحابه وأردى منهم اثنين واستلبوهما، ولمّا كادوا يصلون مسيال سر الفارق بين ذي أصبح وبحيره.. كفّ عنهم، وكان الصواب فيما فعل، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم لسلمة بن الأكوع: «ملكت فأسجح».
ولكن أحد أصحابه كان شريرا مع منافسته له، فقال له: تريد القهوة عند غصون؟ وهي امرأة عائظ من آل عامر أصحاب آل كدّه، فحمي، وتقدّم بهم، وقد تستّر آل كدّه بأشجار الأراك وأكوام الرّمل، وجاءتهم نجدة آل محمّد بن عمر، فأصلوهم نارا حامية، فعمد عائظ وأصحابه إلى السّلاح الأبيض.
وما زالوا يتناحرون حتّى حجز بينهم السّيّدان عبد الله بن حسن بن صالح البحر، وعيدروس بن حسين العيدروس، ولكن بعد ما قتل من آل كدّه وآل محمّد بن عمر سبعة، ومن آل جعفر بن طالب ثلاثة عشر قتيلا وثلاثون جريحا.
وكانت الحادثة المذكورة على مقربة من هدّامه، كما مرّ فيها.
وعظم المصاب على آل كثير بمقتل عائظ واصطكّت بعده ركبهم، وتخاذلت أيديهم، بل وعلى يافع؛ لأنّهم شعروا باستغناء القعيطيّ عنهم من بعده.
ولمّا قتل عائظ بن سالمين.. وقع رداؤه على عبيد صالح بن سالمين بن عبد الله بن سعيد، وهو ابن أخيه، وكان مديد القامة، كبير الهامة.
«سبط البنان إذا احتبى في مجلس *** فرع الجماجم والرّجال قيام »
ومعنى سباطة البنان هنا: طولها لا سماحها، وكان قويّ العارضة، يخلط الجدّ بالهزل، فيتّقي الرّؤساء لسانه، ولا يبقى لأحد معه كلام؛ لأنّه لا يتّقي العوراء فيه، ولم يكن له همّ بعد عمّه إلّا تغيير تلك السياسة، ومصالحة القعيطيّ، فغزا شبام بآل كثير، فأنذر بهم ريّس بن محمّد الملقّب عبلّه عن أمره ـ فيما يقال ـ لتتمهّد له الوساطة في ذلك، وكانت النّهاية: انبرام الصّلح.
والأخبار في ذلك والماجريات بين السّيّد حسين بن حامد المحضار وعبيد صالح وبيني وبينهم طويلة، وفي «الأصل» منها الشّيء الكثير.
وهو أقوى من عمّه عائظ في الحجّة، وأهيب في المنظر، وأرجح في الحجا، ولكنّه أقلّ منه في النّجدة والجود، وقد قصر كلامه في آخر وقته، وقلّت هيبته، وضعفت زعامته وعجز عن أخذ ما له من ثأر عند آل عامر، وعند آل بلّيل الّذي يلي هذا، ومن بقايا حظّه أن مات في ستر الله في حدود سنة (1353 ه) قبل أن يصل آل كثير إلى الحدّ النّهائيّ من التّخاذل والسّقوط، وإلّا.. لحلّ به ما حلّ بهم.
ومع انتهائهم إلى القرار من المهانة بحضرموت.. فإنّ لهم جمعية تذكر ببتاوي من أرض جاوة، يرأسها الشّيخ سالمين بن عليّ الكثيريّ وأحرى أن يناط بها الأمل، ويربط بها الرّجاء إذا سلموا من التّحاسد.
أمّا المطامع.. فما أظنّها تصل بهم كما وصلت بالجمعيّتين السّابق ذكرها قبيل القطن.. لما لدى أكثرهم من الثّروة.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
73-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (بليل)
بلّيلهو من وراء ذي أصبح والشّعب إلى الجهة الشّرقيّة، يسكنه آل مرعيّ بن سعيد، ومرجعهم إلى الفخائذ، وهم وآل بدر بن سعيد وآل جعفر بن سعيد ـ أصحاب جعيمه ـ على رجل واحد، وهو سعيد بن عليّ بن عمر، وقيل: إنّ عليّ بن عمر هذا أخ ليمانيّ بن عمر، وعامر بن عمر، وفلهوم بن عمر، وإنّما دخل في الفخائذ من آل عون بالخؤولة.
وكان في آل مرعيّ المذكورين حكّام مبرزون؛ من أواخرهم: عوض بن ريّس بن جعفر بن عبود بن بدر، وكلّ آبائه المذكورين من حكّام حضرموت، حتّى لقد ذكروا أنّ آل عجّاج وآل ثابت من نهد، وهم أراكين الأحكام في حضرموت، وردوا على جعفر بن عبود فقدّموا دعاويهم إليه، وكان في أثناء حوارهم يكثر الالتفات من النّافذة إلى فخّ له بالأرض منصوب لليمام، فعاتبوه، فقال: إنّي لا أسمع الكلام بعيني، ولكن بأذني، وهي إليكم، وفي الأثناء وقعت يمامة في الفخّ، فخرج وذبحها، ونصبه ثانيا، وأصاخ إلى حوارهم حتّى انتهوا من الدّعاوى إلى الأجوبة وإقامة الحجج وعرض الوثائق.
قدّم لهم الغداء وقال لهم: استريحوا. وبعد أن انتبهوا وأدّوا فريضة الظّهر وأبردوا.. استأذنوه في الانصراف، وطلبوا موعدا يعودون فيه للفصائل، وكان كتبها في أثناء استراحتهم، فأعطاهم إيّاها، فتعجّبوا من قوّة حفظه وحدّة فهمه وحسن توفيقه، فاقتنعوا؛ لأنّ العدل مقنع. فلتضمّ هذه إلى ما سبق في الظّاهرة وجعيمه.
ومن متأخّريهم: العلّامة الفاضل الشّيخ عبد الله بن سالمين بن مرعيّ، كان يكتب لي من الهند ويرفع لي منها الأسئلة العلميّة، توفّي رحمة الله عليه بحيدرآباد الدّكن، وترك ولدين فاضلين: سليمان ومحمدا.
ومن آل مرعيّ أيضا: الشّيخ عوض بن جعفر بن مرعيّ، جمع ثروة لا بأس بها، ولكنّه لمّا وصل إلى حضرموت في حدود سنة (1331 ه).. أسرف فيها بالجود حتّى فنيت، فسافر، وتغيّر عقله، وانطبق عليه قول العنبريّ [من الكامل]:
«ما كان يعطي مثلها في مثله *** إلّا كريم الخيم أو مجنون »
وقول حبيب [في «ديوانه» 1 / 316 من الوافر]:
«له خلق نهى القرآن عنه *** وذاك عطاؤه السّرف البدار»
ومن وراء بلّيل شرقا: مكان آل البرقيّ. ثمّ: مكان آل كحيل.
ثمّ: الغييل، لآل عمر بن بدر، وكانوا قبيلة خشنة، ولهم قبولة حارّة، حتّى لقد كانت بينهم وبين آل بابكر حروب أردوا في عشيّة واحدة سبعة من آل بابكر.
ثمّ ما زال بهم الظّلم والاعتداء على ضعفاء السّوقة والقبائل، وعلى أوقاف لهم أهليّة، حتّى قلّ عددهم، وافترق ملؤهم، ولم يبق منهم بحضرموت اليوم إلّا نحو العشرين رجلا، أسنّهم رجل لئيم نيّف على التّسعين، جمع ثروة لا بأس بها، إلّا أنّها بجلّها أو كلّها من الرّبا، ولا يزال مع هذا السّنّ مصرّا على ذلك الصّنيع المقبوح.
ويتعالم النّاس بأنّ النّخيل الّتي تحت يده مشترك بينه وبين أخيه عبد الله، وأنّ هذا هو الّذي اشتراه، والوثائق ناطقة، ولكنّ عبد الله جنّ، ثمّ مات ولم يترك إلّا ولدا صغيرا منعته أمّه المنازعة؛ لخوفها عليه أن يقتله عمّه، فآثرت روحه على ماله؛ لأنّه لو نازع.. لذهب الاثنان.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
74-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (بور وحنظلة ابن صفوان عليه السلام وعرض عبيد الله بن أحمد بن عيسى)
بور وحنظلة ابن صفوان عليه السّلام وعرض عبيد الله بن أحمد بن عيسىأمّا بور: فمن البلدان القديمة، و «ديوان الشّيخ عمر بن عبد الله بامخرمة» يستهلّ في كثير من القصائد بأنّها من ديار عاد، وله فيها أماديح كثيرة، منها قوله:
«يا بور يا جنّة الدّنيا *** يا مصرنا ذي لها شاره »
وقوله ـ قبل أن ينزغ الشّيطان بينه وبين بدر بوطويرق ـ:
«ثلاث الله جمعهم في كمال الكمال *** كفى بها: بدر، والدّمنه، وباهي الجمال »
يريد بالدّمنة: بورا.
وفي طرف بور الشّرقيّ جامع كبير، بناه سيّدنا علويّ بن عبيد الله بن أحمد بن عيسى، وقد ارتفعت عليه الأرض فصاروا لا ينزلون إليه إلّا بدرج، ولكنّهم بنوا عليه مثاله، وبقي القديم مطمورا بالتّراب من سائر جهاته، إلّا من جهة درجه الّذي ينزلون منه إليه، وحفر على قريب منه بئرا طواها بالحجارة، الّتي كتب اسمه على كلّ حجر منها، تسمّى الآن: بير الأعمش، ومن خصائصها: أنّ الاغتسال فيها مجرّب لحمّى الرّبع
وقد عرف ممّا سبق في الغرفة وسيئون أنّ ولاية بور كانت لآل باجمّال، ثمّ انتزعها منهم آل بانجّار الكنديّون، أو المذحجيّون على اختلاف الأقوال فيهم.
ولمّا جاءت سنة (723 ه).. هجم آل كثير على بور واستولوا عليها، وقتلوا جماعة من آل بانجّار، منهم أربعة ولدوا في يوم واحد، واختتنوا في يوم واحد، وختموا القرآن في يوم واحد، وشرعوا يصلّون في يوم واحد.
وكانت بور قاعدة ملك آل كثير برهة من الزّمن، وهذا ممّا يتأكّد به أنّ سيئون كانت خرابا، وإنّما تجدّدت عمارتها شيئا فشيئا، أكثرها في القرن العاشر.
ولمّا ضعف أمر آل كثير ببور، واشتدّت الفوضويّة فيها وفي أعمالها.. سعى آل بور وآل باجري في استقدام الحبيب أحمد بن علويّ العيدروس، وأقاموه منصبا على بور، وكان له رباء فيها؛ إذ كانت أمّه من آل باعبود، ثمّ أخذه أبوه صغيرا للتّعليم إلى تريم، فتعبت أمّه لفراقه.
وكان آل بور محتاجين إلى وال يجتمعون عليه.. فاستقدموه، وأقام على المنصبة بها إلى أن توفّي سنة (1104 ه)، وخلفه ابنه علويّ، ثمّ ابنه عبد الله بن علويّ، المتوفّى ببور سنة (1145 ه)، وكان فاضلا جليل القدر، له اتّصال أكيد بالقطب الحدّاد، وكثيرا ما يذهب إليه هو وخادمه ابن زامل، وهو الشّاعر المطبوع من آل باجري، وله فيه وفي القطب الحدّاد غرر المدائح بالعبارة العامّيّة.
وخلفه ولده علويّ، ثمّ ولده سالم باحجرة، ثمّ ولده علويّ بن سالم، ثمّ سالم بن علويّ (الأخير)، وكان عالما فاضلا، له كلام كثير في التّصوّف، توفّي ببور سنة (1280 ه)، وله أخ اسمه عبد الله، كان شريفا فاضلا متواضعا، لم يل المنصبة، توفّي ببور قبل أخيه سنة (1274 ه).
وتولّى المنصبة بعد الحبيب سالم بن علويّ: ولده عبد القادر، وكان شهما شجاعا ذا وجاهة تامّة، له يد في الإصلاح، وكم سلمت نفوس بحجزه بين المتحاربين؛ لأنّهم متى رأوا علمه يرفّ.. كفّوا، مهما يكن من حردهم وغيظهم.
وكان من أجهر النّاس صوتا، حتّى إنّه لينادي من صليلة فيسمع من بحوطة سلطانة وبينهما نحو من أربعة أميال، فينطبق عليه قول بعضهم في شبيب بن يزيد الخارجيّ [من البسيط]:
«إن صاح يوما حسبت الصّخر منحدرا *** والرّيح عاصفة والموج يلتطم »
وقول الآخر [من المتقارب]:
«جهير الرّواء جهير العطاس *** جهير الكلام جهير النّغم »
وفي غير موضع من كتبي ذكرت ندى صوت العبّاس وعروة السّباع وما يتعلّق بذلك، وقول أبي الطّيّب [من الكامل]:
«ورد إذا ورد البحيرة شاربا *** ورد الفرات زئيره والنّيلا»
توفّي السّيّد عبد القادر بن سالم ببور سنة (1320 ه).
وخلفه ولده خوّاض الغمرات، ووقّاد الجمرات، وحامي الحقائق، وحتف الأقران، الفاضل المتواضع، عيدروس بن عبد القادر، كان رجلا بطلا، طوالا شديد الأسر:
«قد أرضعته وأسد الغيل تحرسه *** بالبدو كلّ درور حافل الرّيّ »
«فجاء إذ جاء مثل الرّمح معتدلا *** وشبّ إذ شبّ كالصّقر القطاميّ »
له في النّجدة والشّهامة أخبار كبيرة، من أدناها: أنّ أولاد السّيّد زين بن علويّ العيدروس كانوا مضطغنين عليه ينافسونه ـ وهم أربعة ـ فمرّ عليهم ذات ليلة، فقالوا له: لم لم تسلّم؟ قال: لم أركم.
فانقضّوا عليه، وما زالوا يساورونه بكلّهم وهو وحده حتّى قتل عمر بن زين، وطرد الباقين، وبه منهم سبع طعنات، وبإثر ذلك تعصّب آل باجري على عيدروس، فامتنع عن الظّهور إلّا بخفير فمنعوا النّاس من خفارته، فلم يمتنع أحد آل سالم بن عمر خفره، فتعرّض لهم أربعة من آل حمود في سوق بور، ففشل الخفير، ولكنّ عيدروسا ثبت، ولمّا ضربه أحدهم بنمشته.. تلقّاها بذراعه. فلم تؤثّر فيه إلّا قليلا، ثمّ أطلق عليه عامله ودقّه فيه.. فخرج سنانه من ظهره، ولم يقدر على انتزاعه إلّا بجهد مع قوّة أيده، ولكنّ المطعون سلم وهرب الثّلاثة إلى أن سوّيت المسألة بالصّلح، وكفّته راجحة، وخدود أعدائه ضارعة، وعذره في قتل عمر بن زين ظاهر؛ إذ بدؤوه بالاعتداء، ولم يمكنه الدّفع إلّا بالقتل، وعند ظهور القرينة بالصّيال.. يكون المعتدى عليه هو المصدّق، ويذهب دم الصّائل هدرا.
وبإثر هذه الحادثة كانت حادثة آل أحمد بن حسين العيدروس ببور، وذلك أنّ الفاضل التّقيّ الكريم السّيّد حسن بن أحمد العيدروس ـ المتوفّى بتريم سنة (1304 ه) ـ كان له أخ يقال له: عبد الله بن أحمد، ولكلّ منهما أولاد، غير أنّ أولاد السّيّد حسن بن أحمد كانوا أكثر، فتنازعوا ذات ليلة، فزعم شيخ بن حسن بن أحمد أنّه مطعون من أحد أولاد عمّه عبد الله، فخفّ مصطفى بن حسن وقتل محمّد بن عبد القادر بن عبد الله بن أحمد، وسمعت من المنصب السّيّد عليّ بن عبد القادر: أنّ مصطفى لم يقدر على محمّد بن عبد القادر حتّى أمسكه له السّيّد علويّ بن حسين، وهو رجل أكول ذو مرّة؛ فإنه لمّا سمع بقتل شيخ بن حسن.. أحبّ أن يتوافوا، فأمسك محمّدا فقتله مصطفى والحال أنّ جرح شيخ لم يكن إلّا خفيفا سرعان ما برىء منه.
فتداخل المنصب السّيّد عبد القادر بن سالم في القضيّة، وجمع لها الأعيان، فسوّيت على عفو معلّق على أن لا يعود القاتل إلى بور مادام أحد من والدي المقتول حيّا.
والّذي يظهر أنّ هذا العفو غير صحيح؛ لأنّ العفو والإبراء أخوان؛ إذ يصحّ العفو عن الدّم بلفظ الإبراء، ويصحّ الإبراء من المال بلفظ العفو، وقد صرّح الفقهاء بأنّ تعليق الإبراء يبطله.
وقد ذهب مصطفى بإثر هذه الحادثة إلى مكّة المشرّفة، واكتسب بها ثروة طائلة، ومات في سنة (1363 ه)، وترك هناك أولادا لهم سمت حسن وتواضع، إلّا أنّه يؤثر عنهم لؤم، بلغ بهم أنّ الأخ الفاضل محمّد بن هادي السّقّاف أبرق إليهم بسفره من عدن إليهم مع أهله برقيّة وصلتهم في وقتها، وكانوا يتردّدون عليه، ويتظاهرون بحسن الظّنّ فيه، فتركوه حائرا في المطار، لا يدري ماذا يفعل.. حتّى فرّج الله عليه بمبارك النّاصية السّيّد عبد الرّحمن بن حسن الجفريّ، وكان جاء في لقاء بعض أصحابه، فقام بأمره، كما أخبرني بجميع هذا السّيّد عيدروس بن سالم السّوم.
وكانت قبائل آل عون أطوع للسّيّد عيدروس من الخاتم، ولم يزل بهم وبقوّة بأسه وهمّته مرهوب الجانب، محترم الفناء، حتى انقاد لبعض آراء السّيّد عمر بن بو بكر العيدروس، وكان على بنته، ففترت العلائق بينه وبينهم؛ لأنّ عمر بن بو بكر حمله ـ بإيعاز من آل الكاف ـ على إيثار جانب دولة آل عبد الله عليهم.
ولمّا توفّي السّيّد عيدروس بن عبد القادر في سنة (1344 ه).. وقع رداؤه على أخيه العلّامة الجليل عليّ بن عبد القادر بن سالم العيدروس، وكان عالما فاضلا، طلب العلم بمكّة المشرّفة على كثير من مراجيحها، وكان متخصّصا في «علم الأصول»، ومشاركا مشاركة قويّة في غيره، وعنه أخذت «علم الجبر والمقابلة»، و «علم الخطأين»، و «علم العروض والقوافي»، أنا والشّيخ محمّد بن محمّد باكثير معا في منزلنا؛ لأنّه كان يتردّد إلى سيئون، ولكنّه لم يبق بذهني شيء من هذه العلوم إلّا النّزر من القوافي، وأمّا البواقي مع أنّني أتقنتها عليه.. فقد تفلّتت عنّي لضعف التّوجّه إليها حتّى كأنّي لم أقرأها بعد.
ولقد أردت أن أستذكر «علم الجبر» مرّة، لوقوع رسالة في يدي منه، فاعتاصت عليّ وضاق صدري واطّرحتها.
وله مؤلّفات؛ منها: شرحه على «ألفيّة» السّيوطيّ في النّحو. ورسالة ردّ بها على القضاة: عيدروس بن سالم السّوم، ومحمّد بن أحمد كريسان، ومحمّد بن مسعود بارجاء، ردّا مفحما، صادق عليه طلبة العلم بأسرهم في نواحي حضرموت وساحلها. وله أشعار جزلة، إلّا أنّه مقلّ منها.
ومن اللّطائف: أنّه هجا عبد الله عليّ حسّان حوالي سنة (1320 ه).. فوقع كلّ ما تفرّسه فيها عنه من الموبقات.
وله عناية بغرس النّخيل، غرس منها الشّيء الكثير فنمت وآتت أكلها، ودرّ عليه من ثمارها خير كثير.
توفّي ببور لإحدى عشرة خلت من ربيع الأوّل سنة (1363 ه)، وكانت وفاته فجأة بالسّكتة القلبيّة.
وخلفه ولده عبد القادر ـ وكان طائشا ـ فتوقّر وفتح بابه لوجهاء الضّيفان، وأعانه على القيام بمنصبهم ضعفه؛ إذ قلّت مهمّات المنصب لضغط الحكومة عليه ومضايقته. ويعجبني منه تلزّمه بالشّريعة، حتّى لقد سألني في عيد الحجّة من السّنة المنصرمة ـ أعني سنة (1366 ه) ـ عن جحش، قال يوم اشتراه وهو صغير: بغيته أضحية؟ فأجبته بأنّ هذا القول كناية ـ كما صرّح به عبد الله بامخرمة ـ إن اقترنت به نيّة.. وجبت التّضحية به، وإلّا.. فلا.
ومرّ في الغرفة، ذكر السّيّد أحمد بن محضار العيدروس، وهو من آل عبد الله بن علويّ العيدروس آل بور المذكورين، وكان قائدا محنّكا عند عظام حيدرآباد الدّكن، ولمّا استفحل أمر الأمّة اليابانيّة ببورما في الحرب الأخيرة، وطفح سيلها، وامتدّ ذيلها.. ضاق صدر الإنكليز، فاستنجد بحكومة حيدرآباد فأمدّته به، فأعطاه قيادة عامّة، ورمى به اليابان في بورما، فكان كما قال الشّريف الرّضيّ [في «ديوانه» 2 / 293 من الكامل]:
«عمري لقد قذفوا الكروب بفارج *** منها وقد رجموا الخطوب بمرجم »
«فكأنّما قرعوا القنا بعتيبة *** ولقوا العدا بربيعة بن مكدّم »
«رقّاء أضغان يسلّ شباتها *** حتّى يغيّر سمّ ذاك الأرقم »
ففلّ نابها، وقطع أسبابها، وأظهر شجاعة خارقة، وتدبيرا حازما، وكلّل الله أعماله بالنّجاح، حتّى لقد سمعت أنّ ملك الإنكليز رسم بعشرين نيشانا لتلك الجيوش، فحاز هو وعسكره منها سبعة عشر، ولم يقع لبقيّة الأجناس إلّا ثلاثة أوسمة منها فقط. والله أعلم.
وله إلى جانب ذلك البأس أخلاق فاضلة، وغيرة على العروبة، ودفاع عنها؛ فإن انضمّ إلى ذلك انتهاء عن المحظورات وقيام بفرائض العبادة.. فقد تمّ تمامه، لكن قال لي مرتضى ابن أبي بكر شهاب أنّه هو الّذي باع حيدرآباد الدّكن على البوذيّين بستّ مئة ألف ربّيّة، ثمّ لم يدفعوها له، ومن المتواتر بين النّاس في الهند أنّ أخته متزوّجة بناصر بن عوض بلّيل.
وكان في بور جماعة من السّادة آل الحبشيّ؛ منهم: السّيّد أحمد بن هاشم بن أحمد بن محمّد الحبشيّ، كان مقيما ببور، ترجمه في «شرح العينية» (ص 325) وذكر في ترجمته أنّه: (أخذ عن الشّيخ عبد الرّحمن بن عبد الله بامدرك، المقيم ببور، كان فقيها يتولّى فيها الأحكام الشّرعيّة، وأظنّه قرأ عليه «المنهاج» بكماله) اه
وكان بين السّيّد أحمد بن هاشم والقطب الحدّاد ودّ وإخاء، ثمّ تواحشا لاختلاف جرى بينهما حول الهجرين، ومع ذلك فلم يمنعه الانحراف عن الاعتراف بفضل الحدّاد وإرشاده أهل بور إلى الأخذ عنه والاقتباس من علومه.
ولمّا مات.. رثاه القطب الحدّاد بقصيدته الّتي استهلّها بقوله [في «ديوانه» 550 من الطّويل]:
«شرى البرق من نجد فهيّج لي شجوي *** فهل من سبيل ما إلى العالم العلوي »
وفيه أيضا جماعة من آل خيله، ولكنّهم انقرضوا، وجماعة من آل باعبود؛ منهم:
السّيّد الفقيه عليّ بن محمّد بن عبد الرّحمن باعبود، المتوفّى بعرض آل خيله من أعمال بور، في سنة (1291 ه). والعلّامة السّيّد محمّد بن زين بن محمّد بن عبد الرّحمن باعبود.
ولم يبق منهم الآن إلّا القليل؛ منهم: الولد البحّاثة الفاضل الأديب عليّ بن محمّد بن زين باعبود، نزيل مصر الآن.
وفيها جماعات من أهل الفضل والعلم والمروءة كآل باشراحيل وغيرهم؛ ومن أواخرهم: العلّامة المتفنّن الجليل: عبد الله بن عمر باشراحيل.
ومن أولي مروءة متأخّريهم: الشّيخ عمر باشراحيل، وولده عبد القادر.
ومن متأخّري فضلائها: العلّامة الصّوفيّ المنقطع النّظير، شيخنا الشّيخ: حسن بن عوض بن زين مخدّم، كان جبلا من جبال التّقوى والعلم والعبادة، له مؤلّفات كثيرة من لسان القلم، على منهج الصّوفيّة؛ منها: شرحه على «الرّشفات» في خمسة مجلّدات. ومنها: شرحه على «الحكم»، وغيرها.
له أخذ كثير عن الحبيب أبو بكر بن عبد الله العطّاس، ثمّ عن شيخنا وسيّدنا الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر، وغيرهم.
وكان والدي ـ رحمه الله ـ يؤثره ويقدّمه، ويأمرنا بتقبيل يده. وكان كثير من العلويّين يتهضّمون فضله ويحسدونه.
«وفي تعب من يجحد الشّمس ضوءها *** ويجهد أن يأتي لها بضريب »
وقد أخذت عنه كثيرا، وجرت بيني وبينه أمور طيّبة؛ ولي فيه مدائح يوجد بعضها في «الدّيوان».
وكان يقرأ ربع القرآن في صلاة العشاء كلّ ليلة من رمضان، ولا يؤمّ إلّا محصورين رضوا بالتّطويل نطقا، منهم: المنصب السّيّد عيدروس بن عبد القادر السّابق ذكره، وكان القرآن على لسانه مثل الفاتحة، وله شعر لا ينتهي إلى إجادة.
ولمّا دنا أجله.. قال لمن حضره: (هلمّوا بنا نصلّي على النّفس المؤمنة) ثمّ صلّى بهم صلاة الجنازة، وبمجرّد ما فرغ منها.. فاضت روحه، وكان آخر كلامه في الدّنيا: (لا إله إلّا الله). وهذه الصّلاة وإن لم يجوّزها الفقه.. فإنّها تدلّ على شأن كريم، وثبات عظيم وما الاجتهاد من الشيخ ببعيد؛ فلا إنكار عليه.
وكانت وفاته سنة (1328 ه) وخطب النّاس قبيل الصّلاة عليه الشّهم الجليل السّيّد عمر بن عيدروس بن علويّ، ووعظهم موعظة بليغة وكان أحد محبّيه والآخذين عنه.
وعن أبي شكيل: أنّ آل باخطيب وآل باغانم ببور، وكلاهما من الصّدف.
وكان بها جماعة من آل باغشير.
منهم: الفقيه اللّغويّ المقرىء: محمّد بن أحمد باغشير، صاحب المدائح في القطب العيدروس.
ومنهم: شيخ العيدروس العلّامة الشّيخ: عبد الله باغشير، عمّ الأوّل، لهما ذكر في «فتح الرّحيم الرّحمن» و «المشرع» [2 / 243] وغيرهما.
وبعضهم يلتبس عليه هؤلاء بآل باقشير أصحاب العجز الآتي ذكرهم فيه.
وفي غربيّ بور: ديار آل أحمد بن عليّ آل باجريّ، لا يزيدون اليوم مع مواليهم وأكرتهم عن مئة وثلاثين رجلا، وكان سيّدي الحسن بن صالح البحر طلب منهم صلحا لآل قصير فامتنعوا، وكان لأحدهم لسان وعارضة، فافتخر أمام سيّدنا البحر، فدعا عليه.. فسقط عليه الدّار من يومه، ثمّ طلب الصّلح من مقبل بن رسّام أحد آل أحمد بن عليّ، فأجابه، فسرّ منه وهواة الكرامات يذكرون حول هذا كلاما كثيرا هم فيه مختلفون.
وفي شمال مكان آل أحمد بن عليّ مكان يقال له: الحاوي، عذب الماء جدّا، ابتنى به المنصب السّابق المرحوم عليّ بن عبد القادر بن سالم العيدروس قصرا فخما، وسكنه آخر أيّامه، ثمّ بنى على مقربة منه مسجدا، وبالحاوي يسكن خلفه المنصب الحالي الآن.
وفي غربيّه بحضيض الجبل الغربيّ قبر يقال: إنّه قبر نبيّ الله حنظلة بن صفوان عليه السّلام، وقد دلّلت على تصديق كونه بحضرموت في «الأصل» بجملة من الأدّلة:
ـ منها: أنّ الله تعالى قرن قومه ـ وهم أصحاب الرّسّ ـ بعاد وثمود في سياقة واحدة، حيث يقول في آية الفرقان: (وَعادًا وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ) وقد قال بدلالة الاقتران جماعة من أهل العلم؛ كالمزنيّ وابن أبي هريرة من الشّافعيّة، وأبي يوسف من الحنفيّة، وغيرهم.
ـ ومنها: قول صاحب «خريدة العجائب»: (إنّ حضرموت شرقيّ اليمن، وإنّ بها بلاد أصحاب الرّسّ).
ـ ومنها: قول البكريّ في «معجمه» [2 / 652]: (والرّسّ المذكور في التّنزيل بناحية صيهد من أرض اليمن، وانظره في رسم صيهد) اه
ولكنّ المجلّد الّذي فيه (صيهد) منه لم يكن عندي.
وقد قرّرنا في «الأصل» أنّ وبارا منها والرّمال الّتي في جنوبها ممتدّة منها إليها مع انعطاف، فيما يقرب من العبر، إلّا أنّ الجبل الطّويل ـ الّذي يمتدّ من هناك إلى نحو سيحوت ـ يفصلها عن بلاد حضرموت.
وقال الهمدانيّ في الجزء الأوّل من «الإكليل» [1 / 193 ـ 194]: (وولد الحارث بن قحطان بن هود بطنا يقال لهم: الأقيون، دخلوا في حمير، وهم رهط حنظلة بن صفوان، ووجد في قبره لوح مكتوب فيه: أنا حنظلة بن صفوان، أنا رسول الله، بعثني إلى حمير وهمدان والعريب من أهل اليمن، فكذّبوني وقتلوني، فمن يرى هذا الخبر.. يرى أنّه بعث إلى سبأ بمأرب، فلمّا كذّبوه.. أرسل الله عليهم سيل العرم) اه
ولا يخلو عنه الوهم في المكان والزّمان.
ثمّ قال: قال ابن هشام: هو حنظلة بن صفوان من الأقيون بني الرّسّ. والرّسّ مدينة بناحية صيهد، وهي بلدة مخترقة ما بين بيحان ومأرب والجوف فنجران فالعقيق فالدّهناء فراجعا إلى حضرموت.. إلى أن قال:
حنظلة بن صفوان بن الأقيون. كذا رواه النّسّاب؛ مثل: الأملوك، والأصنوع، والأخصوص. وكان هذا الاسم جمّاع قبيلة، ولمّا كذّبوه.. أهلكهم الله. كما قال:
(وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذلِكَ كَثِيرًا) وقال رجل من قحطان يرثيهم [من الهزج]
«بكت عيني لأهل الرّ *** سّ رعويل وقدمان »
ومنها: قول المحدّث الشّهير محمّد بن أحمد عقيلة في كتابه «نسخة الجود في الإخبار عن الوجود»: (أمّا من آمن بصالح عليه السّلام.. فسار إلى اليمن، وأقامت طائفة منهم بعدن، وهم أهل البئر المعطّلة، وطائفة بحضرموت، وهم أهل القصر المشيد) إلى أن قال: (وقريبا من هذا الزّمان أصحاب الرّسّ، ومسكنهم أيضا حضرموت).
ومنها: قول الميدانيّ: (إنّه يقال لجبل أهل الرّسّ: دمخ).
وفي حضرموت جبلان:
جبل في جنوب الغرف، يقال له: (دمح) بالحاء المهملة.
وجبل بالسّاحل، يقال له: (دمخ) بالخاء المعجمة، له دخلة في البحر، وهو الحدّ الفاصل بين القعيطيّ والمهريّ حسبما فصّلناه في موضعه، وبما أنّ كلا الموضعين من بلاد حضرموت.. ففيها شواهد عدل على صدق ما اشتهر به وجود قبر حنظلة بن صفوان عليه السّلام بحضرموت.
وفي الجزء الثّامن من «إكليل الهمدانيّ» [ص 138] وما بعدها حديث طويل عن قبر حنظلة بن صفوان، وليس فيه التّصريح بأنّه في حضرموت، ولكنّه قد يفهم منه.
وقال المفسّرون ـ والعبارة للبغوي ـ: (روى أبو روق عن الضّحّاك أن هذه البير ـ يعني المعطّلة ـ كانت بحضرموت في بلدة يقال لها: حاضوراء، وذلك أنّ أربعة آلاف نفر ممّن آمن بصالح نجوا من العذاب.. أتوا حضرموت ومعهم صالح، فلمّا حضروا.. مات صالح، فسمّي: حضرموت؛ لأنّ صالحا لمّا حضره مات، فبنوا حاضوراء وقعدوا على هذه البير وأمّروا عليهم رجلا، فأقاموا دهرا وتناسلوا حتّى كثروا، ثمّ إنّهم عبدوا الأصنام وكفروا.. فأرسل الله عليهم نبيّا يقال له: حنظلة بن صفوان، وكان حمّالا فيهم، فقتلوه في السّوق، فأهلكهم الله وعطّلت بيرهم، وخرّبت قصورهم) اه
وفي شمال قبر حنظلة قرية يقال لها: الرّييده. وفي غربيّها: وادي مدر.
وفي جنوب بلاد بور أرض واسعة لا يعرف ملّاكها، وفيها آثار عمارات إسلاميّة، غرسوها نخلا فزكا ونما، وهو عثريّ يشرب بعروقه، لا يحتاج إلى سقي من الآبار، إلّا في الابتداء.
وبما أنّها من الأموال الضّائعة مرجعها لبيت المال.. طالبهم المنصب السّابق السّيّد عيدروس بن عبد القادر، ثمّ المرحوم السّيّد عليّ بن عبد القادر بحصّة الأرض من النّخل، وهو في عادتهم الخمس، فلم يدفع لهما إلّا الضّعفاء، أمّا الأقوياء من السّادة ومن آل باجريّ.. فتارة يعترفون ويدفعون الشّيء اليسير من الثّمرة، وأخرى يتمرّدون ويجاهرون بالمنع، مع أنّهم قد أمضوا للسّيّد عليّ بن عبد القادر بالاعتراف في عدّة وثائق، ولمّا لم يجد المنصب الحاليّ علاجا غير الكيّ وخاف من تشوف الحكومة إليه: الاستيلاء عليه، ودفعه جملة عنه.. اتّفق هو وإيّاها على أن يكون عليه إظهار الوثائق وإقامة الحجّة الشّرعيّة، وعلى الحكومة أن تساعده بالقوّة على استخراج حصّة الذّبر من النّخل وهو الخمس ـ كما مرّ آنفا ـ ثمّ يقسّم على ثمانية أجزاء:
ثلاثة يكون أمرها للمنصب، يصرفها في مصارفها الشّرعيّة.
وخمسة للحكومة الكثيريّة تصرّفها كذلك. وعلى هذا وقّعوا، وما ندري ماذا تكون الخاتمة؟
وفي شرقيّ بور: عرض عبد الله: فيه مسجد، وحوله ضريح لعبيد الله بن أحمد، عليه قبّة، مع أنّ الأثبت أنّه إنّما دفن بسمل كما سيأتي فيها.
وسكّان العرض طائفة من آل باجري، يقال لهم: آل بدر بن محمّد، وآل حسن بن عليّ، وآل بدر بن عليّ، لا يزيدون مع مواليهم وخدمهم وعمّالهم عن مئتي رجل، وكانت لهم قبولة خشنة، حتّى إنّ أحد العوامر أخفر ذمّتهم، فتسوّروا داره وقتلوه إلى جانب امرأته.
وفي سنة (1337 ه) حدث شجار بين رجلين منهم ـ يقال لأحدهما: عبد الله بن صلاح، وللآخر: كرامة بن فرج ـ على قطعة أرض، فلم يكن من كرامة إلّا أن قتل عبد الله بن صلاح، وأخذ داره وأخرج عائلته منه، فوصل إليه ستّة من أقربائه، وبينا هم يراجعونه.. أقبل آل باجريّ، فلمّا رآهم أقبلوا.. أطلق عليهم الرّصاص، فلم يكن من أحد السّتّة إلّا أن قتله؛ لأنّه رأى إطلاقه الرّصاص على القوم وهو إلى جانبه مخلّا بذمامه، فانبرى له آخر من السّتّة فقتل قاتل كرامة، وهكذا تناحر السّتّة وسقطوا يتشحّطون في دمائهم.
وكان آل باجريّ من أبعد قبائل حضرموت عن السّلب والنّهب وقطع الطّريق حتّى في أيّام الفوضويّة. ومن أواخر رؤسائهم: الشّيخ سعيد بن قطاميّ، كان شجاعا، قويّ العارضة، لا ينكص في مأزق القتال، ولا يتلجلج إذا تشادقت الرّجال، إلّا أنّه الآن ضعف، وذهب بصره وسمعه، وخفّ شعوره، حتّى لا يحسّ بانكشاف عورته، فدخل تحت قوله تعالى: (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) على أنّه لم يكن بالطّاعن في السّنّ كثيرا، وغاية ما يكون أنّه ذرّف على الثّمانين، وفيهم من ناهز المئة متمتّعا بالحواسّ؛ كسعيد بن حبشيّ باجريّ.
وفي سنة (1360 ه) أحدث بعض عبيد الدّولة الكثيريّة حدثا بتريم، وهربوا، ولم يقدر أحد يجيرهم؛ خوفا من الإنكليز.. فضاقت بهم الأرض، فنزلوا على آل باجريّ فأضافوهم، وعزموا على تبليغهم المأمن على عادة العرب المطّردة في ذلك، فلم يشعروا إلّا وقد باغتتهم ثلّة من عساكر الدّولة الإنكليزيّة الموكّلين بحماية الطّرق وحفظ الأمان، وقالوا لآل باجريّ: إمّا أن تسلموا العبيد، وإلّا.. وقع عليكم الحرب.
فقال لهم سعيد بن قطاميّ ـ بعد أن اجتمع حوله آل باجريّ كلّهم، آل أحمد بن عليّ وآل حمود وغيرهم ـ: والله، لو تناطحت الجبال.. لن ندفع لكم جيراننا بسبيل ما بقي فينا نافخ ضرم. فتبادلوا إطلاق الرّصاص، وأصيب أحد العسكر وأحد آل باجريّ بإصابات خفيفة، ثمّ أحاط آل باجريّ بالعسكر في كوت لأحدهم ـ وهو بدر بن صلاح بن يمانيّ، كان العسكر أرضوه فدفعه لهم ـ وبإثر تطويق آل باجريّ للكوت.. سفر السّفراء بينهم، وسوّيت المسألة بالّتي هي أحسن، وأبلغوا العبيد المأمن، وطلب منهم بعض الزّعماء أن يخضعوا للضّابط الإنكليزيّ.. فأبوا.
ولكنّ هذا كان قبل جلاء ابن عبدات عن الغرفة، أمّا بعده.. فقد هانت الشّنافر حتّى صاروا أذلّ من الأيدي في الأرحام، وصدق عليهم ما قدّمته في القصيدة الّتي وصفت بها زوال ابن عبدات.
وفي شوّال من سنة (1366 ه).. ادّعى السّيّد عبد القادر بن شيخ العيدروس على أحد آل باجريّ بدعوى في بئر، وتوجّه له القضاء، فامتنع باجريّ عن قبول الحكم بتشجيع من رجل منهم يقال له: عبد بن عليّ، فرصدته الحكومة الكثيريّة حتّى قيل لها: إنّه بتاربه، فأرسلت له عسكرا، فأخذوه منها إلى سيئون، ولكنّ أصحابه علموا، فتحزّبوا ولاقوهم أثناء الطّريق، وأطلقوا عليهم الرّصاص، فتراجعوا، وأفلت عبد بن عليّ وعاد العسكر بالفشل، فغضبت الحكومة الإنكليزيّة، وأرسلت بثلّة من جيش البادية المحافظ على أمن الطّريق بعتادهم ومعدّاتهم، فلانت أعصاب آل باجريّ، وانشقّت عصاهم، وما كلّ مرّة تسلم الجرّة، فتوسّط الشّيخ محمّد سالمين بن جعفر بن بدر العوينيّ، فسوّيت المسألة على: تسليم البنادق الّتي صوّبت رصاصها على العسكر، وغرامة ألف روبيّة، وحبس عبد بن عليّ ثلاث سنين بالمكلّا تحت الأعمال الشّاقّة.
وفي بور كثير من القرى لم نذكرها؛ منها:
عرض مولى خيلة: في شمال بور، يسكنه آل سالم بن عمر من آل باجريّ، لا يزيد عددهم مع حرّاثهم على عشرين رجلا.
ويير المدينيّ: لآل عبود من آل باجريّ، لا يزيد عددهم مع حرّاثهم عن خمسين رجلا.
ومنها: القفل: لآل رطّاس من آل باجري، لا يزيد عددهم عن عشرة رجال.
ومنها: مكان آل معتاشي، فيه نحو ثلاثين رجلا.
ومنها: مقيبل، فيها نحو مئة رجل.
وفي ضواحي بور: قارّة جشير ـ ويقال: جشيب ـ وقد سكنها المهاجر أحمد بن عيسى فلم تطب له، فانتقل عنها إلى الحسيّسة. ويأتي في قارّة الصّناهجة ما له بها تعلّق.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
75-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (حصن آل فلوقة)
حصن آل فلّوقةهو قرية واقعة في سفح الجبل المسمّى باعشميل، في جنوب تريم بإزاء الرّملة، إلى شرقيّها، فيصلح عدّها هنا في القرى الّتي بجنوب تريم، ويصلح عدّها في القرى الّتي في شرقيّها، ولكنّي آثرت الأوّل لأتمكّن من كلمات تليق بفضيلة شيخنا العلّامة أبي بكر بن شهاب بمناسبة وجوده فيها مع نشاط الخاطر؛ إذ لا يمكنني أن أبلغ فيه شيئا ممّا أريد في أخبار تريم المقصود مراجيحها بالحظّ الأوفى من قول العلّامة الجليل عبد الرّحمن بن عبد الله بن أسعد اليافعيّ [من الطّويل]:
«مررت بوادي حضرموت مسلّما *** فألفيته بالبشر مبتسما رحبا»
«وألفيت فيه من جهابذة العلا *** أكابر لا يلفون شرقا ولا غربا»
وقد سمعت كثيرا من الشّيوخ وأهل العلم يقولون: (إنّ هذا كان جواب الشّيخ لمّا سأله أبوه عن أهل حضرموت)، وهو وهم ظاهر؛ لأنّ وفاة الشّيخ عبد الله بن أسعد كانت في سنة (768 ه)، ووفادة ولده إلى حضرموت إنّما كانت في سنة (794 ه) كما ذكره شنبل.
وسيأتي عن بامخرمة في تريم أنّ صاحب القصّة إنّما هو عليّ بن عبد الرّحمن بن عبد الله بن أسعد، ولكنّ كلام شنبل أثبت؛ لأنّه أعرف بحضرموت وأخبارها.
ولد شيخنا ـ الّذي لا حاجة إلى ذكر اطّراد نسبه؛ لغناه عنه بشهرته، كما قال المتنبّي [في «العكبريّ» 1 / 176 من البسيط]:
«يا أيّها الملك الغاني بتسمية *** في الشّرق والغرب عن وصف وتلقيب »
في تلك القرية سنة (1262 ه)، ودرج بين أحضان العناية، وشبّ محفوفا بالرّعاية، وكان في صفاء الذّهن وحدّة الفهم آية، نعس مرّة بين أصحاب له ـ منهم السّيّد الشّهير عليّ بن محمّد الحبشيّ ـ يقرؤون في الفرائض فعاتبه أحدهم، فسرد لهم ما كانوا فيه! ثمّ صبّحهم من اليوم الثّاني بمنظومته الموسومة ب: «ذريعة النّاهض» وقد أخذ قوله في آخرها [من الرّجز]:
«وعذر من لم يبلغ العشرينا *** يقبل عند النّاس أجمعينا»
من قول صاحب «السّلّم» [في البيت 138 من الرّجز]:
«ولبني إحدى وعشرين سنه *** معذرة مقبولة مستحسنه »
وجرى الاختلاف بمحضر شيخنا المشهور فيما لو اختلف الماء وزنا ومساحة بماذا يكون الاعتبار في القلّتين؟ فنظم على البديهة سؤالا سيّره لمفتي زبيد السّيّد داود حجر فعاد الجواب على غرار ذلك النّظم مصرّحا باعتبار المساحة.
وقد ذكر شيخنا المسألة في «البغية»، ولكنّه لم يشر إلى ما كان واقعا من القصّة، وامتحنت شاعريّته في حضرة الشّريف عبد الله بمكّة المشرّفة، فخرج كما يخرج الذّهب التبر من كير الصّائغ؛ إذ أنشأ في المجلس من لسان القلم أكثر ممّا اقترحوه عليه.
وفي «ديوانه» عدّة قصائد بهيئة الأرتقيّات في مديح خديوي مصر الجليل توفيق باشا، وزعم جامعو «ديوانه» أنّه لم يقدّمها إليه، وأنا لا أصدّق ذلك؛ لخروجه عن الطّبيعة الغالبة؛ إذ قلّما ينجز الشّاعر قصيدته إلّا كانت في صدره ولولة لا تهدأ إلّا بإظهارها، فالظّاهر أنّه قدّمها ولكنّها لم تحظ بالقبول، وقد قيل لأرسطو: إنّ أهل أنطاكيّة لم يقبلوا كلامك.. قال: لا يهمّني قبولهم، وإنّما يهمّني أن يكون صوابا.
وللعلّامة ابن شهاب أسوة بسابقيه من الفحول، فقد اقشعرّ بطن مصر بأراكين القريض؛ كحبيب وأبي عبادة، ولم ينج المتنبّي إلّا بجريعة الذّقن حسبما قرّرته في «النّجم المضي».
وأخبار العلّامة ابن شهاب أكثر من أن يتّسع لها المجال، وهو الّذي مهّد له الصّواب، وأطلق الخطاب، وألين القول، وأطيل الجول.
«كأنّ كلام النّاس جمّع حوله *** فأطلق في إحسانه يتخيّر »
لقد أخذ قصب السّبق، ولم تنجب حضرموت مثله من الخلق.
أمّا في الفقه.. فكثير من يفوقه من السّابقين، بل لا يصل فيه إلى درجة سادتي: علويّ بن عبد الرّحمن السّقّاف وعبد الرّحمن بن محمّد المشهور، وشيخان بن محمّد الحبشيّ، ومحمّد بن عثمان بن عبد الله بن يحيى من اللّاحقين.
وأمّا في التّفسير والحديث.. فلا أدري.
وأمّا في الأصلين، وعلم المعقول، وعلوم الأدب والعربيّة، وقرض الشّعر ونقده.. فهو نقطة بيكارها، وله فيها الرّتبة الّتي لا سبيل إلى إنكارها.
وقد رأينا أشعار إمام الإباضيّة، والشّيخ سالم بافضل، وابن عقبة، وعبد المعطي، وعبد الصّمد، ومطالع القطب الحدّاد الرّائعة، ومنقّحات العلّامة ابن مصطفى الشّاعرة، فضلا عمّن دونهم.. فلم نر أحدا يفري فريه، ولا يمتح بغربه، ولا يسعى بقدمه، والآثار شاهدة والمؤلّفات والأشعار ناطقة.
«مجد تلوح حجوله وفضيلة *** لك سافر والحقّ لا يتلثّم »
أما إنّ كلامه ليسوق القلوب النّافرة أحسن مساق، ويستصرف الأبصار الجامحة كما تستصرف الألحاظ العشّاق.
«ينسى لها الرّاكب العجلان حاجته *** ويصبح الحاسد الغضبان يرويها »
ولطالما وردت القصيدة بعد القصيدة من أشعاره إلى حضرة سيّدي الوالد في حفلة فلا تسل عمّا يقع من الاستحسان والثّناء من كلّ لسان، والإجماع على فضل ذلك الإنسان، غير أنّ والدي كثيرا ما يخشى عليّ الافتتان بتلك الرّوائع فيغيّر مجرى الحديث، ولكنّه لا يقدر أن ينقذ الموقف متى حضر سيّدي الوالد علويّ بن عبد الرّحمن، لأنّه من المولعين بابن شهاب وبأدبه، فلا يزال يكرّر إنشادها، ويطنب فيمن شادها، وكلّما أراد أبي أن ينقذ الموقف.. قال له: دعنا يا عبيد الله نتمتّع بهذا الكلام، لن يفوتك ما أنت فيه.
ونحن نجد من اللّذة بذلك الشّعر العذب، واللّؤلؤ الرّطب، ما يكاد ينطبق عليه قول المتنبّي [في «العكبريّ» 4 / 86 من الطّويل]:
«ألذّ من الصّهباء بالماء ذكره *** وأحسن من يسر تلقّاه معدم »
وكلّ من القوم ضارب بذقنه، أو باسط ذراعيه بالوصيد، ويزيد أهل الشّعر منهم بتمنّي أن لو كان لأحدهم بيت منها بجملة من القصيد.
وكما لقّحت البلاد بفنونه عن حيال.. فلا أكذب الله: كلّ من بعده عليه عيال، وأنا معترف بأنّ ما يوجد على شعري من مسحة الإجادة.. إنّما هو بفضله؛ لأنّني أطيل النّظر في شعره، وأتمنّى أن أصل إلى مثله.
«وكأنّنا لمّا انتحينا نهجه *** نقفو ضياء الكوكب الوقّاد »
وكان يحسد حسدا شديدا، لا من النّاحية العلميّة والأدبيّة اللّتين سقطت دونهما همم العدا ونفاسة الحسّاد؛ لأنّ الأمر من هذه النّاحية كما قال البحتريّ [في «ديوانه» 1 / 14 من الكامل]:
«فنيت أحاديث النّفوس بذكرها *** وأفاق كلّ منافس وحسود»
ولكن من قوّة نفسه ومغالاته بها، وما يصحبه من التّوفيق في الإصلاح؛ فإنّه لا يهيب بمشكل إلّا انحلّ، ولا ينبري لمعضل إلّا اضمحلّ.
«فأرى الأمور المشكلات تمزّقت *** ظلماتها عن رأيه المستوقد »
ومع تألّب الأعداء عليه من كلّ صوب.. تخلّص منهم قائبة من قوب، ووقي شرّهم وقيّا، وما زادوه إلّا رقيّا، فانطبق عليهم قول حبيب [في «ديوانه» 2 / 103 من الكامل]:
«ولقد أردتم أن تزيلوا عزّه *** فإذا (أبان) قد رسى و (يلملم) »
وهو محبوب بعد لدى فحول الرّجال وأئمة أهل الكمال، كسيّدي الجدّ، والأستاذ الأبرّ، والحبيب أحمد بن محمّد المحضار، والحبيب عليّ بن حسن الحدّاد، والحبيب عمر بن حسن الحدّاد، والحبيب محمّد بن إبراهيم، وأمثالهم. وقد قال الأوّل [من الطّويل]:
«إذا رضيت عنّي كرام عشيرتي *** فلا زال غضبانا عليّ لئامها»
وله رحلات كثيرة، أولاها سنة (1286 ه) إلى الحجاز، ثمّ عاد إلى تريم، وفي سنة (1288 ه) ركب إلى عدن واتّصل بأمراء لحج ومدحهم، وزعم بعض النّاس أنّه كان يعنيهم بقصيدته المستهلّة بقوله [في «ديوانه» (93 ـ 95) من الوافر]:
«ذهبت من الغريب بكلّ مذهب *** وملت إلى النّسيب وكان أنسب »
وأنا في شكّ من ذلك؛ لأنّ له فيهم بعدها غرر القصائد، ومنها قوله [من الطّويل]
«هو الحيّ إن بلّغته فانزل الحانا *** وحيّ الألى تلقاهم فيه سكّانا»
على أنّ للإنسان لسانا في الغضب غير لسانه في الرّضا، وقد قال الأوّل [من الطّويل]
«هجوت زهيرا ثمّ إنّي مدحته *** وما زالت الأشراف تهجى وتمدح »
ثمّ إنّ المترجم ركب من عدن إلى جاوة وأقام بها نحوا من أربع سنين، ثمّ عاد إلى الغنّاء في سنة (1292 ه)، وثمّ نجمت فتنة النّويدرة وكان له أفضل السّعي في إخمادها ونجح، ثمّ اشتدّ عليه الأذى فهجر حضرموت سنة (1302 ه)، وهي الرّحلة الّتي يقول عند رجوعه منها [من الطّويل]:
«ثلاثون عاما بالبعاد طويتها *** وكم أمل في طيّ أيّامها انطوى »
«وها عودتي لمّا أتيحت نويتها *** عسى وعسى أن ليس من بعدها نوى »
ولمّا قدم إلى تريم في سنة (1331 ه).. هنّأته بقصيدة نكر منها بعض أهل العلم بتريم أبياتا، فقال لي السّيّد عبد الرّحمن بن عبد الله الكاف: أتحبّ أن يبحث معك إخوانك في أبيات أنكروها من قصيدتك؟ فقلت له: نعم، بكلّ مسرّة وفرح.
فأقبل العلّامة السّيّد حسن بن علويّ بن شهاب ـ لأنّهم نصّبوه إذ ذاك للرّياسة العلميّة بتريم لينافس الوالد أبا بكر ابن شهاب في عشرين من علية طلّاب العلم، فيهم العلّامة عليّ بن زين الهادي، ولم أكره حضور أحد سواه؛ لما اشتهر به من الحدّة، فخشيت أن يخرج بنا الجدال عن اللّياقة، وما فرغنا من المناقشة.. إلّا وقد رجعوا إلى كلامي، وأوّل من انحاز إلى جانبي هو السّيّد عليّ بن زين الهادي مصداق أنّ الحدّة تعتري الأخيار.. فكان من خيار المنصفين، فهابه من رام المغالطة.
وما أنا في هذا بمجازف ولا كاذب، ولا أستشهد على طول الزّمان بميت ولا غائب؛ فقد بقي السّيّد يوسف بن عبد الله المشهور ممّن حضر ذلك البحث فليسأله من أحبّ.
وموضوع المناقشة أنّني عرّضت ـ في تلك القصيدة ـ ببعض من يعزّ عليهم ممّن غيّر منار سيرة السّلف بإعزاز الأغنياء وإذلال الفقراء والعلماء، ولمّا صدقتهم وذكرت لهم من أعمال أولئك ما يخالف هديه صلّى الله عليه وآله وسلّم.. لم يسعهم إلّا الإذعان، ووعدوا بالتّوسّط لإصلاح الأمور، وكأنّهم لم يجدوا قبولا من ذلك الجانب فانثنوا، والقصيدة بموضعها من «الدّيوان».
وأشهد لقد طلعت عليه فجأة إلى سطح قصره بعد المغرب.. فإذا به يدور على غاية من الاستغراق والحضور، ويكرّر قول أبي فراس [في «ديوانه» 45 من الطّويل]:
«فليتك تحلو والحياة مريرة *** وليتك ترضى والأنام غضاب »
«وليت الّذي بيني وبينك عامر *** وبيني وبين العالمين خراب »
فجمعت يدي منه على دين ثابت، ويقين فرعه في السّماء وأصله في التّخوم نابت.
ولطالما ترنّحت طربا لهذين البيتين، واستجهرني جمالهما، وترنّمت بهما في مناجاة الباري عزّ وجلّ، لا سيّما وقد تمثّل بهما جلّة العلماء، ومنهم سلطانهم عزّ الدّين ابن عبد السّلام، غير أنّي لمّا أنعمت النّظر، وأفقت من دهشة الإعجاب به.. ألفيته مصادما لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا تمنّوا لقاء العدوّ، واسألوا الله العافية»؛ إذ لم يترك شيئا من البلاء إلّا تمنّاه.
وربّما يكون ما وقع فيه ابن عبد السّلام من السّجن والامتحان مسبّبا عن ذلك، وقد ذكرت في «العود» [2 / 259] جماعة ممّن أصيبوا بالعاهات من جهة تمنّيهم ذلك في طريق الوصال، وقد أخذ الله بصر المؤمّل ابن أميل من صباح اللّيلة الّتي قال فيها [من البسيط]:
«شفّ المؤمّل يوم الحيرة النّظر *** ليت المؤمّل لم يخلق له بصر»
وبرص المجنون لقوله [في «ديوانه» 226 من الطّويل]:
«قضاها لغيري وابتلاني بحبّها *** فهلّا بشيء غير هذا ابتلانيا»
وقال عمر بن أبي ربيعة لكثيّر: أخبرني عن قولك لنفسك ولحبيبتك [في «ديوان كثير» 47 ـ 48 من الطّويل]:
«ألا ليتنا يا عزّ من غير ريبة *** بعيرين نرعى في الخلاء ونعزب »
«كلانا به عرّ فمن يرنا يقل *** على حسنها جرباء تعدي وأجرب »
«إذا ما وردنا منهلا صاح أهله *** علينا فما ننفكّ نرمى ونضرب »
«وددت وبيت الله أنّك بكرة *** هجان وأنّي مصعب ثمّ نهرب »
«نكون بعيري ذي غنى فيضيعنا *** فلا هوّ يرعانا ولا نحن نطلب »
ويلك! تمنّيت لها الزّفّ والجرب والرّمي والطّرد والمسخ! ! فأيّ مكروه لم تتمنّه لكما؟ أما والله لقد أصابها منك قول الأوّل: (مودّة الأحمق.. شرّ من معاداة العاقل).
وعاتبته عزّة على ذلك، ومعاذ الله أن يسلموا من سوء العاقبة.
وما وقع فيه أبو فراس لا ينقص ـ إن لم يزد ـ على ما تمنّاه كثيّر، وسبق في ذي أصبح أنّ جدّي المحسن كان يقول: ما نعني بالأسماع والأبصار عند ما ندعو بحفظها إلّا حسن بن صالح وأحمد بن عمر وعبد الله بن حسين، ولكنّه أضرّ بالآخرة، ومثله المترجم.. فلا بعد أن يكون من تلك البابة.
كما تبت عن الدّعاء بقول سيّدنا عمر بن الخطّاب: (بل أغناني الله عنهم)، لما قيل له: (نفعك بنوك)، وكنت أستحسنه وأدعو بمقتضاه، حتّى تفطّنت لما فيه، ورأيت أنّ أبناء ابن الخطّاب لم يكونوا هناك، وليس هو بأفضل من العبد الصّالح إذ عوقب على قوله: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ) كما جاء في الحديث.
بعد هذا كلّه ذهبت النّشوة، وانجابت الغفوة، وظهر ما تحته من الهفوة.
وفي رواية عن الشّافعيّ: أنّه لا يحبّ أن يقال في التّعزية: أعظم الله أجرك؛ لما في طيّه من الاستكثار من المصائب، فسحبت عندئذ ما كان منّي من استحسان ذلك، وتبت عنه توبة صادقة أرجو الله قبولها.
وما أشدّ ما يسيء هؤلاء الشّعراء الأدب ويقلّون الحياء؛ فمثل كلام أبي فراس لا يليق بخطاب المخلوق، ومن ثمّ صرفه المفتونون بجماله إلى خطاب الخالق غفلة عمّا فيه من التّعرّض للبلاء المنهيّ عن مثله، وكمثله قول البحتريّ للفتح بن خاقان [من الطّويل]:
«ويعجبني فقري إليك ولم يكن *** ليعجبني لو لا محبّتك الفقر»
وقد صرفته إلى الباري عزّ وجلّ في قصيدة إلهيّة جرى لي فيها حديث لا أملّ به، فأرجو أن لا يلحقني بأس بعد؛ إذ لا يحسن غير المأثور، وقد فتن الرّضيّ بهذا البيت، وأغار عليه فلم يحسن الاتّباع حيث يقول [في «ديوانه» 1 / 541 من الطّويل]:
«فما كان لولاكم يمرّ لي الغنى *** ويحلو إلى قلبي الخصاصة والفقر»
ومن الغلوّ الممقوت قول ابن هانىء الأندلسّي [من البسيط]:
«أتبعته فكرتي حتّى إذا بلغت *** غاياتها بين تصويب وتصعيد»
«أبصرت موضع برهان يلوح وما *** أبصرت موضع تكييف وتحديد»
ولقد احترست حين تمثّلت في ذي أصبح ببيت من شعر المتنبّي لا يخلو عن الغلوّ، على أنّ الرّوح لا تنفد فلا ينفد وصفها.
ومن التّرّهات الممقوتة أيضا: قول أبي عبد الله الخليع، يخاطب أحمد بن طولون المتوفّى سنة (270 ه) [من الكامل]:
«أنا حامد أنا شاكر أنا ذاكر *** أنا جائع أنا راجل أنا عاري »
«هي ستّة وأنا الضّمين لنصفها *** فكن الضّمين لنصفها بعيار»
ولذا نقلهما كسابقيهما أهل الحقّ إلى خطاب الباري عزّ وجلّ، وأبدلوا قافية الثّاني ب «ياباري» فكانت أعذب وأطيب.
وكنت معجبا بمختارات حافظ، ومع ذلك.. فإنّي أفضّل عليه الأستاذ، حتّى قلت
له مرّة: ألست أشعر منه؟ قال: أينك عن قوله [في «ديوانه» 2 / 161 من البسيط]:
«إنّي أرى وفؤادي ليس يكذبني *** روحا يحفّ بها الإجلال والعظم »
«أرى جلالا أرى نورا أرى ملكا *** أرى محيّا يحيّيني ويبتسم »
«الله أكبر هذا الوجه نعرفه *** هذا فتى النّيل هذا المفرد العلم »
وقوله [في «ديوانه» 1 / 289 من البسيط]:
«كم غادة في ظلام اللّيل باكية *** على أليف لها يهوي به الطّلب »
«لو لا طلاب العلا لم يبتغوا بدلا *** من طيب ريّاك لكنّ العلا تعب »
ولهذا حديث مبسوط في «العود الهنديّ» [2 / 40].
أمّا شوقي: فلم أقرأ شعره إلّا بعد ذلك، فلم يكن عندي شيئا في جانب جيّد حافظ، وما أرى إغراق بعضهم فيه وتأميره وتفضيله إلّا من جنس تفضيل جرير على الفرزدق، بدون حقّ، حسبما فصّلته بدلائله في «العود الهنديّ».
وبقي عليّ أن أشير إلى ما اجتمع للأستاذ من الشّدّة واللّين، والشّمم والإباء، ودماثة الأخلاق، وطوع الجانب، وحلاوة الغريزة.
«قسا فالأسد تهرب من قواه *** ورقّ فنحن نخشى أن يذوبا »
وما أظنّ العلّامة ابن شهاب إلّا على رأيي فيه، وإلّا.. لذكره لي وأثنى عليه، ولا أنكر أنّ له محاسن، لكنّهم رفعوه عن مستواها إلى مالا يستحقّ، وكان ابن شهاب يتشيّع، لكن بدون غلوّ، بل لقد اعتدل اعتدالا حسنا جميلا بعقب زيارته لحضرموت واطّلاعه على «الرّوض الباسم»، ورسائل الإمام يحيى بن حمزة، وكان قلمه أقوى من لسانه، أمّا لسانه مع فرط تواضعه ولطف ديدنه.. فإنّك لا تكاد تعرف أنّه هو الّذي ملأ سمع الأرض وبصرها إلّا إذا سئل فتفتّح عن ثبج بحر جيّاش الغوارب.
«إذا قال.. لم يترك مقالا لقائل *** بمبتدعات لا ترى بينها فصلا »
«كفى وشفى ما في النّفوس فلم يدع *** لذي إربة في القول جدّا ولا هزلا»
والأدلّة حاضرة، وما بين العينين لا يوصف، ولهو الأحقّ من القزّاز القيروانيّ بقول يعلى بن إبراهيم فيه [من الكامل]:
«أبدا على طرف اللّسان جوابه *** فكأنّما هو دفعة من صيّب »
وقد عرفت من قوله في حافظ.. أنّه من سادات المنصفين، ولي معه من ذلك ما يؤكّده، وقد ذكرت بعضه في خطبة الجزء الثّاني من «الديوان».
وفي سنة (1334 ه) توجّه من حضرموت إلى الهند ليقطع علائقه منها ويبيع دارا له بها، وبينا هو يجمع متاعه للسّفر النّهائيّ إلى مسقط رأسه، ومربع أناسه الّذي لا يزال يحنّ إليه بما يذيب الجماد، ويفتّت الأكباد؛ كقوله [في «ديوانه» 187 من البسيط]:
«بالهند ناء أخي وجد يحنّ إلى *** أوطانه وسهام البين ترشقه »
«إلى العرانين من أقرانه وإلى *** حديثهم عبرات الشّوق تخنقه »
.. إذ وافانا نعيه في جمادى الآخرة من سنة (1341 ه).
«فضاقت بنا الأرض الفضاء كأنّما *** تصعّدنا أركانها وتجول »
فاشتدّ الأسى، ولم تنفع عسى، وكادت الأرض تميد، لموت ذلك العميد، وطفق النّاس زمانا.
«يعزّون عن ثاو تعزّى به العلا *** ويبكي عليه الجود والعلم والشّعر »
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
76-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (عينات)
عيناتمن أشهر قرى حضرموت، على نحو ثلث مرحلة من تريم. وأوّل من اختطّها آل كثير في سنة (629 ه).
وفي سنة (787 ه) هجم آل الصّبرات على عينات وأخربوها، وقتلوا سبعة من آل كثير حواليها، وساعدهم راصع على ذلك.
وفي سنة (817 ه) بنى آل كثير عينات، ثمّ أخربها آل أحمد في تلك السّنة نفسها، وقتلوا ثمانية: اثنين من آل كثير وخمسة عبيد ورام، وكثيرا ما تقلّبت بها الأحوال، وأضرّت بها الحروب الواقعة بين آل كثير وآل يمانيّ والصّبرات والغزّ، حسبما فصّل بعضه في «الأصل»، وقد اندثرت ولم يبق إلّا آثارها البالية، هذه هي عينات القديمة.
وأمّا الجديدة: فأوّل من بنى بها ركن الإسلام، وعلم الأعلام، الشّيخ أبو بكر بن سالم بن عبد الله بن عبد الرّحمن بن عبد الله بن عبد الرّحمن السّقّاف، المتوفّى بها سنة (992 ه)، وقد ترجمه الشّلّيّ في «المشرع» [2 / 58] و «السّنا الباهر» [حوادث 992 ه]، وأفرد مناقبه العلّامة ابن سراج وغيره بالتّأليف، وهو بالحقيقة في غنى ـ بشهرته الّتي تغني ـ عن التّعريف.
«تجاوز قدر المدح حتّى كأنّه *** بأكبر ما يثنى عليه يعاب »
وفي «الرّياض المؤنقة» للعلّامة السّيّد عليّ بن حسن العطّاس: (أنّ سيّدنا الشّيخ أبا بكر بن سالم ابتلي بعلّة البرص، وأنّ تلميذه أحمد بن سهل بن إسحاق انتقده.. فأصابه الكثير من ذلك حتّى صار يقال له: هرّ اليمن) اه
ومن خطّ سيّدي عبد الرّحمن بن عليّ بن الأستاذ الحدّاد: (أنّ المتعلّق بالشّيخ مع البعد أحسن من الحاضر عنده؛ لغلبة رؤية البشريّة على الحاضر، وقد قال الشّيخ أبو بكر بن سالم: لو سألت الله ـ أو قال ـ لو تشفّعت في أحد من الكفّار ولعيالي وأخدامي.. لرجوت الإجابة لأولئك الكفّار؛ لأنّ المخامرة تذهب الاحترام) اه مختصرا
ولمّا مات.. وقع رداؤه على ابنه عمر المحضار.
ومن كلامه: (ما ابتلي أهل حضرموت إلّا بقدحهم في الشّيخ أبي بكر بن سالم، وما شكّوا في ولايته إلّا لسوء حظّهم، ولكنّه كفي شرّهم بالعطاء وبغيره، وكلّ من شكّ في الشّيخ أبي بكر.. فهو اليوم يبغضني ويراني خصمه، بل زادوا وطعنوا في العرض، ولكنّنا نرثي لهم، وندعو لهم) اه
وفيه فوائد؛ منها: أنّ الاتّفاق لم ينعقد على فضل الشّيخ أبي بكر إلّا في الزّمان المتأخّر، وإلّا.. فالنّاس كالنّاس، ولا يزالون مختلفين.
توفّي بعينات سنة (997 ه)، وله أعقاب منتشرون بمرخة وبيحان، وروضة بني إسرائيل، وحبّان وخمور والهند، وجاوة ودوعن وغيرها.
ومنهم: السّيّد حسين بن محمّد بن عليّ بن عمر المحضار، وصل إلى مسورة أرض الرّصاص فاقترن بابنة السّلطان، فأقطعه مكانا بمرخة يسمّى الهجر، لا يزال إلى يومنا هذا، والمحاضير فيه على استقلالهم.
وقد سبق في بالحاف وبير عليّ أنّ منصبهم في سنة (1349 ه) أمضى على الوثيقة الّتي وقّع عليها أعيان تلك الجهات وسلاطينها بالسّمع والطّاعة لي وكفاني الله شرّ الفتن برأي مولانا الإمام يحيى حسبما تقدّم.
ومنهم آل درعان: السّيّد أحمد المحضار، وأولاده: مساعد وسالم، لهم أخبار في النّجدة والشّجاعة تنفخ الأدمغة، وتملأ الأفئدة.
ولهم خيل عتيقة؛ منها: الكويخه، لها خبر وعلم.
وللسّيّد أحمد بن درعان هذا وفادة إلى حضرموت، ونزل بالقويرة على نسيبه الإمام أحمد بن محمّد المحضار، وطال ثواؤه حتّى ملّ، وسبب ذلك أنّه لا يمكن انصرافه إلّا بجائزة، وفي عيش الإمام المحضار يبس إذ ذاك، فلم يجد حيلة إلّا أن قال له: نريد إكرامك، لكن ما لدينا شيء إلّا ثمانيه ريال عند غريم مماطل، قال له: أعطني تحويلا عليه وسأخرجها من عينه، فأحاله على صديق لا يزال عنده بالقويرة صباح مساء من آل بروم، فلمّا أقبل على داره وهو بظهر الكويخة.. سرّ وظنّ معه خيرا، ولمّا عرف باطن الأمر.. قال: لا شيء عندي للحبيب أحمد، قال له: ما كان ليكذب، وقد أخبرني بمطلك، ولئن لم تدفعها.. لأوجرنّك سنان هذا الرّمح، فخرج ليهرب، ولكنّ ابن درعان قد أغلق السّدّة وأخذ المفتاح، فصعد إلى سطح داره يصيح، حتّى اجتمع الجيران، فأشرف عليهم ابن درعان وقال: لا أخرج إلّا بالثمانية الريال بعد الغداء، فعملوا له غداء ونقدوه المبلغ، فتوجّه إلى عينات، ثمّ عاد إلى القويرة، ومنها ركب إلى مرخة.
ثمّ إنّ الشّيخ عمر المحضار عزم على حمل السّلاح لصدّ عوادي الظّلمة، فلم يوافقه إخوانه، فنزل برضى منهم بأن يخلفه أخوه الحسين.
«أعزّ وأتقى ابني نزار بن يعرب *** وأوثقهم عقدا بقول لسان »
«وأوفاهم عهدا وأطولهم يدا *** وأعلاهم فعلا بكلّ مكان »
ترجمه الشّلّيّ في «المشرع» [3 / 210 ـ 212] ووهم في قوله: (إنّه ولي الأمر بعد أبيه)؛ لأنّه لم يله كما قدّمنا إلّا بعد أخيه.
وبعد أن تربّع على كرسيّ المنصبة.. حصل عليه أذى من آل كثير، فسار إلى مكّة وأقام بها سبع سنين قدم في أثناءها رؤساء يافع إلى مكّة وكان حصل عليهم تعب من الزّيديّة، فتأكّدت بينه وبينهم الألفة، وتأطّدت قواعد الحلف، ووعدوه إن نصرهم الله أن يأخذوا بيده، وقد سبق القول بأنّهم وصلوا في أيّامه إلى حضرموت.
توفّي بعينات سنة (1044 ه). ووقعت عمامته على ولده أحمد، وقام بمقام أبيه أحسن قيام إلى أن توفّي، فاجتمع رأي السّادة على تقديم ابنه سالم السّابق ذكره في الغيضة، وكثرت الخيرات في أيّامه، واتّسع جاهه، وأكثره من أرض الظّاهر وجبل يافع، وحصلت له أموال طائلة.
ثمّ إنّ الزّيديّة استولت على يافع فانقطع المدد منها، ولمّا انتهى إليه عزم الزّيديّة على غزو حضرموت.. ارتحل إلى الحجاز، فحجّ ثمّ استقرّ بالغيضة وسار معه بأهله، وبعد أن أقام بالغيضة أحد عشر شهرا.. اجتوتها زوجته فاطمة بنت محمّد بن شيخ بن أحمد فأذن لها في الرّجوع إلى عينات مع ابنه عليّ بن سالم، وتنازل له عن ولاية عينات، وأباح له أمواله بحضرموت، وكان يرسل له فوق ذلك بما يكفيه، لكلف المنصبة.
وكانت له أراض واسعة من عينات إلى العرّ ترعى بها مواشيه ونعمه، وكان يشرك السّادة آل الشّيخ أبي بكر فيما يصل إليه من الفتوح.
وبإثر انصراف الزّيديّة عن حضرموت.. أراده النّاس على الرّجوع إليها، فلم يرض.
وبعضهم يزعم أنّ الشّيخ عمر بامخرمة لحظه بطرف الغيب، إذ يقول:
«سلّم الأمر يا سالم وخلّ الحراره *** خلّ ذا الكون يا بن احمد على الله مداره »
«عاد ربّ السّما يعطف علينا بغاره *** يوم قالوا لنا الزّيدي تولّى (شهاره) »
لأنّ شهارة حافّة معروفة بسيئون، والأمر محتمل؛ فإنّ للشّيخ عمر فراسات كثيرة صادقة، ولكنّ شهارة من ثغور اليمن في غربيّ صنعاء استولى عليها إمام الزّيديّة في أيّام الشّيخ عمر بامخرمة. توفّي الحبيب سالم بن أحمد بالغيضة سنة (1077 ه).
وبإثر موته أحضر ولده عليّ سائر إخوانه وكتب للغائبين منهم، وقال لهم: إنّني لا أقدر على القيام بأعباء المنصبة إلّا بأموال والدي، وقد صارت لكم، فخذوها وأقيموا من تحبّون. فقالوا له: بل أبحناها لك كما كان أباحها لك أبونا، ولا تزد عمّا كنت تنفقه علينا في أيّامه.
وقد أدرك الحبيب عليّ بن سالم عاما من حياة جدّ أبيه الحسين، وفي أيّامه عاد الظّاهر وجبل يافع لأهله بواسطة السّلطان معوضة بن سيف بن عفيف والسّلطان صالح بن أحمد بن هرهرة فدرّت الأموال عليه، وقال لإخوانه: اقتسموا ما تركه أبوكم؛ فقد أغنانا الله عنه. وأبقى ما كان يجريه عليهم. توفّي سنة (1096 ه) عن إحدى وخمسين سنة، وكانت إقامته بالمنصبة ثمانية عشر عاما.
وخلفه ولده أحمد بن عليّ بن سالم بن أحمد بن الحسين، فقام بالمنصبة وسنّه نحو العشرين، وأعانه عليها السّيّد شيخ بن أحمد بن الحسين. توفّي أحمد هذا سنة (1111 ه)، بعد أن مكث في المنصبة خمسة عشر عاما.
وخلفه عليها ولده عليّ بن أحمد بن عليّ بن سالم، واتّسع جاهه بسبب اتّساع نفوذ يافع في أيّامه، حتّى لقد كان الشّعيب المشهور بحسن ماء ورده إقطاعا له.
وكان شديد الورع والتّواضع، وساء التّفاهم بينه وبين القطب الحدّاد بسبب واش من الطّغام قال له: إنّ الحدّاد يحاول منصبا مثل منصب جدّك الشّيخ أبي بكر بن سالم، ويزعم أنّه أفضل منه.
فلم يكن من القطب الحدّاد إلّا أن ورده للترضية إلى عينات، وبعد الإيناس قال له: إنّي سائلك: هل خزائن الله ملأى أم لا؟ فقال: بل ملأى.
قال له: وهل ينقصه أن يعطي أحدا مثل ما أعطى الشّيخ أبا بكر؟ فقال له: لا. فقال الحدّاد: إنّ الّذي أعطى الشّيخ أبا بكر يعطينا من الهداية، ويعطيك ويعطي غيرنا مثل ما أعطاه.
فاعتبر السّيّد أحمد وجعل يلطّخ الحدّاد بزباد من وعاء كبير حتّى نفد وهو ذاهب عن شعوره. ثمّ كان يزور الحدّاد في كلّ أسبوع أو في كلّ شهر مع كثرة أشغاله وعظم منصبه، ويستغرق سحابة اليوم في قراءة الكتب النّافعة عليه، وفي أوّل قدمة قدمها على الحدّاد قال ـ أعني الحدّاد ـ [من الوافر]:
«جزاك الله عن ذا السّعي خيرا *** ولكن جئت في الزّمن الأخير»
وإليه الإشارة بقوله من الأخرى [في «ديوانه» 177 من الرّمل]:
«زارني بعد الجفا ظبي النّجود ***...»
وفي كلام الحبيب أحمد بن عمر بن سميط ما يفيد أنّ صاحب القصّة مع القطب الحدّاد هو السّيّد محسن بن حسين ابن الشّيخ أبي بكر، ولعلّ الكاتب وهم في ذلك؛ لأنّ الصّواب هو ما ذكرناه.
والحبيب أحمد بن عليّ هذا هو الّذي كتب للسّلطان عمر صالح بن أحمد ابن الشّيخ عليّ هرهرة ليخرج إلى حضرموت لمّا كثرت بها المظالم والفوضويّة، كذا في «بستان العجائب» [ص 31] للسّيّد محمّد بن سقّاف.
والّذي ب «الأصل» عن الشّيخ عليّ بن عبد الرّحيم ابن قاضي في ترجمته للسّيّد شيخ بن أحمد ما يصرّح بأنّه هو الّذي تولّى الأمر بعد أبيه، وأنّه هو الّذي كتب ليافع مساعدة لبدر بن محمّد المردوف على عمر بن جعفر، وأنّه توفّي سنة (1119 ه) وأنّ أخاه عليّا إنّما تولّى بعده، وهذا هو الأثبت.
ثمّ إنّي اطّلعت بعد هذا على «رحلة عمر بن صالح»، وفيها ما حاصله: (كان نهوضنا إلى حضرموت في أوّل شهر القعدة سنة (1117 ه)، كتب إلينا مولانا وسيّدنا وصاحب أمرنا قطب الحقيقة والطّريقة، الشّيخ الحبيب: عليّ بن أحمد بن عليّ بن سالم بن أحمد بن الحسين بن الشّيخ أبي بكر بن سالم أن نخرج إلى حضرموت؛ لأنّ السّلطان عمر بن جعفر طغى وبغى، وعظّم شعائر الزّيديّة، واستولى على الشّحر، وهرب السّلطان عيسى بن بدر إلى عينات، فهجم عليه بها هو ومن معه من الزّيديّة، وأخذه منها قهرا، واستولى على حضرموت كلّها، وأرسل بعيسى بن بدر إلى عند الإمام، ثمّ انكفأ على آل همّام ويافع الّذين بالشّحر وحضرموت، فأخرجهم من القلاع، وسلّمها للزّيديّة، واستهان بالسّادة، فعند ذلك عزمنا)... ثمّ استاق (الرّحلة) إلى آخرها.
توفّي الحبيب عليّ بن أحمد بعينات سنة (1142 ه).
وخلفه على المنصبة ابنه أحمد بن عليّ بن أحمد، وكان مضيافا يذبح كلّ يوم ستّا من الأغنام، سوى ما يذبحه للواردين، وله ولوع شديد بالقنص، وكان كريما شفيقا، حتّى لقد غضبت عليه زوجته أمّ أكبر أولاده بنت آل يحيى من زواجه بغيرها، وأبت أن تعود إلّا بمئة دينار، ولمّا حصّلها.. آذنهم فعملوا ضيافة عامّة دعوا إليها أهل عينات أجمعين، فبينا هو ذاهب إليهم.. سمع امرأة تقول من حيث لا تراه: نحن جائعون عارون ولا عيد لي ولا لأيتامي، وأحمد بن عليّ بايدفع لبنت آل يحيى مئة دينار! !
فظهر عليها ورماها بالصّرّة، وقال لها: حلال لك حرام على بنت آل يحيى.
فامتنعت من قبولها لعلمها بالمهمّة، فلم يأخذها منها، وبعث لآل يحيى بالاعتذار، فعظم الأمر عليهم وأخبروا بنتهم، فقالت: إنّي لأعلم أنّه لا يخلف وعدا، ولا يبيت على جنابة، ولا يأكل إلّا مع ضيف، ولن يتأخّر إلّا لمهمّ. وبحثت عن الواقع حتّى عرفته، فذهبت هي وأولادها إليه، فكاد يجنّ جنونه من الفرح؛ لأنّه بها مغرم، وشكرته على صنيعه، وقالت له: إن لم تزر.. زرناك.
وقد ترجمه الجنيد في «النّور المزهر» توفّي سنة (1177 ه)، وفي «شمس الظّهيرة» أنّ وفاته كانت في السّجود وهو يصلّي الظّهر.
وفي كلام سيّدي الأستاذ الّذي جمعه والدي: (أنّ سبب وفاته أنّ سبخة لسعته في جبهته وهو يصلّي الظّهر فمات).
وفيه أيضا: (أنّ العلّامة الشّيخ عبد الرّحمن بن أحمد باوزير كان يتحرّج عن طعامه حتّى جاء الحبيب طاهر بن محمّد بن هاشم فأخبره بما في نفسه، فقال له: إنّه صاحب الوقت، له الحقّ في أموال المسلمين) اه
وخلفه ولده سالم بن أحمد بن عليّ بن أحمد بن عليّ بن سالم بن أحمد بن الحسين، وكان أبيض السّريرة، لا يعرف شيئا من أمر الدّنيا، وهو الّذي وصلت مواساة صاحب المغرب لسادات حضرموت في أيّامه، واختلفت الرّواية:
فالّذي قاله السّيّد محمّد بن سقّاف أنّه رضي بأكياس الدّراهم الحريريّة المزركشة بالفضة قياضا عمّا له ولأسرته منها.
والّذي قال غيره: أنّه أراد الاستئثار بجميعها، فما زالوا به حتّى اقتنع بالأكياس زيادة عن نصيبه مثل النّاس.
وفي أيّامه طلبت يافع بتريم مواساة من أهلها فثقلت عليهم، فذهب أحد آل شاميّ بهديّة تافهة إلّا أنّها ملوّنة، فعزم على يافع أن لا يأخذوا شيئا فانتهوا، وكذلك الحال كان في العام الّذي بعده. توفّي سنة (1211 ه).
وخلفه ابنه أحمد بن سالم، وكان كثير الخيرات والمبرّات، وفي أيّامه كان وصول الوهّابيّة إلى حضرموت بطلب من بعض السّادة وآل كثير، ولم يكن لهم عسكر كثير، وإنّما كانوا ينشرون دعوتهم فيستجيب لهم النّاس، وكان ممّن استجاب لهم: آل عليّ جابر بخشامر غربيّ شبام، وبعض السّادة، وبعض آل كثير، وعبد الله عوض غرامة بتريم. فتمكّنوا بذلك من هدم القباب وتسوية القبور.
ولمّا علم الحبيب أحمد بن سالم بوصولهم إلى تريم.. استدعى منصب آل الحامد السّيّد سالم بن أحمد بن عيدروس، واتّفقوا على الدّفاع عن عينات. واستدعى الحبيب أحمد من أطاعه من يافع وآل تميم، والحبيب سالم من أطاعه من الصّيعر والمناهيل.
ولمّا علمت الوهّابيّة وغرامة بذلك.. كتب الأخير كتابا للمنصبين يقول لهم فيه: (إنّ ابن قملا وصل بقوم ـ ما تعقل ـ من القبلة، وقصدهم دخول عينات، وإن دخلوا.. بايخربون قباب مشايخنا ومناصبنا، والأولى أن تصلون أنتم ويكون الاتّفاق، واحتملوا المشقّة في الوصول، وهذه منّا نصيحة ومحبّة وشفقة، وما يشقّ عليكم يشقّ علينا..) في كلام طويل.
وكانوا يعرفون محبّته وموالاته لهم فاطمأنّوا بكتابه، فوصلوا إلى تريم، وألقوا عليهم القبض، وألقوهم تحت المراقبة، وأرسلوا العسكر إلى عينات، وقالوا لأهل عينات: إن أحدثتم أدنى أمر.. بعثنا لكم برؤوس المناصب. فتركوهم يفعلون ما شاؤوا، وخافوا منهم خوفا شديدا، وكلّفوهم غرامة شديدة دفعوا فيها حليّ نسائهم.
ثمّ إنّ آل قملا تصادقوا هم والمقدّم عبد الله بن أحمد بن عبد الله ففتح لهم الطّريق إلى شعب نبيّ الله هود عليه السّلام.. فهدموا قبّته.
وبإثر رجوع آل قملا من الجهة الحدريّة.. أطلق غرامة سراح المناصب.
ولا يشكل نسبة كبر الأمر إلى عبد الله عوض غرامة، مع أنّ ذلك كان في أيّام عمّه؛ لاحتمال أنّه غلبه على رأيه أو استماله إليه، وبقي عنده فيه شكّ أو مجاملة فألقى عهدته على عبد الله عوض.
وبإثر وصول الحبيب أحمد بن سالم إلى عينات.. أرسل ولده أبا بكر إلى جبل يافع، وأتى بأقوام، وأذكى نار الحرب على غرامة، وضيّق عليه الخناق.
هذا ما يقوله السّيّد محمّد بن سقّاف، وفيه خلاف أو تفصيل لما في شرح بيت آل تميم من «الأصل»؛ إذ الّذي فيه: أنّ السّيّد أبا بكر بن أحمد إنّما ينهض إلى يافع ليأتي بقوم يحارب بهم السّيّد سالم بن أحمد الحامد، وأنّهم لمّا وصلوا تريم بعد اللّتيّا واللّتي في أوّل رمضان من سنة (1237 ه).. أرضوهم بخمس مئة ريال فرّقوها على سيئون وتريم وعينات، ولم يكن حرب، والله أعلم أيّ ذلك كان. مع أنّه لا يبعد أنّ الحبيب أرسل ابنه أبا بكر إلى يافع مرّتين؛ أوّلا: لحرب غرامة، وثانيا: لحرب السّيّد سالم، ولم يكن بالآخرة قتال.
وفي «الأصل» عن الجنيد: أنّه انتقد على الحبيب أحمد بن سالم هذا كثرة حروبه مع قوّته في العبادة وصيامه للأشهر الحرم، وأنّ الحبيب طاهر بن حسين أجابه بما يزيل سوء ظنّه به، فليكشف منه.
ومن هذا المنصب كانت تولية القضاء لجدّنا محسن بن علويّ بسيئون وأعمالها بوثيقة محرّرة في ذلك بتاريخ محرّم سنة (1236 ه)، وفي ذلك ما يدلّ على نفوذ أمره، واتّساع سلطانه، ودخول يافع تحت طاعته.
وقد حجّ الحبيب أحمد بن سالم، وأكرم شريف مكّة وفادته، وأهداه كسوة فاخرة، وفرسا عربيّة محلّاة، وألفا وخمس مئة من الرّيالات الفرانصة. وكانت له نفقات جليلة، وصدقات جزيلة. توفّي سنة (1242 ه).
ووقع رداؤه على ابنه أبي بكر، وكانت له عبادة ومحاسن وإيثار للسّلم، فاصطلح هو وابن يمانيّ والمناهيل وأهدروا الدّماء الّتي طلّت بينهم، ولكنّ يافعا أساءت عليه الأدب، ونهبوا في عينات، ووصل إلى سيئون ليصلح بينهم.. فلم يقبلوا له كلاما. توفّي سنة (1261 ه).
وقام في مقامه ابنه سقّاف بن أبي بكر بن أحمد بن سالم وفي أيّامه انتشر الجهل، فحرص الحبيب عبد الله بن حسين بن طاهر على كشف غمراته، فبعث بالحبيب عمر بن عبد الله بن يحيى فلم يحسن سياستهم، فردّوه مكسور الخاطر، ثمّ إنّ جدّي المحسن زار شعب المهاجر فلاقى به بعض أبناء الحبيب عبد الله بن حسين، فزيّن له زيارة أبيه، فتوجّهوا معا إلى المسيله، فكلف عليه الحبيب عبد الله أن يذهب إلى عينات ليذكر آل الشّيخ، فاعتذر أوّلا بأنّ معه صغار أولاده، فلم يقبل له عذرا، فذهب وأقام لديهم أربعين يوما، وحصل به نفع عظيم لا يحصل مثله في أعداد من السّنين؛ لأنّ قلوبهم سليمة، وأذهانهم نقيّة.
وفي أيّامه وصل السّيّد عمر بن عليّ بو علامة ـ السّابق ذكره في المكلّا ـ إلى عينات، وسار هو وإيّاه إلى دوعن.
ثمّ حجّ في سنة (1280 ه)، وتوفّي سنة (1283 ه)، وابنه سالم في بندر المكلّا، فنادوا به مع غيابه منصبا ساعة دفن أبيه، وكتبوا له وللنّقيب صلاح بن محمّد الكساديّ وأولاد عمر بن عوض القعيطيّ وهم مجتمعون بالمكلّا، وعندهم يافع من الجبل ومن حضرموت، وناس من الأعجام المسلمين، يقال لهم: الرّويلة، من كابل، يريدون بذلك إخراج غالب بن محسن الكثيريّ من الشّحر، فتمّ لهم ما يريدون.
وكان الحبيب سالم هذا أدّى نسكه مع أبيه، ثمّ توفّي سنة (1295 ه).
ونادوا بابنه أحمد منصبا مع أنّ سنّه لم يكن يومئذ إلّا تسعا، فكان كما قال مروان بن أبي حفصة [في «ديوانه» 75 من الطّويل]:
«فبانت خصال الخير فيه وأكملت *** وما بلغت خمسا سنوه وأربعا»
وكان عمّه الفاضل السّيّد محمّد بن سقّاف غائبا بجاوة، فترك كلّ شيء وخفّ إلى حضرموت اهتماما بتعليمه.
وفي حدود سنة (1306 ه) اتّصل ـ بواسطة عمّه محمّد والسّيّد بو بكر منصب الآتي ذكره ـ بسيّدي الأستاذ الأبرّ اتّصالا أكيدا، ولبس منه، وأخذ عنه، وتحكّم له، وعهدي به وهو ماثل بين يدي الأستاذ في مصلّى والدي بعلم بدر من أرباض سيئون مع أنّه من عشيّة اللّيلة الّتي مثل في صباحها بين يدي سيّدي الأبرّ كان يمشي إلى حفل المولد العامّ، وشيوخ العلويّين ـ ومنهم الأستاذ ـ يمشون وراءه كما يقول الوالد مصطفى المحضار عن مشاهدة، وهو المقدّم عليهم في القعود والقيام.
وفي ذلك العهد كان وصول الفاضل الجليل المنصب أبي بكر بن عبد الرّحمن بن أبي بكر، من ذرّيّة الحبيب عبد الله بن شيخان ابن الشّيخ أبي بكر صاحب لامو إلى حضرة الأستاذ، وهو رجل شهم، ذو أيد وقوّة، فلقد شهدت سيّدي الأستاذ الأبرّ تحت نخلة من بستاننا ظليلة بعد الظّهر إذ سقط عذق والنّاس ملتفّون، وكاد يقع على عمامة سيّدي الأستاذ، فنهض المنصب بو بكر نصف نهضة وتلقّاه بيد واحدة كأنّه كرة، مع أنّه لا ينقص وزنه عن أربعين رطلا.
وله اطّلاع على أسرار الأسماء والحروف، ومعرفة بالأوفاق، وله خطّ جميل.. وكتب «رسالة» ـ أظنّها تتعلّق برحلته واتّصاله بالأستاذ ـ ذكر فيها أخذ الحبيب أحمد بن سالم عن الأستاذ، وفرقان ما بين حاله قبل أخذه وبعده، وأطنب في ذلك بصورة مشوّقة لم يبق بذهني منها إلّا اليسير، ولا لوم؛ فقد كنت يومئذ حوالي السّابعة من عمري، ولو لا أنّ خطّه كان بديعا حسنا، وأنّ الرّسالة كانت مزيّنة بالألوان والنّقوش.. لم يبق لها أثر عندي البتّة، لكنّ وجودها بالصّفة الّتي تستلفت أنظار الصّبيان هو الّذي حمّلني منها ما لا تزال بقاياه بالذّاكرة على بعد العهد وصغر السّنّ، مع أنّي لم أنظرها إلّا وقت وجوده بحضرموت، وهو عام (1306 ه) كما تقدّم.
توفّي الحبيب أحمد بن سالم فجأة سنة (1324 ه)، ووقع رداؤه على ولده عليّ، وكان شابّا نشيطا، مضيافا كثير الإصلاح بين الجنود، وكان السّيّد حسين بن حامد يكرهه ويحسده؛ لامتداد نفوذه وجاهه، وله معه مواقف لم يلن فيها جانبه، ولم يزلّ نعله، ولم يعط المقادة، ولم يسلس الزّمام.
حجّ في سنة (1345 ه)، وأكرم وفادته الملك ابن سعود، وأعطاه خنجرا ومئة جنيه من الذّهب، وتوفّي سنة (1349 ه).
وخلفه ولده المبارك أحمد بن عليّ، وقد اعتنى بتربيته الشّابّ العفيف شيخ بن أحمد بن سالم عمّ أبيه، وأحضره على العلماء، ودبّر أمور دنياه، حتّى لقد مات أبوه مدينا باثني عشر ألف ريال (12000)، ولم يكن ضيفه ولا خرجه بأقلّ من خرج أبيه، ومع ذلك فقد قضى جميع ديون والده، ومرّت الأزمة وفناؤه رحب، وضيفه كرم، وخاطره رخو، وكاهله خفيف بفضل تدبير السّيّد شيخ، فجزاه الله خيرا.
وله فوق ذلك من المحاسن، ولين النّحيزة، وكرم الطّبيعة، واستواء السّرّ والعلانية، والخبرة بأحوال الزّمان، والتّمرّن على سياسة أهله.. ما لا يساهمه أحد فيه.
وللسّادة آل الحامد بن الشّيخ أبي بكر منصب بعينات، وجاه ضخم لدى الصّيعر والمناهيل وغيرهم.
وفي «شمس الظّهيرة» [1 / 288]: أنّ القائم بمنصب جدّه بعد أبيه هو: السّيّد عيدروس بن سالم، ذو السّيرة الحميدة، توفّي بعينات سنة (1170 ه)، وعقبه هناك
ومنهم: ولده المنصب الجليل سالم بن محسن، وخلفه ولده المنوّر البارّ عبد القادر، توفّي وخلفه ولده صالح.
ومنهم: الفاضل العالم الواعظ السّيّد حسن بن إسماعيل، تخرّج برباط تريم على الفاضل العلّامة السّيّد عبد الله بن عمر الشّاطريّ، ثمّ عاد إلى عينات وابتنى بها رباطا، هو مقيم به على نشر العلم، وقد انتفع به خلق كثير من أهل تلك النّواحي.
وفي عينات جماعة من آل باوزير؛ منهم: العلّامة الشّيخ عبد الرّحمن بن أحمد باوزير.
وجماعة من آل بافضل؛ منهم: العلّامة الشّيخ رضوان بن أحمد بافضل، من أعيان أهل العلم والصّلاح، وحسبك أنّ سيّدي عبد الله بن حسين بلفقيه على تحرّيه يشهد له بذلك، توفّي سنة (1265 ه).
وأوّل من نقل منهم من تريم إلى عينات: الشّيخ محمّد بن أحمد بن عبد الرّحمن بن أحمد بارضوان، المتوفّى سنة (1188 ه).
وفي عينات جماعة من آل بايعقوب، أظنّهم من أعقاب قاضي تريم في عصر السّقّاف الشّيخ بو بكر بن محمّد بن أحمد بايعقوب، وناس من آل باحنان وآل باعبده وغيرهم.
إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه/1956م
77-التوقيف على مهمات التعاريف (الإغماء)
الإغماء: سهو يعتري الإنسان مع فتور الأعضاء لعلة. وقيل فتور غير أصلي لا بمخدر يزيل عمل القوى فخرج ب غير أصلي النوم، وبلا مخدر الفتور، وبما بعدهما العتة.التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م
78-التوقيف على مهمات التعاريف (الآلة)
الآلة: الواسطة بين الفاعل والمنفعل في وصول أثر الفاعل إليه. كالمنشار للنجار، فخرج بالأخير العلة المتوسطة كالأب بين الجد والابن فإنه واسطة بين فاعلها ومنفعلها، لكن غير واسطة بينهما في وصول أثر العلة البعيدة إلى المعلول، لأن أثر العلة البعيدة لا تصل إلى المعلول، فضلا عن توسط شيء آخر، وإنما الواصل إليه أثر العلة المتوسطة لأنها الصادرة منها وهي من البعيدة.التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م
79-التوقيف على مهمات التعاريف (البدل)
البدل: تابع مقصود بما نسب إلى المتبوع دونه فخرج بالقصد النعت والتوكيد وعطف البيان لأنها غير مقصودة بما نسب إلى المتبوع وبدونهالعطف بالحرف لأنه وإن كان مقصودا لكن المبتوع كذلك مقصود بالنسبة.
التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م
80-التوقيف على مهمات التعاريف (الجنس)
الجنس: لغة، الضرب من كل شيء. وعند المنطقيين كلي مقول على كثيرين مختلفين بالحقيقة في جواب ما هو من حيث هو كذلك، فالكلي جنس فخرج بمختلفين بالحقيقة: النوع والخاصة والفصل القريب وبما بعده الفصل البعيد والفرض التام.التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م
81-التوقيف على مهمات التعاريف (الحكاية)
الحكاية: استعمال الكلمة بنقلها من محلها الأول إلى الآخر. وحكيت الشيء حكاية أتيت بمثله وهي هنا كالمعارضة. الحكم: عند أهل الميزان: إسناد أمر لآخر إيجابا أو سلبا، فخرج النسبة التقييدية. وعند أهل اللغة: أن يقضى في شيء بأنه كذا أو ليس بكذا، سواء ألزم ذلك غيره أم لا. وعند الأصوليين: خطاب الله المتعلق بفعل المكلف من حيث إنه مكلف. وقال الحرالي: الحكم قصد المتصرف على بعض ما يتصرف فيه، وعن بعض ما يتشوف إليه.التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م
82-التوقيف على مهمات التعاريف (الخاصية)
الخاصية: كلية مقولة على أفراد حقيقة واحدة فقط قولا عرضيا سواء وجد في جميع الأفراد كالكاتب بالقوة بالنسبة للإنسان، أو في بعض أفراد كالكاتب بالفعل بالنسبة للإنسان فخرج بفقط الجنس والعرض العام لأنهما مقولان على حقائق، وبعرضيا النوع والفصل لأن قولهما على ما تحتهما ذاتي لا عرضي.التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م
83-التوقيف على مهمات التعاريف (الشعر)
الشعر: لغة: العلم. واصطلاحا: كلام مقفى موزون قصدا، فخرج نحو قوله تعالى: {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ، وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}. فإنه موزون ومقفى لكن ليس بشعر لفقد القصد.التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م
84-التوقيف على مهمات التعاريف (العرض العام)
العرض العام: كلي مقول على إفراد حقيقة واحدة وغيرها قولا عرضيا فخرج بغيرها النوع والفصل والخاصة لأنها لا تقال إلا على حقيقة واحدة وخرج بعرضيا الجنس لأن قوله ذاتي.التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م
85-التوقيف على مهمات التعاريف (الفاعل)
الفاعل: ما أسند إليه الفعل أو شبههه على جهة قيامه به، أي على جهة قيام الفعل بالفاعل فخرج مفعول ما لم يسم فاعله.التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م
86-التوقيف على مهمات التعاريف (النظم الشعري)
النظم الشعري: كلام موزون قصدا، مرتبط تعاقبه معنى، فخرج ما اتزن بغير قصد كآيات قرآنية وأحاديث نبوية، وما لا معنى له والموزون غير المقفى فلا يسمى نظما.التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م
87-التوقيف على مهمات التعاريف (النعمة)
النعمة: المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، ذكره الإمام الرازي. قال: فخرج بالمنفعة المضرة المحضة، والمنفعة المفعولة لا على جهة الإحسان إلى الغير فإن قصد الفاعل نفسه كمن أحسن إلى جاريته ليربح فيها، أو أراد استدراجه بمحبوب إلى ألم، أو أطعم غيره نحو سكر أو خبيص مسموم ليهلك فليس بنعمة. وقال الراغب: ما قصد الإحسان والنفع. وبناؤها بناء الحالة التي يكون عليها الإنسان كالجلسة. والنعمة: التنعيم. وبناؤها بناء المرة من الفعل كالشتمة والضربة. والنعمة للجنس تقال للكثير والقليل.وعند الصوفية، النعمة: ما قطعك عن الخلائق، وجمعك بالخالق. وقيل ما أسلاك عن دنياك، وأدناك من مولاك. وقيل: ما لا يوجب ندما، ولا يعقب ألما. وقيل: ما يشغلك عن قلبك، ولا يقطعك عن ربك. وقيل: ما لا يقسي القلب، ولا ينسى الرب.
التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م
88-العباب الزاخر (قعس)
قعسالقَعَسُ: خُروجُ الصَّدْرِ ودُخُول الظَّهْر، وهو ضِدُّ الحَدَب، يقال: رجُلٌ أقْعَسُ وقَعِسٌ.
وفَرَسٌ أقْعَس: إذا اطْمَأنَّ صُلْبُه من صَهْوَتِه وارْتَفَعَت قَطَاتُه، ومن الإبل: الذي مالَ رأسُه وعُنُقُه نحوَ ظَهْرِه، ومنه قَوْلُهم: ابنُ خَمْسٍ عِشَاءُ خَلِفَاتٍ قُعْسٍ: أي مُكْثُ الهِلال لِخَمْسٍ خَلَوْنَ من الشَّهْرِ إلى أنْ يَغيبَ مُكْثُ هذه الحَوَامِلِ في عشائها.
وليلٌ أقْعَس: كأنَّه لا يَبْرَح.
ورجُلٌ أقْعَس: أي مَنيع.
والأقْعَس: جبل في ديار رَبيعَة بن عُقَيْل يُقال له ذو الهَضَبات.
والأقْعَس: نَخْلُ وأرْضٌ لِبَني الأحنَف باليَمامَة.
والأقْعَسَان: الأقْعَسُ وهُبَيْرَة ابنا ضَمْضَمٍ. وقال أبو عُبَيْدَة: الأقْعَسَان هُما الأقْعَسُ ومُقاعِس ابْنا ضَمْرَةَ بنِ ضَمْرَةَ من بني مُجَاشِع.
وتصغير الأقْعَس: قُعَيْس؛ إذا صَغَّرْتًه تصغير التَّرْخيم، كَسُوَيْدٍ في تَصْغير الأسْوَدِ. وفي المَثَل: أهْوَنُ من قُعَيْسٍ على عَمَّتِهِ، قال بعضهم: أنَّه دَخَلَ رَجُلٌ من أهل الكوفة دَخَلَ على عَمّتِهِ، فأصابَهُم مَطَرٌ وقُرٌّ وكانَ بيتُها ضَيِّقًا، فأدْخَلَتْ كَلْبَها البَيتَ وأبْرَزَت قُعَيْسًا إلى المَطَرِ، فماتَ من البَرْد. وقال الشَّرْقِيُّ ابن القُطَاميِّ: إنَّه قُعَيْس بن مُقاعِس بن عمرو، مِن بَني تَميم، مات أبوه فَحَمَلَتْهُ عَمَّتُهُ إلى صاحِبِ بُرٍّ فَرَهَنَتْه على صاعٍ من بُرٍّ، فَغَلِقَ رَهْنُه لأنَّها لم تَفُكَّه، فاسْتَعْبَدَه الحَنّاط فَخَرَجَ عَبْدًا. وقال أبو حُضَيْر التَّمِيميّ: قُعَيْس كانَ غُلامًا يتيمًا من بَني تَميم، وإنَّ عَمَّتَهُ اسْتَعارَت عَنزًا من امرأةٍ فَرَهَنَتْها قُعَيْسًا، ثمَّ ذَبَحَت العَنْزَ وهَرَبَت، فَضُرِبَ المَثَلُ بِهِ في الهَوَان.
وعزٌّ أقْعَس: أي ثابِت، قال العجّاج:
«وَجَدْتَنا أعَزَّ مَنْ تَنَـفَّـسَـا *** عِنْدَ الحِفَاظِ حَسَبًا ومقْيَسا»
«في حَسَبٍ بَخٍّ وعِزٍّ أقْعَسا»
وعِزَّةٌ قَعْساء: ثابِتة، قال الحارِث بن حِلِّزَةَ اليَشْكُريّ:
«فَنَمَيْنَا على الشَّنَاءَةِ تَنْمِيْ *** نا جُدُوْدٌ وعِزَّةٌ قَعْساءُ»
ويُروى: "حُصُوْنٌ"، والخَيْلُ حُصُونُ العَرَبِ.
والقَعْساء من النَّمْلِ: الرّافِعةُ صَدْرَها وذَنَبَها.
والقَعْساء -أيضًا-: فَرَسُ مُعَاذٍ النهديِّ قتلته...... أخُوه طُفَيْل:
«فإِن يَكُ فارِسُ القَعْساءِ أمْسـى *** مُعاذُ لا يَهُمُّ إلـى الـبَـراحِ»
«فَلَيْتَكَ كُنْتَ تُبْصِرُ حينَ كَـرَّتْ *** ذُكُورُ الخيل تَعْثًرُ في الرِِّماحِ»
والقَعْوَسْ -مثال جَرْوَل-: الشيخ الكبير.
وقِعَاسٌ -بالكسر-: جبل من ذي الرُّقَيْبَة مُطِلٌّ على خَيْبَر، قال:
«وكأنَّما انْتَقَلَت بأسْفَلِ مُـعْـتِـبٍ *** من ذي الرُّقَيْبَة أو قِعَاسَ وُعُولُ»
وعمرو بن قِعاس بن عبد يَغوث المُرادي: شاعِر.
والقُعاس -بالضم-: داء يُصيب الغَنَم من كَثْرَةِ الأكْلِ؛ تموت منه، قال جرير يهجو جَخْدَب بن جَرْعَب التَّيْمِيَّ النَّسّابَةَ:
«كَسَتْكَ اباتَيْمٍ عَـجـوزٌ لـئيمَةٌ *** رِداءً رَآهُ النّاسُ شَرَّ لِـبَـاسِ»
«يُغالِبُ ما كانت تُغالِـب أُمُّـهُ *** إذا ما مَشى من جُشْأةٍ وقُعَاسِ»
وقَعْسان -مثال سَلْمان-: موضِع.
والقَوْعَس -مثال قَوْنَس-: الغليظ العُنُق الشَّديد الظَّهْر من كُلِّ شَيءٍ.
وقال ابن دريد: القَعْسُ -بالفتح-: التُراب المُنْتِن.
قال: وقُعَيْسِيْس: اسم.
وقال ابن عبّاد: القُعْسوس لقب للمرأة الدميمة.
وقال غيره: الإقعاس: الغِنى والإكثار.
وتَقَاعَسَ: أي تأخَّرَ.
وفَرَسٌ مُتَقَاعِس: أي أقْعَس، والذي يتأخَّر ولم يَنْقَد لِقائدِه -أيضًا-، قال الكُمَيْت:
«فلم أكُ عِنْدَ مَحْمِلِهـا أزُوْحـًا *** كما يَتَقاعَسُ الفَرَسُ الجَرُوْرُ»
وتَزوَّجَ الهُذْلُول بن كعب العَنْبَريّ امرَأَة من بني بَهْدَلَة، فَرَأَتْهُ ذاة يومٍ وهي في نِسْوَةٍ يَطْحَنُ للأضْيافِ، وكان مُمْلَكًا، فَضَرَبَت صَدْرَها وقالتْ: أهذا زوجي؟!، فَبَلَغَه فقال:
«تَقولُ وصَكَّتْ نًحْرَها بِيَمِنِـهـا: *** أبَعْلِيَ هذا بالرَّحى المُتَقاعِـسُ»
«فقُلْتُ لها: لا تَعْجَلي وتَبَـيَّنـي *** فَعَالي إذا الْتَفَّتْ عَلَيَّ الفَوَارِسُ»
واقَعَنْسَسَ: أي تأخَّرَ ورَجَعَ إلى خَلْفٍ، قال:
«بِئْسَ مقامُ الشَيْخِ أمْرِس أمْرِسِ *** بينَ حَوَامي خَشَبَـاتٍ يُبَّـسِ»
«إما على قَعْوٍ وإمّا اقْعَنْسِسِ»
وإنَّما لم يُدْغَم هذا لأنّه مُلْحَق باحْرَ نْجَمَ، يقول: إن اسْتَقى بِبَكرَةٍ وقع حَبْلُها في غير موضِعِه؛ فيقال له أمْرِسْ، وإن اسْتَقى بِغَيْرِ بَكْرَةٍ ومَتَحَ أوْجَعَه ظَهْرُه فيقال له: اقْعَنْسِسْ واجذِبِ الدَّلْوَ.
والمُقْعَنْسِس: الشديد، وتصغيره مُقَيْعِس، وإن شئتَ عَوَّضْتَ من النون فقُلْتَ: مُقَيْعِيْس، وكان المُبَرَّد يختار في تصغيره حذف الميم والسِّين الأخيرة فيقول: قُعَيْس، والأوّل قَوْلُ سِيْبَوَيْه. وجمع المُقْعَنْسِس: مَقَاعِسُ -بفتح الميم- بعد حذف الزِّيادَتين النون والسين الأخيرة، وإنّما لم تُحْذَف الميم وإن كانت زائدة لأنها دخلت لمعنى اسم الفاعل، وأنْتَ في التعويض بالخِيَار، والتعويض أن تُدْخِلَ ياء ساكِنة بين الحرفَين اللَّذين بعد الألِفِ، تقول: مَقَاعِس؛ وإن شئتَ مقاعيس. وإنَّما يكون التعويض لازِمًا إذا كانت الزيادة رابِعة؛ نحو قِنْديل وقَنَاديل، فَقِسَ على ذلك.
ومُقَاعِس: أبو حَيٍّ من تَميم، وهو لَقَب، واسمه الحارِث بن عمرو بن كَعْب بن سعد بن زيد مناة بن تَميم. وقال أبو عُبَيْدَة: سُمِّيَ مُقَاعِسًا يومَ الكُلابِ، لأنَّهم لمّا الْتَقَوا هم وبَنو الحارث بن كعب تَنادى أولئك: يا لَلْحارِث؛ وتَنادى هؤلاء: يالَلْحارِث، فاشْتَبَهَ الشِّعاران، فقالوا: يالَمُقاعِسٍ. وقال ابن الكَلْبيّ: سُمِّيَ مُقَاعِسًا لأنَّه تَقَاعَسَ عن حِلْفٍ كان بينَ قومه.
وتَقَعْوَسَ الشَّيخ: أي كَبِرَ.
وتَقَعْوَسَ البيت: أي تَهَدَّمَ، وكذلك تَقَعْوَشَ بالشين المُعْجَمَة.
والتركيب يدل على ثبات وقوّة، ويَتَوَسَّعون في ذلك على معنى الاستِعارة.
العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م
89-العباب الزاخر (ورس)
ورسالوَرْسُ: يُزْرَع باليَمَنْ زَرْعًا، ولا يَمون بِغَيْر اليَمَن، ولا يكون منه شَيْءٌ بَرِّيًّا، ونَباتُه مثل نبات السِّمْسِم، فإذا جَفَّ عِنْدَ إدراكِهِ تَفَتَّقَتْ سَنِفَتُه وهي خَرائِطُه وأكِمَّتُه، فَتُنْفَضُ فَيَنْتَفِضُ منها الوَرْسُ، ويُزْرَعُ سَنَةً فَيَجْلِسُ عَشْرَ سِنين؛ أي يُقيم في الأرضِ يُنْبِت ويُثمِر. ومنه حديث النبي -صلى الله عليه وسلّم- أنَّه قال: لا يَلْبَسُ المُحْرِمُ القَمِيْصَ ولا العِمَامَةَ ولا البُرْنُسَ ولا السَّرَاوِيْلَ ولا ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ ولا زَعْفَرَان؛ ولا الخُفَّيْنِ إلاّ ألاّ يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَلْيَقْطَعْهُما حتى يَكونا أسْفَلَ من الكَعْبَيْنِ. وقال العجّاج يصف جَمَلًا:
«يَصْفَرُّ لليُبْسِ اصْفِرارَ الـوَرْسِ *** من عَرَقِ النَّضْحِ عَصِيْمُ الدَّرْسِ»
وقال الدِّيْنَوَريّ: للعَرْعَرِ وَرْسٌ، ولا يكون إلاّ في عَرْعَرَةٍ جَفَّتْ من ذاتِها، فَيوجدُ بَيْنَ لِحائها والصَّمِيْمِ وَرْسٌ، إذا فُرِكَ انْفَرَكَ، ولا خَيْرَ فيه، ولكن يُغَشُّ به الوَرْسُ.
قال: وللرِّمْثِ وَرْسٌ، وذلك أنَّه إذا كان في آخِرِ الصَّيْفِ وانْتهى مُنَتَهاه اصْفَرَّ صُفْرَةً شَديدَةً حتى يَصْفَرُّ منه ما لابَسَهُ. ورِمْثٌ وَرِيْسٌ: أي ذو وَرَسٍ، قال عبد الله بن سَلَمَة -وقيل: سُلَيْمَة، وقيل: سُلَيْم- وهذا أصَح:
«في مُرْبِلاتٍ رَوَّحَت صَفَرِيَّة *** بِنَواضِحٍ يقطرنَ غَيْرَ وَرِيْسِ»
ووَرْسُ: اسم عَنْزٍ كانت غَزيرَة.
وجَمَلٌ وارِسٌ: شديد الحُمْرَة.
وقال الليث: الوَرْسِيُّ من أقداح النُّضَارِ: من أجْوَدِها. وفي الحديث: أنَّ الحُسَيْنَ -رضي الله عنه- مرَّ بِدارٍ فاسْتَسْقى فَخَرَجَ إليهِ رَجُلٌ بِقَدَحٍ وَرْسِيٍّ مُفَضَّضْ فَشَرِبَ فيه.
والوَرْسِيُّ مِنَ الحَمام: ضَرْبٌ يَضْرِبُ لَونُه إلى حُمْرَةٍ وصُفْرَةٍ.
وقال ابن دريد: وَرِسَت الصَّخْرَةُ -بالكسر- في الماءِ: إذا رَكِبَها الطُّحْلُب حتى تَخْضَارَّ وتَمْلاسَّ، وأنشد لامْرئ القيس:
«وتَخْطو على صُمٍّ صِلاَبٍ كأنّها *** حِجَارَةُ غِيْلٍ وارِساتٌ بِطُحْلُبِ»
وإسْحاق بن إبراهيم بن أبي الوَرْسِ الغَزِّيُّ: من أصحاب الحديث.
وأوْرَسَ الرِّمْثُ: إذا اصْفَرَّ وَرَقُه بعدَ الإدْراك؛ فَصَارَ عليه مثل المُلاءِ الصُّفْرِ، فهوَ وارِس، ولا يُقال مورِس، وهو من النَّوادِر. وقال الدِّيْنَوَري: لم يَقولوا وَرَسَ كما لم يَقولوا مُوْرِسٌ، وكأنَّ المُرَادَ بِوارِسٍ أنَّه ذو وَرْسٍ، كما قالوا تامِر في ذي التَّمْرِ، وإنَّما يُوْرِسُ إذا بَلَغَ نِهايَتَه قال: وقال الأصمعيّ: أبْقَلَ المَوْضِعُ فَهوَ باقِل، وأوْرَسَ الشَّجَرُ فَهوَ وارِس: إذا أوْرَقَ، ولم يُعْرَف غَيْرُهما، روى ذلك عنه الثِّقَة. وزَعَمَ بعضُ الرُّواةِ أنَّه يقال أوْرَسَ فهو مُوْرِسٌ، وهذا غيرُ مَعروف وإنَّما هو قِيَاسٌ. قال: وقال بعض الرُّواةِ الثِّقَلتِ: وَرَسَ فهوَ وارِس. قال أبو عَبَيْدَة: بَلَدٌ عاشِب؛ ولا يقولونَ إلاّ أعْشَبَ، فَيَقولونَ في النَّعْتِ على فَعَلَ وفي الفِعْلِ على أفْعَلَ، هكذا تَكَلَّمَتْ بِهِ العَرَبُ.
وَوَرَّسْتُ الثَّوْبَ تَوْرِيْسًا: صَبَغْته بالوَرْسِ.
العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م
90-العباب الزاخر (ضرط)
ضرطابن دريدٍ: الضّرطُ معروفّ، يقال: ضرطَ يضرطُ ضرْطًا وضريْطا وضرّاطًا. ومن أمثالهمِ: أجْبنَ من المنزَوْفِ ضرطًا، قال: وله حديثّ. قال الصغاّني مؤلفّ هذا الكتاب: قالوا: كان من حديثهّ أنْ نسْوةَ من العربَ لم يكنّ لهنّ رجلُ فزّوجن إحداهنُ رجلًا كان ينامُ الصبْحة فإذا أتينه بصبوحٍ قلنَ: قمْ فاصْطبحْ، فيقول: لو نَبهتننيَ لعاديةٍ، فلّما رَأينْ ذلك قال بعضهنّ لبعضٍ: إنّ صاحبناَ لشجاعّ فتالْين حتى نجربهَ، فأتينهَ كما كنّ يأتينهْ فأيقظنهَ فقال: لولا لعاديةٍ نَبهتننيّ، فقلنَ: هذه نوَاصي الخيلْ، فَجعلَ يقول: الخيلُ الخيلُ ويضرطُ، حتّى ماتَ.
وفيه قولّ آخر: قال أبو عبيدةَ: كانت دخَتنوْسُ بنتُ لقيطِ بن زُرارة تحت عمرو بن عمرو وكان شيْخا أبرْص، فوضعَ رأسه يومًا في حجرها وهي تهممّ في رأسه، إذ جحفَ عمروّ وسالَ لعلبهُ وهو بينّ انّائمِ والقظانِ فَسمعهاَ توففّ، فقال: ما قلتِ؟، فَحادتْ عن ذلك، فقال لها: أيسركِ أنْ أفارِقكِ؟، قالت، نعمَْ، فَطلقها، فنكحهاَ رجلُّ جميلّ جسْيذم من بني زُرارة -قال ابن حبيبَ: نكحهاَ عميرُ بن عمارةَ بن معبْدِ بن زُرارة-، ثمَ إنّ بكر بن وائلٍ أغَاروا على بني دارمٍ وكان زَوْجها نائمًا ينخرُ، فَنبهتهُ وهي تظنّ أنَّ فيه خَيرًا، فقالتَ: الغارةَ، فلم يزلِ الرّجلُ يحبقُ حتّى ماتَ، فَسميَ: المنزوفْ ضرطًا.
وأخذتْ دختنوْس فأدْركهم الحيّ، فطلبَ عمرو بن عَمرً قتلَ منهم ثلاثةَ رَهطٍ وكان في السرعَانِ، فردوهاَ اليه، فَجعلها أمامهَ فقال:
«أي حليْليْكِ وجَدْتِ خَيرا *** الْعَظيمَ فَيشةً وأبْـرا»
«أم الذي يأتي العدُوَّ سيرْا *** فَردّها إلى أهلْـهـا»
ويقال: إن رجَلُيْنِ من أعرب خرجا في فلاَةٍ فلاحتَ لهم شجرةّ فقال واحدّ منهما للرفَيقة: أي قومًا قد رصدُوْنا، فقال رفيَقهُ: إنما هي عشرةّ، فَظنه يقول: عشرةَ؛ فجعلَ يقول: وما غناءُ اثنيَنِ عن عشرةٍ وضرطَ حتّى نزفَ روحهُ.
ويقال: زعمواُ أنه كانتْ تحتَ لجيمْ بن صعْبِ بن عليِ بن بكر بن وائلٍ امرأةَ من عنزةَ بن أسدَ بن ربيعةَ يقال لها: حذامِ بنتُ العتيكَ بن أسلم بن يذكرّ بن عنزةَ بن أسدَ بن ربيعةَ؛ فوَلدتْ له عجلَ ابن لجيمٍ والأوْقص بن لجيم. ثم تزوجّ بعد حذامِ صفيةَ بنت كاهل بن أسدَ بن خزيمةُ، فولدتْ له حنيفةَ بن لجيمْ، ثمّ انه وقعَ بين امرْأتيه تنازُعّ فقالَ لجيمّ:
«إذا قالتْ حذَامِ فصَدّقوهـا *** فإنّ القولَ ما قالتْ حذَامِ»
ويرْوى: "فأنَصتوها" أي: فأنَصتوا لها، فذَهبتْ مثلًا ثمَ إنّ عجلَ بن بلجيمٍ تزوجَ الماشريةَ بنت نهس بن بدْر بن بكرْ بن وائل وكانت قبله عند الأحْزنَ بن عوفٍ العبديّ فطلقها وهي نسءً لأشهرٍ، فقالت لعجلٍ: احفظ علي ولدي، قال: نعمَ، فلما ولدَتْ سّماه عجلّ سعْدًا.وشبّ الغلامُ فخرجَ به عجلّ ليدفعه إلى الأحزنِ بن عَوف وينصرف، وأقبلَ حنيفةُ ابن لجيمٍ من سفر فتلقاه بنو أخته عجل فلم يرفيهم سعْدًا، فسألهم عنه فقالوا: انطلق به عجلّ إلى أبيه ليدْفعه إليه، فسارَ في طلبه فوجودهَ راجعًا قد دفعه إلى أبيه، فقال: ما صنعتْ يا غشمةُ وهل للغلام أبّ غيرك؟ وجمع إليه بني أخيه وسار الأحزنِ ليأخذَ سعْدًا فوجده مع أبيه ومولى له، فأقبلوا فخذله موْلاه بالتنحي عنه، فقال له الأحْزن: يا بنيّ الأحْزنُ: ابنك ابن بوحك الذب يشرب من صبوحك، فذهبت مثلًا، فضرب حنيفة الأحْزن فجذمه بالسيف؛ فحينئذٍ قيل له جذيمة، وضربَ الأحْزنُ حنيفهُ على رجله فحنفها فقيل له حنيفةُ؛ وكان اسمه أثالًا، فلما رأى مولى الأحْزنِ ما أصابِ الأحْزنَ وقع عليه الضراط فماتَ، فقال حنيفة: هذا هو المنزوْفَ ضرطًا، فذهبتْ مثلًا، وأخذ حنيفةُ سعْدًا فرده إلى عجْلٍ.
ويقال: إنّ المنزُوْف ضرطًا دابةً بين الكلبِ والذئب إذا صيحَ بها وقع عليها الضراط من الجبن وفي مثلٍ آخر: أوْدى العير إلاّ ضرطًا، يضربُ للدليلِ، ويضربُ للشيخ أيضًا؛ وهو منصوبْ على الاْستثناءِ من غير جنسٍ، ويضربُ لفسادِ الشيءِ حتى لا يبقى منه إلا مالا ينفعُ به؛ أي لم يبق من جلدهِ وقوته إلا هذا.
وضرْطة الأصمّ: مثل في الندْرةِ، يقال: كانت كضرطةٍ الأصمّ اذا فعلَ فعْله لم يكن فعلها قبلها ولا بعدها مثلها.
وقال ابن دريدٍ: رجلَ أضرطُ: خَفيفُ اللّحْيةِ قليلها.
وأمرأة ضرْطاءُ: قليلة شعر الحاجبينَ، قال: وقال الأصمعي: هذا غلط، إنما هو رجلَ أطرط إذا كان قليلَ شعرِ الحاجبينْ والاسمُ: الطرطُ، وربما قيل ذلك للذي يقل هدْبُ أشفاره؛ الاّ أنْ الأغلبَ على الغطف. وقال أبو حاتم: هو أضرطُ لا غير. وروي عن ابن دريدٍ أيضًا أنه قال: لسْتُ أعرفُ: قولهم: رجلُ أضرطَ.
قال: ونعجة ضريطةُ: أي ضخمةَ سمينةّ.
وقولهم في المثل: الأخذَ سريطي والقضاءُ ضريطى؛ فسرَ وذكرتِ الوجوهُ التي يروْى بها في تركيبِ س ر ط.
وقال ابن عبادٍ: إنه لضروْطّ ضرُوطّ: أي ضخمْ.
وقال ابن دريدٍ: يقال تكلم فلان فأضرطَ به فلانّ: أي أنكرَ عليه قوله، ومنه قولُ عليّ -رضي الله عنه-: أنه دخلَ بيتْ المالِ فأضرَط به وقال: يا صفراءُ اصْفري ويا بيضاءُ ابيضّ غري غيري. أي اسْتخّفْ به وهو أنّ يحْكيّ بفْيهِ فعلْ الضّارطِ هزّءً وسخرِيةّ.
ويقال: أضرَطه وضرّطه تضريْطًا: أي فعلَ به فعْلًا حصلَ منه ذلك وكانَ يقالً لعمرو بن هندٍ الملكِ: مضرّطَ الحجارةِ لشدّتهِ وصرامتهِ.
وضرّطَ به: أي هزئ به، مثلُ أضرطَ به.
العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م
91-العباب الزاخر (خندف)
خندفأبن الأعرابي: الخندوف: الذي يتبخر في مشيته كبرًا وبطرًا.
وقال ابن الكلبي: ولد اليأس بن مضر عمرًا -وهو مدركه- وعامرًا- وهو طابخة -وعميرًا- وهو قمعة وأمهم خندف؛ وهي ليلى بنت حلوان بن عمران أبن الحاف بن قضاعة. وكان اليأس خرج في نجعة له فنفرت إبله من أرنب؛ فخرج إليها عمرو فأدركها فسمى مدركة، وخرج عامر فتصيد فطبخه فسمي طابخة، وانقمع عمير في الخباء فسمي قمعة، وخرجت أمهم ليلى فقال لها اليأس: أين تخندفين؟ فسميت خندف -قال: والخندفة: ضرب من المشي-. وقال غير أبن الكلبي: قالت خندف لزوجها: ما زلت أخندف أثركم، فقال لها: خندف.
وقال أبو عمرو: الخندفة والنعثلة: أن يمشي الرجل مفاجًا ويقلب قدميه كانه يغرف بهما، وهو من التبختر.
وظلم رجل أيام الزبير بن العوام -رضي الله عنه- فنادى: يا لخندف، فخرج الزبير -رضي الله عنه- ومعه سيف وهو يقول: خندف إليك أيها المخندف؛ والله لئن كنت مظلومًا لأنصرنك. قال الأزهري: إن صح هذا من فعل الزبير رضي الله عنه- فإنه كان قبل نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن التعزي بعزاء الجاهلية.وقلا العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه:
«حتّى احْتَوى بَيْتُك المُهَيْمِنُ من *** خِنْدِفَ عَلْـياءَ الـنُّـطُـقُ»
وقد ذكرت الأبيات والقصة في تركيب ص ل ب.
العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م
92-العباب الزاخر (شرف)
شرفالشَّرَفُ: العلو والمكان العالي، قال:
«آتي النَّديَّ فلا يُقَرَّبُ مجلسـي *** وأقود للشَّرَفِ الرفيع حِماري»
يقول: أني خرفتُ فلا ينتفع برأيي وكبرت فلا أستطيع أن أركب من الأرض حماري إلا من مكان عالٍ.
وقال ابن السكيت: الشَّرَفُ والمجد لا يكونان إلا بالآباء، والحسب والكرم يكونان في الرجل وإن لم يكن له آباء.
وقال ابن دريد: الشَّرَفُ علو الحسب.
وشرف البعير: سَنَامهُ، قال:
«شَرَفٌ أجَبُّ وكاهل مجدول»
وعدا شَرَفًا أو شَرَفَيْنِ: أي شَوْطًا أو شَوْطينِ. وقال الفرّاء: الشَّرَفُ نحو ميل. ومنه حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: الخيل لثلاثة: لرجل أجرٌ ولرجلٍ سترٌ وعلى رجلٍ وزر، فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرجٍ أو روضةٍ؛ فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات؛ ولو أنه انقطع طيلها فاسْتَنَّتْ شَرَفًا أو شَرَفَيْنِ كانت له آثارها وأرواثها حسنات؛ ولو أنها مرت بنهرٍ فشربت منه ولم يرد أن يسقيهاكان ذلك حسنات له؛ فهي لذلك الرجل أجر، ورجل ربطها تغنِّيًا وتعفُّفًا ثم لم يَنْسَ حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي لذلك سِتر، ورجل ربطها فخرًا ورياءٍ ونِوَاء لأهل الإسلام فهي على ذلك وِزْرٌ. قال أسامة الهذلي يصف حمارا:
«إذا ما اشتأى شَرَفًا قُبْـلَـهُ *** وواكظ أوْشَكَ منه اقترابا»
قُبْلَهُ: تجاهه. وقال العجاج يصف عيرًا يطرد آتُنَه:
«وإن حداها شَرَفًا مُغَرِّبـا *** رَفَّةَ عن انفاسها وما ربا»
والشَّرَفُ: الإشْفَاءُ على خطر من خيرٍ أو شرٍ، يقال في الخير هو على شَرَفٍ من قضاء حاجته، ويقال في الشَّرِّ: هو على شَرَفٍ من الهلاك.
وقال ابن الأعرابي: الشَّرَفُ طين أحمر. ويقال للمَغْرَةِ: شَرَفٌ؛ وشَرْفٌ أيضًا.
وقال الليث: الشَّرَفُ شجر له صِبْغٌ أحمر. وقيل: هو دار بَرْنِيَانْ.
وقال ابن دريد: شَرَفُ الإنسان: أعلى جسمه.
وشَرَفُ الروحاء: قريب من المدينة على ساكنيها السلام.
وشَرَفٌ: جبل قرب جبل شُرَيْفٌ، وشُرَيْفٌ: أطول جبل في بلاد العرب.
وقال ابن السكيت: الشَّرَفُ كَبِدُ نجد، وكان من منازل الملوك من بني آكل المُرار من كِنْدَةَ، وفي الشَّرَفِ حِمى ضرية، وضرية بئر، وفي الشَّرَفِ الرَّبَذَةُ وهي الحِمى الأيمن.
والشَّرَفُ: من سواد إشبيلية.
وشَرَفُ البياض: من بلاد خولان من جهة صَعْدَةَ.
وشَرَفُ قِلْحَاحٍ: قلعة على جبل قِلْحاحٍ قرب زبيد.
والشَّرَفُ الأعلى: جبل آخر هنالك.
وشَرَفُ الأرطى: من منازل تميم.
والشَّرَفُ: الشُّرَفاءُ. وقيل للأعمش: لِمَ لَمْ تستكثر من الشَّعْبِيِّ؟ فقال: كان يحتقرني، كنت آتية مع إبراهيم؛ فيُرَحِّب به؛ ويقول لي: اقعد ثم أيها العبد، ثم يقول:
«لا نرفع العبد فوق سُنَّتِـه *** ما دام فينا بأرضنا شَرَفُ»
ورجل شَرِيفٌ من قوم شُرَفاءَ وأشْرَافٍ، وقد شَرُفَ -بالضم-؛ فهو شَرِيفٌ اليوم؛ وشارفٌ عن قليل؛ أي سيصير شَرِيفًا، ذكره الفرّاء.
وسهم شارِفٌ: إذا وُصِفَ بالعتق والقدم، قال أوس بن حجر يصف صائدًا.
«فيَسَّرَ سَهمًا راشَهُ بمـنـاكـب *** ظُهَارٍ لؤامٍ فهو أعجف شارِفُ»
والشَّارِفُ: المسنة من النوق، والجمع: الشَّوَارِفُ والشُّرْفُ مثال بازِلٍ وبُزْلٍ وعائذٍ وعُوْذٍ، ويجوز للشاعر تحريك الراء، قال تميم بن أُبَيِّ بن مقبل:
«قد كنت راعي أبكارٍ مُـنَـعَّـمَةٍ *** فاليوم أصبحت أرعى جِلةً شُرُفًا»
يقال: شَرَفَتِ الناقة وشَرُفَتْ.
وفي حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: أتتكم الشُّرْفُ الجُوْنُ، قالوا: يا رسول الله وما الشُّرْفُ الجون؟ قال: فئن كأمثال الليل المُظلِمِ. ويروى: الشُّرقُ الجُوْنُ، يريد فتنًا طالعة من قبل المشرق.
وبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-مصدقًا فقال: لا تأخذ من حزرات أنْفُسِ الناس شيئًا؛ خذ الشّارِفَ والبكر وذا العيب.
وفي حديث علي رضي الله عنه-: أصبتُ شارِفًا من مغنم بدرٍ؛ وأعطاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شارِفًا؛ فأنَخْتُهما ببابِ رجل من الأنصار؛ وحمزة -رضي الله عنه-في البيت ومعه قَيْنَةٌ تُغَنِّيه:
«ألا يا حمز للشُّرْفِ النِّـواءِ *** وهُنَّ مُعَقَّلاتٌ بالفِـنـاءِ»
«ضع السكين في اللبات منها *** وضَرِّجْهُنَّ حمزة بالدماء»
«وعجِّلْ من أطايبها لشـربٍ *** طعاما من قديرٍ أو شِوَاءِ»
فخرج إليهما فَجَبَّ ويروى-: فاجتنب اسْنِمَتَهما وبقر خواصرهما وأخذ أكبادهما، فنظرت إلى منظر أفظعني، فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- فخرج ومعه زيد بن حارثة رضي الله عنه- حتى وقف عليه وتغَيَّظَ، فرفع رأسه إليه وقال: هل أنتم إلا عبيد آبائي، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم- يُقَهْقِرُ.
والشّارفُ -أيضًا-: وعاء الخمر من خابيةٍ ونحوها.
وفي حديث ابن عباس -رضي اله عنهما-: أمِرْنا أن نبني المَسَاجد جُمًّا والمدائن شُرْفًا. الجُمُّ: التي لا شُرَفَ لها. والشُّرْفُ: التي لها شُرَفٌ.
والشّارُوْفُ: حَبْلٌ: وهو مولَّدٌ.
والشّارُوْفُ: المِكْنَسَةُ، وهو معرب جاروب، وأصله جاي رُوبْ: أي كانس الموضع.
وشَرَافِ -مثال قَطَامِ-: موضع، وقيل: ماءةٌ لبني أسدٍ. وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: ألا يكون بين شَرَافِ وأرض كذا وكذا جمّاءُ ولا ذاةُ قرنٍ، قيل: وكيف ذاك؟ قال: يكون الناس صلاماتٍ يضرب بعضهم رقاب بعض، وقال المُثَقِّبُ العبدي:
«مَرَرْنَ على شَرَافِ فذاة رجلٍ *** ونكبن الذَّرانح بـالـيمـين»
وبناؤه على الكسر هو قول الأصمعي، وأجراه غيره مجرى ما لا ينصرف من الأسماء، ويقال فيه شِرَافُ -بكسر الشين- غير مُجْرىً، فصار فيه ثلاث لغاتٍ. وهو بين واقصة والقَرْعاءِ، وقال الشَّمّاخُ:
«مرت بنفعي شَرَافٍ وهي عاصفة *** تخدي على يَسَرَاتٍ غير أعصال»
وشَرَفْتُه أشْرُفُه -بالضم-: أي غلبيته بالشَّرَفِ.
وكعب بن الأشرف: من رؤساء اليهود.
وقول بشير بن المعتمر.
«وطائرٌ أشرفُ ذو جُردةٍ *** وطائر ليس له وكـر»
الأشْرَفُ من الطير: الخفاش؛ لأن لأذنيه حجمًا ظاهرًا؛ وهو متجرد من الزغب والريش، وهو طائر يلد ولا يبيض. والطائر الذي ليس له وكر: طائر يُخبرُ عنه البحريون أنه لا يسقط إلا ريثما يجعل لبيضه أُفْحُوْصًا من تراب ويغطي عليه ثم يطير في الهواء وبيضه يتفقس من نفسه عند انتهاء مدته، فإذا أطاق فرخه الطيران كان كأبويه في عادتهما.
وفلان أشْرَفُ منه.
ومَنْكِبٌ أشْرَفُ: أي عالٍ.
وأُذُنٌ شَرْفَاءُ: أي طويلة.
ومدينة شَرْفاءُ: ذاة شُرَفٍ.
وشُرْفَةُ القصر -بالضم-: واحدة الشُّرَفِ. وفي حديث مولد النبي -صلى الله عليه وسلم-: ارتجس إيوان كسرى فسقطت منه أربع عشرة شُرْفَةً. وقد كتب الحديث بتمامه في تركيب و ب ذ.
وشُرْفَةُ المال: خياره.
ويقال: إني أعد إتيانكم شًرْفَةً وأرى ذلك شُرْفَةً: أي فضلا وشَرَفًا أتشرف به.
وشُرُفاتُ الفرس: هاديه وقَطَاتُه.
وإسحاق بن شرفى -مثال ضعفى-: من أصحاب الحديث.
والشُّرَيْفُ -مصغرًا-: ماء لبني نمير.
وقال ابن السكيت: الشُّرَيْفُ وادٍ بنجدٍ، فما كان عن يمينه فهو الشَّرَفُ، وما كان عن يساره فهو الشُّرَيْفُ، قال طُفَيْلٌ الغنوي:
«تبيت كعقبان الشُّرَيْفِ رجـالـه *** إذا ما نَوَوْا إحداث أمرٍ معطبِ»
وقال أبو وجزة السعدي:
«إذا تربعت ما بـين الـشُّـرَيْفِ إلـى *** روضِ الفلاح أُوْلاتِ السَّرْحِ والعُبَبِ»
ويروى: "الشّريْقِ:.
ويوم الشُّرَيْفِ: من أيامهم.
وقال ابن دريد: أُذُنُ شُرَافِيَّةٌ وشُفَارِيَّةٌ: إذا كانت عالية طويلة عليها شَعَرٌ.
وقال غيره: الشُّرَافيُّ: لون من الثياب أبيض.
وقال الأصمعي: الثوب الشُّرَافيُّ: الذي يُشترى مما شارَفَ أرض العجم من أرض العرب.
وناقة شُرَافِيَّةٌ: ضخمة الأُذنين جسيمة.
وأشْرَافُ الإنسان: أُذناه وأنفه، قال عدي بن زيد العبادي:
«كقصيرٍ إذ لم يجد غير أن جد *** دعَ أشْرافَهُ لِشُكْرٍ قصـير»
والشِّرْيافُ: ورق الزرع إذا طال وكثر حتى يخاف فساده فيقطع.
ومَشَارِفُ الأرض: أعاليها.
والسيوف المَشْرَفِيَّةُ: منسوبةٌ إلى مَشَارِفِ الشأْم، قال أبو عبيدة: هي قرى من أرض العرب تدنو من الريف، يقال: سيف مَشْرَفيُّ ولا يقال مَشَارِفيٌّ، لأن الجمع لا ينسب إليه إذا كان على هذا الوزن، لا يقال مَهَالِبيٌّ ولا جَعَافريٌّ ولا عَبَاقريٌّ، وقال كُثيِّر يمدح عبد الملك ن مروان:
«أحاطتْ يداه بالخلافة بعدمـا *** أراد رجال آخرون اغتيالها»
«فما تَرَكوها عنوة عن مَـوَدَّةٍ *** ولكن بحد المَشْرَفيِّ استقالها»
وقال رؤبة:
«والحرب عَسراء اللقاح المُغْزي *** بالمَشْرَفِيّاتِ وطعـنٍ وخـز»
وشَرِفَ الرجل -بالكسر-: إذا دام على أكل السَّنَام.
وأشْرَفْتُ المرْبَأَ: أي علوته، قال العجاج:
«ومربأ عالٍ لمن تَشَرَّفـا *** أشْرَفْتُهُ بلا شَفًا أو بِشَفا»
وأشْرَفْتُ عليه: أي اطلعت عليه من فوق، وذلك الموضع: مُشْرَفٌ. ومنه حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما جاءك من هذا المال وأن تغير مُشْرِفٍ له ولا سائل فخذه ومالا فلا تُتْبِعْه نفسك. أي وأنت غير طامع فيه ولا متطلع إليه.
وأشْرَفَ المريض على الموت: أي أشْفى عليه.
ويقال: ما يُشْرِفُ له شيء إلا أخذه.
ومُشْرِفٌ: رمل بالدهناء، قال ذو الرُّمَّة:
«إلى ظُعُنٍ يقرضن أجوازَ مُشْرِفٍ *** شمالًا وعن أيمانهن الفـوارس»
وقال أيضًا:
«رَعَتْ مُشْرِفًا فالأحبل العُفْرَ حولـه *** إلى رِمْثِ حُزْوى في عَوَازِبَ أُبَّلِ»
والإشْرَافُ: الشَّفَقَةُ، قال:
«ومن مضر الحمراء إشْرَافُ أنفسٍ *** علينا وحيّاها إلينـا تـمـضَّـرا»
وشَرَّفْتُ القصر وغيره تشريفًا: إذا جعلت له شُرَفًا.
وقال ابن الأعرابي في قوله:
«جمعتهما من أيْنُـقٍ غِـزار *** من اللوى شُرِّفْنَ بالصِّرَارِ»
ليس من الشَّرفِ، ولكن من التَّشْرِيفِ: وهو أن يكاد يقطع أخلافها بالصِّرارِ فيؤثر في الصِّرَارِ.
وشَرَّفَ الله الكعبة: من الشَّرَفِ.
ومُشَرَّفٌ: جبل، قال قيس بن عيزارة:
«فإنك لو عاليتـه فـي مُـشَـرَّفٍ *** من الصُّفْرِ أو من مُشْرِفاتِ التوائم»
قال أب عمرو: مُشَرَّف: جبل، والصُّفْرُ: السود. وقال غيره: أي في قصر ذي شُرَفٍ من الصُّفْرِ.
وتَشَرَّفْتُ: من الشَّرَفِ.
وتَشَرَّفْتُ المَرْبَأ: أي علوته، قال العجاج:
«ومربأٍ عالٍ لمن تَشَرَّفا»
وتُشُرِّفَ القوم: قُتِلَتْ أشْرافهم.
واسْتَشْرَفَني حقي: أي ظلمني، قال عدي بن زيد بن مالك بن عدي بن الرقاع:
«ولقد يخفض المجاور فيهـم *** غير مُسْتَشْرَفٍ ولا مظلومِ»
واسْتَشْرَفْتُ الشيء: إذا رفعت بصرك إليه وبسطت كفك فوق حاجبك كالذي يستظل من الشمس، ومنه قول الحسين بن مطير:
«فيا عجبا مني ومن حُبِّ قاتـلـي *** كأني أجْزِيه المودة من قتـلـي»
«ويا عجبا للناس يَسْتَشْرِفُـونَـنـي *** كأن لم يروا بعدي مُحِبًّا ولا قبلي»
وفي حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: ستكون فتنٌ القاعد فيها خيرٌ من القائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خيرٌ من السّاعي؛ مَنْ تَشَرَّفَ لها تَسْتَشْرِفْه؛ فمن وجد ملجأ أو معاذًا فليعذ به.
وفي الحديث: أمرنا أن نَسْتَشْرِفَ العين والأُذن. أي نتفقدهما ونتأملهما لئلا يكون فيهما نقص من عورٍ أو جدعٍ، وقيل: أن نطلبهما شَرِيفَتَيْنِ بالتمام والسلامة. وفي حديث أبي طلحة -رضي الله عنه-: إنه كان حَسَنَ الرمي فكان إذا رمى اسْتَشْرَفَه النبي -صلى الله عليه وسلم-لَيَنْظر إلى موقع نبله، قال:
«تطاللتُ فاسْتَشْرَفْتُهُ فرأيتـه *** فقلت له آأنتَ زيد الأرامل»
وشارَفْتُ الرجل: أي فاخرته أيُّنا أشْرَفُ.
وشارَفْتُ الشيء: أي أشْرَفْتُ عليه.
والاشْتِرَافُ: الانتصاب.
وفرس مُشْتَرِفٌ: أي مُشْرِفُ الخَلْقِ، قال جرير:
«من كل مُشْتَرِفٍ وإن بعد المدى *** ضرم الرَّقاق مناقل الأجرَالِ»
وشَرْيَفْتُ الزرع: قطعت شِرْيافَه.
والتركيب يدل على علو وارتفاع.
العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م
93-العباب الزاخر (كفف)
كففالكَفُّ: واحدةُ الكُفِّ والكُفُوْفِ؛ والكُفِّ -بالضم- وهذه عن ابن عبّاد. وقال ابن دريد: كَفُّ الطائر أيضًا.
وذو الكَفَّيْنِ: اسم صنم كان لِدَوس، وقال ابن الكلبي: ثم لمُنْهِب بن دَوْس، فلما أسلموا بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- الطُّفَيل بن عمرو الدَّوْسِيَّ فَحرَّقه، وهو الذي يقول:
«يا ذا الكَفَّيْنِ لَسْتُ من عُبّادِكا *** مِيْلادُنا أكْبَرُ من مِيْلادِكـا»
«أنا حَشَوْتُ النَّارَ في فُؤادِكا»
هكذا يروى، واستقامة الوزن أن تجعل "يا" خَزْمًا فيبقة مفْعُولُنْ بدل مًُسْتَفعِلُنْ، أو تُخفَّف الفاء.
وذو الكفَّين: سيف نهار بن جُلَف، قالت أُختُ نَهارٍ:
«اضْرِبْ بذِي الكَفَّيْنِ مُسْتَقْبِلًا *** واعْلَمْ بأنّي لكَ في المَأْتَمِ»
وذو الكَفَّين: سيف عبد الله بن أصْرَمَ بن شُعَيْثَةَ، وكان وَفَدَ على كِسْرى فسلَّحه بسيفين يقال لهما: إسْطامٌ وذو الكفَّيْنِ، فَشَهد يزيد بن عبد الله حرْبَ الجمَلِ مع عائشة -رضي الله عنها- فجعل يضْرِب بالسيفين ويقول:
«أضْرِبُ في حافاتِهم بِـسَـيْفَـيْنْ *** ضَرْبًا بإسْطَامٍ وذي الـكَـفَّـيْنْ»
«سَيْفَيْ هِلالـيٍّ كَـريمِ الـجَـدَّيْنْ *** واري الزّنادِ وابنِ واري الزَّنْدَيْنْ»
وذو الكفِّ: سيف مالك بن أبي كعب الأنصاري. وتخاطر أبو الحسام ثابت بن المنذر بن حرام ومالك أيهما أقطع سيفا؛ فجعلا سُفُّوْدًا في عُنُق جَزُوْرٍ، فنبا سيف ثابت وقطع سيف مالك، فقال مالك:
«لم يَنْبُ ذو الكَفِّ عن العِظَامِ *** وقد نَبا سَيْفُ أبي الحُسَامِ»
وذو الكَفِّ -أيضًا-: سَيْفُ خالد بن المهاجر بن خالد بن المُهاجر بن خالد بن الوليد، وقال حين قتل ابن أُثال وكان يُكنّى أبا الورد:
«سَلِ ابْنَ أُثَالٍ هل عَلَوْتُ قَـذَالَـهُ *** بذي الكَفِّ حتّى خَرَّ غَيْرَ مُوَسَّدِ»
«ولو عَضَّ سَيْفي بابْنِ هِنْدٍ لَسَاغَ لي *** شَرابي ولم أحْفِلْ مَتى قامَ عُوَّدي»
وذو الكَفِّ الأشل: وهو عمرو بن عبد الله أخو بني سعد بن ضُبَيْعَةَ بن قيس بن ثعلبة الحصن بن عُكابة، من فُرسان بكر بن وائل، وكان أشَلَّ.
وقال الدِّيْنوري: ذكر بعض الرواة إنّ الرّجْلة يقال لها الكَفّ.
وقال غيره: كَفُّ الكلب: من الأدوية؛ وهو الذي يقال له راحة الكلب.
والكَفُّ: النِّعمة، يقال: لله علينا كَفٌّ واقية وكَفٌّ سابغة.
وقولهم: لقيتُه كفَّة كَفَّة: أي كِفاحًا؛ كأن كَفَّك مسَّت كَفَّه، وذلك إذا استقبلْتَه مُواجهةً، وهما اسمان جُعلا واحدًا وبُنيا على الفتح مثل خمسة عشر.
ويقال: لَقِيتُه كفَّةً لِكَفَّةٍ، على فَكِّ التركيب.
وفي الحديث: أن أول من سلَّ سيفًا الزبير -رضي الله عنه- سمع أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قُتل فخرج بيده السيف، فتلقّاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كَفَّةَ كَفَّةَ، فدعا له بخير.
وتقول: جاء الناس كافة: أي جاؤوا كلهم، ولا تدخُل هذه اللفظة الألِف واللاّم ولا تُثّنى ولا تُجمع ولا تُضاف، لا يُقال جاءت الكافَّة ولَقِيت كافَّةَ الناس وأما قول عَبْدِ الله بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه:
«فَسِرْنا إليهم كافَةً في رِحَالِهـمْ *** جَميعًا علينا البَيْضُ لا نَتَخَشَّعُ»
فإنما خفَّفها ضرورة لأنه لا يصلح الجمْع بين الساكنين، وكذلك قول الآخر:
«جَزَى اللهُ الرَّوَابَ جَزَاءَ سَوءٍ *** وألْبَسَهُنَّ من بَرَصٍ قَمِيْصا»
«يُبَغِّضْنَ الصَّبِيَّ إلـى أبِـيْهِ *** وكانَ على مَسَرَّتِهِ حَرِيصا»
والرَّواب: جمْع رابَّةٍ.
ويقال للبعير إذا كبِر فقصُرت أسنانه حتى تكاد تذهبُ: هو كافٌّ، والنّاقة كافٌّ -أيضًا- وكَفُوف، وقد كَفَّتِ النّاقة تَكُفُّ كُفُوفًا.
وكَفَفْتُ الثوب: أي خِطتُ حاشيته، وهو الخياطة الثانية بعد المَلِّ.
وقول امرئ القيس يصِفُ امرأةً:
«كأنَّ على لَبّاتِها جَمْرَ مُضْـطَـلٍ *** أصابَ غَضًا جَزْلًا وكُفَّ بأجْذَالِ»
أي جُعل حول الجمر أجذالٌ وهي أُصول الحطب العِظام.
وكَفَفْتُ الإناء: مَلأْتُه مَلأً مُفْرِطًا.
وقال رجل للحسن البصري: إنَّ بِرجلي شُقاقا، قال: أكْفُفْهُ بِخرْقَة. أي أعْصِبْهُ.
وعيبةٌ مَكْفُوْفَةٌ: أي مُشْرَجَةٌ مشدودة. وفي كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في صُلْح الحُديبية حين صالح أهل مكة وكتب بينه وبينهم كتابًا، فكتب فيه: أن لا إغلال ولا إسلال وأن بينهم عيبة مكفوفة. مثَّل بها الذّمة المحفوظة التي لا تُنْكَثُ. وقال أبو سعيد: معناه أن يكون الشر مكفوفًا بينهم كما تُكَفُّ العِيابُ إذا أُشرِجَتْ على ما فيها من المتاع، كذلك الذُّحُول التي كانت بينهم قد اصطلحوا على ألاّ ينشروها بل يتكافُّونَ عنها كأنهم قد جعلوها في وعاء وأشرجوا عليها.
والمَكْفوف: الضَّرير، والجمع: المَكافِيْفُ، وقد كُفَّ بصره، وكفَّ بصره أيضًا؛ عن ابن الأعرابيِّ.
وكفُفْتُ الشيء عن الشيء فكفَّ، يتعدى ولا يتعدّى، والمصدر واحد.
وقول الشاعر:
«نَجْوْسُ عِمَارَةً ونَكُفُّ أُخْرى *** لنا حتّى يُجَاوْزَهـا دَلِـيلُ»
يقول: نطَأُ قَبيلة ونتخلَّلُها ونكُف أخرى أي نأخذ في كُفَّتها -وهي ناحيتها- ثم ندعها ونحن نقدر عليها.
والكَفُّ في زحافِ العَروض: إسقاط الحرف السابع إذا كان ساكنا، مثل إسقاط النون من فاعلاتُنْ فيصير فاعِلاتُ؛ ومن مفاعِيلُنْ فيصير مَفاعِيلُ. فبيْتُ الأول:
«لَنْ يَزَالَ قَوْمُنا مُخْصِبِـيْنَ *** سالِمِيْنَ ما اتَّقَوْا واسْتَقَامُوا»
وبيت الثاني:
«دَعَاني إلى سُـعَـادٍ *** دَوَاعي هَوى سُعَادِ»
وكفافُ الشيء -بالفتح-: مِثلُه وقِيْسه.
والكَفَاف -أيضًا- من الرِّزق والكَفَفُ -مقصور منه-: القوت، وهو ما كفَّ عن الناس: أي أغنى. وفي الحديث: اللهم اجعل رزْق آل محمد كَفَافًا. ويورى: قُوْتًا.
وقول رُؤْبَة لأبيه العجّاج:
«فَلَيْتَ حَظّي من جَدَاكَ الضّافي *** والفَضْلِ أنْ تَتْرُكَني كَفَـافِ»
هو من قولهم: دعني كَفَافِ: أي كُفَّ عنّي وأكُفُّ عنك أي ننجو رأسًا بِرأس. ويَجِيءُ مُعْرَبًا، ومنه حديث عطاء بن يسار قال: قلت للوليد بن عبد الملك: قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: وَدِدْتُ أنّي سَلِمْتُ من الخلافة كَفَافًا لا عليَّ ولا لي، فقال: كَذَبْت، الخليفة يقول هذا، فقلت: أو كذِّبْتُ؛ فأفْلَتُّ منه بجريْعَةِ الذَّقَنِ.
وكُفَّةُ القميص -بالضم-: ما استدار حول الذيل. وكان الأصمعي يقول: كل ما استطال فهو كُفَّة -بالضم- نحو كُفَّة الثوب وهي حاشيته؛ وكُفَّةِ الردمل؛ وكُفَّة الشيء وهي حَرْفُه، لأن الشيء إذا انتهى إلى ذلك كَفَّ عن الزيادة. وجمْع الكُفَّة كِفَافٌ.
وكِفَافُ الشيء: حِتارُه.
وكِفَافا السيف: غِراره.
قال: وكل ما استدار فهو كِفَّةٌ -بالكسر-؛ نحو كِفَّةِ الميزان؛ وكِفَّةِ الصائد وهي حِبالتُه؛ وكِفَّة اللِّثة وهي ما انحدر منها. قال: ويقال -أيضًا- كَفَّةُ الميزان -بالفتح-، والجمْعُ كِفَفٌ.
والكِففُ في الوشم: داراتٌ تكون فيه، قال لبيد رضي الله عنه:
«أو رَجْعُ واشِمَةٍ أُسِفَّ نَؤُورُها *** كِفَفًا تَعَرَّضَ فوقَهُنَّ وِشامُها»
انتهى قول الأصمعي.
وقال الفَرّاءُ: الكُفَّةُ -بالضم- من الشجر: مُنتهاه حيث ينتهي وينقطع.
وكُفَّةُ الناس: أنك تعلو الفَلاة أو الخَطِيطة فإذا عايَنْتَ سوادها قُلْتَ: هاتيك كُفَّةُ الناس، وكُفَّتُهم: أدناهم إليك مكانًا.
وكُفَّةُ الغيم: مِثْلُ طُرَّةِ الثوب، قال القَنانيُّ:
«ولو أشْرَفَتْ من كُفَّةِ السَّتْرِ عاطِلًا *** لَقُلْتَ غَزَالٌ ما عليه خَضَـاضُ»
وقال ابن عبّاد: الكُفَّة مثل العَلاةِ وهي حجرٌ يُجعل حوله أخثاء وطين ثم يُطبخ فيه الأقطُ.
وكُفَّةُ الليل: حيث يلتقي الليل والنهار إمّا في المشرق وإمّا في المغرب.
وقال الفرّاءُ: استكَفَّ القوم حول الشيء: إذا أحاطوا به ينظرون إليه. ومنه الحديث: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج من الكعبة وقد اسْتَكفَّ له الناس فخطبهم. ومنه قول تميم بن أُبيِّ بن مُقْبِل:
«خَرُوْجٌ من الغُمّى إذا صُكَّ صَكَّةً *** بَدَا والعُيُوْنُ المُسْتَكِفَّةُ تَلْـمَـحُ»
واسْتَكَفَّتِ الحية: ترَحَّتْ.
واسْتَكْفَفْتُ الشيء: استوضحْتُه؛ وهو أن تضع يدك على حاجِبك كالذي يستَظِلُّ من الشمس ينظر إلى الشيء هل يَراه.
وقول حُميد بن ثور رضي الله عنه:
«ظَلِلْنَا إلى كَهْفٍ وظَلَّتْ رِكابُنا *** إلى مُسْتَكِفّاتٍ لَهُنَّ غُرُوْبُ»
قيل: المُسْتَكِفّاتُ: عيونُها؛ لأنها في كِففٍ؛ والكِففُ: النّقَرُ التي فيها العيون. وقيل: المُسْتِكفّاتُ: إبل مجتمعة؛ يقال: جُمَّةٌ مُجتمعة. لهُن غروب: أي دموعُهن تسيل مما لقين من التعب.
واسْتَكَفَّ الشعر: إذا اجتمع.
واسْتَكَفَّ بالصدقة: مدَّ يده بها، ومنه حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: المُنْفِقُ على الخيل كالمُسْتَكِفِّ بالصَّدَقة.
واسْتَكَفَّ -أيضًا- وتَكَفَّفَ: بمعنىً؛ وهو أن يَمُدَّ كفَّه يسأل الناس، يقال: فلان يَتَكَفَّفُ الناس. ومنه حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنه عاد سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- فقال: يا رسول الله أأتصدَّق بجميع مالي؟ قال: لا، قال: فالشَّطْر؟ قال: لا، قال: فالثُّلُث؟ قال: الثُّلُثُ؛ والثُّلُثُ كثيرٌ أو كبير، أنك إن تذَرْ ورثَتَك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتَكفَّفُون الناس.
وكَفْكَفْتُ الرجل: مثل كَفَفْتُه، ومنه قول أبي زبيد حرملة بن المنذر الطائي:
«ألَمْ تَرَني سَكَّنْتُ لأْيًا كِـلابَـكُـمْ *** وكَفْكَفْتُ عنكم أكْلُبي وهي عُقَّرُ»
وتَكَفْكَفَ عن الشيء: أي كَفَّ. وقال الأزهري: تَكَفْكَفَ: أصله عندي من وَكَفَ يَكِفُ، وهذا كقولهم: لا تَعِظيني وتَعظْعَظي، وقالوا: خَضْخَضْتُ الشيء في الماء، واصله من خُضْتُ.
وانْكَفُّوا عن الموضع: أي تركوه.
والتركيب يدل على قَبْضٍ وانْقِباضٍ.
العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م
94-القاموس المحيط (الأحمر)
الأَحْمَرُ: ما لَوْنُهُ الحُمْرةُ، ومن لا سِلاحَ معه، جَمْعُهُما حُمْرٌ وحُمْرانٌ، وتَمْرٌ، والأَبْيَضُ، ضِدُّ، ومنه الحديثُ: "ياحُمَيْراءُ" والذَّهَبُ، والزَّعْفَرانُ، واللَّحْمُ، والخَمْرُ.
والأَحَامِرَةُ: قومٌ من العَجَمِ نَزلوا بالبَصْرَةِ، واللَّحْمُ، والخمرُ، والخَلوقُ.
والموتُ الأَحْمَرُ: القَتْلُ أو الموتُ الشَّديدُ. وقولُهُم: الحُسْنُ أحمرُ، أي: يَلْقَى العاشِقُ منه ما يَلْقَى من الحَرْبِ.
والحَمْراءُ: العَجَمُ، والسَّنَةُ الشديدَةُ، وشِدَّةُ الظَّهيرَةِ، ومَدينةُ لَبْلَةَ،
وع بِفُسْطاطِ مِصْرَ، وبالقُدْسِ،
وة باليَمَنِ.
وحَمْراءُ الأَسَدِ: ع ثَمانِيَةِ أميالٍ من المَدِينةِ، وثَلاثُ قُرًى بِمِصْرَ.
والحِمارُ: م، ويكونُ وحْشِيًّا
ج: أحْمِرَةٌ وحُمُرٌ وحَمِيرٌ وحُمورٌ وحُمُرَاتٌ ومَحْمُوراءُ،
و=: خَشَبَةٌ في مُقَدَّمِ الرَّحْلِ، والخَشَبَةُ يَعْمَلَ عليها الصَّيْقَلُ، وثلاثُ خَشَباتٍ تُعَرَّضُ عليها خَشَبَةٌ وتُؤْسَرُ بها، ووادٍ باليَمَنِ، وبِهاءٍ: الأَتَانُ، وحَجَرٌ يُنْصَبُ حَوْلَ بَيْتِ الصائِدِ، والصَّخْرَةُ العظيمَةُ، وخَشَبَةٌ في الهَوْدَجِ، وحَجَرٌ عَريضٌ يُوضَعُ على اللَّحْدِ
ج: حَمائِرُ، وحَرَّةٌ،
وـ من القَدَمِ: المُشْرِفَةُ فَوْقَ أصابِعِها، والفَريضَةُ المُشَرَّكَةُ الحِمارِيَّةُ.
وحِمارُ قَبَّانَ: دُوَيْبَّةٌ.
والحِمارانِ: حَجَرانِ يُطْرَحُ عليهما آخَرُ، يُجَفَّفُ عليه الأَقِطُ.
و"هو أكفَرُ من حِمارٍ" هو ابنُ مالِكٍ، أو مُوَيْلِعٍ، كان مُسْلِمًا أربعينَ سنةً في كَرَمٍ وجُودٍ، فَخَرَجَ بَنُوهُ عَشَرَةً للصَّيْدِ، فأصابَتْهُمْ صاعِقَةٌ، فَهَلَكُوا، فَكَفَرَ وقال: لا أعْبُدُ من فَعَلَ بِبَنِيَّ هذا، فَأَهْلَكَهُ اللهُ تعالى، وأخْرَبَ وادِيَهُ، فَضُرِبَ بِكُفْرِهِ المَثَلُ.
وذو الحِمارِ: الأَسْودُ العَنْسِيُّ الكَذَّابُ المُتَنَبِّئُ، كانَ له حمارٌ أسْودُ مُعَلَّمُ، يقولُ له: اسْجُدْ لرَبِّكَ، فَيَسْجُدُ له، ويقولُ له: ابْرُكْ، فَيَبْرُكُ.
وأذُنُ الحمارِ: نَبْتٌ.
والحُمَرُ، كصُرَدٍ: التَّمْرُ الهِنْدِيُّ،
كالحَوْمَرِ، وطائِرٌ، وتُشَدَّدُ الميمُ واحِدَتُهُما: بهاءٍ. وابنُ لِسانِ الحُمَّرَةِ، كسُكَّرَةٍ: خَطيبٌ بليغٌ نَسَّابَةٌ، اسْمُهُ عبدُ اللهِ بنُ حُصَيْنٍ، أو ورْقاءُ بنُ الأَشْعَرِ.
واليَحْمُورُ: الأَحْمَرُ، ودابَّةٌ، وطائِرٌ، وحِمارُ الوَحْشِ.
والحَمَّارَةُ، كجَبَّانَةٍ: الفَرَسُ الهَجِينُ،
كالمُحَمَّرِ، فارِسِيَّتُهُ: بالانِي، وأصحابُ الحَمِيرِ،
كالحامِرَةِ، وبتخفيفِ الميمِ وتشديدِ الراءِ وقد تُخَفَّفُ في الشِّعْرِ: شِدَّةُ الحرِّ.
وأحْمَرُ: مَوْلَى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ومَوْلًى لأُمِّ سَلَمَةَ، وابنُ مُعاويَةَ بنِ سُلَيْمٍ، وابنُ سَواءِ بنِ عَدِيٍّ، وابنُ قَطَنٍ الهَمَذانِيُّ، والأَحْمَريُّ المَدَنِيُّ: صحابيُّونَ.
والحَمِيرُ والحَمِيرَةُ الأُشْكُزُّ: لسَيْرٍ في السَّرْجِ،
وحَمَرَ السَّيْرَ: سَحَا قِشْرَهُ،
وـ الشاةَ: سَلَخَها،
وـ الرَّأسَ: حَلَقَه.
وغَيْثٌ حِمِرٌّ، كفِلِزٍّ: يَقْشِرُ الأرضَ.
والحِمِرُّ من حَرِّ القَيْظِ: أشدُّه،
وـ من الرجلِ: شَرُّهُ.
وبنُو حمِرَّى، كزِمِكَّى: قبيلةٌ.
والمِحْمَرُ، كمِنبرٍ: المِحْلأُ، والذي لا يُعْطِي إلاَّ على الكَدِّ، واللئيمُ.
وحَمِرَ الفرسُ، كفَرِحَ: سَنِقَ من أكْلِ الشَّعِيرِ، أو تَغَيَّرَتْ رائِحةُ فيه،
وـ الرجلُ: تَحَرَّقَ غَضَبًا،
وـ الدابَّةُ: صارَتْ من السِّمَنِ كالحِمارِ بَلادَةً.
وأُحامِرُ، بالضم: جبلٌ،
وع بالمدينةِ، يُضافُ إلى البُغَيْبِغَةِ، وبهاءٍ: رَدْهَةٌ.
والحُمْرَةُ: اللَّوْنُ المَعْرُوفُ، وشجرةٌ تُحِبُّها الحُمُرُ، وورَمٌ من جِنْسِ الطَّواعِينِ. وحُمْرَةُ بنُ يَشْرَحَ بنِ عبدِ كُلالٍ: تابِعيٌّ، وابنُ مالكٍ في هَمْدانَ، وابنُ جَعْفَرِ بنِ ثَعْلَبَةَ في تَميمٍ. ومالكُ بنُ حُمْرَةَ: صَحابِيٌّ. ومالكُ بنُ أبي حُمْرَةَ الكُوفِيُّ، والضَّحَّاكُ بنُ حُمْرَةَ، وعبدُ اللهِ بنُ علِيِّ بنِ نَصْرِ بنِ حُمْرَةَ، وهو ضعيفٌ: محدِّثونَ.
وحُمَيِّرٌ، كمُصَغَّرِ حمارٍ: ابنُ عَدِيٍّ، وابنُ أشْجَعَ: صحابيَّانِ. وحُمَيِّرُ بنُ عَدِيٍّ العابِدُ: محدِّثٌ. وكزُبَيْرٍ: عبدُ اللهِ، وعبدُ الرحمنِ: ابنا حُمَيْرِ بنِ عمرٍو، قُتلا مع عائِشَةَ.
ورُطَبٌ ذُو حُمْرَةٍ: حُلْوَةٌ.
وحُمْرانُ، بالضم: ماءٌ بِديارِ الرَّبابِ،
وع بالرَّقَّةِ، وقَصْرُ حُمْرانَ بالبادِيَةِ،
وة قُرْبَ تَكْريتَ.
وحامِرٌ: ع على الفُراتِ، ووادٍ في طَرَفِ السماوَةِ، ووادٍ وراءَ يَبْرِينَ، ووادٍ لبني زُهَيْرِ بنِ جَنابٍ،
وع لِغَطَفانَ.
وأحْمَرَ: وُلِدَ له ولَدٌ أحْمَرُ،
وـ الدابَّةَ: عَلَفَها حتى تَغَيَّرَ فُوها.
وحَمَّرَهُ تَحْمِيرًا: قال له: يا حِمارُ، وقَطَعَ كَهَيْئَةِ الهَبْرِ، وتَكَلَّمَ بالحِمْيَرِيَّةِ،
كتَحَمْيَرَ، ودَخَلَ أعْرابِيٌّ على مَلِكٍ لِحِمْيَرَ، فقال له ـ وكان على مكانٍ عالٍ ـ ثِبْ، أي: اجْلِسْ بالحِمْيَرِيَّةِ، فوثَبَ الأَعْرابِيُّ، فَتَكَسَّرَ، فسألَ المَلِك عنه، فأخْبِرَ بلُغَةِ العَرَبِ، فقالَ: ليسَ عندنا عَرَبِيَّتْ، مَنْ دَخَلَ ظَفارِ حَمَّرَ، أي: فَلْيُحَمِّرْ.
والتَّحْمِيرُ أيضًا: دَبْغٌ رَدِيءٌ.
وتَحَمْيَرَ: ساءَ خُلُقُهُ.
واحْمَرَّ احْمِرارًا: صارَ أحْمَرَ،
كاحْمارَّ،
وـ البأسُ: اشْتَدَّ.
والمُحْمِرُ: الناقةُ يَلْتَوِي في بَطْنها ولدُها، فلا يَخْرُجُ حتى تَمُوتَ.
والمُحَمِّرَةُ، مشدَّدةً: فِرْقَةٌ من الخُرَّمِيَّةِ يُخالِفونَ المُبَيِّضَةَ، واحِدُهُمْ: مُحَمِّرٌ.
وحِمْيَرٌ، كدِرْهَمٍ: ع غَربيَّ صَنْعاءِ اليَمنِ، وابنُ سَبَأ بنِ يَشْجُبَ: أبو قبيلةٍ. وخارِجَةُ بنُ حِمْيَرٍ: صحابِيٌّ، أو هو كتَصْغِيرِ حِمارٍ، أو هو بالجيمِ، وتقدَّمَ. وسَمَّوْا حِمارًا وحُمْرانَ وحَمْراءَ وحُمَيْراءَ.
والحُمَيراءُ: ع قُرْبَ المدينةِ. ومُضَرُ الحَمْراءِ: لأَنَّهُ أُعْطِيَ الذَّهَبَ من ميراثِ أبيه، ورَبيعةُ أُعْطِيَ الخَيْلَ، أو لأَنَّ شعارَهُم كانَ في الحَرْبِ الرَّاياتِ الحُمْرَ.
القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م
95-القاموس المحيط (ندصت)
نَدَصَتْ عَيْنُهُ نُدُوصًا: جَحَظَتْ، وكادَتْ تَخْرُجُ من قَلْتِها، كما تَنْدُصُ عَيْنا الخَنيقِ.والمِنْداصُ، بالكسر: المرأةُ الرَّسْحاءُ، والحَمْقاءُ، والبَذِيَّةُ، والطَّيَّاشَةُ الخَفيفَةُ، والرجُلُ لا يَزَالُ يَطْرَأُ على قومٍ بما يَكْرَهُون، ويظْهَرُ بِشَرٍّ.
ونَدِصَتِ البَثْرَةُ، كفرح: غُمِزَتْ فَخَرَجَ ما فيها. وكنَصَرَ، نَدْصًا ونُدوصًا: خَرَجَ،
وـ الشيءُ من الشيءِ: امْتَرَقَ.
وأنْدَصَ حَقَّهُ منه،
واسْتَنْدَصَهُ: اسْتَخْرَجَهُ.
القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م
96-القاموس المحيط (الجذع)
الجَذَع، محركةً: قَبْلَ الثَّنِيِّ، وهي بهاءٍ، اسمٌ له في زَمَنٍ وليس بِسِنٍّ تَنْبُتُ أو تَسْقُطُ، والشابُّ الحَدَثُ، ج: جِذاعٌ وجُذْعانٌ، بالضم.والأَزْلَمُ الجَذَعُ: الدَّهْرُ، والأسَدُ.
وأم الجَذَعِ: الداهيةُ.
والدَّهْرُ جَذَعٌ أبدًا: شابٌّ لا يَهْرَمُ.
والجَذْعَمَةُ: الصغيرةُ، وأصْلُها جَذَعَةٌ.
وجَذَعَ الدابةَ، كمنَع: حَبَسَها على غيرِ عَلَفٍ،
وـ بين البعيرَين: قَرَنَهُما في قَرَنٍ. وككتابٍ: أحياءٌ من بني سَعْدٍ.
وجَذْعانُ الجِبالِ، بالضم: صِغارُها.
وذَهَبوا جِذَعَ مِذَعَ، كَعِنَبٍ مَبْنِيَّتَيْنِ بالفتح: تَفَرَّقُوا في كلِّ وجْه.
والجِذْعُ، بالكسر: ساقُ النَّخْلَةِ، وابنُ عَمْرٍو الغَسَّانِيُّ، ومنه: "خُذْ من جِذْعٍ ما أعْطاكَ"، كانتْ غَسَّانُ تُؤَدي كلَّ سنةٍ إلى مَلِكِ سَلِيحٍ دينارينِ من كلِّ رجُلٍ، وكان يَلِي ذلك سَبْطَةُ بنُ المُنْذِرِ السَّلِيحيُّ، فجاء سَبْطَةُ يسألُهُ الدينارينِ، فَدَخَلَ جِذْعٌ مَنْزِلَهُ، فَخَرَجَ مُشْتَمِلًا بسَيْفِه، فضربَ به سَبْطَةَ حتى بَرَدَ، وقال: "خُذْ من جِذْعٍ ما أعْطاك". أو أعْطَى بعضَ المُلوكِ سَيْفَه رَهْنًا، فلم يأخُذْه، وقال: اجْعَلْ في كذا من كذا، فضربَهُ به فَقَتَلَهُ، وقَالَهُ. يُضْرَبُ في اغْتِنامِ
ما يَجودُ به البخيلُ.
وتقولُ لوَلَدِ الشاةِ في السَّنَةِ الثانيةِ، وللبَقَرِ، وذَواتِ الحافِرِ في الثالثة، وللإِبل في الخامسة: أجْذَعَ.
والمُجْذَعُ، كمُكرَم ومُعَظَّم: كلُّ ما لا أصْلَ له ولا ثَباتَ.
وخَروفٌ مُتَجاذِعٌ: وانٍ.
القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م
97-القاموس المحيط (الخندوف)
الخُنْدُوفُ، كزُنْبورٍ: المُتَبَخْتِرُ في مَشْيِهِ كِبْرًا وبَطَرًَا، ووَلَدَ إلياسُ بنُ مُضَرَ عَمْرًا، وهو مُدْرِكَةُ، وعامِرًا وهو طابِخَةُ، وعُمَيْرًا وهو قَمَعَةُ، وأُمُّهُمْ خِنْدِفُ، كزِبْرِجٍ: وهي لَيْلَى بِنْتُ حُلْوانَ بنِ عِمْرانَ، وكان إلياسُ خَرَجَ في نُجْعَةٍ، فَنَفَرَتْ إبِلُهُ من أرْنَبٍ، فَخَرَجَ إليها عَمْرٌو فأدرَكَها، وخَرَجَ عامِرٌ فَتَصَيَّدَها وطَبَخَها، وانْقَمَعَ عُمَيْرٌ في الخِباءِ، وخَرَجَتْ أُمُّهُم تُسْرِع، فقال لها إليَاسُ: أينَ تُخَنْدِفِينَ؟ فقالتْ: ما زِلْتُ أُخَنْدِفُ في إثْرِكُمْ، فَلُقِّبوا: مُدْرِكَةَ وطابِخَةَ وقَمَعَةَ وخِنْدِفَ، وحُسَيْنُ ابنُ مَيْمونٍ الخِنْدِفِيُّ: مُحدِّثٌ، ومحمدُ بنُ عبدِ الغَنِيِّ الخِنْدِفِيُّ: له ذِكْرٌ.والخَنْدَفَةُ: أن يَمْشِيَ مُفاجًّا، ويَقْلِبَ قَدَمَيْهِ كأنه يَغْرِفُ بهما، وهو من التَّبَخْتُرِ.
القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م
98-القاموس المحيط (البعثقة)
البَعْثَقَةُ: خُروجُ الماءِ من غائِلِ حَوْضٍ أو خابِيَةٍ.وتَبَعْثَقَ الماءُ من الحَوْضِ: إذا انْكَسَرَتْ منه ناحِيَةٌ، فَخرجَ منها.
القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م
99-القاموس المحيط (دلق)
دَلَقَ السيفَ من غِمْدِه: أخْرَجَهُ.وسيفٌ دَلِقٌ، ككتِفٍ وصَبورٍ وحَمْراءَ: سَهْلُ الخُروجِ من غِمْدِه. وكصاحِبٍ: لَقَبُ عُمارَةَ بنِ زِيادٍ العَبْسِيِّ، لكَثْرَةِ غَلَطاتِه.
وخَيْلٌ دُلُقٌ، بضمتينِ: شديدةُ الدّفْعَةِ.
والدَّلوقُ من الغاراتِ: الشديدةُ،
وـ من النُّوقِ: المُنْكَسِرَةُ الأسْنانِ كِبَرًا،
كالدَّلْقاءِ،
والدِلْقِمِ، بزِيادةِ الميمِ.
والدَّلَقُ، محرَّكةً: دُوَيْبَّةٌ كالسَّمُّورِ، مُعَرَّبَةُ: دَلَهْ.
وأدْلَقَهُ: أخْرَجَهُ،
كاسْتَدْلَقَهُ.
وانْدَلَقَ: خَرَجَ من مكانِهِ،
وـ السَّيلُ: انْدَفَعَ،
كتَدَلَّقَ،
وـ السيفُ: انْسَلَّ بِلا سَلٍّ، أو شَقَّ جَفْنَهُ فخَرَجَ منه.
القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م
100-القاموس المحيط (سرق)
سَرَقَ منه الشيءَ يَسْرِقُ سَرَقًا، مُحرَّكةً، وككتِفٍ، وسَرَقَةً، مُحرَّكةً، وكفَرِحَةٍ، وسَرْقًا، بالفتحِ،واسْتَرَقَهُ: جاءَ مُسْتتِرًا إلى حِرْزٍ، فأَخَذَ مالًا لِغَيْرِهِ، والاسْمُ:
السَّرْقَةُ، بالفتحِ، وكفَرِحَةٍ وكَتِفٍ.
وسَرِقَ، كفَرِحَ: خَفِيَ.
والسَّرَقُ، مُحرَّكةً: شُقَقُ الحَريرِ الأبْيَضِ، أو الحَريرُ عامَّةً، الواحدَةُ: بهاءٍ.
وسَرِقَتْ مَفاصِلُهُ، كفَرِحَ: ضَعُفَتْ،
كانْسَرَقَتْ،
وـ الشيءُ: خَفِيَ.
وسَرَقَةُ، مُحرَّكةً: أقْصى ماءٍ بالعالِيَةِ. ومَسْروقُ بنُ الأجْدَعِ: تابِعِيٌّ، وابنُ المَرْزُبانِ: مُحدِّثٌ.
وكسُكَّرٍ: ع بسِنْجارَ، وكُورَةٌ بالأهْوازِ، وابنُ أسَدٍ الجُهَنِيُّ: صَحابِيٌّ، وكان اسْمُه الحُبابَ، فابْتاعَ من بَدَويٍّ راحِلَتَيْنِ، ثم أجْلَسَه على بابِ دارٍ ليَخْرُجَ إليه بِثَمَنِهما، فَخَرَجَ من البابِ الآخَرِ، وهَرَبَ بهما، فأُخْبِرَ به النبيُّ، صلى الله عليه وسلم، فقالَ: "التَمِسُوهُ"، فلما أُتيَ به، قال له: "أنتَ سُرَّقٌ"، وكانَ يقولُ: لا أُحِبُّ أن أُدْعَى بغيرِ ما سَمَّانِي به رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم. وأحمدُ بنُ سُرَّقٍ المَرْوَزيُّ: أخْباريٌّ.
والسَّوارِقيَّةُ: ة بينَ الحَرَمَيْنِ.
والسِرْقينُ، (وقد يُفْتَحُ) مُعَرَّبُ: سِرْكين.
والسَّوارِقُ: الجَوامِعُ، جَمْعُ سارِقَةٍ، والزوائِدُ في فَرَاشِ القُفْلِ.
وساروقُ: ة بالرومِ. وسُراقَةُ، كثُمامَةٍ، ابنُ كعْبٍ، وابنُ عَمْرٍو، وابنُ الحَارِثِ، وابنُ مالِكٍ المُدْلِجِيُّ، وابنُ أبي الحُبابِ، وابنُ عَمْرٍو (ذو النونِ): صَحابيُّونَ. وقولُ الجَوهرِيِّ: ابنُ جُعْشُمٍ، وهَمٌ، (وإنما هو جَدُّهُ). وسَمَّوا: سارِقًا وسَرَّاقًا.
والتَّسْريقُ: النِسْبَةُ إلى السَّرِقَةِ.
والمُسْتَرِقُ: الناقِصُ الضَّعيفُ الخَلْقِ، والمُسْتَمِعُ مُخْتَفِيًا.
ومُسْتَرِقُ العُنُقِ: قَصيرُها.
وهو يُسارِقُ النَّظَرَ إليه، أي: يَطْلُبُ غَفْلَةً لِيَنْظُرَ إليه.
وانْسَرَقَ: فَتَرَ وضَعُفَ،
وـ عنهم: خَنَسَ لِيَذْهَبَ.
وتَسَرَّقَ: سَرَقَ شيئًا فشيئًا.
والإِسْتَبْرَقُ: للغَليظِ من الديباجِ في: ب ر ق.
القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م
101-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (جنب)
(جنب) - في حَديثِ أبِي هُرَيْرة، رضِي الله عنه، في الرَّجل الذي أصابَتْه الفاقَةُ: "فَخَرَج إلى البَرِّيَّة فَدَعَا، فإذا الرَّحا تَطحَن، والتَّنُّور مَمْلُوء جُنُوبَ شِواء".الجُنُوب: جَمْع جَنْب، وقد جَرَتِ العَادَةُ بأن يُشْوَى الجَنْب، وكان القِياسُ أن يُقال: جَنْبَ شِواء، لأنه نَصْبٌ على التَّمْيِيز، والتَّمْيِيز يكون مُوحَّد اللَّفظ قَلَّ ما يُجمَع.
على أَنَّه قد جاء بلَفْظِ الجَمْع في قَولِه تَبارَك وتَعالَى: {بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا}. وأَرادَ أنَّه كان في التَّنُّور جُنوبٌ كَثِيرَة، لا جَنْبٌ واحد، فلِهذَا جَمَعَه مع كَونِه تَمْيِيزًا.
- في حَديثِ الحَارِثِ بنِ عَوْف أنَّه جاء إلى نَجَبَة بنِ الحَارِث فقال: "إن الِإِبلَ جُنِّبَت قِبلَنا العَامَ".
: أي لم تَلْقَح فيَكُون لها أَلْبانٌ، قال الأَصمَعِيُّ: جَنَّب بَنُو فلان فَهُم مُجَنَّبُون، إذا لم يكن في إِبلهم لَبنٌ، وهو عام تَجْنِيب، وجَنَّبَ النَّخلُ: لم يَحمِلْ.
- في الحَدِيث "ذُو الجَنْب شَهِيد".
: أي الذي يَطُولُ مَرضُه واضْطِجَاعُه.
- وفي حديث آخر: "ذَاتُ الجَنْب شَهادَةٌ".
وقد فُسِّر في كِتابِ أبِي عُبَيْد الهَرَوِيّ.
- في حَدِيث الشَّعْبِيّ: "أنَّ الحَجَّاجَ سَأَل رَجُلا: هل كَانَ وَراءَك غَيثٌ؟ قال: كَثُر الِإعصار، وأُكِل ما أَشرفَ من الجَنْبَة".
الجَنْبَة: رَطْبُ الصِّلِّيان، فإذا يَبِس فهو الصِّلِّيان. وقيل: الجَنْبَة. يَقَع على عَامَّة الشَّجَر المُتَربِّلة في الصَّيف، وقيل: هي ما فَوقَ البَقْل ودُونَ الشَّجَر.
- في حَديِث الضَّحَّاك: "قال لِجارِية: هل من مُغَرِّبَةِ خَبَرٍ؟ قالت: على الجَانِبِ الخَبَرُ".
: أي على الغَرِيب القَادِم. يقال: جَنَب فُلانٌ في بَنِي فُلان، إذا نَزَل فيهم غَرِيبًا، ورَجلٌ جانِبٌ، وقَومٌ جُنَّابٌ. وقال بَعضُهم: رَجلٌ جُنُب: غَرِيبٌ، والجَمْع أَجنابٌ، وجَارُ الجَنابَة: جارُ الغُربَة.
- في حديث جُبَيْر، رضي الله عنه: "أَتاه بتَمرٍ جَنِيبٍ".
: هو نَوعٌ من أجود التُّمور، وقيل الجَنِيبُ: التَّمْر المَكْبوسُ، وقيل: هو التِّين.
- في حَدِيث الشَّعْبِي: "أَجدَب بنا الجَنابُ".
الجَناب: ما حَولَ القَوْم، وجَناب الشَّيءِ: ناحِيَتُه، وجَنابُ الدَّار: فِناؤُها.
- وفي حديث آخر: "استَكَفُّوا جَنابَيْه".
: أي حَوالَيْه.
- في الحَدِيثِ "لا تَدخُل المَلائِكة بيتًا فيه جُنُب، ولا كَلبٌ، ولا صُوَرَة".
الجُنُب - قيل هو الذي يَتْرك الاغْتِسالَ من الجَنابة عادةً، فيكُون أَكثرُ أَوقاتِه جُنُبًا.
وأما الكَلْب إذا اتَّخذَه لِلَّهو لا لِحاجةٍ وضَرُورة كحِراسةِ زَرْع، أو غَنَم أو صَيْد.
فأَمَّا الصُّورة فكل ما يُصَوَّر من الحَيوَان سَواءٌ في ذلك، المَنْصُوبَة القَائِمة التي لها أَشْخاص، وما لا شَخص له من المَنقُوشَة في الجُدُر، والصُّورَة فيها، وفي الفُرُش، والأَنْماطِ.
وقد رَخَّص بَعضُهم فيما كان منها في الأَنماط التي تُوطَأ وتُداسُ بالأَرجُل، وهذه الرُّخْصَة، إنما هي لمَنْ تَكُون في بيْتهِ، فأما في تَصْوِيرِه فُكلُّها سَواءٌ. وقيل: يَعنِي بالمَلائِكَة في هذا الحدِيثِ غَيرِ الحَفَظة، وقيل لا تَحضُره المَلائِكَةُ بالخَيْر وذَلِك في رِواية.
وقيل: هو للجُنُب الذي لم يَتوضَّأ بعدَ الجَنَابةِ.
- في حَدِيثِ ذى المِشْعَارِ: "وأَهلِ جِنابِ الهَضْب" وهو مَوضِع.
- في الحَديثِ: "ثم ابتَع بالدَّراهِم جَنِيبًا".
هو جِنْس جَيِّد من التَّمْر.
- في حديث مُجاهِد في تَفسِيرِ السَّيَّارة من قوله تعالى: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} أَجْناب النَّاس".
: أي الغُرَباء جَمْع جُنُب، قالت الخَنْساء:
« وابْكِي أَخاكِ إذا جاوَرْت أجْنابا »
- في الحديث: "الجَانِبُ المُسْتَغْزِرُ يُثابُ من هِبَته" يَعنِي الغَرِيبَ.
- في الحَدِيثِ: "لا جَلَب ولا جَنَب".
ذكر أبو عُبَيْد: أَنَّ الجَلَب يَكُون في السِّباق والصَّدَقَة، وذَكَر الجَنَب في السِّباق، ولم يَذْكُر وَجْهَه في الصَّدَقة، وهو أن يُجْنِب
بماله ويُبْعِد حتَّى يَحْتَاجَ المُصَدِّقُ إلى الِإبْعادِ في اتِّباعِه وطَلَبِه، والله أعلم.
المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م
102-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (حقب)
(حقب) - في الحَدِيث: "كان أبو أُّمَامَة، رضي الله عنه، أحقَبَ زَادَه خَلفَه على رَحْلِه".: أي جَعلَه وراءَه حَقِيبَةً.
- وقال زَيدُ بنُ أَرقَم، رضي الله عنه: "كُنتُ يَتِيمًا لابن رَواحَة، رَضِى الله عنه، فَخرَج بي إلى مُؤتَةَ مُردِفِى على حَقِيبَة رَحلهِ".
الحَقِيبة: وِعاء يَجَمعُ الرَّجلُ فيه زَادَه، والجَمْع الحَقَائِب.
- في الحَدِيثِ: "ثم انتَزَع طَلًقًا من حَقَبه".
الحَقَب: نِسْعَة أو حَبْل يُشَدّ على حَقْو البَعِير، أو حَقِيبَتِه.
والحَقِيبة: الزِّيادة التي تُجعَل في مُؤخَّر القَتَب، وكلَّ شَىءٍ جَعلتَه في مُؤَخَّرة رَحْلِك أو قَتَبِك فقد احتقَبْته. يقال: أَحقَبتُ البَعِيرَ، إذا شَدَدْتَه بالحَقَب.
- وفي الحَدِيثِ: "فأَحقَبها على نَاقَة".
: أي أَردفَها خَلفَه على حَقِيبَة الرَّحْل.
- وفي حديث: "حَقِبَ أَمرُ النَّاس".
: أي فَسَد واحْتَبَسَ، من قولهم: حَقِب المَطرَ العامَ: أي تَأخَّر واحْتَبس وقَلَّ.
- وفيه: ذِكْر: "الأَحْقَب".
أَحَد النَّفَر الجَائِين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جِنِّ نَصِيبِيْن، وقيل: كانوا خَمْسَة: خَسَا، ومَسَا، وشَاصَه، وبَاصَه، والأَحْقَب.
- في الحَدِيث "كان نُفُجَ الحَقِيبَة".
: أي رَابِى العَجُز نَاتِئَه، ولم يَكُن أزل.
- في حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُود: "الذي يَحْقِبُ دِينَه الرِّجالَ".
: أي المُردِف، من الحَقِيبة، يَعْنِى المُقَلِّد لِكُلّ واحدٍ بلا رَوِيَّة.
المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م
103-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (خرج)
(خرج) - في حَدِيثِ أبي رَافِع: "فخرج بِسَاقِي خُراجٌ فأَمَدَّ فَبُطَّ".الخُراجُ: بَثْر يَخرُج من الجَسَد، وقيل: وَرَم، والجمع خُراجَات وخِرْجان.
- في حديث أبي موسى، رضي الله عنه: " كَمَثَلِ الأُترجَّةِ طَيِّب رِيحُها وخَراجُها"
: أي طَعْم ثَمرِها، وكُلُّ ما خَرَج من شىءٍ وحَصَل من نَفْعه فهو خَراجُه.
المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م
104-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (خندف)
(خندف) - في حديث الزُّبَير: "سَمِع رَجلًا يقول:يَا آلَ خِنْدف، فخَرج وبيدهِ السَّيفُ يقول: أُخَنْدِف إليك أيها المُخَنْدِف"
: أي أَهَرْوِلُ، ويحتمل أن يكون من خَندَفَت السَّماءُ بالثَّلج، إذا رَمَت به، لأن المَهُرْوِل يَرمِي بنفسِه في السَّير.
المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م
105-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (ذمر)
(ذمر) - في حَديثِ عَلىٍّ، رضي الله عنه: "أَلَا إنَّ عُثمانَ فَضَح الذِّمارَ، فقال النَّبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: مَهْ".الذِّمَار: ما لَزِمَك حِفظُه ويَذمُرُك على المُحافَظَة عليه: أي يَحُضُّك.
ومنه الحَدِيثُ: "فخَرَج يَتذَمَّر".
: أي يُعاتِب نفسَه ويَلُومُها على فَواتِ الذِّمار، وذَمِرَ: غَضِب.
- وفي فَتْح مَكَّة، قال أبو سُفْيان: "حَبَّذَا يوم الذِّمار"
: أي يوْم الحَرْب.
- ومنه الحَدِيثُ: "فَتذَامَر المُشْركُون فيما بَيْنَهُم".
: أي تَلاوَمُوا واستَقْصَرُوا أَنفسَهم على الغَفْلة وتَرْك انْتِهازِ
الفُرصَةِ، وقد يَكُون بمعنى تَحَاضُّوا على القِتالِ. يقال: ذَمَر الرّجلُ صاحِبَه: إذا حَضَّه مع لَوْم واستِبْطَاء.
- ومنه حَدِيث مُوسَى، عليه السَّلَام: "أنَّه كان يَتَذَمَّر على رَبَّه عَزَّ وجَلَّ".
وهو المُعاتَبَة ورفْعُ الصَّوتِ والاحْتِدَادُ والتَّجَرُّؤ.
ومنه: الذِّمْر الشُّجَاعُ.
المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م
106-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (سرع)
(سرع) - في الحديث: "فخرج سَرَعانَ النّاس".قال الخَطَّابي: ترويه العامة: سِرْعان بكَسْر السِّين ساكنة الراء، والصواب فَتْحهُما في قول الكسائى، ويجوز بفتح السّين وسكون الرّاء، وسَرَعان الخيل على وزن الغَلَيَان: الأوائل الذين يتسارعون إلى الشيء ويقبلون بسُرْعة، فأما بكَسْر السِّين فهو جمع سرِيع كرعيل ورِعْلان، وقولهم: سُرْعان ما فعلت، فالرَّاء ساكنة، ويجوز كَسْرُ السِّين وضَمُّها وفَتْحها: أي ما أَسْرَعَه.
- في حديث خَيْفَان بن عَرابة "مَسَاريعُ في الحَرْب" هو جمع مِسْراع، وهو الشَّدِيد الإسْراع
المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م
107-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (سين)
(سين) - قوله تعالى: {طُورِ سَيْنَاءَ}، و {وَطُورِ سِينِينَ}الطُّور: الجَبَل. والسِّينَاءُ: الحجارة المباركَة، سُرْيانِّي. وقيل: حَبَشىّ. وقيل: نَبَطِىّ، وقَعَت إلى العرب، فاختَلفَت بها لُغاتُهم.
وقراءَةُ ابن أبى إسحاق وعِيَسى البَصْري: {سَيْنِين} "بفتح السّين".
قال الأزهري: يقال: هو جبَل بين حُلْوان وهَمَذان. قال: والسِّيناء: الحُسْن. ومن قرأ: {سَيْنَاءَ} على وزن صَحْراء، فهو اسْم للمكان لا يُجرَى. ومَن قرأ بالكسْر فليس في الكلام على فِعْلاء، على أنّ الأَلِفَ للتأنيث، وما جاء في الكلام على فِعْلاء نحو حِرْباء وعِلباء وخِرشاء فهو مُنصرِف مذكر، ومَن قَرأَها بالكسر جَعَلها اسمًا للبُقْعة فلم يَصْرِفْها.
وقيل: بالكسر لُغة كِنانَة، والفتح إعرابية. وقيل: بالكَسْر يُمدُّ ويُقْصَر، ولا يكون فِعلاء بالكَسْر إلّا مدخولة على غير صِحّة، وإنّما يكون فِعْلاء مقصورة أو ممدودة بِزِيادة كَسِيمْياء وحِرْبياء.
وقال عبدُ الله الأنصاري: {سِينِينَ} أصلُه سَيْناء منصوبة السِّين ومكسورتَها، وهي لُغة حَبَشِية: للشىَّء الحَسَن المبارَك.
و {وَطُورِ سِينِينَ} معناه: جَبَل حَسنٌ مبارك، وهو جَبل الزَّيتون
بالشَّام، وإنَّما قال ها هنا: سِينين؛ لأنّ بَاج الآياتِ على النون، كقوله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ}؛ وهو الآمِن، جعلَها أَمِينًا على بَاجِ آيات السورة، كقَوله تعالى: {حَرَمًا آمِنًا}، {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} كما قال تعالى في الصافّات: {سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} وإنّما هو إلياس، فخُرِّج على بَاجِ آياتِ السُّورة.
وأَصلُ الكلام في مَدْح الجَبَل الحَسَنِ من قِبَل النَّبات والشَّجر والمَاءُ به. وقال: هو جَبَل موسىَ عليه السَّلامُ، وبه البُقْعة المباركة.
وقال الأخفش: سِينين: شَجَر، واحدتُها: السِّينِينَة.
وقيل: هو جبل كلَّم الله تعالى عليه موسىَ عليه الصلاة والسلام.
وقال السّدِّىّ: طور سِينينِ: اسم مسجد. وقيل: قول مَنْ قال: معناه مبارك لو كان كذلك كان نصبًا؛ لأن الشيء لا يُضاف إلى نفسِه. وقَولُ الأَنصاري: إنما قاله على باجِ الآياتِ فقولٌ لا أُحِبّه ولا أَجسُرُ أن أَقولَه في القرآن.
المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م
108-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (عره)
(عره) - في حديث عروة بن مسعود، رضي الله عنه: "والله ما كلمتُ مَسعودًا منذ عَشْرِ سِنِين والَّليَلة أُكَلِّمه، فخرج إليه فَنادَاه، فقال: مَنْ هذا؟ فقال: عُروةُ، فأقبَلَ مَسعُودُ بنُ عَمْرو، وهو يقول: أطَرقْتَ عَراهِيَةً، أم طَرَقْتَ بِدَاهِيَه؟ ".قال الخطابي: هذا حَرفٌ مُشْكِل، وقد كَتبتُ فيه إلى الأزهرى، وكان من جوابِه: أنه لم يَجدْه في كلام العرب. والصَّواب عِندَه عتاهِيَة. والعَتَاهيَةَ وجْهان: الغَفْلَةُ، والدَّهَش، كأنه قال: أطرقْت غَفلةً بلا رَوِيَّة، أم طَرقْت دَهَشًا.
قال الخَطَّابى: وقد لَاحَ لى في هذا شىَء، وذلك أَن تكونَ الكَلِمةُ مركبةً، وأن يكون فيها اسْمَان: ظاهِرٌ ومَكْنِىٌّ، وأُبدِل منها حَرفٌ، فأصلُها إمَّا العَراءُ وهو وَجْه الأرض. وإمَّا العَرَى مَقصُورًا وهي النَّاحِيَة. يقال: فلان لا يَطُورُ بِحَرانَا ولا يطورُ بِعَرانَا: أي لا يَقربِ نَاحِيَتَنا، فكأنّه قال: أطرقْت عَرائِى: أي فِنائى زَائِرًا وضَيْفًا، كما يَطرُق الزُّوَّارُ أم أَصَابَتْك داهِيَةٌ فجِئتَ مُسْتَنْجِدًا ومُسْتَغِيثًا، فالهاء الأُولَى من عَراهيَة مُبَدلَةٌ من الهَمْزة، والثّانِية مَزِيدةَ؛ لِتَبين حركَةُ اليَاء قَبلهَا، وهي لغة مشهورة، نحو قَولِه تَباركَ وتَعالَى: {كِتَابِيَه} و {حِسَابِيَه}
وقال الإمامُ حَرسَه الله: ويُحتَمل أن يكون مَصْدرًا - منِ عَرَاه يَعْروه؛ إذَا زَارَه، كالكَرَاهية من كَرِه، وأَبدلَ وَاوَه هَمْزةً، ثم هَاءً، لِيُزاوِجَ دَاهِيَةً، كما فُعِلَ بالغَدَايَا للعَشَايَا، وبالمَأْمُورَة للمَأْبُورة. ويجوز أن يكون عَزَاهِيه بالزاى المنقوطة - مصدر عَزه فهو عَزِهٌ؛ إذا لم يكَن له أَربٌ في الطَّرَب، ويكون معناه: أَطَرقْت بالأَرَب وحاجَة، أم أصابَتْك دَاهِيَه.
المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م
109-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (قرمز)
(قرمز) - في حديث جابر، في تفسير قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ}قال: "كالقِرْمِزِ "
وهو صِبْغ أَرَمَنىّ أحمر، وقيل: هو معرب كِرمج - وفي رواية: قال: صِبْغُهم الأُرجُوان.
المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م
110-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (محض)
(محض) - في حديث عُمَر، رضي الله عنه: "أنَّه شَرِبَ لبَنًا لما طُعِنَ، فخرجَ مَحْضًا"المحْضُ: الصَّريحُ الخالِصُ لم يَشُبْه شىء
- ومنه الحديث: "بَارِكْ لهم في مَحْضِها ومَخْضِها".
: أي لَبنِهَا الخالص، وما مخضَ منه.
- وفي حديث أبى سَعيدٍ - رضي الله عنه -: "فَأَعمِدُ إلى شَاةٍ
مُمْتَلِئَة شَحْمًا وَمَحْضًا ".
قال ابن إِسحاق أراد: أن يَقُولَ: ونَحْضًا؛ وهو اللَّحْم والقِطعَةُ منه نَحْضَةٌ.
ورَجُلٌ نَحِيضٌ، وامرأَةٌ نَحِيضَةٌ: كَثِيرُ اللَّحْمِ، فإذَا ذهَبَ لحمُهما، فهما منحُوضٌ ومَنْحُوضَةٌ.
ورُوِى: "مُمْتَلِئة مَخَاضًا": أي نِتَاجًا.
والمخَاضُ: الإبِلُ الحوَامِلُ؛ والمخَاضُ: الطَّلْقُ في قوله تعالى: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ}
المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م
111-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (ندا)
(ندا) - في الحديث: "واجْعَلْنِى في النِّدَاءِ الأَعْلَى"النِّدَاءُ مَصْدَرُ نادَيتُه، ومعناه: أن يُنَادَى لِلتَّنْوِيهِ بهِ والرَّفْع منه، ويُحْتَمل أن يُريد به نِدَاءَ أَهْلِ الجَنَّةِ أهلَ النَّارِ {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا}، كما في القُرآن.
والنِّداء: رَفعُ الصَّوْت بالدُّعاءِ، ويُقَالُ للصَّوْت المجرَّدِ نِدَاء، كما قال تَعالى: {إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً}.
والنِّداءُ: الظُّهور، وأَنشَد:
« كَالكَرْم إذ نَادَى منَ الكَافُورِ »
: أي ظَهَرَ ظُهُوَر الكَرْم مِن كُفُرّاهُ.
- ويُروَى: "في النَّدِىّ الأعْلَى"
وهو المجلسُ؛ لأنَّ القَومَ يَنْدُونَ فيه، وحَوَاليْه؛ أي يَدَّعُون.
يُقال: نَدَاهُم يندُوهم: أي دَعَاهم فإذا تَفَرّقُوا لم يكُن ندِيًّا، ومعناه: اجْعلْنِى من القوم المجتَمِعين، يعنى المَلأَ الأعْلَى من الملائكِةِ.
ومنه: دارُ النَّدْوَةِ بمَكَّةَ؛ لأنّهم كانُوا يجتَمِعُون فيها يَتشاوَرُونَ وَينْدُون. وناداهُ: جالَسَه، وتَنادَوْا: تجالَسُوا.
والنَّدْوَة - بِالكَسرِ -: أقرَب إلى الوَادِى من العِدْوَةِ.
ونَوَادِى الوَادِى، والوَاحِدُ: نادٍ.
- وفي حديث أَبى سَعِيد - رضي الله عنه -: "كُنَّا أندَاءً فخَرجَ علينا رسَولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم"
وهو جمع النَّادِى، وهو النَّدِىّ أيضًا. وقيل: إنما سُمِّى به؛ لأن القَومَ يَنْزِعُون إليه.
يُقَالُ: هذه الناقة تندُو إلى نُوقٍ كِرَامٍ. وقيل: هو من الندْوَةِ؛ أي المُشَاوَرةِ.
وقوله: "كُنَّا أندَاءً": أي أهل أندَاءٍ, كما قَالَ تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ}: أي أهْلَ نَادِيه.
- في الحديث: "بَكْرُ بن وَائل نَدٍ".
: أي سَخِىّ.
يقال: هو يَتَنَدَّى على أَصْحَابهِ، وإنَّ يَدكَ لنَدِيَة ونَدِيَّة - بالتخفيف والتَّثْقِيل: أي سَخِيَّة.
- في الحديث "لو أنّ رجلًا نَدَا الناسَ"
: أي دَعاهم.
- في الحديث: "إنَّ جارَ النَّادى يَتَحوَّل"
النَّادى والنَدِىّ: المجلس.
ومنهم مَن يَروِيه: "جار البَادى" وقال العسكري: هو خطأ.
المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م
112-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (نعم)
(نعم) - قوله تبارك وتعالى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ}.كَلِمة "نَعَم" تقع في الكَلام جَوابًا لِمَا لا جَحْدَ فيه. وفيه لُغَتان: فتح العَين وكَسْرُها، والكَسْرُ هي قراءة الكسَائِي وجماعَةٌ، وهي قراءة النبى صلَّى الله عليه وسلَّم.
على ما رُوِى عن قتَادة "عن رَجُلٍ من خَثْعَم قال: دُفِعْتُ إلى النبىّ - صَلّى الله عليه وسلّم، وهو بمنى، فَقُلْتُ له: أنتَ الذي تَزْعُم أنّك نبِىٌّ؟ قال: نَعِم" وكَسَرَ العَينَ.
- وقال بعض وَلدِ الزُّبَير: "ما كنتُ أسْمَعُ أشيَاخَ قُريش يَقُولُون: إلاَّ نَعِم" بكَسْر الِعين.
- وقالَ أبو عُثمِانَ النَّهْدِى: أمرَنا أمير المؤمنين عُمَر رَضى الله عنه بأمرٍ فقلنا: نعَمْ. فقال: "لا تَقُولُوا نَعَمْ، ولكن قُولُوا: نَعِم" وكَسَرَ العَيْنَ.
وقال بَعْضُ الأعْرَاب: كَانَ أبى إذَا سِمِعَ رَجُلًا يقُولُ: نَعَمْ يقول: نَعَم: إبلٌ وشَاءٌ، إنّما هي نَعِمْ. وقال الشَّاعر - في اللغَتَين جميعًا -:
دَعَانِي عَبْدُ الله نَفسىِ فدَاؤُه فيَالَكَ مِن دَاع دَعَانَا نعَم نَعِمْ.
- في الحديث: "من تَوضَّأ يوم الجُمعَةِ فبِهَا ونِعْمت"
فيه قولان: أَحَدُهما: ونِعْمَتِ الخَلَّةُ والفَعْلَة، ثمّ يحذِفُ الْفَعْلَةَ اختصارًا والثاني "نَعِمْت"
: أي نَعَّمَك الله، وقال الأصمعي: "فبها": أي فبِالسُّنَّةِ أخَذ.
- وفي حديث أبي مَرْيم الأزْدِى قال: "دَخَلْتُ على مُعاوِية - رضي الله عنه - فقال: ما أَنْعَمَنَا بِكَ؟ "
: أي ما جاءَنا بك، أو ما الذي أعمَلَك إلينَا؛ وإنما يقال ذلك لمن يُفْرَح بلِقائه، كأنّه يقولُ: ما الذي أطلعَكَ علَينا، وأنْعَمَنا بلقَائك، وسَرَّنا برُؤْيَتِكَ.
ومن ذلك قَولُهم في التحيَّةِ: أَنْعِمْ صَباحًا.
وَيُحْتَمَل أن يُريد: ما الذي جَشَّمَكَ الإتيَانَ إاليَنا وَالمشىَ علَى نَعَامةِ رِجْلِكَ.
قيل: النَّعَامَةُ: صَدْرُ القَدَم. وقيلِ: عَصَبَةٌ في الأخْمَص، ومنه: بهيمة الأنعَاِم وهي الماشِيَةُ التي تمشى على نعَامَته، خِلاف ذوَات الَحَافِر في وَطْئِها.
قال ابن دُرَيد: النّعامَةُ: باطنُ القَدَم. وقيل: ابنُ النعَامَة صَدْر القَدَم.
وتنعَّم: مشى حافيًا. وقيل: إنه على طريق التفَاؤُل؛ لأن الرُّجْلة عَناءٌ وبُؤْسٌ فقَلَبُوه، وقالوا: تَنعَّمَ: إذا مَشىَ حافيًا، كما قالوا. في اللّدِيغ سَلِيمٌ.
وتَنعَّمتُهُم: مَشيْتُ إِليهِم.
- في الحديث: "مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ بنَعْمان السّحاب"
نَعْمان: جَبَلٌ بقُرْب عَرَفة، وأضافه إلى السَّحاب، لأنّ السّحاب يركد فوْقَهَ لعُلُوّه.
- قوله تعالى: {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}
نِعْم يُستَعمَل في حَمْدِ كل شىء وتفَضِيلِه.
يقال: إذا عَمِلت عَمَلا فَأَنْعِمْهُ: أي اعمَله على وجه يُثنَى عليه بنِعْم.
ومنه: دقَّه دقًّا نِعَمًّا قال: رَشِدتَ وأَنعمت.
- وفي حديث أبى سفيان: "أنْعَمَتْ فَعالِ عنها"
- يعنى هُبَل - حين أَرادَ الخروجَ إلى أُحُدٍ، كتَب على سَهم: نَعَم، وعلى آخر: لا، فأجالهُما عند هُبَل، فخرج سَهم الإِنعام؛ أي حين قال: اعْلُ هُبَلُ، قال عُمر: الله أعْلَى وأَجَلّ.
أي اتْرُك ذِكْرها، فقد صدَقَت في فَتْواها وأنْعَمَتْ: أجابَت بنعَمَ.
- في حديث ابن ذى يزن:
« أتَي هِرَقْلًا وقد شَالَت نَعامَتُهم »
النَّعامة: الجماعَة: أي تفرّقوا.
- في الحديث: "نِعِمَّا بالمَالِ"
أَصلُه نِعْم ما، فأُدغم وشُدِّد، وما غير موصوفة ولا موصولة كأنه قال: نِعْم شيئا المَالُ، والباء مزيدة، كهى في "كَفَى بالله حَسِيبًا".
ويجوز كَسرُ النّون وفَتحُها، والعين مكسورة.
المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م
113-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (وغم)
(وغم) - في الحديث: "كُلُوا الوَغْمَ واطْرَحُوا الفَغْمَ"قيل: الوَغْمُ: ما تساقَطَ مِن الطَّعام. وقيل: ما تَعلّق بالأَسنَانِ فخَرج بَتَحريك اللِّسان، ولا أَدْرِى: هل لَه في اللُّغَةِ أَصلٌ أم لا؛ فقد قيل: الوَغْمُ: الغَيْظ، والحِقدُ، والحربُ، والثّقِيل الأحمَقُ.
وقيل: الوَغْمُ: الخِلالَة؛ وهي ما يَخرج بالخِلالِ بعد تَشَبُّثِها بالأسنان وتَغيُّرها فيما بينها.
كما أن الوَغْم هو تَغَيُّر القَلْب عمَّا كان عليه بالحِقدِ والغَيْظ.
المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م
114-المعجم الاشتقاقي المؤصل (بخع)
(بخع): {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ} [الكهف: 6]بَخَعْتُ الرَكِيّة (منع): حفرتها حتى ظهر ماؤها، وبَخَعْتُ الأرضَ بالزراعة: نهكتهَا وتابعت حراثتها ولم تُجِمَّها عامًا. وفي قول أم المؤمنين عائشة في عمر - رضي الله عنهما -: بَخَعَ الأرضَ فقاءَت أُكُلَها. (الأُكُل: ثمر النَخْل والشَجر، وكل مأكول فهو أُكُل).
° المعنى المحوري
هو: استفراغ قوة الشيء أو قوامه الغض الذي في باطنه منه بقوة: كاستخراج ماء الركية بالمبالغة في الحفر، وكما في بَخْع الأرض (إنهاكها) بمتابعة زرعها دون إجمام. ومنه: "بخعَ الذبيحةَ: بالغ في ذبحها ".. (فخرج بذلك أقصى دمها ونفْسها). ومنه "بخَعَ نفْسَه غمًّا " (استهلك مُنَّتَه الباطنة) {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ} [الكهف: 6]: مُخْرجُها أشد الاستخراج وقاتلُها أسفًا على عدم إيمانهم. ومثلها ما في [الشعراء: 3]. "وبَخَع له بحقه: أَقَرَّ
به وخضع له " (أخرجه) وكذا: "بَخَعَ له بالطاعة ". (أذهب ما في باطنه من الإباء والصلابة).
المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
115-المعجم الاشتقاقي المؤصل (بق)
° معنى الفصل المعجمي (بق): تميز ما في عمق الشيء وتعلق الأحداث به بقوة: كدم البدن الذي يمتصه البعوض، والنبت الذي ينبت من بذور في باطن الأرض - في (بقق)، واستمرار الشيء في الحيّز - في (بقو بقى)، والذي كان في الجوف فخرج - في (بقر)، والذي أوجد اللمعان واضحًا - في (بقع)، وأصل ما نبت مستقلًّا مميزًا - في (بقل).المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
116-المعجم الاشتقاقي المؤصل (جرد)
(جرد): {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} [القمر: 7].الجَرَد - محركة: أرض فَضَاء لا نَبْتَ (فيها). والجُرْدة - بالضم: أرض مستوية مُتَجَرّدة. ورجل أجْرد: لا شَعَر عليه. وثوبٌ جَرْد - بالفتح: خَلَقٌ قد سقط زِئْبِره. والجراد - كسَحاب معروف. ولَبَن أجْرد: لا رُغْوَةَ له.
° المعنى المحوري
تَكَشُّفُ ظاهر الجسم الممتد (طولًا أو عرضًا) أو عُرْيه مما يغطيه: كالأرض المذكورة والجسم الذي لا شَعَرَ عليه، والثوبِ الذي سقط زئْبرُه فبقى قائمًا على خيوطه الأصلية، واللَبنِ العاري من الرُغْوة. والجراد يأكل خَضِر الأرض التي يمر بها ويتركها جَرْداء يقال: "جَرَد الجرادُ الأرضَ: احتنك
ما عليها " {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} [القمر: 7] {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ} [الأعراف: 133]. ومن هذا المعنى "جَرَدَ الجِلدَ (نصر): نَزَع عنه الشَعَر، والشيءَ: قَشَره، والجَرْد (بالفتح مصدر): أَخْذُك الشيءَ عن الشيء حَرْقًا وسَحْفًا. والجريدة: السَعَفة التي تُقْشَر من خوصها، والتجريدُ من الثياب ".
ومنه: "تجريدُ السيف (: سلُّه من غمده عاريًا) وجُرْدان ذي الحافر (يمتد من غِمْده)، وتجرَّدت السنبلة: خرجت من لفائفها، والنَوْرُ: خرج عن أكمامه، والحِمارُ: تقدم الأتن فخرج عنها " (سبقها فخلص من بينها فانكشفت عنه كثافتُها حوله). ومن هذا: "جَرِيدة من الخيل: مَجْموعة من الفُرْسان لا رَجّالة بينهم " (لعل الأصل أنهم طليعة من بين جيش كثيف تتقدمه - ثم إنها خالية من الرَجَّالة الذين هم كالغشاء الكثيف حول الفرسان).
ومن المعنوى: "تجرّد للأمر: جدّ فيه " (خلّص نفسَه له واستمر في العمل بقوة وصلابة).
المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
117-المعجم الاشتقاقي المؤصل (جنن جنجن)
(جنن - جنجن): {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم: 32]الجَنَّة - بالفتح: الحديقةُ ذاتُ الشجر والنخل/ والعنب، - وبالضم: الدِرْعُ وكلُّ ما وقاك/ ما دَارَاك من السلاح واستترت به منه، والسُتْرة. والمِجَنُّ: التُرْس يُواري حامله. والجَنين: الولد ما دام في بَطْن أمه، والمقبور. والجَنَن - محركة: القبر، جَنَّ الشيء يَجُنّه: سَتَره.
° المعنى المحوري
سَتْرُ الشيء بكثيف يعلوه أو يكون الشيء في أثنائه (1)
كالشجر والنخل والعنب تُظِلُّ ما تحتها وتستره، وكالدِرْع يستر ستر حماية، وكالجنين في البطن {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ} والميت في القبر.. ومنه "جنّ عليه الليل وأجنّه: ستره بظلمته " (الظلام ساتر كثيف يغشى) {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام: 76]. وقد ذكرنا الجُنة - بالضم {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [المجادلة: 16 والمنافقون: 2] أي يسترون جرائمهم بأيمان تنفي وقوعها منهم، فتدرأ عنهم العقوبة كما يرد المِجَنّ سيفَ العدو. [وينظر قر 17/ 304].
ومن ذلك "الجِنّ والجِنّة - بالكسر فيهما: نوع من العالم استَجَنُّوا عن الأبصار. {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الرحمن: 33] , {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 6]. {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] أدرج الجن هنا، لقدراتهم المستغربة فيكون عجزهم أبلغ في التعجيز. {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 158] وأُجِيزَ تفسيرها هنا بالملائكة. والاشتقاق لا يأباه. ومثل الجِنّ والجِنة (مقابل الإنس) (الجانّ) في سياق مقابلته بالإنسان أو الإنس. أما (جانّ) في [النمل: 7, والقصص: 31] فهو الحية الدقيق الجسم، لأنه يستكن في البيوت - لا في الصحارى مثلًا.
ومن ذلك "الجُنُون وهو الجِنة "بالكسر أيضًا، لأنه استتار العقل أو غيابه {وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} [الدخان: 14] وكل كلمة (مجنون) و (جنّة) {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ: 46 وكذا (جِنّة) في الأعراف: 18، المؤمنون: 25، 79، سبأ: 8، 46]. وسائر كلمة (جِنّة) معناها الجِنّ.
وذكرنا "الجنة - بالفتح: الحديقة ذات الشجر والنخل والأعناب، وأن كثافة فروع الشجر والنخل وكروم العنب المرفوعة تَجُنّ أي تُظِلّ وتستر من يسير
أثناءها {جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ} [الكهف: 32] - فهذه لحدائق الدنيا وكذا ما في [البقرة: 265، 266، الإسراء: 91، الكهف: 32, 33, 35، 39، 40، المؤمنون: 19، الفرقان: 8، 10، الشعراء: 57، 134، 147، سبأ: 15، 16، يس: 34، الدخان: 25، ق: 9، النبأ: 16] {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 29، 30] وهذه لجنة الثواب في الآخرة وبمعناها سائر كلمات (جَنة)، و (جنتين)، و (جنات). والجنة التي أُسكِنها أبونا آدم أول ما خُلق مقرها موضح خلاف بين العلماء. أهي جنة الثواب أم جنة أي مكان ظليل بشجر على هذه الأرض [ينظر بحر علمية 1/ 308].
° ومن المعنى المحوري استعمل التركيب في ما كان مجتنًّا فخرج فقالوا "جِنُّ النبت: زَهْرهُ ونَورْه. ومنه - لكُمون قُوَى الشيء فيه في أول نشأته - قيل "كان ذلك في جِنَّ صباه أي حداثته ". و "جِنُّ الشباب أوله وقيل جِدَّتُه ونشاطه. وجِنُّ كل شيء أول شدته ".
وأما "الجَناجِنُ: عِظامُ الصدر "فإنها كالقفص الذي يحمل غشاء الساتر لما تحته ويجعله كالصندوق له. وفي التركيب استعمالات أخرى كثيرة لا تخرج عن معنى الستر والاستتار في الأثناء.
المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
118-المعجم الاشتقاقي المؤصل (حرب)
(حرب): {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} [سبأ: 13]الحَربة -بالفتح: الآَلَّةُ دون الرمح. وسِنَان مُحرب -كمعظم- إذا كان محددًا مؤَلَّلًا. والحِرْباء -بالكسر: دُوَيبة معروفة. والحارب: المشلِّح أي الغاصب الناهب الذي يُعْرِى الناسَ ثيابهم. حرَب الرجلَ يحرُبه (طلب): أخَذ مالَه وتركه بلا شيء. وحَرِبَ هو (فرح): أُخِذَ ماله كله.
° المعنى المحوري
سَلْبُ الشيء أي سَحْبه وأخذه بقوة أو حدّة. كسِنّ الحرْبة يكون محددًا دقيقًا رأس المثلث، فكونه عريضًا عند أصله ثم يستدق شيئًا بعد شيء كأنما يُسلب أو يقتَطَع إلى سِنِّه، والحِرْباء مُسنَّمة الظهر والرأس، وكالذي يفعله الحارب.
ومن هذا "حَرابيّ الظهر: سَناسِنُه (أى حروف فَقاره)، أو لَحْمُ المتن (مسنم رقيق). والحُرْبة -بالضم: الجوالق والغرارة (مجمع فيها ما حُرِب).
ومن ذلك "حَرِبَ الرجل (فرح): اشتد غضبه كأنما سُلب شيئًا فاحتدَ. والحرْب ضد السلْم من الأصل فقد كان السَلْب من أهم أهدافها. قال أبو تمام:
[والحرْبُ مشتقة المعنى من الحرَبَ} (1)
وهي تتم بحدّة. وفعلُها حَارَبَهُ. والمفاعلة للمحاولة أو لتبادل السلب بين الطرفين. {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ} [الأنفال: 57] ولم يَرِدْ فعلها ثلاثيًا (ويمكن أن تكون من المحادّة) ومن هذا: الفعل (حارب)، (يحارب)، (الحرب) في القرآن.
ومن الأصل "المحراب: عُنُق الدابة (يمتد من الجسم مستدِقّ الأعلى أي مسَنَّمة كظهر الحرباء) وكذلك المحراب: ماوى الأسد " (زُبيَة الأَسَد تكون في قمة الجبل) ومن ذلك كله نفسر المحراب في قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران: 37 - 39] {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} [مريم: 11] {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21] بأنه "خلوة مرتفعة (غرفة) (2) ينفرد فيها الرجل أو المرأة عن الناس فذاك هو الذي يتأتى معه استعمال: دخل، وخرج، تَسَوَّرَ. وفي [ل] شاهد آخر "دخل محرابًا له فأشرف عليهم عند الفجر "وقد فُسر المحراب في مواضع أخرى في [ل] بالقَصْر (وهذا يجوز للانفراد) وبالمسجد (وهذا لا يجوز إلا تسامحًا) ويصح إطلاقه على المكان الذي يُخَصَّص لكبير القوم أو كبارهم بكونه مرتفعًا أو في الصدر أو نحو ذلك (ومحراب المسجد اليوم من ذلك لأنه يسمح للإمام وحده بالتقدم أمام الناس)،
أما ما كان الجن يعملون لسليمان {مِنْ مَحَارِيبَ} [سبأ: 13] فلعلها كانت غُرَفا أوَ خَلَوات أو قصورًا.
المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
119-المعجم الاشتقاقي المؤصل (دول)
(دول): {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140]اندَالَ ما في بطنه من مِعًى أو صِفَاق: طُعِن فخَرج ذلك. واندَالَ بطنُه: اتسعَ ودنا من الأرض واسترخى، والشيءُ: ناسَ وتعلق.
° المعنى المحوري
تحول الشيء الغليظ بعيدًا عن مكانه حتى يتميز: كالخارج من مكانه في البطن يتعلق بعيدًا. ومنه "الدَوَلُ -محركة: النَبْل التمداول ". ومنه "الدُولة -بالضم: العُقْبة في المال (يَعْلَقُه -أي يملكه- هذا ثم يخرج منه ويعلقه ذاك...). {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] (يملكه هذا ثم هذا من الأغنياء وحدهم)، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}. مسارّها لهؤلاء حينًا ولغيرهم حينا.
ومنه: "الدولةُ -بالفتح وتضم، والإدالة: الغَلَبةُ في الحرْب (كَسْبُها وحَوْزُها). أدالنا اللهُ من عدونا: جعل لنا الدَوْلة أي كَسَبْنا وغَنمْنا (وينبغي أن يضاف هنا قيد (بعد أن كان عَدُوّنا غالبًا لنا وغانمًا منا. لأن هذا هو (معنى التحول في دلالة التركيب، وهو معنى أصيل فيه ففي [ل] "الدولة (أي بالفتح والضم): العُقْبَة في المال والحَرْب سَواء، وقال الفراء "إنما الدَوْلة -أي بالفتح- للجيشين يهزم هذا هذا، ثم يُهْزَمُ الهازم ". وفيه استعمالات أخرى تؤيد هذا، وكذا في [الفروق (تحـ عيون السود 213] تصريحًا بالنسبة للمال.
ومن ذلك المعنى الأصلي: الفعل القاصر: "دَال الثوب يدول: يَلِىَ " (تحول من الجِدّة إلى البِلَى).
المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
120-المعجم الاشتقاقي المؤصل (عيب)
(عيب): {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79]العَيْبةَ -بالفتح: وِعاء من أَدَم يكون فيها المتاع، وزَبيل من أَدَم يُنْقَل فيه الزرع المحصود إلى الجرين (في لغة همْدان)، وما يُجْعَل فيه الثياب. والِعيابُ - ككتاب: المِنْدَفُ.
° المعنى المحوري
فراغ في أثناء المشيء مع التحام ظاهره. كالعيبة متماسكة الظاهر فارغة الجَوْف، والنَدْفُ تخفيفُ كثافة أثناء القطن والصوف بخلخلة كثافته أي إمجاد فراغ في أثنائه فيصيرُ هشًّا منفوشًا. ومنه "عَابَ الشيءُ والحائطُ: صار ذا عيب "ولم يعينوا هذا العيب؛ وفي ضوء الأصل يمكن أن يفسَّر عيب الحائط بأنه تشقق أو اختلال لتآكل في أثنائه أو خَواء في أساسه. وتأمل قول اللَّه تعالى في السفينة: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} أي أراد أن يخرق قاعها أي أسفلها
وكذلك "عاب الماءُ: خرق الشَّطَ فخرج مجاوِزَهُ "فهذا تعبير حقيقي، وليس العَيْبُ هنا إحداث أية صفة أخرى غير مقبولة. وقولهم "العابُ والعَيْبة: الوَصْمة "تعميم.
المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
121-المعجم الاشتقاقي المؤصل (عضل)
(عضل): {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19]العَضَلة -بالتحريك، والعَضِيلة: كُلُّ عَصَبة معها لحم غليظ منتبر مثل لحم الساق والعَضُد. وعَضَّل بهم المكانُ، والأرضُ بأهلها - ض: ضاق لكثرتهم. وعَضَّلَت المرأةُ بولدها - ض: نَشِب فخرج بعضُه ولم يخرج بعضٌ فبقى معترِضًا، وكذلك الدجاجةُ ببيضها والشاةُ والطيرُ، وكذا أعضلت. والعَضَل -محركة: الجُرَذُ/ ذَكَر الفأر.
° المعنى المحوري
غِلَظٌ مع نشوب في الموضع/ تجمع غليظ ونشوب في الموضع لا ينصرف. كعضلة الساق والعضد، وكما يَنْشَب الولد والبيضة في سبيل نزولها. والجُرَذُ يبدو مكتنزًا قصيرًا كالعضلة. (وأغفل قيد عدم الانصراف).
ومن النشوب في الموضع مع الغلظ أُخِذَ العَضْل: "عَضَل الرجلُ أَيِّمَه وعَضّلها - ض: مَنَعَها الزواج ظُلمًا ". {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] (هذه موجهة لمن له ولاية على المرأة)، {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] وهذه للأزواج كأن يمسكها ضرارًا لتضطر إلى الاختلاع منه.
ومن معنوى ذلك: "أعْضَل به الأمرُ وأعضله: ضاقت عليه فيه الحِيَل وكذلك عَضّل في أمره - ض: ضَيّق. والمُعْضِلات: الشدائد من ذلك، وكذلك المسائل الصعبة الضيقة المخارج. والداء العُضال - كصداع: يُعْيِي الأطباءَ علاجُه " (ينشب لا يزول/ لا يمر - مع غلظه أي شدته) وقالوا "إذا وقع فهو عُضال، فإذا لزم فهو مُعْضِل "- فاعل أعضل.
المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
122-المعجم الاشتقاقي المؤصل (فشش)
(فشش): ناقة فَشُوش: مُنْتَشِرةُ الشُخْب في الإناء مثل شُعاع قرن الشمس فلا يُرغى. وفَشَّ القربة: حَلَّ وكاءها فخرج ريحُها، والضَرعَ: حلب جميع ما فيه.° المعنى المحوري
خُروج اللطيف المتجمع في الباطن بكثافة وانتشار (1): كهيأة خروج ذلك الشخب، وريح القِرْبة، وجميع ما في الضَرع.
المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
123-المعجم الاشتقاقي المؤصل (قوو)
(قوو): {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 171]القُوَّة - بالضم: الخُصْلة الواحدة من قُوَى الحبل الطاقةُ الواحدة من طاقات الحبل. والِقىّ - بالكسر: القَفْرُ من الأرض كالقَوَاء - كسحاب: التي لم تُمْطَر. والقَاوِيَة - فاعلة: البَيْضَة (فيها فرخها) فإذا ثقبها الفرخ فخرج فهُوَ القُوَيّ - بضم ففتح فشد.
° المعنى المحوري
شدة في الأثناء بالالتئام أو الالتواء مع امتداد: كطاقَةِ الحَبْل تلتوي على ذاتها عند الفتل مع امتدادها فتشتد أثناؤها وذلك مع التوائها على الطاقة الأخرى. وكالبيضة تحوي الفرخ في أثنائها وتلتئم على وشدته نسبية أنه كائن حي من مادتها الرخوة، وهي تحفظه في باطنها، وامتدادها زمني. والقفرُ من الأرض شديدةُ الأثناء ملتئمة معًا جافّة. وهي القَوَاء والقَوَاية كسحابة.
ومن قَوَاء الأرض "المُقْوِي "- كمُحْسن: الذي يَنْزِلُ بالقَواء: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة: 73]: المسافرين في القَوَاء، الذين نَفِدَ زادُهم الجائعين. والأخيران تَفْسير باللازم. فالأرض التي فيها ثمرات قد يعاش على ثمارها بلا حاجة للنار. لكن عند وجود الناس في القَوَاء فالنار ألزم
لإنضاج ما يُطْبَخ أو يخبز. وقال قطرب: المُقْوي من الأضداد، يكون بمعنى الفقير (من الأرض القواء كما سبق)، ومن "أَقْوَى: قَوِيَتْ دوابّه وكثر ماله " (وعبارة كثر ماله تَزَيُّد). فإن صح ذلك فالصيغة هنا للإصحاب، وفي الأُولَى للدخول في الشيء كأَنْجد. وإنما جاء التضاد من اتساع الصيغة ولا تضاد في الأصل. قالوا: و "النار لازمة للجميع " [انظر قر: 17/ 222].
ومن الأصل: "القوة - بالضم ضد الضعف "، فإنها شِدّة البدن والتئام الأثناء: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15]. وليس في القرآن من التركيب إلا (القوة) بمعناها المذكور، وجمعها (القُوَى)، والصفة (القوِيّ).
ومن ذلك: "اقْتَوىَ السلعةَ المشتراة: أخذها لنفسه " (اشتراها لنفسه خالصة كأنه التوى أو التأم عليها - والعامة تقول اتلايم عليه بمعنى أَخَذَه)، كما يقال: مَلَكها. وتركيب (ملك) يعبر عن الشدة والاشتداد أيضًا.
المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م
124-المعجم الجغرافي للسعودية (عريجاء)
عريجاء ـ قال البكريّ: تصغير العرجاء ـ ماءة معروفة بحمى ضرية، وقد أقطعها ابن ميّادة المريّ من بني ذبيان، فدلّ على أنها متصلة ببلادهم.وكذلك قول ربيع بن قعنب الفزارىّ، وكان أرطاة بن سهيّة قال له:
«لقد رأيتك عريانا ومؤتزرا***فلست أدري أأنثى أنت أم ذكر؟! ”
فأجابه ربيع ـ وأرطاة من بني مرّة ـ:
«لكن سهيّة تدري أنّني رجل ***على عريجاء، لمّا حلّت الأرز»
وأقول: أوضح ابن ميّادة في شعره موطنه فقال يخاطب الوليد بن يزيد، وكان مبتديّا بأباير:
«لعمرك إنّي نازل بأباير***لصوأر مشتاق وإن كنت مكوما»
«أبيت كأنّي أرمد العين ساهر***إذا بات أصحابي من اللّيل نوّما»
فقال الوليد: كأنك عرضت من قربنا؟ فقال: ما مثلك يا أمير المؤمنين يعرض من قربه ولكن:
«ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة***بحرّة ليلى حيث ربّتني أهلى »
«وهل أسمعنّ الدّهر أصوات هجمة***تطالع من هجل خصيب إلى هجل »
«بلاد بها نيطت علىّ تمائمى ***وقطّعن عنى حين أدركنى عقلى »
«فإن كنت عن تلك المواطن حابسى ***فأيسر علىّ الرّزق، واجمع إذن شملى »
فأمر له الوليد بمائة من الإبل، وأراد أن يقطعه عينيّن في الحجاز فقال: لسنا بأصحاب عيون، يأكلنا فيها البعوض وتأخذنا بها الحميّات. وعلى هذا فابن ميادة كان يعيش في بلاد بني مرّة قومه، ومنازلهم في جهات خيبر وفدك، بعيدة عن ضريّة، وإن كان لفزارة أمواه في غرب حماها كما ذكر الهجريّ وغيره.
: أكثر المواضع التي أوردها ابن ميادة في شعره تقع شمال خيبر مثل: ذو العش، والغمر، ونيّان وجبار والجناب، ومع ذلك كان يتردد على بلاد قومه، فقد ذكر صاحب «الأغاني». أن الحكم الخضري الذي كان يهاجيه خرج يريد لقاءه في الرقم من غير موعد فلم يلقه، إما لأنه تغيّب عنه أو أنه لم يصادفه فقال الحكم:
«فرّ ابن ميّادة الرّقطاء من حكم ***بالصّعر مثل فرار الأعقد الدّهم »
«أصبحت في أقر تعلو أطاوله ***تفرّ مني وقد أصبحت في الرّقم »
يظهر أن البكرىّ ـ رحمهالله ـ نسب العريجاء إلى ضريّة لخبر يتعلق بابن ميّادة ذكره الأصفهانيّ، وفيه ذكر عريجاء، وذكر حمى ضرية، وملخصه: (تواعد حكم وابن ميّادة عريجاء ـ وهي ماءة يتوافقان عليها ـ فخرج حكم فورد عريجاء ولم يلق رمّاحا فرجع، فبلغ الخبر رمّاحا فأصبح على الماء.. ثم إنهما بعد توافيا بحمى ضرية وكان ذلك العام عام جدب وسنة إلا بقية كلإ بضرية. فلما سأله عامل ضريّة عن حاجته قال: ترعيني عريجاء لا يعرض لي فيها أحد، فأرعاه إياها. وقال: جزاك الله خيرا يا أبا منيع ـ يقصد الحكم الخضريّ ـ فو الله لقد كان ورائي من قومي من يتمنى أن يرعى عريجاء بنصف ماله، ثم انصرفا راضيين. فالخبر ـ كما ترى ـ ليس صريحا في أن عريجاء في حمى ضرية، بل انصرافهما من ضرية يدل على أن عريجاء ليست هناك. أما كون عامل ضرية هو الذي أرعاه الماء، فإن العامل يمتد نفوذه إلى خارج موضعه، وخاصة في ذلك العهد وفي ضرية التي يمتدّ حماها حتى يشمل غربا مياها لبني فزارة قوم الرمّاح، وقد يتجاوزها إلى أبعد من ذلك.
فالقول بأن الرماح أقطع مكانا خارج بلاد قومه لا يتفق مع ما هو معروف من أنهم فى ذلك العهد لا يقطعون المرء خارج بلاد قومه، إذ كل قبيلة تختص بأرضها وبما فيها من مياه وأودية ومراعي، ولا تمكّن أحدا من الاستقرار في جزء من أجزائها، ولم يكن الحكم قويّا غالبا في تلك العصور، يستطيع السيطرة على القبائل وإخضاعها.
المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية-حمد الجاسر-صدر: 1398هـ/1978م
125-المعجم الجغرافي للسعودية (عنتر)
عنتر ـ على اسم الرجل المعروف ـ: اسم واد يقع شمال بلدة الوجه، بينها وبين الأزلم، يفيض في البحر، ومفيضه يدعى (شرم عنتر).وكان طريق الحج الساحلي المحاذي للبحر الأحمر يمرّ بهذا الوادي، فأنشئت فيه محطة عرفت باسم (اصطبل عنتر) لا تزال آثارها باقية
معروفة ولهذا الموضع ذكر كثير في كتب رحلات الحج، نكتفي بايراد نصّين منها.
جاء في كتاب «درر الفوائد المنظمة» في وصف سير ركب الحج (وسار إلى أن قطع اصطبل عنتر، وهو فضاء صغير، بين جبال ووعر وحدرات، ومضيق، يرى البحر من أماكن منه، ويمرّ على مكان يسمى بحرامل، بين جبال وعرة إلى أن يمسى بأرض الشّرنبة والعلم السعديّ).
وأورد شعرا للصفدي تقدم في الكلام على (اصطبل عنتر) في حرف الألف. وقال: به نهب الركب الغزّاوى سنة 841.
وقد فصّل خبر هذا النهب في موضع آخر فقال: (نزل الركب الغزاويّ ومن انضم إليهم من أهل القدس والرملة وبلاد الساحل وأهل ينبع، في عودهم ـ بمحلّ قريب من الأزلم، فخرج عليهم من بليّ أربعون فارسا ومئة وعشرون راجلا يطلبون مالا، فأمّا الينابعة فجمعوا لهم مبلغا من الذهب فكفّوا عنهم وأمّا الغزّاويّون فاستعدّ مقدّمهم ورمى بالنشّاب فقتل من العرب ثلاثة، فحملوا عليه حملة منكرة، وأخذوه فيها: ومالوا على الركب يقتلون ويأسرون، فما عفّوا ولا كفّوا، فيقول المكثر: إنهم أخذوا ثلاثة آلاف جمل بأحمالها وما عليها من المال.. وخلص من تفلّت من الركب، وهم حفاة عراة، يريدون اللحاق بالمحمل، فمات منهم عدّة، وتأخّر في البريّة عدّة، ووصل منهم إلى القاهرة في البرّ والبحر عدّة، وفقد الناس من الرجال والنساء والصبيان والبنات عدد كثير، وكانت هذه الحادثة من أبشع ما يذكر، ولم ينطتح فيها عنزان، لإهمال أهل الدولة الأمور. انتهى.
ـ وقال أيضا ـ: والشرنبة طرطور جبل من أول وادي الأراك في مسيل الطلعة، ودركها لجماعة من الغدايرة وأصحاب درك اصطبل عنتر شاهين بن أحمد بن غدير، وصبيح وحبيب أولاد سلامة بن غدير، ورفقتهم عن الاصطبل والفيحاء ووادي الاراك إلى كبرة أول حدّ الوجه).
وقال ابن عبد السلام الدّرعيّ في رحلته الكبرى: (ونزلنا اصطبل عنتر، وبه بندر داثر، وآبار ثلاث محكمة البناء بحجر غير منحوت، وماؤها عذب غير أنه في الغاية من القلة، بل كثيرا ما ينزف، وفيه يقول الشاعر:
«إن جئت للإصطبل لا***تغفل به عند النّزول »
«واحذر من العرب الّتي ***بجباله أبدا تصول »
«واعلم ـ فديتك ـ إنّه ***صعب ولكنّى أقول »
«قد سمّى الإصطبل من ***عرب به شبه الخيول »
وعنتر المنسوب إليه هو عنتر المشهور في التاريخ بالقصص والخرافات يزعمون أنه كان يربط فيه خيله في زمانه. وسوّقنا فيه أعراب بليّ وهذه بلادهم، وما أكثرهم إلا أن الله تعالى أذلّهم وفرقهم، فتحت كل قبيلة من قبائل الحجاز نتفة منهم، ولا يقيم لهم أحد من الأعراب وزنا، فهم الآن ضعفة متضعّفون، دأبهم الكراء والسرقات) انتهى بنصه ولكن يظهر أن في الكلام نقصا، وأنه يقصد قوم عنتر، وهم عبس، إذ ذكر بعد ذلك قبيلة هتيم، ووصفهم بالضّعة، وهم من بقايا عبس، كما أوضحت في مكان آخر.
أما قبيلة بلىّ فهي قبيلة قوية، متماسكة ليست مفرقة، ولها منزلتها بين القبائل العربية.
ولعل تسمية هذا الموضع باسم الشّربّة والعلم السعدي ناشيء عن توهّم أن وادي عنتر منسوب إلى عنترة العبسيّ الذي يكثر في الشعر المنسوب إليه ذكر الشّربة والعلم السعديّ، وهذا خطأ، فلا صلة لهذا الوادي بعنترة العبسي، والشّربّة والعلم ليستا في هذه الجهات بل في عالية نجد. وعنتر كان يعيش في بلاد قومه في نجد.
المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية-حمد الجاسر-صدر: 1398هـ/1978م
126-المعجم الجغرافي للسعودية (عيون القصب)
عيون القصب؛: قال البكريّ الصديقي في رحلته: ثم سرنا ـ من مغار شعيب ـ إلى عيون القصب، إذا نظر إليها العاجز ذهب عنه الوصب، لأن خضرتها نظرة، والاشجار بها منتظمة ومنتشرة، قال الشاعر:«قد وصلنا لعيون القصب ***واستراح القلب بعد النصب “
«فجلسنا فى صفاء حولها***وظفرنا عندها بالارب »
«وتشوّقنا لشاد مطرب ***يتغنّى بعيون القصب »
ورأينا مجاورا لتلك العيون، نسوة من العرب يوصفن بحسن العيون، ويتعاجبن بظفائر الشّعور، فيمتعن من عقل الحبّ كلّ الشعور، كأنّهنّ أقمار، أو كأنما نبتت في وجناتهن الازهار، فكان قطع المفاوز والاوعار كالتّنزّهات في الرياض والازهار. قال الشاعر في بدوية اسمها ساكتة:
«بروحى أفدى ظبية بدويّة***لها وجنة فيها الأزاهير نابته »
«إذا رمت منها أن تكلّمنى غدت ***تكلّمنى ألحاظها وهى ساكته »
ـ ومدة السير إليها أربع ساعات وثلاث من الدرج.
وقال ابن فضل الله العمريّ: عيون القصب عيون سارحة ضعيفة المنبع، ينبت عليها القصب، وماؤها لا يستطاب وإن كان عذبا. انتهى وقال الجزيريّ عنها: والبحر الملح قريب منها وربما ترسو عليها الزعائم لبيع الغلال على أهل الركب وغير ذلك في الغالب، وماؤها المورود خارج عن الوادي، جار على نخيل وخضروات، وقصب فارسيّ وشجر من المقل، وهو سريع التغير إلى العفونة، يصلح للغسل والاستعمال. ثم نقل عن «السلوك» للمقريزيّ أنه في سنة 834 حفر القاضي عبد الباسط زين الدين ناظر الجيوش في القاهرة بئرا بعيون القصب عمّ النفع بها. وقال المقريزيّ: أدركت بعيون القصب يخرج من بين الجبلين ماء يسيح على وجه الارض، ويرتفع حتى يجاوز قامة الرجل في عرض كبير، فإذا نزل الحجاج أقاموا يومهم على هذا الماء، ثم انقطع وجفت الاعشاب، فصار الحجاج إذا نزلوا حفروا حفائر يخرج منها ماء ردىء إذا بات في القرب ليلة أنتن، فاغاث الله العباد بهذه البئر، وخرج ماؤها عذبا ـ ثم أضاف الجزيريّ: قد أعاد الله ذلك الماء الجاري، والاقصاب والنخيل على أحسن عادة، ولم يحفر أهل الركب الآن شيئا من الحفائر، ولا أدركنا ذلك، والبئر المذكورة لا وجود لها، وأما تغير الماء بالسرعة، فهو باق على حاله، وذلك بواسطة ما يكدره من المنابت. إنتهى.
وذكر أن مجرى عيون القصب داخل الوادي يسمى المغيسل. وأن مضيق عيون القصب يسمى القرقف تحت الحدرة، وأن دركها باسم فينان بن عتيق بن داود بن رسال من السريرات من بني عقبة، وأن بمحطة الركب من عيون القصب قبر الشيخ إبراهيم بن موسى الأبناسي توفى سنة 802 ودفن على ممرّ الحاج. وقد ترجمه المقريزي في «درر العقود الفريدة، فى تراجم الأعيان المفيدة».
وقال السيد كبريت: عيون القصب، وهي مقصبة ينتهى إليها ماء من عين جارية من مسافة طويلة، على نخيل باسقة، وأشجار متناسقة، قد يؤتى منها بأثمار فتباع على الركب، وقد انقطع ذلك لانقطاع عوائد العرب من صلات السلطنة، فلذلك ارتفعت العرب، وصار الوادي مخيفا، وماؤه في غاية العذوبة، يجري من بين القصب الفارسيّ من أعلى صخرة ثمّة، على ظهر الوادي بمقدار ميل، ثم يغور في الرمل، وزعم بعضهم أنه ثقيل سريع التعفن، يكره الإكثار منه قال الحافظ ابن حجر في كتاب «إنباء الغمر»: في سنة 834 حفرت بعيون القصب بئر عظيمة فعظم النفع بها، وكانت عيون القصب تجري من واد عظيم ينبت فيه القصب الفارسيّ ويجري الماء من بين تلك الغابات، وكان للحجاج به رفق، بحيث يبيتون به ليلة، ثم غمرت تلك العيون، وصاروا يقنعون بالحفائر، فأشار ناظر الجيش لما حج بحفر البئر فخرج ماؤها عذبا فراتا. انتهى. وقد أجرى الله عوائد برّه وعاد الماء إلى مجاريه. انتهى كلام السيد كبريت.
ووصفها فلبي ـ لما زارها سنة 1951 ـ فقال ما تعريبه: سرنا من قرية الخريبة بحذاء الضفة الشمالية في الوادي فوق أرض صخرية، حتى وصلنا بساتين نخل عينونة، بعد أقل من عشر دقائق ـ المسافة بين 2 و 3 أميال ـ ويبدو أن عينونة كانت ذات أهمية مرموقة، إذ تقع في مركز (استراتيجي) يمتد على شكل شريط رفيع من الارض، ويقطعه الوادي، عبر مجرى من الصخور الجيرية، ومن هذا المجرى تتفرع جميع الطرق المؤدية إلى السهل والتي تنفذ إلى البحر، أما جدول الماء الجاري الذي يأتى من منطقة مخيمنا (على بعد نحو 3 أميال من الخريبة) فلا يصل إلى أبعد من الارض الرملية الشاسعة في الوادي المقابلة للبحر، من سلسلة المرتفعات، ووجدت عند كتف الضفة اليمنى خرائب قرية كبيرة تمتد نحو 500 ياردة، على طول قمة الصخور الجيرية في عرض 250 ياردة وهناك خرائب أخرى تدعى مغاير الكفّار، وهذه تقع على ضفتي الوادي على مسافة تقرب من ميل واحد عن النخيل، وهي على الضفة اليمنى في موقع مساحته 500 ياردة طولا في عرض 100 ياردة، وفوقها صخور تشكل سدّا طبيعيا للوادي، لا يزيد ارتفاعه عن بضعة أقدام. وفي نهاية الصخور على الضفة اليسرى خرائب حجرية قديمة، وأكواخ القرية المصنوعة من سعف النخل القريبة من الشّريط لا تسكن إلا أيام جنى التّمر انتهى.
وسبقت الإشارة إلى أن عينونة تدعى عيون القصب وغاير بينهما الجزيريّ في «درر الفوائد المنظمة» فقال عن المسالمة من بني عقبة: هم أصحاب درك البحر، ولهم من البر جانب البحر فقط بعيون القصب، وحدد دركهم من جزيرة عينونة المتصلة بالبحر إلى ما جاور قبر الشيخ مرزوق الكفافي، وإلى الغرب من حدرة دامة آخر درك بني عقبة. انتهى. فهو يطلق اسم عينونة على جزيرة، والظاهر أن تلك الجزيرة ـ أو الطرف من البحر ـ هو الذي احتفظ بالاسم الذي كان يشمل عيون القصب وما حولها.
وقال محمد بن محمد النّويريّ المكيّ (827 ـ 873 ه):
«رأيت بشاطى البحر يا خلّ واديا***به جمعت كلّ اللّطائف والعجب »
«تراه لجينا والزّمرّد عشبه ***وأزهاره قد صاغها المزن من ذهب »
«وأعجب من ذا ـ يا خليلى نسيمه ***يبدّل همّ الصّب والحزن بالطّرب »
ومما قيل فى العيون:
«قصب الوادي هبوا لي ماءه ***ففؤادى فيه حرّ الوصب »
«وقفوا بي برهة يا رفقتي ***أتروّى من عيون القصب »
ومن شعر النابلسيّ في عيون القصب:
«فتح الله عيون القصب ***بلطيف من زلال عذب “
«منزل يا حسن واديه ويا***حسن زاهى نهره المنسكب »
«نسج النّبت على حافته ***حلل السّندس خضر العذب »
«قد نزلناه على غبّ العيا***ومقاساة العنا والتّعب »
«فتبدّى لطفه يشملنا***وتلقّانا بصدر رحب »
«حين خيّمنا على النّهر وقد***ركضت خيل الصّبا باللّعب »
المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية-حمد الجاسر-صدر: 1398هـ/1978م
127-المعجم الجغرافي للسعودية (مقنا)
مقنا: ـ بفتح الميم وإسكان القاف بعدها نون مفتوحة فألف ـ: قرية تقع على شاطىء خليج العقبة، جنوب حقل، وشمال رأس الشيخ حميد وهي في أسفل واد يدعى وادى الحمض، غربى جبل تيران، الذي تقع مغاير شعيب في طرفه الغربيّ (تقع مقنا بقرب خطّ الطول 45؟ ـ 34؟ وخط العرض 22؟ ـ 28؟).ويقول موزل: إن (مكناMAKNA) الواردة في جغرافية بطليموس هي واحة مقنا المعروفة، الواقعة على ساحل خليج العقبة، على الرغم من أن التفصيلات التي ذكرها بطليموس لا تتفق مع ظواهر المكان.
ومقنا بلدة قديمة ذكر الواقدي في «المغازى» أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أعطى رجلين أسلما وقدما عليه بتبوك ربع مقنا، مما يخرج من البحر ومن الثمر من نخلها.
وذكر في «الروض المعطار» أن مع يهود مدين كتاب يزعمون أن النبي صلىاللهعليهوسلم كتبه لهم قال: وهم يظهرونه للناس حتى الآن، وهو في قطعة أديم قد اسودّت لطول الزمان عليها، إلا أن خطّها بيّن، وفي آخره: وكتب (علي بن أبو طالب) غير معرب، وقال قوم: إنه بخط معاوية بن أبي سفيان، وهو عند أهل قرية من ساحل مدين يقال لها مسى. انتهى.
كذا والصواب (مقنا) ووردت هذه الكلمة مصحفة في كثير من الكتب ونصّ ذلك الكتاب هو: «بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله إلى بني جنبة وإلى أهل مقنا: أما بعد فقد نزل علىّ آيتكم، راجعين إلى قريتكم؛ فإذا جاءكم كتابى هذا فإنكم آمنون، لكم ذمّة الله وذمة رسوله. وإن رسوله غافر لكم سيئاتكم وكلّ ذنوبكم. وإن لكم ذمة الله وذمة رسوله. لا ظلم عليكم ولا عدى، وإن رسول الله جار لكم مما منع منه نفسه.
فإن لرسول الله بزّكم، وكل رقيق فيكم، والكراع والحلقة إلا ما عفا عنه رسول الله، أو رسول رسول الله، وإن عليكم بعد ذلك ربع ما أخرجت نخلكم، وربع ما صادت عروككم، وربع ما اغتزل نسائكم. وإنكم برئتم بعد من كل جزية أو سخرة. فإن سمعتم وأطعتم فإنّ على رسول الله أن يكرم كريمكم، ويعفو عن مسيئكم.
أما بعد: فإلى المؤمنين والمسلمين: من أطلع أهل مقنا بخير فهو خير له، ومن أطلعهم بشرّ فهو شرّ له.
وأن ليس عليكم أمير إلا من أنفسكم أو من أهل رسول الله. والسلام وكتب علي بن أبو طالب في سنة تسع. انتهى.
وذكر الدكتور محمد حميد الله أن من مصادر هذا الكتاب «طبقات ابن سعد» و «فتوح البلدان» للبلاذرى.
كما أورد نصّ معاهدة تتعلق بمقنا قال: أصلها وجد مكتوبا بالخط العبراني واللغة العربية، أولها ـ بعد البسملة: «هذا كتاب من محمد رسول الله، لحنينا ولأهل خيبر والمقنا ولذراريهم، ما دامت السماوات على الأرض» ولا نطيل بذكرها لأن أثر الوضع ظاهر عليها، وعلى الكتاب الذي قبلها، فالبدء بالتاريخ الهجري حدث في عهد عمر بن الخطاب ـ رضياللهعنه ـ كما أن كثيرا من الجمل الواردة في ذلك الكتاب لا تتفق مع بلاغة النبي صلىاللهعليهوسلم وسلامة أسلوبه. وقد أشار الدكتور محمد حميد الله إلى ذلك في مقدمة كتابه «مجموعة الوثائق السياسية» فقال: أما الوثائق التي لا تشتمل إلا على الحقوق دون الواجبات، أو التي تذكر أشياء لم توجد في عصر النبي صلىاللهعليهوسلم، فنعدها موضوعة، كبعض العهود التي زعموا أن النبي صلىاللهعليهوسلم كتبها للنصارى واليهود والمجوس).
وذكر ابن هشام أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعث زيد بن حارثة نحو مدين فأصاب سبيا من أهل ميناء، وهي السواحل، وفيها جماع من الناس فبيعوا ففرّق بينهم، فخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهم يبكون فقال: «ما لهم؟» فقيل: فرّق بينهم. قال صلىاللهعليهوسلم: «لا تبيعوهم إلا جميعا» أراد الامهات والاولاد.
المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية-حمد الجاسر-صدر: 1398هـ/1978م
128-المعجم الجغرافي للسعودية (الهيثم)
الهيثم ـ بفتح الهاء واسكان المثناة التحتية، وفتح الثاء المثلثة وآخره ميم، ومن معاني الكلمة في اللغة: الرّمل الأحمر ـ: والهيثم.موضع ما بين القاع وزبالة بطريق مكة على ستة أميال من القاع، فيه
بركة وقصر لأمّ جعفر، ومنه إلى الجريسي ثم زبالة قال الطرمّاح يصف قداحا أجيلت فخرج لها صوت:
«خوار غزلان لوى هيثم ***تذكّرت فيقة آرامها»
كذا في «معجم البلدان» وديوان الطرماح» والفيقة اللبن يجتمع في الضرع بين الرضعتين أو الحلبتين.
وقال في كتاب «المناسك» في وصف طريق المصعد: (وعلى ستة أميال من القاع قبل المشرف يسرة الطريق بركة زبيدية وقباب ومسجد وهي الهيثم، ولها مصفاة). وسماه ابن بطوطة الهيشمين، وقد مرّ به سنة 727 وذكر أن فيه مصنعين (بركتين) ويرى موزل أن الهيثم هو ما كان يعرف باسم (القاع) ولكن هذا لا يتفق مع ما تقدم. وقد أشرت في الكلام على القاع إلى أنّ موقعه ـ إذ اعتبرنا تحديد المسافات من قبل المتقدمين صحيحة ـ هو موقع الهيثم الآن، وينبغي أن نبحث عن المكان الصحيح للهيثم الذي يقع بعد القاع نحو زبالة بستة أميال (13 كيلا) أي أنه قبل زبالة باثني عشر ميلا ونصف (نحو 27 كيلا) وأقرب موضع ينطبق عليه تحديد المسافة بالنسبة لزبالة هو بركة الثّليماء.
الواقعة شمال بركة الجميمة، غير بعيدة عنها. وعلى هذا تكون بركة الجميمة هي الجريسي، وهذا يتفق مع رأي موزل أعنى بالنسبة للجميمة، وهو يحدد المسافة بين الهيثم (القاع) وبين بركة الجميمة (الجريسى) ب 21 كيلا، وهذا قريب من الصواب، باعتبار الهيثم هو القاع وأن الهيثم هو ما يعرف الآن باسم الثّليماء وأنّ الجميمة هى بركة الجريسى (تقع بركة الثّليماء بقرب خط الطول 38؟ ـ 43؟ وخط العرض 38؟ ـ 29؟) وقال موزل ـ ما تعريبه في الكلام على بركة الهيثم: وإلى الجنوب الغربي من القلعة المهدمة كانت تقع بركة يبلغ طولها حوالى مئتي متر، وعرضها 150 مترا، تمتدّ من الشمال إلى الجنوب. وإلى الشمال الشرقي من القلعة فهناك بئران جافان، خلفهما بركتان واسعتان، كانت أبعدهما جنوبا ممتلئة بالحجارة، وإلى الشمال الغربي من القلعة القديمة يعلو حصن عامر، كان قد شيّده الأمير محمد بن رشيد. انتهى.
المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية-حمد الجاسر-صدر: 1398هـ/1978م
129-المعجم العربي لأسماء الملابس (الطيلسان)
الطَّيْلَسان: بفتح الطاء وسكون الياء وفتح اللام والسين: كلمة فارسية مُعرَّبة، وأصلها في الفارسية: تالشان، وقد تكلمت به العرب؛ وأنشد ثعلب:«كلُّهم مبتكرُ لِشَانِه *** كاعمُ لحييه بطيلسانه»
والطيلسان في العربية: ضرب من الأكسية؛ والجمع له طيالس، وطيالسة.
والطيلسان: كساء مدوَّر أخضر لا أسفل له؛ لحمته أو سداه من صوف يلبسه الخواص من العلماء والمشايخ، وفُسِّر بكساء يُلقى على الكتف. كالوشاح، ويحيط بالبدن، خال من الصنعة كالتفصيل والخياطة، من ألبسة العلماء في العصر الإسلامي، كان يتخذ على الأغلب من القماش الأخضر، ويعرف بمصر والشام باسم: الشال.
والطيلسان هو الطرحة التي توضع على الرأس والكتفين، وأحيانًا على الكتفين فقط، وغالبًا كانت هذه الطرحة تشبه المنديل الكبير الذي يتدلى على الكتفين ليقى الرقبة من حرارة الشمس.
وأحيانًا يحل الطيلسان محل الحزام، فإن الخيزران أم الرشيد لما توفيت، فخرج الرشيد وعليه جبة وطيلسان أزرق قد شد به وسطه.
وفي الأندلس كان أكثر عوام أهل
الأندلس يمشون دون طيلسان، إلا أنه لا يضعه على رأسه منهم إلا الأشياخ المعظَّمون.
ويحدثنا ابن جبير أن الخطيب في مكة كان يرتدى الطيلسان من الكتان الرقيق أسود اللون؛ مع بردة سوداء برسم الخلافة العباسية؛ في قوله "وصفة لباسة بردة سوداء، عليها طيلسان شرب أسود، وهو الذي يُسمَّى بالمغرب الإحرام، وعمامة سوداء، متقلدًا سيفًا".
وكان هذا كله من كسا الخليفة التي يرسلها إلى خطباء بلاده.
وقد كان الخطيب إذا دخل المسجد الحرام ألقى طيلسانه عن رأسه تواضعًا لحرمة المكان، كما فعل أبو الفرج الجوزى عندما صعد المنبر وألقى طيلسانه عن رأسه.
ويحدثنا ابن بطوطة أن ثياب العزاء في الصين كان عبارة عن الطيالسة البيض للكفار، والثياب البيض للمسلمين.
ولما نزل ابن بطوطة إلى مدينة مالى، وحضر بها عيدى الأضحى والفطر، فخرج الناس إلى المصلَّى، وركب السلطان وعلى رأسه الطيلسان، والسودان لا يلبسون الطيلسان إلا في العيد، ما عدا القاضى والخطيب والفقهاء؛ فإنهم يلبسونه في سائر الأيام.
المعجم العربي لأسماء الملابس-رجب عبدالجواد إبراهيم-صدر: 1423هـ/2002م
130-المعجم العربي لأسماء الملابس (الموءودة)
الموءودة: المدفونة حية، وآمتها: هَنتها يعني القُلْفة.وفي التهذيب: المعاوز: خُلقان الثياب، لُفَّ فيها الصبى أو لم يُلفُّ.
وفي حديث عمر رضي اللَّه عنه: أمالك مِعْوز؟؛ أي ثوب خَلَق؛ لأنه لباس المعوزين، فخُرِّج مخرج الآلة والأداة. وفي حديثه الآخر: رضي اللَّه عنه؛ تخرج المرأة إلى أبيها يكيد بنفسه، فإذا خرجت فلتلبس معاوزها"؛ هي الخُلْقان من الثياب؛ واحدها معوز؛ بكسر الميم. وقيل: المِعْوَز كل ثوب تصون به آخر؛ وقيل: هو الجديد من الثياب؛ والجمع: معاوزة؛ زادوا الهاء لتمكين التأنيث؛ وأنشد ثعلب:
«رأى نظرةً منها فلم يمْلِكْ الهَوَى *** معاوزُ يريو تحتهنَّ كثيب»
فلا محالة أن المعاوز هنا هي الثياب الجدد.
المعجم العربي لأسماء الملابس-رجب عبدالجواد إبراهيم-صدر: 1423هـ/2002م
131-معجم النحو (اسم التفضيل وعمله)
اسم التّفضيل وعمله:1 ـ تعريفه:
هو اسم مصوغ للدّلالة عل أنّ شيئين اشتركا في صفة، وزاد أحدهما على الآخر فيها:
2 ـ قياسه:
قياسه: أفعل» للمذكّر، نحو «أفضل» و «أكبر» و (فعلى) للمؤنّث نحو «فضلى» و «كبرى» يقال: «عليّ أكبر من أخيه» و «هند فضلى أخواتها».
وقد حذفت همزة «أفعل» من ثلاثة ألفاظ هي «خير وشرّ وحبّ» لكثرة الاستعمال نحو «هو خير منه» و» الظالم شرّ الناس» وقول الشاعر:
«منعت شيئا فأكثرت الولوع به ***وحبّ شيء إلى الإنسان ما منعا»
وقد جاءت «خير وشر» على الأصل فقيل «أخير وأشر» قال رؤبة: «بلال خير الناس وابن الأخير» وقرأ أبو قلابة (سيعلمون غدا من الكذّاب الأشرّ»
وفي الحديث «أحبّ الأعمال إلى الله أدومها وإن قل»
3 ـ صياغته:
لا يصاغ اسم التّفضيل إلّا من فعل استوفى شروط فعلي التّعجّب فلا يبنى من الفعل غير الثّلاثي، وشذّ قولهم: «هو أعطى منك» ولا من المجهول، وشذّ قولهم في المثل «العود أحمد» و «هذا الكتاب أخصر من ذاك» مشتق من «يحمد» و «يختصر» مع كون الثاني غير ثلاثي.
ولا من الجامد نحو «عسى» و «ليس»
ولا مما لا يقبل التّفاوت مثل «مات» و «فني» و «طلعت الشّمس» أو «غربت الشمس» فلا يقال: «هذا أموت من ذاك» ولا «أفنى منه» ولا «الشمس اليوم أطلع أو أغرب من أمس»
ولا من الناقص مثل «كان وأخواتها» ولا من المنفي، ولو كان النفي لازما نحو «ما ضرب» و «ما عاج عليّ بالدواء» أي ما انتفع به
ولا ممّا الوصف منه على «أفعل» الذي مؤنثه «فعلاء» وذلك فيما دل على «لون أو عيب أو حلية» لأنّ الصفة المشبهة تبنى من هذه الأفعال على وزن «أفعل»، فلو بني التّفضيل منها لالتبس بها، وشذّ قولهم «هو أسود من مقلة الظبي»
ويتوصل إلى تفضيل ما فقد الشروط ب «أشدّ» أو «أكثر» أو مثل ذلك، كما هو الحال في فعلي التعجب، غير أنّ المصدر في التّفضيل ينصب على التمييز نحو «خالد أشدّ استنباطا للفوائد» و «هو أكثر حمرة من غيره»
4 ـ لاسم التّفضيل باعتبار معناه ثلاثة استعمالات:
(أحدها) ما تقدّم في تعريفه، وهو الأصل والأكثر
(ثانيها) أن يراد به أن شيئا زاد في صفة نفسه على شيء آخر في صفته قال في الكشاف: فمن وجيز كلامهم «الصّيف أحرّ من الشّتاء» و «العسل أحلى من الخل» وحينئذ لا يكون بينهما وصف مشترك.
(ثالثها) أن يراد به ثبوت الوصف لمحلّه من غير نظر إلى تفضيل كقولهم: «الناقص والأشج أعدلا بني مروان» أي عادلاهم، وقوله:
«قبّحتم يا آل زيد نفرا***ألأم قوم أصغرا وأكبرا»
أي صغيرا وكبيرا، ومنه قولهم «نصيب أشعر الحبشة» أي شاعرهم، إذ لا شاعر غيره فيهم، وفي هذه الحالة تجب المطابقة، ومن هذا النوع قول أبي نواس:
«كأنّ صغرى وكبرى من فقاقعها***حصباء درّ على أرض من الذّهب »
وقوله تعالى {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ}
5 ـ لاسم التفضيل من جهة لفظه ثلاث حالات:
(1) أن يكون مجرّدا من «أل» و «الإضافة»
(2) أن يكون فيه «أل».
(3) أن يكون مضافا.
فالمجرّد من «أل والإضافة» يجب فيه أمران:
(أحدهما) أن يكون مفردا مذكرا دائما نحو {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا}.
(ثانيهما) أن يؤتى بعده ب «من» جارة للمفضول كالآية المارة، وقد تحذف «من» نحو {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى} وقد جاء إثبات «من» وحذفها في قوله تعالى {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} أي منك.
وأكثر ما تحذف «من» مع مجرورها إذا كان أفعل خبرا، كالآية، ويقل إذا كان حالا كقوله:
«دنوت وقد خلناك كالبدر أجملا***فظلّ فؤادي في هواك مضلّلا»
أي دنوت أجمل من البدر. أو صفة كقول أحيحة بن الجلاح:
«تروّحي أجدر أن تقيلي ***غدا بجنبي بارد ظليل »
أي تروّحي وخذي مكانا أجدر من غيره بأن تقيلي فيه.
ويجب تقديم «من» ومجرورها عليه إن كان المجرور بمن استفهاما، نحو «أنت ممّن أفضل؟» أو مضافا إلى الاستفهام نحو «أنت من غلام من أفضل؟»، وقد تتقدّم في غير ذلك ضرورة كقول جرير:
«إذا سايرت أسماء يوما ظعينة***فأسماء من تلك الظعينة أملح »
وما فيه «أل» من اسم التّفضيل يجب فيه أمران:
(أحدهما) أن يكون مطابقا لموصوفه نحو «محمد الأفضل» و «هند الفضلى» و «المحمّدان الأفضلان» و «المحمّدون الأفضلون» و «الهندات الفضليات أو الفضّل»
(ثانيهما) ألّا يؤتى معه ب «من”
وأما قول الأعشى يخاطب علقمة:
«ولست بالأكثر منهم حصى ***وإنما العزة للكاثر »
فخرّج على زيادة «أل»،
و «المضاف» من اسم التفضيل يلزمه أمران: التذكير، والتوحيد كما يلزمان المجرد لاستوائهما في التّنكير، ويلزم في المضاف إليه أن يطابق، نحو «المحمدان أفضل رجلين» و «المحمّدون أفضل رجال» و «هند أفضل امرأة» فأما قوله تعالى {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ} فالتقدير على حذف الموصوف، أي أول فريق كافر به.
وإن كانت الإضافة إلى معرفة جازت المطابقة كقوله تعالى {أَكابِرَ مُجْرِمِيها} {هُمْ أَراذِلُنا} وتركها ـ وهو الشّائع في الاستعمال ـ قال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ} وقد اجتمع الاستعمالان في الحديث «ألا أخبركم بأحبّكم إليّ وأقربكم منى منازل يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا الموطؤون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون».
6 ـ عمل اسم التّفضيل:
يرفع اسم التفضيل الضمير المستتر بكثرة نحو «أبو بكر أفضل» ويرفع الاسم الظاهر، أو الضمير المنفصل في لغة قليلة نحو «نزلت برجل أكرم منه أبوه» أو «أكرم منه أنت» ويطّرد أن يرفع «أفعل التفضيل» الاسم الظاهر إذا جاز أن يقع موقعه الفعل الذي بني منه مفيدا فائدته، وذلك إذا كان «أفعل» صفة لاسم جنس، وسبقه «نفي أو شبهه» وكان مرفوعه أجنبيا مفضّلا على نفسه باعتبارين نحو «ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد» و «لم ألق إنسانا أسرع في يده القلم منه في يد علي» و «لا يكن غيرك أحبّ إليه الخير منه إليك» و «هل في الناس رجل أحقّ به الحمد منه بمحسن لا يمن»
وأما النصب به: فيمتنع منه المفعول به، والمفعول معه، والمفعول المطلق، مطلقا، ويمتنع التمييز، إذا لم يكن فاعلا في المعنى فلفظ «حيث» في قوله تعالى {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ»} في موضع نصب مفعولا به بفعل مقدر يدل عليه أعلم؛ أي يعلم الموضع والشخص الذي يصلح للرسالة، ومنه قوله:
وأضرب منا بالسيوف القوانسا وأجاز بعضهم: أن يكون «أفعل» هو العامل لتجرده عن معنى التفضيل أمّا عمله الجرّ بالإضافة، فيجوز إن كان المخفوض كلا، و «أفعل» بعضه، وذلك إذا أضيف إلى معرفة، وعكسه إذا أضيف لنكرة
وكذا بالحرف فإن كان «أفعل» مصوغا من متعد بنفسه، ودلّ على حب أو بغض عدّي ب «إلى» إلى ما هو فاعل في المعنى وعدّي ب «اللام» إلى ما هو مفعول في المعنى نحو «المؤمن أحبّ لله من نفسه، وهو أحبّ إلى الله من غيره» أي يحب الله أكتثر من حبّه لنفسه، ويحبّه الله أكثر من حبّه لغيره، ونحو «الصالح أبغض للشّرّ من الفاسق. وهو أبغض إليه من غيره» أي يبغض الشر أكثر من بغضه للفاسق، ويبغضه الفاسق أكثر من بغضه لغيره.
وإن كان من متعد لنفسه دالّ على علم عدّي بالباء نحو «محمد أعرف بي، وأنا أعلم به» وإن كان غير ذلك عدي باللام نحو «هو أطلب للثار وأنفع للجار» وإن كان من متعدّ بحرف جرّ عدّي به لا بغيره نحو «هو أزهد في الدنيا» وأسرع إلى الخير» و «أبعد من الذنب» و «أحرص على المدح» و «أجدر بالحلم» و «أحيد عن الخنى» ولفعل التعجب من هذا الاستعمال ما لأفعل التفضيل نحو «ما أحب المؤمن لله وما أحبه إلى الله» إلى آخر هذه الأمثلة.
معجم النحو-عبدالغني الدقر-صدر: 1395هـ/1975م
132-معجم النحو (اسم المصدر)
اسم المصدر:1 ـ تعريفه:
«هو ما ساوى المصدر في الدّلالة على معناه، وخالفه بخلوه ـ لفظا وتقديرا دون عوض ـ من بعض ما في فعله» فخرج نحو «قتال» فإنه خلا من ألف قاتل لفظا لا تقديرا، ولذلك نطق بها في بعض المواضع، نحو «قاتل قيتالا» لكنّها انقلبت ياء لانكسار ما قبلها. وخرج نحو «عدة» فإنّه خلا من واو «وعد» لفظا وتقديرا ولكن عوّض منها التاء. فهذان مصدران لا اسما مصدر.
أمّا مثل «الوضوء، والكلام» من قولك: توضّأ وضوءا، وتكلّم كلاما، فإنّهما اسما مصدر لا مصدران لخلوهما لفظا وتقديرا من بعض ما في فعليهما، وحقّ المصدر أن يتضمّن حروف فعله بمساواة نحو «توضّأ توضّأ» أو بزيادة نحو «أعلم إعلاما».
2 ـ ما يعمل من أنواع اسم المصدر:
اسم المصدر على ثلاثة أنواع:
(1) علم نحو «يسار» علم لليسر مقابل العسر و «فجار» علم للفجور و «برّة» علم للبر، وهذا لا يعمل اتفاقا.
(2) وذي ميم مزيدة لغير مفاعلة وهو المصدر الميمي كالمضرب والمحمدة وهذا كالمصدر يعمل اتفاقا، وهو عند كثير من النحاة مصدر، ومنه قول الحارث بن خالد المخزومي:
«أظلوم إن مصابكم رجلا***أهدى السلام تحية ظلم »
(3) وغير هذين من أسماء المصادر اختلف فيه فمنعه البصريون، وأجازه الكوفيون والبغداديون والشواهد كثيرة بإعماله، ومن ذلك قول القطامي:
«أكفرا بعد ردّ الموت عني ***وبعد عطائك المائة الرّتاعا »
وقول الشاعر:
«بعشرتك الكرام تعدّ منهم ***فلا ترين لغيرهم الوفاء »
وقوله:
«قالوا كلامك هندا وهي مصغية***يشفيك قلت صحيح ذاك لو كانا »
ومن ذلك قول عائشة (رض) «من قبلة الرجل زوجته الوضوء»
فالقبلة اسم مصدر بمعنى التقبيل وعمل في نصب مفعوله وهو «زوجته» ومهما يكن من أمر فإعمال اسم المصدر قليل، وإن كان قياسيّا، وقد مرّ بك التفصيل
معجم النحو-عبدالغني الدقر-صدر: 1395هـ/1975م
133-معجم النحو (التصغير)
التّصغير:1 ـ تعريفه:
تغيير مخصوص في بنية الكلمة ـ
2 ـ فوائده ستّ:
(1) تقليل ذات الشّيء نحو «كليب»
(2) تحقير شأنه نحو «رجيل».
(3) تقليل كمّيّته نحو «دريهمات»
(4) تقريب زمانه نحو «قبيل العصر» و «بعيد الظّهر».
(5) تقريب مسافته نحو «فويق الميل» و «تحيت البريد».
(6) تقريب منزلته نحو «أخيّ» وزاد بعضهم على ذلك: التعظيم نحو «دويهية»، والتحبب نحو «بنيّة».
3 ـ شروطه:
شروطه أربعة:
(أحدها) أن يكون اسما فلا يصغّر الفعل ولا الحرف، وشذّ تصغير فعل التعجب نحو «ما أحيسنه».
(الثاني) ألّا يكون متوغّلا في شبه الحرف، فلا تصغّر المضمرات، ولا «من وكيف» ونحوهما.
(الثالث) أن يكون خاليا من صيغ التّصغير وشبهها، فلا يصغّر نحو «كميت «لأنه على صيغة التّصغير.
(الرابع) أن يكون قابلا لصيغة التّصغير، فلا تصغر الأسماء المعظمة ك «أسماء الله وأنبيائه وملائكته» ولا «جمع الكثرة» و «كل وبعض» ولا «أسماء الشهور» و «الأسبوع» و «المحكي» و «غير» و «سوى» و «البارحة» و «الغد» و «الأسماء العاملة».
4 ـ علاماته:
علاماته ثلاث: ضمّ أوله، وفتح ثانيه، واجتلاب ياء ثالثه.
5 ـ أبنيته:
أبنيته ثلاثة:
(1) «فعيل» ك «رجيل» لتصغير الثلاثي.
(2) «فعيعل» ك «جعيفر» لتصغير الرباعي.
(3) «فعيعيل» ك «دنينير» لتصغير الحماسي وذلك أنه لا بدّ في كلّ تصغير من ثلاثة أعمال: ضم الحرف الأول، وفتح الثاني، واجتلاب ياء ثالثة كما مرّ.
فإذا كان المصغر ثلاثيا، اقتصر على ذلك وهي بنية «فعيل» ك «فليس» وإن كان متجاوزا الثلاثة احتيج إلى عمل رابع، وهو «كسر ما بعد ياء التصغير» ثم إن لم يكن بعد هذا الحرف المكسور حرف لين قبل الآخر في المكبر فبنيته «فعيعل» ك «جعفر وجعيفر».
وإن كان بعده حرف لين قبل الآخر في المكبر فبنيته «فعيعيل».
فإن كان حرف اللين الموجود قبل آخر المكبر «ياء» سلمت في التصغير لمناسبتها للكسرة ك: «قنديل» و «قنيديل».
وإن كان حرف اللين «واوا» أو «ألفا» قلبا «ياءين» لسكونهما وانكسار ما قبلها ك «عصفور» و «عصيفير» و «مصباح» و «مصيبيح».
6 ـ ألفاظ يحذف بعضها للتّصغير:
هناك ألفاظ جاوزت ثلاثة أحرف ولا يتوصّل بها إلى وزن «فعيعل» أو «فعيعيل» إلّا بما يتوصل به في باب جمع التكسير إلى مثالي «فعالل وفعاليل».
فنقول في تصغير «سفرجل» «سفيرج» بحذف خامسه، وفي «فرزدق» «فريزق» أو «فريزد» بحذف خامسه أو رابعه. وفي «مستخرج» «مخيرج» بحذف زيادتيه السين والتاء.
وفي ألندد واليلندد «أليد ويليد» بحذف النون فقط، ويتعين إبقاء الفاضل وفي: حيزبون «حزيبين» بحذف الياء وقلب الواو ياء وفي سرندى وعلندا «سريند وعليند» بحذف الألف وإبقاء النون، أو «سريد وعليد» بحذف النون وقلب الألف ياء لوقوعها بعد كسرة، ولم تصحّح ويفتح ما قبلها لأنها للإلحاق بسفرجل ويشذ عن جميع ما تقدّم: «مغيربان» تصغير مغرب، وقياسها «مغيرب» و «عشيان» تصغير عشاء وقياسها:
عشيّة و «أنيسيان» تصغير إنسان، والقياس: أنيسان و «لييلية» تصغير ليلة، والقياس: لييلة، و «رويجل» تصغير رجل: وقياسها: رجيل.
و «أصيبية» تصغير صبية، وقياسها صبيّة، و «أغيلمة» تصغير غلمة وقياسها: غليمة و «أبينون» تصغير: بنون وقياسها: بنيّون و «عشيشية» تصغير: عشيّة، وقياسها: عشيّة.
7 ـ المستثنى من كسر ما بعد الياء:
تقدّم أنه يجب كسر ما بعد ياء النسب ممّا تجاوز ثلاثة الأحرف، ويستثنى من هذه القاعدة أربع مسائل يفتح فيها ما بعد ياء النسب.
(إحداها) ما قبل علامة التأنيث، سواء أكانت تاء أم ألفا ك «شجرة» وحبلى فتقول في تصغيرهما «شجيرة و «حبيلى».
(الثانية) ما قبل ألف التأنيث الممدودة ك «حمراء» تقول في تصغيرهما «حميراء»
(الثالثة) ما قبل ألف أفعال ك «أجمال و «أفراس» فتقول في التصغير «أجيمال» و «أفيراس».
(الرابعة) ما قبل ألف فعلان ك «سكران» و «عثمان» فتقول «سكيران» و «عثيمان».
8 ـ تصغير ما فيه «ألف ونون» زائدتان:
القاعدة في تصغير ما فيه «ألف ونون» زائدتان: أنّ الألف لا تقلب ياء فيما يأتي:
(1) في الصفات مطلقا سواء أكان مؤنّثها خاليا من التاء وهو الأصل أم بالتاء فالأولى نحو «سكران» و «جوعان» والثانية نحو «عريان» و «ندمان» وصميان (للشجاع) وقطوان (للبطيء) تقول في تصغيرها «سكيران» و «جويعان» و «عريّان» و «نديمان» و «صميّان» و «قطيّان».
(2) في الأعلام المرتجلة نحو «عثمان» و «عمران» و «سعدان» و «غطفان و «سلمان» و «مروان» تقول في تصغيرها «عثيمان» و «عميران» و «سعيدان» و «غطيفان» و «سليمان» و «مريّان».
(3) أن تكون الألف رابعة في اسم جنس، ليس على وزن من الأوزان الآتية: (فعلان ـ فعلان ـ فعلان) ك «ظربان» و «سبعان» يقال في تصغيرهما: «ظريبان وسبيعان.
(4) أن تكون الألف خامسة في اسم جنس، أو في حكم الخامسة نحو «زعفران» و «عقربان» و «أفعوان» و» صليّان» و «عبوثران»
تقول في تصغيرها: «زعيفران» و «عقيربان» و «أفيعيان» و «صليليان» و «عبيثران».
فإن زادت على ذلك حذفت نحو «قرعبلانة» تقول في تصغيرها «قريعبة».
وتقلب ياء لكسر ما بعد ياء التصغير فيما إذا كانت رابعة في اسم جنس على وزن «فعلان أو فعلان أو فعلان» ك «حومان» و «سلطان» و «سرحان» تقول في تصغيرها «حويمين» و «سليطين» و «سريحين» تشبيها لها «بزلزال وقرطاس وسربال» إذ يقال في تصغيرها «زليزيل» وو «قريطيس» و «سريبيل».
وأمّا العلم المنقول فحكمه حكم ما نقل عنه، فإن نقل عن صفة فحكمه حكم الصّفة، وإن نقل عن اسم جنس فحكمه حكم اسم الجنس، تقول في «سلطان» و «سكران» علمين «سليطين» و «سكيرين»
9 ـ ما يستثنى من الحذف:
يستثنى من الحذف ليتوصّل إلى مثالي «فعيعل وفعيعيل» ثماني مسائل:
(1) ألف التّأنيث الممدودة ك «حمراء» و «قرفصاء» تقول في تصغيرهما «حميراء» و «قريفصاء».
(2) تاء التّأنيث نحو «حنظلة» وتصغيرها: «حنيظلة».
(3) ياء النّسب نحو: «عبقري» وتصغيرها «عبيقري».
(4) عجز المضاف نحو «عبد شمس» وتصغيرها «عبيد شمس».
(5) عجز المركب تركيب مزج نحو «بعلبكّ» وتصغيرها «بعيلبكّ»
(6) الألف والنون الزائدتان بعد أربعة أحرف فصاعدا نحو: «زعفران» و «عبوثران» وتصغيرهما «زعيفران» و «عبيثران».
(7) علامة التّثنية نحو «مسلمين» وتصغيرها «مسيلمين» وكذا «مسيلمان».
(8) علامة جمع التّصحيح نحو: «مسلمين» وتصغيرها «مسيلمين» وكذا «مسيلمون».
10 ـ حكم ثاني المصغّر إذا كان لينا:
ثاني الاسم المصغر يردّ إلى أصله إذا كان ليّنا منقلبا عن غيره، لأنّ التّصغير يردّ الأشياء إلى أصولها، ويشمل ذلك: ما أصله واو فانقلبت «ياء» نحو «قيمة» فتقول في تصغيرها «قويمة» أو انقلبت «ألفا» نحو «باب» فتقول فيه «بويب».
وما أصله ياء فانقلبت واوا نحو «موقن» تقول في تصغيرها «مييقن» أو انقلبت ألفا نحو «ناب» تقول في تصغيرها «نييب».
وما أصله همزة فانقلبت ياء نحو «ذئب» فتقول في تصغيرها «ذؤيب» وما أصله حرف صحيح غير همزة نحو «دينار» و «قيراط» فإن أصلهما «دنّار» و «قرّاط» والياء فيهما بدل من أول المثلين، فتقول في تصغيرهما «دنينير» و «قريريط».
فخرج ما ليس بلين نحو «متعد» تقول في تصغيرها «متيعد» بدون رد، أو حرف لين مبدلا من همزة تلي همزة كألف «آدم» ففيه تقلب واوا تقول في تصغيرها «أويدم» كالألف الزائدة في نحو «شارب» تقول «شويرب» وشذّ في «عيد» «عييد» وقياسه: عويد لأنه من عاد يعود، فلم يردّوا الياء لئلا يلتبس بتصغير «عود» واحد الأعواد.
11 ـ تصغير المقلوب:
إذا صغّر اسم مقلوب صغّر على لفظه لا على أصله لعدم الحاجة نحو «جاه» من الوجاهة، تقول في تصغيره «جويه» لا وجيه.
12 ـ تصغير ما حذف أحد أصوله:
إذا صغّر ما حذف أحد أصوله، فإن بقي على ثلاثة أحرف ك «شاك» و «هار» و «ميت» بالتخفيف لم يردّ إليه شيء فتقول «شويك» و «هوير» و «مييت».
ووجب ردّ المحذوف إن بقي على حرفين، فالمحذوف الفاء نحو «كل وخذ وعد»، والعين نحو «مذ وقل وبع» واللام نحو «يد ودم» أو الفاء واللام نحو «قه» أو العين واللام نحو «ره» بشرط أن تكون كلّها أعلاما، تقول: «أكيل وأخيذ ووعيد» برد الفاء و «منيذ وقويل وبييع» برد العين و «يديّة ودميّ» برد اللام و «وقي ووشيّ» برد الفاء واللام و «روي» برد العين واللام ليمكن بناء فعيل.
وإذا سمي بما وضع ثنائيا فإن كان ثانيه صحيحا نحو «هل وبل» لم يزد عليه شيء حتى يصغّر، وعندئذ يجب أن يضعّف أو يزاد عليه «ياء» فيقال:
«هليل» أو «هلي» و «بليل» أو «بلي».
وإن كان معتلّا وجب التضعيف قبل التصغير فيقال: «لوّ وكيّ وماء» أعلاما، وذلك لأنك زدت على الألف ألفا فالتقى ألفان، فأبدلت الثانية همزة، فإذا صغّرت أعطيت حكم «دوّ وحيّ» فتقول «لويّ وكييّ ومويّ» كما تقول «دويّ وحييّ ومويّه» إلّا أن «مويه» لامه هاء فردّ إليها.
13 ـ تصغير المؤنث الثلاثي:
إذا صغّر المؤنث الخالي من علامة التأنيث الثلاثيّ أصلا وحالا ك «دار وسن وأذن وعين» أو أصلا ك «يد» أو مآلا بأن صار بالتصغير ثلاثيا وهو نوعان:
(1) ما صغر ترخيما من نحو «حبلى وسوداء».
(2) ما كان رباعيّا بمدّة قبل لامه المعتلّة ك «سماء»
كلّ هذا تلحقه التاء إن أمن اللّبس فتقول في القسم الأول: «دويرة وسنينة وأذينة وعيينة» وفي القسم الثاني «بديّة»، وفي النوع الأول من القسم الثالث «حبيلة وسويدة» وفي النوع الثاني «سميّة» فلا تلحق التاء نحو «شجر وبقر» لئلا يلتبسا بالمفرد، وإنما نقول «شجير وبقير».
ولا تلحق التاء نحو «خمس وست» لئلا يلتبسا بالعدد المذكر.
ولا تلحق التاء نحو «زينب وسعاد» لتجاوزها الثلاثة.
وشذ ترك التاء في تصغير «حرب وعرب ودرع ونعل» ونحوهن مع ثلاثيتهن وعدم اللبس.
وشذّ وجود التاء في تصغير «وراء وأمام وقدّام» مع زيادتهن على الثلاثة، فقد سمع «وريّئة وأميّمة وقد يديمة»
14 ـ تصغير الإشارة والموصول:
التّصغير من خواصّ الأسماء المتمكّنة وممّا شذّ عن هذا أربعة: اسم الإشارة واسم الموصول، وأفعل في التّعجب والمركّب المزجي ولو عدديّا في لغة من بناهما.
فأمّا اسم الإشارة فقد سمع التصغير منه في خمس كلمات وهي «ذا، وتا، وذان، وتان، وأولاء» وتصغيرهما «ذيّا وتيّا» ومنه:
«أو تحلفي بربّك العلي ***أنّي أبو ذيّالك الصّبي »
و «ذيّان وتيّان» للتثنية و «أوليّاء» تصغير «أولاء» للجمع وقالوا في تصغير «أولى» بالقصر «أوليّا» ولم يصغّروا منها غير ذلك.
وأمّا اسم الموصول فقالوا في تصغير «الذي والتي» «اللّذيّا واللّتيّا» وفي تثنيتهما: «اللّذيّان واللّتيّان» وفي الجمع «اللّذيّون» رفعا و «اللّذيّين جرّا ونصبا، وفي جمع «اللّتيّا»: «اللّتيّات».
15 ـ تصغير اسم الجمع، وجمع القلة:
يصغّر اسم الجمع لشبهه بالواحد فيقال في ركب «ركيب» وكذلك جموع القلّة كقولك في أجمال أجيمال».
16 ـ لا يصغّر جمع الكثرة:
لأن التصغير للقلّة والجمع للكثرة فبينهما منافاة، فعند إرادة تصغير جمع الكثرة يردّ الجمع إلى مفرده ويصغّر ثم يجمع بالواو والنون إن كان لمذكّر عاقل، تقول في «غلمان» «غليّمون» وبالألف والتاء إن كان لمؤنّث أو لمذكّر لا يعقل تقول في «جوار» و «دراهم»: «جويريات و «دريهمات» إلّا ما له جمع قلّة، فيجوز ردّه إليه كقولك في فتيان «فتية».
تصغير اسم الإشارة (التصغير 14)
تصغير اسم الجمع (التصغير 15)
تصغير اسم الموصول (التصغير 14)
تصغير الترخيم (ترخيم التصغير).
تصغير جمع القلة (التصغير 15)
تصغير جمع الكثرة (التصغير 16)
تصغير ما حذف أحد أصوله (التصغير 12)
تصغير ما فيه ألف ونون (التصغير 8)
تصغير المقلوب (التصغير 11)
تصغير المؤنث الثلاثي (التصغير 13)
التّضمين ـ قد يشربون لفظا معنى لفظ فيعطونه حكمه ويسمّى ذلك تضمينا وفائدته: أن تؤدّي كلمة مؤدّى كلمتين، قال تعالى {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ} أي ولا تضمّوها إليها آكلين.
ومثله: {الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ} أصل الرّفث أن يتعدّى بالباء فلمّا ضمّن معنى الإفضاء عدّي ب «إلى» مثل {وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ}.
معجم النحو-عبدالغني الدقر-صدر: 1395هـ/1975م
134-معجم النحو (جمع التكسير للكثرة)
جمع التكسير للكثرة:1 ـ أبنية جمع التكسير للكثرة:
ثلاثة وعشرون بناء: وهي «فعل» و «فعل» و «فعل» و «فعل» و «فعلة» و «فعلة» و «فعلى» و «فعلة» و «فعّل» و «فعّال» و «فعال» و «فعول» و «فعلان» و «فعلان» و «فعلاء» و «أفعلاء» و «فواعل» و «فعائل» و «فعالي» و «فعالى» و «فعاليّ» و «فعالل» و «شبه فعالل» وهاك تفصيلها كلّا على حدة.
2 ـ الجمع على «فعل»:
«فعل» بضم الفاء وسكون العين لشيئين (أحدهما) «أفعل» الذي مؤنّثه «فعلاء» ك «أحمر» و «أبيض» وجمعهما «حمر» و «بيض» أولا مؤنّث له لمانع خلقي ك «أكمر» و «آدر» وجمعهما «كمر» و «أدر» (ثانيهما) «فعلاء» التي مذكّرها «أفعل» ك «حمراء» و «بيضاء» ومذكّرهما: أحمر وأبيض، أولا مذكّر لها ك «رتقاء» و «عفلاء» وجمعهما «رتق» و «عفل»
ويجب كسر فاء هذا الجمع فيما عينه ياء نحو «بيض» ويكثر في الشعر ضمّ عينه بشرط أن تصحّ هي واللّام مع عدم التّضعيف نحو قول أبي سعيد المخزومي
«طوى الجديدان ما قد كنت أنشره ***وأنكرتني ذوات الأعين النّجل »
3 ـ الجمع على «فعل»:
«فعل» بضمّ الفاء والعين مطرد جمعه في شيئين:
(أحدهما) في وصف على «فعول» بمعنى فاعل ك «صبور» وجمعها «صبر» و «غفور» وجمعها «غفر» فلا يجمع «حلوب» و «ركوب» لأنهما بمعنى مفعول.
(الثاني) في اسم رباعي بمدّة قبل لام غير معتلّة مطلقا، أو غير مضاعفة إن كانت المدّة ألفا نحو «قذال» وجمعها «قذل» و «أتان» وجمعها أتن» و «حمار» وجمعها «حمر» و «ذراع» وجمعها «ذرع» ومثلها «قضيب» وجمعها «قضب» و «كثيب» وجمعها «كثب» ومثلها «عمود» وجمعها «عمد» و «قلوص» وجمعها «قلص» ومثلها «سرير» وجمعها «سرر» و «ذلول» وجمعها «ذلل».
فخرج نحو «كساء» لاعتلال اللّام، وخرج نحو «هلال» و «سنان» لتضعيفهما مع الألف. وشذ «عنان» وجمعها «عنن» و «حجاج» وجمعها «حجج».
ويحفظ «فعل» في «فعل» اسما ك «نمر» وصفة ك «خشن» وفي «فعيل» صفة ك «نذير» وفي «فعيلة» اسما نحو «صحيفة» وصفة نحو «نجيبة» وفي «فعل» نحو «سقف» و «رهن» وفي «فاعل» نحو «نازل» و «شارف» وفي «فعل» بفتحتين نحو «نصف» وفي «فعال» بكسر الفاء وفتحها صفة نحو «كنان» بكسر الكاف و «صناع» بفتح الصّاد أي حاذق وفي «فعلة» بفتح أوله وكسر ثانيه نحو «فرحة» وفي «فعلة”
بفتحتين نحو «خشبة» وفي «فعل» بكسر أوّله وسكون ثانيه نحو «ستر» ويجوز تسكين عينه نحو «قذل» و «حمر» ما لم تكن «واوا» فيجب التسكين نحو «سوار» وجمعها «سور» و «سواك» وجمعها «سوك» لكن إن سكّنت الياء وجب كسر ما قبلها نحو «سيل» و «سيل» جمع سيال»
4 ـ الجمع على «فعل»:
«فعل» بضم الفاء وفتح العين مطرد في شيئين:
(أحدهما) في اسم على وزن «فعلة» ويستوي في ذلك صحيح اللام ومعتلها ومضاعفها، فالصحيح ك «قربة» وجمعها: «قرب» و «غرفة» وجمعها «غرف» والمعتل ك «مدية» وجمعها «مدى» و «زبية» وجمعها «زبى» والمضاعف اللام نحو «حجّة» وجمعها «حجج» و «مدّة» وجمعها «مدد».
(الثاني) في «الفعلى» انثى «الأفعل» ك «الكبرى» أنثى الأكبر و «الوسطى» أنثى الأوسط و «الصّغرى» أنثى الأصغر.
بخلاف «حبلى» فإنها ليست أنثى أفعل، لأنها صفة لا مذكّر لها فلا تجمع على حبل.
وشذّ في «فعلة» نحو «بهمة» لأنه وصف والجمع «بهم» و «فعلى» مصدرا ك «رؤيا» والجمع «رؤى» بالتنوين و «فعلة» نحو «نوبة» والجمع «نوب» ومثلها «قرية» وجمعها «قرى» و «فعلة» صحيح اللّام نحو «بدرة» وجمعها «بدر»، و «فعلة» معتلا ك «لحية» وجمعها «لحى» و «فعلة» نحو «تخمة» وجمعها «تخم».
5 ـ جمع الكثرة على «فعل»:
«فعل» بكسر أوله وفتح ثانيه، وهو جمع لاسم تامّ على «فعلة» ك «حجّة» و «حجج» و «كسرة» وجمعها «كسر» و «فرية» وجمعها «فرى».
فخرجت الصفة نحو «صغرة» و «كبرة» والناقص الفاء ك «عدة» و «زنة».
ويحفظ في نحو «حاجة» «حوج» وفي «ذكرى» «ذكر» وفي «قصعة”
«قصع» وفي «ذربة» «ذرب» ومثلها «صمّة» و «صمم».
6 ـ الجمع على «فعلة»:
«فعلة» بضم الفاء وفتح العين مطرد في وصف لعاقل على «فاعل» معتل اللام ك «رام» وغاز» و «قاض» تقول في جمعها «رماة» و «غزاة» و «قضاة».
فخرج بقوله: وصف نحو «واد» وبالتذكير نحو «عادية» وبالعقل نحو «أسد ضار» وبوزن فاعل نحو «ظريف» وبمعتلّ اللام نحو «ضارب» فلا يجمع شيء من ذلك على «فعلة» وشذ في صفة على غير فاعل نحو «كميّ» وجمعها «كماة» وفي فاعل اسما نحو «باز» وجمعها «بزاة».
7 ـ الجمع على «فعلة»:
«فعلة» بفتحتين مطّرد في وصف لمذكّر عاقل صحيح اللّام، نحو «كامل» وجمعها «كملة» و «ساحر» وجمعها «سحرة» و «سافر» جمعها «سفرة» و «بارّ» وجمعها «بررة» وفي القرآن الكريم {وَجاءَ السَّحَرَةُ} {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ} فخرج بالوصف الاسم نحو «واد» و (باز» وبالتذكير نحو «طالق» و «حائض» وبالعقل نحو «سابق» و «لاحق» صفتي فرسين وبصحة اللّام نحو «قاض» و «غاز» فلا يجمع شيء من ذلك على «فعلة» باطّراد.
وشذّ في غير «فاعل» نحو «سيد» وجمعها «سادة» فوزنها «فعلة».
8 ـ الجمع على «فعلى»:
(7) «فعلى» بفتح أوّله وسكون ثانيه مطّرد في وصف على «فعيل» بمعنى مفعول دالّ على هلاك أو توجّع أو تشتّت نحو «قتيل» و «قتلى» و «جريح» و «جرحى» و «أسير» «أسرى».
ويحمل عليه ما أشبهه في المعنى وهو خمسة أوزان:
«فعل» ك «زمن» وجمعها «زمنى» و «فاعل» ك «هالك» وجمعها «هلكى» و «فيعل» ك «ميّت» وجمعها «موتى» و «أفعل» ك:
«أحمق» وجمعها «حمقى» و «فعلان» ك «سكران» وجمعها «سكرى».
ويحفظ في «كيّس» «كيسى» و «جلد» و «جلدى».
9 ـ الجمع على «فعلة»:
«فعلة» كثير في «فعل» نحو «قرط» والجمع «قرطة» و «درج» والجمع «درجة» ومثل هذا الأجوف نحو «كوز» وجمعها «كوزة» ومثله المضعف نحو «دبّ» وجمعها «دببة» وقليل في اسم على زنة «فعل» بفتح الفاء نحو «غرد» والجمع «غردة» أو على زنة «فعل» بكسر الفاء نحو «قرد» والجمع «قردة».
وقل أيضا في نحو «ذكر» بفتحتين ضد الأنثى و «هادر».
10 ـ الجمع على «فعّل»:
«فعّل» بضم أوله وتشديد ثانيه هو جمع لوصف على زنة «فاعل» أو «فاعلة» صحيحي اللّام، سواء أصحّت عينهما أم اعتلّت ك «ضارب و «صائم» ومؤنثيهما «ضاربة» و «صائمة» فتقول في جمعهما «ضرّب» و «صوّم».
وشمل نحو «حائض» وجمعها «حيّض».
وخرج بقيد الوصف الاسم نحو «حاجب» العين فلا يجمع على «فعل».
وندر نحو «غاز» وجمعها «غزّى» و «عاف» وهو السائل وجمعها «عزّى» و «عاف» وهو السّائل وجمعها «عفّى» لاعتلال لامهما.
كما ندر في نحو «خريدة» وهي المرأة ذات الحياء وجمعها «خرّد» وقالوا «خرائد» على القياس و «نفساء» وجمعها «نفّس» ورجل «أعزل» وجمعها «عزّل».
11 ـ الجمع على «فعّال»:
«فعّال» بضم أوّله وتشديد ثانيه، هو جمع لوصف لمذكّر على فاعل، صحيح اللّام، سواء أكانت لامه همزة أم لا ك «قائم» وجمعها «قوّام» و «قارئ» وجمعها «قرّاء» وندر في فاعلة كقول القطامي:
«أبصارهنّ إلى الشّبّان مائلة***وقد أراهنّ عني غير «صدّاد»»
وندر أيضا في «فاعل» المعتل بالواو أو الياء ك «غاز» وجمعها «غزّاء» و «سار» وجمعها «سرّاء».
12 ـ الجمع على «فعال»:
«فعال» بكسر أوّله يكون جمعا لثلاثة عشر وزنا مطّردا في ثمانية أوزان، وشائعا في خمسة، ولازما في واحد فيطرد في:
(1 و 2) «فعل وفعلة» اسمين نحو «كعب وكعبة» وجمعهما «كعاب» و «قصعة» وجمعها «قصاع». أو وصفين نحو «صعب» وجمعها «صعاب» و «خدلة» وجمعها «خدال».
وندر في «فعل وفعلة» يأتيّ الفاء نحو «يعر ويعرة» وجمعهما «يعار» أو يأتيّ العين نحو «ضيف» وجمعها «ضياف» و «ضيعة» وجمعها «ضياع».
(3 و 4) «فعل وفعلة» اسمين غير معتلّي اللام، ولا مضعّفيها نحو «جبل» و «جمل» وجمعهما «جبال» و «جمال» و «رقبة» و «ثمرة» وجمعهما «رقاب» و «ثمار».
فخرج «فتى وعصى» لاعتلال اللّام و «طلل» للتضعيف و «بطل» للوصفية.
(5 ـ 6) «فعل وفعل»
اسمين ليست عين ثانيهما واوا ولامه ياء نحو «قدح» وجمعها «قداح» و «ذئب» وجمعها «ذئاب» و «بئر» وجمعها «بئار» و «رمح» وجمعها «رماح» فخرج الوصف نحو «جلف» و «حلو» وواوي العين ك «حوت» ويائي اللام ك «مدي».
(7 ـ 8) «فعيل وفعيلة» بمعنى فاعل وفاعلة بشرط صحة لامهما نحو «ظريف وظريفة» وجمعهما: «ظراف» و «كريم وكريمة» وجمعهما «كرام».
فلا يجمع «جريح وجريحة» لأنهما بمعنى مفعول، و «قوي وقوية» لاعتلال اللّام.
والتزموا في «فعيل» ومؤنّثه «فعيلة» إذا كانا واويّي العينين، صحيحي اللّامين ألّا يجمعا إلّا على «فعال”
ك «طويل وطويلة» وجمعهما «طوال» ولم يأت من هذا الباب إلّا ثلاث كلمات «طويل وقويم وصويب» وشاع جمع «فعال» في كلّ وصف على «فعلان» ومؤنثيه «فعلى وفعلانة» نحو «غضبان» و «غضبى» وجمعهما «غضاب» و «ندمان وندمانة» وجمعهما «ندام» أو «فعلان» وأنثاه «فعلانة» نحو «خمصان وخمصانة» وجمعهما «خماص» وعليها الحديث «تغدو خماصا وتروح بطانا»، ويحفظ في «فعول» ك «خروف» وجمعها «خراف» و «فعلة» ك: «لقحة» وجمعها «لقاح» و «فعل» ك «نمر» وجمعها «نمار» و «فعلة» ك «نمرة» وجمعها «نمار» و «فعالة» ك «عباءة» وجمعها «عباء» وفي وصف على «فاعل» ك «صائم» وجمعها «صيام» أو «فاعلة» ك «صائمة» وجمعها أيضا «صيام» أو «فعلى» ك «أنثى» وجمعها «إناث» أو «فعال» ك «جواد» وجمعها «جياد» أو «فعال» ك «هجان» للمفرد والجمع أو «أفعل» ك «أعجف وجمعها «عجاف» وفي اسم على «فعلة» ك «برمة» وجمعها «برام» أو «فعل» ك «ربع» وجمعها «رباع» أو «فعل» ك «رجل» وجمعها «رجال».
13 ـ الجمع على «فعول»:
«فعول» بضم الفاء والعين يطرد في أربعة أشياء:
(أحدها) اسم على «فعل» ك «كبد» و «وعل» و «نمر» تقول في جمعها «كبود» و «وعول» و «نمور» والثلاثة الباقية «فعل وفعل وفعل» فالأوّل نحو «كعب وجمعها «كعوب» والثاني نحو «حمل» وجمعها «حمول والثالث نحو «جند» وجمعها «جنود» فخرج الوصف ك «صعب» و «جلف» و «حلو».
ويشترط ألّا تكون عين المفتوح أو المضموم «واوا» ك «حوض» و «حوت». ولا لام المضموم «ياء»، وشذّ في «نؤي» جمعها على «نؤيّ» ولا مضاعفا ك «خفّ» و «مدّ» ويحفظ في «فعل» ك «أسد وشجن وندب وذكر» فيقال في جموعهما «أسود وشجون وندوب وذكور»
14 ـ الجمع على «فعلان»:
«فعلان» بكسر أوّله وسكون ثانيه يطرد في اسم على «فعال» ك «غلام» و «غراب» وجمعهما «غلمان» و «غربان».
أو على «فعل» ك «صرد» وجمعها «صردان» و «جرذ» وجمعها «جرذان».
أو على «فعل» واويّ العين ك «حوت» وجمعها «حيتان» و «كوز» وجمعها «كيزان» أو على «فعل» ك «تاج» وجمعها «تيجان» و «ساج» وجمعها «سيجان» و «خال» وجمعها «خيلان» و «جار» وجمعها «جيران» و «قاع» وجمعها «قيعان».
وقل في نحو «قنو» وجمعها «قنوان» و «غزال» وجمعها «غزلان» و «خروف» وجمعها «خرفان» و «ظليم» وجمعها «ظلمان» و «حائط» وجمعها «حيطان» و «نسوة» وجمعها «نسوان» و «عبد» وجمعها «عبدان» و «ضيف» و «ضيفان» و «شجاع» و «شجعان» و «شيخ» و «شيخان» و «أخ» و «إخوان».
15 ـ الجمع على «فعلان»:
«فعلان» ـ بضم الفاء وسكون العين ـ مقيس في اسم على «فعل» ك «بطن» وجمعها «بطنان» و «ظهر» وجمعها «ظهران».
أو على «فعل» صحيح العين نحو «ذكر» وجمعها «ذكران» و «جمل» وجمعها «جملان».
أو على «فعيل» ك «قضيب» وجمعها «قضبان» و «رغيف وجمعها» رغفان» ويحفظ في نحو «راكب» وجمعها «ركبان» و «راجل» وجمعها «رجلان» و «أسود» وجمعها «سودان» و «أعمى» وجمعها «عميان» و «زقاق» وجمعها «زقّان».
16 ـ الجمع على «فعلاء»:
«فعلاء» ـ بضم أوّله وفتح العين ـ يطّرد في وصف مذكّر عاقل دالّ على سجيّة مدح أو ذمّ على زنة «فعيل» بمعنى فاعل غير مضاعف ولا معتلّ اللّام ك «ظريف» وجمعها «ظرفاء» و «كريم» وجمعها «كرماء» و «بخيل» وجمعها «بخلاء».
أو بمعنى «مفعل» كسميع بمعنى مسمع وجمعها «سمعاء» و «أليم» بمعنى مؤلم وجمعها «ألماء».
أو بمعنى «مفاعل» ك «خليط» بمعنى مخالط، وجمعها «خلطاء» و «جليس» بمعنى مجالس، وجمعها «جلساء» وشذّ في «أسير» و «قتيل» «أسراء» و «قتلاء» لأنهما بمعنى مفعول.
وكثر في «فاعل» دالا على معنى كالغريزة ك «عاقل» وجمعها «عقلاء» و «صالح» وجمعها «صلحاء» و «شاعر» وجمعها «شعراء» وشذ في «جبان» وجمعها «جبناء» و «خليفة» وجمعها «خلفاء» و «سمح» «سمحاء» و «ودود» «ودداء» لأنها ليست فعيل ولا فاعل.
17 ـ الجمع على «أفعلاء»:
«أفعلاء»، وهو نائب عن «فعلاء» في فعيل المتقدم بشرط التضعيف نحو «شديد» وجمعه «أشدّاء» وعزيز وجمعه «أعزّاء».
أو اعتلال اللام ك «وليّ» وجمعه «أولياء» و «غني» وجمعه «أغنياء».
وشذّ في غيرهما نحو «نصيب» وجمعه «أنصباء» و «صديق» وجمعه «أصدقاء» و «هيّن» وجمعه «أهوناء».
18 ـ الجمع على «فواعل»:
«فواعل» يطرد في سبعة:
(1) في «فاعلة» اسما أو صفة ك {ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ} فجمعها:
«نواص وكواذب وخواطئ».
(2) في اسم على «فوعل» ك «جوهر وجمعه «جواهر» و «كوثر» وجمعه «كواثر».
(3) أو «فوعلة» ك «صومعة» وجمعها «صوامع» و «زوبعة» وجمعها «زوابع».
(4) أو «فاعل» بالفتح ك «خاتم» وجمعه «خواتم» و «قالب» وجمعه «قوالب» و «طابع» وجمعه «طوابع».
(5) أو «فاعلاء» نحو «قاصعاء» وجمعها «قواصع» و «نافقاء» وجمعها «نوافق».
(6) أو «فاعل» ك «جائز» وجمعه «جوائز» و «كاهل» وجمعه «كواهل».
(7) أو في وصف على فاعل لمؤنّث ك «حائض» وجمعها «حوائض» و «طالق» وجمعها «طوالق» ـ أو لمذكّر غير عاقل ك «صاهل» وجمعه «صواهل» و «شاهق» وجمعه «شواهق».
وشذ في وصف على «فاعل» لمذكّر عاقل نحو: «فارس» وجمعها «فوارس» و «ناكس» وجمعها «نواكس».
19 ـ الجمع على «فعائل»:
«فعائل» يطّرد في كلّ رباعيّ مؤنّث، ثالثه مدّة: ألفا كانت أو واوا أو ياء اسما أو صفة، وسواء أكان تأنيثه بالتّاء ك «سحابة» وجمعها «سحائب» و «صحيفة» وجمعها «صحائف و «حلوبة» وجمعها «حلائب» و «رسالة» وجمعها «رسائل» و «ذؤابة» وجمعها «ذوائب» و «ظريفة» وجمعها «ظرائف» ـ أم كان تأنيثه بالمعنى ك «شمال» وجمعها «شمائل» و «عجوز» وجمعها «عجائز» أم تأنيثه بالألف المقصورة ك «حبارى» وجمعها «حبائر» أم بالمدودة ك «جلولاء» وجمعها «جلائل».
وشذّ في «ضرّة» «ضرائر» و «كنّة» «كنائن» و «حرّة» «حرائر» لأنهنّ ثلاثيّات.
20 ـ الجمع على «فعالي»:
«فعالي» ـ بفتح أوّله وثانيه ـ يطرد في سبعة: «فعلاة» ك «موماة» وجمعها «موام»، و «فعلاة» ك: «سعلاة» وجمعها «سعال» و «فعلية» ك «هبرية» وجمعها «هبار» و «حذرية» وجمعها «حذار» و «فعلوة» ك «عرقوة» وجمعها «عراق» وفيما حذف أول زائديه من نحو «حبنطى» وجمعها «حباط» و «قلنسوة» وجمعها «قلاس» و «عفرنى» وجمعها «عفار» و «عدولى» وجمعها «عدال».
21 ـ جمع الكثرة على «فعالى»:
«فعالى» ـ بفتح أوله وثانيه ـ يطرد في وصف على «فعلان» نحو «سكران» وجمعها «سكارى» و «غضبان» وجمعها «غضابى» أو «فعلى» نحو «سكرى» وجمعها: «سكارى».
ويحفظ في نحو «حبط» وجمعها «حباطى» و «يتيم» وجمعها «يتامى» و «أيّم» وجمعها «أيامى» و «طاهر» وجمعها «طهارى» و «شاة رئيس» وجمعها «رآسى».
ويترجح «فعالى» بالضم على «فعالى» بالفتح في «فعلان» و «فعلى» المار ذكرهما.
ويلزم «فعالى» بالضم في «قديم» وجمعها «قدامى» و «أسير» وجمعها «أسارى».
ويمتنع في «حبط» وما بعده.
ويشترك «فعالي وفعالى» في أنواع: الأوّل: «فعلاء» اسما ك «صحراء» تقول في جمعها «صحاري» و «صحارى».
الثاني: «فعلى» اسما نحو «علقى» وجمعها «علاق» و «علاقى» والثالث: «فعلى» نحو «ذفرى» وجمعها «ذفار» و «ذفارى».
والرابع: «فعلى» وصفا لا لأنثى أفعل، نحو «حبلى» وجمعها «حبال» و «حبالى».
الخامس: «فعلاء» وصفا لأنثى غير أفعل نحو «عذراء» وجمعها: «عذار» و «عذارى».
22 ـ الجمع على «فعاليّ»:
«فعاليّ» بالفتح في الفاء والتشديد في الياء يطرد في كل ثلاثي ساكن العين، آخره ياء مشدّدة زائدة على الثلاثة غير متجدّدة للنّسب ك «بختيّ» و «كرسيّ» و «قمريّ» وجمعها «بخاتيّ» و «كراسيّ» و «قماريّ» بخلاف نحو «عربيّ» و «عجمي”
لتحرك العين و «مصريّ» و «بصريّ» لتجدد النسب وشذّ «قبطي» وجمعها «قباطي».
وأمّا «أناسي» فجمع «إنسان» لا جمع «إنسي» لأن «إنسيا» آخره ياء النسب، و «أناسي» أصله: أناسين، فأبدلوا النون ياء وأدغموا الياءين كما قالوا «ظربان» و «ظرابيّ» وأصلها أيضا «ظرابين».
23 ـ الجمع على «فعالل»:
«فعالل» يطرد في أربعة أنواع:
الرباعي والخماسي مجرّدين ومزيدا فيهما: فالرباعي ك «جعفر» و «برثن» و «زبرج» وجمعها، «جعافر» و «براثن» و «زبارج» وهذا لا يحذف منه شيء. والحماسيّ ك «سفرجل» و «جحمرش» ويجب حذف خامسه لأن الثقل حصل به، فتقول في جمعها «سفارج» و «جحامر» ولك حذف الحرف الرابع أو الخامس. إن كان الحرف الرابع من الخماسي مشبها للحروف التي تزاد إما بكونه بلفظ أحدها ك «خدرنق» ورابعه نون وهي من حروف الزيادة، وإن كانت ليست زائدة هنا.
أو بكونه من مخرجه ك «فرزدق» فإن الدال رابعة من مخرج التاء فتقول في جمعهما «خدارق» و «فرازق» أو «خدارن» و «فرازد» وهو الأجود.
أمّا إذا كان الحرف الخامس مشبها للزائد في اللفظ فيتعين حذفه ك:
«قذعمل» وجمعه «قذاعم».
والمزيد على الرباعي نحو «مدحرج» و «متدحرج» و «كنهور» و «هبيّخ» ويجب فيه حذف الزائد، تقول في الجمع «دحارج» و «كناهر» و «هبايخ».
والمزيد على الخماسي ك «قطربوس» و «خندريس» و «قبعثرى» ويجب فيه أيضا حذف الزائد مع الخامس تقول في جمعها: «قراطب» و «خنادر» «قباعث».
إلّا إذا كان الزائد لينا رابعا قبل الآخر فيهما فيثبت، ثم إن كان ياء صحح نحو «قنديل» و «قناديل» فإن كان واوا أو «ألفا» قلبا ياءين نحو «عصفور» و «عصافير» و «سرداح» و «سراديح» و «غرنيق و «غرانيق» و «فردوس فراديس».
24 ـ الجمع على شبه «فعالل»:
شبه فعالل: هو ما ماثله عددا وهيئة، وإن خالفه في الوزن ك «مفاعل وفياعل وفواعل» وهو يطرد في مزيد الثلاثي غير ما تقدم من نحو «أحمر وسكران وصائم ورام» و «باب كبرى وسكرى» فإنه تقدم لها جموع تكسير.
ويحذف منه ما يخل بصيغة الجمع من الزوائد فقط، فلا تحذف زيادته إن كانت واحدة، سواء أكانت أوّلا أم وسطا أم آخرا لإلحاق أو غيره ك «أفضل ومسجد وجوهر وصيرف وعلقى» وجمعها «أفاضل ومساجد وجواهر وصيارف وعلاق».
ويحذف ما زاد عليها، فتحذف زيادة واحدة من نحو «منطلق» واثنتان من نحو «مستخرج ومتذكّر».
ويتعين إبقاء ما له مزية لفظية ومعنويّة أو لفظيّة فقط أو ما لا يغني حذفه عن حذف غيره، فالأوّل كالميم في «منطلق» فتقول في جمعها «مطالق» لا: نطالق، لأن الميم تفضل النون لدلالتها على الفاعل. وتصديرها واختصاصها بالاسم.
ومثله نقول في جمع «مستدع» و «مداع» بحذف السين والتاء لأن بقاءهما يخل ببنية الجمع، مع فضل الميم بما تقدّم.
والثاني: كالتاء في «استخراج» علما، تقول في جمعه «تخاريج» بحذف السين وإبقاء التاء، لأنّ له نظيرا وهو «تماثيل» ولا تقل «سخاريج» إذ لا وجود ل «سفاعيل».
والثالث: ك «واو» «حيزبون» تقول في جمعها «حزابين» بحذف الياء، وقلب الواو ياء. ولا تقل: حيازين بحذف الواو لأنّ حذفها يعني حذف الياء ولا يقع بعد ألف التكسير ثلاثة أحرف أوسطهن ساكن إلّا وهو حرف معتل مثل «مصابيح» فإن لم توجد مزيّة ما فأنت بالخيار مثل نوني «سرندى» و «علندى» فتقول: «سراند» و «علاند» أو «سراد» و «و «علاد» وزن «جوار».
25 ـ فوائد تتعلق بجمع التكسير:
منها:
(1) يجوز تعويض ياء قبل الطرف مما حذف، أصلا كان أو زائدا، فتقول في جمع «سفرجل» و «منطلق» «سفاريج» و «مطاليق»
(2) أجاز الكوفيون: زيادة الياء في مماثل «مفاعل» وحذفها في مماثل «مفاعيل» فيجيزون في «جعافر» «جعافير» وفي «عصافير» «عصافر» ومن الأوّل قوله تعالى {وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ} ومن الثاني {وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ} أمّا «فواعل» فلا يقال «فواعيل» إلّا شذوذا كقوله «سوابيغ بيض لا يخرّقها النّبل».
(3) لا يجمع جمع تكسير ما جرى على الفعل من اسمي الفاعل والمفعول وأوله ميم نحو «مضروب» و «مكرم» و «مختار» لمشابهته الفعل لفظا ومعنى.
بل قياسه جمع التّصحيح، ويستثنى «مفعل» وصفا للمؤنث نحو «مرضع» وجمعها: «مراضع».
وجاء شذوذا في نحو «ملعون» و «ميمون» و «مشئوم» ويجمع على «ملاعين» و «ميامين» و «مشائيم» قال الأحوص اليربوعي:
«مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة***ولا ناعب إلّا بشؤم غرابها»
كما شذّ في «مفعل» ك «موسر» و «مفطر» فجمع على «مياسير» و «مفاطير» وفي مفعل ك «منكر» «مناكير».
معجم النحو-عبدالغني الدقر-صدر: 1395هـ/1975م
135-معجم النحو (الصفة المشبهة)
الصّفة المشبّهة (1): وإعمالها:1 ـ تعريفها:
هي الصفة التي استحسن فيها أن تضاف لما هو فاعل في المعنى ك «طاهر الدخلة» و «حسن الطّويّة».
فخرج اسم الفاعل المتعدّي الذي يقع على الذّوات نحو «محمّد قاتل أبوه»، فإنّ إضافة الوصف فيه إلى الفاعل ممتنعة لئلّا توهم الإضافة إلى المفعول. وأن الأصل محمد قاتل أباه.
2 ـ مشاركة الصفة المشبّهة اسم الفاعل:
تشارك الصفة المشبهة اسم الفاعل في الدّلالة على الحدث وفاعله والتذكير والتأنيث والتّثنية والجمع، وشرط الاعتماد إذا تجرّد من «أل».
(اسم الفاعل)
3 ـ اختصاص الصّفة المشبّهة عن اسم الفاعل:
تختصّ الصّفة المشبّهة بخمسة أمور:
(1) أنها تصاغ من اللّازم دون المتعدّي ك «حسن» و «جميل» واسم الفاعل يصاغ منهما ك «قائم» و «فاهم».
(2) أنها للزّمن الماضي المتّصل بالحاضر الدائم، دون الماضي المنقطع والمستقبل، واسم الفاعل لأحد الأزمنة الثلاثة.
(3) أنها تكون مجارية للمضارع في حركاته وسكناته ك «طاهر القلب» و «مستقيم الرّأي» و «معتدل القامة» وتكون غير مجارية له وهو الغالب في المبنيّة من الثّلاثي ك «جميل» و «ضخم”
و «ملآن» ولا يكون اسم الفاعل إلّا مجاريا له.
(4) أنّ منصوبها لا يتقدّم عليها، بخلاف منصوب اسم الفاعل.
(5) أنّه يلزم كون معمولها سببيّا أي اسما ظاهرا متّصلا بضمير موصوفها، إمّا لفظا نحو «إبراهيم كبير عقله» وإمّا معنى نحو «أحمد حسن العقل» أي منه، وقيل: إنّ «أل» خلف من المضاف إليه
4 ـ معمول الصّفة المشبّهة:
لمعمول الصّفة المشبّهة ثلاث حالات:
(أ) الرفع على الفاعليّة، أو على الإبدال من ضمير مستتر في الصّفة بدل بعض من كلّ.
(ب) الخفض بالإضافة.
(ج) النصب على التشبيه بالمفعول به إن كان معرفة، وعلى التمييز إن كان نكرة، والصفة مع كل من الثلاثة إمّا نكرة أو معرفة مقرونة ب «أل».
وكل من هذه الستة للمعمول معه ست حالات، لأنه إمّا ب «أل» كالوجه، أو مضاف لما فيه «أل» ك «وجه الأب»، أو مضاف للضمير ك «وجهه» أو مضاف لمضاف للضمير ك «وجه أبيه» أو مجرد من أل والإضافة ك «وجه» أو مضاف إلى مجرد ك «وجه أب».
فالصّور ستّ وثلاثون، الممتنع منها أربعة، وهي أن تكون الصفة ب «أل» والمعمول مجرّدا منها، ومن الإضافة إلى تاليها، وهو مخفوض، ك «الحسن وجهه» أو «وجه أبيه» أو «وجه» أو «وجه أب».
لأنه يلزم عليه إضافة ما فيه «أل» إلى الخالي منها، ومن الإضافة لتاليها أو لضمير تاليها، ودونك التفصيل.
5 ـ الجائز في عمل الصّفة المشبهة: الصّور الجائزة الاستعمال في الصّفة المشبّهة: منها ما هو قبيح، وما هو ضعيف، وما هو حسن:
(1) فالقبيح: أن ترفع الصفة مجرّدة، أو مع «أل»: المعمول المجرّد من الضمير، والمعمول المضاف إلى المجرد منه، لما فيه من خلوّ الصفة من ضمير يعود على الموصوف، وذلك أربع صور: «خالد حسن وجه» و «علي حسن وجه أب» و «بكر الحسن وجه» و «زيد الحسن وجه أب».
(2) والضعيف: أن تنصب الصفة المنكّرة: المعارف مطلقا، وأن تجرها بالإضافة، سوى المعرّف ب «أل» والمضاف إلى المعرف بها، وجرّ المقرونة ب «أل» المضاف إلى المقرون بها، وذلك ست صور وهي: «حسن الوجه» و «حسن وجه الأب» و «حسن وجهه» و «حسن وجه أبيه» بالنصب فيهنّ و «حسن وجهه» و «حسن وجه أبيه» بالجر فيهما، لأنه من إجراء وصف القاصر مجرى وصف المتعدي وجر الصفة المضاف إلى ضمير الموصوف أو إلى مضاف إلى ضميره.
(3) والحسن ما عدا ذلك.
6 ـ اسم الفاعل أو المفعول اللذان يعاملان معاملة الصفة المشبهة:
إذا كان اسم الفاعل غير متعد.
وقصد ثبوت معناه. عومل معاملة الصفة المشبّهة، وساغت إضافته إلى مرفوعه، بعد تحويل الإسناد كما ذكر ذلك في: اسم الفاعل.
وكذا إن كان متعديا لواحد، وأمن اللبس، فلو قلت: «زيد راحم الأبناء وظالم العبيد» بمعنى: ابناؤه راحمون، وعبيده ظالمون، وكان في سياق مدح الأبناء وذم العبيد جازت الإضافة للمرفوع لدلالة الكلام على أنّ الإضافة للفاعل. وإلّا لم يجز.
وإن كان متعديا لأكثر من واحد لم يجز إلحاقه بالصفة المشبّهة لبعد المشابهة حينئذ، لأن منصوبها لا يزيد على واحد.
ومثله اسم المفعول القاصر، وهو المصوغ من المتعدّي لواحد عند إرادة الثبوت نحو «الورع محمودة مقاصده» فيحول إلى «الورع محمود المقاصد» بالنصب، ثم إلى «محمود المقاصد» بالجر، وإنما يجوز إلحاقه بها إذا بقي على صيغته الأصلية، ولم يحول إلى فعيل، فلا يقال: «مررت برجل كحيل عينه» ولا «قتيل أبيه».
معجم النحو-عبدالغني الدقر-صدر: 1395هـ/1975م
136-المعجم المفصل في النحو العربي (التضمين البياني)
التّضمين البيانياصطلاحا: هو تقدير حال محذوفة حلّ محلّها الجار والمجرور، كقوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} في زينته جار ومجرور متعلّق بمحذوف حال تقديره: مستقرّا.
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
137-المعجم المفصل في النحو العربي (حروف الجر)
حروف الجرّتعريفها: وتسمّى أيضا حروف الإضافة، إنها تضيف أو توصل معاني الأفعال قبلها إلى الأسماء التي بعدها، لأنّ بعض الأفعال توصل عملها مباشرة إلى مفعولها، وبعضها لا تستطيع ذلك فتلجأ الى حروف الجر للوصول اليه، مثل: «نمت في السّرير» وسميت حروف الجرّ بهذا الاسم لأنّها تجرّ الأسماء التي بعدها على لغة البصريين، أو تخفضها على لغة الكوفيين.
2 ـ عددها: حروف الجرّ عشرون وقد عدّدها ابن مالك في البيتين التاليين:
«هاك حروف الجرّ، وهي: من، إلى، ***حتّى، خلا، حاشا، عدا، في، عن، على “
«مذ، منذ، ربّ، اللّام، كي، واو، وتا***والكاف، والباء، ولعل، ومتى»
3 ـ أقسامها: كل هذه الحروف تختص بدخولها على الأسماء فتعمل فيها الجرّ، وهي على ثلاثة أقسام: قسم يلازم الحروف وهو: «من»، «إلى»، «حتى»، «الباء»، «اللام»، «ربّ»، «واو القسم»، «وتاء القسم»، وقسم يكون حرفا أو اسما وهو: «على»، «عن»، «الكاف»، «مذ»، «ومنذ»، وقسم يكون حرفا أو فعلا، وهو «حاشا»، «عدا»، «خلا»، وقلّ استعمال «كي» و «لعل»، و «متى» كحروف جر. ولكل من هذه الحروف معان متعدّدة وأحكام متعددة.
أقسامها من حيث العمل: تقسم حروف الجرّ الأصليّة من حيث العمل إلى قسمين:
الأول: يجر الاسم الظّاهر والضمير وهو سبعة أحرف هي: «من»، «إلى»، «عن»، «على»، «في»، «الباء»، «اللّام»، كقوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} وكقوله تعالى: {فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا} وكقوله تعالى: {انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ} وكقوله تعالى: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} وكقوله تعالى: {رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وكقوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ} وكقوله تعالى: {قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} وكقوله تعالى: {وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ} (8) وكقوله تعالى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} وكقوله تعالى: {وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ} وكقوله تعالى: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ} وكقوله تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ} وكقوله تعالى: {وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} وكقوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ}.
الثاني: يجرّ الظّاهر فقط وهو ينقسم بدوره إلى أربعة أقسام:
1 ـ ما لا يجرّ اسما خاصّا وهو: «حتّى»، «والكاف»، «والواو»، وقد تدخل «الكاف» على الضّمير، كقول الشاعر:
«خلّى الذّنابات شمالا كثبا***وأمّ أوعال كها أو أقربا»
فقد دخلت «الكاف» على الضّمير المتّصل «الهاء»، وهذا شاذ، وقد تجرّ الضمير المنفصل، كقول الشاعر:
«فلا ترى بعلا ولا حلائلا***كه ولا كهنّ إلّا حاظلا»
وفيه دخلت الكاف على الضمير المتصل في «كه» وعلى الضمير المنفصل في «كهنّ»، وكقول الشاعر:
«فلو لا المعافاة كنّا كهم ***ولو لا البلاء لكانوا كنا”
فدخلت الكاف على ضمير الغائبين في «كهم» وعلى ضمير المتكلم في «كنا» ومثل قول الشاعر:
«لا تلمني فإنني كك فيها***إنّنا في الملام مشتركان»
فقد دخلت «الكاف» على ضمير المخاطب في «كك» وهذا شاذ، أو للضرورة الشعرية.
2 ـ ما يختصّ بأسماء الزّمان، مثل: «مذ» و «منذ»، مثل: «ما كلّمته مذ يومان» أو منذ يومين، إذ يجوز في الاسم بعدها أن يكون مرفوعا على أنه فاعل لفعل محذوف تقديره: «مذ مضى يومان» والجملة: «مضى يومان» في محل جر بالإضافة، ويجوز فيه الجر باعتبار «مذ» «منذ» حرفي جر يشبهان بالزائد فتقول: «منذ يومين» فتكون «منذ» حرف جر. «يومين»: اسم مجرور بالياء لأنه مثنى.
ملاحظة: يجوز إعراب الاسم المرفوع بعد «مذ» أو منذ» على أنه مبتدأ محذوف خبره تقديره: يومان مضيا. والجملة في محل جر بالإضافة.
3 ـ ما يختصّ بدخوله على النّكرات وهو «ربّ» وقد تدخل «ربّ» على ضمير الغائب المفرد المذكّر، وبعده تمييز مطابق له في المعنى، كقول الشاعر:
«ربّه فتية دعوت إلى ما***يورث المجد دائبا فأجابوا»
حيث دخلت «ربّ» على ضمير الغائب المفرد المذكر مع أن تمييزه جمع غير مطابق له «والهاء» في محل جر بـ «ربّ» ولها محل آخر من الإعراب هو الرّفع على الابتداء.
4 ـ ما يجرّ الاسم الكريم «الله» وهو «التاء» كقوله تعالى: {وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَ} وتجر «ربّ» بعد إضافتها إلى كلمة «الكعبة» مثل: «تربّ الكعبة» وتضاف «ربّ» إلى ياء المتكلم، مثل: «تربّي لأجتهدنّ»؛ أو إلى «كاف» الخطاب مثل: «تربّك لأجتهدنّ» ومثل: «تحياتك لأجاهدنّ» فدخلت التاء على غير «ربّ» والكلمة مضاف إلى «كاف» الخطاب. وقد تدخل على غير «ربّ» بدون إضافة مثل: «تالرّحمن».
عملها:
1 ـ حروف الجرّ كلها تعمل الجرّ في الاسم الذي يليها مباشرة وقد يفصل بينهما «كان» الزائدة كقول الشاعر:
«جياد بني بكر تسامى ***على كان المسوّمة العراب»
وقد يفصل بينهما «لا» النافية مثل: سافرت بلا زاد. ومنهم من يعتبر «لا» في هذه الحالة اسما بمعنى «غير». والتقدير: بغير زاد. «وزاد»: اسم مجرور بالإضافة. ومنهم من يعتبر «لا» النافية لا عمل لها، وكلمة «زاد» اسم مجرور بالباء، وقد يفصل بينهما الظّرف أو الجارّ والمجرور، أو المفعول به، للضرورة الشعريّة، كقول الشاعر:
«إنّ عمرا لا خير في، اليوم، عمرو***إنّ عمرا مكثّر الأحزان»
ومثل:
«وإني لأضوي الكشح من دون ما انطوى ***وأقطع بالخرق الهبوع المراجم»
والتقدير: بالهبوع المراجم الخرق، الفاصل هو المفعول به «الخرق». والاسم بعد حرف الجر يكون مجرورا بكسرة ظاهرة أو مقدّرة كقول الشاعر: «إنّي نظرت إلى الشعوب فلم أجد***كالجهل داء للشعوب مبيدا»
ومثل: «ما من فتى يستجيب لنداء الانسانية إلا تكون استجابته خيرا وبركة» فكلمة «فتى» اسم مجرور بكسرة مقدّرة على الألف للتعذر. ومثل: «أتعجّب ممّن يسعى في الشقاق بين الأحبّة»؛ «من» اسم موصول مبنيّ على السكون في محل جر حيث قلبت «نون» حرف الجر «من» ميما للتخفيف ولتقارب مخرج نطق «الميم» من «النون» وأدغم المثلان. فهذا الجر محلّي.
2 ـ إذا دخلت حروف الجر على «ما» الاستفهاميّة تحذف منها الألف وجوبا في غير الوقف، كقوله تعالى: {عَمَّ يَتَساءَلُونَ} ومثل: «لم الكسل»، ومثل: «فيم السّعي بالذلّ» وقد لا تحذف الألف إذا دخل على «ما» الاستفهامية حرف الجر في غير الوقف. أمّا في الوقف فيجب حذف «الألف» من «ما» ووصلها بـ «هاء» السكت مثل: «فيمه»، «عمّه»، «لمه»، «كيمه». وقد لا تحذف الألف منها في غير الوقف للضرورة الشعريّة، كقول الشاعر:
«على ما قام يشتمني لئيم ***كخنزير تمرّغ في رماد»
حيث لم تحذف الألف من «ما» الاستفهامية رغم دخول حرف الجر «على» عليها، وذلك للضرورة الشعريّة.
ومن حذف «الألف» عند دخول حرف الجر على «ما» الاستفهامية، قول الشاعر:
«إلام الخلف بينكم إلام ***وهذي الضجّة الكبرى علام»
حيث حذفت الألف في «إلام» في الموضعين وكذلك حذفت من «علام». ومن حذفها في الوقف واتصال «ما» بهاء السّكت نقول: «الخصام كيمه» و «السؤال عمّه».
متعلّق حرف الجر: لا بدّ لحرف الجر الأصليّ من عامل يتعلّق به ويسمّى متعلّق حرف الجر.
وذلك لأن العلاقة بين المتعلّق به وبين الجارّ والمجرور هي علاقة ارتباط معنويّ؛ لذلك وجب عند تعلّق حرف الجرّ أن نميّز العامل، الذي يحتاج إلى الجارّ والمجرور لتكملة معناه، من غيره من العوامل. فقد يكون هذا المتعلّق متأخرا عن الجار والمجرور، كقول الشاعر:
«جهلت كجهل الناس حكمة خالق ***على الخلق طرّا بالتّعاسة حاكم»
فالجار والمجرور «على الخلق» متعلقان بـ «حاكم» المتأخر عنهما، وكذلك يتعلق بـ «حاكم» الجارّ والمجرور «بالتعاسة»، المتأخّر عنهما. وكقول الشاعر:
«عداتك منك في وجل وخوف ***يريدون المعاقل والحصون»
فالجار والمجرور «منك» متعلقان بـ «وجل» والتقدير: عداتك في وجل منك. وقد يكون المتعلّق به متقدّما على الجار والمجرور، كقوله تعالى: {أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} فحرف الجر «الباء» في «به» متعلق بالعامل المتقدم يؤمنون. وكذلك «الباء» في «به» الثانية متعلق بالعامل المتقدم «يكفر». وكذلك حرف الجر «من» متعلق بـ «يكفر» العامل المتقدم. وكقول الشاعر: «لئن لم أقم فيكم خطيبا فإنني ***بسيفي إذا جدّ الوغى لخطيب»
فالجار والمجرور «فيكم» متعلّق بـ «أقم». وأما في قول الشاعر:
«الغنى في يد اللئيم قبيح ***مثل قبح الكريم في الإملاق»
فقد تعلّق الجار والمجرور «في يد» بالعامل «قبيح» المتأخّر، وتعلق الجار والمجرور «في الاملاق» بالعامل المتقدّم «قبح الكريم». وكقول الشاعر:
«عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ***فكل قرين بالمقارن يقتدي»
فقد تعلّق الجارّ والمجرور «عن المرء» بالعامل المتأخّر «لا تسأل» والجار والمجرور «عن قرينه» متعلق بالعامل المتقدّم «سل». والجار والمجرور «بالمقارن» يتعلق بالمتأخر يقتدى. وكقول الشاعر:
«بالعلم والمال يبني النّاس ملكهمو***لم يبن ملك على جهل وإقلال»
فالجار والمجرور «بالعلم» يتعلّق بالعامل المتأخّر «يبني»، والجار والمجرور «على جهل» متعلق بالعامل المتقدّم «لم يبن».
وعند ما يؤلّف الجار والمجرور مع عاملهما معنى تاما في الجملة نسميهما شبه جملة وإن لم يكمل بهما المعنى نسمّيهما شبه الجملة الناقص ويكون التركيب فاسدا وناقصا.
13 ـ ملاحظات
1 ـ شبه الجملة نوعان: الظّرف، والجار والمجرور، ويعتبر الوصف الواقع صلة «أل» بمنزلة شبه الجملة، كقول الشاعر:
«الودّ أنت المستحقّة صفوه ***مني وإن لم أرج منك نوالا»
فالوصف «المستحقة» الواقع صلة «أل» هو بمنزلة شبه الجملة.
2 ـ شبه الجملة التام، أي: الظرف والجار والمجرور، إذا وقع بعد اسم نكرة محضة وجب أن يكون متعلّقه نعتا للاسم النّكرة، كقول الشاعر:
«ربّه فتية دعوت إلى ما***يورث المجد دائبا فأجابوا»
فجملة «دعوت» في محل نصب نعت «فتية».
وإذا وقع شبه الجملة التامّ بعد اسم معرفة وجب أن يكون متعلّقه حالا، كقوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} ومثل: «وقف اللّاعبون في الملعب بين رفاقهم». فالجار والمجرور «في زينته» متعلق بمحذوف حال، تقديره: مستقرّ، والجار والمجرور «في الملعب» متعلق بمحذوف حال تقديره: مستقرّين، وكذلك الظّرف شبه الجملة التامّ «بين» متعلق بمحذوف حال. ويصحّ الوجهان: الحال والنعت إذا كانت المعرفة غير محضة، مثل:
«ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني ***فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني»
فجملة «يسبني» في محل جر نعت «اللئيم» لأن هذا الاسم وإن كان معرفة في اللّفظ إلا أنه نكرة في المعنى، لأنه مقترن بـ «أل» الجنسيّة.
ويجوز أن تكون الجملة حالا باعتبار اللّفظ.
3 ـ حروف الجر كلّها أصليّة ما عدا أربعة هي: «من»، «الباء»، و «اللام»، و «الكاف»، فهي تارة أصليّة وتارة زائدة. أما «لعلّ» و «ربّ» فإنهما حرفان شبيهان بالزائد، ومثلهما «لو لا» كما
سبقت الإشارة. ومنهم من يعتبر «خلا» و «حاشا» و «عدا» من حروف الجر الشبيهة بالزائدة.
14 ـ أنواع العامل: عامل الجرّ في الجملة أو المتعلّق به عدة أنواع منها:
1 ـ الفعل، مثل: «مشيت من البيت إلى الجامعة»، وكقول الشاعر:
«انظر إلى ورق الغصون فإنها***مشحونة بأدلّة التّوحيد»
وفيه «إلى ورق» جار ومجرور متعلق بالفعل «انظر» وفيه «بأدلّة» جار ومجرور متعلّق باسم المفعول «مشحونة».
2 ـ اسم الفعل، مثل: «نزال في المدينة» أي: انزل في المدينة، ومثل: «حيّهل على داعي الجهاد»، أي: أقبل.
3 ـ المصدر، ويشمل المصدر الذي يدل على المرّة، أو الهيئة، والمصدر الميمي، والصناعي مثل: «الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من دعائم الإصلاح في المجتمع» فالجار والمجرور «بالمعروف» متعلق بالمصدر الصّريح «الأمر» ومثله «عن المنكر» جار ومجرور متعلق بـ المصدر «النّهي». «في المجتمع» جار ومجرور متعلق بالمصدر «الإصلاح». وكقول الشّاعر:
«يموت المداوي للنّفوس ولا يرى ***لما فيه من داء النّفوس مداويا»
فالجار والمجرور «للنفوس» متعلق بالمصدر الميمي «المداوي» وكذلك الجار والمجرور «لما» و «من داء» متعلق بـ «مداويا».
4 ـ المشتق الذي يعمل عمل الفعل، مثل: «أنا فرح بك». فالجار والمجرور «بك» متعلق بالمشتق «فرح». ومثل: «أخي مرتاح في عمله».
«في عمله» جار ومجرور متعلق بـ «مرتاح»، ومثل:
«ترفّق أيّها المولى عليهم ***فإن الرّفق بالجاني عتاب»
فالجار والمجرور «بالجاني» متعلق بالمصدر الصّريح «الرفق» الذي يشبه الفعل في العمل.
5 ـ المشتق الذي لا يعمل ولكنّه لا يخلو من معنى الفعل كاسم الزمان واسم الآلة، مثل: «حدد الموعد لانعقاد جلسة مجلس الوزراء يوم الاثنين القادم». وقد يكون لفظا غير مشتق ولكنه في حكمه، مثل: «أنت سيبويه في لغتك».
والتقدير: أنت نحوي كسيبويه في لغتك.
فالجار والمجرور «لانعقاد» متعلق باسم الزّمان «الموعد». والجار والمجرور «في لغتك» متعلق بكلمة «سيبويه» الجامدة التي هي في حكم المشتق والتقدير: نحوي، ومثل:
«الصّدق في قوالنا أقوى لنا***والكذب في أفعالنا أفعى لنا»
فالجارّ والمجرور «في أقوالنا» متعلق بالاسم «الصدق». والجار والمجرور «لنا» الأول متعلق بكلمة «أقوى» وكذلك في «أفعالنا» متعلق بـ «الكذب» و «لنا» متعلق بـ «أفعى» وهي كلمة جامدة ومعناها «مؤلم»، «مر»، ومثل: «أنت معاوية في حلمك» فالجار والمجرور «في حلمك» متعلق بـ «معاوية» الاسم الجامد والتقدير: أنت حليم في...
15 ـ حذف العامل: قد يكون متعلّق الجار والمجرور مذكورا في الجملة كالامثلة السابقة، وقد يكون محذوفا. وقد يكون حذفه جائزا إما لوضوحه، أو لشهرته قبل الحذف، أو لوجود قرينة تدل عليه، مثل: «سأزورك يوم الجمعة أما سمير
ففي الاسبوع المقبل» والتقدير: أما سمير فسأزوره في... وكقول الشاعر:
«بأبي من وددته فافترقنا***وقضى الله بعد ذاك اجتماعا»
والتقدير: أفدي بأبي، ومثله قول الشاعر:
«بنفسي تلك الأرض، ما أطيب الرّبا! ***وما أحسن المصطاف والمتربّعا»
والتقدير: أفدي بنفسي.
وقد يكون حذفه واجبا إذا كان مما يدل على وجود مطلق وذلك في أماكن كثيرة أهمها:
1 ـ إذا كان العامل صفة، مثل: «هذا كتاب من تأليف عالم كبير». التقدير: مكتوب، مؤلّف...
2 ـ إذا كان حالا، مثل: «هذا الكتاب من تأليف عالم كبير». الجار والمجرور «من تأليف» متعلق بمحذوف حال تقديره مكتوبا مستقرا...
وذلك لأن الاسم قبلهما معرفة.
3 ـ إذا كان العامل صلة، مثل: «استمتعت بالأخبار المسرّة التي في الجرائد» والتقدير: التي توجد في الجرائد.
4 ـ إذا كان خبرا للمبتدأ، مثل قول الشاعر:
«جسمي معي غير أن الروح عندكمو***فالجسم في غربة والروح في وطن»
فالجار والمجرور «في غربة» متعلق بخبر المبتدأ «الجسم» تقديره موجود، ومثله الجار والمجرور «في وطن» متعلّق بمحذوف خبر المبتدأ «الروح» تقديره: موجود.
7 ـ إذا كان خبرا لناسخ، كقول الشاعر:
«فليعجب الناس منّي إنّ لي بدنا***لا روح فيه ولي روح بلا بدن»
فالجار والمجرور «لي» متعلق بمحذوف خبر «إن» تقديره: «موجود» وكذلك «فيه» جار ومجرور متعلق بخبر «لا» النافية للجنس المحذوف تقديره: «موجود». وكذلك الجار والمجرور «لي» متعلق بخبر مقدم للمبتدأ «روح» تقديره: «موجود».
8 ـ أو إذا كان محذوفا في أسلوب معيّن، كقولك لمن تهنئه بالزّواج: بالرّفاء والبنين والتقدير: تزوجت بالتّوافق... ولا يجوز ذكر العامل لأن هذا الأسلوب جرى مجرى الأمثال.
9 ـ إذا كان حرف الجرّ هو من أحرف الجرّ التي تفيد القسم ك «الواو» و «التاء»، كقول الشاعر:
«فو الله لا يبدي لساني حاجة***إلى أحد حتى أغيّب في القبر»
والتقدير: أقسم والله، ومثل: «تالله لأكيدنّ».
والتقدير: أقسم تالله.
10 ـ إذا كان الجارّ والمجرور مما يرفع الاسم الظاهر بعد الاستفهام، مثل: «أفي قولك شكّ»، فالهمزة للاستفهام. والجار والمجرور «في قولك» متعلق بخبر مقدم للمبتدأ المؤخر «شك». وعند حذف العامل يجوز تقديره فعلا، مثل: استقرّ، أو وصفا، مثل: مستقرّ، كائن. أما في القسم وفي الصلة لغير «أل» الموصولة فيجب تقديره فعلا، لأن جملتيهما لا تكونان إلّا فعليّتين.
حذف حرف الجرّ: قد يحذف حرف الجرّ ويبقى عمله، أمّا ملاحظة بقائه وحذفه فمرهون بالمحافظة على سلامة المعنى. وهذا الحذف له مواضع كثيرة أشهرها ما يأتي:
1 ـ أن يكون حرف الجر هو «ربّ» مسبوقا بـ «الواو»، أو «الفاء» أو «بل»، كقول الشاعر:
«وعامل بالحرام يأمر بال***برّ كهاد يخوض في الظّلم»
وكقول الشاعر:
«فحور قد لهوت بهنّ عين ***نواعم في المروط وفي الرّياط»
2 ـ أن يكون الاسم المجرور بالحرف مصدرا مؤوّلا من أنّ ومعموليها، أو من «أن» والفعل والفاعل، مثل: «علمت أنّك قادم». أنّ وما بعدها في تأويل مصدر مجرور «بالباء» المحذوفة والتقدير علمت بأنك قادم، أي: بقدومك.
ومثل: «أعلم أن قدم الزائر»، والتقدير: أعلم بقدوم الزّائر. والمعلوم أن الفعل «علم» متعد بنفسه لكن يجوز تقدير حرف الجر بعده، ومثل: «عجبت أنك فاشل»، أي: من أنك فاشل، أي عجبت من فشلك. ومثل، «أعجب أن تفشل» والتقدير: أعجب من أن تفشل، أو من فشلك.
3 ـ يحذف في القسم إذا كان الاسم المجرور هو لفظ الجلالة، مثل: «الله لأكيدنّ الحسّاد».
4 ـ يحذف بعد «كم» الاستفهاميّة المجرورة بحرف جرّ، مثل: «بكم درهم اشتريت»، أي: بكم من درهم.
5 ـ إذا كان حرف الجرّ مع مجروره جوابا عن سؤال يشتمل على مثل حرف الجر المحذوف، مثل: «إلى أي بلد تسافر غدا؟» فتجيب: «القاهرة»، أي: إلى القاهرة. ومثل: كيف أصبحت؟ فتجيب: «خير عافاك الله»، أي: على خير. ومثل: «بمن مررت؟» فتجيب: زيد أي: بزيد.
6 ـ في الاسم المعطوف على ما تضمّن حرف جر، مثل المحذوف، كقوله تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} والتقدير: وفي اختلاف، وكقول الشاعر:
«أخلق بذي الصّبر أن يحظى بحاجته ***ومدمن القرع للأبواب أن يلجا»
والتقدير: أخلق بمدمن القرع، حيث حذف حرف الجر «الباء» بعد «واو» العطف والمعطوف عليه مشتمل على مثل حرف الجرّ المحذوف.
7 ـ في الاسم المعطوف على ما تضمّن حرف جر مثل المحذوف مع وجود «لا» النافية فاصلة بين حرف العطف والحرف المحذوف، مثل قول الشّاعر:
«ما لمحبّ جلد أن يهجرا***ولا حبيب رأفة فيجبرا»
التقدير: ولا لحبيب حيث حذف حرف الجر «اللام» بعد «واو» العطف وفصل بينهما «لا».
8 ـ في الاسم المعطوف على ما تضمّن حرف جر مثل المحذوف مع وجود «لو» فاصلة بين حرف العطف والحرف المحذوف، كقول الشاعر:
«متى عذتم بنا ولو فئة منّا***كفيتم ولم تخشوا هوانا ولا وهنا»
والتقدير: ولو بفئة منّا. حيث حذف حرف الجر «الباء» بعد «واو» العطف وفصل بينهما «لو».
9 ـ إذا كان حرف الجر مع مجروره جوابا لسؤال بالهمزة مسبوقة بجملة تتضمّن حرف جرّ مماثل للمحذوف، مثل قولك: «أزين بن سمير؟» جوابا لمن سألك: «هل مررت بزين؟» والتقدير: أبزين بن سمير. حيث حذفت «الباء» بعد همزة الاستفهام والجملة قبله تشتمل على مثل الحرف المحذوف، أي: على حرف الجر «الباء».
10 ـ إذا كان الجارّ والمجرور بعد «هلّا» التي تفيد التّحضيض، والكلام قبلها يشتمل على حرف جر مماثل للمحذوف، مثل قولك: «هلّا دينار» جوابا لمن قال: «جئت بدرهم». والتقدير «هلا بدينار». حيث حذف حرف الجر بعد «هلا» والجملة قبله تشتمل على حرف جر مماثل ل «الباء».
11 ـ أن يكون حرف الجر مسبوقا بـ «إن» الشّرطيّة، والجملة قبله مشتملة على حرف جر مماثل للمحذوف، مثل: «سلّم على أصدقائك إن عمرو وإن زيد وإن سمير»... التقدير إن على عمرو وإن على زيد...
12 ـ إذا كان حرف الجر مسبوقا بفاء الجزاء قبلها جملة تتضمّن مثل الحرف المحذوف، مثل: «قرّرت القيام برحلة إن لم تكن طويلة فقصيرة»، والتقدير: فبرحلة قصيرة.
13 ـ إذا كان حرف الجر هو «لام التعليل» وقد دخل على «كي» المصدرية واللام مقدّرة قبلها أو على «كي» التعليليّة و «أن» مضمرة بعدها، مثل: «يجتهد الطالب كي ينجح» أي: لكي ينجح، أو كي لينجح والتقدير: كي أن ينجح.
14 ـ أن يكون حرف الجرّ داخلا على المعطوف على خبر «ليس» أو خبر «ما» الحجازيّة العاملة عمل «ليس»، مثل: «ليس الله بظالم لعباده ولا منقص حقّهم» والتقدير: ولا بمنقص حقهم؛ ويجوز أن يكون خبر «ليس» «بظالم» منصوبا، فتقول: «ليس الله ظالما عباده ولا منقص حقّهم». وهذا ما يسمّيه النحاة العطف على التّوهّم، وكقول الشاعر:
«بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى ***ولا سابق شيئا إذا كان جائيا»
حيث جر المعطوف «سابق» على توهّم دخول حرف الجر «الباء» على «مدرك»، ومثله:
«أحقّا عباد الله أن لست صاعدا***ولا هابطا إلّا عليّ رقيب»
«ولا سالك وحدي ولا في جماعة***من النّاس إلّا قيل أنت مريب»
حيث عطف «هابطا» على خبر «لست» وهو «صاعدا» ثم عطف «سالك» على «صاعدا» و «هابطا» على تقدير: ولا «بسالك» على توهّم حرف الجر في الخبرين الأولين، ثمّ حذف الخبر الثالث مع حرف الجر في العطف التالي، والتقدير: «ولا سالك في جماعة» وكقول الشاعر:
«مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة***ولا ناعب إلّا ببين غرابها»
حيث عطف «ولا ناعب» بتقدير: «ولا بناعب» على مصلحين على توهّم دخول حرف الجر «الباء» وكقول الشاعر:
«وما زرت ليلى أن تكون حبيبة***إليّ ولا دين بها أنا طالب»
والتّقدير ولا إلى دين.
15 ـ لا يجوز الفصل بين حرف الجر ومجروره في الاختيار وقد يفصل بينهما في الاضطرار بظرف مثل: «إنّ عمرا لا خير في اليوم عمرو» حيث فصل الظّرف «اليوم» بين حرف الجر «في» والاسم المجرور «عمرو»، أو بجار ومجرور، مثل: «وليس إلى منها النّزول سبيل» حيث فصل بين حرف الجر «إلى» والاسم المجرور «النزول» بالجار والمجرور «منها» وقد يفصل بينهما «كان» الزائدة بلفظ الماضي، كقول الشاعر:
«جياد بني بكر تسامى ***على كان المسوّمة العراب»
حيث فصل الفعل «كان» الزائد بين حرف الجر «على» والاسم المجرور «المسوّمة».
16 ـ قد يحذف حرف الجر مع الاسم المجرور إذا لم يتعلّق العرض بذكرهما، أو إذا دلّت عليهما قرينة تعيّن مكانهما وتمنع اللّبس، كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} والتقدير: لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا.
بدل حرف جر من حرف جر آخر: الأصل أن لكل حرف جر معنى خاصا يقفز إلى الذّهن لمجرد التّفوّه به، فإذا قلنا: «أمسكت بيد الأعمى» لتبادر إلى الذّهن أن المقصود بـ «الباء» الإلصاق وقول الشاعر:
«إن الذين اشتروا دنيا بآخرة***وشقوة بنعيم ساء ما فعلوا»
لعرفنا أن «الباء» تعني «البدليّة». وفي قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ} «الباء» تعني البعضيّة. ولكن قد يؤدي حرف الجر معنى آخر مجازيا أو تضمينيا غير معناه الأصلي، فقول القائل: «من الناس من إن تأمنه بدينار يؤدّه إليك ومنهم من إن تأمنه بذهب يخون الأمانة».
ف «الباء» هنا استعملت في غير معناها الحقيقي، وهي بمعنى «على»، فالمعنى مجازي، وقد يكون المعنى تضميني على تقدير فعل آخر يؤدي المعنى المراد، فتقول: «خبأت». فالمعنى المراد: «من الناس من إن خبّات عنده دينارا»...
ومثل قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ} فـ «الباء» هنا تعني «عن» فاستعملت مجازا بغير معناها الحقيقي، أما المعنى التضميني فعلى اختيار فعل آخر يؤدي المعنى المراد، والتقدير: تظهر الغيوم في السّماء. وكلّ هذا يتوقف على دلالة الحرف في المعنى بحيث يفهمه السّامع بغير غموض. ويمكن أن يقتصر الحرف على معناه الحقيقي وهذا الأغلب، لكن بما أن الحرف أحد أقسام الكلمة الثلاثة، وكلّ من الاسم والفعل يستعمل في معناه الحقيقي والمجازي، فجريا عليهما يستعمل الحرف في معناه المجازي أو التضمينيّ وفاقا لما يجري على نظائره، وذهب النحاة في نيابة حرف جر عن آخر مذهبين:
المذهبان في نيابة حرف جر عن آخر:
المذهب الأول: يقول إن لكل حرف جر معنى واحدا حقيقيا لا غير يؤدّيه على سبيل الحقيقة لا المجاز. فالحرف «عن» يفيد المجاوزة، مثل: «ذهبت عن البلد» وهذا معناه الحقيقي، والحرف «على» يفيد معنى حقيقيا هو الاستعلاء، و «اللّام» يفيد معنى حقيقيا هو الملك... فإذا أدى الحرف معنى غير معناه الأصلي كان ذلك على سبيل المجاز، أو على سبيل التضمين. فإذا قلنا: «رميت عن القوس» كان معنى «عن» مجازا المجاورة والاستعانة. وتكون بمعنى مجازي أيضا، في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} فمعناها المجازي هو البدليّة. ويأخذ الحرف «على» معنى «مجازيا» هو المجاوزة في قول الشاعر:
«إذا رضيت عليّ بنو قشير***لعمر الله أعجبني رضاها»
ظُلْمِهِمْ} أي: مع ظلمهم ويأخذ حرف «اللّام» معنى مجازيا هو البعديّة في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} أي: بعد دلوك. كما يأخذ معنى مجازيا هو معنى «قبل» في مثل: «توفي والدي لليلة بقيت من شهر شوّال» أي: قبل انتهاء شهر شوال بليلة واحدة؛ هذا على سبيل المجاز.
أما على سبيل التّضمين أي: إيقاع لفظ موقع غيره ومعاملته معاملته لتضمنه معناه واشتماله عليه؛ كالتضمين في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ}، فكلمة الرّفث تتضمن كل ما يريد الرجل من امرأته على سبيل الاستمتاع بها من غير كناية، ومع ذلك عدّي هذا المصدر بـ «إلى» إيذانا بأنّ الرّفث بمعنى: «الإفضاء» برأي البصريين.
والمذهب الثاني هو أن الحرف ليس إلا كلمة كسائر الأسماء والأفعال وكلّ منها يؤدي معاني حقيقية كثيرة لذلك فإن قصر الحرف على معنى حقيقي واحد فيه الكثير من التّعسّف وعلى هذا الرّأي أكثر النحويين، ومنهم الكوفيّون، والمذهبان يتفقان في عدم جواز إحلال حرف محل آخر إلا في المواضع الدّاعية إليه والمسوّغة له. حيث «أتت» الكلمة «عليّ» بمعنى «عني» ويأخذ معنى مجازيّا آخر هو المصاحبة كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
138-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (اليهودية)
اليهوديةالتعريف:
اليهودية: هي ديانة العبرانيين المنحدرين من إبراهيم عليه السلام والمعروفين بالأسباط من بني إسرائيل الذي أرسل الله إليهم موسى عليه السلام مؤيدًا بالتوراة ليكون لهم نبيًّا. واليهودية ديانة يبدو أنها منسوبة إلى يهود الشعب. وهذه بدورها قد اختلف في أصلها. وقد تكون نسبة إلى يهوذا أحد أبناء يعقوب وعممت على الشعب على سبيل التغليب.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
موسى عليه السلام: رجل من بني إسرائيل، ولد في مصر أيام فرعونها رمسيس الثاني على الأرجح 1301ـ 1234 ق.م وقد تربى في قصر هذا الفرعون بعد أن ألقته أمه في النهر داخل تابوت عندما خافت عليه من فرعون، الذي كان يقتل أبناء بني إسرائيل. ولما شبَّ قتل مصريًّا مما دفعه للهرب إلى مدين حيث عمل راعيًا لدى شيخ صالح هناك قيل أنه شعيب عليه السلام الذي زوجه إحدى ابنتيه.
ـ في طريق عودته إلى مصر أوحى الله إليه في سيناء بالرسالة، وأمره أن يذهب هو وأخوه هارون إلى فرعون لدعوته ولخلاص بني إسرائيل، فأعرض عنهما فرعون وناصبهم العداء، فخرج موسى ببني إسرائيل وقد كان ذلك سنة 1213ق.م في عهد فرعونها منفتاح الذي خلف أباه رمسيس الثاني، ولحق بهم هذا الفرعون، لكن الله أغرقه في اليم، ونجَّى موسى وقومه.
ـ في صحراء سيناء صعد موسى الجبل ليكلم ربه وليستلم الألواح، لكنه لما عاد وجد غالب قومه قد عكفوا على عجل من ذهب صنعه لهم السامري فزجرهم موسى، ولما أمرهم بدخول فلسطين امتنعوا عليه وقالوا له: (إنّ فيها قومًا جبارين وإنّا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإنْ يخرجوا منها فإنّا داخلون). (المائدة: 22) فلما حاورهم رجال من بني جلدتهم في ذلك قالوا لموسى: (إنّا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون). (المائدة: 24)، هنا دعا موسى على قومه: (قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين). (المائدة: 25). فغضب الله عليهم وتركهم يتيهون في الصحراء أربعين سنة مات خلالها موسى ودفن في كثيب أحمر دون أن يدخل فلسطين.
ـ مات كذلك أخوه هارون ودفن في جبل هور، ويذكر المؤرخون أن الذين كانوا مع موسى ماتوا كلهم في التيه، باستثناء اثنين كان يوشع أحدهما.
يوشع بن نون: تولى القيادة بعد موسى، ودخل ببني إسرائيل عن طريق شرقي الأردن إلى أريحا، وقد مات يوشع سنة 1130ق.م.
تم تقسيم الأرض المفتوحة بين الإثني عشر سبطًا، الذين كان يحكمهم قضاة من الكهنة، وقد ظهرت فيهم خلال ذلك قاضية اسمها دبورة، واستمر هذا العهد العشائري البدائي حوالي قرن من الزمان حسب تقدير المؤرخين.
آخر القضاة صموئيل شاءول صار ملكًا عليهم وهو الذي يسميه القرآن طالوت، وهو الذي قادهم في معارك ضارية ضد من حولهم، وكان داود واحدًا من جنوده، وفي إحدى المعارك تغلب داود على جالوت قائد الفلسطينيين ومن هنا برز داود النبي القائد. داود عليه السلام أصبح الملك الثاني فيهم، وقد بقي الملك في أولاده وراثيًّا، واتخذ من أورشليم (القدس) عاصمة ملكه مشيدًا الهيكل المقدس، ناقلًا إليه التابوت، وقد دام حكمه أربعين سنة.
سليمان بن داود عليهما السلام: خلف أباه، وقد علا نجمه حتى إنه صاهر فرعون مصر شيشنق ودانت له سبأ، لكن ملكه انكمش بعد مماته مقتصرًا على غرب الأردن.
رحبعام: الذي صار ملكًا سنة 935 ق.م إلا أنه لم يحظ بمبايعة الأسباط، فمال عنه بنو إسرائيل إلى أخيه يربعام، مما أدى إلى انقسام المملكة إلى قسمين:
ـ شمالية اسمها إسرائيل وعاصمتها شكيم.
ـ جنوبية اسمها يهوذا وعاصمتها أورشليم.
ـ حكم في كل من المملكتين 19 ملكًا، واتصل المُلك في ذرية سليمان في مملكة يهوذا فيما تنقل في عدد من الأسر في مملكة إسرائيل.
عاموس: نبي ظهر حوالي سنة 750 ق.م وهو أقدم أنبياء العهد القديم الذين وردت أقوالهم إلينا مكتوبة إذ عاش أيام يربعام الثاني 783ـ 743 ق.م.
وقع اليهود الإسرائيليون في سنة 721 ق.م تحت قبضة الآشوريين في عهد الملك سرجون الثاني ملك آشور فزالوا من التاريخ، وسقطت مملكة يهوذا تحت قبضة البابليين سنة 586 ق.م، وقد دمر نبوخذ نصر (بختنصر) أورشليم والمعبد وسبى اليهود إلى بابل وهذا هو التدمير الأول.
أشعيا: عاش في القرن الثامن ق.م وقد كان من مستشاري الملك حزقيال ملك يهوذا 729ـ 668 ق.م.
أرميا: 650ـ 580 ق.م ندد بأخطاء قومه، وقد تنبأ بسقوط أورشليم، ونادى بالخضوع لملوك بابل مما جعل اليهود يضطهدونه ويعتدون عليه.
حزقيال: ظهر في القرن السادس قبل الميلاد، قال بالبعث والحساب وبالمسيح الذي سيجيء من نسل داود ليصبح ملكًا على اليهود، وقد عاصر فترة سقوط مملكة يهوذا، أبعد إلى بابل بعد استسلام أورشليم.
دانيال: أعلن مستقبل الشعب الإسرائيلي إذ كان مشتهرًا بالمنامات والرؤى الرمزية، وقد وعد شعبه بالخلاص على يد المسيح.
سنة 538 ق.م احتل قورش ملك الفرس بلاد بابل وقد سمح لهم قورش بالعودة إلى فلسطين، ولكن لم يرجع منهم إلا القليل.
في سنة 320 ق.م آل الحكم في فلسطين إلى الإسكندر الأكبر ومن بعده إلى البطالمة.
اكتسح الرومان فلسطين سنة 63 ق.م. واستولوا على القدس بقيادة بامبيوس.
وفي سنة 20 ق.م بني هيرودس هيكل سليمان من جديد، وقد ظل هذا الهيكل حتى سنة 70 م حيث دمر الإمبراطور تيطس المدينة وأحرق الهيكل، وهذا هو التدمير الثاني. وقد جاء أوريانوس سنة 135م ليزيل معالم المدينة تمامًا ويتخلص من اليهود بقتلهم وتشريدهم، وقد بنى هيكلًا وثنيًّا (اسمه جوبيتار) مكان الهيكل المقدس، وقد استمر هذا الهيكل الوثني حتى دمره النصارى في عهد الإمبراطور قسطنطين.
ـ في سنة 636م فتح المسلمون فلسطين وأجلوا عنها الرومان، وقد اشترط عليهم صفرونيوس بطريرك النصارى أن لا يسكن المدينة أحد من اليهود.
ـ في سنة 1897م بدأت الحركة الجديدة لليهود تحت اسم الصهيونية، لبناء دولة إسرائيل على أرض فلسطين (يراجع بحث الصهيونية).
الأفكار والمعتقدات:
الفِرَق اليهودية:
ـ الفريسيون: أي المتشددون، يسمون بالأحبار أو الربانيين، هم متصوفة رهبانيون لا يتزوجون، لكنهم يحافظون على مذهبهم عن طريق التبني، يعتقدون بالبعث والملائكة وبالعالم الآخر.
ـ الصدقيون: وهي تسمية من الأضداد لأنهم مشهورون بالإنكار، فهم ينكرون البعث والحساب والجنة والنار وينكرون التلمود، كما ينكرون الملائكة والمسيح المنتظر.
ـ المتعصبون: فكرهم قريب من فكر الفريسيين لكنهم اتصفوا بعدم التسامح وبالعدوانية، قاموا في مطلع القرن الميلادي الأول بثورة قتلوا فيها الرومان، وكذلك كلَّ من يتعاون من اليهود مع هؤلاء الرومان فأطلق عليهم اسم السفَّاكين.
ـ الكتبة أو النَّساخ: عرفوا الشريعة من خلال عملهم في النسخ والكتابة، فاتخذوا الوعظ وظيفة لهم، يسمون بالحكماء، وبالسادة، وواحدهم لقبه أب، وقد أثروا ثراءً فاحشًا على حساب مدارسهم ومريديهم.
ـ القرّاءون: هم قلة من اليهود ظهروا عقب تدهور الفريسيين وورثوا أتباعهم، لا يعترفون إلا بالعهد القديم ولا يخضعون للتلمود ولا يعترفون به بدعوى حريتهم في شرح التوراة.
ـ السامريون: طائفة من المتهوّدين الذين دخلوا اليهودية من غير بني إسرائيل، كانوا يسكنون جِبَالِ بيت المقدس، أثبتوا نبوة موسى وهارون ويوشع بن نون، دون نبوة من بعدهم. ظهر فيهم رجل، يقال له الألفان، ادعى النبوة، وذلك قبل المسيح بمائة سنة. وقد تفرقوا إلى دوستانية وهم الألفانية، وإلى كوستانية أي الجماعة المتصوفة. وقبلة السامرة إلى جبل يقال له غريزيم بين بيت المقدس ونابلس، ولغتهم غير لغة اليهود العبرانية.
ـ السبئية: هم أتباع عبد الله بن سبأ الذي دخل الإسلام ليدمره من الداخل، فهو الذي نقل الثورة ضد عثمان من القول إلى العمل مشعلًا الفتنة، وهو الذي دسَّ الأحاديث الموضوعة ليدعم بها رأيه، فهو رائد الفتن السياسية الدينية في الإسلام.
كتبهم:
ـ العهد القديم: وهو مقدس لدى اليهود والنصارى إذ أنه سجلٌ فيه شعر ونثر وحكم وأمثال وقصص وأساطير وفلسفة وتشريع وغزل ورثاء.. وينقسم إلى قسمين:
1ـ التوراة: وفيه خمسة أسفار: التكوين أو الخلق، الخروج، اللاوين، الأخبار، العدد، التثنية، ويطلق عليه اسم أسفار موسى.
2ـ أسفار الأنبياء: وهي نوعان:
أ) أسفار الأنبياء المتقدمين: يشوع، يوشع بن نون، قضاة، صموئيل الأول، صموئيل الثاني، الملوك الأول، الملوك الثاني.
ب) أسفار الأنبياء المتأخرين: أشعيا، إرميا، حزقيال، هوشع، يوئيل، عاموس، عوبديا، يونان، يونس، ميخا، ناحوم، حَبَقّوق، صَفَنْيا، حجّى، زكريا، ملاخي.
ـ وهناك الكتابات وهي:
1 ـ الكتابات العظيمة: المزامير، الزبور، الأمثال، أمثال سليمان، أيوب.
2 ـ المجلات الخمس: نشيد الإنشاد، راعوت، المرائي، مرائي إرميا، الجامعة، أستير.
3ـ الكتب: دانيال، عزرا، نحميا، أخبار الأيام الأول، أخبار الأيام الثاني.
ـ هذه الأسفار السابقة الذكر معترف بها لدى اليهود، وكذلك لدى البروتستانت.
ـ أما الكنيسة الكاثوليكية: فتضيف سبعة أخرى هي: طوبيا، يهوديت، الحكمة، يسوع بن سيراخ، باروخ، المكابين الأول، المكابين الثاني. كما تجعل أسفار الملوك أربعة وأولها وثانيها بدلًا من سفر صموئيل الأول والثاني.
ـ استير ويهوديت: كل منهما أسطورة تحكي قصة امرأة تحت حاكم من غير بني إسرائيل حيث تستخدم جمالها وفتنتها في سبيل رفع الظلم عن اليهود، فضلًا عن تقديم خدمات لهم.
ـ التلمود: هو روايات شفوية تناقلها الحاخامات حتى جمعها الحاخام يوضاس سنة 150م في كتاب أسماه المشنا أي الشريعة المكررة لها في توراة موسى كالإيضاح والتفسير، وقد أتم الراباي يهوذا سنة 216م تدوين زيادات وروايات شفوية. وقد تم شرح هذه المشنا في كتاب سمي جمارا، ومن المشنا والجمارا يتكون التلمود، ويحتل التلمود عند اليهود منزلة مهمة جدًّا تزيد على منزلة التوراة.
أعيادهم:
ـ يوم الفصح: وهو عيد خروج بني إسرائيل من مصر، يبدأ من مساء 14 أبريل وينتهي مساء 21 منه ويكون الطعام فيه خبزًا غير مختمر.
ـ يوم التكفير: في الشهر العاشر من السنة اليهودية ينقطع الشخص تسعة أيام يتعبد فيها ويصوم وتسمى أيام التوبة، وفي اليوم العاشر الذي هو يوم التكفير لا يأكل فيه اليهودي ولا يشرب، ويمضي وقته في العبادة حيث يعتقد أنه تغفر فيه جميع سيئاته ويستعد فيه لاستقبال عام جديد.
ـ زيارة بيت المقدس: يتحتم على كل يهودي ذكر رشيد زيارة البيت المقدس مرتين كل عام.
ـ الهلال الجديد: كانوا يحتفلون لميلاد كل هلال جديد حيث كانت تنفخ الأبواق في البيت المقدس وتشعل النيران ابتهاجًا به.
ـ يوم السبت: لا يجوز لديهم الاشتغال في هذا اليوم لأنه اليوم الذي استراح فيه الرب كما يعتقدون. فقد اجتمعت اليهود على أن الله تعالى لما فرغ من خلق السموات والأرض استوى على عرشه مستلقيًا على قفاه واضعًا إحدى رجليه على الأخرى ـ تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
الإله:
ـ اليهود كتابيون موحدون وهذا الأصل.
ـ كانوا يتجهون إلى التعدد والتجسيم والنفعية مما أدى إلى كثرة الأنبياء فيهم لردهم إلى جادة التوحيد كلما أصابهم انحراف في مفهوم الألوهية.
ـ اتخذوا العجل معبودًا له بُعَيْد خروجهم من مصر، ويروي العهد القديم أن موسى قد عمل لهم حية من نحاس وأن بني إسرائيل قد عبدوها بعد ذلك، كما أن الأفعى مقدس لديهم لأنها تمثل الحكمة والدهاء.
ـ الإله لديهم سموه يهوه وهو ليس إلهًا معصومًا بل يخطئ ويثور ويقع في الندم وهو يأمر بالسرقة، وهو قاس، متعصب، مدمر لشعبه، إنه إله بني إسرائيل فقط وهو بهذا عدو للآخرين، ويزعمون أنه يسير أمام جماعة من بني إسرائيل في عمود من سحاب.
عزرا هو الذي أوجد توراة موسى بعد أن ضاعت، فبسبب ذلك وبسبب إعادته بناء الهيكل سمي عزرا ابن الله وهو الذي أشار إليه القرآن الكريم.
أفكار ومعتقدات أخرى:
ـ يعتقدون بأن الذبيح من ولد إبراهيم هو إسحاق المولود من سارة. والصحيح أنه إسماعيل.
ـ لم يرد في دينهم شيء ذو بال عن البعث والخلود والثواب والعقاب إلا إشارات بسيطة وذلك أن هذه الأمور بعيدة عن تركيبة الفكر اليهودي المادي.
ـ الثواب والعقاب إنما يتم في الدنيا، فالثواب هو النصر والتأييد، والعقاب هو الخسران والذل و الاستعباد.
ـ التابوت: وهو صندوق كانوا يحفظون فيه أغلى ما يملكون من ثروات ومواثيق وكتب مقدسة.
ـ المذبح: مكان مخصص لإيقاد البخور يوضع قدام الحجاب الذي أمام التابوت.
ـ الهيكل: هو البناء الذي أمر به داود وأقامه سليمان، فقد بني بداخله المحراب (أي قدس الأقداس) وهيَّأ كذلك بداخله مكانًا يوضع فيه تابوت عهد الرب.
ـ الكهانة: وتختص بأبناء ليفي (أحد أبناء يعقوب)، فهم وحدهم لهم حق تفسير النصوص وتقديم القرابين، وهم معفون من الضرائب وشخصياتهم وسيلة يتقرب بها إلى الله، فأصبحوا بذلك أقوى من الملوك.
ـ القرابين: كانت تشمل الضحايا البشرية إلى جانب الحيوان والثمار. ثم اكتفى الإله بعد ذلك بجزء من الإنسان وهو ما يقتطع منه في عملية الختان التي يتمسك بها اليهود إلى يومنا هذا فضلًا عن الثمار والحيوان إلى جانب ذلك.
ـ يعتقدون بأنهم شعب الله المختار، وأن أرواح اليهود جزء من الله، وإذا ضرب أممي (جوييم) إسرائيليًّا فكأنما ضرب العزة الإلهية، وأن الفرق بين درجة الإنسان والحيوان هو بمقدار الفرق بين اليهودي وغير اليهودي.
ـ يجوز غش غير اليهودي وسرقته وإقراضه بالربا الفاحش وشهادة الزور ضده وعدم البر بالقسم أمامه، ذلك أن غير اليهود في عقيدتهم كالكلاب والخنازير والبهائم، بل أن اليهود يتقربون إلى الله بفعل ذلك بغير اليهودي.
ـ يقول التلمود عن المسيح: إن يسوع الناصري موجود في لجات الجحيم بين القار والنار، وإن أمه مريم أتت به من العسكري باندارا عن طريق الخطيئة، وإن الكنائس النصرانية هي مقام القاذورات والواعظون فيها أشبه بالكلاب النابحة.
ـ بسبب ظروف الاضطهاد نشأت لديهم فكرة المسيح المنتظر كنوع من التنفيس والبحث عن أمل ورجاء.
ـ يقولون بأن يعقوب قد صارع الرب، وأن لوطًا قد شرب الخمر وزنى بابنتيه بعد نجاته إلى جبل صوغر، وأن داود قبيح في عين الرب.
ـ لقد فقدت توراة موسى بعد تخريب الهيكل أيام بختنصر فلما كتبت مرة ثانية أيام أرتحشتا ملك فارس جاءت محرفة عن أصلها، يقول الله تعالى: (يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظًا مما ذكروا به).
ـ إن ديانتهم خاصة بهم، مقفلة على الشعب اليهودي.
ـ الولد الأكبر الذي هو أول من يرث وله حظ اثنين من إخوته، ولا فرق بين المولود بنكاح شرعي أو غير شرعي في الميراث.
ـ بعد الزواج تعد المرأة مملوكة لزوجها، ومالها ملك له، ولكن لكثرة الخلافات فقد أقر بعد ذلك أن تملك الزوجة رقبة المال والزوج يملك المنفعة.
ـ من بلغ العشرين ولم يتزوج فقد استحق اللعنة، وتعدد الزوجات جائز شرعًا بدون حد، فقد حدده الربانيون بأربع زوجات بينما أطلقه القراءون.
الجذور الفكرية والعقائدية:
عبادة العجل مأخوذة عن قدماء المصريين حيث كانوا هناك قبل الخروج، والفكر المصري القديم يعد مصدرًا رئيسيًّا للأسفار في العهد القديم.
أهم مصدر اعتمدت عليه أسفار العهد القديم هو تشريع حمورابي الذي يرجع إلى نحو سنة 1900 ق.م، وقد اكتشف هذا التشريع في سنة 1902م محفورًا على عمود أسود من الصخر وهو أقدم تشريع سامي معروف حتى الآن.
يقول التلمود بالتناسخ وهي فكرة تسربت لبابل من الهند فنقلها حاخامات بابل إلى الفكر اليهودي.
تأثروا بالفكر النصراني فتراهم يقولون: " تسبب يا أبانا في أن نعود إلى شريعتك، قربنا يا ملكنا إلى عبادتك وعد بنا إلى التوبة النصوح في حضرتك".
في بعض مراحلهم عبدوا آلهة البلعيم والعشتارت وآلهة آرام وآلهة صيدوم، وآلهة مؤاب وآلهة الفلسطينيين (سفر القضاء: 10/60).
الانتشار ومواقع النفوذ:
عاش العبريون في الأصل ـ في عهد أبيهم إسرائيل ـ في منطقة الأردن وفلسطين، ثم انتقل بنو إسرائيل إلى مصر ثم ارتحلوا إلى فلسطين ليقيموا هناك مجتمعًا يهوديًّا، ولكن نظرًا لانعزالهم واستعلائهم وعنصريتهم وتآمرهم، فقد اضطهدوا وشردوا، فتفرقوا في دول العالم فوصل بعضهم إلى أوروبا وروسيا ودول البلقان والأمريكتين وأسبانيا، بينما اتجه بعضهم إلى داخل الجزيرة العربية التي أجلوا عنها مع فجر الإسلام، كما عاش بعضهم في أفريقيا وآسيا.
منذ نهاية القرن الميلادي الماضي ما يزالون يجمعون أشتاتهم في أرض فلسطين تحرضهم على ذلك وتشجعهم الصهيونية والصليبية.
مما لا شك فيه أن اليهود الحاليين ـ الذين يبلغون حوالي خمسة عشر مليونًا ـ لا يمتون بصلة إلى العبرانيين الإسرائيليين القدماء المنحدرين من إبراهيم عليه السلام، إذ أنهم حاليًا أخلاط من شعوب الأرض المتهودين الذين تسوقهم دوافع استعمارية. أما الذين يرجعون إلى أصول إسرائيلية فعلًا هم اليوم ـ وفي إسرائيل بخاصة ـ يهود من الدرجة الدنيا.
ظهر لكثير من الباحثين في أمر التوراة، من خلال ملاحظة اللغات والأساليب وما تشتمل عليه من موضوعات وأحكام وتشاريع، أنها قد ألفت في عصور مختلفة وبأقلام مختلفة، وفي هذا يقول سبحانه عنهم: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) [سورة البقرة، آية: 79].
كما استطاع النقد الحديث أن يثبت تعارض نصوص التوراة والإنجيل مع الكثير من الحقائق العلمية المعاصرة، أما النقد الباطني لها فقد اعتبرها مجموعًا متنافرًا ـ كما يقول موريس بوكاي ـ وهذا يكفي لمن يريد التأكد بأن التوراة لا يمكن الاستناد إلى معطياتها لما اعتراها من تناقض وقصص مموهة بل وأشعار مشكوك في صحتها أيضًا.
يتضح مما سبق:
أن اليهودية هي ديانة العبرانيين المنحدرين من إبراهيم عليه السلام والمعروفين بالأسباط من بني إسرائيل " يعقوب عليه السلام ". وقد أرسل الله تعالى إليهم موسى عليه السلام مؤيدًا بالتوراة ليكون لهم نبيًا. واليهود ينقسمون إلى فرق هي: الفريسيون وهم يعتقدون بالبعث والملائكة وبالعالم الآخر. الصدقيون وهم ينكرون التلمود والملائكة والمسيح المنتظر. والمتعصبون ويتصفون بالعدوانية. والكتبة أو النساخ وقد عرفوا الشريعة من خلال عملهم في الكتابة وقد أثروا على حساب مدارسهم ومريديهم. والقراءون وهم لا يعترفون إلا بالعهد القديم ولا يخضعون للتلمود. والسامريون وهم طائفة من المتهودين من غير بني إسرائيل. والسبئية وهم أتباع عبد الله بن سبأ الذي دخل الإسلام ليدمره من الداخل.
وكتبهم هي العهد القديم وهو ينطوي على شعر ونثر وحكم وأمثال وقصص وأساطير وفلسفة وتشريع وغزل ورثاء، وينقسم إلى التوراة وأسفار الأنبياء بنوعيها. وهناك التلمود وهو روايات شفوية جمعت في كتاب اسمه المشنا أي الشريعة المكررة، وقد شرحت المشنا في كتاب اسمه جمارا.
اليهود من حيث الأصل كتابيون موحدين، غير أنهم اتجهوا إلى التعدد والتجسيم والنفعية فكثر أنبياؤهم، وقد عبدوا العجل وقدسوا الأفعى. وقد تأكد أن التوراة ألفت في عصور مختلفة وبأقلام مختلفة، ولذا فإن كثيرًا من نصوصها تعارض الحقائق العلمية المعاصرة، كما يعارض بعضها بعضًا.
(page)
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م
139-معجم الأفعال المتعدية بحرف (أداله)
(أداله) الله من عدوه كانت له الغلبة والنصرة والدولة عليه وأديل عليه غلبه وأندال ما في بطنه من معى أو صفاق طعن فخرج ذلك من بطنه ودالت له الدولة ودالت الأيام بكذا وأدال الله بني فلان من عدوهم جعل الكرة لهم عليه وفي مثل (يدال من البقاع كما يدال من الرجال) وأديل المؤمنون على المشركين يوم بدر وأديل المشركون على المسلمين يوم أحد وأستدلت من فلان لأدال منه ودال الرجل في مشيه أسرع وخف في تقارب خطوه وأدال الله زيدا من عمرو نزع الدولة من عمرو وحولها إلى زيد.معجم الأفعال المتعدية بحرف-موسى بن الحاج محمد بن الملياني الأحمدي الدراجي المسيلي الجزائري (الملقب نويوات)-صدر:1398هـ/1977م
140-معجم البلدان (آسك)
آسَكُ:بفتح السين المهملة وكاف: كلمة فارسية، قال أبو عليّ: ومما ينبغي أن تكون الهمزة في أوله أصلا من الكلم المعربة، قولهم في اسم الموضع الذي قرب أرّجان، آسك، وهو الذي ذكره الشاعر في قوله:
«أألفا مسلم فيما زعمتم، *** ويقتلهم بآسك أربعونا؟»
فآسك مثل آخر، وآدم في الزّنة، ولو كانت على فاعل، نحو طابق وتابل، لم ينصرف أيضا للعجمة والتعريف، وإنما لم نحمله على فاعل لأنّ ما جاء من نحو هذه الكلم فالهمزة في أوائلها زائدة وهو العامّ، فحملناه على ذلك، وإن كانت الهمزة الأولى أصلا وكانت فاعلا لكان اللفظ كذلك: وهو بلد من نواحي الأهواز، قرب أرّجان، بين أرجان ورامهرمز، بينها وبين أرجان يومان، وبينها وبين الدّورق يومان، وهي بلدة ذات نخيل ومياه، وفيها إيوان عال في صحراء على عين غزيرة وبيئة وبإزاء الإيوان قبّة منيفة ينيف سمكها على مائة ذراع، بناها الملك قباذ والد أنو شروان، وفي ظاهرها عدّة قبور لقوم من المسلمين استشهدوا أيام الفتح، وعلى هذه القبّة آثار الستائر. قال مسعر بن مهلهل: وما رأيت في جميع ما شاهدت من البلدان قبّة أحسن بناء منها ولا أحكم، وكانت بها وقعة للخوارج.
حدّث أهل السير قالوا: كان أبو بلال مرداس بن أديّة، وهو أحد أئمة الخوارج، قد قال لأصحابه:
قد كرهت المقام بين ظهراني أهل البصرة، والاحتمال لجور عبيد الله بن زياد، وعزمت على مفارقة البصرة، والمقام بحيث لا يجري عليّ حكمه من غير أن أشهر سيفا أو أقاتل أحدا، فخرج في أربعين من الخوارج، حتى نزل آسك موضعا بين رامهرمز وأرّجان، فمرّ به مال يحمل إلى ابن زياد من فارس، فغصب حاملية، حتى أخذ منهم بقدر أعطيات جماعته، وأفرج عن الباقي. فقال له أصحابه: علام تفرج لهم عن الباقي؟ فقال: إنهم يصلّون، ومن صلّى إلى القبلة، لا أشاقّه. وبلغ ذلك ابن زياد، فأنفذ إليهم معبد بن أسلم الكلابي، فلما تواقفا للقتال، قال له مرداس: علام تقاتلنا ولم نفسد في الأرض ولا شهرنا سيفا؟ قال: أريد أن أحملكم إلى ابن زياد.
قال: إذا يقتلنا. قال: وإنّ قتلكم واجب. قال:
تشارك في دمائنا؟ قال: هو على الحقّ، وأنتم على الباطل. فحملوا عليه حملة رجل واحد، فانهزم، وكان في ألفي فارس، فما ردّه شيء حتى ورد البصرة، فكان بعد ذلك يقولون له: يا معبد جاءك مرداس خذه.
فشكاهم إلى ابن زياد فنهاهم عنه، فقال عيسى بن فاتك الخطّيّ أحد بني تيم الله بن ثعلبة في كلمة له:
«فلمّا أصبحوا صلّوا، وقاموا *** إلى الجرد العتاق مسوّمينا»
«فلما استجمعوا حملوا عليهم، *** فظلّ ذوو الجعائل يقتلونا»
«بقيّة يومهم، حتّى أتاهم سواد الليل فيه يراوغونا»
«يقول بصيرهم، لما أتاهم بأنّ القوم ولّوا هاربينا: »
«أألفا مؤمن فيما زعمتم، ويقتلهم بآسك أربعونا؟»
«كذبتم ليس ذلك كما زعمتم، ولكنّ الخوارج مؤمنونا »
«هم الفئة القليلة، غير شكّ، على الفئة الكثيرة ينصرونا»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
141-معجم البلدان (الأحص)
الأَحَصُّ:بالفتح، وتشديد الصاد المهملة، يقال: رجل أحصّ، بيّن الحصص أي قليل شعر الرأس، وقد حصّت البيضة رأسي إذا أذهبت شعره، وطائر أحصّ الجناح، ورجل احصّ اللّحية، ورحم حصّاء كله بمعنى القطع، وقال أبو زيد: رجل أحصّ إذا كان نكدا مشؤوما، فكأنّ هذا الموضع، لقلة خيره، وعدم نباته، سمّي بذلك. وبنجد موضعان يقال لهما: الأحصّ وشبيث. وبالشام من نواحي حلب موضعان يقال لهما: الأحصّ وشبيث. فأمّا الذي بنجد، فكانت منازل ربيعة، ثم منازل ابني وائل بكر وتغلب. وقال أبو المنذر هشام بن محمد في كتابه في افتراق العرب:
ودخلت قبائل ربيعة ظواهر بلاد نجد والحجاز، وأطراف تهامة، وما والاها من البلاد، وانقطعوا إليها، وانتثروا فيها، فكانوا بالذنائب، وواردات، والأحصّ، وشبيث، وبطن الجريب، والتّغلمين، وما بينها وما حولها من المنازل. وروت العلماء الأئمة، كأبي عبيدة وغيره: أن كليبا، واسمه وائل بن ربيعة بن الحارث بن مرّة بن زهير بن جشم ابن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل، قال يوما لامرأته، وهي جليلة بنت مرّة أخت جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، وأمّ جساس هبلة بنت منقذ بن سلمان بن كعب بن عمرو ابن سعد بن زيد مناة بن تميم، وكانت أختها البسوس نازلة على ابن أختها جسّاس بن مرّة، قال لها: هل تعرفين في العرب من هو أعزّ مني؟ قالت: نعم، أخواي جسّاس وهمّام، وقيل: قالت نعم، أخي جسّاس وندمانه عمرو المزدلف بن أبي ربيعة الحارث بن ذهل بن شيبان. فأخذ قوسه وخرج فمرّ بفصيل لناقة البسوس فعقره، وضرب ضرع ناقتها حتى اختلط لبنها ودمها، وكانا قد قاربا حماه، فأغمضوا له على ذلك، واستغاثت البسوس، ونادت بويلها.
فقال جسّاس: كفّي، فسأعقر غدا جملا هو أعظم من عقر ناقة. فبلغ ذلك كليبا، فقال: دون عليّان خرط القتاد. فذهبت مثلا، وعليّان فحل إبل كليب. ثم أصابتهم سماء فمرّوا بنهر يقال له شبيث، فأراد جساس نزوله، فامتنع كليب قصدا للمخالفة. ثم مرّوا على الأحصّ، فأراد جساس وقومه النزول عليه، فامتنع كليب قصدا للمخالفة. ثم مرّوا ببطن الجريب، فجرى أمره على ذلك، حتى نزلوا الذنائب، وقد كلّوا وأعيوا وعطشوا، فأغضب ذلك جسّاسا، فجاء وعمرو المزدلف معه، فقال له: يا وائل، أطردت أهلنا من المياه حتى كدت تقتلهم؟ فقال كليب: ما منعناهم من ماء إلّا ونحن له شاغلون، فقال له: هذا كفعلك بناقة خالتي، فقال له: أو ذكرتها؟ أما إني لو وجدتها في غير إبل مرّة، يعني أبا جساس، لاستحللت تلك الإبل.
فعطف عليه جساس فرسه وطعنه بالرمح فأنفذه فيه.
فلما أحسّ بالموت، قال: يا عمرو اسقني ماء، يقول ذلك لعمرو المزدلف، فقال له: تجاوزت بالماء الأحصّ، وبطن شبيث. ثم كانت حرب ابني وائل، وهي حرب البسوس، أربعين سنة، وهي حروب يضرب بشدتها المثل. قالوا: والذنائب عن يسار ولجة للمصعد إلى مكة، وبه قبر كليب. وقد حكى هذه القصة بعينها النابغة الجعدي، يخاطب عقال بن خويلد، وقد أجار بني وائل ابن معن، وكانوا قتلوا رجلا من بني جعدة، فحذّرهم مثل حرب البسوس وحرب داحس والغبراء، فقال في ذلك:
«فأبلغ عقالا، إنّ غاية داحس *** بكفّيك، فاستأخر لها، أو تقدّم»
«تجير علينا وائلا بدمائنا، *** كأنّك، عمّا ناب أشياعنا، عم»
«كليب لعمري كان أكثر ناصرا، *** وأيسر جرما منك، ضرّج بالدم»
«رمى ضرع ناب، فاستمرّ بطعنة *** كحاشية البرد اليماني المسهّم»
«وقال لجسّاس: أغثني بشربة، *** تفضّل بها، طولا عليّ، وأنعم»
«فقال: تجاوزت الأحصّ وماءه، *** وبطن شبيث، وهو ذو مترسّم»
فهذا كما تراه، ليس في الشعر والخبر ما يدلّ على أنها بالشام. وأما الأحصّ وشبيث بنواحي حلب، وقد تحقق أمرهما، فلا ريب فيهما، أما الأحصّ فكورة كبيرة مشهورة، ذات قرّى ومزارع، بين القبلة وبين الشمال من مدينة حلب، قصبتها خناصرة، مدينة كان ينزلها عمر بن عبد العزيز، وهي صغيرة، وقد خربت الآن إلّا اليسير منها. وأما شبيث، فجبل في هذه الكورة أسود، في رأسه فضاء، فيه أربع قرى، وقد خربت جميعها. ومن هذا الجبل يقطع أهل حلب وجميع نواحيها حجارة رحيّهم، وهي سود خشنة، وإياها عنى عدي بن الرقاع بقوله:
«وإذا الربيع تتابعت أنواؤه، *** فسقى خناصرة الأحصّ وزادها»
فأضاف خناصرة الى هذا الموضع، وإياها عنى جرير أيضا بقوله:
«عادت همومي بالأحصّ وسادي، *** هيهات من بلد الأحصّ بلادي»
«لي خمس عشرة من جمادى ليلة، *** ما أستطيع على الفراش رقادي»
«ونعود سيّدنا وسيّد غيرنا، *** ليت التّشكي كان بالعوّاد»
وأنشد الأصمعي، في كتاب جزيرة العرب، لرجل من طيّء، يقال له الخليل بن قردة، وكان له ابن واسمه زافر، وكان قد مات بالشام في مدينة دمشق، فقال:
«ولا آب ركب من دمشق وأهله *** ولا حمص، إذ لم يأت، في الركب، زافر»
«ولا من شبيث والأحصّ ومنتهى ال *** مطايا بقنسّرين، أو بخناصر»
وإياه عنى ابن أبي حصينة المعرّي بقوله:
«لجّ برق الأحصّ في لمعانه، *** فتذكّرت من وراء رعانه»
«فسقى الغيث حيث ينقطع الأو *** عس من رنده ومنبت بانه»
«أو ترى النّور مثل ما نشر البر *** د، حوالي هضابه وقنانه»
«تجلب الريح منه أذكى من المس *** ك، إذا مرّت الصّبا بمكانه»
وهذا، كما تراه، ليس فيه ما يدل على أنه إلا بالشام. فإن كان قد اتفق ترادف هذين الاسمين بمكانين بالشام، ومكانين بنجد، من غير قصد، فهو عجب. وإن كان جرى الأمر فيهما، كما جرى لأهل نجران ودومة، في بعض الروايات، حيث أخرج عمر أهلهما منهما، فقدموا العراق، وبنوا لهم بها أبنية، وسموها باسم ما أخرجوا منه، فجائز أن تكون ربيعة فارقت منازلها، وقدمت الشام، فأقاموا بها، وسموا هذه بتلك، والله أعلم. وينسب إلى أحصّ حلب، شاعر يعرف بالناشي الأحصّي، كان في أيام سيف الدولة أبي الحسن علي بن حمدان، له خبر ظريف، أنا مورده ههنا، وإن لم أكن على ثقة منه، وهو
أن هذا الشاعر الأحصّي دخل على سيف الدولة، فأنشده قصيدة له فيه، فاعتذر سيف الدولة بضيق اليد يومئذ، وقال له: أعذر فما يتأخر عنا حمل المال إلينا، فإذا بلغك ذلك فأتنا لنضاعف جائزتك، ونحسن إليك. فخرج من عنده فوجد على باب سيف الدولة كلابا تذبح لها السّخال وت
«رأيت بباب داركم كلابا، *** تغذّيها وتطعمها السّخالا»
«فما في الأرض أدبر من أديب، *** يكون الكلب أحسن منه حالا»
ثم اتفق أن حمل إلى سيف الدولة أموال من بعض الجهات على بغال، فضاع منها بغل بما عليه، وهو عشرة آلاف دينار، وجاء هذا البغل حتى وقف على باب الناشي الشاعر بالأحصّ، فسمع حسّه، فظنّه لصّا، فخرج إليه بالسلاح، فوجده بغلا موقرا بالمال، فأخذ ما عليه من المال وأطلقه. ثم دخل حلب ودخل على سيف الدولة وأنشده قصيدة له يقول فيها:
«ومن ظنّ أن الرّزق يأتي بحيلة، *** فقد كذّبته نفسه، وهو آثم»
«يفوت الغنى من لا ينام عن السّرى، *** وآخر يأتي رزقه وهو نائم»
فقال له سيف الدولة: بحياتي! وصل إليك المال الذي كان على البغل؟ فقال: نعم. فقال: خذه بجائزتك مباركا لك فيه. فقيل لسيف الدولة: كيف عرفت ذلك؟ قال عرفته من قوله:
وآخر يأتي رزقه وهو نائم
بعد قوله:
يكون الكلب أحسن منه حالا
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
142-معجم البلدان (الأخابث)
الأَخابِثُ:كأنه جمع أخبث، آخره ثاء مثلثة: كانت بنو عكّ بن عدنان قد ارتدّت بعد وفاة النبي، صلى الله عليه وسلم، بالأعلاب من أرضهم، بين الطائف
والساحل، فخرج إليهم بأمر أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، الطاهر بن أبي هالة، فواقعهم بالأعلاب، فقتلهم شرّ قتلة. وكتب أبو بكر، رضي الله عنه، إلى الطاهر بن أبي هالة قبل أن يأتيه بالفتح: بلغني كتابك تخبرني فيه مسيرك واستنفارك مسروقا وقومه إلى الأخابث بالأعل
«فو الله لولا الله، لا شيء غيره، *** لما فضّ بالأجراع جمع العثاعث»
«فلم تر عيني مثل جمع رأيته، *** بجنب مجاز، في جموع الأخابث»
«قتلناهم ما بين قنّة خامر، *** إلى القيعة البيضاء ذات النبائث»
«وفينا بأموال الأخابث عنوة، *** جهارا، ولم نحفل بتلك الهثاهث»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
143-معجم البلدان (إرم ذات العماد)
إِرَمُ ذَاتُ العِمَادِ:وهي إرم عاد، يضاف ولا يضاف، أعني في قوله، عز وجل: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ 89: 6- 7. فمن أضاف لم يصرف إرم، لأنه يجعله اسم أمّهم، أو اسم بلدة، ومن لم يضف جعل إرم اسمه ولم يصرفه، لأنه جعل عادا اسم أبيهم. وإرم اسم القبيلة، وجعله بدلا منه.
وقال بعضهم: إرم لا ينصرف للتعريف والتأنيث، لأنه اسم قبيلة، فعلى هذا يكون التقدير: إرم صاحب ذات العماد، لأن ذات العماد مدينة.
وقيل: ذات العماد وصف، كما تقول المدينة ذات الملك. وقيل: إرم مدينة، فعلى هذا يكون التقدير بعاد صاحب إرم. ويقرأ بعاد إرم ذات العماد، الجرّ على الإضافة، فهذا إعرابها. ثم اختلف فيها من جعلها مدينة، فمنهم من قال: هي أرض كانت واندرست، فهي لا تعرف. ومنهم من قال: هي الاسكندرية، وأكثرهم يقولون: هي دمشق، وكذلك قال شبيب بن يزيد بن النعمان بن بشير:
«لولا التي علقتني من علائقها، *** لم تمس لي إرم دارا ولا وطنا»
قالوا: أراد دمشق، وإياها أراد البحتري بقوله:
«إليك رحلنا العيس من أرض بابل، *** نجوز بها سمت الدّبور ونهتدي»
«فكم جزعت من وهدة بعد وهدة، *** وكم قطعت من فدفد بعد فدفد»
«طلبنك من أمّ العراق نوازعا *** بنا، وقصور الشام منك بمرصد»
«إلى إرم ذات العماد، وإنّها *** لموضع قصدي، موجفا، وتعمّدي»
وحكى الزمخشري أنّ إرم بلد منه الإسكندرية.
وروى آخرون أنّ إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، باليمن بين حضرموت وصنعاء، من بناء شدّاد بن عاد، ورووا أن شداد بن عاد كان جبّارا، ولما سمع بالجنة وما أعدّ الله فيها لأوليائه من قصور الذهب والفضة والمساكن التي تجري من تحتها الأنهار، والغرف التي من فوقها غرف، قال لكبرائه: إني متخذ في الأرض مدينة على صفة الجنة، فوكل بذلك مائة رجل من وكلائه وقهارمته، تحت يد كل رجل منهم ألف من الأعوان، وأمرهم أن يطلبوا فضاء فلاة من أرض اليمن، ويختاروا أطيبها تربة، ومكنهم من الأموال، ومثّل لهم كيف يعملون، وكتب إلى عمّاله الثلاثة: غانم بن علوان، والضحّاك ابن علوان، والوليد بن الريّان، يأمرهم أن يكتبوا إلى عمّالهم في آفاق بلدانهم أن يجمعوا جميع ما في أرضهم من الذهب، والفضة، والدرّ، والياقوت، والمسك، والعنبر، والزعفران، فيوجهوا به إليه.
ثم وجّه إلى جميع المعادن، فاستخرج ما فيها من الذهب والفضة. ثم وجه عمّاله الثلاثة الى الغواصين إلى البحار، فاستخرجوا الجواهر، فجمعوا منها أمثال الجبال، وحمل جميع ذلك إلى شدّاد.
ثم وجهوا الحفّارين إلى معادن الياقوت، والزبرجد، وسائر الجواهر، فاستخرجوا منها أمرا عظيما. فأمر
بالذهب، فضرب أمثال اللبن. ثم بنى بذلك تلك المدينة، وأمر بالدرّ، والياقوت، والجزع، والزبرجد، والعقيق، ففصّص به حيطانها، وجعل لها غرفا من فوقها غرف، معمّد جميع ذلك بأساطين الزبرجد، والجزع، والياقوت. ثم أجرى تحت المدينة واديا، ساقه إليها من تحت الأرض أربع
هو هود بن الخلود بن عاد بن إرم بن سام بن نوح، عليه السلام، وقيل غير ذلك ولسنا بصدده. ثم إن هودا، عليه السلام، أتاه فدعاه إلى الله تعالى وأمره بالإيمان، والإقرار بربوبية الله، عز وجل، ووحدانيته، فتمادى في الكفر والطّغيان، وذلك حين تمّ لملكه سبعمائة سنة. فأنذره هود بالعذاب، وحذّره وخوّفه زوال ملكه، فلم يرتدع عما كان عليه، ولم يجب هودا إلى ما دعاه إليه. ووافاه الموكلون ببناء المدينة، وأخبروه بالفراغ منها. فعزم على الخروج إليها في جنوده، فخرج في ثلاثمائة ألف من حرسه وشاكريّته ومواليه، وسار نحوها، وخلّف على ملكه بحضرموت وسائر أرض العرب ابنه مرثد بن شدّاد. وكان مرثد، فيما يقال، مؤمنا بهود، عليه السلام، فلما قرب شداد من المدينة، وانتهى إلى مرحلة منها، جاءت صيحة من السماء، فمات هو وأصحابه أجمعون، حتى لم يبق منهم مخبر، ومات جميع من كان بالمدينة من الفعلة، والصّناع، والوكلاء، والقهارمة، وبقيت خلاء، لا أنيس بها. وساخت المدينة في الأرض، فلم يدخلها بعد ذلك أحد، إلا رجل واحد في ايام معاوية، يقال له: عبد الله بن قلابة، فإنه ذكر في قصة طويلة تلخيصها: أنّه خرج من صنعاء في بغاء إبل له ضلّت، فأفضى به السّير إلى مدينة صفتها كما ذكرنا، وأخذ منها شيئا من بنادق المسك، والكافور، وشيئا من الياقوت. وقصد إلى معاوية بالشام، وأخبره
بذلك، وأراه الجواهر والبنادق. وكان قد اصفرّ وغيّرته الأزمنة، فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار، وسأله عن ذلك، فقال: هذه إرم ذات العماد التي ذكرها الله، عز وجل، في كتابه. بناها شداد ابن عاد، وقيل: شداد بن عمليق بن عويج بن عامر ابن إرم، وقيل في نسبه غير ذلك.
ووصف صفة عبد الله بن قلابة، فقال معاوية: يا عبد الله! أما أنت فقد أحسنت في نصحنا، ولكن ما لا سبيل إليه، لا حيلة فيه. وأمر له بجائزة فانصرف. ويقال: إنهم وقعوا على حفيرة شداد بحضرموت، فإذا بيت في الجبل منقور، مائة ذراع في أربعين ذراعا، وفي صدره سريران عظيمان من ذهب، على أحدهما رجل عظيم الجسم، وعند رأسه لوح فيه مكتوب:
«اعتبر يا أيها المغ *** رور بالعمر المديد»
«أنا شداد بن عاد، *** صاحب الحصن المشيد»
«وأخو القوّة والبأ *** ساء والملك الحشيد»
«دان أهل الأرض طرّا *** لي من خوف وعيدي»
«فأتى هود، وكنّا *** في ضلال، قبل هود»
«فدعانا، لو أجبنا *** هـ، إلى الأمر الرشيد»
«فعصيناه ونادى *** ما لكم، هل من محيد؟»
«فأتتنا صيحة، ته *** وي من الأفق البعيد»
قلت: هذه القصّة مما قدمنا البراءة من صحّتها وظننا أنها من أخبار القصّاص المنمّقة وأوضاعها المزوّقة.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
144-معجم البلدان (أشير)
أَشِيرُ:بكسر ثانيه، وياء ساكنة، وراء: مدينة في جبال البربر بالمغرب في طرف إفريقية الغربي مقابل بجاية في البر، كان أول من عمّرها زيري بن مناد الصنهاجي، وكان سيّد هذه القبيلة في أيامه، وهو جدّ المعزّ بن باديس وملوك إفريقية بعد خروج الملقّب بالمعزّ منها، وكان زيري هذا في بدء أمره يسكن الجبال، ولما نشأ ظهرت منه شجاعة أوجبت له أن اجتمع إليه طائفة من عشيرته فأغار بهم على من حوله من زناتة والبربر، ورزق الظفر بهم مرّة بعد مرّة فعظم جمعه وطالبته نفسه بالإمارة، وضاق عليه وعلى أصحابه مكانهم فخرج يرتاد له موضعا ينزله فرأى أشير، وهو موضع خال وليس به أحد مع كثرة عيونه وسعة فضائه وحسن منظره، فجاء بالبنّائين من المدن التي حوله، وهي: المسيلة وطبنة وغيرهما،
وشرع في إنشاء مدينة أشير، وذلك في سنة 324 فتمّت إلى أحسن حال، وعمل على جبلها حصنا مانعا ليس إلى المتحصّن به طريق إلّا من جهة واحدة تحميه عشرة رجال، وحمى زيري أهل تلك الناحية وزرّع الناس فيها، وقصدها أهل تلك النواحي طلبا للأمن والسلامة فصارت مدينة مشهورة، وتملكها بعده بنو حمّاد وهم بنو عمّ باديس، واستولوا على جميع ما يجاورها من النواحي، وصاروا ملوكا لا يعطون أحدا طاعة، وقاوموا بني عمّهم ملوك إفريقية آل باديس، ومن أشير هذه الشيخ الفاضل أبو محمد عبد الله بن محمد الأشيري إمام أهل الحديث والفقه والأدب بحلب خاصّة وبالشام عامّة، استدعاه الوزير عون الدين أبو المظفّر يحيى بن محمد بن هبيرة وزير المقتفي والمستنجد، وطلبه من الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي فسيّره إليه، وقرأ كتاب ابن هبيرة الذي صنّفه وسمّاه الإيضاح في شرح معاني الصحاح، بحضوره، وجرت له مع الوزير منافرة في شيء اختلف فيه، أغضب كلّ واحد منهما صاحبه، وردف ذلك اعتذار من الوزير وبرّه برّا وافرا، ثم سار من بغداد إلى مكة ثم عاد إلى الشام، فمات في بقاع بعلبكّ في سنة 561.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
145-معجم البلدان (أصبهان)
أَصبَهَانُ:منهم من يفتح الهمزة، وهم الأكثر، وكسرها آخرون، منهم: السمعاني وأبو عبيد البكري الأندلسي: وهي مدينة عظيمة مشهورة من أعلام المدن وأعيانها، ويسرفون في وصف عظمها حتى يتجاوزوا حدّ الاقتصاد إلى غاية الإسراف، وأصبهان: اسم للإقليم بأسره، وكانت مدينتها أوّلا جيّا ثم صارت اليهودية، وهي من نواحي الجبل في آخر الإقليم الرابع، طولها ست وثمانون درجة، وعرضها ست وثلاثون درجة تحت اثنتي عشرة درجة من السرطان، يقابلها مثلها من الجدي، بيت ملكها مثلها من الحمل، بيت عاقبتها مثلها من الميزان، طول أصبهان أربع وسبعون درجة وثلثان وعرضها أربع وثلاثون درجة ونصف، ولهم في تسميتها بهذا الاسم خلاف، قال أصحاب السير: سميت بأصبهان بن فلّوج بن لنطي بن يونان بن يافث، وقال ابن الكلبي: سميت بأصبهان بن فلوّج بن سام بن نوح، عليه السلام،
قال ابن دريد: أصبهان اسم مركّب لأن الأصب البلد بلسان الفرس، وهان اسم الفارس، فكأنه يقال بلاد الفرسان، قال عبيد الله المستجير بعفوه:
المعروف أن الأصب بلغة الفرس هو الفرس، وهان كأنه دليل الجمع، فمعناه الفرسان والأصبهانيّ الفارس، وقال حمزة بن الحسن: أصبهان اسم مشتقّ من الجندية وذلك أن لفظ أصبهان، إذا ردّ إلى اسمه بالفارسية، كان أسباهان وهي جمع أسباه، وأسباه: اسم للجند والكلب، وكذلك سك: اسم للجند والكلب، وإنما لزمهما هذان الاسمان واشتركا فيهما لأن أفعالهما لفق لأسمائهما وذلك أن أفعالهما الحراسة، فالكلب يسمى في لغة سك وفي لغة أسباه، وتخفف، فيقال:
أسبه، فعلى هذا جمعوا هذين الاسمين وسمّوا بهما بلدين كانا معدن الجند الأساورة، فقالوا لأصبهان:
أسباهان، ولسجستان: سكان وسكستان، قال: وذكر ابن حمزة في اشتقاق أصبهان حديثا يلهج به عوامّ الناس وهوامّهم، قال: أصله أسباه آن أي هم جند الله، قال: وما أشبه قوله هذا، باشتقاق عبد الأعلى القاصّ حين قيل له: لم سمّي العصفور؟
قال: لأنه عصى وفرّ، قيل له: فالطّفشيل؟ قال:
لأنه طفا وشال. قالوا ولم يكن يحمل لواء ملوك الفرس من آل ساسان إلّا أهل أصبهان! قلت:
ولذلك سبب ربما خفي عن كثير من أهل هذا الشأن وهو أن الضحّاك المسمّى بالازدهاق، ويعرف ببيوراسب وذي الحيّتين، لما كثر جوره على أهل مملكته من توظيفه عليهم في كل يوم رجلين يذبحان وتطعم أدمغتهما للحيّتين اللتين كانتا نبتتا في كتفيه، فيما تزعم الفرس، فانتهت النوبة إلى رجل حدّاد من أهل أصبهان يقال له كابي، فلما علم أنه لا بد من ذبح نفسه أخذ الجلدة التي يجعلها على ركبتيه ويقي النار بها عن نفسه وثيابه وقت شغله، ثم إنه رفعها على عصا وجعلها مثل البيرق، ودعا الناس إلى قتل الضحاك وإخراج فريدون جدّ بني ساسان من مكمنه وإظهار أمره، فأجابه الناس إلى ما دعاهم إليه من قتل الضحاك حتى قتله وأزال ملكه وملك فريدون، وذلك في قصة طويلة ذات تهاويل وخرافات، فتبركوا بذلك اللواء إذ انتصروا به وجعلوا حمل اللواء إلى اهل أصبهان من يومئذ لهذا السبب، قال مسعر بن مهلهل: وأصبهان صحيحة الهواء نفيسة الجوّ خالية من جميع الهوامّ، لا تبلى الموتى في تربتها، ولا تتغير فيها رائحة اللّحم ولو بقيت القدر بعد أن تطبخ شهرا، وربما حفر الإنسان بها حفيرة فيهجم على قبر له ألوف سنين والميّت فيه على حاله لم يتغيّر، وتربتها أصح تراب الأرض، ويبقى التّفاح فيها غضّا سبع سنين ولا تسوس بها الحنطة كما تسوس في غيرها، قلت أنا: وسألت جماعة من عقلاء أهل أصبهان عمّا يحكى من بقاء جثّة الميّت بها في مدفنها؟
فذكروا لي أن ذلك بموضع منها مخصوص، وهو في مدفن المصلى لا في جميع أرضها، قال الهيثم بن عدي: لم يكن لفارس أقوى من كورتين، واحدة سهلية والأخرى جبلية، أما السهلية فكسكر، وأما الجبلية فأصبهان، وكان خراج كل كورة اثني عشر ألف ألف مثقال ذهبا، وكانت مساحة أصبهان ثمانين فرسخا في مثلها وهي ستة عشر رستاقا، كل رستاق ثلاثمائة وستون قرية قديمة سوى المحدثة، وهي: جيّ وماربانان والنجان والبراءان وبرخوار ورويدشت وأردستان وكروان وبرزآباذان ورازان وفريدين وقهستان وقامندار وجرم قاشان والتيمرة الكبرى والتيمرة الصّغرى ومكاهن الداخلة، وزاد حمزة:
رستاق جابلق ورستاق التيمرة ورستاق أردستان
ورستاق أنارباذ ورستاق ورانقان، ونهر أصبهان المعروف بزند روذ غاية في الطيب والصحة والعذوبة، وقد ذكر في موضعه، وقد وصفته الشعراء، فقال بعضهم:
«لست آسى، من أصبهان، على شي *** ء، سوى مائها الرحيق الزّلال»
«ونسيم الصّبا، ومنخرق الرّي *** ح، وجوّ صاف على كلّ حال»
«ولها الزعفران والعسل الما *** ذيّ، والصافنات تحت الجلال»
وكذلك قال الحجّاج لبعض من ولاه أصبهان:
قد وليّتك بلدة حجرها الكحل وذبابها النحل وحشيشها الزعفران، وقال آخر:
«لست آسى، من أصبهان على شي *** ء، فأبكي عليه عند رحيلي»
«غير ماء، يكون بالمسجد الجا *** مع، صاف مروّق مبذول»
وأرض أصبهان حرّة صلبة فلذلك تحتاج إلى الطّعم، فليس بها شيء أنفق من الحشوش فإن قيمتها عندهم وافرة، وحدّثني بعض التجار قال: رأيت بأصبهان رجلا من الثّنّاء يطعم قوما ويشرط عليهم أن يبرّزوا في خربة له، قال: ولقد اجتزت به مرّة وهو يخاصم رجلا وهو يقول له: كيف تستخير أن تأكل طعامي وتفعل كذا عند غيري ولا يكني؟
وقد ذكر ذلك شاعر فقال:
«بأصبهان نفر، *** خسوا وخاسوا نفرا»
«إذا رأى كريمهم *** غرّة ضيف نفرا»
«فليس للناظر في *** أرجائها، إن نظرا، »
«من نزهة تحيي القلو *** ب غير أوقار الخرى»
ووجد في غرفة بعض الخانات التي بطريق أصبهان مكتوب هذه الأبيات:
«قبّح السالكون في طلب الرّز *** ق، على أيذج إلى أصبهان»
«ليت من زارها، فعاد إليها، *** قد رماه الإله بالخذلان»
ودخل رجل على الحسن البصري فقال له: من أين أنت؟
فقال له: من أهل أصبهان، فقال: الهرب من بين يهودي ومجوسي وأكل ربا، وأنشد بعضهم لمنصور ابن باذان الأصبهاني:
«فما أنا من مدينة أهل جيّ، *** ولا من قرية القوم اليهود»
«وما أنا عن رجالهم براض، *** ولا لنسائهم بالمستريد»
وقال آخر في ذلك:
«لعن الله أصبهان بلادا، *** ورماها بالسيل والطاعون»
«بعت في الصيف قبّة الخيش فيها، *** ورهنت الكانون في الكانون»
وكانت مدينة أصبهان بالموضع المعروف بجيّ وهو الآن يعرف بشهرستان وبالمدينة، فلما سار بخت نصّر وأخذ بيت المقدس وسبى أهلها حمل معه يهودها وأنزلهم أصبهان فبنوا لهم في طرف مدينة جيّ محلّة ونزلوها، وسمّيت اليهودية، ومضت على ذلك الأيام والأعوام فخربت جيّ وما بقي منها إلا القليل وعمّرت اليهودية، فمدينة أصبهان اليوم
هي اليهودية، هذا قول منصور بن باذان، ثم قال:
إنك لو فتّشت نسب أجلّ من فيهم من الثناء والتجار لم يكن بدّ من أن تجد في أصل نسبه حائكا أو يهوديّا، وقال بعض من جال البلدان: إنه لم ير مدينة أكثر زان وزانية من أهل أصبهان، قالوا:
ومن كيموس. هواؤها وخاصيتها أنها تبخل فلا ترى بها كريما، وحكي عن الصاحب أبي القاسم بن عبّاد أنه كان إذا أراد الدخول إلى أصبهان، قال:
من له حاجة فليسألنيها قبل دخولي إلى أصبهان، فإنني إذا دخلتها وجدت بها في نفسي شحّا لا أجده في غيرها. وفي بعض الأخبار أن الدّجّال يخرج من أصبهان، قال: وقد خرج من أصبهان من العلماء والأئمة في كلّ فنّ ما لم يخرج من مدينة من المدن، وعلى الخصوص علوّ الاسناد، فإن أعمار أهلها تطول ولهم مع ذلك عناية وافرة بسماع الحديث، وبها من الحفّاظ خلق لا يحصون، ولها عدّة تواريخ، وقد فشا الخراب في هذا الوقت وقبله في نواحيها لكثرة الفتن والتعصّب بين الشافعية والحنفية والحروب المتصلة بين الحزبين، فكلما ظهرت طائفة نهبت محلّة الأخرى وأحرقتها وخرّبتها، لا يأخذهم في ذلك إلّ ولا ذمة، ومع ذلك فقلّ أن تدوم بها دولة سلطان، أو يقيم بها فيصلح فاسدها، وكذلك الأمر في رساتيقها وقراها التي كل واحدة منها كالمدينة. وأما فتحها فإن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في سنة 19 للهجرة المباركة بعد فتح نهاوند بعث عبد الله بن عبد الله بن عتبان وعلى مقدّمته عبد الله بن ورقاء الرياحي وعلى مجنبته عبد الله بن ورقاء الأسدي، قال سيف:
الذين لا يعلمون يرون أن أحدهما عبد الله بن بديل ابن ورقاء الخزاعي لذكر ورقاء فظنوا أنه نسب إلى جده، وكان عبد الله بن بديل بن ورقاء قتل بصفّين وهو ابن أربع وعشرين سنة فهو أيّم صبيّ، وسار عبد الله بن عتبان إلى جيّ والملك يومئذ بأصبهان القاذوسقان، ونزل بالناس على جيّ فخرجوا إليه بعد ما شاء الله من زحف، فلما التقوا قال القاذوسقان لعبد الله: لا تقتل أصحابي ولا أصحابك ولكن ابرز لي فإن قتلتك رجع أصحابك وإن قتلتني سالمتك أصحابي، فبرز له عبد الله، فقال له: اما أن تحمل عليّ واما ان أحمل عليك، فقال: أنا أحمل عليك فاثبت لي، فوقف له عبد الله وحمل عليه القاذوسقان فطعنه فأصاب قربوس السّرج فكسره وقطع اللبب والحزام فأزال اللبب والسرج، فوقف عبد الله قائما ثم استوى على فرسه عريانا، فقال له:
اثبت، فحاجزه وقال له: ما أحبّ ان أقاتلك فإني قد رأيت رجلا كاملا، ولكني أرجع معك إلى عسكرك فأصالحك وأدفع المدينة إليك على أن من شاء أقام وأدى الجزية وأقام على ماله وعلى ان يجري من أخذتم أرضه مجراهم، ومن أبى ان يدخل في ذلك ذهب حيث شاء ولكم أرضه، قال: ذلك لك. وقدم عليه ابو موسى الأشعري من ناحية الأهواز، وكان عبد الله قد صالح القاذوسقان، فخرج القوم من جيّ ودخلوا في الذمة إلا ثلاثين رجلا من أصبهان لحقوا بكرمان، ودخل عبد الله وابو موسى جيّا، وجيّ: مدينة أصبهان.
وكتب عبد الله بالفتح إلى عمر، رضي الله عنه، فرجع إليه الجواب يأمره أن يلحق بكرمان مددا للسّهيل بن عدي لقتال أهلها، فاستخلف على أصبهان السائب بن الأقرع ومضى، وكان نسخة كتاب صلح أصبهان: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عبد الله للقاذوسقان واهل أصبهان وحواليها، انكم آمنون ما أدّيتم الجزية، وعليكم من الجزية على قدر طاقتكم كل سنة تؤدونها إلى من يلي بلدكم من كل حاكم،
ودلالة المسلم، وإصلاح طريقه، وقراه يومه وليلته، وحملان الراجل إلى رحله، لا تسلطوا على مسلم، وللمسلمين نصحكم وأداء ما عليهم، ولكم الأمان بما فعلتم، فإن غيّرتم شيئا أو غيّره منكم مغيّر ولم تسلموه فلا أمان لكم، ومن سبّ مسلما بلغ منه، فإن ضربه قتلناه، وكتب
«ألم تسمع؟ وقد أودى ذميما، *** بمنعرج السّراة من أصبهان، »
«عميد القوم، إذ ساروا إلينا *** بشيخ غير مسترخي العنان؟»
وقال أيضا:
«من مبلغ الأحياء عني، فإنني *** نزلت على جيّ وفيها تفاقم»
«حصرناهم حتى سروا ثمّت انتزوا، *** فصدّهم عنّا القنا والصوارم»
«وجاد لها القاذوسقان بنفسه، *** وقد دهدهت بين الصفوف الجماجم»
«فثاورته، حتى إذا ما علوته، *** تفادى وقد صارت إليه الخزائم»
«وعادت لقوحا أصبهان بأسرها، *** يدرّ لنا منها القرى والدراهم»
«وإني على عمد قبلت جزاءهم، *** غداة تفادوا، والعجاج فواقم»
«ليزكوا لنا عند الحروب جهادنا، *** إذا انتطحت في المأزمين الهماهم»
هذا قول أهل الكوفة يرون أن فتح أصبهان كان لهم، وأما أهل البصرة وكثير من أهل السير فيرون أن أبا موسى الأشعري لما انصرف من وقعة نهاوند إلى الأهواز فاستقراها ثم أتى قمّ فأقام عليها أياما ثم افتتحها، ووجّه الأحنف بن قيس إلى قاشان ففتحها عنوة، ويقال: بل كتب عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إلى أبي موسى الأشعري يأمره بتوجيه عبد الله بن بديل الرياحي إلى أصبهان في جيش فوجهه، ففتح عبد الله بن بديل جيّا صلحا على أن يؤدي أهلها الخراج والجزية، وعلى أن يؤمّنوا على أنفسهم وأموالهم خلا ما في أيديهم من السلاح. ونزل الأحنف بن قيس على اليهودية فصالحه أهلها على مثل صلح أهل جيّ، قال البلاذري: وكان فتح أصبهان ورساتيقها في بعض سنة 23 وبعض 24 في خلافة عمر، رضي الله عنه، ومن نسب إلى أصبهان من العلماء لا يحصون، إلّا أنني أذكر من أعيان أئمتهم جماعة غلبت على نسبهم فلا يعرفون إلا بالأصبهاني، منهم: الحافظ الإمام أبو نعيم أحمد بن عبد الله ابن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران سبط محمد ابن موسى البنّاء الحافظ المشهور صاحب التصانيف، منها: حلية الأولياء، وغير ذلك، مات يوم الاثنين العشرين من محرم سنة 430 ودفن بمردبان، ومولده في رجب سنة 330، قاله ابن مندة يحيى.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
146-معجم البلدان (إفريقية)
إِفْرِيقِيَّة:بكسر الهمزة: وهو اسم لبلاد واسعة ومملكة كبيرة قبالة جزيرة صقلية، وينتهي آخرها إلى قبالة جزيرة الأندلس، والجزيرتان في شماليها، فصقلية منحرفة إلى الشرق والأندلس منحرفة عنها إلى جهة المغرب. وسميت إفريقية بإفريقيس بن أبرهة ابن الرائش، وقال أبو المنذر هشام بن محمد: هو إفريقيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان وهو الذي اختطّها، وذكروا أنه لما غزا المغرب انتهى إلى موضع واسع رحيب كثير الماء، فأمر أن تبنى هناك مدينة فبنيت وسمّاها إفريقية، اشتقّ اسمها من اسمه ثم نقل إليها الناس ثم نسبت تلك الولاية بأسرها إلى هذه المدينة، ثم انصرف إلى اليمن، فقال بعض أصحابه:
«سرنا إلى المغرب، في جحفل، *** بكلّ قرم أريحيّ همام»
«نسري مع افريقيس، ذاك الذي *** ساد بعزّ الملك أولاد سام»
«نخوض، بالفرسان، في مأقط *** يكثر فيه ضرب أيد وهام»
«فأضحت البربر في مقعص، *** نحوسهم بالمشرفيّ الحسام»
«في موقف، يبقى لنا ذكره *** ما غرّدت، في الأيك، ورق الحمام»
وذكر أبو عبد الله القضاعي أن إفريقية سمّيت بفارق ابن بيصر بن حام بن نوح، عليه السلام، وأن أخاه مصر لما حاز لنفسه مصر حاز فارق إفريقية، وقد ذكرت ذلك متّسقا في أخبار مصر، قالوا: فلما اختطّ المسلمون القيروان خربت إفريقية وبقي اسمها على الصّقع جميعه، وقال أبو الريحان البيروتي إن أهل مصر يسمّون ما عن أيمانهم إذا استقبلوا الجنوب بلاد المغرب، ولذلك سمّيت بلاد إفريقية وما وراءها بلاد المغرب يعني أنها فرقت بين مصر والمغرب فسميت إفريقية لا أنها مسماة باسم عامرها، وحدّ إفريقية من طرابلس الغرب من جهة برقة والإسكندرية إلى بجاية، وقيل: إلى مليانة، فتكون مسافة طولها نحو شهرين ونصف، وقال أبو عبيد البكري الأندلسي: حدّ إفريقية طولها من برقة شرقا إلى طنجة الخضراء غربا، وعرضها من البحر إلى الرمال التي في أول بلاد السودان، وهي جبال ورمال عظيمة متصلة
من الشرق إلى الغرب، وفيه يصاد الفنك الجيد، وحدث رواة السير ان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كتب إلى عمرو بن العاص: لا تدخل إفريقية فإنها مفرّقة لأهلها غير متجمعة، ماؤها قاس ما شربه أحد من العالمين إلا قست قلوبهم، فلما افتتحت في أيام عثمان، رضي الله عنه،
فقتل، ثم تغلّب الخوارج حتى ولّى المنصور محمد.
ابن الأشعث الخزاعي فقدمها سنة 144، فجرت بينه وبين الخوارج حروب ففارقها ورجع إلى المنصور، فولّى المنصور الأغلب بن سالم بن عقال بن خفاجة بن عبد الله بن عبّاد بن محرّث، وقيل: محارب بن سعد ابن حرام بن سعد بن مالك بن سعد بن زيد مناة بن تميم، فقدمها في جمادى الآخرة سنة 148، وجرت له حروب قتل في آخرها في شعبان سنة 150، وبلغ المنصور فولّى مكانه عمرو بن حفص بن عثمان بن قبيصة بن أبي صفرة أخا المهلّب المعروف بهزارمرد، فقدمها في صفر سنة 151، وكانت بينه وبين البربر وقائع قاتل فيها حتى قتل في منتصف ذي الحجة سنة 154، فولّاها المنصور يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلّب فصلحت البلاد بقدومه، ولم يزل عليها حتى مات المنصور والمهدي والهادي، ثم مات يزيد بن حاتم بالقيروان سنة 170 في أيام الرشيد، واستخلف ابنه داود بن يزيد بن حاتم، ثم ولّى الرشيد روح بن حاتم أخا يزيد، فقدمها وساسها أحسن سياسة حتى مات بالقيروان سنة 174، فولّى الرشيد نصر بن حبيب المهلّبي، ثم عزله وولّى الفضل بن روح بن حاتم، فقدمها في المحرم سنة 177، فقتله الخوارج سنة 178، فكانت عدّة من ولي من آل المهلّب ستة نفر في ثمان وعشرين سنة، ثم ولّى الرشيد هرثمة بن أعين فقدمها في سنة 179، ثم استعفى من ولايتها فأعفاه، وولّى محمد بن مقاتل العكّي فلم يستقم بها أمره فإنه أخرج منها، وولّى ابراهيم ابن الأغلب التميمي المقدم ذكره، فأقام بها إلى أن مات في شوال سنة 196، وولي ابنه عبد الله بن إبراهيم ومات بها ثم ولي أخوه زيادة الله بن إبراهيم في سنة 201 في أول أيام المأمون، ومات في رجب سنة 223، ثم ولي أخوه أبو عقال الأغلب بن ابراهيم، ثم مات سنة 226، فولي ابنه محمد بن الأغلب إلى أن مات في محرم سنة 242، فولي ابنه أبو القاسم إبراهيم بن محمد حتى مات في ذي القعدة سنة 249، فولي ابنه زيادة الله بن إبراهيم إلى أن مات سنة 250، فولي ابن أخيه محمد بن أحمد إلى أن مات سنة 261، فولي أخوه إبراهيم بن أحمد، وكان حسن السيرة شهما، فأقام واليا ثمانيا وعشرين سنة ثم مات في ذي القعدة سنة 289، فولي ابنه عبد الله بن إبراهيم بن أحمد فقتله ثلاثة من عبيده الصقالبة، فولي ابنه أبو نصر زيادة الله بن عبد الله بن إبراهيم، فدخل ابو عبد الله الشيعي فهرب منه إلى مصر، وهو آخرهم، في سنة 296، فكانت مدّة ولاية بني الأغلب على إفريقية مائة واثنتي عشرة سنة، وولي منهم أحد عشر ملكا، ثم انتقلت الدولة إلى بني عبيد الله العلوية، فوليها منهم المهدي والقائم والمنصور والمعز حتى ملك مصر، وانتقل إليها في سنة 362، واستمرت الخطبة لهم بإفريقية إلى سنة 407، ثم وليها بعد خروج المعز عنها يوسف الملقب بلكّين ابن زيري بن مناد الصّنهاجي باستخلاف المعز إلى أن مات في ذي الحجة سنة 373، ووليها ابنه المنصور إلى أن مات في شهر ربيع الأول سنة 386، ووليها ابنه باديس إلى أن مات في سلخ ذي القعدة سنة 406، ووليها ابنه المعز بن باديس وهو الذي أزال خطبة المصريين عن إفريقية، وخطب للقائم بالله وجاءته الخلعة من بغداد، وكاشف المستنصر الذي بمصر بخلع الطاعة، وذلك في سنة 435، وقتل من كان بإفريقية من شيعتهم فسلّط اليازوري وزير المستنصر العرب على إفريقية حتى خرّبوها، ومات المعزّ في سنة 453، وقد ملك سبعا وأربعين سنة، ووليها ابنه تميم ابن المعز إلى أن مات في رجب سنة 501، ووليها
ابنه يحيى بن تميم حتى مات سنة 509، ووليها ابنه عليّ بن يحيى إلى أن مات سنة 515، ووليها ابنه الحسن بن عليّ، وفي أيامه أنفذ رجار صاحب صقلية من ملك المهدية فخرج الحسن منها ولحق بعبد المؤمن ابن عليّ، وملك الأفرنج بلاد إفريقية، وذلك في سنة 543، وانتقضت دولت
يا جارية عندك حلواء؟ قالت: لا، قال: ولا التمر؟
قالت: ولا التمر، فاستلقى ثم قرأ هذه الآية: عسى ربّكم أن يهلك عدوّكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون، قال: فلما ولي المنصور الخلافة أرسل إليّ فقدمت عليه فدخلت، والربيع قائم على رأسه، فاستدناني وقال: يا عبد الرحمن بلغني أنك كنت تفد إلى بني أمية؟ قلت: أجل، قال: فكيف رأيت سلطاني من سلطانهم وكيف ما مررت به من أعمالنا حتى وصلت إلينا؟ قال: فقلت يا أمير المؤمنين رأيت أعمالا سيّئة وظلما فاشيا، وو الله يا أمير المؤمنين ما رأيت في سلطانهم شيئا من الجور والظّلم إلّا ورأيته في سلطانك، وكنت ظننته لبعد البلاد منك، فجعلت كلّما دنوت كان الأمر أعظم، أتذكر يا أمير المؤمنين يوم أدخلتني منزلك فقدّمت إليّ طعاما ومريقة من حبوب لم يكن فيها لحم ثم قدّمت زبيبا، ثم قلت: يا جارية عندك حلواء؟
قالت: لا، قلت: ولا التمر؟ قالت: ولا التمر، فاستلقيت ثم تلوت: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون؟ فقد والله أهلك عدوّك واستخلفك في الأرض، ما تعمل؟
قال: فنكّس رأسه طويلا ثم رفع رأسه إليّ وقال: كيف لي بالرجال؟ قلت: أليس عمر بن عبد العزيز كان يقول: إن الوالي بمنزلة السّوق يجلب إليها ما ينفق فيها، فإن كان برّا أتوه ببرّهم وإن كان فاجرا أتوه بفجورهم؟ فأطرق طويلا، فأومأ إليّ الربيع أن أخرج، فخرجت وما عدت إليه، وتوفي عبد الرحمن سنة 156، وينسب إليها أيضا سحنون بن سعيد الإفريقي من فقهاء أصحاب مالك، جالس مالكا مدة وقدم بمذهبه إلى إفريقية فأظهره فيها، وتوفي سنة 240، وقيل:
سنة 241.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
147-معجم البلدان (الباج)
البَاجُ:بالجيم، قال أحمد بن يحيى بن جابر: مرّ عليّ ابن أبي طالب، عليه السلام، بالأنبار فخرج إليه أهلها بالهدايا إلى معسكرة، فقال: اجمعوا الهدايا واجعلوها باجا واحدا، ففعلوا، فسمّي موضع معسكره بالأنبار الباج إلى الآن.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
148-معجم البلدان (بانقيا)
بانِقْيا:بكسر النون: ناحية من نواحي الكوفة ذكرها في الفتوح، وفي أخبار إبراهيم الخليل، عليه السلام:
خرج من بابل على حمار له ومعه ابن أخيه لوط يسوق غنما ويحمل دلوا على عاتقه حتى نزل بانقيا، وكان طولها اثنى عشر فرسخا، وكانوا يزلزلون في كل ليلة فلما بات إبراهيم عندهم لم يزلزلوا، فقال لهم شيخ بات عنده إبراهيم، عليه السلام: والله ما دفع عنكم إلا بشيخ بات عندي فإني رأيته كثير الصلاة، فجاؤوه وعرضوا عليه المقام عندهم وبذلوا له البذول، فقال: إنما خرجت مهاجرا إلى ربي. وخرج حتى أتى النّجف، فلما رآه رجع أدراجه أي من حيث مضى، فتباشروا وظنوا أنه رغب فيما بذلوا له، فقال لهم: لمن تلك الأرض؟ يعني النجف، قالوا:
هي لنا، قال: فتبيعونيها؟ قالوا: هي لك فو الله ما تنبت شيئا، فقال: لا أحبها إلا شراء، فدفع إليهم غنيمات كنّ معه بها، والغنم يقال لها بالنبطية نقيا، فقال: أكره أن آخذها بغير ثمن، فصنعوا ما صنع أهل بيت المقدس بصاحبهم وهبوا له أرضهم، فلما نزلت بها البركة رجعوا عليه، وذكر إبراهيم، عليه السلام، أنه يحشر من ولده من ذلك الموضع سبعون ألف شهيد، فاليهود تنقل موتاها إلى هذا المكان، لهذا السبب. ولما رأى، عليه السلام، غدرهم به تركهم ومضى نحو مكة في قصة فيها طول، وقد ذكرها الأعشى فقال:
«فما نيل مصر، إذ تسامى عبابه، *** ولا بحر بانقيا، إذا راح مفعما»
«بأجود منه نائلا، إنّ بعضهم *** إذا سئل المعروف صدّ وجمجما»
وقال أيضا:
«قد سرت ما بين بانقيا إلى عدن، *** وطال في العجم تكراري وتسياري»
وأما ذكرها في الفتوح فقال أحمد بن يحيى: لما قدم خالد بن الوليد، رضي الله عنه، العراق بعث بشير ابن سعد أبا النعمان بن بشير الأنصاري إلى بانقيا فخرج
عليه فرّخبنداذ في جيش فهزمهم بشير وقتل فرخبنداذ، وانصرف بشير وبه جراحة فمات بعين التمر، ثم بعث خالد جرير بن عبد الله إلى بانقيا فخرج إليه بصبهري بن صلوبا فاعتذر إليه وصالحه على ألف درهم وطيلسان، وقال: ليس لأحد من أهل السواد عهد إلا لأهل الحيرة وألّيس و
«أرقت ببانقيا، ومن يلق مثل ما *** لقيت ببانقيا من الحرب يأرق»
فلما رأوا أنه لا طاقة لهم بحربه طلبوا إليه الصلح فصالحهم، وكتب لهم كتابا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من خالد بن الوليد لصلوبا بن بصبهري ومنزله بشاطئ الفرات، إنك آمن بأمان الله على حقن دمك في إعطاء الجزية عن نفسك وجيرتك وأهل قريتك بانقيا وسمّيا على ألف درهم جزية، وقد قبلنا منك ورضي من معي من المسلمين بذلك، فلك ذمة الله وذمة النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، وذمة المسلمين على ذلك، شهد هشام بن الوليد وجرير بن عبد الله بن أبي عوف وسعيد بن عمرو، وكتب سنة 13 والسلام، ويروى أن ذلك كان سنة 12، وبانقيا أيضا: من رستاق منبج على أميال من المدينة.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
149-معجم البلدان (البحرين)
البَحْرين:هكذا يتلفظ بها في حال الرفع والنصب والجر، ولم يسمع على لفظ المرفوع من أحد منهم، إلّا أن الزمخشري قد حكى أنه بلفظ التثنية فيقولون:
هذه البحران وانتهينا الى البحرين، ولم يبلغني من جهة أخرى، وقال صاحب الزيج: البحرين في الإقليم الثاني، وطولها أربع وسبعون درجة وعشرون دقيقة من المغرب، وعرضها أربع وعشرون درجة
وخمس وأربعون دقيقة، وقال قوم: هي من الإقليم الثالث وعرضها أربع وثلاثون درجة، وهو اسم جامع لبلاد على ساحل بحر الهند بين البصرة وعمان، قيل هي قصبة هجر، وقيل: هجر قصبة البحرين وقد عدّها قوم من اليمن وجعلها آخرون قصبة برأسها.
وفيها عيون ومياه وبلاد واسعة، وربما عدّ بعضهم اليمامة من أعمالها والصحيح أن اليمامة عمل برأسه في وسط الطريق بين مكة والبحرين.
روى ابن عباس: البحرين من أعمال العراق وحدّه من عمان ناحية جرّفار، واليمامة على جبالها وربما ضمّت اليمامة الى المدينة وربما أفردت، هذا كان في أيام بني أميّة، فلما ولي بنو العباس صيّروا عمان والبحرين واليمامة عملا واحدا، قاله ابن الفقيه، وقال أبو عبيدة: بين البحرين واليمامة مسيرة عشرة أيام وبين هجر مدينة البحرين والبصرة مسيرة خمسة عشر يوما على الإبل، وبينها وبين عمان مسيرة شهر، قال: والبحرين هي الخطّ والقطيف والآرة وهجر وبينونة والزارة وجواثا والسابور ودارين والغابة، قال: وقصبة هجر الصّفا والمشقّر، وقال أبو بكر محمد بن القاسم: في اشتقاق البحرين وجهان:
يجوز أن يكون مأخوذا من قول العرب بحرت الناقة إذا شقّقت أذنها، والبحيرة: المشقوقة الأذن من قول الله تعالى: ما جَعَلَ الله من بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ 5: 103، والسائبة معناها: ان الرجل في الجاهلية كان يسيب من ماله فيذهب به الى سدنة الآلهة، ويقال: السائبة الناقة التي كانت إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث سيبت فلم تركب ولم يجزّ لها وبر وبحرت أذن ابنتها أي خرقت. والبحيرة:
هي ابنة السائبة، وهي تجري عندهم مجرى أمّها في التحريم، قال: ويجوز ان يكون البحرين من قول العرب: قد بحر البعير بحرا إذا أولع بالماء فأصابه منه داء، ويقال: قد أبحرت الروضة إبحارا إذا كثر إنقاع الماء فيها فأنبت النبات، ويقال للروضة:
البحرة، ويقال للدم الذي ليست فيه صفرة: دم باحريّ وبحرانيّ، قلت: هذا كله تعسف لا يشبه ان يكون اشتقاقا للبحرين، والصحيح عندنا ما ذكره أبو منصور الأزهري، قال: انما سمّوا البحرين لأن في ناحية قراها بحيرة على باب الأحساء، وقرى هجر بينها وبين البحر الأخضر عشرة فراسخ، قال:
وقدرت هذه البحيرة ثلاثة أميال في مثلها، ولا يفيض ماؤها، وماؤها راكد زعاق، وقال أبو محمد اليزيدي: سألني المهدي وسأل الكسائي عن النسبة الى البحرين والى حصنين لم قالوا حصنيّ وبحرانيّ؟
فقال الكسائي: كرهوا أن يقولوا حصنانيّ لاجتماع النونين، وانما قلت: كرهوا أن يقولوا بحريّ فتشبه النسبة الى البحر، وفي قصتها طول ذكرتها في أخبار اليزيدي من كتابي في أخبار الأدباء، وينسب الى البحرين قوم من أهل العلم، منهم محمد بن معمّر البحراني بصريّ ثقة حدّث عنه البخاري، والعباس ابن يزيد بن أبي حبيب البحراني، يعرف بعبّاسوية، حدث عن خالد بن الحارث وابن عيينة ويزيد بن زريع وغيرهم، روى عنه الباغندي وابن صاعد وابن مخلد، وهو من الثقات، مات سنة 258، وزكرياء بن عطية البحراني وغيرهم. واما فتحها فإنها كانت في مملكة الفرس وكان بها خلق كثير من عبد القيس وبكر بن وائل وتميم مقيمين في باديتها، وكان بها من قبل الفرس المنذر بن ساوي بن عبد الله ابن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وعبد الله بن زيد هذا هو الأسبذي، نسب الى قرية بهجر، وقد ذكر
في موضعه. فلما كانت سنة ثمان للهجرة وجه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، العلاء بن عبد الله بن عماد الحضرمي حليف بني عبد شمس الى البحرين ليدعو أهلها الى الإسلام أو الى الجزية، وكتب معه الى المنذر بن ساوي والى سيبخت مرزبان هجر يدعوهما الى الإسلام أو الى ا
ان عمر ولّى أبا هريرة قبل موت العلاء فأتى العلاء توّج من أرض فارس وعزم على المقام بها ثم رجع الى البحرين فأقام هناك حتى مات، فكان أبو هريرة يقول: دفنّا العلاء ثم احتجنا الى رفع لبنة فرفعناها فلم نجد العلاء في اللحد. وقال أبو مخنف: كتب عمر بن الخطاب الى العلاء بن الحضرمي يستقدمه وولى عثمان بن أبي العاصي البحرين مكانه وعمان، فلما قدم العلاء المدينة ولّاه البصرة مكان عتبة بن غزوان فلم يصل إليها حتى مات، ودفن في طريق البصرة في سنة 14 أو في أول سنة 15، ثم ان عمر ولى قدامة ابن مظعون الجمحي جباية البحرين وولى أبا هريرة الصلاة والاحداث، ثم عزل قدامة وحدّه على شرب الخمر، وولى أبا هريرة الجباية مع الاحداث، ثم عزله وقاسمه ماله، ثم ولى عثمان بن أبي العاصي عمان والبحرين فمات عمر وهو واليهما، وسار عثمان الى فارس ففتحها وكان خليفته على عمان والبحرين وهو بفارس أخاه مغيرة بن أبي العاصي. وروى محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: استعملني عمر بن الخطاب على البحرين فاجتمعت لي اثنا عشر ألفا، فلما قدمت على عمر قال لي: يا عدو الله والمسلمين، أو قال: عدو كتابه، سرقت مال الله، قال قلت: لست بعدو الله ولا المسلمين، أو قال: عدو كتابه، ولكني عدوّ من عاداهما، قال: فمن أين اجتمعت لك هذه الأموال؟ قلت:
خيل لي تناتجت وسهام اجتمعت، قال: فأخذ منى
اثني عشر ألفا، فلما صلّيت الغداة قلت: اللهم اغفر لعمر، قال: وكان يأخذ منهم ويعطيهم أفضل من ذلك، حتى إذا كان بعد ذلك قال: ألا تعمل يا أبا هريرة؟ قلت: لا، قال: ولم وقد عمل من هو خير منك يوسف؟ قال اجعلني على خزائن الأرض اني حفيظ عليم، قلت: يوسف نبي ابن نب
«ألا أبلغ أبا بكر ألوكا، *** وفتيان المدينة أجمعينا»
«فهل لك في شباب منك أمسوا *** أسارى في جواث محاصرينا»
ثم ان العلاء عني بالحطم ومن معه وصابره وهما متناصفان، فسمع في ليلة في عسكر الحطم ضوضاء، فأرسل اليه من يأتيه بالخبر، فرجع الرسول فأخبره أن القوم قد شربوا وثملوا، فخرج بالمسلمين فبيّت ربيعة فقاتلوا قتالا شديدا فقتل الحطم. قالوا: وكان المنذر بن النعمان يسمى الغرور، فلما ظهر المسلمون قال: لست بالغرور ولكني المغرور، ولحق هو وفلّ ربيعة بالخط فأتاها العلاء وفتحها، وقتل المنذر معه، وقيل: بل قتل المنذر يوم جواثا، وقيل:
بل استأمن ثم هرب فلحق فقتل، وكان العلاء كتب الى أبي بكر يستمده فكتب أبو بكر الى خالد بن الوليد وهو باليمامة يأمره بالنهوض اليه، فقدم عليه وقد قتل الحطم، ثم أتاه كتاب أبي بكر بالشخوص الى العراق فشخص من البحرين، وذلك في سنة 12، فقالوا: وتحصن المكعبر الفارسي صاحب كسرى الذي وجهه لقتل بني تميم حين عرضوا لعيره بالزارة، وانضمّ اليه مجوس كانوا تجمّعوا بالقطيف وامتنعوا من أداء الجزية، فأقام العلاء على الزارة فلم يفتحها في خلافة أبي بكر وفتحها في خلافة عمر، وقتل المكعبر، وانما سمي المكعبر لأنه كان يكعبر الايدي، فلما قتل قيل ما زال يكعبر حتى كعبر، فسمي المكعبر، بفتح الباء، وكان الذي قتله البراء بن مالك الأنصاري أخو أنس بن مالك. وفتح العلاء السابور ودارين في خلافة عمر عنوة.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
150-معجم البلدان (برقعيد)
بَرْقَعِيدُ:بالفتح، وكسر العين وياء ساكنة، ودال:
بليدة في طرف بقعاء الموصل من جهة نصيبين مقابل باشزّى، قال أحمد بن الطيب السرخسي: برقعيد بلدة كبيرة من أعمال الموصل من كورة البقعاء وبها آبار كثيرة عذبة، وهي واسعة وعليها سور ولها ثلاثة أبواب: باب بلد، وباب الجزيرة، وباب نصيبين، وعلى باب الجزيرة بناء لأيوب بن أحمد وفيها مائتا حانوت. قلت أنا: كانت هذه صفتها في قرابة سنة 300 بعد الهجرة، وكان حينئذ ممرّ القوافل من الموصل إلى نصيبين عليها، فأما الآن فهي خراب صغيرة حقيرة، وأهلها يضرب بهم المثل في اللصوصية، يقال: لصّ برقعيديّ، وكانت القوافل إذا نزلت بهم لقيت منهم الأمرّين. حدثني بعض مجاوريها من أهل القرى أن قفلا نزل تحت بعض جدرانها احترازا وربط رجل من أهل القفل حمارا له تحت ذلك الجدار خوفا عليه من السّرّاق وجعل الأمتعة دونه واشتغلوا بالعسّ وحراسة ما تباعد عن الجدار لأنهم أمنوا ذلك الوجه، فصعد البرقعيديّون على الجدار وألقوا على الحمار الكلاليب وأنشبوها في برذعته واستاقوه إليهم وذهبوا به ولم يدر به صاحبه إلى وقت الرحيل، فلما كثرت منهم هذه الأفاعيل تجنبتهم القوافل وجعلوا طريقهم على باشزّى وانتقلت الأسواق إلى باشزّى. وبين برقعيد والموصل أربعة أيام وبينها وبين نصيبين عشرة فراسخ، ومن برقعيد هذه كان بنو حمدان التغلبيون سيف الدولة وأهله، وقال
شاعر يهجو سليمان بن فهد الموصلي مستطردا ويمدح قرواش بن المقلّد أمير بني عقيل:
«وليل كوجه البرقعيديّ، ظلمة، *** وبرد أغانيه وطول قرونه»
«سريت، ونومي فيه نوم مشرّد *** كعقل سليمان بن فهد ودينه»
«على أولق فيه الهباب، كأنه *** أبو جابر في خبطه وجنونه»
«إلى أن بدا ضوء الصباح، كأنه *** سنا وجه قرواش وضوء جبينه»
وقال الصّولي: دخل رجل على أيوب بن أحمد ببرقعيد فأنشده شعرا فجعل يخاطب جارية ولا يسمع له فخرج وهو يقول:
«أدب، لعمرك، فاسد *** مما تؤدّب برقعيد»
«من ليس يدري ما يري *** د فكيف يدري ما نريد؟»
«من ليس يضبطه الحدي *** د، فكيف يضبطه القصيد؟»
«علم هنالك مخلق، *** والجهل مقتبل جديد»
وقد نسب إليها قوم من الرّواة، منهم: الحسن ابن عليّ بن موسى بن الخليل البرقعيدي، سمع ببيروت أحمد بن محمد بن مكحول البيروتي وبأطرابلس خيثمة بن سليمان وعبد الله بن إسماعيل وبالرملة زيد بن الهيثم الرملي وبقيسارية أحمد بن عبد الرحمن القيسراني وبالموصل عبد الله بن أبي سفيان وأبا جابر زيد بن عبد العزيز وببلد أبا القاسم النعمان ابن هارون وبحرّان أبا عروبة وبرأس عين أبا عبد الله الحسين بن موسى بن خلف الرّسعني وغير هؤلاء، وأحمد بن عامر بن عبد الواحد بن العباس الربعي البرقعيدي، سمع بدمشق أحمد بن عبد الواحد بن عبّود ومحمد بن حفص صاحب واثلة وشعيب بن شعيب بن إسحاق والهيثم بن مروان العبسي وبغيرها معروف بن أبي معروف البلخي ومحمد بن حماد بن مالك ومؤمّل بن إهاب وغيرهم، روى عنه أبو أحمد بن عدي ومحمد بن أحمد بن حمدان المروروذي وأبو محمد الحسن بن علي البرقعيدي وغيرهم، وكان يسكن نصيبين، وقال أبو أحمد بن عليّ: وكان شيخا صالحا.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
151-معجم البلدان (برقة)
بَرْقةُ:أيضا من قرى قمّ من نواحي الجبل، قال أبو جعفر: فقيه الشيعة أحمد بن أبي عبد الله محمد بن خالد بن عبد الرحمن بن محمد بن عليّ البرقي، أصله من الكوفة، وكان جده خالد قد هرب من عيسى ابن عمر مع أبيه عبد الرحمن إلى برقة قمّ فأقاموا بها ونسبوا إليها، ولأحمد بن أبي عبد الله هذا تصانيف على مذهب الإمامية وكتاب في السير تقارب تصانيفه ان تبلغ مائة تصنيف، ذكرته في كتاب الأدباء وذكرت تصانيفه، وقال حمزة بن الحسن الأصبهاني في تاريخ أصبهان: أحمد بن عبد الله البرقي كان من رستاق برق روذ، قال: وهو أحد رواة اللغة والشعر واستوطن قمّ فخرّج ابن أخته أبا عبد الله البرقي هناك ثم قدم أبو عبد الله إلى أصبهان واستوطنها، والله الموفّق.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
152-معجم البلدان (بست)
بُسْت:بالضم: مدينة بين سجستان وغزنين وهراة، وأظنّها من أعمال كابل، فإن قياس ما نجده من أخبارها في الأخبار والفتوح كذا يقتضي، وهي من البلاد الحارة المزاج، وهي كبيرة، ويقال لناحيتها
اليوم: كرم سير، معناه النواحي الحارة المزاج، وهي كثيرة الأنهار والبساتين إلّا أن الخراب فيها ظاهر، وسئل عنها بعض الفضلاء فقال: هي كتثنيتها يعني بستان، وقد خرج منها جماعة من أعيان الفضلاء، منهم: الخطابي أبو سليمان أحمد بن محمد البستي صاحب معالم السنن وغ
«إذا قيل: أيّ الأرض في الناس زينة؟ *** أجبنا وقلنا: أبهج الأرض بستها»
«فلو أنني أدركت يوما عميدها *** لزمت يد البستيّ دهرا، وبستها»
وقال كافور بن عبد الله الإخشيدي الخصيّ اللّيثي الصّوري:
«ضيّعت أيامي ببست، وهمّتي *** تأبى المقام بها على الخسران»
«وإذا الفتى في البؤس أنفق عمره، *** فمن الكفيل له بعمر ثان؟»
وأبو حاتم محمد بن حبّان بن معاذ بن معبد بن سعيد ابن شهيد التميمي، كذا نسبه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد البخاري المعروف بغنجار، ووافقه غيره إلى معبد، ثم قال: ابن هدبة بن مرة بن سعد ابن يزيد بن مرة بن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك ابن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مرّ بن أدّ ابن طابخة بن الياس بن مضر الامام العلامة الفاضل المتقن، كان مكثرا من الحديث والرحلة والشيوخ، عالما بالمتون والأسانيد، أخرج من علوم الحديث ما عجز عنه غيره، ومن تأمّل تصانيفه تأمّل منصف علم أن الرجل كان بحرا في العلوم، سافر ما بين الشاش والإسكندرية، وأدرك الأئمة والعلماء والأسانيد العالية، وأخذ فقه الحديث والفرض على معانيه عن إمام الأئمة أبي بكر ابن خزيمة، ولازمه وتلمذ له، وصارت تصانيفه عدّة لأصحاب الحديث غير أنها عزيزة الوجود، سمع ببلده بست أبا أحمد إسحاق بن ابراهيم القاضي وأبا الحسن محمد بن عبد الله ابن الجنيد البستي، وبهراة أبا بكر محمد بن عثمان بن سعد الدارمي، وبمرو أبا عبد الله وأبا عبد الرحمن عبد الله بن محمود بن سليمان السعدي وأبا يزيد محمد بن يحيى بن خالد المديني، وبقرية سنج أبا علي الحسين بن محمد بن مصعب السنجي وأبا عبد الله محمد بن نصر بن ترقل الهورقاني، وبالصغد بما وراء النهر أبا حفص عمر بن محمد بن يحيى الهمداني، وبنسإ أبا العباس الحسن بن سفيان الشيباني ومحمد بن عمر بن يوسف ومحمد بن محمود بن عدي النسويّين، وبنيسابور أبا العباس محمد بن إسحاق بن إبراهيم السرّاج الثّقفي وأبا محمد عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن شيرويه الأزدي، وبأرغيان أبا عبد الله محمد بن المسيب بن إسحاق الأرغياني، وبجرجان عمران بن موسى بن
مجاشع وأحمد بن محمد بن عبد الكريم الوزّان الجرجانيين، وبالرّيّ أبا القاسم العبّاس بن الفضل بن عاذان المقري وعلي بن الحسن بن مسلم الرّازي، وبالكرج أبا عمارة أحمد بن عمارة بن الحجاج الحافظ والحسين بن إسحاق الأصبهاني، وبعسكر مكرم أبا محمد عبد الله بن أحمد
هارون الزّوزني وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الله بن خشنام الشّروطي وجماعة كثيرة لا تحصى.
أخبرنا القاضي الإمام أبو القاسم عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل الأنصاري الحرستاني اذنا عن أبي القاسم زاهر بن طاره الشّحّامي عن أبي عثمان سعيد البحتري قال: سمعت الحاكم أبا عبد الله الحافظ يقول: أبو حاتم البستي القاضي كان من أوعية العلم في اللغة والفقه والحديث والوعظ ومن عقلاء الرجال، صنف فخرج له من التصنيف في الحديث ما لم يسبق إليه، وولي القضاء بسمرقند وغيرها من المدن ثم ورد نيسابور سنة 334، وحضرناه يوم جمعة بعد الصلاة فلما سألناه الحديث نظر إلى الناس وأنا أصغرهم سنّا فقال:
استمل، فقلت: نعم، فاستمليت عليه، ثم أقام عندنا وخرج إلى القضاء بنيسابور وغيرها وانصرف إلى وطنه، وكانت الرحلة بخراسان إلى مصنّفاته.
أخبرنا أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي شفاها قال:
أخبرنا القاضي أبو بكر محمد بن عبد الباقي اذنا عن أبي بكر أحمد بن عليّ بن ثابت كتابة قال: ومن الكتب التي تكثر منافعها إن كانت على قدر ما ترجمها به واضعها مصنّفات أبي حاتم محمد بن حبّان البستي التي ذكرها لي مسعود بن ناصر السّجزي ووقفني على تذكرة بأسمائها، ولم يقدّر لي الوصول إلى النظر فيها لأنها غير موجودة بيننا ولا معروفة عندنا، وأنا أذكر منها ما استحسنته سوى ما عدلت عنه واطرحته: فمن ذلك كتاب الصحابة خمسة أجزاء وكتاب التابعين اثنا عشر جزءا وكتاب اتباع التابعين خمسة عشر جزءا وكتاب اتباع التابعين خمسة عشر جزءا وكتاب تبع الاتباع سبعة عشر جزءا وكتاب تبّاع التبع عشرون جزءا وكتاب الفصل بين النقلة عشرة أجزاء وكتاب علل أوهام أصحاب التواريخ عشرة أجزاء وكتاب علل حديث الزّهري عشرون جزءا وكتاب علل حديث مالك عشرة أجزاء وكتاب علل مناقب أبي حنيفة ومثالبه عشرة أجزاء وكتاب علل ما استند إليه أبو حنيفة عشرة أجزاء وكتاب ما خالف الثّوريّ شعبة ثلاثة أجزاء وكتاب ما انفرد فيه أهل المدينة من السّنن عشرة أجزاء وكتاب ما انفرد به أهل مكة من السنن عشرة أجزاء وكتاب ما عند شعبة عن قتادة وليس عند سعيد عن قتادة جزآن وكتاب غرائب الأخبار عشرون جزءا وكتاب ما أغرب الكوفيون عن البصريين عشرة أجزاء وكتاب ما أغرب البصريون عن الكوفيين ثمانية أجزاء وكتاب أسامي من يعرف بالكنى ثلاثة أجزاء وكتاب كنى من يعرف بالاسامي ثلاثة أجزاء وكتاب الفصل والوصل عشرة أجزاء وكتاب التمييز بين حديث النضر الحدّاني والنضر الحزّاز جزآن وكتاب الفصل بين حديث أشعث بن مالك وأشعث بن سوار جزآن وكتاب الفصل بين حديث منصور بن المعتمر ومنصور ابن راذان ثلاثة أجزاء وكتاب الفصل بين مكحول الشامي ومكحول الأزدي جزء وكتاب موقوف ما رفع عشرة أجزاء وكتاب آداب الرجالة جزآن وكتاب ما أسند جنادة عن عبادة جزء وكتاب الفصل بين حديث نور بن يزيد ونور بن زيد جزء وكتاب ما جعل عبد الله بن عمر عبيد الله بن عمر جزآن وكتاب ما جعل شيبان سفيان أو سفيان شيبان ثلاثة أجزاء وكتاب مناقب مالك بن أنس جزآن وكتاب مناقب الشافعي جزآن وكتاب المعجم على المدن عشرة أجزاء وكتاب المقلّين من الحجازيين عشرة أجزاء وكتاب المقلّين من العراقيين عشرون جزءا وكتاب الأبواب المتفرّقة ثلاثون جزءا وكتاب الجمع بين الأخبار المتضادّة جزآن وكتاب وصف
المعدل والمعدّل جزآن وكتاب الفصل بين حدثنا وأخبرنا جزء وكتاب وصف العلوم وأنواعها ثلاثون جزءا وكتاب الهداية إلى علم السنن، قصد فيه إظهار الصناعتين اللتين هما صناعة الحديث والفقه، يذكر حديثا ويترجم له ثم يذكر من يتفرّد بذلك الحديث ومن مفاريد أيّ بلد هو ث
وأخبرني القاضي أبو القاسم الحرستاني في كتابه قال:
أخبرني وجيه بن طاهر الخطيب بقصر الريح اذنا سمعت الحسن بن أحمد الحافظ سمعت أبا بشر
النيسابوري يقول سمعت أبا سعيد الإدريسي يقول سمعت أبا حامد أحمد بن محمد بن سعيد النيسابوري الرجل الصالح بسمرقند يقول: كنّا مع أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في بعض الطريق من نيسابور وكان معنا أبو حاتم البستي، وكان يسأله ويؤذيه، فقال له محمد بن إسحاق بن
سمعت أبا عليّ الحسين بن عليّ الحافظ وذكر كتاب المجروحين لأبي حاتم البستي فقال: كان لعمر بن سعيد بن سنان المنبجي ابن رحل في طلب الحديث وأدرك هؤلاء الشيوخ وهذا تصنيفه، وأساء القول في أبي حاتم، قال: الحاكم أبو حاتم كبير في العلوم وكان يحسد لفضله وتقدّمه، ونقلت من خطّ صديقنا الإمام الحافظ أبي نصر عبد الرحيم بن النفيس بن هبة الله بن وهبان السّلمي الحديثي، وذكر أنه نقله من خطّ أبي الفضل أحمد بن علي بن عمرو السليماني البيكندي الحافظ من كتاب شيوخه، وكان قد ذكر فيه ألف شيخ في باب الكذّابين، قال: وأبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد البستي قدم علينا من سمرقند سنة 330 أو 329، فقال لي: أبو حاتم سهل ابن السري الحافظ لا تكتب عنه فإنه كذّاب، وقد صنف لأبي الطيب المصعبي كتابا في القرامطة حتى قلّده قضاء سمرقند، فلما أخبر أهل سمرقند بذلك أرادوا أن يقتلوه فهرب ودخل بخارى وأقام دلّالا في البزّازين حتى اشترى له ثيابا بخمسة آلاف درهم إلى شهرين، وهرب في الليل وذهب بأموال الناس، قال: وسمعت السليماني الحافظ بنيسابور قال لي:
كتبت عن أبي حاتم البستي؟ فقلت: نعم، فقال.
إياك أن تروي عنه فإنه جاءني فكتب مصنّفاتي وروى عن مشايخي ثم إنه خرج إلى سجستان بكتابه في القرامطة إلى ابن بابو حتى قبله وقلّده أعمال سجستان فمات به، قال السليماني: فرأيت وجهه وجه الكذّابين وكلامه كلام الكذابين، وكان يقول:
يا بني اكتب: أبو حاتم محمد بن حبان البستي إمام الائمة، حتى كتبت بين يديه ثم محوته، قال أبو يعقوب إسحاق بن أبي إسحاق القرّاب: سمعت أحمد ابن محمد بن صالح السجستاني يقول: توفي أبو حاتم محمد بن أحمد بن حبان سنة 354، وعن شيخنا أبي القاسم الحرستاني عن أبي القاسم الشّحّامي عن أبي عثمان سعيد بن محمد البحتري، سمعت محمد بن عبد الله الضّبّيّ يقول: توفي أبو حاتم البستي ليلة الجمعة لثماني ليال بقين من شوّال سنة 354، ودفن بعد صلاة الجمعة في الصّفّة التي ابتناها بمدينة بست بقرب داره، وذكر أبو عبد الله الغنجار الحافظ في تاريخ بخارى أنه مات بسجستان سنة 354، وقبره ببست معروف يزار إلى الآن، فإن لم يكن نقل من سجستان إليها بعد الموت وإلّا فالصواب أنه مات ببست.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
153-معجم البلدان (البشر)
البِشْرُ:بكسر أوله ثم السكون، وهو في الأصل حسن الملقى وطلاقة الوجه: وهو اسم جبل يمتد من عرض إلى الفرات من أرض الشام من جهة البادية، وفيه أربعة معادن: معدن القار والمغرة والطين الذي يعمل منه البواتق التي يسبك فيها الحديد، والرمل الذي في حلب يعمل منه الزجاج، وهو رمل أبيض كالاسفيداج، وهو من منازل بني تغلب بن وائل، قال عبيد الله بن قيس الرّقيّات:
«أضحت رقيّة، دونها البشر *** فالرّقّة السوداء فالغمر»
«بل ليت شعري! كيف مرّ بها *** وبأهلها الأيام والدهر»
قال أبو المنذر هشام: سمي بالبشر بن هلال بن عقبة رجل من النمر بن قاسط، وكان خفيرا لفارس قتله خالد بن الوليد في طريقه إلى الشام، وكان من حديث ذلك أن خالد بن الوليد لما وقع بالفرس بأرض العراق وكاتبه أبو بكر بالمسير إلى الشام نجدة لأبي عبيدة، سار إلى عين التمر، فتجمعت قبائل من ربيعة نصارى
لحرب خالد ومنعه من النفوذ، وكان الرئيس عليهم عقّة بن أبي عقّة قيس بن البشر بن هلال بن البشر بن قيس بن زهير بن عقّة بن جشم بن هلال بن ربيعة بن زيد مناة بن عوف بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط، فأوقع بهم خالد وأسر عقّة وقتله وصلبه، فغضبت له
«ألا يا اسقياني قبل جيش أبي بكر، *** لعلّ منايانا قريب ولا ندري»
«ألا يا اسقياني بالزّجاج، وكرّرا *** علينا كميت اللّون صافية تجري»
«أظنّ خيول المسلمين وخالدا *** ستطرقكم، عند الصباح، على البشر»
«فهل لكم بالسّير قبل قتالهم، *** وقبل خروج المعصرات من الخدر»
«أريني سلاحي يا أميمة، إنّني *** أخاف بيات القوم، أو مطلع الفجر»
فيقال: إن خالدا طرقهم وأعجلهم عن أخذ السلاح، وضرب عنق حرقوص فوقع رأسه في جفنة الخمر، والله أعلم. وكان بنو تغلب قد قتلت عمير بن الحباب السّلمي، فاتفق أن قدم الأخطل على عبد الملك بن مروان، والجحّاف بن حكيم السلمي جالس عنده، فأنشده:
«ألا سائل الجحّاف: هل هو ثائر *** بقتلى أصيبت من سليم وعامر»
فخرج الجحاف مغضبا يجر مطرفه، فقال عبد الملك للأخطل: ويحك أغضبته وأخلق به أن يجلب عليك وعلى قومك شرّا. فكتب الجحاف عهدا لنفسه من عبد الملك ودعا قومه للخروج معه، فلما حصل بالبشر قال لقومه: قصّتي كذا فقاتلوا عن أحسابكم أو موتوا. فأغاروا على بني تغلب بالبشر وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، ثم قال الجحاف يجيب الأخطل:
«أيا مالك هل لمتني، إذ حضضتني *** على الثأر، أم هل لامني فيك لائمي؟»
«متى تدعني أخرى أجبك بمثلها، *** وأنت امرؤ بالحق لست بقائم»
فقدم الأخطل على عبد الملك فلما مثل بين يديه أنشأ يقول:
«لقد أوقع الجحّاف بالبشر وقعة *** إلى الله منها المشتكى والمعوّل»
«فإن لم تغيّرها قريش بعدلها *** يكن، عن قريش، مستماز ومرحل»
فقال له عبد الملك: إلى أين يا ابن النصرانية؟ فقال:
إلى النار، فتبسم عبد الملك وقال: أولى لك، لو قلت غير ذلك لقتلتك. والبشر أيضا: جبل في أطراف نجد من جهة الشام، قال عطارد بن قرّان أحد اللصوص:
«ولما رأيت البشر أعرض وانثنت *** لأعرافهم، من دون نجد، مناكب»
«كتمت الهوى من رهبة أن يلومني *** رفيقاي، وانهلّت دموع سواكب»
«وفي القلب من أروى هوى كلما نأت، *** وقد جعلت دارا بأروى تجانب»
وكان الصّمّة بن عبد الله القشيري يهوى ابنة عمه، فتماكس أبوه وعمه في المهر ولجّ كل واحد منهما، فتركها الصّمّة وانصرف إلى الشام وكتب نفسه في الجند وقال:
ألا يا خليليّ اللذين تواصيا *** بلومي، إلّا أن أطيع وأتبعا
قفا ودّعا نجدا ومن حلّ بالحمى، *** وقلّ لنجد عندنا أن تودّعا
ولما رأيت البشر قد حال دونها، *** وحالت بنات الشّوق يحننّ نزّعا
تلفّتّ نحو الحيّ، حتى وجدتني *** وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني *** على كبدي من خشية أن تصدّعا
وليست عشيّات الحمى برواجع *** عليك، ولكن خلّ عينيك تدمعا
وقال عبد الله بن الصّمّة:
ولما رأينا قلّة البشر أعرضت *** لنا، وطوال الرمل غيّبها البعد
وأعرض ركن من سواج، كأنه *** لعينيك في آل الضّحى، فرس ورد
أصاب سقيم القلب تتييم ما به، *** فخرّ ولم يملك أخو القوّة الجلد
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
154-معجم البلدان (البصرة)
البَصْرَةُ:وهما بصرتان: العظمى بالعراق وأخرى بالمغرب، وأنا أبدأ أولا بالعظمى التي بالعراق، وأما البصرتان: فالكوفة والبصرة، قال المنجمون:
البصرة طولها أربع وسبعون درجة، وعرضها إحدى وثلاثون درجة، وهي في الإقليم الثالث، قال ابن الأنباري: البصرة في كلام العرب الأرض الغليظة، وقال قطرب: البصرة الأرض الغليظة التي فيها حجارة تقلع وتقطع حوافر الدوابّ، قال:
ويقال بصرة للأرض الغليظة، وقال غيره: البصرة حجارة رخوة فيها بياض، وقال ابن الأعرابي:
البصرة حجارة صلاب، قال: وإنما سميت بصرة لغلظها وشدّتها، كما تقول: ثوب ذو بصر وسقاء ذو بصر إذا كان شديدا جيّدا، قال: ورأيت في تلك الحجارة في أعلى المربد بيضا صلابا، وذكر الشرقي بن القطامي أن المسلمين حين وافوا مكان البصرة للنزول بها نظروا إليها من بعيد وأبصروا الحصى عليها فقالوا: إن هذه أرض بصرة، يعنون حصبة، فسميت بذلك، وذكر بعض المغاربة أن البصرة الطين العلك، وقيل: الأرض الطيبة الحمراء، وذكر أحمد بن محمد الهمداني حكاية عن محمد بن شرحبيل بن حسنة أنه قال: إنما سميت البصرة لأن فيها حجارة سوداء صلبة، وهي البصرة، وأنشد لخفاف بن ندبة:
«إن تك جلمود بصر لا أؤبّسه *** أوقد عليه فأحميه فينصدع»
وقال الطّرمّاح بن حكيم:
«مؤلّفة تهوي جميعا كما هوى، *** من النّيق فوق البصرة، المتطحطح»
وهذان البيتان يدلان على الصلابة لا الرخاوة، وقال حمزة بن الحسن الأصبهاني: سمعت موبذ بن اسوهشت يقول: البصرة تعريب بس راه، لأنها كانت ذات طرق كثيرة انشعبت منها إلى أماكن مختلفة، وقال قوم: البصر والبصر الكذّان، وهي الحجارة التي ليست بصلبة، سمّيت بها البصرة، كانت ببقعتها عند اختطاطها، واحده بصرة وبصرة، وقال الأزهري: البصر الحجارة إلى البياض، بالكسر، فإذا جاءوا بالهاء قالوا: بصرة، وأنشد بيت خفاف:
«إن كنت جلمود بصر»، وأما النسب إليها فقال بعض أهل اللغة: إنما قيل في النسب إليها بصريّ، بكسر الباء لإسقاط الهاء، فوجوب كسر الباء في البصري مما غيّر في النسب، كما قيل في النسب إلى اليمن يمان وإلى تهامة تهام وإلى الرّيّ رازيّ وما أشبه ذلك من المغيّر، وأما فتحها وتمصيرها فقد روى أهل الأثر عن نافع بن الحارث بن كلدة الثّقفي وغيره أن عمر بن الخطاب أراد أن يتخذ للمسلمين مصرا، وكان المسلمون قد غزوا من قبل البحرين توّج ونوبندجان وطاسان، فلما فتحوها كتبوا إليه:
إنا وجدنا بطاسان مكانا لا بأس به. فكتب إليهم:
إن بيني وبينكم دجلة، لا حاجة في شيء بيني وبينه دجلة أن تتخذوه مصرا. ثم قدم عليه رجل من بني سدوس يقال له ثابت، فقال: يا أمير المؤمنين إني مررت بمكان دون دجلة فيه قصر وفيه مسالح للعجم يقال له الخريبة ويسمى أيضا البصيرة، بينه وبين دجلة أربعة فراسخ، له خليج بحريّ فيه الماء إلى أجمة قصب، فأعجب ذلك عمر، وكانت قد جاءته أخبار الفتوح من ناحية الحيرة، وكان سويد ابن قطبة الذّهلي، وبعضهم يقول قطبة بن قتادة، يغير في ناحية الخريبة من البصرة على العجم، كما كان
المثنّى بن حارثة يغير بناحية الحيرة، فلما قدم خالد ابن الوليد البصرة من اليمامة والبحرين مجتازا إلى الكوفة بالحيرة، سنة اثنتي عشرة، أعانه على حرب من هنالك وخلّف سويدا، ويقال: إن خالدا لم يرحل من البصرة حتى فتح الخريبة، وكانت مسلحة للأعاجم، وقتل وسبى، و
فأتاها عتبة وانضمّ إليه سويد بن قطبة فيمن معه من بكر بن وائل وتميم.
قال نافع بن الحارث: فلما أبصرتنا الديادبة خرجوا هرّابا وجئنا القصر فنزلناه، فقال عتبة: ارتادوا لنا شيئا نأكله. قال: فدخلنا الأجمة فإذا زنبيلان في أحدهما تمر وفي الآخر أرزّ بقشره، فجذبناهما حتى أدنيناهما من القصر وأخرجنا ما فيهما، فقال عتبة: هذا سمّ أعدّه لكم العدوّ، يعني الأرز، فلا تقربنّه، فأخرجنا التمر وجعلنا نأكل منه، فإننا لكذلك إذا بفرس قد قطع قياده وأتى ذلك الأرز يأكل منه، فلقد رأينا أن نسعى بشفارنا نريد ذبحه قبل أن يموت، فقال صاحبه: أمسكوا عنه، أحرسه الليلة فإن أحسست بموته ذبحته. فلما أصبحنا إذا الفرس يروث لا بأس عليه، فقالت أختي: يا أخي إني سمعت أبي يقول: إن السمّ لا يضرّ إذا نضج، فأخذت من الأرز توقد تحته ثم نادت: الا انه يتفصّى من حبيبة حمراء، ثم قالت: قد جعلت تكون بيضاء، فما زالت تطبخه حتى أنماط قشره فألقيناه في الجفنة، فقال عتبة: اذكروا اسم الله عليه وكلوه، فأكلوا منه فإذا هو طيب، قال: فجعلنا بعد نميط عنه قشره ونطبخه، فلقد رأيتني بعد ذلك وأنا أعدّه لولدي، ثم قال: إنا التأمنا فبلغنا ستمائة رجل وست نسوة إحداهنّ أختي. وأمدّ عمر عتبة بهرثمة بن عرفجة، وكان بالبحرين فشهد بعض هذه الحروب ثم سار إلى الموصل، قال: وبنى المسلمون بالبصرة سبع دساكر: اثنتان بالخريبة واثنتان بالزابوقة وثلاث في موضع دار الأزد اليوم، وفي غير هذه الرواية أنهم بنوها بلبن: في الخريبة اثنتان وفي الأزد اثنتان وفي الزابوقة واحدة وفي بني تميم اثنتان، ففرّق أصحابه فيها ونزل هو الخريبة. قال نافع: ولما بلغنا ستمائة قلنا: ألا نسير إلى الأبلّة فإنها مدينة حصينة، فسرنا إليها ومعنا العنز، وهي جمع عنزة وهي أطول من العصا وأقصر من الرمح وفي رأسها زجّ، وسيوفنا، وجعلنا للنساء رايات على قصب وأمرناهن أن يثرن التراب وراءنا حين يرون أنا قد دنونا من المدينة، فلما دنونا منها صففنا أصحابنا، قال:
وفيها ديادبتهم وقد أعدّوا السّفن في دجلة، فخرجوا إلينا في الحديد مسوّمين لا نرى منهم إلا الحدق، قال: فو الله ما خرج أحدهم حتى رجع بعضهم إلى
بعض قتلا، وكان الأكثر قد قتل بعضهم بعضا، ونزلوا السّفن وعبروا إلى الجانب الآخر وانتهى إلينا النساء، وقد فتح الله علينا ودخلنا المدينة وحوينا متاعهم وأموالهم وسألناهم: ما الذي هزمكم من غير قتال؟ فقالوا: عرّفتنا الديادبة أن كمينا لكم قد ظهر وعلا رهجه، ير
ما نرى سمنا، وقال عوانة بن الحكم: كانت مع عتبة بن غزوان لما قدم البصرة زوجته أزدة بنت الحارث بن كلدة ونافع وأبو بكرة وزياد، فلما قاتل عتبة أهل مدينة الفرات جعلت امرأته أزدة تحرّض المؤمنين على القتال، وهي تقول: إن يهزموكم يولجوا فينا الغلف، ففتح الله على المسلمين تلك المدينة وأصابوا غنائم كثيرة ولم يكن فيهم أحد يحسب ويكتب إلا زياد فولّاه قسم ذلك الغنم وجعل له في كل يوم درهمين، وهو غلام في رأسه ذؤابة، ثم إن عتبة كتب إلى عمر يستأذنه في تمصير البصرة وقال:
إنه لا بدّ للمسلمين من منزل إذا أشتى شتوا فيه وإذا رجعوا من غزوهم لجأوا إليه، فكتب إليه عمر أن ارتد لهم منزلا قريبا من المراعي والماء واكتب إليّ بصفته، فكتب إلى عمر: إني قد وجدت أرضا كثيرة القضّة في طرف البرّ إلى الريف ودونها مناقع فيها ماء وفيها قصباء. والقضّة من المضاعف: الحجارة المجتمعة المتشقّقة، وقيل: ارض قضّة ذات حصّى، وأما القضة، بالكسر والتخفيف: ففي كتاب العين أنها أرض منخفضة ترابها رمل، وقال الأزهري:
الأرض التي ترابها رمل يقال لها قضّة، بكسر القاف وتشديد الضاد، وأما القضة، بالتخفيف:، فهو شجر من شجر الحمض، ويجمع على قضين، وليس من المضاعف، وقد يجمع على القضى مثل البرى، وقال أبو نصر الجوهري: القضّة، بكسر القاف والتشديد، الحصى الصغار، والقضة أيضا أرض ذات حصّى، قال: ولما وصلت الرسالة إلى عمر قال: هذه أرض بصرة قريبة من المشارب والمرعى والمحتطب، فكتب إليه أن أنزلها، فنزلها وبنى مسجدها من قصب وبنى دار إمارتها دون المسجد في الرحبة التي يقال لها رحبة بني هاشم، وكانت تسمّى الدهناء، وفيها السّجن والديوان وحمّام الأمراء بعد ذلك لقربها من الماء، فكانوا إذا غزوا نزعوا ذلك القصب ثم حزموه ووضعوه حتى يعودوا من الغزو فيعيدوا بناءه كما كان. وقال الأصمعي: لما نزل عتبة بن غزوان الخريبة ولد بها عبد الرحمن بن أبي بكرة، وهو أول مولود ولد بالبصرة، فنحر أبوه جزورا أشبع منها أهل البصرة، وكان تمصير البصرة في سنة أربع عشرة قبل الكوفة بستّة أشهر، وكان أبو بكرة أول من غرس النخل بالبصرة وقال: هذه أرض نخل، ثم غرس الناس بعده، وقال أبو المنذر:
أول دار بنيت بالبصرة دار نافع بن الحارث ثم دار معقل بن يسار المزني، وقد روي من غير هذا الوجه أنّ الله عزّ وجل، لما أظفر سعد بن أبي وقّاص بأرض الحيرة وما قاربها كتب إليه عمر بن الخطاب أن ابعث عتبة بن غزوان إلى أرض الهند، فإن له من الإسلام مكانا وقد شهد بدرا، وكانت الأبلّة يومئذ تسمّى أرض الهند، فلينزلها ويجعلها قيروانا للمسلمين ولا يجعل بيني وبينهم بحرا، فخرج عتبة من الحيرة في ثمانمائة رجل حتى نزل موضع البصرة، فلما افتتح الأبلّة ضرب قيروانه وضرب للمسلمين أخبيتهم، وكانت خيمة عتبة من أكسية، ورماه عمر بالرجال
فلما كثروا بنى رهط منهم فيها سبع دساكر من لبن، منها في الخريبة اثنتان وفي الزابوقة واحدة وفي بني تميم اثنتان، وكان سعد بن أبي وقاص يكاتب عتبة بأمره ونهيه، فأنف عتبة من ذلك واستأذن عمر في الشخوص إليه، فأذن له، فاستخلف مجاشع بن مسعود السّلمي على جنده، وك
فلقد جرّبناهم فوجدنا له الفضل عليهم، قال: وشكا عتبة إلى عمر تسلّط سعد عليه، فقال له: وما عليك إذا أقررت بالإمارة لرجل من قريش له صحبة وشرف؟ فامتنع من الرجوع فأبى عمر إلّا ردّه، فسقط عن راحلته في الطريق فمات، وذلك في سنة ست عشرة، قال: ولما سار عتبة عن البصرة بلغ المغيرة أنّ دهقان ميسان كفر ورجع عن الإسلام وأقبل نحو البصرة، وكان عتبة قد غزاها وفتحها، فسار إليه المغيرة فلقيه بالمنعرج فهزمه وقتله، وكتب المغيرة إلى عمر بالفتح منه، فدعا عمر عتبة وقال له: ألم تعلمني أنك استخلفت مجاشعا؟ قال.
نعم، قال: فإنّ المغيرة كتب إليّ بكذا، فقال:
إن مجاشعا كان غائبا فأمرت المغيرة بالصلاة إلى أن يرجع مجاشع، فقال عمر: لعمري إن أهل المدر لأولى أن يستعملوا من أهل الوبر، يعني بأهل المدر المغيرة لأنه من أهل الطائف، وهي مدينة، وبأهل الوبر مجاشعا لأنه من أهل البادية، وأقرّ المغيرة على البصرة، فلما كان مع أمّ جميلة وشهد القوم عليه بالزنا كما ذكرناه في كتاب المبدأ والمآل من جمعنا، استعمل عمر على البصرة أبا موسى الأشعري، أرسله إليها وأمره بإنفاذ المغيرة إليه، وقيل: كان أبو موسى بالبصرة فكاتبه عمر بولايتها، وذلك في سنة ست عشرة وقيل في سنة سبع عشرة، وولي أبو موسى والجامع بحاله وحيطانه قصب فبناه أبو موسى باللبن، وكذلك دار الإمارة، وكان المنبر في وسطه، وكان الإمام إذا جاء للصلاة بالناس تخطّى رقابهم إلى القبلة، فخرج عبد الله بن عامر بن كريز، وهو أمير لعثمان على البصرة، ذات يوم من دار الإمارة يريد القبلة وعليه جبّة خزّ دكناء، فجعل الأعراب يقولون: على الأمير جلد دبّ، فلما استعمل معاوية زيادا على البصرة قال زياد: لا ينبغي للأمير أن يتخطى رقاب الناس، فحوّل دار الإمارة من الدهناء إلى قبل المسجد وحوّل المنبر إلى صدره، فكان الإمام يخرج من الدار من الباب الذي في حائط القبلة إلى القبلة ولا يتخطى أحدا، وزاد في حائط المسجد زيادات كثيرة وبنى دار الإمارة باللبن وبنى المسجد بالجص وسقفه بالساج، فلما فرغ من بنائه جعل يطوف فيه وينظر إليه ومعه وجوه البصرة فلم يعب فيه إلّا دقة الأساطين، قال: ولم يؤت منها قط صدع ولا ميل ولا عيب، وفيه يقول حارثة ابن بدر الغداني:
«بنى زياد، لذكر الله، مصنعه *** بالصخر والجصّ لم يخلط من الطين»
«لولا تعاون أيدي الرافعين له، *** إذا ظنناه أعمال الشياطين»
وجاء بسواريه من الأهواز، وكان قد ولى بناءه الحجاج بن عتيك الثّقفي فظهرت له أموال وحال لم تكن قبل، ففيه قيل:
«يا حبّذا الإماره *** ولو على الحجاره»
وقيل: إن أرض المسجد كانت تربة فكانوا إذا فرغوا من الصلاة نفضوا أيديهم من التراب، فلما رأى زياد ذلك قال: لا آمن أن يظنّ الناس على طول الأيام أن نفض اليد في الصلاة سنّة، فأمر بجمع الحصى وإلقائه في المسجد الجامع، ووظّف ذلك على الناس، فاشتد الموكّلون بذلك
«يا حبذا الإماره *** ولو على الحجاره»
فذهبت مثلا، وكان جانب الجامع الشمالي منزويا لأنه كان دارا لنافع بن الحارث أخي زياد فأبى أن يبيعها، فلم يزل على تلك الحال حتى ولّى معاوية عبيد الله بن زياد على البصرة، فقال عبيد الله بن زياد:
إذا شخص عبد الله بن نافع إلى أقصى ضيعة فاعلمني.
فشخص إلى قصر الأبيض، فبعث فهدم الدار وأخذ في بناء الحائط الذي يستوي به تربيع المسجد، وقدم عبد الله بن نافع فضجّ، فقال له: إني أثمن لك وأعطيك مكان كل ذراع خمسة أذرع وأدع لك خوخة في حائطك إلى المسجد وأخرى في غرفتك، فرضي فلم تزل الخوختان في حائطه حتى زاد المهدي فيه ما زاد فدخلت الدار كلّها في المسجد، ثم دخلت دار الإمارة كلها في المسجد، وقد أمر بذلك الرشيد، ولما قدم الحجّاج خبّر أن زيادا بنى دار الإمارة فأراد أن يذهب ذكر زياد منها فقال: أريد أن أبنيها بالآجرّ، فهدمها، فقيل له: إنما غرضك أن تذهب ذكر زياد منها، فما حاجتك أن تعظم النفقة وليس يزول ذكره عنها، فتركها مهدومة، فلم يكن للأمراء دار ينزلونها حتى قام سليمان بن عبد الملك فاستعمل صالح بن عبد الرحمن على خراج العراقين، فقال له صالح إنه ليس بالبصرة دار إمارة وخبّره خبر الحجاج، فقال له سليمان: أعدها، فأعادها بالجصّ والآجرّ على أساسها الذي كان ورفع سمكها، فلما أعاد أبوابها عليها قصرت، فلما مات سليمان وقام عمر بن عبد العزيز استعمل عدي بن أرطاة على البصرة، فبنى فوقها غرفا فبلغ ذلك عمر، فكتب إليه:
هبلتك أمك يا ابن عمّ عدي! أتعجز عنك مساكن وسعت زيادا وابنه؟ فأمسك عدي عن بنائها، فلما قدم سليمان بن علي البصرة عاملا للسفّاح أنشأ فوق البناء الذي كان لعديّ بناء بالطين ثمّ تحوّل إلى المربد، فلما ولي الرشيد هدمها وأدخلها في قبلة مسجد الجامع فلم يبق للأمراء بالبصرة دار إمارة، وقال يزيد الرّشك: قست البصرة في ولاية خالد بن عبد الله القسري فوجدت طولها فرسخين وعرضها فرسخين إلّا دانقا، وعن الوليد بن هشام أخبرني أبي عن أبيه وكان يوسف بن عمر قد ولاه ديوان جند البصرة قال:
نظرت في جماعة مقاتلة العرب بالبصرة أيام زياد فوجدتهم ثمانين ألفا ووجدت عيالاتهم مائة ألف وعشرين ألف عيّل ووجدت مقاتلة الكوفة ستين ألفا وعيالاتهم ثمانين ألفا.
ذكر خطط البصرة وقراها
وقد ذكرت بعض ذلك في أبوابه وذكرت بعضه هاهنا، قال أحمد بن يحيى بن جابر: كان حمران ابن أبان للمسيّب بن نجبة الفزاري أصابه بعين التمر فابتاعه منه عثمان بن عفّان وعلمه الكتابة واتخذه كاتبا، ثم وجد عليه لأنه كان وجّهه للمسألة عما رفع على الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فارتشى منه وكذّب ما قيل فيه، ثم تيقّن عثمان صحة ذلك فوجد عليه
وقال: لا تساكنّي أبدا، وخيّره بلدا يسكنه غير المدينة، فاختار البصرة وسأله أن يقطعه بها دارا وذكر ذرعا كثيرا استكثره عثمان وقال لابن عامر:
أعطه دارا مثل بعض دورك، فأقطعه دار حمران التي بالبصرة في سكة بني سمرة بالبصرة، كان صاحبها عتبة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب ابن عبد شمس بن عبد مناف، قال المدايني: قال أبو بكرة لابنه: يا بنيّ والله ما تلي عملا قط وما أراك تقصر عن إخوتك في النفقة، فقال: إن كتمت عليّ أخبرتك، قال: فإني أفعل، قال: فإني أغتلّ من حمّامي هذا في كلّ يوم ألف درهم وطعاما كثيرا. ثم إنّ مسلما مرض فأوصى إلى أخيه عبد الرحمن بن أبي بكرة وأخبره بغلة حمّامه، فأفشى ذلك واستأذن السلطان في بناء حمّام، وكانت الحمامات لا تبنى بالبصرة إلّا بإذن الولاة، فأذن له واستأذن غيره فأذن له وكثرت الحمامات، فأفاق مسلم بن أبي بكرة من مرضه وقد فسد عليه حمّامه فجعل يلعن عبد الرحمن ويقول: ما له قطع الله رحمه! وكان لزياد مولى يقال له فيل، وكان حاجبه، فكان يضرب المثل بحمّامه بالبصرة، وقد ذكرته في حمام فيل. نهر عمرو: ينسب إلى عمرو بن عتبة بن أبي سفيان. نهر ابن عمير: منسوب إلى عبد الله بن عمير بن عمرو بن مالك اللّيثي، كان عبد الله بن عامر بن كريز أقطعه ثمانية آلاف جريب فحفر عليها هذا النهر، ومن اصطلاح أهل البصرة أن يزيدوا في اسم الرجل الذي تنسب إليه القرية ألفا ونونا، نحو قولهم طلحتان:
نهر ينسب إلى طلحة بن أبي رافع مولى طلحة بن عبيد الله. خيرتان: منسوب إلى خيرة بنت ضمرة القشيرية امرأة المهلّب بن أبي صفرة. مهلّبان:
منسوب إلى المهلّب بن أبي صفرة، ويقال بل كان لزوجته خيرة فغلب عليه اسم المهلب، وهي أمّ أبي عيينة ابنه. وجبيران: قرية لجبير بن حيّة.
وخلفان: قطيعة لعبد الله بن خلف الخزاعي والد طلحة الطلحات. طليقان: لولد خالد بن طليق بن محمد بن عمران بن حصين الخزاعي، وكان خالد ولي قضاء البصرة. روّادان: لروّاد بن ابي بكرة.
شط عثمان: ينسب إلى عثمان بن أبي العاصي الثقفي، وقد ذكرته، فأقطع عثمان أخاه حفصا حفصان وأخاه أميّة أميّان وأخاه الحكم حكمان وأخاه المغيرة مغيرتان. أزرقان: ينسب إلى الأزرق بن مسلم مولى بني حنيفة. محمّدان: منسوب إلى محمد ابن علي بن عثمان الحنفي. زيادان: منسوب إلى زياد مولى بني الهجيم جدّ مونس بن عمران بن جميع بن يسار بن زياد وجد عيسى بن عمر النحوي لأمّهما.
عميران: منسوب إلى عبد الله بن عمير الليثي. نهر مقاتل بن حارثة بن قدامة السعدي. وحصينان:
لحصين بن أبي الحرّ العنبري. عبد الليان: لعبد الله بن أبي بكرة. عبيدان: لعبيد بن كعب النّميري. منقذان: لمنقذ بن علاج السّلمي. عبد الرحمانان: لعبد الرحمن بن زياد. نافعان: لنافع ابن الحارث الثقفي. أسلمان: لأسلم بن زرعة الكلابي. حمرانان: لحمران بن أبان مولى عثمان بن عفّان. قتيبتان: لقتيبة بن مسلم. خشخشان:
لآل الخشخاش العنبري. نهر البنات: لبنات زياد، أقطع كلّ بنت ستين جريبا، وكذلك كان يقطع العامة. سعيدان: لآل سعيد بن عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد. سليمانان: قطيعة لعبيد بن نشيط صاحب الطرف أيام الحجاج، فرابط به رجل من الزهاد يقال له سليمان بن جابر فنسب إليه. عمران:
لعمر بن عبيد الله بن معمر التيمي. فيلان: لفيل
مولى زياد. خالدان: لخالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أميّة. المسماريّة: قطيعة مسمار مولى زياد بن أبيه، وله بالكوفة ضيعة.
سويدان: كانت لعبيد الله بن أبي بكرة قطيعة مبلغها أربعمائة جريب فوهبها لسويد بن منجوف السّدوسي، وذلك أن سويدا مرض فعاده عبيد الله بن أبي بكرة فقال له: كيف تجدك؟ فقال: صالحا إن شئت، فقال: قد شئت، وما ذلك؟ قال: إن أعطيتني مثل الذي أعطيت ابن معمر فليس عليّ بأس، فأعطاه سويدان فنسب إليه. جبيران: لآل كلثوم بن جبير. نهر أبي برذعة بن عبيد الله بن أبي بكرة.
كثيران: لكثير بن سيّار. بلالان: لبلال بن أبي بردة، كانت قطيعة لعبّاد بن زياد فاشتراه. شبلان:
لشبل بن عميرة بن تيري الضّبيّ.
ذكر ما جاءَ في ذم البصرة
لما قدم أمير المؤمنين البصرة بعد وقعة الجمل ارتقى منبرها فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أهل البصرة يا بقايا ثمود يا أتباع البهيمة يا جند المرأة، رغا فاتبعتم وعقر فانهزمتم، أما إني ما أقول ما أقول رغبة ولا رهبة منكم غير أني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: تفتح أرض يقال لها البصرة، أقوم أرض الله قبلة، قارئها أقرأ الناس وعابدها أعبد الناس وعالمها أعلم الناس ومتصدقها أعظم الناس صدقة، منها إلى قرية يقال لها الأبلّة أربعة فراسخ يستشهد عند مسجد جامعها وموضع عشورها ثمانون ألف شهيد، الشهيد يومئذ كالشهيد يوم بدر معي، وهذا الخبر بالمدح أشبه، وفي رواية أخرى أنه رقي المنبر فقال:
يا أهل البصرة ويا بقايا ثمود يا أتباع البهيمة ويا جند المرأة، رغا فاتبعتم وعقر فانهزمتم، دينكم نفاق وأحلامكم دقاق وماؤكم زعاق، يا أهل البصرة والبصيرة والسّبخة والخريبة أرضكم أبعد أرض الله من السماء وأقربها من الماء وأسرعها خرابا وغرقا، ألا إني سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: أما علمت أن جبريل حمل جميع الأرض على منكبه الأيمن فأتاني بها؟ ألا إني وجدت البصرة أبعد بلاد الله من السماء وأقربها من الماء وأخبثها ترابا وأسرعها خرابا، ليأتينّ عليها يوم لا يرى منها إلا شرفات جامعها كجؤجؤ السفينة في لجة البحر، ثم قال: ويحك يا بصرة ويلك من جيش لا غبار له! فقيل: يا أمير المؤمنين ما الويح وما الويل؟ فقال: الويح والويل بابان، فالويح رحمة والويل عذاب، وفي رواية أن عليّا، رضي الله عنه، لما فرغ من وقعة الجمل دخل البصرة فأتى مسجدها الجامع فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد الله واثنى عليه وصلى على النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أما بعد، فان الله ذو رحمة واسعة فما ظنكم يا أهل البصرة يا أهل السبخة يا أهل المؤتفكة ائتفكت بأهلها ثلاثا وعلى الله الرابعة يا جند المرأة، ثم ذكر الذي قبله ثم قال: انصرفوا إلى منازلكم وأطيعوا الله وسلطانكم، وخرج حتى صار إلى المربد والتفت وقال: الحمد لله الذي أخرجني من شرّ البقاع ترابا وأسرعها خرابا. ودخل فتى من أهل المدينة البصرة فلما انصرف قال له أصحابه: كيف رأيت البصرة؟ قال: خير بلاد الله للجائع والغريب والمفلس، أما الجائع فيأكل خبز الأرز والصحناءة فلا ينفق في شهر إلّا درهمين، وأما الغريب فيتزوّج بشقّ درهم، وأما المحتاج فلا عليه غائلة ما بقيت له استه يخرأ ويبيع، وقال الجاحظ: من عيوب البصرة اختلاف هوائها في يوم واحد لأنهم يلبسون القمص مرة والمبطّنات مرة لاختلاف جواهر
الساعات، ولذلك سمّيت الرّعناء، قال الفرزدق:
«لولا أبو مالك المرجوّ نائله *** ما كانت البصرة الرّعناء لي وطنا»
وقد وصف هذه الحال ابن لنكك فقال:
«نحن بالبصرة في لو *** ن من العيش ظريف»
«نحن، ما هبّت شمال، *** بين جنّات وريف»
«فإذا هبّت جنوب، *** فكأنّا في كنيف»
وللحشوش بالبصرة أثمان وافرة، ولها فيما زعموا تجار يجمعونها فإذا كثرت جمع عليها أصحاب البساتين ووقفهم تحت الريح لتحمل إليهم نتنها فإنه كلما كانت أنتن كان ثمنها أكثر، ثم ينادى عليها فيتزايد الناس فيها، وقد قصّ هذه القصة صريع الدّلاء البصري في شعر له ولم يحضرني الآن، وقد ذمّتها الشعراء، فقال محمد بن حازم الباهلي:
«ترى البصريّ ليس به خفاء، *** لمنخره من البثر انتشار»
«ربا بين الحشوش وشبّ فيها، *** فمن ريح الحشوش به اصفرار»
«يعتّق سلحة، كيما يغالي *** به عند المبايعة التجار»
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي:
«لهف نفسي على المقام ببغدا *** د، وشربي من ماء كوز بثلج»
«نحن بالبصرة الذميمة نسقي، *** شرّ سقيا، من مائها الأترنجي»
«أصفر منكر ثقيل غليظ *** خاثر مثل حقنة القولنج»
«كيف نرضى بمائها، وبخير *** منه في كنف أرضنا نستنجي»
وقال أيضا:
«ليس يغنيك في الطهارة بال *** بصرة، إن حانت الصلاة، اجتهاد»
«إن تطهّرت فالمياه سلاح، *** أو تيمّمت فالصعيد سماد»
وقال شاعر آخر يصف أهل البصرة بالبخل وكذب عليهم:
«أبغضت بالبصرة أهل الغنى، *** إني لأمثالهم باغض»
«قد دثّروا في الشمس أعذاقها، *** كأنّ حمّى بخلهم نافض»
ذكر ما جاء في مدح البصرة
كان ابن أبي ليلى يقول: ما رأيت بلدا أبكر إلى ذكر الله من أهل البصرة، وقال شعيب بن صخر:
تذاكروا عند زياد البصرة والكوفة فقال زياد: لو ضلّت البصرة لجعلت الكوفة لمن دلّني عليها، وقال ابن سيرين: كان الرجل من أهل البصرة يقول لصاحبه إذا بالغ في الدعاء عليه: غضب الله عليك كما غضب على المغيرة وعزله عن البصرة وولاه الكوفة، وقال ابن أبي عيينة المهلبي يصف البصرة:
«يا جنّة فاقت الجنان، فما *** يعدلها قيمة ولا ثمن»
«ألفتها فاتخذتها وطنا، *** إنّ فؤادي لمثلها وطن»
«زوّج حيتانها الضّباب بها، *** فهذه كنّة وذا ختن»
«فانظر وفكّر لما نطقت به، *** إنّ الأديب المفكّر الفطن»
«من سفن كالنّعام مقبلة، *** ومن نعام كأنها سفن»
وقال المدائني: وفد خالد بن صفوان على عبد الملك ابن مروان فوافق عنده وفود جميع الأمصار وقد اتخذ مسلمة مصانع له، فسأل عبد الملك أن يأذن للوفود في الخروج معه إلى تلك المصانع، فأذن لهم، فلما نظر إليها مسلمة أعجب بها فأقبل على وفد أهل مكة فقال: يا أهل مكة هل فيكم مثل هذه المصانع؟
فقالوا: لا الا أن فينا بيت الله المستقبل، ثم أقبل على وفد أهل المدينة فقال: يا أهل المدينة هل فيكم مثل هذه؟ فقالوا: لا إلّا أن فينا قبر نبي الله المرسل، ثم أقبل على وفد أهل الكوفة فقال: يا أهل الكوفة هل فيكم مثل هذه المصانع؟ فقالوا: لا إلّا أن فينا تلاوة كتاب الله المرسل، ثم أقبل على وفد أهل البصرة فقال: يا أهل البصرة هل فيكم مثل هذه المصانع؟
فتكلم خالد بن صفوان وقال: أصلح الله الأمير! إن هؤلاء أقرّوا على بلادهم ولو أن عندك من له ببلادهم خبرة لأجاب عنهم، قال: أفعندك في بلادك غير ما قالوا في بلادهم؟ قال: نعم، أصلح الله الأمير! أصف لك بلادنا؟ فقال: هات، قال: يغدو قانصانا فيجيء هذا بالشّبوط والشّيم ويجيء هذا بالظبي والظليم، ونحن أكثر الناس عاجا وساجا وخزّا وديباجا وبرذونا هملاجا وخريدة مغناجا، بيوتنا الذهب ونهرنا العجب أوله الرّطب وأوسطه العنب وآخره القصب، فأما الرطب عندنا فمن النخل في مباركه كالزّيتون عندكم في منابته، هذا على أفنانه كذاك على أغصانه، هذا في زمانه كذاك في إبّانه، من الراسخات في الوحل المطعمات في المحل الملقحات بالفحل يخرجن أسفاطا عظاما وأقساطا ضخاما، وفي رواية: يخرجن أسفاطا وأقساطا كأنما ملئت رياطا، ثم ينفلقن عن قضبان الفضة منظومة باللؤلؤ الأبيض ثم تتبدّل قضبان الذهب منظومة بالزبرجد الأخضر ثم تصير ياقوتا أحمر وأصفر ثم تصير عسلا في شنّة من سحاء ليست بقربة ولا إناء حولها المذابّ ودونها الجراب لا يقربها الذباب مرفوعة عن التراب ثم تصير ذهبا في كيسة الرجال يستعان به على العيال، وأما نهرنا العجب فإنّ الماء يقبل عنقا فيفيض مندفقا فيغسل غثّها ويبدي مبثّها، يأتينا في أوان عطشنا ويذهب في زمان ريّنا فنأخذ منه حاجتنا ونحن نيام على فرشنا فيقبل الماء وله ازدياد وعباب ولا يحجبنا عنه حجاب ولا تغلق دونه الأبواب ولا يتنافس فيه من قلّة ولا يحبس عنّا من علّة، وأما بيوتنا الذهب فإنّ لنا عليهم خرجا في السنين والشهور نأخذه في أوقاته ويسلمه الله تعالى من آفاته وننفقه في مرضاته، فقال له مسلمة: أنّى لكم هذه يا ابن صفوان ولم تغلبوا عليها ولم تسبقوا إليها؟ فقال: ورثناها عن الآباء ونعمّرها للأبناء ويدفع لنا عنها ربّ السماء ومثلنا فيها كما قال معن بن أوس:
«إذا ما بحر خندف جاش يوما *** يغطمط موجه المتعرّضينا»
«فمهما كان من خير، فإنّا *** ورثناها أوائل أوّلينا»
«وإنّا مورثون، كما ورثنا *** عن الآباء إن متنا، بنينا»
وقال الأصمعي: سمعت الرشيد يقول: نظرنا فإذا كلّ ذهب وفضة على وجه الأرض لا يبلغ ثمن نخل البصرة. وقال أبو حاتم: ومن العجائب، وهو مما أكرم الله به الإسلام، أنّ النخل لا يوجد إلّا في بلاد الإسلام البتة مع أن بلاد الهند والحبش والنوبة بلاد حارة خليقة بوجود النخل فيها، وقال ابن أبي عيينة يتشوّق البصرة:
«فإن أشك من ليلي بجرجان طوله، *** فقد كنت أشكو منه بالبصرة القصر»
«فيا نفس قد بدّلت بؤسا بنعمة، *** ويا عين قد بدّلت من قرّة عبر»
«ويا حبذاك السائلي فيم فكرتي *** وهمّي، ألا في البصرة الهمّ والفكر»
«فيا حبّذا ظهر الحزيز وبطنه، *** ويا حسن واديه، إذا ماؤه زخر»
«ويا حبذا نهر الأبلّة منظرا، *** إذا مدّ في إبّانه الماء أو جزر»
«ويا حسن تلك الجاريات، إذا غدت *** مع الماء تجري مصعدات وتنحدر»
«فيا ندمي إذ ليس تغني ندامتي! *** ويا حذري إذ ليس ينفعني الحذر! »
«وقائلة: ماذا نبا بك عنهم؟ *** فقلت لها: لا علم لي، فاسألي القدر»
وقال الجاحظ: بالبصرة ثلاث أعجوبات ليست في غيرها من البلدان، منها: أنّ عدد المدّ والجزر في جميع الدهر شيء واحد فيقبل عند حاجتهم إليه ويرتدّ عند استغنائهم عنه، ثم لا يبطئ عنها إلّا بقدر هضمها واستمرائها وجمامها واستراحتها، لا يقتلها غطسا ولا غرقا ولا يغبّها ظمأ ولا عطشا، يجيء على حساب معلوم وتدبير منظوم وحدود ثابتة وعادة قائمة، يزيدها القمر في امتلائه كما يزيدها في نقصانه فلا يخفى على أهل الغلّات متى يتخلفون ومتى يذهبون ويرجعون بعد أن يعرفوا موضع القمر وكم مضى من الشهر، فهي آية وأعجوبة ومفخر وأحدوثة، لا يخافون المحل ولا يخشون الحطمة، قلت أنا: كلام الجاحظ هذا لا يفهمه إلّا من شاهد الجزر والمد، وقد شاهدته في ثماني سفرات لي إلى البصرة ثم إلى كيش ذاهبا وراجعا، ويحتاج إلى بيان يعرفه من لم يشاهده، وهو أن دجلة والفرات يختلطان قرب البصرة ويصيران نهرا عظيما يجري من ناحية الشمال إلى ناحية الجنوب فهذا يسمونه جزرا، ثم يرجع من الجنوب إلى الشمال ويسمونه مدّا، يفعل ذلك في كل يوم وليلة مرّتين، فإذا جزر نقص نقصانا كثيرا بيّنا بحيث لو قيس لكان الذي نقص مقدار ما يبقى وأكثر، وليست زيادته متناسبة بل يزيد في أول كل شهر، ووسطه أكثر من سائره، وذاك أنه إذا انتهى في أول الشهر إلى غايته في الزيادة وسقى المواضع العالية والأراضي القاصية أخذ يمدّ كل يوم وليلة أنقص من اليوم الذي قبله، وينتهي غاية نقص زيادته في آخر يوم من الأسبوع الأول من الشهر، ثم يمدّ في كل يوم أكثر من مدّه في اليوم الذي قبله حتى ينتهي غاية زيادة مدّه في نصف الشهر، ثم يأخذ في النقص إلى آخر الأسبوع ثم في الزيادة في آخر الشهر هكذا أبدا لا يختلف ولا يخل بهذا القانون ولا يتغير عن هذا الاستمرار، قال الجاحظ: والأعجوبة الثانية ادّعاء أهل أنطاكية وأهل حمص وجميع بلاد الفراعنة
الطلسمات، وهي بدون ما لأهل البصرة، وذاك أن لو التمست في جميع بيادرها وربطها المعوّذة وغيرها على نخلها في جميع معاصر دبسها أن تصيب ذبابة واحدة لما وجدتها إلا في الفرط، ولو أن معصرة دون الغيط أو تمرة منبوذة دون المسنّاة لما استبقيتها من كثرة الذّبّان، والأعجوبة الثالثة أن الغربان القواطع في الخريف يجيء منها ما يسوّد جميع نخل البصرة وأشجارها حتى لا يرى غصن واحد إلا وقد تأطّر بكثرة ما عليه منها ولا كربة غليظة إلا وقد كادت أن تندقّ لكثرة ما ركبها منها، ثم لم يوجد في جميع الدهر غراب واحد ساقط إلا على نخلة مصرومة ولم يبق منها عذق واحد، ومناقير الغربان معاول وتمر الأعذاق في ذلك الإبّان غير متماسكة، فلو خلاها الله تعالى ولم يمسكها بلطفه لاكتفى كل عذق منها بنقرة واحدة حتى لم يبق عليها إلا اليسير، ثم هي في ذلك تنتظر أن تصرم فإذا أتى الصرام على آخرها عذقا رأيتها سوداء ثم تخللت أصول الكرب فلا تدع حشفة إلا استخرجتها، فسبحان من قدّر لهم ذلك وأراهم هذه الأعجوبة، وبين البصرة والمدينة نحو عشرين مرحلة ويلتقي مع طريق الكوفة قرب معدن النّقرة، وأخبار البصرة كثيرة والمنسوبون إليها من أهل العلم لا يحصون، وقد صنف عمر بن شبّة وأبو يحيى زكرياء الساجي وغيرهما في فضائلها كتابا في مجلدات، والذي ذكرناه كاف.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
155-معجم البلدان (بطن أنف)
بَطْنُ أَنفٍ:من منازل هذيل نزل به قوم على أبي خراش فخرج ليجيئهم بالماء فنهشته حية فمات، وقال قبل موته:
«لعمرك، والمنايا غالبات *** على الإنسان تطلع كلّ نجد»
«لقد أهلكت حية بطن أنف *** على الأصحاب ساقا ذات فقد»
وقال أيضا:
«لقد أهلكت حيّة بطن أنف *** على الأصحاب ساقا ذات فضل»
«فما تركت عدوّا، بين بصرى *** إلى صنعاء، يطلبه بذحل»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
156-معجم البلدان (بغداد)
بَغْدَادُ:أم الدنيا وسيدة البلاد، قال ابن الأنباري:
أصل بغداد للأعاجم، والعرب تختلف في لفظها إذ لم يكن أصلها من كلامهم ولا اشتقاقها من لغاتهم، قال بعض الأعاجم: تفسيره بستان رجل، فباغ بستان وداد اسم رجل، وبعضهم يقول: بغ اسم للصنم، فذكر أنه أهدي إلى كسرى خصيّ من المشرق فأقطعه إياها، وكان الخصيّ من عباد الأصنام ببلده فقال: بغ داد أي الصنم أعطاني، وقيل: بغ هو البستان وداد أعطى، وكان كسرى قد وهب لهذا الخصي هذا البستان فقال: بغ داد فسميت به، وقال حمزة بن الحسن: بغداد اسم فارسي معرّب عن باغ داذويه، لأن بعض رقعة مدينة المنصور كان باغا لرجل من الفرس اسمه داذويه، وبعضها أثر مدينة دارسة كان بعض ملوك الفرس اختطّها فاعتل فقالوا:
ما الذي يأمر الملك أن تسمى به هذه المدينة؟ فقال:
هلدوه وروز أي خلّوها بسلام، فحكي ذلك للمنصور فقال: سميتها مدينة السلام، وفي بغداد سبع لغات:
بغداد وبغدان، ويأبى أهل البصرة ولا يجيزون بغداذ في آخره الذال المعجمة، وقالوا: لأنه ليس في كلام العرب كلمة فيها دال بعدها ذال، قال أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق: فقلت لأبي إسحاق إبراهيم بن السري فما تقول في قولهم خرداد؟ فقال: هو فارسي ليس من كلام العرب، قلت أنا: وهذا حجة من قال بغداد فإنه ليس من كلام العرب، وأجاز الكسائي بغداد على الأصل، وحكى أيضا مغداذ ومغداد ومغدان، وحكى الخارزنجي: بغداد بدالين مهملتين، وهي في اللغات كلها تذكّر وتؤنث، وتسمى مدينة السلام أيضا، فأما الزوراء: فمدينة المنصور خاصة، وسميت مدينة السلام لأن دجلة يقال لها وادي السلام، وقال موسى بن عبد الحميد النسائي:
كنت جالسا عند عبد العزيز بن أبي روّاد فأتاه رجل فقال له: من أين أنت؟ فقال له: من بغداد، فقال:
لا تقل بغداد فإن بغ صنم وداد أعطى، ولكن قل مدينة السلام، فإن الله هو السلام والمدن كلها له، وقيل: إن بغداد كانت قبل سوقا يقصدها تجار أهل الصين بتجاراتهم فيربحون الرّبح الواسع، وكان اسم ملك الصين بغ فكانوا إذا انصرفوا إلى بلادهم قالوا:
بغ داد أي إن هذا الربح الذي ربحناه من عطية
الملك، وقيل إنما سميت مدينة السلام لأن السلام هو الله فأرادوا مدينة الله، وأما طولها فذكر بطلميوس في كتاب الملحمة المنسوب إليه أن مدينة بغداد طولها خمس وسبعون درجة وعرضها أربع وثلاثون درجة داخلة في الإقليم الرابع، وقال أبو عون وغيره: إنها في الإقليم ال
فصل
في بدء عمارة بغداد، كان أول من مصّرها وجعلها مدينة المنصور بالله أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي ابن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ثاني الخلفاء، وانتقل إليها من الهاشمية، وهي مدينة كان قد اختطّها أخوه أبو العباس السّفّاح قرب الكوفة وشرع في عمارتها سنة 145 ونزلها سنة 149، وكان سبب عمارتها أن أهل الكوفة كانوا يفسدون جنده فبلغه ذلك من فعلهم، فانتقل عنهم يرتاد موضعا، وقال ابن عيّاش: بعث المنصور روّادا وهو بالهاشمية يرتادون له موضعا يبني فيه مدينة ويكون الموضع واسطا رافقا بالعامة والجند، فنعت له موضع قريب من
بارمّا، وذكر له غذاؤه وطيب هوائه، فخرج إليه بنفسه حتى نظر إليه وبات فيه، فرأى موضعا طيبا فقال لجماعة، منهم سليمان بن مجالد وأبو أيوب المرزباني وعبد الملك بن حميد الكاتب: ما رأيكم في هذا الموضع؟ قالوا: طيب موافق، فقال: صدقتم ولكن لا مرفق فيه للرعية، وقد
وعن علي بن يقطين قال: كنت في عسكر أبي جعفر المنصور حين سار إلى الصراة يلتمس موضعا لبناء مدينة، قال: فنزل الدير الذي على الصراة في العتيقة فما زال على دابته ذاهبا جائيا منفردا عن الناس يفكر، قال: وكان في الدير راهب عالم فقال لي: لم يذهب الملك ويجيء؟ قلت: إنه يريد أن يبني مدينة، قال: فما اسمه؟ قلت: عبد الله بن محمد، قال: أبو من؟ قلت: أبو جعفر، قال:
هل يلقب بشيء؟ قلت: المنصور، قال: ليس هذا الذي يبنيها، قلت: ولم؟ قال: لأنا قد وجدنا في كتاب عندنا نتوارثه قرنا عن قرن أن الذي يبني
هذا المكان رجل يقال له مقلاص، قال: فركبت من وقتي حتى دخلت على المنصور ودنوت منه، فقال لي: ما وراءك؟ قلت: خير ألقيه إلى أمير المؤمنين وأريحه من هذا العناء، فقال: قل، قلت:
أمير المؤمنين يعلم أن هؤلاء معهم علم، وقد أخبرني راهب هذا الدير بكذا وكذا، فلما ذكرت له مقلاص ضحك واستبشر ونزل عن دابته فسجد وأخذ سوطه وأقبل يذرع به، فقلت في نفسي: لحقه اللجاج، ثم دعا المهندسين من وقته وأمرهم بخط الرماد، فقلت له: أظنّك يا أمير المؤمنين أردت معاندة الراهب وتكذيبه، فقال: لا والله ولكني كنت ملقّبا بمقلاص وما ظننت أن أحدا عرف ذلك غيري، وذاك أننا كنا بناحية السراة في زمان بني أمية على الحال التي تعلم، فكنت أنا ومن كان في مقدار سنّي من عمومتي وإخوتي نتداعى ونتعاشر، فبلغت النوبة إليّ يوما من الأيام وما أملك درهما واحدا فلم أزل أفكر وأعمل الحيلة إلى أن أصبت غزلا لداية كانت لهم، فسرقته ثم وجّهت به فبيع لي واشتري لي بثمنه ما احتجت إليه، وجئت إلى الداية وقلت لها:
افعلي كذا واصنعي كذا، قالت: من أين لك ما أرى؟ قلت: اقترضت دراهم من بعض أهلي، ففعلت ما أمرتها به، فلما فرغنا من الأكل وجلسنا للحديث طلبت الداية الغزل فلم تجده فعلمت أني صاحبه، وكان في تلك الناحية لص يقال له مقلاص مشهور بالسرقة، فجاءت إلى باب البيت الذي كنا فيه فدعتني فلم أخرج إليها لعلمي أنها وقفت على ما صنعت، فلما ألحّت وأنا لا أخرج قالت: اخرج يا مقلاص، الناس يتحذّرون من مقلاصهم وأنا مقلاصي معي في البيت، فمزح معي إخوتي وعمومتي بهذا اللقب ساعة ثم لم أسمع به إلا منك الساعة فعلمت أن أمر هذه المدينة يتم على يدي لصحة ما وقفت عليه، ثم وضع أساس المدينة مدوّرا وجعل قصره في وسطها وجعل لها أربعة أبواب وأحكم سورها وفصيلها، فكان القاصد إليها من الشرق يدخل من باب خراسان والقاصد من الحجاز يدخل من باب الكوفة والقاصد من المغرب يدخل من باب الشام والقاصد من فارس والأهواز وواسط والبصرة واليمامة والبحرين يدخل من باب البصرة.
قالوا: فأنفق المنصور على عمارة بغداد ثمانية عشر ألف ألف دينار، وقال الخطيب في رواية: إنه أنفق على مدينته وجامعها وقصر الذهب فيها والأبواب والأسواق إلى أن فرغ من بنائها أربعة آلاف ألف وثمانمائة وثلاثة وثمانين ألف درهم، وذاك أن الأستاذ من الصّنّاع كان يعمل في كل يوم بقيراط إلى خمس حبّات والروزجاري بحبتين إلى ثلاث حبات، وكان الكبش بدرهم والحمل بأربعة دوانيق والتمر ستون رطلا بدرهم، قال الفضل بن دكين: كان ينادى على لحم البقر في جبانة كندة تسعون رطلا بدرهم، ولحم الغنم ستون رطلا بدرهم، والعسل عشرة أرطال بدرهم، قال: وكان بين كل باب من أبواب المدينة والباب الآخر ميل، وفي كل ساف من أسواف البناء مائة ألف لبنة واثنان وستون ألف لبنة من اللبن الجعفري، وعن ابن الشّروي قال: هدمنا من السور الذي يلي باب المحوّل قطعة فوجدنا فيها لبنة مكتوبا عليها بمغرة:
وزنها مائة وسبعة عشر رطلا، فوزناها فوجدناها كذلك.
وكان المنصور كما ذكرنا بنى مدينته مدوّرة وجعل داره وجامعها في وسطها، وبنى القبة الخضراء فوق إيوان، وكان علوّها ثمانين ذراعا، وعلى رأس القبة صنم على صورة فارس في يده رمح، وكان السلطان إذا رأى أن ذلك الصنم قد استقبل بعض الجهات ومدّ
الرمح نحوها علم أن بعض الخوارج يظهر من تلك الجهة، فلا يطول عليه الوقت حتى ترد عليه الأخبار بأن خارجيّا قد هجم من تلك الناحية، قلت أنا:
هكذا ذكر الخطيب وهو من المستحيل والكذب الفاحش، وإنما يحكى مثل هذا عن سحرة مصر وطلسمات بليناس التي أوهم الأغمار صحتها تطاول الأزمان والتخيل أن المتقدّمين ما كانوا بني آدم، فأما الملة الإسلامية فإنها تجلّ عن مثل هذه الخرافات، فإن من المعلوم أن الحيوان الناطق مكلف الصنائع لهذا التمثال لا يعلم شيئا مما ينسب إلى هذا الجماد ولو كان نبيّا مرسلا، وأيضا لو كان كلما توجهت إلى جهة خرج منها خارجيّ لوجب أن لا يزال خارجيّ يخرج في كل وقت لأنها لا بدّ أن تتوجه إلى وجه من الوجوه، والله أعلم، قال: وسقط رأس هذه القبة سنة 329، وكان يوم مطر عظيم ورعد هائل، وكانت هذه القبة تاج البلد وعلم بغداد ومأثرة من مآثر بني العباس، وكان بين بنائها وسقوطها مائة ونيف وثمانون سنة، ونقل المنصور أبوابها من واسط، وهي أبواب الحجّاج، وكان الحجاج أخذها من مدينة بإزاء واسط تعرف بزندورد، يزعمون أنها من بناء سليمان بن داود، عليه السلام، وأقام على باب خراسان بابا جيء به من الشام من عمل الفراعنة وعلى باب الكوفة بابا جيء به من الكوفة من عمل خالد القسري وعمل هو بابا لباب الشام، وهو أضعفها، وكان لا يدخل أحد من عمومة المنصور ولا غيرهم من شيء من الأبواب إلّا راجلا إلا داود بن عليّ عمه، فإنه كان متفرّسا وكان يحمل في محفّة، وكذلك محمد المهدي ابنه، وكانت تكنس الرحاب في كل يوم ويحمل التراب إلى خارج، فقال له عمه عبد الصمد: يا أمير المؤمنين أنا شيخ كبير فلو أذنت لي أن أنزل داخل الأبواب، فلم يأذن له، فقال: يا أمير المؤمنين عدني بعض بغال الرّوايا التي تصل إلى الرّحاب، فقال: يا ربيع بغال الروايا تصل إلى رحابي تتخذ الساعة قنيّ بالساج من باب خراسان حتى تصل إلى قصري، ففعل ومدّ المنصور قناة من نهر دجيل الآخذ من دجلة وقناة من نهر كرخايا الآخذ من الفرات وجرّهما إلى مدينته في عقود وثيقة، من أسفلها محكمة بالصاروج والآجر من أعلاها، فكانت كل قناة منها تدخل المدينة وتنفذ في الشوارع والدروب والأرباض، تجري صيفا وشتاء لا ينقطع ماؤها في شيء من الأوقات، ثم أقطع المنصور أصحابه القطائع فعمّروها وسميت بأسمائهم، وقد ذكرت من ذلك ما بلغني في مواضعه حسب ما قضى به ترتيب الحروف، وقد صنّف في بغداد وسعتها وعظم رفعتها وسعة بقعتها وذكر أبو بكر الخطيب في صدر كتابه من ذلك ما فيه كفاية لطالبه.
فلنذكر الآن ما ورد في مدح بغداد
ومن عجيب ذلك ما ذكره أبو سهل بن نوبخت قال:
أمرني المنصور لما أراد بناء بغداد بأخذ الطالع، ففعلت فإذا الطالع في الشمس وهي في القوس، فخبّرته بما تدلّ النجوم عليه من طول بقائها وكثرة عمارتها وفقر الناس إلى ما فيها ثم قلت: وأخبرك خلّة أخرى أسرك بها يا أمير المؤمنين، قال: وما هي؟ قلت: نجد في أدلة النجوم أنه لا يموت بها خليفة أبدا حتف أنفه، قال: فتبسم وقال الحمد لله على ذلك، هذا من فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ولذلك يقول عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفى:
«أعاينت في طول من الأرض أو عرض، *** كبغداد من دار بها مسكن الخفض»
«صفا العيش في بغداد واخضرّ عوده، *** وعيش سواها غير خفض ولا غضّ»
«تطول بها الأعمار، إنّ غذاءها *** مريء، وبعض الأرض أمرأ من بعض»
«قضى ربّها أن لا يموت خليفة *** بها، إنه ما شاء في خلقه يقضي»
«تنام بها عين الغريب، ولا ترى *** غريبا بأرض الشام يطمع في الغمض»
«فإن جزيت بغداد منهم بقرضها، *** فما أسلفت إلّا الجميل من القرض»
«وإن رميت بالهجر منهم وبالقلى، *** فما أصبحت أهلا لهجر ولا بغض»
وكان من أعجب العجب أن المنصور مات وهو حاجّ، والمهدي ابنه خرج إلى نواحي الجبل فمات بما سبذان بموضع يقال له الرّذّ، والهادي ابنه مات بعيساباد قرية أو محلّة بالجانب الشرقي من بغداد، والرشيد مات بطوس، والأمين أخذ في شبارته وقتل بالجانب الشرقي، والمأمون مات بالبذندون من نواحي المصّيصة بالشام، والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر وباقي الخلفاء ماتوا بسامرّا، ثم انتقل الخلفاء إلى التاج من شرقي بغداد كما ذكرناه في التاج، وتعطّلت مدينة المنصور منهم.
وفي مدح بغداد قال بعض الفضلاء: بغداد جنة الأرض ومدينة السلام وقبة الإسلام ومجمع الرافدين وغرّة البلاد وعين العراق ودار الخلافة ومجمع المحاسن والطيبات ومعدن الظرائف واللطائف، وبها أرباب الغايات في كل فنّ، وآحاد الدهر في كل نوع، وكان أبو إسحاق الزّجّاج يقول: بغداد حاضرة الدنيا وما عداها بادية، وكان أبو الفرج الببغا يقول: هي مدينة السلام بل مدينة الإسلام، فإنّ الدولة النبوية والخلافة الإسلامية بها عشّشتا وفرّختا وضربتا بعروقهما وبسقتا بفروعهما، وإنّ هواءها أغذى من كل هواء وماءها أعذب من كل ماء، وإنّ نسيمها أرقّ من كل نسيم، وهي من الإقليم الاعتدالي بمنزلة المركز من الدائرة، ولم تزل بغداد موطن الأكاسرة في سالف الأزمان ومنزل الخلفاء في دولة الإسلام، وكان ابن العميد إذا طرأ عليه أحد من منتحلي العلوم والآداب وأراد امتحان عقله سأله عن بغداد، فإن فطن بخواصّها وتنبّه على محاسنها وأثنى عليها جعل ذلك مقدّمة فضله وعنوان عقله، ثم سأله عن الجاحظ، فإن وجد أثرا لمطالعة كتبه والاقتباس من نوره والاغتراف من بحره وبعض القيام بمسائله قضى له بأنه غرّة شادخة في أهل العلم والآداب، وإن وجده ذامّا لبغداد غفلا عما يحب أن يكون موسوما به من الانتساب إلى المعارف التي يختص بها الجاحظ لم ينفعه بعد ذلك شيء من المحاسن، ولما رجع الصاحب عن بغداد سأله ابن العميد عنها، فقال: بغداد في البلاد كالأستاذ في العباد، فجعلها مثلا في الغاية في الفضل، وقال ابن زريق الكاتب الكوفي:
«سافرت أبغي لبغداد وساكنها *** مثلا، قد اخترت شيئا دونه الياس»
«هيهات بغداد، والدنيا بأجمعها *** عندي، وسكان بغداد هم الناس»
وقال آخر:
«بغداد يا دار الملوك ومجتنى *** صوف المنى، يا مستقرّ المنابر»
«ويا جنّة الدنيا ويا مجتنى الغنى، *** ومنبسط الآمال عند المتاجر»
وقال أبو يعلى محمد بن الهبّارية: سمعت الشيخ الزاهد أبا إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآباذي يقول: من دخل بغداد وهو ذو عقل صحيح وطبع معتدل مات بها أو بحسرتها، وقال عمارة بن عقيل ابن بلال بن جرير:
«ما مثل بغداد في الدنيا ولا الدين، *** على تقلّبها في كلّ ما حين»
«ما بين قطربّل فالكرخ نرجسة *** تندى، ومنبت خيريّ ونسرين»
«تحيا النفوس بريّاها، إذا نفحت، *** وخرّشت بين أوراق الرّياحين»
«سقيا لتلك القصور الشاهقات وما *** تخفي من البقر الإنسيّة العين»
«تستنّ دجلة فيما بينها، فترى *** دهم السّفين تعالى كالبراذين»
«مناظر ذات أبواب مفتّحة، *** أنيقة بزخاريف وتزيين»
«فيها القصور التي تهوي، بأجنحة، *** بالزائرين إلى القوم المزورين»
«من كلّ حرّاقة تعلو فقارتها، *** قصر من الساج عال ذو أساطين»
وقدم عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس إلى بغداد فرأى كثرة الناس بها فقال: ما مررت بطريق من طرق هذه المدينة إلّا ظننت أن الناس قد نودي فيهم، ووجد على بعض الأميال بطريق مكة مكتوبا:
«أيا بغداد يا أسفي عليك! *** متى يقضى الرجوع لنا إليك؟»
«قنعنا سالمين بكلّ خير، *** وينعم عيشنا في جانبيك»
ووجد على حائط بجزيرة قبرص مكتوبا:
«فهل نحو بغداد مزار، فيلتقي *** مشوق ويحظى بالزيارة زائر»
«إلى الله أشكو، لا إلى الناس، إنه *** على كشف ما ألقى من الهمّ قادر»
وكان القاضي أبو محمد عبد الوهّاب بن علي بن نصر المالكي قد نبا به المقام ببغداد فرحل إلى مصر، فخرج البغداديون يودّعونه وجعلوا يتوجعون لفراقه، فقال: والله لو وجدت عندكم في كل يوم مدّا من الباقلّى ما فارقتكم، ثم قال:
«سلام على بغداد من كلّ منزل، *** وحقّ لها منّي السلام المضاعف»
«فو الله ما فارقتها عن قلى لها، *** وإني بشطّي جانبيها لعارف»
«ولكنها ضاقت عليّ برحبها، *** ولم تكن الأرزاق فيها تساعف»
«وكانت كخلّ كنت أهوى دنوّه، *** وأخلاقه تنأى به وتخالف»
ولما حج الرشيد وبلغ زرود التفت إلى ناحية العراق وقال:
«أقول وقد جزنا زرود عشيّة، *** وكادت مطايانا تجوز بنا نجدا»
«على أهل بغداد السلام، فإنني *** أزيد بسيري عن ديارهم بعدا»
وقال ابن مجاهد المقري: رأيت أبا عمرو بن العلاء في النوم فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: دعني مما فعل الله بي، من أقام ببغداد على السّنّة والجماعة ومات نقل من جنة إلى جنة، وعن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي محمد بن إدريس الشافعي، رضي الله عنه: أيا يونس دخلت بغداد؟ فقلت: لا، فقال: أيا يونس ما رأيت الدنيا ولا الناس، وقال طاهر بن المظفّر بن طاهر الخازن:
«سقى الله صوب الغاديات محلّة *** ببغداد، بين الخلد والكرخ والجسر»
«هي البلدة الحسناء، خصّت لأهلها *** بأشياء لم يجمعن مذ كنّ في مصر»
«هواء رقيق في اعتدال وصحّة، *** وماء له طعم ألذّ من الخمر»
«ودجلتها شطّان قد نظما لنا *** بتاج إلى تاج، وقصر إلى قصر»
«ثراها كمسك، والمياه كفضّة، *** وحصباؤها مثل اليواقيت والدّر»
قال أبو بكر الخطيب: أنشدني أبو محمد الباقي قول الشاعر:
«دخلنا كارهين لها، فلما *** ألفناها خرجنا مكرهينا»
فقال يوشك هذا أن يكون في بغداد، قيل وأنشد لنفسه في المعنى وضمنه البيت:
«على بغداد معدن كلّ طيب، *** ومغنى نزهة المتنزّهينا: »
«سلام كلما جرحت بلحظ *** عيون المشتهين المشتهينا»
«دخلنا كارهين لها، فلما *** ألفناها خرجنا مكرهينا»
«وما حبّ الديار بنا، ولكن *** أمرّ العيش فرقة من هوينا»
قال محمد بن عليّ بن حبيب الماوردي: كتب إليّ أخي من البصرة وأنا ببغداد:
«طيب الهواء ببغداد يشوّقني *** قدما إليها، وإن عاقت معاذير»
«وكيف صبري عنها، بعد ما جمعت *** طيب الهواءين ممدود ومقصور؟»
وقلّد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر اليمن، فلما أراد الخروج قال:
«أيرحل آلف ويقيم إلف، *** وتحيا لوعة ويموت قصف؟»
«على بغداد دار اللهو منّي *** سلام ما سجا للعين طرف»
«وما فارقتها لقلى، ولكن *** تناولني من الحدثان صرف»
«ألا روح ألا فرج قريب، *** ألا جار من الحدثان كهف»
«لعلّ زماننا سيعود يوما، *** فيرجع آلف ويسر إلف»
فبلغ الوزير هذا الشعر فأعفاه، وقال شاعر يتشوق بغداد:
«ولما تجاوزت المدائن سائرا، *** وأيقنت يا بغداد أني على بعد»
علمت بأنّ الله بالغ أمره، وأن قضاء الله ينفذ في العبد وقلت، وقلبي فيه ما فيه من جوى، ودمعي جار كالجمان على خدّي: ترى الله يا بغداد يجمع بيننا فألقى الذي خلّفت فيك على العهد؟
وقال محمد بن عليّ بن خلف النيرماني:
«فدى لك يا بغداد كل مدينة *** من الأرض، حتى خطّتي ودياريا»
«فقد طفت في شرق البلاد وغربها، *** وسيّرت خيلي بينها وركابيا»
«فلم أر فيها مثل بغداد منزلا، *** ولم أر فيها مثل دجلة واديا»
«ولا مثل أهليها أرقّ شمائلا، *** وأعذب ألفاظا، وأحلى معانيا»
«وقائلة: لو كان ودّك صادقا *** لبغداد لم ترحل، فقلت جوابيا: »
«يقيم الرجال الموسرون بأرضهم، *** وترمي النوى بالمقترين المراميا»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
157-معجم البلدان (بقيقا)
بَقِيقَا:من قرى الكوفة، كانت بها وقعة للخوارج، وكان مصعب قد استخلف على الكوفة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة القباع، فبلغه أن قطريّ بن الفجاءة سار إلى المدائن، فخرج إليه القباع فكان مسيره من الكوفة إلى باجوّا شهرا، فقال عند ذلك بعض الشعراء:
«سار بنا القباع سيرا ملسا، *** بين بقيقا وبديقا خمسا»
قال وفيما بينهما نحو ميلين، وقال أيضا:
«سار بنا القباع سيرا نكرا، *** يسير يوما ويقيم شهرا»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
158-معجم البلدان (تركستان)
تُرْكِسْتَانُ:هو اسم جامع لجميع بلاد الترك وفي الحديث: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: الترك أول من يسلب أمتي ما خوّلوا وعن ابن عباس أنه قال: ليكوننّ الملك، أو قال الخلافة، في ولدي حتى يغلب على عزهم الحمر الوجوه الذين كأنّ وجوههم المجانّ المطرّقة وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أنه قال: لا تقوم الساعة حتى يجيء قوم عراض الوجوه صغار الأعين فطس الأنوف حتى يربطوا خيولهم بشاطئ دجلة وعن معاوية:
لا تبعثوا الرّابضين اتركوهم ما تركوكم الترك والحبشة وخبر آخر عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: اتركوا الترك ما تركوكم. وقيل: إن الشاة لا تضع في بلاد الترك أقلّ من أربعة وربما وضعت خمسة أو ستة كما تضع الكلاب، وأما اثنين أو ثلاثة فإنما يكون نادرا، وهي كبار جدّا، ولها ألايا كبار تجرها على الأرض. وأوسع بلاد الترك بلاد التغزغز، وحدّهم الصين والتّبّت والخرلخ والكيماك والغزّ والجفر والبجناك والبذكش واذكس وخفشاق وخرخيز، وأول حدّهم من جهة المسلمين فاراب، قالوا: ومدائنهم المشهورة ست عشرة مدينة،
والتغزغز في الترك كالبادية، أصحاب عمد يرحلون ويحلّون، والبذكشية أهل بلاد وقرّى. وكان هشام بن عبد الملك بعث إلى ملك الترك يدعوه إلى الإسلام، قال الرسول: فدخلت عليه وهو يتخذ سرجا بيده فقال للترجمان: من هذا؟ فقال: رسول ملك العرب، قال: غلامي! قال: نعم، قال
فأسر بي إلى بيت كثير اللحم قليل الخبز، ثم استدعاني وقال لي: ما بغيتك؟ فتلطّفت له وقلت: إن صاحبي يريد نصيحتك ويراك على ضلال ويحبّ لك الدخول في الإسلام، قال: وما الإسلام؟
فأخبرته بشرائطه وحظره وإباحته وفروضه وعبادته، فتركني أياما ثم ركب ذات يوم في عشرة أنفس مع كل واحد منهم لواء وأسر بحملي معه، فمضينا حتى صعد تلّا وحول التلّ غيضة، فلما طلعت الشمس أمر واحدا من أولئك أن ينشر لواءه ويليح به، ففعل، فوافى عشرة آلاف فارس مسلّح كلّهم يقول: جاه جاه، حتى وقفوا تحت التلّ وصعد مقدّمهم فكفّر للملك، فما زال يأمر واحدا واحدا أن ينشر لواءه ويليح به، فإذا فعل ذلك وافى عشرة آلاف فارس مسلّح فيقف تحت التلّ حتى نشر الألوية العشرة وصار تحت التلّ مائة ألف فارس مدجّج، ثم قال للترجمان: قل لهذا الرسول يعرّف صاحبه أن ليس في هؤلاء حجّام ولا إسكاف ولا خياط فإذا أسلموا والتزموا شروط الإسلام من أين يأكلون؟
ومن ملوك الترك كيماك دون ألفين، وهم بادية يبيعون الكلأ، فإذا ولد للرجل ولد ربّاه وعاله وقام بأمره حتى يحتلم ثم يدفع إليه قوسا وسهاما ويخرجه من منزله ويقول له: احتل لنفسك، ويصيّره بمنزلة الغريب الأجنبي ومنهم من يبيع ذكور ولده وإناثهم بما ينفقونه ومن سنتهم أن البنات البكور مكشفات الرؤوس، فإذا أراد الرجل أن يتزوّج ألقى على رأس إحداهن ثوبا فإذا فعل ذلك صارت زوجته لا يمنعها منه مانع وذكر تميم بن بحر المطّوّعي أن بلدهم شديد البرد، وإنما يسلك فيه ستة أشهر في السنة، وأنه سلك في بلاد خاقان التغزغزي على بريد أنفذه خاقان إليه وأنه كان يسير في اليوم والليلة ثلاث سكك بأشد سير وأحثه، فسار عشرين يوما في بواد فيها عيون وكلأ وليس فيها قرية ولا مدينة إلا أصحاب السكك، وهم نزول في خيام، وكان حمل معه زادا لعشرين يوما، ثم سافر بعد ذلك عشرين يوما في قرى متصلة وعمارات كثيرة، وأكثر أهلها عبدة نيران على مذهب المجوس، ومنهم زنادقة على مذهب ماني، وأنه بعد هذه الأيام وصل إلى مدينة الملك وذكر أنها مدينة حصينة عظيمة حولها رساتيق عامرة وقرى متصلة ولها اثنا عشر بابا من حديد مفرطة العظم، قال: وهي كثيرة الأهل والزحام والأسواق والتجارات، والغالب على أهلها مذهب الزنادقة، وذكر أنه حزر ما بعدها إلى بلاد الصين مسيرة ثلاثمائة فرسخ، قال: وأظنه أكثر من ذلك، قال: وعن يمين بلدة التغزغز بلاد الترك لا يخالطها غيرهم، وعن يسار التغزغز كيماك وأمامها بلاد الصين، وذكر أنه نظر قبل وصوله إلى المدينة خيمة الملك من ذهب وعلى رأس قصره تسعمائة رجل، وقد استفاض بين أهل المشرق أن مع الترك حصى يستمطرون به، ويجيئهم الثلج حين أرادوا.
وذكر أحمد بن محمد الهمذاني عن أبي العباس عيسى ابن محمد المروزي قال: لم نزل نسمع في البلاد التي من وراء النهر وغيرها من الكور الموازية لبلاد الترك الكفرة الغزّيّة والتغزغزية والخزلجية، وفيهم المملكة، ولهم في أنفسهم شأن عظيم ونكاية في الأعداء شديدة،
إن من الترك من يستمطر في السفارة وغيرها فيمطر ويحدث ما شاء من برد وثلج ونحو ذلك، فكنا بين منكر ومصدق، حتى رأيت داود بن منصور بن أبي علي الباذغيسي، وكان رجلا صالحا قد تولى خراسان، فحمد أمره بها، وقد خلا بابن ملك الترك الغزية، وكان يقال له بالقيق بن حيّو
قالوا: بلى، قال: فكيف يتهيأ لهم المقام على ما ذكرتم؟ قالوا: أما الناس فلهم أسراب تحت الأرض وغيران في الجبال، فإذا طلعت الشمس بادروا إليها واستكنوا فيها حتى ترتفع الشمس عنهم فيخرجون، وأما الوحوش فإنها تلتقط حصّى هناك قد ألهمت معرفته، فكلّ وحشيّة تأخذ حصاة بفيها وترفع رأسها إلى السماء فتظلّلها وتبرز عند ذلك غمامة تحجب بينها وبين الشمس، قال: فقصد جدي تلك الناحية فوجد الأمر على ما بلغه، فحمل هو وأصحابه على الوحوش حتى عرف الحصى والتقطه، فحملوا منه ما قدروا عليه إلى بلادهم، فهو معهم إلى الآن، فإذا أرادوا المطر حرّكوا منه شيئا يسيرا فينشأ الغيم فيوافي المطر، وإن أرادوا الثلج والبرد زادوا في تحريكه فيوافيهم الثلج والبرد، فهذه قصتهم، وليس ذلك من حيلة عندهم، ولكنه من قدرة الله تعالى.
قال أبو العباس: وسمعت إسماعيل بن أحمد الساماني أمير خراسان يقول: غزوت الترك في بعض السنين في نحو عشرين ألف رجل من المسلمين، فخرج إليّ منهم ستون ألفا في السلاح الشاك، فواقعتهم أياما، فإني ليوما في قتالهم إذ اجتمع إليّ خلق من غلمان الأتراك وغيرهم من الأتراك المستأمنة فقالوا لي: إن لنا في عسكر الكفرة قرابات وإخوانا، وقد أنذرونا بموافاة فلان، قال: وكان هذا الذي ذكروه كالكاهن عندهم، وكانوا يزعمون أنه ينشئ سحاب البرد والثلج وغير ذلك، فيقصد بها من يريد هلاكه، وقالوا: قد عزم أن يمطر على عسكرنا بردا عظاما لا يصيب البرد إنسانا إلا قتله، قال: فانتهرتهم وقلت لهم: ما خرج الكفر من قلوبكم بعد، وهل يستطيع هذا أحد من البشر؟ قالوا: قد أنذرناك وأنت أعلم غدا عند ارتفاع النهار فلما كان من الغد وارتفاع النهار نشأت سحابة عظيمة هائلة من رأس جبل كنت مستندا بعسكري إليه ثم لم تزل تنتشر وتزيد حتى أظلّت عسكري كله، فهالني سوادها وما رأيت منها وما سمعت فيها من الأصوات الهائلة وعلمت أنها فتنة، فنزلت عن دابّتي وصلّيت ركعتين وأهل العسكر يموج بعضهم في بعض وهم لا يشكّون في البلاء، فدعوت الله وعفرت وجهي في التراب وقلت:
اللهم أغثنا فإن عبادك يضعفون عن محنتك وأنا أعلم أن القدرة لك وأنه لا يملك الضرّ والنّفع الا أنت، اللهم إن هذه السحابة إن أمطرت علينا كانت فتنة للمسلمين وسطوة للمشركين، فاصرف عنا شرها
بحولك وقوتك يا ذا الجلال والحول والقوة قال:
وأكثرت الدعاء ووجهي على التراب رغبة ورهبة إلى الله تعالى وعلما أنه لا يأتي الخير إلا من عنده ولا يصرف السوء غيره، فبينما أنا كذلك إذ تبادر إليّ الغلمان وغيرهم من الجند يبشرونني بالسلامة وأخذوا بعضدي ينهضونني من سجدتي ويقولون: انظر أيها الأمير، فرفعت رأسي فإذا السحابة قد زالت عن عسكري وقصدت عسكر الترك تمطر عليهم بردا عظاما وإذا هم يموجون، وقد نفرت دوابهم وتقلّعت خيامهم، وما تقع بردة على واحد منهم إلا أوهنته أو قتلته، فقال أصحابي: نحمل عليهم؟ فقلت: لا، لأن عذاب الله أدهى وأمرّ، ولم يفلت منهم إلا القليل، وتركوا عسكرهم بجميع ما فيه وهربوا، فلما كان من الغد جئنا إلى معسكرهم فوجدنا فيه من الغنائم ما لا يوصف، فحملنا ذلك وحمدنا الله على السلامة وعلمنا أنه هو الذي سهل لنا ذلك وملكناه قلت: هذه أخبار سطرتها كما وجدتها، والله أعلم بصحتها.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
159-معجم البلدان (تكريت)
تَكْرِيتُ:بفتح التاء والعامة يكسرونها: بلدة مشهورة بين بغداد والموصل، وهي إلى بغداد أقرب، بينها وبين بغداد ثلاثون فرسخا، ولها قلعة حصينة في طرفها الأعلى راكبة على دجلة، وهي غربي دجلة وفي كتاب الملحمة المنسوب إلى بطليموس: مدينة تكريت طولها ثمان وتسعون درجة وأربعون دقيقة، وعرضها سبع وثلاثون درجة وثلاث دقائق، وقال غيره: طولها تسع وستون درجة وثلث، وعرضها خمس وثلاثون درجة ونصف، وتعديل نهارها ثماني عشرة درجة، وأطول نهارها أربع عشرة ساعة وثلث.
وكان أول من بنى هذه القلعة سابور بن أردشير ابن بابك لما نزل الهد، وهو بلد قديم مقابل تكريت في البرّيّة، يذكر إن شاء الله تعالى إن انتهينا إلى موضعه، وقيل: سمّيت بتكريت بنت وائل وحدثني العباس بن يحيى التكريتي، وهو معروف بالعلم والفضل في الموصل، قال: مستفيض عند المحصلين بتكريت أن بعض ملوك الفرس أول ما بنى قلعة تكريت على حجر عظيم من جصّ وحصى كان بارزا في وسط دجلة ولم يكن هناك بناء غيره بالقلعة، وجعل بها مسالح وعيونا وربايا تكون بينهم وبين الروم لئلا يدهمهم من جهتهم أمر فجأة، وكان بها مقدّم على من بها قائد من قوّاد الفرس ومرزبان من مرازبتهم، فخرج ذلك المرزبان يوما يتصيّد في تلك الصحارى فرأى حيّا من أحياء العرب نازلا في تلك البادية، فدنا منهم فوجد الحيّ خلوفا وليس فيه غير النساء، فجعل يتأمل النساء وهنّ يتصرفن في أشغالهن، فأعجب بامرأة منهن وعشقها عشقا مبرّحا فدنا من النساء وأخبرهن بأمره وعرّفهن أنه مرزبان هذه القلعة وقال: إنني قد هويت فتاتكم هذه وأحبّ أن تزوجونيها، فقلن:
هذه بنت سيد هذا الحي ونحن قوم نصارى وأنت رجل مجوسيّ ولا يسوغ في ديننا أن نزوّج بغير أهل ملّتنا، فقال: أنا أدخل في دينكم، فقلن له: إنه خير إن فعلت ذلك، ولم يبق إلا أن يحضر رجالنا وتخطب إليهم كريمتهم فإنهم لا يمنعونك، فأقام إلى أن رجع رجالهن وخطب إليهم فزوجوه، فنقلها إلى القلعة وانتقل معها عشيرتها إكراما لها، فنزلوا حول القلعة، فلما طال مقامهم. بنوا هناك أبنية ومساكن، وكان اسم المرأة تكريت فسمي الربض باسمها، ثم قيل قلعة تكريت نسبوها إلى الربض وقال عبيد الله بن الحر وكان قد وقع بينه وبين أصحاب مصعب وقعة بتكريت قتل بها أكثر أصحابه ونجا بنفسه فقال:
«فإن تك خيلي يوم تكريت أحجمت، *** وقتّل فرساني، فما كنت وانيا»
«وما كنت وقّافا، ولكن مبارزا، *** أقاتلهم وحدي فرادى وثانيا»
دعاني الفتى الأزديّ عمرو بن جندب، فقلت له: لبّيك! لما دعانيا فعزّ على ابن الحرّ أن راح راجعا، وخلّفت في القتلى بتكريت ثاويا ألا ليت شعري! هل أرى بعد ما أرى جماعة قومي نصرة والمواليا وهل أزجرن بالكوفة الخيل شزبا، ضوامر تردى بالكماة عواديا فألقى عليها مص
وقال عبيد الله بن قيس الرّقيّات:
«أتقعد في تكريت لا في عشيرة *** شهود، ولا السلطان منك قريب»
«وقد جعلت أبناؤنا ترتمي بنا *** بقتل بوار، والحروب حروب»
«وأنت امرؤ للحزم عندك منزل، *** وللدين والإسلام منك نصيب»
«فدع منزلا أصبحت فيه، فإنه *** به جيف أودت بهنّ خطوب»
وافتتحها المسلمون في أيام عمر بن الخطاب في سنة 16، أرسل إليها سعد بن أبي وقاص جيشا عليه عبد الله بن المعتم فحاربهم حتى فتحها عنوة وقال في ذلك:
«ونحن قتلنا يوم تكريت جمعها، *** فلله جمع يوم ذاك تتابعوا»
«ونحن أخذنا الحصن، والحصن شامخ، *** وليس لنا فيما هتكنا مشايع»
وقال البلاذري: وجّه عتبة بن فرقد من الموصل بعد ما افتتحها في سنة عشرين مسعود بن حريث بن الأبجر أحد بني تيم بن شيبان إلى تكريت ففتح قلعتها صلحا، وكانت المرأة من الفرس شريفة فيهم يقال لها داري، ثم نزل مسعود القلعة فولده بها، وابتنى بتكريت مسجدا جامعا وجعله مرتفعا من الأرض لأنه أمنهم على خنازيرهم فكره أن تدخل المسجد وينسب إليها من أهل العلم والرواية جماعة، منهم: أبو تمام كامل بن سالم بن الحسين بن محمد التكريتي الصوفي شيخ رباط الزّوزني ببغداد، سمع الحديث من أبي القاسم الحسين، توفي في شوال سنة 548، وغيره.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
160-معجم البلدان (تل محرى)
تَلّ مَحْرَى:بفتح الميم، وسكون الحاء المهملة، والراء، والقصر، وهو تل بحرى، بالباء الموحدة، وتل البليخ: وهي بليدة بين حصن مسلمة بن عبد الملك والرّقّة في وسطها حصن، وكان فيها سوق وحوانيت وذكر أحمد بن محمد الهمذاني عن خالد ابن عمير بن عبد الحباب السّلمي قال: كنا مع مسلمة بن عبد الملك في غزوة القسطنطينية، فخرج إلينا في بعض الأيام رجل من الروم يدعو إلى المبارزة، فخرجت إليه فلم أر فارسا مثله، فتجاولنا عامة يومنا فلم يظفر واحد منا بصاحبه، ثم تداعينا إلى المصارعة، فصارعت منه أشدّ البأس فصرعني وجلس على صدري ليذبحني، وكان رسن دابته مشدودا في عاتقه، فبقيت أعالجه دفعا عن روحي وهو يعالجني ليذبحني، فبينما هو كذلك إذ جاضت دابته جيضة جذبته عني ووقع من على صدري، فبادرت وجلست على صدره ثم نفست به عن القتل وأخذته أسيرا وجئت به إلى مسلمة، فسأله فلم يجبه بحرف، وكان أجسم الناس وأعظمهم، وأراد مسلمة أن يبعث به إلى هشام وهو يومئذ بحرّان فقلت: وأين الوفادة؟
فقال: إنك لأحقّ الناس بذلك، فبعث به معي، فأقبلت أكلّمه وهو لا يكلمني حتى انتهيت إلى موضع من ديار مضر يعرف بالجريش وتلّ بحرى، فقال لي: ماذا يقال لهذا المكان؟ فقلت: هذا الجريش، وهذا تلّ بحرى، فأنشأ يقول:
«ثوى، بين الجريش وتلّ بحرى، *** فوارس من نمارة غير ميل»
«فلا جزعون إن ضرّاء نابت، *** ولا فرحون بالخير القليل»
فإذا هو أفصح الناس، ثم سكت فكلّمناه فلم يجبنا،
فلما صرنا إلى الرّها قال: دعوني أصلّي في بيعتها، قلنا: افعل، فصلّى، فلمّا صرنا إلى حرّان قال: أما إنها لأوّل مدينة بنيت بعد بابل! ثم قال: دعوني أستحمّ في حمّامها وأصلّي، فتركناه فخرج إلينا كأنه برطيل فضّة بياضا وعظما، فأدخلته إلى هشام وأخبرته جميع قصته
فقال: أنا رجل من إياد ثم أحد بني حذافة، فقال له:
أراك غريبا، لك جمال وفصاحة، فأسلم نحقن دمك، فقال: إن لي ببلاد الروم أولادا، قال: ونفكّ أولادك ونحسن عطاءك، قال: ما كنت لأرجع عن ديني، فأقبل به وأدبر وهو يأبى، فقال لي:
اضرب عنقه، فضربت عنقه وينسب إلى تلّ محرى أيوب بن سليمان الأسدي السلمي، سأل عطاء بن أبي رباح عن رجل ذكرت له امرأة فقال: يوم أتزوّجها هي طالقة البتّة، فقال: لا طلاق لمن لا يملك عقدته ولا عتق لمن لا يملك رقبته. روى عنه أحمد بن عبد الملك بن وافد الحرّاني.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
161-معجم البلدان (الجلس)
الجَلْسُ:بالفتح، وهو الغليظ من الأرض ومنه جمل جلس وناقة جلس أي وثيق جسيم. والجلس: علم لكل ما ارتفع من الغور في بلاد نجد، قال ابن السكيت:
جلس القوم إذا أتوا نجدا، وهو الجلس وأنشد:
«شمال من غار به مفرعا، *** وعن يمين الجالس المنجد»
وقال الهذلي:
«إذا ما جلسنا لا تكاد تزورنا *** سليم، لدى أبياتنا، وهوازن»
أي إذا أتينا نجدا وورد الفرزدق المدينة مادحا لمروان بن الحكم فأنكر مروان منه شيئا فأمره بالخروج من المدينة عنفا بعد أن كتب له إلى بعض العمال بمال، فقال الفرزدق:
«يا مرو إن مطيّتي محبوسة، *** ترجو الحباء، وربها لم ييأس»
فالتقاه رجل فأنشده هذه الأبيات:
«قل للفرزدق والسفاهة كاسمها: *** إن كنت تارك ما أمرتك فاجلس»
«وأتيتني بصحيفة مختومة، *** أخشى عليك بها حباء النّقرس»
«الق الصحيفة، يا فرزدق! لا تكن *** نكداء مثل صحيفة المتلمّس»
قال الطبراني في معجمه الكبير: حدثنا خالد بن النضر القرشي قال: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا كثير بن عبد الرحمن بن جعفر عن عبد الله ابن كثير بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جدّه بلال بن الحارث المزني قال: خرجنا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في بعض أسفاره فخرج لحاجته، وكان إذا خرج لحاجته يبعد، فأتيته بإداوة من ماء فانطلق، فسمعت عنده خصومة رجال ولغطا لم أسمع مثله فقال: بلال؟ فقلت: بلال! فقال:
أمعك ماء؟ قلت: نعم، قال: أصبت فأخذه مني وتوضأ، قلت: يا رسول الله سمعت عندك خصومة رجال ولغطا لم أسمع أحدا من ألسنتهم، قال: اختصم عندي الجن المسلمون والجن المشركون وسألوني أن أسكنهم فأسكنت المشركين الغور وأسكنت المسلمين الجلس قال عبد الله بن كثير:
قلت لكثير ما الجلس وما الغور؟ قال: الجلس القرى ما بين الجبال والبحر، قال كثير: ما رأينا أحدا أصيب بالجلس إلا سلم ولا أصيب أحد بالغور إلا ولم يكد يسلم وقال إبراهيم بن هرمة:
«قفا فهريقا الدمع بالمنزل الدّرس، *** ولا تستملا أن يطول به حبسي»
«ولو أطمعتنا الدار، أو ساعفت بها، *** نصصنا ذوات النّصّ والعنق الملس»
«وحثّت إليها كلّ وجناء حرّة *** من العيس، ينبي رحلها موضع الحلس»
«ليعلم أن البعد لم ينس ذكرها، *** وقد يذهل النّأي الطويل، وقد ينسي»
«فإن سكنت بالغور حنّ صبابة *** إلى الغور، أو بالجلس حنّ إلى الجلس»
«تبدّت، فقلت: الشمس عند طلوعها، *** بلون غنيّ الجلد عن أثر الورس»
«فلما ارتجعت الرّوح قلت لصاحبي *** على مرية: ما ههنا مطلع الشمس»
وتقول: رأيت جلسا أي رجلا طويلا راكبا جلسا أي بعيرا عاليا قد علا جلسا: اسم جبل يأكل جلسا أي عسلا، ويشرب جلسا أي خمرا، يؤمّ جلسا أي نجدا وأنشد ابن الأعرابي:
«وكنت امرأ بالغور مني زمانة، *** وبالجلس أخرى ما تعيد ولا تبدي»
«فطورا أكرّ الطرف نحو تهامة، *** وطورا أكرّ الطرف شوقا إلى نجد»
«وأبكي على هند إذا ما تباعدت، *** وأبكي إلى دعد إذا فارقت هند»
أقول إلى بمعنى مع كأنه قال: أبكيهما معا.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
162-معجم البلدان (جماعيل)
جَمَّاعِيلُ:بالفتح، وتشديد الميم، وألف، وعين مهملة مكسورة، وياء ساكنة، ولام: قرية في جبل نابلس من أرض فلسطين منها كان الحافظ
عبد الغني بن عبد الواحد بن عليّ بن سرور بن نافع ابن حسن بن جعفر المقدسي أبو محمد، انتسب إلى بيت المقدس لقرب جمّاعيل منها ولأن نابلس وأعمالها جميعا من مضافات البيت المقدس وبينهما مسيرة يوم واحد، ونشأ بدمشق ورحل في طلب الحديث إلى أصبهان وغيرها، وكان حريصا كثير الطلب، ورد بغداد فسمع بها من ابن النقور وغيره في سنة 560، ثم سافر إلى أصبهان وعاد إليها في سنة 578، فحدث بها وانتقل إلى الشام ثم إلى مصر فنفّق بها سوقه، وصار له بها حشد وأصحاب من الحنابلة، وكان قد جرى له بدمشق أن ادّعي عليه أنه يصرّح بالتجسيم وأخذت عليه خطوط الفقهاء، فخرج من دمشق إلى مصر لذلك ولم يخل في مصر عن مناكد له في مثل ذلك تكدّرت عليه حياته بذلك، وصنف كتبا في علم الحديث حسانا مفيدة، منها كتاب الكمال في معرفة الرجال، يعني رجال الكتب الستة من أول راو إلى الصحابة، جوّده جدّا، ومات في سنة 600 بمصر ومنها أيضا الشيخ الزاهد الفقيه موفّق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن أحمد ابن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر الجماعيلي المقدسي المقيم بدمشق، كان من الصالحين العلماء العاملين، لم يكن له في زمانه نظير في العلم على مذهب أحمد بن حنبل والزهد، صنف تصانيف جليلة، منها كتاب المغني في الفقه على مذهب أحمد بن حنبل والخلاف بين العلماء، قيل لي إنه في عشرين مجلدا، وكتاب المقنع وكتاب العهدة، وله في الحديث كتاب التوّابين وكتاب الرقة وكتاب صفة الفلق وكتاب فضائل الصحابة وكتاب القدر وكتاب الوسواس وكتاب المتحابّين، وله في علم النسب كتاب التبيين في نسب القرشيين وكتاب الاستبصار في نسب الأنصار ومقدمة في الفرائض ومختصر في غريب الحديث وكتاب في أصول الفقه وغير ذلك، وكان قد تفقه على الشيخ أبي الفتح بن المني ببغداد، وسمع أبا الفتح محمد بن عبد الباقي بن سلمان بن البطي وأبا المعالي أحمد ابن عبد الغني بن حنيفة الباجسرائي وأبا زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي وغيرهم كثيرا، وتصدّر في جامع دمشق مدة طويلة يقرأ في العلم، أخبرني الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الأزهري الصيرفي أنه آخر من قرأ عليه، وأنه مات بدمشق في أواخر شهر رمضان سنة 620، وكان مولده في شعبان سنة 541.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
163-معجم البلدان (الجوسق)
الجَوْسَقُ:في عدّة مواضع: منها قرية كبيرة من نواحي دجيل من أعمال بغداد، بينهما عشرة فراسخ.
والجوسق: من قرى النهروان من أعمال بغداد أيضا ينسب إليها أبو طاهر الخليل بن علي بن إبراهيم الجوسقي الضرير المقري، سكن بغداد، روى عن أبي الخطاب بن البطر وأبي عبد الله المغالي ذكره أبو سعد في شيوخه، مات سنة 533.
والجوسق أيضا: جوسق بن مهارش بنهر الملك.
والجوسق أيضا: قرية كبيرة عامرة بالحوف الشرقي من أعمال بلبيس من نواحي مصر. والجوسق أيضا:
بالقيروان. والجوسق: من قرى الري، عن الآبي أبي سعد منصور الوزير. والجوسق أيضا: قلعة الفرّخان بناحية الري أيضا قال شاعر من الأعراب وهو غطمّش الضبّيّ:
«لعمري! لجوّ من جواء سويقة *** أسافله ميث وأعلاه أجرع»
«أحبّ إلينا أن نجاور أهله *** ويصبح منا وهو مرأى ومسمع»
«من الجوسق الملعون بالري، كلما *** رأيت به داعي المنيّة يلمع»
والجوسق جوسق الخليفة: بالقرب من الري، أيضا، من رستاق قصران الداخل.
والجوسق الخرب أيضا: بظاهر الكوفة عند النّخيلة، وكانت الخوارج قد اختلفت يوم النهروان فاعتزلت طائفة في خمسمائة فارس مع فروة بن نوفل الأشجعي وقالوا: لا نرى قتال عليّ بل نقاتل معاوية، وانفصلت حتى نزلت بناحية شهرزور، فلما قدم معاوية من الكوفة بعد قتل عليّ، رضي الله عنه، تجمعوا وقالوا: لم يبق عذر في قتال معاوية، وساروا حتى نزلوا النخيلة بظاهر الكوفة، فنفذ إليهم معاوية طائفة من جنده فهزمتهم الخوارج، فقال معاوية لأهل الكوفة: هذا فعلكم ولا أعطيكم الأمان حتى تكفوني أمر هؤلاء، فخرج إليهم أهل الكوفة فقاتلوهم فقتلوهم، وكان عند المعركة جوسق خرب ربما ألجأت الخوارج إليه ظهورها فقال قيس بن الأصمّ الضّبّي يرثي الخوارج:
«إني أدين بما دان الشّراة به، *** يوم النّخيلة، عند الجوسق الخرب»
«النافرين على منهاج أوّلهم *** من الخوارج، قبل الشكّ والرّيب»
«قوما، إذا ذكّروا بالله أو ذكروا *** خرّوا، من الخوف، للأذقان والرّكب»
«ساروا إلى الله، حتى أنزلوا غرفا *** من الأرائك في بيت من الذهب»
«ما كان إلّا قليلا، ريث وقفتهم، *** من كل أبيض صافى اللون ذي شطب»
«حتى فنوا، ورأى الرائي رؤوسهم *** تغدو بها قلص مهريّة نجب»
«فأصبحت عنهم الدنيا قد انقطعت، *** وبلّغوا الغرض الأقصى من الطّلب»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
164-معجم البلدان (حبرون)
حَبرُونُ:بالفتح ثم السكون، وضم الراء، وسكون الواو، ونون: اسم القرية التي فيها قبر إبراهيم الخليل، عليه السلام، بالبيت المقدس، وقد غلب على اسمها الخليل، ويقال لها أيضا حبرى، وروي عن كعب الحبر أن أول من مات ودفن في حبرى سارة زوجة إبراهيم، عليه السلام، وأن إبراهيم خرج لما ماتت يطلب موضعا لقبرها فقدم على صفوان وكان على دينه وكان مسكنه ناحية حبرى فاشترى الموضع منه بخمسين درهما، وكان الدرهم في ذلك العصر خمسة دراهم، فدفن فيه سارة ثم دفن فيه إبراهيم إلى جنبها ثم توفيت ربقة زوجة إسحاق، عليه السلام، فدفنت فيه ثم توفي إسحاق فدفن فيه لزيقها ثم توفي يعقوب، عليه السلام، فدفن فيه ثم توفيت زوجته لعيا ويقال إيليا فدفنت فيه إلى أيام سليمان بن داود، عليهما السلام، فأوحى الله إليه أن ابن على قبر خليلي حيرا ليكون لزوّاره بعدك، فخرج سليمان، عليه السلام، حتى قدم أرض كنعان وطاف فلم يصبه، فرجع إلى البيت المقدس، فأوحى الله إليه: يا سليمان خالفت أمري، فقال: يا رب لم أعرف الموضع، فأوحى إليه: امض فإنك ترى نورا من السماء إلى الأرض فهو موضع خليلي، فخرج فرأى ذلك فأمر أن يبنى على الموضع الذي يقال له الرامة، وهي قرية على جبل مطلّ على حبرون، فأوحى إليه: ليس هذا هو الموضع ولكن انظر إلى النور الذي قد التزق بعنان السماء، فنظر فكان على حبرون فوق المغارة فبنى عليه الحير. قالوا: وفي هذه المغارة قبر آدم، عليه السلام، وخلف الحير قبر يوسف الصديق جاء به موسى، عليه السلام، من مصر وكان مدفونا في وسط النيل فدفن عند آبائه، وهذه المغارة تحت الأرض، قد بني حوله حير محكم البناء حسن بالأعمدة الرخام وغيرها، وبينها وبين البيت المقدس يوم واحد، وقدم على النبي، صلى الله عليه وسلم، تميم الداريّ في قومه وسأله أن يقطعه حبرون فأجابه وكتب له كتابا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم- هذا ما أعطى محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لتميم الداري وأصحابه. إني أعطيتكم بيت عينون وحبرون والمرطوم وبيت إبراهيم بذمّتهم وجميع ما فيهم
عطية بتّ ونفذت وسلمت ذلك لهم ولأعقابهم بعدهم أبد الآبدين فمن آذاهم فيه آذى الله، شهد أبو بكر ابن أبي قحافة وعمر وعثمان وعليّ بن أبي طالب.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
165-معجم البلدان (حجر)
حَجْرٌ:بالفتح، يقال: حجرت عليه حجرا إذا منعته فهو محجور، والحجر، بالكسر، بمعنى واحد.
وحجر: هي مدينة اليمامة وأم قراها، وبها ينزل الوالي، وهي شركة إلا أن الأصل لحنيفة، وهي بمنزلة البصرة والكوفة، لكل قوم منها خطّة إلا أن العدد فيه لبني عبيد من بني حنيفة، وقال أبو عبيدة معمر بن المثنّى: خرجت بنو حنيفة بن لجيم ابن صعب بن علي بن بكر بن وائل يتبعون الريف ويرتادون الكلأ حتى قاربوا اليمامة على السّمت الذي كانت عبد القيس سلكته لما قدمت البحرين، فخرج عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدؤل بن حنيفة منتجعا بأهله وماله يتبع مواقع القطر حتى هجم على اليمامة فنزل موضعا يقال له قارات الحبل، وهو من حجر على يوم وليلة، فأقام بها أياما ومعه جار من اليمن من سعد العشيرة ثم من بني زبيد، فخرج راعي عبيد حتى أتى قاع حجر فرأى القصور والنخل وأرضا عرف أن لها شأنا وهي التي كانت لطسم وجديس فبادوا كما يذكر، إن شاء الله تعالى، في اليمامة، فرجع الراعي حتى أتى عبيدا فقال: والله إني رأيت آطاما طوالا وأشجارا حسانا هذا حملها، وأتى بالتمر معه مما وجده منتثرا تحت النخل، فتناول منه عبيد وأكل وقال: هذا والله طعام طيّب! وأصبح فأمر بجزور فنحرت ثم قال لبنيه وغلمانه:
اجتزروا حتى آتيكم، وركب فرسه وأردف الغلام خلفه وأخذ رمحه حتى أتى حجرا فلما رآها لم يحل عنها وعرف أنها أرض لها شأن فوضع رمحه في الأرض ثم دفع الفرس واحتجر ثلاثين قصرا وثلاثين حديقة وسماها حجرا وكانت تسمى اليمامة، فقال في ذلك:
«حللنا بدار كان فيها أنيسها، *** فبادوا وخلّوا ذات شيد حصونها»
«فصاروا قطينا للفلاة بغربة *** رميما، وصرنا في الديار قطينها»
«فسوف يليها بعدنا من يحلها، *** ويسكن عرضا سهلها وحزونها»
ثم ركز رمحه في وسطها ورجع إلى أهله فاحتملهم حتى أنزلهم بها، فلما رأى جاره الزبيدي ذلك قال:
يا عبيد الشرك! قال: لا بل الرضا، فقال: ما بعد الرضا إلا السخط، فقال عبيد: عليك بتلك القرية فانزلها، القرية بناحية حجر على نصف فرسخ منها، فأقام بها الزبيدي أياما ثم غرض فأتى عبيدا فقال له:
عوّضني شيئا فإني خارج وتارك ما ههنا، فأعطاه ثلاثين بكرة، فخرج ولحق بقومه، وتسامعت بنو حنيفة ومن كان معهم من بكر بن وائل بما أصاب عبيد بن ثعلبة فأقبلوا فنزلوا قرى اليمامة وأقبل زيد ابن يربوع عمّ عبيد حتى أتى عبيدا فقال: أنزلني معك حجرا، فقام عبيد وقبض على ذكره وقال: والله لا ينزلها إلا من خرج من هذا، يعني أولاده، فلم يسكنها إلا ولده، وليس بها إلا عبيدي، وقال لعمه:
عليك بتلك القرية التي خرج منها الزبيدي فانزلها، فنزلها في أخبية الشعر وعبيد وولده في القصور بحجر، فكان عبيد يمكث الأيام ثم يقول لبنيه: انطلقوا إلى باديتنا، يريد عمه، فيمضون يتحدثون هنالك ثم يرجعون، فمن ثمّ سميت البادية، وهي منازل زيد وحبيب وقطن ولبيد بني يربوع بن ثعلبة بن الدؤل بن حنيفة، ثم جعل عبيد يفسل النخل فيغرسها فتخرج ولا تخلف، ففعل أهل اليمامة كلهم ذلك، فهذا هو السبب في تسميتها حجرا، وقد أكثرت الشعراء من ذكرها والتشوق إليها، فروي عن نفطويه قال:
قالت أم موسى الكلابية وكان تزوجها رجل من أهل حجر اليمامة ونقلها إلى هنالك:
«قد كنت أكره حجرا أن ألمّ بها، *** وأن أعيش بأرض ذات حيطان»
«لا حبّذا العرف الأعلى وساكنه، *** وما تضمّن من مال وعيدان»
«أبيت أرقب نجم الليل قاعدة *** حتى الصباح، وعند الباب علجان»
«لولا مخافة ربي أن يعاقبني، *** لقد دعوت على الشيخ ابن حيّان»
وكان رجل من بني جشم بن بكر يقال له جحدر يخيف السبيل بأرض اليمن، وبلغ خبره الحجاج، فأرسل إلى عامله باليمن يشدد عليه في طلبه، فلم يزل يجد في أمره حتى ظفر به وحمله إلى الحجاج بواسط، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: كلب الزمان وجراءة الجنان، فأمر بحبسه فحبس، فحنّ إلى بلاده وقال:
«لقد صدع الفؤاد، وقد شجاني *** بكاء حمامتين تجاوبان»
«تجاوبتا بصوت أعجميّ *** على غصنين: من غرب وبان»
«فأسبلت الدموع بلا احتشام، *** ولم أك باللئيم ولا الجبان»
«فقلت لصاحبيّ: دعا ملامي، *** وكفّا اللوم عني واعذراني»
«أليس الله يعلم أن قلبي *** يحبك أيها البرق اليماني؟»
«وأهوى أن أعيد إليك طرفي *** على عدواء من شغلي وشاني»
«أليس الله يجمع أم عمرو *** وإيانا، فذاك بنا تدان؟»
«بلى! وترى الهلال كما أراه، *** ويعلوها النهار كما علاني»
«فما بين التفرق غير سبع *** بقين من المحرم، أو ثمان»
«ألم ترني غذيت أخا حروب، *** إذا لم أجن كنت مجنّ جان؟»
«أيا أخويّ من جشم بن بكر، *** أقلّا اللّوم إن لا تنفعاني»
«إذا جاوزتما سعفات حجر *** وأودية اليمامة، فانعياني»
«لفتيان، إذا سمعوا بقتلي *** بكى شبانهم وبكى الغواني»
«وقولا: جحدر أمسى رهينا، *** يحاذر وقع مصقول يماني»
«ستبكي كل غانية عليه، *** وكل مخضّب رخص البنان»
«وكل فتى له أدب وحلم *** معدّيّ كريم، غير وان»
فبلغ شعره هذا الحجاج فأحضره بين يديه وقال له:
أيما أحب إليك أن أقتلك بالسيف أو ألقيك للسباع؟
فقال له: أعطني سيفا وألقني للسباع! فأعطاه سيفا وألقاه إلى سبع ضار مجوّع فزأر السبع وجاءه فتلقاه بالسيف ففلق هامته، فأكرمه الحجاج واستنابه وخلع عليه وفرض له في العطاء وجعله من أصحابه، وأنشد ابن الأعرابي في نوادره لبعض اللصوص:
«هل الباب مفروج، فأنظر نظرة *** بعين قلت حجرا وطال احتمامها؟»
«ألا حبّذا الدهنا وطيب ترابها، *** وأرض فضاء يصدح الليل هامها»
«وسير المطايا بالعشيات والضحى، *** إلى بقر وحش العيون اكامها»
والحجر أيضا حجر الراشدة: موضع في ديار بني عقيل، وهو مكان ظليل أسفله كالعمود وأعلاه منتشر، عن أبي عبيد. والحجر أيضا: واد بين بلاد عذرة وغطفان. والحجر أيضا: جبل في بلاد غطفان.
والحجر أيضا حجر بني سليم: قرية لهم.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
166-معجم البلدان (حران)
حرَّانُ:تشديد الراء، وآخره نون، يجوز أن يكون فعّالا من حرن الفرس إذا لم ينقد، ويجوز أن يكون فعلان من الحرّ، يقال: رجل حرّان أي عطشان، وأصله من الحر، وامرأة حرّى، وهو حرّان يرّان، والنسبة إليها حرناني، بعد الراء الساكنة نون على غير قياس، كما قالوا: مناني في النسبة إلى ماني والقياس مانويّ وحرّاني والعامة عليهما، قال بطليموس: طول حرّان اثنتان وسبعون درجة وثلاثون دقيقة، وعرضها سبع وعشرون درجة وثلاثون دقيقة، وهي في الإقليم الرابع، طالعها القوس ولها شركة في العوّاء تسع درج ولها النسر الواقع كله ولها بنات نعش كلها تحت ثلاث عشرة درجة من السرطان يقابلها مثلها من الجدي، بيت ملكها مثلها من الحمل بيت عاقبتها مثلها من الميزان، وقال أبو عون في زيجه: طول حرّان سبع وسبعون درجة، وعرضها سبع وثلاثون درجة، وهي مدينة عظيمة مشهورة من جزيرة أقور، وهي قصبة ديار مضر، بينها وبين الرّها يوم وبين الرّقّة يومان، وهي على طريق الموصل والشام والروم، قيل:
سميت بهاران أخي إبراهيم، عليه السلام، لأنه أول من بناها فعرّبت فقيل حرّان، وذكر قوم أنها أول مدينة بنيت على الأرض بعد الطوفان، وكانت منازل الصابئة وهم الحرانيّون الذين يذكرهم أصحاب كتب الملل والنحل، وقال المفسرون في قوله تعالى: إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي 29: 26، إنه أراد حرّان، وقالوا في قوله تعالى: وَنَجَّيْناهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ 21: 71، هي حرّان، وقول سديف بن ميمون:
«قد كنت أحسبني جلدا، فضعضعني *** قبر بحرّان فيه عصمة الدين»
يريد إبراهيم ابن الإمام محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وكان مروان بن محمد حبسه بحرّان حتى مات بها بعد شهرين في الطاعون، وقيل: بل قتل، وذلك في سنة 232، حدثني أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد السرخسي النحوي قال: حدثني ابن النبيه الشاعر المصري قال: مررت مع الملك الأشرف بن العادل ابن أيوب في يوم شديد الحر بظاهر حرّان على مقابرها ولها أهداف طوال على حجارة كأنها الرجال القيام، وقال لي الأشرف: بأيّ شيء تشبّه هذه؟ فقلت ارتجالا:
«هواء حرّانكم غليظ، *** مكدّر مفرط الحرارة»
«كأنّ أجداثها جحيم، *** وقودها الناس والحجاره»
وفتحت في أيام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، على يد عياض بن غنم نزل عليها قبل الرّها فخرج إليه مقدموها فقالوا له: ليس بنا امتناع عليكم ولكنا نسألكم أن تمضوا إلى الرّها فمهما دخل فيه أهل الرها فعلينا مثله، فأجابهم عياض إلى ذلك ونزل على الرها وصالحهم، كما نذكره في الرها، فصالح أهل حران على مثاله، وينسب إليها جماعة كثيرة من أهل العلم، ولها تاريخ، منهم: أبو الحسن علي بن علّان بن عبد الرحمن الحرّاني الحافظ، صنف تاريخ الجزيرة، وروى عن أبي يعلى الموصلي وأبي بكر محمد بن أحمد ابن شيبة البغدادي وأبي بكر محمد بن علي الباغندي ومحمد بن جرير وأبي القاسم البغوي وأبي عروبة الحرّاني وغيرهم كثير، روى عنه تمّام بن محمد الدمشقي وأبو عبد الله بن مندة وأبو الطبير عبد الرحمن بن عبد العزيز وغيرهم، وتوفي يوم عيد الأضحى سنة 355، وكان حافظا ثقة نبيلا، وأبو عروبة الحسن بن محمد بن أبي معشر الحرّاني الحافظ الإمام صاحب تاريخ الجزيرة، مات في ذي الحجة سنة 318 عن ست وتسعين سنة، وغيرهما كثير. وحرّان أيضا: من قرى حلب. وحرّان الكبرى وحرّان الصغرى: قريتان بالبحرين لبني عامر بن الحارث بن أنمار بن عمرو بن وديعة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس. وحرّان أيضا: قرية بغوطة دمشق.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
167-معجم البلدان (حرث)
حُرَثُ:بوزن عمر وزفر، يجوز أن يكون معدولا عن حارث وهو الكاسب، ذكر أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد عن السكن بن سعيد الجرموزي عن محمد بن عبّاد عن هشام بن محمد الكلبي عن أبيه قال: كان ذو حرث الحميري وهو أبو عبد كلال مثوّب ذو حرث، وكان من أهل بيت الملك، وهو ذو حرث بن الحارث بن مالك بن غيدان بن حجر بن ذي رعين واسمه يريم بن زيد ابن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن جيدان بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير صاحب صيد، ولم يملك ولم يعل وثابا ولم يلبس مصيرا، الوثاب: السرير، والمصير: التاج بلغة حمير، وكان سيّاحا يطوف في البلاد ومعه ذؤبان من ذؤبان اليمن يغير بهم فيأكل ويؤكل، فأوغل في بعض أيامه في بلاد اليمن فهجم على بلد أفيح كثير الرياض ذي أوداة ذات نخل وأغيال، فأمر أصحابه بالنزول وقال:
يا قوم إنّ لهذا البلد لشأنا وإنه ليرغب في مثله لما أرى من غياضه ورياضه وانفتاق أطرافه وتقاذف أرجائه ولا أرى أنيسا ولست برائم حتى أعرف لأيّة علّة تحامته الرّوّاد مع هذا الصيد الذي قد تجنبه الطّرّاد، ونزل وألقى بقاعه وأمر قنّاصه فبثّوا كلابه وصقوره، وأقبلت الكلاب تتبع الظباء والشاء من الصيران فلا تلبث أن ترجع كاسعة بأذنابها تضيء وتلوذ بأطراف القنّاص وكذلك الصّقور تحوم فإذا كسرت على صيد انثنت راجعة على ما والاها من الشجر فتكتّبت فيه، فعجب من ذلك وراعه، فقال له أصحابه: أبيت اللعن، إننا ممنوعون وإن لهذه الأرض جماعة من غير الإنس فارحل بنا عنها، فلجّ وأقسم بآلهته لا يريم حتى يعرف شأنها أو يخترم دون ذلك، فبات على تلك الحال فلما أصبح قال له أصحابه:
أبيت اللعن، إنا قد سمعنا ألوتك وأنفسنا دون نفسك فأذن لنا أن ننفض الأرض لنقف على ما آليت عليه، فأمرهم فتفرّقوا ثلاثا في رجالهم، وركب في ذوي النّجدة منهم وأمرهم أن تعشّوا بالإحلال، فإذا أمسوا شبّوا النار فخرج مشرّقا فآب وقد طفل العشيّ ولم يحسّ ركزا ولا أبّن أثرا، فلما أصبح في اليوم فعل فعله بالأمس وخرج مغرّبا فسار غير بعيد حتى هجم على عين عظيمة يطيف بها عرين وغاب وتكتنفها ثلاثة أنداد عظام، والأنداد جمع ندّ، وهو الأكمة لا تبلغ أن تكون جبلا، وإذا على شريعتها بيت رضيم بالصخر وحوله من مسوك الوحوش وعظامها كالتلال فهنّ بين رميم وصليب وغريض، فبينما هو كذلك إذ أبصر شخصا كجماء الفحل المقرم قد تجلل بشعره وذلاذله تنوس على عطفه وبيده سيف كاللجّة
الخضراء ونفصت عنه الخيل وأصرّت بآذانها ونفضت بأبوالها، قال: ونحن محرنجمون فنادينا وقلنا: من أنت؟ فأقبل يلاحظنا كالقرم الصّؤول ثم وثب كوثبة الفهد على أدنانا إليه فضربه ضربة قطّ عجز فرسه وثنّى بالفارس وجزله جزلتين، فقال القيل، يعني الملك: ليلحق فارسان بر
افترقوا ثلاث فرق واحملوا عليه من أقطاره، ثم صاح به القيل: من أنت؟ ويلك! فقال بصوت كالرعد: أنا حرث لا أراع ولا أحاث ولا ألاع ولا أكرث، فمن أنت؟ فقال: أنا مثوّب، فقال: وإنك لهو! قال: نعم، فقهقر ثم قال: ام يوم انقضت ام مدة وبلغت نهايتها ام عدّة لك كانت هذه ام سرارة ممنوعة، هذه لغة لبعض اليمن يبدلون اللام وهو لام التعريف ميما، يريد اليوم انقضت المدّة وبلغت نهايتها العدّة لك كانت هذه السرارة ممنوعة، ثم جلس ينزع النبل من بدنه وألقى نفسه، فقال بعضنا للقيل: قد استسلم، فقال: كلا ولكنه قد اعترف، دعوه فإنه ميت، فقال: عهد عليكم لتحفرنني، فقال القيل: آكد عهد، ثم كبا لوجهه فأقبلنا إليه فإذا هو ميت، فأخذنا السيف فما أطاق أحد منّا أن يحمله على عاتقه، وأمر مثوّب فحفر له أخدود وألقيناه فيه، واتخذ مثوّب تلك الأرض منزلا وسماها حرث وهو ذو حرث، قال هشام: ووجدوا صخرة عظيمة على ندّ من تلك الندود مزبورا فيها بالمسند:
باسمك ام لهمّ إله من سلف ومن غبر إنك الملك ام كبّار ام خالق ام جبّار ملكنا هذه ام مدرة وحمى لنا أقطارها وأصبارها وأسرابها وحيطانها وعيونها وصيرانها إلى انتهاء عدّة وانقضاء مدّة ثم يظهر عليها ام غلام ذو ام باع ام رحب وام مضاء ام عضب فيتخذها معمرا أعصرا ثم تجوز كما بدت وكل مرتقب قريب ولا بد من فقدان ام موجود وخراب ام معمور وإلى فناء ممار ام أشياء، هلك عوار، وعاد عبد كلال، وهذا الخبر كما تراه عزوناه إلى من رواه، والله أعلم بصحته.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
168-معجم البلدان (حلحول)
حَلْحُولُ:بالفتح ثم السكون، وضم الحاء الثانية، وسكون الواو، ولام: قرية بين البيت المقدس وقبر إبراهيم الخليل، وبها قبر يونس بن متى، عليهما السلام، وإليها ينسب عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن الحلحولي الجعدي، محدث زاهد، ولد بحلب ونشأ بها وسار إلى الآفاق وكان آخر أمره أنه انقطع بمسجد في ظاهر دمشق، ففي سنة 543 نزل الأفرنج على دمشق محاصرين فخرج هذا الشيخ في جماعة فقتل، رحمه الله وإيانا.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
169-معجم البلدان (وحلوان أيضا)
وحلوان أَيضًا:قرية من أعمال مصر، بينها وبين الفسطاط نحو فرسخين من جهة الصعيد مشرفة على النيل، وبها دير ذكر في الديرة، وكان أول من اختطها عبد العزيز بن مروان لما ولي مصر، وضرب بها الدنانير، وكان له كل يوم ألف جفنة للناس حول داره، ولذلك قال الشاعر:
«كلّ يوم كأنه عيد أضحى *** عند عبد العزيز، أو يوم فطر»
«وله ألف جفنة مترعات، *** كلّ يوم، يمدّها ألف قدر»
وكان قد وقع بمصر طاعون في سنة 70 وواليها عبد العزيز فخرج هاربا من مصر، فلما وصل حلوان هذه استحسن موضعها فبنى بها دورا وقصورا واستوطنها وزرع بها بساتين وغرس كروما ونخلا، فلذلك يقول عبيد الله بن قيس الرّقيّات:
«سقيا لحلوان ذي الكروم، وما *** صنّف من تينه ومن عنبه»
«نخل مواقير بالقناء من ال *** برنيّ، يهتز ثم في سربه»
«أسود، سكانه الحمام، فما *** تنفكّ غربانه على رطبه»
وقال سعد بن شريح مولى نجيب يهجو حفص بن الوليد الحضرمي والي مصر ويمدح زبّان بن عبد العزيز ابن مروان:
«يا باعث الخيل، تردي في أعنّتها، *** من المقطّم في أكناف حلوان»
«لا زال بغضي ينمّى في صدوركم، *** إن كان ذلك من حيّ لزبّان»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
170-معجم البلدان (حمص)
حِمْصُ:بالكسر ثم السكون، والصاد مهملة: بلد مشهور قديم كبير مسوّر، وفي طرفه القبلي قلعة حصينة على تلّ عال كبيرة، وهي بين دمشق وحلب في نصف الطريق، يذكر ويؤنث، بناه رجل يقال له حمص بن المهر بن جان بن مكنف، وقيل:
حمص بن مكنف العمليقي، وقال أهل الاشتقاق:
حمص الجرح يحمص حموصا وانحمص ينحمص انحماصا إذا ذهب ورمه، وقال أبو عون في زيجه:
طول حمص إحدى وستون درجة، وعرضها ثلاث وثلاثون درجة وثلثان، وهي في الإقليم الرابع، وفي كتاب الملحمة: مدينة حمص طولها تسع وستون درجة، وعرضها أربع وثلاثون درجة وخمس وأربعون دقيقة، من الإقليم الرابع، ارتفاعها ثمان وسبعون درجة، تحت ثماني درج من السرطان، يقابلها مثلها من الجدي، بيت ملكها مثلها من الحمل، بيت عاقبتها مثلها من الميزان، قال أهل السير: حمص بناها اليونانيون وزيتون فلسطين من غرسهم.
وأما فتحها فذكر أبو المنذر عن أبي مخنف أن أبا عبيدة ابن الجرّاح لما فرغ من دمشق قدم أمامه خالد بن الوليد وملحان بن زيّار الطائي ثم اتبعهما فلما توافوا بحمص قاتلهم أهلها ثم لجؤوا إلى المدينة وطلبوا الأمان والصلح، فصالحوه على مائة ألف وسبعين ألف دينار، وقال الواقدي وغيره: بينما المسلمون على أبواب دمشق إذ أقبلت خيل للعدوّ كثيفة فخرج إليهم جماعة من المسلمين فلقوهم بين بيت لهيا والثنيّة فولّوا منهزمين
نحو حمص على طريق قارا حتى وافوا حمص وكانوا متخوفين لهرب هرقل عنهم فأعطوا ما بأيديهم وطلبوا الأمان، فأمنهم المسلمون فأخرجوا لهم النّزل فأقاموا على الأرنط، وهو النهر المسمى بالعاصي، وكان على المسلمين السّمط بن الأسود الكندي، فلما فرغ أبو عبيدة من أمر دمش
«خليليّ، إن حانت بحمص منيّتي، *** فلا تدفناني وارفعاني إلى نجد»
«ومرّا على أهل الجناب بأعظمي، *** وإن لم يكن أهل الجناب على القصد»
«وإن أنتما لم ترفعاني، فسلّما *** على صارة فالقور فالأبلق الفرد»
«لكيما أرى البرق الذي أومضت له *** ذرى المزن، علويّا، وماذا لنا يبدي»
وبحمص من المزارات والمشاهد مشهد علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فيه عمود فيه موضع إصبعه، رآه بعضهم في المنام، وبها دار خالد بن الوليد، رضي الله عنه، وقبره فيما يقال، وبعضهم يقول إنه مات بالمدينة ودفن بها وهو الأصحّ، وعند قبر خالد قبر عياض بن غنم القرشي، رضي الله عنه، الذي فتح بلاد الجزيرة، وفيه قبر زوجة خالد بن الوليد وقبر ابنه عبد الرحمن، وقيل: بها قبر عبيد الله بن عمر بن الخطاب، والصحيح أن عبيد الله قتل بصفين، فإن كان نقلت جثته إلى حمص فالله أعلم، ويقال: إن خالد بن الوليد مات بقرية على نحو ميل من حمص، وإن هذا الذي يزار بحمص إنما هو قبر خالد بن يزيد ابن معاوية، وهو الذي بنى القصر بحمص، وآثار هذا القصر في غربي الطريق باقية، وبحمص قبر سفينة مولى رسول الله، واسم سفينة مهران، وبها قبر قنبر مولى عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، ويقال:
إن قنبر قتله الحجاج وقتل ابنه وقتل ميثما التّمّار بالكوفة، وبها قبور لأولاد جعفر بن أبي طالب، وهو جعفر الطّيّار، وبها مقام كعب الأحبار ومشهد لأبي الدّرداء وأبي ذرّ، وبها قبر يونان والحارث بن عطيف الكندي وخالد الأزرق الغاضري والحجاج بن عامر وكعب وغيرهم، وينسب إليها جماعة من العلماء، ومن أعيانهم: محمد بن عوف ابن سفيان أبو جعفر الطائي الحمصي الحافظ، قال الإمام أبو القاسم الدمشقي: قدم دمشق فى سنة 217 وروى
عن أبيه وعن محمد بن يوسف القبرياني وأحمد بن يونس وآدم بن أبي إياس وأبي المغيرة الحمصي وعبد السلام ابن عبد الحميد السّكوني وعليّ بن قادم وخلق كثير من هذه الطبقة، وروى عنه أبو زرعة وأبو حاتم الرزاياني وأبو داود السجستاني وابنه أبو بكر وعبد الرحمن بن أبي
كنت ألعب في الكنيسة بالكرة وأنا حدث فدخلت الكرة المسجد حتى وقعت بالقرب من المعافى بن عمران فدخلت لآخذها فقال لي: يا فتى ابن من أنت؟ قلت: أنا ابن عوف، قال: ابن سفيان؟ قلت:
نعم، فقال: أما إنّ أباك كان من إخواننا وكان ممن يكتب معنا الحديث والعلم والذي يشبهك أن تتبع ما كان عليه والدك، فصرت إلى أمي فأخبرتها فقالت: صدق يا بنيّ هو صديق لأبيك، فألبستني ثوبا من ثيابه وإزارا من أزره ثم جئت إلى المعافى ابن عمران ومعي محبرة وورق فقال لي: اكتب حدثنا إسماعيل بن عبد ربه بن سليمان، قال: كتبت إليّ أم الدرداء في لوحي فيما تعلمني اطلبوا العلم صغارا تعلموه كبارا، قال: فإن لكل حاصد ما زرع خيرا كان أو شرّا، فكان أول حديث سمعته، وذكر عند يحيى بن معين حديث من حديث الشام فردّه وقال: ليس هو كذا، قال: فقال له رجل في الحلقة: يا أبا زكرياء إن ابن عوف يذكره كما ذكرناه، قال: فإن كان ابن عوف ذكره فإن ابن عوف أعرف بحديث بلده، وذكر ابن عوف عند عبد الله بن أحمد بن حنبل في سنة 273 فقال: ما كان بالشام منذ أربعين سنة مثل محمد بن عوف، ذكر ابن قانع أنه توفي سنة 269، وقال ابن المنادي:
مات في وسط سنة 272، ومحمد بن عبيد الله بن الفضل يعرف بابن أبي الفضل أبو الحسن الكلاعي الحمصي، حدث عن مصيفي وجماعة كثيرة من طبقته، وروى عنه القاضي أبو بكر الميانجي وأبو حاتم محمد ابن حبّان البستي وجماعة كثيرة من طبقتهما، وكان من الزّهاد، ومات في أول يوم رمضان سنة 309، ومات ابنه أبو علي الحسن لعشر خلون من شهر ربيع الأول سنة 351.
ومن عجيب ما تأمّلته من أمر حمص فساد هوائها وتربتها اللذين يفسدان العقل حتى يضرب بحماقتهم المثل، إنّ أشدّ الناس على علي، رضي الله عنه، بصفين مع معاوية كان أهل حمص وأكثرهم تحريضا عليه وجدّا في حربه، فلما انقضت تلك الحروب ومضى ذلك الزمان صاروا من غلاة الشيعة حتى إن في أهلها كثيرا ممن رأى مذهب النّصيرية وأصلهم الإمامية الذين يسبون السلف، فقد التزموا الضلال أولا وأخيرا فليس لهم زمان كانوا فيه على الصواب.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
171-معجم البلدان (الحولة)
الحُولَةُ:بالضم ثم السكون: اسم لناحيتين بالشام، إحداهما من أعمال حمص ثم من أعمال بارين بين حمص وطرابلس، والأخرى كورة بين بانياس وصور من أعمال دمشق ذات قرى كثيرة، من إحداهما كان الحارث الكذاب الذي ادعى النبوة أيام عبد الملك بن مروان، قال أحمد بن أبي خيثمة زهير بن حرب: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا محمد بن مبارك حدثنا الوليد بن مسلمة عن عبد الرحمن بن حسان قال: كان الحارث الكذاب من أهل دمشق وكان مولى لابن الجلاس وكان له أب بالحولة، فعرض له إبليس، وكان رجلا متعبدا زاهدا لو لبس جبة من ذهب لرأيت عليه زهادة، قال: وكان إذا أخذ في التحميد لم يستمع السامعون إلى كلام أحسن من كلامه، قال:
فكتب إلى أبيه وهو بالحولة: يا أبتاه اعجل عليّ فإني رأيت أشياء أتخوف أن يكون الشيطان عرض لي، قال: فزاره أبوه غبّا وكتب إليه: يا بنيّ أقبل على ما أمرت به فإن الله تعالى يقول: عَلى من تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ 26: 221- 222، ولست بأفاك ولا أثيم فامض لما أمرت به، وكان يجيء إلى أهل المسجد رجلا رجلا فيذاكرهم أمره ويأخذ عليهم العهد والميثاق إن هو رأى ما يرضى قبل وإلا كتم عليه، قال: وكان يريهم الأعاجيب، كان يأتي رخامة في المسجد فينقرها بيده فتسبّح، وكان يطعمهم فواكه الصيف في الشتاء، وكان يقول لهم اخرجوا حتى أريكم الليلة فيخرجهم إلى دير مرّان فيريهم رجالا على خيل، فتبعه بشر كثير وفشا الأمر في المسجد وكثر أصحابه حتى وصل الأمر إلى القاسم بن مخيمرة، فعرض على القاسم وأخذ عليه العهد والميثاق إن رضي أمرا قبله وإن كره كتم عليه، فقال له: إني نبيّ، فقال له القاسم: كذبت يا عدوّ الله ما أنت نبي ولا لك عهد ولا ميثاق! فقال له أبو إدريس: ما صنعت شيئا إذ لم يبين حتى نأخذه الآن يفر، قال: وقام من مجلسه حتى دخل على عبد الملك فأعلمه بأمر حادث من الحارث، فأمر عبد الملك بطلبه فلم يقدر عليه، وخرج عبد الملك فنزل الصّبيرة، قال:
واتهم عامة عسكره، يعني بالحارث، أن يكونوا يرون رأيه، وخرج الحارث حتى أتى بيت المقدس فاختفى فيه، وكان أصحابه يخرجون فيلتمسون الرجال فيدخلونهم عليه، وكان رجل من أهل البصرة قد أتى بيت المقدس فأتاه رجل من أصحاب الحارث فقال له:
ههنا رجل يتكلم فهل لك أن تسمع من كلامه؟
قال: نعم، فانطلق معه حتى دخل على الحارث فأخذ في التحميد، فسمع البصريّ كلاما حسنا، قال: ثم أخبره
بأمره وأنه نبي مبعوث مرسل، فقال له: إن كلامك لحسن ولكن في هذا نظر فانظر، فخرج البصري ثم عاد إليه فرد كلامه فقال: إن كلامك لحسن وقد وقع في قلبي وقد آمنت بك وهذا الدين المستقيم، قال: فأمر أن لا يحجب، قال: فأقبل البصري يتردد ويعرف مداخله ومخارجه وأين يذهب
ائذن لي، فقال: إلى أين؟ فقال: إلى البصرة أكون أول داعية لك بها، قال: فأذن له فخرج البصري مسرعا إلى عبد الملك وهو بالصّبيرة، فلما دنا من سرادقه صاح النصيحة النصيحة! فقال أهل العسكر: وما نصيحتك؟
قال: هي نصيحة لأمير المؤمنين، قال: فأمر عبد الملك أن يأذنوا له فدخل وعنده أصحابه، قال:
فصاح النصيحة النصيحة! فقال: وما نصيحتك؟
قال: اخلني لا يكن عندك أحد، قال: فأخرج من كان عنده، وكان عبد الملك قد اتهم أهل عسكره أن يكون هواهم معه، ثم قال له: ادنني، فأدناه وعبد الملك على السرير، فقال: ما عندك؟ فقال:
عندي أخبار الحارث، فلما سمع عبد الملك بذكر الحارث طرد نفسه من السرير ثم قال: أين هو؟
قال: يا أمير المؤمنين هو بالبيت المقدس وقد عرفت مداخله، وقص عليه قصته وكيف صنع به، فقال له:
أنت صاحبه وأنت أمير بيت المقدس وأميرها ههنا فمرني بما شئت، فقال: ابعث معي قوما لا يفقهون الكلام، فأمر أربعين رجلا من أهل فرغانة وقال لهم:
انطلقوا مع هذا فما أمركم به من شيء فأطيعوه، قال: وكتب إلى صاحب بيت المقدس إن فلانا لأمير عليك حتى تخرج فأطعه فيما يأمرك به، فلما قدم البيت المقدس أعطاه الكتاب فقال له: مرني بما شئت، فقال له: اجمع لي إن قدرت كل شمعة تقدر عليها ببيت المقدس وادفع كل شمعة إلى رجل ورتبهم على أزقة بيت المقدس فإذا قلت أسرجوا فليسرجوا جميعا، قال: فرتبهم في أزقة بيت المقدس وفي زواياها بالشمع، فأقبل البصري وحده إلى منزل الحارث فأتى الباب وقال للحاجب: استأذن لي على نبي الله، قال: في هذه الساعة ما يؤذن عليه حتى تصبح! قال: أعلمه إنما رجعت شوقا إليه قبل أن أصل، قال: فدخل عليه فأعلمه كلامه ففتح الباب ثم صاح البصري أسرجوا فأسرجت الشموع حتى كان بيت المقدس كأنه نهار، ثم قال: كل من مرّ بكم فاضبطوه، قال: ودخل هو إلى الموضع الذي يعرفه فنظره فلم يجده فقال أصحابه: هيهات تريدون أن تقتلوا نبي الله وقد رفعه الله إلى السماء! قال: فطلبه في شقّ كان هيأه سربا فأدخل البصري يده في ذلك السرب فإذا بثوبه فاجتره فأخرجه إلى خارج ثم قال للفرغانيين: اربطوه فربطوه، فبينما هم كذلك يسيرون به على البريد إذ قال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟
فقال أهل فرغانة أولئك العجم: هذا كراننا فهات كرانك أنت، فسار به حتى أتى عبد الملك، فلما سمع به أمر بخشبة فنصبت فصلبه وأمر بحربة وأمر رجلا فطعنه فأصاب ضلعا من أضلاعه فكاعت الحربة، فجعل الناس يصيحون: الأنبياء لا يجوز فيهم السلاح! فلما رأى ذلك رجل من المسلمين تناول الحربة ثم مشى بها إليه ثم أقبل يتجسس حتى وافى بين ضلعين فطعنه بها فأنفذها فقتله، فقال الوليد: ولقد بلغني أن خالد بن يزيد بن معاوية دخل على عبد الملك فقال: لو حضرتك ما أمرتك بقتله! قال: ولم؟ قال: إنما كان به المذهب فلو جوعته لذهب عنه ذلك، والمذهب الوسوسة، ومنه المذهب وهو وسوسة الوضوء ونحوه. قال القاضي عبد الصمد بن سعيد في تاريخ حمص: كان
العرباض بن سارية السّلمي يسكن حولة حمص.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
172-معجم البلدان (الخرار)
الخَرَّارُ:الخرير صوت الماء، والماء خرّار، بفتح أوله وتشديد ثانيه: وهو موضع بالحجاز يقال هو قرب الجحفة، وقيل: واد من أودية المدينة، وقيل:
ماء بالمدينة، وقيل: موضع بخيبر، وفي حديث السرايا قال ابن إسحاق: وفي سنة إحدى، وقيل سنة اثنتين، بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سعد بن أبي وقّاص في ثمانية رهط من المهاجرين فخرج حتى بلغ الخرّار من أرض الحجاز ثم رجع ولم يلق كيدا.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
173-معجم البلدان (خراسان)
خُراسَانُ:بلاد واسعة، أول حدودها مما يلي العراق أزاذوار قصبة جوين وبيهق، وآخر حدودها مما يلي الهند طخارستان وغزنة وسجستان وكرمان، وليس ذلك منها إنما هو أطراف حدودها، وتشتمل على أمّهات من البلاد منها نيسابور وهراة ومرو، وهي كانت قصبتها، وبلخ وطالقان ونسا وأبيورد وسرخس وما يتخلل ذلك من المدن التي دون نهر جيحون، ومن الناس من يدخل أعمال خوارزم فيها ويعدّ ما وراء النهر منها وليس الأمر كذلك، وقد فتحت أكثر هذه البلاد عنوة وصلحا، ونذكر ما يعرف من ذلك في مواضعها، وذلك في سنة 31 في أيام عثمان، رضي الله عنه، بإمارة عبد الله بن عامر ابن كريز، وقد اختلف في تسميتها بذلك فقال دغفل النسابة: خرج خراسان وهيطل ابنا عالم بن سام بن نوح، عليهما السلام، لما تبلبلت الألسن ببابل فنزل كل واحد منهما في البلد المنسوب إليه، يريد أن هيطل نزل في البلد المعروف بالهياطلة، وهو ما وراء نهر جيحون، ونزل خراسان في هذه البلاد التي ذكرناها دون النهر فسمّيت كل بقعة بالذي نزلها، وقيل: خر اسم للشمس بالفارسية الدّريّة وأسان كأنه أصل الشيء ومكانه، وقيل: معناه كل سهلا لأن معنى خر كل وأسان سهل، والله أعلم، وأما النسبة إليها ففيها لغات، في كتاب العين: الخرسي منسوب إلى خراسان، ومثله الخراسي والخراساني ويجمع على الخراسين بتخفيف ياء النسبة كقولك الأشعرين، وأنشد:
لا تكرمن من بعدها خرسيّا
ويقال: هم خرسان كما يقال سودان وبيضان، ومنه قول بشار في البيت:
من خرسان لا تعاب
يعني بناته، وقال البلاذري: خراسان أربعة أرباع، فالربع الأول إيران شهر وهي نيسابور وقهستان والطّبسان وهراة ويوشنج وباذغيس وطوس واسمها طابران، والربع الثاني مرو الشاهجان وسرخس ونسا وأبيورد ومرو الروذ والطالقان وخوارزم وآمل وهما على نهر جيحون، والربع الثا
خراسان كنانة الله إذا غضب على قوم رماهم بهم، وفي حديث آخر: ما خرجت من خراسان راية في جاهلية وإسلام فردّت حتى تبلغ منتهاها، وقال ابن قتيبة: أهل خراسان أهل الدعوة وأنصار الدولة ولم يزالوا في أكثر ملك العجم لقاحا لا يؤدّون إلى أحد إتاوة ولا خراجا، وكانت ملوك العجم قبل ملوك الطوائف تنزل بلخ حتى نزلوا بابل ثم نزل أردشير بن بابك فارس فصارت دار ملكهم وصار بخراسان ملوك الهياطلة، وهم الذين قتلوا فيروز بن يزدجرد بن بهرام ملك فارس، وكان غزاهم فكادوه بمكيدة في طريقه حتى سلك سبيلا معطشة يعني مهلكة، ثم خرجوا إليه فأسروه وأكثر أصحابه معه، فسألهم أن يمنّوا عليه وعلى من أسر معه من أصحابه وأعطاهم موثقا من الله وعهدا مؤكّدا لا يغزوهم أبدا ولا يجوز حدودهم، ونصب حجرا بينه وبينهم صيره الحدّ الذي حلف عليه وأشهد الله عز وجل على ذلك ومن حضره من أهله وخاصة أساورته، فمنّوا عليه وأطلقوه ومن أراد ممن أسر معه، فلما عاد إلى مملكته دخلته الأنفة والحميّة مما أصابه وعاد لغزوهم ناكثا لأيمانه غادرا بذمته وجعل الحجر الذي كان نصبه وجعله الحدّ الذي حلف أنه لا يجوزه محمولا أمامه في مسيره يتأول به أنه لا يتقدّمه ولا يجوزه، فلما صار إلى بلدهم ناشدوه الله وأذكروه به فأبى إلا لجاجا ونكثا فواقعوه وقتلوه وحماته وكماته واستباحوا أكثرهم فلم يفلت منهم إلّا الشريد، وهم قتلوا كسرى بن قباذ، ثم أتى الإسلام فكانوا فيه أحسن الأمم رغبة وأشدّهم إليه مسارعة منّا من الله عليهم وتفضّلا لهم، فأسلموا طوعا ودخلوا فيه سلما وصالحوا عن بلادهم صلحا، فخفّ خراجهم وقلّت نوائبهم ولم يجر عليهم سباء ولم تسفك فيما بينهم دماء، وبقوا على ذلك طول أيام بني أميّة إلى أن أساعوا السيرة واشتغلوا باللّذات عن الواجبات، فانبعث عليهم جنود من أهل خراسان مع أبي مسلم الخراساني ونزع عن قلوبهم الرحمة وباعد عنهم الرأفة حتى أزالوا ملكهم عن آخرهم رأيا وأحنكهم سنّا وأطولهم باعا فسلّموه إلى بني العباس، وأنفذ عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الأحنف بن
قيس في سنة 18 فدخلها وتملّك مدنها فبدأ بالطّبسين ثم هراة ومرو الشاهجان ونيسابور في مدّة يسيرة، وهرب منه يزدجرد بن شهريار ملك الفرس إلى خاقان ملك الترك بما وراء النهر، فقال ربعي بن عامر في ذلك:
«ونحن وردنا، من هراة، مناهلا *** رواء من المروين، إن كنت جاهلا»
«وبلخ ونيسابور قد شقيت بنا، *** وطوس ومرو قد أزرنا القنابلا»
«أنخنا عليها، كورة بعد كورة، *** نفضّهم حتى احتوينا المناهلا»
«فلله عينا من رأى مثلنا معا، *** غداة أزرنا الخيل تركا وكابلا»
وبقي المسلمون على ذلك إلى أن مات عمر، رضي الله عنه، وولي عثمان، فلما كان لسنتين من ولايته ثرا بنو كنازا، وهم أخوال كسرى، بنيسابور وألجئوا عبد الرحمن بن سمرة وعمّاله إلى مرو الروذ وثنّى أهل مرو الشاهجان وثلّث نيزك التركي فاستولى على بلخ وألجأ من بها من المسلمين إلى مرو الروذ وعليها عبد الرحمن بن سمرة، فكتب ابن سمرة إلى عثمان بخلع أهل خراسان فقال أسيد بن المتشمّس المرّيّ:
«ألا أبلغا عثمان عني رسالة، *** فقد لقيت عنّا خراسان بالغدر»
«فأذك، هداك الله، حربا مقيمة *** بمروي خراسان العريضة في الدّهر»
«ولا تفترز عنّا، فإن عدوّنا *** لآل كنازاء الممدّين بالجسر»
فأرسل إلى ابن عامر عبد الله بن بشر في جند أهل البصرة، فخرج ابن عامر في الجنود حتى تولّج خراسان من جهة يزد والطّبسين وبثّ الجنود في كورها وساروا نحو هراة فافتتح البلاد في مدّة يسيرة وأعاد عمال المسلمين عليها، وقال أسيد بن المتشمّس بعد استرداد خراسان:
«ألا أبلغا عثمان عنّي رسالة، *** لقد لقيت منّا خراسان ناطحا»
«رميناهم بالخيل من كلّ جانب، *** فولّوا سراعا واستقادوا النوائحا»
«غداة رأوا خيل العراب مغيرة، *** تقرّب منهم أسدهنّ الكوالحا»
«تنادوا إلينا واستجاروا بعهدنا، *** وعادوا كلابا في الديار نوابحا»
وكان محمد بن عليّ بن عبد الله بن العباس قال لدعاته حين أراد توجيههم إلى الأمصار: أما الكوفة وسوادها فهناك شيعة عليّ وولده والبصرة وسوادها فعثمانية تدين بالكفّ، وأما الجزيرة فحرورية مارقة وأعراب كأعلاج ومسلمون أخلاقهم كأخلاق النصارى، وأما الشام فليس يعرفون إلا آل أبي سفيان، وطاعة بني مروان عداوة راسخة وجهل متراكم، وأما مكة والمدينة فغلب عليهما أبو بكر وعمر، ولكن عليكم بأهل خراسان فإن هناك العدد الكثير والجلد الظاهر وهناك صدور سليمة وقلوب فارغة لم تتقسّمها الأهواء ولم تتوزعها النّحل ولم يقدم عليهم فساد، وهم جند لهم أبدان وأجسام ومناكب وكواهل وهامات ولحى وشوارب وأصوات هائلة ولغات فخمة تخرج من أجواف منكرة، فلما بلغ الله إرادته من بني أمية وبني العباس أقام أهل خراسان مع خلفائهم على أحسن حال وهم أشدّ طاعة وأكثر تعظيما للسلطان وهو أحمد سيرة في رعيته
يتزين عندهم بالجميل ويستتر منهم بالقبيح إلى أن كان ما كان من قضاء الله ورأي الخلفاء الراشدين في الاستبدال بهم وتصيير التدبير لغيرهم فاختلّت الدولة وكان من أمرها ما هو مشهور من قبل الخلفاء في زمن المتوكل وهلمّ جرّا ما جرى من أمر الديلم والسلجوقية وغير ذ
«الدار داران: إيوان وغمدان، *** والملك ملكان: ساسان وقحطان»
«والناس فارس والإقليم بابل وال *** إسلام مكة والدنيا خراسان»
«والجانبان العلندان، اللذا خشنا *** منها، بخارى وبلخ الشاه داران»
«قد ميز الناس أفواجا ورتّبهم، *** فمرزبان وبطريق ودهقان»
وقال العباس بن الأحنف:
«قالوا خراسان أدنى ما يراد بكم *** ثم القفول، فها جئنا خراسانا»
«ما أقدر الله أن يدني على شحط *** سكان دجلة من سكان سيحانا»
«عين الزمان أصابتنا، فلا نظرت، *** وعذّبت بفنون الهجر ألوانا»
وقال مالك بن الرّيب بعد ما ذكرناه في ابرشهر:
«لعمري لئن غالت خراسان هامتي، *** لقد كنت عن بابي خراسان نائيا»
«ألا ليت شعري! هل أبيتنّ ليلة *** بجنب الغضا أزجي القلاص النّواجيا؟»
«فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه، *** وليت الغضا ماشى الركاب لياليا»
«ألم ترني بعت الضلالة بالهدى، *** وأصبحت في جيش ابن عفّان غازيا؟»
وما بعد هذه الأبيات في الطّبسين قال عكرمة وقد خرج من خراسان: الحمد لله الذي أخرجنا منها ليطوي خراسان طيّ الأديم حتى يقوّم الحمار الذي كان فيها بخمسة دراهم بخمسين بل بخمسمائة.
وروي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إن الدّجّال يخرج من المشرق من أرض يقال لها خراسان يتبعه قوم كأنّ وجوههم المجان المطرقة، وقد طعن قوم في أهل خراسان وزعموا أنهم بخلاء، وهو بهت لهم ومن أين لغيرهم مثل البرامكة والقحاطبة والطاهرية والسامانية وعلي بن هشام وغيرهم ممن لا نظير لهم في جميع الأمم، وقد نذكر عنهم شيئا مما ادعي عليهم والردّ في ترجمة مرو الشاهجان إن شاء الله. فأما العلم فهم فرسانه وساداته وأعيانه، ومن أين لغيرهم مثل محمد بن إسماعيل البخاري ومثل مسلم بن الحجاج القشيري وأبي عيسى الترمذي وإسحاق ابن راهويه وأحمد بن حنبل وأبي حامد الغزّالي والجويني إمام الحرمين والحاكم أبي عبد الله النيسابوري وغيرهم من أهل الحديث والفقه، ومثل الأزهري والجوهري وعبد الله بن المبارك، وكان يعدّ من أجواد الزّهاد والأدباء، والفارابي صاحب ديوان
الأدب والهروي وعبد القاهر الجرجاني وأبي القاسم الزمخشري، هؤلاء من أهل الأدب والنظم والنثر الذين يفوت حصرهم ويعجز البليغ عن عدّهم، وممن ينسب إلى خراسان عطاء الخراساني، وهو عطاء بن أبي مسلم، واسم أبي مسلم ميسرة، ويقال عبد الله ابن أيوب أبو ذؤيب، ويقال أبو عثمان، ويقال أبو محمد، ويقال أبو صالح من أهل سمرقند، ويقال من أهل بلخ مولى المهلّب بن أبي صفرة الأزدي، سكن الشام، وروى عن ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن مسعود وكعب بن عجرة ومعاذ بن جبل مرسلا، وروى عن أنس وسعيد بن المسيّب وسعيد بن جبير وأبي مسلم الخولاني وعكرمة مولى ابن عباس وأبي إدريس الخولاني ونافع مولى ابن عمر وعروة بن الزبير وسعيد العقبري والزّهري ونعيم بن سلامة الفلسطيني وعطاء بن أبي رباح وأبي نصرة المنذر بن مالك العبدي وجماعة يطول ذكرهم، روى عنه ابنه عثمان والضحاك بن مزاحم الهلالي وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر والأوزاعي ومالك بن أنس ومعمر وشعبة وحماد بن سلمة وسفيان الثوري والوضين وكثير غير هؤلاء، وقال ابنه عثمان: ولد أبي سنة خمسين من التاريخ، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما مات العبادلة: عبد الله بن عباس وعبد الله ابن الزبير وعبد الله بن عمرو بن العاص صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي، فصار فقيه أهل مكة عطاء بن أبي رباح وفقيه أهل اليمن طاووس وفقيه أهل اليمامة يحيى بن أبي كثير وفقيه أهل البصرة الحسن البصري وفقيه أهل الكوفة النخعي وفقيه أهل الشام مكحول وفقيه أهل خراسان عطاء الخراساني إلا المدينة فإن الله تعالى خصها بقرشيّ، فكان فقيه أهل المدينة غير مدافع سعيد بن المسيّب، وقال أحمد ابن حنبل: عطاء الخراساني ثقة، وقال يعقوب بن شيبة: عطاء الخراساني مشهور، له فضل وعلم، معروف بالفتوى والجهاد، روى عنه مالك بن أنس، وكان مالك ممن ينتقي الرجال، وابن جريج وحماد ابن سلمة والمشيخة، وهو ثقة ثبت.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
174-معجم البلدان (الخلصة)
الخَلَصَةُ:مضاف إليها ذو، بفتح أوله وثانيه، ويروى بضم أوله وثانيه، والأول أصح، والخلصة في اللغة:
نبت طيب الريح يتعلّق بالشجر له حبّ كعنب الثعلب، وجمع الخلصة خلص: وهو بيت أصنام كان لدوس وخثعم وبجيلة ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة، وهو صنم لهم فأحرقه جرير بن عبد الله البجلي حين بعثه النبي، صلى الله عليه وسلم، وقيل:
كان لعمرو بن لحيّ بن قمعة نصبه، أعني الصنم، بأسفل مكة حين نصب الأصنام في مواضع شتّى، فكانوا يلبسونه القلائد ويعلّقون عليه بيض النعام ويذبحون عنده، وكان معناهم في تسميتهم له بذلك أن عبّاده والطائفين به خلصة، وقيل: هو الكعبة اليمانية التي بناها أبرهة بن الصباح الحميري، وكان فيه صنم يدعى الخلصة فهدم، وقيل: كان ذو الخلصة يسمّى الكعبة اليمانية، والبيت الحرام الكعبة الشامية، وقال أبو القاسم الزمخشري: في قول من زعم أن ذا الخلصة بيت كان فيه صنم نظر لأن ذو لا يضاف إلا إلى أسماء الأجناس، وقال ابن حبيب في مخبره: كان ذو الخلصة بيتا تعبده بجيلة وخثعم والحارث بن كعب وجرم وزبيد والغوث بن مرّ بن أدّ وبنو هلال ابن عامر، وكانوا سدنته بين مكة واليمن بالعبلاء على أربع مراحل من مكة، وهو اليوم بيت قصّار فيما أخبرت، وقال المبرّد: موضعه اليوم مسجد جامع لبلدة يقال لها العبلات من أرض خثعم، وقال أبو المنذر: ومن أصنام العرب ذو الخلصة، وكانت مروة بيضاء منقوشة عليها كهيئة التاج، وكانت بتبالة بين مكة واليمن على مسير سبع ليال من مكة، وكان سدنتها بني أمامة من باهلة بن أعصر، وكانت تعظّمها وتهدي لها خثعم وبجيلة وأزد السراة ومن قاربهم من بطون العرب ومن هوازن، ففيها يقول خداش بن زهير العامري لعثعث بن وحشيّ الخثعمي في عهد كان بينهم فغدر بهم:
«وذكّرته بالله بيني وبينه، *** وما بيننا من مدّة لو تذكّرا»
«وبالمروة البيضاء ثم تبالة *** ومجلسة النعمان حيث تنصّرا»
فلما فتح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مكة وأسلمت العرب ووفدت عليه وفودها قدم عليه جرير بن عبد الله مسلما، فقال له: يا جرير ألا تكفيني ذا الخلصة؟ فقال: بلى، فوجّهه إليه فخرج حتى أتى بني أحمس من بجيلة فسار بهم إليه، فقاتلته
خثعم وقتل مائتين من بني قحافة بن عامر بن خثعم وظفر بهم وهزمهم وهدم بنيان ذي الخلصة وأضرم فيه النار فاحترق، فقالت امرأة من خثعم:
«وبنو أمامة بالوليّة صرّعوا *** شملا، يعالج كلّهم أنبوبا»
«جاءوا لبيضتهم، فلاقوا دونها *** أسدا يقبّ لدى السيوف قبيبا»
«قسم المذلّة، بين نسوة خثعم، *** فتيان أحمس قسمة تشعيبا»
قال: وذو الخلصة اليوم عتبة باب مسجد تبالة، قال: وبلغنا أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: لا تذهب الدنيا حتى تصطكّ أليات نساء بني دوس على ذي الخلصة يعبدونه كما كانوا يعبدونه. والخلصة: من قرى مكة بوادي مرّ الظهران، وقال القاضي عياض المغربي: ذو الخلصة بالتحريك وربما روي بضمها والأول أكثر، وقد رواه بعضهم بسكون اللام، وكذا قاله ابن دريد، وهو بيت صنم في ديار دوس، وهو اسم صنم لا اسم بنية، وكذا جاء في الحديث تفسيره، وفي أخبار امرئ القيس: لما قتلت بنو أسد أباه حجرا وخرج يستنجد بمن يعينه على الأخذ بثأره حتى أتى حمير فالتجأ إلى قيل منهم يقال له مرثد الخير بن ذي جدن الحميري، فاستمدّه على بني أسد، فأمدّه بخمسمائة رجل من حمير مع رجل يقال له قرمل ومعه شذّاذ من العرب، واستأجر من قبائل اليمن رجالا فسار بهم يطلب بني أسد، ومرّ بتبالة وبها صنم للعرب تعظمه يقال له ذو الخلصة فاستقسم عنده بقداحه، وهي ثلاثة:
الآمر والناهي والمتربّص، فأجالها فخرج الناهي، ثم أجالها فخرج الناهي، ثم أجالها فخرج الناهي، فجمعها وكسرها وضرب بها وجه الصنم وقال:
مصصت بظر أمك لو قتل أبوك ما نهيتني! فقال عند ذلك:
«لو كنت يا ذا الخلص الموتورا *** مثلي، وكان شيخك المقبورا، »
لم تنه عن قتل العداة زورا
ثم خرج فظفر ببني أسد وقتل عليّا قاتل أبيه وأهل بيته وألبسهم الدروع البيض محماة وكحلهم بالنار، وقال في ذلك:
«يا دار سلمى، دارسا نؤيها، *** بالرمل والجبتين من عاقل»
وهي قصيدة، فيقال: إنه ما استقسم عند ذي الخلصة بعدها أحد بقدح حتى جاء الإسلام وهدمه جرير بن عبد الله البجلي، وفي الحديث: أن ذا الخلصة سيعبد في آخر الزمان، قال: لن تقوم الساعة حتى تصطفق أليات نساء بني دوس وخثعم حول ذي الخلصة.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
175-معجم البلدان (دارة الدور)
دارة الدُّورِ:وضبطها الهنائي في كتاب المنضّد بتشديد الواو، ورأيتها بخط يده، وما أراه صنع شيئا، وكان بين حجر بن عقبة وبين أخيه شيء فأراد أن ينتقل فأتى أخاه يسلم عليه، فخرج إليه في السلاح، فقال له: ليس لهذا جئت، فبكى أخوه، فقال حجر:
«ألم يأت قيسا كلها أنّ عزّها، *** غداة غد، من دارة الدّور ظاعن»
«هنالك جادت بالدموع موانع ال *** عيون، وشلّت للفراق الظعائن»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
176-معجم البلدان (دير سعد)
دَيْرُ سعد:بين بلاد غطفان والشام، عن الحازمي، قال أبو الفرج عليّ بن الحسين: أخبرنا الحرمي بن
أبي العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني محمد بن الضحاك عن أبيه قال: وجدت في كتاب بخط الضحاك قال: خرج عقيل بن علفّة وجثّامة وابنته الجرباء حتى أتوا بنتا له ناكحا في بني مروان بالشامات، ثم إنهم قفلوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال عقيل بن علّفة:
«قضت وطرا من دير سعد وطالما *** على عرض ناطحنه بالجماجم»
«إذا هبطت أرضا يموت غرابها *** بها عطشا أعطينهم بالخزائم»
ثم قال: أنفذ يا جثّامة، فقال جثّامة:
«فأصبحن بالموماة يحملن فتية *** نشاوى من الإدلاج ميل العمائم»
«إذا علم غادرنه بتنوفة *** تذارعن بالأيدي لآخر طاسم»
ثم قال: أنفذي يا جرباء، فقالت:
«كأنّ الكرى سقّاهم صرخديّة *** عقارا تمطّى في المطا والقوائم»
فقال عقيل: شربتها ورب الكعبة! لولا الأمان لضربت بالسيف تحت قرطك! أما وجدت من الكلام غير هذا؟ فقال جثّامة: وهل أساءت؟ إنما أجادت وليس غيري وغيرك! فرماه عقيل بسهم فأصاب ساقه وأنفذ السهم ساقه والرجل ثم شدّ على الجرباء فعقر ناقتها ثم حملها على ناقة جثّامة وتركه عقيرا مع ناقة الجرباء ثم قال: لولا أن تسبّني بنو مرّة لما عشت، ثم خرج متوجها إلى أهله وقال: لئن أخبرت أهلك بشأن جثامة أو قلت لهم إنه أصابه غير الطاعون لأقتلنك! فلما قدموا على أهل أبير، وهم بنو القين، ندم عقيل على فعله بجثامة فقال لهم: هل لكم في جزور انكسرت؟ قالوا: نعم، قال: فالزموا أثر هذه الراحلة حتى تجدوا الجزور، فخرج القوم حتى انتهوا إلى جثّامة فوجدوه قد أنزفه الدم، فاحتملوه وتقسموا الجزور وأنزلوه عليهم وعالجوه حتى برأ وألحقوه بقومه، فلما كان قريبا منهم تغنّى:
«أيعذر لا حينا ويلحين في الصّبا *** وما هنّ والفتيان إلّا شقائق»
فقال له القوم: إنما أفلتّ من الجراحة التي جرحك أبوك آنفا وقد عاودت ما يكرهه فأمسك عن هذا ونحوه إذا لقيته لا يلحقك منه شرّ وعرّ، فقال: إنما هي خطرة خطرت والراكب إذا سار تغنّى.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
177-معجم البلدان (دير سليمان)
دَير سُلَيمانَ:بالثغر قرب دلوك مطلّ على مرج العين، وهو غاية في النزاهة، قال أبو الفرج: أخبرني جعفر بن قدامة قال: ولي إبراهيم بن المدبر عقيب نكبته وزوالها عنه الثغور الجزريّة وكان أكثر مقامه بمنبج، فخرج في بعض ولايته إلى نواحي دلوك برعبان وخلّف بمنبج جارية كان يتحظاها يقال لها غادر فنزل بدلوك على جبل من جبالها بدير يعرف بدير سليمان من أحسن بلاد الله وأنزهها ودعا بطعام خفيف فأكل وشرب ثم دعا بدواة وقرطاس فكتب:
«أيا ساقيينا وسط دير سليمان *** أديرا الكؤوس فانهلاني وعلّاني»
«وخصّا بصافيها أبا جعفر أخي، *** فذا ثقتي دون الأنام وخلصاني»
«وميلا بها نحو ابن سلّام الذي *** أودّ وعودا بعد ذاك لنعمان»
«وعمّا بها النعمان والصحب، إنني *** تنكّرت عيشي بعد صحبي وإخواني»
«ولا تتركا نفسي تمت بسقامها *** لذكرى حبيب قد سقاني وغنّاني»
«ترحّلت عنه عن صدود وهجرة، *** فأقبل نحوي وهو باك فأبكاني»
«وفارقته، والله يجمع شملنا، *** بلوعة محزون وغلّة حرّان»
«وليلة عين المرج زار خياله *** فهيّج لي شوقا وجدّد أحزاني»
«فأشرفت أعلى الدير أنظر طامحا *** بألمح آماق وأنظر إنسان»
«لعلِّي أرى أبيات منبج رؤية *** تسكّن من وجدي وتكشف أشجاني»
«فقصّر طرفي واستهلّ بعبرة، *** وفدّيت من لو كان يدري لفدّاني»
«ومثّله شوقي إليه مقابلي، *** وناجاه عني بالضمير وناجاني»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
178-معجم البلدان (رحرحان)
رَحْرَحانُ:بفتح أوّله، وسكون ثانيه، وتكرير الراء والحاء المهملة، وآخره نون، وشيء رحراح أي فيه سعة ورقّة، وعيش رحراح أي واسع، ورحرحان: اسم جبل قريب من عكاظ خلف عرفات قيل هو لغطفان، وكان فيه يومان للعرب أشهرهما الثاني، وهو يوم لبني عامر بن صعصعة على بني تميم أسر فيه معبد بن زرارة أخو حاجب بن زرارة رئيس بني تميم، وكان سببه أن الحارث بن ظالم قتل خالد بن جعفر ثمّ أتى بني فزارة بن عدس فاستجارهم فأجاره معبد بن زرارة فخرج الأحوص ابن جعفر ثائرا بأخيه خالد فالتقوا برحرحان فهزم بنو تميم، وقال عوف بن عطيّة التميمي:
«هلّا فوارس رحرحان هجرتهم *** عشرا تناوح في سرارة وادي»
يعني لقيط بن زرارة وكان قد انهزم عن أخيه يومئذ، قال جرير:
«أتنسون يومي رحرحان كليهما، *** وقد أشرع القوم الوشيج المؤمّرا»
«تركتم بوادي رحرحان نساءكم، *** ويوم الصّفا لاقيتم الشعب أوعرا»
«سمعتم بني مجد دعوا يال عامر، *** فكنتم نعاما بالحزيز منفّرا»
«وأسلمتم لابني أسيدة حاجبا، *** ولاقى لقيطا حتفه فتقطّرا»
«وأسلمت القلحاء للقوم معبدا *** يجاذب مخموسا من القدّ أسمرا»
ومعبد أسر يوم رحرحان الثاني فمات في أيدي بني عامر أسيرا لم يفلت، فعيرت العرب حاجبا وقومه لذلك.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
179-معجم البلدان (رغال)
رِغالٌ:بكسر أوّله، وآخره لام، كأنّه جمع رغل:
وهو نبت من الحمض ورقه مفتول، وقال الليث:
الرّغل نبات تسمّيه الفرس السّرمق، وقبر أبي رغال يرجم قرب مكّة، وكان وافد عاد جاء إلى مكّة يستسقي لهم وله قصة، وقيل: إن أبا رغال رجل من بقية ثمود وإنّه كان ملكا بالطائف وكان يظلم رعيته فمرّ بامرأة ترضع صبيّا يتيما بلبن عنز لها فأخذها منها فبقي الصبي بلا مرضعة فمات، وكانت سنة مجدبة فرماه الله بقارعة أهلكته فرجمت العرب قبره وهو بين مكّة والطائف، وقيل: بل كان قائد الفيل ودليل الحبشة لما غزوا الكعبة فهلك فيمن هلك منهم فدفن بين مكّة والطائف فمرّ النبيّ، صلى الله عليه وسلّم، بقبره فأمر برجمه فصار ذلك سنّة، وقيل: إن ثقيفا واسمه قسي كان عبدا لأبي رغال وأصله من قوم نجوا من ثمود فهرب من مولاه ثمّ ثقفه فسمّاه ثقيفا وانتمى ولده بعد ذلك إلى قيس، وقال حمّاد الراوية: أبو رغال أبو ثقيف كلّها وإنّه من بقيّة ثمود، ولذلك قال حسّان بن ثابت يهجو ثقيفا:
«إذا الثّقفيّ فاخركم فقولوا *** هلمّ فعدّ شأن أبي رغال»
«أبوكم أخبث الأحياء قدما، *** وأنتم مشبهوه على مثال»
«عبيد الفزر أورثه بنيه *** وولّى عنهم أخرى اللّيالي»
وكان الحجّاج يقول: يقولون إنّنا بقية ثمود وهل مع صالح إلّا المقرّبون؟ وقال السكري في شرح قول جرير:
«إذا مات الفرزدق فارجموه *** كما ترمون قبر أبي رغال»
قال: أبو رغال اسمه زيد بن مخلف، كان عبدا لصالح النبيّ، صلى الله عليه وسلّم، بعثه مصدّقا، وإنّه أتى قوما ليس لهم لبن إلّا شاة واحدة ولهم صبيّ قد ماتت أمّه فهم يعاجونه بلبن تلك الشاة، يعني يغذونه، والعجيّ: الذي يغذى بغير لبن أمّه، فأبى أن يأخذ غيرها، فقالوا: دعها تحايي هذا الصبي، فأبى، فيقال: إنّه نزلت به قارعة من السماء، ويقال: بل قتله ربّ الشاة، فلمّا فقده صالح، عليه السلام، قام في الموسم فنشد الناس فأخبر بصنيعه فلعنه، فقبره بين مكّة والطائف ترجمه الناس، وقد ذكر ابن إسحاق في أبي رغال ما هو أحسن من جميع ما تقدم: وهو أن أبرهة بن الصباح صاحب الفيل لما قدم لهدم الكعبة مرّ بالطائف فخرج إليه مسعود بن معتّب في رجال ثقيف فقالوا له: أيّها الملك إنّما نحن عبيدك سامعون
لك مطيعون وليس لك عندنا خلاف وليس بيتنا هذا الذي تريده، يعنون اللات، إنّما تريد البيت الذي بمكّة ونحن نبعث معك من يدلّك عليه، فتجاوز عنهم وبعثوا معه بأبي رغال رجل منهم يدلّه على مكّة، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله بالمغمّس، فلمّا نزله مات أبو رغال
«إذا مات الفرزدق فارجموه *** كما ترمون قبر أبي رغال»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
180-معجم البلدان (الري)
الرَّيّ:بفتح أوّله، وتشديد ثانيه، فإن كان عربيّا فأصله من رويت على الراوية أروي ريّا فأنا راو إذا شددت عليها الرّواء، قال أبو منصور:
أنشدني أعرابي وهو يعاكمني:
ريّا تميميّا على المزايد
وحكى الجوهري: رويت من الماء، بالكسر، أروى ريّا وريّا وروى مثل رضى: وهي مدينة مشهورة من أمّهات البلاد وأعلام المدن كثيرة الفواكه والخيرات، وهي محطّ الحاجّ على طريق السابلة وقصبة بلاد الجبال، بينها وبين نيسابور مائة وستون فرسخا وإلى قزوين سبعة وعشرون فرسخا ومن قزوين إلى أبهر اثنا عشر فرسخا ومن أبهر إلى زنجان خمسة عشر فرسخا، قال بطليموس في كتاب الملحمة: مدينة الريّ طولها خمس وثمانون درجة، وعرضها سبع وثلاثون درجة وست وثلاثون دقيقة، وارتفاعها سبع وسبعون تحت ثماني عشرة درجة من السرطان خارجة من الإقليم الرابع داخلة في الإقليم الخامس، يقابلها مثلها من الجدي في قسمة النسر الطائر ولها شركة في الشعرى والغميصاء رأس الغول من قسمة سعد بلع، ووجدت في بعض تواريخ الفرس أن كيكاوس كان قد عمل عجلة وركّب عليها آلات ليصعد إلى السماء فسخر الله الريح حتى علت به إلى السحاب ثمّ ألقته فوقع في بحر جرجان، فلمّا قام كيخسرو بن سياوش بالملك حمل تلك العجلة وساقها ليقدم بها إلى بابل، فلمّا وصل إلى موضع الريّ قال الناس: بريّ آمد كيخسرو، واسم العجلة بالفارسيّة ريّ، وأمر بعمارة مدينة هناك فسميت الريّ بذلك، قال العمراني: الرّي بلد بناه فيروز ابن يزدجرد وسمّاه رام فيروز، ثمّ ذكر الرّي المشهورة بعدها وجعلهما بلدتين، ولا أعرف الأخرى، فأمّا الرّي المشهورة فإنّي رأيتها، وهي مدينة عجيبة الحسن مبنية بالآجر المنمق المحكم الملمع بالزرقة
مدهون كما تدهن الغضائر في فضاء من الأرض، وإلى جانبها جبل مشرف عليها أقرع لا ينبت فيه شيء، وكانت مدينة عظيمة خرب أكثرها، واتفق أنّني اجتزت في خرابها في سنة 617 وأنا منهزم من التتر فرأيت حيطان خرابها قائمة ومنابرها باقية وتزاويق الحيطان بحالها لقرب عهدها
«الرّيّ دار فارغه *** لها ظلال سابغة»
«على تيوس ما لهم *** في المكرمات بازغه»
«لا ينفق الشّعر بها *** ولو أتاها النّابغه»
وقال إسماعيل الشاشي يذمّ أهل الرّيّ:
«تنكّب حدّة الأحد *** ولا تركن إلى أحد»
«فما بالرّيّ من أحد *** يؤهل لاسم الأحد»
وقد حكى الاصطخري أنّها كانت أكبر من أصبهان لأنّه قال: وليس بالجبال بعد الريّ أكبر من أصبهان، ثمّ قال: والرّيّ مدينة ليس بعد بغداد في المشرق أعمر منها وإن كانت نيسابور أكبر عوصة منها، وأمّا اشتباك البناء واليسار والخصب والعمارة فهي أعمر، وهي مدينة مقدارها فرسخ ونصف في مثله، والغالب على بنائها الخشب والطين، قال: وللرّيّ قرى كبار كلّ واحدة أكبر من مدينة، وعدّد منها قوهذ والسّدّ ومرجبى وغير ذلك من القرى التي بلغني أنها تخرج من أهلها ما يزيد على عشرة آلاف رجل، قال: ومن رساتيقها المشهورة قصران الداخل والخارج وبهزان والسن وبشاويه ودنباوند، وقال ابن الكلبي: سميت الريّ بريّ رجل من بني شيلان ابن أصبهان بن فلوج، قال: وكان في المدينة بستان فخرجت بنت ريّ يوما إليه فإذا هي بدرّاجة تأكل تينا، فقالت: بور انجير يعني أن الدّرّاجة تأكل تينا، فاسم المدينة في القديم بورانجير ويغيره أهل الرّيّ فيقولون بهورند، وقال لوط بن يحيى:
كتب عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، إلى عمار بن ياسر وهو عامله على الكوفة بعد شهرين من فتح
نهاوند يأمره أن يبعث عروة بن زيد الخيل الطائي إلى الرّيّ ودستبى في ثمانية آلاف، ففعل وسار عروة لذلك فجمعت له الديلم وأمدوا أهل الرّيّ وقاتلوه فأظهره الله عليهم فقتلهم واستباحهم، وذلك في سنة 20 وقيل في سنة 19، وقال أبو نجيد وكان مع المسلمين في هذه الوقا
«دعانا إلى جرجان والرّيّ دونها *** سواد فأرضت من بها من عشائر»
«رضينا بريف الرّيّ والرّيّ بلدة *** لها زينة في عيشها المتواتر»
«لها نشز في كلّ آخر ليلة *** تذكّر أعراس الملوك الأكابر»
قال جعفر بن محمد الرازي: لما قدم المهديّ الرّيّ في خلافة المنصور بنى مدينة الرّيّ التي بها الناس اليوم وجعل حولها خندقا وبنى فيها مسجدا جامعا، وجرى ذلك على يد عمار بن أبي الخصيب، وكتب اسمه على حائطها، وتمّ عملها سنة 158، وجعل لها فصيلا يطيف به فارقين آجر، والفارقين: الخندق، وسمّاها المحمديّة، فأهل الرّيّ يدعون المدينة الداخلة المدينة ويسمون الفصيل المدينة الخارجة والحصن المعروف بالزينبدى في داخل المدينة المعروفة بالمحمدية، وقد كان المهدي أمر بمرمّته ونزله أيّام مقامه بالرّيّ، وهو مطلّ على المسجد الجامع ودار الإمارة، ويقال: الذي تولّى مرمّته وإصلاحه ميسرة التغلبي أحد وجوه قواد المهدي، ثمّ جعل بعد ذلك سجنا ثمّ خرب فعمره رافع بن هرثمة في سنة 278 ثمّ خرّبه أهل الرّيّ بعد خروج رافع عنها، قال:
وكانت الرّيّ تدعى في الجاهليّة أزارى فيقال إنّه خسف بها، وهي على اثني عشر فرسخا من موضع الرّيّ اليوم على طريق الخوار بين المحمدية وهاشمية الرّيّ، وفيها أبنية قائمة تدل على أنّها كانت مدينة عظيمة، وهناك أيضا خراب في رستاق من رساتيق الرّيّ يقال له البهزان، بينه وبين الرّيّ ستة فراسخ يقال إن الرّيّ كانت هناك، والناس يمضون إلى هناك فيجدون قطع الذهب وربّما وجدوا لؤلؤا وفصوص ياقوت وغير ذلك من هذا النوع، وبالرّيّ قلعة الفرّخان، تذكر في موضعها، ولم تزل قطيعة الرّيّ اثني عشر ألف ألف درهم حتى اجتاز بها المأمون عند منصرفه من خراسان يريد مدينة السلام فلقيه أهلها وشكوا إليه أمرهم وغلظ قطيعتهم فأسقط عنهم منها ألفي ألف درهم وأسجل بذلك لأهلها، وحكى ابن الفقيه عن بعض العلماء قال: في التوراة مكتوب الرّيّ باب من أبواب الأرض وإليها متجر الخلق، وقال الأصمعي: الرّيّ عروس الدنيا وإليه متجر الناس، وهو أحد بلدان الأرض، وكان عبيد الله ابن زياد قد جعل لعمر بن سعد بن أبي وقاص ولاية الرّيّ إن خرج على الجيش الذي توجّه لقتال الحسين ابن عليّ، رضي الله عنه، فأقبل يميل بين الخروج وولاية الرّيّ والقعود، وقال:
«أأترك ملك الرّيّ والرّيّ رغبة، *** أم ارجع مذموما بقتل حسين»
«وفي قتله النار التي ليس دونها *** حجاب وملك الرّيّ قرّة عين»
فغلبه حبّ الدنيا والرياسة حتى خرج فكان من قتل الحسين، رضي الله عنه، ما كان. وروي عن جعفر الصادق، رضي الله عنه، أنّه قال: الرّيّ وقزوين وساوة ملعونات مشؤومات، وقال إسحاق بن سليمان: ما رأيت بلدا أرفع للخسيس من الرّيّ،
وفي أخبارهم: الريّ ملعونة وتربتها تربة ملعونة ديلمية وهي على بحر عجاج تأبى أن تقبل الحق، والرّيّ سبعة عشر رستاقا منها دنباوند وويمة وشلمبة، حدث أبو عبد الله بن خالويه عن نفطويه قال: قال رجل من بني ضبّة وقال المدائني:
فرض لأعرابي من جديلة فضرب عليه البعث إلى الري وكانوا في حرب وحصار، فلمّا طال المقام واشتدّ الحصار قال الأعرابي: ما كان أغناني عن هذا! وأنشأ يقول:
«لعمري لجوّ من جواء سويقة *** أسافله ميث وأعلاه أجرع»
«به العفر والظّلمان والعين ترتعي *** وأمّ رئال والظّليم الهجنّع»
«وأسفع ذو رمحين يضحي كأنّه *** إذا ما علا نشزا، حصان مبرقع»
«أحبّ إلينا أن نجاور أهلنا *** ويصبح منّا وهو مرأى ومسمع»
«من الجوسق الملعون بالرّيّ كلّما *** رأيت به داعي المنيّة يلمع»
«يقولون: صبرا واحتسب! قلت: طالما *** صبرت ولكن لا أرى الصبر ينفع»
«فليت عطائي كان قسّم بينهم *** وظلّت بي الوجناء بالدّوّ تضبع»
«كأنّ يديها حين جدّ نجاؤها *** يدا سابح في غمرة يتبوّع»
«أأجعل نفسي وزن علج كأنّما *** يموت به كلب إذا مات أجمع؟»
والجوسق الملعون الذي ذكره ههنا هو قلعة الفرّخان، وحدث أبو المحلّم عوف بن المحلم الشيباني قال: كانت لي وفادة على عبد الله بن طاهر إلى خراسان فصادفته يريد المسير إلى الحجّ فعادلته في العماريّة من مرو إلى الريّ، فلمّا قاربنا الرّيّ سمع عبد الله بن طاهر ورشانا في بعض الأغصان يصيح، فأنشد عبد الله بن طاهر متمثلا بقول أبي كبير الهذلي:
«ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر، *** وغصنك ميّاد، ففيم تنوح؟»
«أفق لا تنح من غير شيء، فإنّني *** بكيت زمانا والفؤاد صحيح»
«ولوعا فشطّت غربة دار زينب، *** فها أنا أبكي والفؤاد جريح»
ثمّ قال: يا عوف أجز هذا، فقلت في الحال:
«أفي كلّ عام غربة ونزوح؟ *** أما للنّوى من ونية فنريح؟»
«لقد طلّح البين المشتّ ركائبي، *** فهل أرينّ البين وهو طليح؟»
«وأرّقني بالرّيّ نوح حمامة، *** فنحت وذو الشجو القديم ينوح»
«على أنّها ناحت ولم تذر دمعة، *** ونحت وأسراب الدّموع سفوح»
«وناحت وفرخاها بحيث تراهما، *** ومن دون أفراخي مهامه فيح»
«عسى جود عبد الله أن يعكس النوى *** فتضحي عصا الأسفار وهي طريح»
«فإنّ الغنى يدني الفتى من صديقه، *** وعدم الغنى بالمقترين نزوح»
فأخرج رأسه من العمارية وقال: يا سائق ألق زمام البعير، فألقاه فوقف ووقف الخارج ثمّ دعا بصاحب
بيت ماله فقال: كم يضمّ ملكنا في هذا الوقت؟
فقال: ستين ألف دينار، فقال: ادفعها إلى عوف، ثمّ قال: يا عوف لقد ألقيت عصا تطوافك فارجع من حيث جئت، قال: فأقبل خاصة عبد الله عليه يلومونه ويقولون أتجيز أيّها الأمير شاعرا في مثل هذا الموضع المنقطع بستين ألف دينار ولم تملك سواها! قال: إليكم عني فإنّي قد استحييت من الكرم أن يسير بي جملي وعوف يقول: عسى جود عبد الله، وفي ملكي شيء لا ينفرد به، ورجع عوف إلى وطنه فسئل عن حاله فقال: رجعت من عند عبد الله بالغنى والراحة من النوى، وقال معن بن زائدة الشيباني:
«تمطّى بنيسابور ليلي وربّما *** يرى بجنوب الرّيّ وهو قصير»
«ليالي إذ كلّ الأحبّة حاضر، *** وما كحضور من تحب سرور»
«فأصبحت أمّا من أحبّ فنازح *** وأمّا الألى أقليهم فحضور»
«أراعي نجوم اللّيل حتى كأنّني *** بأيدي عداة سائرين أسير»
«لعلّ الذي لا يجمع الشمل غيره *** يدير رحى جمع الهوى فتدور»
«فتسكن أشجان ونلقى أحبّة، *** ويورق غصن للشّباب نضير»
ومن أعيان من ينسب إليها أبو بكر محمد بن زكرياء الرازي الحكيم صاحب الكتب المصنفة، مات بالرّيّ بعد منصرفه من بغداد في سنة 311، عن ابن شيراز، ومحمد بن عمر بن هشام أبو بكر الرازي الحافظ المعروف بالقماطري، سمع وروى وجمع، قال أبو بكر الإسماعيلي: حدّثني أبو بكر محمد بن عمير الرازي الحافظ الصدوق بجرجان، وربّما قال الثقة المأمون، سكن مرو ومات بها في سنة نيف وتسعين ومائتين، وعبد الرحمن بن محمد بن إدريس أبو محمد ابن أبي حاتم الرازي أحد الحفّاظ، صنف الجرح والتعديل فأكثر فائدته، رحل في طلب العلم والحديث فسمع بالعراق ومصر ودمشق، فسمع من يونس بن عبد الأعلى ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم والربيع بن سليمان والحسن بن عرفة وأبيه أبي حاتم وأبي زرعة الرازي وعبد الله وصالح ابني أحمد بن حنبل وخلق سواهم، وروى عنه جماعة أخرى كثيرة، وعن أبي عبد الله الحاكم قال: سمعت أبا أحمد محمد بن محمد ابن أحمد بن إسحاق الحاكم الحافظ يقول: كنت بالرّيّ فرأيتهم يوما يقرؤون على محمد بن أبي حاتم كتاب الجرح والتعديل، فلمّا فرغوا قلت لابن عبدويه الورّاق: ما هذه الضحكة؟ أراكم تقرؤون كتاب التاريخ لمحمد بن إسماعيل البخاري عن شيخكم على هذا الوجه وقد نسبتموه إلى أبي زرعة وأبي حاتم! فقال: يا أبا محمد اعلم أن أبا زرعة وأبا حاتم لما حمل إليهما هذا الكتاب قالا هذا علم حسن لا يستغنى عنه ولا يحسن بنا أن نذكره عن غيرنا، فأقعدا أبا محمد عبد الرحمن الرازي حتى سألهما عن رجل معه رجل وزادا فيه ونقصا منه، ونسبه عبد الرحمن الرازي، وقال أحمد بن يعقوب الرازي: سمعت عبد الرحمن ابن أبي حاتم الرازي يقول: كنت مع أبي في الشام في الرحلة فدخلنا مدينة فرأيت رجلا واقفا على الطريق يلعب بحيّة ويقول: من يهب لي درهما حتى أبلع هذه الحيّة؟ فالتفت إليّ أبي وقال: يا بني احفظ دراهمك فمن أجلها تبلع الحيّات! وقال أبو يعلى الخليل بن عبد الرحمن بن أحمد الحافظ القزويني: أخذ عبد الرحمن بن أبي حاتم علم أبيه وعلم أبي زرعة وصنّف
منه التصانيف المشهورة في الفقه والتواريخ واختلاف الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار، وكان من الأبدال ولد سنة 240، ومات سنة 327، وقد ذكرته في حنظلة وذكرت من خبره هناك زيادة عمّا ههنا، وإسماعيل بن عليّ بن الحسين بن محمد بن زنجويه أبو سعد الرازي المعروف بال
كان عالما بالحديث ومعرفة الرجال ما رأيت مثله في معناه، وأبو زرعة أحمد بن الحسين بن علي بن إبراهيم ابن الحكم بن عبد الله الحافظ الرازي، قال الحافظ أبو القاسم: قدم دمشق سنة 347 فسمع بها أبا الحسين محمد بن عبد الله بن جعفر بن الجنيد الرازي والد تمام، وبنيسابور أبا حامد أحمد بن محمد بن يحيى بن بلال وأبا الحسن علي بن أحمد الفارسي ببلخ وأبا عبد الله بن مخلد ببغداد وأبا الفوارس أحمد بن محمد بن الحسين الصابوني بمصر وعمر بن إبراهيم بن الحدّاد بتنّيس وأبا عبد الله المحاملي وأبا العباس الأصمّ، وحدث بدمشق في تلك السنة فروى عنه تمام وعبد الرحمن بن عمر بن نصر والقاضيان أبو عبد الله الحسين بن محمد الفلّاكي الزّنجاني وأبو القاسم التنوخي وأبو الفضل محمد بن أحمد بن محمد الجارودي الحافظ وحمزة بن يوسف الخرقاني وأبو محمد إبراهيم بن محمد بن عبد الله الزنجاني الهمداني وعبد الغني بن سعيد والحاكم أبو عبد الله وأبو العلاء عمر بن علي الواسطي وأبو زرعة روح بن محمد الرازي ورضوان بن محمد الدّينوري، وفقد بطريق مكّة سنة 375، وكان أهل الريّ أهل سنّة وجماعة إلى أن تغلب أحمد بن الحسن المارداني عليها فأظهر التشيع وأكرم أهله وقرّبهم فتقرّب إليه الناس بتصنيف الكتب في ذلك فصنف له عبد الرحمن بن أبي حاتم كتابا في فضائل أهل البيت وغيره، وكان ذلك في أيّام المعتمد وتغلبه عليها في سنة 275، وكان قبل ذلك في خدمة كوتكين ابن ساتكين التركي، وتغلب على الرّيّ وأظهر التشيع بها واستمرّ إلى الآن، وكان أحمد بن هارون قد عصى على أحمد بن إسماعيل الساماني بعد أن كان من أعيان قواده وهو الذي قتل محمد بن زيد الراعي فتبعه أحمد بن إسماعيل إلى قزوين فدخل أحمد بن هارون بلاد الديلم وأيس منه أحمد بن إسماعيل فرجع فنزل بظاهر الري ولم يدخلها، فخرج إليه أهلها وسألوه أن يتولّى عليهم ويكاتب الخليفة في ذلك ويخطب ولاية الرّيّ، فامتنع وقال: لا أريدها لأنّها
مشؤومة قتل بسببها الحسين بن علي، رضي الله عنهما، وتربتها ديلمية تأبى قبول الحقّ وطالعها العقرب، وارتحل عائدا إلى خراسان في ذي الحجة سنة 289، ثمّ جاء عهده بولاية الرّيّ من المكتفي وهو بخراسان، فاستعمل على الرّيّ من قبله ابن أخيه أبا صالح منصور بن إسحاق بن أحمد بن أسد فوليها ستّ سنين، وهو الذي صنف له أبو بكر محمد بن زكرياء الرازي الحكيم كتاب المنصوري في الطبّ، وهو الكنّاشة، وكان قدوم منصور إليها في سنة 290، والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
181-معجم البلدان (زراوند)
زَرَاوَنْد:بفتح أوّله، وبعد الواو المفتوحة نون ساكنة، وآخره دال مهملة، قال مسعر بن مهلهل وقد ذكر البحيرة المرّة بأرمية قال: وعلى هذه البحيرة قلاع حصينة، وجانب من هذه البحيرة يأخذ إلى موضع يقال له وادي الكرد فيه طرائف من الأحجار وعليه ممّا يلي سلماس حمّة شريفة جليلة نفيسة الخطر كثيرة المنفعة وهي بالإجماع والموافقة خير ما يخرج من كلّ معدن في الأرض، يقال لها زراوند، وإليها ينسب البورق الزراوندي، وذلك أن الإنسان أو البهيمة يلقى فيها وبه كلوم قد اندملت وقروح قد التحمت ودونها عظام موهنة وأزجّة كامنة وشظايا غامضة فتتفجر أفواهها ويخرج ما فيها من قيح وغيره وتجتمع على النظافة ويأمن الإنسان غائلتها، وعهدي بمن توليت حمله إليها وبه علل من جرب وسلع وقولنج وحزاز وضربان في الساقين واسترخاء في العصب وهمّ لازم وحزن دائم وبه سهم قد نبت اللحم على نصله وغار في كبده، وكنا نتوقع صدع قلبه صباح مساء فأقام بها ثلاثة أيّام فخرج السهم من خاصرته لأنّه أرقّ موضع وجد فيه منفذا، قال: ولم أر مثل هذا الماء إلّا في بلد التيز ومكران، قال: ومن شرف الحمّة أن مع ذلك مجراها مجرى ماء عذب زلال بارد، فإذا شرب منه إنسان أمن الخوانيق ووسع عروق الطحال الدقاق وأسهل السوداء من غير مشقة، وذكر غير ذلك من خواصّ هذه الحمة، والله أعلم بصحته.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
182-معجم البلدان (زقاق ابن واقف)
زُقاقُ ابن واقِفٍ:في شعر هدبة بن خشرم العذري:
«فلم تر عيني مثل سرب رأيته *** خرجن علينا من زقاق ابن واقف»
«تضمّخن بالجاديّ حتى كأنّما ال *** أنوف، إذا استعرضتهنّ، رواعف»
«خرجن بأعناق الظّباء وأعين ال *** جآذر وارتجّت لهنّ الرّوادف»
«فلو أنّ شيئا صاد شيئا بطرفه *** لصدن بألحاظ ذوات المطارف»
قال: ومرّ أبو الحارث جمين يوما بسوق المدينة فخرج رجل من زقاق ابن واقف بيده ثلاث سمكات قد شقّ أجوافهنّ وقد خرج شحمهن، فبكى أبو الحارث وقال: تعس الذي يقول:
«فلم تر عيني مثل سرب رأيته *** خرجن علينا من زقاق ابن واقف»
وانتكس ولا انجبر، والله لهذه الثلاث سمكات أحسن من السرب الذي وصفه، وقال أبو الفرج الأصبهاني: أحسب هذا الخبر مصنوعا لأنّه ليس في المدينة زقاق يقال له زقاق ابن واقف ولا بها أيضا سمك كما وصف ولكني رويت كما روي، قلت: إن هذا تحكّم منه ودعوى وقد تتغيّر أسماء الأماكن حسب تغيّر أهلها وبين زمان أبي الحارث جمين وزمان أبي الفرج دهر، وعلى ذلك فقد روي هذا الخبر عن الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار عن عمّه.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
183-معجم البلدان (سبرة)
سَبْرَةُ:بفتح أوّله، وسكون ثانيه، بلفظ المرّة الواحدة من سبرت الجرح إذا قسته لتعرف غوره: وهو اسم مدينة بإفريقية فتحها عمرو بن العاص بن أطرابلس في سنة 23 وطرقها على غفلة وقد سرّحوا سرحهم فلم ينج منهم أحد، قلت:
وأنا أخاف أن يكون هذا غلطا من الناقل وإنّما هي سبرت التي تقدّم ذكرها أنها كانت سوق أطرابلس، والله أعلم، وسياق حديث الفتوح يدلّ على أنّهما واحد إلّا أنّه كذا ضبطها أوّلا مثل ما تقدّم في الموضعين ثمّ مثل ما ههنا، وكانت النسخة معتبرة جدّا وأنا أسوق الحديث، قال: إن عمرو بن العاص نزل على أطرابلس شهرا فحاصرها فلم يقدر منهم على شيء فخرج رجل من بني مدلج في سبعة نفر فرأى فرجة بين المدينة والبحر فدخل بها هو وأصحابه حتى أتوا ناحية الكنيسة فكبّروا فلم يبق للروم مفزع إلّا سفنهم، وسمع عمرو وأصحابه التكبير في جوف المدينة فأقبل بجيشه حتى دخل عليهم فلم يفلت الروم إلّا بما خفّ لهم في مراكبهم وغنم عمرو ما كان في المدينة، وكان من بسبرة متحصنين، فلمّا بلغهم محاصرة عمرو أطرابلس، واسمها نبارة وسبرة السوق القديم وإنّما نقله إلى نبارة عبد الرحمن بن حبيب سنة 31، وأنه لم يصنع فيهم شيئا ولا طاقة له بهم أمنوا، فلمّا ظفر عمرو بن العاص بمدينة أطرابلس جرّد خيلا كثيفة من ليلته وأمرهم بسرعة السير، فصبحت خيله مدينة سبرة وكانوا قد غفلوا وفتحوا أبوابهم لتسرح ماشيتهم، فدخلوها فلم ينج منهم أحد واحتوى عمرو على ما فيها، هكذا هذا الخبر وما أظنهما إلّا واحدا.
سبرينة: بكسر أوّله، وسكون ثانيه، ثمّ راء مكسورة بعدها ياء مثناة من تحت ساكنة، ونون:
مدينة بمصر، ويقال سبريمنة، عن العمراني.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
184-معجم البلدان (سرق)
سُرَّقُ:بضم أوّله، وفتح ثانيه وتشديده، وآخره قاف، لفظة عجميّة: وهي إحدى كور الأهواز نهر عليه بلاد حفره أردشير بهمن بن إسفنديار القديم ومدينتها دورق، وحدث إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: كان حارثة بن بدر الغداني مكينا عند زياد ابن أبيه فلمّا مات جفاه عبيد الله بن زياد فقال له حارثة: أيّها الأمير ما هذا الجفاء مع معرفتك بالحال عند أبي المغيرة؟ فقال عبيد الله: إن أبا المغيرة بلغ مبلغا لا يلحقه فيه عيب وأنا أنسب إلى ما يغلب على الشباب وأنت نديم الشراب وأنا حديث السن فمتى قربتك فظهرت منك رائحة لم آمن أن يظنّ في ذلك فدع الشراب وكن أوّل داخل وآخر خارج، فقال حارثة: أنا لا أدعه لمن يملك نفعي وضرّي، أدعه للحال عندك ولكن صرّفني في بعض أعمالك، فولّاه سرّق من أعمال الأهواز فخرج إليها فشيّعه الناس، وكان فيهم أبو الأسود الدّؤلي فقال له:
«أحار بن بدر قد وليت ولاية، *** فكن جرذا فيها تخون وتسرق»
«فلا تحقرن يا حار شيئا تصيبه، *** فحظّك من ملك العراقين سرّق»
«فإنّ جميع الناس إمّا مكذّب *** يقول بما يهوى وإمّا مصدّق»
«يقولون أقوالا بظنّ وشبهة، *** فإن قيل: هاتوا حققوا، لم يحققوا»
«ولا تعجزن فالعجز أخبث مركب *** فما كل مدفوع إلى الرزق يرزق»
«وبارز تميما بالغنى، إن للغنى *** لسانا به المرء الهيوبة ينطق»
فأجابه حارثة بن بدر بقوله:
«جزاك مليك النّاس خير جزائه، *** فقد قلت معروفا وأوصيت كافيا»
«أمرت بحزم لو أمرت بغيره *** لألفيتني فيه لرأيك عاصيا»
«ستلقى أخا يصفيك بالودّ حاضرا *** ويوليك حفظ الغيب ما كان نائيا»
وسرّق أيضا: موضع بظاهر مدينة سنجار، والآن يسمونه زرّق، بالزاي.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
185-معجم البلدان (سعير)
سُعَيرٌ:بلفظ التصغير، وآخره راء، قال أبو المنذر:
وكان لعنزة صنم يقال له سعير فخرج جعفر بن خلّاس الكلبي على ناقته فمرّت به وقد عترت عتيرة عنده فنفرت ناقته منه، فأنشأ يقول:
«نفرت قلوصي من عتائر صرّعت *** حول السّعير يزوره ابنا يقدم»
«وجموع يذكر مهطعين جنابة، *** ما إن يجيز إليهم بتكلّم»
ويقدم ويذكر: ابنا عنزة، فرأى بني هؤلاء يطوفون حول السعير.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
186-معجم البلدان (سلام)
سَلامٌ:مدينة السلام بغداد، ودار السلام: الجنة، ويجوز أن تكون سميت بذلك على التشبيه أو التفاؤل لأن الجنّة دار السلامة الدائمة، والسلام في اللغة على أربعة معان: مصدر سلّمت سلاما، والسلام: جمع سلامة، والسلام: من أسماء الباري جلّ وعلا، والسلام: اسم شجر، قال ابن الأنباري: سميت بغداد مدينة السلام لقربها من دجلة، وكانت دجلة
تسمى نهر السلام، وقد ذكر ما قيل في ذلك في ترجمة بغداد، ونسب إليها سلاميّ. وقصر السلام:
من أبنية الرشيد بالرقّة. وسلام أيضا: موضع قرب سميساط من بلاد الروم، وفي أخبار هذيل:
فخرج حذيفة بن أنس الهذلي بالقوم فطالع أهل الدار من قلّة السلام. والسلام: جبل بالحجاز في ديار كنانة. وذو سلام، وقيل بضم السين: من المواضع النجدية.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
187-معجم البلدان (سمرقند)
سَمَرْقَنْدُ:بفتح أوّله وثانيه، ويقال لها بالعربيّة سمران: بلد معروف مشهور، قيل: إنّه من أبنية ذي القرنين بما وراء النهر، وهو قصبة الصّغد مبنيّة
على جنوبي وادي الصغد مرتفعة عليه، قال أبو عون:
سمرقند في الإقليم الرابع، طولها تسع وثمانون درجة ونصف، وعرضها ست وثلاثون درجة ونصف، وقال الأزهري: بناها شمر أبو كرب فسميت شمر كنت فأعربت فقيل سمرقند، هكذا تلفظ به العرب في كلامها وأشعارها، وقال يزيد بن مفرّغ يمدح سعيد بن عثمان وكان قد فتحها:
«لهفي على الأمر الذي *** كانت عواقبه النّدامه»
«تركي سعيدا ذا النّدى، *** والبيت ترفعه الدّعامه»
«فتحت سمرقند له، *** وبنى بعرصتها خيامه»
«وتبعت عبد بني علا *** ج، تلك أشراط القيامه»
وبالبطيحة من أرض كسكر قرية تسمى سمرقند أيضا، ذكره المفجّع في كتاب المنقذ من الإيمان في أخبار ملوك اليمن قال: لما مات ناشر ينعم الملك قام بالملك من بعده شمر بن افريقيس بن أبرهة فجمع جنوده وسار في خمسمائة ألف رجل حتى ورد العراق فأعطاه يشتاسف الطاعة وعلم أن لا طاقة له به لكثرة جنوده وشدّة صولته، فسار من العراق لا يصدّه صادّ إلى بلاد الصين فلمّا صار بالصّغد اجتمع أهل تلك البلاد وتحصّنوا منه بمدينة سمرقند فأحاط بمن فيها من كلّ وجه حتى استنزلهم بغير أمان فقتل منهم مقتلة عظيمة وأمر بالمدينة فهدمت فسميت شمركند، أي شمر هدمها، فعرّبتها العرب فقالت سمرقند، وقد ذكر ذلك دعبل الخزاعي في قصيدته التي يفتخر فيها ويردّ بها على الكميت ويذكر التبابعة:
«وهم كتبوا الكتاب بباب مرو، *** وباب الصّين كانوا الكاتبينا»
«وهم سمّوا قديما سمرقندا، *** وهم غرسوا هناك التّبّتينا»
فسار شمر وهو يريد الصين فمات هو وأصحابه عطشا ولم يرجع منهم مخبّر، فبقيت سمرقند خرابا إلى أن ملك تبّع الأقرن بن أبي مالك بن ناشر ينعم فلم تكن له همّة إلّا الطلب بثأر جدّه شمر الذي هلك بأرض الصين فتجهّز واستعدّ وسار في جنوده نحو العراق فخرج إليه بهمن بن إسفنديار وأعطاه الطاعة وحمل إليه الخراج حتى وصل إلى سمرقند فوجدها خرابا، فأمر بعمارتها وأقام عليها حتى ردّها إلى أفضل ما كانت عليه، وسار حتى أتى بلادا واسعة فبنى التّبّت كما ذكرنا، ثمّ قصد الصين فقتل وسبى وأحرق وعاد إلى اليمن في قصة طويلة، وقيل: إن سمرقند من بناء الإسكندر، واستدارة حائطها اثنا عشر فرسخا، وفيها بساتين ومزارع وأرحاء، ولها اثنا عشر بابا، من الباب إلى الباب فرسخ، وعلى أعلى السور آزاج وأبرجة للحرب، والأبواب الاثنا عشر من حديد، وبين كلّ بابين منزل للنوّاب، فإذا جزت المزارع صرت إلى الربض وفيه أبنية وأسواق، وفي ربضها من المزارع عشرة آلاف جريب، ولهذه المدينة، أعني الداخلة، أربعة أبواب، وساحتها ألفان وخمسمائة جريب، وفيها المسجد الجامع والقهندز وفيه مسكن السلطان، وفي هذه المدينة الداخلة نهر يجري في رصاص، وهو نهر قد بني عليه مسنّاة عالية من حجر يجري عليه الماء إلى أن يدخل المدينة من باب كسّ، ووجه هذا النهر رصاص كلّه، وقد عمل في خندق المدينة مسنّاة وأجري عليها، وهو نهر يجري في وسط السوق بموضع يعرف بباب الطاق،
وكان أعمر موضع بسمرقند، وعلى حافات هذا النهر غلّات موقوفة على من بات في هذا النهر وحفظة من المجوس عليهم حفظ هذا النهر شتاء وصيفا مستفرض ذلك عليهم، وفي المدينة مياه من هذا النهر عليها بساتين، وليس من سكة ولا دار إلّا وبها ماء جار إلّا القليل، وقلّما تخل
ثبت فيها ملك العرب، وأخذ رهانهم وانصرف، فلمّا كانت سنة 87 عبر قتيبة بن مسلم النهر وغزا بخارى والشاش ونزل على سمرقند، وهي غزوته الأولى، ثمّ غزا ما وراء النهر عدّة غزوات في سنين سبع وصالح أهلها على أن له ما في بيوت النيران وحلية الأصنام، فأخرجت إليه الأصنام فسلب حليها وأمر بتحريقها، فقال سدنتها: إن فيها أصناما من أحرقها هلك! فقال قتيبة: أنا أحرقها بيدي، وأخذ شعلة نار وأضرمها فاضطرمت فوجد بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب خمسين ألف مثقال، وبسمرقند عدّة مدن مذكورة في مواضعها، منها: كرمانية ودبوسية وأشروسنة والشاش ونخشب وبناكث، وقالوا: ليس في الأرض مدينة أنزه ولا أطيب ولا أحسن مستشرفا من سمرقند، وقد شبهها حضين بن المنذر الرقاشي فقال:
كأنّها السماء للخضرة وقصورها الكواكب للإشراق ونهرها المجرّة للاعتراض وسورها الشمس للإطباق، ووجد بخط بعض ظرفاء العراق مكتوبا على حائط سمرقند:
«وليس اختياري سمرقند محلّة *** ودار مقام لاختيار ولا رضا»
«ولكنّ قلبي حلّ فيها فعاقني *** وأقعدني بالصغر عن فسحة الفضا»
«وإنّي لممّن يرقب الدّهر راجيا *** ليوم سرور غير مغرى بما مضى»
وقال أحمد بن واضح في صفة سمرقند:
«علت سمرقند أن يقال لها *** زين خراسان جنّة الكور»
«أليس أبراجها معلّقة *** بحيث لا تستبين للنّظر»
«ودون أبراجها خنادقها *** عميقة ما ترام من ثغر»
«كأنّها وهي وسط حائطها *** محفوفة بالظّلال والشّجر»
«بدر وأنهارها المجرّة وال *** آطام مثل الكواكب الزّهر»
وقال البستي:
«للنّاس في أخراهم جنّة، *** وجنّة الدنيا سمرقند»
«يا من يسوّي أرض بلخ بها، *** هل يستوي الحنظل والقند؟»
قال الأصمعي: مكتوب على باب سمرقند بالحميرية:
بين هذه المدينة وبين صنعاء ألف فرسخ، وبين بغداد وبين إفريقية ألف فرسخ، وبين سجستان وبين البحر مائتا فرسخ، ومن سمرقند إلى زامين سبعة عشر
فرسخا، وقال الشيخ أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني: أخبرنا أبو الفضل محمد بن عبد الله ابن المظفّر الكسّي بسمرقند أنبأنا أبو الحسن عليّ بن عثمان بن إسماعيل الخرّاط إملاء أنبأنا عبد الجبار بن أحمد الخطيب أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الله الخطيب
يا أبا حمزة ما حفظها؟ فقال: أخبرني حبيبي رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، أن مدينة بخراسان خلف النهر تدعى المحفوظة، لها أبواب على كلّ باب منها خمسة آلاف ملك يحفظونها يسبّحون ويهلّلون، وفوق المدينة خمسة آلاف ملك يبسطون أجنحتهم على أن يحفظوا أهلها، ومن فوقهم ملك له ألف رأس وألف فم وألف لسان ينادي يا دائم يا دائم يا الله يا صمد احفظ هذه المدينة، وخلف المدينة روضة من رياض الجنة، وخارج المدينة ماء حلو عذب من شرب منه شرب من ماء الجنّة ومن اغتسل فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه، وخارج المدينة على ثلاثة فراسخ ملائكة يطوفون يحرسون رساتيقها ويدعون الله بالذكر لهم، وخلف هؤلاء الملائكة واد فيه حيّات وحيّة تخرج على صفة الآدميّين تنادي يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة ارحم هذه المدينة المحفوظة، ومن تعبّد فيها ليلة تقبّل الله منه عبادة سبعين سنة، ومن صام فيها يوما فكأنّما صام الدهر، ومن أطعم فيها مسكينا لا يدخل منزله فقر أبدا، ومن مات في هذه المدينة فكأنّما مات في السماء السابعة ويحشر يوم القيامة مع الملائكة في الجنة، وزاد حذيفة بن اليمان في رواية: ومن خلفها قرية يقال لها قطوان يبعث منها سبعون ألف شهيد يشفع كلّ شهيد منهم في سبعين من أهل بيته، وقال حذيفة: وددت أن يوافقني هذا الزمان وكان أحبّ إليّ من أن أوافق ليلة القدر، وهذا الحديث في كتاب الأفانين للسمعاني، وينسب إلى سمرقند جماعة كثيرة، منهم: محمد بن عدي بن الفضل أبو صالح السمرقندي نزيل مصر، سمع بدمشق أبا الحسين الميداني، وبمصر أبا مسلم الكاتب وأبا الحسن عليّ بن محمد بن إسحاق الحلبي وأبا الحسين أحمد بن محمد الأزهر التنيسي المعروف بابن السمناوي ومحمد ابن سراقة العامري وأحمد بن محمد الجمّازي وأبا القاسم الميمون بن حمزة الحسيني وأبا الحسن محمد بن أحمد بن العباس الإخميمي وأبا الحسن علي بن محمد ابن سنان، روى عنه أبو الربيع سليمان بن داود بن أبي حفص الجبلي وأبو عبد الله بن الخطّاب وسهل بن بشر وأبو الحسن عليّ بن أحمد بن ثابت العثماني الديباجي وأبو محمد هيّاج بن عبيد الحطّيني، ومات سنة 444 وأحمد بن عمر بن الأشعث أبو بكر السمرقندي، سكن دمشق مدة وكان يكتب بها المصاحف ويقرأ ويقرئ القرآن، وسمع بدمشق أبا علي بن أبي نصر وأبا عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني، روى عنه أبو الفضل كمّاد بن ناصر بن نصر المراغي الحدّادي، حدث عنه ابنه أبو القاسم، قال ابن عساكر:
سمعت الحسن بن قيس يذكر أن أبا بكر السمرقندي كان يكتب المصاحف من حفظه وكان لجماعة من أهل دمشق فيه رأي حسن فسمعت الحسن بن قيس يذكر أنّه خرج مع جماعة إلى ظاهر البلد في فرجة فقدّموه يصلي بهم وكان مزّاحا، فلمّا سجد بهم تركهم في
الصلاة وصعد إلى شجرة، فلمّا طال عليهم انتظاره رفعوا رؤوسهم فلم يجدوه فإذا هو في الشجرة يصيح صياح السنانير فسقط من أعينهم، فخرج إلى بغداد وترك أولاده بدمشق واتصل ببغداد بعفيف الخادم القائمي فكان يكرمه وأنزله في موضع من داره، فكان إذا جاءه الفرّاش بالطعا
سله عن سبب بكائه، فسأله فقال: إن لي بدمشق أولادا في ضيق فإذا جاءني الطعام تذكّرتهم، فأخبره الفرّاش بذلك، فقال: سله أين يسكنون وبمن يعرفون، فسأله فأخبره، فبعث عفيف إليهم من حملهم من دمشق إلى بغداد، فما أحسّ بهم أبو بكر حتى قدم عليه ابنه أبو محمد وقد خلّف أمّه وأخويه عبد الواحد وإسماعيل بالرحبة ثمّ قدموا بعد ذلك فلم يزالوا في ضيافة عفيف حتى مات، وسألت ابنه أبا القاسم عن وفاته فقال في رمضان سنة 489.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
188-معجم البلدان (سميران)
سَمِيرانُ:بفتح أوّله، وكسر ثانيه، وآخره نون، وبعد الميم ياء مثناة من تحت ثمّ راء مهملة: قلعة حصينة على نهر عظيم جار بين جبال في ولاية تارم، خربها صاحب الموت، رأيتها وبها آثار حسنة تدل على أنّها كانت من أمهات القلاع، قال مسعر بن المهلهل: وصلت إلى قلعة ملك الديلم المعروفة بسميران فرأيت من أبنيتها وعمارتها ما لم أره ولم أشاهده في غيرها من مواطن الملوك، وذلك أن فيها ألفين وثمانمائة ونيفا وخمسين دارا كبارا وصغارا، وكان محمد ابن مسافر صاحبها إذا نظر إلى سلعة حسناء أو عمل محكم سأل عن صانعه فإذا أخبر بمكانه أنفذ إليه من المال ما يرغب مثله فيه وضمن له أضعاف ذلك إذا صار إليه، فإذا حصل عنده منع أن يخرج من القلعة بقية عمره، وكان يأخذ أولاد رعيته فيسلمهم في الصناعات، وكان كثير الدخل قليل الخرج واسع المال ذا كنوز عظيمة، فما زال على ذلك حتى أضمر أولاده مخالفته رحمة منهم لمن عندهم من الناس الذين هم في زيّ الأسارى، فخرج يوما في بعض متصيداته فلمّا عاد أغلقوا باب القلعة دونه وامتنعوا عليه، فاعتصم منهم بقلعة أخرى في بعض أعماله، وأطلقوا من كان عنده من الصناع، وكانوا نحو خمسة آلاف إنسان، فكثر الدعاء لهم بذلك وأدركت ابنه الأوسط الحميّة والأنفة أن ينسبه أبوه إلى العقوق وأنّه رغب في الأموال والذخائر والكنوز فجمع جمعا عظيما من الديلم وخرج إلى أذربيجان فكان من أمره ما كان، وكان فخر الدولة بن ركن الدولة ملك هذه القلعة في سنة 379، وذلك أن ملكها انتهى إلى ولد نوح بن وهسوذان وهو طفل وأمّه المستولية عليه فأرسل إليها فخر الدولة حتى تزوّجها وزوّج ابنها بواحدة من أقاربه وملك القلعة، وكان الصاحب قد أنفذ لحصارها وأخذ صاحبة المسكن عبده أبا عليّ الحسن بن أحمد فتمادى أمره فكتب إليه كتابا في صفة هذه القلعة هذه نسخته أوردته ليعرف قدرها: ورد كتابك بحديث قلعة سميران وأنا أحسب أن أمرها خفيف في نفسك فلهذا أبسط القول وأشرح الخطاب وأبعث الرغبة وأدعو إلى الاجتهاد وأرهف البصيرة وأشحذ العزم، اعلم يا سيدي أن سميران ليست بقلعة وإنما هي مملكة وليست مملكة وإنّما هي ممالك وسأقول بما أعرف:
إن آل كنكر لم يكن قدمهم في الديلم ثابت الأطناب
حتى ملكوا من هذه القلعة ما ملكوا فصار السبب في اقتطاعهم الطرم عن قزوين وهي منها ومختلسة عنها ثمّ سمت بهم هماتهم إلى مواصلة حسنات وهسوذان ملك الديلم وقد ملك أربعين سنة فحين رأى أن سميران أخت قلعة الموت استجاب للوصلة وبهذا التواصل وتلك القلعة ملك آل كنكر باقي الاستانة أجمع فصار لهم ملك شطر الديلم فاحتاج ملوك آل وهسوذان إلى الانتصار على اللائحية، وهم الشطر الثاني بهذه الدولة، شجع المرزبان بن محمد على التلقب بالملك وتوغل بلاد أذربيجان وعنده أن سميران معونة متى ما نبت به الأرض وهذا وهسوذان على ما عرفت خوره وجزعه وكثرة إفساده على الأمير السعيد إنّما كانت تلك القلعة مادّة الباطنية وعيبه المناظرة وباسمها واصل عماد الدولة وتأكّل أبهر وزنجان وأكثر قزوين وجميع سهرورد وبنى القلاع التي خلصت اليوم للدولة القاهرة ثمّ من ملك سميران فقد أضاف إلى ملك الديلم ملك من أعلى أسفيذروذ من الجبل، وليست المزية في ذلك بقليلة ولا المرزئة للأعداء بيسيرة ولا النباهة بخفيفة، فاجتهد يا سيدي وجدّ وبالغ واشتدّ ولا تستكثر بذلا ولا تستعظم جزلا ولا تستسرف ما تخرجه نقدا وتضمنه وعدا، فلو وزنت ألف ألف درهم ثم تملك سميران لكنت الرابح، وأوردت هذا الفصل بهذا الذكر فلو كتبت فيه أحمالا من البياض لكنت بعد في جانب التقصير والاقتصار، والله خير ميسر، نعم يا سيدي إن أثرك في حسبك عظيم وذكرك فخم وحديثك كالروض باكره القطر وراوحه الصّبا ولكن ليس النجم كالشمس ولا القمر كالصبح ولا سميران كجناشك، ومتى تيسر هذا على يدك فقد حزت جمالا لا يمحى حتى تمحو السماء أثر الكواكب، والله حسبي ونعم الوكيل.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
189-معجم البلدان (سوبلا)
سُوبِلّا:بضم السين، وسكون الواو، وكسر الباء الموحدة، وفتح اللام المشددة، والقصر: بلدة من بلاد البربر بالمغرب قرب مرّاكش اجتاز بها أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن في بعض أسفاره فخرج مشايخها لتلقّيه والخدمة فلمّا بصر بهم قال: من أنتم؟
قالوا: نحن مشايخ سوبلّا، فقال لهم: عجلا أيّ حاجة لكم إلى اليمن فإنّا نعرف ذلك منذ مدة قديمة، فعجب الناس من سرعة جوابه وصارت نادرة كأنّه حمل كلامهم على أنّهم قالوا: نحن مشايخ سوء بالله، فإن اللفظ واحد في كلام المغاربة.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
190-معجم البلدان (سورية)
سُورِيَةُ:موضع بالشام بين خناصرة وسلمية، وفي كتاب الفتوح: لما نصر الله المسلمين بفحل وقدم المنهزمون من الروم على هرقل بأنطاكية دعا رجالا منهم فأدخلهم عليه فقال: حدّثوني ويحكم عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بشرا مثلكم؟ قالوا: بلى، قال: فأنتم أكثر أو هم؟ قالوا: بل نحن، قال: فما بالكم؟ فسكتوا، فقام شيخ منهم وقال: أنا أخبرك أنّهم إذا حملوا صبروا ولم يكذّبوا، وإذا حملنا لم نصبر ونكذب، وهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويرون أن قتلاهم في الجنة وأحياءهم فائزون بالغنيمة والأجر، فقال: يا شيخ لقد صدقتني ولأخرجنّ من هذه القرية وما لي في صحبتكم من حاجة ولا في قتال القوم من أرب، فقال ذلك الشيخ: أنشدك الله أن تدع سورية جنة الدنيا للعرب وتخرج منها ولم تعذر، فقال: قد قاتلتم بأجنادين ودمشق وفحل وحمص كلّ ذلك تفرون ولا تصلحون، فقال الشيخ: أتفرّ وحولك من الروم عدد النجوم وأيّ عذر لك عند النصرانية؟
فثناه ذلك إلى المقام وأرسل إلى رومية وقسطنطينية وأرمينية وجميع الجيوش فقال لهم: يا معشر الروم إن العرب إذا ظهروا على سورية لم يرضوا حتى يتملكوا أقصى بلادكم ويسبوا أولادكم ونساءكم ويتخذوا أبناء الملوك عبيدا، فامنعوا حريمكم وسلطانكم، وأرسلهم نحو المسلمين، فكانت وقعة اليرموك، وأقام قيصر بأنطاكية، فلمّا هزم الروم وجاءه الخبر وبلغه أن المسلمين قد بلغوا قنسرين فخرج يريد القسطنطينية وصعد على نشز وأشرف على أرض الروم وقال: سلام عليك يا سورية سلام مودع لا يرجو أن يرجع إليك أبدا! ثمّ قال: ويحك أرضا! ما أنفعك أرضا! ما أنفعك لعدوك لكثرة ما فيك من العشب والخصب! ثمّ إنّه مضى إلى القسطنطينية.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
191-معجم البلدان (شاهي)
شاهِي:موضع قرب القادسيّة فيما أحسب، حدّثنا الحافظ أبو عبد الله بن الحافظ بن سكينة حدّثنا أبي حدّثنا الصريفيني أنبأنا حبابة أنبأنا البغوي أنبأنا أحمد ابن زهير أنبأنا سلمان بن أبي تيم أنبأنا عبد الله بن صالح بن مسلم قال: كان شريك بن عبد الله على قضاء الكوفة فخرج يتلقّى الخيزران فبلغ شاهي وأبطأت الخيزران فأقام ينتظرها ثلاثا فيبس خبزه فجعل يبلّه بالماء، فقال العلاء بن المنهال:
«فإن كان الذي قد قلت حقّا *** بأن قد أكرهوك على القضاء»
«فما لك موضعا في كلّ يوم *** تلقّى من يحجّ من النساء»
«مقيما في قرى شاهي ثلاثا *** بلا زاد سوى كسر وماء»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
192-معجم البلدان (شفر)
شُفَرُ:بوزن زفر، بضم أوله، وفتح ثانيه، يجوز أن يكون جمع شفير الوادي أو شفرة السيف على غير قياس، لأن قياس فعل أن يكون جمع فعلة نحو برقة وبرق أو فعلة وفعل نحو تخمة وتخم:
وهو جبل بالمدينة في أصل حمى أمّ خالد يهبط إلى بطن العقيق، كان يرعى به سرح المدينة يوم أغار كرز بن جابر الفهري فخرج النبي، صلى الله عليه وسلم، في طلبه حتى ورد بدرا.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
193-معجم البلدان (شيخ)
شَيْخٌ:بلفظ ضد الشاب، رستاق الشيخ: من كور أصبهان، سمي بذلك لأن عمر، رضي الله عنه، كتب إلى عبد الله بن عتبان أن سر إلى أصبهان وعلى مقدمتك عبد الله بن ورقاء الرياحي وعلى مجنبتك عبد الله بن ورقاء الأسدي، فسار إلى قرب أصبهان وقد اجتمع له جند من العجم عليهم الأسبيذدار وكان على مقدمته شهربراز جاذويه، كان شيخا كبيرا، في جمع كثير، فالتقى المسلمون والمشركون في رستاق من رساتيق أصبهان فاقتتلوا وخرج الشيخ شهربراز ودعا إلى البراز فخرج له عبد الله بن ورقاء فقتله وانهزم أهل أصبهان وسمى المسلمون ذلك الرستاق رستاق الشيخ، فهو اسمه إلى اليوم، وقال عبد الله
ابن عتبان في ذلك:
«ألم تسمع وقد أودى ذميما *** بمنعرج السراة من أصبهان»
«عميد القوم إذ ساروا إلينا *** بشيخ غير مسترخي العنان»
«فساجلني وكنت به كفيلا، *** فلم يسنو وخرّ على الجران»
«برستاق له يدعى إليه *** طوال الدهر في عقب الزمان»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
194-معجم البلدان (صقلية)
صِقِلِّيَّةُ:بثلاث كسرات وتشديد اللام والياء أيضا مشددة، وبعض يقول بالسين، وأكثر أهل صقلّيّة يفتحون الصاد واللام: من جزائر بحر المغرب مقابلة إفريقية، وهي مثلثة الشكل بين كلّ زاوية والأخرى مسيرة سبعة أيّام، وقيل: دورها مسيرة خمسة عشر يوما، وإفريقية منها بين المغرب والقبلة، وبينها وبين ريو، وهي مدينة في البر الشمالي الشرقي الذي عليه مدينة قسطنطينيّة، مجاز يسمى الفارو في أطول جهة منها اتّساعه عرض ميلين وعليه من جهتها مدينة تسمى المسيني التي يقول فيها ابن قلاقس الإسكندري:
من ذا يمسّيني على مسّيني
وهي مقابلة ريو، وبين الجزيرة وبرّ إفريقية مائة وأربعون ميلا إلى أقرب مواضع إفريقية وهو الموضع المسمّى إقليبية وهو يومان بالريح الطيبة أو أقلّ،
وإن طولها من طرابنش إلى مسيني إحدى عشرة مرحلة وعرضها ثلاثة أيّام، وهي جزيرة خصيبة كثيرة البلدان والقرى والأمصار، وقرأت بخط ابن القطّاع اللغوي على ظهر كتاب تاريخ صقلية: وجدت في بعض نسخ سيرة صقلية تعليقا على حاشية أن بصقلية ثلاثا وعشرين مدينة وثلاثة عشر
«ذكرت صقلّيّة والهوى *** يهيّج للنّفس تذكارها»
«فإن كنت أخرجت من جنّة *** فإنّي أحدّث أخبارها»
وفي وسطها جبل يسمى قصر يانه، هكذا يقولونه بكسر النون، وهي أعجوبة من عجائب الدّهر، عليه مدينة عظيمة شامخة وحولها من الحرث والبساتين شيء كثير، وكلّ ذلك يحويه باب المدينة، وهي شاهقة في الهواء والأنهار تتفجّر من أعلاها وحولها وكذلك جميع جبال الجزيرة، وفيها جبل النار لا تزال تشتعل فيه أبدا ظاهرة لا يستطيع أحد الدّنوّ منها فإن اقتبس منها مقتبس طفئت في يده إذا فارق موضعها، وهي كثيرة المواشي جدّا من الخيل والبغال والحمير والبقر والغنم والحيوان الوحشيّ وليس فيها سبع ولا حيّة ولا عقرب، وفيها معدن الذهب والفضة والنحاس والرصاص والزيبق وجميع الفواكه على اختلاف أنواعها، وكلأها لا ينقطع صيفا ولا شتاء، وفي أرضها ينبت الزعفران، وكانت قليلة العمارة خاملة قبل الإسلام، فلمّا فتح المسلمون بلاد إفريقية هرب أهل إفريقية إليها فأقاموا بها فعمّروها فأحسنوا عمارتها ولم تزل على قربها من بلاد الإسلام حتى فتحت في أيام بني الأغلب على يد القاضي أسد بن الفرات، وكان صاحب صقلية رجلا يسمى البطريق قسطنطين، فقتله لأمر بلغه عنه فتغلّب فيمي على ناحية من الجزيرة ثمّ دبّ حتى استولى على أكثرها ثمّ أنفذ صاحب القسطنطينيّة جيشا عظيما فأخرج فيمي عنها فخرج في مراكبه حتى لحق بإفريقية ثمّ بالقيروان منها مستجيرا بزيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب، وهو يومئذ الوالي عليها من جهة أمير المؤمنين المأمون بن هارون الرشيد، وهوّن عليه أمرها وأغراه بها فندب زيادة الله الناس لذلك فابتدروا إليه ورغبوا في الجهاد فأمّر عليهم أسد ابن الفرات، وهو يومئذ قاضي القيروان، وجمعت المراكب من جميع السواحل وتوجّه نحو صقلية في سنة 212 في أيّام المأمون في تسعمائة فارس وعشرة آلاف راجل فوصل إلى الجزيرة وجمع الروم جمعا عظيما فأمر أسد بن الفرات فيمي وأصحابه أن يعتزلوهم وقالوا لا حاجة لنا إلى الانتصار بالكفار، ثمّ كبّر المسلمون وحملوا على الروم حملة صادقة فانهزم الروم وقتل منهم قتلا ذريعا وملك أسد بن الفرات بالتنقّل جميع الجزيرة، ثمّ توفي في سنة 213، وكان رجلا صالحا فقيها عالما، أدرك حياة مالك بن أنس، رضي الله عنه، ورحل إلى الشرق، وبقيت بأيدي المسلمين مدّة وصار أكثر أهلها مسلمين وبنوا بها الجوامع والمساجد ثمّ ظهر عليها الكفار فملكوها فهي اليوم في أيديهم، قال بطليموس في كتاب الملحمة: مدينة صقلية طولها أربعون درجة، وعرضها خمس وثلاثون درجة، طالعها السنبلة، عاشرها ذراع الكلب ولها
شركة في الفرع المؤخر تحت عشر درجات من السرطان، يقابلها مثلها من الجدي، رابعها مثلها من الميزان، بيت ملكها مثلها من الحمل، ومن فضل جزيرة صقلية أن ليس بها سبع ضار ولا نمر ولا ضبع ولا عقرب ولا أفاع ولا ثعابين، وفيها معادن الذهب موجودة في كلّ مكان ومعادن ا
مجاورة المكان المعروف بالعسكر وهو في ضمن البلد إلى البلد المعروف بالبيضاء قرية تشرف على المدينة من نحو فرسخ مائتا مسجد، قال: ولقد رأيت في بعض الشوارع في بلرم على مقدار رمية سهم عشرة مساجد، وقد ذكرتها في بلرم، قال: وأهل صقلية أقل الناس عقلا وأكثرهم حمقا
ليس في جميع البلد من يوصى إليه، فلمّا توفي تولى قضاءهم رجل من أهلها يعرف بأبي إبراهيم إسحاق بن الماحلي، ثمّ ذكر شيئا من سخيف عقله، قال:
والغالب على أهل المدينة المعلّمون، فكان في بلرم ثلاثمائة معلّم، فسألت عن ذلك فقالوا: إن المعلم لا يكلّف الخروج إلى الجهاد عند صدمة العدو، وقال ابن حوقل: وكنت بها في سنة 362، ووصف شيئا من تخلّقهم ثم قال: وقد استوفيت وصف هؤلاء وحكاياتهم ووصف صقلية وأهلها بما هم عليه من هذا الجنس من الفضائل في كتاب وسمته بمحاسن أهل صقلية ثمّ ذكرت ما هم عليه من سوء الخلق والمأكل والمطعم المنتن والأعراض القذرة وطول المراء مع أنّهم لا يتطهّرون ولا يصلّون ولا يحجّون ولا يزكون، وربّما صاموا رمضان واغتسلوا من الجنابة، ومع هذا فالقمح لا يحول عندهم وربّما ساس في البيدر لفساد هوائها، وليس يشبه وسخهم وقذرهم وسخ اليهود، ولا ظلمة بيوتهم سواد الأتاتين، وأجلّهم منزلة تسرح الدجاج على موضعه وتذرق على مخدته وهو لا يتأثر، ثمّ قال: ولقد عررت كتابي بذكرهم، والله أعلم.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
195-معجم البلدان (ذكر فتوح طبرستان)
ذكر فتوح طبرستانوكانت بلاد طبرستان في الحصانة والمنعة على ما هو مشهور من أمرها، وكانت ملوك الفرس يولّونها
رجلا ويسمونه الأصبهبذ فإذا عقدوا له عليها لم يعزلوه عنها حتى يموت فإذا مات أقاموا مكانه ولده إن كان له ولد وإلّا وجّهوا بأصبهبذ آخر، فلم يزالوا على ذلك حتى جاء الإسلام وفتحت المدن المتّصلة بطبرستان، وكان صاحب طبرستان يصالح على الشيء اليسير فيقبل منه لص
إن سعيدا غزاها من غير أن يأتيه كتاب أحد بل سار إليها من الكوفة ففتح طميس أو طميسة، وهي قرية، وصالح ملك جرجان على مائتي ألف درهم بغليّة وافية فكان يؤدّيها الى المسلمين، وافتتح أيضا من طبرستان الرويان ودنباوند وأعطاه أهل الجبال مالا، فلما ولي معاوية ولّى مصقلة بن هبيرة أحد بني ثعلبة بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة فسار إليها ومعه عشرون ألف رجل فأوغل في البلد يسبي ويقتل فلما تجاوز المضايق والعقاب أخذها عليه وعلى جيشه العدوّ عند انصرافه للخروج ودهدهوا عليه الحجارة والصخور من الجبال فهلك أكثر ذلك الجيش وهلك مصقلة فضرب الناس به مثلا فقالوا: لا يكون هذا حتى يرجع مصقلة من طبرستان، فكان المسلمون بعد ذلك إذا غزوا هذه البلاد تحفّظوا وتحذّروا من التوغّل فيها، حتى ولي يزيد بن المهلّب خراسان في أيام سليمان بن عبد الملك وسار حتى أناخ على طبرستان فاستجاش الأصبهبذ الديلم فأنجدوه وقاتله يزيد أياما ثم صالحه على أربعة آلاف ألف درهم وسبعمائة ألف درهم مثاقيل في كل عام وأربعمائة وقر زعفران وأن يوجّهوا في كل عام أربعمائة رجل على رأس كل رجل ترس وجام فضة ونمرقة حرير، وفتح يزيد الرويان ودنباوند ولم يزل أهل طبرستان يؤدّون هذا الصلح مرة ويمتنعون أخرى إلى أيام مروان بن محمد فإنهم نقضوا ومنعوا ما كانوا يحملونه، فلما ولي السفاح وجّه إليهم عاملا فصالحوه على مال ثم غدروا وقتلوا المسلمين، وذلك في خلافة المنصور، فوجّه المنصور إليهم خازم بن خزيمة التميمي وروح بن حاتم المهلّبي ومعهما مرزوق أبو الخصيب فنزلوا على طبرستان وجرت مدافعات صعب معها بلوغ غرض وضاق عليهم الأمر فواطأ أبو الخصيب خازما وروحا على أن ضرباه وحلقا رأسه ولحيته ليوقع الحيلة على الأصبهبذ فركن إلى ما رأى من سوء حاله واستخصّه حتى أعمل الحيلة وملك البلد، وكان عمرو بن العلاء الذي يقول فيه بشّار بن برد:
«إذا أيقظتك حروب العدى *** فنبّه لها عمرا ثمّ نم»
جزّارا من أهل الريّ فجمع جمعا وقاتل الديلم فأبلى بلاء حسنا فأوفده جهور بن مرار العجلي إلى المنصور فقوّده وجعل له منزلة وتراقت به الأمور حتى ولي طبرستان واستشهد في خلافة المهدي، ثم افتتح موسى بن حفص بن عمرو بن العلاء ومازيار بن قارن جبال شروين من طبرستان، وهي من أمنع الجبال وأصعبها، وذلك في أيام المأمون، فولّى المأمون عند ذلك بلاد طبرستان المازيار وسماه محمدا وجعل له مرتبة الأصبهبذ، فلم يزل واليا عليها حتى توفي المأمون واستخلف المعتصم فأقرّه عليها ولم يعزله فأقام على الطاعة مدة ثم غدر وخالف وذلك بعد ست
سنين من خلافة المعتصم فكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر وهو عامله على المشرق خراسان والريّ وقومس وجرجان يأمره بمحاربته، فوجّه إليه عبد الله الحسن ابن الحسين في جماعة من رجال خراسان ووجّه المعتصم محمد بن إبراهيم بن مصعب في جماعة من الجند، فلما قصدته العساكر خرج إلى الحسن بن الحسين بغير عهد ولا عقد فأخذه وحمله إلى سرّ من رأى في سنة 225 فضرب بالسياط بين يدي المعتصم حتى مات وصلب بسرّ من رأى مع بابك الخرّمي على العقبة التي بحضرة مجلس الشّرطة وتقلد عبد الله بن طاهر طبرستان، وكان ممن ذكرنا جماعة من الولاة من قبل بني العباس لم يكن منهم حادثة ولم يتحقق أيضا عندنا وقت ولاية كل واحد منهم، ثم وليها بعد عبد الله بن طاهر ابنه طاهر بن عبد الله وخلفه عليها أخوه سليمان بن عبد الله بن طاهر فخرج عليه الحسن ابن زيد العلوي الحسني في سنة 249 فأخرجه عنها وغلب عليها إلى أن مات وقام مقامه أخوه محمد بن زيد، وقد ذكرت قصة هؤلاء الزيدية في كتاب المبدإ والمآل مشبعا على نسق، وقال عليّ بن زين الطبري كاتب المازيار وكان حكيما فاضلا له تصانيف في الأدب والطب والحكمة، قال: كان في طبرستان طائر يسمونه ككم يظهر في أيام الربيع فإذا ظهر تبعه جنس من العصافير موشّاة الريش فيخدمه كل يوم واحد منها نهاره أجمع يجيئه بالغذاء ويزقّه به فإذا كان في آخر النهار وثب على ذلك العصفور فأكله حتى إذا أصبح وصاح جاءه آخر من تلك العصافير فكان معه على ما ذكرنا فإذا أمسى أكله فلا يزال على هذا مدة أيام الربيع فإذا زال الربيع فقد هو وسائر أشكاله وكذلك أيضا ذلك الجنس من العصافير فلا يرى شيء من الجميع إلى قابل في ذلك الوقت، وهو طائر في قدر الفاختة وذنبه مثل ذنب الببغاء وفي منسره تعقيف، هكذا وجدته وحققته.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
196-معجم البلدان (طبرك)
طَبَرَك:بفتح أوله وثانيه والراء، وآخره كاف:
قلعة على رأس جبيل بقرب مدينة الريّ على يمين القاصد إلى خراسان وعن يساره جبل الريّ الأعظم وهو متصل بخراب الريّ، خرّبها السلطان طغرل ابن أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملك شاه بن أرسلان بن داود بن سلجوق في سنة 588، وكان السبب في ذلك أن خوارزم شاه تكش بن أرسلان قدم العراق واستولى على الريّ وملك هذه القلعة، فلما عزم على العود إلى خوارزم رتب فيها أميرا من قبله يقال له طمغاج في نحو ألفي فارس من الخوارزمية وحصّنها بالأموال والذخائر ولم يترك مجهودا في ذلك، وكان طغرل معتقلا في قلعة فخلّص في السنة المذكورة واجتمع إليه العساكر وقصد الريّ فهرب منه فتلغ إيتاخ بن البهلوان وكتب إلى خوارزم شاه يستنجده ونزل على الريّ وملكها ثم نزل محاصرا لطبرك فاتفق أن الأمير طمغاج مات في ذلك الوقت فضعفت قلوب الخوارزمية وطلبوا من طغرل أن
يخرجوا من القلعة بأموالهم ويسلموها، فقال: أما الذخائر والسلاح فلا أمكّن أحدا من إخراجها ولكن أموالكم لكم، فخرجوا على ذلك الشرط، واتفق أن مملوكا لطغرل كان قد هرب والتجأ إلى الخوارزمية فخرج في هذا الوقت معهم فأمسكه أصحاب طغرل وقالوا: هذا مملوكنا، وامتنع
أبو معين من كبار حفاظ الحديث.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
197-معجم البلدان (طرابلس)
طَرَابُلُسُ:بفتح أوله، وبعد الألف باء موحدة مضمومة، ولام أيضا مضمومة، وسين مهملة، ويقال أطرابلس، وقال ابن بشير البكري، طرابلس بالرومية والإغريقية ثلاث مدن، وسماها اليونانيون طرابليطة وذلك بلغتهم أيضا ثلاث مدن، لأن طرا معناه ثلاث وبليطة مدينة، وقد ذكر أن أشباروس قيصر أول من بناها، وتسمى أيضا مدينة إياس، وعلى مدينة طرابلس سور صخر جليل البنيان، وهي على شاطئ البحر، ومبنى جامعها أحسن مبنى، وبها أسواق حافلة جامعة وبها مسجد يعرف بمسجد الشعاب مقصود وحولها أنباط، وفي بربرها من كلامه بالنبطية، في قرارات في شرقيها وغربيها مسيرة ثلاثة أيام إلى موضع يعرف ببني السابري وفي القبلة مسيرة يومين إلى حدّ هوارة، وفيها رباطات كثيرة يأوي إليها الصالحون أعمرها وأشهرها مسجد الشعاب، ومرساها مأمون من أكثر الرياح، وهي كثيرة الثمار والخيرات، ولها بساتين جليلة في شرقيها وتتصل بالمدينة سبخة كبيرة يرفع منها الملح الكثير، وداخل مدينتها بئر تعرف ببئر أبي الكنود يعيّرون بها ويحمق من شرب منها فيقال للرجل منهم إذا أتى بما يلام: لا يعتب عليك لأنك شربت من بئر أبي الكنود، وأعذب آبارها بئر القبّة، نذكرها في طرابلس فانه لم تكتب الألف وقد ذكر في باب الألف ما فيه كفاية، وذكر الليث بن سعد قال: غزا عمرو بن العاص طرابلس سنة 23 حتى نزل القبة التي على الشرف من شرقيها فحاصرها شهرين لا يقدر منهم على شيء فخرج رجل من بني مدلج ذات يوم من عسكر عمرو بن العاص متصيّدا مع سبعة نفر فجمعوا غربي المدينة واشتدّ عليهم الحرّ فأخذوا راجعين على ضفة البحر وكان البحر لاصقا بالمدينة ولم يكن في ما بين المدينة والبحر سور وكانت سفن البحر شارعة في مرساها إلى بيوتهم ففطن المدلجي وأصحابه وإذا البحر قد غاض من ناحية المدينة فدخلوا منه حتى أتوا من ناحية الكنيسة وكبّروا فلم يكن للروم مفزع إلا سفنهم وأقبل عمرو بجيشه حتى دخل عليهم فلم تفلت الروم إلا بما خفّ في مراكبهم وغنم عمرو ما كان في المدينة، وإنما بنى سورها مما يلي البحر هرثمة بن أعين حين ولايته على القيروان، ومن طرابلس إلى نفوسة مسيرة ثلاثة أيام، وفي كتاب ابن عبد الحكم: أن عمرو ابن العاص نزل على مدينة طرابلس في سنة 23 من الهجرة فملكها عنوة واستولى على ما فيها، قال:
وكان من بسبرت متحصنين فلما بلغتهم محاصرة عمرو طرابلس واسمها نبارة، وسبرت السوق القديم وإنما نقله إلى نبارة عبد الرحمن بن حبيب سنة 31 فهذا يدلّ على أن طرابلس اسم الكورة وأن نبارة قصبتها، وقد ذكرنا أن طرابلس معناه الثلاث مدن وهذا يدل على أنها ليست بمدينة بعينها وأنها كورة، وينسب إلى طرابلس الغرب عمر بن عبد العزيز بن عبيد بن يوسف الطرابلسي المالكي، لقيه السلفي وأثنى عليه، وهو القائل في كتب الغزّالي:
«هذّب المذهب حبر *** أحسن الله خلاصة»
«ببسيط ووسيط *** ووجيز وخلاصه»
وسافر إلى بغداد ومات بها في سنة 510، وأبو الحسن علي بن عبد الله بن مخلوف الطرابلسي، كان له اهتمام بالتواريخ وصنّف تاريخا لطرابلس، وكان فاضلا في فنون شتى، أخذ عنه السلفي وسافر إلى الحج فأدركته المنية بمكة في ذي الحجة سنة 522، وقال أبو الطيب يمدح عبيد الله بن خراسان الطرابلسي:
لو كان فيض يديه ماء غادية عزّ القطا في الفيافي موضع اليبس أكارم حسد الأرض السماء بهم، وقصّرت كلّ مصر عن طرابلس أيّ الملوك، وهم قصدي، أحاذره، وأيّ قرن وهم سيفي وهم ترسي وقال أحمد بن الحسين بن حيدرة يعرف بابن خراسان الطرابلسي:
«أحبابنا! غير زهد في محبتكم *** كوني بمصر وأنتم في طرابلس»
«إن زرتكم فالمنايا في زيارتكم، *** وإن هجرتكم فالهجر مفترسي»
«ولست أرجو نجاحا في زيارتكم *** إلا إذا خاض بحرا من دم فرسي»
«وأنثني ورماح الخط قد حطمت *** في كل أروع لا وان ولا نكس»
«حتى يظلّ عميد الجيش ينشدنا *** نظما يضيء كضوء الفجر في الغلس»
«يفدي بنيك عبيد الله حاسدكم، *** بجبهة العير يفدى حافر الفرس»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
198-معجم البلدان (ظلال)
ظَلّالٌ:بفتح أوله، وتشديد ثانيه، وقد جاء في الشعر مخففا ومشدّدا، والتشديد أولى فيما ذكر السّهيلي أنه فعّال من الظل كأنه موضع يكثر فيه الظلّ، وظلال بالتخفيف لا معنى له، قال: وأيضا فإنّا وجدناه في الكلام المنثور مشددا وكذلك قيّد في كلام ابن إسحاق في السيرة، ووجدته أنا في بعض الدواوين المعتبرة الخط بالطاء المهملة، والأول أصحّ:
وهو ماء قريب من الرّبذة، عن ابن السكيت، وقال غيره: هو واد بالشربّة، وقال أبو عبيد:
ظلال سوان على يسار طخفة وأنت مصعد إلى مكة وهي لبني جعفر بن كلاب أغار عليهم فيه عيينة بن الحارث بن شهاب فاستخفّ أموالهم وأموال السلميّين، وأكثر ما يجيء مخففا، وقال عروة بن الورد:
«وأيّ الناس آمن بعد بلج *** وقرّة صاحبيّ بذي ظلال»
«ألمّا أغزرت في العسّ برك *** ودرعة بنتها نسيا فعالي؟»
«سمنّ على الربيع فهنّ ضبط *** لهنّ لبالب حول السّخال»
قال عبد الملك بن هشام: لما بلغ رسول الله، صلى الله عليه وسلّم، أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة، فيما حدّثني أبو عبيدة النحوي عن أبي عمرو بن العلاء هاجت حرب بين قريش ومن معهم من كنانة وبين قيس عيلان، وكان الذي هاجها أن عروة الرّحّال ابن عتبة بن جعفر بن كلاب أجار لطيمة للنعمان بن المنذر فقال له البرّاض بن قيس أحد بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة: أتجيرها على كنانة؟
قال: نعم وعلى الخلق كله! فخرج فيها عروة وخرج البراض يطلب غفلته حتى إذا كان بتيمن ذي ظلال بالعالية غفل عروة فوثب عليه البراض فقتله في الشهر الحرام فلذلك سمّي الفجار، وقال البراض في ذلك:
«وداهية تهمّ الناس قبلي *** شددت لها بني بكر ضلوعي»
«هدمت بها بيوت بني كلاب، *** وأرضعت الموالي بالضّروع»
«رفعت له يديّ بذي ظلال *** فخرّ يميد كالجذع الصريع»
وقال لبيد بن ربيعة:
«فأبلغ إن عرضت بني كلاب *** وعامر، والخطوب لها موالي»
«وبلّغ إن عرضت بني نمير *** وأخوال القتيل بني هلال»
«بأنّ الوافد الرّحّال أمسى *** مقيما عند تيمن ذي ظلال»
قال عبيد الله الفقير إليه: في هذا عدّة اختلافات، بعضهم يرويه بالطاء المهملة وبعضهم يرويه بتشديد اللام والظاء المعجمة، وقد حكيناه عن السهيلي، وبعضهم يرويه بتخفيف اللام والظاء المعجمة، وأكثرهم قال:
هو اسم موضع، وقال قوم في قول البراض: إن ذا ظلال اسم سيفه، قال السهيلي: وإنما خففه لبيد وغيره ضرورة، قال: وإنما لم يصرفه البراض لأنه جعله اسم بقعة فلم يصرفه للتعريف والتأنيث، فإن قيل:
كان يجب أن يقول بذات ظلال أي ذات هذا الاسم المؤنث كما قالوا ذو عمرو أي صاحب هذا الاسم، ولو كانت أنثى لقالوا: ذات هند، فالجواب: إن قوله بذي يجوز أن يكون وصفا لطريق أو جانب يضاف إلى ذي ظلال اسم البقعة، وأحسن من هذا كله أن يكون ظلال اسما مذكّرا علما، والاسم العلم يجوز ترك صرفه في الشعر كثيرا.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
199-معجم البلدان (عارم)
عَارِمٌ:يقال عرم الإنسان يعرم عرامة فهو عارم إذا كان جاهلا، والعرم والأعرم والعارم:
الذي فيه سواد وبياض، وسجن عارم: حبس فيه محمد بن الحنفية، حبسه عبد الله بن الزبير، فخرج المختار بالكوفة ودعا إليه ثم كان بعد ذلك سجنا للحجاج، ولا أعرف موضعه وأظنه بالطائف، وقال محمد بن كثيّر في محمد بن الحنفية ويخاطب عبد الله ابن الزبير:
«تخبّر من لاقيت أنك عائذ، *** بل العائذ المحبوس في سجن عارم»
«ومن يلق هذا الشيخ بالخيف من منى *** من الناس يعلم أنه غير ظالم»
«سميّ النبيّ المصطفى وابن عمّه، *** وفكّاك أغلال وقاضي مغارم»
«أبي فهو لا يشري هدى بضلالة، *** ولا يتّقي في الله لومة لائم»
«ونحن بحمد الله نتلو كتابه *** حلولا بهذا الخيف خيف المحارم»
«بحيث الحمام آمنات سواكن، *** وتلقى العدوّ كالصديق المسالم»
«فما رونق الدنيا بباق لأهله، *** ولا شدّة البلوى بضربة لازم»
ويروى وصيّ النبيّ، والمراد ابن وصيّ النبيّ فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وله نظائر كثيرة في كلامهم.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
200-معجم البلدان (عبادان)
عَبّادانُ:بتشديد ثانيه، وفتح أوله، قال بطليموس:
عبّادان في الإقليم الثالث، طولها خمس وسبعون درجة وربع، وعرضها إحدى وثلاثون درجة، قال البلاذري: كانت عبادان قطيعة لحمران بن أبان مولى عثمان بن عفان، رضي الله عنه، قطيعة من عبد الملك بن مروان وبعضها فيما يقال من زياد، وكان حمران من سبي عين التمر يدّعي أنه من النمر بن قاسط، فقال الحجاج يوما وعنده عبّاد بن حصين الحبطي: ما يقول حمران؟
لئن انتمى إلى العرب ولم يقل إنه مولى لعثمان لأضربنّ عنقه! فخرج عبّاد من عند الحجاج مبادرا فأخبر حمران بقوله فوهب له غربيّ النهر وحبس الشرقيّ فنسب إلى عبّاد بن الحصين، وقال ابن الكلبي:
أول من رابط بعبّادان عبّاد بن الحصين، قال:
وكان الربيع بن صبح الفقيه مولى بني سعد جمع مالا من أهل البصرة فحصّن به عبّادان ورابط فيها، والربيع يروي عن الحسن البصري: وكان خرج غازيا إلى الهند في البحر فمات فدفن في جزيرة من الجزائر سنة 160، والعبّاد: الرجل الكثير العبادة، وأما إلحاق الألف والنون فهو لغة مستعملة في البصرة ونواحيها، إنهم إذا سمّوا موضعا أو نسبوه إلى رجل أو صفة يزيدون في آخره ألفا ونونا كقولهم في قرية عندهم منسوبة إلى زياد ابن أبيه زيادان وأخرى إلى عبد الله عبد الليان وأخرى إلى بلال بن أبي بردة بلالان، وهذا الموضع فيه قوم مقيمون للعبادة والانقطاع، وكانوا قديما في وجه ثغر، يسمّى الموضع بذلك، والله أعلم، وهو تحت البصرة قرب البحر الملح، فان دجلة إذا قاربت البحر انفرقت فرقتين عند قرية تسمّى المحرزي، ففرقة يركب فيها إلى ناحية البحرين نحو برّ العرب وهي اليمنى فأما اليسرى فيركب فيها إلى سيراف وجنّابة فارس فهي مثلثة الشكل، وعبّادان في هذه الجزيرة التي بين النهرين فيها مشاهد ورباطات، وهي موضع رديء سبخ لا خير فيه وماؤه ملح، فيه قوم منقطعون عليهم وقف في تلك الجزيرة يعطون بعضه، وأكثر موادّهم من النذور، وفيه مشهد لعليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، وغير ذلك، وأكثر أكلهم السمك الذي يصطادونه من البحر، ويقصدهم المجاورون في المواسم للزيارة، ويروى في فضائلها أحاديث غير ثابتة، وينسب إليها نفر من رواة الحديث، والعجم يسمّونها ميان روذان لما ذكرنا من أنها بين نهرين، ومعنى ميان وسط وروذان الأنهر، وقد نسبوا إلى عبّادان جماعة من الزّهّاد والمحدّثين، منهم: أبو بكر أحمد بن سليمان بن أيوب بن إسحاق بن عبدة بن الربيع العبّاداني، سكن بغداد وروى عن عليّ بن حرب الطائي وأحمد بن منصور الزيادي وهلال بن العلاء الرّقّيّ، روى عنه الحاكم أبو عبد الله وأبو عليّ ابن شاذان، ومولده في أول يوم من رجب سنة 248، والقاضي أبو شجاع أحمد بن الحسن بن أحمد الشافعي العبّاداني، روى عنه السلفي وقال: هو من أولاد الدهر، درّس بالبصرة أزيد من أربعين سنة في مذهب الشافعي، رضي الله عنه، قال: ذكر لي في سنة 500 وعاش بعد ذلك ما لا أتحقّقه، وسألته عن مولده فقال: سنة 434 بالبصرة، قال: ووالدي مولده عبّادان وجدّي الأعلى أصبهان، والحسن بن سعيد بن جعفر بن الفضل أبو العباس العبّاداني المقرئ رحّال، سمع عليّ بن عبد الله بن عليّ بن السّقّاء ببيروت، وحدث عنه وعن أبي خليفة والحسن بن
المثنّى ومغفر الفرّياني وأبي مسلم الكجّي وزكرياء ابن يحيى الساجي، روى عنه أبو نعيم الحافظ وجماعة وافرة، قال أبو نعيم: ومات بإصطخر وكان رأسا في القرآن وحفظه عن جدّته ورأسه في لين.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
201-معجم البلدان (عبيدان)
عُبَيْدَانُ:بلفظ تصغير عبدان فعلان من العبودية، وقال الفراء: يقال ضلّ به في أمّ عبيد، وهي الفلاة، قال: وقلت للقناني ما عبيد؟ فقال: ابن الفلاة، وأنشد للنابغة:
«ليهن لكم أن قد رقيتم بيوتنا *** مندّى عبيدان المحلّإ باقره»
وقال الحطيئة:
«رأت عارضا جونا فقامت غريرة *** بمسحاتها قبل الظلام تبادره»
«فما فرغت حتى علا الماء دونه، *** فسدّت نواحيه ورفّع دائره»
«وهل كنت إلا نائيا إذ دعوتني *** منادى عبيدان المحلّإ باقره»
قال: يعني الفلاة، وقال أبو عمرو: عبيدان اسم وادي الحية بناحية اليمن يقال كان فيه حية عظيمة قد منعته فلا يؤتى ولا يرعى، وأنشد بيت النابغة، وقال أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي في نوادره في قوله:
منادى عبيدان المحلّإ باقره يقول: كنت بعيدا منكم كبعد عبيدان من الناس والوحش أن يردوه أو ينالوه أو يبلغوه فقد دغرتموني، وعبيدان ماء لا يناله الوحش فكيف الإنس فلما لم تبلغه فكأنما حلّئت عنه، قال أبو محمد الأسود رادّا عليه: كيف تكون التحلئة قبل الورود كما مثّله وإنما عبيدان اسم راع لا اسم ماء، وكان من قصته أنه كان رجل من عاد ثم أحد بني سود بن عاد يقال له عتر وكان أمنع عاد في زمانه وكان له راع يقال له عبيدان يرعى له ألف بقرة، فكان إذا وردت بقره لم يورد أحد بقره حتى يفرغ عبيدان، فعاش بذلك دهرا حتى أدرك لقمان بن عاد، وكان من أشدّ عاد كلها وأهيبها، وكان في بيت عاد وعددها يومئذ بنو ضد بن عاد فوردت بقر عاد فنهنهه عبيدان فرجع راعي لقمان فأخبره فأتى لقمان عبيدان فضربه وطرده عن الماء فرجع عبيدان إلى عتر فشكا ذلك إليه فخرج إليه في بني أبيه وخرج لقمان في بني أبيه فهزمتهم بنو ضدّ رهط لقمان وحلّؤوهم عن الماء فكان عبيدان لا يورد حتى يفرغ لقمان من سقي بقره، فكان عبيدان يقبل ببقره ويقبل راعي لقمان ببقره فإذا رأى راعي لقمان عبيدان قال حلّئ بقرك عن الماء حتى يورد راعي لقمان، فضربته العرب مثلا، فلم يزل لقمان يفعل ذلك حتى هلك عتر وارتحل لقمان فنزل في العماليق، وقال جوين بن قطن يحذّر قومه الظلم ويذكر عترا وبقره وتهضّم لقمان له:
«قد كان عتر بني عاد وأسرته *** في الناس أمنع من يمشي على قدم»
«وعاش دهرا إذا أثواره وردت *** لم يقرب الماء يوم الورد ذو نسم»
«أزمان كان عبيدان تبادره *** رعاة عاد وورد الماء مقتسم»
«أشصّ عنه أخو ضدّ كتائبه *** من بعد ما رمّلوا في شأنه بدم»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
202-معجم البلدان (العقر)
العَقْرُ:بفتح أوله، وسكون ثانيه، قال الخليل:
سمعت أعرابيّا من أهل الصّمان يقول كل فرجة تكون بين شيئين فهو عَقر وعُقر لغتان، قال ووضع يديه على قائمتي المائدة ونحن نتغدّى فقال: ما بينهما عقر، قال: والعقر القصر الذي يكون معتمدا لأهل القرية، قال لبيد:
«كعقر الهاجريّ إذا ابتناه *** بأشباه حذين على مثال»
وقال غيره: العقر القصر على أي حال كان، والعقر:
الغمام. وعقر بني شليل، قال تأبّط شرّا:
«شنئت العقر عقر بني شليل، *** إذا هبّت لقارئها الرياح»
وشليل من بجيلة وهو جدّ جرير بن عبد الله البجلي.
والعقر: عدة مواضع، منها: عقر بابل قرب كربلاء من الكوفة، وقد روي أن الحسين، رضي الله عنه، لما انتهى إلى كربلاء وأحاطت به خيل عبيد الله بن زياد قال: ما اسم تلك القرية؟ وأشار إلى العقر، فقيل له:
اسمها العقر، فقال: نعوذ بالله من العقر، فما اسم هذه الأرض التي نحن فيها؟ قالوا: كربلاء، قال: أرض كرب وبلاء، وأراد الخروج منها فمنع حتى كان ما كان قتل عنده يزيد بن المهلّب بن أبي صفرة في سنة 102، وكان خلع طاعة بني مروان ودعا إلى نفسه وأطاعه أهل البصرة والأهواز وفارس وواسط وخرج في مائة وعشرين ألفا فندب له يزيد بن عبد الملك أخاه مسلمة فواقفه بالعقر من أرض بابل فأجلت الحرب عن قتل يزيد بن المهلّب، وقال الفرزدق يشبّب بعاتكة بنت عمرو بن يزيد الأسدي زوج يزيد بن المهلّب:
«إذا ما المزونيّات أصبحن حسّرا *** وبكّين أشلاء على عقر بابل»
«وكم طالب بنت الملاءة انها *** تذكّر ريعان الشباب المزايل»
والعقر أيضا: قرية بين تكريت والموصل تنزلها القوافل، وهي أول حدود أعمال الموصل من جهة العراق. والعقر: قرية على طريق بغداد إلى الدسكرة، ينسب إليها أبو الدّر لؤلؤ بن أبي الكرم بن لؤلؤ بن فارس العقري من هذه القرية. والعقر أيضا: قلعة حصينة في جبال الموصل أهلها أكراد وهي شرقي الموصل تعرف بعقر الحميدية، خرج منها طائفة من أهل العلم، منهم: صديقنا الشهاب محمد بن فضلون ابن أبي بكر بن الحسين بن محمد العدوي العقري النحوي اللغوي الفقيه المتكلم الحكيم جامع أشتات الفضل، سمع الحديث والأدب على جماعة من أهل العلم، وكنت مرة أعارض معه اعراب شيخنا أبي البقاء عبد الله بن الحسين العكبري لقصيدة الشّنفرى اللّامية إلى أن بلغنا إلى قوله:
«وأستفّ ترب الأرض كي لا يرى له *** عليّ من الطّول امرؤ متطوّل»
فأنشدني في معناه لنفسه يقول:
«مما يؤجّج كربي أنني رجل *** سبقت فضلا ولم أحصل على السّبق»
«يموت بي حسدا مما خصصت به *** من لا يموت بداء الجهل والحمق»
«إذا سغبت استففت التّرب في سغبي *** ولم أقل للئيم: سدّ لي رمقي»
«وإن صديت وكان الصفو ممتنعا، *** فالموت أنفع لي من مشرب رنق»
«وكم رغائب مال دونها رمق *** زهدت فيها ولم أقدر على الملق»
«وقد ألين وأجفو في محلّهما، *** فالسهل والحزن مخلوقان من خلقي»
فقلت له: قول الشنفري أبلغ لأنه نزه نفسه عن ذي الطّول وأنت نزهتها عن اللئيم، فقال: صدقت لأن الشنفري كان يرى متطوّلا فينزه نفسه عنه وأنا لا أرى إلا اللئيم فكيف أكذب؟ فخرج من اعتراضي إلى أحسن مخرج. والعقر، ويروى بالضم أيضا: أرض بالعالية في بلاد قيس، قال طفيل الغنوي:
«بالعقر دار من جميلة هيّجت *** سوالف حبّ في فؤادك منصب»
وعقر السّدن: من قرى الشرطة بين واسط والبصرة، منها كان الضالّ المضل سنان داعية الإسماعيلية ودجالهم ومضلهم الذي فعل الأفاعيل التي لم يقدر عليها أحد قبله ولا بعده وكان يعرف السيميا.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
203-معجم البلدان (عين أبي نيزر)
عَيْنُ أبي نَيْزَرَ:كنية رجل يأتي ذكره، ونيزر، بفتح النون، وياء مثناة من تحت، وزاي مفتوحة، وراء، وهو فيعل من النزارة، وهو القليل، أو من النّزر وهو الإلحاح في السؤال، وروى يونس عن محمد بن إسحاق بن يسار أن أبا نيزر الذي تنسب إليه العين هو مولى عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، كان ابنا للنجاشي ملك الحبشة الذي هاجر إليه المسلمون لصلبه وأن عليّا وجده عند تاجر بمكة فاشتراه منه وأعتقه مكافأة بما صنع أبوه مع المسلمين حين هاجروا إليه، وذكروا أن الحبشة مرج عليها أمرها بعد موت النجاشي وأنهم أرسلوا وفدا منهم إلى أبي نيزر وهو مع علي ليملّكوه عليهم ويتوّجوه ولا يختلفوا عليه، فأبى وقال: ما كنت لأطلب الملك بعد أن من الله عليّ بالإسلام، قال: وكان أبو نيزر من أطول الناس قامة وأحسنهم وجها، قال: ولم يكن لونه كألوان الحبشة ولكنه إذا رأيته قلت هذا رجل عربيّ، قال المبرّد: رووا أن عليّا، رضي الله عنه، لما أوصى إلى الحسن في وقف أمواله وأن يجعل فيها ثلاثة من مواليه وقف فيها عين أبي نيزر والبغيبغة، فهذا غلط لأن وقفه هذين الموضعين كان لسنتين من خلافته، حدثنا أبو محلم محمد بن هشام في إسناده قال: كان أبو نيزر من أبناء بعض الملوك الأعاجم، قال: وصحّ عندي بعد أنه من ولد النجاشي فرغب في الإسلام صغيرا فأتى رسول الله، صلى الله
عليه وسلّم، وكان معه في بيوته، فلما توفي رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، صار مع فاطمة وولدها، رضي الله عنهم، قال أبو نيزر: جاءني عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، وأنا أقوم بالضّيعتين عين أبي نيزر والبغيبغة فقال: هل عندك من طعام؟ فقلت: طعام لا أرضاه لأم
من أدخله بطنه النار فأبعده الله! ثم أخذ المعول وانحدر فجعل يضرب وأبطأ عليه الماء فخرج وقد تنضّح جبينه عرقا فانتكف العرق من جبينه ثم أخذ المعول وعاد إلى العين فأقبل يضرب فيها وجعل يهمهم فانثالت كأنها عنق جزور فخرج مسرعا وقال: أشهد الله أنها صدقة، عليّ بدواة وصحيفة، قال: فعجلت بهما إليه فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تصدّق به عبد الله عليّ أمير المؤمنين، تصدّق بالضيعتين بعين أبي نيزر والبغيبغة على فقراء أهل المدينة وابن السبيل ليقي بهما وجهه حرّ النار يوم القيامة لا تباعا ولا توهبا حتى يرثهما الله وهو خير الوارثين إلا أن يحتاج إليهما الحسن والحسين فهما طلق لهما وليس لأحد غيرهما، قال أبو محلم محمد بن هشام: فركب الحسين دين فحمل إليه معاوية بعين أبي نيزر مائتي ألف دينار فأبى أن يبيع وقال: إنما تصدّق بهما أبي ليقي الله وجهه حرّ النار ولست بائعهما بشيء. وقد ذكرت هذه القصة في البغيبغة وهو كاف فلا يكتب ههنا.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
204-معجم البلدان (غضي)
غُضَيّ:تصغير الغضا، شجر تقدم ذكره: ماء لعامر بن ربيعة جميعا ما خلا بني البكّاء، قاله الأصمعي، وفي كتاب الفتوح: غضيّ جبال البصرة، وفي كتاب الفتوح أيضا: وبعث مجاشع بن مسعود السلمي إلى الأهواز وقال: اتّصل منها إلى ماء لتوالي النعمان ابن مقرّن لحرب نهاوند، فخرج حتى إذا كان بغضي شجر أمره النعمان بن مقرّن أن يقيم مكانه فأقام بين غضي شجر ومرج القلعة، كذا ذكره ولا أدري صوابه، والله أعلم بالصواب.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
205-معجم البلدان (الفرات)
الفُرَاتُ:بالضم ثم التخفيف، وآخره تاء مثناة من فوق، قال حمزة: والفرات معرّب عن لفظه وله اسم آخر وهو فالاذروذ لأنه بجانب دجلة كما بجانب الفرس الجنيبة، والجنيبة تسمى بالفارسية فالاذ، والفرات في أصل كلام العرب أعذب المياه، قال عز وجل: هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ 25: 53، وقد فرت الماء يفرت فروتة وهو فرات إذا عذب، ومخرج الفرات فيما زعموا من أرمينية ثم من قاليقلا قرب خلاط ويدور بتلك الجبال حتى يدخل أرض الروم ويجيء إلى كمخ ويخرج إلى ملطية ثم إلى سميساط ويصبّ إليه أنهار صغار نحو نهر سنجة ونهر كيسوم ونهر ديصان والبليخ حتى ينتهي إلى قلعة نجم مقابل منبج ثم يحاذي بالس إلى دوسر إلى الرّقة إلى رحبة مالك بن طوق ثم إلى عانة ثم إلى هيت فيصير أنهارا تسقي زروع السواد، منها: نهر سورا، وهو أكبرها، ونهر الملك، وهو نهر صرصر، ونهر
عيسى بن علي وكوثا ونهر سوق أسد والصراة ونهر الكوفة والفرات العتيق ونهر حلة بني مزيد، وهو نهر سورا، فإذا سقت الزروع وانتفع بمياهها فمهما فضل من ذلك انصبّ إلى دجلة، منها ما يصبّ فوق واسط ومنها ما يصب بين واسط والبصرة فتصير دجلة والفرات نهرا واحدا عظيما ع
نهر ما أعظم بركته ولو علم الناس ما فيه من البركة لضربوا على حافتيه القباب، ولولا ما يدخله من الخطّائين ما اغتمس فيه ذو عاهة إلا برأ، ومما يروى عن السّدّي، والله أعلم بحقه من باطله، قال: مدّ الفرات في زمن علي بن أبي طالب، كرّم الله وجهه، فألقى رمانة قطعت الجسر من عظمها فأخذت فكان فيها كرّ حبّ فأمر المسلمين أن يقتسموها بينهم وكانوا يرونها من الجنة، وهذا باطل لأن فواكه الجنة لم توجد في الدنيا ولو لم أر هذا الخبر في عدة مواضع من كتب العلماء ما استجزت كتابته، وسقى الفرات كورا ببغداد منها الأنبار وهيت، وقد نسب إليها قوم من رواة العلم، قال رفاعة بن أبي الصفي:
«ألم تر هامتي من حبّ ليلى *** على شاطي الفرات لها صليل»
«فلو شربت بصافي الماء عذبا *** من الأقذاء زايلها الغليل»
وفرات البصرة: كورة بهمن أردشير، وقد ذكرت في مواضعها، وذكر أحمد بن يحيى بن جابر قال:
لما فتح عتبة بن غزوان الأبلّة عنوة عبر الفرات فخرج لهم أهل الفرات بمساحيهم فظفر بهم المسلمون وفتحوا الفرات، وقيل: إن ما بين الفهرج والفرات فتح صلحا وسائر الأبلّة عنوة، ولما فرغ من الأبلّة أتى المذار، وقال عوانة بن الحكم: كانت مع عتبة ابن غزوان لما قدم البصرة امرأته أزدة بنت الحارث ابن كلدة ونافع وأبو بكر وزياد إخوتها، فلما قاتل عتبة أهل مدينة الفرات جعلت امرأته أزدة تحرض المؤمنين على القتال وهي تقول:
إن يهزموكم يولجوا فينا الغلف ففتح الله على المسلمين تلك المدينة.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
206-معجم البلدان (فندلاو)
فِنْدَلاو:أظنه موضعا بالمغرب، ينسب إليه يوسف بن درناس الفندلاوي المغربي أبو الحجاج الفقيه المالكي، قدم الشام حاجّا فسكن بانياس مدة وكان خطيبا بها ثم انتقل إلى دمشق فاستوطنها ودرّس بها على مذهب مالك، رضي الله عنه، وحدث بالموطّإ وكتاب التلخيص لأبي الحسن القابسي، علق عنه أحاديث أبي القاسم الحافظ الدمشقي، كان صالحا فكها متعصبا للسّنّة، وكان الأفرنج قد نزلوا على دمشق يوم الأربعاء ثاني ربيع الأول سنة 543 ونزلوا بأرض قتيبة إلى جانب التعديل من زقاق الحصى وارتحلوا يوم السبت سادسه، وكان خرج إليهم أهل دمشق يحاربونهم فخرج الفندلاوي فيمن خرج فلقيه الأمير المتولي لقتالهم ذلك اليوم قبل أن يتلاقوا وقد
لحقه مشقة من المشي، فقال له: أيها الشيخ الإمام ارجع فأنت معذور للشيوخية، فقال: لا أرجع، نحن بعنا واشترى منا، يريد قوله تعالى: إِنَّ الله اشْتَرى من الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِ الله 9: 111،
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
207-معجم البلدان (قبين)
قُبِّينُ:بالضم ثم الكسر والتشديد، وياء مثناة من تحت، وآخره نون: اسم أعجمي لنهر وولاية بالعراق، ذكر عن الأقيشر واسمه المغيرة بن عبد الله الأسدي أن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المعروف بالقباع أخرجه مع قومه لقتال أهل الشام ولم يكن عند الأقيشر فرس فخرج على حمار فلما عبر على جسر سوراء نزل بقرية يقال لها قبّين فتوارى عند خمّار نبطيّ تبذل زوجته الفجور فباع حماره وجعل ينفقه هناك إلى أن قفل الجيش، فقال عند ذلك:
«خرجت من المصر الحواريّ أهله *** بلا نيّة فيها احتساب ولا جعل»
«إلى جيش أهل الشام أغزيت كارها *** سفاها بلا سيف حديد ولا نصل»
«ولكن بسيف ليس فيه حمالة، *** ورمح ضعيف الزّجّ منصدع الأصل»
«حباني به ظلم القباع ولم أجد *** سوى أمره والسير شيئا من الفعل»
«فأزمعت أمري ثم أصبحت غازيا، *** وسلّمت تسليم الغزاة على أهلي»
«جوادي حمار كان حينا لظهره *** إكاف وآثار المزادة والحبل»
«فسرنا إلى قبّين يوما وليلة *** كأنّا بغايا ما يسرن إلى بعل»
«مررنا على سوراء نسمع جسرها *** يئطّ نقيضا من سفائنه العصل»
«فلما بدا جسر الصّراة وأعرضت *** لنا سوق فرّاغ الحديث إلى الشغل»
«نزلنا إلى ظلّ ظليل وباءة *** حلال برغم القلطبان وما يغلي»
«بشارطة من شاء كان بدرهم *** عروسا بما بين المشبّه والفسل»
«فأتبعت رمح السّوء سنّة نصله، *** وبعت حماري واسترحت من الثّقل»
«مهرتهما جرديقة فتركتها *** طموحا بطرف العين شائلة الرجل»
«تقول طبانا قل قليلا ألا ليا، *** فقلت لها: اصوي فإني على رسلي»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
208-معجم البلدان (قرقرى)
قَرْقَرَى:بتكرير القاف والراء، وآخره مقصور، وقد تقدم اشتقاقه: أرض باليمامة، إذا خرج الخارج من وشم اليمامة يريد مهبّ الجنوب وجعل العارض شمالا فإنه يعلو أرضا تسمّى قرقرى فيها قرى وزروع ونخيل كثيرة، ومن قراها: الهزيمة، فيها ناس من بني قريش وبني قيس بن ثعلبة، وقرما والجواء والأطواء وتوضح، وعلى قرقرى يمرّ قاصد اليمامة من البصرة يدخل مرأة قرية المرأيّ الشاعر ينسب إليها، وفي قرقرى أربعة حصون: حصن لكندة وحصن لتميم وحصنان لثقيف، قال ذلك كله أبو عبيد الله السّكوني، رحمه الله تعالى، فقد سرّني بما أوضحه مما لم يتعرض له غيره عليّ، وحدث ابن الأنباري أبو بكر محمد بن القاسم بن محمد بن بشّار حدّثني محمد بن حفص بإسناده عن يزيد بن العلاء بن مرقش قال حدثني أخي موسى بن العلاء قال: كنّا مع يحيى بن طالب الحنفي أحد بني ذهل بن الدّؤل بن حنيفة كان مولى لقريش وكان شيخا ديّنا يقرّئ أهل اليمامة وكانت له ضيعة باليمامة يقال لها البرّة العليا، وكان يشتري غلّات السلطان بقرقرى، وكان عظيم التجارة، وكان سخيّا فأصاب الناس جدب فجلا أهل البادية فنزلوا قرقرى ففرّق يحيى بن طالب فيهم الغلّات وكان معروفا بالسخاء، فباع عامل السلطان أملاكه وعزّه الدّين فهرب إلى العراق وقد كان كتب ضيعة من ضياعه لقوم قرارا لهم بها لئلا يبيعها السلطان فيما يبيع فكابره القوم عليها فخرج من اليمامة هاربا من الدّين يريد خراسان، فلما وصل إلى بغداد بعث رسولا إلى اليمامة وكنا معه فلما رآه في الزّورق اغرورقت عيناه بالدموع وكان معدودا من الفصحاء فأنشأ يقول:
«أحقّا، عباد الله، أن لست ناظرا *** إلى قرقرى يوما وأعلامها الغبر»
«كأنّ فؤادي كلما مرّ راكب *** جناح غراب رام نهضا إلى وكر»
«أقول لموسى، والدموع كأنها *** جداول فاضت من جوانبها تجري: »
«ألا هل لشيخ وابن ستين حجّة، *** بكى طربا نحو اليمامة، من عذر؟»
«وزهّدني في كلّ خير صنعته *** إلى الناس ما جرّبت من قلة الشكر»
«إذا ارتحلت نحو اليمامة رفقة *** دهاك الهوى واهتاج قلبك للذكر»
«فوا حزني مما أجنّ من الأسى *** ومن مضمر الشوق الدخيل إلى حجري»
«تغرّبت عنها كارها وهجرتها، *** وكان فراقيها أمرّ من الصبر»
«فيا راكب الوجناء أبت مسلّما، *** ولا زلت من ريب الحوادث في ستر»
«إذا ما أتيت العرض فاهتف بأهله: *** سقيت على شحط النوى مسبل القطر»
«فإنك من واد إليّ مرجّب *** وإن كنت لا تزداد إلا على عقري»
المرجّب: المعظّم، ومنه قول الأنصاري: أنا جذيلها المحكّك وعذيقها المرجّب.
وبه سمّي رجب لتعظيمهم إياه، وحدث أحمد بن عبيد بن ناصح النحوي قال أخبرني أبو الحسن علي بن محمد المدائني قال: كان يحيى بن طالب الحنفي مولى لقريش باليمامة، وكان شيخا فصيحا ديّنا يقرّئ الناس، وكان عظيم التجارة، وذكر مثل ما تقدّم، فخرج إلى خراسان هاربا من الدّين، فلما وصل إلى قومس قال:
«أقول لأصحابي ونحن بقومس، *** ونحن على أثباج ساهمة جرد: »
«بعدنا، وبيت الله، عن أرض قرقرى، *** وعن قاع موحوش، وزدنا على البعد»
فلما وصل إلى خراسان قال:
«أيا أثلات القاع من بطن توضح *** حنيني، إلى أطلالكنّ، طويل»
«ويا أثلاث القاع قلبي موكّل *** بكنّ، وجدوى غيركنّ قليل»
«ويا أثلات القاع قد ملّ صحبتي *** مسيري، فهل في ظلّكنّ مقيل؟»
«ألا هل إلى شمّ الخزامى ونظرة *** إلى قرقرى قبل الممات سبيل»
«فأشرب من ماء الحجيلاء شربة *** يداوى بها، قبل الممات، عليل»
«أحدّث عنك النفس أن لست راجعا *** إليك، فحزني في الفؤاد دخيل»
«أريد انحدارا نحوها فيصدّني، *** إذا رمته، دين عليّ ثقيل»
قال أبو بكر بن الأنباري: وقد غنّي بهذه الأبيات عند الرشيد فسأل عن قائلها فأخبر فأمر برده وقضاء دينه، فسئل عنه فقيل إنه مات قبل ذلك بشهر، وقد قال:
«خليليّ عوجا، بارك الله فيكما، *** على البرّة العليا صدور الركائب»
«وقولا إذا ما نوّه القوم للقرى: *** ألا في سبيل الله يحيى بن طالب! »
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
209-معجم البلدان (قعيقعان)
قُعَيْقِعَانُ:بالضم ثم الفتح، بلفظ تصغير: وهو اسم جبل بمكة، قيل: إنما سمي بذلك لأن قطوراء وجرهم لما تحاربوا قعقعت الأسلحة فيه، وعن السّدّيّ أنه قال: سمّي الجبل الذي بمكة قعيقعان لأن جرهم كانت تجعل فيه قسيّها وجعابها ودرقها فكانت تقعقع فيه، قال عرّام: ومن قعيقعان إلى مكة اثنا عشر ميلا على طريق الحوف إلى اليمن. وقعيقعان:
قرية بها مياه وزروع ونخيل وفواكه وهي اليمانية، والواقف على قعيقعان يشرف على الركن العراقي إلا أن الأبنية قد حالت بينهما، قاله البلخي، وقال عمر ابن أبي ربيعة:
«قامت تراءى بالصّفاح كأنها *** كانت تريد لنا بذاك ضرارا»
«سقيت بوجهك كل أرض جئتها، *** ولمثل وجهك أسقي الأمطارا»
«من ذا نواصل إن صرمت حبالنا، *** أو من نحدّث بعدك الأسرارا؟»
«هيهات منك قعيقعان وأهلها *** بالحزنتين فشطّ ذاك مزارا»
وبالأهواز جبل يقال له قعيقعان منه نحتت أساطين
مسجد البصرة، سمي بذلك لأن عبد الله بن الزبير ابن العوّام ولّى ابنه حمزة البصرة فخرج إلى الأهواز فلما رأى جبلها قال: كأنه قعيقعان، فلزمه ذلك، قال أعرابيّ:
«لا ترجعنّ إلى الأهواز ثانية *** قعيقعان الذي في جانب السوق»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
210-معجم البلدان (القف حجارة غاص بعضها ببعض مترادف بعضها إلى بعض حمر لا يخالطها من اللين والسهولة شيء)
القف حجارة غاصّ بعضها ببعض مترادف بعضها إلى بعض حمر لا يخالطها من اللين والسهولة شيء: وهو جبل غير أنه ليس بطويل في السماء فيه إشراف على ما حوله وما أشرف منه على الأرض حجارة تحت تلك الحجارة أيضا حجارة، قال: ولا تلقى قفّا إلا وفيه حجارة متعلقة عظام مثل الإبل البروك وأعظم وصغار، قال: ورب قفّ حجارته فنادير أمثال البيوت، قال: ويكون في القف رياض وقيعان، فالروضة حينئذ من القف الذي هي فيه ولو ذهبت تحفر فيها لغلبتك كثرة حجارتها، وإذا رأيتها رأيتها طينا وهي تنبت وتعشب وإنما قف القفاف حجارتها، قال الأزهري: وقفاف الصمان بهذه الصفة، وهي بلاد عريضة واسعة فيها رياض وقيعان وسلقان كثيرة، وإذا أخصبت ربعت العرب جميعا بكثرة مراتعها، وهي من حزون نجد، والقف: علم لواد من أودية المدينة عليه مال لأهلها، وأنشد الأصمعي لتماضربنت مسعود بن عقبة أخي ذي الرمة وكان زوجها خرج عنها إلى القفين:
«نظرت، ودوني القف ذو النخل، هل أرى *** أجارع في آل الضحى من ذرى الرمل؟»
«فيا لك من شوق وجيع ونظرة *** ثناها عليّ القفّ خبلا من الخبل»
«ألا حبّذا ما بين حزوى وشارع *** وأنقاء سلمى من حزون ومن سهل»
«لعمري! لأصوات المكاكيّ بالضّحى *** وصوت صبا في حائط الرمث بالذّحل»
«وصوت شمال زعزعت بعد هدأة *** ألاء وأسباطا وأرطى من الحبل»
«أحبّ إلينا من صياح دجاجة *** وديك وصوت الريح في سعف النخل»
«فيا ليت شعري! هل أبيتنّ ليلة *** بجمهور حزوى حيث ربّتني أهلي؟»
وقال زهير:
«لمن طلل كالوحي عاف منازله *** عفا الرّسّ منه فالرّسيس فعاقله»
«فقفّ فصارات بأكناف منعج *** فشرقيّ سلمى حوضه فأجاوله»
ثم أضاف إليه شيئا آخر وثناه فقال زهير أيضا:
«كم للمنازل من عام ومن زمن *** لآل سلماء بالقفّين فالرّكن»
والقف: موضع بأرض بابل قرب باجوّا وسورا، خرج منه شبيب بن بحرة الأشجعي الخارجي المشارك لابن ملجم في قتل علي، رضي الله عنه، في جماعة من الخوارج فخرج إليه أهل الكوفة في إمارة المغيرة ابن شعبة فقتلوه.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
211-معجم البلدان (القليس)
القُلَيْسُ:تصغير قلس، وهو الحبل الذي يصير من ليف النخل أو خوصه، لما ملك أبرهة بن الصبّاح اليمن بنى بصنعاء مدينة لم ير الناس أحسن منها ونقشها بالذهب والفضة والزجاج والفسيفساء وألوان الأصباغ وصنوف الجواهر وجعل فيها خشبا له رؤوس كرءوس الناس ولكّكها بأنواع الأصباغ وجعل لخارج القبة برنسا فإذا كان يوم عيدها كشف البرنس عنها فيتلألأ رخامها مع ألوان أصباغها حتى تكاد تلمع البصر وسمّاها القلّيس، بتشديد اللام، وروى عبد الملك بن هشام والمغاربة القليس، بفتح القاف وكسر اللام، وكذا قرأته بخطّ السكري أبي سعيد الحسن بن الحسين، أخبرنا سلموية أبو صالح قال: حدثني عبد الله بن المبارك عن محمد بن زياد الصنعاني قال: رأيت مكتوبا على باب القليس وهي الكنيسة التي بناها أبرهة على باب صنعاء بالمسند:
بنيت هذا لك من مالك ليذكر فيه اسمك وأنا عبدك، كذا بخط السكري بفتح القاف وكسر اللام، قال عبد الرحمن بن محمد: سميت القليس لارتفاع بنيانها وعلوّها، ومنه القلانس لأنها في أعلى الرؤوس، ويقال: تقلنس الرجل وتقلّس إذا لبس القلنسوة، وقلس طعامه إذا ارتفع من معدته إلى فيه، وما
ذكرنا من أنه جعل على أعلى الكنيسة خشبا كرءوس الناس ولكّكها دليل على صحة هذا الاشتقاق، وكان أبرهة قد استذلّ أهل اليمن في بنيان هذه الكنيسة وجشمهم فيها أنواعا من السّخر، وكان ينقل إليها آلات البناء كالرخام المجزّع والحجارة المنقوشة بالذهب من قصر بلقيس صا
أصابه كعيت، وذكر أبو الوليد كذلك وأن كعيتا كان من خشب طوله ستون ذراعا، وقال الحسم شاعر من أهل اليمن:
«من القليس هلال كلما طلعا *** كادت له فتن في الأرض أن تقعا»
«حلو شمائله لولا غلائله *** لمال من شدّة التهييف فانقطعا»
«كأنه بطل يسعى إلى رجل *** قد شدّ أقبية السّدّان وادّرعا»
ولما استتمّ أبرهة بنيان القليس كتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك ولست بمنته حتى أصرف إليها حجّ العرب، فلما تحدّث العرب بكتاب أبرهة الذي أرسله إلى النجاشي غضب رجل من النّسأة أحد بني فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، والنسأة هم الذين كانوا ينسئون الشهور على العرب في الجاهلية أي يحلونها فيؤخرون الشهر من الأشهر الحرم إلى الذي بعده ويحرّمون مكانه الشهر من أشهر الحل ويؤخرون ذلك الشهر، مثاله أن المحرّم من الأشهر الحرم فيحللون فيه القتال ويحرّمونه في صفر، وفيه قال الله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ في الْكُفْرِ 9: 37، قال ابن إسحاق:
فخرج الفقيمي حتى أتى القليس وقعد فيها، يعني أحدث وأطلى حيطانها، ثم خرج حتى لحق بأرضه فأخبر أبرهة فقال: من صنع هذا؟ فقيل له: هذا فعل رجل من أهل البيت الذي تحج إليه العرب بمكة
لما سمع قولك أصرف إليها حجّ العرب غضب فجاء فقعد فيها أي أنها ليست لذلك بأهل، فغضب أبرهة وحلف ليسيرنّ حتى يهدمه وأمر الحبشة بالتجهيز، فتهيأت وخرج ومعه الفيل، فكانت قصة الفيل المذكورة في القرآن العظيم.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
212-معجم البلدان (القورج)
القُورَجُ:بالضم ثم السكون، وراء مفتوحة، وجيم:
هو نهر بين القاطول وبغداد، منه يكون غرق بغداد كل وقت تغرق، وكان السبب في حفر هذا النهر أن كسرى لما حفر القاطول أضرّ ذلك بأهل الأسافل وانقطع عنهم الماء حتى افتقروا وذهبت أموالهم فخرج أهل تلك النواحي إلى كسرى يتظلمون إليه مما حلّ بهم فوافوه وقد خرج متنزها فقالوا: أيها الملك إنا جئنا نتظلّم، فقال: ممن؟ قالوا: منك، فثنى رجله ونزل عن دابته وجلس على الأرض فأتاه بعض من معه بشيء يجلس عليه فأبى وقال: لا أجلس إلا على الأرض إذا أتاني قوم يتظلمون مني، ثم قال: ما مظلمتكم؟ قالوا: حفرت قاطولك فخرّب بلادنا وانقطع عنا الماء ففسدت مزارعنا وذهب معاشنا، فقال: إني آمر بسدّه ليعود إليكم ماؤكم، قالوا: لا نجشّمك أيها الملك هذا فيفسد عليك اختيارك ولكن مر أن يعمل لنا مجرى من دون القاطول، فعمل لهم مجرى بناحية القورج يجري فيه الماء فعمرت بلادهم وحسنت أحوالهم، وأما اليوم فهو بلاء على أهل بغداد فإنهم يجتهدون في سدّه وإحكامه بغاية جهدهم وإذا زاد الماء فأفرط بثقه وتعدّى إلى دورهم وبلدهم فخرّبه.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
213-معجم البلدان (كشفريد)
كشفريد:بلد في جبال حلب تنبّأ فيه رجل في سنة 561 وانضمّ إليه جمع فخرج إليه عسكر الشام فقتل وقتل أصحابه وكفى الله المؤمنين أمره.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
214-معجم البلدان (الكعبة)
الكَعْبَةُ:بيت الله الحرام، قال ابن عباس: لما كان العرش على الماء قبل أن يخلق الله السموات بعث ريحا فصفقت الماء فأبرزت عن خسفة في موضع البيت كأنها قبّة فدحا الأرض من تحتها فمادت فأوتدها بالجبال، الخسفة واحدة الخسف: تنبت في البحر نباتا، وقد جاء في الأخبار: أن أول ما خلق الله في الأرض مكان الكعبة ثم دحا الأرض من تحتها فهي سرّة الأرض ووسط الدنيا وأمّ القرى أولها الكعبة وبكّة حول مكة وحول مكة الحرم وحول الحرم الدنيا، وحدث أبو العباس القاضي أحمد ابن أبي أحمد الطبري حدثني المفضّل بن محمد بن إبراهيم حدثنا الحسن بن علي الحلواني حدثنا الحسين ابن إبراهيم ومحمد بن جبير الهاشمي قال: حدثني حمزة بن عتبة عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال: إن أول خلق هذا البيت أن الله عز وجل قال للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة، قالت الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك؟ قال: إني أعلم ما لا تعلمون، ثم غضب عليهم فأعرض عنهم فطافوا بعرش الله سبعا كما يطوف الناس بالبيت الحرام وبقوا يسترضونه من غضبه يقولون: لبيك اللهم لبيك ربنا معذرة إليك نستغفرك ونتوب إليك، فرضي عنهم وأوحى إليهم أن ابنوا لي في الأرض بيتا يطوف به من عبادي من
أغضب عليه فأرضى عنه كما رضيت عنكم، قال أبو الحسين: ثم أقبل عليّ حمزة بن عتبة الهاشمي فقال:
يا ابن أخي لقد حدثتك والله حديثا لو ركبت فيه إلى العراق لكنت قد اعتفت، وأما صفته فذكر البشّاري وقال: هو في وسط المسجد الحرام مربع الشكل بابه مرتفع عن الأرض نحو قامة عليه مصراعان ملبسان بصفائح الفضة قد طليت بالذهب مقابلا للمشرق، وطول المسجد الحرام ثلاثمائة ذراع وسبعون ذراعا، وعرضه ثلاثمائة وخمسة عشر ذراعا، وطول الكعبة أربعة وعشرون ذراعا وشبر، وعرضها ثلاثة وعشرون ذراعا وشبر، وذرع دور الحجر خمسة وعشرون ذراعا، وذرع الطواف مائة ذراع وسبعة أذرع، وسمكها في السماء سبعة وعشرون ذراعا، والحجر من قبل الشام فيه يقلب الميزاب شبه الأندر قد ألبست حيطانه بالرخام مع أرضه ارتفاعها حقو ويسمونه الحطيم، والطواف من ورائه ولا يجوز الصلاة إليه، والحجر الأسود على الركن الشرقي عند الباب على لسان الزاوية في مقدار رأس الإنسان ينحني إليه من قبّله يسيرا، وقبة زمزم تقابل الباب والطواف بينهما ومن ورائهما قبة الشراب فيها حوض كان يسقى فيه السويق والسكر قديما، ومقام إبراهيم، عليه السلام، بإزاء وسط البيت الذي فيه الباب وهو أقرب إلى البيت من زمزم يدخل في الطواف أيام الموسم، عليه صندوق حديد طوله أكثر من قامة مكسوّ ويرفع المقام في كل موسم إلى البيت فإذا ردّ جعل عليه صندوق خشب له باب يفتح أوقات الصلاة فإذا سلّم الإمام استلمه ثم أغلق الباب، وفيه أثر قدم إبراهيم، عليه السّلام، مخالفة، وهو أسود وأكبر من الحجر الأسود، وقد فرش الطواف بالرمل والمسجد بالحصى وأدير على صحنه أروقة ثلاثة على أعمدة رخام حملها المهدي من الإسكندرية في البحر إلى جدّة، قال وهب بن منبّه: لما أهبط الله عز وجل آدم، عليه السّلام، من الجنة إلى الأرض حزن واشتدّ بكاؤه عليها فعزّاه الله بخيمة من خيامها فجعلها له بمكة في موضع الكعبة قبل أن تكون الكعبة وكانت ياقوتة حمراء، وقيل درّة مجوّفة من جوهر الجنة فيها قناديل من ذهب، ونزل معها الركن يومئذ وهو ياقوتة بيضاء وكان كرسيّا لآدم، فلما كان في زمن الطوفان رفع ومكثت الأرض خرابا ألفي سنة أعني موضع البيت حتى أمر الله نبيّه إبراهيم أن يبنيه فجاءت السكينة كأنها سحابة فيها رأس يتكلم فبنى هو وإسماعيل البيت على ما ظلّلته ولم يجعلا له سقفا وحرس الله آدم والبيت بالملائكة، فالحرم مقام الملائكة يومئذ، وقد روي أن خيمة آدم لم تزل منصوبة في مكان البيت إلى أن قبض فلما قبض رفعت فبنى بنوه في موضعها بيتا من الطين والحجارة ثم نسفه الغرق فغيّر مكانه حتى بعث الله إبراهيم، عليه السّلام، فحفر قواعده وبناه على ظل الغمامة، فهو أول بيت وضع للناس كما قال الله عز وجل، وكان الناس قبله يحجون إلى مكة وإلى موضع البيت حتى بوّأ الله مكانه لإبراهيم لما أراد الله من عمارته وإظهاره دينه وشعائره فلم يزل البيت منذ أهبط آدم إلى الأرض معظّما محرّما تناسخه الأمم والملل أمّة بعد أمّة وملة بعد ملة، وكانت الملائكة تحجه قبل آدم، فلما أراد إبراهيم بناءه عرج به إلى السماء فنظر إلى مشارق الأرض ومغاربها وقيل له اختر، فاختار موضع مكة، فقالت الملائكة: يا خليل الله اخترت موضع مكة وحرم الله في الأرض، فبناه وجعل أساسه من سبعة أجبل، ويقال من خمسة أو من أربعة، وكانت الملائكة تأتي بالحجارة إلى إبراهيم
من تلك الجبال، وروي عن مجاهد أنّه قال: أسّس إبراهيم زوايا البيت من أربعة أحجار: حجر من حراء وحجر من ثبير وحجر من طور وحجر من الجودي الذي بأرض الموصل وهو الذي استقرّت عليه سفينة نوح، وروي أن قواعده خلقت قبل الأرض بألفي سنة ثمّ بسطت الأرض من تحت الكعبة،
ارمه، فرماه بسبع حصيات مثل حصى الخذف ثم مضى وجبرائيل يعلمه المناسك حتى انتهى إلى عرفات، فقال له: أعرفت مناسكك؟ فقال له إبراهيم: نعم، فسميت عرفات لذلك، ثمّ أمره أن يؤذن في المسلمين بالحج، فقال: يا ربّ وما يبلغ من صوتي! فقال الله عزّ وجل: أذّن وعليّ البلاغ، فعلا على المقام فأشرف به حتى صار أعلى الجبال وأشرفها وجمعت له الأرض يومئذ سهلها وجبلها وبرّها وبحرها وجنها وإنسها حتى أسمعهم جميعا وقال: يا أيها الناس كتب عليكم الحجّ إلى بيت الله الحرام فأجيبوا ربكم فمن أجابه ولبّاه فلا بدّ له من أن يحجّ ومن لم يجبه لا سبيل له إلى ذلك، وخصائص الكعبة كثيرة وفضائلها لا تحصى ولا يسع كتابنا إحصاء الفضائل، وليست أمّة في الأرض إلّا وهم يعظّمون ذلك البيت ويعترفون بقدمه وفضله وأنّه من بناء إبراهيم حتى اليهود والنصارى والمجوس والصابئة، وقد قيل إن زمزم سميت بزمزمة اليهود والمجوس، فأما الصابئون فهو بيت عبادتهم لا يفخرون إلّا به ولا يتعبّدون إلّا بفضله، قالوا: وبقيت الكعبة على ما هي عليه غير مسقفة فكان أوّل من كساها تبّع لما أتى به مالك بن العجلان إلى يثرب وقتل اليهود، في قصة ذكرتها في كتابي المسمى بالمبدإ والمآل في التاريخ، فمرّ بمكّة فأخبر بفضلها وشرفها فكساها الخصف، وهي حصر من خوص النخل، ثم رأى في المنام أن اكسها أحسن من هذا، فكساها الأنطاع، فرأى في المنام أن اكسها أحسن من ذلك، فكساها المعافر والوصائل، والمعافر: ثياب يمانية تنسب إلى قبيلة من همدان يقال لهم المعافر، اسم الثياب والقبيلة والموضع الذي تعمل فيه واحد، وربّما قيل لها المعافرية، وثوب
معافري يتصرّف في النسبة ولا يتصرّف في المفرد لأنّه على زنة الجمع ثالثة ألف، ونسب إلى الجمع لأنّه صار بمنزلة المفرد سمي به مفرد، وكان أوّل من حلّى البيت عبد المطّلب لما حفر بئر زمزم وأصاب فيه من دفن جرهم غزالين من ذهب فضربهما في باب الكعبة، فلمّا قام ال
إنّ قومك قصّرت بهم النفقة، قلت: فما شأن بابه مرتفعا؟ قال: فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، ولولا قومك حديثو عهد في الإسلام فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الحجر في البيت وأن ألزق بابه بالأرض، فأدخل ابن الزبير عشرة مشايخ من الصحابة حتى سمعوا ذلك منها ثمّ أمر بهدم الكعبة، فاجتمع إليه الناس وأبوا ذلك فأبى إلّا هدمها، فخرج الناس إلى فرسخ خوفا من نزول عذاب وعظم ذلك عليهم ولم يجر إلّا الخير، وذكر ابن القاضي عن مجاهد قال: لما أراد ابن الزبير أن يهدم البيت ويبنيه قال للناس: اهدموا، فأبوا وخافوا أن ينزل العذاب عليهم، قال مجاهد:
فخرجنا إلى منى فأقمنا بها ثلاثا ننتظر العذاب، وارتقى ابن الزبير على جدار الكعبة هو بنفسه فهدم البيت، فلمّا رأوا أنّه لم يصبه شيء اجترؤوا على هدمه وبناها على ما حكت عائشة وتراجع الناس، فلمّا قدم الحجّاج تحرّم ابن الزبير بالكعبة فأمر بوضع المنجنيق على أبي قبيس وقال: ارموا الزيادة التي ابتدعها هذا المتكلّف، فرموا موضع الحطيم، فلمّا قتل ابن الزبير وملك الحجاج ردّ الحائط كما كان قديما وأخذ بقية الأحجار فسدّ منها الباب الغربي ورصف بقيتها في البيت حتى لا تضيع، فهي إلى الآن على ذلك، وقال تبّع لما كسا البيت:
«وكسونا البيت الذي حرّم اللّ *** هـ ملاء معضّدا وبرودا»
«وأقمنا به من الشهر عشرا، *** وجعلنا لبابه إقليدا»
«وخرجنا منه نؤمّ سهيلا *** قد رفعنا لواءنا المعقودا»
ويقال إنّ أوّل من كساه الديباج يزيد بن معاوية، ويقال عبد الله بن الزبير، ويقال عبد الملك بن مروان، وأوّل من خلّق الكعبة عبد الله بن الزبير، وقال ابن جريج: معاوية أوّل من طيّب الكعبة بالخلوق والمجمر وإحراق الزيت بقناديل المسجد من بيت مال المسلمين، ويروى عن عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنّه قال: خلق الله البيت قبل الأرض بأربعين عاما وكان غثاءة على الماء، وقال مجاهد في قوله تعالى:
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا 2: 125، قال: يثوبون إليه ويرجعون ولا يقضون منه وطرا، وفي قوله تعالى: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً من النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ 14: 37، قال:
لو قال أفئدة الناس لازدحمت فارس والروم عليه.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
215-معجم البلدان (الكوفة)
الكُوفَةُ:بالضم: المصر المشهور بأرض بابل من سواد العراق ويسمّيها قوم خدّ العذراء، قال أبو بكر محمد ابن القاسم: سميت الكوفة لاستدارتها أخذا من قول العرب: رأيت كوفانا وكوفانا، بضم الكاف وفتحها، للرميلة المستديرة، وقيل: سميت الكوفة كوفة لاجتماع الناس بها من قولهم: قد تكوّف الرمل، وطول الكوفة تسع وستون درجة ونصف، وعرضها إحدى وثلاثون درجة وثلثان، وهي في الإقليم الثالث، يتكوّف تكوّفا إذا ركب بعضه بعضا، ويقال: أخذت الكوفة من الكوفان، يقال: هم في
كوفان أي في بلاء وشر، وقيل: سميت كوفة لأنها قطعة من البلاد، من قول العرب: قد أعطيت فلانا كيفة أي قطعة، ويقال: كفت أكيف كيفا إذا قطعت، فالكوفة قطعة من هذا انقلبت الياء فيها واوا لسكونها وانضمام ما قبلها، وقال قطرب:
يقال القوم في كوفان أي في أمر يجمعهم، قال أبو القاسم: قد ذهبت جماعة إلى أنها سميت كوفة بموضعها من الأرض وذلك أن كل رملة يخالطها حصباء تسمى كوفة، وقال آخرون: سميت كوفة لأن جبل ساتيدما يحيط بها كالكفاف عليها، وقال ابن الكلبي:
سميت بجبل صغير في وسطها كان يقال له كوفان وعليه اختطت مهرة موضعها وكان هذا الجبل مرتفعا عليها فسمّيت به، فهذا في اشتقاقها كاف، وقد سمّاها عبدة بن الطبيب كوفة الجند فقال:
«إن التي وضعت بيتا مهاجرة *** بكوفة الجند غالت ودّها غول»
وأما تمصيرها وأوّليته فكانت في أيام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في السنة التي مصرّت فيها البصرة وهي سنة 17، وقال قوم: إنها مصّرت بعد البصرة بعامين في سنة 19، وقيل سنة 18، قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: لما فرغ سعد بن أبي وقّاص من وقعة رستم بالقادسية وضمّن أرباب القرى ما عليهم بعث من أحصاهم ولم يسمهم حتى يرى عمر فيهم رأيه، وكان الدهاقين ناصحوا المسلمين ودلوهم على عورات فارس وأهدوا لهم وأقاموا لهم الأسواق ثم توجه سعد نحو المدائن إلى يزدجرد وقدم خالد بن عرفطة حليف بني زهرة بن كلاب فلم يقدر عليه سعد حتى فتح خالد ساباط المدائن ثم توجه إلى المدائن فلم يجد معابر فدلوه على مخاضة عند قرية الصيادين أسفل المدائن فأخاضوها الخيل حتى عبروا وهرب يزدجرد إلى إصطخر فأخذ خالد كربلاء عنوة وسبى أهلها فقسّمها سعد بين أصحابه ونزل كل قوم في الناحية التي خرج بها سهمه فأحيوها فكتب بذلك سعد إلى عمر فكتب إليه عمر أن حوّلهم، فحوّلهم إلى سوق حكمة، ويقال إلى كويفة ابن عمر دون الكوفة، فنقضوا فكتب سعد إلى عمر بذلك، فكتب إليه: إن العرب لا يصلحها من البلدان إلا ما أصلح الشاة والبعير فلا تجعل بيني وبينهم بحرا وعليك بالريف، فأتاه ابن بقيلة فقال له: أدلك على أرض انحدرت عن الفلاة وارتفعت عن المبقّة؟
قال: نعم، فدلّه على موضع الكوفة اليوم وكان يقال له سورستان، فانتهى إلى موضع مسجدها فأمر غاليا فرمى بسهم قبل مهبّ القبلة فعلم على موقعه ثم غلا بسهم قبل مهب الشمال فعلم على موقعه ثم علم دار إمارتها ومسجدها في مقام الغالي وفيما حوله، ثم أسهم لنزار وأهل اليمن سهمين فمن خرج اسمه أولا فله الجانب الشرقي وهو خيرهما فخرج سهم أهل اليمن فصارت خططهم في الجانب الشرقي وصارت خطط نزار في الجانب الغربي من وراء تلك الغايات والعلامات وترك ما دون تلك العلامات فخط المسجد ودار الإمارة فلم يزل على ذلك، وقال ابن عباس: كانت منازل أهل الكوفة قبل أن تبنى أخصاصا من قصب إذا غزوا قلعوها وتصدّقوا بها فإذا عادوا بنوها فكانوا يغزون ونساؤهم معهم، فلما كان في أيام المغيرة بن شعبة بنت القبائل باللّبن من غير ارتفاع ولم يكن لهم غرف، فلما كان في أيام إمارة زياد بنوا أبواب الآجرّ فلم يكن في الكوفة أكثر أبواب الآجرّ من مراد والخزرج، وكتب عمر بن الخطاب إلى سعد أن اختط موضع المسجد الجامع على عدة مقاتلتكم، فخط على أربعين ألف إنسان، فلما قدم زياد زاد فيه عشرين ألف إنسان وجاء بالآجرّ وجاء بأساطينه من الأهواز،
قال أبو الحسن محمد بن علي بن عامر الكندي البندار أنبأنا علي بن الحسن بن صبيح البزاز قال: سمعت بشر ابن عبد الوهاب القرشي مولى بني أمية وكان صاحب خير وفضل وكان ينزل دمشق ذكر أنه قدر الكوفة فكانت ستة عشر ميلا وثلثي ميل وذكر أن فيها خمسين ألف دار للعرب من
الكوفة سفلت عن الشام ووبائها وارتفعت عن البصرة وحرّها فهي بريّة مريئة مريعة إذا أتتنا الشمال ذهبت مسيرة شهر على مثل رضراض الكافور وإذا هبّت الجنوب جاءتنا ريح السواد وورده وياسمينه وأترنجه، ماؤنا عذب وعيشنا خصب، فقال عبد الملك بن الأهتم السعدي: نحن والله يا أمير المؤمنين أوسع منهم بريّة وأعدّ منهم في السرية وأكثر منهم ذرّيّة وأعظم منهم نفرا، يأتينا ماؤنا عفوا صفوا ولا يخرج من عندنا إلا سائق أو قائد، فقال الحجاج: يا أمير المؤمنين إن لي بالبلدين خبرا، فقال: هات غير متّهم فيهم، فقال: أما البصرة فعجوز شمطاء بخراء دفراء أوتيت من كل حليّ، وأما الكوفة فبكر عاطل عيطاء لا حليّ لها ولا زينة، فقال عبد الملك: ما أراك إلا قد فضّلت الكوفة، وكان عليّ، عليه السلام، يقول: الكوفة كنز الإيمان وحجة الإسلام وسيف الله ورمحه يضعه حيث شاء، والذي نفسي بيده لينتصرن الله بأهلها في شرق الأرض وغربها كما انتصر بالحجاز، وكان سلمان الفارسي يقول: أهل الكوفة أهل الله وهي قبّة الإسلام يحنّ إليها كلّ مؤمن، وأما مسجدها فقد رويت فيه فضائل كثيرة، روى حبّة العرني قال: كنت جالسا عند عليّ، عليه السّلام، فأتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين هذه راحلتي وزادي أريد هذا البيت أعني بيت المقدس، فقال، عليه السّلام:
كل زادك وبع راحلتك وعليك بهذا المسجد، يعني مسجد الكوفة، فإنه أحد المساجد الأربعة ركعتان فيه تعدلان عشرا فيما سواه من المساجد والبركة منه إلى اثني عشر ميلا من حيث ما أتيته وهي نازلة من كذا ألف ذراع، وفي زاويته فار التنور وعند الأسطوانة الخامسة صلى إبراهيم، عليه السّلام، وقد صلى فيه ألف نبيّ وألف وصيّ، وفيه عصا موسى والشجرة اليقطين، وفيه هلك يغوث ويعوق وهو الفاروق، وفيه مسير لجبل الأهواز، وفيه مصلّى نوح عليه السّلام، ويحشر منه يوم القيامة سبعون ألفا ليس عليهم حساب ووسطه على روضة من رياض الجنة وفيه ثلاث أعين من الجنة تذهب الرّجس وتطهّر المؤمنين، لو علم الناس ما فيه من الفضل لأتوه حبوا، وقال الشعبي: مسجد الكوفة ستة أجربة وأقفزة، وقال زادانفرّوخ: هو تسعة أجربة، ولما بنى عبيد الله بن زياد مسجد الكوفة جمع الناس ثم صعد المنبر وقال: يا أهل الكوفة قد بنيت لكم مسجدا لم يبن على وجه الأرض مثله وقد أنفقت على كل أسطوانة سبع عشرة مائة ولا يهدمه إلا باغ أو جاحد، وقال عبد الملك بن عمير: شهدت زيادا وطاف بالمسجد فطاف به وقال: ما أشبهه بالمساجد
قد أنفقت على كل أسطوانة ثماني عشرة مائة، ثم سقط منه شيء فهدمه الحجاج وبناه ثم سقط بعد ذلك الحائط الذي يلي دار المختار فبناه يوسف بن عمر، وقال السيد إسماعيل بن محمد الحميري يذكر مسجد الكوفة:
«لعمرك! ما من مسجد بعد مسجد *** بمكة ظهرا أو مصلّى بيثرب»
«بشرق ولا غرب علمنا مكانه *** من الأرض معمورا ولا متجنّب»
«بأبين فضلا من مصلّى مبارك *** بكوفان رحب ذي أواس ومخصب»
«مصلّى، به نوح تأثّل وابتنى *** به ذات حيزوم وصدر محنّب»
«وفار به التنور ماء وعنده *** له قيل أيا نوح في الفلك فاركب»
«وباب أمير المؤمنين الذي به *** ممرّ أمير المؤمنين المهذّب»
عن مالك بن دينار قال: كان علي بن أبي طالب إذا أشرف على الكوفة قال:
«يا حبّذا مقالنا بالكوفة *** أرض سواء سهلة معروفه»
تعرفها جمالنا العلوفه
وقال سفيان بن عيينة: خذوا المناسك عن أهل مكة وخذوا القراءة عن أهل المدينة وخذوا الحلال والحرام عن أهل الكوفة، ومعما قدّمنا من صفاتها الحميدة فلن تخلو الحسناء من ذامّ، قال النجاشي يهجو أهلها:
«إذا سقى الله قوما صوب غادية *** فلا سقى الله أهل الكوفة المطرا»
«التاركين على طهر نساءهم، *** والنائكين بشاطي دجلة البقرا»
«والسارقين إذا ما جنّ ليلهم، *** والدارسين إذا ما أصبحوا السّورا»
«ألق العداوة والبغضاء بينهم *** حتى يكونوا لمن عاداهم جزرا»
وأما ظاهر الكوفة فإنها منازل النعمان بن المنذر والحيرة والنجف والخورنق والسدير والغريّان وما هناك من المتنزهات والديرة الكبيرة فقد ذكرت في هذا الكتاب حيث ما اقتضاه ترتيب أسمائها، ووردت رامة بنت الحسين بن المنقذ بن الطمّاح الكوفة فاستوبلتها فقالت:
«ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة *** وبيني وبين الكوفة النّهران؟»
«فإن ينجني منها الذي ساقني لها *** فلا بدّ من غمر ومن شنآن»
وأما المسافات فمن الكوفة إلى المدينة نحو عشرين مرحلة، ومن المدينة إلى مكة نحو عشر مراحل في طريق الجادّة، ومن الكوفة إلى مكة أقصر من هذا الطريق نحو من ثلاث مراحل لأنه إذا انتهى الحاجّ إلى معدن النّقرة عدل عن المدينة حتى يخرج إلى معدن بني سليم ثم إلى ذات عرق حتى ينتهي إلى مكة، ومن حفّاظ الكوفة محمد بن العلاء بن كريب الهمداني الكوفي، سمع بالكوفة عبد الله بن المبارك وعبد الله ابن إدريس وحفص بن غياث ووكيع بن الجرّاح وخلقا غيرهم، وروى عنه محمد بن يحيى الذّهلي وعبد الله بن يحيى الذهلي وعبد الله بن يحيى بن حنبل وأبو يعلى الموصلي والحسن بن سفيان الثوري وأبو عبد الله البخاري ومسلم بن الحجاج وأبو داود السجستاني وأبو عيسى الترمذي وأبو عبد الرحمن النسائي وابن ماجة القزويني وأبو عروة المراي وخلق سواهم،
وكان ابن عقدة يقدّمه على جميع مشايخ الكوفة في الحفظ والكثرة فيقول: ظهر لابن كريب بالكوفة ثلاثمائة ألف حديث، وكان ثقة مجمعا عليه، ومات لثلاث بقين من جمادى الأولى سنة 243، وأوصى أن تدفن كتبه فدفنت.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
216-معجم البلدان (اللجم)
اللُّجُمُ:جمع لجام، وذات اللجم: موضع معروف بأرض جرزان من نواحي تفليس، قال البلاذري:
وسار حبيب بن مسلمة الفهري من قبل عثمان إلى أرمينية فنزل على السِّيسجان فحاربه أهلها فهزمهم وغلب على ويص وصالح أهل القلاع بالسيسجان على خراج يؤدونه ثم سار إلى جرزان فلما انتهى إلى ذات اللّجم سرح المسلمون بعض دوابّهم وجمعوا لجمها فخرج عليهم قوم من العلوج فأعجلوهم عن الإلجام وقاتلوهم حتى أخذوا تلك اللجم، ثم إن المسلمين كروا عليهم حتى استعادوها، ثم سمّي الموضع ذات اللجم.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
217-معجم البلدان (اللجون)
اللَّجُّونُ:بفتح أوله، وضم ثانيه وتشديده، وسكون الواو، وآخره نون، واللجن واللزج واحد: وهو بلد بالأردنّ، وبينه وبين طبرية عشرون ميلا، وإلى الرملة مدينة فلسطين أربعون ميلا، وفي اللجون صخرة مدورة في وسط المدينة وعليها قبة زعموا أنها مسجد إبراهيم، عليه السّلام، وتحت الصخرة عين غزيرة الماء، وذكروا أن إبراهيم، عليه السّلام، دخل هذه المدينة في وقت مسيره إلى مصر ومعه غنم له، وكانت المدينة قليلة الماء، فسألوا إبراهيم أن يرتحل عنهم لقلة الماء فيقال إنه ضرب بعصاه هذه الصخرة فخرج منها ماء كثير فاتسع على أهل المدينة، فيقال إن بساتينهم وقراهم تسقى من هذا الماء والصخرة
قائمة إلى اليوم. واللّجّون: مرج طوله ستة أميال كثير الوحل صيفا وشتاء. واللجون أيضا: موضع في طريق مكة من الشام قرب تيماء، وسماه الراعي لجّان في قوله:
«فقلت والحرّة الرّجلاء دونهم *** وبطن لجّان لمّا اعتادني ذكري: »
«صلّى على عزّة الرحمن وابنتها *** ليلى، وصلّى على جاراتها الأخر»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
218-معجم البلدان (المحرقة)
المُحَرَّقَةُ:بالضم، وتشديد الراء، والقاف، اسم المفعول من حرّقه إذا بالغ في إحراقه بالنار: من قرى اليمامة، قال ابن السكيت: هي قرّان، وقال غيره: المحرّقة قرية باليمامة من جهة مهبّ الشمال من حجر اليمامة والعرض في مهب الجنوب عنه، فالمحرقة في قبلة العرض والعرض في قبلة حجر اليمامة وحجر في قبلة الشط بين الوتر والعرض، وهي للبادية وهم بنو زيد ولبيد وقطن بني يربوع بن ثعلبة بن الدّئل ابن حنيفة، وهم على شفير الوتر، وإنما سمّيت المحرّقة لأن عبيد بن ثعلبة الذي ذكر أمره في حجر اليمامة ولد ستة: أرقم وزيدا وسلمة ومسلمة ووهبا وسيّارا، فلما هلك عبيد كان ابنه أرقم غائبا عند أخواله عنزة بن أسد بن ربيعة فاقتسم إخوته حجرا على خمسة أقسام ولم يسهموا لأرقم معهم بشيء، فلما قدم سألهم شيئا فلم يعطوه فخرج حتى حرق قرية البادية ليلقي بين إخوته الحرب فلم يبالوا بذلك وأغضوا عليه فسميت المحرّقة، ثم أحرق منفوحة فقام بنو سعد ابن قيس بن ثعلبة فأحرقوا الشّطّ عوضا من إحراق منفوحة، فلذلك قال الأعشى:
«وأيام حجر إذ تحرّق نخله *** ثأرناكم يوما بتحريق أرقم»
«كأنّ نخيل الشط عند حريقه *** مآتم سود سلّبت عند مأتم»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
219-معجم البلدان (مدينة إصبهان)
مدينة إصْبَهَانَ:هي المعروفة بجيّ وهي الآن تعرف بشهرستان، وهي على ضفة نهر زندروذ، بينها وبين أصبهان اليوم وهي اليهودية نحو الميل أو أكثر، وليس بها اليوم أحد خربت عن قرب، وهي كانت أجلّ موضع بإصبهان، وعلى بابها قبر حممة الدّوسي صاحب رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، وبها قبر الراشد بن المسترشد أمير المؤمنين وقبر أبي القاسم سلمان ابن أحمد الطبراني، ينسب إليها خلق من أصحاب الحديث كثير ذكرهم أبو الفضل في كتابه مرتبين على حروف المعجم، ومدينة إصبهان عنى الرّستمي الشاعر بقوله:
«لله عيش بالمدينة فاتني *** أيام لي قصر المغيرة مألف»
«حجّي إلى البيت العتيق وقبلتي *** باب الحديد وبالمصلّى الموقف»
«أرض حصاها عسجد وترابها *** مسك وماء المدّ فيها قرقف»
واسم جيّ بالمدينة قديم، قيل: كان الزبير بن الماخور الخارجي ورد إصبهان شاريا فخرج إليه أهلها فقاتلوه وذلك في أيام عبد الله بن الزبير، فقال عمرو بن مطرّف التميمي:
«ولم أك بالمدينة ديدبانا *** أرجّم في حوائطها الظنونا»
«وآثرت الحياء على حياتي، *** ولم أك في كتيبة ياسمينا»
وكان عتّاب بن ورقاء الرياحي والى إصبهان خرج في قتالهم في كتيبة وأمّ ولد له اسمها ياسمين في كتيبة فلذلك قال عمرو ما قال.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
220-معجم البلدان (مدينة النحاس)
مَدينَةُ النّحَاسِ:ويقال لها مدينة الصّفر، ولها قصة بعيدة من الصحة لمفارقتها العادة، وأنا بريء من عهدتها إنما أكتب ما وجدته في الكتب المشهورة التي دوّنها العقلاء ومع ذلك فهي مدينة مشهورة الذكر فلذلك ذكرتها، قال ابن الفقيه: ومن عجائب الأندلس أمر مدينة الصّفر التي يزعم قوم من العلماء أن ذا القرنين بناها وأودعها كنوزه وعلومه وطلسم بابها فلا يقف عليها أحد وبنى داخلها بحجر البهتة وهو مغناطيس الناس وذلك أن الإنسان إذا نظر إليها لم يتمالك أن يضحك ويلقي نفسه عليها فلا يزايلها أبدا حتى يموت، وهي في بعض مفاوز الأندلس، ولما بلغ عبد الملك بن مروان خبرها وخبر ما فيها من الكنوز والعلوم وأن إلى جانبها أيضا بحيرة بها كنوز عظيمة كتب إلى موسى بن نصير عامله على المغرب يأمره بالمسير إليها والحرص على دخولها وأن يعرّفه ما فيها ودفع الكتاب إلى طالب بن مدرك فحمله وسار حتى انتهى إلى موسى بن نصير وكان بالقيروان، فلما أوصله إليه تجهز وسار في ألف فارس نحوها، فلما رجع كتب إلى عبد الملك بن مروان: بسم الله الرحمن الرحيم، أصلح الله أمير المؤمنين صلاحا يبلغ به خير الدنيا والآخرة، أخبرك يا أمير المؤمنين أني تجهزت لأربعة أشهر وسرت نحو مفاوز الأندلس ومعي ألف فارس من أصحابي حتى أوغلت في طرق قد انطمست ومناهل قد اندرست وعفت فيها الآثار وانقطعت عنها الأخبار أحاول بناء مدينة لم ير الراؤون مثلها ولم يسمع السامعون بنظيرها، فسرت ثلاثة وأربعين يوما ثم لاح لنا بريق شرفها من مسيرة خمسة أيام فأفزعنا منظرها الهائل وامتلأت قلوبنا رعبا من عظمها وبعد أقطارها، فلما قربنا منها إذ أمرها عجيب ومنظرها هائل كأن المخلوقين ما صنعوها، فنزلت عند ركنها الشرقيّ وصلّيت العشاء الأخيرة بأصحابي وبتنا بأرعب ليلة بات بها المسلمون، فلما أصبحنا كبّرنا استئناسا بالصبح وسرورا به، ثم وجّهت رجلا من أصحابي في مائة فارس وأمرته أن يدور مع سورها ليعرف بابها فغاب عنها يومين ثم وافى صبيحة اليوم الثالث فأخبرني أنه ما وجد لها بابا ولا رأى مسلكا إليها، فجمعت أمتعة أصحابي إلى جانب سورها وجعلت بعضها على بعض لينظر من يصعد إليها فيأتيني بخبر ما فيها، فلم تبلغ أمتعتنا ربع الحائط لارتفاعه وعلوه، فأمرت عند ذلك باتخاذ السلالم فاتخذت ووصلت بعضها إلى بعض بالحبال ونصبتها
على الحائط وجعلت لمن يصعد إليها ويأتيني بخبرها عشرة آلاف درهم، فانتدب لذلك رجل من أصحابي ثم تسنّم السلّم وهو يتعوّذ ويقرأ، فلما صار على سورها وأشرف على ما فيها قهقه ضاحكا ثم نزل إليها فناديناه: أخبرنا بما عندك وبما رأيته، فلم يجبنا، فجعلت أيضا لمن يصعد
«ليعلم المرء ذو العز المنيع ومن *** يرجو الخلود وما حيّ بمخلود»
«لو أن حيّا ينال الخلد في مهل *** لنال ذاك سليمان بن داود»
«سالت له العين عين القطر فائضة *** فيه عطاء جليل غير مصرود»
«وقال للجنّ: أنشوا فيه لي أثرا *** يبقى إلى الحشر لا يبلى ولا يودي»
«فصيّروه صفاحا ثم ميل به *** إلى البناء بإحكام وتجويد»
«وأفرغوا القطر فوق السور منحدرا *** فصار صلبا شديدا مثل صيخود»
«وصبّ فيه كنوز الأرض قاطبة، *** وسوف تظهر يوما غير محدود»
«لم يبق من بعدها في الأرض سابغة *** حتى تضمّن رمسا بطن أخدود»
«وصار في قعر بطن الأرض مضطجعا *** مضمنّا بطوابيق الجلاميد»
«هذا ليعلم أن الملك منقطع *** إلا من الله ذي التقوى وذي الجود»
ثم سرت حتى وافيت البحيرة عند غروب الشمس فإذا هي مقدار ميل في ميل وهي كثيرة الأمواج وإذا رجل قائم فوق الماء فناديناه: من أنت؟ فقال: أنا رجل من الجن كان سليمان بن داود حبس ولدي في هذه البحيرة فأتيته لأنظر ما حاله، قلنا له: فما بالك قائما على وجه الماء؟ قال: سمعت صوتا فظننته صوت رجل يأتي هذه البحيرة في كل عام مرة فهذا أوان مجيئه فيصلي على شاطئها أياما ويهلل الله ويمجده، قلنا: فمن تظنه؟ قال: أظنه الخضر، عليه السلام، ثم غاب عنّا فلم ندر أين أخذ فبتنا تلك الليلة على شاطئ البحيرة وقد كنت أخرجت معي عدة من الغواصين فغاضوا في البحيرة فأخرجوا منها حبّا من صفر مطبقا رأسه مختوما برصاص فأمرت به ففتح فخرج منه رجل من صفر على فرس من صفر بيده مطرد من صفر فطار في الهواء وهو يقول: يا نبي الله لا أعود، ثم غاصوا ثانية وثالثة فأخرجوا مثل ذلك فضجّ أصحابي وخافوا أن ينقطع بهم الزاد فأمرت بالرحيل وسلكت الطريق التي كنت أخذت فيها وأقبلت حتى نزلت القيروان، والحمد لله الذي حفظ لأمير المؤمنين أموره وسلّم له جنوده! فلما قرأ عبد الملك هذا الكتاب كان عنده الزهري فقال له: ما تظن بأولئك الذين صعدوا السور كيف استطيروا من السور وكيف كان حالهم؟ قال الزهري:
خبّلوا يا أمير المؤمنين فاستطيروا لأن بتلك المدينة جنّا قد وكلّوا بها، قال: فمن أولئك الذين كانوا يخرجون من تلك الحباب ويطيرون؟ قال: أولئك الجنّ الذين حبسهم سليمان بن داود، عليه السّلام، في البحار.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
221-معجم البلدان (مدينة يثرب)
مَدينَةُ يَثْرِبَ:قال المنجمون: طول المدينة من جهة المغرب ستون درجة ونصف، وعرضها عشرون درجة، وهي في الإقليم الثاني، وهي مدينة الرسول، صلّى الله عليه وسلّم، نبدأ أولا بصفتها مجملا ثم نفصّل، أما قدرها فهي في مقدار نصف مكة، وهي في حرّة سبخة الأرض ولها نخيل كثيرة ومياه، ونخيلهم وزروعهم تسقى من الآبار عليها العبيد، وللمدينة سور والمسجد في نحو وسطها، وقبر النبي، صلّى الله عليه وسلّم، في شرقي المسجد وهو بيت مرتفع ليس بينه وبين سقف المسجد إلا فرجة وهو مسدود لا باب له وفيه قبر النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وقبر أبي بكر وقبر عمر، والمنبر الذي كان يخطب عليه رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، قد غشي بمنبر آخر والروضة أمام المنبر بينه وبين القبر ومصلّى النبي، صلّى الله عليه وسلّم، الذي كان يصلّي فيه الأعياد في غربي المدينة داخل الباب وبقيع الغرقد خارج المدينة من شرقيّها وقباء خارج المدينة على نحو ميلين إلى ما يلي القبلة، وهي شبيهة بالقرية، وأحد جبل في شمال المدينة، وهو أقرب الجبال إليها مقدار فرسخين، وبقربها مزارع فيها نخيل وضياع لأهل المدينة، ووادي العقيق فيما بينها وبين الفرع، والفرع من المدينة على أربعة أيام في جنوبيّها، وبها مسجد جامع، غير أن أكثر هذه الضياع خراب وكذلك حوالي المدينة ضياع كثيرة أكثرها خراب وأعذب مياه تلك الناحية آبار العقيق، ذكر ابن طاهر بإسناده إلى محمد بن إسماعيل البخاري قال: المديني هو الذي أقام بالمدينة ولم يفارقها، والمدني الذي تحول عنها وكان منها، والمشهور عندنا أن النسبة إلى مدينة الرسول مدنيّ مطلقا وإلى غيرها من المدن مدينيّ للفرق لا لعلة أخرى، وربما ردّه بعضهم إلى الأصل فنسب إلى مدينة الرسول أيضا مدينيّ، وقال
الليث: المدينة اسم لمدينة رسول الله خاصة والنسبة للإنسان مدنيّ، فأما العير ونحوه فلا يقال إلا مدينيّ، وعلى هذه الصيغة ينسب أبو الحسن علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السعدي المعروف بابن المديني، كان أصله من المدينة ونزل البصرة وكان من أعلم أهل زمانه بعل
«نؤدي الخرج بعد خراج كسرى *** وخرج بني قريظة والنضير»
وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم: من صبر على أوار المدينة وحرّها كنت له يوم القيامة شفيعا شهيدا، وقال، صلى الله عليه وسلم، حين توجّه إلى الهجرة: اللهم إنك قد أخرجتني من أحبّ أرضك إليّ فأنزلني أحب أرض إليك، فأنزله المدينة، فلما نزلها قال: اللهم اجعل لنا بها قرارا ورزقا واسعا، وقال، عليه الصلاة والسلام:
من استطاع منكم أن يموت في المدينة فليفعل فإنه من مات بها كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة، وعن عبد الله بن الطّفيل: لما قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة وثب على أصحابه وباء شديد حتى أهمدتهم الحمّى فما كان يصلي مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلا اليسير فدعا لهم وقال:
اللهم حبّب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة واجعل ما كان بها من وباء بخمّ، وفي خبر آخر: اللهم حبّب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة وأشدّ وصححها وبارك لنا في صاعها ومدّها وانقل حمّاها إلى الجحفة، وقد كان همّ، صلّى الله عليه وسلّم، أن ينتقل إلى الحمى لصحته، وقال: نعم المنزل الحمى لولا كثرة حيّاته، وذكر العرض وناحيته فهمّ به وقال: هو أصح من المدينة، وروي عنه، صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال عن بيوت السّقيا: اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك ورسولك دعاك لأهل مكة وإن محمدا عبدك ونبيك ورسولك يدعوك لأهل المدينة بمثل ما دعاك إبراهيم أن تبارك في صاعهم ومدهم وثمارهم، اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة واجعل ما بها من وباء بخمّ، اللهم إني قد
حرّمت ما بين لابتيها كما حرّم إبراهيم خليلك، وحرّم رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، شجر المدينة بريدا في بريد من كل ناحية ورخّص في الهش وفي متاع الناضح ونهى عن الخبط وأن يعضد ويهصر، وكان أول من زرع بالمدينة واتخذ بها النخل وعمّر بها الدور والآطام واتخذ
نستحييه حتى نقدم به على موسى فيرى فيه رأيه، فأقبلوا وهو معهم وقبض الله موسى قبل قدومهم فلما قربوا وسمع بنو إسرائيل بذلك تلقوهم وسألوهم عن أخبارهم فأخبروهم بما فتح الله عليهم، قالوا: فما هذا الفتى الذي معكم؟ فأخبروهم بقصته، فقالوا: إن هذه معصية منكم لمخالفتكم أمر نبيكم، والله لا دخلتم علينا بلادنا أبدا، فحالوا بينهم وبين الشام، فقال ذلك الجيش: ما بلد إذ منعتم بلدكم خير لكم من البلد الذي فتحتموه وقتلتم أهله فارجعوا إليه، فعادوا إليها فأقاموا بها فهذا كان أول سكنى اليهود الحجاز والمدينة، ثم لحق بهم بعد ذلك بنو الكاهن بن هارون، عليه السلام، فكانت لهم الأموال والضياع بالسافلة، والسافلة ما كان في أسفل المدينة إلى أحد، وقبر حمزة والعالية ما كان فوق المدينة إلى أحد، وقبر حمزة والعالية ما كان فوق المدينة إلى مسجد قباء وما إلى ذلك إلى مطلع الشمس، فزعمت بنو قريظة أنهم مكثوا كذلك زمانا ثم إن الروم ظهروا على الشام فقتلوا من بني إسرائيل خلقا كثيرا فخرج بنو قريظة والنضير وهدل هاربين من الشام يريدون الحجاز الذي فيه بنو إسرائيل ليسكنوا معهم، فلما فصلوا من الشام وجّه ملك الروم في طلبهم من يردّهم فأعجزوا رسله وفآتوهم وانتهى الروم إلى ثمد بين الشام والحجاز فماتوا عنده عطشا فسمي ذلك الموضع ثمد الروم فهو معروف بذلك إلى اليوم، وذكر بعض علماء الحجاز من اليهود أن سبب نزولهم المدينة أن ملك الروم حين ظهر على بني إسرائيل وملك الشام خطب إلى بني هارون وفي دينهم أن لا يزوّجوا النصارى فخافوه وأنعموا له وسألوه أن يشرّفهم بإتيانه، فأتاهم ففتكوا به وبمن معه ثم هربوا حتى لحقوا بالحجاز وأقاموا بها، وقال آخرون: بل علماؤهم كانوا يجدون في التوراة صفة النبيّ، صلى الله عليه وسلّم، وأنه يهاجر إلى بلد فيه نخل بين حرّتين، فأقبلوا من الشام يطلبون الصفة حرصا منهم على اتباعه، فلما رأوا تيماء وفيها النخل عرفوا صفته وقالوا:
هو البلد الذي نريده، فنزلوا وكانوا أهله حتى أتاهم تبّع فأنزل معهم بني عمرو بن عوف، والله أعلم أيّ ذلك كان، قالوا: فلما كان من سيل العرم ما كان،
كما ذكرناه في مأرب، قال عمرو بن عوف: من كان منكم يريد الراسيات في الوحل، المطعمات في المحل، المدركات بالدّخل، فليلحق بيثرب ذات النخل، وكان الذين اختاروها وسكنوها الأنصار وهم الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثع
«لم يقض دينك مل حسا *** ن وقد غنيت وقد غنينا»
«الراشقات المرشقا *** ت الجازيات بما جزينا»
«أشباه غزلان الصّرا *** ثم يأتزرن ويرتدينا»
«الرّيط والديباج وال *** حلي المضاعف والبرينا»
«وأبو جبيلة خير من *** يمشي وأوفاهم يمينا»
«وأبرّهم برّا وأع *** لمهم بفضل الصالحينا»
«أبقت لنا الأيام وال *** حرب المهمّة يعترينا»
«كبشا له زرّ يف *** لّ متونها الذّكر السّنينا»
«ومعاقلا شمّا وأس *** يافا يقمن وينحنينا»
«ومحلّة زوراء تج *** حف بالرجال الظالمينا»
ولعنت اليهود مالك بن العجلان في كنائسهم وبيوت عبادتهم، فبلغه ذلك فقال:
«تحايا اليهود بتلعانها *** تحايا الحمير بأبوالها»
«وماذا عليّ بأن يغضبوا *** وتأتي المنايا باذلالها! »
وقالت سارة القرظية ترثي من قتل من قومها:
«بأهلي رمّة لم تغن شيئا *** بذي حرض تعفّيها الرياح»
«كهول من قريظة أتلفتهم *** سيوف الخزرجية والرماح»
«ولو أذنوا بأمرهم لحالت *** هنالك دونهم حرب رداح»
ثم انصرف أبو جبيلة راجعا إلى الشام وقد ذلّل الحجاز والمدينة للأوس والخزرج فعندها تفرّقوا في عالية المدينة وسافلتها فكان منهم من جاء إلى القرى العامرة فأقام مع أهلها قاهرا لهم، ومنهم من جاء إلى عفا من الأرض لا ساكن فيه فبنى فيه ونزل ثم اتخذوا بعد ذلك القصور والأموال والآطام، فلما قدم رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، من مكة إلى المدينة مهاجرا أقطع الناس الدور والرباع فخطّ لبني زهرة في ناحية من مؤخر المسجد فكان لعبد الرحمن ابن عوف الحصن المعروف به وجعل لعبد الله وعتبة ابني مسعود الهذليّين الخطّة المشهورة بهم عند المسجد وأقطع الزبير بن العوّام بقيعا واسعا وجعل لطلحة بن عبيد الله موضع دوره ولأبي بكر، رضي الله عنه، موضع داره عند المسجد، وأقطع كل واحد من عثمان بن عفّان وخالد بن الوليد والمقداد وعبيد والطفيل وغيرهم مواضع دورهم، فكان رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، يقطع أصحابه هذه القطائع فما كان في عفا من الأرض فإنه أقطعهم إياه وما كان من الخطط المسكونة العامرة فإن الأنصار وهبوه له فكان يقطع من ذلك ما شاء، وكان أول من وهب له خططه ومنازله حارثة بن النعمان فوهب له ذلك وأقطعه، وأما مسجد النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، فقال ابن عمر: كان بناء المسجد على عهد رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، وسقفه جريد وعمده خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئا فزاد فيه عمر وبناه على ما كان من بنائه ثم غيّره عثمان وبناه بالحجارة المنقوشة والقصّة وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه ساجا وزاد فيه. وكان لما بناه رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، جعل له بابين شارعين باب عائشة والباب الذي يقال له باب عاتكة وبابا في مؤخر المسجد يقال له باب مليكة وبنى بيوتا إلى جنبه باللبن وسقفها بجذوع النخل، وكان طول المسجد مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، فلما ولي عمر بن عبد العزيز زاد في القبلة من موضع المقصورة اليوم، وكان بين المنبر وبين الجدار في عهد النبي، صلّى الله عليه وسلّم، قدر ما تمرّ الشاة، وكان طول المسجد في عهد عمر،
رضي الله عنه، مائة وأربعين ذراعا وارتفاعه أحد عشر ذراعا، وكان بنى أساسه بالحجارة إلى أن بلغ قامة وجعل له ستة أبواب وحصّنه، وروي أن عمر أول من حصّن المسجد وبناه سنة 17 حين رجع من سرع وجعل طول جداره من خارج ستة عشر ذراعا، وكان أول عمل عثمان إياه في شهر ر
معدن النقرة، ومن الرّقّة إلى المدينة نحو من عشرين مرحلة، ومن البحرين إلى المدينة نحو خمس عشرة مرحلة، ومن دمشق إلى المدينة نحو عشرين مرحلة ومثله من فلسطين إلى المدينة على طريق الساحل، ولأهل مصر وفلسطين إذا جاوزوا مدين طريقان إلى المدينة أحدهما على شغب وبدا وهما قريتان بالبادية كان بنو مروان أقطعوهما الزهريّ المحدّث وبها قبره، حتى ينتهي إلى المدينة على المروة، وطريق يمضي على ساحل البحر حتى يخرج بالجحفة فيجتمع بهما طريق أهل العراق وفلسطين ومصر.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
222-معجم البلدان (المذار)
المَذَارُ:بالفتح، وآخره راء، وهي عجمية ولها مخرج في العربية أن يكون اسم مكان من قولهم ذره وهو يذره ولا يقال وذرته، أماتت العرب ماضيه، أي دعه وهو يدعه، فميمه على هذا زائدة، ويجوز أن تكون الميم أصلية فيكون من مذرت البيضة إذا فسدت، ومذرت نفسه أي خبثت وغثّت، والمذار: في ميسان بين واسط والبصرة وهي قصبة ميسان، بينها وبين البصرة مقدار أربعة أيام، وبها مشهد عامر كبير جليل عظيم قد أنفق على عمارته الأموال الجليلة وعليه الوقوف وتساق إليه النذور، وهو قبر عبد الله بن علي بن أبي طالب، ويقال إن الحريري أبا محمد القاسم بن علي صاحب المقامات قد مات بها، وأهلها كلهم شيعة غلاة طغام أشبه شيء بالأنعام، وفيه قال الشاعر:
«أيها الصّلصل المغذّ إلى المد *** فع من نهر معقل فالمذار»
وكان قد فتحها عتبة بن غزوان في أيام عمر بن الخطاب بعد البصرة، قال البلاذري: ولما فتح عتبة بن غزوان الأبلّة سار إلى الفرات فلما فرغ منها سار إلى المذار فخرج إليه مرزبانها فقاتله فهزمه الله وغرق عامّة من معه وأخذ مرزبانها فضرب عنقه ثم سار إلى دستميسان، وكانت بالمذار وقعة لمصعب بن الزبير على أحمد بن سميط النخلي، ينسب إليها جماعة، منهم: محمد بن أحمد بن زيد المذاري، حدث عن عمرو بن عاصم الكلابي، روى عنه أحمد بن يحيى ابن زهير التستري ومحمد بن محمد بن سليمان الباغندي وغيرهما، وأبو الحسن علي بن محمد بن أحمد بن الحسين بن عثمان المذاري، سكن والده بغداد وبها ولد أبو الحسن، وسمع الحديث من أبي طالب علي ابن طالب المكي مولى يعلى بن الفراء، وحدث عن أبي الحسين محمد بن الحسين بن موسى بن حمزة بن أبي يعلى وغيرهم، ومات سنة 585، روى عنه أبو المعمّر الأنصاري ويحيى بن أسعد بن نوش، ومولده سنة 516، وأخوه أبو المعالي أحمد، سمع من أبي علي البنّاء وأبي القاسم علي بن أحمد الميسري في ثاني عشر جمادى الأولى سنة 546، وأخوهما أبو السعود عبد الرحمن بن محمد، حدث عن عاصم بن الحسن ومطهّر ابن أحمد بن البانياسية.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
223-معجم البلدان (المقدس)
المَقْدِسُ:في اللغة المنزه، قال المفسرون في قوله تعالى:
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ 2: 30، قال الزّجاج: معنى نقدس لك أي نطهّر أنفسنا لك وكذلك نفعل بمن أطاعك نقدسه أي نطهّره، قال: ومن هذا قيل للسطل القدس لأنه يتقدّس منه أي يتطهّر، قال:
ومن هذا بيت المقدس، كذا ضبطه بفتح أوله، وسكون ثانيه، وتخفيف الدال وكسرها، أي البيت المقدّس المطهّر الذي يتطهر به من الذنوب، قال مروان:
«قل للفرزدق، والسفاهة كاسمها: *** إن كنت تارك ما أمرتك فاجلس»
«ودع المدينة إنها محذورة، *** والحق بمكة أو بيت المقدس»
وقال قتادة: المراد بأرض المقدس أي المبارك، وإليه ذهب ابن الأعرابي، ومنه قيل للراهب مقدّس، ومنه قول امرئ القيس:
«فأدركنه يأخذن بالساق والنّسا *** كما شبرق الولدان ثوب المقدّس»
وصبيان النصارى يتبرّكون به وبمسح مسحه الذي هو لابسه وأخذ خيوطه منه حتى يتمزق عنه ثوبه، وفضائل بيت المقدس كثيرة ولا بدّ من ذكر شيء منها حتى يستحسنه المطّلع عليه، قال مقاتل بن سليمان قوله تعالى: وَنَجَّيْناهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ، 21: 71 قال: هي بيت المقدس، وقوله تعالى لبني إسرائيل: وواعدناكم جانب الطور الأيمن، يعني بيت المقدس، وقوله تعالى: وجعلنا ابن مريم وأمه آيتين وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين، قال:
البيت المقدس، وقال تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا من الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى 17: 1، هو بيت المقدس، وقوله تعالى: في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، البيت المقدس، وفي الخبر: من صلى في بيت المقدس فكأنما صلى في السماء، ورفع الله عيسى بن مريم إلى السماء من بيت المقدس وفيه مهبطه إذا هبط وتزفّ الكعبة بجميع حجّاجها إلى البيت المقدس يقال لها مرحبا بالزائر والمزور، وتزف جميع مساجد الأرض إلى البيت المقدس، أول شيء حسر عنه بعد الطوفان صخرة بيت المقدس وفيه ينفخ في الصور يوم القيامة وعلى صخرته ينادي المنادي يوم القيامة، وقد قال الله تعالى لسليمان بن داود، عليهما السلام، حين فرغ من بناء البيت المقدس:
سلني أعطك، قال: يا رب أسألك أن تغفر لي ذنبي، قال: لك ذلك، قال: يا رب وأسألك أن تغفر لمن جاء هذا البيت يريد الصلاة فيه وأن تخرجه من ذنوبه كيوم ولد، قال: لك ذلك، قال: وأسألك من جاء فقيرا أن تغنيه، قال: لك ذلك، قال:
وأسألك من جاء سقيما أن تشفيه، قال: ولك ذلك، وعن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام ومسجد البيت المقدس، وإن الصلاة في بيت المقدس خير من ألف صلاة في غيره، وأقرب بقعة في الأرض من السماء البيت المقدس ويمنع الدّجال من دخولها ويهلك يأجوج ومأجوج دونها، وأوصى آدم، عليه السّلام، أن يدفن بها وكذلك إسحاق وإبراهيم، وحمل يعقوب من أرض مصر حتى دفن بها، وأوصى يوسف، عليه السّلام، حين مات بأرض مصر أن يحمل إليها، وهاجر إبراهيم من كوثى إليها، وإليها المحشر ومنها المنشر، وتاب الله على داود بها، وصدّق إبراهيم الرؤيا بها، وكلّم عيسى الناس في المهد بها، وتقاد الجنة يوم القيامة إليها ومنها يتفرّق
الناس إلى الجنة أو إلى النار، وروي عن كعب أن جميع الأنبياء، عليهم السلام، زاروا بيت المقدس تعظيما له، وروي عن كعب أنه قال: لا تسمّوا بيت المقدس إيلياء ولكن سموه باسمه فإن إيلياء امرأة بنت المدينة، وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله، صلّى الله عليه
الورع كان يظهر خياله في الحائط أبيض والفاجر يظهر خياله أسود، وكان أيضا مما اتخذ من الأعاجيب أن ينصب في زاوية من زواياه عصا آبنوس فكان من مسها من أولاد الأنبياء لم تضرّه ومن مسها من غيرهم أحرقت يده، وقد وصفها القدماء بصفات إن استقصيتها أمللت القارئ، وال
قتل أرضا عالمها وقتلت أرض جاهلها، هذا قول أبي عبد الله محمد بن أحمد بن البنّاء البشّاري المقدسي له كتاب في أخبار بلدان الإسلام وقد وصف بيت المقدس فأحسن فالأولى أن نذكر قوله لأنه أعرف ببلده وإن كان قد تغير بعده بعض معالمها، قال: هي متوسطة الحرّ والبرد قلّ ما يقع فيها ثلج، قال:
وسألني القاضي أبو القاسم عن الهواء بها فقلت: سجسج لا حرّ ولا برد، فقال: هذه صفة الجنّة، قلت:
بنيانهم حجر لا ترى أحسن منه ولا أنفس منه ولا أعفّ من أهلها ولا أطيب من العيش بها ولا أنظف من أسواقها ولا أكبر من مسجدها ولا أكثر من مشاهدها، وكنت يوما في مجلس القاضي المختار أبي يحيى بهرام بالبصرة فجرى ذكر مصر إلى أن سئلت: أيّ بلد أجلّ؟ قلت: بلدنا، قيل: فأيهما أطيب؟ قلت: بلدنا، قيل: فأيهما أفضل؟ قلت: بلدنا، قيل: فأيهما أحسن؟ قلت:
بلدنا، قيل: فأيهما أكثر خيرات؟ قلت: بلدنا، قيل: فأيهما أكبر؟ قلت: بلدنا، فتعجب أهل المجلس من ذلك وقيل: أنت رجل محصّل وقد ادّعيت ما لا يقبل منك وما مثك إلا كصاحب
الناقة مع الحجاج، قلت: أما قولي أجلّ فلأنها بلدة جمعت الدنيا والآخرة فمن كان من أبناء الدنيا وأراد الآخرة وجد سوقها، ومن كان من أبناء الآخرة فدعته نفسه إلى نعمة الدنيا وجدها، وأما طيب هوائها فإنه لا سمّ لبردها ولا أذى لحرها، وأما الحسن فلا يرى أحسن من
باب صهيون وباب النية وباب البلاط وباب جب ارميا وباب سلوان وباب أريحا وباب العمود وباب محراب داود، عليه السّلام، والماء بها واسع، وقيل: ليس ببيت المقدس أكثر من الماء والأذان قلّ أن يكون بها دار ليس بها صهريج أو صهريجان أو ثلاثة على قدر كبرها وصغرها، وبها ثلاث برك عظام: بركة بني إسرائيل وبركة سليمان وبركة عياض عليها حمّاماتهم لها دواع من الأزقة، وفي المسجد عشرون جبّا مشجّرة قلّ أن تكون حارة ليس بها جبّ مسيل غير أن مياها من الأزقة وقد عمد إلى واد فجعل بركتين تجتمع إليهما السيول في الشتاء وقد شقّ منهما قناه إلى البلد تدخل وقت الربيع فتدخل صهاريج الجامع وغيرها، وأما المسجد الأقصى فهو على قرنة البلد الشرقي نحو القبلة أساسه من عمل داود، طول الحجر عشرة أذرع وأقلّ منقوشة موجّهة مؤلفة صلبة وقد بنى عليه عبد الملك بحجارة صغار حسان وشرّفوه وكان أحسن من جامع دمشق لكن جاءت زلزلة في أيام بني العباس فطرحته إلّا ما حول المحراب، فلما بلغ الخليفة خبره أراد رده مثلما كان فقيل له:
تعيا ولا تقدر على ذلك، فكتب إلى أمراء الأطراف والقوّاد يأمرهم أن يبني كل واحد منهم رواقا، فبنوه أوثق وأغلظ صناعة مما كان، وبقيت تلك القطعة شامة فيه وهي إلى حذاء الأعمدة الرخام، وما كان من الأساطين المشيدة فهو محدث، وللمغطى ستة وعشرون بابا: باب يقابل المحراب يسمّى باب النحاس الأعظم مصفح بالصفر المذهّب لا يفتح مصراعه إلا رجل شديد القوّة عن يمينه سبعة أبواب كبار في وسطها باب مصفح مذهب وعلى اليسار مثلها وفي نحو المشرق أحد عشر بابا سواذج وخمسة عشر رواقا على أعمدة رخام أحدثها عبد الله بن طاهر، وعلى الصحن من الميمنة أروقة على أعمدة رخام وأساطين، وعلى المؤخر أروقة ازاج من الحجارة، وعلى وسط المغطى جمل عظيم خلف قبة حسنة، والسقوف كلها
إلّا المؤخر ملبسة بشقاق الرصاص والمؤخر مرصوف بالفسيفساء الكبار والصحن كله مبلط، وفي وسط الرواق دكة مربعة مثل مسجد يثرب يصعد إليها من أربع جهاتها بمراق واسعة، وفي الدكة أربع قباب:
قبة السلسلة وقبة المعراج وقبة النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وهذه الثلاث الصغار ملبسة بالرصاص على أعمدة رخام مكشوفة، وفي وسط الدكة قبة الصخرة على بيت مثمن بأربعة أبواب كل باب يقابل مرقاة من مراقي الدكة، وهي: الباب القبليّ وباب إسرافيل وباب الصور وباب النساء، وهو الذي يفتح إلى المغرب، جميعها مذهبة في وجه كل واحد باب مليح من خشب التّنّوب، وكانت قد أمرت بعملها أمّ المقتدر بالله، وعلى كل باب صفّة مرخمة والتنّوبيّة مطبّقة على الصفرية من خارج، وعلى أبواب الصفّات أبواب أيضا سواذج داخل البيت ثلاثة أروقة دائرة على أعمدة معجونة أجلّ من الرخام وأحسن لا نظير لها قد عقدت عليه أروقة لاطئة داخلة في رواق آخر مستدير على الصخرة على أعمدة معجونة بقناطر مدورة فوق هذه منطقة متعالية في الهواء فيها طاقات كبار والقبة فوق المنطقة طولها غير القاعدة الكبرى مع السّفّود في الهواء مائة ذراع ترى من البعد فوقها سفود حسن طوله قامة وبسطة، والقبة على عظمها ملبسة بالصفر المذهب وأرض البيت مع حيطانه، والمنطقة من داخل وخارج على صفة جامع دمشق، والقبة ثلاث سافات: الأولى مروّقة على الألواح، والثانية من أعمدة الحديد قد شبكت لئلا تميلها الرياح، ثم الثالثة من خشب عليها الصفائح وفي وسطها طريق إلى عند السفود يصعد منها الصّنّاع لتفقدها ورمّها فإذا بزغت عليها الشمس أشرقت القبة وتلألأت المنطقة ورؤيت شيئا عجيبا، وعلى الجملة لم أر في الإسلام ولا سمعت أن في الشرك مثل هذه القبة، ويدخل المسجد من ثلاثة عشر موضعا بعشرين بابا، منها:
باب الحطّة وباب النبي، عليه الصلاة والسلام، وباب محراب مريم وباب الرحمة وباب بركة بني إسرائيل وباب الأسباط وباب الهاشميين وباب الوليد وباب إبراهيم، عليه السلام، وباب أمّ خالد وباب داود، عليه السّلام، وفيه من المشاهد محراب مريم وزكرياء ويعقوب والخضر ومقام النبي، صلى الله عليه وسلم، وجبرائيل وموضع المنهل والنور والكعبة والصراط متفرقة فيه وليس على الميسرة أروقة، والمغطى لا يتصل بالحائط الشرقي وإنما ترك هذا البعض لسبين أحدهما قول عمر: واتخذوا في غربي هذا المسجد مصلّى للمسلمين، فتركت هذه القطعة لئلا يخالف، والآخر لو مدّ المغطى إلى الزاوية لم تقع الصخرة حذاء المحراب فكرهوا ذلك، والله أعلم، وطول المسجد ألف ذراع بالذراع الهاشمي، وعرضه سبعمائة ذراع، وفي سقوفه من الخشب أربعة آلاف خشبة وسبعمائة عمود رخام، وعلى السقوف خمسة وأربعون ألف شقة رصاص، وحجم الصخرة ثلاثة وثلاثون ذراعا في سبعة وعشرين، وتحت الصخرة مغارة تزار ويصلّى فيها تسع مائة وستين نفسا، وكانت وظيفته كل شهر مائة دينار، وفي كل سنة ثمانمائة ألف ذراع حصرا، وخدّامه مماليك له أقامهم عبد الملك من خمس الأسارى ولذلك يسمّون الأخماس لا يخدمه غيرهم ولهم نوب يحفظونها، وقال المنجمون:
المقدس طوله ست وخمسون درجة، وعرضه ثلاث وثلاثون درجة، في الإقليم الثالث، وأما فتحها في أول الإسلام إلى يومنا هذا فإن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنفذ عمرو بن العاص إلى فلسطين ثم نزل البيت المقدس فامتنع عليه فقدم أبو عبيدة بن الجرّاح
بعد أن افتتح قنّسرين وذلك في سنة 16 للهجرة فطلب أهل بيت المقدس من أبي عبيدة الأمان والصلح على مثل ما صولح عليه أهل مدن الشام من أداء الجزية والخراج والدخول فيما دخل فيه نظراؤهم على أن يكون المتولّي للعقد لهم عمر بن الخطاب، فكتب أبو عبيدة بذلك إلى عمر ف
«أهيم بقاع القدس ما هبّت الصّبا، *** فتلك رباع الأنس في زمن الصّبا»
«وما زلت في شوقي إليها مواصلا *** سلامي على تلك المعاهد والرّبى»
والحمد لله الذي وفّقني لزيارته، وينسب إلى بيت المقدس جماعة من العبّاد الصالحين والفقهاء، منهم:
نصر بن إبراهيم بن نصر بن إبراهيم بن داود أبو الفتح المقدسي الفقيه الشافعي الزاهد أصله من طرابلس وسكن بيت المقدس ودرّس بها وكان قد سمع بدمشق من أبي الحسن السمسار وأبي الحسن محمد بن عوف وابن سعدان وابن شكران وأبي القاسم وابن الطبري، وسمع بآمد هبة الله بن سليمان وسليم بن أيوب بصور وعليه تفقّه وعلى محمد بن البيان الكازروني، وروى عنه أبو بكر الخطيب وعمر بن عبد الكريم
الدهستاني وأبو القاسم النسيب وأبو الفتح نصر الله اللاذقي وأبو محمد بن طاووس وجماعة، وكان قدم دمشق في سنة 71 في نصف صفر ثم خرج إلى صور وأقام بها نحو عشر سنين ثم قدم دمشق سنة 80 فأقام بها يحدث ويدرّس إلى أن مات، وكان فقيها فاضلا زاهدا عابدا ورعا أقام بدم
نحو ثلاثمائة جزء وما كتبت منها حرفا وأنا على غير وضوء، أو كما قال، وزاره تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان يوما فلم يقم إليه وسأله عن أحلّ الأموال السلطانية فقال: أموال الجزية، فخرج من عنده وأرسل إليه بمبلغ من المال وقال له: هذا من مال الجزية، ففرّقه على الأصحاب ولم يقبله وقال: لا حاجة لنا إليه، فلما ذهب الرسول لامه الفقيه أبو الفتح نصر الله بن محمد وقال له: قد علمت حاجتنا إليه فلو كنت قبلته وفرّقته فينا، فقال: لا تجزع من فوته فلسوف يأتيك من الدنيا ما يكفيك فيما بعد، فكان كما تفرّس فيه، وذكر بعض أهل العلم قال: صحبت أبا المعالي الجويني بخراسان ثم قدمت العراق فصحبت الشيخ أبا إسحاق الشيرازي فكانت طريقته عندي أفضل من طريقة الجويني، ثم قدمت الشام فرأيت الفقيه أبا الفتح فكانت طريقته أحسن من طريقتهما جميعا، وتوفي الشيخ أبو الفتح يوم الثلاثاء التاسع من المحرم سنة 490 بدمشق ودفن بباب الصغير، ولم تر جنازة أوفر خلقا من جنازته، رحمة الله عليه، ومحمد بن طاهر بن علي بن أحمد أبو الفضل المقدسي الحافظ ويعرف بابن القيسراني، طاف في طلب الحديث وسمع بالشام وبمصر والعراق وخراسان والجبل وفارس، وسمع بمصر من الجبّاني وأبي الحسن الخلعي، قال: وسمعت أبا القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الحافظ يقول: أحفظ من رائيّة محمد ابن طاهر ما هو هذا:
«إلى كم أمنّي النفس بالقرب واللّقا *** بيوم إلى يوم وشهر إلى شهر؟»
«وحتّام لا أحظى بوصل أحبّتي *** وأشكو إليهم ما لقيت من الهجر؟»
«فلو كان قلبي من حديد أذابه *** فراقكم أو كان من صالب الصخر»
«ولمّا رأيت البين يزداد والنّوى *** تمثّلت بيتا قيل في سالف الدهر: »
«متى يستريح القلب، والقلب متعب، *** ببين على بين وهجر على هجر؟»
قال الحافظ: سمعت أبا العلاء الحسن بن أحمد الهمذاني الحافظ ببغداد يذكر أن أبا الفضل ابتلي بهوى امرأة من أهل الرستاق كانت تسكن قرية على ستة فراسخ فكان يذهب كل ليلة فيرقبها فيراها تغزل في ضوء السراج ثم يرجع إلى همذان فكان يمشي كل يوم وليلة اثني عشر فرسخا، ومات ابن طاهر ودفن عند القبر الذي على جبلها يقال له قبر رابعة العدوية وليس هو بقبرها إنما قبرها بالبصرة وأما القبر الذي هناك فهو قبر رابعة زوجة أحمد بن أبي الحواري الكاتب وقد اشتبه على الناس.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
224-معجم البلدان (موقوع)
مَوْقُوعٌ:اسم المفعول من وقع يقع إذا سقط: هو ماء بناحية البصرة قتل به أبو سعيد المثنّى الخارجي العبدي، كان قدم من البحرين في زمن الحجاج وخرج بهذا الموضع يحكم فخرج إليه الحكم بن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي صاحب شرطة البصرة فقتله وأصحابه.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
225-معجم البلدان (مهزور)
مَهْزُورٌ:بفتح أوله، وسكون ثانيه ثم زاي، وواو ساكنة، وراء، قال أبو زيد: يقال هزره يهزره هزرا وهو الضرب بالعصا على الظهر والجنب، وهو مهزور وهزير، والهزير: المتقحّم في البيع والإغلاء، وقد هزرت له في البيع أي أغليت، مهزور ومذينب:
واديان يسيلان بماء المطر خاصّة، وقال أبو عبيد:
مهزور وادي قريظة، قالوا: لما قدمت اليهود إلى المدينة نزلوا السافلة فاستوبؤوها فبعثوا رائدا لهم حتى أتى العالية بطحان ومهزورا وهما واديان يهبطان من حرّة تنصبّ منها مياه عذبة فرجع إليهم فقال: قد وجدت لكم بلدا نزها طيبا وأودية تنصبّ إلى حرّة عذبة ومياها طيبة في متأخر الحرة، فتحوّلوا إليها فنزل بنو النضير ومن معهم بطحان ونزلت قريظة وهدل على مهزور فكانت لهم تلاع وماء يسقي سمرات، وفي مهزور اختصم إلى النبي، صلّى الله عليه وسلّم، في حديث أبي مالك بن ثعلبة عن أبيه أن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، أتاه أهل مهزور فقضى أن الماء إذا بلغ الكعبين لم يحبس الأعلى، وكانت المدينة أشرفت على الغرق في خلافة عثمان، رضي الله عنه، من سيل مهزور حتى اتخذ عثمان له ردما، وجاء أيضا بماء عظيم مخوف في سنة 156 فبعث إليه عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس وهو الأمير يومئذ عبيد الله بن أبي سلمة العمري فخرج وخرج الناس بعد صلاة العصر وقد ملأ السيل صدقات رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، فدلتهم عجوز من أهل العالية على موضع كانت تسمع الناس يذكرونه فحضروه فوجدوا للماء مسيلا ففتحوه فغاض الماء منه إلى وادي بطحان، قال أحمد بن جابر:
ومن مهزور إلى مذينب شعبة تصب فيها.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
226-معجم البلدان (ميلة)
مِيلَةُ:بالكسر ثم السكون، ولام: مدينة صغيرة بأقصى إفريقية، بينها وبين بجاية ثلاثة أيام، ليس لها غير المزدرع وهي قليلة الماء، بينها وبين قسطنطينية يوم واحد، قال البكري: وفي سنة 378 في شوال خرج المنصور بن المهدي من القيروان غازيا لكتامة فلما قرب من ميلة زحف إليها ناويا على اصطلام أهلها واستباحتها، فخرج إليه النساء والعجائز والأطفال فلما رآهم بكى وأمر ألا يقتل منهم واحد، وأمر بهدم سورهم وتسيير من فيها إلى مدينة باغاية، فخرجوا بجماعتهم يريدونها وقد حملوا ما خفّ من أمتعتهم، فلقيهم ماكس بن زيري بعسكر فأخذ جميع ما كان معهم وبقيت ميلة خرابا ثم عمّرت بعد ذلك وسوّرت وجعل فيها سوق وحمامات، وهي من أصل مدن الزاب، في وسطها عين تعرف بعين أبي السباع مجلوبة تحت الأرض من جبل بني ساروت.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
227-معجم البلدان (نجران)
نَجْرَانُ:بالفتح ثم السكون، وآخره نون، والنجران في كلامهم: خشبة يدور عليها رتاج الباب، وأنشدوا:
«وصيت الباب في النجران حتى *** تركت الباب ليس له صرير»
وقال ابن الأعرابي: يقال لأنف الباب الرتاج ولد رونده النّجاف والنجران ولمترسه المفتاح، قال ابن دريد: نجران الباب الخشبة التي يدور عليها، ونجران في عدة مواضع، منها: نجران في مخاليف اليمن من ناحية مكة، قالوا: سمي بنجران بن زيدان بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان لأنه كان أول من عمرها ونزلها وهو المرعف وإنما صار إلى نجران لأنه رأى رؤيا فهالته فخرج رائدا حتى انتهى إلى واد فنزل به فسمي نجران به، كذا ذكره في كتاب الكلبي بخط صحيح زيدان بن سبإ، وفي كتاب غيره زيد، روى ذلك الزيادي عن الشرقي، وأما سبب دخول أهلها في دين النصرانية قال ابن إسحاق: حدثني المغيرة بن لبيد مولى الأخنس عن وهب بن منبه اليماني أنه حدثهم أن موقع ذلك الدين بنجران كان أن رجلا من بقايا أهل دين عيسى يقال له فيميون، بالفاء ويروى بالقاف، وكان رجلا صالحا مجتهدا في العبادة مجاب الدعوة وكان سائحا ينزل بالقرى فإذا عرف بقرية خرج منها إلى أخرى، وكان لا يأكل إلّا من كسب يديه، وكان بنّاء يعمل في الطين، وكان يعظّم الأحد فلا يعمل فيه شيئا فيخرج إلى فلاة من الأرض فيصلي بها حتى يمسي، ففطن لشأنه رجل من أهل قرية بالشام كان يعمل فيها فيميون عمله، وكان ذلك الرجل اسمه صالح فأحبه صالح حبّا شديدا فكان يتبعه حيث ذهب ولا يفطن له فيميون حتى خرج مرة في يوم الأحد إلى فلاة من الأرض كما كان يصنع وقد اتبعه صالح فجلس منه منظر العين مستخفيا منه، فقام فيميون يصلي فإذا قد أقبل نحوه تنّين، وهو الحية العظيمة، فلما رآها فيميون دعا عليها فماتت ورآها صالح ولم يدر ما أصابها فخاف عليه فصرخ: يا فيميون التنين قد أقبل نحوك! فلم يلتفت إليه وأقبل على صلاته حتى فرغ منها فخرج إليه صالح وقال: يا فيميون يعلم الله أنني ما أحببت شيئا قط مثل حبك وقد أحببت صحبتك والكينونة معك حيث كنت، فقال: ما شئت، أمري كما ترى فإن علمت أنك تقوى عليه فنعم، فلزمه صالح، وقد كان أهل القرية يفطنون لشأنه، وكان إذا جاءه العبد وبه ضرّ دعا له فشفي، وكان إذا دعي لمنزل أحد لم يأته، وكان لرجل من أهل تلك القرية ولد ضرير فقال لفيميون: إن لي عملا فانطلق معي إلى منزلي، فانطلق معه فلما حصل في بيته رفع الرجل الثوب عن الصبيّ وقال له: يا فيميون عبد من عباد الله أصابه ما ترى فادع الله له! فدعا الله فقام الصبيّ ليس به بأس، فعرف فيميون أنه عرف فخرج من القرية واتبعه صالح حتى وطئا بعض أراضي العرب فعدوا عليهما فاختطفهما سيّارة من العرب فخرجوا بهما حتى باعوهما بنجران، وكان أهل نجران يومئذ على دين العرب يعبدون نخلة لهم عظيمة بين أظهرهم لها عيد في كل سنة فإذا كان ذلك العيد علّقوا عليها كلّ ثوب حسن وجدوه وحليّ النساء، فخرجوا إليها يوما وعكفوا عليها يوما، فابتاع فيميون رجل من أشرافهم وابتاع صالحا آخر، فكان فيميون إذا قام بالليل في بيت له أسكنه إياه سيّده استسرج له البيت نورا حتى يصبح
من غير مصباح، فأعجب سيّده ما رأى منه فسأله عن دينه فأخبره به وقال له فيميون: إنما أنتم على باطل وهذه الشجرة لا تضرّ ولا تنفع ولو دعوت عليها إلهي الذي أعبده لأهلكها وهو الله وحده لا شريك له، فقال له سيّده: افعل فإنك إن فعلت هذا دخلنا في دينك وتركنا ما ن
قال ابن إسحاق: فهذا حديث وهب بن منبّه عن أهل نجران، قال: وحدّثني يزيد بن زياد عن محمد ابن كعب القرظي وحدثني أيضا بعض أهل نجران أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأصنام وكان في قرية من قراها قريبا من نجران، ونجران القرية العظيمة التي إليها إجماع تلك البلاد، كان عندهم ساحر يعلّم غلمان أهل نجران السحر، فلما نزلها فيميون ولم يسموه لي باسمه الذي سماه به ابن منبه إنما قالوا رجل نزلها وابتنى خيمة بين نجران وبين القرية التي بها الساحر، فجعل أهل نجران يرسلون أولادهم إلى ذلك الساحر يعلّمهم السحر فبعث الثامر ابنه عبد الله مع غلمان أهل نجران فكان ابن الثامر إذا مر بتلك الخيمة أعجبه ما يرى من صلاته وعبادته فجعل يجلس إليه ويسمع منه حتى أسلم وعبد الله تعالى وحده وجعل يسأله عن شرائع الإسلام حتى فقه فيه فسأله عن الاسم الأعظم فكتمه إياه وقال: إنك لن تحمله، أخشى ضعفك عنه، والثامر أبو عبد الله لا يظنّ إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان، فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضنّ به عنه عمد إلى قداح فجمعها ثم لم يبق لله تعالى اسما يعلمه إلا كتب كل واحد في قدح فلما أحصاها أوقد نارا وجعل يقذفها فيها قدحا قدحا حتى مرّ بالاسم الأعظم فقذفه فيها بقدحه فوثب القدح حتى خرج منها ولم تضرّه النار شيئا، فأتى صاحبه فأخبره أنه قد علم الاسم الأعظم وهو كذا، فقال: كيف علمته؟ فأخبره بما صنع، فقال: يا ابن أخي قد أصبته فأمسك على نفسك وما أظنّ أن تفعل، وجعل عبد الله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحدا به ضرّ إلا قال له: يا عبد الله أتوحّد الله وتدخل في ديني فأدعو الله فيعافيك؟
فيقول: نعم، فيدعو الله فيشفى حتى لم يبق بنجران أحد به ضرّ إلا أتاه فاتبعه على أمره ودعا له فعوفي، فرفع أمره إلى ملك نجران فأحضره وقال له:
أفسدت عليّ أهل قريتي وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثّلنّ بك! فقال: لا تقدر على ذلك، فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح من رأسه فيقع على الأرض ويقوم وليس به بأس، وجعل يبعث به إلى مياه بنجران بحور لا يقع فيها شيء إلا هلك فيلقى فيها فيخرج ليس به بأس، فلما غلبه قال عبد الله بن الثامر، لا تقدر على قتلي حتى توحّد الله فتؤمن بما آمنت به فإنك إن فعلت ذلك سلّطت عليّ فتقتلني، قال: فوحّد الله ذلك الملك وشهد شهادة عبد الله بن الثامر ثم ضربه بعصا كانت في يده فشجّه شجّة غير كبيرة فقتله، قال عبيد الله الفقير إليه: فاختلفوا ههنا، ففي حديث رواه الترمذي من طريق ابن أبي ليلى عن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، على غير هذا السياق وإن قاربه في المعنى، فقال: إن الملك لما رمى الغلام في رأسه وضع الغلام يده على صدغه ثم مات، فقال أهل نجران: لقد علم هذا الغلام علما ما علمه
أحد فإنّا نؤمن بربّ هذا الغلام، قال: فقيل الملك أجزعت أن خالفك ثلاثة؟ فهذا العالم كلهم قد خالفوك! قال: فخدّ أخدودا ثم ألقى فيه الحطب والنار ثم جمع الناس وقال: من رجع عن دينه تركناه ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النار، فجعل يلقيهم في ذلك الأخدود، فذلك قوله
العزيز الحميد، وأما الغلام فإنه دفن وذكر أنه أخرج في زمن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وإصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل، روى هذا الحديث الترمذي عن محمود بن غيلان عن عبد الرزاق ابن معمر، ورواه مسلم عن هدّاب بن خالد عن حماد بن سلمة ثم اتفقا، عن سالم عن ابن أبي ليلى عن صهيب عن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وفي حديث ابن إسحاق: إن الملك لما قتل الغلام هلك مكانه واجتمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر وهو النصرانية وكان على ما جاء به عيسى، عليه السّلام، من الإنجيل وحكمه، ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث، فمن هنالك أصل النصرانية بنجران، قال: فسار إليهم ذو نواس بجنوده فدعاهم إلى اليهودية وخيّرهم بين ذلك والقتل فاختاروا القتل، فخدّ لهم الأخدود فحرق من حرق في النار وقتل من قتل بالسيف ومثّل بهم حتى قتل منهم قريبا من عشرين ألفا، ففي ذي نواس وجنوده أنزل الله تعالى: قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود، إلى آخر الآية، قال عبيد الله الفقير إليه: خبر الترمذي ومسلم أعجب إليّ من خبر ابن إسحاق لأن في خبر ابن إسحاق أن الذي قتل النصارى ذو نواس وكان يهوديّا صحيح الدين اتبع اليهودية بآيات رآها، كما ذكرناه في امام من هذا الكتاب، من الحبرين اللذين صحباه من المدينة ودين عيسى إنما جاء مؤيدا ومسددا للعمل بالتوراة فيكون القاتل والمقتول من أهل التوحيد والله قد ذمّ المحرق والقاتل لأصحاب الأخدود فبعد إذا ما ذكره ابن إسحاق وليس لقائل أن يقول إن ذا نواس بدّل أو غيّر دين موسى، عليه السلام، لأن الأخبار غير شاهدة بصحة ذلك، وأما خبر الترمذي أن الملك كان كافرا وأصحاب الأخدود مؤمنين فصحّ إذا، والله أعلم، وفتح نجران في زمن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، في سنة عشر صلحا على الفيء وعلى أن يقاسموا العشر ونصف العشر، وفيها يقول الأعشى:
«وكعبة نجران حتم علي *** ك حتى تناخي بأبوابها»
«نزور يزيدا وعبد المسيح *** وقيسا هم خير أربابها»
«وشاهدنا الورد والياسمي *** ن والمسمعات بقصّابها»
«وبربطنا دائم معمل، *** فأيّ الثلاثة أزرى بها؟»
وكعبة نجران هذه يقال بيعة بناها بنو عبد المدان بن الدّيّان الحارثي على بناء الكعبة وعظموها مضاهاة للكعبة وسموها كعبة نجران وكان فيها أساقفة معتمّون وهم الذين جاءوا إلى النبي، صلّى الله عليه وسلّم، ودعاهم إلى المباهلة، وذكر هشام بن الكلبي أنها كانت قبّة من أدم من ثلاثمائة جلد، كان إذا جاءها الخائف أمن أو طالب حاجة قضيت أو مسترفد أرفد، وكان لعظمها عندهم يسمّونها كعبة نجران، وكانت على نهر بنجران، وكانت لعبد المسيح بن دارس بن عدي بن معقل، وكان يستغلّ
من ذلك النهر عشرة آلاف دينار وكانت القبّة تستغرقها، ثم كان أول من سكن نجران من بني الحارث بن كعب بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد ابن كهلان يزيد بن عبد المدان، وذلك أن عبد المسيح زوّجه ابنته دهيمة فولدت له عبد الله بن
فأخرجهم عمر، رضي الله عنه، قال: وإنما أجاز عمر إخراج أهل نجران وهم أهل صلح بحديث روي عن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، فيهم خاصة عن أبي عبيدة بن الجرّاح، رضي الله عنه، عن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، أنه كان آخر ما تكلم به أنه قال: أخرجوا اليهود من الحجاز وأخرجوا أهل نجران من جزيرة العرب، وعن سالم بن أبي الجعد قال: جاء أهل نجران إلى عليّ، رضي الله عنه، فقالوا:
شفاعتك بلسانك وكتابتك بيدك، أخرجنا عمر من أرضنا فردّها إلينا صنيعة، فقال: يا ويلكم إن كان عمر رشيد الأمر فلا أغيّر شيئا صنعه! فكان الأعمش يقول: لو كان في نفسه عليه شيء لاغتنم هذا.
ونجران أيضا: موضع على يومين من الكوفة فيما بينها وبين واسط على الطريق، يقال إن نصارى نجران لما أخرجوا سكنوا هذا الموضع وسمّي باسم بلدهم، وقال عبيد الله بن موسى بن جار بن الهذيل الحارثي يرثي عليّ بن أبي طالب ويذكر أنه حمل نعشه في هذا الموضع فقال:
«بكيت عليّا جهد عيني فلم أجد *** على الجهد بعد الجهد ما أستزيدها»
«فما أمسكت مكنون دمعي وما شفت *** حزينا ولا تسلى فيرجى رقودها»
«وقد حمل النّعش ابن قيس ورهطه *** بنجران والأعيان تبكي شهودها»
«على خير من يبكى ويفجع فقده، *** ويضربن بالأيدي عليه خدودها»
ووفد على النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وفد نجران وفيهم السيّد واسمه وهب والعاقب واسمه عبد المسيح والأسقف وهو أبو حارثة، وأراد رسول الله، صلى الله عليه وسلّم، مباهلتهم فامتنعوا وصالحوا النبي، صلّى الله عليه وسلّم، فكتب لهم كتابا، فلما ولي أبو بكر، رضي الله عنه، أنفذ ذلك لهم، فلما ولي عمر، رضي الله عنه، أجلاهم واشترى منهم أموالهم، فقال أبو حسّان الزيادي: انتقل أهل نجران إلى قرية تدعى نهر ابان من أرض الهجر المنقطع من كورة البهقباذ من طساسيج الكوفة وكانت هذه القرية من الضواحي وكان كسرى أقطعها امرأة يقال لها ابان وكان زوجها من أوراد المملكة يقال له باني وكان قد احتفر نهر الضيعة لزوجته وسماه نهر ابان ثم ظهر عليها الإسلام وكان أولادها يعملون في تلك الأرض، فلما أجلى عمر، رضي الله عنه، أهل نجران نزلوا
قرية من حمراء ديلم يرتادون موضعا فاجتاز بهم رجل من المجوس يقال له فيروز فرغب في النصرانية فتنصر ثم أتى بهم حتى غلبوا على القرية وأخرجوا أهلها عنها وابتنوا كنيسة دعوها الأكيراح، فشخصوا إلى عمر فتظلّموا منهم فكتب إلى المغيرة في أمرهم فرجع الجواب وقد مات
ونجران أيضا: موضع بالبحرين فيما قيل. ونجران أيضا: موضع بحوران من نواحي دمشق وهي بيعة عظيمة عامرة حسنة مبنية على العمد الرخام منمّقة بالفسيفساء وهو موضع مبارك ينذر له المسلمون والنصارى، ولنذور هذا الموضع قوم يدورون في البلدان ينادون من نذر نذر نجران المبارك، وهم ركاب الخيل، وللسلطان عليهم قطيعة وافرة يؤدّونها إليه في كل عام، وقيل: هي قرية أصحاب الأخدود باليمن، ينسب إليها يزيد بن عبد الله بن أبي يزيد النجراني يكنى أبا عبد الله من أهل دمشق من نجران التي بحوران، روى عن الحسين بن ذكوان والقاسم بن أبي عبد الرحمن ومسحر السكسكي، روى عنه يحيى بن حمزة وسويد ابن عبد العزيز وصدقة بن عبد الله وأيوب بن حسّان وهشام بن الغاز، وقال أبو الفضل المقدسي النجراني:
والنجراني الأول منسوب إلى نجران هجر وفيهم كثرة، قال عبيد الله الفقير إليه: هذا قول فيه نظر فإن نجران هجر مجهول والمنسوب إليه معدوم، وقال أبو الفضل: والثاني نجران اليمن، منهم: عبيد الله ابن العباس بن الربيع النجراني، حدث عن محمد بن إبراهيم البيلماني، روى عنه محمد بن بكر بن خالد النيسابوري ونسبه إلى نجران اليمن وقال: سمعت منه بعرفات، وقال الحازمي: وممن ينسب إلى نجران بشر بن رافع النجراني أبو الأسباط اليماني، حدث عنه حاتم بن إسماعيل وعبد الرزاق، وينسب إلى نجران اليمن أيضا أبو عبد الملك محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري يقال له النجراني لأنه ولد بها في حياة رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، سنة عشر وولّاه الأنصار أمرهم يوم الحرّة فقتل بها سنة 63، روى عنه ابنه أبو بكر، وقد أكثرت الشعراء من ذكر نجران في أشعارها، قال اعرابيّ:
«إن تكونوا قد غبتم وحضرنا، *** ونزلنا أرضا بها الأسواق»
«واضعا في سراة نجران رحلي، *** ناعما غير أنني مشتاق»
وقال عطارد بن قرّان أحد اللصوص وكان قد أخذ وحبس بنجران:
«يطول عليّ الليل حتى أملّه *** فأجلس والنهديّ عندي جالس»
«كلانا به كبلان يرسف فيهما، *** ومستحكم الأقفال أسمر يابس»
«له حلقات فيه سمر يحبها ال *** عناة كما حبّ الظماء الخوامس»
«إذا ما ابن صبّاح أرنّت كبوله *** لهنّ على ساقيّ وهنا وساوس»
«تذكّرت هل لي من حميم يهمّه *** بنجران كبلاي اللذان أمارس»
«فأما بنو عبد المدان فإنهم *** وإني من خير الحصين ليائس»
«روى نمر من أهل نجران أنكم *** عبيد العصا لو صبّحتكم فوارس»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
228-معجم البلدان (نوزكاث)
نُوزكاث:بعد الواو زاي، وأوله مضموم، وآخره ثاء مثلثة: بليدة قرب جرجانية خوارزم، ونوز معناه بلغة الخوارزمية الجديد، وكأنّ معناه الحائط الجديد، وهناك مدينة اسمها كاث فكأنهم قالوا كاث الجديدة، إليها ينسب المطهّر بن سديد النوزكاثي رأيته بخوارزم وخرج منها هاربا من التتار في آخر سنة 616 إلى ناحية نسا وكان آخر العهد به وأظنه قتل بها قبل أن ينزل التتار على خوارزم بأكثر من عام فكأنه هرب إلى تعجيل شهادته، ولقد اجتهدت به أن يقيم ريثما نصطحب فركن قليلا ثم قال لي: لا أستطيع المقام فإنني رجل جبّان وتخيّل لي أن الكفّار نزلوا على خوارزم وقد وقع سهم في أحد من المسلمين وأنظر إلى الدماء تسيل على ثيابه وجسمه فأموت قبل وقتي، فخرج على غاية الاختلال في أشدّ وقت من البرد وخلّف أهلا وولدا ونعمة حسنة ودارا وضيعة فترك ذلك كله ومضى هاجّا إلى شهادته، رحمه الله، فإنه كان صالحا ديّنا خيّرا وما أظنه بلغ الخمسين من عمره، وكان قد رحل إلى العراق والشام وكتب الحديث وأكثر منه، وكان حافظا لأسماء رجال الحديث عارفا بالحديث وأجاز لي، وهو مطهّر بن سديد بن محمد بن علي بن أحمد ابن عبد الله بن أبي الفضل النوزكاثي.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
229-معجم البلدان (نينوى)
نِينَوَى:بكسر أوله، وسكون ثانيه، وفتح النون والواو، بوزن طيطوى: وهي قرية يونس بن متى، عليه السّلام، بالموصل، وبسواد الكوفة ناحية يقال لها نينوى منها كربلاء التي قتل بها الحسين، رضي الله عنه، وذكر ابن أبي طاهر أن الشعراء اجتمعوا بباب عبد الله بن طاهر فخرج إليهم رسوله وقال: من يضيف إلى هذا البيت على حروف قافيته بيتا وهو:
«لم يصح للبين منهم صرد *** وغراب لا ولكن طيطوى»
فقال رجل من أهل الموصل:
«فاستقلّوا بكرة يقدمهم *** رجل يسكن حصني نينوى»
فقال عبد الله بن طاهر للرسول: قل له لم تصنع شيئا فهل عنده غيره، فقال أبو سناء القيسي:
«وبنبطيّ طفا في لجّة *** قال لما كظّه التغطيط وى»
فصوّبه وأمر له بخمسين دينارا.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
230-معجم البلدان (وبار)
وَبَارِ:مبني مثل قطام وحذام، يجوز أن يكون من الوبر وهو صوف الإبل والأرانب وما أشبهها، أو من التوبير وهو محو الأثر، والنسبة إليها أباريّ على غير قياس، عن السهيلي، وقال أهل السير: هي مسمّاة بوبار بن إرم بن سام بن نوح، عليه السلام، انتقل إليها وقت تبلبلت الألسن فابتنى بها منزلا وأقام به وهي ما بين الشّحر إلى صنعاء أرض واسعة زهاء ثلاثمائة فرسخ في مثلها، وقال الليث: وبار أرض كانت من محالّ عاد بين رمال يبرين واليمن فلما هلكت عاد أورث الله ديارهم الجنّ فلم يبق بها أحد من الناس، وقال محمد بن إسحاق: وبار أرض يسكنها النسناس، وقيل: هي بين حضرموت والسبوب، وفي كتاب أحمد بن محمد الهمذاني: وفي اليمن أرض وبار وهي فيما بين نجران وحضرموت وما بين بلاد مهرة والشّحر، وكان وبار وصحار وجاسم بني إرم، فكانت وبار تنزل وبار وجاسم الحجاز، ووبار بلادهم المنسوبة إليهم وهي ما بين الشحر إلى تخوم صنعاء، وكانت أرض وبار أكثر الأرضين خيرا وأخصبها ضياعا وأكثرها مياها وشجرا وثمرا فكثرت بها القبائل حتى شحنت بها أرضهم وعظمت أموالهم فأشروا وبطروا وطغوا وكانوا قوما جبابرة ذوي أجسام فلم يعرفوا حقّ نعم الله تعالى
فبدّل الله خلقهم وجعلهم نسناسا للرجل والمرأة منهم نصف رأس ونصف وجه وعين واحدة ويد واحدة ورجل واحدة فخرجوا على وجوههم يهيمون في تلك الغياض إلى شاطئ البحر يرعون كما ترعى البهائم وصار في أرضهم كل نملة كالكلب العظيم تستلب الواحدة منها الفارس عن فرسه فتمزقه
«ولقد ضللت أباك تطلب دارما *** كضلال ملتمس طريق وبار»
«لا تهتدي أبدا ولو بعثت به *** بسبيل واردة ولا آثار»
ويزعم علماء العرب أن الله تعالى لما أهلك عادا وثمود أسكن الجن في منازلهم وهي أرض وبار فحمتها من كل من يريدها، وأنها أخصب بلاد الله وأكثرها شجرا ونخلا وخيرا وأعذبها عنبا وتمرا وموزا فإن دنا رجل منها عامدا أو غالطا حثا الجن في وجهه التراب وإن أبى إلا الدخول خبّلوه وربما قتلوه، وعندهم الإبل الحوشيّة وهي فيما يزعم العرب التي ضربت فيها إبل الجنّ، وقال شاعر:
«كأني على حوشية أو نعامة *** لها نسب في الطير أو هي طائر»
وفي كتاب أخبار العرب أن رجلا من أهل اليمن رأى في إبله ذات يوم فحلا كأنه كوكب بياضا وحسنا فأقرّه فيها حتى ضربها فلما ألقحها ذهب ولم يره حتى كان في العام المقبل فإنه جاء وقد نتج الرجل إبله وتحركت أولاده فيها فلم يزل فيها حتى ألقحها ثم انصرف، وفعل ذلك ثلاث سنين، فلما كان في الثالثة وأراد الانصراف هدر فتبعه سائر ولده ومضى فتبعه الرجل حتى وصل إلى وبار وصار إلى عين عظيمة وصادف حولها إبلا حوشية وحميرا وبقرا وظباء وغير ذلك من الحيوانات التي لا تحصى كثرة وبعضه أنس ببعض ورأى نخلا كثيرا حاملا وغير حامل والتمر ملقى حول النخل قديما وحديثا بعضه على بعض ولم ير أحدا، فبينما هو واقف يفكر إذ أتاه رجل من الجن فقال له: ما وقوفك ههنا؟ فقصّ عليه قصة الإبل، فقال له: لو كنت فعلت ذلك على معرفة لقتلتك ولكن اذهب وإياك والمعاودة فإنّ هذا جمل من إبلنا عمد إلى أولاده فجاء بها، ثم أعطاه جملا وقال له: انج بنفسك وهذا الجمل لك، فيقال إن النجائب المهرية من نسل ذلك الجمل، ثم جاء الرجل وحدث بعض ملوك كندة بذلك فسار يطلب الموضع فأقام مدة فلم يقدر عليه وكانت العين عين وبار، قال أبو زيد الأنصاري: يقال تركته ببلد اصمت وتركته بملاحس البقر وتركته بمحارض الثعالب وتركته بهور ذابر وتركته بوحش إضم وتركته بعين وبار وتركته بمطارح البزاة، وهذه كلّها أماكن لا يدرى أين هي، وقول النابغة:
«فتحمّلوا رحلا كأن حمولهم *** دوم ببيشة أو نخيل وبار»
يدلّ على أنها بلاد مسكونة معروفة ذات نخيل، وكان لدعيميص الرّمل العبدي صرمة من الإبل، فبينما هو ذات ليلة إذا أتاه بعير أزهر كأنه قرطاس
فضرب في إبله فنتجت قلاصا زهرا كالنجوم فلم يذلل منها إلا ناقة واحدة فاقتعدها، فلما مضت عليه ثلاثة أحوال إذا هو ليلة بالفحل يهدر في إبله ثم انكفأ مرتدّا في الوجه الذي أقبل منه فلم يبق من نجله شيء إلا تبعه إلا النّويقة التي اقتعدها فأسف فقال: لأموتنّ أو ل
وبوبار النسناس يقال إنهم من ولد النسناس بن أميم ابن عمليق بن يلمع بن لاوذ بن سام وهم فيما بين وبار وأرض الشحر وأطراف أرض اليمن يفسدون الزرع فيصيدهم أهل تلك الأرض بالكلاب وينفرونهم عن زروعهم وحدائقهم، وعن محمد بن إسحاق أن النسناس خلق في اليمن لأحدهم يد واحدة ورجل واحدة وكذلك العين وسائر ما في الجسد وهو يقفز برجله قفزا شديدا ويعدو عدوا منكرا، ومن أحاديث أهل اليمن أن قوما خرجوا لاقتناص النسناس فرأوا ثلاثة منهم فأدركوا واحدا فأخذوه وذبحوه وتوارى اثنان في الشجر فلم يقفوا لهما على خبر، فقال الذي ذبحه: والله إن هذا لسمين أحمر الدم، فقال أحد المستترين في الشجر: إنه قد أكل حبّ الضّرو وهو البطم وسمن، فلما سمعوا صوته تبادروا إليه وأخذوه فقال الذي ذبح الأول:
والله ما أحسن الصمت هذا لو لم يتكلم ما عرفنا مكانه، فقال الثالث: فها أنا صامت لم أتكلم، فلما سمعوا صوته أخذوه وذبحوه وأكلوا لحومهم، وقال دغفل: أخبرني بعض العرب أنه كان في رفقة يسير في رمل عالج، قال: فأضللنا الطريق ووقفنا إلى غيضة عظيمة على شاطئ البحر فإذا نحن بشيخ طويل له نصف رأس وعين واحدة وكذلك جميع أعضائه، فلما نظر إلينا مرّ يركض كالفرس الجواد وهو يقول:
«فررت من جور الشّراة شدّا *** إذ لم أجد من الفرار بدّا»
«قد كنت دهرا في شبابي جلدا، *** فها أنا اليوم ضعيف جدّا»
وروى الحسام بن قدامة عن أبيه عن جدّه قال:
كان لي أخ فقلّ ما بيده وأنفض حتى لم يبق له شيء فكان لنا بنو عمّ بالشحر فخرج إليهم يلتمس برّهم فأحسنوا قراه وأكثروا برّه وقالوا له يوما: لو خرجت معنا إلى متصيّد لنا لتفرّجت، قال: ذاك إليكم، وخرج معهم فلما أصحروا ساروا إلى غيضة عظيمة فأوقفوه على موضع منها ودخلوها يطلبون الصيد، قال: فبينما أنا واقف إذ خرج من الغيضة شخص في صورة الإنسان له يد واحدة ورجل واحدة ونصف لحية وفرد عين وهو يقول: الغوث الغوث الطريق الطريق عافاك الله! ففزعت منه وولّيت هاربا ولم أدر أنه الصيد الذي يذكرونه، قال: فلما جازني سمعته يقول وهو يعدو:
«غدا القنيص فابتكر *** بأكلب وقت السّحر»
«لك النجا وقت الذكر *** ووزر ولا وزر»
«أين من الموت المفرّ؟ *** حذرت لو يغني الحذر»
«هيهات لن يخطي القدر، *** من القضا أين المفرّ؟»
فلما مضى إذا أنا بأصحابي قد جاءوا فقالوا: ما فعل الصيد الذي احتشناه إليك؟ فقلت لهم: أما الصيد فلم أره، ووصفت لهم صفة الذي مرّ بي، فضحكوا وقالوا: ذهبت بصيدنا! فقلت: يا سبحان الله! أتأكلون الناس؟ هذا إنسان ينطق ويقول الشعر! فقالوا: وهل أطعمناك منذ جئتنا إلا من لحمه قديدا وشواء؟ فقلت: ويحكم أيحلّ هذا؟ قالوا: نعم إن له كرشا وهو يجتر فلهذا يحل لنا، قلت: ولهذه الأخبار أشباه ونظائر في أخبارهم والله أعلم بحق ذلك من باطله.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
231-معجم البلدان (ودان)
وَدّانُ:بالفتح، كأنه فعلان من الود وهو المحبة، ثلاثة مواضع: أحدها بين مكة والمدينة قرية جامعة من نواحي الفرع، بينها وبين هرشى ستة أميال، وبينها وبين الأبواء نحو من ثمانية أميال قريبة من الجحفة، وهي لضمرة وغفار وكنانة، وقد أكثر نصيب من ذكرها في شعره فقال لسليمان بن عبد الملك:
«أقول لركب قافلين عشيّة *** قفا ذات أوشال ومولاك قارب»
«قفوا خبّروني عن سليمان إنني *** لمعروفة من آل ودّان راغب»
«فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله، *** ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب»
وقرأت بخط كراع الهنائي على ظهر كتاب المنضّد من تصنيفه قال بعضهم: خرجت حاجّا فلما جزت بودّان أنشدت:
«أيا صاحب الخيمات من بعد أرثد *** إلى النخل من ودّان ما فعلت نعم؟»
فقال لي رجل من أهلها: انظر هل ترى نخلا؟ فقلت:
لا، فقال: هذا خطأ إنما هو النحل، ونحل الوادي:
جانبه، قال أبو زيد: ودّان من الجحفة على مرحلة، بينها وبين الأبواء على طريق الحاجّ في غربيها ستة أميال، وبها كان في أيام مقامي بالحجاز رئيس للجعفريين أعني جعفر بن أبي طالب، ولهم بالفرع والسائرة ضياع كثيرة عشيرة، وبينهم وبين الحسنيين حروب ودماء حتى استولى طائفة من اليمن يعرفون ببني حرب على ضياعهم فصاروا حربا لهم فضعفوا، وينسب إلى ودّان المدينة الصّعب بن جثّامة بن قيس بن عبد الله ابن وهب بن يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث ابن بكر الليثي الودّاني كان ينزلها فنسب إليها وهاجر إلى النبي، صلّى الله عليه وسلّم، حديثه في أهل الحجاز، روى عنه عبد الله بن عباس وشريح بن عبيد الحضرمي، ومات في خلافة أبي بكر. وودان أيضا: جبل طويل بين فيد والجبلين خمسمائة بدريّ من أهل تلك البلاد، وودان أيضا: مدينة بإفريقية افتتحها عقبة بن عامر في سنة 46 أيام معاوية، وينسب إليها أبو الحسن علي بن أبي إسحاق الوداني صاحب الديوان بصقلية، له أدب وشعر ذكره ابن القطاع وأنشد له:
«من يشتري مني النهار بليلة *** لا فرق بين نجومها وصحابي»
«دارت على فلك السماء ونحن قد *** درنا على فلك من الآداب»
«دان الصباح ولا أتى وكأنه *** شيب أطلّ على سواد شباب»
وقال البكري: ودان مدينة في جنوبي إفريقية، بينها وبين زويلة عشرة أيام من جهة إفريقية، ولها قلعة حصينة وللمدينة دروب، وهي مدينتان فيهما قبيلتان من العرب سهميون وحضرميون فتسمى مدينة السهميين دلباك ومدينة الحضرميين بوصى وجامعهما واحد بين الموضعين، وبين القبيلتين تنازع وتنافس يؤدي بهم ذلك مرارا إلى الحرب والقتال، وعندهم فقهاء وقراء وشعراء، وأكثر معيشتهم من التمر ولهم زرع يسير يسقونه بالنّضح، وبينها وبين مدينة تاجّرفت ثلاثة أيام، والطريق من طرابلس إلى ودان يسير في بلاد هوارة نحو الجنوب في بيوت من شعر، وهناك قريّات ومنازل إلى قصر ابن ميمون من عمل طرابلس، ثم تسير ثلاثة أيام إلى صنم من حجارة مبنيّ على ربوة يسمى كرزة ومن حواليه من قبائل البربر يقرّبون له القرابين ويستسقون به إلى اليوم، ومنه إلى ودّان ثلاثة أيام، وكان عمرو بن العاص بعث إلى ودّان بسر بن أبي أرطاة وهو محاصر لطرابلس فافتتحها في سنة 23 ثم نقضوا عهدهم ومنعوا ما كان قد فرضه بسر عليهم فخرج عقبة بن نافع بعد معاوية ابن حديج إلى المغرب في سنة 46 ومعه بسر بن أبي أرطاة وشريك بن سحيم حتى نزل بغدامس من سرت فخلّف عقبة جيشه هناك واستخلف عليهم زهير بن قيس البلوي ثم سار بنفسه في أربعمائة فارس وأربعمائة بعير بثمانمائة قربة ماء حتى قدم ودان فافتتحها وأخذ ملكها فجدع أنفه فقال: لم فعلت هذا وقد عاهدت المسلمين؟ قال: أدبا لك إذا مسست أنفك ذكرت فلم تحارب العرب، واستخرج منها ما كان بسر فرض عليه وهو ثلاثمائة وستون رأسا.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
232-معجم البلدان (هبالة)
هُبَالَةُ:بالضم، وبعد الألف لام، والهبل:
كالثكل، والمهبل: الهوّة الذاهبة في الأرض بين الجبلين، والهبالة: الغنيمة، واهتبله: اعتقله، وهبالة: موضع، قال ذو الرمة:
«أبي فارس الحوّاء يوم هبالة *** إذ الخيل بالقتلى من القوم تعثر»
ويوم هبالة ضبطه بعضهم بالفتح، فقال خراشة بن عمرو العبسي في هذا اليوم:
«ونحن تركنا عنوة أمّ حاجب *** تجاذب نوحا ساهر الليل مثكلا»
«وجمع بني عمرو غداة هبالة *** صبحنا مع الأشراف موتا معجّلا»
وقال أبو زياد: هبالة وهبيل من مياه بني نمير الذي يقول فيه ذروة بن جحفة العبدي الكلابي وكان قد خرج يمير أهله من الوشم، فلما عاد ومعه ثميلتان على راحلة له، والثميلة: نصف الغرارة، فمرّ بهذا الموضع فحطّ به وأرسل راحلته ترعى فبعدت عنه فخرج في طلبها، فلما رجع وجد ثميلتيه قذ ذهب بهما ووجد آثار الثميلتين تسحب نحو البيوت فسأل عن أهل البيوت فقيل هذه بيوت بني عثير النميري، فانطلق ولم يقل شيئا، فلما قدم على أهله لامته امرأته فأنشأ يقول:
«سيعلم عمّنا الغادي علينا *** بجنب القفّ أنّ لنا رجالا»
«رجال يطلبون ثميلتيهم، *** سأوردهم هبالة أو هبالا»
«لعلّي أن أميرك من عثير *** ومن أصحابه ثملا ثقالا»
فلما كان العام المقبل انقضّ وفتية إلى بلاد بني عثير فوجدوا سبع خلفات فاستاقوهن وطلبهم النميريون فلم يفيئوا شيئا فباعها فاستوفر من الميرة والثياب والطعام، وكان مسافر بن أبي عمرو بن أميّة بن عبد شمس قد جسا فخرج إلى الحيرة ليتداوى فمات بهبالة فقال أبو طالب بن عبد المطلب يرثيه:
«ليت شعري مسافر بن أبي عم *** رو وليت يقولها المحزون»
«رجع الوفد سالمين جميعا *** وخليلي في مرمس مدفون»
«ميت درء على هبالة قد حا *** لت فياف من دونه وحزون»
«مدره يدفع الخصوم بأيد *** وبوجه يزينه العرنين»
«بورك الميّت الغريب كما بو *** رك نضر الريحان والزيتون»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
233-معجم البلدان (الهرم)
الهَرْمُ:بفتح أوله، وسكون ثانيه، والهرم: ضرب من النبات فيه ملوحة وهو من أذل الحمض وأشده استبطاحا على وجه الأرض وبه يضرب المثل فيقال:
أذلّ من هرمة، والهرم: مال كان لعبد المطلب بالطائف يقال له ذو الهرم، ويوم الهرم: من أيامهم، وقيل: بل ذو الهرم مال لابي سفيان بن حرب بالطائف، ولما بعثه النبي، صلّى الله عليه وسلّم، لهدم اللات أقام بآله بذي الهرم، قاله الواقدي، وقال غيره: ذو الهرم، بكسر الراء، ماء لعبد المطلب بن هاشم بالطائف، هكذا ضبطناه عن أهل العلم، والصحيح عندي ذو الهرم، بالتحريك، وله فيه قصة جاء فيها سجع يدل على ذلك، قال أحمد ابن يحيى بن جابر عن أشياخه إنه كان لعبد المطلب ابن هاشم مال يدعى الهرم فغلبه عليه خندف بن الحارث الثقفي فنافرهم عبد المطلب إلى الكاهن القضاعي وهو سلمة بن أبي حية فخرج عبد المطلب وبنو ثقيف إليه إلى الشام وخبأوا له خبأة رأس جرادة في خرز مزادة، فقال لهم: خبأتم لي شيئا طار فسطع وتصوّب فوقع ذا ذنب جرار وساق كالمنشار ورأس كالمسمار فقال إلا ده فلا ده، يقول: إن لم يكن قولي بيانا فلا بيان، هو رأس جرادة في خرز مزادة، قالوا: صدقت فاحكم، قال: أحكم بالضياء والظّلم والبيت والحرم أن المال ذا الهرم للقرشي ذي الكرم.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
234-معجم البلدان (هيثم)
هَيْثم:بفتح أوله ثم السكون، والثاء مثلثة، قالوا:
الهيثم فرخ العقاب، والهيثم: الصقر، أبو عمرو:
الهيثم الرمل الأحمر، والهيثم: موضع ما بين القاع
وزبالة بطريق مكة على ستة أميال من القاع فيه بركة وقصر لأم جعفر ومنه إلى الجريسيّ ثم زبالة، قال الطّرمّاح يذكر قداحا أجيلت فخرج لها صوت:
«خوار غزلان لوى هيثم *** تذكرت فيقة أرآمها»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
235-معجم البلدان (يين)
يَيْنُ:بالفتح ثم السكون، وآخره نون، وليس في كلامهم ما فاؤه وعينه ياء غيره، قال الزمخشري:
بين عين بواد يقال له حورتان وهي اليوم لبني زيد الموسوي من بني الحسن، وقال غيره: يين اسم واد بين ضاحك وضويحك وهما جبلان أسفل الفرش، ذكره ابن جنّي في سر الصناعة، وقيل: يين في بلاد خزاعة، وجاء ذكر يين في السيرة لابن هشام في موضعين: الأول في غزوة بدر وهو أن النبي، صلى الله عليه وسلم، مرّ على تربان ثم على ملل ثم على غميس الحمام من مرّ يين ثم على صخيرات اليمام، فهو ههنا مضاف إلى مرّ، ثم ذكر في غزاته، صلى الله عليه وسلّم، لبني لحيان أنه سلك على غراب جبل ثم على مخيض ثم على البتراء ثم صفّق ذات اليسار فخرج على يين ثم على صخيرات اليمام، وقال نصر:
يين ناحية من أعراض المدينة على بريد منها وهي منازل أسلم بن خزاعة، وقيل: بين موضع على ثلاث ليال من الحيرة، وقيل: يين في بلاد خزاعة، جاء في حديث أهبان الأسلمي ثم الخزاعي أنه كان يسكن يين فبينما هو يرعى بحرّة الوبرة إذ عدا الذئب على غنمه، الحديث في أعلام النبوّة، وقال ابن هرمة:
«أدار سليمى بين يين فمثعر، *** أبيني فما استخبرت إلا لتخبري»
«أبيني، حبتك البارقات بوبلها، *** لنا منسما عن آل سلمى وشغفر»
«لقد شقيت عيناك إن كنت باكيا *** على كل مبدى من سليمى ومحضر»
وقيل: يين اسم بئر بوادي عباثر أيضا، قال علقمة ابن عبدة التميمي:
«وما أنت أم ما ذكره ربعيّة *** تحلّ بأين أو بأكناف شربب»
وفي هذا البيت استشهاد آخر وهو من بلاغة العرب التي ورد مثلها في الكتاب العزيز، وهو صرف الخطاب عن المواجهة إلى الغائب والمراد به المخاطب الحاضر لأنه أراد في البيت أم ما ذكرك ربعية فصرفه عن المواجهة، وقال عز وجل: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة}.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
236-معجم القواعد العربية (اسم التفضيل وعمله)
اسم التّفضيل وعمله:تعريفه:
هو اسم مصوغ للدّلالة على أنّ شيئين اشتركا في صفة، وزاد أحدهما على الآخر فيها، فإذا قلت: «خالد أشجع من عمرو» فإنّما جعلت غاية تفضيله عمرا.
2 ـ قياسه:
قياسه: «أفعل» للمذكّر، نحو: «أفضل» و «أكبر» وهو ممنوع من الصرف للوصفيّة ووزن الفعل، و «فعلى» للمؤنّث نحو: «فضلى» و «كبرى» يقال: «عليّ أكبر من أخيه». و «هند فضلى أخواتها».
وقد حذفت همزة «أفعل» من ثلاثة ألفاظ هي: «خير وشرّ وحبّ» لكثرة الاستعمال نحو «هو خير منه» و «الظالم شرّ الناس».
«منعت شيئا فأكثرت الولوع به *** وحبّ شيء إلى الإنسان ما منعا»
وقد جاءت «خير وشرّ» على الأصل، فقيل: «أخير وأشر» قال رؤبة: «بلال خير الناس وابن الأخير». وقرأ أبو قلابة: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ}. وفي الحديث «أحبّ الأعمال إلى الله أدومها وإن قل».
3 ـ صياغته:
لا يصاغ اسم التّفضيل إلّا من فعل استوفى شروط فعلي التّعجّب. فلا يبنى من فعل غير الثّلاثي، وشذّ قولهم: «هو أعطى منك»، ولا من المجهول، وشذّ قولهم في المثل «العود أحمد» و «هذا الكتاب أخصر من ذاك» مشتق من «يحمد» و «يختصر» مع كون الثاني غير ثلاثي، ولا من الجامد نحو «عسى» و «ليس» ولا مما لا يقبل التّفاوت مثل «مات» و «فني» و «طلعت الشّمس» أو «غربت الشّمس» فلا يقال: «هذا أموت من ذاك» ولا «أفنى منه». ولا «الشمس اليوم أطلع أو أغرب من أمس» ولا من النّاقص مثل «كان وأخواتها» ولا من المنفي، ولو كان النفي لازما نحو «ما ضرب» و «ما عجت بالدواء عيجا» أي لم أنتفع به، ولا ممّا الوصف منه على «أفعل» الذي مؤنّثه «فعلاء» وذلك فيما دلّ على «لون أو عيب أو حلية» لأنّ الصّفة المشبهة تبنى من هذه الأفعال على وزن «أفعل»، فلو بني التّفضيل منها لالتبس بها، وشذّ قولهم: «هو أسود من مقلة الظّبي» ويتوصّل إلى تفضيل ما فقد الشروط ب «أشدّ» أو «أكثر» أو مثل ذلك، كما هو الحال في فعلي التّعجّب، غير أنّ المصدر بعد التّفضيل بأشدّ ينصب على التّمييز نحو «خالد أشدّ استنباطا للفوائد» و «هو أكثر حمرة من غيره».
4 ـ لاسم التّفضيل باعتبار معناه ثلاثة استعمالات:
(أحدها) ما تقدّم في تعريفه وهو الأصل والأكثر نحو «خالد أحبّ إليّ من عمرو» (ثانيها) أن يراد به أنّ شيئا زاد في صفة نفسه على شيء آخر في صفته قال في الكشاف: فمن وجيز كلامهم: «الصّيف أحرّ من الشّتاء» و «العسل أحلى من الخل». أي إنّ الصّيف أبلغ في حرّه من الشتاء في برده والعسل في حلاوته زائد على الخلّ في حموضته. وحينئذ لا يكون بينهما وصف مشترك.
(ثالثها) أن يراد به ثبوت الوصف لمحلّه من غير نظر إلى تفضيل كقولهم: «النّاقص والأشجّ أعدلا بني مروان» أي عادلاهم، وقوله: قبّحتم يا آل زيد نفرا ألام قوم أصغرا وأكبرا أي صغيرا وكبيرا، ومنه قولهم: «نصيب أشعر الحبشة». أي شاعرهم. إذ لا شاعر غيره فيهم، وفي هذه الحالة تجب المطابقة، ومن هذا النوع قول أبي نواس:
«كأنّ صغرى وكبرى من فقاقعها *** حصباء درّ على أرض من الذّهب »
ومنه قوله: تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}. و {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ}.
5 ـ لاسم التّفضيل من جهة لفظه ثلاث حالات:
1 ـ أن يكون مجرّدا من «أل» و «الإضافة».
2 ـ أن يكون فيه «أل».
3 ـ أن يكون مضافا.
فأمّا المجرّد من «أل والإضافة».
يجب فيه أمران:
(أحدهما) أن يكون مفردا مذكّرا دائما نحو: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا}.
(ثانيهما) أن يؤتى بعده ب «من». جارّة للمفضول كالآية المارّة، وقد تحذف «من»، نحو {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى}.
وقد جاء إثبات «من» وحذفها في قوله تعالى: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} أي منك.
وأكثر ما تحذف «من» مع مجرورها إذا كان أفعل خبرا كآية {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ}، ويقل إذا كان حالا كقوله:
«دنوت وقد خلناك كالبدر أجملا *** فظلّ فؤادي في هواك مضلّلا»
أي دنوت أجمل من البدر، أو صفة كقول أحيحة بن الجلاح:
«تروّحي أجدر أن تقيلي *** غدا بجنبي بارد ظليل »
أي تروّحي وخذي مكانا أجدر من غيره بأن تقيلي فيه.
ويجب تقديم «من» ومجرورها عليه إن كان المجرور بمن استفهاما، نحو: «أنت ممّن أفضل؟». أو مضافا إلى الاستفهام نحو «أنت من غلام من أفضل؟».
وقد تتقدّم في غير ذلك للضرورة كقول جرير:
«إذا سايرت أسماء يوما ظعينة *** فأسماء من تلك الظّعينة أملح »
وأمّا ما فيه «أل» من اسم التّفضيل فيجب فيه أمران:
(أحدهما) أن يكون مطابقا لموصوفه نحو: «محمد الأفضل» و «هند الفضلى». و «المحمّدان الأفضلان» و «المحمّدون الأفضلون» و «الهندات الفضليات أو الفضّل».
(ثانيهما) ألا يؤتى معه ب «من».
وأما قول الأعشى يخاطب علقمة:
«ولست بالأكثر منهم حصى *** وإنّما العزة للكاثر »
فخرّج على زيادة «أل».
وأمّا المضاف» إلى نكرة من اسم التفضيل فيلزمه أمران: التذكير، والإفراد، كما يلزمان المجرد من أل والإضافة لاستوائهما في التّنكير، ولكونهما على معنى: من، ويلزم في المضاف إليه أن يطابق الموصوف نحو «محمد أفضل رجل» و «المحمّدان أفضل رجلين» و «المحمّدون أفضل رجال» و «هند أفضل امرأة» و «الهندان» أفضل امرأتين و «الهندات أفضل نساء» إذا قصدت ثبوت المزيّة للأوّل على جنس المضاف إليه، فأما قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ}. فالتقدير على حذف الموصوف، أي أوّل فريق كافر به.
وإن كانت الإضافة إلى معرفة، فإن أوّل بما لا تفضيل فيه، أو قصد به زيادة مطلقة وجبت المطابقة للموصوف، كقولهم: «الناقص والأشجّ أعدلا بني مروان» أي عادلاهم. وإن كان أفعل على أصله من إفادة المفاضلة على ما أضيف إليه جازت المطابقة كقوله تعالى: {أَكابِرَ مُجْرِمِيها}، {هُمْ أَراذِلُنا} وترك المطابقة هو الشّائع في الاستعمال، قال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ}.
وقد اجتمع الاستعمالان في الحديث: «ألا أخبركم بأحبّكم إليّ وأقربكم مني منازل يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا الموطّؤون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون».
6 ـ عمل اسم التّفضيل:
يرفع اسم التفضيل الضمير المستتر بكثرة نحو «أبو بكر أفضل» ويرفع الاسم الظّاهر، أو الضّمير المنفصل في لغة قليلة نحو «نزلت برجل أكرم منه أبوه» أو «أكرم منه أنت» ويطّرد أن يرفع «أفعل التفضيل» الاسم الظاهر إذا جاز أن يقع موقعه الفعل الذي بني منه مفيدا فائدته، وذلك إذا كان «أفعل» صفة لاسم جنس، وسبقه «نفي أو شبهه». وكان مرفوعه أجنبيا مفضّلا على نفسه باعتبارين نحو: «ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد» و «لم ألق إنسانا أسرع في يده القلم منه في يد عليّ».
و «لا يكن غيرك أحبّ إليه الخير منه إليك». و «هل في الناس رجل أحقّ به الحمد منه بمحسن لا يمنّ».
وأما النّصب به: فيمتنع منه مطلقا المفعول به والمفعول معه، والمفعول المطلق، ويمتنع التمييز، إذا لم يكن فاعلا في المعنى فلفظ «حيث» في قوله تعالى: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ}. في موضع نصب مفعولا به بفعل مقدّر يدل عليه أعلم؛ أي يعلم الموضع والشّخص الذي يصلح للرّسالة، ومنه قوله:
«وأضرب منا بالسيوف القوانسا»
. وأجاز بعضهم: أن يكون «أفعل» هو العامل لتجرّده عن معنى التفضيل.
أمّا عمله الجرّ بالإضافة، فيجوز إن كان المخفوض كلّا، و «أفعل» بعضه، وذلك إذا أضيف إلى معرفة، نحو «الشّافعي أعلم الفقهاء». وعكسه إذا أضيف لنكرة نحو «أفضل رجلين أبو بكر وعمر». وأمّا عمله بالحرف فإن كان «أفعل» مصوغا من متعدّ بنفسه ودلّ على حب أو بغض عدّي ب «إلى» إلى ما هو فاعل في المعنى، وعدّي ب «اللام» إلى ما هو مفعول في المعنى، نحو «المؤمن أحبّ لله من نفسه، وهو أحبّ إلى الله من غيره» أي يحبّ الله أكثر من حبّه لنفسه، ويحبّه الله أكثر من حبّه لغيره، ونحو «الصّالح أبغض للشّرّ من الفاسق، وهو أبغض إليه من غيره». أي يبغض الشر أكثر من بغضه للفاسق، ويبغضه الفاسق أكثر من بغضه لغيره.
وإن كان من متعدّ لنفسه دالّ على علم عدّي بالباء نحو «محمد أعرف بي، وأنا أعلم به». وإن كان غير ذلك عدّي باللّام نحو «هو أطلب للثّأر وأنفع للجار» وإن كان من متعدّ بحرف جرّ عدّي به لا بغيره نحو «هو أزهد في الدنيا، وأسرع إلى الخير» و «أبعد من الذنب» و «أحرص على المدح» و «أجدر بالحلم» و «أحيد عن الخنى» ولفعل التّعجّب من هذا الاستعمال، ما لأفعل التفضيل نحو «ما أحبّ المؤمن لله وما أحبّه إلى الله» إلى آخر هذه الأمثلة.
معجم القواعد العربية في النحو والتصريف وذُيّل بالإملاء-عبدالغني الدقر-صدر: 1404ه/1984م
237-معجم القواعد العربية (اسم المصدر)
اسم المصدر:1 ـ تعريفه:
«هو ما ساوى المصدر في الدّلالة على معناه، وخالفه بخلوّه ـ لفظا وتقديرا دون عوض ـ من بعض ما في فعله» فخرج نحو «قتال» فإنّه خلا من ألف قاتل لفظا لا تقديرا، ولذلك نطق بها في بعض المواضع، نحو «قاتل قيتالا» لكنّها انقلبت ياء «لانكسار ما قبلها، وخرج نحو «عدة» فإنّه خلا من واو «وعد» لفظا وتقديرا ولكن عوّض منها التاء، فهذان مصدران لا اسما مصدر.
أمّا مثل «الوضوء، والكلام» من قولك: توضّأ وضوءا، وتكلّم كلاما، فإنّهما اسما مصدر، لا مصدران، لخلوّهما لفظا وتقديرا من بعض ما في فعليهما، وحقّ المصدر أن يتضمّن حروف فعله بمساواة نحو «توضّأ توضّأ» أو بزيادة نحو «أعلم إعلاما».
2 ـ ما يعمل من أنواع اسم المصدر:
اسم المصدر على ثلاثة أنواع:
1 ـ علم نحو «يسار» علم لليسر مقابل العسر، و «فجار» علم للفجور، و «برّة» علم للبرّ، وهذا لا يعمل اتّفاقا.
(2) وذي ميم مزيدة لغير مفاعلة وهو المصدر الميمي كالمضرب والمحمدة وهو عند كثير من النحاة مصدر.
(3) ـ وغير هذين من أسماء المصادر اختلف فيه فمنعه البصريون، وأجازه الكوفيون والبغداديون، والشواهد كثيرة بإعماله، ومن ذلك قول القطامي:
«أكفرا بعد ردّ الموت عني *** وبعد عطائك المائة الرّتاعا »
وقول الشاعر:
«بعشرتك الكرام تعدّ منهم *** فلا ترين لغيرهم الوفاء »
وقوله:
«قالوا كلامك هندا وهي مصغية *** يشفيك قلت صحيح ذاك لو كانا »
ومن ذلك قول عائشة (رض) «من قبلة الرجل زوجته الوضوء».
فالقبلة اسم مصدر بمعنى التقبيل وعمل في نصب مفعوله وهو «زوجته».
ومهما يكن من أمر فإعمال اسم المصدر قليل، وإن كان قياسيا وقد مرّ بك التفصيل.
معجم القواعد العربية في النحو والتصريف وذُيّل بالإملاء-عبدالغني الدقر-صدر: 1404ه/1984م
238-معجم القواعد العربية (التصغير)
التّصغير:1 ـ تعريفه:
تغيير مخصوص في بنية الكلمة.
2 ـ فوائدة ستّ:
(1) تقليل ذات الشّيء نحو «كليب».
(2) تحقير شأنه نحو «رجيل».
(3) تقليل كمّيّته نحو «دريهمات».
(4) تقريب زمانه نحو «قبيل العصر» و «بعيد الظّهر».
(5) تقريب مسافته نحو «فويق الميل» و «تحيت البريد».
(6) تقريب منزلته نحو «أخيّ» وزاد بعضهم على ذلك: التّعظيم نحو «دويهية»، والتّحبّب نحو «بنيّة».
3 ـ شروطه:
شروطه أربعة:
(أحدها) أن يكون اسما فلا يصغّر الفعل ولا الحرف، وشذّ تصغير فعل التّعجّب نحو «ما أحيسنه».
(الثّاني) ألّا يكون متوغّلا في شبه الحرف، فلا تصغّر المضمرات ولا «من وكيف» ونحوهما.
(الثّالث) أن يكون خاليا من صيغ التّصغير وشبهها، فلا يصغّر نحو «كميت» لأنّه على صيغة التّصغير.
(الرّابع) أن يكون قابلا لصيغة التّصغير، فلا تصغّر الأسماء المعظّمة
ك «أسماء الله وأنبيائه وملائكته» ولا «جمع الكثرة» و «كلّ وبعض» ولا «أسماء الشّهور» و «الأسبوع» و «المحكي» و «غير» و «سوى» و «البارحة» و «الغد» و «الأسماء العاملة».
4 ـ أبنيته:
أبنيته ثلاثة:
(1) «فعيل».
(2) «فعيعل».
(3) «فعيعيل».
وذلك أنّه لا بدّ في كلّ تصغير من ثلاثة أعمال: ضمّ الحرف الأوّل، وفتح الثّاني واجتلاب ياء ثالثة.
أمّا الأوّل وهو فعيل، إنّما هو في الكلام على أدنى التّصغير، ولا يكون مصغّر على أقلّ من فعيل، وذلك نحو: «رجيل» تصغير رجل، ونحو «قييس» تصغير قيس، و «جميل» تصغير جمل، و «جبيل» تصغير جبل، وكذلك جميع ما كان على ثلاثة أحرف.
وأمّا الثّاني وهو فعيعل فإنّه ممّا يكون على أربعة أحرف وذلك نحو «جعيفر» تصغير جعفر، و «مطيرف» تصغير طريف، و «سبيطر» تصغير سبطر، و «غليّم» تصغير غلام.
وأمّا الثّالث وهو فعيعيل فإنّه ممّا يكون على خمسة أحرف وكان الرّابع منه واوا أو ألفا، أو ياء، وذلك في نحو «مصيبيح» تصغير مصباح، و «قنيديل» تصغير قنديل، وفي «كريديس» تصغير كردوس وفي «قريبيس» تصغير: قربوس. والتّصغير ممّا كان على خمسة أحرف ممّا ليس فيه واو أو ألف أو ياء. فنحو «سفيرج» تصغير سفرجل، و «فريزد» تصغير فرزدق، و «شميرد» تصغير شمردل، و «قبيعث» تصغير قبعثرى. يقول سيبويه: وإن شئت ألحقت في كلّ اسم منها ياء قبل آخر حروفه حرفا عوضا نحو «سفيريج» بدل سفيرج وهكذا.
5 ـ المستثنى من كسر ما بعد الياء:
تقدّم أنّه يجب كسر ما بعد ياء النسب ممّا تجاوز ثلاثة الأحرف، ويستثنى من هذه القاعدة أربع مسائل يفتح فيها ما بعد ياء النسب.
(إحداها) ما قبل علامة التّأنيث سواء أكانت تاء أم ألفا ك «شجرة» وحبلى فتقول في تصغيرهما «شجيرة» و «حبيلى».
(الثّانية) ما قبل ألف التّأنيث الممدودة ك «حمراء» تقول في تصغيرها «حميراء».
(الثّالثة) ما قبل أفعال،، ك «أجمال» و «أفراس» فتقول في التّصغير «أجيمال» و «أفيراس».
(الرّابعة) ما قبل ألف فعلان ك «سكران» و «عثمان» فتقول: «سكيران» و «عثيمان».
6 ـ تصغير المضاعف:
وذلك قولك في مدقّ: مديقّ، وفي أصمّ: أصيّم، ولا تغير الإدغام عن حاله كما أنّك إذ كسّرت مدقّا للجمع قلت: مداقّ، ولو كسّرت أصمّ لقلت أصام، فإنّما أجريت التّصغير على ذلك.
7 ـ تصغير ما كان على ثلاثة أحرف ولحقته الزيادة للتأنيث:
أمّا تصغير ما كان على ثلاثة أحرف ولحقته الزيادة للتّأنيث فصار أربعة وذلك نحو «حبلى» و «بشرى» و «أخرى» تقول في تصغيرها: «حبيلى، وبشيرى، وأخيرى». وذلك أنّ هذه الألف لمّا كانت ألف تأنيث لم يكسروا الحرف بعد ياء التّصغير، وجعلوها هنا بمنزلة هاء التّأنيث وذلك قولك في طلحة: طليحة.
وإن جاءت هذه الألف لغير التّأنيث كسرت الحرف بعد ياء التّصغير وذلك في نحو «معزى» تقول في تصغيرها: معيز، وفي «أرطى»: أريط.
وإن كانت هذه الألف خامسة فصاعدا فكانت للتّأنيث أو لغيره حذفت وذلك قولك في: «قرقرى: قريقر» و «حبركى:
حبيرك».
8 ـ تصغير ما فيه «ألف ونون» زائدتان: القاعدة في تصغير ما فيه «ألف ونون» زائدتان: أن الألف لا تقلب ياء فيما يأتي:
(1) في الصّفات مطلقا سواء أكان مؤنّثها خاليّا من التّاء وهو الأصل أم بالتّاء فالأولى نحو «سكران» و «جوعان». فإنّ مؤنثهما «سكرى، وجوعى». والثّانية نحو «عريان» و «ندمان». وصميان «للشّجاع» وقطوان «للبطيء». فإنّ مؤنّثها: عريانة، وندمانة، وصميانة، وقطوانة.
تقول في تصغيرها «سكيران» و «جويعان» و «عريّان» و «نديمان» و «صميّان» و «قطيّان».
(2) في الأعلام المرتجلة نحو «عثمان» و «عمران» و «سعدان» و «غطفان» و «سلمان» و «مروان» تقول في تصغيرها «عثيمان» و «عميران» و «سعيدان». و «غطيفان» و «سليمان» و «مريّان».
(3) أن تكون الألف رابعة في اسم جنس، ليس على وزن من الأوزان الآتية: «فعلان، فعلان، فعلان». ك «ظربان» و «سبعان» يقال في تصغيرهما: «ظربيان وسبيعان».
(4) أن تكون الألف خامسة في اسم جنس، أو في حكم الخامسة، نحو «زعفران» و «عقربان». و «أفعوان» و «صلّيان» و «عبوثران» تقول في تصغيرها: «زعيفران» و «عقيربان» و «أفيعيان» و «صليليان» و «عبيثران». فإن زادت على ذلك حذفت نحو «قرعبلانة». تقول في تصغيرها «قريعبة». وتقلب ياء لكسر ما بعد ياء التّصغير ألف إذا كانت رابعة في اسم جنس على وزن «فعلان أو فعلان أو فعلان» ك «حومان» و «سلطان» و «سرحان» تقول في تصغيرها «حويمين» و «سليطين» و «سريحين» تشبيها لها «بزلزال وقرطاس وسربال». إذ يقال في تصغيرها: زليزيل، وقريطيس و «سريبيل».
وأمّا العلم المنقول فحكمه حكم ما نقل عنه، فإن نقل عن صفة فحكمه حكم الصّفة، وإن نقل عن اسم جنس فحكمه حكم اسم الجنس، تقول في «سلطان» و «سكران» علمين «سليطين» و «سكيرين».
9 ـ ما يستثنى من الحذف:
يستثنى من الحذف ليتوصّل إلى مثالي «فعيعل وفعيعيل» سبع مسائل:
(1) ألف التّأنيث الممدودة ك «حمراء» و «قرفصاء» تقول في تصغيرهما: «حميراء» و «قريفصاء».
(2) تاء التّأنيث نحو «حنظلة» وتصغيرها: «حنيظلة».
(3) ياء النّسب نحو: «عبقريّ» وتصغيرها: «عبيقريّ».
(4) عجز المضاف نحو «عبد شمس» وتصغيرها «عبيد شمس».
(5) عجز المركب تركيب مزج نحو: «بعلبكّ» وتصغيرها «بعيلبكّ».
(6) علامة التّثنية نحو «مسلمين» وتصغيرها «مسيلمين» وكذا «مسيلمان».
(7) علامة جمع التّصحيح نحو: «مسلمين» وتصغيرها «مسيلمين» وكذا «مسيلمون».
10 ـ حكم ثاني المصغّر إذا كان ليّنا:
ثاني الاسم المصغّر يردّ إلى أصله إذا كان ليّنا منقلبا عن غيره، لأنّ التّصغير يردّ الأشياء إلى أصولها، ويشمل ذلك:
ما أصله واو فانقلبت «ياء» نحو «قيمة» فتقول في تصغيرها «قويمة» أو انقلبت «ألفا» نحو: «باب» فتقول فيه «بويب».
وما أصله ياء فانقلبت واوا نحو «موقن» تقول في تصغيرها «مييقن» أو أصلها ياء فانقلبت ألفا نحو «ناب» تقول في تصغيرها «نييب».
وما أصله همزة فانقلبت ياء نحو «ذئب» فتقول في تصغيرها «ذؤيب».
وما أصله حرف صحيح غير همزة نحو «دينار» و «قيراط» فإن أصلهما «دنّار» و «قرّاط» والياء فيهما بدل من أول المثلين، فتقول في تصغيرهما «دنينير» و «قريريط».
وإذا كان ثانيه تاء أصليّة تثبت في التّصغير وذلك نحو «بيت وشيخ وسيّد» فأحسنه أن تقول: «شييخ» وسييد، وبييت» لأنّ التّصغير يضم أوائل الأسماء وهو لازم له كما أنّ الياء لازمة له.
ومن العرب من يقول: شييخ وبييت وسييد كراهة الياء بعد الضمة. فخرج ما ليس بليّن نحو «متعدّ» تقول في تصغيرها «متيعد» بدون رد. وإذا كان حرف لين مبدلا من همزة تلي همزة، كألف «آدم» ففيه تقلب واوا تقول في تصغيرها «أويدم» كالألف الزّائدة في نحو «شارب» تقول «شويرب» وشذّ في «عيد» «عييد» وقياسه: عويد لأنّه من عاد يعود، فلم يردّوا الياء لئلا يلتبس بتصغير «عود» واحد الأعواد.
11 ـ تصغير المقلوب:
إذا صغّر اسم مقلوب صغّر على لفظه لا على أصله لعدم الحاجة نحو «جاه» من الوجاهة، تقول في تصغيره «جويه» لا وجيه.
12 ـ تصغير ما حذف أحد أصوله:
إذا صغّر ما حذف أحد أصوله فإن بقي على ثلاثة أحرف ك «شاك» و «هار» و «ميت» بالتّخفيف لم يردّ إليه شيء فتقول «شويك» و «هوير» و «مييت».
ووجب ردّ المحذوف إن بقي على حرفين فالمحذوف الفاء نحو «كل وخذ وعد» والعين نحو «مذ وقل وبع» واللام نحو «يد ودم» أو الفاء واللام نحو «قه» أو العين واللّام نحو «ره» بشرط أن تكون كلّها أعلاما، تقول: «أكيل وأخيذ، ووعيد» بردّ الفاء و «منيذ وقويل وببيع» برد العين، و «يديّة ودميّ» برد اللام و «وقيّ ووشيّ» برد الفاء واللام و «روي» برد العين واللام ليمكن بناء فعيل.
وإذا سمّي بما وضع ثنائيا فإن كان ثانيه صحيحا نحو «هل وبل» لم يزد عليه شيء حتى يصغّر، وعندئذ يجب أن يضعّف أو يزاد عليه «ياء» فيقال: «هليل» أو «هلي» و «بليل» أو «بليّ».
وإن كان معتلّا وجب التّضعيف قبل التّصغير فيقال: «لوّ وكيّ وماء». أعلاما، وذلك لأنك زدت على الألف ألفا فالتقى ألفان، فأبدلت الثانية همزة، فإذا صغّرت أعطيت حكم «دوّ وحيّ» فتقول: «لويّ وكييّ ومويّ» كما تقول «دويّ وحييّ ومويّة» إلّا أن «مويّه» لامه هاء فردّ إليها.
13 ـ ما يحذف في التّصغير من الزّيادات على الثلاثي:
تحذف الزّيادات من بنات الثّلاثة في التّصغير كما تحذف من جمع التكسير، وذلك قولك في مغتلم: مغيلم، وتقول في تكسيرها: مغالم فحذفت الألف وأبدلتها ياء فصارت مغيلما للتصغير، وإن شئت قلت: مغيليم، فألحقت الياء عوضا عن المحذوف في الجمع كما قال بعضهم: مغاليم، ومثلها: جوالق، تقول في تصغيرها: جويلق، وإن شئت قلت: جويليق عوضا كما قالوا: جواليق.
وتقول في تصغير المقدّم والمؤخّر: مقيدم ومؤيخر، وإن شئت عوّضت الياء كما قالوا في التكسير: مقاديم ومآخير، والمقادم والمآخر عربية جيّدة. وتقول في تصغير مذكّر: مذيكر، وفي مقترب: مقيرب، وإذا صغّرت مستمعا قلت: مسيمع ومسيميع. وتقول في تصغير محمارّ: محيمير، ولا تقول محيمر، وتقول في تصغير: حمارّة حميّرة كأنّك صغرت: حمرّة لأنّك لو كسّرتها تقول: حمارّ، ولا تقول: حمائر.
وتقول في تصغير مغدودن: مغيدين إن حذفت الدال الآخرة، كأنك صغّرت: مغدون، وإن حذفت الدال الأولى قلت في تصغيرها: مغيدن. وإذا صغّرت مقعنسس حذفت النون وإحدى السّينين فقلت: مقيعس، وإن شئت قلت: مقيعيس.
وأمّا معلوّط فليس فيه إلّا معيليط. وفي تصغير عفنجج: عفيجج، وعفيجيج وإذا صغّرت عطوّد قلت: عطيّد، وعطيّيد، وإذا صغّرت استبرق قلت: أبيرق.
14 ـ تصغير ما كان على أربعة أحرف فلحقته ألف التأنيث الممدودة. وذلك نحو «خنفساء، وعنصلاء، وقرملاء»، فإذا صغّرتها قلت: خنيفساء، وعنيصلاء، وقريملاء ولا تحذف ألف التّأنيث لأنّ الألفين ـ الألف والهمزة ـ لمّا كانتا بمنزلة الهاء في بنات الثلاث لم تحذفا هنا.
15 ـ تصغير ما كان على ثلاثة أحرف ولحقه ألف التأنيث المدودة:
وذلك قولك في تصغير حمراء: حميراء، وفي صفراء: صفيراء، وفي طرفاء: طريفاء.
وكلّ ما كان على ثلاثة أحرف ولحقته زائدتان ـ الألف والهمزة ـ فكان ممدودا منصرفا فإن تصغيره كتصغير الممدود الذي همزته بدل من ياء، وذلك نحو: علباء وحرباء تقول في تصغيرهما: عليبيّ، وحريبيّ، كما تقول في سقّاء سقيقيّ، وفي مقلاء: مقيليّ.
ومن قال: غوغاء وصرف قال: غويغي، ومن لم يصرف وأنّث فإنها عنده بمنزلة عوراء، يقول في تصغيرها غويغاء، وعويراء.
16 ـ من صيغ التّصغير ما ليس منه وإنما لدنوّه.
وذلك قولك: «هو دوين ذلك، وهو فويق ذاك» ومن ذلك: هو أصيغر منك ـ وإنّما أردت أن تقلّل الذي بينهما من السّن ـ ومثل ذلك قولهم: قبيل الظّهر، وبعيد العصر، فالمراد قبل الظهر بقليل، وبعد العصر بقليل، وكذلك قولك: دوين ذلك: أي أقرب أو أقل.
وأمّا قول العرب: هو مثيل هذا، وأميثال هذا، فإنّما أرادوا أنّ المشبّه حقير، كما أنّ المشبّه به حقير كما يقول سيبويه، وأما قولهم: ما أميلحة: فلا يقاس عليه، لأنه فعل والفعل لا يصغّر،.
17 ـ تصغير ما كان على خمسة أحرف:
وذلك نحو: سفرجل، وفرزدق، وقبعثرى، وشمردل، وجحمرش، وصهصلق، فتصغير العرب هذه الأسماء: هكذا: سفيرج، وفريزد، وشميرد، وقبيعث، وصهيصل، وجحيمر. وإن شئت ألحقت في كلّ اسم منها ياء قبل آخر حروفه عوضا، فتقول مثلا: سفيريج وفريزيد.... وهكذا.
وإنما صغّرت هكذا بحذف حرف منها لأنّ تكسيرها: سفارج وفرازد، ويأتي تصغير أمثال هذه الكلمات على حسب جمعها المكسّر، مع إبدال ألفه ياء وضمّ أوّله.
18 ـ ما تحذف منه الزّوائد من بنات الثّلاثة وأوّله الألفات الموصولات:
وذلك قولك: في استضراب: تضيريب، حذفت الألف الموصولة، وحذفت السين كما تحذفها لو كسرته للجمع حتى يصير على مثال مفاعيل ـ فتصير تضاريب ـ وإذا صغّرت الافتقار حذفت الألف ولا تحذف التاء لأنّ الزائدة إذا كانت ثانية في بنات الثّلاثة، وكان الاسم عدّة حروفه خمسة رابعهنّ حرف لين لم يحذف منه شيء في تكسيره للجمع لأنّه يجيء على مثال مفاعيل.
فتقول في تصغير الافتقار؛ فتيقير فإذا صغّرت انطلاق قلت: نطيليق. وإذا صغّرت: اشهيباب تحذف الألف ثم الياء كما تحذفها في التكسير فتصغيرها: شهيبيب.
19 ـ تصغير ما كان من الثّلاثة فيه زائدتان:
وذلك نحو: قلنسوة، إن شئت قلت في تصغيرها: قليسيّة، وإن شئت قلت: قلينسة كما قال بعضهم في تكسيرها: قلانس، وقال بعضهم قلاس.
وكذلك: حبنطى، إن شئت حذفت النون فقلت: حبيط، وإن شئت حذفت الألف فقلت: حبينط.
ومن ذلك كوألل ـ وإن كان غير مشتق ـ إن شئت حذفت الواو وقلت: كؤيلل وكؤيليل، وإن شئت حذفت إحدى اللّامين فقلت: كويئل، وكويئيل.
ومنه: حبارى، إن شئت قلت: حبيرى، وإن شئت قلت: حبيّر.
وإذا صغّرت علانية أو ثمانية أو عفارية، فأحسنه أن تقول: علينية وثمينية وعفيرية.
20 ـ تصغير ما أوّله ألف الوصل وفيه زيادة من بنات الأربعة:
وذلك نحو احرنجام، تقول في تصغيره: حريجيم، فتحذف ألف الوصل، ولا بدّ من تحريك ما بعدها، وتحذف النون حتى يصير ما بقي مثل فعيعيل، وذلك قولك في التصغير: حريجيم، ومثله الاطمئنان تحذف ألف الوصل وإحدى النّونين فتكون طمأيين على مثال فعيعيل.
ومثله الإسلنقاء تحذف الألف والنون حتى يصير على مثال فعيعيل أي سليقيّ.
21 ـ ما يحذف في التصغير من زوائد بنات الأربعة.
وذلك قولك في قمحدوّة:
قميحدة لأن تكسيرها: قماحد وفي سلحفاة: سليحفة وتكسيرها: سلاحف، وفي منجنيق: مجينيق، لأنّ تكسيرها: مجانيق، وفي عنكبوت: عنيكب وعنيكيب، لأنّ تكسيرها: عناكب، وعناكيب وفي تخربوت: تخيرب وتخيريب.
ويدلّك على زيادة التاء في عنكبوت وتخربوت والنون في منجنيق بأن العرب قد كسّرت ذلك، وإن كان العرب لا يكسّرون ما كان على خمسة أحرف حتى يحذفوا.
22 ـ تصغير ما ثبتت زيادته من بنات الثّلاثة.
وذلك نحو «تجفاف»، وإصليت، ويربوع، فتقول في تصغيرها: تجيفيف، وأصيليت، ويريبيع. لأنّك لو كسّرتها للجمع ثبتت هذه الزّوائد.
ومثل ذلك عفريت، وملكوت، تقول في تصغيرهما: عفيريت ومليكيت، لأنّك تقول في تكسيرهما: عفاريت وملاكيت. وكذلك: رعشن تقول في تكسيرها: رعاشن، وفي تصغيرها: رعيشن؛ وكذلك قرنوة، تقول في تصغيرها: قرينية لأنّك لو كسّرتها لقلت: قران، ومثلها: ترقوة تكسيرها: تراق، وتصغيرها: تريقية.
23 ـ تصغير ما ذهبت منه الفاء: وذلك نحو: عدة وزنة فإنّهما من وعدت ووزنت فإنّما ذهبت الواو وهي فاء الكلمة فعل، فإذا صغرت: أعدت ما حذفت، تقول: وعيدة ووزينة. وكذلك شية، تقول في تصغيرها: وشيّة، وإن شئت قلت: أعيدة وأزينة وأشيّة، لأنّ كلّ واو تكون مضمومة يجوز لك همزها.
وممّا ذهبت فاؤه وكان على حرفين: «كل وخذ» فإذا سميت رجلا بكل وخذ قلت في تصغيرهما: أكيل وأخيذ، لأنّهما من «أكلت وأخذت».
24 ـ تصغير ما ذهبت لأمه:
فمن ذلك: دم، تقول في تصغيرها: دميّ، يدلّك على أنّه من بنات الياء قولهم في الجمع: دماء.
ومن ذلك: يدّ، تقول: يديّة، ومثله: شفة، تقول في تصغيرها: شفيهة، يدلّ على حذف لام الكلمة. جمعها: شفاه.
ومن ذلك: سنة، فمن قال أصلها: سانيت قال سنيّة، ومن قال: أصلها: سانهت، قال في التّصغير سنيهة. ومن ذلك فم تقول في تصغيره: فويه. والدّليل أن الذي ذهب هو اللام قولهم في جمعها: أفواه.
ومثله مويه تصغير ماء ردّوا إليه الهاء كما ردّوها في الجمع: مياه وأمواه.
25 ـ تصغير ما ذهبت لامه وأوّله ألف الوصل:
%t%من ذلك: %l% اسم وابن، تقول في تصغيرهما: سميّ، وبنيّ، والدّليل على أنّ المحذوف في اسم وابن اللام، وأنّها الواو أو الياء، قولهم في الجمع: أسماء، وأبناء.
26 ـ تصغير ما أبدل فيه بعض حروفه:
فمن ذلك: ميزان، وميقات، وميعاد وأصلهنّ: موزان من وزن، وموقات من الوقت، وموعاد من الوعد.
سكّنت الواو وكسر ما قبلها فقلبت ياء فصارت ميزان والباقي مثلها.
فإذا صغّرتا حذفت البدل، ورددتها إلى أصلها: تقول في تصغير ميزان: مويزين، وفي ميقات: موبقيت، وفي ميعاد: مويعيد، وكذلك فعلوا حين كسّروا للجمع فقالوا: موازين ومواعيد ومواقيت. وإذا صغّرت: الطّيّ، قلت: طويّ، ومثل ذلك: ريّان وطيّان تقول في تصغيرهما: رويّان وطويّان.
ومن ذلك: عطاء وقضاء، ووشاء، تقول في تصغيرها: عطيّ وقضيّ ووشيّ. وكذلك جميع الممدود لا يكون البدل الذي في آخره لازما أبدا.
فأمّا تصغير عيد فعييد، ولم يقولوا: عويّد، لأنّ جمعها أعياد.
27 ـ ما يصغّر على جمعه المكسّر من الرباعي:
وذلك قولك في خاتم: خويتم، وأصل تكسيرها: خواتم، فأبدلت الياء بالألف ومثله في طابق: طويبق، ودانق:
%t%دوينق: %l% ودرهم: دريهم.
ومن العرب من يقول: خويتيم، ودوينيق، ودريهيم.
28 ـ تصغير كلّ اسم من شيئين ضم أحدهما للآخر:
ومثل هذا يكون تصغيره في الصّدر، وذلك قولك في حضرموت: حضيرموت، وفي بعلبكّ: بعيلبكّ.
وفي خمسة عشر: خميسة عشر، وكذلك جميع ما أشبه ذلك وأمّا اثنا عشر فتقول في تصغيره: ثنيّا عشر.
29 ـ تصغير المؤنّث الثّلاثي:
إذا صغّر المؤنّث الخالي من علامة التّأنيث الثّلاثيّ أصلا وحالا ك «دار، وسنّ، وأذن، وعين» أو أصلا ك «يد» أو مآلا بأن صار بالتّصغير مؤنثا. كلّ هذا تلحقه التاء إن أمن اللّبس فتقول في تصغير دار: «دويرة» وفي تصغير سنّ: «سنينة» وفي أذن: «أذينة» وفي عين: «عيينة» وفي يد: «يديّة». وفي حبلى، وسوداء: «حبيلة وسويدة». وفي سماء: «سميّة».
فلا تلحق التاء نحو «شجر وبقر» لئلا يلتبسا بالمفرد، وإنّما تقول: «شجير، وبقير».
ولا تلحق التّاء نحو: «خمس وست» لئلا يلتبسا بالعدد المذكر.
ولا تلحق التاء نحو «زينب وسعاد» لتجاوزها الثلاثة.
وشذّ ترك التاء في تصغير «حريب وعريب ودريع ونعيل» ونحوهن مع عدم اللبس.
وشذّ وجود التاء في تصغير «وراء وأمام وقدّام» مع زيادتهن على الثلاثة، فقد سمع «وريّئة وأميّمة وقديديمة».
30 ـ تصغير الإشارة والموصول:
التّصغير من خواصّ الأسماء المتمكّنة وممّا شذّ عن هذا أربعة: اسم الإشارة واسم الموصول، وأفعل في التّعجب.
فأمّا اسم الإشارة فقد سمع التّصغير منه في خمس كلمات، وذلك قولهم في هذا: هذيّا، وفي ذاك: ذيّاك وفي تا: تيّاك، وفي ذيّا: ذيّان، وفي تيّا: تيّان للتثنية، وفي ألاء: أليّاء.
«أو تحلفي بربّك العليّ *** أنّي أبو ذيّالك الصّبي »
وقالوا في تصغير «أولى» بالقصر «أوليّا» ولم يصغّروا منها غير ذلك. وأمّا اسم الموصول فقالوا في تصغير «الذي والتي». «اللّذيّا واللّتيّا» وفي تثنيتهما: «اللّذيّان واللّتيّان». وفي الجمع «اللّذيّون» رفعا و «اللّذيّين» جرّا ونصبّا، وفي جمع «اللّتيّا»: «اللّتيّات».
31 ـ تصغير اسم الجمع، وجمع القلة:
يصغّر اسم الجمع لشبهه بالواحد فيقال في ركب «ركيب» وكذلك جموع القلّة كقولك في «أجمال: أجيمال».
32 ـ جمع الكثرة لا يصغّر.
جمع الكثرة لا يصغّر لأن التّصغير للقلّة، والجمع للكثرة، فبينما منافاة، فعند إرادة تصغير جمع الكثرة يردّ الجمع إلى مفرده ويصغّر ثمّ يجمع بالواو والنون إن كان لمذكّر عاقل، تقول في: «غلمان» «غليّمون» وبالألف والتاء إن كان لمؤنّث أو لمذكّر لا يعقل تقول في «جوار» و «دراهم»: «جويريات» و «دريهمات» إلّا ما له جمع قلّة، فيجوز ردّه إليه كقولك في فتيان «فتية».
33 ـ ما يصغر على غير بناء مكبّره: فمن ذلك قول العرب في مغرب الشمس:
%t%مغيربان، وفي العشيّ: %l% آتيك عشيّانا. ويقول سيبويه: وسمعنا من العرب من يقول في تصغير عشيّة: عشيشية.
أمّا قولهم: آتيك أصيلالا فإنما هو أصيلان أبدلوا اللام منها.
وأمّا قولهم: آتيك عشيّانات ومغيربانات، فإنما جعلوا ذلك الحين أجزاء.
وممّا يصغّر على غير بناء مكبّره: إنسان، تقول في تصغيره: أنيسيان، وفي بنون: أبيّنون، ومثل ذلك ليلة، تصغيرها: لييلة، وقولهم في رجل: رويجل. ومن ذلك قولهم في صبية: أصيبية. وفي غلمة: أغيلمة.
كأنّهم صغّروا: أغلمة وأصبية.
34 ـ ما جرى في الكلام مصغّرا وترك تكبيره:
وذلك قولهم: جميل وكعيت وهو البلبل، وقالوا: كعتان، وجملان فجاءوا به على التّكبير، ولو جاءوا بجمعه على التّصغير لقالوا: جميلات وكعيّات. فليس شيء يراد به التّصغير إلّا وفيه ياء التّصغير.
ومثله: كميت: وهي حمرة مخالطها سواد، فإنّما حقّروها لأنّها بين السّواد والحمرة.
وأمّا سكيت فهو ترخيم سكّيت. وهو الذي يجيء آخر الخيل. (انظر ترخيم التصغير).
35 ـ أسماء لا تصغّر:
فمنها المضمرات، وأسماء الاستفهام، وأسماء الشّرط، ولا تصّغر غير، وكذلك: حسبك، وأمس، وغد ولا تصغّر أسماء شهور السّنة، ولا تصغّر عند، ولا عن، ولا مع، ولا يصغّر الاسم إذا كان بمنزلة الفعل، ألا ترى أنّه قبيح: هو ضويرب زيدا، وهو ضويرب زيد، وإن كان ضارب زيد لما مضى فتصغيره جيّد. وكذلك لا يصغّر: أوّل من أمس، والثّلاثاء، والأربعاء، والبارحة وأشباههنّ.
تصغير اسم الإشارة = (التصغير 30).
تصغير اسم الجمع = (التصغير 31).
تصغير اسم الإشارة، واسم الموصول والتعجب = (التصغير 30).
تصغير الترخيم = (ترخيم التصغير).
تصغير جمع القلة = (التصغير 31).
تصغير جمع الكثرة = (التصغير 32).
تصغير ما حذف أحد أصوله = (التصغير 12).
تصغير ما فيه ألف ونون = (التصغير 8).
تصغير المقلوب = (التصغير 11).
تصغير المؤنث الثلاثي = (التصغير 29).
معجم القواعد العربية في النحو والتصريف وذُيّل بالإملاء-عبدالغني الدقر-صدر: 1404ه/1984م
239-معجم القواعد العربية (ثمت)
ثمّت:هي «ثمّ» العاطفة، أدخلوا عليها التّاء لتأنيث لفظها فقط كما قال الشاعر:
«ولقد مررت على اللّئيم يسبّني *** فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني »
الجارّ والمجرور:
1 ـ حروف الجرّ:
حروف الجرّ عشرون جمعها ابن مالك في خلاصته فقال:
هاك حروف الجرّ وهي: من إلى حتّى خلا حاشا عدا في عن على
«مذ منذ ربّ اللام كي واو وتا *** والكاف والبا ولعلّ ومتى »
2 ـ أحكامها:
لحروف الجرّ أحكام مختلفة تنحصر في سبع فئات:
الأولى: ثلاثة «خلا، عدا، حاشا».
(انظر كلّا في حرفه).
الثانية: ثلاثة أيضا «كي، لعلّ، متى».
(انظر كلّا في حرفه).
الثالثة: سبعة هي «من، إلى، عن، على، في، الباء، اللّام».
(انظر كلّا في حرفه). الرابعة: ثلاثة وهي «حتّى، الكاف، الواو».
(انظر كلّا في حرفه).
الخامسة: اثنان هما «مذ، منذ».
(انظر مذ ومنذ).
السادسة: ربّ (انظر ربّ).
السابعة: التاء (انظر التاء).
3 ـ نيابة حروف الجر:
حروف الجرّ لا ينوب بعضها عن بعض قياسا، كما لا تنوب حروف الجزم والنّصب بعضها عن بعض. وما أوهم ذلك فمحمول على تضمين معنى فعل يتعدّى بذلك الحرف، أو على شذوذ النيابة في الحرف.
وجوّز الكوفيون نيابة بعضها عن بعض قياسا، واختاره بعض المتأخرين.
4 ـ حذف حرف الجر وبقاء عمله:
قد يحذف حرف الجرّ ـ غير ربّ ـ ويبقى عمله، وهو ضربان: سماعي غير مطّرد كقول رؤبة وقد قيل له: كيف أصبحت؟ قال: خير عافاك الله، التقدير: على خير، كقوله:
«وكريمة من آل قيس ألفته *** حتّى تبذّح فارتقى الأعلام »
أي إلى الأعلام.
وقياسيّ مطّرد في مواضع أشهرها:
(1) لفظ الجلالة في القسم دون عوض نحو «الله لأفعلنّ كذا» أي والله.
(2) بعد كم الاستفهاميّة إذا دخل عليها حرف جرّ نحو «بكم درهم اشتريت» أي من درهم.
(3) لام التعليل إذا جرّت «كي» وصلتها نحو «جئت كي تكرمني» إذا قدّرت «كي» تعليلية أي لكي تكرمني.
(4) مع «أنّ» و «أن» نحو «عجبت أنّك قادم» و «أن قدمت» أي من أنّك قادم ومن أن قدمت.
(5) المعطوف على خبر «ليس وما الحجازية» الصالح لدخول الجارّ كقول زهير:
«بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى *** ولا سابق شيئا إذا كان جائيا»
فخفض «سابق» على توهّم وجود الباء في مدرك.
ومثاله في «ما الحجازيّة» «ما زيد عالما ولا متعلّم». أي التقدير: ما زيد بعالم ولا متعلّم.
(5) متعلّق الجارّ والمجرور والظرف:
لا بدّ لكلّ من الجارّ والمجرور والظّرف من متعلّق يتعلّق به، لأنّ الجارّ يوصل معنى الفعل إلى الاسم، والظّرف لا بدّ له من شيء يقع فيه، فالموصل معناه إلى الاسم، والواقع في الظرف هو المتعلّق العامل فيهما، وهو: إمّا فعل أو ما يشبهه من مصدر، أو اسم فعل، أو وصف ولو تأويلا نحو: {وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ}. فالجارّ متعلّق بلفظ الجلالة، لتأويله بالمعبود، أو المسمّى بهذا الاسم ومثله قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ، وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ}. في السماء متعلق ب «إله» لأنّه بمعنى معبود.
وهل يتعلّقان بالفعل النّاقص؟: عند المبرّد والفارسي وابن جني: لا يتعلّقان لأن الفعل الناقص عندهم لا يدلّ على الحدث.
وعند آخرين من المحقّقين: أنّ النواقص كلّها تدلّ على الحدث ولذلك يمكن أن يتعلّقا بها، واستدلّ المجوّزون: بقوله تعالى: {أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنا}. فإنّ اللام ب «للناس» لا تتعلق ب «عجبا» لأنه مصدر مؤخّر، ولا ب «أوحينا» لفساد المعنى لذلك علّقوها ب «أكان» على أنّه يجوز أن يتعلّق بمحذوف حال من «عجبا» لتقدّمه عليه على حدّ قوله: «لميّة موحشا طلل» أمّا تعلّقهما بمحذوف، فيجب فيه ثمانية أمور:
(1) أن يقع صفة نحو: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ}.
(2) أن يقعا حالا نحو: {فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ}.
(3) أن يقعا صلة نحو: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ}.
(4) أن يقعا خبرا نحو «خالد عندك» أو «عمرو في بيته».
(5) أن يرفعا الاسم الظاهر نحو {أَفِي اللهِ شَكٌ}. ونحو «أعندك زيد».
(6) أن يستعمل المتعلّق محذوفا كقولك لمن ذكر أمرا تقادم عهده «حينئذ الآن» أصله: كان ذلك حينئذ واسمع الآن، وقولهم للمعرّس «بالرّفاء والبنين» أي أعرست بالرّفاء والبنين.
(7) أن يكون المتعلّق محذوفا على شريطة التّفسير نحو «أيوم الجمعة صمت فيه» أي أصمت يوم الجمعة.
(8) القسم بغير الباء نحو قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى}، وقوله: {تَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ} ولو صرّح بالمتعلّق لوجبت الباء (انظر القسم).
ويستثنى من التّعليق خمسة أحرف:
(1) حرف الجرّ الزائد، ك «الباء ومن» نحو: {كَفى بِاللهِ شَهِيدًا}. {هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ}.
(2) «لعلّ» في لغة عقيل، لأنها بمنزلة الزّائد.
(3) «لولا» فيمن قال: «لولاي ولولاك ولولاه» وعند سيبويه ما بعد «لولا» مرفوع المحلّ، وهو الأصحّ.
(4) «ربّ» في نحو «ربّ رجل صالح لقيت».
(5) حروف الاستثناء وهي «خلا وعدا وحاشا» إذا خفضن. (انظر في حروفهن).
معجم القواعد العربية في النحو والتصريف وذُيّل بالإملاء-عبدالغني الدقر-صدر: 1404ه/1984م
240-معجم القواعد العربية (جمع التكسير للكثرة)
جمع التكسير للكثرة:1 ـ أبنية جموع التّكسير للكثرة:
أربعة وعشرون بناء وهي:
«فعل» و «فعل» و «فعل» و «فعل» و «فعلة» و «فعلة» و «فعلى» و «فعلة» و «فعّل» و «فعّال» و «فعال» و «فعول» و «فعلان» و «فعلان» و «فعلاء» و «أفعلاء» و «فواعل» و «فعائل» و «فعالي» و «فعالى» و «فعاليّ» و «فعالل» و «شبه فعالل» و «مفاعل» وهاك تفصيلها كلّا على حده:
2 ـ الجمع على «فعل»:
«فعل» بضمّ الفاء وسكون العين جمع لصيغتين:
(إحداهما) «أفعل» الذي مؤنّثه «فعلاء» ك «أحمر» و «أبيض» وجمعها «حمر» و «بيض» أو لا مؤنّث له لمانع خلقي ك «أكمر» و «آدر» وجمعها «كمر» و «أدر».
(ثانيهما) «فعلاء» التي مذكّرها «أفعل» ك «حمراء» و «بيضاء» ومذكّرهما: أحمر وأبيض، أو لا مذكّر لها ك «رتقاء» و «عفلاء» وجمعهما «رتق» و «عفل».
ويجب كسر فاء هذا الجمع فيما عينه ياء نحو «بيض» ويكثر في الشعر ضمّ عينه بشرط أن تصحّ هي واللّام مع عدم التّضعيف نحو قول أبي سعيد المخزومي:
«طوى الجديدان ما قد كنت أنشره *** وأنكرتني ذوات الأعين النّجل »
3 ـ الجمع على «فعل»:
«فعل» بضمّ الفاء والعين مطّرد جمعه في شيئين:
(أحدهما) في وصف على «فعول» بمعنى فاعل ك «صبور» وجمعها «صبر» و «غفور» وجمعها «غفر» فلا يجمع «حلوب» و «ركوب» لأنّهما بمعنى مفعول. (الثاني) في اسم رباعيّ بمدّة قبل لام غير معتلّة مطلقا، أو غير مضاعفة إن كانت المدّة ألفا نحو «قذال» وجمعها «قذل» و «أتان» وجمعها «أتن» و «حمار» وجمعها «حمر» و «ذراع» وجمعها «ذرع» ومثلها «قضيب» وجمعها «قضب» و «كثيب» وجمعها «كثب» ومثلها «عمود» وجمعها «عمد» و «قلوص» وجمعها «قلص» ومثلها «سرير» وجمعها «سرر» و «ذلول» وجمعها «ذلل».
فخرج نحو «كساء» لاعتلال اللّام، وخرج نحو «هلال» و «سنان» لتضعيفهما مع الألف، وشذّ «عنان» وجمعها «عنن» و «حجاج» وجمعها «حجج».
ويحفظ «فعل» جمعا في «فعل» اسما ك «نمر» وجمعها نمر وصفة ك «خشن» وخشن وفي «فعيل» صفة ك «نذير» ونذر» وفي «فعيلة» اسما نحو «صحيفة» وصحف وصفة نحو «نجيبة» ونجب وفي «فعل» نحو «سقف» وسقف و «رهن» رهن وفي «فاعل» نحو «نازل» ونزل و «شارف» شرف وفي «فعل» بفتحتين نحو «نصف» وجمعها نصف وفي «فعال» بكسر الفاء وفتحها صفة نحو «كنان» بكسر الكاف وكنن و «صناع» بفتح الصّاد أي حاذق وصنع وفي «فعلة» بفتح أوّله وكسر ثانيه نحو «فرحة» وفرح وفي «فعلة» بفتحتين نحو «خشبة» وخشب وفي «فعل» بكسر أوّله وسكون ثانيه نحو «ستر» وستر ويجوز تسكين عينه نحو «قذل» و «حمر» ما لم تكن «واوا» فيجب التّسكين نحو «سوار» وجمعها «سور» و «سواك» وجمعها «سوك» لكن إن سكّنت الياء وجب كسر ما قبلها نحو «سيل» و «سيل» جمع «سيال».
4 ـ الجمع على «فعل»:
«فعل» بضمّ الفاء وفتح العين مطّرد جمعه في صيغتين:
(أحدهما) في اسم على وزن «فعلة» ويستوي في ذلك صحيح اللام ومعتلّها ومضاعفها، فالصحيح ك «قربة» وجمعها: «قرب» و «غرفة» وجمعها «غرف» والمعتل ك «مدية» وجمعها: «مدى» و «زبية» وجمعها «زبى» والمضاعف اللام نحو «حجّة» وجمعها «حجج» و «مدّة» وجمعها: «مدد».
(الثاني) في «الفعلى» أنثى «الأفعل» ك «الكبرى» أنثى الأكبر و «الوسطى» أنثى الأوسط و «الصّغرى» أنثى الأصغر، فتقول في جمعها: الكبر والوسط والصّغر، بخلاف «حبلى» فإنّها ليست أنثى أفعل، لأنّها صفة لا مذكّر لها فلا تجمع على حبل.
وشذّ في «فعلة» نحو «بهمة» لأنّه وصف والجمع «بهم» و «فعلى» مصدرا ك «رؤيا» والجمع «رؤى» بالتّنوين و «فعلة» نحو «نوبة» والجمع «نوب» ومثلها «قرية» وجمعها «قرى» و «فعلة» صحيح اللّام نحو «بدرة» وجمعها «بدر» و «فعلة» معتلا ك «لحية» وجمعها «لحى» و «فعلة» نحو «تخمة» وجمعها «تخم».
5 ـ جمع الكثرة على «فعل»:
بكسر أوّله وفتح ثانيه، وهو جمع لاسم تامّ على «فعلة» ك «حجّة» و «حجج» و «كسرة» وجمعها «كسر» و «فرية» وجمعها «فرى».
فخرجت الصّفة نحو «صفرة» و «كبرة» والناقص الفاء ك «عدة» و «زنة»، ويحفظ في نحو «حاجة» «حوج» وفي «ذكرى» «ذكر» وفي «قصعة» «قصع» وفي «ذربة» «ذرب» ومثلها «صمّة» و «صمم». 6 ـ الجمع على «فعلة»: «فعلة» بضم الفاء وفتح العين مطّرد في وصف لعاقل على «فاعل» معتل اللام ك «رام» و «غاز» و «قاض»، تقول في جمعها «رماة» و «غزاة» و «قضاة».
فخرج بقوله: «وصف نحو «واد» وبالتّذكير نحو «عادية» وبالعقل نحو «أسد ضار» وبوزن فاعل نحو «ظريف» وبمعتلّ اللام نحو «ضارب» فلا يجمع شيء من ذلك على «فعلة» وشذ في صفة على غير فاعل نحو «كمّيّ» وجمعها «كماة» وفي فاعل اسما نحو «باز» وجمعها «بزاة».
7 ـ الجمع على «فعلة»:
«فعلة» بفتحتين مطّرد في وصف لمذكّر عاقل صحيح اللّام، نحو «كامل» وجمعها «كملة» و «ساحر» وجمعها «سحرة» و «سافر» وجمعها «سفرة» و «بارّ» وجمعها «بررة» وفي القرآن الكريم: {وَجاءَ السَّحَرَةُ} {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ}. فخرج بالوصف الاسم نحو «واد» و «باز» وبالتّذكير نحو «طالق» و «حائض» وبالعقل نحو «سابق» و «لاحق» صفتي فرسين وبصحة اللّام نحو «قاص» و «غاز» فلا يجمع شيء من ذلك على «فعلة» باطّراد، وشذّ في غير «فاعل» نحو «سيّد» وجمعها «سادة» فوزنها «فعلة».
8 ـ الجمع على «فعلى»:
«فعلى» بفتح أوّله وسكون ثانية مطّرد في وصف على «فعيل» بمعنى مفعول دالّ على هلاك أو توجّع أو تشتّت نحو «قتيل» و «قتلى» و «جريح»، و «جرحى» و «أسير» و «أسرى».
ويحمل عليه ما أشبهه في المعنى وهو خمسة أوزان: «فعل» ك «زمن» وجمعها «زمنى» و «فاعل» ك «هالك» وجمعها: «هلكى» و «فيعل» ك «ميّت» وجمعها «موتى» و «أفعل» ك «أحمق» وجمعها «حمقى» و «فعلان» ك «سكران» وجمعها «سكرى». ويحفظ في «كيّس» و «كيسى» و «جلد» و «جلدى».
9 ـ الجمع على «فعلة»:
«فعلة» كثير في «فعل» نحو «قرط» والجمع «قرطة» و «درج» والجمع «درجة» ومثل هذا الأجوف نحو «كوز» وجمعها «كوزة» ومثله المضعّف نحو «دبّ» وجمعها «دببة» وقليل في اسم على زنة «فعل» بفتح الفاء نحو «غرد» والجمع «غردة» أو على زنة «فعل» بكسر الفاء نحو «قرد» والجمع «قردة». وقلّ أيضا في نحو «ذكر» بفتحتين ضدّ الأنثى و «هادر» وليعلم أنّ كلّ ما كان من هذا الجمع من بنات الياء والواو اللّتين هما عينان، فإنّ الياء منه تجري على أصلها، والواو إن ظهرت في واحدة ظهرت في الجمع، فأمّا ما ظهرت فيه، فكقولك: «عود وعودة» و «ثور وثورة». وأمّا ما قلبت فيه في الواحد فنحو: «قامة وقيم» قلبوها حيث كانت بعد الكسرة، وقد مثّل لها سيبويه ب «ثيرة» جمع «ثورة» وثورة أيضا، وقال: هذا ليس بمطّرد ـ يعني ثيرة ـ.
10 ـ الجمع على «فعّل»:
«فعّل» بضمّ أوّله وتشديد ثانيه هو جمع لوصف على زنة «فاعل» أو «فاعلة» صحيحي اللّام، سواء أصحّت عينهما أم اعتلّت ك «ضارب» و «صائم» ومؤنّثيهما ك «ضاربة» و «صائمة» فتقول في جمعهما «ضرّب» و «صوّم». وشمل نحو «حائض» وجمعها «حيّض» وخرج بقيد الوصف الاسم نحو «حاجب» العين فلا يجمع على «فعّل».
وندر نحو «غاز» وجمعها «غزّى» و «عاف» وهو السّائل وجمعها «عفّى» لاعتلال لامهما.
كما ندر في نحو «خريدة» وهي المرأة ذات الحياء وجمعها «خرّد» وقالوا «خرائد» على القياس و «نفساء» وجمعها «نفّس» ورجل «أعزل» وجمعها «عزّل».
11 ـ الجمع على «فعّال»:
«فعّال» بضمّ أوّله وتشديد ثانيه، هو جمع لوصف لمذكّر على فاعل، صحيح اللّام، سواء أكانت لامه همزة أم لا ك «قائم» وجمعها «قوّام» و «قارىء» وجمعها «قرّاء» وندر في فاعلة كقول القطامي:
«أبصارهنّ إلى الشبّان مائلة *** وقد أراهنّ عنّي غير «صدّاد»»
وندر أيضا في «فاعل» المعتل بالواو أو الياء ك «غاز» وجمعها «غزّاء» و «سار» وجمعها «سرّاء».
12 ـ الجمع على «فعال»:
«فعال» بكسر أوّله يكون جمعا لثلاثة عشر وزنا مطّردا في ثمانية أوزان وشائعا في خمسة، ولازما في واحد فيطّرد في: (1 و 2) «فعل وفعلة» اسمين نحو: «كعب وكعبة» وجمعهما «كعاب» و «قصعة» وجمعها «قصاع» أو وصفين نحو «صعب» وجمعها «صعاب» و «خدلة» وجمعها «خدال».
وندر في «فعل وفعلة» يائيّ الفاء نحو «يعر ويعرة» وجمعهما «يعار» أو يائيّ العين نحو «ضيف» وجمعها «ضياف» و «ضيعة» وجمعها «ضياع».
(3 ـ 4) «فعل وفعلة» اسمين غير معتلّي اللّام، ولا مضعّفيها نحو: «جبل» و «جمل» وجمعهما: «جبال» و «جمال» و «رقبة» و «ثمرة» وجمعهما «رقاب» و «ثمار».
فخرج «فتى وعصى» لاعتلال اللّام و «طلل» للتّضعيف و «بطل» للوصفية.
(5 ـ 6) «فعل وفعل» اسمين ليست عين ثانيهما واوا ولامه ياء نحو: «قدح» وجمعها «قداح» و «ذئب» وجمعها «ذئاب» و «بئر» وجمعها «بئار» و «رمح» وجمعها «رماح» فخرج الوصف نحو «جلف» و «حلو» وواويّ العين ك «حوت» ويائي اللام ك «مدى».
(7 ـ 8) «فعيل وفعيلة» بمعنى فاعل، وفاعله بشرط صحّة لامهما، نحو «ظريف وظريفة» وجمعهما: «ظراف» و «كريم وكريمة» وجمعهما «كرام». فلا يجمع «جريح وجريحة» لأنّهما بمعنى مفعول، و «قويّ وقويّة» لاعتلال اللّام. والتزموا في «فعيل» ومؤنّثه «فعيلة» إذا كانا واويّي العينين، صحيحي اللّامين ألّا يجمعا إلّا على «فعال» ك «طويل وطويلة» وجمعهما «طوال» ولم يأت من هذا الباب إلّا ثلاث كلمات «طويل وقويم وصويب» وشاع جمع «فعال» في كلّ وصف على «فعلان» ومؤنثيه «فعلى» و «فعلانة» نحو «غضبان» و «غضبى» وجمعهما «غضاب» و «ندمان وندمانة» وجمعهما «ندام» أو «فعلان» وأنثاه «فعلانة» نحو «خمصان وخمصانة» وجمعهما «خماص» وعليهما الحديث (تغدو خماصا وتروح بطانا) ويحفظ في «فعول» ك «خروف» وجمعها: «خراف» و «فعلة» ك «لقحة» وجمعها «لقاح» و «فعل» ك «نمر» وجمعها «نمار» و «فعلة» ك «نمرة» وجمعها «نمار» و «فعالة» ك «عباءة» وجمعها «عباء» وفي وصف على «فاعل» ك «صائم» وجمعها «صيام» أو «فاعلة» ك «صائمة» وجمعها أيضا «صيام» أو «فعلى» ك «أنثى» وجمعها «إناث» أو «فعال» ك «جواد» وجمعها «جياد» أو «فعال» ك «هجان» للمفرد والجمع، أو «أفعل» ك «أعجف» وجمعها «عجاف» وفي اسم على «فعلة» ك «برمة» وجمعها «برام» أو «فعل» ك «ربع» وجمعها «رباع» أو «فعل» ك «رجل» وجمعها «رجال».
13 ـ الجمع على «فعول»:
«فعول» بضم الفاء والعين يطّرد في أربعة أشياء:
(أحدها) اسم على «فعل» ك «كبد» و «وعل» و «نمر» تقول في جمعها «كبود» و «وعول» و «نمور».
والثلاثة الباقية «فعل وفعل وفعل» فالأوّل نحو «كعب» وجمعها «كعوب» والثاني نحو «حمل» وجمعها «حمول» والثالث نحو «جند» وجمعها جنود». فخرج الوصف ك «صعب» و «جلف» و «حلو».
ويشترط ألّا تكون عين المفتوح أو المضموم «واوا» ك «حوض» و «حوت» ولا لام المضموم «ياء»، وشذّ في «نؤي» جمعها على «نؤيّ» ولا مضاعفا ك «حفّ» و «مدّ» ويحفظ في «فعل» ك «أسد وشجن وندب وذكر» فيقال في جموعها «أسود وشجون وندوب وذكور».
14 ـ الجمع على «فعلان»:
«فعلان» بكسر أوّله وسكون ثانيه يطّرد في اسم على «فعال» ك «غلام» و «غراب» وجمعهما «غلمان» و «غربان».
أو على «فعل» ك «صرد» وجمعها «صردان» و «جرذ» وجمعها «جرذان» أو على «فعل» واويّ العين ك «حوت» وجمعها «حيتان» و «كوز» وجمعها «كيزان» أو على «فعل» ك «تاج» وجمعها «تيجان» و «ساج» وجمعها «سيجان» و «خال» وجمعها «خيلان» و «جار» وجمعها «جيران» و «قاع» وجمعها «قيعان» وقلّ في نحو «قنو» وجمعها «قنوان» و «غزال» وجمعها «غزلان» و «خروف» وجمعها «خرفان» و «ظليم» وجمعها «ظلمان» و «حائط» وجمعها «حيطان» وو «نسوة» وجمعها «نسوان» و «عبد» وجمعها «عبدان» و «ضيف» وجمعها «ضيفان» و «شجاع»: «شجعان» و «شيخ»: «شيخان» و «أخ»: «إخوان» ـ.
15 ـ الجمع على «فعلان»:
«فعلان» ـ بضم الفاء وسكون العين ـ مقيس في اسم على «فعل» ك بطن» وجمعها «بطنان» و «ظهر»: وجمعها «ظهران» أو على «فعل» صحيح العين نحو «ذكر» وجمعها «ذكران» و «جمل» وجمعها: «جملان» أو على «فعيل» ك «قضيب» وجمعها: «قضبان» و «رغيف» وجمعها: «رغفان». ويحفظ في نحو «راكب» وجمعها: «ركبان» و «راجل» وجمعها: «رجلان» و «أسود» وجمعها «سودان» و «أعمى» وجمعها: «عميان»: و «زقاق» وجمعها: «زقّان».
16 ـ الجمع على «فعلاء»:
«فعلاء» ـ بضم أوّله وفتح العين ـ يطّرد في وصف مذكّر عاقل دالّ على سجيّة مدح أو ذمّ على زنة «فعيل» بمعنى فاعل غير مضاعف ولا معتلّ اللّام ك «ظريف» وجمعها «ظرفاء» و «كريم» وجمعها: «كرماء» و «بخيل» وجمعها: «بخلاء».
أو بمعنى «مفعل» كسميع بمعنى مسمع وجمعها: «سمعاء» و «أليم» بمعنى مؤلم وجمعها: «ألماء».
أو بمعنى «مفاعل» ك «خليط» بمعنى مخالط، وجمعها: «خلطاء».
و «جليس» بمعنى مجالس، وجمعها: «جلساء» وشذّ في «أسير» و «قتيل» وجمعهما «أسراء» و «قتلاء» لأنّهما بمعنى مفعول. وكثر في «فاعل» دالّا على معنى كالغريزة ك «عاقل» وجمعها «عقلاء» و «صالح» وجمعها: «صلحاء» و «شاعر» وجمعها: «شعراء» وشذّ في «جبان» وجمعها: «جبناء» و «خليفة» وجمعها: «خلفاء» و «سمح» وجمعها: «سمحاء» و «ودود» وجمعها: «ودداء» لأنّها ليست فعيل ولا فاعل.
17 ـ الجمع على «أفعلاء»:
«أفعلاء» وهو نائب عن «فعلاء» في فعيل المتقدم بشرط التّضعيف نحو «شديد»: «أشدّاء» و «عزيز»: «أعزّاء».
أو اعتلال اللّام ك «وليّ» وجمعه: «أولياء» و «غنيّ» وجمعه: «أغنياء»، وشذّ في غيرهما نحو «نصيب» وجمعه: «أنصباء» و «صديق» وجمعه «أصدقاء» و «هيّن» وجمعه: «أهوناء».
18 ـ الجمع على «فواعل»:
«فواعل» يطّرد في سبعة:
(1) في «فاعلة» اسما أو صفة: ك {ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ} فجمعها: «نواص وكواذب وخواطىء».
(2) في اسم على «فوعل» ك «جوهر» وجمعه «جواهر» و «كوثر» وجمعه: «كواثر».
(3) أو «فوعلة» ك «صومعة» وجمعها: «صوامع» و «زوبعة» وجمعها: «زوابع».
(4) أو «فاعل» بالفتح ك خاتم» وجمعه: «خواتم» و «قالب» وجمعه: «قوالب» و «طابع» وجمعه: «طوابع».
(5) أو «فاعلاء» نحو «قاصعاء» وجمعها «قواصع» و «نافقاء» وجمعها: «نوافق».
(6) أو «فاعل» ك «جائز» وجمعه: «جوائز» و «كاهل» وجمعه: «كواهل».
(7) أو في وصف على فاعل لمؤنّث: ك «حائض» وجمعها: «حوائض» و «طالق» وجمعها: «طوالق» أو لمذكّر غير عاقل ك «صاهل» وجمعه «صواهل» و «شاهق» وجمعه: «شواهق». وشذّ في وصف على «فاعل» لمذكّر عاقل نحو: «فارس» وجمعها: «فوارس» و «ناكس» وجمعها: «نواكس».
19 ـ الجمع على «فعائل»:
«فعائل» يطّرد في كلّ رباعيّ مؤنّث، ثالثه مدّة: ألفا كانت أو واوا أو ياء، اسما أو صفة، وسواء أكان تأنيثه بالتّاء ك «سحابة» وجمعها «سحائب» و «صحيفة» وجمعها: «صحائف» و «حلوبة» وجمعها: «حلائب» و «رسالة» وجمعها: «رسائل» و «ذؤابة» وجمعها: «ذوائب» و «ظريفة» وجمعها «ظرائف» ـ أم كان تأنيثه بالمعنى ك «شمال» وجمعها: «شمائل» و «عجوز» وجمعها: «عجائز» أم تأنيثه بالألف المقصورة ك «حبارى» وجمعها «حبائر» أم بالممدودة ك «جلولاء» وجمعها «جلائل».
وشذّ في «ضرّة» وجمعها: «ضرائر» و «كنّة» وجمعها: «كنائن» و «حرّة» وجمعها: «حرائر»، لأنّهن ثلاثيّات.
20 ـ الجمع على «فعالي»:
«فعالي» ـ بفتح أوّله وثانيه ـ يطّرد في سبعة: «فعلاة» ك «موماة» وجمعها: «موام»، و «فعلاة»: ك «سعلاة» وجمعها: «سعال» و «فعلية» ك «هبرية» وجمعها: «هبار» و «حذرية» وجمعها: «حذار» و «فعلوة» ك «عرقوة»: وجمعها: «عراق» وفيما حذف أوّل زائديه من نحو «حبنطى» وجمعها: «حباط» و «قلنسوة» وجمعها: «قلاس» و «عفرنى» وجمعها: «عفار» و «عدولى» وجمعها: «عدال».
21 ـ جمع الكثرة على «فعالى»:
«فعالى» ـ بفتح أوّله وثانيه ـ يطرد في وصف على «فعلان» نحو «سكران» وجمعها: «سكارى» و «غضبان» وجمعها: «غضابى» أو «فعلى» نحو: «سكرى» وجمعها: «سكارى» ويحفظ في نحو «حبط» وجمعها: «حباطى» و «يتيم» وجمعها: «يتامى» و «أيّم» وجمعها: «أيامى» و «طاهر» وجمعها: «طهارى» و «شاة رئيس» وجمعها: «رآسى».
ويترجّح «فعالى» بالضم على «فعالى» بالفتح في «فعلان» و «فعلى» المارّ ذكرهما.
ويلزم «فعالى» بالضّم في «قديم» وجمعها: «قدامى» و «أسير» وجمعها: «أسارى» ويمتنع في «حبط» وما بعده.
ويشترك «فعالي وفعالى» في أنواع:
الأول: «فعلاء» اسما ك «صحراء» تقول في جمعها: «صحاري» و «صحارى».
الثاني: «فعلى» اسما نحو «علقى» وجمعها: «علاق» و «علاقى».
والثالث: «فعلى» نحو «ذفرى» وجمعها: «ذفار» و «ذفارى».
والرابع: «فعلى» وصفا لا لأنثى أفعل نحو «حبلى» وجمعها: «حبال» و «حبالى».
الخامس: «فعلاء» وصفا لأنثى غير أفعل نحو «عذراء» وجمعها: ««عذار» و «عذارى».
22 ـ الجمع على «فعاليّ»:
«فعاليّ» بالفتح في الفاء والتّشديد في الياء يطرّد في كلّ ثلاثي ساكن العين، آخره ياء مشدّدة زائدة على الثّلاثة، غير متجدّدة للنّسب ك «بختيّ» و «كرسيّ» و «قمريّ» وجمعها: «بخاتيّ» و «كراسيّ» و «قماريّ» بخلاف نحو: «عربيّ» و «عجمي» لتحرّك العين و «مصريّ» و «بصريّ» لتجدد النسب وشذّ «قبطيّ» وجمعها: «قباطي».
وأمّا «أناسي» فجمع «إنسان» لا جمع «إنسي» لأنّ «إنسيا» آخره ياء النّسب، و «أناسي» أصله: أناسين، فأبدلوا النون ياء وأدغموا الياءين كما قالوا «ظربان» و «ظرابيّ» وأصلها أيضا «ظرابين».
23 ـ الجمع على «فعالل»:
%k%«فعالل» يطّرد في أربعة أنواع%w%:
الرّباعي، والخماسي مجرّدين، ومزيدا فيهما، فالرّباعي ك «جعفر» و «برثن» و «زبرج» وجمعها: «جعافر» و «براثن» و «زبارج» وهذا لا يحذف منه شيء، والخماسيّ ك «سفرجل» و «جحمرش»، ويجب حذف خامسه لأن الثّقل حصل به، فتقول في جمعها: «سفارج» و «جحامر» ولك حذف الحرف الرّابع أو الخامس، إن كان الحرف الرّابع من الخماسي مشبها للحروف التي تزاد إمّا بكونه بلفظ أحدها ك «خدرنق» ورابعه نون وهي من حروف الزيادة، وإن كانت ليست زائدة هنا،
أو بكونه من مخرجه ك «فرزدق» فإن الدال رابعة من مخرج التّاء فتقول في جمعهما: «خدارق» و «فرازق» أو «خدارن» و «فرازد» وهو الأجود.
أمّا إذا كان الحرف الخامس مشبها للزّائد في اللّفظ فيتعيّن حذفه ك «قذعمل» وجمعه «قذاعم» والمزيد على الرّباعي نحو «مدحرج» و «متدحرج» و «كنهور» و «هبيّخ» ويجب فيه حذف الزّائد، تقول في الجمع «دحارج» و «كناهر» و «هبانج» والمزيد على الخماسي ك «قطربوس» و «خندريس» و «قبعثرى». ويجب فيه أيضا حذف الزّائد مع الخامس تقول في جمعها: «قراطب» و «خنادر» و «قباعث» إلّا إذا كان الزائد ليّنا رابعا قبل الآخر فيهما فيثبت، ثم إن كان ياء صحّح نحو «قنديل» و «قناديل» فإن كان واوا أو «ألفا» قلبا ياءين نحو: «عصفور» و «عصافير» و «سرداح» و «سراديح» و «غرنيق» و «غرانيق» و «فردوس» و «فراديس».
%k%24 ـ الجمع على شبه «فعالل» %w%:
%k%شبه فعالل%w%: هو ما ماثله عددا وهيئة، وإن خالفه في الوزن ك «مفاعل وفياعل وفواعل» وهو يطّرد في مزيد الثّلاثي غير ما تقدّم من نحو «أحمر وسكران وصائم ورام» و «باب كبرى وسكرى» فإنّه تقدّم لها جموع تكسير، ويحذف منه ما يخل بصيغة الجمع من الزّوائد فقط، فلا تحذف زيادته إن كانت واحدة، سواء أكانت أوّلا أم وسطا أم آخرا لإلحاق أو غيره ك «أفضل ومسجد وجوهر وصيرف وعلقى» وجمعها: «أفاضل ومساجد وجواهر وصيارف وعلاق» ويحذف ما زاد عليها، فتحذف زيادة واحدة من نحو «منطلق» واثنتان من نحو «مستخرج ومتذكّر».
ويتعيّن إبقاء ما له مزيّة لفظية ومعنويّة، أو لفظيّة فقط، أو ما لا يغني حذفه عن حذف غيره، فالأوّل كالميم في «منطلق» فتقول في جمعها «مطالق» لا: نطالق، لأن الميم تفضل النون لدلالتها على الفاعل وتصديرها واختصاصها بالاسم. ومثله نقول في جمع «مستدع» «مداع» بحذف السين والتّاء لأن بقاءهما يخل ببنية الجمع، مع فضل الميم بما تقدّم.
والثاني: كالتاء في «استخراج» علما، تقول في جمعه «تخاريج» بحذف السين وإبقاء التّاء، لأنّ له نظيرا وهو «تماثيل» ولا تقل «سخاريج» إذ لا وجود ل «سفاعيل».
والثالث: ك «واو» «حيزبون» تقول في جمعها «حزابين» بحذف الياء وقلب الواو ياء، ولا تقل: حيازين بحذف الواو لأنّ حذفها يعني حذف الياء ولا يقع بعد ألف التّكسير ثلاثة أحرف أوسطهن ساكن إلّا وهو حرف معتلّ مثل «مصابيح» فإن لم توجد مزيّة مّا فأنت بالخيار مثل نوني «سرندي» و «علندى» فتقول في جمعها: «سراند» و «علاند» أو «سراد» و «علاد» وزن «جوار».
%k%25 ـ الجمع على «مفاعل» %w%:
يقول سيبويه: واعلم أن كلّ شيء كان من بنات الثّلاثة، فلحقته الزّيادة فبني بناء بنات الأربعة، وألحق ببنائها، فإنّه يكسّر على مثال «مفاعل» كما تكسّر بنات الأربعة، وذلك نحو «جدول» و «جداول» و «عثير» و «عثاير» و «كوكب» و «كواكب» و «تولب» و «توالب» و «سلّم» و «سلالم» ومثله «أسود» و «أساود» ومنها «مقاوم» قال الأخطل:
«وإني لقوّام مقاوم لم يكن *** جرير ولا مولى جرير يقومها»
%k%26 ـ فوائد تتعلق بجمع التكسير منها %w%:
(1) يجوز تعويض ياء قبل الطرف ممّا حذف، أصلا كان أو زائدا، فتقول في جمع «سفرجل» و «منطلق»: «سفاريج» و «مطاليق».
%k% (2) أجاز الكوفيّون%w%: زيادة الياء في مماثل «مفاعل» وحذفها في مماثل «مفاعيل» فيجيزون في «جعافر»:
%k%«جعافير» وفي%w%: «عصافر»: «عصافير» ومن الأوّل قوله تعالى: {وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ} ومن الثاني: {وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ}، أمّا «فواعل» فلا يقال «فواعيل» إلّا شذوذا كقوله:
«سوابيغ بيض لا يخرّقها النّبل»
. (3) لا يجمع جمع تكسير ما جرى على الفعل من اسمي الفاعل والمفعول وأوّله ميم نحو «مضروب» و «مكرم» و «مختار» لمشابهته الفعل لفظا ومعنى، بل قياسه جمع التّصحيح، ويستثنى «مفعل» وصفا للمؤنّث نحو «مرضع» وجمعها: «مراضع».
وجاء شذوذا في نحو «ملعون» و «ميمون» و «مشئوم» جمعه على: «ملاعين» و «ميامين» و «مشائيم» قال الأحوص اليربوعي:
«مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة *** ولا ناعب إلّا بشؤم غرابها»
كما شذّ في «مفعل» ك «موسر» و «مفطر» جمعه على «مياسير» و «مفاطير» وفي مفعل ك «منكر»: «مناكير».
%k% (4) الجمع المكسّر%w%: عقلاؤه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث. والجمع المكسّر لغير العاقل يجوز أن يوصف بما يوصف به المؤنّث نحو: {مَآرِبُ أُخْرى}، وهو قليل.
(5) جمع العاقل لا يعود عليه الضمير غالبا إلا بصيغة الجمع سواء أكان للقلّة أم للكثرة.
وأمّا غير العاقل فالغالب في الكثرة الإفراد وفي القلّة الجمع، فالعرب تقول: «الجذوع انكسرت» لأنه جمع كثرة و «الأجذاع انكسرن» لأنه جمع قلّة وعليه قول حسان بن ثابت:
«وأسيافنا يقطرن من نجدة دما»
%t%جمع الجمع: %l% الجمع لأدنى العدد إذا كان على «أفعلة وأفعل» يجمع على «أفاعل» وذلك نحو «أيد» وجمعها «أياد» و «أوطب» وجمعها «أواطب» قال الراجز: «تحلب منها ستّة الأواطب».
ومنها: «أسقية» وجمعها «أساق» أمّا ما كان جمعه على «أفعال» فإنّه يجمع تكسيرا على «أفاعيل» وذلك نحو: «أنعام» وجمعها «أناعيم» وأقوال وجمعها «أقاويل» وقد جمعوا: «أفعلة» على «أفاعل» شبّهوها بأنملة وأنامل، وأنملات وذلك قولهم: أعطيات، وأسقيات جمع جمع أعطية، وأسقية. وقالوا: جمال وجمائل، فكسّروها على «فعائل»: لأنّها بمنزلة شمال وشمائل في الزّنة، وقد قالوا في جمع جمال: جمالات كما قالوا في جمع رجال: رجالات، ومثل ذلك: بيوتات، ويقولون: مصران جمع مصير، وجمعها مصارين. كأبيات وأبابيت.
ومن ذا الباب قولهم: أسورة وأساورة. وليس كلّ جمع يجمع كما أنّه ليس كلّ مصدر يجمع إلا ترى أنّك لا تجمع الفكر والعلم والنّظر، وتجمع منها: الأشغال والعقول والحلوم والألباب، كما أنّهم لا يجمعون كلّ جمع.
جمع العلم الإسنادي والمركّب والمسمّى بالجمع.
إذا قصدنا جمع علم منقول من جملة وهو الإسنادي نحو «جاد الحق» توصّلنا إلى ذلك ب «ذو» مجموعا، فتقول «أتى ذوو جاد الحقّ» كما نقول في التّثنية «هما ذوا جاد الحقّ» ومثله المركّب فتقول: «هؤلاء ذوو سيبويه» والمثنى «هذان ذوا سيبويه» والمسمّى بالمثنى والمجموع جمع المذكّر السّالم، إذا أردنا تثنيتهما أو جمعهما أتينا لذلك به «ذو» مثنّى أو مجموعا فتقول «هذان ذوا حسنين» و «هؤلاء ذوو خالدين».
معجم القواعد العربية في النحو والتصريف وذُيّل بالإملاء-عبدالغني الدقر-صدر: 1404ه/1984م
241-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (استفهام الإخبار)
استفهام الإخبار:سماه بهذا الاسم أبو عبيدة، ومثّل له بقوله تعالى: {وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}.
ومنه قول زهير:
«سواء عليه أيّ حين أتيته ***أساعة نحس تتّقى أم بأسعد»
وقال: «فخرج لفظها على لفظ الاستفهام وانما هو إخبار».
وسماه البلاغيون «استفهام التقرير»، اما استفهام الاخبار فقد مثّل له السيوطي بقوله تعالى: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا}، وقوله: {هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} ؟
معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م
242-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (الاقتضاب)
الاقتضاب:القضب: القطع، قضبه يقضبه قضبا واقتضبه وقضّبه فانقضب وتقضّب: انقطع، واقتضب الحديث: انتزعه واقتطعه، واقتضاب الكلام:
ارتجاله قال العسكري: «الاقتضاب أخذ القليل من الكثير، وأصله من قولهم: «اقتضبت الغصن» إذا قطعته من شجرته، وفيه معنى السرعة أيضا».
والاقتضاب عند بعضهم الاشتقاق الذي تقدم.
وله معنى آخر أشار اليه البلاغيون كابن الاثير وهو خلاف التخلص وذلك «أن يقطع الشاعر كلامه الذي فيه ويستأنف كلاما آخر غيره من مديح أو هجاء أو غير ذلك ولا يكون للثاني علاقة بالأول.
وهو مذهب العرب ومن يليهم من المخضرمين، وأما المحدثون فانهم تصرفوا في التخلص فأبدعوا فيه وأظهروا منه كل غريبة». وقال التنوخي: «وأما الاقتضاب فالانتقال من كلام الى غيره بكلمة تدلّ على الانتقال من غير أن يعلق بعض الكلام ببعض، وهو غالبا بقولهم: «أما بعد» وقولهم: «وبعد» وبكلمات كثيرة غيرهما. وقد سمي هذا «فصل الخطاب»، وفصل الخطاب حقيقته هو تخليص المعاني بعضها من بعض والاتيان بكل شيء في موضعه ومع ما يناسبه ولعله خلاصة علم البيان».
وقال القزويني: «وقد ينتقل من الفن الذي شبب الكلام به الى ما يلائمه ويسمّى ذلك الاقتضاب وهو مذهب العرب ومن يليهم من المخضرمين» وألحق به ما ذكره التنوخي وهو «فصل الخطاب» وقال: «ومن الاقتضاب ما يقرب من التخلص كقول القائل بعد حمد الله: «أما بعد»، قيل وهو «فصل الخطاب» كقوله تعالى: {هذا، وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ}، وقوله: {هذا ذِكْرٌ، وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ}.
ومنه قول الكاتب: «هذا باب» و «هذا فصل». ولا يخرج عن ذلك البلاغيون الآخرون كالعلوي وابن قيم الجوزية والسبكي والتفتازاني والحموي والاسفراييني والمغربي.
ومن بديع ما جاء في الاقتضاب قول البحتري يمدح الفتح بن خاقان بعد انخساف الجسر به في قصيدته التي مطلعها:
«متى لاح برق أو بدا طلل قفر***جرى مستهلّ لا بكيء ولا نزر»
وبعده:
«فتى لا يزال الدهر بين رباعه ***أياد له بيض وأفنية خضر»
فبينا هو في غزلها إذ خرج الى المديح على جهة الاقتضاب بقوله:
«لعمرك ما الدنيا بنا قصة الجدا***إذا بقي الفتح بن خاقان والقطر»
فخرج الى المديح من غير أن يكون هناك له سبب من الأسباب.
ومن ذلك ما قاله أبو نواس في قصيدته التي مطلعها:
«يا كثير النوح في الدمن ***لا عليها بل على السكن »
فضمنها غزلا كثيرا ثم قال بعد ذلك:
«تضحك الدنيا الى ملك ***قام بالآثار والسّنن »
«سنّ للناس الندى فندوا***فكأنّ المحل لم يكن »
قال العلوي: «وأكثر مدائح أبي نواس مؤسسة على الاقتضاب من غير ذكر التخلص». والاقتضاب عند السجلماسي هو «اقتضاب الدلالة» وهو أربعة أنواع: التتبيع والكناية والتعريض والتلويح، ولكل فن موضعه.
معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م
243-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (الإنفاد)
الإنفاد:نفد ـ بالدال ـ الشيء نفدا ونفادا: فني وذهب.
وأنفد القوم اذا نفد زادهم أو نفدت أموالهم. والمنافد: الذي يحاجّ صاحبه حتى يقطع حجته وتنفد، ونافدت الخصم منافدة إذا حاججته حتى تقطع حجته، وخصم منافد: يستفرغ جهده في الخصومة.
وأخذ المظفر العلوي هذا المعنى اللغوي وقال «الإنفاد ـ بالدال غير المعجمة ـ هو من قولهم: خصم منافد إذا خاصم حتى تنفد حجته. وتقول: نافدت الرجل مثل «حاكمته». وفي الحديث: «إن نافدتهم نافدوك». وهو أن يقول الشاعر بيتا تاما ويقول الآخر بيتا». وربط بين الإنفاد والاجازة فقال: «وأما الإنفاد والإجازة فروي أنّ كعب بن زهير لما تحرّك بالشعر كان أبوه زهير ينهاه عنه مخافة ألا يكون استحكم شعره فيروى عنه ما يعاب عليه. وكان يضربه على ذلك فغلبه وطال ذلك عليه فأخذه وسجنه وقال: «والذي أحلف به لا تتكلم ببيت شعر ولا يبلغني تريغ لشعر إلا ضربت ضربا ينكرك عن ذلك. فمكث محبوسا أياما ثم أخبر أنّه تكلم به فضربه ضربا مبرحا ثم أطلقه وسرّحه في بهمة وهو غليّم صغير فانطلق فرعاها ثم راح بها وهو يرتجز:
«كأنّما أحدو ببهمي عيرا***من القرى موقرة شعيرا»
فخرج زهير اليه وهو غضبان فدعا بناقة فركبها وتناوله فأردفه خلفه، ثم حرك ناقته وهو يريد أن يتعنت كعبا ويعلم ما عنده ويطلع على شعره، فقال حين فصل من الحي:
«وإنّي لتغدو بي على الهمّ جسرة***تخبّ بوصّال صروم وتعنق »
ثم ضربه وقال: أجز يا لكع، فقال:
«كبنيانة القاريّ موضع رحلها***وآثار نسعيها من الدّف أبلق »
فقال زهير:
«على لاحب مثل المجرّة خلته ***إذا ما علا نشزا من الأرض مهرق »
ثم قال: أجزيا لكع، فقال:
«منير هداه ليله كنهاره ***جميع إذا يعلو الحزونة أفرق »
فقال زهير:
«تظلّ بوعساء الكثيب كأنّها***خباء على صقبي بوان مروّق »
ثم قال: أجزيا لكع، فقال:
«تراخى به حبّ الضّحاء وقد رأى ***سماوة قشراء الوظيفين عوهق »
فقال زهير:
«تحنّ الى مثل الحبابير جثّم ***لدى منهج من قيضها المتفلق “
ثم قال: أجزيا لكع، فقال:
«تحطّم عنها قيضها عن خراطم ***وعن حدق كالنّبخ لم يتفلّق »
فأخذ زهير بيد كعب وقال له: «قد أذنت لك في الشعر».
معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م
244-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (إيجاز الحذف)
إيجاز الحذف:سماه أبو عبيدة «مجاز المختصر»، وسماه الجاحظ «الايجاز المحذوف» وسماه «الكلام المحذوف». وهو ما يكون بحذف كلمة أو جملة أو اكثر مع قرينة تعيّن المحذوف، أو هو كما قال ابن الاثير: «ما يحذف منه المفرد والجملة لدلالة فحوى الكلام على المحذوف ولا يكون إلا فيما زاد معناه على لفظه». وقال: أمّا الايجاز بالحذف فإنّه عجيب الأمر أشبه بالسحر، وذاك انك ترى فيه ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الافادة أزيد للافادة وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون مبينا إذا لم تبيّن. وهذه جملة تنكرها حتى تخبرها وتدفعها حتى تنظر. والأصل في المحذوفات جميعا على اختلاف ضروبها أن يكون في الكلام ما يدل على المحذوف فان لم يكن هناك دليل على المحذوف فانه لغو من الحديث لا يجوز بوجه ولا سبب. ومن شرط المحذوف في حكم البلاغة أنّه متى أظهر صار الكلام الى شيء غث لا يناسب ما كان عليه أولا من الطلاوة والحسن».
وأدلة الحذف كثيرة منها:
1 ـ أن يدلّ العقل على الحذف والمقصود الأظهر على تعيين المحذوف كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ}. فالعقل يدل على الحذف والمقصود الأظهر يرشد الى أنّ التقدير: حرّم عليكم تناول الميتة والدم ولحم الخنزير؛ لأنّ الغرض الأظهر منها تناولها.
2 ـ أن يدلّ العقل على الحذف والتعيين كقوله تعالى: {وَجاءَ رَبُّكَ} أي: أمر ربك أو عذابه أو بأسه.
3 ـ أن يدلّ الفعل على الحذف والعادة على التعيين كقوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز:
{فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ}. دل العقل على الحذف فيه؛ لأنّ الانسان إنّما يلام على كسبه فيحتمل أن يكون التقدير «في حبه»، لقوله: {قَدْ شَغَفَها حُبًّا}، وأن يكون «في مراودته لقوله: {تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ} وأن يكون «في شأنه وأمره» فيشملهما. والعادة دلّت على تعيين المراودة لأنّ الحبّ المفرط لا يلام الانسان عليه في العادة لقهره صاحبه وغلبته إياه، وإنّما يلام على المراودة الداخلة تحت كسبه التي يقدر أن يدفعها عن نفسه.
4 ـ أن تدلّ العادة على الحذف والتعيين كقوله تعالى: {لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ} من أنّهم كانوا أخبر الناس بالحرب فكيف يقولون بأنّهم لا يعرفونها؟ فلا بدّ من حذف، وتقديره: «مكان قتل» أي أنكم تقاتلون في موضع لا يصلح للقتال ويخشى عليكم منه، ويدل عليه أنّهم أشاروا على رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن لا يخرج من المدينة وأنّ الحزم البقاء فيها.
5 ـ الشروع في الفعل كقول المؤمن: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» عند الشروع في القراءة أو أي عمل، فانه يفيد أنّ المراد: «بسم الله أقرأ» والمحذوف بقدر ما جعلت التسمية مبدأ له.
6 ـ اقتران الكلام بالفعل فانه يفيد تقديره كقولنا لمن أعرس: «بالرفاء والبنين» فانه يفيد: بالرفاء والبنين أعرست.
والمحذوف نوعان:
الأول: حذف جزء جملة، وهو حذف المفردات، ويكون على صور مختلفة.
1 ـ حذف الفاعل: كقول العرب: «أرسلت» وهم يريدون: «جاء المطر» ولا يذكرون السماء. ومنه قوله تعالى: {كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ وَقِيلَ مَنْ راقٍ}، والضمير في {بَلَغَتِ} للنفس ولم يجر لها ذكر.
ومنه قول حاتم:
«أماويّ ما يغني الثراء عن الفتى ***إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر»
يريد: النفس، ولم يجر لها ذكر.
2 ـ حذف الفعل وجوابه: وهو نوعان:
أحدهما: يظهر بدلالة المفعول عليه كقوله تعالى: {فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ: ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها} أي: احذروا.
وقول المتنبي:
«ولو لا أنّ أكثر ما تمنّى ***معاودة لقلت ولا مناكا»
أي: ولا صاحبت مناكا.
وثانيهما: لا يظهر فيه قسم الفعل؛ لأنّه لا يكون هناك منصوب يدل عليه، وإنّما يظهر بالنظر الى ملاءمة الكلام كقوله تعالى: {وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}.
فقوله: {لَقَدْ جِئْتُمُونا} يحتاج الى اضمار فعل؛ أي: فقيل لهم: لقد جئتمونا، أو فقلنا لهم.
ومن هذا الضرب ايقاع الفعل على شيئين وهو لأحدهما كقوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ} وهو لـ «أمركم» وحده، وانما المراد: أجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم.
ومن حذف الفعل باب يسمى «باب إقامة المصدر مقام الفعل» ويؤتي به لضرب من المبالغة والتوكيد كقوله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ} أي: فاضربوا الرقاب ضربا، حذف الفعل وأقيم المصدر مقامه وفي ذلك اختصار وتوكيد.
وأما حذف جواب الفعل فانه لا يكون في الأمر المحتوم كقوله تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا*} لأنّهما جواب أمر {فَذَرْهُمْ*} وحذف الجواب في هذا لا يدخل في باب الايجاز.
3 ـ حذف المفعول به كقوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى. وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا}. فبعد كل فعل مفعول به محذوف. ويكون ذلك لأغراض منها أن يكون غرض المتكلم بيان حال الفعل والفاعل فقط أو أن يكون غرض المتكلم ذكره ولكنه يحذفه ليوهم أنّه لم يقصد كقول البحتري:
«شجو حسّاده وغيظ عداه ***أن يرى مبصر ويسمع واع »
أي: أن يرى مبصر محاسنه ويسمع واع أخباره.
او أن يحذف لأنّه معلوم ويأتي هذا بعد فعل المشيئة كقوله تعالى: {وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ} أي: لو شاء الله أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بها.
ومنه قول البحتري:
«لو شئت لم تفسد سماحة حاتم ***كرما ولم تهدم مآثر خالد»
أي: لو شئت أن لا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها، فحذف ذلك من الأول استغناء بدلالته عليه في الثاني.
4 ـ حذف المضاف أو المضاف اليه واقامة كل واحد منهما مقام الآخر، فمن حذف المضاف قوله تعالى: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} أي: أهلها. ومن حذف المضاف اليه قوله: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}، أي: من قبل ذلك ومن بعد ذلك.
5 ـ حذف الموصوف أو الصفة وإقامة كل واحد منهما مقام الآخر. فمن حذف الموصوف قوله تعالى: {وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} أي: آية مبصرة، ولم يرد الناقة فإنّها لا معنى لها لو وصفها بالبصر.
ومن حذف الصفة قوله: {وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} أي: كل سفينة صحيحة أو صالحة.
6 ـ حذف الشرط أو جوابه، ومثال حذف الشرط قوله تعالى: {يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}، فالفاء في قوله: {فَاعْبُدُونِ} جواب شرط محذوف والمعنى: أنّ أرضي واسعة فإن لم تخلصوا لي العبادة في أرض فاخلصوها في غيرها.
ومنه قول الشاعر:
«قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا***ثم القفول، فقد جئنا خراسانا»
كأنه قال: إن صحّ ما قلتم انّ خراسان أقصى ما يراد بنا فقد جئنا خراسان وآن لنا أن نخلص.
ومن حذف جواب الشرط قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. فان جواب الشرط هنا محذوف تقديره: إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين؟ ويدلّ على المحذوف قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
7 ـ حذف القسم أو جوابه، ومثال حذف القسم: «لأفعلنّ» أي: والله لأفعلنّ. ومثال حذف جوابه قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ. وَلَيالٍ عَشْرٍ. وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ. وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ. هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ. أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ. إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ}. أي: ليعذبن أو نحوه.
8 ـ حذف «لو» أو جوابها، ومثال حذف «لو» قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ}.
وتقديره: لو كان معه آلهة لذهب كل إله بما خلق.
ومنه قول قريط بن أنيف:
«لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ***بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا»
«إذن لقام بنصري معشر خشن ***عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا»
والتقدير: إذن لو كنت منهم لقام بنصري معشر خشن.
ومثال حذف جواب «لو» قوله تعالى: {وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ}. وتقدير جواب «لو»: لرأيت أمرا عظيما. ومنه قول أبي تمام:
«لو يعلم الكفر كم من أعصر كمنت ***له العواقب بين السحر والقضب »
التقدير: لو يعلم الكفر لأخذ أهبة الحذار.
9 ـ حذف جواب «لو لا» كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ}. أي: ولو لا فضل الله عليكم ورحمته لعجّل لكم العذاب.
10 ـ حذف جواب «لما» كقوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}. أي: فلمّا أسلما وتلّه للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا كان ما كان مما ينطق به الحال ولا يحيط به الوصف.
11 ـ حذف جواب «أمّا» كقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ؟} أي: فيقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم.
12 ـ حذف جواب «إذا» كقوله تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ. وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ}. أي وإذا قيل لهم اتقوا أعرضوا وأصروا على تكذيبهم.
13 ـ حذف المبتدأ أو الخبر، ولا يكون حذف المبتدأ إلا مفردا، والأحسن حذف الخبر لأنّ منه ما يأتي جملة. ومن المواضع التي يحسن فيها حذف المبتدأ على طريق الايجاز قولهم: «الهلال والله» أي: هذا الهلال.
ومن المواضع التي يصحّ فيها حذف الخبر قولنا: «لو لا محمد لكان كذا» ومن المواضع التي يحتمل أن يكون المحذوف فيها اما المبتدأ وإما الخبر قوله تعالى:
{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ*} فيحتمل أن يكون المبتدأ محذوفا وتقديره: فأمري صبر جميل، ويحتمل أن يكون من باب حذف الخبر وتقديره: فصبر جميل أجمل.
14 ـ حذف «لا» من الكلام وهي مرادة كقوله تعالى: {تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ}. أي: لا تفتأ.
ومنه قول امرىء القيس:
«فقلت يمين الله أبرح قاعدا***ولو قطّعوا رأسي لديك وأوصالي »
أي: لا أبرح.
15 ـ حذف «الواو» من الكلام وإثباتها، وأحسن حذوفها في المعطوف والمعطوف عليه كقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}. أي: لا يألونكم خبالا وودوا.
16 ـ حذف بعض اللفظ وهو سماعي لا يجوز القياس عليه، ومنه قول علقمة بن عبدة:
«كأنّ إبريقهم ظبي على شرف ***مفدّم بسبا الكتّان ملثوم »
فقوله: «بسبا الكتان» يريد: بسبائب الكتان.
وهذا وأمثاله مما يقبح ولا يحسن وان كانت العرب قد استعملته.
والنوع الثاني من الايجاز حذف الجمل، وهو قسمان:
أحدهما: حذف الجمل المفيدة التي تستقل بنفسها كلاما، وهذا أحسن المحذوفات وأدلها على الاختصار.
ثانيهما: حذف الجمل غير المفيدة.
وجملة هذين النوعين أربعة أضرب:
الأول: حذف السؤال المقدر، ويسمى الاستئناف وهو على وجهين:
1 ـ إعادة الاسماء والصفات كقوله تعالى: {الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. والاستئناف واقع في هذا الكلام على «أولئك» لأنّه لما قال: {الم. ذلِكَ الْكِتابُ}. الى قوله: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} اتجه لسائل أن يقول: ما بال المستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى فأجيب بأن اولئك الموصوفين غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلا وبالفلاح آجلا.
2 ـ الاستئناف بغير إعادة الاسماء والصفات كقوله تعالى: {وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ. إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ. قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ، قالَ: يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}. فمخرج هذا القول مخرج الاستئناف؛ لأنّ ذلك من مظان المسألة عن حاله عند لقاء ربه وكأنّ قائلا قال: كيف حال هذا الرجل عند لقاء ربه بعد ذلك التصلب في دينه والتسخي لوجهه بروحه؟ فقيل: قيل ادخل الجنة ولم يقل: قيل له، لانصباب الغرض الى المقول لا الى المقول له مع كونه معلوما. وكذلك قوله: {يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} مرتّب على تقدير سؤال سائل عما وجد.
الثاني: الاكتفاء بالسبب عن المسبب، وبالمسبب عن السبب، فاما الاكتفاء بالسبب عن المسبب فكقوله تعالى: {وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُونًا فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ}. فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة ودلّ به على المسبب وهو الوحي الى الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وعليه قول المتنبي:
«أتى الزمان بنوه في شبيبته ***فسرّهم وأتيناه على الهرم »
أي: فساءنا.
وأما حذف الجملة غير المفيدة من هذا الضرب فكقوله تعالى حكاية عن مريم ـ عليهاالسلام ـ: {قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا. قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا}. فقوله: {لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} تعليل معلّله محذوف أي: وإنّما فعلنا ذلك لنجعله آية للناس، فذكر السبب الذي صدر الفعل من أجله وهو جعله آية للناس ودلّ به على المسبب الذي هو الفعل.
وأما الاكتفاء بالمسبب عن السبب فكقوله تعالى: {فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ}. أي: إذا أردت قراءة القرآن فاكتف بالمسبب الذي هو القراءة عن السبب الذي هو الارادة. والدليل على ذلك أنّ الاستعاذة قبل القراءة والذي دلت عليه أنّها بعد القراءة.
الثالث: الإضمار على شريطة التفسير، وهو أن يحذف من صدر الكلام ما يؤتي به في آخره فيكون الآخر دليلا على الأول. وهو ثلاثة أوجه.
1 ـ أن يأتي على طريق الاستفهام فتذكر الجملة الاولى دون الثانية كقوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
تقدير الآية: أفمن شرح الله صدره للاسلام كمن أقسى قلبه؟ ويدل على المحذوف قوله: {فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ}.
2 ـ أن يرد على حد النفي والاثبات كقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ، أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا} تقديره: لا يستوي منكم من أنفق قبل الفتح وقاتل ومن أنفق بعده وقاتل. ويدل على المحذوف قوله: {أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا}.
3 ـ أن يرد على غير هذين الوجهين فلا يكون استفهاما ولا نفيا واثباتا كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ}. فالمعنى في الآية: والذين يعطون ما أعطوا من الصدقات وسائر القرب الخالصة لوجه الله ـ تعالى ـ وقلوبهم وجلة، أي: خائفة من أن ترد عليهم صدقاتهم. فحذف قوله: «ويخافون ان ترد عليهم هذه النفقات» ودلّ عليه بقوله: {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}. فظاهر الآية أنّهم وجلون من الصدقة وليس وجلهم لأجل الصدقة وانما وجلهم لأجل خوف الرد المتصل بالصدقة.
ومنه قول أبي تمام:
«يتجنب الآثام ثم يخافها***فكانّما حسناته آثام »
والتقدير: أنّه يتجنب الآثام فاذا تجنبها فقد أتى بحسنة ثم يخاف أن لا تكون تلك الحسنة مقبولة فكأنما حسناته آثام فلم يخف الحسنة لكونها حسنة وانما خاف ما يتصل بها من الرد فكأنها مخوفة كما تخاف الآثام.
ومنه قول أبي نواس:
«سنّة العشاق واحدة***فاذا أحببت فاستكن »
فحذف الاستكانة من الأول وذكرها في المصراع الثاني، لأنّ التقدير: سنّة العاشقين واحدة وهي أن يستكينوا ويتضرعوا، فاذا أحببت فاستكن.
الرابع: ما ليس بسبب ولا مسبب ولا اضمار على شريطة التفسير ولا استئناف. فمن حذف الجمل المفيدة قوله تعالى: {قالَ: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ. وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ}.
فانه حذف من هذا الكلام جملة مفيدة تقديرها: فرجع الرسول اليهم فأخبرهم بمقالة يوسف فعجبوا لها أو فصدّقوه عليها، وقال الملك: {ائْتُونِي بِهِ}.
ومن حذف الجمل غير المفيدة قوله تعالى: {يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا. قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا. قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا. قالَ: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً، قالَ: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا. فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا. يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}. هذا الكلام قد حذف منه جملة دل عليها صدره وهو البشرى بالغلام، وتقديرها: ولما جاء الغلام ونشأ وترعرع قلنا له: يا يحيى خذ الكتاب بقوة. فالجملة المحذوفة ليس من الجمل المفيدة.
ومن ذلك قول المتنبي:
«لا أبغض العيس لكني وقيت بها***قلبي من الهمّ أو جسمي من السّقم »
وفي هذا البيت حذف والتقدير: لا أبغض العيس لإنضائي إياها في الأسفار ولكنّي وقيت بها او كذا، فالثاني دليل على حذف الأول.
ومما يتصل بهذا الضرب حذف ما يجيء بعد «أفعل» مثل: «الله أكبر» أي: أكبر من كل كبير.
وعليه ورد قول البحتري:
«الله أعطاك المحبة في الورى ***وحباك بالفضل الذي لا ينكر»
«ولأنت أملأ في العيون لديهم ***وأجلّ قدرا في الصدور وأكبر»
أي: أنت أملأ في العيون من غيرك.
معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م
245-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (الوحي)
الوحي:الوحي: الإشارة والكتابة والرسالة والالهام والكلام الخفي وكل ما ألقيته الى غيرك.
قال ابن وهب: «وأما الوحي فإنّه الإبانة عما في النفس بغير المشافهة على أي معنى وقعت من إيماء وإشارة ورسالة وكتابة، ولذلك قال الله ـ عزوجل ـ: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا}. وهو على وجوه كثيرة». فمنه الاشارة كقوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}.
ومنه الوحي المسموع من الملك كقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى}.
ومنه الوحي في المنام وهو الرؤيا الصحيحة كما قال الله تعالى: {وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ}.
ومنه الالهام كما قال الله تعالى: {وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ} أي: ألهمها.
ومنه الكتاب، ويقال منه: «وحيث الكتاب» إذا كتبته، قال الشاعر:
«ما هيّج الشوق من أطلال دارسة***أضحت قفارا كوحي خطه الواحي »
ومن الوحي الاشارة باليد والغمز بالحاجب والايماض بالعين كما قال الشاعر:
«وتوحي اليه باللّحاظ سلامها***مخافة واش حاضر ورقيب »
وقال آخر:
«أشارت بطرف العين خيفة أهلها***إشارة محزون ولم تتكلّم »
«وأيقنت أنّ الطرف قد قال مرحبا***وأهلا وسهلا بالحبيب المسلّم »
معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م
246-موسوعة الفقه الكويتية (أداء 1)
أَدَاءٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الْأَدَاءُ: الْإِيصَالُ يُقَالُ: أَدَّى الشَّيْءَ أَوْصَلَهُ، وَأَدَّى دَيْنَهُ تَأْدِيَةً أَيْ قَضَاهُ.وَالِاسْمُ: الْأَدَاءُ.كَذَلِكَ الْأَدَاءُ وَالْقَضَاءُ يُطْلَقَانِ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالْمُؤَقَّتَاتِ، كَأَدَاءِ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ وَقَضَائِهَا، وَبِغَيْرِ الْمُؤَقَّتَاتِ، كَأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالْأَمَانَةِ، وَقَضَاءِ الْحُقُوقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَفِي اصْطِلَاحِ الْجُمْهُورِ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ: الْأَدَاءُ فِعْلُ بَعْضِ (وَقِيلَ كُلِّ) مَا دَخَلَ وَقْتُهُ قَبْلَ خُرُوجِهِ وَاجِبًا كَانَ أَوْ مَنْدُوبًا، أَمَّا مَا لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ زَمَانٌ فِي الشَّرْعِ، كَالنَّفْلِ وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ وَالزَّكَاةِ، فَلَا يُسَمَّى فِعْلُهُ أَدَاءً وَلَا قَضَاءً.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الْأَدَاءُ تَسْلِيمُ عَيْنِ مَا ثَبَتَ بِالْأَمْرِ.وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي التَّعْرِيفِ التَّقْيِيدُ بِالْوَقْتِ لِيَشْمَلَ أَدَاءَ الزَّكَاةِ وَالْأَمَانَاتِ وَالْمَنْذُورَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ، كَمَا أَنَّهُ يَعُمُّ فِعْلَ الْوَاجِبِ وَالنَّفَلِ.وَقَدْ يُطْلَقُ كُلٌّ مِنَ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ عَلَى الْآخَرِ مَجَازًا شَرْعِيًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} أَيْ أَدَّيْتُمْ، وَكَقَوْلِكَ: نَوَيْتُ أَدَاءَ ظُهْرِ الْأَمْسِ.
2- وَالْأَدَاءُ إِمَّا مَحْضٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ كَامِلًا كَصَلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ فِي جَمَاعَةٍ، أَمْ قَاصِرًا كَصَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ؛ وَإِمَّا غَيْرُ مَحْضٍ، وَهُوَ الشَّبِيهُ بِالْقَضَاءِ، كَفِعْلِ اللاَّحِقِ الَّذِي أَدْرَكَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ، وَفَاتَهُ الْبَاقِي فَأَتَمَّ صَلَاتَهُ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ، فَفِعْلُهُ أَدَاءٌ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ فِي الْوَقْتِ، قَضَاءٌ بِاعْتِبَارِ فَوَاتِ مَا الْتَزَمَهُ مِنَ الْأَدَاءِ مَعَ الْإِمَامِ، فَهُوَ يَقْضِي مَا انْعَقَدَ لَهُ إِحْرَامُ الْإِمَامِ، مِنَ الْمُتَابَعَةِ وَالْمُشَارَكَةِ مَعَهُ بِمِثْلِهِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْقَضَاءُ:
3- الْقَضَاءُ لُغَةً: مَعْنَاهُ الْأَدَاءُ.وَاسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ الْآتِي، خِلَافًا لِلْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَدَاءِ.وَاصْطِلَاحًا: مَا فُعِلَ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ أَدَائِهِ اسْتِدْرَاكًا لِمَا سَبَقَ لِفِعْلِهِ مُقْتَضٍ، أَوْ تَسْلِيمِ مِثْلِ مَا وَجَبَ بِالْأَمْرِ، كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ.فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَدَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مُرَاعَاةُ قَيْدِ الْوَقْتِ فِي الْأَدَاءِ دُونَ الْقَضَاءِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُرَاعَاةُ الْعَيْنِ فِي الْأَدَاءِ وَالْمِثْلِ فِي الْقَضَاءِ، إِذِ الْأَدَاءُ كَمَا سَبَقَ هُوَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي وَقْتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا لَهُ وَقْتٌ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ بِالنِّسْبَةِ لِمَا لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُحَدَّدٌ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
ب- الْإِعَادَةُ:
4- الْإِعَادَةُ لُغَةً: رَدُّ الشَّيْءِ ثَانِيًا، وَاصْطِلَاحًا: مَا فُعِلَ فِي وَقْتِ الْأَدَاءِ ثَانِيًا لِخَلَلٍ فِي الْأَوَّلِ وَقِيلَ لِعُذْرٍ.فَالصَّلَاةُ بِالْجَمَاعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ مُنْفَرِدًا تَكُونُ إِعَادَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّ طَلَبَ الْفَضِيلَةِ عُذْرٌ فَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَدَاءِ السَّبْقُ وَعَدَمُهُ.
الْأَدَاءُ فِي الْعِبَادَاتِ:
5- الْعِبَادَاتُ الَّتِي لَمْ تُحَدَّدْ بِوَقْتٍ لَا تُوصَفُ بِالْأَدَاءِ بِالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ، أَيِ الَّذِي يُقَابِلُ الْقَضَاءَ، وَذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ عَلَيْهَا لَفْظَ الْأَدَاءِ إِطْلَاقًا لُغَوِيًّا بِمَعْنَى الْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ الْأَعَمِّ مِنَ الْأَدَاءِ الَّذِي يُقَابِلُ الْقَضَاءَ.وَلِذَلِكَ يَقُولُ الشَّبْرَامُلْسِيُّ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى أَدَاءِ الزَّكَاةِ- أَيْ دَفْعِهَا: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَدَاءِ الْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا وَقْتَ لَهَا مُحَدَّدًا حَتَّى تَصِيرَ قَضَاءً بِخُرُوجِهِ.أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَغَيْرُ الْوَقْتِ عِنْدَهُمْ يُسَمَّى أَدَاءً شَرْعًا وَعُرْفًا، وَالْقَضَاءُ يَخْتَصُّ بِالْوَاجِبِ الْمُوَقَّتِ.
أَقْسَامُ الْعِبَادَاتِ بِاعْتِبَارِ وَقْتِ الْأَدَاءِ:
6- الْعِبَادَاتُ بِاعْتِبَارِ وَقْتِ الْأَدَاءِ نَوْعَانِ: مُطْلَقَةٌ وَمُؤَقَّتَةٌ.
فَالْمُطْلَقَةُ: هِيَ الَّتِي لَمْ يُقَيَّدْ أَدَاؤُهَا بِوَقْتٍ مُحَدَّدٍ لَهُ طَرَفَانِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْعُمْرِ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَقْتِ فِيمَا هُوَ مُوَقَّتٌ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعِبَادَةُ وَاجِبَةً كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ، أَمْ مَنْدُوبَةً كَالنَّفْلِ الْمُطْلَقِ.
وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ الْمُوَقَّتَةُ: فَهِيَ مَا حَدَّدَ الشَّارِعُ وَقْتًا مُعَيَّنًا لِأَدَائِهَا، لَا يَجِبُ الْأَدَاءُ قَبْلَهُ، وَيَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ وَاجِبًا، وَذَلِكَ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ.وَوَقْتُ الْأَدَاءِ إِمَّا مُوَسَّعٌ وَأَمَّا مُضَيَّقٌ.
فَالْمُضَيَّقُ: هُوَ مَا كَانَ الْوَقْتُ فِيهِ يَسَعُ الْفِعْلَ وَحْدَهُ، وَلَا يَسَعُ غَيْرَهُ مَعَهُ، وَذَلِكَ كَرَمَضَانَ فَإِنَّ وَقْتَهُ لَا يَتَّسِعُ لِأَدَاءِ صَوْمٍ آخَرَ فِيهِ، وَيُسَمَّى مِعْيَارًا أَوْ مُسَاوِيًا.
وَالْمُوَسَّعُ: هُوَ مَا كَانَ الْوَقْتُ فِيهِ يَفْضُلُ عَنْ أَدَائِهِ، أَيْ أَنَّهُ يَتَّسِعُ لِأَدَاءِ الْفِعْلِ وَأَدَاءِ غَيْرِهِ مِنْ جِنْسِهِ، وَذَلِكَ كَوَقْتِ الظُّهْرِ مَثَلًا، فَإِنَّهُ يَسَعُ أَدَاءَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَأَدَاءَ صَلَوَاتٍ أُخْرَى، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى ظَرْفًا.وَالْحَجُّ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُشْتَبَهُ وَقْتُ أَدَائِهِ بِالْمُوَسَّعِ وَالْمُضَيَّقِ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُؤَدِّيَ حَجَّتَيْنِ فِي عَامٍ وَاحِدٍ، فَهُوَ بِهَذَا يُشْبِهُ الْمُضَيَّقَ، وَلَكِنْ أَعْمَالُ الْحَجِّ لَا تَسْتَوْعِبُ وَقْتَهُ، فَهُوَ بِهَذَا يُشْبِهُ الْمُوَسَّعَ، هَذَا عَلَى اعْتِبَارِهِ مِنَ الْوَقْتِ، وَقِيلَ إِنَّهُ مِنَ الْمُطْلَقِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعُمْرَ وَقْتٌ لِلْأَدَاءِ كَالزَّكَاةِ.
صِفَةُ الْأَدَاءِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):
7- الْعِبَادَاتُ إِمَّا فَرْضٌ أَوْ مَنْدُوبٌ، فَإِنْ كَانَتْ فَرْضًا كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْأَهْلِ أَدَاؤُهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، إِذَا تَحَقَّقَ سَبَبُهَا، وَتَوَفَّرَتْ شُرُوطُهَا.فَإِنْ كَانَتِ الْعِبَادَةُ مُحَدَّدَةً بِوَقْتٍ لَهُ طَرَفَانِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَقْتُ مُوَسَّعًا، كَوَقْتِ الصَّلَاةِ، أَمْ كَانَ مُضَيَّقًا كَرَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ وَلَا أَنْ تَتَأَخَّرَ عَنْهُ إِلاَّ لِعُذْرٍ؛ لِأَنَّهَا تَفُوتُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ دُونَ أَدَاءٍ، وَتَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ إِلَى أَنْ تَقْتَضِيَ.وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَحْدِيدِ الْوَقْتِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْأَدَاءُ فِيمَا كَانَ وَقْتُهُ مُضَيَّقًا؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ كُلَّهُ مَشْغُولٌ بِالْعِبَادَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ زَمَنٌ فَارِغٌ مِنْهَا، إِلاَّ أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي تَعْيِينِ النِّيَّةِ لِصِحَّةِ الْأَدَاءِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَكْفِي مُطْلَقُ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَمَّا كَانَ مِعْيَارًا فَلَا يَصْلُحُ لِعَمَلٍ آخَرَ مِنْ جِنْسِهِ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا بُدَّ مِنَ التَّعْيِينِ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ لَمْ يُجْزِهِ.
أَمَّا مَا كَانَ وَقْتُهُ مُوَسَّعًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ الْجُزْءِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ الْكُلُّ لَا جُزْءٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي إِيقَاعَ الْفِعْلِ فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ» وَهُوَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ، وَلَيْسَ تَعْيِينُ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ بِأَوْلَى مِنْ تَعْيِينِ الْبَعْضِ الْآخَرِ، إِلاَّ أَنَّ الْأَدَاءَ يَجِبُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مَعَ الْإِمْكَانِ، وَقِيلَ يُسْتَحَبُّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ».وَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ جَوَازِ التَّأْخِيرِ فِيهِ ضِيقٌ عَلَى النَّاسِ، فَسُمِحَ لَهُمْ بِالتَّأْخِيرِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ التَّأْخِيرُ لَكِنْ مَعَ الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ، فَإِنْ لَمْ يَعْزِمْ أَثِمَ.وَإِنْ ظَنَّ الْمُكَلَّفُ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ، الْمُوَسَّعِ تَضَيَّقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ وَحَرُمَ عَلَيْهِ التَّأْخِيرُ اعْتِبَارًا بِظَنِّهِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ وَمَاتَ عَصَى اتِّفَاقًا، فَإِنْ لَمْ يَمُتْ بَلْ عَاشَ وَفَعَلَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَهُوَ قَضَاءٌ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيِّ أَدَاءٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِصِدْقِ تَعْرِيفِ الْأَدَاءِ عَلَيْهِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالظَّنِّ الْبَيِّنِ خَطَؤُهُ.
وَعِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَقْتُ الْأَدَاءِ هُوَ الْجُزْءُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْفِعْلُ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَجِبُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنَ الْوَقْتِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا التَّعْيِينُ إِلَى الْمُصَلِّي مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ حَتَّى إِنَّهُ إِذَا شَرَعَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ يَجِبُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَذَا إِذَا شَرَعَ فِي وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ، وَمَتَى لَمْ يُعَيِّنْ حَتَّى بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُصَلِّي فِيهِ أَرْبَعًا- وَهُوَ مُقِيمٌ- يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْيِينُ ذَلِكَ الْوَقْتِ لِلْأَدَاءِ فِعْلًا وَيَأْثَمُ بِتَرْكِ التَّعْيِينِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ الْعِرَاقِيِّينَ: إِنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ، فَعَلَى هَذَا، فَإِنْ قَدَّمَهُ ثُمَّ زَالَتْ أَهْلِيَّتُهُ قَبْلَ آخِرِ الْوَقْتِ فَالْمُؤَدَّى نَفْلٌ.وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ فَإِنْ أَخَّرَهُ فَهُوَ قَضَاءٌ.وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ مِمَّنْ يُنْكِرُونَ التَّوَسُّعَ فِي الْوُجُوبِ.
بِمَ يَتَحَقَّقُ الْأَدَاءُ إِذَا تَضَيَّقَ الْوَقْتُ؟
8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُمْكِنُ بِهِ إِدْرَاكُ الْفَرْضِ إِذَا تَضَيَّقَ الْوَقْتُ، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يُمْكِنُ إِدْرَاكُهُ بِرَكْعَةٍ بِسَجْدَتَيْهَا فِي الْوَقْتِ، فَمَنْ صَلَّى رَكْعَةً فِي الْوَقْتِ ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْتُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِلْجَمِيعِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.
قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ» وَذَهَبَ أَشْهَبُ إِلَى أَنَّهَا تُدْرَكُ بِالرُّكُوعِ وَحْدَهُ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ يُمْكِنُ إِدْرَاكُ الصَّلَاةِ بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ أَوَّلَ سَجْدَةٍ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ، وَإِذَا أَدْرَكَ أَوَّلَ سَجْدَةٍ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَقَدْ أَدْرَكَ»؛ وَلِأَنَّ الْإِدْرَاكَ إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ فِي الصَّلَاةِ اسْتَوَى فِيهِ الرَّكْعَةُ وَمَا دُونَهَا.وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِمَا صَلَّى فِي الْوَقْتِ قَاضِيًا لِمَا صَلَّى بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، اعْتِبَارًا لِكُلِّ جُزْءٍ بِزَمَانِهِ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ صَلَاةَ الصُّبْحِ وَحْدَهَا، فَإِنَّهَا لَا تُدْرَكُ إِلاَّ بِأَدَائِهَا كُلِّهَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِطُرُوءِ الْوَقْتِ النَّاقِصِ عَلَى الْوَقْتِ الْكَامِلِ، وَلِذَا عَدُّوا ذَلِكَ مِنْ مُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ وَأَمَّا مَا كَانَ وَقْتُهُ مُطْلَقًا كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْأَمْرِ بِهِ، هَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي؟ وَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى مِثَالِ مَا قِيلَ فِيمَا كَانَ وَقْتُهُ مُوَسَّعًا فِي أَنَّهُ يَجِبُ تَعْجِيلُ الْأَدَاءِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ، وَيَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ بِدُونِ عَزْمٍ عَلَى الْفِعْلِ، أَوْ أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي وَلَا يَجِبُ التَّعْجِيلُ وَلَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ، لَكِنَّ الْجَمِيعَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ يَتَضَيَّقُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ فِي زَمَانٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنَ الْأَدَاءِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِغَالِبِ ظَنِّهِ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُؤَدِّ حَتَّى مَاتَ أَثِمَ بِتَرْكِهِ.هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَةِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُوَقَّتَةً أَمْ مُطْلَقَةً.
9- أَمَّا الْمَنْدُوبُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ الْمَنْدُوبَ حُكْمُهُ الثَّوَابُ عَلَى الْفِعْلِ وَعَدَمُ اللَّوْمِ عَلَى التَّرْكِ، لَكِنَّ فِعْلَهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ.وَمِنَ الْمَنْدُوبِ مَا هُوَ مُوَقَّتٌ كَالرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَهُ، وَمَا بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُسَبَّبٌ كَصَلَاةِ الْخُسُوفِ وَالْكُسُوفِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُطْلَقٌ كَالتَّهَجُّدِ.وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الصَّوْمِ أَيْضًا، فَمِنْهُ مَا هُوَ مُوَقَّتٌ، كَصِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَاجِّ، وَصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَمِنْهُ مَا يَتَطَوَّعُ بِهِ الْإِنْسَانُ فِي أَيِّ يَوْمٍ.وَقَدْ وَرَدَتْ آثَارٌ كَثِيرَةٌ فِي فَضْلِ مَا زَادَ عَلَى الْفَرْضِ مِنَ الْعِبَادَاتِ مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَحَجٍّ وَزَكَاةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ».
وَقَوْلُهُ: «صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ».وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ ثَابَرَ عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ».وَهَذِهِ الْعِبَادَاتُ الْمَنْدُوبَةُ يُطْلَبُ أَدَاؤُهَا طَلَبًا لِلثَّوَابِ وَلَا يَجِبُ الْأَدَاءُ إِلاَّ مَا شُرِعَ فِيهِ، فَيَجِبُ إِتْمَامُهُ، وَإِذَا فَسَدَ قَضَاهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَيُسْتَحَبُّ الْإِتْمَامُ إِلاَّ فِي تَطَوُّعِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا شَرَعَ فِيهِمَا فَيَجِبُ إِتْمَامُهُمَا بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ.
أَدَاءُ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ:
10- يُشْتَرَطُ لِأَدَاءِ الْعِبَادَةِ أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ مَعَ الْإِمْكَانِ وَالْقُدْرَةِ.وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْأَدَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْأَدَاءِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ عُذْرٌ فِي آخِرِهِ، كَمَنْ كَانَ أَهْلًا لِلصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى طَرَأَ عَلَيْهِ آخِرَ الْوَقْتِ عُذْرٌ يَمْنَعُ مِنَ الْأَدَاءِ، كَمَا إِذَا حَاضَتِ الطَّاهِرَةُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ أَوْ نَفِسَتْ أَوْ جُنَّ الْعَاقِلُ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، أَوِ ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ الْفَرْضَ.فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يَلْزَمُهُمُ الْفَرْضُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ وَالْأَهْلِيَّةَ ثَابِتَةٌ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَيَلْزَمُهُمُ الْقَضَاءُ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَلَا يَلْزَمُهُمُ الْفَرْضُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَيَّنُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ إِذَا لَمْ يُوجَدِ الْأَدَاءُ قَبْلَهُ، فَيَسْتَدْعِي الْأَهْلِيَّةَ فِيهِ؛ لِاسْتِحَالَةِ الْإِيجَابِ عَلَى غَيْرِ الْأَهْلِ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَضَاءٌ.وَهُوَ أَيْضًا رَأْيُ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَابْنِ عَرَفَةَ، خِلَافًا لِبَعْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ حَيْثُ الْقَضَاءُ عِنْدَهُمْ أَحْوَطُ.
أَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، ثُمَّ زَالَ الْعُذْرُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، كَمَا إِذَا طَهُرَتِ الْحَائِضُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَأَقَامَ الْمُسَافِرُ أَوْ سَافَرَ الْمُقِيمُ فَلِلْحَنَفِيَّةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْفَرْضُ وَلَا يَتَغَيَّرُ الْأَدَاءُ إِلاَّ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُ فِيهِ أَدَاءُ الْفَرْضِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلْكَرْخِيِّ وَأَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ: أَنَّهُ يَجِبُ الْفَرْضُ وَيَتَغَيَّرُ الْأَدَاءُ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يَسَعُ التَّحْرِيمَةَ فَقَطْ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجِبُ الْفَرْضُ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ رَكْعَةٍ مَعَ زَمَنٍ يَسَعُ الطُّهْرَ، وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ إِذَا بَقِيَ مِقْدَارُ رَكْعَةٍ فَقَطْ.
هَذَا مِثَالٌ لِاعْتِبَارِ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ.وَلِمَعْرِفَةِ التَّفَاصِيلِ (ر: أَهْلِيَّةٌ.حَجٌّ.صَلَاةٌ.صَوْمٌ).
11- أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الشَّرْعُ، فَفِي الصَّلَاةِ مَثَلًا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَدَاؤُهَا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَرَدَتْ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَذَلِكَ لِمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» فَمَنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوعَةِ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالصِّفَةِ الَّتِي يَسْتَطِيعُ بِهَا أَدَاءَ الصَّلَاةِ، فَمَنْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ صَلَّى جَالِسًا، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ.وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» وَهَكَذَا وَكَذَلِكَ الْعَاجِزُ عَنِ الصَّوْمِ لِشَيْخُوخَةٍ أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ وَعَدَمِهَا، فَقِيلَ: تَجِبُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ، وَقِيلَ: لَا تَجِبُ.وَالْحَجُّ أَيْضًا لَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ إِلاَّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ بِالْمَالِ وَالْبَدَنِ وَالْمَحْرَمِ أَوِ الرُّفْقَةِ الْمَأْمُونَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ.فَمَنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}.
12- وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ فَنَظَرًا لِلْأَهْلِيَّةِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ، وَيُؤَدِّي عَنْهُمَا وَلِيُّهُمَا، وَتُعْتَبَرُ نِيَّةُ الْوَلِيِّ فِي الْإِخْرَاجِ.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِهَا.
وَكَذَلِكَ مَنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ وَقْتَ الْوُجُوبِ، ثُمَّ تَغَيَّرَ حَالُهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: الْعِبْرَةُ بِوَقْتِ الْأَدَاءِ لَا بِوَقْتِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَلَوْ كَانَ مُوسِرًا وَقْتَ الْوُجُوبِ جَازَ لَهُ الصَّوْمُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِوَقْتِ الْوُجُوبِ لَا بِوَقْتِ الْأَدَاءِ.وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَغْلَظُ الْأَحْوَالِ مِنْ حِينِ الْوُجُوبِ إِلَى حِينِ التَّكْفِيرِ.
تَعْجِيلُ الْأَدَاءِ عَنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ أَوْ سَبَبِهِ:
13- الْعِبَادَاتُ الْمُوَقَّتَةُ بِوَقْتٍ، وَالَّتِي يُعْتَبَرُ الْوَقْتُ سَبَبًا لِوُجُوبِهَا، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فَإِنَّ الْوَقْتَ فِيهِمَا سَبَبُ الْوُجُوبِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.هَذِهِ الْعِبَادَاتُ لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الْأَدَاءِ فِيهَا عَنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.أَمَّا الْعِبَادَاتُ الَّتِي لَا يُعْتَبَرُ الْوَقْتُ سَبَبًا لِوُجُوبِهَا، وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فِيهَا، كَالزَّكَاةِ، أَوِ الْمُطْلَقَةِ الْوَقْتِ كَالْكَفَّارَاتِ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ تَعْجِيلِ الْأَدَاءِ عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهَا أَوْ عَنْ أَسْبَابِهَا: فَفِي الزَّكَاةِ مَثَلًا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الْأَدَاءِ قَبْلَ الْحَوْلِ مَتَى تَمَّ النِّصَابُ، وَذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- تَسَلَّفَ مِنَ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زَكَاةَ عَامَيْنِ؛ وَلِأَنَّهُ حَقُّ مَالٍ أُجِّلَ لِلرِّفْقِ، فَجَازَ تَعْجِيلُهُ قَبْلَ مَحِلِّهِ، كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ إِخْرَاجُ الْوَاجِبِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ إِلاَّ بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ كَالشَّهْرِ.وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا عَنْ وَقْتِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا قَبْلَ وَقْتِهَا إِلاَّ بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ، كَالْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ.
وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا قَبْلَ الْحِنْثِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، مَعَ تَخْصِيصِ الشَّافِعِيَّةِ التَّقْدِيمَ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ الصَّوْمِ، وَلَا يَجُوزُ التَّقْدِيمُ عَلَى الْحِنْثِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلَاتٌ كَثِيرَةٌ تُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا.
النِّيَابَةُ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ:
14- الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ الْمَحْضَةُ كَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ تَجُوزُ فِيهَا النِّيَابَةُ، سَوَاءٌ كَانَ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ قَادِرًا عَلَى الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا إِخْرَاجُ الْمَالِ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِفِعْلِ النَّائِبِ.
15- أَمَّا الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَلَا تَجُوزُ فِيهَا النِّيَابَةُ حَالَ الْحَيَاةِ بِاتِّفَاقٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}، وَقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ» أَيْ فِي حَقِّ الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ، لَا فِي حَقِّ الثَّوَابِ.أَمَّا بَعْدَ الْمَمَاتِ فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَنِ الْمَيِّتِ مَنْ يُصَلِّي عَنْهُ مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي الصَّلَاةِ.أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلصَّوْمِ فَعِنْدَهُمْ أَنَّ مَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنْ رَمَضَانَ، وَمَاتَ قَبْلَ إِمْكَانِ الْقَضَاءِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، أَيْ لَا يُفْدَى عَنْهُ وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا تَمَكَّنَ مِنَ الْقَضَاءِ، وَلَمْ يَصُمْ حَتَّى مَاتَ، فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الصَّوْمُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فَلَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ وَلِيُّهُ عَنْهُ، بَلْ يُنْدَبُ، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» وَهَذَا الرَّأْيُ هُوَ الْأَظْهَرُ.قَالَ السُّبْكِيُّ: وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُخْتَارُ وَالْمُفْتَى بِهِ، وَالْقَوْلَانِ يَجْرِيَانِ فِي الصِّيَامِ الْمَنْذُورِ إِذَا لَمْ يُؤَدَّ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي الصَّلَاةِ أَوِ الصِّيَامِ الْوَاجِبِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ- أَيِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ- لِأَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ حَالَ الْحَيَاةِ، فَبَعْدَ الْمَوْتِ كَذَلِكَ.أَمَّا مَا أَوْجَبَهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ، مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ فِعْلِ الْمَنْذُورِ، كَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ مُعَيَّنٍ وَمَاتَ قَبْلَ حُلُولِهِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنَ الْأَدَاءِ وَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ سُنَّ لِوَلِيِّهِ فِعْلُ النَّذْرِ عَنْهُ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ».وَلِأَنَّ النِّيَابَةَ تَدْخُلُ فِي الْعِبَادَةِ بِحَسَبِ خِفَّتِهَا، وَالنَّذْرُ أَخَفُّ حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ بِأَصْلِ الشَّرْعِ.وَيَجُوزُ لِغَيْرِ الْوَلِيِّ فِعْلُ مَا عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ نَذْرٍ بِإِذْنِهِ وَبِدُونِ إِذْنِهِ.
16- وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَجِّ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ جَانِبٍ مَالِيٍّ وَجَانِبٍ بَدَنِيٍّ.وَالْمَالِكِيَّةُ- فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ- هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِعَدَمِ جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي الْحَجِّ.أَمَّا بَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ فَتَصِحُّ عِنْدَهُمُ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ، لَكِنَّهُمْ يُقَيِّدُونَ ذَلِكَ بِالْعُذْرِ، وَهُوَ الْعَجْزُ عَنِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ؛ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ».
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ لِرَجُلٍ: «أَرَأَيْتُكَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ، فَقَضَيْتَهُ عَنْهُ قُبِلَ مِنْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: فَاللَّهُ أَرْحَمُ.حُجَّ عَنْ أَبِيكَ».
وَضَابِطُ الْعُذْرِ الَّذِي تَصِحُّ مَعَهُ النِّيَابَةُ هُوَ الْعَجْزُ الدَّائِمُ إِلَى الْمَوْتِ، وَذَلِكَ كَالشَّيْخِ الْفَانِي وَالزَّمِنِ وَالْمَرِيضِ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ.فَهَؤُلَاءِ إِذَا وَجَدُوا مَالًا يَلْزَمُهُمُ الِاسْتِنَابَةُ فِي الْحَجِّ عَنْهُمْ.
وَمَنْ أَحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ لِلْعُذْرِ الدَّائِمِ، ثُمَّ زَالَ الْعُذْرُ قَبْلَ الْمَوْتِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَمْ يَجُزْ حَجُّ غَيْرِهِ عَنْهُ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، لِضَرُورَةِ الْعَجْزِ الَّذِي لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، فَيَتَقَيَّدُ الْجَوَازُ بِهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُجْزِئُ حَجُّ الْغَيْرِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ فَخَرَجَ مِنَ الْعُهْدَةِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَبْرَأْ.لَكِنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا عُوفِيَ بَعْدَ فَرَاغِ النَّائِبِ مِنَ الْحَجِّ، فَإِذَا عُوفِيَ قَبْلَ فَرَاغِ النَّائِبِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُجْزِئَهُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ تَمَامِ الْبَدَلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْزِئَهُ، وَإِنْ بَرَأَ قَبْلَ إِحْرَامِ النَّائِبِ لَمْ يُجْزِئْهُ بِحَالٍ.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ بِالْإِجْزَاءِ وَعَدَمِهِ وَالْمَرِيضُ الَّذِي يُرْجَى زَوَالُ مَرَضِهِ وَالْمَحْبُوسُ وَنَحْوُهُ إِذَا أَحَجَّ عَنْهُ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هَذَا الْحَجُّ مَوْقُوفٌ.إِنْ مَاتَ الْمَحْجُوجُ عَنْهُ وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ مَحْبُوسٌ جَازَ الْحَجُّ، وَإِنْ زَالَ الْمَرَضُ أَوِ الْحَبْسُ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يَجُزْ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، فَلَا تَجُوزُ فِيهِ النِّيَابَةُ كَالصَّحِيحِ، فَإِنْ خَالَفَ وَأَحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، لَمْ يُجْزِئْهُ وَلَوْ لَمْ يَبْرَأْ؛ لِأَنَّهُ يَرْجُو الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ بِهِ الِاسْتِنَابَةُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ مَرَّةً أُخْرَى، وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ إِذَا مَاتَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مَأْيُوسًا مِنْهُ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ مُطْلَقًا.وَقِيلَ تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ لِغَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: تَجُوزُ النِّيَابَةُ لِلْمَعْضُوبِ كَالزَّمِنِ وَالْهَرِمِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ آجَرَ صَحِيحٌ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ لَزِمَهُ لِلْخِلَافِ.وَسَوَاءٌ فِيمَا مَرَّ فِي الْمَذَاهِبِ حَجُّ الْفَرِيضَةِ وَحَجُّ النَّذْرِ.وَالْعُمْرَةُ فِي ذَلِكَ كَالْحَجِّ.
17- أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِحَجِّ التَّطَوُّعِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَجُوزُ فِيهِ الِاسْتِنَابَةُ بِعُذْرٍ وَبِدُونِ عُذْرٍ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ لِعُذْرٍ جَازَ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا حَجَّةٌ لَا تَلْزَمُهُ بِنَفْسِهِ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهَا كَالْمَعْضُوبِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ كَالْفَرْضِ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ فِيمَا إِذَا كَانَ بِعُذْرٍ: أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَى الِاسْتِنَابَةِ فِيهِ، فَلَمْ تَجُزِ الِاسْتِنَابَةُ فِيهِ كَالصَّحِيحِ، وَالثَّانِي يَجُوزُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ جَازَتِ النِّيَابَةُ فِي فَرْضِهَا جَازَتِ النِّيَابَةُ فِي نَفْلِهَا.وَتُكْرَهُ الِاسْتِنَابَةُ فِي التَّطَوُّعِ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ.
18- وَمَا مَرَّ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيِّ.أَمَّا الْمَيِّتُ فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: مَنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَاءِ الْحَجِّ سَقَطَ فَرْضُهُ، وَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ عَنْهُ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَدَاءِ وَلَمْ يُؤَدِّ لَمْ يَسْقُطِ الْفَرْضُ، وَيَجِبُ الْقَضَاءُ مِنْ تَرِكَتِهِ، لِمَا رَوَى بُرَيْدَةُ قَالَ: «أَتَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ، وَلَمْ تَحُجَّ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: حُجِّي عَنْ أُمِّكِ» وَلِأَنَّهُ حَقٌّ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ حَالَ الْحَيَاةِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ، كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْحَجُّ الْمَنْذُورُ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، وَإِنَّهَا مَاتَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.قَالَ: فَاقْضِ اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ».
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا يَجِبُ الْحَجُّ عَنْهُ، إِلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ، فَإِذَا أَوْصَى حُجَّ مِنْ تَرِكَتِهِ.وَإِذَا لَمْ يُوصِ بِالْحَجِّ عَنْهُ، فَتَبَرَّعَ الْوَارِثُ بِالْحَجِّ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِالْإِحْجَاجِ عَنْهُ رَجُلًا جَازَ، وَلَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. تَأْخِيرُ الْأَدَاءِ عَنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ:
19- تَأْخِيرُ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ عَنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ دُونَ عُذْرٍ يُوجِبُ الْإِثْمَ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ بِوَقْتٍ مُحَدَّدٍ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَجَبَ قَضَاؤُهَا، وَكَذَلِكَ النَّذْرُ الْمُعَيَّنُ إِذَا لَمْ يُؤَدَّ.وَإِنْ كَانَتِ الْعِبَادَاتُ وَقْتُهَا الْعُمْرُ، كَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ فَإِنَّهُ مَتَى تَوَفَّرَتْ شُرُوطُ الْأَدَاءِ، كَحَوَلَانِ الْحَوْلِ وَكَمَالِ النِّصَابِ فِي الزَّكَاةِ مَعَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ، وَلَمْ يَتِمَّ الْأَدَاءُ تَرَتَّبَ الْمَالُ فِي الذِّمَّةِ، وَكَذَلِكَ الْحَجُّ إِذَا وُجِدَتِ الِاسْتِطَاعَةُ الْمَالِيَّةُ وَالْبَدَنِيَّةُ، وَلَمْ يُؤَدِّ الْحَجَّ فَهُوَ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ الْوَاجِبَاتُ الْمُطْلَقَةُ كَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ مَعَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِيمَنْ مَاتَ، وَلَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ أَوِ الْحَجَّ أَوِ النَّذْرَ أَوِ الْكَفَّارَةَ، وَكُلُّ مَا كَانَ وَاجِبًا مَالِيًّا، وَأَمْكَنَ أَدَاؤُهُ، وَلَمْ يُؤَدَّ حَتَّى مَاتَ الْمُكَلَّفُ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لَا تُؤَدَّى مِنْ تَرِكَتِهِ، إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِهَا، فَإِذَا لَمْ يُوصِ فَقَدْ سَقَطَتْ بِالنِّسْبَةِ لِأَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ تُؤَدَّى مِنْ تَرِكَتِهِ وَإِنْ لَمْ يُوصِ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: قَضَاءٌ.حَجٌّ.زَكَاةٌ.نَذْرٌ).هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً أَوْ غَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
247-موسوعة الفقه الكويتية (أذان 1)
أَذَانٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الْأَذَانُ لُغَةً: الْإِعْلَامُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أَيْ أَعْلِمْهُمْ بِهِ
وَشَرْعًا: الْإِعْلَامُ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، بِأَلْفَاظٍ مَعْلُومَةٍ مَأْثُورَةٍ، عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ.أَوِ الْإِعْلَامُ بِاقْتِرَابِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْفَجْرِ فَقَطْ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الدَّعْوَةُ- النِّدَاءُ:
2- كِلَا اللَّفْظَيْنِ يَتَّفِقُ مَعَ الْأَذَانِ فِي الْمَعْنَى الْعَامِّ وَهُوَ النِّدَاءُ وَالدُّعَاءُ وَطَلَبُ الْإِقْبَالِ.
ب- الْإِقَامَةُ:
3- لِلْإِقَامَةِ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ عِدَّةٌ، مِنْهَا الِاسْتِقْرَارُ، وَالْإِظْهَارُ، وَالنِّدَاءُ وَإِقَامَةُ الْقَاعِدِ.
وَهِيَ فِي الشَّرْعِ: إِعْلَامٌ بِالْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ بِأَلْفَاظٍ مَعْلُومَةٍ مَأْثُورَةٍ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ.
ج- التَّثْوِيبُ:
4- التَّثْوِيبُ فِي اللُّغَةِ: الرُّجُوعُ، وَهُوَ فِي الْأَذَانِ: الْعَوْدُ إِلَى الْإِعْلَامِ بَعْدَ الْإِعْلَامِ، وَهُوَ زِيَادَةُ عِبَارَةِ: (الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ) مَرَّتَيْنِ بَعْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، أَوْ زِيَادَةُ عِبَارَةِ (حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ) بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ.
صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):
5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِسْلَامِ وَشَعَائِرِهِ الظَّاهِرَةِ، وَأَنَّهُ لَوِ اتَّفَقَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهِ قُوتِلُوا، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْحَضَرِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ، وَاسْتَظْهَرَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.كَذَلِكَ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، بِنَاءً عَلَى اصْطِلَاحِهِمْ فِي الْوَاجِبِ.وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ» وَالْأَمْرُ هُنَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى الْكِفَايَةِ؛ وَلِأَنَّهُ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ، فَكَانَ فَرْضَ كِفَايَةٍ كَالْجِهَادِ وَقِيلَ: إِنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لِلْجَمَاعَةِ الَّتِي تَنْتَظِرُ آخَرِينَ لِيُشَارِكُوهُمْ فِي الصَّلَاةِ، وَفِي السَّفَرِ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَمُطْلَقًا فِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهِيَ الَّتِي مَشَى عَلَيْهَا الْخِرَقِيُّ.وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- لِلْأَعْرَابِيِّ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ: افْعَلْ كَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَذَانَ مَعَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ الْوُضُوءَ وَاسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ وَأَرْكَانَ الصَّلَاةِ.وَعَلَى كِلَا الرَّأْيَيْنِ لَوْ أَنَّ قَوْمًا صَلَّوْا بِغَيْرِ أَذَانٍ صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ وَأَثِمُوا، لِمُخَالَفَتِهِمُ السُّنَّةَ وَأَمْرِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-.
وَقِيلَ هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِي الْجُمُعَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ لِلْجَمَاعَةِ، وَالْجَمَاعَةُ وَاجِبَةٌ فِي الْجُمُعَةِ، سُنَّةٌ فِي غَيْرِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
بَدْءُ مَشْرُوعِيَّةِ الْأَذَانِ:
6- شُرِعَ الْأَذَانُ بِالْمَدِينَةِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلَاةَ وَلَيْسَ يُنَادِي بِهَا أَحَدٌ فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَرْنًا مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَوَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلًا يُنَادِي بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-: يَا بِلَالُ قُمْ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ»، «ثُمَّ جَاءَتْ رُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- بِالنَّاقُوسِ لِيُعْمَلَ حَتَّى يُضْرَبَ بِهِ لِيَجْتَمِعَ النَّاسُ لِلصَّلَاةِ طَافَ بِي وَأَنَا نَائِمٌ رَجُلٌ يَحْمِلُ نَاقُوسًا، فَقُلْتُ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَبِيعُ النَّاقُوسَ؟ فَقَالَ: مَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قُلْتُ: نَدْعُو بِهِ لِلصَّلَاةِ، فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ؟، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: تَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَذَكَرَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَتَيْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْتُ، فَقَالَ: إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٍّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ».
وَقِيلَ: إِنَّ الْأَذَانَ شُرِعَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ.وَقِيلَ: إِنَّهُ شُرِعَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ بَعِيدٌ لِمُعَارَضَتِهِ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ.
وَقَدِ اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْأَذَانِ، وَالْعَمَلُ بِهِ جَارٍ مُنْذُ عَهْدِ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- إِلَى يَوْمِنَا هَذَا بِلَا خِلَافٍ.
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْأَذَانِ:
7- شُرِعَ الْأَذَانُ لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَإِعْلَاءِ اسْمِ اللَّهِ بِالتَّكْبِيرِ، وَإِظْهَارِ شَرْعِهِ وَرِفْعَةِ رَسُولِهِ، وَنِدَاءِ النَّاسِ إِلَى الْفَلَاحِ وَالنَّجَاحِ.
فَضْلُ الْأَذَانِ:
8- الْأَذَانُ مِنْ خَيْرِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ فَضْلٌ كَثِيرٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي فَضْلِهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا».وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ».وَقَدْ فَضَّلَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْإِمَامَةِ لِلْأَخْبَارِ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهِ قَالُوا: وَلَمْ يَتَوَلَّهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَلَا خُلَفَاؤُهُ لِضِيقِ وَقْتِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَوْلَا الْخِلَافَةُ لأَذَّنْتُ.
9- وَنَظَرًا لِمَا فِيهِ مِنْ فَضْلٍ وَدَعْوَةِ الرَّسُول- صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ فَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ إِذَا تَشَاحَّ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ عَلَى الْأَذَانِ قُدِّمَ مَنْ تَوَافَرَتْ فِيهِ شَرَائِطُ الْأَذَانِ، فَإِنْ تَسَاوَوْا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ.وَقَدْ تَشَاحَّ النَّاسُ فِي الْأَذَانِ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ سَعْدٌ.
أَلْفَاظُ الْأَذَانِ:
10- أَلْفَاظُ الْأَذَانِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فِي رُؤْيَاهُ الَّتِي قَصَّهَا عَلَى النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- هِيَ الَّتِي أَخَذَ بِهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهِيَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.
هَكَذَا حَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ أَذَانَ (الْمَلَكِ) النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ، وَوَافَقَهُ عُمَرُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-: فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ، فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ
وَأَخَذَ الشَّافِعِيَّةُ بِحَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ وَهُوَ بِنَفْسِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، مَعَ زِيَادَةِ التَّرْجِيعِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ فِي أَوَّلِ الْأَذَانِ مَرَّتَانِ فَقَطْ مِثْلُ آخِرِهِ وَلَيْسَ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّهُ عَمَلُ السَّلَفِ بِالْمَدِينَةِ، وَلِرِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فِيهَا التَّكْبِيرُ فِي أَوَّلِ الْأَذَانِ مَرَّتَيْنِ فَقَطْ.
التَّرْجِيعُ فِي الْأَذَانِ:
11- التَّرْجِيعُ هُوَ أَنْ يَخْفِضَ الْمُؤَذِّنُ صَوْتَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ إِسْمَاعِهِ الْحَاضِرِينَ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِهِمَا.وَهُوَ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا فِي الرَّاجِحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ بِلَالًا لَمْ يَكُنْ يُرَجِّعُ فِي أَذَانِهِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي أَذَانِ الْمَلَكِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ.
وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَفِي الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِوُرُودِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ، وَهِيَ الصِّفَةُ الَّتِي عَلَّمَهَا لَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-، وَعَلَيْهَا السَّلَفُ وَالْخَلَفُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ مُبَاحٌ وَلَا يُكْرَهُ الْإِتْيَانُ بِهِ لِوُرُودِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ.وَبِهَذَا أَيْضًا قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ رُكْنٌ فِي الْأَذَانِ.
التَّثْوِيبُ:
12- التَّثْوِيبُ هُوَ أَنْ يَزِيدَ الْمُؤَذِّنُ عِبَارَةَ (الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ) مَرَّتَيْنِ بَعْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ فِي أَذَانِ الْفَجْرِ، أَوْ بَعْدَ الْأَذَانِ كَمَا يَقُولُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، «لِقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- لِأَبِي مَحْذُورَةَ: فَإِذَا كَانَ صَلَاةُ الصُّبْحِ قُلْتَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ» كَذَلِكَ «لَمَّا أَتَى بِلَالٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يُؤْذِنْهُ بِالصُّبْحِ فَوَجَدَهُ رَاقِدًا فَقَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: مَا أَحْسَنَ هَذَا يَا بِلَالُ، اجْعَلْهُ فِي أَذَانِكَ».وَخُصَّ التَّثْوِيبُ بِالصُّبْحِ لِمَا يَعْرِضُ لِلنَّائِمِ مِنَ التَّكَاسُلِ بِسَبَبِ النَّوْمِ.
وَأَجَازَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ التَّثْوِيبَ فِي الصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ؛ لِأَنَّ الْعِشَاءَ وَقْتُ غَفْلَةٍ وَنَوْمٍ كَالْفَجْرِ
وَأَجَازَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ؛ لِفَرْطِ الْغَفْلَةِ عَلَى النَّاسِ فِي زَمَانِنَا وَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي غَيْرِ الْفَجْرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ بِلَالٍ أَنَّهُ قَالَ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- أَنْ أُثَوِّبَ فِي الْفَجْرِ وَنَهَانِي أَنْ أُثَوِّبَ فِي الْعِشَاءِ».وَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ فَسَمِعَ رَجُلًا يُثَوِّبُ فِي أَذَانِ الظُّهْرِ فَخَرَجَ، فَقِيلَ لَهُ: أَيْنَ؟ فَقَالَ: أَخْرَجَتْنِي الْبِدْعَةُ.
هَذَا هُوَ التَّثْوِيبُ الْوَارِدُ فِي السُّنَّةِ.
13- وَقَدِ اسْتَحْدَثَ عُلَمَاءُ الْكُوفَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بَعْدَ عَهْدِ الصَّحَابَةِ تَثْوِيبًا آخَرَ، وَهُوَ زِيَادَةُ الْحَيْعَلَتَيْنِ أَيْ عِبَارَةِ «حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ» مَرَّتَيْنِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الْفَجْرِ، وَاسْتَحْسَنَهُ مُتَقَدِّمُو الْحَنَفِيَّةِ فِي الْفَجْرِ فَقَطْ، وَكُرِهَ عِنْدَهُمْ فِي غَيْرِهِ، وَالْمُتَأَخِّرُونَ مِنْهُمُ اسْتَحْسَنُوهُ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا- إِلاَّ فِي الْمَغْرِبِ لِضِيقِ الْوَقْتِ- وَذَلِكَ لِظُهُورِ التَّوَانِي فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَقَالُوا: إِنَّ التَّثْوِيبَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الصَّلَوَاتِ يَكُونُ بِحَسَبِ مَا يَتَعَارَفُهُ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ، بِالتَّنَحْنُحِ، أَوِ الصَّلَاةَ، الصَّلَاةَ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.كَذَلِكَ اسْتَحْدَثَ أَبُو يُوسُفَ جَوَازَ التَّثْوِيبِ؛ لِتَنْبِيهِ كُلِّ مَنْ يَشْتَغِلُ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَمَصَالِحِهِمْ، كَالْإِمَامِ وَالْقَاضِي وَنَحْوِهِمَا، فَيَقُولُ الْمُؤَذِّنُ بَعْدَ الْأَذَانِ:
السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، الصَّلَاةَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ وَشَارَكَ أَبَا يُوسُفَ فِي هَذَا الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْإِمَامُ وَنَحْوُهُ قَدْ سَمِعَ الْأَذَانَ وَاسْتَبْعَدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ سَوَاسِيَةٌ فِي أَمْرِ الْجَمَاعَةِ وَشَارَكَهُ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ.
14- وَأَمَّا مَا يَقُومُ بِهِ بَعْضُ الْمُؤَذِّنِينَ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ فَقَدِ اعْتَبَرَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ بِدْعَةً حَسَنَةً، وَقَالَ عَنْهُ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ مِنَ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ، وَلَا يَلْزَمُ فِعْلُهُ وَلَوْ شَرَطَهُ الْوَاقِفُ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ.
الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ الْأَذَانِ:
15- يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْمُؤَذِّنِ بَعْدَ الْأَذَانِ سُنَّةٌ، وَعِنْدَهُمْ يُسَنُّ لِلْمُؤَذِّنِ مُتَابَعَةُ قَوْلِهِ سِرًّا مِثْلَهُ كَالْمُسْتَمِعِ لِيَجْمَعَ بَيْنَ أَدَاءِ الْأَذَانِ وَالْمُتَابَعَةِ، وَرُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَذَّنَ فَقَالَ كَلِمَةً مِنَ الْأَذَانِ قَالَ مِثْلَهَا سِرًّا؛ لِيَكُونَ مَا يُظْهِرُهُ أَذَانًا وَدُعَاءً إِلَى الصَّلَاةِ، وَمَا يُسِرُّهُ ذِكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَمِعَ الْأَذَانَ.
بِذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يَشْمَلَ الْمُؤَذِّنَ الْأَمْرُ الْوَارِدُ فِي قَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ».
وَاعْتَبَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِدْعَةً حَسَنَةً وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبِشْبِيشِيُّ فِي رِسَالَتِهِ الْمُسَمَّاةِ بِالتُّحْفَةِ السَّنِيَّةِ فِي أَجْوِبَةِ الْأَسْئِلَةِ الْمَرْضِيَّةِ أَنَّ أَوَّلَ مَا زِيدَتِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ كُلِّ أَذَانٍ عَلَى الْمَنَارَةِ زَمَنَ السُّلْطَانِ الْمَنْصُورِ حَاجِّيِّ بْنِ الْأَشْرَفِ شَعْبَانَ وَذَلِكَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ 791 هـ وَكَانَ قَدْ حَدَثَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ السُّلْطَانِ يُوسُفَ صَلَاحِ الدِّينِ بْنِ أَيُّوبَ أَنْ يُقَالَ قَبْلَ أَذَانِ الْفَجْرِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ بِمِصْرَ وَالشَّامِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى سَنَةِ 777 هـ فَزِيدَ فِيهِ بِأَمْرِ الْمُحْتَسِبِ صَلَاحِ الدِّينِ الْبُرُلُّسِيِّ أَنْ يُقَالَ: الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ جَعَلَ ذَلِكَ عَقِبَ كُلِّ أَذَانٍ سَنَةَ (791) هـ.
النِّدَاءُ بِالصَّلَاةِ فِي الْمَنَازِلِ:
16- يَجُوزُ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ شِدَّةِ الْمَطَرِ أَوِ الرِّيحِ أَوِ الْبَرْدِ: أَلَا صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ الْأَذَانِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَذَّنَ بِالصَّلَاةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ ذَاتُ بَرْدٍ وَمَطَرٍ أَنْ يَقُولَ: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ» وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا ابْتَلَّتِ النِّعَالُ فَالصَّلَاةُ فِي الرِّحَالِ». شَرَائِطُ الْأَذَانِ
يُشْتَرَطُ فِي الْأَذَانِ لِلصَّلَاةِ مَا يَأْتِي:
دُخُولُ وَقْتِ الصَّلَاةِ:
17- دُخُولُ وَقْتِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ شَرْطٌ لِلْأَذَانِ، فَلَا يَصِحُّ الْأَذَانُ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ- إِلاَّ فِي الْأَذَانِ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ عَلَى مَا سَيَأْتِي- لِأَنَّ الْأَذَانَ شُرِعَ لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، فَإِذَا قُدِّمَ عَلَى الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ، وَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ قَبْلَ الْوَقْتِ أَعَادَ الْأَذَانَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، إِلاَّ إِذَا صَلَّى النَّاسُ فِي الْوَقْتِ وَكَانَ الْأَذَانُ قَبْلَهُ فَلَا يُعَادُ.وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَرْجِعَ فَيُنَادِيَ: أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ، فَرَجَعَ فَنَادَى: أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ».
وَالْمُسْتَحَبُّ إِذَا دَخَلَ الْوَقْتُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي أَوَّلِهِ، لِيَعْلَمَ النَّاسُ فَيَأْخُذُوا أُهْبَتَهُمْ لِلصَّلَاةِ، وَكَانَ بِلَالٌ لَا يُؤَخِّرُ الْأَذَانَ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْفَجْرِ فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْأَذَانُ لِلْفَجْرِ قَبْلَ الْوَقْتِ، فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ، وَفِي السُّدُسِ الْأَخِيرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.وَيُسَنُّ الْأَذَانُ ثَانِيًا عِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ لِقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ».
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- غَيْرِ أَبِي يُوسُفَ- لَا يَجُوزُ الْأَذَانُ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ إِلاَّ عِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ؛ لِمَا رَوَى شَدَّادٌ مَوْلَى عِيَاضِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِبِلَالٍ: «لَا تُؤَذِّنْ حَتَّى يَسْتَبِينَ لَكَ الْفَجْرُ».
18- وَأَمَّا الْجُمُعَةُ فَمِثْلُ بَاقِي الصَّلَوَاتِ لَا يَجُوزُ الْأَذَانُ لَهَا قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَلِلْجُمُعَةِ أَذَانَانِ، أَوَّلُهُمَا عِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَهُوَ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ مِنْ خَارِجِ الْمَسْجِدِ- عَلَى الْمِئْذَنَةِ وَنَحْوِهَا- وَقَدْ أَمَرَ بِهِ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ كَثُرَ النَّاسُ.
وَالثَّانِي وَهُوَ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ إِذَا صَعِدَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَيَكُونُ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ بَيْنَ يَدَيِ الْخَطِيبِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- وَعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ حَتَّى أَحْدَثَ عُثْمَانُ الْأَذَانَ الثَّانِيَ.
وَكِلَا الْأَذَانَيْنِ مَشْرُوعٌ إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّهُ اسْتَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لِلْجُمُعَةِ أَذَانٌ وَاحِدٌ عِنْدَ الْمِنْبَرِ.هَذَا وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَذَانَيِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَحْكَامٍ وَأَيِّهِمَا الْمُعْتَبَرِ فِي تَحْرِيمِ الْبَيْعِ (ر: بَيْعٌ، وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ).
النِّيَّةُ فِي الْأَذَانِ:
19- نِيَّةُ الْأَذَانِ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِحَدِيثِ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَلِذَلِكَ لَوْ أَخَذَ شَخْصٌ فِي ذِكْرِ اللَّهِ بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ بَدَا لَهُ عَقِبَ مَا كَبَّرَ أَنْ يُؤَذِّنَ فَإِنَّهُ يَبْتَدِئُ الْأَذَانَ مِنْ أَوَّلِهِ، وَلَا يَبْنِي عَلَى مَا قَالَ.وَالنِّيَّةُ لَيْسَتْ شَرْطًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْأَرْجَحِ وَلَكِنَّهَا مَنْدُوبَةٌ، إِلاَّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ عَدَمُ الصَّارِفِ فَلَوْ قَصَدَ تَعْلِيمَ غَيْرِهِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَا تُشْتَرَطُ عِنْدَهُمُ النِّيَّةُ لِصِحَّةِ الْأَذَانِ وَإِنْ كَانَتْ شَرْطًا لِلثَّوَابِ عَلَيْهِ.
أَدَاءُ الْأَذَانِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ:
20- اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ كَوْنَ الْأَذَانِ بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ عَلَى الصَّحِيحِ وَلَا يَصِحُّ الْإِتْيَانُ بِهِ بِأَيِّ لُغَةٍ أُخْرَى وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ أَذَانٌ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ إِنْ كَانَ يُؤَذِّنُ لِجَمَاعَةٍ وَفِيهِمْ مَنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ لَمْ يَجُزِ الْأَذَانُ بِغَيْرِهَا، وَيُجْزِئُ إِنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يُحْسِنُهَا، وَإِنْ كَانَ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ لَا يُجْزِئُهُ الْأَذَانُ بِغَيْرِهَا وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُهَا أَجْزَأَهُ.وَلَمْ يَظْهَرْ لِلْمَالِكِيَّةِ نَصٌّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
خُلُوُّ الْأَذَانِ مِنَ اللَّحْنِ:
21- اللَّحْنُ الَّذِي يُغَيِّرُ الْمَعْنَى فِي الْأَذَانِ كَمَدِّ هَمْزَةِ اللَّهُ أَكْبَرُ أَوْ بَائِهِ يُبْطِلُ الْأَذَانَ، فَإِنْ لَمْ يُغَيِّرِ الْمَعْنَى فَهُوَ مَكْرُوهٌ وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: اللَّحْنُ الَّذِي يُغَيِّرُ الْكَلِمَاتِ لَا يَحِلُّ فِعْلُهُ.
التَّرْتِيبُ بَيْنَ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ:
22- يُقْصَدُ بِالتَّرْتِيبِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤَذِّنُ بِكَلِمَاتِ الْأَذَانِ عَلَى نَفْسِ النَّظْمِ وَالتَّرْتِيبِ الْوَارِدِ فِي السُّنَّةِ دُونَ تَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ لِكَلِمَةٍ أَوْ جُمْلَةٍ عَلَى الْأُخْرَى، وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ التَّرْتِيبَ عِنْدَهُمْ وَاجِبٌ فَإِنْ فَعَلَ الْمُؤَذِّنُ ذَلِكَ اسْتَأْنَفَ الْأَذَانَ مِنْ أَوَّلِهِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ التَّرْتِيبِ يُخِلُّ بِالْإِعْلَامِ الْمَقْصُودِ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ يُعْتَدُّ بِهِ فَلَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِنَظْمِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْمُنْتَظِمِ مِنْهُ، فَلَوْ قَدَّمَ الشَّهَادَةَ بِالرِّسَالَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ بِالتَّوْحِيدِ أَعَادَ الشَّهَادَةَ بِالرِّسَالَةِ، وَإِنْ كَانَ الِاسْتِئْنَافُ أَوْلَى.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَعِنْدَهُمُ التَّرْتِيبُ سُنَّةٌ، فَلَوْ قَدَّمَ فِي الْأَذَانِ جُمْلَةً عَلَى الْأُخْرَى أَعَادَ مَا قَدَّمَ فَقَطْ وَلَا يَسْتَأْنِفُهُ مِنْ أَوَّلِهِ.
الْمُوَالَاةُ بَيْنَ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ:
23- الْمُوَالَاةُ فِي الْأَذَانِ هِيَ الْمُتَابَعَةُ بَيْنَ أَلْفَاظِهِ بِدُونِ فَصْلٍ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَمِنَ الْفَصْلِ بَيْنَ أَلْفَاظِهِ مَا يَحْدُثُ دُونَ إِرَادَةٍ كَالْإِغْمَاءِ أَوِ الرُّعَافِ أَوِ الْجُنُونِ.وَالْفَصْلُ بَيْنَ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ بِأَيِّ شَيْءٍ كَسُكُوتٍ أَوْ نَوْمٍ أَوْ كَلَامٍ أَوْ إِغْمَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، إِنْ كَانَ يَسِيرًا فَلَا يُبْطِلُ الْأَذَانَ وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيُسَنُّ اسْتِئْنَافُ الْأَذَانِ فِي غَيْرِ السُّكُوتِ وَالْكَلَامِ.هَذَا مَعَ اتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى كَرَاهَةِ الْكَلَامِ الْيَسِيرِ إِنْ كَانَ لِغَيْرِ سَبَبٍ أَوْ ضَرُورَةٍ.
أَمَّا إِذَا طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ، وَلَوْ مُضْطَرًّا إِلَيْهِ كَإِنْقَاذِ أَعْمَى، أَوْ نَوْمٍ طَوِيلٍ أَوْ إِغْمَاءٍ أَوْ جُنُونٍ فَيَبْطُلُ الْأَذَانُ وَيَجِبُ اسْتِئْنَافُهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ طَرِيقَةُ الْخُرَاسَانِيِّينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَالْأَشْبَهُ وُجُوبُ الِاسْتِئْنَافِ عِنْدَ طُولِ الْفَصْلِ، وَقَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِعَدَمِ الْبُطْلَانِ مَعَ اسْتِحْبَابِ الِاسْتِئْنَافِ.
وَأَلْحَقَ الْحَنَابِلَةُ بِحَالَاتِ بُطْلَانِ الْأَذَانِ وَوُجُوبِ اسْتِئْنَافِهِ الْفَصْلَ بِالْكَلَامِ الْيَسِيرِ الْفَاحِشِ كَالشَّتْمِ وَالْقَذْفِ.
رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْأَذَانِ:
24- أَوْجَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالْأَذَانِ؛ لِيَحْصُلَ السَّمَاعُ الْمَقْصُودُ لِلْأَذَانِ، وَهُوَ كَذَلِكَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْغَرَضُ إِعْلَامَ غَيْرِ الْحَاضِرِينَ بِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، أَمَّا مَنْ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِحَاضِرٍ مَعَهُ فَلَا يُشْتَرَطُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِهِ إِلاَّ بِقَدْرِ مَا يُسْمِعُ نَفْسَهُ أَوْ يَسْمَعُهُ الْحَاضِرُ مَعَهُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ وَبَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ إِلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: عَلِّمْهُ بِلَالًا فَإِنَّهُ أَنْدَى وَأَمَدَّ صَوْتًا مِنْكَ».
25- هَذَا وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْهِدَ الْمُؤَذِّنُ نَفْسَهُ بِمَا فَوْقَ طَاقَتِهِ مُبَالَغَةً فِي رَفْعِ صَوْتِهِ بِالْأَذَانِ خَشْيَةَ حُدُوثِ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ لَهُ.
26- وَلِكَيْ يَكُونَ الْأَذَانُ مَسْمُوعًا وَمُحَقِّقًا لِلْغَرَضِ مِنْهُ اسْتَحَبَّ الْفُقَهَاءُ أَنْ يَكُونَ الْأَذَانُ مِنْ فَوْقِ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ يُسَاعِدُ عَلَى انْتِشَارِ الصَّوْتِ بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ أَكْبَرُ عَدَدٍ مُمْكِنٍ مِنَ النَّاسِ كَالْمِئْذَنَةِ وَنَحْوِهَا.
سُنَنُ الْأَذَانِ
اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ:
27- يُسَنُّ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ حَالَ الْأَذَانِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَوْ تَرَكَ الِاسْتِقْبَالَ يُجْزِئُهُ وَيُكْرَهُ، لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ؛ لِأَنَّ مُؤَذِّنِي النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- كَانُوا يُؤَذِّنُونَ مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ
وَجَازَ عِنْدَ بَعْضِ كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الدَّوَرَانُ حَالَ الْأَذَانِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَسْمَعَ لِصَوْتِهِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْإِعْلَامُ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا لَمْ يَتِمَّ الْإِعْلَامُ بِتَحْوِيلِ وَجْهِهِ عِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ فَقَطْ مَعَ ثَبَاتِ قَدَمَيْهِ فَإِنَّهُ يَسْتَدِيرُ بِجِسْمِهِ فِي الْمِئْذَنَةِ.
وَعِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ أَيْ قَوْلِهِ (حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ) يُسَنُّ أَنْ يَلْتَفِتَ الْمُؤَذِّنُ فَيُحَوِّلُ وَجْهَهُ- فَقَطْ دُونَ اسْتِدَارَةِ جِسْمِهِ- يَمِينًا وَيَقُولُ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ يُحَوِّلُ وَجْهَهُ شِمَالًا وَهُوَ يَقُولُ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ مَرَّتَيْنِ، هَكَذَا كَانَ أَذَانُ بِلَالٍ وَبِهَذَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ.
التَّرَسُّلُ أَوِ التَّرْتِيلُ:
28- التَّرَسُّلُ هُوَ التَّمَهُّلُ وَالتَّأَنِّي، وَيَكُونُ بِسَكْتَةٍ- تَسَعُ الْإِجَابَةَ- بَيْنَ كُلِّ جُمْلَتَيْنِ مِنْ جُمَلِ الْأَذَانِ، عَلَى أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ بِصَوْتٍ وَيُفْرِدَ بَاقِيَ كَلِمَاتِهِ؛ لِلْأَمْرِ بِذَلِكَ فِي قَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ» وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْأَذَانِ هُوَ إِعْلَامُ الْغَائِبِينَ بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَالتَّرَسُّلُ أَبْلَغُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِسْرَاعِ وَقَدْ لَخَّصَ ابْنُ عَابِدِينَ مَا فِي مَسْأَلَةِ حَرَكَةِ رَاءِ التَّكْبِيرَاتِ فَقَالَ «الْحَاصِلُ أَنَّ التَّكْبِيرَةَ الثَّانِيَةَ فِي الْأَذَانِ سَاكِنَةُ الرَّاءِ لِلْوَقْفِ حَقِيقَةً وَرَفْعُهَا خَطَأٌ، وَأَمَّا التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى مِنْ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ مِنْهُ وَجَمِيعُ تَكْبِيرَاتِ الْإِقَامَةِ فَقِيلَ مُحَرَّكَةُ الرَّاءِ بِالْفَتْحَةِ عَلَى نِيَّةِ الْوَقْفِ، وَقِيلَ بِالضَّمَّةِ إِعْرَابًا، وَقِيلَ سَاكِنَةٌ بِلَا حَرَكَةٍ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَمْدَادِ وَالزَّيْلَعِيِّ وَالْبَدَائِعِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالَّذِي يُظْهِرُ الْإِعْرَابَ لِمَا ذَكَرَهُ عَنِ الطَّلَبَةِ، وَلِمَا فِي الْأَحَادِيثِ الْمُشْتَهِرَةِ لِلْجِرَاحِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ السُّيُوطِيُّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ هُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَمَعْنَاهُ كَمَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الرَّافِعِيُّ وَابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّهُ لَا يَمُدُّ.وَإِطْلَاقُ الْجَزْمِ عَلَى حَذْفِ الْحَرَكَةِ الْإِعْرَابِيَّةِ لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا هُوَ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ فَلَا يَصِحُّ الْحَمْلُ عَلَيْهِ».
صِفَاتُ الْمُؤَذِّنِ
مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مِنَ الصِّفَاتِ:
الْإِسْلَامُ:
29- إِسْلَامُ الْمُؤَذِّنِ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ، فَلَا يَصِحُّ أَذَانُ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ الصَّلَاةَ الَّتِي يُعْتَبَرُ الْأَذَانُ دُعَاءً لَهَا، فَإِتْيَانُهُ بِالْأَذَانِ ضَرْبٌ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ وَلَا يُعْتَدُّ بِأَذَانِهِ، وَفِي حُكْمِ إِسْلَامِهِ لَوْ أَذَّنَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحَ: (إِسْلَامٌ).
الذُّكُورَةُ:
30- مِنَ الشُّرُوطِ الْوَاجِبَةِ فِي الْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا، فَلَا يَصِحُّ أَذَانُ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ رَفْعَ صَوْتِهَا قَدْ يُوقِعُ فِي الْفِتْنَةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا يُعْتَدُّ بِأَذَانِهَا لَوْ أَذَّنَتْ.وَاعْتَبَرَ الْحَنَفِيَّةُ الذُّكُورَةَ مِنَ السُّنَنِ، وَكَرِهُوا أَذَانَ الْمَرْأَةِ، وَاسْتَحَبَّ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إِعَادَةَ الْأَذَانِ لَوْ أَذَّنَتْ، وَفِي الْبَدَائِعِ: لَوْ أَذَّنَتْ لِلْقَوْمِ أَجْزَأَ، وَلَا يُعَادُ، لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَأَجَازَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَذَانَهَا لِجَمَاعَةِ النِّسَاءِ دُونَ رَفْعِ صَوْتِهَا.
الْعَقْلُ:
31- يُشْتَرَطُ فِي الْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا، فَلَا يَصِحُّ الْأَذَانُ مِنْ مَجْنُونٍ وَسَكْرَانَ لِعَدَمِ تَمْيِيزِهِمَا، وَيَجِبُ إِعَادَةُ الْأَذَانِ لَوْ وَقَعَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ كَلَامَهُمَا لَغْوٌ، وَلَيْسَا فِي الْحَالِ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَرِهَ الْحَنَفِيَّةُ أَذَانَ غَيْرِ الْعَاقِلِ، وَاسْتُحِبَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إِعَادَةُ أَذَانِهِ.
الْبُلُوغُ:
32- الصَّبِيُّ غَيْرُ الْعَاقِلِ (أَيْ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ) لَا يَجُوزُ أَذَانُهُ بِاتِّفَاقٍ؛ لِأَنَّ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، أَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ فَيَجُوزُ أَذَانُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (مَعَ كَرَاهَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا اعْتَمَدَ عَلَى بَالِغٍ عَدْلٍ فِي مَعْرِفَةِ دُخُولِ الْوَقْتِ. مَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ الْمُؤَذِّنُ:
33- يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ طَاهِرًا مِنَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَالْأَكْبَرِ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ ذِكْرٌ مُعَظَّمٌ، فَالْإِتْيَانُ بِهِ مَعَ الطَّهَارَةِ أَقْرَبُ إِلَى التَّعْظِيمِ، وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «لَا يُؤَذِّنُ إِلاَّ مُتَوَضِّئٌ» وَيَجُوزُ أَذَانُ الْمُحْدِثِ مَعَ الْكَرَاهَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَدَثِ الْأَكْبَرِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَدَثِ الْأَصْغَرِ كَذَلِكَ.
34- وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ عَلَى الْمَوَاقِيتِ، وَلْيُؤَمِّنْ نَظَرَهُ إِلَى الْعَوْرَاتِ.وَيَصِحُّ أَذَانُ الْفَاسِقِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا يُعْتَدُّ بِأَذَانِ ظَاهِرِ الْفِسْقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ، وَفِي الْوَجْهِ الْآخَرِ يُعْتَدُّ بِأَذَانِهِ؛ لِأَنَّهُ تَصِحُّ صَلَاتُهُ بِالنَّاسِ، فَكَذَا أَذَانُهُ.
35- وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ صَيِّتًا، أَيْ حَسَنَ الصَّوْتِ، «لِقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ، فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ، فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ»؛ وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِعْلَامِ، هَذَا مَعَ كَرَاهَةِ التَّمْطِيطِ وَالتَّطْرِيبِ.
36- وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ حَالَ الْأَذَانِ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِلَالًا بِذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّهُ أَرْفَعُ لِصَوْتِكَ».
37- وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ قَائِمًا، لِقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- لِبِلَالٍ: «قُمْ فَأَذِّنْ بِالصَّلَاةِ» قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ أَنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِسْمَاعِ.وَلَا يُؤَذِّنُ قَاعِدًا إِلاَّ لِعُذْرٍ، أَوْ كَانَ الْأَذَانُ لِنَفْسِهِ كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ رَاكِبًا إِلاَّ فِي سَفَرٍ، وَأَجَازَ أَبُو يُوسُفَ وَالْمَالِكِيَّةُ أَذَانَ الرَّاكِبِ فِي الْحَضَرِ
38- وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ؛ لِيَتَحَرَّاهَا فَيُؤَذِّنَ فِي أَوَّلِهَا، حَتَّى كَانَ الْبَصِيرُ أَفْضَلَ مِنَ الضَّرِيرِ، لِأَنَّ الضَّرِيرَ لَا عِلْمَ لَهُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ
39- وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ هُوَ الْمُقِيمَ؛ لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ «زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ، حِينَ أَذَّنَ فَأَرَادَ بِلَالٌ أَنْ يُقِيمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ أَخَا صُدَاءٍ قَدْ أَذَّنَ، وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ».
40- وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ مُحْتَسِبًا، وَلَا يَأْخُذَ عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الطَّاعَةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ: «مَنْ أَذَّنَ سَبْعَ سِنِينَ مُحْتَسِبًا كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ» وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ مُتَطَوِّعٌ رَزَقَ الْإِمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَنْ يَقُومُ بِهِ؛ لِحَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ.
41- وَبِالنِّسْبَةِ لِلْإِجَارَةِ عَلَى الْأَذَانِ فَقَدْ أَجَازَهُ مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ، لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَأَجَازَهُ كَذَلِكَ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ (ر: إِجَارَةٌ).
مَا يُشْرَعُ لَهُ الْأَذَانُ مِنَ الصَّلَوَاتِ:
42- الْأَصْلُ أَنَّ الْأَذَانَ شُرِعَ لِلصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ فِي حَالِ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ وَالْجَمَاعَةِ وَالِانْفِرَادِ، أَدَاءً وَقَضَاءً، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ إِلاَّ مَا قَالَهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ أَنَّهُ يُكْرَهُ الْأَذَانُ لِلْفَائِتَةِ، وَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ لَا أَذَانَ فِي الْحَضَرِ لِلْمُنْفَرِدِ، وَلِلْجَمَاعَةِ غَيْرِ الْمُسَافِرَةِ الْمُجْتَمِعِينَ بِمَوْضِعٍ وَلَا يُرِيدُونَ دُعَاءَ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ إِنَّمَا جُعِلَ لِيُدْعَى بِهِ الْغَائِبُ، وَلَا غَائِبَ حَتَّى يُدْعَى.وَيُنْدَبُ لَهُمُ الْأَذَانُ فِي السَّفَرِ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ بَعْضُ الْفُرُوعِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ وَهِيَ:
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
248-موسوعة الفقه الكويتية (إرسال 2)
إِرْسَالٌ -2أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُرْسَلُ مَاءً، فَالْحُكْمُ يَخْتَلِفُ تَبَعًا لِحَالَةِ الْمَاءِ الْمُرْسَلِ وَطَبِيعَةِ الْأَرْضِ، فَلَوْ أَرْسَلَ مَاءً فِي أَرْضِهِ فَخَرَجَ الْمَاءُ إِلَى أَرْضِ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ مَا أَرْسَلَهُ تَحْتَمِلُهُ أَرْضُهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.وَإِنْ أَرْسَلَ مَا لَا تَحْتَمِلُهُ الْأَرْضُ كَانَ ضَامِنًا فَإِنْ سَقَى أَرْضَهُ ثُمَّ أَرْسَلَ الْمَاءَ فِي النَّهْرِ حَتَّى جَاوَزَ عَنْ أَرْضِهِ وَقَدْ كَانَ رَجُلٌ أَسْفَلَ مِنْهُ طَرَحَ فِي النَّهْرِ تُرَابًا، فَمَالَ الْمَاءُ عَنِ النَّهْرِ حَتَّى غَرِقَ قَصْرُ إِنْسَانٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُرْسِلِ؛ لِأَنَّهُ أَرْسَلَ الْمَاءَ فِي النَّهْرِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِكَ، وَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى مَنْ طَرَحَ التُّرَابَ فِي النَّهْرِ وَمَنَعَ الْمَاءَ عَنِ السَّيَلَانِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ.وَلَوْ فَتَحَ فُوَّهَةَ النَّهْرِ وَأَرْسَلَ مَاءً قَدْرَ مَا يَحْتَمِلُهُ النَّهْرُ، فَدَخَلَ الْمَاءُ مِنْ فَوْرِهِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ فِي أَرْضِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.
هَذَا، وَمِمَّا يَجْدُرُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ هُوَ أَنْ نَذْكُرَ الدَّلِيلَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْحَنَابِلَةُ فِي مُوَافَقَتِهِمْ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي أَنَّ الضَّمَانَ فِي الْمُتْلَفِ لَيْلًا لَا نَهَارًا، وَالدَّلِيلُ هُوَ رِوَايَةُ الْإِمَامِ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حِزَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ «أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ دَخَلَتْ حَائِطَ قَوْمٍ فَأَفْسَدَتْ- أَيْ مَا فِيهِ مِنْ أَمْوَالٍ- فَقَضَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْأَمْوَالِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ، وَمَا أَفْسَدَتْ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِمْ».
وَلِأَنَّ الْعَادَةَ مِنْ أَهْلِ الْمَوَاشِي إِرْسَالُهَا نَهَارًا لِلرَّعْيِ وَحِفْظُهَا لَيْلًا، وَعَادَةُ أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظُهَا نَهَارًا، فَإِذَا أَفْسَدَتْ شَيْئًا لَيْلًا كَانَ مِنْ ضَمَانِ مَنْ هِيَ بِيَدِهِ إِنْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا، مِثْلَ مَا إِذَا لَمْ يَضُمَّهَا وَنَحْوَهُ لَيْلًا، أَوْ ضَمَّهَا بِحَيْثُ يُمْكِنُهَا الْخُرُوجُ.أَمَّا إِذَا ضَمَّهَا مَنْ هِيَ بِيَدِهِ لَيْلًا فَأَخْرَجَهَا غَيْرُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ أَوْ فَتْحَ غَيْرُهُ عَلَيْهَا بَابَهَا فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا، فَالضَّمَانُ عَلَى مُخْرِجِهَا أَوْ فَاتِحِ بَابِهَا؛ لِأَنَّهُ السَّبَبُ وَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ كَانَتْ بِيَدِهِ لِعَدَمِ تَفْرِيطِهِ.ثُمَّ أَضَافَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، بِأَنَّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِيهَا زَرْعٌ وَمَرَاعِي.أَمَّا الْقُرَى الْعَامِرَةُ الَّتِي لَا مَرْعَى فِيهَا إِلاَّ بَيْنَ مَرَاحَيْنِ كَسَاقِيَةٍ وَطُرُقِ زَرْعٍ فَلَيْسَ لَهُ إِرْسَالُهَا بِغَيْرِ حَافِظٍ، فَإِنْ فَعَلَ لَزِمَهُ الضَّمَانُ لِتَفْرِيطِهِ.
وَقَدْ خَالَفَ الْحَنَابِلَةُ مَا قَالَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْعَادَةَ تُرَاعَى فِي أَحْكَامِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، إِذْ قَالَ الْحَارِثِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ جَرَتْ عَادَةُ بَعْضِ أَهْلِ النَّوَاحِي رَبْطُهَا نَهَارًا وَإِرْسَالُهَا لَيْلًا وَحِفْظُ الزَّرْعِ لَيْلًا، فَالْحُكْمُ هُوَ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى مَالِكِهَا فِيمَا أَفْسَدَتْهُ لَيْلًا إِنْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا، لَا نَهَارًا.
ثُمَّ اسْتَطْرَدَ الْحَنَابِلَةُ فِي ضَرْبِ الْأَمْثِلَةِ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ أَنَّ الرَّجُلَ أَرْسَلَ صَيْدًا وَقَالَ: أَعْتَقْتُكَ، لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ، كَمَا لَوْ أَرْسَلَ الْبَعِيرَ وَالْبَقَرَةَ، وَنَحْوَهُمَا مِنَ الْبَهَائِمِ الْمَمْلُوكَةِ، إِذْ أَنَّ مِلْكَهُ لَا يَزُولُ عَنْهَا بِذَلِكَ.
الْإِرْسَالُ فِي الْقَبْضِ وَالْعَزْلِ:
14- قَالَ السَّرَخْسِيُّ: (إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا ثُمَّ أَرْسَلَ رَسُولًا يَقْبِضُهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِذَا رَآهُ، وَرُؤْيَةُ الرَّسُولِ وَقَبْضُهُ لَا يُلْزِمُهُ الْمَتَاعَ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ عِلْمُ الْعَاقِدِ بِأَوْصَافِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، لِيَتِمَّ رِضَاهُ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِرُؤْيَةِ الرَّسُولِ، فَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّ قَبْضَ رَسُولِهِ كَقَبْضِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَوْ قَبَضَ بِنَفْسِهِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ كَانَ بِالْخِيَارِ إِذَا رَآهُ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَرْسَلَ رَسُولًا فَقَبَضَهُ لَهُ، فَأَمَّا إِذَا وَكَّلَ وَكِيلًا يَقْبِضُهُ فَرَآهُ الْوَكِيلُ وَقَبَضَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوَكِّلِ فِيهِ خِيَارٌ بَعْدَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رضي الله عنه-.وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ (: لَهُ الْخِيَارُ إِذَا رَآهُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِعْلٌ، وَالرَّسُولُ وَالْوَكِيلُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَأْمُورٌ بِإِحْرَازِ الْعَيْنِ وَالْحَمْلِ إِلَيْهِ وَالنَّقْلِ إِلَى ضَمَانِهِ بِفِعْلِهِ، ثُمَّ خِيَارُهُ لَا يَسْقُطُ بِرُؤْيَةِ الرَّسُولِ فَكَذَلِكَ بِرُؤْيَةِ الْوَكِيلِ، وَكَيْفَ يَسْقُطُ خِيَارُهُ بِرُؤْيَتِهِ وَهُوَ لَوْ أَسْقَطَ الْخِيَارَ نَصًّا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوَكِّلْهُ بِهِ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا قَبَضَ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ، وَقَاسَا بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ وَرِضَاهُ بِهِ.فَكَذَلِكَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ.وَأَبُو حَنِيفَةَ- رضي الله عنه- يَقُولُ: التَّوْكِيلُ بِمُطْلَقِ الْقَبْضِ يُثْبِتُ لِلْوَكِيلِ وِلَايَةَ إِتْمَامِ الْقَبْضِ، كَالتَّوْكِيلِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يُثْبِتُ لِلْوَكِيلِ وِلَايَةَ إِتْمَامِهِ، وَتَمَامُ الْقَبْضِ لَا يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ تَمَامِ الصَّفْقَةِ، وَلَا تَتِمُّ مَعَ بَقَاءِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، فَيَضْمَنُ التَّوْكِيلُ بِالْقَبْضِ إِنَابَةَ الْوَكِيلِ مَنَابَ نَفْسِهِ فِي الرُّؤْيَةِ الْمُسْقِطَةِ لِخِيَارِهِ، وَبِخِلَافِ الرَّسُولِ فَإِنَّ الرَّسُولَ لَيْسَ إِلَيْهِ إِلاَّ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ، فَأَمَّا إِتْمَامُ مَا أُرْسِلَ بِهِ فَلَيْسَ إِلَيْهِ، كَالرَّسُولِ بِالْعَقْدِ لَيْسَ إِلَيْهِ مِنَ الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ شَيْءٌ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَكَالَةِ وَالرِّسَالَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ صِفَةَ الرِّسَالَةِ لِنَبِيِّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَنَفَى الْوَكَالَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}.وَهَذَا بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ فَإِنَّ بَقَاءَهُ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ وَالْقَبْضِ، وَلِهَذَا مَلَكَ بَعْدَ الْقَبْضِ رَدَّ الْمَعِيبِ خَاصَّةً.وَلَوْ أَرْسَلَ إِلَى وَكِيلِهِ رَسُولًا بِعَزْلِهِ فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَقَالَ لَهُ: إِنَّ فُلَانًا أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ وَيَقُولُ: إِنِّي عَزَلْتُكَ عَنِ الْوَكَالَةِ، فَإِنَّهُ يَنْعَزِلُ كَائِنًا مَا كَانَ الرَّسُولُ، عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، بَعْدَ أَنْ تَكُونَ عِبَارَتُهُ مُعْتَبَرَةً، إِنْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُرْسِلِ، مُعَبِّرٌ وَسَفِيرٌ عَنْهُ، فَتَصِحُّ سِفَارَتُهُ بَعْدَ أَنْ صَحَّتْ عِبَارَتُهُ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ.
الرُّجُوعُ عَنِ الْإِرْسَالِ:
15- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمُرْسِلَ لَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا ثُمَّ رَجَعَ عَنْ رَأْيِهِ صَحَّ رُجُوعُهُ، لِأَنَّ الْخِطَابَ بِالرِّسَالَةِ لَا يَكُونُ وَفْقَ الْمُشَافَهَةِ، وَذَا مُحْتَمِلٌ لِلرُّجُوعِ، فَهَا هُنَا أَوْلَى، وَسَوَاءٌ أَعَلِمَ الرَّسُولُ رُجُوعَ الْمُرْسِلِ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا وَكَّلَ إِنْسَانًا ثُمَّ عَزَلَهُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عَزْلُهُ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ يَحْكِي كَلَامَ الْمُرْسِلِ وَيَنْقُلُهُ إِلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ، فَكَانَ سَفِيرًا وَمُعَبِّرًا مَحْضًا، فَلَمْ يُشْتَرَطْ عِلْمُ الرَّسُولِ بِذَلِكَ، فَأَمَّا الْوَكِيلُ فَإِنَّمَا يَتَصَرَّفُ عَنْ تَفْوِيضِ الْمُوَكِّلِ إِلَيْهِ، فَشَرَطَ عِلْمَهُ بِالْعَزْلِ، صِيَانَةً عَنِ التَّغْرِيرِ.
وَذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيُّ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَنَّ شَخْصًا أَرْسَلَ صَدَقَةً مَعَ رَسُولِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَاسْتَرَدَّهَا مِنَ الطَّرِيقِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِذَا مَاتَ الْمُرْسِلُ قَبْلَ وُصُولِهَا كَانَتْ تَرِكَةً لِوَرَثَتِهِ.
الْإِرْسَالُ بِمَعْنَى التَّسْلِيطِ:
16- إِرْسَالُ كَلْبِ الصَّيْدِ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْمُعَلَّمَةِ، إِنْ كَانَ الْحَيَوَانُ يَنْطَلِقُ وَرَاءَ الصَّيْدِ بِإِرْسَالِ صَاحِبِهِ وَيَقِفُ بِأَمْرِهِ، فَيَكُونُ الصَّيْدُ مُبَاحَ الْأَكْلِ وَلَوْ لَمْ تُدْرَكْ ذَكَاتُهُ.
أَمَّا إِذَا انْطَلَقَ الْحَيَوَانُ الصَّائِدُ بِنَفْسِهِ فَصَادَ حَيَوَانًا، فَلَا يُؤْكَلُ إِلاَّ إِذَا أُدْرِكَتْ تَذْكِيَتُهُ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ إِنَّمَا صَادَهُ لِنَفْسِهِ لَا لِصَاحِبِهِ.وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِ الصَّيْدِ فِي مُصْطَلَحِهِ.
رَابِعًا: الْإِرْسَالُ بِمَعْنَى التَّخْلِيَةِ
17- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ إِرْسَالِ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ الَّذِي فِي يَدِهِ حَقِيقَةً إِذَا كَانَ مَعَهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُ الْمُحْرِمِ إِذَا صَادَهُ فِي الْحِلِّ وَدَخَلَ بِهِ الْحَرَمَ.أَمَّا إِذَا كَانَ فِي بَيْتِهِ فَلَا يَجِبُ إِرْسَالُهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الصَّيْدُ فِي قَفَصٍ مَعَهُ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْإِحْرَامِ.
وَأَمَّا صَاحِبُ كِتَابِ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُ يَذْكُرُ رَأْيًا مُخَالِفًا لِمَا قَالَهُ الْأَئِمَّةُ مِمَّا لَهُمْ مِنْ قَوْلٍ مُتَقَدِّمٍ.إِذْ أَنَّهُ قَالَ بِعَدَمِ إِرْسَالِ الصَّيْدِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ فِيمَا إِذَا كَانَ فِي بَيْتِ الْمُحْرِمِ، أَوْ فِي قَفَصٍ مَعَهُ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى رَأْيِهِ هَذَا بِأَنَّ الصَّحَابَةَ- رضي الله عنهم- كَانُوا يُحْرِمُونَ وَفِي بُيُوتِهِمْ صُيُودٌ وَدَوَاجِنُ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ إِرْسَالُهَا، ثُمَّ أَضَافَ قَائِلًا بِأَنَّ مَنْ أَرْسَلَ صَيْدَهُ فِي مَفَازَةٍ فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ، فَلَا مُعْتَبَرَ بِبَقَاءِ الْمِلْكِ، وَقِيلَ إِذَا كَانَ الْقَفَصُ فِي يَدِهِ لَزِمَهُ إِرْسَالُهُ لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضِيعُ، بِأَنْ يُخَلِّيَهُ فِي بَيْتِهِ لِأَنَّ إِضَاعَةَ الْمَالِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
249-موسوعة الفقه الكويتية (استئذان 1)
اسْتِئْذَانٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الِاسْتِئْذَانُ فِي اللُّغَةِ: طَلَبُ الْإِذْنِ، وَالْإِذْنُ: مِنْ أَذِنَ بِالشَّيْءِ إِذْنًا بِمَعْنَى أَبَاحَهُ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الِاسْتِئْذَانَ هُوَ طَلَبُ الْإِبَاحَةِ.
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الِاسْتِئْذَانَ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَيَقُولُونَ: «الِاسْتِئْذَانُ لِدُخُولِ الْبُيُوتِ» وَيَعْنُونَ بِهِ: طَلَبَ إِبَاحَةِ دُخُولِهَا لِلْمُسْتَأْذِنِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِي سُورَةِ النُّورِ كَلِمَةَ «اسْتِئْنَاسٍ» فِي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} وَأَرَادَ بِهَا الِاسْتِئْذَانَ لِدُخُولِ الْبُيُوتِ وَنَحْوِهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ: الِاسْتِئْنَاسُ هُنَا الِاسْتِئْذَانُ مَعَ أَنَّ الِاسْتِئْنَاسَ مَا هُوَ إِلاَّ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الِاسْتِئْذَانِ، قَالَ الْجَصَّاصُ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ الِاسْتِئْذَانُ اسْتِئْنَاسًا؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا اسْتَأْذَنُوا أَوْ سَلَّمُوا أَنِسَ أَهْلُ الْبُيُوتِ بِذَلِكَ، وَلَوْ دَخَلُوا عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ إِذْنٍ لَاسْتَوْحَشُوا وَشَقَّ عَلَيْهِمْ.
صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):
2- إِنَّ الْحُكْمَ التَّكْلِيفِيَّ لِلِاسْتِئْذَانِ مُرْتَبِطٌ ارْتِبَاطًا وَثِيقًا بِالْإِذْنِ، فَحَيْثُمَا تَوَقَّفَ حِلُّ التَّصَرُّفِ عَلَى الْإِذْنِ، كَانَ الِاسْتِئْذَانُ فِيهِ وَاجِبًا، كَاسْتِئْذَانِ الْأَجْنَبِيِّ لِدُخُولِ بَيْتٍ غَيْرِ بَيْتِهِ، وَاسْتِئْذَانِ الْمَرْأَةِ الْمُتَزَوِّجَةِ زَوْجَهَا فِي خُرُوجِهَا مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ، وَاسْتِئْذَانِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ فِي الْعَزْلِ عَنْهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ.وَإِنَّمَا قُلْنَا: «حِلَّ التَّصَرُّفُ» وَلَمْ نُعَبِّرْ بِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ قَدْ يَقَعُ- إِذَا خَلَا مِنَ الْإِذْنِ صَحِيحًا مَعَ الْكَرَاهَةِ، كَمَا لَوْ صَامَتِ الزَّوْجَةُ نَافِلَةً بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا.
وَقَدْ يَقَعُ غَيْرَ صَحِيحٍ كَمَا لَوْ زَوَّجَ الْوَلِيُّ الْبَالِغَةَ الْعَاقِلَةَ بِغَيْرِ رِضَاهَا، أَوِ بَاعَ الصَّغِيرَ الْمُمَيِّزَ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
أَوَّلًا
الِاسْتِئْذَانُ لِدُخُولِ الْبُيُوتِ
أ- الْمَكَانُ الْمُرَادُ دُخُولُهُ:
3- إِنَّ مَنْ يُرِيدُ دُخُولَ بَيْتٍ مِنَ الْبُيُوتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْبَيْتَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيْتَهُ أَوْ غَيْرَ بَيْتِهِ، فَإِنْ كَانَ بَيْتَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ خَالِيًا، لَا سَاكِنَ فِيهِ غَيْرُهُ، أَوْ تَكُونَ فِيهِ زَوْجَتُهُ، وَلَيْسَ مَعَهَا غَيْرُهَا، أَوْ مَعَهَا بَعْضُ مَحَارِمِهِ، كَأُخْتِهِ وَبِنْتِهِ وَأُمِّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ بَيْتَهُ، وَلَا سَاكِنَ فِيهِ غَيْرُهُ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُهُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانِ أَحَدٍ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ لَهُ، وَاسْتِئْذَانُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ ضَرْبٌ مِنَ الْعَبَثِ الَّذِي تَتَنَزَّهُ عَنْهُ الشَّرِيعَةُ.
4- أَمَّا إِنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ زَوْجَتُهُ، وَلَيْسَ مَعَهَا غَيْرُهَا، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِئْذَانُ لِلدُّخُولِ؛ لِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى سَائِرِ جَسَدِهَا، وَلَكِنْ يَنْدُبُ لَهُ الْإِيذَانُ بِدُخُولِهِ بِنَحْوِ التَّنَحْنُحِ، وَطَرْقِ النَّعْلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا رُبَّمَا كَانَتْ عَلَى حَالَةٍ لَا تُرِيدُ أَنْ يَرَاهَا زَوْجُهَا عَلَيْهَا.
وَفِي وُجُوبِ اسْتِئْذَانِ الرَّجُلِ عَلَى مُطَلَّقَتِهِ الرَّجْعِيَّةِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّهُ: هَلْ يَلْزَمُ مِنَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ تَحْرِيمُهَا عَلَى مُطَلِّقِهَا أَمْ لَا؟ فَمَنْ قَالَ إِنَّهَا لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً، كَالْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، قَالَ: لَا يَجِبُ الِاسْتِئْذَانُ بَلْ يُنْدَبُ، وَيَكُونُ دُخُولُهُ عَلَيْهَا كَدُخُولِهِ عَلَى زَوْجَتِهِ غَيْرِ الْمُطَلَّقَةِ.
وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ، وَأَنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ وَقَعَ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ، كَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، قَالَ بِوُجُوبِ الِاسْتِئْذَانِ قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَيْهَا.
5- وَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ أَحَدُ مَحَارِمِهِ، كَأُمِّهِ أَوْ أُخْتِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّنْ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَرَاهُ عُرْيَانًا، مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَيَكُونُ الِاسْتِئْذَانُ عِنْدَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَاجِبًا لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ، بَلْ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ جَحَدَ وُجُوبَ الِاسْتِئْذَانِ يَكْفُرُ، لِأَنَّهُ مِمَّا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ.
وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِئْذَانِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَآثَارُ الصَّحَابَةِ وَمَبَادِئُ الشَّرِيعَةِ.
أَمَّا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا}...
وَأَمَّا السُّنَّةُ الْمُطَهَّرَةُ فَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: إِنَّهَا مَعِي فِي الْبَيْتِ.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا.فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي خَادِمُهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا، أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَاسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا».
وَأَمَّا آثَارُ الصَّحَابَةِ فَهِيَ كَثِيرَةٌ، نَذْكُرُ مِنْهَا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-: «عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْتَأْذِنُوا عَلَى أُمَّهَاتِكُمْ وَأَخَوَاتِكُمْ»
وَمَا رَوَاهُ الْجَصَّاصُ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ أَأَسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتِي؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: إِنَّهَا مَعِي فِي الْبَيْتِ وَأَنَا أُنْفِقُ عَلَيْهَا، قَالَ: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا
وَمَا ذَكَرَهُ الْكَاسَانِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، أَنَّهُ سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتِي؟ فَقَالَ: إِنْ لَمْ تَسْتَأْذِنْ رَأَيْتَ مَا يَسُوءُكَ
وَأَمَّا مَبَادِئُ الشَّرِيعَةِ: فَإِنَّهُ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، فَرُبَّمَا كَانَتْ مَكْشُوفَةَ الْعَوْرَةِ، فَيَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنْهَا، وَلِذَلِكَ وَجَبَ الِاسْتِئْذَانُ، سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ.
6- وَيَتَّفِقُ الْمُحَرِّمُونَ لِلدُّخُولِ- عَلَى الْمَحَارِمِ وَنَحْوِهِمْ- إِلاَّ بِاسْتِئْذَانٍ عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ الدُّخُولِ عَلَى ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَعَلَى الرِّجَالِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ أَيْسَرُ مِنْ تَرْكِ الِاسْتِئْذَانِ عَلَى الْأَجْنَبِيَّاتِ؛ لِجَوَازِ نَظَرِهِ إِلَى الشَّعْرِ وَالصَّدْرِ وَالسَّاقِ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ دُونَ الْأَجْنَبِيَّاتِ.
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى مَحَارِمِهِ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ مَعَهُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يُشْعِرَهُمْ بِدُخُولِهِ بِنَحْوِ تَنَحْنُحٍ، وَطَرْقِ نَعْلٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِيَسْتَتِرَ الْعُرْيَانُ.
7- وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ غَيْرَ بَيْتِهِ، وَأَرَادَ الدُّخُولَ إِلَيْهِ، فَعَلَيْهِ الِاسْتِئْذَانُ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الدُّخُولُ قَبْلَ الْإِذْنِ بِالِاتِّفَاقِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بَابُ الْبَيْتِ مَفْتُوحًا أَوْ مُغْلَقًا.وَسَوَاءٌ أَكَانَ فِيهِ سَاكِنٌ أَمْ لَمْ يَكُنْ، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا}.وَلِأَنَّ لِلْبُيُوتِ حُرْمَتَهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُنْتَهَكَ هَذِهِ الْحُرْمَةُ؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِئْذَانَ لَيْسَ لِلسُّكَّانِ أَنْفُسِهِمْ خَاصَّةً، بَلْ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِأَمْوَالِهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا يَتَّخِذُ الْبَيْتَ سِتْرًا لِنَفْسِهِ، يَتَّخِذُهُ سِتْرًا لِأَمْوَالِهِ، وَكَمَا يَكْرَهُ اطِّلَاعَ الْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ، يَكْرَهُ اطِّلَاعَهُ عَلَى أَمْوَالِهِ.
وَيُفَرِّقُ الشَّافِعِيَّةُ، فِي حَالَةِ كَوْنِ بَيْتِ ذَلِكَ الْغَيْرِ هُوَ بَيْتُ أَحَدِ مَحَارِمِهِ، بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا أَوْ مَفْتُوحًا، فَيَقُولُونَ:
إِنْ كَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ إِلاَّ بَعْدَ اسْتِئْذَانٍ وَإِذْنٍ، أَمَّا إِنْ كَانَ مَفْتُوحًا فَوَجْهَانِ، وَالْأَوْجَهُ الِاسْتِئْذَانُ.وَيُسْتَثْنَى مِنْ وُجُوبِ الِاسْتِئْذَانِ لِدُخُولِ الْبُيُوتِ عُمُومًا:
8- أَوَّلًا: دُخُولُ الْبُيُوتِ غَيْرِ الْمَسْكُونَةِ الَّتِي فِيهَا مَتَاعٌ- أَيْ مَنْفَعَةٌ- لِلنَّاسِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ دُخُولُهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، بِنَاءً عَلَى الْإِذْنِ الْعَامِّ بِدُخُولِهَا، وَقَدْ اخْتُلِفَ فِي تَحْدِيدِ هَذِهِ الْبُيُوتِ.
فَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّهَا الْبُيُوتُ الَّتِي تُبْنَى عَلَى الطُّرُقَاتِ، يَأْوِي إِلَيْهَا الْمُسَافِرُونَ، وَمِثْلُهَا الْخَانَاتُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَعَلِيٌّ الشَّعْبِيُّ: إِنَّهَا الدَّكَاكِينُ الَّتِي فِي الْأَسْوَاقِ، وَقَدِ اسْتَظَلَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي خَيْمَةِ فَارِسِيٍّ بِالسُّوقِ مِنَ الْمَطَرِ دُونَ إِذْنٍ مِنْهُ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَأْذِنُ فِي دُخُولِ حَوَانِيتِ السُّوقِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعِكْرِمَةَ فَقَالَ: وَمَنْ يُطِيقُ مَا كَانَ يُطِيقُهُ ابْنُ عُمَرَ؟ قَالَ الْجَصَّاصُ: وَلَيْسَ فِي فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ رَأَى دُخُولَهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ مَحْظُورًا، وَلَكِنَّهُ احْتَاطَ لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ مُبَاحٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: هِيَ الْبُيُوتُ الْخَرِبَةُ الَّتِي يَدْخُلُهَا النَّاسُ لِلْبَوْلِ وَالْغَائِطِ.وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا بُيُوتُ مَكَّةَ.وَقَدْ بَيَّنَ الْإِمَامُ مَالِكٌ- رحمه الله- (- الْأَصْلَ فِي قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ هَذَا فَقَالَ: وَتَجْوِيزُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ دُخُولَ بُيُوتِ مَكَّةَ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ بُيُوتَ مَكَّةَ غَيْرُ مُتَمَلَّكَةٍ، وَأَنَّ النَّاسَ فِيهَا شُرَكَاءُ.وَأَدْخَلَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ فِي ذَلِكَ كُلَّ مَكَانٍ فِيهِ انْتِفَاعٌ، وَلَهُ فِيهِ حَاجَةٌ.
وَبَنَى الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ عَلَى الْعُرْفِ، فَقَالُوا: يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ كُلَّ مَحَلٍّ مَطْرُوقٍ، كَالْمَسْجِدِ، وَالْحَمَّامِ، وَالْفُنْدُقِ، وَبَيْتِ الْعَالِمِ، وَالْقَاضِي، وَالطَّبِيبِ- وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَسْتَقْبِلُ فِيهِ النَّاسَ- لِوُجُودِ الْإِذْنِ الْعَامِّ بِدُخُولِهِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ الْبُيُوتَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا سَاكِنٌ، وَلِلْمَرْءِ فِيهَا مَنْفَعَةٌ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْخُلَهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، كَالْخَانَاتِ وَالرِّبَاطَاتِ الَّتِي تَكُونُ لِلْمَارَّةِ، وَالْخَرَابَاتِ الَّتِي تُقْضَى فِيهَا حَاجَةُ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، لقوله تعالى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} أَيْ مَنْفَعَةٌ.
9- ثَانِيًا: وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا إِذَا كَانَ فِي تَرْكِ الِاسْتِئْذَانِ لِدُخُولِ بَيْتٍ إِحْيَاءٌ لِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ، حَتَّى لَوِ اسْتَأْذَنَ وَانْتَظَرَ الْإِذْنَ تَلِفَتِ النَّفْسُ وَضَاعَ الْمَالُ، وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَنَفِيَّةُ عَدَدًا مِنَ الْفُرُوعِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ.وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى لَا تَأْبَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، إِلاَّ الْحَنَابِلَةَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُجِيزُوا دُخُولَ الْبَيْتِ إِذَا خِيفَ ضَيَاعُ الْمَالِ إِلاَّ بِاسْتِئْذَانٍ، فَإِذْنٍ.وَمِنْ هَذِهِ الْفُرُوعِ:
الْأَوَّلُ: إِذَا كَانَ الْبَيْتُ مُشْرِفًا عَلَى الْعَدُوِّ، يُقَاتِلُ مِنْهُ الْعَدُوُّ، وَيُوقِعُ بِهِ النِّكَايَةَ، يَجُوزُ دُخُولُهُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ؛ لِمَا فِي دَفْعِ الْعَدُوِّ مِنْ إِحْيَاءِ نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ.
الثَّانِي: إِذَا سَقَطَ ثَوْبُهُ فِي بَيْتِ غَيْرِهِ، وَخَافَ لَوْ أَعْلَمَهُ أَخَذَهُ، جَازَ لَهُ الدُّخُولُ لِأَخْذِهِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَيِنَبْغِي أَنْ يَعْلَمَ الصُّلَحَاءُ أَنَّهُ إِنَّمَا دَخَلَ لِذَلِكَ.
الثَّالِثُ: لَوْ نَهَبَ مِنْهُ ثَوْبًا وَدَخَلَ النَّاهِبُ دَارَهُ لَا بَأْسَ بِدُخُولِهَا لِيَأْخُذَ حَقَّهُ.
الرَّابِعُ: لَوْ كَانَ لَهُ مَجْرَى فِي دَارِ رَجُلٍ، أَرَادَ إِصْلَاحَهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَمُرَّ فِي بَطْنِهِ، يُقَالُ لِرَبِّ الدَّارِ: إِمَّا أَنْ تَدَعَهُ يُصْلِحُهُ وَإِمَّا أَنْ تُصْلِحَهُ.
الْخَامِسُ: آجَرَهُ دَارًا وَسَلَّمَهَا لَهُ، لَهُ دُخُولُهَا لِيَنْظُرَ حَالَهَا فَيَرْمِهَا، وَلَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، إِلاَّ إِذَا رَضِيَ الْمُسْتَأْجِرُ.
10- ثَالِثًا: وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ دُخُولَ الْبَيْتِ الَّذِي يُتَعَاطَى فِيهِ الْمُنْكَرُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، بِقَصْدِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ، كَمَا إِذَا سَمِعَ فِي دَارٍ صَوْتَ الْمَزَامِيرِ وَالْمَعَازِفِ، فَلَهُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ؛ وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِعِلَّتَيْنِ.الْأُولَى: أَنَّ الدَّارَ لَمَّا اُتُّخِذَتْ لِتَعَاطِي الْمُنْكَرِ فَقَدْ سَقَطَتْ حُرْمَتُهَا، وَإِذَا سَقَطَتْ حُرْمَتُهَا جَازَ دُخُولُهَا بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ.وَالثَّانِيَةِ: أَنَّ تَغْيِيرَ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ، فَلَوْ شُرِطَ الْإِذْنُ لَتَعَذَّرَ التَّغْيِيرُ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ، فَقَدْ كَانُوا أَكْثَرَ تَفْصِيلًا لِلْأَمْرِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ الْمُنْكَرَ إِنْ كَانَ مِمَّا يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ، جَازَ لَهُ دُخُولُهُ لِمَنْعِ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، كَمَا إِذَا أَخْبَرَهُ مَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ: أَنَّ رَجُلًا خَلَا بِرَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ، أَوْ خَلَا بِامْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا، فَيَجُوزُ لَهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَتَجَسَّسَ، وَيُقْدِمَ عَلَى الْكَشْفِ وَالْبَحْثِ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ مَا لَا يُسْتَدْرَكُ، مِنْ إِزْهَاقِ رَوْحِ مَعْصُومٍ، وَانْتِهَاكِ عَرْضِ الْمَحَارِمِ، وَارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَفُتِ اسْتِدْرَاكُهُ، كَمَا إِذَا دَخَلَ مَعَهَا الْبَيْتَ لِيُسَاوِمَهَا عَلَى أُجْرَةِ الزِّنَا، ثُمَّ يَخْرُجَانِ لِيَزْنِيَا فِي بَيْتٍ آخَرَ، أَوْ إِذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ إِنْكَارُهُ وَرَفْعُهُ بِغَيْرِ دُخُولٍ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ الدُّخُولُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، كَمَا إِذَا سَمِعَ الْمُحْتَسِبُ أَصْوَاتَ تَلَاهٍ مُنْكَرَةً مِنْ دَارٍ تَظَاهَرَ أَهْلُهَا بِأَصْوَاتِهِمْ، أَنْكَرَهَا خَارِجَ الدَّارِ، وَلَمْ يَهْجُمْ عَلَيْهَا بِالدُّخُولِ؛ لِأَنَّ الْمُنْكَرَ ظَاهِرٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَكْشِفَ عَمَّا سِوَاهُ.
ب- الشَّخْصُ الْمُسْتَأْذِنُ:
11- إِنَّ مَنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا غَيْرَ مُمَيِّزٍ، أَوْ صَغِيرًا مُمَيِّزًا، أَوْ كَبِيرًا، وَالْمُرَادُ بِالتَّمْيِيزِ هُنَا: الْقُدْرَةُ عَلَى وَصْفِ الْعَوْرَاتِ.
أَمَّا الْكَبِيرُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ الدُّخُولُ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَإِذْنٍ.
12- وَأَمَّا الصَّغِيرُ الْمُمَيِّزُ فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَطَاوُسُ بْنُ كَيْسَانَ، وَالْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ) إِلَى وُجُوبِ أَمْرِهِ بِالِاسْتِئْذَانِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ كَشْفِ الْعَوْرَاتِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِتَخَفُّفِ النَّاسِ فِيهَا مِنَ الثِّيَابِ.
وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ الِاسْتِئْذَانِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَرَجِ فِي الِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ كُلِّ خُرُوجٍ وَدُخُولٍ.وَالصَّغِيرُ مِمَّنْ يَكْثُرُ دُخُولُهُ وَخُرُوجُهُ فَهُوَ مِنَ الطَّوَّافِينَ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
وَذَهَبَ أَبُو قِلَابَةَ إِلَى أَنَّ اسْتِئْذَانَ هَؤُلَاءِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ مَنْدُوبٌ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَكَانَ يَقُولُ: «إِنَّمَا أُمِرُوا بِهَذَا نَظَرًا لَهُمْ».
ج- صِيغَةُ الِاسْتِئْذَانِ:
13- يَكُونُ الِاسْتِئْذَانُ- فِي الْأَصْلِ- بِاللَّفْظِ، وَقَدْ يَنُوبُ عَنْهُ غَيْرُهُ، وَالصِّيغَةُ الْمُثْلَى لِلِاسْتِئْذَانِ أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَأْذِنُ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟» مُقَدِّمًا السَّلَامَ؛ لِمَا رَوَاهُ رِبْعِيُّ بْنُ خِرَاشٍ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ فَاسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ فِي بَيْتٍ فَقَالَ: أَأَلِجُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِخَادِمِهِ: اخْرُجْ إِلَى هَذَا فَعَلِّمْهُ الِاسْتِئْذَانَ.فَقُلْ لَهُ: قُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟ فَسَمِعَ الرَّجُلَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟ فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ، فَدَخَلَ».
وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَمِنْهُمُ ابْنُ رُشْدٍ: يَبْدَأُ بِالِاسْتِئْذَانِ لَا بِالسَّلَامِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ.
14- وَيَقُومُ قَرْعُ الْبَابِ مَقَامَ الِاسْتِئْذَانِ بِاللَّفْظِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا أَمْ مَفْتُوحًا.فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي أَمْرِ دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي، فَدَقَقْتُ الْبَابَ فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا، أَنَا.كَأَنَّهُ كَرِهَهُ».
كَمَا يَقُومُ مَقَامَ التَّنَحْنُحِ.
وَيَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ الْمَأْثُورِ كُلُّ مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ مِنْ أَلْفَاظِ الِاسْتِئْذَانِ، فَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ مُسْنَدًا عَنْ أَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ، مَوْلَى أُمِّ مِسْكِينِ بِنْتِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: أَرْسَلَتْنِي مَوْلَاتِي إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، فَجَاءَ مَعِي، فَلَمَّا قَامَ بِالْبَابِ قَالَ: أَنْدَرُ؟ قَالَتْ: أَنْدَرُونَ.
غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا عَلَى كَرَاهَةِ الِاسْتِئْذَانِ بِالذِّكْرِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ جَعْلِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى آلَةً، قَالَ فِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: «وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي الِاسْتِئْذَانِ بِنَحْوِ «سُبْحَانَ اللَّهِ» وَ «لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» فَهُوَ بِدْعَةٌ مَذْمُومَةٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِسَاءَةِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي اسْتِعْمَالِ اسْمِهِ فِي الِاسْتِئْذَانِ».
د- آدَابُ الِاسْتِئْذَانِ:
15- إِذَا اسْتَأْذَنَ عَلَى إِنْسَانٍ، فَتَحَقَّقَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعِ الِاسْتِئْذَانَ، فَلَهُ أَنْ يُكَرِّرَ الِاسْتِئْذَانَ حَتَّى يَسْمَعَهُ.
أَمَّا إِذَا اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ، فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ السُّنَّةَ أَلاَّ يُكَرِّرَ الِاسْتِئْذَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثَّلَاثِ، حَتَّى يَتَحَقَّقَ سَمَاعَهُ.
وَحَكَى النَّوَوِيُّ قَوْلًا ثَالِثًا، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ بِلَفْظِ السَّلَامِ الْمَشْرُوعِ لَمْ يُعِدْهُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهِ أَعَادَهُ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ، مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَغَيْرِهِ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ، إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ فَقَالَ: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ ثَلَاثًا، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، فَرَجَعْتُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ؟ قُلْتُ: اسْتَأْذَنْتُ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ» فَقَالَ- أَيْ عُمَرُ-: وَاَللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بَيِّنَةً، قَالَ أَبُو مُوسَى: أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ أُبَيٌّ بْنُ كَعْبٍ: فَوَاَللَّهِ لَا يَقُومُ مَعَكَ إِلاَّ أَصْغَرُ الْقَوْمِ، فَكُنْتُ أَصْغَرَ الْقَوْمِ، فَقُمْتُ مَعَهُ، فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ ذَلِكَ.
16- وَقَدْ فَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ دُونَ غَيْرِهِمْ فِي مُدَّةِ الِانْتِظَارِ بَيْنَ كُلِّ اسْتِئْذَانَيْنِ فَقَالُوا: يَمْكُثُ بَعْدَ كُلِّ مَرَّةٍ مِقْدَارَ مَا يَفْرُغُ الْآكِلُ، وَالْمُتَوَضِّئُ، وَالْمُصَلِّي بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ.
حَتَّى إِذَا كَانَ أَحَدٌ عَلَى عَمَلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ فَرَغَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَمَلٍ مِنْهَا كَانَتْ عِنْدَهُ فُرْصَةٌ يَأْخُذُ فِيهَا حَذَرَهُ، وَيُصْلِحُ شَأْنَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الدَّاخِلُ.
وَرَوَى الْجَصَّاصُ بِسَنَدِهِ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَوْلَهُ: «الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ، فَالْأُولَى يَسْتَنْصِتُونَ، وَالثَّانِيَةُ يَسْتَصْلِحُونَ، وَالثَّالِثَةُ يَأْذَنُونَ أَوْ يَرُدُّونَ».
وَإِذَا كَانَ الِاسْتِئْذَانُ بِاللَّفْظِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الصَّوْتُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْمُسْتَأْذَنُ عَلَيْهِ، دُونَ صِيَاحٍ.وَإِنْ كَانَ بِدَقِّ الْبَابِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الدَّقُّ خَفِيفًا بِحَيْثُ يَسْمَعُ أَيْضًا بِلَا عُنْفٍ.فَقَدْ رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ «كَانَتْ أَبْوَابُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- تُقْرَعُ بِالْأَظَافِرِ» 17- وَلَا يَقِفُ الْمُسْتَأْذِنُ قُبَالَةَ الْبَابِ إِنْ كَانَ الْبَابُ مَفْتُوحًا، وَلَكِنَّهُ يَنْحَرِفُ ذَاتَ الْيَمِينِ أَوْ ذَاتَ الشِّمَالِ.فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَرَسُولُ اللَّهِ قُدْوَةٌ.فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ لَمْ يَسْتَقْبِلِ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ، وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ أَوِ الْأَيْسَرِ، وَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمُ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ» ذَلِكَ أَنَّ الدُّورَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ سُتُورٌ
وَهُوَ أَيْضًا مِنْ تَوْجِيهَاتِهِ- عليه الصلاة والسلام-، فَعَنْ هُذَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتَأْذِنُ، فَقَامَ عَلَى الْبَابِ- وَفِي رِوَايَةٍ: مُسْتَقْبِلَ الْبَابِ- فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: هَكَذَا عَنْكَ أَوْ هَكَذَا، فَإِنَّمَا الِاسْتِئْذَانُ مِنَ النَّظَرِ».
أَمَّا إِنْ كَانَ الْبَابُ مَرْدُودًا فَلَهُ أَنْ يَقِفَ حَيْثُ شَاءَ وَيَسْتَأْذِنَ، وَإِنْ شَاءَ دَقَّ الْبَابَ.
18- وَلَا يَحِلُّ لِلْمُسْتَأْذِنِ النَّظَرُ فِي دَاخِلِ الْبَيْتِ لِأَنَّ لِلْبُيُوتِ حُرْمَتَهَا، وَحَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ السَّابِقُ «إِنَّمَا الِاسْتِئْذَانُ مِنَ النَّظَرِ» يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ
وَرُوِيَ أَنَّ جَارًا لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَقَفَ، وَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى مَا فِي الْبَيْتِ وَهُوَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَمَّا بِعَيْنِكَ فَقَدْ دَخَلْتَ، وَأَمَّا بِإِسْتِكَ فَلَمْ تَدْخُلْ.
فَإِنْ نَظَرَ الْمُسْتَأْذِنُ إِلَى دَاخِلِ الْبَيْتِ فَجَنَى صَاحِبُ الْبَيْتِ عَلَى عَيْنِهِ فَهَلْ يَضْمَنُ؟ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ تَجِدُهُ فِي مُصْطَلَحِ (جِنَايَة).
وَإِذَا اسْتَأْذَنَ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ: مَنْ بِالْبَابِ؟ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَهُ فَيَقُولَ: فُلَانٌ، أَوْ يَقُولَ: أَيَدْخُلُ فُلَانٌ؟ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَلَا يَقُولُ «أَنَا» لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ بِقَوْلِهِ: «أَنَا» فَائِدَةٌ وَلَا زِيَادَةُ إِيضَاحٍ، بَلِ الْإِيهَامُ بَاقٍ.لِحَدِيثِ جَابِرٍ الْمُتَقَدِّمِ.
وَمَنِ اسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ دَخَلَ، وَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَنْصَرِفْ، وَلَا يُلِحُّ بِالِاسْتِئْذَانِ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِقَبِيحِ الْكَلَامِ، وَلَا يَقْعُدُ عَلَى الْبَابِ لِيَنْتَظِرَ، لِأَنَّ لِلنَّاسِ حَاجَاتٍ وَأَشْغَالًا فِي الْمَنَازِلِ، فَلَوْ قَعَدَ عَلَى الْبَابِ وَانْتَظَرَ، لَضَاقَ ذَرْعُهُمْ وَشَغَلَ قَلْبَهُمْ، وَلَعَلَّهُ لَا تَلْتَئِمُ حَاجَاتُهُمْ، فَكَانَ الرُّجُوعُ خَيْرًا لَهُ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}.
ثَانِيًا
الِاسْتِئْذَانُ لِلتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ أَوْ حَقِّهِ
19- الْأَصْلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، أَوْ فِي حَقٍّ لِلْغَيْرِ إِلاَّ بِإِذْنٍ مِنَ الشَّارِعِ، أَوْ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَعِنْدَئِذٍ لَا يَكُونُ اعْتِدَاءً، فَلَا يَجُوزُ أَكْلُ طَعَامِ الْغَيْرِ إِلاَّ بِإِذْنِ الْمَالِكِ، أَوْ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ، وَلَا يَجُوزُ سُكْنَى دَارِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ: «لَا يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ غَيْرِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ»، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ أَخْذِ مَالِ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَالْأَكْلِ مِنْهُ، وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ اللَّبَنِ وَغَيْرِهِ.
وَقَدْ يَبْذُلُ ذَلِكَ الْغَيْرُ الْإِذْنَ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ، أَوْ فِي حَقِّهِ بَادِئَ ذِي بَدْءٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، كَأَنْ يَقُولَ لِأَجِيرِهِ: أَذِنْتُ لَكَ أَنْ تَأْكُلَ مِمَّا تَصْنَعُهُ مِنْ مَأْكُولَاتٍ دُونَ أَنْ تَحْمِلَ مِنْهُ شَيْئًا، وَعِنْدَئِذٍ فَلَا حَاجَةَ لِلِاسْتِئْذَانِ لِحُصُولِ مَقْصُودِهِ، وَهُوَ الْإِذْنُ.
وَقَدْ لَا يَبْذُلُ الْإِذْنَ.وَعِنْدَئِذٍ، يَجِبُ عَلَى مَنْ أَرَادَ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ اسْتِئْذَانُهُ فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ (ر: إِذْن).
وَمِنْ صُوَرِ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ أَوْ حَقِّهِ مَا يَأْتِي:
أ- الِاسْتِئْذَانُ لِدُخُولِ الْأَمْلَاكِ الْمَمْنُوعَةِ:
20- لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَ مِلْكَ غَيْرِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ بَيْتًا، أَمْ بُسْتَانًا مَحُوطًا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ إِلاَّ بِإِذْنِهِ.، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ مُفَصَّلًا عَنِ الِاسْتِئْذَانِ لِدُخُولِ الْبُيُوتِ.
ب- اسْتِئْذَانُ الْمَرْأَةِ لِإِدْخَالِ الْغَيْرِ إِلَى بَيْتِ زَوْجِهَا:
21- يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ اسْتِئْذَانُ زَوْجِهَا إِنْ أَرَادَتْ أَنْ تُدْخِلَ إِلَيْهِ مَنْ تَعْلَمُ أَنَّ زَوْجَهَا يَكْرَهُ دُخُولَهُ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «وَلَا تَأْذَنْ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ»،، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ حَالَاتُ الضَّرُورَةِ.
قَالَ الْعَيْنِيُّ- شَارِحُ الْبُخَارِيِّ- أَمَّا عِنْدَ الدَّاعِي لِلدُّخُولِ عَلَيْهَا لِلضَّرُورَةِ، كَالْإِذْنِ لِشَخْصٍ فِي دُخُولِ مَوْضِعٍ مِنْ حُقُوقِ الدَّارِ الَّتِي هِيَ فِيهَا، أَوْ إِلَى دَارٍ مُنْفَرِدَةٍ عَنْ مَسْكَنِهَا، أَوِ الْإِذْنِ لِدُخُولِ مَوْضِعٍ مُعَدٍّ لِلضِّيفَانِ، فَلَا حَرَجَ فِي الْإِذْنِ بِذَلِكَ لِأَنَّ الضَّرُورَاتِ مُسْتَثْنَاةٌ فِي الشَّرْعِ.
ج- الِاسْتِئْذَانُ لِلْأَكْلِ مِنْ ثَمَرِ الْبُسْتَانِ وَشُرْبِ لَبَنِ الْمَاشِيَةِ:
22- لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْلُبَ مَاشِيَةَ أَحَدٍ وَلَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ثَمَرِ بُسْتَانِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ- عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: لَا يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ امْرِئٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرَبَتُهُ فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ فَيَنْتَقِلَ طَعَامُهُ، فَإِنَّمَا تُخَزِّنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَاتِهِمْ، فَلَا يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِ».
وَذَهَبَ الْبَعْضُ وَمِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ إِلَى جَوَازِ الْأَكْلِ مِنْ ثَمَرِ الْبُسْتَانِ، وَحَلْبِ الْمَاشِيَةِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَالَ صَاحِبِهِ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ عَلَى مَاشِيَةٍ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا صَاحِبُهَا فَلْيَسْتَأْذِنْهُ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فَلْيَحْلُبْ وَلْيَشْرَبْ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَلْيُصَوِّتْ ثَلَاثًا، فَإِنْ أَجَابَ فَلْيَسْتَأْذِنْهُ، وَإِلاَّ فَلْيَتَحَلَّبْ وَلْيَشْرَبْ وَلَا يَحْمِلْ».
د- اسْتِئْذَانُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي التَّبَرُّعِ مِنْ مَالِهِ:
23- لَا تَسْتَأْذِنُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا فِيمَا تَتَنَاوَلُهُ مِنْ حَقٍّ ثَابِتٍ لَهَا فِي مِلْكِ الزَّوْجِ، كَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ الْمَعْرُوفِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ مَعْلُومٌ، لِحَدِيثِ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ حِينَ «قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ».
كَمَا أَنَّهَا لَا تَسْتَأْذِنُهُ فِي التَّبَرُّعِ بِالشَّيْءِ التَّافِهِ الَّذِي تَتَسَامَحُ بِهِ النُّفُوسُ، كَالدِّرْهَمِ وَالرَّغِيفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، إِنْ لَمْ يَمْنَعْهَا مِنْ ذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ «أَنَّهَا جَاءَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي إِلاَّ مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ أَرْضَخَ مِمَّا يُدْخِلُ عَلَيَّ، فَقَالَ: ارْضَخِي وَلَا تُوعِي فَيُوعَى عَلَيْكِ»، وَعَنْ عَائِشَة قَالَتْ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: مَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا، غَيْرَ مُفْسِدَةٍ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا وَلَهُ مِثْلُهُ، وَلَهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ».
وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ التَّبَرُّعُ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا إِلاَّ بِإِذْنِهِ لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: لَا تُنْفِقُ الْمَرْأَةُ شَيْئًا مِنْ بَيْتِهَا إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الطَّعَامَ؟ قَالَ: ذَلِكَ أَفْضَلُ أَمْوَالِنَا».
وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ حَدِيثَيْ عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ خَاصَّانِ صَحِيحَانِ، وَحَدِيثَ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ»..عَامٌّ، وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ.
أَمَّا حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ فَهُوَ ضَعِيفٌ.وَتَجِدُ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي (صَدَقَة وَهِبَة).
هـ- اسْتِئْذَانُ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ صَاحَبَ الْحَقَّ:
24- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ اسْتِئْذَانِ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ لَازِمٌ حَالٌّ صَاحَبَ الْحَقَّ، كَالْمَدِينِ مَعَ الدَّائِنِ.وَيَسْقُطُ هَذَا الْوُجُوبُ إِذَا كَانَ الْمَدِينُ خَارِجًا لِأَدَاءِ فَرْضٍ عَيْنِيٍّ، كَالْغَزْوِ عِنْدَ النَّفِيرِ الْعَامِّ.
فَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا فَلَا يَجِبُ الِاسْتِئْذَانُ؛ لِعَدَمِ تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ قَبْلَ حُلُولِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ مَوْضِعُهُ: (الْجِهَادُ، وَالدَّيْنُ).وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الِاسْتِئْذَانِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ حَالًّا أَمْ مُؤَجَّلًا.
و- اسْتِئْذَانُ الطَّبِيبِ فِي التَّطْبِيبِ:
25- يُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْمَرِيضِ الْمُشْرِفِ عَلَى الْمَوْتِ- كَالْجَرِيحِ مَثَلًا- وَيُمْكِنُ اسْتِحْيَاؤُهُ بِالتَّطْبِيبِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَجِبُ عَلَى الطَّبِيبِ أَنْ يُبَاشِرَ التَّطْبِيبَ إِنْقَاذًا لِهَذَا الْجَرِيحِ مِنَ الْمَوْتِ دُونَ اسْتِئْذَانٍ؛ لِأَنَّ اسْتِنْقَاذَهُ أَصْبَحَ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِ مَا دَامَ قَادِرًا عَلَيْهِ، حَتَّى لَوِ امْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ لَكَانَ آثِمًا، وَفِي ضَمَانِهِ لَهُ- إِنْ مَاتَ لِعَدَمِ اسْتِحْيَائِهِ- اخْتِلَافٌ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَرِيضُ كَذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لِلطَّبِيبِ مُبَاشَرَةُ تَطْبِيبِهِ، إِلاَّ بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ، فَإِنْ طَبَّبَهُ بِإِذْنٍ، فَأَصَابَهُ تَلَفٌ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الطَّبِيبِ.وَإِنْ طَبَّبَهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَعَطِبَ فَعَلَى الطَّبِيبِ الضَّمَانُ. (ر: تَطْبِيب، جِنَايَة، دِيَة).ز- إِذْنُ السُّلْطَانِ لِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ:
26- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ إِذْنُ الْإِمَامِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ.وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه-، عِنْدَمَا حُوصِرَ عُثْمَانُ- رضي الله عنه-، أَقَامَ الْجُمُعَةَ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ وَلَا اسْتِئْذَانٍ مِنْ عُثْمَانَ- رضي الله عنه-، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، لَا يَتَوَقَّفُ إِقَامَتُهَا عَلَى إِذْنٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ إِذْنَ الْإِمَامِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَأْثُورُ عَنِ الْأَئِمَّةِ، وَالْمُتَوَارَثُ عَنْهُمْ، وَلِأَنَّ فِي هَذَا دَفْعًا لِلْفِتْنَةِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
250-موسوعة الفقه الكويتية (استتار)
اسْتِتَارٌالتَّعْرِيفُ:
1- الِاسْتِتَارُ فِي اللُّغَةِ: التَّغَطِّي وَالِاخْتِفَاءُ.يُقَالُ: اسْتَتَرَ وَتَسَتَّرَ أَيْ تَغَطَّى، وَجَارِيَةٌ مُسْتَتِرَةٌ أَيْ مُخَدَّرَةٌ.وَقَدْ اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى، كَمَا اسْتَعْمَلُوهُ بِمَعْنَى اتِّخَاذِ السُّتْرَةِ فِي الصَّلَاةِ.
وَالسُّتْرَةُ (بِالضَّمِّ) هِيَ فِي الْأَصْلِ: مَا يُسْتَتَرُ بِهِ مُطْلَقًا، ثُمَّ غَلَبَ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْفِقْهِيِّ عَلَى: مَا يُنْصَبُ أَمَامَ الْمُصَلِّي، مِنْ عَصًا أَوْ تَسْنِيمِ تُرَابٍ أَيْ تَكْوِيمِهِ وَنَحْوِهِ لِمَنْعِ الْمُرُورِ أَمَامَهُ.
وَيُسَمَّى سَتْرُ الصَّدَقَةِ إِخْفَاؤُهَا
صِفَتُهُ (الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ):
2- يَخْتَلِفُ حُكْمُ الِاسْتِتَارِ تَبَعًا لِلْأَحْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا، عَلَى مَا سَيَأْتِي:
الِاسْتِتَارُ (بِمَعْنَى اتِّخَاذِ الْمُصَلِّي سُتْرَةً)
3- اتِّخَاذُ السُّتْرَةِ لِلْمُصَلِّي مَشْرُوعٌ اتِّفَاقًا؛ لِحَدِيثِ: «لِيَسْتَتِرْ أَحَدُكُمْ وَلَوْ بِسَهْمٍ».ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالسُّنَّةِ أَوِ الِاسْتِحْبَابِ، عَلَى تَفْصِيلٍ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ: (سُتْرَةُ الْمُصَلِّي).
الِاسْتِتَارُ حِينَ الْجِمَاعِ:
4- يَشْمَلُ الِاسْتِتَارُ هُنَا أَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: الِاسْتِتَارُ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ حِينَ الْوَطْءِ.
الثَّانِيَ: عَدَمُ التَّجَرُّدِ حِينَ الْوَطْءِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ فِي حَالَةِ انْكِشَافِ الْعَوْرَةِ، أَوْ فِي حَالَةِ عَدَمِ انْكِشَافِهَا.
فَفِي حَالَةِ انْكِشَافِ الْعَوْرَةِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى فَرْضِيَّةِ الِاسْتِتَارِ، أَمَّا فِي حَالَةِ عَدَمِ ظُهُورِ شَيْءٍ مِنَ الْعَوْرَةِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِتَارَ سُنَّةٌ.وَأَنَّ مَنْ يَتَهَاوَنُ فِيهِ فَقَدْ خَالَفَ السُّنَّةَ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: {إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَسْتَتِرْ».وَحَمَلُوا الْأَمْرَ عَلَى النَّدْبِ
وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الدَّنَاءَةِ وَالْإِخْلَالِ بِالْمُرُوءَةِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: (عَدَمُ التَّجَرُّدِ حِينَ الْجِمَاعِ) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمَا أَحَدٌ يَطَّلِعُ عَلَيْهِمَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُجَرِّدَ زَوْجَتَهُ لِلْجِمَاعِ، وَقَيَّدَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِكَوْنِ الْبَيْتِ صَغِيرًا، وَيُسْتَدَلُّ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ الْقَوْمُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ؟ قَالَ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَلاَّ تُرِيَهَا أَحَدًا فَلَا تُرِيَنَّهَا.قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا، قَالَ: فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ» وَبِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِيَّاكُمْ وَالتَّعَرِّي، فَإِنَّ مَعَكُمْ مَنْ لَا يُفَارِقُكُمْ إِلاَّ عِنْدَ الْغَائِطِ، وَحِينَ يُفْضِي الرَّجُلُ إِلَى أَهْلِهِ، فَاسْتَحْيُوهُمْ وَأَكْرِمُوهُمْ».
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ، لِحَدِيثِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَسْتَتِرْ، وَلَا يَتَجَرَّدَا تَجَرُّدَ الْعِيرَيْنِ».
5- مَا يُخِلُّ بِالِاسْتِتَارِ:
أ- يُخِلُّ بِالِاسْتِتَارِ وُجُودُ شَخْصٍ مُمَيِّزٍ مُسْتَيْقِظٍ مَعَهُمَا فِي الْبَيْتِ، سَوَاءٌ أَكَانَ زَوْجَةً، أَمْ سُرِّيَّةً، أَمْ غَيْرَهُمَا يَرَى أَوْ يَسْمَعُ الْحِسَّ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَقَدْ سُئِلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ امْرَأَتَانِ فِي بَيْتٍ، قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَطَأَ إِحْدَاهُمَا وَالْأُخْرَى تَرَى أَوْ تَسْمَعُ.
ب- وَيُخِلُّ بِالِاسْتِتَارِ وُجُودُ نَائِمٍ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ، فَقَالَ الرَّهُونِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ الزُّرْقَانِيِّ لِمَتْنِ خَلِيلٍ: لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصِيبَ زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ وَمَعَهُ فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ يَقْظَانُ أَوْ نَائِمٌ لِأَنَّ النَّائِمَ قَدْ يَسْتَيْقِظُ فَيَرَاهُمَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ.
ج- وَيُخِلُّ بِالِاسْتِتَارِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمَالِكِيَّةِ وُجُودُ صَغِيرٍ غَيْرِ مُمَيِّزٍ، اتِّبَاعًا لِابْنِ عُمَرَ الَّذِي كَانَ يُخْرِجُ الصَّبِيَّ فِي الْمَهْدِ عِنْدَمَا يُرِيدُ الْجِمَاعَ.وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ- وَمِنْهُمْ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ- إِلَى أَنَّ وُجُودَ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ لَا يُخِلُّ بِالِاسْتِتَارِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ مَشَقَّةٍ وَحَرَجٍ.
الْآثَارُ الْمُرَتَّبَةُ عَلَى تَرْكِ الِاسْتِتَارِ فِي الْجِمَاعِ:
6- مِنْ حَقِّ الْمَرْأَةِ الِامْتِنَاعُ عَنْ إِجَابَةِ طَلَبِ زَوْجِهَا إِلَى فِرَاشِهِ، إِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَسْتَتِرُ عَنِ النَّاسِ حِينَ الْجِمَاعِ، وَلَا تَصِيرُ نَاشِزًا بِهَذَا الِامْتِنَاعِ؛ لِأَنَّهُ امْتِنَاعٌ بِحَقٍّ؛ وَلِأَنَّ الْحَيَاءَ وَالْمُرُوءَةَ يَأْبَيَانِ ذَلِكَ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَقَوَاعِدُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لَا تَأْبَاهُ.
الِاسْتِتَارُ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ:
7- يَشْمَلُ هَذَا أَمْرَيْنِ: الِاسْتِتَارُ عَنِ النَّاسِ، وَالِاسْتِتَارُ عَنِ الْقِبْلَةِ إِنْ كَانَ خَارِجَ الْبُنْيَانِ.أَمَّا الْأَوَّلُ، فَالْأَصْلُ وُجُوبُ سَتْرِ الْعَوْرَةِ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، بِحُضُورِ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (عَوْرَة)، كَمَا أَنَّهُ يُسَنُّ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ اسْتِتَارُ شَخْصِ الْإِنْسَانِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْغَائِطِ.
وَأَمَّا الِاسْتِتَارُ عَنِ الْقِبْلَةِ بِسَاتِرٍ فَإِنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ يَرَى جَوَازَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، إِنِ اسْتَتَرَ عَنِ الْقِبْلَةِ بِسَاتِرٍ.وَيَرَى بَعْضُهُمْ تَحْرِيمَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا مُطْلَقًا، وَتَفْصِيلُ مَا يَتَّصِلُ بِالِاسْتِتَارِ عَنِ الْقِبْلَةِ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءُ الْحَاجَةِ).
الِاسْتِتَارُ حِينَ الِاغْتِسَالِ:
أ- وُجُوبُ الِاسْتِتَارِ عَمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ:
8- الْأَمْرُ الَّذِي لَا خِلَافَ فِيهِ هُوَ: افْتِرَاضُ الِاسْتِتَارِ حِينَ الِاغْتِسَالِ، بِحَضْرَةِ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إِلَى عَوْرَةِ الْمُغْتَسِلِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ».وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: «ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ عَامَ الْفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ، وَفَاطِمَةُ تَسْتُرُهُ فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ فَقُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِئٍ». (ر: عَوْرَة)
فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الِاغْتِسَالُ إِلاَّ بِكَشْفِ عَوْرَتِهِ أَمَامَ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ حِينَئِذٍ لَا يُسْقِطُ وُجُوبَ الْغُسْلِ عَلَيْهِ- إِنْ كَانَ رَجُلًا بَيْنَ رِجَالٍ، أَوِ امْرَأَةً بَيْنَ نِسَاءٍ- لِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: نَظَرُ الْجِنْسِ إِلَى الْجِنْسِ أَخَفُّ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْجِنْسِ الْآخَرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْغُسْلَ فَرْضٌ فَلَا يُتْرَكُ لِكَشْفِ الْعَوْرَةِ.
أَمَّا إِنْ كَانَتِ امْرَأَةٌ بَيْنَ رِجَالٍ، أَوْ رَجُلٌ بَيْنَ نِسَاءٍ، أَوْ خُنْثَى بَيْنَ رِجَالٍ أَوْ نِسَاءٍ، أَوْ هُمَا مَعًا، فَلَا يَجُوزُ لِهَؤُلَاءِ الْكَشْفُ عَنْ عَوْرَاتِهِمْ لِلْغُسْلِ، بَلْ يَتَيَمَّمُونَ، لَكِنْ شَارِحُ مُنْيَةِ الْمُصَلِّي لَمْ يُسَلِّمْ بِهَذَا التَّفْصِيلِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مُقَدَّمٌ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ، وَلِلْغُسْلِ خَلَفٌ وَهُوَ التَّيَمُّمُ.
وَعُمُومُ كَلَامِ الْحَنَابِلَةِ، فِي تَحْرِيمِ كَشْفِ الْعَوْرَةِ عِنْدَ الِاغْتِسَالِ بِحُضُورِ مَنْ يَحْرُمُ نَظَرُهُ إِلَيْهَا، يُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ الْحَنَفِيَّةَ.
وَاَلَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ تَرَتَّبَ عَلَى الْقِيَامِ بِالطَّهَارَةِ الْمَائِيَّةِ كَشْفُ الْعَوْرَةِ، فَإِنَّهُ يُصَارُ إِلَى التَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ لَا بَدَلَ لَهُ؛ وَلِأَنَّهُ وَاجِبٌ لِلصَّلَاةِ وَالصِّيَانَةِ عَنِ الْعُيُونِ، وَيُبَاحُ فِعْلُ الْمَحْظُورِ مِنْ أَجْلِهِ، كَاسْتِتَارِ الرَّجُلِ بِالْحَرِيرِ إِذَا تَعَيَّنَ.أَمَّا الطَّهَارَةُ الْمَائِيَّةُ فَلَهَا بَدَلٌ، وَلَا يُبَاحُ فِعْلُ الْمَحْظُورِ مِنْ أَجْلِهَا وَمِنْ هُنَا كَانَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ يَتَشَدَّدُونَ فِي الْمَنْعِ مِنْ دُخُولِ الْحَمَّامِ إِلاَّ بِمِئْزَرٍ.وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي ذَلِكَ آثَارًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، حَتَّى بَلَغَ الْأَمْرُ بِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَتَبَ: لَا يَدْخُلَنَّ أَحَدٌ الْحَمَّامَ إِلاَّ بِمِئْزَرٍ، وَبِعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنْ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ بِالْبَصْرَةِ أَمَّا بَعْدُ: فَمُرْ مَنْ قِبَلَكَ أَلاَّ يَدْخُلُوا الْحَمَّامَ إِلاَّ بِمِئْزَرٍ، وَأَخَذَ يَفْرِضُ الْعُقُوبَاتِ الرَّادِعَةَ عَلَى مَنْ دَخَلَ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ مِئْزَرٍ، وَعَلَى صَاحِبِ الْحَمَّامِ الَّذِي أَدْخَلَهُ.وَعَنْ عُبَادَةَ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَضْرِبُ صَاحِبَ الْحَمَّامِ وَمَنْ دَخَلَهُ بِغَيْرِ إِزَارٍ.
ب- اسْتِتَارُ الْمُغْتَسِلِ بِحُضُورِ الزَّوْجَةِ:
9- مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ أَيْضًا: أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يَغْتَسِلَ بِحُضُورِ الْآخَرِ، وَهُوَ بَادِي الْعَوْرَةِ.لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: «احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ».وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ قَدَحٍ، يُقَالُ لَهُ: الْفَرَقُ»، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
اسْتِتَارُ الْمُغْتَسِلِ مُنْفَرِدًا:
10- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُنْفَرِدِ أَنْ يَغْتَسِلَ عُرْيَانًا.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «قَالَ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَكَانَ مُوسَى يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ، فَقَالُوا: وَاَللَّهِ مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إِلاَّ أَنَّهُ آدَرُّ- مَنْفُوخُ الْخُصْيَةِ- فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ، فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ، فَخَرَجَ مُوسَى فِي إِثْرِهِ يَقُولُ: ثَوْبِي يَا حَجَرُ، حَتَّى نَظَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى مُوسَى فَقَالُوا: وَاَللَّهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ، وَأَخَذَ ثَوْبَهُ، فَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «قَالَ: بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْتَشِي فِي ثَوْبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا أَيُّوبَ أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ قَالَ: بَلَى وَعِزَّتِكَ، وَلَكِنْ لَا غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ».
فَقَدْ قَصَّ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ذَلِكَ دُونَ نَكِيرٍ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا إِذَا لَمْ يَرِدْ فِي شَرْعِنَا مَا يُخَالِفُهُ.
وَسُئِلَ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنِ الْغُسْلِ فِي الْفَضَاءِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، فَقِيلَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنَّ فِيهِ حَدِيثًا، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ تَعَجُّبًا: لَا يَغْتَسِلُ الرَّجُلُ فِي الْفَضَاءِ؟!، وَجْهُ إِجَازَةِ مَالِكٍ لِلرَّجُلِ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي الْفَضَاءِ إِذَا أَمِنَ أَنْ يَمُرَّ بِهِ أَحَدٌ، وَأَنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا قَرَّرَ وُجُوبَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ عَنِ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ بَنِي آدَمَ دُونَ سِوَاهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، إِذْ لَا يُفَارِقُهُ الْحَفَظَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِهِ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، قَالَ تَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ تَعَجُّبًا: لَا يَغْتَسِلُ الرَّجُلُ فِي الْفَضَاءِ، إِذْ لَا فَرْقَ فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ بَيْنَ الْفَضَاءِ وَغَيْرِهِ.
وَلَكِنْ هَذَا جَوَازٌ مَقْرُونٌ بِالْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ، وَلِذَلِكَ يَنْدُبُ لَهُ الِاسْتِتَارُ.لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَوَصَلَهُ غَيْرُهُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلاَّ مِنْ زَوْجَتِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ.قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنْ كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا؟ قَالَ: فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ».
وَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى إِلَى وُجُوبِ الِاسْتِتَارِ حِينَ الْغُسْلِ، وَلَوْ كَانَ فِي خَلْوَةٍ.
مُسْتَدِلًّا بِالْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- رَأَى رَجُلًا يَغْتَسِلُ بِالْبِرَازِ- أَيْ بِالْخَلَاءِ- فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَلِيمٌ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ، يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ».
اسْتِتَارُ الْمَرْأَةِ الْمُتَزَيِّنَةِ:
11- يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ الِاسْتِتَارُ عَنْ غَيْرِ الزَّوْجِ وَالْمَحَارِمِ، بِسَتْرِ عَوْرَتِهَا وَعَدَمِ إِبْدَاءِ زِينَتِهَا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ}.وَفِيمَا يَجِبُ سَتْرُهُ عَنِ الْمَحَارِمِ وَغَيْرِهِمْ، وَفِي سَتْرِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ: (تَزَيُّن) (وَعَوْرَةٌ).الِاسْتِتَارُ مِنْ عَمَلِ الْفَاحِشَةِ:
12- مَنِ ابْتُلِيَ بِمَعْصِيَةٍ، كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَتِرَ بِذَلِكَ، وَلَا يُجَاهِرَ بِفِعْلِهِ السَّيِّئِ، كَمَا يَنْبَغِي لِمَنْ عَلِمَ بِفَاحِشَتِهِ أَنْ يَسْتُرَ عَلَيْهِ وَيَنْصَحَهُ، وَيَمْنَعَهُ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالْوَسِيلَةِ الَّتِي يَسْتَطِيعُهَا.
13- وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرْءَ إِذَا وَقَعَ مِنْهُ مَا يُعَابُ عَلَيْهِ يُنْدَبُ لَهُ السَّتْرُ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَا يُعْلِمُ أَحَدًا، حَتَّى الْقَاضِيَ، بِفَاحِشَتِهِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ أَوِ التَّعْزِيرِ عَلَيْهِ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سَتْرَ اللَّهِ عَنْهُ».
وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- «مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِي لَنَا مِنْ صَفْحَتِهِ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ».وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: لَوْ أَخَذْتُ شَارِبًا لأَحْبَبْتُ أَنْ يَسْتُرَهُ اللَّهُ، وَلَوْ أَخَذْتُ سَارِقًا لأَحْبَبْتُ أَنْ يَسْتُرَهُ اللَّهُ وَأَنَّ الصَّحَابَةَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيًّا وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبَا الدَّرْدَاءِ وَالْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَغَيْرَهُمْ قَدْ أُثِرَ عَنْهُمُ السَّتْرُ عَلَى مُعْتَرِفٍ بِالْمَعْصِيَةِ، أَوْ تَلْقِينِهِ الرُّجُوعَ مِنْ إِقْرَارِهِ بِهَا، سَتْرًا عَلَيْهِ، وَسَتْرُ مُعْتَرِفِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْلَى مِنْ سَتْرِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ.
وَالْجَهْرُ بِالْمَعْصِيَةِ عَنْ جَهْلٍ، لَيْسَ كَالْجَهْرِ بِالْمَعْصِيَةِ تَبَجُّحًا.قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَإِنَّ مَنْ قَصَدَ إِظْهَارَ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُجَاهَرَةَ بِهَا أَغْضَبَ رَبَّهُ.وَقَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: وَأَمَّا التَّحَدُّثُ بِهَا تَفَكُّهًا فَحَرَامٌ قَطْعًا.
أَثَرُ الِاسْتِتَارِ بِالْمَعْصِيَةِ:
14- يَتَرَتَّبُ عَلَى الِاسْتِتَارِ بِالْمَعْصِيَةِ:
أ- عَدَمُ إِقَامَةِ الْعُقُوبَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَاتِ لَا تَجِبُ إِلاَّ بَعْدَ إِثْبَاتِهَا. (ر: إِثْبَات) فَإِذَا اسْتَتَرَ بِهَا وَلَمْ يُعْلِنْهَا وَلَمْ يُقِرَّ بِهَا وَلَمْ يَنَلْهُ أَيُّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْإِثْبَاتِ، فَلَا عُقُوبَةَ.
ب- عَدَمُ شُيُوعِ الْفَاحِشَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.
ج- مَنِ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً فَاسْتَتَرَ بِهَا فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى أَنْ يَتُوبَ مِنْهَا، فَإِنْ تَابَ سَقَطَتْ عَنْهُ الْمُؤَاخَذَةُ، فَإِنْ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ تَتَعَلَّقُ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ الْمُؤَاخَذَةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، وَرَحْمَتُهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، فَلِذَلِكَ إِذَا سَتَرَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَفْضَحْهُ فِي الْآخِرَةِ.وَإِنْ كَانَتْ تَتَعَلَّقُ بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، كَقَتْلٍ وَقَذْفٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ مِنْ شُرُوطِ التَّوْبَةِ فِيهَا أَدَاءَ هَذِهِ الْحُقُوقِ لِأَصْحَابِهَا، أَوْ عَفْوَ أَصْحَابِهَا عَنْهَا، وَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى مَنِ اسْتَتَرَ بِالْمَعْصِيَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحَقِّ آدَمِيٍّ أَنْ يُؤَدِّيَ هَذَا الْحَقَّ لِصَاحِبِهِ. (ر: التَّوْبَة)
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
251-موسوعة الفقه الكويتية (استحقاق 2)
اسْتِحْقَاقٌ -2الِاسْتِحْقَاقُ فِي الشُّفْعَةِ:
25- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوِ اسْتَحَقَّ الْمَشْفُوعَ بَطَلَتِ الشُّفْعَةُ، وَرَجَعَ الشَّفِيعُ بِالثَّمَنِ عَلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ، وَقَرَارُ الضَّمَانِ (أَيْ نِهَايَتُهُ) عَلَى الْبَائِعِ.
وَيَخْتَلِفُونَ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ رَأْيَانِ:
أ- الْأَوَّلُ: بُطْلَانُ الْبَيْعِ وَالشُّفْعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَوْلُ غَيْرِ الْمُقَدَّمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ كَانَ الثَّمَنُ مُعَيَّنًا؛ لِأَنَّ مَالِكَهُ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، وَيَرْجِعُ الشَّفِيعُ بِمِثْلِ مَا دَفَعَ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ قَبْلَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ حَيْثُ كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ نَقْدٍ.
ب- وَالثَّانِي: صِحَّةُ الشُّفْعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِي هُوَ الْمَذْهَبُ إِنْ حَصَلَ الِاسْتِحْقَاقُ بَعْدَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَيَرْجِعُ الْبَائِعُ بِقِيمَةِ الشُّفْعَةِ لَا بِقِيمَةِ الْمُسْتَحَقِّ، إِلاَّ إِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ نَقْدًا مَسْكُوكًا فَيَرْجِعُ بِمِثْلِهِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَيَصِحُّ الْبَيْعُ وَالشُّفْعَةُ اتِّفَاقًا- كَأَنِ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ وَدَفَعَ عَمَّا فِيهَا فَخَرَجَ الْمَدْفُوعُ مُسْتَحَقًّا- وَأَبْدَلَ الثَّمَنَ بِمَا يَحِلُّ مَحَلَّهُ فِي الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ عِنْدَ صِحَّةِ الْبَيْعِ وَالشُّفْعَةِ.
فَإِنِ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ بَطَلَ الْبَيْعُ فِيهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَصَحَّ فِي الْبَاقِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِيهِ خِلَافٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِنَاءً عَلَى رِوَايَتَيْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.
وَإِنْ دَفَعَ الشَّفِيعُ بَدَلًا مُسْتَحَقًّا لَمْ تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، زَادَ الشَّافِعِيَّةُ: وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ، لِأَنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ فِي الطَّلَبِ وَالْأَخْذِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِمُعَيَّنٍ أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَ بِمُعَيَّنٍ احْتَاجَ إِلَى تَمَلُّكٍ جَدِيدٍ.
الِاسْتِحْقَاقُ فِي الْمُسَاقَاةِ:
26- الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْمُسَاقَاةَ تَنْفَسِخُ بِاسْتِحْقَاقِ الْأَشْجَارِ، وَلَا حَقَّ لِلْعَامِلِ فِي الثَّمَرَةِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِيهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ.
وَلِلْعَامِلِ عَلَى مَنْ تَعَاقَدَ مَعَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اشْتَرَطُوا لِوُجُوبِ الْأُجْرَةِ ظُهُورَ الثَّمَرِ، فَإِنْ لَمْ تَظْهَرِ الثِّمَارُ حَتَّى اسْتُحِقَّتِ الْأَشْجَارُ فَلَا أُجْرَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْأُجْرَةَ تُسْتَحَقُّ فِي حَالَةِ جَهْلِهِ بِالِاسْتِحْقَاقِ؛ لِأَنَّ الَّذِي تَعَاقَدَ مَعَهُ غَرَّهُ، فَإِنْ عَلِمَ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ.
وَلَوْ خَرَجَ الثَّمَرُ فِي الشَّجَرِ ثُمَّ اسْتُحِقَّتِ الْأَرْضُ، فَالْكُلُّ لِلْمُسْتَحِقِّ (الْأَرْضُ وَالشَّجَرُ وَالثَّمَرُ) وَيَرْجِعُ الْعَامِلُ عَلَى مَنْ تَعَاقَدَ مَعَهُ بِأَجْرِ مِثْلِ عَمَلِهِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْمُسْتَحِقَّ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِبْقَاءِ الْعَامِلِ وَبَيْنَ فَسْخِ عَقْدِهِ، فَإِنْ فَسَخَ دَفَعَ لَهُ أَجْرَ عَمَلِهِ.
وَالْحُكْمُ فِي ضَمَانِ تَلَفِ الْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ- بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ- يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى بَابِ الضَّمَانِ.
الِاسْتِحْقَاقُ فِي الْإِجَارَةِ
اسْتِحْقَاقُ الْعَيْنِ الْمُكْتَرَاةِ:
27- يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْعَيْنِ الْمُكْتَرَاةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِبُطْلَانِ الْإِجَارَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِتَوَقُّفِهَا عَلَى إِجَازَةِ الْمُسْتَحِقِّ، بِالْأَوَّلِ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَبِالثَّانِي قَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ احْتِمَالٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، بِنَاءً عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَتَوَقُّفِهِ عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ
كَذَلِكَ يَخْتَلِفُونَ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ، وَلَهُمْ فِي هَذَا ثَلَاثَةُ آرَاءٍ:
أ- الْأُجْرَةُ لِلْعَاقِدِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَتِ الْإِجَازَةُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَلَا اعْتِبَارَ لِلْإِجَازَةِ حِينَئِذٍ وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ بَعْدَ الْأَمَدِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ الْمُكْتَرَاةُ غَيْرَ مَغْصُوبَةٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّهَا بِالْمِلْكِ ظَاهِرًا.
ب- إِنَّ الْأُجْرَةَ لِلْمُسْتَحِقِّ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَتِ الْإِجَازَةُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَكَذَا إِنْ كَانَتْ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الْمَنْفَعَةِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ الْمُؤَجَّرَةُ مَغْصُوبَةً وَيَجْهَلُ الْمُسْتَأْجِرُ الْغَصْبَ.
وَيَرْجِعُ الْمَالِكُ عَلَى الْغَاصِبِ أَوِ الْمُسْتَأْجِرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ الَّتِي اسْتَوْفَاهَا، وَالْقَرَارُ (أَيْ نِهَايَةُ الضَّمَانِ) عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ إِنْ كَانَ قَدِ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِهَا فَقَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُؤَجِّرِ الْغَارِّ.
وَيَرْجِعُ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِمَا أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْقَرَارُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَفِي الْمَوَاهِبِ السَّنِيَّةِ أَنَّ الْأَرْضَ الْمَوْقُوفَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ إِنْ آجَرَهَا النَّاظِرُ وَأَخَذَ الْأُجْرَةَ وَسَلَّمَهَا لِلْمُسْتَحِقِّينَ، فَإِنَّ الْمَالِكَ يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لَا عَلَى النَّاظِرِ، وَرُجُوعُ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى مَنْ أَخَذَ دَرَاهِمَهُ.
ج- أَجْرُ مَا مَضَى لِلْعَاقِدِ، وَمَا بَعْدَهُ لِلْمُسْتَحِقِّ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَيَتَصَدَّقُ الْعَاقِدُ عِنْدَهُ بِنَصِيبِهِ بَعْدَ ضَمَانِ النَّقْصِ.وَالْمُرَادُ بِمَا مَضَى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا قَبْلَ الْحُكْمِ بِالِاسْتِحْقَاقِ.
تَلَفُ الْعَيْنِ الْمُسْتَحَقَّةِ الْمُكْتَرَاةِ:
28- لَوْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ الْمُؤَجَّرَةُ أَوْ نَقَصَتْ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ فَلِلْمُسْتَحِقِّ تَضْمِينُ الْمُسْتَأْجِرِ أَوِ الْمُؤَجِّرِ، وَالْقَرَارُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ، هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ.
وَالرُّجُوعُ يَكُونُ بِأَعْلَى قِيمَةٍ مِنْ يَوْمِ الْغَصْبِ إِلَى يَوْمِ التَّلَفِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّهَا مَغْصُوبَةٌ فِي الْحَالِ الَّتِي زَادَتْ فِيهَا قِيمَتُهَا، فَالزِّيَادَةُ لِمَالِكِهَا مَضْمُونَةٌ عَلَى الْغَاصِبِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَرْجِعُ الْمُسْتَحِقُّ عَلَى الْمُكْتَرِي إِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَتَعَدَّ وَفَعَلَ مَا يَجُوزُ لَهُ، فَلَوِ اكْتَرَى دَارًا فَهَدَمَهَا، ثُمَّ ظَهَرَ مُسْتَحِقٌّ، فَلَهُ أَخْذُ النَّقْصِ إِنْ وَجَدَهُ وَقِيمَةُ الْهَدْمِ مِنَ الْهَادِمِ، أَيْ قِيمَةُ مَا أَفْسَدَ الْهَدْمُ مِنَ الْبِنَاءِ.
اسْتِحْقَاقُ الْأُجْرَةِ:
29- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْأُجْرَةَ لَوِ اسْتُحِقَّتْ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِثْلِيَّةً أَوْ عَيْنًا قِيَمِيَّةً، فَإِنْ كَانَتِ الْأُجْرَةُ عَيْنًا قِيَمِيَّةً وَاسْتُحِقَّتْ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ، وَتَجِبُ قِيمَةُ الْمَنْفَعَةِ (أَجْرُ الْمِثْلِ) لَا قِيمَةُ الْبَدَلِ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُجْرَةُ مِثْلِيَّةً لَمْ تَبْطُلِ الْإِجَارَةُ وَيَجِبُ الْمِثْلُ.فَلَوْ دَفَعَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أُجْرَةً فَاسْتُحِقَّتْ يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ عَشَرَةٌ مِثْلُهَا لَا قِيمَةُ الْمَنْفَعَةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ اسْتُحِقَّتِ الْأُجْرَةُ الْمُعَيَّنَةُ مِنْ يَدِ الْمُؤَجِّرِ، كَالدَّابَّةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ قَبْلَ حَرْثِ الْأَرْضِ الْمُؤَجَّرَةِ أَوْ قَبْلَ زَرْعِهَا، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ مِنْ أَصْلِهَا، وَيَأْخُذُ الْأَرْضَ صَاحِبُهَا، وَإِنِ اسْتُحِقَّتْ بَعْدَ حَرْثِ الْأَرْضِ أَوْ زَرْعِهَا فَإِنَّ الْإِجَارَةَ بَيْنَ الْمُؤَجِّرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ لَا تَنْفَسِخُ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِنْ أَخَذَ الْمُسْتَحِقُّ مَالَهُ مِنَ الْمُؤَجِّرِ، وَلَمْ يُجِزِ الْإِجَارَةَ، كَانَ لِلْمُؤَجِّرِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَتَبْقَى الْأَرْضُ لَهُ، كَمَا كَانَتْ أَوَّلًا.
وَإِنْ لَمْ يَأْخُذِ الْمُسْتَحِقُّ مَالَهُ مِنَ الْمُؤَجِّرِ وَأَبْقَاهُ لَهُ وَأَجَازَ الْإِجَارَةَ، فَإِنْ دَفَعَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أُجْرَةَ حَرْثِهِ كَانَ الْحَقُّ لَهُ فِي مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ، وَإِنْ أَبَى الْمُسْتَحِقُّ دَفْعَ أُجْرَةِ الْحَرْثِ قِيلَ لِلْمُسْتَأْجِرِ: ادْفَعْ لِلْمُسْتَحِقِّ أُجْرَةَ الْأَرْضِ، وَيَكُونُ لَكَ مَنْفَعَتُهَا، فَإِنْ دَفَعَ انْتَهَى الْأَمْرُ، وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ قِيلَ لَهُ: سَلِّمْ الْأَرْضَ لَهُ مَجَّانًا مُدَّةَ الْإِجَارَةِ بِلَا مُقَابِلٍ عَنِ الْحَرْثِ.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْأُجْرَةُ شَيْئًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَالنُّقُودِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَاسْتُحِقَّ، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْفَسِخُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الِاسْتِحْقَاقُ قَبْلَ الْحَرْثِ أَمْ بَعْدَهُ، وَذَلِكَ لِقِيَامِ عِوَضِهِ مَقَامَهُ.
اسْتِحْقَاقُ الْأَرْضِ الَّتِي بِهَا غِرَاسٌ أَوْ بِنَاءٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ:
30- لَوِ اسْتُحِقَّتِ الْأَرْضُ الْمُؤَجَّرَةُ وَقَدْ غَرَسَ فِيهَا الْمُسْتَأْجِرُ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي قَلْعِ الْغِرَاسِ، وَفِي إِبْقَائِهِ وَتَمَلُّكِهِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ:
أَحَدُهَا: لِلْمُسْتَحِقِّ قَلْعُ الْغِرَاسِ دُونَ مُقَابِلٍ.وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ فِيمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ تَمَلُّكُ الْغِرَاسِ بِالْقِيمَةِ أَوِ الْإِبْقَاءُ لَهُ بِالْأُجْرَةِ؛ لِتَمَكُّنِ الْغَاصِبِ مِنَ الْقَلْعِ.
وَيُغَرِّمُ الْمُسْتَأْجِرُ الْمُؤَجِّرَ قِيمَةَ الشَّجَرِ مَقْلُوعًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَرْجِعُ الْمُسْتَأْجِرُ بِالْأَرْشِ عَلَى الْغَاصِبِ لِشُرُوعِهِ فِي الْعَقْدِ عَلَى ظَنِّ السَّلَامَةِ.
وَالثَّانِي: لِلْمُسْتَحِقِّ تَمَلُّكُ الْغِرَاسِ بِقِيمَتِهِ قَائِمًا، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ فَسَخَ الْمُسْتَحِقُّ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَلَيْسَ لَهُ قَلْعُ الْغِرَاسِ وَلَا دَفْعُ قِيمَتِهِ مَقْلُوعًا، لِأَنَّ الْمُكْتَرِيَ غَرَسَ بِوَجْهِ شُبْهَةٍ، فَإِنْ أَبَى الْمُسْتَحِقُّ دَفْعَ قِيمَةِ الْغِرَاسِ قَائِمًا قِيلَ لِلْمُكْتَرِي: ادْفَعْ لَهُ قِيمَةَ الْأَرْضِ، فَإِنْ أَبَى كَانَا شَرِيكَيْنِ الْمُكْتَرِي بِقِيمَةِ غَرْسِهِ، وَالْمُسْتَحِقُّ بِقِيمَةِ أَرْضِهِ، فَإِنْ أَجَازَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ يَدْفَعُ قِيمَةَ الْغِرَاسِ مَقْلُوعًا بَعْدَ طَرْحِ أَجْرِ الْقَلْعِ.
الثَّالِثُ: تَمَلُّكُ الْمُسْتَحِقِّ لِلْغِرَاسِ بِمَا أَنْفَقَهُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الْغِرَاسِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْمُتَوَجِّهُ عَلَى قَوْلِ الْقَاضِي وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّ غَرْسَهُ كَغَرْسِ الْغَاصِبِ، وَلَهُمْ قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْغِرَاسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَيَرْجِعُ عَلَى مَنْ آجَرَهُ.وَالْبِنَاءُ كَالْغِرَاسِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ
اسْتِحْقَاقُ الْهِبَةِ بَعْدَ التَّلَفِ:
31- لِلْعُلَمَاءِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْهِبَةِ التَّالِفَةِ اتِّجَاهَانِ:
أ- تَخْيِيرُ الْمُسْتَحِقِّ بَيْنَ الرُّجُوعِ عَلَى الْوَاهِبِ أَوْ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، أَمَّا عَلَى الْوَاهِبِ فَلِأَنَّهُ سَبَبُ إِتْلَافِ مَالِهِ، وَأَمَّا عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَهْلِكُ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ جَعَلُوا الرُّجُوعَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرُّجُوعِ عَلَى الْوَاهِبِ، وَيَكُونُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مِنَ الْغَلَّةِ قِيمَةُ عَمَلِهِ وَعِلَاجِهِ.
فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْوَاهِبِ فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ.وَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ رَجَعَ هَذَا عَلَى الْوَاهِبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، ذَكَرَ ذَلِكَ صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَشَهَّرَهُ ابْنُ رَجَبٍ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ ضَامِنٍ لِشَيْءٍ فَهُوَ مَغْرُورٌ.وَالْخِلَافُ يَجْرِي كَذَلِكَ فِي رُجُوعِ الْمَوْهُوبِ لَهُ عَلَى الْوَاهِبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقِيلَ: لَا يَرْجِعُ عَلَى الْوَاهِبِ؛ لِأَنَّ الْوَاهِبَ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ عِوَضًا فَيَرْجِعُ بِعِوَضِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ غَرَّهُ مِنْ أَمْرٍ قَدْ كَانَ لَهُ أَلاَّ يَقْبَلَهُ.
ب- الرُّجُوعُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ دُونَ الْوَاهِبِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ وَالْوَاهِبُ غَيْرُ عَامِلٍ لَهُ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمَوْهُوبُ لَهُ السَّلَامَةَ، وَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْغُرُورُ؛ وَلِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ يَقْبِضُ لِنَفْسِهِ.
اسْتِحْقَاقُ الْمُوصَى بِهِ:
32- تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِاسْتِحْقَاقِ الْمُوصَى بِهِ، فَإِنِ اسْتُحِقَّ بَعْضُهُ بَقِيَتِ الْوَصِيَّةُ فِي الْبَاقِي، لِأَنَّهَا تَبْطُلُ بِخُرُوجِ الْمُوصَى بِهِ عَنْ مِلْكِ الْمُوصِي، وَبِالِاسْتِحْقَاقِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَوْصَى بِمَالٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ لَهُ، وَالْوَصِيَّةُ بِمَا لَا يَمْلِكُ بَاطِلَةٌ.
اسْتِحْقَاقُ الصَّدَاقِ:
33- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَبْطُلُ بِاسْتِحْقَاقِ الصَّدَاقِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّةِ النِّكَاحِ.لَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا يَجِبُ لِلزَّوْجَةِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ اتِّجَاهَانِ:
الْأَوَّلُ: الرُّجُوعُ بِقِيمَةِ الْمُتَقَوِّمِ وَمِثْلِ الْمِثْلِيِّ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ مَعَهُمْ فِي الْمِثْلِيِّ مُطْلَقًا، وَفِي الْمُتَقَوِّمِ إِنْ كَانَ مُعَيَّنًا، فَإِنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا مَوْصُوفًا رَجَعَتْ بِالْمِثْلِ.
وَالثَّانِي: الرُّجُوعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ.
اسْتِحْقَاقُ الْعِوَضِ فِي الْخُلْعِ:
34- اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَبْطُلُ بِخُرُوجِ الْعِوَضِ مُسْتَحَقًّا وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَجِبُ لِلزَّوْجِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ اتِّجَاهَانِ:
أَحَدُهُمَا: الرُّجُوعُ بِالْقِيمَةِ أَوْ بِالْمِثْلِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِتَعَذُّرِ تَسْلِيمِ الْعِوَضِ مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ تَسْلِيمَهُ، وَهُوَ الْخُلْعُ إِذْ هُوَ لَا يَقْبَلُ النَّقْضَ بَعْدَ تَمَامِهِ.إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا بِالْقِيمَةِ إِنْ كَانَ الْعِوَضُ مُقَوَّمًا، وَبِالْمِثْلِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِوُجُوبِ الْقِيمَةِ إِنْ كَانَ مُعَيَّنًا، فَإِنْ كَانَ مَوْصُوفًا فَفِيهِ الْمِثْلُ.
وَالثَّانِي: بَيْنُونَةُ الْمَرْأَةِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ لِأَنَّهُ الْمُرَادُ عِنْدَ فَسَادِ الْعِوَضِ.
اسْتِحْقَاقُ الْأُضْحِيَّةِ:
35- الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ الْمُسْتَحَقَّةَ لَا تُجْزِئُ عَنِ الذَّابِحِ وَلَا عَنِ الْمُسْتَحِقِّ، اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ ضَمَّنَهُ الْمَالِكُ قِيمَتَهَا فَإِنَّهَا تُجْزِئُ عَنِ الذَّابِحِ.
وَفِي لُزُومِ الْبَدَلِ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ، يَلْزَمُ كُلًّا مِنْهُمَا أَنْ يُضَحِّيَ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجْزَاءِ، فَإِنْ فَاتَ وَقْتُ النَّحْرِ فَعَلَى الذَّابِحِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَةِ شَاةٍ وَسَطٍ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ يَلْزَمُهُ بَدَلُهَا إِنْ تَعَيَّنَتْ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَكَانَتْ وَاجِبَةً قَبْلَ التَّعْيِينِ، كَأَنْ نَذَرَهَا لِلْأُضْحِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ قَبْلَ التَّعْيِينِ فَلَا يَلْزَمُهُ بَدَلُهَا لِعَدَمِ صِحَّةِ التَّعْيِينِ حِينَئِذٍ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تَتَوَقَّفُ الْأُضْحِيَّةُ الْمُسْتَحَقَّةُ عَلَى إِجَازَةِ الْمُسْتَحِقِّ، فَإِنْ أَجَازَ الْبَيْعَ أَجْزَأَتْ قَطْعًا.
اسْتِحْقَاقُ بَعْضِ الْمَقْسُومِ:
36- لِلْفُقَهَاءِ فِي بُطْلَانِ الْقِسْمَةِ وَبَقَائِهَا صَحِيحَةً- عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ بَعْضِ الْمَقْسُومِ- اتِّجَاهَاتٌ:
أ- أَوَّلُهَا: بَقَاءُ الْقِسْمَةِ صَحِيحَةً إِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ بَعْضًا مُعَيَّنًا وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، سَوَاءٌ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ كَوْنُ الْجُزْءِ الْمُسْتَحَقِّ الْمُعَيَّنِ فِي نَصِيبِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَمْ فِي نَصِيبِ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْمُسْتَحِقِّ.وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يَرَوْنَ بَقَاءَهَا صَحِيحَةً إِنْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ.
ب- بُطْلَانُ الْقِسْمَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ شَائِعًا فِي الْكُلِّ، أَوْ شَائِعًا فِي أَحَدِ الْأَنْصِبَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.وَالْبُطْلَانُ أَيْضًا قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ بَعْضًا شَائِعًا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ شَرِيكٌ لَهُمَا وَقَدِ اقْتَسَمَا مِنْ غَيْرِ حُضُورِهِ وَلَا إِذْنِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ لَهُمَا شَرِيكٌ يُعَلِّمَانِهِ فَاقْتَسَمَا دُونَهُ، وَمِثْلُ الشَّائِعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَيْضًا الْمُعَيَّنُ الْمُسْتَحَقُّ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا فَقَطْ أَوْ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهَا قِسْمَةٌ لَمْ تَعْدِلْ فِيهَا السِّهَامُ فَكَانَتْ بَاطِلَةً.
ج- بُطْلَانُ الْقِسْمَةِ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ إِنْ كَانَ شَائِعًا وَثُبُوتُ الْخِيَارِ فِي الْبَاقِي بَيْنَ إِنْفَاذِهِ الْقِسْمَةَ أَوْ إِلْغَائِهَا.وَهُوَ أَظْهَرُ الطَّرِيقَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
د- التَّخْيِيرُ بَيْنَ التَّمَسُّكِ بِالْبَاقِي وَعَدَمِ الرُّجُوعِ بِشَيْءٍ، وَبَيْنَ رُجُوعِهِ فِيمَا بِيَدِ شَرِيكِهِ بِنِصْفِ قَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ إِنْ كَانَ قَائِمًا، وَإِلاَّ فَبِنِصْفِ قِيمَتِهِ يَوْمَ قَبْضِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ إِنِ اسْتَحَقَّ النِّصْفَ أَوِ الثُّلُثَ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ الرُّبُعَ فَلَا خِيَارَ لَهُ وَالْقِسْمَةُ بَاقِيَةٌ لَا تُنْقَضُ، وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ إِلاَّ بِنِصْفِ قِيمَةِ مَا اسْتَحَقَّ.
هـ- التَّخْيِيرُ بَيْنَ إِبْقَاءِ الْقِسْمَةِ عَلَى حَالِهَا فَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ وَبَيْنَ فَسْخِ الْقِسْمَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ إِنِ اسْتَحَقَّ الْأَكْثَرَ، وَهُوَ مَا زَادَ عَنِ النِّصْفِ
و- التَّخَيُّرُ بَيْنَ رَدِّ الْبَاقِي وَالِاقْتِسَامِ ثَانِيًا، وَبَيْنَ الْإِبْقَاءِ عَلَى الْقِسْمَةِ وَالرُّجُوعِ عَلَى الشَّرِيكِ بِقَدْرِ مَا اسْتَحَقَّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ إِنِ اسْتُحِقَّ جُزْءٌ شَائِعٌ مِنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا وَحْدَهُ، وَتُنْتَقَضُ الْقِسْمَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ كَمَا تَقَدَّمَ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
252-موسوعة الفقه الكويتية (استسقاء 1)
اسْتِسْقَاءٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الِاسْتِسْقَاءُ لُغَةً: طَلَبُ السُّقْيَا، أَيْ طَلَبُ إِنْزَالِ الْغَيْثِ عَلَى الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ.وَالِاسْمُ: السُّقْيَا بِالضَّمِّ، وَاسْتَسْقَيْتُ فُلَانًا: إِذَا طَلَبْتَ مِنْهُ أَنْ يَسْقِيَكَ.
وَالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ لِلِاسْتِسْقَاءِ هُوَ: طَلَبُ إِنْزَالِ الْمَطَرِ مِنَ اللَّهِ بِكَيْفِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ.
صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):
2- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: الِاسْتِسْقَاءُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِالدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ أَمْ بِالدُّعَاءِ فَقَطْ، فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَصَحَابَتُهُ وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ بَعْدِهِمْ.وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ بِسُنِّيَّةِ الدُّعَاءِ فَقَطْ، وَبِجَوَازِ غَيْرِهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَعْتَرِيهِ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ التَّالِيَةُ:
الْأَوَّلُ: سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، إِذَا كَانَ لِلْمَحَلِّ وَالْجَدْبِ، أَوْ لِلْحَاجَةِ إِلَى الشُّرْبِ لِشِفَاهِهِمْ، أَوْ لِدَوَابِّهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ، سَوَاءٌ أَكَانُوا فِي حَضَرٍ، أَمْ سَفَرٍ فِي صَحْرَاءَ، أَوْ سَفِينَةٍ فِي بَحْرٍ مَالِحٍ.
الثَّانِي: مَنْدُوبٌ، وَهُوَ الِاسْتِسْقَاءُ مِمَّنْ كَانَ فِي خِصْبٍ لِمَنْ كَانَ فِي مَحَلٍّ وَجَدْبٍ؛ لِأَنَّهُ مِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى.وَلِمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ «تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».وَصَحَّ: «دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِخَيْرٍ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَك بِمِثْلٍ».وَلَكِنَّ الْأَوْزَاعِيَّ وَالشَّافِعِيَّةَ قَيَّدُوهُ بِأَلاَّ يَكُونَ الْغَيْرُ صَاحِبَ بِدْعَةٍ أَوْ ضَلَالَةٍ وَبَغْيٍ.وَإِلاَّ لَمْ يُسْتَحَبَّ زَجْرًا وَتَأْدِيبًا؛ وَلِأَنَّ الْعَامَّةَ تَظُنُّ بِالِاسْتِسْقَاءِ لَهُمْ حُسْنَ طَرِيقِهِمْ وَالرِّضَى بِهَا، وَفِيهَا مِنَ الْمَفَاسِدِ مَا فِيهَا.مَعَ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوِ احْتَاجَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَسَأَلُوا الْمُسْلِمِينَ الِاسْتِسْقَاءَ لَهُمْ فَهَلْ يَنْبَغِي إِجَابَتُهُمْ أَمْ لَا؟
الْأَقْرَبُ: الِاسْتِسْقَاءُ لَهُمْ وَفَاءً بِذِمَّتِهِمْ.ثُمَّ عَلَّلُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: وَلَا يُتَوَهَّمُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّا فَعَلْنَاهُ لِحُسْنِ حَالِهِمْ؛ لِأَنَّ كُفْرَهُمْ مُحَقَّقٌ مَعْلُومٌ.وَلَكِنْ تُحْمَلُ إِجَابَتُنَا لَهُمْ عَلَى الرَّحْمَةِ بِهِمْ، مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُمْ مِنْ ذَوِي الرُّوحِ، بِخِلَافِ الْفَسَقَةِ وَالْمُبْتَدِعَةِ.
الثَّالِثُ: مُبَاحٌ، وَهُوَ اسْتِسْقَاءُ مَنْ لَمْ يَكُونُوا فِي مَحَلٍّ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الشُّرْبِ، وَقَدْ أَتَاهُمُ الْغَيْثُ، وَلَكِنْ لَوِ اقْتَصَرُوا عَلَيْهِ لَكَانَ دُونَ السِّعَةِ، فَلَهُمْ أَنْ يَسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ.
دَلِيلُ الْمَشْرُوعِيَّةِ:
3- ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّتُهُ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}.
كَمَا اسْتَدَلَّ لَهُ بِعَمَلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَخُلَفَائِهِ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ بَعْدِهِ، فَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي اسْتِسْقَائِهِ- صلى الله عليه وسلم-.رَوَى أَنَسٌ- رضي الله عنه-: «أَنَّ النَّاسَ قَدْ قَحَطُوا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ وَرَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ.فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتِ الْمَوَاشِي، وَخَشِينَا الْهَلَاكَ عَلَى أَنْفُسِنَا، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا.فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا هَنِيئًا مَرِيئًا غَدَقًا مُغْدِقًا عَاجِلًا غَيْرَ رَائِثٍ.قَالَ الرَّاوِي: مَا كَانَ فِي السَّمَاءِ قَزَعَةٌ، فَارْتَفَعَتِ السَّحَابُ مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَا حَتَّى صَارَتْ رُكَامًا، ثُمَّ مَطَرَتْ سَبْعًا مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ.ثُمَّ دَخَلَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، وَالنَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ، وَالسَّمَاءُ تَسْكُبُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَهَدَّمَ الْبُنْيَانُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُمْسِكَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِمَلَالَةِ بَنِي آدَمَ.قَالَ الرَّاوِي: وَاَللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ خَضْرَاءَ.ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ، وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ.فَانْجَابَتِ السَّمَاءُ عَنِ الْمَدِينَةِ حَتَّى صَارَتْ حَوْلَهَا كَالْإِكْلِيلِ».
وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَجَعَلَهُ أَصْلًا، وَقَالَ: إِنَّ السُّنَّةَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ هِيَ الدُّعَاءُ فَقَطْ، مِنْ غَيْرِ صَلَاةٍ وَلَا خُرُوجٍ.
وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «شَكَا النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قُحُوطَ الْمَطَرِ، فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ فَوُضِعَ لَهُ فِي الْمُصَلَّى، وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَكَبَّرَ وَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيَارِكُمْ، وَاسْتِئْخَارَ الْمَطَرِ عَنْ إِبَّانِ زَمَانِهِ عَنْكُمْ، وَقَدْ أَمَرَكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَدْعُوَهُ، وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ.ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ، أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ، وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَ لَنَا قُوَّةً وَبَلَاغًا إِلَى حِينٍ.ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ فِي الرَّفْعِ حَتَّى بَدَا بَيَاضُ إِبِطَيْهِ، ثُمَّ حَوَّلَ إِلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ، وَقَلَبَ أَوْ حَوَّلَ رِدَاءَهُ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، وَنَزَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَأَنْشَأَ اللَّهُ سَحَابَةً فَرَعَدَتْ وَبَرَقَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَأْتِ مَسْجِدَهُ حَتَّى سَالَتِ السُّيُولُ، فَلَمَّا رَأَى سُرْعَتَهُمْ إِلَى الْكُنِّ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِزُهُ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ، وَأَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ».
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
253-موسوعة الفقه الكويتية (استهلال)
اسْتِهْلَالالتَّعْرِيفُ.
1- الِاسْتِهْلَالُ لُغَةً: مَصْدَرُ اسْتَهَلَّ، وَاسْتَهَلَّ الْهِلَالُ ظَهَرَ، وَاسْتِهْلَالُ الصَّبِيِّ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالْبُكَاءِ عِنْدَ وِلَادَتِهِ، وَالْإِهْلَالُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِقَوْلِ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَهَلَّ الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ: رَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ.
وَالْبَحْثُ هُنَا قَاصِرٌ عَلَى اسْتِهْلَالِ الْمَوْلُودِ.
وَيَخْتَلِفُ مُرَادُ الْفُقَهَاءِ بِالِاسْتِهْلَالِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَصَرَهُ عَلَى الصِّيَاحِ، وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَوْسَعَ مِنْ ذَلِكَ وَأَرَادَ بِهِ كُلَّ مَا يَدُلُّ عَلَى حَيَاةِ الْمَوْلُودِ، مِنْ رَفْعِ صَوْتٍ، أَوْ حَرَكَةِ عُضْوٍ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ.وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِأَنَّهُ كُلُّ صَوْتٍ يَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ مِنْ صِيَاحٍ، أَوْ عُطَاسٍ، أَوْ بُكَاءٍ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ.
وَاَلَّذِينَ قَصَرُوا الِاسْتِهْلَالَ عَلَى الصِّيَاحِ لَا يَمْنَعُونَ حُصُولَ حَيَاةِ الْمَوْلُودِ الَّذِي مَاتَ دُونَ صِيَاحٍ، وَإِنَّمَا يَحْكُمُونَ عَلَى حَيَاتِهِ بِبَعْضِ الْأَمَارَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ بِمُفْرَدِهَا أَوْ مَعَ غَيْرِهَا.
وَسَيَشْمَلُ هَذَا الْبَحْثُ أَحْكَامَ الِاسْتِهْلَالِ بِمَعْنَاهُ الْأَعَمِّ، وَهُوَ اصْطِلَاحُ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِتَعَدُّدِ أَمَارَاتِ الْحَيَاةِ.
أَمَارَاتُ الْحَيَاةِ:
أ- الصِّيَاحُ:
2- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصِّيَاحَ أَمَارَةٌ يَقِينِيَّةٌ عَلَى الْحَيَاةِ، لَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي الْحَالِ الَّتِي يُعْتَبَرُ الصِّيَاحُ فِيهَا مُؤَثِّرًا، وَقَدْ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ مِنْ مَوْطِنٍ لآِخَرَ فِي الْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ.
ب- الْعُطَاسُ وَالِارْتِضَاعُ:
3- الْعُطَاسُ وَالِارْتِضَاعُ مِنْ أَمَارَاتِ الِاسْتِهْلَالِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُمَا فِي مَعْنَاهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَازِرِيُّ وَابْنُ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَحْمَدَ كَذَلِكَ، فَيَثْبُتُ بِهِمَا حُكْمُ الِاسْتِهْلَالِ عِنْدَهُمْ.
أَمَّا عِنْدَ مَالِكٍ فَلَا عِبْرَةَ بِالْعُطَاسِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنَ الرِّيحِ، وَكَذَلِكَ الرَّضَاعُ إِلاَّ أَنَّ الْكَثِيرَ مِنَ الرَّضَاعِ مُعْتَبَرٌ، وَالْكَثِيرُ مَا تَقُولُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ: إِنَّهُ لَا يَقَعُ مِثْلُهُ إِلاَّ مِمَّنْ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ.
ج- التَّنَفُّسُ:
4- يَأْخُذُ التَّنَفُّسُ حُكْمَ الْعُطَاسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
د- الْحَرَكَةُ:
5- حَرَكَةُ الْمَوْلُودِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ طَوِيلَةً أَوْ يَسِيرَةً، وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ الِاخْتِلَاجِ، إِذْ الِاخْتِلَاجُ تَحَرُّكُ عُضْوٍ، وَالْحَرَكَةُ أَعَمُّ مِنْ تَحَرُّكِ عُضْوٍ أَوْ تَحَرُّكِ الْجُمْلَةِ.وَلِلْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ اتِّجَاهَاتٍ فِي الْحَرَكَةِ:
الْأَوَّلُ: الْأَخْذُ بِهَا مُطْلَقًا.
وَالثَّانِي: عَدَمُ الِاعْتِدَادِ بِهَا مُطْلَقًا.
وَالثَّالِثُ: الْأَخْذُ بِالْحَرَكَةِ الطَّوِيلَةِ دُونَ الْيَسِيرَةِ.
هـ- الْحَرَكَةُ الطَّوِيلَةُ:
6- الْحَرَكَةُ الطَّوِيلَةُ مِنْ الِاسْتِهْلَالِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، عَدَا ابْنِ عَابِدِينَ، وَفِي مَعْنَى الِاسْتِهْلَالِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَحَدُ رَأْيَيِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّهَا فِي حُكْمِ الِاسْتِهْلَالِ كَذَلِكَ.أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلِهِمُ الْآخَرِ، وَابْنُ عَابِدِينَ فَإِنَّهُمْ لَا يُعْطُونَهَا حُكْمَ الِاسْتِهْلَالِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ طَوِيلَةً أَمْ يَسِيرَةً، لِأَنَّ حَرَكَتَهُ كَحَرَكَتِهِ فِي الْبَطْنِ، وَقَدْ يَتَحَرَّكُ الْمَقْتُولُ، وَقِيلَ بِهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
و- الْحَرَكَةُ الْيَسِيرَةُ:
7- تَأْخُذُ الْحَرَكَةُ الْيَسِيرَةُ حُكْمَ الِاسْتِهْلَالِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَا يُعْتَدُّ بِهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ اتِّفَاقًا، وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَمِنْهُمْ مَنْ وَافَقَ الْحَنَفِيَّةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ وَافَقَ الْمَالِكِيَّةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَدَّدَ، إِذْ لَمْ يُفَرِّقْ كَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ بَيْنَ الْحَرَكَةِ الطَّوِيلَةِ وَالْحَرَكَةِ الْيَسِيرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اشْتَرَطَ قُوَّةَ الْحَرَكَةِ وَلَمْ يَعْتَدَّ بِحَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ، لِأَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ: ز- الِاخْتِلَاجُ:
8- يَأْخُذُ الِاخْتِلَاجُ حُكْمَ الْحَرَكَةِ الْيَسِيرَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ شَهَرُوا عَدَمَ إِعْطَائِهِ حُكْمَ الِاسْتِهْلَالِ.
إِثْبَاتُ الِاسْتِهْلَالِ:
9- مِمَّا يَثْبُتُ بِهِ الِاسْتِهْلَالُ الشَّهَادَةُ، وَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِأَقْوَالِ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَهُوَ مَحَلُّ اتِّفَاقٍ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ.وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْعَدَدِ الْمُجْزِي وَالْمَوَاطِنِ الْمَقْبُولَةِ.
10- وَالِاسْتِهْلَالُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَطَّلِعُ عَلَيْهَا النِّسَاءُ غَالِبًا، لِذَلِكَ يَقْبَلُ الْفُقَهَاءُ- عَدَا الرَّبِيعِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ- شَهَادَتَهُنَّ عَلَيْهِ مُنْفَرِدَاتٍ عَنِ الرِّجَالِ.
إلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي نِصَابِهَا وَفِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ فِيهَا.
وَتَفْصِيلُ اتِّجَاهَاتِهِمْ فِي نِصَابِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ كَمَا يَلِي:
11- يَرَى الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ إِلاَّ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، وَخَبَرُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ.أَمَّا غَيْرُ الصَّلَاةِ كَالْمِيرَاثِ فَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِهْلَالُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ، وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ يَكْفِي شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى الِاسْتِهْلَالِ إِنْ كَانَتْ حُرَّةً مُسْلِمَةً عَدْلًا.لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ فِي الِاسْتِهْلَالِ.
وَالْعِلَّةُ فِيهِ- كَمَا فِي الْمَبْسُوطِ- أَنَّ اسْتِهْلَالَ الصَّبِيِّ يَكُونُ عِنْدَ الْوِلَادَةِ، وَتِلْكَ حَالَةٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ، وَفِي صَوْتِهِ مِنَ الضَّعْفِ عِنْدَ ذَلِكَ مَا لَا يَسْمَعُهُ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ تِلْكَ الْحَالَةَ، وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرَّجُلُ كَشَهَادَةِ الرِّجَالِ فِيمَا يَطَّلِعُونَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا يُصَلَّى عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، فَكَذَلِكَ يَرِثُ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ حُذَيْفَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ» وَقَالَ: «شَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ» وَالنِّسَاءُ جِنْسٌ فَيَدْخُلُ فِيهِ أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ.
وَإِنَّمَا فَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَبَيْنَ الْمِيرَاثِ، لِأَنَّ الْمِيرَاثَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَلَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ.
12- وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَأَبُو ثَوْرٍ رَأَوْا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي الِاسْتِهْلَالِ أَقَلُّ مِنِ امْرَأَتَيْنِ، قَالُوا: لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الشَّهَادَةِ شَيْئَانِ: الْعَدَدُ وَالذُّكُورَةُ، وَقَدْ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الذُّكُورَةُ هُنَا، وَلَمْ يَتَعَذَّرِ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ فَبَقِيَ مُعْتَبَرًا كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ.
شَهَادَةُ الثَّلَاثِ:
13- يَرَى عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي الِاسْتِهْلَالِ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثِ نِسَاءٍ، وَالْوَجْهُ عِنْدَهُ أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ قُبِلَتْ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ كَانَ الْعَدَدُ ثَلَاثَةً، وَهُوَ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ.
14- وَلَا يَقْبَلُ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَقَتَادَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الِاسْتِهْلَالِ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعٍ مِنَ النِّسْوَةِ، لِأَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ تَقُومَانِ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ».
15- أَمَّا شَهَادَةُ الرِّجَالِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ الرَّجُلَيْنِ عَلَى الِاسْتِهْلَالِ وَنَحْوِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ.
فَأَجَازَهَا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الرَّجُلَ أَكْمَلُ مِنَ الْمَرْأَةِ، فَإِذَا اُكْتُفِيَ بِهَا وَحْدَهَا فَلأَنْ يُكْتَفَى بِهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ مَا قُبِلَ فِيهِ قَوْلُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ كَالرِّوَايَةِ.
وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ فَيَمْنَعُونَهَا، لِمَا تَقَدَّمَ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ.
تَسْمِيَةُ الْمُسْتَهِلِّ:
16- يُسَمَّى الْمَوْلُودُ إِنْ اسْتَهَلَّ وَلَوْ مَاتَ عَقِبَ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَازِمَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَنْدُوبَةٌ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «سَمُّوا أَسْقَاطَكُمْ فَإِنَّهُمْ أَسْلَافُكُمْ» رَوَاهُ ابْنُ السَّمَّاكِ بِإِسْنَادِهِ، قِيلَ: إِنَّهُمْ يُسَمَّوْنَ لِيُدْعَوْا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ لِلسَّقْطِ ذُكُورَةٌ وَلَا أُنُوثَةٌ سُمِّيَ بِاسْمٍ يَصْلُحُ لَهُمَا، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ فِي تَسْمِيَةِ الْمُسْتَهَلِّ إِكْرَامًا لَهُ لِأَنَّهُ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ يَحْتَاجُ أَبُوهُ إلَى أَنْ يَذْكُرَ اسْمَهُ عِنْدَ الدَّعْوَى بِهِ.
أَمَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَنُسِبَ إِلَى مَالِكٍ فَهُوَ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَلَدُهُ قَبْلَ السَّابِعِ فَلَا تَسْمِيَةَ عَلَيْهِ.
غُسْلُ الْمُسْتَهِلِّ إِذَا مَاتَ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَدَفْنُهُ:
17- مَوْتُ الْمُسْتَهِلِّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الِانْفِصَالِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ فِيهِ مَا يَلْزَمُ فِي الْكَبِيرِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الطِّفْلَ إِذَا عُرِفَتْ حَيَاتُهُ وَاسْتَهَلَّ يُصَلَّى عَلَيْهِ.
أَمَّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَإِنْ كَانَ خَرَجَ مُعْظَمُهُ، فَإِنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَيَّدَهُ فِي شَرْحِ الدُّرِّ بِمَا إِذَا انْفَصَلَ تَامَّ الْأَعْضَاءِ.
وَيُصَلَّى عَلَيْهِ أَيْضًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِنْ صَاحَ بَعْدَ الظُّهُورِ، وَكَذَلِكَ إِنْ ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الْحَيَاةِ الْأُخْرَى غَيْرُ الصِّيَاحِ فِي الْأَظْهَرِ، وَلَا أَثَرَ لِلِاسْتِهْلَالِ وَعَدَمِهِ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِذْ يُوجِبُونَ غُسْلَ السَّقْطِ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ إِذَا نَزَلَ لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ سَوَاءٌ اسْتَهَلَّ أَمْ لَا.
وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ غُسْلَ الطِّفْلِ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَسْتَهِلَّ صَارِخًا بَعْدَ نُزُولِهِ.
وَأَمَّا الدَّفْنُ فَإِنَّ الْجَنِينَ إِذَا بَلَغَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَجِبُ دَفْنُهُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَبْلُغْهَا يُسَنُّ سَتْرُهُ بِخِرْقَةٍ وَدَفْنُهُ.
اسْتِهْلَالُ الْمَوْلُودِ وَأَثَرُهُ فِي إِرْثِهِ:
18- الْجَنِينُ إِذَا اسْتَهَلَّ بَعْدَ تَمَّامِ انْفِصَالِهِ- عَلَى الِاخْتِلَافِ السَّابِقِ فِي الْمُرَادِ بِالِاسْتِهْلَالِ- فَإِنَّهُ يَرِثُ وَيُورَثُ بِالْإِجْمَاعِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ وَرِثَ».وَقَوْلِهِ: «الطِّفْلُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا يَرِثُ، وَلَا يُورَثُ حَتَّى يَسْتَهِلَّ» وَكَذَا لَوْ خَرَجَ مَيِّتًا وَلَمْ يَسْتَهِلَّ فَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُورَثُ وَلَا يَرِثُ.
وَأَمَّا لَوِ اسْتَهَلَّ بَعْدَ خُرُوجِ بَعْضِهِ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ تَمَامِ انْفِصَالِهِ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ لَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَرِثُ وَيُورَثُ إِنْ اسْتَهَلَّ بَعْدَ خُرُوجِ أَكْثَرِهِ، لِأَنَّ الْأَكْثَرَ لَهُ حُكْمُ الْكُلِّ، فَكَأَنَّهُ خَرَجَ كُلُّهُ حَيًّا.
وَقَالَ الْقَفَّالُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنْ خَرَجَ بَعْضُهُ حَيًّا وَرِثَ.
الْجِنَايَةُ عَلَى الْجَنِينِ إِذَا مَاتَ بَعْدَ اسْتِهْلَالِهِ:
19- الْجِنَايَةُ عَلَى الْمُسْتَهِلِّ إِمَّا أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الِانْفِصَالِ أَوْ بَعْدَهُ، وَاَلَّتِي قَبْلَهُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ قَبْلَ ظُهُورِهِ أَوْ بَعْدَهُ.
حُكْمُهَا قَبْلَ الظُّهُورِ:
20- إِنْ تَعَمَّدَ الْجَانِي ضَرْبَ الْأُمِّ فَخَرَجَ الْجَنِينُ مُسْتَهِلًّا، ثُمَّ مَاتَ بِسَبَبِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْأُمِّ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْأُمُّ حَيَّةً أَمْ مَيِّتَةً.وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا قَسَامَةَ أَوْلِيَائِهِ حَتَّى يَأْخُذُوا الدِّيَةَ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ فِي الْجَنِينِ يَسْقُطُ حَيًّا مِنَ الضَّرْبِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَكَذَلِكَ الْحَالُ إِنْ تَعَمَّدَ قَتْلَ الْجَنِينِ بِضَرْبِ أُمِّهِ عَلَى ظَهْرِهَا أَوْ بَطْنِهَا أَوْ رَأْسِهَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَاجِبِ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ، فَأَشْهَبُ قَالَ: لَا قَوَدَ فِيهِ، بَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْجَانِي بِقَسَامَةٍ، قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ.وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَسَامَةٍ، قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ.
حُكْمُهَا بَعْدَ الظُّهُورِ:
21- إِنْ ظَهَرَ الْجَنِينُ ثُمَّ صَاحَ، ثُمَّ جَنَى جَانٍ عَلَيْهِ عَمْدًا فَالْأَصَحُّ أَنَّ فِيهِ الْقِصَاصَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ ظَهَرَ أَغْلَبُهُ.وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: فَإِنْ كَانَ ذَبَحَهُ رَجُلٌ حَالِمًا يُخْرِجُ رَأْسَهُ فَعَلَيْهِ الْغُرَّةُ لِأَنَّهُ جَنِينٌ، وَإِنْ قَطَعَ أُذُنَهُ وَخَرَجَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ.
وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الِاعْتِبَارُ بِالِانْفِصَالِ التَّامِّ
الْجِنَايَةُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ:
22- قَتْلُ الْمُسْتَهِلِّ بَعْدَ الِانْفِصَالِ كَقَتْلِ الْكَبِيرِ، فِيهِ الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ.وَكَذَلِكَ إِنْ انْفَصَلَ بِجِنَايَةٍ وَبِهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَقَتَلَهُ جَانٍ آخَرُ.
أَمَّا إِنْ نَزَلَ فِي حَالَةٍ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَعِيشَ مَعَهَا، وَقَتَلَهُ شَخْصٌ آخَرُ فَإِنَّ الضَّامِنَ هُوَ الْأَوَّلُ، وَيُعَزَّرُ الثَّانِي.
الِاخْتِلَافُ فِي اسْتِهْلَالِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ:
23- عِنْدَ التَّنَازُعِ فِي خُرُوجِهِ حَيًّا يُرَاعَى قَوْلُ الضَّارِبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمْ وَهُوَ الْمَذْهَبُ لَكِنْ مَعَ الْيَمِينِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ نُزُولُ الْوَلَدِ غَيْرَ مُسْتَهِلٍّ، فَمُدَّعَى عَدَمَ الِاسْتِهْلَالِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِهِ، وَمُدَّعِيهِ يَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ قَوْلُ الْوَلِيِّ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
254-موسوعة الفقه الكويتية (أسرى 1)
أَسْرَى -1التَّعْرِيفُ:
1- الْأَسْرَى جَمْعُ أَسِيرٍ، وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى أُسَارَى وَأَسَارَى.وَالْأَسِيرُ لُغَةً: مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِسَارِ، وَهُوَ الْقَيْدُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَشُدُّونَهُ بِالْقَيْدِ.فَسُمِّيَ كُلُّ أَخِيذٍ أَسِيرًا وَإِنْ لَمْ يُشَدَّ بِهِ.وَكُلُّ مَحْبُوسٍ فِي قَيْدٍ أَوْ سِجْنٍ أَسِيرٌ.قَالَ مُجَاهِدٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} الْأَسِيرُ: الْمَسْجُونُ.
2- وَفِي الِاصْطِلَاحِ: عَرَّفَ الْمَاوَرْدِيُّ الْأَسْرَى بِأَنَّهُمُ: الرِّجَالُ الْمُقَاتِلُونَ مِنَ الْكُفَّارِ، إِذَا ظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ بِهِمْ أَحْيَاءً.وَهُوَ تَعْرِيفٌ أَغْلَبِيٌّ، لِاخْتِصَاصِهِ بِأَسْرَى الْحَرْبِيِّينَ عِنْدَ الْقِتَالِ، لِأَنَّهُ بِتَتَبُّعِ اسْتِعْمَالَاتِ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَهُ عَلَى كُلِّ مَنْ يُظْفَرُ بِهِمْ مِنَ الْمُقَاتِلِينَ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ، وَيُؤْخَذُونَ أَثْنَاءَ الْحَرْبِ أَوْ فِي نِهَايَتِهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ فِعْلِيَّةٍ، مَا دَامَ الْعَدَاءُ قَائِمًا وَالْحَرْبُ مُحْتَمَلَةٌ.
مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ: أَوْجَبَتِ الشَّرِيعَةُ قِتَالَ الْكُفَّارِ، وَلَمْ تُوجِبْ قَتْلَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ، بَلْ إِذَا أُسِرَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فِي الْقِتَالِ أَوْ غَيْرِ الْقِتَالِ، مِثْلُ أَنْ تُلْقِيَهُ السَّفِينَةُ إِلَيْنَا، أَوْ يَضِلَّ الطَّرِيقَ، أَوْ يُؤْخَذَ بِحِيلَةٍ فَإِنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ الْإِمَامُ الْأَصْلَحَ.وَفِي الْمُغْنِي: هُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ، وَقِيلَ: يَكُونُ فَيْئًا.
وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الْأَسِيرِ أَيْضًا عَلَى: مَنْ يَظْفَرُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْحَرْبِيِّينَ إِذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ وَعَلَى مَنْ يَظْفَرُونَ بِهِ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ عِنْدَ مُقَاتَلَتِهِمْ لَنَا.يَقُولُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَمَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ.
كَمَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْأَسِيرِ عَلَى: الْمُسْلِمِ الَّذِي ظَفِرَ بِهِ الْعَدُوُّ.يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ: وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَفُكَّ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ...وَيَقُولُ: وَإِذَا كَانَ الْحِصْنُ فِيهِ أُسَارَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَطْفَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ...إِلَخْ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الرَّهِينَةُ:
3- الرَّهِينَةُ: وَاحِدَةُ الرَّهَائِنِ وَهِيَ كُلُّ مَا اُحْتُبِسَ بِشَيْءٍ، وَالْأَسِيرُ وَالرَّهِينَةُ كِلَاهُمَا مُحْتَبَسٌ، إِلاَّ أَنَّ الْأَسِيرَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ إِنْسَانًا وَاحْتِبَاسُهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُقَابِلَ حَقٍّ.
ب- الْحَبْسُ:
4- الْحَبْسُ: ضِدُّ التَّخْلِيَةِ، وَالْمَحْبُوسُ: الْمُمْسَكُ عَنِ التَّوَجُّهِ حَيْثُ يَشَاءُ، فَالْحَبْسُ أَعَمُّ مِنَ الْأَسْرِ.
ج- السَّبْيُ:
5- السَّبْيُ وَالسَّبَاءُ: الْأَسْرُ، فَالسَّبْيُ أَخْذُ النَّاسِ عَبِيدًا وَإِمَاءً وَالْفُقَهَاءُ يُطْلِقُونَ لَفْظَ السَّبْيِ عَلَى مَنْ يَظْفَرُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ حَيًّا مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَطْفَالِهِمْ.وَيُخَصِّصُونَ لَفْظَ الْأَسْرَى- عِنْدَ مُقَابَلَتِهِ بِلَفْظِ السَّبَايَا- بِالرِّجَالِ الْمُقَاتِلِينَ، إِذَا ظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ بِهِمْ أَحْيَاءً.
صِفَةُ الْأَسْرِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):
6- الْأَسْرُ مَشْرُوعٌ، وَيَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ النُّصُوصُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} وَلَا يَتَنَافَى ذَلِكَ مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} لِأَنَّهَا لَمْ تَرِدْ فِي مَنْعِ الْأَسْرِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا جَاءَتْ فِي الْحَثِّ عَلَى الْقِتَالِ، وَأَنَّهُ مَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ أَسْرَى قَبْلَ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ، أَيِ الْمُبَالَغَةِ فِي قَتْلِ الْكُفَّارِ.
الْحِكْمَةُ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الْأَسْرِ:
7- هِيَ كَسْرُ شَوْكَةِ الْعَدُوِّ، وَدَفْعُ شَرِّهِ، وَإِبْعَادُهُ عَنْ سَاحَةِ الْقِتَالِ، لِمَنْعِ فَاعِلِيَّتِهِ وَأَذَاهُ، وَلِيُمْكِنَ افْتِكَاكُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ بِهِ.
مَنْ يَجُوزُ أَسْرُهُمْ وَمَنْ لَا يَجُوزُ:
8- يَجُوزُ أَسْرُ كُلِّ مَنْ وَقَعَ فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْحَرْبِيِّينَ، صَبِيًّا كَانَ أَوْ شَابًّا أَوْ شَيْخًا أَوِ امْرَأَةً، الْأَصِحَّاءِ مِنْهُمْ وَالْمَرْضَى، إِلاَّ مَنْ لَا يُخْشَى مِنْ تَرْكِهِ ضَرَرٌ وَتَعَذَّرَ نَقْلُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَسْرُهُ عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ.
فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَا يُؤْسَرُ مَنْ لَا ضَرَرَ مِنْهُمْ، وَلَا فَائِدَةَ فِي أَسْرِهِمْ، كَالشَّيْخِ الْفَانِي وَالزَّمِنِ وَالْأَعْمَى وَالرَّاهِبِ إِذَا كَانُوا مِمَّنْ لَا رَأْيَ لَهُمْ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَقْتُلُ يَجُوزُ أَسْرُهُ، إِلاَّ الرَّاهِبَ وَالرَّاهِبَةَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا رَأْيٌ فَإِنَّهُمَا لَا يُؤْسَرَانِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمَا مِنَ الْمَعْتُوهِ وَالشَّيْخِ الْفَانِي وَالزَّمِنِ وَالْأَعْمَى فَإِنَّهُمْ وَإِنْ حَرُمَ قَتْلُهُمْ يَجُزْ أَسْرُهُمْ، وَيَجُوزُ تَرْكُهُمْ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ وَمِنْ غَيْرِ أَسْرٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَسْرُ الْجَمِيعِ دُونَ اسْتِثْنَاءٍ.
9- وَلَا يَجُوزُ أَسْرُ أَحَدٍ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِذَا كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهَا عَهْدُ مُوَادَعَةٍ، لِأَنَّ عَقْدَ الْمُوَادَعَةِ أَفَادَ الْأَمَانَ، وَبِالْأَمَانِ لَا تَصِيرُ الدَّارُ مُسْتَبَاحَةً، وَحَتَّى لَوْ خَرَجَ قَوْمٌ مِنَ الْمُوَادِعِينَ إِلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مُوَادَعَةٌ، فَغَزَا الْمُسْلِمُونَ تِلْكَ الْبَلْدَةَ، فَهَؤُلَاءِ آمِنُونَ، لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ عَقْدَ الْمُوَادَعَةِ أَفَادَ الْأَمَانَ لَهُمْ، فَلَا يُنْتَقَضُ بِالْخُرُوجِ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ.وَكَذَا لَوْ دَخَلَ فِي دَارِ الْمُوَادَعَةِ رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ دَارِهِمْ بِأَمَانٍ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ، فَهُوَ آمِنٌ لَا يَجُوزُ أَسْرُهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ دَارَ الْمُوَادَعِينَ بِأَمَانِهِمْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ.وَمِثْلُهُ مَا لَوْ وُجِدَ الْحَرْبِيُّ بِدَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَسْرُهُ، وَمَا لَوْ أَخَذَ الْحَرْبِيُّ الْأَمَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ فِي حِصْنِ الْحَرْبِيِّينَ.
الْأَسِيرُ فِي يَدِ آسِرِهِ وَمَدَى سُلْطَانِهِ عَلَيْهِ:
10- الْأَسِيرُ فِي ذِمَّةِ آسِرِهِ لَا يَدَ لَهُ عَلَيْهِ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ، إِذْ الْحَقُّ لِلتَّصَرُّفِ فِيهِ مَوْكُولٌ لِلْإِمَامِ، وَعَلَيْهِ بَعْدَ الْأَسْرِ أَنْ يَقُودَهُ إِلَى الْأَمِيرِ لِيَقْضِيَ فِيهِ بِمَا يَرَى، وَلِلْآسِرِ أَنْ يَشُدَّ وَثَاقَهُ إِنْ خَافَ انْفِلَاتَهُ، أَوْ لَمْ يَأْمَنْ شَرَّهُ، كَمَا يَجُوزُ عَصْبُ عَيْنَيْهِ أَثْنَاءَ نَقْلِهِ لِمَنْعِهِ مِنَ الْهَرَبِ.
فَمِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ أَنْ يَمْنَعَ الْأَسِيرَ مِنَ الْهَرَبِ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْ فُرْصَةً لِمَنْعِهِ إِلاَّ قَتْلَهُ فَلَا بَأْسَ، وَقَدْ فَعَلَ هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.
11- وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْأَسِيرَ إِذَا صَارَ فِي يَدِ الْإِمَامِ فَلَا اسْتِحْقَاقَ لِلْآسِرِ فِيهِ إِلاَّ بِتَنْفِيلِ الْإِمَامِ، لَا بِنَفْسِ الْأَسْرِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُنَادِيَ فِي الْعَسْكَرِ: مَنْ أَصَابَ مِنْكُمْ أَسِيرًا فَهُوَ لَهُ، فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ فَأَعْتَقَ الرَّجُلُ أَسِيرَهُ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ عِتْقُهُ.وَلَوْ أَصَابَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ، لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ لَهُمْ بِالْإِصَابَةِ صَارَ الْأَسِيرُ مَمْلُوكًا لآِسِرِهِ وَاحِدًا أَوْ جَمَاعَةً.بَلْ قَالُوا: لَوْ قَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ.فَأَسَرَ الْعَسْكَرُ بَعْضَ الْأَسْرَى، ثُمَّ قَتَلَ أَحَدُ الْأُسَرَاءِ رَجُلًا مِنَ الْعَدُوِّ، كَانَ السَّلَبُ مِنَ الْغَنِيمَةِ، إِنْ لَمْ يُقَسِّمِ الْأَمِيرُ الْأُسَرَاءَ، وَإِنْ كَانَ قَسَمَهُمْ أَوْ بَاعَهُمْ فَالسَّلَبُ لِمَوْلَى الْأَسِيرِ الْقَاتِلِ.
وَقَدْ فَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مَنْ أَسَرَ أَسِيرًا أَثْنَاءَ الْقِتَالِ مُسْتَنِدًا إِلَى قُوَّةِ الْجَيْشِ، وَبَيْنَ مَنْ أَسَرَ أَسِيرًا مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ، وَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْآسِرُ مِنَ الْجَيْشِ، أَوْ مُسْتَنِدًا لَهُ خُمُسٌ كَسَائِرِ الْغَنِيمَةِ، وَإِلاَّ اخْتَصَّ بِهِ الْآسِرُ.
حُكْمُ قَتْلِ الْآسِرِ أَسِيرَهُ:
12- لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنَ الْغُزَاةِ أَنْ يَقْتُلَ أَسِيرَهُ بِنَفْسِهِ، إِذِ الْأَمْرُ فِيهِ بَعْدَ الْأَسْرِ مُفَوَّضٌ لِلْإِمَامِ، فَلَا يَحِلُّ الْقَتْلُ إِلاَّ بِرَأْيِ الْإِمَامِ اتِّفَاقًا، إِلاَّ إِذَا خِيفَ ضَرَرُهُ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ قَتْلُهُ قَبْلَ أَنْ يُؤْتَى بِهِ إِلَى الْإِمَامِ، وَلَيْسَ لِغَيْرِ مَنْ أَسَرَهُ قَتْلُهُ لِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَتَعَاطَى أَحَدُكُمْ أَسِيرَ صَاحِبِهِ فَيَقْتُلَهُ». فَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَسِيرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَالْحَنَفِيَّةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ بَعْدَهَا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ مِنْ دِيَةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ قِيمَةٍ، لِأَنَّ دَمَهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ، إِذْ لِلْإِمَامِ فِيهِ خِيَرَةُ الْقَتْلِ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، أَوْ بَعْدَ الْبَيْعِ فَيُرَاعَى فِيهِ حُكْمُ الْقَتْلِ، لِأَنَّ دَمَهُ صَارَ مَعْصُومًا، فَكَانَ مَضْمُونًا بِالْقَتْلِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ.وَلَمْ يُفَرِّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ هُوَ الْآسِرُ أَوْ غَيْرُهُ كَمَا يُفِيدُهُ الْإِطْلَاقُ.
وَالْمَالِكِيَّةُ يَتَّجِهُونَ وُجْهَةَ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ نَاحِيَةِ الضَّمَانِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا التَّفْرِقَةَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْقَتْلُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ فِي الْمَغْنَمِ، أَوْ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَغْنَمًا، وَيَنُصُّونَ عَلَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ مَنْ نُهِيَ عَنْ قَتْلِهِ، فَإِنْ قَتَلَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ فِي الْمَغْنَمِ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، وَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَغْنَمًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ.
وَالشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا يُلْزِمُونَ الْقَاتِلَ بِالضَّمَانِ، فَإِذَا كَانَ بَعْدَ اخْتِيَارِ رِقِّهِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ، وَكَانَ فِي الْغَنِيمَةِ.وَإِذَا كَانَ بَعْدَ الْمَنِّ عَلَيْهِ لَزِمَهُ دِيَتُهُ لِوَرَثَتِهِ.وَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ الْفِدَاءِ فَعَلَيْهِ دِيَتُهُ غَنِيمَةً، إِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَ الْإِمَامُ الْفِدَاءَ، وَإِلاَّ فَدِيَتُهُ لِوَرَثَتِهِ.وَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ اخْتِيَارِ الْإِمَامِ قَتْلَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ عُزِّرَ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ قَتَلَ أَسِيرَهُ أَوْ أَسِيرَ غَيْرِهِ قَبْلَ الذَّهَابِ لِلْإِمَامِ أَسَاءَ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ.
مُعَامَلَةُ الْأَسِيرِ قَبْلَ نَقْلِهِ لِدَارِ الْإِسْلَامِ:
13- مَبَادِئُ الْإِسْلَامِ تَدْعُو إِلَى الرِّفْقِ بِالْأَسْرَى، وَتَوْفِيرِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْكِسَاءِ لَهُمْ، وَاحْتِرَامِ آدَمِيَّتِهِمْ، لقوله تعالى {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكَيْنَا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِأَصْحَابِهِ فِي أَسْرَى بَنِي قُرَيْظَةَ بَعْدَمَا احْتَرَقَ النَّهَارُ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ: «أَحْسِنُوا أُسَارَاهُمْ.وَقَيِّلُوهُمْ وَاسْقُوهُمْ» وَقَالَ: «لَا تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرَّ هَذَا الْيَوْمِ وَحَرَّ السِّلَاحِ...» وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنْ رَأَى الْإِمَامُ قَتْلَ الْأُسَارَى فَيَنْبَغِي لَهُ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ بِالْعَطَشِ وَالْجُوعِ، وَلَكِنَّهُ يَقْتُلُهُمْ قَتْلًا كَرِيمًا.
وَيَجُوزُ حَبْسُ الْأَسْرَى فِي أَيِّ مَكَانٍ، لِيُؤْمَنَ مَنْعُهُمْ مِنَ الْفِرَارِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ «الرَّسُولَ حَبَسَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ»
التَّصَرُّفُ فِي الْأَسْرَى قَبْلَ نَقْلِهِمْ لِدَارِ الْإِسْلَامِ:
14- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ التَّصَرُّفِ فِي الْغَنَائِمِ- وَمِنْهَا الْأَسْرَى فِي دَارِ الْحَرْبِ- وَقَبْلَ نَقْلِهِمْ لِدَارِ الْإِسْلَامِ.قَالَ مَالِكٌ: الشَّأْنُ أَنْ تُقْسَمَ الْغَنَائِمُ وَتُبَاعَ بِبَلَدِ الْحَرْبِ، وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ وَالْخُلَفَاءَ لَمْ يَقْسِمُوا غَنِيمَةً قَطُّ إِلاَّ فِي دَارِ الشِّرْكِ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ- رضي الله عنه-: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ الْمُصْطَلِقِ، فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ سَبْيِ الْعَرَبِ، فَاشْتَهَيْنَا النِّسَاءَ، وَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا وَأَحْبَبْنَا الْعَزْلَ، فَأَرَدْنَا الْعَزْلَ وَقُلْنَا: نَعْزِلُ وَرَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ أَظْهُرِنَا قَبْلَ أَنْ نَسْأَلَهُ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا، مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلاَّ وَهِيَ كَائِنَةٌ» فَإِنَّ سُؤَالَهُمُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْعَزْلِ فِي وَطْءِ السَّبَايَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ قَدْ تَمَّتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْجِيلِ مَسَرَّةِ الْغَانِمِينَ وَغَيْظِ الْكَافِرِينَ، وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُهُ لِبَلَدِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْغَانِمُونَ جَيْشًا وَأَمِنُوا مِنْ كَرِّ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ.
وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ لِلْغَانِمَيْنِ التَّمَلُّكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَفْظًا، بِأَنْ يَقُولَ كُلٌّ بَعْدَ الْحِيَازَةِ، وَقَبْلَ الْقِسْمَةِ: اخْتَرْتُ مِلْكَ نَصِيبِي، فَتَمَلَّكَ بِذَلِكَ.
وَقِيلَ: يَمْلِكُونَ بِمُجَرَّدِ الْحِيَازَةِ، لِزَوَالِ مِلْكِ الْكُفَّارِ بِالِاسْتِيلَاءِ.وَقِيلَ: الْمِلْكُ مَوْقُوفٌ.وَالْمُرَادُ عِنْدَ مَنْ قَالَ يَمْلِكُونَ بِمُجَرَّدِ الْحِيَازَةِ: الِاخْتِصَاصُ، أَيْ يَخْتَصِمُونَ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِجَوَازِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَأَبِي ثَوْرٍ لِفِعْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- وَلِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ فِيهَا بِالْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ.
15- وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا تُقْسَمُ الْغَنَائِمُ إِلاَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَتِمُّ عَلَيْهَا إِلاَّ بِالِاسْتِيلَاءِ التَّامِّ، وَلَا يَحْصُلُ إِلاَّ بِإِحْرَازِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْحَقِّ الْقَهْرُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، لِأَنَّهُمْ قَاهِرُونَ يَدًا مَقْهُورُونَ دَارًا، فَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْسِمَ الْغَنَائِمَ- وَمِنْهَا الْأَسْرَى- أَوْ يَبِيعَهَا حَتَّى يُخْرِجَهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، خَشْيَةَ تَقْلِيلِ الرَّغْبَةِ فِي لُحُوقِ الْمَدَدِ بِالْجَيْشِ، وَتَعَرُّضِ الْمُسْلِمِينَ لِوُقُوعِ الدَّبَرَةِ عَلَيْهِمْ، بِأَنْ يَتَفَرَّقُوا وَيَسْتَقِلَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحَمْلِ نَصِيبِهِ.وَمَعَ هَذَا فَقَالُوا: وَإِنْ قَسَمَ الْإِمَامُ الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ جَازَ، لِأَنَّهُ أَمْضَى فَصْلًا مُخْتَلَفًا فِيهِ بِالِاجْتِهَادِ.وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ «الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- أَخَّرَ قِسْمَةَ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ حَتَّى انْصَرَفَ إِلَى الْجِعْرَانَةِ».
تَأْمِينُ الْأَسِيرِ:
16- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحِقُّ لِلْإِمَامِ إِعْطَاءُ الْأَمَانِ لِلْأَسِيرِ بَعْدَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ عُمَرَ لَمَّا قُدِمَ عَلَيْهِ بِالْهُرْمُزَانِ أَسِيرًا قَالَ.لَا بَأْسَ عَلَيْكَ، ثُمَّ أَرَادَ قَتْلَهُ، فَقَالَ لَهُ أَنَسٌ: قَدْ أَمَّنْتُهُ فَلَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهِ، وَشَهِدَ الزُّبَيْرُ بِذَلِكَ فَعَدُّوهُ أَمَانًا وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ، وَالْأَمَانُ دُونَ الْمَنِّ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَصَرَّفَ عَلَى حُكْمِ التَّمَنِّي وَالتَّشَهِّي دُونَ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَمَا عَقَدَهُ أَمِيرُ الْجَيْشِ مِنَ الْأَمَانِ جَازَ وَلَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ، وَأَمَّا آحَادُ الرَّعِيَّةِ فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، لِأَنَّ أَمْرَ الْأَسِيرِ مُفَوَّضٌ إِلَى الْإِمَامِ، فَلَمْ يَجُزْ الِافْتِيَاتُ عَلَيْهِ فِيمَا يَمْنَعُ ذَلِكَ كَقَتْلِهِ.وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ يَصِحُّ أَمَانُ آحَادِ الرَّعِيَّةِ، لِأَنَّ «زَيْنَبَ بِنْتَ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- أَجَارَتْ زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ بَعْدَ أَسْرِهِ، فَأَجَازَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَانَهَا».
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَمَان).
حُكْمُ الْإِمَامِ فِي الْأَسْرَى:
17- يَرْجِعُ الْأَمْرُ فِي أَسْرَى الْحَرْبِيِّينَ إِلَى الْإِمَامِ، أَوْ مَنْ يُنِيبُهُ عَنْهُ.
وَجَعَلَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مَصَائِرَ الْأَسْرَى بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَبْلَ إِجْرَاءِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فِي أَحَدِ أُمُورٍ: فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى تَخْيِيرِ الْإِمَامِ فِي الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ مِنْ أَسْرَى الْكُفَّارِ، بَيْنَ قَتْلِهِمْ، أَوِ اسْتِرْقَاقِهِمْ، أَوِ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ، أَوْ مُفَادَاتِهِمْ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ قَصَرُوا التَّخْيِيرَ عَلَى ثَلَاثَةِ أُمُورٍ فَقَطِ: الْقَتْلِ، وَالِاسْتِرْقَاقِ، وَالْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِجَعْلِهِمْ أَهْلَ ذِمَّةٍ عَلَى الْجِزْيَةِ، وَلَمْ يُجِيزُوا الْمَنَّ عَلَيْهِمْ دُونَ قَيْدٍ، وَلَا الْفِدَاءَ بِالْمَالِ إِلاَّ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ، أَوْ إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ بِحَاجَةٍ لِلْمَالِ.وَأَمَّا مُفَادَاتُهُمْ بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ فَمَوْضِعُ خِلَافٍ عِنْدَهُمْ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ يُخَيَّرُ فِي الْأَسْرَى بَيْنَ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: فَإِمَّا أَنْ يَقْتُلَ، وَإِمَّا أَنْ يَسْتَرِقَّ، وَإِمَّا أَنْ يُعْتِقَ، وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ فِيهِ الْفِدَاءَ، وَإِمَّا أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِ الذِّمَّةَ وَيَضْرِبَ عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ، وَالْإِمَامُ مُقَيَّدٌ فِي اخْتِيَارِهِ بِمَا يُحَقِّقُ مَصْلَحَةَ الْجَمَاعَةِ.
18- وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي السَّبَايَا مِنَ النِّسَاءِ وَالصَّبِيَّةِ أَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ.فَفِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ لِلدَّرْدِيرِ: وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالذَّرَارِيُّ فَلَيْسَ فِيهِمْ إِلاَّ الِاسْتِرْقَاقُ أَوِ الْفِدَاءُ.وَتَفْصِيلُهُ فِي (سَبْي).
كَمَا يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَسِيرَ الْحَرْبِيَّ الَّذِي أَعْلَنَ إِسْلَامَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، لَا يَحِقُّ لِلْإِمَامِ قَتْلُهُ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ عَاصِمٌ لِدَمِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي.
19- وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ خَفِيَ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ أَمِيرِ الْجَيْشِ الْأَحَظُّ حَبَسَهُمْ حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ، لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الِاجْتِهَادِ، وَيُصَرِّحُ ابْنُ رُشْدٍ بِأَنَّ هَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِذَا لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ تَأْمِينٌ لَهُمْ.
20- وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ قَتْلُ الْأَسِيرِ، وَحَكَى الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ أَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ.
وَالسَّبَبُ فِي الِاخْتِلَافِ تَعَارُضُ الْآيَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَتَعَارُضُ الْأَفْعَالِ، وَمُعَارَضَةُ ظَاهِرِ الْكِتَابِ لِفِعْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-، لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ بَعْدَ الْأَسْرِ إِلاَّ الْمَنُّ أَوِ الْفِدَاءُ.وقوله تعالى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} وَالسَّبَبُ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ أَفْضَلُ مِنْ الِاسْتِبْقَاءِ.وَأَمَّا فِعْلُ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: فَقَدْ قَتَلَ الْأَسَارَى فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ، فَمَنْ رَأَى أَنَّ الْآيَةَ الْخَاصَّةَ بِالْأَسَارَى نَاسِخَةٌ لِفِعْلِهِ قَالَ: لَا يُقْتَلُ الْأَسِيرُ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ لِقَتْلِ الْأَسِيرِ وَلَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا حَصْرُ مَا يُفْعَلُ بِالْأَسَارَى قَالَ بِجَوَازِ قَتْلِ الْأَسِيرِ.
21- وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَسْرَى مِنْ نِسَاءِ الْحَرْبِيِّينَ وَذَرَارِيِّهِمْ، وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ كَالْخُنْثَى وَالْمَجْنُونِ، وَكَذَا الْعَبِيدُ الْمَمْلُوكُونَ لَهُمْ يُسْتَرَقُّونَ بِنَفْسِ الْأَسْرِ، وَيَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْحَرْبِيِّينَ قَبْلَ الِاسْتِيلَاءِ وَالْأَسْرِ لَا يُسْتَرَقُّ، وَكَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُرْتَدِّينَ، فَإِنَّ الْحُكْمَ بِالنِّسْبَةِ لَهُمْ الِاسْتِتَابَةُ وَالْعَوْدَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَإِلاَّ فَالسَّيْفُ.
22- أَمَّا الرِّجَالُ الْأَحْرَارُ الْمُقَاتِلُونَ مِنْهُمْ.، فَقَدِ اتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى جَوَازِ اسْتِرْقَاقِ الْأَعَاجِمِ، وَثَنِيِّينَ كَانُوا أَوْ أَهْلَ كِتَابٍ.وَاتَّجَهَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ اسْتِرْقَاقِ الْعَرَبِ عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَهُمْ.وَالْحَنَفِيَّةُ لَا يُجِيزُونَ اسْتِرْقَاقَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ.
الْفِدَاءُ بِالْمَالِ:
23- الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي غَيْرِ رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: جَوَازُ فِدَاءِ أَسْرَى الْحَرْبِيِّينَ الَّذِينَ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْإِمَامِ فِيهِمْ بِالْمَالِ.غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُجِيزُونَهُ بِمَالٍ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْأَسِيرِ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ- كَمَا نَقَلَ السَّرَخْسِيُّ عَنِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ- تَقْيِيدَ ذَلِكَ بِحَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ لِلْمَالِ، وَقَيَّدَ الْكَاسَانِيُّ هَذَا بِمَا إِذَا كَانَ الْأَسِيرُ شَيْخًا كَبِيرًا لَا يُرْجَى لَهُ وَلَدٌ.وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِالْمَالِ دُونَ قَيْدٍ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ ثَمَّةَ حَاجَةٌ لِلْمَالِ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْدِيَ الْأَسْرَى بِالْمَالِ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ، سَوَاءٌ، أَكَانَ مِنْ مَالِهِمْ أَمْ مِنْ مَالِنَا الَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَنْ نَفْدِيَهُمْ بِأَسْلِحَتِنَا الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ.أَمَّا أَسْلِحَتُهُمْ الَّتِي بِأَيْدِينَا فَفِي جَوَازِ مُفَادَاةِ أَسْرَانَا بِهَا وَجْهَانِ، أَوْجَهُهُمَا عِنْدَهُمُ الْجَوَازُ.
وَاسْتَدَلَّ الْمُجِيزُونَ بِظَاهِرِ قوله تعالى {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} وَبِفِعْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-، فَقَدْ فَادَى أَسَارَى بَدْرٍ بِالْمَالِ وَكَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا، كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَدْنَى دَرَجَاتِ فِعْلِهِ الْجَوَازُ وَالْإِبَاحَةُ.
24- وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ، فِي غَيْرِ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلُ أَبِي عُبَيْدِ الْقَاسِمِ بْنِ سَلاَّمٍ عَدَمُ جَوَازِ الْفِدَاءِ بِمَالٍ.
وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ أَنَّ قَتْلَ الْأَسَارَى مَأْمُورٌ بِهِ، لقوله تعالى {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} وَأَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إِلَى مَا بَعْدَ الْأَخْذِ وَالِاسْتِرْقَاقِ، وقوله تعالى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وَالْأَمْرُ بِالْقَتْلِ لِلتَّوَسُّلِ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إِلاَّ لِمَا شُرِعَ لَهُ الْقَتْلُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَسِيلَةً إِلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا يَحْصُلُ مَعْنَى التَّوَسُّلِ بِالْمُفَادَاةِ بِالْمَالِ، كَمَا أَنَّ فِي ذَلِكَ إِعَانَةً لِأَهْلِ الْحَرْبِ، لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى الْمَنَعَةِ، فَيَصِيرُونَ حَرْبًا عَلَيْنَا، وَقَتْلُ الْمُشْرِكِ عِنْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ فَرْضٌ مُحْكَمٌ، وَفِي الْمُفَادَاةِ تَرْكُ إِقَامَةِ هَذَا الْفَرْضِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْأَسِيرِ: لَا تُفَادُوهُ وَإِنْ أُعْطِيتُمْ بِهِ مُدْيَيْن مِنْ ذَهَبٍ وَلِأَنَّهُ صَارَ بِالْأَسْرِ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، فَلَا يَجُوزُ إِعَادَتُهُ لِدَارِ الْحَرْبِ، لِيَكُونَ حَرْبًا عَلَيْنَا، وَفِي هَذَا مَعْصِيَةٌ، وَارْتِكَابُ الْمَعْصِيَةِ لِمَنْفَعَةِ الْمَالِ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ أَعْطَوْنَا مَالًا لِتَرْكِ الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ مَعَ الْحَاجَةِ، فَكَذَا لَا يَجُوزُ تَرْكُ قَتْلِ الْمُشْرِكِ بِالْمُفَادَاةِ.
وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ لِلْإِمَامِ حَقَّ الْمُفَادَاةِ بِالْمَالِ، فَإِنَّ هَذَا الْمَالَ يَكُونُ لِلْغَانِمِينَ، وَلَيْسَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُسْقِطَ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ الَّذِي يَفْرِضُهُ عَلَيْهِمْ مُقَابِلَ الْفِدَاءِ إِلاَّ بِرِضَى الْغَانِمِينَ.
فِدَاءُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ بِأَسْرَى الْأَعْدَاءِ:
25- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى جَوَازِ تَبَادُلِ الْأَسْرَى، مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ «أَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ وَفُكُّوا الْعَانِيَ» وَقَوْلِهِ «إِنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي فَيْئِهِمْ أَنْ يُفَادُوا أَسِيرَهُمْ، وَيُؤَدُّوا عَنْ غَارِمِهِمْ» «وَفَادَى النَّبِيُّ رَجُلَيْنِ مِنِ الْمُسْلِمِينَ بِالرَّجُلِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ بَنِي عَقِيلٍ».«وَفَادَى بِالْمَرْأَةِ الَّتِي، اسْتَوْهَبَهَا مِنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَدْ أُسِرُوا بِمَكَّةَ» وَلِأَنَّ فِي الْمُفَادَاةِ تَخْلِيصُ الْمُسْلِمِ مِنْ عَذَابِ الْكُفَّارِ وَالْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ، وَإِنْقَاذُ الْمُسْلِمِ أَوْلَى مِنْ إِهْلَاكِ الْكَافِرِ.
وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتِ الْمُفَادَاةُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ بَعْدَهَا.
أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ قَصَرَ جَوَازَ الْمُفَادَاةِ عَلَى مَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ، لِأَنَّهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَمْ يَتَقَرَّرْ كَوْنُ أَسِيرِهِمْ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا حَتَّى جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَأَمَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَقَدْ تَقَرَّرَ كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا حَتَّى لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ.أَيْ فَلَا يُعَادُ بِالْمُفَادَاةِ إِلَى دَارِ الْكُفْرِ.وَلِأَنَّ فِي الْمُفَادَاةِ بَعْدَهَا إِبْطَالُ مِلْكِ الْمَقْسُومِ لَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مِثْلِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَجَازَهُ فِي الْحَالَتَيْنِ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ جُوِّزَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، الْحَاجَةُ إِلَى تَخْلِيصِ الْمُسْلِمِ مِنْ عَذَابِهِمْ، وَهَذَا مَوْجُودٌ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَحَقُّ الْغَانِمِينَ فِي الِاسْتِرْقَاقِ ثَابِتٌ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَقَدْ صَارَ الْأَسِيرُ بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، ثُمَّ تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِهِ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ.
وَقَدْ نَقَلَ الْحَطَّابُ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّ النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ لَيْسَ فِيهِمْ إِلاَّ الِاسْتِرْقَاقُ، أَوِ الْمُفَادَاةُ بِالنُّفُوسِ دُونَ الْمَالِ.
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَهِيَ مَنْعُ مُفَادَاةِ الْأَسِيرِ بِالْأَسِيرِ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ قَتْلَ الْمُشْرِكِينَ فَرْضٌ مُحْكَمٌ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِالْمُفَادَاةِ.
26- وَلَوْ أَسْلَمَ الْأَسِيرُ لَا يُفَادَى بِهِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، أَيْ لِأَنَّهُ فِدَاءُ مُسْلِمٍ بِمُسْلِمٍ، إِلاَّ إِذَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ وَهُوَ مَأْمُونٌ عَلَى إِسْلَامِهِ:
27- وَيَجُوزُ مُفَادَاةُ الْأَكْثَرِ بِالْأَقَلِّ وَالْعَكْسُ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، لَكِنْ فِي كُتُبِهِمْ مَا يُوَافِقُ ذَلِكَ، لِاسْتِدْلَالِهِمْ بِالْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى لَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْ أَسَرَانَا، وَيُؤْخَذُ بَدَلَهُ أَسِيرَانِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
جَعْلُ الْأَسْرَى ذِمَّةً لَنَا وَفَرْضُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ:
28- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَضَعَ الْجِزْيَةَ فِي رِقَابِ الْأَسْرَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ عَلَى أَنْ يَكُونُوا ذِمَّةً لَنَا، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إِجَابَتُهُمْ إِلَى ذَلِكَ إِذَا سَأَلُوهُ، كَمَا يَجِبُ إِذَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ فِي غَيْرِ أَسْرٍ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ بِفِعْلِ عُمَرَ فِي أَهْلِ السَّوَادِ وَقَالُوا: إِنَّهُ أَمْرٌ جَوَازِيٌّ، لِأَنَّهُمْ صَارُوا فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ أَمَانٍ، وَكَيْلَا يَسْقُطَ بِذَلِكَ مَا ثَبَتَ مِنِ اخْتِيَارٍ.وَهَذَا إِنْ كَانُوا مِمَّنْ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ.
وَهَذَا يَتَّفِقُ مَعَ مَا حَكَاهُ ابْنُ رُشْدٍ حَيْثُ قَالَ: وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَاهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ قَوْمٌ: تُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ مُشْرِكٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ.
وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأُسَارَى مِنْ غَيْرِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ، وَوَضَعُوا قَاعِدَةً عَامَّةً هِيَ: كُلُّ مَنْ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ مِنَ الرِّجَالِ، يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ، كَأَهْلِ الْكِتَابِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَجَمِ، وَمَنْ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ، كَالْمُرْتَدِّينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَرَبِ.
رُجُوعُ الْإِمَامِ فِي اخْتِيَارِهِ:
29- لَمْ نَقِفْ فِيمَا رَجَعْنَا إِلَيْهِ مِنْ كُتُبٍ عَلَى مَنْ تَعَرَّضَ لِهَذَا، إِلاَّ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ الشَّافِعِيُّ مِنْ قَوْلِهِ: لَمْ يَتَعَرَّضُوا فِيمَا عَلِمْتُ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَوِ اخْتَارَ خَصْلَةً لَهُ الرُّجُوعِ عَنْهَا أَوْ لَا، وَلَا إِلَى أَنَّ اخْتِيَارَهُ هَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى لَفْظٍ أَوْ لَا.وَقَالَ: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَلَوِ اخْتَارَ خَصْلَةً وَظَهَرَ لَهُ بِالِاجْتِهَادِ أَنَّهَا الْأَحَظُّ، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ الْأَحَظَّ غَيْرُهَا، فَإِنْ كَانَتْ رِقًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهَا مُطْلَقًا، لِأَنَّ الْغَانِمِينَ وَأَهْلَ الْخُمُسِ مَلَكُوا بِمُجَرَّدِ ضَرْبِ الرِّقِّ، فَلَمْ يَمْلِكْ إِبْطَالَهُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ قَتْلًا جَازَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ، تَغْلِيبًا لِحَقْنِ الدِّمَاءِ مَا أَمْكَنَ، وَإِنْ كَانَ فِدَاءً أَوْ مَنًّا لَمْ يُعْمَلْ بِالثَّانِي، لِاسْتِلْزَامِهِ نَقْضَ الِاجْتِهَادِ بِالِاجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ، إِلاَّ إِذَا كَانَ اخْتِيَارُهُ أَحَدَهُمَا لِسَبَبٍ ثُمَّ زَالَ السَّبَبُ، وَتَعَيَّنَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي الثَّانِي عَمِلَ بِقَضِيَّتِهِ.وَلَيْسَ هَذَا نَقْضُ اجْتِهَادٍ بِاجْتِهَادٍ، بَلْ بِمَا يُشْبِهُ النَّصَّ، لِزَوَالِ مُوجِبِهِ الْأَوَّلِ بِالْكُلِّيَّةِ.
مَا يَكُونُ بِهِ الِاخْتِيَارُ:
30- وَأَمَّا تَوَقُّفُ الِاخْتِيَارِ عَلَى لَفْظٍ، فَإِنَّ الِاسْتِرْقَاقَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَا يَكْفِي فِيهِ مُجَرَّدُ الْفِعْلِ، وَكَذَا الْفِدَاءُ، نَعَمْ يَكْفِي فِيهِ لَفْظٌ مُلْتَزِمٌ الْبَدَلَ مَعَ قَبْضِ الْإِمَامِ لَهُ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ، بِخِلَافِ الْخَصْلَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ لِحُصُولِهِمَا بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ.
إِسْلَامُ الْأَسِيرِ:
31- إِذَا أَسْلَمَ الْأَسِيرُ بَعْدَ أَسْرِهِ وَقَبْلَ قَضَاءِ الْإِمَامِ فِيهِ الْقَتْلَ أَوِ الْمَنَّ أَوِ الْفِدَاءَ، فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ إِجْمَاعًا، لِأَنَّهُ بِالْإِسْلَامِ قَدْ عُصِمَ دَمُهُ.
أَمَّا اسْتِرْقَاقُهُ فَفِيهِ رَأْيَانِ: فَالْجُمْهُورُ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَاحْتِمَالٌ لِلْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْإِمَامَ فِيهِ مُخَيَّرٌ فِيمَا عَدَا الْقَتْلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ الْقَتْلُ بِإِسْلَامِهِ بَقِيَتْ بَاقِي الْخِصَالِ.
وَالْقَوْلُ الظَّاهِرُ لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ اسْتِرْقَاقُهُ، لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِرْقَاقِ قَدِ انْعَقَدَ بِالْأَسْرِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ، فَصَارَ كَالنِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ، فَيَتَعَيَّنُ اسْتِرْقَاقُهُ فَقَطْ، فَلَا مَنَّ وَلَا فِدَاءَ، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُفَادِيَ بِهِ لِتَخْلِيصِهِ مِنَ الرِّقِّ.
أَمْوَالُ الْأَسِيرِ:
32- الْحُكْمُ فِي مَالِ الْأَسِيرِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحُكْمِ فِي نَفْسِهِ، فَلَا عِصْمَةَ لَهُ عَلَى مَالِهِ وَمَا مَعَهُ، فَهُوَ فَيْءٌ لِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ مَا دَامَ أُسِرَ بِقُوَّةِ الْجَيْشِ، أَوْ كَانَ الْأَسْرُ مُسْتَنِدًا لِقُوَّةِ الْجَيْشِ، وَلَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ أَسْرِهِ وَاسْتُرِقَّ تَبِعَهُ مَالُهُ، أَمَّا لَوْ كَانَ إِسْلَامُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَخْذِهِ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْنَا حَتَّى ظَهَرْنَا عَلَى الدَّارِ، عَصَمَ نَفْسَهُ وَصِغَارَهُ وَكُلَّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ مَالٍ، لِحَدِيثِ «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ» وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَنْقُولِ، وَكَذَا الْعَقَارُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَخَرَجَ عَقَارُهُ لِأَنَّهُ فِي يَدِ أَهْلِ الدَّارِ وَسُلْطَانِهَا فَيَكُونُ غَنِيمَةً.وَقِيلَ: إنَّ مُحَمَّدًا جَعَلَهُ كَسَائِرِ مَالِهِ.
وَإِذَا قَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ فَأَصَابَ شَيْئًا فَلَهُ مِنْ ذَلِكَ الرُّبُعُ، وَسَمِعَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ أَسِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَخَرَجَ فَأَصَابَ شَيْئًا فَذَلِكَ كُلُّهُ لِلْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الْأَسِيرَ فَيْءٌ لَهُمْ وَكَسْبَ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ.
33- وَإِذَا وَقَعَ السَّبْيُ فِي سَهْمِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَخْرَجَ مَالًا كَانَ مَعَهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، فَيَنْبَغِي لِلَّذِي وَقَعَ فِي سَهْمِهِ أَنْ يَرُدَّهُ فِي الْغَنِيمَةِ، لِأَنَّ الْأَمِيرَ إِنَّمَا مَلَّكَهُ بِالْقِسْمَةِ رَقَبَةَ الْأَسِيرِ لَا مَا مَعَهُ مِنَ الْمَالِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْعَدْلِ فِي الْقِسْمَةِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْعَدْلُ إِذَا كَانَتِ الْقِسْمَةُ لَا تَتَنَاوَلُ إِلاَّ مَا كَانَ مَعْلُومًا.وَيُرْوَى أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى جَارِيَةً مِنَ الْمَغْنَمِ، فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهَا قَدْ خَلَصَتْ لَهُ أَخْرَجَتْ حُلِيًّا كَانَ مَعَهَا، فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا أَدْرِي هَذَا؟ وَأَتَى سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: اجْعَلْهُ فِي غَنَائِمِ الْمُسْلِمِينَ.لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي مَعَ الْأَسِيرِ كَانَ غَنِيمَةً، وَفِعْلُ الْأَمِيرِ تَنَاوَلَ الرَّقَبَةَ دُونَ الْمَالِ، فَبَقِيَ الْمَالُ غَنِيمَةً.وَهَذَا الْحُكْمُ يَصْدُقُ أَيْضًا عَلَى الدُّيُونِ وَالْوَدَائِعِ الَّتِي لَهُ لَدَى مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ.فَإِنْ كَانَتْ لَدَى حَرْبِيٍّ فَهِيَ فَيْءٌ لِلْغَانِمِينَ.
34- وَإِذَا كَانَ عَلَى الْأَسِيرِ دَيْنٌ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ قُضِيَ مِنْ مَالِهِ الَّذِي لَمْ يُغْنَمْ قَبْلَ اسْتِرْقَاقِهِ، فَإِنَّ حَقَّ الدَّيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْغَنِيمَةِ، إِلاَّ إِذَا سَبَقَ الِاغْتِنَامُ رِقَّهُ.وَلَوْ وَقَعَا مَعًا فَالظَّاهِرُ- عَلَى مَا قَالَ الْغَزَالِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ- تَقْدِيمُ الْغَنِيمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالٌ فَهُوَ فِي ذِمَّتِهِ إِلَى أَنْ يَعْتِقَ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
255-موسوعة الفقه الكويتية (أسرى 2)
أَسْرَى -2بِمَ يُعْرَفُ إِسْلَامُهُ:
35- رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أَسَرَ الْمُسْلِمُونَ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ وَتَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ بِالْإِسْلَامِ دُونَ اعْتِرَافٍ جَازِمٍ، بَيَّنَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ}.
وَإِذَا كَانَ الْقُرْآنُ كَشَفَ نِيَّاتِ بَعْضِ الْأَسْرَى لِرَسُولِهِ، فَإِنَّ الْمُحَارِبِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالْبَحْثِ عَنْ هَذِهِ النِّيَّاتِ، وَلَقَدْ «حَدَّثَ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلاً مِنَ الْكُفَّارِ فَقَاتَلَنِي، فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا، ثُمَّ لَاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ فَقَالَ: أَسْلَمْتُ لِلَّهِ، أَفَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: لَا تَقْتُلْهُ.قَالَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ قَطَعَ يَدِيّ، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَطَعَهَا، أَفَأَقْتُلُهُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: لَا تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ».
وَبِمِثْلِ ذَلِكَ قَالَ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ: «أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا».وَلِذَا فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا: لَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَخَذُوا أُسَرَاءَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَأَرَادُوا قَتْلَهُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَنَا مُسْلِمٌ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُ حَتَّى يَسْأَلُوهُ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ وَصَفَهُ لَهُمْ فَهُوَ مُسْلِمٌ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَصِفَهُ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَصِفُوهُ لَهُ، ثُمَّ يَقُولُوا لَهُ: هَلْ أَنْتَ عَلَى هَذَا؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، فَهُوَ مُسْلِمٌ، وَلَوْ قَالَ: لَسْتُ بِمُسْلِمٍ وَلَكِنِ اُدْعُونِي إِلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى أُسْلِمَ لَمْ يَحِلَّ قَتْلُهُ.
أَسْرَى الْبُغَاةِ:
36- الْبَغْيُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ بَغَى، وَهُوَ بِمَعْنَى عَلَا وَظَلَمَ وَعَدَلَ عَنِ الْحَقِّ وَاسْتَطَالَ.وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ}.
وَالْبُغَاةُ فِي الِاصْطِلَاحِ: هُمُ الْخَارِجُونَ عَلَى الْإِمَامِ الْحَقِّ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَهُمْ مَنَعَةٌ.وَيَجِبُ قِتَالُهُمْ لِرَدْعِهِمْ لَا لِقَتْلِهِمْ وَسَنَتَصَدَّى لِلْكَلَامِ عَنْ حُكْمِ أَسْرَاهُمْ.
37- أَسْرَى الْبُغَاةِ تُعَامِلُهُمُ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ مُعَامَلَةً خَاصَّةً، لِأَنَّ قِتَالَهُمْ لِمُجَرَّدِ دَفْعِهِمْ عَنِ الْمُحَارَبَةِ، وَرَدِّهِمْ إِلَى الْحَقِّ، لَا لِكُفْرِهِمْ.رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ مَا حُكْمُ مَنْ بَغَى عَلَى أُمَّتِي؟ قَالَ: فَقُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.قَالَ: لَا يُتْبَعُ مُدْبِرُهُمْ، وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهُمْ، وَلَا يُقْسَمُ فَيْؤُهُمْ».
38- وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ سَبْيِ نِسَاءِ الْبُغَاةِ وَذَرَارِيِّهِمْ.بَلْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى قَصْرِ الْأَسْرِ عَلَى الرِّجَالِ الْمُقَاتِلِينَ وَتَخْلِيَةِ سَبِيلِ الشُّيُوخِ وَالصِّبْيَةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- لَمَّا وَقَعَ الْقِتَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ، قَرَّرَ عَلِيٌّ عَدَمَ السَّبْيِ وَعَدَمَ أَخْذِ الْغَنِيمَةِ، فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ كَانُوا فِي صُفُوفِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَهُمْ: أَفَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ عَائِشَةَ؟ أَمْ تَسْتَحِلُّونَ مِنْهَا مَا تَسْتَحِلُّونَ مِنْ غَيْرِهَا.فَإِنْ قُلْتُمْ لَيْسَتْ أُمَّكُمْ كَفَرْتُمْ، لقوله تعالى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} وَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّهَا أُمُّكُمْ وَاسْتَحْلَلْتُمْ سَبْيَهَا فَقَدْ كَفَرْتُمْ، لقوله تعالى {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا}.فَلَا يُسْتَبَاحُ مِنْهُمْ إِلاَّ بِقَدْرِ مَا يَدْفَعُ الْقِتَالَ وَيَبْقَى حُكْمُ الْمَالِ وَالذُّرِّيَّةِ عَلَى أَصْلِ الْعِصْمَةِ.وَلِفُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ تَفْصِيلٌ فِي حُكْمِ أَسْرَى الْبُغَاةِ.
39- وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ اسْتِرْقَاقِ أَسْرَى الْبُغَاةِ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَمْنَعُ الِاسْتِرْقَاقَ ابْتِدَاءً، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْجَمَلِ: لَا يُقْتَلُ أَسِيرُهُمْ، وَلَا يُكْشَفُ سِتْرٌ، وَلَا يُؤْخَذُ مَالٌ أَيْ لَا يُسْتَرَقُّونَ وَلِذَا فَإِنَّهُ لَا تُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَلَا ذَرَارِيُّهُمْ.وَالْأَصْلُ أَنَّ أَسِيرَهُمْ لَا يُقْتَلُ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ كُلٌّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، حَتَّى قَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَإِنْ قَتَلَ أَهْلُ الْبَغْيِ أُسَارَى أَهْلِ الْعَدْلِ لَمْ يَجُزْ لِأَهْلِ الْعَدْلِ قَتْلُ أُسَارَاهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ بِجِنَايَةِ غَيْرِهِمْ، وَيَتَّجِهُ الْمَالِكِيَّةُ وُجْهَةَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي عَدَمِ قَتْلِ الْأَسْرَى.غَيْرَ أَنَّهُ جَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ إِذَا أُسِرَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ.وَقِيلَ: يُؤَدَّبُ وَلَا يُقْتَلُ وَإِنْ كَانَتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً فَلِلْإِمَامِ قَتْلُهُ.وَلَوْ كَانُوا جَمَاعَةً، إِذَا خَافَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ ضَرَرٌ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ لِأَسْرَى الْبُغَاةِ فِئَةٌ، وَبَيْنَ مَا إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ، فَقَالُوا: لَوْ كَانَ لِلْبُغَاةِ فِئَةٌ أُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَاتُّبِعَ هَارِبُهُمْ لِقَتْلِهِ أَوْ أَسْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِئَةٌ فَلَا، وَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ فِي أَسِرْهُمْ إِنْ كَانَ لَهُ فِئَةٌ: إِنْ شَاءَ قَتَلَهُ لِئَلاَّ يَنْفَلِتَ وَيَلْحَقَ بِهِمْ، وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهُ حَتَّى يَتُوبَ أَهْلُ الْبَغْيِ، قَالَ الشَّرْنَبَلَالِيُّ: وَهُوَ الْحَسَنُ، لِأَنَّ شَرَّهُ يَنْدَفِعُ بِذَلِكَ، وَقَالُوا: إِنَّ مَا قَالَهُ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- مِنْ عَدَمِ قَتْلِ الْأَسِيرِ مُؤَوَّلٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ، وَقَالُوا: إِنَّ عَلِيًّا كَانَ إِذَا أَخَذَ أَسِيرًا اسْتَحْلَفَهُ أَلاَّ يُعِينَ عَلَيْهِ وَخَلاَّهُ أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ فَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهُمْ.وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ إِذَا أُسِرَتْ وَكَانَتْ تُقَاتِلُ حُبِسَتْ وَلَا تُقْتَلُ، إِلاَّ فِي حَالِ مُقَاتَلَتِهَا.وَكَذَا الْعَبِيدُ وَالصِّبْيَانُ.
40- وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِدَاؤُهُمْ نَظِيرَ مَالٍ، وَإِنَّمَا إِذَا تَرَكَهُمْ مَعَ الْأَمْنِ كَانَ مَجَّانًا، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْصِمُ النَّفْسَ وَالْمَالَ كَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ مُوَادَعَتُهُمْ عَلَى مَالٍ، وَإِنْ وَادَعَهُمْ عَلَى مَالٍ بَطَلَتِ الْمُوَادَعَةُ وَنَظَرَ فِي الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ فَيْئِهِمْ أَوْ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ لَمْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَصَرَفَ الصَّدَقَاتِ فِي أَهْلِهَا، وَالْفَيْءَ فِي مُسْتَحَقِّيهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خَالِصِ أَمْوَالِهِمْ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ.
41- وَيَجُوزُ مُفَادَاتُهُمْ بِأُسَارَى أَهْلِ الْعَدْلِ، وَإِنْ أَبَى الْبُغَاةُ مُفَادَاةَ الْأَسْرَى الَّذِينَ مَعَهُمْ وَحَبَسُوهُمْ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: اُحْتُمِلَ أَنْ يَجُوزَ لِأَهْلِ الْعَدْلِ حَبْسُ مَنْ مَعَهُمْ، لِيَتَوَصَّلُوا إِلَى تَخْلِيصِ أُسَارَاهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَلاَّ يَجُوزَ حَبْسُهُمْ وَيُطْلَقُونَ، لِأَنَّ الْمُتَرَتِّبَ فِي أُسَارَى أَهْلِ الْعَدْلِ لِغَيْرِهِمْ.
42- وَعَلَى مَا سَبَقَ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ قَتْلِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يُحْبَسُونَ وَلَا يُخَلَّى سَبِيلُهُمْ، إِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنَعَةٌ، وَلَوْ كَانَ الْأَسِيرُ صَبِيًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ عَبْدًا إِنْ كَانُوا مُقَاتِلِينَ، وَإِلاَّ أُطْلِقُوا بِمُجَرَّدِ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ، وَيَنْبَغِي عَرْضُ التَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ وَمُبَايَعَةُ الْإِمَامِ.وَلَوْ كَانُوا مُرَاهِقِينَ وَعَبِيدًا وَنِسَاءً غَيْرَ مُقَاتِلِينَ أَوْ أَطْفَالاً أُطْلِقُوا بَعْدَ الْحَرْبِ دُونَ أَنْ نَعْرِضَ عَلَيْهِمْ مُبَايَعَةَ الْإِمَامِ.وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُحْبَسُونَ، لِأَنَّ فِيهِ كَسْرًا لِقُلُوبِ الْبُغَاةِ.وَقَالُوا: إِنْ بَطَلَتْ شَوْكَتُهُمْ وَيُخَافُ اجْتِمَاعُهُمْ فِي الْحَالِ، فَالصَّوَابُ عَدَمُ إِرْسَالِ أَسِيرِهِمْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ.
أَسْرَى الْحَرْبِيِّينَ إِذَا أَعَانُوا الْبُغَاةَ:
43- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا اسْتَعَانَ الْبُغَاةُ عَلَى قِتَالِنَا بِقَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَمَّنُوهُمْ، أَوْ لَمْ يُؤْمِنُوهُمْ، فَظَهَرَ أَهْلُ الْعَدْلِ عَلَيْهِمْ، فَوَقَعُوا فِي الْأَسْرِ عِنْدَ أَهْلِ الْعَدْلِ، أَخَذُوا حُكْمَ أَسْرَى أَهْلِ الْحَرْبِ وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مَا إِذَا قَالَ الْأَسِيرُ: ظَنَنْتُ جَوَازَ إِعَانَتِهِمْ، أَوْ أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ وَلِيَ إِعَانَةُ الْمُحِقِّ، وَأَمْكَنَ تَصْدِيقُهُ فَإِنَّهُ يُبَلَّغُ مَأْمَنَهُ، ثُمَّ يُقَاتَلُ كَالْبُغَاةِ. الْأَسْرَى مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِذَا أَعَانُوا الْبُغَاةَ:
44- إِذَا اسْتَعَانَ الْبُغَاةُ عَلَى قِتَالِنَا بِأَهْلِ الذِّمَّةِ، فَوَقَعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي الْأَسْرِ، أَخَذَ حُكْمَ الْبَاغِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلَا يُقْتَلُ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ، وَيُخَيَّرُ الْإِمَامُ إِذَا كَانَتْ لَهُ فِئَةٌ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا اسْتَعَانَ الْبَاغِي الْمُتَأَوِّلُ بِذِمِّيٍّ فَلَا يَغْرَمُ الذِّمِّيُّ مَا أَتْلَفَهُ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ، وَلَا يُعَدُّ خُرُوجُهُ مَعَهُ نَقْضًا لِلْعَهْدِ.أَمَّا إِنْ كَانَ الْبَاغِي مُعَانِدًا- أَيْ غَيْرَ مُتَأَوِّلٍ- فَإِنَّ الذِّمِّيَّ الَّذِي مَعَهُ يَكُونُ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ، وَيَكُونُ هُوَ وَمَالُهُ فَيْئًا.وَهَذَا إِنْ كَانَ مُخْتَارًا، أَمَّا إِنْ كَانَ مُكْرَهًا فَلَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ، وَإِنْ قَتَلَ نَفْسًا يُؤْخَذُ بِهَا، حَتَّى لَوْ كَانَ مُكْرَهًا.
وَقَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِ الْمَالِكِيَّةِ.قَالُوا: لَوْ أَعَانَ الذِّمِّيُّونَ الْبُغَاةَ فِي الْقِتَالِ، وَهُمْ عَالِمُونَ بِالتَّحْرِيمِ مُخْتَارُونَ انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ، كَمَا لَوِ انْفَرَدُوا بِالْقِتَالِ.
أَمَّا إِنْ قَالَ الذِّمِّيُّونَ: كُنَّا مُكْرَهِينَ، أَوْ ظَنَنَّا جَوَازَ الْقِتَالِ إِعَانَةً، أَوْ ظَنَنَّا أَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِيمَا فَعَلُوهُ، وَأَنَّ لَنَا إِعَانَةَ الْمُحِقِّ وَأَمْكَنَ صِدْقُهُمْ، فَلَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ، لِمُوَافَقَتِهِمْ طَائِفَةً مُسْلِمَةً مَعَ عُذْرِهِمْ، وَيُقَاتَلُونَ كَبُغَاةٍ.
وَمِثْلُهُمْ فِي ذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُونَ، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ.
وَلِلْحَنَابِلَةِ قَوْلَانِ فِي انْتِقَاضِ عَهْدِهِمْ، أَحَدُهُمَا: يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ، لِأَنَّهُمْ قَاتَلُوا أَهْلَ الْحَقِّ فَانْتَقَضَ عَهْدُهُمْ كَمَا لَوِ انْفَرَدُوا بِقَتْلِهِمْ.وَيَصِيرُونَ كَأَهْلِ الْحَرْبِ فِي قَتْلِ مُقْبِلِهِمْ وَاتِّبَاعِ مُدْبِرِهِمْ وَجَرِيحِهِمْ.
وَالثَّانِي: لَا يُنْتَقَضُ، لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يَعْرِفُونَ الْمُحِقَّ مِنَ الْمُبْطِلِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً لَهُمْ.وَيَكُونُ حُكْمُهُمْ حُكْمَ أَهْلِ الْبَغْيِ فِي قَتْلِ مُقْبِلِهِمْ، وَالْكَفِّ عَنْ أَسِيرِهِمْ وَمُدْبِرِهِمْ وَجَرِيحِهِمْ.
وَإِنْ أَكْرَهَهُمُ الْبُغَاةُ عَلَى مَعُونَتِهِمْ، أَوِ ادَّعَوْا ذَلِكَ قُبِلَ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ.وَكَذَلِكَ إِنْ قَالُوا: ظَنَنَّا أَنَّ مَنِ اسْتَعَانَ بِنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَزِمَتْنَا مَعُونَتُهُ، لِأَنَّ مَا ادَّعُوهُ مُحْتَمَلٌ، فَلَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ مَعَ الشُّبْهَةِ.
وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُونَ نُقِضَ عَهْدُهُمْ.وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ أَقْوَى حُكْمًا، لِأَنَّ عَهْدَهُمْ مُؤَبَّدٌ، وَلَا يَجُوزُ نَقْضُهُ لِخَوْفِ الْخِيَانَةِ مِنْهُمْ، وَيَلْزَمُ الْإِمَامَ الدَّفْعُ عَنْهُمْ، وَالْمُسْتَأْمَنُونَ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
وَإِذَا أُسِرَ مَنْ يُرَادُ عَقْدُ الْإِمَامَةِ لَهُ، وَكَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْ الْأَسْرِ، مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ عَقْدِ الْإِمَامَةِ لَهُ.
أَسْرَى الْحِرَابَةِ:
45- الْمُحَارِبُونَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ، اجْتَمَعَتْ عَلَى شَهْرِ السِّلَاحِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَيَجُوزُ حَبْسُ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ لِاسْتِبْرَاءِ حَالِهِ وَمَنْ ظَفِرَ بِالْمُحَارِبِ فَلَا يَلِي قَتْلَهُ، وَيَرْفَعُهُ إِلَى الْإِمَامِ.قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلاَّ أَنْ يَخَافَ أَلاَّ يُقِيمَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ الْحُكْمَ. وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ تَأْمِينُهُ وَإِنِ اسْتَحَقُّوا الْهَزِيمَةَ فَجَرِيحُهُمْ أَسِيرٌ، وَالْحُكْمُ فِيهِمْ لِلْإِمَامِ، مُسْلِمِينَ كَانُوا أَوْ ذِمِّيِّينَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَأَحَدِ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.وَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالْأَوْزَاعِيِّ.وَمَوْضِعُ بَيَانِ ذَلِكَ مُصْطَلَحُ (حِرَابَة).
أَسْرَى الْمُرْتَدِّينَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ مِنْ أَحْكَامٍ
46- الرِّدَّةُ فِي اللُّغَةِ: الرُّجُوعُ، فَيُقَالُ: ارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ إِذَا كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامٍ.
وَتَخْتَصُّ الرِّدَّةُ- فِي الِاصْطِلَاحِ الْفِقْهِيِّ- بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ.وَكُلُّ مُسْلِمٍ ارْتَدَّ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ إِنْ لَمْ يَتُبْ، إِلاَّ الْمَرْأَةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهَا تُحْبَسُ، وَلَا يُتْرَكُ الْمُرْتَدُّ عَلَى رِدَّتِهِ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ وَلَا بِأَمَانٍ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ حَتَّى لَوْ أُسِرَ بَعْدَ أَنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا تُسْتَرَقُّ بَعْدَ اللِّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ، عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ مَوْضِعُهُ مُصْطَلَحُ (رِدَّةٌ).
47- وَإِذَا ارْتَدَّ جَمْعٌ، وَتَجَمَّعُوا وَانْحَازُوا فِي دَارٍ يَنْفَرِدُونَ بِهَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى صَارُوا فِيهَا ذَوِي مَنَعَةٍ وَجَبَ قِتَالُهُمْ عَلَى الرِّدَّةِ بَعْدَ مُنَاظَرَتِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيُسْتَتَابُونَ وُجُوبًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَاسْتِحْبَابًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَيُقَاتَلُونَ قِتَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَمَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ قُتِلَ صَبْرًا إِنْ لَمْ يَتُبْ، وَيُصَرِّحُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّنَا نَبْدَؤُهُمْ بِالْقِتَالِ إِذَا امْتَنَعُوا بِنَحْوِ حِصْنٍ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَرَقَّ رِجَالُهُمْ، وَلَكِنْ تُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ، وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمُ الَّذِينَ حَدَثُوا بَعْدَ الرِّدَّةِ، لِأَنَّهَا دَارٌ تَجْرِي فِيهَا أَحْكَامُ أَهْلِ الْحَرْبِ فَكَانَتْ دَارَ حَرْبٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُهَادَنُوا عَلَى الْمُوَادَعَةِ، وَلَا يُصَالَحُوا عَلَى مَالٍ يَقَرُّونَ بِهِ عَلَى رِدَّتِهِمْ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْحَرْبِ.وَقَدْ سَبَى أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنه- ذَرَارِيَّ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَسَبَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- بَنِي نَاجِيَةَ.
وَإِنْ أَسْلَمُوا حُقِنَتْ دِمَاؤُهُمْ، وَمَضَى فِيهِمْ حُكْمُ السَّبَاءِ عَلَى الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ، فَأَمَّا الرِّجَالُ فَأَحْرَارٌ لَا يُسْتَرَقُّونَ، وَلَيْسَ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ سَبْيٌ وَلَا جِزْيَةٌ، إِنَّمَا هُوَ الْقَتْلُ أَوِ الْإِسْلَامُ.وَإِنْ تَرَكَ الْإِمَامُ السَّبَاءَ وَأَطْلَقَهُمْ وَعَفَا عَنْهُمْ وَتَرَكَ لَهُمْ أَرْضَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَهُوَ فِي سَعَةٍ.
48- وَيُصَرِّحُ الْمَالِكِيَّةُ بِعَدَمِ اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ إِنْ حَارَبُوا بِأَرْضِ الْكُفْرِ أَوْ بِأَرْضِ الْإِسْلَامِ، يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ: إِذَا حَارَبَ الْمُرْتَدُّ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِالْحِرَابَةِ، وَلَا يُسْتَتَابُ، كَانَتْ حِرَابَتُهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ بَعْدَ أَنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ إِلاَّ أَنْ يُسْلِمَ، فَإِنْ كَانَتْ حِرَابَتُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ كَالْحَرْبِيِّ يُسْلِمُ، لَا تِبَاعَةَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِمَّا فَعَلَ فِي حَالِ ارْتِدَادِهِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ حِرَابَتُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يُسْقِطُ إِسْلَامُهُ عَنْهُ حُكْمَ الْحِرَابَةِ خَاصَّةً.وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ: إِذَا ارْتَدَّ جَمَاعَةٌ فِي حِصْنٍ فَإِنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ، وَأَمْوَالُهُمْ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ.وَقَالَ أَصْبَغُ: تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ وَتُقْسَمُ أَمْوَالُهُمْ.
وَهَذَا الَّذِي خَالَفَتْ فِيهِ سِيرَةُ عُمَرَ سِيرَةَ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنهما- فِي الَّذِينَ ارْتَدُّوا مِنَ الْعَرَبِ، فَقَدْ سَبَى أَبُو بَكْرٍ النِّسَاءَ وَالصِّغَارَ، وَأَجْرَى الْمُقَاسَمَةَ فِي أَمْوَالِهِمْ، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ نَقَضَ ذَلِكَ.
49- وَيَتَّفِقُ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ الْأَسِيرَ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ إِنْ لَمْ يَتُبْ وَيَعُدْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ.وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَمَكْحُولٌ، لِعُمُومِ حَدِيثِ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ».
50- وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُقْتَلُ، وَإِنَّمَا تُحْبَسُ حَتَّى تَتُوبَ.
أَمَّا لَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تُقَاتِلُ، أَوْ كَانَتْ ذَاتَ رَأْيٍ فَإِنَّهَا تُقْتَلُ اتِّفَاقًا.لَكِنَّهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تُقْتَلُ لَا لِرِدَّتِهَا، بَلْ لِأَنَّهَا تَسْعَى بِالْفَسَادِ.
وَيَسْتَدِلُّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى عَدَمِ قَتْلِ الْمَرْأَةِ الْمُرْتَدَّةِ إِذَا أُخِذَتْ سَبْيًا بِمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْحَقْ بِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَلَا يَقْتُلَنَّ ذُرِّيَّةً وَلَا عَسِيفًا» وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ وَالْكُفْرِ الطَّارِئِ، فَإِنَّ الْحَرْبِيَّةَ إِذَا سُبِيَتْ لَا تُقْتَلُ.
51- وَيَتَّفِقُ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْفِدَاءِ مِنَ الْأَسْرَى الْمُرْتَدِّينَ، وَلَا الْمَنُّ عَلَيْهِمْ بِأَمَانٍ مُؤَقَّتٍ أَوْ أَمَانٍ مُؤَبَّدٍ، وَلَا يُتْرَكُ عَلَى رِدَّتِهِ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ.كَمَا يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ مِنَ الرِّجَالِ لَا يَجْرِي فِيهِ إِلاَّ: الْعَوْدَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوِ الْقَتْلِ، لِأَنَّ قَتْلَ الْمُرْتَدِّ عَلَى رِدَّتِهِ حَدٌّ، وَلَا يُتْرَكُ إِقَامَةُ الْحَدِّ لِمَنْفَعَةِ الْأَفْرَادِ.
52- وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الرِّقَّ لَا يَجْرِي عَلَى الْمُرْتَدَّةِ أَيْضًا، وَإِنْ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِمْرَارُ أَحَدٍ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ عَلَى الْكُفْرِ بِالِاسْتِرْقَاقِ، بَيْنَمَا يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ تُسْتَرَقُّ بَعْدَ اللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَلَا تُسْتَرَقُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، كَمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي النَّوَادِرِ: أَنَّهَا تُسْتَرَقُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَيْضًا.
وَقَالُوا فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ: إِنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ قَتْلُهَا، وَلَا يَجُوزُ إِبْقَاءُ الْكَافِرِ عَلَى الْكُفْرِ إِلاَّ مَعَ الْجِزْيَةِ أَوْ مَعَ الرِّقِّ، وَلَا جِزْيَةَ عَلَى النِّسَاءِ، فَكَانَ إِبْقَاؤُهَا عَلَى الرِّقِّ أَنْفَعُ.وَقَدِ اسْتَرَقَّ الصَّحَابَةُ نِسَاءَ مَنِ ارْتَدَّ.
53- وَبِالنِّسْبَةِ لِأَصْحَابِ الْأَعْذَارِ مِنَ الْأَسْرَى الْمُرْتَدِّينَ، فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ أَيْضًا.وَنَقَلَ السَّرَخْسِيُّ قَوْلاً بِأَنَّ حُلُولَ الْآفَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأُنُوثَةِ، لِأَنَّهُ تَخْرُجُ بِهِ بِنْيَتُهُ (هَيْئَتُهُ وَجِسْمُهُ) مِنْ أَنْ تَكُونَ صَالِحَةً لِلْقِتَالِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُقْتَلُونَ بَعْدَ الرِّدَّةِ، كَمَا لَا يُقْتَلُونَ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ.
وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى وُجُوبَ قَتْلِ الْمُرْتَدَّةِ- إِذَا كَانَتِ الْأَسِيرَةُ الْمُرْتَدَّةُ ذَاتَ زَوْجٍ، وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ- فَإِنَّهَا تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةٍ قَبْلَ قَتْلِهَا خَشْيَةَ أَنْ تَكُونَ حَامِلاً، فَإِنْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ أُخِّرَتْ حَتَّى تَضَعَ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ اُسْتُبْرِئَتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يُتَوَقَّعُ حَمْلُهَا، وَإِلاَّ قُتِلَتْ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ.
أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ فِي يَدِ الْأَعْدَاءِ:
اسْتِئْسَارُ الْمُسْلِمِ وَمَا يَنْبَغِي لِاسْتِنْقَاذِهِ عِنْدَ تَتَرُّسِ الْكُفَّارِ بِهِ:
أ- الِاسْتِئْسَارُ:
54- الِاسْتِئْسَارُ هُوَ تَسْلِيمُ الْجُنْدِيِّ نَفْسَهُ لِلْأَسْرِ، فَقَدْ يَجِدُ الْجُنْدِيُّ نَفْسَهُ مُضْطَرًّا لِذَلِكَ.وَقَدْ وَقَعَ الِاسْتِئْسَارُ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَعَلِمَ بِهِ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ.رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- بِسَنَدِهِ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَشَرَةً رَهْطًا عَيْنًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدَأَةِ- مَوْضِعٌ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ- ذُكِرُوا لِبَنِي لِحْيَانَ، فَنَفَرُوا لَهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَتِي رَجُلٍ كُلُّهُمْ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ- مَوْضِعٍ غَلِيظٍ مُرْتَفِعٍ- وَأَحَاطَ بِهِمُ الْقَوْمُ، فَقَالُوا لَهُمْ: انْزِلُوا وَأَعْطُوا بِأَيْدِيكُمْ، وَلَكُمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ أَلاَّ نَقْتُلَ مِنْكُمْ أَحَدًا، قَالَ عَاصِمٌ: أَمَّا أَنَا فَوَاَللَّهِ لَا أَنْزِلُ الْيَوْمَ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ، اللَّهُمَّ خَبِّرْ عَنَّا نَبِيَّكَ، فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِي سَبْعَةٍ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الْأَنْصَارِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ الدَّثْنَةِ، وَرَجُلٌ آخَرُ.فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ فَأَوْثَقُوهُمْ، فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ، وَاَللَّهِ لَا أَصْحَبُكُمْ، إِنَّ لِي فِي هَؤُلَاءِ لأَُسْوَةً- يُرِيدُ الْقَتْلَى- فَجَرُّوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ- أَيْ مَارَسُوهُ وَخَادَعُوهُ لِيَتْبَعَهُمْ- فَأَبَى فَقَتَلُوهُ، وَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَابْنِ الدَّثْنَةِ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ...» فَعَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِمَا حَدَثَ، وَعَدَمُ إِنْكَارِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِئْسَارَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُرَخَّصٌ فِيهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُسْتَأْسَرُ الرَّجُلُ إِذَا خَافَ أَنْ يُغْلَبَ.وَإِلَى هَذَا اتَّجَهَ كُلٌّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
55- وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى شُرُوطٍ يَلْزَمُ تَوَافُرُهَا لِجَوَازِ الِاسْتِئْسَارِ هِيَ: أَنْ يَخَافَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِسْلَامِ قَتْلُهُ فِي الْحَالِ، وَأَلاَّ يَكُونَ الْمُسْتَسْلِمُ إِمَامًا، أَوْ عِنْدَهُ مِنَ الشَّجَاعَةِ مَا يُمْكِنُهُ مِنَ الصُّمُودِ، وَأَنْ تَأْمَنَ الْمَرْأَةُ عَلَى نَفْسِهَا الْفَاحِشَةَ.
وَالْأَوْلَى- كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ- إِذَا مَا خَشِيَ الْمُسْلِمُ الْوُقُوعَ فِي الْأَسْرِ أَنْ يُقَاتِلَ حَتَّى يُقْتَلَ، وَلَا يُسْلِمَ نَفْسَهُ لِلْأَسْرِ، لِأَنَّهُ يَفُوزُ بِثَوَابِ الدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ، وَيَسْلَمُ مِنْ تَحَكُّمِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ بِالتَّعْذِيبِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَالْفِتْنَةِ، وَإِنْ اسْتَأْسَرَ جَازَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ.
ب- اسْتِنْقَاذُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ وَمُفَادَاتُهُمْ:
56- إِذَا وَقَعَ الْمُسْلِمُ أَسِيرًا فَهُوَ حُرٌّ عَلَى حَالِهِ، وَكَانَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، يَلْزَمُهُمُ الْعَمَلُ عَلَى خَلَاصِهِ، وَلَوْ بِتَيْسِيرِ سُبُلِ الْفِرَارِ لَهُ، وَالتَّفَاوُضِ مِنْ أَجْلِ إِطْلَاقِ سَرَاحِهِ، فَإِذَا لَمْ يُطْلِقُوا سَرَاحَهُ تَرَبَّصُوا لِذَلِكَ.وَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ ( ( ( يَتَحَيَّنُ الْفُرْصَةَ الْمُنَاسِبَةَ لِتَخْلِيصِ الْأَسْرَى.رَوَتْ كُتُبُ السِّيرَةِ أَنَّ «قُرَيْشًا أَسَرَتْ نَفَرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا لَمْ يَجِدِ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- حِيلَةً لِإِنْقَاذِهِمْ كَانَ يَدْعُو اللَّهَ لِإِنْقَاذِهِمْ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَلَمَّا أَفْلَتَ أَحَدُهُمْ مِنَ الْأَسْرِ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، سَأَلَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ رَفِيقَيْهِ فَقَالَ: أَنَا لَكَ بِهِمَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فَدَخَلَهَا مُسْتَخْفِيًا، فَلَقِيَ امْرَأَةً عَلِمَ أَنَّهَا تَحْمِلُ الطَّعَامَ لَهُمَا فِي الْأَسْرِ فَتَبِعَهَا، حَتَّى اسْتَطَاعَ تَخْلِيصَهُمَا، وَقَدِمَ بِهِمَا عَلَى الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- بِالْمَدِينَةِ».
وَقَدِ اسْتَنْقَذَ رَسُولُ اللَّهِ كُلًّا مِنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ- رضي الله عنهما- ، وَقَدْ أَسَرَهُمَا الْمُشْرِكُونَ، بِأَنْ فَاوَضَ عَلَيْهِمَا، وَحَبَسَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ حَتَّى يُطْلِقُوا سَرَاحَهُمَا، وَكَذَلِكَ فَعَلَ فِي اسْتِنْقَاذِ عُثْمَانَ وَعَشَرَةٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ- رضي الله عنهم- بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ.
وَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «إِنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي فَيْئِهِمْ أَنْ يُفَادُوا أَسْرَاهُمْ».وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: لأَنْ أَسْتَنْقِذَ رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ. 57- وَيَجِبُ اسْتِنْقَاذُ الْأَسْرَى بِالْمُقَاتَلَةِ مَا دَامَ ذَلِكَ مَيْسُورًا، فَإِذَا دَخَلَ الْمُشْرِكُونَ دَارَ الْإِسْلَامِ فَأَخَذُوا الْأَمْوَالَ وَالذَّرَارِيَّ وَالنِّسَاءَ، ثُمَّ عَلِمَ بِهِمْ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَهُمْ عَلَيْهِمْ قُوَّةٌ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ مَا دَامُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ دَخَلُوا بِهِمْ دَارَ الْحَرْبِ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ إِذَا غَلَبَ عَلَى رَأْيِهِمْ أَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى اسْتِنْقَاذِهِمْ، فَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ لِتَخْلِيصِهِمْ فَتَرَكُوهُ كَانُوا فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ فِي يَدِ الْكُفَّارِ بَعْضَ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا الْخُرُوجُ لِقِتَالِهِمْ لِاسْتِنْقَاذِ الْأَسْرَى.
58- وَالِاسْتِنْقَاذُ إِذَا لَمْ يَتَيَسَّرْ عَنْ طَرِيقِ الْقِتَالِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَنْ طَرِيقِ الْفِدَاءِ بِتَبَادُلِ الْأَسْرَى، عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُ الْقَوْلِ فِيهِ، كَمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بِالْمَالِ أَيْضًا، لِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ، وَفُكُّوا الْعَانِيَ» لِأَنَّ مَا يُخَافُ مِنْ تَعْذِيبِ الْأَسِيرِ أَعْظَمُ فِي الضَّرُورَةِ مِنْ بَذْلِ الْمَالِ، فَجَازَ دَفْعُ أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ بِأَخَفِّهِمَا.
59- وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفْتَدُوهُ.وَنَقَلَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ أَسِيرٍ كَانَ فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَفِكَاكُهُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ.وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، كَمَا نَقَلَهُ الْمَوَّاقُ عَنِ ابْنِ بَشِيرٍ مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَعَلَى عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْأَسِيرُ كَأَحَدِهِمْ، فَإِنْ ضَيَّعَ الْإِمَامُ وَالْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْأَسِيرِ مِنْ مَالِهِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ رُشْدٍ أَيْضًا.
وَفِي الْمُهَذَّبِ أَنَّهُ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
60- وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ بَذْلَ الْمَالِ لِفَكِّ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ- إِنْ خِيفَ تَعْذِيبُهُمْ- جَائِزٌ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَيَكُونُ فِي مَالِهِمْ، وَيُنْدَبُ عِنْدَ الْعَجْزِ افْتِدَاءُ الْغَيْرِ لَهُ، فَمَنْ قَالَ لِكَافِرٍ: أَطْلِقْ هَذَا الْأَسِيرَ، وَعَلَيَّ كَذَا، فَأَطْلَقَهُ لَزِمَهُ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْأَسِيرِ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي فِدَائِهِ.
61- وَأَسْرُ الْمُسْلِمِ الْحُرِّ لَا يُزِيلُ حُرِّيَّتَهُ، فَمَنِ اشْتَرَاهُ مِنَ الْعَدُوِّ لَا يَمْلِكُهُ، وَإِنِ اشْتَرَاهُ مُسْلِمٌ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِيمَا أَدَّى مِنْ فِدَائِهِ، وَإِنِ اشْتَرَاهُ بِأَمْرِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ، وَالْقِيَاسُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ نَصًّا.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ- كَمَا يَرْوِي الْمَوَّاقُ- أَنَّ لِلْمُشْتَرِيَّ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ، شَاءَ أَوْ أَبَى، لِأَنَّهُ فِدَاءٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ اُتُّبِعَ بِهِ فِي ذِمَّتِهِ.وَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَاَلَّذِي فَدَاهُ وَاشْتَرَاهُ مِنَ الْعَدُوِّ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غُرَمَائِهِ.أَمَّا إِنْ كَانَ يَقْصِدُ الصَّدَقَةَ، أَوْ كَانَ الْفِدَاءُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ، وَكَذَا إِنْ كَانَ الْأَسِيرُ يَرْجُو الْخَلَاصَ بِالْهُرُوبِ أَوِ التَّرْكِ.
62- وَلَوْ خَلَّى الْكُفَّارُ الْأَسِيرَ، وَاسْتَحْلَفُوهُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ بِفِدَائِهِ، أَوْ يَعُودَ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ هَذَا نَتِيجَةَ إِكْرَاهٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَفَاءُ، وَإِنْ لَمْ يُكْرَهْ عَلَيْهِ وَقَدَرَ عَلَى الْفِدَاءِ لَزِمَهُ، وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ، لِوُجُوبِ الْوَفَاءِ، وَلِأَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةَ الْأُسَارَى، وَفِي الْغَدْرِ مَفْسَدَةٌ فِي حَقِّهِمْ.وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُهُ، لِأَنَّهُ حُرٌّ لَا يَسْتَحِقُّونَ بَدَلَهُ.
وَأَمَّا إِنْ عَجَزَ عَنِ الْفِدَاءِ، فَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهَا الرُّجُوعُ إِلَيْهِمْ، لقوله تعالى {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} وَلِأَنَّ فِي رُجُوعِهَا تَسْلِيطًا لَهُمْ عَلَى وَطْئِهَا حَرَامًا.
وَإِنْ كَانَ رَجُلاً، فَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا يَرْجِعُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ.وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَهُمْ يَلْزَمُهُ، وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ صَالَحَ قُرَيْشًا عَلَى رَدِّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا أَمْضَى اللَّهُ ذَلِكَ فِي الرِّجَالِ، وَنَسَخَهُ فِي النِّسَاءِ.
ج- التَّتَرُّسُ بِأُسَارَى الْمُسْلِمِينَ:
63- التُّرْسُ بِضَمِّ التَّاءِ: مَا يُتَوَقَّى بِهِ فِي الْحَرْبِ، يُقَالُ: تَتَرَّسَ بِالتُّرْسِ إِذَا تَوَقَّى بِهِ وَمِنْ ذَلِكَ تَتَرُّسُ الْمُشْرِكِينَ بِالْأَسْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالذِّمِّيِّينَ فِي الْقِتَالِ، لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُمْ كَالتِّرَاسِ، فَيَتَّقُونَ بِهِمْ هُجُومَ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ رَمْيَ الْمُشْرِكِينَ- مَعَ تَتَرُّسِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ- يُؤَدِّي إِلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ نَحْرِصُ عَلَى حَيَاتِهِمْ وَإِنْقَاذِهِمْ مِنَ الْأَسْرِ.وَقَدْ عُنِيَ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَتَنَاوَلُوهَا مِنْ نَاحِيَةِ جَوَازِ الرَّمْيِ مَعَ التَّتَرُّسِ بِالْمُسْلِمِينَ أَوِ الذِّمِّيِّينَ، كَمَا تَنَاوَلُوهَا مِنْ نَاحِيَةِ لُزُومِ الْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ، وَإِلَيْكَ اتِّجَاهَاتُ الْمَذَاهِبِ فِي هَذَا:
أ- رَمْيُ التُّرْسِ:
64- مِنْ نَاحِيَةِ رَمْيِ التُّرْسِ: يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي تَرْكِ الرَّمْيِ خَطَرٌ مُحَقَّقٌ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الرَّمْيُ بِرَغْمِ التَّتَرُّسِ، لِأَنَّ فِي الرَّمْيِ دَفْعَ الضَّرَرِ الْعَامِّ بِالذَّبِّ عَنْ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ، وَقَتْلُ الْأَسِيرِ ضَرَرٌ خَاصٌّ.وَيُقْصَدُ عِنْدَ الرَّمْيِ الْكُفَّارُ لَا التُّرْسُ، لِأَنَّهُ إِنْ تَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ فِعْلاً فَقَدْ أَمْكَنَ قَصْدًا، وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ السَّرَخْسِيِّ أَنَّ الْقَوْلَ لِلرَّامِي بِيَمِينِهِ فِي أَنَّهُ قَصَدَ الْكُفَّارَ، وَلَيْسَ قَوْلَ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ الَّذِي يَدَّعِي الْعَمْدَ. أَمَّا فِي حَالَةِ خَوْفِ وُقُوعِ الضَّرَرِ عَلَى أَكْثَرِ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ رَمْيُهُمْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّهَا حَالَةُ ضَرُورَةٍ أَيْضًا، وَتَسْقُطُ حُرْمَةُ التُّرْسِ.
وَيَقُولُ الصَّاوِيُّ الْمَالِكِيُّ: وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ الْمُتَتَرَّسُ بِهِمْ أَكْثَرَ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ.وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَجُوزُ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ مُجَرَّدَ الْخَوْفِ لَا يُبِيحُ الدَّمَ الْمَعْصُومَ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا كَانَ الْخَوْفُ عَلَى بَعْضِ الْغَازِينَ فَقَطْ.
65- وَأَمَّا فِي حَالَةِ الْحِصَارِ الَّذِي لَا خَطَرَ فِيهِ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنْ لَا يُقْدَرُ عَلَى الْحَرْبِيِّينَ إِلاَّ بِرَمْيِ التُّرْسِ، فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَجُمْهُورِ الْحَنَابِلَةِ، وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى الْمَنْعِ، لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، وَتَرْكُ قَتْلِ الْكَافِرِ جَائِزٌ.أَلَا يُرَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَلاَّ يَقْتُلَ الْأُسَارَى لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ مُرَاعَاةُ جَانِبِ الْمُسْلِمِ أَوْلَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلِأَنَّ مَفْسَدَةَ قَتْلِ الْمُسْلِمِ فَوْقَ مَصْلَحَةِ قَتْلِ الْكَافِرِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ رَمْيِهِمْ، وَعَلَّلَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنَّ فِي الرَّمْيِ دَفْعَ الضَّرَرِ الْعَامِّ، وَأَنَّهُ قَلَّمَا يَخْلُو حِصْنٌ عَنْ مُسْلِمٍ، وَاعْتَبَرَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الضَّرُورَةِ.
ب- الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ:
66- وَمِنْ نَاحِيَةِ الْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ عِنْدَ إِصَابَةِ أَحَدِ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ نَتِيجَةَ رَمْيِ التُّرْسِ، فَإِنَّ جُمْهُورَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ مَا أَصَابُوهُ مِنْهُمْ لَا يَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ وَلَا كَفَّارَةٌ، لِأَنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ، وَالْغَرَامَاتُ لَا تُقْرَنُ بِالْفُرُوضِ، لِأَنَّ الْفَرْضَ مَأْمُورٌ بِهِ لَا مَحَالَةَ، وَسَبَبُ الْغَرَامَاتِ عُدْوَانٌ مَحْضٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ، فَوُجُوبُ الضَّمَانِ يَمْنَعُ مِنْ إِقَامَةِ الْفَرْضِ، لِأَنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْهُ خَوْفًا مِنْ لُزُومِ الضَّمَانِ، وَهَذَا لَا يَتَعَارَضُ مَعَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَنَّهُ «لَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ دَمٌ مُفْرَجٌ»- أَيْ مُهْدَرٌ- لِأَنَّ النَّهْيَ عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ الْبُغَاةُ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ، فَتُخَصُّ صُورَةُ النِّزَاعِ، كَمَا أَنَّ النَّهْيَ فِي الْحَدِيثِ خَاصٌّ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ.
67- وَعِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَجُمْهُورِ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ تَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ قَوْلاً وَاحِدًا، وَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: تَجِبُ، لِأَنَّهُ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا}.
الثَّانِيَةُ: لَا دِيَةَ، لِأَنَّهُ قَتَلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِرَمْيٍ مُبَاحٍ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قوله تعالى {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وَلَمْ يَذْكُرْ دِيَةً.وَعَدَمُ وُجُوبِ الدِّيَةِ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
256-موسوعة الفقه الكويتية (إطلاق)
إِطْلَاقٌالتَّعْرِيفُ:
1- مِنْ مَعَانِي الْإِطْلَاقِ فِي اللُّغَةِ: التَّخْلِيَةُ، وَالْحَلُّ وَالْإِرْسَالُ، وَعَدَمُ التَّقْيِيدِ.
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ يُؤْخَذُ تَعْرِيفُ الْإِطْلَاقِ مِنْ بَيَانِ الْمُطْلَقِ، فَالْمُطْلَقُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَطْلَقَ، وَالْمُطْلَقُ: مَا دَلَّ عَلَى فَرْدٍ شَائِعٍ، أَوْ هُوَ: مَا دَلَّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ بِلَا قَيْدٍ.أَوْ هُوَ: مَا لَمْ يُقَيَّدْ بِصِفَةٍ تَمْنَعُهُ أَنْ يَتَعَدَّاهَا إِلَى غَيْرِهَا.
كَمَا يُرَادُ بِالْإِطْلَاقِ: اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي مَعْنَاهُ حَقِيقَةً كَانَ أَوْ مَجَازًا.كَمَا يَأْتِي أَيْضًا بِمَعْنَى النَّفَاذِ، فَإِطْلَاقُ التَّصَرُّفِ نَفَاذُهُ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْعُمُومُ:
2- تَظْهَرُ صِلَةُ الْإِطْلَاقِ بِالْعُمُومِ مِنْ بَيَانِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْعَامِّ، فَالْمُطْلَقُ يُشَابِهُ الْعَامَّ مِنْ حَيْثُ الشُّيُوعُ حَتَّى ظُنَّ أَنَّهُ عَامٌّ.
لَكِنْ هُنَاكَ فَرْقًا بَيْنَ الْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ، فَالْعَامُّ عُمُومُهُ شُمُولِيٌّ، وَعُمُومُ الْمُطْلَقِ بَدَلِيٌّ.فَمَنْ أَطْلَقَ عَلَى الْمُطْلَقِ اسْمُ الْعُمُومِ فَهُوَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَوَارِدَهُ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ عُمُومَ الشُّمُولِيِّ كُلِّيٌّ يُحْكَمُ فِيهِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ.وَعُمُومُ الْبَدَلِ كُلِّيٌّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَمْنَعُ نَفْسَ تَصَوُّرِ مَفْهُومِهِ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ، وَلَكِنْ لَا يُحْكَمُ فِيهِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ، بَلْ عَلَى فَرْدٍ شَائِعٍ فِي أَفْرَادِهِ، يَتَنَاوَلُهَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، وَلَا يَتَنَاوَلُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ دَفْعَةً.
وَفِي تَهْذِيبِ الْفُرُوقِ نَقْلًا عَنِ الْأُنْبَابِيِّ: عُمُومُ الْعَامِّ شُمُولِيٌّ، بِخِلَافِ عُمُومِ الْمُطْلَقِ، نَحْوُ رَجُلٍ وَأَسَدٍ وَإِنْسَانٍ، فَإِنَّهُ بَدَلِيٌّ، حَتَّى إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ أَدَاةُ النَّفْيِ أَوْ أَلِ الِاسْتِغْرَاقِيَّةِ صَارَ عَامًّا.
ب- التَّنْكِيرُ:
3- يَتَّضِحُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّنْكِيرِ مِنْ بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالنَّكِرَةِ، فَيَرَى بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ، أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ النَّكِرَةِ وَالْمُطْلَقِ، لِأَنَّ تَمْثِيلَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ الْمُطْلَقَ بِالنَّكِرَةِ فِي كُتُبِهِمْ يُشْعِرُ بِعَدَمِ الْفَرْقِ.
وَفِي تَيْسِيرِ التَّحْرِيرِ: الْمُطْلَقُ وَالنَّكِرَةُ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ مِنْ وَجْهٍ، لِصِدْقِهِمَا فِي نَحْوِ: تَحْرِيرِ رَقَبَةٍ، وَانْفِرَادِ النَّكِرَةِ عَنْهُ إِذَا كَانَتْ عَامَّةً، كَمَا إِذَا وَقَعَتْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَانْفِرَادُ الْمُطْلَقِ عَنْهَا فِي نَحْوِ اشْتَرِ اللَّحْمَ.
هَذَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَإِنْ قُيِّدَتِ النَّكِرَةُ كَانَتْ مُبَايِنَةً لِلْمُطْلَقِ.
الشَّيْءُ الْمُطْلَقُ وَمُطْلَقُ الشَّيْءِ:
4- الشَّيْءُ الْمُطْلَقُ عِبَارَةٌ عَنِ الشَّيْءِ مِنْ حَيْثُ الْإِطْلَاقُ، وَهُوَ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّيْءِ بِلَا قَيْدٍ لَازِمٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ: يُرْفَعُ الْحَدَثُ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ أَيْ غَيْرِ الْمُقَيَّدِ بِقَيْدٍ، فَخَرَجَ بِهِ مَاءُ الْوَرْدِ، وَمَاءُ الزَّعْفَرَانِ، وَالْمَاءُ الْمُعْتَصَرُ مِنْ شَجَرٍ أَوْ ثَمَرٍ، وَكَذَلِكَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّهَا مِيَاهٌ مُقَيَّدَةٌ بِقَيْدٍ لَازِمٍ لَا يُطْلَقُ الْمَاءُ عَلَيْهِ بِدُونِهِ، بِخِلَافِ مَاءِ الْبَحْرِ وَمَاءِ الْبِئْرِ وَمَاءِ السَّمَاءِ وَنَحْوِهَا، لِأَنَّ الْقُيُودَ فِيهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ، وَتُسْتَعْمَلُ بِدُونِهَا، فَهِيَ مِيَاهٌ مُطْلَقَةٌ.
أَمَّا مُطْلَقُ الشَّيْءِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الشَّيْءِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلَاحَظَ مَعَهُ الْإِطْلَاقُ أَوِ التَّقْيِيدُ، فَيَصْدُقُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ مُطْلَقًا كَانَ أَوْ مُقَيَّدًا.وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: مُطْلَقُ الْمَاءِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَاءُ الطَّاهِرُ وَالطَّهُورُ وَالنَّجِسُ وَغَيْرُهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمِيَاهِ الْمُقَيَّدَةِ (كَمَاءِ الْوَرْدِ وَالزَّعْفَرَانِ) وَالْمُطْلَقَةِ.
فَالشَّيْءُ الْمُطْلَقُ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الشَّيْءِ (الشَّامِلِ لِلْمُقَيَّدِ).
وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا يُقَالُ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ، وَمُطْلَقِ الْبَيْعِ، وَالطَّهَارَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَمُطْلَقِ الطَّهَارَةِ وَأَمْثَالِهَا.
مَوَاطِنُ الْإِطْلَاقِ:
5- يَتَنَاوَلُ الْأُصُولِيُّونَ الْإِطْلَاقَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنْهَا: مَسْأَلَةُ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَمِنْهَا: مُقْتَضَى الْأَمْرِ هَلْ هُوَ لِلتَّكْرَارِ أَوْ لَا؟ وَهَلْ هُوَ لِلْفَوْرِ أَوْ لَا؟
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
مَوَاطِنُ الْإِطْلَاقِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
أَوَّلًا: إِطْلَاقُ النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ:
أ- الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ:
6- لَوْ نَوَى الْمُتَوَضِّئُ مُطْلَقَ (الطَّهَارَةِ) أَوْ مُطْلَقَ (الْوُضُوءِ)، لَا لِرَفْعِ حَدَثٍ، وَلَا لِاسْتِبَاحَةِ صَلَاةٍ، أَوْ نَحْوِهَا، فَفِي ارْتِفَاعِ الْحَدَثِ وَعَدَمِهِ رَأْيَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَرْتَفِعُ، لِعَدَمِ نِيَّتِهِ لَهُ.وَهَذَا أَحَدُ الرَّأْيَيْنِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَشْتَرِطُونَ النِّيَّةَ لِصِحَّةِ الطَّهَارَةِ.وَعَلَّلُوا لِذَلِكَ بِأَنَّ الطَّهَارَةَ قِسْمَانِ: طَهَارَةُ حَدَثٍ، وَطَهَارَةُ نَجِسٍ، فَإِذَا قَصَدَ الطَّهَارَةَ الْمُطْلَقَةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ.وَالرَّأْيُ الْأَصَحُّ لِلْجُمْهُورِ أَنَّهُ يَرْتَفِعُ، لِأَنَّ الطَّهَارَةَ وَالْوُضُوءَ إِنَّمَا يَنْصَرِفُ إِطْلَاقُهُمَا إِلَى الْمَشْرُوعِ، فَيَكُونُ نَاوِيًا لِوُضُوءٍ شَرْعِيٍّ.
وَلَا دَخْلَ لِمَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَالنِّيَّةُ سُنَّةٌ عِنْدَهُمْ وَلَيْسَتْ شَرْطًا فِي الْوُضُوءِ.
ب- التَّيَمُّمُ
7- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ لَوْ نَوَى اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ، وَأَطْلَقَ وَلَمْ يُقَيِّدْ تِلْكَ الصَّلَاةَ بِفَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ، صَلَّى النَّافِلَةَ مَعَ هَذَا الْإِطْلَاقِ.وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ بِهِ النَّفَلَ.وَلِلْفُقَهَاءِ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ بِهَذَا التَّيَمُّمِ رَأْيَانِ:
أَحَدُهُمَا: صِحَّةُ صَلَاةِ الْفَرْضِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اخْتَارَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ، لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ يَصِحُّ بِهَا النَّفَلُ، فَصَحَّ بِهَا الْفَرْضُ كَطَهَارَةِ الْمَاءِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ اسْمُ جِنْسٍ تَتَنَاوَلُ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَسْتَبِيحُ بِهِ الْفَرْضَ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ.
إِطْلَاقُ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ:
أ- صَلَاةُ الْفَرْضِ:
8- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ التَّعْيِينُ فِي نِيَّةِ الْفَرْضِ وَأَنَّ الْإِطْلَاقَ لَا يَكْفِي.قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَكَذَا الْوَاجِبُ مِنْ وِتْرٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ سُجُودِ تِلَاوَةٍ، وَكَذَا يُشْتَرَطُ التَّعْيِينُ فِي نِيَّةِ سَجْدَةِ الشُّكْرِ، بِخِلَافِ سُجُودِ السَّهْوِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ التَّعْيِينُ فِي نِيَّةِ صَلَاةِ الْفَرْضِ.
ب- النَّفَلُ الْمُطْلَقُ:
9- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِطْلَاقَ يَكْفِي فِي نِيَّةِ صَلَاةِ النَّفْلِ الْمُطْلَقِ، وَأَلْحَقَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِالنَّفْلِ الْمُطْلَقِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ، وَرَكْعَتَيِ الْوُضُوءِ، وَرَكْعَتَيِ الْإِحْرَامِ، وَرَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، وَصَلَاةَ الْحَاجَةِ، وَصَلَاةَ الْغَفْلَةِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَالصَّلَاةَ فِي بَيْتِهِ إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ لِلسَّفَرِ، وَالْمُسَافِرُ إِذَا نَزَلَ مَنْزِلًا وَأَرَادَ مُفَارَقَتَهُ.
ج- السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ، وَالْمُؤَقَّتَةُ:
10- لِلْفُقَهَاءِ فِي إِطْلَاقِ النِّيَّةِ فِي صَلَاةِ السُّنَّةِ الرَّاتِبَةِ، وَالْمُؤَقَّتَةِ رَأْيَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يَكْفِي الْإِطْلَاقُ لِحُصُولِ تِلْكَ السُّنَّةِ الرَّاتِبَةِ.وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِاسْتِثْنَاءِ النَّوَافِلِ الَّتِي أُلْحِقَتْ بِالنَّفْلِ الْمُطْلَقِ عِنْدَ الْبَعْضِ وَاَلَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا.
وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، قَالُوا: لِأَنَّ السُّنَّةَ وَصْفٌ زَائِدٌ عَلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ، كَوَصْفِ الْفَرْضِيَّةِ، فَلَا تَحْصُلُ بِمُطْلَقِ نِيَّةِ الصَّلَاةِ.
الثَّانِي: صِحَّةُ النِّيَّةِ مَعَ الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْحَنَفِيَّةِ مُصَحَّحَيْنِ، وَاعْتَمَدَهُ بَعْضُهُمْ.وَفِي الْمُحِيطِ أَنَّهُ قَوْلُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، وَرَجَّحَهُ فِي الْفَتْحِ، وَنَسَبَهُ إِلَى الْمُحَقِّقِينَ.
إِطْلَاقُ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ:
11- لِلْفُقَهَاءِ فِي إِطْلَاقِ نِيَّةِ الصَّوْمِ رَأْيَانِ:
الْأَوَّلُ: عَدَمُ الصِّحَّةِ مَعَ الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِأَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ فَوَجَبَ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لَهُ.
وَالثَّانِي: صِحَّةُ الصَّوْمِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَوَجْهٌ شَاذٌّ لِلشَّافِعِيَّةِ حَكَاهُ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ عَنِ الْحَلِيمِيِّ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّهُ فَرْضٌ مُسْتَحَقٌّ فِي زَمَنٍ بِعَيْنِهِ، فَلَا يَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لَهُ.
إِطْلَاقُ نِيَّةِ الْإِحْرَامِ:
12- إِذَا نَوَى مُرِيدُ النُّسُكِ نَفْسَ الْإِحْرَامِ، وَأَطْلَقَ بِأَنْ لَمْ يَقْصِدِ الْقِرَانَ، وَلَا التَّمَتُّعَ وَلَا الْإِفْرَادَ جَازَ بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَصِحُّ مَعَ الْإِبْهَامِ فَيَصِحُّ مَعَ الْإِطْلَاقِ.وَلَهُ صَرْفُهُ إِلَى أَيِّ نَوْعٍ شَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِحْرَامِ الثَّلَاثَةِ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي أَعْمَالِ الْإِحْرَامِ، وَكَانَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ قَالُوا: الْأَوْلَى الصَّرْفُ إِلَى الْعُمْرَةِ، لِأَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ.
وَمَا عَمِلَهُ قَبْلَ التَّعْيِينِ فَلَغْوٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، يُعْتَدُّ بِمَا أَتَى بِهِ مِنَ الشَّعَائِرِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا تُصْرَفُ النِّيَّةُ لَهُ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: تُصْرَفُ إِلَى الْعُمْرَةِ إِنْ لَمْ يُعَيِّنْ، وَقَدْ طَافَ، لَكِنْ فِي اللُّبَابِ وَشَرْحِهِ لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ الطَّوَافِ تَعَيَّنَ إِحْرَامُهُ لِلْحَجِّ، وَلَوْ لَمْ يَقْصِدِ الْحَجَّ فِي وُقُوفِهِ. وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ صَرْفُهُ إِلَى الْحَجِّ إِنْ وَقَعَ الصَّرْفُ بَعْدَ طَوَافِ قُدُومٍ.
13- وَإِنْ كَانَ الْإِحْرَامُ بِنُسُكٍ وَلَمْ يُعَيِّنْ وَذَلِكَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ- عَلَى كَرَاهَتِهِ أَوِ امْتِنَاعِهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- فَالْحُكْمُ لَا يَخْتَلِفُ عِنْدَهُمْ فِي أَنَّ الْأَوْلَى صَرْفُ النِّيَّةِ إِلَى الْعُمْرَةِ.
وَكَذَا لَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ عَنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ إِنْ كَانَ طَافَ قَبْلَ التَّعْيِينِ- يَجِبُ صَرْفُ النِّيَّةِ لِلْحَجِّ- وَيُؤَخِّرُ سَعْيَهُ لِإِفَاضَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ طَافَ كُرِهَ صَرْفُ النِّيَّةِ إِلَى الْحَجِّ، لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِهِ قَبْلَ وَقْتِهِ.
وَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: إِنْ أَحْرَمَ قَبْلَ الْأَشْهُرِ، فَإِنْ صَرَفَهُ إِلَى الْعُمْرَةِ صَحَّ، وَإِنْ صَرَفَهُ إِلَى الْحَجِّ بَعْدَ دُخُولِ الْأَشْهُرِ فَوَجْهَانِ، الصَّحِيحُ: لَا يَجُوزُ بَلِ انْعَقَدَ إِحْرَامُهُ، (أَيْ عَمْرَةً).
وَالثَّانِي: يَنْعَقِدُ مُبْهَمًا، وَلَهُ صَرْفُهُ بَعْدَ دُخُولِ أَشْهُرِ الْحَجِّ إِلَى حَجٍّ أَوْ قِرَانٍ، فَإِنْ صَرَفَهُ إِلَى الْحَجِّ قَبْلَ الْأَشْهُرِ كَانَ كَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ الْأَشْهُرِ.
14- وَهَلِ الْإِطْلَاقُ أَفْضَلُ أَمِ التَّعْيِينُ؟ رَأْيَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّعْيِينَ أَفْضَلُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ، فَقَدْ صَرَّحُوا بِاسْتِحْبَابِ التَّعْيِينِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
ثَانِيهِمَا: الْإِطْلَاقُ أَفْضَلُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
15- بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ عَنِ الْإِطْلَاقِ فِي الْمَوَاطِنِ الْآتِيَةِ: - الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ، وَالْمِلْكُ الْمُقَيَّدُ.
- الْعُقُودُ إِذَا وَقَعَتْ عَلَى اسْمٍ مُطْلَقٍ، هَلْ تَصِحُّ أَمْ لَا؟- فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ- اخْتِلَافُ الْعَامِلِ، وَالْمَالِكِ وَالْوَكِيلِ، وَالْمُوَكِّلِ، فِي الْإِطْلَاقِ، وَالتَّقْيِيدِ.
- الْإِقْرَارُ الْمُطْلَقُ.
- الْوَقْفُ الْمُطْلَقُ.
- وَفِي الظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ.
- الْإِطْلَاقُ فِي الْإِجَارَةِ.
- الْإِطْلَاقُ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ.
- الْقَضَاءُ- فِي تَعْرِيفِ الْحُكْمِ، وَهَلْ هُوَ إِنْشَاءُ إِلْزَامٍ أَمْ إِطْلَاقٌ؟
- الْإِطْلَاقُ فِي التَّصَرُّفَاتِ عَنِ الْغَيْرِ.
- تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ بِالْعُرْفِ، وَقَدْ أَفْرَدَ السُّيُوطِيُّ الْمَبْحَثَ الْخَامِسَ مِنْ كِتَابِ الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ فِي كُلِّ مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ مُطْلَقًا، وَلَا ضَابِطَ لَهُ فِيهِ وَلَا فِي اللُّغَةِ.- حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ.
- تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ بِمَا يُخَصَّصُ بِهِ الْعَامُّ.
- النَّذْرُ الْمُطْلَقُ وَالتَّحَلُّلُ مِنْهُ.وَتَفْصِيلُ كُلِّ مَسْأَلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي بَابِهَا.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
257-موسوعة الفقه الكويتية (اعتكاف 2)
اعْتِكَافٌ -2الِاشْتِرَاطُ فِي الِاعْتِكَافِ:
26- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ الشَّرْطِ وَصِحَّتِهِ فِي الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى إِلْغَاءِ الشَّرْطِ.
إِلاَّ أَنَّ الْجُمْهُورَ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَصِحُّ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ الشَّرْطِ أَوْ لَا يَدْخُلُ.
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوِ اشْتَرَطَ وَقْتَ النَّذْرِ أَنْ يَخْرُجَ لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ وَصَلَاةِ جِنَازَةٍ وَحُضُورِ مَجْلِسِ عِلْمٍ جَازَ ذَلِكَ.وَهَذَا عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ الصَّاحِبَيْنِ فَالْأَمْرُ أَوْسَعُ.أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا فِي الْمُعْتَمَدِ: لَوِ اشْتَرَطَ الْمُعْتَكِفُ لِنَفْسِهِ سُقُوطَ الْقَضَاءِ عَنْهُ- عَلَى فَرْضِ حُصُولِ عُذْرٍ أَوْ مُبْطِلٍ- لَا يَنْفَعُهُ اشْتِرَاطُ سُقُوطِ الْقَضَاءِ، وَشَرْطُهُ لَغْوٌ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إِنْ حَصَلَ مُوجِبُهُ، وَاعْتِكَافُهُ صَحِيحٌ.وَلَهُمْ قَوْلٌ آخَرُ بِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ، وَقَوْلٌ ثَالِثٌ بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ الِاشْتِرَاطَاتِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الِاعْتِكَافِ فَلَا يَنْعَقِدُ الِاعْتِكَافُ، أَوْ بَعْدَ الدُّخُولِ فَيَلْغُو الشَّرْطُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الِاعْتِكَافَ لَزِمَ بِالْتِزَامِهِ فَيَجِبُ بِحَسَبِ مَا الْتَزَمَهُ.
فَإِذَا اشْتَرَطَ الْمُعْتَكِفُ الْخُرُوجَ لِعَارِضٍ مُبَاحٍ مَقْصُودٍ غَيْرِ مُنَافٍ لِلِاعْتِكَافِ صَحَّ الشَّرْطُ.
فَإِنِ اشْتَرَطَهُ لِخَاصٍّ مِنَ الْأَغْرَاضِ، كَعِيَادَةِ الْمَرْضَى خَرَجَ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَهَمَّ مِنْهُ.وَإِنِ اشْتَرَطَهُ لِأَمْرٍ عَامٍّ كَشُغْلٍ يَعْرِضُ لَهُ خَرَجَ لِكُلِّ مُهِمٍّ دِينِيٍّ كَالْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ، أَوْ دُنْيَوِيٍّ مُبَاحٍ، كَاقْتِضَاءِ الْغَرِيمِ، فَلَيْسَ لَهُ الْخُرُوجُ لِأَجْلِ الْحَرَامِ.
وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ «مَقْصُودٍ» مَا لَوْ شَرَطَهُ، أَوْ لِغَيْرِ مَقْصُودٍ كَنُزْهَةٍ أَوْ فُرْجَةٍ، كَإِتْيَانِ أَهْلِهِ، فَإِذَا اشْتَرَطَ الْخُرُوجَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوِ اشْتَرَطَ الْخُرُوجَ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ أَوِ الْإِجَارَةِ، أَوِ التَّكَسُّبِ بِالصِّنَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ بِلَا خِلَافٍ.
وَلَوْ قَالَ: مَتَى مَرِضْتُ أَوْ عَرَضَ لِي عَارِضٌ خَرَجْتُ فَلَهُ شَرْطُهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ.
وَمَحَلُّ ذَلِكَ فِي الِاعْتِكَافِ الْمُتَتَابِعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَدَارُكُ مَا فَاتَهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: نَذَرْتُ هَذَا الشَّهْرَ إِلاَّ كَذَا.فَيَكُونُ الْمَنْذُورُ شَهْرًا، وَالْمَشْرُوطُ مُسْتَثْنًى مِنْهُ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَإِنَّ فَائِدَةَ الشَّرْطِ عِنْدَهُمْ سُقُوطُ الْقَضَاءِ فِي الْمُدَّةِ الْمُعَيَّنَةِ.
أَمَّا لَوْ نَذَرَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا، فَلَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ مِنْهُ إِلاَّ لِمَرَضٍ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ زَمَنِ الْمَرَضِ، لِإِمْكَانِ حَمْلِ شَرْطِهِ هُنَا عَلَى نَفْيِ التَّتَابُعِ فَقَطْ، فَنُزِّلَ عَلَى الْأَقَلِّ، وَيَكُونُ الشَّرْطُ قَدْ أَفَادَ هُنَا الْبِنَاءَ مَعَ سُقُوطِ الْقَضَاءِ.
مَا يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ:
يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ مَا يَلِي:
الْأَوَّلُ- الْجِمَاعُ وَدَوَاعِيهِ:
27- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِمَاعَ فِي الِاعْتِكَافِ حَرَامٌ وَمُبْطِلٌ لَهُ، لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا، إِنْ كَانَ عَامِدًا.وَكَذَا إِنْ فَعَلَهُ نَاسِيًا لِاعْتِكَافِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ حُرْمَةَ الْجِمَاعِ وَإِفْسَادَهُ.لِلِاعْتِكَافِ لَا يَكُونُ إِلاَّ مِنْ عَالِمٍ بِتَحْرِيمِهِ ذَاكِرٍ لِلِاعْتِكَافِ، سَوَاءٌ أَجَامَعَ فِي الْمَسْجِدِ أَمْ خَارِجَهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوْ نَحْوِهَا، لِمُنَافَاتِهِ الْعِبَادَةَ الْبَدَنِيَّةَ.وَالْبُطْلَانُ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَقْبَلِ، أَمَّا مَا مَضَى فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ فِي الْجُمْلَةِ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُعْرَفُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَأَمَّا دَوَاعِي الْجِمَاعِ كَاللَّمْسِ وَالْقُبْلَةِ، فَإِنَّهَا تُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ إِذَا أَنْزَلَ، فَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ لَمْ يَفْسُدِ اعْتِكَافُهُ، وَالْقَوْلَانِ الْآخَرَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَبْطُلُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: لَا يَبْطُلُ.
قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهُ إِذَا قَبَّلَ وَقَصَدَ اللَّذَّةَ، أَوْ لَمَسَ، أَوْ بَاشَرَ بِقَصْدِهَا، أَوْ وَجَدَهَا بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَاسْتَأْنَفَهُ مِنْ أَوَّلِهِ، فَلَوْ قَبَّلَ صَغِيرَةً لَا تُشْتَهَى، أَوْ قَبَّلَ زَوْجَتَهُ لِوَدَاعٍ أَوْ رَحْمَةٍ، وَلَمْ يَقْصِدْ لَذَّةً وَلَا وَجَدَهَا لَمْ يَبْطُلْ.ثُمَّ إِنَّ اشْتِرَاطَ الشَّهْوَةِ فِي الْقُبْلَةِ إِذَا كَانَتْ فِي غَيْرِ الْفَمِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ فِيهِ فَلَا تُشْتَرَطُ الشَّهْوَةُ عَلَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّهُ يُبْطِلُهُ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْوَطْءِ مَا يُبْطِلُ الْوُضُوءَ.
وَقَدْ نَصُّوا عَلَى تَحْرِيمِ الْوَطْءِ فِي الْمَسْجِدِ مُطْلَقًا لِكَرَامَتِهِ، وَوَطْءُ الْمُعْتَكِفَةِ مُفْسِدٌ لِاعْتِكَافِهَا.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْجِمَاعَ الْمُفْسِدَ لِلِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ الْمُتَتَابِعِ مِنَ الْمُعْتَكِفِ الذَّاكِرِ لَهُ الْعَالِمِ بِتَحْرِيمِهِ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ هُوَ قَوْلُ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ إِلاَّ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالزُّهْرِيُّ، فَقَالَا: عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْوَاطِئِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ.
وَعَنِ الْحَسَنِ رِوَايَةٌ أُخْرَى هِيَ أَنَّهُ يُعْتِقُ رَقَبَةً، فَإِنْ عَجَزَ أَهْدَى بَدَنَةً، فَإِنْ عَجَزَ تَصَدَّقَ بِعِشْرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ.وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: هِيَ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هِيَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.
الثَّانِي- الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ:
28- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْمَسْجِدِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ (وَكَذَلِكَ خُرُوجُ الْمَرْأَةِ مِنْ مَسْجِدِ بَيْتِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) إِذَا كَانَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ الْوَاجِبَ، وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ- فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ- بِالْوَاجِبِ الِاعْتِكَافَ الْمَنْدُوبَ أَيْضًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْخُرُوجُ يَسِيرًا أَمْ كَثِيرًا.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْخُرُوجُ لِحَاجَةٍ فَلَا يُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْحَاجَةِ الَّتِي لَا تَقْطَعُ الِاعْتِكَافَ وَلَا تُفْسِدُهُ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ- الْخُرُوجُ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ الْوَاجِبِ:
29- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَضُرُّ الْخُرُوجُ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالْغُسْلِ الَّذِي وَجَبَ مِمَّا لَا يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ.لَكِنْ إِنْ طَالَ مُكْثُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مُعْتَكَفِهِ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ، لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَوْ بَطَلَ الِاعْتِكَافُ بِخُرُوجِهِ لَهُ لَمْ يَصِحَّ لِأَحَدٍ الِاعْتِكَافُ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَعْتَكِفُ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ لِحَاجَتِهِ.
وَرَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلاَّ لِحَاجَةٍ إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا»
وَلَهُ الْغُسْلُ وَالْوُضُوءُ وَالِاغْتِسَالُ فِي الْمَسْجِدِ إِذَا لَمْ يُلَوِّثِ الْمَسْجِدَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ أَمْكَنَهُ الْوُضُوءُ فِي الْمَسْجِدِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ فِي الْأَصَحِّ، وَالثَّانِي يَجُوزُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ دُخُولِ مَنْزِلِ أَهْلِهِ وَبِهِ أَهْلُهُ- أَيْ زَوْجَتُهُ- إِذَا خَرَجَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، لِئَلاَّ يَطْرَأَ عَلَيْهِ مِنْهُمَا مَا يُفْسِدُ اعْتِكَافَهُ.
أَمَّا إِذَا كَانَ لَهُ مَنْزِلَانِ فَيَلْزَمُهُ أَقْرَبُهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ.
وَإِذَا كَانَتْ هُنَاكَ مِيضَأَةٌ يَحْتَشِمُ مِنْهَا لَا يُكَلَّفُ التَّطَهُّرَ مِنْهَا، وَلَا يُكَلَّفُ الطَّهَارَةَ فِي بَيْتِ صَدِيقِهِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ خَرْمِ الْمُرُوءَةِ، وَتَزِيدُ دَارُ الصِّدِّيقِ بِالْمِنَّةِ بِهَا.
أَمَّا إِذَا كَانَ لَا يَحْتَشِمُ مِنَ الْمِيضَأَةِ فَيُكَلَّفُهَا.
وَأَلْحَقُوا بِالْخُرُوجِ لِمَا تَقَدَّمَ الْخُرُوجَ لِلْقَيْءِ وَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، فَلَا يَفْسُدُ الِاعْتِكَافُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا.
وَلَا يُكَلَّفُ الَّذِي خَرَجَ لِحَاجَةٍ الْإِسْرَاعُ، بَلْ لَهُ الْمَشْيُ عَلَى عَادَتِهِ.
ب- الْخُرُوجُ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ:
30- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْخُرُوجَ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ يُفْسِدُ اعْتِكَافَهُ إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَأْتِيهِ بِهِ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ إِلَى الْخُرُوجِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَجِدْ مَنْ يَأْتِيهِ بِهِ فَلَهُ الْخُرُوجُ، لِأَنَّهُ خُرُوجٌ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ لِلْأَكْلِ، لِأَنَّ الْأَكْلَ فِي الْمَسْجِدِ يُسْتَحْيَا مِنْهُ.وَكَذَا لِلشُّرْبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ مَاءٌ.
وَخَصَّ الشَّافِعِيَّةُ جَوَازَ الْخُرُوجِ لِلْأَكْلِ إِذَا كَانَ اعْتِكَافُهُ فِي مَسْجِدٍ مَطْرُوقٍ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ مَهْجُورًا فَلَا يَحِقُّ لَهُ الْخُرُوجُ.
ج- الْخُرُوجُ لِغُسْلِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ:
31- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْمُعْتَكِفِ الْخُرُوجَ لِغُسْلِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ وَلِحَرٍّ أَصَابَهُ فَلَا يَفْسُدُ الِاعْتِكَافُ خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ لِغُسْلِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ، لِأَنَّهُ نَفْلٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ.فَإِنِ اشْتُرِطَ ذَلِكَ جَازَ.
د- الْخُرُوجُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ:
32- مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ، وَكَانَ اعْتِكَافُهُ مُتَتَابِعًا، وَاعْتَكَفَ فِي مَسْجِدٍ لَا تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ فَهُوَ آثِمٌ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، لِأَنَّهَا فَرْضٌ.
فَإِذَا خَرَجَ لِلْجُمُعَةِ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ خُرُوجَهُ لِلْجُمُعَةِ لَا يُفْسِدُ اعْتِكَافَهُ، لِأَنَّهُ خُرُوجٌ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، كَالْخُرُوجِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ.
وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ خُرُوجَ الْمُعْتَكِفِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ يُفْسِدُ اعْتِكَافَهُ وَعَلَيْهِ الِاسْتِئْنَافُ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ مِنَ الْخُرُوجِ، بِأَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ وَخَرَجَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مَا لَوْ شَرَطَ الْخُرُوجَ فِي اعْتِكَافِهِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّ شَرْطَهُ يَصِحُّ، وَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ بِخُرُوجِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخُرُوجَ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ يَكُونُ وَقْتَ الزَّوَالِ، وَمَنْ بَعُدَ مَسْجِدُ اعْتِكَافِهِ خَرَجَ فِي وَقْتٍ يُدْرِكُهَا.أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا بِجَوَازِ التَّبْكِيرِ إِلَيْهَا.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ التَّعْجِيلُ بِالرُّجُوعِ إِلَى مَكَانِ الِاعْتِكَافِ.لَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعْجِيلُ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِلِاعْتِكَافِ، وَكُرِهَ تَنْزِيهًا الْمُكْثُ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لِمُخَالَفَةِ مَا الْتَزَمَهُ بِلَا ضَرُورَةٍ.
هـ- الْخُرُوجُ لِعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ:
33- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْخُرُوجِ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ إِلَى الْخُرُوجِ، إِلاَّ إِذَا اشْتُرِطَ الْخُرُوجُ لَهُمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَمَحَلُّ ذَلِكَ مَا إِذَا خَرَجَ لِقَصْدِ الْعِيَادَةِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ.أَمَّا إِذَا خَرَجَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ ثُمَّ عَرَجَ عَلَى مَرِيضٍ لِعِيَادَتِهِ، أَوْ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِشَرْطٍ أَلاَّ يَطُولَ مُكْثُهُ عِنْدَ الْمَرِيضِ، أَوْ بَعْدَ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، بِأَنْ لَا يَقِفَ عِنْدَ الْمَرِيضِ إِلاَّ بِقَدْرِ السَّلَامِ، لِقَوْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «إِنْ كُنْتُ أَدْخُلُ الْبَيْتَ لِلْحَاجَةِ، وَالْمَرِيضُ فِيهِ فَمَا أَسْأَلُ عَنْهُ إِلاَّ وَأَنَا مَارَّةٌ».
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ مَرْفُوعًا عَنْهَا: «أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- كَانَ يَمُرُّ بِالْمَرِيضِ، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَيَمُرُّ كَمَا هُوَ وَلَا يُعَرِّجُ يَسْأَلُ عَنْهُ». فَإِنْ طَالَ وُقُوفُهُ عُرْفًا، أَوْ عَدَلَ عَنْ طَرِيقِهِ وَإِنْ قَلَّ لَمْ يَجُزْ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُنْتَقَضُ الِاعْتِكَافُ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ مَعَ الْجُمْهُورِ فِي فَسَادِ الِاعْتِكَافِ لِخُرُوجِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا الْخُرُوجَ لِعِيَادَةِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ الْمَرِيضَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا، وَذَلِكَ لِبِرِّهِمَا فَإِنَّهُ آكَدُ مِنَ الِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ، وَيَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ بِهِ وَيَقْضِيهِ.
و- الْخُرُوجُ فِي حَالَةِ النِّسْيَانِ:
34- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْمَسْجِدِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا يُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ.وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ حَالَةَ الِاعْتِكَافِ مُذَكِّرَةٌ، وَوُقُوعُ ذَلِكَ نَادِرٌ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْعُذْرُ فِيمَا يَغْلِبُ وُقُوعُهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ الْبُطْلَانِ إِذَا خَرَجَ نَاسِيًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «عُفِيَ لأُِمَّتِي عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».
ز- الْخُرُوجُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ:
35- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخُرُوجَ لِأَجْلِ الشَّهَادَةِ مُفْسِدٌ لِلِاعْتِكَافِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ شَهَادَةٌ، بِأَلاَّ يَكُونَ هُنَاكَ غَيْرُهُ، أَوْ لَا يَتِمُّ النِّصَابُ إِلاَّ بِهِ، لَا يَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ لِأَدَائِهَا، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا فِي الْمَسْجِدِ إِمَّا بِحُضُورِ الْقَاضِي، أَوْ تُنْقَلُ عَنْهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ مَتَى تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ وَيَأْثَمُ بِعَدَمِ الْخُرُوجِ، وَكَذَلِكَ التَّحَمُّلُ لِلشَّهَادَةِ إِذَا تَعَيَّنَ، فَيَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ وَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ بِذَلِكَ الْخُرُوجِ، لِأَنَّهُ خُرُوجٌ وَاجِبٌ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَمَّا إِذَا لَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، فَيَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ بِالْخُرُوجِ. ح- الْخُرُوجُ لِلْمَرَضِ:
الْمَرَضُ عَلَى قِسْمَيْنِ:
36- الْمَرَضُ الْيَسِيرُ الَّذِي لَا تَشُقُّ مَعَهُ الْإِقَامَةُ فِي الْمَسْجِدِ كَصُدَاعٍ وَحُمَّى خَفِيفَةٍ وَغَيْرِهِمَا لَا يَجُوزُ مَعَهُ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ إِذَا كَانَ اعْتِكَافُهُ مَنْذُورًا مُتَتَابِعًا، فَإِنْ خَرَجَ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَيْهِ.
37- أَمَّا الْمَرَضُ الشَّدِيدُ الَّذِي يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْبَقَاءُ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ لَا يُمْكِنُ الْبَقَاءُ مَعَهُ فِي الْمَسْجِدِ، بِأَنْ يَحْتَاجَ إِلَى خِدْمَةٍ أَوْ فِرَاشٍ أَوْ مُرَاجَعَةِ طَبِيبٍ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ خُرُوجَهُ مُفْسِدٌ لِاعْتِكَافِهِ، فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: إِذَا خَرَجَ سَاعَةً بِعُذْرِ الْمَرَضِ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ.هَكَذَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ.عِلْمًا بِأَنَّ مَذْهَبَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ اعْتِبَارُ نِصْفِ النَّهَارِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ وَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ التَّتَابُعُ، وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى إِذَا شُفِيَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَرَضُ مِمَّا يَتَلَوَّثُ بِهِ الْمَسْجِدُ كَالْقَيْءِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ التَّتَابُعُ.
أَمَّا الْخُرُوجُ حَالَةَ الْإِغْمَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ الِاعْتِكَافَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِاخْتِيَارِهِ.
قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَيَّامًا، أَوْ أَصَابَهُ لَمَمٌ (جُنُونٌ) فَسَدَ اعْتِكَافُهُ، وَعَلَيْهِ إِذَا بَرَأَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ، لِأَنَّهُ لَزِمَهُ مُتَتَابِعًا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمَرَضَ وَالْإِغْمَاءَ يُحْسَبَانِ مِنَ الِاعْتِكَافِ وَفِي مَعْنَى الْمَرَضِ هَذَا، الْخَوْفُ مِنْ لِصٍّ أَوْ حَرِيقٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
ط- الْخُرُوجُ لِانْهِدَامِ الْمَسْجِدِ:
38- إِذَا انْهَدَمَ الْمَسْجِدُ فَخَرَجَ مِنْهُ لِيُقِيمَ اعْتِكَافَهُ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ صَحَّ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اسْتِحْسَانًا، وَكَذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ.
ي- الْخُرُوجُ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ:
39- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخُرُوجَ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ لِحُكُومَةٍ لَا يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ قَبْلَ تَمَامِ الِاعْتِكَافِ.إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ إِذَا دَخَلَ الْمُعْتَكِفُ مَسْجِدًا آخَرَ مِنْ سَاعَتِهِ.وَهَذَا اسْتِحْبَابٌ مِنْهُمْ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَدْخُلْ مَسْجِدًا آخَرَ، فَيَبْقَى الْحُكْمُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَهُوَ الْبُطْلَانُ.
ك- خُرُوجُ الْمُعْتَكِفِ بِغَيْرِ عُذْرٍ:
40- تَقَدَّمَ أَنَّ خُرُوجَ الْمُعْتَكِفِ إِنْ كَانَ بِعُذْرٍ طَبِيعِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ جَازَ لَهُ الْخُرُوجُ عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ.
أَمَّا إِذَا خَرَجَ الْمُعْتَكِفُ بِدُونِ عُذْرٍ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ- حَسَبَ اعْتِبَارِ الْفُقَهَاءِ لِلْعُذْرِ وَعَدَمِهِ- وَلَوْ كَانَ زَمَنُ الْخُرُوجِ يَسِيرًا، إِلاَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُمَا قَيَّدَا زَمَنَ الْمُفْسِدِ بِأَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ. ل- حَدُّ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ:
41- حَدُّ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ أَنْ يَخْرُجَ بِجَمِيعِ جَسَدِهِ، فَإِنْ خَرَجَ بِبَعْضِهِ لَمْ يَضُرَّ، لِقَوْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُدْنِي إِلَيَّ رَأْسَهُ وَأَنَا فِي حُجْرَتِي، فَأُرَجِّلُ رَأْسَهُ وَأَنَا حَائِضٌ».
م- مَا يُعْتَبَرُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَمَا لَا يُعْتَبَرُ:
42- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْجِدِ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ الِاعْتِكَافُ، مَا كَانَ بِنَاءً مُعَدًّا لِلصَّلَاةِ فِيهِ.
أَمَّا رَحْبَةُ الْمَسْجِدِ، وَهِيَ سَاحَتُهُ الَّتِي زِيدَتْ بِالْقُرْبِ مِنَ الْمَسْجِدِ لِتَوْسِعَتِهِ، وَكَانَتْ مُحَجَّرًا عَلَيْهَا، فَاَلَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا مِنَ الْمَسْجِدِ، وَجَمَعَ أَبُو يَعْلَى بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّ الرَّحْبَةَ الْمَحُوطَةَ وَعَلَيْهَا بَابٌ هِيَ مِنَ الْمَسْجِدِ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ رَحْبَةَ الْمَسْجِدِ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَلَوِ اعْتَكَفَ فِيهَا صَحَّ اعْتِكَافُهُ، وَأَمَّا سَطْحُ الْمَسْجِدِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ صُعُودُ سَطْحِ الْمَسْجِدِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا.
أَمَّا الْمَنَارَةُ فَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ بَابِهَا فِيهِ فَهِيَ مِنَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَإِنْ كَانَ بَابُهَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ أَوْ فِي رَحْبَتِهِ فَهِيَ مِنْهُ، وَيَصِحُّ فِيهَا الِاعْتِكَافُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَإِنْ كَانَ بَابُهَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ فَيَجُوزُ أَذَانُ الْمُعْتَكِفِ فِيهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ مُؤَذِّنًا أَمْ غَيْرَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْمُؤَذِّنِ الرَّاتِبِ وَغَيْرِهِ، فَيَجُوزُ لِلرَّاتِبِ الْأَذَانُ فِيهَا وَهُوَ مُعْتَكِفٌ دُونَ غَيْرِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ الْأَصَحُّ.
الثَّالِثُ مِنَ الْمُفْسِدَاتِ- الْجُنُونُ:
43- إِذَا طَرَأَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ الْجُنُونُ، وَكَانَ زَمَنُهُ قَلِيلًا فَإِنَّهُ لَا يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ فِي قَوْلِ الْفُقَهَاءِ جَمِيعًا.أَمَّا إِذَا طَالَ الْجُنُونُ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ الِاعْتِكَافَ، وَمَتَى أَفَاقَ بَنَى.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقِيَاسَ سُقُوطُ الْقَضَاءِ قِيَاسًا عَلَى سُقُوطِ قَضَاءِ الصَّوْمِ إِذَا جُنَّ، إِلاَّ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ أَنَّهُ يَقْضِي إِذَا طَالَ جُنُونُهُ سَنَةً فَأَكْثَرَ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إِنَّمَا كَانَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ، لِأَنَّ الْجُنُونَ إِذَا طَالَ قَلَّمَا يَزُولُ، فَيَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَ فَيُحْرَجُ فِي قَضَائِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فِي الِاعْتِكَافِ.
وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِيهِ، هَلْ يَبْنِي أَوْ يَبْتَدِئُ؟ بِنَاءً عَلَى خِلَافِهِمْ فِي بُطْلَانِ الصَّوْمِ. الرَّابِعُ- الرِّدَّةُ:
44- يَبْطُلُ الِاعْتِكَافُ بِالرِّدَّةِ عَلَى قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، لَكِنْ إِذَا تَابَ وَأَسْلَمَ هَلْ يَجِبُ اسْتِئْنَافُ الِاعْتِكَافِ؟
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الِاسْتِئْنَافِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقَضَاءُ لَمَّا بَطَلَ بِرِدَّتِهِ، وَلَا يَبْنِي عَلَى مَا مَضَى.لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرُ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ».
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وُجُوبُ الِاسْتِئْنَافِ.
الْخَامِسُ- السُّكْرُ:
45- ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ السُّكْرَ بِالْحَرَامِ مُفْسِدٌ لِلِاعْتِكَافِ، وَعَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِذَا كَانَ بِسَبَبٍ حَرَامٍ.وَلَمْ يَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ مُفْسِدًا إِنْ وَقَعَ لَيْلًا، أَمَّا إِنْ كَانَ فِي النَّهَارِ فَإِنَّهُ يُبْطِلُ الصَّوْمَ فَيَبْطُلُ الِاعْتِكَافُ، لِأَنَّهُ كَالْإِغْمَاءِ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ.وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ بِالسُّكْرِ الْحَرَامِ اسْتِعْمَالَ الْمُخَدِّرِ إِذَا خَدَّرَهُ.
السَّادِسُ: الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ:
46- يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ، إِذْ يَحْرُمُ عَلَيْهِمَا الْمُكْثُ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْحَيْضَ وَالنِّفَاسَ يَقْطَعَانِ الصِّيَامَ.
وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ يَبْنِيَانِ وُجُوبًا وَفَوْرًا- فِي نَذْرِ الِاعْتِكَافِ الْمُتَتَابِعِ- بِمُجَرَّدِ زَوَالِ الْعُذْرِ، فَإِذَا تَأَخَّرَتَا بَطَلَ الِاعْتِكَافُ.وَلَا يُحْسَبُ زَمَنُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسُ مِنَ الِاعْتِكَافِ.
وَأَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ، فَإِنَّهَا إِنْ أَمِنَتِ التَّلْوِيثَ لَمْ تَخْرُجْ عَنِ اعْتِكَافِهَا، فَإِنْ خَرَجَتْ بَطَلَ اعْتِكَافُهَا.
وَشَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ لِعَدَمِ انْقِطَاعِ الِاعْتِكَافِ بِالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ أَلاَّ تَكُونَ مُدَّةُ الِاعْتِكَافِ بِحَيْثُ تَخْلُو عَنِ الْحَيْضِ، فَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الِاعْتِكَافِ بِحَيْثُ تَخْلُو عَنِ الْحَيْضِ انْقَطَعَ التَّتَابُعُ فِي الْأَظْهَرِ، لِإِمْكَانِ الْمُوَالَاةِ بِشُرُوعِهَا عَقِبَ الطُّهْرِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَنْقَطِعُ، لِأَنَّ جِنْسَ الْحَيْضِ مِمَّا يَتَكَرَّرُ فِي الْجُمْلَةِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِي التَّتَابُعِ كَقَضَاءِ الْحَاجَةِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ لِلْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ إِلَى بَيْتِهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ، لِلْمَسْجِدِ رَحْبَةٌ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي كُتُبِهِمْ.
مَا يُبَاحُ لِلْمُعْتَكِفِ وَمَا يُكْرَهُ لَهُ:
47- كَرِهَ الْعُلَمَاءُ لِلْمُعْتَكِفِ فُضُولَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَا يُعْتَبَرُ مَكْرُوهًا أَوْ مُبَاحًا عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي:
أ- الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالنَّوْمُ:
يُبَاحُ لِلْمُعْتَكِفِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالنَّوْمُ فِي الْمَسْجِدِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ اعْتِكَافَ مَنْ لَا يَجِدُ مَنْ يَأْتِيهِ بِحَاجَتِهِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَكْرُوهٌ.أَمَّا النَّوْمُ لِلْمُعْتَكِفِ فَمَحَلُّهُ الْمَسْجِدُ، لِأَنَّ خُرُوجَهُ لِلنَّوْمِ لَيْسَ بِعُذْرٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ أَنَّ الْخُرُوجَ لِلنَّوْمِ جَائِزٌ.
ب- الْعُقُودُ وَالصَّنَائِعُ فِي الْمَسْجِدِ:
48- يُبَاحُ عَقْدُ الْبَيْعِ وَعَقْدُ النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ لِنَفْسِهِ أَوْ عِيَالِهِ، فَلَوْ لِتِجَارَةٍ كُرِهَ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ إِلاَّ لِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ وُقُوفٍ لِذَلِكَ.
أَمَّا إِذَا خَرَجَ لِأَجْلِهَا فَسَدَ اعْتِكَافُهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ لِنَفْسِهِ، وَأَنْ يُنْكِحَ مَنْ فِي وِلَايَتِهِ فِي مَجْلِسِهِ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ انْتِقَالٍ وَلَا طُولِ مُدَّةٍ، وَإِلاَّ كُرِهَ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ إِحْضَارَ الْمَبِيعِ فِي الْمَسْجِدِ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا، لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُحَرَّزٌ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ.
49- وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ الْكِتَابَةِ لِلْمُعْتَكِفِ وَإِنْ كَانَ مُصْحَفًا أَوْ عِلْمًا إِنْ كَثُرَ، وَلَا بَأْسَ بِالْيَسِيرِ وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى.
وَعَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ لِلثَّوَابِ لَا لِلْأُجْرَةِ، بَلْ لِيَقْرَأَ فِيهِ وَيَنْتَفِعَ مَنْ كَانَ مُحْتَاجًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِلْمُعْتَكِفِ الصَّنَائِعُ فِي الْمَسْجِدِ كَالْخِيَاطَةِ وَالْكِتَابَةِ مَا لَمْ يَكْثُرْ مِنْهَا، فَإِنْ أَكْثَرَ مِنْهَا كُرِهَتْ لِحُرْمَتِهِ، إِلاَّ كِتَابَةُ الْعِلْمِ، فَلَا يُكْرَهُ الْإِكْثَارُ مِنْهَا، لِأَنَّهَا طَاعَةٌ لِتَعْلِيمِ الْعِلْمِ.
أَمَّا إِذَا احْتَرَفَ الْخِيَاطَةَ وَالْمُعَاوَضَاتِ مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ بِلَا حَاجَةٍ فَتُكْرَهُ وَإِنْ قَلَّتْ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ التَّكَسُّبُ بِالصَّنْعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، كَالْخِيَاطَةِ وَغَيْرِهَا وَالْكَثِيرُ وَالْقَلِيلُ وَالْمُحْتَاجُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ.
ج- الصَّمْتُ:
50- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّمْتَ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا حَالَةَ الِاعْتِكَافِ إِنِ اعْتَقَدَهُ قُرْبَةً، أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْتَقِدْهُ قُرْبَةً فَلَا، لِحَدِيثِ «مَنْ صَمَتَ نَجَا» وَيَجِبُ الصَّمْتُ عَنِ الْغَيْبَةِ وَإِنْشَادِ الشِّعْرِ الْقَبِيحِ وَتَرْوِيجِ سِلْعَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ التَّقَرُّبَ بِالصَّمْتِ لَيْسَ مِنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ.قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يُكْرَهُ الصَّمْتُ إِلَى اللَّيْلِ.وَقَالَ الْمُوَفَّقُ وَالْمَجْدُ: ظَاهِرُ الْأَخْبَارِ تَحْرِيمُهُ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْكَافِي، قَالَ فِي الِاخْتِيَارَاتِ: وَالتَّحْقِيقُ فِي الصَّمْتِ أَنَّهُ إِنْ طَالَ حَتَّى تَضَمَّنَ تَرْكَ الْكَلَامِ الْوَاجِبِ صَارَ حَرَامًا، وَكَذَا إِنْ تَعَمَّدَ بِالصَّمْتِ عَنِ الْكَلَامِ الْمُسْتَحَبِّ، وَالْكَلَامُ الْمُحَرَّمُ يَجِبُ الصَّمْتُ عَنْهُ، وَفُضُولُ الْكَلَامِ يَنْبَغِي الصَّمْتُ عَنْهَا، وَإِنْ نَذَرَ الصَّمْتَ لَمْ يَفِ بِهِ، لِحَدِيثِ عَلِيٍّ قَالَ: «حَفِظْتُ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَا صُمَاتَ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ».
د- الْكَلَامُ:
51- يَنْبَغِي لِلْمُعْتَكِفِ أَلاَّ يَتَكَلَّمَ إِلاَّ بِخَيْرٍ، وَأَنْ يَشْتَغِلَ بِالْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ وَالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَالذِّكْرِ، لِأَنَّهُ طَاعَةٌ فِي طَاعَةٍ، وَكَتَدْرِيسِ سِيرَةِ الرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام- وَقَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَحِكَايَاتِ الصَّالِحِينَ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ لِلْمُعْتَكِفِ تَحْرِيمًا التَّكَلُّمُ إِلاَّ بِخَيْرٍ، وَهُوَ مَا لَا إِثْمَ فِيهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِغَيْرِ الذِّكْرِ وَالتِّلَاوَةِ وَالصَّلَاةِ مَكْرُوهٌ، أَمَّا هَذِهِ الثَّلَاثَةُ فَفِعْلُهَا مُسْتَحَبٌّ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ لَهُ اجْتِنَابُ مَا لَا يَعْنِيهِ مِنْ جِدَالٍ وَمِرَاءٍ وَكَثْرَةِ كَلَامٍ وَغَيْرِهِ، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام- «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ»، لِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ فِي غَيْرِ الِاعْتِكَافِ فَفِيهِ أَوْلَى.
رَوَى الْخَلاَّلُ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: » كَانُوا يَكْرَهُونَ فُضُولَ الْكَلَامِ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ فُضُولَ الْكَلَامِ: مَا عَدَا كِتَابَ اللَّهِ أَنْ تَقْرَأَهُ، أَوْ أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ، أَوْ تَنْطِقُ فِي مَعِيشَتِكَ بِمَا لَا بُدَّ لَكَ مِنْهُ».
وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِلْمُعْتَكِفِ الِاشْتِغَالُ بِتَدْرِيسِ الْعِلْمِ وَمُنَاظَرَةِ الْفُقَهَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَخْتَصُّ نَفْعُهَا بِهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَعْتَكِفُ، فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ الِاشْتِغَالُ بِغَيْرِ الْعِبَادَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ.
وَعِنْدَ ابْنِ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ اسْتِحْبَابُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِرِّ إِذَا قَصَدَ الطَّاعَةَ لَا الْمُبَاهَاةَ. هـ- الطِّيبُ وَاللِّبَاسُ
52- يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَتَطَيَّبَ بِأَنْوَاعِ الطِّيبِ فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ رَجُلًا أَمِ امْرَأَةً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِهِمْ.
وَكَذَا يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَخْذُ الظُّفْرِ وَالشَّارِبِ، وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ الْجَوَازَ بِكَوْنِهِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ إِذَا خَرَجَ لِعُذْرٍ.
أَمَّا حَلْقُ الرَّأْسِ، فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ مُطْلَقًا إِلاَّ أَنْ يَتَضَرَّرَ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ التَّصْرِيحَ بِجَوَازِ لُبْسِ الثِّيَابِ الْحَسَنَةِ، لِأَصْلِ الْإِبَاحَةِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ لِلْمُعْتَكِفِ تَرْكُ لُبْسِ رَفِيعِ الثِّيَابِ، وَالتَّلَذُّذُ بِمَا يُبَاحُ لَهُ قَبْلَ الِاعْتِكَافِ، وَيُكْرَهُ لَهُ الطِّيبُ.قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَتَطَيَّبَ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
258-موسوعة الفقه الكويتية (ألبسة 1)
أَلْبِسَةٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الْأَلْبِسَةُ: جَمْعُ لِبَاسٍ، وَهُوَ مَا يَسْتُرُ الْبَدَنَ وَيَدْفَعُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ، وَمِثْلُهُ الْمَلْبَسُ، وَاللِّبْسُ بِالْكَسْرِ.وَلِبْسُ الْكَعْبَةِ وَالْهَوْدَجِ: كِسْوَتُهُمَا.
وَيُقَالُ: لَبِسْتُ امْرَأَةً، أَيْ تَمَتَّعْتُ بِهَا زَمَانًا.وَلِبَاسُ كُلِّ شَيْءٍ غِشَاؤُهُ.وَاللَّبُوسُ بِفَتْحِ اللاَّمِ مَا يُلْبَسُ، وقوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} يَعْنِي الدِّرْعَ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}..
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2- اسْتِعْمَالُ اللِّبَاسِ تَعْتَرِيهِ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ: فَالْفَرْضُ مِنْهُ: مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَيَدْفَعُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ، قَالَ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} أَيْ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَكُمْ عِنْدَ الصَّلَاةِ.
وَالْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ أَوِ الْمُسْتَحَبُّ: هُوَ مَا يَحْصُلُ بِهِ أَصْلُ الزِّينَةِ وَإِظْهَارُ النِّعْمَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّك فَحَدِّثْ} وَعَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ
أَبِيهِ قَالَ: « دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَرَآنِي سَيِّئَ الْهَيْئَةِ فَقَالَ: أَلَكَ شَيْءٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، مِنْ كُلِّ الْمَالِ قَدْ آتَانِي اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالَ: إِذَا كَانَ لَكَ مَالٌ فَلْيُرَ عَلَيْكَ ».
وَعَنِ ابْنِ عَمْرٍو- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ ».
وَمِنَ الْمَنْدُوبِ: اللُّبْسُ لِلتَّزَيُّنِ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَمَجَامِعِ النَّاسِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « مَا عَلَى أَحَدِكُمْ إِنْ وَجَدَ سَعَةً أَنْ يَتَّخِذَ ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ غَيْرَ ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ » وَمَحَلُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّكَبُّرِ.
وَالْمَكْرُوهُ: هُوَ اللِّبَاسُ الَّذِي يَكُونُ مَظِنَّةً لِلتَّكَبُّرِ وَالْخُيَلَاءِ، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ ».
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: كُلْ مَا شِئْتَ، وَالْبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ: سَرَفٌ وَمَخِيلَةٌ وَالْمَخِيلَةُ هِيَ الْكِبْرُ.وَقَالَ «عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَمِنَ الْكِبْرِ أَنْ يَكُونَ لِي الْحُلَّةُ فَأَلْبَسُهَا؟ قَالَ: لَا.قُلْتُ: أَمِنَ الْكِبْرِ أَنْ تَكُونَ لِي رَاحِلَةٌ فَأَرْكَبَهَا؟ قَالَ: لَا.قُلْتُ: أَمِنَ الْكِبْرِ أَنْ أَصْنَعَ طَعَامًا فَأَدْعُوَ أَصْحَابِي؟ قَالَ: لَا.الْكِبْرُ أَنْ تُسَفِّهَ الْحَقَّ وَتَغْمِصَ النَّاسَ » وَسَفَهُ الْحَقِّ: جَهْلُهُ.وَغَمْصُ النَّاسِ: احْتِقَارُهُمْ.
وَالْحَرَامُ: هُوَ اللُّبْسُ بِقَصْدِ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ، لِمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ.وَمِنَ الْحَرَامِ لُبْسُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ مَثَلًا بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَالِ، وَلَوْ بِحَائِلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَدَنِهِ، مَا لَمْ يَدْعُ إِلَى لُبْسِهِ ضَرُورَةٌ، أَوْ مَرَضٌ كَحَكَّةٍ بِهِ، فَيَلْبَسُ الْحَرِيرَ لِذَلِكَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: « أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حَرِيرًا فَجَعَلَهُ فِي يَمِينِهِ، وَذَهَبًا فَجَعَلَهُ فِي شِمَالِهِ.فَقَالَ: إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي ».
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « حُرِّمَ لِبَاسُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، وَأُحِلَّ لِإِنَاثِهِمْ ».
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: إِنَّمَا « نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الثَّوْبِ الْمُصْمَتِ مِنَ الْحَرِيرِ » أَيِ الْخَالِصِ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ شَيْءٌ، وَهَذَا مَا عَلَيْهِ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ.
وَلِتَفْصِيلِهِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (حَرِير) (وَذَهَب).
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ اللِّبَاسِ:
3- لَمَّا كَانَ فِي إِظْهَارِ الْعَوْرَةِ أَمَامَ الْغَيْرِ عَلَى نَحْوِ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِخْلَالٌ بِالصِّفَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْكَرِيمَةِ وَالْآدَابِ الْعَامَّةِ، وَلِمَا يُسَبِّبُهُ كَشْفُهَا مِنْ إِخْلَالٍ بِالْأَخْلَاقِ وَذُيُوعِ مَفَاسِدَ عَظِيمَةِ الْأَثَرِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ، كَانَ لَا بُدَّ لِلشَّارِعِ تَكْرِيمًا لِلْإِنْسَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} وَاحْتِرَامًا لآِدَمِيَّتِهِ، وَتَمْيِيزًا لَهُ عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ- مِنْ أَنْ يَحْفَظَ عَلَيْهِ إِنْسَانِيَّتَهُ، فَأَنْعَمَ عَلَيْهِ بِنِعَمِهِ الَّتِي لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، وَكَانَ مِنْهَا اللِّبَاسُ شِرْعَةً مِنْهُ لِلْآدَمِيِّينَ لِتُسْتَرَ بِهِ عَوْرَاتُهُمْ، وَلِيَكُونَ لَهُمْ بِهَذَا السِّتْرِ مَا يُزَيِّنُهُمْ وَيُجَمِّلُهُمْ، بَدَلًا مِنْ قُبْحِ الْعُرْيِ الَّذِي كَانَ مُتَفَشِّيًا بَيْنَهُمْ وَشَنَاعَتِهِ مَظْهَرًا وَمَخْبَرًا، وَفِي هَذَا يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} وقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} فَقَدْ أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِأَخْذِ الزِّينَةِ وَأَهَمُّهَا سَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَتَفْصِيلُ مَا يَتَّصِلُ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ يُنْظَرُ فِي (اسْتِتَار، وَعَوْرَة، وَصَلَاة).
حُكْمُ الْأَلْبِسَةِ تَبَعًا لِذَوَاتِهَا:
4- الْأَصْلُ فِي اللِّبَاسِ الْحِلُّ مَهْمَا كَانَتِ الْمَادَّةُ الَّتِي صُنِعَ مِنْهَا إِلاَّ مَا وَرَدَ نَصٌّ بِتَحْرِيمِهِ كَالْحَرِيرِ لِلذُّكُورِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (حَرِير).
وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ جُلُودِ الْمَيْتَةِ وَمَا لَا يُزَكَّى، فَإِذَا دُبِغَتْ طَهُرَتْ، وَحَلَّ لُبْسُهَا وَلَوْ فِي الصَّلَاةِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي (إِهَاب) (وَدِبَاغَة).
وَأَمَّا الْمَلَابِسُ الْمَصْنُوعَةُ مِنَ الصُّوفِ أَوِ الشَّعْرِ أَوِ الْوَبَرِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَهِيَ طَاهِرَةٌ حَلَالٌ، سَوَاءٌ أُخِذَتْ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ تَذْكِيَتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنَّمَا حَلَّتْ- وَلَوْ جُزَّتْ مِنَ الْمَيْتَةِ- لِأَنَّهَا لَا تُحِلُّهَا الْحَيَاةُ.
وَفِيمَا أُخِذَ مِنْ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ أَوْ مِنْ نَجِسِ الْعَيْنِ، تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (شَعْر).
لُبْسُ جُلُودِ السِّبَاعِ:
5- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) عَلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِجُلُودِ السِّبَاعِ بِشَرْطِ الدِّبَاغِ لِقَوْلِهِ- عليه السلام-: « أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ »
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الْحَنْبَلِيُّ: لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا قَبْلَ الدَّبْغِ وَلَا بَعْدَهُ، لِمَا رَوَى أَبُو رَيْحَانَةَ قَالَ: « كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ رُكُوبِ النُّمُورِ » أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ.
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ وَالْمِقْدَادِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ « أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَنْهَى عَنْ لُبْسِ جُلُودِ السِّبَاعِ وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا » رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- « نَهَى عَنِ افْتِرَاشِ جُلُودِ السِّبَاعِ »
وَأَمَّا الثَّعَالِبُ فَيُبْنَى حُكْمُهَا عَلَى حِلِّهَا، وَفِيهَا لِلْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ، كَذَلِكَ يُخَرَّجُ فِي جُلُودِهَا، فَإِنْ قِيلَ بِتَحْرِيمِهَا فَحُكْمُ جُلُودِهَا حُكْمُ جُلُودِ بَقِيَّةِ السِّبَاعِ وَكَذَلِكَ السَّنَانِيرُ الْبَرِّيَّةُ.
لُبْسُ الثِّيَابِ الْجَمِيلَةِ:
6- مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُبَاحُ مِنَ الْأَلْبِسَةِ الثَّوْبُ الْجَمِيلُ مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ مُحَرَّمٍ كَالْحَرِيرِ لِلذُّكُورِ، وَيُسْتَحَبُّ التَّزَيُّنُ فِي الْأَعْيَادِ وَالْجُمَعِ وَمَجَامِعِ النَّاسِ، وَذَلِكَ بِدُونِ صَلَفٍ وَلَا خُيَلَاءَ.
وَمَنْ تَرَكَ ذَلِكَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ تَزَمُّتًا أَوْ تَدَيُّنًا فَقَدْ أَخْطَأَ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَدْعُو إِلَيْهِ الشَّرْعُ، وَانْظُرِ الْقُرْطُبِيَّ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}.
الْأَلْبِسَةُ مِنْ حَيْثُ أَلْوَانُهَا وَأَشْكَالُهَا وَصِفَاتُهَا وَمُنَاسَبَتُهَا لِعَادَاتِ النَّاسِ:
تَخْتَلِفُ الْأَلْبِسَةُ مِنْ حَيْثُ أَلْوَانُهَا:
أ- اللَّوْنُ الْأَبْيَضُ:
7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ لُبْسِ مَا كَانَ أَبْيَضَ اللَّوْنِ مِنَ الثِّيَابِ، وَتَكْفِينِ الْمَوْتَى بِهِ، لِحَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: « الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ، فَإِنَّهَا أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ »
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: أَمَّا كَوْنُهُ أَطْيَبَ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا كَوْنُهُ أَطْهَرَ فَلِأَنَّ أَدْنَى شَيْءٍ يَقَعُ عَلَيْهِ يَظْهَرُ،
فَيُغْسَلُ إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ النَّجَاسَةِ، فَيَكُونُ نَقِيًّا.كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- فِي دُعَائِهِ « وَنَقِّنِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ ».
وَقَدِ اسْتَحَبَّ عُمَرُ- رضي الله عنه- لُبْسَ الْبَيَاضِ لِقَارِئِ الْقُرْآنِ.
ب- اللَّوْنُ الْأَحْمَرُ:
8- ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى الْقَوْلِ بِكَرَاهَةِ لُبْسِ مَا لَوْنُهُ أَحْمَرُ مَتَى كَانَ غَيْرَ مَشُوبٍ بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَلْوَانِ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، « لِقَوْلِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ نَهَانَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْمَيَاثِرِ الْحُمْرِ وَالْقِسِيِّ » وَلِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- رضي الله عنهما- « مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَحْمَرَانِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- »
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ لُبْسِ الثَّوْبِ الْأَحْمَرِ إِذَا خَالَطَهُ لَوْنٌ آخَرُ بِأَحَادِيثَ مِنْهَا: حَدِيثُ « هِلَالِ بْنِ عَامِرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِمِنًى يَخْطُبُ عَلَى بَغْلَةٍ، وَعَلَيْهِ بُرْدٌ أَحْمَرُ، وَعَلِيُّ أَمَامَهُ يُعَبِّرُ عَنْهُ » وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: « كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَرْبُوعًا، وَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ، لَمْ أَرَ شَيْئًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ- صلى الله عليه وسلم- ».
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- « كَانَ يَلْبَسُ يَوْمَ الْعِيدِ بُرْدَةً حَمْرَاءَ ».
وَالْمُرَادُ بِالْحُلَّةِ الْحَمْرَاءِ بُرْدَانِ يَمَنِيَّانِ مَنْسُوجَانِ بِخُطُوطٍ حُمْرٍ مَعَ سُودٍ، أَوْ خُضْرٍ، كَسَائِرِ الْبُرُودِ الْيَمَنِيَّةِ، وَوُصِفَتْ بِالْحُمْرَةِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهَا مِنَ الْخُطُوطِ الْحُمْرِ، وَإِلاَّ فَالْأَحْمَرُ الْبَحْتُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ عِنْدَهُمْ وَمَكْرُوهٌ لُبْسُهُ، وَبِهَذَا حَمَلُوا الْأَحَادِيثَ الْمُبِيحَةَ عَلَى أَنَّهَا وَرَدَتْ بِشَأْنِ الْبُرُودِ الْيَمَنِيَّةِ وَهِيَ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى اللَّوْنِ الْأَحْمَرِ وَغَيْرِهِ
وَأَمَّا أَحَادِيثُ النَّهْيِ فَهِيَ خَاصَّةٌ بِمَا كَانَ أَحْمَرَ خَالِصًا لَا يُخَالِطُهُ شَيْءٌ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ لُبْسِ الثَّوْبِ الْأَحْمَرِ الْخَالِصِ غَيْرِ الْمُزَعْفَرِ وَالْمُعَصْفَرِ، لِحَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَحَدِيثِ هِلَالِ بْنِ عَامِرٍ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، وَلِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- « كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَلْبَسُ يَوْمَ الْعِيدِ بُرْدَةً حَمْرَاءَ ».
ج- اللَّوْنُ الْأَسْوَدُ:
9- أَجَازَ الْفُقَهَاءُ لُبْسَ الْأَسْوَدِ بِغَيْرِ كَرَاهَةٍ فِي ذَلِكَ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: « خَرَجَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ غَدَاةٍ، وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ »
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: « رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ » وَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: « صَنَعْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بُرْدَةً سَوْدَاءَ فَلَبِسَهَا فَلَمَّا عَرِقَ فِيهَا وَجَدَ رِيحَ الصُّوفِ فَقَذَفَهَا، وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ ».
وَعَنْ أُمِّ خَالِدٍ قَالَتْ: « أُتِيَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ؟ قَالَ: مَنْ تَرَوْنَ نَكْسُو هَذِهِ الْخَمِيصَةَ؟ فَأُسْكِتَ الْقَوْمُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ، فَأُتِيَ بِي إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَلْبَسَنِيهَا بِيَدِهِ وَقَالَ: أَبْلِي وَأَخْلِقِي مَرَّتَيْنِ وَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَلَمِ الْخَمِيصَةِ وَيُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَيَّ وَيَقُولُ: يَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَا، هَذَا سَنَا ».وَالسَّنَا بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ: الْحَسَنُ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلنِّسَاءِ لِبَاسُ الثِّيَابِ السُّودِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ كَمَا قَالَهُ الشَّوْكَانِيُّ.
د- اللَّوْنُ الْأَصْفَرُ:
10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ الْأَصْفَرِ مَا لَمْ يَكُنْ مُعَصْفَرًا أَوْ مُزَعْفَرًا لِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ: « رَأَيْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ثَوْبَيْنِ أَصْفَرَيْنِ » وَلِقَوْلِ عِمْرَانَ بْنِ مُسْلِمٍ: رَأَيْتُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إِزَارًا أَصْفَرَ.
هـ- اللَّوْنُ الْأَخْضَرُ:
11- ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى اسْتِحْبَابِ لُبْسِهِ لِأَنَّهُ لِبَاسُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، لِمَا فِي قوله تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ}.
وَلِحَدِيثِ أَبِي رِمْثَةَ قَالَ: « رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ ».
و- الْمُخَطَّطُ الْأَلْوَانِ:
12- وَذَلِكَ يَجُوزُ لُبْسُهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: « كَانَ أَحَبُّ الثِّيَابِ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَلْبَسَهَا الْحِبَرَةَ » وَالْحِبَرَةُ هِيَ الثَّوْبُ الْمُخَطَّطُ الْأَلْوَانِ كَمَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ.
مَا يَحْرُمُ أَوْ يُكْرَهُ مِنَ الْأَلْبِسَةِ:
أ- الْأَلْبِسَةُ الَّتِي عَلَيْهَا نُقُوشٌ أَوْ تَصَاوِيرُ أَوْ صُلْبَانٌ أَوْ آيَاتٌ:
13- يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ لُبْسُ الثِّيَابِ الَّتِي عَلَيْهَا تَصَاوِيرُ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِحَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: « لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا تَصَاوِيرُ » فَإِنْ أُزِيلَ مِنَ الصُّورَةِ مَا لَا تَبْقَى بِإِزَالَتِهِ الْحَيَاةُ كَالرَّأْسِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا رَأْسٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ. كَمَا يَحْرُمُ جَعْلُ الصَّلِيبِ فِي الثَّوْبِ وَنَحْوِهِ كَالطَّاقِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُلْبَسُ، لِقَوْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- « كَانَ لَا يَتْرُكُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصْلِيبٌ إِلاَّ قَضَبَهُ » أَيْ قَطَعَ مَوْضِعَ الصَّلِيبِ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَالْقَضْبُ الْقَطْعُ.وَهَذَا الشَّيْءُ يَشْمَلُ الْمَلْبُوسَ وَالسُّتُورَ وَالْبُسُطَ وَالْآلَاتِ وَغَيْرَ ذَلِكَ.كَمَا يَحْرُمُ تَصْوِيرُهَا فِي نَسْجِ الثِّيَابِ عَلَى الْأَصَحِّ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: « إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ »
وَالصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ الَّذِي عَلَيْهِ تَصَاوِيرُ الْحَيَوَانَاتِ أَوِ الصُّلْبَانِ حَرَامٌ مَعَ صِحَّةِ الصَّلَاةِ، لِحَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: « كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ سَتَرَتْ بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا، فَقَالَ لَهَا: أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا، فَإِنَّهُ لَا تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِي فِي صَلَاتِي » وَالْقِرَامُ بِكَسْرِ الْقَافِ: سِتْرٌ رَقِيقٌ.
وَكَذَلِكَ لُبْسُ الثَّوْبِ الَّذِي نُقِشَتْ فِيهِ آيَاتٌ تُلْهِي الْمُصَلِّيَ عَنْ صَلَاتِهِ، أَوْ كَانَ مِنْ شَأْنِ لُبْسِهِ امْتِهَانُهَا.
وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ الثِّيَابِ الْمُصَوَّرَةِ بِصُوَرِ غَيْرِ الْحَيَوَانَاتِ، كَشَجَرٍ وَقَمَرٍ وَجِبَالٍ وَكُلِّ مَا لَا رَوْحَ فِيهِ، لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا قَالَ لَهُ الْمُصَوِّرُ: لَا أَعْرِفُ صَنْعَةً غَيْرَهَا.قَالَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ فَصَوِّرْ مِنَ الْأَشْجَارِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ.هَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
أَمَّا التَّصَاوِيرُ الْمَنْقُوشَةُ عَلَى السُّتُورِ وَالْبُسُطِ وَالْوَسَائِدِ وَالْأَبْوَابِ وَافْتِرَاشُهَا وَالْجُلُوسُ عَلَيْهَا وَتَعْلِيقُهَا وَاسْتِخْدَامَاتُهَا الْمُخْتَلِفَةُ فَالْأَحْكَامُ فِيهَا تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (تَصْوِير).
ب- الْأَلْبِسَةُ الْمُزَعْفَرَةُ وَنَحْوُهَا:
14- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى تَحْرِيمِ لُبْسِ الثِّيَابِ الْمُزَعْفَرَةِ دُونَ الْمُعَصْفَرَةِ لِلرِّجَالِ وَإِبَاحَتِهَا لِلنِّسَاءِ، فَعَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: « نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ »
وَلَوْ صَبَغَ بَعْضَ ثَوْبٍ بِزَعْفَرَانٍ، فَهَلْ هُوَ كَالتَّطْرِيفِ فَيَحْرُمُ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ الْأَصَابِعِ، أَوْ كَالْمَنْسُوجِ مِنَ الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ فَيُعْتَبَرُ الْأَكْثَرُ؟ الْأَوْجَهُ أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْعُرْفِ، فَإِنْ صَحَّ إِطْلَاقُ الْمُزَعْفَرِ عَلَيْهِ عُرْفًا حَرُمَ وَإِلاَّ فَلَا.وَلَا يُكْرَهُ لِغَيْرِ الْمَرْأَةِ مَصْبُوغٌ بِغَيْرِ الزَّعْفَرَانِ وَالْعُصْفُرِ وَالْأَحْمَرِ وَالْأَصْفَرِ وَالْأَخْضَرِ وَغَيْرِهَا، سَوَاءٌ أَصُبِغَ قَبْلَ النَّسْجِ أَمْ بَعْدَهُ، لِعَدَمِ وُرُودِ نَهْيٍ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ لُبْسِ الثِّيَابِ الْمُزَعْفَرَةِ وَالْمُعَصْفَرَةِ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ لِحَدِيثِ أَنَسٍ السَّابِقِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- رضي الله عنهما- قَالَ: « رَأَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ فَقَالَ: أَأُمُّكَ أَمَرَتْكَ بِهَذَا؟ قُلْتُ: أَغْسِلُهُمَا، قَالَ: بَلْ أَحْرِقْهُمَا »
وَعَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: « نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ، وَعَنْ لِبَاسِ الْقِسِيِّ، وَعَنِ الْقِرَاءَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَعَنْ لِبَاسِ الْمُعَصْفَرِ »
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ لُبْسَ الْمُعَصْفَرِ وَنَحْوِهِ كَالْمُزَعْفَرِ، مَا لَمْ يَكُنْ مُفَدَّمًا (أَيْ شَدِيدَ الْحُمْرَةِ) وَالْمُفَدَّمُ: هُوَ الْقَوِيُّ الصَّبْغِ الَّذِي رُدَّ فِي الْعُصْفُرِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَإِلاَّ كُرِهَ لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ.
وَحَرُمَ عِنْدَ الْجَمِيعِ عَلَى الْمُحْرِمِ لُبْسُ مَا كَانَ مُزَعْفَرًا أَوْ مُعَصْفَرًا، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، إِذَا كَانَ رِيحُ الطِّيبِ بَاقِيًا، لِأَنَّهُ طَيِّبٌ، وَلَا بَأْسَ بِسَائِرِ الْأَلْوَانِ غَيْرِ ذَلِكَ.
ج- لُبْسُ مَا يَشِفُّ أَوْ يَصِفُ:
15- لَا يَجُوزُ لُبْسُ الرَّقِيقِ مِنَ الثِّيَابِ إِذَا كَانَ يَشِفُّ عَنِ الْعَوْرَةِ، فَيُعْلَمُ لَوْنُ الْجِلْدِ مِنْ بَيَاضٍ أَوْ حُمْرَةٍ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَلَوْ فِي بَيْتِهَا، هَذَا إِنْ رَآهَا غَيْرُ زَوْجِهَا، لِمَا يَأْتِي مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَهُوَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى ذَلِكَ مُخِلٌّ بِالْمُرُوءَةِ، وَلِمُخَالَفَتِهِ لِزِيِّ السَّلَفِ، وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الثِّيَابِ، وَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ لُبْسُهُ إِذَا كَانَ لَا يَرَاهَا إِلاَّ زَوْجُهَا.أَمَّا مَا كَانَ رَقِيقًا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ، وَلَكِنَّهُ يَصِفُ حَجْمَهَا حَتَّى يُرِي شَكْلَ الْعُضْوِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ.لِقَوْلِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: « إِنَّ الرَّجُلَ لَيَلْبَسُ وَهُوَ عَارٍ، يَعْنِي الثِّيَابَ الرِّقَاقَ »
وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: « كَسَانِي رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قُبْطِيَّةً كَثِيفَةً مِمَّا أَهْدَاهَا لَهُ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ، فَكَسَوْتُهَا امْرَأَتِي، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَا لَكَ لَمْ تَلْبَسِ الْقُبْطِيَّةَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَوْتُهَا امْرَأَتِي.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: مُرْهَا فَلْتَجْعَلْ تَحْتَهَا غِلَالَةً، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تَصِفَ حَجْمَ عِظَامِهَا » فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى النَّهْيِ عَنْ لُبْسِ اللِّبَاسِ الَّذِي يَصِفُ مَا تَحْتَهُ مِنَ الْبَدَنِ، وَلِهَذَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَلْقَمَةَ عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ: دَخَلَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلَى عَائِشَةَ وَعَلَيْهَا خِمَارٌ رَقِيقٌ، فَشَقَّتْهُ عَائِشَةُ، وَكَسَتْهَا خِمَارًا كَثِيفًا.وَالْخِمَارُ بِالْكَسْرِ هُوَ: مَا تُغَطِّي بِهِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا.
وَعَنْ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ قَالَ: « أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِقَبَاطِيَّ، فَأَعْطَانِي مِنْهَا قُبْطِيَّةً.فَقَالَ: اصْدَعْهَا صَدْعَيْنِ، فَاقْطَعْ أَحَدَهُمَا قَمِيصًا، وَأَعْطِ الْآخَرَ امْرَأَتَكَ تَخْتَمِرُ بِهِ، فَلَمَّا أَدْبَرَ قَالَ: وَأْمُرِ امْرَأَتَكَ أَنْ تَجْعَلَ تَحْتَهُ ثَوْبًا لَا يَصِفُهَا »، وَقَبَاطِيُّ جَمْعُ: قُبْطِيَّةٍ بِكَسْرٍ أَوْ ضَمٍّ وَسُكُونٍ، أَيْ ثَوْبٌ يَصْنَعُهُ قِبْطُ مِصْرَ رَقِيقٌ أَبْيَضُ.
د- الْأَلْبِسَةُ الْمُخَالِفَةُ لِعَادَاتِ النَّاسِ:
16- لُبْسُ الْأَلْبِسَةِ الَّتِي تُخَالِفُ عَادَاتِ النَّاسِ مَكْرُوهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ شُهْرَةٍ، أَيْ مَا يَشْتَهِرُ بِهِ عِنْدَ النَّاسِ وَيُشَارُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ، لِئَلاَّ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا إِلَى حَمْلِهِمْ عَلَى غِيبَتِهِ، فَيُشَارِكَهُمْ فِي إِثْمِ الْغِيبَةِ.
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- « نَهَى عَنِ الشُّهْرَتَيْنِ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الشُّهْرَتَانِ؟ قَالَ: رِقَّةُ الثِّيَابِ وَغِلَظُهَا، وَلِينُهَا وَخُشُونَتُهَا، وَطُولُهَا وَقِصَرُهَا، وَلَكِنْ سَدَادًا بَيْنَ ذَلِكَ وَاقْتِصَادًا »
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا « مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » قَالَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الشُّهْرَةُ ظُهُورُ الشَّيْءِ فِي شُنْعَةٍ حَتَّى يَشْهَرَهُ النَّاسُ، وَيُكْرَهُ لُبْسُ زِيٍّ مُزْرٍ بِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الشُّهْرَةِ، فَإِنْ قَصَدَ بِهِ الِاخْتِيَالَ أَوْ إِظْهَارَ التَّوَاضُعِ حَرُمَ لِأَنَّهُ رِيَاءٌ: « مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى بِهِ ».
وَيُكْرَهُ زِيُّ أَهْلِ الشِّرْكِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا « مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ » كَمَا كُرِهَ طُولُ الرِّدَاءِ مَخَافَةَ أَنْ يَغْفُلَ عَنْهُ فَيَجُرَّهُ مِنْ خَلْفِهِ، وَقَدْ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ لِمَنْ فَعَلَهُ بَطَرًا، وَالتَّوَقِّي مِنْ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي يَنْبَغِي، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- « لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا ».
هـ- الْأَلْبِسَةُ النَّجِسَةُ:
17- لُبْسُ الثَّوْبِ النَّجِسِ لِسَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ جَائِزٌ.
أَمَّا فِي الصَّلَاةِ، فَلَوْ وَجَدَ سَاتِرًا نَجِسًا وَلَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ يَسْتَتِرُ بِهِ وَلَا يُصَلِّي عَارِيًّا، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْنِ لِكُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
أَمَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي عَارِيًّا وَلَا يَسْتَتِرُ بِالنَّجِسِ.أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِذَا كَانَ الرُّبُعُ مِنَ الثَّوْبِ طَاهِرًا وَجَبَ الِاسْتِتَارُ بِهِ وَلَا يُصَلِّي عَارِيًّا، وَإِنْ كَانَ الطَّاهِرُ أَقَلَّ مِنْ رُبُعِهِ يُخَيَّرُ بَيْنَ الِاسْتِتَارِ بِهِ أَوِ الصَّلَاةِ عَارِيًّا، وَإِنْ كَانَ كُلُّهُ نَجِسًا فَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ يُصَلِّي بِهِ وَلَا يُصَلِّي عُرْيَانًا، لِأَنَّ فِي الصَّلَاةِ بِهِ تَرْكَ فَرْضٍ وَاحِدٍ، وَفِي الصَّلَاةِ عُرْيَانًا تَرْكَ الْفُرُوضِ مِنْ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ، بَلْ يُصَلِّي قَاعِدًا بِالْإِيمَاءِ.وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى التَّفْرِيقِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّجِسِ الْأَصْلِيِّ كَجِلْدِ مَيْتَةٍ لَمْ يُدْبَغْ وَبَيْنَ الْمُتَنَجِّسِ، فَلَا يَسْتَتِرُ بِالْأَوَّلِ، وَيَسْتَتِرُ بِالثَّانِي.
و- الْأَلْبِسَةُ الْمَغْصُوبَةُ:
18- لَيْسَ لِلْعَارِي أَخْذُ الثَّوْبِ قَهْرًا (غَصْبًا) مِنْ مَالِكِهِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ، وَتَصِحُّ بِدُونِهِ مَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حَقِّ الْآدَمِيِّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَجِدْ مَاءً يَتَوَضَّأُ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَغْصِبَهُ، فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
حُكْمُ اتِّخَاذِ الْأَلْبِسَةِ الْخَاصَّةِ
بِالْمُنَاسَبَاتِ وَالْأَشْخَاصِ:
أ- مَلَابِسُ الْأَعْيَادِ وَمَجَامِعِ النَّاسِ:
19- جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَعْيَادَ أَيَّامَ فَرَحٍ وَسُرُورٍ وَزِينَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلِذَا فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ التَّطَيُّبَ وَالتَّزَيُّنَ لَهَا مُسْتَحَبٌّ، وَالتَّزَيُّنُ بِلُبْسِ الثِّيَابِ الْجَمِيلَةِ وَالْجَدِيدَةِ، وَأَفْضَلُهَا الْبَيَاضُ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: « الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ، فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ » وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِظْهَارِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ الَّتِي يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَهَا عَلَيْهِ، وَلِذَا لَا يَنْبَغِي تَرْكُ إِظْهَارِ الزِّينَةِ وَالتَّطَيُّبِ فِي الْأَعْيَادِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا تَقَشُّفًا، فَقَدْ وَرَدَ « أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ ». وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- « أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَلْبَسُ فِي الْعِيدَيْنِ بُرْدَةً حِبَرَةً ».
وَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- « مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوِ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ سِوَى ثَوْبِ مِهْنَتِهِ ».
وَعَنْ جَابِرٍ « أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَعْتَمُّ، وَيَلْبَسُ بُرْدَهُ الْأَحْمَرَ فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ ».
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: « كَانَتْ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- جُبَّةٌ يَلْبَسُهَا فِي الْعِيدَيْنِ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ ».
وَكَانَ- صلى الله عليه وسلم- يَلْبَسُ بُرْدَيْنِ أَخْضَرَيْنِ وَلَبِسَ مَرَّةً بُرْدًا أَحْمَرَ.وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ كِسَاءَ خَزٍّ بِخَمْسِينَ دِينَارًا، يَلْبَسُهُ فِي الشِّتَاءِ، فَإِذَا كَانَ الصَّيْفُ تَصَدَّقَ بِهِ، أَوْ بَاعَهُ فَتَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ، وَكَانَ يَلْبَسُ فِي الصَّيْفِ ثَوْبَيْنِ مِنْ مَتَاعِ مِصْرَ مُمَشَّقَيْنِ (أَيْ مَصْبُوغَيْنِ بِالْمِشَقِ وَهُوَ صِبْغٌ أَحْمَرُ) وَيَقْرَأُ قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} فَقَدْ دَلَّتْ عَلَى اسْتِحْبَابِ لِبَاسِ الرَّفِيعِ مِنَ الثِّيَابِ وَالتَّجَمُّلِ بِهَا فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَعِنْدَ لِقَاءِ النَّاسِ وَزِيَارَةِ الْإِخْوَانِ.
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا تَزَاوَرُوا تَجَمَّلُوا.وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ « عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ تُبَاعُ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوِ اشْتَرَيْتَهَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلِلْوُفُودِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ » فَمَا أَنْكَرَ ذِكْرَ التَّجَمُّلِ وَإِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ كَوْنَهَا سِيَرَاءَ، (وَالسِّيَرَاءُ نَوْعٌ مِنَ الْبُرُودِ، فِيهِ خُطُوطٌ صُفْرٌ، أَوْ يُخَالِطُهُ حَرِيرٌ).
وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ: كَانَ السَّلَفُ يَلْبَسُونَ الثِّيَابَ الْمُتَوَسِّطَةَ لَا الْمُتَرَفِّعَةَ وَلَا الدُّونَ، وَيَتَخَيَّرُونَ أَجْوَدَهَا لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَلِلِقَاءِ الْإِخْوَانِ، وَلَمْ يَكُنْ تَخَيُّرُ الْأَجْوَدِ عِنْدَهُمْ قَبِيحًا.
وَأَمَّا اللِّبَاسُ الَّذِي يُزْرِي بِصَاحِبِهِ- أَيْ وَهُوَ يَجِدُ غَيْرَهُ- فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِظْهَارَ الزُّهْدِ وَإِظْهَارَ الْفَقْرِ، وَكَأَنَّهُ لِسَانُ شَكْوَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُوجِبُ احْتِقَارَ اللاَّبِسِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: تَجْوِيدُ اللِّبَاسِ- هَوَى النَّفْسِ وَقَدْ أُمِرْنَا بِمُجَاهَدَتِهَا، وَتَزَيُّنٌ لِلْخَلْقِ وَقَدْ أُمِرْنَا أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُنَا لِلَّهِ لَا لِلْخَلْقِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا تَهْوَاهُ النَّفْسُ يُذَمُّ، وَلَا كُلُّ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ لِلنَّاسِ يُكْرَهُ.وَإِنَّمَا يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الشَّرْعُ قَدْ نَهَى عَنْهُ، أَوْ عَلَى وَجْهِ الرِّيَاءِ فِي بَابِ الدِّينِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُحِبُّ أَنْ يُرَى جَمِيلًا، وَذَلِكَ حَظٌّ لِلنَّفْسِ لَا يُلَامُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا يُسَرِّحُ شَعْرَهُ، وَيَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ، وَيُسَوِّي عِمَامَتَهُ، وَيَلْبَسُ بِطَانَةَ الثَّوْبِ الْخَشِنَةِ إِلَى دَاخِلٍ، وَظِهَارَتَهُ الْحَسَنَةَ إِلَى خَارِجٍ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا مَا يُكْرَهُ وَلَا يُذَمُّ.
وَقَدْ رَوَى مَكْحُولٌ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: « كَانَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَنْتَظِرُونَهُ عَلَى الْبَابِ، فَخَرَجَ يُرِيدُهُمْ، وَفِي الدَّارِ رَكْوَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ فِي الْمَاءِ، وَيُسَوِّي لِحْيَتَهُ وَشَعْرَهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنْتَ تَفْعَلُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى إِخْوَانِهِ فَلْيُهَيِّئْ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ».
ب- مَلَابِسُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ:
20- يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مَلَابِسَ خَاصَّةً، وَبَيَانُ مَا يُرَاعَى فِي ذَلِكَ تَقَدَّمَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَام) ج 2 ص 128.
ج- مَلَابِسُ الْمَرْأَةِ الْمُحِدَّةِ:
21- الْإِحْدَادُ بِمَعْنَاهُ الْعَامِّ: تَرْكُ الزِّينَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا.وَاخْتُلِفَ فِي لُبْسِ الْمُحِدَّةِ لِبَعْضِ الثِّيَابِ الْمُلَوَّنَةِ عَلَى وَجْهِ الزِّينَةِ وَفِي لُبْسِ الْحُلِيِّ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْدَاد: ج 2 ص 103).
د- لِبَاسُ الْعُلَمَاءِ:
22- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلْعُلَمَاءِ أَنْ يَكُونَ لِبَاسُهُمْ فَاخِرًا، كَصُوفٍ وَجُوخٍ رَفِيعٍ وَأَبْرَادٍ رَقِيقَةٍ، وَأَنْ تَكُونَ ثِيَابُهُمْ وَاسِعَةً، وَيَحْسُنُ لَهُمْ لَفُّ عِمَامَةٍ طَوِيلَةٍ تَعَارَفُوهَا، فَإِنْ عُرِفَ عُرْفٌ فِي بِلَادٍ أُخَرَ أَنَّهَا تُفْعَلُ بِغَيْرِ الطُّولِ يَفْعَلُ، لِإِظْهَارِ مَقَامِ الْعِلْمِ، وَلِأَجْلِ أَنْ يُعْرَفُوا فَيُسْأَلُوا عَنْ أُمُورِ الدِّينِ.فَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- يَعْتَمُّونَ، وَيُرْخُونَ الذُّؤَابَةَ بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ، لِأَنَّ إِرْخَاءَهَا مِنْ زِيِّ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ وَالشَّرَفِ، وَلِذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُمَكَّنَ الْكُفَّارُ مِنَ التَّشَبُّهِ بِهِمْ، وَأَنْ يَلْبَسُوا الْقَلَانِسَ إِذَا انْتَهَوْا فِي عِلْمِهِمْ وَعِزِّهِمْ وعَظُمَتْ مَنْزِلَتُهُمْ وَاقْتَدَى النَّاسُ بِهِمْ، فَيَتَمَيَّزُونَ بِهَا لِلشَّرَفِ عَلَى مَنْ دُونَهُمْ، لِمَا رَفَعَهُمُ اللَّهُ بِعِلْمِهِمْ عَلَى جَهَلَةِ خَلْقِهِ، وَكَذَلِكَ الْخُطَبَاءُ عَلَى الْمَنَابِرِ لِعُلُوِّ مَقَامِهِمْ.
وَعَلَى هَذَا فَمَا صَارَ شِعَارًا لِلْعُلَمَاءِ يُنْدَبُ لَهُمْ لُبْسُهُ لِيُعْرَفُوا بِذَلِكَ، فَيُسْأَلُوا، وَلِيُطَاوَعُوا فِيمَا عَنْهُ زَجَرُوا، وَعَلَّلَ ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِأَنَّهُ سَبَبٌ لِامْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لَهُمْ سَعَةَ ثِيَابِهِمْ وَطُولَهَا، وَطُولَ أَكْمَامِهِمْ، وَالْكِبْرَ الْخَارِجَ عَنْ عَادَةِ النَّاسِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِضَاعَةٍ لِلْمَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ إِضَاعَتِهِ، فَقَدْ يُفَصَّلُ مِنْ ذَلِكَ الْكُمِّ ثَوْبٌ غَيْرُهُ وَرَوَى مَالِكٌ- رحمه الله- (فِي مُوَطَّئِهِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « إِزْرَةُ الْمُسْلِمِ إِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ.لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ.مَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي النَّارِ.مَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي النَّارِ.لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا » فَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ مِنْهُ- عليه الصلاة والسلام- أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَجُرَّ ثَوْبَهُ بِقَصْدِ التَّكَبُّرِ.إِذْ أَنَّ مَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ بِهِ حَاجَةٌ فَمَنَعَهُ مِنْهُ.وَأَبَاحَ ذَلِكَ لِلنِّسَاءِ، فَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَجُرَّ ثَوْبَهَا خَلْفَهَا شِبْرًا أَوْ ذِرَاعًا لِلْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَهِيَ التَّسَتُّرُ وَالْإِبْلَاغُ فِيهِ، إِذْ أَنَّ الْمَرْأَةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ إِلاَّ مَا اسْتُثْنِيَ، وَذَلِكَ فِيهَا بِخِلَافِ الرِّجَالِ.
لِبَاسُ أَهْلِ الذِّمَّةِ:
23- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ أَخْذِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِمَا يُمَيِّزُهُمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِمْ، فَلَا يَتَشَبَّهُونَ بِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مُخَالِطِينَ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ تَمْيِيزِهِمْ عَنْهُمْ، كَيْ تَكُونَ مُعَامَلَتُهُمْ مُخْتَلِفَةً عَنْ مُعَامَلَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ التَّوْقِيرِ وَالْإِجْلَالِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُمْ.وَإِذَا وَجَبَ التَّمْيِيزُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِمَا فِيهِ صَغَارُهُمْ لَا إِعْزَازُهُمْ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (أَهْلُ الذِّمَّةِ).
الْأَلْبِسَةُ الَّتِي تُجْزِئُ فِي النَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ:
24- يَجِبُ لِلزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ وَالْوَالِدَيْنِ وَمَنْ تَجِبُ لَهُمُ النَّفَقَةُ كِسْوَةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلَى حَسَبِ حَالِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَة).
مَا يُجْزِئُ مِنَ الْأَلْبِسَةِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ:
25- فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ إِنِ اخْتَارَ الْحَانِثُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْكِسْوَةِ كَسَا عَشَرَةَ مَسَاكِين بِمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكِسْوَةِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (كَفَّارَة).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
259-موسوعة الفقه الكويتية (أنوثة 1)
أُنُوثَةٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الْأُنُوثَةُ خِلَافُ الذُّكُورَةِ، وَالْأُنْثَى- كَمَا جَاءَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ- خِلَافُ الذَّكَرِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} وَتُجْمَعُ عَلَى إِنَاثٍ وَأَنَاثَى، وَامْرَأَةٌ أُنْثَى.أَيْ كَامِلَةٌ فِي أُنُوثَتِهَا.
وَالْأُنْثَيَانِ: الْخُصْيَتَانِ. (ر: خِصَاءٌ).
وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
هَذَا، وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ لِلْأُنُوثَةِ عَلَامَاتٍ وَأَمَارَاتٍ تُمَيِّزُهَا عَنِ الذُّكُورَةِ فَضْلًا عَنْ أَعْضَاءِ الْأُنُوثَةِ، وَتِلْكَ الْأَمَارَاتُ إِمَّا حِسِّيَّةٌ كَالْحَيْضِ، وَإِمَّا مَعْنَوِيَّةٌ كَالطِّبَاعِ.
وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (خُنْثَى).
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْخُنُوثَةُ:
2- الْخُنُوثَةُ حَالَةٌ بَيْنَ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ.وَتَذْكُرُ كُتُبُ اللُّغَةِ أَنَّ الْخُنْثَى مَنْ لَهُ مَا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا.
وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، فَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ: الْخُنْثَى ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ لَهُ فَرْجُ الْمَرْأَةِ وَذَكَرُ الرِّجَالِ، وَضَرْبٌ لَيْسَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا.
وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (خُنْثَى).
أَحْكَامُ الْأُنُوثَةِ
أُنْثَى الْآدَمِيِّ:
أَوَّلًا: تَكْرِيمُ الْإِسْلَامِ لِلْأُنْثَى:
يَتَمَثَّلُ تَكْرِيمُ الْإِسْلَامِ لِلْأُنْثَى فِيمَا يَأْتِي:
حُسْنُ اسْتِقْبَالِهَا عِنْدَ وِلَادَتِهَا:
3- كَانَ اسْتِقْبَالُ الْأُنْثَى فِي الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ اسْتِقْبَالًا سَيِّئًا، يَتَبَرَّمُونَ بِهَا، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُهُمْ، وَيَتَوَارَوْنَ عَنِ الْأَعْيُنِ، إِذْ هِيَ فِي نَظَرِهِمْ مَجْلَبَةٌ لِلْفَقْرِ أَوْ لِلْعَارِ، فَكَانُوا يَئِدُونَهَا حَيَّةً، وَيَسْتَكْثِرُ الرَّجُلُ عَلَيْهَا النَّفَقَةَ الَّتِي لَا يَسْتَكْثِرُهَا عَلَى عَبْدِهِ أَوْ حَيَوَانِهِ فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ، وَذَمَّ هَذَا الْفِعْلَ الشَّنِيعَ، وَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ بَاءَ بِالْخُسْرَانِ الْمُبِينِ، {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}.
وَنَبَّهَ الْإِسْلَامُ إِلَى أَنَّ حَقَّ الْوُجُودِ وَحَقَّ الْحَيَاةِ هِبَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ}.
قَالَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ قَدَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا كَانَتْ تُؤَخِّرُهُ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ أَمْرِ الْبَنَاتِ حَتَّى كَانُوا يَئِدُونَهُنَّ، أَيْ هَذَا النَّوْعَ الْمُؤَخَّرَ الْحَقِيرَ عِنْدَكُمْ مُقَدَّمٌ عِنْدِي فِي الذِّكْرِ.وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّسَخُّطَ بِالْإِنَاثِ مِنْ أَخْلَاقِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ ذَمَّهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسَوَّدًا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}.
وَقَالَ قَتَادَةَ فِيمَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ: أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِخُبْثِ صَنِيعِهِمْ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَهُوَ حَقِيقٌ أَنْ يَرْضَى بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ، وَقَضَاءُ اللَّهِ لَهُ خَيْرٌ مِنْ قَضَاءِ الْمَرْءِ نَفْسِهِ، وَلَعَمْرِي مَا يَدْرِي أَنَّهُ خَيْرٌ؛ لَرُبَّ جَارِيَةٍ خَيْرٌ لِأَهْلِهَا مِنْ غُلَامٍ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَكُمُ اللَّهُ بِصَنِيعِهِمْ لِتَجْتَنِبُوهُ وَتَنْتَهُوا عَنْهُ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَغْذُو كَلْبَهُ وَيَئِدُ ابْنَتَهُ.
وَالْإِسْلَامُ لَا يَكْتَفِي مِنَ الْمُسْلِمِ بِأَنْ يَجْتَنِبَ وَأْدَ الْبَنَاتِ، بَلْ يَرْتَقِي بِالْمُسْلِمِ إِلَى دَرَجَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْمُثْلَى، فَيَأْبَى عَلَيْهِ أَنْ يَتَبَرَّمَ بِذُرِّيَّةِ الْبَنَاتِ، وَيَتَلَقَّى وِلَادَتَهُنَّ بِالْعَبُوسِ وَالِانْقِبَاضِ، بَلْ يَتَقَبَّلُهَا بِالرِّضَى وَالْحَمْدِ، قَالَ صَالِحُ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: كَانَ أَحْمَدُ إِذَا وُلِدَ لَهُ ابْنَةٌ يَقُولُ: الْأَنْبِيَاءُ كَانُوا آبَاءَ بَنَاتٍ، وَيَقُولُ: قَدْ جَاءَ فِي الْبَنَاتِ مَا عَلِمْتَ.
الْعَقُّ عَنْهَا:
4- الْعَقِيقَةُ عَنِ الْمَوْلُودِ سُنَّةٌ، وَيَسْتَوِي فِي السُّنَّةِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، فَكَمَا يَعُقُّ الْوَلِيُّ عَنِ الذَّكَرِ يَوْمَ السَّابِعِ يَعُقُّ عَنِ الْأُنْثَى أَيْضًا وَلَكِنْ يَعُقُّ عَنِ الْأُنْثَى شَاةٌ، وَعَنِ الذَّكَرِ شَاتَانِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلٌ ذُكِرَ فِي (عَقِيقَةٍ).
تَسْمِيَتُهَا بِاسْمٍ حَسَنٍ:
5- مِنَ السُّنَّةِ تَسْمِيَةُ الْمَوْلُودِ بِاسْمٍ حَسَنٍ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَكَمَا كَانَ النَّبِيُّ يُغَيِّرُ أَسْمَاءَ الذُّكُورِ مِنَ الْقَبِيحِ إِلَى الْحَسَنِ، فَإِنَّهُ كَذَلِكَ كَانَ يُغَيِّرُ أَسْمَاءَ الْإِنَاثِ مِنَ الْقَبِيحِ إِلَى الْحَسَنِ فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّ «ابْنَةً لِعُمَرِ- رضي الله عنه- كَانَ يُقَالُ لَهَا عَاصِيَةٌ فَسَمَّاهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- جَمِيلَةٌ».
وَالْكُنْيَةُ مِنَ الْأُمُورِ الْمَحْمُودَةِ، يَقُولُ النَّوَوِيُّ: مِنَ الْأَدَبِ أَنْ يُخَاطَبَ أَهْلُ الْفَضْلِ وَمَنْ قَارَبَهُمْ بِالْكُنْيَةِ، وَقَدْ كُنِّيَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِأَبِي الْقَاسِمِ، بِابْنِهِ الْقَاسِمِ.وَالْكُنْيَةُ كَمَا تَكُونُ لِلذَّكَرِ تَكُونُ لِلْأُنْثَى.قَالَ النَّوَوِيُّ: رَوَيْنَا بِالْأَسَانِيدِ الصَّحِيحَةِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ عَنْ «عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّ صَوَاحِبِي لَهُنَّ كُنًى، قَالَ: فَاكْتَنِّي بِابْنِكِ عَبْدِ اللَّهِ» قَالَ الرَّاوِي.يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَهُوَ ابْنُ أُخْتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ تُكَنَّى أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ.
لَهَا نَصِيبٌ فِي الْمِيرَاثِ:
6- جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلْأُنْثَى نَصِيبًا فِي الْمِيرَاثِ كَمَا لِلذَّكَرِ نَصِيبٌ، وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُوَرِّثُونَ الْإِنَاثَ.قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجْعَلُونَ الْمَالَ لِلرِّجَالِ الْكِبَارِ وَلَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَلَا الْأَطْفَالَ شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} أَيِ الْجَمِيعُ فِيهِ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَوُونَ فِي أَصْلِ الْوِرَاثَةِ وَإِنْ تَفَاوَتُوا بِحَسَبِ مَا فَرَضَ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُوَرِّثُونَ الذُّكُورَ دُونَ الْإِنَاثِ، فَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: «نَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ}.الْآيَةَ فِي أُمِّ كَجَّةَ وَبَنَاتِهَا وَثَعْلَبَةَ وَأَوْسِ بْنِ سُوَيْدٌ وَهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا زَوْجَهَا وَالْآخَرُ عَمَّ وَلَدِهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوُفِّيَ زَوْجِي وَتَرَكَنِي وَابْنَتَهُ وَلَمْ نُوَرَّثْ، فَقَالَ عَمُّ وَلَدِهَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَدُهَا لَا يَرْكَبُ فَرَسًا وَلَا يَحْمِلُ كَلًّا، وَلَا يَنْكَأُ عَدُوًّا يَكْسِبُ عَلَيْهَا وَلَا تَكْسِبُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ».
وَوَرَدَ كَذَلِكَ فِي سَبَبِ نُزُولِ قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «جَاءَتِ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ شَهِيدًا، وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا، وَلَا يُنْكَحَانِ إِلاَّ وَلَهُمَا مَالٌ فَقَالَ: يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى عَمِّهِمَا فَقَالَ: أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأُمَّهُمَا الثُّمُنَ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ».
رِعَايَةُ طُفُولَتِهَا، وَعَدَمُ تَفْضِيلِ الذَّكَرِ عَلَيْهَا:
7- يَعْتَنِي الْإِسْلَامُ بِالْأُنْثَى فِي كُلِّ أَطْوَارِ حَيَاتِهَا فَيَرْعَاهَا وَهِيَ طِفْلَةٌ، وَيَجْعَلُ رِعَايَتَهَا سِتْرًا مِنَ النَّارِ وَسَبِيلًا إِلَى الْجَنَّةِ.فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ عَالَ جَارَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ، وَضَمَّ أَصَابِعَهُ».
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَضِّلَ الذَّكَرَ عَلَيْهَا فِي التَّرْبِيَةِ وَالْعِنَايَةِ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أُنْثَى فَلَمْ يَئِدْهَا وَلَمْ يُهِنْهَا وَلَمْ يُؤْثِرْ وَلَدَهُ (يَعْنِي الذُّكُورَ) عَلَيْهَا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ».وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَجُلًا كَانَ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَجَاءَ ابْنٌ لَهُ فَقَبَّلَهُ وَأَجْلَسَهُ فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ جَاءَتْ بِنْتُهُ فَأَخَذَهَا فَأَجْلَسَهَا إِلَى جَنْبِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: فَمَا عَدَلْتَ بَيْنَهُمَا».وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: لَا يَجُوزُ تَفْضِيلُ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى فِي الْعَطِيَّةِ وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَبْطُلُ الْوَقْفُ إِذَا وَقَفَ عَلَى بَنِيهِ الذُّكُورِ دُونَ بَنَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَتَشْمَلُ الْعِنَايَةُ بِهَا فِي طُفُولَتِهَا تَأْهِيلَهَا لِحَيَاتِهَا الْمُسْتَقْبَلَةِ، فَيُسْتَثْنَى مِمَّا يَحْرُمُ مِنَ الصُّوَرِ صُوَرُ لَعِبِ الْبَنَاتِ فَإِنَّهَا لَا تَحْرُمُ، وَيَجُوزُ اسْتِصْنَاعُهَا وَصُنْعُهَا وَبَيْعُهَا وَشِرَاؤُهَا لَهُنَّ؛ لِأَنَّهُنَّ يَتَدَرَّبْنَ بِذَلِكَ عَلَى رِعَايَةِ الْأَطْفَالِ، وَقَدْ «كَانَ لِعَائِشَةَ- رضي الله عنها- جَوَارٍ يُلَاعِبْنَهَا بِصُوَرِ الْبَنَاتِ الْمَصْنُوعَةِ مِنْ نَحْوِ خَشَبٍ، فَإِذَا رَأَيْنَ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتَحِينَ مِنْهُ وَيَتَقَمَّعْنَ، وَكَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَشْتَرِيهَا لَهَا». (ر: تَصْوِيرٌ).
إِكْرَامُ الْأُنْثَى حِينَ تَكُونُ زَوْجَةً:
8- أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِحْسَانِ مُعَاشَرَةِ الزَّوْجَةِ فَقَالَ: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَيْ طَيِّبُوا أَقْوَالَكُمْ لَهُنَّ، وَحَسِّنُوا أَفْعَالَكُمْ وَهَيْئَاتِكُمْ بِحَسَبِ قُدْرَتِكُمْ، كَمَا تُحِبُّ ذَلِكَ مِنْهَا فَافْعَلْ أَنْتَ بِهَا مِثْلَهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}.وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي»، وَكَانَ مِنْ أَخْلَاقِهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ جَمِيلُ الْعِشْرَةِ دَائِمُ الْبِشْرِ، يُدَاعِبُ أَهْلَهُ وَيَتَلَطَّفُ بِهِمْ وَيُوَسِّعُ عَلَيْهِمْ فِي النَّفَقَةِ وَيُضَاحِكُ نِسَاءَهُ، حَتَّى أَنَّهُ كَانَ يُسَابِقُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ- رضي الله عنها- يَتَوَدَّدُ إِلَيْهَا بِذَلِكَ، قَالَتْ: سَابَقَنِي رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَسَبَقْتُهُ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ أَحْمِلَ اللَّحْمَ، ثُمَّ سَابَقْتُهُ بَعْدَمَا حَمَلْتُ اللَّحْمَ فَسَبَقَنِي فَقَالَ: «هَذِهِ بِتِلْكَ» وَ «كَانَ إِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ يَدْخُلُ مَنْزِلَهُ يَسْمُرُ مَعَ أَهْلِهِ قَلِيلًا قَبْلَ أَنْ يَنَامَ».
وَيَنْبَغِي الصَّبْرُ عَلَى الزَّوْجَةِ حَتَّى لَوْ كَرِهَهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ، أَيْ فَعَسَى أَنْ يَكُونَ صَبْرُكُمْ فِي إِمْسَاكِهِنَّ مَعَ الْكَرَاهَةِ فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهَا فَيُرْزَقَ مِنْهَا وَلَدًا وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْوَلَدِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ».
هَذَا، وَحُقُوقُ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا مَبْسُوطَةٌ فِي بَابِ النِّكَاحِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَنَذْكُرُ هُنَا مَثَلًا وَاحِدًا مِمَّا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ، يَتَّصِلُ بِإِكْرَامِ أُمُومَةِ الْأُنْثَى، فَقَدْ أَكْثَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْوِصَايَةِ بِالْأُمِّ وَقَدَّمَهَا فِي الرِّعَايَةِ عَلَى الْأَبِ، رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أَبُوكَ».وَجَعَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- رِضَاهَا طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، فَقَدْ «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْتُ الْغَزْوَ وَجِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ، فَقَالَ: فَهَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَالْزَمْهَا، فَإِنَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلَيْهَا».
ثَانِيًا: الْحُقُوقُ الَّتِي تَتَسَاوَى فِيهَا مَعَ الرَّجُلِ:
تَتَسَاوَى الْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ مَعَ التَّقْيِيدِ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ بِمَا يَتَلَاءَمُ مَعَ طَبِيعَتِهَا.
وَفِيمَا يَأْتِي بَعْضُ هَذِهِ الْحُقُوقِ:
أ- حَقُّ التَّعْلِيمِ:
9- لِلْمَرْأَةِ حَقُّ التَّعْلِيمِ مِثْلُ الرَّجُلِ: فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ».وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى الْمُسْلِمَةِ أَيْضًا، فَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ السَّخَاوِيُّ: قَدْ أَلْحَقَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ بِآخِرِ هَذَا الْحَدِيثِ (وَمُسْلِمَةٍ) وَلَيْسَ لَهَا ذِكْرٌ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا صَحِيحًا.
وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَتْ لَهُ بِنْتٌ فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَن أَدَبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، وَأَسْبَغَ عَلَيْهَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ الَّتِي أَسْبَغَ عَلَيْهِ كَانَتْ لَهُ سِتْرًا أَوْ حِجَابًا مِنَ النَّارِ».
وَقَدْ كَانَ النِّسَاءُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْعَيْنَ إِلَى الْعِلْمِ.رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «قَالَتِ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ، فَوَاعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ».وَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ.
وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُنَّ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ».
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْحَدِيثُ يَتَنَاوَلُ بِمَنْطُوقِهِ الصَّبِيَّ وَالصَّبِيَّةَ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا بِلَا خِلَافٍ، ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ تَعْلِيمُ أَوْلَادِهِمُ الصِّغَارِ الطَّهَارَةَ وَالصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ وَنَحْوَهَا، وَتَعْلِيمُهُمْ تَحْرِيمَ الزِّنَى وَاللِّوَاطِ وَالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الْمُسْكِرِ وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَشِبْهِهَا، وَأَنَّهُمْ بِالْبُلُوغِ يَدْخُلُونَ فِي التَّكْلِيفِ، وَهَذَا التَّعْلِيمُ وَاجِبٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَأُجْرَةُ التَّعْلِيمِ تَكُونُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ، وَقَدْ جَعَلَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ لِلْأُمِّ مَدْخَلًا فِي وُجُوبِ التَّعْلِيمِ؛ لِكَوْنِهِ مِنَ التَّرْبِيَةِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهَا كَالنَّفَقَةِ.
وَمِنَ الْعُلُومِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يُعْتَبَرُ ضَرُورَةً بِالنِّسْبَةِ لِلْأُنْثَى كَطِبِّ النِّسَاءِ حَتَّى لَا يَطَّلِعَ الرِّجَالُ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ.جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: امْرَأَةٌ أَصَابَتْهَا قُرْحَةٌ فِي مَوْضِعٍ لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، لَا يَحِلُّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا، لَكِنْ يُعَلِّمُ امْرَأَةً تُدَاوِيهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا امْرَأَةً تُدَاوِيهَا وَلَا امْرَأَةً تَتَعَلَّمُ ذَلِكَ إِذَا عُلِّمَتْ، وَخِيفَ عَلَيْهَا الْبَلَاءُ أَوِ الْوَجَعُ أَوِ الْهَلَاكُ فَإِنَّهُ يَسْتُرُ مِنْهَا كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ مَوْضِعَ تِلْكَ الْقُرْحَةِ، ثُمَّ يُدَاوِيهَا الرَّجُلُ، وَيَغُضُّ بَصَرَهُ مَا اسْتَطَاعَ إِلاَّ عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ.
10- وَإِذَنْ، فَلَا خِلَافَ فِي مَشْرُوعِيَّةِ تَعْلِيمِ الْأُنْثَى.لَكِنْ فِي الْحُدُودِ الَّتِي لَا مُخَالَفَةَ فِيهَا لِلشَّرْعِ وَذَلِكَ مِنَ النَّوَاحِي الْآتِيَةِ:
أ- أَنْ تَحْذَرَ الِاخْتِلَاطَ بِالشَّبَابِ فِي قَاعَاتِ الدَّرْسِ، فَلَا تَجْلِسِ الْمَرْأَةُ بِجَانِبِ الرَّجُلِ، فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِلنِّسَاءِ يَوْمًا غَيْرَ يَوْمِ الرِّجَالِ يَعِظُهُنَّ فِيهِ.بَلْ حَتَّى فِي الْعِبَادَةِ لَا يُخَالِطْنَ الرِّجَالَ، بَلْ يَكُنْ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهُمْ يَسْتَمِعْنَ إِلَى الْوَعْظِ وَيُؤَدِّينَ الصَّلَاةَ، وَلَا يَجِبُ اسْتِحْدَاثُ مَكَانٍ خَاصٍّ لِصَلَاتِهِنَّ، أَوْ إِقَامَةِ حَاجِزٍ بَيْنَ صُفُوفِهِنَّ وَصُفُوفِ الرِّجَالِ.
ب- أَنْ تَكُونَ مُحْتَشِمَةً غَيْرَ مُتَبَرِّجَةٍ بِزِينَتِهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} وَفِي اتِّبَاعِ ذَلِكَ مَا يَمْنَعُ مِنَ الْفِتْنَةِ وَمِنْ إِشَاعَةِ الْفَسَادِ.
ب- أَهْلِيَّتُهَا لِلتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ:
11- الْمَرْأَةُ أَهْلٌ لِلتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ مِثْلُ الرَّجُلِ، وَوَلِيُّ أَمْرِهَا مُطَالَبٌ بِأَمْرِهَا بِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ، وَتَعْلِيمِهَا لَهَا مُنْذُ الصِّغَرِ؛ لِمَا جَاءَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُنَّ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» وَالْحَدِيثُ يَتَنَاوَلُ الْأُنْثَى بِلَا خِلَافٍ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ.
وَهِيَ بَعْدَ الْبُلُوغِ مُكَلَّفَةٌ بِالْعِبَادَاتِ مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَزَكَاةٍ وَحَجٍّ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ- زَوْجٍ أَوْ غَيْرِهِ- مَنْعُهَا مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ.فَجُمْلَةُ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَحْكَامِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ لِلْإِنْسَانِ يَسْتَوِي فِي التَّكْلِيفِ بِهَا وَالْجَزَاءِ عَلَيْهَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى.
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.وَيُؤَكِّدُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} وَيُرْوَى فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «قَالَ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مَا لَهُ يَذْكُرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَذْكُرُ الْمُؤْمِنَاتِ، فَنَزَلَتْ».وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُذْكَرُ الرِّجَالُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا نُذْكَرُ؟، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ».
وَفِي اسْتِجَابَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِسُؤَالِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}.
وَلَقَدْ رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَيَقُولُ ابْنُ كَثِيرٍ: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} أَيْ جَمِيعُكُمْ فِي ثَوَابِي سَوَاءٌ.وَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الَّذِي يُؤْذِي الْمُؤْمِنَاتِ هُوَ فِي الْإِثْمِ كَمَنْ يُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}.
وَهِيَ مُطَالَبَةٌ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ كَالرَّجُلِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتَوْنَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
وَالْجِهَادُ كَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا هَاجَمَ الْعَدُوُّ الْبِلَادَ.يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: إِذَا غَشِيَ الْعَدُوُّ مَحَلَّةَ قَوْمٍ كَانَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى الْجَمِيعِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا وَتَخْرُجُ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ فَرْضِ الْعَيْنِ.
وَقَدْ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الْعِبَادَاتِ فِي فَتَرَاتِ تَعَبِهَا مِنَ الْحَيْضِ وَالْحَمْلِ وَالنِّفَاسِ وَالرَّضَاعِ.وَتُنْظَرُ الْأَحْكَامُ الْخَاصَّةُ بِذَلِكَ فِي (حَيْضٌ، حَمْلٌ، نِفَاسٌ، رَضَاعٌ).
ج- احْتِرَامُ إِرَادَتِهَا:
12- لِلْأُنْثَى حُرِّيَّةُ الْإِرَادَةِ وَالتَّعْبِيرُ عَمَّا فِي نَفْسِهَا، وَقَدْ مَنَحَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذَا الْحَقَّ الَّذِي سَلَبَتْهُ مِنْهَا الْجَاهِلِيَّةُ وَحَرَمَتْهَا مِنْهُ، فَقَدْ كَانَتْ حِينَ يَمُوتُ زَوْجُهَا لَا تَمْلِكُ مِنْ أَمْرِ نَفْسِهَا شَيْئًا، وَكَانَ يَرِثُهَا مَنْ يَرِثُ مَالَ زَوْجِهَا.رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} قَالَ: كَانُوا إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ كَانَ أَوْلِيَاؤُهُ أَحَقَّ بِامْرَأَتِهِ، إِنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَهَا وَإِنْ شَاءُوا زَوَّجُوهَا، وَإِنْ شَاءُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا.فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ كَانَ أَهْلُ يَثْرِب إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَرِثَ امْرَأَتَهُ مَنْ يَرِثُ مَالَهُ، وَكَانَ يَعْضُلُهَا حَتَّى يَرِثَهَا أَوْ يُزَوِّجَهَا مَنْ أَرَادَ، وَكَانَ أَهْلُ تِهَامَةَ يُسِيءُ الرَّجُلُ صُحْبَةَ الْمَرْأَةِ حَتَّى يُطَلِّقَهَا، وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهَا أَلاَّ تَنْكِحَ إِلاَّ مَنْ أَرَادَ حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ بِبَعْضِ مَا أَعْطَاهَا، فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَبِيشَةِ بِنْتِ مَعْنِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ الْأَوْسِ، تُوُفِّيَ عَنْهَا أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ، فَجَنَحَ عَلَيْهَا ابْنُهُ، فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أَنَا وَرِثْتُ زَوْجِي، وَلَا أَنَا تُرِكْتُ فَأُنْكَحَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فَالْآيَةُ تَعُمُّ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكُلُّ مَا كَانَ فِيهِ نَوْعٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَإِرَادَتُهَا كَذَلِكَ مُعْتَبَرَةٌ فِي نِكَاحِهَا، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا يَرْوِيهِ الْبُخَارِيُّ: «لَا تُنْكَحِ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحِ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ».
وَالِاسْتِئْمَارُ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ الْكَبِيرَةِ الْعَاقِلَةِ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَإِذَا زُوِّجَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهَا فَنِكَاحُهَا مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَتِهَا، عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي بَابِ النِّكَاحِ.وَهُوَ فِي حَقِّ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتَأْمِرُ بَنَاتِهِ إِذَا أَنْكَحَهُنَّ».وَاسْتِئْذَانُهَا وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.بَلْ إِنَّهَا يَجُوزُ لَهَا تَزْوِيجُ نَفْسِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.جَاءَ فِي الِاخْتِيَارِ: عِبَارَةُ النِّسَاءِ مُعْتَبَرَةٌ فِي النِّكَاحِ، حَتَّى لَوْ زَوَّجَتِ الْحُرَّةُ الْعَاقِلَةُ الْبَالِغَةُ نَفْسَهَا جَازَ، وَكَذَلِكَ لَوْ زَوَّجَتْ غَيْرَهَا بِالْوِلَايَةِ أَوِ الْوَكَالَةِ، وَكَذَا إِذَا وَكَّلَتْ غَيْرَهَا فِي تَزْوِيجِهَا، أَوْ زَوَّجَهَا غَيْرُهَا فَأَجَازَتْ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَيَسْتَدِلُّونَ بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ «أَنَّ خَنْسَاءَ بِنْتَ حِزَامٍ أَنْكَحَهَا أَبُوهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ، فَرَدَّهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- » وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً زَوَّجَتْ بِنْتَهَا بِرِضَاهَا فَجَاءَ الْأَوْلِيَاءُ وَخَاصَمُوهَا إِلَى عَلِيٍّ- رضي الله عنه- فَأَجَازَ النِّكَاحَ.هَذَا دَلِيلُ الِانْعِقَادِ بِعِبَارَةِ النِّسَاءِ، وَأَنَّهُ أَجَازَ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا غَائِبِينَ؛ لِأَنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهَا، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ لِغَيْرِهَا فَيَنْفُذُ، كَتَصَرُّفِهَا فِي مَالِهَا.
هَذَا مَا انْفَرَدَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَتَفْصِيلُ الْخِلَافِ فِي هَذَا يَنْظُرُ فِي (نِكَاحٌ).
وَلِلْمَرْأَةِ أَيْضًا مُشَارَكَةُ زَوْجِهَا الرَّأْيَ بَلْ وَمُعَارَضَتُهُ، «قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَاللَّهِ إِنْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ مَا أَنْزَلَ، وَقَسَمَ لَهُنَّ مَا قَسَمَ، قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا فِي أَمْرٍ أَتَأَمَّرُهُ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتِي: لَوْ صَنَعْتُ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَقُلْتُ لَهَا: مَا لَكِ وَلِمَا هَا هُنَا، فِيمَا تَكَلُّفُكِ فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ؟ فَقَالَتْ لِي: عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، مَا تُرِيدُ أَنْ تُرَاجَعَ أَنْتَ، وَإِنَّ ابْنَتَك لَتُرَاجِعَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ.فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ مَكَانَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ، فَقَالَ لَهَا: يَا بُنَيَّةُ إِنَّكِ لَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حَتَّى يَظَلَّ يَوْمَهُ غَضْبَانَ؟ فَقَالَتْ حَفْصَةُ: وَاللَّهِ إِنَّا لَنُرَاجِعُهُ.
فَقُلْتُ: تَعْلَمِينَ أَنِّي أُحَذِّرُكِ عُقُوبَةَ اللَّهِ، وَغَضَبَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.يَا بُنَيَّةُ لَا يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا حُبُّ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِيَّاهَا- يُرِيدُ عَائِشَةَ- قَالَ: خَرَجْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا فَكَلَّمْتُهَا، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: عَجَبًا لَك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، دَخَلْتَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى تَبْتَغِيَ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَزْوَاجِهِ.فَأَخَذَتْنِي وَاللَّهِ أَخْذًا كَسَرَتْنِي عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُ أَجِدُ، فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدَهَا، وَكَانَ لِي صَاحِبٌ مِنَ الْأَنْصَارِ إِذَا غِبْتُ أَتَانِي بِالْخَبَرِ، وَإِذَا غَابَ كُنْتُ أَنَا آتِيهِ بِالْخَبَرِ، وَنَحْنُ نَتَخَوَّفُ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْنَا، فَقَدِ امْتَلأَتْ صُدُورُنَا مِنْهُ، فَإِذَا صَاحِبِي الْأَنْصَارِيُّ يَدُقُّ الْبَابَ، فَقَالَ: افْتَحِ افْتَحْ، فَقُلْتُ: جَاءَ الْغَسَّانِيُّ؟ فَقَالَ: بَلْ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، اعْتَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَزْوَاجَهُ، فَقُلْتُ رَغِمَ أَنْفُ حَفْصَةَ وَعَائِشَةَ.فَأَخَذْتُ ثَوْبِي، فَأَخْرُجُ حَتَّى جِئْتُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ يَرْقَى عَلَيْهَا بِعَجَلَةٍ، وَغُلَامٌ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَسْوَدُ عَلَى رَأْسِ الدَّرَجَةِ، فَقُلْتُ لَهُ: قُلْ هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.
فَأَذِنَ لِي.قَالَ عُمَرُ: فَقَصَصْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- هَذَا الْحَدِيثَ، فَلَمَّا بَلَغْتُ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا مَصْبُوبًا، وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ مُعَلَّقَةٌ، فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: أَمَّا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ»؟
وَاسْتِشَارَةُ الْمَرْأَةِ فِيمَا يَتَّصِلُ بِشُئُونِ النِّسَاءِ أَوْ فِيمَا لَدَيْهَا خِبْرَةٌ بِهِ مَطْلُوبَةٌ، بِأَصْلِ نَدْبِ الْمَشُورَةِ فِي قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} وَلِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهُ: «لَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ كِتَابِ الصُّلْحِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا، فَمَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، قَالَتْ لَهُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً، حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا».
وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَعْقِدَ الْأَمَانَ مَعَ الْكُفَّارِ، وَيَسْرِي ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَفِي الْمُغْنِي: إِذَا أَعْطَتِ الْمَرْأَةُ الْأَمَانَ لِلْكُفَّارِ جَازَ عَقْدُهَا، وَقَالَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ لَتُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَجُوزُ، وَعَنْ «أُمِّ هَانِئٍ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَجَرْتُ أَحْمَائِي وَأَغْلَقْتُ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّ ابْنَ أُمِّي أَرَادَ قَتْلَهُمْ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ» وَأَجَارَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ فَأَمْضَاهُ رَسُولُ اللَّهِ.
د- ذِمَّتُهَا الْمَالِيَّةُ:
13- لِلْأُنْثَى ذِمَّةٌ مَالِيَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ كَالرَّجُلِ، وَحَقُّهَا فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِهَا أَمْرٌ مُقَرَّرٌ فِي الشَّرِيعَةِ مَا دَامَتْ رَشِيدَةً؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}.وَلَهَا أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي مَالِهَا كُلِّهِ عَنْ طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ بِدُونِ إِذْنٍ مِنْ أَحَدٍ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.أَمَّا تَصَرُّفُهَا فِي مَالِهَا عَنْ طَرِيقِ التَّبَرُّعِ بِهِ، فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: يَجُوزُ لَهَا التَّصَرُّفُ فِي كُلِّ مَالِهَا بِالتَّبَرُّعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَرِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ» وَأَنَّهُنَّ تَصَدَّقْنَ فَقَبِلَ صَدَقَتَهُنَّ، وَلَمْ يَسْأَلْ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ.وَلِهَذَا جَازَ لَهَا التَّصَرُّفُ بِدُونِ إِذْنٍ لِزَوْجِهَا فِي مَالِهَا، فَلَمْ يَمْلِكِ الْحَجْرَ عَلَيْهَا فِي التَّصَرُّفِ بِجَمِيعِهِ.
وَعِنْدَ الْإِمَامِ مَالِكٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا التَّبَرُّعُ فِي حُدُودِ الثُّلُثِ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا التَّبَرُّعُ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا.
وَلِأَنَّ لِلْمَرْأَةِ ذِمَّةً مَالِيَّةً مُسْتَقِلَّةً فَقَدْ أَجَازَ الْفُقَهَاءُ لَهَا أَنْ تَضْمَنَ غَيْرَهَا، جَاءَ فِي الْمُغْنِي: يَصِحُّ ضَمَانُ كُلِّ جَائِزِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً؛ لِأَنَّهُ عَمْدٌ يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ، فَصَحَّ مِنَ الْمَرْأَةِ كَالْبَيْعِ.
وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ لَهَا التَّبَرُّعَ بِكُلِّ مَالِهَا، أَمَّا مَنْ لَا يُجِيزُ لَهَا التَّبَرُّعَ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ إِلاَّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا، فَإِنَّهُمْ يُجِيزُونَ لَهَا الضَّمَانَ فِي حُدُودِ ثُلُثِ مَالِهَا أَوْ بِزَائِدٍ يَسِيرٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الضَّمَانَ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ، وَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الزَّوْجِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
260-موسوعة الفقه الكويتية (أوقات الصلاة 2)
أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ -224- وَلَا يُعْلَمُ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي كَرَاهَةِ التَّطَوُّعِ الْمُطْلَقِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ.أَمَّا السُّنَنُ، فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى كَرَاهَتِهَا لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: «ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، أَوْ أَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ حَتَّى تَمِيلَ الشَّمْسُ، وَحِينَ تُضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ- أَيْ حِينَ تَمِيلُ- حَتَّى تَغْرُبَ».وَالْمُرَادُ بِقَبْرِ الْمَوْتَى فِي الْحَدِيثِ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ، لَا الدَّفْنُ، فَإِنَّ الدَّفْنَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ.
وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا إِبَاحَةُ السُّنَنِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، إِلاَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ فَإِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ عِنْدَهُ، وَالثَّانِيَةُ: كَرَاهَةُ السُّنَنِ مُطْلَقًا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ.
وَحُجَّتُهُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى: أَنَّهُ وَرَدَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ دَلِيلَانِ مُتَعَارِضَانِ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا (أَحَدُهُمَا) حَدِيثُ عُقْبَةَ الْمَارُّ ذِكْرُهُ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ أَيَّ صَلَاةٍ كَانَتْ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ.
(ثَانِيهِمَا) قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- «إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلَاةِ أَوْ غَفَلَ فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا»، فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ عِنْدَ التَّذَكُّرِ.وَأَشَارَ ابْنُ رُشْدٍ إِلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، بِأَنْ نَسْتَثْنِيَ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ السُّنَنَ، وَيَكُونُ النَّهْيُ مُنَصَّبًا عَلَى الْفَرَائِضِ، أَمَّا السُّنَنُ فَلَيْسَتْ مَنْهِيًّا عَنْهَا.
وَحُجَّةُ مَالِكٍ عَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ كَرَاهَةُ السُّنَنِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ: حَدِيثُ عُقْبَةَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ مُطْلَقًا فِيهَا.
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَتَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ لَا لِغَرَضِ أَنْ يُصَلِّيَهَا، بِأَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ، ثُمَّ صَلَّى تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ.
وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ.
25- وَأَمَّا حُكْمُ صَلَاةِ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ؛ لِحَدِيثِ عُقْبَةَ الْمَارِّ ذِكْرُهُ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا مُطْلَقًا.
وَلَا تَجُوزُ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ إِذَا حَضَرَتْ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ، ثُمَّ أُخِّرَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا بِدُونِ عُذْرٍ إِلَى الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ.وَلَا تَجُوزُ سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ تُلِيَتْ آيَتُهَا أَوْ سُمِعَتْ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ، ثُمَّ سَجَدَ لَهَا التَّالِي أَوِ السَّامِعُ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ.أَمَّا إِذَا حَضَرَتِ الْجِنَازَةُ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَهِيَ صَحِيحَةٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ إِذَا تُلِيَتْ آيَتُهَا فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ، ثُمَّ سَجَدَ لَهَا التَّالِي أَوِ السَّامِعُ فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَإِنَّهَا تَصِحُّ مَعَ الْكَرَاهَةِ.
وَدَلِيلُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، إِذَا حَضَرَتِ الْجِنَازَةُ فِي الْوَقْتِ غَيْرِ الْمَكْرُوهِ، ثُمَّ أُخِّرَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا إِلَى الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ: حَدِيثُ عُقْبَةَ الْمَارُّ ذِكْرُهُ.وَدَلِيلُهُمْ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ مَعَ الْكَرَاهَةِ: أَنَّ مَا وَجَبَ فِي وَقْتٍ نَاقِصٍ يُؤَدَّى فِي النَّاقِصِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَمَا وَجَبَ فِي كَامِلٍ لَا يُؤَدَّى فِي النَّاقِصِ، وَمَنْ أَجْلِ ذَلِكَ صَحَّ عَصْرُ الْيَوْمِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، إِذَا أُدِّيَ فِي وَقْتِ الِاصْفِرَارِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ فِي نَاقِصٍ فَيُؤَدَّى كَمَا وَجَبَ، وَلَمْ يَصِحَّ عَصْرُ أَمْسِ إِذَا أَدَّاهُ فِي وَقْتِ الِاصْفِرَارِ الْيَوْمَ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ فِي كَامِلٍ فَلَا يُؤَدَّى فِي النَّاقِصِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ قَضَاءِ الْفَائِتَةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ؛ لِحَدِيثِ: «إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلَاةِ أَوْ غَفَلَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا»، دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى جَوَازِ قَضَاءِ الْفَائِتَةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ عِنْدَ التَّذَكُّرِ.
ثَانِيًا: أَوْقَاتُ الْكَرَاهَةِ لِأَمْرٍ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ
26- وَهِيَ عَشْرَةُ أَوْقَاتٍ، كَمَا ذَكَرَهَا الشُّرُنْبُلَالِيُّ: وَأَوْصَلَهَا ابْنُ عَابِدِينَ إِلَى نَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ مَوْضِعًا، أَهَمُّهَا:
الْوَقْتُ الْأَوَّلُ: قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ.
27- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى كَرَاهِيَةِ التَّنَفُّلِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ إِلاَّ بِسُنَّةِ الْفَجْرِ.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْوِتْرَ إِذَا كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يُصَلِّيَهُ بِاللَّيْلِ، فَلَمْ يُصَلِّهِ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ.
وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «لِيُبَلِّغَ شَاهِدُكُمْ غَائِبَكُمْ، وَلَا تُصَلُّوا بَعْدَ الْفَجْرِ إِلاَّ سَجْدَتَيْنِ».
أَيْ لَا صَلَاةَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلاَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ.
الْوَقْتُ الثَّانِي: بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ:
28- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ الْمُطْلَقِ (وَهُوَ مَا لَا سَبَبَ لَهُ) بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، لِمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ».
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ أَدَاءِ كُلِّ صَلَاةٍ لَهَا سَبَبٌ، كَالْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالطَّوَافِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ فَائِتَةً فَرْضًا أَمْ نَفْلًا، «لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى بَعْدَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ: هُمَا اللَّتَانِ بَعْدَ الظُّهْرِ».
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ الْإِتْيَانِ بِسُنَّةِ الْفَجْرِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، إِذَا نَسِيَهَا وَلَمْ يَتَذَكَّرْهَا إِلاَّ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ فَهْدٍ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَصَلَّيْتُ مَعَهُ الصُّبْحَ، فَوَجَدَنِي أُصَلِّي، فَقَالَ: مَهْلًا يَا قَيْسُ أَصَلَاتَانِ مَعًا؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ أَكُنْ رَكَعْتُ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ.قَالَ: فَلَا إِذَنْ» ظَنَّ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّ الرَّجُلَ يُصَلِّي الصُّبْحَ بَعْدَ أَنْ صَلاَّهُ مَعَهُ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ يُصَلِّي سُنَّةَ الْفَجْرِ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ.وَلِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَضَى سُنَّةَ الظُّهْرِ بَعْدِ الْعَصْرِ، وَسُنَّةُ الْفَجْرِ فِي مَعْنَاهَا.
الْوَقْتُ الثَّالِثُ: بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ:
29- ذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ الْمُطْلَقِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، لِحَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ الَّذِي تَقَدَّمَ: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ».
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ قَضَاءِ سُنَّةِ الظُّهْرِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى نَافِلَةَ الظُّهْرِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ.
الْوَقْتُ الرَّابِعُ: قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ:
30- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ إِلاَّ الْمَغْرِبَ».وَالْمُرَادُ بِالْأَذَانَيْنِ: الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ، فَبَيْنَ أَذَانِ الصُّبْحِ وَإِقَامَتِهِ سُنَّةُ الْفَجْرِ، وَبَيْنَ أَذَانِ الظُّهْرِ وَإِقَامَتِهِ سُنَّةُ الظُّهْرِ الْقَبْلِيَّةُ، وَبَيْنَ أَذَانِ الْعَصْرِ وَإِقَامَتِهِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ مَنْدُوبَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبَيْنَ أَذَانِ الْعِشَاءِ وَإِقَامَتِهِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ مَنْدُوبَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلاَّ الْمَغْرِبَ لِقِصَرِ وَقْتِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ سُنَّةٌ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ؛ لِلْأَمْرِ بِهِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُد «صَلُّوا قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ»، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: هُمَا جَائِزَتَانِ، وَلَيْسَتَا بِسُنَّةٍ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: «كُنَّا بِالْمَدِينَةِ فَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ ابْتَدَرُوا السَّوَارِيَ، فَيَرْكَعُونَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ الْغَرِيبَ لَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ، فَيَحْسِبُ أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ صُلِّيَتْ مِنْ كَثْرَةِ مَنْ يُصَلِّيهِمَا».
الْوَقْتُ الْخَامِسُ: عِنْدَ خُرُوجِ الْخَطِيبِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ صَلَاتِهِ:
31- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ عِنْدِ خُرُوجِ الْخَطِيبِ إِلَى الْمِنْبَرِ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ أَنْصِتْ- وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ- فَقَدْ لَغَوْتَ».دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ مَنْ يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِالْإِنْصَاتِ، كَانَ أَمْرُهُ لَغْوًا مِنَ الْكَلَامِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ بِالْإِنْصَاتِ- وَهُوَ أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ- لَغْوًا مِنَ الْكَلَامِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، كَانَ التَّنَفُّلُ لَغْوًا مِنَ الْأَعْمَالِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، أَضِفْ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ التَّنَفُّلَ يُفَوِّتُ الِاسْتِمَاعَ إِلَى الْخَطِيبِ الَّذِي هُوَ وَاجِبٌ، فَلَا يُتْرَكُ الْوَاجِبُ مِنْ أَجْلِ النَّفْلِ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ لِمَنْ دَخَلَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَأَجَازُوا التَّنَفُّلَ بِرَكْعَتَيْنِ.
لِحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: «جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ فَجَلَسَ، فَقَالَ لَهُ: يَا سُلَيْكُ قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا».
الْوَقْتُ السَّادِسُ: عِنْدَ الْإِقَامَةِ:
32- ذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ عِنْدَ الْإِقَامَةِ لِلصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، إِلاَّ سُنَّةَ الْفَجْرِ إِذَا لَمْ يَخَفْ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ، أَمَّا إِذَا خَافَ فَوْتَهَا تَرَكَهَا، وَإِنَّمَا كُرِهَ التَّنَفُّلُ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ».وَاسْتَثْنَى مِنَ الْحَدِيثِ سُنَّةَ الْفَجْرِ لِكَوْنِهَا آكَدَ السُّنَنِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَ الْإِمَامَ يُصَلِّي الصُّبْحَ، فَلْيَدْخُلْ مَعَهُ فِي صَلَاتِهِ، وَيَتْرُكْ سُنَّةَ الْفَجْرِ.وَإِنْ كَانَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ: فَإِنْ خَافَ أَنْ يَفُوتَهُ الْإِمَامُ بِرَكْعَةٍ تَرَكَ سُنَّةَ الْفَجْرِ وَقَضَاهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَإِنْ لَمْ يَخَفْ أَنْ يَفُوتَهُ الْإِمَامُ بِرَكْعَةٍ أَتَى بِالسُّنَّةِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِهِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَكَوْنِهِ دَاخِلَهُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ وَصَلَّى سُنَّةَ الْفَجْرِ، وَالْإِمَامُ يُصَلِّي الصُّبْحَ، كَانَتَا صَلَاتَيْنِ مَعًا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَيَكُونُ مُخْتَلِفًا مَعَ الْإِمَامِ، فَهُوَ يُصَلِّي نَفْلًا، وَالْإِمَامُ يُصَلِّي فَرْضًا، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: «سَمِعَ قَوْمٌ الْإِقَامَةَ، فَقَامُوا يُصَلُّونَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أَصَلَاتَانِ مَعًا؟ أَصَلَاتَانِ مَعًا؟» وَذَلِكَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَ الصُّبْحِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا يَشْرَعُ فِي صَلَاةٍ نَافِلَةٍ وَلَوْ رَاتِبَةً، وَلَوْ شَرَعَ فِيهَا لَا تَنْعَقِدُ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ سُنَّةُ الْفَجْرِ وَغَيْرُهَا مِنَ السُّنَنِ؛ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ.
الْوَقْتُ السَّابِعُ: قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَبَعْدَهَا:
33- ذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ فِي الْمَنْزِلِ وَالْمَسْجِدِ، وَبَعْدَ الصَّلَاةِ يُكْرَهُ التَّنَفُّلُ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا يُكْرَهُ فِي الْمَنْزِلِ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ لَا يُصَلِّي قَبْلَ الْعِيدِ شَيْئًا، فَإِذَا رَجَعَ إِلَى الْمَنْزِلِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ».
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَبَعْدَهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا فِي الْمُصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ التَّنَفُّلُ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا بَعْدَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ لِغَيْرِ الْإِمَامِ.
الْوَقْتُ الثَّامِنُ: بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ فِي كُلٍّ مِنْ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ:
34- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى كَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ جَمْعَ تَقْدِيمٍ فِي عَرَفَةَ، وَالْمَجْمُوعَتَيْنِ جَمْعَ تَأْخِيرٍ فِي مُزْدَلِفَةَ، فَإِذَا جَمَعَ الْإِمَامُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ، يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ، وَيَتْرُكُ سُنَّةَ الظُّهْرِ الْبَعْدِيَّةَ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ.فَيُصَلِّي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ، وَيَتْرُكُ سُنَّةَ الْمَغْرِبِ الْبَعْدِيَّةَ؛ لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَتَطَوَّعْ بَيْنَهُمَا.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَأَمَّا الْفَصْلُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِعَمَلٍ غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ نَزَلَ فَتَوَضَّأَ، فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الْعِشَاءُ فَصَلَّى، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا».وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ السُّنَّةَ أَلاَّ يَتَطَوَّعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ.
الْوَقْتُ التَّاسِعُ: عِنْدَ ضِيقِ وَقْتِ الْمَكْتُوبَةِ:
35- لَا يُعْلَمُ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّنَفُّلُ عِنْدَ ضِيقِ وَقْتِ الْمَكْتُوبَةِ، فَإِذَا ضَاقَ وَقْتُ الظُّهْرِ مَثَلًا، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلاَّ مَا يَسَعُ صَلَاتَهُ، حَرُمَ التَّنَفُّلُ لِمَا فِي التَّنَفُّلِ مِنْ تَرْكِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالِاشْتِغَالِ بِالنَّفْلِ، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَمْ تَنْعَقِدْ نَافِلَةً- وَلَوْ رَاتِبَةً- مَعَ ضِيقِ الْوَقْتِ.
حُكْمُ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا
تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ بِلَا عُذْرٍ:
36- لَا يُعْلَمُ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا بِدُونِ عُذْرٍ ذَنْبٌ عَظِيمٌ، لَا يُرْفَعُ إِلاَّ بِالتَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ عَلَى مَا فَرَّطَ مِنَ الْعَبْدِ، وَقَدْ سَمَّى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ أَيْ مُقَصِّرٌ، حَيْثُ قَالَ: «لَيْسَ التَّفْرِيطُ فِي النَّوْمِ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ».
37- أَمَّا تَأْخِيرُهَا بِعُذْرِ النِّسْيَانِ، فَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ أَيْضًا فِي أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ عَلَى هَذَا التَّأْخِيرِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».
38- وَأَمَّا تَأْخِيرُهَا بِعُذْرِ النَّوْمِ، فَالَّذِي يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ، فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا».
أَنَّ النَّوْمَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا لَا يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَلَا يُعْتَبَرُ مُفَرِّطًا، وَقَدْ نَامَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي حَدِيثِ التَّعْرِيسِ عَنْ «أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَيْلَةً، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: لَوْ عَرَّسْتَ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَخَافُ أَنْ تَنَامُوا عَنِ الصَّلَاةِ، قَالَ بِلَالٌ: أَنَا أُوقِظُكُمْ، فَاضْطَجَعُوا، وَأَسْنَدَ بِلَالٌ ظَهْرَهُ إِلَى رَاحِلَتِهِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ، فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَقَالَ: يَا بِلَالُ أَيْنَ مَا قُلْتَ؟ فَقَالَ: مَا أُلْقِيَتْ عَلَيَّ نَوْمَةٌ مِثْلُهَا قَطُّ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ، وَرَدَّهَا عَلَيْكُمْ حِينَ شَاءَ، يَا بِلَالُ قُمْ فَأَذِّنِ النَّاسَ بِالصَّلَاةِ، فَتَوَضَّأْ، فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ، وَابْيَاضَّتْ، قَامَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ» غَيْرَ أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ نَامَ تَفُوتُهُ الصَّلَاةُ يُكَلِّفُ أَحَدًا بِإِيقَاظِهِ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.وَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ يُكْرَهُ النَّوْمُ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ، لِحَدِيثِ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا».
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ يُكْرَهُ النَّوْمُ قَبْلَ الصَّلَاةِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَالظَّاهِرُ عِنْدَهُمْ كَرَاهَةُ النَّوْمِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، أَمَّا قَبْلَ دُخُولِهِ فَجَائِزٌ عِنْدَهُمْ.
39- أَمَّا تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا، أَوْ تَقْدِيمُهَا بِعُذْرِ السَّفَرِ أَوِ الْمَطَرِ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بِعُذْرِ السَّفَرِ أَوِ الْمَطَرِ لِمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ «ابْنِ عُمَرَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا عَجَّلَ بِهِ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ يُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ».وَرَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ- أَيْ قَبْلَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ عَنْ وَسَطِ السَّمَاءِ- أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ زَاغَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ».دَلَّ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا كَانَ مُسَافِرًا، وَأَسْرَعَ فِي السَّيْرِ؛ لِيَصِلَ إِلَى غَرَضِهِ فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ، أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ.وَدَلَّ الْحَدِيثُ الثَّانِي عَلَى أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا ابْتَدَأَ السَّفَرَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الظُّهْرِ، أَخَّرَ الظُّهْرَ وَجَمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَصْرِ، وَإِذَا ابْتَدَأَ السَّفَرَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الظُّهْرِ، صَلاَّهَا ثُمَّ سَافَرَ، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَصْرِ، وَيُسْتَدَلُّ لِلْجُمْهُورِ أَيْضًا بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِلسَّفَرِ وَغَيْرِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلاَّ فِي عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ، فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَيَجْمَعُ الْإِمَامُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ جَمْعَ تَقْدِيمٍ، بِأَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِعَرَفَاتٍ، وَيَجْمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ جَمْعَ تَأْخِيرٍ بِمُزْدَلِفَةَ فَيُصَلِّي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ.
وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ لِجَوَازِ هَذَا الْجَمْعِ: أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ لَا عُمْرَةٍ، وَأَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصَّلَاةُ بِجَمَاعَةٍ، وَأَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ فِي جَمْعِ عَرَفَةَ هُوَ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ.
وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ- صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ- أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ بِجَمَاعَةٍ، وَأَجَازُوا لِلْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْجَمْعِ وَلَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا، أَمَّا الْجَمْعُ فِي مُزْدَلِفَةَ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ غَيْرُ الْإِحْرَامِ وَالْمَكَانِ، وَهُوَ مُزْدَلِفَةُ.
40- وَقَدْ تَضَمَّنَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَمْرَيْنِ: (الْأَوَّلُ) أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ بِالشُّرُوطِ السَّابِقَةِ. (الثَّانِي) لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ بِعُذْرِ سَفَرٍ أَوْ مَطَرٍ.
أَمَّا الْأَمْرُ الْأَوَّلُ فَدَلِيلُهُ: أَنَّ الَّذِينَ رَوَوْا نُسُكَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَجِّهِ، اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ هَذَا الْجَمْعَ الْمَذْكُورَ.
وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي- وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي غَيْرِ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ بِعُذْرِ سَفَرٍ أَوْ مَطَرٍ- فَدَلِيلُهُ: أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةَ عُرِفَتْ مُؤَقَّتَةً بِأَوْقَاتِهَا بِالدَّلَائِلِ الْمَقْطُوعِ بِهَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْإِجْمَاعِ، فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهَا عَنْ أَوْقَاتِهَا بِنَوْعٍ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالسَّفَرُ أَوِ الْمَطَرُ لَا أَثَرَ لَهُمَا فِي تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا أَوْ تَقْدِيمِهَا عَنْ وَقْتِهَا.
مَنْ لَمْ يَجِدْ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ
41- اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِيمَنْ لَمْ يَجِدْ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ، كَسُكَّانِ الْمَنَاطِقِ الْقُطْبِيَّةِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَنَاطِقَ تَسْتَمِرُّ فِي نَهَارٍ دَائِمٍ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَفِي لَيْلٍ دَائِمٍ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أُخْرَى، كَمَا يَقُولُ الْجُغْرَافِيُّونَ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَى سُكَّانِ هَذِهِ الْمَنَاطِقِ- إِنْ كَانُوا مُسْلِمِينَ- أَنْ يُصَلُّوا الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَمْ يَجِدُوا وَقْتًا لَهَا، بِأَنْ يُقَدِّرُوا لِكُلِّ صَلَاةٍ وَقْتًا أَوْ تَسْقُطُ عَنْهُمْ هَذِهِ الصَّلَوَاتُ؟.
وَكَذَلِكَ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْمَنَاطِقِ الْقُطْبِيَّةِ، تَأْتِي فِيهَا فَتَرَاتٌ لَا يُوجَدُ وَقْتُ الْعِشَاءِ، أَوْ يَطْلُعُ الْفَجْرُ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ مُبَاشَرَةً.
وَفِي بَعْضِ الْمَنَاطِقِ لَا تَغِيبُ الشَّمْسُ مُطْلَقًا.
ذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى عَدَمِ سُقُوطِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ عَنْهُمْ، وَيُقَدِّرُونَ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَقْتًا، فَفِي السِّتَّةِ الْأَشْهُرِ الَّتِي تَسْتَمِرُّ فِي نَهَارٍ دَائِمٍ يُقَدِّرُونَ لِلْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالْوِتْرِ وَالْفَجْرِ وَقْتًا، مِثْلُ ذَلِكَ السِّتَّةُ الْأَشْهُرِ الْأُخْرَى يُقَدِّرُونَ لِلصُّبْحِ وَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَقْتًا، بِاعْتِبَارِ أَقْرَبِ الْبِلَادِ الَّتِي لَا تَتَوَارَى فِيهَا الْأَوْقَاتُ الْخَمْسَةُ.
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَيَّامِ الدَّجَّالِ، الَّذِي هُوَ مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ الْكُبْرَى، فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِالتَّقْدِيرِ فِيهَا، فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ قَالَ: «ذَكَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الدَّجَّالَ وَلُبْثَهُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا: يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ.قَالَ الرَّاوِي: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ الْيَوْمَ الَّذِي كَالسَّنَةِ، أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِ اقْدُرُوا لَهُ».أَيْ صَلُّوا صَلَاةَ سَنَةٍ فِي الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ كَسَنَةٍ، وَقَدِّرُوا لِكُلِّ صَلَاةٍ وَقْتًا. وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى سُقُوطِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَمْ يَجِدُوا وَقْتًا لَهَا؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ سَبَبٌ لِلْوُجُوبِ، فَإِذَا عُدِمَ السَّبَبُ- وَهُوَ الْوَقْتُ- عُدِمَ الْمُسَبَّبُ وَهُوَ الْوُجُوبُ.
وَهَذَا يَنْطَبِقُ عَلَى الْبِلَادِ الَّتِي يَقْصُرُ فِيهَا اللَّيْلُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي الصَّيْفِ، فَقَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ الْأَحْمَرُ، يَظْهَرُ الْفَجْرُ الصَّادِقُ فَلَا يُوجَدُ وَقْتٌ لِلْعِشَاءِ وَالْوِتْرِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْعِشَاءِ مَغِيبُ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ، وَقَدْ ظَهَرَ الْفَجْرُ الصَّادِقُ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ.
فَذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ إِلَى عَدَمِ سُقُوطِ الْوِتْرِ وَالْعِشَاءِ عَنْ أَهْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ، بَلْ يُقَدِّرُونَ لِلْعِشَاءِ وَالْوِتْرِ وَقْتًا بِاعْتِبَارِ أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِمْ.وَذَهَبَ بَعْضٌ آخَرُ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى سُقُوطِ الْوِتْرِ وَالْعِشَاءِ، وَهُوَ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ صَاحِبُ نُورِ الْإِيضَاحِ وَعِبَارَتُهُ: وَمَنْ لَمْ يَجِدْ وَقْتَهَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ.لَكِنَّهُ خِلَافُ الْمَذْهَبِ وَمَا عَلَيْهِ الْمُتُونُ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى تَقْدِيرِ مَغِيبِ شَفَقِ أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا كَانَ أَقْرَبُ الْبِلَادِ إِلَيْهِمْ يَغِيبُ فِيهَا الشَّفَقُ بَعْدَ سَاعَةٍ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَمُدَّةُ اللَّيْلِ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ ثَمَانِي سَاعَاتٍ، فَيَكُونُ أَوَّلُ الْعِشَاءِ عِنْدَهُمْ بَعْدَ سَاعَةٍ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَإِذَا كَانَتْ مُدَّةُ اللَّيْلِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا عِشَاءٌ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَاعَةً، فَيُقَدَّرُ مَغِيبُ الشَّفَقِ عِنْدَهُمْ بِسَاعَةٍ وَنِصْفٍ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ بَقَاءِ الشَّفَقِ فِي أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِمْ سَاعَةٌ، وَهِيَ تُعَادِلُ الثُّمُنَ مِنَ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ عِنْدَهُمْ ثَمَانِي سَاعَاتٍ، وَالْبِلَادُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا عِشَاءٌ وَلَيْلُهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً، يُقَدَّرُ لِغِيَابِ الشَّفَقِ ثُمُنَ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَهِيَ سَاعَةٌ وَنِصْفٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ قَضَاءِ الْعِشَاءِ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُمْ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ نَقَلُوا فِيهَا الْخِلَافَ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ مِنْ مَشَايِخِنَا وَهُمُ: الْبَقَّالِيُّ وَالْحَلْوَانِيُّ وَالْبُرْهَانِيُّ الْكَبِيرُ، وَأَفْتَى الْبَقَّالِيُّ: بِعَدَمِ الْوُجُوبِ، وَكَانَ الْحَلْوَانِيُّ يُفْتِي بِالْقَضَاءِ، ثُمَّ وَافَقَ الْبَقَّالِيَّ حِينَمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِ مَنْ يَسْأَلُهُ عَمَّنْ أَسْقَطَ صَلَاةً مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ: أَيَكْفُرُ؟ فَأَجَابَ الْبَقَّالِيُّ السَّائِلَ: مَنْ قُطِعَتْ يَدَاهُ أَوْ رِجْلَاهُ كَمْ فُرُوضُ وُضُوئِهِ؟ قَالَ: ثَلَاثٌ.قَالَ: فَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ، فَاسْتَحْسَنَ الْحَلْوَانِيُّ، وَرَجَعَ إِلَى قَوْلِ الْبَقَّالِيِّ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ.أَمَّا الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ فَقَدْ رَجَّحَ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ، وَمَنَعَ مَا أَفْتَى بِهِ الْبَقَّالِيُّ مِنَ الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ لِعَدَمِ السَّبَبِ وَهُوَ الْوَقْتُ، كَمَا يَسْقُطُ غُسْلُ الْيَدَيْنِ عَنْ مَقْطُوعِهِمَا.
وَقَالَ: لَا يَرْتَابُ مُتَأَمِّلٌ فِي ثُبُوتِ الْفَرْقِ بَيْنَ عَدَمِ مَحَلِّ الْفَرْضِ، وَبَيْنَ عَدَمِ السَّبَبِ وَهُوَ الْوَقْتُ.إِلَى أَنْ قَالَ: وَانْتِفَاءُ الدَّلِيلِ عَلَى الشَّيْءِ لَا يَلْزَمُ فِيهِ انْتِفَاءُ هَذَا الشَّيْءِ؛ لِجَوَازِ دَلِيلٍ آخَرَ.وَقَدْ وُجِدَ وَهُوَ مَا تَوَاطَأَتْ عَلَيْهِ أَخْبَارُ الْإِسْرَاءِ، مِنْ فَرْضِ اللَّهِ تَعَالَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَجَعْلِهَا شَرْعًا عَامًّا لِأَهْلِ الْآفَاقِ، لَا تَفْضِيلَ بَيْنَ قُطْرٍ وَقُطْرٍ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ مُصَحَّحَانِ فِي الْمَذْهَبِ، وَالْأَرْجَحُ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ، لَا سِيَّمَا إِذَا قَالَ بِهِ إِمَامٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ- رضي الله عنه-، وَهَلْ يَنْوِي الْقَضَاءَ أَوْ لَا يَنْوِيهِ؟ ذَكَرَ فِي الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَنْوِي الْقَضَاءَ لِفَقْدِ وَقْتِ الْأَدَاءِ، وَاعْتَرَضَهُ الزَّيْلَعِيُّ بِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَنْوِ الْقَضَاءَ يَكُونُ أَدَاءً، ضَرُورَةً لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ لَيْسَتْ أَدَاءً؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي صُلِّيَتْ فِيهِ لَيْسَ وَقْتًا لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ، بَلْ وَقْتٌ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ.
وَمَعْنَى التَّقْدِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: افْتِرَاضُ أَنَّ الْوَقْتَ مَوْجُودٌ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ وَقْتًا لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَعْنَى التَّقْدِيرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ سَابِقًا مِنْ مَذْهَبِهِمْ.
أَمَّا الْبِلَادُ الَّتِي يَقْصُرُ فِيهَا وَقْتُ الظُّهْرِ، فَيَبْلُغُ ظِلُّ الشَّيْءِ مِثْلَهُ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ عَنْ وَسَطِ السَّمَاءِ بِوَقْتٍ قَصِيرٍ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ الْمُصَلِّي مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ، فَلَمْ نَجِدْ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ نَصًّا عَلَى حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
261-موسوعة الفقه الكويتية (بدعة 1)
بِدْعَةٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الْبِدْعَةُ لُغَةً: مِنْ بَدَعَ الشَّيْءَ يَبْدَعُهُ بَدْعًا، وَابْتَدَعَهُ: إِذَا أَنْشَأَهُ وَبَدَأَهُ.
وَالْبِدْعُ: الشَّيْءُ الَّذِي يَكُونُ أَوَّلًا، وَمِنْهُ قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} أَيْ لَسْتُ بِأَوَّلِ رَسُولٍ بُعِثَ إِلَى النَّاسِ، بَلْ قَدْ جَاءَتِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلُ، فَمَا أَنَا بِالْأَمْرِ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ حَتَّى تَسْتَنْكِرُونِي.
وَالْبِدْعَةُ: الْحَدَثُ، وَمَا ابْتُدِعَ فِي الدِّينِ بَعْدَ الْإِكْمَالِ.
وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الْمُبْتَدِعُ الَّذِي يَأْتِي أَمْرًا عَلَى شَبَهٍ لَمْ يَكُنْ، بَلِ ابْتَدَأَهُ هُوَ.وَأَبْدَعَ وَابْتَدَعَ وَتَبَدَّعَ: أَتَى بِبِدْعَةٍ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} وَبَدَّعَهُ: نَسَبَهُ إِلَى الْبِدْعَةِ، وَالْبَدِيعُ: الْمُحْدَثُ الْعَجِيبُ، وَأَبْدَعْتُ الشَّيْءَ: اخْتَرَعْتُهُ لَا عَلَى مِثَالٍ، وَالْبَدِيعُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَاهُ: الْمُبْدِعُ، لِإِبْدَاعِهِ الْأَشْيَاءَ وَإِحْدَاثِهِ إِيَّاهَا.
أَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ، فَقَدْ تَعَدَّدَتْ تَعْرِيفَاتُ الْبِدْعَةِ وَتَنَوَّعَتْ؛ لِاخْتِلَافِ أَنْظَارِ الْعُلَمَاءِ فِي مَفْهُومِهَا وَمَدْلُولِهَا.
فَمِنْهُمْ مَنْ وَسَّعَ مَدْلُولَهَا، حَتَّى أَطْلَقَهَا عَلَى كُلِّ مُسْتَحْدَثٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَيَّقَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، فَتَقَلَّصَ بِذَلِكَ مَا يَنْدَرِجُ تَحْتَهَا مِنَ الْأَحْكَامِ.
وَسَنُوجِزُ هَذَا فِي اتِّجَاهَيْنِ.
الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ:
2- أَطْلَقَ أَصْحَابُ الِاتِّجَاهِ الْأَوَّلِ الْبِدْعَةَ عَلَى كُلِّ حَادِثٍ لَمْ يُوجَدْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْعِبَادَاتِ أَمِ الْعَادَاتِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَذْمُومًا أَمْ غَيْرَ مَذْمُومٍ.وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ، وَمِنْ أَتْبَاعِهِ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَالنَّوَوِيُّ، وَأَبُو شَامَةَ.وَمِنَ الْمَالِكِيَّةِ: الْقَرَافِيُّ، وَالزَّرْقَانِيُّ.وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ: ابْنُ عَابِدِينَ.وَمِنَ الْحَنَابِلَةِ: ابْنُ الْجَوْزِيِّ.وَمِنَ الظَّاهِرِيَّةِ: ابْنُ حَزْمٍ.
وَيَتَمَثَّلُ هَذَا الِاتِّجَاهُ فِي تَعْرِيفِ الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ لِلْبِدْعَةِ وَهُوَ: أَنَّهَا فِعْلُ مَا لَمْ يُعْهَدْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى بِدْعَةٍ وَاجِبَةٍ، وَبِدْعَةٍ مُحَرَّمَةٍ، وَبِدْعَةٍ مَنْدُوبَةٍ، وَبِدْعَةٍ مَكْرُوهَةٍ، وَبِدْعَةٍ مُبَاحَةٍ.
وَضَرَبُوا لِذَلِكَ أَمْثِلَةً:
فَالْبِدْعَةُ الْوَاجِبَةُ: كَالِاشْتِغَالِ بِعِلْمِ النَّحْوِ الَّذِي يُفْهَمُ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِحِفْظِ الشَّرِيعَةِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.وَالْبِدْعَةُ الْمُحَرَّمَةُ مِنْ أَمْثِلَتِهَا: مَذْهَبُ الْقَدَرِيَّةِ، وَالْجَبْرِيَّةِ، وَالْمُرْجِئَةِ، وَالْخَوَارِجِ.وَالْبِدْعَةُ الْمَنْدُوبَةُ: مِثْلُ إِحْدَاثِ الْمَدَارِسِ، وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ، وَمِنْهَا صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ بِإِمَامٍ وَاحِدٍ.
وَالْبِدْعَةُ الْمَكْرُوهَةُ: مِثْلُ زَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ، وَتَزْوِيقِ الْمَصَاحِفِ.
وَالْبِدْعَةُ الْمُبَاحَةُ: مِثْلُ الْمُصَافَحَةِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ، وَمِنْهَا التَّوَسُّعُ فِي اللَّذِيذِ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ.وَاسْتَدَلُّوا لِرَأْيِهِمْ فِي تَقْسِيمِ الْبِدْعَةِ إِلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا:
(أ) قَوْلُ عُمَرَ- رضي الله عنه- فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ فِي رَمَضَانَ نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ.فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْقَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ.فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ، ثُمَّ عَزَمَ، فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى، وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ، قَالَ عُمَرُ: نِعْمَ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي يَقُومُونَ.يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ.وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ.
(ب) تَسْمِيَةُ ابْنِ عُمَرَ صَلَاةَ الضُّحَى جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ بِدْعَةً، وَهِيَ مِنَ الْأُمُورِ الْحَسَنَةِ.رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ جَالِسٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ، وَإِذَا نَاسٌ يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ صَلَاةَ الضُّحَى، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ صَلَاتِهِمْ- فَقَالَ: بِدْعَةٌ.
(ج) الْأَحَادِيثُ الَّتِي تُفِيدُ انْقِسَامَ الْبِدْعَةِ إِلَى الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ، وَمِنْهَا مَا رُوِيَ مَرْفُوعًا: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
الِاتِّجَاهُ الثَّانِي:
3- اتَّجَهَ فَرِيقٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى ذَمِّ الْبِدْعَةِ، وَقَرَّرُوا أَنَّ الْبِدْعَةَ كُلَّهَا ضَلَالَةٌ، سَوَاءٌ فِي الْعَادَاتِ أَوِ الْعِبَادَاتِ.وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْإِمَامُ مَالِكٌ وَالشَّاطِبِيُّ وَالطُّرْطُوشِيُّ.وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ: الْإِمَامُ الشُّمُنِّيُّ، وَالْعَيْنِيُّ.وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ: الْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ.وَمِنَ الْحَنَابِلَةِ: ابْنُ رَجَبٍ، وَابْنُ تَيْمِيَةَ.
وَأَوْضَحُ تَعْرِيفٍ يُمَثِّلُ هَذَا الِاتِّجَاهَ هُوَ تَعْرِيفُ الشَّاطِبِيِّ، حَيْثُ عَرَّفَ الْبِدْعَةَ بِتَعْرِيفَيْنِ:
الْأَوَّلُ أَنَّهَا: طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ، تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ، يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ.وَهَذَا التَّعْرِيفُ لَمْ يُدْخِلِ الْعَادَاتِ فِي الْبِدْعَةِ، بَلْ خَصَّهَا بِالْعِبَادَاتِ، بِخِلَافِ الِاخْتِرَاعِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا.
الثَّانِي أَنَّهَا: طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ تُضَاهِي الشَّرِيعَةَ يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا مَا يُقْصَدُ بِالطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ.وَبِهَذَا التَّعْرِيفِ تَدْخُلُ الْعَادَاتُ فِي الْبِدَعِ إِذَا ضَاهَتِ الطَّرِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ، كَالنَّاذِرِ لِلصِّيَامِ قَائِمًا لَا يَقْعُدُ مُتَعَرِّضًا لِلشَّمْسِ لَا يَسْتَظِلُّ، وَالِاقْتِصَارِ فِي الْمَأْكَلِ وَالْمَلْبَسِ عَلَى صِنْفٍ دُونَ صِنْفٍ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِذَمِّ الْبِدْعَةِ مُطْلَقًا بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا:
(أ) أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ قَدْ كَمُلَتْ قَبْلَ وَفَاةِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَجِيءَ إِنْسَانٌ وَيَخْتَرِعَ فِيهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا تُعْتَبَرُ اسْتِدْرَاكًا عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.وَتُوحِي بِأَنَّ الشَّرِيعَةَ نَاقِصَةٌ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ.
(ب) وَرَدَتْ آيَاتٌ قُرْآنِيَّةٌ تَذُمُّ الْمُبْتَدِعَةَ فِي الْجُمْلَةِ، مِنْ ذَلِكَ قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}
(ج) كُلُّ مَا وَرَدَ مِنْ أَحَادِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْبِدْعَةِ جَاءَ بِذَمِّهَا، مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ.فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا.فَقَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِوُلَاةِ الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ.فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»
(د) أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ، مِنْ هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَسْجِدًا، وَقَدْ أُذِّنَ فِيهِ، وَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِ، فَثَوَّبَ الْمُؤَذِّنُ، فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: «اخْرُجْ بِنَا مِنْ عِنْدِ هَذَا الْمُبْتَدِعِ» وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْمُحْدَثَاتُ:
4- الْحَدِيثُ نَقِيضُ الْقَدِيمِ، وَالْحُدُوثُ: كَوْنُ شَيْءٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ.وَمُحْدَثَاتُ الْأُمُورِ: مَا ابْتَدَعَهُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَى غَيْرِهَا.وَفِي الْحَدِيثِ: «إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ» وَالْمُحْدَثَاتُ جَمْعُ مُحْدَثَةٍ بِالْفَتْحِ، وَهِيَ: مَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إِجْمَاعٍ.وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى تَلْتَقِي الْمُحْدَثَاتُ مَعَ الْبِدْعَةِ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي.
ب- الْفِطْرَةُ:
5- الْفِطْرَةِ: الِابْتِدَاءُ وَالِاخْتِرَاعُ.وَفَطَرَ اللَّهُ الْخَلْقَ: خَلَقَهُمْ وَبَدَأَهُمْ، وَيُقَالُ: أَنَا فَطَرْتُ الشَّيْءَ أَيْ: أَوَّلُ مَنِ ابْتَدَأَهُ.وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَلْتَقِي مَعَ الْبِدْعَةِ فِي بَعْضِ مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّةِ.
ج- السُّنَّةُ:
6- السُّنَّةُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرِيقَةُ، حَسَنَةً كَانَتْ أَوْ سَيِّئَةً.قَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمَسْلُوكَةُ الْجَارِيَةُ فِي الدِّينِ الْمَأْثُورَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَوْ صَحْبِهِ.لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» وَهِيَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُقَابِلَةٌ لِلْبِدْعَةِ وَمُضَادَّةٌ لَهَا تَمَامًا.
وَلِلسُّنَّةِ إِطْلَاقَاتٌ أُخْرَى شَرْعِيَّةٌ اشْتُهِرَتْ بِهَا، مِنْهَا:
أَنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا، كَقَوْلِهِمْ: الْأَوْلَى بِالْإِمَامَةِ الْأَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ.وَمِنْهَا: مَا هُوَ أَحَدُ الْأَدِلَّةِ الْأَرْبَعَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ مَا صَدَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- غَيْرَ الْقُرْآنِ- مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَقْرِيرٍ.وَمِنْهَا: مَا يَعُمُّ النَّفَلَ، وَهُوَ مَا فِعْلُهُ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ مِنْ غَيْرِ افْتِرَاضٍ وَلَا وُجُوبٍ.
د- الْمَعْصِيَةُ:
7- الْعِصْيَانُ: خِلَافُ الطَّاعَةِ يُقَالُ: عَصَى الْعَبْدُ رَبَّهُ إِذَا خَالَفَ أَمْرَهُ، وَعَصَى فُلَانٌ أَمِيرَهُ: إِذَا خَالَفَ أَمْرَهُ.
وَشَرْعًا: عِصْيَانُ أَمْرِ الشَّارِعِ قَصْدًا، وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ.
فَهِيَ إِمَّا كَبَائِرُ وَهِيَ: مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حَدٌّ، أَوْ وَعِيدٌ بِالنَّارِ أَوِ اللَّعْنَةِ أَوِ الْغَضَبِ، أَوْ مَا اتَّفَقَتِ الشَّرَائِعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي تَحْدِيدِهَا.
وَإِمَّا صَغَائِرُ وَهِيَ: مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ إِذَا اجْتُنِبَ الْإِصْرَارُ عَلَيْهَا، لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْبِدْعَةُ أَعَمَّ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، حَيْثُ تَشْمَلُ الْمَعْصِيَةَ، كَالْبِدْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْمَكْرُوهَةِ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، وَغَيْرَ الْمَعْصِيَةِ كَالْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ وَالْمُبَاحَةِ.
هـ- الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ:
8- الْمَصْلَحَةُ لُغَةً كَالْمَنْفَعَةِ وَزْنًا وَمَعْنًى، فَهِيَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الصَّلَاحِ، أَوْ هِيَ اسْمٌ لِلْوَاحِدِ مِنَ الْمَصَالِحِ.
وَالْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ اصْطِلَاحًا هِيَ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ الْمُنْحَصِرِ فِي الضَّرُورِيَّاتِ.الْخَمْسِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ- رحمه الله-، أَوْ هِيَ اعْتِبَارُ الْمُنَاسِبِ الَّذِي لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ عِنْدَ الشَّاطِبِيِّ، أَوْ هِيَ أَنْ يَرَى الْمُجْتَهِدُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ رَاجِحَةٌ وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يَنْفِيهِ عِنْدَ ابْنِ تَيْمِيَةَ.أَوْ هِيَ أَنْ يُنَاطَ الْأَمْرُ بِاعْتِبَارٍ مُنَاسِبٍ لَمْ يَدُلَّ الشَّرْعُ عَلَى اعْتِبَارِهِ وَلَا إِلْغَائِهِ إِلاَّ أَنَّهُ مُلَائِمٌ لِتَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّعْرِيفَاتِ الْأُخْرَى الَّتِي يُرْجَعُ لِتَفَاصِيلِهَا إِلَى مُصْطَلَحِ (مَصْلَحَةٌ مُرْسَلَةٌ).
حُكْمُ الْبِدْعَةِ التَّكْلِيفِيُّ:
9- ذَهَبَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَالْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَأَبُو شَامَةَ، وَالنَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْإِمَامُ الْقَرَافِيُّ وَالزَّرْقَانِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنِيفَةِ إِلَى تَقْسِيمِ الْبِدْعَةِ تَبَعًا لِلْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ إِلَى: وَاجِبَةٍ أَوْ مُحَرَّمَةٍ أَوْ مَنْدُوبَةٍ أَوْ مَكْرُوهَةٍ أَوْ مُبَاحَةٍ.
وَضَرَبُوا لِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ أَمْثِلَةً:
فَمِنْ أَمْثِلَةِ الْبِدْعَةِ الْوَاجِبَةِ: الِاشْتِغَالُ بِعِلْمِ النَّحْوِ، الَّذِي يُفْهَمُ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِأَنَّ حِفْظَ الشَّرِيعَةِ وَاجِبٌ، وَلَا يَتَأَتَّى حِفْظُهَا إِلاَّ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.وَتَدْوِينُ الْكَلَامِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ لِتَمْيِيزِ الصَّحِيحِ مِنَ السَّقِيمِ؛ لِأَنَّ قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ حِفْظَ الشَّرِيعَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِيمَا زَادَ عَلَى الْقَدْرِ الْمُتَعَيِّنِ، وَلَا يَتَأَتَّى حِفْظُهَا إِلاَّ بِمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْبِدْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ: مَذْهَبُ الْقَدَرِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ وَالْمُجَسِّمَةِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْبِدْعَةِ الْمَنْدُوبَةِ: إِحْدَاثُ الْمَدَارِسِ وَبِنَاءُ الْقَنَاطِرِ وَصَلَاةُ التَّرَاوِيحِ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمَكْرُوهَةِ: زَخْرَفَةُ الْمَسَاجِدِ وَتَزْوِيقُ الْمَصَاحِفِ.
وَأَمَّا أَمْثِلَةُ الْبِدْعَةِ الْمُبَاحَةِ فَمِنْهَا: الْمُصَافَحَةُ عَقِيبَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَمِنْهَا التَّوَسُّعُ فِي اللَّذِيذِ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ.
هَذَا وَقَدْ قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ الْبِدْعَةَ الْمُحَرَّمَةَ إِلَى بِدْعَةٍ مُكَفِّرَةٍ وَغَيْرِ مُكَفِّرَةٍ، وَصَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي.
الْبِدْعَةُ فِي الْعَقِيدَةِ:
10- اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْبِدْعَةَ فِي الْعَقِيدَةِ مُحَرَّمَةٌ، وَقَدْ تَتَدَرَّجُ إِلَى أَنْ تَصِلَ إِلَى الْكُفْرِ.فَأَمَّا الَّتِي تَصِلُ إِلَى الْكُفْرِ فَهِيَ أَنْ تُخَالِفَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، كَبِدْعَةِ الْجَاهِلِيِّينَ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِي قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} وقوله تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} وَحَدَّدُوا كَذَلِكَ ضَابِطًا لِلْبِدْعَةِ الْمُكَفِّرَةِ، وَهِيَ: أَنْ يَتَّفِقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْبِدْعَةَ كُفْرٌ صُرَاحٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ.
الْبِدْعَةُ فِي الْعِبَادَاتِ:
اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْبِدْعَةَ فِي الْعِبَادَاتِ مِنْهَا مَا يَكُونُ حَرَامًا وَمَعْصِيَةً، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مَكْرُوهًا.
أ- الْبِدْعَةُ الْمُحَرَّمَةُ:
11- وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا: بِدْعَةُ التَّبَتُّلِ وَالصِّيَامِ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، وَالْخِصَاءِ لِقَطْعِ الشَّهْوَةِ فِي الْجِمَاعِ وَالتَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ.لِمَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثِ الرَّهْطِ الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ: «جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ.قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ الْآخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ.لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».
ب- الْبِدْعَةُ الْمَكْرُوهَةُ:
12- قَدْ تَكُونُ الْبِدْعَةُ فِي الْعِبَادَاتِ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ، مِثْلَ الِاجْتِمَاعِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ لِلدُّعَاءِ لِغَيْرِ الْحُجَّاجِ فِيهَا وَذِكْرِ السَّلَاطِينِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ لِلتَّعْظِيمِ، أَمَّا لِلدُّعَاءِ فَسَائِغٌ، وَكَزَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ.جَاءَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي الْبُحْتُرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَ رَجُلٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ أَنَّ قَوْمًا يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فِيهِمْ رَجُلٌ يَقُولُ: كُبِّرُوا اللَّهَ كَذَا وَكَذَا، وَسَبِّحُوا اللَّهَ كَذَا وَكَذَا، وَاحْمَدُوا اللَّهَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَإِذَا رَأَيْتَهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَأْتِنِي فَأَخْبِرْنِي بِمَجْلِسِهِمْ، فَأَتَاهُمْ فَجَلَسَ، فَلَمَّا سَمِعَ مَا يَقُولُونَ قَامَ فَأَتَى ابْنَ مَسْعُودٍ فَجَاءَ- وَكَانَ رَجُلًا حَدِيدًا- فَقَالَ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَقَدْ جِئْتُمْ بِبِدْعَةٍ ظُلْمًا، وَلَقَدْ فَضَلْتُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- عِلْمًا.فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُتْبَةَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ.فَقَالَ عَلَيْكُمْ بِالطَّرِيقِ فَالْزَمُوهُ، وَلَئِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لَتَضِلُّنَّ ضَلَالًا بَعِيدًا.
الْبِدْعَةُ فِي الْعَادَاتِ:
13- الْبِدْعَةُ فِي الْعَادَاتِ مِنْهَا الْمَكْرُوهُ، كَالْإِسْرَافِ فِي الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَنَحْوِهَا.وَمِنْهَا الْمُبَاحُ، مِثْلُ التَّوَسُّعِ فِي اللَّذِيذِ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ، وَلُبْسِ الطَّيَالِسَةِ، وَتَوْسِيعِ الْأَكْمَامِ، مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا اخْتِيَالٍ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الِابْتِدَاعَ فِي الْعَادَاتِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْعِبَادَاتِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَتِ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الِابْتِدَاعِ فِي الْعَادَاتِ لَوَجَبَ أَنْ تُعَدَّ كُلُّ الْعَادَاتِ الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ- مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَائِلِ النَّازِلَةِ- بِدَعًا مَكْرُوهَاتٍ، وَالتَّالِي بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ تِلْكَ الْعَادَاتِ الَّتِي بَرَزَتْ بَعْدَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ مُخَالِفَةٌ لَهُمْ؛ وَلِأَنَّ الْعَادَاتِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَدُورُ مَعَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ.
دَوَاعِي الْبِدْعَةِ وَأَسْبَابُهَا:
14- دَوَاعِي الْبِدْعَةِ وَأَسْبَابُهَا وَبَوَاعِثُهَا كَثِيرَةٌ وَمُتَعَدِّدَةٌ، يَصْعُبُ حَصْرُهَا؛ لِأَنَّهَا تَتَجَدَّدُ وَتَتَنَوَّعُ حَسَبَ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَشْخَاصِ، وَأَحْكَامُ الدِّينِ وَفُرُوعُهُ كَثِيرَةٌ، وَالِانْحِرَافُ عَنْهَا وَاتِّبَاعُ سُبُلِ الشَّيْطَانِ فِي كُلِّ حُكْمٍ مُتَعَدِّدُ الْوُجُوهِ.وَكُلُّ خُرُوجٍ إِلَى وَسِيلَةٍ مِنْ وَسَائِلِ الْبَاطِلِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ بَاعِثٍ.وَمَعَ ذَلِكَ فَمِنَ الْمُمْكِنِ إِرْجَاعُ الدَّوَاعِي وَالْأَسْبَابِ إِلَى مَا يَأْتِي:
أ- الْجَهْلِ بِوَسَائِلِ الْمَقَاصِدِ:
15- أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْقُرْآنَ عَرَبِيًّا لَا عُجْمَةَ فِيهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ جَارٍ فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ وَأَسَالِيبِهِ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فَقَالَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}.وَقَالَ: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تُفْهَمُ إِلاَّ إِذَا فَهِمَ اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ، لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} وَالْإِخْلَالُ فِي ذَلِكَ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْبِدْعَةِ.
ب- الْجَهْلِ بِالْمَقَاصِدِ:
16- مَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَعْلَمَهُ وَلَا يَجْهَلَهُ مِنَ الْمَقَاصِدِ أَمْرَانِ:
(1) أَنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ كَامِلَةً تَامَّةً لَا نَقْصَ فِيهَا وَلَا زِيَادَةَ، وَيَجِبُ أَنْ يُنْظَرُ إِلَيْهَا بِعَيْنِ الْكَمَالِ لَا بِعَيْنِ النَّقْصِ، وَأَنْ يَرْتَبِطَ بِهَا ارْتِبَاطَ ثِقَةٍ وَإِذْعَانٍ، فِي عَادَاتِهَا وَعِبَادَاتِهَا وَمُعَامَلَاتِهَا، وَأَلاَّ يَخْرُجَ عَنْهَا أَلْبَتَّةَ.وَهَذَا الْأَمْرُ أَغْفَلَهُ الْمُبْتَدِعَةُ فَاسْتَدْرَكُوا عَلَى الشَّرْعِ، وَكَذَبُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَقِيلَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: نَحْنُ لَمْ نَكْذِبْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَإِنَّمَا كَذَبْنَا لَهُ.وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ، الْمَعْرُوفِ بِالْأُرْدُنِّيِّ، أَنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَ الْكَلَامُ حَسَنًا لَمْ أَرَ فِيهِ بَأْسًا، أَجْعَلُ لَهُ إِسْنَادًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.
(2) أَنْ يُوقِنَ إِيقَانًا جَازِمًا أَنَّهُ لَا تَضَادَّ بَيْنَ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَبَيْنَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ، أَوْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ؛ لِأَنَّ النَّبْعَ وَاحِدٌ، وَمَا كَانَ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى، وَإِنَّ قَوْمًا اخْتَلَفَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ لِجَهْلِهِمْ، هُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ الرَّسُولُ بِقَوْلِهِ: «يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ»
فَيَتَحَصَّلُ مِمَّا قَدَّمْنَا كَمَالُ الشَّرِيعَةِ وَعَدَمُ التَّضَادِّ بَيْنَ نُصُوصِهَا.
أَمَّا كَمَالُ الشَّرِيعَةِ فَقَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}.
وَأَمَّا عَدَمُ التَّضَادِّ فِي اللَّفْظِ أَوِ الْمَعْنَى فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ الْمُتَدَبِّرَ لَا يَجِدُ فِي الْقُرْآنِ اخْتِلَافًا؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مُنَافٍ لِلْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}.
ج- الْجَهْلُ بِالسُّنَّةِ:
17- مِنَ الْأُمُورِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الْبِدْعَةِ الْجَهْلُ بِالسُّنَّةِ.
وَالْجَهْلُ بِالسُّنَّةِ يَعْنِي أَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ، جَهْلُ النَّاسِ بِأَصْلِ السُّنَّةِ.
وَالثَّانِي: جَهْلُهُمْ بِالصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِهِ، فَيَخْتَلِطُ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ.
أَمَّا جَهْلُهُمْ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، فَيَجْعَلُهُمْ يَأْخُذُونَ بِالْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَقَدْ وَرَدَتِ الْآثَارُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ تَنْهَى عَنْ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».. وَمِنْ جَهْلِهِمْ بِالسُّنَّةِ، جَهْلُهُمْ بِدَوْرِهَا فِي التَّشْرِيعِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَكَانَةَ السُّنَّةِ فِي التَّشْرِيعِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}.
د- تَحْسِينُ الظَّنِّ بِالْعَقْلِ:
18- عَدَّ الْعُلَمَاءُ مِنْ دَوَاعِي الْبِدْعَةِ تَحْسِينَ الظَّنِّ بِالْعَقْلِ، وَيَتَأَتَّى هَذَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُبْتَدِعَ يَعْتَمِدَ عَلَى عَقْلِهِ، وَلَا يَعْتَمِدُ عَلَى الْوَحْيِ وَإِخْبَارِ الْمَعْصُومِ- صلى الله عليه وسلم- فَيَجُرُّهُ عَقْلُهُ الْقَاصِرُ إِلَى أَشْيَاءَ بَعِيدَةٍ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، فَيَقَعُ بِذَلِكَ فِي الْخَطَأِ وَالِابْتِدَاعِ، وَيَظُنُّ أَنَّ عَقْلَهُ مُوَصِّلُهُ، فَإِذَا هُوَ مُهْلِكُهُ.
وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْعُقُولِ فِي إِدْرَاكِهَا حَدًّا تَنْتَهِي إِلَيْهِ لَا تَتَعَدَّاهُ، مِنْ نَاحِيَةِ الْكَمِّ وَمِنْ نَاحِيَةِ الْكَيْفِ.أَمَّا عِلْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَلَا يَتَنَاهَى، وَالْمُتَنَاهِي لَا يُسَاوِي مَا لَا يَتَنَاهَى.
وَيَتَخَلَّصُ مِنْ ذَلِكَ:
(1) أَنَّ الْعَقْلَ مَا دَامَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يُجْعَلُ حَاكِمًا بِإِطْلَاقٍ، وَقَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ حَاكِمٌ بِإِطْلَاقٍ، وَهُوَ الشَّرْعُ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَدِّمَ مَا حَقُّهُ التَّقْدِيمُ، وَيُؤَخِّرَ مَا حَقُّهُ التَّأْخِيرُ.
(2) إِذَا وَجَدَ الْإِنْسَانُ فِي الشَّرْعِ أَخْبَارًا يَقْتَضِي ظَاهِرُهَا خَرْقَ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ- الَّتِي لَمْ يَسْبِقْ لَهُ أَنْ رَآهَا أَوْ عَلِمَ بِهَا عِلْمًا صَحِيحًا- لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ الْإِنْكَارَ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ أَمَامَهُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: إِمَّا أَنْ يُصَدِّقَ بِهِ وَيَكِلَ الْعِلْمَ فِيهِ لِلرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ وَالْمُتَخَصِّصِينَ فِيهِ مُتَمَثِّلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}
الثَّانِي: يَتَأَوَّلُ عَلَى مَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ مِنَ الْآرَاءِ بِمُقْتَضَى الظَّاهِرِ.وَيَحْكُمُ هَذَا كُلَّهُ قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}.
هـ- اتِّبَاعُ الْمُتَشَابِهِ:
19- قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُتَشَابِهُ هُوَ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مَا تَقَابَلَتْ فِيهِ الْأَدِلَّةُ.وَقَدْ نَهَى الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ بِقَوْلِهِ: «إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ» وَقَدْ ذَكَرَهُمُ الْقُرْآنُ فِي قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}.فَلَيْسَ نَظَرُهُمْ فِي الدَّلِيلِ نَظَرَ الْمُسْتَبْصِرِ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَحْتَ حُكْمِهِ، بَلْ نَظَرُ مَنْ حَكَمَ بِالْهَوَى.ثُمَّ أَتَى بِالدَّلِيلِ كَالشَّاهِدِ لَهُ.
و- اتِّبَاعُ الْهَوَى:
20- يُطْلَقُ الْهَوَى عَلَى مَيْلِ النَّفْسِ وَانْحِرَافِهَا نَحْوَ الشَّيْءِ، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَيْلِ الْمَذْمُومِ وَالِانْحِرَافِ السَّيِّئِ.
وَنُسِبَتِ الْبِدَعُ إِلَى الْأَهْوَاءِ، وَسُمِّيَ أَصْحَابُهَا بِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ فَلَمْ يَأْخُذُوا الْأَدِلَّةَ مَأْخَذَ الِافْتِقَارِ إِلَيْهَا وَالتَّعْوِيلِ عَلَيْهَا، بَلْ قَدَّمُوا أَهْوَاءَهُمْ وَاعْتَمَدُوا عَلَى آرَائِهِمْ، ثُمَّ جَعَلُوا الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ مَنْظُورًا فِيهَا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ.
21- مَدَاخِلُ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ:
أ- اتِّبَاعُ الْعَادَاتِ وَالْآبَاءِ وَجَعْلُهَا دِينًا.قَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ هَؤُلَاءِ: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}
فَقَالَ الْحَقُّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ}
ب- رَأْيُ بَعْضِ الْمُقَلِّدِينَ فِي أَئِمَّتِهِمْ وَالتَّعَصُّبُ لَهُمْ، فَقَدْ يُؤَدِّي هَذَا التَّغَالِي فِي التَّقْلِيدِ إِلَى إِنْكَارِ بَعْضِ النُّصُوصِ وَالْأَدِلَّةِ أَوْ تَأْوِيلِهَا، وَعَدِّ مَنْ يُخَالِفُهُمْ مُفَارِقًا لِلْجَمَاعَةِ.
ج- التَّصَوُّفُ الْفَاسِدُ وَأَخْذُ مَا نُقِلَ عَنِ الْمُتَصَوِّفَةِ مِنَ الْأَحْوَالِ الْجَارِيَةِ عَلَيْهِمْ، أَوِ الْأَقْوَالِ الصَّادِرَةِ عَنْهُمْ دِينًا وَشَرِيعَةً، وَإِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِلنُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
د- التَّحْسِينُ وَالتَّقْبِيحُ الْعَقْلِيَّانِ.فَإِنَّ مَحْصُولَ هَذَا الْمَذْهَبِ تَحْكِيمُ عُقُولِ الرِّجَالِ دُونَ الشَّرْعِ، وَهُوَ أَصْلٌ مِنَ الْأُصُولِ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا أَهْلُ الِابْتِدَاعِ فِي الدِّينِ، بِحَيْثُ إِنَّ الشَّرْعَ إِنْ وَافَقَ آرَاءَهُمْ قَبِلُوهُ وَإِلاَّ رُدَّ.
هـ- الْعَمَلُ بِالْأَحْلَامِ.فَإِنَّ الرُّؤْيَا قَدْ تَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ أَخْلَاطٍ مُهْتَاجَةٍ.فَمَتَى تَتَعَيَّنُ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ النَّقِيَّةُ حَتَّى يُحْكَمَ بِهَا؟،. أَنْوَاعُ الْبِدْعَةِ:
تَنْقَسِمُ الْبِدْعَةُ مِنْ حَيْثُ قُرْبُهَا مِنَ الْأَدِلَّةِ أَوْ بُعْدُهَا عَنْهَا إِلَى حَقِيقِيَّةٍ وَإِضَافِيَّةٍ.
الْبِدْعَةُ الْحَقِيقِيَّةُ:
22- هِيَ الَّتِي لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، لَا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إِجْمَاعٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَا فِي الْجُمْلَةِ وَلَا فِي التَّفْصِيلِ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ بِدْعَةً حَقِيقِيَّةً؛ لِأَنَّهَا شَيْءٌ مُخْتَرَعٌ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُبْتَدِعُ يَأْبَى أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ الْخُرُوجُ عَنِ الشَّرْعِ؛ إِذْ هُوَ مُدَّعٍ أَنَّهُ دَاخِلٌ بِمَا اسْتَنْبَطَ تَحْتَ مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ، وَلَكِنْ ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى غَيْرُ صَحِيحَةٍ، لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، أَمَّا بِحَسَبِ نَفْسِ الْأَمْرِ فَبِالْعَرْضِ، وَأَمَّا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ فَإِنَّ أَدِلَّتَهُ شُبَهٌ وَلَيْسَتْ بِأَدِلَّةٍ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا: التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالرَّهْبَانِيَّةِ وَتَرْكِ الزَّوَاجِ مَعَ وُجُودِ الدَّاعِي إِلَيْهِ وَفَقْدِ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ، كَرَهْبَانِيَّةِ النَّصَارَى الْمَذْكُورَةِ فِي قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} فَهَذِهِ كَانَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، أَمَّا فِي الْإِسْلَامِ فَقَدْ نُسِخَتْ فِي شَرِيعَتِنَا بِمِثْلِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».
وَمِنْهَا: أَنْ يَفْعَلَ الْمُسْلِمُ مِثْلَ مَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْهِنْدِ فِي تَعْذِيبِ النَّفْسِ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ الشَّنِيعِ وَالْقَتْلِ بِالْأَصْنَافِ الَّتِي تَفْزَعُ مِنْهَا الْقُلُوبُ وَتَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ، مِثْلِ الْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ عَلَى جِهَةِ اسْتِعْجَالِ الْمَوْتِ لِنَيْلِ الدَّرَجَاتِ الْعُلْيَا وَالْقُرْبَى مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي زَعْمِهِمْ.
الْبِدْعَةُ الْإِضَافِيَّةُ:
23- وَهِيَ الَّتِي لَهَا شَائِبَتَانِ: إِحْدَاهُمَا لَهَا مِنَ الْأَدِلَّةِ مُتَعَلِّقٌ، فَلَا تَكُونُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ بِدْعَةً، وَالثَّانِيَةُ لَيْسَ لَهَا مُتَعَلِّقٌ إِلاَّ مِثْلَ مَا لِلْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ.وَلَمَّا كَانَ الْعَمَلُ لَهُ شَائِبَتَانِ، وَلَمْ يَتَخَلَّصْ لِأَحَدٍ الطَّرَفَيْنِ، وُضِعَتْ لَهُ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ؛ لِأَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ سُنَّةٌ لِاسْتِنَادِهَا إِلَى دَلِيلٍ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجِهَةِ الْأُخْرَى بِدْعَةٌ لِاسْتِنَادِهَا إِلَى شُبْهَةٍ لَا إِلَى دَلِيلٍ، أَوْ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَنِدَةٍ إِلَى شَيْءٍ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْبِدَعِ هُوَ مَثَارُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْبِدَعِ وَالسُّنَنِ.وَلَهُ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: صَلَاةُ الرَّغَائِبِ، وَهِيَ: اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ الْأُولَى مِنْ رَجَبٍ بِكَيْفِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّهَا بِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ مُنْكَرَةٌ.وَكَذَا صَلَاةُ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَهِيَ: مِائَةُ رَكْعَةٍ بِكَيْفِيَّةٍ خَاصَّةٍ.وَصَلَاةُ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ.
وَوَجْهُ كَوْنِهَا بِدْعَةً إِضَافِيَّةً: أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ، بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ إِلَى أَصْلِ الصَّلَاةِ، لِحَدِيثٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ «الصَّلَاةُ خَيْرٌ مَوْضُوعٌ» وَغَيْرُ مَشْرُوعَةٍ بِاعْتِبَارِ مَا عَرَضَ لَهَا مِنَ الْتِزَامِ الْوَقْتِ الْمَخْصُوصِ وَالْكَيْفِيَّةِ الْمَخْصُوصَةِ.فَهِيَ مَشْرُوعَةٌ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهَا، مُبْتَدَعَةٌ بِاعْتِبَارِ مَا عَرَضَ لَهَا.
الْبِدَعُ الْمُكَفِّرَةُ وَغَيْرُ الْمُكَفِّرَةِ:
24- الْبِدَعُ مُتَفَاوِتَةٌ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ هُوَ الْكَرَاهَةُ فَقَطْ، أَوِ التَّحْرِيمُ فَقَطْ.فَقَدْ وُجِدَ أَنَّهَا تَخْتَلِفُ فِي أَحْكَامِهَا، فَمِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ صُرَاحٌ، كَبِدْعَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي نَبَّهَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} الْآيَةَ، وقوله تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} وقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ}.
وَكَذَلِكَ بِدْعَةُ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الدِّينَ ذَرِيعَةً لِحِفْظِ النَّفْسِ وَالْمَالِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} فَهَذَا وَأَضْرَابُهُ لَا يَشُكُّ أَحَدٌ فِي أَنَّهُ كُفْرٌ صُرَاحٌ، لِابْتِدَاعِهِ أَشْيَاءَ أَنْكَرَتْهَا النُّصُوصُ وَتَوَعَّدَتْ عَلَيْهَا.
وَمِنْهَا مَا هُوَ كَبِيرَةٌ وَلَيْسَ بِكُفْرٍ، أَوْ يُخْتَلَفُ فِيهِ هَلْ هُوَ كُفْرٌ أَمْ لَا؟ كَبِدَعِ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ.وَمِنْهَا مَا هُوَ مَعْصِيَةٌ وَلَيْسَ بِكُفْرٍ اتِّفَاقًا، كَبِدْعَةِ التَّبَتُّلِ وَالصِّيَامِ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، وَالْخِصَاءِ بِقَطْعِ شَهْوَةِ الْجِمَاعِ، لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ سَبَقَ بَعْضٌ مِنْهَا وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
262-موسوعة الفقه الكويتية (بغاة 1)
بُغَاةٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: بَغَى عَلَى النَّاسِ بَغْيًا: أَيْ ظَلَمَ وَاعْتَدَى، فَهُوَ بَاغٍ وَالْجَمْعُ بُغَاةٌ، وَبَغَى: سَعَى بِالْفَسَادِ، وَمِنْهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ.
وَالْفُقَهَاءُ لَا يَخْرُجُونَ فِي الْجُمْلَةِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى إِلاَّ بِوَضْعِ بَعْضِ قُيُودٍ فِي التَّعْرِيفِ فَقَدْ عَرَّفُوا الْبُغَاةَ بِأَنَّهُمُ: الْخَارِجُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ الْحَقِّ بِتَأْوِيلٍ، وَلَهُمْ شَوْكَةٌ.
وَيُعْتَبَرُ بِمَنْزِلَةِ الْخُرُوجِ: الِامْتِنَاعُ مِنْ أَدَاءِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ الَّذِي يَطْلُبُهُ الْإِمَامُ، كَالزَّكَاةِ.
وَيُطْلَقُ عَلَى مَنْ سِوَى الْبُغَاةِ اسْمُ (أَهْلِ الْعَدْلِ) وَهُمُ الثَّابِتُونَ عَلَى مُوَالَاةِ الْإِمَامِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْخَوَارِجُ:
2- يَقُولُ الْجُرْجَانِيُّ: هُمُ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ الْعُشْرَ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ السُّلْطَانِ.وَهُمْ فِي الْأَصْلِ كَانُوا فِي صَفِّ الْإِمَامِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- فِي الْقِتَالِ، وَخَرَجُوا عَلَيْهِ لَمَّا قَبِلَ التَّحْكِيمَ.قَالُوا: لِمَ تُحَكِّمْ وَأَنْتَ عَلَى حَقٍّ.
وَيَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّهُمْ يَرَوْنَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- عَلَى بَاطِلٍ بِقَبُولِهِ التَّحْكِيمَ، وَيُوجِبُونَ قِتَالَهُ، وَيَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَيَسْبُونَ نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ فِي نَظَرِهِمْ كُفَّارٌ.
وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ بُغَاةٌ، وَلَا يَرَوْنَ تَكْفِيرَهُمْ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ إِلَى أَنَّهُمْ كُفَّارٌ مُرْتَدُّونَ.وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَ أَهْلَ الْحَدِيثِ عَلَى تَكْفِيرِهِمْ، وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبِرِّ أَنَّ الْإِمَامَ عَلِيًّا- رضي الله عنه- سُئِلَ عَنْهُمْ: أَكُفَّارٌ هُمْ؟ قَالَ: مِنَ الْكُفْرِ فَرُّوا.قِيلَ: فَمُنَافِقُونَ؟ قَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلًا.قِيلَ فَمَا هُمْ؟ قَالَ: هُمْ قَوْمٌ أَصَابَتْهُمْ فِتْنَةٌ، فَعَمُوا وَصَمُّوا، وَبَغَوْا عَلَيْنَا، وَقَاتَلُوا فَقَاتَلْنَاهُمْ.وَقَالَ لَهُمْ: لَكُمْ عَلَيْنَا ثَلَاثٌ: لَا نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ، وَلَا نَبْدَؤُكُمْ بِقِتَالٍ، وَلَا نَمْنَعُكُمُ الْفَيْءَ مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَنَا.
وَيَقُولُ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنْ تَظَاهَرَ الْخَوَارِجُ بِاعْتِقَادِهِمْ، وَهُمْ عَلَى اخْتِلَاطٍ بِأَهْلِ الْعَدْلِ، جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعَزِّرَهُمْ.
وَتَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِي مُصْطَلَحِ (فِرَق).
ب- الْمُحَارِبُونَ:
3- الْمُحَارِبُونَ: لَفْظٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحِرَابَةِ مَصْدَرُ حَرَبَ، وَحَرَبَهُ يَحْرُبُهُ: إِذَا أَخَذَ مَالَهُ، وَالْحَارِبُ: الْغَاصِبُ النَّاهِبُ.
وَعَبَّرَ عَنْهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: بِقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ الْخُرُوجُ عَلَى الْمَارَّةِ لِأَخْذِ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ، عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ الْمَارَّةَ مِنَ الْمُرُورِ، فَيَنْقَطِعُ الطَّرِيقُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْقَطْعُ مِنْ جَمَاعَةٍ أَمْ وَاحِدٍ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ لَهُ قُوَّةُ الْقَطْعِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْقَطْعُ بِسِلَاحٍ أَمْ بِغَيْرِهِ مِنَ الْعَصَا وَالْحَجَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.وَتُسَمَّى الْحِرَابَةُ بِالسَّرِقَةِ الْكُبْرَى.
أَمَّا كَوْنُهَا سَرِقَةً؛ فَبِاعْتِبَارِ أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ يَأْخُذُ الْمَالَ خُفْيَةً عَنْ عَيْنِ الْإِمَامِ الَّذِي عَلَيْهِ حِفْظُ الْأَمْنِ.وَأَمَّا كَوْنُهَا كُبْرَى؛ فَلِأَنَّ ضَرَرَهُ يَعُمُّ، حَيْثُ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ عَلَى الْجَمَاعَةِ بِزَوَالِ الْأَمْنِ.
فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحِرَابَةِ وَالْبَغْيِ هُوَ أَنَّ الْبَغْيَ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ تَأْوِيلٍ، أَمَّا الْحِرَابَةُ فَالْغَرَضُ مِنْهَا الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْبَغْيِ:
4- الْبَغْيُ حَرَامٌ، وَالْبُغَاةُ آثِمُونَ، وَلَكِنْ لَيْسَ الْبَغْيُ خُرُوجًا عَنِ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سَمَّى الْبُغَاةَ مُؤْمِنِينَ فِي قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} إِلَى أَنْ قَالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}، وَيَحِلُّ قِتَالُهُمْ، وَيَجِبُ عَلَى النَّاسِ مَعُونَةُ الْإِمَامِ فِي قِتَالِهِمْ.وَمَنْ قُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ أَثْنَاءَ قِتَالِهِمْ فَهُوَ شَهِيدٌ.وَيَسْقُطُ قِتَالُهُمْ إِذَا فَاءُوا إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، وَيَقُولُ الصَّنْعَانِيُّ: إِذَا فَارَقَ أَحَدٌ الْجَمَاعَةَ وَلَمْ يَخْرُجْ عَلَيْهِمْ وَلَا قَاتَلَهُمْ يُخَلَّى وَشَأْنَهُ؛ إِذْ مُجَرَّدُ الْخِلَافِ عَلَى الْإِمَامِ لَا يُوجِبُ قِتَالَ الْمُخَالِفِ.
وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ قَالَ النَّبِيُّ- عليه الصلاة والسلام- لِابْنِ مَسْعُودٍ: «يَا ابْنَ مَسْعُودٍ: أَتَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيمَنْ بَغَى مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.قَالَ: حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ أَلاَّ يُتْبَعَ مُدْبِرُهُمْ، وَلَا يُقْتَلَ أَسِيرُهُمْ، وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحِهِمْ».
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْبَغْيَ لَيْسَ اسْمَ ذَمٍّ؛ لِأَنَّ الْبُغَاةَ خَالَفُوا بِتَأْوِيلٍ جَائِزٍ فِي اعْتِقَادِهِمْ، لَكِنَّهُمْ مُخْطِئُونَ فِيهِ، فَلَهُمْ نَوْعُ عُذْرٍ؛ لِمَا فِيهِمْ مِنْ أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ.
وَقَالُوا: إِنَّ مَا وَرَدَ فِي ذَمِّهِمْ، وَمَا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْ وَصْفِهِمْ بِالْعِصْيَانِ أَوِ الْفِسْقِ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَا أَهْلِيَّةَ فِيهِ لِلِاجْتِهَادِ، أَوْ لَا تَأْوِيلَ لَهُ.وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ تَأْوِيلُهُ قَطْعِيَّ الْبُطْلَانِ.
5- وَقَدْ بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ أَنْوَاعَ الْبُغَاةِ مِنْ حَيْثُ جَوَازُ فِعْلِهِمْ، أَوْ كَوْنُهُ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً كَمَا يَلِي:
أ- الْبُغَاةُ إِذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ لَيْسُوا بِفَاسِقِينَ، وَإِنَّمَا هُمْ مُخْطِئُونَ فِي تَأْوِيلِهِمْ، كَالْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ.وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.وَكَذَا إِنْ تَكَلَّمُوا بِالْخُرُوجِ لَكِنْ لَمْ يَعْزِمُوا عَلَى الْخُرُوجِ بَعْدُ، فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُمْ؛ لِأَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْجِنَايَةِ لَمْ يُوجَدْ.وَمِثَالُ ذَلِكَ: مَا وَقَعَ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ، مِمَّنْ عَصَى الْإِمَامَ لَا عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ، مِنْ أَنَّهُ مَكَثَ أَشْهُرًا لَمْ يُبَايِعِ الْخَلِيفَةَ ثُمَّ بَايَعَهُ.يَقُولُ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ لَعْنَ الْبُغَاةِ وَالْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ وَتَفْسِيقَهُمْ.
ب- إِنْ خَالَطَ الْبُغَاةَ أَهْلُ الْعَدْلِ، وَتَظَاهَرُوا بِاعْتِقَادِهِمْ، دُونَ مُقَاتَلَتِهِمْ جَازَ لِلْإِمَامِ تَعْزِيرُهُمْ؛ إِذِ التَّظَاهُرُ بِاعْتِقَادِهِمْ، وَنَشْرُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْعَدْلِ دُونَ قِتَالٍ يُعْتَبَرُ مِنَ الصَّغَائِرِ.
ج- إِذَا اجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِمَامٍ، وَصَارُوا آمَنِينَ بِهِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِظُلْمٍ ظَلَمَهُمْ إِيَّاهُ، وَلَكِنْ لِدَعْوَى الْحَقِّ وَالْوِلَايَةِ.فَقَالُوا: الْحَقُّ مَعَنَا، وَيَدَّعُونَ الْوِلَايَةَ، وَلَهُمْ تَأْوِيلٌ وَمَنَعَةٌ، فَهُمْ أَهْلُ بَغْيٍ، فَعَلَى كُلِّ مَنْ يَقْوَى عَلَى الْقِتَالِ مُنَاصَرَةُ الْإِمَامِ عَلَيْهِمْ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَمِنَ الْبُغَاةِ الْخَوَارِجُ.
وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا خَرَجُوا عَلَى الْإِمَامِ فَهُمْ فُسَّاقٌ.
شُرُوطُ تَحَقُّقِ الْبَغْيِ:
6- يَتَحَقَّقُ الْبَغْيُ بِمَا يَلِي:
أ- أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُونَ عَلَى الْإِمَامِ جَمَاعَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ شَوْكَةٌ، وَخَرَجُوا عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ لِإِرَادَةِ خَلْعِهِ بِتَأْوِيلٍ فَاسِدٍ.فَلَوْ خَرَجَ عَلَيْهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ لَكَانُوا حَرْبِيِّينَ لَا بُغَاةً.وَلَوْ خَرَجَتْ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ وَلَا طَلَبِ إِمْرَةٍ لَكَانُوا قُطَّاعَ طَرِيقٍ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قُوَّةٌ وَمَنَعَةٌ، وَلَا يُخْشَى قِتَالُهُمْ، وَلَوْ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ.وَلَوْ خَرَجُوا عَلَى الْإِمَامِ بِحَقٍّ- كَدَفْعِ ظُلْمٍ- فَلَيْسُوا بِبُغَاةٍ، وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَتْرُكَ الظُّلْمَ وَيُنْصِفَهُمْ، وَلَا يَنْبَغِي لِلنَّاسِ مَعُونَةُ الْإِمَامِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِعَانَةً عَلَى الظُّلْمِ، وَلَا أَنْ يُعِينُوا تِلْكَ الطَّائِفَةَ الْخَارِجَةَ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِعَانَةً عَلَى خُرُوجِهِمْ، وَاتِّسَاعِ الْفِتْنَةِ، وَقَدْ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَيْقَظَ الْفِتْنَةَ.
وَأَمَّا مَنْ خَرَجُوا عَلَى الْإِمَامِ بِمَنَعَةٍ، بِتَأْوِيلٍ يُقْطَعُ بِفَسَادِهِ، مُسْتَحِلِّينَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ، مِمَّا كَانَ قَطْعِيَّ التَّحْرِيمِ، كَتَأْوِيلِ الْمُرْتَدِّينَ، فَلَيْسُوا بِبُغَاةٍ؛ لِأَنَّ الْبَاغِيَ تَأْوِيلُهُ مُحْتَمِلٌ لِلصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ، وَلَكِنَّ فَسَادَهُ هُوَ الْأَظْهَرُ، وَهُوَ مُتَّبِعٌ لِلشَّرْعِ فِي زَعْمِهِ، وَالْفَاسِدُ مِنْهُ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ، إِذَا ضُمَّتْ إِلَيْهِ الْمَنَعَةُ فِي حَقِّ الدَّفْعِ.
ب- أَنْ يَكُونَ النَّاسُ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى إِمَامٍ وَصَارُوا بِهِ آمَنِينَ، وَالطُّرُقَاتُ بِهِ آمِنَةٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ يَكُونُ عَاجِزًا، أَوْ جَائِرًا ظَالِمًا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ وَعَزْلُهُ، إِنْ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ فِتْنَةٌ، وَإِلاَّ فَالصَّبْرُ أَوْلَى مِنَ التَّعَرُّضِ لِإِفْسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ.
ج- أَنْ يَكُونَ الْخُرُوجُ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ، أَيْ بِإِظْهَارِ الْقَهْرِ.وَقِيلَ: بِالْمُقَاتَلَةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَعْصِي الْإِمَامَ لَا عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ لَا يَكُونُ مِنَ الْبُغَاةِ، فَمَنْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ إِظْهَارِ الْقَهْرِ لَا يَكُونُ بَاغِيًا.
د- وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِاشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ لِلْخَارِجِينَ مُطَاعٌ فِيهِمْ، يَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِمَامًا مَنْصُوبًا؛ إِذْ لَا شَوْكَةَ لِمَنْ لَا مُطَاعَ لَهُمْ.
وَقِيلَ: بَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ إِمَامٌ مَنْصُوبٌ مِنْهُمْ،
هَذَا وَلَا يُشْتَرَطُ لِتَحَقُّقِ الْبَغْيِ انْفِرَادُهُمْ بِنَحْوِ بَلَدٍ وَلَكِنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ لِمُقَاتَلَتِهِمْ.
الْإِمَامُ الَّذِي يُعْتَبَرُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ بَغْيًا:
7- مَنِ اتَّفَقَ، الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِمَامَتِهِ وَبَيْعَتِهِ، وَثَبَتَتْ إِمَامَتُهُ، وَجَبَتْ طَاعَتُهُ وَمَعُونَتُهُ، وَمِثْلُهُ مَنْ تَثْبُتُ إِمَامَتُهُ بِعَهْدِ إِمَامٍ قَبْلَهُ إِلَيْهِ؛ إِذِ الْإِمَامُ يَصِيرُ إِمَامًا بِالْمُبَايَعَةِ أَوْ بِالِاسْتِخْلَافِ مِمَّنْ قَبْلَهُ.وَلَوْ خَرَجَ رَجُلٌ عَلَى الْإِمَامِ فَقَهَرَهُ، وَغَلَبَ النَّاسَ بِسَيْفِهِ، حَتَّى أَذْعَنُوا لَهُ وَتَابَعُوهُ، صَارَ إِمَامًا يَحْرُمُ قِتَالُهُ وَالْخُرُوجُ عَلَيْهِ.وَيُنْظَرُ لِلتَّفْصِيلِ بَحْثُ (الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى).
أَمَارَاتُ الْبَغْيِ:
8- إِذَا تَكَلَّمَ جَمَاعَةٌ فِي الْخُرُوجِ عَلَى الْإِمَامِ وَمُخَالَفَةِ أَوَامِرِهِ، وَأَظْهَرُوا الِامْتِنَاعَ، وَكَانُوا مُتَحَيِّزِينَ مُتَهَيِّئِينَ لِقَصْدِ الْقِتَالِ، لِخَلْعِ الْإِمَامِ وَطَلَبِ الْإِمْرَةِ لَهُمْ، وَكَانَ لَهُمْ تَأْوِيلٌ يُبَرِّرُ فِي نَظَرِهِمْ مَسْلَكَهُمْ دُونَ الْمُقَاتَلَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَمَارَةَ بَغْيِهِمْ.
وَيَنْبَغِي إِذَا مَا بَلَغَ الْإِمَامَ أَمْرُهُمْ، وَأَنَّهُمْ يَشْتَرُونَ السِّلَاحَ وَيَتَأَهَّبُونَ لِلْقِتَالِ، أَنْ يَأْخُذَهُمْ وَيَحْبِسَهُمْ حَتَّى يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ، وَيُحْدِثُوا تَوْبَةً؛ دَفْعًا لِلشَّرِّ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ؛ لِأَنَّهُ لَوِ انْتَظَرَ أَنْ يَبْدَءُوهُ بِالْقِتَالِ، فَرُبَّمَا لَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ، لِتَقَوِّي شَوْكَتِهِمْ وَتَكَثُّرِ جَمْعِهِمْ، خُصُوصًا وَالْفِتْنَةُ يُسْرِعُ إِلَيْهَا أَهْلُ الْفَسَادِ.وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي بَدْئِهِمْ بِالْقِتَالِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَكَذَلِكَ فَإِنَّ مُخَالَفَتَهُمْ لِلْإِمَامِ لِمَنْعِ حَقِّ اللَّهِ، أَوْ لآِدَمِيٍّ كَزَكَاةٍ، وَكَأَدَاءِ مَا عَلَيْهِمْ مِمَّا جَبَوْهُ لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ كَخَرَاجِ الْأَرْضِ، مَعَ التَّحَيُّزِ وَالتَّهَيُّؤِ لِلْخُرُوجِ عَلَى الْإِمَامِ عَلَى وَجْهِ الْمُغَالَبَةِ، وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَمَارَةَ بَغْيِهِمْ.
أَمَّا لَوْ أَظْهَرُوا رَأْيَ الْخَوَارِجِ، كَتَكْفِيرِ فَاعِلِ الْكَبِيرَةِ وَتَرْكِ الْجَمَاعَاتِ وَاسْتِبَاحَةِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ، وَلَكِنْ لَمْ يَرْتَكِبُوا ذَلِكَ، وَلَمْ يَقْصِدُوا الْقِتَالَ، وَلَمْ يَخْرُجُوا عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ أَمَارَةَ الْبَغْيِ، حَتَّى لَوِ امْتَازُوا بِمَوْضِعٍ يَتَجَمَّعُونَ فِيهِ، لَكِنْ إِنْ حَصَلَ مِنْهُمْ ضَرَرٌ تَعَرَّضْنَا لَهُمْ إِلَى زَوَالِ الضَّرَرِ.
بَيْعُ السِّلَاحِ لِأَهْلِ الْفِتْنَةِ
9- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ السِّلَاحِ لِلْبُغَاةِ وَأَهْلِ الْفِتْنَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا سَدٌّ لِذَرِيعَةِ الْإِعَانَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَكَذَا مَا كَانَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ إِجَارَةٍ أَوْ مُعَاوَضَةٍ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ السِّلَاحِ فِي الْفِتْنَةِ».
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ بَيْعِ السِّلَاحِ لَهُمْ كَرَاهَةً تَحْرِيمِيَّةً؛ لِأَنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}؛ وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ أَخْذُ سِلَاحِهِمْ بِمَا أَمْكَنَ، حَتَّى لَا يَسْتَعْمِلُوهُ فِي الْفِتْنَةِ، فَمَنْعُ بَيْعِهِ لَهُمْ أَوْلَى.
وَالَّذِي يُكْرَهُ هُوَ بَيْعُ السِّلَاحِ نَفْسِهِ الْمُعَدِّ لِلِاسْتِعْمَالِ.وَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَنَّ طَالِبَ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ لَا يُكْرَهُ الْبَيْعُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْغَلَبَةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ، وَالْأَحْكَامُ تُبْنَى عَلَى الْغَالِبِ.
وَأَمَّا مَا لَا يُقَاتَلُ بِهِ إِلاَّ بِصَنْعَةٍ كَالْحَدِيدِ، فَلَا يُكْرَهُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ تَقَعُ بِعَيْنِ السِّلَاحِ، بِخِلَافِ الْحَدِيدِ، وَقَاسُوهُ عَلَى الْخَشَبِ الَّذِي يُتَّخَذُ مِنْهُ الْمَعَازِفُ، فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ عَيْنَهُ لَيْسَ مُنْكَرًا، وَإِنَّمَا الْمُنْكَرُ فِي اسْتِعْمَالِهِ الْمَحْظُورِ.
وَالْحَدِيدُ وَإِنْ كَانَ يُكْرَهُ تَحْرِيمًا بَيْعُهُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَهْلِ الْبَغْيِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَفَرَّغُونَ لِاسْتِعْمَالِ الْحَدِيدِ سِلَاحًا؛ لِأَنَّ فَسَادَهُمْ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ بِالتَّوْبَةِ، أَوْ بِتَفْرِيقِ جَمْعِهِمْ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْحَرْبِ.
وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ الْكَرَاهَةَ تَنْزِيهِيَّةٌ، وَقَالَ: وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِهَذَا.
وَاجِبُ الْإِمَامِ نَحْوَ الْبُغَاةِ:
أ- قَبْلَ الْقِتَالِ:
10- يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَدْعُوَ الْبُغَاةِ الْخَارِجِينَ عَلَيْهِ إِلَى الْعَوْدَةِ إِلَى الْجَمَاعَةِ، وَالدُّخُولِ فِي طَاعَتِهِ رَجَاءَ الْإِجَابَةِ، وَقَبُولِ الدَّعْوَةِ، لَعَلَّ الشَّرَّ يَنْدَفِعُ بِالتَّذْكِرَةِ؛ لِأَنَّهُ تُرْجَى تَوْبَتُهُمْ، وَيَسْأَلُهُمْ عَنْ سَبَبِ خُرُوجِهِمْ، فَإِنْ كَانَ لِظُلْمٍ مِنْهُ أَزَالَهُ، وَإِنْ ذَكَرُوا عِلَّةً يُمْكِنُ إِزَالَتُهَا أَزَالَهَا، وَإِنْ ذَكَرُوا شُبْهَةً كَشَفَهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَدَأَ الْأَمْرَ بِالْإِصْلَاحِ قَبْلَ الْقِتَالِ فَقَالَ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}.وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ كَفُّهُمْ وَدَفْعُ شَرِّهِمْ، لَا قَتْلُهُمْ.فَإِذَا أَمْكَنَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ كَانَ أَوْلَى مِنَ الْقِتَالِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ بِالْفَرِيقَيْنِ.وَلَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يُخَافَ شَرُّهُمْ.وَإِنْ طَلَبُوا الْإِنْظَارَ- وَكَانَ الظَّاهِرُ مِنْ قَصْدِهِمُ الرُّجُوعَ إِلَى الطَّاعَةِ- أَمْهَلَهُمْ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ: يُنْظِرُهُمْ إِلَى مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ كَيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ.
وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَى بَغْيِهِمْ، بَعْدَ أَنْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ أَمِينًا نَاصِحًا لِدَعْوَتِهِمْ، نَصَحَهُمْ نَدْبًا بِوَعْظٍ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا، وَحَسَّنَ لَهُمُ اتِّحَادَ كَلِمَةِ الدِّينِ وَعَدَمَ شَمَاتَةِ الْكَافِرِينَ، فَإِنْ أَصَرُّوا آذَنَهُمْ بِالْقِتَالِ.
وَإِنْ قَاتَلَهُمْ بِلَا دَعْوَةٍ جَازَ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجِبُ إِنْذَارُهُمْ وَدَعْوَتُهُمْ مَا لَمْ يُعَاجِلُوهُ.
وَكَوْنُ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ عَارِفًا فَطِنًا وَاجِبٌ، إِنْ بُعِثَ لِلْمُنَاظَرَةِ وَكَشْفِ الشُّبْهَةِ، وَإِلاَّ فَمُسْتَحَبٌّ.
وَفَصَّلَ الْكَاسَانِيُّ فَقَالَ: إِنْ عَلِمَ الْإِمَامُ أَنَّهُمْ يُجَهِّزُونَ السِّلَاحَ وَيَتَأَهَّبُونَ لِلْقِتَالِ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُمْ، وَيَحْبِسَهُمْ حَتَّى يَتُوبُوا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ حَتَّى تَعَسْكَرُوا وَتَأَهَّبُوا لِلْقِتَالِ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى رَأْيِ الْجَمَاعَةِ أَوَّلًا، فَإِنَّ الْإِمَامَ عَلِيًّا- رضي الله عنه- لَمَّا خَرَجَ عَلَيْهِ أَهْلُ حَرُورَاءَ، نَدَبَ إِلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- لِيَدْعُوَهُمْ إِلَى الْعَدْلِ، فَإِنْ أَجَابُوا كَفَّ عَنْهُمْ وَإِنْ أَبَوْا قَاتَلَهُمْ...وَإِنْ قَاتَلَهُمْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ بَلَغَتْهُمْ، فَهُمْ مُسْلِمُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
وَقَدْ أَسْنَدَ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا خَرَجَتِ الْحَرُورِيَّةُ اعْتَزَلُوا فِي دَارٍ، وَكَانُوا سِتَّةَ آلَافٍ، فَقُلْتُ لِعَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ: لَعَلِّي أُكَلِّمُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ.قَالَ إِنِّي أَخَافُهُمْ عَلَيْكَ.قُلْتُ: كَلاَّ.فَلَبِسْتُ ثِيَابِي، وَمَضَيْتُ إِلَيْهِمْ، حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ.
وَقُلْتُ: أَتَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ عِنْدِ ابْنِ عَمِّ النَّبِيِّ وَصِهْرِهِ وَعَلَيْهِمْ نَزَلَ الْقُرْآنُ، وَهُمْ أَعْرَفُ بِتَأْوِيلِهِ مِنْكُمْ.وَلَيْسَ فِيكُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ.وَقُلْتُ: هَاتُوا مَا نَقَمْتُمْ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ وَخَتَنِهِ.قَالُوا: ثَلَاثٌ.أَنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} وَأَنَّهُ قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، فَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا فَقَدْ حَلَّتْ لَنَا نِسَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ.وَأَنَّهُ مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَمِيرَ الْكَافِرِينَ.قُلْتُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَرَأْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَحَدَّثْتُكُمْ مِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَا يَرُدُّ قَوْلَكُمْ هَذَا، تَرْجِعُونَ؟ قَالُوا: نَعَمْ.قُلْتُ: أَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ، فَأَنَا أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ أَنْ قَدْ صَيَّرَ اللَّهُ حُكْمَهُ إِلَى الرِّجَالِ فِي أَرْنَبٍ ثَمَنُهَا رُبُعُ دِرْهَمٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} إِلَى قَوْلِهِ {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَحُكْمُ الرِّجَالِ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ أَحَقُّ، أَمْ فِي أَرْنَبٍ ثَمَنُهَا رُبُعُ دِرْهَمٍ؟.وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، أَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ عَائِشَةَ، فَتَسْتَحِلُّونَ مِنْهَا مَا تَسْتَحِلُّونَ مِنْ غَيْرِهَا، وَهِيَ أُمُّكُمْ؟ لَئِنْ فَعَلْتُمْ لَقَدْ كَفَرْتُمْ.فَإِنْ قُلْتُمْ: لَيْسَتْ أُمَّنَا فَقَدْ كَفَرْتُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}.وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.فَإِنَّ «رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دَعَا قُرَيْشًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَابًا، فَقَالَ لِكَاتِبِهِ: اكْتُبْ: هَذَا مَا قَضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ.فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ وَلَا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي.يَا عَلِيُّ اكْتُبْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ»، فَرَسُولُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ، وَقَدْ مَحَا نَفْسَهُ وَلَمْ يَكُنْ مَحْوُ ذَلِكَ مَحْوًا مِنَ النُّبُوَّةِ.فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ وَبَقِيَ سَائِرُهُمْ، فَقُوتِلُوا.
وَيُصَرِّحُ الْأَلُوسِيُّ أَنَّهُ يَجِبُ قَبْلَ الْقِتَالِ إِزَالَةُ الشُّبْهَةِ بِالْحُجَجِ النَّيِّرَةِ وَالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ، وَدَعْوَةِ الْبُغَاةِ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْجَمَاعَةِ وَالدُّخُولِ فِي طَاعَةِ الْإِمَامِ.
ب- قِتَالُ الْبُغَاةِ:
11- إِذَا مَا دَعَا الْإِمَامُ الْبُغَاةَ إِلَى الدُّخُولِ فِي طَاعَتِهِ، وَكَشَفَ شُبْهَتَهُمْ، فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا وَتَحَيَّزُوا مُجْتَمِعِينَ، وَكَانُوا مُتَهَيِّئِينَ لِلْقِتَالِ فَإِنَّهُ يَحِلُّ قِتَالُهُمْ.وَلَكِنْ هَلْ نَبْدَؤُهُمْ بِالْقِتَالِ، أَمْ لَا نُقَاتِلُهُمْ إِلاَّ إِذَا أَظْهَرُوا الْمُغَالَبَةَ؟ هُنَاكَ اتِّجَاهَانِ:
الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ: جَوَازُ الْبَدْءِ بِالْقِتَالِ؛ لِأَنَّهُ لَوِ انْتَظَرْنَا قِتَالَهُمْ رُبَّمَا لَا يُمْكِنُ الدَّفْعُ، وَهُوَ مَا نَقَلَهُ خُوَاهَرْ زَادَهْ، قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ جَاءَ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِالْبُدَاءَةِ مِنْهُمْ فِي قوله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} وَقَوْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، حِدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»؛ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى عَلَامَتِهِ، وَهِيَ هُنَا التَّحَيُّزُ وَالتَّهَيُّؤُ، فَلَوِ انْتَظَرْنَا حَقِيقَةَ قِتَالِهِمْ لَصَارَ ذَرِيعَةً لِتَقْوِيَتِهِمْ.فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى الْإِمَارَةِ ضَرُورَةَ دَفْعِ شَرِّهِمْ؛ وَلِأَنَّهُمْ بِالْخُرُوجِ عَلَى الْإِمَامِ صَارُوا عُصَاةً فَجَازَ قِتَالُهُمْ، إِلَى أَنْ يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ.وَمَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- مِنْ قَوْلِهِ فِي الْخَوَارِجِ لَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تُقَاتِلُونَا مَعْنَاهُ: حَتَّى تَعْزِمُوا عَلَى قِتَالِنَا.وَلَوْ أَمْكَنَ دَفْعُ شَرِّهِمْ بِالْحَبْسِ بَعْدَمَا تَأَهَّبُوا فَعَلَ ذَلِكَ، وَلَا نُقَاتِلُهُمْ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ دَفْعُ شَرِّهِمْ بِأَهْوَنَ مِنْهُ.
وَإِلَى الْقَوْلِ بِحِلِّ بَدْئِهِمْ بِالْقِتَالِ اتَّجَهَ فُقَهَاءُ الْحَنَابِلَةِ، جَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: إِنْ أَبَوُا الرُّجُوعَ وَعَظَهُمْ وَخَوَّفَهُمْ بِالْقِتَالِ، فَإِنْ رَجَعُوا إِلَى الطَّاعَةِ تَرَكَهُمْ، وَإِلاَّ لَزِمَهُ قِتَالُهُمْ إِنْ كَانَ قَادِرًا؛ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ.
الِاتِّجَاهُ الثَّانِي: نَقَلَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ لَا يَبْدَؤُهُمْ بِالْقِتَالِ حَتَّى يَبْدَءُوهُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْكَاسَانِيُّ وَالْكَمَالُ.قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لِأَنَّ قِتَالَهُمْ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ، لَا لِشَرِّ شِرْكِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، فَمَا لَمْ يَتَوَجَّهِ الشَّرُّ مِنْهُمْ لَا يُقَاتِلُهُمُ الْإِمَامُ؛ إِذْ لَا يَجُوزُ قِتَالُ الْمُسْلِمِ إِلاَّ دَفْعًا، بِخِلَافِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْكُفْرِ قَبِيحٌ.وَهُوَ مَا اسْتَظْهَرَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَلاَّ يَبْدَءُوا مَنْ خَرَجُوا عَلَيْهِ بِالْقِتَالِ، وَإِنْ أَمْكَنَ دَفْعُهُمْ دُونَ الْقَتْلِ لَمْ يَجُزِ الْقَتْلُ.وَلَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يُخَافَ شَرُّهُمْ كَالصَّائِلِ.وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: «الْأَفْضَلُ تَرْكُهُ حَتَّى يَبْدَءُوهُ» أَيِ الْقِتَالَ.
الْمُعَاوَنَةُ فِي مُقَاتَلَةِ الْبُغَاةِ:
12- مَنْ دَعَاهُ الْإِمَامُ إِلَى مُقَاتَلَةِ الْبُغَاةِ افْتُرِضَ عَلَيْهِ إِجَابَتُهُ؛ لِأَنَّ طَاعَةَ الْإِمَامِ فِيمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ فَرْضٌ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَطَاقَ الدَّفْعَ أَنْ يُقَاتِلَ مَعَ الْإِمَامِ، إِلاَّ إِنْ كَانَ سَبَبُ الْخُرُوجِ ظُلْمَ الْإِمَامِ بِمَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ؛ إِذْ يَجِبُ مَعُونَتُهُمْ لِإِنْصَافِهِمْ إِنْ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا.وَمَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا لَزِمَ بَيْتَهُ.وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَعَدُوا فِي الْفِتْنَةِ، وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُهُمْ فِي تَرَدُّدٍ مِنْ حِلِّ الْقِتَالِ.
وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ قَوْلِهِ: «إِذَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَزِلَ الْفِتْنَةَ، وَيَقْعُدَ فِي بَيْتِهِ» فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ إِمَامٌ.أَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى اقْتِتَالِهِمَا حَمِيَّةً وَعَصَبِيَّةً، أَوْ لِأَجْلِ الدُّنْيَا وَالْمُلْكِ.وَلَوْ كَانَ السُّلْطَانُ ظَالِمًا، وَبَغَتْ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ لِرَفْعِ الظُّلْمِ، وَطُلِبَ مِنْهُ ذَلِكَ فَلَمْ يَسْتَجِبْ، فَلَا يَنْبَغِي لِلنَّاسِ مُعَاوَنَةُ السُّلْطَانِ وَلَا مُعَاوَنَةُ الْبُغَاةِ؛ إِذْ غَيْرُ الْعَدْلِ لَا تَجِبُ مُعَاوَنَتُهُ.قَالَ مَالِكٌ: دَعْهُ وَمَا يُرَادُ مِنْهُ، يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنَ الظَّالِمِ بِظَالِمٍ، ثُمَّ يَنْتَقِمُ مِنْ كِلَيْهِمَا.وَيَنُصُّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى مَنْ خَرَجُوا عَلَى الْإِمَامِ- وَلَوْ جَائِرًا- يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِعَانَتُهُ مِمَّنْ قَرُبَ مِنْهُمْ، حَتَّى تَبْطُلَ شَوْكَتُهُمْ.
وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مَعُونَةِ الْإِمَامِ لِدَفْعِ الْبُغَاةِ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو- رضي الله عنهما- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «مَنْ أَعْطَى إِمَامًا صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ» وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ ثَبَتَتْ إِمَامَتُهُ وَجَبَتْ طَاعَتُهُ؛ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ «يَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ...».
شُرُوطُ قِتَالِ الْبُغَاةِ وَمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ:
13- إِذَا لَمْ يُجْدِ مَعَ الْبُغَاةِ النُّصْحُ، وَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لِلرُّجُوعِ إِلَى طَاعَةِ الْإِمَامِ وَالدُّخُولِ فِي الْجَمَاعَةِ، أَوْ لَمْ يَقْبَلُوا الِاسْتِتَابَةَ- إِنْ كَانُوا فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ- وَرَأَوْا مُقَاتَلَتَنَا وَجَبَ قِتَالُهُمْ.بِشَرْطِ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لِحُرُمَاتِ أَهْلِ الْعَدْلِ، أَوْ يَتَعَطَّلَ جِهَادُ الْمُشْرِكِينَ بِهِمْ، أَوْ يَأْخُذُوا مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ مَا لَيْسَ لَهُمْ، أَوْ يَمْتَنِعُوا مِنْ دَفْعِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ، أَوْ يَتَظَاهَرُوا عَلَى خَلْعِ الْإِمَامِ الَّذِي انْعَقَدَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ.عَلَى مَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.وَقَالَ الرَّمْلِيُّ: الْأَوْجَهُ وُجُوبُ قِتَالِهِمْ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ بِبَقَائِهِمْ- وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَا ذُكِرَ- تَتَوَلَّدُ مَفَاسِدُ، قَدْ لَا تُتَدَارَكُ مَا دَامُوا قَدْ خَرَجُوا عَنْ قَبْضَةِ الْإِمَامِ وَتَهَيَّئُوا لِلْقِتَالِ.
وَلَوِ انْدَفَعَ شَرُّهُمْ بِمَا هُوَ أَهْوَنُ وَجَبَ بِقَدْرِ مَا يَنْدَفِعُ؛ إِذْ يُشْتَرَطُ لِمُقَاتَلَتِهِمْ أَنْ يَتَعَيَّنَ الْقِتَالُ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ، وَإِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ كَانَ أَوْلَى مِنَ الْقِتَالِ.
كَيْفِيَّةُ قِتَالِ الْبُغَاةِ:
14- الْأَصْلُ أَنَّ قِتَالَهُمْ إِنَّمَا يَكُونُ دَرْءًا لِتَفْرِيقِ الْكَلِمَةِ، مَعَ عَدَمِ التَّأْثِيمِ؛ لِأَنَّهُمْ مُتَأَوِّلُونَ، وَلِذَا فَإِنَّ قِتَالَهُمْ يَفْتَرِقُ عَنْ قِتَالِ الْكُفَّارِ بِأَحَدَ عَشَرَ وَجْهًا: أَنْ يَقْصِدَ بِالْقِتَالِ رَدْعَهُمْ لَا قَتْلَهُمْ، وَأَنْ يَكُفَّ عَنْ مُدْبِرِهِمْ، وَلَا يُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَا تُقْتَلُ أَسْرَاهُمْ، وَلَا تُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ، وَلَا تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ، وَلَا يُسْتَعَانُ عَلَيْهِمْ بِمُشْرِكٍ، وَلَا يُوَادِعُهُمْ عَلَى مَالٍ، وَلَا تُنْصَبُ عَلَيْهِمُ الْعَرَّادَاتُ (الْمَجَانِيقُ وَنَحْوُهَا)، وَلَا تُحَرَّقُ مَسَاكِنُهُمْ، وَلَا يُقْطَعُ شَجَرُهُمْ.
وَإِذَا تَحَيَّزَ الْبُغَاةُ إِلَى جِهَةٍ مُجْتَمَعِينَ، أَوْ إِلَى جَمَاعَةٍ وَلَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ شَرِّهِمْ إِلاَّ بِالْقِتَالِ، حَلَّ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَتَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ، وَلَوْ أَمْكَنَ دَفْعُ شَرِّهِمْ بِالْحَبْسِ بَعْدَمَا تَأَهَّبُوا فَعَلَ ذَلِكَ؛ إِذِ الْجِهَادُ مَعَهُمْ وَاجِبٌ بِقَدْرِ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ شَرُّهُمْ عَلَى مَا سَبَقَ.وَقَدْ قَاتَلَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- أَهْلَ حَرُورَاءَ بِالنَّهْرَوَانِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام- لَهُ «أَنَا أُقَاتِلُ عَلَى تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ، وَعَلِيٌّ يُقَاتِلُ عَلَى تَأْوِيلِهِ» وَالْقِتَالُ مَعَ التَّأْوِيلِ هُوَ الْقِتَالُ مَعَ الْبُغَاةِ، وَذَلِكَ كَقِتَالِ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه- مَانِعِي الزَّكَاةِ.
وَإِذَا قَاتَلَهُمْ الْإِمَامُ فَهَزَمَهُمْ، وَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَأُمِنَ جَانِبُهُمْ، أَوْ تَرَكُوا الْقِتَالَ بِإِلْقَاءِ السِّلَاحِ أَوْ بِالْهَزِيمَةِ أَوْ بِالْعَجْزِ، لِجِرَاحٍ أَوْ أَسِيرٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ، وَلَا يُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَلَا يَقْتُلُوا أَسِيرَهُمْ؛ لِوُقُوعِ الْأَمْنِ عَنْ شَرِّهِمْ، وَلَا تُسْبَى لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ، وَلَا يُقْسَمُ لَهُ مَالٌ، لِقَوْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- لَا يُقْتَلُ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ مُقْبِلٌ وَلَا مُدْبِرٌ، وَلَا يُفْتَحُ بَابٌ، وَلَا يُسْتَحَلُّ فَرْجٌ وَلَا مَالٌ بَلْ قَالَ لَهُمْ: مَنِ اعْتَرَفَ شَيْئًا فَلْيَأْخُذْهُ، أَيْ مَنْ عَرَفَ مِنَ الْبُغَاةِ مَتَاعَهُ اسْتَرَدَّهُ، وَقَالَ يَوْمَ الْجَمَلِ: لَا تَتَّبِعُوا مُدْبِرًا، وَلَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا تَقْتُلُوا أَسِيرًا، وَإِيَّاكُمْ وَالنِّسَاءَ؛ وَلِأَنَّ قِتَالَهُمْ لِلدَّفْعِ وَالرَّدِّ إِلَى الطَّاعَةِ دُونَ الْقَتْلِ.وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: أَمَّا غَنِيمَةُ أَمْوَالِهِمْ وَسَبْيُ ذُرِّيَّتِهِمْ فَلَا نَعْلَمُ فِي تَحْرِيمِهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ مِنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ مَا حَصَلَ مِنْ ضَرُورَةِ دَفْعِهِمْ وَقِتَالِهِمْ، وَمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ بَعِيدَةٌ يَنْحَازُونَ إِلَيْهَا، وَلَا يُتَوَقَّعُ فِي الْعَادَةِ مَجِيئُهَا إِلَيْهِمْ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ عَدَمُ وُصُولِهَا لَهُمْ، فَإِنَّهُ لَا يُقَاتَلُ مُدْبِرُهُمْ، وَلَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ؛ لِأَمْنِ غَائِلَتِهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ قَرِيبَةٌ تُسْعِفُهُمْ عَادَةً، وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ اتِّبَاعُهُمْ وَالْإِجْهَازُ عَلَى جَرِيحِهِمْ.أَوْ كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ بَعِيدَةٌ يُتَوَقَّعُ فِي الْعَادَةِ مَجِيئُهَا إِلَيْهِمْ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ ذَلِكَ فَالْمُتَّجَهُ أَنْ يُقَاتَلَ.
وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ إِذَا أُمِنَ جَانِبُهُمْ بِالظُّهُورِ عَلَيْهِمْ، لَمْ يُتْبَعْ مُنْهَزِمُهُمْ، وَلَمْ يُذَفَّفْ عَلَى جَرِيحِهِمْ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَنُصُّونَ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ إِذَا تَرَكُوا الْقِتَالَ، بِالرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ، أَوْ بِإِلْقَاءِ السِّلَاحِ، أَوْ بِالْهَزِيمَةِ إِلَى فِئَةٍ، أَوْ إِلَى غَيْرِ فِئَةٍ، أَوْ بِالْعَجْزِ لِجِرَاحٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ أَسْرٍ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ قَتْلُهُمْ وَاتِّبَاعُ مُدْبِرِهِمْ.وَسَاقَ ابْنُ قُدَامَةَ الْآثَارَ الْوَارِدَةَ فِي النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْمُدْبِرِ وَالْإِجْهَازِ عَلَى الْجَرِيحِ وَقَتْلِ الْأَسِيرِ، وَهِيَ عَامَّةٌ.ثُمَّ قَالَ: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ كَفُّهُمْ وَقَدْ حَصَلَ، فَلَمْ يَجُزْ قَتْلُهُمْ كَالصَّائِلِ، وَلَا يُقْتَلُونَ لِمَا يُخَافُ فِي التَّالِي- إِنْ كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ- كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ يَنْحَازُونَ إِلَيْهَا- مُطْلَقًا- فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَقْتُلُوا مُدْبِرَهُمْ، وَيُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحِهِمْ؛ لِئَلاَّ يَنْحَازُوا إِلَى الْفِئَةِ، فَيَمْتَنِعُوا بِهَا، فَيَكُرُّوا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ.وَالْمُعْتَبَرُ فِي جَوَازِ الْقَتْلِ أَمَارَةُ قِتَالِهِمْ لَا حَقِيقَتُهُ؛ وَلِأَنَّ قَتْلَهُمْ إِذَا كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ، لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ دَفْعًا؛ لِأَنَّهُ يَتَحَيَّزُ إِلَى الْفِئَةِ وَيَعُودُ شَرُّهُ كَمَا كَانَ.وَقَالُوا: إِنَّ مَا قَالَهُ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- عَلَى تَأْوِيلِ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
263-موسوعة الفقه الكويتية (بكاء)
بُكَاءٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْبُكَاءُ: مَصْدَرُ بَكَى يَبْكِي بُكًى، وَبُكَاءً.
قَالَ فِي اللِّسَانِ: الْبُكَاءُ يُقْصَرُ وَيُمَدُّ.قَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: إِذَا مَدَدْتَ أَرَدْتَ الصَّوْتَ الَّذِي يَكُونُ مَعَ الْبُكَاءِ، وَإِذَا قَصَرْتَ أَرَدْتَ الدُّمُوعَ وَخُرُوجَهَا.قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ- رضي الله عنه- فِي رِثَاءِ حَمْزَةَ فِي رِثَاءِ حَمْزَةَ
بَكَتْ عَيْنِي وَحُقَّ لَهَا بُكَاهَا
وَمَا يُغْنِي الْبُكَاءُ وَلَا الْعَوِيلُ
قَالَ الْخَلِيلُ: مَنْ قَصَرَ ذَهَبَ بِهِ إِلَى مَعْنَى الْحُزْنِ، وَمَنْ مَدَّهُ ذَهَبَ بِهِ إِلَى مَعْنَى الصَّوْتِ.وَالتَّبَاكِي: تَكَلُّفُ الْبُكَاءِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا».
وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنْ ذَلِكَ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الصِّيَاحُ وَالصُّرَاخُ:
2- الصِّيَاحُ وَالصُّرَاخُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الصَّوْتُ بِأَقْصَى الطَّاقَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَهُمَا بُكَاءٌ، وَقَدْ لَا يَكُونُ، وَيَرِدُ الصُّرَاخُ أَيْضًا لِرَفْعِ الصَّوْتِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغَاثَةِ.
ب- النِّيَاحُ:
3- النِّيَاحُ وَالنِّيَاحَةُ لُغَةً: الْبُكَاءُ بِصَوْتٍ عَلَى الْمَيِّتِ.
وَقَالَ فِي الْمِصْبَاحِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا جَاءَ فِي الْقَامُوسِ: نَاحَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى الْمَيِّتِ نَوْحًا مِنْ بَابِ قَالَ، وَالِاسْمُ النُّوَاحُ وِزَانُ غُرَابٍ، وَرُبَّمَا قِيلَ: النِّيَاحُ بِالْكَسْرِ، فَهِيَ نَائِحَةٌ، وَالنِّيَاحَةُ بِالْكَسْرِ: الِاسْمُ مِنْهُ، وَالْمَنَاحَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ: مَوْضِعُ النَّوْحِ.
ج- النَّدْبُ:
4- النَّدْبُ لُغَةً: الدُّعَاءُ إِلَى الْأَمْرِ وَالْحَثُّ عَلَيْهِ.وَالنَّدْبُ: الْبُكَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ وَتَعْدَادُ مَحَاسِنُهُ.وَالِاسْمُ: النُّدْبَةُ.
د- النَّحْبُ، أَوِ النَّحِيبُ:
5- النَّحْبُ لُغَةً: أَشَدُّ الْبُكَاءِ، كَالنَّحِيبِ.
الْعَوِيلُ:
6- الْعَوِيلُ: هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْبُكَاءِ، يُقَالُ: أَعْوَلَتِ الْمَرْأَةُ إِعْوَالًا وَعَوِيلًا.هَذَا وَيَتَّضِحُ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ النَّحِيبَ وَالْعَوِيلَ مَعْنَاهُمَا الْبُكَاءُ الشَّدِيدُ، وَأَنَّ الصُّرَاخَ وَالصِّيَاحَ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى، وَأَنَّ النُّوَاحَ يَأْتِي بِمَعْنَى الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَأَنَّ النَّدْبَ هُوَ تَعْدَادُ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ، وَأَنَّ الْبُكَاءَ مَا كَانَ مَصْحُوبًا بِصَوْتٍ، وَالْبُكَى مَا كَانَ بِلَا صَوْتٍ، بِأَنْ كَانَ قَاصِرًا عَلَى خُرُوجِ الدَّمْعِ.
أَسْبَابُ الْبُكَاءِ:
7- لِلْبُكَاءِ أَسْبَابٌ، مِنْهَا: خَشْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْحُزْنُ، وَشِدَّةُ الْفَرَحِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْبُكَاءِ فِي الْمُصِيبَةِ:
8- الْبُكَاءُ قَدْ يَكُونُ قَاصِرًا عَلَى خُرُوجِ الدَّمْعِ فَقَطْ بِلَا صَوْتٍ، أَوْ بِصَوْتٍ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَقَدْ يَكُونُ مَصْحُوبًا بِصَوْتٍ كَصُرَاخٍ أَوْ نُوَاحٍ أَوْ نَدْبٍ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ الْبُكَاءُ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى كِتْمَانِ الْحُزْنِ، وَيَمْلِكُ السَّيْطَرَةَ عَلَى مَشَاعِرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ.
فَإِنْ كَانَ الْبُكَاءُ مُجَرَّدًا عَنْ فِعْلِ الْيَدِ، كَشَقِّ جَيْبٍ أَوْ لَطْمٍ، وَعَنْ فِعْلِ اللِّسَانِ، كَالصُّرَاخِ وَدَعْوَى الْوَيْلِ وَالثُّبُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «إِنَّهُ مَهْمَا كَانَ مِنَ الْعَيْنِ وَالْقَلْبِ فَمِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمِنَ الرَّحْمَةِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْيَدِ وَاللِّسَانِ فَمِنَ الشَّيْطَانِ» وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- أَيْضًا «إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا- وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ- أَوْ يَرْحَمُ».
أَمَّا حُكْمُ الْبُكَاءِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَسَيَأْتِي فِيمَا بَعْدُ.
الْبُكَاءُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى:
9- الْمُؤْمِنُ يَعِيشُ فِي جِهَادٍ مَعَ نَفْسِهِ، وَيُرَاقِبُ اللَّهَ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ، فَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ، وَيَبْكِي عِنْدَ ذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ تَعَالَى، فَهَذَا مِنَ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ بَشَّرَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وَهُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
وَمِمَّا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ الْقَرِيبَةِ مِنْهَا فِي الْمَعْنَى: وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْخَوْفِ وَالْوَجَلِ عِنْدَ ذِكْرِهِ، وَذَلِكَ لِقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ وَمُرَاعَاتِهِمْ لِرَبِّهِمْ، وَكَأَنَّهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} وَقَالَ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} فَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى كَمَالِ الْمَعْرِفَةِ وَثِقَةِ الْقَلْبِ، وَالْوَجَلُ: الْفَزَعُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، فَلَا تَنَاقُضَ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ فِي قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أَيْ تَسْكُنُ نُفُوسُهُمْ مَعَ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ الْيَقِينُ، وَإِنْ كَانُوا يَخَافُونَ اللَّهَ.
10- فَهَذِهِ حَالَةُ الْعَارِفِينَ بِاللَّهِ، الْخَائِفِينَ مِنْ سَطْوَتِهِ وَعُقُوبَتِهِ.لَا كَمَا يَفْعَلُهُ جُهَّالُ الْعَوَامِّ وَالْمُبْتَدِعَةُ الطَّغَامُ، مِنَ الزَّعِيقِ وَالزَّئِيرِ وَمِنَ النُّهَاقِ الَّذِي يُشْبِهُ نُهَاقَ الْحَمِيرِ، فَيُقَالُ لِمَنْ تَعَاطَى ذَلِكَ، وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ وَجْدٌ وَخُشُوعٌ: لَمْ تَبْلُغْ أَنْ تُسَاوِيَ حَالَ الرَّسُولِ وَلَا حَالَ أَصْحَابِهِ فِي الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ، وَالْخَوْفِ مِنْهُ، وَالتَّعْظِيمِ لِجَلَالِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَتْ حَالُهُمْ عِنْدَ الْمَوَاعِظِ الْفَهْمُ عَنِ اللَّهِ وَالْبُكَاءُ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ أَحْوَالَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ عِنْدَ سَمَاعِ ذِكْرِهِ وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ فَقَالَ: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}.فَهَذَا وَصْفُ حَالِهِمْ وَحِكَايَةُ مَقَالِهِمْ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَى هَدْيِهِمْ وَلَا عَلَى طَرِيقَتِهِمْ، فَمَنْ كَانَ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِهِمْ، وَمَنْ تَعَاطَى أَحْوَالَ الْمَجَانِينِ وَالْجُنُونَ فَهُوَ مِنْ أَخَسِّهِمْ حَالًا، وَالْجُنُونُ فُنُونٌ.رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ النَّاسَ سَأَلُوا النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- حَتَّى أَحْفَوْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: سَلُونِي، لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ بَيَّنْتُهُ لَكُمْ، مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا.فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْقَوْمُ أَرَمُّوا وَرَهِبُوا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْ أَمْرٍ قَدْ حَضَرَ، قَالَ أَنَسٌ: فَجَعَلْتُ أَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِذَا كُلُّ إِنْسَانٍ لَافٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي...».وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ».الْحَدِيثَ.وَلَمْ يَقُلْ: زَعَقْنَا وَلَا رَقَصْنَا وَلَا زُفْنَا وَلَا قُمْنَا.
وَقَالَ صَاحِبُ رُوحِ الْمَعَانِي فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أَيْ خَافَتْ قُلُوبُهُمْ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ لِإِشْرَاقِ أَشِعَّةِ الْجَلَالِ عَلَيْهَا.
11- وَالْبُكَاءُ خَشْيَةً مِنَ اللَّهِ لَهُ أَثَرُهُ فِي الْعَمَلِ، وَفِي غُفْرَانِ الذُّنُوبِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
قَالَ صَاحِبُ تُحْفَةِ الْأَحْوَذِيِّ: قَوْلُهُ: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ» أَيْ لَا تَمَسُّ صَاحِبَهُمَا، فَعَبَّرَ بِالْجُزْءِ عَنِ الْجُمْلَةِ، وَعَبَّرَ بِالْمَسِّ إِشَارَةً إِلَى امْتِنَاعِ مَا فَوْقَهُ بِالْأَوْلَى، وَفِي رِوَايَةٍ: «أَبَدًا» وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا يَقْرَبَانِ النَّارَ».
وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ رُوحِ الْمَعَانِي أَخْبَارًا وَرَدَتْ فِي مَدْحِ الْبُكَاءِ خَشْيَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، مِنْ بَيْنِهَا هَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَلَا يَجْتَمِعُ عَلَى عَبْدٍ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَدُخَانُ جَهَنَّمَ».
الْبُكَاءُ فِي الصَّلَاةِ:
12- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْبُكَاءَ فِي الصَّلَاةِ إِنْ كَانَ سَبَبُهُ أَلَمًا أَوْ مُصِيبَةً فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ ذِكْرَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ فَإِنَّهُ لَا يُفْسِدُهَا؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْخُشُوعِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِي الصَّلَاةِ، فَكَانَ فِي مَعْنَى التَّسْبِيحِ أَوِ الدُّعَاءِ.وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا حَدِيثُ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَلَهُ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنَ الْبُكَاءِ».
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ فِيمَا إِذَا كَانَ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ حَرْفَيْنِ، أَوْ عَلَى حَرْفَيْنِ أَصْلِيَّيْنِ، أَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى حَرْفَيْنِ مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ، أَوْ أَحَدُهَا مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ وَالْآخَرُ أَصْلِيٌّ، لَا تَفْسُدُ فِي الْوَجْهَيْنِ مَعًا، وَحُرُوفُ الزِّيَادَةِ عَشَرَةٌ يَجْمَعُهَا قَوْلُكَ: أَمَانٌ وَتَسْهِيلٌ.
وَحَاصِلُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ فِي هَذَا: أَنَّ الْبُكَاءَ فِي الصَّلَاةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِصَوْتٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِلَا صَوْتٍ، فَإِنْ كَانَ الْبُكَاءُ بِلَا صَوْتٍ فَإِنَّهُ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ، بِأَنْ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ تَخَشُّعًا أَوْ لِمُصِيبَةٍ، أَمْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا مَا لَمْ يَكْثُرْ ذَلِكَ فِي الِاخْتِيَارِيِّ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْبُكَاءُ بِصَوْتٍ، فَإِنْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا فَإِنَّهُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، سَوَاءٌ كَانَ لِمُصِيبَةٍ أَمْ لِتَخَشُّعٍ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، بِأَنْ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ تَخَشُّعًا لَمْ يُبْطِلْ، وَإِنْ كَثُرَ، وَإِنْ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ بِغَيْرِ تَخَشُّعٍ أَبْطَلَ.
هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الدُّسُوقِيُّ أَنَّ الْبُكَاءَ بِصَوْتٍ، إِنْ كَانَ لِمُصِيبَةٍ أَوْ لِوَجَعٍ مِنْ غَيْرِ غَلَبَةٍ أَوْ لِخُشُوعٍ فَهُوَ حِينَئِذٍ كَالْكَلَامِ، يُفَرَّقُ بَيْنَ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ، أَيْ فَالْعَمْدُ مُبْطِلٌ مُطْلَقًا، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَالسَّهْوُ يُبْطِلُ إِنْ كَانَ كَثِيرًا، وَيُسْجَدُ لَهُ إِنْ قَلَّ.
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَإِنَّ الْبُكَاءَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَصَحِّ إِنْ ظَهَرَ بِهِ حَرْفَانِ فَإِنَّهُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ؛ لِوُجُودِ مَا يُنَافِيهَا، حَتَّى وَإِنْ كَانَ الْبُكَاءُ مِنْ خَوْفِ الْآخِرَةِ.وَعَلَى مُقَابِلِ الْأَصَحِّ:
لَا يُبْطِلُ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى كَلَامًا فِي اللُّغَةِ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ، فَكَانَ أَشْبَهَ بِالصَّوْتِ الْمُجَرَّدِ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ إِنْ بَانَ حَرْفَانِ مِنْ بُكَاءٍ، أَوْ تَأَوُّهِ خَشْيَةٍ، أَوْ أَنِينٍ فِي الصَّلَاةِ لَمْ تَبْطُلْ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الذِّكْرِ، وَقِيلَ: إِنْ غَلَبَهُ وَإِلاَّ بَطَلَتْ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ خَشْيَةً؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْهِجَاءِ، وَيَدُلُّ بِنَفْسِهِ عَلَى الْمَعْنَى كَالْكَلَامِ، قَالَ أَحْمَدُ فِي الْأَنِينِ: إِذَا كَانَ غَالِبًا أَكْرَهُهُ، أَيْ مِنْ وَجَعٍ، وَإِنِ اسْتَدْعَى الْبُكَاءَ فِيهَا كُرِهَ كَالضَّحِكِ وَإِلاَّ فَلَا.
الْبُكَاءُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ:
13- الْبُكَاءُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مُسْتَحَبٌّ، وَيُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ قوله تعالى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا مَدْحٌ لَهُمْ، وَحُقَّ لِكُلِّ مَنْ تَوَسَّمَ بِالْعِلْمِ، وَحَصَّلَ مِنْهُ شَيْئًا أَنْ يَجْرِيَ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، فَيَخْشَعُ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَيَتَوَاضَعُ وَيَذِلُّ.وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} أَيْ يَزِيدُهُمْ لِينَ قَلْبٍ وَرُطُوبَةَ عَيْنٍ.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ.وَيَخِرُّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْفُرْقَانِ، إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِ الْقُرْآنُ لِأَذْقَانِهِمْ يَبْكُونَ، وَيَزِيدُهُمْ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ خُشُوعًا، يَعْنِي خُضُوعًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ اسْتِكَانَةً لَهُ.
وَيُفْهَمُ اسْتِحْبَابُ الْبُكَاءِ أَيْضًا عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ بِحُزْنٍ، فَإِذَا قَرَأْتُمُوهُ فَابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا».
الْبُكَاءُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ:
14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْبُكَاءَ إِنْ كَانَ قَاصِرًا عَلَى خُرُوجِ الدَّمْعِ فَقَطْ بِلَا صَوْتٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ، قَبْلَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ، وَمِثْلُهُ غَلَبَةُ الْبُكَاءِ بِصَوْتٍ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِ، وَمِثْلُهُ حُزْنُ الْقَلْبِ.وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى تَحْرِيمِ النَّدْبِ بِتَعْدَادِ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ بِرَفْعِ صَوْتٍ، إِلاَّ مَا نُقِلَ فِي الْفُرُوعِ عَنْ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ النُّوَاحِ وَشَقِّ الْجَيْبِ أَوِ الثَّوْبِ وَلَطْمِ الْخَدِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ عَبَّرُوا فِي ذَلِكَ بِالْكَرَاهَةِ، وَمُرَادُهُمُ الْكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِيَّةُ، وَبِذَلِكَ لَا يَكُونُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْبُكَاءُ بِصَوْتٍ وَغَيْرَ مَصْحُوبٍ بِنِيَاحَةٍ وَنَدْبٍ أَوْ شَقِّ جَيْبٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ جَائِزٌ، وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ عَدَمَ الِاجْتِمَاعِ لِلْبُكَاءِ، وَإِلاَّ كُرِهَ.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلٌ أَتَى بِهِ الْقَلْيُوبِيُّ، فَقَالَ: إِنَّ الْبُكَاءَ عَلَى الْمَيِّتِ إِنْ كَانَ لِخَوْفٍ عَلَيْهِ مِنْ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَنَحْوِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، أَوْ لِمَحَبَّةٍ وَرِقَّةٍ كَطِفْلٍ فَكَذَلِكَ، وَلَكِنَّ الصَّبْرَ أَجْمَلُ، أَوْ لِصَلَاحٍ وَبَرَكَةٍ وَشَجَاعَةٍ وَفَقْدِ نَحْوِ عِلْمٍ فَمَنْدُوبٌ، أَوْ لِفَقْدِ صِلَةٍ وَبِرٍّ وَقِيَامٍ بِمَصْلَحَةٍ فَمَكْرُوهٌ، أَوْ لِعَدَمِ تَسْلِيمٍ لِلْقَضَاءِ وَعَدَمِ الرِّضَى بِهِ فَحَرَامٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ الْبُكَاءُ قَبْلَ الْمَوْتِ، فَإِذَا مَاتَ أَمْسَكْنَ.وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ النَّسَائِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا.وَالْفُقَهَاءُ فِيمَا قَالُوهُ فِي ذَلِكَ اسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «أَخَذَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ- رضي الله عنه- فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ، فَوَجَدَهُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ فَبَكَى، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَتَبْكِي؟ أَوَلَمْ تَكُنْ نَهَيْتَ عَنِ الْبُكَاءِ؟ قَالَ: لَا.وَلَكِنْ نَهَيْتُ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ: صَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ، خَمْشِ وُجُوهٍ وَشَقِّ جُيُوبٍ وَرَنَّةِ شَيْطَانٍ».
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ».فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنَ اللَّطْمِ وَشَقِّ الْجَيْبِ وَدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ.
وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ- رضي الله عنه-: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- جَاءَ يَعُودُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَابِتٍ فَوَجَدَهُ قَدْ غُلِبَ، فَصَاحَ النِّسْوَةُ وَبَكَيْنَ، فَجَعَلَ ابْنُ عَتِيكٍ يُسْكِتُهُنَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: دَعْهُنَّ، فَإِذَا وَجَبَ فَلَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ.قَالُوا: وَمَا الْوُجُوبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْمَوْتُ».
الْبُكَاءُ عِنْدَ زِيَارَةِ الْقَبْرِ:
15- الْبُكَاءُ عِنْدَ زِيَارَةِ الْقَبْرِ جَائِزٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «زَارَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى، وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ...» إِلَخِ الْحَدِيثِ.
اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ لِلْبُكَاءِ:
16- اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ لِلْبُكَاءِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَكْرُوهٌ إِنْ كَانَ بِلَا صَوْتٍ، وَحَرَامٌ إِنْ كَانَ مَعَهُ صَوْتٌ.وَالشَّافِعِيَّةُ لَا يُجِيزُونَ الِاجْتِمَاعَ لِلْبُكَاءِ.
وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْحَنَفِيَّةُ وَلَا الْحَنَابِلَةُ لِاجْتِمَاعِ النِّسَاءِ لِلْبُكَاءِ.عَلَى أَنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَازِ الْبُكَاءِ بِالدَّمْعِ فَقَطْ بِلَا صَوْتٍ، وَإِنَّمَا تَأْتِي الْكَرَاهَةُ أَوِ التَّحْرِيمُ عَلَى مَا إِذَا قُصِدَ الِاجْتِمَاعُ لَهُ.
هَذَا، وَإِذَا كَانَ اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ لِلْبُكَاءِ مَكْرُوهًا أَوْ مُحَرَّمًا فَكَرَاهَةُ أَوْ تَحْرِيمُ اجْتِمَاعِ الرِّجَالِ لَهُ أَوْلَى، وَإِنَّمَا خَصَّ الْفُقَهَاءُ النِّسَاءَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُهُنَّ.
أَثَرُ بُكَاءِ الْمَوْلُودِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ:
17- إِذَا بَكَى الْمَوْلُودُ عِنْدَ وِلَادَتِهِ، بِأَنِ اسْتَهَلَّ صَارِخًا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ حَيَاتِهِ، سَوَاءٌ انْفَصَلَ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَمْ لَمْ يَنْفَصِلْ كَمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.فَإِنْ لَمْ يَبْكِ، وَلَمْ تُوجَدْ مِنْهُ عَلَامَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ فَلَا يُحْكَمُ بِحَيَاتِهِ.فَإِنْ بَدَا مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى حَيَاتِهِ، كَالْبُكَاءِ وَالصُّرَاخِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُعْطَى حُكْمَ الْأَحْيَاءِ، فَيُسَمَّى وَيَرِثُ، وَيُقْتَصُّ مِنْ قَاتِلِهِ عَمْدًا، وَيَسْتَحِقُّ مَوَالِيهِ الدِّيَةَ فِي غَيْرِ الْعَمْدِ فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ تَحَقُّقِ حَيَاتِهِ فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُورَثُ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِهْلَال).
أَثَرُ بُكَاءِ الْبِكْرِ عِنْدَ الِاسْتِئْذَانِ لِتَزْوِيجِهَا:
18- إِذَا اسْتُؤْذِنَتِ الْبِكْرُ فِي النِّكَاحِ فَبَكَتْ، فَإِنَّ لِلْفُقَهَاءِ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الرِّضَا وَعَدَمِهِ اتِّجَاهَاتٍ ثَلَاثَةً:
أ- فَالْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنْ كَانَ الْبُكَاءُ بِلَا صَوْتٍ فَيَدُلُّ عَلَى الرِّضَا، وَإِنْ كَانَ بِصَوْتٍ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا.
ب- وَالْمَالِكِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنَّ بُكَاءَ الْبِكْرِ غَيْرِ الْمُجْبَرَةِ، وَهِيَ الَّتِي يُزَوِّجُهَا غَيْرُ الْأَبِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، يُعْتَبَرُ رِضًا؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّ هَذَا الْبُكَاءَ إِنَّمَا هُوَ لِفَقْدِ الْأَبِ مَثَلًا، فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ لِلْمَنْعِ مِنَ الزَّوَاجِ لَمْ يَكُنْ رِضًا.
ج- وَالْحَنَابِلَةُ يَقُولُونَ: إِنَّ الْبُكَاءَ إِذْنٌ فِي النِّكَاحِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فَإِذَا بَكَتْ أَوْ سَكَتَتْ فَهُوَ رِضَاهَا، وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا» وَلِأَنَّهَا غَيْرُ نَاطِقَةٍ بِالِامْتِنَاعِ مَعَ سَمَاعِ الِاسْتِئْذَانِ، فَكَانَ ذَلِكَ إِذْنًا مِنْهَا كَالصُّمَاتِ.وَالْبُكَاءُ يَدُلُّ عَلَى فَرْطِ الْحَيَاءِ لَا الْكَرَاهَةِ.وَلَوْ كَرِهَتْ لَامْتَنَعَتْ، فَإِنَّهَا لَا تَسْتَحِي مِنَ الِامْتِنَاعِ.
بُكَاءُ الْمَرْءِ هَلْ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ:
19- بُكَاءُ الْمَرْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى فِي سُورَةِ يُوسُفَ {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ}.فَإِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ تَصَنَّعُوا الْبُكَاءَ لِيُصَدِّقَهُمْ أَبُوهُمْ بِمَا أَخْبَرُوهُ بِهِ، مَعَ أَنَّ الَّذِي أَخْبَرُوهُ بِهِ كَذِبٌ، هُمُ الَّذِينَ دَبَّرُوهُ وَفَعَلُوهُ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بُكَاءَ الْمَرْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ تَصَنُّعًا، فَمِنَ الْخَلْقِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَفِيهِمْ مَنْ لَا يَقْدِرُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الدَّمْعَ الْمَصْنُوعَ لَا يَخْفَى.كَمَا قَالَ حَكِيمٌ:
إِذَا اشْتَبَكَتْ دُمُوعٌ فِي خُدُودٍ
تَبَيَّنَ مَنْ بَكَى مِمَّنْ تَبَاكَى.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
264-موسوعة الفقه الكويتية (بيض)
بَيْضٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْبَيْضُ مَعْرُوفٌ، يُقَالُ: بَاضَ الطَّائِرُ يَبِيضُ بَيْضًا، وَاحِدَتُهُ: بَيْضَةٌ، وَتُطْلَقُ الْبَيْضَةُ أَيْضًا عَلَى الْخُصْيَةِ.وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (خُصْيَة).
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْبَيْضِ:
بَيْضُ الْحَيَوَانَاتِ الْمَأْكُولَةِ اللَّحْمِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولَةِ:
2- سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (أَطْعِمَة) تَفْصِيلُ مَا يَتَّصِلُ بِحِلِّ الْأَكْلِ وَحُرْمَتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْبَيْضِ، وَهُوَ حِلُّ أَكْلِ بَيْضِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَحُرْمَةُ أَكْلِ بَيْضِ مَا لَا يَحِلُّ أَكْلُ لَحْمِهِ فِي الْجُمْلَةِ.
بِيضُ الْجَلاَّلَةِ:
3- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ أَكْلِ بَيْضِ الْجَلاَّلَةِ (وَهِيَ الَّتِي تَتَّبِعُ النَّجَاسَاتِ وَتَأْكُلُهَا إِذَا كَانَتْ مُخَلاَّةً تَجُولُ فِي الْقَاذُورَاتِ).
فَبَنَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ الْحُكْمَ عَلَى تَغَيُّرِ لَحْمِهَا وَنَتْنِهِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ وَوُجِدَتْ مِنْهَا رَائِحَةٌ مُنْتِنَةٌ كُرِهَ أَكْلُ بَيْضِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَحَرُمَ الْأَكْلُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مِنَ الْخَبَائِثِ، «وَلِنَهْيِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ أَكْلِ لَحْمِ الْجَلاَّلَةِ وَشُرْبِ لَبَنِهَا».
وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ حُرْمَةَ أَكْلِ بَيْضِ الْجَلاَّلَةِ بِمَا إِذَا كَانَ أَكْثَرُ عَلَفِهَا النَّجَاسَةَ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: يُكْرَهُ أَكْلُ بَيْضِ الْجَلاَّلَةِ كَرَاهَةً تَنْزِيهً؛ لِأَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ لِتَغَيُّرِ اللَّحْمِ، وَهُوَ لَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ.قَالُوا: وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، أَنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُ بَيْضِهَا لِتَوَلُّدِهِ مِنْ حَيٍّ، وَكُلُّ حَيٍّ طَاهِرٌ.وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ لَحْمُ الْجَلاَّلَةِ وَلَمْ يُنْتِنْ، بِأَنْ كَانَتْ تَخْلِطُ وَلَمْ يَكُنْ أَكْثَرُ عَلَفِهَا النَّجَاسَةَ حَلَّ أَكْلُ بَيْضِهَا بِاتِّفَاقٍ.
سَلْقُ الْبَيْضِ فِي مَاءٍ نَجِسٍ:
4- إِذَا سُلِقَ الْبَيْضُ فِي مَاءٍ نَجِسٍ حَلَّ أَكْلُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ) وَفِي الرَّاجِحِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ لِنَجَاسَتِهِ وَتَعَذُّرِ تَطْهِيرِهِ لِسَرَيَانِ الْمَاءِ النَّجِسِ فِي مَسَامِّهِ.
5- الْبَيْضُ الْمَذَرُ (وَهُوَ الْفَاسِدُ بِوَجْهٍ عَامٍّ):
هـ- إِذَا اسْتَحَالَتِ الْبَيْضَةُ دَمًا صَارَتْ نَجِسَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِهِمْ، وَفِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمُقَابِلُهُ أَنَّهَا طَاهِرَةٌ، وَإِذَا تَغَيَّرَتْ بِالتَّعَفُّنِ فَقَطْ فَهِيَ طَاهِرَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، كَاللَّحْمِ الْمُنْتِنِ، وَهِيَ نَجِسَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَإِنِ اخْتَلَطَ صَفَارُهَا بِبَيَاضِهَا مِنْ غَيْرِ عُفُونَةٍ فَهِيَ طَاهِرَةٌ.
الْبَيْضُ الْخَارِجُ بَعْدَ الْمَوْتِ:
6- الْبَيْضُ الْخَارِجُ مِنْ مَأْكُولِ اللَّحْمِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَا يَحْتَاجُ لِتَذْكِيَةٍ يَحِلُّ أَكْلُهُ بِاتِّفَاقٍ، إِلاَّ إِذَا كَانَ فَاسِدًا.
أَمَّا مَا يَحْتَاجُ لِتَذْكِيَةٍ وَلَمْ يُذَكَّ فَالْبَيْضُ الْخَارِجُ بَعْدَ مَوْتِهِ يَحِلُّ أَكْلُهُ إِنْ تَصَلَّبَتْ قِشْرَتُهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَأَصَحُّ الْأَوْجُهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ شَيْئًا آخَرَ مُنْفَصِلًا فَيَحِلُّ أَكْلُهُ.
وَيَحِلُّ أَكْلُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَلَوْ لَمْ تَتَصَلَّبْ قِشْرَتُهُ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ شَيْءٌ طَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ،
وَلَا يَحِلُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَكْلُ بَيْضِ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ الَّذِي لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ إِذَا لَمْ يُذَكَّ، إِلاَّ مَا كَانَتْ مَيْتَتُهُ طَاهِرَةً دُونَ ذَكَاةٍ- كَالْجَرَادِ وَالتِّمْسَاحِ- فَيَحِلُّ أَكْلُ بَيْضِهِ.
بَيْعُ الْبَيْضِ:
7- يُشْتَرَطُ فِي بَيْعِ الْبَيْضِ مَا يُشْتَرَطُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَبِيعَاتِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا مُتَقَوِّمًا طَاهِرًا مُنْتَفَعًا بِهِ مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ... (ر: بَيْع).
وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْبَيْضِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَلَا بَيْعُ بَيْضٍ فِي بَطْنِ دَجَاجَةٍ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ.
هَذَا وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ الْبَيْضِ مِنَ الرِّبَوِيَّاتِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَابْنُ شَعْبَانَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْقَدِيمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ الْبَيْضُ مِنَ الرِّبَوِيَّاتِ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا عِنْدَهُمُ الْكَيْلُ مَعَ الْجِنْسِ، أَوِ الْوَزْنُ مَعَ الْجِنْسِ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِرِبَا الْفَضْلِ.وَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا إِلاَّ بِإِجْمَاعِ الْوَصْفَيْنِ: الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ (الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ)، وَعَلَى ذَلِكَ يَجُوزُ بَيْعُ بَيْضَةٍ بِبَيْضَتَيْنِ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا تَتَحَقَّقُ فِيهِ الْعِلَّةُ.إِلاَّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ كَرَاهَةُ بَيْعِ بَيْضَةٍ بِبَيْضَتَيْنِ لِعِلَّةِ الطَّعْمِ.
وَيَحْرُمُ بَيْعُ الْبَيْضِ بِالْبَيْضِ نَسَاءً؛ لِأَنَّ عِلَّةَ رِبَا النِّسَاءِ هِيَ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ، أَمَّا الْكَيْلُ أَوِ الْوَزْنُ الْمُتَّفِقُ، أَوِ الْجِنْسُ فَالْجِنْسُ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ.وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّسَاءِ.وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ: لَا يَحْرُمُ النَّسَاءُ فِي بَيْعِ الْبَيْضِ بِالْبَيْضِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ غَيْرَ ابْنِ شَعْبَانَ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ إِلَى اعْتِبَارِ الْبَيْضِ مِنَ الرِّبَوِيَّاتِ؛ لِعِلَّةِ الِاقْتِيَاتِ وَالِادِّخَارِ فِي رِبَا الْفَضْلِ، وَعِلَّةِ الطَّعْمِ فِي رِبَا النَّسَاءِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعِلَّةِ الطَّعْمِ فِي رِبَا الْفَضْلِ وَالنَّسَاءِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالْبَيْضُ يُقْتَاتُ وَيُدَّخَرُ وَيُطْعَمُ فَيَكُونُ رِبَوِيًّا.
وَعَلَى ذَلِكَ يَحْرُمُ الْفَضْلُ وَالنَّسَاءُ فِي بَيْعِ الْبَيْضِ بِالْبَيْضِ، فَإِذَا بِيعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ حَالًّا، مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ.وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عُبَادَةَ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَنْهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ، إِلاَّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى» فَإِنِ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ وَلَمْ تَخْتَلِفِ الْعِلَّةُ جَازَ التَّفَاضُلُ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْجِنْسِ لَا يَحْرُمُ مَعَهُ التَّفَاضُلُ وَيَحْرُمُ النَّسَاءُ لِوُجُودِ عِلَّةِ الطَّعْمِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي تَتِمَّةِ الْحَدِيثِ السَّابِقِ: «فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ، إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ».
وَبَيْعُ الْبَيْضِ بِالْبَيْضِ لَا يَجُوزُ إِلاَّ وَزْنًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَبِالْوَزْنِ أَوِ التَّحَرِّي لِتَحَقُّقِ الْمُمَاثَلَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
السَّلَمُ فِي الْبَيْضِ:
8- إِسْلَامُ الْبَيْضِ فِي الْبَيْضِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ رِبًا لِعِلَّةِ الْجِنْسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعِلَّةِ الطَّعْمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَيَجُوزُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِسْلَامُ الْبَيْضِ فِي الْبَيْضِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الرِّبَوِيَّاتِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ «ابْنِ عَمْرٍو، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى قَلَائِصِ الصَّدَقَةِ فَكَانَ يَأْخُذُ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ».
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَيْضُ مُسْلَمًا فِيهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي كُلِّ مُسْلَمٍ فِيهِ مِنْ كَوْنِهِ مَعْلُومَ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّا يُمْكِنُ ضَبْطُ قَدْرِهِ وَصِفَتِهِ..وَهَكَذَا.
وَالْبَيْضُ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ قَدْرًا وَصِفَةً؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ يَسِيرَةٌ لَا تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، وَصَغِيرُ الْبَيْضِ وَكَبِيرُهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْرِي التَّنَازُعُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ النَّاسِ عَادَةً فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ، وَبِذَلِكَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْبَيْضِ عَدَدًا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِهِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ عَدَدًا، وَيَذْهَبُ التَّفَاوُتُ بِاشْتِرَاطِ الْكِبَرِ أَوِ الصِّغَرِ أَوِ الْوَسَطِ.
وَيَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا أَنْ يُسْلَمَ فِيهِ عَدَدًا إِذَا أَمْكَنَ ضَبْطُهُ أَوْ قِيَاسُهُ بِنَحْوِ خَيْطٍ يُوضَعُ عِنْدَ أَمِينٍ لِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ بِالْكِبَرِ وَالصِّغَرِ.
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْبَيْضِ عَدَدًا وَلَا كَيْلًا، وَإِنَّمَا يَجُوزُ بِالْوَزْنِ التَّقْرِيبِيِّ.
وَعِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْبَيْضِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ لِاخْتِلَافِهِ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ.
الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْبَيْضِ فِي الْحَرَمِ وَحَالَ الْإِحْرَامِ:
9- كُلُّ مَا حَرُمَ صَيْدُهُ فِي الْحَرَمِ حَرُمَ التَّعَرُّضُ لِبَيْضِهِ، فَإِذَا كَسَرَهُ أَحَدٌ أَوْ شَوَاهُ لَزِمَهُ قِيمَتُهُ بِمَحَلِّهِ يَوْمَ التَّلَفِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُ الصَّيْدِ؛ إِذِ الصَّيْدُ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ فَيُعْطَى لَهُ حُكْمُ الصَّيْدِ احْتِيَاطًا.وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهما- أَنَّهُمْ حَكَمُوا فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ بِالْقِيمَةِ.وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، عَدَا الْمُزَنِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: هُوَ حَلَالٌ لَا جَزَاءَ فِيهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجِبُ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْبَيْضِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ طَعَامًا أَوْ عِدْلُهُ صِيَامًا- صَوْمُ يَوْمٍ عَنْ كُلِّ مُدٍّ- وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَرَفَةَ أَنَّ فِي الْعَشْرِ الْبَيْضَاتِ شَاةً.وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ بَيْضَ حَمَامِ حَرَمِ مَكَّةَ فَفِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ شَاةٍ طَعَامًا؛ لِقَضَاءِ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- فِيهِ بِذَلِكَ.
وَلَا ضَمَانَ فِي الْبَيْضِ الْفَاسِدِ بِاتِّفَاقٍ إِذَا كَانَ غَيْرَ بَيْضِ نَعَامَةٍ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ لِعَرْضِيَّةِ أَنْ يَصِيرَ الْبَيْضُ صَيْدًا وَهُوَ مَفْقُودٌ فِي الْفَاسِدِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْفَاسِدُ بَيْضَ نَعَامَةٍ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ لَا شَيْءَ فِيهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَيَوَانٌ وَلَا مَآلُهُ إِلَى أَنْ يَصِيرَ مِنْهُ حَيَوَانٌ صَارَ كَالْأَحْجَارِ وَالْخَشَبِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ غَيْرَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَالْحَنَابِلَةُ غَيْرَ ابْنِ قُدَامَةَ يُضْمَنُ قِيمَةُ قِشْرِ بَيْضِ النَّعَامِ؛ لِأَنَّ لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ لَكِنْ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: الصَّحِيحُ لَا شَيْءَ فِيهِ.وَإِنْ كُسِرَ الْبَيْضُ فَخَرَجَ مِنْهُ فَرْخٌ مَيِّتٌ، فَإِنْ كَانَ مَوْتُ الْفَرْخِ بِسَبَبِ الْكَسْرِ، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ حَيًّا، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَيْهِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ- فَإِنْ عَلِمَ مَوْتَ الْفَرْخِ قَبْلَ الْكَسْرِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ.
وَإِذَا كَسَرَ الْمُحْرِمُ بَيْضًا أَوْ شَوَاهُ وَضَمِنَهُ أَوْ أَخَذَهُ حَلَالٌ مِنْ أَجْلِهِ حَرُمَ عَلَيْهِ أَكْلُهُ لِأَنَّهُ صَارَ كَالْمَيْتَةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيَحِلُّ أَكْلُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَيَحِلُّ أَكْلُهُ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ كَمَا صَحَّحَهُ فِي الْمَجْمُوعِ وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي، وَكَذَلِكَ يَحِلُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- غَيْرَ الْقَاضِي- وَسَنَدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ غَيْرَ سَنَدٍ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ يَحْرُمُ عَلَى الْحَلَالِ (غَيْرِ الْمُحْرِمِ) أَكْلُهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ.وَمَا مَرَّ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِبَيْضِ حَرَمِ مَكَّةَ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِحَرَمِ الْمَدِينَةِ فَلَا جَزَاءَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ يَحْرُمُ وَيَأْثَمُ بِذَلِكَ.هَذَا كُلُّهُ فِي بَيْضِ الصَّيْدِ وَهُوَ غَيْرُ الْمُسْتَأْنَسِ مِنَ الطُّيُورِ.أَمَّا الْمُسْتَأْنَسُ (مَا يُرَبَّى فِي الْبُيُوتِ كَالدَّجَاجِ) فَلَا شَيْءَ فِي بَيْضِهِ.
غَصْبُ الْبَيْضِ:
10- غَصْبُ الْبَيْضِ- كَغَصْبِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ- حَرَامٌ، وَعَلَى الْغَاصِبِ الضَّمَانُ، فَإِنْ كَانَ الْبَيْضُ الْمَغْصُوبُ بَاقِيًا وَجَبَ رَدُّهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ لَاعِبًا وَلَا جَادًّا وَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّهَا» فَإِنْ تَلِفَ ضَمِنَ مِثْلَهُ؛ إِذِ الْبَيْضُ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ الْمِثْلُ فَالْقِيمَةُ.
وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ غَصَبَ بَيْضًا فَحَضَنَهُ تَحْتَ دَجَاجٍ حَتَّى أَفْرَخَ.فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَكُونُ عَلَى الْغَاصِبِ بَيْضٌ مِثْلُهُ لِرَبِّهِ وَالْفِرَاخُ لِلْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ قَدْ تَبَدَّلَ وَصَارَ شَيْئًا آخَرَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَكُونُ الْفِرَاخُ لِرَبِّ الْبَيْضِ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ نُمِّيَ، وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
265-موسوعة الفقه الكويتية (تبذل)
تَبَذُّلٌالتَّعْرِيفُ:
1- لِلتَّبَذُّلِ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ: مِنْهَا: تَرْكُ التَّزَيُّنِ، وَالتَّهَيُّؤِ بِالْهَيْئَةِ الْحَسَنَةِ الْجَمِيلَةِ عَلَى جِهَةِ التَّوَاضُعِ.وَمِنْهُ حَدِيثُ سَلْمَانَ: «فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً» وَفِي رِوَايَةٍ «مُبْتَذَلَةً».وَالْمِبْذَلُ وَالْمِبْذَلَةُ: الثَّوْبُ الْخَلِقُ.وَالْمُتَبَذِّلُ: لَابِسُهُ.وَفِي حَدِيثِ الِاسْتِسْقَاءِ «فَخَرَجَ مُتَبَذِّلًا مُتَخَضِّعًا»، وَفِي مُخْتَارِ الصِّحَاحِ.الْبِذْلَةُ وَالْمِبْذَلَةُ بِكَسْرِ أَوَّلِهِمَا: مَا يُمْتَهَنُ مِنَ الثِّيَابِ.وَابْتِذَالُ الثَّوْبِ وَغَيْرِهِ: امْتِهَانُهُ.وَمِنْ مَعَانِي التَّبَذُّلِ أَيْضًا: تَرْكُ التَّصَاوُنِ.وَالتَّبَذُّلُ فِي الِاصْطِلَاحِ: لُبْسُ ثِيَابِ الْبِذْلَةِ.وَالْبِذْلَةُ: الْمِهْنَةُ.وَثِيَابُ الْبِذْلَةِ هِيَ الَّتِي تُلْبَسُ فِي حَالِ الشُّغْلِ، وَمُبَاشَرَةِ الْخِدْمَةِ، وَتَصَرُّفِ الْإِنْسَانِ فِي بَيْتِهِ.
وَهُوَ بِهَذَا لَا يَخْرُجُ فِي مَعْنَاهُ الِاصْطِلَاحِيِّ عَمَّا ذُكِرَ لَهُ مِنْ مَعَانٍ لُغَوِيَّةٍ.
حُكْمُهُ الْإِجْمَالِيُّ:
2- التَّبَذُّلُ بِمَعْنَى تَرْكِ التَّزَيُّنِ.تَارَةً يَكُونُ وَاجِبًا، وَتَارَةً يَكُونُ مَسْنُونًا، وَتَارَةً يَكُونُ مَكْرُوهًا، وَتَارَةً يَكُونُ مُبَاحًا، وَهُوَ الْأَصْلُ.
3- فَيَكُونُ وَاجِبًا: فِي الْإِحْدَادِ، وَهُوَ تَرْكُ الزِّينَةِ وَنَحْوِهَا لِلْمُعْتَدَّةِ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِهِ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا».
وَإِحْدَادُهَا يَكُونُ بِتَجَنُّبِ الزِّينَةِ، وَالطِّيبِ، وَلُبْسِ الْحُلِيِّ، وَالْمُلَوَّنِ وَالْمُطَرَّزِ مِنَ الثِّيَابِ لِلتَّزَيُّنِ، وَالْكُحْلِ وَالِادِّهَانِ، وَكُلِّ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ تُعْتَبَرَ مَعَهُ بِاسْتِعْمَالِهِ مُتَزَيِّنَةً مَا لَمْ تَدْعُ إِلَى ذَلِكَ ضَرُورَةٌ، فَتُقَدَّرُ حِينَئِذٍ بِقَدْرِهَا، كَالْكُحْلِ مَثَلًا لِلرَّمَدِ، فَإِنَّهُ يُرَخَّصُ لَهَا بِاسْتِعْمَالِهِ لَيْلًا وَتَمْسَحُهُ نَهَارًا، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَهِيَ حَادَّةٌ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ جَعَلَتْ فِي عَيْنِهَا صَبْرًا، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا أُمَّ سَلَمَةَ؟ فَقَالَتْ: إِنَّمَا هُوَ صَبْرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ، قَالَ: إِنَّهُ يَشُبُّ الْوَجْهَ، فَلَا تَجْعَلِيهِ إِلاَّ بِاللَّيْلِ، وَتَنْزِعِينَهُ بِالنَّهَارِ».
وَحَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ- رضي الله عنها- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ: «كُنَّا نُنْهَى أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَكْتَحِلُ وَلَا تَتَطَيَّبُ وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ، وَقَدْ رُخِّصَ لَنَا عِنْدَ الطُّهْرِ إِذَا اغْتَسَلَتْ إِحْدَانَا مِنْ مَحِيضِهَا فِي نُبْذَةٍ مِنْ كُسْتِ أَظْفَارٍ».
وَالْمُطَلَّقَةُ طَلَاقًا بَائِنًا كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَيَجِبُ عَلَيْهَا تَجَنُّبُ مَا تَتَجَنَّبُهُ الْحَادَّةُ، إِظْهَارًا لِلتَّأَسُّفِ عَلَى فَوْتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ.وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيلِ مُصْطَلَحَ (إِحْدَادٌ).
4- وَيَكُونُ التَّبَذُّلُ مَسْنُونًا فِي الِاسْتِسْقَاءِ.وَهُوَ طَلَبُ الْعِبَادِ السُّقْيَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا.فَيَخْرُجُونَ إِلَى الصَّحْرَاءِ فِي ثِيَابٍ بِذْلَةٍ خَاشِعِينَ مُتَضَرِّعِينَ وَجِلِينَ نَاكِسِينَ رُءُوسَهُمْ، إِذْ ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى الْإِجَابَةِ.فَيُصَلُّونَ رَكْعَتَيْنِ، وَيُكْثِرُونَ مِنَ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِلِاسْتِسْقَاءِ مُتَبَذِّلًا مُتَوَاضِعًا مُتَخَشِّعًا مُتَضَرِّعًا حَتَّى أَتَى الْمُصَلَّى».وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيلِ مُصْطَلَحَ (اسْتِسْقَاءٌ).
5- وَيَكُونُ التَّبَذُّلُ مَكْرُوهًا: فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ؛ لِأَنَّ التَّزَيُّنَ مَسْنُونٌ لَهُمَا بِاتِّفَاقٍ، فَيَغْتَسِلُ وَيَلْبَسُ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ، وَالْجَدِيدُ مِنْهَا أَفْضَلُ، وَأَوْلَاهَا الْبَيَاضُ، وَيَتَطَيَّبُ.وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: حَدِيثُ «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ وَمَسَّ مِنْ طِيبٍ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ، فَلَمْ يَتَخَطَّ أَعْنَاقَ النَّاسِ، ثُمَّ صَلَّى مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ أَنْصَتَ إِذَا خَرَجَ إِمَامُهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ صَلَاتِهِ، كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ جُمُعَتِهِ الَّتِي قَبْلَهَا» وَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ- رضي الله عنه- «أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ يَقُولُ: مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوِ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ جُمُعَتِهِ سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ».
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَالِ.أَمَّا النِّسَاءُ فَإِنَّهُنَّ إِذَا أَرَدْنَ حُضُورَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ يَتَنَظَّفْنَ بِالْمَاءِ وَلَا يَتَطَيَّبْنَ، وَلَا يَلْبَسْنَ الشُّهْرَةَ مِنَ الثِّيَابِ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ» أَيْ غَيْرَ مُتَعَطِّرَاتٍ؛ لِأَنَّهُنَّ إِذَا تَطَيَّبْنَ وَلَبِسْنَ الشُّهْرَةَ مِنَ الثِّيَابِ دَعَا ذَلِكَ إِلَى الْفَسَادِ وَالِافْتِتَانِ بِهِنَّ.فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ قَدْ دَلَّتْ عَلَى كَرَاهَةِ التَّبَذُّلِ لِلرِّجَالِ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، وَعَلَى اسْتِحْبَابِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلنِّسَاءِ فِيهِمَا.
وَانْظُرْ: (جُمُعَةً وَعِيدَيْنِ).
وَيُكْرَهُ التَّبَذُّلُ فِي مَجَامِعِ النَّاسِ وَلِقَاءِ الْوُفُودِ.وَانْظُرْ لِتَفْصِيلِ ذَلِكَ مُصْطَلَحَ: (تَزَيُّنٌ).وَيُكْرَهُ تَبَذُّلُ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَالرَّجُلِ لِزَوْجَتِهِ؛ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَتَزَيَّنَ لِلْآخَرِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فَالْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ حَقٌّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَمِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ يَتَزَيَّنَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، فَكَمَا يُحِبُّ الزَّوْجُ أَنْ تَتَزَيَّنَ لَهُ زَوْجَتُهُ.فَكَذَلِكَ هِيَ تُحِبُّ أَنْ يَتَزَيَّنَ لَهَا.قَالَ أَبُو زَيْدٍ: تَتَّقُونَ اللَّهَ فِيهِنَّ كَمَا عَلَيْهِنَّ أَنْ يَتَّقِينَ اللَّهَ فِيكُمْ.وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ أَتَزَيَّنَ لِلْمَرْأَةِ كَمَا أُحِبُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}.
وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ يَلْبَسُ الثِّيَابَ النَّفِيسَةَ وَيَقُولُ: إِنَّ لِي نِسَاءً وَجَوَارِي، فَأُزَيِّنُ نَفْسِي كَيْ لَا يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرِي.وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُعْجِبُنِي أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي امْرَأَتِي، كَمَا يُعْجِبُهَا أَنْ أَتَزَيَّنَ لَهَا.
وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيلِ مُصْطَلَحَ (زِينَةٌ).
كَمَا يُكْرَهُ التَّبَذُّلُ فِي الصَّلَاةِ عَدَا مَا كَانَ مِنْهُ فِي صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ عَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ بَيَانُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُصَلِّي فَرْدًا أَمْ فِي جَمَاعَةٍ، إِمَامًا كَانَ أَمْ مَأْمُومًا، كَأَنْ يَلْبَسَ الْمُصَلِّي ثَوْبًا يَزْرِي بِهِ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ مُرِيدَ الصَّلَاةِ يَعُدُّ نَفْسَهُ لِمُنَاجَاةِ رَبِّهِ، وَلِذَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَرْتَدِيَ أَكْمَلَ ثِيَابِهِ وَأَحْسَنَهَا لقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَ نُزُولُهَا فِيمَنْ كَانَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا إِلاَّ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَالْمُرَادُ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ عِنْدَ الصَّلَاةِ بِمَا لَا يَصِفُ الْبَشَرَةَ وَيُخِلُّ بِالصَّلَاةِ، وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
6- وَيَكُونُ التَّبَذُّلُ مُبَاحًا فِي غَيْرِ الْمَوَاضِعِ الْمَذْكُورَةِ، كَمَنْ يَلْبَسُ ثِيَابَ الْبِذْلَةِ فِي عَمَلِهِ أَوْ شُئُونِهِ الْخَاصَّةِ.
7- أَمَّا التَّبَذُّلُ بِمَعْنَى عَدَمِ التَّصَاوُنِ، فَهُوَ مَذْمُومٌ شَرْعًا لِإِخْلَالِهِ بِالْمُرُوءَةِ، وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ.وَهُوَ حَرَامٌ إِنْ كَانَ عَدَمُ التَّصَاوُنِ عَنِ الْمَعَاصِي وَتَفْصِيلُهُ فِي (الشَّهَادَةِ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
266-موسوعة الفقه الكويتية (تخصيص)
تَخْصِيصٌالتَّعْرِيفُ:
1- تَخْصِيصُ الْإِنْسَانِ بِالشَّيْءِ: تَفْضِيلُهُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ.
وَفِي اصْطِلَاحِ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ يُطْلَقُ عَلَى: قَصْرِ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الدَّلِيلُ مُسْتَقِلًّا أَمْ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ، مُقَارِنًا أَمْ غَيْرَ مُقَارِنٍ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ بِدَلِيلٍ مُسْتَقِلٍّ مُقَارِنٍ، فَخَرَجَ الِاسْتِثْنَاءُ وَالصِّفَةُ وَنَحْوُهُمَا؛ لِأَنَّ الْقَصْرَ حَصَلَ فِيمَا ذُكِرَ بِدَلِيلٍ غَيْرِ مُسْتَقِلٍّ.وَخَرَجَ النَّسْخُ؛ لِأَنَّهُ قَصْرٌ بِدَلِيلٍ غَيْرِ مُقَارِنٍ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- النَّسْخُ:
2- النَّسْخُ هُوَ: الرَّفْعُ وَالْإِزَالَةُ.
وَفِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ: رَفْعُ الشَّارِعِ الْحُكْمَ الْمُتَقَدِّمَ بِحُكْمٍ مُتَأَخِّرٍ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
فَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّسْخِ وَبَيْنَ التَّخْصِيصِ: أَنَّ التَّخْصِيصَ لَيْسَ فِيهِ رَفْعٌ لِلْحُكْمِ، وَأَمَّا النَّسْخُ فَهُوَ رَفْعُ الْحُكْمِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ.وَالتَّخْصِيصُ قَصْرٌ بِدَلِيلٍ مُقَارِنٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالنَّسْخُ فِيهِ تَرَاخٍ.
ب- التَّقْيِيدُ:
3- التَّقْيِيدُ: تَقْلِيلُ شُيُوعِ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ بِاقْتِرَانِهِ بِلَفْظٍ آخَرَ يَدُلُّ عَلَى تَقْيِيدِهِ بِشَرْطٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ حَالٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
وَمِثَالُهُ لَفْظُ «رَجُلٍ» إِذَا اقْتَرَنَ بِلَفْظِ «مُؤْمِنٍ» مَثَلًا، وَقِيلَ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ، فَإِنَّ لَفْظَ «رَجُلٍ» مُطْلَقٌ وَهُوَ شَائِعٌ وَمُنْتَشِرٌ فِي كُلِّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ، وَهُوَ أَيُّ ذَكَرٍ بَالِغٍ مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، مُؤْمِنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ، وَلَمَّا اقْتَرَنَ بِهِ لَفْظُ «مُؤْمِنٍ» قَلَّلَ مِنْ شُيُوعِهِ وَانْتِشَارِهِ، وَجَعَلَهُ مَقْصُورًا عَلَى مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا دُونَ غَيْرِهِ.
فَالتَّقْيِيدُ إِنَّمَا يَكُونُ لِلْأَلْفَاظِ الْمُطْلَقَةِ، لِيُقَلِّلَ مِنْ شُيُوعِهَا وَانْتِشَارِهَا فِيمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ مَعْنَاهَا، وَيَجْعَلُهَا مَقْصُورَةً عَلَى مَا يُوجَدُ فِيهِ الْقَيْدُ دُونَ مَا عَدَاهُ.
أَمَّا التَّخْصِيصُ: فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ؛ لِيُقَلِّلَ مِنْ شُمُولِهَا وَيَقْصُرَهَا عَلَى بَعْضِ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ مَعْنَاهَا دُونَ بَعْضِهَا الْآخَرِ.
ج- الِاسْتِثْنَاءُ:
4- الِاسْتِثْنَاءُ: إِخْرَاجٌ مِنْ مُتَعَدِّدٍ بِإِلاَّ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا.أَوْ هُوَ الْمَنْعُ مِنْ دُخُولِ بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ صَدْرُ الْكَلَامِ فِي حُكْمِهِ بِإِلاَّ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا.
وَالِاسْتِثْنَاءُ نَوْعٌ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ لِلْعَامِّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُصُولِيِّينَ، وَلَيْسَ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ قَاصِرٌ لِلْعَامِّ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
5- التَّخْصِيصُ جَائِزٌ عَقْلًا وَوَاقِعٌ اسْتِقْرَاءً، وَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ إِلَى وَاحِدٍ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَفْظُ الْعَامِّ جَمْعًا، وَإِلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ إِذَا كَانَ جَمْعًا.وَيَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِالْعَقْلِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا يَجُوزُ بِاللَّفْظِ.
وَاخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ يَبْقَى عَامًّا فِي الْبَاقِي بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أَمْ يَصِيرُ مَجَازًا؟ وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْبَعْضِ الْبَاقِي، وَهَذَا رَأْيُ الْحَنَابِلَةِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنْ كَانَ الْبَاقِي غَيْرَ مُنْحَصِرٍ، وَبَعْضُهُمْ بِقُيُودٍ أُخْرَى.
قَالَ الْبَزْدَوِيُّ: مَنْ شَرَطَ فِي الْعَامِّ الِاجْتِمَاعَ دُونَ الِاسْتِغْرَاقِ قَالَ: إِنَّهُ يَبْقَى حَقِيقَةً فِي الْعُمُومِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، وَمَنْ قَالَ: شَرْطُهُ الِاسْتِيعَابُ وَالِاسْتِغْرَاقُ قَالَ: يَصِيرُ مَجَازًا بَعْدَ التَّخْصِيصِ، وَإِنْ خُصَّ مِنْهُ فَرْدٌ وَاحِدٌ.
وَهَلْ يَبْقَى الْعَامُّ حُجَّةً بَعْدَ التَّخْصِيصِ أَمْ لَا؟ قَالَ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْعَامَّ يَبْقَى حُجَّةً بَعْدَ التَّخْصِيصِ، مَعْلُومًا كَانَ الْمَخْصُوصُ أَوْ مَجْهُولًا.وَبَعْضُهُمْ قَيَّدَ حُجِّيَّتَهُ بِمَا إِذَا كَانَ الْمَخْصُوصُ مَعْلُومًا لَا مَجْهُولًا.وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: لَا يَبْقَى حُجَّةً أَصْلًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
267-موسوعة الفقه الكويتية (تزوير)
تَزْوِيرٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّزْوِيرُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ زَوَّرَ، وَهُوَ مِنَ الزُّورِ، وَالزُّورُ: الْكَذِبُ، قَالَ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} وَزَوَّرَ كَلَامَهُ: أَيْ زَخْرَفَهُ، وَهُوَ أَيْضًا: تَزْيِينُ الْكَذِبِ.وَزَوَّرْتُ الْكَلَامَ فِي نَفْسِي: هَيَّأْتُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ- رضي الله عنه-: مَا زَوَّرْتُ كَلَامًا لِأَقُولَهُ إِلاَّ سَبَقَنِي إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ.أَيْ: هَيَّأْتُهُ وَأَتْقَنَتْهُ.
وَلَهُ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ أُخْرَى.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: تَحْسِينُ الشَّيْءِ وَوَصْفُهُ بِخِلَافِ صِفَتِهِ، حَتَّى يُخَيَّلَ إِلَى مَنْ سَمِعَهُ أَوْ رَآهُ أَنَّهُ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ.فَهُوَ تَمْوِيهُ الْبَاطِلِ بِمَا يُوهِمُ أَنَّهُ حَقٌّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ
أ- الْكَذِبُ:
2- الْكَذِبُ هُوَ: الْإِخْبَارُ بِمَا لَيْسَ مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ.وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّزْوِيرِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ، فَالتَّزْوِيرُ يَكُونُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَالْكَذِبُ لَا يَكُونُ إِلاَّ فِي الْقَوْلِ.
وَالْكَذِبُ قَدْ يَكُونُ مُزَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُزَيَّنٍ، وَالتَّزْوِيرُ لَا يَكُونُ إِلاَّ فِي الْكَذِبِ الْمُمَوَّهِ.
ب- الْخِلَابَةُ:
3- الْخِلَابَةُ هِيَ: الْمُخَادَعَةُ، وَتَكُونُ بِسَتْرِ الْعَيْبِ، وَتَكُونُ بِالْكَذِبِ وَغَيْرِهِ.
ج- التَّلْبِيسُ:
4- التَّلْبِيسُ مِنَ اللَّبْسِ، وَهُوَ اخْتِلَاطُ الْأَمْرِ، وَهُوَ سَتْرُ الْحَقِيقَةِ وَإِظْهَارُهَا بِخِلَافِ مَا هِيَ عَلَيْهَا.
د- التَّغْرِيرُ:
5- التَّغْرِيرُ هُوَ: الْخَدِيعَةُ وَالْإِيقَاعُ فِي الْبَاطِلِ وَفِيمَا انْطَوَتْ عَاقِبَتُهُ.
هـ- الْغِشُّ:
6- الْغِشُّ مَصْدَرُ غَشَّهُ إِذَا لَمْ يُمَحِّضْهُ النُّصْحَ، بَلْ خَدَعَهُ.
وَالْغِشُّ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فَالتَّزْوِيرُ وَالْغِشُّ لَفْظَانِ مُتَقَارِبَانِ.
و- التَّدْلِيسُ:
7- التَّدْلِيسُ: كِتْمَانُ الْعَيْبِ، وَهُوَ فِي الْبَيْعِ كِتْمَانُ عَيْبِ السِّلْعَةِ عَنِ الْمُشْتَرِي.
وَالتَّدْلِيسُ أَخَصُّ مِنَ التَّزْوِيرِ؛ لِأَنَّهُ خَاصٌّ بِكِتْمَانِ الْعَيْبِ فِي السِّلْعَةِ الْمَبِيعَةِ، أَمَّا التَّزْوِيرُ فَهُوَ أَعَمُّ، لِأَنَّهُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَفِي السِّلْعَةِ الْمَبِيعَةِ وَغَيْرِهَا.
ز- التَّحْرِيفُ:
8- التَّحْرِيفُ: تَغْيِيرُ الْكَلَامِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَالْعُدُولُ بِهِ عَنْ حَقِيقَتِهِ.
ج- التَّصْحِيفُ:
9- وَالتَّصْحِيفُ: هُوَ تَغْيِيرُ اللَّفْظِ حَتَّى ي تَغَيَّرَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ أَحْكَامٍ فِي مُصْطَلَحِ (تَدْلِيسٌ) (وَتَحْرِيفٌ).
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
10- الْأَصْلُ فِي التَّزْوِيرِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ شَرْعًا فِي الشَّهَادَةِ لِإِبْطَالِ حَقٍّ أَوْ إِثْبَاتِ بَاطِلٍ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى حُرْمَتِهِ قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}
وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا، ثُمَّ قَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ.فَمَا يَزَالُ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ».
11- وَقَدِ اسْتُثْنِيَ مِنْ حُرْمَةِ التَّزْوِيرِ أُمُورٌ:
مِنْهَا الْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ، وَتَطْيِيبُ خَاطِرِ زَوْجَتِهِ لِيُرْضِيَهَا، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ مَرْفُوعًا: «لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ إِلاَّ فِي ثَلَاثٍ: يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا، وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ، وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ» وَمِنْهُ: الْكَذِبُ لِدَفْعِ ظَالِمٍ عَلَى مَالٍ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَوْ عِرْضٍ، وَفِي سَتْرِ مَعْصِيَةٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ.وَقَدْ نُقِلَ عَنِ النَّوَوِيِّ: الظَّاهِرُ إِبَاحَةُ حَقِيقَةِ الْكَذِبِ فِي الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، وَلَكِنَّ التَّعْرِيضَ أَوْلَى.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ هُوَ مِنَ الْمُسْتَثْنَى الْجَائِزِ بِالنَّصِّ.
قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ»،، وَفِيهِ: الْأَمْرُ بِاسْتِعْمَالِ الْحِيلَةِ فِي الْحَرْبِ مَهْمَا أَمْكَنَ ذَلِكَ.وَفِيهِ: التَّحْرِيضُ عَلَى أَخْذِ الْحَذَرِ فِي الْحَرْبِ، وَالنَّدْبُ إِلَى خِدَاعِ الْكُفَّارِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ خِدَاعِ الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ كَيْفَمَا أَمْكَنَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَقْضُ عَهْدٍ أَوْ أَمَانٍ، فَلَا يَجُوزُ.وَأَصْلُ الْخُدَعِ إِظْهَارُ أَمْرٍ وَإِضْمَارُ خِلَافِهِ.
وَجَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنهما-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ؟ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ.قَالَ: فَأَتَاهُ، فَقَالَ: هَذَا- يَعْنِي النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ عَنَّانَا وَسَأَلَنَا الصَّدَقَةَ.قَالَ: وَأَيْضًا وَاَللَّهِ لَتَمَلُّنَّهُ قَالَ: فَإِنَّا اتَّبَعْنَاهُ فَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُهُ.قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُهُ حَتَّى اسْتَمْكَنَ مِنْهُ فَقَتَلَهُ».
فَقَوْلُهُ: عَنَّانَا أَيْ: كَلَّفَنَا بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَقَوْلُهُ: سَأَلَنَا الصَّدَقَةَ أَيْ: طَلَبَهَا مِنَّا لِيَضَعَهَا مَوَاضِعَهَا، وَقَوْلُهُ: نَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ أَيْ نَكْرَهُ فِرَاقَهُ.فَقَوْلُهُ لَهُ مِنْ قَبِيلِ التَّعْرِيضِ وَالتَّمْوِيهِ وَالتَّزْوِيرِ، حَتَّى يَأْمَنَهُ فَيَتَمَكَّنَ مِنْ قَتْلِهِ.
وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ: «ائْذَنْ لِي أَنْ أَقُولَ.قَالَ: قُلْ» فَيَدْخُلُ فِيهِ الْكَذِبُ تَصْرِيحًا وَتَلْوِيحًا
وَفِي سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ: «أَتَى نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ، وَإِنَّ قَوْمِي لَمْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي، فَمُرْنِي بِمَا شِئْتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّمَا أَنْتَ فِينَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَخَذِّلْ عَنَّا إِنِ اسْتَطَعْتَ، فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ.فَخَرَجَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أَتَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَقَالَ لَهُمْ: لَا تُقَاتِلُوا مَعَ الْقَوْمِ- الْأَحْزَابِ- حَتَّى تَأْخُذُوا مِنْهُمْ رَهْنًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، يَكُونُونَ بِأَيْدِيكُمْ ثِقَةً لَكُمْ عَلَى أَنْ تُقَاتِلُوا مَعَهُمْ مُحَمَّدًا، حَتَّى تُنَاجِزُوهُ، فَقَالُوا لَهُ: لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ.
ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ عَرَفْتُمْ وُدِّي لَكُمْ وَفِرَاقِي مُحَمَّدًا، وَأَنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَمْرٌ قَدْ رَأَيْتُ عَلَيَّ حَقًّا أَنْ أُبَلِّغَكُمُوهُ، نُصْحًا لَكُمْ.تَعْلَمُوا أَنَّ مَعْشَرَ يَهُودَ قَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ: إِنَّا قَدْ نَدِمْنَا عَلَى مَا فَعَلْنَا، فَهَلْ يُرْضِيكَ أَنْ نَأْخُذَ لَكَ مِنَ الْقَبِيلَتَيْنِ، مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ، رِجَالًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ فَنُعْطِيكَهُمْ، فَتَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، ثُمَّ نَكُونَ مَعَكَ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ حَتَّى نَسْتَأْصِلَهُمْ؟ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: أَنْ نَعَمْ.فَإِنْ بَعَثَتْ إِلَيْكُمْ يَهُودُ يَلْتَمِسُونَ مِنْكُمْ رَهْنًا مِنْ رِجَالِكُمْ فَلَا تَدْفَعُوا إِلَيْهِمْ مِنْكُمْ رَجُلًا وَاحِدًا.
ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى غَطَفَانَ، فَقَالَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ لِقُرَيْشٍ، وَحَذَّرَهُمْ مَا حَذَّرَهُمْ
وَأَرْسَلَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَرُءُوسُ غَطَفَانَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ: فَاغْدُوا لِلْقِتَالِ حَتَّى نُنَاجِزَ مُحَمَّدًا وَنَفْرُغَ مِمَّا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِمْ: وَلَسْنَا بِاَلَّذِينَ نُقَاتِلُ مَعَكُمْ مُحَمَّدًا حَتَّى تُعْطُونَا رَهْنًا مِنْ رِجَالِكُمْ، يَكُونُونَ بِأَيْدِينَا ثِقَةً لَنَا، حَتَّى نُنَاجِزَ مُحَمَّدًا، فَإِنَّا نَخْشَى إِنْ ضَرَّسَتْكُمُ الْحَرْبُ وَاشْتَدَّ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَنْ تَنْشَمِرُوا إِلَى بِلَادِكُمْ وَتَتْرُكُونَا، وَالرَّجُلُ فِي بَلَدِنَا، وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِذَلِكَ مِنْهُ.فَلَمَّا رَجَعَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ بِمَا قَالَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ، قَالَتْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ: وَاَللَّهِ إِنَّ الَّذِي حَدَّثَكُمْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ لَحَقٌّ.فَأَرْسَلُوا إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ: إِنَّا وَاَللَّهِ لَا نَدْفَعُ إِلَيْكُمْ رَجُلًا وَاحِدًا مِنْ رِجَالِنَا، فَإِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ الْقِتَالَ فَاخْرُجُوا فَقَاتِلُوا.فَقَالَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ، حِينَ انْتَهَتِ الرُّسُلُ إِلَيْهِمْ بِهَذَا: إِنَّ الَّذِي ذَكَرَ لَكُمْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ لَحَقٌّ مَا يُرِيدُ الْقَوْمُ إِلاَّ أَنْ يُقَاتِلُوا، فَإِنْ رَأَوْا فُرْصَةً انْتَهَزُوهَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ انْشَمَرُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَخَلَّوْا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الرَّجُلِ فِي بَلَدِكُمْ، فَأَرْسَلُوا إِلَى قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ: إِنَّا وَاَللَّهِ لَا نُقَاتِلُ مَعَكُمْ مُحَمَّدًا حَتَّى تُعْطُونَا رَهْنًا.فَأَبَوْا عَلَيْهِمْ، وَخَذَلَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ، وَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ فِي لَيَالٍ شَاتِيَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ، فَجَعَلَتْ تَكْفَأُ قُدُورَهُمْ، وَتَطْرَحُ أَبْنِيَتَهُمْ».
ثَانِيًا: الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ:
12- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى أَنَّ قَضَاءَ الْحَاكِمِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا، وَلَا يُزِيلُ الشَّيْءَ عَنْ صِفَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ سَوَاءٌ الْعُقُودُ مِنَ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ وَالْفُسُوخِ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْأَمْلَاكُ الْمُرْسَلَةُ (أَيِ الَّتِي لَمْ يُبَيَّنْ سَبَبُ مِلْكِهَا مِنْ إِرْثٍ أَوْ شِرَاءٍ) وَغَيْرُ الْمُرْسَلَةِ.وَاسْتَدَلُّوا: بِخَبَرِ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ».
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْقَضَاءَ بِشَهَادَةِ الزُّورِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي الْفُسُوخِ وَالْعُقُودِ، حَيْثُ كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا، وَالْقَاضِي غَيْرُ عَالِمٍ.لِقَوْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- لِامْرَأَةٍ أَقَامَ عَلَيْهَا رَجُلٌ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا، فَأَنْكَرَتْ، فَقَضَى لَهُ عَلِيٌّ.فَقَالَتْ لَهُ: لَمْ يَتَزَوَّجْنِي، فَأَمَّا وَقَدْ قَضَيْتَ عَلَيَّ فَجَدِّدْ نِكَاحِي، فَقَالَ: لَا أُجَدِّدُ نِكَاحَكِ، الشَّاهِدَانِ زَوَّجَاكِ.
وَمَحَلُّ تَفْصِيلِ هَذَا فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءٌ) (وَشَهَادَةٌ).
التَّزْوِيرُ فِي الْأَيْمَانِ
13- الْأَصْلُ أَنَّ التَّزْوِيرَ فِي الْيَمِينِ حَرَامٌ، وَهِيَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ: وَهِيَ الَّتِي يَكْذِبُ فِيهَا الْحَالِفُ عَامِدًا عَالِمًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الَّتِي يَكْذِبُ فِيهَا الْحَالِفُ عَمْدًا، أَوْ يَشُكُّ فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، أَوْ يَظُنُّ مِنْهُ ظَنًّا غَيْرَ قَوِيٍّ.
وَقَدْ يَكُونُ تَزْوِيرُ الْيَمِينِ جَائِزًا أَوْ وَاجِبًا- عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ- فِيمَا إِذَا تَعَيَّنَ تَزْوِيرُ الْيَمِينِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ عَلَيْهَا أَوِ الِاضْطِرَارِ إِلَيْهَا، لِدَفْعِ الْأَذَى عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ مَظْلُومٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ أَحْكَامِ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ فِي مُصْطَلَحِ: (أَيْمَانٌ)
تَضْمِينُ شُهُودِ الزُّورِ:
14- يَضْمَنُ شُهُودُ الزُّورِ مَا تَرَتَّبَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ مِنْ ضَمَانٍ، فَإِنْ كَانَ الْمَحْكُومُ بِهِ مَالًا رُدَّ إِلَى صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ إِتْلَافًا فَعَلَى الشُّهُودِ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُمْ سَبَبُ إِتْلَافِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى شُهُودِ الزُّورِ، إِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُ، كَأَنْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِقَتْلٍ عَمْدٍ عُدْوَانٍ، أَوْ بِرِدَّةٍ، أَوْ بِزِنًى وَهُوَ مُحْصَنٌ، فَقُتِلَ بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَا، وَأَقَرَّا بِتَعَمُّدِ قَتْلِهِ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ؛ لِعِلْمِهِمَا أَنَّهُ يُقْتَلُ بِشَهَادَتِهِمَا.فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا لِتَعَمُّدِ الْقَتْلِ بِتَزْوِيرِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا سَبَبُ الْقَتْلِ، وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِنَفْسِ التَّزْوِيرِ وَالْكَذِبِ.
وَتَجِبُ عَلَيْهِمَا الدِّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ إِذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَيْهَا بَدَلَ الْقِصَاصِ.وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا شَهِدَا زُورًا بِمَا يُوجِبُ الْقَطْعَ قِصَاصًا فَقُطِعَ، أَوْ فِي سَرِقَةٍ لَزِمَهُمَا الْقَطْعُ، وَإِذَا سَرَى أَثَرُ الْقَطْعِ إِلَى النَّفْسِ فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ.كَمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاضِي إِذَا قَضَى زُورًا بِالْقِصَاصِ، وَكَانَ يَعْلَمُ بِكَذِبِ الشُّهُودِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الدِّيَةُ لَا الْقِصَاصُ.لِأَنَّ الْقَتْلَ بِشَهَادَةِ الزُّورِ قَتْلٌ بِالسَّبَبِ، وَالْقَتْلُ تَسَبُّبًا لَا يُسَاوِي الْقَتْلَ مُبَاشَرَةً، وَلِذَا قَصَرَ أَثَرُهُ فَوَجَبَتْ بِهِ الدِّيَةُ لَا الْقِصَاصُ.وَمَحَلُّ وُجُوبِ الْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ إِذَا تَبَيَّنَ كَذِبُ الشُّهُودِ، أَوْ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ.أَمَّا إِذَا رَجَعُوا قَبْلَهُ وَبَعْدَ الْحُكْمِ فَيُنْقَضُ الْحُكْمُ، وَلَا غُرْمَ عَلَى الشُّهُودِ، بَلْ يُعَزَّرُونَ.
وَيَجِبُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى شُهُودِ الزُّورِ إِذَا شَهِدُوا بِالزِّنَى، وَيُقَامُ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ سَوَاءٌ تَبَيَّنَ كَذِبُهُمْ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ أَوْ بَعْدَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الْقِصَاصُ مَعَ حَدِّ الْقَذْفِ إِذَا شَهِدُوا بِالزِّنَى عَلَى مُحْصَنٍ، فَرُجِمَ بِسَبَبِ شَهَادَتِهِمْ.وَلِلتَّفْصِيلِ فِي أَحْكَامِ الْقِصَاصِ وَالْقَذْفِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (جِنَايَةٌ، حُدُودٌ، قِصَاصٌ) وَكَذَلِكَ (شَهَادَةٌ) (وَقَضَاءٌ).
التَّزْوِيرُ بِالْأَفْعَالِ:
15- يَقَعُ التَّزْوِيرُ فِي الْبُيُوعِ بِإِخْفَاءِ عُيُوبِ السِّلْعَةِ وَتَزْيِينِهَا وَتَحْسِينِهَا؛ لِإِظْهَارِهَا بِشَكْلٍ مَقْبُولٍ تَرْغِيبًا فِيهَا، كَتَصْرِيَةِ الْحَيَوَانِ لِيَظُنَّ الْمُشْتَرِي كَثْرَةَ اللَّبَنِ، أَوْ صَبْغِ الْمَبِيعِ بِلَوْنٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ، وَكَالْكَذِبِ فِي سِعْرِ السِّلْعَةِ فِي بُيُوعِ الْأَمَانَاتِ وَهِيَ: الْمُرَابَحَةُ وَالتَّوْلِيَةُ وَالْحَطِيطَةُ.
وَيَقَعُ التَّزْوِيرُ كَذَلِكَ بِمُحَاكَاةِ خَطِّ الْقَاضِي أَوْ تَزْوِيرِ تَوْقِيعِهِ أَوْ شَهَادَةِ الشُّهُودِ فِي سِجِلاَّتِ الْقَضَاءِ بِمَا يَسْلُبُ الْحُقُوقَ مِنْ أَصْحَابِهَا.كَمَا يَقَعُ التَّزْوِيرُ فِي النِّكَاحِ بِأَنْ يَكْتُمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَيْبًا فِيهِ عَنِ الْآخَرِ.
وَقَدْ يَقَعُ التَّزْوِيرُ بِتَسْوِيدِ الشَّعْرِ بِقَصْدِ التَّغْرِيرِ وَالْكَذِبِ.
وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ مِنَ التَّزْوِيرِ هِيَ مِنَ التَّزْوِيرِ الْمُحَرَّمِ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا»
وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (تَدْلِيسٌ، تَسْوِيدٌ، بَيْعٌ، نِكَاحٌ، شَهَادَةٌ، قَضَاءٌ وَعَيْبٌ).
التَّزْوِيرُ فِي النُّقُودِ وَالْمَوَازِينِ وَالْمَكَايِيلِ:
16- التَّزْوِيرُ فِيهَا يَكُونُ بِالنَّقْصِ مِنْ مَقَادِيرِهَا، بِغِشِّهَا أَوْ تَغْيِيرِ أَوْزَانِهَا أَوْ أَحْجَامِهَا، كَأَنْ تُخْلَطَ دَنَانِيرُ الذَّهَبِ أَوْ دَرَاهِمُ الْفِضَّةِ بِمَعَادِنَ أُخْرَى كَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ، رَغْبَةً فِي نَقْصِ مِقْدَارِ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ الْخَالِصَيْنِ، أَوْ بِالنَّقْصِ مِنْ حَجْمِ الدِّينَارِ أَوِ الدِّرْهَمِ.
أَوْ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ وَزْنِ الصَّنْجِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا فِي الْمَوَازِينِ، أَوْ حَجْمِ الْمِكْيَالِ، رَغْبَةً فِي زِيَادَةِ الرِّبْحِ وَتَقْلِيلِ الْمَبِيعِ الْمَوْزُونِ أَوِ الْمَكِيلِ.
وَالتَّزْوِيرُ فِي النُّقُودِ وَالْمَوَازِينِ وَالْمَكَايِيلِ مُحَرَّمٌ دَاخِلٌ فِي قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}.
وَدَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» كَمَا أَنَّ فِيهِ إِفْسَادًا لِلنُّقُودِ، وَإِضْرَارًا بِذَوِي الْحُقُوقِ، وَإِغْلَاءَ الْأَسْعَارِ، وَالنَّقْصَ مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَانْقِطَاعَ مَا يُجْلَبُ إِلَى الْبِلَادِ مِنْ حَوَائِجِ النَّاسِ.
وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ وَظِيفَةِ الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَفَقَّدَ عِيَارَ الْمَثَاقِيلِ وَالصَّنْجِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُعَيِّرَ أَوْزَانَهَا وَيَخْتِمَهَا بِخَتْمِهِ، حَتَّى يَأْمَنَ تَزْوِيرَهَا وَتَغْيِيرَ مَقَادِيرِهَا.
كَمَا تَدْخُلُ فِي وَظِيفَتِهِ مُرَاقَبَةُ مَقَادِيرِ دَنَانِيرِ الذَّهَبِ وَدَرَاهِمِ الْفِضَّةِ وَزْنًا وَحَجْمًا.وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ ضَرْبُ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ، وَحُرْمَتُهُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْإِمَامِ أَشَدُّ، لِأَنَّ الْغِشَّ فِيهَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ فَيَكُونُ الْغَرَرُ بِهَا أَكْبَرَ.بِخِلَافِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ مَا يَضْرِبُهُ مِنْ دَنَانِيرَ وَدَرَاهِمَ يُشْهَرُ وَيُعْرَفُ مِقْدَارُهُ.
كَمَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْإِمَامِ ضَرْبُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ الْخَالِصَةِ غَيْرِ الْمَغْشُوشَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ فِيهَا الْغِشُّ وَالْفَسَادُ.
صُوَرُ التَّزْوِيرِ فِي الْمُسْتَنَدَاتِ وَطُرُقُ التَّحَرُّزِ مِنْهَا:
17- جَاءَ فِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ: وَمِثْلُهُ فِي مُعِينِ الْحُكَّامِ: يَنْبَغِي لِلْمُوَثِّقِ أَنْ يَتَأَمَّلَ الْأَسْمَاءَ الَّتِي تَنْقَلِبُ بِإِصْلَاحٍ يَسِيرٍ، فَيَتَحَفَّظُ فِي تَغْيِيرِهَا، نَحْوُ مُظْفِرٍ فَإِنَّهُ يَنْقَلِبُ إِلَى مُظْهِرٍ، وَنَحْوُ بَكْرٍ فَإِنَّهُ يَنْقَلِبُ إِلَى بُكَيْرٍ، وَنَحْوُ عَائِشَة فَإِنَّهُ يَصْلُحُ عَاتِكَةَ.وَقَدْ يَكُونُ آخِرُ السَّطْرِ بَيَاضًا يُمْكِنُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ شَيْءٌ آخَرُ.وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْذَرَ مِنْ أَنْ يُتَمِّمَ عَلَيْهِ زِيَادَةَ حَرْفٍ مِنَ الْكِتَابِ مِثْلُ أَنْ يَكْتُبَ فِي الْوَثِيقَةِ: أَقَرَّ أَنَّ لَهُ عِنْدَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ عَقِبَ الْعَدَدِ بَيَانَ نِصْفِهِ بِأَنْ يَقُولَ: (الَّذِي نِصْفُهُ خَمْسُمِائَةٍ مَثَلًا) أَمْكَنَ زِيَادَةُ أَلْفٍ فَتَصِيرُ (أَلْفَا دِرْهَمٍ).
وَفِي التَّنْبِيهِ لِابْنِ الْمُنَاصِفِ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْصَبَ لِكِتَابَةِ الْوَثَائِقِ إِلاَّ الْعُلَمَاءُ الْعُدُولُ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ- رضي الله عنه-: لَا يَكْتُبُ الْكُتُبَ بَيْنَ النَّاسِ إِلاَّ عَارِفٌ بِهَا، عَدْلٌ فِي نَفْسِهِ، مَأْمُونٌ عَلَى مَا يَكْتُبُهُ لقوله تعالى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} وَأَمَّا مَنْ لَا يُحْسِنُ وُجُوهَ الْكِتَابَةِ، وَلَا يَقِفُ عَلَى فِقْهِ الْوَثِيقَةِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُمَكَّنَ مِنَ الِانْتِصَابِ لِذَلِكَ؛ لِئَلاَّ يُفْسِدَ عَلَى النَّاسِ كَثِيرًا مِنْ مُعَامَلَاتِهِمْ.وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِوُجُوهِ الْكِتَابَةِ إِلاَّ أَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي دِينِهِ، فَلَا يَنْبَغِي تَمْكِينُهُ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَا يَضَعُ اسْمَهُ بِشَهَادَةٍ فِيمَا يَكْتُبُ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يُعَلِّمُ النَّاسَ وُجُوهَ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ، وَيُلْهِمُهُمْ تَحْرِيفَ الْمَسَائِلِ لِتَوَجُّهِ الْإِشْهَادِ، فَكَثِيرًا مَا يَأْتِي النَّاسُ الْيَوْمَ يَسْتَفْتُونَ فِي نَوَازِلَ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ وَالْمُشَارَكَةِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَنْكِحَةِ الْمَفْسُوخَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ، فَإِذَا صَرَفَهُمْ عَنْ ذَلِكَ أَهْلُ الدِّيَانَةِ أَتَوْا إِلَى مِثْلِ هَؤُلَاءِ، فَحَرَّفُوا أَلْفَاظَهَا، وَتَحَيَّلُوا لَهَا بِالْعِبَارَةِ الَّتِي ظَاهِرُهَا الْجَوَازُ، وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى صَرِيحِ الْفَسَادِ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا.وَتَمَالأَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَلَى التَّهَاوُنِ بِحُدُودِ الْإِسْلَامِ، وَالتَّلَاعُبِ فِي طَرِيقِ الْحَرَامِ، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.
وَجَاءَ فِي «تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ» أَيْضًا، وَفِي «الْعَالِي الرُّتْبَةِ فِي أَحْكَامِ الْحِسْبَةِ» لِأَحْمَدَ بْنِ مُوسَى بْنِ
النَّحْوِيِّ الدِّمَشْقِيِّ الشَّافِعِيِّ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُوَثِّقِ مِمَّا لَا يُخَالِفُ قَوَاعِدَ مَذْهَبِ مَالِكٍ- رضي الله عنه-، قَالَ: فَإِذَا فَرَغَ الْكَاتِبُ مِنْ كِتَابَتِهِ اسْتَوْعَبَهُ (أَيْ كِتَابَتَهُ) وَقَرَأَهُ وَتَمَيَّزَ أَلْفَاظُهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُمَيِّزَ فِي خَطِّهِ بَيْنَ السَّبْعَةِ وَالتِّسْعَةِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ كَتَبَ بَعْدَهَا (وَاحِدَةً) وَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ نِصْفَهَا، فَإِنْ كَانَتْ (أَيِ الدَّرَاهِمُ) أَلْفًا كَتَبَ وَاحِدًا وَذَكَرَ نِصْفَهُ رَفْعًا لِلَّبْسِ، وَإِنْ كَانَتْ خَمْسَةَ آلَافٍ زَادَ فِيهَا لَا مَا تُصَيِّرُهَا (آلَافَ) لِئَلاَّ تُصَلَّحَ الْخَمْسَةُ فَتَصِيرُ خَمْسِينَ أَلْفًا وَيُحْتَرَزُ بِذِكْرِ التَّنْصِيفِ مِمَّا يُمْكِنُ الزِّيَادَةُ فِيهِ كَالْخَمْسَةَ عَشَرَ تَصِيرُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، وَالسَّبْعِينَ تِسْعِينَ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْكَاتِبُ النِّصْفَ مِنَ الْمَبْلَغِ فَيَنْبَغِي لِلشُّهُودِ أَنْ يَذْكُرُوا الْمَبْلَغَ فِي شَهَادَتِهِمْ لِئَلاَّ يَدْخُلَ عَلَيْهِمُ الشَّكُّ لَوْ طَرَأَ فِي الْكِتَابِ تَغْيِيرٌ وَتَبْدِيلٌ، وَإِنْ وَقَعَ فِي الْكِتَابِ إِصْلَاحٌ وَإِلْحَاقٌ نُبِّهَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَحَلِّهِ فِي الْكِتَابِ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكْمِلَ أَسْطُرَ الْمَكْتُوبِ جَمِيعَهَا لِئَلاَّ يُلْحَقَ فِي آخِرِ السَّطْرِ مَا يُفْسِدُ بَعْضَ أَحْكَامِ الْمَكْتُوبِ أَوْ يُفْسِدُهُ كُلَّهُ، فَلَوْ كَانَ آخِرُ سَطْرٍ مَثَلًا. (وَجَعَلَ النَّظَرَ فِي الْوَقْفِ الْمَذْكُورِ) وَفِي أَوَّلِ السَّطْرِ الَّذِي يَلِيهِ (لِزَيْدٍ) وَكَانَ فِي آخِرِ السَّطْرِ فُرْجَةٌ أَمْكَنَ أَنْ يُلْحِقَ فِيهَا (لِنَفْسِهِ) ثُمَّ لِزَيْدٍ، فَيَبْطُلُ الْوَقْفُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِنِ اتَّفَقَ أَنَّهُ بَقِيَ فِي آخِرِ السَّطْرِ فُرْجَةٌ لَا تَسَعُ الْكَلِمَةَ الَّتِي يُرِيدُ كِتَابَتَهَا لِطُولِهَا وَكَثْرَةِ حُرُوفِهَا، فَإِنَّهُ يَسُدُّ تِلْكَ الْفُرْجَةَ بِتَكْرَارِهِ تِلْكَ الْكَلِمَةَ الَّتِي وَقَفَ عَلَيْهَا أَوْ كَتَبَ فِيهَا صَحَّ، أَوْ صَادًا مَمْدُودَةً، أَوْ دَائِرَةً مَفْتُوحَةً، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَشْغَلُ بِهِ تِلْكَ الْفُرْجَةَ، وَلَا يُمْكِنُ إِصْلَاحُهَا بِمَا يُخَالِفُ الْمَكْتُوبَ.وَإِنْ تَرَكَ فُرْجَةً فِي السَّطْرِ الْأَخِيرِ كَتَبَ فِيهَا حَسْبِي اللَّهُ أَوِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، مُسْتَحْضِرًا لِذِكْرِ اللَّهِ نَاوِيًا لَهُ، أَوْ يَأْمُرُ أَوَّلَ شَاهِدٍ يَضَعُ خَطَّهُ فِي الْمَكْتُوبِ أَنْ يَكْتُبَ فِي تِلْكَ الْفُرْجَةِ.وَإِنْ كَتَبَ فِي وَرَقَةٍ ذَاتِ أَوْصَالٍ كَتَبَ عَلَامَتَهُ عَلَى كُلِّ وَصْلٍ، وَكَتَبَ عَدَدَ الْأَوْصَالِ فِي آخِرِ الْمَكْتُوبِ، وَبَعْضُهُمْ يَكْتُبُ عَدَدَ أَسْطُرِ الْمَكْتُوبِ، وَإِنْ كَانَ لِلْمَكْتُوبِ نُسَخٌ ذَكَرَهَا وَذَكَرَ عُدَّتَهَا، وَأَنَّهَا مُتَّفِقَةٌ، وَهَذَا نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ سَهْلٍ وَابْنُ الْهِنْدِيِّ وَغَيْرُهُمَا.
وَمِثْلُهُ فِي مُعِينِ الْحُكَّامِ أَيْضًا وَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُخَالِفُ قَوَاعِدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رضي الله عنه-.
وَجَاءَ فِي مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ (الْمَادَّةُ 1814) وَنَصُّهَا:
يَضَعُ الْقَاضِي فِي الْمَحْكَمَةِ دَفْتَرًا لِلسِّجِلاَّتِ، وَيُقَيِّدُ وَيُحَرِّرُ فِي ذَلِكَ الدَّفْتَرِ الْإِعْلَامَاتِ وَالسَّنَدَاتِ الَّتِي يُعْطِيهَا بِصُورَةٍ مُنْتَظِمَةٍ سَالِمَةٍ عَنِ الْحِيلَةِ وَالْفَسَادِ، وَيَعْتَنِي بِالدِّقَّةِ بِحِفْظِ ذَلِكَ الدَّفْتَرِ، وَإِذَا عُزِلَ سَلَّمَ السِّجِلاَّتِ الْمَذْكُورَةَ إِلَى خَلَفِهِ، إِمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِوَاسِطَةِ أَمِينِهِ.
إِثْبَاتُ التَّزْوِيرِ:
18- يَثْبُتُ التَّزْوِيرُ بِإِقْرَارِ الْمُزَوِّرِ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ ظُهُورِ الْكَذِبِ يَقِينًا، كَأَنْ يَشْهَدَ بِقَتْلِ رَجُلٍ وَهُوَ حَيٌّ، أَوْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ فَعَلَ شَيْئًا فِي وَقْتٍ، وَقَدْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوْ لَمْ يُولَدْ إِلاَّ بَعْدَهُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ.
19- أَمَّا التَّزْوِيرُ فِي الْوَثَائِقِ، فَذَهَبَ اللَّخْمِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَبُو اللَّيْثِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ بِمَالٍ فَجَحَدَهُ، فَأَخْرَجَ الْمُدَّعِي صَحِيفَةً مَكْتُوبَةً بِخَطِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ، فَطَلَبَ الْمُدَّعِي أَنْ يُجْبَرَ عَلَى أَنْ يَكْتُبَ بِحَضْرَةِ الْعُدُولِ، وَيُقَابِلَ مَا كَتَبَهُ بِمَا أَظْهَرَهُ الْمُدَّعِي، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْكِتَابَةِ، وَعَلَى أَنْ يُطَوِّلَ فِيمَا يَكْتُبُ تَطْوِيلًا لَا يُمْكِنُ مَعَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ خَطًّا غَيْرَ خَطِّهِ، فَإِنْ ظَهَرَ بَيْنَ الْخَطَّيْنِ تَشَابُهٌ ظَاهِرٌ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُمَا خَطُّ كَاتِبٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ حُجَّةٌ يَقْضِي بِهَا.
وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ: وَبِهِ قَالَ أَئِمَّةُ بُخَارَى.وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ الصَّائِغُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ، كَمَا لَا يُجْبَرُ عَلَى إِحْضَارِ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَيْهِ.
وَفَرَّقَ اللَّخْمِيُّ بَيْنَ إِلْزَامِهِ بِالْكِتَابَةِ وَعَدَمِ إِلْزَامِهِ بِإِحْضَارِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَقْطَعُ بِتَكْذِيبِ الْبَيِّنَةِ الَّتِي تَشْهَدُ عَلَيْهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْعَى فِي أَمْرٍ يَقْطَعُ بِبُطْلَانِهِ، أَمَّا خَطُّهُ فَإِنَّهُ صَادِرٌ مِنْهُ بِإِقْرَارِهِ، وَالْعُدُولُ يُقَابِلُونَ بِمَا يَكْتُبُهُ الْآنَ بِمَا أَحْضَرَهُ الْمُدَّعِي، وَيَشْهَدُونَ بِمُوَافَقَتِهِ أَوْ مُخَالَفَتِهِ.
كَمَا نَقَلَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ نَصَّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ حُجَّةً؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ أَعْلَى حَالًا مِمَّا لَوْ أَقَرَّ فَقَالَ: هَذَا خَطِّي، وَأَنَا كَتَبْتُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَلَيَّ هَذَا الْمَالُ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
عُقُوبَةُ التَّزْوِيرِ
20- عُقُوبَةُ التَّزْوِيرِ: التَّعْزِيرُ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ.كَأَيِّ جَرِيمَةٍ لَيْسَ لَهَا عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ، إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَعَمَّدَ التَّزْوِيرَ، فَيُعَزَّرُ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ تَشْهِيرٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ حَبْسٍ، أَوْ كَشْفِ رَأْسِهِ وَإِهَانَتِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (شَهَادَةٌ، تَعْزِيرٌ، تَشْهِيرٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
268-موسوعة الفقه الكويتية (تزين)
تَزَيُّنٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّزَيُّنُ هُوَ: اتِّخَاذُ الزِّينَةِ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ شَيْءٍ يُتَزَيَّنُ بِهِ، مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَصْدَرِ وَإِرَادَةِ الْمَفْعُولِ.
وَفِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} مَعْنَاهُ لَا يُبْدِينَ الزِّينَةَ الْبَاطِنَةَ كَالْقِلَادَةِ وَالْخَلْخَالِ وَالدُّمْلُجِ وَالسِّوَارِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ هُوَ الثِّيَابُ وَزِينَةُ الْوَجْهِ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّحَسُّنُ، وَالتَّحَلِّي:
2- التَّحَسُّنُ مِنَ الْحُسْنِ، نَقِيضُ الْقُبْحِ.وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: التَّزَيُّنُ.يُقَالُ: حَسَّنَ الشَّيْءَ تَحْسِينًا زَيَّنَهُ، قَالَ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ: الْحُسْنُ أَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي تَعَارُفِ الْعَامَّةِ فِي الْمُسْتَحْسَنِ بِالْبَصَرِ، وَأَكْثَرُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي الْمُسْتَحْسَنِ مِنْ جِهَةِ الْبَصِيرَةِ.
3- وَالتَّحْلِيَةُ فِي اللُّغَةِ: لُبْسُ الْحُلِيِّ، يُقَالُ: تَحَلَّتِ الْمَرْأَةُ: لَبِسَتِ الْحُلِيَّ أَوِ اتَّخَذَتْهُ، وَحَلَّيْتَهَا- بِالتَّشْدِيدِ- أَلْبَسْتَهَا الْحُلِيَّ أَوِ اتَّخَذْتَهُ لَهَا لِتَلْبَسَهُ.
4- وَالتَّزَيُّنُ وَالتَّجَمُّلُ وَالتَّحَسُّنُ تَكَادُ تَكُونُ مُتَقَارِبَةَ الْمَعَانِي، وَكُلُّهَا أَعَمُّ مِنَ التَّحْلِيَةِ لِتَنَاوُلِهَا مَا لَيْسَ حِلْيَةً، كَالِاكْتِحَالِ وَتَسْرِيحِ الشَّعْرِ وَالِاخْتِضَابِ وَنَحْوِهَا.
وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ التَّحَسُّنِ وَالتَّجَمُّلِ، بِأَنَّ التَّحَسُّنَ مِنَ الْحُسْنِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ الصُّورَةُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ.
وَالتَّجَمُّلُ مِنَ الْجَمَالِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ لِلْأَفْعَالِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَحْوَالِ الظَّاهِرَةِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الصُّوَرِ.
أَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ كُلٍّ مِنَ التَّحَسُّنِ وَالتَّجَمُّلِ، وَبَيْنَ التَّزَيُّنِ، فَقِيلَ: إِنَّ التَّزَيُّنَ يَكُونُ بِالزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنِ الْأَصْلِ، قَالَ تَعَالَى: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ}.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الزِّينَةُ الْمُكْتَسَبَةُ مَا تُحَاوِلُ الْمَرْأَةُ أَنْ تُحَسِّنَ نَفْسَهَا بِهِ، كَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَالْكُحْلِ وَالْخِضَابِ وَمِنْهُ قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}
أَمَّا كُلٌّ مِنَ التَّحَسُّنِ وَالتَّجَمُّلِ فَيَكُونُ بِزِيَادَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِالْأَصْلِ أَوْ نُقْصَانٍ فِيهِ، كَمَا تُفِيدُهُ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5- الْأَصْلُ فِي التَّزَيُّنِ: الِاسْتِحْبَابُ؛ لقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- «مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ نِعْمَةً، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ».
فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ لُبْسِ الرَّفِيعِ مِنَ الثِّيَابِ، وَالتَّجَمُّلِ بِهَا فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَعِنْدَ لِقَاءِ النَّاسِ وَزِيَارَةِ الْإِخْوَانِ.قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا تَزَاوَرُوا تَجَمَّلُوا.
وَقَدْ رَوَى مَكْحُولٌ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَنْتَظِرُونَهُ عَلَى الْبَابِ، فَخَرَجَ يُرِيدُهُمْ، وَفِي الدَّارِ رَكْوَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ فِي الْمَاءِ وَيُسَوِّي لِحْيَتَهُ وَشَعْرَهُ.فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ.وَأَنْتَ تَفْعَلُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى إِخْوَانِهِ فَلْيُهَيِّئْ مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ» وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ تَدُلُّ كُلُّهَا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّزَيُّنِ وَتَحْسِينِ الْهَيْئَةِ.
6- وَيَنْبَغِي أَلاَّ يُقْصَدَ بِالتَّزَيُّنِ التَّكَبُّرُ وَلَا الْخُيَلَاءُ؛ لِأَنَّ قَصْدَ ذَلِكَ حَرَامٌ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ مَا نَصُّهُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ قَصْدِ الْجَمَالِ وَقَصْدِ الزِّينَةِ، فَالْقَصْدُ الْأَوَّلُ: لِدَفْعِ الشَّيْنِ وَإِقَامَةِ مَا بِهِ الْوَقَارُ وَإِظْهَارُ النِّعْمَةِ، شُكْرًا لَا فَخْرًا، وَهُوَ أَثَرُ أَدَبِ النَّفْسِ وَشَهَامَتِهَا.
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ قَصْدُ الزِّينَةِ أَثَرُ ضَعْفِهَا، وَقَالُوا بِالْخِضَابِ وَرَدَتِ السُّنَّةُ وَلَمْ يَكُنْ لِقَصْدِ الزِّينَةِ.ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ حَصَلَتْ زِينَةٌ فَقَدْ حَصَلَتْ فِي ضِمْنِ قَصْدٍ مَطْلُوبٍ فَلَا يَضُرُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُلْتَفِتًا إِلَيْهِ.وَلِهَذَا قَالَ فِي الْوَلْوَالِجِيَّةِ: لُبْسُ الثِّيَابِ الْجَمِيلَةِ مُبَاحٌ إِذَا كَانَ لَا يَتَكَبَّرُ؛ لِأَنَّ التَّكَبُّرَ حَرَامٌ، وَتَفْسِيرُهُ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا كَمَا كَانَ قَبْلَهَا.
7- هَذَا، وَقَدْ تَعْرِضُ لِلتَّزَيُّنِ أَحْكَامٌ تَكْلِيفِيَّةٌ أُخْرَى، فَمِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبٌ، وَمَا هُوَ مَكْرُوهٌ، وَمَا هُوَ حَرَامٌ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا هُوَ وَاجِبٌ: سَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَتَزَيُّنُ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا مَتَى طَلَبَ مِنْهَا ذَلِكَ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ: تَزَيُّنُ الرَّجُلِ لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، وَخِضَابُ الشَّيْبِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ. (ر: اخْتِضَابٌ).
وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ: لُبْسُ الْمُعَصْفَرِ وَالْمُزَعْفَرِ لِلرِّجَالِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا هُوَ حَرَامٌ: تَشَبُّهُ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْعَكْسُ فِي التَّزَيُّنِ وَتَزَيُّنُ الرَّجُلِ بِالذَّهَبِ وَلُبْسُهُ الْحَرِيرَ إِلاَّ لِعَارِضٍ.وَتَزَيُّنُ مُعْتَدَّةِ الْوَفَاةِ.وَتَزَيُّنُ الْمُحْرِمِ بِمَا أُمِرَ بِاجْتِنَابِهِ كَالطِّيبِ.وَتَزَيُّنُ الْمَرْأَةِ لِغَيْرِ زَوْجِهَا وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَتَفْصِيلُهَا فِي مَوَاضِعِهَا.
مَا يَكُونُ بِهِ التَّزَيُّنُ:
8- لِكُلِّ شَخْصٍ زِينَتُهُ الَّتِي يَتَزَيَّنُ بِهَا، فَمَثَلًا زِينَةُ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا فِي مَلْبَسِهَا وَحُلِيِّهَا وَطِيبِهَا، وَزِينَةُ الرَّجُلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ أَنْ يَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ، وَيُفَضَّلُ الْبَيَاضُ مِنْهَا، وَيَتَطَيَّبُ.
9- وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ التَّزَيُّنُ بِالْحَرِيرِ، وَالتَّحَلِّي بِالذَّهَبِ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- أَخَذَ فِي يَمِينِهِ قِطْعَةَ حَرِيرٍ وَفِي شِمَالِهِ قِطْعَةَ ذَهَبٍ، وَقَالَ: هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي»
وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ، فَإِنَّ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ»
وَلِمَا فِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُلِ مِنْ مَعْنَى الْخُيَلَاءِ وَالرَّفَاهِيَةِ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِالرِّجَالِ، وَهَذَا مَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ لُبْسُ الْمُعَصْفَرِ وَالْمُزَعْفَرِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو- رضي الله عنهما-: «رَأَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ فَلَا تَلْبَسْهُمَا» وَيَحْرُمُ عِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ الْمُزَعْفَرُ دُونَ الْمُعَصْفَرِ.وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: عِنْدَهُمْ يَحْرُمُ الْمُعَصْفَرُ كَذَلِكَ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: يُكْرَهُ لِوَلِيِّ الصَّغِيرِ إِلْبَاسُهُ الذَّهَبَ وَالْحَرِيرَ، وَأَجَازُوا إِلْبَاسَهُ الْفِضَّةَ عَلَى الْمُعْتَمَدِ.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ.وَالثَّانِي: الْمَنْعُ، لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْحَرِيرُ وَالذَّهَبُ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي، وَحِلٌّ لِإِنَاثِهِمْ».
وَجَازَ لِلْمَرْأَةِ التَّزَيُّنُ بِالْمَلْبُوسِ، ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ مُحَلًّى بِهِمَا أَوْ حَرِيرًا، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى اللِّبَاسِ مِنْ زِرٍّ وَفُرُشٍ وَمَسَانِدَ، وَلَوْ نَعْلًا وَقَبْقَابًا، وَتَفْصِيلُهُ فِي بَحْثِ: (أَلْبِسَةٌ).
10- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِالنِّسَاءِ فِي الْحَرَكَاتِ وَلِينِ الْكَلَامِ وَالزِّينَةِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ بِهِنَّ عَادَةً أَوْ طَبْعًا.وَأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى النِّسَاءِ أَيْضًا أَنْ يَتَشَبَّهْنَ بِالرِّجَالِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ» وَضَبَطَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ مَا يَحْرُمُ التَّشَبُّهُ بِهِنَّ فِيهِ: بِأَنَّهُ مَا كَانَ مَخْصُوصًا بِهِنَّ فِي جِنْسِهِ وَهَيْئَتِهِ أَوْ غَالِبًا فِي زِيِّهِنَّ، وَكَذَا يُقَالُ عَكْسُهُ.
(ر: تَشَبُّهٌ).
التَّزَيُّنُ فِي الْمُنَاسَبَاتِ:
11- يُسْتَحَبُّ التَّزَيُّنُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لِلْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ، وَعِنْدَ لِقَاءِ النَّاسِ وَتَزَاوُرِ الْإِخْوَانِ.وَذَلِكَ بِلُبْسِ أَحْسَنِ الثِّيَابِ وَالتَّطَيُّبِ، وَكَذَلِكَ التَّنْظِيفُ بِحَلْقِ الشَّعْرِ وَقَلْمِ الظُّفْرِ وَالسِّوَاكِ وَالِاغْتِسَالِ أَيَّامَ الْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى» وَرُوِيَ أَيْضًا «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي جُمُعَةٍ مِنَ الْجُمَعِ إِنَّ هَذَا يَوْمٌ جَعَلَهُ اللَّهُ عِيدًا لِلْمُسْلِمِينَ، فَاغْتَسِلُوا، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طِيبٌ فَلَا يَضُرُّهُ أَنْ يَمَسَّ مِنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ» وَرَوَى جَابِرٌ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَعْتَمُّ، وَيَلْبَسُ بُرْدَهُ الْأَحْمَرَ فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ».
وَقَدْ رَوَى مَكْحُولٌ «عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَنْتَظِرُونَهُ عَلَى الْبَابِ فَخَرَجَ يُرِيدُهُمْ وَفِي الدَّارِ رَكْوَةٌ فِيهَا مَاءٌ فَجَعَلَ يَنْظُرُ فِي الْمَاءِ وَيُسَوِّي لِحْيَتَهُ وَشَعْرَهُ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنْتَ تَفْعَلُ هَذَا؟ قَالَ نَعَمْ، إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى إِخْوَانِهِ فَلْيُهَيِّئْ مِنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ» (ر: تَحْسِينٌ ف 7- 10).
وَهَذَا كُلُّهُ بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَالِ، وَالْإِمَامُ بِذَلِكَ أَحَقُّ لِأَنَّهُ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِ مِنْ بَيْنِهِمْ.وَالتَّفْصِيلُ يُنْظَرُ فِي بَحْثَيْ: (جُمُعَةٌ وَعِيدٌ).
التَّزَيُّنُ لِلصَّلَاةِ:
12- يُسْتَحَبُّ التَّزَيُّنُ لِلصَّلَاةِ خُشُوعًا لِلَّهِ وَاسْتِحْضَارًا لِعَظَمَتِهِ، لَا تَكَبُّرًا وَخُيَلَاءَ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ.وَالْمُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ وَاحِدًا يَتَوَشَّحُ بِهِ جَازَ؛ لِحَدِيثِ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَلْبَسْ ثَوْبَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ مَنْ تُزُيِّنَ لَهُ»
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي بَيَانِ الْفَضِيلَةِ فِي لِبَاسِ الصَّلَاةِ: وَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنَّهُ إِذًا أَبْلَغُ فِي السَّتْرِ، يُرْوَى عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: إِذَا أَوْسَعَ اللَّهُ فَأَوْسِعُوا، جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، وَصَلَّى رَجُلٌ فِي إِزَارٍ وَبُرْدٍ، أَوْ فِي إِزَارٍ وَقَمِيصٍ.فِي إِزَارٍ وَقَبَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَمِيصٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَمِيصٍ.وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَوْ قَالَ عُمَرُ: «إِذَا كَانَ لِأَحَدِكُمْ ثَوْبَانِ فَلْيُصَلِّ فِيهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ فَلْيَتَّزِرْ بِهِ، وَلَا يَشْتَمِلِ اشْتِمَالَ الْيَهُودِ».
قَالَ التَّمِيمِيُّ: الثَّوْبُ الْوَاحِدُ يُجْزِئُ، وَالثَّوْبَانِ أَحْسَنُ، وَالْأَرْبَعُ أَكْمَلُ: قَمِيصٌ وَسَرَاوِيلُ وَعِمَامَةٌ وَإِزَارٌ.وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه-: أَنَّهُ رَأَى نَافِعًا يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، قَالَ: أَلَمْ تَكْتَسِ ثَوْبَيْنِ: قُلْتُ: بَلَى.قَالَ: فَلَوْ أُرْسِلْتَ فِي الدَّارِ، أَكُنْتَ تَذْهَبُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ؟ قُلْتُ: لَا.قَالَ: فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُزَّيَّنَ لَهُ أَوِ النَّاسُ؟ قُلْتُ: بَلِ اللَّهُ.
وَقَالَ الْقَاضِي: ذَلِكَ فِي الْإِمَامِ آكَدُ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ بَيْنَ يَدَيِ الْمَأْمُومِينَ، وَتَتَعَلَّقُ صَلَاتُهُمْ بِصَلَاتِهِ.فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ فَالْقَمِيصُ؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ فِي السَّتْرِ، فَإِنَّهُ يَسْتُرُ جَمِيعَ الْجَسَدِ إِلاَّ الرَّأْسَ وَالرِّجْلَيْنِ، ثُمَّ الرِّدَاءُ؛ لِأَنَّهُ يَلِيهِ فِي السَّتْرِ، ثُمَّ الْمِئْزَرُ، ثُمَّ السَّرَاوِيلُ.وَلَا يُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلاَّ مَا سَتَرَ الْعَوْرَةَ عَنْ غَيْرِهِ وَعَنْ نَفْسِهِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي بَحْثِ (أَلْبِسَةٌ).
التَّزَيُّنُ فِي الْإِحْرَامِ:
13- يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ أَنْ تَلْبَسَ مَا أَحَبَّتْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ، إِلاَّ أَنَّ فِي لُبْسِهَا الْقُفَّازَيْنِ وَالْخَلْخَالَ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.فَرَخَّصَ فِيهِ عَلِيٌّ وَعَائِشَةُ- رضي الله عنهما-، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ.وَمَنَعَهُ ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما-، وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لَلشَّافِعِيِّ.وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ كَلَامَ أَحْمَدَ فِي مَنْعِ الْخَلْخَالِ عَلَى الْكَرَاهَةِ.
وَيَحْرُمُ لُبْسُ الْمَخِيطِ اتِّفَاقًا لِلرِّجَالِ.
وَلَا يَجُوزُ التَّزَيُّنُ بِالتَّطَيُّبِ وَالْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَنَحْوِهَا أَثْنَاءَ الْإِحْرَامِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُحْرِمُ رَجُلًا أَمِ امْرَأَةً.
وَيُسَنُّ التَّطَيُّبُ فِي الْبَدَنِ اسْتِعْدَادًا لِلْإِحْرَامِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
أَمَّا التَّطَيُّبُ فِي الثَّوْبِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ فَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَامٌ، وَتَحْلِيَةٌ).
التَّزَيُّنُ فِي الِاعْتِكَافِ:
14- يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ التَّزَيُّنُ بِالتَّطَيُّبِ وَلُبْسِ الثِّيَابِ الْحَسَنَةِ وَأَخْذِ الظُّفْرِ وَالشَّارِبِ وَنَحْوِهِ، لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ صَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ قَلْمِ الْأَظْفَارِ وَقَصِّ الشَّارِبِ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ، كَمَا قَالُوا بِكَرَاهَةِ حَلْقِ رَأْسِهِ مُطْلَقًا إِلاَّ أَنْ يَتَضَرَّرَ.وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنْ يَتْرُكَ الْمُعْتَكِفُ لُبْسَ رَفِيعِ الثِّيَابِ، وَالتَّلَذُّذَ بِمَا يُبَاحُ لَهُ قَبْلَ الِاعْتِكَافِ.وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَتَطَيَّبَ، لَكِنْ لَا بَأْسَ بِأَخْذِ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ عِنْدَهُمْ. (ر: اعْتِكَافٌ).
تَزَيُّنُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ:
15- يُسْتَحَبُّ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يَتَزَيَّنَ لِلْآخَرِ؛ لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فَالْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ حَقٌّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَمِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ يَتَزَيَّنَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ، فَكَمَا يُحِبُّ الزَّوْجُ أَنْ تَتَزَيَّنَ لَهُ زَوْجَتُهُ، كَذَلِكَ الْحَالُ بِالنِّسْبَةِ لَهَا تُحِبُّ أَنْ يَتَزَيَّنَ لَهَا.
قَالَ أَبُو زَيْدٍ: تَتَّقُونَ اللَّهَ فِيهِنَّ، كَمَا عَلَيْهِنَّ أَنْ يَتَّقِينَ اللَّهَ فِيكُمْ.وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: إِنِّي لأَُحِبُّ أَنْ أَتَزَيَّنَ لِلْمَرْأَةِ، كَمَا أُحِبُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، وَحَقُّ الزَّوْجِ عَلَيْهَا أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ حَقِّهَا؛ لقوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}.
وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ يَلْبَسُ الثِّيَابَ النَّفِيسَةَ، وَيَقُولُ: إِنَّ لِي نِسَاءً وَجِوَارِيَ، فَأُزَيِّنُ نَفْسِي كَيْ لَا يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرِي.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُعْجِبُنِي أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي امْرَأَتِي، كَمَا يُعْجِبُهَا أَنْ أَتَزَيَّنَ لَهَا.
وَمِنَ الزِّينَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: أَنَّهُ إِنْ نَبَتَ شَعْرٌ غَلِيظٌ لِلْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا، كَشَعْرِ الشَّارِبِ وَاللِّحْيَةِ، فَيَجِبُ عَلَيْهَا نَتْفُهُ لِئَلاَّ تَتَشَبَّهَ بِالرِّجَالِ، فَقَدْ رَوَتِ امْرَأَةُ ابْنِ أَبِي الصَّقْرِ- وَهِيَ الْعَالِيَةُ بِنْتُ أَيْفَعَ- رضي الله عنها-، أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- فَسَأَلَتْهَا امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ فِي وَجْهِي شَعَرَاتٍ أَفَأَنْتِفُهُنَّ: أَتَزَيَّنُ بِذَلِكَ لِزَوْجِي؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمِيطِي عَنْكِ الْأَذَى، وَتَصَنَّعِي لِزَوْجِكِ كَمَا تَصْنَعِينَ لِلزِّيَارَةِ، وَإِنْ أَمَرَكِ فَأَطِيعِيهِ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْكِ فَأَبِرِّيهِ، وَلَا تَأْذَنِي فِي بَيْتِهِ لِمَنْ يَكْرَهُ.
وَإِنْ نَبَتَ فِي غَيْرِ أَمَاكِنِهِ فِي وَجْهِ الرَّجُلِ فَلَهُ إِزَالَتُهُ، حَتَّى أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ لِلرَّجُلِ الْأَخْذَ مِنَ الْحَاجِبَيْنِ إِذَا فَحُشَا. فَإِذَا أَمَرَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ بِالتَّزَيُّنِ لَهُ كَانَ التَّزَيُّنُ وَاجِبًا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ؛ وَلِأَنَّ طَاعَةَ الزَّوْجِ فِي الْمَعْرُوفِ وَاجِبَةٌ عَلَى الزَّوْجَةِ.
تَأْدِيبُ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ لِتَرْكِ الزِّينَةِ:
16- مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنْ تَتَزَيَّنَ لَهُ بِالْمَلْبَسِ وَالطِّيبِ، وَأَنْ تُحَسِّنَ هَيْئَتَهَا وَغَيْرَ ذَلِكَ، مِمَّا يُرَغِّبُهُ فِيهَا وَيَدْعُوهُ إِلَيْهَا، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «خَيْرُ النِّسَاءِ الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلَا تُخَالِفُهُ فِيمَا يَكْرَهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ» فَإِنْ أَمَرَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ بِالتَّزَيُّنِ فَلَمْ تَتَزَيَّنْ لَهُ كَانَ لَهُ حَقُّ تَأْدِيبِهَا؛ لِأَنَّ الزِّينَةَ حَقُّهُ.قَالَ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا}.
تَزَيُّنُ الْمُعْتَدَّةِ:
17- الْمُعْتَدَّةُ لِلْوَفَاةِ لَا يَجُوزُ لَهَا التَّزَيُّنُ اتِّفَاقًا لِوُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَيْهَا لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجِهَا فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا».
وَكَذَلِكَ الْمُعْتَدَّةُ لِلطَّلَاقِ الْبَائِنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ: لَا يَجُوزُ لَهَا التَّزَيُّنُ، حِدَادًا وَأَسَفًا عَلَى فَوْتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِصَوْنِهَا وَكِفَايَةِ مُؤْنَتِهَا؛ وَلِحُرْمَةِ خِطْبَتِهَا، وَعَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الرَّجْعَةِ.
وَيُسْتَحَبُّ لَهَا الْحِدَادُ وَتَرْكُ الزِّينَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ فِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَيُبَاحُ لَهَا الزِّينَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ فَلَهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ؛ لِأَنَّهَا حَلَالٌ لِلزَّوْجِ لِقِيَامِ نِكَاحِهَا، وَالرَّجْعَةُ مُسْتَحَبَّةٌ، وَالتَّزَيُّنُ حَامِلٌ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ مَشْرُوعًا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَقَدْ رَوَى أَبُو ثَوْرٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ (أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهَا الْإِحْدَادُ، وَحَيْثُ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهَا التَّزَيُّنُ.وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْأَوْلَى أَنْ تَتَزَيَّنَ مِمَّا يَدْعُو الزَّوْجَ إِلَى رَجْعَتِهَا.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْدَادٌ، عِدَّةٌ).
الْجِرَاحَةُ لِأَجْلِ التَّزَيُّنِ:
أَوَّلًا- تَثْقِيبُ الْأُذُنِ:
18- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ تَثْقِيبَ أُذُنِ الصَّغِيرَةِ لِتَعْلِيقِ الْقُرْطِ جَائِزٌ، فَقَدْ كَانَ النَّاسُ يَفْعَلُونَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى يَوْمَ الْعِيدِ رَكْعَتَيْنِ، لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهُمَا وَلَا بَعْدَهُمَا، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ- وَمَعَهُ بِلَالٌ- فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تُلْقِي قُرْطَهَا».
وَنَقَلَ عُمَيْرَةُ عَنِ الْغَزَالِيِّ الْحُرْمَةَ؛ لِأَنَّهُ جُرْحٌ لَمْ تَدْعُ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ إِلاَّ أَنْ يَثْبُتَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا ذَلِكَ.قَالَ عُمَيْرَةُ: وَاعْتُرِضَ بِحَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ الَّذِي فِيهِ: «وَأَنَاسَ مِنْ حُلِيٍّ أُذُنَيَّ» لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لأُِمِّ زَرْعٍ».
وَاتَّفَقُوا عَلَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ فِي الصَّبِيِّ.
ثَانِيًا- الْوَشْمُ وَالْوَشْرُ:
19- وَمِنْ أَنْوَاعِ الْجِرَاحَةِ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ التَّزَيُّنِ: مَا اعْتَادَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنَ الْوَشْمِ وَالْوَشْرِ الْوَارِدَيْنِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ، وَالنَّامِصَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «نَهَى عَنِ الْوَاشِرَةِ».
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذِهِ الْأُمُورُ مُحَرَّمَةٌ، نَصَّتِ الْأَحَادِيثُ عَلَى لَعْنِ فَاعِلِهَا؛ وَلِأَنَّهَا مِنْ بَابِ التَّدْلِيسِ، وَقِيلَ: مِنْ بَابِ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَفِي الْآيَةِ: {وَلآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: النَّهْيُ عَنِ النَّمْصِ أَيْ نَتْفِ الشَّعْرِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا فَعَلَتْهُ لِتَتَزَيَّنَ لِلْأَجَانِبِ، وَإِلاَّ فَلَوْ كَانَ فِي وَجْهِهَا شَعْرٌ يَنْفِرُ زَوْجُهَا بِسَبَبِهِ، فَفِي تَحْرِيمِ إِزَالَتِهِ بُعْدٌ؛ لِأَنَّ الزِّينَةَ لِلنِّسَاءِ مَطْلُوبَةٌ، ثُمَّ قَالَ: إِذَا نَبَتَ لِلْمَرْأَةِ لِحْيَةٌ أَوْ شَوَارِبُ فَلَا تَحْرُمُ إِزَالَتُهُ، بَلْ تُسْتَحَبُّ.وَلَا بَأْسَ بِأَخْذِ الْحَاجِبَيْنِ وَشَعْرِ وَجْهِهِ مَا لَمْ يُشْبِهِ الْمُخَنَّثَ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِزَالَةِ شَعْرِ الْجَسَدِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَيَجِبُ عَلَيْهِنَّ إِزَالَةُ مَا فِي إِزَالَتِهِ جَمَالٌ لَهَا- وَلَوْ شَعْرَ اللِّحْيَةِ إِنْ لَهَا لِحْيَةٌ- وَإِبْقَاءُ مَا فِي بَقَائِهِ جَمَالٌ.وَالْوُجُوبُ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا إِذَا أَمَرَهَا الزَّوْجُ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَأَمَّا حَفُّ الْوَجْهِ فَقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْحَفِّ؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ لِلنِّسَاءِ، وَأَكْرَهُهُ لِلرِّجَالِ.وَلِلتَّفْصِيلِ: (ر: تَحْسِينٌ).
ثَالِثًا- قَطْعُ الْأَعْضَاءِ الزَّائِدَةِ:
20- يَجُوزُ قَطْعُ أُصْبُعٍ زَائِدَةٍ، أَوْ شَيْءٍ آخَرَ كَسِنٍّ زَائِدَةٍ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْغَالِبُ مِنْهُ الْهَلَاكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ عِيَاضٍ: أَنَّ مَنْ خُلِقَ بِإِصْبَعٍ زَائِدَةٍ أَوْ عُضْوٍ زَائِدٍ لَا يَجُوزُ لَهُ قَطْعُهُ وَلَا نَزْعُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ نَقْلًا عَنِ الطَّبَرِيِّ: لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ تَغْيِيرُ شَيْءٍ مِنْ خِلْقَتِهَا الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ عَلَيْهَا بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ الْتِمَاسَ الْحُسْنِ، لَا لِلزَّوْجِ وَلَا لِغَيْرِهِ، كَمَنْ تَكُونُ مَقْرُونَةَ الْحَاجِبَيْنِ، فَتُزِيلُ مَا بَيْنَهُمَا تُوهِمُ الْبُلُجَ أَوْ عَكْسَهُ، وَمَنْ تَكُونُ لَهَا سِنٌّ زَائِدَةٌ فَتَقْلَعُهَا، أَوْ طَوِيلَةٌ فَتَقْطَعُ مِنْهَا، أَوْ لِحْيَةٌ أَوْ شَارِبٌ أَوْ عَنْفَقَةٌ فَتُزِيلُهَا بِالنَّتْفِ، وَمَنْ يَكُونُ شَعْرُهَا قَصِيرًا أَوْ حَقِيرًا فَتُطَوِّلُهُ أَوْ تُغْزِرُهُ بِشَعْرِ غَيْرِهَا، فَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي النَّهْيِ وَهُوَ مِنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا يَحْصُلُ بِهِ الضَّرَرُ وَالْأَذِيَّةُ، كَمَنْ يَكُونُ لَهَا سِنٌّ زَائِدَةٌ أَوْ طَوِيلَةٌ تُعِيقُهَا عَنِ الْأَكْلِ، أَوْ أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ تُؤْذِيهَا أَوْ تُؤْلِمُهَا، فَيَجُوزُ ذَلِكَ، وَالرَّجُلُ فِي هَذَا الْأَخِيرِ كَالْمَرْأَةِ.
تَزْيِينُ الْبُيُوتِ وَالْأَفْنِيَةِ
21- تَزْيِينُ الْبُيُوتِ وَالْأَفْنِيَةِ- بِتَنْظِيفِهَا وَتَرْتِيبِهَا- مَطْلُوبٌ شَرْعًا، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ»
وَيَجُوزُ تَزْيِينُ الْبُيُوتِ بِالدِّيبَاجِ، وَتَجْمِيلُهَا بِأَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِلَا تَفَاخُرٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.كَمَا أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ تَزْوِيقَ حِيطَانِ الْبُيُوتِ وَسُقُفِهَا وَخَشَبِهَا وَسَاتِرِهَا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
وَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ، فَقَالُوا: يَحِلُّ الْإِنَاءُ الْمُمَوَّهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَكَالْإِنَاءِ السُّقُوفُ وَالْجُدْرَانُ وَلَوْ لِلْكَعْبَةِ وَالْمُصْحَفُ وَالْكُرْسِيُّ وَالصُّنْدُوقُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، إِنْ لَمْ يَحْصُلْ بِالْعَرْضِ عَلَى النَّارِ شَيْءٌ مِنْهُ، فَإِنْ كَثُرَ الْمُمَوَّهُ بِهِ بِأَنْ كَانَ يَحْصُلُ مِنْهُ شَيْءٌ بِالْعَرْضِ عَلَى النَّارِ حَرُمَ.وَمَحَلُّ الْحِلِّ الِاسْتِدَامَةُ، أَمَّا الْفِعْلُ فَحَرَامٌ مُطْلَقًا.
وَصَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ تَزْيِينِ الْبُيُوتِ لِلرِّجَالِ وَغَيْرِهِمْ حَتَّى مَشَاهِدِ الصُّلَحَاءِ وَالْعُلَمَاءِ بِالثِّيَابِ، وَحُرْمَةِ تَزْيِينِهَا بِالْحَرِيرِ وَالصُّوَرِ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ.
وَيُكْرَهُ تَزْوِيقُ الْبُيُوتِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِالسُّتُورِ مَا لَمْ يَكُنْ لِحَاجَةٍ، وَيَحْرُمُ عِنْدَهُمْ تَزْيِينُهَا بِالدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ وَآنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْمُمَوَّهِ بِهَا- قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا- وَبِصُوَرِ الْحَيَوَانَاتِ، فَإِنْ كَانَتْ مُزَيَّنَةً بِالنُّقُوشِ وَصُوَرِ شَجَرٍ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ.
وَانْظُرْ: (تَصْوِيرٌ).
تَزْيِينُ الْمَسَاجِدِ
22- يَحْرُمُ تَزْيِينُ الْمَسَاجِدِ بِنَقْشِهَا وَتَزْوِيقِهَا بِمَالِ الْوَقْفِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِوُجُوبِ ضَمَانِ الْوَقْفِ الَّذِي صُرِفَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ.وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيَّةِ مَنْعُ صَرْفِ مَالِ الْوَقْفِ فِي ذَلِكَ.وَلَوْ وَقَفَ الْوَاقِفُ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا- النَّقْشِ وَالتَّزْوِيقِ- لَمْ يَصِحَّ فِي الْقَوْلِ الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ، أَمَّا إِذَا كَانَ النَّقْشُ وَالتَّزْوِيقُ مِنْ مَالِ النَّاقِشِ فَيُكْرَهُ اتِّفَاقًا فِي الْجُمْلَةِ إِذَا كَانَ يُلْهِي الْمُصَلِّيَ، كَمَا إِذَا كَانَ فِي الْمِحْرَابِ وَجِدَارِ الْقِبْلَةِ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا سَاءَ عَمَلُ قَوْمٍ زَخْرَفُوا مَسَاجِدَهُمْ».
وَفِيمَا عَدَا جِدَارَ الْكَعْبَةِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يُنْظَرُ فِي بَحْثِ: (مَسْجِدٌ).
تَزْيِينُ الْأَضْرِحَةِ
23- يُكْرَهُ تَجْصِيصُ الْقُبُورِ وَالْبِنَاءُ عَلَيْهَا اتِّفَاقًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ؛ لِقَوْلِ جَابِرٍ- رضي الله عنه-: «نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ» وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُبَاهَاةِ وَزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَتِلْكَ مَنَازِلُ الْآخِرَةِ، وَلَيْسَتْ بِمَوْضِعٍ لِلْمُبَاهَاةِ.
وَكَذَا يُكْرَهُ تَطْيِينُهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ جَوَازُهُ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي بَحْثِ: (قَبْرٌ).
حُكْمُ بَيْعِ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ
24- يَجُوزُ بَيْعُ مَا تَتَزَيَّنُ بِهِ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا مِنْ طِيبٍ وَحِنَّاءٍ وَخِضَابٍ وَكُحْلٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أُبِيحَ اسْتِعْمَالُهُ مِمَّا يُبَاعُ وَيُشْتَرَى، وَلَا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ شِرَاؤُهُ لَهَا مِنْ مَالِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ تَتَزَيَّنَ لَهُ بِذَلِكَ هَيَّأَهُ لَهَا، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُرِيدُ لِذَلِكَ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فِيمَا عَدَا الطِّيبَ، فَقَدْ قَالُوا: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الطِّيبِ مَا تَقْطَعُ بِهِ الرَّائِحَةَ الْكَرِيهَةَ لَا غَيْرُ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: يُفْرَضُ لَهَا ذَلِكَ عَلَى الزَّوْجِ إِنْ تَضَرَّرَتْ بِتَرْكِهِ وَكَانَ مُعْتَادًا لَهَا.
الِاسْتِئْجَارُ لِلتَّزَيُّنِ:
25- الْأَصْلُ إِبَاحَةُ إِجَارَةِ كُلِّ عَيْنٍ يُمْكِنُ أَنْ يُنْتَفَعَ بِهَا مَنْفَعَةً مُبَاحَةً مَعَ بَقَائِهَا، وَلِهَذَا صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِجَوَازِ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ لِلتَّزَيُّنِ، فَإِنَّ النَّفَقَةَ بِهِمَا مُبَاحَةٌ مَقْصُودَةٌ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا، وَالزِّينَةُ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْمَشْرُوعَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}.
وَجَوَازُ إِجَارَةِ حُلِيِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَهُمْ، وَتَرَدَّدَ أَحْمَدُ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْأُجْرَةُ مِنْ جِنْسِهَا، وَرُوِيَ عَنْهُ جَوَازُهُ مُطْلَقًا. أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِفَسَادِ إِجَارَةِ مِثْلِ الثِّيَابِ وَالْأَوَانِي لِلتَّزَيُّنِ حَيْثُ قَالُوا: لَوِ اسْتَأْجَرَ ثِيَابًا أَوْ أَوَانِيَ لِيَتَجَمَّلَ بِهَا أَوْ دَابَّةً لِيَجْنِيَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ دَارًا لَا لِيَسْكُنَهَا...فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ فِي الْكُلِّ وَلَا أَجْرَ لَهُ، لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ مِنَ الْعَيْنِ.وَيَجُوزُ إِجَارَةُ الْأَلْبِسَةِ لِلُّبْسِ، وَالْأَسْلِحَةِ لِلْجِهَادِ، وَالْخِيَامِ لِلسَّكَنِ وَأَمْثَالِهَا إِلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مُقَابِلَ بَدَلٍ مَعْلُومٍ، وَالْحُلِيُّ كَاللِّبَاسِ عِنْدَهُمْ.
وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ إِجَارَةَ الْحُلِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ النَّاسِ، وَقَالُوا: الْأَوْلَى إِعَارَتُهُ لِأَنَّهَا مِنَ الْمَعْرُوفِ.
هَذَا، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِ اسْتِئْجَارِ الْمَاشِطَةِ لِتُزَيِّنَ الْعَرُوسَ وَغَيْرَهَا إِنْ ذُكِرَ الْعَمَلُ أَوِ الْمُدَّةُ، وَالْجَوَازُ مَفْهُومٌ مِنْ قَوَاعِدِ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى أَيْضًا؛ لِأَنَّ أَصْلَ التَّزَيُّنِ مَشْرُوعٌ، وَالْإِجَارَةُ عَلَى الْمَنَافِعِ الْمَشْرُوعَةِ صَحِيحَةٌ.
حُكْمُ إِعَارَةِ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ:
26- يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِعَارَةُ كُلِّ عَيْنٍ يُنْتَفَعُ بِهَا مَنْفَعَةً مُبَاحَةً- مَعَ بَقَائِهَا عَلَى الدَّوَامِ مِنْ غَيْرِ اسْتِهْلَاكٍ بِالتَّجَمُّلِ وَالتَّزَيُّنِ- كَالنَّقْدَيْنِ وَالْحُلِيِّ وَمِنْهُ الْقَلَائِدُ وَغَيْرُهَا.فَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «هَلَكَتْ قِلَادَةٌ لِأَسْمَاءَ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي طَلَبِهَا رِجَالًا، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَلَيْسُوا عَلَى وُضُوءٍ، وَلَمْ يَجِدُوا مَاءً فَصَلَّوْا وَهُمْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ».
زَادَ ابْنُ نُمَيْرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ «عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ» يَعْنِي أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنها- الْقِلَادَةَ الْمَذْكُورَةَ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
269-موسوعة الفقه الكويتية (تصفيق)
تَصْفِيقٌالتَّعْرِيفُ:
1- لِلتَّصْفِيقِ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ، مِنْهَا: الضَّرْبُ الَّذِي يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ.وَهُوَ كَالصَّفْقِ فِي ذَلِكَ.
يُقَالُ: صَفَّقَ بِيَدَيْهِ وَصَفَّحَ سَوَاءٌ.وَفِي الْحَدِيثِ: «التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ، وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ» وَالْمَعْنَى: إِذَا نَابَ الْمُصَلِّيَ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَأَرَادَ تَنْبِيهَ مَنْ بِجِوَارِهِ صَفَّقَتِ الْمَرْأَةُ بِيَدَيْهَا، وَسَبَّحَ الرَّجُلُ بِلِسَانِهِ.
وَالتَّصْفِيقُ بِالْيَدِ: التَّصْوِيتُ بِهَا.كَأَنَّهُ أَرَادَ مَعْنَى قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}.كَانُوا يُصَفِّقُونَ وَيُصَفِّرُونَ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ عِبَادَةً فِي ظَنِّهِمْ.وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِهَا أَيْضًا: إِنَّهُمْ أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنْ يَشْغَلُوا النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَالْمُسْلِمِينَ فِي الْقِرَاءَةِ وَالصَّلَاةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الصَّفْقَ عَلَى وَجْهِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ.
وَيُقَالُ: صَفَّقَ لَهُ بِالْبَيْعِ وَالْبَيْعَةِ: أَيْ ضَرَبَ يَدَهُ عَلَى يَدِهِ عِنْدَ وُجُوبِ الْبَيْعِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ضَرْبُ يَدٍ عَلَى يَدٍ.
وَرَبِحَتْ صَفْقَتُكَ لِلشِّرَاءِ.وَصَفْقَةٌ رَابِحَةٌ وَصَفْقَةٌ خَاسِرَةٌ.
وَصَفَّقَ بِيَدَيْهِ بِالتَّثْقِيلِ: ضَرَبَ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى.
وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.وَسَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْمَرْأَةِ فِي الصَّلَاةِ، بِضَرْبِ كَفٍّ عَلَى كَفٍّ عَلَى نَحْوِ مَا سَيَأْتِي فِي بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ.أَوْ كَانَ مِنْهَا وَمِنَ الرَّجُلِ بِضَرْبِ بَاطِنِ كَفٍّ بِبَاطِنِ الْكَفِّ الْأُخْرَى، كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي الْمَحَافِلِ وَالْأَفْرَاحِ.
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
2- قَدْ يَكُونُ التَّصْفِيقُ مِنْ مُصَلٍّ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ.فَمَا كَانَ مِنْ مُصَلٍّ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِتَنْبِيهِ إِمَامِهِ عَلَى سَهْوٍ فِي صَلَاتِهِ، أَوْ لِدَرْءِ مَارٍّ أَمَامَهُ لِتَنْبِيهِهِ عَلَى أَنَّهُ فِي صَلَاةٍ، وَمَنْعِهِ عَنِ الْمُرُورِ أَمَامَهُ.أَوْ يَكُونُ مِنْهُ فِيهَا عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ.
وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ الْمُصَلِّي: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَحَافِلِ كَالْمَوَالِدِ وَالْأَفْرَاحِ، أَوْ فِي أَثْنَاءِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، أَوْ لِطَلَبِ الْإِذْنِ لَهُ مِنْ مُصَلٍّ بِالدُّخُولِ، أَوْ لِلنِّدَاءِ.وَلِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ حُكْمُهُ.
تَصْفِيقُ الْمُصَلِّي لِتَنْبِيهِ إِمَامِهِ عَلَى سَهْوٍ فِي صَلَاتِهِ:
3- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ عَرَضَ لِلْإِمَامِ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ سَهْوًا مِنْهُ اسْتُحِبَّ لِمَنْ هُمْ مُقْتَدُونَ بِهِ تَنْبِيهُهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي طَرِيقَتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِكُلٍّ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ.هَلْ يَكُونُ بِالتَّسْبِيحِ أَوْ بِالتَّصْفِيقِ؟ فَاتَّفَقُوا عَلَى اسْتِحْبَابِهِ بِالتَّسْبِيحِ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُلِ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّصْفِيقِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ.
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ يَكُونُ مِنْهَا بِالتَّصْفِيقِ.لِمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي صَلَاتِكُمْ فَلْيُسَبِّحِ الرِّجَالُ وَلْتُصَفِّقِ النِّسَاءُ» وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ» وَمِثْلُهُنَّ الْخَنَاثَى فِي
ذَلِكَ.
وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ تَصْفِيقَ الْمَرْأَةِ فِي الصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَقُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ» (وَمَنْ) مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَشَمِلَتِ النِّسَاءَ فِي التَّنْبِيهِ بِالتَّسْبِيحِ.وَلِذَا قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا يُصَفِّقْنَ.أَيِ النِّسَاءُ فِي صَلَاتِهِنَّ لِحَاجَةٍ.
وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ» ذَمٌّ لَهُ، لَا إِذْنَ لَهُنَّ فِيهِ بِدَلِيلِ عَدَمِ عَمَلِهِنَّ بِهِ.
تَصْفِيقُ الْمُصَلِّي لِمَنْعِ الْمَارِّ أَمَامَهُ:
4- يَخْتَلِفُ حُكْمُ دَرْءِ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي بَيْنَ كَوْنِهِ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً.فَإِذَا كَانَ الْمُصَلِّي رَجُلًا كَانَ دَرْؤُهُ لِلْمَارِّ أَمَامَهُ بِالتَّسْبِيحِ أَوْ بِالْإِشَارَةِ بِالرَّأْسِ أَوِ الْعَيْنِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «التَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ» وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا نَابَكُمْ فِي صَلَاتِكُمْ شَيْءٌ فَلْيُسَبِّحِ الرِّجَالُ».
وَكَمَا «فَعَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِوَلَدَيْ أُمِّ سَلَمَةَ وَهُمَا عُمَرُ وَزَيْنَبُ- رضي الله عنهما- حَيْثُ كَانَ- صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي فِي بَيْتِهَا فَقَامَ وَلَدُهَا عُمَرُ لِيَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ قِفْ فَوَقَفَ.ثُمَّ قَامَتْ بِنْتُهَا زَيْنَبُ لِتَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَشَارَ إِلَيْهَا أَنْ قِفِي فَأَبَتْ وَمَرَّتْ، فَلَمَّا فَرَغَ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: هُنَّ أَغْلَبُ» وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي امْرَأَةً كَانَ دَرْؤُهَا لِلْمَارِّ بِالْإِشَارَةِ أَوْ بِالتَّصْفِيقِ بِبَطْنِ كَفِّهَا الْيُمْنَى عَلَى ظَهْرِ أَصَابِعِ كَفِّهَا الْيُسْرَى؛ لِأَنَّ لَهَا التَّصْفِيقَ.
لَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالْقِرَاءَةِ وَالتَّسْبِيحِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى حَالِ النِّسَاءِ عَلَى السَّتْرِ، وَلَا يُطْلَبُ مِنْهَا الدَّرْءُ بِهِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ» وَقَوْلُهُ: «وَلْيُصَفِّقِ النِّسَاءُ» وَهَذَا هُوَ الْمَسْنُونُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَلَمْ يَقُولُوا بِالتَّسْبِيحِ لِلرَّجُلِ، وَلَا بِالتَّصْفِيقِ لِلْمَرْأَةِ فِي دَفْعِ الْمَارِّ، بَلْ قَالُوا: يَدْفَعُهُ الْمُصَلِّي بِمَا يَسْتَطِيعُهُ وَيُقَدِّمُ فِي ذَلِكَ الْأَسْهَلَ فَالْأَسْهَلَ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ لِلْمُصَلِّي دَفْعُ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْهِ دَفْعًا خَفِيفًا لَا يَتْلَفُ لَهُ شَيْءٌ وَلَا يَشْغَلُهُ، فَإِنْ كَثُرَ مِنْهُ ذَلِكَ أَبْطَلَ صَلَاتَهُ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى (سُتْرَةِ الصَّلَاةِ).
تَصْفِيقُ الرَّجُلِ فِي الصَّلَاةِ:
5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ تَصْفِيقِ الرَّجُلِ فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقًا لِمَا رُوِيَ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ- رضي الله عنه- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَلَغَهُ أَنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فِي أُنَاسٍ مَعَهُ، فَحُبِسَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَحَانَتِ الصَّلَاةُ، فَجَاءَ بِلَالٌ- رضي الله عنه- إِلَى أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه- فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ حُبِسَ، وَقَدْ حَانَتِ الصَّلَاةُ، فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتَ.فَأَقَامَ بِلَالٌ وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنه-، فَكَبَّرَ لِلنَّاسِ.وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ، حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ فَأَخَذَ النَّاسُ فِي التَّصْفِيقِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنه- لَا يَلْتَفِتُ فِي صَلَاتِهِ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ الْتَفَتَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّيَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنه- يَدَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ.فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّى لِلنَّاسِ.فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا لَكُمْ حِينَ نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي الصَّلَاةِ أَخَذْتُمْ فِي التَّصْفِيقِ؟ إِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ.مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ حِينَ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ إِلاَّ الْتَفَتَ.يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ لِلنَّاسِ حِينَ أَشَرْتُ إِلَيْكَ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنه-: مَا كَانَ يَنْبَغِي لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ».فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْكَرَ عَلَيْهِمُ التَّصْفِيقَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ».وَفِيهِ الدَّلِيلُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّصْفِيقِ لِلرَّجُلِ فِي الصَّلَاةِ.
التَّصْفِيقُ مِنْ مُصَلٍّ لِلْإِذْنِ لِلْغَيْرِ بِالدُّخُولِ:
6- أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ تَنْبِيهَ الْمُصَلِّي غَيْرَهُ.
وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالتَّسْبِيحِ مُطْلَقًا، وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالتَّسْبِيحُ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ لِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَكَرِهَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
التَّصْفِيقُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ:
7- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ التَّصْفِيقَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ يُبْطِلُهَا وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، لِمُنَافَاةِ اللَّعِبِ لِلصَّلَاةِ.وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ: «مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلَاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ، وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ».وَلِمُنَافَاتِهِ لِلصَّلَاةِ.
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَا يُبْطِلُهَا إِنْ قَلَّ، وَإِنْ كَثُرَ أَبْطَلَهَا؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا، فَأَبْطَلَهَا كَثِيرُهُ عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ مَا يُعْمَلُ عَادَةً بِالْيَدَيْنِ يَكُونُ كَثِيرًا، بِخِلَافِ مَا يُعْمَلُ بِالْيَدِ الْوَاحِدَةِ فَقَدْ يَكُونُ قَلِيلًا، وَالْعَمَلُ الْكَثِيرُ الَّذِي لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَلَا لِإِصْلَاحِهَا يُفْسِدُهَا.وَالتَّصْفِيقُ لَا يَتَأَتَّى عَادَةً إِلاَّ بِالْيَدَيْنِ كِلْتَيْهِمَا، فَإِنَّهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ يَكُونُ عَمَلًا كَثِيرًا فِي الصَّلَاةِ تَبْطُلُ بِهِ؛ لِمُنَافَاتِهِ لِأَفْعَالِهَا.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا يَخْلُو عَنْ كَوْنِهِ عَبَثًا فِيهَا، وَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْفِعْلِ الْكَثِيرِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ كَالنَّفْخِ مِنَ الْفَمِ فِيهَا فَإِنَّهُ يُبْطِلُهَا، كَالْكَلَامِ فِيهَا، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: النَّفْخُ فِي الصَّلَاةِ كَالْكَلَامِ.وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- لِرَبَاحٍ وَهُوَ يَنْفُخُ فِي التُّرَابِ: «مَنْ نَفَخَ فِي الصَّلَاةِ فَقَدْ تَكَلَّمَ» وَإِذْ جَرَى عَلَى التَّصْفِيقِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ حُكْمُ الْفِعْلِ الْكَثِيرِ فِيهَا كَانَ مُبْطِلًا لَهَا.
كَيْفِيَّةُ التَّصْفِيقِ:
8- لِلْمَرْأَةِ فِي كَيْفِيَّةِ تَصْفِيقِهَا فِي الصَّلَاةِ طَرِيقَتَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَضْرِبَ بِظُهُورِ أَصَابِعِ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى صَفْحَةِ الْكَفِّ الْيُسْرَى.
ثَانِيَتُهُمَا: أَنْ تَضْرِبَ بِبَطْنِ كَفِّهَا الْيُمْنَى عَلَى ظَهْرِ كَفِّهَا الْيُسْرَى، وَهُوَ الْأَيْسَرُ وَالْأَقَلُّ عَمَلًا، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ أَنْ تَضْرِبَ بِظَهْرِ أُصْبُعَيْنِ مِنْ يَمِينِهَا عَلَى بَاطِنِ كَفِّهَا الْيُسْرَى.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنْ تَضْرِبَ بِبَطْنِ كَفٍّ عَلَى ظَهْرِ الْأُخْرَى.
التَّصْفِيقُ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ:
9- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُجُوبِ الْإِنْصَاتِ لِلْخَطِيبِ- وَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مُسْتَحَبٌّ- وَعَلَيْهِ يَحْرُمُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كُلُّ مَا يُنَافِي الْإِنْصَاتَ إِلَى الْخَطِيبِ، مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَتَحْرِيكِ شَيْءٍ يَحْصُلُ مِنْهُ صَوْتٌ كَوَرَقٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ سِبْحَةٍ أَوْ فَتْحِ بَابٍ أَوْ مُطَالَعَةٍ فِي كُرَّاسٍ.وَالتَّصْفِيقُ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ يُحْدِثُ صَوْتًا يُشَوِّشُ عَلَى الْخَطِيبِ وَالسَّامِعِينَ لِخُطْبَتِهِ، وَلِذَا كَانَ حَرَامًا لِإِخْلَالِهِ بِآدَابِ الِاسْتِمَاعِ وَانْتِهَاكِهِ لِحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ. وَالْحُرْمَةُ عَلَى مَنْ صَفَّقَ بِالْمَسْجِدِ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ أَوْ فِي رَحْبَتِهِ آكَدُ مِمَّنْ فَعَلَ ذَلِكَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ مِمَّنْ لَا يَسْمَعُونَ الْخَطِيبَ.
التَّصْفِيقُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ:
10- التَّصْفِيقُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ جَائِزٌ إِذَا كَانَ لِحَاجَةٍ مُعْتَبَرَةٍ كَالِاسْتِئْذَانِ وَالتَّنْبِيهِ، أَوْ تَحْسِينِ صِنَاعَةِ الْإِنْشَادِ، أَوْ مُلَاعَبَةِ النِّسَاءِ لِأَطْفَالِهِنَّ.
أَمَّا إِذَا كَانَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، فَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِحُرْمَتِهِ، وَبَعْضُهُمْ بِكَرَاهَتِهِ.وَقَالُوا: إِنَّهُ مِنَ اللَّهْوِ الْبَاطِلِ، أَوْ مِنَ التَّشَبُّهِ بِعِبَادَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ عِنْدَ الْبَيْتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}.
أَوْ هُوَ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالنِّسَاءِ، لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنِ اخْتِصَاصِ النِّسَاءِ بِالتَّصْفِيقِ إِذَا نَابَ الْإِمَامَ شَيْءٌ فِي الصَّلَاةِ، فِي حِينِ أَنَّ التَّسْبِيحَ لِلرِّجَالِ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
270-موسوعة الفقه الكويتية (تكافؤ)
تَكَافُؤٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّكَافُؤُ لُغَةً: الِاسْتِوَاءُ، وَكُلُّ شَيْءٍ سَاوَى شَيْئًا حَتَّى يَكُونَ مِثْلَهُ فَهُوَ مُكَافِئٌ لَهُ، وَالْمُكَافَأَةُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ هَذَا، وَالْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ أَيْ تَتَسَاوَى فِي الدِّيَةِ وَالْقِصَاصِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فَلَيْسَ لِشَرِيفٍ عَلَى وَضِيعٍ فَضْلٌ فِي ذَلِكَ.وَالْكُفْءُ: النَّظِيرُ وَالْمُسَاوِي، وَمِنْهُ: الْكَفَاءَةُ فِي النِّكَاحِ أَيْ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مُسَاوِيًا لِلْمَرْأَةِ فِي حَسَبِهَا وَدِينِهَا وَنَسَبِهَا وَبَيْتِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَالْكَفَاءُ مَصْدَرُ كَافَأَهُ أَيْ قَابَلَهُ وَصَارَ نَظِيرًا لَهُ، وَقَوْلُهُمْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهُ وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ، أَيْ يُلَاقِي نِعَمَهُ وَيُسَاوِي مَزِيدَ نِعَمِهِ، وَهُوَ أَجَلُّ التَّحَامِيدِ.
وَسَيَأْتِي التَّعْرِيفُ الِاصْطِلَاحِيُّ مَعَ الْإِطْلَاقَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ.
حُكْمُ الْكَفَاءَةِ:
2- بَحَثَ الْفُقَهَاءُ التَّكَافُؤَ (أَوِ الْكَفَاءَةَ حَسَبَ عِبَارَتِهِمْ فِي النِّكَاحِ) فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا: النِّكَاحُ، وَالْقِصَاصُ، وَالْمُبَارَزَةُ فِي الْقِتَالِ، وَالْمُسَابَقَةُ عَلَى خَيْلٍ وَنَحْوِهَا، وَفِيمَا يَلِي حُكْمُ التَّكَافُؤِ فِي كُلٍّ مِنْهَا:
الْكَفَاءَةُ فِي النِّكَاحِ:
3- هِيَ لُغَةً: التَّسَاوِي وَالتَّعَادُلُ
وَاصْطِلَاحًا: اخْتَلَفَتْ عِبَارَةُ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِهَا الِاصْطِلَاحِيِّ، وَعَرَّفَهَا الْقُهُسْتَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا مُسَاوَاةُ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ فِي الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي النِّكَاحِ.
وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهَا أَمْرٌ يُوجِبُ عَدَمَهُ عَارًا.
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يَعْتَبِرُونَ الْكَفَاءَةَ فِي النِّكَاحِ وَيَسْتَدِلُّونَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَالْمَعْقُولِ، لَكِنَّ الْكَرْخِيَّ وَالثَّوْرِيَّ وَالْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ ذَهَبُوا إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا الْجُمْهُورُ فِي النِّكَاحِ.
وَالْوَقْتُ الَّذِي تُعْتَبَرُ عِنْدَهُ الْكَفَاءَةُ، هُوَ ابْتِدَاءُ عَقْدِ النِّكَاحِ وَلَا يَضُرُّ زَوَالُهَا بَعْدَهُ.
وَتُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ- عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- فِي جَانِبِ الرِّجَالِ لِلنِّسَاءِ وَلَا تُعْتَبَرُ فِي جَانِبِ النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ.
وَالْحَقُّ فِي الْكَفَاءَةِ لِلْمَرْأَةِ أَوْ لِلْأَوْلِيَاءِ أَوْ لَهُمَا.عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي خِصَالِ الْكَفَاءَةِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يُكَافِئَ الزَّوْجُ فِيهَا الزَّوْجَةَ، وَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ- كَمَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ- إِلَى أَنَّ الْكَفَاءَةَ مُعْتَبَرَةٌ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: الدِّينُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالنَّسَبُ، وَالصِّنَاعَةُ.
وَاعْتَبَرَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْكَفَاءَةَ لِلُزُومِ النِّكَاحِ لَا لِصِحَّتِهِ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ الْمُخْتَارَةِ لِلْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّ الْكَفَاءَةَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ، وَسَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ عِنْدَ الْكَرْخِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.
وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَفِي النِّكَاحِ الَّذِي تُعْتَبَرُ فِيهِ الْكَفَاءَةُ، وَفِي أَثَرِ عَدَمِ اعْتِبَارِهَا تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ «كَفَاءَةٌ» وَفِي مُصْطَلَحِ «نِكَاحٌ».
هَذَا عَنْ حُكْمِ التَّكَافُؤِ (أَثَرُهُ) أَمَّا اخْتِيَارُ الْأَكْفَاءِ فِي النِّكَاحِ فَهُوَ مَسْنُونٌ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ».
التَّكَافُؤُ فِي الدِّمَاءِ:
4- مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ لِلْقِصَاصِ: أَنْ يَتَكَافَأَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَعَ الْجَانِي، أَيْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا تَكَافُؤٌ فِي الدَّمِ.
وَعَرَّفَ الشَّافِعِيَّةُ التَّكَافُؤَ فِي الْقِصَاصِ بِأَنَّهُ: مُسَاوَاةُ الْقَاتِلِ لِلْقَتِيلِ الْجَانِي لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ.بِأَنْ لَا يَفْضُلَهُ بِإِسْلَامٍ أَوْ أَمَانٍ أَوْ حُرِّيَّةٍ أَوْ سِيَادَةٍ، أَوْ أَصْلِيَّةٍ (أَيْ لَا يَكُونُ أَصْلًا لِلْمَقْتُولِ وَإِنْ عَلَا ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى وَلَوْ كَافِرًا) وَقَالُوا: إِنَّ الْقِصَاصَ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْعِصْمَةِ، فَإِذَا وُجِدَتْ فَإِنَّ الْقِصَاصَ يَجْرِي بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ الْمُسْلِمَيْنِ دُونَ نَظَرٍ إِلَى تَفَاوُتٍ فِي نَسَبٍ أَوْ مَالٍ أَوْ صِفَاتٍ خَاصَّةٍ.لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ..».
وَيُعْتَبَرُ التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ حَالَ الْجِنَايَةِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْحَالِ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا.
وَيُعْتَبَرُ التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي الْجُرْحِ وَالنَّفْسِ، فَإِنْ سَاوَى الْجَانِي الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ اقْتُصَّ فِيهِمَا.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ أَثَرَ اعْتِبَارِ التَّكَافُؤِ فِي الْقِصَاصِ: أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِمَنْ لَا يُسَاوِيهِ فِي الْعِصْمَةِ، وَيُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْمُسْلِمِ وَإِنْ تَفَاوَتَا فِي الْعِلْمِ وَالشَّرَفِ وَغَيْرِهِمَا.
وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكَافُؤِ فِي الدِّمَاءِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: «كَفَاءَةٌ» وَفِي مُصْطَلَحِ: «قِصَاصٌ».
التَّكَافُؤُ فِي الْمُبَارَزَةِ:
5- الْمُبَارَزَةُ لُغَةً: الْخُرُوجُ إِلَى الْخَصْمِ لِقِتَالِهِ وَمُصَارَعَتِهِ، وَكَانَتْ تَتِمُّ بِخُرُوجِ أَحَدِ الْمُقَاتِلِينَ أَمَامَ أَصْحَابِهِ وَدَعْوَةِ أَحَدِ الْخُصُومِ لِلْقِتَالِ، فَيَبْرُزُ لَهُ مَنْ دُعِيَ إِنْ كَانَ قَدْ سَمَّى أَحَدًا أَوْ يَبْرُزُ إِلَيْهِ أَحَدُ أَكْفَائِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَّى أَحَدًا، وَيَدُورُ بَيْنَهُمَا قِتَالٌ حَتَّى يَصْرَعَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ.
وَالتَّكَافُؤُ لِلْمُبَارَزَةِ: أَنْ يَعْلَمَ الشَّخْصُ الَّذِي يَخْرُجُ لَهَا مِنْ نَفْسِهِ الْقُوَّةَ وَالشَّجَاعَةَ، وَأَنَّهُ لَنْ يَعْجِزَ عَنْ مُقَاوَمَةِ عَدُوِّهِ.
وَقَدْ بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ «الْجِهَادِ» حُكْمَ الْمُبَارَزَةِ، وَأَنَّهَا تَكُونُ جَائِزَةً- خِلَافًا لِلْحَسَنِ- بِإِطْلَاقٍ أَوْ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَتَكُونُ مُسْتَحَبَّةً لِمَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ الْقُوَّةَ وَالشَّجَاعَةَ، لِأَنَّ فِي خُرُوجِهِ لِلْمُبَارَزَةِ نَصْرًا لِلْمُسْلِمِينَ وَدَرْءًا عَنْهُمْ وَإِظْهَارًا لِقُوَّتِهِمْ، وَتَكُونُ مَكْرُوهَةً لِلضَّعِيفِ الَّذِي لَا يَثِقُ مِنْ قُوَّتِهِ وَشَجَاعَتِهِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ كَسْرِ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ وَإِضْعَافِ عَزْمِهِمْ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ غَالِبًا.
فَالتَّكَافُؤُ هُوَ مَنَاطُ الْحُكْمِ بِالْجَوَازِ أَوِ الِاسْتِحْبَابِ أَوِ الْكَرَاهَةِ فِي الْمُبَارَزَةِ، وَقَدْ بَيَّنَ الْمَاوَرْدِيُّ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا جَازَتِ الْمُبَارَزَةُ بِمَا اسْتَشْهَدْنَا..كَانَ لِتَمْكِينِ الْمُبَارَزَةِ شَرْطَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَا نَجْدَةٍ وَشَجَاعَةٍ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَنْ يَعْجِزَ عَنْ مُقَاوَمَةِ عَدُوِّهِ، فَإِنْ كَانَ بِخِلَافِهِ مُنِعَ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ زَعِيمًا لِلْجَيْشِ يُؤَثِّرُ فَقْدُهُ فِيهِمْ.
وَقَدْ «أَقَرَّ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- التَّكَافُؤَ فِي الْمُبَارَزَةِ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ نَادَى عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، يَا مُحَمَّدُ أَخْرِجْ إِلَيْنَا مِنْ قَوْمِنَا أَكْفَاءَنَا..فَقَدْ خَرَجَ عُتْبَةُ بَيْنَ أَخِيهِ شَيْبَةَ وَابْنِهِ الْوَلِيدِ، حَتَّى إِذَا فَصَلَ مِنَ الصَّفِّ دَعَا إِلَى الْمُبَارَزَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ فِتْيَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ثَلَاثَةٌ، وَهُمْ: عَوْفٌ وَمُعَوِّذٌ ابْنَا الْحَارِثِ وَرَجُلٌ آخَرُ يُقَالُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: رَهْطٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالُوا: مَا لَنَا بِكُمْ مِنْ حَاجَةٍ، ثُمَّ نَادَى مُنَادِيهِمْ يَا مُحَمَّدُ أَخْرِجْ إِلَيْنَا أَكْفَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: قُمْ يَا عُبَيْدَةُ بْنَ الْحَارِثِ، وَقُمْ يَا حَمْزَةُ، وَقُمْ يَا عَلِيُّ، فَلَمَّا قَامُوا وَدَنَوْا مِنْهُمْ قَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالَ عُبَيْدَةُ: عُبَيْدَةُ، وَقَالَ حَمْزَةُ: حَمْزَةُ، وَقَالَ عَلِيٌّ: عَلِيٌّ قَالُوا: نَعَمْ أَكْفَاءٌ كِرَامٌ، فَبَارَزَ عُبَيْدَةُ وَكَانَ أَسَنَّ الْقَوْمِ عُتْبَةَ، وَبَارَزَ حَمْزَةُ شَيْبَةَ، وَبَارَزَ عَلِيٌّ الْوَلِيدَ، فَأَمَّا حَمْزَةُ فَلَمْ يُمْهِلْ شَيْبَةَ أَنْ قَتَلَهُ، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَلَمْ يُمْهِلْ الْوَلِيدَ أَنْ قَتَلَهُ، وَاخْتَلَفَ عُبَيْدَةُ وَعُتْبَةُ بَيْنَهُمَا ضَرْبَتَيْنِ كِلَاهُمَا أَثْبَتَ صَاحِبَهُ، وَكَرَّ حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ بِأَسْيَافِهِمَا عَلَى عُتْبَةَ فَذَفَّفَا عَلَيْهِ، وَاحْتَمَلَا صَاحِبَهُمَا فَحَازَاهُ إِلَى أَصْحَابِهِ» التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْخَيْلِ فِي السَّبْقِ:
6- السَّبْقُ- بِالسُّكُونِ- فِي اللُّغَةِ: الْمُسَابَقَةُ، وَالسَّبَقُ- بِفَتْحِ الْبَاءِ- مَا يُجْعَلُ مِنَ الْمَالِ رَهْنًا عَلَى الْمُسَابَقَةِ
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَقَدْ شُرِعَ السَّبْقُ فِي الْخَيْلِ وَفِي الْإِبِلِ- وَلَوْ بِجُعْلٍ- لِمَا فِيهِ مِنْ إِعْدَادٍ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَدِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِلسَّبْقِ وَحِلِّ الْجُعْلِ شُرُوطًا مِنْهَا: التَّكَافُؤُ بَيْنَ الدَّابَّتَيْنِ الْمُتَسَابِقَتَيْنِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ سَبْقُ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالتَّكَافُؤُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُحَلِّلِ الَّذِي يَدْخُلُ بَيْنَهُمَا فِي حَالَةِ شَرْطِ إِخْرَاجِ الْجُعْلِ مِنَ الْمُتَسَابِقَيْنِ:
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَلَا بَأْسَ بِالْمُسَابَقَةِ فِي الرَّمْيِ وَالْفَرَسِ وَالْإِبِلِ..وَحَلَّ الْجُعْلُ وَطَابَ إِنْ شُرِطَ الْمَالُ فِي الْمُسَابَقَةِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، وَحَرُمَ لَوْ شُرِطَ فِيهَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قِمَارًا، إِلاَّ إِذَا أَدْخَلَا ثَالِثًا مُحَلِّلًا بَيْنَهُمَا بِفَرَسٍ كُفْءٍ لِفَرَسَيْهِمَا يُتَوَهَّمُ أَنْ يَسْبِقَهُمَا، وَإِلاَّ لَمْ يَجُزْ أَيْ إِنْ كَانَ يَسْبِقُ أَوْ يُسْبَقُ لَا مَحَالَةَ فَلَا يَجُوزُ.لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ فَلَيْسَ بِقِمَارٍ، وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَقَدْ أَمِنَ أَنْ يَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ».
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الْمُسَابَقَةِ بِجُعْلٍ فِي الْخَيْلِ، وَفِي الْإِبِلِ، وَبَيْنَ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ، وَفِي السَّهْمِ إِذَا كَانَ الْجُعْلُ مِمَّا يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَعُيِّنَ الْمَبْدَأُ وَالْغَايَةُ وَالْمَرْكَبُ.وَثُمَّ قَالُوا فِي شَرْحِ الْمَرْكَبِ: وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْخَيْلُ أَوِ الْإِبِلُ مُتَقَارِبَةً فِي الْجَرْيِ، وَأَنْ يَجْهَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبْقَ فَرَسِهِ وَفَرَسَ صَاحِبِهِ، فَإِنْ قَطَعَ أَحَدُهُمَا أَنَّ أَحَدَ الْفَرَسَيْنِ أَكْثَرُ جَرْيًا مِنَ الْآخَرِ لَمْ تَجُزْ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَشَرْطُ الْمُسَابَقَةِ عِلْمُ الْمَوْقِفِ وَالْغَايَةِ وَتَسَاوِيهِمَا فِيهِمَا، وَتَعْيِينُ الْفَرَسَيْنِ وَيَتَعَيَّنَانِ، وَإِمْكَانُ سَبْقِ كُلِّ وَاحِدٍ..فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ضَعِيفًا يُقْطَعُ بِتَخَلُّفِهِ أَوْ فَارِهًا يُقْطَعُ بِتَقَدُّمِهِ لَمْ يَجُزْ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فَرَسُ الْمُحَلِّلِ مُكَافِئًا لِفَرَسَيْهِمَا أَوْ بَعِيرُهُ مُكَافِئًا لِبَعِيرَيْهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَافِئًا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فَرَسَاهُمَا جَوَادَيْنِ وَفَرَسُهُ بَطِيئًا فَهُوَ قِمَارٌ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَهُوَ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَسْبِقَ فَلَيْسَ بِقِمَارٍ، وَمَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ وَقَدْ أَمِنَ أَنْ يَسْبِقَ فَهُوَ قِمَارٌ»، وَلِأَنَّهُ مَأْمُونٌ سَبْقُهُ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَإِنْ كَانَ مُكَافِئًا لَهُمَا جَازَ.
وَيُشْتَرَطُ فِي الرِّهَانِ أَنْ تَكُونَ الدَّابَّتَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَتَا مِنْ جِنْسَيْنِ كَالْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْبَعِيرَ لَا يَكَادُ يَسْبِقُ الْفَرَسَ فَلَا يَحْصُلُ الْغَرَضُ مِنْ هَذِهِ الْمُسَابَقَةِ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
271-موسوعة الفقه الكويتية (تنزيه)
تَنْزِيهٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّنْزِيهُ عَنِ الْمَكْرُوهِ: التَّبْعِيدُ عَنْهُ.
وَتَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى: تَبْعِيدُهُ عَمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنَ النَّقَائِصِ،
وَأَصْلُ النَّزْهِ: الْبُعْدُ.
وَالتَّنَزُّهُ: التَّبَاعُدُ وَمِنْهُ فُلَانٌ يَتَنَزَّهُ عَنِ الْأَقْذَارِ: أَيْ يُبَاعِدُ نَفْسَهُ عَنْهَا.
قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: وَأَرْضٌ نَزْهَةٌ وَنَزِهَةٌ وَنَزِيهَةٌ: بَعِيدَةٌ عَنِ الرِّيفِ وَغَمَقِ الْمِيَاهِ وَذِبَّانِ الْقُرَى وَوَمَدِ الْبِحَارِ وَفَسَادِ الْهَوَاءِ.
وَمِثْلُ التَّنْزِيهِ التَّقْدِيسُ وَالتَّكْرِيمُ وَمِنْهُ اسْمُهُ تَعَالَى (الْقُدُّوسُ) وَمِنْهُ (الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ).
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ لِلْكَلِمَةِ عَنْ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
1- تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى:
2- أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ وَتَوَاتَرَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الشَّرِيكِ، وَعَنِ الْوَلَدِ، وَالْوَالِدِ، وَالزَّوْجِ، وَعَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ أَشْرَكَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَهُوَ كَافِرٌ.قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}.وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}.
وَقَالَ تَعَالَى {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا}.
3- كَمَا اتَّفَقَ أَهْلُ الْمِلَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، لَا فِي ذَاتِهِ، وَلَا فِي صِفَاتِهِ، وَلَا فِي أَفْعَالِهِ، مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَنْطِقَ فِي ذَاتِ اللَّهِ بِشَيْءٍ، بَلْ يَصِفُهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَاعْتِقَادُ اتِّصَافِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالنَّقْصِ صَرِيحًا كُفْرٌ، وَأَمَّا اعْتِقَادُ أَمْرٍ يَلْزَمُ مِنْهُ النَّقْصُ أَوْ يُفْهَمُ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ لَازِمَ الْقَوْلِ لَيْسَ بِقَوْلٍ.
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ قَالُوا: هُمْ فُسَّاقٌ عُصَاةٌ ضُلاَّلٌ.
4- وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا سَبَّ اللَّهَ يُقْتَلُ، لِأَنَّهُ بِذَلِكَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ، وَأَسْوَأُ مِنَ الْكَافِرِ، فَإِنَّ الْكَافِرَ يُعَظِّمُ الرَّبَّ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الْبَاطِلِ لَيْسَ بِاسْتِهْزَاءٍ بِاَللَّهِ وَلَا مَسَبَّةٍ لَهُ.
وَاخْتُلِفَ فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى قَبُولِهَا.
وَكَذَا مَنْ سَخِرَ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ بِأَمْرِهِ، أَوْ بِوَعْدِهِ، أَوْ وَعِيدِهِ كَفَرَ.
وَأَمَّا الذِّمِّيُّ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ الْمُتَقَدِّمِينَ (أَيْ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ) وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ إِقْرَارُ نُصُوصِ أَحْمَدَ عَلَى حَالِهَا وَهُوَ قَدْ نَصَّ فِي مَسَائِلِ سَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى انْتِقَاضِ الْعَهْدِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَعَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (سَبٌّ).
2- تَنْزِيهُ الْأَنْبِيَاءِ- ((:
أ- عَنِ الْخَطَأِ أَوِ الْكَذِبِ فِي الرِّسَالَةِ:
5- أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الرُّسُلَ وَالْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ- وَلَوْ قَلَّتْ- وَالْعِصْمَةُ لَهُمْ وَاجِبَةٌ.
وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ أَلاَّ يُبَلِّغُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، أَوْ يُخْبِرُوا عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا هُوَ بِهِ، لَا قَصْدًا وَعَمْدًا، وَلَا سَهْوًا، وَغَلَطًا فِيمَا يُبَلِّغُ.
أَمَّا تَعَمُّدُ الْخُلْفِ فِي ذَلِكَ فَمُنْتَفٍ، بِدَلِيلِ الْمُعْجِزَةِ الْقَائِمَةِ مَقَامَ قَوْلِ اللَّهِ فِيمَا قَالَ- اتِّفَاقًا- وَبِإِطْبَاقِ أَهْلِ الْمِلَّةِ- إِجْمَاعًا- وَكَذَا لَا يَجُوزُ وُقُوعُهُ عَلَى جِهَةِ الْغَلَطِ- إِجْمَاعًا-
وَالنَّبِيُّ مَعْصُومٌ عَنِ الْكَذِبِ فِي أَقْوَالِهِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ مَتَى عُرِفَ مِنْ أَحَدٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَخْبَارِ- عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ- اُسْتُرِيبَ بِخَبَرِهِ وَاتُّهِمَ فِي حَدِيثِهِ، وَلَمْ يَقَعْ قَوْلُهُ فِي النُّفُوسِ مَوْقِعًا.
ب- تَنْزِيهُ الْأَنْبِيَاءِ عَنِ السَّبِّ وَالِاسْتِهْزَاءِ:
6- كُلُّ مَنْ سَبَّ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ عَابَهُ، أَوْ أَلْحَقَ بِهِ نَقْصًا فِي نَفْسِهِ، أَوْ نَسَبِهِ أَوْ دِينِهِ، أَوْ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِهِ، أَوْ عَرَّضَ بِهِ، أَوْ شَبَّهَهُ بِشَيْءٍ عَلَى طَرِيقِ السَّبِّ لَهُ، أَوِ الْإِزْرَاءِ بِهِ، أَوِ التَّصْغِيرِ لِشَأْنِهِ، أَوِ الْغَضِّ مِنْهُ، أَوِ الْعَيْبِ لَهُ، فَهُوَ كَافِرٌ.
وَكَذَلِكَ مَنْ لَعَنَهُ، أَوْ دَعَا عَلَيْهِ، أَوْ تَمَنَّى مَضَرَّةً لَهُ، أَوْ نَسَبَ إِلَيْهِ مَا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ عَلَى طَرِيقِ الذَّمِّ، أَوْ عَبِثَ فِي جِهَتِهِ الْعَزِيزَةِ بِسُخْفٍ مِنَ الْكَلَامِ وَهَجْرٍ، وَمُنْكَرٍ مِنَ الْقَوْلِ وَزُورٍ، أَوْ عَيَّرَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا جَرَى مِنَ الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ عَلَيْهِ، أَوْ غَمَصَهُ بِبَعْضِ الْعَوَارِضِ الْبَشَرِيَّةِ الْجَائِزَةِ وَالْمَعْهُودَةِ لَدَيْهِ.
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ اللَّهَ، أَوْ رَسُولًا مِنْ رُسُلِهِ، أَوْ دَفَعَ شَيْئًا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ كَافِرٌ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِكُلِّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ.
وَالسَّابُّ إِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَإِنَّهُ يَكْفُرُ وَيُقْتَلُ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا فَإِنَّهُ يُقْتَلُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يُقْتَلُ، وَلَكِنْ يُعَزَّرُ عَلَى إِظْهَارِ ذَلِكَ.وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (سَبٌّ).
تَنْزِيهُ الْمَلَائِكَةِ:
7- أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مُؤْمِنُونَ مُكَرَّمُونَ، وَاتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْمُرْسَلِينَ مِنْهُمْ حُكْمُ النَّبِيِّينَ فِي الْعِصْمَةِ وَالتَّبْلِيغِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ الْمُرْسَلِينَ مِنْهُمْ، وَالصَّوَابُ عِصْمَةُ جَمِيعِهِمْ، وَتَنْزِيهُ مَقَامِهِمِ الرَّفِيعِ عَنْ جَمِيعِ مَا يَحُطُّ مِنْ رُتْبَتِهِمْ وَمَنْزِلَتِهِمْ عَنْ جَلِيلِ مِقْدَارِهِمْ.
وَأَدِلَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ قوله تعالى {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وَقَوْلُهُ {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتَرُونَ}
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: مَنْ سَبَّ أَحَدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمْ أَوْ جُمْلَتِهِمْ يُقْتَلُ.
تَنْزِيهُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ:
أ- تَنْزِيهُ الْقُرْآنِ عَنِ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ:
8- الْقُرْآنُ مَحْفُوظٌ عَنِ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}.
فَمَنْ جَحَدَ حَرْفًا مِنَ الْقُرْآنِ آيَةً، أَوْ كَذَّبَ بِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ، أَوْ كَذَّبَ بِشَيْءٍ مِمَّا صَرَّحَ بِهِ فِيهِ مِنْ حُكْمٍ أَوْ خَبَرٍ، أَوْ أَثْبَت مَا نَفَاهُ، أَوْ نَفَى مَا أَثْبَتَهُ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِذَلِكَ، أَوْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ.
ب- تَنْزِيهُ الْقُرْآنِ عَنِ الِامْتِهَانِ:
9- مَنِ اسْتَخَفَّ بِالْقُرْآنِ أَوِ الْمُصْحَفِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ، أَوْ سَبَّ شَيْئًا مِنْهُ، أَوْ أَلْقَاهُ فِي الْقَاذُورَاتِ، أَوْ أَلْقَى وَرَقَةً فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوْ لَطَّخَ الْمُصْحَفَ بِنَجَسٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَلَا قَرِينَةَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِهْزَاءِ- وَإِنْ ضَعُفَتْ- فَهُوَ كَافِرٌ، بِإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ.
وَلَا تَجُوزُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ بِشَيْءٍ نَجِسٍ،
كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ مَسُّ الْمُصْحَفِ وَحَمْلُهُ.
ج- تَنْزِيهُ الْقُرْآنِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ:
10- تَحْرُمُ الْمُسَافَرَةُ بِالْمُصْحَفِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ إذَا خِيفَ وُقُوعُهُ فِي أَيْدِيهِمْ لِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ».
وَيَحْرُمُ بَيْعُ الْمُصْحَفِ مِنَ الْكَافِرِ.
تَنْزِيهُ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ:
11- يَجِبُ تَنْزِيهُ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ عَنِ الِامْتِهَانِ.
فَمَنْ أَلْقَى وَرَقَةً فِيهَا شَيْءٌ مِنْ عِلْمٍ شَرْعِيٍّ، أَوْ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى، أَوِ اسْمُ نَبِيٍّ، أَوْ مَلَكٍ، فِي نَجَاسَةٍ، أَوْ لَطَّخَ ذَلِكَ بِنَجَسٍ- وَلَوْ مَعْفُوًّا عَنْهُ- حُكِمَ بِكُفْرِهِ، إذَا قَامَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْإِهَانَةَ لِلشَّرْعِ. وَرَأَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وُجُوبَ صِيَانَةِ كُتُبِ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ عَنِ الْوُقُوعِ بِأَيْدِي الْكُفَّارِ- سَوَاءٌ بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ- خَوْفًا عَلَيْهَا مِنَ الِامْتِهَانِ.وَالْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةٌ وَيُرْجَعُ إلَيْهَا فِي أَبْوَابِ الْجِهَادِ وَالْبَيْعِ.
تَنْزِيهُ الصَّحَابَةِ:
12- قَالَ السُّيُوطِيّ: الصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ، مَنْ لَابَسَ الْفِتَنَ وَغَيْرَهُمْ بِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ» قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أَيْ عُدُولًا، وَقَالَ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وَالْخِطَابُ فِيهَا لِلْمَوْجُودِينَ حِينَئِذٍ، وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي».
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَالسَّبَبُ فِي عَدَمِ الْفَحْصِ عَنْ عَدَالَتِهِمْ: أَنَّهُمْ حَمَلَةُ الشَّرِيعَةِ، فَلَوْ ثَبَتَ تَوَقُّفٌ فِي رِوَايَتِهِمْ لَانْحَصَرَتِ الشَّرِيعَةُ عَلَى عَصْرِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَلمَا اسْتَرْسَلَتْ عَلَى سَائِرِ الْأَعْصَارِ، وَقِيلَ: يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: بَعْدَ وُقُوعِ الْفِتَنِ.
وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: عُدُولٌ إلاَّ مَنْ قَاتَلَ عَلِيًّا، وَقِيلَ: إذَا انْفَرَدَ، وَقِيلَ: إلاَّ الْمُقَاتِلَ وَالْمُقَاتَلَ، وَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِصَوَابٍ إحْسَانًا لِلظَّنِّ بِهِمْ وَحَمْلًا لَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى الِاجْتِهَادِ الْمَأْجُورِ فِيهِ كُلٌّ مِنْهُمْ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ: لَسْنَا نَعْنِي بِقَوْلِنَا: الصَّحَابَةُ عُدُولٌ «كُلَّ مَنْ رَآهُ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا مَا أَوْ زَارَهُ لِمَامًا، أَوِ اجْتَمَعَ بِهِ لِغَرَضٍ وَانْصَرَفَ، وَإِنَّمَا نَعْنِي بِهِ الَّذِينَ لَازَمُوهُ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ.قَالَ الْعَلَائِيُّ: وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ يُخْرِجُ كَثِيرًا مِنَ الْمَشْهُورِينَ بِالصُّحْبَةِ وَالرِّوَايَةِ عَنِ الْحُكْمِ بِالْعَدَالَةِ، كَوَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، وَمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَغَيْرِهِمْ، مِمَّنْ وَفَدَ عَلَيْهِ- صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يُقِمْ عِنْدَهُ إلاَّ قَلِيلًا وَانْصَرَفَ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ إلاَّ بِرِوَايَةِ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ وَمَنْ لَمْ يُعْرَفْ مِقْدَارُ إقَامَتِهِ مِنْ أَعْرَابِ الْقَبَائِلِ، وَالْقَوْلُ بِالتَّعْمِيمِ هُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْجُمْهُورُ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلَاتٌ أُخْرَى تُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
وَقَالَ ابْنُ حَمْدَانَ الْحَنْبَلِيُّ: يَجِبُ حُبُّ كُلِّ الصَّحَابَةِ، وَالْكَفُّ عَمَّا جَرَى بَيْنَهُمْ- كِتَابَةً، وَقِرَاءَةً، وَإِقْرَاءً، وَسَمَاعًا، وَتَسْمِيعًا- وَيَجِبُ ذِكْرُ مَحَاسِنِهِمْ، وَالتَّرَضِّي عَنْهُمْ، وَالْمَحَبَّةُ لَهُمْ، وَتَرْكُ التَّحَامُلِ عَلَيْهِمْ، وَاعْتِقَادُ الْعُذْرِ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ إنَّمَا فَعَلُوا مَا فَعَلُوا بِاجْتِهَادٍ سَائِغٍ لَا يُوجِبُ كُفْرًا وَلَا فِسْقًا، بَلْ رُبَّمَا يُثَابُونَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ اجْتِهَادٌ سَائِغٌ.
13- وَسَبُّ آلِ بَيْتِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَأَزْوَاجِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَتَنَقُّصُهُمْ حَرَامٌ.قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي، فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ يُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ».
وَقَالَ السُّبْكِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ:
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا سَبَّهُ لِأَمْرٍ خَاصٍّ بِهِ.أَمَّا لَوْ سَبَّهُ لِكَوْنِهِ صَحَابِيًّا فَيَنْبَغِي الْقَطْعُ بِتَكْفِيرِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ اسْتِخْفَافٌ بِحَقِّ الصُّحْبَةِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.
وَاخْتَلَفُوا فِي كُفْرِ مَنْ سَبَّ الشَّيْخَيْنِ، وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ تَكْفِيرُ مَنْ سَبَّ الشَّيْخَيْنِ أَوْ أَحَدَهُمَا، وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ عَلَى خِلَافِهِ.
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيَّ: إذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَنْتَقِصُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَاعْلَمْ أَنَّهُ زِنْدِيقٌ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- عِنْدَنَا حَقٌّ، وَالْقُرْآنَ حَقٌّ، وَإِنَّمَا أَدَّى إلَيْنَا هَذَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنْ يَجْرَحُوا شُهُودَنَا لِيُبْطِلُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَالْجَرْحُ أَوْلَى بِهِمْ، وَهُمْ زَنَادِقَةٌ.
تَنْزِيهُ نِسَاءِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-:
14- مَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ بِمَا بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ كَفَرَ بِلَا خِلَافٍ، وَقَدْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ.
رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ سَبَّ أَبَا بَكْرٍ جُلِدَ، وَمَنْ سَبَّ عَائِشَة قُتِلَ، قِيلَ لَهُ: لِمَ؟ قَالَ: مَنْ رَمَاهَا فَقَدْ خَالَفَ الْقُرْآنَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
وَهَلْ تُعْتَبَرُ سَائِرُ زَوْجَاتِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- كَعَائِشَةَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَسَابِّ غَيْرِهِنَّ مِنَ الصَّحَابَةِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ مَنْ قَذَفَ وَاحِدَةً مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ كَقَذْفِ عَائِشَةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا فِيهِ عَارٌ وَغَضَاضَةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَذًى لَهُ أَعْظَمُ مِنْ أَذَاهُ بِنِكَاحِهِنَّ بَعْدَهُ قَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}.
وَاخْتَارَ الثَّانِيَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ.
تَنْزِيهُ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةَ:
15- يَتَأَكَّدُ وُجُوبُ تَرْكِ الْمَعَاصِي فِي مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةَ وَحَرَمِهَا؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ أَشَدُّ فِيهَا مِنْ غَيْرِهَا لقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}.
قَالَ مُجَاهِدٌ: تُضَاعَفُ السَّيِّئَاتُ بِمَكَّةَ كَمَا تُضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ.
وَيَجِبُ تَنْزِيهُهَا عَنِ الْقِتَالِ فِيهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ فِيهِ، فَقُولُوا إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ».
16- وَيَجِبُ تَنْزِيهُهَا عَنْ حَمْلِ السِّلَاحِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «لَا يَحِلُّ لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَحْمِلَ بِمَكَّةَ السِّلَاحَ».
17- وَيَجِبُ تَنْزِيهُهَا عَنْ دُخُولِ الْكُفَّارِ.قَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}
فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يُمَكَّنُ مِنْ دُخُولِ حَرَمِ مَكَّةَ، لَا مُقِيمًا وَلَا مَارًّا بِهِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنِ اسْتِيطَانِ مَكَّةَ، وَلَكِنْ لَوْ دَخَلَ بِتِجَارَةٍ جَازَ وَلَا يُطِيلُ.
تَنْزِيهُ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ:
18- يَجِبُ تَنْزِيهُ الْمَدِينَةِ عَنْ إرَادَةِ أَهْلِهَا بِسُوءٍ فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يُرِيدُ أَحَدٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِسُوءٍ إلاَّ أَذَابَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ ذَوْبَ الرَّصَاصِ أَوْ ذَوْبَ الْمِلْحِ فِي الْمَاءِ».
وَيَجِبُ تَنْزِيهُهَا عَنِ الْإِحْدَاثِ فِيهَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».
تَنْزِيهُ الْمَسَاجِدِ عَنِ النَّجَاسَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ:
19- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ عَلَى وُجُوبِ تَنْزِيهِ الْمَسَاجِدِ عَنِ النَّجَاسَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ.
فَلَا يَجُوزُ إدْخَالُ النَّجَاسَةِ إلَى الْمَسْجِدِ، أَوْ أَنْ يَدْخُلَهُ مَنْ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ ثِيَابِهِ نَجَاسَةٌ، أَوْ جِرَاحَةٌ، وَقَيَّدَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِخَشْيَةِ تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ، كَمَا لَا يَجُوزُ بِنَاؤُهُ بِمُتَنَجِّسٍ.
وَلَا يَجُوزُ الْبَوْلُ وَالتَّغَوُّطُ فِيهِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ، وَلَا الْقَذَرِ، إنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ، وَالصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ».
وَاخْتُلِفَ فِي اتِّخَاذِ إنَاءٍ لِلْبَوْلِ فِيهِ فِي الْمَسْجِدِ:
فَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْمَنْعُ، وَهُوَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ جَائِزٌ إذَا اتَّخَذَهُ الْبَائِتُ لَيْلًا فِي الْمَسْجِدِ إذَا خَافَ أَنْ يَسْبِقَهُ الْبَوْلُ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَتَحْرُمُ الْحِجَامَةُ وَالْفَصْدُ فِيهِ.
وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ فِيهِ الْجِمَاعُ لقوله تعالى:
{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}.
وَيَجُوزُ الْوُضُوءُ فِي الْمَسْجِدِ إذَا أَمِنَ تَلْوِيثَهُ بِغُسَالَتِهِ، وَلَا تَجُوزُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ الْعَالِقَةِ بِالْأَعْضَاءِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى عَدَمِ حُرْمَةِ الْفُسَاءِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْأَوْلَى اجْتِنَابُهُ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ».
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى التَّحْرِيمِ حَمْلًا لِلْحَدِيثِ عَلَيْهِ.
وَلَا يَجُوزُ الْبُصَاقُ فِي الْمَسْجِدِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا». وَيُكْرَهُ إدْخَالُ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ إلَى الْمَسَاجِدِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْنَا، أَوْ فَلْيَعْتَزِلْ مَسَاجِدَنَا».
وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فِي مُصْطَلَحَيْ: (مَسْجِدٌ وَنَجَاسَةٌ).
تَنْزِيهُ الْمَسَاجِدِ عَنْ دُخُولِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ:
20- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ- مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ- عَلَى تَحْرِيمِ دُخُولِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ الْمَسْجِدَ وَتَحْرِيمِ مُكْثِهِمَا فِيهِ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ}.أَيْ لَا تَقْرَبُوا مَوْضِعَ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْمَسْجِدُ حَالَةَ السُّكْرِ وَالْجَنَابَةِ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَوُجُوهُ بُيُوتِ أَصْحَابِنَا شَارِعَةٌ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوتَ عَنِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ دَخَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يَصْنَعِ الْقَوْمُ شَيْئًا رَجَاءَ أَنْ يَنْزِلَ لَهُمْ رُخْصَةٌ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ بَعْدُ فَقَالَ: وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوتَ عَنِ الْمَسْجِدِ فَإِنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ».
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ مُرُورِ الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ مِنَ الْمَسْجِدِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهُويَهْ إِلَى تَحْرِيمِ مُرُورِ الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ.وَاسْتَدَلُّوا بِإِطْلَاقِ حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ حَيْثُ لَمْ يُقَيَّدِ التَّحْرِيمُ بِشَيْءٍ فَبَقِيَ عَلَى إِطْلَاقِهِ فَيُفِيدُ تَحْرِيمَ الْمُكْثِ وَالْمُرُورِ.
إِلاَّ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُمَا الْمُرُورُ لِلضَّرُورَةِ كَالْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ.
وَحَمَلُوا قوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} عَلَى الْمُسَافِرِ الَّذِي لَا يَجِدُ الْمَاءَ فَيَتَيَمَّمُ.
وَالْمُرَادُ بِكَلِمَةِ» إِلاَّ «فِي الْآيَةِ» لَا «أَيْ: لَا عَابِرِي سَبِيلٍ. (وَالصَّلَاةُ) فِي الْآيَةِ الْمَقْصُودُ بِهَا حَقِيقَتُهَا لَا مَوَاضِعُهَا.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إذَا اُضْطُرَّ لِدُخُولِ الْمَسْجِدِ أَوِ الْمُكْثِ فِيهِ لِخَوْفٍ تَيَمَّمَ وُجُوبًا.نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْعِنَايَةِ: مُسَافِرٌ مَرَّ بِمَسْجِدٍ فِيهِ عَيْنُ مَاءٍ وَهُوَ جُنُبٌ وَلَا يَجِدُ غَيْرَهُ، فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ لِدُخُولِ الْمَسْجِدِ عِنْدَنَا.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا لَوِ احْتَلَمَ فِي الْمَسْجِدِ وَأَرَادَ الْخُرُوجَ تَيَمَّمَ نَدْبًا، فَالْحَنَفِيَّةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الدُّخُولِ فِي الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى جَوَازِ مُرُورِ الْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ لِحَاجَةٍ أَوْ لِغَيْرِ حَاجَةٍ.وَالْأَوْلَى عَدَمُ الْعُبُورِ إلاَّ لِحَاجَةٍ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَكَذَلِكَ جَوَازُ مُرُورِ الْحَائِضِ بِشَرْطِ أَنْ تَأْمَنَ تَلْوِيثَ الْمَسْجِدِ فَإِنْ خَافَتْ تَلْوِيثَهُ حَرُمَ عَلَيْهَا الْمُرُورُ.
وَبِجَوَازِ مُرُورِ الْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا جُنُبًا إلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} أَيْ لَا تَقْرَبُوا مَوَاضِعَ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ عُبُورُ سَبِيلٍ إنَّمَا الْعُبُورُ فِي مَوْضِعِ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْمَسْجِدُ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ جَابِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ أَحَدُنَا يَمُرُّ فِي الْمَسْجِدِ جُنُبًا مُجْتَازًا وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: «إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ».
وَذَهَبَ الْمُزَنِيّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ إِلَى جَوَازِ مُكْثِ الْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ مُطْلَقًا.مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «الْمُسْلِمُ لَا يَنْجُسُ» وَبِأَنَّ الْمُشْرِكَ يَمْكُثُ فِي الْمَسْجِدِ، فَالْمُسْلِمُ الْجُنُبُ أَوْلَى، وَبِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّحْرِيمِ وَلَيْسَ لِمَنْ حَرَّمَ دَلِيلٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ الْأَحْكَامِ فِي مُصْطَلَحِ: (مَسْجِدٌ، جَنَابَةٌ، حَيْضٌ).
تَنْزِيهُ الْمَسَاجِدِ عَنِ الْخُصُومَةِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ:
21- تُكْرَهُ الْخُصُومَةُ فِي الْمَسْجِدِ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ، وَنِشْدَانُ الضَّالَّةِ، وَالْبَيْعُ، وَالْإِجَارَةُ، وَنَحْوُهَا مِنَ الْعُقُودِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْك، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا» وَفِي رِوَايَةٍ «إذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ، أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً فَقُولُوا: لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْك».
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ بَيْنَ كَرَاهَةٍ وَتَحْرِيمٍ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (مَسْجِدٌ).
تَنْزِيهُ الْمَسَاجِدِ عَنِ الْمَجَانِينِ وَالصِّبْيَانِ:
22- يُكْرَهُ إدْخَالُ الْبَهَائِمِ، وَالْمَجَانِينِ، وَالصِّبْيَانِ الَّذِينَ لَا يُمَيِّزُونَ الْمَسْجِدَ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ تَلْوِيثُهُمْ إيَّاهُ.وَلَا يَحْرُمُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى حَامِلًا أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ- رضي الله عنهما- وَكَذَلِكَ طَافَ عَلَى بَعِيرٍ».
وَهُنَاكَ أَحْكَامٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ تَتَعَلَّقُ بِتَنْزِيهِ الْمَسَاجِدِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (مَسْجِدٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
272-موسوعة الفقه الكويتية (تيمم 2)
تَيَمُّمٌ -2مَا يَجُوزُ بِهِ التَّيَمُّمُ:
26- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِالصَّعِيدِ الطَّاهِرِ، وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَرْضٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالصَّعِيدِ هَلْ هُوَ وَجْهُ الْأَرْضِ أَوِ التُّرَابُ الْمُنْبِتُ؟ أَمَّا جَوَازُ الْمَسْحِ عَلَى التُّرَابِ الْمُنْبِتِ فَبِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ مِمَّا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّعِيدِ وَجْهُ الْأَرْضِ، فَيَجُوزُ عِنْدَهُمُ التَّيَمُّمُ بِكُلِّ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الصَّعِيدَ مُشْتَقٌّ مِنَ الصُّعُودِ وَهُوَ الْعُلُوُّ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ بِالتُّرَابِ، بَلْ يَعُمُّ كُلَّ مَا صَعِدَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَجْزَائِهَا.وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَيْكُمْ بِالْأَرْضِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَقَوْلُهُ- عليه الصلاة والسلام-: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» وَاسْمُ الْأَرْضِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِهَا.
وَالطَّيِّبُ عِنْدَهُمْ هُوَ الطَّاهِرُ، وَهُوَ الْأَلْيَقُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ مُطَهِّرًا، وَالتَّطْهِيرُ لَا يَقَعُ إِلاَّ بِالطَّاهِرِ، مَعَ أَنَّ مَعْنَى الطَّهَارَةِ صَارَ مُرَادًا بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى لَا يَجُوزَ التَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ النَّجَسِ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ مَا يَجُوزُ بِهِ التَّيَمُّمُ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالتُّرَابِ- وَهُوَ الْأَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ عِنْدَ وُجُودِهِ- وَالرَّمْلِ، وَالْحَصَى، وَالْجِصِّ الَّذِي لَمْ يُحْرَقْ بِالنَّارِ، فَإِنْ أُحْرِقَ أَوْ طُبِخَ لَمْ يَجُزِ التَّيَمُّمُ بِهِ.
وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالْمَعَادِنِ مَا دَامَتْ فِي مَوَاضِعِهَا وَلَمْ تُنْقَلْ مِنْ مَحَلِّهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ- الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ- أَوْ مِنَ الْجَوَاهِرِ كَاللُّؤْلُؤِ، فَلَا يَتَيَمَّمُ عَلَى الْمَعَادِنِ مِنْ شَبٍّ، وَمِلْحٍ، وَحَدِيدٍ، وَرَصَاصٍ، وَقَصْدِيرٍ، وَكُحْلٍ، إِنْ نُقِلَتْ مِنْ مَحَلِّهَا وَصَارَتْ أَمْوَالًا فِي أَيْدِي النَّاسِ.
وَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالْخَشَبِ وَالْحَشِيشِ سَوَاءٌ أَوْجَدَ غَيْرَهُمَا أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ عِنْدَهُمْ بِالْجَلِيدِ وَهُوَ الثَّلْجُ الْمُجَمَّدُ مِنَ الْمَاءِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَوِ الْبَحْرِ، حَيْثُ عَجَزَ عَنْ تَحْلِيلِهِ وَتَصْيِيرِهِ مَاءً؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهَ بِجُمُودِهِ الْحَجَرَ فَالْتُحِقَ بِأَجْزَاءِ الْأَرْضِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ، ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِكُلِّ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ الْتَزَقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ التَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الِالْتِزَاقِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ إِلاَّ بِدَلِيلٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ إِلاَّ إِذَا الْتَزَقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، فَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنِ اسْتِعْمَالِ جُزْءٍ مِنَ الصَّعِيدِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلاَّ بِأَنْ يَلْتَزِقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْهُ.
فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالْجِصِّ، وَالنُّورَةِ، وَالزِّرْنِيخِ، وَالطِّينِ الْأَحْمَرِ، وَالْأَسْوَدِ، وَالْأَبْيَضِ، وَالْكُحْلِ، وَالْحَجَرِ الْأَمْلَسِ، وَالْحَائِطِ الْمُطَيَّنِ، وَالْمُجَصَّصِ، وَالْمِلْحِ الْجَبَلِيِّ دُونَ الْمَائِيِّ، وَالْآجُرِّ، وَالْخَزَفِ الْمُتَّخَذِ مِنْ طِينٍ خَالِصٍ، وَالْأَرْضِ النَّدِيَّةِ، وَالطِّينِ الرَّطْبِ.
وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَيَمَّمَ بِالطِّينِ مَا لَمْ يَخَفْ ذَهَابَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَلْطِيخَ الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَيَصِيرُ بِمَعْنَى الْمُثْلَةِ، وَإِنْ كَانَ لَوْ تَيَمَّمَ بِهِ أَجْزَأَهُ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ الطِّينَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ، فَإِنْ خَافَ ذَهَابَ الْوَقْتِ تَيَمَّمَ وَصَلَّى عِنْدَهُمَا.
وَيَحُوزُ التَّيَمُّمُ عِنْدَهُمَا بِالْغُبَارِ بِأَنْ ضَرَبَ يَدَهُ عَلَى ثَوْبٍ، أَوْ لِبَدٍ، أَوْ صِفَةِ سَرْجٍ، فَارْتَفَعَ غُبَارٌ، أَوْ كَانَ عَلَى الْحَدِيدِ، أَوْ عَلَى الْحِنْطَةِ، أَوِ الشَّعِيرِ، أَوْ نَحْوِهَا غُبَارٌ، فَتَيَمَّمَ بِهِ أَجْزَأَهُ فِي قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ الْغُبَارَ وَإِنْ كَانَ لَطِيفًا فَإِنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ، كَمَا يَجُوزُ بِالْكَثِيفِ بَلْ أَوْلَى.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- كَانَ بِالْجَابِيَةِ فَمُطِرُوا فَلَمْ يَجِدُوا مَاءً يَتَوَضَّئُونَ بِهِ، وَلَا صَعِيدًا يَتَيَمَّمُونَ بِهِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لِيَنْفُضَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ثَوْبَهُ، أَوْ صِفَةَ سَرْجِهِ، وَلْيَتَيَمَّمْ، وَلْيُصَلِّ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا.وَلَوْ كَانَ الْمُسَافِرُ فِي طِينٍ وَرَدْغَةٍ لَا يَجِدُ مَاءً وَلَا صَعِيدًا وَلَيْسَ فِي ثَوْبِهِ وَسَرْجِهِ غُبَارٌ لَطَّخَ ثَوْبَهُ أَوْ بَعْضَ جَسَدِهِ بِالطِّينِ فَإِذَا جَفَّ تَيَمَّمَ بِهِ.
أَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ اتِّفَاقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.فَكُلُّ مَا يَحْتَرِقُ بِالنَّارِ فَيَصِيرُ رَمَادًا كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَنَحْوِهِمَا، أَوْ مَا يَنْطَبِعُ وَيَلِينُ كَالْحَدِيدِ، وَالصُّفْرِ، وَالنُّحَاسِ، وَالزُّجَاجِ وَنَحْوِهَا، فَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ.كَمَا لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالرَّمَادِ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَطَبِ فَلَيْسَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إِلاَّ بِتُرَابٍ طَاهِرٍ ذِي غُبَارٍ يَعْلَقُ بِالْيَدِ غَيْرِ مُحْتَرِقٍ لقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَمْسَحُ بِجُزْءٍ مِنْهُ، فَمَا لَا غُبَارَ لَهُ كَالصَّخْرِ، لَا يَمْسَحُ بِشَيْءٍ مِنْهُ.وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «جُعِلَ التُّرَابُ لِي طَهُورًا».
فَإِنْ كَانَ جَرِيشًا أَوْ نَدِيًّا لَا يَرْتَفِعُ لَه ُ غُبَارٌ لَمْ يَكْفِ.لِأَنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ هُوَ التُّرَابُ الْمُنْبِتُ، وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَيُّ الصَّعِيدِ أَطْيَبُ فَقَالَ: الْحَرْثُ، وَهُوَ التُّرَابُ الَّذِي يَصْلُحُ لِلنَّبَاتِ دُونَ السَّبْخَةِ وَنَحْوِهَا.
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى التُّرَابِ الرَّمْلَ الَّذِي فِيهِ غُبَارٌ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ الْجَوَازُ وَعَدَمُهُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ أَيْضًا.
وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا (الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ وَأَبُو يُوسُفَ) التَّيَمُّمُ بِمَعْدِنٍ كَنَفْطٍ، وَكِبْرِيتٍ، وَنُورَةٍ، وَلَا بِسَحَاقَةِ خَزْفٍ؛ إِذْ لَا يُسَمَّى ذَلِكَ تُرَابًا.
وَلَا بِتُرَابٍ مُخْتَلِطٍ بِدَقِيقٍ وَنَحْوِهِ كَزَعْفَرَانٍ، وَجِصٍّ؛ لِمَنْعِهِ وُصُولَ التُّرَابِ إِلَى الْعُضْوِ، وَلَا بِطِينٍ رَطْبٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتُرَابٍ، وَلَا بِتُرَابٍ نَجَسٍ كَالْوُضُوءِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.لقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ إِنَّ مَا اُسْتُعْمِلَ فِي التَّيَمُّمِ لَا يَتَيَمَّمُ بِهِ كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ.وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ الْمَغْصُوبَ وَنَحْوَهُ فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ.
وَيَجُوزُ الْمَسْحُ بِالثَّلْجِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ إِذَا تَعَذَّرَ تَذْوِيبُهُ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ».ثُمَّ إِذَا جَرَى الْمَاءُ عَلَى الْأَعْضَاءِ بِالْمَسِّ لَمْ يُعِدِ الصَّلَاةَ لِوُجُودِ الْغُسْلِ وَإِنْ كَانَ خَفِيفًا، وَإِنْ لَمْ يَسِلْ أَعَادَ صَلَاتَهُ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى بِدُونِ طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ.
كَيْفِيَّةُ التَّيَمُّمِ:
27- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ التَّيَمُّمِ:
أ- فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ».
ب- وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ الْوَاجِبَ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِحَدِيثِ عَمَّارٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي التَّيَمُّمِ: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيك ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ» وَالْيَدُ إِذَا أُطْلِقَتْ لَا يَدْخُلُ فِيهَا الذِّرَاعُ كَمَا فِي الْيَدِ الْمَقْطُوعَةِ فِي السَّرِقَةِ.وَالْأَكْمَلُ عَنْهُمْ ضَرْبَتَانِ وَإِلَى الْمِرْفَقَيْنِ كَالْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَصُورَتُهُ- عِنْدَهُمْ جَمِيعًا- فِي مَسْحِ الْيَدَيْنِ بِالضَّرْبَةِ الثَّانِيَةِ: أَنْ يُمِرَّ الْيَدَ الْيُسْرَى عَلَى الْيَدِ الْيُمْنَى مِنْ فَوْقِ الْكَفِّ إِلَى الْمِرْفَقِ، ثُمَّ بَاطِنِ الْمِرْفَقِ إِلَى الْكُوعِ (الرُّسْغِ)، ثُمَّ يُمِرَّ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى كَذَلِكَ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّيَمُّمِ إِيصَالُ التُّرَابِ إِلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، فَبِأَيِّ صُورَةٍ حَصَلَ اسْتِيعَابُ الْعُضْوَيْنِ بِالْمَسْحِ أَجْزَأَهُ تَيَمُّمُهُ.سَوَاءٌ احْتَاجَ إِلَى ضَرْبَتَيْنِ أَوْ أَكْثَر، وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ.
سُنَنُ التَّيَمُّمِ:
يُسَنُّ فِي التَّيَمُّمِ أُمُورٌ:
أ- التَّسْمِيَةُ:
28- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ سُنَّةٌ فِي أَوَّلِ التَّيَمُّمِ كَالْوُضُوءِ بِأَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم، وَيَكْتَفِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِبِسْمِ اللَّهِ، وَقِيلَ: الْأَفْضَلُ ذِكْرُهَا كَامِلَةً.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ فَضِيلَةٌ- وَهِيَ عِنْدَهُمْ أَقَلُّ مِنَ السُّنَّةِ- أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَالتَّسْمِيَةُ وَاجِبَةٌ كَالتَّسْمِيَةِ فِي الْوُضُوءِ.
ب- التَّرْتِيبُ:
29- يُسَنُّ التَّرْتِيبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بِأَنْ يَمْسَحَ الْوَجْهَ أَوَّلًا ثُمَّ الْيَدَيْنِ، فَإِنْ عَكَسَ صَحَّ تَيَمُّمُهُ، إِلاَّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ يُعِيدَ مَسْحَ الْيَدَيْنِ إِنْ قَرُبَ الْمَسْحُ وَلَمْ يُصَلِّ بِهِ، وَإِلاَّ بَطَلَ التَّيَمُّمُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ كَالْوُضُوءِ.
ج- الْمُوَالَاةُ:
30- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُوَالَاةَ سُنَّةٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى وُجُوبِ الْمُوَالَاةِ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ الْمُسْتَعْمَلُ مَاءً لَا يَجِفُّ الْعُضْوُ السَّابِقُ قَبْلَ غَسْلِ الثَّانِي كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ الْمَنْقُولَةِ عَنْهُ حَيْثُ لَمْ يَقَعْ فِيهَا الْفَصْلُ بَيْنَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ.
د- سُنَنٌ أُخْرَى:
31- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى سُنِّيَّةِ الضَّرْبِ بِبَاطِنِ الْكَفَّيْنِ وَإِقْبَالِ الْيَدَيْنِ بَعْدَ وَضْعِهِمَا فِي التُّرَابِ وَإِدْبَارِهِمَا مُبَالَغَةً فِي الِاسْتِيعَابِ، ثُمَّ نَفْضِهِمَا اتِّقَاءَ تَلْوِيثِ الْوَجْهِ، نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَذَهَبُوا أَيْضًا إِلَى سُنِّيَّةِ تَفْرِيجِ الْأَصَابِعِ لِيَصِلَ التُّرَابُ إِلَى مَا بَيْنَهَا، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى سُنِّيَّةِ الضَّرْبَةِ الثَّانِيَةِ لِيَدَيْهِ وَالْمَسْحِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَأَنْ لَا يَمْسَحَ بِيَدَيْهِ شَيْئًا بَعْدَ ضَرْبِهِمَا بِالْأَرْضِ قَبْلَ مَسْحِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، فَإِنْ فَعَلَ كُرِهَ وَأَجْزَأَهُ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ نَفْضِهِمَا نَفْضًا خَفِيفًا.
وَمِنَ الْفَضَائِلِ عِنْدَهُمْ فِي التَّيَمُّمِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، وَالْبَدْءُ بِالْيُمْنَى، وَتَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُسَنُّ الْبُدَاءَةُ بِأَعْلَى الْوَجْهِ، وَتَقْدِيمُ الْيُمْنَى، وَتَفْرِيقُ الْأَصَابِعِ فِي الضَّرْبَةِ الْأُولَى، وَتَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ بَعْدَ مَسْحِ الْيَدَيْنِ احْتِيَاطًا، وَتَخْفِيفُ الْغُبَارِ لِئَلاَّ تَتَشَوَّهَ بِهِ خِلْقَتُهُ.
وَيُسَنُّ عِنْدَهُمْ أَيْضًا الْمُوَالَاةُ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالصَّلَاةِ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهَا- وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ- وَيُسَنُّ أَيْضًا إِمْرَارُ الْيَدِ عَلَى الْعُضْوِ كَالدَّلْكِ فِي الْوُضُوءِ، وَعَدَمُ تَكْرَارِ الْمَسْحِ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، وَالشَّهَادَتَانِ بَعْدَهُ كَالْوُضُوءِ فِيهِمَا.
وَيُسَنُّ نَزْعُ الْخَاتَمِ فِي الضَّرْبَةِ الْأُولَى بِاعْتِبَارِ الْيَدِ فِيهَا أَدَاةً لِلْمَسْحِ، وَفِي الثَّانِيَةِ هِيَ مَحَلٌّ لِلتَّطْهِيرِ، وَهُوَ رُكْنٌ فَيَجِبُ، وَيُسَنُّ السِّوَاكُ قَبْلَهُ، وَنَقْلُ التُّرَابِ إِلَى أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ.وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ أَيْضًا.
مَكْرُوهَاتُ التَّيَمُّمِ:
32- يُكْرَهُ تَكْرَارُ الْمَسْحِ بِالِاتِّفَاقِ، وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَثْرَةُ الْكَلَامِ فِي غَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، وَإِطَالَةُ الْمَسْحِ إِلَى مَا فَوْقَ الْمِرْفَقَيْنِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالتَّحْجِيلِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُكْرَهُ تَكْثِيرُ التُّرَابِ وَتَجْدِيدُ التَّيَمُّمِ وَلَوْ بَعْدَ فِعْلِ صَلَاةٍ، وَمَسْحُ التُّرَابِ عَنْ أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ، فَالْأَحَبُّ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ الصَّلَاةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يُكْرَهُ الضَّرْبُ أَكْثَرُ مِنْ مَرَّتَيْنِ، وَنَفْخُ التُّرَابِ إِنْ كَانَ خَفِيفًا.
نَوَاقِضُ التَّيَمُّمِ:
33- يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ مَا يَأْتِي:
أ- كُلُّ مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْهُمَا، وَنَاقِضُ الْأَصْلِ نَاقِضٌ لِخَلَفِهِ، وَانْظُرْ مُصْطَلَحَيْ (وُضُوءٌ وَغُسْلٌ).
ب- رُؤْيَةُ الْمَاءِ أَوِ الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْكَافِي وَلَوْ مَرَّةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَكْفِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَذَلِكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ لَا فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْمَشْغُولَ بِالْحَاجَةِ كَالْمَعْدُومِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مُرُورَ نَائِمٍ أَوْ نَاعِسٍ مُتَيَمِّمٍ عَلَى مَاءٍ كَافٍ يُبْطِلُ تَيَمُّمَهُ كَالْمُسْتَيْقِظِ أَمَّا رُؤْيَةُ الْمَاءِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تُبْطِلُ التَّيَمُّمَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِبُطْلَانِ الطَّهَارَةِ بِزَوَالِ سَبَبِهَا؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ إِيقَاعُ الصَّلَاةِ بِالْوُضُوءِ.
وَلَا تُبْطِلُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسَافِرِ فِي مَحَلٍّ لَا يَغْلِبُ فِيهِ وُجُودُ الْمَاءِ؛ لِوُجُودِ الْإِذْنِ بِالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ، وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ؛ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وَقَدْ كَانَ عَمَلُهُ سَلِيمًا قَبْلَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ، وَقِيَاسًا عَلَى رُؤْيَةِ الْمَاءِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِصَلَاةِ الْمُقِيمِ بِالتَّيَمُّمِ فَإِنَّهَا تَبْطُلُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ وَتَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ لِوُجُودِ الْمَاءِ، لَكِنْ لَيْسَ مُطْلَقًا، بَلْ قَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ فِي مَحَلٍّ يَغْلِبُ فِيهِ الْمَاءُ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُقِيمُ فِي مَحَلٍّ لَا يَغْلِبُ فِيهِ وُجُودُ الْمَاءِ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، وَحُكْمُهُ حِينَئِذٍ حُكْمُ الْمُسَافِرِ.
وَأَمَّا إِذَا رَأَى الْمَاءَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَلَا يُعِيدُهَا الْمُسَافِرُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ لَمْ يُعِدْهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسَافِرِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُقِيمَ فِي مَحَلٍّ يَغْلِبُ فِيهِ وُجُودُ الْمَاءِ إِذَا تَيَمَّمَ لِفَقْدِ الْمَاءِ فَإِنَّهُ يُعِيدُ صَلَاتَهُ لِنُدُورِ الْفَقْدِ وَعَدَمِ دَوَامِهِ وَفِي قَوْلٍ: لَا يَقْضِي وَاخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَقْدُورِ، وَفِي قَوْلٍ: لَا تَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ فِي الْحَالِ بَلْ يَصْبِرُ حَتَّى يَجِدَهُ فِي الْوَقْتِ، بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ فَإِنَّهُ لَا يُعِيدُ إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي مَحَلٍّ يَغْلِبُ فِيهِ وُجُودُ الْمَاءِ كَمَا سَبَقَ.
ج- زَوَالُ الْعُذْرِ الْمُبِيحِ لَهُ، كَذَهَابِ الْعَدُوِّ وَالْمَرَضِ وَالْبَرْدِ؛ لِأَنَّ مَا جَازَ بِعُذْرٍ بَطَلَ بِزَوَالِهِ.
د- خُرُوجُ الْوَقْتِ: فَإِنَّهُ يُبْطِلُ التَّيَمُّمَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ سَوَاءٌ أَكَانَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَمْ لَا، وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ انْتَهَتْ بِانْتِهَاءِ وَقْتِهَا، كَمَا لَوِ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمَسْحِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ.
هـ- الرِّدَّةُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الرِّدَّةَ- وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ- لَا تُبْطِلُ التَّيَمُّمَ فَيُصَلِّي بِهِ إِذَا أَسْلَمَ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ بِالتَّيَمُّمِ الطَّهَارَةُ، وَالْكُفْرُ لَا يُنَافِيهَا كَالْوُضُوءِ؛ وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ تُبْطِلُ ثَوَابَ الْعَمَلِ لَا زَوَالَ الْحَدَثِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرِّدَّةَ تُبْطِلُ التَّيَمُّمَ لِضَعْفِهِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ لِقُوَّتِهِ.
و- الْفَصْلُ الطَّوِيلُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْفَصْلَ الطَّوِيلَ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُهُ، وَالْمُوَالَاةُ لَيْسَتْ وَاجِبَةً بَيْنَهُمَا.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفَصْلَ الطَّوِيلَ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالصَّلَاةِ يُبْطِلُهُ لِاشْتِرَاطِهِمِ الْمُوَالَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصِيبَ زَوْجَتَهُ إِذَا كَانَ عَادِمًا لِلْمَاءِ لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ- رضي الله عنه- قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَعْزُبُ عَنِ الْمَاءِ وَمَعِي أَهْلِي فَتُصِيبُنِي الْجَنَابَةُ فَأُصَلِّي بِغَيْرِ طَهُورٍ فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ».
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهِيَ رِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ إِلَى كَرَاهَةِ نَقْضِ الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ لِمَنْ هُوَ فَاقِدٌ الْمَاءَ إِلاَّ لِضَرَرٍ يُصِيبُ الْمُتَوَضِّئَ مِنْ حَقْنٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ لِضَرَرٍ يُصِيبُ تَارِكَ الْجِمَاعِ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ ضَرَرٌ فَلَا كَرَاهَةَ حِينَئِذٍ. تَيَمُّمُ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ وَمَرَضِهِ:
34- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى جَوَازِ تَيَمُّمِ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ أَوْ مَرَضِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الرُّخْصَةِ كَغَيْرِهِ، وَالْأَدِلَّةُ عَامَّةٌ تَشْمَلُ الطَّائِعَ وَالْعَاصِيَ وَلَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا؛ وَلِأَنَّ الْعَاصِيَ قَدْ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ فَخَرَجَ مِنْ عُهْدَتِهِ، وَإِنَّ الْقُبْحَ الْمُجَاوِرَ لَا يُعْدِمُ الْمَشْرُوعِيَّةَ.
هَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ رُخْصَةٌ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ التَّيَمُّمَ عَزِيمَةٌ فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ إِلَى أَنَّ الْعَاصِيَ بِسَفَرِهِ، وَمَنْ سَافَرَ لِيُتْعِبَ نَفْسَهُ أَوْ دَابَّتَهُ عَبَثًا يَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ وَيَقْضِيَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الرُّخْصَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا إِلَى أَنَّ الْعَاصِيَ بِمَرَضِهِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الرُّخْصَةِ، فَإِنْ عَصَى بِمَرَضِهِ لَمْ يَصِحَّ تَيَمُّمُهُ حَتَّى يَتُوبَ.
التَّيَمُّمُ بَدَلٌ عَنِ الْمَاءِ:
35- ذَهَبَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ يَنُوبُ عَنِ الْوُضُوءِ مِنِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، وَعَن الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ فَيَصِحُّ بِهِ مَا يَصِحُّ بِهِمَا مِنْ صَلَاةِ فَرْضٍ أَوْ سُنَّةٍ وَطَوَافٍ وَقِرَاءَةٍ لِلْجُنُبِ وَمَسِّ مُصْحَفٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ مِنْ مُصْطَلَحَيْ (وُضُوءٌ وَغُسْلٌ).
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَرْجِعِ الضَّمِيرِ فِي قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمِ النِّسَاءَ} فَمَنْ ذَهَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُلَامَسَةَ هِيَ الْجِمَاعُ.قَالَ: إِنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى الْمُحْدِثِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْحَدَثُ أَصْغَر أَمْ أَكْبَر أَمَّا مَنْ ذَهَبَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُلَامَسَةَ بِمَعْنَى اللَّمْسِ بِالْيَدِ قَالَ: إِنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَر فَقَطْ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ مَشْرُوعِيَّةُ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ ثَابِتَةً بِالسُّنَّةِ.كَحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ فَصَلَّى بِالنَّاسِ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مُعْتَزِلٍ.فَقَالَ: مَا مَنَعَك أَنْ تُصَلِّيَ؟ قَالَ: أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ. وَلَا مَاءَ.قَالَ: عَلَيْك بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيك».
وَكَحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: «خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ، هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَك رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ، أَوْ يَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهِ، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ».
فَيَدُلُّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى جَوَازِ الْعُدُولِ عَنِ الْغُسْلِ إِلَى التَّيَمُّمِ إِذَا خَافَ الضَّرَرَ.وَمِثْلُ حَدِيثِ «عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّهُ لَمَّا بُعِثَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ قَالَ: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ، فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ، فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: يَا عَمْرُو، صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ، فَقُلْت: ذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} فَتَيَمَّمْتُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا».فَيَدُلُّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ.
نَوْعُ بَدَلِيَّةِ التَّيَمُّمِ عَنِ الْمَاءِ:
36- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَوْعِ الْبَدَلِ هَلْ هُوَ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ أَوْ بَدَلٌ مُطْلَقٌ؟
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْحَدَثَ لَا يَرْتَفِعُ بِالتَّيَمُّمِ، فَيُبَاحُ لِلْمُتَيَمِّمِ الصَّلَاةُ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ حَقِيقَةً لِلضَّرُورَةِ، كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: «فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمِسَّهُ جِلْدَك فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَك».وَلَوْ رَفَعَ التَّيَمُّمُ الْحَدَثَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْمَاءِ إِذَا وَجَدَهُ، وَإِذَا رَأَى الْمَاءَ عَادَ الْحَدَثُ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ لَمْ يَرْتَفِعْ، وَأُبِيحَتْ لَهُ الصَّلَاةُ لِلضَّرُورَةِ.
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ أَجَازُوا بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ صَلَاةَ مَا عَلَيْهِ مِنْ فَوَائِتَ فِي الْوَقْتِ إِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مُطْلَقٌ، وَلَيْسَ بِبَدَلٍ ضَرُورِيٍّ، فَالْحَدَثُ يَرْتَفِعُ بِالتَّيَمُّمِ إِلَى وَقْتِ وُجُودِ الْمَاءِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «التَّيَمُّمُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إِلَى عَشْرِ حِجَجٍ مَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ أَوْ يُحْدِثْ».
أَطْلَقَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْوُضُوءَ عَلَى التَّيَمُّمِ وَسَمَّاهُ بِهِ.وَالْوُضُوءُ مُزِيلٌ لِلْحَدَثِ فَكَذَا التَّيَمُّمُ؛ وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» وَالطَّهُورُ اسْمٌ لِلْمُطَهِّرِ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ يَزُولُ بِالتَّيَمُّمِ إِلَى حِينِ وُجُودِ الْمَاءِ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ عَادَ حُكْمُ الْحَدِيثِ.
ثَمَرَةُ هَذَا الْخِلَافِ:
37- يَتَرَتَّبُ عَلَى خِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي نَوْعِ بَدَلِيَّةِ التَّيَمُّمِ مَا يَلِي:
أ- وَقْتُ التَّيَمُّمِ:
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ التَّيَمُّمِ إِلاَّ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ مَا يَتَيَمَّمُ لَهُ مِنْ فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ لَهُ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ.
وَاسْتَدَلُّوا لِلْفَرْضِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} وَالْقِيَامُ إِلَى الصَّلَاةِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَا قَبْلَهُ.كَمَا اسْتَدَلُّوا لِلنَّفْلِ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «جُعِلَتِ الْأَرْضُ كُلُّهَا لِي وَلأُِمَّتِي مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي الصَّلَاةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَعِنْدَهُ طَهُورُهُ».
وَإِنَّمَا جَازَ قَبْلَ الْوَقْتِ لِكَوْنِهِ رَافِعًا لِلْحَدَثِ بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ، فَإِنَّهُ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ قَبْلَ الْوَقْتِ.
أَمَّا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ أَوِ النَّفْلِ الَّذِي لَا وَقْتَ لَهُ، أَوِ الْفَوَائِتِ الَّتِي أَرَادَ قَضَاءَهَا، فَإِنَّهُ لَا وَقْتَ لِهَذَا التَّيَمُّمِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي وَقْتٍ مَنْهِيٍّ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ شَرْعًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ قَبْلَ الْوَقْتِ وَلِأَكْثَرَ مِنْ فَرْضٍ وَلِغَيْرِ الْفَرْضِ أَيْضًا لِأَنَّ التَّيَمُّمَ يَرْتَفِعُ بِهِ الْحَدَثُ إِلَى وُجُودِ الْمَاءِ، وَلَيْسَ بِمُبِيحٍ فَقَطْ، وَقَاسُوا ذَلِكَ عَلَى الْوُضُوءِ؛ وَلِأَنَّ التَّوْقِيتَ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ سَمْعِيٍّ، وَلَا دَلِيلَ فِيهِ. تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ:
38- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ لآِخِرِ الْوَقْتِ أَفْضَلُ مِنْ تَقْدِيمِهِ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الْمَاءَ آخِرَ الْوَقْتِ، أَمَّا إِذَا يَئِسَ مِنْ وُجُودِهِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ تَقْدِيمُهُ أَوَّلَ الْوَقْتِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ).
وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ أَفْضَلِيَّةَ التَّأْخِيرِ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ أَنْ لَا يَخْرُجَ وَقْتُ الْفَضِيلَةِ لَا مُطْلَقًا، حَتَّى لَا يَقَعَ الْمُصَلِّي فِي كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَ وَقْتِ الْفَضِيلَةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ هَلْ يُؤَخَّرُ أَمْ لَا؟ ذَهَبَ إِلَى كُلٍّ فَرِيقٌ مِنَ الحَنَفِيَّةِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَصَّلُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالُوا: اسْتِحْبَابُ التَّأْخِيرِ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو وُجُودَ الْمَاءِ ظَنًّا أَوْ يَقِينًا، أَمَّا إِذَا كَانَ مُتَرَدِّدًا أَوْ رَاجِيًا لَهُ فَيَتَوَسَّطُ فِي فِعْلِ الصَّلَاةِ.
وَالْقَوْلُ بِاسْتِحْبَابِ التَّأْخِيرِ هُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ مُرِيدَ الصَّلَاةِ حِينَ حَلَّتِ الصَّلَاةُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ لَهَا غَيْرُ وَاجِدٍ لِلْمَاءِ فَدَخَلَ فِي قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}.
فَكَانَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ وُجُوبَ التَّيَمُّمِ أَوَّلَ الْوَقْتِ لَكِنَّهُ أَخَّرَ نَظَرًا لِرَجَائِهِ، فَجَعَلَ لَهُ حَالَةً وُسْطَى وَهِيَ الِاسْتِحْبَابُ.
وَذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ إِنَّمَا هُوَ لِحَوْزِ فَضِيلَتِهِ، وَإِذَا كَانَ مُوقِنًا بِوُجُودِ الْمَاءِ فِي الْوَقْتِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّأْخِيرُ لِيُصَلِّيَ بِالطَّهَارَةِ الْكَامِلَةِ، فَإِنْ خَالَفَ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى كَانَتْ صَلَاتُهُ بَاطِلَةً وَيُعِيدُهَا أَبَدًا.
وَالشَّافِعِيَّةُ خَصُّوا أَفْضَلِيَّتَهُ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ بِحَالَةِ تَيَقُّنِ وُجُودِ الْمَاءِ آخِرَ الْوَقْتِ- مَعَ جَوَازِهِ فِي أَثْنَائِهِ- لِأَنَّ الْوُضُوءَ هُوَ الْأَصْلُ وَالْأَكْمَلُ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ بِهِ- وَلَوْ آخِرَ الْوَقْتِ- أَفْضَلُ مِنْهَا بِالتَّيَمُّمِ أَوَّلَهُ.
أَمَّا إِذَا ظَنَّ وُجُودَ الْمَاءِ فِي آخِرِهِ، فَتَعْجِيلُ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ أَفْضَلُ فِي الْأَظْهَرِ؛ لِأَنَّ فَضِيلَةَ التَّقْدِيمِ مُحَقَّقَةٌ بِخِلَافِ فَضِيلَةِ الْوُضُوءِ.وَالْقَوْلُ الثَّانِي: التَّأْخِيرُ أَفْضَلُ.
أَمَّا إِذَا شَكَّ فَالْمَذْهَبُ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ.وَمَحَلُّ الْخِلَافِ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ صَلَّى أَوَّلَ الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ وَبِالْوُضُوءِ فِي أَثْنَائِهِ فَهُوَ النِّهَايَةُ فِي إِحْرَازِ الْفَضِيلَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ أَوْلَى بِكُلِّ حَالٍ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِقَوْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- فِي الْجُنُبِ: يَتَلَوَّمُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخِرِ الْوَقْتِ، فَإِنْ وَجَدَ الْمَاءَ وَإِلاَّ تَيَمَّمَ وَلِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ التَّأْخِيرُ لِلصَّلَاةِ إِلَى مَا بَعْدَ الْعِشَاءِ وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ كَيْ لَا يَذْهَبَ خُشُوعُهَا، وَحُضُورُ الْقَلْبِ فِيهَا، وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا لِإِدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ، فَتَأْخِيرُهَا لِإِدْرَاكِ الطَّهَارَةِ الْمُشْتَرَطَةِ أَوْلَى.
مَا يَجُوزُ فِعْلُهُ بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ:
39- لَمَّا كَانَ التَّيَمُّمُ بَدَلًا عَنِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ يَصِحُّ بِهِ مَا يَصِحُّ بِهِمَا كَمَا سَبَقَ، لَكِنْ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَصِحُّ بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ يُصَلِّي بِتَيَمُّمِهِ مَا شَاءَ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ؛ لِأَنَّهُ طَهُورٌ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ كَمَا سَبَقَ.وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ» وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْوُضُوءِ، وَعَلَى مَسْحِ الْخُفِّ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَثَ الْوَاحِدَ لَا يَجِبُ لَهُ طُهْرَانِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُصَلِّي بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ فَرْضَيْنِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُتَيَمِّمِ أَنْ يُصَلِّيَ أَكْثَر مِنْ فَرْضٍ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ نَوَافِلَ، وَبَيْنَ فَرِيضَةٍ وَنَافِلَةٍ إِنْ قَدَّمَ الْفَرِيضَةَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيَتَنَفَّلُ مَا شَاءَ قَبْلَ الْمَكْتُوبَةِ وَبَعْدَهَا لِأَنَّهَا غَيْرُ مَحْصُورَةٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه- مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُصَلِّيَ الرَّجُلُ بِالتَّيَمُّمِ إِلاَّ صَلَاةً وَاحِدَةً ثُمَّ يَتَيَمَّمَ لِلصَّلَاةِ الْأُخْرَى.
وَهَذَا مُقْتَضَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَلِأَنَّهُ طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ، فَلَا يُصَلِّي بِهَا فَرِيضَتَيْنِ، كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْوُضُوءَ كَانَ لِكُلِّ فَرْضٍ لقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} وَالتَّيَمُّمُ بَدَلٌ عَنْهُ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ، فَبَقِيَ التَّيَمُّمُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ؛ وَلِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَيَمَّمَ صَلَّى الصَّلَاةَ الَّتِي حَضَرَ وَقْتُهَا، وَصَلَّى بِهِ فَوَائِتُ وَيَجْمَعُ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ، وَيَتَطَوَّعُ بِمَا شَاءَ مَا دَامَ فِي الْوَقْتِ، فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ صَلَاةٍ أُخْرَى بَطَلَ تَيَمُّمُهُ وَتَيَمَّمَ، وَاسْتَدَلَّ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ كَوُضُوءِ الْمُسْتَحَاضَةِ يَبْطُلُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ.
وَيَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ.صَلَاةُ الْجِنَازَةِ مَعَ الْفَرْضِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَمَّا كَانَتْ فَرْضَ كِفَايَةٍ سَلَكَ بِهَا مَسْلَكَ النَّفْلِ فِي جَوَازِ التَّرْكِ فِي الْجُمْلَةِ. وَيَجُوزُ بِالتَّيَمُّمِ أَيْضًا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ إِنْ كَانَ جُنُبًا وَمَسُّ الْمُصْحَفِ، وَدُخُولُ الْمَسْجِدِ لِلْجُنُبِ، أَمَّا الْمُرُورُ فَيَجُوزُ بِلَا تَيَمُّمٍ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُجَدِّدُ التَّيَمُّمَ لِلنَّذْرِ لِأَنَّهُ كَالْفَرْضِ فِي الْأَظْهَرِ، وَلَا يَجْمَعُهُ فِي فَرْضٍ آخَرَ.
وَيَصِحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَنْ يُصَلِّيَهَا جَمِيعًا بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَسِيَ صَلَاةً وَلَمْ يَعْلَمْ عَيْنَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الْخَمْسَ لِتَبْرَأَ ذِمَّتُهُ بِيَقِينٍ- وَإِنَّمَا جَازَ تَيَمُّمٌ وَاحِدٌ لَهُنَّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِنَّ وَاحِدَةٌ وَالْبَاقِيَ وَسِيلَةٌ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَتَيَمَّمُ خَمْسًا لِكُلِّ صَلَاةٍ تَيَمُّمٌ خَاصٌّ بِهَا، وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ فَرْضَيْنِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
273-موسوعة الفقه الكويتية (ثمن 1)
ثَمَنٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الثَّمَنُ لُغَةً: مَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الشَّيْءُ.وَفِي الصِّحَاحِ: الثَّمَنُ ثَمَنُ الْمَبِيعِ، وَفِي التَّهْذِيبِ: ثَمَنُ كُلِّ شَيْءٍ قِيمَتُهُ.
قَالَ الزَّبِيدِيُّ: قَالَ شَيْخُنَا: اشْتُهِرَ أَنَّ الثَّمَنَ مَا يَقَعُ بِهِ التَّرَاضِي وَلَوْ زَادَ أَوْ نَقَصَ عَنْ الْوَاقِعِ، وَالْقِيمَةُ مَا يُقَاوِمُ الشَّيْءَ، أَيْ: يُوَافِقُ مِقْدَارَهُ فِي الْوَاقِعِ وَيُعَادِلُهُ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: الثَّمَنُ اسْمٌ لِمَا يَأْخُذُهُ الْبَائِعُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَبِيعِ، عَيْنًا كَانَ أَوْ سِلْعَةً، وَكُلُّ مَا يُحَصَّلُ عِوَضًا عَنْ شَيْءٍ فَهُوَ ثَمَنُهُ.
وَالثَّمَنُ هُوَ: مَبِيعٌ بِثَمَنٍ.
وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَالثَّمَنُ، مَا يَكُونُ بَدَلًا لِلْمَبِيعِ وَيَتَعَيَّنُ فِي الذِّمَّةِ، وَتُطْلَقُ الْأَثْمَانُ أَيْضًا عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْقِيمَةُ:
2- الْقِيمَةُ مَا قُوِّمَ بِهِ الشَّيْءُ بِمَنْزِلَةِ الْمِعْيَارِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ.
وَالثَّمَنُ مَا تَرَاضَى عَلَيْهِ الْمُتَعَاقِدَانِ سَوَاءٌ زَادَ عَلَى الْقِيمَةِ أَوْ نَقَصَ.
فَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الثَّمَنِ أَنَّ الْقِيمَةَ عِبَارَةٌ عَنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، وَالثَّمَنُ الْمُتَرَاضَى عَلَيْهِ قَدْ يُسَاوِي الْقِيمَةَ أَوْ يَزِيدُ عَنْهَا أَوْ يَنْقُصُ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ أَحْكَامِ ثَمَنِ الْمِثْلِ فِي (الْقِيمَةُ).
ب- السِّعْرُ:
3- السِّعْرُ هُوَ الثَّمَنُ الْمُقَدَّرُ لِلسِّلْعَةِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّمَنِ أَنَّ الثَّمَنَ هُوَ مَا يَتَرَاضَى عَلَيْهِ الْعَاقِدَانِ أَمَّا السِّعْرُ فَهُوَ مَا يَطْلُبُهُ الْبَائِعُ.
الثَّمَنُ مِنْ أَرْكَانِ عَقْدِ الْبَيْعِ:
4- اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ (وَهُوَ الثَّمَنُ وَالْمَبِيعُ) مِنْ أَرْكَانِ عَقْدِ الْبَيْعِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ (الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ) أَمَّا الثَّمَنُ فَهُوَ أَحَدُ جُزْأَيْ مَحَلِّ عَقْدِ الْبَيْعِ الَّذِي هُوَ (الْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ) وَلَيْسَ الْمَحَلُّ رُكْنًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا تَفَاسَخَ الْمُتَبَايِعَانِ بَعْدَ قَبْضِ الْعِوَضَيْنِ، كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ حَتَّى يَرُدَّ الْبَائِعُ الَّذِي قَبَضَهُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَبِيعِ، عَرَضًا كَانَ أَوْ نَقْدًا، ثَمَنًا كَانَ أَوْ قِيمَةً؛
لِأَنَّ الْمَبِيعَ مُقَابَلٌ بِهِ فَيَصِيرُ مَحْبُوسًا بِهِ كَالرَّهْنِ.فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ أَنْ لَا يَدْفَعَ الْمَبِيعَ إِلَى أَنْ يَأْخُذَ الثَّمَنَ مِنَ الْبَائِعِ.
وَإِنْ مَاتَ الْبَائِعُ فِي حَالَةِ التَّفَاسُخِ فَالْمُشْتَرِي أَحَقُّ بِحَبْسِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ حَالَ حَيَاتِهِ، فَكَذَا يُقَدَّمُ عَلَى تَجْهِيزِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
شُرُوطُ الثَّمَنِ:
5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، وَأَنْ يَكُونَ مَالًا، وَمَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي، وَمَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، وَمَعْلُومَ الْقَدْرِ وَالْوَصْفِ، وَإِيضَاحُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي: الشَّرْطُ الْأَوَّلُ- تَسْمِيَةُ الثَّمَنِ:
6- تَسْمِيَةُ الثَّمَنِ حِينَ الْبَيْعِ لَازِمَةٌ، فَلَوْ بَاعَ بِدُونِ تَسْمِيَةِ ثَمَنٍ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَعَ نَفْيِ الثَّمَنِ بَاطِلٌ، إِذْ لَا مُبَادَلَةَ حِينَئِذٍ، وَمَعَ السُّكُوتِ عَنْهُ فَاسِدٌ، كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ.
فَإِذَا بِيعَ الْمَالُ وَلَمْ يُذْكَرِ الثَّمَنُ حَقِيقَةً، كَأَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: بِعْتُكَ هَذَا الْمَالَ مَجَّانًا أَوْ بِلَا بَدَلٍ فَيَقُولَ الْمُشْتَرِي: قَبِلْتُ، فَهَذَا الْبَيْعُ بَاطِلٌ.
وَإِذَا لَمْ يُذْكَرِ الثَّمَنُ حُكْمًا، كَأَنْ يَقُولَ إِنْسَانٌ لآِخَرَ: بِعْتُكَ هَذَا الْمَالَ بِالْأَلْفِ الَّتِي لَكَ فِي ذِمَّتِي، فَيَقْبَلُ الْمُشْتَرِي، مَعَ كَوْنِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَعْلَمَانِ أَنْ لَا دَيْنَ، فَالْبَيْعُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ بَاطِلٌ أَيْضًا، وَيَكُونُ الشَّيْءُ هِبَةً فِي الصُّورَتَيْنِ.
وَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ مَسْكُوتًا عَنْهُ حِينَ الْبَيْعِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ وَلَيْسَ بِبَاطِلٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي الْمُعَاوَضَةَ، فَإِذَا سَكَتَ الْبَائِعُ عَنِ الثَّمَنِ كَانَ مَقْصِدُهُ أَخْذَ قِيمَةِ الْمَبِيعِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: بِعْتُ مَا لِي بِقِيمَتِهِ، وَذِكْرُ الْقِيمَةِ مُجْمَلَةً يَجْعَلُ الثَّمَنَ مَجْهُولًا فَيَكُونُ الْبَيْعُ فَاسِدًا.
وَبَيْعُ التَّعَاطِي صَحِيحٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِأَنَّ الثَّمَنَ وَالْمُثَمَّنَ مَعْلُومَانِ فِيهِ، وَالتَّرَاضِي قَائِمٌ بَيْنَهُمَا وَلَوْ لَمْ تُوجَدْ فِيهِ صِفَةٌ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ إِلاَّ بِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ.قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الصَّدَاقِ: الصَّدَاقُ نِحْلَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَرَضَهَا لِلزَّوْجَاتِ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، لَا عَنْ عِوَضٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَفْتَقِرْ عَقْدُ النِّكَاحِ إِلَى تَسْمِيَةٍ، وَلَوْ كَانَ الصَّدَاقُ ثَمَنًا لِلْبُضْعِ حَقِيقَةً لَمَا صَحَّ النِّكَاحُ دُونَ تَسْمِيَةٍ، كَالْبَيْعِ الَّذِي لَا يَنْعَقِدُ إِلاَّ بِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ.وَفِي الْمَجْمُوعِ قَالَ النَّوَوِيُّ: يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ أَنْ يَذْكُرَ الثَّمَنَ فِي حَالِ الْعَقْدِ، فَيَقُولَ: بِعْتُكَ كَذَا بِكَذَا، فَإِنْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا، وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا، فَقَالَ الْمُخَاطَبُ: اشْتَرَيْتُ أَوْ قَبِلْتُ لَمْ يَكُنْ هَذَا بَيْعًا بِلَا خِلَافٍ، وَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْمِلْكُ لِلْقَابِلِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: فِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا هَذَا، وَالثَّانِي: يَكُونُ هِبَةً.
وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: إِذَا قَالَ: بِعْتُكَ بِلَا ثَمَنٍ، أَوْ لَا ثَمَنَ لِي عَلَيْكَ، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ وَقَبَضَهُ فَلَيْسَ بَيْعًا، وَفِي انْعِقَادِهِ هِبَةً قَوْلَا تَعَارُضِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَإِذَا قَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُكَ وَلَمْ يَذْكُرْ ثَمَنًا، فَإِنْ رَاعَيْنَا الْمَعْنَى انْعَقَدَ هِبَةً، أَوْ اللَّفْظَ فَهُوَ بَيْعٌ فَاسِدٌ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَقَدْ جَاءَ فِي الْإِنْصَافِ: يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الثَّمَنِ حَالَ الْعَقْدِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، وَاخْتَارَ الشَّيْخُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ صِحَّةَ الْبَيْعِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الثَّمَنَ، وَلَهُ ثَمَنُ الْمِثْلِ كَالنِّكَاحِ.
الشَّرْطُ الثَّانِي- كَوْنُ الثَّمَنِ مَالًا:
7- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الثَّمَنِ لِانْعِقَادِ الْبَيْعِ: أَنْ يَكُونَ مَالًا مُتَقَوِّمًا.
لِأَنَّ الْبَيْعَ هُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ بِالتَّرَاضِي.
وَالْمَالُ هُوَ مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ الطَّبْعُ وَيُمْكِنُ ادِّخَارُهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ، وَالْمَالِيَّةُ إِنَّمَا تَثْبُتُ بِتَمَوُّلِ النَّاسِ كَافَّةً أَوْ بَعْضِهِمْ.
وَالتَّقَوُّمُ يَثْبُتُ بِهَا وَبِإِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ شَرْعًا.فَمَا يَكُونُ مُبَاحَ الِانْتِفَاعِ بِدُونِ تَمَوُّلِ النَّاسِ لَا يَكُونُ مَالًا، كَحَبَّةِ حِنْطَةٍ.وَمَا يَكُونُ مَالًا بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا يَكُونُ مُبَاحَ الِانْتِفَاعِ لَا يَكُونُ مُتَقَوِّمًا، كَالْخَمْرِ.وَإِذَا عُدِمَ الْأَمْرَانِ لَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا كَالدَّمِ.
فَالْمَالُ أَعَمُّ مِنَ الْمُتَقَوِّمِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مَا يُمْكِنُ ادِّخَارُهُ وَلَوْ غَيْرَ مُبَاحٍ كَالْخَمْرِ، وَالْمُتَقَوِّمُ مَا يُمْكِنُ ادِّخَارُهُ مَعَ الْإِبَاحَةِ.فَالْخَمْرُ مَالٌ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ، فَلِذَا فَسَدَ الْبَيْعُ بِجَعْلِهَا ثَمَنًا، وَإِنَّمَا لَمْ يَنْعَقِدْ أَصْلًا بِجَعْلِهَا مَبِيعًا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بَلْ وَسِيلَةٌ إِلَى الْمَقْصُودِ، إِذْ الِانْتِفَاعُ بِالْأَعْيَانِ لَا بِالْأَثْمَانِ، وَلِهَذَا اشْتُرِطَ وُجُودُ الْمَبِيعِ دُونَ الثَّمَنِ فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ صَارَ الثَّمَنُ مِنْ جُمْلَةِ الشُّرُوطِ بِمَنْزِلَةِ آلَاتِ الصُّنَّاعِ.
وَمِنْ هَذَا قَالَ فِي الْبَحْرِ: الْبَيْعُ وَإِنْ كَانَ مَبْنَاهُ عَلَى الْبَدَلَيْنِ، لَكِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْمَبِيعُ دُونَ الثَّمَنِ، وَلِذَا تُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمَبِيعِ دُونَ الثَّمَنِ، وَيَنْفَسِخُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ دُونَ الثَّمَنِ.
وَالتَّقَوُّمُ فِي الثَّمَنِ شَرْطُ صِحَّةٍ، وَفِي الْمَبِيعِ شَرْطُ انْعِقَادٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ الثَّمَنِ:
أَنْ يَكُونَ مَالًا طَاهِرًا، فَلَا يَصِحُّ مَا نَجَاسَتُهُ أَصْلِيَّةٌ كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ».وَقِيسَ عَلَيْهَا مَا فِي مَعْنَاهَا.وَلَا يَصِحُّ مَا هُوَ مُتَنَجِّسٌ لَا يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ كَسَمْنٍ وَلَبَنٍ تَنَجَّسَ.وَأَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ انْتِفَاعًا شَرْعِيًّا وَلَوْ فِي الْمَالِ كَالْبَهِيمَةِ الصَّغِيرَةِ.فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ مَا لَا نَفْعَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ مَالًا، كَالْحَشَرَاتِ الَّتِي لَا نَفْعَ فِيهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مَالًا.
وَالْمَالُ شَرْعًا: (مَا يُبَاحُ نَفْعُهُ مُطْلَقًا، وَيُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ بِلَا حَاجَةٍ) فَخَرَجَ: مَا لَا نَفْعَ فِيهِ أَصْلًا كَبَعْضِ الْحَشَرَاتِ، وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُحَرَّمَةٌ كَالْخَمْرِ، وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ لِلْحَاجَةِ كَالْكَلْبِ، وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ تُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ كَالْمَيْتَةِ فِي حَالِ الْمَخْمَصَةِ، وَخَمْرٍ لِدَفْعِ لُقْمَةٍ غَصَّ بِهَا.
أَنْوَاعُ الْأَمْوَالِ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةِ:
8- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْأَمْوَالَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:
أ- ثَمَنٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَهُوَ النَّقْدَانِ، صَحِبَهُ الْبَاءُ أَوْ لَا، قُوبِلَ بِجِنْسِهِ أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ عِنْدَ الْعَرَبِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ، وَالنُّقُودُ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ إِلاَّ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، فَكَانَتْ ثَمَنًا بِكُلِّ حَالٍ.
ب- مَبِيعٌ بِكُلِّ حَالٍ، كَالدَّوَابِّ وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَعْيَانِ غَيْرِ الْمِثْلِيَّةِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ؛ لِأَنَّ الْعُرُوضَ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ إِلاَّ عَيْنًا فَكَانَتْ مَبِيعَةً.
ج- ثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا مِثْلِيَّةٌ فَثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ فَأَشْبَهَتِ النَّقْدَ، وَمَبِيعٌ مِنْ وَجْهٍ، نَظَرًا إِلَى الِانْتِفَاعِ بِأَعْيَانِهَا فَأَشْبَهَتِ الْعُرُوضَ.وَذَلِكَ كَالْمِثْلِيَّاتِ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ مِنَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ كَالْبَيْضِ.فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ مُعَيَّنًا فِي الْعَقْدِ كَانَ مَبِيعًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا وَصَحِبَهُ الْبَاءُ، وَقُوبِلَ بِالْمَبِيعِ فَهُوَ ثَمَنٌ.وَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ حَرْفُ الْبَاءِ وَلَمْ يُقَابِلْهُ ثَمَنٌ فَهُوَ مَبِيعٌ؛
لِأَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ غَيْرَ النَّقْدَيْنِ يُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ عَيْنًا تَارَةً، وَدَيْنًا أُخْرَى، فَكَانَ ثَمَنًا فِي حَالٍ، مَبِيعًا فِي حَالٍ.
د- ثَمَنٌ بِالِاصْطِلَاحِ، وَهُوَ سِلْعَةٌ فِي الْأَصْلِ كَالْفُلُوسِ.
فَإِنْ كَانَ رَائِجًا كَانَ ثَمَنًا، وَإِنْ كَانَ كَاسِدًا فَهُوَ سِلْعَةٌ مُثَمَّنٌ.وَالْحَاصِلُ- كَمَا قَالَ الْحَصْكَفِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ- إِنَّ الْمِثْلِيَّاتِ تَكُونُ ثَمَنًا إِذَا دَخَلَتْهَا الْبَاءُ وَلَمْ تُقَابَلْ بِثَمَنٍ، أَيْ: بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ، سَوَاءٌ تَعَيَّنَتْ أَوْ لَا.وَكَذَا إِذَا لَمْ تَدْخُلْهَا الْبَاءُ، وَلَمْ تُقَابَلْ بِثَمَنٍ وَتَعَيَّنَتْ.وَتَكُونُ مَبِيعًا إِذَا قُوبِلَتْ بِثَمَنٍ مُطْلَقًا، أَيْ: سَوَاءٌ دَخَلَتْهَا الْبَاءُ أَوْ لَا، تَعَيَّنَتْ أَوْ لَا.وَكَذَا إِذَا لَمْ تُقَابَلْ بِثَمَنٍ وَلَمْ يَصْحَبْهَا الْبَاءُ وَلَمْ تُعَيَّنْ، كَبِعْتُكَ كُرَّ حِنْطَةٍ بِهَذَا الْعَبْدِ.
وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: الْفُلُوسُ الرَّائِجَةُ إِنْ قُوبِلَتْ بِخِلَافِ جِنْسِهَا فَهِيَ أَثْمَانٌ، وَكَذَا إِنْ قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا مُتَسَاوِيَةً فِي الْعَدَدِ.وَإِنْ قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلَةً فِي الْعَدَدِ فَهِيَ مَبِيعَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هِيَ أَثْمَانٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَقَرِيبٌ مِنْهُ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ الثَّمَنَ النَّقْدُ إِنْ قُوبِلَ بِغَيْرِهِ لِلْعُرْفِ، فَإِنْ كَانَ الْعِوَضَانِ نَقْدَيْنِ أَوْ عَرَضَيْنِ فَالثَّمَنُ مَا الْتَصَقَتْ بِهِ بَاءُ الثَّمَنِيَّةِ وَالْمُثَمَّنُ مَا يُقَابِلُهُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ كُلًّا مِنَ الْعِوَضَيْنِ ثَمَنٌ لِلْآخَرِ وَمُثَمَّنٌ، وَلَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِ النُّقُودِ مَبِيعَةً؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْعِوَضَيْنِ مَبِيعٌ بِالْآخَرِ، لَكِنْ جَرَى الْعُرْفُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ وَالْعِوَضُ الثَّانِي شَيْئًا مِنَ الْمُثَمَّنَاتِ، عَرَضًا أَوْ نَحْوَهُ، أَنَّ الثَّمَنَ هُوَ الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ وَمَا عَدَاهُمَا مُثَمَّنَاتٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الثَّمَنَ يَتَمَيَّزُ عَنِ الْمُثَمَّنِ بِبَاءِ الْبَدَلِيَّةِ، وَلَوْ أَنَّ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ نَقْدٌ.
فَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْبَاءُ فَهُوَ ثَمَنٌ، فَدِينَارٌ بِثَوْبٍ: الثَّمَنُ الثَّوْبُ، لِدُخُولِ الْبَاءِ عَلَيْهِ.
تَعَيُّنُ الثَّمَنِ بِالتَّعْيِينِ:
9- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعَيُّنِ الْأَثْمَانِ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعَقْدِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّ النُّقُودَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، فَإِذَا اشْتَرَى بِهَذَا الدِّرْهَمِ فَلَهُ دَفْعُ دِرْهَمٍ غَيْرِهِ.
وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ- إِلاَّ زُفَرَ- وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ إِلاَّ إِنْ كَانَ الْعَاقِدُ مِنْ ذَوِي الشُّبُهَاتِ.
وَلِلْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي تَعَيُّنِ الْأَثْمَانِ.
فَالْأَثْمَانُ النَّقْدِيَّةُ الرَّائِجَةُ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ.
أَمَّا فِي غَيْرِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالْأَمَانَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْغَصْبِ فَإِنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَسَائِلَ لِغَيْرِهَا بَلْ تَكُونُ مَقْصُودَةً بِالذَّاتِ، فَإِذَا هَلَكَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ قَبْلَ الشِّرَاءِ وَقَبْلَ الْخَلْطِ تَنْفَسِخُ الشَّرِكَةُ.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْأَثْمَانُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ غَيْرِ النُّقُودِ، فَإِنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ؛ لِأَنَّهَا إِذَا عُيِّنَتْ تَكُونُ مَبِيعَةً مِنْ وَجْهٍ وَمَقْصُودَةً بِالذَّاتِ.
أَمَّا الْفُلُوسُ وَالدَّرَاهِمُ الَّتِي غَالِبُهَا الْغِشُّ:
فَإِنْ كَانَتْ رَائِجَةً فَلَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، لِكَوْنِهَا أَثْمَانًا بِالِاصْطِلَاحِ، فَمَا دَامَ ذَلِكَ الِاصْطِلَاحُ مَوْجُودًا لَا تَبْطُلُ الثَّمَنِيَّةُ، لِقِيَامِ الْمُقْتَضِي.وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ رَائِجَةٍ فَتَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ؛ لِزَوَالِ الْمُقْتَضِي لِلثَّمَنِيَّةِ وَهُوَ الِاصْطِلَاحُ، وَهَذَا لِأَنَّهَا فِي الْأَصْلِ سِلْعَةٌ، وَإِنَّمَا صَارَتْ أَثْمَانًا بِالِاصْطِلَاحِ، فَإِذَا تَرَكُوا الْمُعَامَلَةَ بِهَا رَجَعَتْ إِلَى أَصْلِهَا.
كَمَا أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اسْتَثْنَوُا الصَّرْفَ وَالْكِرَاءَ فَفِيهِمَا تَتَعَيَّنُ النُّقُودُ بِالتَّعْيِينِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَثْمَانَ النَّقْدِيَّةَ وَهِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، أَنَّ الْمَبِيعَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِمَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَالثَّمَنَ فِي الْأَصْلِ مَا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ.فَالْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُتَبَايِنَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ.
فَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَثْمَانٌ لَا تَتَعَيَّنُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فِي حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ وَإِنْ عُيِّنَتْ، حَتَّى لَوْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذَا الثَّوْبَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ أَوْ بِهَذِهِ الدَّنَانِيرِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُمْسِكَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ وَيَرُدَّ مِثْلَهُ.
وَلَكِنَّهَا تَتَعَيَّنُ فِي حَقِّ ضَمَانِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ، حَتَّى يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ جِنْسًا وَنَوْعًا وَقَدْرًا وَصِفَةً، وَلَوْ هَلَكَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ.
10- وَالثَّمَنُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا فِي الذِّمَّةِ، هَكَذَا نُقِلَ عَنِ الْفَرَّاءِ، وَهُوَ إِمَامٌ فِي اللُّغَةِ، وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُسَمَّى ثَمَنًا، وَالْآخَرَ مَبِيعًا فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ، وَاخْتِلَافُ الْأَسَامِي دَلِيلُ اخْتِلَافِ الْمَعَانِي فِي الْأَصْلِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ أَحَدُهُمَا مَكَانَ صَاحِبِهِ تَوَسُّعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُقَابِلُ صَاحِبَهُ، فَيُطْلَقُ اسْمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ، كَمَا يُسَمَّى جَزَاءُ السَّيِّئَةِ سَيِّئَةً، وَجَزَاءُ الِاعْتِدَاءِ اعْتِدَاءً.
وَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ اسْمًا لِمَا فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلتَّعْيِينِ بِالْإِشَارَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ التَّعْيِينُ حَقِيقَةً فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الْعَيْنِ، فَجُعِلَ كِنَايَةً عَنْ بَيَانِ الْجِنْسِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَنَوْعِهِ وَصِفَتِهِ وَقَدْرِهِ، تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِ الْعَاقِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.وَلِأَنَّ التَّعْيِينَ غَيْرُ مُفِيدٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ عِوَضٍ يُطْلَبُ مِنَ الْمُعَيَّنِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ مِثْلِهِ، فَلَمْ يَكُنِ التَّعْيِينُ فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الْعَيْنِ مُفِيدًا فَيَلْغُو فِي حَقِّهِ، وَيُعْتَبَرُ فِي بَيَانِ حَقِّ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ، وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ فِي حَقِّهِ مُفِيدٌ.
وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ إِطْلَاقُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي الْعَقْدِ، فَلَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِيهِ، كَالْمِكْيَالِ وَالصَّنْجَةِ.
وَيَسْتَثْنِي الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ الصَّرْفَ فَتَتَعَيَّنُ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ بِالتَّعْيِينِ فِيهِ لِاشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِيهِ فِي الْمَجْلِسِ وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ أَيْضًا الْكِرَاءَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: الْأَثْمَانُ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ:
11- فَيَتَعَيَّنُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ، حَتَّى يَسْتَحِقَّ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي الدَّرَاهِمَ الْمُشَارَ إِلَيْهَا، كَمَا فِي سَائِرِ الْأَعْيَانِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا، وَلَوْ هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ، كَمَا لَوْ هَلَكَ سَائِرُ الْأَعْيَانِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِبْدَالُهُ.
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ:
أَنَّ الْمَبِيعَ وَالثَّمَنَ يُسْتَعْمَلَانِ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا- فَهُمَا مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ فِي الْأَحْكَامِ بِحَرْفِ الْبَاءِ- قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} سَمَّى تَعَالَى الْمُشْتَرَى وَهُوَ الْمَبِيعُ ثَمَنًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ مَبِيعٌ، وَالْمَبِيعَ ثَمَنٌ.
وَلِهَذَا جَازَ أَنْ يُذَكَّرَ الشِّرَاءُ بِمَعْنَى الْبَيْعِ، يُقَالُ: شَرَيْتُ الشَّيْءَ بِمَعْنَى بِعْتُهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ} أَيْ: وَبَاعُوهُ؛
وَلِأَنَّ ثَمَنَ الشَّيْءِ قِيمَتُهُ، وَقِيمَةَ الشَّيْءِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ.وَلِهَذَا سُمِّيَ قِيمَةً لِقِيَامِهِ مَقَامَ غَيْرِهِ.وَالثَّمَنُ وَالْمُثَمَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُومُ مَقَامَ صَاحِبِهِ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا وَمَبِيعًا.دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ فِي اللُّغَةِ.
وَالْمَبِيعُ يَحْتَمِلُ التَّعَيُّنَ بِالتَّعْيِينِ فَكَذَا الثَّمَنُ، إِذْ هُوَ مَبِيعٌ.
وَلِأَنَّ الثَّمَنَ عِوَضٌ فِي عَقْدٍ، فَيَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَسَائِرِ الْأَعْوَاضِ.
مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّعْيِينُ:
12- يَحْصُلُ التَّعْيِينُ بِالْإِشَارَةِ، سَوَاءٌ أَضَمَّ إِلَيْهَا الِاسْمَ أَمْ لَا، كَقَوْلِهِ: بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، أَوْ بِهَذِهِ فَقَطْ، مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الدَّرَاهِمِ.
أَوْ بِعْتُكَ هَذَا بِهَذَا مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْعِوَضَيْنِ.
وَيَحْصُلُ التَّعْيِينُ أَيْضًا بِالِاسْمِ كَبِعْتُكَ دَارِي بِمَوْضِعِ كَذَا، أَوْ بِمَا فِي يَدِي أَوْ كِيسِي مِنَ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ، وَهُمَا يَعْلَمَانِ ذَلِكَ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ مَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي:
13- يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ مَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي.وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَمِلْكُ الْمُشْتَرِي يَكُونُ وَقْتَ الْعَقْدِ مِلْكًا تَامًّا، لَا حَقَّ لِغَيْرِهِ فِيهِ.لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ»، وَهُوَ يُفِيدُ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَمْلُوكًا لِبَائِعِهِ.وَالثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ مِثْلُ الْمَبِيعِ فِي هَذَا الْحُكْمِ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ:
14- يُشْتَرَطُ فِي الثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ شَبِيهٌ بِالْمَعْدُومِ، وَالْمَعْدُومُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا.فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الطَّيْرُ فِي الْهَوَاءِ ثَمَنًا، وَكَذَا الْجَمَلُ الشَّارِدُ الَّذِي لَا يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ.لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْغَرَرُ مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ مُتَضَادَّيْنِ أَغْلَبُهُمَا أَخْوَفُهُمَا.وَقِيلَ: مَا انْطَوَتْ عَنَّا عَاقِبَتُهُ...وَالْمَبِيعُ وَمِثْلُهُ الثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ إِذَا لَمْ يُقْدَرْ عَلَى تَسْلِيمِهِ دَاخِلٌ فِي الْغَرَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: مَعْرِفَةُ الْقَدْرِ وَالْوَصْفِ فِي الثَّمَنِ:
15- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الثَّمَنُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُشَارًا إِلَيْهِ أَوْ غَيْرَ مُشَارٍ إِلَيْهِ.
فَإِنْ كَانَ مُشَارًا إِلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِهِ وَصِفَتِهِ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ.
(وَالْقَدْرُ: كَخَمْسَةِ أَوْ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ أَكْرَارُ حِنْطَةٍ.وَالصِّفَةُ: كَعَشْرَةِ دَنَانِيرَ كُوَيْتِيَّةٍ أَوْ أُرْدُنِيَّةٍ، وَكَذَا حِنْطَةٌ بُحَيْرِيَّةٌ أَوْ صَعِيدِيَّةٌ).
فَإِذَا قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ مِنَ الْحِنْطَةِ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ الَّتِي فِي يَدِكَ وَهِيَ مَرْئِيَّةٌ لَهُ فَقَبِلَ جَازَ وَلَزِمَ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ أَبْلَغُ طُرُقِ التَّعْرِيفِ، وَجَهَالَةُ وَصْفِهِ وَقَدْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ مِنَ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ اللَّذَيْنِ أَوْجَبَهُمَا عَقْدُ الْبَيْعِ فَلَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَيْنِ حَاضِرَانِ.
وَهَذَا بِخِلَافِ الرِّبَوِيِّ إِذَا بِيعَ بِجِنْسِهِ، حَيْثُ لَا يَجُوزُ جُزَافًا؛ لِاحْتِمَالِ الرِّبَا لِأَنَّ عَدَمَ تَحَقُّقِ التَّمَاثُلِ يُعْتَبَرُ بِمَثَابَةِ الْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ، وَبِخِلَافِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ، حَيْثُ لَا يَجُوزُ إِذَا كَانَ مِنَ الْمُقَدَّرَاتِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفَ الْقَدْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَوَافَقَ الْحَنَابِلَةُ الْحَنَفِيَّةَ فِي ذَلِكَ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَثْمَانِ وَالْمُثَمَّنَاتِ فِي صِحَّةِ بَيْعِهَا جُزَافًا). فَذَهَبُوا إِلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ إِذَا عُقِدَ عَلَى ثَمَنٍ بِوَزْنِ صَنْجَةٍ وَمِلْءِ كَيْلٍ مَجْهُولَيْنِ عُرْفًا، وَعَرَفَهُمَا الْمُتَعَاقِدَانِ بِالْمُشَاهَدَةِ، كَبِعْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ بِوَزْنِ هَذَا الْحَجَرِ فِضَّةً، أَوْ بِمِلْءِ هَذَا الْوِعَاءِ أَوْ الْكِيسِ دَرَاهِمَ.
وَذَهَبُوا أَيْضًا إِلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ بِصُبْرَةٍ مُشَاهَدَةٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ دَرَاهِمَ وَنَحْوِهَا، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمَا كَيْلَهَا وَلَا وَزْنَهَا وَلَا عَدَّهَا.
وَنَحْوُ هَذَا الْقَوْلِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، قَالَ الشِّيرَازِيُّ: إِنْ بَاعَهُ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ جُزَافًا جَازَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَيُكْرَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُجْهَلُ قَدْرُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ النَّقْدِ أَيِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ جُزَافًا إِذَا كَانَ مَسْكُوكًا، وَكَانَ التَّعَامُلُ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدَدِ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ الْوَزْنِ، لِقَصْدِ أَفْرَادِهِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ النَّقْدُ مَسْكُوكًا سَوَاءٌ تَعَامَلُوا بِهِ وَزْنًا أَوْ عَدَدًا جَازَ بَيْعُهُ جُزَافًا، لِعَدَمِ قَصْدِ آحَادِهِ.
16- أَمَّا إِنْ كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ مُشَارٍ إِلَيْهِ فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِهِ الْعَقْدُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ؛ لِأَنَّ جَهَالَتَهُ تُفْضِي إِلَى النِّزَاعِ الْمَانِعِ مِنَ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ، فَيَخْلُو الْعَقْدُ عَنِ الْفَائِدَةِ، وَكُلُّ جَهَالَةٍ تُفْضِي إِلَيْهِ يَكُونُ مُفْسِدًا.
وَالصِّفَةُ إِذَا كَانَتْ مَجْهُولَةً تَتَحَقَّقُ الْمُنَازَعَةُ فِي وَصْفِهَا، فَالْمُشْتَرِي يُرِيدُ دَفْعَ الْأَدْوَنِ، وَالْبَائِعُ يَطْلُبُ الْأَرْفَعَ.فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ شَرْعِيَّةِ الْعَقْدِ، وَهُوَ دَفْعُ الْحَاجَةِ بِلَا مُنَازَعَةٍ.
فَالْعِلْمُ بِالثَّمَنِ عِلْمًا مَانِعًا مِنَ الْمُنَازَعَةِ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ عِنْدَهُمْ.
17- وَبِنَاءً عَلَى هَذَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ.
أ- لَا يَجُوزُ بَيْعُ الشَّيْءِ بِقِيمَتِهِ.فَإِذَا بَاعَهُ بِقِيمَتِهِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ ثَمَنَهُ قِيمَتَهُ، وَالْقِيمَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، فَكَانَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا.
ب- وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الشَّيْءِ بِمَا حَلَّ بِهِ، أَوْ بِمَا تُرِيدُ، أَوْ تُحِبُّ، أَوْ بِرَأْسِ مَالِهِ، أَوْ بِمَا اشْتَرَاهُ، أَوْ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَى فُلَانٌ.فَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِالْقَدْرِ فِي الْمَجْلِسِ فَرَضِيَهُ انْقَلَبَ جَائِزًا.
- وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إِلاَّ دِينَارًا، أَوْ بِمِائَةِ دِينَارٍ إِلاَّ دِرْهَمًا.
- وَكَذَا لَا يَجُوزُ بِمِثْلِ مَا يَبِيعُ النَّاسُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا لَا يَتَفَاوَتُ كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ.
- وَكَذَا إِذَا بَاعَ بِحُكْمِ الْمُشْتَرِي، أَوْ بِحُكْمِ فُلَانٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي بِمَاذَا يَحْكُمُ فُلَانٌ فَكَانَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا.
18- ج- وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا بِأَنَّهُ وَإِنْ بَاعَهُ بِمَا يَنْقَطِعُ السِّعْرُ بِهِ، أَوْ بِمِثْلِ مَا بَاعَ بِهِ فُلَانٌ، وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِهِ أَوْ أَحَدُهُمَا، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ.
د- وَإِنْ بَاعَهُ سِلْعَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ذَهَبًا وَفِضَّةً لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ، لِأَنَّ مِقْدَارَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْأَلْفِ مَجْهُولٌ، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ بِمِائَةٍ بَعْضُهَا ذَهَبٌ؛ وَلِأَنَّهُ بَيْعُ غَرَرٍ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ.
هـ- وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الشَّيْءِ بِرَقْمِهِ، وَالْمُرَادُ الثَّمَنُ لَا يَعْلَمُ بِهِ الْمُشْتَرِي حَتَّى يَنْظُرَهُ بَعْدَ الْعَقْدِ.
وَهَذَا قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَالرَّقْمُ: عَلَامَةٌ يُعْلَمُ بِهَا مِقْدَارُ مَا وَقَعَ الْبَيْعُ بِهِ مِنَ الثَّمَنِ.
وَالْبَيْعُ بِالرَّقْمِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ جَهَالَةٍ تَمَكَّنَتْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، وَهِيَ جَهَالَةُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهَا بِرَقْمٍ لَا يَعْلَمُهُ الْمُشْتَرِي، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْقِمَارِ، لِلْخَطَرِ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُ سَيَظْهَرُ كَذَا وَكَذَا.
وَإِنْ عَلِمَ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ الْعَقْدُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْعِلْمِ بَطَلَ.
وَكَانَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ يَقُولُ: وَإِنْ عَلِمَ بِالرَّقْمِ فِي الْمَجْلِسِ لَا يَنْقَلِبُ ذَلِكَ الْعَقْدُ جَائِزًا، وَلَكِنْ إِنْ كَانَ الْبَائِعُ دَائِمًا عَلَى ذَلِكَ الرِّضَا وَرَضِيَ بِهِ الْمُشْتَرِي فِي الْمَجْلِسِ يَنْعَقِدُ بَيْنَهُمَا عَقْدَ ابْتِدَاءٍ بِالتَّرَاضِي.
وَوَرَدَ فِي الْمُغْنِي لِابْنِ قُدَامَةَ: (قَالَ أَحْمَدُ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَبِيعَ بِالرَّقْمِ.وَمَعْنَاهُ: أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِرَقْمِهِ، وَهُوَ الثَّمَنُ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مَعْلُومًا لَهُمَا حَالَ الْعَقْدِ.وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَكَرِهَهُ طَاوُسٌ
وَلَنَا أَنَّهُ بَيْعٌ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ذَكَرَ مِقْدَارَهُ، أَوْ مَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا بِمَا اشْتَرَيْتُهُ بِهِ وَقَدْ عَلِمَا قَدْرَهُ.فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ).
إِذَنْ فَالْحُكْمُ بِجَوَازِهِ هُنَا بِنَاءٌ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الَّذِي يُفِيدُ أَنَّ الثَّمَنَ مَعْلُومٌ.أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا حَسَبَ التَّفْسِيرِ الْمُتَقَدِّمِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَلَا خِلَافَ عِنْدَئِذٍ.
و- بَيْعُ صُبْرَةِ طَعَامٍ، كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ:
19- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ.وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ؛ بِحُجَّةِ: أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَبْلَغَ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ حَالَ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُ بَعْدَ الْكَيْلِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ، إِلاَّ أَنْ يُسَمِّيَ جُمْلَةَ قُفْزَانِهَا.وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، بِحُجَّةِ: أَنَّ صَرْفَ اللَّفْظِ إِلَى الْكُلِّ مُتَعَذِّرٌ؛ لِجَهَالَةِ الْبَيْعِ وَالثَّمَنِ جَهَالَةً تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَطْلُبُ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ أَوَّلًا، وَالثَّمَنُ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَيَقَعُ النِّزَاعُ.وَإِذَا تَعَذَّرَ الصَّرْفُ إِلَى الْكُلِّ صُرِفَ إِلَى الْأَقَلِّ، وَهُوَ مَعْلُومٌ، إِلاَّ أَنْ تَزُولَ الْجَهَالَةُ فِي الْمَجْلِسِ بِتَسْمِيَةِ جَمِيعِ الْقُفْزَانِ أَوْ بِالْكَيْلِ فِي الْمَجْلِسِ فَيَجُوزُ، لِأَنَّ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ بِمَنْزِلَةِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا قَدْرَ قُفْزَانِهَا حَالَ الْعَقْدِ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَجُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا يَلِي:
1- أَنَّ الْمَبِيعَ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَالثَّمَنَ مَعْلُومٌ لِإِشَارَتِهِ إِلَى مَا يُعْرَفُ مَبْلَغُهُ بِجِهَةٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَهُوَ كَيْلُ الصُّبْرَةِ، فَجَازَ كَمَا لَوْ بَاعَ مَا رَأْسُ مَالِهِ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ، لِكُلِّ ثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمٌ، فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِالْحِسَابِ، كَذَا هَاهُنَا. 2- أَنَّ الْمَبِيعَ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَالثَّمَنَ مَعْلُومٌ قَدْرَ مَا يُقَابِلُ كُلَّ جُزْءٍ مِنَ الْمَبِيعِ فَصَحَّ كَالْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، وَالْغَرَرَ مُنْتَفٍ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُ كُلَّ صَاعٍ مَعْلُومُ الْقَدْرِ حِينَئِذٍ.فَغَرَرُ الْجَهَالَةِ يَنْتَفِي بِالْعِلْمِ بِالتَّفْصِيلِ.كَمَا يَنْتَفِي بِالْعِلْمِ بِالْجُمْلَةِ، فَإِذَا جَازَ بِالْعِلْمِ بِالْجُمْلَةِ جَازَ بِالْعِلْمِ بِالتَّفْصِيلِ أَيْ: لَا يَضُرُّ الْجَهْلُ بِحَمَلَةِ الثَّمَنَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالتَّفْصِيلِ، وَالْغَرَرُ مُرْتَفِعٌ بِهِ، كَمَا إِذَا بَاعَ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ جُزَافًا.
3- لِأَنَّ إِزَالَةَ الْجَهَالَةِ بِيَدِهِمَا، فَتَرْتَفِعُ بِكَيْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مَانِعٍ.
وَانْظُرْ أَيْضًا (بَيْعُ الْجُزَافِ).
ز- لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إِلاَّ بِثَمَنٍ مَعْلُومِ الصِّفَةِ:
20- لِذَلِكَ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ:
مَنْ أَطْلَقَ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ عَنْ ذِكْرِ الصِّفَةِ دُونَ الْقَدْرِ، كَأَنْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ، وَلَمْ يَقُلْ بُخَارِيَّةً أَوْ سَمَرْقَنْدِيَّةً، وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ، أَيْ يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُتَعَامَلِ بِهِ فِي بَلَدِهِ.
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ:
أَنَّ الْمَعْلُومَ بِالْعُرْفِ كَالْمَعْلُومِ بِالنَّصِّ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِيهِ تَصْحِيحُ تَصَرُّفِهِ.
وَيَبْنِي الْحَنَفِيَّةُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ النُّقُودُ مُخْتَلِفَةً فِي الْمَالِيَّةِ كَالذَّهَبِ الْمِصْرِيِّ وَالْمَغْرِبِيِّ، فَإِنَّ الْمِصْرِيَّ أَفْضَلُ فِي الْمَالِيَّةِ مِنَ الْمَغْرِبِيِّ، وَكَانَتْ مُتَسَاوِيَةً فِي الرَّوَاجِ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْجَهَالَةِ مُفْضِيَةٌ إِلَى الْمُنَازَعَةِ، فَالْمُشْتَرِي يُرِيدُ دَفْعَ الْأَنْقَصِ مَالِيَّةً، وَالْبَائِعُ يُرِيدُ أَخْذَ الْأَعْلَى، فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ إِلاَّ أَنْ تُرْفَعَ الْجَهَالَةُ بِبَيَانِ أَحَدِهِمَا فِي الْمَجْلِسِ وَيَرْضَى الْآخَرُ؛ لِارْتِفَاعِ الْمُفْسِدِ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ.
- وَإِذَا كَانَتِ النُّقُودُ مُخْتَلِفَةً فِي الرَّوَاجِ وَالْمَالِيَّةِ صَحَّ الْبَيْعُ وَانْصَرَفَ إِلَى الْأَرْوَجِ.
- وَإِذَا كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي الرَّوَاجِ مُسْتَوِيَةً فِي الْمَالِيَّةِ صَحَّ الْبَيْعُ وَانْصَرَفَ إِلَى الْأَرْوَجِ أَيْضًا تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ.
- أَمَّا إِذَا اسْتَوَتْ فِي الرَّوَاجِ وَالْمَالِيَّةِ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي الِاسْمِ كَالْمِصْرِيِّ وَالدِّمَشْقِيِّ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ وَيَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي فِي أَنْ يُؤَدِّيَ أَيَّهُمَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَازَعَةَ فِيهَا. فَالْحَاصِلُ:
أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ لِأَنَّ النُّقُودَ إِمَّا أَنْ تَسْتَوِيَ فِي الرَّوَاجِ وَالْمَالِيَّةِ مَعًا، أَوْ تَخْتَلِفَ فِيهِمَا، أَوْ يَسْتَوِيَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ.
وَالْفَسَادُ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ: وَهِيَ: الِاسْتِوَاءُ فِي الرَّوَاجِ وَالِاخْتِلَافُ فِي الْمَالِيَّةِ، وَالصِّحَّةُ فِي الثَّلَاثِ الْبَاقِيَةِ.
وَهَذِهِ الصُّورَةُ الْفَاسِدَةُ ذَكَرَهَا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ تَعَدَّدَتِ السِّكَكُ فِي الْبَلَدِ وَلَمْ يُبَيِّنْ، فَإِنْ اتَّحَدَتْ رَوَاجًا قَضَاهُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ قَضَاهُ مِنَ الْغَالِبِ إِنْ كَانَ، وَإِلاَّ فَسَدَ الْبَيْعُ لِعَدَمِ الْبَيَانِ.
وَعِبَارَةُ الشِّرْبِينِيِّ الشَّافِعِيِّ: إِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدَانِ وَلَمْ يَغْلِبْ أَحَدُهُمَا أَوْ غَلَبَ أَحَدُهُمَا وَاخْتَلَفَتِ الْقِيمَةُ اشْتُرِطَ التَّعْيِينُ لَفْظًا لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ بِاخْتِلَافِهِمَا.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ بَاعَ بِدِينَارٍ مُطْلَقٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَلَا مَوْصُوفٍ وَفِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنَ الدَّنَانِيرِ كُلُّهَا رَائِجَةٌ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
274-موسوعة الفقه الكويتية (حدث 1)
حَدَثٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الْحَدَثُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْحُدُوثِ: وَهُوَ الْوُقُوعُ وَالتَّجَدُّدُ وَكَوْنُ الشَّيْءِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَمِنْهُ يُقَالُ: حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ إِذَا تَجَدَّدَ وَكَانَ مَعْدُومًا قَبْلَ ذَلِكَ.وَالْحَدَثُ اسْمٌ مِنْ أَحْدَثَ الْإِنْسَانُ إِحْدَاثًا: بِمَعْنَى الْحَالَةِ النَّاقِضَةِ لِلْوُضُوءِ.وَيَأْتِي بِمَعْنَى الْأَمْرِ الْحَادِثِ الْمُنْكَرِ الَّذِي لَيْسَ بِمُعْتَادٍ وَلَا مَعْرُوفٍ، وَمِنْهُ مُحْدَثَاتُ الْأُمُورِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ أُمُورٌ:
أ- الْوَصْفُ الشَّرْعِيُّ (أَوِ الْحُكْمِيُّ) الَّذِي يَحِلُّ فِي الْأَعْضَاءِ وَيُزِيلُ الطَّهَارَةَ وَيَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، وَهَذَا الْوَصْفُ يَكُونُ قَائِمًا بِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَقَطْ فِي الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، وَبِجَمِيعِ الْبَدَنِ فِي الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ، وَهُوَ الْغَالِبُ فِي إِطْلَاقِهِمْ.كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
وَقَدْ وَرَدَ هَذَا التَّعْرِيفُ فِي كُتُبِ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ بِاخْتِلَافٍ بَسِيطٍ فِي الْعِبَارَةِ.
ب- الْأَسْبَابُ الَّتِي تُوجِبُ الْوُضُوءَ أَوِ الْغُسْلَ، وَلِهَذَا نَجِدُ الْحَنَفِيَّةَ يُعَرِّفُونَهُ بِأَنَّهُ: خُرُوجُ النَّجَسِ مِنَ الْآدَمِيِّ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِمَا مُعْتَادًا كَانَ أَمْ غَيْرَ مُعْتَادٍ.
وَالْمَالِكِيَّةُ يُعَرِّفُونَهُ بِأَنَّهُ الْخَارِجُ الْمُعْتَادُ مِنَ الْمُخْرَجِ الْمُعْتَادِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ يُعَرِّفُونَهُ بِمَا أَوْجَبَ وُضُوءًا أَوْ غُسْلًا كَمَا وَضَعَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بَابًا لِلْأَحْدَاثِ ذَكَرُوا فِيهَا أَسْبَابَ نَقْضِ الْوُضُوءِ.
ج- وَيُطْلَقُ الْحَدَثُ عَلَى الْمَنْعِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ
د- وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ إِطْلَاقَهُ عَلَى خُرُوجِ الْمَاءِ فِي الْمُعْتَادِ كَمَا قَالَ الدُّسُوقِيُّ.
وَالْمُرَادُ هُنَا مِنْ هَذِهِ الْإِطْلَاقَاتِ هُوَ الْأَوَّلُ، أَمَّا الْمَنْعُ فَإِنَّهُ حُكْمُ الْحَدَثِ، وَهُوَ الْحُرْمَةُ وَلَيْسَ نَفْسَ الْحَدَثِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الطَّهَارَةُ:
2- الطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ النَّزَاهَةُ وَالنَّظَافَةُ وَالْخُلُوصُ مِنَ الْأَدْنَاسِ حِسِّيَّةً كَانَتْ كَالْأَنْجَاسِ، أَمْ مَعْنَوِيَّةً كَالْعُيُوبِ مِنَ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَنَحْوِهِمَا.
وَفِي الشَّرْعِ رَفْعُ مَا يَمْنَعُ الصَّلَاةَ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ حَدَثٍ أَوْ نَجَاسَةٍ بِالْمَاءِ أَوْ رَفْعُ حُكْمِهِ بِالتُّرَابِ.
فَالطَّهَارَةُ ضِدُّ الْحَدَثِ (ر: طَهَارَةٌ).
ب- الْخَبَثُ:
3- الْخَبَثُ بِفَتْحَتَيْنِ النَّجَسُ، وَإِذَا ذُكِرَ مَعَ الْحَدَثِ يُرَادُ مِنْهُ النَّجَاسَةُ الْحَقِيقِيَّةُ أَيِ الْعَيْنُ الْمُسْتَقْذِرَةُ شَرْعًا، وَمِنْ هُنَا عَرَّفُوا الطَّهَارَةَ بِأَنَّهَا النَّظَافَةُ مِنْ حَدَثٍ أَوْ خَبَثٍ.
وَالْخُبْثُ بِسُكُونِ الْبَاءِ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ خَبُثَ الشَّيْءُ خُبْثًا ضِدُّ طَابَ، يُقَالُ: شَيْءٌ خَبِيثٌ أَيْ نَجِسٌ أَوْ كَرِيهُ الطَّعْمِ، وَالْخُبْثُ كَذَلِكَ الشَّرُّ وَالْوَصْفُ مِنْهُ الْخُبْثُ وَجَمْعُهُ الْخُبُثُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ» أَيْ ذُكْرَانِ الشَّيَاطِينِ وَإِنَاثِهِمْ، وَاسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ حَرَامٍ
ج- النَّجَسُ:
4- النَّجَسُ بِفَتْحَتَيْنِ مَصْدَرُ نَجُسَ الشَّيْءُ نَجَسًا، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ اسْمًا لِكُلِّ مُسْتَقْذَرٍ، وَالنَّجِسُ بِكَسْرِ الْجِيمِ ضِدُّ الطَّاهِرِ، وَالنَّجَاسَةُ ضِدُّ الطَّهَارَةِ، فَالنَّجَسُ لُغَةً يَعُمُّ الْحَقِيقِيَّ وَالْحُكْمِيَّ، وَعُرْفًا يَخْتَصُّ بِالْأَوَّلِ كَالْخُبْثِ.وَإِذَا أَحْدَثَ الْإِنْسَانُ وَنُقِضَ وُضُوءُهُ يُقَالُ لَهُ: مُحْدِثٌ، وَلَا يُقَالُ لَهُ نَجِسٌ فِي عُرْفِ الشَّارِعِ.أَمَّا الْخُبْثُ فَيَخُصُّ النَّجَاسَةَ الْحَقِيقِيَّةَ كَمَا أَنَّ الْحَدَثَ يَخُصُّ الْحُكْمِيَّةَ، وَالطَّهَارَةُ ارْتِفَاعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
أَقْسَامُ الْحَدَثِ:
5- سَبَقَ فِي تَعْرِيفِ الْحَدَثِ أَنَّهُ بِالْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ وَصْفٌ يَحِلُّ بِالْأَعْضَاءِ وَيَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا.فَهَذَا الْوَصْفُ إِنْ كَانَ قَائِمًا فِي جَمِيعِ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ وَأَوْجَبَ غُسْلًا يُسَمَّى حَدَثًا أَكْبَرَ، وَإِذَا كَانَ قَائِمًا بِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَقَطْ وَأَوْجَبَ غَسْلَ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ فَقَطْ يُسَمَّى حَدَثًا أَصْغَرَ.
وَالْحَدَثُ بِالْإِطْلَاقِ الثَّانِي أَيِ الْأَسْبَابُ الَّتِي تُوجِبُ الْوُضُوءَ أَوِ الْغُسْلَ كَذَلِكَ نَوْعَانِ: حَدَثٌ حَقِيقِيٌّ، وَحَدَثٌ حُكْمِيٌّ.
وَالْحَدَثُ الْحُكْمِيُّ: فَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوجَدَ أَمْرٌ يَكُونُ سَبَبًا لِخُرُوجِ النَّجَسِ الْحَقِيقِيِّ غَالِبًا فَيُقَامُ السَّبَبُ مَكَانَ الْمُسَبَّبِ احْتِيَاطًا، وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُوجَدَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَكِنَّهُ جُعِلَ حَدَثًا شَرْعًا تَعَبُّدًا مَحْضًا.وَهَذَا التَّقْسِيمُ صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْلِيلَاتُ غَيْرِهِمْ.
أَسْبَابُ الْحَدَثِ:
أَوَّلًا- خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ:
6- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِخُرُوجِ النَّجَسِ مِنَ الْآدَمِيِّ الْحَيِّ مِنَ السَّبِيلَيْنِ (الدُّبُرِ وَالذَّكَرِ أَوْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ) مُعْتَادًا كَانَ كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ وَدَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، أَمْ غَيْرَ مُعْتَادٍ كَدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ.أَوْ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ كَالْجُرْحِ وَالْقُرْحِ وَالْأَنْفِ وَالْفَمِ سَوَاءٌ كَانَ الْخَارِجُ دَمًا أَوْ قَيْحًا أَوْ قَيْئًا.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِالْخَارِجِ الْمُعْتَادِ مِنَ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ، لَا حَصًى وَدُودٍ وَلَوْ بِبِلَّةٍ، وَهَذَا يَشْمَلُ الْبَوْلَ وَالْغَائِطَ وَالْمَذْيَ وَالْمَنِيَّ وَالْوَدْيَ وَالرِّيحَ، سَوَاءٌ أَكَانَ خُرُوجُهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ بِاخْتِيَارٍ، أَمْ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ، كَسَلَسٍ فَارَقَ أَكْثَرَ الزَّمَنِ، أَيِ ارْتَفَعَ عَنِ الشَّخْصِ، زَمَانًا يَزِيدُ عَلَى النِّصْفِ.فَإِنْ لَازَمَهُ كُلَّ الزَّمَنِ أَوْ أَكْثَرَهُ أَوْ نِصْفَهُ فَلَا نَقْضَ، وَيَشْمَلُ الْحَدَثُ عِنْدَهُمُ الْخَارِجَ مِنْ ثُقْبَةٍ تَحْتَ الْمَعِدَةِ إِنِ انْسَدَّ السَّبِيلَانِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَالْخَارِجُ غَيْرُ الْمُعْتَادِ، وَالدُّودُ، وَالْحَصَى، وَالدَّمُ، وَالْقَيْحُ، وَالْقَيْءُ وَنَحْوُهَا لَا يُعْتَبَرُ حَدَثًا وَلَوْ كَانَ مِنَ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِخُرُوجِ شَيْءٍ مِنْ قُبُلِهِ أَوْ دُبُرِهِ عَيْنًا كَانَ أَوْ رِيحًا، طَاهِرًا أَوْ نَجِسًا، جَافًّا أَوْ رَطْبًا، مُعْتَادًا كَبَوْلٍ أَوْ نَادِرًا كَدَمٍ، قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، طَوْعًا أَوْ كَرْهًا.إِلاَّ الْمَنِيَّ فَلَيْسَ خُرُوجُهُ نَاقِضًا قَالُوا: لِأَنَّهُ أَوْجَبَ أَعْظَم الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ الْغُسْلُ فَلَا يُوجِبُ أَدْوَنَهُمَا وَهُوَ الْوُضُوءُ بِعُمُومِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا انْسَدَّ مَخْرَجُهُ وَانْفَتَحَ تَحْتَ مَعِدَتِهِ فَخَرَجَ الْمُعْتَادُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: النَّاقِضُ لِلْوُضُوءِ هُوَ الْخَارِجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، نَادِرًا كَانَ كَالدُّودِ وَالدَّمِ وَالْحَصَى، أَوْ مُعْتَادًا كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْوَدْيِ وَالْمَذْيِ وَالرِّيحِ، طَاهِرًا أَوْ نَجِسًا، وَكَذَلِكَ خُرُوجُ النَّجَاسَاتِ مِنْ بَقِيَّةِ الْبَدَنِ، فَإِنْ كَانَتْ غَائِطًا أَوْ بَوْلًا نَقَضَ وَلَوْ قَلِيلًا مِنْ تَحْتِ الْمَعِدَةِ أَوْ فَوْقِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ السَّبِيلَانِ مَفْتُوحَيْنِ أَمْ مَسْدُودَيْنِ.وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَاتُ الْخَارِجَةُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ غَيْرَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ كَالْقَيْءِ وَالدَّمِ وَالْقَيْحِ، وَدُونَ الْجِرَاحِ لَمْ يَنْقُضْ إِلاَّ كَثِيرُهَا.
وَمِمَّا سَبَقَ يَظْهَرُ أَنَّ أَسْبَابَ الْحَدَثِ الْحَقِيقِيِّ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ:
أَسْبَابُ الْحَدَثِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا:
7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ الْمُعْتَادَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ وَالرِّيحِ، وَأَيْضًا دَمُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ يُعْتَبَرُ حَدَثًا حَقِيقِيًّا قَلِيلًا كَانَ الْخَارِجُ أَوْ كَثِيرًا وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْحَدَثِ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ وَنَحْوِهِمَا.وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا، فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا».
وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ بَعْضُهَا حَدَثٌ أَكْبَرُ فَيُوجِبُ الْغُسْلَ كَخُرُوجِ الْمَنِيِّ، وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَبَعْضُهَا حَدَثٌ أَصْغَرُ يُوجِبُ الْوُضُوءَ فَقَطْ كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ وَالرِّيحِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.
الْأَسْبَابُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا:
أ- مَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ نَادِرًا:
8- مَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ نَادِرًا كَالدُّودِ وَالْحَصَى وَالشَّعْرِ وَقِطْعَةِ اللَّحْمِ وَنَحْوِهَا تُعْتَبَرُ أَحْدَاثًا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ)، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ، لِأَنَّهَا خَارِجَةٌ مِنَ السَّبِيلَيْنِ فَأَشْبَهَتِ الْمَذْيَ، وَلِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ بِلَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِهَا وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْمُسْتَحَاضَةَ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَدَمُهَا خَارِجٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْخَارِجَ غَيْرَ الْمُعْتَادِ مِنَ السَّبِيلَيْنِ كَحَصًى تَوَلَّدَ بِالْبَطْنِ وَدُودٍ لَا يُعْتَبَرُ حَدَثًا وَلَوْ بِبِلَّةٍ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ غَيْرِ مُتَفَاحِشٍ بِحَيْثُ يُنْسَبُ الْخُرُوجُ لِلْحَصَى وَالدُّودِ لَا لِلْبَوْلِ وَالْغَائِطِ.وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ تَخْرُجَ الدُّودَةُ وَالْحَصَى غَيْرَ نَقِيَّةٍ.
9- وَاخْتَلَفُوا فِي الرِّيحِ الْخَارِجَةِ مِنَ الذَّكَرِ أَوْ قُبُلِ الْمَرْأَةِ:
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَا تُعْتَبَرُ حَدَثًا، وَلَا يُنْتَقَضُ بِهَا الْوُضُوءُ، لِأَنَّهَا اخْتِلَاجٌ وَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ رِيحًا مُنْبَعِثَةً عَنْ مَحَلِّ النَّجَاسَةِ، وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمُفْضَاةِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْمُفْضَاةِ فَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُنْدَبُ لَهَا الْوُضُوءُ، وَقِيلَ: يَجِبُ، وَقِيلَ: لَوْ مُنْتِنَةً، لِأَنَّ نَتَنَهَا دَلِيلُ خُرُوجِهَا مِنَ الدُّبُرِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ الْخَارِجَةَ مِنَ الذَّكَرِ أَوْ قُبُلِ الْمَرْأَةِ حَدَثٌ يُوجِبُ الْوُضُوءَ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا وُضُوءَ إِلاَّ مِنْ صَوْتٍ أَوْ رِيحٍ».
ب- مَا يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ:
10- الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ إِذَا لَمْ يَكُنْ نَجِسًا لَا يُعْتَبَرُ حَدَثًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ نَجِسًا، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: مَا يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ مِنَ النَّجَاسَةِ حَدَثٌ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ سَائِلًا جَاوَزَ إِلَى مَحَلٍّ يُطْلَبُ تَطْهِيرُهُ وَلَوْ نَدْبًا، كَدَمٍ وَقَيْحٍ وَصَدِيدٍ عَنْ رَأْسِ جُرْحٍ، وَكَقَيْءٍ مَلأَ الْفَمَ مِنْ مُرَّةٍ أَوْ عَلَقٍ أَوْ طَعَامٍ أَوْ مَاءٍ، لَا بَلْغَمٍ، وَإِنْ قَاءَ دَمًا أَوْ قَيْحًا نَقَضَ وَإِنْ لَمْ يَمْلأَِ الْفَمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا إِلاَّ الْغَائِطَ وَالْبَوْلَ فَلَا تُشْتَرَطُ فِيهِمَا الْكَثْرَةُ عِنْدَهُمْ.
وَالْقَوْلُ بِأَنَّ النَّجِسَ الْخَارِجَ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ حَدَثٌ هُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
مِنْهُمُ: ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ، مِنْهَا: قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ» وَقَوْلُهُ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلْسٌ أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ، فَلْيَتَوَضَّأْ ثُمَّ لْيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ» وَلِأَنَّ الدَّمَ وَنَحْوَهُ نَجَاسَةٌ خَارِجَةٌ مِنَ الْبَدَنِ فَأَشْبَهَ الْخَارِجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ.
وَوَجْهُ مَا اشْتَرَطَهُ الْحَنَابِلَةُ مِنَ الْكَثْرَةِ فِي غَيْرِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ فِي الدَّمِ: إِذَا كَانَ فَاحِشًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- عَصَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ دَمٌ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ: الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ لَا يُعْتَبَرُ حَدَثًا، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَعْنِي فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ- فَأَصَابَ رَجُلٌ امْرَأَةَ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَحَلَفَ أَنْ لَا أَنْتَهِيَ حَتَّى أُهْرِيقَ دَمًا فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، فَخَرَجَ يَتْبَعُ أَثَرَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَنَزَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مَنْزِلًا، فَقَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَكْلَؤُنَا؟ فَانْتَدَبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: كُونَا بِفَمِ الشِّعْبِ قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلَانِ إِلَى فَمِ الشِّعْبِ اضْطَجَعَ الْمُهَاجِرِيُّ وَقَامَ الْأَنْصَارِيُّ يُصَلِّي، وَأَتَى الرَّجُلُ، فَلَمَّا رَأَى شَخْصَهُ عَرَفَ أَنَّهُ رَبِيئَةٌ لِلْقَوْمِ، فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَوَضَعَهُ فِيهِ، فَنَزَعَهُ حَتَّى رَمَاهُ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ، ثُمَّ انْتَبَهَ صَاحِبُهُ، فَلَمَّا عَرَفَ أَنَّهُمْ قَدْ نَذِرُوا بِهِ هَرَبَ، وَلَمَّا رَأَى الْمُهَاجِرِيُّ مَا بِالْأَنْصَارِيِّ مِنَ الدَّمِ: قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَلَا أَنْبَهْتنِي أَوَّلَ مَا رَمَى؟ قَالَ: كُنْتُ فِي سُورَةٍ أَقْرَؤُهَا، فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ أَقْطَعَهَا» وَلِمَا رُوِيَ أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام-: «قَاءَ فَلَمْ يَتَوَضَّأْ».
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ مَا خَرَجَ مِنْ ثُقْبَةٍ تَحْتَ الْمَعِدَةِ إِنِ انْسَدَّ مَخْرَجُهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَنْسَدَّ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَيُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ.ثَانِيًا- الْحَدَثُ الْحُكْمِيُّ:
11- الْحَدَثُ الْحُكْمِيُّ هُوَ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِخُرُوجِ الْحَدَثِ الْحَقِيقِيِّ غَالِبًا فَيُقَامُ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ احْتِيَاطًا.فَيَأْخُذُ حُكْمَ الْحَدَثِ الْحَقِيقِيِّ شَرْعًا، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا النَّوْعِ:
- زَوَالُ الْعَقْلِ أَوِ التَّمْيِيزُ وَذَلِكَ بِالنَّوْمِ أَوِ السُّكْرِ أَوِ الْإِغْمَاءِ أَوِ الْجُنُونِ أَوْ نَحْوِهَا.وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْمَذَاهِبِ فِي الْجُمْلَةِ.وَاسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ لِنَقْضِ الْوُضُوءِ بِالنَّوْمِ بِحَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفَرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ إِلاَّ مِنْ جَنَابَةٍ، لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ».
وَبِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ».
وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ النَّوْمِ النَّاقِضِ لِلْوُضُوءِ:
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: النَّوْمُ النَّاقِضُ هُوَ مَا كَانَ مُضْطَجِعًا أَوْ مُتَّكِئًا أَوْ مُسْتَنِدًا إِلَى شَيْءٍ لَوْ أُزِيلَ مِنْهُ لَسَقَطَ، لِأَنَّ الِاضْطِجَاعَ سَبَبٌ لِاسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ فَلَا يَعْرَى عَنْ خُرُوجِ شَيْءٍ عَادَةً، وَالثَّابِتُ عَادَةً كَالْمُتَيَقَّنِ.وَالِاتِّكَاءُ يُزِيلُ مُسْكَةَ الْيَقِظَةِ، لِزَوَالِ الْمَقْعَدَةِ عَنِ الْأَرْضِ.بِخِلَافِ النَّوْمِ حَالَةَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، لِأَنَّ بَعْضَ الِاسْتِمْسَاكِ بَاقٍ، إِذْ لَوْ زَالَ لَسَقَطَ، فَلَمْ يَتِمَّ الِاسْتِرْخَاءُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ النَّاقِضَ هُوَ النَّوْمُ الثَّقِيلُ بِأَنْ لَمْ يَشْعُرْ بِالصَّوْتِ الْمُرْتَفِعِ، بِقُرْبِهِ، أَوْ بِسُقُوطِ شَيْءٍ مِنْ يَدِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، طَالَ النَّوْمُ أَوْ قَصُرَ.وَلَا يُنْقَضُ بِالْخَفِيفِ وَلَوْ طَالَ، وَيُنْدَبُ الْوُضُوءُ إِنْ طَالَ النَّوْمُ الْخَفِيفُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الصَّحِيحُ مِنْهَا أَنَّ مَنْ نَامَ مُمَكِّنًا مَقْعَدَتَهُ مِنَ الْأَرْضِ أَوْ نَحْوِهَا لَمْ يُنْقَضْ وُضُوءُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمَكِّنًا يُنْتَقَضُ عَلَى أَيَّةِ هَيْئَةٍ كَانَ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا لِحَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ فَيَنَامُونَ، أَحْسَبُهُ قَالَ: قُعُودًا حَتَّى تَخْفِقَ رُءُوسُهُمْ ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ..وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَيْسَ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا وُضُوءٌ حَتَّى يَضَعَ جَنْبَهُ إِلَى الْأَرْضِ» وَيُنْدَبُ الْوُضُوءُ عِنْدَهُمْ إِلاَّ مَعَ التَّمْكِينِ خُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَسَمُوا النَّوْمَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ: نَوْمُ الْمُضْطَجِعِ فَيُنْقَضُ بِهِ الْوُضُوءُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا أَخْذًا لِعُمُومِ الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ.الثَّانِي: نَوْمُ الْقَاعِدِ، فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا نُقِضَ بِنَاءً عَلَى الْحَدِيثَيْنِ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَمْ يُنْقَضْ لِحَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ.الثَّالِثُ: مَا عَدَا هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، وَهُوَ نَوْمُ الْقَائِمِ وَالرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ.وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْحَالَاتِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: يُنْقَضُ مُطْلَقًا لِلْعُمُومِ فِي الْحَدِيثَيْنِ، وَالثَّانِيَةُ: لَا يُنْقَضُ، إِلاَّ إِذَا كَثُرَ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَسْجُدُ وَيَنَامُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي فَقُلْتُ لَهُ: صَلَّيْتَ وَلَمْ تَتَوَضَّأْ، وَقَدْ نِمْتَ، فَقَالَ إِنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا فَإِنَّهُ إِذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ»
وَالْعِبْرَةُ فِي تَحْدِيدِ الْكَثِيرِ وَالْيَسِيرِ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمُ الْعُرْفُ.
أَمَّا السُّكْرُ وَالْجُنُونُ وَالْإِغْمَاءُ فَدَلِيلُ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِهَا أَنَّهَا أَبْلَغُ فِي إِزَالَةِ الْمُسْكَةِ مِنَ النَّوْمِ، لِأَنَّ النَّائِمَ يَسْتَيْقِظُ بِالِانْتِبَاهِ، بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ.
وَلِتَعْرِيفِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَمَعْرِفَةِ حُكْمِهَا وَأَثَرِهَا عَلَى الْوُضُوءِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحَاتِهَا.
الْمُبَاشَرَةُ الْفَاحِشَةُ دُونَ الْجِمَاعِ:
12- وَتَفْسِيرُهَا، كَمَا قَالَ الْكَاسَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنْ يُبَاشِرَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ بِشَهْوَةٍ وَيَنْتَشِرَ لَهَا وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا ثَوْبٌ وَلَمْ يَرَ بَلَلًا.
وَقَالَ فِي الدُّرِّ: أَنْ تَكُونَ بِتَمَاسِّ الْفَرْجَيْنِ وَلَوْ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ أَوِ الرَّجُلَيْنِ مَعَ الِانْتِشَارِ وَلَوْ بِلَا بَلَلٍ.فَهَذِهِ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- إِلاَّ مُحَمَّدًا مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- فَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُ قَالَ: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَسْجِدِ، وَنَحْنُ قُعُودٌ مَعَهُ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ أَعَادَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَسَكَتَ عَنْهُ.وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ.فَلَمَّا انْصَرَفَ نَبِيُّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: فَاتَّبَعَ الرَّجُلُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ انْصَرَفَ وَاتَّبَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْظُرُ مَا يَرُدُّ عَلَى الرَّجُلِ فَلَحِقَ الرَّجُلُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ.قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: أَرَأَيْتَ حِينَ خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِكَ أَلَيْسَ قَدْ تَوَضَّأْتَ فَأَحْسَنْتَ الْوُضُوءَ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ: ثُمَّ شَهِدْتَ الصَّلَاةَ مَعَنَا فَقَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ حَدَّكَ، أَوْ قَالَ ذَنْبَكَ».
وَلِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا لَا تَخْلُو عَنْ خُرُوجِ الْمَذْيِ عَادَةً إِلاَّ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ جَفَّ بِحَرَارَةِ الْبَدَنِ فَلَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ أَوْ غَفَلَ عَنْ نَفْسِهِ لِغَلَبَةِ الشَّبَقِ فَكَانَتْ سَبَبًا مُفْضِيًا إِلَى الْخُرُوجِ، وَهُوَ الْمُتَحَقِّقُ فِي مَقَامِ وُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ.
الْتِقَاءُ بَشَرَتَيْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ:
13- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ لَمْسَ بَشَرَتَيِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ حَدَثٌ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ تَخْتَلِفُ عِبَارَاتُهُمْ فِي الشُّرُوطِ وَالتَّفْصِيلِ.
فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الَّذِي يَنْقُضُ الْوُضُوءَ هُوَ اللَّمْسُ بِعُضْوٍ أَصْلِيٍّ أَوْ زَائِدٍ يَلْتَذُّ صَاحِبُهُ بِهِ عَادَةً، وَلَوْ لِظُفْرٍ أَوْ شَعْرٍ أَوْ سِنٍّ، وَلَوْ بِحَائِلٍ خَفِيفٍ يُحِسُّ اللاَّمِسُ فَوْقَهُ بِطَرَاوَةِ الْجَسَدِ، إِنْ قَصَدَ اللَّذَّةَ أَوْ وَجَدَهَا بِدُونِ الْقَصْدِ، قَالُوا: وَمِمَّنْ يُلْتَذُّ بِهِ عَادَةً الْأَمْرَدُ وَاَلَّذِي لَمْ تَتِمَّ لِحْيَتُهُ، فَلَا نَقْضَ بِلَمْسِ جَسَدِ أَوْ فَرْجِ صَغِيرَةٍ لَا تُشْتَهَى عَادَةً، وَلَوْ قَصَدَ.اللَّذَّةَ أَوْ وَجَدَهَا، كَمَا لَا تُنْقَضُ بِلَمْسِ مَحْرَمٍ بِغَيْرِ لَذَّةٍ، أَمَّا الْقُبْلَةُ بِفَمٍ فَنَاقِضَةٌ وَلَا تُشْتَرَطُ فِيهَا اللَّذَّةُ وَلَا وُجُودُهَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: هُوَ لَمْسُ بَشَرَتَيِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى اللَّذَيْنِ بَلَغَا حَدًّا يُشْتَهَى، وَلَوْ لَمْ يَكُونَا بَالِغَيْنِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِشَهْوَةٍ أَوْ إِكْرَاهٍ أَوْ نِسْيَانٍ، أَوْ يَكُونَ الذَّكَرُ مَمْسُوحًا أَوْ خَصِيًّا أَوْ عِنِّينًا، أَوِ الْمَرْأَةُ عَجُوزًا شَوْهَاءَ، أَوِ الْعُضْوُ زَائِدًا أَوْ أَصْلِيًّا سَلِيمًا أَوْ أَشَلَّ أَوْ أَحَدُهُمَا مَيِّتًا.وَالْمُرَادُ بِالْبَشَرَةِ ظَاهِرُ الْجِلْدِ.وَفِي مَعْنَاهَا اللَّحْمُ، كَلَحْمِ الْأَسْنَانِ وَاللِّسَانِ وَاللِّثَةِ وَبَاطِنِ الْعَيْنِ، فَخَرَجَ مَا إِذَا كَانَ عَلَى الْبَشَرَةِ حَائِلٌ وَلَوْ رَقِيقًا.وَالْمَلْمُوسُ فِي كُلِّ هَذَا كَاللاَّمِسِ فِي نَقْضِ وُضُوئِهِ فِي الْأَظْهَرِ.
وَلَا يُنْقَضُ بِلَمْسِ الْمَحْرَمِ فِي الْأَظْهَرِ، وَلَا صَغِيرَةٍ، وَشَعْرٍ، وَسِنٍّ، وَظُفْرٍ فِي الْأَصَحِّ، كَمَا لَا يُنْقَضُ بِلَمْسِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ وَالْخُنْثَى مَعَ الْخُنْثَى أَوْ مَعَ الرَّجُلِ أَوِ الْمَرْأَةِ وَلَوْ بِشَهْوَةٍ، لِانْتِفَاءِ مَظِنَّتِهَا.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَسُّ بَشَرَةِ الذَّكَرِ بَشَرَةَ أُنْثَى أَوْ عَكْسُهُ لِشَهْوَةٍ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ غَيْرِ طِفْلَةٍ وَطِفْلٍ وَلَوْ كَانَ اللَّمْسُ بِزَائِدٍ أَوْ لِزَائِدٍ أَوْ شَلَلٍ، وَلَوْ كَانَ الْمَلْمُوسُ مَيِّتًا أَوْ عَجُوزًا أَوْ مَحْرَمًا أَوْ صَغِيرَةً تُشْتَهَى، وَلَا يُنْقَضُ وُضُوءُ الْمَلْمُوسِ بَدَنُهُ وَلَوْ وُجِدَ مِنْهُ شَهْوَةٌ، وَلَا بِلَمْسِ شَعْرٍ وَظُفْرٍ وَسِنٍّ وَعُضْوٍ مَقْطُوعٍ وَأَمْرَدَ مَسَّهُ رَجُلٌ وَلَا مَسِّ خُنْثَى
مُشْكِلٍ، وَلَا بِمَسِّهِ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، وَلَا بِمَسِّ الرَّجُلِ رَجُلًا، وَلَا الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ وَلَوْ بِشَهْوَةٍ فِيهِمْ.
هَذَا، وَيَسْتَدِلُّ الْجُمْهُورُ فِي اعْتِبَارِهِمُ اللَّمْسَ مِنَ الْأَحْدَاثِ بِمَا وَرَدَ فِي الْآيَةِ مِنْ قوله تعالى. {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمِ النِّسَاءَ} أَيْ لَمَسْتُمْ كَمَا قُرِئَ بِهِ، فَعَطَفَ اللَّمْسَ عَلَى الْمَجِيءِ مِنَ الْغَائِطِ وَرَتَّبَ عَلَيْهِمَا الْأَمْرَ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ حَدَثٌ كَالْمَجِيءِ مِنَ الْغَائِطِ.وَلَيْسَ مَعْنَاهُ (أَوْ جَامَعْتُمْ) لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، إِذْ اللَّمْسُ لَا يَخْتَصُّ بِالْجِمَاعِ.قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «لَعَلَّكَ لَمَسْتَ».
أَمَّا مَا اشْتَرَطَهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ قَصْدِ اللَّذَّةِ أَوْ وُجُودِهَا وَالْحَنَابِلَةُ مِنْ أَنْ يَكُونَ اللَّمْسُ بِالشَّهْوَةِ فَلِلْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَةِ وَبَيْنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ النَّقْضِ بِمُجَرَّدِ الِالْتِقَاءِ كَمَا سَيَأْتِي.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَا يَعْتَبِرُونَ مَسَّ الْمَرْأَةِ مِنَ الْأَحْدَاثِ مُطْلَقًا، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَرِجْلَايَ فِي قِبْلَتِهِ فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْتُ رِجْلِي فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا..وَعَنْهَا أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
مَسُّ فَرْجِ الْآدَمِيِّ:
14- ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَسَّ فَرْجِ الْآدَمِيِّ حَدَثٌ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي الشُّرُوطِ وَالتَّفْصِيلِ:
فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مُطْلَقُ مَسِّ ذَكَرِ الْمَاسِّ الْبَالِغِ الْمُتَّصِلِ وَلَوْ كَانَ خُنْثَى مُشْكِلًا بِبَطْنٍ أَوْ جَنْبٍ لِكَفٍّ أَوْ إِصْبَعٍ وَلَوْ كَانَتِ الْإِصْبَعُ زَائِدَةً وَبِهَا إِحْسَاسٌ.وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَمُّدُ أَوِ الِالْتِذَاذُ.أَمَّا مَسُّ ذَكَرِ غَيْرِهِ فَيَجْرِي عَلَى حُكْمِ اللَّمْسِ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِالْقَصْدِ أَوْ وُجْدَانِ اللَّذَّةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: النَّاقِضُ مَسُّ قُبُلِ الْآدَمِيِّ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى مِنْ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا بِبَطْنِ الْكَفِّ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ.وَكَذَا (فِي الْجَدِيدِ) حَلْقَةُ دُبُرِهِ وَلَوْ فَرْجَ الْمَيِّتِ وَالصَّغِيرِ وَمَحَلَّ الْجَبِّ وَالذَّكَرَ الْأَشَلَّ وَبِالْيَدِ الشَّلاَّءِ عَلَى الْأَصَحِّ، لَا بِرَأْسِ الْأَصَابِعِ وَمَا بَيْنَهُمَا.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي تَجْعَلُ مَسَّهُ حَدَثًا: النَّاقِضُ مَسُّ ذَكَرِ الْآدَمِيِّ إِلَى أُصُولِ الْأُنْثَيَيْنِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَاسُّ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا بِشَهْوَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، لَا مَسُّ مُنْقَطِعٍ وَلَا مَحَلِّ الْقَطْعِ، وَيَكُونُ الْمَسُّ بِبَطْنِ الْكَفِّ أَوْ بِظَهْرِهِ أَوْ بِحَرْفِهِ غَيْرِ ظُفْرٍ، مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ، وَلَوْ بِزَائِدٍ.
كَمَا يَنْقُضُ مَسُّ حَلْقَةِ دُبُرٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَسُّ امْرَأَةٍ فَرْجَهَا الَّذِي بَيْنَ شَفْرَيْهَا أَوْ فَرْجَ امْرَأَةٍ أُخْرَى، وَمَسُّ رَجُلٍ فَرْجَهَا وَمَسُّهَا ذَكَرَهُ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَسَّ الْفَرْجِ حَدَثٌ مَا رَوَاهُ بُسْرُ بْنُ صَفْوَانَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلَا يُصَلِّ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» وَمَا رُوِيَ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَفْضَى بِيَدِهِ إِلَى ذَكَرِهِ لَيْسَ دُونَهُ سِتْرٌ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ» وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَسَّتْ فَرْجَهَا فَلْتَتَوَضَّأْ»
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ- وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَسَّ الْفَرْجِ لَا يُعْتَبَرُ مِنَ الْأَحْدَاثِ فَلَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، لِحَدِيثِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ «عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَمَسُّ ذَكَرَهُ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: هَلْ هُوَ إِلاَّ بَضْعَةٌ مِنْكَ».
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَغْسِلُ يَدَهُ نَدْبًا لِحَدِيثِ «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» أَيْ لِيَغْسِلْ يَدَهُ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «هَلْ هُوَ إِلاَّ بَضْعَةٌ مِنْكَ» حِينَ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَمَسُّ ذَكَرَهُ بَعْدَمَا يَتَوَضَّأُ وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّلَاةِ.
الْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلَاةِ:
15- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- لَا يَعْتَبِرُونَ الْقَهْقَهَةَ مِنَ الْأَحْدَاثِ مُطْلَقًا، فَلَا يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِهَا أَصْلًا وَلَا يَجْعَلُونَ فِيهَا وُضُوءًا، لِأَنَّهَا لَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَلَا تَنْقُضُهُ دَاخِلَهَا، وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ خَارِجًا نَجِسًا، بَلْ هِيَ صَوْتٌ كَالْكَلَامِ وَالْبُكَاءِ.
وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْأَحْدَاثِ الَّتِي تَنْقُضُ الْوُضُوءَ الْقَهْقَهَةَ فِي الصَّلَاةِ إِذَا حَدَثَتْ مِنْ مُصَلٍّ بَالِغٍ يَقْظَانَ فِي صَلَاةٍ كَامِلَةٍ ذَاتِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُتَوَضِّئًا أَمْ مُتَيَمِّمًا أَمْ مُغْتَسِلًا فِي الصَّحِيحِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْقَهْقَهَةُ عَمْدًا أَمْ سَهْوًا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ ضَحِكَ فِي الصَّلَاةِ قَهْقَهَةً فَلْيُعِدِ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ مَعًا».
وَالْقَهْقَهَةُ مَا يَكُونُ مَسْمُوعًا لِجِيرَانِهِ، وَالضَّحِكُ مَا يَسْمَعُهُ هُوَ دُونَ جِيرَانِهِ، وَالتَّبَسُّمُ مَا لَا صَوْتَ فِيهِ وَلَوْ بَدَتْ أَسْنَانُهُ.قَالُوا: الْقَهْقَهَةُ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَتُبْطِلُ الصَّلَاةَ مَعًا، وَالضَّحِكُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ خَاصَّةً، وَالتَّبَسُّمُ لَا يُبْطِلُ شَيْئًا.
وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا يَبْطُلُ وُضُوءُ صَبِيٍّ وَنَائِمٍ بِالْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، كَمَا لَا يُنْقَضُ وُضُوءُ مَنْ قَهْقَهَ خَارِجَ الصَّلَاةِ، أَوْ مَنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ غَيْرِ كَامِلَةٍ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ.
ثُمَّ قِيلَ: إِنَّ الْقَهْقَهَةَ مِنَ الْأَحْدَاثِ عِنْدَهُمْ، وَقِيلَ: لَا بَلْ وَجَبَ الْوُضُوءُ بِهَا عُقُوبَةً وَزَجْرًا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالصَّلَاةِ إِظْهَارُ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ وَالتَّعْظِيمِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْقَهْقَهَةُ تُنَافِي ذَلِكَ فَنَاسَبَ انْتِقَاضَ وُضُوئِهِ زَجْرًا لَهُ.
وَالرَّاجِحُ أَنَّهَا لَيْسَتْ حَدَثًا وَإِلاَّ لَاسْتَوَى فِيهَا جَمِيعُ الْأَحْوَالِ مَعَ أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِأَنْ تَكُونَ فِي الصَّلَاةِ الْكَامِلَةِ مِنْ مُصَلٍّ بَالِغٍ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَرَجَّحَ فِي الْبَحْرِ الْقَوْلَ الثَّانِيَ لِمُوَافَقَتِهِ الْقِيَاسَ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ خَارِجًا نَجِسًا بَلْ هِيَ صَوْتٌ كَالْكَلَامِ وَالْبُكَاءِ، وَلِمُوَافَقَتِهِ لِلْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ فِيهَا، إِذْ لَيْسَ فِيهَا إِلاَّ الْأَمْرُ بِإِعَادَةِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُهَا حَدَثًا.
16- وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي الْقَوْلَيْنِ تَظْهَرُ فِي جَوَازِ مَسِّ الْمُصْحَفِ وَكِتَابَةِ الْقُرْآنِ، فَمَنْ جَعَلَهَا حَدَثًا مَنَعَ كَسَائِرِ الْأَحْدَاثِ، وَمَنْ أَوْجَبَ الْوُضُوءَ عُقُوبَةً وَزَجْرًا جَوَّزَ.
أَكْلُ لَحْمِ الْجَزُورِ:
17- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَكْلَ لَحْمِ الْجَزُورِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ كَأَكْلِ سَائِرِ الْأَطْعِمَةِ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ وَلَيْسَ مِمَّا يَدْخُلُ» وَلِمَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ: «كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ» وَلِأَنَّهُ مَأْكُولٌ أَشْبَهَ سَائِرَ الْمَأْكُولَاتِ فِي عَدَمِ النَّقْضِ، وَالْأَمْرُ بِالْوُضُوءِ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ أَوِ الْوُضُوءِ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ- بِأَنْ أَكْلَ لَحْمِ الْإِبِلِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ عَلَى كُلِّ حَالٍ نِيئًا وَمَطْبُوخًا، عَالِمًا كَانَ الْآكِلُ أَوْ جَاهِلًا.لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ».
وَقَالُوا: إِنَّ وُجُوبَ الْوُضُوءِ مِنْ أَكْلِ لَحْمِ الْجَزُورِ تَعَبُّدِيٌّ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ فَلَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ، فَلَا يَجِبُ الْوُضُوءُ بِشُرْبِ لَبَنِهَا، وَمَرَقِ لَحْمِهَا، وَأَكْلِ كَبِدِهَا وَطِحَالِهَا وَسَنَامِهَا وَجِلْدِهَا وَكَرِشِهَا وَنَحْوِهِ.
غُسْلُ الْمَيِّتِ:
18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ بِتَغْسِيلِ الْمَيِّتِ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَكُونُ مِنَ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي هَذَا نَصٌّ فَبَقِيَ عَلَى الْأَصْلِ.وَلِأَنَّهُ غَسْلُ آدَمِيٍّ فَأَشْبَهَ غَسْلَ الْحَيِّ، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ.
وَيَرَى أَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَنْ غَسَّلَ الْمَيِّتَ أَوْ بَعْضَهُ وَلَوْ فِي قَمِيصٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَغْسُولُ صَغِيرًا أَمْ كَبِيرًا، ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا.لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم- أَنَّهُمَا كَانَا يَأْمُرَانِ غَاسِلَ.الْمَيِّتِ بِالْوُضُوءِ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ أَنْ تَقَعَ يَدُهُ عَلَى فَرْجِ الْمَيِّتِ فَتُقَامُ مَظِنَّةُ ذَلِكَ مَقَامَ حَقِيقَتِهِ كَمَا أُقِيمَ النَّوْمُ مَقَامَ الْحَدَثِ.
الرِّدَّةُ:
19- الرِّدَّةُ- وَهِيَ الْإِتْيَانُ بِمَا يُخْرِجُ مِنَ الْإِسْلَامِ بَعْدَ تَقَرُّرِهِ- حَدَثٌ حُكْمِيٌّ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَالْمُرْتَدُّ إِذَا عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَرَجَعَ إِلَى دِينِ الْحَقِّ فَلَيْسَ لَهُ الصَّلَاةُ حَتَّى يَتَوَضَّأَ وَإِنْ كَانَ مُتَوَضِّئًا قَبْلَ رِدَّتِهِ وَلَمْ يُنْقَضْ وُضُوءُهُ بِأَسْبَابٍ أُخْرَى.لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وَالطَّهَارَةُ عَمَلٌ.
وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ اسْتِحْبَابُ الْوُضُوءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَلَمْ يَعُدَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الرِّدَّةَ مِنْ أَسْبَابِ الْحَدَثِ فَلَا يُنْقَضُ الْوُضُوءُ بِهَا عِنْدَهُمْ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} فَشَرَطَ الْمَوْتَ بَعْدَ الرِّدَّةِ لِحُبُوطِ الْعَمَلِ- كَمَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّةٌ)
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
275-موسوعة الفقه الكويتية (حمالة)
حَمَالَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْحَمَالَةُ بِفَتْحِ الْحَاءِ هِيَ الدِّيَةُ وَالْغَرَامَةُ الَّتِي يَتَحَمَّلُهَا الْإِنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ، وَيُقَالُ: حَمَالٌ أَيْضًا وَجَمْعُهَا حَمَالَاتٌ وَحَمَلٌ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: مَا يَتَحَمَّلُهُ الْإِنْسَانُ، وَيَلْتَزِمُهُ فِي ذِمَّتِهِ بِالِاسْتِدَانَةِ لِيَدْفَعَهُ فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، مِثْلُ أَنْ تَقَعَ حَرْبٌ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ تُسْفَكُ فِيهَا الدِّمَاءُ، وَيَتْلَفُ فِيهَا نَفْسٌ أَوْ مَالٌ، فَيَسْعَى إِنْسَانٌ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ، وَيَتَحَمَّلُ الدِّمَاءَ الَّتِي بَيْنَهُمْ وَالْأَمْوَالَ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْكَفَالَةُ:
2- الْكَفَالَةُ فِي اللُّغَةِ: بِمَعْنَى الضَّمِّ، وَمِنْهُ (({وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} أَيْ ضَمَّهَا إِلَيْهِ وَأَلْزَمَهُ كَفَالَتَهَا.وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى» أَيِ الَّذِي يَضُمُّهُ إِلَيْهِ فِي التَّرْبِيَةِ.وَيُسَمَّى النَّصِيبُ كِفْلًا، لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَضُمُّهُ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَالْكَفَالَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: ضَمُّ ذِمَّةِ الْكَفِيلِ إِلَى ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فِي الْمُطَالَبَةِ مُطْلَقًا أَيْ: سَوَاءٌ كَانَ بِنَفْسٍ أَوْ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ كَالْمَغْصُوبِ وَنَحْوِهِ.فَالْكَفِيلُ وَالضَّمِينُ، وَالْقَبِيلُ، وَالْحَمِيلُ، وَالْغَرِيمُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ، وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْكَفَالَةَ هِيَ أَنْ يَلْتَزِمَ الرَّشِيدُ بِإِحْضَارِ بَدَنٍ مَنْ يَلْزَمُ حُضُورُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ.فَالْحَنَفِيَّةُ يُطْلِقُونَ الْكَفَالَةَ عَلَى كَفَالَةِ الْمَالِ وَالْوَجْهِ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ يَقْسِمُونَ الضَّمَانَ إِلَى ضَمَانِ الْمَالِ وَضَمَانِ الْوَجْهِ.وَيُطْلِقُ الشَّافِعِيَّةُ الْكَفَالَةَ عَلَى ضَمَانِ الْأَعْيَانِ الْبَدَنِيَّةِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: فَالضَّمَانُ يَكُونُ الْتِزَامُ حَقٍّ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ آخَرَ، وَالْكَفَالَةُ الْتِزَامٌ بِحُضُورِ بَدَنِهِ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ.
الضَّمَانُ:
3- الضَّمَانُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ ضَمِنَ الْمَالَ وَبِهِ ضَمَانًا أَيِ الْتَزَمَهُ.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ ضَمُّ ذِمَّةِ الضَّامِنِ إِلَى ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ فِي الْتِزَامِ الْحَقِّ.وَالْفَرْقُ بَيْنَ الضَّمَانِ وَالْحَمَالَةِ، هُوَ أَنَّ الْحَمَالَةَ ضَمَانُ الدِّيَةِ وَغَيْرِهَا لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَالضَّمَانُ يَكُونُ فِي ذَلِكَ وَفِي غَيْرِهِ، فَالضَّمَانُ أَعَمُّ مِنَ الْحَمَالَةِ.
مَشْرُوعِيَّةُ الْحَمَالَةِ:
4- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحَمَالَةَ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ، وَهِيَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.
وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَعْرِفُ الْحَمَالَةَ، فَإِذَا وَقَعَتْ بَيْنَهُمْ فِتْنَةٌ اقْتَضَتْ غَرَامَةً فِي دِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، قَامَ أَحَدُهُمْ فَتَبَرَّعَ بِالْتِزَامِ ذَلِكَ حَتَّى تَرْتَفِعَ تِلْكَ الْفِتْنَةُ الثَّائِرَةُ.وَكَانُوا إِذَا عَلِمُوا أَنَّ أَحَدَهُمْ تَحَمَّلَ حَمَالَةً بَادَرُوا إِلَى مَعُونَتِهِ، وَأَعْطَوْهُ مَا تَبْرَأُ بِهِ ذِمَّتُهُ.وَإِذَا سَأَلَ لِذَلِكَ لَمْ يُعَدَّ نَقْصًا فِي قَدْرِهِ، بَلْ فَخْرًا.
وَسُمِّيَ قَتَادَةُ بْنُ أَبِي أَوْفَى- رضي الله عنه- صَاحِبَ الْحَمَالَةِ، لِأَنَّهُ تَحَمَّلَ بِحَمَالَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَسَأَلَ فِيهَا وَأَدَّاهَا.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}.
وَمَا رُوِيَ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلَالِيِّ.قَالَ: «تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً.فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَسْأَلُهُ فِيهَا.فَقَالَ: أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ.فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا.قَالَ: ثُمَّ قَالَ يَا قَبِيصَةُ: إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلاَّ لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ وَرَجُل أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ.فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ، حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا، قَبِيصَةُ.سُحْتًا يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا».
أَحْكَامُ الْحَمَالَةِ:
أ- دَفْعُ الزَّكَاةِ لِلْحَمِيلِ:
5- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ دَفْعِ الزَّكَاةِ لِلْحَمِيلِ إِذَا اسْتَدَانَ لِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ بِسَبَبِ إِتْلَافِ نَفْسٍ، أَوْ مَالٍ، أَوْ نَهْبٍ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا، قَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَلَوْ كَانَ الْإِصْلَاحُ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ.وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ غَنِيًّا:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا، وَبِهَذَا قَالَ إِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلاَّ لِخَمْسَةٍ: لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا، أَوْ لِغَارِمٍ، أَوْ لِرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أَوْ لِرَجُلٍ كَانَ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتَصَدَّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ فَأَهْدَاهَا الْمِسْكِينُ لِلْغَنِيِّ»
فَيَجُوزُ لِلْمُتَحَمِّلِ فِي صَلَاحٍ وَبِرٍّ إِذَا اسْتَدَانَ مَالًا لِتَسْكِينِ الثَّائِرَةِ بَيْنَ شَخْصَيْنِ أَوْ قَبِيلَتَيْنِ أَنْ يَقْضِيَ ذَلِكَ مِمَّا يَأْخُذُهُ مِنَ الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا إِذَا كَانَ يُجْحِفُ بِمَالِهِ كَالْغَرِيمِ.
وَلِأَنَّ الْحَمِيلَ قَدْ يَلْتَزِمُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْمَالِ الْكَثِيرِ، وَقَدْ أَتَى مَعْرُوفًا عَظِيمًا، وَابْتَغَى صَلَاحًا عَامًّا، فَكَانَ مِنَ الْمَعْرُوفِ حَمْلُهُ عَنْهُ مِنَ الزَّكَاةِ وَتَوْفِيرِ مَالِهِ عَلَيْهِ، لِئَلاَّ يُجْحِفَ بِمَالِ الْمُصْلِحِينَ، أَوْ يُوهِنَ عَزَائِمَهُمْ عَنْ تَسْكِينِ الْفِتَنِ، وَكَفِّ الْمَفَاسِدِ، فَيُدْفَعُ إِلَيْهِ مَا يُؤَدِّي حَمَالَتَهُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا.
وَأَمَّا إِنِ اسْتَدَانَ الْحَمَالَةَ وَأَدَّاهَا جَازَ لَهُ الْأَخْذُ مِنَ الزَّكَاةِ، لِأَنَّ الْغُرْمَ بَاقٍ، وَالْمُطَالَبَةَ قَائِمَةٌ، فَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ مَدِينًا بِسَبَبِ الْحَمَالَةِ.
وَإِنْ أَدَّى الْحَمَالَةَ مِنْ مَالِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ، لِأَنَّهُ قَدْ سَقَطَ الْغُرْمُ، فَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مَدِينًا.
وَلَا تُعْتَبَرُ الْغَرَامَةُ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ حَمَالَةً، وَلَا تَأْخُذُ حُكْمَهَا، لِأَنَّ الْغَارِمَ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ يَأْخُذُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ، فَاعْتُبِرَتْ حَاجَتُهُ كَالْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ، وَأَمَّا الْغَارِمُ فِي الْحَمَالَةِ فَيَأْخُذُ لِإِخْمَادِ الْفِتْنَةِ فَجَازَ لَهُ الْأَخْذُ مَعَ الْغِنَى كَالْغَازِي وَالْعَامِلِ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَا تُدْفَعُ الزَّكَاةُ إِلاَّ لِحَمِيلٍ فَقِيرٍ، لِأَنَّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لَا تَحِلُّ لَهُ كَسَائِرِ أَصْنَافِ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ.
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِمُعَاذٍ- رضي الله عنه-: «وَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ» ب- إبَاحَةُ السُّؤَالِ لِأَجْلِ الْحَمَالَةِ:
6- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ تَحَمَّلَ بِسَبَبِ إِتْلَافِ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ، دِيَةً أَوْ مَالًا لِتَسْكِينِ فِتْنَةٍ وَقَعَتْ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ حَتَّى يُؤَدِّيَ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ السَّابِقِ.
وَبِحَدِيثِ أَنَسٍ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلاَّ لِثَلَاثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ».
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
276-موسوعة الفقه الكويتية (حوالة 1)
حَوَالَةٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الْحَوَالَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ حَالَ الشَّيْءُ حَوْلًا وَحُؤُولًا: تَحَوَّلَ.وَتَحَوَّلَ مِنْ مَكَانِهِ انْتَقَلَ عَنْهُ وَحَوَّلْتُهُ تَحْوِيلًا نَقَلْتُهُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ.
وَالْحَوَالَةُ بِالْفَتْحِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ هَذَا، فَإِذَا أَحَلْتَ شَخْصًا بِدَيْنِكَ فَقَدْ نَقَلْتَهُ إِلَى ذِمَّةٍ غَيْرِ ذِمَّتِكَ.
2- وَالْحَوَالَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ: نَقْلُ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ.فَمَتَى تَمَّ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ تَحْمِيلًا وَتَحَمُّلًا لِأَدَاءِ الدَّيْنِ مِنَ الْمُحْتَمِلِ إِلَى الدَّائِنِ، بَيْنَ اثْنَيْنِ مِنَ الثَّلَاثَةِ الْأَطْرَافِ الْمَعْنِيَّةِ، الدَّائِنِ وَالْمَدِينِ وَالْمُلْتَزِمِ بِالْأَدَاءِ، مَعَ الِاسْتِيفَاءِ لِسَائِرِ الشَّرَائِطِ الَّتِي سَتَأْتِي، فَقَدْ تَمَّ هَذَا النَّقْلُ مِنَ الْوِجْهَةِ الشَّرْعِيَّةِ.
مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ لِلدَّائِنِ قَائِلٌ: لَكَ عَلَى فُلَانٍ دَيْنٌ مِقْدَارُهُ كَذَا فَاقْبَلْ حَوَالَتَهُ عَلَيَّ، فَيَقُولُ الدَّائِنُ: قَبِلْتُ أَوْ يَبْتَدِئُ الدَّائِنُ فَيَقُولُ لِصَاحِبِهِ: لِي عَلَى فُلَانٍ كَذَا، فَاقْبَلْ دَيْنَهُ عَلَيْكَ حَوَالَةً، فَيُجِيبُ: قَدْ فَعَلْتُ
3- بَعْدَ هَذَا التَّعْرِيفِ يَتَبَيَّنُ مَا يَلِي:
أ- أَنَّ الْمُحِيلَ هُوَ الْمَدِينُ، وَقَدْ يَكُونُ دَائِنًا أَيْضًا بِاعْتِبَارٍ آخَرَ (كَمَا سَنَرَى)، وَهُوَ طَرَفٌ فِي الْعَقْدِ إِذَا بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ أَجَازَهُ.
ب- وَأَمَّا الْمُحَالُ، فَهُوَ الدَّائِنُ، وَهُوَ أَبَدًا طَرَفٌ فِي الْعَقْدِ، إِمَّا بِمُبَاشَرَتِهِ، وَإِمَّا بِإِجَازَتِهِ.
وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: حَوِيلٌ، وَمُحْتَالٌ (بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ).وَلَا يُقَالُ: مُحَالٌ لَهُ، أَوْ مُحْتَالٌ لَهُ، لِأَنَّ هَذِهِ الصِّلَةَ لَغْوٌ- كَمَا قَالَ فِي الْمُغْرِبِ- وَإِنْ أَثْبَتَهَا الْبَعْضُ، وَتَكَلَّفَ ابْنُ عَابِدِينَ تَصْحِيحَهَا.
ج- وَأَمَّا الْمُحَالُ عَلَيْهِ (وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: حَوِيلٌ، بِزِنَةِ «كَفِيلٍ»، وَمُحْتَالٌ عَلَيْهِ) فَهُوَ الَّذِي الْتَزَمَ لِأَحَدِ الْآخَرَيْنِ بِدِيَتِهِ عَلَى ثَانِيهِمَا، وَهُوَ أَيْضًا أَبَدًا طَرَفٌ فِي الْعَقْدِ، عَلَى نَحْوِ مَا ذُكِرَ فِي الْمُحَالِ.
د- وَأَمَّا الْمُحَالُ بِهِ، (وَيُقَالُ: الْمُحْتَالُ بِهِ) فَهُوَ الدَّيْنُ نَفْسُهُ الَّذِي لِلْمُحْتَالِ عَلَى الْمُحِيلِ، وَهُوَ هُنَا مَحَلُّ عَقْدِ الْحَوَالَةِ.
أَلْفَاظٌ ذَاتُ صِلَةٍ:
أ- الْكَفَالَةُ أَوِ الضَّمَانُ:
4- الْكَفَالَةُ أَوِ الضَّمَانُ لُغَةً: الِالْتِزَامُ بِالشَّيْءِ.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: ضَمُّ ذِمَّةِ الضَّامِنِ إِلَى ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ فِي الْتِزَامِ الْحَقِّ.وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَوَالَةِ وَالْكَفَالَةِ أَوِ الضَّمَانِ: أَنَّ الْحَوَالَةَ نَقْلٌ لِلدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى، أَمَّا الْكَفَالَةُ أَوِ الضَّمَانُ فَهُوَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ فِي الِالْتِزَامِ بِالْحَقِّ فَهُمَا مُتَبَايِنَانِ، لِأَنَّ بِالْحَوَالَةِ تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمُحِيلِ، وَفِي الْكَفَالَةِ لَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمَكْفُولِ.
ب- الْإِبْرَاءُ:
5- الْإِبْرَاءُ لُغَةً: التَّنْزِيهُ وَالتَّخْلِيصُ وَالْمُبَاعَدَةُ عَنِ الشَّيْءِ.وَاصْطِلَاحًا: إِسْقَاطُ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَوَالَةِ وَالْإِبْرَاءِ، أَنَّ الْحَوَالَةَ نَقْلٌ لِلْحَقِّ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ، وَالْإِبْرَاءُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6- الْحَوَالَةُ بِالدَّيْنِ مَشْرُوعَةٌ يَدُلُّ لِذَلِكَ مَا يَأْتِي:
أ- السُّنَّةُ:
7- رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، فَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ»،، وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ: «وَمَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» وَفِي آخَرَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: «وَمَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ» وَقَدْ يُرْوَى بِفَاءِ التَّفْرِيعِ: «وَإِذَا أُحِلْتَ عَلَى مَلِيءٍ فَاتْبَعْهُ» فَيُفِيدُ أَنَّ مَا قَبْلَهُ عِلَّتُهُ، أَيْ أَنَّ مَطْلَ أَهْلِ الْمُلَاءَةِ وَالْيَسَارِ ظُلْمٌ مُحَرَّمٌ فِي الْإِسْلَامِ، فَلَا يَخْشَيَنَّهُ مُسْلِمٌ فَيَأْبَى مِنْ خَشْيَتِهِ قَبُولَ الْحَوَالَةِ عَلَى مَلِيءٍ بَلْ إِنَّهُ لَمَأْمُورٌ بِقَبُولِهَا.
ب- الْإِجْمَاعُ:
8- انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْحَوَالَةِ.
ج- الْقِيَاسُ:
9- الْحَوَالَةُ مَقِيسَةٌ عَلَى الْكَفَالَةِ، بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَالْكَفِيلِ قَدِ الْتَزَمَ مَا هُوَ أَهْلٌ لِالْتِزَامِهِ وَقَادِرٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَكِلَاهُمَا طَرِيقٌ لِتَيْسِيرِ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، فَلَا تَمْتَنِعُ هَذِهِ كَمَا لَمْ تَمْتَنِعْ تِلْكَ.وَالْحَاجَةُ تَدْعُو إِلَى الْحَوَالَةِ، وَالدِّينُ يُسْرٌ.وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِقِيَاسِ الْمَجْمُوعِ عَلَى آحَادِهِ: ذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنْ نَوْعَيِ الْحَوَالَةِ (الْمُطْلَقَةِ أَوِ الْمُقَيَّدَةِ) يَتَضَمَّنُ تَبَرُّعَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِالِالْتِزَامِ وَالْإِيفَاءِ، وَأَمْرَهُ بِالتَّسْلِيمِ إِلَى الْمُحَالِ، وَتَوْكِيلَ الْمُحَالِ بِالْقَبْضِ مِنْهُ.وَمَا مِنْهَا خَصْلَةٌ إِلاَّ وَهِيَ جَائِزَةٌ عَلَى الِانْفِرَادِ، فَلْتَكُنْ كَذَلِكَ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ، بِجَامِعِ عَدَمِ الْفَرْقِ.
10- وَاخْتَلَفُوا فِي قَبُولِ الْمُحَالِ لِلْحَوَالَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْحَدِيثِ، هَلْ هُوَ أَمْرُ إِيجَابٍ، أَمْ نَدْبٍ أَمْ إِبَاحَةٍ؟ قَالَ بِالْأَوَّلِ أَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ جَرِيرٍ.
لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ، وَقَالَ بِالثَّانِي: أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَرِّحُ بِتَقْيِيدِهِ بِأَنْ يَكُونَ الْمَلِيءُ لَيْسَ فِي مَالِهِ شُبْهَةُ حَرَامٍ.
وَإِنَّمَا صَرَفُوا الْكَلَامَ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلْحَاقًا لِلْحَوَالَةِ بِسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ، لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ شَوْبِ مُعَاوَضَةٍ.
وَاسْتَظْهَرَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ أَنَّهُ أَمْرُ إِبَاحَةٍ، لِأَنَّ أَهْلَ الْمُلَاءَةِ قَدْ يَكُونُ فِيهِمُ اللَّدَدُ فِي الْخُصُومَةِ وَالْمَطْلُ بِالْحُقُوقِ، وَهُوَ ضَرَرٌ لَا يَأْمُرُ الشَّارِعُ بِتَحَمُّلِهِ، بَلْ بِالتَّبَاعُدِ عَنْهُ وَاجْتِنَابِهِ.فَمَنْ عُرِفَ مِنْهُمْ بِحُسْنِ الْقَضَاءِ اسْتُحِبَّ اتِّبَاعُهُ، تَفَادِيًا لِلْمِسَاسِ بِمَشَاعِرِهِ، وَتَنْفِيسًا عَنِ الْمَدِينِ نَفْسِهِ، وَمَنْ جُهِلَ حَالُهُ فَعَلَى الْإِبَاحَةِ، إِذْ لَا تَرْجِيحَ بِلَا مُرَجِّحٍ.
وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ يَجْعَلُ الْمُلَاءَةَ شَيْئًا، وَكُلًّا مِنِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ وَعَدَمِ الْمُمَاطَلَةِ شَيْئًا آخَرَ.
وَذَلِكَ إِذْ يَقُولُ: (يُسَنُّ قَبُولُهَا عَلَى مَلِيءٍ، مُقِرٍّ، بَاذِلٍ، لَا شُبْهَةَ فِي مَالِهِ).
حَقِيقَةُ عَقْدِ الْحَوَالَةِ وَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهَا:
11- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّ الْحَوَالَةَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَنُسِبَ النَّصُّ عَلَيْهِ إِلَى الشَّافِعِيِّ نَفْسِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مَلَكَ بِهَا مَا لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ، فَكَأَنَّمَا الْمُحَالُ قَدْ بَاعَ مَا لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ بِمَا لِهَذَا فِي ذِمَّةِ مَدِينِهِ.
وَعِبَارَةُ صَاحِبِ الْمُهَذَّبِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: (الْحَوَالَةُ بَيْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ: لِأَنَّ الْمُحْتَالَ يَبِيعُ مَا لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ بِمَا لِلْمُحِيلِ فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، أَوْ أَنَّ الْمُحِيلَ يَبِيعُ مَا لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ).
وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَوَّلَ كَلَامِهِ، إِذْ يَقُولُ بِإِطْلَاقٍ: (وَالْحَوَالَةُ مُعَامَلَةٌ صَحِيحَةٌ مُسْتَثْنَاةٌ مِنَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ).
فَالْحَوَالَةُ، عَلَى هَذَا، بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ، أَوْ كَمَا يَقُولُ فِي الْحَاوِي الزَّاهِدِيِّ: (هِيَ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ)، وَالْقِيَاسُ امْتِنَاعُهُ، وَلَكِنَّهُ جَوَّزَ لِلْحَاجَةِ، رُخْصَةً مِنَ الشَّارِعِ وَتَيْسِيرًا.
فَكَثِيرًا مَا يَكُونُ الْمَدِينُ مُمَاطِلًا، يُؤْذِي دَائِنِيهِ بِتَسْوِيفِهِ وَكَذُوبِ وُعُودِهِ، أَوْ بِمُشَاغَبَاتِهِ وَضِيقِ ذَاتِ يَدِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى آخَرَ هُوَ أَلْيَنُ عَرِيكَةً، وَأَحْسَنُ مُعَامَلَةً، وَأَوْفَرُ رِزْقًا، فَيَرْغَبُ دَائِنُو الْأَوَّلِ فِي التَّحَوُّلِ إِلَى هَذَا تَوْفِيرًا لِلْجَهْدِ وَالْوَقْتِ، وَاتِّقَاءً لِأَخْطَارِ الْخُصُومَاتِ، وَتَحْصِيلًا لِجُزْءٍ مِنَ الْمَالِ عَاطِلٍ، يُمْكِنُ أَنْ تُنَمَّى بِهِ ثَرْوَةٌ، أَوْ تُسَدُّ بِهِ خَلَّةٌ.فَرَخَّصَ فِي الْحَوَالَةِ مِنْ أَجْلِ هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ، إِذْ لَوْ لَمْ تُشْرَعْ لَفَاتَتْ كُلُّ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ الصَّحِيحَةِ، وَلَحَاقَتْ بِالدَّائِنِينَ أَضْرَارٌ جَمَّةٌ، وَلَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ.وَالْعَكْسُ صَحِيحٌ أَيْضًا: فَرُبَّمَا كَانَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُمَاطِلًا، وَكَانَ الْمُحَالُ أَقْدَرَ مِنَ الْمُحِيلِ عَلَى اسْتِخْلَاصِ الْحَقِّ مِنْهُ، وَلَوْلَا الْحَوَالَةُ لَطَالَ عَنَاءُ الدَّائِنِ الضَّعِيفِ، أَوْ لَضَاعَ مَالُهُ.وَلَيْسَ فِي كُلِّ وَقْتٍ يُتَاحُ الْوَكِيلُ الصَّالِحُ، وَإِنْ أُتِيحَ فَقَلَّمَا يَكُونُ بِغَيْرِ أَجْرٍ.عَلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تُغْنِي فِي الْحَالَةِ الْأُولَى، لِأَنَّهَا عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ: فَقَدْ يُوَكِّلُ الْمَدِينُ الْمُمَاطِلُ دَائِنَهُ فِي اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، وَيُسَلِّطُهُ عَلَى تَمَلُّكِهِ بَعْدَ قَبْضِهِ، تَحْتَ ضَغْطِ ظُرُوفٍ خَاصَّةٍ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَعْزِلَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ، فَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ.
12- وَلَا يَبْعُدُ كَثِيرًا عَنْ هَذَا الْمَذْهَبِ مِنَ الرَّأْيِ رَأْيُ الذَّاهِبِينَ إِلَى أَنَّ الْحَوَالَةَ بَيْعُ عَيْنٍ بِعَيْنٍ تَقْدِيرًا.
وَقَدْ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالدَّيْنِ هُوَ الْمَاصَدَقَ الْخَارِجِيُّ لَهُ، إِذِ الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةُ الْقَائِمَةُ بِالذِّمَّةِ، كَمِائَةِ ثَوْبٍ أَوْ دِينَارٍ، لَا تَعْنِي لِذَاتِهَا- وَكَذَا لَا يَبْعُدُ عَنْهُمُ الرَّأْيُ الْقَائِلُ بِأَنَّهَا بَيْعُ عَيْنٍ بِدَيْنٍ- وَهَذَا قَدْ يَقْرُبُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا كَانَتِ الْحَوَالَةُ مُقَيَّدَةً عَلَى مَا قَرَّرَهُ الزَّاهِدِيُّ، إِذِ الْمَقْصُودُ عِنْدَهُمْ بِالْمَبِيعِ عَيْنُهُ، لِتَعَلُّقِ الْحَاجَةِ بِمَنْفَعَتِهَا الذَّاتِيَّةِ، أَمَّا الْمَقْصُودُ بِالثَّمَنِ فَمَالِيَّتُهُ.وَلِذَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي تَسْلِيمُ مِثْلِهِ مَعَ بَقَائِهِ، وَلَوْ تَلِفَ أَوِ اسْتُحِقَّ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ، وَيُسَلَّمُ الْمِثْلُ، نَعَمْ فِي الْحَوَالَةِ الْمُطَلَّقَةِ الَّتِي تَفَرَّدَ بِهَا الْحَنَفِيَّةُ لَا يُتَصَوَّرُ مَعْنَى الْبَيْعِ عَلَى حَالٍ، وَهِيَ بِالْحَمَالَةِ (الْكَفَالَةِ) أَشْبَهُ.
13- عَلَى أَنَّ ابْنَ تَيْمِيَّةَ وَتِلْمِيذَهُ ابْنَ الْقَيِّمِ لَا يُسَلِّمَانِ بِأَنَّ الْحَوَالَةَ وَارِدَةٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ.وَفِي ذَلِكَ يُقَرِّرُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ أَنَّ امْتِنَاعَ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَامٌّ، وَلَا إِجْمَاعٌ.وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، وَالْكَالِئُ هُوَ الشَّيْءُ الْمُؤَخَّرُ الَّذِي لَمْ يُقْبَضْ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ شَيْئًا فِي شَيْءٍ فِي الذِّمَّةِ، وَكِلَاهُمَا مُؤَخَّرٌ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ، وَهُوَ بَيْعُ كَالِئٍ بِكَالِئٍ.
وَأَمَّا بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ فَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْعَ وَاجِبٍ بِوَاجِبٍ كَالصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَهُوَ الْمَمْنُوعُ، أَوْ يَكُونَ بَيْعَ سَاقِطٍ بِسَاقِطٍ (كَمَا فِي صُوَرِ الْمُقَاصَّةِ) أَوْ يَكُونَ بَيْعَ سَاقِطٍ بِوَاجِبٍ (كَمَا لَوْ بَاعَهُ دَيْنًا لَهُ فِي ذِمَّتِهِ، بِدَيْنٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ)، فَقَدْ سَقَطَ الدَّيْنُ الْمَبِيعُ وَوَجَبَ عِوَضُهُ، أَوْ يَكُونُ بَيْعَ وَاجِبٍ بِسَاقِطٍ (كَمَا لَوِ اشْتَرَى مِنْ مَدْيُونِهِ قَمْحًا عَلَى سَبِيلِ السَّلَمِ بِالدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ فَقَدْ وَجَبَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَسَقَطَ عَنْهُ غَيْرُهُ).وَقَدْ حَكَى بَعْضُهُمُ الْإِجْمَاعَ عَلَى امْتِنَاعِ هَذَا شَرْعًا، وَلَا إِجْمَاعَ فِيهِ.
وَنَقَلَ تِلْمِيذُهُ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنْهُ اخْتِيَارَ جَوَازِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ الصَّوَابُ، إِذْ لَا مَحْذُورَ فِيهِ، وَلَيْسَ بَيْعَ كَالِئٍ بِكَالِئٍ فَيَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ بِلَفْظِهِ، وَلَا فِي مَعْنَاهُ فَيَتَنَاوَلُهُ بِعُمُومِ الْمَعْنَى.فَإِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ قَدْ شُغِلَتْ فِيهِ الذِّمَّتَانِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ: فَإِنَّهُ لَمْ يَتَعَجَّلْ أَحَدُهُمَا مَا يَأْخُذُهُ فَيَنْتَفِعُ بِتَعْجِيلِهِ، وَيَنْتَفِعُ صَاحِبُ الْمُؤَخَّرِ بِرِبْحِهِ، بَلْ كِلَاهُمَا شُغِلَتْ ذِمَّتُهُ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ.وَأَمَّا مَا عَدَاهُ مِنَ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ فَلِكُلٍّ مِنْهَا غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَمَنْفَعَةٌ مَطْلُوبَةٌ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي مَسْأَلَةِ التَّقَاصِّ: فَإِنَّ ذِمَّتَهُمَا تَبْرَأُ مِنْ أَسْرِهَا، وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مَطْلُوبٌ لَهُمَا وَلِلشَّارِعِ.
وَأَمَّا فِي الصُّورَتَيْنِ الْآخِرَتَيْنِ: فَأَحَدُهُمَا يُعَجِّلُ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ وَالْآخَرُ يَنْتَفِعُ بِرِبْحِهِ، يَعْنِي فَثَمَّ نَفْعٌ فِي مُقَابَلَةِ نَفْعٍ، فَتَجُوزُ، كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ سَوَاءٌ اتَّحَدَتِ الذِّمَّةُ أَمِ اخْتَلَفَتْ.
14- وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ أُخَرُ أَجْمَلَهَا السُّيُوطِيُّ فِي سِتَّةٍ
1- بَيْعٌ.
2- اسْتِيفَاءٌ.
3- بَيْعٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى اسْتِيفَاءٍ.
4- اسْتِيفَاءٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى بَيْعٍ.
5- إِسْقَاطٌ بِعِوَضٍ.
6- ضَمَانٌ بِإِبْرَاءٍ.
15- وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْحَوَالَةَ عَقْدُ إِرْفَاقٍ مُنْفَرِدٌ بِنَفْسِهِ لَيْسَ بِمَحْمُولٍ عَلَى غَيْرِهِ وَلَيْسَتِ الْحَوَالَةُ بَيْعًا، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَيْعًا لَكَانَتْ بَيْعَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَلَمَا جَازَ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَيْسَتْ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ لِعَدَمِ الْعَيْنِ فِيهَا، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، إِذْ يَقُولُونَ: (الْحَوَالَةُ مَا وُضِعَتْ لِلتَّمْلِيكِ، وَإِنَّمَا وُضِعَتْ لِلنَّقْلِ)، أَوْ لِقَوْلِ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ عِبَارَةِ صَاحِبِ الْمُهَذَّبِ: (إِذَا أَحَالَ بِالدَّيْنِ انْتَقَلَ الْحَقُّ إِلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَبَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمُحِيلِ، لِأَنَّ الْحَوَالَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ تَحْوِيلَ حَقٍّ، أَوْ بَيْعَ حَقٍّ، وَأَيُّهُمَا كَانَ وَجَبَ أَنْ تَبْرَأَ بِهِ ذِمَّةُ الْمُحِيلِ).وَهُوَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ صَرِيحُ كَلَامِهِمْ فِي تَعْلِيلِ شَرِيطَةَ تَسَاوِي الدَّيْنَيْنِ قَدْرًا وَصِفَةً: هَذَا ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ نَفْسُهُ- عَلَى خِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لَهُ- يَعُودُ فَيَقُولُ: (لِأَنَّهُ إِنِ اخْتَلَفَا فِي أَحَدِهِمَا كَانَ بَيْعًا وَلَمْ يَكُنْ حَوَالَةً) فَخَرَجَ مِنْ بَابِ الرُّخْصَةِ إِلَى بَابِ الْبَيْعِ، وَإِذَا خَرَجَ إِلَى بَابِ الْبَيْعِ دَخَلَهُ الدَّيْنُ بِالدَّيْنِ.إِلاَّ أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُ كَلَامِهِ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: (إِنَّ الْحَوَالَةَ مِنْ أَصْلِهَا مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، فَهُوَ لَازِمٌ لَهَا، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا اسْتُوْفِيَتْ شَرَائِطُ الصِّحَّةِ كَانَ ذَلِكَ هُوَ مَحَلَّ الرُّخْصَةِ) وَإِذَنْ يَظَلُّ الْمَالِكِيَّةُ- قَوْلًا وَاحِدًا- مَعَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْحَوَالَةَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ.
وَلَكِنَّ الْوَاقِعَ أَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ عِنْدَهُمْ، غَيْرَ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ عَلَى أَنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ.
16- وَإِلَيْكَ مَا قَالَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ:
الْوَجْهُ الثَّانِي: (يَعْنِي مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْحَوَالَةَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ) أَنَّ الْحَوَالَةَ مِنْ جِنْسِ إِيفَاءِ الْحَقِّ، لَا مِنْ جِنْسِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ إِذَا اسْتَوْفَى مِنَ الْمَدِينِ مَالَهُ كَانَ هَذَا اسْتِيفَاءً، فَإِذَا أَحَالَهُ عَلَى غَيْرِهِ كَانَ قَدِ اسْتَوْفَى ذَلِكَ الدَّيْنَ عَنِ الدَّيْنِ الَّذِي فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ، وَلِهَذَا ذَكَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْحَوَالَةَ فِي مَعْرِضِ الْوَفَاءِ، فَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» فَأَمَرَ الْمَدِينَ بِالْوَفَاءِ، وَنَهَاهُ عَنِ الْمَطْلِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ ظَالِمٌ إِذَا مَطَلَ، وَأَمَرَ الْغَرِيمَ بِقَبُولِ الْوَفَاءِ إِذَا أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ.وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى. {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}.أَمَرَ الْمُسْتَحِقَّ أَنْ يُطَالِبَ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَمَرَ الْمَدِينَ أَنْ يُؤَدِّيَ بِإِحْسَانٍ.وَوَفَاءُ الْمَدِينِ لَيْسَ هُوَ الْبَيْعَ الْخَاصَّ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَوْبُ مُعَاوَضَةٍ.
تَقْسِيمُ الْحَوَالَةِ وَبَيَانُ أَنْوَاعِهَا:
17- تَتَنَوَّعُ الْحَوَالَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى نَوْعَيْنِ أَصْلِيَّيْنِ:
1- حَوَالَةٌ مُقَيَّدَةٌ.
2- وَحَوَالَةٌ مُطْلَقَةٌ.
ثُمَّ تَتَنَوَّعُ الْحَوَالَةُ الْمُطْلَقَةُ، بِدَوْرِهَا، إِلَى نَوْعَيْنِ فَرْعِيَّيْنِ: 1- حَوَالَةٌ حَالَّةٌ.
2- وَحَوَالَةٌ مُؤَجَّلَةٌ.وَيُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ تَتَنَوَّعَ الْحَوَالَةُ الْمُقَيَّدَةُ إِلَى أَنْوَاعٍ فَرْعِيَّةٍ:
1- حَوَالَةٌ مُقَيَّدَةٌ بِدَيْنٍ خَاصٍّ.
2- حَوَالَةٌ مُقَيَّدَةٌ بِعَيْنٍ هِيَ أَمَانَةٌ، كَالْوَدِيعَةِ.
3- حَوَالَةٌ مُقَيَّدَةٌ بِعَيْنٍ مَضْمُونَةٍ، كَالْمَغْصُوبَةِ.هَذَا، وَتُوجَدُ حَالَةٌ خَاصَّةٌ لِلْحَوَالَةِ لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ، هِيَ السَّفْتَجَةُ فِي بَعْضِ صُوَرِهَا.
وَالسَّفْتَجَةُ وَرَقَةٌ تُكْتَبُ لِلْمُقْرِضِ فِي بَلَدٍ لِيَسْتَوْفِيَ نَظِيرَ قَرْضِهِ فِي بَلَدٍ آخَرَ اتِّقَاءً لِخَطَرِ الطَّرِيقِ الْمُحْتَمَلِ، لَوْ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ سَافَرَ بِمَالِهِ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي يَقْصِدُهُ، فَيَلْتَمِسُ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى الْمَالِ هُنَا وَلَهُ مَالٌ أَوْ دَيْنٌ فِي الْبَلَدِ الْآخَرِ، فَيُقْرِضُهُ الْمَالَ هُنَا عَلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ هُنَاكَ مِنْ وَكِيلِ الْمُقْتَرِضِ، أَوْ مِنْ مَدِينِهِ فِي ذَاكَ الْبَلَدِ.
وَنَظَرًا لِأَنَّ بَعْضَ صُوَرِ السَّفْتَجَةِ قَرْضٌ مَحْضٌ مَشْرُوطُ الْوَفَاءِ فِي بَلَدٍ آخَرَ، وَبَعْضُهَا يَتَوَافَرُ فِيهَا مَعْنَى الْحَوَالَةِ، فَقَدْ أُفْرِدَ لَهَا بَحْثٌ فِي آخِرِ مَوْضُوعِ الْحَوَالَةِ.
أَوَّلًا- النَّوْعَانِ الْأَصْلِيَّانِ لِلْحَوَالَةِ:
18- قَدْ يُقَيَّدُ قَضَاءُ دَيْنِ الْحَوَالَةِ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ مَالِ الْمُحِيلِ الَّذِي عِنْدَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَوْ فِي ذِمَّتِهِ.
وَقَدْ لَا يُقَيَّدُ بِذَلِكَ.فَفِي الْحَالَةِ الْأُولَى، تَكُونُ الْحَوَالَةُ مُقَيَّدَةً، وَفِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ، تَكُونُ حَوَالَةً مُطْلَقَةً.
وَفِي الْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ قَدْ لَا يَكُونُ لِلْمُحِيلِ عِنْدَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ عَيْنٌ- بِغَصْبٍ أَوْ إِيدَاعٍ أَوْ نَحْوِهِمَا- أَوْ لَا يَكُونُ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنٌ بِسَبَبٍ مَا- كَمُعَاوَضَةٍ أَوْ إِتْلَافٍ أَوْ غَيْرِهِمَا- فَيَقْبَلُ الْحَوَالَةَ مُتَبَرِّعٌ لَمْ تَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ لِلْمُحِيلِ أَيَّةُ حُقُوقٍ.وَقَدْ يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَكِنَّ الْحَوَالَةُ أُرْسِلَتْ إِرْسَالًا، وَلَمْ تُقَيَّدْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.وَإِذَنْ يُمْكِنُ تَفْسِيرُ كُلٍّ مِنَ الْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ وَالْمُقَيَّدَةِ كَمَا يَلِي:
19- الْحَوَالَةُ الْمُقَيَّدَةُ: هِيَ الَّتِي تُقَيَّدُ بِدَيْنٍ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، أَوْ بِعَيْنٍ لَهُ عِنْدَهُ، أَمَانَةً كَانَتْ أَمْ مَضْمُونَةً.
مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَقُولَ الْمَدِينُ لآِخَرَ: أَحَلْتُ فُلَانًا عَلَيْكَ بِالْأَلْفِ الَّتِي لِي فِي ذِمَّتِكَ، فَيَقْبَلُ (الْمُحَالُ عَلَيْهِ)، أَوْ يَقُولُ لَهُ: أَحَلْتُ فُلَانًا عَلَيْكَ بِالْأَلْفِ الَّتِي لَهُ عَلَيَّ، عَلَى أَنْ تُؤَدِّيَهَا إِلَيْهِ مِنَ الدَّنَانِيرِ الَّتِي أَوْدَعْتُكَهَا.أَوْ عَلَى أَنْ تُؤَدِّيَهَا إِلَيْهِ مِنَ الدَّنَانِيرِ الَّتِي اغْتَصَبْتَهَا مِنِّي، فَيَقْبَلُ (الْمُحَالُ عَلَيْهِ)، وَيُجِيزُ الْمُحَالُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا.
20- وَالْحَوَالَةُ الْمُطْلَقَةُ: هِيَ الَّتِي لَمْ تُقَيَّدْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ لِلْمُحِيلِ لَدَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ شَيْءٌ تُمْكِنُ التَّأْدِيَةُ مِنْهُ.
مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَرَى رَجُلُ خَيْرٍ دَائِنًا وَمَدِينَهُ يَتَشَاجَرَانِ فَيَقُولُ لِلدَّائِنِ: دَيْنُكَ عَلَيَّ، وَلَا شَأْنَ لَكَ بِهَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ، فَيَقْبَلُ الدَّائِنُ.أَوْ يَقُولُ الْمَدِينُ لِغَاصِبِهِ- سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعَيْنُ الْمَغْصُوبَةُ بَاقِيَةً أَمْ تَالِفَةً- أَحَلْتُ فُلَانًا عَلَيْكَ بِالْأَلْفِ الَّتِي لَهُ عَلَيَّ (وَلَمْ يَقُلْ: عَلَى أَنْ تَقْتَضِيَهُ مِمَّا أَسْتَحِقُّهُ عَلَيْكَ) فَيَقْبَلُ الْغَاصِبُ، وَيُجِيزُ الْمُحَالُ.
وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ ذَاتِ الْأَهَمِّيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ: أَنَّهُ إِذَا بَاعَ الْمَدِينُ الرَّاهِنُ الْعَيْنَ الْمَرْهُونَةَ دُونَ إِذْنٍ مِنَ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنَّ هَذَا الْبَيْعَ لَا يَسْلُبُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فِي حَبْسِ الْمَرْهُونِ إِلاَّ أَنْ يُجِيزَ هَذَا الْبَيْعَ فَيَكُونُ عِنْدَئِذٍ قَدْ تَنَازَلَ عَنْ حَقِّهِ فِي حَبْسِهِ بِمُقْتَضَى الرَّهْنِ، أَمَّا إِذَا تَمَسَّكَ الْمُرْتَهِنُ بِحَقِّهِ وَلَمْ يُجِزِ الْبَيْعَ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَفُكَّ الرَّهْنَ، أَوْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي لِيَفْسَخَ لَهُ الْبَيْعَ، بِسَبَبِ الْعَجْزِ عَنِ التَّسْلِيمِ.
فَإِذَا آثَرَ الِانْتِظَارَ فَقَدْ يَطُولُ أَمَدُهُ وَحِينَئِذٍ رُبَّمَا بَدَا لَهُ أَنَّ خَيْرَ وَسِيلَةٍ لِحَلِّ الْمُشْكِلَةِ أَنْ يَنْقُلَ الدَّيْنَ عَلَى نَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْحَوَالَةِ، ثُمَّ يَفُكَّ الرَّهْنَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ عَنِ الرَّاهِنِ وَيَتَسَلَّمُ الْمَبِيعَ الْمَرْهُونَ، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا دَفَعَ عَنْ ذِمَّتِهِ إِلَى الْمُرْتَهِنِ.
ثَانِيًا- الْأَنْوَاعُ الْفَرْعِيَّةُ لِلْحَوَالَةِ:
أَنْوَاعُ الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ:
21- تَبَيَّنَ مِمَّا سَلَفَ فِي الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ، أَنَّهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- بِالتَّفْصِيلِ- أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ:
1- حَوَالَةٌ مُقَيَّدَةٌ بِدَيْنٍ خَاصٍّ.
2- حَوَالَةٌ مُقَيَّدَةٌ بِعَيْنٍ هِيَ أَمَانَةٌ: كَالْعَارِيَّةِ وَالْوَدِيعَةِ وَالْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ- إِذَا تَرَاضَيَا عَلَى رَدِّهَا، أَوْ قَضَى الْقَاضِي بِهِ- أَوِ الْمَأْجُورُ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ.
3- حَوَالَةٌ مُقَيَّدَةٌ بِعَيْنٍ مَضْمُونَةٍ.وَالْعَيْنُ الْمَضْمُونَةُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ- كَمَا هُنَا- إِنَّمَا تَنْصَرِفُ إِلَى الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا، أَيِ الَّتِي إِذَا هَلَكَتْ وَجَبَ مِثْلُهَا، إِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً، وَقِيمَتُهَا إِنْ كَانَتْ قِيَمِيَّةً- كَالْمَغْصُوبِ، وَبَدَلِ الْخُلْعِ، وَالْمَهْرِ، وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا، وَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ (وَالْعَيْنُ الْمَضْمُونَةُ بِنَفْسِهَا هَذِهِ مُلْحَقَةٌ بِالدُّيُونِ فَتُكْفَلُ).
أَمَّا الْعَيْنُ الْمَضْمُونَةُ بِغَيْرِهَا، فَإِنَّهَا لَا يَجْرِي ضَمَانُهَا عَلَى قَوَاعِدِ الضَّمَانِ الْعَامَّةِ، بَلْ يَكُونُ لَهَا ضَمَانٌ خَاصٌّ: وَذَلِكَ كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ- وَلَوْ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْ تَسْلِيمِهِ إِلَى الْمُشْتَرِي، إِذْ لَا يَصِيرُ بِذَلِكَ غَاصِبًا- وَكَالرَّهْنِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَإِنَّهُ إِذَا هَلَكَ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِمِثْلٍ وَلَا قِيمَةٍ، لَكِنَّ هَلَاكَ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ يُسْقِطُ الثَّمَنَ عَنِ الْمُشْتَرِي، وَبِهَلَاكِ الرَّهْنِ يَسْقُطُ مَا يُقَابِلُهُ مِنَ الدَّيْنِ عَنِ الرَّاهِنِ.وَمَا زَادَ مِنْ قِيمَتِهِ عَلَى الدَّيْنِ يَهْلِكُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى حُكْمِ الْأَمَانَةِ، وَلِذَا سُمِّيَ مَضْمُونًا بِغَيْرِهِ.
أَنْوَاعُ الْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ:
22- الْحَوَالَةُ الْمُطْلَقَةُ نَوْعَانِ:
أ- حَوَالَةٌ حَالَّةٌ:
23- وَهِيَ حَوَالَةُ الطَّالِبِ بِدَيْنٍ حَالٍّ عَلَى الْمُحِيلِ: إِذْ يَكُونُ الدَّيْنُ حَالًّا كَذَلِكَ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ.لِأَنَّ الدَّيْنَ يَتَحَوَّلُ فِي الْحَوَالَةِ، بِالصِّفَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا لَدَى الْمُحِيلِ، كَمَا أَنَّ الْكَفِيلَ يَتَحَمَّلُ مَا عَلَى الْأَصِيلِ، بِأَيِّ صِفَةٍ كَانَ.
ب- حَوَالَةٌ مُؤَجَّلَةٌ:
24- وَهِيَ حَوَالَةٌ اشْتُرِطَ فِيهَا أَجَلٌ مُعَيَّنٌ، أَوْ كَانَتْ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ عَلَى الْمُحِيلِ، أَوِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ فِيهَا بِالْأَجَلِ كَشَرْطٍ.
إِذْ يَكُونُ الْمَالُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، إِلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ السَّابِقِ، أَوْ الَّذِي اسْتُحْدِثَ بِالشَّرْطِ، لِأَنَّ الْفَرْضَ فِي حَالَةِ الشَّرْطِ، أَوِ الْعِلْمِ بِالتَّأْجِيلِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَوَالَةَ كَذَلِكَ قُبِلَتْ.وَفِي حَالَةِ سَبْقِ الْأَجَلِ فِي جَانِبِ الْمُحِيلِ إِنَّمَا يَتَحَوَّلُ الدَّيْنُ بِالْوَصْفِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، اعْتِبَارًا بِالْكَفَالَةِ.
عَلَى أَنَّهُمَا قَدْ تَفْتَرِقَانِ فِي بَعْضِ جَوَانِبِ الْأَجَلِ: فَفِي الْكَفَالَةِ، إِذَا أَجَّلَ الطَّالِبُ الدَّيْنَ، وَلَمْ يُضِفِ الْأَجَلَ إِلَى الْكَفِيلِ، يَصِيرُ الْأَجَلُ مَشْرُوطًا لِلْأَصِيلِ- حَتَّى لَوْ مَاتَ الْكَفِيلُ، يَبْقَى الدَّيْنُ عَلَى الْأَصِيلِ مُؤَجَّلًا.وَلَوْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي الْحَوَالَةِ، وَلَمْ يُضِفِ الْأَجَلَ إِلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ- وَبِالْأَوْلَى إِذَا أَضَافَهُ- لَا يَصِيرُ الْأَجَلُ مَشْرُوطًا فِي حَقِّ الْأَصِيلِ- فَلَوْ مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا عَادَ الدَّيْنُ عَلَى الْأَصِيلِ حَالًّا.
ثُمَّ تُغْتَفَرُ فِي الْأَجَلِ الْجَهَالَةُ الْيَسِيرَةُ.فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَبِلَ الْحَوَالَةَ إِلَى الْحَصَادِ، لَا يُجْبَرُ عَلَى الْأَدَاءِ قَبْلَهُ.وَسَوَاءٌ هُنَا فِي لُزُومِ التَّأْجِيلِ دَيْنُ الْقَرْضِ وَغَيْرُهُ (وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ فِي دَيْنِ الْقَرْضِ عَدَمَ لُزُومِ التَّأْجِيلِ فِيهِ، إِذِ الْمُقْرِضُ مُتَبَرِّعٌ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى عَدَمِ الْمُطَالَبَةِ) فَقَدْ جَاءَ فِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ مَا خُلَاصَتُهُ: (رَجُلٌ مَدِينٌ بِأَلْفٍ قَرْضًا، وَدَائِنٌ بِمِثْلِهَا، لَهُ أَنْ يُحِيلَ دَائِنَهُ عَلَى مَدِينِهِ إِلَى أَجَلٍ مُعَيَّنٍ كَسَنَةٍ.ثُمَّ لَيْسَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، أَنْ يَأْخُذَ مَدِينَهُ بِدَيْنِهِ، أَوْ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِنْهُ، أَوْ يَهَبَهُ لَهُ).وَمِنْ جُمْلَةِ مَا عَلَّلَهُ بِهِ شَارِحُهُ السَّرَخْسِيُّ فِي مَبْسُوطِهِ: (إِنَّ حَقَّ الطَّالِبِ تَعَلُّقٌ بِالْمَالِ الْمُحَالِ بِهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْحَجْرَ عَلَى الْمُحِيلِ عَنِ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَإِلاَّ بَطَلَ حَقُّ الطَّالِبِ: لِأَنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ مَا الْتَزَمَ الْحَوَالَةَ مُطْلَقَةً، وَإِنَّمَا مُقَيَّدَةً بِذَلِكَ الْمَالِ، فَإِذَا سَقَطَ لَمْ تَبْقَ عَلَيْهِ مُطَالَبَةٌ بِشَيْءٍ.أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَوَالَةَ لَوْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِوَدِيعَةٍ، فَهَلَكَتْ تِلْكَ الْوَدِيعَةُ، بَطَلَتِ الْحَوَالَةُ).وَلِذَا نُقِلَ عَنْهُ فِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ: إِنَّ الْحِيلَةَ فِي تَأْجِيلِ الْقَرْضِ أَنْ يُحَالَ بِهِ الدَّائِنُ عَلَى ثَالِثٍ، فَيُؤَجَّلَ ذَلِكَ الثَّالِثُ مُدَّةً مَعْلُومَةً.إِذْ هَذَا صَحِيحٌ، وَمِنْ لَوَازِمِهِ أَلاَّ يُطَالِبَ الْمُحِيلَ، لِأَنَّ الْحَوَالَةَ مُبَرِّئَةٌ مِنْ مُطَالَبَتِهِ، وَلَا الْمُحَالَ عَلَيْهِ قَبْلَ حُلُولِ أَجَلِهِ بِسَبَبٍ مَا، وَلَوْ بِمَوْتِهِ أَوْ إِسْقَاطِهِ.
ثَالِثًا: أَقْسَامُ الْحَوَالَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ:
25- لَا يُوجَدُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ هَذَا التَّنْوِيعُ لِلْحَوَالَةِ إِلَى مُطْلَقَةٍ وَمُقَيَّدَةٍ.وَإِنْ كَانَ مِنَ الْجَائِزِ (عَلَى الْمَرْجُوحِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ) حَوَالَةٌ عَلَى غَيْرِ مَدِينٍ- بِشَرْطِ رِضَاهُ- تَتَرَتَّب عَلَيْهَا أَحْكَامُهَا عِنْدَهُمْ وَفِي مُقَدِّمَتِهَا سُقُوطُ دَيْنِ الْمُحِيلِ وَبَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ (بِصُورَةٍ نِهَائِيَّةٍ غَيْرِ مَوْقُوتَةٍ)، فَيَصْدُقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا حَوَالَةٌ مُطْلَقَةٌ، وَإِنْ لَمْ يُسَمُّوهَا هُمْ بِهَذَا الِاسْمِ.
عَلَى أَنَّ ابْنَ الْمَاجِشُونِ- وَهُوَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ الْمَرْجُوحِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ- قَدِ اشْتَرَطَ أَنْ تَقَعَ الْحَوَالَةُ بِلَفْظِهَا وَإِلاَّ فَهِيَ حَمَالَةٌ، أَيْ ضَمَانٌ (كَفَالَةٌ).
وَالَّذِي رَجَّحَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، أَنَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الضَّمَانِ، وَلَيْسَ مِنَ الْحَوَالَةِ فِي شَيْءٍ، وَلَوِ اسْتُعْمِلَ لَفْظُهَا.
وَيُفَرِّعُ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى هَذَا الَّذِي رَجَّحُوهُ قَائِلِينَ: (لَوْ أَعْدَمَ- أَيْ أَفْلَسَ- الْمُحَالُ عَلَيْهِ لَرَجَعَ الْمُحَالُ عَلَى الْمُحِيلِ- إِلاَّ أَنْ يَعْلَمَ الْمُحَالُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ- وَيَشْتَرِطُ الْمُحِيلُ بَرَاءَتَهُ مِنَ الدَّيْنِ، فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَيْهِ).
وَلَيْسَ الْإِعْدَامُ، أَيِ الْفَقْرُ، شَرِيطَةً حَتْمِيَّةً عِنْدَهُمْ لِيَثْبُتَ حَقُّ الرُّجُوعِ، بَلْ مِثْلُهُ الْمَوْتُ وَكُلُّ سَبَبٍ يَتَعَذَّرُ بِهِ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، كَامْتِنَاعِ ذِي سَطْوَةٍ.وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَشْهَبَ، وَعَلَيْهَا تَعْوِيلُهُمْ فِي هَذَا الْحُكْمِ خِلَافًا لِابْنِ الْقَاسِمِ، فَإِنَّهُ يَرَى عَدَمَ الرُّجُوعِ مُطْلَقًا.
الْحَوَالَةُ عَلَى عَيْنٍ:
26- وَالْحَوَالَةُ عَلَى عَيْنٍ- أَيًّا كَانَ نَوْعُ الْعَيْنِ- لَا تُعْرَفُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.إِذْ هُمْ جَمِيعًا شَارِطُونَ فِي الْمَالِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا.
كَمَا أَطْبَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ فِي جَانِبِ الْمَالِ الْمُحَالِ بِهِ.
عَلَى أَنَّ التَّحْقِيقَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْفُسِهِمْ يَرُدُّهُمْ إِلَى وِفَاقِ الْآخَرِينَ.فَقَدْ قَالَ السَّرَخْسِيُّ: (حَقِيقَةُ الْحَوَالَةِ هِيَ الْمُطْلَقَةُ، فَأَمَّا الْمُقَيَّدَةُ مِنْ وَجْهٍ فَتَوْكِيلٌ بِالْأَدَاءِ وَالْقَبْضِ).
حُلُولُ الْحَوَالَةِ وَتَأْجِيلُهَا
27- فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُلُولِ الْحَوَالَةِ وَتَأْجِيلِهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
أَرْكَانُ الْحَوَالَةِ وَشُرُوطُهَا:
28- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِوُجُودِ الْحَوَالَةِ مِنَ الْآتِي:
1- الصِّيغَةُ.
2- الْمُحِيلُ.
3- الْمُحَالُ.
4- الْمُحَالُ عَلَيْهِ.
5- الْمُحَالُ بِهِ (دَيْنُ الْمُحَالِ عَلَى الْمُحِيلِ).
كَمَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِوُجُودِ الْحَوَالَةِ مِنْ وُجُودِ دَيْنٍ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْحَنَفِيَّةُ لِوُجُودِ الْحَوَالَةِ وُجُودَ هَذَا الدَّيْنِ.
وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي اعْتِبَارِ مَا سَبَقَ أَرْكَانًا فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى اعْتِبَارِهَا كُلِّهَا أَرْكَانًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى اعْتِبَارِ الصِّيغَةِ وَحْدَهَا رُكْنًا، أَمَّا الْمُحِيلُ وَالْمُحَالُ وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ فَهُمْ أَطْرَافُ الْحَوَالَةِ.وَالْمُحَالُ بِهِ هُوَ مَحَلُّهَا.
الْمُرَادُ بِالصِّيغَةِ:
29- الصِّيغَةُ تَتَأَلَّفُ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ إِيجَابٍ وَقَبُولٍ.
الْمُرَادُ بِالْإِيجَابِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ كَأَحَلْتُكَ، وَأَتْبَعْتُكَ، وَبِالْقَبُولِ: كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِهَذَا النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ، نَحْوُ رَضِيتُ، وَقَبِلْتُ، وَفَعَلْتُ.وَمِنَ الْقَبُولِ: أَحِلْنِي، أَوْ لِتُحِلْنِي (بِلَامِ الْأَمْرِ)، عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ خِلَافٍ فِقْهِيٍّ عَامٍّ، لِدَلَالَتِهِ عَلَى الرِّضَا، وَيُغْنِي عَنْ إِعَادَتِهِ مُرَّةً أُخْرَى بَعْدَ الْإِيجَابِ.
وَالْإِيجَابُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: هُوَ قَوْلُ الطَّرَفِ الْبَادِئِ بِالْعَقْدِ، وَالْقَبُولُ هُوَ الْقَوْلُ الْمُتَمِّمُ لَهُ مِنَ الطَّرَفِ الْآخَرِ بِأَيَّةِ أَلْفَاظٍ تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْحَوَالَةِ.وَيَقُومُ مَقَامَ الْأَلْفَاظِ كُلُّ مَا يَدُلُّ دَلَالَتَهَا، كَالْكِتَابَةِ، وَإِشَارَةِ الْأَخْرَسِ الْمُفْهِمَةِ، وَلَوْ كَانَ الْأَخْرَسُ قَادِرًا عَلَى الْكِتَابَةِ فِيمَا اعْتَمَدُوهُ.فَالْإِيجَابُ أَنْ يَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: قَبِلْتُ، أَوْ رَضِيتُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا.
وَيَكْفِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَجْرِيَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَحَسْبُ أَيًّا كَانَا مِنَ الْأَطْرَافِ الثَّلَاثَةِ لِتَنْعَقِدَ الْحَوَالَةُ، لَكِنَّهَا عِنْدَئِذٍ قَدْ تَنْعَقِدُ نَاجِزَةً أَوْ مَوْقُوفَةً عَلَى رِضَا الثَّالِثِ بِحَسَبِ كَوْنِ الثَّالِثِ أَيَّ الثَّلَاثَةِ هُوَ: أ- فَإِنْ جَرَى الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ بَيْنَ الْمُحَالِ وَالْمُحَالِ عَلَيْهِ وَكَانَ الثَّالِثُ هُوَ الْمُحِيلَ، انْعَقَدَتِ الْحَوَالَةُ نَاجِزَةً دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى إِجَازَتِهِ، بِنَاءً عَلَى رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ وَهِيَ الصَّحِيحَةُ، وَخِلَافًا لِرِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ الَّتِي اشْتَرَطَتْ رِضَاهُ، وَلَوْ خَارِجَ مَجْلِسِ الْعَقْدِ.
ب- وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ هُوَ الْمُحَالَ عَلَيْهِ انْعَقَدَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَتِهِ وَلَوْ خَارِجَ مَجْلِسِ الْعَقْدِ.
ج- وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ هُوَ الْمُحَالَ، انْعَقَدَتْ مَوْقُوفَةً أَيْضًا عَلَى إِجَازَتِهِ وَلَوْ خَارِجَ مَجْلِسِ الْعَقْدِ، أَخْذًا بِمَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ الَّذِي اعْتَمَدَتْهُ الْمَجَلَّةُ (م 683) تَيْسِيرًا عَلَى النَّاسِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ، وَإِنْ شَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ قَبُولَهُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَاعْتَبَرَهُ شُيُوخُ الْحَنَفِيَّةِ الْمُصَحَّحَ فِي الْمَذْهَبِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
277-موسوعة الفقه الكويتية (دار الحرب)
دَارُ الْحَرْبِالتَّعْرِيفُ:
1- دَارُ الْحَرْبِ: هِيَ كُلُّ بُقْعَةٍ تَكُونُ أَحْكَامُ الْكُفْرِ فِيهَا ظَاهِرَةً.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِدَارِ الْحَرْبِ:
الْهِجْرَةُ:
2- قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ النَّاسَ فِي شَأْنِ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أ- مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ، وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَلَا يُمْكِنُهُ إِظْهَارُ دِينِهِ مَعَ الْمُقَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى لَا تَجِدُ مَحْرَمًا، إِنْ كَانَتْ تَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهَا فِي الطَّرِيقِ، أَوْ كَانَ خَوْفُ الطَّرِيقِ أَقَلَّ مِنْ خَوْفِ الْمُقَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ.لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.
وَفِي الْآيَةِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ، وَالْوَعِيدُ الشَّدِيدُ لَا يَكُونُ إِلاَّ فِي ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ وَتَرْكِ الْوَاجِبِ.
وَلِحَدِيثِ: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا» وَحَدِيثِ: «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا دَامَ الْعَدُوُّ يُقَاتِلُ» أَمَّا حَدِيثُ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» فَمَعْنَاهُ لَا هِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ فَتْحِهَا، لِصَيْرُورَةِ مَكَّةَ دَارَ إِسْلَامٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
ب- مَنْ لَا هِجْرَةَ عَلَيْهِ: وَهُوَ مَنْ يَعْجِزُ عَنْهَا، إِمَّا لِمَرَضٍ، أَوْ إِكْرَاهٍ عَلَى الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْكُفْرِ، أَوْ ضَعْفٍ كَالنِّسَاءِ، وَالْوِلْدَانِ.لقوله تعالى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}.
ج- مَنْ تُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ: مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْهِجْرَةِ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَهَذَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْجِهَادِ، وَتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ.
د- وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ قِسْمًا رَابِعًا: وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ دِينِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَيَقْدِرُ عَلَى الِاعْتِزَالِ فِي مَكَانٍ خَاصٍّ، وَالِامْتِنَاعِ مِنَ الْكُفَّارِ، فَهَذَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ، لِأَنَّ مَكَانَ اعْتِزَالِهِ صَارَ دَارَ إِسْلَامٍ بِامْتِنَاعِهِ، فَيَعُودُ بِهِجْرَتِهِ إِلَى حَوْزَةِ الْكُفَّارِ، وَهُوَ أَمْرٌ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ كُلَّ مَحَلٍّ قَدَرَ أَهْلُهُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْكُفَّارِ صَارَ دَارَ إِسْلَامٍ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا تَجِبُ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لِخَبَرِ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ».
أَمَّا حَدِيثُ: «ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ».فَمَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ».
التَّزَوُّجُ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
3- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّزَوُّجِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِمَنْ دَخَلَ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِأَمَانٍ، لِتِجَارَةٍ، أَوْ لِغَيْرِهَا، وَلَوْ بِمُسْلِمَةٍ، وَتَشْتَدُّ الْكَرَاهَةُ إِذَا كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْكَرَاهَةُ تَحْرِيمِيَّةٌ فِي الْحَرْبِيَّةِ لِافْتِتَاحِ بَابِ الْفِتْنَةِ، وَتَنْزِيهِيَّةٌ فِي غَيْرِهَا، لِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضًا لِلذُّرِّيَّةِ لِفَسَادٍ عَظِيمٍ، إِذْ أَنَّ الْوَلَدَ إِذَا نَشَأَ فِي دَارِهِمْ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَنْشَأَ عَلَى دِينِهِمْ، وَإِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ مِنْهُمْ فَقَدْ تَغْلِبُ عَلَى وَلَدِهَا فَيَتْبَعُهَا عَلَى دِينِهَا.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ أَسِيرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ التَّزَوُّجُ مَا دَامَ أَسِيرًا، لِأَنَّهُ إِذَا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ كَانَ لَهُمْ رَقِيقًا
الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ:
4- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّ الرِّبَا حَرَامٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَحُرْمَتِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَمَا كَانَ حَرَامًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، كَانَ حَرَامًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، سَوَاءٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ، أَوْ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ لَمْ يُهَاجِرَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالُوا: إِنَّ النُّصُوصَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا عَامَّةٌ، وَلَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ دَارٍ وَدَارٍ، وَلَا بَيْنَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ. (رَاجِعْ مُصْطَلَحَ: رِبًا).
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَحْرُمُ الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ، وَلَا بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ لَمْ يُهَاجِرَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ.لِحَدِيثِ: «لَا رِبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ» وَلِأَنَّ مَالَهُمْ مُبَاحٌ فِي دَارِهِمْ، فَبِأَيِّ طَرِيقٍ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُ أَخَذَ مَالًا مُبَاحًا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَدْرٌ، وَلِأَنَّ مَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ مُبَاحٌ بِغَيْرِ عَقْدٍ، فَبِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ أَوْلَى.
وَلِأَنَّ «أَبَا بَكْرٍ- رضي الله عنه- خَاطَرَ قُرَيْشًا قَبْلَ الْهِجْرَةِ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: أَتَرَوْنَ أَنَّ الرُّومَ تَغْلِبُ؟ قَالَ: نَعَمْ.فَقَالُوا: هَلْ لَكَ أَنْ تُخَاطِرَنَا فِي ذَلِكَ؟ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: اذْهَبْ إِلَيْهِمْ فَزِدْ فِي الْخَطَرِ وَزِدْ فِي الْأَجَلِ فَفَعَلَ، وَغَلَبَتِ الرُّومُ فَارِسًا فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ خَطَرَهُ، فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ الْقِمَارُ بِعَيْنِهِ».
وَكَانَتْ مَكَّةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دَارَ حَرْبٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لِلْمُسْلِمِ أَخْذَ مَالِ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَا لَمْ يَكُنْ غَدْرًا.
إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
5- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ زَنَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ سَرَقَ، أَوْ قَذَفَ مُسْلِمًا، أَوْ شَرِبَ خَمْرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ.
فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ، لِأَنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ فَرْضٌ كَالصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ، وَلَا تُسْقِطُ دَارُ الْحَرْبِ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
إِذَا قَتَلَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ يَسْتَوْفِي مِنْهُ الْقِصَاصَ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ كَمَا لَوْ كَانُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَوْ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: {لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي دَارِ الْحَرْبِ».وَقَوْلِهِ: «مَنْ زَنَى أَوْ سَرَقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَصَابَ بِهَا حَدًّا ثُمَّ هَرَبَ فَخَرَجَ إِلَيْنَا فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ» وَلِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِقَامَةِ الْحُدُودِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ، وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا أَصْلًا، وَكَذَلِكَ إِذَا قَتَلَ مُسْلِمًا فِيهَا لَا يُؤْخَذُ بِالْقِصَاصِ وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ، وَلِأَنَّ كَوْنَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْرَثَ شُبْهَةً فِي الْوُجُوبِ، وَالْقِصَاصُ لَا يَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَيَضْمَنُ الدِّيَةَ وَتَكُونُ فِي مَالِهِ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ ابْتِدَاءً، ثُمَّ الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّلُ عَنْهُ لِمَا بَيْنَهُمْ مِنَ التَّنَاصُرِ، وَلَا تَنَاصُرَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدَّارِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا: تَجِبُ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ، وَلَكِنَّهَا لَا تُقَامُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَتُقَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ.وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ، أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- كَتَبَ إِلَى النَّاسِ لَا يَجْلِدَنَّ أَمِيرُ جَيْشٍ وَلَا سَرِيَّةٍ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَدًّا وَهُوَ غَازٍ حَتَّى يَقْطَعَ الدَّرْبَ قَافِلًا لِئَلاَّ يَلْحَقَهُ حَمِيَّةُ الشَّيْطَانِ، فَيَلْحَقَ، بِالْكُفَّارِ.
حَدُّ مَنْ أَصَابَ حَدًّا مِنْ أَفْرَادِ الْجَيْشِ:
6- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَصَابَ أَحَدُ أَفْرَادِ الْجَيْشِ حَدًّا، أَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً أَوْ عَمْدًا فِي دَارِ الْحَرْبِ خَارِجَ الْمُعَسْكَرِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَوِ الْقِصَاصُ، أَمَّا إِذَا زَنَى أَحَدُهُمْ فِي مُعَسْكَرِ الْجَيْشِ لَمْ يَأْخُذْهُ أَمِيرُ الْجَيْشِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْإِمَامُ لَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْهِ إِقَامَةَ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُضَمِّنُهُ الْمَسْرُوقَ وَالدِّيَةَ فِي الْقَتْلِ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِيفَاءِ ضَمَانِ الْمَالِ.
أَمَّا إِذَا غَزَا مَنْ لَهُ وِلَايَةُ إِقَامَةِ الْحُدُودِ، سَوَاءٌ غَزَا الْخَلِيفَةُ بِنَفْسِهِ، أَوْ أَمِيرُ مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ، فَفَعَلَ رَجُلٌ مِنَ الْجَيْشِ ذَلِكَ فِي مُعَسْكَرِهِ أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَاقْتَصَّ مِنْهُ فِي الْعَمْدِ، وَضَمَّنَهُ الدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ فِي مَالِهِ، لِأَنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ إِلَى الْإِمَامِ، وَبِمَا لَهُ مِنَ الشَّوْكَةِ، وَانْقِيَادِ الْجُيُوشِ لَهُ يَكُونُ لِعَسْكَرِهِ حُكْمُ دَارِ الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِذَا أَصَابَ الرَّجُلُ حَدًّا وَهُوَ مُحَاصِرٌ لِلْعَدُوِّ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ.وَقَالُوا: وَلَا يَمْنَعُنَا الْخَوْفُ عَلَيْهِ مِنَ اللُّحُوقِ بِالْمُشْرِكِينَ أَنْ نُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ.وَلَوْ فَعَلْنَا ذَلِكَ تَوَقِّيًا مِنْ أَنْ يَغْضَبَ مَا أَقَمْنَا الْحَدَّ أَبَدًا، لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَيُعَطَّلَ حُكْمُ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ أَقَامَ الْحُدُودَ بِالْمَدِينَةِ وَالشِّرْكُ قَرِيبٌ مِنْهَا، وَفِيهَا مُشْرِكُونَ مُوَادَعُونَ.
وَضَرَبَ الشَّارِبَ بِحُنَيْنٍ.وَالشِّرْكُ قَرِيبٌ مِنْهَا.
حُصُولُ الْفُرْقَةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ:
7- اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي انْقِطَاعِ عِصْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ.
فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدَّارِ، فَإِنْ أَسْلَمَ زَوْجُ كِتَابِيَّةٍ، وَهَاجَرَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَبَقِيَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، لِأَنَّ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّةِ يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهُ فَالِاسْتِمْرَارُ أَوْلَى، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ بَعْدَهُ.وَإِنْ أَسْلَمَتْ كِتَابِيَّةٌ تَحْتَ كِتَابِيٍّ، أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ غَيْرَ الْكِتَابِيِّينَ، قَبْلَ الدُّخُولِ حَصَلَتِ الْفُرْقَةُ، لقوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} وَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ، وَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى انْتِهَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَ الْآخَرُ فِي الْعِدَّةِ بَقِيَ نِكَاحُهُمَا، وَإِلاَّ تَبَيَّنَّا فَسْخَهُ مُنْذُ أَسْلَمَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ اخْتِلَافُ الدِّينِ لَا اخْتِلَافُ الدَّارِ.وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ شُبْرُمَةَ قَالَ: «كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُسْلِمُ الرَّجُلُ قَبْلَ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةُ قَبْلَهُ، فَأَيُّهُمَا أَسْلَمَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْعِدَّةِ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا»، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَثَرِ دَارَ حَرْبٍ، وَلَا دَارَ إِسْلَامٍ، فَسَبَبُ الْفُرْقَةِ إِذًا اخْتِلَافُ الدِّينِ.
فَكَوْنُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُوجِبُ فُرْقَةً.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ تَحْصُلُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ، فَإِنْ خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، وَتَرَكَ الْآخَرَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ يَخْرُجُ الْمِلْكُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ، لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ عَادَةً، فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَائِهِ فَائِدَةٌ.
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (اخْتِلَافُ الدَّارِ).
قِسْمَةُ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ قَسْمِ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ قِسْمَتُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَتَبَايُعُهَا فِيهَا، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ قَالَ: قُلْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ: هَلْ قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا مِنَ الْغَنَائِمِ بِالْمَدِينَةِ؟ فَقَالَ: لَا أَعْلَمُهُ، إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يَتَّبِعُونَ غَنَائِمَهُمْ، وَيَقْسِمُونَهَا فِي أَرْضِ عَدُوِّهِمْ، وَلَمْ يَغْفُلْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ غَزَاةٍ قَطُّ أَصَابَ فِيهَا غُنَيْمَةً إِلاَّ خَمَّسَهَا وَقَسَّمَهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَغْفُلَ، مِنْ ذَلِكَ غُزَاةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَهَوَازِنَ، وَخَيْبَرَ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِيهَا بِالْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ فَصَحَّتْ قِسْمَتُهُ، وَلِأَنَّ قِسْمَةَ أَمْوَالِهِمْ فِي دَارِهِمْ أَنْكَى لَهُمْ، وَأَطْيَبُ لِقُلُوبِ الْمُجَاهِدِينَ، وَأَحْفَظُ لِلْغَنِيمَةِ، وَأَرْفَقُ بِهِمْ فِي التَّصَرُّفِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْقِسْمَةُ نَوْعَانِ:
1- قِسْمَةُ حَمْلٍ وَنَقْلٍ.
2- وَقِسْمَةُ مِلْكٍ.
أَمَّا قِسْمَةُ الْحَمْلِ، فَهِيَ إِنْ عَزَّتِ الدَّوَابُّ، وَلَمْ يَجِدِ الْإِمَامُ حَمُولَةً يُفَرِّقُ الْغَنَائِمَ عَلَى الْغُزَاةِ فَيَحْمِلُ كُلُّ رَجُلٍ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يَسْتَرِدُّهَا مِنْهُمْ، فَيَقْسِمُهَا قِسْمَةَ مِلْكٍ.
أَمَّا قِسْمَةُ الْمِلْكِ فَلَا تَجُوزُ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى يُخْرِجُوهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَيُحْرِزُوهَا، وَقَالُوا: إِنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ، وَيَتَأَكَّدُ بِالْإِحْرَازِ، وَيَتَمَكَّنُ بِالْقِسْمَةِ كَحَقِّ الشَّفِيعِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ، وَيَتَأَكَّدُ بِالطَّلَبِ، وَيَتِمُّ الْمِلْكُ بِالْأَخْذِ، وَمَا دَامَ الْحَقُّ ضَعِيفًا لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ لِأَنَّهُ دُونَ الْمِلْكِ الضَّعِيفِ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْقَهْرُ، وَقَبْلَ الْإِحْرَازِ هُمْ قَاهِرُونَ يَدًا مَقْهُورُونَ دَارًا، وَالثَّابِتُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ يَكُونُ ضَعِيفًا.
9- وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلَافِ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْجُمْهُورِ أَحْكَامٌ.
مِنْهَا: أَنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُ الْغَانِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُورَثُ مِنَ الْغَنِيمَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يُورَثُ.
وَمِنْهَا: إِذَا لَحِقَ الْجَيْشَ أَحَدٌ بَعْدَ الْحِيَازَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُشَارِكُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُشَارِكُهُمْ إِذَا لَحِقَ قَبْلَ الْحِيَازَةِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ.
وَإِذَا أَتْلَفَ أَحَدُ الْغَانِمِينَ شَيْئًا مِنَ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَضْمَنُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَا يَضْمَنُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. اسْتِيلَاءُ الْكُفَّارِ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَثَرُ الدَّارِ فِي ذَلِكَ:
10- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَمَلُّكِ أَهْلِ الْحَرْبِ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهَا وَإِنْ أَحْرَزُوهَا بِدَارِهِمْ، لِأَنَّهُ مَالٌ مَعْصُومٌ طَرَأَتْ عَلَيْهِ يَدٌ عَادِيَةٌ، فَلَمْ يَمْلِكْ بِهَا كَالْغَصْبِ.
وَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ لَا يَمْلِكُ مَالَ الْمُسْلِمِ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ بِغَصْبٍ، فَالْمُشْرِكُ أَوْلَى أَلاَّ يَمْلِكَ.
وَخَبَرُ «عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي الْأَنْصَارِيَّةِ الَّتِي أُسِرَتْ، ثُمَّ امْتَطَتْ نَاقَةَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، وَأَعْجَزَتْ مَنْ طَلَبَهَا، فَنَذَرَتِ الْأَنْصَارِيَّةُ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَلَمَّا قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ رَآهَا النَّاسُ، فَقَالُوا: الْعَضْبَاءُ، نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.فَقَالَتْ: إِنَّهَا نَذَرَتْ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، بِئْسَمَا جَزَتْهَا، نَذَرَتْ لِلَّهِ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ».
وَلَوْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَمْلِكُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَمْوَالَهُمْ لَمَلَكَتِ الْأَنْصَارِيَّةُ النَّاقَةَ.لِأَنَّهَا تَكُونُ أَخَذَتْ مَالًا غَيْرَ مَعْصُومٍ فِي دَارِ حَرْبٍ وَأَحْرَزُوهُ بِدَارِهِمْ، وَلَكِنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- أَخْبَرَ أَنَّهَا نَذَرَتْ فِيمَا لَا تَمْلِكُ وَأَخَذَ نَاقَتَهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، قَالَ: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ أَهْلَ دَارِ الْحَرْبِ إِذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُحْرِزُوهَا بِدَارِهِمْ لَا يَمْلِكُونَهَا، أَمَّا إِذَا أَحْرَزُوهَا بِدَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَمْلِكُونَهَا.وَقَالُوا: لِأَنَّ مِلْكَ الْمُسْلِمِ يَزُولُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَتَزُولُ الْعِصْمَةُ، فَكَأَنَّهُمُ اسْتَوْلَوْا عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ، لِأَنَّ الْمِلْكَ هُوَ: الِاخْتِصَاصُ بِالْمَحَلِّ فِي حَقِّ التَّصَرُّفِ، أَوْ شُرِعَ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَحَلِّ، وَقَدْ زَالَ بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ.فَإِذَا زَالَ مَعْنَى الْمِلْكِ أَوْ مَا شُرِعَ لَهُ الْمِلْكُ، يَزُولُ الْمِلْكُ ضَرُورَةً.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ: يَمْلِكُونَهَا بِالِاسْتِيلَاءِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.وَقَالُوا: لِأَنَّ الْقَهْرَ سَبَبٌ يَمْلِكُ بِهِ الْمُسْلِمُ مَالَ الْكَافِرِ، فَمَلَكَ بِهِ الْكَافِرُ مَالَ الْمُسْلِمِ كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ سَبَبُ الْمِلْكِ فَيَثْبُتُ قَبْلَ الْحِيَازَةِ إِلَى الدَّارِ، كَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَالِ الْكُفَّارِ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ سَبَبًا لِلْمِلْكِ أَثْبَتَ الْمِلْكَ حَيْثُ وُجِدَ، كَالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ.
وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، اخْتِلَافُهُمْ فِي حُكْمِ مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ أَهْلُ دَارِ الْحَرْبِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ اسْتَرَدَّهُ الْمُسْلِمُونَ، فَمَنْ رَأَى أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ: يَرَى أَنَّهُ إِذَا وَجَدَهُ مَالِكُهُ الْمُسْلِمُ أَوِ الذِّمِّيُّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِدُونِ رَدِّ قِيمَتِهِ، أَمَّا إِذَا وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهِ.وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهُ: يَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا وَجَدَ مَالَهُ فِي الْغَنِيمَةِ أَخَذَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِلَا رَدِّ شَيْءٍ.
قَضَاءُ الْقَاضِي الْمُسْلِمِ فِي مُنَازَعَاتٍ حَدَثَتْ أَسْبَابُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ:
11- إِذَا دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، وَأَخَذَ مَالًا مِنْ حَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُضَارَبَةً، أَوْ وَدِيعَةً، أَوْ بِشِرَاءٍ أَوْ بِبَيْعٍ فِي الذِّمَّةِ أَوْ قَرْضٍ، فَالثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ، عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ إِلَيْهِ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَإِذَا خَرَجَ الْحَرْبِيُّ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْتَأْمَنًا قَضَى الْقَاضِي عَلَى الْمُسْلِمِ بِمَالِهِ كَمَا يَقْضِي بِهِ لِلْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ جَارٍ عَلَى الْمُسْلِمِ حَيْثُ كَانَ، لَا نُزِيلُ الْحَقَّ عَنْهُ بِأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ.كَمَا لَا تَزُولُ الصَّلَاةُ عَنْهُ بِأَنْ يَكُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَكَذَلِكَ إِنِ اقْتَرَضَ حَرْبِيٌّ مِنْ حَرْبِيٍّ أَوْ مُسْلِمٍ مَالًا ثُمَّ دَخَلَ إِلَيْنَا فَأَسْلَمَ، فَعَلَيْهِ الْبَدَلُ وَيُقْضَى عَلَيْهِ لِالْتِزَامِهِ بِعَقْدٍ.
أَمَّا إِنْ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَالَهُ أَوْ غَصَبَهُ مِنْهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَقَدِمَا إِلَيْنَا بِإِسْلَامٍ، أَوْ أَمَانٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا، وَالْإِتْلَافُ لَيْسَ عَقْدًا يُسْتَدَامُ، وَلِأَنَّ مَالَ الْحَرْبِيِّ لَا يَزِيدُ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْحَرْبِيِّ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَضْمَنَ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَيْسَ لِلْقَاضِي الْمُسْلِمِ الْقَضَاءُ مِنْ حَرْبِيَّيْنِ إِذَا خَرَجَا إِلَيْنَا مُسْتَأْمَنَيْنِ، لِأَنَّ الْمُدَايَنَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَعَتْ هَدَرًا لِانْعِدَامِ وِلَايَتِنَا عَلَيْهِمْ.أَمَّا لَوْ خَرَجَا إِلَيْنَا مُسْلِمَيْنِ فَإِنَّهُ يَقْضِي بَيْنَهُمَا لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ، أَمَّا فِي الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ فَلَا يَقْضِي، وَإِنْ خَرَجَا إِلَيْنَا مُسْلِمَيْنِ.
عِصْمَةُ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
12- الْأَصْلُ أَنَّ أَمْوَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَدِمَاءَهُمْ مُبَاحَةٌ لَا عِصْمَةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلِلْمُسْلِمِينَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بِشَتَّى الطُّرُقِ، لِأَنَّهُمْ يَسْتَبِيحُونَ دِمَاءَنَا وَأَمْوَالَنَا، وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَلَكِنْ ذَكَرُوا حَالَاتٍ تُثْبِتُ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِأَمْوَالِهِمُ الْعِصْمَةَ وَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، مِنْهَا:
13- أ- إِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ أَوْ بِأَسْرٍ، وَائْتَمَنُوهُ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ خِيَانَتُهُمْ فِي شَيْءٍ، لِأَنَّهُمْ أَعْطَوْهُ الْأَمَانَ مَشْرُوطًا بِتَرْكِهِ خِيَانَتَهُمْ، وَأَمْنِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي اللَّفْظِ، فَهُوَ مَعْلُومٌ فِي الْمَعْنَى، فَلَمْ يَحِلَّ لَهُ خِيَانَتُهُمْ، لِأَنَّهُ غَدْرٌ، وَلَا يَصْلُحُ الْغَدْرُ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنْ سَرَقَ مِنْهُمْ شَيْئًا أَوْ غَصَبَ، وَجَبَ رَدُّهُ إِلَى أَرْبَابِهِ، فَإِنْ جَاءَ أَرْبَابُهُ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ رَدَّهُ إِلَيْهِمْ، وَإِلاَّ بَعَثَ بِهِ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهٍ مُحَرَّمٍ فَلَزِمَهُ رَدُّهُ، كَمَا لَوْ أَخَذَ مَالَ مُسْلِمٍ.
وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ حُقِنَ دَمُهُ، وَأَحْرَزَ مَالَهُ وَأَوْلَادَهُ الصِّغَارَ مِنَ السَّبْيِ، فَإِذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا اقْتُصَّ مِنْهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَإِنْ قَتَلَهُ خَطَأً فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ فِي عِصْمَةِ دَمِ الْمُسْلِمِ وَمَالِهِ أَيْنَمَا كَانَ وَحَيْثُ وُجِدَ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ خَطَأً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِلاَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْخَطَأِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وَلَمْ يَذْكُرِ الدِّيَةَ.وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (قَتْلُ عَمْدٍ).
أَمَّا أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ فَأَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ تَبَعًا لَهُ أَمَّا مَالُهُ فَمَا كَانَ بِيَدِهِ مِنْ مَنْقُولٍ فَهُوَ لَهُ.
وَكَذَلِكَ مَا كَانَ بِيَدِ مُسْلِمٍ وَدِيعَةً، أَوْ بِيَدِ ذِمِّيٍّ فَهُوَ لَهُ، لِأَنَّ يَدَ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمَالِكِ فَكَانَ مَعْصُومًا.
أَمَّا الْعَقَارُ مِنْ مَالِهِ فَإِنْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى دَارِ الْحَرْبِ فَهِيَ غَنِيمَةٌ، لِأَنَّهَا بُقْعَةٌ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فَجَازَ اغْتِنَامُهَا.
14- ب- وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ خَرَجَ إِلَيْهَا، وَلَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ صَارُوا مُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَجُزْ سَبْيُهُمْ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.وَقَالُوا: إِنَّهُمْ أَوْلَادُ مُسْلِمٍ، فَيَجِبُ أَنْ يَتْبَعُوهُ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا لَوْ كَانُوا مَعَهُ فِي الدَّارِ، وَلِأَنَّ مَالَهُ مَالُ مُسْلِمٍ فَلَا يَجُوزُ اغْتِنَامُهُ كَمَا لَوْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَهَاجَرَ إِلَيْنَا ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ، فَأَمْوَالُهُ فَيْءٌ، إِلاَّ مَا كَانَ فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ وَدِيعَةً.
وَإِنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَجَمِيعُ أَمْوَالِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ فَيْءٌ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارِ يَمْنَعُ التَّبَعِيَّةَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ فَأَصَابَ مَالًا، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إِلَيْنَا.
التِّجَارَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
15- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلتَّاجِرِ أَنْ يَحْمِلَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ أَهْلُ الْحَرْبِ عَلَى الْحَرْبِ، كَالسِّلَاحِ بِأَنْوَاعِهِ، وَالسُّرُوجِ، وَالنُّحَاسِ، وَالْحَدِيدِ، وَكُلِّ مَا مِنْ شَأْنِهِ تَقْوِيَتِهِمْ فِي الْحَرْبِ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِمْدَادَهُمْ وَإِعَانَتَهُمْ عَلَى حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لِلْحَرْبِيِّ إِذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ أَنْ يَشْتَرِيَ سِلَاحًا، وَإِذَا اشْتَرَى لَا يُمَكَّنُ مِنْ إِدْخَالِهِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ.
أَمَّا الِاتِّجَارُ بِغَيْرِ السِّلَاحِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يُسْتَخْدَمُ فِي الْحَرْبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، كَالثِّيَابِ، وَالطَّعَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لِانْعِدَامِ عِلَّةِ الْمَنْعِ مِنَ الْبَيْعِ.إِلاَّ أَنْ يَحْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلْعَةِ فَلَا يُحْمَلُ إِلَيْهِمْ، وَجَرَتِ الْعَادَةُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ التُّجَّارِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَدْخُلُونَ دَارَ الْحَرْبِ لِلتِّجَارَةِ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ الْمَنْعِ وَلَا إِنْكَارَ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَتْرُكُوا ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ يَسْتَخِفُّونَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَكَانَ الْكَفُّ وَالْإِمْسَاكُ عَنِ الدُّخُولِ فِي دَارِهِمْ مِنْ بَابِ صِيَانَةِ النَّفْسِ عَنِ الْهَوَانِ، وَالدِّينِ عَنِ الزَّوَالِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ الْمُتَاجَرَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى بِلَادِهِمْ حَيْثُ تَجْرِي أَحْكَامُ الْكُفْرِ عَلَيْهِ.
أَثَرُ اخْتِلَافِ الدَّارِ فِي أَحْكَامِ الْأُسْرَةِ وَالتَّوَارُثِ:
16- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ الْمُسْلِمَ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالْآخَرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَوَارُثِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الدَّارِ.
(ر: اخْتِلَافُ الدَّارِ).
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
278-موسوعة الفقه الكويتية (ذبائح 1)
ذَبَائِحُ -1التَّعْرِيفُ:
1- الذَّبَائِحُ جَمْعُ ذَبِيحَةٍ- وَهِيَ الْحَيَوَانُ الْمَذْبُوحُ- مَأْخُوذَةٌ مِنَ الذَّبْحِ- بِفَتْحِ الذَّالِ- وَهُوَ مَصْدَرُ ذَبَحَ يَذْبَحُ كَمَنَعَ يَمْنَعُ.
وَيُطْلَقُ الذَّبْحُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الشَّقِّ وَهُوَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي قَطْعِ الْحُلْقُومِ مِنْ بَاطِنٍ عِنْدَ النَّصِيلِ، وَهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَهُ صَاحِبُ اللِّسَانِ، وَالْحُلْقُومُ هُوَ مَجْرَى النَّفَسِ- بِفَتْحِ الْفَاءِ- وَالْمُرَادُ بِالْبَاطِنِ مُقَدَّمُ الْعُنُقِ، وَالنَّصِيلُ- بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الصَّادِ- مَفْصِلُ مَا بَيْنَ الْعُنُقِ وَالرَّأْسِ تَحْتَ اللَّحْيَيْنِ.
وَلِلذَّبْحِ فِي الِاصْطِلَاحِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ:
(الْأَوَّلُ) الْقَطْعُ فِي الْحَلْقِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ مِنَ الْعُنُقِ «وَاللَّبَّةُ» بِفَتْحِ اللاَّمِ هِيَ الثُّغْرَةُ بَيْنَ التَّرْقُوَتَيْنِ أَسْفَلَ الْعُنُقِ «وَاللَّحْيَانِ» مُثَنَّى اللَّحْيِ بِفَتْحِ اللاَّمِ وَهُمَا الْعَظْمَانِ اللَّذَانِ يَلْتَقِيَانِ فِي الذَّقَنِ، وَتَنْبُتُ عَلَيْهِمَا الْأَسْنَانُ السُّفْلَى.
وَالْفُقَهَاءُ يُرِيدُونَ هَذَا الْمَعْنَى حِينَ يَقُولُونَ مَثَلًا: (يُسْتَحَبُّ فِي الْغَنَمِ وَنَحْوِهَا الذَّبْحُ) أَيْ أَنْ تُقْطَعَ فِي حَلْقِهَا لَا فِي لَبَّتِهَا.
(الثَّانِي) الْقَطْعُ فِي الْحَلْقِ أَوِ اللَّبَّةِ وَهَذَا أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ لِشُمُولِهِ الْقَطْعَ فِي اللَّبَّةِ، وَالْفُقَهَاءُ يُرِيدُونَ هَذَا الْمَعْنَى حِينَمَا يَقُولُونَ: إِنَّ الْحَيَاةَ الْمُسْتَقِرَّةَ هِيَ مَا فَوْقَ حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ وَهِيَ الْحَرَكَةُ الشَّدِيدَةُ الَّتِي يَتَحَرَّكُهَا الْحَيَوَانُ حِينَمَا يُقَارِبُ الْمَوْتَ بَعْدَ الْقَطْعِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ الْقَطْعُ فِي حَلْقِهِ أَمْ فِي لَبَّتِهِ وَمِنْ ذَلِكَ قوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} فَإِنَّهُ يَشْمَلُ مَا قُطِعَ فِي حَلْقِهِ وَمَا قُطِعَ فِي لَبَّتِهِ.
(الثَّالِثُ): مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى حِلِّ الْحَيَوَانِ سَوَاءٌ أَكَانَ قَطْعًا فِي الْحَلْقِ أَمْ فِي اللَّبَّةِ مِنْ حَيَوَانٍ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، أَمْ إِزْهَاقًا لِرَوْحِ الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ بِإِصَابَتِهِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ جَسَدِهِ بِمُحَدَّدٍ أَوَبِجَارِحَةٍ مُعَلَّمَةٍ.
وَهَذَا الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنْ سَابِقَيْهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِ الْفُقَهَاءِ (لَا تَحِلُّ ذَبِيحَةُ الْمُشْرِكِ) فَالْمُرَادُ كُلُّ مَا أَصَابَهُ الْمُشْرِكُ فِي حَلْقِهِ أَوْ لَبَّتِهِ إِنْ كَانَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ، أَوْ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ جَسَدِهِ إِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- النَّحْرُ:
2- يُسْتَعْمَلُ النَّحْرُ فِي اللُّغَةِ اسْمًا وَمَصْدَرًا وَذَلِكَ أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى أَعْلَى الصَّدْرِ وَمَوْضِعِ الْقِلَادَةِ مِنْهُ وَالصَّدْرِ كُلِّهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الطَّعْنِ فِي لَبَّةِ الْحَيَوَانِ، لِأَنَّهَا مُسَامِتَةٌ لِأَعْلَى صَدْرِهِ، يُقَالُ: نَحَرَ الْبَعِيرَ يَنْحَرُهُ نَحْرًا.
وَالنَّحْرُ فِي الِاصْطِلَاحِ الطَّعْنُ فِي اللَّبَّةِ أَيْضًا فَهُوَ مُقَابِلٌ لِلذَّبْحِ بِمَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ الْأَوَّلِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ (يُسْتَحَبُّ فِي الْإِبِلِ النَّحْرُ، وَفِي الْغَنَمِ وَنَحْوِهَا الذَّبْحُ).
ب- الْعَقْرُ:
3- الْعَقْرُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْقَافِ لُغَةً: ضَرْبُ قَوَائِمِ الْبَعِيرِ أَوِ الشَّاةِ بِالسَّيْفِ وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهِ الْعَرَبُ حَتَّى اسْتَعْمَلُوهُ فِي الْقَتْلِ وَالْإِهْلَاكِ، وَرُبَّمَا اسْتَعْمَلُوهُ فِي النَّحْرِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ نَاحِرَ الْإِبِلِ كَانَ يَضْرِبُ إِحْدَى قَوَائِمِهَا ثُمَّ يَنْحَرُهَا.
وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى الْإِصَابَةِ الْقَاتِلَةِ لِلْحَيَوَانِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَتْ مِنْ بَدَنِهِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِالسَّهْمِ أَمْ بِجَوَارِحِ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ.
ج- الْجَرْحُ
4- الْجَرْحُ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْكَسْبِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ}.وَعَلَى التَّأْثِيرِ فِي الشَّيْءِ بِالسِّلَاحِ وَيُطْلَقُ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْفِقْهِ عَلَى مَعْنَى «الْعَقْرِ» الْمُتَقَدِّمِ.
د- الصَّيْدُ:
5- الصَّيْدُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ صَادَ الْوَحْشَ أَوِ الطَّيْرَ أَوِ السَّمَكَ، إِذَا أَمْسَكَهَا بِالْمِصْيَدَةِ أَوْ أَخَذَهَا، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا صِيدَ، وَعَلَى مَا يُصَادُ، أَيْ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُصَادَ لِامْتِنَاعِهِ بِشِدَّةِ الْعَدْوِ أَوِ الطَّيَرَانِ أَوِ الْغَوْصِ.وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَهُ مَصْدَرًا، وَبِمَعْنَى مَا صِيدَ وَمَا يُصَادُ أَيْضًا، لَكِنَّهُمْ حِينَمَا يَسْتَعْمِلُونَهُ مَصْدَرًا يُطْلِقُونَهُ تَارَةً عَلَى إِزَالَةِ مَنَعَةِ مَا كَانَ مُمْتَنِعًا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَتَارَةً عَلَى إِزْهَاقِ رَوْحِ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ الْمُتَوَحِّشِ بِإِرْسَالِ نَحْوِ سَهْمٍ أَوْ كَلْبٍ أَوْ صَقْرٍ، فَيُرَادِفُ «الْعَقْرَ» الْمُتَقَدِّمَ، وَحِينَمَا يَسْتَعْمِلُونَهُ بِمَعْنَى مَا صِيدَ يَقْصِدُونَ بِهِ تَارَةً مَا أُزِيلَتْ مَنَعَتُهُ، وَتَارَةً مَا أُزْهِقَتْ رُوحُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ الْمُتَوَحِّشِ.إِلَخْ، وَحِينَمَا يَسْتَعْمِلُونَهُ بِمَعْنَى مَا يُصَادُ يُرِيدُونَ بِهِ الْحَيَوَانَ الْبَرِّيَّ الْمُتَوَحِّشَ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (صَيْد).
هـ- التَّذْكِيَةُ:
6- التَّذْكِيَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ ذَكَّيْتُ الْحَيَوَانَ أَيْ ذَبَحْتُهُ أَوْ نَحَرْتُهُ، وَالذَّكَاةُ: اسْمُ الْمَصْدَرِ.وَمَعْنَاهَا إِتْمَامُ الشَّيْءِ وَالذَّبْحِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هِيَ السَّبَبُ الْمُوَصِّلُ لِحِلِّ أَكْلِ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ اخْتِيَارًا.
وَتُعْرَفُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا السَّبِيلُ الشَّرْعِيَّةُ لِبَقَاءِ طَهَارَةِ الْحَيَوَانِ وَحِلِّ أَكْلِهِ إِنْ كَانَ مَأْكُولًا، وَحِلِّ الِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ وَشَعْرِهِ إِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْكُولٍ.
أَثَرُ الذَّكَاةِ فِي الْحَيَوَانِ:
7- الْحَيَوَانُ نَوْعَانِ مَأْكُولٌ وَغَيْرُ مَأْكُولٍ وَلِلذَّكَاةِ أَثَرٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا.
أ- أَثَرُ الذَّكَاةِ فِي الْحَيَوَانِ غَيْرِ الْمَأْكُولِ:
8- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ:
1- إِنْ كَانَ نَجَسًا حَيًّا وَمَيِّتًا كَالْخِنْزِيرِ لَمْ يَقْبَلِ الذَّكَاةَ؛ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تُفِيدُ بَقَاءَ الطُّهْرِ وَلَا تَقْلِبُ النَّجَسَ طَاهِرًا.
2- وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا حَيًّا وَمَيِّتًا- وَهُوَ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ كَالنَّمْلِ وَالنَّحْلِ- فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَذْكِيَتِهِ؛ لِأَنَّ طُهْرَهُ بَاقٍ.
3- وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا فِي الْحَيَاةِ نَجَسًا بِالْمَوْتِ كَالْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ فَهُوَ صَالِحٌ لِلتَّذْكِيَةِ وَلَهَا فِيهِ أَثَرَانِ:
الْأَوَّلُ: بَقَاءُ طُهْرِهِ وَلَوْلَا التَّذْكِيَةُ لَتَنَجَّسَ بِالْمَوْتِ.
وَالثَّانِي: حِلُّ الِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ وَشَعْرِهِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى دِبَاغٍ. (ر: نَجَاسَة، دِبَاغ).
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الذَّكَاةَ لَا تَعْمَلُ فِي غَيْرِ الْمَأْكُولِ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ ذَكَاةُ مَا لَا يُؤْكَلُ إِنْ أَيِسَ مِنْ حَيَاتِهِ بِمَرَضٍ أَوْ عَمًى بِمَكَانٍ لَا عَلَفَ فِيهِ، وَلَا يُرْجَى أَخْذُ أَحَدٍ لَهُ، وَهَذِهِ الذَّكَاةُ لَيْسَتْ بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ لِأَنَّهَا لِلْإِرَاحَةِ لَا لِلتَّطْهِيرِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِتَحْرِيمِ ذَبْحِ غَيْرِ الْمَأْكُولِ وَلَوْ لِإِرَاحَةٍ، لَكِنْ لَوِ اضْطُرَّ إِنْسَانٌ لِأَكْلِهِ كَانَ ذَبْحُهُ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ لِخُرُوجِ الرُّوحِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَطْهُرُ جِلْدُ غَيْرِ الْمَأْكُولِ بِالذَّكَاةِ لِأَنَّهَا ذَكَاةٌ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ.
ب- أَثَرُ الذَّكَاةِ فِي الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ:
9- الْحَيَوَانُ الْمَأْكُولُ إِنْ كَانَ سَمَكًا أَوْ جَرَادًا فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَذْكِيَتِهِ؛ لِأَنَّ مَيْتَتَهُمَا طَاهِرَةٌ حَلَالٌ، لِمَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ».وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ».
وَأَمَّا سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ الْبَحْرِيَّةِ غَيْرَ السَّمَكِ فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ تُؤْكَلُ وَلَوْ بِغَيْرِ تَذْكِيَةٍ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا تُؤْكَلُ أَصْلًا وَلَوْ ذُكِّيَتْ.وَسَائِرُ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ يُؤْكَلُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَلَوْ بِلَا تَذْكِيَةٍ. (وَانْظُرْ: أَطْعِمَة).
وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ فَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يَحِلُّ إِلاَّ بِالتَّذْكِيَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْحَيَوَانُ الْمَأْكُولُ بَرِّيًّا ذَا نَفْسٍ سَائِلَةٍ فَهُوَ صَالِحٌ لِلذَّكَاةِ.
وَلَهَا فِيهِ ثَلَاثَةُ آثَارٍ:
الْأَوَّلُ: بَقَاءُ طُهْرِهِ، وَالثَّانِي: حِلُّ الِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ وَشَعْرِهِ دُونَ دِبَاغٍ، وَالثَّالِثُ: حِلُّ أَكْلِهِ.
تَقْسِيمُ الذَّكَاةِ:
10- سَبَقَ أَنَّ الذَّكَاةَ لَهَا أَثَرٌ فِي الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ الطَّاهِرِ الَّذِي لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ سَوَاءٌ أَكَانَ مَأْكُولًا أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَالْحَيَوَانُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ كَالْمُسْتَأْنَسِ مِنَ الدَّوَابِّ وَالطُّيُورِ، أَوْ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَوْحِشِ مِنْهَا.
وَلِهَذَا كَانَتِ الذَّكَاةُ نَوْعَيْنِ:
(الْأَوَّلُ): الذَّبْحُ أَوِ النَّحْرُ عَلَى حَسَبِ نَوْعِ الْحَيَوَانِ إِنْ كَانَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ.
(الثَّانِي): الصَّيْدُ بِالرَّمْيِ أَوْ بِإِرْسَالِ الْجَارِحَةِ عِنْدَ امْتِنَاعِ الْحَيَوَانِ وَتَوَحُّشِهِ بِالطَّيَرَانِ أَوِ الْعَدْوِ، وَهُوَ كَالْبَدَلِ عَنِ الْأَوَّلِ، إِذْ لَمْ يُجِزْهُ الشَّارِعُ إِلاَّ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ رَحْمَةً بِالنَّاسِ وَرِعَايَةً لِحَاجَاتِهِمْ.
وَمِنْ هُنَا انْقَسَمَتِ الذَّكَاةُ إِلَى «اخْتِيَارِيَّةٍ» وَهِيَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ «وَاضْطِرَارِيَّةٍ» وَهِيَ النَّوْعُ الثَّانِي.
وَقَدِ انْفَرَدَ الْحَنَفِيَّةُ بِتَسْمِيَةِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ.وَسَمَّى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ النَّوْعَ الْأَوَّلَ ذَكَاةَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَالنَّوْعَ الثَّانِيَ ذَكَاةَ غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ.
وَمَضَى أَنَّ هُنَاكَ نَوْعًا آخَرَ مِنَ الذَّكَاةِ هُوَ ذَكَاةُ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَبَقِيَ نَوْعٌ يَقُولُ بِهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ ذَكَاةُ الْجَنِينِ بِذَكَاةِ أُمِّهِ
فَجُمْلَةُ الْأَنْوَاعِ اتِّفَاقًا وَاخْتِلَافًا أَرْبَعَةٌ هِيَ: الذَّكَاةُ الِاخْتِيَارِيَّةُ، وَالذَّكَاةُ الِاضْطِرَارِيَّةُ، وَذَكَاةُ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ، وَذَكَاةُ الْجَنِينِ تَبَعًا لأُِمِّهِ.
النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ أَنْوَاعِ الذَّكَاةِ:
الذَّكَاةُ الِاخْتِيَارِيَّةُ:
أ- حَقِيقَتُهَا.
11- حَقِيقَةُ الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الذَّبْحُ فِيمَا يُذْبَحُ وَهُوَ مَا عَدَا الْإِبِلَ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهَا، وَالنَّحْرُ فِيمَا يُنْحَرُ وَهُوَ الْإِبِلُ خَاصَّةً، وَتَخْصِيصُ الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِالذَّبْحِ أَوِ النَّحْرِ وَاجِبٌ فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا فِي الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ.
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-: الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ لِمَنْ قَدَرَ، وَذَرِ الْأَنْفُسَ حَتَّى تَزْهَقَ.وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ.وَالْمَقْصُودُ بِالذَّكَاةِ فِي كَلَامِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم- ذَكَاةُ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ لِغَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ صِفَةً أُخْرَى ذُكِرَتْ فِي أَحَادِيثِ الصَّيْدِ.
وَتَخْصِيصُ الْإِبِلِ بِالنَّحْرِ وَمَا عَدَاهَا بِالذَّبْحِ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لَا وَاجِبٌ، وَوَجْهُ اسْتِحْبَابِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْإِبِلِ النَّحْرَ، وَفِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ الذَّبْحَ فَقَالَ: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}.وَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}.وَقَالَ: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}.وَالذِّبْحُ- بِكَسْرِ الذَّالِ- بِمَعْنَى الْمَذْبُوحِ وَهُوَ الْكَبْشُ الَّذِي فُدِيَ بِهِ إِسْمَاعِيلُ- عليه السلام-؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الذَّكَاةِ إِنَّمَا هُوَ الْأَسْهَلُ عَلَى الْحَيَوَانِ، وَمَا فِيهِ نَوْعُ رَاحَةٍ لَهُ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَالْأَسْهَلُ فِي الْإِبِلِ النَّحْرُ لِخُلُوِّ لَبَّتِهَا عَنِ اللَّحْمِ وَاجْتِمَاعِ اللَّحْمِ فِيمَا سِوَاهَا، وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَنَحْوُهَا جَمِيعُ عُنُقِهَا لَا يَخْتَلِفُ.
وَأَلْحَقَ الشَّافِعِيَّةُ بِالْإِبِلِ سَائِرَ مَا طَالَ عُنُقُهُ كَالْإِوَزِّ وَالْبَطِّ وَمَا قُدِرَ عَلَيْهِ مِنَ النَّعَامِ.وَأَوْجَبَ الْمَالِكِيَّةُ النَّحْرَ فِي الْإِبِلِ لقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وَقَاسُوا عَلَى الْإِبِلِ مَا قُدِرَ عَلَيْهِ مِنَ الزَّرَافِيِّ وَالْفِيَلَةِ.
وَأَجَازُوا الذَّبْحَ وَالنَّحْرَ- مَعَ أَفْضَلِيَّةِ الذَّبْحِ- فِي الْبَقَرِ لِوُرُودِ الذَّبْحِ فِيهِ فِي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}، وَأَمَّا النَّحْرُ فَقَدْ قِيلَ فِي تَعْلِيلِهِ عِنْدَهُمْ: إِنَّ عُنُقَ الْبَقَرَةِ لَمَّا كَانَ فَوْقَ الشَّاةِ وَدُونَ عُنُقِ الْبَعِيرِ جَازَ فِيهَا الْأَمْرَانِ جَمِيعًا الذَّبْحُ وَالنَّحْرُ؛ لِقُرْبِ خُرُوجِ الدَّمِ مِنْ جَوْفِهَا بِالذَّبْحِ، وَالنَّحْرُ فِيهِ أَخَفُّ، وَلَمْ يَجُزِ الذَّبْحُ فِي الْبَعِيرِ لِبُعْدِ خُرُوجِ الدَّمِ مِنْ جَوْفِهَا بِالذَّبْحِ.
وَقَاسُوا عَلَيْهِ مَا قُدِرَ عَلَيْهِ مِنْ بَقَرِ الْوَحْشِ وَحُمُرِهِ وَخَيْلِهِ وَبِغَالِهِ، وَأَوْجَبُوا الذَّبْحَ فِيمَا عَدَا هَذِهِ الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ.
ب- الْحِكْمَةُ فِي اشْتِرَاطِهَا:
12- الْحِكْمَةُ فِي اشْتِرَاطِ التَّذْكِيَةِ أَنَّ الْحُرْمَةَ فِي الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ لِمَكَانِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، وَلَا يَزُولُ إِلاَّ بِالذَّبْحِ أَوِ النَّحْرِ، وَأَنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا وَرَدَ بِإِحْلَالِ الطَّيِّبَاتِ خَاصَّةً قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَاأُحِلَّ لَهُمْ قُلْأُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}.وَلَا يَطِيبُ إِلاَّ بِخُرُوجِ الدَّمِ وَذَلِكَ بِالذَّبْحِ أَوِ النَّحْرِ، وَلِهَذَا حُرِّمَتِ الْمَيْتَةُ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ وَهُوَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ فِيهَا قَائِمٌ، وَلِذَا لَا يَطِيبُ مَعَ قِيَامِهِ، وَلِهَذَا يَفْسُدُ فِي أَدْنَى مُدَّةٍ لَا يَفْسُدُ فِي مِثْلِهَا الْمَذْبُوحُ، وَكَذَا الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِذَا لَمْ تُدْرَكْ حَيَّةً، فَتُذْبَحُ أَوْ تُنْحَرُ.
وَمِنَ الْحِكْمَةِ أَيْضًا التَّنْفِيرُ عَنِ الشِّرْكِ وَأَعْمَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَمْيِيزُ مَأْكُولِ الْآدَمِيِّ عَنْ مَأْكُولِ السِّبَاعِ، وَأَنْ يَتَذَكَّرَ الْإِنْسَانُ إِكْرَامَ اللَّهِ لَهُ بِإِبَاحَةِ إِزْهَاقِ رَوْحِ الْحَيَوَانِ لِأَكْلِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ.
ج- تَقْسِيمُ الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ:
13- تَنْقَسِمُ الذَّكَاةُ الِاخْتِيَارِيَّةُ- كَمَا عُلِمَ مِنْ حَقِيقَتِهَا- إِلَى ذَبْحٍ وَنَحْرٍ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا حَقِيقَةٌ وَشَرَائِطُ وَآدَابُ وَمَكْرُوهَاتٌ.
(أَوَّلًا) الذَّبْحُ:
حَقِيقَةُ الذَّبْحِ:
14- حَقِيقَةُ الذَّبْحِ قَطْعُ الْأَوْدَاجِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا فِي الْحَلْقِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ.وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَوْدَاجَ أَرْبَعَةٌ وَهِيَ: الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ وَالْعِرْقَانِ اللَّذَانِ يُحِيطَانِ بِهِمَا وَيُسَمَّيَانِ (الْوَدَجَيْنِ).فَإِذَا فَرَى ذَلِكَ كُلَّهُ فَقَدْ أَتَى بِالذَّكَاةِ بِكَمَالِهَا.وَإِنْ فَرَى بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ فَفِيهِ خِلَافٌ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ حَلَّ إِذَا اسْتَوْعَبَ قَطْعَهُمَا؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ إِزَالَةُ الْحَيَاةِ، وَالْحَيَاةُ لَا تَبْقَى بَعْدَ قَطْعِهِمَا عَادَةً وَقَدْ تَبْقَى بَعْدَ قَطْعِ الْوَدَجَيْنِ إِذْ هُمَا عِرْقَانِ كَسَائِرِ الْعُرُوقِ، وَالْحَيَاةُ لَا تَبْقَى بَعْدَ قَطْعِ عِرْقَيْنِ مِنْ سَائِرِ الْعُرُوقِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا قَطَعَ أَكْثَرَ الْأَوْدَاجِ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ مِنْهَا- أَيَّ ثَلَاثَةٍ كَانَتْ- وَتَرَكَ وَاحِدًا حَلَّ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْجَمِيعِ فِيمَا بُنِيَ عَلَى التَّوْسِعَةِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ، وَالذَّكَاةُ بُنِيَتْ عَلَى التَّوْسِعَةِ حَيْثُ يُكْتَفَى فِيهَا بِبَعْضٍ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْجُمْهُورِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْكَيْفِيَّةِ فَيُقَامُ الْأَكْثَرُ فِيهَا مَقَامَ الْجَمِيعِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَحِلُّ حَتَّى يَقْطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ وَأَحَدَ الْعِرْقَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْعُرُوقِ يُقْصَدُ بِقَطْعِهِ غَيْرُ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْآخَرُ، إِذِ الْحُلْقُومُ مَجْرَى النَّفَسِ، وَالْمَرِيءُ مَجْرَى الطَّعَامِ، وَالْوَدَجَانِ مَجْرَيَانِ لِلدَّمِ، فَإِذَا قُطِعَ أَحَدُهُمَا حَصَلَ بِقَطْعِهِ الْمَقْصُودُ مِنْهُمَا، وَإِذَا تُرِكَ الْحُلْقُومُ أَوِ الْمَرِيءُ لَمْ يَحْصُلْ بِقَطْعِ مَا سِوَاهُ الْمَقْصُودُ مِنْ قَطْعِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَحِلُّ حَتَّى يَقْطَعَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَرْبَعَةِ أَكْثَرَهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا قَطَعَ الْأَكْثَرَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَرْبَعَةِ، فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالذَّبْحِ وَهُوَ خُرُوجُ الدَّمِ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ مَا يَخْرُجُ بِقَطْعِ الْجَمِيعِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا قَطَعَ جَمِيعَ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْنِ حَلَّ، وَلَا يَكْفِي نِصْفُ الْحُلْقُومِ مَعَ جَمِيعِ الْوَدَجَيْنِ عَلَى الْأَصَحِّ.وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ يُشْتَرَطُ قَطْعُ الْأَوْدَاجِ الْأَرْبَعَةِ، اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ الْبَنَّا وَأَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْزِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ قَطْعَ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَقَطْعَ بَعْضِهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالْأَصْلُ التَّحْرِيمُ فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ إِلاَّ بِيَقِينٍ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ شَرِيطَةِ الشَّيْطَانِ» وَهِيَ الَّتِي تُذْبَحُ فَيُقْطَعُ الْجِلْدُ وَلَا تُفْرَى الْأَوْدَاجُ.
حُكْمُ الْمُغَلْصَمَةِ:
15- الْمُغَلْصَمَةُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ قَوْلِهِمْ: غَلْصَمَهُ إِذَا قَطَعَ غَلْصَمَتَهُ.وَالْغَلْصَمَةُ هِيَ جَوْزَةُ الْعُنُقِ وَهِيَ رَأْسُ الْحُلْقُومِ، وَهِيَ صَفِيحَةٌ غُضْرُوفِيَّةٌ عِنْدَ أَصْلِ اللِّسَانِ، سَرْجِيَّةُ الشَّكْلِ، مُغَطَّاةٌ بِغِشَاءٍ مُخَاطِيٍّ، وَتَنْحَدِرُ إِلَى الْخَلْفِ لِتَغْطِيَةِ فَتْحَةِ الْحَنْجَرَةِ لِإِقْفَالِهَا فِي أَثْنَاءِ الْبَلْعِ.
وَالْمُرَادُ بِالْمُغَلْصَمَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ الذَّبِيحَةُ الَّتِي انْحَازَتِ الْجَوْزَةُ فِيهَا لِجِهَةِ الْبَدَنِ، بِأَنْ يُمِيلَ الذَّابِحُ يَدَهُ إِلَى جِهَةِ الذَّقَنِ فَلَا يَقْطَعُ الْجَوْزَةَ بَلْ يَجْعَلُهَا كُلَّهَا مُنْحَازَةً لِجِهَةِ الْبَدَنِ مَفْصُولَةً عَنِ الرَّأْسِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ بِأَنَّ الْمُغَلْصَمَةَ لَا يَحِلُّ أَكْلُهَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ حِينَئِذٍ صَارَ فَوْقَ الْحُلْقُومِ، فَإِنَّ الذَّبْحَ لَمْ يَكُنْ فِي الْحُلْقُومِ وَإِنَّمَا كَانَ فِي الرَّأْسِ.
وَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ مَا خُلَاصَتُهُ: صَرَّحَ فِي «الذَّخِيرَةِ» بِأَنَّ الذَّبْحَ إِذَا وَقَعَ أَعْلَى مِنَ الْحُلْقُومِ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّ الْمَذْبَحَ هُوَ الْحُلْقُومُ، لَكِنْ رِوَايَةُ الرُّسْتُغْفَنِيِّ تُخَالِفُ هَذِهِ حَيْثُ قَالَ: هَذَا قَوْلُ الْعَوَامِّ وَلَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ، فَتَحِلُّ سَوَاءٌ بَقِيَتِ الْعُقْدَةُ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ أَوِ الصَّدْرَ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَنَا قَطْعُ أَكْثَرِ الْأَوْدَاجِ وَقَدْ وُجِدَ.وَقَدْ شَنَّعَ الْأَتْقَانِيُّ فِي «غَايَةِ الْبَيَانِ» عَلَى مَنْ شَرَطَ بَقَاءَ الْعُقْدَةِ فِي الرَّأْسِ وَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى الْعُقْدَةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا كَلَامِ رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- بَلِ الذَّكَاةُ بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ، وَقَدْ حَصَلَتْ، لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ مِنَ الِاكْتِفَاءِ بِثَلَاثٍ مِنَ الْأَرْبَعِ أَيًّا كَانَتْ، وَيَجُوزُ تَرْكُ الْحُلْقُومِ أَصْلًا، فَبِالْأَوْلَى إِذَا قُطِعَ مِنْ أَعْلَاهُ وَبَقِيَتِ الْعُقْدَةُ أَسْفَلَهُ.
شَرَائِطُ الذَّبْحِ:
هِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: شَرَائِطُ فِي الْمَذْبُوحِ، وَشَرَائِطُ فِي الذَّابِحِ، وَشَرَائِطُ فِي الْآلَةِ.
شَرَائِطُ الْمَذْبُوحِ:
16- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الذَّبْحِ ثَلَاثُ شَرَائِطَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَذْبُوحِ وَهِيَ:
1- أَنْ يَكُونَ حَيًّا وَقْتَ الذَّبْحِ.
2- أَنْ يَكُونَ زَهُوقُ رُوحِهِ بِمَحْضِ الذَّبْحِ.
3- أَلاَّ يَكُونَ صَيْدًا حَرَمِيًّا.وَزَادَ بَعْضُ الْمَذَاهِبِ شَرَائِطَ أُخْرَى مِنْهَا:
4- أَلاَّ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِالنَّحْرِ.وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ.
فَجُمْلَةُ الشَّرَائِطِ أَرْبَعٌ.
17- أَمَّا الشَّرِيطَةُ (الْأُولَى) وَهِيَ كَوْنُهُ حَيًّا وَقْتَ الذَّبْحِ فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اشْتِرَاطِ الْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ فِي الذَّبِيحِ قَبْلَ الذَّبْحِ إِنْ كَانَ هُنَاكَ سَبَبٌ يُحَالُ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ كَالِانْخِنَاقِ وَالتَّرَدِّي وَالضَّرْبِ وَالنَّطْحِ وَأَكْلِ السَّبُعِ وَخُرُوجِ الْأَمْعَاءِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ سَبَبٌ يُحَالُ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ فَإِنَّهُ يَكْفِي وُجُودُ الْحَيَاةِ وَلَوْ كَانَ الْحَيَوَانُ فِي آخِرِ رَمَقٍ، وَمَثَّلَ الشَّافِعِيَّةُ لِذَلِكَ بِمَا لَوْ جَاعَ الْحَيَوَانُ أَوْ مَرِضَ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَرَضُهُ بِأَكْلِ نَبَاتٍ مُضِرٍّ.
وَالْحَيَاةُ الْمُسْتَقِرَّةُ هِيَ مَا زَادَتْ عَنْ حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ سَوَاءٌ انْتَهَتْ إِلَى حَالٍ يُعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَعِيشُ مَعَهُ أَوْ تَعِيشُ، أَمْ لَمْ تَنْتَهِ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ.وَجَعَلَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَامَةَ الْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ- إِذَا لَمْ تُعْلَمْ قَبْلَ الذَّبْحِ- أَنْ يَتَحَرَّكَ الْحَيَوَانُ بَعْدَ الذَّبْحِ حَرَكَةً شَدِيدَةً، أَوْ يَنْفَجِرَ مِنْهُ الدَّمُ.
وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: «لَا يُكْتَفَى بِقِيَامِ أَصْلِ الْحَيَاةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ».وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي بَيَانِ الِاسْتِقْرَارِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْمَذْبُوحَ يَعِيشُ لَوْ لَمْ يُذْبَحْ، وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنَ الْحَيَاةِ مِقْدَارُ مَا يَعِيشُ بِهِ نِصْفَ يَوْمٍ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي بَيَانِ الِاسْتِقْرَارِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ يَبْقَى مِنْ حَيَاةِ مَا يُرَادُ ذَبْحُهُ أَكْثَرُ مِمَّا يَبْقَى مِنْ حَيَاةِ الْمَذْبُوحِ.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مُفَسِّرًا فَقَالَ: إِنَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ إِنْ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلاَّ الِاضْطِرَابُ لِلْمَوْتِ فَذَبَحَهُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ، وَإِنْ كَانَ يَعِيشُ مُدَّةً كَالْيَوْمِ أَوْ كَنِصْفِهِ حَلَّ.
وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ اسْتِقْرَارَ الْحَيَاةِ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ تَكُنْ لِلْمَذْبُوحِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ كَانَ فِي مَعْنَى الْمَيْتَةِ فَلَا تَلْحَقُهُ الذَّكَاةُ كَالْمَيْتَةِ حَقِيقَةً.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ لَمْ يَحْدُثْ بِالْحَيَوَانِ مَا يَقْتَضِي الْيَأْسَ مِنْ بَقَاءِ حَيَاتِهِ كَفَى فِي حِلِّهِ التَّحَرُّكُ بَعْدَ الذَّبْحِ أَوْ سَيَلَانُ الدَّمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُلٌّ مِنْهُمَا قَوِيًّا.
وَإِنْ حَدَثَ بِهِ مَا يَقْتَضِي الْيَأْسَ مِنْ بَقَاءِ حَيَاتِهِ كَإِخْفَاءِ مَرَضِهِ، أَوِ انْتِفَاخٍ بِعُشْبٍ، أَوْ دَقِّ عُنُقٍ، أَوْ سُقُوطٍ مِنْ شَاهِقٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ حَلَّ بِشَرِيطَتَيْنِ: أَلاَّ يَنْفُذَ بِذَلِكَ مَقْتَلٌ مِنْهُ قَبْلَ الذَّبْحِ، وَأَنْ يَكُونَ قَوِيَّ الْحَرَكَةِ مَعَ الذَّبْحِ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ يَشْخَبَ مِنْهُ الدَّمُ بَعْدَ الذَّبْحِ أَيْ يَخْرُجَ بِقُوَّةٍ.
وَنَفَاذُ الْمَقْتَلِ يَكُونُ عِنْدَهُمْ بِوَاحِدٍ مِنْ خَمْسَةِ أُمُورٍ:
أَوَّلُهَا: قَطْعُ النُّخَاعِ، وَأَمَّا كَسْرُ الصُّلْبِ فَلَيْسَ بِمَقْتَلٍ.
ثَانِيهَا: قَطْعُ وَدَجٍ، وَأَمَّا شَقُّهُ بِلَا قَطْعٍ فَفِيهِ قَوْلَانِ.
ثَالِثُهَا: نَثْرُ دِمَاغٍ وَهُوَ مَا تَحْوِيهِ الْجُمْجُمَةُ، وَأَمَّا شَرْخُ الرَّأْسِ أَوْ خَرْقُ خَرِيطَةِ الدِّمَاغِ بِلَا انْتِشَارٍ فَلَيْسَ بِمَقْتَلٍ.رَابِعُهَا: نَثْرُ حَشْوَةٍ وَهِيَ مَا حَوَاهُ الْبَطْنُ مِنْ قَلْبٍ وَكَبِدٍ وَطِحَالٍ وَكُلْيَةٍ وَأَمْعَاءٍ أَيْ إِزَالَةُ مَا ذُكِرَ عَنْ مَوْضِعِهِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ إِعَادَتُهُ إِلَى مَوْضِعِهِ.
خَامِسُهَا: ثَقْبُ مَصِيرٍ- وَهُوَ الْمِعَى وَيُجْمَعُ عَلَى مُصْرَانٍ وَجَمْعُ الْجَمْعِ مَصَارِينُ- وَأَمَّا ثَقْبُ الْكَرِشِ فَلَيْسَ بِمَقْتَلٍ فَالْبَهِيمَةُ الْمُنْتَفِخَةُ إِذَا ذُبِحَتْ فَوُجِدَتْ مَثْقُوبَةَ الْكَرِشِ تُؤْكَلُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يَكْفِي قِيَامُ أَصْلِ الْحَيَاةِ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ؛ لِأَنَّهُ إِذَا ذُبِحَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَقَدْ صَارَ مُذَكًّى وَدَخَلَ تَحْتَ النَّصِّ وَهُوَ: قوله تعالى {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} فَإِنْ عُلِمَتْ حَيَاةُ الْمَذْبُوحِ قَبْلَ الذَّبْحِ لَمْ يُشْتَرَطْ بَعْدَ الذَّبْحِ تَحَرُّكٌ وَلَا خُرُوجُ دَمٍ، وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ كَأَنْ كَانَ الْمَذْبُوحُ مَرِيضًا أَوْ مُنْخَنِقًا أَوْ نَطِيحًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَشَكَكْنَا فِي حَيَاتِهِ فَذَبَحْنَاهُ فَتَحَرَّكَ أَوَخَرَجَ مِنْهُ الدَّمُ كَانَ هَذَا عَلَامَةً عَلَى الْحَيَاةِ فَيَحِلُّ، وَالْمُرَادُ بِالْحَرَكَةِ الْحَرَكَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ قَبْلَ الذَّبْحِ، وَمِنْهَا ضَمُّ الْفَمِ وَضَمُّ الْعَيْنِ وَقَبْضُ الرِّجْلِ وَقِيَامُ الشَّعْرِ، بِخِلَافِ فَتْحِ الْفَمِ أَوِ الْعَيْنِ وَمَدِّ الرِّجْلِ وَنَوْمِ الشَّعْرِ فَهِيَ لَا تَدُلُّ عَلَى سَبْقِ الْحَيَاةِ، وَالْمُرَادُ بِخُرُوجِ الدَّمِ سَيَلَانُهُ عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي يَسِيلُ بِهَا دَمُ الْحَيِّ بَعْدَ ذَبْحِهِ وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقِيلَ: الِاكْتِفَاءُ بِأَصْلِ الْحَيَاةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ، لَكِنْ ظَاهِرُ كَلَامِهِ اشْتِرَاطُ خُرُوجِ الدَّمِ، فَإِنَّهُ قَالَ: مَتَى ذُبِحَ الْحَيَوَانُ فَخَرَجَ مِنْهُ الدَّمُ الْأَحْمَرُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْمُذَكَّى الْمَذْبُوحِ فِي الْعَادَةِ لَيْسَ هُوَ دَمَ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ يَحِلُّ أَكْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَتَحَرَّكْ.
18- وَأَمَّا الشَّرِيطَةُ (الثَّانِيَةُ) وَهِيَ: أَنْ يَكُونَ زَهُوقُ رُوحِهِ بِمَحْضِ الذَّبْحِ: فَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِ صَاحِبِ «الْبَدَائِعِ»: ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَطَعَ شَاةً نِصْفَيْنِ ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا فَرَى أَوْدَاجَهَا وَالرَّأْسُ يَتَحَرَّكُ، أَوْ شَقَّ رَجُلٌ بَطْنَهَا فَأَخْرَجَ مَا فِي جَوْفِهَا وَفَرَى رَجُلٌ آخَرُ الْأَوْدَاجَ فَإِنَّ هَذَا لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْأَوَّلَ قَاتِلٌ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إِنْ كَانَتِ الضَّرْبَةُ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ لَمْ تُؤْكَلِ الشَّاةُ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ أُكِلَتْ؛ لِأَنَّ الْعُرُوقَ الْمَشْرُوطَةَ فِي الذَّبْحِ مُتَّصِلَةٌ مِنَ الْقَلْبِ إِلَى الدِّمَاغِ، فَإِذَا كَانَتِ الضَّرْبَةُ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ فَقَدْ قَطَعَهَا فَحَلَّتْ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ فَلَمْ يَقْطَعْهَا فَلَمْ تَحِلَّ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِمَا يُفِيدُ اشْتِرَاطَ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ، وَمَثَّلَ لَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِمَا لَوِ اقْتَرَنَ بِذَبْحِ الشَّاةِ مَثَلًا نَزْعُ الْحَشْوَةِ، أَوْ نَخْسُ الْخَاصِرَةِ، أَوِ الْقَطْعُ مِنَ الْقَفَا فَلَا تَحِلُّ الشَّاةُ لِاجْتِمَاعِ مُبِيحٍ وَمُحَرِّمٍ فَيُغَلَّبُ الْمُحَرِّمُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَائِرَ الْمَذَاهِبِ لَا يُخَالِفُ فِي هَذِهِ الشَّرِيطَةِ؛ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَاعِدَةٍ لَا خِلَافَ فِيهَا وَهِيَ تَغْلِيبُ الْمُحَرِّمِ عَلَى الْمُبِيحِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا، بَلْ إِنَّ الْحَنَابِلَةَ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ حَدَثَ بَعْدَ الذَّبْحِ وَقَبْلَ الْمَوْتِ مَا يُعِينُ عَلَى الْهَلَاكِ حُرِّمَتِ الذَّبِيحَةُ، فَفِي «الْمُقْنِعِ وَحَاشِيَتِهِ» مِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ مَا خُلَاصَتُهُ أَنَّهُ إِذَا ذَبَحَ الْحَيَوَانَ ثُمَّ غَرِقَ أَوْ وَطِئَ عَلَيْهِ شَيْءٌ يَقْتُلُهُ مِثْلُهُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ:
(إِحْدَاهُمَا): لَا يَحِلُّ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فِي الصَّيْدِ: «إِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ».وَلِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- مَنْ رَمَى طَائِرًا فَوَقَعَ فِي مَاءٍ فَغَرِقَ فِيهِ فَلَا يَأْكُلُهُ.وَلِأَنَّ الْغَرَقَ سَبَبٌ يَقْتُلُ فَإِذَا اجْتَمَعَ مَا يُبِيحُ وَمَا يُحَرِّمُ غُلِّبَ التَّحْرِيمُ.
(وَالثَّانِيَةُ): أَنَّهُ يَحِلُّ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّهَا إِذَا ذُبِحَتْ صَارَتْ مُذَكَّاةً حَلَالًا، فَلَا يَضُرُّهَا مَا يَحْدُثُ لَهَا بَعْدَ التَّذْكِيَةِ وَقَبْلَ تَمَامِ خُرُوجِ الرُّوحِ.
وَهَلِ الذَّبْحُ بِآلَةٍ مَسْمُومَةٍ يُعْتَبَرُ مِنْ قَبِيلِ اقْتِرَانِ مُحَرِّمٍ وَمُبِيحٍ فَتَحْرُمُ الذَّبِيحَةُ، أَوْ لَا يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّ سَرَيَانَ السُّمِّ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الذَّبْحِ؟.صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِالثَّانِي.
وَفَصَّلَ الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ السُّمَّ أَعَانَ عَلَى الْهَلَاكِ فَالذَّبِيحَةُ حَرَامٌ، وَإِلاَّ فَلَا.
19- وَأَمَّا الشَّرِيطَةُ (الثَّالِثَةُ): - وَهِيَ أَلاَّ يَكُونَ الْمَذْبُوحُ صَيْدًا حَرَمِيًّا-: فَإِنَّ التَّعَرُّضَ لِصَيْدِ الْحَرَمِ بِالْقَتْلِ وَالدَّلَالَةِ وَالْإِشَارَةِ مُحَرَّمٌ، حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى.قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}.وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي صِفَةِ مَكَّةَ «فَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا».وَالْفِعْلُ فِي الْمُحَرَّمِ شَرْعًا لَا يَكُونُ ذَكَاةً، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَوْلِدُهُ الْحَرَمَ أَمْ دَخَلَ مِنَ الْحِلِّ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُضَافُ إِلَى الْحَرَمِ فِي الْحَالَيْنِ، فَيَكُونُ صَيْدَ الْحَرَمِ، فَإِنْ ذُبِحَ صَيْدُ الْحَرَمِ كَانَ مَيْتَةً سَوَاءٌ أَكَانَ الذَّابِحُ مُحْرِمًا أَمْ حَلَالًا.وَلِزِيَادَةِ التَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (حَجّ) (وَحَرَم) (وَإِحْرَام).
20- وَأَمَّا الشَّرِيطَةُ (الرَّابِعَةُ): الَّتِي زَادَهَا الْمَالِكِيَّةُ- وَهِيَ أَلاَّ يَكُونَ الْمَذْبُوحُ مُخْتَصًّا بِالنَّحْرِ- فَخُلَاصَتُهَا أَنَّ الْحَيَوَانَ الْمُخْتَصَّ بِالنَّحْرِ- وَقَدْ سَبَقَ اخْتِلَافُهُمْ فِيهِ- يَحْرُمُ فِيهِ الْعُدُولُ عَنِ النَّحْرِ إِلَى الذَّبْحِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَيَصِيرُ الْمَذْبُوحُ حِينَئِذٍ مَيْتَةً.فَلَوْ كَانَ الْعُدُولُ لِضَرُورَةٍ كَفَقْدِ الْآلَةِ الصَّالِحَةِ لِلنَّحْرِ، وَكَالْوُقُوعِ فِي حُفْرَةٍ، وَاسْتِعْصَاءِ الْحَيَوَانِ لَمْ يَحْرُمْ وَلَمْ تَحْرُمِ الذَّبِيحَةُ.
وَخَالَفَ سَائِرُ الْمَذَاهِبِ فِي هَذِهِ الشَّرِيطَةِ، فَجَوَّزُوا الْعُدُولَ بِكَرَاهَةٍ أَوْ بِلَا كَرَاهَةٍ كَمَا يَأْتِي فِي مَكْرُوهَاتِ الذَّبْحِ.
شَرَائِطُ الذَّابِحِ:
21- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الذَّبْحِ فِي الْجُمْلَةِ شَرَائِطُ رَاجِعَةٌ إِلَى الذَّابِحِ وَهِيَ:
1- أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا.
2- أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا.
3- أَنْ يَكُونَ حَلَالًا إِذَا ذَبَحَ صَيْدَ الْبَرِّ.
4- أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى الذَّبِيحَةِ عِنْدَ التَّذَكُّرِ وَالْقُدْرَةِ.
5- أَلاَّ يُهِلَّ بِالذَّبْحِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ:
6- أَنْ يَقْطَعَ مِنْ مُقَدَّمِ الْعُنُقِ.
7- أَلاَّ يَرْفَعَ يَدَهُ قَبْلَ تَمَامِ التَّذْكِيَةِ.
8- أَنْ يَنْوِيَ التَّذْكِيَةَ.
22- الشَّرِيطَةُ الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً بَالِغًا أَوْ غَيْرَ بَالِغٍ إِذَا كَانَ مُمَيِّزًا وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ).
وَعَلَّلَ الْحَنَفِيَّةُ اشْتِرَاطَ الْعَقْلِ بِأَنَّ صِحَّةَ الْقَصْدِ إِلَى التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الذَّابِحُ مُتَمَكِّنًا مِنْ قَصْدِ التَّسْمِيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهَا وَاجِبًا، وَلَا تَتَحَقَّقُ صِحَّةُ التَّسْمِيَةِ مِمَّنْ لَا يَعْمَلُ، فَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ، وَالسَّكْرَانِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ، أَمَّا الصَّبِيُّ وَالسَّكْرَانُ وَالْمَعْتُوهُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ الذَّبْحَ وَيَقْدِرُونَ عَلَيْهِ فَتُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُمْ.
وَوَجَّهَ ابْنُ قُدَامَةَ الِاشْتِرَاطَ بِأَنَّ غَيْرَ الْعَاقِلِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْقَصْدُ إِلَى الذَّبْحِ.
وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حِلُّ ذَبِيحَةِ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ مَعَ الْكَرَاهَةِ- بِخِلَافِ النَّائِمِ- أَمَّا الْحِلُّ فَلِأَنَّ لَهُمْ قَصْدًا فِي الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِأَنَّهُمْ قَدْ يُخْطِئُونَ الذَّبْحَ، وَإِنَّمَا حُرِّمَتْ ذَبِيحَةُ (النَّائِمِ) لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ لَهُ قَصْدٌ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
279-موسوعة الفقه الكويتية (ذرق)
ذَرْقٌ1- الذَّرْقُ فِي اللُّغَةِ خَرْءُ الطَّائِرِ، مِنْ ذَرَقَ الطَّائِرُ يَذْرِقُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا ذَرْقًا وَذُرَاقًا إِذَا رَمَى بِسَلْحِهِ.وَهُوَ مِنْ الطَّائِرِ كَالتَّغَوُّطِ مِنَ الْإِنْسَانِ.وَقَدْ يُسْتَعَارُ فِي الثَّعْلَبِ وَالسَّبُعِ.
وَيُطْلَقُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ نَفْسِهِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2- الْخَرْءُ وَالذَّرْقُ وَالْخِثْيُ وَالْبَعْرُ وَالرَّوْثُ وَالنَّجْوُ وَالْعَذِرَةُ أَلْفَاظٌ تُطْلَقُ عَلَى فَضْلَةِ الْحَيَوَانِ الْخَارِجَةِ مِنَ الدُّبُرِ.وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ كَمَا جَاءَ فِي ابْنِ عَابِدِينَ أَنَّ الرَّوْثَ يَكُونُ لِلْفَرَسِ وَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ، وَالْخِثْيَ لِلْبَقَرِ وَالْفِيلِ، وَالْبَعْرَ لِلْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، وَالْخَرْءَ لِلطُّيُورِ، وَالنَّجْوَ لِلْكَلْبِ، وَالْعَذِرَةَ لِلْإِنْسَانِ، وَالرَّجِيعُ يُطْلَقُ عَلَى الرَّوْثِ وَالْعَذِرَةِ.
وَهَذَا فِي الْغَالِبِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ بَعْضُهَا مَكَانَ بَعْضٍ تَوَسُّعًا، كَمَا وَرَدَ فِي عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
أَوَّلًا: ذَرْقُ الطُّيُورِ الَّتِي يُؤْكَلُ لَحْمُهَا:
3- ذَرْقُ الطُّيُورِ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَالْحَمَامِ وَالْعَصَافِيرِ، طَاهِرٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) وَذَلِكَ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ بِسَبَبِ امْتِلَاءِ الطُّرُقِ وَالْخَانَاتِ بِهَا؛
وَلِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَرْكِ الْحَمَامِ فِي الْمَسَاجِدِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنْ أَصَابَ شَيْءٌ مِنْهُ بَدَنَ الْإِنْسَانِ أَوْ ثَوْبَهُ دَاخِلَ الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجَهَا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَلَا يَنْجُسُ ثَوْبُهُ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ خَرْءَ الدَّجَاجِ وَالْبَطِّ الْأَهْلِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَغَذَّيَانِ بِنَجَسٍ فَلَا يَخْلُو خَرْؤُهُمَا مِنَ النَّتِنِ وَالْفَسَادِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ- بِنَجَاسَةِ خَرْءِ الطُّيُورِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ مَأْكُولِ اللَّحْمِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «تَنَزَّهُوا مِنَ الْبَوْلِ» وَلِأَنَّهُ رَجِيعٌ فَكَانَ نَجَسًا كَرَجِيعِ الْآدَمِيِّ.
وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ يُعْفَى عَنْ ذَرْقِ الطُّيُورِ الْمَأْكُولَةِ اللَّحْمِ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَلِيلًا أَمْ كَثِيرًا عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يُعْفَى عَنْ كَثِيرِهِ.
وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، فَقَالُوا بِالْعَفْوِ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقًا، وَفِي خَارِجِ الصَّلَاةِ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ وَلَا يُعْفَى عَنْ كَثِيرِهِ.
ثَانِيًا- ذَرْقُ الطُّيُورِ الَّتِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا:
4- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ ذَرْقَ الطُّيُورِ الَّتِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا كَالْبَازِ وَالشَّاهِينِ وَالرَّخَمِ وَالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ نَجَسٌ، وَهَذَا قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا أَحَالَهُ طَبْعُ الْحَيَوَانِ إِلَى نَتْنٍ وَفَسَادٍ.
وَفِي رِوَايَةِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ طَاهِرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ.وَاسْتَدَلُّوا لِطَهَارَتِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِمَا يَنْفَصِلُ مِنَ الطُّيُورِ نَتْنٌ وَخَبَثُ رَائِحَةٍ.
وَلَا يُنَحَّى شَيْءٌ مِنَ الطُّيُورِ عَنِ الْمَسَاجِدِ فَعَرَفْنَا أَنَّ خَرْءَ الْجَمِيعِ طَاهِرٌ؛ وَلِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْخَرْءِ بَيْنَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ.
5- وَعَلَى الْقَوْلِ بِنَجَاسَتِهِ- كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُعْفَى عَمَّا أَصَابَ مِنْهُ الثَّوْبَ أَوِ الْبَدَنَ مِقْدَارَ مَا يَصْعُبُ وَيَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، بِأَنْ يَكُونَ مِقْدَارَ الدِّرْهَمِ أَوْ أَقَلَّ فِي الْمِسَاحَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى وَلِعُسْرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ، وَلَا يُعْفَى عَنْ كَثِيرِهِ لِنُدْرَتِهِ وَعَدَمِ مَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ.
وَتُعْرَفُ الْكَثْرَةُ وَالْقِلَّةُ عِنْدَهُمْ بِالْعَادَةِ الْغَالِبَةِ، فَمَا يَغْلِبُ عَادَةً التَّلَطُّخُ بِهِ وَيَعْسُرُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ عَادَةً قَلِيلٌ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ شَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَاتِ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ دَمًا أَوْ قَيْحًا يَسِيرًا مِمَّا لَا يَفْحُشُ فِي نَظَرِ الشَّخْصِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعَفْوِ عَنِ النَّجَاسَةِ إِلاَّ مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَلَمْ يُوجَدْ إِلاَّ فِي الدَّمِ وَالْقَيْحِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: (مَا كَانَ لِإِحْدَانَا إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ تَحِيضُ فِيهِ، فَإِنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ بَلَّتْهُ بِرِيقِهَا ثُمَّ قَصَعَتْهُ بِرِيقِهَا) وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَسْجُدُ فَيُخْرِجُ يَدَيْهِ فَيَضَعُهُمَا بِالْأَرْضِ، وَهُمَا يَقْطُرَانِ دَمًا مِنْ شِقَاقٍ كَانَ فِي يَدَيْهِ، وَعَصَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ دَمٍ وَقَيْحٍ فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
وَعَلَى ذَلِكَ إِنْ صَلَّى وَفِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ وَإِنْ قَلَّتْ أَعَادَ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ الْقَيْءِ وَالْمَذْيِ وَرِيقِ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ وَسِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَسِبَاعِ الطَّيْرِ.قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي أَبْوَالِهَا وَأَرْوَاثِهَا لِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ عَنْهُ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَعَلَى الرِّوَايَةِ بِنَجَاسَةِ الذَّرْقِ، اعْتَبَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ لِأَنَّهَا تَذْرِقُ فِي الْهَوَاءِ وَالتَّحَامِي عَنْهُ مُتَعَذِّرٌ، وَاعْتَبَرَهُ مُحَمَّدٌ مِنَ النَّجَاسَةِ الْغَلِيظَةِ؛ لِأَنَّ التَّخْفِيفَ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا؛ لِعَدَمِ مُخَالَطَةِ هَذِهِ الطُّيُورِ لِلنَّاسِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَيُعْفَى قَدْرُ مَا دُونَ رُبْعِ الثَّوْبِ أَوِ الْبَدَنِ الْمُصَابِ بِذَرْقِ الطُّيُورِ غَيْرِ مَأْكُولَةِ اللَّحْمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَلَا يُعْفَى أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى أَصْلِ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ وَالنَّجَاسَةِ الْغَلِيظَةِ.
وَيُعْرَفُ قَدْرُ الدِّرْهَمِ عِنْدَهُمْ فِي النَّجَاسَةِ الْمُتَجَسِّدَةِ بِالْوَزْنِ، وَفِي الْمَائِعَةِ بِالْمِسَاحَةِ بِأَنْ تَكُونَ قَدْرَ مُقَعَّرِ الْكَفِّ دَاخِلَ مَفَاصِلِ الْأَصَابِعِ.
وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَجَاسَة).
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
6- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ ذَرْقِ الطُّيُورِ وَفَضَلَاتِ الْحَيَوَانَاتِ فِي أَبْوَابِ الطَّهَارَةِ وَبَحْثِ الْأَنْجَاسِ وَالْمَعْفُوَّاتِ عَنِ الْأَنْجَاسِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
280-موسوعة الفقه الكويتية (رجحان ترجيح)
رُجْحَانٌ تَرْجِيحٌالتَّعْرِيفُ:
1- الرُّجْحَانُ لُغَةً: اسْمُ مَصْدَرِ رَجَحَ الشَّيْءُ يَرْجَحُ رُجُوحًا إِذَا زَادَ وَزْنُهُ، وَيَتَعَدَّى بِالْأَلِفِ وَبِالتَّثْقِيلِ فَيُقَالُ: أَرْجَحْتُ الشَّيْءَ وَرَجَّحْتُهُ تَرْجِيحًا أَيْ فَضَّلْتُهُ وَقَوَّيْتُهُ.وَأَرْجَحْتُ الرَّجُلَ أَيْ أَعْطَيْتُهُ رَاجِحًا.
أَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَقَدْ عَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ التَّرْجِيحَ بِأَنَّهُ: «إِظْهَارُ الزِّيَادَةِ لِأَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِمَا لَا يَسْتَقِلُّ» فَخَرَجَ بِقَوْلِهِمْ: (الْمُتَمَاثِلَيْنِ) النَّصُّ مَعَ الْقِيَاسِ، فَلَا يُقَالُ: النَّصُّ رَاجِحٌ عَلَى الْقِيَاسِ لِانْتِفَاءِ الْمُمَاثَلَةِ، وَلِعَدَمِ قِيَامِ التَّعَارُضِ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا مِنْ قَبِيلِ تَرْتِيبِ الْأَدِلَّةِ وَاسْتِحْقَاقِ تَقْدِيمِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ مِنْ حَيْثُ الرُّتْبَةُ وَهُوَ غَيْرُ التَّرْجِيحِ.
كَمَا خَرَجَ بِقَوْلِهِمْ: (بِمَا لَا يَسْتَقِلُّ) الدَّلِيلُ الْمُسْتَقِلُّ، فَإِذَا وَافَقَ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ دَلِيلًا مُنْفَرِدًا آخَرَ فَلَا يُرَجَّحُ عَلَيْهِ، إِذْ لَا تَرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِاسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنْ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ بِإِثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ، فَلَا يَنْضَمُّ إِلَى الْآخَرِ وَلَا يَتَّحِدُ بِهِ لِيُفِيدَ تَقْوِيَتَهُ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا يَتَقَوَّى بِصِفَةٍ تُوجَدُ فِي ذَاتِهِ لَا بِانْضِمَامِ مِثْلِهِ إِلَيْهِ.
وَلِذَا عَرَّفَ صَاحِبُ الْمَنَارِ التَّرْجِيحَ بِأَنَّهُ: «فَضْلُ أَحَدِ الْمِثْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَصْفًا» أَيْ وَصْفًا تَابِعًا لَا أَصْلًا، وَلِذَا فَلَا يَتَرَجَّحُ الْقِيَاسُ عَلَى قِيَاسٍ آخَرَ يُعَارِضُهُ بِقِيَاسٍ آخَرَ يَنْضَمُّ إِلَيْهِ يُوَافِقُهُ فِي الْحُكْمِ، أَمَّا إِذَا وَافَقَهُ فِي الْعِلَّةِ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مِنْ كَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ بَلْ مِنْ كَثْرَةِ الْأُصُولِ، وَبِالتَّالِي يُفِيدُ التَّرْجِيحَ بِالْكَثْرَةِ؛ لِأَنَّ التَّعَدُّدَ فِي الْعِلَّةِ يُفِيدُ التَّعَدُّدَ فِي الْقِيَاسِ.وَكَذَا لَا يَتَرَجَّحُ الْحَدِيثُ عَلَى حَدِيثٍ آخَرَ يُعَارِضُهُ بِحَدِيثٍ آخَرَ، وَلَا بِنَصِّ الْكِتَابِ كَذَلِكَ.
وَعَرَّفَ الشَّافِعِيَّةُ- وَمَنْ وَافَقَهُمْ- التَّرْجِيحَ بِأَنَّهُ: «اقْتِرَانُ أَحَدِ الصَّالِحَيْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ مَعَ تَعَارُضِهِمَا بِمَا يُوجِبُ الْعَمَلَ بِهِ وَإِهْمَالُ الْآخَرِ».
وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ (أَحَدِ الصَّالِحَيْنِ) عَنْ غَيْرِ الصَّالِحَيْنِ لِلدَّلَالَةِ، وَلَا أَحَدِهِمَا.
وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ (مَعَ تَعَارُضِهِمَا) عَنِ الصَّالِحَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا.
وَبِقَوْلِهِ (بِمَا يُوجِبُ الْعَمَلَ) عَمَّا اخْتَصَّ بِهِ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ عَنِ الْآخَرِ مِنَ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ أَوِ الْعَرَضِيَّةِ وَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي التَّقْوِيَةِ وَالتَّرْجِيحِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَخْلَصَ مِنَ التَّعْرِيفَيْنِ السَّابِقَيْنِ أَنَّ الرَّاجِحَ هُوَ: مَا ظَهَرَ فَضْلٌ فِيهِ عَلَى مُعَادِلِهِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْجَمْعُ:
2- الْجَمْعُ إِعْمَالُ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ بِحَمْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهٍ.
ب- النَّسْخُ:
3- النَّسْخُ رَفْعُ الشَّارِعِ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ.
ج- التَّعَارُضُ:
4- التَّعَارُضُ: التَّمَانُعُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ مُطْلَقًا بِحَيْثُ يَقْتَضِي أَحَدُهُمَا غَيْرَ مَا يَقْتَضِي الْآخَرُ وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (تَعَارُض) ج 12 ص 184
أَحْكَامُ التَّرْجِيحِ:
يَتَعَلَّقُ بِالتَّرْجِيحِ أَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (تَعَارُض).
وَأَحْكَامٌ أُصُولِيَّةٌ مُجْمَلُهَا فِيمَا يَلِي: حُكْمُ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الرَّاجِحِ:
5- يَجِبُ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلِ الرَّاجِحِ وَإِهْمَالُ الْمَرْجُوحِ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ صَحِيحٍ.دَلَّ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ عَلَى تَقْدِيمِ بَعْضِ الْأَخْبَارِ عَلَى بَعْضٍ لِقُوَّةِ الظَّنِّ، بِسَبَبِ عِلْمِ الرُّوَاةِ وَكَثْرَتِهِمْ وَعَدَالَتِهِمْ وَعُلُوِّ مَنْصِبِهِمْ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ تَقْدِيمُهُمْ خَبَرَ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ- أَوْ مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ- فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ» عَلَى خَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه- فِي قَوْلِهِ: «إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ».
وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُهُمْ خَبَرَ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا وَهُوَ صَائِمٌ» عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- مِنْ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ» فَقَدَّمُوا خَبَرَهَا عَلَى خَبَرِهِ لِكَوْنِهَا أَعْرَفَ بِحَالِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا تَقْرِيرُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا عَلَى تَرْتِيبِ الْأَدِلَّةِ وَتَقْدِيمِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّرْجِيحِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ نَظِيرُهُ.وَإِذَا كَانَ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ رَاجِحًا فَالْعُقَلَاءُ يُوجِبُونَ بِعُقُولِهِمُ الْعَمَلَ بِالرَّاجِحِ، وَالْأَصْلُ تَنْزِيلُ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مَنْزِلَةَ التَّصَرُّفَاتِ الْعُرْفِيَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ».
وَكَذَلِكَ إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ كَوْنُ الْفَرْعِ أَشْبَهَ بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ بِالْإِجْمَاعِ، فَقَدْ فُهِمَ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ اعْتِبَارُ مَا هُوَ عَادَةٌ لِلنَّاسِ فِي تِجَارَتِهِمْ، وَسُلُوكِهِمُ الطُّرُقَ، فَإِنَّهُمْ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَسْبَابِ الْمَخُوفَةِ يُرَجِّحُونَ وَيَمِيلُونَ إِلَى الْأَسْلَمِ.
الطُّرُقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى مَعْرِفَةِ الرَّاجِحِ مِنَ الْأَدِلَّةِ:
6- وَضَعَ الْأُصُولِيُّونَ جُمْلَةً مِنْ قَوَاعِدِ التَّرْجِيحِ لِمَعْرِفَةِ الرَّاجِحِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمُتَعَارِضَةِ، وَقُسِّمَتْ هَذِهِ الْقَوَاعِدُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: قَوَاعِدُ التَّرْجِيحِ بَيْنَ خَبَرَيْنِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: قَوَاعِدُ التَّرْجِيحِ بَيْنَ قِيَاسَيْنِ.
وَالْمُرَجِّحَاتُ لَا تَنْحَصِرُ لِكَثْرَتِهَا، وَضَابِطُهَا غَلَبَةُ الظَّنِّ وَقُوَّتُهُ.
7- الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: قَوَاعِدُ التَّرْجِيحِ بَيْنَ مَنْقُولَيْنِ وَتَتَنَوَّعُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّنَدِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَتْنِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرٍ خَارِجٍ.
8- النَّوْعُ الْأَوَّلُ: هُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّنَدِ وَهُوَ عِدَّةُ أُمُورٍ، مِنْهَا:
1- أَنْ تَكُونَ رُوَاةُ أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ رُوَاةِ الْآخَرِ فَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ رُجْحَانُهُ لِقِلَّةِ احْتِمَالِ الْغَلَطِ.
2- أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَالْآخَرُ مِنْ صِغَارِهِمْ.
3- أَنْ يَتَقَدَّمَ إِسْلَامُ أَحَدِ الرَّاوِيَيْنِ عَلَى الْآخَرِ.
4- يُرَجَّحُ الْمُتَوَاتِرُ عَلَى الْآحَادِ.
5- يُرَجَّحُ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِيمَا لَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، حَيْثُ إِنَّ تَفَرُّدَ الْوَاحِدِ بِنَقْلِ مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ طَرِيقٍ قَرِيبٌ مِنَ الْكَذِبِ.
9- النَّوْعُ الثَّانِي: قَوَاعِدُ التَّرْجِيحِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَتْنِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ.
1- أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ أَمْرًا دَالًّا عَلَى الْوُجُوبِ وَالثَّانِي نَهْيًا دَالًّا عَلَى الْحَظْرِ، فَالدَّالُّ عَلَى الْحَظْرِ مُرَجَّحٌ عَلَى الدَّالِّ عَلَى الْوُجُوبِ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ تَرْجِيحُ حَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ عَلَى قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا» وَمَنْ قَالَ بِأَنَّ الصَّلَاةَ ذَاتَ السَّبَبِ تُصَلَّى فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ- وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ- اسْتَفَادُوا هَذَا مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ أَفَادَ خُصُوصِيَّةَ الصَّلَاةِ ذَاتِ السَّبَبِ فَخَصُّوا بِهِ عُمُومَ حَدِيثِ النَّهْيِ.
2- أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا دَالًّا عَلَى الْحَظْرِ وَالْآخَرُ عَلَى الْإِبَاحَةِ:
وَلِلْأُصُولِيِّينَ اتِّجَاهَاتٌ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ الْحَظْرَ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ الْإِبَاحَةَ عَلَى الْحَظْرِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فَيَتَسَاقَطَانِ لِتَسَاوِي الْمُثْبِتِ مَعَ النَّافِي.
3- يُرَجَّحُ الدَّالُّ عَلَى الْوُجُوبِ وَالْكَرَاهَةِ وَالنَّدْبِ عَلَى الدَّالِّ عَلَى الْإِبَاحَةِ.
4- يُرَجَّحُ الْحَقِيقِيُّ عَلَى الْمَجَازِيِّ لِعَدَمِ افْتِقَارِ الْحَقِيقِيِّ لِلْقَرِينَةِ.
5- يُرَجَّحُ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارٍ وَلَا حَذْفٍ عَلَى مَا احْتَاجَ إِلَيْهِمَا.
6- أَنْ تَكُونَ دَلَالَةُ أَحَدِهِمَا مُؤَكَّدَةً دُونَ الْأُخْرَى، فَيُرَجَّحُ الْمُؤَكَّدُ عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ أَقْوَى دَلَالَةً كَحَدِيثِ: «فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ».
7- يُرَجَّحُ مَا دَلَّ بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ عَلَى مَا دَلَّ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ دُونَ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ.وَفِي قَوْلٍ يُرَجَّحُ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ عَلَى الْمُوَافَقَةِ؛ لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ تُفِيدُ التَّأْسِيسَ دُونَ الْمُوَافَقَةِ.
10- النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّرْجِيحِ بِأَمْرٍ خَارِجٍ وَقَدْ أَثْبَتَهُ غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ:
وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ مِنْ ذَلِكَ:
1- أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ مُوَافِقًا لِدَلِيلٍ آخَرَ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ عَقْلٍ أَوْ حِسٍّ، فَيُرَجَّحُ عَلَى مُعَارِضِهِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ يَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ دَلِيلَيْنِ.
2- يَتَرَجَّحُ مَا عَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ عُلَمَاءُ الْمَدِينَةِ أَوِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ.
3- أَنْ يَكُونَ كِلَا الْحَدِيثَيْنِ مُؤَوَّلًا إِلاَّ أَنَّ دَلِيلَ التَّأْوِيلِ فِي أَحَدِهِمَا أَرْجَحُ مِنْ دَلِيلِ الْآخَرِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ.
4- يُرَجَّحُ مَا ذُكِرَ فِيهِ سَبَبُ وُرُودِهِ عَلَى مَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ السَّبَبُ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ السَّبَبِ مُشْعِرٌ بِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِمَا رَوَاهُ.
11- الْقِسْمُ الثَّانِي: التَّرْجِيحُ بَيْنَ قِيَاسَيْنِ:
1- يُرَجَّحُ الْقِيَاسُ بِرُجْحَانِ دَلِيلِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ عَلَى دَلِيلِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْقِيَاسِ الْآخَرِ.
2- يُرَجَّحُ الْقِيَاسُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْفَرْعُ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ عَلَى الْقِيَاسِ الَّذِي لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِنْسَ بِالْجِنْسِ أَشْبَهُ.
3- تُرَجَّحُ عِلَّةُ الْقِيَاسِ الْأَقْوَى مَسْلَكًا عَلَى الْأَضْعَفِ.
فَيُرَجَّحُ الْقِيَاسُ الْمَنْصُوصُ عَلَى عِلَّتِهِ صَرِيحًا عَلَى مَا ثَبَتَتْ عِلَّتُهُ بِالْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ لِقُوَّةِ التَّصْرِيحِ.وَيُرَجَّحُ الْقِيَاسُ الَّذِي ثَبَتَتْ عِلَّتُهُ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ عَلَى مَا ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ، وَمَا ثَبَتَتْ بِالْإِيمَاءِ عَلَى مَا ثَبَتَتْ بِالْمُنَاسَبَةِ وَبِالدَّوَرَانِ.
وَيُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ: (قِيَاس) لِلتَّفْصِيلِ فِي مَسَالِكِ الْعِلَّةِ وَتَرْتِيبِهَا قُوَّةً وَضَعْفًا.
وَتُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الْمُوَافِقَةُ لِقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ عَلَى غَيْرِهَا لِقُوَّةِ الْأُولَى وَلِكَثْرَةِ مَا يَشْهَدُ لَهَا.
وَحَيْثُ رَجَحَتِ الْعِلَّةُ فِي كُلِّ مَا تَقَدَّمَ فَيَتْبَعُهُ تَرْجِيحُ الْقِيَاسِ الَّذِي بُنِيَتْ عَلَيْهِ.
وَالْمُرَجِّحَاتُ فِي الْأَقْسَامِ السَّابِقَةِ كَثِيرَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَعَارُض) مِنَ الْمَوْسُوعَةِ (12 184) حَيْثُ تَقَدَّمَ هُنَاكَ أَحْكَامُ التَّرْجِيحِ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ، وَتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ، وَتَعَارُضِ تَعْدِيلِ الشُّهُودِ وَتَجْرِيحِهِمْ، وَالتَّرْجِيحِ فِي حَالِ احْتِمَالِ بَقَاءِ الْإِسْلَامِ وَحُدُوثِ الرِّدَّةِ، وَتَعَارُضِ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ، وَتَعَارُضِ الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ، وَمَا يَنْبَنِي عَلَى كُلٍّ مِنْ مَسَائِلَ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
281-موسوعة الفقه الكويتية (رعاف)
رُعَافٌالتَّعْرِيفُ:
1- الرُّعَافُ لُغَةً: اسْمٌ مِنْ رَعَفَ رَعْفًا، وَهُوَ خُرُوجُ الدَّمِ مِنَ الْأَنْفِ، وَقِيلَ: الرُّعَافُ الدَّمُ نَفْسُهُ، وَأَصْلُهُ السَّبْقُ وَالتَّقَدُّمُ، وَفَرَسٌ رَاعِفٌ أَيْ سَابِقٌ، وَسُمِّيَ الرُّعَافُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَسْبِقُ عِلْمَ الشَّخْصِ الرَّاعِفِ.
وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرُّعَافِ:
انْتِقَاضُ الْوُضُوءِ بِالرُّعَافِ:
2- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لَا يُنْتَقَضُ بِخُرُوجِ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ كَدَمِ الْفَصْدِ، وَالْحِجَامَةِ، وَالْقَيْءِ، وَالرُّعَافِ، سَوَاءٌ قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- احْتَجَمَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى غَسْلِ مَحَاجِمِهِ».وَبِهَذَا قَالَ عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ أَبِي أَوْفَى، وَجَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَطَاوُسٌ، وَعَطَاءٌ، وَمَكْحُولٌ وَرَبِيعَةُ، وَأَبُو ثَوْرٍ.قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الرُّعَافَ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ إِلاَّ إِذَا كَانَ فَاحِشًا كَثِيرًا.أَمَّا كَوْنُ الْكَثِيرِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، فَلِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام- فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ عَنْ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ: إِنَّمَا ذَلِكَ «عِرْقٌ، وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ.»
وَلِأَنَّهُ نَجَاسَةٌ خَارِجَةٌ مِنَ الْبَدَنِ أَشْبَهَتِ الْخَارِجَ مِنَ السَّبِيلِ.وَأَمَّا كَوْنُ الْقَلِيلِ لَا يَنْقُضُ فَلِمَفْهُومِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الدَّمِ إِذَا كَانَ فَاحِشًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ.قَالَ أَحْمَدُ: عِدَّةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ تَكَلَّمُوا فِيهِ، وَابْنُ عُمَرَ عَصَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ الدَّمُ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَابْنُ أَبِي أَوْفَى عَصَرَ دُمَّلًا، وَذَكَرَ أَحْمَدُ غَيْرَهُمَا، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إِجْمَاعًا.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ بِسَيَلَانِ الدَّمِ عَنْ مَوْضِعِهِ أَنَّ الرُّعَافَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَكَذَا لَوْ نَزَلَ الدَّمُ مِنَ الرَّأْسِ إِلَى مَا لَانَ مِنَ الْأَنْفِ وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَى الْأَرْنَبَةِ نَقَضَ الْوُضُوءَ.وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَحَكَاهُ غَيْرُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيٍّ- رضي الله عنهما-، وَعَنْ عَطَاءٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ»
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّرْكِيبِ يُفْهَمُ مِنْهُ الْوُجُوبُ.
كَمَا احْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلَسٌ أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ ثُمَّ لْيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ.»
وَنَقَلَ الْعَيْنِيُّ أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَمَرَ بِالْبِنَاءِ وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ وَالْجَوَازُ، وَلَا جَوَازَ لِلْبِنَاءِ إِلاَّ بَعْدَ الِانْتِقَاضِ، فَدَلَّ بِعِبَارَتِهِ عَلَى الْبِنَاءِ وَعَلَى الِانْتِقَاضِ بِمُقْتَضَاهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَ بِالْوُضُوءِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَبَاحَ الِانْصِرَافَ، وَهُوَ لَا يُبَاحُ بَعْدَ الشُّرُوعِ إِلاَّ بِهِ.
هَذَا وَمَنْ يَرَى أَنَّ الرُّعَافَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ يَعْتَبِرُ الرُّعَافَ الدَّائِمَ عُذْرًا مِنَ الْأَعْذَارِ الَّتِي تُبِيحُ الْعِبَادَةَ مَعَ وُجُودِ الْعُذْرِ.
3- وَشَرْطُ اعْتِبَارِ الرُّعَافِ عُذْرًا ابْتِدَاءً عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ اسْتِمْرَارُهُ وَقْتَ الصَّلَاةِ كَامِلًا.بِمَعْنَى أَنَّ مَنْ حَصَلَ لَهُ الرُّعَافُ وَاسْتَمَرَّ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ أَوَّلَ صَلَاةٍ إِلاَّ فِي آخِرِ وَقْتِهَا؛ لِعَدَمِ ثُبُوتِ حُكْمِ دَائِمِ الْحَدَثِ لَهُ، وَاحْتِمَالِ انْقِطَاعِهِ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ الْحَدَثُ إِلَى آخِرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ دَائِمِ الْحَدَثِ، فَيَصِحُّ أَنْ يُصَلِّيَ الثَّانِيَةَ أَوْ مَا بَعْدَهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا.
كَمَا يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَمْضِيَ عَلَى الرَّاعِفِ وَقْتُ صَلَاةٍ إِلاَّ وَالرُّعَافُ فِيهِ مَوْجُودٌ، حَتَّى لَوِ انْقَطَعَ الرُّعَافُ وَقْتًا كَامِلًا خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ عُذْرٍ مِنْ وَقْتِ الِانْقِطَاعِ.
4- وَمَنْ بِهِ رُعَافٌ دَائِمٌ يَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ، وَيُصَلِّي بِهِ مَا شَاءَ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ، هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنْ خَرَجَ مِنْهُ الدَّمُ، أَمَّا إِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ فَلَا يَتَوَضَّأُ عِنْدَهُمْ.
وَيُنْتَقَضُ وُضُوءُ الرَّاعِفِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يُنْتَقَضُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ.وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِأَيِّهِمَا كَانَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يَعْلَى.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَنْ رَعَفَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ لآِخِرِ الْوَقْتِ الِاخْتِيَارِيِّ إِذَا كَانَ يَرْجُو انْقِطَاعَ الرُّعَافِ، أَمَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِهِ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي تَأْخِيرِهِ، ثُمَّ إِنِ انْقَطَعَ فِي وَقْتِهِ لَيْسَتْ عَلَيْهِ إِعَادَةٌ
بِنَاءُ الرَّاعِفِ عَلَى صَلَاتِهِ:
5- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الرُّعَافَ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ فَيَجُوزُ لِلرَّاعِفِ الْبِنَاءُ عَلَى صَلَاتِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلَسٌ أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ ثُمَّ لْيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ» وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- فَرَعَفَ فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ.
وَنَقَلَ الْبَاجِيُّ عَنِ الْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدٍ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ الرُّعَافَ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَلَا يَمْنَعُ الْبِنَاءَ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الدَّمُ مِنَ الْخَبَثِ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ مَعَهُ مَعَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ.فَمَنْ رَعَفَ فِي الصَّلَاةِ وَظَنَّ دَوَامَهُ لآِخِرِ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ تَمَادَى فِي صَلَاتِهِ وُجُوبًا عَلَى حَالَتِهِ الَّتِي هُوَ بِهَا، وَلَا فَائِدَةَ فِي الْقَطْعِ مَا لَمْ يَخْشَ مِنْ تَمَادِيهِ تَلَطُّخَ فُرُشِ الْمَسْجِدِ وَلَوْ خَشِيَهُ وَلَوْ بِقَطْرَةٍ قَطَعَ صَوْنًا لِلْمَسْجِدِ مِنَ النَّجَاسَةِ.وَإِنْ لَمْ يَظُنَّ دَوَامَهُ لآِخِرِ الْمُخْتَارِ بَلْ ظَنَّ انْقِطَاعَهُ فِيهِ أَوْ شَكَّ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَائِلًا، أَوْ قَاطِرًا، أَوْ رَاشِحًا.
فَإِذَا كَانَ الدَّمُ سَائِلًا، أَوْ قَاطِرًا وَلَمْ يُلَطِّخْهُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ فَتْلُهُ، فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْبِنَاءِ وَالْقَطْعِ، وَاخْتَارَ ابْنُ الْقَاسِمِ الْقَطْعَ، فَقَالَ: هُوَ أَوْلَى، وَهُوَ الْقِيَاسُ.
قَالَ زَرُّوقٌ: إِنَّ الْقَطْعَ أَنْسَبُ بِمَنْ لَا يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِي الْعِلْمِ، وَاخْتَارَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ (الْمَالِكِيَّةُ) الْبِنَاءَ لِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: هُمَا سِيَّانِ، وَذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ مَا يُفِيدُ وُجُوبَ الْبِنَاءِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الدَّمُ رَاشِحًا بِأَنْ لَمْ يَسِلْ وَلَمْ يَقْطُرْ بَلْ لَوَّثَ طَاقَتَيِ الْأَنْفِ وَجَبَ تَمَادِي الرَّاعِفِ فِي الصَّلَاةِ وَفَتْلُ الدَّمِ إِنْ أَمْكَنَ بِأَنْ لَمْ يَكْثُرْ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُمْكِنْ لِكَثْرَتِهِ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ السَّائِلِ وَالْقَاطِرِ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْقَطْعِ وَالْبِنَاءِ.
6- وَيَخْرُجُ مُرِيدُ الْبِنَاءِ لِغَسْلِ الدَّمِ حَالَ كَوْنِهِ مُمْسِكًا أَنْفَهُ مِنْ أَعْلَاهُ وَهُوَ مَارِنُهُ، لَا مِنْ أَسْفَلِهِ مِنَ الْوَتْرَةِ لِئَلاَّ يَبْقَى الدَّمُ فِي طَاقَتَيْ أَنْفِهِ، فَإِذَا غَسَلَهُ بَنَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَهُ بِشُرُوطٍ سِتَّةٍ:
1- أَنْ لَا يَتَلَطَّخَ بِالدَّمِ بِمَا يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ.أَمَّا إِذَا تَلَطَّخَ بِمَا زَادَ عَلَى دِرْهَمٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِ قَطْعُ الصَّلَاةِ وَيَبْتَدِئُهَا مِنْ أَوَّلِهَا بَعْدَ غَسْلِ الدَّمِ.
2- أَنْ لَا يُجَاوِزَ أَقْرَبَ مَكَانٍ مُمْكِنٍ لِغَسْلِ الدَّمِ فِيهِ، فَإِنْ جَاوَزَ الْأَقْرَبَ مَعَ الْإِمْكَانِ إِلَى أَبْعَدَ مِنْهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.
3- أَنْ يَكُونَ الْمَكَانُ الَّذِي يَغْسِلُ الدَّمَ فِيهِ قَرِيبًا فَإِنْ كَانَ بَعِيدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.
4- أَنْ لَا يَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَإِنِ اسْتَدْبَرَهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ.وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: إِذَا اسْتَدْبَرَ الرَّاعِفُ الْقِبْلَةَ لِطَلَبِ الْمَاءِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ.وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَجَمَاعَةٌ: يَخْرُجُ كَيْفَ أَمْكَنَهُ.
5- أَنْ لَا يَطَأَ فِي مَشْيِهِ عَلَى نَجَاسَةٍ، وَظَاهِرُهُ مُطْلَقًا، وَإِلاَّ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ النَّجَاسَةُ رَطْبَةً أَمْ يَابِسَةً، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا، أَمْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ أَوَطِئَهَا عَمْدًا أَمْ سَهْوًا.
6- أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ فِي مُضِيِّهِ لِلْغَسْلِ، فَإِنْ تَكَلَّمَ عَامِدًا أَوْ جَاهِلًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.
7- ثُمَّ الرَّاعِفُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْفَرِدًا أَوْ مُقْتَدِيًا أَوْ إِمَامًا، فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَلَهُ أَنْ يَبْنِيَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمَالِكٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ؛ لِأَنَّ مَا يَمْنَعُ الْبِنَاءَ وَمَا لَا يَمْنَعُهُ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفَذُّ وَغَيْرُهُ، كَالسَّلَامِ مِنَ اثْنَتَيْنِ فِيمَا طَالَ وَفِيمَا قَصُرَ- وَالْمَأْمُومُ لَهُ الْبِنَاءُ بِاتِّفَاقِ الْمَالِكِيَّةِ- وَلِأَنَّهُ قَدْ عَمِلَ شَيْئًا مِنَ الصَّلَاةِ فَلَا يُبْطِلُهُ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ حَازَ فَضِيلَةَ أَوَّلِ الْوَقْتِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ فَلَا يَفُوتُ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَفَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ.
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الرَّاعِفَ لَيْسَ لَهُ الْبِنَاءُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَتَمَّ صَلَاتَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَتَمَّ الصَّلَاةَ حَيْثُ هُوَ فَقَدْ سَلِمَتْ صَلَاتُهُ عَنِ الْمَشْيِ، لَكِنَّهُ صَلَّى وَاحِدَةً فِي مَكَانَيْنِ، وَإِنْ عَادَ إِلَى مُصَلاَّهُ فَقَدْ أَدَّى جَمِيعَ الصَّلَاةِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ لَكِنْ مَعَ زِيَادَةِ مَشْيٍ فَاسْتَوَى الْوَجْهَانِ فَيُخَيَّرُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: يُصَلِّي فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَوَضَّأَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ، وَلَوْ أَتَى الْمَسْجِدَ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَحَمَّلَ زِيَادَةَ مَشْيٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ.
وَعَامَّةُ الْحَنَفِيَّةِ قَالُوا: لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ إِلَى الْمَاءِ وَالْعَوْدَ إِلَى مَكَانِ الصَّلَاةِ أُلْحِقَ بِالْعَدَمِ شَرْعًا.
وَإِنْ كَانَ الرَّاعِفُ مُقْتَدِيًا فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ فَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ إِمَامُهُ مِنَ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِي بَعْدُ، وَلَوْ لَمْ يَعُدْ وَأَتَمَّ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ صَلَّى مُقْتَدِيًا بِإِمَامِهِ لَا يَصِحُّ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الِاقْتِدَاءِ، وَهُوَ اتِّحَادُ الْبُقْعَةِ إِلاَّ إِذَا كَانَ بَيْتُهُ قَرِيبًا مِنَ الْمَسْجِدِ بِحَيْثُ يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ، وَإِنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا فِي بَيْتِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ الِانْفِرَادَ فِي حَالِ وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ يُفْسِدُ صَلَاتَهُ؛ لِأَنَّ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ تَغَايُرًا، وَقَدْ تَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَهُوَ الصَّلَاةُ مُقْتَدِيًا، وَمَا أَدَّى وَهُوَ الصَّلَاةُ مُنْفَرِدًا لَمْ يُوجَدْ لَهُ ابْتِدَاءُ تَحْرِيمِهِ وَهُوَ بَعْضُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُنْتَقِلًا عَمَّا كَانَ هُوَ فِيهِ إِلَى هَذَا فَيَبْطُلُ ذَلِكَ، وَمَا حَصَلَ فِيهِ بَعْضُ الصَّلَاةِ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ كُلِّ الصَّلَاةِ بِأَدَاءِ هَذَا الْقَدْرِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُقْتَدِيَ يَبْنِي فِي الرُّعَافِ، إِلاَّ أَنَّ الْأَفْضَلَ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يَقْطَعَ الْمُقْتَدِي الرَّاعِفُ الصَّلَاةَ بِكَلَامٍ أَوْ غَيْرِهِ فَيَغْسِلَ عَنْهُ الدَّمَ، ثُمَّ يَبْتَدِئَ الصَّلَاةَ كَيْ يَخْرُجَ مِنَ الْخِلَافِ وَيُؤَدِّيَ الصَّلَاةَ بِاتِّفَاقٍ.وَإِذَا عَادَ الرَّاعِفُ يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِلَ بِقَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ فِي حَالِ تَشَاغُلِهِ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَسَحْنُونٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ فَكَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ، فَيَقُومُ مِقْدَارَ قِيَامِ الْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةٍ، وَمِقْدَارَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ، وَلَا يَضُرُّهُ إِنْ زَادَ أَوْ نَقَصَ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَقُولُونَ عَلَى الْمَذْهَبِ فِيمَا إِذَا اجْتَمَعَ لِلرَّاعِفِ الْقَضَاءُ وَالْبِنَاءُ: أَنْ يُقَدِّمَ الْبِنَاءَ عَلَى الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ إِكْمَالِ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ بَعْدَ دُخُولِهِ مَعَهُ.وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا، فَقَدْ قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لَوْ تَابَعَ إِمَامَهُ أَوَّلًا ثُمَّ اشْتَغَلَ بِقَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْإِمَامِ جَازَتْ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ شَرْطٌ.
وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: قَضَاءُ الْفَوَائِتِ).
8- أَمَّا إِذَا كَانَ الرَّاعِفُ إِمَامًا فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالِاسْتِخْلَافِ فَيَتَوَضَّأُ، أَوْ يَغْسِلُ الدَّمَ- كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ- وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذُكِرَ فِي الْمُقْتَدِي، لِأَنَّهُ بِالِاسْتِخْلَافِ تَحَوَّلَتِ الْإِمَامَةُ إِلَى الثَّانِي، وَصَارَ هُوَ كَوَاحِدٍ مِنَ الْمُقْتَدِينَ.
(ر: اسْتِخْلَاف).
أَثَرُ الرُّعَافِ عَلَى الصَّوْمِ:
9- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ رَعَفَ فَأَمْسَكَ أَنْفَهُ فَخَرَجَ الدَّمُ مِنْ فِيهِ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى حَلْقِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَنْفَذَ الْأَنْفِ إِلَى الْفَمِ دُونَ الْجَوْفِ، فَهُوَ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَى الْجَوْفِ لَا شَيْءَ فِيهِ، وَمَنْ دَخَلَ دَمُ رُعَافِهِ حَلْقَهُ فَسَدَ صَوْمُهُ.أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَيُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِهِمْ أَنَّ مَا يَصِلُ إِلَى جَوْفِ الصَّائِمِ بِلَا قَصْدٍ لَا يُفْطِرُ.
وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: صَوْم).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
282-موسوعة الفقه الكويتية (رمق)
رَمَقالتَّعْرِيفُ:
1- الرَّمَقُ: لُغَةً بَقِيَّةُ الرُّوحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ الْقُوَّةُ، وَقِيلَ: هُوَ آخِرُ النَّفَسِ، وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَتَيْتُ أَبَا جَهْلٍ وَبِهِ رَمَقٌ.
وَرَمَقَهُ يَرْمُقُهُ رَمَقًا: أَيْ أَطَالَ النَّظَرَ إِلَيْهِ، وَالرُّمْقَةُ الْقَلِيلُ مِنَ الْعَيْشِ الَّذِي يَمْسِكُ الرَّمَقَ، وَعَيْشٌ مُرْمَقٌ أَيْ قَلِيلٌ، وَأَرْمَقَ الْعَيْشُ أَيْ ضَعُفَ، وَمِنْ كَلَامِهِمْ: مَوْتٌ لَا يَجُرُّ إِلَى عَارٍ خَيْرٌ مِنْ عَيْشٍ فِي رَمَاقٍ، وَيُطْلَقُ الرَّمَقُ عَلَى الْقُوَّةِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: يَأْكُلُ الْمُضْطَرُّ مِنْ لَحْمِ الْمَيْتَةِ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ أَيْ مَا يَمْسِكُ بِهِ قُوَّتَهُ وَيَحْفَظُهَا، وَالْمُرَامِقُ: الَّذِي لَمْ يَبْقَ فِيهِ إِلاَّ الرَّمَقُ.
وَلَا يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ الِاصْطِلَاحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرَّمَقِ:
أ- التَّوْبَةُ فِي الرَّمَقِ الْأَخِيرِ:
2- بَحَثَ الْفُقَهَاءُ حُكْمَ تَوْبَةِ مَنْ كَانَ فِي الرَّمَقِ الْأَخِيرِ مِنْ حَيَاتِهِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ، وَشَاهَدَ الْأَحْوَالَ الَّتِي لَا يُمْكِنُ مَعَهَا الرُّجُوعُ إِلَى الدُّنْيَا، وَعَايَنَ مَلَكَ الْمَوْتِ وَانْقَطَعَ حَبْلُ الرَّجَاءِ مِنْهُ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْآخِرَةِ.
وَلِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ التَّوْبَةِ عَزْمُهُ عَلَى أَلاَّ يَعُودَ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مَعَ تَمَكُّنِ التَّائِبِ مِنَ الذَّنْبِ وَبَقَاءِ أَوَانِ الِاخْتِيَارِ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ}.
وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ».وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَصْلُحُ تَوْبَتُهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ لِأَنَّ الرَّجَاءَ بَاقٍ وَيَصِحُّ مِنْهُ النَّدَمُ وَالْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْفِعْلِ لقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} الْآيَةَ وَالتَّفَاصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَوْبَة، إِيَاس)
ب- الْقَوَدُ عَلَى مَنْ قَتَلَ شَخْصًا فِي الرَّمَقِ الْأَخِيرِ:
3- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ وُجِدَتْ جِنَايَةٌ مِنْ شَخْصٍ، فَأَوْصَلَ إِنْسَانًا إِلَى حَرَكَةِ مَذْبُوحٍ بِأَنْ لَمْ يَبْقَ لَهُ إِبْصَارٌ وَنُطْقٌ وَحَرَكَةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ، ثُمَّ جَنَى عَلَيْهِ آخَرُ بِفِعْلٍ مُزْهِقٍ، فَالْقَاتِلُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَيُعَزَّرُ الثَّانِي لِأَنَّهُ اعْتَدَى عَلَى حُرْمَةِ الْمَيِّتِ، وَإِنْ جَنَى الثَّانِي قَبْلَ وُصُولِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ بِفِعْلٍ مُزْهِقٍ كَحَزِّ رَقَبَةٍ، فَالْقَاتِلُ هُوَ الثَّانِي، وَعَلَى الْأَوَّلِ قِصَاصُ الْعُضْوِ أَوْ دِيَتُهُ.
وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَرْحُ الْأَوَّلِ يُفْضِي إِلَى الْمَوْتِ لَا مَحَالَةَ إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى الرَّمَقِ الْأَخِيرِ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْحَيَاةِ الْمُسْتَقِرَّةِ، فَضَرَبَ الثَّانِي عُنُقَهُ، فَالْقَاتِلُ هُوَ الثَّانِي أَيْضًا لِأَنَّهُ فَوَّتَ حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً، بِدَلِيلِ: أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- لَمَّا جُرِحَ دَخَلَ عَلَيْهِ الطَّبِيبُ فَسَقَاهُ لَبَنًا فَخَرَجَ صَلْدًا أَبْيَضَ (أَيْ يَنْصَبُّ) فَعَلِمَ الطَّبِيبُ أَنَّهُ مَيِّتٌ فَقَالَ: اعْهَدْ إِلَى النَّاسِ، فَعَهِدَ إِلَيْهِمْ وَأَوْصَى وَجَعَلَ الْخِلَافَةَ إِلَى أَهْلِ الشُّورَى، فَقَبِلَ الصَّحَابَةُ- رضي الله عنهم- عَهْدَهُ وَأَجْمَعُوا عَلَى قَبُولِ وَصَايَاهُ.
أَمَّا لَوْ كَانَ وُصُولُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِلَى الرَّمَقِ الْأَخِيرِ بِسَبَبِ مَرَضٍ لَا بِسَبَبِ جِنَايَةٍ، بِأَنْ كَانَ فِي حَالَةِ النَّزْعِ وَعَيْشُهُ عَيْشُ مَذْبُوحٍ، أَوْ بَدَتْ عَلَيْهِ مَخَايِلُ الْمَوْتِ، أَوْ قُتِلَ مَرِيضًا لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهَا، وَقَدْ يُظَنُّ ذَلِكَ ثُمَّ يُشْفَى.وَلِأَنَّ الْمَرِيضَ لَمْ يَسْبِقْ فِيهِ فِعْلٌ يُحَالُ الْقَتْلُ وَأَحْكَامُهُ عَلَيْهِ حَتَّى يُهْدَرَ الْفِعْلُ الثَّانِي.
وَالتَّفَاصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاص، دِيَة، وَقَتْل)
ج- سَدُّ الرَّمَقِ بِأَكْلِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ:
4- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ لَحْمِ الْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ، وَيَحْفَظُ بِهِ قُوَّتَهُ وَصِحَّتَهُ وَحَيَاتَهُ لقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَاأُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَاعَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَاأُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} - إِلَى أَنْ قَالَ- {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ أَكْلِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مَوْتًا أَوْ ضَرَرًا كَبِيرًا مِنْ عَدَمِ الْأَكْلِ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَأْكُلُ مِنْهُ هَلْ يَكْتَفِي بِسَدِّ الرَّمَقِ أَمْ يَشْبَعُ مِنْهُ، وَهَلْ هُنَاكَ فَرْقٌ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ أَمْ لَا؟
وَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (ضَرُورَة).
د- ذَبْحُ الْحَيَوَانِ الَّذِي وَصَلَ إِلَى الرَّمَقِ الْأَخِيرِ:
5- الْحَيَاةُ الْمُسْتَقِرَّةُ عِنْدَ الذَّبْحِ شَرْطٌ لِحِلِّ أَكْلِ الْمَذْبُوحِ سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْحَيَاةُ حَقِيقِيَّةً أَوْ مَظْنُونَةً بِعَلَامَاتٍ وَقَرَائِنَ.
فَإِنْ مَرِضَ الْحَيَوَانُ أَوْ جَاعَ فَذُبِحَ وَقَدْ صَارَ فِي آخِرِ رَمَقٍ مِنَ الْحَيَاةِ حَلَّ أَكْلُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ سَبَبٌ يُحَالُ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ، وَلَوْ مَرِضَ بِأَكْلِ نَبَاتٍ مُضِرٍّ حَتَّى صَارَ فِي آخِرِ رَمَقٍ فَذَبَحَهُ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ لِكَوْنِ هَذَا سَبَبًا يُحَالُ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ.
وَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (ذَبَائِح).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
283-موسوعة الفقه الكويتية (زكاة 12)
زَكَاة -12دَفْعُ الزَّوْجِ زَكَاةَ مَالِهِ إِلَى زَوْجَتِهِ وَعَكْسُهُ:
178- لَا يُجْزِئُ الرَّجُلَ إِعْطَاءُ زَكَاةِ مَالِهِ إِلَى زَوْجَتِهِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: هُوَ إِجْمَاعٌ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مُشْتَرَكَةٌ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لِأَنَّ نَفَقَتَهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الزَّوْجِ، فَيَكُونُ كَالدَّافِعِ إِلَى نَفْسِهِ، وَمَحَلُّ الْمَنْعِ إِعْطَاؤُهَا الزَّكَاةَ لِتُنْفِقَهَا عَلَى نَفْسِهَا، فَأَمَّا لَوْ أَعْطَاهَا مَا تَدْفَعُهُ فِي دَيْنِهَا، أَوْ لِتُنْفِقَهُ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ، فَلَا بَأْسَ، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْمَمْنُوعَ إِعْطَاؤُهَا مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ أَوِ الْمَسَاكِينِ، أَمَّا مِنْ سَهْمٍ آخَرَ هِيَ مُسْتَحِقَّةٌ لَهُ فَلَا بَأْسَ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ أَيْضًا مِنْ كَلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ.
وَأَمَّا إِعْطَاءُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا زَكَاةَ مَالِهَا فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ: فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَاخْتِيَارُ ابْنِ الْمُنْذِرِ، إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ لِحَدِيثِ «زَيْنَبَ زَوْجَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنهما-، وَفِيهِ أَنَّهَا هِيَ وَامْرَأَةٌ أُخْرَى سَأَلَتَا النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: هَلْ تُجْزِئُ الصَّدَقَةُ عَنْهُمَا عَلَى أَزْوَاجِهِمَا، وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حِجْرِهِمَا؟ فَقَالَ: لَهُمَا أَجْرَانِ أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ».
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلِأَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهَا نَفَقَةُ الزَّوْجِ، وَلِعُمُومِ آيَةِ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ، إِذْ لَيْسَ فِي الزَّوْجِ إِذَا كَانَ فَقِيرًا نَصٌّ أَوْ إِجْمَاعٌ يَمْنَعُ إِعْطَاءَهُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: لَا يُجْزِئُ الْمَرْأَةَ أَنْ تُعْطِيَ زَوْجَهَا زَكَاتَهَا وَلَوْ كَانَتْ فِي عِدَّتِهَا مِنْ طَلَاقِهِ الْبَائِنِ وَلَوْ بِثَلَاثِ طَلَقَاتٍ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ مُشْتَرَكَةٌ، فَهِيَ تَنْتَفِعُ بِتِلْكَ الزَّكَاةِ الَّتِي تُعْطِيهَا لِزَوْجِهَا؛ وَلِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِ امْرَأَتِهِ، وَلَا تَصِحُّ شَهَادَتُهُ لَهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تُعْطِي الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا زَكَاةَ مَالِهَا.وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مَعْنَى كَلَامِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِأَنَّ مُرَادَهُ عَدَمُ الْإِجْزَاءِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بِإِجْزَائِهِ مَعَ الْكَرَاهَةِ.
6- الْفَاسِقُ وَالْمُبْتَدِعُ:
179- ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ لِحَدِيثِ: «تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى كَافِرٍ» أَنَّ فِي إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ لِلْعَاصِي خِلَافًا، وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا تُعْطَى لِأَهْلِ الْمَعَاصِي إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُعْطِي أَنَّهُمْ يَصْرِفُونَهَا فِي الْمَعْصِيَةِ، فَإِنْ أَعْطَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ لَمْ تُجْزِئْهُ عَنِ الزَّكَاةِ، وَفِي غَيْرِ تِلْكَ الْحَالِ تَجُوزُ، وَتُجْزِئُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَحَرَّى بِزَكَاتِهِ الْمُسْتَحِقِّينَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ الْمُتَّبِعِينَ لِلشَّرِيعَةِ، فَمَنْ أَظْهَرَ بِدْعَةً أَوْ فُجُورًا فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِالْهَجْرِ وَغَيْرِهِ وَالِاسْتِتَابَةَ فَكَيْفَ يُعَانُ عَلَى ذَلِكَ؟، وَقَالَ: مَنْ كَانَ لَا يُصَلِّي يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ، فَإِنْ قَالَ: أَنَا أُصَلِّي، أُعْطِيَ، وَإِلاَّ لَمْ يُعْطَ، وَمُرَادُهُ أَنَّهُ يُعْطَى مَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا بِالنِّفَاقِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ لِلْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ إِنْ كَانُوا مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، مَا لَمْ تَكُنْ بِدْعَتُهُمْ مُكَفِّرَةً مُخْرِجَةً لَهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ.عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى تَقْدِيمُ أَهْلِ الدِّينِ الْمُسْتَقِيمِينَ عَلَيْهِ فِي الِاعْتِقَادِ، وَالْعَمَلِ عَلَى مَنْ عَدَاهُمْ عِنْدَ الْإِعْطَاءِ مِنَ الزَّكَاةِ، لِحَدِيثِ: «لَا تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ».
7- الْمَيِّتُ:
180- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ (عَلَى الْمَذْهَبِ) وَالنَّخَعِيُّ: إِلَى أَنَّهُ لَا تُعْطَى الزَّكَاةُ فِي تَجْهِيزِ مَيِّتٍ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ رُكْنَ الزَّكَاةِ تَمْلِيكُهَا لِمَصْرِفِهَا، فَإِنَّ الْمَيِّتَ لَا يَمْلِكُ، وَمِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الزَّكَاةِ التَّمْلِيكُ، قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْضَى بِهَا دَيْنُ الْمَيِّتِ الَّذِي لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً؛ لِأَنَّ قَضَاءَ دَيْنِ الْغَيْرِ بِهَا لَا يَقْتَضِي تَمْلِيكَهُ إِيَّاهَا، قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُقْضَى مِنَ الزَّكَاةِ دَيْنُ الْمَيِّتِ، وَيُقْضَى مِنْهَا دَيْنُ الْحَيِّ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَنَقَلَهُ فِي الْفُرُوعِ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ، وَعَنِ اخْتِيَارِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَأَنَّ فِي ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُقْضَى مِنَ الزَّكَاةِ دَيْنُ الْمَيِّتِ الَّذِي لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً إِنْ تَمَّتْ فِيهِ شُرُوطُ الْغَارِمِ، قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: بَلْ هُوَ أَوْلَى مِنْ دَيْنِ الْحَيِّ فِي أَخْذِهِ مِنَ الزَّكَاةِ، لِأَنَّهُ لَا يُرْجَى قَضَاؤُهُ بِخِلَافِ الْحَيِّ، وَاحْتَجَّ النَّوَوِيُّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِعُمُومِ الْغَارِمِينَ فِي آيَةِ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ، وَبِأَنَّهُ يَصِحُّ التَّبَرُّعُ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ كَدَيْنِ الْحَيِّ.
8- جِهَاتُ الْخَيْرِ مِنْ غَيْرِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ:
181- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ فِي جِهَاتِ الْخَيْرِ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَلَا تُنْشَأُ بِهَا طَرِيقٌ، وَلَا يُبْنَى بِهَا مَسْجِدٌ وَلَا قَنْطَرَةٌ، وَلَا تُشَقُّ بِهَا تُرْعَةٌ، وَلَا يُعْمَلُ بِهَا سِقَايَةٌ، وَلَا يُوَسَّعُ بِهَا عَلَى الْأَصْنَافِ، وَلَمْ يَصِحَّ فِيهِ نَقْلُ خِلَافٍ عَنْ مُعَيَّنٍ يُعْتَدُّ بِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الرَّمْلِيِّ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ، وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا تَمْلِيكَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ وَنَحْوَهُ لَا يُمْلَكُ، وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُ فِي الزَّكَاةِ التَّمْلِيكَ.
وَالثَّانِي:
الْحَصْرُ الَّذِي فِي الْآيَةِ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ وَنَحْوَهَا لَيْسَتْ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ الَّذِي فِيهِ: «إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الزَّكَاةَ ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ».
وَلَا يَثْبُتُ مِمَّا نُقِلَ عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ سِيرِينَ خِلَافُ ذَلِكَ.
مَا يُرَاعَى فِي قِسْمَةِ الزَّكَاةِ بَيْنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ:
أ- تَعْمِيمُ الزَّكَاةِ عَلَى الْأَصْنَافِ:
182- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ) إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَعْمِيمُ الزَّكَاةِ عَلَى الْأَصْنَافِ، سَوَاءٌ كَانَ الَّذِي يُؤَدِّيهَا إِلَيْهَا رَبَّ الْمَالِ أَوِ السَّاعِيَ أَوِ الْإِمَامَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تُعْطَى لِصِنْفٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى لِشَخْصٍ وَاحِدٍ إِنْ لَمْ تَزِدْ عَنْ كِفَايَتِهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي أَيِّ صِنْفٍ وَضَعْتَهُ أَجْزَأَكَ.
183- وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ: «تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» قَالُوا: وَالْفُقَرَاءُ صِنْفٌ وَاحِدٌ مِنْ أَصْنَافِ أَهْلِ الزَّكَاةِ الثَّمَانِيَةِ، وَبِوَقَائِعَ أَعْطَى فِيهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الزَّكَاةَ لِفَرْدٍ وَاحِدٍ أَوْ أَفْرَادٍ، مِنْهَا: «أَنَّهُ أَعْطَى سَلَمَةَ بْنَ صَخْرٍ الْبَيَاضِيَّ صَدَقَةَ قَوْمِهِ».وَقَالَ لِقَبِيصَةَ: «أَقِمْ يَا قَبِيصَةُ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا».قَالُوا: وَاللاَّمُ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ بِمَعْنَى «أَوْ»، أَوْ هِيَ لِبَيَانِ الْمَصَارِفِ، أَوْ هِيَ لِلِاخْتِصَاصِ، وَمَعْنَى الِاخْتِصَاصِ عَدَمُ خُرُوجِهَا عَنْهُمْ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ التَّعْمِيمَ لَا يُنْدَبُ إِلاَّ أَنْ يُقْصَدَ الْخُرُوجُ مِنَ الْخِلَافِ، وَكَذَا اسْتَحَبَّ الْحَنَابِلَةُ التَّعْمِيمَ لِلْخُرُوجِ مِنَ الْخِلَافِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلُ عِكْرِمَةَ، إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَعْمِيمُ الْأَصْنَافِ، وَإِعْطَاءُ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمُ الثُّمُنَ مِنَ الزَّكَاةِ الْمُتَجَمِّعَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِآيَةِ الصَّدَقَاتِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الزَّكَاةَ إِلَيْهِمْ فَاللاَّمُ لِلتَّمْلِيكِ، وَأَشْرَكَ بَيْنَهُمْ بِوَاوِ التَّشْرِيكِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمْ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: هَذَا الْمَالُ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ قُسِمَتْ بَيْنَهُمْ وَوَجَبَتِ التَّسْوِيَةُ، فَكَذَا هَذَا، وَلَوْ أَوْصَى لَهُمْ وَجَبَ التَّعْمِيمُ وَالتَّسْوِيَةُ.
وَتَفْصِيلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَجِبُ اسْتِيعَابُ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فِي الْقَسْمِ إِنْ قَسَمَ الْإِمَامُ وَهُنَاكَ عَامِلٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَامِلٌ بِأَنْ قَسَمَ الْمَالِكُ، أَوْ حَمَلَ أَصْحَابُ الْأَمْوَالِ زَكَاتَهُمْ إِلَى الْإِمَامِ، فَالْقِسْمَةُ عَلَى سَبْعَةِ أَصْنَافٍ، فَإِنْ فُقِدَ بَعْضُهُمْ فَعَلَى الْمَوْجُودِينَ مِنْهُمْ، وَيَسْتَوْعِبُ الْإِمَامُ مِنَ الزَّكَوَاتِ الْمُجْتَمِعَةِ عِنْدَهُ آحَادَ كُلِّ صِنْفٍ وُجُوبًا، إِنْ كَانَ الْمُسْتَحِقُّونَ فِي الْبَلَدِ، وَوَفَى بِهِمُ الْمَالُ.وَإِلاَّ فَيَجِبُ إِعْطَاءُ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ ذَكَرَتِ الْأَصْنَافَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ.
قَالُوا: وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَوِ السَّاعِي أَنْ يَعْتَنِيَ بِضَبْطِ الْمُسْتَحِقِّينَ، وَمَعْرِفَةِ أَعْدَادِهِمْ، وَقَدْرِ حَاجَاتِهِمْ، وَاسْتِحْقَاقِهِمْ، بِحَيْثُ يَقَعُ الْفَرَاغُ مِنْ جَمْعِ الزَّكَوَاتِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَوْ مَعَهُ لِيَتَعَجَّلَ وُصُولَ حَقِّهِمْ إِلَيْهِمْ.
قَالُوا: وَتَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَصْنَافِ، وَإِنْ كَانَتْ حَاجَةُ بَعْضِهِمْ أَشَدَّ، وَلَا تَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ أَفْرَادِ كُلِّ صِنْفٍ إِنْ قَسَمَ الْمَالِكُ، بَلْ يَجُوزُ تَفْضِيلُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، أَمَّا إِنْ قَسَمَ الْإِمَامُ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّفْضِيلُ مَعَ تَسَاوِي الْحَاجَاتِ، فَإِنْ فَقَدَ بَعْضَ الْأَصْنَافِ أَعْطَى سَهْمَهُ لِلْأَصْنَافِ الْبَاقِيَةِ، وَكَذَا إِنِ اكْتَفَى بَعْضُ الْأَصْنَافِ وَفَضَلَ شَيْءٌ، فَإِنِ اكْتَفَى جَمِيعُ أَفْرَادِ الْأَصْنَافِ جَمِيعًا بِالْبَلَدِ، جَازَ النَّقْلُ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِ عَلَى الْأَظْهَرِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ.
وَقَالَ النَّخَعِيُّ: إِنْ كَانَتِ الزَّكَاةُ قَلِيلَةً جَازَ صَرْفُهَا إِلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ، وَإِلاَّ وَجَبَ اسْتِيعَابُ الْأَصْنَافِ، وَقَالَا أَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ: إِنْ أَخْرَجَهَا الْإِمَامُ وَجَبَ اسْتِيعَابُ الْأَصْنَافِ، وَإِنْ أَخْرَجَهَا الْمَالِكُ جَازَ أَنْ يَجْعَلَهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ.
التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْمَصَارِفِ:
184- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْعَامِلَ عَلَى الزَّكَاةِ يُبْدَأُ بِهِ قَبْلَ غَيْرِهِ فِي الْإِعْطَاءِ مِنَ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ عَلَى وَجْهِ الْعِوَضِ عَنْ عَمَلِهِ، وَغَيْرُهُ يَأْخُذُ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: فَإِنْ كَانَ سَهْمُ الْعَامِلِينَ وَهُوَ ثُمُنُ الزَّكَاةِ قَدْرَ حَقِّهِ أَخَذَهُ، وَإِنْ زَادَ عَنْ حَقِّهِ رُدَّ الْفَاضِلُ عَلَى سَائِرِ السِّهَامِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِ تُمِّمَ لَهُ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ، وَقِيلَ: مِنْ بَاقِي السِّهَامِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْعَامِلَ يُقَدَّمُ بِأُجْرَتِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَصْنَافِ، أَيْ مِنْ مَجْمُوعِ الزَّكَاةِ.
أَمَّا مَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُقْسَمُ بَيْنَ بَاقِي الْأَصْنَافِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَنَظَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى الْحَاجَةِ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُقَدَّمُ الْمَدِينُ عَلَى الْفَقِيرِ لِأَنَّ حَاجَةَ الْمَدِينِ أَشَدُّ، وَرَاعَى الْحَنَفِيَّةُ أُمُورًا أُخْرَى تَأْتِي فِي نَقْلِ الزَّكَاةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ إِيثَارُ الْمُضْطَرِّ عَلَى غَيْرِهِ بِأَنْ يُزَادَ فِي إِعْطَائِهِ مِنْهَا.
وَنَظَرَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى الْحَاجَةِ مَعَ الْقَرَابَةِ فَقَالُوا: يُقَدَّمُ الْأَحْوَجُ فَالْأَحْوَجُ اسْتِحْبَابًا، فَإِنْ تَسَاوَوْا قُدِّمَ الْأَقْرَبُ إِلَيْهِ، ثُمَّ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ فِي الْجِوَارِ وَأَكْثَرَ دِينًا، وَكَيْفَ فَرَّقَهَا جَازَ، بَعْدَ أَنْ يَضَعَهَا فِي الْأَصْنَافِ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
نَقْلُ الزَّكَاةِ:
185- إِذَا فَاضَتِ الزَّكَاةُ فِي بَلَدٍ عَنْ حَاجَةِ أَهْلِهَا جَازَ نَقْلُهَا اتِّفَاقًا، بَلْ يَجِبُ، وَأَمَّا مَعَ الْحَاجَةِ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُكْرَهُ تَنْزِيهًا نَقْلُ الزَّكَاةِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَإِنَّمَا تُفَرَّقُ صَدَقَةُ كُلِّ أَهْلِ بَلَدٍ فِيهِمْ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ».وَلِأَنَّ فِيهِ رِعَايَةَ حَقِّ الْجِوَارِ، وَالْمُعْتَبَرُ بَلَدُ الْمَالِ، لَا بَلَدُ الْمُزَكِّي.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَنْقُلَهَا الْمُزَكِّي إِلَى قَرَابَتِهِ، لِمَا فِي إيصَالِ الزَّكَاةِ إِلَيْهِمْ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ.قَالُوا: وَيُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ.
وَاسْتَثْنَوْا أَيْضًا أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى قَوْمٍ هُمْ أَحْوَجُ إِلَيْهَا مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ، وَكَذَا لِأَصْلَحَ، أَوْ أَوْرَعَ، أَوْ أَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ إِلَى طَالِبِ عِلْمٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْلُ الزَّكَاةِ إِلَى مَا يَزِيدُ عَنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، لِحَدِيثِ مُعَاذٍ الْمُتَقَدِّمِ، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مُعَاذٌ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ عُمَرُ وَقَالَ: لَمْ أَبْعَثْكَ جَابِيًا وَلَا آخِذَ جِزْيَةٍ، وَلَكِنْ بَعَثْتُكَ لِتَأْخُذَ مِنْ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ فَتَرُدَّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَقَالَ مُعَاذٌ: مَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ بِشَيْءٍ وَأَنَا أَجِدُ مَنْ يَأْخُذُهُ مِنِّي.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أُتِيَ بِزَكَاةٍ مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى الشَّامِ فَرَدَّهَا إِلَى خُرَاسَانَ.
قَالُوا: وَالْمُعْتَبَرُ بَلَدُ الْمَالِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: الْمُعْتَبَرُ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ الْبَلَدُ الَّذِي فِيهِ الْمَالُ، وَفِي النَّقْدِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ الْبَلَدُ الَّذِي فِيهِ الْمَالِكُ.
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يُوجَدَ مَنْ هُوَ أَحْوَجُ مِمَّنْ هُوَ فِي الْبَلَدِ، فَيَجِبُ حِينَئِذٍ النَّقْلُ مِنْهَا وَلَوْ نُقِلَ أَكْثَرُهَا.
186- ثُمَّ إِنْ نُقِلَتِ الزَّكَاةُ حَيْثُ لَا مُسَوِّغَ لِنَقْلِهَا مِمَّا تَقَدَّمَ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، إِلَى أَنَّهَا تُجْزِئُ عَنْ صَاحِبِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ نَقَلَهَا لِمِثْلِ مَنْ فِي بَلَدِهِ فِي الْحَاجَةِ فَتُجْزِئُهُ مَعَ الْحُرْمَةِ، وَإِنْ نَقَلَهَا لِأَدْوَنَ مِنْهُمْ فِي الْحَاجَةِ لَمْ تُجْزِئْهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ خَلِيلٌ وَالدَّرْدِيرُ، وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: نَقَلَ الْمَوَّاقُ أَنَّ الْمَذْهَبَ الْإِجْزَاءُ بِكُلِّ حَالٍ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ: لَا تُجْزِئُهُ بِكُلِّ حَالٍ.
وَحَيْثُ نُقِلَتِ الزَّكَاةُ فَأُجْرَةُ النَّقْلِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَكُونُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لَا مِنَ الزَّكَاةِ نَفْسِهَا.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: تَكُونُ عَلَى الْمُزَكِّي.
حُكْمُ مَنْ أُعْطِيَ مِنَ الزَّكَاةِ لِوَصْفٍ فَزَالَ الْوَصْفُ وَهِيَ فِي يَدِهِ:
187- مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ مَنْ يَأْخُذُ أَخْذًا مُسْتَقِرًّا فَلَا يُسْتَرَدُّ مِنْهُ شَيْءٌ إِنْ كَانَ فِيهِ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ بِشُرُوطِهِ عِنْدَ الْأَخْذِ، وَهُمْ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ: الْمِسْكِينُ، وَالْفَقِيرُ، وَالْعَامِلُ، وَالْمُؤَلَّفُ قَلْبُهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُ أَخْذًا مُرَاعًى، فَيُسْتَرَدُّ مِنْهُ إِنْ لَمْ يُنْفِقْهُ فِي وَجْهِهِ، أَوْ تَأَدَّى الْغَرَضُ مِنْ بَابٍ آخَرَ، أَوْ زَالَ الْوَصْفُ وَالزَّكَاةُ فِي يَدِهِ، وَهُمْ أَيْضًا أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ، عَلَى خِلَافٍ فِي بَعْضِهَا:
1- الْمُكَاتَبُ، فَيُسْتَرَدُّ مِنَ الْمُعْطَى مَا أَخَذَ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَعْتِقَ، أَوْ عَجَزَ عَنِ الْوَفَاءِ فَلَمْ يَعْتِقْ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَكُونُ مَا أَخَذَهُ لِسَيِّدِهِ وَيَحِلُّ لَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: لَا يُسْتَرَدُّ، وَلَا يَكُونُ لِسَيِّدِهِ، بَلْ يُنْفِقُ فِي الْمُكَاتَبِينَ.
وَلَا تَرِدُ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ صَرْفَ الزَّكَاةِ لِلْمُكَاتَبِينَ كَمَا تَقَدَّمَ.
2- الْغَارِمُ: فَإِنِ اسْتَغْنَى الْمَدِينُ الَّذِي أَخَذَ الزَّكَاةَ قَبْلَ دَفْعِهَا فِي دَيْنِهِ تُنْزَعُ مِنْهُ، وَكَذَا لَوْ أُبْرِئَ مِنَ الدَّيْنِ، أَوْ قَضَاهُ مِنْ غَيْرِ الزَّكَاةِ، أَوْ قَضَاهُ عَنْهُ غَيْرُهُ.وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، مَا لَمْ يَكُنْ فَقِيرًا.
3- الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ: وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِنْ أَخَذَ الزَّكَاةَ لِلْغَزْوِ ثُمَّ جَلَسَ فَلَمْ يَخْرُجْ أُخِذَتْ مِنْهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَيْضًا: لَوْ خَرَجَ لِلْغَزْوِ وَعَادَ دُونَ أَنْ يُقَاتِلَ مَعَ قُرْبِ الْعَدُوِّ تُؤْخَذُ مِنْهُ كَذَلِكَ.
وَحَيْثُ وَجَبَ الرَّدُّ تُنْزَعُ مِنْهُ إِنْ كَانَ بَاقِيهِ فِي يَدِهِ، وَإِنْ أَنْفَقَهَا أُتْبِعَ بِهَا، أَيْ طُولِبَ بِبَدَلِهَا إِنْ كَانَ غَنِيًّا؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ.
4- ابْنُ السَّبِيلِ: وَيُسْتَرَدُّ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ إِنْ لَمْ يَخْرُجْ، مَا لَمْ يَكُنْ فَقِيرًا بِبَلَدِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيُعْتَبَرُ لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَفِي قَوْلٍ: تَمَامُ السَّنَةِ.قَالُوا: وَيَرُدُّ مَا أَخَذَ لَوْ سَافَرَ ثُمَّ عَادَ وَلَمْ يَصْرِفْ مَا أَخَذَهُ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّمَا تُنْزَعُ مِنْهُ إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً، فَإِنْ كَانَ أَنْفَقَهَا لَمْ يُطَالَبْ بِبَدَلِهَا.
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُلْزَمُ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِمَا فَضَلَ فِي يَدِهِ.
حُكْمُ مَنْ أَخَذَ الزَّكَاةَ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا:
188- لَا يَحِلُّ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ أَخْذُهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا زَكَاةٌ، إِجْمَاعًا.فَإِنْ أَخَذَهَا فَلَمْ تُسْتَرَدَّ مِنْهُ فَلَا تَطِيبُ لَهُ، بَلْ يَرُدُّهَا أَوْ يَتَصَدَّقُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا عَلَيْهِ حَرَامٌ، وَعَلَى دَافِعِ الزَّكَاةِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَعَرُّفِ مُسْتَحَقِّي الزَّكَاةِ، فَإِنْ دَفَعَهَا بِغَيْرِ اجْتِهَادِهِ، أَوْ كَانَ اجْتِهَادُهُ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا وَأَعْطَاهُ لَمْ تُجْزِئْ عَنْهُ، إِنْ تَبَيَّنَ الْآخِذُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، وَالْمُرَادُ بِالِاجْتِهَادِ النَّظَرُ فِي أَمَارَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَلَوْ شَكَّ فِي كَوْنِ الْآخِذِ فَقِيرًا فَعَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ كَذَلِكَ.
189- أَمَّا إِنِ اجْتَهَدَ فَدَفَعَ لِمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ فَتَبَيَّنَ عَدَمُ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُجْزِئُهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا تُجْزِئُهُ، عَلَى تَفْصِيلٍ يَخْتَلِفُ مِنْ مَذْهَبٍ إِلَى مَذْهَبٍ.
فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ: إِنْ دَفَعَ الزَّكَاةَ إِلَى مَنْ يَظُنُّهُ فَقِيرًا ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ غَنِيٌّ أَوْ هَاشِمِيٌّ أَوْ كَافِرٌ، أَوْ دَفَعَ فِي ظُلْمَةٍ، فَبَانَ أَنَّ الْآخِذَ أَبُوهُ، أَوِ ابْنُهُ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، لِحَدِيثِ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: «كَانَ أَبِي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَجِئْتُ فَأَخَذْتهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ، فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ، وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ».
وَلِأَنَّا لَوْ أَمَرْنَاهُ بِالْإِعَادَةِ أَفْضَى إِلَى الْحَرَجِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا تَكَرَّرَ خَطَؤُهُ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا أَنْ يَتَبَيَّنَ الْآخِذُ غَيْرَ أَهْلٍ لِلتَّمْلِيكِ أَصْلًا، نَحْوُ أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ الْآخِذَ عَبْدُهُ أَوْ مُكَاتَبُهُ، فَلَا تُجْزِئُ فِي هَذَا الْحَالِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تُجْزِئُهُ إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْآخِذَ لَيْسَ مِنَ الْمَصَارِفِ، لِظُهُورِ خَطَئِهِ بِيَقِينٍ مَعَ إِمْكَانِ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ تَحَرَّى فِي ثِيَابٍ فَبَانَ أَنَّهُ صَلَّى فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ.
وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ حَالَيْنِ:
الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ الْإِمَامَ أَوْ مُقَدَّمَ الْقَاضِي أَوِ الْوَصِيَّ، فَيَجِبُ اسْتِرْدَادُهَا، لَكِنْ إِنْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا، أَجْزَأَتْ، لِأَنَّ اجْتِهَادَ الْإِمَامِ حُكْمٌ لَا يَتَعَقَّبُ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ رَبَّ الْمَالِ فَلَا تُجْزِئُهُ، فَإِنِ اسْتَرَدَّهَا وَأَعْطَاهَا فِي وَجْهِهَا، وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ الْإِخْرَاجُ مَرَّةً أُخْرَى، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ اسْتِرْدَادَهَا إِنْ فَوَّتَهَا الْآخِذُ بِفِعْلِهِ، بِأَنْ أَكَلَهَا، أَوْ بَاعَهَا، أَوْ وَهَبَهَا، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
أَمَّا إِنْ فَاتَتْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ بِأَنْ تَلِفَتْ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ، فَإِنْ كَانَ غَرَّ الدَّافِعَ بِأَنْ أَظْهَرَ لَهُ الْفَقْرَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهَا أَيْضًا، أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ غَرَّهُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ الِاسْتِرْدَادُ، وَعَلَى الْآخِذِ الرَّدُّ، سَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّهَا زَكَاةٌ أَمْ لَا، فَإِنِ اسْتُرِدَّتْ صُرِفَتْ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الِاسْتِرْدَادُ فَإِنْ كَانَ الَّذِي دَفَعَهَا الْإِمَامُ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي دَفَعَهَا الْمَالِكُ ضَمِنَ، وَهَذَا هُوَ الْمُقَدَّمُ عِنْدَهُمْ، وَفِي بَعْضِ صُوَرِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَهُمْ أَقْوَالٌ أُخْرَى.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ بَانَ الْآخِذُ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا أَوْ هَاشِمِيًّا، أَوْ قَرَابَةً لِلْمُعْطِي مِمَّنْ لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ، فَلَا تُجْزِئُ الزَّكَاةُ عَنْ دَافِعِهَا رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَحِقٍّ، وَلَا تَخْفَى حَالُهُ غَالِبًا، فَلَمْ يَجْزِهِ الدَّفْعُ إِلَيْهِ، كَدُيُونِ الْآدَمِيِّينَ.
أَمَّا إِنْ كَانَ ظَنَّهُ فَقِيرًا فَبَانَ غَنِيًّا فَكَذَلِكَ عَلَى رِوَايَةٍ، وَالْأُخْرَى يُجْزِئُهُ، لِحَدِيثِ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ الْمُتَقَدِّمِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ: لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ....الْحَدِيثَ وَفِيهِ: فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبِلَتْ، لَعَلَّ الْغَنِيَّ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ».وَلِأَنَّ حَالَهُ تَخْفَى غَالِبًا.
مَنْ لَهُ حَقُّ طَلَبِ الزَّكَاةِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا:
190- فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ مُسْتَحَقِّي الزَّكَاةِ مِنَ الْفُقَرَاءِ مِنْ حَيْثُ جَوَازُ طَلَبِهِمُ الزَّكَاةَ بِالرَّغْمِ مِنَ اسْتِحْقَاقِهِمْ، فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي يَحِلُّ لَهُ طَلَبُ الزَّكَاةِ هُوَ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ لِيَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ فَيَحْتَاجُ لِلسُّؤَالِ لِقُوتِهِ، أَوْ مَا يُوَارِي بَدَنَهُ، وَهُوَ فِي اصْطِلَاحِهِمُ الْمُسَمَّى مِسْكِينًا، وَكَذَا لَا يَحِلُّ السُّؤَالُ لِمَنْ لَا يَمْلِكُ قُوتَ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ لَكِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْكَسْبِ، أَمَّا الْفَقِيرُ وَهُوَ فِي اصْطِلَاحِهِمْ مَنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ لِيَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ سُؤَالُ الصَّدَقَةِ، وَإِنْ كَانَ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِخَمْسِينَ دِرْهَمًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمَذْهَبِ: مَنْ أُبِيحَ لَهُ أَخْذُ الزَّكَاةِ أُبِيحَ لَهُ طَلَبُهَا، وَفِي رِوَايَةٍ: يَحْرُمُ طَلَبُهَا عَلَى مَنْ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَجِدُ مَنْ يَسْأَلُهُ كُلَّ يَوْمٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْأَلَ أَكْثَرَ مِنْ قُوتِ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ، وَإِنْ خَافَ أَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يُعْطِيهِ أُبِيحَ لَهُ السُّؤَالُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
284-موسوعة الفقه الكويتية (زنى 2)
زِنَى -2ب- أَنْوَاعُ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
19- قَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ الشُّبْهَةَ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ فِي إِفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: شُبْهَةٍ فِي الْوَاطِئِ، وَشُبْهَةٍ فِي الْمَوْطُوءَةِ، وَشُبْهَةٍ فِي الطَّرِيقِ.
فَالشُّبْهَةُ فِي الْوَاطِئِ: كَاعْتِقَادِ أَنَّ هَذِهِ الْأَجْنَبِيَّةَ امْرَأَتُهُ، فَالِاعْتِقَادُ الَّذِي هُوَ جَهْلٌ مُرَكَّبٌ وَغَيْرُ مُطَابِقٍ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُعْتَقِدٌ الْإِبَاحَةَ، وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ فِي اعْتِقَادِهِ يَقْتَضِي الْحَدَّ، فَحَصَلَ الِاشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ.
وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَوْطُوءَةِ: كَالْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ إِذَا وَطِئَهَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ.فَمَا فِيهَا مِنْ نَصِيبِهِ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ، وَمَا فِيهَا مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ يَقْتَضِي الْحَدَّ، فَحَصَلَ الِاشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ.وَالشُّبْهَةُ فِي الطَّرِيقِ: كَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي إِبَاحَةِ الْمَوْطُوءَةِ كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَنَحْوِهِ.فَإِنَّ قَوْلَ الْمُحَرِّمِ يَقْتَضِي الْحَدَّ، وَقَوْلَ الْمُبِيحِ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ، فَحَصَلَ الِاشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ.
فَهَذِهِ الثَّلَاثُ هِيَ ضَابِطُ الشُّبْهَةِ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَهُمْ فِي إِسْقَاطِ الْحَدِّ.غَيْرَ أَنَّ لَهَا شَرْطًا وَهُوَ اعْتِقَادُ الْمُقْدِمِ عَلَى الْفِعْلِ مُقَارَنَةَ السَّبَبِ الْمُبِيحِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فِي حُصُولِ السَّبَبِ كَأَنْ يَطَأَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً يَعْتَقِدُ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ.وَضَابِطُ الشُّبْهَةِ الَّتِي لَا تُعْتَبَرُ فِي إِسْقَاطِ الْحَدِّ تَتَحَقَّقُ بِأَمْرَيْنِ: إِمَّا بِالْخُرُوجِ عَنِ الشُّبُهَاتِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ كَمَنْ تَزَوَّجَ خَامِسَةً أَوْ مَبْتُوتَةً ثَلَاثًا قَبْلَ زَوْجٍ، أَوْ أُخْتَهُ مِنَ الرَّضَاعِ أَوِ النَّسَبِ أَوْ ذَاتَ مَحْرَمٍ عَامِدًا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، أَوْ بِعَدَمِ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ كَأَنْ يَطَأَ امْرَأَةً يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سَيَتَزَوَّجُهَا فَإِنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ لِعَدَمِ اعْتِقَادِ مُقَارَنَةِ الْعِلْمِ لِسَبَبِهِ.
ج- أَنْوَاعُ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:
20- الشُّبْهَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: شُبْهَةٍ فِي الْمَحَلِّ، وَشُبْهَةٍ فِي الْفَاعِلِ، وَشُبْهَةٍ فِي الْجِهَةِ.
فَالشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ، كَوَطْءِ زَوْجَتِهِ الْحَائِضِ وَالصَّائِمَةِ، وَالْمُحْرِمَةِ، وَأَمَتِهِ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَجَارِيَةِ وَلَدِهِ.فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ.وَكَذَا لَوْ وَطِئَ مَمْلُوكَتَهُ الْمُحَرَّمَةَ عَلَيْهِ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، كَأُخْتِهِ مِنْهُمَا، أَوْ بِمُصَاهَرَةٍ كَمَوْطُوءَةِ أَبِيهِ أَوِ ابْنِهِ، فَلَا حَدَّ بِوَطْئِهَا فِي الْأَظْهَرِ؛ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ.قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: وَمَحَلُّ ذَلِكَ فِيمَنْ يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا كَأُخْتِهِ.أَمَّا مَنْ لَا يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا كَالْأُمِّ وَالْجَدَّةِ فَهُوَ زَانٍ قَطْعًا.وَكَذَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ، أَوْ أَمَتَهُ الْمُزَوَّجَةَ، أَوِ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ غَيْرِهِ، أَوِ الْمَجُوسِيَّةَ وَالْوَثَنِيَّةَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ أَسْلَمَتْ أَمَةُ ذِمِّيٍّ فَوَطِئَهَا قَبْلَ أَنْ تُبَاعَ.وَأَمَّا الشُّبْهَةُ فِي الْفَاعِلِ، فَمِثْلُ أَنْ يَجِدَ امْرَأَةً فِي فِرَاشِهِ فَيَطَؤُهَا ظَانًّا أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ ظَنَّ ذَلِكَ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ.وَلَوْ ظَنَّهَا جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ فَكَانَتْ غَيْرَهَا فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ لِأَنَّهُ عَلِمَ التَّحْرِيمَ فَكَانَ عَلَيْهِ الِامْتِنَاعُ.وَهَذَا مَا رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ مِنَ احْتِمَالَيْنِ.وَجَزَمَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِسُقُوطِهِ.وَيَدْخُلُ فِي شُبْهَةِ الْفَاعِلِ الْمُكْرَهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ.وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَأَمَّا الشُّبْهَةُ فِي الْجِهَةِ: فَهِيَ كُلُّ طَرِيقٍ صَحَّحَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَأَبَاحَ الْوَطْءَ بِهَا فَلَا حَدَّ فِيهَا عَلَى الْمَذْهَبِ وَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ يَعْتَقِدُ التَّحْرِيمَ نَظَرًا لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ.فَلَا حَدَّ فِي الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ.وَبِلَا شُهُودٍ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ.وَلَا فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ كَمَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِشُبْهَةِ الْخِلَافِ.
ثُمَّ إِنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي النِّكَاحِ الْمَذْكُورِ أَنْ لَا يُقَارِنَهُ حُكْمٌ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.فَإِنْ قَارَنَهُ حُكْمٌ قَاضٍ بِبُطْلَانِهِ حُدَّ قَطْعًا، أَوْ حُكْمٌ قَاضٍ بِصِحَّتِهِ لَمْ يُحَدَّ قَطْعًا.
وَقَدْ صَرَّحَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الضَّابِطَ فِي الشُّبْهَةِ قُوَّةُ الْمُدْرِكِ لَا عَيْنُ الْخِلَافِ.فَلَوْ وَطِئَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ حُدَّ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنْ حُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ حِلُّ ذَلِكَ.
وَصَرَّحَ الرَّمْلِيُّ بِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ مِنْ عَالِمٍ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَإِنْ لَمْ يُقَلِّدْهُ الْفَاعِلُ.
د- الشُّبْهَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:
21- لَمْ يُقَسِّمِ الْحَنَابِلَةُ الشُّبْهَةَ إِلَى أَنْوَاعٍ كَالْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا لَهَا أَمْثِلَةً فَقَالُوا: لَا حَدَّ عَلَى الْأَبِ إِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِهِ سَوَاءٌ وَطِئَهَا الِابْنُ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ تَمَكَّنَتِ الشُّبْهَةُ فِيهِ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِي مِلْكِ وَلَدِهِ لِحَدِيثِ «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ».وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ، أَوْ لِوَلَدِهِ فِيهَا شِرْكٌ، أَوْ لِمُكَاتَبِهِ فِيهَا شِرْكٌ؛ لِلْمِلْكِ أَوْ شُبْهَتِهِ، وَلَا حَدَّ إِنْ وَطِئَ أَمَةً كُلَّهَا لِبَيْتِ الْمَالِ أَوْ بَعْضَهَا لِبَيْتِ الْمَالِ وَهُوَ حُرٌّ مُسْلِمٌ، لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي بَيْتِ الْمَالِ.وَلَا حَدَّ إِنْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ فِي حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ دُبُرٍ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ قَدْ صَادَفَ مِلْكًا، وَإِنْ وَطِئَ امْرَأَةً عَلَى فِرَاشِهِ أَوْ فِي مَنْزِلِهِ ظَنَّهَا امْرَأَتَهُ أَوْ زُفَّتْ إِلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يُقَلْ لَهُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ.وَلَوْ دَعَا ضَرِيرٌ امْرَأَتَهُ فَأَجَابَتْهُ امْرَأَةٌ غَيْرُهَا فَوَطِئَهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ.بِخِلَافِ مَا لَوْ دَعَا مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ فَأَجَابَهُ غَيْرُهَا فَوَطِئَهَا يَظُنُّهَا الْمَدْعُوَّةَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْمَدْعُوَّةُ مِمَّنْ لَهُ فِيهَا شُبْهَةٌ كَالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ أَمْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْذَرُ بِهَذَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَ رَجُلًا يَظُنُّهُ ابْنَهُ فَبَانَ أَجْنَبِيًّا.وَإِنْ وَطِئَ أَمَتَهُ الْمَجُوسِيَّةَ أَوِ الْوَثَنِيَّةَ أَوِ الْمُرْتَدَّةَ أَوِ الْمُعْتَدَّةَ، أَوِ الْمُزَوَّجَةَ، أَوْ فِي مُدَّةِ اسْتِبْرَائِهَا فَلَا حَدَّ، لِأَنَّهَا مِلْكُهُ.وَإِنْ وَطِئَ فِي نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ أَوْ فِي مِلْكٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ، أَوْ بِلَا شُهُودٍ، وَنِكَاحِ الشِّغَارِ، وَنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ، وَنِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا، وَنَحْوِهَا، وَنِكَاحِ الْبَائِنِ مِنْهُ، وَنِكَاحِ خَامِسَةٍ فِي عِدَّةِ رَابِعَةٍ لَمْ تَبِنْ، وَنِكَاحِ الْمَجُوسِيَّةِ، وَعَقْدِ الْفُضُولِيِّ وَلَوْ قَبْلَ الْإِجَازَةِ، سَوَاءٌ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ أَمْ لَا.
هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ.وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ، أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ إِذَا اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ.
وَإِنْ جَهِلَ نِكَاحًا بَاطِلًا إِجْمَاعًا كَخَامِسَةٍ فَلَا حَدَّ لِلْعُذْرِ، وَيُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا.أَمَّا إِذَا عَلِمَ بِبُطْلَانِهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ.وَلَا حَدَّ فِي الْوَطْءِ فِي شِرَاءٍ فَاسِدٍ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَوِ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ لِلشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ بِإِقْبَاضِهِ الْأَمَةَ كَأَنَّهُ أَذِنَهُ فِي فِعْلِ مَا يَمْلِكُهُ بِالْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَمِنْهُ الْوَطْءُ، أَمَّا قَبْلَ الْقَبْضِ فَيُحَدُّ عَلَى الصَّحِيحِ.كَمَا يَجِبُ الْحَدُّ فِي وَطْءِ الْبَائِعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ إِذَا كَانَ يَعْتَقِدُ التَّحْرِيمَ وَيَعْلَمُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ عَلَى الصَّحِيحِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ.
5- مِنْ شُرُوطِ حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُخْتَارًا:
22- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُكْرَهَةِ عَلَى الزِّنَى لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».وَعَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ امْرَأَةً اسْتُكْرِهَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ».وَلِأَنَّ هَذَا شُبْهَةٌ، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِهَا.
وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الرَّجُلِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَى.فَذَهَبَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ وَالَّذِي بِهِ الْفَتْوَى وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ إِلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الرَّجُلِ الْمُكْرَهِ عَلَى الزِّنَى لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ وَلِشُبْهَةِ الْإِكْرَاهِ.
وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ- وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ- وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِالِانْتِشَارِ الْحَادِثِ بِالِاخْتِيَارِ.
وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ إِكْرَاهِ السُّلْطَانِ وَإِكْرَاهِ غَيْرِهِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي إِكْرَاهِ السُّلْطَانِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ الْمُلْجِئَ قَائِمٌ ظَاهِرًا، وَالِانْتِشَارُ دَلِيلٌ مُتَرَدِّدٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ؛ لِأَنَّ الِانْتِشَارَ قَدْ يَكُونُ طَبْعًا لَا طَوْعًا، كَمَا فِي النَّائِمِ، فَأَوْرَثَ شُبْهَةً، وَعَلَيْهِ الْحَدُّ إِنْ أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ، لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ لَا يَدُومُ إِلاَّ نَادِرًا لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ بِالسُّلْطَانِ أَوْ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَيُمْكِنُهُ دَفْعُهُ بِنَفْسِهِ بِالسِّلَاحِ.وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ، بِخِلَافِ السُّلْطَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِعَانَةُ بِغَيْرِهِ وَلَا الْخُرُوجُ بِالسِّلَاحِ عَلَيْهِ فَافْتَرَقَا.وَالْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْلِ الصَّاحِبَيْنِ.قَالَ مَشَايِخُ الْحَنَفِيَّةِ: وَهَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ، فَفِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لِغَيْرِ السُّلْطَانِ مِنَ الْقُوَّةِ مَا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالسُّلْطَانِ، وَفِي زَمَنِهِمَا ظَهَرَتِ الْقُوَّةُ لِكُلِّ مُتَغَلِّبٍ فَيُفْتَى بِقَوْلِهِمَا.
ثَانِيًا: الشُّرُوطُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا:
1- اشْتِرَاطُ كَوْنِ الْمَوْطُوءَةِ حَيَّةً:
23- اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) فِي وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَى أَنْ تَكُونَ الْمَوْطُوءَةُ حَيَّةً، فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عِنْدَهُمْ بِوَطْءِ الْمَيْتَةِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ إِنَّمَا وَجَبَ لِلزَّجْرِ، وَهَذَا مِمَّا يَنْفِرُ الطَّبْعُ عَنْهُ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الزَّجْرِ عَنْهُ بِحَدٍّ لِزَجْرِ الطَّبْعِ عَنْهُ.وَفِيهِ التَّعْزِيرُ عِنْدَهُمْ.
وَيُعَبِّرُ الشَّافِعِيَّةُ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ بِالْفَرْجِ الْمُشْتَهَى طَبْعًا، وَهُوَ فَرْجُ الْآدَمِيِّ الْحَيِّ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ فَيَجِبُ عِنْدَهُمُ الْحَدُّ بِوَطْءِ الْمَيْتَةِ سَوَاءٌ كَانَ فِي قُبُلِهَا أَوْ دُبُرِهَا.وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الزَّوْجَ فَلَا يُحَدُّ بِوَطْءِ زَوْجَتِهِ الْمَيْتَةِ.وَاسْتَثْنَوْا كَذَلِكَ الْمَرْأَةَ إِذَا أَدْخَلَتْ ذَكَرَ مَيْتٍ غَيْرَ زَوْجٍ فِي فَرْجِهَا فَلَا تُحَدُّ لِعَدَمِ اللَّذَّةِ.
كَوْنُ الْمَوْطُوءَةِ امْرَأَةً:
24- اشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ تَكُونَ الْمَوْطُوءَةُ امْرَأَةً.فَلَا حَدَّ عِنْدَهُ فِيمَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ وَيُسْجَنُ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَتُوبَ، وَلَوِ اعْتَادَ اللِّوَاطَةَ قَتَلَهُ الْإِمَامُ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مِحْصَنٍ سِيَاسَةً.أَمَّا الْحَدُّ الْمُقَدَّرُ شَرْعًا فَلَيْسَ حُكْمًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًى وَلَا فِي مَعْنَاهُ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حَدٌّ.
وَلَمْ يَشْتَرِطْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ هَذَا الشَّرْطَ، فَذَهَبَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ حَدَّ الزِّنَى عَلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ جَلْدًا إِنْ لَمْ يَكُنْ أُحْصِنَ، وَرَجْمًا إِنْ أُحْصِنَ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمَا يُرْجَمَانِ حَدًّا أُحْصِنَا أَمْ لَا.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْفَاعِلِ.أَمَّا الْمَفْعُولُ بِهِ فَإِنَّهُ يُجْلَدُ وَيُغَرَّبُ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ إِحْصَانٌ. وَطْءُ الْبَهِيمَةِ:
25- ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى مَنْ أَتَى بَهِيمَةً لَكِنَّهُ يُعَزَّرُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ.وَمِثْلُ هَذَا لَا يَقُولُهُ إِلاَّ عَنْ تَوْقِيفٍ، وَلِأَنَّ الطَّبْعَ السَّلِيمَ يَأْبَاهُ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى زَجْرٍ بِحَدٍّ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ: إِنَّهُ يُحَدُّ حَدَّ الزِّنَى وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ: بِأَنَّهُ يُقْتَلُ مُطْلَقًا مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ.
وَمِثْلُ وَطْءِ الْبَهِيمَةِ مَا لَوْ مَكَّنَتِ امْرَأَةٌ حَيَوَانًا مِنْ نَفْسِهَا حَتَّى وَطِئَهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا بَلْ تُعَزَّرُ.
وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ) أَنَّهُ لَا تُقْتَلُ الْبَهِيمَةُ، وَإِذَا قُتِلَتْ فَإِنَّهَا يَجُوزُ أَكْلُهَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ إِنْ كَانَتْ مِمَّا يُؤْكَلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَمَنَعَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ أَكْلَهَا.وَقَالَا: تُذْبَحُ وَتُحْرَقُ.وَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ الِانْتِفَاعِ بِهَا حَيَّةً وَمَيِّتَةً.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْبَهِيمَةَ تُقْتَلُ سَوَاءٌ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ.وَسَوَاءٌ كَانَتْ مَأْكُولَةً أَوْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ.وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا قَالَ: «مَنْ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ».وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ: إِنَّهَا تُذْبَحُ إِنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً، وَصَرَّحُوا بِحُرْمَةِ أَكْلِهَا إِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ مَا يُؤْكَلُ.
3- كَوْنُ الْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ:
26- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَى عَلَى مَنْ أَتَى امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً فِي دُبُرِهَا، لِأَنَّهُ فَرْجٌ أَصْلِيٌّ كَالْقُبُلِ.
وَخَصَّ الشَّافِعِيَّةُ الْحَدَّ بِالْفَاعِلِ فَقَطْ.أَمَّا الْمَفْعُولُ بِهَا فَإِنَّهَا تُجْلَدُ وَتُغَرَّبُ، مُحْصَنَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ إِحْصَانٌ.
وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ فِي الْقُبُلِ فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عِنْدَهُ عَلَى مَنْ أَتَى امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً فِي دُبُرِهَا، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ.
ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ.أَمَّا إِتْيَانُ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ أَوْ مَمْلُوكَتَهُ فِي دُبُرِهَا فَلَا حَدَّ فِيهِ اتِّفَاقًا، وَيُعَزَّرُ فَاعِلُهُ لِارْتِكَابِهِ مَعْصِيَةً.وَقَصَرَ الشَّافِعِيَّةُ التَّعْزِيرَ عَلَى مَا إِذَا تَكَرَّرَ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَكَرَّرْ فَلَا تَعْزِيرَ فِيهِ.
4- كَوْنُ الْوَطْءِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ:
27- اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ الزِّنَى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوِ الْبَغْيِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي بِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ زَنَى أَوْ سَرَقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَصَابَ بِهَا حَدًّا ثُمَّ هَرَبَ فَخَرَجَ إِلَيْنَا فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ».
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقَامَ عَلَى أَحَدٍ حَدٌّ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ.
وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ، وَلَا قُدْرَةَ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِ حَالَ كَوْنِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا وُجُوبَ وَإِلاَّ عَرَى عَنِ الْفَائِدَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الِاسْتِيفَاءُ لِيَحْصُلَ الزَّجْرُ، وَالْفَرْضُ أَنْ لَا قُدْرَةَ عَلَيْهِ، وَإِذَا خَرَجَ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا لِلْإِيجَابِ حَالَ وُجُودِهِ لَمْ يَنْقَلِبْ مُوجِبًا لَهُ حَالَ عَدَمِهِ.
وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ إِذَا زَنَى فِي عَسْكَرٍ لِأَمِيرِهِ وِلَايَةُ إِقَامَةِ الْحَدِّ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُقِيمُ عَلَيْهِ حَدَّ الزِّنَى؛ لِأَنَّهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَالْقُدْرَةُ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ خَرَجَ مِنَ الْعَسْكَرِ فَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَزَنَى ثُمَّ عَادَ إِلَى الْعَسْكَرِ فَإِنَّهُ لَا يُقِيمُهُ، وَكَذَا لَوْ زَنَى فِي الْعَسْكَرِ وَالْعَسْكَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي أَيَّامِ الْمُحَارَبَةِ قَبْلَ الْفَتْحِ فَإِنَّهُ يُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ.وَهَذَا الْحُكْمُ خَاصٌّ بِمَا إِذَا كَانَ فِي الْعَسْكَرِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ إِقَامَةِ الْحُدُودِ، بِخِلَافِ أَمِيرِ الْعَسْكَرِ أَوِ السَّرِيَّةِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا فَوَّضَ لَهُمَا تَدْبِيرَ الْحَرْبِ لَا إِقَامَةَ الْحُدُودِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلْإِمَامِ، وَوِلَايَةُ الْإِمَامِ مُنْقَطِعَةٌ ثَمَّةَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ إِنْ لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً مِنْ نَحْوِ رِدَّةِ الْمَحْدُودِ وَالْتِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مَنْ أَتَى حَدًّا فِي الْغَزْوِ لَمْ يُسْتَوْفَ مِنْهُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، لِمَا رَوَى جُنَادَةُ بْنُ أُمَيَّةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ بُسْرِ بْنِ أَرْطَاةَ فِي الْبَحْرِ، فَأُتِيَ بِسَارِقٍ يُقَالُ لَهُ: مَصْدَرٌ، قَدْ سَرَقَ بُخْتِيَّةً، فَقَالَ: قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي السَّفَرِ» وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَطَعْتُهُ.
وَنَقَلُوا إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ مَتَى رَجَعَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعُمُومِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ، وَإِنَّمَا أُخِّرَ لِعَارِضٍ، وَقَدْ زَالَ.
وَإِذَا أَتَى حَدًّا فِي الثُّغُورِ أُقِيمَ عَلَيْهِ فِيهَا بِغَيْرِ خِلَافٍ، لِأَنَّهَا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إِلَى زَجْرِ أَهْلِهَا كَالْحَاجَةِ إِلَى زَجْرِ غَيْرِهِمْ.
5- أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُسْلِمًا:
28- اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُسْلِمًا، فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْكَافِرِ إِذَا زَنَى بِمُسْلِمَةٍ طَائِعَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ.وَيُرَدُّ إِلَى أَهْلِ مِلَّتِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ الْعُقُوبَةَ الشَّدِيدَةَ، وَتُحَدُّ الْمُسْلِمَةُ.وَإِنِ اسْتَكْرَهَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَةَ عَلَى الزِّنَى قُتِلَ.
وَقَدْ وَافَقَتِ الْمَذَاهِبُ الْأُخْرَى مَذْهَبَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمُسْتَأْمَنِ فَقَطْ.
وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ فِي الْمَذَاهِبِ نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي: فَفِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يُحَدُّ الْمُسْتَأْمَنُ سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، وَيُحَدُّ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ: يُحَدُّ الْجَمِيعُ.وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ: لَا يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ.فَإِذَا زَنَى الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ بِالْمُسْلِمَةِ أَوِ الذِّمِّيَّةِ فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ دُونَ الْحَرْبِيِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ جَمِيعًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَلَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَتَقْيِيدُ الْمَسْأَلَةِ بِالْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ زَنَى بِحَرْبِيَّةٍ مُسْتَأْمَنَةٍ لَا يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُحَدَّانِ، وَإِنْ زَنَى الْمُسْلِمُ أَوِ الذِّمِّيُّ بِالْحَرْبِيَّةِ الْمُسْتَأْمَنَةِ حُدَّ الرَّجُلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُحَدَّانِ جَمِيعًا.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُقَامُ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْمُعَاهَدِ وَالْمُسْتَأْمَنِ لِعَدَمِ الْتِزَامِهِمَا بِالْأَحْكَامِ، وَيُقَامُ عَلَى الذِّمِّيِّ لِالْتِزَامِهِ بِالْأَحْكَامِ، وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَجَمَ رَجُلًا وَامْرَأَةً مِنَ الْيَهُودِ زَنَيَا».وَكَانَا قَدْ أُحْصِنَا.قَالَ الرَّمْلِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ الْيَوْمَ لَا يُحَدُّونَ عَلَى الْمَذْهَبِ كَالْمُسْتَأْمَنِ، لِأَنَّهُمْ لَا يُجَدَّدُ لَهُمْ عَهْدٌ، بَلْ يَجْرُونَ عَلَى ذِمَّةِ آبَائِهِمْ.وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يُحَدُّونَ حَدَّ الزِّنَى، «لِأَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِامْرَأَةٍ وَرَجُلٍ مِنْهُمْ قَدْ زَنَيَا فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَرُجِمَا» وَيَلْزَمُ الْإِمَامَ إِقَامَةُ الْحَدِّ فِي زِنَى بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ؛ لِالْتِزَامِهِمْ حُكْمَنَا.وَلَا يُقَامُ حَدُّ الزِّنَى عَلَى مُسْتَأْمَنٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ حُكْمَنَا.
وَلِأَنَّ زِنَى الْمُسْتَأْمَنِ يَجِبُ بِهِ الْقَتْلُ لِنَقْضِ الْعَهْدِ، وَلَا يَجِبُ مَعَ الْقَتْلِ حَدٌّ سِوَاهُ.وَهَذَا إِذَا زَنَى بِمُسْلِمَةٍ.أَمَّا إِذَا زَنَى الْمُسْتَأْمَنُ بِغَيْرِ مُسْلِمَةٍ فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.
6- أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ نَاطِقًا:
29- اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ نَاطِقًا.فَلَا يُقَامُ حَدُّ الزِّنَى عِنْدَهُمْ عَلَى الْأَخْرَسِ مُطْلَقًا، حَتَّى وَلَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَى أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي كِتَابٍ كَتَبَهُ أَوْ إِشَارَةٍ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِالزِّنَى لَا تُقْبَلُ لِلشُّبْهَةِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ هَذَا الشَّرْطَ فَيَجِبُ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْأَخْرَسِ إِذَا زَنَى.
ثُبُوتُ الزِّنَى:
يَثْبُتُ الزِّنَى بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: بِالشَّهَادَةِ، وَالْإِقْرَارِ، وَالْقَرَائِنِ.
أ- الشَّهَادَةُ:
30- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ الزِّنَى بِالشَّهَادَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْيَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وقوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْيَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}
وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أَأُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: نَعَمْ».
وَيُشْتَرَطُ فِي الشُّهُودِ عَلَى الزِّنَى بِالْإِضَافَةِ إِلَى الشُّرُوطِ الْعَامَّةِ لِلشَّهَادَةِ (الْمَذْكُورَةِ فِي مُصْطَلَحِ شَهَادَةٍ) أَنْ تَتَوَافَرَ فِيهِمْ شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ حَتَّى يَثْبُتَ الزِّنَى، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ هِيَ:
الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: الذُّكُورَةُ:
31- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِي شُهُودِ الزِّنَى، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا رِجَالًا كُلَّهُمْ، لِلنُّصُوصِ السَّابِقَةِ.
وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الزِّنَى بِحَالٍ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْأَرْبَعَةِ اسْمٌ لِعَدَدِ الْمَذْكُورِينَ، وَيَقْتَضِي أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ بِأَرْبَعَةٍ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأَرْبَعَةَ إِذَا كَانَ بَعْضُهُمْ نِسَاءً لَا يُكْتَفَى بِهِمْ، وَأَنَّ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُ خَمْسَةٌ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَا مَدْخَلَ لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا أَرْبَعَةً:
32- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزِّنَى لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ، لِلنُّصُوصِ السَّابِقَةِ؛ وَلِأَنَّ الزِّنَى مِنْ أَغْلَظِ الْفَوَاحِشِ فَغُلِّظَتِ الشَّهَادَةُ فِيهِ لِيَكُونَ أَسْتَرَ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَمُلُوا أَرْبَعَةً حُدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكْمُلُوا فَهُمْ قَذَفَةٌ، وَعَلَيْهِمْ حَدُّ الْقَذْفِ، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْيَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وَلِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- حَدَّ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالزِّنَى.وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ، وَلِئَلاَّ يَتَّخِذَ صُورَةَ الشَّهَادَةِ ذَرِيعَةً إِلَى الْوَقِيعَةِ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ.
وَعِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي الْمَذْهَبِ، أَنَّهُ لَا يُجْلَدُ الشُّهُودُ إِذَا نَقَصَ عَدَدُهُمْ عَنْ أَرْبَعَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ جَاءُوا شَاهِدِينَ لَا هَاتِكِينَ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ:
33- اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَى أَنْ تَكُونَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ شَهِدَ بَعْضُ الْأَرْبَعَةِ فِي مَجْلِسٍ، وَبَعْضُهُمْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ.كَمَا اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنْ يَأْتِيَ الشُّهُودُ مُجْتَمِعِينَ إِلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعُوا خَارِجَ مَجْلِسِ الْقَاضِي وَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَهُمْ مُتَفَرِّقُونَ وَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ، أَمَّا لَوْ كَانُوا قُعُودًا فِي مَوْضِعِ الشُّهُودِ فَقَامَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ وَشَهِدَ، فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ بَعْدَ إِتْيَانِهِمْ مَحَلَّ الْحَاكِمِ جَمِيعًا فَإِنَّهُمْ يُفَرَّقُونَ وُجُوبًا لِيَسْأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَتِهِ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا أَوْ بَعْضُهُمْ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَحُدُّوا.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَابِلَةُ إِتْيَانَهُمْ مُجْتَمِعِينَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَأْتُوا مُتَفَرِّقِينَ لِقِصَّةِ الْمُغِيرَةِ، فَإِنَّهُمْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ، وَسُمِعَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَإِنَّمَا حُدُّوا لِعَدَمِ كَمَالِهَا.عَلَى أَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُمْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ جَاءَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ أَنْ قَامَ الْحَاكِمُ مِنْ مَجْلِسِهِ فَهُمْ قَذَفَةٌ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَلَا صَحِيحَةٌ، وَعَلَيْهِمُ الْحَدُّ.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ هَذَا الشَّرْطَ فَيَسْتَوِي عِنْدَهُمْ أَنْ يَأْتِيَ الشُّهُودُ مُتَفَرِّقِينَ أَوْ مُجْتَمِعِينَ، وَأَنْ تُؤَدَّى الشَّهَادَةُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مَجْلِسٍ، لقوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}.وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَجْلِسَ.وَقَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ}.وَلِأَنَّ كُلَّ شَهَادَةٍ مَقْبُولَةٌ إِنِ اتَّفَقَتْ، تُقْبَلُ إِذَا افْتَرَقَتْ فِي مَجَالِسَ، كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: تَفْصِيلُ الشَّهَادَةِ:
34- يُشْتَرَطُ فِي شَهَادَةِ الزِّنَى التَّفْصِيلُ، فَيَصِفُ الشُّهُودُ كَيْفِيَّةَ الزِّنَى، فَيَقُولُونَ: رَأَيْنَاهُ مُغَيِّبًا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا، أَوْ غَيَّبَ حَشَفَتَهُ أَوْ قَدْرَهَا- إِنْ كَانَ مَقْطُوعَهَا- فِي فَرْجِهَا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، أَوِ الرِّشَاءِ فِي الْبِئْرِ، لِأَنَّهُ إِذَا اعْتَبَرَ التَّصْرِيحَ فِي الْإِقْرَارِ كَانَ اعْتِبَارُهُ فِي الشَّهَادَةِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَعْتَقِدُ الشَّاهِدُ مَا لَيْسَ بِزِنًى زِنًى، فَاعْتُبِرَ ذِكْرُ صِفَتِهِ.كَمَا يُبَيِّنُ الشُّهُودُ كَيْفِيَّتَهُمَا مِنَ اضْطِجَاعٍ أَوْ جُلُوسٍ أَوْ قِيَامٍ، أَوْ هُوَ فَوْقَهَا أَوْ تَحْتَهَا.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا سَأَلَهُمُ الْقَاضِي فَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّهُمَا زَنَيَا، فَإِنَّهُ لَا يَحُدُّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ وَلَا الشُّهُودَ.وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الْمَرْأَةِ، فَلَوْ شَهِدُوا بِأَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُونَهَا لَمْ يُحَدَّ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ، بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ.
كَمَا لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الْبَلَدِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَكَذَا تَعْيِينُ الْمَكَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، كَكَوْنِهَا فِي رُكْنِ الْبَيْتِ الشَّرْقِيِّ أَوِ الْغَرْبِيِّ، أَوْ وَسَطِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الْمَكَانِ فِي الْبَيْتِ الْوَاحِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الشُّهُودُ فِيهِ حُدَّ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ لِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ حَقِيقَةً وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ فِي زَاوِيَةٍ وَالِانْتِهَاءُ فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى بِالِاضْطِرَابِ، أَوْ لِأَنَّ الْوَاقِعَ فِي وَسَطِ الْبَيْتِ فَيَحْسِبُهُ مَنْ فِي الْمُقَدَّمِ فِي الْمُقَدَّمِ، وَمَنْ فِي الْمُؤَخَّرِ فِي الْمُؤَخَّرِ فَيَشْهَدُ بِحَسَبِ مَا عِنْدَهُ، وَهَذَا فِي الْبَيْتِ الصَّغِيرِ، أَمَّا فِي الْبَيْتِ الْكَبِيرِ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّعْيِينِ.
وَلَا بُدَّ أَيْضًا مِنْ تَعْيِينِ الزَّمَانِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، لِتَكُونَ الشَّهَادَةُ مِنْهُمْ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَا شَهِدَ بِهِ أَحَدُهُمْ غَيْرَ مَا شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ.فَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَى فَشَهِدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ أَنَّهُ زَنَى بِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا يَوْمَ السَّبْتِ فَإِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.وَكَذَا لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِيمَا لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي سَاعَةٍ أُخْرَى.
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَصَالَةُ الشَّهَادَةِ:
35- اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- فِي شُهُودِ الزِّنَى الْأَصَالَةَ، فَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَى؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السِّتْرِ وَالدَّرْءِ بِالشُّبُهَاتِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيهَا شُبْهَةٌ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا اجْتِمَاعُ الْغَلَطِ وَالسَّهْوِ وَالْكَذِبِ فِي شُهُودِ الْفَرْعِ مَعَ احْتِمَالِ ذَلِكَ فِي شُهُودِ الْأَصْلِ، وَهَذَا احْتِمَالٌ زَائِدٌ لَا يُوجَدُ فِي شُهُودِ الْأَصْلِ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ إِنَّمَا تُقْبَلُ لِلْحَاجَةِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهَا فِي الْحَدِّ، لِأَنَّ سِتْرَ صَاحِبِهِ أَوْلَى مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا الشَّرْطَ فَتَجُوزُ عِنْدَهُمُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَى بِشَرْطِ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ كُلِّ شَاهِدٍ أَصِيلٍ شَاهِدَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْقُلَ الشَّاهِدَانِ عَنْ شَاهِدٍ وَاحِدٍ أَوْ عَنْ شَاهِدَيْنِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الشَّاهِدَيْنِ النَّاقِلَيْنِ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُهُمَا شَاهِدًا أَصِيلًا، فَيَجُوزُ فِي الزِّنَى أَنْ يَشْهَدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ، أَوْ يَشْهَدَ كُلُّ اثْنَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ، أَوْ شَهَادَةِ اثْنَيْنِ، أَوْ يَشْهَدَ ثَلَاثَةٌ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَيَشْهَدَ اثْنَانِ عَلَى شَهَادَةِ الرَّابِعِ، وَإِذَا نَقَلَ اثْنَانِ عَنْ ثَلَاثَةٍ وَعَنِ الرَّابِعِ اثْنَانِ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَشْهُورِ خِلَافًا لِابْنِ الْمَاجِشُونِ؛ وَوَجْهُ عَدَمِ صِحَّتِهَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْفَرْعُ إِلاَّ حَيْثُ تَصِحُّ شَهَادَةُ الْأَصْلِ لَوْ حَضَرَ، وَالرَّابِعُ الَّذِي نَقَلَ عَنْهُ الِاثْنَانِ الْآخَرَانِ لَوْ حَضَرَ مَا صَحَّتْ شَهَادَتُهُ مَعَ الِاثْنَيْنِ النَّاقِلَيْنِ عَنِ الثَّلَاثَةِ لِنَقْصِ الْعَدَدِ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ عَدَمَ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ عَدَدَ الْفَرْعِ فِيهَا نَاقِصٌ عَنْ عَدَدِ الْأَصْلِ حَيْثُ نَقَلَ عَنِ الثَّلَاثَةِ اثْنَانِ فَقَطْ، وَالْفَرْعُ لَا يَنْقُصُ عَنِ الْأَصْلِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ وَنِيَابَتِهِ مَنَابَهُ.كَمَا يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ التَّلْفِيقُ بَيْنَ شُهُودِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، كَأَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ عَلَى رُؤْيَةِ الزِّنَى، وَيَنْقُلَ اثْنَانِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الِاثْنَيْنِ الْآخَرَيْنِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
285-موسوعة الفقه الكويتية (سرقة 4)
سَرِقَةٌ -4الِاشْتِرَاكُ فِي الْأَخْذِ:
50- يُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ فِي مَسَائِلِ الِاشْتِرَاكِ فِي السَّرِقَةِ بَيْنَ الشَّرِيكِ الْمُبَاشِرِ وَالشَّرِيكِ بِالتَّسَبُّبِ فَأَمَّا الشَّرِيكُ الْمُبَاشِرُ فَهُوَ الَّذِي يُبَاشِرُ أَحَدَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تُكَوِّنُ الْأَخْذَ التَّامَّ، وَهِيَ: إِخْرَاجُ الْمَسْرُوقِ مِنْ حِرْزِهِ وَمِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَإِدْخَالُهُ فِي حِيَازَةِ السَّارِقِ.
وَأَمَّا الشَّرِيكُ بِالتَّسَبُّبِ فَهُوَ الَّذِي لَا يُبَاشِرُ أَحَدَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمُكَوِّنَةِ لِلْأَخْذِ الْمُتَكَامِلِ، وَإِنَّمَا تَقْتَصِرُ فِعْلُهُ عَلَى مَدِّ يَدِ الْعَوْنِ لِلسَّارِقِ، بِأَنْ يُرْشِدَهُ إِلَى مَكَانِ الْمَسْرُوقَاتِ، أَوْ بِأَنْ يَقِفَ خَارِجَ الْحِرْزِ لِيَمْنَعَ اسْتِغَاثَةَ الْجِيرَانِ، أَوْ لِيَنْقُلَ الْمَسْرُوقَاتِ بَعْدَ أَنْ يُخْرِجَهَا السَّارِقُ مِنَ الْحِرْزِ.
وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ إِلاَّ عَلَى الْمُبَاشِرِ، أَمَّا الْمُتَسَبِّبُ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ.
وَيَبْدُو مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ فِي الِاشْتِرَاكِ: أَنَّهُمْ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الشَّرِيكِ وَالْمُعَيَّنِ فَيَعْتَبِرُونَ الشَّرِيكَ هُوَ الَّذِي يَقُومُ مَعَ غَيْرِهِ بِعَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُكَوِّنَةِ لِلسَّرِقَةِ، وَخَاصَّةً: هَتْكُ الْحِرْزِ، وَإِخْرَاجُ الْمَسْرُوقِ مِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَإِدْخَالُهُ فِي حِيَازَةِ السَّارِقِ، أَمَّا الْمُعَيَّنُ فَهُوَ مَنْ يُسَاعِدُ السَّارِقَ، فِي دَاخِلِ الْحِرْزِ أَوْ فِي خَارِجِهِ، وَلَكِنْ عَمَلُهُ لَا يَصِلُ إِلَى دَرَجَةٍ يُمْكِنُ مَعَهَا نِسْبَةُ السَّرِقَةِ إِلَيْهِ
وَكَانَ هَذَا أَسَاسَ اخْتِلَافِهِمْ فِي تَطْبِيقِ الْحَدِّ عَلَى بَعْضِ الشُّرَكَاءِ دُونَ الْبَعْضِ، وَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي:
1- الْحَنَفِيَّةُ:
51- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ كُلَّ مَنْ دَخَلَ الْحِرْزَ يُعْتَبَرُ شَرِيكًا فِي السَّرِقَةِ سَوَاءٌ قَامَ بِعَمَلٍ مَادِّيٍّ، كَأَنْ وَضَعَ الْمَسْرُوقَ عَلَى ظَهْرِ زَمِيلِهِ فَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحِرْزِ، أَوْ قَامَ بِعَمَلٍ مَعْنَوِيٍّ، كَأَنْ وَقَفَ لِلْمُرَاقَبَةِ أَوْ لِلْإِشْرَافِ عَلَى نَقْلِ الْمَسْرُوقِ مِنَ الْحِرْزِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْجَمِيعِ إِذَا بَلَغَ نَصِيبُ كُلٍّ مِنْهُمْ نِصَابًا، أَمَّا إِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ لَا تَكْفِي لِيُصِيبَ كُلُّ وَاحِدٍ نِصَابًا، فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ، بَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى التَّعْزِيرِ.وَيَنْطَبِقُ نَفْسُ الْحُكْمِ عَلَى الشُّرَكَاءِ إِذَا أَخْرَجَ بَعْضُهُمْ مَا قِيمَتُهُ نِصَابًا فَأَكْثَرَ، وَأَخْرَجَ الْبَعْضُ الْآخَرُ مَا قِيمَتُهُ دُونَ النِّصَابِ، فَإِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ مَا يَكْفِي لأَنْ يَخُصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابٌ، قُطِعُوا جَمِيعًا، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ حَظُّ كُلِّ وَاحِدٍ نِصَابًا، قُطِعَ مَنْ أَخْرَجَ نِصَابًا، وَعُزِّرَ الْآخَرُونَ.
أَمَّا إِذَا دَخَلَ الْحِرْزَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ، وَبَقِيَ الْآخَرُ خَارِجَهُ، ثُمَّ أَخْرَجَ مَنْ بِالدَّاخِلِ يَدَهُ بِالْمَسْرُوقِ إِلَى خَارِجِ الْحِرْزِ فَتَنَاوَلَهَا شَرِيكُهُ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَرَى أَنَّ الْأَخْذَ غَيْرُ تَامٍّ بِالنِّسْبَةِ لِلدَّاخِلِ، لِأَنَّهُ أَخْرَجَ الْمَسْرُوقَ مِنَ الْحِرْزِ وَمِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُدْخِلْهُ فِي حِيَازَةِ نَفْسِهِ، بَلْ فِي حِيَازَةِ الْخَارِجِ، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.وَيَرَى كَذَلِكَ أَنَّ الْأَخْذَ غَيْرُ تَامٍّ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ دَخَلَ فِي حِيَازَتِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ لَا مِنْ حِرْزِهِ وَلَا مِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَيْضًا.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ الْأَخْذَ تَامٌّ بِالنِّسْبَةِ لِلدَّاخِلِ دُونَ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ دَخَلَ فِي حِيَازَتِهِ، حَيْثُ أَقَامَ شَرِيكَهُ الْخَارِجَ مَقَامَهُ عِنْدَمَا سَلَّمَهُ الْمَسْرُوقَ.وَتَفْصِيلُ الْحُكْمِ فِي الصُّوَرِ الَّتِي يُمْكِنُ حُدُوثُهَا يُبْنَى عَلَى مَسْأَلَةِ الْهَتْكِ الْمُتَكَامِلِ وَمَسْأَلَةِ «الْيَدِ الْمُعْتَرِضَةِ» الَّتِي سَبَقَ بَيَانُهُمَا.فِي ف 43، 47.
2- الْمَالِكِيَّةُ:
52- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ صِفَةَ الشَّرِيكِ تُطْلَقُ عَلَى مَنْ يُعِينُ السَّارِقَ إِذَا قَامَ بِعَمَلٍ مَادِّيٍّ لَا بُدَّ مِنْهُ لِإِخْرَاجِ الْمَسْرُوقِ مِنَ الْحِرْزِ، سَوَاءٌ حَدَثَتِ الْإِعَانَةُ وَهُوَ فِي دَاخِلِ الْحِرْزِ، بِأَنْ وَضَعَ الْمَسْرُوقَ عَلَى ظَهْرِ زَمِيلِهِ، فَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحِرْزِ، أَوْ حَدَثَتْ وَهُوَ فِي خَارِجِ الْحِرْزِ، بِأَنْ مَدَّ يَدَهُ دَاخِلَ الْحِرْزِ وَأَخَذَ الْمَسْرُوقَ مِنْ يَدِ زَمِيلِهِ الَّذِي فِي الدَّاخِلِ، بِحَيْثُ تُصَاحِبُ فِعْلَاهُمَا فِي حَالِ الْإِخْرَاجِ، أَوْ بِأَنْ يَرْبِطَ الدَّاخِلُ الْمَسْرُوقَ بِحَبْلٍ وَنَحْوِهِ فَيَجُرُّهُ الْخَارِجُ، بِحَيْثُ لَا يُعْتَبَرُ الدَّاخِلُ مُسْتَقِلًّا بِالْإِخْرَاجِ.أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْإِعَانَةُ بِأَمْرٍ مَعْنَوِيٍّ كَأَنْ يَدْخُلَ الْحِرْزَ أَوْ يَبْقَى خَارِجَهُ لِيَحْمِيَ السَّارِقَ أَوْ يُرْشِدَهُ إِلَى مَكَانِ الْمَسْرُوقِ، فَلَا يُعْتَبَرُ شَرِيكًا فِي السَّرِقَةِ، وَمِنْ ثَمَّ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، بَلْ يُعَزَّرُ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَسْرُوقَ لَمْ يَخْرُجْ إِلاَّ بِعَمَلٍ جَمَاعِيٍّ، وَجَبَ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى كُلِّ مَنْ شَارَكَ فِي هَذَا الْعَمَلِ، إِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ نِصَابًا وَاحِدًا، سَوَاءٌ بَاشَرَ السَّرِقَةَ، بِأَنْ تَعَاوَنَ مَعَ زَمِيلِهِ فِي حَمْلِ الْمَسْرُوقِ حَتَّى خَرَجَا بِهِ مِنَ الْحِرْزِ، أَوْ لَمْ يُبَاشِرِ السَّرِقَةَ، بِأَنْ وَضَعَ الْمَسْرُوقَ عَلَى ظَهْرِ صَاحِبِهِ فَخَرَجَ بِهِ وَحْدَهُ، مَا دَامَ كُلُّ وَاحِدٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِإِخْرَاجِ الْمَسْرُوقِ.أَمَّا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ تَعَاوُنٌ بِأَنِ اسْتَقَلَّ كُلُّ وَاحِدٍ بِإِخْرَاجِ بَعْضِ الْمَسْرُوقِ، فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ إِلاَّ عَلَى مَنْ أَخْرَجَ نِصَابًا كَامِلاً، وَذَلِكَ لِعَدَمِ ظُهُورِ التَّعَاوُنِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ لِإِثْبَاتِ الِاشْتِرَاكِ فِي السَّرِقَةِ.
3- الشَّافِعِيَّةُ:
53- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ صِفَةَ الشَّرِيكِ لَا تُطْلَقُ إِلاَّ عَلَى مَنْ قَامَ بِفِعْلٍ مُبَاشِرٍ مَعَ غَيْرِهِ، تَرَتَّبَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ الْمَسْرُوقِ مِنَ الْحِرْزِ، كَأَنْ يَتَعَاوَنَ السَّارِقُونَ فِي حَمْلِ شَيْءٍ ثَقِيلٍ وَيُخْرِجُونَهُ مِنَ الْحِرْزِ، أَوْ يَحْمِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئًا وَيَخْرُجَ بِهِ.وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَنْطَبِقُ وَصْفُ السَّارِقِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ يَظْهَرُ أَثَرُ الِاشْتِرَاكِ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا إِذَا خَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابٌ مِنْ قِيمَةِ مَا أَخْرَجُوهُ، دُونَ نَظَرٍ إِلَى قِيمَةِ مَا أَخْرَجَهُ كُلٌّ مِنْهُمْ.أَمَّا إِذَا كَانَ كُلُّ سَارِقٍ يَسْتَقِلُّ بِفِعْلِهِ وَقَصْدِهِ عَنِ الْآخَرِينَ، فَلَا اشْتَرَاكَ بَيْنَهُمْ، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ إِلاَّ عَلَى مَنْ يَخْرُجُ نِصَابًا كَامِلاً، وَيُعَزَّرُ الْآخَرُونَ.
وَلَا يُعْتَبَرُ شَرِيكًا- عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- مَنْ يُعِينُ السَّارِقَ، سَوَاءٌ قَامَ بِعَمَلٍ مَادِّيٍّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ، وَسَوَاءٌ حَدَثَتِ الْإِعَانَةُ مِنْ دَاخِلِ الْحِرْزِ أَوْ مِنْ خَارِجِهِ، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ، بَلْ يُعَزَّرُ.
4- الْحَنَابِلَةُ:
54- يَرَى الْحَنَابِلَةُ إِطْلَاقَ صِفَةِ الشَّرِيكِ عَلَى مَنْ يُعِينُ السَّارِقَ بِفِعْلٍ مَادِّيٍّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ، قَامَ بِهِ وَهُوَ دَاخِلُ الْحِرْزِ أَوْ كَانَ خَارِجَهُ، فَإِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ نِصَابًا وَاحِدًا، أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى كُلِّ مَنِ اشْتَرَكَ فِي السَّرِقَةِ، سَوَاءٌ كَانَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْإِخْرَاجِ، أَوْ كَانَ بِإِخْرَاجِ الْبَعْضِ وَإِعَانَةِ الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَسَوَاءٌ حَدَثَتِ الْإِعَانَةُ مِنَ الدَّاخِلِ أَوْ مِنَ الْخَارِجِ، بِفِعْلٍ مَادِّيٍّ كَالْإِعَانَةِ عَلَى حَمْلِ الْمَسْرُوقِ، أَوْ بِفِعْلٍ مَعْنَوِيٍّ كَالْإِرْشَادِ إِلَى مَكَانِ الْمَسْرُوقِ، أَوْ لَمْ يَأْتِ بِعَمَلٍ مَا، كَمَنْ دَخَلَ الْحِرْزَ مَعَ السَّارِقِ لِتَنْبِيهِهِ إِذَا انْكَشَفَ أَمْرُهُ.لِأَنَّ فِعْلَ السَّرِقَةِ يُضَافُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ.
إِثْبَاتُ السَّرِقَةِ:
55- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ السَّرِقَةَ تَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ.وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ أَنَّ السَّرِقَةَ تَثْبُتُ بِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ يَجُوزُ إِثْبَاتُهَا بِالْقَرَائِنِ.
أَوَّلاً- الْإِقْرَارُ:
56- تَثْبُتُ السَّرِقَةُ بِإِقْرَارِ السَّارِقِ إِذَا كَانَ مُكَلَّفًا بِأَنْ كَانَ بَالِغًا عَاقِلاً، عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي سَبَقَ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ السَّارِقَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا فِي إِقْرَارِهِ، فَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِحَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، فَلَا يُعْتَدُّ بِهَذَا الْإِقْرَارِ.وَقَدْ أَفْتَى بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ بِصِحَّةِ إِقْرَارِ السَّارِقِ مَعَ الْإِكْرَاهِ لِأَنَّ السُّرَّاقَ قَدْ غَدَوْا لَا يُقِرُّونَ طَائِعِينَ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُعْمَلُ بِإِقْرَارِ الْمُتَّهَمِ مَعَ الْإِكْرَاهِ إِنْ ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التُّهَمِ.
وَيَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ بِالسَّرِقَةِ نَاطِقًا، وَلِهَذَا فَإِنَّهُمْ لَا يَعْتَدُّونَ بِإِشَارَةِ الْأَخْرَسِ، وَلَوْ كَانَتْ مُفْهِمَةً؛ لِاحْتِمَالِ إِشَارَتِهِ الْإِقْرَارَ وَغَيْرَهُ، وَهَذَا يُورِثُ شُبْهَةً تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ.وَيَرَى الْجُمْهُورُ صِحَّةَ إِقْرَارِهِ، إِنْ كَانَتْ إِشَارَتُهُ مُفْهِمَةً قَبْلَ هَذَا الْإِقْرَارِ.
وَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ كَافِيًا لِإِقَامَةِ الْحَدِّ، إِلاَّ إِذَا كَانَ صَرِيحًا وَتَبَيَّنَ الْقَاضِي مِنْهُ تَوَافُرَ أَرْكَانِ السَّرِقَةِ، بِحَيْثُ لَا تَبْقَى مَعَهُ أَيُّ شُبْهَةٍ.
وَاشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَصْدُرَ الْإِقْرَارُ عِنْدَ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ إِقَامَةِ الْحَدِّ، فَلَا يُعْتَدُّ بِالْإِقْرَارِ الصَّادِرِ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَلَا بِالْإِقْرَارِ قَبْلَ الدَّعْوَى. 57- وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَدَدِ مَرَّاتِ الْإِقْرَارِ الَّتِي تُوجِبُ إِقَامَةَ حَدِّ السَّرِقَةِ: فَالْحَنَفِيَّةُ- مَا عَدَا أَبَا يُوسُفَ- وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَعَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، يَكْتَفُونَ بِإِقْرَارِ السَّارِقِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- «قَطَعَ سَارِقَ خَمِيصَةِ صَفْوَانَ وَسَارِقَ الْمِجَنِّ»، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدَهُمَا تَكَرَّرَ مِنْهُ الْإِقْرَارُ؛ وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْحُقُوقِ يَكْتَفِي بِإِيرَادِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ إِخْبَارٌ تَرَجَّحَ فِيهِ جَانِبُ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ، فَلَنْ يَزِيدَهُ التَّكْرَارُ رُجْحَانًا.أَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ، وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَالْحَنَابِلَةُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، فَإِنَّهُمْ يُوجِبُونَ صُدُورَ الْإِقْرَارِ مَرَّتَيْنِ، فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَإِنْ أَقَرَّ السَّارِقُ مَرَّةً وَاحِدَةً، لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنَّمَا يُعَزَّرُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ.لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِلِصٍّ قَدِ اعْتَرَفَ، وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- : مَا أَخَالُكَ سَرَقْتَ فَقَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم- مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَلَمْ يَقْطَعْهُ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ تَكَرَّرَ إِقْرَارُهُ»، فَلَوْ كَانَ الْقَطْعُ يَجِبُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً لَمَا أَخَّرَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- .
58- وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْخُصُومَةِ مَعَ الْإِقْرَارِ: فَالْحَنَفِيَّةُ- مَا عَدَا أَبَا يُوسُفَ- وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، يَشْتَرِطُونَ لِقَبُولِ الْإِقْرَارِ مُطَالَبَةَ مَنْ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالْمَسْرُوقِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ مُطَالَبَتِهِ يُورِثُ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مَالٍ مِنْ مَجْهُولٍ أَوْ مِنْ غَائِبٍ.
وَيَرَى أَبُو يُوسُفَ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى عَدَمَ تَوَقُّفِ إِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ عَلَى دَعْوَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، لِعُمُومِ آيَةِ السَّرِقَةِ، وَعَدَمِ وُجُودِ مَا يَصْلُحُ مُخَصِّصًا لِهَذَا الْعُمُومِ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يُقِرُّ بِسَرِقَةِ نِصَابٍ مِنْ مَجْهُولٍ أَوْ غَائِبٍ إِذَا ثَبَتَتِ السَّرِقَةُ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ لَا يُتَّهَمُ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ.
ثَانِيًا- الْبَيِّنَةُ:
59- تَثْبُتُ السَّرِقَةُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ تَتَوَافَرُ فِيهِمَا شُرُوطُ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَشُرُوطُ أَدَائِهَا. وَعَلَى ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ وَقْتَ الْأَدَاءِ ذَكَرًا، مُسْلِمًا، بَالِغًا، عَاقِلاً، حُرًّا بَصِيرًا، عَدْلاً، مُخْتَارًا.
فَلَا يُقَامُ حَدُّ السَّرِقَةِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ أَوْ مَعَ رِجَالٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَلَوْ مَعَ يَمِينِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَة).
إِذَا تَوَافَرَتِ الشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ، أَدَّى الشَّاهِدُ شَهَادَتَهُ عَلَى السَّرِقَةِ بِدُونِ يَمِينٍ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الشَّهَادَةِ يَتَضَمَّنُ الْيَمِينَ؛ وَلِأَنَّ تَحْلِيفَ الشَّاهِدِ يَتَنَافَى مَعَ إِكْرَامِهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- فِي قَوْلِهِ: «أَكْرِمُوا الشُّهُودَ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِي بِهِمُ الْحُقُوقَ».وَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ضَرُورَةَ تَحْلِيفِ الشَّاهِدِ الْيَمِينَ لِلتَّأَكُّدِ مِنْ صِدْقِهِ؛ وَلِمَا فِيهِ مِنْ عُمُومِ الْمَصْلَحَةِ، وَتَحْلِيفُ الشَّاهِدِ لَا يَتَعَارَضُ مَعَ أَمْرِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم- بِإِكْرَامِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْطَوِي عَلَى إِهَانَةٍ لَهُ.
ثَالِثًا: الْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ:
60- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ لَا يُقَامُ بِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ، فَإِنِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ سَرِقَةً يَجِبُ فِيهَا الْقَطْعُ، فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ السَّرِقَةَ، فَطَلَبَ الْمُدَّعِي مِنْهُ أَنْ يَحْلِفَ لِإِثْبَاتِ بَرَاءَتِهِ، فَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ، رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِنْ حَلَفَ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سَرَقَ مَا ادَّعَاهُ، ثَبَتَ الْمَالُ الْمَسْرُوقُ بِهَذِهِ الْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ إِلاَّ بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّ السَّرِقَةَ تَثْبُتُ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي الْمَرْدُودَةِ، فَيَثْبُتُ الْمَالُ وَيُقَامُ الْحَدُّ، لِأَنَّ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ كَالْبَيِّنَةِ أَوْ كَإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِلَا خِلَافٍ.وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ: أَنَّ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ يَثْبُتُ بِهَا الْمَالُ، وَلَا يُقَامُ بِهَا الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِالْإِقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ.وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ، كَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ وَالرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ وَصَاحِبُ الْحَاوِي الصَّغِيرِ، وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ: إِنَّهُ الْمَذْهَبُ وَالصَّوَابُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ.وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ: إِنَّهُ الْمُعْتَمَدُ، لِنَصِّ الْأُمِّ، وَفِي الْمُخْتَصَرِ: لَا يَثْبُتُ الْقَطْعُ إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ أَوْ إِقْرَارِ السَّارِقِ.
رَابِعًا- الْقَرَائِنُ:
61- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِالْإِقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ.وَيَرَى بَعْضُهُمْ جَوَازَ ثُبُوتِ السَّرِقَةِ، وَمِنْ ثَمَّ إِقَامَةُ الْحَدِّ وَضَمَانُ الْمَالِ، بِالْقَرَائِنِ وَالْأَمَارَاتِ إِذَا كَانَتْ ظَاهِرَةَ الدَّلَالَةِ بِاعْتِبَارِهَا مِنَ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ، الَّتِي تُخْرِجُ الْحَقَّ مِنَ الظَّالِمِ الْفَاجِرِ.قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ «لَمْ يَزَلِ الْأَئِمَّةُ وَالْخُلَفَاءُ يَحْكُمُونَ بِالْقَطْعِ إِذَا وُجِدَ الْمَالُ الْمَسْرُوقُ مَعَ الْمُتَّهَمِ، وَهَذِهِ الْقَرِينَةُ أَقْوَى مِنَ الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ فَإِنَّهُمَا خَبَرَانِ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِمَا الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ وَوُجُودُ الْمَالِ مَعَهُ نَصٌّ صَرِيحٌ لَا تَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ شُبْهَةٌ».
حَدُّ السَّرِقَةِ:
62- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ السَّارِقِ قَطْعُ يَدِهِ لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.وَهُوَ الْحَدُّ الَّذِي أَقَامَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- عَلَى مَنْ سَرَقَ فِي عَهْدِهِ، كَمَا تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ.وَجَرَى عَلَيْهِ عَمَلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ دُونَ اعْتِرَاضٍ عَلَيْهِمْ.وَأَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أُمُورٍ تَتَعَلَّقُ بِمَحَلِّ الْقَطْعِ، وَمِقْدَارِهِ، وَكَيْفِيَّتِهِ، وَتَكَرُّرِهِ، مَعَ تَكَرُّرِ السَّرِقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
1- مَحَلُّ الْقَطْعِ:
63- مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ- عِنْدَ الْفُقَهَاءِ- وُجُوبُ قَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى، إِذَا ثَبَتَتِ السَّرِقَةُ الْأُولَى.لِمَا رُوِيَ مِنْ «أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- قَطَعَ الْيَدَ الْيُمْنَى»، وَكَذَلِكَ فَعَلَ الْأَئِمَّةُ مِنْ بَعْدِهِ، وَلِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا.وَهِيَ قِرَاءَةٌ مَشْهُورَةٌ عَنْهُ، وَلَمْ يُجْمَعْ عَلَى أَنَّهَا قُرْآنٌ لِمُخَالَفَتِهَا لِلْمُصْحَفِ الْإِمَامِ، فَكَانَتْ خَبَرًا مَشْهُورًا، فَيُقَيِّدُ إِطْلَاقَ النَّصِّ.وَلَوْ كَانَ الْإِطْلَاقُ مُرَادًا، وَالِامْتِثَالُ لِلْأَمْرِ فِي الْآيَةِ يَحْصُلُ بِقَطْعِ الْيَمِينِ أَوِ الشِّمَالِ، لَمَا قَطَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- إِلاَّ الْيَسَارَ عَلَى عَادَتِهِ مِنْ طَلَبِ الْأَيْسَرِ لَهُمْ مَا أَمْكَنَ جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِ - صلى الله عليه وسلم- فِي: «أَنَّهُ مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا».
فَإِذَا كَانَتْ يَدُ السَّارِقِ الْيُمْنَى غَيْرَ صَحِيحَةٍ، بِأَنْ كَانَتْ شَلاَّءَ أَوْ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَصَابِعِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَحَلِّ الْقَطْعِ.
فَالْحَنَفِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّ الْقَطْعَ يَتَعَلَّقُ أَوَّلاً بِالْيَدِ الْيُمْنَى، لِعُمُومِ آيَةِ السَّرِقَةِ فَإِنَّهَا لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ الصَّحِيحَةِ وَغَيْرِهَا.لِأَنَّهُ إِذَا تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالسَّلِيمَةِ فَإِنَّهَا تُقْطَعُ، فَلأَنْ تُقْطَعَ الْمَعِيبَةُ مِنْ بَابِ أَوْلَى.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ قَطْعَ الْمَعِيبَةِ لَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْحَدِّ إِزَالَةُ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى السَّرِقَةِ، وَالشَّلاَّءُ وَمَا فِي حُكْمِهَا لَا نَفْعَ فِيهَا فَلَا يَتَحَقَّقُ مَقْصُودُ الشَّرْعِ بِقَطْعِهَا؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهَا الَّتِي يُرَادُ إِبْطَالُهَا بَاطِلَةٌ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ.وَلِذَلِكَ يَنْتَقِلُ الْقَطْعُ إِلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يُفَصِّلُونَ الْقَوْلَ فِي قَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى إِذَا كَانَتْ مَعِيبَةً عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
يُجْزِئُ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ قَطْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى إِذَا كَانَتْ شَلاَّءَ إِلاَّ إِذَا خِيفَ مِنْ قَطْعِهَا أَلاَّ يَكُفَّ الدَّمُ، فَلَوْ قَرَّرَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَنَّ عُرُوقَهَا لَنْ تَنْسَدَّ وَأَنَّ دَمَهَا لَنْ يَجِفَّ فَلَا تُقْطَعُ، وَيُنْتَقَلُ بِالْقَطْعِ إِلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْيَدُ الْيُمْنَى قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَصَابِعِهَا، فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ قَطْعُهَا، وَلَوْ كَانَ بِهَا أُصْبُعٌ وَاحِدٌ.فَإِذَا نَقَصَتِ الْأَصَابِعُ كُلُّهَا، فَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ: الِاكْتِفَاءُ بِقَطْعِهَا؛ لِأَنَّ اسْمَ الْيَدِ يُطْلَقُ عَلَيْهَا مَعَ نُقْصَانِ الْأَصَابِعِ كُلِّهَا.وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي نَاقِصَةِ الْخَمْسِ: أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ فِي تَمَامِ الْحَدِّ، فَلَا تُقْطَعُ، وَيُنْتَقَلُ إِلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ: تَكْتَفِي أُولَاهُمَا بِقَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى وَلَوْ كَانَتْ شَلاَّءَ، إِذَا رَأَى أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَنَّهَا لَوْ قُطِعَتْ رَقَأَ دَمُهَا وَانْحَسَمَتْ عُرُوقُهَا.وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: يُمْنَعُ قَطْعُ الْيَدِ الشَّلاَّءِ؛ لِأَنَّهَا لَا نَفْعَ فِيهَا وَلَا جَمَالَ لَهَا، وَيَنْتَقِلُ الْقَطْعُ إِلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى.وَإِذَا كَانَتِ الْيَدُ الْيُمْنَى مَقْطُوعَةَ الْأَصَابِعِ فَفِي الْمَذْهَبِ رَأْيَانِ
أُوَلُهُمَا: الِاكْتِفَاءُ بِقَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى وَلَوْ ذَهَبَتْ كُلُّ أَصَابِعِهَا.
وَالثَّانِي: عَدَمُ الِاكْتِفَاءِ بِقَطْعِ الْيُمْنَى إِذَا ذَهَبَ مُعْظَمُ نَفْعِهَا، لِأَنَّهَا تَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومَةِ وَيَنْتَقِلُ الْقَطْعُ إِلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى.
64- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا لَوْ تَعَلَّقَ الْقَطْعُ بِالْيَدِ الْيُمْنَى، وَكَانَتِ الْيَدُ الْيُسْرَى قَدْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهَا، أَوْ كَانَتْ مَقْطُوعَةً فِي قِصَاصٍ أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا تُقْطَعُ الْيَدُ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّ قَطْعَهَا يُؤَدِّي إِلَى تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ كُلِّيَّةً، وَالْحَدُّ إِنَّمَا شُرِعَ زَاجِرًا لَا مُهْلِكًا.وَبِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى تَتَّفِقُ مَعَ مَا قَالَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ الْيُسْرَى مَحَلٌّ لِلْقَطْعِ أَيْضًا إِذَا تَكَرَّرَتِ السَّرِقَةُ.وَلَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ إِذَا تَعَلَّقَ الْقَطْعُ بِالرِّجْلِ الْيُسْرَى، وَكَانَتِ الرِّجْلُ الْيُمْنَى قَدْ قُطِعَتْ أَوْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهَا.
65- وَاخْتَلَفُوا كَذَلِكَ فِيمَا لَوْ تَعَلَّقَ الْقَطْعُ بِالْيَدِ الْيُمْنَى، وَكَانَتْ مَقْطُوعَةً: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى انْتِقَالِ الْقَطْعِ إِلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى إِذَا كَانَ ذَهَابُ الْيَدِ الْيُمْنَى قَدْ حَدَثَ قَبْلَ السَّرِقَةِ، أَوْ بَعْدَهَا وَقَبْلَ الْمُخَاصَمَةِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْعُضْوِ الذَّاهِبِ، فَلَا يَسْقُطُ بِذَهَابِهِ.بِخِلَافِ مَا لَوْ ذَهَبَتِ الْيَدُ الْيُمْنَى بَعْدَ الْمُخَاصَمَةِ وَقَبْلَ الْقَضَاءِ، أَوْ بَعْدَ الْمُخَاصَمَةِ وَالْقَضَاءِ، فَلَا يَنْتَقِلُ الْحَدُّ إِلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى، بَلْ يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْمُخَاصَمَةَ تُؤَدِّي إِلَى تَعَلُّقِ الْقَطْعِ بِالْيَدِ الْيُمْنَى، فَإِذَا ذَهَبَتْ سَقَطَ الْحَدُّ لِذَهَابِ مَحَلِّهِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى انْتِقَالِ الْقَطْعِ إِلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى إِذَا ذَهَبَتِ الْيَدُ الْيُمْنَى قَبْلَ السَّرِقَةِ.وَإِلَى سُقُوطِ الْحَدِّ إِذَا ذَهَبَتْ بَعْدَ السَّرِقَةِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَهَابُهَا قَبْلَ الْخُصُومَةِ أَوْ بَعْدَهَا، وَقَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ، بِآفَةٍ أَوْ جِنَايَةٍ، أَوْ قِصَاصٍ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ السَّرِقَةِ تَعَلَّقَ الْقَطْعُ بِالْيَدِ الْيُمْنَى، فَإِذَا ذَهَبَتْ زَالَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْقَطْعُ فَسَقَطَ.
2- مَوْضِعُ الْقَطْعِ وَمِقْدَارُهُ:
66- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنَّ قَطْعَ الْيَدِ يَكُونُ مِنَ الْكُوعِ، وَهُوَ مَفْصِلُ الْكَفِّ، لِأَنَّ {النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ مِنَ الْكُوعِ».وَلِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رضي الله عنهما- : إِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَمِينَهُ مِنَ الْكُوعِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعِ مِنَ الْيَدِ: الْمَنْكِبُ؛ لِأَنَّ الْيَدَ اسْمٌ لِلْعُضْوِ مِنْ أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ إِلَى الْمَنْكِبِ.وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعِ: مَفَاصِلُ الْأَصَابِعِ الَّتِي تَلِي الْكَفَّ.
وَمَوْضِعُ قَطْعِ الرِّجْلِ هُوَ مَفْصِلُ الْكَعْبِ مِنَ السَّاقِ، فَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ - رضي الله عنه- ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهُ أَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعِ: أُصُولُ أَصَابِعِ الرِّجْلِ وَبِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، لِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ عَلِيًّا - رضي الله عنه- كَانَ يَقْطَعُ مِنْ شَطْرِ الْقَدَمِ، وَيَتْرُكُ لِلسَّارِقِ عَقِبَهُ يَمْشِي عَلَيْهَا.
كَيْفِيَّةُ الْقَطْعِ.
67- مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ مُرَاعَاةُ الْإِحْسَانِ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ، لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم- : «لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ» وَعَلَى ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَخَيَّرَ الْحَاكِمُ الْوَقْتَ الْمُلَائِمَ لِلْقَطْعِ، بِحَيْثُ يَجْتَنِبُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ الشَّدِيدَيْنِ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْإِضْرَارِ بِالسَّارِقِ، وَلَا يُقِيمُ الْحَدَّ أَثْنَاءَ مَرَضٍ يُرْجَى زَوَالُهُ، وَلَا يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى الْحَامِلِ أَوِ النُّفَسَاءِ، وَلَا عَلَى الْعَائِدِ فِي السَّرِقَةِ قَبْلَ أَنْ يَنْدَمِلَ الْجُرْحُ السَّابِقُ.كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَاقَ السَّارِقُ إِلَى مَكَانِ الْقَطْعِ سُوقًا رَفِيقًا، فَلَا يُعَنَّفُ بِهِ، وَلَا يُعَيَّرُ، وَلَا يُسَبُّ.فَإِذَا وَصَلَ إِلَى مَكَانِ الْقَطْعِ (يَجْلِسُ، وَيُضْبَطُ لِئَلاَّ يَتَحَرَّكَ فَيَجْنِي عَلَى نَفْسِهِ، وَتُشَدُّ يَدُهُ بِحَبْلٍ وَيُجَرُّ حَتَّى يَبِينَ مَفْصِلُ الذِّرَاعِ، ثُمَّ تُوضَعُ بَيْنَهُمَا سِكِّينٌ حَادَّةٌ، وَيُدَقُّ فَوْقَهَا بِقُوَّةٍ لِيَقْطَعَ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ تُوضَعُ عَلَى الْمَفْصِلِ وَتُمَدُّ مَدَّةً وَاحِدَةً، وَإِنْ عَلِمَ قَطْعَ أَوْحَى مِنْ ذَلِكَ- أَيْ أَسْرَعَ- قَطَعَ بِهِ).
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ عَلَى حَسْمِ مَوْضِعِ الْقَطْعِ، وَذَلِكَ بِاسْتِعْمَالِ مَا يَسُدُّ الْعُرُوقَ وَيُوقِفُ نَزْفَ الدَّمِ، لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم- فِيمَنْ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ السَّرِقَةُ: {اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوهُ، ثُمَّ احْسِمُوهُ».وَلَكِنَّ الْخِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي حُكْمِ الْحَسْمِ: فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَيْنِيٌّ عَلَى مَنْ قَامَ بِالْقَطْعِ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ فِي الْحَدِيثِ تُفِيدُ الْوُجُوبَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ- فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمْ- إِلَى أَنَّ الْحَسْمَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَلَا يَلْزَمُ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ، فَإِذَا قَامَ بِهِ الْقَاطِعُ أَوِ الْمَقْطُوعُ أَوْ غَيْرُهُمَا فَقَدْ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ.وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَسْمِ يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ، لَا الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلْمَقْطُوعِ، لَا لِتَمَامِ الْحَدِّ، فَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتْرُكَهُ.وَحِينَئِذٍ يُنْدَبُ لِلْإِمَامِ وَلِغَيْرِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةِ السَّارِقِ وَحِفْظُهُ مِنَ الْهَلَاكِ.وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوبِهِ عَلَى السَّارِقِ إِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ أَحَدٌ، فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَى الْمَقْطُوعِ فِعْلُ الْحَسْمِ، لِإِغْمَاءٍ وَنَحْوِهِ وَتَرَتَّبَ عَلَى تَرْكِهِ تَلَفٌ مُحَقَّقٌ، فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ إِهْمَالُهُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ، كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ.وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الْحَسْمَ تَتِمَّةٌ لِلْحَدِّ، فَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ فِعْلُهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُهْمِلَهُ.
68- وَيُسَنُّ- عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- تَعْلِيقُ الْيَدِ الْمَقْطُوعَةِ فِي عُنُقِ السَّارِقِ، رَدْعًا لِلنَّاسِ، اسْتِنَادًا إِلَى مَا رُوِيَ مِنْ «أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَعُلِّقَتْ فِي عُنُقِهِ».وَقَدْ حَدَّدَ الشَّافِعِيَّةُ مُدَّةَ التَّعْلِيقِ بِسَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَمْ يُحَدِّدُوا مُدَّةَ التَّعْلِيقِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَعْلِيقَ الْيَدِ لَا يُسَنُّ، بَلْ يُتْرَكُ الْأَمْرُ لِلْإِمَامِ، إِنْ رَأَى فِيهِ مَصْلَحَةً فَعَلَهُ، وَإِلاَّ فَلَا.وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَالِكِيَّةُ شَيْئًا عَنْ تَعْلِيقِ الْيَدِ.
4- تَكَرُّرُ الْقَطْعِ بِتَكَرُّرِ السَّرِقَةِ:
تَدَاخُلُ الْحَدِّ:
69- مِنَ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ الَّتِي اسْتَقَرَّتْ فِي الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِ: أَنَّ مَبْنَى الْحُدُودِ عَلَى التَّدَاخُلِ، إِذَا اتَّحَدَ مُوجِبُهَا وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْحَدِّ حَقٌّ لآِدَمِيٍّ.وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: إِذَا تَكَرَّرَتِ السَّرِقَةُ، قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، وَكَانَتْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ تُوجِبُ الْقَطْعَ، قُطِعَ السَّارِقُ لِجَمِيعِهَا قَطْعًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ فَيَتَدَاخَلُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الرَّدْعُ وَالزَّجْرُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ الْوَاحِدِ.
السَّرِقَةُ بَعْدَ الْقَطْعِ:
70- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ السَّارِقِ، إِذَا قُطِعَتْ يَمِينُهُ ثُمَّ عَادَ لِلسَّرِقَةِ، عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
ذَهَبَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ إِلَى أَنَّ: مَنْ قُطِعَتْ يَمِينُهُ فِي السَّرِقَةِ الْأُولَى، ثُمَّ سَرَقَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُضْرَبُ وَيُحْبَسُ، إِذْ لَا قَطْعَ إِلاَّ فِي السَّرِقَةِ الْأُولَى.لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} أَيِ الْيَدَ الْيُمْنَى، كَمَا جَاءَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَمَرَ بِقَطْعِ الرِّجْلِ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}
وَذَهَبَ رَبِيعَةُ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ: مَنْ قُطِعَتْ يَمِينُهُ فِي السَّرِقَةِ الْأُولَى، ثُمَّ سَرَقَ مَرَّةً ثَانِيَةً، تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ عَادَ إِلَى السَّرِقَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَطْعٌ، بَلْ يُعَزَّرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِقَطْعِ الْأَيْدِي، وَهِيَ تَشْمَلُ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى، وَإِدْخَالُ الْأَرْجُلِ فِي الْقَطْعِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهِيَ الْمَذْهَبُ إِلَى أَنَّ مَنْ سَرَقَ بَعْدَ أَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى، تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى.فَإِنْ عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَطْعٌ، بَلْ يُحْبَسُ وَيُضْرَبُ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ أَوْ يَمُوتَ.وَنُقِلَ هَذَا عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رضي الله عنهما- وَالشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَحَمَّادٍ لِمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: إِذَا سَرَقَ الرَّجُلُ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى، فَإِنْ عَادَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ عَادَ ضَمَّنْتُهُ السِّجْنَ حَتَّى يُحْدِثَ خَيْرًا.إِنِّي لأَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ أَنْ أَدَعَهُ لَيْسَ لَهُ يَدٌ يَأْكُلُ بِهَا وَيَسْتَنْجِيَ بِهَا، وَرِجْلٌ يَمْشِي عَلَيْهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: إِلَى أَنَّ مَنْ سَرَقَ، بَعْدَ أَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى فِي السَّرِقَةِ الْأُولَى، تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ عَادَ لِلْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ سَرَقَ مَرَّةً رَابِعَةً قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى، فَإِنْ عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ حُبِسَ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ أَوْ يَمُوتَ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ».
وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رضي الله عنهما- ، وَقَالَ بِهِ إِسْحَاقُ وَقَتَادَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ.
رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضي الله عنهما- وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ: أَنَّ مَنْ سَرَقَ- بَعْدَ قَطْعِ أَطْرَافِهِ الْأَرْبَعَةِ- يُقْتَلُ حَدًّا، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ.وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- «أَمَرَ بِقَتْلِ سَارِقٍ- فِي الْمَرَّةِ الْخَامِسَةِ- قَالَ جَابِرٌ: فَانْطَلَقْنَا بِهِ، ثُمَّ اجْتَرَرْنَاهُ، فَأَلْقَيْنَاهُ فِي بِئْرٍ، وَرَمَيْنَا عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ».
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ وَقَدْ عَارَضَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ وَزِنًى بَعْدَ إِحْصَانٍ أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ».قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْفُقَهَاءِ يُبِيحُ دَمَ السَّارِقِ.
سُقُوطُ الْحَدِّ.
71- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ مَا يُسْقِطُ الْحَدَّ، سَوَاءٌ مَا يَتَّصِلُ بِالْمَسْرُوقِ مِنْهُ أَمْ بِغَيْرِهِ: كَالْعَفْوِ وَالشَّفَاعَةِ.وَمِنْهَا مَا يَتَّصِلُ بِالسَّارِقِ: كَالتَّوْبَةِ، وَالرُّجُوعِ عَنِ الْإِقْرَارِ، وَاشْتِرَاكِهِ مَعَ مَنْ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسْرُوقِ: كَطُرُوءِ مِلْكِ السَّارِقِ عَلَى مَا سَرَقَ.وَقَدْ يَسْقُطُ الْحَدُّ نَتِيجَةً لِلتَّقَادُمِ.
1- الشَّفَاعَةُ وَالْعَفْوُ:
72- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى إِجَازَةِ الشَّفَاعَةِ بَعْدَ السَّرِقَةِ وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْأَمْرُ إِلَى الْحَاكِمِ، إِذَا كَانَ السَّارِقُ لَمْ يُعْرَفْ بِشَرٍّ، سِتْرًا لَهُ وَإِعَانَةً عَلَى التَّوْبَةِ.فَأَمَّا إِذَا وَصَلَ الْأَمْرُ إِلَى الْحَاكِمِ، فَالشَّفَاعَةُ فِيهِ حَرَامٌ، «لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم- لأُِسَامَةَ- حِينَمَا شَفَعَ فِي الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ - : أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ - رضي الله عنه- لَقِيَ رَجُلاً قَدْ أَخَذَ سَارِقًا، فَشَفَعَ فِيهِ، فَقَالَ: لَا، حَتَّى أَبْلُغَ بِهِ الْإِمَامُ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: إِذَا بَلَغَ الْإِمَامَ فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفِّعَ.
وَيَنْطَبِقُ نَفْسُ الْحُكْمِ عَلَى الْعَفْوِ عَنِ السَّارِقِ: فَإِنَّهُ يَجُوزُ إِذَا لَمْ يُرْفَعِ الْأَمْرُ إِلَى الْحَاكِمِ، فَإِنْ رُفِعَ إِلَيْهِ، لَا يُقْبَلُ فِيهِ الْعَفْوُ.وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم- : «تَعَافُوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ».
«وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم- لِصَفْوَانَ- لَمَّا تَصَدَّقَ بِرِدَائِهِ عَلَى سَارِقِهِ - : فَهَلاَّ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ».
2- التَّوْبَةُ:
73- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ، أَيِ النَّدَمَ الَّذِي يُورِثُ عَزْمًا عَلَى إِرَادَةِ التَّرْكِ تُسْقِطُ عَذَابَ الْآخِرَةِ عَنِ السَّارِقِ وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي أَثَرِ التَّوْبَةِ عَلَى إِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَعَطَاءٌ، وَجَمَاعَةٌ: إِلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تُسْقِطُ حَدَّ السَّرِقَةِ، لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} مِنْ غَيْرِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ تَائِبٍ وَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى عَمْرِو بْنِ سَمُرَةَ، حِينَ أَتَاهُ تَائِبًا يَطْلُبُ التَّطْهِيرَ مِنْ سَرِقَتِهِ جَمَلاً».
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ- فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ- وَالْحَنَابِلَةُ- فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى- إِلَى أَنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ حَدَّ السَّرِقَةِ، لقوله تعالى- بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ جَزَاءَ السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ - : {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِوَأَصْلَحَ فَإِنَّا للَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّائِبَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، إِذْ لَوْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بَعْدَ التَّوْبَةِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِهَا
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
286-موسوعة الفقه الكويتية (شركة العقد 5)
شَرِكَةُ الْعَقْدِ -5وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَمْثِلَةً لِلشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ.فَمِنْ ذَلِكَ:
88- أَوَّلًا: الشَّرِكَةُ فِي تَحْصِيلِ الْمُبَاحَاتِ الْعَامَّةِ: كَالشَّرِكَةِ فِي الِاحْتِطَابِ، وَالِاحْتِشَاشِ، وَالِاصْطِيَادِ، وَاسْتِقَاءِ الْمَاءِ، وَاجْتِنَاءِ الثِّمَارِ الْجَبَلِيَّةِ، وَاسْتِخْرَاجِ مَا فِي بَطْنِ الْأَرْضِ الْمُبَاحَةِ مِنْ نَفْطٍ، أَوْ مَعْدِنٍ خِلْقِيٍّ كَالذَّهَبِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ أَوْ كَنْزٍ جَاهِلِيٍّ، وَصُنْعِ لَبِنٍ أَوْ آجُرٍّ مِنْ طِينٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ، فَهَذِهِ الشَّرِكَةُ فَاسِدَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ، وَالْمَحَلُّ هُنَا غَيْرُ قَابِلٍ لِلْوَكَالَةِ: فَإِنَّ الَّذِي تَسْبِقُ يَدُهُ إِلَى الْمُبَاحِ يَمْلِكُهُ، مَهْمَا يَكُنْ قَصْدُهُ، فَلَا يُمْكِنُ تَوْكِيلُهُ فِي أَخْذِهِ لِغَيْرِهِ.أَمَّا إِذَا كَانَ الطِّينُ- وَمِثْلُهُ سَهْلَةُ الزُّجَاجِ مَمْلُوكًا، فَاشْتَرَكَ اثْنَانِ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَاهُ، وَيَطْبُخَاهُ وَيَبِيعَاهُ- فَهَذِهِ شَرِكَةٌ صَحِيحَةٌ.
89- وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، فَقَدْ صَحَّحُوا الشَّرِكَةَ فِي تَحْصِيلِ الْمُبَاحَاتِ بِإِطْلَاقٍ.
90- ثَانِيًا: يَقَعُ كَثِيرًا أَنْ تَكُونَ دَابَّةٌ أَوْ عَرَبَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَيُسَلِّمَهَا أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ، عَلَى أَنْ يُؤَجِّرَهَا وَيَعْمَلَ عَلَيْهَا، وَيَكُونَ لَهُ ثُلُثَا الرِّبْحِ، وَلِلَّذِي لَا يَعْمَلُ الثُّلُثُ فَحَسْبُ.وَهِيَ شَرِكَةٌ فَاسِدَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ رَأْسَ مَالِهَا مَنْفَعَةٌ، وَالْمَنْفَعَةُ مُلْحَقَةٌ بِالْعُرُوضِ.فَيَكُونُ الدَّخْلُ بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةِ مِلْكِهِمَا، وَلِلَّذِي كَانَ يَعْمَلُ أُجْرَةُ مِثْلِ عَمَلِهِ، بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَا يُشْبِهُ الْعَمَلَ فِي الْمُشْتَرَكِ حَتَّى نَقُولَ: لَا أَجْرَ لَهُ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِيمَا يُحْمَلُ وَهُوَ لِغَيْرِهِمَا.
91- وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ شَبِيهَةٌ بِمَسْأَلَةِ الدَّابَّةِ أَوِ الْعَرَبَةِ تَكُونُ لِوَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ، فَيَدْفَعُهَا إِلَى آخَرَ لِيَعْمَلَ عَلَيْهَا، وَالْأُجْرَةُ بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةٍ مَعْلُومَةٍ يَتَّفِقَانِ عَلَيْهَا، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ وَالْأَوْزَاعِيُّ عَلَى صِحَّتِهَا، اعْتِبَارًا بِصِحَّةِ الْمُزَارَعَةِ عِنْدَهُمَا.وَهَكَذَا كُلُّ عَيْنٍ تَنْمِي بِالْعَمَلِ فِيهَا يَصِحُّ دَفْعُهَا بِبَعْضِ نَمَائِهَا.وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَاسِدٌ؛ لِشِدَّةِ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ: فَمَعَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى فَسَادِ هَذَا كُلِّهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَمِنَ الْحَنَابِلَةِ، ابْنُ عَقِيلٍ، دُونَ تَرَدُّدٍ، وَالْقَاضِي فِي بَعْضِ احْتِمَالَاتِهِ.وَقَدْ يُسْتَأْنَسُ لَهُمْ بِحَدِيثِ النَّهْيِ «عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ» يَعْنِي: طَحْنَ كَمِّيَّةٍ مِنَ الْحَبِّ بِشَيْءٍ مِنْ طَحِينِهَا وَإِذَنْ فَمِثْلُ ذَلِكَ إِجَارَةٌ فَاسِدَةٌ، لَا مَحْمَلَ لَهُ سِوَى ذَلِكَ: فَيَكُونُ الرِّبْحُ فِي مَسْأَلَةِ الدَّابَّةِ أَوِ الْعَرَبَةِ لِصَاحِبِهِمَا؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ إِنَّمَا اسْتُحِقَّ بِالْحَمْلِ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُمَا، وَلَيْسَ لِلْعَامِلِ إِلاَّ أُجْرَةُ مِثْلِهِ.وَقَدْ كَانَ أَقْرَبُ مَا يَخْطِرُ بِالْبَالِ لِتَصْحِيحِهِ إِلْحَاقَهُ بِالْمُضَارَبَةِ- وَلَكِنَّ الْمُضَارَبَةَ لَا تَكُونُ فِي الْعُرُوضِ ثُمَّ هِيَ تِجَارَةٌ، وَالْعَمَلُ هُنَا لَيْسَ مِنَ التِّجَارَةِ فِي شَيْءٍ.
92- رَابِعًا: وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ أَيْضًا فِي شَرِكَاتِ الْبَهَائِمِ، أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ بَقَرَةٌ، فَيَدْفَعَهَا إِلَى آخَرَ لِيَتَعَهَّدَهَا بِالْعَلَفِ وَالرِّعَايَةِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْكَسْبُ الْحَاصِلُ بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةٍ مَا كَنِصْفَيْنِ.وَهَذِهِ أَيْضًا شَرِكَةٌ فَاسِدَةٌ: لَا تَدْخُلُ فِي شَرِكَةِ الْأَمْوَالِ، إِذْ لَيْسَ فِيهَا أَثْمَانٌ يُتَّجَرُ بِهَا، وَلَا فِي شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ، أَوِ الْوُجُوهِ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ.وَالْكَسْبُ الْحَاصِلُ إِنَّمَا هُوَ نَمَاءُ مِلْكِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ- وَهُوَ صَاحِبُ الْبَقَرِ.- فَيَكُونُ لَهُ، وَلَيْسَ لِلْآخَرِ إِلاَّ قِيمَةُ عَلَفِهِ وَأُجْرَةُ مِثْلِ عَمَلِهِ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ دُودُ الْقَزِّ، يَدْفَعُهُ مَالِكُهُ إِلَى شَخْصٍ آخَرَ، لِيَتَعَهَّدَهُ عَلَفًا وَخِدْمَةً، وَالْكَسْبُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ الدَّجَاجَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَيْضُهَا نِصْفَيْنِ- مَثَلًا- قَالُوا: وَالْحِيلَةُ أَنْ يَبِيعَ نِصْفَ الْأَصْلِ أَوْ ثُلُثَهُ مَثَلًا بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ، مَهْمَا قَلَّ، فَمَا حَصَلَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ.
93- وَقَدْ عَرَفْنَا نَصَّ أَحْمَدَ وَالْأَوْزَاعِيِّ فِي ذَلِكَ، وَقَضِيَّتُهُ تَصْحِيحُ هَذِهِ الشَّرِكَاتِ كُلِّهَا- شَأْنَ كُلِّ عَيْنٍ تَنْمِي بِالْعَمَلِ فِيهَا.كَمَا عَرَفْنَا أَنَّ جَمَاهِيرَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يُوَافِقُونَهُمَا- حَتَّى قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: عَلَى الْقَادِرِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ بَالِغِ الضَّرَرِ
94- بَيْدَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ ذَكَرُوا هُنَا فَرْعًا يُشْبِهُ الِاتِّجَاهَ الْحَنْبَلِيَّ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُصَحِّحُونَ الشَّرِكَةَ بَيْنَ اثْنَيْنِ، يَأْتِي أَحَدُهُمَا بِطَائِرٍ ذَكَرٍ، وَيَأْتِي الْآخَرُ بِطَائِرٍ أُنْثَى- كِلَاهُمَا مِنْ نَوْعِ الطُّيُورِ الَّتِي يُشْرَكُ ذُكُورُهَا وَإِنَاثُهَا فِي الْحَضَانَةِ، كَالْحَمَامِ- وَيُزَوِّجَانِ هَذِهِ لِهَذَا، عَلَى أَنْ تَكُونَ فِرَاخُهُمَا بَيْنَهُمَا عَلَى سَوَاءٍ، وَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا نَفَقَةُ طَائِرِهِ- إِلاَّ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِهَا الْآخَرُ- وَضَمَانُهُ إِذَا هَلَكَ.وَالْعِلَّةُ- كَمَا يُشْعِرُ سِيَاقُهُمْ- أَنَّ هَذِهِ أَعْيَانٌ تَنْمِي مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ التِّجَارَةِ، فَتُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ مَا يَنْمِي بِالتِّجَارَةِ.
أَحْكَامُ الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ:
95- أَوَّلًا: أَنَّهَا لَا تُفِيدُ الشَّرِيكَ مَا تُفِيدُهُ الشَّرِكَةُ الصَّحِيحَةُ مِنْ تَصَرُّفَاتٍ هَكَذَا قَرَّرَهُ الْحَنَفِيَّةُ.
وَلَمَّا كَانَتِ الشَّرِكَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَيْسَتْ عَقْدًا مُسْتَقِلًّا، بَلْ وَكَالَةٌ كَسَائِرِ الْوَكَالَاتِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: تَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُ الشَّرِيكَيْنِ فِي الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ؛ لِبَقَاءِ الْإِذْنِ، وَمِثْلُهُ لِلْحَنَابِلَةِ.
96- ثَانِيًا: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ فِي الشَّرِكَةِ الَّتِي لَهَا مَالٌ يَكُونُ دَخْلُهَا لِلْعَامِلِ وَحْدَهُ.فَفِي الشَّرِكَةِ لِتَحْصِيلِ شَيْءٍ مِنَ الْمُبَاحَاتِ الْعَامَّةِ- إِذَا أَخَذَهُ أَحَدُهُمَا، وَلَمْ يَعْمَلِ الْآخَرُ شَيْئًا لِإِعَانَتِهِ، فَهُوَ لِلَّذِي أَخَذَهُ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي بَاشَرَ سَبَبَ الْمِلْكِ، وَلَا شَيْءَ لِشَرِيكِهِ.وَإِذَا أَخَذَاهُ مَعًا، فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي مُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْمِلْكِ، فَإِذَا بَاعَاهُ- وَقَدْ عُلِمَتْ نِسْبَةُ مَا حَصَلَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فِي الْقِيَمِيِّ كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ، وَمِعْيَارِ الْمِثْلِ فِي الْمِثْلِيِّ كَكَيْلِ الْمَاءِ وَوَزْنِ الْمَعْدِنِ- فَالثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ، وَإِنْ جُهِلَتِ النِّسْبَةُ، فَدَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُصَدَّقَةٌ فِي حُدُودِ النِّصْفِ؛ لِأَنَّهَا إِذَنْ لَا تُخَالِفُ الظَّاهِرَ- إِذْ هُمَا حَصَّلَاهُ مَعًا، وَكَانَ بِأَيْدِيهِمَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ.أَمَّا دَعْوَى أَحَدِهِمَا فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ، فَلَا تُقْبَلُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهَا خِلَافُ الظَّاهِرِ.
وَإِذَا أَخَذَ الشَّيْءَ الْمُبَاحَ أَحَدُهُمَا، وَأَعَانَهُ الْآخَرُ بِمَا لَا يُعْتَبَرُ أَخْذًا- عَمَلًا كَانَ أَمْ غَيْرَهُ- كَأَنْ قَلَعَهُ، وَجَمَعَهُ الْآخَرُ، أَوْ قَلَعَهُ وَجَمَعَهُ وَرَبَطَهُ هُوَ، وَحَمَلَهُ الْآخَرُ، أَوِ اسْتَقَى الْمَاءَ، وَقَدَّمَ الْآخَرُ الْمَزَادَةَ أَوِ الْفِنْطَاسَ أَوِ الْبَغْلَ أَوِ الْعَرَبَةَ لِحَمْلِهِ- فَهُوَ كُلُّهُ لِلَّذِي أَخَذَهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ لِلَّذِي أَعَانَ، بِنَحْوِ مَا ذَكَرْنَا، إِلاَّ أُجْرَةُ مِثْلِهِ أَوْ مِثْلِ آلَتِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ.
97- وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ يُوَافِقُونَ فِي حَالَةِ انْفِرَادِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ بِالْعَمَلِ.أَمَّا فِي حَالَةِ وُقُوعِ الْعَمَلِ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ فَإِنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ ثَلَاثِ حَالَاتٍ.
(1) تَمَايُزُ الْعَمَلَيْنِ.فَيَكُونُ لِكُلٍّ كَسْبُهُ.
(2) اخْتِلَاطُ الْعَمَلَيْنِ، لَكِنْ بِحَيْثُ لَا تَلْتَبِسُ نِسْبَةُ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ.فَالْكَسْبُ عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ.
(3) اخْتِلَاطُ الْعَمَلَيْنِ، بِحَيْثُ تَلْتَبِسُ نِسْبَتُهُمَا.وَهُنَا يُخَالِفُونَ الْحَنَفِيَّةَ، وَيُبْدُونَ احْتِمَالَيْنِ:
الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ: التَّسَاوِي فِي الْكَسْبِ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ.وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ.
الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: تَرْكُهُمَا حَتَّى يَصْطَلِحَا.
وَهُنَاكَ مَوْضِعُ خِلَافٍ آخَرُ: فَإِنَّ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي يُحَصِّلُهَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى انْفِرَادٍ- فِي حَالَةِ الشَّرِكَةِ لِتَحْصِيلِ الْمُبَاحَاتِ- تَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ، مَا دَامَ الْفَرْضُ أَنَّهُ قَدْ حَصَّلَهَا بِهَذِهِ النِّيَّةِ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ النِّيَابَةِ فِي تَحْصِيلِ الْمُبَاحَاتِ: وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الرِّبْحَ فِي حَالَةِ عَمَلِ الشَّرِيكَيْنِ، يُقْسَمُ بِالتَّسَاوِي، إِذِ الْفَرْضُ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَهُوَ الْعَمَلُ، مُشْتَرَكٌ، ثُمَّ يَرْجِعُ كُلُّ شَرِيكٍ عَلَى شَرِيكِهِ بِأُجْرَةِ مَا عَمِلَ لَهُ: أَيْ بِنِصْفِ أُجْرَةِ عَمَلِهِ فِي الشَّرِكَةِ الثُّنَائِيَّةِ، وَثُلُثَيْ أُجْرَةِ عَمَلِهِ فِي الشَّرِكَةِ الثُّلَاثِيَّةِ، وَثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ أُجْرَةِ عَمَلِهِ فِي الشَّرِكَةِ الرُّبَاعِيَّةِ، وَهَكَذَا دَوَالَيْكَ.إِلاَّ أَنَّ الشَّرِيفَ أَبَا جَعْفَرٍ، مِنْهُمْ، يَذْهَبُ فِي شَرِكَةِ الْأَمْوَالِ إِلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الشَّرِكَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ فِي قِسْمَةِ الرِّبْحِ: فَإِنْ شَرَطَا شَيْئًا فَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الشَّرِكَةِ يَصِحُّ عَلَى الْجَهَالَةِ، فَيَثْبُتُ الْمُسَمَّى فِي فَاسِدِهِ كَالنِّكَاحِ.
98- وَشَرِكَةُ الْوُجُوهِ، هِيَ، عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، مِنْ قَبِيلِ الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي لَا مَالَ فِيهَا، وَلَهَا عِنْدَهُمْ ثَلَاثُ صُوَرٍ: الصُّورَةُ الْأُولَى: أَنْ يَتَّفِقَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَشْتَرِيهِ أَحَدُهُمَا بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ يَكُونُ الْآخَرُ شَرِيكًا لَهُ فِيهِ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا.
وَمِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَنْ يُمَيِّزُ هَذِهِ الصُّورَةَ بِاسْمِ شَرِكَةِ الذِّمَمِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ مَا يَشْتَرِيهِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَكُونُ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً، لَهُ رِبْحُهُ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ مَا يَشْتَرِيَانِهِ مَعًا، يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا شَرِكَةَ مِلْكٍ، حَسَبَ شُرُوطِ الْعَقْدِ.
وَلَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَقُولُونَ: بَلْ- بِرَغْمِ الْفَسَادِ- يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَا يَشْتَرِيَانِهِ مَعًا أَوْ يَشْتَرِيهِ أَحَدُهُمَا- عَلَى مَا شَرَطَاهُ.
وَيُلَاحَظُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، عَلَى هَذَا التَّصْوِيرِ، إِنَّمَا يَبْنِي عَلَى خُلُوِّ الْمَسْأَلَةِ مِنْ تَوْكِيلِ كُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ الْآخَرَ فِي الشِّرَاءِ لَهُ.فَلَوْ وُجِدَ هَذَا التَّوْكِيلُ، فَقَدْ نَصَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ جِدًّا مِنَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ الشَّرِكَةَ تَكُونُ شَرِكَةَ عَنَانٍ صَحِيحَةً بِشَرْطِ بَيَانِ النِّسْبَةِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا- إِنْ لَمْ يُعْلَمْ قَدْرُ الْمَالَيْنِ: وَإِذَنْ فَمَا يَخُصُّ الشَّرِيكَ الَّذِي لَمْ يَتَوَلَّ الشِّرَاءَ مِنَ الثَّمَنِ، يَكُونُ دَيْنًا عَلَيْهِ.
أَمَّا التَّوْكِيلُ- أَوِ الْإِذْنُ- بِشِرَاءِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لَهُمَا بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ، فَهَذَا صَحِيحٌ، وَيُؤَدِّي إِلَى شَرِكَةِ مِلْكٍ لَا خَفَاءَ بِهَا عِنْدَ الْجَمِيعِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَيَاهُ مَعًا بِدَيْنٍ عَلَيْهِمَا، قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: وَلَا يُطَالِبُ الْبَائِعُ كُلَّ شَرِيكٍ إِلاَّ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، مَا لَمْ يَشْرِطْ عَلَيْهِ الضَّمَانَ عَنْ شَرِيكِهِ، وَالَّذِي اعْتَمَدَهُ الشَّافِعِيَّةُ فِي مِثْلِهِ تَنْزِيلُ الْوَكِيلِ مَنْزِلَةَ الضَّامِنِ.
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَّفِقَ وَجِيهٌ وَخَامِلٌ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ الْوَجِيهُ وَيَبِيعَ الْخَامِلُ.وَفِيهَا يَكُونُ مَا يَشْتَرِيهِ الْوَجِيهُ لَهُ خَاصَّةً.وَالْخَامِلُ لَيْسَ إِلاَّ عَامِلَ جِعَالَةٍ فَاسِدَةٍ لِجَهَالَةِ الْعِوَضِ، فَيَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ مِثْلِ عَمَلِهِ عَلَى الْوَجِيهِ- كَمَا قَرَّرَهُ الشَّافِعِيَّةُ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ، فَلَمْ يَخْتَلِفِ الْحُكْمُ الَّذِي أَعْطَوْهُ لِهَذِهِ الصُّورَةِ عَنِ الَّذِي أَعْطَوْهُ لِلصُّورَةِ الْأُولَى- إِلاَّ بِالنَّصِّ عَلَى رُجُوعِ كُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِمَا عَمِلَ عَنْهُ.وَقَدْ نَازَعَ فِيهِ بَعْضُهُمْ، وَمَالَ إِلَى تَصْحِيحِ الشَّرِكَةِ. الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَعْمَلَ الْوَجِيهُ لِلْخَامِلِ فِي مَالِهِ، دُونَ أَنْ يُسَلِّمَ الْمَالَ إِلَيْهِ، أَوْ تَقْتَصِرَ مُهِمَّةُ الْوَجِيهِ عَلَى أَنْ يَبِيعَ مَالَ الْخَامِلِ، وَلَوْ أَسْلَمَهُ إِلَيْهِ،
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ بِشِقَّيْهَا مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ، إِمَّا لِكَوْنِ رَأْسِ الْمَالِ لَيْسَ نَقْدًا، وَإِمَّا لِعَدَمِ تَسْلِيمِهِ لِلْمُضَارِبِ.
فَيَكُونُ لِلْمُضَارِبِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ لَا غَيْرُ وَلَمْ يَعْرِضِ الْمَالِكِيَّةُ لِلشِّقِّ الْأَوَّلِ مِنَ التَّصْوِيرِ، وَهُمْ فِي الشِّقِّ الثَّانِي مُوَافِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ سَمَّوْهَا جُعْلًا وَزَادُوا أَنَّ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارَ، لِمَكَانِ الْغِشِّ، إِنْ كَانَتِ السِّلْعَةُ قَائِمَةً- وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ ثَمَنِهَا، وَقِيمَتِهَا.
99- ثَالِثًا: حَيْثُ الْمَالُ مِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وَفَسَدَتِ الشَّرِكَةُ لِأَيِّ سَبَبٍ فَالدَّخْلُ لَهُ وَلِلْآخَرِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ: عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ الدَّخْلَ نَمَاءُ الْمِلْكِ، كَمَا قَالُوهُ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ: إِذْ يَتْبَعُ الزَّرْعُ الْبَذْرَ.
فَلَوْ عَهِدَ شَخْصٌ يَمْلِكُ بُيُوتًا أَوْ عَرَبَاتٍ أَوْ دَوَابَّ إِلَى آخَرَ لِيَقُومَ عَلَى تَأْجِيرِهَا، وَتَكُونَ الْأُجْرَةُ بَيْنَهُمَا- فَلَيْسَ لِهَذَا الْآخَرِ إِلاَّ أُجْرَةُ مِثْلِهِ، وَالدَّخْلُ كُلُّهُ لِلْمَالِكِ.كَمَا أَنَّهُ لَوِ احْتَاجَ شَخْصٌ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَ بِضَاعَتَهُ فِي السُّوقِ إِلَى عَرَبَةٍ أَوْ دَابَّةٍ تَنْقُلُهَا، فَلَمْ يَقْبَلْ صَاحِبُ الْعَرَبَةِ أَوِ الدَّابَّةِ أَنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهَا إِلاَّ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ لَهُ نِصْفُ الرِّبْحِ فَإِنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَكُونُ لَغْوًا، وَالشَّرِكَةُ فَاسِدَةٌ، وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبِضَاعَةِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ أَوِ الْعَرَبَةِ إِلاَّ أُجْرَةُ مِثْلِهَا، لِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِهَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ.
100- وَعِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ كَذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ الرِّبْحَ تَبَعٌ لِلْمَالِ.وَلِذَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَنَّ ثَلَاثَةً اشْتَرَكُوا، أَحَدُهُمْ بِمَالِهِ، وَالثَّانِي بِشِرَاءِ سِلْعَةٍ بِهَذَا الْمَالِ، وَالثَّالِثُ بِبَيْعِ هَذِهِ السِّلْعَةِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمْ يَكُونُ الرِّبْحُ لِصَاحِبِ الْمَالِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ لِكُلٍّ مِنْ شَرِيكَيْهِ سِوَى أُجْرَةِ مِثْلِ عَمَلِهِ.
101- رَابِعًا: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَالُ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ فَالدَّخْلُ بَيْنَهُمَا بِقَدْرِ الْمَالَيْنِ كَمَا لَوْ كَانَتْ حِصَّةُ كُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ فِي رِبْحِ شَرِكَةِ أَمْوَالٍ حِصَّةً مَجْهُولَةً.وَكَمَا لَوْ كَانَ لِأَحَدِ اثْنَيْنِ شَاحِنَةٌ وَلِلْآخَرِ سَيَّارَةُ رُكُوبٍ، فَاتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُؤَجِّرَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا يَخُصُّهُ وَمَا يَخُصُّ الْآخَرَ، وَمَا حَصَلَ مِنَ الدَّخْلِ بَيْنَهُمَا عَلَى سَوَاءٍ، أَوْ بِنِسْبَةٍ مَعْلُومَةٍ- فَإِنَّ هَذِهِ الشَّرِكَةَ فَاسِدَةٌ، إِذْ خُلَاصَتُهَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَالَ لِلْآخَرِ: بِعْ مَنَافِعَ هَذَا الشَّيْءِ الَّذِي تَمْلِكُهُ، وَمَنَافِعَ هَذَا الَّذِي أَمْلِكُهُ، عَلَى أَنْ يَكُونَ ثَمَنُ هَذِهِ وَتِلْكَ قِسْمَةً بَيْنَنَا بِنِسْبَةِ كَذَا- وَلَيْسَ هَذَا إِلاَّ تَحْصِيلَ الرِّبْحِ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ، دُونَ عَمَلٍ وَلَا ضَمَانٍ، وَالرِّبْحُ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِمَالٍ أَوْ عَمَلٍ أَوْ ضَمَانٍ: لَكِنْ إِذَا وُضِعَتْ هَذِهِ الشَّرِكَةُ الْفَاسِدَةُ مَوْضِعَ التَّنْفِيذِ فَإِنْ أَجَّرَا السَّيَّارَتَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَجْرُ مِلْكِهِ وَإِنْ أَجَّرَا السَّيَّارَتَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً، بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ فِي عَمَلٍ مَعْلُومٍ، فَهِيَ إِجَارَةٌ صَحِيحَةٌ، وَالْأُجْرَةُ الْمُتَحَصِّلَةُ إِنَّمَا تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى مِثْلِ أُجْرَةِ مَا يَمْلِكُهُ كُلٌّ مِنْهُمَا- كَمَا يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْمَبِيعَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ.لَا عَلَى مَا تَشَارَطَا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ فِي ضِمْنِ الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ لَغْوٌ، لَا اعْتِدَادَ بِهِ.
102- وَهَذَا الْحُكْمُ الَّذِي أَخَذَهُ هَذَا الْقِسْمُ (حَيْثُ الْمَالُ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ) كَقَاعِدَةٍ عَامَّةٍ، هُوَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.فَقَدْ أَطْبَقَ عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَقَالُوا: يَرْجِعُ كُلُّ شَرِيكٍ عَلَى شَرِيكِهِ الْآخَرِ بِأُجْرَةِ مِثْلِ مَا عَمِلَ لَهُ- إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُتَبَرِّعًا.
غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَاقِفُونَ أَبَدًا مَعَ أَصْلِهِمُ الَّذِي أَصَّلُوهُ فِي الْمُزَارَعَةِ- كَمَا أَسْلَفْنَاهُ وَجَرَوْا عَلَى سُنَنِهِ كُلَّمَا كَانَ لَهُ مَجَالٌ: وَلِذَا نَجِدُهُمْ يَقُولُونَ- فِيمَا لَوِ اشْتَرَكَ ثَلَاثَةٌ: أَحَدُهُمْ بِدَارِهِ، وَالثَّانِي بِدَابَّتِهِ، وَالثَّالِثُ بِرَحَاهُ، عَلَى أَنْ يَتَوَلَّى عَمَلَ الطَّحْنِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، وَلْيَكُنْ صَاحِبَ الدَّابَّةِ- أَنَّ الْغَلَّةَ كُلَّهَا تَكُونُ لِلَّذِي انْفَرَدَ بِالْعَمَلِ، وَعَلَيْهِ لِلْآخَرَيْنِ أُجْرَةُ مِثْلِ مَا قَدَّمُوا.وَهُوَ مَسْلَكٌ لَا يَكَادُ يَسْلُكُهُ سِوَاهُمْ.وَمِثَالُ ذَلِكَ مَسْأَلَةُ الشَّاحِنَةِ وَسَيَّارَةِ الرُّكُوبِ، إِذَا انْفَرَدَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِالْعَمَلِ.
ثُمَّ قَدْ يَقَعُ الْخِلَافُ أَيْضًا مِنَ الْآخَرَيْنِ فِي طَرِيقِ التَّطْبِيقِ: فَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي مَسْأَلَةِ الدَّابَّتَيْنِ، عَلَى أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ لَوْ تَقَبَّلَا عَمَلَ شَيْءٍ مَعْلُومٍ إِلَى مَكَانٍ مَعْلُومٍ فِي ذِمَّتِهِمَا، ثُمَّ حَمَلَا عَلَى الدَّابَّتَيْنِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِمَا، فَإِنَّهَا تَكُونُ شَرِكَةً صَحِيحَةً، وَالْأُجْرَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَاهُ مَعَ أَنَّ أُصُولَ الْحَنَابِلَةَ لَا تُسَاعِدُهُ، إِذْ لَا بُدَّ عِنْدَهُمْ لِلصِّحَّةِ مِنْ عَقْدِ تَقَبُّلٍ عَامٍّ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ سَابِقٍ عَلَى هَذَا التَّقَبُّلِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ عَلَى أَنَّ ابْنَ قُدَامَةَ عَادَ فَأَبْدَى احْتِمَالَ تَصْحِيحِ الشَّرِكَةِ عَلَى شَرْطِهَا- حَتَّى فِي حَالَةِ مَا إِذَا أَجَّرَ الشَّرِيكَانِ الدَّابَّتَيْنِ إِجَارَةَ عَيْنٍ قِيَاسًا عَلَى صِحَّةِ الشَّرِكَةِ عِنْدَهُمْ فِي تَحْصِيلِ الْمُبَاحَاتِ.
مُلْحَقٌ:
103- فِي الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ، كَيْفَ يُطَالِبُ الْبَائِعُ بِثَمَنِ مَا بَاعَهُ مِنْ أَحَدِ شَرِيكَيْهَا- إِذَا غَابَ أَحَدُهُمَا وَحَضَرَ الْآخَرُ؟
يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْأَحْوَالَ ثَلَاثَةٌ:
الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ يَعْلَمُ فَسَادَ الشَّرِكَةِ: فَلَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ مُطَالَبَةِ الشَّرِيكِ الْحَاضِرِ إِلاَّ بِحِصَّتِهِ فِي الثَّمَنِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ يَعْلَمُ بِالشَّرِكَةِ، وَلَا يَعْلَمُ بِفَسَادِهَا: وَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ حَقُّ مُطَالَبَةِ الشَّرِيكِ الْحَاضِرِ، بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الَّذِي اشْتَرَى مِنْهُ.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ لَا يَعْلَمُ بِالشَّرِكَةِ نَفْسِهَا: وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِنْ كَانَ الشَّرِيكُ الْحَاضِرُ هُوَ الَّذِي اشْتَرَى مِنْهُ، طَالَبَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَاقَدْ مَعَهُ عَلَى أَنَّهُ وَكِيلٌ لِغَيْرِهِ فِي النِّصْفِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الَّذِي اشْتَرَى مِنْهُ، فَإِنَّمَا يُطَالِبُهُ بِحِصَّةٍ فِي الثَّمَنِ لَا غَيْرُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ إِلاَّ مُقَابِلَ هَذِهِ الْحِصَّةِ مِنَ السِّلْعَةِ.
هَكَذَا حَكَوْهُ عَنِ اللَّخْمِيِّ وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْخَرَشِيُّ خِلَافُهُ، فَانْظُرْهُ إِنْ شِئْتَ.
أَسْبَابُ انْتِهَاءِ الشَّرِكَةِ:
الْأَسْبَابُ الْعَامَّةُ:
أَسْبَابُ الِانْتِهَاءِ الْعَامَّةِ هِيَ الَّتِي لَا تَخُصُّ شَرِكَةً دُونَ شَرِكَةٍ، بَلْ تَجِيءُ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الشَّرِكَاتِ وَهِيَ:
104- أَوَّلًا- فَسْخُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ، وَقَدْ سَلَفَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا، عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى عَدَمِ لُزُومِ الْعَقْدِ.
105- ثَانِيًا: نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ إِنْكَارَ أَحَدِهِمَا الشَّرِكَةَ بِمَثَابَةِ فَسْخِهَا، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ وَقَعَ، لَامْتَنَعَ عَلَى الشَّرِيكِ الْآخَرِ، بَعْدَ عِلْمِهِ بِهِ، وَعَلَى الْمُنْكِرِ نَفْسِهِ التَّصَرُّفُ فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ.فَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهَا كَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا، كَالْغَاصِبِ وَلَهُ رِبْحُهَا وَعَلَيْهِ خَسَارَتُهَا، لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهَا- وَإِنْ كَانَ لَا يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، فَيَتَصَدَّقُ بِهِ.وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ- خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ عَلَى الْبُطْلَانِ بِالْإِنْكَارِ فِي الْوَكَالَةِ، إِذَا كَانَ الْإِنْكَارُ مُتَعَمَّدًا وَلَا يَرْمِي بِهِ إِلَى غَرَضٍ آخَرَ- كَصِيَانَةِ مَالِ الْوَكَالَةِ مِنْ أَنْ تَنَالَهُ يَدُ ظَالِمٍ غَاشِمٍ- وَالشَّرِكَةُ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ إِلاَّ وَكَالَةً.
106- ثَالِثًا: جُنُونُ أَحَدِهِمَا جُنُونًا مُطْبِقًا.وَهُوَ لَا يَصِيرُ مُطْبِقًا إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَسْتَمِرَّ شَهْرًا أَوْ سَنَةً كَامِلَةً- عَلَى خِلَافٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.فَلَا تَنْتَهِي الشَّرِكَةُ إِلاَّ إِذَا مَضَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ بَعْدَ ابْتِدَائِهِ.
وَإِنَّمَا تَبْطُلُ الشَّرِكَةُ؛ لِأَنَّهَا تَعْتَمِدُ الْوَكَالَةَ وَلَا تَنْفَكُّ عَنْهَا، وَالْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِالْجُنُونِ الْمُطْبِقِ، لِسَلْبِهِ الْأَهْلِيَّةَ.
وَيَعُودُ هُنَا فِي تَصَرُّفِ الشَّرِيكِ الْآخَرِ فِي حِصَّةِ الْمَجْنُونِ مَا سَلَفَ فِي الْإِنْكَارِ وَنَصَّ عَلَى هَذَا الْمُبْطِلِ أَيْضًا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ دُونَ تَقْيِيدٍ بِمُدَّةٍ.
107- رَابِعًا: مَوْتُ أَحَدِهِمَا: لِأَنَّ الْمَوْتَ مُبْطِلٌ لِلْوَكَالَةِ، وَالْوَكَالَةُ الضِّمْنِيَّةُ جُزْءٌ مِنْ مَاهِيَّةِ الشَّرِكَةِ لَا تَنْفَكُّ عَنْهَا ابْتِدَاءً وَلَا بَقَاءً، ضَرُورَةَ الْحَاجَةِ إِلَى ثُبُوتِ وَاسْتِمْرَارِ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ لِكِلَا الشَّرِيكَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، مُنْذُ قِيَامِ الشَّرِكَةِ إِلَى انْتِهَائِهَا.إِلاَّ أَنَّ بُطْلَانَ الشَّرِكَةِ فِي الْأَمْوَالِ بِالْمَوْتِ، لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ الشَّرِيكِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ غَيْرُ مَقْصُودٍ لَا يُمْكِنُ تَقْدِيمُهُ وَتَأْخِيرُهُ، إِذْ بِمُجَرَّدِ الْمَوْتِ يَنْتَقِلُ شَرْعًا مِلْكُ مَالِ الْمَيِّتِ إِلَى وَرَثَتِهِ، فَلَا يُمْكِنُ إِيقَافُ مَا نَفَّذَهُ الشَّرْعُ.
وَإِنَّمَا تَبْطُلُ الشَّرِكَةُ بِالْمَوْتِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَيِّتِ.فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَى شَرِيكٍ وَاحِدٍ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنَ الشَّرِكَةِ بِالضَّرُورَةِ، أَمَّا إِذَا كَانَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ شَرِيكٍ، فَإِنَّ شَرِكَةَ الْبَاقِينَ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ بَاقِيَةٌ.
وَنَصَّ عَلَى هَذَا الْمُبْطِلِ أَيْضًا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
108- وَيُقَرِّرُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ لِلْوَارِثِ الرَّشِيدِ الْخِيَارَ بَيْنَ الْقِسْمَةِ وَاسْتِئْنَافِ الشَّرِكَةِ، وَأَنَّ عَلَى وَلِيِّ الْوَارِثِ غَيْرِ الرَّشِيدِ، أَوْ وَلِيِّ الشَّرِيكِ الَّذِي انْتَهَتِ الشَّرِكَةُ بِجُنُونِهِ، أَنْ يَخْتَارَ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَصْلَحَهُمَا لِمَحْجُورِهِ.نَعَمْ إِنْ كَانَ عَلَى التَّرِكَةِ دَيْنٌ، أَوْ فِيهَا وَصِيَّةٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، تَوَقَّفَ جَوَازُ اسْتِئْنَافِ الشَّرِكَةِ عَلَى قَضَائِهِمَا- وَلَوْ مِنْ خَارِجِ التَّرِكَةِ، لِأَنَّهُمَا يَتَعَلَّقَانِ بِالتَّرِكَةِ تَعَلُّقَ الرَّهْنِ، وَالْمَرْهُونُ لَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ فِيهِ.
وَالْمُوصَى لَهُ الْمُعَيَّنُ بِمَثَابَةِ الْوَارِثِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَيُعْتَبَرُ كَأَحَدِ الْوَرَثَةِ عِنْدَ التَّعَدُّدِ.وَفِي اسْتِئْنَافِ الشَّرِكَةِ يَكْتَفِي الشَّافِعِيَّةُ بِصِيغَةِ التَّقْرِيرِ- وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ عِبَارَاتِهِمْ مَا يُفِيدُ قَصْرَ هَذَا الِاكْتِفَاءِ عَلَى مَا إِذَا كَانَ مَالُ الشَّرِكَةِ عُرُوضًا.
109- خَامِسًا: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَضَاءَ بِلِحَاقِ أَحَدِهِمَا بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا تَنْتَهِي بِهِ الشَّرِكَةُ لِأَنَّهُ بِهَذَا يَصِيرُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ، وَالْقَضَاءُ بِهِ عِنْدَهُمْ مَوْتٌ حُكْمِيٌّ.بَلْ يَرَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّهُ بِالْقَضَاءِ الْمَذْكُورِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا الْمَوْتَ الْحُكْمِيَّ كَانَ مِنْ حِينِ الرِّدَّةِ فَإِذَا بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ بِهَذَا السَّبَبِ، ثُمَّ عَادَ الشَّرِيكُ مُسْلِمًا، فَلَا جَدْوَى بِالنِّسْبَةِ لِلشَّرِكَةِ: فَقَدْ بَطَلَتْ وَقُضِيَ الْأَمْرُ.
أَمَّا الرِّدَّةُ بِدُونِ هَذَا الْقَضَاءِ- سَوَاءٌ اقْتَرَنَتْ بِاللِّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ أَمْ لَا- فَإِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا إِيقَافُ الشَّرِكَةِ: حَتَّى إِذَا رَجَعَ الْمُرْتَدُّ إِلَى الْإِسْلَامِ عَادَتْ سِيرَتَهَا الْأُولَى، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ، تَبَيَّنَ بُطْلَانُهَا مِنْ حِينِ الرِّدَّةِ.
110- سَادِسًا: مُخَالَفَةُ شُرُوطِ الْعَقْدِ: كَمَا لَوْ تَجَاوَزَ الشَّرِيكُ حُدُودَ الْمَكَانِ الَّذِي قُيِّدَتْ بِهِ إِلاَّ أَنَّ الْبُطْلَانَ يَكُونُ بِمِقْدَارِ الْمُخَالَفَةِ كُلِّيًّا أَوْ جُزْئِيًّا، فَمِثَالُ الْمُخَالَفَةِ الْكُلِّيَّةِ مَا لَوْ نَهَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْآخَرَ عَنِ الْخُرُوجِ بِالْبِضَاعَةِ، فَخَرَجَ بِهَا.وَمِثَالُ الْمُخَالَفَةِ الْجُزْئِيَّةِ: أَنْ يَبِيعَ نَسِيئَةً وَلَا يُجِيزَهُ شَرِيكُهُ، فَيَبْطُلَ الْبَيْعُ فِي حِصَّةِ الشَّرِيكِ، وَيَنْفُذَ فِي حِصَّةِ الْبَائِعِ- وَفِي هَذِهِ الْحِصَّةِ تَبْطُلُ الشَّرِكَةُ حِينَئِذٍ.
111- أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَا يُرَتِّبُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ شُرُوطِ الْعَقْدِ، بَلْ وَطَبِيعَتِهِ، إِلاَّ إِعْطَاءَ الشَّرِيكِ الْآخَرِ حَقَّ رَدِّ التَّصَرُّفِ الَّذِي وَقَعَتْ بِهِ الْمُخَالَفَةُ، وَتَضْمِينَ الْمُخَالِفِ- إِنْ ضَاعَ الْمَالُ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِ.فَقَدْ نَصُّوا عَلَى ذَلِكَ فِيمَا إِذَا اسْتَبَدَّ بِالتَّصَرُّفِ شَرِيكُ الْعَنَانِ؛ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي عَدَمَ اسْتِبْدَادِ شَرِيكٍ بِالتَّصَرُّفِ لِلشَّرِكَةِ، دُونَ مُرَاجَعَةِ شَرِيكِهِ وَكَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ تَصَرُّفِ الشَّافِعِيَّةِ بِإِزَاءِ بَيْعِ الشَّرِيكِ نَسِيئَةً دُونَ إِذْنِ شَرِيكِهِ، بِاعْتِبَارِهِ عِنْدَهُمْ لَا يَسْتَمِدُّ حَقَّ الْبَيْعِ نَسِيئَةً مِنْ طَبِيعَةِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ.
112- سَابِعًا: ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مِنَ الْمُبْطِلَاتِ.طُرُوَّ الْحَجْرِ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ بِسَفَهٍ.وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ الْحَجْرَ لِلْفَلَسِ إِلاَّ أَنَّهُ مُبْطِلٌ جُزْئِيٌّ بِالنِّسْبَةِ لِلْفَلَسِ: بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ مِنَ الْمُفَلِّسِ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ أَيُّ تَصَرُّفٍ سَلَبَهُ الْحَجْرُ إِيَّاهُ.وَمِنْ قَوَاعِدِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ فِي الذِّمَّةِ يَنْفُذَانِ مِنَ الْمُفَلِّسِ.أَمَّا السَّفِيهُ، فَلَا يَصِحُّ لَهُ تَصَرُّفٌ مَالِيٌّ إِلاَّ فِي الْوَصِيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ.فَعَلَى هَذَا إِذَا بَاعَ الْمُفَلِّسُ أَوْ شَرِيكُهُ شَيْئًا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ نَفَذَ فِي نَصِيبِ غَيْرِ الْمُفَلِّسِ وَإِذَا اشْتَرَى الْمُفَلِّسُ لِلشَّرِكَةِ فِي ذِمَّتِهِ نَفَذَ عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ.
الْأَسْبَابُ الْخَاصَّةُ:
113- أَوَّلًا: هَلَاكُ الْمَالِ فِي شَرِكَةِ الْأَمْوَالِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: وَصُورَتُهُ أَنْ يَهْلِكَ الْمَالَانِ، أَعْنِي مَالَ كُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ: سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الشِّرَاءِ بِمَالِ الشَّرِكَةِ أَمْ بَعْدَهُ، أَوْ يَهْلِكَ مَالُ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الشِّرَاءِ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ.وَالشِّقُّ الثَّانِي مِنَ التَّرْدِيدِ لَا يُتَصَوَّرُ إِلاَّ إِذَا كَانَ مَالُ هَذَا الْأَحَدِ مُتَمَيِّزًا مِنْ مَالِ الْآخَرِ؛ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ، أَوْ لِعَدَمِ الِاخْتِلَاطِ.أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَالَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَقَدْ خُلِطَا، فَإِنَّ مَا يَهْلِكُ مِنْهُمَا يَهْلِكُ عَلَى الشَّرِيكَيْنِ كِلَيْهِمَا- إِذْ لَا يُمْكِنُ الْقَطْعُ بِأَنَّ الَّذِي هَلَكَ هُوَ مَالُ هَذَا دُونَ ذَاكَ، وَمَا بَقِيَ فَعَلَى الشَّرِكَةِ.وَالسِّرُّ فِي بُطْلَانِ الشَّرِكَةِ بِهَلَاكِ الْمَالِ، أَنَّهُ عِنْدَمَا يَهْلِكُ مَالُ الشَّرِكَةِ كُلُّهُ يَكُونُ قَدْ هَلَكَ مَحَلُّ الْعَقْدِ الْمُتَعَيَّنُ لَهُ، وَالْعَقْدُ يَبْطُلُ بِفَوَاتِ مَحَلِّهِ، كَالْبَيْعِ إِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ.وَإِنَّمَا تَعَيَّنَ الْهَالِكُ هُنَا مَحَلًّا لِلْعَقْدِ.لِأَنَّ الْأَثْمَانَ- وَإِنْ كَانَتْ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ لِئَلاَّ تَخْرُجَ عَنْ طَبِيعَةِ الثَّمَنِيَّةِ، وَتَصِيرَ سِلْعَةً مَقْصُودَةً بِذَاتِهَا- فَإِنَّهَا تَتَعَيَّنُ فِي غَيْرِهَا، كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ- مِنْ كُلِّ عَقْدٍ لَا يَكُونُ بِإِزَائِهَا فِيهِ عِوَضٌ.وَهَذِهِ هِيَ طَبِيعَةُ الشَّرِكَةِ.
فَإِذَا بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ بِهَلَاكِ أَحَدِ الْمَالَيْنِ قَبْلَ الشِّرَاءِ، فَالْمَالُ الْآخَرُ خَالِصٌ لِصَاحِبِهِ، وَمَا يَشْتَرِيهِ بِهِ بَعْدُ يَكُونُ لَهُ خَاصَّةً لَا سَبِيلَ لِمَنْ هَلَكَ مَالُهُ عَلَيْهِ، لَا مِنْ طَرِيقِ الشَّرِكَةِ، لِمَا عُلِمَ مِنْ بُطْلَانِهَا، وَلَا مِنْ طَرِيقِ الْوَكَالَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي ضِمْنِهَا؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الشَّرِكَةِ يَسْتَتْبِعُ بُطْلَانَهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِلَفْظِ الْوَكَالَةِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَا يَشْتَرِيهِ صَاحِبُ الْمَالِ الْبَاقِي مُشْتَرَكًا بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ الصَّرِيحَةَ لَا تَبْطُلُ بِبُطْلَانِ الشَّرِكَةِ.وَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّةٍ مِنَ الثَّمَنِ.لَكِنَّهَا إِذَنْ شَرِكَةُ مِلْكٍ، إِذْ لَا عَقْدَ شَرِكَةٍ بَيْنَهُمَا.
114- وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ هَلَاكَ أَحَدِ الْمَالَيْنِ عَلَى الشَّرِكَةِ بِإِطْلَاقٍ، وَالْبَاقِي بِلَا هَلَاكٍ لِلشَّرِكَةِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْكُمُونَ بِاشْتِرَاكِ الْمَالَيْنِ بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ، وَيَقُولُونَ إِنَّ الْمَالَ يُقْسَمُ بِكَلِمَةٍ، كَمَا فِي الْخَرْصِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يُشْتَرَكَ فِيهِ بِكَلِمَةٍ، كَمَا فِي الشَّرِكَةِ.فَإِذَا كَانَتِ الشَّرِكَةُ بِالْمَالِ مُنَاصَفَةً، اقْتَضَى مُجَرَّدُ عَقْدِهَا ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِكُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ فِي نِصْفِ مَالِ صَاحِبِهِ وَتَوَسَّطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي مُعْتَمَدِهِمْ، فَقَالُوا: إِنَّ هَلَاكَ أَحَدِ الْمَالَيْنِ قَبْلَ خَلْطِهِمَا، وَلَوْ خَلْطًا حُكْمِيًّا، يَكُونُ مِنْ ضَمَانِ صَاحِبِهِ خَاصَّةً، لَا مِنْ ضَمَانِ الشَّرِكَةِ- وَمَعَ ذَلِكَ تَبْقَى الشَّرِكَةُ: بِحَيْثُ يَكُونُ مَا يُشْتَرَى بِالْمَالِ الْبَاقِي لَهَا، وَعَلَى الشَّرِيكِ الَّذِي تَلِفَ مَالُهُ حِصَّتُهُ فِي الثَّمَنِ- إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ بَعْدَ عِلْمِ الْمُشْتَرِي بِهَلَاكِ الْمَالِ الْآخَرِ وَلَمْ يُرِدْهُ لِلشَّرِكَةِ الشَّرِيكُ الَّذِي هَلَكَ مَالُهُ، أَوْ أَرَادَهُ وَلَكِنِ ادَّعَى الْآخَرُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ: فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْمَالِ الْبَاقِي وَحْدَهُ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ، فَلَمْ أَرَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ كَلَامًا صَرِيحًا.وَلَكِنَّ مُقْتَضَى جَعْلِهِمُ الْخَلْطَ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الشَّرِكَةِ بُطْلَانُ الشَّرِكَةِ، بِهَلَاكِ أَحَدِ الْمَالَيْنِ فِيمَا عَدَاهُ أَوْ هَلَاكُ الْمَالَيْنِ جَمِيعًا.
115- ثَانِيًا: فَوَاتُ التَّسَاوِي فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ: سَوَاءٌ كَانَ الْفَائِتُ هُوَ التَّسَاوِي فِي رَأْسِ الْمَالِ، أَمْ فِي أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ، وَإِذَا بَطَلَتِ الْمُفَاوَضَةُ بِهَذَا أَوْ ذَاكَ، انْقَلَبَتْ عَنَانًا، لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْعَنَانِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
ثَالِثًا: انْتِهَاءُ الْمُدَّةِ فِي الشَّرِكَةِ الْمُؤَقَّتَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التَّأْقِيتَ صَحِيحٌ عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ عَدَا الطَّحَاوِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
287-موسوعة الفقه الكويتية (صحة)
صِحَّةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الصِّحَّةُ فِي اللُّغَةِ: وَالصُّحُّ وَالصِّحَاحُ ضِدُّ السَّقَمِ، وَهِيَ أَيْضًا: ذَهَابُ الْمَرَضِ.وَالصِّحَّةُ فِي الْبَدَنِ: حَالَةٌ طَبِيعِيَّةٌ تَجْرِي أَفْعَالُهُ مَعَهَا عَلَى الْمَجْرَى الطَّبِيعِيِّ، وَقَدِ اسْتُعِيرَتِ الصِّحَّةُ لِلْمَعَانِي فَقِيلَ: صَحَّتِ الصَّلَاةُ إِذَا أَسْقَطَتِ الْقَضَاءَ، وَصَحَّ الْعَقْدُ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ، وَصَحَّ الْقَوْلُ إِذَا طَابَقَ الْوَاقِعَ، وَالصَّحِيحُ الْحَقُّ: وَهُوَ خِلَافُ الْبَاطِلِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الصِّحَّةُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْوَضْعِيِّ (ر: مُصْطَلَحُ حُكْمٌ ف 4).
وَاخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي تَعْرِيفِ الصِّحَّةِ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الصِّحَّةَ عِبَارَةٌ عَمَّا وَافَقَ الشَّرْعَ وَجَبَ الْقَضَاءُ أَوْ لَمْ يَجِبْ، وَيَشْمَلُ عِنْدَهُمُ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُودَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الصِّحَّةَ فِي الْعِبَادَاتِ: انْدِفَاعُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ.
فَفِي تَعْرِيفِ الْحَنَفِيَّةِ زِيَادَةُ قَيْدٍ، إِذْ هِيَ عِنْدَهُمْ: مُوَافَقَةُ أَمْرِ الشَّارِعِ عَلَى وَجْهٍ يَنْدَفِعُ بِهِ الْقَضَاءُ.
وَفِي الْمُعَامَلَاتِ تَرَتُّبُ أَثَرِهَا وَهُوَ مَا شُرِعَتْ مِنْ أَجْلِهِ، كَحِلِّ الِانْتِفَاعِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، وَالِاسْتِمْتَاعِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ.
وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلَافِ بَيْنَ التَّعْرِيفَيْنِ فِيمَنْ صَلَّى ظَانًّا أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مُحْدِثٌ، فَتَكُونُ صَلَاتُهُ صَحِيحَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّهُ وَافَقَ الْأَمْرَ الْمُتَوَجَّهَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ، وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَوُجُوبُهُ بِأَمْرٍ مُتَجَدِّدٍ، فَلَا يُشْتَقُّ مِنْهُ اسْمُ الصِّحَّةِ وَتَكُونُ هَذِهِ الصَّلَاةُ غَيْرَ صَحِيحَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِعَدَمِ انْدِفَاعِ الْقَضَاءِ.
وَوَجْهُ قَوْلِهِمْ إِنَّ الصِّحَّةَ لَا تَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِتَحْقِيقِ الْمَقْصُودِ الدُّنْيَوِيِّ مِنَ التَّكْلِيفِ وَهُوَ فِي الْعِبَادَاتِ تَفْرِيغُ الذِّمَّةِ، وَفِي الْمُعَامَلَاتِ بِتَحْقِيقِ الْأَغْرَاضِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الْعُقُودِ، وَالْفُسُوخِ، كَمِلْكِ الرَّقَبَةِ فِي الْبَيْعِ، وَمِلْكِ الْمُتْعَةِ فِي النِّكَاحِ، وَمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْإِجَارَةِ، وَالْبَيْنُونَةِ فِي الطَّلَاقِ.
وَمَا لَمْ يُوصَلْ إِلَى الْمَقَاصِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ يُسَمَّى بُطْلَانًا وَفَسَادًا.
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ: الصَّحِيحُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ مَا اجْتَمَعَ أَرْكَانُهُ وَشَرَائِطُهُ حَتَّى يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْإِجْزَاءُ:
2- الْإِجْزَاءُ لُغَةً الْكِفَايَةُ وَالْإِغْنَاءُ.
وَاصْطِلَاحًا: مُوَافَقَةُ أَمْرِ الشَّارِعِ بِأَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مُسْتَجْمِعًا مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مِنَ الشُّرُوطِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَنْدَفِعَ بِفِعْلِهِ الْقَضَاءُ، فَالصِّحَّةُ وَالْإِجْزَاءُ مُتَرَادِفَانِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، إِلاَّ أَنَّ الْإِجْزَاءَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الصِّحَّةِ.وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِجْزَاءٌ ف 1، 2)
ب- الْبُطْلَانُ:
3- الْبُطْلَانُ لُغَةً الضَّيَاعُ وَالْخُسْرَانُ.
وَاصْطِلَاحًا: يَخْتَلِفُ تَعْرِيفُ الْبُطْلَانِ تَبَعًا لِلْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ.فَالْبُطْلَانُ فِي الْعِبَادَاتِ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْعِبَادَةِ حَتَّى كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ، كَمَا لَوْ صَلَّى مِنْ غَيْرِ وُضُوءٍ.وَالْبُطْلَانُ فِي الْمُعَامَلَاتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ تَقَعَ الْمُعَامَلَةُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ بِأَصْلِهِ وَلَا بِوَصْفِهِ.
وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ: الْبُطْلَانُ هُوَ الْفَسَادُ بِمَعْنَى أَنْ تَقَعَ الْمُعَامَلَةُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ بِأَصْلِهِ أَوْ بِوَصْفِهِ أَوْ بِهِمَا. (ر: مُصْطَلَحُ بُطْلَانٌ ف 1).
ج- الْأَدَاءُ:
4- الْأَدَاءُ لُغَةً: الْإِيصَالُ.
وَاصْطِلَاحًا: فِعْلُ بَعْضِ- وَقِيلَ كُلِّ- مَا دَخَلَ وَقْتُهُ قَبْلَ خُرُوجِهِ، وَاجِبًا كَانَ أَوْ مَنْدُوبًا
د- الْقَضَاءُ:
5- الْقَضَاءُ لُغَةً: الْأَدَاءُ.
وَاصْطِلَاحًا: مَا فُعِلَ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ أَدَائِهِ اسْتِدْرَاكًا لِمَا سَبَقَ لِفِعْلِهِ مُقْتَضٍ
(ر: مُصْطَلَحُ أَدَاءٌ ف 1)
وَالصِّلَةُ بَيْنَ كُلٍّ مِنَ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ وَبَيْنَ الصِّحَّةِ، أَنَّهُمَا يَأْتِيَانِ وَصْفًا لِلصِّحَّةِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّحَّةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
6- أَهْلِيَّةُ الْإِنْسَانِ لِأَدَاءِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ تَتَعَلَّقُ بِقُدْرَتَيْنِ: قُدْرَةِ فَهْمِ الْخِطَابِ وَذَلِكَ بِالْعَقْلِ، وَقُدْرَةِ الْعَمَلِ بِهِ وَهِيَ بِالْبَدَنِ.
وَلَقَدِ اعْتُبِرَ الْمَرَضُ مِنْ عَوَارِضِ الْأَهْلِيَّةِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَثَرًا فِي نَقْصِ التَّكْلِيفِ وَعَدَمِ تَمَامِهِ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ يَتَرَخَّصُ بِرُخَصٍ كَثِيرَةٍ شُرِعَتْ لِلتَّخْفِيفِ عَنْهُ، كَمَا يَكُونُ الْمَرَضُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ سَبَبًا لِلْحَجْرِ عَلَى الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ. (ر: أَهْلِيَّةٌ ف9 وَ ف 13).
فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ صَحِيحَ الْبَدَنِ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ التَّكْلِيفُ كَامِلًا لِتَحَقُّقِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ جُمْلَةً مِنَ الْأَحْكَامِ يُشْتَرَطُ فِيهَا صِحَّةُ الْبَدَنِ مِنْهَا:
(1) يُشْتَرَطُ فِي إِمَامِ الصَّلَاةِ إِذَا كَانَ يَؤُمُّ الْأَصِحَّاءَ أَنْ يَكُونَ سَالِمًا مِنَ الْأَعْذَارِ، كَسَلَسِ الْبَوْلِ، وَانْفِلَاتِ الرِّيحِ، وَالْجُرْحِ السَّائِلِ، وَالرُّعَافِ. (ر: إِمَامَةُ الصَّلَاةِ ف 10).
(2) وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْجِهَادِ السَّلَامَةُ مِنَ الضَّرَرِ، فَلَا يَجِبُ الْجِهَادُ عَلَى الْعَاجِزِ غَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ لِأَنَّ الْعَجْزَ يَنْفِي الْوُجُوبَ، وَالْمُسْتَطِيعُ: هُوَ الصَّحِيحُ فِي بَدَنِهِ مِنَ الْمَرَضِ. (ر: جِهَادٌ ف 21)
(3) وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَتَوَلَّى الْإِمَامَةَ الْكُبْرَى أَنْ يَكُونَ سَلِيمَ الْحَوَاسِّ وَالْأَعْضَاءِ مِمَّا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْحَرَكَةِ لِلنُّهُوضِ بِمَهَامِّ الْإِمَامَةِ.
(الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى ف 10)
(4) وَمِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْحَجِّ: الِاسْتِطَاعَةُ، وَمِنْهَا صِحَّةُ الْبَدَنِ، وَسَلَامَتُهُ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْعَاهَاتِ الَّتِي تَعُوقُ عَنِ الْحَجِّ. (ر: حَجٌّ ف 19).
(5) لَا تُشْتَرَطُ صِحَّةُ الْبَدَنِ فِي إِقَامَةِ حَدِّ الرَّجْمِ، أَوِ الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ مُسْتَوْفَاةٌ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَبَيْنَ الْمَرِيضِ.
أَمَّا الْجَلْدُ فَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ مِمَّا يُرْجَى بُرْؤُهُ فَالْجُمْهُورُ عَلَى تَأْخِيرِ إِقَامَةِ الْحَدِّ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ التَّأْخِيرِ.أَمَّا إِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، أَوْ كَانَ الْجَانِي ضَعِيفَ الْخِلْقَةِ لَا يَحْتَمِلُ السِّيَاطَ، فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الْحَالِ إِذْ لَا غَايَةَ تُنْتَظَرُ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يُضْرَبَ ضَرْبًا يُؤْمَنُ مَعَهُ التَّلَفُ. (ر: حُدُودٌ ف 14).
(6) لَا يَجُوزُ لِلصَّحِيحِ أَنْ يَتَرَخَّصَ بِرُخَصِ الْمَرِيضِ؛ لِأَنَّهَا رُخْصَةٌ ثَبَتَتْ تَخْفِيفًا عَنِ الْمَرِيضِ لِعُذْرِ الْمَرَضِ فَتَقْتَصِرُ عَلَيْهِ. (ر: رُخْصَةٌ ف 15، 16).
صِحَّةُ الْحَدِيثِ:
7- عَرَّفَ الْمُحَدِّثُونَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ بِأَنَّهُ: مَا اتَّصَلَ سَنَدُهُ بِنَقْلِ الثِّقَةِ (وَهُوَ الْعَدْلُ الضَّابِطُ عَنْ مِثْلِهِ) مِنْ غَيْرِ شُذُوذٍ وَلَا عِلَّةٍ.فَيَشْتَرِطُونَ فِي صِحَّةِ الْحَدِيثِ خَمْسَةَ شُرُوطٍ:
الْأَوَّلُ: اتِّصَالُ السَّنَدِ، فَخَرَجَ الْحَدِيثُ الْمُنْقَطِعُ، وَالْمُعْضَلُ، وَالْمُعَلَّقُ، وَالْمُدَلَّسُ، وَالْمُرْسَلُ.
الثَّانِي: عَدَالَةُ الرُّوَاةِ.فَخَرَجَ بِهِ رِوَايَةُ مَجْهُولِ الْحَالِ، أَوِ الْعَيْنِ أَوِ الْمَعْرُوفِ بِالضَّعْفِ.
الثَّالِثُ: ضَبْطُ الرُّوَاةِ.وَخَرَجَ بِهِ الْمُغَفَّلُ كَثِيرُ الْخَطَأِ.
الرَّابِعُ: السَّلَامَةُ مِنَ الشُّذُوذِ، وَخَرَجَ بِهِ الْحَدِيثُ الشَّاذُّ.
الْخَامِسُ: السَّلَامَةُ مِنَ الْعِلَّةِ الْقَادِحَةِ، وَخَرَجَ بِهِ الْحَدِيثُ الْمُعَلُّ.
وَخَالَفَ فِي هَذَا الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ؛ فَمَدَارُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ عَلَى عَدَالَةِ الرُّوَاةِ.وَالْعَدَالَةُ عِنْدَهُمْ: هِيَ الْمُشْتَرَطَةُ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْفِقْهِ.كَمَا كَانَ لَهُمْ نَظَرٌ فِي اشْتِرَاطِ السَّلَامَةِ مِنَ الشُّذُوذِ وَالْعِلَّةِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعِلَلِ الَّتِي يُعَلِّلُ بِهَا الْمُحَدِّثُونَ الْحَدِيثَ، لَا تَجْرِي عَلَى أُصُولِ الْفُقَهَاءِ.
مِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا أَثْبَتَ الرَّاوِي عَنْ شَيْخِهِ شَيْئًا فَنَفَاهُ مَنْ هُوَ أَحْفَظُ، أَوْ أَكْثَرُ عَدَدًا، أَوْ أَكْثَرُ مُلَازَمَةً مِنْهُ.فَإِنَّ الْأُصُولِيِّينَ يُقَدِّمُونَ رِوَايَةَ الْمُثْبِتِ عَلَى النَّافِي وَيَقْبَلُونَ الْحَدِيثَ.
أَمَّا الْمُحَدِّثُونَ فَيُسَمُّونَهُ شَاذًّا؛ لِأَنَّ الشُّذُوذَ عِنْدَهُمْ: مَا يُخَالِفُ فِيهِ الرَّاوِي فِي رِوَايَتِهِ مَنْ هُوَ أَرْجَحُ مِنْهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ قَبِلَ الْحَدِيثَ الْمُرْسَلَ، الَّذِي يَقُولُ فِيهِ التَّابِعِيُّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَذَا أَوْ فَعَلَ كَذَا.وَرَدَّ الْمُحَدِّثُونَ الْمُرْسَلَ لِلْجَهْلِ بِحَالِ الْمَحْذُوفِ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَحَابِيًّا، أَوْ تَابِعِيًّا، وَلَا حُجَّةَ فِي الْمَجْهُولِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
288-موسوعة الفقه الكويتية (صديد)
صَدِيدٌالتَّعْرِيفُ:
1- فِي اللُّغَةِ: صَدِيدُ الْجُرْحِ: مَاؤُهُ الرَّقِيقُ الْمُخْتَلِطُ بِالدَّمِ قَبْلَ أَنْ يَغْلُظَ فَإِنْ غَلُظَ سُمِّيَ مِدَّةً (بِكَسْرِ الْمِيمِ).وَالصَّدِيدُ فِي الْقُرْآنِ: مَا يَسِيلُ مِنْ جُلُودِ أَهْلِ النَّارِ.
وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقَيْحُ:
2- الْقَيْحُ: الْمِدَّةُ الْخَالِصَةُ الَّتِي لَا يُخَالِطُهَا دَمٌ.
الْأَحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالصَّدِيدِ:
حُكْمُهُ مِنْ حَيْثُ النَّجَاسَةُ وَالطَّهَارَةُ:
3- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّ الصَّدِيدَ نَجِسٌ كَالدَّمِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْخَبَائِثِ، وَالطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ تَسْتَخْبِثُهُ.
انْتِقَاضُ الْوُضُوءِ بِهِ:
4- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِخُرُوجِ الصَّدِيدِ مِنَ الْجُرْحِ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: لَا يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِخُرُوجِ الصَّدِيدِ مِنَ الْجُرْحِ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ الَّتِي تَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَهُمْ هِيَ: مَا خَرَجَتْ مِنَ السَّبِيلَيْنِ فَقَطْ، أَمَّا مَا يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ «أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- حَرَسَا الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ، فَقَامَ أَحَدُهُمَا يُصَلِّي، فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْكُفَّارِ بِسَهْمٍ فَنَزَعَهُ وَصَلَّى وَدَمُهُ يَجْرِي، وَعَلِمَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ».
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِخُرُوجِ النَّجِسِ مِنَ الْآدَمِيِّ الْحَيِّ، سَوَاءٌ كَانَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ أَوْ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، لِحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى صَفِيَّةَ فَقَرَّبَتْ لَهُ عِرْقًا فَأَكَلَ فَأَتَى الْمُؤَذِّنُ فَقَالَ: الْوُضُوءَ الْوُضُوءَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّمَا عَلَيْنَا الْوُضُوءُ فِيمَا يَخْرُجُ وَلَيْسَ عَلَيْنَا فِيمَا يَدْخُلُ»،، عَلَّقَ الْحُكْمَ بِكُلِّ مَا يَخْرُجُ، أَوْ بِمُطْلَقِ الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمَخْرَجِ، إِلاَّ أَنَّ خُرُوجَ الطَّاهِرِ لَيْسَ بِمُرَادٍ فَبَقِيَ خُرُوجُ النَّجِسِ مُرَادًا.
وَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ، أَوْ رُعَافٌ، أَوْ قَلْسٌ، أَوْ مَذْيٌ، فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ، ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ»،، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ بِخُرُوجِ النَّجِسِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ.
وَعَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ لَمَّا اسْتُحِيضَتْ: «تَوَضَّئِي فَإِنَّهُ دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ»،، أَمَرَهَا بِالْوُضُوءِ وَعَلَّلَ بِانْفِجَارِ دَمِ الْعِرْقِ لَا بِالْمُرُورِ عَلَى الْمَخْرَجِ، وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ» وَالْأَخْبَارُ فِي هَذَا الْبَابِ وَرَدَتْ مَوْرِدَ الِاسْتِفَاضَةِ، حَتَّى وَرَدَ عَنِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ، مِنْهُمْ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ.
5- وَعَلَى ذَلِكَ إِنْ سَالَ الصَّدِيدُ عَلَى رَأْسِ الْجُرْحِ وَالْقُرْحِ يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ لِوُجُودِ الْحَدَثِ وَخُرُوجِ النَّجِسِ، وَهُوَ انْتِقَالُ النَّجِسِ مِنَ الْبَاطِنِ إِلَى الظَّاهِرِ، لَكِنَّهُ لَا يَنْقُضُ إِلاَّ إِذَا سَالَ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ، فَلَوْ ظَهَرَ الصَّدِيدُ عَلَى رَأْسِ الْجُرْحِ وَلَمْ يَسِلْ لَمْ يَكُنْ حَدَثًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَسِلْ كَانَ فِي مَحَلِّهِ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَتِرًا بِالْجِلْدَةِ، وَانْشِقَاقُهَا يُوجِبُ زَوَالَ السُّتْرَةِ لَا زَوَالَ الصَّدِيدِ عَنْ مَحَلِّهِ، وَلَا حُكْمَ لِلنَّجَسِ مَا دَامَ فِي مَحَلِّهِ، فَإِذَا سَالَ عَنْ رَأْسِ الْجُرْحِ فَقَدِ انْتَقَلَ عَنْ مَحَلِّهِ فَيُعْطَى لَهُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ.
وَعِنْدَ زُفَرَ: يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ سَوَاءٌ سَالَ عَنْ مَحَلِّهِ أَمْ لَمْ يَسِلْ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ الْحَقِيقِيَّ عِنْدَهُ هُوَ ظُهُورُ النَّجِسِ مِنَ الْآدَمِيِّ الْحَيِّ، وَقَدْ ظَهَرَ؛ وَلِأَنَّ ظُهُورَ النَّجِسِ اعْتُبِرَ حَدَثًا فِي السَّبِيلَيْنِ، سَالَ عَنْ رَأْسِ الْمَخْرَجِ أَوْ لَمْ يَسِلْ، فَكَذَا فِي غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ.
6- وَالْحَنَابِلَةُ كَالْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ الْأَصْلَ انْتِقَاضُ الْوُضُوءِ بِخُرُوجِ النَّجِسِ مِنَ الْبَدَنِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ أَمْ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، إِلاَّ أَنَّ الَّذِي يَنْقُضُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْكَثِيرُ مِنْ ذَلِكَ دُونَ الْيَسِيرِ، قَالَ الْقَاضِي: الْيَسِيرُ لَا يَنْقُضُ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم-، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الدَّمِ: إِذَا كَانَ فَاحِشًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَابْنُ أَبِي أَوْفَى بَزَقَ دَمًا ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، وَابْنُ عُمَرَ عَصَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ دَمٌ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، قَالَ أَحْمَدُ: عِدَّةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ تَكَلَّمُوا فِيهِ.
وَحَدُّ الْكَثِيرِ الَّذِي يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِي نَصِّ أَحْمَدَ: هُوَ مَا فَحُشَ فِي نَفْسِ كُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِهِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْفَاحِشُ مَا فَحُشَ فِي قَلْبِكَ، قَالَ الْخَلاَّلُ: إِنَّهُ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ، قَالَ فِي الشَّرْحِ: لِأَنَّ اعْتِبَارَ حَالِ الْإِنْسَانِ بِمَا يَسْتَفْحِشُهُ غَيْرُهُ فِيهِ حَرَجٌ فَيَكُونُ مَنْفِيًّا، وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إِنَّمَا يُعْتَبَرُ مَا يَفْحُشُ فِي نُفُوسِ أَوْسَاطِ النَّاسِ، وَلَوِ اسْتَخْرَجَ كَثِيرَهُ بِقُطْنَةٍ نَقَضَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا خَرَجَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمُعَالَجَةٍ لَا أَثَرَ لَهُ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ وَعَدَمِهِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ: كَمِ الْكَثِيرُ؟ فَقَالَ: شِبْرٌ فِي شِبْرٍ، وَفِي مَوْضِعٍ قَالَ: قَدْرُ الْكَفِّ فَاحِشٌ، وَفِي مَوْضِعٍ قَالَ: الَّذِي يُوجِبُ الْوُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ مِقْدَارَ مَا يَرْفَعُهُ الْإِنْسَانُ بِأَصَابِعِهِ الْخَمْسِ مِنَ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ وَالْقَيْءِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنْ كَانَ مِقْدَارَ عَشَرَةِ أَصَابِعَ؟ فَرَآهُ كَثِيرًا
صَلَاةُ مَنْ تَنَجَّسَ ثَوْبُهُ أَوْ بَدَنُهُ بِالصَّدِيدِ:
7- مِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ: طَهَارَةَ الثَّوْبِ، وَالْبَدَنِ، وَالْمَكَانِ مِنَ النَّجَاسَةِ، فَإِذَا أَصَابَ الْبَدَنَ أَوِ الثَّوْبَ شَيْءٌ مِنَ الصَّدِيدِ فَإِنَّهُ فِي الْجُمْلَةِ يُعْفَى عَنِ الْيَسِيرِ وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ غَالِبًا لَا يَسْلَمُ مِنْ مِثْلِ هَذَا؛ وَلِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
8- لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ الْيَسِيرِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ فَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ غَيْرِ زُفَرَ قَدْرُ الدِّرْهَمِ وَمَا دُونَهُ، فَإِنْ زَادَ لَمْ تَجُزِ الصَّلَاةُ بِهِ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا يُعْفَى عَنْهُ؛ لِأَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ وَكَثِيرَهَا سَوَاءٌ.
وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُعْفَى عَمَّا دُونَ الدِّرْهَمِ، أَمَّا قَدْرُ الدِّرْهَمِ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مِنَ الْكَثِيرِ وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنَ الْقَلِيلِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قِيلَ: يُعْفَى عَنِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ عَلَى الرَّاجِحِ مَا لَمْ يَكُنْ بِفِعْلِهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو مِنْهَا غَالِبًا، فَلَوْ وَجَبَ الْغُسْلُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ لَشَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، أَمَّا مَا خَرَجَ مِنْهَا بِفِعْلِهِ فَيُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ فَقَطْ، وَقِيلَ: يُعْفَى عَنِ الْيَسِيرِ فَقَطْ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يَتَعَافَاهُ النَّاسُ فِي الْعَادَةِ،
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الْيَسِيرُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ هُوَ الَّذِي لَمْ يُنْقِضِ الْوُضُوءَ، أَيْ: مَا لَا يَفْحُشْ فِي النَّفْسِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
289-موسوعة الفقه الكويتية (صرف 2)
صَرْفٌ -2النَّوْعُ الرَّابِعُ- بَيْعُ جُمْلَةٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ بِجُمْلَةٍ مِنْهَا:
33- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ جُمْلَةً مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ بِدَرَاهِمَ أَوْ بِدَنَانِيرَ، أَوْ بِجُمْلَةٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ بَطَلَ الْعَقْدُ.
وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَرْعَ مَسْأَلَةِ: (مُدِّ عَجْوَةٍ)، وَقَالُوا فِي عِلَّةِ بُطْلَانِهِ إِنَّ اشْتِمَالَ أَحَدِ طَرَفَيِ الْعَقْدِ أَوْ كِلَيْهِمَا عَلَى مَالَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ تَوْزِيعُ مَا فِي الْآخَرِ عَلَيْهِمَا اعْتِبَارًا بِالْقِيمَةِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى الْمُفَاضَلَةِ أَوِ الْجَهْلِ بِالْمُمَاثَلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.وَالْجَهْلُ بِالْمُمَاثَلَةِ حَقِيقَةُ الْمُفَاضَلَةِ فِي بَابِ الرِّبَا قَالُوا: إِنَّ التَّوْزِيعَ هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، كَمَا فِي بَيْعِ شِقْصٍ مَشْفُوعٍ وَسَيْفٍ بِأَلْفٍ.وَقِيمَةُ الشِّقْصِ مِائَةٌ وَالسَّيْفِ خَمْسُونَ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الشِّقْصَ بِثُلُثَيِ الْقِيمَةِ، وَلَوْلَا التَّوْزِيعُ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ.
قَالَ السُّبْكِيُّ: وَلَا يُتْرَكُ التَّوْزِيعُ وَإِنْ أَدَّى إِلَى بُطْلَانِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ الْعَقْدَ إِذَا كَانَ لَهُ مُقْتَضًى حُمِلَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَدَّى إِلَى فَسَادِ الْعَقْدِ أَوْ إِلَى صَلَاحِهِ، كَمَا إِذَا بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ، وَلَمَّا كَانَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ مُقَابَلَةَ جَمِيعِ الثَّمَنِ لِلثَّمَنِ حُمِلَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَدَّى إِلَى فَسَادِهِ، وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الدِّرْهَمَيْنِ هِبَةٌ وَالْآخَرَ ثَمَنٌ لِيَصِحَّ الْعَقْدُ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِعَدَمِ جَوَازِ صَرْفِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ مِنْ جَانِبٍ بِمِثْلِهِمَا مِنْ جَانِبٍ آخَرَ.فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ دِينَارٌ وَدِرْهَمٌ بِدِينَارٍ وَدِرْهَمٍ، لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْمُمَاثَلَةِ بِاحْتِمَالِ رَغْبَةِ أَحَدِهِمَا فِي دِينَارِ الْآخَرِ، فَيُقَابِلُهُ بِدِينَارِهِ وَبَعْضِ دِرْهَمِهِ، وَيَصِيرُ بَاقِي دِرْهَمِهِ فِي مُقَابَلَةِ دِرْهَمِ الْآخَرِ.قَالُوا: إِنَّ قَاعِدَةَ الْمَذْهَبِ سَدُّ الذَّرَائِعِ فَالْفَضْلُ الْمُتَوَهَّمُ كَالْمُحَقَّقِ، وَتَوَهُّمُ الرِّبَا كَتَحَقُّقِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ أَوْ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا غَيْرُ نَوْعِهِ.
34- وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ عَدَا زُفَرَ، صَحَّ بَيْعُ دِرْهَمَيْنِ وَدِينَارٍ بِدِرْهَمٍ وَدِينَارَيْنِ، وَيُجْعَلُ كُلُّ جِنْسٍ مُقَابَلًا بِخِلَافِ جِنْسِهِ، فَيَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ بَيْعُ دِرْهَمَيْنِ بِدِينَارَيْنِ، وَبَيْعُ دِرْهَمٍ بِدِينَارٍ، وَهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّسَاوِي فِيهِمَا، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ.
وَقَالُوا فِي تَوْجِيهِ صِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ إِنَّ فِي صَرْفِ الْجِنْسِ إِلَى خِلَافِهِ تَصْحِيحَ الْعَقْدِ، وَإِلَى جِنْسِهِ فَسَادَهُ، وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالصَّحِيحِ، فَحَمْلُ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي مُطْلَقَ الْمُقَابَلَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِمُقَيَّدٍ، لَا مُقَابَلَةُ الْكُلِّ بِالْكُلِّ بِطَرِيقِ الشُّيُوعِ، وَلَا مُقَابَلَةُ الْفَرْدِ مِنْ جِنْسِهِ وَلَا مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ الْمُصَحِّحِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْإِطْلَاقِ.
قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: إِنَّ الْمُقَابَلَةَ الْمُطْلَقَةَ تَحْمِلُ الْفَرْدَ بِالْفَرْدِ، كَمَا فِي مُقَابَلَةِ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ وَإِنَّهُ طَرِيقٌ مُتَعَيَّنٌ لِتَصْحِيحِهِ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ.
وَقَالَ الْمَوْصِلِيُّ فِي تَوْجِيهِهِ: إِنَّهُمَا قَصَدَا الصِّلَةَ ظَاهِرًا، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَحْقِيقًا لِقَصْدِهِمَا وَدَفْعًا لِحَاجَتِهِمَا.
35- وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا إِذَا بَاعَ أَحَدَ عَشَرَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَدِينَارٍ فَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَتَكُونُ الْعَشَرَةُ بِمِثْلِهَا، وَالدِّينَارُ بِالدِّرْهَمِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْبَيْعِ فِي الدَّرَاهِمِ التَّمَاثُلُ وَهُوَ مَوْجُودٌ ظَاهِرًا، إِذِ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْبَائِعِ إِرَادَةُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمُقَابَلَةِ حَمْلًا عَلَى الصَّلَاحِ، وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْعَقْدِ الْجَائِزِ دُونَ الْفَاسِدِ، فَبَقِيَ الدِّرْهَمُ بِالدِّينَارِ، وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ، وَلَا يُعْتَبَرُ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا.
النَّوْعُ الْخَامِسُ- الصَّرْفُ عَلَى الذِّمَّةِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ:
لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الصَّرْفِ عِدَّةُ صُوَرٍ:
36- الْأُولَى: أَنْ تَشْتَرِيَ مِنْ رَجُلٍ دَرَاهِمَ بِدِينَارٍ فِي مَجْلِسٍ، ثُمَّ اسْتَقْرَضْتَ أَنْتَ دِينَارًا مِنْ رَجُلٍ آخَرَ إِلَى جَانِبِكَ، وَاسْتَقْرَضَ هُوَ الدَّرَاهِمَ مِنْ رَجُلٍ إِلَى جَانِبِهِ، فَدَفَعْتَ إِلَيْهِ الدِّينَارَ وَقَبَضْتَ الدَّرَاهِمَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّهُ: صَحَّ الصَّرْفُ إِذَا تَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْمَجْلِسِ يَجْرِي مَجْرَى الْقَبْضِ عِنْدَ الْعَقْدِ.
وَكَذَلِكَ يَصِحُّ الصَّرْفُ عِنْدَهُمْ إِذَا كَانَ نَقْدُ أَحَدِهِمَا حَاضِرًا وَاسْتَقْرَضَ الْآخَرُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ تَسَلَّفَا فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ تَسَلُّفَهُمَا مَظِنَّةُ الطُّولِ الْمُخِلِّ بِالتَّقَابُضِ، وَإِنْ تَسَلَّفَ أَحَدُهُمَا وَطَالَ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَطُلْ جَازَ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَلَمْ يُجِزْهُ أَشْهَبُ.قَالَ الْحَطَّابُ: وَلُقِّبَتِ الْمَسْأَلَةُ بِالصَّرْفِ عَلَى الذِّمَّةِ.
37- الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ فِي ذِمَّةِ رَجُلٍ ذَهَبٌ وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ مَثَلًا، فَاصْطَرَفَا بِمَا فِي ذِمَّتَيْهِمَا.وَلُقِّبَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِالصَّرْفِ فِي الذِّمَّةِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الصَّرْفِ، وَعَلَّلُوا عَدَمَ الْجَوَازِ بِأَنَّهُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ.وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ» وَفُسِّرَ بِبَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ.
38- وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: صَحَّ بَيْعُ مَنْ عَلَيْهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ دَيْنٌ بِدِينَارٍ مِمَّنْ لَهُ عَلَيْهِ، أَيْ مِنْ دَائِنِهِ، فَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ دَيْنٌ، فَبَاعَهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَشَرَةُ دِينَارًا بِالْعَشَرَةِ الَّتِي عَلَيْهِ، وَدَفَعَ الدِّينَارَ إِلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ.وَتَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بَيْنَ الْعَشْرَتَيْنِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى مُوَافَقَةٍ أُخْرَى.
وَوَجْهُ الْجَوَازِ أَنَّهُ جَعَلَ ثَمَنَهُ دَرَاهِمَ لَا يَجِبُ قَبْضُهَا، وَلَا تَعَيُّنُهَا بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ لِلِاحْتِرَازِ عَنِ الرِّبَا، أَيْ: رِبَا النَّسِيئَةِ، وَلَا رِبَا فِي دَيْنٍ سَقَطَ، وَإِنَّمَا الرِّبَا فِي دَيْنٍ يَقَعُ الْخَطَرُ فِي عَاقِبَتِهِ.
أَمَّا إِذَا بَاعَ الْمَدِينُ الدِّينَارَ بِعَشَرَةٍ مُطْلَقَةٍ أَيْ: بِغَيْرِ ذِكْرِ: (دَيْنٍ عَلَيْهِ) وَدَفَعَ الْبَائِعُ الدِّينَارَ لِلْمُشْتَرِي فَيَصِحُّ ذَلِكَ إِذَا تَوَافَقَا عَلَى مُقَاصَّةِ الْعَشَرَةِ بِالْعَشَرَةِ اسْتِحْسَانًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، لِكَوْنِهِ تَصَرُّفًا فِي بَدَلِ الصَّرْفِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ بِالتَّقَابُضِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ وَانْعَقَدَ صَرْفٌ آخَرُ مُضَافٌ إِلَى الدَّيْنِ.
هَذَا، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الدَّيْنَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ أَوْ مُتَفَاوِتَيْنِ فِي الْوَصْفِ أَوْ مُؤَجَّلَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا حَالًّا وَالْآخَرُ مُؤَجَّلًا أَوْ أَحَدُهُمَا غَلَّةً وَالْآخَرُ صَحِيحًا فَلَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ إِلاَّ إِذَا تَقَاصَّا أَيِ: اتَّفَقَا عَلَى الْمُقَاصَّةِ، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الذَّخِيرَةِ.وَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ وَتَقَاصَّا، كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمَ وَلِلْمَدْيُونِ مِائَةُ دِينَارٍ عَلَيْهِ تَصِيرُ الدَّرَاهِمُ قِصَاصًا بِمِائَةٍ مِنْ قِيمَةِ الدَّنَانِيرِ، وَيَبْقَى لِصَاحِبِ الدَّنَانِيرِ عَلَى صَاحِبِ الدَّرَاهِمِ مَا بَقِيَ مِنْهَا.
39- أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَصَّلُوا فِي الْمَوْضُوعِ وَقَالُوا: إِنْ وَقَعَ صَرْفُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ فَإِنْ تَأَجَّلَ الدَّيْنَانِ عَلَيْهِمَا، بِأَنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ دَنَانِيرُ مُؤَجَّلَةٌ وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ كَذَلِكَ، سَوَاءٌ اتَّفَقَ الْأَجَلَانِ أَمِ اخْتَلَفَا، وَتَصَارَفَا قَبْلَ حُلُولِهِمَا بِأَنْ أَسْقَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَهُ عَلَى الْآخَرِ فِي نَظِيرِ إِسْقَاطِ الْآخَرِ مَا لَهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ كَمَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ.كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِنْ تَأَجَّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَحَلَّ الْآخَرُ.قَالَ الْأَبِيُّ فِي وَجْهِ عَدَمِ الْجَوَازِ: إِنَّ الْحَقَّ فِي أَجَلِ دَيْنِ النَّقْدِ لِلْمَدِينِ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ لِلدَّائِنِ أَخْذُهُ قَبْلَ أَجَلِهِ بِغَيْرِ رِضَا الْمَدِينِ.فَإِنْ تَأَجَّلَا فَقَدِ اشْتَرَى كُلٌّ مِنْهُمَا مَا عَلَيْهِ عَلَى أَنْ لَا يَسْتَحِقَّهُ حَتَّى يَحِلَّ أَجَلُهُ، فَيَقْضِيَهُ مِنْ نَفْسِهِ فَقَدْ تَأَخَّرَ قَبْضُ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا اشْتَرَاهُ بِالصَّرْفِ عَنْ عَقْدِهِ بِمُدَّةِ الْأَجَلِ، وَإِنْ تَأَجَّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا فَقَدِ اشْتَرَى الْمَدِينُ الْمُؤَجِّلُ مَا هُوَ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ قَبْضَهُ إِلاَّ بَعْدَ مُضِيِّ أَجَلِهِ، فَيَقْضِيهِ مِنْ نَفْسِهِ، فَقَدْ تَأَخَّرَ قَبْضُهُ عَنْ صَرْفِهِ بِمُدَّةِ الْأَجَلِ.
هَذَا فِي الصَّرْفِ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَهُمْ بَيْنَ دَيْنَيْنِ مِنْ نَوْعَيْنِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ.وَنَظِيرُهُ مَا قَالُوهُ فِي الْمُقَاصَّةِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ دَيْنَيْنِ مُتَّحِدَيِ النَّوْعِ وَالصِّنْفِ
وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِ الْمُقَاصَّةِ فِي مُصْطَلَحِهَا.
40- الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: اقْتِضَاءُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ مِنَ الْآخَرِ، بِأَنْ كَانَ لَكَ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمُ فَتَأْخُذَ مِنْهُ دَنَانِيرَ، أَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ دَنَانِيرُ فَتَأْخُذَ مِنْهُ دَرَاهِمَ بِسِعْرِ يَوْمِهَا.
وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ، بِشَرْطِ قَبْضِ الْبَدَلِ فِي الْمَجْلِسِ.وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فِي بَيْتِ حَفْصَةَ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ رُوَيْدَكَ أَسْأَلُكَ، إِنِّي أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالْبَقِيعِ، فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، وَآخُذُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، وَأُعْطِي هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: لَا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا مَا لَمْ تَفْتَرِقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ».
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِبْدَالِ عَنِ الثَّمَنِ الثَّابِتِ فِي الذِّمَّةِ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَتَوَقَّفَ أَحْمَدُ فِيمَا إِنْ كَانَ الْمَقْضِيُّ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلًا.
وَقَالَ الْقَاضِي وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَمَشْهُورُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ لَا يُسْتَحَقُّ قَبْضُهُ، فَكَانَ الْقَبْضُ نَاجِزًا فِي أَحَدِهِمَا، وَالنَّاجِزُ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ.وَالْآخَرُ الْجَوَازُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ، فَكَأَنَّهُ رَضِيَ بِتَعْجِيلِ الْمُؤَجَّلِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ إِذَا قَضَاهُ بِسِعْرِ يَوْمِهَا، وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْمَقْضِيِّ فَضْلًا لِأَجْلِ تَأْجِيلِ مَا فِي الذِّمَّةِ.
النَّوْعُ السَّادِسُ: صَرْفُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَغْشُوشَةِ:
41- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى جَوَازِ الْمُعَامَلَةِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَغْشُوشَةِ إِنْ رَاجَتْ نَظَرًا لِلْعُرْفِ: أَمَّا إِذَا بِيعَتْ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ مُصَارَفَةً فَقَدْ فَصَّلُوا صُوَرَهَا وَأَحْكَامَهَا عَلَى النَّحْوِ التَّالِي: قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مَا غَلَبَ ذَهَبُهُ أَوْ فِضَّتُهُ حُكْمُهُمَا حُكْمُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْخَالِصَيْنِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النُّقُودَ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ غِشٍّ لِلِانْطِبَاعِ، فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْخَالِصِ بِهِ، وَلَا بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ إِلاَّ مُتَسَاوِيًا وَزْنًا.
وَمَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْغِشُّ مِنْهُمَا فَفِي حُكْمِ الْعُرُوضِ اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ؛ فَصَحَّ بَيْعُهُ بِالْخَالِصِ إِنْ كَانَ الْخَالِصُ أَكْثَرَ مِمَّا فِي الْمَغْشُوشِ؛ لِيَكُونَ قَدْرُهُ بِمِثْلِهِ وَالزَّائِدِ بِالْغِشِّ.وَيَجُوزُ كَذَلِكَ صَرْفُهُ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا وَزْنًا وَعَدَدًا بِصَرْفِ الْجِنْسِ لِخِلَافِهِ، أَيْ: بِأَنْ يَصْرِفَ فِضَّةً كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى غِشِّ الْآخَرِ، وَذَلِكَ بِشَرْطِ التَّقَابُضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ فِي الْبَعْضِ لِوُجُودِ الْفِضَّةِ أَوِ الذَّهَبِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَيُشْتَرَطُ فِي- الْغِشِّ أَيْضًا-؛ لِأَنَّهُ لَا تَمْيِيزَ إِلاَّ بِضَرَرٍ.
وَإِنْ كَانَ الْخَالِصُ مِثْلَ الْمَغْشُوشِ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ، أَوْ لَا يُدْرَى فَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ لِلرِّبَا فِي الْأَوَّلَيْنِ، وَلِاحْتِمَالِهِ فِي الثَّالِثِ، وَلِلشُّبْهَةِ فِي الرِّبَا حُكْمُ الْحَقِيقَةِ.
وَهَذَا النَّوْعُ، أَيِ: الْغَالِبُ الْغِشِّ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ إِنْ رَاجَ، لِثَمَنِيَّتِهِ حِينَئِذٍ، لِأَنَّهُ بِالِاصْطِلَاحِ صَارَ أَثْمَانًا، فَمَا دَامَ ذَلِكَ الِاصْطِلَاحُ مَوْجُودًا لَا تَبْطُلُ الثَّمَنِيَّةُ.وَإِنْ لَمْ يَرُجْ تَعَيَّنَ بِالتَّعْيِينِ كَالسِّلْعَةِ، لِأَنَّهَا فِي الْأَصْلِ سِلْعَةٌ وَإِنَّمَا صَارَتْ أَثْمَانًا بِالِاصْطِلَاحِ، فَإِذَا تَرَكُوا الْمُعَامَلَةَ بِهَا رَجَعَتْ إِلَى أَصْلِهَا.
قَالُوا: وَصَحَّ الْمُبَايَعَةُ وَالِاسْتِقْرَاضُ بِمَا يَرُوجُ مِنَ الْغَالِبِ الْغِشُّ وَزْنًا وَعَدَدًا، أَوْ بِهِمَا عَمَلًا بِالْعُرْفِ.أَمَّا الْمُتَسَاوِي غِشُّهُ وَفِضَّتُهُ، أَوْ ذَهَبُهُ فَكَغَالِبِ الْفِضَّةِ أَوِ الذَّهَبِ فِي التَّبَايُعِ وَالِاسْتِقْرَاضِ، فَلَمْ يَجُزْ إِلاَّ الْوَزْنُ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ الرَّدِيئَةِ إِلاَّ إِذَا أَشَارَ إِلَيْهِمَا، فَيَكُونُ بَيَانًا لِقَدْرِهَا وَوَصْفِهَا.
أَمَّا فِي الصَّرْفِ فَحُكْمُ مُتَسَاوِي الْغِشِّ وَالْفِضَّةِ أَوِ الذَّهَبِ حُكْمُ مَا غَلَبَ غِشُّهُ فَيَصِحُّ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ بِصَرْفِ الْجِنْسِ إِلَى خِلَافِ جِنْسِهِ، أَيْ: بِأَنْ يَصْرِفَ مَا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْغِشِّ إِلَى مَا فِي الْآخَرِ مِنَ الْفِضَّةِ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَظَاهِرُهُ جَوَازُ التَّفَاضُلِ- هُنَا أَيْضًا- لَكِنْ قَالَ الزَّيْلَعِيُّ نَقْلًا عَنِ الْخَانِيَّةِ: إِنْ كَانَ نِصْفُهَا صُفْرًا وَنِصْفُهَا فِضَّةً لَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ فِيمَا إِذَا بِيعَتْ بِجِنْسِهَا.وَوَجْهُهُ أَنَّ فِضَّتَهَا لَمَّا لَمْ تَصِرْ مَغْلُوبَةً جُعِلَتْ كَأَنَّ كُلَّهَا فِضَّةٌ فِي حَقِّ الصَّرْفِ احْتِيَاطًا.
42- وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى جَوَازِ بَيْعِ نَقْدٍ مَغْشُوشٍ، كَدَنَانِيرَ فِيهَا فِضَّةٌ أَوْ نُحَاسٌ، أَوْ دَرَاهِمَ فِيهَا نُحَاسٌ بِمَغْشُوشٍ مِثْلِهِ مُرَاطَلَةً أَوْ مُبَادَلَةً.قَالَ الْحَطَّابُ: ظَاهِرُهُ وَلَوْ لَمْ يَتَسَاوَ غِشُّهُمَا، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ.وَجَازَ بَيْعُ نَقْدٍ مَغْشُوشٍ بِخَالِصٍ مِنَ الْغِشِّ عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ مِنْ كَلَامِ الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا.
وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ خِلَافُهُ، أَيْ: مَنْعُ بَيْعِ النَّقْدِ الْمَغْشُوشِ بِالنَّقْدِ الْخَالِصِ مِنَ الْغِشِّ، وَنَقَلَ الْأَبِيُّ عَنِ التَّوْضِيحِ بَعْدَ ذِكْرِ الْخِلَافِ: أَنَّهُمْ إِنَّمَا تَكَلَّمُوا فِي الْمَغْشُوشِ الَّذِي لَا يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ.وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِمْ جَوَازُ بَيْعِ الْمَغْشُوشِ بِصِنْفِهِ الْخَالِصِ إِذَا كَانَ يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ.
وَيُشْتَرَطُ لِجَوَازِ بَيْعِ الْمَغْشُوشِ: أَنْ يُبَاعَ لِمَنْ يَكْسِرُهُ لِيُصَيِّغَهُ حُلِيًّا، أَوْ لَا يَغُشَّ بِهِ بِأَنْ يَدَّخِرَهُ لِعَاقِبَةٍ مَثَلًا.
وَيُكْرَهُ بَيْعُهُ لِمَنْ لَا يُؤْمَنُ غِشُّهُ بِهِ: كَالصَّيَارِفَةِ، وَفَسْخُ بَيْعِهِ مِمَّنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَغُشُّ بِهِ إِنْ كَانَ قَائِمًا وَقُدِّرَ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَفُوتَ الْمَغْشُوشُ.
43- أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: الْغِشُّ الْمُخَالِطُ فِي الْمَوْزُونِ مَمْنُوعٌ مُطْلَقًا، قَلِيلًا كَانَ أَمْ كَثِيرًا؛ لِأَنَّهُ يَظْهَرُ فِي الْوَزْنِ وَيَمْنَعُ التَّمَاثُلَ.فَلَا تُبَاعُ فِضَّةٌ خَالِصَةٌ بِمَغْشُوشَةٍ، وَلَا فِضَّةٌ مَغْشُوشَةٌ بِفِضَّةٍ مَغْشُوشَةٍ قَالَ السُّبْكِيُّ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخَالِصَةِ بِالْمَغْشُوشَةِ، وَإِنْ قَلَّ الْغِشُّ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْغِشُّ مِمَّا قِيمَتُهُ بَاقِيَةٌ أَمْ لَا، لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأَصْحَابِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْغِشُّ مِمَّا قِيمَتُهُ بَاقِيَةٌ فَبَيْعُ الْخَالِصَةِ بِالْمَغْشُوشَةِ هُوَ بَيْعُ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ وَشَيْءٍ، فَصَارَ كَمَسْأَلَةِ (مُدِّ عَجْوَةٍ).
وَلِأَنَّ الْفِضَّةَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ، وَهِيَ مَجْهُولَةٌ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ؛ فَأَشْبَهَ بَيْعَ تُرَابِ الصَّاغَةِ وَاللَّبَنِ الْمَشُوبِ بِالْمَاءِ.
وَأَمَّا الْمَغْشُوشَةُ بِغِشٍّ لَا قِيمَةَ لَهُ بَاقِيَةٌ فَلِلْجَهْلِ بِالْمُمَاثَلَةِ، أَوْ تَحَقُّقِ الْمُفَاضَلَةِ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالْخَالِصَةِ، وَلَا بِالْمَغْشُوشَةِ مِثْلِهَا.
وَنَقَلَ السُّبْكِيُّ عَنْ صَاحِبِ التُّحْفَةِ فِي الْمَغْشُوشَةِ: أَنَّهُ يُكْرَهُ أَخْذُهَا وَإِمْسَاكُهَا إِذَا كَانَ النَّقْدُ الَّذِي فِي أَيْدِي النَّاسِ خَالِصًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَغْرِيرَ النَّاسِ فَلَوْ كَانَ جِنْسُ النَّقْدِ مَغْشُوشًا فَلَا كَرَاهَةَ.
قَالَ السُّبْكِيُّ: وَأَفَادَ الرُّويَانِيُّ- أَيْضًا- أَنَّ الْغِشَّ لَوْ كَانَ قَلِيلًا مُسْتَهْلَكًا بِحَيْثُ لَا يَأْخُذُ حَظًّا مِنَ الْوَرِقِ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي إِبْطَالِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ كَعَدَمِهِ.وَقَدْ قِيلَ: يَتَعَذَّرُ طَبْعُ الْفِضَّةِ إِذَا لَمْ يُخَالِطْهَا خَلْطٌ مِنْ جَوْهَرٍ آخَرَ..قُلْتُ: وَذَلِكَ صَحِيحٌ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الْبِلَادِ فِي هَذَا الزَّمَانِ (زَمَانِ السُّبْكِيِّ) ضُرِبَتِ الْفِضَّةُ خَالِصَةً فَتَشَقَّقَتْ، فَجُعِلَ فِيهَا فِي كُلِّ أَلْفِ دِرْهَمٍ مِثْقَالًا مِنْ ذَهَبٍ فَانْصَلَحَتْ، لَكِنَّ مِثْلَ هَذَا إِذَا بِيعَ لَا يَظْهَرُ فِي الْمِيزَانِ مَا مَعَهُ مِنَ الْغِشِّ.
وَكُلُّ مَا ذُكِرَ فِي الْفِضَّةِ يَأْتِي فِي الذَّهَبِ حَرْفًا بِحَرْفٍ.
44- وَفَصَّلَ الْحَنَابِلَةُ فِي بَيْعِ الْأَثْمَانِ الْمَغْشُوشَةِ بِمِثْلِهَا بَيْنَ مَا يَكُونُ الْغِشُّ فِيهِ مُتَسَاوِيًا وَمَعْلُومَ الْمِقْدَارِ وَمَا يَكُونُ الْغِشُّ فِيهِ غَيْرَ مُتَسَاوٍ أَوْ غَيْرَ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ فَقَالُوا بِجَوَازِ بَيْعِ الْمَغْشُوشِ بِمِثْلِهِ فِي الْأَوَّلِ وَعَدَمِ جَوَازِهِ فِي الثَّانِي.
قَالَ الْبُهُوتِيُّ: الْأَثْمَانُ الْمَغْشُوشَةُ إِذَا بِيعَتْ بِغَيْرِهَا، أَيْ: بِأَثْمَانٍ خَالِصَةٍ مِنْ جِنْسِهَا لَمْ يَجُزْ، لِلْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ، وَإِنْ بَاعَ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا مَغْشُوشًا بِمِثْلِهِ، وَالْغِشُّ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ مُتَفَاوِتٌ، أَوْ غَيْرُ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالتَّسَاوِي كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ.
وَإِنْ عُلِمَ التَّسَاوِي فِي الذَّهَبِ الَّذِي فِي الدِّينَارِ، وَعُلِمَ تَسَاوِي الْغِشِّ الَّذِي فِيهِمَا جَازَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، لِتَمَاثُلِهِمَا فِي الْمَقْصُودِ وَهُوَ الذَّهَبُ، وَفِي غَيْرِهِ، أَيِ: الْغِشِّ وَلَيْسَتْ مِنْ مَسْأَلَةِ (مُدِّ عَجْوَةٍ)، لِكَوْنِ الْغِشِّ غَيْرَ مَقْصُودٍ، فَكَأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ كَالْمِلْحِ فِي الْخُبْزِ.
وَالْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ النُّقُودَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعُقُودِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي أَعْيَانِهَا، فَعَلَى هَذَا إِذَا تَبَايَعَا ذَهَبًا بِفِضَّةٍ فَوَجَدَ أَحَدُهُمَا بِمَا قَبَضَهُ غِشًّا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمَبِيعِ مِثْلَ: أَنْ يَجِدَ الدَّرَاهِمَ رَصَاصًا، أَوْ نُحَاسًا، أَوْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَالصَّرْفُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ غَيْرَ مَا سَمَّى لَهُ.
وَإِذَا كَانَ الْعَيْبُ مِنْ جِنْسِهِ مِثْلَ: كَوْنِ الْفِضَّةِ سَوْدَاءَ، أَوْ خَشِنَةً، أَوْ سِكَّتِهَا غَيْرَ سِكَّةِ السُّلْطَانِ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَالْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَبَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ.
النَّوْعُ السَّابِعُ- الصَّرْفُ بِالْفُلُوسِ:
45- الْفُلُوسُ هِيَ النُّحَاسُ، أَوِ الْحَدِيدُ الْمَضْرُوبُ الَّذِي يُتَعَامَلُ بِهَا.فَهِيَ الْمَسْكُوكُ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ بِالْفُلُوسِ، لِأَنَّهَا أَمْوَالٌ مُتَقَوَّمَةٌ مَعْلُومَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ كَاسِدَةً يَجِبُ تَعْيِينُهَا، لِأَنَّهَا عُرُوضٌ، وَإِنْ كَانَتْ نَافِقَةً لَمْ يَجِبْ لِأَنَّهَا مِنَ الْأَثْمَانِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا صُرِفَتِ الْفُلُوسُ النَّافِقَةُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ نَسَاءً، أَوْ صُرِفَتِ الْفُلُوسُ بِالْفُلُوسِ تَفَاضُلًا.وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ اتِّجَاهَانِ.
الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ:
46- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ- عَدَا مُحَمَّدٍ- وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَشْهُورِ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَالشِّيرَازِيِّ وَصَاحِبِ الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى: أَنَّهُ لَا رِبَا فِي فُلُوسٍ يُتَعَامَلُ بِهَا عَدَدًا وَلَوْ كَانَتْ نَافِقَةً؛ لِخُرُوجِهَا عَنِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَعَدَمُ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْبُهُوتِيُّ؛ وَلِأَنَّ عِلَّةَ حُرْمَةِ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الثَّمَنِيَّةُ الْغَالِبَةُ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا- أَيْضًا- بِجَوْهَرِيَّةِ الْأَثْمَانِ، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ عَنِ الْفُلُوسِ وَإِنْ رَاجَتْ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ.
وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ الْفُلُوسَ مِنَ الْعُرُوضِ وَإِنْ كَانَتْ نَافِقَةً.وَوَجَّهَهُ الْحَنَفِيَّةُ: بِأَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا هِيَ الْقَدْرُ مَعَ الْجِنْسِ، وَهُوَ الْكَيْلُ أَوِ الْوَزْنُ الْمُتَّفِقُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَالْمُجَانَسَةُ وَإِنْ وُجِدَتْ هَاهُنَا فَلَمْ يُوجَدِ الْقَدْرُ لِأَنَّ الْفُلُوسَ تُبَاعُ بِالْعَدَدِ وَهَذَا إِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ بِأَعْيَانِهَا.
وَعَلَى ذَلِكَ فَيَجُوزُ بَيْعُ الْفُلُوسِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ بَيْضَةٍ بِبَيْضَتَيْنِ، وَجَوْزَةٍ بِجَوْزَتَيْنِ، وَسِكِّينٍ بِسِكِّينَيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ.
هَذَا، وَقَدْ فَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَوْضُوعِ فَقَالُوا: يَجُوزُ بَيْعُ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ كِلَاهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا دَيْنًا؛ لِأَنَّ الثَّمَنِيَّةَ فِي حَقِّهِمَا تَثْبُتُ بِاصْطِلَاحِهِمَا، إِذْ لَا وِلَايَةَ لِلْغَيْرِ عَلَيْهَا، فَتَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمَا، وَإِذَا بَطَلَتِ الثَّمَنِيَّةُ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَلَا يَعُودُ وَزْنِيًّا لِبَقَاءِ الِاصْطِلَاحِ عَلَى الْعَدِّ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الثَّمَنِيَّةَ تَثْبُتُ بِاصْطِلَاحِ الْكُلِّ فَلَا تَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمَا، وَإِذَا بَقِيَتْ أَثْمَانًا لَا تَتَعَيَّنُ؛ فَصَارَ كَمَا إِذَا كَانَا بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا كَبَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: صُوَرُ بَيْعِ الْفَلْسِ بِجِنْسِهِ أَرْبَعٌ:
الْأُولَى: أَنْ يَبِيعَ فَلْسًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْفُلُوسَ الرَّائِجَةَ أَمْثَالٌ مُتَسَاوِيَةٌ- قَطْعًا- لِاصْطِلَاحِ النَّاسِ عَلَى سُقُوطِ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ مِنْهَا، فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا فَضْلًا خَالِيًا مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ وَهُوَ الرِّبَا.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَبِيعَ فَلْسًا بِعَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِغَيْرِ عَيْنِهِمَا فَلَا يَجُوزُ- أَيْضًا- وَإِلاَّ أَمْسَكَ الْبَائِعُ الْفَلْسَ الْمُعَيَّنَ وَقَبَضَهُ بِعَيْنِهِ مِنْهُ مَعَ فَلْسٍ آخَرَ، لِاسْتِحْقَاقِهِ فَلْسَيْنِ فِي ذِمَّتِهِ، فَيَرْجِعُ إِلَيْهِ عَيْنُ مَالِهِ، وَيَبْقَى الْفَلْسُ الْآخَرُ خَالِيًا عَنِ الْعِوَضِ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبِيعَ فَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا بِفَلْسٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَلَا يَجُوزُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَقَبَضَ الْمُشْتَرِي الْفَلْسَيْنِ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ أَحَدَهُمَا مَكَانَ مَا اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ؛ فَيَبْقَى الْآخَرُ فَضْلًا بِلَا عِوَضٍ اسْتُحِقَّ بِعَقْدِ الْبَيْعِ، وَهَذَا إِذَا رَضِيَ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ.
الرَّابِعَةُ: أَنْ يَبِيعَ فَلْسًا بِعَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِعَيْنِهِمَا، فَيَجُوزُ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ.
الِاتِّجَاهُ الثَّانِي:
47- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، جَزَمَ بِهَا أَبُو الْخَطَّابِ فِي خِلَافِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- إِلَى: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْفُلُوسِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا وَلَا نَسَاءً، وَلَا بَيْعُهَا بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ نَسَاءً.
فَفِي الْمُدَوَّنَةِ: أَرَأَيْتَ إِنِ اشْتَرَيْتَ خَاتَمَ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ تِبْرِ ذَهَبٍ بِفُلُوسٍ فَافْتَرَقْنَا قَبْلَ أَنْ نَتَقَابَضَ؟ قَالَ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ مَالِكًا قَالَ: لَا يَجُوزُ فَلْسٌ بِفَلْسَيْنِ وَلَا تَجُوزُ الْفُلُوسُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا بِالدَّنَانِيرِ نَظِرَةً.
وَنَقَلَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَرَبِيعَةَ أَنَّهُمَا كَرِهَا الْفُلُوسَ بِالْفُلُوسِ بَيْنَهُمَا فَضْلٌ أَوْ نَظِرَةٌ، وَقَالَا: إِنَّهَا صَارَتْ سِكَّةً مِثْلَ سِكَّةِ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَحَمَلَ بَعْضُهُمُ الْكَرَاهَةَ عَلَى التَّحْرِيمِ.
وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ لِقَوْلِ مُحَمَّدٍ بِعَدَمِ الْجَوَازِ- أَيْضًا- بِأَنَّ الْفُلُوسَ أَثْمَانٌ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلًا، كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ عِبَارَةٌ عَمَّا تُقَدَّرُ بِهِ مَالِيَّةُ الْأَعْيَانِ، وَمَالِيَّةُ الْأَعْيَانِ كَمَا تُقَدَّرُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ تُقَدَّرُ بِالْفُلُوسِ- أَيْضًا- فَكَانَتْ أَثْمَانًا، وَالثَّمَنُ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ (عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) فَالْتُحِقَ التَّعْيِينُ فِيهِمَا بِالْعَدَمِ.فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ فَلْسٍ بِفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا، كَمَا لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا.وَلِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ أَثْمَانًا فَالْوَاحِدُ يُقَابِلُ الْوَاحِدَ، فَبَقِيَ الْآخَرُ فَضْلَ مَالٍ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَهَذَا تَفْسِيرُ الرِّبَا، كَمَا حَرَّرَهُ الْكَاسَانِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الْأَظْهَرُ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْفُلُوسَ النَّافِقَةَ يَغْلِبُ عَلَيْهَا حُكْمُ الْأَثْمَانِ، وَتُجْعَلُ مِعْيَارًا لِأَمْوَالِ النَّاسِ.وَلِهَذَا يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَضْرِبَ لَهُمْ فُلُوسًا تَكُونُ بِقِيمَةِ الْعَدْلِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ ظُلْمٍ لَهُمْ.
هَذَا، وَتَفْصِيلُ التَّعَامُلِ بِالْفُلُوسِ وَأَحْكَامِهَا فِي مُصْطَلَحِ (فُلُوسٌ).
ظُهُورُ عَيْبٍ أَوْ نَقْصٍ فِي بَدَلِ الصَّرْفِ:
48- لَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ: بِأَنَّ الصَّرْفَ لَا يَقْبَلُ خِيَارَ الشَّرْطِ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ أَوْ تَمَامَهُ، وَذَلِكَ مُخِلٌّ بِالْقَبْضِ الْمَشْرُوطِ.
أَمَّا خِيَارُ الْعَيْبِ فَلَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْعَقْدِ فَيَثْبُتُ فِي الصَّرْفِ؛ لِأَنَّ السَّلَامَةَ عَنِ الْعَيْبِ مَطْلُوبَةٌ عَادَةً فَفِقْدَانُهَا يُوجِبُ الْخِيَارَ كَسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ.
هَذَا، وَلِلْفُقَهَاءِ فِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي:
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ بَدَلَ الصَّرْفِ إِذَا كَانَ عَيْنًا فَرَدُّهُ بِالْعَيْبِ يَفْسَخُ الْعَقْدَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الرَّدُّ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا نَقَدَ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا بِأَنْ وَجَدَ الدَّرَاهِمَ الْمَقْبُوضَةَ زُيُوفًا أَوْ كَاسِدَةً، أَوْ وَجَدَهَا رَائِجَةً فِي بَعْضِ التِّجَارَاتِ دُونَ الْبَعْضِ- وَذَلِكَ عَيْبٌ عِنْدَ التِّجَارَةِ- فَرَدَّهَا فِي الْمَجْلِسِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالرَّدِّ، حَتَّى لَوِ اسْتَبْدَلَ مَكَانَهُ مُضِيَّ الصَّرْفِ.
وَإِنْ رَدَّهَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ بَطَلَ الصَّرْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ، لِحُصُولِ الِافْتِرَاقِ لَا عَنْ قَبْضٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ لَا يَبْطُلُ إِذَا اسْتَبْدَلَ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ.
وَإِذَا ظَهَرَ الْعَيْبُ فِي بَعْضِهِ فَرَدَّ الْمَعِيبَ فِي الْمَرْدُودِ انْتُقِضَ الصَّرْفُ فِي الْمَرْدُودِ، وَبَقِيَ فِي غَيْرِهِ؛ لِارْتِفَاعِ الْقَبْضِ فِيهِ فَقَطْ.
وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِعِبَارَةٍ مُخْتَلِفَةٍ وَتَفْصِيلٍ حَيْثُ قَالُوا:
إِنْ وَجَدَ أَحَدُهُمَا عَيْبًا فِي دَرَاهِمِهِ، أَوْ دَنَانِيرِهِ مِنْ نَقْصٍ أَوْ غِشٍّ، أَوْ غَيْرِ فِضَّةٍ وَلَا ذَهَبٍ كَرَصَاصٍ وَنُحَاسٍ، فَإِنْ كَانَ بِالْحَضْرَةِ مِنْ غَيْرِ مُفَارَقَةٍ وَلَا طُولٍ جَازَ لَهُ الرِّضَا وَصَحَّ الصَّرْفُ وَطَلَبَ الْإِتْمَامَ فِي النَّاقِصِ أَوِ الْبَدَلَ فِي الْغِشِّ وَالرَّصَاصِ فَيُجْبَرُ عَلَيْهِ مَنْ أَبَاهُ إِنْ لَمْ تُعَيَّنِ الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ.
وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مُفَارَقَةٍ، أَوْ طُولٍ فِي الْمَجْلِسِ فَإِنْ رَضِيَ بِغَيْرِ النَّقْصِ صَحَّ الصَّرْفُ، وَإِلاَّ نُقِضَ، وَأَخَذَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا خَرَجَ مِنْ يَدِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ وَقَعَ الصَّرْفُ عَلَى الْعَيْنِ عَلَى أَنَّهَا فِضَّةٌ أَوْ ذَهَبٌ، وَخَرَجَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا نُحَاسًا بَطَلَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ بَانَ أَنَّهُ غَيْرُ مَا عُقِدَ عَلَيْهِ، وَإِنْ خَرَجَ بَعْضُهُ نُحَاسًا، أَوْ نَحْوَهُ صَحَّ الْعَقْدُ فِي الْبَاقِي دُونَهُ بِالْقِسْطِ، وَلِصَاحِبِ الْبَاقِي الْخِيَارُ بَيْنَ الْإِجَازَةِ وَالْفَسْخِ.وَإِنْ خَرَجَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ مَعِيبًا تَخَيَّرَ وَلَمْ يَسْتَبْدِلْ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى عَيْنِهِ فَلَا يَتَجَاوَزُهُ الْحَقُّ إِلَى غَيْرِهِ.
وَإِنْ وَقَعَ الصَّرْفُ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ فَخَرَجَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا نُحَاسًا قَبْلَ التَّفَرُّقِ اسْتَبْدَلَ بِهِ.وَإِنْ خَرَجَ نُحَاسًا بَعْدَ التَّفَرُّقِ بَطَلَ الْعَقْدُ لِعَدَمِ التَّقَابُضِ.وَإِنْ خَرَجَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ مَعِيبًا اسْتَبْدَلَ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ، وَإِنْ فَارَقَ مَجْلِسَ الْعَقْدِ.وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَثْمَانَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ عِنْدَهُمْ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي الْفِقْرَةِ التَّالِيَةِ.
وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ حَيْثُ قَالُوا: إِنْ ظَهَرَ عَيْبٌ فِي جَمِيعِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ وَلَوْ يَسِيرًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَنُحَاسٍ فِي الدَّرَاهِمِ وَالْمَسِّ فِي الذَّهَبِ بَطَلَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ غَيْرَ مَا سَمَّى لَهُ.وَإِنْ ظَهَرَ فِي بَعْضِهِ بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِ فَقَطْ وَهَذَا إِذَا كَانَ الصَّرْفُ عَيْنًا بِعَيْنٍ، بِأَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ بِهَذِهِ الدَّنَانِيرِ وَيُشِيرُ إِلَيْهِمَا وَهُمَا حَاضِرَانِ.وَالْعَيْبُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمَبِيعِ كَمَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ.
أَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَبِيعِ مِثْلَ: كَوْنِ الْفِضَّةِ سَوْدَاءَ، أَوْ خَشِنَةً، فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَالْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَبَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ وَالرَّدِّ، وَلَيْسَ لَهُ الْبَدَلُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَاقِعٌ عَلَى عَيْنِهِ، فَإِذَا أَخَذَ غَيْرَهُ أَخَذَ مَا لَمْ يَشْتَرِ.
وَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدُ بِغَيْرِ عَيْنِهِ كَأَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ دِينَارًا مِصْرِيًّا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ يَصِحُّ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِمَا بِالتَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِذَا تَقَابَضَا فَوَجَدَ أَحَدُهُمَا بِمَا قَبَضَهُ عَيْبًا قَبْلَ التَّفَرُّقِ فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْبَدَلِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَيْبُ مِنْ جِنْسِهِ أَمْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى مُطْلَقٍ لَا عَيْبَ فِيهِ فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، وَإِنْ رَضِيَهُ بِعَيْبِهِ وَالْعَيْبُ مِنْ جِنْسِهِ جَازَ، وَإِنْ أَخَذَ الْأَرْشَ فَإِنْ كَانَ الْعِوَضَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَمْ يَجُزْ لِإِفْضَائِهِ إِلَى التَّفَاضُلِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّمَاثُلُ.وَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسَيْنِ جَازَ.
تَعَيُّنُ النُّقُودِ بِالتَّعْيِينِ فِي الصَّرْفِ:
49- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ) إِلَى: أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالْعَقْدِ فِيمَا عَيَّنَاهُ، وَيَتَعَيَّنُ عِوَضًا فِيهِ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِبْدَالُهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَعْوَاضِ، وَإِنْ خَرَجَ مَغْصُوبًا بَطَلَ الْعَقْدُ، وَهَذَا لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ عِوَضٌ فِي عَقْدٍ فَيَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَسَائِرِ الْأَعْوَاضِ؛ وَلِأَنَّ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ غَرَضًا فِي التَّعْيِينِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَثَرٌ، وَلِهَذَا لَوِ اشْتَرَى ذَهَبًا بِوَرِقٍ بِعَيْنِهِمَا فَوَجَدَ أَحَدُهُمَا فِيمَا اشْتَرَاهُ عَيْبًا مِنْ جِنْسِهِ فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ أَوْ يَقْبَلَ، وَلَيْسَ لَهُ الْبَدَلُ كَمَا سَبَقَ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ: إِنَّ الْأَثْمَانَ النَّقْدِيَّةَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ أَيْ: إِنَّ الْبَدَلَيْنِ فِي الصَّرْفِ لَا يَتَعَيَّنَانِ بِالتَّعْيِينِ، فَلَوْ تَبَايَعَا دَرَاهِمَ بِدِينَارٍ جَازَ أَنْ يُمْسِكَا مَا أَشَارَا إِلَيْهِ فِي الْعَقْدِ وَيُؤَدِّيَا بَدَلَهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا فِي الذِّمَّةِ كَمَا نُقِلَ عَنِ الْفَرَّاءِ، فَلَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلتَّعْيِينِ بِالْإِشَارَةِ، وَلِهَذَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي الصَّرْفِ بِغَيْرِ الْإِشَارَةِ.
وَعَلَى ذَلِكَ يَجُوزُ إِبْدَالُهَا، وَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِخُرُوجِهَا مَغْصُوبَةً.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
290-موسوعة الفقه الكويتية (صلاة الجماعة 2)
صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ-2الصَّلَاةُ عِنْدَ قِيَامِ الْجَمَاعَةِ:
18- مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، وَقَدْ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي إِقَامَةِ الصَّلَاةِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الِانْشِغَالُ عَنْهَا بِنَافِلَةٍ، سَوَاءٌ أَخَشِيَ فَوَاتَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَمْ لَمْ يَخْشَ فَوَاتَهَا؛ لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ» وَلِأَنَّ مَا يَفُوتُهُ مَعَ الْإِمَامِ أَفْضَلُ مِمَّا يَأْتِي بِهِ، فَلَا يَشْتَغِلُ بِهِ، وَقَدْ رَوَتِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ حِينَ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَرَأَى نَاسًا يُصَلُّونَ، فَقَالَ: أَصَلَاتَانِ مَعًا؟».وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعُرْوَةُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ سُنَّةِ الْفَجْرِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي سُنَّةِ الْفَجْرِ: إِذَا خَافَ فَوْتَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ لِاشْتِغَالِهِ بِسُنَّتِهَا تَرَكَهَا؛ لِكَوْنِ الْجَمَاعَةِ أَكْمَلَ، فَلَا يَشْرَعُ فِيهَا.وَإِذَا رَجَا إِدْرَاكَ رَكْعَةٍ مَعَ الْإِمَامِ فَلَا يَتْرُكُ سُنَّةَ الْفَجْرِ، بَلْ يُصَلِّيهَا، وَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: إِذَا رَجَا إِدْرَاكَ التَّشَهُّدِ مَعَ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي السُّنَّةَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِهِ إِنْ وَجَدَ مَكَانًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَكَانًا تَرَكَهَا وَلَا يُصَلِّيهَا دَاخِلَ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ اشْتِغَالِ الْإِمَامِ بِالْفَرِيضَةِ مَكْرُوهٌ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ دَخَلَ وَالْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ فَرَكَعَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَسَنِ، وَمَكْحُولٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ.
19- وَمَنْ كَانَ يُصَلِّي النَّافِلَةَ، ثُمَّ أُقِيمَتْ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ لَمْ يَخْشَ فَوَاتَ الْجَمَاعَةِ بِسَلَامِ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ يُتِمُّ النَّافِلَةَ، وَلَا يَقْطَعُهَا؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} ثُمَّ يَدْخُلُ فِي الْجَمَاعَةِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ لَمْ يَخْشَ فَوَاتَ رَكْعَةٍ بِإِتْمَامِ النَّافِلَةِ بِأَنْ تَحَقَّقَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ يُدْرِكُ الْإِمَامَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى عَقِبَ إِتْمَامِ مَا هُوَ فِيهِ أَتَمَّهَا، ثُمَّ دَخَلَ مَعَ الْجَمَاعَةِ.
أَمَّا إِنْ خَشِيَ فَوَاتَ الْجَمَاعَةِ- كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- أَوْ خَشِيَ فَوَاتَ رَكْعَةٍ- كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ- فَإِنَّهُ يَقْطَعُ النَّافِلَةَ وُجُوبًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَنَدْبًا فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوُجُوبًا فِي الْجُمُعَةِ (أَيْ إِنْ كَانَتِ الَّتِي يُصَلِّيهَا الْإِمَامُ هِيَ الْجُمُعَةَ)، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ قُدَامَةَ، إِحْدَاهُمَا: يُتِمُّ النَّافِلَةَ، وَالثَّانِيَةُ: يَقْطَعُهَا؛ لِأَنَّ مَا يُدْرِكُهُ مِنَ الْجَمَاعَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا وَأَكْثَرُ ثَوَابًا مِمَّا يَفُوتُهُ بِقَطْعِ النَّافِلَةِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى صَلَاةِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ سَبْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَلَمْ يُقَيِّدُوا الْقَطْعَ أَوِ الْإِتْمَامَ بِإِدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ، أَوْ عَدَمِ إِدْرَاكِهَا؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي النَّافِلَةِ عِنْدَهُمْ يَجْعَلُهَا وَاجِبَةً، وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: الشَّارِعُ فِي نَفْلٍ لَا يَقْطَعُ مُطْلَقًا إِذَا أُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ وَهُوَ فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ، بَلْ يُتِمُّهُ رَكْعَتَيْنِ، وَإِذَا كَانَ فِي سُنَّةِ الظُّهْرِ، أَوْ سُنَّةِ الْجُمُعَةِ، إِذَا أُقِيمَتِ الظُّهْرُ، أَوْ خَطَبَ الْإِمَامُ، فَإِنَّهُ يُتِمُّهَا أَرْبَعًا عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ.
وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْكَمَالِ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ مَا نَصُّهُ: وَقِيلَ: يَقْطَعُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي سُنَّةِ الظُّهْرِ وَالْجُمُعَةِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ قَضَائِهَا بَعْدَ الْفَرْضِ.وَهَذَا حَيْثُ لَمْ يَقُمْ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ.أَمَّا إِنْ قَامَ إِلَيْهَا وَقَيَّدَهَا بِسَجْدَةٍ فَفِي رِوَايَةِ النَّوَادِرِ يُضِيفُ إِلَيْهَا رَابِعَةً وَيُسَلِّمُ، وَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْهَا بِسَجْدَةٍ فَقِيلَ: يُتِمُّهَا أَرْبَعًا، وَيُخَفِّفُ الْقِرَاءَةَ.وَقِيلَ: يَعُودُ إِلَى الْقَعْدَةِ وَيُسَلِّمُ، وَهَذَا أَشْبَهُ، قَالَ فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ: وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُتِمَّهَا.
20- وَإِنْ أُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ وَالْمُنْفَرِدُ يُصَلِّي الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ الَّتِي يُؤَدِّيهَا الْإِمَامُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَيَّدَ الرَّكْعَةَ الْأُولَى بِالسُّجُودِ قَطَعَ صَلَاتَهُ، وَاقْتَدَى، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَقَدَ رَكْعَةً بِالسُّجُودِ، فَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ أَوِ الْمَغْرِبِ قَطَعَ صَلَاتَهُ وَاقْتَدَى بِالْإِمَامِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ قَدْ قَامَ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَقَيَّدَهَا بِالسُّجُودِ فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُتِمُّ صَلَاتَهُ.وَلَا يَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِكَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَبِالثَّلَاثِ فِي الْمَغْرِبِ.
وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ، لَكِنِ الْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: يَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَلَا يَدْخُلُ مَعَهُ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ.وَإِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ رُبَاعِيَّةً، وَكَانَ الْمُنْفَرِدُ قَدْ قَيَّدَ الرَّكْعَةَ الْأُولَى بِالسُّجُودِ، شَفَعَ بِرَكْعَةٍ أُخْرَى، وَسَلَّمَ وَاقْتَدَى بِالْإِمَامِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَقَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ لِلْجُلُوسِ، وَيُعِيدُ التَّشَهُّدَ، وَيُسَلِّمُ وَيَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ.وَإِنْ كَانَ قَدْ قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ فَإِنَّهُ يُتِمُّ صَلَاتَهُ، وَيَقْتَدِي بِالْإِمَامِ مُتَنَفِّلًا، إِلاَّ فِي الْعَصْرِ، كَمَا هُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِكَرَاهَةِ النَّفْلِ بَعْدَهُ.
21- مَنْ شَرَعَ فِي صَلَاةٍ فَائِتَةٍ وَأُقِيمَتِ الْحَاضِرَةُ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ صَلَاتَهُ، لَكِنَّهُ لَوْ خَافَ فَوْتَ جَمَاعَةِ الْحَاضِرَةِ قَبْلَ قَضَاءِ الْفَائِتَةِ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبَ تَرْتِيبٍ قَضَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَقْتَدِي؛ لِإِحْرَازِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ، مَعَ جَوَازِ تَأْخِيرِ الْقَضَاءِ وَإِمْكَانِ تَلَافِيهِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ ذَلِكَ عَنِ الْخَيْرِ الرَّمْلِيِّ: وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا، أَوْ فِي حُكْمِ الْوَاجِبِ.
أَمَّا إِذَا شَرَعَ فِي قَضَاءِ فَرْضٍ، وَأُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ فِي ذَلِكَ الْفَرْضِ بِعَيْنِهِ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ وَيَقْتَدِي.وَعُزِيَ لِلْخُلَاصَةِ: أَنَّهُ لَوْ شَرَعَ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ، ثُمَّ أُقِيمَتْ لَا يَقْطَعُ، هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ شَرَعَ فِي فَرِيضَةٍ، وَأُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ فِي غَيْرِهَا، بِأَنْ كَانَ فِي ظُهْرٍ، فَأُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْعَصْرُ مَثَلًا قَطَعَ صَلَاتَهُ الَّتِي فِيهَا إِنْ خَشِيَ، بِأَنْ تَحَقَّقَ أَوْ ظَنَّ فَوَاتَ رَكْعَةٍ مَعَ الْإِمَامِ، وَإِنْ لَمْ يَخْشَ فَوَاتَ رَكْعَةٍ مَعَ الْإِمَامِ بِأَنْ تَحَقَّقَ أَوْ ظَنَّ إِدْرَاكَهُ فِي الْأُولَى عَقِبَ إِتْمَامِ مَا هُوَ فِيهِ فَلَا يَقْطَعُ بَلْ يُتِمُّ صَلَاتَهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ كَانَ يُصَلِّي فَائِتَةً، وَالْجَمَاعَةُ تُصَلِّي الْحَاضِرَةَ فَلَا يَقْلِبُ صَلَاتَهُ نَفْلًا لِيُصَلِّيَهَا جَمَاعَةً، إِذْ لَا تُشْرَعُ فِيهَا الْجَمَاعَةُ حِينَئِذٍ، خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ، فَإِنْ كَانَتِ الْجَمَاعَةُ فِي تِلْكَ الْفَائِتَةِ بِعَيْنِهَا جَازَ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ لَا يُنْدَبُ، أَيْ جَازَ قَطْعُ صَلَاتِهِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَيَقْتَدِي بِالْإِمَامِ.
مَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَصَدَ الْجَمَاعَةَ:
22- يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ إِذَا أَقْبَلَ إِلَى الصَّلَاةِ: أَنْ يُقْبِلَ بِخَوْفٍ وَوَجَلٍ وَخُشُوعٍ وَخُضُوعٍ، وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَإِنْ سَمِعَ الْإِقَامَةَ لَمْ يَسْعَ إِلَيْهَا فِي عَجَلَةٍ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا تَمْشُونَ، وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: فَلَا تَفْعَلُوا، إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا»، وَفِي رِوَايَةٍ: «فَاقْضُوا».
وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو إِسْحَاقَ: إِنْ خَافَ فَوَاتَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى فَلَا بَأْسَ أَنْ يُسْرِعَ إِذَا طَمِعَ أَنْ يُدْرِكَهَا مَا لَمْ يَكُنْ عَجَلَةً تَقْبُحُ، جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَجِّلُونَ شَيْئًا إِذَا خَافُوا فَوَاتَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى، وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ اشْتَدَّ إِلَى الصَّلَاةِ وَقَالَ: بَادِرُوا حَدَّ الصَّلَاةِ يَعْنِي التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ الْإِسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ لِلصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ لِإِدْرَاكِ فَضْلِهَا إِسْرَاعًا يَسِيرًا بِلَا خَبَبٍ أَيْ بِلَا جَرْيٍ يُذْهِبُ الْخُشُوعَ، فَيُكْرَهُ، وَلَوْ خَافَ فَوَاتَ إِدْرَاكِهَا وَلَوْ جُمُعَةً؛ لِأَنَّ لَهَا بَدَلًا؛ وَلِأَنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا أَذِنَ فِي السَّعْيِ مَعَ السَّكِينَةِ، فَانْدَرَجَتِ الْجُمُعَةُ وَغَيْرُهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلٍّ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهِ وَيَضِيقُ الْوَقْتُ، بِحَيْثُ يَخْشَى فَوَاتَهُ إِنْ لَمْ يُسْرِعْ، فَيَجِبُ حِينَئِذٍ.
كَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ ضَاقَ الْوَقْتُ وَخَشِيَ فَوَاتَهُ فَلْيُسْرِعْ، كَمَا لَوْ خَشِيَ فَوَاتَ الْجُمُعَةِ وَكَذَلِكَ لَوِ امْتَدَّ الْوَقْتُ، وَكَانَتْ لَا تَقُومُ إِلاَّ بِهِ، وَلَوْ لَمْ يُسْرِعْ لَتَعَطَّلَتْ، قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَارِبَ بَيْنَ خَطْوِهِ لِتَكْثُرَ حَسَنَاتُهُ، فَإِنَّ كُلَّ خُطْوَةٍ يُكْتَبُ لَهُ بِهَا حَسَنَةٌ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: «أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَمْشِي وَأَنَا مَعَهُ فَقَارَبَ فِي الْخُطَى ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرِي لِمَ فَعَلْتُ هَذَا؟ لِتَكْثُرَ خُطَانَا فِي طَلَبِ الصَّلَاةِ».
كَيْفِيَّةُ انْتِظَامِ الْمُصَلِّينَ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ:
23- إِذَا انْعَقَدَتِ الْجَمَاعَةُ بِأَقَلَّ مَا تَنْعَقِدُ بِهِ (وَاحِدٌ مَعَ الْإِمَامِ) فَالسُّنَّةُ أَنْ يَقِفَ الْمَأْمُومُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ إِذَا كَانَ رَجُلًا أَوْ صَبِيًّا يَعْقِلُ، فَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً أَقَامَهَا خَلْفَهُ، وَلَوْ كَانَ مَعَ الْإِمَامِ اثْنَانِ، فَإِنْ كَانَا رَجُلَيْنِ أَقَامَهُمَا خَلْفَهُ، وَإِنْ كَانَا رَجُلًا وَامْرَأَةً أَقَامَ الرَّجُلَ عَنْ يَمِينِهِ وَالْمَرْأَةَ خَلْفَ الرَّجُلِ.
وَلَوْ كَانَتِ الْجَمَاعَةُ كَثِيرَةً وَفِيهِمْ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ قَامَ الرِّجَالُ فِي الصُّفُوفِ الْأُولَى خَلْفَ الْإِمَامِ، ثُمَّ قَامَ الصِّبْيَانُ مِنْ وَرَاءِ الرِّجَالِ، ثُمَّ قَامَ النِّسَاءُ مِنْ وَرَاءِ الصِّبْيَانِ.
وَفِي جَمَاعَةِ النِّسَاءِ تَقِفُ الَّتِي تَؤُمُّ النِّسَاءَ وَسَطَهُنَّ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ الْإِمَامُ عَنِ الْمَأْمُومِينَ فِي الْمَوْقِفِ، وَلَا يَكُونُ مَوْقِفُ الْإِمَامِ أَعْلَى مِنْ مَوْقِفِ الْمُقْتَدِينَ.
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: مُصْطَلَحِ (إِمَامَةُ الصَّلَاةِ ج 6 ف 20- 21- 22).
أَفْضَلِيَّةُ الصُّفُوفِ وَتَسْوِيَتُهَا:
24- يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَقَدَّمَ النَّاسُ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ؛ لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تَحُثُّ عَلَى التَّقَدُّمِ إِلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ، فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ لَكَانَتْ قُرْعَةً» وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الصَّفُّ الْأَوَّلُ عَلَى مِثْلِ صَفِّ الْمَلَائِكَةِ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ فَضِيلَتَهُ لَابْتَدَرْتُمُوهُ».
كَمَا يُسْتَحَبُّ إِتْمَامُ الصُّفُوفِ، وَلَا يَشْرَعُ فِي صَفٍّ حَتَّى يُتِمَّ مَا قَبْلَهُ، فَيَبْدَأُ بِإِتْمَامِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ وَهَكَذَا إِلَى آخِرِ الصُّفُوفِ، فَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ».
وَيُسْتَحَبُّ الِاعْتِدَالُ فِي الصُّفُوفِ، فَإِذَا وَقَفُوا فِي الصَّفِّ لَا يَتَقَدَّمُ بَعْضُهُمْ بِصَدْرِهِ أَوْ غَيْرِهِ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَيُسَوِّي الْإِمَامُ بَيْنَهُمْ فَفِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ عَنِ الْبَرَاءِ «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَأْتِي نَاحِيَةَ الصَّفِّ وَيُسَوِّي بَيْنَ صُدُورِ الْقَوْمِ وَمَنَاكِبِهِمْ، وَيَقُولُ: لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصُّفُوفِ الْأُوَلِ».
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الْأُوَلَ، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ» وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: «أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي وَكَانَ أَحَدُنَا يَلْزَقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ».
كَمَا يُسْتَحَبُّ سَدُّ الْفُرَجِ، وَالْإِفْسَاحُ لِمَنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الصَّفِّ.فَقَدْ وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَقِيمُوا الصُّفُوفَ، وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ وَسُدُّوا الْخَلَلَ، وَلِينُوا بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ، وَلَا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ».
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاسْتِحْبَابُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ إِلَى آخِرِهَا- هَذَا الْحُكْمُ مُسْتَمِرٌّ فِي صُفُوفِ الرِّجَالِ بِكُلِّ حَالٍ، وَكَذَا فِي صُفُوفِ النِّسَاءِ الْمُنْفَرِدَاتِ بِجَمَاعَتِهِنَّ عَنْ جَمَاعَةِ الرِّجَالِ، أَمَّا إِذَا صَلَّتِ النِّسَاءُ مَعَ الرِّجَالِ جَمَاعَةً وَاحِدَةً، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ فَأَفْضَلُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا.
لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا، وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا».
صَلَاةُ الرَّجُلِ وَحْدَهُ خَلْفَ الصُّفُوفِ:
25- الْأَصْلُ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُونَ صُفُوفًا مُتَرَاصَّةً كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ- وَلِذَلِكَ يُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ وَاحِدٌ مُنْفَرِدًا خَلْفَ الصُّفُوفِ دُونَ عُذْرٍ، وَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَتَنْتَفِي الْكَرَاهَةُ بِوُجُودِ الْعُذْرِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: - الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ- وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ «أَبِي بَكْرَةَ: أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ رَاكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ».
قَالَ الْفُقَهَاءُ: يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ لُزُومِ الْإِعَادَةِ، وَأَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي وَرَدَ فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ».هَذَا الْأَمْرُ بِالْإِعَادَةِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ؛ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ صَلَّى وَحْدَهُ رَكْعَةً كَامِلَةً خَلْفَ الصَّفِّ مُنْفَرِدًا دُونَ عُذْرٍ؛ لِحَدِيثِ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ».
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ شَيْبَانَ: «أَنَّهُ صَلَّى بِهِمُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَانْصَرَفَ، وَرَجُلٌ فَرْدٌ خَلْفَ الصَّفِّ، قَالَ: فَوَقَفَ عَلَيْهِ نَبِيُّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ انْصَرَفَ قَالَ: اسْتَقْبِلْ صَلَاتَكَ، لَا صَلَاةَ لِلَّذِي خَلْفَ الصَّفِّ».
فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ فَإِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ نَهَاهُ فَقَالَ: «لَا تُعِدْ»، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، وَعُذْرُهُ فِيمَا فَعَلَهُ لِجَهْلِهِ بِتَحْرِيمِهِ، وَلِلْجَهْلِ تَأْثِيرٌ فِي الْعَفْوِ.
وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ كَيْفِيَّةِ تَصَرُّفِ الْمَأْمُومِ لِيَجْتَنِبَ الصَّلَاةَ مُنْفَرِدًا خَلْفَ الصَّفِّ، حَتَّى تَنْتَفِيَ الْكَرَاهَةُ، كَمَا يَقُولُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَتَصِحُّ كَمَا يَقُولُ الْحَنَابِلَةُ:
26- مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَقَدْ أُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ، فَإِنْ وَجَدَ فُرْجَةً فِي الصَّفِّ الْأَخِيرِ وَقَفَ فِيهَا، أَوْ وَجَدَ الصَّفَّ غَيْرَ مَرْصُوصٍ وَقَفَ فِيهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يَصِلُونَ الصُّفُوفَ».
وَإِنْ وَجَدَ الْفُرْجَةَ فِي صَفٍّ مُتَقَدِّمٍ فَلَهُ أَنْ يَخْتَرِقَ الصُّفُوفَ لِيَصِلَ إِلَيْهَا لِتَقْصِيرِ الْمُصَلِّينَ فِي تَرْكِهَا، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ نَظَرَ إِلَى فُرْجَةٍ فِي صَفٍّ فَلْيَسُدَّهَا بِنَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَمَرَّ مَارٌّ، فَلْيَتَخَطَّ عَلَى رَقَبَتِهِ فَإِنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ».
وَلِأَنَّ سَدَّ الْفُرْجَةِ الَّتِي فِي الصُّفُوفِ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لَهُ وَلِلْقَوْمِ بِإِتْمَامِ صَلَاتِهِ وَصَلَاتِهِمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ.وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِسَدِّ الْفُرَجِ.
وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ إِذْ إِنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ يُحَدِّدُ الصُّفُوفَ الَّتِي يَجُوزُ اخْتِرَاقُهَا بِصَفَّيْنِ غَيْرِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ وَاَلَّذِي دَخَلَ فِيهِ، كَذَلِكَ قَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ كَانَتِ الْفُرْجَةُ بِحِذَائِهِ كُرِهَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَيْهَا عَرْضًا بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ لَكَانَ أَنْ يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ».
27- وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فُرْجَةً فِي أَيِّ صَفٍّ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَهُ حِينَئِذٍ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ لَمْ يَجِدْ فُرْجَةً يَنْبَغِي أَنْ يَنْتَظِرَ مَنْ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ لِيَصْطَفَّ مَعَهُ خَلْفَ الصَّفِّ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدًا وَخَافَ فَوَاتَ الرَّكْعَةِ جَذَبَ مِنَ الصَّفِّ إِلَى نَفْسِهِ مَنْ يَعْرِفُ مِنْهُ عِلْمًا وَخُلُقًا لِكَيْ لَا يَغْضَبَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ وَقَفَ خَلْفَ الصَّفِّ بِحِذَاءِ الْإِمَامِ، وَلَا كَرَاهَةَ حِينَئِذٍ، لِأَنَّ الْحَالَ حَالُ الْعُذْرِ، هَكَذَا ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ فِي الْبَدَائِعِ، لَكِنْ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ ذَكَرَ فِي الْفَتْحِ: أَنَّ مَنْ جَاءَ وَالصَّفُّ مَلْآنُ يَجْذِبُ وَاحِدًا مِنْهُ، لِيَكُونَ مَعَهُ صَفًّا آخَرَ، ثُمَّ قَالَ: وَيَنْبَغِي لِذَلِكَ (أَيْ لِمَنْ كَانَ فِي الصَّفِّ) أَنْ لَا يُجِيبَهُ، فَتَنْتَفِيَ الْكَرَاهَةُ عَنْ هَذَا؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ وُسْعَهُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الدُّخُولُ فِي الصَّفِّ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي مُنْفَرِدًا عَنِ الْمَأْمُومِينَ، وَلَا يَجْذِبُ أَحَدًا مِنَ الصَّفِّ، وَإِنْ جَذَبَ أَحَدًا فَلَا يُطِعْهُ الْمَجْذُوبُ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْجَذْبِ وَالْإِطَاعَةِ مَكْرُوهٌ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِدْ فُرْجَةً وَلَا سِعَةً فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجُرَّ إِلَيْهِ شَخْصًا مِنَ الصَّفِّ لِيَصْطَفَّ مَعَهُ، لَكِنْ مَعَ مُرَاعَاةِ أَنَّ الْمَجْرُورَ سَيُوَافِقُهُ، وَإِلاَّ فَلَا يَجُرُّ أَحَدًا مَنْعًا لِلْفِتْنَةِ، وَإِذَا جَرَّ أَحَدًا فَيُنْدَبُ لِلْمَجْرُورِ أَنْ يُسَاعِدَهُ لِيَنَالَ فَضْلَ الْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى.
وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ- وَهُوَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيِّ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ- أَنَّهُ يَقِفُ مُنْفَرِدًا، وَلَا يَجْذِبُ أَحَدًا؛ لِئَلاَّ يُحْرِمَ غَيْرَهُ فَضِيلَةَ الصَّفِّ السَّابِقِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ لَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا فِي الصَّفِّ يَقِفُ فِيهِ وَقَفَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ إِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَوْقِفُ الْوَاحِدِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْوُقُوفُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ فَلَهُ أَنْ يُنَبِّهَ رَجُلًا مِنَ الصَّفِّ لِيَقِفَ مَعَهُ، وَيُنَبِّهَهُ بِكَلَامٍ أَوْ بِنَحْنَحَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ وَيَتْبَعُهُ مَنْ يُنَبِّهُهُ.وَظَاهِرُهُ وُجُوبًا لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ.وَيُكْرَهُ تَنْبِيهُهُ بِجَذْبِهِ نَصًّا، وَاسْتَقْبَحَهُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: جَوَّزَ أَصْحَابُنَا جَذْبَ رَجُلٍ يَقُومُ مَعَهُ صَفًّا، وَصَحَّحَ ذَلِكَ ابْنُ قُدَامَةَ؛ لِأَنَّ الْحَالَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهِ، فَجَازَ كَالسُّجُودِ عَلَى ظَهْرِهِ أَوْ قَدَمِهِ حَالَ الزِّحَامِ.وَلَيْسَ هَذَا تَصَرُّفًا فِيهِ، إِنَّمَا هُوَ تَنْبِيهُهُ لِيَخْرُجَ مَعَهُ، فَجَرَى مَجْرَى مَسْأَلَتِهِ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُ، وَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لِينُوا بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ» فَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَهُ لَمْ يُكْرِهْهُ وَصَلَّى وَحْدَهُ.
الْأَعْذَارُ الَّتِي تُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ:
الْأَعْذَارُ الَّتِي تُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ: مِنْهَا مَا هُوَ عَامٌّ، وَمِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ.وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي: -
أَوَّلًا: الْأَعْذَارُ الْعَامَّةُ:
28- أ- الْمَطَرُ الشَّدِيدُ الَّذِي يَشُقُّ مَعَهُ الْخُرُوجُ لِلْجَمَاعَةِ، وَاَلَّذِي يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى تَغْطِيَةِ رُءُوسِهِمْ.
ب- الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ لَيْلًا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ.
ج- الْبَرْدُ الشَّدِيدُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، وَكَذَلِكَ الْحَرُّ الشَّدِيدُ.وَالْمُرَادُ الْبَرْدُ أَوِ الْحَرُّ الَّذِي يَخْرُجُ عَمَّا أَلِفَهُ النَّاسُ أَوْ أَلِفَهُ أَصْحَابُ الْمَنَاطِقِ الْحَارَّةِ أَوِ الْبَارِدَةِ.
د- الْوَحْلُ الشَّدِيدُ الَّذِي يَتَأَذَّى بِهِ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ وَثِيَابِهِ، وَلَا يُؤْمَنُ مَعَهُ التَّلَوُّثُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنِ الْجَمَاعَةِ فِي طِينٍ وَرَدْغَةٍ فَقَالَ: لَا أُحِبُّ تَرْكَهَا.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَفِي شَرْحِ الزَّاهِدِيِّ عَنْ شَرْحِ التُّمُرْتَاشِيِّ: اخْتُلِفَ فِي كَوْنِ الْأَمْطَارِ وَالثُّلُوجِ وَالْأَوْحَالِ وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ عُذْرًا، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِذَا اشْتَدَّ التَّأَذِّي يُعْذَرُ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- وَهُوَ مُقَابِلُ الصَّحِيحِ- أَنَّ الْوَحْلَ لَيْسَ بِعُذْرٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عُذْرٌ.
هـ- الظُّلْمَةُ الشَّدِيدَةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا كَوْنُ الْإِنْسَانِ لَا يُبْصِرُ طَرِيقَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ إِيقَادَ نَحْوِ سِرَاجٍ وَإِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ.وَالدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِ الْأَعْذَارِ السَّابِقَةِ مِنْ مَطَرٍ وَغَيْرِهِ تُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ وَمِنْهَا: -
مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَذَّنَ بِالصَّلَاةِ فِي لَيْلَةِ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ فَقَالَ: «أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةً ذَاتَ بَرْدٍ وَمَطَرٍ يَقُولُ: أَلَا صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ: «كَانَ يَأْمُرُ مُنَادِيَهُ فِي اللَّيْلَةِ الْمُمْطِرَةِ وَاللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ ذَاتِ الرِّيحِ أَنْ يَقُولَ: أَلَا صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ».
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ: إِذَا قُلْتَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَلَا تَقُلْ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ.قُلْ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ.قَالَ: فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذَاكَ.فَقَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ ذَا؟ قَدْ فَعَلَ ذَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي.إِنَّ الْجُمُعَةَ عَزْمَةٌ.وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ، فَتَمْشُوا فِي الطِّينِ وَالدَّحْضِ».
ثَانِيًا: الْأَعْذَارُ الْخَاصَّةُ:
أ- الْمَرَضُ:
29- وَهُوَ الْمَرَضُ الَّذِي يَشُقُّ مَعَهُ الْإِتْيَانُ إِلَى الْمَسْجِدِ لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنِ الْجَمَاعَاتِ مِنْ أَجْلِ الْمَرَضِ، وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا مَرِضَ تَخَلَّفَ عَنِ الْمَسْجِدِ وَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» وَمِنْ ذَلِكَ كِبَرُ السِّنِّ الَّذِي يَشُقُّ مَعَهُ الْإِتْيَانُ إِلَى الْمَسْجِدِ.
ب- الْخَوْفُ:
30- وَهُوَ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ-؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ، فَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ اتِّبَاعِهِ عُذْرٌ، قَالُوا: وَمَا الْعُذْرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: خَوْفٌ أَوْ مَرَضٌ، لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الصَّلَاةُ الَّتِي صَلَّى».
وَالْخَوْفُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: خَوْفٌ عَلَى النَّفْسِ، وَخَوْفٌ عَلَى الْمَالِ، وَخَوْفٌ عَلَى الْأَهْلِ.
الْأَوَّلُ: أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ سُلْطَانًا يَأْخُذُهُ، أَوْ عَدُوًّا أَوْ لِصًّا أَوْ سَبُعًا أَوْ دَابَّةً أَوْ سَيْلًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُؤْذِيهِ فِي نَفْسِهِ، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَخَافَ غَرِيمًا لَهُ يُلَازِمُهُ، وَلَا شَيْءَ مَعَهُ يُوَفِّيَهُ؛ لِأَنَّ حَبْسَهُ بِدَيْنٍ هُوَ مُعْسِرٌ بِهِ ظُلْمٌ لَهُ.فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ عُذْرًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ إِيفَاؤُهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ: الْخَوْفُ مِنْ تَوْقِيعِ عُقُوبَةٍ، كَتَعْزِيرٍ وَقَوَدٍ وَحَدِّ قَذْفٍ مِمَّا يَقْبَلُ الْعَفْوَ.فَإِنْ كَانَ يَرْجُو الْعَفْوَ عَنِ الْعُقُوبَةِ إِنْ تَغَيَّبَ أَيَّامًا عَنِ الْجَمَاعَةِ كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا.فَإِنْ لَمْ يَرْجُ الْعَفْوَ أَوْ كَانَ الْحَدُّ، مِمَّا لَا يَقْبَلُ الْعَفْوَ كَحَدِّ الزِّنَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا، وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ.
وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِيمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ قِصَاصٌ، فَلَمْ يَعْتَبِرْهُ بَعْضُهُمْ عُذْرًا، وَاعْتَبَرَهُ بَعْضُهُمْ عُذْرًا إِنْ رَجَا الْعَفْوَ مَجَّانًا أَوْ عَلَى مَالٍ، وَقَالَ الْقَاضِي: إِنْ كَانَ يَرْجُو الصُّلْحَ عَلَى مَالٍ فَلَهُ التَّخَلُّفُ حَتَّى يُصَالِحَ.أَمَّا الْحُدُودُ، فَمَا كَانَ حَقًّا لآِدَمِيٍّ كَحَدِّ الْقَذْفِ فَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ عُذْرًا فِي التَّخَلُّفِ، لَكِنِ ابْنُ مُفْلِحٍ قَالَ فِي كِتَابِهِ الْفُرُوعِ: وَيَتَوَجَّهُ فِيهِ وَجْهٌ: إِنْ رَجَا الْعَفْوَ، قَالَ فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ: وَجَزَمَ بِهِ فِي الْإِقْنَاعِ.
أَمَّا الْحُدُودُ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْعَفْوَ فَلَا تُعْتَبَرُ عُذْرًا.
الثَّانِي: أَنْ يَخَافَ عَلَى مَالِهِ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ لِصٍّ، أَوْ يَخَافَ أَنْ يُسْرَقَ مَنْزِلُهُ أَوْ يُحْرَقَ مِنْهُ شَيْءٌ، أَوْ يَكُونَ لَهُ خُبْزٌ فِي تَنُّورٍ أَوْ طَبِيخٌ عَلَى نَارٍ، وَيَخَافُ حَرِيقَهُ بِاشْتِغَالِهِ عَنْهُ، أَوْ يَكُونُ لَهُ غَرِيمٌ إِنْ تَرَكَ مُلَازَمَتَهُ ذَهَبَ بِمَالِهِ، أَوْ يَكُونَ لَهُ بِضَاعَةٌ أَوْ وَدِيعَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهُ ذَهَبَ، أَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ كَوَدِيعَةٍ أَوْ رَهْنٍ أَوْ عَارِيَّةً مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ حِفْظُهُ، وَيَخَافُ تَلَفَهُ بِتَرْكِهِ.وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْخَوْفُ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ.
الثَّالِثُ: الْخَوْفُ عَلَى الْأَهْلِ: مَنْ وَلَدٍ وَوَالِدٍ وَزَوْجٍ إِنْ كَانَ يَقُومُ بِتَمْرِيضِ أَحَدِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ: الْقِيَامُ بِتَمْرِيضِهِ الْأَجْنَبِيَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَقُومُ بِتَمْرِيضِهِ، وَكَانَ يَخْشَى عَلَيْهِ الضَّيَاعَ لَوْ تَرَكَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- اسْتَصْرَخَ عَلَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَهُوَ يَتَجَمَّرُ لِلْجُمُعَةِ، فَأَتَاهُ بِالْعَقِيقِ، وَتَرَكَ الْجُمُعَةَ.
ج- حُضُورُ طَعَامٍ تَشْتَاقُهُ نَفْسُهُ وَتُنَازِعُهُ إِلَيْهِ:
31- قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِالْعَشَاءِ قَبْلَ الصَّلَاةِ؛ لِيَكُونَ أَفْرَغَ لِقَلْبِهِ وَأَحْضَرَ لِبَالِهِ، وَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَعْجَلَ عَنْ عَشَائِهِ أَوْ غَدَائِهِ، فَإِنَّ أَنَسًا رَوَى عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا قَرُبَ الْعَشَاءُ وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَابْدَءُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلُّوا صَلَاةَ الْمَغْرِبِ، وَلَا تَعْجَلُوا عَنْ عَشَائِكُمْ» وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَخَافَ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ أَوْ لَا يَخَافَ، فَإِنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ أَنَسٍ: «إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ» وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ وَلَا يَعْجَلُنَّ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ».وَتَعَشَّى ابْنُ عُمَرَ وَهُوَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّمَا يُقَدِّمُ الْعَشَاءَ عَلَى الْجَمَاعَةِ إِذَا كَانَتْ نَفْسُهُ تَتُوقُ إِلَى الطَّعَامِ كَثِيرًا، وَنَحْوَهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ.وَقَالَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ عُمَرُ وَابْنُهُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا نَقُومُ إِلَى الصَّلَاةِ وَفِي أَنْفُسِنَا شَيْءٌ.قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَلَّى بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ فَأَكْمَلَ صَلَاتَهُ أَنَّ صَلَاتَهُ تُجْزِئُهُ.
د- مُدَافَعَةُ أَحَدِ الْأَخْبَثَيْنِ:
32- وَمِثْلُهُمَا الرِّيحُ، فَإِنَّ ذَلِكَ عُذْرٌ يُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ، قَالَتِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ، وَلَا هُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ» وَلِأَنَّ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ مَعَ مُدَافَعَةِ أَحَدِ الْأَخْبَثَيْنِ يُبْعِدُهُ عَنِ الْخُشُوعِ فِيهَا وَيَكُونُ مَشْغُولًا عَنْهَا.
هـ- أَكْلُ ذِي رَائِحَةٍ كَرِيهَةٍ:
33- وَذَلِكَ كَبَصَلٍ وَثُومٍ وَكُرَّاثٍ وَفُجْلٍ إِذَا تَعَذَّرَ زَوَالُ رَائِحَتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ عُذْرٌ يُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ، حَتَّى لَا يَتَأَذَّى بِهِ النَّاسُ وَالْمَلَائِكَةُ؛ لِحَدِيثِ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ: الثُّومِ- وَقَالَ مَرَّةً: مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ- فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ».وَالْمُرَادُ أَكْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ نِيئَةً، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَنْ كَانَتْ حِرْفَتُهُ لَهَا رَائِحَةٌ مُؤْذِيَةٌ، كَالْجَزَّارِ وَالزَّيَّاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.وَمِثْلُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ بِهِ مَرَضٌ يَتَأَذَّى بِهِ النَّاسُ، كَجُذَامٍ وَبَرَصٍ، فَفِي كُلِّ ذَلِكَ يُبَاحُ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ.
و- الْعُرْيُ:
34- فَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَسْتُرُ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ.وَهَذَا إِذَا كَانَ مِنْ عَادَةِ أَمْثَالِهِ الْخُرُوجُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: الْأَلْيَقُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ: أَنَّهُ إِنْ وَجَدَ مَا يَلِيقُ بِأَمْثَالِهِ خَرَجَ لِلْجَمَاعَةِ، وَإِلاَّ فَلَا.
ز- الْعَمَى:
35- اعْتَبَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْعَمَى عُذْرٌ يُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَإِنْ وَجَدَ قَائِدًا.وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عُذْرًا إِلاَّ أَنْ لَا يَجِدَ قَائِدًا، وَلَمْ يَهْتَدِ لِلطَّرِيقِ بِنَفْسِهِ.
ح- إِرَادَةُ السَّفَرِ:
36- مَنْ تَأَهَّبَ لِسَفَرٍ مُبَاحٍ مَعَ رُفْقَةٍ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الْجَمَاعَةُ، وَكَانَ يَخْشَى إِنْ حَضَرَ الْجَمَاعَةَ أَنْ تَفُوتَهُ الْقَافِلَةُ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ.
ط- غَلَبَةُ النُّعَاسِ وَالنَّوْمِ:
37- فَمَنْ غَلَبَهُ النُّعَاسُ وَالنَّوْمُ إِنِ انْتَظَرَ الْجَمَاعَةَ صَلَّى وَحْدَهُ.وَكَذَلِكَ لَوْ غَلَبَهُ النُّعَاسُ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ «رَجُلًا صَلَّى مَعَ مُعَاذٍ، ثُمَّ انْفَرَدَ فَصَلَّى وَحْدَهُ عِنْدَ تَطْوِيلِ مُعَاذٍ، وَخَوْفِ النُّعَاسِ وَالْمَشَقَّةِ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ أَخْبَرَهُ» وَالْأَفْضَلُ الصَّبْرُ وَالتَّجَلُّدُ عَلَى رَفْعِ النُّعَاسِ وَالصَّلَاةِ جَمَاعَةً.
ي- زِفَافُ الزَّوْجَةِ:
38- فَزِفَافُ الزَّوْجَةِ عُذْرٌ يُبِيحُ لِلزَّوْجِ التَّخَلُّفَ عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، لَكِنِ الشَّافِعِيَّةُ قَيَّدُوهُ بِالتَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَوَاتِ اللَّيْلِيَّةِ فَقَطْ، وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَمْ يَعْتَبِرُوا ذَلِكَ عُذْرًا، وَخَفَّفَ مَالِكٌ لِلزَّوْجِ تَرْكَ بَعْضِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ لِلِاشْتِغَالِ بِزَوْجِهِ وَالسَّعْيِ إِلَى تَأْنِيسِهَا وَاسْتِمَالَتِهَا.
39- ك- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الْأَعْذَارِ الَّتِي تُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ: الِاشْتِغَالَ بِالْفِقْهِ؛ لَا بِغَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ.كَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ مِنَ الْأَعْذَارِ: السِّمَنَ الْمُفْرِطَ.
- رحمه الله-
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
291-موسوعة الفقه الكويتية (صلاة الكسوف)
صَلَاةُ الْكُسُوفِالتَّعْرِيفُ:
1- هَذَا الْمُصْطَلَحُ مُرَكَّبٌ فِي لَفْظَيْنِ تَرْكِيبَ إِضَافَةٍ: صَلَاةٍ، وَالْكُسُوفِ.فَالصَّلَاةُ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلَاة).
أَمَّا الْكُسُوفُ: فَهُوَ ذَهَابُ ضَوْءِ أَحَدِ النَّيِّرَيْنِ (الشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ) أَوْ بَعْضِهِ، وَتَغَيُّرُهُ إِلَى سَوَادٍ، يُقَالُ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ، وَكَذَا خَسَفَتْ، كَمَا يُقَالُ: كَسَفَ الْقَمَرُ، وَكَذَا خَسَفَ، فَالْكُسُوفُ، وَالْخُسُوفُ، مُتَرَادِفَانِ، وَقِيلَ: الْكُسُوفُ لِلشَّمْسِ، وَالْخُسُوفُ لِلْقَمَرِ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ فِي اللُّغَةِ.
وَصَلَاةُ الْكُسُوفِ: صَلَاةٌ تُؤَدَّى بِكَيْفِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ، عِنْدَ ظُلْمَةِ أَحَدِ النَّيِّرَيْنِ أَوْ بَعْضِهِمَا.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2- الصَّلَاةُ لِكُسُوفِ الشَّمْسِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَفِيَّةِ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ.
أَمَّا الصَّلَاةُ لِخُسُوفِ الْقَمَرِ فَهِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهِيَ حَسَنَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَنْدُوبَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ: كَخَبَرِ الشَّيْخَيْنِ: أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللَّهَ، وَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ» «وَلِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- صَلاَّهَا لِكُسُوفِ الشَّمْسِ» كَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَلِكُسُوفِ الْقَمَرِ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِهِ الثِّقَاتِ.
وَعَنِ «ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه-: أَنَّهُ صَلَّى بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ: إِنَّمَا صَلَّيْتُ لِأَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي».وَالصَّارِفُ عَنِ الْوُجُوبِ: حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ الْمَعْرُوفُ: «هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا» وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ ذَاتُ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ، لَا أَذَانَ لَهَا وَلَا إِقَامَةَ، كَصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ.
وَقْتُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ:
3- وَوَقْتُهَا مِنْ ظُهُورِ الْكُسُوفِ إِلَى حِينِ زَوَالِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللَّهَ وَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ» فَجَعَلَ الِانْجِلَاءَ غَايَةً لِلصَّلَاةِ؛ وَلِأَنَّهَا شُرِعَتْ رَغْبَةً إِلَى اللَّهِ فِي رَدِّ نِعْمَةِ الضَّوْءِ، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنَ الصَّلَاةِ.
صَلَاةُ الْكُسُوفِ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ:
4- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ إِلَى أَنَّهَا لَا تُصَلَّى فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا، كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، فَإِنْ صَادَفَ الْكُسُوفَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لَمْ تُصَلَّ، جُعِلَ فِي مَكَانِهَا تَسْبِيحًا، وَتَهْلِيلًا، وَاسْتِغْفَارًا، وَقَالُوا: لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الصَّلَاةُ نَافِلَةً فَالتَّنَفُّلُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مَكْرُوهٌ وَإِنْ كَانَ لَهَا سَبَبٌ.وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً فَأَدَاءُ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ فِيهَا مَكْرُوهٌ أَيْضًا وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ- وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ مَالِكٍ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ-: تُصَلَّى فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ مُتَقَدِّمٌ أَوْ مُقَارِنٌ، كَالْمَقْضِيَّةِ وَصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَرَكْعَتَيِ الْوُضُوءِ، وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهَا إِذَا طَلَعَتْ مَكْسُوفَةً يُصَلَّى حَالًا، وَإِذَا دَخَلَ الْعَصْرُ مَكْسُوفَةً، أَوْ كُسِفَتْ عِنْدَهُمَا لَمْ يُصَلَّ لَهَا.
فَوَاتُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ:
5- تَفُوتُ صَلَاةُ كُسُوفِ الشَّمْسِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلِ: انْجِلَاءِ جَمِيعِهَا، فَإِنِ انْجَلَى الْبَعْضُ فَلَهُ الشُّرُوعُ فِي الصَّلَاةِ لِلْبَاقِي، كَمَا لَوْ لَمْ يَنْكَسِفْ إِلاَّ ذَلِكَ الْقَدْرُ.
الثَّانِي: بِغُرُوبِهَا كَاسِفَةً.
وَيَفُوتُ خُسُوفُ الْقَمَرِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: الِانْجِلَاءُ الْكَامِلُ.
الثَّانِي: طُلُوعِ الشَّمْسِ،
وَلَوْ حَالَ سَحَابٌ، وَشُكَّ فِي الِانْجِلَاءِ صَلَّى؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْكُسُوفِ.وَلَوْ كَانَا تَحْتَ غَمَامٍ، فَظَنَّ الْكُسُوفَ لَمْ يُصَلَّ حَتَّى يُسْتَيْقَنَ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ غَابَ الْقَمَرُ وَهُوَ خَاسِفٌ لَمْ يُصَلَّ.وَإِنْ صَلَّ وَلَمْ تَنْجَلِ لَمْ تُكَرَّرِ الصَّلَاةُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ، وَإِنِ انْجَلَتْ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ أَتَمَّهَا؛ لِأَنَّهَا صَلَاةُ أَصْلٍ، غَيْرُ بَدَلٍ عَنْ غَيْرِهَا؛ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا بِخُرُوجِ وَقْتِهَا كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ.
سُنَنُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ:
6- يُسَنُّ لِمُرِيدِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ:
(1) أَنْ يَغْتَسِلَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ شُرِعَ لَهَا الِاجْتِمَاعُ.
(2) وَأَنْ تُصَلَّى حَيْثُ تُصَلَّى الْجُمُعَةُ؛ لِأَنَّ « النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: صَلاَّهَا فِي الْمَسْجِدِ».
(3) وَأَنْ يُدْعَى لَهَا: «الصَّلَاةَ جَامِعَةً» لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو- رضي الله عنهما-: « قَالَ: لَمَّا كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نُودِيَ: إِنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ» وَلَيْسَ لَهَا أَذَانٌ وَلَا إِقَامَةٌ اتِّفَاقًا.
(4) وَأَنْ يُكْثِرَ ذِكْرَ اللَّهِ، وَالِاسْتِغْفَارَ، وَالتَّكْبِيرَ وَالصَّدَقَةَ، وَالتَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا اسْتَطَاعَ مِنَ الْقُرَبِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا».
(5) وَأَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَلاَّهَا فِي جَمَاعَةٍ».
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: يُصَلَّى لِخُسُوفِ الْقَمَرِ وُحْدَانًا: رَكْعَتَيْنِ، رَكْعَتَيْنِ، وَلَا يُصَلُّونَهَا جَمَاعَةً، لِأَنَّ الصَّلَاةَ جَمَاعَةً لِخُسُوفِ الْقَمَرِ لَمْ تُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مَعَ أَنَّ خُسُوفَهُ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ كُسُوفِ الشَّمْسِ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ غَيْرَ الْمَكْتُوبَةِ لَا تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ إِلاَّ إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ فِيهَا.
الْخُطْبَةُ فِيهَا:
7- قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ: لَا خُطْبَةَ لِصَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَذَلِكَ لِخَبَرِ: «فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ، وَكَبِّرُوا، وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا» أَمَرَهُمْ- عليه الصلاة والسلام- بِالصَّلَاةِ، وَالدُّعَاءِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالصَّدَقَةِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِخُطْبَةٍ، وَلَوْ كَانَتِ الْخُطْبَةُ مَشْرُوعَةً فِيهَا لأَمَرَهُمْ بِهَا؛ وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ يَفْعَلُهَا الْمُنْفَرِدُ فِي بَيْتِهِ؛ فَلَمْ يُشْرَعْ لَهَا خُطْبَةٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ أَنْ يُخْطَبَ لَهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ خُطْبَتَانِ، كَخُطْبَتَيِ الْعِيدِ.لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قَامَ وَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُخْسَفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا».
8- وَتُشْرَعُ صَلَاةُ الْكُسُوفِ لِلْمُنْفَرِدِ، وَالْمُسَافِرِ وَالنِّسَاءِ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ، وَأَسْمَاءَ- رضي الله عنهما- صَلَّتَا مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.وَيُسْتَحَبُّ لِلنِّسَاءِ غَيْرِ ذَوَاتِ الْهَيْئَاتِ أَنْ يُصَلِّينَ مَعَ الْإِمَامِ، وَأَمَّا اللَّوَاتِي تُخْشَى الْفِتْنَةُ مِنْهُنَّ فَيُصَلِّينَ فِي الْبُيُوتِ مُنْفَرِدَاتٍ.فَإِنِ اجْتَمَعْنَ فَلَا بَأْسَ، إِلاَّ أَنَّهُنَّ لَا يَخْطُبْنَ.
إِذْنُ الْإِمَامِ بِصَلَاةِ الْكُسُوفِ:
9- لَا يُشْتَرَطُ لِإِقَامَتِهَا إِذْنُ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهَا نَافِلَةٌ وَلَيْسَ إِذْنُهُ شَرْطًا فِي نَافِلَةٍ، فَإِذَا تَرَكَ الْإِمَامُ صَلَاةَ الْكُسُوفِ فَلِلنَّاسِ أَنْ يُصَلُّوهَا عَلَانِيَةً إِنْ لَمْ يَخَافُوا فِتْنَةً، وَسِرًّا إِنْ خَافُوهَا، إِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: لَا يُقِيمُهَا جَمَاعَةً إِلاَّ الْإِمَامُ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ، لِأَنَّ أَدَاءَ هَذِهِ الصَّلَاةِ جَمَاعَةً عُرِفَ بِإِقَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَلَا يُقِيمُهَا إِلاَّ مَنْ هُوَ قَائِمٌ مَقَامَهُ.فَإِنْ لَمْ يُقِمْهَا الْإِمَامُ صَلَّى النَّاسُ حِينَئِذٍ فُرَادَى.وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ لِكُلِّ إِمَامِ مَسْجِدٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فِي مَسْجِدِهِ بِجَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْمِصْرِ، فَلَا تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً بِالسُّلْطَانِ كَغَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ.
كَيْفِيَّةُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ:
10- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ رَكْعَتَانِ.وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ بِهَا.
وَذَهَبَ الْأَئِمَّةُ: مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ: إِلَى أَنَّهَا رَكْعَتَانِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قِيَامَانِ، وَقِرَاءَتَانِ، وَرُكُوعَانِ، وَسَجْدَتَانِ.
وَاسْتَدَلُّوا: بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّى الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ».
وَقَالُوا: وَإِنْ كَانَتْ هُنَاكَ رِوَايَاتٌ أُخْرَى، إِلاَّ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ هِيَ أَشْهَرُ الرِّوَايَاتِ فِي الْبَابِ.
وَالْخِلَافُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي الْكَمَالِ لَا فِي الْإِجْزَاءِ وَالصِّحَّةِ فَيُجْزِئُ فِي أَصْلِ السُّنَّةِ رَكْعَتَانِ كَسَائِرِ النَّوَافِلِ عِنْدَ الْجَمِيعِ.
وَأَدْنَى الْكَمَالِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ: أَنْ يُحْرِمَ بِنِيَّةِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَيَقْرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، ثُمَّ يَرْكَعَ، ثُمَّ يَرْفَعَ رَأْسَهُ وَيَطْمَئِنَّ، ثُمَّ يَرْكَعَ ثَانِيًا، ثُمَّ يَرْفَعَ وَيَطْمَئِنَّ، ثُمَّ يَسْجُدَ سَجْدَتَيْنِ فَهَذِهِ رَكْعَةٌ.
ثُمَّ يُصَلِّيَ رَكْعَةً أُخْرَى كَذَلِكَ.فَهِيَ رَكْعَتَانِ: فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قِيَامَانِ، وَرُكُوعَانِ، وَسَجْدَتَانِ.وَبَاقِي الصَّلَاةِ مِنْ قِرَاءَةٍ، وَتَشَهُّدٍ، وَطُمَأْنِينَةٍ كَغَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ.
وَأَعْلَى الْكَمَالِ: أَنْ يُحْرِمَ، وَيَسْتَفْتِحَ، وَيَسْتَعِيذَ، وَيَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ، سُورَةَ الْبَقَرَةِ، أَوْ قَدْرَهَا فِي الطُّولِ، ثُمَّ يَرْكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا فَيُسَبِّحَ قَدْرَ مِائَةِ آيَةٍ، ثُمَّ يَرْفَعَ مِنْ رُكُوعِهِ، فَيُسَبِّحَ، وَيَحْمَدَ فِي اعْتِدَالِهِ.ثُمَّ يَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ، وَسُورَةً دُونَ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: آلَ عِمْرَانَ، أَوْ قَدْرَهَا، ثُمَّ يَرْكَعَ فَيُطِيلَ الرُّكُوعَ، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ يَرْفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ، فَيُسَبِّحَ، وَيَحْمَدَ، وَلَا يُطِيلَ الِاعْتِدَالَ، ثُمَّ يَسْجُدَ سَجْدَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، وَلَا يُطِيلَ الْجُلُوسَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ.ثُمَّ يَقُومَ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، فَيَفْعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنَ الرُّكُوعَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، لَكِنْ يَكُونُ دُونَ الْأَوَّلِ فِي الطُّولِ فِي كُلِّ مَا يَفْعَلَ ثُمَّ يَتَشَهَّدَ وَيُسَلِّمَ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهَا رَكْعَتَانِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قِيَامٌ وَاحِدٌ، وَرُكُوعٌ وَاحِدٌ وَسَجْدَتَانِ كَسَائِرِ النَّوَافِلِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: «خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَخَرَجَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَسْجِدِ وَثَابَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ» إِلَخْ» وَمُطْلَقُ الصَّلَاةِ تَنْصَرِفُ إِلَى الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ.وَفِي رِوَايَةٍ: «فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلُّونَ».
الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ وَالْإِسْرَارُ بِهَا:
11- يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَيْلِيَّةٌ وَلِخَبَرِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «إِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- جَهَرَ فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ»
وَلَا يَجْهَرُ فِي صَلَاةِ كُسُوفِ الشَّمْسِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «إِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ، فَلَمْ نَسْمَعْ لَهُ صَوْتًا».
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.وَقَالَ أَحْمَدُ، وَأَبُو يُوسُفَ: يَجْهَرُ بِهَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ.وَقَالُوا: قَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- وَفَعَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ وَبِحَضْرَتِهِ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَم.وَرَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: صَلَّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ، وَجَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ» وَلِأَنَّهَا نَافِلَةٌ شُرِعَتْ لَهَا الْجَمَاعَةُ، فَكَانَ مِنْ سُنَنِهَا الْجَهْرُ كَصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَالْعِيدَيْنِ.
اجْتِمَاعُ الْكُسُوفِ بِغَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ:
12- إِذَا اجْتَمَعَ مَعَ الْكُسُوفِ أَوِ الْخُسُوفِ غَيْرُهُ مِنَ الصَّلَاةِ: كَالْجُمُعَةِ، أَوِ الْعِيدِ، أَوْ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ، أَوِ الْوِتْرِ، وَلَمْ يُؤْمَنْ مِنَ الْفَوَاتِ، قُدِّمَ الْأَخْوَفُ فَوْتًا ثُمَّ الْآكَدُ، فَتُقَدَّمُ الْفَرِيضَةُ، ثُمَّ الْجِنَازَةُ، ثُمَّ الْعِيدُ، ثُمَّ الْكُسُوفُ.وَلَوِ اجْتَمَعَ وِتْرٌ وَخُسُوفٌ قُدِّمَ الْخُسُوفُ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ آكَدُ حِينَئِذٍ لِخَوْفِ فَوْتِهَا، وَإِنْ أُمِنَ مِنَ الْفَوَاتِ، تُقَدَّمُ الْجِنَازَةُ ثُمَّ الْكُسُوفُ أَوِ الْخُسُوفُ، ثُمَّ الْفَرِيضَةُ.
الصَّلَاةُ لِغَيْرِ الْكُسُوفِ مِنَ الْآيَاتِ:
13- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: تُسْتَحَبُّ الصَّلَاةُ فِي كُلِّ فَزَعٍ: كَالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ، وَالزَّلْزَلَةِ، وَالظُّلْمَةِ، وَالْمَطَرِ الدَّائِمِ لِكَوْنِهَا مِنَ الْأَفْزَاعِ، وَالْأَهْوَالِ.وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- صَلَّى لِزَلْزَلَةٍ بِالْبَصْرَةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَا يُصَلَّى لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ الزَّلْزَلَةُ الدَّائِمَةُ، فَيُصَلَّى لَهَا كَصَلَاةِ الْكُسُوفِ؛ لِفِعْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَمَّا غَيْرُهَا فَلَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ الصَّلَاةُ لَهُ.وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يُصَلَّى لِكُلِّ آيَةٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يُصَلَّى لِغَيْرِ الْكُسُوفَيْنِ صَلَاةُ جَمَاعَةٍ، بَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلَّى فِي بَيْتِهِ، وَأَنْ يَتَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ بِالدُّعَاءِ عِنْدَ رُؤْيَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ- رحمه الله-: لَا آمُرُ بِصَلَاةِ جَمَاعَةٍ فِي زَلْزَلَةٍ، وَلَا ظُلْمَةٍ، وَلَا لِصَوَاعِقَ، وَلَا رِيحٍ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَآمُرُ بِالصَّلَاةِ مُنْفَرِدِينَ، كَمَا يُصَلُّونَ مُنْفَرِدِينَ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُصَلَّى لِهَذِهِ الْآيَاتِ مُطْلَقًا.
- رحمه الله-
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
292-موسوعة الفقه الكويتية (الصلاة الوسطى)
الصَّلَاةُ الْوُسْطَىالتَّعْرِيفُ:
1- تَعْرِيفُ الصَّلَاةِ: انْظُرْ: صَلَاة.
وَالْوُسْطَى مُؤَنَّثُ الْأَوْسَطِ، وَأَوْسَطُ الشَّيْءِ مَا بَيْنَ طَرَفَيْهِ، وَهُوَ مِنْ أَوْسَطِ قَوْمِهِ: مِنْ خِيَارِهِمْ، «وَفِي صِفَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: أَنَّهُ مِنْ أَوْسَطِ قَوْمِهِ»، أَيْ خِيَارِهِمْ، وَالْوَسَطُ: وَسَطُ الشَّيْءِ، مَا بَيْنَ طَرَفَيْهِ، وَالْمُعْتَدِلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْعَدْلُ، وَالْخَيْرُ، يُوصَفُ بِهِ الْمُفْرَدُ وَغَيْرُهُ، وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أَيْ خِيَارًا عُدُولًا.
تَحْدِيدُ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى الْوَارِدِ ذِكْرُهَا فِي قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي:
2- قِيلَ: إِنَّهَا صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ وَغَيْرِهِ، وَنَقَلَ الْوَاحِدِيُّ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عُمَرَ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ- رضي الله عنهما- وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ- رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى- وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ.وَمُسْتَنَدُ هَؤُلَاءِ: أَنَّ صَلَاةَ الصُّبْحِ قَبْلَهَا صَلَاتَا لَيْلٍ يُجْهَرُ فِيهِمَا، وَبَعْدَهَا صَلَاتَا نَهَارٍ يُسَرُّ فِيهِمَا؛ وَلِأَنَّ وَقْتَهَا يَدْخُلُ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، وَالْقِيَامُ إِلَيْهَا شَاقٌّ فِي زَمَنِ الْبَرْدِ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ، وَفِي زَمَنِ الصَّيْفِ لِقِصَرِ اللَّيْلِ، فَخُصَّتْ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، حَتَّى لَا يُتَغَافَلَ عَنْهَا بِالنَّوْمِ.
وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فَقَرَنَهَا بِالْقُنُوتِ، وَلَا قُنُوتَ إِلاَّ فِي الصُّبْحِ، قَالَ أَبُو رَجَاءٍ: صَلَّى بِنَا ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- صَلَاةَ الْغَدَاةِ بِالْبَصْرَةِ فَقَنَتَ فِيهَا قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: هَذِهِ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى الَّتِي أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نَقُومَ فِيهَا قَانِتِينَ.
وَالْقُنُوتُ لُغَةً: يُطْلَقُ عَلَى طُولِ الْقِيَامِ وَعَلَى الدُّعَاءِ، فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ».
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ وَالِاسْتِعْمَالِ أَنَّ الْقُنُوتَ: الْعِبَادَةُ وَالدُّعَاءُ لِلَّهِ تَعَالَى فِي حَالِ الْقِيَامِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فَتَظْهَرُ الدَّلَالَةُ لِلشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْوُسْطَى الصُّبْحُ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْضَ يَكُونُ فِيهِ الدُّعَاءُ قَائِمًا غَيْرَهَا.
3- وَقِيلَ: إِنَّهَا الْعَصْرُ لِأَنَّهَا بَيْنَ صَلَاتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَصَلَاتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي قَبَسِهِ، وَابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ وَقَالَ: وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْجُمْهُورُ مِنَ النَّاسِ وَبِهِ أَقُولُ، وَنَقَلَهُ الْوَاحِدِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنهما- وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَالْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- وَعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ- رحمه الله- (- وَنَقَلَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الْأَحْزَابِ: شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ، مَلأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا».
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلَاةُ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَصْرِ».وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الَّذِي تَفُوتُهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ كَأَنَّمَا وَتَرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ».وَقَالَ: «مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبَطَ عَمَلُهُ» وَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ عُرِضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَضَيَّعُوهَا، فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَهَا حَتَّى يَطْلُعَ الشَّاهِدُ، يَعْنِي النَّجْمَ».
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ: الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ: إِنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى هِيَ الْعَصْرُ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ.ثُمَّ قَالَ: قَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي: نَصَّ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا الصُّبْحُ، وَصَحَّتِ الْأَحَادِيثُ أَنَّهَا الْعَصْرُ، وَمَذْهَبُهُ اتِّبَاعُ الْحَدِيثِ، فَصَارَ مَذْهَبُهُ أَنَّهَا الْعَصْرُ، قَالَ: وَلَا يَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ، كَمَا وَهَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا.
4- وَقِيلَ: إِنَّهَا الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ مَعًا، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} يَعْنِي صَلَاةَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ.
وَرَوَى جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِذْ نَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ: أَمَّا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا، لَا تُضَامُونَ.فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا، يَعْنِي الْعَصْرَ وَالْفَجْرَ فَافْعَلُوا ثُمَّ قَرَأَ جَرِيرٌ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} » وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ- وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ- كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ».
وَرَوَى عُمَارَةُ بْنُ رُؤَيْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا، يَعْنِي الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ» وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ» وَسُمِّيَتَا الْبَرْدَيْنِ لِأَنَّهُمَا يُفْعَلَانِ فِي وَقْتِ الْبَرْدِ.
5- وَقِيلَ: إِنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى صَلَاةُ الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ، قَالَ الدِّمْيَاطِيُّ: ذَكَرَهُ ابْنُ مِقْسَمٍ فِي تَفْسِيرِهِ.وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ- رضي الله عنه- فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: اسْمَعُوا وَبَلِّغُوا مَنْ خَلْفَكُمْ: حَافِظُوا عَلَى هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ- يَعْنِي فِي جَمَاعَةٍ- الْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَيْتُمُوهُمَا وَلَوْ حَبْوًا عَلَى مَرَافِقِكُمْ وَرُكَبِكُمْ.
وَقَالَهُ عُمَرُ وَعُثْمَانُ- رضي الله عنهما- وَوَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ صَلَاةً أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا».
وَجَعَلَ لِمُصَلِّي الصُّبْحِ فِي جَمَاعَةٍ قِيَامَ لَيْلَةٍ، وَالْعَتَمَةِ نِصْفَ لَيْلَةٍ، حَيْثُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ».
6- وَقِيلَ: هِيَ الظُّهْرُ؛ لِأَنَّهَا وَسَطُ النَّهَارِ، وَالنَّهَارُ أَوَّلُهُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّ الظُّهْرَ هِيَ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَائِشَةُ- رضي الله عنهم- وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِر عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا وُسْطَى: مَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ حِينَ أَمْلَتَا: «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ» بِالْوَاوِ، وَرُوِيَ: أَنَّهَا كَانَتْ أَشَقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَجِيءُ فِي الْهَاجِرَةِ وَهُمْ قَدْ نَفْهَتُهُمْ أَعْمَالُهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَوَرَدَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَلَمْ تَكُنْ صَلَاةٌ أَشَدُّ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْهَا فَنَزَلَتْ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} ».
7- وَقِيلَ: إِنَّهَا الْمَغْرِبُ قَالَ بِذَلِكَ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ فِي جَمَاعَةٍ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ وَقَتَادَةَ؛ لِأَنَّ الْأُولَى هِيَ الظُّهْرُ، فَتَكُونُ الْمَغْرِبُ الثَّالِثَةُ، وَالثَّالِثَةُ مِنْ كُلِّ خَمْسٍ هِيَ الْوُسْطَى؛ وَلِأَنَّهَا وُسْطَى فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَوُسْطَى فِي الْأَوْقَاتِ، فَعَدَدُ رَكَعَاتِهَا ثَلَاثٌ فَهِيَ وُسْطَى بَيْنَ الْأَرْبَعِ وَالِاثْنَيْنِ وَوَقْتُهَا فِي آخِرِ النَّهَارِ وَأَوَّلِ اللَّيْلِ، خُصَّتْ مِنْ بَيْنِ الصَّلَاةِ بِأَنَّهَا الْوِتْرُ، وَاَللَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ، وَبِأَنَّهَا تُصَلَّى فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ، وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُهَا عَنْهُ وَكَذَلِكَ صَلاَّهَا جِبْرِيلُ بِالنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْيَوْمَيْنِ لِوَقْتٍ وَاحِدٍ وَلِذَلِكَ ذَهَبَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ إِلَى أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا إِلاَّ وَقْتٌ وَاحِدٌ، وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ- أَوْ قَالَ: عَلَى الْفِطْرَةِ- مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إِلَى أَنْ تَشْتَبِكَ النُّجُومُ» وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ أَفْضَلَ الصَّلَوَاتِ عِنْدَ اللَّهِ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ لَمْ يَحُطَّهَا عَنْ مُسَافِرٍ وَلَا مُقِيمٍ، فَتَحَ اللَّهُ بِهَا صَلَاةَ اللَّيْلِ وَخَتَمَ بِهَا صَلَاةَ النَّهَارِ فَمَنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَصَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ بَنَى اللَّهُ لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ وَمَنْ صَلَّى بَعْدَهَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذَنْبَ عِشْرِينَ سَنَةً- أَوْ قَالَ- أَرْبَعِينَ سَنَةً».
8- وَقِيلَ: إِنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى هِيَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ؛ لِأَنَّهَا بَيْنَ صَلَاتَيْنِ لَا تُقْصَرَانِ، وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا، وَذَلِكَ شَاقٌّ، فَوَقَعَ التَّأْكِيدُ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا- وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى هِيَ الْعِشَاءُ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيُّ.
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ: «مَكَثْنَا لَيْلَةً نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ فَخَرَجَ إِلَيْنَا حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ أَوْ بَعْدَهُ.فَقَالَ: إِنَّكُمْ لَتَنْتَظِرُونَ صَلَاةً مَا يَنْتَظِرُهَا أَهْلُ دِينٍ غَيْرَكُمْ، وَلَوْلَا أَنْ يَثْقُلَ عَلَى أُمَّتِي لَصَلَّيْتُ بِهِمْ هَذِهِ السَّاعَةَ»
وَقَالَ: «لَيْسَ صَلَاةٌ أَثْقَل عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا».
9- وَقِيلَ: إِنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، فَهِيَ مُبْهَمَةٌ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لِيَجْتَهِدَ فِي الْجَمِيعِ كَمَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَالسَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمٍ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَقَالَهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَخَبَّأَهَا اللَّهُ تَعَالَى.كَمَا خَبَّأَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَسَاعَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَسَاعَاتِ اللَّيْلِ الْمُسْتَجَابِ فِيهَا الدُّعَاءُ لِيَقُومُوا بِاللَّيْلِ فِي الظُّلُمَاتِ لِمُنَاجَاةِ عَالِمِ الْخَفِيَّاتِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ أَنَّهَا مُبْهَمَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ مَا وَرَدَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: «نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ)، فَقَرَأْنَاهَا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نَسَخَهَا اللَّهُ فَنَزَلَتْ {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}، فَقَالَ رَجُلٌ: هِيَ إِذَنْ صَلَاةُ الْعَصْرِ؟ فَقَالَ الْبَرَاءُ: قَدْ أَخْبَرْتُكَ كَيْفَ نَزَلَتْ وَكَيْفَ نَسَخَهَا اللَّهُ» فَلَزِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهَا بَعْدَ أَنْ عُيِّنَتْ نُسِخَ تَعْيِينُهَا وَأُبْهِمَتْ فَارْتَفَعَ التَّعْيِينُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ مُسْلِمٍ.وَقَالَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ- أَيْ إِبْهَامُهَا وَعَدَمُ تَعْيِينِهَا- الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَعَدَمِ التَّرْجِيحِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ الْمُحَافَظَةُ عَلَى جَمِيعِهَا، وَأَدَاؤُهَا فِي أَوْقَاتِهَا.
10- وَقِيلَ: إِنَّهَا صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ خُصَّتْ بِالْجَمْعِ لَهَا وَالْخُطْبَةِ فِيهَا، جُعِلَتْ عِيدًا ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَمَكِّيٌّ، وَوَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِقَوْمٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجُمُعَةِ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ ثُمَّ أُحَرِّقَ عَلَى رِجَالٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجُمُعَةِ بُيُوتَهُمْ».
11- وَقِيلَ: إِنَّهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ بِجُمْلَتِهَا، ذَكَرَهُ النَّقَّاشُ فِي تَفْسِيرِهِ، وَقَالَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ لِأَنَّ قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ}، يَعُمُّ الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ، ثُمَّ خُصَّ الْفَرْضُ بِالذِّكْرِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَطَّابُ أَقْوَالًا أُخْرَى سِوَى مَا تَقَدَّمَ.يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِيهَا.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ وَسَبَبُ إِفْرَادِهَا بِالذِّكْرِ:
12- مِنَ الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى هِيَ إِحْدَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْجُمْلَةِ.وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ- كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فِي قوله تعالى {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ}.ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهَا قوله تعالى: {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}.
يَقُولُ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَفْرَدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الصَّلَاةَ الْوُسْطَى بِالذِّكْرِ، وَقَدْ دَخَلَتْ قَبْلُ فِي عُمُومِ الصَّلَوَاتِ؛ تَشْرِيفًا لَهَا، كَمَا فِي قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} وَقَوْلِهِ: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}.وَإِفْرَادُهَا بِالذِّكْرِ يَدُلُّ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا آكَدُ الصَّلَوَاتِ.يَقُولُ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى آكَدُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِهَا.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
293-موسوعة الفقه الكويتية (صيد 1)
صَيْدٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الصَّيْدُ لُغَةً: مَصْدَرُ صَادَ يَصِيدُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ، أَيْ فِعْلِ الِاصْطِيَادِ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْمَصِيدِ، يُقَالُ: صَيْدُ الْأَمِيرِ، وَصَيْدٌ كَثِيرٌ، وَيُرَادُ بِهِ الْمِصْيَدُ، كَمَا يُقَالُ: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ أَيْ مَخْلُوقُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَالصَّيْدُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَصِيدِ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: عَرَّفَهُ الْكَاسَانِيُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ الثَّانِي (أَيِ الْمَصِيدِ) بِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يَتَوَحَّشُ وَيَمْتَنِعُ، وَلَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ إِلاَّ بِحِيلَةٍ، إِمَّا لِطَيَرَانِهِ أَوْ لِعَدْوِهِ.
وَعَرَّفَهُ الْبُهُوتِيُّ بِالْإِطْلَاقَيْنِ: (الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ وَالْمَصِيدِ) فَقَالَ: الصَّيْدُ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ: اقْتِنَاصُ حَيَوَانٍ مُتَوَحِّشٍ طَبْعًا غَيْرَ مَمْلُوكٍ وَلَا مَقْدُورٍ عَلَيْهِ.
أَمَّا بِالْمَعْنَى الثَّانِي- أَيِ الْمَصِيدِ- فَعَرَّفَهُ بِقَوْلِهِ: الصَّيْدُ حَيَوَانٌ مُقْتَنَصٌ حَلَالٌ مُتَوَحِّشٌ طَبْعًا، غَيْرَ مَمْلُوكٍ وَلَا مَقْدُورٍ عَلَيْهِ فَخَرَجَ الْحَرَامُ كَالذِّئْبِ، وَالْإِنْسِيُّ كَالْإِبِلِ وَلَوْ تَوَحَّشَتِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الذَّبْحُ:
2- الذَّبْحُ فِي اللُّغَةِ: الشَّقُّ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الْقَطْعُ فِي الْحَلْقِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ مِنَ الْعُنُقِ.
ب- النَّحْرُ:
3- مِنْ مَعَانِي النَّحْرِ فِي اللُّغَةِ: الطَّعْنُ فِي لَبَّةِ الْحَيَوَانِ، لِأَنَّهَا مُسَامِتَةٌ لِأَعْلَى صَدْرِهِ، يُقَالُ: نَحَرَ الْبَعِيرَ يَنْحَرُهُ نَحْرًا.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: يُطْلَقُ النَّحْرُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ: يُسْتَحَبُّ فِي الْإِبِلِ النَّحْرُ. (ر: نَحْر).
ج- الْعَقْرُ:
4- الْعَقْرُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ لُغَةً: ضَرْبُ قَوَائِمِ الْبَعِيرِ.
وَاسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى: الْإِصَابَةِ الْقَاتِلَةِ لِلْحَيَوَانِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَتْ مِنْ بَدَنِهِ، إِذَا كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِالسَّهْمِ أَمْ بِجَوَارِحِ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ. (ر: عَقْر).
أَقْسَامُ الصَّيْدِ:
5- الصَّيْدُ نَوْعَانِ: بَرِّيٌّ وَبَحْرِيٌّ.
فَالصَّيْدُ الْبَرِّيُّ: مَا يَكُونُ تَوَالُدُهُ فِي الْبَرِّ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْمَكَانِ الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ.
أَمَّا الصَّيْدُ الْبَحْرِيُّ: فَهُوَ مَا يَكُونُ تَوَالُدُهُ فِي الْمَاءِ، وَلَوْ كَانَ مَثْوَاهُ فِي الْبَرِّ، لِأَنَّ التَّوَالُدَ أَصْلٌ، وَالْكَيْنُونَةَ بَعْدَهُ عَارِضٌ.
فَكَلْبُ الْمَاءِ وَالضُّفْدَعُ، وَمِثْلُهُ السَّرَطَانُ وَالتِّمْسَاحُ وَالسُّلَحْفَاةُ بَحْرِيٌّ يَحِلُّ اصْطِيَادُهُ لِلْمُحْرِمِ لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}.
وَأَمَّا الْبَرِّيُّ: فَحَرَامٌ عَلَيْهِ إِلاَّ مَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ.ر: (حَرَم، فِقْرَة: 13).
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6- الْأَصْلُ فِي الصَّيْدِ الْإِبَاحَةُ، إِلاَّ لِمُحْرِمٍ أَوْ فِي الْحَرَمِ، يَدُلُّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، وَالْمَعْقُولُ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَآيَاتٌ، مِنْهَا قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}.
وقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَحَادِيثُ، مِنْهَا: حَدِيثُ «عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا قَوْمٌ نَتَصَيَّدُ بِهَذِهِ الْكِلَابِ، فَمَا يَحِلُّ لَنَا مِنْهَا؟ فَقَالَ: إِذَا أَرْسَلْتَ كِلَابَكَ الْمُعَلَّمَةَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ، إِلاَّ أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ خَالَطَهَا كَلْبٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا تَأْكُلْ».
وَحَدِيثُ «أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الصَّيْدِ بِالْقَوْسِ، وَالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ، وَالْكَلْبِ غَيْرِ الْمُعَلَّمِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.مَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ ثُمَّ كُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ ثُمَّ كُلْ، وَمَا صِدْتَ بِكَلْبِكَ الَّذِي لَيْسَ مُعَلَّمًا فَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ».
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَبَيَانُهُ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُمَارِسُونَ الصَّيْدَ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- وَعُهُودِ أَصْحَابِهِ وَتَابِعِيهِمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ الصَّيْدَ نَوْعُ اكْتِسَابٍ وَانْتِفَاعٍ بِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لِذَلِكَ، وَفِيهِ اسْتِيفَاءُ الْمُكَلَّفِ وَتَمْكِينُهُ مِنْ إِقَامَةِ التَّكَالِيفِ، فَكَانَ مُبَاحًا بِمَنْزِلَةِ الِاحْتِطَابِ.وَبِهَذَا تَتَبَيَّنُ حِكْمَةَ مَشْرُوعِيَّتِهِ.
7- وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الصَّيْدِ الْإِبَاحَةُ، فَلَا يُحْكَمُ بِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ حَرَامٌ أَوْ مَنْدُوبٌ أَوْ وَاجِبٌ إِلاَّ فِي صُوَرٍ خَاصَّةٍ بِأَدِلَّةٍ خَاصَّةٍ نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي:
8- أ- يَكُونُ الصَّيْدُ خِلَافَ الْأَوْلَى إِذَا حَدَثَ لَيْلًا، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ، وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِخِلَافِهِ، فَفِي الْمُغْنِي: قَالَ أَحْمَدُ: «لَا بَأْسَ بِصَيْدِ اللَّيْلِ».
9- ب- وَيُكْرَهُ الصَّيْدُ إِذَا كَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ التَّلَهِّيَ وَالْعَبَثَ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا».أَيْ هَدَفًا.
وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ صُوَرًا أُخْرَى لِلْكَرَاهَةِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ تَعْلِيمَ الْبَازِي بِالصُّيُودِ الْحَيَّةِ مَكْرُوهٌ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ.
أَمَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ كَرَاهَةِ حِرْفَةِ الِاصْطِيَادِ عُمُومًا، فَقَدْ رَدَّهُ الْحَصْكَفِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ: وَقَالُوا: إِنَّ التَّحْقِيقَ إِبَاحَةُ اتِّخَاذِهِ حِرْفَةً، لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الِاكْتِسَابِ، وَكُلُّ أَنْوَاعِ الْكَسْبِ فِي الْإِبَاحَةِ سَوَاءٌ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ- قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْكَسْبُ بِالرِّبَا وَالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ، وَلَمْ يَكُنْ بِطَرِيقٍ مَحْظُورٍ، فَلَا يُذَمُّ بَعْضُهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ.
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُكْرَهُ الِاصْطِيَادُ فِي صُوَرٍ مِنْهَا:
أ- أَنْ يَكُونَ بِشَيْءٍ نَجِسٍ، كَالْعَذِرَةِ، وَالْمَيْتَةِ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ أَكْلِ الْمَصِيدِ لِلنَّجَاسَةِ.
ب- وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ بِبَنَاتِ وَرْدَانَ، لِأَنَّ مَأْوَاهَا الْحُشُوشُ.
ج- وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ بِالضَّفَادِعِ، لِلنَّهْيِ عَنْ قَتْلِهَا.
د- وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ بِالْخَرَاطِيمِ وَكُلِّ شَيْءٍ فِيهِ الرُّوحُ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ.
10- وَيَحْرُمُ الصَّيْدُ فِي صُوَرٍ، مِنْهَا:
أ- أَنْ يَكُونَ الصَّائِدُ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ.
وَالصَّيْدُ بَرِّيًّا، لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
ب- أَنْ يَكُونَ الصَّيْدُ حَرَمِيًّا، سَوَاءٌ أَكَانَ الصَّائِدُ مُحْرِمًا أَمْ حَلَالًا، لقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} الْآيَةَ.
وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي صِفَةِ مَكَّةَ: «وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا»، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا.
ج- أَنْ يَكُونَ عَلَى الصَّيْدِ أَثَرُ الْمِلْكِ، كَخَضْبٍ أَوْ قَصِّ جَنَاحٍ أَوْ نَحْوِهِمَا.
وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الشَّافِعِيَّةُ نَصًّا، وَيُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَمْلُوكٌ لِشَخْصٍ آخَرَ.وَيُشْتَرَطُ فِي الصَّيْدِ أَنْ لَا يَكُونَ مَمْلُوكًا.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ صُورَةً أُخْرَى يَحْرُمُ فِيهَا الصَّيْدُ، وَهِيَ: خُلُوُّهُ عَنْ نِيَّةٍ مَشْرُوعَةٍ، كَأَنْ يُصَادَ الْمَأْكُولُ أَوْ غَيْرُهُ لَا بِنِيَّةِ الذَّكَاةِ، بَلْ بِلَا نِيَّةِ شَيْءٍ، أَوْ بِنِيَّةِ حَبْسِهِ، أَوِ الْفُرْجَةِ عَلَيْهِ.
لَكِنْ نَقَلَ الدُّسُوقِيُّ عَنِ الْحَطَّابِ مَا يُفِيدُ جَوَازَ اصْطِيَادِ الصَّيْدِ بِنِيَّةِ الْفُرْجَةِ عَلَيْهِ حَيْثُ لَا تَعْذِيبَ وَإِنَّ بَعْضَهُمْ أَخَذُوا الْجَوَازَ مِنْ حَدِيثِ: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ».
هَذَا، وَقَدْ لَخَّصَ الدَّرْدِيرُ الْحُكْمَ التَّكْلِيفِيَّ لِلصَّيْدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَالَ: كُرِهَ لِلَّهْوِ، وَجَازَ لِتَوْسِعَةٍ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ، وَنُدِبَ لِتَوْسِعَةٍ مُعْتَادَةٍ أَوْ سَدِّ خُلَّةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ، أَوْ كَفِّ وَجْهٍ عَنْ سُؤَالٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، وَوَجَبَ لِسَدِّ خُلَّةٍ وَاجِبَةٍ، فَتَعْتَرِيهِ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ.
أَرْكَانُ الصَّيْدِ:
11- أَرْكَانُ الصَّيْدِ ثَلَاثَةٌ: صَائِدٌ وَمَصِيدٌ وَآلَةٌ وَلِكُلِّ رُكْنٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ شُرُوطٌ بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي: أَوَّلًا: مَا يُشْتَرَطُ فِي الصَّائِدِ:
يُشْتَرَطُ فِي الصَّائِدِ لِصِحَّةِ الصَّيْدِ الشُّرُوطُ الْآتِيَةُ:
12- الشَّرْطُ الْأَوَّلُ-
أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا، مُمَيِّزًا، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ).
وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّبِيَّ غَيْرَ الْعَاقِلِ لَيْسَ أَهْلًا لِلتَّذْكِيَةِ عِنْدَهُمْ، فَلَا يَكُونُ أَهْلًا لِلِاصْطِيَادِ، وَلِأَنَّ الصَّيْدَ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَصْدِ وَالتَّسْمِيَةِ، وَهُمَا لَا يَصِحَّانِ مِمَّنْ لَا يَعْقِلُ، كَمَا عَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ صَيْدُ الْمَجْنُونِ، وَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، كَمَا لَا تَجُوزُ ذَبِيحَتُهُمَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ ذَبْحَ وَصَيْدَ صَبِيٍّ- وَلَوْ غَيْرِ مُمَيِّزٍ، وَكَذَا الْمَجْنُونُ وَالسَّكْرَانُ- حَلَالٌ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ، لِأَنَّ لَهُمْ قَصْدًا وَإِرَادَةً فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ، لِأَنَّهُمْ قَدْ يُخْطِئُونَ الذَّبْحَ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَحِلُّ صَيْدُهُمْ وَلَا ذَبْحُهُمْ، لِفَسَادِ قَصْدِهِمْ.
قَالَ الشِّرْبِينِيُّ: وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِي الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا تَمْيِيزٌ أَصْلًا، فَإِنْ كَانَ لَهُمَا أَدْنَى تَمْيِيزٍ حَلَّ قَطْعًا.
وَلِتَفْصِيلِ هَذَا الْمَوْضُوعِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (ذَبَائِح ف 21).
13- الشَّرْطُ الثَّانِي:
أَنْ يَكُونَ حَلَالًا، فَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ لَمْ يُؤْكَلْ مَا صَادَهُ، بَلْ يَكُونُ مَيْتَةً كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
14- الشَّرْطُ الثَّالِثُ:
أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَحِلُّ مَا صَادَهُ الْكِتَابِيُّ وَإِنْ حَلَّ مَا ذَبَحَهُ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الذَّبْحِ وَالصَّيْدِ بِأَنَّ الصَّيْدَ رُخْصَةٌ، وَالْكَافِرُ وَلَوْ كِتَابِيًّا لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُعْتَبَرُ (هَذَا الشَّرْطُ) مِنْ حِينِ الْإِرْسَالِ إِلَى حِينِ الْإِصَابَةِ، وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ وَقْتُ الْإِرْسَالِ فَقَطْ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا يَحِلُّ صَيْدُ الْمُشْرِكِ أَوِ الْمُرْتَدِّ وَوَجْهُ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ هُوَ أَنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِ لَا يُخْلِصُ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ، وَوَجْهُ حِلِّ صَيْدِ وَذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ هُوَ قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}.
وَالْمَقْصُودُ بِالْكِتَابِيِّ: الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ، ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ حَرْبِيًّا.
وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (ذَبَائِح ف 23، 24).
15- الشَّرْطُ الرَّابِعُ:
يُشْتَرَطُ فِي الصَّائِدِ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ الْإِرْسَالِ أَوِ الرَّمْيِ، وَذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
ثُمَّ إِنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: تُشْتَرَطُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْإِرْسَالِ وَلَوْ حُكْمًا، فَالشَّرْطُ عِنْدَهُمْ عَدَمُ تَرْكِهَا عَمْدًا، فَلَوْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ وَلَمْ يَتَعَمَّدِ التَّرْكَ جَازَ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ إِذَا ذَكَرَ وَقَدِرَ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا لَمْ يُبَحْ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: هَذَا تَحْقِيقُ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ تُشْتَرَطُ عَلَى إِرْسَالِ الْكَلْبِ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي إِرْسَالِ السَّهْمِ إِلَيْهِ حَقِيقَةً، وَلَيْسَ لَهُ اخْتِيَارٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السِّكِّينِ، بِخِلَافِ الْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ يَفْعَلُ بِاخْتِيَارِهِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَا تُشْتَرَطُ عِنْدَهُمُ التَّسْمِيَةُ بَلْ تُسَنُّ عِنْدَ إِرْسَالِ السَّهْمِ أَوِ الْجَارِحَةِ، فَلَوْ تَرَكَهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا حَلَّ، لَكِنَّهُمْ قَالُوا: يُكْرَهُ تَعَمُّدُ تَرْكِهَا.
وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (ذَبَائِح ف 32- 34).
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (تَسْمِيَة ف 19).
16- الشَّرْطُ الْخَامِسُ:
أَنْ لَا يُهِلَّ الصَّائِدُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَهَذَا الشَّرْطُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ، لقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}.
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (ذَبَائِح ف 35).
17- الشَّرْطُ السَّادِسُ:
أَنْ يُرْسِلَ الْآلَةَ بِحَيْثُ يُنْسَبُ إِلَيْهِ الصَّيْدُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَكُونُ إِرْسَالُ الْجَارِحَةِ مِنْ يَدِ الصَّائِدِ أَوْ يَدِ غُلَامِهِ، قَالَ الصَّاوِيُّ: الْمُرَادُ بِالْيَدِ حَقِيقَتُهَا، وَمِثْلُهَا إِرْسَالُهَا مِنْ حِزَامِهِ أَوْ مِنْ تَحْتِ قَدَمِهِ، لَا الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ أَوِ الْمِلْكُ فَقَطْ، وَقَالُوا: إِنَّهُ تَكْفِي نِيَّةُ الْأَمْرِ وَتَسْمِيَتُهُ وَإِسْلَامُهُ.
وَقَدْ فَرَّعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ذَلِكَ مَسَائِلَ.
مِنْهَا:
أ- لَوْ أَطَارَتِ الرِّيحُ السَّهْمَ فَقَتَلَتْ صَيْدًا أَوْ نَصَبَ سِكِّينًا بِلَا قَصْدٍ فَاحْتَكَّ بِهِ صَيْدٌ فَقَتَلَهُ لَمْ يَحِلَّ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
ب- لَوِ اسْتَرْسَلَتْ جَارِحَةٌ بِنَفْسِهَا، وَلَمْ يُغْرِهَا أَحَدٌ فِي أَثْنَاءِ الِاسْتِرْسَالِ إِغْرَاءً يَزِيدُ مِنْ سُرْعَتِهَا حَرُمَ مَا قَتَلَتْهُ مِنَ الصَّيْدِ، لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْإِرْسَالِ.
ج- لَوِ اسْتَرْسَلَتْ جَارِحَةٌ بِنَفْسِهَا وَأَغْرَاهَا مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلصَّيْدِ إِغْرَاءً يَزِيدُ مِنْ سُرْعَتِهَا لَمْ يَحِلَّ مَا قَتَلَتْهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِعَدَمِ الْإِرْسَالِ مِنْ يَدِ الصَّائِدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَعَلَّلُوا الْحُرْمَةَ بِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ الِاسْتِرْسَالُ الْمَانِعُ وَالْإِغْرَاءُ الْمُبِيحُ، فَغَلَبَ جَانِبُ الْمَنْعِ، كَمَا يَقُولُ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- فَقَالُوا بِالْحِلِّ إِنِ اقْتُرِنَ بِالْإِغْرَاءِ التَّسْمِيَةُ لِظُهُورِ أَثَرِ الْإِغْرَاءِ بِزِيَادَةِ الْعَدْوِ وَلِأَنَّ الْإِغْرَاءَ أَثَّرَ فِي عَدْوِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَرْسَلَهُ، كَمَا يَقُولُ الرَّحِيبَانِيُّ.
د- لَوْ أَرْسَلَ الْجَارِحَةَ وَهُوَ أَهْلٌ لِلصَّيْدِ، فَأَغْرَاهَا مَنْ لَا يَحِلُّ صَيْدُهُ لَمْ يَحْرُمْ مَا قَتَلَتْهُ، لِأَنَّ الْإِرْسَالَ السَّابِقَ عَلَى الْإِغْرَاءِ أَقْوَى مِنْهُ، فَلَا يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْإِرْسَالِ بِالْإِغْرَاءِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
هـ- لَوْ أَرْسَلَ الْجَارِحَةَ مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلصَّيْدِ، فَأَغْرَاهَا مَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهُ لَمْ يُؤْكَلْ مَا قَتَلَتْهُ، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْإِرْسَالِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنَ الْإِغْرَاءِ.
و- لَوِ انْفَلَتَتِ الْجَارِحَةُ مِنْ يَدِ صَاحِبِهَا غَيْرَ مُسْتَرْسِلَةٍ، فَأَغْرَاهَا مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلصَّيْدِ حَلَّ مَا قَتَلَتْهُ لِأَنَّ الْإِغْرَاءَ لَيْسَ مَسْبُوقًا بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ- صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ.
وَاخْتَلَفَ فِيهِ الْمَالِكِيَّةُ، فَقَالَ مَالِكٌ أَوَّلًا بِالْحِلِّ، ثُمَّ عَدَلَ إِلَى الْحُرْمَةِ، لِأَنَّ الِاصْطِيَادَ لَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ إِلاَّ إِذَا أَرْسَلَ الْجَارِحَةَ مِنْ يَدِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ خَلِيلٌ وَالدَّرْدِيرُ، وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ بِالْحِلِّ قَدْ أَخَذَ بِهِ ابْنُ الْقَاسِمِ وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ كَاللَّخْمِيِّ وَأَيَّدَهُ الْبُنَانِيِّ، وَهُوَ الْمُتَّفَقُ مَعَ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ.
ز- لَوْ أَرْسَلَ الْجَارِحَةَ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلصَّيْدِ، فَوَقَفَتْ فِي ذَهَابِهَا، فَأَغْرَاهَا مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لَهُ حَرُمَ مَا قَتَلَتْهُ، لِارْتِفَاعِ حُكْمِ الْإِرْسَالِ بِالْوُقُوفِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ.
18- الشَّرْطُ السَّابِعُ:
قَصْدُ مَا يُبَاحُ صَيْدُهُ.
يُشْتَرَطُ فِي الصَّائِدِ أَنْ يَقْصِدَ بِإِرْسَالِهِ صَيْدَ مَا يُبَاحُ صَيْدُهُ، فَلَوْ أَرْسَلَ سَهْمًا أَوْ جَارِحَةً عَلَى إِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ مُسْتَأْنَسٍ، أَوْ حَجَرٍ فَأَصَابَتْ صَيْدًا لَمْ يَحِلَّ.
ثُمَّ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي تَطْبِيقِ هَذَا الشَّرْطِ، وَفِي الْفُرُوعِ الَّتِي ذَكَرُوهَا.
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا سَمِعَ الصَّائِدُ حِسَّ مَا لَا يَحِلُّ صَيْدُهُ مِنْ إِنْسَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، كَفَرَسٍ وَشَاةٍ وَطَيْرٍ مُسْتَأْنَسٍ وَخِنْزِيرٍ أَهْلِيٍّ، فَأَطْلَقَ سَهْمًا فَأَصَابَ مَا يَحِلُّ صَيْدُهُ، لَمْ يَحِلَّ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَيْسَ بِاصْطِيَادٍ.
بِخِلَافِ مَا إِذَا سَمِعَ حِسَّ أَسَدٍ فَرَمَى إِلَيْهِ أَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ، فَإِذَا هُوَ صَيْدٌ حَلَالُ الْأَكْلِ حَلَّ، لِأَنَّهُ أَرَادَ صَيْدَ مَا يَحِلُّ اصْطِيَادُهُ، كَمَا إِذَا رَمَى إِلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ غَيْرَهُ.
لِأَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُجِيزُونَ صَيْدَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لِمَنْفَعَةِ جِلْدِهِ، أَوْ شَعْرِهِ أَوْ رِيشِهِ، أَوْ لِدَفْعِ شَرِّهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي شُرُوطِ الْمِصْيَدِ.
وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الزَّيْلَعِيِّ قَوْلَهُ: لَا يَحِلُّ الصَّيْدُ إِلاَّ بِوَجْهَيْنِ:
أَنْ يَرْمِيَهُ وَهُوَ يُرِيدُ الصَّيْدَ.
وَأَنْ يَكُونَ الَّذِي أَرَادَهُ، وَسَمِعَ حِسَّهُ، وَرَمَى إِلَيْهِ صَيْدًا، سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يُؤْكَلُ أَمْ لَا.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ عِلْمُ الصَّائِدِ حِينَ إِرْسَالِ الْجَارِحِ عَلَى الْمِصْيَدِ أَنَّهُ مِنَ الْمُبَاحِ، كَالْغَزَالِ وَالْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ نَوْعَهُ، بِأَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مُبَاحٌ، لَكِنْ تَرَدَّدَ: هَلْ هُوَ حِمَارٌ وَحْشِيٌّ أَوْ ظَبْيٌ؟ فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ.
وَكَذَا إِنْ تَعَدَّدَ مِصْيَدُهُ وَنَوَى الْجَمِيعَ.
وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْجَمِيعَ فَمَا نَوَاهُ يُؤْكَلُ إِنْ صَادَهُ أَوَّلًا قَبْلَ غَيْرِهِ، فَإِنْ صَادَ غَيْرَ الْمَنْوِيِّ قَبْلَ الْمَنْوِيِّ لَمْ يُؤْكَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِلاَّ بِذَكَاةٍ، أَمَّا الْمَنْوِيُّ فَلِتَشَاغُلِهِ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ الْمَنْوِيِّ عَنْهُ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَنْوِيِّ فَلِعَدَمِ نِيَّةِ اصْطِيَادِهِ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فِي وَاحِدٍ، وَلَا فِي الْجَمْعِ، لَمْ يُؤْكَلْ شَيْءٌ، كَمَا نَقَلَهُ الصَّاوِيُّ عَنِ الأَُجْهُورِيُّ.
وَلَا يُؤْكَلُ الْمَصِيدُ إِنْ تَرَدَّدَ- بِأَنْ ظَنَّ أَوْ شَكَّ أَوْ تَوَهَّمَ- فِي حُرْمَتِهِ، كَخِنْزِيرٍ فَإِذَا هُوَ حَلَالٌ كَظَبْيٍ، لِعَدَمِ الْجَزْمِ بِالنِّيَّةِ.
وَنَقَلَ الصَّاوِيُّ عَنْ جَدِّ الأَُجْهُورِيِّ أَنَّهُ لَوْ نَوَى وَاحِدًا بِعَيْنِهِ لَمْ يُؤْكَلْ إِلاَّ هُوَ، إِنْ عُرِفَ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدًا لَا بِعَيْنِهِ لَمْ يُؤْكَلْ إِلاَّ الْأَوَّلُ، وَلَوْ شَكَّ فِي أَوَّلِيَّتِهِ لَمْ يُؤْكَلْ شَيْءٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَرْسَلَ سَهْمًا مَثَلًا لِاخْتِبَارِ قُدْرَتِهِ، أَوْ إِلَى غَرَضٍ، فَاعْتَرَضَهُ صَيْدٌ فَقَتَلَهُ حَرُمَ فِي الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ صَيْدًا مُعَيَّنًا.
وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي عِنْدَهُمْ: لَا يَحْرُمُ، نَظَرًا إِلَى قَصْدِ الْفِعْلِ، دُونَ مَوْرِدِهِ.
وَإِذَا أَرْسَلَهُ عَلَى مَا لَا يُؤْكَلُ، كَخِنْزِيرٍ، فَأَصَابَ صَيْدًا، فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ عَلَى الْأَصَحِّ كَذَلِكَ، وَكَذَا لَوْ أَرْسَلَ الْكَلْبَ حَيْثُ لَا صَيْدَ، فَاعْتَرَضَهُ صَيْدٌ، فَقَتَلَهُ لَمْ يَحِلَّ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ قَصْدِ الِاصْطِيَادِ حِينَ الْإِرْسَالِ.
أَمَّا إِذَا رَمَى صَيْدًا ظَنَّهُ حَجَرًا، أَوْ حَيَوَانًا لَا يُؤْكَلُ، فَأَصَابَ صَيْدًا حَلَّ، وَكَذَا إِذَا رَمَى سِرْبَ ظِبَاءٍ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْوُحُوشِ، فَأَصَابَ وَاحِدَةً مِنْ ذَلِكَ السِّرْبِ حَلَّتْ، أَمَّا فِي الْأُولَى؛ فَلِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِفِعْلِهِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِظَنِّهِ، وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ؛ فَلِأَنَّهُ قَصَدَ السِّرْبَ، وَهَذِهِ الْوَاحِدَةُ مِنْهُ.
وَإِنْ قَصَدَ وَاحِدَةً مِنَ السِّرْبِ، فَأَصَابَ غَيْرَهَا مِنْهُ حَلَّتْ فِي الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْغَيْرُ عَلَى سَمْتِ الْأُولَى أَمْ لَا، لِوُجُودِ قَصْدِ الصَّيْدِ.
وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ الْمَنْعُ، نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا غَيْرُ الْمَقْصُودَةِ.
وَلَوْ قَصَدَ، وَأَخْطَأَ فِي الظَّنِّ وَالْإِصَابَةِ مَعًا، كَمَنْ رَمَى صَيْدًا ظَنَّهُ حَجَرًا، أَوْ خِنْزِيرًا ظَنَّهُ صَيْدًا فَأَصَابَ صَيْدًا غَيْرَهُ حَرُمَ، لِأَنَّهُ قَصَدَ مُحَرَّمًا، فَلَا يَسْتَفِيدُ الْحِلَّ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ أَوْ سَهْمَهُ إِلَى هَدَفٍ فَقَتَلَ صَيْدًا، أَوْ أَرْسَلَهُ يُرِيدُ الصَّيْدَ وَلَا يَرَى صَيْدًا، أَوْ قَصَدَ إِنْسَانًا أَوْ حَجَرًا، أَوْ رَمَى عَبَثًا غَيْرَ قَاصِدٍ صَيْدًا، أَوْ رَمَى حَجَرًا يَظُنُّهُ صَيْدًا، أَوْ شَكَّ فِيهِ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ، أَوْ ظَنَّهُ آدَمِيًّا أَوْ بَهِيمَةً فَأَصَابَ صَيْدًا لَمْ يَحِلَّ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ، لِأَنَّ قَصْدَ الصَّيْدِ شَرْطٌ، وَلَمْ يُوجَدْ.
وَلَوْ رَمَى صَيْدًا فَأَصَابَ غَيْرَهُ، أَوْ رَمَى صَيْدًا فَقَتَلَ جَمَاعَةً حَلَّ الْجَمِيعُ، لِأَنَّهُ أَرْسَلَهُ عَلَى صَيْدٍ فَحَلَّ مَا صَادَهُ.
وَكَذَا إِذَا أَرْسَلَ سَهْمَهُ عَلَى صَيْدٍ فَأَعَانَتْهُ الرِّيحُ فَقَتَلَهُ، وَلَوْلَاهَا مَا وَصَلَ السَّهْمُ حَلَّ، لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِسَهْمِهِ وَرَمْيِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ وَقَعَ سَهْمُهُ عَلَى حَجَرٍ فَرَدَّهُ عَلَى الصَّيْدِ فَقَتَلَهُ.وَلِأَنَّ الْإِرْسَالَ لَهُ حُكْمُ الْحِلِّ، وَالرِّيحُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا، فَسَقَطَ اعْتِبَارُهَا.
وَالْجَارِحُ بِمَنْزِلَةِ السَّهْمِ، فَلَوْ أَرْسَلَهُ عَلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ غَيْرَهُ، أَوْ عَلَى صَيْدٍ فَصَادَ عَدَدًا حَلَّ الْجَمِيعُ.
19- الشَّرْطُ الثَّامِنُ:
أَنْ يَكُونَ الصَّائِدُ بَصِيرًا، وَهَذَا الشَّرْطُ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ، حَيْثُ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ صَيْدُ الْأَعْمَى بِرَمْيِ سَهْمٍ أَوْ إِرْسَالِ كَلْبٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْجَوَارِحِ فِي الْأَصَحِّ، لِعَدَمِ صِحَّةِ قَصْدِهِ، فَأَشْبَهَ اسْتِرْسَالَ الْكَلْبِ بِنَفْسِهِ.
وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ: يَحِلُّ صَيْدُهُ، كَذَبْحِهِ.
قَالَ الرَّمْلِيُّ: وَمَحَلُّ الْخِلَافِ مَا إِذَا دَلَّهُ بَصِيرٌ عَلَى الصَّيْدِ فَأَرْسَلَ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَدُلَّهُ أَحَدٌ فَلَا يَحِلُّ قَطْعًا، نَعَمْ لَوْ أَحَسَّ الْبَصِيرُ بِصَيْدٍ فِي ظُلْمَةٍ، أَوْ مِنْ وَرَاءِ شَجَرَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا فَرَمَاهُ حَلَّ بِالْإِجْمَاعِ، فَكَأَنَّ وَجْهَهُ أَنَّ هَذَا مُبْصِرٌ بِالْقُوَّةِ، فَلَا يُعَدُّ عُرْفًا رَمْيُهُ عَبَثًا.
ثَانِيًا: مَا يُشْتَرَطُ فِي الْمَصِيدِ:
يُشْتَرَطُ فِي الْمَصِيدِ الشُّرُوطُ التَّالِيَةُ:
20- الشَّرْطُ الْأَوَّلُ:
يُشْتَرَطُ فِي الْمَصِيدِ أَنْ يَكُونَ حَيَوَانًا مَأْكُولَ اللَّحْمِ أَيْ جَائِزَ الْأَكْلِ، وَهَذَا عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ إِذَا كَانَ الصَّيْدُ لِأَجْلِ الْأَكْلِ.
أَمَّا مُطْلَقُ الصَّيْدِ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ الصَّيْدُ مَأْكُولَ اللَّحْمِ، بَلْ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ صَيْدُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لِمَنْفَعَةِ جِلْدِهِ أَوْ شَعْرِهِ أَوْ رِيشِهِ، أَوْ لِدَفْعِ شَرِّهِ، وَكُلٌّ مَشْرُوعٌ.
وَيَقُولُ الْأَبِيُّ الْأَزْهَرِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: الِاصْطِيَادُ الْمُتَعَلِّقُ بِنَحْوِ خِنْزِيرٍ مِنْ كُلِّ مُحَرَّمٍ يَجُوزُ بِنِيَّةِ قَتْلِهِ، وَلَا يُعَدُّ مِنَ الْعَبَثِ، وَأَمَّا بِنِيَّةِ الْفُرْجَةِ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ.
كَمَا يَجُوزُ ذَكَاةُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ كَخَيْلٍ وَبَغْلٍ وَحِمَارٍ إِنْ أَيِسَ مِنْهُ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَلَا يُجِيزُونَ صَيْدَ أَوْ ذَكَاةَ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ، وَلِهَذَا ذَكَرُوا فِي تَعْرِيفِهِمُ الصَّيْدَ بِمَعْنَى الْمَصِيدِ: بِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مُقْتَنَصٌ حَلَالٌ مُتَوَحِّشٌ طَبْعًا غَيْرُ مَمْلُوكٍ وَلَا مَقْدُورٍ عَلَيْهِ.
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ ذَبْحَ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ لِلْإِرَاحَةِ لَا لِلتَّطْهِيرِ.
وَلَمْ يُجِزِ الشَّافِعِيَّةُ قَتْلَ أَوْ ذَبْحَ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ حَتَّى لِلْإِرَاحَةِ، فَصَيْدُهُ يُعْتَبَرُ مَيْتَةً عِنْدَهُمْ.
21- الشَّرْطُ الثَّانِي:
أَنْ يَكُونَ الْمَصِيدُ حَيَوَانًا مُتَوَحِّشًا مُمْتَنِعًا عَنِ الْآدَمِيِّ بِقَوَائِمِهِ أَوْ بِجَنَاحَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّوَحُّشِ- التَّوَحُّشُ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ وَالطَّبِيعَةِ، أَيْ: لَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ إِلاَّ بِحِيلَةٍ.
فَخَرَجَ بِالْمُمْتَنِعِ مِثْلُ الدَّجَاجِ وَالْبَطِّ، لِأَنَّهُمَا لَا يَقْدِرَانِ عَلَى الْفِرَارِ مِنْ جِهَتِهِمَا، وَبِالْمُتَوَحِّشِ: مِثْلُ الْحَمَامِ، وَبِقَوْلِهِ «طَبْعًا» مَا يَتَوَحَّشُ مِنَ الْأَهْلِيَّاتِ، فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ بِالِاصْطِيَادِ وَتَحِلُّ بِذَكَاةِ الضَّرُورَةِ بِشُرُوطِهَا.
وَدَخَلَ فِيهِ مِثْلُ الظَّبْيِ، لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مُتَوَحِّشٌ فِي أَصْلِ الطَّبِيعَةِ، لَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ إِلاَّ بِحِيلَةٍ، وَإِنْ أَلِفَ بَعْدَ الِاصْطِيَادِ.
وَكَوْنُ الْمَصِيدِ حَيَوَانًا مُتَوَحِّشًا مُمْتَنِعًا بِالطَّبْعِ- مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ، مِنْهَا:
أ- إِذَا نَدَّ بَعِيرٌ أَوْ شَرَدَ بَقَرٌ أَوْ غَنَمٌ، بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ صَاحِبُهُ عَلَى ذَكَاتِهِ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، أُلْحِقَ بِالصَّيْدِ (أَيِ الْحَيَوَانِ الْمُتَوَحِّشِ الْمُمْتَنِعُ) وَكَذَلِكَ مَا وَقَعَ مِنْهَا فِي قَلِيبٍ أَوْ بِئْرٍ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَى إِخْرَاجِهِ وَلَا تَذْكِيَتِهِ، وَكَذَا مَا صَالَ عَلَى صَاحِبِهِ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَبْحِهِ، كُلُّ ذَلِكَ حُكْمُهُ حُكْمُ الصَّيْدِ يَحِلُّ بِالْعَقْرِ وَالْجَرْحِ بِسَهْمٍ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا يَسِيلُ بِهِ دَمُهُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ قُدِرَ عَلَيْهِ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ- رضي الله عنهم- وَبِهِ قَالَ مَسْرُوقٌ وَالْأَسْوَدُ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَإِسْحَاقُ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَالثَّوْرِيُّ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ، فَأَصَابُوا إِبِلًا وَغَنَمًا، قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ، فَعَجَّلُوا وَذَبَحُوا وَنَصَبُوا الْقُدُورَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِالْقُدُورِ فَأُكْفِئَتْ، ثُمَّ قَسَّمَ، فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنَ الْغَنَمِ بِبَعِيرٍ، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ فَطَلَبُوهُ، فَأَعْيَاهُمْ، وَكَانَ فِي الْقَوْمِ خَيْلٌ يَسِيرَةٌ فَأَهْوَى رَجُلٌ مِنْهُمْ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ لِهَذِهِ الْبَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ، فَمَا غَلَبَكُمْ مِنْهَا فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا» وَفِي لَفْظٍ: «فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا».
وَلِأَنَّ الْوَحْشِيَّ إِذَا قُدِرَ عَلَيْهِ وَجَبَتْ تَذْكِيَتُهُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، فَكَذَلِكَ الْأَهْلِيُّ إِذَا تَوَحَّشَ يُعْتَبَرُ بِحَالِهِ.
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا إِذَا نَدَّ الْبَعِيرُ أَوِ الْبَقَرُ فِي الْمَدِينَةِ أَوْ فِي الصَّحْرَاءِ لِأَنَّهُمَا يَدْفَعَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا، فَلَا يُقْدَرُ عَلَيْهِمَا.
وَأَمَّا الشَّاةُ فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ نَدَّتْ فِي الصَّحْرَاءِ، فَذَكَاتُهَا الْعَقْرُ- أَيْ أَنَّهَا كَالصَّيْدِ- لِأَنَّهُ لَا يُقْدَرُ عَلَيْهَا، وَإِنْ نَدَّتْ فِي الْمِصْرِ لَمْ يَجُزْ عَقْرُهَا، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَخْذُهَا، وَذَبْحُهَا مَقْدُورٌ عَلَيْهِ، فَلَا تَلْحَقُ بِالصَّيْدِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّ جَمِيعَ الْحَيَوَانَاتِ الْمُتَأَنَّسَةِ إِذَا نَدَّتْ فَإِنَّهَا لَا تُؤْكَلُ بِالْعَقْرِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ الْمَصِيدُ وَحْشِيًّا، وَمُقَابِلُهُ مَا لِابْنِ حَبِيبٍ: أَنَّهُ إِنْ نَدَّ غَيْرُ الْبَقَرِ لَمْ يُؤْكَلْ بِالْعَقْرِ، وَإِنْ نَدَّ الْبَقَرُ جَازَ أَكْلُهُ بِالْعَقْرِ، لِأَنَّ الْبَقَرَ لَهَا أَصْلٌ فِي التَّوَحُّشِ تَرْجِعُ إِلَيْهِ، لِشَبَهِهَا بِبَقَرِ الْوَحْشِ.
وَإِذَا تَرَدَّى حَيَوَانٌ بِسَبَبِ إِدْخَالِ رَأْسِهِ بِكَوَّةٍ- أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ وَحْشِيًّا أَوْ غَيْرَ وَحْشِيٍّ- فَلَا يُؤْكَلُ بِالْعَقْرِ، أَيْ بِالطَّعْنِ بِحَرْبَةٍ مَثَلًا فِي غَيْرِ مَحَلِّ الذَّكَاةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذَكَاتِهِ بِالذَّبْحِ أَوِ النَّحْرِ إِنْ كَانَ مِمَّا يُنْحَرُ، وَهَذَا فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يُؤْكَلُ بِالْعَقْرِ الْحَيَوَانُ الْمُتَرَدِّي الْمَعْجُوزُ عَنْ ذَكَاتِهِ مُطْلَقًا، بَقَرًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ صِيَانَةً لِلْأَمْوَالِ.
ب- إِذَا تَأَنَّسَ وَحْشِيُّ الْأَصْلِ، كَالظَّبْيِ مَثَلًا، أَوْ قُدِرَ عَلَى الْمُتَوَحِّشِ بِطَرِيقَةٍ أُخْرَى، كَأَنْ وَقَعَ فِي حِبَالِهِ أَوْ شَبَكٍ مَثَلًا، لَا يُؤْكَلُ بِالْعَقْرِ، وَإِنَّمَا بِالتَّذْكِيَةِ، لِأَنَّهُ صَارَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ.
أَمَّا إِذَا تَأَنَّسَ الْمُتَوَحِّشُ، ثُمَّ نَدَّ وَتَوَحَّشَ مَرَّةً أُخْرَى، فَأَصْبَحَ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، فَيُؤْكَلُ بِالِاصْطِيَادِ.
ج- مَنْ رَمَى صَيْدًا فَأَثْخَنَهُ حَتَّى صَارَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْفِرَارِ، ثُمَّ رَمَاهُ آخَرُ فَقَتَلَهُ لَمْ يُؤْكَلْ، لِأَنَّهُ صَارَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ.
وَأَضَافَ الْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْقَاتِلُ أَصَابَ مَذْبَحَهُ حَلَّ، لِأَنَّهُ صَادَفَ مَحَلَّ الذَّبْحِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ أَرْشُ ذَبْحِهِ، كَمَا لَوْ ذَبَحَ شَاةً لِغَيْرِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ أَصَابَ غَيْرَ مَذْبَحِهِ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَنَّهُ لَمَّا أَثْبَتَهُ صَارَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ لَا يَحِلُّ إِلاَّ بِالذَّبْحِ.
وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ تَكُنْ حَيَاةُ الصَّيْدِ حَيَاةَ مَذْبُوحٍ، بَلْ كَانَتْ حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً، وَإِلاَّ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يَأْتِي ذِكْرُهُ.
22- الشَّرْطُ الثَّالِثُ:
أَنْ لَا يَكُونَ صَيْدَ الْحَرَمِ: فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ فِي الْحَرَمِ صَيْدُ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ- أَيْ مَا يَكُونُ تَوَالُدُهُ وَتَنَاسُلُهُ فِي الْبَرِّ- سَوَاءٌ أَكَانَ مَأْكُولَ اللَّحْمِ أَمْ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ.
أَمَّا حُرْمَةُ صَيْدِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ فَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ، فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، إِنَّمَا حُلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا».
وَحُرْمَةُ صَيْدِ الْحَرَمِ تَشْمَلُ الْمُحْرِمَ وَالْحَلَالَ، كَمَا تَشْمَلُ إِيذَاءَ الصَّيْدِ وَتَنْفِيرَهُ وَالْمُسَاعَدَةَ عَلَى الصَّيْدِ بِأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، مِثْلَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، أَوِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ أَوِ الْأَمْرِ بِقَتْلِهِ.
أَمَّا صَيْدُ الْحَرَمِ الْمَدَنِيِّ فَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ، يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَرَم ف 30).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
294-موسوعة الفقه الكويتية (صيغة)
صِيغَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الصِّيغَةُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الصَّوْغِ مَصْدَرُ صَاغَ الشَّيْءَ يَصُوغُهُ صَوْغًا وَصِيَاغَةً، وَصُغْتُهُ أَصُوغُهُ صِيَاغَةً وَصِيغَةً، وَهَذَا شَيْءٌ حَسَنُ الصِّيغَةِ، أَيْ حَسَنُ الْعَمَلِ.وَصِيغَةُ الْأَمْرِ كَذَا وَكَذَا، أَيْ هَيْئَتُهُ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا.وَصِيغَةُ الْكَلِمَةِ: هَيْئَتُهَا الْحَاصِلَةُ مِنْ تَرْتِيبِ حُرُوفِهَا وَحَرَكَاتِهَا، وَالْجَمْعُ صِيَغٌ، قَالُوا: اخْتَلَفَتْ صِيَغُ الْكَلَامِ، أَيْ: تَرَاكِيبُهُ وَعِبَارَاتُهُ.
وَاصْطِلَاحًا: لَمْ نَعْرِفْ لِلْفُقَهَاءِ تَعْرِيفًا جَامِعًا لِلصِّيغَةِ يَشْمَلُ صِيَغَ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا، لَكِنَّهُ يُفْهَمُ مِنَ التَّعْرِيفِ اللُّغَوِيِّ وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الصِّيغَةَ هِيَ الْأَلْفَاظُ وَالْعِبَارَاتُ الَّتِي تُعْرِبُ عَنْ إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَنَوْعِ تَصَرُّفِهِ، يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ الْأَلْفَاظَ بَيْنَ عِبَادِهِ تَعْرِيفًا وَدَلَالَةً عَلَى مَا فِي نُفُوسِهِمْ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ مِنَ الْآخَرِ شَيْئًا عَرَّفَهُ بِمُرَادِهِ وَمَا فِي نَفْسِهِ بِلَفْظِهِ، وَرَتَّبَ عَلَى تِلْكَ الْإِرَادَاتِ وَالْمَقَاصِدِ أَحْكَامَهَا بِوَاسِطَةِ الْأَلْفَاظِ وَلَمْ يُرَتِّبْ تِلْكَ الْأَحْكَامَ عَلَى مُجَرَّدِ مَا فِي النُّفُوسِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةِ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْعِبَارَةُ:
2- فِي اللُّغَةِ: عَبَّرَ عَمَّا فِي نَفْسِهِ: أَعْرَبَ وَبَيَّنَ، وَالِاسْمُ الْعِبْرَةُ وَالْعِبَارَةُ، وَعَبَّرَ عَنْ فُلَانٍ تَكَلَّمَ عَنْهُ، وَاللِّسَانُ يُعَبِّرُ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ أَيْ يُبَيِّنُهُ، وَهُوَ حَسَنُ الْعِبَارَةِ أَيِ الْبَيَانِ.وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِلَفْظِ (عِبَارَةٍ) عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ
ب- اللَّفْظُ:
3- فِي اللُّغَةِ: اللَّفْظُ أَنْ تَرْمِيَ بِشَيْءٍ كَانَ فِي فِيكَ، وَلَفَظَ بِالشَّيْءِ يَلْفِظُ: تَكَلَّمَ، وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.
وَلَفَظَ بِقَوْلٍ حَسَنٍ: تَكَلَّمَ بِهِ، وَتَلَفَّظَ بِهِ كَذَلِكَ.وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
4- الصِّيغَةُ: رُكْنٌ فِي كُلِّ الِالْتِزَامَاتِ بِاعْتِبَارِهَا سَبَبًا فِي إِنْشَائِهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّيغَةِ مِنْ أَحْكَامِ
تَنَوُّعِ الصِّيغَةِ بِتَنَوُّعِ الِالْتِزَامَاتِ
5- لَمَّا كَانَتِ الصِّيغَةُ هِيَ الدَّالَّةَ عَلَى نَوْعِ الِالْتِزَامِ الَّذِي يُنْشِئُهُ الْمُتَكَلِّمُ فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ تَبَعًا لِاخْتِلَافِ الِالْتِزَامَاتِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ- بَعْضُ الِالْتِزَامَاتِ تَتَقَيَّدُ بِصِيغَةٍ خَاصَّةٍ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ الشَّهَادَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِثْبَات 10) مُصْطَلَحَ: (شَهَادَة).
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا صِيَغُ الْأَيْمَانِ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (أَيْمَان)، وَمُصْطَلَحَ: (لِعَان).
وَمِنْ ذَلِكَ صِيغَةُ عَقْدِ النِّكَاحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذْ لَا بُدَّ فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مِنْ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ أَوِ التَّزْوِيجِ.
وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْعُقُودِ الَّتِي تَتَقَيَّدُ بِصِيغَةٍ مُعَيَّنَةٍ السَّلَمَ، فَقَالُوا: لَيْسَ لَنَا عَقْدٌ يَخْتَصُّ بِصِيغَةٍ إِلاَّ شَيْئَيْنِ: النِّكَاحَ وَالسَّلَمَ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: زَوَاج (نِكَاح) (وَسَلَم).
6- ب- هُنَاكَ الْتِزَامَاتٌ لَا تَتَقَيَّدُ بِصِيغَةٍ مُعَيَّنَةٍ بَلْ تَصِحُّ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ كَالْبَيْعِ وَالْإِعَارَةِ.
وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ- غَيْرُ عَقْدَيِ النِّكَاحِ وَالسَّلَمِ- لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا صِيغَةٌ مُعَيَّنَةٌ، بَلْ كُلُّ لَفْظٍ يُؤَدِّي إِلَى الْمَقْصُودِ يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ.
فَالصِّيغَةُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى تَسْلِيمِ الْمِلْكِ بِعِوَضٍ بَيْعٌ، وَبِدُونِ الْعِوَضِ هِبَةٌ أَوْ عَطِيَّةٌ أَوْ صَدَقَةٌ، وَالصِّيغَةُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى التَّمْكِينِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ إِجَارَةٌ، وَبِدُونِ الْعِوَضِ إِعَارَةٌ أَوْ وَقْفٌ أَوْ عُمْرَى، وَالصِّيغَةُ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْتِزَامِ الدَّيْنِ ضَمَانٌ، وَالَّتِي تُؤَدِّي إِلَى نَقْلِهِ حَوَالَةٌ، وَالَّتِي تُؤَدِّي إِلَى التَّنَازُلِ عَنْهُ إِبْرَاءٌ وَهَكَذَا.
وَمِنْ نُصُوصِ الْفُقَهَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ مَا يَأْتِي:
جَاءَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ فِي بَابِ الْبَيْعِ: لَوْ قَالَ الْبَائِعُ: رَضِيتُ بِكَذَا، أَوْ أَعْطَيْتُكَ بِكَذَا، أَوْ خُذْهُ بِكَذَا، فَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: بِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ، وَالْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: وَهَبْتُكَ أَوْ وَهَبْتُ لَكَ هَذِهِ الدَّارَ بِثَوْبِكَ هَذَا، فَرَضِيَ، فَهُوَ بَيْعٌ بِالْإِجْمَاعِ.
وَفِي الْحَطَّابِ: لَيْسَ لِلْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ لَفْظٌ مُعَيَّنٌ، وَكُلُّ لَفْظٍ أَوْ إِشَارَةٍ فُهِمَ مِنْهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لَزِمَ بِهِ الْبَيْعُ وَسَائِرُ الْعُقُودِ.
وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: لَيْسَ لَنَا عَقْدٌ يَخْتَصُّ بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ إِلاَّ النِّكَاحُ وَالسَّلَمُ.
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: الصِّيغَةُ الْقَوْلِيَّةُ فِي الْبَيْعِ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِي لَفْظٍ بِعَيْنِهِ كَبِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ بَلْ هِيَ كُلُّ مَا أَدَّى مَعْنَى الْبَيْعِ، لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَخُصَّهُ بِصِيغَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَتَنَاوَلَ كُلَّ مَا أَدَّى مَعْنَاهُ.
دَلَالَةُ الصِّيغَةِ عَلَى الزَّمَنِ وَأَثَرُ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ:
7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي، مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى نِيَّةٍ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْمَاضِي جُعِلَتْ إِيجَابًا لِلْحَالِ فِي عُرْفِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ، وَالْعُرْفُ قَاضٍ عَلَى الْوَضْعِ.
لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، لِأَنَّ صِيغَةَ الْمُضَارِعِ تَحْتَمِلُ الْحَالَ وَالِاسْتِقْبَالَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، لَكِنْ مَعَ الرُّجُوعِ إِلَى النِّيَّةِ، يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: وَأَمَّا صِيغَةُ الْحَالِ فَهِيَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: أَبِيعُ مِنْكَ هَذَا الشَّيْءَ بِكَذَا وَنَوَى الْإِيجَابَ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ، أَوْ قَالَ الْبَائِعُ: أَبِيعُهُ مِنْكَ بِكَذَا، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: أَشْتَرِيهِ، وَنَوَيَا الْإِيجَابَ، فَإِنَّ الرُّكْنَ يَتِمُّ وَيَنْعَقِدُ الْعَقْدُ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا النِّيَّةَ هُنَا وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ أَفْعَلَ لِلْحَالِ- هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا لِلِاسْتِقْبَالِ، إِمَّا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا فَوَقَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ.
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، فَفِي الْحَطَّابِ: إِنْ أَتَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فَكَلَامُهُ مُحْتَمَلٌ فَيَحْلِفُ عَلَى مَا أَرَادَهُ.
وَلَا يَنْعَقِدُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ وَعْدًا.
وَأَمَّا صِيغَةُ الْأَمْرِ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ لِدَلَالَةِ (بِعْنِي) عَلَى الرِّضَا.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ عِنْدَهُمْ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَهِيَ مُسَاوَمَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، فَلَا تَكُونُ إِيجَابًا وَقَبُولًا حَقِيقَةً، بَلْ هِيَ طَلَبُ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، فَلَا بُدَّ لِلْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مِنْ لَفْظٍ آخَرَ يَدُلُّ عَلَيْهِمَا.
وَيُوَضِّحُ ابْنُ قُدَامَةَ مَذْهَبَ الْحَنَابِلَةِ، فَيَقُولُ: إِنْ تَقَدَّمَ الْإِيجَابُ بِلَفْظِ الطَّلَبِ فَقَالَ بِعْنِي ثَوْبَكَ فَقَالَ بِعْتُكَ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا يَصِحُّ، وَالثَّانِيَةُ لَا يَصِحُّ.
هَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (عَقْد).
الصَّرِيحُ وَالْكِنَايَةُ فِي الصِّيغَةِ:
8- مِنَ الصِّيَغِ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمُرَادِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ أَوْ قَرِينَةٍ، لِأَنَّ الْمَعْنَى مَكْشُوفٌ عِنْدَ السَّامِعِ كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ
وَمِنْهَا مَا هُوَ كِنَايَةٌ، أَيْ: أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ أَوِ الْقَرِينَةِ، لِأَنَّهُ كَمَا يَقُولُ الشَّبْرَامَلِّسِيُّ: يَحْتَمِلُ الْمُرَادَ وَغَيْرَهُ، فَيَحْتَاجُ فِي الِاعْتِدَادِ بِهِ لِنِيَّةِ الْمُرَادِ لِخَفَائِهِ.
وَاسْتِعْمَالُ الْكِنَايَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ يَأْتِي فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الِالْتِزَامَاتِ بِالْكِنَايَاتِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (عَقْد).
شُرُوطُ الصِّيغَةِ:
9- أ- أَنْ تَكُونَ صَادِرَةً مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ فَلَا تَصِحُّ تَصَرُّفَاتُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ بِالنِّسْبَةِ لِعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ.
وَيُزَادُ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّبَرُّعَاتِ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ.
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ كَذَلِكَ، إِذْ مِنَ Cالْفُقَهَاءِ مَنْ أَجَازَ وَصِيَّةَ السَّفِيهِ وَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ كَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ..وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مِنْ حَيْثُ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ وَالْوَلِيِّ وَالْفُضُولِيِّ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهِ
وَيَصِحُّ مِنَ الصَّبِيِّ الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ، فَقَدْ أَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَذَانَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَيَصِحُّ إِيمَانُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
ب- أَنْ يَقْصِدَ الْمُتَكَلِّمُ بِالصِّيغَةِ لَفْظَهَا مَعَ الْمَعْنَى الْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ اللَّفْظُ، إِذِ الْجَهْلُ بِمَعْنَى اللَّفْظِ مُسْقِطٌ لِحُكْمِهِ، فَفِي قَوَاعِدِ الْأَحْكَامِ: إِذَا نَطَقَ الْأَعْجَمِيُّ بِكَلِمَةِ كُفْرٍ أَوْ إِيمَانٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ إِعْتَاقٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ صُلْحٍ أَوْ إِبْرَاءٍ لَمْ يُؤَاخَذْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ مُقْتَضَاهُ، وَلَمْ يَقْصِدْ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا نَطَقَ الْعَرَبِيُّ بِمَا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي بِلَفْظٍ أَعْجَمِيٍّ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ فَإِنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ لَا تَتَوَجَّهُ إِلاَّ إِلَى مَعْلُومٍ أَوْ مَظْنُونٍ، وَإِنْ قَصَدَ الْعَرَبِيُّ بِنُطْقِ شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِمَعَانِيهِ نَفَذَ ذَلِكَ مِنْهُ.
وَلَوْ سَبَقَ لِسَانُهُ بِطَلَاقٍ أَوْ يَمِينٍ دُونَ قَصْدٍ فَهُوَ لَاغٍ، وَلَا يَحْنَثُ بِذَلِكَ لِعَدَمِ قَصْدِهِ.وَذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَقَعُ طَلَاقُهُ وَيَنْعَقِدُ يَمِينُهُ، إِذِ الْقَصْدُ بِالنِّسْبَةِ لِلْيَمِينِ وَالطَّلَاقِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُمْ فَالنَّاسِي وَالْعَامِدُ وَالْمُخْطِئُ وَالذَّاهِلُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.
وَالْيَمِينُ اللَّغْوُ لَا شَيْءَ فِيهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ جَمِيعًا مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمُرَادِ بِاللَّغْوِ.
وَهَذَا فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ خِلَافًا لِلْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِنَّهُ لَا لَغْوَ فِيهَا فَيَقَعُ يَمِينُهُ.
أَمَّا لَوْ قَصَدَ اللَّفْظَ دُونَ الْمَعْنَى كَالْهَازِلِ وَاللاَّعِبِ كَمَنْ خَاطَبَ زَوْجَتَهُ بِطَلَاقٍ هَازِلًا أَوْ لَاعِبًا فَإِنَّ طَلَاقَهُ يَقَعُ، وَكَذَلِكَ يَنْعَقِدُ يَمِينُهُ وَنِكَاحُهُ وَرَجْعَتُهُ وَعِتْقُهُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ Cوَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ».وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ».
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه-: أَرْبَعٌ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ حَالٍ: الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ وَالنِّكَاحُ وَالنَّذْرُ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْهَازِلَ أَتَى بِالْقَوْلِ غَيْرَ مُلْتَزِمٍ لِحُكْمِهِ، وَتَرْتِيبُ الْأَحْكَامِ عَلَى الْأَسْبَابِ إِنَّمَا هِيَ لِلشَّارِعِ لَا لِلْعَاقِدِ، فَإِذَا أَتَى بِالسَّبَبِ لَزِمَهُ حُكْمُهُ شَاءَ أَمْ أَبَى، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَقِفُ عَلَى اخْتِيَارِهِ، وَذَلِكَ إِنَّ الْهَازِلَ قَاصِدٌ لِلْقَوْلِ مُرِيدٌ لَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِمَعْنَاهُ وَمُوجَبِهِ، وَقَصْدُ اللَّفْظِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْمَعْنَى قَصْدٌ لِذَلِكَ الْمَعْنَى لِتَلَازُمِهِمَا، ثُمَّ إِنَّ اللَّعِبَ وَالْهَزْلَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ جَائِزٍ، فَيَكُونُ جِدُّ الْقَوْلِ وَهَزْلُهُ سَوَاءً، بِخِلَافِ جَانِبِ الْعِبَادِ.
أَمَّا عُقُودُ الْهَازِلِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ فَلَا تَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ وَلَمْ نَعْثِرْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى رَأْيٍ فِي عُقُودِ الْهَازِلِ غَيْرَ مَا ذُكِرَ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ.
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (عَقْد- هَزْل).
أَمَّا السَّكْرَانُ: فَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ بِأَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ أَوِ النَّبِيذَ طَوْعًا حَتَّى سَكِرَ وَزَالَ عَقْلُهُ فَطَلَاقُهُ وَاقِعٌ عِنْدَ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ:
وَكَذَلِكَ عِنْدَ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ، وَذَلِكَ لِعُمُومِ قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} إِلَى قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ السَّكْرَانِ وَغَيْرِهِ إِلاَّ مَنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَلِأَنَّ عَقْلَهُ زَالَ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ، فَيَنْزِلُ كَأَنَّ عَقْلَهُ قَائِمٌ، عُقُوبَةً عَلَيْهِ وَزَجْرًا لَهُ عَنِ ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي الْأَشْبَاهِ أَنَّ السَّكْرَانَ مِنْ مُحَرَّمٍ كَالصَّاحِي إِلاَّ فِي ثَلَاثٍ: الرِّدَّةِ وَالْإِقْرَارِ بِالْحُدُودِ الْخَالِصَةِ وَالْإِشْهَادِ عَلَى Cنَفْسِهِ.وَالْقَوْلُ بِصِحَّةِ تَصَرُّفَاتِ السَّكْرَانِ إِذَا كَانَ قَدْ أَدْخَلَ السُّكْرَ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ وَالْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَصِحُّ مَا عَلَيْهِ وَلَا يَصِحُّ مَا لَهُ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ، وَلَا يَصِحُّ اتِّهَابُهُ وَتَصِحُّ رِدَّتُهُ دُونَ إِسْلَامِهِ.
وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ فِيمَا يَسْتَقِلُّ بِهِ مِثْلُ عِتْقِهِ وَقَتْلِهِ وَغَيْرِهِمَا كَالصَّاحِي، وَفِيمَا لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ مِثْلُ بَيْعِهِ وَنِكَاحِهِ وَمُعَاوَضَتِهِ كَالْمَجْنُونِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَنْ عِنْدَهُ نَوْعُ تَمْيِيزٍ وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ فَأَصْبَحَ كَالْمَجْنُونِ، فَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ لَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ أَصْلًا، أَمَّا مَنْ عِنْدَهُ وُقُوعُ تَمْيِيزٍ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ نَافِعٍ: يَجُوزُ عَلَيْهِ كُلُّ مَا فَعَلَ مِنْ بَيْعٍ وَغَيْرِهِ، وَتَلْزَمُهُ الْجِنَايَاتُ وَالْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ وَالْحُدُودُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِقْرَارُ وَالْعُقُودُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ.
أَمَّا مَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِسَبَبٍ يُعْذَرُ فِيهِ كَمَنْ شَرِبَ الْبَنْجَ أَوِ الدَّوَاءَ الَّذِي يُسْكِرُ وَزَالَ عَقْلُهُ فَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُ وَلَا تَصِحُّ تَصَرُّفَاتُهُ لِأَنَّهُ يُقَاسُ عَلَى الْمَجْنُونِ الَّذِي رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (عَقْد- سُكْر).
ج- أَنْ تَصْدُرَ الصِّيغَةُ عَنِ اخْتِيَارٍ، فَلَوْ كَانَ مُكْرَهًا فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَهُوَ الطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ، وَالرَّجْعَةُ، وَالنِّكَاحُ، وَالْيَمِينُ، وَالنَّذْرُ، وَالظِّهَارُ، وَالْإِيلَاءُ، وَالتَّدْبِيرُ، وَالْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ، فَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ جَائِزَةٌ مَعَ الْإِكْرَاهِ لِعُمُومَاتِ النُّصُوصِ، وَإِطْلَاقُهَا يَقْتَضِي شَرْعِيَّةَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَتَقْيِيدٍ.
أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهَا فَالْإِكْرَاهُ يُوجِبُ فَسَادَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يُوجِبُ تَوَقُّفَهَا عَلَى الْإِجَازَةِ.
وَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِ الْكَافِرِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِ الْمُسْلِمِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى Cإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَأَجْرَى، وَأَخْبَرَ أَنَّ قَلْبَهُ كَانَ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يَلْزَمُ الْمُكْرَهَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ كَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَالْعِتْقِ وَالْإِقْرَارِ وَالْيَمِينِ، وَكَذَا سَائِرُ الْعُقُودِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَلَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ خَشْيَةَ الْقَتْلِ.
وَالْحُكْمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ كَالْحُكْمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي عَدَمِ صِحَّةِ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ مَعَ الْإِكْرَاهِ؛ عَمَلًا بِحَدِيثِ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».
وَحَدِيثِ: «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ» إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ اسْتَثْنَوُا النِّكَاحَ فَيَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ.
مَا يَقُومُ مَقَامَ الصِّيغَةِ
10- حِينَ تُطْلَقُ الصِّيغَةُ فَالْمُرَادُ بِهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: الْأَلْفَاظُ وَالْعِبَارَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّصَرُّفِ، ذَلِكَ أَنَّ الْقَوْلَ هُوَ الْأَصْلُ فِي التَّعْبِيرِ عَمَّا يُرِيدُهُ الْإِنْسَانُ، إِذْ هُوَ مِنْ أَوْضَحِ الدَّلَالَاتِ عَلَى مَا فِي النُّفُوسِ.
وَيَقُومُ مَقَامَ الصِّيغَةِ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُرَادِ الْكِتَابَةُ أَوِ الْإِشَارَةُ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ إِجْمَالًا فِيمَا يَلِي:
أ- الْكِتَابَةُ:
11- الْكِتَابَةُ تَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ فِي التَّصَرُّفَاتِ، وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الْعُقُودِ وَانْعِقَادِهَا بِالْكِتَابَةِ، وَالْكِتَابَةُ الَّتِي تَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ هِيَ الْكِتَابَةُ الْمُسْتَبِينَةُ الْمَرْسُومَةُ كَالْكِتَابَةِ عَلَى الصَّحِيفَةِ أَوِ الْحَائِطِ أَوِ الْأَرْضِ، أَمَّا الْكِتَابَةُ الَّتِي لَا تُقْرَأُ كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْمَاءِ أَوِ الْهَوَاءِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهَا أَيُّ تَصَرُّفٍ.
وَإِنَّمَا تَصِحُّ التَّصَرُّفَاتُ بِالْكِتَابَةِ الْمُسْتَبِينَةِ لِأَنَّ الْقَلَمَ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ فَنَزَلَتِ الْكِتَابَةُ مَنْزِلَةَ اللَّفْظِ، وَقَدْ أُمِرَ النَّبِيُّC- صلى الله عليه وسلم- بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَكَانَ فِي حَقِّ الْبَعْضِ بِالْقَوْلِ وَفِي حَقِّ آخَرِينَ بِالْكِتَابَةِ إِلَى مُلُوكِ الْأَطْرَافِ.
وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ الْكِتَابَةَ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ فَتَنْعَقِدُ بِهَا الْعُقُودُ مَعَ النِّيَّةِ.
وَاسْتَثْنَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ صِحَّةِ التَّصَرُّفَاتِ بِالْكِتَابَةِ عَقْدَ النِّكَاحِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِالْكِتَابَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، بَلْ إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّ النِّكَاحَ يُفْسَخُ مُطْلَقًا، قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ، وَإِنْ طَالَ، كَمَا لَوِ اخْتَلَّ رُكْنٌ كَمَا لَوْ زَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِلَا وَلِيٍّ أَوْ لَمْ تَقَعِ الصِّيغَةُ بِقَوْلٍ بَلْ بِكِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ أَوْ بِقَوْلٍ غَيْرِ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ بِالْكِتَابَةِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ.
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ النِّكَاحَ بِالْكِتَابَةِ مِنَ الْأَخْرَسِ فَيَنْعَقِدُ نِكَاحُهُ بِالْكِتَابَةِ لِلضَّرُورَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (تَعْبِير، وَخَرَس).
ب- الْإِشَارَةُ:
12- مِمَّا يَقُومُ مَقَامَ الصِّيغَةِ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْإِشَارَةُ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: إِشَارَةُ الْأَخْرَسِ فِي الْعُقُودِ وَالْحُلُولِ وَالدَّعَاوَى وَالْأَقَارِيرِ وَغَيْرِهَا كَعِبَارَةِ النَّاطِقِ، قَالَ الْإِمَامُ عَنْهُ فِي (الْأَسَالِيبِ) وَكَانَ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْإِشَارَةَ فِيهَا بَيَانٌ، وَلَكِنَّ الشَّارِعُ تَعَبَّدَ النَّاطِقِينَ بِالْعِبَارَةِ، فَإِذَا عَجَزَ الْأَخْرَسُ بِخَرَسِهِ عَنِ الْعِبَارَةِ أَقَامَتِ الشَّرِيعَةُ إِشَارَتَهُ مَقَامَ عِبَارَتِهِ.
وَيُوَضِّحُهُ أَنَّ النَّاطِقَ لَوْ أَشَارَ بِعَقْدٍ أَوْ فَسْخٍ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ فَإِذَا خَرِسَ اعْتَدَّ بِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرَ فِي قِيَامِ الْإِشَارَةِ مَقَامَ الْعِبَارَةِ الضَّرُورَةُ، وَأَنَّهُ أَتَى بِأَقْصَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي الْبَيَانِ.
هَذَا مَعَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ قَبُولِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْأَخْرَسِ الْعَاجِزِ عَنِ الْكِتَابَةِ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي إِشَارَةِ غَيْرِ الْأَخْرَسِ وَهَلْ تُقْبَلُ كَنُطْقِهِ أَمْ لَا؟
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي بَحْثِ (إِشَارَة- ف 5) Cجـ- الْفِعْلُ:
13- قَدْ يَقُومُ الْفِعْلُ مَقَامَ الصِّيغَةِ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ، وَمِنْ أَهَمِّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ التَّعَاطِي فِي الْعُقُودِ فَأَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- الْبَيْعَ بِالتَّعَاطِي وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، كَمَا أَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْإِقَالَةَ وَالْإِجَارَةَ بِالتَّعَاطِي.
وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي بَحْثِ: (تَعَاطِي- ف 3.)
أَثَرُ الْعُرْفِ فِي دَلَالَةِ الصِّيغَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ:
14- لِلْعُرْفِ أَثَرٌ فِي دَلَالَةِ الصِّيغَةِ عَلَى الْمُرَادِ، وَمُرَاعَاةُ حَمْلِ الصِّيغَةِ عَلَى الْعُرْفِ لَهُ أَثَرٌ فِي الْأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا وَالَّتِي بُنِيَتْ أَسَاسًا عَلَى الْأَعْرَافِ الَّتِي كَانَتْ سَائِدَةً.
يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: مِمَّا تَتَغَيَّرُ بِهِ الْفَتْوَى لِتَغَيُّرِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، مِثْلُ: مُوجَبَاتِ الْأَيْمَانِ وَالْإِقْرَارِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِهَا، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْحَالِفَ إِذَا حَلَفَ: لَا رَكِبْتُ دَابَّةً، وَكَانَ فِي بَلَدٍ عُرْفُهُمْ فِي لَفْظِ الدَّابَّةِ الْحِمَارُ خَاصَّةً اخْتَصَّتْ يَمِينُهُ بِهِ، وَلَا يَحْنَثُ بِرُكُوبِ الْفَرَسِ وَلَا الْجَمَلِ، وَإِنْ كَانَ عُرْفُهُمْ فِي لَفْظِ الدَّابَّةِ الْفَرَسُ خَاصَّةً حُمِلَتْ يَمِينُهُ عَلَيْهَا دُونَ الْحِمَارِ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ الْحَالِفُ مِمَّنْ عَادَتُهُ رُكُوبُ نَوْعٍ خَاصٍّ مِنَ الدَّوَابِّ كَالْأُمَرَاءِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ حُمِلَتْ يَمِينُهُ عَلَى مَا اعْتَادَهُ مِنْ رُكُوبِ الدَّوَابِّ، وَيُفْتَى كُلُّ بَلَدٍ بِحَسَبِ عُرْفِ أَهْلِهِ، وَيُفْتَى كُلُّ أَحَدٍ بِحَسَبِ عَادَتِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا حَلَفَ لَا أَكَلْتُ رَأْسًا فِي بَلَدٍ عَادَتُهُمْ أَكْلُ رُءُوسِ الضَّأْنِ خَاصَّةً، لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ رُءُوسِ الطَّيْرِ وَالسَّمَكِ وَنَحْوِهَا.وَإِذَا أَقَرَّ الْمَلِكُ أَوْ أَغْنَى أَهْلِ الْبَلَدِ لِرَجُلٍ بِمَالٍ كَثِيرٍ لَمْ يُقْبَلْ تَفْسِيرُهُ بِالدِّرْهَمِ وَالرَّغِيفِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُتَمَوَّلُ، فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ فَقِيرٌ يُعَدُّ عِنْدَهُ الدِّرْهَمُ وَالرَّغِيفُ كَثِيرًا قُبِلَ مِنْهُ.
وَقَدْ عَقَدَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فَصْلًا كَامِلًا فِي كِتَابِهِ قَوَاعِدِ الْأَحْكَامِ فِي مَصَالِحِ الْأَنَامِ تَحْتَ عِنْوَانٍ: «فَصْلٌ فِي تَنْزِيلِ دَلَالَةِ الْعَادَاتِ وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ مَنْزِلَةَ صَرِيحِ الْأَقْوَالِ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ وَتَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ وَغَيْرِهَا»، وَأَوْرَدَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ مَسْأَلَةً.
وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ فَتَاوَى الْعَلاَّمَةِ قَاسِمٍ: التَّحْقِيقُ أَنَّ لَفْظَ الْوَاقِفِ وَالْمُوصِي وَالْحَالِفِ وَالنَّاذِرِ وَكُلِّ عَاقِدٍ يُحْمَلُ عَلَى عَادَتِهِ فِي خِطَابِهِ وَلُغَتِهِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا، وَافَقَتْ لُغَةَ Cالْعَرَبِ وَلُغَةَ الشَّارِعِ أَوْ لَا
وَيَقُولُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى: «.وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَعَادَةُ النَّاسِ تُؤَثِّرُ فِي تَعْرِيفِ مُرَادِهِمْ مِنْ أَلْفَاظِهِمْ».
وَنَظِيرُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا أَوْرَدَهُ الْقَرَافِيُّ فِي فُرُوقِهِ.
أَثَرُ الصِّيغَةِ:
15- أَثَرُ الصِّيغَةِ: هُوَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ أَحْكَامٍ، وَهُوَ الْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ لِلصِّيغَةِ، إِذِ الْمُرَادُ مِنَ الصِّيغَةِ التَّعْبِيرُ عَمَّا يَلْتَزِمُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنِ ارْتِبَاطٍ مَعَ الْغَيْرِ كَصِيَغِ الْعُقُودِ مِنْ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ وَصُلْحٍ وَنِكَاحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، أَوِ ارْتِبَاطٍ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ كَالنَّذْرِ وَالذِّكْرِ، أَوِ التَّعْبِيرِ عَمَّا هُوَ فِي الذِّمَّةِ، أَوْ لَدَى الْغَيْرِ مِنْ حُقُوقٍ كَالْإِقْرَارَاتِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَالصِّيغَةُ مَتَى اسْتَوْفَتْ شَرَائِطَهَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا مَا تَضَمَّنَتْهُ، فَفِي الْبَيْعِ مَثَلًا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ وَلِلْبَائِعِ الثَّمَنُ لِلْحَالِّ مَعَ وُجُوبِ تَسْلِيمِ الْبَدَلَيْنِ.
وَفِي الْإِجَارَةِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَفِي الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ لِلْآجِرِ.وَفِي الْهِبَةِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فِي الْمَوْهُوبِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ.وَفِي النِّكَاحِ يَثْبُتُ حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ لِكُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِالْآخَرِ وَحِلُّ النَّظَرِ وَالْمَسِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَجِبُ الْمَهْرُ.
كَمَا يَجِبُ فِي النُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ الْوَفَاءُ وَالْبِرُّ..وَهَكَذَا.
وَالصِّيغَةُ الَّتِي تَصْدُرُ مِنَ الْإِنْسَانِ مَتَى اسْتَوْفَتْ شَرَائِطَهَا كَانَتْ هِيَ الْأَسَاسَ الَّذِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ الْقَاضِي فِي صُدُورِ الْأَحْكَامِ، وَلَوْ كَانَ الْوَاقِعُ خِلَافَ ذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ لَمَّا وَضَعَتِ امْرَأَتُهُ الَّتِي لُوعِنَتْ وَلَدًا يُشْبِهُ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم-: «لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» يَعْنِي: لَوْلَا مَا قَضَى اللَّهُ مِنْ أَلاَّ يُحْكَمَ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ بِاعْتِرَافٍ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بَيِّنَةٍ، وَلَمْ يَعْرِضِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- لِشَرِيكِ وَلَا لِلْمَرْأَةِ، وَأَنْفَذَ الْحُكْمَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدُ أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الصَّادِقُ.
وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسَبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَأَقْضِي لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا»
قَالَ الشَّافِعِيُّ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى الْحَدِيثِ: فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ يَقَعُ عَلَى مَا يُسْمَعُ مِنَ الْخَصْمَيْنِ بِمَا لَفَظُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي قُلُوبِهِمْ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يَقْضِي عَلَى أَحَدٍ بِغَيْرِ مَا لَفَظَ بِهِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ، مِثْلُ هَذَا قَضَاؤُهُ - صلى الله عليه وسلم- لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ بِابْنِ الْوَلِيدَةِ فَلَمَّا رَأَى الشَّبَهَ بَيِّنًا بِعُتْبَةَ قَالَ: «احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ».
وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: الْحَاكِمُ إِنَّمَا يَحْكُمُ بِمَا ظَهَرَ وَهُوَ الَّذِي تُعُبِّدَ بِهِ، وَلَا يَنْقُلُ الْبَاطِنَ عِنْدَ مَنْ عَلِمَهُ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ؛ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ».
قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: وَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأَمْوَالِ، وَاخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ أَوْ حِلِّ عَقْدِهِ بِظَاهِرِ مَا يَقْضِي بِهِ الْحَاكِمُ وَهُوَ خِلَافُ الْبَاطِنِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الْأَمْوَالَ وَالْفُرُوجَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهَا حُقُوقٌ، كُلُّهَا تَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم-: «فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ».فَلَا يُحِلُّ مِنْهَا الْقَضَاءُ الظَّاهِرُ مَا هُوَ حَرَامٌ فِي الْبَاطِنِ.وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَكَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَا حَكَى عَنْهُمُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً، فَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَعَمَّدَا الشَّهَادَةَ بِالزُّورِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَقَبِلَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُمَا لِظَاهِرِ عَدَالَتِهِمَا، وَهُمَا قَدْ تَعَمَّدَا الْكَذِبَ أَوْ غَلَطَا فَفَرَّقَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ، ثُمَّ اعْتَدَّتِ الْمَرْأَةُ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لِأَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَ Cلِأَنَّهَا لَمَّا حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ بِالْحُكْمِ الظَّاهِرِ، فَالظَّاهِرُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ، وَاحْتَجُّوا بِحُكْمِ اللِّعَانِ وَقَالُوا: مَعْلُومٌ أَنَّ الزَّوْجَةَ إِنَّمَا وَصَلَتْ إِلَى فِرَاقِ زَوْجِهَا بِاللِّعَانِ الْكَاذِبِ وَنَقَلَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي عَنِ الطَّحَاوِيِّ مَا يُشْبِهُ هَذَا التَّفْصِيلَ.
وَقَدْ قَسَّمَ ابْنُ الْقَيِّمِ الْأَلْفَاظَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَقَاصِدِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَنِيَّاتِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ لِمَعَانِيهَا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ:
16- أَنْ تَظْهَرَ مُطَابَقَةُ الْقَصْدِ لِلَّفْظِ، وَلِلظُّهُورِ مَرَاتِبُ تَنْتَهِي إِلَى الْيَقِينِ وَالْقَطْعِ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ بِحَسَبِ الْكَلَامِ فِي نَفْسِهِ، وَمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ الْحَالِيَّةِ وَاللَّفْظِيَّةِ وَحَالِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ..
الْقِسْمُ الثَّانِي:
17- مَا يَظْهَرُ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَمْ يُرِدْ مَعْنَاهُ، وَقَدْ يَنْتَهِي هَذَا الظُّهُورُ إِلَى حَدِّ الْيَقِينِ بِحَيْثُ لَا يَشُكُّ السَّامِعُ فِيهِ، هَذَا الْقِسْمُ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَلاَّ يَكُونَ مُرِيدًا لِمُقْتَضَاهُ، وَلَا لِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ كَالْمُكْرَهِ، وَالنَّائِمِ، وَالْمَجْنُونِ، وَمَنِ اشْتَدَّ بِهِ الْغَضَبُ، وَالسَّكْرَانِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِمَعْنًى يُخَالِفُهُ، وَذَلِكَ كَالْمُعَرِّضِ وَالْمُوَرِّي وَالْمُلْغِزِ وَالْمُتَأَوِّلِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
18- مَا هُوَ ظَاهِرٌ فِي مَعْنَاهُ وَيَحْتَمِلُ إِرَادَةَ الْمُتَكَلِّمِ لَهُ، وَيَحْتَمِلُ إِرَادَةَ غَيْرِهِ وَلَا دَلَالَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَاللَّفْظُ دَالٌّ عَلَى الْمَعْنَى الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَقَدْ أَتَى بِهِ اخْتِيَارًا.
ثُمَّ بَيَّنَ ابْنُ الْقَيِّمِ مَا يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَمَا لَا يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَمَا يُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ، فَقَالَ: إِذَا ظَهَرَ قَصْدُ الْمُتَكَلِّمِ لِمَعْنَى الْكَلَامِ، أَوْ لَمْ يَظْهَرْ قَصْدٌ يُخَالِفُ كَلَامَهُ وَجَبَ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهَذَا حَقٌّ لَا يُنَازِعُ فِيهِ عَالِمٌ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ أَدِلَّةً كَثِيرَةً، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَالْوَاجِبُ حَمْلُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ وَحَمْلُ كَلَامِ الْمُكَلَّفِ عَلَى ظَاهِرِهِ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُهُ، وَهُوَ الَّذِي يُقْصَدُ مِنَ اللَّفْظِ عِنْدَ التَّخَاطُبِ، وَلَا يَتِمُّ التَّفْهِيمُ وَالْفَهْمُ إِلاَّ بِذَلِكَ، وَمُدَّعِي غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ الْقَاصِدِ لِلْبَيَانِ وَالتَّفْهِيمِ كَاذِبٌ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْحَمْلِ عَلَى الظَّاهِرِ حُكْمًا بَعْدَ ظُهُورِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْفَاعِلِ بِخِلَافِ مَا أَظْهَرَهُ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي Cوَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ، وَهُوَ: هَلِ الِاعْتِبَارُ بِظَوَاهِرِ الْأَلْفَاظِ وَالْعُقُودِ، وَإِنْ ظَهَرَتِ الْمَقَاصِدُ وَالنِّيَّاتُ بِخِلَافِهَا؟ أَمْ لِلْقُصُودِ وَالنِّيَّاتِ تَأْثِيرٌ يُوجِبُ الِالْتِفَاتَ إِلَيْهَا وَمُرَاعَاةَ جَانِبِهَا؟
وَقَدْ تَظَاهَرَتْ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ وَقَوَاعِدُهُ عَلَى أَنَّ الْقُصُودَ فِي الْعُقُودِ مُعْتَبَرَةٌ، وَأَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَفَسَادِهِ، وَفِي حِلِّهِ، وَحُرْمَتِهِ، بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ، وَهِيَ أَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِي الْفِعْلِ الَّذِي لَيْسَ بِعَقْدٍ تَحْلِيلًا وَتَحْرِيمًا فَيَصِيرُ حَلَالًا تَارَةً وَحَرَامًا تَارَةً أُخْرَى بِاخْتِلَافِ النِّيَّةِ، وَالْقَصْدِ، كَمَا يَصِيرُ صَحِيحًا تَارَةً، وَفَاسِدًا تَارَةً بِاخْتِلَافِهَا، وَهَذَا كَالرَّجُلِ يَشْتَرِي الْجَارِيَةَ يَنْوِي أَنْ تَكُونَ لِمُوَكِّلِهِ فَتَحْرُمَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَيَنْوِيَ أَنَّهَا لَهُ فَتَحِلَّ لَهُ.
ثُمَّ بَعْدَ أَنْ يُوَضِّحَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْعُقُودِ الْقَصْدُ دُونَ اللَّفْظِ الْمُجَرَّدِ يَقُولُ:
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ إِنَّمَا تُفِيدُ الْأَحْكَامَ إِذَا قَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا مَا جُعِلَتْ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهَا مَا يُنَاقِضُ مَعْنَاهَا، وَهَذَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَالْأَمْرُ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ، وَإِلاَّ لَمَا تَمَّ عَقْدٌ وَلَا تَصَرُّفٌ، فَإِذَا قَالَ: بِعْتُ أَوْ تَزَوَّجْتُ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ مَعْنَاهُ الْمَقْصُودَ بِهِ، وَجَعَلَهُ الشَّارِعُ بِمَنْزِلَةِ الْقَاصِدِ إِنْ كَانَ هَازِلًا، وَبِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا يَتِمُّ الْحُكْمُ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا جُزْءُ السَّبَبِ، وَهُمَا مَجْمُوعُهُ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِبْرَةُ فِي الْحَقِيقَةِ بِالْمَعْنَى، وَاللَّفْظُ دَلِيلٌ، وَلِهَذَا يُصَارُ إِلَى غَيْرِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ، وَهَذَا شَأْنُ عَامَّةِ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
295-موسوعة الفقه الكويتية (ضمان 5)
ضَمَانٌ -5ثَالِثًا: ضَمَانُ الشَّخْصِ فِعْلَ الْحَيَوَانِ:
هُنَاكَ نَوْعَانِ مِنَ الْحَيَوَانِ: أَحَدُهُمَا الْحَيَوَانُ الْعَادِيُّ، وَالْآخَرُ الْحَيَوَانُ الْخَطِرُ، وَفِي تَضْمِينِ جِنَايَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَنُوَضِّحُهُ فِيمَا يَلِي:
أ- ضَمَانُ جِنَايَةِ الْحَيَوَانِ الْعَادِيِّ غَيْرِ الْخَطِرِ:
102- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمَانِ مَا يُتْلِفُهُ الْحَيَوَانُ الْعَادِيُّ، غَيْرُ الْخَطِرِ: فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى ضَمَانِ مَا تُفْسِدُهُ الدَّابَّةُ مِنَ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ، إِذَا وَقَعَ فِي اللَّيْلِ، وَكَانَتْ وَحْدَهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ يَدٌ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ فِي النَّهَارِ، وَلَمْ تَكُنْ يَدٌ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا- أَيِ الدَّابَّةِ- فَلَا ضَمَانَ فِيهِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: «الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ ضَارِيَةٌ فَدَخَلَتْ حَائِطًا، فَأَفْسَدَتْ فِيهِ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّ حِفْظَ الْحَوَائِطِ بِالنَّهَارِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ حِفْظَ الْمَاشِيَةِ بِاللَّيْلِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ مَا أَصَابَتِ الْمَاشِيَةُ بِاللَّيْلِ فَهُوَ عَلَى أَهْلِهَا».
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلِأَنَّ الْعَادَةَ مِنْ أَهْلِ الْمَوَاشِي إِرْسَالُهَا فِي النَّهَارِ لِلرَّعْيِ، وَحِفْظُهَا لَيْلًا، وَعَادَةُ أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظُهَا نَهَارًا دُونَ اللَّيْلِ، فَإِذَا ذَهَبَتْ لَيْلًا كَانَ التَّفْرِيطُ مِنْ أَهْلِهَا، بِتَرْكِهِمْ حِفْظَهَا فِي وَقْتِ عَادَةِ الْحِفْظِ.
وَإِنْ أَتْلَفَتْ نَهَارًا، كَانَ التَّفْرِيطُ مِنْ أَهْلِ الزَّرْعِ، فَكَانَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ فَرَّقَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بَيْنَهُمَا، وَقَضَى عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ بِالْحِفْظِ فِي وَقْتِ عَادَتِهِ.
وَقَالَ- أَيْضًا-: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنَّمَا يَضْمَنُ مَالِكُهَا مَا أَتْلَفَتْهُ لَيْلًا، إِذَا فَرَّطَ بِإِرْسَالِهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا أَوْ لَمْ يَضُمَّهَا بِاللَّيْلِ، أَوْ ضَمَّهَا بِحَيْثُ يُمْكِنُهَا الْخُرُوجُ، أَمَّا لَوْ ضَمَّهَا فَأَخْرَجَهَا غَيْرُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَوْ فَتَحَ عَلَيْهَا بَابَهَا، فَالضَّمَانُ عَلَى مُخْرِجِهَا، أَوْ فَاتِحِ بَابِهَا، لِأَنَّهُ الْمُتْلِفُ.
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ عَدَمَ ضَمَانِ الْإِتْلَافِ نَهَارًا بِشَرْطَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ مَعَهَا رَاعٍ.
وَالْآخَرُ: أَنْ تَسْرَحَ بَعِيدًا عَنِ الْمَزَارِعِ، وَإِلاَّ فَعَلَى الرَّاعِي الضَّمَانُ.
وَإِنْ أَتْلَفَتِ الْبَهِيمَةُ غَيْرَ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ مِنَ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ، لَمْ يَضْمَنْهُ مَالِكُهَا، لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا، مَا لَمْ تَكُنْ يَدُهُ عَلَيْهَا وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» وَيُرْوَى «الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ» وَمَعْنَى جُبَارٌ: هَدْرٌ.
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ، عَدَمَ ضَمَانِ ذَلِكَ لَيْلًا، بِمَا إِذَا لَمْ يُقَصِّرْ فِي حِفْظِهَا، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَعَهَا، فَفِي الْمُدَوَّنَةِ: مَنْ قَادَ قِطَارًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا وَطِئَ الْبَعِيرُ، فِي أَوَّلِ الْقِطَارِ أَوْ آخِرِهِ، وَإِنْ نَفَحَتْ رَجُلًا بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا، لَمْ يَضْمَنِ الْقَائِدُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَعَلَهُ بِهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ إِذَا أَتْلَفَ مَالًا أَوْ نَفْسًا، فَلَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِهِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَوَقَعَ ذَلِكَ فِي لَيْلٍ أَمْ فِي نَهَارٍ.
وَذَلِكَ لِحَدِيثِ «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا.
لَكِنْ قَيَّدَهَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، بِالْمُنْفَلِتَةِ الْمُسَيَّبَةِ حَيْثُ تُسَيَّبُ الْأَنْعَامُ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الْبَرَارِيِ، فَهَذِهِ الَّتِي جُرْحُهَا هَدْرٌ وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ مَعَهَا حَافِظٌ فَيَضْمَنُ، وَبَيْنَ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا حَافِظٌ، فَلَا يَضْمَنُ، وَرَوَى فِي ذَلِكَ آثَارًا.
وَلِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي نِفَارِهَا وَانْفِلَاتِهَا، وَلَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْ فِعْلِهَا، فَالْمُتَوَلِّدُ مِنْهُ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا.
وَأَثَارَ الْمَالِكِيَّةُ- هُنَا- مَسْأَلَةَ مَا لَوْ كَانَ الْحَيَوَانُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، وَلَا حِرَاسَتُهُ كَحَمَامٍ، وَنَحْلٍ، وَدَجَاجٍ يَطِيرُ.
فَذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ- وَهُوَ رَوِايَةُ مُطَرِّفٍ عَنْ مَالِكٍ- إِلَى أَنَّهُ يُمْنَعُ أَرْبَابُهَا مِنِ اتِّخَاذِهِ، إِنْ آذَى النَّاسَ.
وَذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ كِنَانَةَ وَأَصْبَغُ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنِ اتِّخَاذِهِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِيمَا أَتْلَفَتْهُ مِنَ الزَّرْعِ، عَلَى أَرْبَابِ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ حِفْظُهَا.
وَصَوَّبَ ابْنُ عَرَفَةَ الْأَوَّلَ، لِإِمْكَانِ اسْتِغْنَاءِ رَبِّهَا عَنْهَا، وَضَرُورَةِ النَّاسِ لِلزَّرْعِ وَالشَّجَرِ.
وَيُؤَيِّدُهُ- كَمَا قَالَ الدُّسُوقِيُّ- قَاعِدَةُ ارْتِكَابِ، أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ عِنْدَ التَّقَابُلِ، لَكِنْ قَالَ: وَلَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ- كَمَا قَالَ شَيْخُنَا- قَوْلُ ابْنِ قَاسِمٍ.
وَالِاتِّجَاهَانِ كَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
شُرُوطُ ضَمَانِ جِنَايَةِ الْحَيَوَانِ:
بَدَا مِمَّا تَقَدَّمَ اتِّفَاقُ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَضْمِينِ جِنَايَةِ الْحَيَوَانِ، كُلَّمَا كَانَ مَعَهَا رَاكِبٌ أَوْ حَافِظٌ، أَوْ ذُو يَدٍ، وَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ مِنْ تَوَفُّرِ شُرُوطِ الضَّمَانِ الْعَامَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: مِنَ الضَّرَرِ وَالتَّعَدِّي وَالْإِفْضَاءِ.
103- فَالضَّرَرُ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاقِعُ عَلَى النُّفُوسِ أَوِ الْأَمْوَالِ وَصَرَّحَ الْعَيْنِيُّ بِأَنَّ حَدِيثَ «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» الْمُتَقَدِّمَ، مُحْتَمِلٌ لأَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ عَلَى الْأَبْدَانِ أَوِ الْأَمْوَالِ، وَذَكَرَ أَنَّ الْأَوَّلَ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِيقَةِ لِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِلَفْظِ «الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ».
104- وَالتَّعَدِّي بِمُجَاوَزَةِ ذِي الْيَدِ فِي اسْتِعْمَالِ الدَّابَّةِ، فَحَيْثُ اسْتَعْمَلَهَا فِي حُدُودِ حَقِّهِ، فِي مِلْكِهِ، أَوِ الْمَحَلِّ الْمُعَدِّ لِلدَّوَابِّ أَوْ أَدْخَلَهَا مِلْكَ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ، فَأَتْلَفَتْ نَفْسًا أَوْ مَالًا، لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِذْ لَا ضَمَانَ مَعَ الْإِذْنِ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ أَوْ أَوْقَفَهَا فِي مَحَلٍّ لَمْ يُعَدَّ لِوُقُوفِ الْحَيَوَانَاتِ، أَوْ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا لِمَا تُتْلِفُهُ حِينَئِذٍ إِذْ كُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ ضَمِنَ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ.
وَالْأَصْلُ فِي هَذَا حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَوْقَفَ دَابَّةً فِي سَبِيلٍ مِنْ سُبُلِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي سُوقٍ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ، فَأَوْطَأَتْ بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ، فَهُوَ ضَامِنٌ».
وَنَصَّتْ الْمَجَلَّةُ فِي الْمَادَّةِ 930 عَلَى أَنَّهُ «لَا يَضْمَنُ صَاحِبُ الدَّابَّةِ الَّتِي أَضَرَّتْ بِيَدِهَا أَوْ ذَيْلِهَا أَوْ رِجْلِهَا، حَالَ كَوْنِهَا فِي مِلْكِهِ، رَاكِبًا كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ»، كَمَا نَصَّتْ (الْمَادَّةُ: 931) عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَدْخَلَ أَحَدٌ دَابَّتَهُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ، لَا يَضْمَنُ جِنَايَتَهَا، فِي الصُّوَرِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْمَادَّةِ آنِفًا حَيْثُ إِنَّهَا تُعَدُّ كَالْكَائِنَةِ فِي مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ أَدْخَلَهَا بِدُونِ إِذْنِ صَاحِبِهِ يَضْمَنُ ضَرَرَ تِلْكَ الدَّابَّةِ وَخَسَارَهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ.
- كَمَا نَصَّتْ فِي (الْمَادَّةِ: 939) عَلَى أَنَّهُ إِذَا رَبَطَ شَخْصَانِ دَابَّتَيْهِمَا فِي مَحَلٍّ لَهُمَا حَقُّ الرَّبْطِ فِيهِ، فَأَتْلَفَتْ إِحْدَى الدَّابَّتَيْنِ الْأُخْرَى، لَا يَلْزَمُ الضَّمَانُ.
وَفِي النُّصُوصِ: «لَوْ أَوْقَفَهَا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ، أَوْ مَسْجِدٍ آخَرَ، يَضْمَنُ إِلاَّ إِذَا جَعَلَ الْإِمَامُ لِلْمُسْلِمِينَ مَوْضِعًا يُوقِفُونَ دَوَابَّهُمْ فَلَا يَضْمَنُ».
وَلَوْ رَبَطَ دَابَّتَهُ فِي مَكَان، ثُمَّ رَبَطَ آخَرُ فِيهِ دَابَّتَهُ، فَعَضَّتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، لَا ضَمَانَ لَوْ كَانَ لَهُمَا فِي الْمَرْبِطِ وِلَايَةُ الرَّبْطِ.
وَعَلَّلَهُ الرَّمْلِيُّ، نَقْلًا عَنِ الْقَاضِي، بِأَنَّ الرَّبْطَ جِنَايَةٌ، فَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ ضَمِنَهُ.
105- وَأَمَّا الْإِفْضَاءُ، وَهُوَ وُصُولُ الضَّرَرِ مُبَاشَرَةً أَوْ تَسَبُّبًا، فَإِنَّ فِعْلَ الْحَيَوَانِ لَا يُوصَفُ بِمُبَاشَرَةٍ أَوْ تَسْبِيبٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَصِحُّ إِضَافَةُ الْحُكْمِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِذَلِكَ صَاحِبُهُ، فَتُطَبَّقُ الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ: أَنَّ الْمُبَاشِرَ ضَامِنٌ وَإِنْ لَمْ يَتَعَدَّ، وَالْمُتَسَبِّبُ لَا يَضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي.
وَيُعْتَبَرُ ذُو الْيَدِ عَلَى الْحَيَوَانِ، وَصَاحِبُهُ مُبَاشِرًا إِذَا كَانَ رَاكِبًا فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَلَوْ بِإِذْنِهِ أَوْ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ، فَيَضْمَنُ مَا يُحْدِثُهُ بِتَلَفِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَدَّ.
فَرَاكِبُ الدَّابَّةِ يَضْمَنُ مَا وَطِئَتْهُ بِرِجْلِهَا، أَوْ يَدِهَا- كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ- أَيْ وَمَاتَ لِوُجُودِ الْخَطَأِ فِي هَذَا الْقَتْلِ، وَحُصُولُهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَاشَرَةِ لِأَنَّ ثِقَلَ الرَّاكِبِ عَلَى الدَّابَّةِ، وَالدَّابَّةُ آلَةٌ لَهُ، فَكَانَ الْقَتْلُ الْحَاصِلُ بِثِقَلِهَا مُضَافًا إِلَى الرَّاكِبِ، وَالرَّدِيفُ وَالرَّاكِبُ سَوَاءٌ، وَعَلَيْهِمَا الْكَفَّارَةُ، وَيُحْرَمَانِ مِنَ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ، لِأَنَّ ثِقَلَهُمَا عَلَى الدَّابَّةِ، وَالدَّابَّةُ آلَةٌ لَهُمَا، فَكَانَا قَاتِلَيْنِ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ.
وَلَوْ كَدَمَتْ أَوْ صَدَمَتْ، فَهُوَ ضَامِنٌ، وَلَا كَفَّارَةَ وَلَا حِرْمَانَ، لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِسَبَبٍ.
وَلَوْ أَصَابَتْ وَمَعَهَا سَائِقٌ وَقَائِدٌ، فَلَا كَفَّارَةَ وَلَا حِرْمَانَ، لِأَنَّهُ قَتْلٌ تَسْبِيبًا لَا مُبَاشَرَةً، بِخِلَافِ الرَّاكِبِ وَالرَّدِيفِ.
وَهَذَا خِلَافُ مَا فِي مَجْمَعِ الْأَنْهُرِ، حَيْثُ نَصَّ عَلَى أَنَّ الرَّاكِبَ فِي مِلْكِهِ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ، فَيَضْمَنُ لِلتَّعَدِّي.
وَمِثَالُ مَا لَوْ أَتْلَفَتْ شَيْئًا بِتَسْبِيبِ صَاحِبِهَا: مَا لَوْ أَوْقَفَهَا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، فَجَالَتْ فِي رِبَاطِهَا، حَيْثُ طَالَ الرَّسَنُ فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا، ضَمِنَ، لِأَنَّهُ مُمْسِكُهَا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ ذَهَبَتْ، مَا دَامَتْ فِي مَوْضِعِ رِبَاطِهَا.
فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ الضَّمَانِ بِالتَّسْبِيبِ بِالتَّعَدِّي، وَهُوَ الرَّبْطُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ.
وَمِثَالُ اجْتِمَاعِ الْمُبَاشَرَةِ وَالتَّسْبِيبِ، حَيْثُ تُقَدَّمُ الْمُبَاشَرَةُ، مَا لَوْ رَبَطَ بَعِيرًا إِلَى قِطَارٍ، وَالْقَائِدُ لَا يَعْلَمُ، فَوَطِئَ الْبَعِيرُ الْمَرْبُوطُ إِنْسَانًا، فَقَتَلَهُ، فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَائِدِ الدِّيَةُ، لِعَدَمِ صِيَانَةِ الْقِطَارِ عَنْ رَبْطِ غَيْرِهِ، فَكَانَ مُتَعَدِّيًا (مُقَصِّرًا) لَكِنْ يُرْجَعُ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ.
وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبِ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُتَسَبِّبٌ، لِأَنَّ الرَّبْطَ، مِنَ الْقَوَدِ، بِمَنْزِلَةِ التَّسْبِيبِ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ، لِاتِّصَالِ التَّلَفِ بِالْقَوَدِ دُونَ الرَّبْطِ.
وَمِثَالُ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُبَاشِرًا وَلَا مُتَسَبِّبًا، حَيْثُ لَا يَضْمَنُ، مَا إِذَا قَتَلَ سِنَّوْرُهُ حَمَامَةً فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ، لِحَدِيثِ: «الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ» الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا.
وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْهِرَّةَ إِنْ أَتْلَفَتْ طَيْرًا أَوْ طَعَامًا لَيْلًا أَوَنَهَارًا ضَمِنَ مَالِكُهَا إِنْ عَهِدَ ذَلِكَ مِنْهَا، وَإِلاَّ فَلَا يَضْمَنُ فِي الْأَصَحِّ.
106- وَمِنْ مَشْمُولَاتِ الْإِفْضَاءِ: التَّعَمُّدُ، كَمَا لَوْ أَلْقَى هِرَّةً عَلَى حَمَامَةٍ أَوْ دَجَاجَةٍ، فَأَكَلَتْهَا ضَمِنَ لَوْ أَخَذَتْهَا بِرَمْيِهِ وَإِلْقَائِهِ، لَا لَوْ بَعْدَهُ.وَيَضْمَنُ بِإِشْلَاءِ كَلْبِهِ، لِأَنَّهُ بِإِغْرَائِهِ يَصِيرُ آلَةً لِعَقْرِهِ، فَكَأَنَّهُ ضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ.
وَمِنْ مَشْمُولَاتِهِ التَّسَبُّبُ بِعَدَمِ الِاحْتِرَازِ: فَالْأَصْلُ: أَنَّ الْمُرُورَ بِطَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ مُبَاحٌ، بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، فِيمَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، لَا فِيمَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ
فَلَوْ أَوْقَفَ دَابَّتَهُ فِي الطَّرِيقِ ضَمِنَ مَا نَفَحَتْهُ، لِأَنَّ بِإِمْكَانِهِ الِاحْتِرَازَ مِنَ الْإِيقَافِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الِاحْتِرَازُ مِنَ النَّفْحَةِ، فَصَارَ مُتَعَدِّيًا بِالْإِيقَافِ وَشَغْلِ الطَّرِيقِ بِهِ.
بِخِلَافِ مَا لَوْ أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا حَصَاةً، أَوْ أَثَارَتْ غُبَارًا، فَفَقَأَتْ الْحَصَاةُ عَيْنَ إِنْسَانٍ، أَوْ أَفْسَدَ الْغُبَارُ ثَوْبَ إِنْسَانٍ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، لِأَنَّ سَيْرَ الدَّوَابِّ لَا يَخْلُو عَنْهُ.
وَلِلْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ فِي الطَّرِيقِ الْوَاسِعِ.
وَجَاءَ فِي الْمَجَلَّةِ (الْمَادَّةِ: 934): لَيْسَ لِأَحَدٍ حَقُّ تَوْقِيفِ دَابَّتِهِ أَوْ رَبْطِهَا فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ.
وَمِنْ مَشْمُولَاتِهِ التَّسَبُّبُ بِالتَّقْصِيرِ، وَمِنَ الْفُرُوعِ: مَا لَوْ رَأَى دَابَّتَهُ تَأْكُلُ حِنْطَةَ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَمْنَعْهَا، حَتَّى أَكَلَتْهَا، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَضْمَنُ.
وَبِهَذَا أَخَذَتْ الْمَجَلَّةُ، حَيْثُ نَصَّتْ عَلَى أَنَّهُ «لَوْ اسْتَهْلَكَ حَيَوَانٌ مَالَ أَحَدٍ، وَرَآهُ صَاحِبُهُ، فَلَمْ يَمْنَعْهُ يَضْمَنُ». (الْمَادَّةُ: 929).
107- وَالضَّامِنُ لِجِنَايَةِ الْحَيَوَانِ، لَمْ يُقَيَّدْ فِي النُّصُوصِ الْفِقْهِيَّةِ، بِكَوْنِهِ مَالِكًا أَوْ غَيْرَهُ، بَلْ هُوَ ذُو الْيَدِ، الْقَابِضُ عَلَى زِمَامِهِ، الْقَائِمُ عَلَى تَصْرِيفِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا، وَلَوْ لَمْ يَحِلَّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَيَشْمَلُ هَذَا السَّائِسَ وَالْخَادِمَ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ فِي مَالِ الَّذِي هُوَ مَعَهَا، سَوَاءٌ كَانَ مَالِكًا أَوْ مُسْتَأْجِرًا
أَوْ مُسْتَعِيرًا، أَوْ غَاصِبًا أَوْ مُودِعًا، أَوْ وَكِيلًا أَوْ غَيْرَهُ.
وَيَقُولُ الشَّرْقَاوِيُّ فِي جِنَايَةِ الدَّابَّةِ: لَا تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهَا، بَلْ بِذِي الْيَدِ عَلَيْهَا.
108- وَلَوْ تَعَدَّدَ وَاضِعُو الْيَدِ عَلَى الْحَيَوَانِ، فَالضَّمَانُ- فِيمَا يَبْدُو مِنَ النُّصُوصِ- عَلَى الْأَقْوَى يَدًا، وَالْأَكْثَرِ قُدْرَةً عَلَى التَّصَرُّفِ، وَعِنْدَ الِاسْتِوَاءِ يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا.
قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا سَائِقًا، وَالْآخَرُ قَائِدًا، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي التَّسْبِيبِ، فَيَشْتَرِكَانِ فِي الضَّمَانِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا سَائِقًا وَالْآخَرُ رَاكِبًا أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَائِدًا وَالْآخَرُ رَاكِبًا، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا، لِوُجُودِ سَبَبِ الضَّمَانِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إِلاَّ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ عَلَى الرَّاكِبِ وَحْدَهُ، فِيمَا لَوْ وَطِئَتْ دَابَّتُهُ إِنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ، لِوُجُودِ الْقَتْلِ مِنْهُ وَحْدَهُ مُبَاشَرَةً وَإِنْ كَانَ الْحَصْكَفِيُّ صَحَّحَ عَدَمَ تَضْمِينِ السَّائِقِ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إِلَى الْمُبَاشِرِ أَوْلَى، لَكِنَّ السَّبَبَ- هُنَا- مِمَّا يَعْمَلُ بِانْفِرَادِهِ، فَيَشْتَرِكَانِ كَمَا حَقَّقَهُ وَنَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ كَانَ عَلَى الدَّابَّةِ رَاكِبَانِ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا، الْقَادِرُ عَلَى كَفِّهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا صَغِيرًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ نَحْوَهُمَا، وَيَكُونُ الثَّانِي الْمُتَوَلِّي لِتَدْبِيرِهَا، فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ مَعَ الدَّابَّةِ قَائِدٌ وَسَائِقٌ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوِ انْفَرَدَ ضَمِنَ، فَإِذَا اجْتَمَعَا ضَمِنَا: وَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا أَوْ مَعَ أَحَدِهِمَا رَاكِبٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، لِذَلِكَ.
وَالْآخَرُ: أَنَّهُ عَلَى الرَّاكِبِ، لِأَنَّهُ أَقْوَى يَدًا وَتَصَرُّفًا.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْقَائِدِ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِلرَّاكِبِ عَلَى الْقَائِدِ.
ب- ضَمَانُ جِنَايَةِ الْحَيَوَانِ الْخَطِرِ:
109- وَيَتَمَثَّلُ فِي الْكَبْشِ النَّطُوحِ، وَالْجَمَلِ الْعَضُوضِ، وَالْفَرَسِ الْكَدُومِ، وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ، كَمَا يَتَمَثَّلُ فِي الْحَشَرَاتِ الْمُؤْذِيَةِ، وَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ، وَالْحَيَوَانَاتِ الْوَحْشِيَّةِ الْمُفْتَرِسَةِ، وَسِبَاعِ الْبَهَائِمِ، كَالْأَسَدِ وَالذِّئْبِ، وَسِبَاعِ الطَّيْرِ كَالْحِدَأَةِ وَالْغُرَابِ، وَفِيهَا مَذَاهِبُ لِلْفُقَهَاءِ: مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ ضَمَانُ مَا يُتْلِفُهُ الْحَيَوَانُ الْخَطِرُ، مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ إِذَا وُجِدَ مِنْ مَالِكِهِ إِشْلَاءٌ أَوْ إِغْرَاءٌ أَوْ إِرْسَالٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، الَّذِي أَوْجَبَ الضَّمَانَ فِي هَذَا كُلِّهِ، احْتِيَاطًا لِأَمْوَالِ النَّاسِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالَّذِي أَفْتَوْا بِهِ هُوَ: الضَّمَانُ بَعْدَ الْإِشْلَاءِ كَالْحَائِطِ الْمَائِلِ، فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ كَمَا فِي الْإِغْرَاءِ.
وَعَلَّلَ الضَّمَانَ بِالْإِشْلَاءِ، بِأَنَّهُ بِالْإِغْرَاءِ.يَصِيرُ الْكَلْبُ آلَةً لِعَقْرِهِ، فَكَأَنَّهُ ضَرَبَهُ بِحَدِّ سَيْفِهِ.
وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ تَفْصِيلٌ ذَكَرَهُ الدُّسُوقِيُّ، وَهُوَ:
إِذَا اتَّخَذَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ، بِقَصْدِ قَتْلِ إِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ وَقَتَلَهُ فَالْقَوَدُ، أُنْذِرَ عَنِ اتِّخَاذِهِ أَوْ لَا.
وَإِنْ قَتَلَ غَيْرَ الْمُعَيَّنِ فَالدِّيَةُ، وَكَذَلِكَ إِنِ اتَّخَذَهُ لِقَتْلِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ، وَقَتَلَ شَخْصًا فَالدِّيَةُ، أُنْذِرَ أَمْ لَا.
وَإِنِ اتَّخَذَهُ لِوَجْهٍ جَائِزٍ فَالدِّيَةُ إِنْ تَقَدَّمَ لَهُ إِنْذَارٌ قَبْلَ الْقَتْلِ، وَإِلاَّ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَإِنِ اتَّخَذَهُ لَا لِوَجْهٍ جَائِزٍ ضَمِنَ مَا أَتْلَفَ، تَقَدَّمَ لَهُ فِيهِ إِنْذَارٌ أَمْ لَا، حَيْثُ عَرَفَ أَنَّهُ عَقُورٌ، وَإِلاَّ لَمْ يَضْمَنْ، لِأَنَّ فِعْلَهُ حِينَئِذٍ كَفِعْلِ الْعَجْمَاءِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ الْخَطِرَ يَنْبَغِي أَنْ يُرْبَطَ وَيُكَفَّ شَرُّهُ، كَالْكَلْبِ الْعَقُورِ، وَكَالسِّنَّوْرِ إِذَا عُهِدَ مِنْهُ إِتْلَافُ الطَّيْرِ أَوِ الطَّعَامِ، فَإِذَا أَطْلَقَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ أَوِ السِّنَّوْرَ، فَعَقَرَ إِنْسَانًا، أَوْ أَتْلَفَ طَعَامًا أَوْ ثَوْبًا، لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، ضَمِنَ مَا أَتْلَفَهُ، لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ بِاقْتِنَائِهِ وَإِطْلَاقِهِ إِلاَّ إِذَا دَخَلَ دَارَهُ إِنْسَانٌ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَعَقَرَهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالدُّخُولِ، مُتَسَبِّبٌ بِعَدَمِ الِاسْتِئْذَانِ لِعَقْرِ الْكَلْبِ لَهُ، فَإِنْ دَخَلَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ، لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ إِلَى إِتْلَافِهِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا اقْتَنَى سِنَّوْرًا، يَأْكُلُ أَفْرَاخَ النَّاسِ، ضَمِنَ مَا أَتْلَفَهُ كَالْكَلْبِ الْعَقُورِ وَهَذَا- هُوَ الْأَصَحُّ- عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، كُلَّمَا عَهِدَ ذَلِكَ مِنْهُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، قَالَ الْمَحَلِّيُّ: لِأَنَّ هَذِهِ
(الْهِرَّةَ) يَنْبَغِي أَنْ تُرْبَطَ وَيُكَفَّ شَرُّهَا.
أَمَّا مَا يُتْلِفُهُ الْكَلْبُ الْعَقُورُ لِغَيْرِ الْعَقْرِ، كَمَا لَوْ وَلَغَ فِي إِنَاءٍ، أَوْ بَالَ، فَلَا يُضْمَنُ، لِأَنَّ هَذَا لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْكَلْبُ الْعَقُورُ.
رَابِعًا: ضَمَانُ سُقُوطِ الْمَبَانِي:
110- بَحَثَ الْفُقَهَاءُ مَوْضُوعَ سُقُوطِ الْمَبَانِي وَضَمَانَهَا بِعِنْوَانِ: الْحَائِطِ الْمَائِلِ.وَيَتَنَاوَلُ الْقَوْلَ فِي ضَمَانِ الْحَائِطِ، مَا يَلْحَقُ بِهِ، مِنَ الشُّرُفَاتِ وَالْمَصَاعِدِ وَالْمَيَازِيبِ وَالْأَجْنِحَةِ، إِذَا شُيِّدَتْ مُطِلَّةً عَلَى مِلْكِ الْآخَرِينَ أَوِ الطَّرِيقِ الْعَامِّ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنْ أَحْكَامٍ.
وَقَدْ مَيَّزَ الْفُقَهَاءُ، بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْبِنَاءُ، أَوِ الْحَائِطُ أَوْ نَحْوُهُ، مَبْنِيًّا مِنَ الْأَصْلِ مُتَدَاعِيًا ذَا خَلَلٍ، أَوْ مَائِلًا، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْخَلَلُ طَارِئًا، فَهُمَا حَالَتَانِ:
الْحَالَةُ الْأُولَى: الْخَلَلُ الْأَصْلِيُّ فِي الْبِنَاءِ:
111- هُوَ الْخَلَلُ الْمَوْجُودُ فِي الْبِنَاءِ، مُنْذُ الْإِنْشَاءِ، كَأَنْ أُنْشِئَ مَائِلًا إِلَى الطَّرِيقِ الْعَامِّ أَوْ أُشْرِعَ الْجَنَاحُ أَوِ الْمِيزَابُ أَوِ الشُّرْفَةُ، بِغَيْرِ إِذْنٍ، أَوْ أَشْرَعَهُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِنْ سَقَطَ الْبِنَاءُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَأَتْلَفَ إِنْسَانًا أَوْ حَيَوَانًا أَوْ مَالًا، كَانَ ذَلِكَ مَضْمُونًا عَلَى صَاحِبِهِ، مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ إِشْهَادٍ وَلَا طَلَبٍ، لِأَنَّ فِي الْبِنَاءِ تَعَدِّيًا ظَاهِرًا ثَابِتًا مُنْذُ الِابْتِدَاءِ وَذَلِكَ بِشَغْلِ هَوَاءِ الطَّرِيقِ بِالْبِنَاءِ، وَهَوَاءُ الطَّرِيقِ كَأَصْلِ الطَّرِيقِ حَقُّ الْمَارَّةِ، فَمَنْ أَحْدَث فِيهِ شَيْئًا، كَانَ مُتَعَدِّيًا ضَامِنًا.
وَالشَّافِعِيَّةُ لَا يُفَرِّقُونَ فِي الضَّمَانِ، بَيْنَ أَنْ يَأْذَنَ الْإِمَامُ فِي الْإِشْرَاعِ أَوْ لَا، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالشَّارِعِ مَشْرُوطٌ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ، بِأَنْ لَا يَضُرَّ بِالْمَارَّةِ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ مَضْمُونٌ، وَإِنْ كَانَ إِشْرَاعًا جَائِزًا.
لَكِنْ مَا تَوَلَّدَ مِنَ الْجَنَاحِ، فِي دَرْبٍ مُنْسَدٍّ، بِغَيْرِ إِذْنِ أَهْلِهِ، مَضْمُونٌ، وَبِإِذْنِهِمْ لَا ضَمَانَ فِيهِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَإِذَا بَنَى فِي مِلْكِهِ حَائِطًا مَائِلًا إِلَى الطَّرِيقِ، أَوْ إِلَى مِلْكِ غَيْرِهِ، فَتَلِفَ بِهِ شَيْءٌ أَوْ سَقَطَ عَلَى شَيْءٍ فَأَتْلَفَهُ ضَمِنَهُ، لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِالْبِنَاءِ فِي هَوَاءٍ مِلْكِ غَيْرِهِ، أَوْ هَوَاءٍ مُشْتَرَكٍ، وَلِأَنَّهُ يُعَرِّضُهُ لِلْوُقُوعِ عَلَى غَيْرِهِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَصَبَ فِيهِ مِنْجَلًا يَصِيدُ بِهِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: الْخَلَلُ الطَّارِئُ:
112- إِذَا أُنْشِئَ الْبِنَاءُ مُسْتَقِيمًا ثُمَّ مَالَ، أَوْ سَلِيمًا ثُمَّ تَشَقَّقَ وَوَقَعَ، وَحَدَثَ بِسَبَبِ وُقُوعِهِ تَلَفٌ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- اسْتِحْسَانًا- وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- وَشُرَيْحٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنَ التَّابِعِينَ إِلَى أَنَّهُ يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِهِ، مِنْ نَفْسٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ مَالٍ، إِذَا طُولِبَ صَاحِبُهُ بِالنَّقْضِ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ، وَمَضَتْ مُدَّةٌ يَقْدِرُ عَلَى النَّقْضِ خِلَالَهَا، وَلَمْ يَفْعَلْ.
وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَدْ قَالُوا: إِنْ أَمْكَنَهُ هَدْمُهُ أَوْ إِصْلَاحُهُ، ضَمِنَ، لِتَقْصِيرِهِ بِتَرْكِ النَّقْضِ وَالْإِصْلَاحِ.
وَالْقِيَاسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَدَمُ الضَّمَانِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنَ الْمَالِكِ صُنْعٌ هُوَ تَعَدٍّ، لِأَنَّ الْبِنَاءَ كَانَ فِي مِلْكِهِ مُسْتَقِيمًا، وَالْمَيَلَانُ وَشَغْلُ الْهَوَاءِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ، فَلَا يَضْمَنُ، كَمَا إِذَا لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ، وَلِمَا قَالُوهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: وَمَنْ قَتَلَهُ الْحَجَرُ، بِغَيْرِ فِعْلِ الْبَشَرِ، فَهُوَ بِالْإِجْمَاعِ هَدْرٌ.
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: مَا رُوِيَ عَنِ الْأَئِمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الْمَذْكُورِينَ، وَأَنَّ الْحَائِطَ لَمَّا مَالَ فَقَدْ شَغَلَ هَوَاءَ الطَّرِيقِ بِمِلْكِهِ، وَرَفْعُهُ بِقُدْرَةِ صَاحِبِهِ، فَإِذَا تَقَدَّمَ إِلَيْهِ وَطُولِبَ بِتَفْرِيغِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ، فَإِذَا امْتَنَعَ مَعَ تَمَكُّنِهِ صَارَ مُتَعَدِّيًا.
وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَضْمَنْ يَمْتَنِعُ مِنَ الْهَدْمِ، فَيَنْقَطِعُ الْمَارَّةُ خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَتَضَرَّرُونَ بِهِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ الْعَامِّ مِنَ الْوَاجِبِ، وَكَمْ مِنْ ضَرَرٍ خَاصٍّ يُتَحَمَّلُ لِدَفْعِ الْعَامِّ.
وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ التَّقَدُّمُ، دُونَ الْإِشْهَادِ، لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ تَتَحَقَّقُ، وَيَنْعَدِمُ بِهِ مَعْنَى الْعُذْرِ فِي حَقِّهِ، وَهُوَ الْجَهْلُ بِمَيْلِ الْحَائِطِ.
أَمَّا الْإِشْهَادُ فَلِلتَّمَكُّنِ مِنْ إِثْبَاتِهِ عِنْدَ الْإِنْكَارِ، فَكَانَ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ.
وَالْمَالِكِيَّةُ يَشْتَرِطُونَ الْإِشْهَادَ مَعَ الْإِنْذَارِ، فَإِذَا انْتَفَى الْإِنْذَارُ وَالْإِشْهَادُ فَلَا ضَمَانَ، إِلاَّ أَنْ يَعْتَرِفَ بِذَلِكَ مَعَ تَفْرِيطِهِ فَيَضْمَنَ كَمَا أَنَّ الْإِشْهَادَ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَهُمْ يَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ، أَوْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ مَعَ إِمْكَانِ الْإِشْهَادِ عِنْدَ الْحَاكِمِ.
113- وَشُرُوطُ التَّقَدُّمِ أَوِ الْإِنْذَارِ هِيَ: وَمَعْنَى التَّقَدُّمِ: طَلَبُ النَّقْضِ مِمَّنْ يَمْلِكُهُ وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ الْمُتَقَدِّمُ: إِنَّ حَائِطَكَ هَذَا مَخُوفٌ، أَوْ يَقُولَ: مَائِلٌ فَانْقُضْهُ أَوِ اهْدِمْهُ، حَتَّى لَا يَسْقُطَ وَلَا يُتْلِفَ شَيْئًا، وَلَوْ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ تَهْدِمَهُ، فَذَلِكَ مَشُورَةٌ.
أ- أَنْ يَكُونَ التَّقَدُّمُ مِمَّنْ لَهُ حَقُّ مَصْلَحَةٍ فِي الطَّلَبِ.
وَفَرَّقُوا فِي هَذَا: بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْحَائِطُ مَائِلًا إِلَى الطَّرِيقِ الْعَامِّ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ مَائِلًا إِلَى مِلْكِ إِنْسَانٍ:
فَفِي الصُّورَةِ الْأُولَى: يَصِحُّ التَّقَدُّمُ مِنْ كُلِّ مُكَلَّفٍ، مُسْلِمٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ لِلْمُتَقَدِّمِ وَلَا لِلْقَاضِي حَقُّ إِبْرَاءِ صَاحِبِ الْحَائِطِ، وَلَا تَأْخِيرُهُ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ، لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَامَّةِ، وَتَصَرُّفُهُ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ نَافِذٌ- كَمَا يَقُولُ الْحَصْكَفِيُّ نَقْلًا عَنِ الذَّخِيرَةِ- فِيمَا يَنْفَعُهُمْ، لَا فِيمَا يَضُرُّهُمْ.
وَفِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ: لَا يَصِحُّ التَّقَدُّمُ إِلاَّ مِنَ الْمَالِكِ الَّذِي شَغَلَ الْحَائِطُ هَوَاءَ مِلْكِهِ، كَمَا أَنَّ لَهُ حَقَّ الْإِبْرَاءِ وَالتَّأْخِيرِ.
بَلْ نَصَّتْ الْمَجَلَّةُ (فِي الْمَادَّةِ: 928) عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَائِطُ مَائِلًا إِلَى الطَّرِيقِ الْخَاصِّ، يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي تَقَدَّمَ مِمَّنْ لَهُ حَقُّ الْمُرُورِ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ.
ب- أَنْ يَكُونَ الطَّلَبُ قَبْلَ السُّقُوطِ بِمُدَّةٍ يَقْدِرُ عَلَى النَّقْضِ خِلَالَهَا، لِأَنَّ مُدَّةَ التَّمَكُّنِ مِنْ إِحْضَارِ الْأُجَرَاءِ مُسْتَثْنَاةٌ فِي الشَّرْعِ.
ج- أَنْ يَكُونَ التَّقَدُّمُ بَعْدَ مَيْلِ الْحَائِطِ، فَلَوْ طَلَبَ قَبْلَ الْمَيْلِ لَمْ يَصِحَّ، لِعَدَمِ التَّعَدِّي.
د- أَنْ يَكُونَ التَّقَدُّمُ إِلَى مَنْ يَمْلِكُ النَّقْضَ، كَالْمَالِكِ وَوَلِيِّ الصَّغِيرِ، وَوَصِيِّهِ وَوَصِيِّ الْمَجْنُونِ، وَالرَّاهِنِ، وَكَذَا الْوَاقِفِ وَالْقَيِّمِ عَلَى الْوَقْفِ وَأَحَدِ الشُّرَكَاءِ بِخِلَافِ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُودِعِ، لِأَنَّهُمْ لَيْسَتْ لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى التَّصَرُّفِ، فَلَا يُفِيدُ طَلَبُ النَّقْضِ مِنْهُمْ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِمُ الْإِنْذَارُ كَمَا قَالَ الدَّرْدِيرُ وَلِهَذَا لَا يَضْمَنُونَ مَا تَلِفَ مِنْ سُقُوطِهِ، بَلْ قَالَ الْحَصْكَفِيُّ: لَا ضَمَانَ أَصْلًا عَلَى سَاكِنٍ وَلَا مَالِكٍ.
وَمَحَلُّ هَذِهِ الشُّرُوطِ- كَمَا قَالَ الدُّسُوقِيُّ.إِذَا كَانَ مُنْكِرًا لِلْمَيَلَانِ، أَمَّا إِذَا كَانَ مُقِرًّا بِهِ فَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ.
114- وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ الضَّمَانِ مُطْلَقًا بِسُقُوطِ الْبِنَاءِ، إِذَا مَالَ بَعْدَ بِنَائِهِ مُسْتَقِيمًا وَلَوْ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ هَدْمِهِ وَإِصْلَاحِهِ، فَلَا ضَمَانَ قَطْعًا، وَكَذَا إِنْ تَمَكَّنَ عَلَى الْأَصَحِّ..وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُطَالِبَهُ الْوَالِي أَوْ غَيْرُهُ بِالنَّقْضِ، وَبَيْنَ أَنْ لَا يُطَالِبَ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَوَجْهُهُ: أَنَّهُ بَنَى فِي مِلْكِهِ، وَالْهَلَاكُ حَصَلَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ وَأَنَّ الْمَيْلَ نَفْسَهُ لَمْ يَحْصُلْ بِفِعْلِهِ وَأَنَّ مَا كَانَ أَوَّلُهُ غَيْرَ مَضْمُونٍ، لَا يَنْقَلِبُ مَضْمُونًا بِتَغْيِيرِ الْحَالِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي ثَوْرٍ وَإِسْحَاقَ، إِلَى أَنَّهُ يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُطَالَبْ بِالنَّقْضِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِتَرْكِهِ مَائِلًا، فَضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ، كَمَا لَوْ بَنَاهُ مَائِلًا إِلَى ذَلِكَ ابْتِدَاءً، وَلِأَنَّهُ لَوْ طُولِبَ بِنَقْضِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَ مَا تَلِفَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ لَمْ يَضْمَنْ بِالْمُطَالَبَةِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَائِلًا، أَوْ كَانَ مَائِلًا إِلَى مِلْكِهِ.
لَكِنَّ نَصَّ أَحْمَدَ، هُوَ عَدَمُ الضَّمَانِ- كَمَا يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ- أَمَّا لَوْ طُولِبَ بِالنَّقْضِ، فَقَدْ تَوَقَّفَ فِيهِ أَحْمَدُ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ إِلَى الضَّمَانِ فِيهِ.
أَمَّا الضَّمَانُ الْوَاجِبُ بِسُقُوطِ الْأَبْنِيَةِ، عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ، فَهُوَ:
أ- أَنَّ مَا تَلِفَ بِهِ مِنَ النُّفُوسِ، فَفِيهِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ مَالِكِ الْبِنَاءِ.
ب- وَمَا تَلِفَ بِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ فَعَلَى مَالِكِ الْبِنَاءِ، لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُ الْمَالَ.
ج- وَلَا تَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ الْكَفَّارَةُ- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- وَلَا يُحْرَمُ مِنَ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ، لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِسَبَبٍ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ الْقَتْلِ مُبَاشَرَةً، وَإِنَّمَا أُلْحِقَ بِالْمُبَاشِرِ فِي الضَّمَانِ، صِيَانَةً لِلدَّمِ عَنِ الْهَدْرِ، عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، فَبَقِيَ فِي الْكَفَّارَةِ وَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ عَلَى الْأَصْلِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْجُمْهُورِ: هُوَ مُلْحَقٌ بِالْخَطَأِ فِي أَحْكَامِهِ، إِذْ لَا قَتْلَ بِسَبَبٍ عِنْدَهُمْ، فَفِيهِ الْكَفَّارَةُ، وَفِيهِ الْحِرْمَانُ مِنَ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ، لِأَنَّ الشَّارِعَ أَنْزَلَهُ مَنْزِلَةَ الْقَاتِلِ.
خَامِسًا: ضَمَانُ التَّلَفِ بِالْأَشْيَاءِ:
115- أَكْثَرُ مَا يَعْرِضُ التَّلَفُ بِالْأَشْيَاءِ، بِسَبَبِ إِلْقَائِهَا فِي الطُّرُقَاتِ وَالشَّوَارِعِ، أَوْ بِسَبَبِ وَضْعِهَا فِي غَيْرِ مَوَاضِعِهَا الْمُخَصَّصَةِ لَهَا.
وَيُمْكِنُ تَقْسِيمُ الْأَشْيَاءِ إِلَى خَطِرَةٍ، وَغَيْرِ خَطِرَةٍ، أَيْ عَادِيَّةٍ.
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ:
ضَمَانُ التَّلَفِ الْحَاصِلِ بِالْأَشْيَاءِ الْعَادِيَّةِ غَيْرِ الْخَطِرَةِ:
116- يَرُدُّ الْفُقَهَاءُ مَسَائِلَ التَّلَفِ الْحَاصِلِ بِالْأَشْيَاءِ الْعَادِيَّةِ، غَيْرِ الْخَطِرَةِ، إِلَى هَذِهِ الْقَوَاعِدِ وَالْأُصُولِ:
الْأَوَّلُ: كُلُّ مَوْضِعٍ يَجُوزُ لِلْوَاضِعِ أَنْ يَضَعَ فِيهِ أَشْيَاءَهُ لَا يَضْمَنُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى وَضْعِهَا فِيهِ مِنْ ضَرَرٍ، لِأَنَّ الْجَوَازَ الشَّرْعِيَّ يُنَافِي الضَّمَانَ.
الثَّانِي: كُلُّ مَوْضِعٍ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَضَعَ فِيهِ أَشْيَاءَهُ يَضْمَنُ مَا يَنْشَأُ عَنْ وَضْعِهَا فِيهِ مِنْ أَضْرَارٍ، مَا دَامَتْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَإِنْ زَالَتْ عَنْهُ لَمْ يَضْمَنْ.
الثَّالِثُ: كُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ، ضَمِنَ مَا تَوَلَّدَ عَنْهُ مِنْ ضَرَرٍ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُرُورَ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ مُبَاحٌ، بِشَرْطِ السَّلَامَةِ فِيمَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ.
الْخَامِسُ: أَنَّ الْمُتَسَبِّبَ ضَامِنٌ إِذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا، وَإِلاَّ لَا يَضْمَنُ، وَالْمُبَاشِرُ ضَامِنٌ مُطْلَقًا.
وَمِنَ الْفُرُوعِ الَّتِي انْبَثَقَتْ مِنْهَا هَذِهِ الْأُصُولُ:
أ- مَنْ وَضَعَ جَرَّةً أَوْ شَيْئًا فِي طَرِيقٍ لَا يَمْلِكُهُ فَتَلِفَ بِهِ شَيْءٌ ضَمِنَ، وَلَوْ زَالَ ذَلِكَ الشَّيْءُ الْمَوْضُوعُ أَوَّلًا إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، (غَيْرِ الطَّرِيقِ) فَتَلِفَ بِهِ شَيْءٌ، بَرِئَ وَاضِعُهُ وَلَمْ يَضْمَنْ.
ب- لَوْ قَعَدَ فِي الطَّرِيقِ لِيَبِيعَ، فَتَلِفَ بِقَعْدَتِهِ شَيْءٌ: فَإِنْ كَانَ قَعَدَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ لَا يَضْمَنُهُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ يَضْمَنُهُ وَلِلْحَنَابِلَةِ قَوْلَانِ فِي الضَّمَانِ.
ج- وَلَوْ وَضَعَ جَرَّةً عَلَى حَائِطٍ، فَأَهْوَتْ بِهَا الرِّيحُ، وَتَلِفَ بِوُقُوعِهَا شَيْءٌ، لَمْ يَضْمَنْ، إِذِ انْقَطَعَ أَثَرُ فِعْلِهِ بِوَضْعِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا الْوَضْعِ بِأَنْ وُضِعَتِ الْجَرَّةُ وَضْعًا مَأْمُونًا، فَلَا يُضَافُ إِلَيْهِ التَّلَفُ.
د- لَوْ حَمَلَ فِي الطَّرِيقِ شَيْئًا عَلَى دَابَّتِهِ أَوْ سَيَّارَتِهِ، فَسَقَطَ الْمَحْمُولُ عَلَى شَيْءٍ فَأَتْلَفَهُ أَوِ اصْطَدَمَ بِشَيْءٍ فَكَسَرَهُ، ضَمِنَ الْحَامِلُ، لِأَنَّ الْحَمْلَ فِي الطَّرِيقِ مُبَاحٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، وَلِأَنَّهُ أَثَرُ فِعْلِهِ.
وَلَوْ عَثَرَ أَحَدٌ بِالْحَمْلِ ضَمِنَ، لِأَنَّهُ هُوَ الْوَاضِعُ، فَلَمْ يَنْقَطِعْ أَثَرُ فِعْلِهِ.
هـ- لَوْ أَلْقَى فِي الطَّرِيقِ قِشْرًا، فَزَلَقَتْ بِهِ دَابَّةٌ، ضَمِنَ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ، لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِالْمُسَامَحَةِ فِي طَرْحِ مَا ذُكِرَ.
وَكَذَا لَوْ رَشَّ فِي الطَّرِيقِ مَاءً، فَتَلِفَتْ بِهِ دَابَّةٌ، ضَمِنَ وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: إِنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ إِذَا كَانَ لِمَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ، وَلَمْ يُجَاوِزْ الْعَادَةَ، وَإِلاَّ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الرَّاشِّ، لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ.
الْقِسْمُ الثَّانِي:
ضَمَانُ التَّلَفِ بِالْأَشْيَاءِ الْخَطِرَةِ:
117- رَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِنَا أَوْ فِي سُوقِنَا، وَمَعَهُ نَبْلٌ، فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا- أَوْ قَالَ: فَلْيَقْبِضْ بِكَفِّهِ- أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا بِشَيْءٍ».
وَفِي الْفُرُوعِ: لَوِ انْفَلَتَتْ فَأْسٌ مِنْ يَدِ قَصَّابٍ، كَانَ يَكْسِرُ الْعَظْمَ، فَأَتْلَفَ عُضْوَ إِنْسَانٍ، يَضْمَنُ، وَهُوَ خَطَأٌ.وَلَا تَعْلِيلَ لِلضَّمَانِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلاَّ التَّقْصِيرُ فِي رِعَايَةِ هَذِهِ الْآلَةِ الْحَادَّةِ، وَعَدَمِ الِاحْتِرَازِ أَثْنَاءَ الِاسْتِعْمَالِ، فَاسْتُدِلَّ بِوُقُوعِ الضَّرَرِ عَلَى التَّعَدِّي، وَأُقِيمَ مَقَامَهُ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ ذَا الْيَدِ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْخَطِرَةِ يَضْمَنُ مِنَ الْأَضْرَارِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا مَا كَانَ بِفِعْلِهِ، وَلَا يَضْمَنُ مَا كَانَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ.وَمِنْ نُصُوصِهِمْ:
أ- لَوْ خَرَجَ الْبَارُودُ مِنَ الْبُنْدُقِيَّةِ بِفِعْلِهِ، فَأَصَابَ آدَمِيًّا أَوْ مَالًا ضَمِنَ، قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ طَارَتْ شَرَارَةٌ مِنْ ضَرْبِ الْحَدَّادِ، فَأَصَابَتْ ثَوْبَ مَارٍّ فِي الطَّرِيقِ، ضَمِنَ الْحَدَّادُ.
ب- وَلَوْ هَبَّتِ الرِّيحُ فَحَمَلَتْ نَارًا، وَأَلْقَتْهَا عَلَى الْبُنْدُقِيَّةِ، فَخَرَجَ الْبَارُودُ، لَا ضَمَانَ.
ج- وَلَوْ وَقَعَ الزَّنْدُ الْمُتَّصِلُ بِالْبُنْدُقِيَّةِ الْمُجَرَّبَةِ، الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي زَمَانِنَا، عَلَى الْبَارُودِ بِنَفْسِهِ، فَخَرَجَتْ رَصَاصَتُهَا، أَوْ مَا بِجَوْفِهَا، فَأَتْلَفَ مَالًا أَوْ آدَمِيًّا، فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
296-موسوعة الفقه الكويتية (طاعون)
طَاعُونٌالتَّعْرِيفُ
1- قَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ: الطَّاعُونُ لُغَةً: الْمَرَضُ الْعَامُّ وَالْوَبَاءُ الَّذِي يَفْسُدُ لَهُ الْهَوَاءُ فَتَفْسُدُ لَهُ الْأَمْزِجَةُ وَالْأَبْدَانُ.
وَفِي الْمُعْجَمِ الْوَسِيطِ: الطَّاعُونُ دَاءٌ وَرَمِيٌّ وَبَائِيٌّ سَبَبُهُ مَكْرُوبٌ يُصِيبُ الْفِئْرَانَ، وَتَنْقُلُهُ الْبَرَاغِيثُ إِلَى فِئْرَانٍ أُخْرَى وَإِلَى الْإِنْسَانِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ قَالَ النَّوَوِيُّ: الطَّاعُونُ قُرُوحٌ تَخْرُجُ فِي الْجَسَدِ فَتَكُونُ فِي الْآبَاطِ أَوِ الْمَرَافِقِ أَوِ الْأَيْدِي أَوِ الْأَصَابِعِ وَسَائِرِ الْبَدَنِ، وَيَكُونُ مَعَهُ وَرَمٌ وَأَلَمٌ شَدِيدٌ، وَتَخْرُجُ تِلْكَ الْقُرُوحُ مَعَ لَهِيبٍ وَيَسْوَدُّ مَا حَوَالَيْهِ أَوْ يَخْضَرُّ أَوْ يَحْمَرُّ حُمْرَةً بَنَفْسَجِيَّةً كَدِرَةً وَيَحْصُلُ مَعَهُ خَفَقَانُ الْقَلْبِ وَالْقَيْءُ وَفِي أَثَرٍ «عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: الطَّعْنُ قَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا الطَّاعُونُ؟ قَالَ: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ يَخْرُجُ فِي الْمُرَاقِ وَالْإِبِطِ».
قَالَ ابْنُ قَيِّمٍ الْجَوْزِيَّةُ- بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ الصِّلَةَ بَيْنَ الْوَبَاءِ وَالطَّاعُونِ- هَذِهِ الْقُرُوحُ وَالْأَوْرَامُ وَالْجِرَاحَاتُ، هِيَ آثَارُ الطَّاعُونِ، وَلَيْسَتْ نَفْسَهُ وَلَكِنِ الْأَطِبَّاءُ لَمَّا لَمْ تُدْرِكْ مِنْهُ إِلاَّ الْأَثَرَ الظَّاهِرَ جَعَلُوهُ نَفْسَ الطَّاعُونِ.
وَالطَّاعُونُ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: هَذَا الْأَثَرُ الظَّاهِرُ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْأَطِبَّاءُ.
وَالثَّانِي: الْمَوْتُ الْحَادِثُ عَنْهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي قَوْلِهِ: «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ».
وَالثَّالِثُ: السَّبَبُ الْفَاعِلُ لِهَذَا الدَّاءِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَنَّهُ بَقِيَّةُ رِجْزٍ أُرْسِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ».وَوَرَدَ فِيهِ «أَنَّهُ وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْجِنِّ» وَجَاءَ «أَنَّهُ دَعْوَةُ نَبِيٍّ».
الْقُنُوتُ لِصَرْفِ الطَّاعُونِ:
2- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ اسْتِحْبَابَ الْقُنُوتِ فِي الصَّلَاةِ لِصَرْفِ الطَّاعُونِ بِاعْتِبَارِهِ مِنْ أَشَدِّ النَّوَازِلِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الْقُنُوتِ لِرَفْعِ الطَّاعُونِ؛ لِوُقُوعِهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ- رضي الله عنه- وَلَمْ يَقْنُتُوا لَهُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِاسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ لِدَفْعِ الطَّاعُونِ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ مِنْ أَجْلِ الزِّنَا، وَإِنْ كَانَ شَهَادَةً لِغَيْرِهِمْ.
وَفِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي يُقْنَتُ فِيهَا لِلنَّوَازِلِ وَفِي الْإِسْرَارِ أَوِ الْجَهْرِ بِهِ، تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (قُنُوت).
الْقُدُومُ عَلَى بَلَدِ الطَّاعُونِ وَالْخُرُوجُ مِنْهُ:
3- يَرَى جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مَنْعَ الْقُدُومِ عَلَى بَلَدِ الطَّاعُونِ وَمَنْعَ الْخُرُوجِ مِنْهُ فِرَارًا مِنْ ذَلِكَ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الطَّاعُونُ آيَةُ الرِّجْزِ ابْتَلَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ أُنَاسًا مِنْ عِبَادِهِ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَفِرُّوا مِنْهُ».
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ- رضي الله عنه- عَنِ الطَّاعُونِ، فَقَالَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ- رضي الله عنهما- أَنَا أُخْبِرُكَ عَنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «هُوَ عَذَابٌ أَوْ رِجْزٌ أَرْسَلَهُ اللَّهُ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ نَاسٍ كَانُوا قَبْلَكُمْ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا عَلَيْهِ، وَإِذَا دَخَلَهَا عَلَيْكُمْ فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا فِرَارًا».
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- مَرْفُوعًا «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا الطَّاعُونُ؟ قَالَ: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْإِبِلِ، الْمُقِيمُ فِيهَا كَالشَّهِيدِ، وَالْفَارُّ مِنْهَا كَالْفَارِّ مِنَ الزَّحْفِ».
4- قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَفِي الْمَنْعِ مِنَ الدُّخُولِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي قَدْ وَقَعَ بِهَا الطَّاعُونُ عِدَّةُ حِكَمٍ:
إِحْدَاهَا: تَجَنُّبُ الْأَسْبَابِ الْمُؤْذِيَةِ، وَالْبُعْدُ مِنْهَا.
الثَّانِيَةُ: الْأَخْذُ بِالْعَافِيَةِ الَّتِي هِيَ مَادَّةُ الْمَعَاشِ وَالْمُعَادِ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَسْتَنْشِقُوا الْهَوَاءَ الَّذِي قَدْ عَفَنَ وَفَسَدَ فَيُصِيبُهُمُ الْمَرَضُ.
الرَّابِعَةُ: أَنْ لَا يُجَاوِرُوا الْمَرْضَى الَّذِينَ قَدْ مَرِضُوا بِذَلِكَ، فَيَحْصُلُ لَهُمْ بِمُجَاوِرَتِهِمْ مِنْ جِنْسِ أَمْرَاضِهِمْ.
الْخَامِسَةُ: حَمَايَةُ النُّفُوسِ عَنِ الطِّيَرَةِ وَالْعَدْوَى؛ فَإِنَّهَا تَتَأَثَّرُ بِهِمَا، فَإِنَّ الطِّيَرَةَ عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ بِهَا، وَبِالْجُمْلَةِ فَفِي النَّهْيِ عَنِ الدُّخُولِ فِي أَرْضِهِ الْأَمْرُ بِالْحَذَرِ وَالْحَمِيَّةِ، وَالنَّهْيُ عَنِ التَّعَرُّضِ لِأَسْبَابِ التَّلَفِ، وَفِي النَّهْيِ عَنِ الْفِرَارِ مِنْهُ الْأَمْرُ بِالتَّوَكُّلِ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ، فَالْأَوَّلُ: تَأْدِيبٌ وَتَعْلِيمٌ، وَالثَّانِي تَفْوِيضٌ وَتَسْلِيمٌ.
وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- خَرَجَ إِلَى الشَّامِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أَبُو عَبِيدَةُ بْنُ الْجَرَّاحِ- رضي الله عنه- وَأَصْحَابُهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ فَقَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: ادْعُ لِيَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، قَالَ: فَدَعَوْتُهُمْ، فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: خَرَجْتَ لِأَمْرٍ، فَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَلَا نَرَى أَنْ تُقَدِّمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَقَالَ عُمَرُ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِيَ الْأَنْصَارَ، فَدَعَوْتُهُمْ لَهُ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ، وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ هَاهذُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ لَهُ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ مِنْهُمْ رَجُلَانِ، قَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلَا تُقَدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَأَذَّنَ عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ، فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ قَالَ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى قَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ، إِحْدَاهَا خِصْبَةٌ، وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ أَلَسْتَ إِنْ رَعَيْتَهَا الْخِصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ رَعَيْتَهَا الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَاتِهِ، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «إِذَا كَانَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ».
5- وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي النَّهْيِ عَنِ الْخُرُوجِ مِنَ الْبَلَدِ الَّتِي وَقَعَ بِهَا الطَّاعُونُ حِكَمًا: مِنْهَا: أَنَّ الطَّاعُونَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ عَامًّا فِي الْبَلَدِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ فَإِذَا وَقَعَ فَالظَّاهِرُ مُدَاخَلَةُ سَبَبِهِ لِمَنْ بِهَا، فَلَا يُفِيدُهُ الْفِرَارُ، لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ إِذَا تَعَيَّنَتْ- حَتَّى لَا يَقَعَ الِانْفِكَاكُ عَنْهَا- كَانَ الْفِرَارُ عَبَثًا فَلَا يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ النَّاسَ لَوْ تَوَارَدُوا عَلَى الْخُرُوجِ لَصَارَ مَنْ عَجَزَ عَنْهُ- بِالْمَرَضِ الْمَذْكُورِ أَوْ بِغَيْرِهِ- ضَائِعَ الْمَصْلَحَةِ لِفَقْدِ مَنْ يَتَعَهَّدُهُ حَيًّا وَمَيِّتًا.وَأَيْضًا فَلَوْ شُرِعَ الْخُرُوجُ فَخَرَجَ الْأَقْوِيَاءُ لَكَانَ فِي ذَلِكَ كَسْرُ قُلُوبِ الضُّعَفَاءِ، وَقَدْ قَالُوا: إِنَّ حِكْمَةَ الْوَعِيدِ فِي الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ مَا فِيهِ مِنْ كَسْرِ قَلْبِ مَنْ لَمْ يَفِرَّ وَإِدْخَالُ الرُّعْبِ عَلَيْهِ بِخِذْلَانِهِ.
وَمِنْهَا: حَمْلُ النُّفُوسِ عَلَى الثِّقَةِ بِاللَّهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالصَّبْرِ عَلَى أَقْضِيَتِهِ وَالرِّضَا بِهَا.
وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ عَنِ الْقَاضِي قَوْلَهُ: وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ الْقُدُومَ عَلَيْهِ (أَيْ عَلَى بَلَدِ الطَّاعُونِ) وَالْخُرُوجَ مِنْهُ فِرَارًا، قَالَ الْقَاضِي: وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-، وَأَنَّهُ نَدِمَ عَلَى رُجُوعِهِ مِنْ سَرْغَ، وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَمَسْرُوقٍ وَالْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ أَنَّهُمْ فَرُّوا مِنَ الطَّاعُونِ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: فِرُّوا عَنْ هَذَا الرِّجْزِ فِي الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ وَرُءُوسِ الْجِبَالِ فَقَالَ مُعَاذٌ: بَلْ هُوَ شَهَادَةٌ وَرَحْمَةٌ، وَيَتَأَوَّلُ هَؤُلَاءِ النَّهْيَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ عَنِ الدُّخُولِ عَلَيْهِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ، مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَهُ غَيْرُ الْمُقَدَّرِ، لَكِنْ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ عَلَى النَّاسِ، لِئَلاَّ يَظُنُّوا أَنَّ هَلَاكَ الْقَادِمِ إِنَّمَا حَصَلَ بِقُدُومِهِ، وَسَلَامَةُ الْفَارِّ إِنَّمَا كَانَتْ بِفِرَارِهِ، وَقَالُوا: وَهُوَ مِنْ نَحْوِ النَّهْيِ عَنِ الطِّيَرَةِ وَالْقُرْبِ مِنَ الْمَجْذُومِ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الطَّاعُونُ فِتْنَةٌ عَلَى الْمُقِيمِ وَالْفَارِّ، أَمَّا الْفَارُّ فَيَقُولُ: فَرَرْتُ فَنَجَوْتُ، وَأَمَّا الْمُقِيمُ فَيَقُولُ: أَقَمْتُ فَمُتُّ، وَإِنَّمَا فَرَّ مَنْ لَمْ يَأْتِ أَجَلُهُ، وَأَقَامَ مَنْ حَضَرَ أَجَلُهُ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْقُدُومِ عَلَيْهِ وَالْفِرَارِ مِنْهُ لِظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ.قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَهُوَ قَرِيبُ الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا».
هَذَا وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الْخُرُوجِ بِشُغْلٍ وَغَرَضٍ غَيْرِ الْفِرَارِ، وَدَلِيلُهُ صَرِيحُ الْأَحَادِيثِ.
أَجْرُ الصَّبْرِ عَلَى الطَّاعُونِ:
6- جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ اسْتِوَاءُ شَهِيدِ الطَّاعُونِ وَشَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ فَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ السُّلَمِيِّ رَفْعَهُ «يَأْتِي الشُّهَدَاءُ وَالْمُتَوَفُّونَ بِالطَّاعُونِ، فَيَقُولُ أَصْحَابُ الطَّاعُونِ: نَحْنُ الشُّهَدَاءُ، فَيُقَالُ: انْظُرُوا فَإِنْ كَانَتْ جِرَاحُهُمْ كَجِرَاحِ الشُّهَدَاءِ تَسِيلُ دَمًا وَرِيحُهَا كَرِيحِ الْمِسْكِ فَهُمْ شُهَدَاءُ، فَيَجِدُونَهُمْ كَذَلِكَ».
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ «عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلاَّ مَا كَتَبَهُ اللَّهُ لَهُ إِلاَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ».وَيُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ حُصُولَ أَجْرِ الشَّهَادَةِ لِمَنْ يَمُوتُ بِالطَّاعُونِ مُقَيَّدٌ بِمَا يَلِي:
أ- أَنْ يَمْكُثَ صَابِرًا غَيْرَ مُنْزَعِجٍ بِالْمَكَانِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الطَّاعُونُ فَلَا يَخْرُجُ فِرَارًا مِنْهُ.
ب- أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ.
فَلَوْ مَكَثَ وَهُوَ قَلِقٌ أَوْ نَادِمٌ عَلَى عَدَمِ الْخُرُوجِ ظَانًّا أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لَمَا وَقَعَ بِهِ أَصْلًا وَرَأْسًا، وَأَنَّهُ بِإِقَامَتِهِ يَقَعُ بِهِ، فَهَذَا لَا يَحْصُلُ لَهُ أَجْرُ الشَّهِيدِ وَلَوْ مَاتَ بِالطَّاعُونِ، هَذَا الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَفْهُومُ هَذَا الْحَدِيثِ، كَمَا اقْتَضَى مَنْطُوقُهُ أَنَّهُ مَنِ اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ يَحْصُلُ لَهُ أَجْرُ الشَّهِيدِ وَإِنْ لَمْ يَمُتْ بِالطَّاعُونِ.
وَالْمُرَادُ بِشَهَادَةِ الْمَيِّتِ بِالطَّاعُونِ أَنَّهُ يَكُونُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ ثَوَابُ الشَّهِيدِ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ.
قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ: مَنْ مَاتَ بِالطَّاعُونِ، أَوْ بِوَجَعِ الْبَطْنِ مُلْحَقٌ بِمَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِمُشَارَكَتِهِ إِيَّاهُ فِي بَعْضِ مَا يَنَالُهُ مِنَ الْكَرَامَةِ بِسَبَبِ مَا كَابَدَهُ، لَا فِي جُمْلَةِ الْأَحْكَامِ وَالْفَضَائِلِ.
- رحمهم الله-
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
297-موسوعة الفقه الكويتية (طلب العلم)
طَلَبُ الْعِلْمِالتَّعْرِيفُ:
1- الطَّلَبُ فِي اللُّغَةِ: مُحَاوَلَةُ وِجْدَانِ الشَّيْءِ وَأَخْذِهِ.
وَلَا يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْعِلْمُ لُغَةً: الْيَقِينُ، وَيَأْتِي بِمَعْنَى الْمَعْرِفَةِ.
وَاصْطِلَاحًا اخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِهِ: فَتَارَةً عَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ مَعْرِفَةُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ، وَهَذَا عِلْمُ الْمَخْلُوقِينَ، وَأَمَّا عِلْمُ الْخَالِقِ فَهُوَ الْإِحَاطَةُ وَالْخَبَرُ عَلَى مَا هُوَ بِهِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْجَهْلُ:
2- الْجَهْلُ لُغَةً: نَقِيضُ الْعِلْمِ، وَيُطْلَقُ عَلَى السَّفَهِ وَالْخَطَأِ، يُقَالُ جَهِلَ عَلَى غَيْرِهِ سَفِهَ وَأَخْطَأَ.
وَالْجَهْلُ اصْطِلَاحًا: هُوَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ.
ب- الْمَعْرِفَةُ:
3- الْمَعْرِفَةُ لُغَةً: الْعِلْمُ يُقَالُ عَرَّفَهُ الْأَمْرَ: أَعْلَمَهُ إِيَّاهُ، وَعَرَّفَهُ بَيْتَهُ: أَعْلَمَهُ بِمَكَانِهِ.
وَالْمَعْرِفَةُ اصْطِلَاحًا: إِدْرَاكُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، قَالَ صَاحِبُ التَّعْرِيفَاتِ: وَهِيَ مَسْبُوقَةٌ بِجَهْلٍ بِخِلَافِ الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى الْحَقُّ تَعَالَى بِالْعَالِمِ دُونَ الْعَارِفِ.
وَفَرَّقَ صَاحِبُ الْكُلِّيَّاتِ بَيْنَ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ تُقَالُ لِلْإِدْرَاكِ الْمَسْبُوقِ بِالْعَدَمِ، وَلِثَانِي الْإِدْرَاكَيْنِ إِذَا تَخَلَّلَهُمَا عَدَمٌ، وَلِإِدْرَاكِ الْجُزْئِيِّ، وَلِإِدْرَاكِ الْبَسِيطِ.وَالْعِلْمُ يُقَالُ لِحُصُولِ صُورَةِ الشَّيْءِ عِنْدَ الْعَقْلِ، وَلِلِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ الْمُطَابِقِ الثَّابِتِ، وَلِإِدْرَاكِ الْكُلِّيِّ، وَلِإِدْرَاكِ الْمُرَكَّبِ.
حُكْمُ طَلَبِ الْعِلْمِ:
الْعِلْمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ شَرْعِيًّا، وَهُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنَ الشَّرْعِ، أَوْ غَيْرَ شَرْعِيٍّ.
أ- طَلَبُ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ:
4- طَلَبُ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ مَطْلُوبٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ طَلَبِهَا بِاخْتِلَافِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا.
فَمِنْهَا مَا طَلَبُهُ فَرْضُ عَيْنٍ، وَهُوَ تَعَلُّمُ الْمُكَلَّفِ مَا لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ الَّذِي تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ إِلاَّ بِهِ، كَكَيْفِيَّةِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، وَحَمَلَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ حَدِيثَ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ».
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ.
ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا يَجِبُ طَلَبُهَا إِلاَّ بَعْدَ وُجُوبِهَا، وَيَجِبُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مَا يَتَوَقَّفُ أَدَاءُ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ غَالِبًا دُونَ مَا يَطْرَأُ نَادِرًا، فَإِنْ وَقَعَ وَجَبَ التَّعَلُّمُ حِينَئِذٍ، فَيَجِبُ عَلَى مَنْ أَرَادَ الْبَيْعَ أَنْ يَتَعَلَّمَ أَحْكَامَ مَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُبَايَعَاتِ، كَمَا يَجِبُ مَعْرِفَةُ مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ مِنَ الْمَأْكُولِ، وَالْمَشْرُوبِ، وَالْمَلْبُوسِ، وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا غِنَى لَهُ عَنْهُ غَالِبًا، وَكَذَلِكَ أَحْكَامُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ إِنْ كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ، ثُمَّ إِذَا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الْفَوْرِ كَانَ تَعَلُّمُ الْكَيْفِيَّةِ عَلَى الْفَوْرِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى التَّرَاخِي كَالْحَجِّ فَعَلَى التَّرَاخِي عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ.
وَمِنْهَا مَا طَلَبُهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَهُوَ تَحْصِيلُ مَا لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْهُ فِي إِقَامَةِ دِينِهِمْ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ كَحِفْظِ الْقُرْآنِ، وَالْأَحَادِيثِ، وَعُلُومِهِمَا، وَالْأُصُولِ، وَالْفِقْهِ، وَالنَّحْوِ، وَاللُّغَةِ، وَالتَّصْرِيفِ، وَمَعْرِفَةِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالْخِلَافِ.
وَالْمُرَادُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ تَحْصِيلُ ذَلِكَ الشَّيْءِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ بِهِ أَوْ بَعْضِهِمْ، وَيَعُمُّ وُجُوبُهُ جَمِيعَ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ، فَإِذَا فَعَلَهُ مَنْ تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِذَا قَامَ بِهِ جَمْعٌ تَحْصُلُ الْكِفَايَةُ بِبَعْضِهِمْ فَكُلُّهُمْ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ الْقِيَامِ بِالْفَرْضِ فِي الثَّوَابِ وَغَيْرِهِ، فَإِذَا صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ جَمْعٌ ثُمَّ جَمْعٌ ثُمَّ جَمْعٌ فَالْكُلُّ يَقَعُ فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَلَوْ أَطْبَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى تَرْكِهِ أَثِمَ كُلُّ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ مِمَّنْ عَلِمَ ذَلِكَ وَأَمْكَنَهُ الْقِيَامُ بِهِ.
وَمِنْهَا مَا طَلَبُهُ نَفْلٌ، كَالتَّبَحُّرِ فِي أُصُولِ الْأَدِلَّةِ، وَالْإِمْعَانُ فِيمَا وَرَاءَ الْقَدْرِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ فَرْضُ الْكِفَايَةِ.
ب- الْعُلُومُ غَيْرُ الشَّرْعِيَّةِ:
5- يَعْتَرِي طَلَبُ الْعُلُومِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ الْأَحْكَامَ التَّكْلِيفِيَّةَ الْخَمْسَةَ، إِذْ مِنْهَا مَا طَلَبُهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، كَالْعُلُومِ الَّتِي لَا يُسْتَغْنَى عَنْهَا فِي قِوَامِ أَمْرِ الدُّنْيَا، كَالطِّبِّ، إِذْ هُوَ ضَرُورِيٌّ لِبَقَاءِ الْأَبْدَانِ، وَالْحِسَابِ، فَإِنَّهُ ضَرُورِيٌّ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَقِسْمَةِ الْوَصَايَا وَالْمَوَارِيثِ وَغَيْرِهَا.
وَمِنْهَا مَا يُعَدُّ طَلَبُهُ فَضِيلَةً وَهُوَ التَّعَمُّقُ فِي دَقَائِقِ الْحِسَابِ، وَالطِّبِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَغْنَى عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ يُفِيدُ زِيَادَةَ قُوَّةٍ فِي الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ.
وَمِنْهَا مَا طَلَبُهُ مُحَرَّمٌ، كَطَلَبِ تَعَلُّمِ السِّحْرِ وَالشَّعْوَذَةِ، وَالتَّنْجِيمِ، وَكُلِّ مَا كَانَ سَبَبًا لِإِثَارَةِ الشُّكُوكِ، وَيَتَفَاوَتُ فِي التَّحْرِيمِ.
فَضْلُ طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْحَثُّ عَلَيْهِ:
6- تَكَاثَرَتِ الْآيَاتُ وَالْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ فِي الْحَثِّ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ.
فَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَحُثُّ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي وُجُوبِ طَلَبِ الْعِلْمِ، وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ يَقْتَضِي نَدْبَ طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْحَثَّ عَلَيْهِ دُونَ الْوُجُوبِ وَالْإِلْزَامِ، وَإِنَّمَا لَزِمَ طَلَبُ الْعِلْمِ بِأَدِلَّتِهِ وَهُوَ أَبْيَنُ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي فَضْلِ طَلَبِ الْعِلْمِ قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».
وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ كَانَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ» وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ».
وَمِنَ الْآثَارِ قَوْلُ مُعَاذٍ- رضي الله عنه-: تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ، فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ مَنْ لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ.
وَمِنَ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ- رضي الله عنه-: مَنْ رَأَى أَنَّ الْغُدُوَّ إِلَى طَلَبِ الْعِلْمِ لَيْسَ بِجِهَادٍ فَقَدْ نَقَصَ فِي رَأْيِهِ وَعَقْلِهِ.
وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: طَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنَ النَّافِلَةِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: طَلَبُ الْعِلْمِ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَمَرْتَبَةٌ شَرِيفَةٌ لَا يُوَازِيهَا عَمَلٌ.
تَرْجِيحُ طَلَبِ الْعِلْمِ عَلَى الْعِبَادَاتِ الْقَاصِرَةِ عَلَى فَاعِلِهَا:
7- حَكَى النَّوَوِيُّ اتِّفَاقَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ وَالِاشْتِغَالَ بِهِ أَفْضَلُ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِنَوَافِلِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالتَّسْبِيحِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ نَوَافِلِ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ.
فَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ» وَعَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: الْعَالِمُ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنهما- قَالَا: بَابٌ مِنَ الْعِلْمِ نَتَعَلَّمُهُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَلْفِ رَكْعَةِ تَطَوُّعٍ؛ وَلِأَنَّ نَفْعَ الْعِلْمِ يَعُمُّ صَاحِبَهُ وَالْمُسْلِمِينَ، وَالنَّوَافِلُ الْمَذْكُورَةُ مُخْتَصَّةٌ بِهِ، وَلِأَنَّ الْعِلْمَ مُصَحِّحٌ، فَغَيْرُهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ، وَلَا يَنْعَكِسُ، وَلِأَنَّ الْعِلْمَ تَبْقَى فَائِدَتُهُ وَأَثَرُهُ بَعْدَ صَاحِبِهِ، وَالنَّوَافِلُ تَنْقَطِعُ بِمَوْتِ صَاحِبِهَا.
كَمَا أَنَّ الْمُثَابَرَةَ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ وَالتَّفَقُّهَ فِيهِ، وَعَدَمَ الِاجْتِزَاءِ بِالْيَسِيرِ مِنْهُ يَجُرُّ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَيُلْجِئُ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ: كُنَّا نَطْلُبُ الْعِلْمَ لِلدُّنْيَا فَجَرَّنَا إِلَى الْآخِرَةِ.
وَقْتُ طَلَبِ الْعِلْمِ:
8- لَيْسَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَقْتٌ مُحَدَّدٌ، بَلْ هُوَ مَطْلُوبٌ فِي جَمِيعِ مَرَاحِلِ الْعُمْرِ، لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ فَضَّلُوا الطَّلَبَ فِي مَرْحَلَةِ الصِّغَرِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْمَرَاحِلِ، لِصَفَاءِ الذِّهْنِ فِي تِلْكَ الْمَرْحَلَةِ مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى رُسُوخِ الْعِلْمِ فِي الذَّاكِرَةِ، قَالَ الْعَدَوِيُّ نَقْلًا عَنِ الْمُنَاوِيِّ: وَهَذَا فِي الْغَالِبِ، فَقَدْ تَفَقَّهَ الْقَفَّالُ وَالْقُدُورِيُّ بَعْدَ الشَّيْبِ فَفَاقَا الشَّبَابَ.
وَأَوْجَبَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ تَعْلِيمَ الصِّغَارِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ تَعْلِيمُ أَوْلَادِهِمْ مَا سَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَيُعَلِّمُهُ الْوَلِيُّ الطَّهَارَةَ وَالصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ وَنَحْوَهَا، وَيُعَرِّفُهُ تَحْرِيمَ الزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْمُسْكِرِ وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَشَبَهِهَا، وَيُعَرِّفُهُ أَنَّ بِالْبُلُوغِ يَدْخُلُ فِي التَّكْلِيفِ، وَيُعَرِّفُهُ مَا يَبْلُغُ بِهِ، وَقِيلَ: هَذَا التَّعْلِيمُ مُسْتَحَبٌّ، وَالصَّحِيحُ وُجُوبُهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ.
وَدَلِيلُ تَعْلِيمِ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».
وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ وُجُوبَ تَعْلِيمِ الصِّغَارِ يَبْدَأُ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ سَبْعِ سِنِينَ، لِحَدِيثِ: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ».
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْوُجُوبَ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ السَّبْعِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤْمَرَ بِجَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ وَيُنْهَى عَنْ جَمِيعِ الْمَنْهِيَّاتِ.
وَقَالَ زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيُّ نَقْلًا عَنِ النَّوَوِيِّ: يَجِبُ عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ تَعْلِيمُ أَوْلَادِهِمُ الطَّهَارَةَ وَالصَّلَاةَ وَالشَّرَائِعَ بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ.
كَمَا حَضَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِدَامَةِ طَلَبِ الْعِلْمِ وَلَوْ مَعَ التَّقَدُّمِ فِي السِّنِّ، أَوِ التَّقَدُّمِ فِي الْعِلْمِ، قِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ: إِلَى مَتَى تَطْلُبُ الْعِلْمَ؟ قَالَ: حَتَّى الْمَمَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَسُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَنْ أَحْوَجُ النَّاسِ إِلَى طَلَبِ الْعِلْمِ؟ قَالَ: أَعْلَمُهُمْ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ مِنْهُ أَقْبَحُ.
الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ:
9- الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ مَشْرُوعَةٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، لِمَا رَوَى «عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَعَقَلْتُ نَاقَتِي بِالْبَابِ، فَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ، قَالُوا: بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا مَرَّتَيْنِ فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ.قَالُوا قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالُوا: جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ، وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ، قَالَ: كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ.ثُمَّ أَتَانِي رَجُلٌ فَقَالَ: يَا عِمْرَانُ أَدْرِكْ نَاقَتَكَ فَقَدْ ذَهَبَتْ، فَانْطَلَقْتُ، أَطْلُبُهَا، فَإِذَا السَّرَابُ يَنْقَطِعُ دُونَهَا، وَأَيْمُ اللَّهِ فَلَوَدِدْتُ أَنَّهَا قَدْ ذَهَبَتْ وَلَمْ أَقُمْ».
قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ: فِيهِ الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَجَوَازُ السُّؤَالِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَعْلَمُهُ، وَجَوَازُ الْعُدُولِ عَنْ سَمَاعِ الْعِلْمِ إِلَى مَا يُخَافُ فَوَاتُهُ، وَجَوَازُ إِيثَارِ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ.
وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّهُ رَحَلَ إِلَى عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فَلَمَّا قَدِمَ مِصْرَ أَخْبَرُوا عُقْبَةَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ، قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: حَدِّثْنَا مَا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي سَتْرِ الْمُسْلِمِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «مَنْ سَتَرَ مُؤْمِنًا فِي الدُّنْيَا عَلَى خِزْيَةٍ سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَأَتَى أَبُو أَيُّوبَ رَاحِلَتَهُ فَرَكِبَهَا وَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمَا حَلَّ رَحْلَهُ
وَسُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: تَرَى الرَّجُلَ أَنْ يَرْحَلَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ؟ قَالَ: نَعَمْ، رَحَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: إِنْ كُنْتُ لأَُسَافِرُ مَسِيرَةَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ فِي الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا سَافَرَ مِنْ أَقْصَى الشَّامِ إِلَى أَقْصَى الْيَمَنِ فَسَمِعَ كَلِمَةً تَنْفَعُهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ أَمْرِهِ مَا رَأَيْتُ سَفَرَهُ ضَاعَ.
قَالَ الْحَطَّابُ: يَجِبُ الْهُرُوبُ مِنْ بَلَدٍ لَا عِلْمَ فِيهِ إِلَى بَلَدٍ فِيهِ الْعِلْمُ.
اسْتِئْذَانُ الْأَبَوَيْنِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ:
10- أَجَازَ الْفُقَهَاءُ الْخُرُوجَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ بِغَيْرِ إِذْنِ الْوَالِدَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ.
وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلَاتٌ نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي:
فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْخُرُوجِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَالتَّفَقُّهِ بَيْنَ خَوْفِ الْهَلَاكِ بِسَبَبِ هَذَا الْخُرُوجِ، وَعَدَمِ خَوْفِ الْهَلَاكِ.
فَإِنْ كَانَ لَا يُخَافُ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ كَانَ خُرُوجُهُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ بِمَنْزِلَةِ السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ بَيْنَ الْخَوْفِ مِنَ الضَّيْعَةِ عَلَى الْأَبَوَيْنِ وَعَدَمِهِ، فَإِنْ كَانَ يَخَافُ الضَّيْعَةَ عَلَى أَبَوَيْهِ بِأَنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ، وَنَفَقَتُهُمَا عَلَيْهِ، وَمَا لَهُ لَا يَفِي بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَنَفَقَتِهِمَا، فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَخَافُ الضَّيْعَةَ عَلَيْهِمَا بِأَنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ وَلَمْ تَكُنْ نَفَقَتُهُمَا عَلَيْهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا.
وَإِنْ كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ الْهَلَاكَ بِسَبَبِ خُرُوجِهِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ خُرُوجِهِ لِلْجِهَادِ، فَلَا يُبَاحُ لَهُ الْخُرُوجُ إِنْ كَرِهَ الْوَالِدَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا خُرُوجَهُ، سَوَاءٌ كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِمَا الضَّيْعَةَ أَوْ لَا يَخَافُ عَلَيْهِمَا الضَّيْعَةَ.
وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ أَوْلَادٌ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى التَّعَلُّمِ وَحِفْظِ الْعِيَالِ فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَفْضَلُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْأَبَوَيْنِ مَنْعَ وَلَدِهِمَا مِنَ الْخُرُوجِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ إِنْ كَانَ فِي سَفَرِهِ خَطَرٌ.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ: فُرُوضُ الْكِفَايَةِ كَالْعِلْمِ الزَّائِدِ عَلَى الْحَاجَةِ، كَالتِّجَارَةِ، فَلَهُمَا مَنْعُهُ مِنَ السَّفَرِ لِتَحْصِيلِهِ إِذَا كَانَ لَيْسَ فِي بَلَدِهِمَا مَنْ يُفِيدُهُ حَيْثُ كَانَ السَّفَرُ فِي الْبَحْرِ أَوِ الْبِرِّ خَطَرًا وَإِلاَّ فَلَا مَنْعَ.
وَصَرَّحَ الْعَدَوِيُّ: بِأَنَّ لِلْوَلَدِ أَنْ يَخْرُجَ بِغَيْرِ إِذْنِ وَالِدَيْهِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ الْكِفَائِيِّ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَلَدِهِ مَنْ يُفِيدُهُ إِيَّاهُ بِشَرْطِ أَنْ يُرْجَى أَنْ يَكُونَ أَهْلًا، فَإِنْ كَانَ فِي بَلَدِهِ مَنْ يُفِيدُهُ إِيَّاهُ فَلَا يَخْرُجُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا.
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ السَّفَرَ لِتَعَلُّمِ الْفَرْضِ وَكُلِّ وَاجِبٍ عَيْنِيٍّ، وَلَوْ كَانَ وَقْتُهُ مُتَّسِعًا وَإِنْ لَمْ يَأْذَنِ الْأَبَوَانِ، كَمَا أَجَازُوا السَّفَرَ لِطَلَبِ الْفَرْضِ الْكِفَائِيِّ، كَدَرَجَةِ الْفَتْوَى، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ أَبَوَاهُ، عَلَى أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ آمِنًا أَوْ قَلِيلَ الْخَطَرِ، وَلَمْ يَجِدْ بِبَلَدِهِ مَنْ يَصْلُحُ لِكَمَالِ مَا يُرِيدُهُ، أَوْ رَجَا بِغُرْبَتِهِ زِيَادَةَ فَرَاغٍ، أَوْ إِرْشَادَ أُسْتَاذٍ، وَيُشْتَرَطُ لِخُرُوجِهِ لِفَرْضِ الْكِفَايَةِ أَنْ يَكُونَ رَشِيدًا، وَلَوْ لَزِمَتْهُ كِفَايَةُ أَصْلِهِ احْتَاجَ لِإِذْنِهِ، إِنْ لَمْ يَنُبْ مَنْ يَمُونُهُ مِنْ مَالٍ حَاضِرٍ، وَمِثْلُهُ الْفَرْعُ لَوْ لَزِمَتْ أَصْلَهُ مُؤْنَتُهُ امْتَنَعَ سَفَرُ الْأَصْلِ إِلاَّ بِإِذْنِ فَرْعِهِ إِنْ لَمْ يَنُبْ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ فِي ذَلِكَ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِلْوَالِدَيْنِ فِي تَرْكِ تَعَلُّمِ عِلْمٍ وَاجِبٍ يَقُومُ بِهِ دِينُهُ مِنْ طَهَارَةٍ وَصَلَاةٍ وَصِيَامٍ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ بِبَلَدِهِ فَلَهُ السَّفَرُ لِطَلَبِهِ بِلَا إِذْنِ أَبَوَيْهِ.
آدَابُ طَلَبِ الْعِلْمِ:
11- لِطَلَبِ الْعِلْمِ آدَابٌ كَثِيرَةٌ يَنْبَغِي مُرَاعَاتُهَا حَتَّى يَكُونَ الطَّلَبُ فِي أَفْضَلِ صُورَةٍ وَتَكُونُ الْإِفَادَةُ مِنْهُ أَكْبَرَ، وَهَذِهِ الْآدَابُ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُعَلِّمِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى طَالِبِ الْعِلْمِ، وَبَعْضُهَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا.
أَوَّلًا: آدَابُ الْمُعَلِّمِ:
وَهِيَ إِمَّا آدَابٌ فِي الْمُعَلِّمِ نَفْسِهِ، أَوْ فِي دَرْسِهِ، أَوْ مَعَ طَلَبَتِهِ.
12- أَمَّا آدَابُهُ فِي نَفْسِهِ فَهِيَ:
أ- دَوَامُ مُرَاقَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى خَوْفِهِ مِنَ اللَّهِ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، فَإِنَّهُ أَمِينٌ عَلَى مَا أُودِعَ مِنَ الْعُلُومِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ الْعِلْمُ مَا حُفِظَ، الْعِلْمُ مَا نَفَعَ، وَمِنْ ذَلِكَ دَوَامُ الْخُشُوعِ وَالتَّوَاضُعُ لِلَّهِ تَعَالَى.
ب- أَنْ يَصُونَ الْعِلْمَ وَيَقُومَ لَهُ بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنَ الْعِزَّةِ وَالشَّرَفِ، فَلَا يُذِلُّهُ بِذَهَابِهِ وَمَشْيِهِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ، أَوْ إِلَى مَنْ يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، وَإِنْ عَظُمَ شَأْنُهُ وَكَبِرَ قَدْرُهُ.قَالَ الزُّهْرِيُّ: هَوَانُ الْعِلْمِ أَنْ يَحْمِلَهُ الْعَالِمُ إِلَى بَيْتِ الْمُتَعَلِّمِ، فَإِنْ دَعَتْ حَاجَةٌ إِلَى ذَلِكَ أَوْ ضَرُورَةٌ أَوِ اقْتَضَتْهُ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى مَفْسَدَةِ بَذْلِهِ وَحَسُنَتْ فِيهِ نِيَّةٌ صَالِحَةٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ.
ج- أَنْ يَتَخَلَّقَ بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّقَلُّلِ مِنْهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ الَّذِي لَا يَضُرُّ بِنَفْسِهِ أَوْ بِعِيَالِهِ.
د- أَنْ يُنَزِّهَ عِلْمَهُ عَنْ جَعْلِهِ سُلَّمًا يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ، مِنْ جَاهٍ أَوْ مَالٍ، أَوْ سُمْعَةٍ أَوْ شُهْرَةٍ، أَوْ خِدْمَةٍ، أَوْ تَقَدُّمٍ عَلَى أَقْرَانِهِ.
هـ- أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْ دَنِيءِ الْمَكَاسِبِ وَرَذِيلِهَا طَبْعًا، وَعَنْ مَكْرُوهِهَا عَادَةً وَشَرْعًا، وَكَذَلِكَ يَتَجَنَّبُ مَوَاضِعَ التُّهَمِ وَإِنْ بَعُدَتْ.
و- أَنْ يُحَافِظَ عَلَى الْقِيَامِ بِشَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَظَوَاهِرِ الْأَحْكَامِ، كَإِمَامَةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ لِلْجَمَاعَاتِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى بِسَبَبِ ذَلِكَ، صَادِعًا بِالْحَقِّ عِنْدَ السَّلَاطِينِ بَاذِلًا نَفْسَهُ لِلَّهِ، وَكَذَلِكَ الْقِيَامُ بِإِظْهَارِ السُّنَنِ، وَإِخْمَادِ الْبِدَعِ، وَالْقِيَامِ لِلَّهِ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَمَا فِيهِ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعِ.
ز- أَنْ يُحَافِظَ عَلَى الْمَنْدُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، فَيُلَازِمُ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ، وَذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَنَوَافِلَ الْعِبَادَاتِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَحَجِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ.
ح- أَنْ يُدِيمَ الْحِرْصَ عَلَى الِازْدِيَادِ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ وَالِاشْتِغَالِ بِهِ، وَأَنْ لَا يَسْتَنْكِفَ أَنْ يَسْتَفِيدَ مَا لَا يَعْلَمُهُ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَا يَزَالُ الرَّجُلُ عَالِمًا مَا تَعَلَّمَ، فَإِذَا تَرَكَ الْعِلْمَ وَظَنَّ أَنَّهُ قَدِ اسْتَغْنَى وَاكْتَفَى بِمَا عِنْدَهُ فَهُوَ أَجْهَلُ مَا يَكُونُ، وَأَنْ يَشْتَغِلَ بِالتَّصْنِيفِ وَالْجَمْعِ وَالتَّأْلِيفِ لَكِنْ مَعَ تَمَامِ الْفَضِيلَةِ وَكَمَالِ الْأَهْلِيَّةِ.
وَآدَابُ الْمُعَلِّمِ فِي دَرْسِهِ هِيَ:
13- أَنْ يَتَطَهَّرَ مِنَ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ وَيَتَنَظَّفَ وَيَتَطَيَّبَ وَيَلْبَسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ إِذَا جَلَسَ لِلتَّدْرِيسِ، وَأَنْ يَجْلِسَ بَارِزًا لِجَمِيعِ الْحَاضِرِينَ، وَيُوَقِّرَ فَاضِلَهُمْ، وَيَتَلَطَّفَ بِالْبَاقِينَ، وَيُكْرِمَهُمْ بِحُسْنِ السَّلَامِ، وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ.
وَأَنْ يَقْدَمَ عَلَى الشُّرُوعِ فِي الْبَحْثِ وَالتَّدْرِيسِ قِرَاءَةَ شَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى تَبَرُّكًا وَتَيَمُّنًا.
وَإِذَا تَعَدَّدَتِ الدُّرُوسُ قَدَّمَ الْأَشْرَفَ فَالْأَشْرَفَ، وَالْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ، وَلَا يَذْكُرُ شُبْهَةً فِي الدِّينِ فِي دَرْسٍ وَيُؤَخِّرُ الْجَوَابَ عَنْهَا إِلَى دَرْسٍ آخَرَ؛ بَلْ يَذْكُرُهُمَا جَمِيعًا أَوْ يَدَعُهُمَا جَمِيعًا، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُطِيلَ الدَّرْسَ تَطْوِيلًا يُمَلُّ، وَلَا يُقَصِّرَهُ تَقْصِيرًا يُخِلُّ.
وَأَنْ يَصُونَ مَجْلِسَهُ عَنِ اللَّغَطِ وَعَنْ رَفْعِ الْأَصْوَاتِ.
وَأَنْ يُلَازِمَ الْإِنْصَافَ فِي بَحْثِهِ وَخِطَابِهِ. وَأَنْ لَا يَنْتَصِبَ لِلتَّدْرِيسِ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَهُ.
وَآدَابُ الْمُعَلِّمِ مَعَ طَلَبَتِهِ هِيَ:
14- أَنْ يَقْصِدَ بِتَعْلِيمِهِمْ وَتَهْذِيبِهِمْ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَنَشْرَ الْعِلْمِ، وَإِحْيَاءَ الشَّرْعِ.
وَأَنْ لَا يَمْتَنِعَ مِنْ تَعْلِيمِ الطَّالِبِ، لِعَدَمِ خُلُوصِ نِيَّتِهِ، فَإِنَّ حُسْنَ النِّيَّةِ مَرْجُوٌّ لَهُ بِبَرَكَةِ الْعِلْمِ، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَأَبَى أَنْ يَكُونَ إِلاَّ لِلَّهِ، وَلِأَنَّ إِخْلَاصَ النِّيَّةِ لَوْ شُرِطَ فِي تَعْلِيمِ الْمُبْتَدَئِينَ فِيهِ مَعَ عُسْرِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ لأَدَّى ذَلِكَ إِلَى تَفْوِيتِ الْعِلْمِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، لَكِنَّ الشَّيْخَ يُحَرِّضُ الْمُبْتَدِئَ عَلَى حُسْنِ النِّيَّةِ بِالتَّدْرِيجِ.
وَأَنْ يُرَغِّبَ الطَّالِبَ فِي الْعِلْمِ وَطَلَبِهِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ.
وَأَنْ يَتَلَطَّفَ فِي تَفْهِيمِهِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَيُحَرِّضَهُ عَلَى طَلَبِ الْفَوَائِدِ، وَحِفْظِ الْفَرَائِدِ وَلَا يَدَّخِرُ عَنْهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ مَا يَسْأَلُهُ عَنْهُ وَهُوَ أَهْلٌ لَهُ، وَكَذَلِكَ لَا يُلْقِي إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَتَأَهَّلْ لَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُبَدِّدُ ذِهْنَهُ وَيُفَرِّقُ فَهْمَهُ.
وَأَنْ يَحْرِصَ عَلَى تَعْلِيمِ الطَّالِبِ وَتَفْهِيمِهِ بِبَذْلِ جَهْدِهِ، وَتَقْرِيبِ الْمَعْنَى لَهُ.
وَإِذَا سَلَكَ الطَّالِبُ فِي التَّحْصِيلِ فَوْقَ مَا يَقْتَضِيهِ حَالُهُ وَخَافَ الْمُعَلِّمُ ضَجَرَهُ أَوْصَاهُ بِالرِّفْقِ بِنَفْسِهِ، وَالْأَنَاةِ، وَالِاقْتِصَادِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَكَذَلِكَ إِذَا ظَهَرَ لَهُ مِنْهُ نَوْعُ سَآمَةٍ أَوْ ضَجَرٍ أَمَرَهُ بِالرَّاحَةِ وَتَخْفِيفِ الِاشْتِغَالِ.
وَأَنْ لَا يُظْهِرَ لِلطَّلَبَةِ تَفْضِيلَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَعَ تَسَاوِيهِمْ فِي الصِّفَاتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ رُبَّمَا يُوحِشُ صُدُورَهُمْ وَيُنَفِّرُ قُلُوبَهُمْ.
وَأَنْ يَسْعَى فِي مَصَالِحِ الطَّلَبَةِ وَجَمْعِ قُلُوبِهِمْ وَمُسَاعَدَتِهِمْ بِمَا يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ، وَإِذَا غَابَ بَعْضُ الطَّلَبَةِ زَائِدًا عَنِ الْعَادَةِ سَأَلَ عَنْهُ، فَإِنْ لَمْ يُخْبَرْ عَنْهُ بِشَيْءٍ أَرْسَلَ إِلَيْهِ، أَوْ قَصَدَ مَنْزِلَهُ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ أَفْضَلُ.
وَأَنْ يَتَوَاضَعَ مَعَ الطَّالِبِ وَكُلِّ مُسْتَرْشِدٍ سَائِلٍ فَفِي الْحَدِيثِ: «لِينُوا لِمَنْ تُعَلِّمُونَ وَلِمَنْ تَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ».
ثَانِيًا: آدَابُ الْمُتَعَلِّمِ:
وَهِيَ إِمَّا آدَابٌ فِي نَفْسِهِ، أَوْ مَعَ مُعَلِّمِهِ أَوْ فِي دَرْسِهِ. آدَابُهُ فِي نَفْسِهِ:
15- أ- أَنْ يُطَهِّرَ قَلْبَهُ لِيَصْلُحَ بِذَلِكَ لِقَبُولِ الْعِلْمِ وَحِفْظِهِ، وَأَنْ يَطْلُبَ الْعِلْمَ يَقْصِدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْعَمَلَ بِهِ، وَإِحْيَاءَ الشَّرِيعَةِ، وَلَا يَقْصِدُ بِهِ الْأَغْرَاضَ الدُّنْيَوِيَّةَ، لِأَنَّ الْعِلْمَ عِبَادَةٌ، فَإِنْ خَلَصَتْ فِيهِ النِّيَّةُ قُبِلَ وَنَمَتْ بَرَكَتُهُ، وَإِنْ قُصِدَ بِهِ غَيْرُ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى حَبَطَ وَخَسِرَتْ صَفْقَتُهُ.
ب- أَنْ يُبَادِرَ شَبَابَهُ وَأَوْقَاتَ عُمْرِهِ إِلَى التَّحْصِيلِ، وَأَنْ يَقْنَعَ مِنَ الْقُوتِ بِمَا تَيَسَّرَ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا، وَمِنَ اللِّبَاسِ بِمَا يَسْتُرُ.
ج- أَنْ يَقْسِمَ أَوْقَاتَ لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ وَيَسْتَفِيدَ مِنْهَا.
د- أَنْ يُقَلِّلَ نَوْمَهُ، مَا لَمْ يَلْحَقْهُ ضَرَرٌ فِي بَدَنِهِ وَذِهْنِهِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُرِيحَ نَفْسَهُ وَقَلْبَهُ وَذِهْنَهُ إِذَا كَلَّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَوْ ضَعُفَ، وَأَنْ يَأْخُذَ نَفْسَهُ بِالْوَرَعِ فِي جَمِيعِ شَأْنِهِ وَيَتَحَرَّى الْحَلَالَ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَلِبَاسِهِ وَمَسْكَنِهِ.
آدَابُ الْمُتَعَلِّمِ مَعَ مُعَلِّمِهِ:
16- أ- يَنْبَغِي لِلطَّالِبِ أَنْ يَسْتَخِيرَ اللَّهَ فِي مَنْ يَأْخُذُ الْعِلْمَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: هَذَا الْعِلْمُ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ.
ب- أَنْ يَنْقَادَ لِمُعَلِّمِهِ فِي أُمُورِهِ، وَيَتَحَرَّى رِضَاهُ فِيمَا يَعْتَمِدُ وَيُبَالِغُ فِي حُرْمَتِهِ، وَيَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِخِدْمَتِهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ تَوَاضُعَهُ لِمُعَلِّمِهِ عِزٌّ، فَقَدْ أَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَ نَسَبِهِ وَعِلْمِهِ بِرِكَابِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ- رضي الله عنهم- وَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِعُلَمَائِنَا،
وَأَنْ لَا يُخَاطِبَ شَيْخَهُ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَكَافِهِ، وَلَا يُنَادِيهِ مِنْ بُعْدٍ، بَلْ يَقُولُ يَا أُسْتَاذِي، وَيَا شَيْخِي، وَأَنْ يَدْعُوَ لَهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ وَيَرْعَى ذُرِّيَّتَهُ وَأَقَارِبَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
ج- أَنْ يَصْبِرَ عَلَى جَفْوَةٍ تَصْدُرُ مِنْ شَيْخِهِ أَوْ سُوءِ خُلُقٍ، وَلَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ مُلَازَمَتِهِ وَحُسْنِ عَقِيدَتِهِ، وَيَتَأَوَّلُ أَفْعَالَهُ الَّتِي يَظْهَرُ أَنَّ الصَّوَابَ خِلَافُهَا، وَيَبْدَأُ هُوَ عِنْدَ جَفْوَةِ الشَّيْخِ بِالِاعْتِذَارِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَبْقَى لِمَوَدَّةِ شَيْخِهِ وَأَنْفَعُ لِلطَّالِبِ.
د- أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ يَدَيِ الْمُعَلِّمِ جِلْسَةَ الْأَدَبِ، وَيُصْغِيَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُحْسِنَ خِطَابَهُ مَعَهُ، وَأَنْ لَا يَسْبِقَ إِلَى شَرْحِ مَسْأَلَةٍ أَوْ جَوَابٍ، وَلَا يَقْطَعَ عَلَى الْمُعَلِّمِ كَلَامَهُ، وَيَتَخَلَّقَ بِمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ بَيْنَ يَدَيْهِ. آدَابُ الْمُتَعَلِّمِ فِي دَرْسِهِ:
17- أ- أَنْ يَبْدَأَ أَوَّلًا بِكِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ فَيُتْقِنَهُ حِفْظًا، وَيَجْتَهِدَ فِي إِتْقَانِ تَفْسِيرِهِ وَسَائِرِ عُلُومِهِ.
ب- أَنْ لَا يَشْتَغِلَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ بِمَسَائِلِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُ يُحَيِّرُ الذِّهْنَ.
ج- أَنْ يُصَحِّحَ مَا يَقْرَؤُهُ قَبْلَ حِفْظِهِ تَصْحِيحًا مُتْقَنًا، إِمَّا عَلَى مُعَلِّمِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، ثُمَّ يَحْفَظُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
د- أَنْ يَلْزَمَ مُعَلِّمَهُ فِي التَّدْرِيسِ وَالْإِقْرَاءِ، بَلْ وَجَمِيعِ مَجَالِسِهِ إِذَا أَمْكَنَ، فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُهُ إِلاَّ خَيْرًا وَتَحْصِيلًا.
هـ- أَنْ يَتَأَدَّبَ مَعَ حَاضِرِي مَجْلِسِ الْمُعَلِّمِ فَإِنَّهُ أَدَبٌ مَعَهُ وَاحْتِرَامٌ لِمَجْلِسِهِ.
و- أَنْ لَا يَسْتَحِيَ مِنْ سُؤَالِ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ وَيَتَفَهَّمَ مَا لَمْ يَتَعَقَّلْهُ بِتَلَطُّفٍ وَحُسْنِ خِطَابٍ وَأَدَبٍ.
ثَالِثًا: الْآدَابُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ:
18- أ- يَنْبَغِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ لَا يُخِلَّ بِوَظِيفَتِهِ لِطُرُوءِ فَرْضٍ خَفِيفٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُمْكِنُ مَعَهُ الِاشْتِغَالُ، وَأَنْ لَا يَسْأَلَ أَحَدًا تَعَنُّتًا وَتَعْجِيزًا، فَفِي الْحَدِيثِ: نَهَى عَنِ الْغُلُوطَاتِ.
ب- أَنْ يَعْتَنِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَحْصِيلِ الْكُتُبِ شِرَاءً وَاسْتِعَارَةً، فَإِنِ اسْتَعَارَهُ لَمْ يُبْطِئْ بِهِ لِئَلاَّ يَفُوتَ الِانْتِفَاعُ بِهِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَلِئَلاَّ يَكْسَلَ عَنْ تَحْصِيلِ الْفَائِدَةِ مِنْهُ، وَلِئَلاَّ يَمْتَنِعَ مِنْ إِعَارَتِهِ غَيْرَهُ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْمُخْتَارُ اسْتِحْبَابُ الْإِعَارَةِ لِمَنْ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى الْعِلْمِ مَعَ مَا فِي مُطْلَقِ الْعَارِيَّةِ مِنَ الْفَضْلِ، وَيُسْتَحَبُّ شُكْرُ الْمُعِيرِ لِإِحْسَانِهِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
298-موسوعة الفقه الكويتية (عدة 4)
عِدَّةٌ -4عِدَّةُ الْمُرْتَابَةِ أَوْ مُمْتَدَّةِ الطُّهْرِ:
37- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَابَةَ أَوِ الْمُمْتَدَّ طُهْرُهَا هِيَ: الْمَرْأَةُ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُ ثُمَّ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا دُونَ حَمْلٍ وَلَا يَأْسٍ، فَإِذَا فَارَقَهَا زَوْجُهَا، وَانْقَطَعَ دَمُ حَيْضِهَا لِعِلَّةٍ تُعْرَفُ، كَرَضَاعٍ وَنِفَاسٍ أَوْ مَرَضٍ يُرْجَى بُرْؤُهُ، فَإِنَّهَا تَصْبِرُ وُجُوبًا، حَتَّى تَحِيضَ، فَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ، أَوْ تَبْلُغُ سِنَّ الْيَأْسِ فَتَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ كَالْآيِسَةِ، وَلَا تُبَالِي بِطُولِ مُدَّةِ الِانْتِظَارِ، لِأَنَّ الِاعْتِدَادَ بِالْأَشْهُرِ جُعِلَ بَعْدَ الْيَأْسِ بِالنَّصِّ، فَلَمْ يَجُزْ الِاعْتِدَادُ بِالْأَشْهُرِ قَبْلَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ- رضي الله عنهم-، وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ حَكَمَ بِذَلِكَ فِي الْمُرْضِعِ.
وَأَمَّا إِذَا حَاضَتْ ثُمَّ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا دُونَ عِلَّةٍ تُعْرَفُ، فَقَدْ ذَهَبَ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم- وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَابَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَتَرَبَّصُ غَالِبَ مُدَّةِ الْحَمْلِ: تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، لِتَتْبِينِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَلِزَوَالِ الرِّيبَةِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْحَمْلَ لَا يَمْكُثُ فِي الْبَطْنِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، فَهَذِهِ سَنَةٌ تَنْقَضِي بِهَا عِدَّتُهَا وَتَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَحَاضَتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ فَارْتَفَعَ حَيْضُهَا لَا يُدْرَى مَا رَفَعَهُ: تَجْلِسُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَبِنْ بِهَا حَمْلٌ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، فَذَلِكَ سَنَةٌ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَضَى بِهِ عُمَرُ- رضي الله عنه- بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ، وَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنِ الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ فَتَحِيضُ حَيْضَةً ثُمَّ يَرْتَفِعُ حَيْضُهَا قَالَ: أَذْهَبُ إِلَى حَدِيثِ عُمَرَ- رضي الله عنه-: إِذَا رُفِعَتْ حَيْضَتُهَا فَلَمْ تَدْرِ مِمَّا ارْتَفَعَتْ، فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ سَنَةً؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ لَا تُبْنَى عَلَى عِدَّةٍ أُخْرَى.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ: بِأَنَّهَا تَصْبِرُ حَتَّى تَحِيضَ فَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ أَوْ تَيْأَسُ فَتَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ، كَمَا لَوِ انْقَطَعَ الدَّمُ لِعِلَّةٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ الِاعْتِدَادَ بِالْأَشْهُرِ إِلاَّ لِلَّتِي لَمْ تَحِضْ وَالْآيِسَةِ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا؛ لِأَنَّهَا تَرْجُو عَوْدَ الدَّمِ، فَأَشْبَهَتْ مَنِ انْقَطَعَ دَمُهَا لِعَارِضٍ مَعْرُوفٍ.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَدِيمِ: أَنَّ الْمُرْتَابَةَ تَتَرَبَّصُ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ: أَرْبَعَ سِنِينَ لِتَعْلَمَ بَرَاءَةَ الرَّحِمِ بِيَقِينٍ، وَقِيلَ فِي الْقَدِيمِ أَيْضًا: تَتَرَبَّصُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ، فَحَاصِلُ الْمَذْهَبِ الْقَدِيمِ: أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ مُدَّةَ الْحَمْلِ غَالِبَهُ أَوْ أَكْثَرَهُ أَوْ أَقَلَّهُ، ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فِي حَالَةِ عَدَمِ وُجُودِ حَمْلٍ.
وَجَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ وَفْقًا لِلْمَذْهَبِ الْجَدِيدِ- وَهُوَ التَّرَبُّصُ لِسِنِّ الْيَأْسِ-: لَوْ حَاضَتْ بَعْدَ الْيَأْسِ فِي الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ وَجَبَتِ الْأَقْرَاءُ، لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنَ الْبَدَلِ، وَيُحْسَبُ مَا مَضَى قُرْءًا قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ طُهْرٌ مُحْتَوَشٌ بِدَمَيْنِ، أَوْ بَعْدَ تَمَامِ الْأَشْهُرِ فَأَقْوَالٌ أَظْهَرُهَا: إِنْ نَكَحَتْ بَعْدَ الْأَشْهُرِ فَقَدْ تَمَّتِ الْعِدَّةُ وَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ، وَإِلاَّ فَالْأَقْرَاءُ وَاجِبَةٌ فِي عِدَّتِهَا، لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهَا لَيْسَتْ آيِسَةً، وَقِيلَ: تَنْتَقِلُ إِلَى الْأَقْرَاءِ مُطْلَقًا تَزَوَّجَتْ أَمْ لَا، وَقِيلَ: الْمَنْعُ مُطْلَقًا، لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ظَاهِرًا، قِيَاسًا عَلَى الصَّغِيرَةِ الَّتِي حَاضَتْ بَعْدَ الْأَشْهُرِ.
وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْيَأْسِ يَأْسُ عَشِيرَتِهَا، وَفِي قَوْلٍ: يَأْسُ كُلِّ النِّسَاءِ لِلِاحْتِيَاطِ وَطَلَبًا لِلْيَقِينِ.
عِدَّةُ زَوْجَةِ الصَّغِيرِ أَوْ مَنْ فِي حُكْمِهِ:
38- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ زَوْجَةِ الصَّغِيرِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، كَعِدَّةِ زَوْجَةِ الْكَبِيرِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ إِذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ مَاتَ عَنِ امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي قَوْلٍ وَأَبِي يُوسُفَ إِلَى أَنَّ الصَّغِيرَ الَّذِي مَاتَ عَنِ امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ- وَلَا يُولَدُ لِمِثْلِهِ- عِدَّةُ زَوْجَتِهِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَمْلَ لَيْسَ مِنْهُ بِيَقِينٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ إِلَيْهِ، فَلَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، كَالْحَمْلِ مِنَ الزِّنَا أَوِ الْحَادِثِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالْحَمْلُ الَّذِي تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ هُوَ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَى صَاحِبِ الْعِدَّةِ وَلَوِ احْتِمَالًا.
قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ كَانَ الزَّوْجُ صَبِيًّا أَوْ مَجْبُوبًا فَلَا تَنْقَضِي عِدَّةُ زَوْجَتِهِ بِوَضْعِ حَمْلِهَا، لَا مِنْ مَوْتٍ وَلَا طَلَاقٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ فِي الطَّلَاقِ، وَيُعَدُّ نِفَاسُهَا حَيْضَةً، وَعَلَيْهَا فِي الْوَفَاةِ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ، وَهُوَ الْمُتَأَخِّرُ مِنَ الْوَضْعِ أَوْ تَمَامُ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: تَجِبُ الْعِدَّةُ بِدُخُولِ زَوْجِهَا الصَّبِيِّ الْمُرَاهِقِ الَّذِي يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْإِعْلَاقُ، وَكَذَلِكَ بِخَلْوَتِهِ الصَّحِيحَةِ أَوِ الْفَاسِدَةِ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ مِنْهُ الْوَطْءُ لِصِغَرِهِ، أَوْ لَمْ تَحْصُلْ خَلْوَةٌ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ فِي الطَّلَاقِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ وَطْءَ الصَّبِيِّ- وَإِنْ كَانَ فِي سِنٍّ لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِ- يُوجِبُ عِدَّةَ الطَّلَاقِ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ، وَلِأَنَّ الْوَطْءَ شَاغِلٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَلِأَنَّ الْإِنْزَالَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْعُلُوقُ لَمَّا كَانَ خَفِيًّا يَخْتَلِفُ بِالْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ، وَلِعُسْرِ تَتَبُّعِهِ أَعْرَضَ الشَّارِعُ عَنْهُ، وَاكْتَفَى بِسَبَبِهِ، وَهُوَ الْوَطْءُ أَوِ اسْتِدْخَالُ الْمَنِيِّ كَمَا اكْتَفَى فِي التَّرَخُّصِ بِالسَّفَرِ، وَأَعْرَضَ عَنِ الْمَشَقَّةِ.وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ مِنْ وَطْءِ الصَّبِيِّ تَهَيُّؤُهُ لِلْوَطْءِ وَأَفْتَى بِهِ الْغَزَالِيُّ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ زَوْجَةِ الصَّغِيرِ الَّذِي مَاتَ وَهِيَ حَامِلٌ تَكُونُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ لِعُمُومِ قوله تعالى {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ لِلْعِلْمِ بِحُصُولِ فَرَاغِ الرَّحِمِ، وَالْوِلَادَةُ دَلِيلُ فَرَاغِ الرَّحِمِ بِيَقِينٍ، وَالشَّهْرُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَرَاغِ بِيَقِينٍ، فَكَانَ إِيجَابُ مَا دَلَّ عَلَى الْفَرَاغِ بِيَقِينٍ أَوْلَى، إِلاَّ إِذَا ظَهَرَ الْحَمْلُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَمْ تَعْتَدَّ بِهِ، بَلْ تَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، لقوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} وَلِأَنَّ الْحَمْلَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَقْتَ الْمَوْتِ وَجَبَتِ الْعِدَّةُ بِالْأَشْهُرِ، فَلَا تَتَغَيَّرُ بِالْحَمْلِ الْحَادِثِ، وَإِذَا كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْمَوْتِ وَجَبَتْ عِدَّةُ الْحَبَلِ، فَكَانَ انْقِضَاؤُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَحْصُلُ عَادَةً إِلاَّ مِنَ الْمَاءِ، وَالصَّبِيُّ لَا مَاءَ لَهُ حَقِيقَةً، وَيَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ عَادَةً فَيَسْتَحِيلُ تَقْدِيرُهُ.
عِدَّةُ زَوْجَةِ الْمَجْبُوبِ وَالْخَصِيِّ وَالْمَمْسُوحِ:
39- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ زَوْجَةَ الْمَجْبُوبِ كَزَوْجَةِ الصَّبِيِّ، لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا مِنْ طَلَاقِهِ، كَالْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَقِيلَ: عَلَيْهَا الْعِدَّةُ إِنْ كَانَ يُعَالَجُ وَيُنْزِلُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ خَلِيلٌ، وَعَلَى الثَّانِي عِيَاضٌ، وَلَوْ طَلُقَتْ زَوْجَتُهُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَلَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ، لَا مِنْ مَوْتٍ وَلَا طَلَاقٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ فِي الطَّلَاقِ، وَيُعَدُّ نِفَاسُهَا حَيْضَةً، وَعَلَيْهَا فِي الْوَفَاةِ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ، وَهُوَ الْمُتَأَخِّرُ مِنَ الْوَضْعِ أَوْ تَمَامُ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ.
وَصَرَّحَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ الزَّوْجَ إِذَا كَانَ مَجْبُوبَ الذَّكَرِ وَالْخُصْيَتَيْنِ فَلَا تَعْتَدُّ امْرَأَتُهُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مَجْبُوبَ الْخُصْيَتَيْنِ قَائِمُ الذَّكَرِ فَعَلَى امْرَأَتِهِ الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّهُ يَطَأُ بِذَكَرِهِ، وَإِنْ كَانَ مَجْبُوبَ الذَّكَرِ قَائِمَ الْخُصْيَتَيْنِ: فَهَذَا إِنْ كَانَ يُولَدُ لِمِثْلِهِ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَإِلاَّ فَلَا، وَقِيلَ: يُرْجَعُ فِي الْمَقْطُوعِ ذَكَرُهُ أَوْ أُنْثَيَاهُ إِلَى أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ كَالْأَطِبَّاءِ أَوِ النِّسَاءِ.
وَالْمَمْسُوحُ ذَكَرُهُ وَأُنْثَيَاهُ كَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِ، فَلَا عِدَّةَ عَلَى زَوْجَتِهِ فِي الْمُعْتَمَدِ فِي طَلَاقٍ أَوْ فَسْخٍ، وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ؛ لِأَنَّ فِيهَا ضَرْبًا مِنَ التَّعَبُّدِ، فَإِذَا مَاتَ وَظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ فَلَا يَلْحَقُهُ، وَلَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ، لِأَنَّ الْحَمْلَ الَّذِي تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ هُوَ الَّذِي يُنْسَبُ لِأَبِيهِ، وَإِنَّمَا تَنْتَهِي بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ: الْوَضْعِ أَوْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تَعْتَدُّ الْمَرْأَةُ مِنْ وَطْءِ خَصِيٍّ لَا مَقْطُوعِ الذَّكَرِ وَلَوْ دُونَ الْأُنْثَيَيْنِ لِعَدَمِ الدُّخُولِ، لَكِنْ إِنْ بَانَتْ حَامِلًا لَحِقَهُ الْوَلَدُ، لِإِمْكَانِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَمْسُوحًا، وَاعْتَدَّتْ بِوَضْعِهِ وَإِنْ نَفَاهُ، بِخِلَافِ الْمَمْسُوحِ، لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَلْحَقُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَا تَجِبُ الْعِدَّةُ مِنْ طَلَاقِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ الْخَصِيُّ الْمَجْبُوبُ امْرَأَتَهُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لَمْ يَلْحَقْهُ نَسَبُهُ، وَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ وَتَسْتَأْنِفُ بَعْدَ الْوَضْعِ عِدَّةَ الطَّلَاقِ: ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، أَوْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَذَكَرَ الْقَاضِي: أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الْوَلَدَ يَلْحَقُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْإِنْزَالُ بِأَنْ يَحُكَّ مَوْضِعَ ذَكَرِهِ بِفَرْجِهَا فَيُنْزِلُ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ وَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَا يَلْحَقُ بِهِ وَلَدٌ، لِأَنَّهُ لَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَةٌ، فَلَا يَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا، كَالصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ عَشْرَ سِنِينَ.
وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي بَابِ الْعِنِّينِ وَغَيْرِهِ: أَنَّ الْمَجْبُوبَ أَوِ الْخَصِيَّ كَالْعِنِّينِ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَى الزَّوْجَةِ عِنْدَ الْفُرْقَةِ بِنَاءً عَلَى طَلَبِهَا.
وَصَرَّحَ السَّرَخْسِيُّ بِأَنَّ الْخَصِيَّ كَالصَّحِيحِ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَى زَوْجَتِهِ عِنْدَ الْفُرْقَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَجْبُوبُ بِشَرْطِ الْإِنْزَالِ.
عِدَّةُ زَوْجَةِ الْمَفْقُودِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ:
40- الْمَفْقُودُ: هُوَ الَّذِي غَابَ وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ مَعَ إِمْكَانِ الْكَشْفِ عَنْهُ، فَخَرَجَ الْأَسِيرُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ خَبَرُهُ، وَالْمَحْبُوسُ الَّذِي لَا يُسْتَطَاعُ الْكَشْفُ عَنْهُ فَإِذَا غَابَ الرَّجُلُ عَنِ امْرَأَتِهِ لَمْ يَخْلُ مِنْ حَالَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِذَا غَابَ وَلَمْ يَنْقَطِعْ خَبَرُهُ، فَلَا يَجُوزُ لِامْرَأَتِهِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، فَتَظَلُّ عَلَى عِصْمَتِهِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ، أَوْ لَحِقَهَا ضَرَرٌ مِنْ غَيْبَتِهِ أَوْ كَانَتْ تَخْشَى عَلَى نَفْسِهَا الْفِتْنَةَ فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (غَيْبَة).
ثَانِيهِمَا: إِذَا غَابَ الزَّوْجُ عَنْ زَوْجَتِهِ وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ وَلَا يُعْرَفُ مَكَانُهُ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ.
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ- فِيمَا لَوْ كَانَ ظَاهِرُ غَيْبَتِهِ السَّلَامَةَ- إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ بَاقِيَةٌ عَلَى عِصْمَتِهِ، فَلَا تَزُولُ الزَّوْجِيَّةُ حَتَّى يَتَيَقَّنَ مَوْتُهُ أَوْ طَلَاقُهُ، أَوْ تَمْضِي مُدَّةٌ لَا يَعِيشُ أَكْثَرَ مِنْهَا، وَهَذِهِ سُلْطَةٌ تَقْدِيرِيَّةٌ لِلْقَاضِي، ثُمَّ تَعْتَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ وَتَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- مَوْقُوفًا: امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ امْرَأَةٌ ابْتُلِيَتْ، فَلْتَصْبِرْ حَتَّى يَأْتِيَهَا يَقِينُ مَوْتِهِ، وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ امْرَأَتُهُ حَتَّى يَأْتِيَهَا الْبَيَانُ» لِأَنَّ عَقْدَهَا ثَابِتٌ بِيَقِينٍ فَلَا يَرْتَفِعُ إِلاَّ بِيَقِينٍ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْحَيَاةِ حَتَّى يَثْبُتَ مَوْتُهُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِمَوْتِ الْمَفْقُودِ إِذَا بَلَغَ سِنُّهُ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةٍ مِنْ وَقْتِ وِلَادَتِهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ تُقَدَّرُ بِمِائَةِ سَنَةٍ، وَقِيلَ: تِسْعُونَ سَنَةً، أَوْ يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ إِذَا مَاتَ آخِرُ أَقْرَانِهِ سِنًّا، أَوْ يُفَوَّضُ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ ثُمَّ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ مِنْ وَقْتِ الْحُكْمِ بِمَوْتِهِ، وَتَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ.
وَنَقَلَ أَحْمَدُ بْنُ أَصْرَم عَنْ أَحْمَدَ: إِذَا مَضَى عَلَيْهِ تِسْعُونَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ وِلَادَتِهِ قَسَمَ مَالَهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ زَوْجَتَهُ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ ثُمَّ تَتَزَوَّجُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا الْعُمْرِ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهِ انْقِطَاعُ خَبَرِهِ وَجَبَ الْحُكْمُ بِمَوْتِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ فَقْدُهُ بِغَيْبَةٍ ظَاهِرُهَا الْهَلَاكُ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: ذَهَبَ عُمَرُ وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم-، وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنِ الْحَنَابِلَةِ- فِي حَالَةِ مَا لَوْ كَانَتْ غَيْبَتُهُ ظَاهِرُهَا الْهَلَاكُ- إِلَى أَنَّ زَوْجَةَ الْمَفْقُودِ تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ إِنْ دَامَتْ نَفَقَتُهَا مِنْ مَالِهِ ثُمَّ تَعْتَدُّ لِلْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، ثُمَّ تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- قَالَ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ: تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَوَافَقَهُ فِي ذَلِكَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ- رضي الله عنهم-، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةَ وَاللَّيْثُ وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ فَالتَّرَبُّصُ بِأَرْبَعِ سِنِينَ أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ، أَوْ أَنَّهُ أَكْثَرُ الْحَمْلِ عِنْدَهُمْ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: إِنَّ امْرَأَةَ الْمَفْقُودِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فِي الْقِتَالِ تَتَرَبَّصُ سَنَةً فَقَطْ، لِأَنَّ غَلَبَةَ هَلَاكِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَكْثَرُ مِنْ غَلَبَتِهِ فِي غَيْرِهَا، لِوُجُودِ سَبَبِهِ وَهُوَ الْقِتَالُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُحْكَمُ بِمَوْتِ الْمَفْقُودِ بِالنِّسْبَةِ لِزَوْجَتِهِ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ حِينِ الْعَجْزِ عَنْ خَبَرِهِ، وَقِيلَ: مِنْ حِينِ رَفْعِ الْأَمْرِ إِلَى الْقَاضِي أَوِ الْوَالِي أَوْ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ.
وَلِلْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: يُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ ضَرْبِ الْقَاضِي أَوِ الْحَاكِمِ لَهَا، لِأَنَّهَا مُدَّةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَافْتَقَرَتْ إِلَى ضَرْبِ الْحَاكِمِ كَمُدَّةِ الْعُنَّةِ.
وَثَانِيَتُهُمَا: ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ انْقِطَاعِ الْخَبَرِ وَبُعْدِ الْأَثَرِ؛ لِأَنَّ هَذَا ظَاهِرٌ فِي مَوْتِهِ، فَكَانَ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْهُ، كَمَا لَوْ شَهِدَ بِهِ شَاهِدَانِ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ عَلَى الْقَدِيمِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.
عِدَّةُ زَوْجَةِ الْأَسِيرِ:
41- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ زَوْجَةَ الْأَسِيرِ لَا تُنْكَحُ حَتَّى تُعْلَمَ بِيَقِينٍ وَفَاتُهُ، وَهَذَا قَوْلُ النَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ وَمَكْحُولٍ.
عِدَّةُ زَوْجَةِ الْمُرْتَدِّ:
42- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ عِدَّةِ زَوْجَةِ الْمُرْتَدِّ بَعْدَ الدُّخُولِ أَوْ مَا فِي حُكْمِهِ بِسَبَبِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ جَمَعَهَا الْإِسْلَامُ فِي الْعِدَّةِ دَامَ النِّكَاحُ، وَإِلاَّ فَالْفُرْقَةُ مِنَ الرِّدَّةِ وَعِدَّتُهَا تَكُونُ بِالْأَشْهُرِ، أَوْ بِالْقُرُوءِ، أَوْ بِالْوَضْعِ كَعِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ.
وَلَوْ مَاتَ الْمُرْتَدُّ أَوْ قُتِلَ حَدًّا وَامْرَأَتُهُ فِي الْعِدَّةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا إِلاَّ عِدَّةُ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ قَدْ بَطَلَتْ بِالرِّدَّةِ، وَعِدَّةُ الْوَفَاةِ لَا تَجِبُ إِلاَّ عَلَى الزَّوْجَاتِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ إِذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَوَرِثَتْهُ قِيَاسًا عَلَى طَلَاقِ الْفَارِّ- فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ: أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فِيهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ، حَتَّى إِنَّهَا لَوْ لَمْ تَرَ فِي مُدَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَالْعَشْرِ ثَلَاثَ حِيَضٍ تَسْتَكْمِلُ بَعْدَ ذَلِكَ، لِأَنَّ كُلَّ مُعْتَدَّةٍ وَرِثَتْ تَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ، وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا: بِأَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا بَقِيَ فِي حَقِّ الْإِرْثِ، فَلأَنْ يَبْقَى فِي حَقِّ وُجُوبِ الْعِدَّةِ أَوْلَى، لِأَنَّ الْعِدَّةَ يُحْتَاطُ فِي إِيجَابِهَا، فَكَانَ قِيَامُ النِّكَاحِ مِنْ وَجْهٍ كَافِيًا لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ احْتِيَاطًا، فَيَجِبُ عَلَيْهَا الِاعْتِدَادُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فِيهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ، قِيَاسًا عَلَى الْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا بَائِنًا الَّتِي مَاتَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ، وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رِوَايَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
عِدَّةُ الْكِتَابِيَّةِ أَوِ الذِّمِّيَّةِ:
43- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ الْكِتَابِيَّةِ أَوِ الذِّمِّيَّةِ فِي الطَّلَاقِ أَوِ الْفَسْخِ أَوِ الْوَفَاةِ كَعِدَّةِ الْمُسْلِمَةِ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِدَّةِ بِلَا فَرْقٍ بَيْنَهُمَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مُسْلِمًا، لِأَنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ بِحَقِّ اللَّهِ وَبِحَقِّ الزَّوْجِ، قَالَ تَعَالَى {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} فَهِيَ حَقُّهُ، وَالْكِتَابِيَّةُ أَوِ الذِّمِّيَّةُ مُخَاطَبَةٌ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ، فَتَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَتُجْبَرُ عَلَيْهَا لِأَجْلِ حَقِّ الزَّوْجِ وَالْوَلَدِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ إِيفَاءِ حُقُوقِ الْعِبَادِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا لَوْ كَانَتِ الذِّمِّيَّةُ تَحْتَ ذِمِّيٍّ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ الذِّمِّيُّ الذِّمِّيَّةَ أَوْ مَاتَ عَنْهَا، فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا إِذَا كَانَ دِينُهُمْ لَا يُقِرُّ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ فَوْرَ طَلَاقِهَا؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا إِمَّا أَنْ تَجِبَ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِحَقِّ الزَّوْجِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى إِيجَابِهَا بِحَقِّ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ حَقًّا لِنَفْسِهِ، وَلَا وَجْهَ لِإِيجَابِهَا بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ فِيهَا مَعْنَى الْقُرْبَةِ، وَهِيَ غَيْرُ مُخَاطَبَةٍ بِالْقُرُبَاتِ، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا، فَإِنَّهَا تُمْنَعُ مِنَ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ الثَّانِي يُوجِبُ اشْتِبَاهَ النَّسَبِ، وَحِفْظُ النَّسَبِ حَقُّ الْوَلَدِ، فَلَا يَجُوزُ إِبْطَالُ حَقِّهِ، فَكَانَ عَلَى الْحَاكِمِ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ بِالْمَنْعِ مِنَ الزَّوَاجِ حَتَّى تَضَعَ الْحَمْلَ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الذِّمِّيَّةَ الْحُرَّةَ غَيْرُ الْحَامِلِ إِذَا كَانَتْ تَحْتَ زَوْجٍ ذِمِّيٍّ مَاتَ عَنْهَا أَوْ طَلَّقَهَا، وَأَرَادَ مُسْلِمٌ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا أَوْ تَرَافَعَا إِلَيْنَا- وَقَدْ دَخَلَ بِهَا- فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا حَلَّتْ مَكَانَهَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ وَاجِبَةٌ عَلَى الذِّمِّيَّةِ حَتَّى وَلَوْ كَانَتْ تَحْتَ ذِمِّيٍّ، لِأَنَّ الذِّمِّيَّةَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَجَرَى عَلَيْهَا مَا يَجْرِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَلِعُمُومِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْعِدَّةِ، وَلِأَنَّهَا بَائِنٌ بَعْدَ الدُّخُولِ أَشْبَهَتِ الْمُسْلِمَةَ، فَعِدَّتُهَا كَعِدَّةِ الْمُسْلِمَةِ، وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنَ الْوَفَاةِ أَشْبَهَتِ الْمُسْلِمَةَ.
عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ:
44- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمُخْتَلِعَةِ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} وَلِأَنَّ الْخُلْعَ فُرْقَةٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْحَيَاةِ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَكَانَتِ الْعِدَّةُ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ كَعِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ.
وَفِي قَوْلٍ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ عِدَّتَهَا حَيْضَةٌ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم- وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عِدَّتَهَا حَيْضَةً» كَمَا أَنَّ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- قَضَى بِهِ.
(ر: مُصْطَلَحَ خُلْع).
عِدَّةُ الْمُلَاعَنَةِ:
45- عِدَّةُ الْمُلَاعَنَةِ كَعِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ، لِأَنَّهَا مُفَارَقَةٌ فِي الْحَيَاةِ، فَأَشْبَهَتِ الْمُطَلَّقَةَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، خِلَافًا لِابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- فَالْمَرْوِيُّ عَنْهُ أَنَّ عِدَّتَهَا تِسْعَةُ أَشْهُرٍ.
عِدَّةُ الزَّانِيَةِ:
46- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عِدَّةِ الزَّانِيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالثَّوْرِيُّ إِلَى أَنَّ الزَّانِيَةَ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، حَامِلًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَ حَامِلٍ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ- رضي الله عنهم-، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ شُرِعَتْ لِحِفْظِ النَّسَبِ، وَالزِّنَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ثُبُوتُ النَّسَبِ، وَلَا يُوجِبُ الْعِدَّةَ.
وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةً وَهِيَ حَامِلٌ مِنَ الزِّنَا جَازَ نِكَاحُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا حَتَّى تَضَعَ، لِئَلاَّ يَصِيرَ سَاقِيًا مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ، لِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ» وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ» فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى امْتِنَاعِ وَطْئِهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا.
خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِجَوَازِ النِّكَاحِ وَالْوَطْءِ لِلْحَامِلِ مِنْ زِنًا عَلَى الْأَصَحِّ، إِذْ لَا حُرْمَةَ لَهُ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ لَدَى الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: أَنَّ الْمَزْنِيَّ بِهَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ، لِأَنَّهُ وَطْءٌ يَقْتَضِي شُغْلَ الرَّحِمِ، فَوَجَبَتِ الْعِدَّةُ مِنْهُ، وَلِأَنَّهَا حُرَّةٌ فَوَجَبَ اسْتِبْرَاؤُهَا بِعِدَّةٍ كَامِلَةٍ قِيَاسًا عَلَى الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ، وَلِأَنَّ الْمَزْنِيَّ بِهَا إِذَا تَزَوَّجَتْ قَبْلَ الِاعْتِدَادِ اشْتَبَهَ وَلَدُ الزَّوْجِ بِالْوَلَدِ مِنَ الزِّنَا، فَلَا يَحْصُلُ حِفْظُ النَّسَبِ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: إِذَا زَنَتِ الْمَرْأَةُ أَوْ غُصِبَتْ وَجَبَ عَلَيْهَا الِاسْتِبْرَاءُ مِنْ وَطْئِهَا بِثَلَاثِ حِيَضٍ إِنْ كَانَتْ حُرَّةً.
أَمَّا الْحَامِلُ مِنْ زِنًا أَوْ مِنْ غَصْبٍ فَيَحْرُمُ عَلَى زَوْجِهَا وَطْؤُهَا قَبْلَ الْوَضْعِ اتِّفَاقًا، وَإِذَا كَانَتِ الزَّانِيَةُ غَيْرَ مُتَزَوِّجَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا زَمَنَ الِاسْتِبْرَاءِ، فَإِنْ عَقَدَ عَلَيْهَا وَجَبَ فَسْخُهُ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِلَى أَنَّ الزَّانِيَةَ تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً».
وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيلِ يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ: (اسْتِبْرَاء ف 24).
عِدَّةُ الْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا:
47- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ الْعِدَّةِ بِالدُّخُولِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، بِسَبَبِ الْفُرْقَةِ الْكَائِنَةِ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي، كَالنِّكَاحِ بِدُونِ شُهُودٍ أَوْ وَلِيٍّ، وَذَهَبُوا أَيْضًا إِلَى وُجُوبِ الْعِدَّةِ فِي النِّكَاحِ الْمُجْمَعِ عَلَى فَسَادِهِ بِالْوَطْءِ، أَيْ بِالدُّخُولِ، مِثْلُ: نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ وَزَوْجَةِ الْغَيْرِ، وَالْمَحَارِمِ إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ شُبْهَةٌ تُسْقِطُ الْحَدَّ، بِأَنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ بِالْحُرْمَةِ، أَمَّا إِذَا كَانَ يَعْلَمُ بِالْحُرْمَةِ فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ الْعِدَّةِ، وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْتِبْرَاءٌ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ لِلتَّعَرُّفِ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، لَا لِقَضَاءِ حَقِّ النِّكَاحِ، إِذْ لَا حَقَّ لِلنِّكَاحِ الْفَاسِدِ أَيًّا كَانَ نَوْعَهُ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالُوا بِعَدَمِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ، لِعَدَمِ وُجُودِ الشُّبْهَةِ الْمُسْقِطَةِ لِلْحَدِّ، وَلِعَدَمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ، جَاءَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: وَالْمَنْكُوحَةُ نِكَاحًا فَاسِدًا، وَهِيَ الْمَنْكُوحَةُ بِغَيْرِ شُهُودٍ، وَنِكَاحُ امْرَأَةِ الْغَيْرِ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الزَّوْجُ الثَّانِي بِأَنَّهَا مُتَزَوِّجَةٌ، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ- أَيِ الزَّوْجُ الثَّانِي- لَا تَجِبُ الْعِدَّةُ بِالدُّخُولِ، حَتَّى لَا يَحْرُمَ عَلَى الزَّوْجِ وَطْؤُهَا لِأَنَّهُ زِنًا، وَإِذَا زَنَى بِامْرَأَةٍ حَلَّ لِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا، وَبِهِ يُفْتَى.
(ر: مُصْطَلَحَ بُطْلَان ف 30).
وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ فِي النِّكَاحِ الْمُجْمَعِ عَلَى فَسَادِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ تَجِبُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَهَا عَلَى الْأَزْوَاجِ، لقوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} وَلَا يَصِيرُ زَوْجًا حَقِيقَةً إِلاَّ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ، كَمَا أَنَّهَا تَجِبُ إِظْهَارًا لِلْحُزْنِ وَالتَّأَسُّفِ لِفَوَاتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ، وَالنِّعْمَةُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ إِلَى وُجُوبِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، لِأَنَّهُ نِكَاحٌ يَلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ، فَوَجَبَتْ بِهِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ كَالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ.
عِدَّةُ الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ:
48- عِدَّةُ الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ وَهِيَ الَّتِي زُفَّتْ إِلَى غَيْرِ زَوْجِهَا، وَالْمَوْجُودَةُ لَيْلًا عَلَى فِرَاشِهِ إِذَا ادَّعَى الِاشْتِبَاهَ كَعِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لِلتَّعَرُّفِ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ لِشُغْلِهِ وَلِحُقُوقِ النَّسَبِ فِيهِ، كَالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، فَكَانَ مِثْلَهُ فِيمَا تَحْصُلُ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ، وَلِأَنَّ الشُّبْهَةَ تُقَامُ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ، وَإِيجَابُ الْعِدَّةِ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ.
وَإِنْ وُطِئَتِ الْمُزَوَّجَةُ بِشُبْهَةٍ لَمْ يَحِلَّ لِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، كَيْ لَا يُفْضِيَ إِلَى اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ وَاشْتِبَاهِ الْأَنْسَابِ، وَلَهُ الِاسْتِمْتَاعُ مِنْهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فِي أَحَدِ وَجْهَيِ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّهَا زَوْجَةٌ حَرُمَ وَطْؤُهَا لِعَارِضٍ مُخْتَصٍّ بِالْفَرْجِ، فَأُبِيحَ الِاسْتِمْتَاعُ مِنْهَا بِمَا دُونَهُ كَالْحَائِضِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةُ وَفَاةٍ أَيْضًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ كَالْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا مُجْمَعًا عَلَى فَسَادِهِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ هُنَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْرَاءِ.
عِدَّةُ الزَّوْجَةِ الْمُطَلَّقَةِ دُونَ تَعْيِينٍ أَوْ بَيَانٍ:
49- إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ إِحْدَى زَوْجَتَيْهِ أَوْ زَوْجَاتِهِ دُونَ تَعْيِينٍ أَوْ بَيَانٍ فَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ كَمَا يَلِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ إِذَا كَانَ مُضَافًا إِلَى زَوْجَةٍ مَجْهُولَةٍ فَهُوَ طَلَاقٌ مُبْهَمٌ، وَالْجَهَالَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَصْلِيَّةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ طَارِئَةً، فَالْأَصْلِيَّةُ: أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الطَّلَاقِ فِيهَا مِنَ الِابْتِدَاءِ مُضَافًا إِلَى الْمَجْهُولِ، وَالطَّارِئَةُ: أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَى مَعْلُومَةٍ ثُمَّ تُجْهَلُ، كَمَا إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَةً بِعَيْنِهَا مِنْ نِسَائِهِ ثَلَاثًا ثُمَّ نَسِيَ الْمُطَلَّقَةَ.
وَعِدَّةُ الْمَرْأَةِ فِي الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ كَعِدَّةِ غَيْرِهَا مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ لقوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ابْتِدَاءِ عِدَّتِهَا هَلْ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ أَمْ مِنْ وَقْتِ الْبَيَانِ.
فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ مِنْ وَقْتِ الْبَيَانِ لَا مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَكُنْ وَاقِعًا قَبْلَ الْبَيَانِ، وَذَهَبَ مُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ كَغَيْرِهَا مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ نَازِلٌ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ.
وَإِذَا مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ بَيَانِ الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ لِإِحْدَى زَوْجَتَيْهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَعِدَّةُ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا مَنْكُوحَةٌ وَالْأُخْرَى مُطَلَّقَةٌ، وَعَلَى الْمَنْكُوحَةِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ لَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ، وَعَلَى الْمُطَلَّقَةِ عِدَّةُ الطَّلَاقِ لَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ، فَدَارَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْعِدَّتَيْنِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَرْأَتَيْنِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَعَدَمِهِ، وَالْعِدَّةُ يُحْتَاطُ فِي إِيجَابِهَا، وَمِنَ الِاحْتِيَاطِ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهَا عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ مُعَيَّنَةً أَوْ مُبْهَمَةً، كَقَوْلِهِ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ: وَنَوَى مُعَيَّنَةً أَمْ لَا وَمَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ لِلْمُعَيَّنَةِ أَوِ التَّعْيِينِ لِلْمُبْهَمَةِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ لَمْ يَطَأْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا اعْتَدَّتَا لِوَفَاتِهِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرَةِ أَيَّامٍ احْتِيَاطًا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كَمَا يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُفَارَقَةً بِالطَّلَاقِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُفَارَقَةً بِالْمَوْتِ وَكَذَا إِنْ وَطِئَ كُلًّا مِنْهُمَا وَهُمَا ذَوَاتَا أَشْهُرٍ فِي طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ رَجْعِيٍّ، أَوْ هُمَا ذَوَاتَا أَقْرَاءٍ وَالطَّلَاقُ رَجْعِيٌّ، فَتَعْتَدُّ كُلٌّ مِنْهُمَا عِدَّةَ وَفَاةٍ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا فِي ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ اعْتَدَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالْأَكْثَرِ مِنْ عِدَّةِ وَفَاةٍ وَثَلَاثَةِ قُرُوءٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ وَجَبَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ، وَاشْتَبَهَتْ عَلَيْهَا بِعِدَّةٍ أُخْرَى، فَوَجَبَ أَنْ تَأْتِيَ بِذَلِكَ لِتَخْرُجَ عَمَّا عَلَيْهَا بِيَقِينٍ، وَتُحْتَسَبُ عِدَّةُ الْوَفَاةِ مِنَ الْمَوْتِ جَزْمًا، وَتُحْسَبُ الْأَقْرَاءُ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: مِنْ حِينِ الْمَوْتِ، وَعِدَّةُ الْحَامِلِ مِنْهُمَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ؛ لِأَنَّ عِدَّتَهَا لَا تَخْتَلِفُ بِالتَّقْدِيرَيْنِ.
وَلَوِ اخْتَلَفَ حَالُ الْمَرْأَتَيْنِ، بِأَنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا مَمْسُوسَةً أَوْ حَامِلًا أَوْ ذَاتَ أَقْرَاءٍ وَالْأُخْرَى بِخِلَافِهَا، عَمِلَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ بِمُقْتَضَى الِاحْتِيَاطِ فِي حَقِّهَا.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ لَا بِعَيْنِهَا، أُخْرِجَتْ بِالْقُرْعَةِ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ دُونَ غَيْرِهَا، مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ لَا مِنْ وَقْتِ الْقُرْعَةِ، وَإِنْ طَلَّقَ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا وَأُنْسِيهَا.
فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْجَمِيعُ، فَإِنْ مَاتَ فَعَلَى الْجَمِيعِ الِاعْتِدَادُ بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ، وَهَذَا إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، فَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا فَعَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ، أَمَّا ذَاتُ الْأَقْرَاءِ فَمِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ.
وَإِنْ طَلَّقَ الْجَمِيعَ ثَلَاثًا بَعْدَ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِنَّ كُلِّهِنَّ تَكْمِيلُ عِدَّةِ الطَّلَاقِ مِنْ وَقْتِ طَلَاقِهِنَّ ثَلَاثًا..
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ وَاحِدَةً لَا بِعَيْنِهَا طَلُقَتَا أَوْ طَلُقْنَ مَعًا طَلَاقًا مُنَجَّزًا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا وَنَسِيَهَا فَالطَّلَاقُ لِلْجَمِيعِ، وَإِنْ قَالَ لِإِحْدَاهُمَا: أَنْتِ طَالِقٌ، وَلِلْأُخْرَى أَوْ أَنْتِ وَلَا نِيَّةَ خُيِّرَ فِي طَلَاقِ أَيَّتِهِمَا أَحَبَّ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
299-موسوعة الفقه الكويتية (غسل 1)
غُسْلٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الْغُسْلُ لُغَةً: مَصْدَرُ غَسَلَهُ يَغْسِلُهُ وَيُضَمُّ، أَوْ بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ وَبِالضَّمِّ اسْمٌ.
وَالْغِسْلُ بِالْكَسْرِ: مَا يُغْسَلُ بِهِ الرَّأْسُ مِنْ خَطْمِيٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَيَأْتِي الْغُسْلُ بِمَعْنَى التَّطْهِيرِ، يُقَالُ: غَسَلَ اللَّهُ حَوْبَتَكَ أَيْ خَطِيئَتَكَ.
وَالْغُسْلُ فِي الِاصْطِلَاحِ: اسْتِعْمَالُ مَاءٍ طَهُورٍ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ بِشُرُوطٍ وَأَرْكَانٍ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الطَّهَارَةُ:
2- الطَّهَارَةُ لُغَةً: النَّظَافَةُ وَالنَّزَاهَةُ عَنِ الْأَنْجَاسِ وَالْأَدْنَاسِ.
وَاصْطِلَاحًا عَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا: ارْتِفَاعُ الْحَدَثِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَزَوَالُ النَّجَسِ.
فَالطَّهَارَةُ أَعَمُّ مِنَ الْغُسْلِ.
ب- الْوُضُوءُ:
3- الْوَضُوءُ- بِالْفَتْحِ- فِي اللُّغَةِ الْمَاءُ الَّذِي يُتَوَضَّأُ بِهِ، وَهُوَ أَيْضًا الْمَصْدَرُ مِنْ تَوَضَّأْتُ لِلصَّلَاةِ.
وَالْوُضُوءُ- بِالضَّمِّ- الْفِعْلُ.
وَاصْطِلَاحًا هُوَ: اسْتِعْمَالُ مَاءٍ طَهُورٍ فِي الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4- الْغُسْلُ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} وقوله تعالى {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أَيِ اغْتَسَلْنَ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ، وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ».
وَالْغُسْلُ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ وَالْحَائِضِ، وَقَدْ يَكُونُ سُنَّةً كَغُسْلِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ.
وَيُفْرِدُ الْفُقَهَاءُ لِلْأَغْسَالِ الْمَسْنُونَةِ فَصْلًا خَاصًّا، وَسَتَأْتِي فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
مُوجِبَاتُ الْغُسْلِ:
أَسْبَابُ وُجُوبِ الْغُسْلِ هِيَ:
الْأَوَّلُ- خُرُوجُ الْمَنِيِّ:
5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ خُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْ مُوجِبَاتِ الْغُسْلِ، بَلْ نَقَلَ النَّوَوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي النَّوْمِ أَوِ الْيَقِظَةِ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» وَمَعْنَاهُ- كَمَا حَكَاهُ النَّوَوِيُّ- يَجِبُ الْغُسْلُ بِالْمَاءِ مِنْ إِنْزَالِ الْمَاءِ الدَّافِقِ وَهُوَ الْمَنِيُّ، وَعَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ- رضي الله عنها- أَنَّهَا سَأَلَتْ نَبِيَّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مَا يَرَى الرَّجُلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا رَأَتْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ فَلْتَغْتَسِلْ»، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ وَاسْتَحْيَيْتُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَتْ: وَهَلْ يَكُونُ هَذَا؟ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «نَعَمْ، فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ؟، إِنَّ مَاءَ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبْيَضُ، وَمَاءَ الْمَرْأَةِ رَقِيقٌ أَصْفَرُ، فَمِنْ أَيِّهِمَا عَلَا أَوْ سَبَقَ يَكُونُ مِنْهُ الشَّبَهُ»، وَفِي لَفْظٍ أَنَّهَا قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: نَعَمْ إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ».
وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِإِيجَابِ الْغُسْلِ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ كَوْنَهُ عَنْ شَهْوَةٍ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَوِ انْفَصَلَ- أَيِ الْمَنِيُّ- بِضَرْبٍ أَوْ حَمْلٍ ثَقِيلٍ عَلَى ظَهْرِهِ فَلَا غُسْلَ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: وَإِنْ خَرَجَ بِلَا لَذَّةٍ بَلْ سَلَسًا أَوْ بِضَرْبَةٍ أَوْ طَرْبَةٍ أَوْ لَدْغَةِ عَقْرَبٍ فَلَا غُسْلَ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ الْمَنِيُّ بِلَذَّةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْغُسْلُ، كَنُزُولِهِ بِمَاءٍ حَارٍّ فَأَحَسَّ بِمَبَادِئِ اللَّذَّةِ وَاسْتَدَامَ حَتَّى أَنْزَلَ، وَكَحَكَّةٍ لِجَرَبٍ بِذَكَرِهِ، أَوْ هَزَّ دَابَّةً لَهُ، فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يُحِسَّ بِمَبَادِئِ اللَّذَّةِ فَيَسْتَدِيمَ فِيهَا حَتَّى يُمْنِي فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ، أَمَّا لَوْ كَانَ الْجَرَبُ بِغَيْرِ ذَكَرِهِ فَالظَّاهِرُ عَدَمُ وُجُوبِ الْغُسْلِ.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ الشَّهْوَةَ، وَقَالُوا بِوُجُوبِ الْغُسْلِ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ مُطْلَقًا.
وَشَرَطَ أَبُو يُوسُفَ الدَّفْقَ أَيْضًا، وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ، وَأَثَرُ الْخِلَافِ يَظْهَرُ فِيمَا لَوِ احْتَلَمَ أَوْ نَظَرَ بِشَهْوَةٍ، فَأَمْسَكَ ذَكَرَهُ حَتَّى سَكَنَتْ شَهْوَتُهُ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ فَأَنْزَلَ، وَجَبَ الْغُسْلُ عِنْدَهُمَا لَا عِنْدَهُ، قَالَ الْحَصْكَفِيُّ: وَبِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُفْتَى فِي ضَيْفٍ خَافَ رِيبَةً أَوِ اسْتَحْيَا، وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ قِيَاسٌ وَقَوْلُهُمَا اسْتِحْسَانٌ، وَإِنَّهُ الْأَحْوَطُ فَيَنْبَغِي الْإِفْتَاءُ بِقَوْلِهِ فِي مَوَاضِعِ الضَّرُورَةِ فَقَطْ.
كَمَا اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِإِيجَابِ الْغُسْلِ خُرُوجَ الْمَنِيِّ مِنَ الْعُضْوِ- ذَكَرِ الرَّجُلِ وَفَرْجِ الْمَرْأَةِ الدَّاخِلِ قَالَ النَّوَوِيُّ: لَوْ قَبَّلَ امْرَأَةً فَأَحَسَّ بِانْتِقَالِ الْمَنِيِّ وَنُزُولِهِ، فَأَمْسَكَ ذَكَرَهُ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ فِي الْحَالِ شَيْءٌ، وَلَا عَلِمَ خُرُوجَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً وَدَلِيلُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» وَلِأَنَّ الْعُلَمَاءَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحَسَّ بِالْحَدَثِ كَالْقَرْقَرَةِ وَالرِّيحِ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ، فَكَذَا هُنَا.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَابِلَةُ الْخُرُوجَ، بَلْ أَوْجَبُوا الْغُسْلَ بِالْإِحْسَاسِ بِالِانْتِقَالِ، فَلَوْ أَحَسَّ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ بِانْتِقَالِ الْمَنِيِّ فَحَبَسَهُ فَلَمْ يَخْرُجْ، وَجَبَ الْغُسْلُ كَخُرُوجِهِ؛ لِأَنَّ الْجَنَابَةَ أَصْلُهَا الْبُعْدُ، لقوله تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} أَيِ الْبَعِيدِ، وَمَعَ الِانْتِقَالِ قَدْ بَاعَدَ الْمَاءُ مَحَلَّهُ، فَصَدَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْجُنُبِ، وَإِنَاطَةً لِلْحُكْمِ بِالشَّهْوَةِ، وَتَعْلِيقًا لَهُ عَلَى الْمَظِنَّةِ، إِذْ بَعْدَ انْتِقَالِهِ يَبْعُدُ عَدَمُ خُرُوجِهِ، وَأَنْكَرَ أَحْمَدُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ يَرْجِعُ.
وَهُنَاكَ مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْهَا: أ- رُؤْيَةُ الْمَنِيِّ مِنْ غَيْرِ تَذَكُّرِ الِاحْتِلَامِ:
6- لَوِ اسْتَيْقَظَ النَّائِمُ وَوَجَدَ الْمَنِيَّ، وَلَمْ يَذْكُرِ احْتِلَامًا فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ، وَمَنِ احْتَلَمَ وَلَمْ يَجِدْ مَنِيًّا فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَجِدُ الْبَلَلَ وَلَا يَذْكُرُ احْتِلَامًا؟ قَالَ: يَغْتَسِلُ، وَعَنِ الرَّجُلِ يَرَى أَنَّهُ قَدِ احْتَلَمَ وَلَمْ يَجِدْ بَلَلًا؟ قَالَ: لَا غُسْلَ عَلَيْهِ».
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (احْتِلَام ف 6- 9).
ب- خُرُوجُ الْمَنِيِّ بَعْدَ الْغُسْلِ:
7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِيجَابِ الْغُسْلِ فِي حَالَةِ خُرُوجِ الْمَنِيِّ بَعْدَ الِاغْتِسَالِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اغْتَسَلَ ثُمَّ خَرَجَ الْمَنِيُّ، فَإِنْ كَانَ خُرُوجُهُ بَعْدَ النَّوْمِ أَوِ الْبَوْلِ أَوِ الْمَشْيِ الْكَثِيرِ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، وَإِنْ خَرَجَ الْمَنِيُّ بِلَا شَهْوَةٍ قَبْلَ النَّوْمِ أَوِ الْبَوْلِ أَوِ الْمَشْيِ فَإِنَّهُ يُعِيدُ الْغُسْلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ اللَّذَّةُ نَاشِئَةً عَنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، بَلْ بِمُلَاعَبَةٍ، فَيَجِبُ إِعَادَةُ الْغُسْلِ عِنْدَ خُرُوجِ الْمَنِيِّ وَلَوْ اغْتَسَلَ قَبْلَ خُرُوجِهِ؛ لِأَنَّ غُسْلَهُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا، وَإِنْ كَانَتِ اللَّذَّةُ نَاشِئَةً عَنْ جِمَاعٍ، بِأَنْ غَيَّبَ الْحَشَفَةَ وَلَمْ يُنْزِلْ، ثُمَّ اغْتَسَلَ ثُمَّ أَمْنَى، فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْجَنَابَةَ لَا يَتَكَرَّرُ غُسْلُهَا، وَلَكِنْ يَتَوَضَّأُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا أَمْنَى وَاغْتَسَلَ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ مَنِيٌّ عَلَى الْقُرْبِ بَعْدَ غُسْلِهِ لَزِمَهُ الْغُسْلُ ثَانِيًا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَبُولَ بَعْدَ الْمَنِيِّ أَوْ بَعْدَ بَوْلِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» وَلَمْ يُفَرِّقْ؛ وَلِأَنَّهُ نَوْعُ حَدَثٍ فَنَقَضَ مُطْلَقًا، كَالْبَوْلِ وَالْجِمَاعِ وَسَائِرِ الْأَحْدَاثِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ الْمَنِيُّ بَعْدَ الْغُسْلِ فَلَا يَجِبُ الْغُسْلُ ثَانِيًا، لِمَا رَوَى سَعِيدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْجُنُبِ يَخْرُجُ مِنْهُ الشَّيْءُ بَعْدَ الْغُسْلِ؟ قَالَ: يَتَوَضَّأُ، وَكَذَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-؛ وَلِأَنَّهُ مَنِيٌّ وَاحِدٌ فَأَوْجَبَ غُسْلًا وَاحِدًا كَمَا لَوْ خَرَجَ دَفْقَةً وَاحِدَةً؛ وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ أَشْبَهَ الْخَارِجَ لِبَرْدٍ، وَبِهِ عَلَّلَ أَحْمَدُ، قَالَ لِأَنَّ الشَّهْوَةَ مَاضِيَةٌ، وَإِنَّمَا هُوَ حَدَثٌ أَرْجُو أَنْ يُجْزِيَهُ الْوُضُوءُ. ج- خُرُوجُ الْمَنِيِّ مِنْ غَيْرِ مَخْرَجِهِ الْمُعْتَادِ:
8- نَصَّ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ عَلَى أَنَّهُ لَوِ انْكَسَرَ صُلْبُ الرَّجُلِ فَخَرَجَ مِنْهُ الْمَنِيُّ، وَلَمْ يُنْزِلْ مِنَ الذَّكَرِ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ حُكْمَهُ كَالنَّجَاسَةِ الْمُعْتَادَةِ.
قَالَ الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِذَا خَرَجَ الْمَنِيُّ مِنْ ثَقْبٍ فِي الذَّكَرِ غَيْرِ الْإِحْلِيلِ، أَوْ مِنْ ثَقْبٍ فِي الْأُنْثَيَيْنِ أَوِ الصُّلْبِ، فَحَيْثُ نَقَضْنَا الْوُضُوءَ بِالْخَارِجِ مِنْهُ أَوْجَبْنَا الْغُسْلَ، وَقَطَعَ الْبَغَوِيُّ بِوُجُوبِ الْغُسْلِ بِخُرُوجِهِ مِنْ غَيْرِ الذَّكَرِ، قَالَ النَّوَوِيُّ وَالصَّوَابُ تَفْصِيلُ الْمُتَوَلِّي.
وَصَرَّحَ ابْنُ عَابِدِينَ بِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ الْمَنِيُّ مِنْ جُرْحٍ فِي الْخُصْيَةِ، بَعْدَ انْفِصَالِهِ عَنْ مَقَرِّهِ بِشَهْوَةٍ، فَالظَّاهِرُ افْتِرَاضُ الْغُسْلِ.
الثَّانِي- الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ:
9- الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ مِنْ مُوجِبَاتِ الْغُسْلِ بِالِاتِّفَاقِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ، ثُمَّ جَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ» وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: «وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ» وَلِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ، وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ» وَالْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ يَحْصُلُ بِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرَجِ، ذَلِكَ أَنَّ خِتَانَ الرَّجُلِ هُوَ الْجِلْدُ الَّذِي يَبْقَى بَعْدَ الْخِتَانِ، وَخِتَانَ الْمَرْأَةِ جِلْدَةٌ كَعُرْفِ الدِّيكِ فَوْقَ الْفَرَجِ فَيُقْطَعُ مِنْهَا فِي الْخِتَانِ، فَإِذَا غَابَتِ الْحَشَفَةُ فِي الْفَرَجِ حَاذَى خِتَانُهُ خِتَانَهَا، وَإِذَا تَحَاذَيَا فَقَدِ الْتَقَيَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ الْتِصَاقَهُمَا وَضَمَّ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ، فَإِنَّهُ لَوْ وَضَعَ مَوْضِعَ خِتَانِهِ عَلَى مَوْضِعِ خِتَانِهَا وَلَمْ يُدْخِلْهُ فِي مَدْخَلِ الذَّكَرِ لَمْ يَجِبِ الْغُسْلُ، وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: الْحَشَفَةُ رَأْسُ الذَّكَرِ.
وَلَا بُدَّ لِإِيجَابِ الْغُسْلِ مِنْ تَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ بِكَمَالِهَا فِي الْفَرْجِ، فَإِنْ غَيَّبَ بَعْضَهَا فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَقْطُوعَ الْحَشَفَةِ أَوْ كَانَ مِمَّنْ لَمْ تُخْلَقْ لَهُ حَشَفَةٌ فَيُعْتَبَرُ قَدْرُهَا، قَالَ النَّوَوِيُّ: إِذَا قُطِعَ بَعْضُ الذَّكَرِ، فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي دُونَ قَدْرِ الْحَشَفَةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَإِنْ كَانَ قَدْرَهَا فَقَطْ تَعَلَّقَتِ الْأَحْكَامُ بِتَغْيِيبِهِ كُلِّهِ دُونَ بَعْضِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الْحَشَفَةِ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِبَعْضِهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ إِلاَّ بِتَغْيِيبِ جَمِيعِ الْبَاقِي، وَهَذَا مَا رَجَّحَهُ الشَّاشِيُّ وَنَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، ثَانِيهِمَا: تَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِقَدْرِ الْحَشَفَةِ مِنْهُ، وَرَجَّحَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَقَطَعَ بِهِ الْفُورَانِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَنَقَلَ صَاحِبُ الدُّرِّ عَنْ الْأَشْبَاهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ قَدْرُ الْحَشَفَةِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ.
10- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ الْفَرْجِ الَّذِي يَجِبُ الْغُسْلُ بِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ فِيهِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْغُسْلُ بِتَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ فِي مُطْلَقِ الْفَرْجِ، سَوَاءٌ كَانَ لِإِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ، قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ.
لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ شَرَطُوا إِطَاقَةَ ذِي الْفَرْجِ سَوَاءٌ كَانَ آدَمِيًّا أَوْ غَيْرَهُ، فَإِنْ لَمْ يُطِقْ فَلَا غُسْلَ عَلَى ذِي الْحَشَفَةِ الْمُغَيِّبِ مَا لَمْ يُنْزِلْ.
وَوَافَقَ الْحَنَفِيَّةُ الْجُمْهُورَ فِي ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا فَرْجَ الْبَهِيمَةِ وَالْمَيْتَةِ، وَالصَّغِيرَةِ غَيْرِ الْمُشْتَهَاةِ، وَالْعَذْرَاءِ إِنْ لَمْ يُزِلْ عُذْرَتَهَا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ إِنْزَالٌ، وَذَلِكَ لِقُصُورِ الشَّهْوَةِ فِي الْبَهِيمَةِ وَالْمَيْتَةِ وَالصَّغِيرَةِ غَيْرِ الْمُشْتَهَاةِ الَّتِي أُقِيمَتْ مَقَامَ الْإِنْزَالِ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ عِنْدَ الْإِيلَاجِ، وَعَلَامَةُ الصَّغِيرَةِ غَيْرِ الْمُشْتَهَاةِ: أَنْ تَصِيرَ مُفْضَاةً بِالْوَطْءِ.
11- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ التَّكْلِيفِ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى اشْتِرَاطِ التَّكْلِيفِ- الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ- فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُكَلَّفًا فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ فَقَطْ دُونَ الْآخَرِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الْمُغَيِّبُ إِنْ كَانَ بَالِغًا وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهِ، وَكَذَا عَلَى الْمُغَيَّبِ فِيهِ إِنْ كَانَ بَالِغًا، وَإِلاَّ وَجَبَ عَلَى الْمُغَيِّبِ دُونَ الْمُغَيَّبِ فِيهِ فَإِنْ كَانَ الْمُغَيِّبُ غَيْرَ بَالِغٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى مَنْ غَيَّبَ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ بَالِغًا أَمْ لَا مَا لَمْ يُنْزِلْ بِذَلِكَ الْمُغَيَّبُ فِيهِ، وَإِلاَّ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ لِلْإِنْزَالِ. وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الصَّبِيُّ إِذَا أَوْلَجَ فِي امْرَأَةٍ أَوْ دُبُرِ رَجُلٍ، أَوْ أَوْلَجَ رَجُلٌ فِي دُبُرِهِ، يَجِبُ الْغُسْلُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ، وَكَذَا إِذَا اسْتَدْخَلَتِ امْرَأَةٌ ذَكَرَ صَبِيٍّ فَعَلَيْهَا الْغُسْلُ، وَيَصِيرُ الصَّبِيُّ فِي كُلِّ هَذِهِ الصُّوَرِ جُنُبًا، وَكَذَا الصَّبِيَّةُ إِذَا أَوْلَجَ فِيهَا رَجُلٌ أَوْ صَبِيٌّ، وَكَذَا لَوْ أَوْلَجَ صَبِيٌّ فِي صَبِيٍّ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ وَغَيْرُهُ، وَإِذَا صَارَ جُنُبًا لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ مَا لَمْ يَغْتَسِلْ، وَلَا يُقَالُ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ، كَمَا لَا يُقَالُ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ، بَلْ يُقَالُ: صَارَ مُحْدِثًا، وَيَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْغُسْلِ إِنْ كَانَ مُمَيِّزًا.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَابِلَةُ التَّكْلِيفَ لِوُجُوبِ الْغُسْلِ، فَيَجِبُ الْغُسْلُ عَلَى الْمُجَامِعِ غَيْرِ الْبَالِغِ- إِنْ كَانَ يُجَامِعُ مِثْلَهُ كَابْنَةِ تِسْعٍ وَابْنِ عَشْرٍ- فَاعِلًا كَانَ أَوْ مَفْعُولًا بِهِ إِذَا أَرَادَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْغُسْلِ، قَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَلَيْسَ مَعْنَى وُجُوبِ الْغُسْلِ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ التَّأْثِيمَ بِتَرْكِهِ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ أَوِ الطَّوَافِ أَوْ إِبَاحَةِ مَسِّ الْمُصْحَفِ، كَمَا نَصُّوا عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى الْمَجْنُونِ وَالْمَجْنُونَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مُوجِبَ الطَّهَارَةِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَصْدُ كَسَبْقِ الْحَدَثِ.
وَهُنَاكَ مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:
أ- الْإِيلَاجُ بِحَائِلٍ:
12- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنَ الْإِيلَاجِ بِحَائِلٍ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْغُسْلُ عَلَى مَنْ أَوْلَجَ حَشَفَتَهُ أَوْ قَدْرَهَا مَلْفُوفَةً بِخِرْقَةٍ كَثِيفَةٍ تَمْنَعُ اللَّذَّةَ، فَإِنْ كَانَتِ الْخِرْقَةُ رَقِيقَةً بِحَيْثُ يَجِدُ مَعَهَا اللَّذَّةَ وَحَرَارَةَ الْفَرْجِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ فِي الْخِرْقَةِ الْكَثِيفَةِ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى مُولِجًا، وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ، أَوْ مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ» قَالَ الْحَصْكَفِيُّ: وَالْأَحْوَطُ الْوُجُوبُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اخْتِيَارٌ لِلْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْغُسْلُ عَلَى مَنْ أَوْلَجَ بِحَائِلٍ مُطْلَقًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنُصُّوا عَلَى كَوْنِ الْحَائِلِ رَقِيقًا أَوْ كَثِيفًا.
ب- الْإِيلَاجُ فِي فَرْجٍ غَيْرِ أَصْلِيٍّ:
13- اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ بِالْإِيلَاجِ فِي الْفَرْجِ: أَنْ يَكُونَ الْفَرْجُ أَصْلِيًّا، احْتِرَازًا مِنْ فَرْجِ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ، وَصَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ لَا غُسْلَ عَلَى الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ بِإِيلَاجِهِ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ؛ لِجَوَازِ كَوْنِهِ امْرَأَةً وَهَذَا الذَّكَرُ مِنْهُ زَائِدٌ، فَيَكُونُ كَالْإِصْبَعِ الزَّائِدِ، كَمَا أَنَّهُ لَا غُسْلَ عَلَى مَنْ جَامَعَهُ فِي قُبُلِهِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا، فَفَرْجُهُ كَالْجُرْحِ، فَلَا يَجِبُ بِالْإِيلَاجِ فِيهِ غُسْلٌ بِمُجَرَّدِهِ، أَمَّا لَوْ جَامَعَهُ رَجُلٌ فِي دُبُرِهِ وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهِمَا لِعَدَمِ الْإِشْكَالِ فِي الدُّبُرِ.
ج- وَطْءُ الْجِنِّ:
14- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ وَطْءِ الْجِنِّ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْغُسْلُ مِنْ إِتْيَانِ الْجِنِّ لِلْمَرْأَةِ، وَإِتْيَانِ الرَّجُلِ لِلْجِنِّيَّةِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ إِنْزَالٌ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْمُحِيطِ: لَوْ قَالَتْ: مَعِي جِنِّيٌّ يَأْتِينِي مِرَارًا وَأَجِدُ مَا أَجِدُ إِذَا جَامَعَنِي زَوْجِي لَا غُسْلَ عَلَيْهَا لِانْعِدَامِ سَبَبِهِ، وَهُوَ الْإِيلَاجُ أَوْ الِاحْتِلَامُ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مَا إِذَا ظَهَرَ لَهَا فِي صُورَةِ الْآدَمِيِّ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْغُسْلُ، وَكَذَا إِذَا ظَهَرَ لِلرَّجُلِ جِنِّيَّةٌ فِي صُورَةٍ آدَمِيَّةٍ فَوَطِئَهَا، وَذَلِكَ لِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ الصُّورِيَّةِ الْمُفِيدَةِ لِكَمَالِ السَّبَبِيَّةِ.
وَقَالَ السُّيُوطِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ وَطِئَ الْجِنِّيُّ الْإِنْسِيَّةَ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا الْغُسْلُ؟ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ أَصْحَابُنَا، وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا غُسْلَ عَلَيْهَا؛ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْإِيلَاجِ وَالْإِنْزَالِ فَهُوَ كَالْمَنَامِ بِغَيْرِ إِنْزَالٍ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: وَهُوَ الْجَارِي عَلَى قَوَاعِدِنَا.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى الْمَرْأَةِ لَوْ قَالَتْ: بِي جِنِّيٌّ يُجَامِعُنِي كَالرَّجُلِ، وَكَذَا الرَّجُلُ لَوْ قَالَ: بِي جِنِّيَّةٌ أُجَامِعُهَا كَالْمَرْأَةِ.
د- إِيلَاجُ ذَكَرِ غَيْرِ الْآدَمِيِّ:
15- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ إِيلَاجِ ذَكَرِ غَيْرِ الْآدَمِيِّ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ إِيلَاجِ ذَكَرِ غَيْرِ الْآدَمِيِّ كَالْبَهِيمَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا غُسْلَ مِنْ إِيلَاجِ ذَكَرِ غَيْرِ الْآدَمِيِّ.
هـ- وَطْءُ الْمَيِّتِ:
16- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى الْمُولِجِ فِي فَرْجِ الْمَيِّتِ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ، وَلَا يُعَادُ غُسْلُ الْمَيِّتِ الْمُغَيَّبِ فِيهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُعَادُ غُسْلُ الْمَيِّتَةِ الْمَوْطُوءَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا غُسْلَ فِي وَطْءِ الْمَيِّتَةِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى الْمَرْأَةِ فِيمَا لَوِ اسْتَدْخَلَتْ ذَكَرَ مَيِّتٍ فِي فَرْجِهَا:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْغُسْلُ عَلَى الْمَرْأَةِ لَوْ أَدْخَلَتْ ذَكَرَ مَيِّتٍ فِي فَرْجِهَا مَا لَمْ تُنْزِلْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهَا.
و- وُصُولُ الْمَنِيِّ إِلَى الْفَرْجِ مِنْ غَيْرِ إِيلَاجٍ:
17- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا غُسْلَ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا وَصَلَ الْمَنِيُّ إِلَى فَرْجِهَا مَا لَمْ تُنْزِلْ؛ لِفَقْدِ الْإِيلَاجِ وَالْإِنْزَالِ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: فَإِنْ حَبِلَتْ مِنْهُ وَجَبَ الْغُسْلُ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِنْزَالِ، وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُ فِي إِعَادَةِ مَا صَلَّتْ بَعْدَ وُصُولِ الْمَنِيِّ إِلَى فَرْجِهَا إِلَى أَنِ اغْتَسَلَتْ بِسَبَبٍ آخَرَ، قَالَ صَاحِبُ الْقُنْيَةِ: وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَيْهَا بِمُجَرَّدِ انْفِصَالِ مَنِيِّهَا إِلَى رَحِمِهَا وَهُوَ خِلَافُ الْأَصَحِّ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا حَمَلَتِ اغْتَسَلَتْ وَأَعَادَتِ الصَّلَاةَ مِنْ يَوْمِ وُصُولِهِ، لِأَنَّ حَمْلَهَا مِنْهُ بَعْدَ انْفِصَالِ مَنِيِّهَا مِنْ مَحَلِّهِ بِلَذَّةٍ مُعْتَادَةٍ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: هَذَا الْفَرْعُ مَشْهُورٌ مَبْنِيٌّ عَلَى ضَعِيفٍ.
وَهُنَاكَ مَسَائِلُ ذَكَرَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي:
1- صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْغُسْلُ فِي السِّحَاقِ- إِتْيَانُ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ- إِذَا لَمْ يَحْصُلْ إِنْزَالٌ.
2- قَالَ صَاحِبُ الْقُنْيَةُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ بِإِدْخَالِ الْأُصْبُعِ فِي الْقُبُلِ أَوِ الدُّبُرِ خِلَافًا، وَالْأَوْلَى أَنْ يُوجَبَ إِذَا كَانَ فِي الْقُبُلِ إِذَا قَصَدَ الِاسْتِمْتَاعَ لِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ؛ لِأَنَّ الشَّهْوَةَ فِيهِنَّ غَالِبَةٌ، فَيُقَامُ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ، وَهُوَ الْإِنْزَالُ، دُونَ الدُّبُرِ لِعَدَمِهَا، وَمِثْلُ هَذَا مَا يُصْنَعُ مِنْ خَشَبٍ وَنَحْوِهِ عَلَى صُورَةِ الذَّكَرِ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ عَابِدِينَ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُنْقَضُ وُضُوءُ الْمَرْأَةِ بِمَسِّهَا لِفَرْجِهَا وَلَوْ أَلْطَفَتْ، أَيْ أَدْخَلَتْ أُصْبُعًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ أَصَابِعِهَا فِي فَرْجِهَا.
الثَّالِثُ- الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ:
18- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَيْضَ وَالنِّفَاسَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْغُسْلِ، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَآخَرُونَ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ.
وَدَلِيلُ وُجُوبِ الْغُسْلِ فِي الْحَيْضِ قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} أَيْ إِذَا اغْتَسَلْنَ، فَمَنَعَ الزَّوْجَ مِنْ وَطْئِهَا قَبْلَ غُسْلِهَا، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهِ عَلَيْهَا، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: «إِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي».
وَدَلِيلُ وُجُوبِهِ فِي النِّفَاسِ الْإِجْمَاعُ- حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَالْمرغينَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ- وَلِأَنَّهُ حَيْضٌ مُجْتَمِعٌ؛ وَلِأَنَّهُ يُحَرِّمُ الصَّوْمَ وَالْوَطْءَ وَيُسْقِطُ فَرْضَ الصَّلَاةِ، فَأَوْجَبَ الْغُسْلَ كَالْحَيْضِ.
19- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُوجِبِ لِلْغُسْلِ، هَلْ هُوَ وُجُودُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ أَوِ انْقِطَاعُهُ أَوْ شَيْءٌ آخَرُ؟
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْغُسْلِ وُجُودُ الْحَيْضِ لَا انْقِطَاعُهُ، وَالِانْقِطَاعُ إِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْغُسْلِ.
وَمِثْلُ الْمَالِكِيَّةِ الْحَنَابِلَةُ، قَالَ الْبُهُوتِيُّ: يَجِبُ بِالْخُرُوجِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ بِالْخُرُوجِ إِنَاطَةً لِلْحُكْمِ بِسَبَبِهِ، وَالِانْقِطَاعُ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ، وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ بِالِانْقِطَاعِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: الْحَيْضُ مُوجِبٌ بِشَرْطِ انْقِطَاعِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: سَبَبُ وُجُوبِ الْغُسْلِ إِرَادَةُ فِعْلِ مَا لَا يَحِلُّ إِلاَّ بِهِ عِنْدَ عَدَمِ ضِيقِ الْوَقْتِ، أَوْ عِنْدَ وُجُوبِ مَا لَا يَصِحُّ مَعَهُ، وَذَلِكَ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ.
وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الشَّافِعِيَّةِ، فَصَحَّحَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّ مُوجِبَهُ الِانْقِطَاعُ، وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: الْخُرُوجُ مُوجِبٌ وَالِانْقِطَاعُ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ، وَقَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَيُعْتَبَرُ مَعَ خُرُوجِ كُلٍّ مِنْهُمَا- الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ- وَانْقِطَاعِهِ الْقِيَامُ إِلَى الصَّلَاةِ أَوْ نَحْوِهَا كَمَا فِي الرَّافِعِيِّ وَالتَّحْقِيقِ، وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ: وَلَيْسَ فِي هَذَا الْخِلَافِ فَائِدَةٌ فِقْهِيَّةٌ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فَائِدَتُهُ أَنَّ الْحَائِضَ إِذَا أَجْنَبَتْ، وَقُلْنَا: لَا يَجِبُ غُسْلُ الْحَيْضِ إِلاَّ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ، وَقُلْنَا بِالْقَوْلِ الضَّعِيفِ إِنَّ الْحَائِضَ لَا تُمْنَعُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، فَلَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ عَنِ الْجَنَابَةِ لِاسْتِبَاحَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ.
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْبَحْرِ فَائِدَةً أُخْرَى، قَالَ: لَوِ اسْتُشْهِدَتِ الْحَائِضُ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ قَبْلَ انْقِطَاعِ حَيْضِهَا، فَإِنْ قُلْنَا يَجِبُ بِالِانْقِطَاعِ لَمْ تُغْسَلْ.وَإِنْ قُلْنَا بِالْخُرُوجِ فَهَلْ تُغْسَلُ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ فِي غُسْلِ الْجُنُبِ الشَّهِيدِ.
وَذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَيْضًا الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْإِقْنَاعِ.
وَذَكَرَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ فَائِدَةً ثَالِثَةً، وَهِيَ فِيمَا إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ وَجَبَ عَلَيْكِ غُسْلٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ.
الرَّابِعُ- الْمَوْتُ:
20- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْمَوْتَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْغُسْلِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ تُوُفِّيَتْ إِحْدَى بَنَاتِهِ: «اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ».
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى سُنِّيَّةِ غُسْلِ الْمَيِّتِ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وُجُوبُ غُسْلِ الْمَيِّتِ هُوَ قَوْلُ عَبْدِ الْوَهَّابِ وَابْنِ مُحْرِزٍ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَشَهَرَهُ ابْنُ رَاشِدٍ وَابْنُ فَرْحُونَ، وَأَمَّا سُنِّيَّتُهُ فَحَكَاهَا ابْنُ أَبِي زَيْدٍ وَابْنُ يُونُسَ وَابْنُ الْجَلاَّبِ وَشَهَرَهُ ابْنُ بَزِيزَةَ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَغْسِيلُ الْمَيِّتِ ف 2)
الْخَامِسُ- إِسْلَامُ الْكَافِرِ:
21- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ إِسْلَامَ الْكَافِرِ مُوجِبٌ لِلْغُسْلِ، فَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَغْتَسِلَ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- «أَنَّ ثُمَامَةَ بْنَ أَثَالٍ- رضي الله عنه- أَسْلَمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- اذْهَبُوا بِهِ إِلَى حَائِطِ بَنِي فُلَانٍ فَمُرُوهُ أَنْ يَغْتَسِلَ» وَعَنْ «قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ أَنَّهُ أَسْلَمَ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَغْتَسِلَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ»؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ غَالِبًا مِنْ جَنَابَةٍ، فَأُقِيمَتِ الْمَظِنَّةُ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ كَالنَّوْمِ وَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ وَالْمُرْتَدِّ، فَيَجِبُ الْغُسْلُ عَلَى الْمُرْتَدِّ أَيْضًا إِذَا أَسْلَمَ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِصِحَّةِ الْغُسْلِ قَبْلَ النُّطْقِ بِالشَّهَادَةِ إِذَا أَجْمَعَ بِقَلْبِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ إِسْلَامَهُ بِقَلْبِهِ إِسْلَامٌ حَقِيقِيٌّ مَتَى عَزَمَ عَلَى النُّطْقِ مِنْ غَيْرِ إِبَاءٍ، لِأَنَّ النُّطْقَ لَيْسَ رُكْنًا مِنَ الْإِيمَانِ وَلَا شَرْطَ صِحَّةٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَالُوا: لَوْ نَوَى بِغُسْلِهِ الْجَنَابَةَ أَوِ الطَّهَارَةَ أَوِ الْإِسْلَامَ كَفَاهُ؛ لِأَنَّ نِيَّتَهُ الطُّهْرُ مِنْ كُلِّ مَا كَانَ فِي حَالِ كُفْرِهِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَسَوَاءٌ وُجِدَ مِنْهُ فِي كُفْرِهِ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ مِنْ نَحْوِ جِمَاعٍ أَوْ إِنْزَالٍ أَوْ لَا، وَسَوَاءٌ اغْتَسَلَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ أَوْ لَا، فَيَكْفِيهِ غُسْلُ الْإِسْلَامِ، سَوَاءٌ نَوَى الْكُلَّ أَوْ نَوَى غُسْلَ الْإِسْلَامِ إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ أَلاَّ يَرْتَفِعَ غَيْرُهُ.لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَسْتَفْصِلْ.وَلَوِ اخْتَلَفَ الْحَالُ لَوَجَبَ الِاسْتِفْصَالُ، وَوَقْتُ وُجُوبِ الْغُسْلِ إِذَا أَسْلَمَ، أَيْ بَعْدَ النُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ. 22- وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ الْغُسْلِ لِلْكَافِرِ إِذَا أَسْلَمَ وَهُوَ غَيْرُ جُنُبٍ، لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ «لَمَّا أَسْلَمَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ- رضي الله عنه- أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَغْتَسِلَ».وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَلَمْ يَأْمُرْهُمُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِالْغُسْلِ.
وَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَهُوَ جُنُبٌ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ.وَقَالَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: الْأَصَحُّ وُجُوبُ الْغُسْلِ عَلَيْهِ لِبَقَاءِ صِفَةِ الْجَنَابَةِ السَّابِقَةِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَلَا يُمْكِنُهُ أَدَاءُ الْمَشْرُوطِ بِزَوَالِهَا إِلاَّ بِهِ، وَقِيلَ: لَا يَجِبُ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالْفُرُوعِ، وَلَمْ يُوجَدْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ جَنَابَةٌ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَاضَتِ الْكَافِرَةُ فَطَهُرَتْ ثُمَّ أَسْلَمَتْ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهَا، وَلَوْ أَسْلَمَتْ حَائِضًا ثُمَّ طَهُرَتْ وَجَبَ عَلَيْهَا الْغُسْلُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُنُبِ أَنَّ صِفَةَ الْجَنَابَةِ بَاقِيَةٌ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَكَأَنَّهُ أَجْنَبَ بَعْدَهُ، وَالِانْقِطَاعُ فِي الْحَيْضِ هُوَ السَّبَبُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ بَعْدَهُ.قَالَ قَاضِيخَانْ: وَالْأَحْوَطُ وُجُوبُ الْغُسْلِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ فِيمَا لَوِ اغْتَسَلَ حَالَ كُفْرِهِ هَلْ يَجِبُ إِعَادَتُهُ؟ أَحَدُهُمَا: لَا تَجِبُ إِعَادَتُهُ لِأَنَّهُ غُسْلٌ صَحِيحٌ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ إِبَاحَةُ الْوَطْءِ فِي حَقِّ الْحَائِضِ إِذَا طَهُرَتْ فَلَمْ تَجِبْ إِعَادَتُهُ كَغُسْلِ الْمُسْلِمَةِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ- تَجِبُ إِعَادَتُهُ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ فَلَمْ تَصِحَّ مِنَ الْكَافِرِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَقَطَعَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَآخَرُونَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْكَافِرِ الْمُغْتَسِلِ فِي الْكُفْرِ، وَالْكَافِرَةِ الْمُغْتَسِلَةِ لِحِلِّهَا لِزَوْجِهَا الْمُسْلِمِ، فَالْأَصَحُّ فِي الْجَمِيعِ وُجُوبُ الْإِعَادَةِ.
فَرَائِضُ الْغُسْلِ:
الْأُولَى- النِّيَّةُ:
23- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ فَرْضٌ فِي الْغُسْلِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَيَكْفِي فِيهَا نِيَّةُ رَفْعِ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ أَوِ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ النِّيَّةَ فِي الْغُسْلِ سُنَّةٌ وَلَيْسَتْ بِفَرْضٍ. وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (نِيَّة)
الثَّانِيَةُ- تَعْمِيمُ الشَّعْرِ وَالْبَشَرَةِ بِالْمَاءِ:
24- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَعْمِيمَ الشَّعْرِ وَالْبَشَرَةِ بِالْمَاءِ مِنْ فُرُوضِ الْغُسْلِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي الْمَاءِ فَيُخَلِّلُ بِهَا أُصُولَ شَعْرِهِ، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ غُرَفٍ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ يُفِيضُ عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ» وَعَنْ مَيْمُونَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ «تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ غَيْرَ رِجْلَيْهِ، وَغَسَلَ فَرْجَهُ وَمَا أَصَابَهُ مِنَ الْأَذَى، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ، ثُمَّ نَحَّى رِجْلَيْهِ فَغَسَلَهُمَا، هَذِهِ غُسْلُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ» وَلِمَا رَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «تَذَاكَرْنَا غُسْلَ الْجَنَابَةِ عِنْدَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: أَمَّا أَنَا فَآخُذُ مِلْءَ كَفَّيَّ ثَلَاثًا فَأَصُبُّ عَلَى رَأْسِي، ثُمَّ أُفِيضُهُ بَعْدُ عَلَى سَائِرِ جَسَدِي».وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةً، فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَ».
قَالَ النَّوَوِيُّ: إِفَاضَةُ الْمَاءِ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ وَاجِبٌ بِلَا خِلَافٍ، وَمِنْ ثَمَّ يَجِبُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى كُلِّ ظَاهِرِ الْجَسَدِ وَمِنْهُ مَا تَحْتَ الشَّعْرَةِ، سَوَاءٌ كَانَ الشَّعْرُ الَّذِي عَلَى الْبَشَرَةِ خَفِيفًا أَوْ كَثِيفًا، يَجِبُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى جَمِيعِهِ وَجَمِيعِ الْبَشَرَةِ تَحْتَهُ بِلَا خِلَافٍ.
وَقَدْ نَبَّهَ الْفُقَهَاءُ إِلَى مَوَاضِعَ قَدْ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا الْمَاءُ كَعُمْقِ السُّرَّةِ، وَتَحْتِ ذَقَنِهِ، وَتَحْتِ جَنَاحَيْهِ، وَمَا بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ، وَمَا تَحْتَ رُكْبَتَيْهِ، وَأَسَافِلِ رِجْلَيْهِ.وَيُخَلِّلُ أَصَابِعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَيُخَلِّلُ شَعْرَ لِحْيَتِهِ وَشَعْرَ الْحَاجِبَيْنِ وَالْهُدْبَ وَالشَّارِبَ وَالْإِبِطَ وَالْعَانَةَ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَجِبُ غَسْلُ كُلِّ مَا يُمْكِنُ بِلَا حَرَجٍ، كَأُذُنٍ وَسُرَّةٍ وَشَارِبٍ وَحَاجِبٍ وَإِنْ كَثُفَ، وَلِحْيَةٍ وَشَعْرِ رَأْسٍ وَلَوْ مُتَلَبِّدًا، وَفَرْجٍ خَارِجٍ.وَأَمَّا الْفَرْجُ الدَّاخِلُ فَلَا يُغْسَلُ لِأَنَّهُ بَاطِنٌ، وَلَا تُدْخِلُ أُصْبُعَهَا فِي قُبُلِهَا.وَلَا يَجِبُ غَسْلُ مَا فِيهِ حَرَجٌ كَعَيْنٍ وَثَقْبٍ انْضَمَّ بَعْدَ نَزْعِ الْقُرْطِ وَصَارَ بِحَالٍ إِنْ أُمِرَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ يَدْخُلْهُ، وَإِنْ غُفِلَ لَا، فَلَا بُدَّ مِنْ إِمْرَارِهِ، وَلَا يَتَكَلَّفُ لِغَيْرِ الْإِمْرَارِ مِنْ إِدْخَالِ عُودٍ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ الْحَرَجَ مَرْفُوعٌ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
300-موسوعة الفقه الكويتية (غلول)
غُلُولالتَّعْرِيفُ:
1- مِنْ مَعَانِي الْغُلُولِ فِي اللُّغَةِ: الْخِيَانَةُ، يُقَالُ: غَلَّ مِنَ الْمَغْنَمِ غُلُولًا أَيْ خَانَ، وَأَغَلَّ مِثْلَهُ.
وَالْغُلُولُ فِي الِاصْطِلَاحِ: أَخْذُ شَيْءٍ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَلَوْ قَلَّ، أَوِ الْخِيَانَةُ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ حَوْزِهَا، أَوِ الْخِيَانَةُ مِنَ الْمَغْنَمِ، لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَغُلُّهُ أَيْ يُخْفِيهِ فِي مَتَاعِهِ، أَوْ هُوَ السَّرِقَةُ مِنَ الْمَغْنَمِ.
وَعَرَّفَ ابْنُ قُدَامَةَ الْغَالَّ بِأَنَّهُ: الَّذِي يَكْتُمُ مَا يَأْخُذُهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَلَا يَطَّلِعُ الْإِمَامُ عَلَيْهِ وَلَا يَضَعُهُ مَعَ الْغَنِيمَةِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَصْلُ الْغُلُولِ الْخِيَانَةُ مُطْلَقًا وَغَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ خَاصَّةً فِي الْخِيَانَةِ فِي الْغَنِيمَةِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْغُلُولَ حَرَامٌ لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَلِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ، وَلَا أَنْ يَبْتَاعَ مَغْنَمًا حَتَّى يُقْسَمَ، وَلَا أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبًا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إِذَا أَخْلَقَهُ رَدَّهُ فِيهِ، وَلَا يَرْكَبُ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إِذَا أَعْجَفَهَا رَدَّهُ فِيهِ».
قَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَغْلِيظِ تَحْرِيمِ الْغُلُولِ، وَأَنَّهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ رَدَّ مَا غَلَّهُ.
عُقُوبَةُ الْغَالِّ:
3- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْغَالَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ يُعَزَّرُ وَلَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي الْغَنِيمَةِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ قَطْعِهِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَرَقَ مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ.
وَوَافَقَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَا كَانَ قَبْلَ الْحَوْزِ أَوْ دُونَ النِّصَابِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُقْطَعُ إِذَا سَرَقَ نِصَابًا بَعْدَ الْحَوْزِ، وَلَمْ يَجْعَلُوا كَوْنَهُ مِنَ الْغَانِمِينَ الَّذِينَ لَهُمْ حَقٌّ فِي الْغَنِيمَةِ شُبْهَةً تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ.وَرَجَّحَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يُقْطَعُ إِذَا سَرَقَ بَعْدَ الْحَوْزِ نِصَابًا فَوْقَ مَنَابِهِ مِنَ الْغَنِيمَةِ.
وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا يُحْرَقُ رَحْلُهُ وَلَا مَتَاعُهُ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَاقَ إِضَاعَةٌ لِلْمَالِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذَلِكَ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ أَنَّ مَنْ غَلَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ حُرِقَ رَحْلُهُ كُلُّهُ وَمَتَاعُهُ كُلُّهُ، إِلاَّ الْمُصْحَفَ وَمَا فِيهِ رُوحٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: «إِذَا وَجَدْتُمِ الرَّجُلَ قَدْ غَلَّ فَاحْرِقُوا مَتَاعَهُ وَاضْرِبُوهُ» مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَلَا يُعْتَبَرُ غُلُولًا:
4- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ قَسْمِهَا بِالطَّعَامِ وَالْعَلَفِ لِلدَّوَابِّ، سَوَاءٌ أَذِنَ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَيَنْتَفِعُ الْغَانِمُ مِنْهَا، لَا التَّاجِرُ وَلَا الدَّاخِلُ لِخِدْمَةِ الْغَانِمِ بِأَجْرٍ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ خَبَزَ الْحِنْطَةَ أَوْ طَبَخَ اللَّحْمَ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ، وَيَنْتَفِعُ الْغَانِمُ مِنَ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِلَا قِسْمَةٍ بِالسِّلَاحِ وَالرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ- إِنِ احْتِيجَ لِلسِّلَاحِ وَالدَّابَّةِ وَاللُّبْسِ- إِذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا، يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ كُلَّ ذَلِكَ، وَإِلاَّ فَلَا، وَبِالْعَلَفِ وَالدُّهْنِ وَالطِّيبِ مُطْلَقًا، أَيْ يَنْتَفِعُ بِهَا سَوَاءً وُجِدَ الِاحْتِيَاجُ أَمْ لَمْ يُوجَدْ.وَفِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَعْلِفَ الْعَسْكَرُ دَوَابَّهُمْ وَيَأْكُلُوا مَا وَجَدُوا مِنَ الطَّعَامِ كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَمَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ كَالسَّمْنِ وَالزَّيْتِ، وَيَسْتَعْمِلُوا الْحَطَبَ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَمَسُّ إِلَيْهَا، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُ كُلِّ ذَلِكَ لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ بِلَا قِسْمَةٍ بِشَرْطِ الْحَاجَةِ كَمَا فِي السِّيَرِ الصَّغِيرِ، وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ لَمْ يَشْتَرِطِ الْحَاجَةَ اسْتِحْسَانًا، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: قَوْلُهُ ((فِي طَعَامِ خَيْبَرَ: «كُلُوا وَاعْلِفُوا وَلَا تَحْمِلُوا»، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِ الْحَاجَةِ وَهُوَ كَوْنُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، بِخِلَافِ السِّلَاحِ وَالدَّوَابِّ لَا يَسْتَصْحِبُهَا فَلَا يُوجَدُ دَلِيلُ الْحَاجَةِ فِي أَكْثَرِ الْمُعْتَبَرَاتِ، وَقَيَّدَ جَوَازَ الِانْتِفَاعِ بِمَا إِذَا لَمْ يَنْهَهُمُ الْإِمَامُ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، وَأَمَّا إِذَا نَهَاهُمْ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لَكِنْ يُعْتَبَرُ هَذَا الشَّرْطُ بِمَا إِذَا لَمْ تَكُنْ حَاجَتُهُمْ إِلَيْهِ مَوْجُودَةً وَإِلاَّ لَا يُعْمَلُ بِنَهْيِهِ.
وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ السِّلَاحَ لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ إِلاَّ بِشَرْطِ الْحَاجَةِ اتِّفَاقًا، وَأَطْلَقَ فِي الطَّعَامِ مُهَيَّأً لِلْأَكْلِ أَمْ لَا، فَيَجُوزُ ذَبْحُ الْمَاشِيَةِ، وَتُرَدُّ جُلُودُهَا لِلْغَنِيمَةِ.
وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ- رضي الله عنه-: «أَصَبْنَا جِرَابًا مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ فَالْتَزَمْتُهُ، فَقُلْتُ: لَا أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ مُبْتَسِمًا».وَلَمْ يَأْمُرِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِرَدِّهِ فِي الْغَنِيمَةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْمُحْتَاجِ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْغَنِيمَةِ- لَا عَلَى وَجْهِ الْغُلُولِ- نَعْلًا يَنْتَعِلُ بِهِ، وَحِزَامًا يَشُدُّ بِهِ ظَهْرَهُ، وَطَعَامًا يَأْكُلُهُ وَنَحْوَهُ كَعَلَفٍ لِدَابَّتِهِ وَإِبْرَةٍ وَمِخْيَاطٍ وَخَيْطٍ وَقَصْعَةٍ وَدَلْوٍ، وَإِنْ نَعَمًا يَذْبَحُهُ لِيَأْكُلَهُ أَوْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ مَتَاعًا، وَيَرُدَّ جِلْدَهُ لِلْغَنِيمَةِ إِنْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهِ.وَمِنَ الْجَائِزِ ثَوْبٌ يَحْتَاجُ لِلُبْسِهِ أَوْ يَتَغَطَّى بِهِ، وَسِلَاحٌ يُحَارِبُ بِهِ إِنِ احْتَاجَ وَدَابَّةٌ يَرْكَبُهَا أَوْ يُقَاتِلُ عَلَيْهَا، وَيَأْخُذُ الثَّوْبَ وَمَا ذَكَرْنَاهُ بَعْدَهُ إِنِ احْتَاجَ وَقَصَدَ الرَّدَّ لَهَا بَعْدَ قَضَاءِ حَاجَتِهِ، لَا إِنْ قَصَدَ التَّمَلُّكَ فَلَا يَجُوزُ.
وَكُلُّ مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ مِنْ كُلِّ مَا أَخَذَهُ- سَوَاءٌ اشْتُرِطَ فِي أَخْذِهِ الْحَاجَةُ أَمْ لَا- يَجِبُ رَدُّ مَا زَادَ مِنْهُ إِنْ كَثُرَ بِأَنْ سَاوَى دِرْهَمًا فَأَعْلَى، لَا إِنْ كَانَ تَافِهًا.فَإِنْ تَعَذَّرَ تَصَدَّقَ بِهِ كُلِّهِ عَلَى الْجَيْشِ وُجُوبًا بَعْدَ إِخْرَاجِ خُمُسِهِ.وَفِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: وَلَيْسَ مِنْهُ- أَيْ مِنَ الْغُلُولِ الْمُحَرَّمِ- أَخْذُ قَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّ مِنْهَا إِذَا كَانَ الْأَمِيرُ جَائِرًا لَا يَقْسِمُ قِسْمَةً شَرْعِيَّةً، فَإِنَّهُ يَجُوزُ إِنْ أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَجَازَ أَخْذُ مُحْتَاجٍ مِنَ الْغَانِمِينَ وَلَوْ لَمْ تَبْلُغْ حَاجَتُهُ الضَّرُورَةَ، سَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ، مَا لَمْ يَمْنَعِ الْإِمَامُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ مُعَلِّقًا عَلَى قَوْلِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ إِذَا مَنَعَ الْإِمَامُ، قَالَ: لَكِنَّ الَّذِي فِي الْمُدَوَّنَةِ وَلَوْ نَهَاهُمُ الْإِمَامُ ثُمَّ اضْطُرُّوا إِلَيْهِ جَازَ لَهُمْ أَخْذُهُ، وَلَا عِبْرَةَ بِنَهْيِهِ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: لِأَنَّ الْإِمَامَ إِذْ ذَاكَ عَاصٍ، قَالَ الْبُنَانِيِّ: وَأَخْذُ الْمُحْتَاجِ مِنَ الْغَنِيمَةِ مَحَلُّ جَوَازِهِ إِذَا أَخَذَهُ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِيَاجِ، لَا عَلَى وَجْهِ الْخِيَانَةِ، وَكَانَ أَخَذَ عَلَى نِيَّةِ رَدِّهِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مُعْتَادًا لِمِثْلِهِ، لَا حِزَامًا كَأَحْزِمَةِ الْمُلُوكِ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لِلْغَانِمِ التَّبَسُّطُ فِي الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقَسْمِ: بِأَخْذِ الْقُوتِ وَمَا يَصْلُحُ بِهِ كَالشَّحْمِ وَاللَّحْمِ وَكُلِّ طَعَامٍ يَعْتَادُونَ أَكْلَهُ عُمُومًا قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَقَبْلَ احْتِيَازِ مِلْكِ الْغَنِيمَةِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّبَسُّطِ التَّوَسُّعُ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ جَوَازُ الْفَاكِهَةِ.
وَيَجُوزُ ذَبْحُ حَيَوَانٍ لِغَيْرِ لَحْمِهِ إِذَا قَصَدَ بِهِ الْأَكْلَ، كَأَنْ يَقْصِدَ أَكْلَ الْجِلْدِ، أَمَّا إِذَا قَصَدَ بِالْجِلْدِ غَيْرَ الْأَكْلِ كَأَنْ يُجْعَلَ سِقَاءً أَوْ خِفَافًا فَلَا يَجُوزُ، وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ، كَمَا لَا يَجُوزُ الذَّبْحُ لِذَلِكَ وَيَضْمَنُ ذَابِحُهُ جِلْدَهُ وَقِيمَتَهُ.
وَلَا يَخْتَصُّ الْجَوَازُ بِمُحْتَاجٍ إِلَى طَعَامٍ وَعَلَفٍ، وَقِيلَ: يَخْتَصُّ بِهِ فَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَخْذُهُمَا لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ أَخْذِ حَقِّ الْغَيْرِ.
وَلَا يَجُوزُ الْأَخْذُ مِنَ الْغَنِيمَةِ لِغَيْرِ الْغَانِمِينَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْخِلَافُ عِنْدَهُمْ فِي جَوَازِ الْأَخْذِ مُطْلَقًا لِلْغَانِمِ أَوْ لِلْمُحْتَاجِ لَا غَيْرُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ لِلْغُزَاةِ إِذَا دَخَلُوا أَرْضَ الْحَرْبِ أَنْ يَأْكُلُوا مِمَّا وَجَدُوا مِنَ الطَّعَامِ وَيَعْلِفُوا دَوَابَّهُمْ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى: «أَصَبْنَا طَعَامًا يَوْمَ خَيْبَرَ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَجِيءُ فَيَأْخُذُ مِنْهُ قَدْرَ مَا يَكْفِيهِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ» وَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: «كُنَّا نَصِيبُ فِي مَغَازِينَا الْعَسَلَ وَالْعِنَبَ فَنَأْكُلُهُ وَلَا نَرْفَعُهُ»؛ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ وَفِي الْمَنْعِ مِنْهُ مَضَرَّةٌ بِالْجَيْشِ وَدَوَابِّهِمْ، فَإِنَّهُ يَصْعُبُ نَقْلُهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَجِدُونَ بِدَارِ الْحَرْبِ مَا يَشْتَرُونَهُ، وَلَوْ وَجَدُوهُ لَمْ يَجِدُوا ثَمَنَهُ، وَلَا يُمْكِنُ قِسْمَةُ مَا يَأْخُذُهُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ، وَلَوْ قَسَمَ لَمْ يَحْصُلْ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ شَيْءٌ يَنْتَفِعُ بِهِ أَوْ يَدْفَعُ بِهِ حَاجَتَهُ، فَأُبِيحَ لِلْمُجَاهِدِ ذَلِكَ مِنْ أَخْذِ شَيْءٍ مِنَ الطَّعَامِ يَقْتَاتُ بِهِ وَيَصْلُحُ بِهِ الْقُوتُ مِنَ الْإِدَامِ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ عَلَفٍ لِدَابَّتِهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ مَا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَيَكُونُ أَحَقَّ بِمَا يَأْخُذُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنْ فَضَلَ مِنْهُ مَا لَا حَاجَةَ لَهُ بِهِ إِلَيْهِ رَدَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أُبِيحَ لَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.
تَمَلُّكُ مَا بَقِيَ مِمَّا أُبِيحَ لَهُ أَخْذُهُ قَبْلَ الْقَسْمِ:
5- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: مَا فَضَلَ مِمَّا أَخَذَهُ قَبْلَ الْقَسْمِ رُدَّ إِلَى الْغَنِيمَةِ، أَيْ هَذَا الَّذِي فَضَلَ مِمَّا أَخَذَهُ قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ، رَدَّهُ إِلَى الْغَنِيمَةِ بَعْدَ الْخُرُوجِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ؛ لِزَوَالِ حَاجَتِهِ وَالْإِبَاحَةِ بِاعْتِبَارِهَا، وَهَذَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَبَعْدَهَا: إِنْ كَانَ غَنِيًّا تَصَدَّقَ بِعَيْنِهِ إِنْ كَانَ قَائِمًا، وَبِقِيمَتِهِ إِنْ كَانَ هَالِكًا.
أَمَّا إِنْ كَانَ فَقِيرًا فَيَنْتَفِعُ بِالْعَيْنِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ هَلَكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الرَّدُّ صَارَ فِي حُكْمِ اللُّقَطَةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَرُدُّ الْفَاضِلَ مِنْ كُلِّ مَا أَخَذَهُ لِلْأَكْلِ، إِمَّا يُرَدُّ بِعَيْنِهِ إِنْ كَثُرَ بِأَنْ كَانَ قَدْرَ الدِّرْهَمِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ لِتَفَرُّقِ الْجَيْشِ تَصَدَّقَ بِهِ كُلِّهِ بَعْدَ إِخْرَاجِ خُمُسِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: الَّذِي فِي التَّوْضِيحِ يَتَصَدَّقُ بِهِ كُلِّهِ وَلَوْ كَطَعَامٍ وَهُوَ خِلَافُ الْمَشْهُورِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: يَتَصَدَّقُ مِنْهُ حَتَّى يَبْقَى الْيَسِيرُ فَيَجُوزُ أَكْلُهُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: مَنْ رَجَعَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَمَعَهُ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَبَسَّطَهُ لَزِمَهُ رَدُّهَا إِلَى الْغَنِيمَةِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مُبَاحٌ، وَلَا يُمْلَكُ بِالْأَخْذِ، وَإِذَا رَدَّهَا قَسَمَهَا الْإِمَامُ إِنْ أَمْكَنَ، وَإِلاَّ أَخْرَجَ لِأَهْلِ الْخُمُسِ حِصَّتَهُمْ فِيهَا، وَجَعَلَ الْبَاقِيَ لِلْمَصَالِحِ وَكَأَنَّ الْغَانِمِينَ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَكَانَ عَدَمُ لُزُومِ حِفْظِهِ لَهُ حَتَّى يُضَمَّ لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ تَافِهٌ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَالَ فِي الْمُغْنِي: وَمَا بَقِيَ مِنَ الطَّعَامِ فَأَدْخَلَهُ الْبَلَدَ طَرَحَهُ فِي الْمَغْنَمِ لِلْغُزَاةِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَفِي الْأُخْرَى: يُبَاحُ لَهُ أَكْلُهُ إِنْ كَانَ يَسِيرًا، أَمَّا الْكَثِيرُ فَيَجِبُ رَدُّهُ بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، لِأَنَّ مَا كَانَ مُبَاحًا لَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِذَا أَخَذَهُ عَلَى وَجْهٍ يَفْضُلُ مِنْهُ كَثِيرٌ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ أَخَذَ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ رَدُّهُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُهُ؛ لِكَوْنِهِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْغَانِمِينَ كَسَائِرِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ مِنْهُ مَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، فَمَا زَادَ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ، وَلِهَذَا لَمْ يُبَحْ لَهُ بَيْعُهُ، وَأَمَّا الْيَسِيرُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ إِحْدَاهُمَا: يَجِبُ رَدُّهُ أَيْضًا، لِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ» وَلِأَنَّهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَلَمْ يُقْسَمْ، فَلَمْ يُبَحْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْكَثِيرِ لَوْ أَخَذَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالثَّانِي: مُبَاحٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَكْحُولٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ، قَالَ أَحْمَدُ: أَهْلُ الشَّامِ يَتَسَاهَلُونَ فِي هَذَا، وَقَدْ رَوَى الْقَاسِمُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «كُنَّا نَأْكُلُ الْجَزُورَ فِي الْغَزْوِ وَلَا نَقْسِمُهُ، حَتَّى إِنْ كُنَّا لَنَرْجِعُ إِلَى رِجَالِنَا وَأَخْرِجَتُنَا مِنْهُ مُمْلأَةٌ».وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ أَدْرَكْت النَّاسَ يَقْدَمُونَ بِالْقَدِيدِ فَيُهْدِيهِ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، لَا يُنْكِرُهُ عَامِلٌ وَلَا إِمَامٌ وَلَا جَمَاعَةٌ، وَهَذَا نَقْلٌ لِلْإِجْمَاعِ؛ وَلِأَنَّهُ أُبِيحَ إِمْسَاكُهُ عَنِ الْقَسْمِ فَأُبِيحَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، كَمَا أُبِيحَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا قِيمَةَ لَهَا.وَيُفَارِقُ الْكَثِيرَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِمْسَاكُهُ عَنِ الْقِسْمَةِ لِأَنَّ الْيَسِيرَ تَجْرِي الْمُسَامَحَةُ فِيهِ وَنَقْصُهُ قَلِيلٌ بِخِلَافِ الْكَثِيرِ.
سَهْمُ الْغَالِّ:
6- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْغَالَّ يَسْتَحِقُّ سَهْمَهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَهُوَ صَحِيحٌ، قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَقِيلَ: يَحْرُمُ سَهْمُهُ، وَاخْتَارَهُ الْآجُرِّيُّ وَجَزَمَ بِهِ نَاظِمُ الْمُفْرَدَاتِ.
مَالُ الْغَالِّ الَّذِي غَلَّهُ إِذَا تَابَ:
7- إِذَا تَابَ الْغَالُّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ رَدَّ مَا أَخَذَهُ فِي الْمَغْنَمِ بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ تَعَيَّنَ رَدُّهُ لِأَصْلِهِ، فَإِنْ تَابَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ أَنْ يَرُدَّ خُمُسَهُ إِلَى الْإِمَامِ وَيَتَصَدَّقَ بِالْبَاقِي، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَاللَّيْثِ وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ، لِمَا رَوَى حَوْشَبٌ قَالَ: غَزَا النَّاسُ الرُّومَ وَعَلَيْهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَغَلَّ رَجُلٌ مِائَةَ دِينَارٍ، فَلَمَّا قُسِمَتِ الْغَنِيمَةُ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ، تَقَدَّمَ فَأَتَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: قَدْ غَلَلْت مِائَةَ دِينَارٍ فَاقْبِضْهَا، قَالَ: قَدْ تَفَرَّقَ النَّاسُ، فَلَنْ أَقْبِضَهَا مِنْك حَتَّى تُوَافِيَ اللَّهَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَتَى مُعَاوِيَةَ فَذَكَرَ ذَلِكَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَبْكِي، فَمَرَّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشَّاعِرِ السَّكْسَكِيِّ فَقَالَ: مَا يُبْكِيك؟ قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أَمُطِيعِي أَنْتَ يَا عَبْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَانْطَلِقْ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَقُلْ لَهُ: خُذْ مِنِّي خُمُسَك فَأَعْطِهِ عِشْرِينَ دِينَارًا، وَانْظُرْ إِلَى الثَّمَانِينَ الْبَاقِيَةِ فَتَصَدَّقْ بِهَا عَنْ ذَلِكَ الْجَيْشِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَسْمَاءَهُمْ وَمَكَانَهُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَحْسَن وَاللَّهِ، لأَنْ أَكُونَ أَنَا أَفْتَيْت بِذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي أَحْسَن شَيْءٍ امْتَلَكْت.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م