نتائج البحث عن (فَكَانَتِ)

1-العربية المعاصرة (بت)

بتَّ بتَتُّ، يَبِتّ، ابتِتْ/بِتَّ، بُتوتًا، فهو باتّ.

* بتَّ الحبلُ وغيرُه: انقطع (بتّ حبلُ المودّة بينهما) (*) بيعٌ باتٌّ: لا خيار فيه ولا عود، قاطع.

* بتَّتِ اليمينُ: وَجَبَتْ وبرَّتْ.

بتَّ/بتَّ في بتَتُّ، يَبُتّ ويبِتّ، ابْتُتْ/بُتَّ وابتِتْ/بِتَّ، بَتًّا وبَتاتًا، فهو باتّ، والمفعول مَبْتوت.

* بتَّ الحبلَ وغيرَه: نزعه من أصله أو جذره (بتَّ الوتدَ: اقتلعه) (*) بتَّ حِبال مودّته: قطعها.

* بتَّ الحُكْمَ: أصدره بلا تردُّد.

* بتَّ النيَّةَ ونحوَها: نواها وجزم بها وأمضاها (بتَّ اليمينَ/الصِّيامَ من اللّيلِ/الرأيَ في أمر) - بتَّ الوعدَ: أكد إنجازه.

* بتَّ الأمرَ/بتَّ في الأمر: أنهاه، وصل فيه إلى قرار (بتَّ الخلافَ/القضيّةَ- قضية مبتوت فيها).

أبتَّ يُبتّ، أبْتِتْ/أَبِتَّ، إبتاتًا، فهو مُبِتّ، والمفعول مُبَتّ.

* أبتَّ الصِّيامَ: قطعَه.

انبتَّ/انبتَّ عن/انبتَّ في ينبتّ، انبتِتْ/انبَتَّ، انبتاتًا، فهو مُنْبَتّ، والمفعول مُنْبَتٌ عنه.

* انبتَّ الحبلُ وغيرُه: مُطاوع بتَّ وبتَّ/بتَّ في: انقطع (انبتّت العلاقةُ بين الدولتين- {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَتًّا} [قرآن]) (*) انبتّ حبلُ المودّة بين الصَّديقين: زاد في شدّته وصرامته.

* انبتَّ الرَّجلُ عن قومه: انفصل عنهم.

* انبتَّ الرَّجلُ في السَّير: جَهَد دابَّته حتى أعيت (إِنَّ المُنْبَتَّ لاَ أَرْضًا قَطَعَ وَلاَ ظَهْرًا أَبْقَى) [حديث].

بَتات [مفرد]:

1 - مصدر بتَّ/بتَّ في (*) بَتاتًا: قطعًا لا رجعة فيه- لا أفعله بتاتًا: بأية حال، بأي شكل من الأشكال، قطعًا- ممنوع بتاتًا: بأية حال، بأي شكل من الأشكال، قطعًا وأبدًا- هو على بتات أمر: مشرف عليه.

2 - أثاث، متاع البيت.

بَتّ [مفرد]: مصدر بتَّ/بتَّ في (*) بتًّا: قطعًا.

بَتَّة [مفرد]: قط، على الإطلاق، بالمرّة، قطعًا، لا رجعة فيه (طَلَّقَهَا ثَلاثًا بَتَّةً) [حديث] (*) بتَّة/البتَّة/ألبتَّة: قطعًا لا رجعة فيه- لا أفعله بتَّةً/لا أفعله البتَّة: بأية حال، بأي شكل من الأشكال، قطعًا.

بُتوت [مفرد]: مصدر بتَّ.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


2-العربية المعاصرة (بث)

بثَّ بَثَثْتُ، يَبُثّ، ابْثُثْ/بُثَّ، بَثًّا، فهو باثّ، والمفعول مَبْثوث.

* بثَّ التُّرابَ ونحوَه: فرّقَه ونشرَه، أثارَه وهيّجَه {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [قرآن] - {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [قرآن].

* بثَّ اللهُ الخلقَ: خلقهم، نشرَهم في الأرض وأكثرهم {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [قرآن].

* بثَّ الخبرَ ونحوَه: أذاعَه وأشاعَه (تبثُّ الإذاعة برامجها طوال اليوم- بثَّ أفكارًا/أحزانَه).

* بثَّ السِّرَّ/بثَّه السِّرَّ: أفشاه وأظهره.

* بثَّ فيه الحياةَ: بعثها، نفثها.

* بثَّ ألغامًا: زرعها ووضعها تحت الأرض وأعدّها للتفجير.

* بثَّ عُيونَه: تجسَّس، وأرسل الجواسيس، فرَّقهم ونشرهم.

أبثَّ يُبثّ، أبثِثْ/أبِث َّ، إبثاثًا، فهو مُبِثّ، والمفعول مُبَثّ.

* أبثَّ صديقَه السِّرَّ: أَطْلَعه عليه.

استبثَّ يستَبِثّ، استبْثِثْ/استَبِثَّ، استبثاثًا، فهو مُسْتبِثّ، والمفعول مُستبَثّ.

* استبثَّ صديقَه السِّرَّ: سأله أن يُبثّه إيّاه أو يطلعه عليه (استبثَّه النّبأ/الخبرَ/النتيجةَ).

انبثَّ ينبَثّ، انبثِثْ/انبَثَّ، انبثاثًا، فهو مُنْبَثّ.

* انبثَّ الخبرُ وغيرُه: مُطاوع بثَّ: تفرّق وانتشر (انبثّ نبأُ الوفاة كالبرق- انبثّ نورُ الشمس/الغبارُ- {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا. فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [قرآن]).

بثّ [مفرد]:

1 - مصدر بثَّ.

2 - أشدُّ الحزن أو المرض الذي لا يصبر عليه صاحبُه فيبُثّه {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ} [قرآن].

3 - شتات.

* البثّ: إرسال إذاعي بواسطة الرَّاديو والتِّلفزيون (*) أجهزة البثّ: وسائل البثّ التي تستعملها محطات الإذاعة والتلفزيون- بثّ إذاعيّ: نَقْل عن طريق الراديو- بثّ تلفزيونيّ: نَقْل عن طريق التلفزيون- بثّ جوّيّ: طريقة تقنية أفقية للبثّ التَّلفزي تقوم على البثّ من طائرات تحلِّق على ارتفاع عالٍ- بثّ مباشِر: نَقْل حيٌّ مباشر إلى المشاهدين أو المستمعين بدون تسجيل.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


3-العربية المعاصرة (حصر)

حصَرَ يَحصُر ويَحصِر، حَصْرًا، فهو حاصِر، والمفعول مَحْصور.

* حصَر الشَّخصَ:

1 - ضيَّقَ عليه وأحاط به (حصَره المرضُ أو الخوفُ: منعه من المضيّ لأمره- حصار اقتصاديّ- {أَوْ جَاءُوكُمْ حَاصِرَاتٍ صُدُورُهُمْ} [قرآن]: ضيِّقات).

2 - حبسه {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [قرآن].

* حصَر الشَّيءَ:

1 - حَدَّه وقصره (حصَر الموضوعَ: حدَّد جوانبه- حصَر نشاطَه في الصَّحافة) (*) حصَر الكلمةَ/حصَر العبارةَ بين قوسين: وضعها بينهما.

2 - أحصاه (هذا موضوع متشعِّب لا يمكن حصره في هذا المقام- حصَر لهم التّركةَ).

حصِرَ/حصِرَ عن/حصِرَ في يَحصَر، حَصَرًا، فهو حصور، والمفعول محصورٌ عنه.

* حصِر الرَّجلُ:

1 - تعب تعبًا شديدًا.

2 - بخل.

* حصِرت صدورُهم: ضاقت {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [قرآن].

* حصِر عن مواصلة الخطبة: توقّف، لم يقدر عليها (حصِر عن القراءة بلغةٍ أجنبيَّة).

* حصِر في كلامه: عيَّ ولم يقوَ عليه (حصِر الطِّفلُ في نطقه) (*) حصِر لسانُه/حصِر قلمُه: ليس بليغًا طلقًا.

حُصِرَ يُحصَر، حَصْرًا، والمفعول مَحْصور.

* حُصِر الشَّخصُ: احتبس ما في بَطْنه من فضلات.

أحصرَ/أحصرَ ب يُحصِر، إحصارًا، فهو مُحصِر، والمفعول مُحصَر.

* أحصر فلانًا: حَبَسَه وضيَّق عليه (أحصره المرضُ: منعه من السَّفر أو من حاجة يريدها- أحصره الخوفُ- {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [قرآن]).

* أحصر ببوله أو غائطه: حُبس في داخله.

انحصرَ/انحصرَ في ينحصر، انحصارًا، فهو مُنحصِر، والمفعول مُنحصَر فيه.

* انحصر فلانٌ: مُطاوع حصَرَ: حُبِس ومُنع من الكلام.

* انحصر الجيشُ: تقهقَر، وتمركز في موضع للدِّفاع عنه.

* انحصر الشَّيءُ/انحصر الشَّيءُ في كذا: تحدَّد ضمن حدود معيَّنة، اقتصر على (انحصر الخلافُ حول هذه النُّقطة- لم تنحصر المشاريع العملاقة في العاصمة بل امتدّت إلى سائر الجمهوريّة) (*) انحصرت الأمور كلُّها تحت قبضته: كان وحده يدير الأمور.

حاصرَ يحاصر، مُحاصرةً وحِصارًا، فهو مُحاصِر، والمفعول مُحاصَر.

* حاصَر مجرمًا: أحاط به من جميع الجهات ليحبسه عن الخروج وليمنع عنه الإمداد (حاصرت قوّاتُ الجيش مواقعَ المتمرِّدين- حاصرته النِّيران من كلّ جانب: أحاطت به- {وَخُذُوهُمْ فَحَاصِرُوهُمْ} [قرآن]: احبسوهم وامنعوهم) (*) القوَّة المحاصِرة: قوًى تعمل على عزل دولة أو منطقة أو مدينة لمنع المقايضة والتِّجارة.

حاصِرة [مفرد]:

1 - صيغة المؤنَّث لفاعل حصَرَ.

2 - علامة كتابيَّةٌ للجمع بين عِدَّة سُطور أو أعمدة، وتُرسم هكذا [] (وضع المؤلف ما اقتبسه بين حاصرتين).

3 - [في الجبر والإحصاء] رمز يحصر رموزًا رياضيَّة تُعدُّ مجموعة ويرسم هكذا.

* حاصِرة زاوية: رمز يُستعمل في حصر مادّةٍ مكتوبةٍ أو مطبوعةٍ، أو لإظهار ناتج القسمة، ويُرسم هكذا:) (.

حِصار [مفرد]: جمعه أحْصِرَة (لغير المصدر) وحُصُر (لغير المصدر):

1 - مصدر حاصرَ: (ضرَب الجيشُ حِصارًا على المدينة- رفعُ الحصار- ضيَّق الحصارَ) (*) ضرَب حصارًا حول المدينة: سيطر عليها.

2 - موضع يُحصر فيه الإنسان ويُمنع من الخروج.

* حِصار اقتصاديّ: حصار يراد به التّضييق اقتصاديًّا على بلد من البلدان بمختلف الوسائل.

* حصار بحريّ: منع وصول المُؤَن والذّخائر إلى موانئ العدوّ عن طريق البحر في وقت الحرب.

* حصار عسكريّ: [في العلوم العسكرية] إحاطة الجيوش للمدن أو الأهداف العسكريّة، وقطع وسائل الحياة والاتِّصالات عنها؛ وذلك لدفع أهلها إلى الاستسلام.

حَصْر [مفرد]:

1 - مصدر حُصِرَ وحصَرَ (*) حَصْرُ فكر: إمعانٌ وتدقيق- على سبيل الحصر: بصورة مستوفاة، وضدّه على سبيل الذِّكر أو التمثيل- على سبيل المثال لا الحصر/على وجه الحَصْر: المراد به ذكر أمثلة لا الإلمام الشَّامل- يفوق الحصر/لا حصر له/جلَّ عن الحصر: غير محدود، صعب التَّحديد.

2 - [في البلاغة] إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه ويعرف أيضًا بالقصر مثل: لا تقل إلا الحق.

* الحَصْر العقليّ: [في الفلسفة والتصوُّف] الدَّائر بين الإثبات والنَّفي لا يجوّز العقل فيما وراءه شيئًا آخر كقولنا: العدد إمّا زوج وإمّا فرد.

* حَصْر السُّلطات: الانفراد بها.

* حَصْر الإِرْث: تعيين الأشخاص الذين يحقّ لهم وراثة المتوفَّى.

* حَصْر الأسعار: تجميدها ووقف ارتفاعها.

حَصَر [مفرد]:

1 - مصدر حصِرَ/حصِرَ عن/حصِرَ في.

2 - ضيق نفسيّ وجسميّ يتّسم بخوفٍ يذهب من القلق إلى الفزع (لم تفارقه هذه الفكرة فكانت هاجسًا أو حَصَرًا مُسْتمرًّا).

حُصْر/حُصُر [مفرد]: احتباس الغائط أو البول.

حَصْريّ [مفرد]: اسم منسوب إلى حَصْر.

* حَقٌّ حَصْرِيٌّ: محصور بواحد لا غير، أو مجموعة واحدة (بعض المعلومات العسكرية حصريّ: سريّ للغاية).

حُصَريّ [مفرد]: صانع الحُصر (أتقن الحُصَريّ صناعته).

حَصُور [مفرد]:

1 - صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من حصِرَ/حصِرَ عن/حصِرَ في.

2 - ممتنع عن الانغماس في الشَّهوات، الذي لا يشتهي النِّساء {أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} [قرآن].

3 - ضيِّق الصدر.

حَصير [مفرد]: جمعه أحْصِرَة وحُصُر:

1 - بساط منسوج من الخوص أو أوراق البرديّ أو نحوهما (تمدَّد على حصير لينام- كانت المساجد قديمًا تُفرش بالحصير).

2 - مَحْبِس، سِجْن {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [قرآن].

* حصير الأرض: وجهها.

حَصيرَة [مفرد]: جمعه حصائِرُ: حصير صغير، بساط صغير منسوج من سيقان البردي أو الخوص ونحوهما (تُستعمل الحصيرةُ الآن للزينة أحيانًا).

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


4-العربية المعاصرة (حلم)

حلَمَ/حلَمَ ب يَحلُم، حُلْمًا، فهو حالم، والمفعول محلوم (للمتعدِّي).

* حلَم الشَّخصُ: رأى في نومه رُؤْيا (سأل الشَّيخَ عن تفسير حُلْمِه).

* حلَم الشَّيءَ/حلَم بالشَّيء: رآه في نومه (يَحلُم دائمًا بالمسجد الحرام).

حلَمَ يَحلُم، حُلُمًا، فهو حالم.

* حلَم الصَّبيُّ: أدرك وبلغ مبلغَ الرِّجال {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [قرآن].

حلُمَ/حلُمَ على/حلُمَ عن يَحلُم، حِلمًا، فهو حليم، والمفعول مَحْلُوم عليه.

* حلُم الشَّخصُ:

1 - تأنّى وسكن عند غضب أو مكروه مع قدرة وقوّة (احتمل ذلك بطول حِلْمِه- حلْم ساعة يردُّ سبعين آفة [مثل] - {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [قرآن]) (*) أحلم من أحنف [مثل]: يُضرب في الشَّخص الكثير التأنّي والسُّكون.

2 - عقل، رزُن (جعلته تجارب الحياة يحلُم ويكون حكيمًا).

* حلُم القائدُ/حلُم القائدُ على الجنديّ/حلُم القائدُ عن الجنديّ: صفح عنه (احلُم فإنَّ الله حليم- من عفا ساد ومن حلُمَ عَظُم [مثل]).

احتلمَ يحتلم، احتلامًا، فهو مُحتَلِم.

* احتلم الشَّخصُ: حلَم1؛ رأى في نومه رُؤيا.

* احتلم الصَّبيُّ:

1 - حلَم2؛ أدرك وبلغ مبلغَ الرِّجال.

2 - خرَج منه المَنيُّ في المنام (وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ) [حديث].

تحالمَ يتحالم، تَحالُمًا، فهو مُتحالِم.

* تحالم فلانٌ: تظاهر بضبط النفس (استطاع بتحالمه أن يكسب خَصْمَه).

تحلَّمَ يتحلَّم، تحلُّمًا، فهو متحلِّم.

* تحلَّم فلانٌ: تكلَّف ضبطَ النَّفْس (رأيت كرام النَّاس إن كُفَّ عَنْهُمُ.. بحلم رأوا فضلًا لمن قد تحلَّما- إِنَّما الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ) [حديث].

حالِم [مفرد]:

1 - اسم فاعل من حلَمَ/حلَمَ ب وحلَمَ.

2 - من أو ما يغلب عليه الخيال (هو دائمًا في حالٍ حالمة).

حُلْم [مفرد]: جمعه أَحلام (لغير المصدر):

1 - مصدر حلَمَ/حلَمَ ب.

2 - ما يراه النَّائم في نومه (رأى حُلْمًا أسعده- {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} [قرآن]) (*) أضغاث أحلام: ما كان منها ملتبسًا مضطربًا يصعب تأويله- الوعْي الحُلْميّ: شعور النَّفس بذاتها وقت الأحلام.

3 - ما يبدو بعيدًا عن الواقع (يتمنَّى كلُّ شابٍّ أن يحقّق أحلامَه) (*) أحلام نائم/أضغاث أحلام: أمانٍ كاذبة- أَرْض الأحلام: مكان مثاليّ وخياليّ- ذهَبت أحلامُه أدراجَ الرِّياح: فشل في تحقيق شيء منها فكانت بلا طائل- فتى الأحلام: صورة خياليّة لشابّ في ذهن الفتاة تتمنّاه زوجًا لها.

* حُلْم اليقظة: [في علوم النفس] تأمُّل خياليّ واسترسال في رُؤى أثناء اليقظة، يعدّ وسيلة نفسيّة لتحقيق الأمانيّ والرَّغبات غير المُشْبَعة وكأنَّها قد تحقَّقت.

حُلُم [مفرد]: مصدر حلَمَ.

حِلْم [مفرد]: جمعه أَحلام (لغير المصدر) وحُلوم (لغير المصدر):

1 - مصدر حلُمَ/حلُمَ على/حلُمَ عن.

2 - عَقْلٌ ولُبٌّ (إنَّ العصا قُرعت لذي حِلْم [مثل]: يُضرب لمن يتّعظ إذا وُعظ ويتنبّه إذا نُبّه- *جسم البغال وأحلام العصافير*- {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَذَا} [قرآن]) (*) أولو الأحلام والنُّهى: ذوو الألباب والعقول- صِغَار الأحلام: سُذَّجٌ بُسَطَاء.

حَلَمة [مفرد]: جمعه حَلَمات وحَلَم:

1 - جزء بارز من رأس الثّدي ترضع منه صغار الثّدييّات.

2 - رأس الثَّنْدوة عند الرجُل.

* حَلَمة اللسان: [في الطب] نتوء على السطح العلويّ للِّسان.

حليم [مفرد]: جمعه حُلَماءُ، والمؤنث حليمة: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من حلُمَ/حلُمَ على/حلُمَ عن (*) لا يَنْتَصف حليمٌ من جهول [مثل]: يُضْرب في غلبة الجهول للحليم؛ لأنّ الجاهل يُزيد عليه في المهاترة والحليم يربَأ بنفسه عن مغالبته في السَّفاهة.

* الحليم: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: الذي لا يُعجِّل بالعقوبة والانتقام، والذي لا يحبس إنعامَه عن عباده لأجل ذنوبهم، بل يرزق العاصي كما يرزق المُطيع، وذو الصَّفح مع القدرة على العقاب {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [قرآن].

حُلَيْمَات [جمع].

* الحُلَيْمَات: [في البيئة والجيولوجيا] رواسب كلسيّة متحجِّرة من تحلُّب المياه، وهي تكون إمَّا في سقوف المغاور أو في أراضيها.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


5-العربية المعاصرة (دهن)

دهَنَ يدهُن، دَهْنًا، فهو داهن، والمفعول مَدْهون.

* دهَن الرَّأسَ والشَّعرَ وغيرَهما: طلاه بالدُّهْن أو الزَّيت أو الطِّيب (*) فلانٌ يدهُن من قارورة فارغة [مثل]: يُضرب للكذّاب يَعد ولا يَفي.

* دهَن الجدارَ وغيرَه: طلاه بالدِّهان، لوَّنه وطلاه بالألوان.

* دهَن المطرُ الأرضَ: بلَّها بلاًّ يسيرًا.

* دهَن الرَّجُلَ: خدعه وختله وأظهر له غير ما يُضمر، تملَّقه ونافقه.

أدهنَ يُدهن، إدهانًا، فهو مُدهِن.

* أدهن الشَّخصُ:

1 - أظهر خلاف ما أضمر بقصد الخداع والغِشِّ (رجلٌ مُدْهِن- {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} [قرآن]: مكذبون).

2 - ليَّن في القول وصانَع {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [قرآن].

ادَّهنَ/ادَّهنَ ب يدَّهن، ادِّهانًا، فهو مُدَّهِن، والمفعول مُدَّهَن به.

* ادَّهن الشَّخصُ: تطلَّى بالدُّهْن.

* ادَّهن بالشَّيء: طلى نفسَه به.

اندهنَ يندهن، اندهانًا، فهو مُندهِن.

* اندهن الجدارُ: مُطاوع دهَنَ: طُلي ومُسِح بالزَّيت.

داهنَ يداهن، مُداهنةً ودِهانًا، فهو مُداهِن، والمفعول مُداهَن.

* داهَن فلانًا: خدَعه وغَشّه، صانعه وأظهر له خلاف ما يضمر، تملّقه، نافقه (داهَن رئيسَه في العمل- داهن موظَّفًا حتى يقضي مصلحتَه).

دِهان [مفرد]: جمعه دِهانات (لغير المصدر) وأَدْهِنَة (لغير المصدر):

1 - مصدر داهنَ.

2 - طِلاء؛ ما يُطلَى به الجدارُ وغيرُه من الأصباغ أو الزيوت ونحوها (دِهانٌ للبناء- دِهانُ أحذية: مركَّب يستعمل لتلميع الأحذية).

3 - جِلْدٌ أحمر {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [قرآن].

4 - ما رسب من الزَّيْت.

5 - مَرْهم؛ مركب طبِّيّ دهنيّ مختلف العناصر والألوان (*) دِهان الشَّعر: مستحضر زيتيّ لتلميع الشّعر وتثبيته.

دَهْن [مفرد]: مصدر دهَنَ.

دُهْن [مفرد]: جمعه أَدْهان ودِهان ودُهون:

1 - مادَّة زيتيَّة دَسِمة في الحيوان والنَّبات، جامدة في درجة الحرارة العاديّة، فإذا سالت كانت زيتًا، وهو من الأغذية الضروريَّة للأجسام لأنّه يمدُّها بالحرارة اللاَّزمة {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [قرآن].

2 - إفراز شبه مائع تفرزه الغددُ الدهنيَّة في أدمة الجلد ويتألّف بشكل رئيسيّ من الدُّهن والبروتين اللّيفيّ وموادّ خلويّة.

دِهْن [جمع]: لحم أبيض كلحم ألية الضأن، القطعة منه دِهْنة.

دَهْناءُ [مفرد]: جمعه دَهْناوات: أَرضٌ رمليَّة، فلاة، صحراء (تكثر الدَّهناوات في شبه الجزيرة العربيّة).

دُهْنِيّ [مفرد]: اسم منسوب إلى دُهْن: محتوٍ على زيت أو دهن (لا تكثر من أكل الموادّ الدّهنيّة) (*) شَعْرٌ دُهْنِيّ: تكثر فيه الموادّ الدهنيّة- غُدَد دهنيّة: غدّد شحميَّة متضخِّمة نتيجة تجمُّع إفرازاتها.

* البروتين الدُّهْنيّ: نوع من البروتينات الثنائيَّة الازدواج التي يكون الدُّهن أحد مكوِّناتها.

دَهَّان [مفرد]:

1 - بائع الدُّهْن.

2 - محترف طلاء الجدران ونحوها.

دَهين [مفرد]: مؤنثه: دهين ودهينة: صفة ثابتة للمفعول من دهَنَ: مدهون (لحية دهينة- جدار دهين).

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


6-العربية المعاصرة (سرب)

سرَبَ/سرَبَ في يَسرُب، سُرُوبًا، فهو سارِب، والمفعول مسروبٌ فيه.

* سرَب الماءُ ونحُوه: جرى وسال (سرَب الدَّمعُ- سَربتِ العينُ: سالت).

* سرَب في الأرض: ذهب على وجهه فيها، خرج ومضى (سَرب في حاجته: مضى فيها- {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [قرآن]: ظاهر بارز في سيره، سالك طريقه، منصرف في حوائجه) (*) ظبية ساربة: ذاهبة في مرعاها.

سرِبَ/سرِبَ من يَسرَب، سَرَبًا، فهو سرِب، والمفعول مسروبٌ منه.

* سرِب الإناءُ: سال ما فيه.

* سرِب الماءُ من الإناء: سال (ماءٌ سرِب: جارٍ أو سائل).

أسربَ يُسرب، إسرابًا، فهو مُسْرِب، والمفعول مُسْرَب.

* أسرب الماءَ ونحوَه: أساله.

انسربَ ينسرب، انسرابًا، فهو مُنْسَرِب.

* انسرب الماءُ ونحوُه: سرَب؛ سال.

تسرَّبَ/تسرَّبَ إلى/تسرَّبَ في يتسرّب، تسرُّبًا، فهو مُتَسَرِّب، والمفعول مُتسرَّبٌ إليه.

* تسرَّب الماءُ ونحوُه: مُطاوع سرَّبَ: انسرَب، سال، اخترق الحاجز ونفذ، رشح (تسرَّب الغازُ/الدخانُ) (*) تسرّبت العينُ: سالت.

* تسرَّب الامتحانُ: خرج خفية وأفلت (تسرَّبت أخبارُ الجلسة السِّرِّيّة إلى الجمهور- تسرَّبت أنباءُ حشود الجيش- تسرّب بعضُ التلاميذ من مدارسهم: تفلّتوا منها، هربوا).

* تسرَّب إلى المكان/تسرَّب في المكان: دخله خُفْية، تسلّل إليه (تسرّب إلى/في البلد).

* تسرَّب القومُ في الطَّريق: تتابعوا.

سرَّبَ يُسرِّب، تسريبًا، فهو مُسَرِّب، والمفعول مُسَرَّب.

* سرَّب الماءَ: أسالَه.

* سرَّب الامتحانَ ونحوَه: أَمَرَّه خفية، أرسله قطعةً قطعةً (سرَّب الأنباءَ- سرَّب إلى البلاد بضائع ممنوعة).

تسرُّب [مفرد]:

1 - مصدر تسرَّبَ/تسرَّبَ إلى/تسرَّبَ في.

2 - حركة بطيئة للمياه وغيرها خلال الشّروخ الصّغيرة والمسامّ والفرجات (تسرُّب غاز/دخان) (*) تسرُّب وظيفيّ.

3 - [في الطبيعة والفيزياء] ضياع في التيّار الكهربائيّ نتيجة لعزل خاطئ.

تَسْريب [مفرد]:

1 - مصدر سرَّبَ.

2 - إفشاء أو كشف متعمَّد لمعلومات غاية في السّرّيّة (تسريب الأخبار: إتاحتها بشكل غير رسميّ).

3 - [في الطب] إدخال سائل في الوريد ببطء.

سَراب [مفرد]:

1 - ما لا حقيقة له، وهْم أو مظهر مُغرٍ وخادع، هباء (سَراب الحُبّ/المجد- {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} [قرآن]).

2 - [في الجغرافيا] ظاهرة طبيعيّة تُرى كمسّطحات ماء تلصق بالأرض عن بُعد، تنشأ عن انكسار الضوء في طبقات الجوّ عند اشتداد الحرّ، وتكثر بخاصّة في الصحراء، ما يُرى نصفَ النهار لاصقًا بالأرض كأنّه ماءٌ جارٍ (هو أخدع من سَراب [مثل]: يضرب في الكذب والخداع- {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} [قرآن]).

سَرَب [مفرد]: جمعه أسْراب (لغير المصدر):

1 - مصدر سرِبَ/سرِبَ من.

2 - مَسْلك في خفية، مسلك ممتدّ منحدر {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} [قرآن].

3 - بيت تحت الأرض لا منفذ له وهو الوكر {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} [قرآن].

سَرِب [مفرد]: صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من سرِبَ/سرِبَ من.

سِرْب [مفرد]: جمعه أسْراب: فريق أو جماعة من ظباء أو طير أو حيوان أو غير ذلك (سِرْب من الطّائرات/النَّحل- انتشرتْ أسرابُ الجراد في هذه الأيام) (*) هو آمن في سِرْبه: آمن على أهله وماله، آمِن النفس والقلب- هو في غير سِرْبه: غريب، في جماعة لا ينتمي إليها.

سُرُوب [مفرد]: مصدر سرَبَ/سرَبَ في.

مَسْرَب [مفرد]: جمعه مَسارِبُ:

1 - اسم مكان من سرَبَ/سرَبَ في: مجرى الماء، مسيلُه (مَسْرَب الماء- مَسْرَب الفيضان: بوَّابة في قناة أو نهر للتحكّم في تدفُّق المياه).

2 - موضع تسرح فيه الحيوانات (مساربُ الوحوش لا تسرحُ فيها الظّباء) (*) مَساربُ الحيَّات: مواضع آثارها إذا انسابت في الأرض على بطونها.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


7-العربية المعاصرة (كان)

كانَ يَكُون، كُنْ، كَوْنًا وكِيانًا وكَيْنُونَةً، فهو كائِن.

* كان الشِّتاءُ باردًا: ثبتت له البرودة في الزمن الماضي، وكان هنا فعل ناقص يدخل على المبتدأ والخبر فيرفع الأوّل اسمًا له وينصب الثاني خبرًا له (كان على حقّ- {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} [قرآن]: كان هنا بمعنى صار- {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [قرآن]: كان هنا بمعنى الاستقبال- {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [قرآن]: كان هنا بمعنى الحال- {وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [قرآن]: لم يزل على ذلك وكان هنا بمعنى اتِّصال الزمان من غير انقطاع) (*) كيفما كان: بطريقة غير محدّدة أو مفهومة أو معروفة.

* كان اللهُ ولا شيء معه: ثبَت ودام، وكان هنا مُكتفية بالاسم، لذا فهي تامّة (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن- إعلان عن بيع العمارة الكائنة في حي الشهداء- {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} [قرآن]) - أصبح في خبر كان: هلَك وفَنِي- أيًّا كان- حيث كان- على ما كانت عليه- كان ما كان: عبارة تُبْتدأ بها الخُرافات- ليكن ما يكون.

* ما كان أحسن لو عفوت: كان هنا زائدة؛ للتوكيد في وسط الكلام وآخره ولا تزاد في أوّله، فلا تعمل ولا تدلّ على حدث ولا زمان ولا تزاد إلاّ بلفظ الماضي وندر زيادتُها بلفظ المضارع (أقرب ما يكون إلى الصواب- أنت تكون ماجدٌ نبيلُ.. إذا تهُبُّ شَمْألٌ بليل) - كان بمنأى عن هذا الموضوع: لا صلة له به- كان بمنجاة من كذا.

* لا يكون: [في النحو والصرف] من أفعال الاستثناء، واسمها ضمير محذوف دائمًا (جاء القومُ لا يكون زيدًا: كأنك قلت: لا يكون الآتي زيدًا).

تكوَّنَ يتكوّن، تكوُّنًا، فهو مُتكوِّن.

* تكوَّنت جمعيّةٌ لمساعدة الفقراء: حَدَثت وتألّفت (تكوّنت خُطّة- ملكيّة تتكوّن من غابات- الكائِنات الحيّة/الفضائيّة/البحريّة).

* تكوَّن الشَّخصُ: تدرَّب وتعَلَّم (تكوّن في الجامعة).

* تكوَّنَ خُرَّاج: ظهَر، برَز (تكوّنتِ الكثبانُ بفِعل الهواء- الأجزاء تكوِّن الكُلّ).

كوَّنَ يكوِّن، تكوينًا، فهو مُكوِّن، والمفعول مُكوَّن.

* كوَّن اللهُ الشّيءَ: أخْرَجَهُ من العَدَم إلى الوجود، أحدثه، خلقه، أوجده فكان (كوَّن اللهُ العالمَ/الخَلْقَ).

* كوَّن المهندسُ جهازًا إليكترونيًّا: أحدثه، ركَّبَه بالتأليف بين أجزائه (كَوَّنوا جمعيّة خيريّة- عنصر مكوِّن- لا يريد تكوين علاقة مع شخص).

* كوَّنَ فكرةً عن الموِّضوع: استنتج، استخلص (كوَّن رأيًا عن الأحداث الجارية).

تكوين [مفرد]: جمعه تكوينات (لغير المصدر):

1 - مصدر كوَّنَ.

2 - تدْريب (تكوين مِهْنِيٌّ).

3 - تربية وتعليم (تكوين جامعيٌّ/رياضيّ) (*) تحت التَّكوين: في الطريق إلى تمام التربية والتعليم.

4 - صورة، هيئة (هو جميل التكوين).

5 - تركيب، بنية، إنشاء (جمعوا مالًا؛ لتكوين جمعيّة خيريّة- كائِن خياليّ).

* التَّكوين: [في الفلسفة والتصوُّف] عند المتكلِّمين إخراج المعدوم من العدم إلى الوجود.

* سِفْر التَّكوين: [في الديانات] أوّل أسْفار التوراة الخمسة.

* التَّكوين العكسيّ: [في علوم النفس] إجراء دفاعيّ مُقتبَس من النَّظريّة السَّيكوديناميكيَّة، وفيه يحاول الفرد أن يغطِّي ما التصق بلاشعوره من قيم أو أفكار بأن يتصرَّف شعوريًّا بمضادَّات هذه القيم، كالإخصائيّ الاجتماعيّ الذي لديه كراهية لا شعوريّة نحو الأطفال ربمّا يتخصَّص في قطاع الطُّفولة ويكون أكبر نصير لقوانين حماية الطُّفولة والدِّفاع عنها.

كائِن [مفرد]: جمعه كائِنات (لغير العاقل)، والمؤنث كائِنة، والجمع المؤنث كائِنات وكوائِنُ:

1 - اسم فاعل من كانَ.

2 - مخلوق (الكائِنات الحيّة/الفضائيّة/البحريّة- الإنسان كائن اجتماعيّ- كائِن خياليّ).

* كائن حيّ دقيق: [في الأحياء] كائن حيّ خلويّ صغير جدًّا بحيث لا يُرى إلاّ بالمجهر كالبكتريا ونحوها.

كَوْن [مفرد]: جمعه أكوان (لغير المصدر): مصدر كانَ.

* الكَوْن: [في الفلك] العالم، جملة الموجودات التي لها مكان وزمان كالأجرام (كَوْن كُرَويّ).

* الكَوْن الأعلى: الله.

* عِلْم الكَوْن: علم يُبْحَث فيه عن العالم من حيثُ قوانينه الطبيعيّة التي يسير بمقتضاها.

* نَشْأة الكَوْن: [في الفلك] عِلْم يُفْسِّر كيفيّة نشْأة الكَوْن والأجرام السماويّة.

* وَصْف الكَوْن: عِلْم يبحث في مَظْهر الكَوْن وتَرْكيبه العامّ.

* الكَوْنان: الدُّنيا والآخرة.

كَوْنيّ [مفرد]: اسم منسوب إلى كَوْن: وبخاصّة ما يتّصل بتركيبه الفلكيّ ويشمل الكَوْن كله (حرب كَوْنيّة- نظام كَوْنيّ).

* أشعَّة كونيّة: [في الطبيعة والفيزياء] أشعّة تصل إلى الأرض من الفضاء الخارجيّ، وتتكوّن من جسيمات عالية الطاقة وموجات كهرومغنطيسيّة ولها قدرة عالية على النّفاذ.

* علم الكَوْنيّات: علم يبحث في القوانين العامّة للكَوْن من حيث أصله وتكوينه.

كِيان [مفرد]: جمعه كِيانات (لغير المصدر):

1 - مصدر كانَ.

2 - هيئة أو بنية (كِيان صهيونيّ/رأسماليّ- كِيانات مصطنعة- حجر الزاوية في كِيان السياسة الخارجيَّة).

3 - ذات أو وجود (في أعماق كِيانه).

4 - طبيعة وخليقة.

* الكِيان الوطنيّ: أرض الوطن بحدودها المعروفة وكافّة مقوِّمات الوطن السِّياسيّة والاقتصاديّة والثَّقافيّة وغيرها.

كَيْنونة [مفرد]:

1 - مصدر كانَ.

2 - [في الفلسفة والتصوُّف] وجود، كِيان (التحالف الغربيّ الصهيونيّ يمسّ كينونة الأمّة العربيَّة وهُوَيّتها).

3 - أصل، طبيعة (يعمل على اختزال كينونة الموضوع وتجاهل ذاتيَّته).

مَكان [مفرد]: جمعه أماكِنُ وأمْكِنة:

1 - اسم مكان من كانَ: موضع (مَكان الاجتماع القاعة الكُبْرى- احتلّ المَكانَ الأوّل- ظرف/بعد مكانيّ- يستحيل على المرء أن يُوجد في مكانين معًا في آن واحد [مثل أجنبيّ]: - {وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [قرآن]) (*) مَكان تحت الشَّمس: مكان أمين.

2 - منزِلَة (هو رفيع المَكان- يحتل مَكانًا مرْموقًا في الدولة- {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [قرآن]) (*) هذا الموضوع من الأهمية بمَكان: مُهِمٌّ جدًّا- هو من الشجاعة بمَكان: في منتهى الشجاعة.

3 - بَدلًا من (وضَع فلانًا مَكان آخر- كلمة مستعملة مَكان أخرى- {أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} [قرآن]).

* اللاَّمَكان: المَكان البعيد أو المجهول أو غير المحدَّد.

* اسم مَكان: [في النحو والصرف] صيغة مشتقَّة تدلّ على مَكان وقوع الفعل.

* ظرف المَكان: [في النحو والصرف] مفعول فيه أو ظرف، وهو اسم يدلّ على مكان الحدث مع تضمّنه معنى: في.

مَكانَة [مفرد]:

1 - مَكان؛ موضع (مَكانة الصّدارة من المجلس- {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} [قرآن]).

2 - منزلة ورفعة شأن، مقام محترم (انظر: م ك ن - مَكانَة) (عالم ذو مكانة مرموقة/رفيعة- حافظ على مَكانته- {يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} [قرآن]).

مكانك [كلمة وظيفيَّة]: اسم فعل أمر بمعنى (الزمْ) أو اُثْبُتْ منقول عن الظرف (مكان) والكاف المتصرِّفة بحسب أحوال المخاطب (مكانك أيّها اللصُّ).

مكانيّ [مفرد]: اسم منسوب إلى مَكان.

* القلب المكانيّ: [في النحو والصرف] التَّقديم والتَّأخير في ترتيب حروف الكلمة، إمّا بسبب الخطأ في الاستعمال، أو اختلاف اللَّهجات، مثال ذلك في اللّهجة المصريّة (أهبل) المحرفة عن (أبله) الفصيحة.

مُكوِّن [مفرد]: جمعه مُكوِّنات:

1 - اسم فاعل من كوَّنَ.

2 - ما يُستعمل لتكوين صوت لغويّ، كلمة، إلخ (عنصر مُكوِّن).

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


8-العربية المعاصرة (هبا)

هبا يهبُو، اهْبُ، هَبْوًا وهُبُوًّا، فهو هابٍ.

* هبا الغبارُ: ثار وارتفع.

* هبا العطرُ: سطَع (هبت رائحة العطور النِّسائيّة).

* هبا الرَّمادُ: اختلط بالتُّراب وهمد.

هَباء [مفرد]: جمعه أهْباء وأَهْبيَة:

1 - غبار، تراب تطيِّره الرِّيحُ ويلزق بالأشياء، أو ينبثُّ في الهواء فلا يبدو إلاّ في ضوء الشَّمس (هَباء الزَّوبعة).

2 - ما تطاير في البيت وتراه في ضوء الشَّمس شبيهًا بالدُّخان، ويُضرب به المثل لما لا يُعتدّ به {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا. فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [قرآن] (*) ذهَب عملُه هَباءً: أي: هدرًا، انتهى إلى لا شيء، بدون جدوى.

3 - قليلو العقل من النَّاس.

* هَباء جَوِّيّ: [في الكيمياء والصيدلة] مزيج غازيّ معلَّق من ذُرَيْرات صلبة أو سائلة.

هَباءَة [مفرد]: قطعة من الهباء.

هَبْو [مفرد]:

1 - مصدر هبا.

2 - ما همَد من لهيب النَّار قدر ما يستطيع الإنسان أن يقرِّب يده منها.

هَبْوَة [مفرد]: جمعه هَبْوات وهَبَوات وأهْباء: ريحٌ تهبُّ بالغبار فيرتفع في الجوِّ (عطَّلت سفرَنا أهباءُ الزَّوبعة).

هُبُوّ [مفرد]: مصدر هبا.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


9-العربية المعاصرة (ورد)

ورَدَ/ورَدَ على يرِد، رِدْ، وَرْدًا ووُرودًا، فهو وارد، والمفعول مورود (للمتعدِّي).

* ورَد الكتابُ المطلوبُ: حضر، وصل (ورَدت البضاعةُ في مواعيدها المحدَّدة) (*) كما ورَد في الحديث الشريف: كما جاء فيه- ورد هذا الكلام في موضوع كذا: ذُكِر في ذلك الموضوع.

* ورَد فلانٌ المكانَ/ورَد فلانٌ على المكانِ: أشرف عليه، أتاه، دخله أو لم يدخلْه (ورَد فلانٌ الماءَ: أقبل عليه- {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً} [قرآن]).

* ورَد الشَّخْصُ عليه: أقبل عليه (ورَد علينا بنبأ سارّ).

ورُدَ يورُد، وُرْدَةً ووُرودًا، فهو وَرْد.

* ورُد الشَّيءُ: احمرَّ بصفرة ({فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [قرآن]: حمراء في لون الوَرْد).

أوردَ يُورد، إيرادًا، فهو مُورِد، والمفعول مُورَد.

* أوردَ الشَّخصُ الشَّيءَ:

1 - أحضره، جَلَبه (أورد التَّاجرُ إلى دُكَّانه بضاعة جديدة).

2 - أدخله {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [قرآن].

* أورد الخبرَ أو الكلامَ/أورد الخبرَ أو الكلام عليه: قصَّه، ذكره (أورد المذيعُ الخبرَ مفصِّلًا دقائقه- أكثر من إيراد الشَّواهد- أورد القصَّة كاملة- أورد الكاتب حديث الرّسول صلّى الله عليه وسلّم بنصّه في كتابه- كان لابّد للشاهد من إيرادَ كلّ ما سمعه ورآه).

* أورد الفَرَسَ الماءَ: جعله يَردُه، أي يذهبَ إليه ليشرب.

استوردَ يستورد، استيرادًا، فهو مُستورِد، والمفعول مُستورَد.

* استورد السِّلعةَ ونحوَها: جلَبها أو أحضرها من خارج البلاد (شركة استيراد وتصدير- تخفيض حجم الاستيراد- تصدِّر بلادُنا المواد الخامّ وتستورد السِّلعَ المُصنَّعة).

تواردَ/تواردَ إلى يتوارد، تَوارُدًا، فهو متوارِد، والمفعول مُتوارَد (للمتعدِّي).

* توارَد الشَّاعران: عبَّرا عن المعنى ذاته بالألفاظ عينها، بدون أن ينتحل أحدهما الآخر.

* تواردت الأفكارُ: اتّفقت بين شخصين أو أكثر من غير نقل أو سماع.

* توارَد القومُ الماءَ/توارَد القومُ إلى الماء: وردوه أو أقبلوا عليه معًا.

* توارَد الأعضاءُ إلى المجلس: وصلوا إليه الواحدُ تِلْو الآخر (تواردوا إلى قاعة الاجتماع).

تورَّدَ يتورَّد، تورُّدًا، فهو مُتورِّد.

* تورَّد خَدُّ الفتاة: مُطاوع ورَّدَ: احمرَّ، صار بلون الوَرْد.

ورَّدَ يورِّد، تَوْرِيدًا، فهو مُورِّد، والمفعول مُورَّد (للمتعدِّي).

* ورَّدتِ الشَّجرةُ: نوَّرَتْ وأخرجت الوَرْدَ.

* وردَّت المرأةُ: احمرَّ خدُّها.

* ورَّدتِ المرأةُ خدَّها: حَمَّرَته.

* ورَّد التَّاجرُ البضاعةَ: جلبها من الخارج، عكسه صدَّر.

* ورَّد الثَّوبَ: صبغه على لون الوَرْد.

إيراد [مفرد]: جمعه إيرادات (لغير المصدر):

1 - مصدر أوردَ.

2 - [في الاقتصاد] دخل، ناتج فوائد ماليَّة أو رِيع عقارات (إيراد شهريّ/عقاريّ- إيراد الشَّركة- إيرادات النَّفْط/جمركيَّة).

3 - [في الاقتصاد] دخل لحكومة ما من جميع المصادر مخصَّص لدفع النَّفقات العامَّة.

* سند إيراد: [في القانون] سند من قِبَل وكالة مفوَّضة بتمويل بناء وتحسين ممتلكات عامّة ويتمّ دفع السَّند من الأموال العامّة.

استيراد [مفرد]: مصدر استوردَ.

* كشف استيراد: [في التجارة] قائمة بالسِّلع الواردة للجمارك، كالواردات أو الصَّادرات.

توارُد [مفرد]: مصدر تواردَ/تواردَ إلى.

* توارُد الأفكار: [في علوم النفس] واقع نفسيّ قوامه أن أفكارًا أو صورًا ترتبط بعضها ببعض على نحو أنَّ بعضها يستدعي بعضًا.

* توارُد الخواطر: [في علوم النفس] تلاقي الأفكار والوجدانات لدى شخصين برغم ما بينهما من مسافة، وذلك بوسائل لا تفسير لها حتَّى الآن ولا تمت إلى الحواسّ بصلة.

توريد [مفرد]: مصدر ورَّدَ.

* توريد البضاعة: تسليمُها.

مَوْرِد [مفرد]: جمعه مواردُ:

1 - مصدر ميميّ من ورَدَ/ورَدَ على.

2 - اسم مكان من ورَدَ/ورَدَ على: مَنْهَل، مكان تجد فيه الحيوانات ماءً للشُّرب (جاء بالبهائم على مَوْرِد الماء).

3 - طريق (كُلٌّ له مَوْرِد خاصّ في حياته).

4 - مصدر ومَنْبَع (موارد طبيعية- موارد الطَّاقة/المياه).

5 - مصدر رزق، كُلّ ما من شأنه أن يسدّ الحاجات الإنسانية سواء أكان شيئًا مادّيًّا أو خدمة تُؤدَّى (ليس له مَوْرِد- موارد الدَّولة: دَخْلُها، عكسه نفقاتُها) (*) استطلاع الموارد: تحقيقٌ حول الموارد المالية لشخص للتحقّق من أحقيّته للحصول على مساعدات ماليّة- مَوْرِد رِزْق: باب رِزْق.

وارِد [مفرد]: جمعه واردون (للعاقل) وواردات (لغير العاقل) ووُرَّاد (للعاقل):

1 - اسم فاعل من ورَدَ/ورَدَ على (*) الصَّادر والوارد: ما يُرسل وما يُرَدّ- ما له صادر ولا وارد: أي ما له شيء.

2 - [في الاقتصاد] بضاعة أجنبية تشتريها الدَّولة، وهي مقابل الصَّادر (الواردات والصَّادرات- تقليص حجم الواردات يوفّر العُملة الصَّعبة).

3 - [في الاقتصاد] عائدات الدولة من رسوم الجمارك وغيرها من المرافق الرسميَّة.

* الوارِد:

1 - السَّابق {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ} [قرآن] (*) الوارِد ذِكره: الذي أُتي على ذِكره- لا تفوته شاردة ولا واردة: لا يغفل عن شيء.

2 - الذي جاء، المذكور (اطَّلعتُ على المقالة الواردة في المجلة).

وَرْد [جمع]: وجمع الجمع وُرْد ووِراد، ومفرده وَرْدَة:

1 - نَوْر كُلّ شجرة يُشَمّ (أخرجت الأشجارُ وَرْدَها في فصل الرَّبيع).

2 - [في النبات] جنس نباتات جنبيَّة مُعَمَّرة من فصيلة الورديّات، أنواعه كثيرة، سُوقُها شائكة منتصبة أو مدّادة يُستخرج من زهر بعضه دُهْنُ الوَرْد وماء الوَرْد (جمال بلا حياء، وردة بلا عِطْر- وَرْدٌ تألّق في ضاحي منابته.. فازداد منه الضُّحى في العين إشراقا- {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [قرآن]) (*) زَمَنُ الوَرْد: يُضرب به المثل في الحسن والطِّيب- في عُمُر الوَرْد: في نضرة الشَّباب.

* ماء الوَرْد: [في الكيمياء والصيدلة] مستحضر عطريّ يُصنَّع بنقع أو تقطير بتلات الوَرْد في الماء، ولهذا المحلول رائحة الورد المقطّرة، ويُستخدم في موادّ التَّجميل والطَّهي.

وَرْد [مفرد]:

1 - مصدر ورَدَ/ورَدَ على.

2 - صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من ورُدَ.

وِرْد [مفرد]: جمعه أوراد:

1 - ماءٌ يُورَد، إشراف على الماء وغيره بدخول أو غير دخول {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [قرآن].

2 - قوم يَرِدون الماء أو غيره ({وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [قرآن]: وقيل: معناه: قومٌ عطِاشٌ).

3 - وثيقة يسجِّل فيها الصَّرّاف ما على الأرض الزِّراعيّة من الأموال وما سُدِّد منها.

4 - جزء من القرآن الكريم أو الذِّكر يتلوه المسلم (يحافظ على قراءة وِرْده اليوميّ من القرآن- قرأت وِرْدي قبل أن أنام).

وَرْدانِيّ [جمع]: [في الحيوان] جنس طير من فصيلة الحماميّات، أشهر أنواعه الوردانيّ المطوَّق.

وُرْدَة [مفرد]: مصدر ورُدَ.

وَرْديّ [مفرد]: اسم منسوب إلى وَرْد.

* الحُمَّى الوَرْديَّة: [في الطب] حُمَّى تصيب الأطفال، وهي من الأمراض المُعْدِيَة.

* حبّ الشَّباب الوَرْديّ: [في الطب] التهاب مزمن لجلد الوجه خاصّة الأنف والخدَّين، يتميَّز باحمرار الجلد بسبب توسُّع الأوعية الدَّمويّة وبظهور بثور شبيهة بحَبِّ الشَّباب.

وَرْديَّة [مفرد]:

1 - اسم مؤنَّث منسوب إلى وَرْد1: (أحلام وَرْديَّة).

2 - مصدر صناعيّ من وَرْد2: نوبة في العمل (بدأت الوَرْديَّة المسائيّة من العمل في المطبعة).

وُرود [مفرد]: مصدر ورُدَ وورَدَ/ورَدَ على.

وَريد [مفرد]: جمعه أَوْرِدة ووُرُد ووُرود: [في التشريح] كُلُّ عِرْق يحمل الدَّمَ الأزرق من الجسد إلى القلب (حُقْنة في الوَريد) (*) منتفخ الوَريد: غضبان، سيّئ الخُلُق.

* الوريد التَّاجيّ: [في التشريح] نوع من الأوردة التي تعيد الدَّم من الأنسجة العضليّة للقلب إلى التّجويف القلبيّ.

* الوريد الأجوف: [في التشريح] أحد الوريدين الرَّئيسيّين اللَّذين ينقلان الدَّم من أعلى الجسم إلى أسفله وينتهي في الأُذين الأيمن من القلب.

* الوريد البابيّ: [في التشريح] وريد كبير يتجمَّع فيه الدَّم من أنحاء القناة الهضميّة ويدخل في الكبد ويتفرَّع فيها.

* حَبْل الوَريد: [في التشريح] عرق في العنق متصل بالوتين، يُضرب به المثل في القرب {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [قرآن] - أدنى من حبل الوريد: أقرب إليه منه، كناية عن القرب الشَّديد.

* الوَريدان: النَّبض والنَّفَس.

وريديَّة [مفرد]: اسم مؤنَّث منسوب إلى وَريد.

* قناة وريديَّة: [في التشريح] قناة موسَّعة تحتوي على دم وريديّ.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


10-المعجم الوسيط (الدَّهان)

[الدَّهان]: المكان الزَّلَق.

و- الطريق الأَمْلَس.

و- الجلد الأَحمر.

وفي التنزيل العزيز: {فَكَانَتْ وَرْدَ ةً كَالدَّهَانِ} [الرحمن: 37].

و- ما يُدْهَن به من الأَصباغ.

و- دُرْدِيّ الزيت.

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


11-المعجم الوسيط (الهَبَاءُ)

[الهَبَاءُ]: التُّرابُ الذي تُطيره الريحُ ويلزَقُ بالأَشياء، أَو ينبثُّ في الهواء فلا يبدو إِلاَّ في ضوءِ الشمس.

وفي التنزيل العزيز: {وَبُسَّتِ الجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة: 5-6].

و- من الناس: القليلو العقل.

(والجمع): أَهْبيَةٌ، وأَهْبَاءٌ.

وأَهباءُ الزوبعة: ما ارتفع في الجوِّ في أَثنائها.

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


12-المعجم الوسيط (انْبَثّ)

[انْبَثّ]: تفرَّق وانتشر، فهو مُنْبَثٌّ.

وفي التنزيل العزيز: {فَكانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة: 6].

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


13-المعجم الوسيط (بَرِشَ)

[بَرِشَ] -َ بَرَشًا، وبُرْشَةً: اختلف لونه فكانت فيه نقطةٌ حمراءُ، وأُخرى سوداءُ أو غبراءُ أو نحو ذلك، فهو أَبْرَشُ.

يقال: جِلْدٌ أَبْرَشُ، وفَرَسٌ أَبْرَشُ، وروض أَبْرَشُ.

وهى بَرْشاءُ.

(والجمع): بُرْشٌ.

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


14-المعجم الوسيط (جَفْجَفَ)

[جَفْجَفَ] الثوبُ الجديدُ ونحوُه: تحرَّك فكان له صوتٌ.

و- جفَّ وفيه نَداوةٌ.

و- الموكِبُ: كان له حفيفٌ في السَّير.

و- النَّعَمَ: ساقَها بعُنف فكانت لها حركة.

و- الماشِيَةَ: جمعَهَا.

و- حَبَسها.

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


15-المعجم الوسيط (كَانَ)

[كَانَ] الشيءُ -ُ كَوْنًا، وكِيانًا، وكَيْنُونَةً: حَدَثَ، فهو كائن.

والمفعول مَكُونٌ.

وكان لها ثلاث حالات: الأولى: أَن تكون من الأفعال التي ترفعُ الاسمَ وتنصِب الخبرَ، وتسمى حينئذ ناقصة، نحو: كان زيدٌ قائمًا: ثَبَتَ له قيام في الزمان الماضي، وتفيد الدوام أَو الانقطاع بقرينة.

ومن معانيها أَنها تأتي:

1- بمعنى صَار: كما في التنزيل العزيز: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكانَتْ سَرَابًا} [النبأ: 20].

و {وَكانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهيلًا} [المزمل: 14].

و: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37].

2- وبمعنِى الاستقبال: كما في التنزيل العزيز: {يَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7].

3- وبمعنى الحال: كما في التنزيل العزيز: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاسِ} [آل عمران: 110].

4- وبمعنى اتصال الزمان من غير انقطاع، مثل: {وكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96]: لم يزل على ذلك.

الثايبة: أن تكتفي بالاسم، وتسمى جينئذ: تامَّة، وتكون بمعنى: (ثَبَتَ) و (وُجِدَ) كقوله عزَّ وجلَّ: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} [المرسلات: 39].

مثل: «ما شَاءَ اللهُ كان وما لم يشأْ لم يكن» [حديث نبوي].

الثالثة: أن تكون زائدةً للتوكيد في وسط الكلام وآخره، ولا تزاد في أوله، فلا تعمل ولا تدلُّ على حدثٍ ولا زمان، نحو قولك: زيد كان منطَلِقٌ، وزيد منطلقٌ كان، ومعناه.

زيدٌ مُنْطلق.

ولا تزاد إِلا بلفظ الماضي، وندر زيادتها بلفظ المضارع في قول أم عَقِيل بن أَبي طالب:

أنت تكون ماجد نبيل *** إِذا تَهُبُّ شمْأَلٌ بَلِيل

ويقال: دخل الأمرُ في خبر كان: مضى.

وكان على فلان كذا كَوْنًا وكِيانًا: تكفَّل به.

و

المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م


16-شمس العلوم (أَمَّا)

الكلمة: أَمَّا. الجذر: ءمم. الوزن: فَعْلَا.

[أَمَّا]: حرف بمعنى الإِخبار وفيه معنى الشرط، ولذلك لزمت الفاء في جوابه، فلا يجوز أن يجاب عنه بغير فاء، قال الله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ}.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


17-شمس العلوم (انْبَتَ)

الكلمة: انْبَتَ. الجذر: بتت. الوزن: الِانْفِعَال.

[انْبَتَ] الشيء: إِذا انقطع.

وفي حديث النبي عليه‌ السلام: «إِنّ هذا الدِّينَ متينٌ فأَوْغِل فيه برِفْق، ولا تبغِّض عبادةَ الله إِلى نفسك، فإِنّ المُنْبَتَ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى».

يضرب مثلًا لمن يتعب نفسه في النوافل ويضيع الفرائض.

ويروى في قراءة إِبراهيم النخعي: فكانت هباء منبتّا بتاء بنقطتين أي منقطعًا.

وأصل انْبَتَ: انْبَتَتَ يَنْبَتِتُ فهو مُنْبَتِتٌ، بإِظهار التضعيف، فأدغم.

وكذلك نحوه من المضاعف.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


18-شمس العلوم (انْبَثَ)

الكلمة: انْبَثَ. الجذر: بثث. الوزن: الِانْفِعَال.

[انْبَثَ] الشيء: أي انتشر، قال الله تعالى: {فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا}.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


19-شمس العلوم (الدِّهَان)

الكلمة: الدِّهَان. الجذر: دهن. الوزن: فِعَال.

[الدِّهَان]: الأديم الأحمر.

والدهان: جمع دُهْن.

وعليهما يفسر قوله تعالى: {فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ}.

وقيل: أي كالأديم الأحمر.

وقيل: كدُرْدِيِّ الزيت.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


20-شمس العلوم (المِسْكين)

الكلمة: المِسْكين. الجذر: سكن. الوزن: مِفْعِيل.

[المِسْكين]: الذي لا شيء له يسكن إِليه، قال الله تعالى: {وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ} وهو أسوأ حالًا من الفقير؛ لأن الفقير يملك شيئًا.

قال يونس: قلت لأعرابي: أفقير أنت؟ قال: لا بل مسكين، قال الراعي:

أما الفقير الذي كانت حلوبته *** وفق العيال فلم يترك له سبدُ

هذا قول أبي حنيفة ومن وافقه.

وقيل: إِن المسكين الذي ليس له ما يكفيه ولكن له شيء يسكن إِليه.

وهو أحسن حالًا من الفقير، والفقير: الذي لا شيء له لقول الله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ}.

والسفينة بمال كثير وهو قول الشافعي.

وروي أيضًا مثله عن أبي حنيفة.

وعن أبي يوسف: الفقير والمسكين سواء.

قال ابن عباس والحسن والزهري ومجاهد: المسكين: المحتاج السائل.

والفقير: المتعفف عن المسألة.

وقيل: إِنما سمّاهم الله تعالى مساكين لضعفهم وعجزهم عن الدفع عن أنفسهم لا لفقرهم، ومنهقول النبي عليه‌ السلام: «مسكين مسكين من لا امرأة له».

ومن ذلك قوله تعالى: {الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ}.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


21-شمس العلوم (فَتَحَ يَفْتَحُ)

الكلمة: فَتَحَ يَفْتَحُ. الجذر: فتح. الوزن: فَعَلَ/يَفْعَلُ.

[فتح]: الفتح: نقيض الإغلاق.

وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي: لا يُفْتَحُ لهم أبواب السماء بالتخفيف والياء على تذكير الجميع، والباقون بالتاء على التأنيث، والتشديد.

غير أبي عمرو فخفف.

وقرأ الكوفيون: {وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْوابًا} بالتخفيف، والباقون بالتشديد، وكذلك قوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوابُها}.

والفتح: النصر.

قال الله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}.

والفتح: الحكم، والله عز وجل الفاتح والفتاح: أي الحاكم، قال تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ}، وقال تعالى: {وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ}.

ويقال: فتح بيننا الفتاح: أي قضى القاضي.

قال الفراء: هي لغة أهل عمان.

وقال غيره: هي لغة مراد.

قال ابن عباس: كنت لا أدري ما (افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا) حتى سمعت بنت ابن ذي يزن تقول: تعال أفاتحك.

ويقال: فتح الأمير المدينة: أي ملكها، وقول الله تعالى: {فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ}، قيل: يعني فتح مكة، وقيل: أي بفصل القضاء.

وقيل: بالنصر.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


22-شمس العلوم (الفاء)

الكلمة: الفاء. الجذر: فيي. الوزن: فَعَل.

[الفاء]: هذا الحرف، يقال: كتب فاءً حسنة، وتصغيرها فُييَّةٌ.

ولها مواضع: تكون من أصل الكلمة نحو: فرح، حفر، حَرَف، وتكون للعطف، ومعناها التعقيب، وكون الثاني بعد الأول، كقولك: جاء زيد فعمرو، ورأيت زيدا فعمرا، ومررت بزيدٍ فعمروٍ، والمعنى أن عَمْرا بعد زيد في ذلك كله من غير قال الله تعالى: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} أي: ولا يعتذرون بحق، ولو كانت فاء الجواب لحذف النون.

وتكون للجواب وتسمى أيضا فاء الجزاء.

وتكون في جواب أمّا لازمة كقوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ} وتكون في جواب الشرط كقوله تعالى: {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وكقوله: {فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}، وفي قراءة نافع بغير فاء، وقد جوز حذف الفاء في جواب الشرط نحو هذا للضرورة، كقول حسان:

من يفعل الحسنات الله يشكرها *** والشر بالشر عند الله مثلان

والفعل المستقبل معها في جواب

الشرط مرفوع بتقدير الابتداء كقوله تعالى: {فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ} أي: فهو ينتقم الله منه.

وتكون في جواب الأمر والنهي والتمني والجحد والاستفهام والعَرْض فَيُنصب الفعل بإضمار (أن) فالأمر كقولك: زرني فأزوركَ، قال

يا ناق سيري عَنَقا فسيحا *** إلى سليمان فنستريحا

ونحوٌ من الأمر الدعاء كقولك: رب ارزقني مالًا فأنفقَ منه.

والنهي كقوله تعالى: {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ}.

والتمني كقوله تعالى: {يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا}.

والجحد كقولك: «ما أنت بكريم فأكرمَك» قال الله تعالى: {فَتَطْرُدَهُمْ}.

والاستفهام كقوله تعالى: {فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا}.

والعرض كقولك: ألا تنزل بنا فنحسنَ إليك.

ويجوز رفع هذه الجوابات كلها على الاستئناف والقطع من الأول كقول جميل:

ألم تسألِ الربعَ القواء فَيَنطِق *** وهل تخبرنْكَ اليومَ بيداءُ سملقُ

أي: فهو ينطق، ولو أراد الجواب لَنَصَبَ.

ويقال في قوله تعالى: فيضاعفُه بالرفع: إنه على الاستئناف.

وقيل: هو معطوف على قوله {يُقْرِضُ}، وتكون الفاء للاستئناف كقوله: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ}، وتكون بمعنى الواو التي بمنزلة رُبَّ، كقوله:

فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع

ويقال: إنها زائدة في قوله: {بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ} وقيل: هي للجزاء.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


23-شمس العلوم (القنديد)

الكلمة: القنديد. الجذر: قند. الوزن: فِعْلِيل.

[القنديد]، بتكرير الدال: الوَرْس.

ويقال: القنديد: عصير العنب تطبخ فيه أفواه الطيب ثم تعتّق، قال:

ببابلَ لم تُعصر فكانت سُلافةً *** تخالط قنديدا ومِسكا مُخَتَّما

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


24-شمس العلوم (اللباس)

الكلمة: اللباس. الجذر: لبس. الوزن: فِعَال.

[اللباس]: ما يُلبس، قال الله تعالى: {يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما}.

ويقال: إِن لباس التقوى: الحياء في قوله تعالى: {وَلِباسُ التَّقْوى} قرأ نافع وابن عامر والكسائي بالنصب، والباقون بالرفع.

ولباسُ الرجل: زوجته، وهو لباسها، قال الله تعالى: {هُنَ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ}، قال الجعدي في امرأة:

إِذا ما الضجيع ثنى جيدها *** تثنت فكانت عليه لباسا

ومن ذلك قيل في تأويل الرؤيا: إِن لباس الرجل امرأته، نحو الإِزار والملحفة وما شاكلهما، وإِن لباس المرأة نحو الخمار والبرقع زوجها، فإِن لم يكن لها زوج فهو وليها لأنهما يسترانها بمنزلة اللباس.

وقد يكون بعض اللباس شأنَ الرجل نحو القميص والرداء فما كان فيهما من صلاح أو فساد ففي شأنه، فإِن رآه خَلَقا أو متمزقًا فهو هَمٌّ وخوف أو ضعفُ أمرٍ في دنيا أو دين، وإِن رآه رقيقًا فهو رقة حال أو ضعف دين، وإِن رآه دنسًا فَهَمٌّ أو عار أو ارتكاب معصية.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


25-شمس العلوم (الهباء)

الكلمة: الهباء. الجذر: هبو. الوزن: فَعَال.

[الهباء]: الغبار الذي يطير من دقاق التراب.

قال الله تعالى: {فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا} قيل: هو ما يسطع من حوافز الدواب فينبت، أي يتفرق.

كذا عن ابن السكيت.

وعنه أن الهباء المنثور ما يرى في الشمس إِذا دخل ضوءها من كوّة.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


26-شمس العلوم (الوردة)

الكلمة: الوردة. الجذر: ورد. الوزن: فَعْلَة.

[الوردة]: واحدة الورد.

وفرسٌ وَرْدَةٌ: بين الشقراء والكميت، وكذلك ما كان على لونها.

قال الله تعالى: {فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ}.

وقيل: وردة: أي حمراء.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


27-موسوعة حضارة العالم (فن الصحراء)

فن الصحراء: (انظر: فن ماقبل التاريخ. فن أفريفيا). كان فن الصخور متبعا لدي سكان الصحراء الكبري بشمال أفريقيا. فمنذ نهاية الألفية السادسة ومنتصف الألفية الرابعة قبل الميلاد كانت الصحراء الكبري الممتدة من غربي مصر وحتي المغرب يسكنها صيادو الأسماك والحيوانات ورعاة قطعان الماشية والأغنام. لأنها كانت مناطق مطيرة ينمو بها السفانا والغابات. وكانت موئلا للحيوانات المفترسة والرعوية حيث كانت من أوائل المناطق التي إستوطنها الإنسان الأول. وقد خلف الفنانون الأوائل بها 30 ألف صخرة رسموا عليها أو نقشوا فوقها ومعظمها في منطقة تسللي بالجزائر. والطور المبكر لهذه الحقبة يطلق عليه فترة بوبالوس (5500 –3500 ق. م.) التي ظهرت بها حيوانات إنقرضت حاليا من المنطقة منها البقر الكبير والأفيال والخرتيت وأفراس النهر. وهذا سببه إنحسار المياه والأمطار وظهور التصحر هناك. ومناظر الحيوانات التي خلفها الفنانون الأوائل بهذه المناطق نراها طبيعية ومتناسبة ومتناسقة. وبدات فيها صور السكان وهم متسلحون بالهراوات والعصي والبلط والأقواس ولم ير رماح بها. والطور الثاني لفن الصحراء المبكريطلق عليه فترة الماشية (من منتصف الألفية الرابعة –منتصف الألفية الثانية ق. م.) حيث بدأ الناس يمارسون الصيد بالبلط البدائية والعصي والأقواس والرماح القصيرة. وكانت الرسومات والمنحوتات لاتبدو طبيعية بالكامل وأحجامها صغيرة, كما بدت في مناطق تسللي وتازارة. فكانت البقرة لها رقبة وفمها به شيء كالشوكة المنفرجة والمشقوقة. وفي هذه الفترة ظهر الفخار والبلط الحجرية المصقولة ورؤوس السهام. وظهرفيها أيضا رسم الكهوف كما في كهف تسللي الذي أظهر السهم والقوس بشكل ملحوظ. والفترة التالية من فن الصحراء الكبري كانت فترة الحصان منذ 1200ق. م. وقد جاء الحصان من البحر من جزيرة كريت. و جاء معه التأثير الكريتي عندما جاء الكريتيون متحالفين مع الليبيين ضد مصر. وفي هذه الفترة ظهرت الفروسية و العربات ثم أعقيها ظهور الجمال. ويمثل رسم الجمل العصر الأخير لفترة فن تسللي. وشعب الصحراء. و يقال أن هذا الفن كان له تأثيراته علي وادي النيل وغرب أفريقيا ولاسيما الأقنعة التي كان يرتديها الراقصون. لكن لايوجد ثمة تشابه بينها وبين الأقنعة في غرب أفريقيا. وفي واحة تازارين جنوب مراكش ظهر أسلوب فن تازرين (الجزائري). وهو فن مجتمع الصيد حيث ظهرت رسومات للحيوانات الرشيقة بأرجلها الطويلة كالغزلان. وقام بهذه الأعمال الرعاة أنفسهم بالصحراء بجنوب الجزائر وحتي الأطلنطي. فالنقوش الصخرية المبكرة في تسللي بالجزائر وفزان بليبيا كانت تعكس الأهمية الإقتصادية للصيد وأهمية الحيوانات كالبقر والأفيال والأحصنة وغيرها في حياة السكان. فمعظم الأشكال البشرية في هذه القطع الفنية هناك كانت مسلحة بالعصي والهراوات وأنواع مختلفة من السهام. وكانت اللوحات تصور الرجال والنساء برؤوس كبيرة أو بأقنعة. كما بينت كيف كان هؤلاء البدو قد تعودوا علي الصيد والحرب من أجل العيش.. وأثناء هذه الفترة من الرسم والنقش هناك ظهرت فترة الماشية وظهرت فيها المواشي المستأنسة في الأعمال الفنية العديدة. ثم أعقبها ظهور فترة الحصان القصيرة الأجل. وبها ظهرت الكلاب الأليفة والأغنام البرية. ثم ظهرت فترة الجمل وهو الحيوان الوحيد وقتها الذي رسم ومعه سجلت السيوف وبعض الأسلحة النارية. وأثناء فترة الجمل كان أسلوب الرسم تخطيطي راق. وهذه الرسومات للجمل مازالت سائدة بين قبائل البدو كالطوارق الذين يعيشون في الصحراء الكبري حاليا حيث ينقشون رسوماتها فوق الصخورالجمال لأهميتها في حياتهم الصحراوية حتي الآن. انظر: فن ماقبل التاريخ

موسوعة حضارة العالم-أحمد محمد عوف-صدرت: 1421هـ/2000م


28-موسوعة حضارة العالم (قبطية)

قبطية: وكانت اللغة القبطية يقصد بها اللغة المصرية ليس لها صلة باسم الديانة القبطية. فكلمة قبطي معناها مصري وكان اللغة القبطية تسمي (تي أسبي ان رمنكيمي) ومعناها اللغة الكيمية نسبة لكلمة كيمي التي معناها الأرض السوداء. وكانت تطلق علي الوادي الخصب المنزرع. أما الأرض التي كانت تحيط بهذا الوادي من الشرق والغرب فكانت تسمي (تاـ وشر) وتعني بالمصرية البلاد الحمراء أي الصحراء. والقبطية ليست لغة ولكنها خط أو كتابة وكانت مستعملة منذ قدماء المصريين. وأصبحت أيام الحكم الإغريقي تكتب بالحروف اليونانية لأنها أسهل ولأن الهجائية اليونانية كانت تحتوي علي كل الحروف المتحركة لتساعد علي نطق الألفاظ والكلمات. والأبجدية القبطية حلت محل الديموطقية (مادة) في القرن الثاني ميلادي. والقبطية هي لغة مصرية قديمة. وهي علاوة علي الحروف الساكنةفي الديموطقية إلا أنها أدخلت الحروف الساكنة. وكانت تستخدم 24 حرفا من الأبجدية الإغريقية علاوة علي 6حروف من الديموطقية للنطق الصوتي والتي لاتوجد في الأبجدية الإغريقية أصلا. (انظر: قبط. أبجدية).

موسوعة حضارة العالم-أحمد محمد عوف-صدرت: 1421هـ/2000م


29-موسوعة حضارة العالم (قبطية)

قبطية: وكانت اللغة القبطية يقصد بها اللغة المصرية ليس لها صلة باسم الديانة القبطية. فكلمة قبطي معناها مصري وكان اللغة القبطية تسمي (تي أسبي ان رمنكيمي) ومعناها اللغة الكيمية نسبة لكلمة كيمي التي معناها الأرض السوداء. وكانت تطلق علي الوادي الخصب المنزرع. أما الأرض التي كانت تحيط بهذا الوادي من الشرق والغرب فكانت تسمي (تاـ وشر) وتعني بالمصرية البلاد الحمراء أي الصحراء. والقبطية ليست لغة ولكنها خط أو كتابة وكانت مستعملة منذ قدماء المصريين. وأصبحت أيام الحكم الإغريقي تكتب بالحروف اليونانية لأنها أسهل ولأن الهجائية اليونانية كانت تحتوي علي كل الحروف المتحركة لتساعد علي نطق الألفاظ والكلمات.

موسوعة حضارة العالم-أحمد محمد عوف-صدرت: 1421هـ/2000م


30-مرافعات قضائية (قاصرة)

قاصرة: قاصرة سن الضحية- وجوب الإشارة إلى عدم تجاوزه- 16 سنة.

" إذا كان مؤدى نص المادة 336 من قانون العقوبات، هو عقاب مرتكب جناية هتك العرض فإن المشرع فرق بين حالتين لعقاب الجاني حسب الجسامة، فكانت الأولى مخففة عن الثانية و لم يشترط فيها كون الضحية قاصرة أو أنها لم تبلغ السادسة عشرة سنة من عمرها كما هو الأمر في الحالة الثانية من نفس المادة،

- و بهذا النص فإنه من الضروري الإشارة إلى تحديد أن الضحية قاصرة لم تكمل 16 سنة ليكون تطبيق أحكام الفقرة الثانية من هذه المادة تطبيقا سليما.

- انه من الثابت أن السؤال الذي طرح لا يشير إلى سن الضحية بكونه كان يقل عن 16 سنة و أنه اكتفى بالذكر أنها قاصرة فقط.

- ان محكمة الجنايات بقضائها خلاف لأحكام هذا المبدأ، تعتبر قد أخطأت في تطبيق القانون و يكون نعي الطاعن على الحكم في محله مما يوجب النقض.

لذلك يستوجب نقض و إبطال حكم محكمة الجنايات.

مرافعات قضائية


31-معجم ما استعجم (بطحاء مكة)

بطحاء مكّة: هى ما حاز السيل، من الردم إلى الحنّاطين يمينا مع البيت؛ وليس الصّفا من البطحاء. وقريش البطاح: قبائل كعب بن لؤىّ، وهم بنو عبد مناف. وبنو عبد العزّى وبنو عبد الدار، وبنو زهرة، وبنو تيم، وبنو مخزوم، وبنو جمح، وبنو سهم ابنى عمرو بن هصيص بن كعب، وبنو عدىّ بن كعب؛ وليس فيها من غير ولد كعب إلّا بعض بنى عامر بن لؤىّ.

وظواهر مكّة لسائر قريش؛ منهم بنو محارب، وبنو الحارث بن فهر، وبنو الأدرم، وعامّة بنى عامر بن لؤىّ. وغيرهم.

قال الزّبير عن شيوخه: لمّا غلبت قصىّ على مكّة، ونفى عنها خزاعة، قسمها على قريش، فأخذ لنفسه وجه الكعبة فصاعدا، وبنى دار النّدوة،

فكانت مسكنة، وقد دخل أكثرها فى المسجد، وأعطى بنى مخزوم أجيادين، وهى أجياد أيضا، ولبنى جمح المسفلة، ولبنى سهم الننيّة، ولبنى عدىّ أسفل الثنيّة، فيما بين بنى جمح وبنى سهم. وقال حذافة العدوىّ يمدح بنى هاشم:

«هم ملئوا البطحاء مجدا وسوددا *** وهم تركوا رأى السّفاهة والهجر»

قال الزّبير: وكان أهل الظواهر من قريش فى الجاهليّة يفخرون على أهل الحرم، بظهورهم للعدوّ؛ وإصحارهم للناس، فدلّ على أن الظواهر ليست فى الحرم.

وروى أبو داود وغيره من حديث حمّاد، عن حميد، عن بكر بن عبد الله وأيّوب جميعا، عن نافع أن ابن عمر كان يهجع هجعة بالبطحاء، ثم يدخل مكّة، ويزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك.

معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م


32-معجم ما استعجم (البقيع)

البقيع: بفتح أوّله، وكسر ثانيه، وعين مهملة: هو بقيع الغرقد، مقبرة المدينة. قال الأصمعىّ: قطعت غرقدات فى هذا الموضع، حين دفن فيه عثمان بن مظعون، فسمّى بقيع الغرقد لهذا. وقال الخليل: البقيع من الأرض: موضع فيه أروم شجر، وبه سمّى بقيع الغرقد، والغرقد: شجر كان ينبت هناك. وقال السّكونىّ عن العرب: البقيع: قاع ينبت الذّرق.

وبقيع الخبجبة، بخاء معجمة وجيم، وباءين، كلّ واحدة منهما معجمة بنقطة واحدة: بالمدينة أيضا، بناحية بئر أبى أيّوب؛ والخبجبة: شجرة كانت تنبت هنالك.

وذكر أبو داود فى باب الركاز من حديث الزّمعىّ، عن عمّته قريبة بنت عبد الله بن وهب، عن أمّها كريمة بنت المقداد، عن ضباعة بنت الزّبير بن عبد المطّلب، أنّها أخبرتها قالت:

ذهب المقداد لحاجته ببقيع الخبجبة، فإذا جرذ يخرج من جحر دينارا، ثم لم يزل يخرج دينارا، حتّى أخرج سبعة عشر دينارا، ثم أخرج خرقة حمراء بقى فيها دينار، فكانت ثمانية عشر؛ فذهب بها إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: خذ صدقتها: فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم: هل أهويت للجحر بيدك؟ قال: لا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:

بارك الله لك فيها!

معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م


33-معجم ما استعجم (قصر بنى حديلة)

قصر بنى حديلة: بالمدينة، بضمّ أوّله وفتح ثانيه، بعده ياء، على لفظ التصغير. ومن حديث أنس بن مالك قال: لمّا نزلت لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى

تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ

قال أبو طلحة: يا رسول الله، إنّ أحبّ أموالى إلىّ بئر حاء، وهى إلى الله ورسوله، فضعها يا رسول الله حيث شئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بخ! ذلك مال رابح. قد قبلناه منك، ورددناه عليك، فاجعله فى الأقربين. فتصدّق به أبو طلحة على ذوى رحمه، فكان منهم أبىّ وحسّان. قال: فباع حسّان بن ثابت حصّته منه من معاوية؛ فقيل له. أتبيع صدقة أبى طلحة؟ قال: ألا أبيع صاعا من تمر بصاع من دراهم! قال:

فكانت تلك الحديقة فى موضع قصر بنى حديلة، الذي بناه معاوية.

رواه ابن السّكن عن محمد بن إسماعيل البخارىّ.

رروى محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التّيمى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى حسّان بن ثابت عوضا من ضربة صفوان بن المعطّل له، الموضع الذي بالمدينة، وهو قصر بنى حديلة، وأعطاه سيرين.

معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م


34-معجم ما استعجم (الخانوقة)

الخانوقة: على وزن فاعولة، هى المدينة التى بنتها الزّبّاء على شاطى الفرات، من أرض الجزيرة، وعمدت إلى الفرات عند قلّة مائه فسكر، ثم بنت فى بطنه أزجا جعلت فيه نفقا إلى البرّيّة، وأجرت عليه الماء فكانت إذا خافت عدوّا دخلت فى النّفق، وخرجت إلى مدينة أختها الزّبيبة.

والخوانق أيضا موضع يأتى بعد هذا فى حرف الخاء والواو.

معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م


35-معجم ما استعجم (ظفار)

ظفار: بفتح أوّله، وفى آخره راء مهملة مكسورة، مبنىّ على الكسر؛ قاله أبو بكر، عن أبى عبيدة: مدينة باليمن. هذا قول أبى عبيدة. وقال غيره سبيلها سبيل المؤنّث لا تنصرف، والحجّة لهذا القول قول الفند الزّمّانىّ:

«إنّما قحطان فينا حطب *** ونزار فى بنى قحطان نار»

«فارجعوا منّا فلولا واهربوا *** عائذين ليس تنجيكم ظفار»

والجزع الظّفاريّ منسوب إلى هذا البلد، قال الشاعر:

«أوابد كالجزع الظّفاريّ أربع *** حماهنّ جون الطّرّتين مولّع»

وقال المرقّش الأصغر:

«تحلين ياقوتا وشذرا وصيغة *** وجزعا ظفاريّا ودرّا توائما»

قال: والجزع النّقمىّ أيضا نفيس. وللجزع أيضا معادن بضهر وسعوان وعذيقة مخلاف خولان. والجزع السّماويّ هو العشارىّ، من وادى عشار؛ والعقيق الجيّد من ألهان، ومن شهارة، جبل بالمغرب من ديار همدان. قال:

والبلور فى كلّ هذه المواضع. وقال الكلبىّ: خرج ذو جدن الملك يطوف فى

أحياء العرب، فنزل فى بنى تميم،، فضرب له فسطاط على قارة مرتفعة، فجاءه زرارة بن عدس مصعدا إليه، فقال له الملك: ثب، أى اقعد بلغته. فقال زرارة:

ليعلمنّ الملك أنّى سامع مطيع، فوثب إلى الأرض؛ فتقطّع أعضاءه، فقال الملك:

ما شأنه؟ فقيل له: أبيت اللّعن، إن الوثب بلغته، الظّفر. فقال: ليس عربيّتنا كعربيّتكم، من دخل ظفار فليحمّر، أى فليتكلّم بلغة حمير. ثم تذمّم فقال: هل له من ولد، فأتى بحاجب، فضرب عليه القبّة، فكانت عليه إلى الإسلام. وقال تبّع:

«ظفرنا بمنزلنا من ظفار *** وما زال ساكنها يظفر»

وقصر المملكة بظفار قصر ذى ريدان. ويقال إن الجنّ بنت غمدان وظفار وسلحين وبينون وصرواح. وقال امرؤ القيس فى ريدان:

«وأبرهة الذي زالت قواه *** على ريدان إذ حان الزّوال»

وقال الفرزدق:

«وعندى من المعزى تلاد كأنّها *** ظفاريّة الجزع الذي فى الترائب»

وفى حديث الإفك: «فانقطع عقد لها من جزع ظفار، فحبس الناس ابتغاء عقدها».

معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م


36-معجم ما استعجم (فيد)

فيد: بفتح أوّله، وبالدال المهملة: هو الذي ينسب إليه حمى فيد. قال ابن الأنبارىّ: الغالب على فيد التأنيث، قال لبيد فترك إجراءها:

«مرّيّة حلّت بفيد وجاورت *** أهل العراق فأين منك مرامها»

وأنشد ابن الأعرابىّ:

«سقى الله حيّا بين صارة والحمى *** حمى فيد صوب المدجنات المواطر»

وقال السّكونى: كان فيد فلاة فى الأرض بين أسد وطيّىء فى الجاهليّة، فلمّا قدم زيد الخيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطعه فيد. كذلك روى هشام بن الكلبىّ عن أبى مخنف فى حديث فيه طول قال: وأوّل من حفر فيه حفرا فى الإسلام، أبو الدّيلم مولى يزيد بن عمر بن هبيرة، فاحتفر العين التى هى اليوم قائمة، وأساحها، وغرس عليها، فكانت بيده حتّى قام بنو العبّاس، فقبضوها من يده. هكذا قال السّكونىّ. وشعر زهير، وهو جاهلى، يدلّ أنّه كان فيها شرب، وذلك قوله:

«ثمّ استمرّوا وقالوا إن مشربكم *** ماء بشرقيّ سلمى فيد أوركك»

وفيد: بشرقىّ سلمى: كما ذكر، وسلمى: أحد جبلى طيّيء، ولذلك أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا فيد، لأنّها بأرضه. وأوّل أجبله على مظهر طريق الكوفة بين الأجفر وفيد، جبيل عنيزة، وهو فى شقّ بنى سعد بن ثعلبة، من بنى أسد بن خزيمة، وإلى جنبه ماء يقال لها الكهفة، وماءة يقال لها البعوضة. وبين فيد والجبيل ستة عشر ميلا، وقد ذكر متمّم بن نويرة البعوضة، فقال:

«على مثل أصحاب البغوضة فاخمشى *** لك الويل حرّ الوجه أو يبك من بكى»

وسكة البعوضة معروفة، وهى النّجفة، نجفة المرّوت، وبين رملة جراد، وينزلها نفر من بنى طهيّة، وأسفل من ذلك قاع بولان، وهو قاع صفصف

مرت، لا يوجد فيه أثر أبدا، ذكر ذلك أبو محلّم. ثم يلى الجبيل العقر، عقر سلمى، لبنى نبهان، وهما عن يسار المصعد إلى مكّة، ثم الغمر، وهو جبل أحمر طويل، لحىّ من بنى أسد، يقال لهم بنو مخاشن. وإلى جنبه ماءة يقال لها الرّخيمه، وأخرى يقال لها الثّعلبيّة. وبين الغمر وفيد عشرون ميلا. ثم الجبل الثالث قنّة عظيمة تدعى أذنة، لبطن من بنى أسد يقال لهم بنو القريّة؛ وفى ناحيتها ماءة يقال لها تجر، وهى كلّها داخلة فى الحمى، وبين أذنة وفيد ستة عشر ميلا. ثم يلى أذنة هضب الوراق، لبنى الطّمّاح من بنى أسد، وفى ناحيته ماءة يقال لها أفعى، وأخرى يقال لها الوراقة. ثم يلى هضب الوراق جبلان أسودان، يدعيان القرنين، بينهما وبين فيدستة عشر ميلا، يطؤهما الماشى من فيد إلى مكّة، وهما لبنى الحارث بن ثعلبة من بنى أسد، وأقرب المياه إليهما ماءة يقال لها النّبط، بينها وبينهما أربعة أميال. ويليهما عن يمين المصعد إلى مكّة، جبل يقال له الأحول، وهو جبل أسود لبنى ملقط من طيّئ، وأقرب مياههم إليها ماءة يقال لها أبضة، وهى فى حرّة سوداء غليظة، وقد ذكرها حاتم فقال:

عفت أبضة من أهلها فالأجاول ثم يلى الأحول جبل يقال له دخنان، وهو لبنى نبهان من طيّئ، بينه وبين فيد اثنا عشر ميلا. ثم يليه عن يمين المصعد جبال يقال لها الغير، فى غلظ.

وهى لبنى نعيم من بنى نبهان، بينها وبين فيد عشرة أميال. ثم يلى هذه الجبال جبلال، يقال لأحدهما جاش، وللآخر جلذيّ، وهنا هنا اتّسع الحمى وكرم

بينهما وبين فيد أزيد من ثلاثين ميلا، وهما لبطن من طيّئ يقال لهم بنو معقل، من جديلة. وأقرب المياه منهم الرّمص، بينها وبين الجبلين ستة أميال. ثم يليها جبل يقال له الصّدر، به مياه فى واد منهل، وهو لبنى معقل أيضا. ثم يليه صحراء الخلّة، لبنى ناشرة من بنى أسد، بينها وبين فيد ستة وثلاثون ميلا.

وأقرب المياه منها الجثجاثة. ثم يلى هذه الصحراء الثّلم، إكام متشابهة سهلة، مشرفة على الأجفر، لبنى ناشرة. وأقرب المياه منها الزّولانيّة. وبين الثّلم وفيد خمسة عشر ميلا. والأجفر خارجة عن الحمى.

وقال محمّد بن حبيب: قال الفقعسىّ يذكر حمى فيد:

«سقى الله حيّا بين صارة والحمى *** حمى فيد صوب المدجنات المواطر»

«أمين وردّها من كان منهم *** إليهم ووقّاهم حمام المقادر»

وقال الشّمّاخ:

«سرت من أعالى رحرحان وأصبحت *** بفيد وباقى ليلها ما تحسّرا»

وروى ابن أبى الزّناد عن أبيه، أن عمر بن الخطّاب أوّل من حمى الحمى بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنّ عمر بن عبد العزيز كان لا يؤنى بأحد قطع من الحمى شيئا، وإن كان عودا واحدا، إلّا ضربه ضربا وجيعا.

وفيد أيضا: جبل باليمن عليه قصر. وهو طريق العراق. والنسب إليه فايدى.

معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م


37-معجم ما استعجم (قناة)

قناة: بزيادة هاء التأنيث، على لفظ الذي قبله: واد من أودية المدينة.

وفى حديث أنس بن مالك أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم لما استسقى سال الوادى قناة شهرا، ولم يأت أحد من ناحية إلّا حدّث بالجود. وقال نصيب:

بيثرب أو وادى قناة يليح وروى مالك عن يحيى بن سعيد قال: بلغنى أن السائب بن جنّاب توفّى، وأنّ امرأته جاءت عبد الله بن عمر، فذكرت له وفاة زوجها، وذكرت حرثا بقناة، فسألته هل يصلح لها أن تبيت فيه؟ فنهاها عن ذلك، فكانت تخرج

من المدينة سحرا، فتصبح فى حرثهم، فتظلّ فيه يومها، ثم تدخل المدينة إذا أمست، فتبيت فى بيتها.

معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م


38-معجم ما استعجم (مليحة)

مليحة: تصغير المتقدّمة، قد تقدّم ذكرها فى رسم تيماء وقال أبو عبيدة: مليحة: من منازل بنى يربوع. وقد أغارت عليهم فيها بكر بن وائل، فكانت لبنى يربوع عليهم، فهو يوم مليحة، ويوم أعشاش، ويوم الأفاقة، ويوم الإياد، وهى مواضع متقاربة. وكانت بنو يربوع يتّشتّون جفافا، فإذا انقطع الشتاء. أسهلوا بنجفة مليحة، وبالحديقة من الأفاقة، وبروضة الثّمد؛ قال متمّم بن نويرة:

«أخذن بها جنبى أفاق وبطنها *** فما رجعوا حتّى أرقوا وأعتقوا»

وقال العوّام يعنى بسطاما:

«إن تك فى يوم الغبيط ملامة *** فيوم العظالى كان أخزى وألوما»

«أبى لك قيد بالغبيط لقاءهم *** ويوم العظالى إذ نجوت مكلما»

وكان جرح فى هذا اليوم، وفرّ عن قومه، وأسر يوم غبيط المدرة، فهو الذي أراد العوّام بن شوذب بقوله: «أبى لك قيد بالغبيط» ثم قال:

«ولو أنّها عصفورة لحسبتها *** مسوّمة تدعو عبيدا وأزنما»

وكان الذي أسره عتيبة بن الحارث بن شهاب. وقال عمارة بن عقيل: مليحة:

بين الحزن والشّيحة. والشّيحة: رملة إذا طلعت فيها طلعت فى نجفة، وهى

نجفة مليحة، ثم طلعت فى حزن بنى يربوع، قال أبو دواد:

«وآثار يلحن على ركىّ *** بجنب مليحة فالمستراد»

قال أبو عبيدة: ومخطّط: جبل بينه وبين بطن الإياد ليلة، كان فيها أيضا يوم بين بكر وبنى يربوع، ظفرت فيه بنو يربوع.

معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م


39-معجم ما استعجم (الهضيبات)

الهضيبات: على لفظ تصغير هضبات: موضع كان فيه يوم من أيام العرب، وهو يوم طخفة، قال الفرزدق:

«ولم تأت عير أهلها بالّذى أتت *** به جعفرا يوم الهضيبات عبرها»

وهذه الوقعة كانت بين الضّباب وبنى جعفر، فكانت للضّباب على بنى جعفر، قتلوا منهم سبعة وعشرين، فجاءت نساء بنى جعفر، فحملت قتلاهم على الإبل، فدفنتهم.

معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع-أبو عبيد عبدالله بن عبدالعزيز بن محمد البكري الأندلسي-توفي 487هـ/1094م


40-معجم متن اللغة (ترجمة حياة المؤلف)

ترجمة حياة المؤلف

نشأ المؤلف نشأة أترابه من أبناء مدينة النبطية الصغيرة الواقعة إلى الجنوب من لبنان.

وقد ولد في اليوم الرابع من حزيران 1872؛ ثم ألحقه والده سنة 1878 بكتاب البلدة، فقرأ فيه القرآن وجوده، كما تعلم أصول الخط.

وفي سنة 1880 رحل الطفل، وهو بعد في الثامنة من عمره، إلى قرية أنصار، لطلب العلم فيها على يد العلامة السيد حسن إبراهيم، فدرس فيها الصرف والنحو.

حتى إذا قضى عشرين شهرًا بين يدي أستاذه، استدعاه والده، بعد أن فقد عليًا أكبر أبنائه، ليتسلى به عن همومه.

فأخذ الطفل يتردد في بلدته على مدرسة النبطية الرسمية، متعلمًا فيها مبادئ الحساب والجغرافيا، كما راح يختلف إلى مجلس العلامة السيد نور الدين قارئًا عليه شرح الألفية لابن الناظم.

ثم انقطع عن طلب العلم بعد أن توفي والده خلال عام 1884.

ولم يصل ما انقطع من دراسته حتى هبط إلى بلدته السيد محمد إبراهيم، العالم الذي تميز بالخبرة، والسعة في الأفق، والشمول في المعرفة، فلازمه وقرأ عليه علوم المعاني والبيان والمنطق والطبيعيات، وتأثر بأستاذه تأثرًا بالغًا في شغفه بالعلوم العصرية والدراسات الفل

ولما لم يكن يومئذ مدارس تتيح له فرصة التزيد من هذه العلوم فقد اجتهد وسعه في المطالعة وتثقيف نفسه، وبذل جهدًا شديدًا في اقتناء الكتب معلقًا عليها، شارحًا ما غمض منها، مستعينًا بمن يفوقه في المعرفة والدراية حتى أدى به ذلك إلى قصر البصر.

كان انتشار الجهل يؤلمه، وفقدان المدارس يحز في نفسه.

فكأنه، في إكثاره من المطالعة والدراسة، يحاول أن يعوض عن الأمية الشاملة التي أخنت بكلكلها على بلدته.

وما كاد يبلغ السابعة عشرة من عمره حتى وضع، مع فريق من إخوانه، حجر الأساس لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في النبطية، مستهدفًا بها تأسيس مدرسة أو أكثر لتسهيل أسباب المعرفة أمام سكان بلدته., وقد استولى الأتراك على ممتلكات هذه الجمعية وألغوا رخصتها خلال

ولكنه أعاد الكرة بعد الحرب يؤازره إخوان له، فاستعاد للجمعية قوتها حتى أصبحت لها ممتلكات تقدر قيمتها- اليوم- بمليون ليرة لبنانية.

وفي سنة 1891 قدم العلامة السيد حسن يوسف مكي إلى النبطية، وافتتح فيها مدرسة

الحميدية التي التحق بها المؤلف الشاب طالبًا ومعلمًا.

فكان يلقي دروسًا في النحو والصرف والمنطق والبيان على طلاب الصفوف الأولية، ويتلقى، بدوره من رئيس المدرسة، دروسًا في الفقه وأصوله وعلم الكلام والفقه الاستدلالي.

ثم سافر غلى الحجاز لأداء فريضة الحج سنة 1893.

حياته السياسية والعلمية

كان، رحمه الله، دائم التطلع إلى كل جديد، تدفعه رغبة شديدة في تغيير الأوضاع السيئة التي وجد عليها سكان بلدته بصورة خاصة، وأولئك الذين كانوا يعيشون في مختلف القرى والدساكر المحيطة بالبلدة.

كل شيء كان يؤلمه: الفقر، والجهل، والتمسك الأعمى بالتقاليد، وسلطان الإقطاع العشائري، وتخلف الناس واستسلامهم للأغلال التي كانوا يرسفون بها فلا يكادون يتحركون.

فأقبل على مقاومة هذه العلل ما وسعته المقاومة، مستعينًا بالوسائل التي تهيأت له، رغم اشتغاله بتجارته، فتعاون مع إخوان له في تأسيس محافل أدبية وعلمية، وجمعيات سرية ذات أهداف سياسية لم تلبث أن تهاوت جميعها بسبب طغيان النظام الإقطاعي، وعجز المواطنين عن إدرا

ولكن محاولاته كانت مسمارًا، بل مسامير دقت في نعش هذا الإقطاع.

ثم كرر هذه المحاولات وأعاد النظر في أساليبه، وبقي جاهدًا مناضلًا، رغم تقدم السن به، حتى آخر نفس من أنفاس حياته.

ولما لم يجد في بلدته ما يحقق له خطته بالسرعة التي يريدها، التحق بالحركات التحريرية العربية، واشترك في معترك السياسة العامة.

فكان عضوًا مسؤولًا في يبعض الجمعيات السرية التي كانت تسعى إلى تحرير البلاد العربية من نير الحكم العثماني.

واكتشفت السلطات العثمانية الحلقات السرية لهذه الجمعيات أو أكثرها، فكان المؤلف مع رضا بك الصلح وولده رياض وعبد الكريم الخليل وغيرهم من أفراد القافلة الأولى التي قدمها السفاح جمال باشا للمحاكم العرفية في بلدة عالية.

ولكن الله سلمه كما سلم المرحومين رضا بك ورياضًا من حبل المشنقة.

ولما لم يجد ورفاقه، بعد انسحاب الأتراك، ما يحقق لهم "أهدافهم الوطنية" تابعوا نضالهم وقاوموا الانتداب الفرنسي مقاومة شديدة بالغة، واشترك المؤلف في ثورة جبل عامل على الاحتلال الفرنسي سنة 1920، فنكل به وأبعد عن بلده، كجزء من خطة وضعها الاستعمار الفرنسي للقضاء على القائلين بالأمة العربية الواحدة ذات السيادة الكاملة التامة.

وقد مثل بلاده في عدة مؤتمرات سياسية وأدبية، منها: مؤتمر الوحدة السورية، ومؤتمر الساحل، ومؤتمر بلودان، ثم المؤتمر الإسلامي العام في القدس، وانتخب عضوًا فخريًا بلجنة دار الكتب في المسجد الأقصى، وأخيرًا مؤتمر بيت مري الثقافي الذي عقدته جامعة الدول العربية.

وفي اليوم الثامن عشر من شهر تشرين الأول سنة 1920 قرر المجمع العلمي العربي بدمشق انتخاب صاحب الترجمة عضوًا في المجمع.

وكتب إليه ما نصه: "كتابي إليكم والمجمع في جلسته الثمانين المنعقدة لاثني عشر يومًا خلت من شهر تشرين الأول سنة عشرين وتسعمائة وألف قد قرر انتخابكم عضو شرف لما يعهد فيكم من الكتابة في العلم والتمكن من آداب اللغة العربية التي نعدكم من فرسانها، لما قمتم به

وفي سنة 1930 م (1349 هـ) انتدبه المجمع العلمي العربي بدمشق لتأليف معجم يجمع فيه متن اللغة باختصار مفيد، ويضم إليه ما وضعه مجمعًا دمشق ومصر من الكلمات المنتخبة للمعاني المستحدثة، وما دخل في الاستعمال وطرأ على اللغة زمن العباسيين والأيوبيين ومن بعدهم.

فتم له ذلك كله بعد جهد ونصب داما نحو ثماني عشرة سنة.

وخلاصة القول أنه كان للمؤلف أثر بارز، وكانت له مشاركات واسعة في مختلف وجوه النشاط السياسي والثقافي والاجتماعي، يملأ وقته كله بالتفكير والكتابة، فهو مناضل سياسي، وهو مؤلف وكاتب.

نشر مئات المقالات في مختلف المجلات والجرائد، وعند صداقات واسعة صحيحة مع رجال العلم والأدب والسياسة، فكانت له في القلوب منزلة الراعي الأديب والعالم الثقة.

مؤلفاته

طبع منها:

رسالة الخط، هداية المتعلمين، الدروس الفقهية، رد العامي إلى الفصيح.

قيد الطبع:

معجم متن اللغة.

المخطوطة:

معجم الوسيط، المعجم الموجز، التذكرة في الأسماء المنتخبة للمعاني المستحدثة.

كتاب الوافي بالكفاية والعمدة.

أما مقالاته اللغوية والعلمية والأدبية والسياسية والتاريخية وقصائده الشعرية، فما تزال متفرقة في بطون المجلات والجرائد من مثل مجلة المقتطف بمصر، ومجلة المجمع العلمي العربي بدمشق، ومجلة الكلية، ومجلة المقتبس، ومجلة العرفان بصيدا، وجريدة جبل عامل بالنبطية وغيرها.

وفاته:

فجع المؤلف سنة 1948 بوفاة أكبر أبنائه وأقربهم إليه، الدكتور محمد علي رضا، وهو في شرخ شبابه وميعة صباه، فأصابه من هذه الكارثة شر كثير طرحه في فراش المرض سنتين ونيفًا صور خلالها آلامه في قصائد شعرية مختلفة.

وفي ليلة السابع من تموز 1953 لبى داعي ربه بعد حياة حافلة بالنشاط المستمر والتضحيات الجلى.

لقد كان رحمه الله رائد نهضة، ومعلم جيل، ومدماكًا من مداميك التقدمية في جبل عامل، مسقط رأسه، وملعب طفولته.

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


41-معجم متن اللغة (مقدمة المؤلف 1)

مقدمة المؤلف

(مولد اللغة)

نشأة اللغات وطوائفها

اللغة "فعلة" بضم الفاء؛ قال الجوهري: أصلها لغي أو لغو، والهاء عوض.

وزاد أبو البقاء: ومصدره اللغو وهو الطرح، فالكلام لكثرة الحاجة إليه يرمى به، وحذفت الواو تخفيفًا.

جمعه لغات، ولغون، ولغى، والفعل لغا يلغو لغوًا إذا تكلم؛ أو من لغي به لغًا "كرضي" إذا لهج به.

وقال الراغب: لغي بكذا إذا لهج به، ولهج العصفور بلغاه أي بصوته.

ومنه قيل للكلام الذي يله جبه فرقة فرقة: لغة.

وفي المصباح: لغي بالأمر يلغى، من باب "تعب": لهج به.

وفي الأساس: "لغوت بكذا: لفظت به وتكلمت.

وإذا أردت أن تسمع من الأعراب فاستلغهم واستنطقهم.

ومنه اللغة. وجاء في لسان العرب: "اللغة اللسن، وحدها أنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، وهي "فعلة" من لغوت أي تكلمت."

الحاجة إلى اللغة

الإنسان أرقى أنواع الحيوان وأوسعها إدراكًا.

وبسعة إدراكه كثرت حاجاته كثرة لا يستطيع معها الاستقلال بها وحده.

فاحتاج إلى التعاون مع بني نوعه.

لكن هذا التعاون يحتاج إلى تفاهم، وإلى أن يعرف كل من المتعاونين ما عند الآخر، وإلا تعذر العمل.

فهو بذلك محتاج إلى واسطة للتفاهم، وقد منحه الله قوة النطق.

وهو أخصر طريق للإفهام وأوفاه بالمراد، فلم لا يكون به وفاء الحاجة؟"

كيف تكلم الإنسان؟

قلنا: إن الإنسان باتساع إدراكه احتاج إلى التعاون، فاحتاج من ثم إلى اللغة؛ ولا ريب في أن اتساع المدارك كان يتدرج بتدرج النمو فيها، فيكون احتياج اللغة بطريق التدرج أيضًا.

وبعد أن كان التفاهم بالإشارات ثم بالمقاطع الصوتية القليلة، أصبح بمقاطع أكثر لحاجات أكثر؛ وهكذا إلى أن نمت اللغة بنمو الإدراك وتكاثر الحاجة، وكيفت المقاطع حروفًا أمكن حصرها، فكان منها اللغة.

هل أم اللغات واحدة؟

إذا ساغ لنا أن نسمي ما تفاهم به الإنسان الأول من المقاطع البسيطة والألفاظ القليلة لغة، صح لنا أن نقول: إن أم اللغات واحدة كما اتفق عليه الجمهور.

وهذا القول مبني على وحدة أصل النوع، ثم تفرعت اللغات بتفرق الناس واختلاف أحوالهم، وبنسبة التغير والتبدل الطارئ مع تشتت الحال والديار.

كانت اللغة التي نسميها أم اللغات بسيطة جدًا، خاضعة كثيرًا لسنة التغيير والتبديل والتحريف والاستنباط الجديد، مع اختلاف العادات والمعايش وسائر الأحوال.

وربما أنكر السامع بادئ ذي بدء، ولأول وهلة، أن اللغة الصينية هي أخت اللغة العربية، أي أنها أمهما الأولى واحدة وأنهما من أصل واحد، مع ما بينهما من الفروق الكثيرة والبون الشاسع الذي يستبعد معه العقل أن يسلم باتحاد الأصل.

ولكن التوغل في قدم افتراق الألسن، وشدة تأثير الزمان والمكان في تكييف اللغة- ولاسيما في لغة ليست بذات أصول وقواعد تمسكها عن التهور في التغيير والتبديل- كل ذلك يجعل الاختلاف في بنات الأصل الواحد إلى هذا الحد، غير مستحيل عادة.

وقد أثبت الماجور "كوندر " في مقال قرأه في جمعية فيكتوريا الفلسفية، أن الأصول في اللغات الآرية والسامية والمغولية، وفي اللغتين القديمتين الأكدية والمصرية، كلها متشابهة، تدل على أصل واحد، وأتى بأربعة آلاف كلمة من هذه اللغات لإظهار المشابهة.

من هو واضع اللغة الأولى؟

ترى الطفل أول ما يلغى ويتحرك لسانه بالكلام يكون ذلك منه بالحروف السهلة على النطق، فإذا أدرك الأشياء أخذ يطلق عليها من هذه الحروف ما لا يخلو من مناسبة مع اسمها الموضوع لها في اللغة التي فتق عليها سمعه، فإذا اتسع إدراكه وانطلق لسانه بالحروف الأخرى،

قلد من هم حواليه بما يسمعه منهم من إطلاق الألفاظ على معانيها، وهو في ذلك ينتقل في كلامه من لغو الأطفال، إلى لثغة الوليد، إلى تمرين الصبي، ثم إلى بهجة العشيرة، فتهذيب المدرسة.

وهكذا تلقن اللغة.

ولا أحسب أن في هذا جدالًا يعتد به، ولو فرض وجوده فهو بلا ثمرة، وإنما الكلام في الأصل الذي نشأت منه هذه الألفاظ التي فتق عليها سمع الصبي حتى أصبحت لغة يأخذها الوليد بالتقليد.

وقد ذهب علماء اللغات قديمًا وحديثًا في أصل الوضع مذاهب ستى، فقال بعضهم بالوحي والإلهام.

اللغة من وحي الله وإلهامه:

قالوا: إن اللغة تعليم من الله علمه آدم/ وفسروا الآية: "وعلم آدم الأسماء كلها" بأنها هذه الأسماء التي يتعارفها الناس.

رووا ذلك عن ابن عباس، وزادوا فقالوا: إن الأسماء التي تعلمها آدم هي أسماء جميع المخلوقات بجميع اللغات، فكان آدم وولده يتكلمون بها إلى أن تفرق ولده في الدنيا.

وعلق كل فريق بلغة من تلك اللغات، فغلبت عليه واضمحل عنه ما سواها لبعد عهده بها.

وأراد بالأسماء هنا اللغة كلها: أسماءها وأفعالها وحروفها على التغليب، لأن الأسماء ركن في الكلام لا يمكن خلو جملة من جمله عنها، فصح، والحال هذه، إطلاقها عليها بخلاف الفعل إذ يجوز خلو الجمل عنه.

وعلى هذا المذهب تكون اللغة محصورة في ما علمه الله آدم من اللغات، فلا تغيير ولا تبديل فيها، بل هي على ما تكلم به أبو البشر بلا تحريف آخر الدهر.

وهذا معنى قولهم: إن اللغات توقيفية لا تتعدى اورد.

والظاهر أن ناموس التغير والتبدل لم يخطر لأصحاب هذا المذهب ببال.

فحسبوا أن اللغة باقية على وضعها الأول الذي تعلمه آدم في كل لغة من اللغات، وانتقلت متوزعة بين أبنائه كما كان ألقاها هو.

مذهب ابن فارس:

وقال أبو الحسين أحمد بن فارس، في كتابه "فقه اللغة" المعروف بالصاحبي: "والدليل على صحة ما نذهب إليه من التوقيف، إجماع العلماء على الاحتجاج بلغة القوم فيما يختلفون فيه أو يتفقون عليه، ثم احتجاجهم بأسعارهم.

ولو كانت اللغة مواضعة واصطلاحًا، لم يكن أولئك بالاحتجاج بأولى منا لو اصطلحنا على لغة، اليوم، ولا فرق.

ولعل ظانًا يظن أن اللغة التي دللنا على أنها توقيفية إنما جاءت جملة واحدة، وفي زمن واحد، وليس الأمر كذلك، بل وقف الله آدم، عليه السلام، على ما شاء أن يعلمه إياه مما احتاج إلى علمه في زمانه وانتشر من ذلك ما شاء الله، "

ثم علم بعد آدم من عرب الأنبياء، صلوات الله عليهم، نبيًا نبيًا، ما شاء أني علمه حتى انتهى الأمر إلى نبينا محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، فآتاه الله عز وجل من ذلك ما لم يؤته أحدًا قبله، تمامًا على ما أحسنه من اللغة المتقدمة.

ثم قر الأمر قراره فلم نعلم لغة بعده حدثت.

أهـ".

ثم قال: "وقد كان في الصحابة، رضوان الله عليهم، وهم البلغاء الفصحاء، من النظر في العلوم الشريفة ما لا خفاء به، وما علمناهم اصطلحوا على اختراع لغة أو إحداث لفظة لم تتقدمهم.

ومعلوم أن حوادث العالم لا تنقضي إلا بانقضائه، ولا تزول إلا بزواله، وفي ذلك دليل على صحة ما ذهبنا إليه من هذا الباب.

أهـ".

الرد على هذا المذهب:

يظهر أن أبا الحسين بن فارس يخص بحثه باللغة العربية فيقول: إنها جاءت بالوحي والإلهام إلى الأنبياء من أبناء العرب، من آدم إلى خاتم الأنبياء، صلعم، وإنها كانت تأتي على قدر الحاجة من طريقهم فقط.

ولكنها تثبت كما أتت زكما نصوا عليه.

ويقول بنفي المواضعة والاصطلاح، ثم أورد دلليه على ذلك.

أما حصر بحثه في اللغة العربية فلأنها مدار البحث في كتابه.

وأما الوحي والإلهام، وأنه كان يأتي على قدر الحاجة فلا نعرف له دليلًا مما جاء به على صحته.

ولم نجد في تعاليم نبي من الأنبياء مما وصل إلينا منها ما يدل على شيء من ذلك، فهي إذًا دعوى بلا دليل.

«والدعاوى، ما لم تقيموا عليها *** بينات، أبناؤها أدعياء»

وأما نفيه المواضعة والاصطلاح فله رأيه، وكثير غيره نفوه، ولكن ما أورده من الدليل لا ينهض بالمراد، وليس فيه قوة ولا شبه قوة تؤيد إنكاره هذا لها.

وما كان إجماع العلماء على الاحتجاج بلغة القوم ليمنع من كونها مواضعة واصطلاحًا، بل يصح لنا الاحتجاج بكلامهم على هذا التقدير كما نحتج في أصل أو قاعدة من أصول العلم وقواعده بكلام الأئمة في ذلك العلم.

فكذا يصح لنا الاحتجاج هناك مع كونه اصطلاحًا عليه، يصح لنا الاحتجاج هنا مع كونها كذلك لا فرق.

وكما لا يصح لنا أن نجعل موضوعات وأصولًا جديدة في أصول العلم المصطلح عليها لشلا تقع الفوضى في الوضع، كذلك لا يصح لنا وضع أسماء لما وضعوا له، ليكون لنا مثل حالهم من حق الاحتجاج بكلامهم.

ثم إننا اصطلحنا على لغة اليوم، كما قال ابن فارس، فهل يكون اصطلاحنا هذا هو من تلك اللغة؟ - والمفروض أنه مغاير لاصطلاحهم - أو هو إحداث لغة جديدة؟

لا حاجة إلى القول، بأن ما نصطلح عليه هو غير تلك اللغة المصطلح عليها قبلنا، والتي نريد الاحتجاج لها كما هو المفروض؛ لأن اصطلاحنا الجديد إن لم يكن غير المصطلح القديم، كان نفسه أو مماثلًا له، فيكون اصطلاحنا على هذا تحصيلًا للحاصل ولا فائدة منه.

فكيف لا يكونون أولى منا؟ وأين مكان الأولوية لوضعنا الجديد؟ ولو صح لكل متكلم أن يقول: أنا اصطلحت وأنا وضعت، لكانت الفوضى بعينها، وهل الفوضى غير ذلك؟"

أما إحداث الألفاظ الجديدة، فإن كان لمعان جديدة طارئة على اللغة لم تكن قبل، فهو صحيح لا غبار عليه، ولا يجوز أن يكون مثله محظورًا.

والمعاني تتجدد على مرور الزمن بتجدد حوادث العالم، وابن فارس نفسه يقول: "إن حوادث العالم لا تنقضي إلا بانقضائه ولا تزول إلا بزواله..

وإن كان إحداثها لمعان ليست طارئة بل لها مسميات في اللغة وأسماء، فإن كان لزيادة في المعنى أو نقصان، أو لنكتة سائغة أو لمقتضيات أخر فلا بأس، ولا يعارض ذلك الوضع القديم؛ وإن كان ليس لشيء من ذلك بل لشهوة الوضع وحب التفنن فيه وإظهار الحذق، فهو لزوم ما لا يلزم، وهو غير مرغوب فيه بل هو مما يرغب عنه.

اللغة مواضعة واصطلاح:

قال ابن جني في الخصائص: "إن أكثر أهل النظر على أن أصل اللغة إنما هو تواضع واصطلاح لا وحي وتوقيف.

وذلك بأن يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعدًا يحتاجون إلى الإبانة عن الأشياء والمعلومات فيضعون لكل سمة لفظًا إذا ذكر عرف به مسماه..

ثم قال: "ولابد لأولها من أن يكون تواضعًا بالمشاهدة والإيماء..

الظاهر أن هذا القول كسابقه لا يعترف بتطور اللغة، والظاهر أيضًا، أن القائلين به يريدون أصل كل اللغات بدليل قول ابن جني: "ولابد لأولها من أن يكون تواضعًا بالمشاهدة والإيماء" وإن الحكماء يجمعونه ليضعوا بطريق المشاهدة والإيماء أسماء لمسميات.

فهؤلاء الحكماء، إما أن يكونوا ليسوا بذوي لغة أصلًا كما هو الظاهر، فلا أعلم، بل لا أتصور كيف يفي الإماء بحاجاتهم في مثل اجتماعهم هذا، المنعقد لوضع ألفاظ ثابتة على الدهر، للغة لا تتغير، ولا تتبدل، ولا تتحرف، وهم ليسوا بأصحاب لغة؛ ولا كيف كانوا حكماء واضع

والعلم ينحصر بالفهم الذي لا يكاد يتم على الوجه الأوفى أو الوافي على الأقل بغير مطارحة الكلام المتوقفة على معرفة اللغة.

وإما أن يكون هؤلاء الحكماء أولي لغة سابقة واجتمعوا لإحداث لغة جديدة، فلا إخال أن الباحثين عن أصل"

اللغات يريدونه.

ثم لا أعلم ما الفائدة لقوم أولي صالحة للتفاهم، يجتمعون لإحداث لغة جديدة على لغتهم، إلا إذا كانوا يريدون تهذيب اللغة والتوسع فيها بوضع ألفاظ لمعان طارئة بحوادث الزمن كما تفعل المجامع اللغوية اليوم.

فهم إذًا على هذا ليسوا بواضعين، وإنما هم مهذبون، وهو غير مراد في هذا البحث.

اللغة أصوات طبيعية عامة:

قال ابن جني: "وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو الأصوات المسموعة كحنين الريح، ودوي الرعد، وخرير الماء، وشحيح الحمار، ونغيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب الظبي، ونحو ذلك، ثم ولدت اللغات من ذلك فيما بعد".

قال: "وهذا عندي وجه صالح ومذهب مقتبل..

أو ليس بغريب أن نسمع من مثل ابن جني هذا القول، المبني على إعمالا الفكر المجرد دون تقيد بتقاليد سابقة، فكان في ذلك على غير سنن الكثير من علماء عصره؟ وإنه لم يرض أن يكون القول بالإلهام والوحي قولًا برأسه، بل صرفه بالتأويل المقبول إلى غير ما حملوه عليه فقال: "إن أبا علي قال لي يومًا: هي من عند الله، واحتج بقوله تعالى: "وعلم آدم الأسماء كلها. وهذا لا يتناول موضع الخلاف لأنه قد يجوز أن يكون تأويله: أقدر آدم على أن واضع عليها، وهذا المعنى من عند الله لا محالة، فإذا كان ذلك غير مستنكر سقط الاستدلال.

وهذا لمذهب قال به جماعة من المتأخرين مثل "آدم سميث" و"دوكلد ستيورت" ونقل عنهم: أن الإنسان كان يعبر عما في ضميره بالإشارات والحركات حتى تكاثرت، فجعل يحكي الأصوات التي يسمعها، فكان إذا أراد أن يشير إلى الغراب قال: غاق، ولما وجد حكاية الأصوات هذه تفي بالمقصود اعتمد عليها فحصلت منها أصوات اللغة؛ ثم طرأ عليها التركيب والنحت والحذف والتغيير وما شاكل، فتألفت سائر ألفاظ عن كل خاطر يخطر في النفس.

مذهب ابن جني:

لكن ابن جني لم يمض في الجزم بترجيحه هذا الرأي على غيره، بل تردد فقال: "واعلم أنني، على تقادم الوقت، دائم التنقير والبحث عن هذا الموضوع، فأجد الدواعي والخوالج قائمة التجاذب لي، مختلفة جهات التغول على فكري، وذلك لأنني تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة، فوجدت فيها من الحكمة والدقة والإرهاب والرقة ما ملك على جانب الفكر، فعرضت

صحة ما وفقوا لتقديمه منه ولطف ما أسعدوا، وانضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة بأنها من عند الله، فقوي في نفسي اعتقاد كونها توفيقًا من الله سبحانه وأنها وحي.

ثم أقول في ضد هذا أنه كما وقع لأصحابها ولنا، وتنبهوا وتنبهنا على تأمل الحكمة الرائعة الباهرة، كذلك، لا ننكر أن يكون الله قد خلق قبلنا، وإن بعد مداه عنا، من كان ألطف منا أذهانًا وأسرع خواطر وأجرأ جنانًا....

فأقف بين الخلتين حسيرًا وأكاثرهما فانكفئ مكثورًا.

وإن خطر خاطر بعد يعلق الكف بإحدى الجهتين ويكفها عن صاحبتها قلنا به."

اللغة من الأصوات الطبيعية للإنسان:

وقالوا في نفي القول المتقدم وإثبات ما يريدون: إن الإنسان الذي هو أرقى الحيوانات أجدر أن لا يقلد العجماوات، مع أن له أصواتًا خاصة طبيعية تعرض له عند تقلب حالاته، فله العويل في البكاء، والقهقهة في الفرح، وآخ في الألم، وآه عند التوجع، وأوه عند التضجر، وأشباه ذلك، أفلا تكون هذه الأصوات الطبيعية أصل اللغات؟

- ما قيل في هذين القولين:

وقيل فيهما: إنه لو كانت اللغات مشتقة من هذا أو ذاك، لكان الشبه بين الأصوات والمسميات حاصلًا، مع أن التباين واضح بحيث يعسر رد أحدهما إلى الآخر.

وأي مناسبة بين نزيب الظبي واسمه، وبين عواء الكلب واسمه، وبين "آخ" الصادر عن الألم وكلمة ألم الموضوعة له.

وقد علم أنه بزيادة تحليل الألفاظ وتجريد الأصول، يقل عدد الكلمات المحكية حتى لا يبقى ريب في أن الأصول ليست منها.

رد مكس مللر على المذهبين:

ورد مكس مللر على المذهبين: "بأن حكاية الأصوات إن استعملها المتكلم عندما تعوزه الحاجة إلى الكلام، إنما يريد بها جزئيًا مشخصًا، لأنها تحل محل الإشارة التي تتخصص بالدلالة على الجزئي دون الكلي.

فإذا قلد الهر بالمواء وهو يريد الإشارة إلى هر خاص، فهو إنما يريد هذا الجزئي، ثم أطلقه على كل هر لعدم الفارق عنده بين هذا الجزئي وكليه.

ولكن الصحيح أن الإنسان وضع الألفاظ للدلالة على الصور الكلية ثم طبقها على الجزئيات."

اللغة صوت طبيعي لقوة في الدماغ:

ثم قال مكس ملللر: "إن لكل جسم من الأجسام صوتًا خاصًا به إذا قرع ظهر هذا الصوت متميزًا عن غيره.

فللذهب مثلًا رنة غير رنة الفضة، وهكذا الحديد والخزف والخشب، "

فلكل منها غير ما لصاحبه.

وفي الإنسان قوة من شأنها التعبير عما في ضميره بكلمات ملفوظ فكان الفكر أول ما يجول في دماغه، كأنه يقرع تلك القوة فتصوت بألفاظ يفهم الفكر منها، وهذه الألفاظ هي أصول اللغة، ثم تقلبت عليها أطوار التعبير والتركيب فتألفت مفردات اللغة.

ولما تم الاستنباط درج عليها الاستعمال ولم يبق لهذه القوة من حاجة، فأهملت وتضعضعت ولم تعد تحس، كما يضعف البصر والسمع لقلة الاستعمال."

في هذا الرأي نظر، وذلك لأن خلاصة ما فهمته من هذا المذهب أمران:

الأول: قرع الفكر عند جولانه لتلك القوة، وأنه صوت طبيعي لها كرنة الذهب إذا قرع.

فالصوت لازم طبعًا لهذه القوة عند جولان الفكر، ويفهم الفكر من هذا الصوت، وهذه هي أصول اللغة.

الثاني: أنه بعد أن تم استنباط الأصول من هذا الصوت الطبيعي قل قرع الفكر لهذه القوة، فأهمت فلم تعد تحس لقلة الاستعمال، وإذا كان هذا الصوت نتيجة طبيعية لجولان الفكر كان غير اختياري، لأن ما يكون بالطبع لا مجال فيه للاختيار.

لكنا لا نعلم كيف يحصل الإهمال للقوة حتى يقل قرع الفكر لها، مع أن الفكر في الإنسان لا يسكن في نوم ولا يقظة، فهو دائم الجولان فيكون دائم القرع.

وهذا حكم اللازم الطبيعي وإلا لم يكن لازمًا، فتكون هذه الأصوات دائمة ما دام القرع، لأن علة لها، فتكون دائمة ما دام الفكر.

والفكر دائم، فهي دائمة.

فمن أين أتى هذا الإهمال؟"

نعم إن استنباط الألفاظ الأصول يقلل المبالاة بالأصوات المذكورة، ولكنه لا يضعفها لأنه نتيجة طبيعية للفكر.

والفكر مستعمل دائمًا فكيف يتأتى الإهمال فالضعف؟ فإذا هي غير مهملة فلا تضعف فلا تفقد.

ولكن الواقع المحسوس به أنها مفقودة ولا دليل على وجودها سوى: الحدس والافتراض، وهما غير الحس والوجود، فلا يرويان غلة ولا يؤيدان دعوى.

خير ما يقال في أصل اللغة:

وهو الذي يمكن أن يستقر عليه الرأي من تلك الأقوال ومن القياس على الأشباه والنظائر.

إن اللغة نشأت متدرجة من إيماء وإشارات إلى مقاطع صوتية على أبسط ما تكون، وفيها تقليد وحكايات للأصوات الطارئة على سمع الإنسان، طبيعية كانت أو غير طبيعية، مختلفة باختلاف المناسبات الطبيعية أو المرتجلة من القوة والضعف، والقرب والبعد.

وكان للبيئة والزمان والأحوال"

العارضة تأثيرها الفعال، فكان التشتت والتشعب.

وازداد بطول المدة، وبعد الاتصال بين الفروع والأصول، حتى ضعفت دلائل الاتصال وازدادت ضعفًا على تطاول العهد.

ونستدل على ذلك:

أولًا: إننا نجد الطفل قبل أن يفهم اللغة يحاول إطلاق الأسماء للدلالة على مسمياتها ولا علم له بما وضع لها من الأسماء، فيسميها بالمقاطع المشابهة لأصواتها كما يطلق على البقر اسم "النع" وعلى الجمل اسم "الهب" وعلى الكلب اسم "العو" أو "التوتو" "من الصوت الذي يدعى به -تي تي-" وعلى المعزى "المآء" - "بالمد" - وعلى ما يخفيه من غول ونحوه "الهم" وما هي إلا أشباه أصوات هذه المسميات.

فلم لا نقول في الإنسان أول عهده بالكلام مثل هذا أو ما يقرب منه؟

ثانيًا: إذا أغلق على المستدل باب الدليل الحسي في أمر يريد الاستدلال به، صح له المصير إلى التمثيل والقياس بالاشتباه والنظائر.

وهذا الرأي يجري فيه قياس التمثيل بتطور الكتابة التي هي اقرب شيء إلى التكلم من حيث الغاية.

وقد دلت الآثار لدلالة يحس بها على تطورها فتقول: "

أثبت الباحثون ودلت الآثار على أن الكتابة بدأت بتصوير الوقائع ثم اتسعت الحال وكثرت الحاجة إلى الكتابة، فأصبح تصوير الوقائع أمراض عسيرًا لا يفي بالحاجة، فصنفت المقاطع الصوتية وكانت حروفًا تتدرج مخارجها من أقصى الحلق غلى الشفتين، وجعل لكل حرف صورة، فبعد أن كانت تصور صورة الجمل للدلالة على معناهـ، أصبحت الصورة رمزًا لمقطع الجيم الذي هو أول حروفه، ثم اتسعت الحاجة فاختصرت رسوم الكتابة، وأبحتن صورة رأس الجمل للدلالة على مقطع الجيم، ثم تقدمت الكتابة واتسعت صورها، واختلف باختلاف الزمان والمكان وتصاريف الأحوال، فتغيرت عن وضعها، وتباينت صورها باختلاف الشعوب وتفرقها واختلاف عاداتها.

فكما أثبت الباحثون في الكتابة، نقول في اللغة أيضًا: إنها بدأت طبيعية بحكاية الأصوات، للدلالة على ما تصدر منه مما له صوت مثل: قط للقطع، وهف لهبوب الريح، والصهيل والنهيق والأطيط..

أو بحكاية ما يناسبها، مما ليس بله صوت... أو بإحداث مقاطع صوتية مرتجلة، من غير تعمل، ـ قالها بعض فتبعه آخرون سمعوه، فشاعت فاستقرت.

ثم إنه كان للإنسان أصوات تدل على حالات النفس: فللجوع والعطش وللنجدة وللحرب وللسرور وللحزن ولغيرها مقاطع أو أصوات شبه المقاطع تدل عليها، فأشبه هذا تصوير الوقائع في الكتابة أي انه كان على البساطة الفطرية.

ثم اتسعت الحال باتساع الحاجة، فاحتاج الإنسان، مع اتساع تمدنه، إلى زيادة في التفاهم مع

إخوانه ومعاشريه.

ولكن هذه المقاطع التي صيغت له على البساطة الفطرية لا تقوم بالحاجة ولا تفي بالغرض، فعمد إلى التوسع؛ فربما تركب المعنى أمامه، فركب المقاطع الدالة على جزأيه تركيبًا مزجيًا، ثم شذ بها بالنحت، فخرجت كلمة جديدة، كما قالوا في "أجنك فعلت" أي من أجل أنك فعلت.

وقالوا: "برقل برقلة، بمعنى: كذب. - قال الخليل: إنه من قولهم: برق لا مطر معه -وقالوا: "حبرم: أي اتخذ حب الرمان. وكما في: بسمل، وحوقل، وجعفل، وطلبق، وكثير أمثال ذلك؛ فأشبه هذا الانتقال في الكتابة من دلالة الصور على الوقائع إلى جعلها رمزًا لمقطع حرف

وربما عر ض للإنسان معنى يقرب من بعض المعاني التي لها مقاطع صوتية، فدل عليها بما يقرب من ذلك المقطع مع شيء من تحريف أو تبديل كما في: "درأ وطلع" أو تقديم وتأخير كما في: "جذب وجبذ"؛ وربما أطلق الكلمة على غير معناها لمناسبة أو شبه مناسبة أو لأدنى ملابسة، ثم يشيع هذا الإطلاق فيصبح وضعًا مستقلًا.

وحيث أنهم لم يشترطوا في أصل الوضع قوة المناسبة، وقرب المعنى من اللفظ، اتسع نطاق إطلاق الألفاظ على المعاني بادئ بدء، فاتسعت اللغة واختلف الزمان والمكان، وطال المدى، وتعددتا الشعوب، فاختلفت جهات الاستعمال: فكانت اللغات القريبة التناسب والبعيدة فيه، كما ك

التسامح في رعاية المناسبة عند الوضع:

أما أن إطلاق اللفظ على المعنى أول وضعه وكونه يصح لأقل مناسبة، فلا أحسب أحدًا يسلم به., وما أشبه الإنسان الأول - وقد احتاج إلى ألفاظ لمعان يريدها ثم لم يجدها، فتناول ما تيسرت له معرفته، وإن كانت فيه نفحة من الملابسة - ما أشبهه بالطفل الذي يرى الأشياء أمامه ولا يعرف أسماءها، فيختار لها من مخزون ذهنه الصغير اللفظ الذي ينطلق به لسانه، فيطلقه عليه.

وقد رأيت بعض الأطفال الصغار لأول عهده بالكلام يسمي العصا "توتو" لأنه أول ما رآها مضروبًا بها الكلب، فكان هذا الاسم مخزونًا في ذهنه فأطلقه على العصا لأنه رآها وهو يضرب بها.

وأذكر مما كنت قرأته أن بضع القبائل البادية، كانت تدل على الكلب بسحب السبابة والوسطى من الأصابع على الأرض منفرجتين، لأنهم كانوا وقت ارتحالهم يلقون عمد البيوت على أعناق الكلاب مقرونة عمودين عمودين، فتجرها هذه إلى حيث ينزلون.

وإذا راجعت كتب اللغة تجد ما يدلك على التوسع في إطلاق الكلمات على المعاني المتقاربة وغيرها لأقل ملابسة.

فقد جاء في اللغة، كما في المصباح: عقره عقرًا "من باب ضرب": جرحه.

وعقر البعير بالسيف عقرًا: ضرب قوائمه (ولا يطلق العقر في غير القوائم).

وقال أبو زيد في نوادره: "

رفع فلان عقيرته إذا قرأ وغنى (ولا يقال في غير الخبر).

وفي القاموس: العقيرة صوت الباكي والقارئ.

فالعقيرة - إذًا - تطلق على الصوت إطلاقًا لغويًا صحيحًا كما تطلق على القائمة المعقورة.

وجاء في كلامهم: "إن أصل إطلاق العقيرة على الصوت، أن أعرابيًا عقرت رجله فرفع صوته صارخًا متألمًا رافعًا رجله العقيرة من الألم..

وفي التاج: "قيل أصله أن رجلًا عقرت رجله فرفع العقيرة على الصحيحة وبكى عليها بأعلى صوته، فقيل: رفع عقيرته، ثم كثر ذلك حتى سمي الصوت بالغناء: عقيرة..

وقد سموا النطع بناء ومبناة لأنه من الأديم، وكانوا يتخذون منه القباب (كذا جاء في الأساس) فسموا النطع، أديمًا كان أو غير أديم، بالبناء.

وقالوا: سيف سباب العراقيب: كأنما يعاديها ويسبها (كذا في الأساس).

مثال في توسع الكلمات من هذه الأصوات:

وإننا نجد أن حكاية بعض الأصوات قد توسع فيها توسعًا جعل منها ألفاظًا كثيرة لمعان كثيرة، حتى إن بعض تلك المعاني بعد عن الأصل بعدًا يجعل اتصاله به محل شك وريبة، وذلك مثل: قط، بمعنى قطع، ومقطعها شبيه بالصوت الطبيعي للقطع وهي تدل عليه.

ثم كانت الطاء دالًا، وهما أختان تتعاقبان في الكلام، وتبدل إحداهما من الأخرى فقيل: قد، ودلت على القطع طولًا، ثم خرجت بالمجاز إلى معنى القامة.

وقيل: قد الطريق، بمعنى قطعها.

ومن ذلك سمي الطريق "مقدًا" وسميت قطع اللحم "قددًا".

وجعل القديد لليابس من قطع اللحم.

وقيل للسير الغير المدبوغ من الجلد "قد".

وقيل: القدة، للفرقة من الناس.

وجاء في معناه - قت - وأبدلت دالها ذالًا فقيل: قذ السهم إذا حذف أطرافه.

ومنه - القذة - للريشة المقذوذة.

ثم قيل: قذ السهم إذا راشه... فخرجت عن معنى القطع.

وأبدلت صادًا فقالوا- قص - وبقي معناها للقطع.

وقد تتعاقب الصاد والطاء في كلامهم مثل: غمط النعمة وغمضها.

ثم جاء منها - القصة - لكل خصلة من الشعر وللناصية، ثم القصة بمعنى الحديث والخبر لأنها تتقطع من جملة الكلام.

ويقال: في رأسه قصة أي جملة من الكلام.

وأبدلت ضادًا معجمة، وهما يتعاقبان في: وضفر بمعنى وثب، والخطب والحضب والحصب؛ وكان من معناها الكسر، وسمي الحصى الدقيق المكسر: قضًا، والحصى الكبير: قضيضًا.

ثم قيل: جاؤوا بقضهم وقضيضهم إذا لم يتخلف منهم أحد.

وجاء في قص - كس - بإبدال القاف كافًا والصاد سينًا، وهما متقاربا المخرج ويتعاقبان كثيرًا، ومعناها: الدق الشديد.

وجاء منها - قش النبات - "بالقاف والشين"، إذا يبس وآن قطعه، كما جعل القش للجمع أيضًا.

وجاء - جز - من قص وبمعنى قطع - وحز - مثلها أو بمعنى فرض للقطع.

ثم قيل حزازة للغيظ المؤثر في القلب كما يؤثر الحز في العصا.

وجاء - جد وجذ وحذ وجث واجتث - وكثير أمثال ذلك.

وزيدت قط لزيادة في المعنى فقيل - قطف - بمعنى قطع وجمع، وخصصت بالثمر، فكانت زيادة الفاء للدلالة على ما زاد على معنى القطع وهو الجمع، ولعلهم استخرجوا هذا الحرف من حفيف القطيع إذا اجتمع أو من صوت القصب أو الغصون وهي تشد وتحزم، أو من أمثال ذلك.

وزيدت قط زيادة أخرى فقيل: قطم، وتعدت هذه من القطع إلى العض بأطراف الأسنان، ثم منه إلى أكل اللحم فقيل: هو قطيم "ككتف" لمشتهي أكله، وبه سمي الصقر القطامي.

ثم حرفت فقيل - الكدم - للعض.

وجاء من قض: عض، بإبدال القاف عينًا، ÷ وهما يتعاقبان في الفصيح: مثل توعلت الخيل وتوقلت، وجاؤوا دفعة ودفقة.

وجاء من قص: قصم وقصع وقصل وقصف، ثم امتد الوضع لمناسبات أو ملابسات إلى القصيمة والقيصوم والقصيم.

وجاء من قصم: قسم، ثم جعل القسم للنصيب وللسهم، ثم قيل مقسم للمهموم، وجعل القسم لليمين، وذهبت هذه الشعب في مدارجها لمعان أخر.

وجاء من قض: قضم وخضم، ومن قص: فص، ومن فص: فصل، ثم المفصل لكل ملتقي عظمين في الجسد، ثم قيل للسيف ثم للحاكم: فيصل.

وغير بعيد أن تكون قبض وقبص من قض وقص.

وجاء من قص: قرص، ثم القرص والقرصة.

وجاء من قص: قعصه بالرمح.

وجاء من مختلف هذه الفروع فروع أخر كقرض بمعانيها، ومنها قرض الشعر.

وجاء قصر وقلص وكسر، ثم كسر الطائر إذا ضم جناحيه للوقوع، ثم كسر الخباء لجانب البيت.

وجاء قشر وكشر وجزر ثم الجزارة: لأطراف الجسم.

وجاء الجزم والكسح والقلع والحذف.

وجاء الحد من القد للحاجز بين الشيئين.

وجاء الصد والسد.

وجاء جذم.

وجاء حذا النعل ثم الحذاء.

وجاء: صدع وجدع السويق.

وعلى هذا تجري في اللغة ألفاظ لم نتعمد إحصاءها وقد لا يمكن ذلك: كشذ، وسذب، وشد، وشطر، وشتر، وشظ، وشق، وشع، وشل، وأت، وبت، وبتر، وتبل، وبتل، وبث، وبثق، وبد، وحذف، وحذم، وخذم، وخد، وخدش، وخدع، ورد، وردع، وصدع....

إلى غير ذلك من الألفاظ.

وإننا نجد الألفاظ المتقاربة تدل على معان متقاربة، كما نرى في: الوشم، والوسم، والرشم، والوشي، والرقش، والنقش، والوشع، والرسم، والروسم، والروشم.

وكما نرى في: اللكم، واللطم، واللدم.

وفي: الرنين، والحنين، والهنين، والأنين، والأنيت.

والخنة، والغنة.

وفي: النضح، والنصخ، والنصح، والرشح، والنشح.

وفي: الجرجرة، والخرخرة، والهرهرة، والغرغرة، والقرقرة، والكركرة، والدردرة.

وربما ترد الكلمة من لغة على لغة أخرى فتجريها على أساليبها بعد أن تثقلها وتشذ بها، مثال ذلك: الجلاب، من الفارسية: "كل آب" ومثل خشاف من "خوش آب" وسلحفاة من: "سوح باي" وأمثال ذلك كثير.

تطور اللغات:

يقول المثل العامي: الذي لا يتغير يموت.

والتغير والتبدل من سنن الكون المقررة، واللغات خاضعة فيما تخضع لهذه السنة، فهي، إذًا، عرضة لذلك على مرور الزمن واختلاف الأحوال، وسبحان من لا يتغير.

إن الألفاظ تدل على معانيها دلالة وضعية متعلقها وضع الواضع، وليس في الألفاظ دلالة ذاتية تمنع تخلفها عن مدلولها.

فالدلالة "الوضعية" تتخلف عن مدلولها بتغير الوضع، والوضع يتغير:

إما قصدًا، بأن يعدل عن هذا اللفظ إلى لفظ آخر ابتداء أو ارتجالًا.

وإما عرضًا كما إذا استعمل اللفظ في غير معناه بضرب من التجوز، ثم كسر وشاع في معناه المجازي حتى أصبح فيه حقيقة تتبادر إلى الذهن عند إطلاقه.

وإما لذهول أو نسيان فيمن يستعمله فينقص أو يزيد بعض الحروف، أو يقدم أو يؤخر في ترتيبها، ثم يتبعه غيره في ذلك تقليدًا؛ والناس يتبع بعضهم بعضًا في اصطلاحهم وعاداتهم.

وإما لعدم التمكن من تعليم كل وليد آداب لغته، فينشأ وفي كلامه تحريف الصغار، لأن الطفل أول ما يتلقى اللغة يعسر عليه النطق بكل حروفها، فيغير ويبدل ويزيد ويحذف، فإن اهتدى

إلى تقويم لسانه بالحرف صار إليه، أو علم ذلك نشأ عليه، وإلا احتمل له أن يبقى في كلامه شيء من لكنة الصغير أو تحريفه.

فإذا ساعد على ذلك كله أو بعضه تباعد الديار والتفرق على وجه الأرض مع قلة التواصل والتزاور، بعد الفرع عن الأصل واستقل بنفسه، وكان بعدئذ لغة قائمة برأسها معرضة لسنة التطور.

وإما لأن اختلاط الأمم بعضها ببعض، وتمازجها بالتجارات أو الغارات والسباء، بعد أن صارت كل أمة مستقلة بنفسها، يدعو إلى تسرب شيء من لغة بعض إلى لغة الآخرين، فتأخذ هذه من تلك، أو بالعكس، كلمات وأساليب.

فإذا كانت إحداهما غالبة أخذت المغلوبة منها أكثر مما تعطيها، إذا تساوى تمدنهما أو كانت الغالبة أرقى، وذلك بسنة تشبه الضعيف بالقوي.

وهذا العامل، عامل الاختلاط، أكثر أثرًا في تبدل اللغات من سواه، ولذا تجد أهل البادية أكثر حفظًا للغة من أبناء الحاضرة لقلة اختلاط أولئك بغيرهم، وكثرة اختلاط هؤلاء.

وإن سلامة لغة البدو من التحريف والتغيير إنما تكون بقدر بعدها عن الحضر.

هكذا كان ويكون التطور في اللغات، وهكذا تتشعب.

فبينما يكون اختلاف لهجة ولهجة في قطر واحد بين مدينتين فيه أو ناحيتين من نواحيه، يكون اختلاف أكثر بين قطرين متجاورين كالشام والعراق وهو أشد أثرًا منه إذا كانا متباعدين كالشام والمغرب الأقصى.

ثم يشتد التباعد مع تطاول المدة فيكون كالاختلاف بين المضرية والحميرية، فإذا ازداد شدة كان كالاختلاف بين العربية والعبرانية... وهكذا حتى يبلغ الاختلاف أقصاه.

موت اللغة وحياتها:

اللغات في العالم متفاوتة جدًا في حالاتها، فبعضها ضيق العطاء في الدلالة على المراد، حتى إن منها ما لا يعرف في اسم لما فوق العدد الخامس من الآحاد، في حين أن بعضها يتسع للتعبير عن كل ما يراد.

ولكن اللغات غير الصالحة للحياة لا تلبث طويلًا عند تماس أهلها بأهل اللغات الراقية فيستغنون بهذه لسعتها، عن تلك لضيق مادتها، فتندرس التي استغنى عنها تدريجيًا حتى تصبح أثرًا بعد عين.

إن حياة اللغة وارتقاءها مبنيان على مقدار نصيب أهلها من الرقي والتمدن، فكلما ارتقت الأمة كسرت حاجاتها بالطبع، فاتسعت لغتها باتساع الحاجات.

واللغة إذا اتسعت احتاجت إلى ضوابط وقواعد تصونها؛ فاللغة التي يسلك بها أهلها هذا السبيل، والتي حفظت نفسها، بما وضع لها الغياري عليها من ضوابط وقواعد تحفظها، وتعين على نموها، وتتسع بها للجديد، كتبت لها الحياة"

ونمت، والتي همل فيها هذا الأمر ترجع القهقري حتى تموت، وبموتها تموت أمتها وتفنى قوميتها.

فاللغات لها حياة وموت، وصحة وسقم، وشباب وهرم.

اللغة بضوابطها وقواعدها:

إن اللغة مشتركة بين أبنائها كسائر المصالح المشتركة فيما بينهم، فكما أن هذه تتعرض للفوضى، إذا لم يكن لها نظام يحفظها، ووازع يزعها عن الشذوذ عن النظام عند التعارض والتزاحم، كذلك اللغة فإنها تحتاج إلى مثل هذا من الضوابط والقواعد، التي هي نظام اللغة وشريعتها.

وكما أن أهل الحل والعقد في الأمة هم أولو الحق في اختيار القوانين الصالحة لشريعة الأمة، كذلك أهل الحل والعقد في اللغة، وهم أئمتها من السابقين وأصحاب المجامع الصالحة من المتأخرين، هم أولو الحق في ضبط هذه القواعد وتهذيبها على سنن لا يخرج بها عن حدها، ولا

وكما أن مبلغ رقي الأمة إنما يعرف برقي قوانينها كذلك كل لغة إنما تعرف قوتها بمتانة أصولها وانتظام قواعدها وسعة بيانها.

ولا أراني مبالغًا إذا قلت: إن اللغة هي في الأغلب أصول وقواعد وأساليب تجري عليها، أكثر مما هي مفردات وألفاظ.

وأن لهذه الأصول والقواعد والأساليب من الرسوخ والثبات في اللغة ما ليس للمفردات.

فالمفردات كثيرة التعرض للتطور من تحريف وتبديل، وقلب ونحت مما يمكن معه، مع طول المدة، أن يتغير شكل الكلمة.

وهكذا تموت كلمات وتحيا أخر.

أما طرق الاشتقاق والتركيب فثابتة لا تتغير إلا فيما ندر وطال معه العهد، كما تحيا وتتجدد وتموت وتفنى دقائق الجسم الحي، وهيئة الجسم ثابتة لا تتغير.

أقدم اللغات المعروفة، أو اللغة الأولى للبشر:

لم يتفق الباحثون على تعيين أقدم اللغات المعروفة عهدًا وأبعدها مدة؛ فادعى الصينيون أن لغتهم هي اللغة الأصلية، ولم يستبعده بعض العلماء من حيث أنها قليلة التهذيب والتشذيب، بل لا تزال ضاربة في البساطة التي هي صفة لازمة للغة الأولى؛ ولو صح هذا لكانت لغات زنوج إفريقية وهنود أميركة هي اللغة الأصلية لأنها أعرق في البساطة من الصينية وأقل تهذيبًا.

وادعى الأرمن أن لغتهم هي اللغة الأولى وأنها هي التي تفرعت فروعها فكانت منها لغات العالم، لأن الله تعالى جبل آدم من تربتهم، وأنزله بأرضهم فهم يتكلمون بلغته، ولغة أبي البشر هي الأولى، لأنه هو الإنسان الأول.

وهو أيضًا منقوض: "

1 - لأن مستند دعواهم أن الإنسان الأول خلق من تربتهم، ونزل بلادهم هو غير مسلم به.

2 - ولو صح هذا، فلا يكون دليلًا على أن لغتهم هي لغة الإنسان الأول بعينها، لم يطرأ عليها تطور ولا تغير ولا تبديل، إذ لا ملازمة بين اللغة والأرض.

ولا نعلم أيضًا أن أمة من الأمم تثبت على لغة واحدة على اختلاف العصور والأحوال، حتى تثبت لغة الأرمن على توالي الأزمنة منذ نشأة الإنسان الأول إلى اليوم.

وادعى العبرانيون أن العبرانية هي اللغة الأولى، وأنها لغة الإنسان الأول لأن أسماء الأنبياء الأولين وآباء البشر أسماء عبرانية، وفي ذلك دليل على أنها كانت لغة لهم.

وهذا أيضًا فيه نظرن لأننا إنما أخذنا هذه الأسماء عن العبرانية ولا نعلم هل نقلت كما هي أو تغيرت ثم نقلت، كما فعل اليونان بأسماء البلاد التي دخلت في حوزتهم، وكما يفعل الصهيونيون اليوم في أسماء البلاد التي تدخل في حوزتهم من أرض فلسطين، ومتى وقع الاحتمال ب

وادعى العرب أن العربية هي لغة آدم أبي البشر، وجاء في أساطيرهم أن آدم رثى ابنه هابيل بأبيات شعر عربي.

ثم قالوا: إن عربية آدم حرفت، فصارت سريانية بطول العهد وتقادمه.

ولما حصل الطوفان طوفان نوح لم يكن في سفينته عربي غير جرهم، وكان لسان كل من في السفينة السرياني، وهو مشاكل للعربية إلا أنه محرف.

أخرج هذا القول ابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس، وقال به عبد الملك بن حبيب، وهو المفهوم من فحوى كلام ابن فارس في فقه اللغة، ولكنه قول مجرد ودعوى بلا دليل، ومال نسبوه إلى آدم من الشعر يصعب على كل ذي ذوق وأدب تصديقه.

القول الحق في ذلك:

لم تكن اللغة الأولى للبشر لغة صريحة مستقلة بنفسها بحيث يصح أن تسمى لغة، بل كانت، كما سلف القول به، مقاطع على أبسط ما يكون، ثم ترقت.

فلا هي الصينية، ولا العربية، ولا العبرانية، وإنما هذه لغات نشأت وتفرعت منذ ها الجذر الذي بنمو فروعه التي أصبحت أمهات وطوائف، تلد كل أم أو طائفة منها بنات كانت بالنسبة إلى كل طائفة أخوات.

وإنما القول في أيهن أقدم عهدًا بالأم وأقرب شبهًا بالأصل؟ هذا هو محل البحث؛ وإني أرجح أن تكون العربية، بالنسبة إلى الفرع السامي، كما ستراه.

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


42-معجم متن اللغة (بلاد العرب)

بلاد العرب:

هي الجزيرة العربية، وإنما هي شبه جزيرة: يحدها شمالًا فلسطين وبعض سورية وما بين النهرين وما يليها إلى خليج العجم وبحر الهند، وجنوبًا بحر الهند، وغربًا البحر الأحمر وبرزخ السويس وبعض سورية.

طولها ألف وأربعمائة ميل، ومعظم عرضها ألف ومائة وخمسون ميلًا، ومعدله ثمانمائة ميل؛ فتكون مساحة الجزيرة مليونًا ومائة وعشرين ألف ميل مربع.

هكذا حددها التاريخ القديم، ولكن الديار العربية اليوم أفسح رقعة وأعم إطلاقًا، وهي تشمل سورية وفلسطين والعراق ومصر وبلاد المغربين وما إليها من الصحاري والبوادي حتى يعم السودان المصري، وكلها عربية الوجه واليد واللسان.

كانت الجزيرة العربية معروفة عند الرومان بأقسام ثلاثة:

1 - العربية السعيدة، ويراد بها بلاد اليمن.

2 - العربية الصخرية، وهي شبه جزيرة سينا وجانب من سواحل البحر الأحمر وعرب الشمال إلى حدود فلسطين.

وهذان القسمان متمدنان.

3 - العربية الصحراوية وأهلها أهل بادية.

أما مؤرخو العرب فقد قسموها إلى ستة أقسام:

1 - بلاد اليمن: وهي بلاد حضرموت والشحر ومهرة وعمان ونجران.

2 - تهامة: وهي ساحل البحر من اليمن حتى الحجاز.

3 - الحجاز: وهي ما علا ارض تهامة إلى نجد شرقًا، وخليج العقبة وأرض التية غربًا، وفلسطين والشام شمالًا.

4 - نجد: وهو ما ارتفع عن الحجاز إلى الشرق، واتصل بالعراق شمالًا وشرقًا، وباليمامة جنوبًا.

5 - اليمامة: وهي ما بين نجد واليمن.

6 - أرض التية: وهي العربية الصخرية المعروفة ببرية سينا.

هذه هي بلاد العرب.

وهي، كما ترى، تغلب على كثير من أقسامها الصحراء، وما زال أهلها في عز ومنعة، يأبون أن يذلوا لسلطة قاهرة تحكم في أعشارهم وأبشارهم، اللهم إلا ما كانت تتألقهم به الدول المجاورة لهم لتتزود من نصرتهم وقت الحاجة: كالمناذرة مع الفرس، والغساسنة مع الرومان.

موطن اللغة العربية الأول:

يستنتج من أقوال الباحثين أن اللغة السامية الأم كانت منتشرة في منطقة واسعة الأطراف، قبل أن تلد بناتها وتتشعب إلى فروعها.

فأين كانت هذه المنطقة؟"

يقول بعضهم: إنها أرض أرمينية من حدود كردستان.

ولم نقف على دليلهم وما استندوا إليه في هذا المذهب، ولعلهم يرجعون به إلى زمن نوح يوم استقرت سفينته على الجودي بعد الطوفان.

وذهب العلامة جويدي Guide إلى أن المهد الأصلي للأمم السامية كان جنوبي العراق على نهر الفرات.

ونقل بعضهم أن أقدم هجرة سامية اتجهت نحو بابل كانت من نواحي الجزيرة، وقد أسست ملكًا عظيمًا في منطقة الفرات وكان لها حول وطول في عصور شتى، وأن الهجرة الكنعانية والآرامية والعبرانية كلها صدرت عن جزيرة العرب، وانتشرت في العراق وسورية وفلسطين، بل جاوزتها إل

وجاء في آداب اللغة الآرامية للعلامة شابو Shabot أن منبت الساميين هو الأقطار الواقعة جنوبي قزوين، رحلوا من هناك إلى بابل وانتشروا في الأقطار.

وقال بهذا القول فون كريمير Von Kremer، ووافقه في بعض هذا الرأي هومل Hommel.

ويقول سايس Says: إنهم من بادية العرب.

وقال بقوله جماعة.

وسواء أكان أصلهم من الجزيرة العربية أو جنوبي بحر قزوين، فقد استقروا في منطقة الفرات ودجلة، وكان لهمك دولة وصولة، وكانوا الغالبين على البلاد، حتى إن بعض ملوكهم نقش فيما نقش من الآثار: أنه ملك اللغات الأربع، يعني ملك أصحابها، لأن هذه الأرض سكنها الكوشيون والآريون والسوريون، والكلدان.

إن هذه المملكة قد أسست قبل أن اختلفت أجناس البشر ولغاتها كثيرًا.

وقد كانت اللغة الرسمية في الدولة لغة الساميين المالكين، وهي لغة الدواوين التي كتبت بها سجلات الدولة، ودامت ألفي عام وهي حافظة رونقها، ويحفظ النبلاء والمتعلمون جدتها.

قال العلامة م.

مسبيرو M.

Mespero: إن اللهجة المصقولة التي كان كاتبه نينوى وبابل يستعملونها في عهد هيرودتس لإنشاء الكتابات الرسمية، كانت قد أضحت، منذ زمن طويل، ما"

يشبه لغة نبيلة يفهمها نخبة القوم يجهلها العامة.

وكان العامة وسكان المدن والقرويون يتكلمون باللهجة الآرامية التي كانت أثقل من تلك، وأوضح وأكثر تفصيلًا.

لكن هذه اللغة النبيلة بعد أن فتك بها التطور وأبعدها عن ألسنة العامة، لم يقدر نخبة المتعلمين على حفظها في دفاترهم، فأهملتا شيئًا فشيئًا، حتى هجرت واستقر كل فرع لها في بيئته، وانتهى الأمر على ما قيل في القرن الأول للميلاد.

إن الساميين لما احتلوا هذه الأرض وملكوا أمرها، ودانت لهم وانتشرت لغتهم بين سكانها، وهم من أصل صحراوي، كما يقول العلامة "سايس" وغيره، كل منهم طبعًا سكان بادية وسكان حاضرة، ولكن التطور اللغوي إنما ينمو حيث يكثر الاختلاط بين أبناء اللغات المختلفة، كما سلف القول في ذلك، وذلك متوفر في الحاضرة أكثر منه في البادية، فكانت على هذا لغة البادية، أكثر سلامة وأقرب إلى لغة الساميين الأولى.

وكما أطلق على سكان الحاضرة منهم اسم الآراميين، أطلق على أهل البادية منهم اسم بدو الآراميين.

وبحكم العادة والاستقراء نقول: إن البداوة سابقة على الحضارة، فبدو الآراميين أي العرب كانوا في البادية قبل أن يتحضر قسم منهم، فكانت معهم في بواديهم لغتهم الأولى قبل أن تفسدها الحاضرة ويأخذ التطور منها مأخذه.

لذلك أراني كثير الميل إلى القول بأن لغة بدو الآراميين هذه هي الفصحى التي بقيت وسلمت، أو سلم أكثرها في سجلات الدولة، وعند نخبة المتعلمين، لأنهم حملوها وهم منغمسون غفي البوادي، فلمي فعل التطور في لهجتهم فعله في اللهجات الأخرى، بضعف أسبابه، إلا الذين كانو

وربما كان ذلك منهم تشبهًا بسكان المدن في اللهجة وتقليدًا كما نرى لعهدنا هذا.

فكان بالطبع يسري عنهم سريانًا بطيئًا في داخل البادية.

ويؤيد صدر هذا الكلام ما قاله جماعة من العلماء مثل سايس وسبرنجر Sprenger من ان أصل الساميين من بادية العرب، وقول ابن خلدون عند كلامه على الطبقة الأولى منن العرب: "أنهم انتقوا إلى جزيرة العرب مخيمين، ثم كان لكل فرقة منهم ملوك وآطام. على أن التاريخ نفسه يسمي أهل البادية العربية: بدو الآراميين.

فإذا كانت لغتهم أبعد بنات السامية عن التحريف، كانت اقرب بناتها إليها إن لمتكن هي الأم نفسها..

وبدو الآراميين هم العرب، واللغة العربية هي لغتهم، فتكون اللغة العربية هي الأم وأقرب بناتها غليها.

نزل العرب (بدو الآراميين) هذي البوادي، وانتشروا في نجد والحجاز وتهامة واليمامة وبوادي الشام، وبلغوا اليمن، وزاحموا الكوشيين أبناء حام هناك.

وقال جلازر ومولر: "إن المعينيين أول دول العرب في اليمن، أصلهم من عمالقة العراق الذين كانوا في الجزيرة قبل ظهور حمورابي بقرون من السنين، فلما ذهبت دولة العمالقة من العراق نزحوا إلى اليمن، واستقروا وتوطنوا الجوف، وشادوا القصور والمحافد على مثل ما عرفوا في بابل..

ضرب العرب في طول الجزيرة وعرضها، وأصبحت البادية من اليمن إلى أقصى الجزيرة شمالًا مسرحًا للقبائل الأخرى الذين سموا عرب الشمال، وأطلق عليهم بعد هذا اسم العدنانيين، وهم أشد الناس حرصًا على لغتهم.

وهكذا كانت الجزيرة كلها عربية، وموطنًا أول للعرب وللغتهم الفصحى.

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


43-معجم متن اللغة (خضوع العرب لناموس التطور)

خضوع العرب لناموس التطور:

قال في المزهر عن ابن وجدة: إن العرب أقسام:

1 - عاربة عرباء: وهم الخلص.

وهؤلاء تسع قبائل من ولد إرم بن سام: عاد، وثمود، وأميم، وعبيل، وسطم، وجديس، وجرهم، وعمليق، ودبار.

وقال ابن دريد: وقد انقرض أكثرهم إلا بقايا متفرقين في القبائل؛ وسمي أبو الفداء هذا القسم بالعرب البائدة.

2 - متعربة: وهم الذين ليسوا بخلص، وهم بنو قحطان، وسماهم أبو الفداء بالعرب العاربة، ومن قبائلهم: كهلان وأبناؤها القبائل من ذوي يمن: كعاملة وهمدان وطيء ولخم ومذحج وجذام، ومثل حمير وأبنائها من قضاعة، وزيد الجمهور والسكاسك وأفخاذها وعشائرها.

3 - مستعربة: قال ابن دقية: وهم بنو إسماعيل، وهم العدنانيون وأبناؤهم من ربيعة ومصر وأنمار وإياد.

وهذا التقسيم يشمل العرب كلهم جنوبيين وشماليين.

وسواء أكانت هذه الأسماء كلا أو بعضًا، حقائق، كما هو الواقع، أو أساطير، كما يزعمه البعض؛ فهل كانت لغة هذه القبائل وغيرها، منذ وجد العرب، ذات لهجة واحدة أو لهجات مختلفة؟"

وقد روي عن عاد وثمود بعض أبيات من الشعر لا تطمئن النفس إلى صحة نسبتها إليهم.

وليس في كلام علماء العرب ما يصح الاستناد إليه في هذا الأمر.

فلم يبق أمامنا، من طرق الاستنتاج المبني على الأشباه والنظائر، غير ما اكتشفه الباحثون في آثارهم من النقوش الأثرية.

تقدم لنا القول في بحث تغيير اللغات وتطورها، أن التغيير والتطور سنة ثابتة وناموس مطرد، وأنه اشمل لكل اللغات فيما يشمل ويعم.

وقد تقادم العهد على قبائل العرب المتفرقة بما يعد بمئات السنين قبل تدوين اللغة العدنانية.

وليس للغة من لغاتهم تقليد يصونها من التغيير والتطور، ويحفظ لها صورتها الأصلية الأولى، كمنا هو الحال في اللغة العدنانية.

وقد عرفنا أن لغتنا الفصحى هذه مع مزيد عناية العلماء بها، خلفًا على سلف، ومع شدة حرصهم عليها، لم تصف في ألسنة العامة، فانحرفت عنها لغة التخاطب، ومشت في انحرافها هذا إلى أن بلغت مبلغها اليوم من البعد، فكيف بتلك التي لم تسعد بما يوجب حفظها وصونها؟ فلا ريب

الاستدلال بالآثار والنقوش:

أما ما عرف من هذه الآثار فأشهرها: النقش الذي عثر عليه في خرائب أنمارة في حوران على قبر امرئ القيس بن عمرو بن عدي اللخمي، من ملوك العرب، منقوشًا بخط نبطي ولفظ عربي.

جاء به العالم ديسو Diessoud إلى متحف اللوفر Louvre في باريس، وهو خمسة أسطر هذا نصها بالحروف العربية: "

1 - تي نفس القيس بر عمرو ملك العرب كله ذو أسر التج.

2 - وملك الأسدين ونزرو وملوكهم وهرب مذحجو عكدي وجا.

3 - برجى في حبج نجرن مدينة شمرو ملك معدو ونزل بنيه.

4 - الشعوب ووكلهن فرسو لروم فلم يبلغ ملك مبلغه.

5 - عكدي هلك سنة 223 يوم 7 بكسول بلسعد ذو ولده.

وهذا شرحها:

(تي): اسم إشارة للمؤنثة ومثلها ذي.

(نفس): روعي بالإشارة إليها جانب اللفظ والمراد بها الذات.

يقال: هو نفس الشيء أي ذاته وشخصه، وكني بها عن القبر أي هذا قبر.

(سر القيس): الهمزة في امرئ القيس تلفظ ولا تكتب لأن الخط النبطي ليس فيه لحرف اللين، ولا للهمزة، صورة.

وهمزة امرئ وصلية كما لا يخفى، فحذفت الوصلية، والهمزة الأخيرة خطًا.

وقد ورث ذلك منه الخط العربي فنزعت منه وجوبًا ألف الرحمن وألف هذا وهؤلاء.

وفي رسم المصحف توسع في الحذف أكثر من ذلك.

(بر عمرو): بر بمعنى ابن وهي نبطية، ولم يستعملها العرب، وربما استعملها بعض، محاكاة للنبطية، وفي بضع النقوش بالخط الثمودي، والمؤرخة سنة 262 لمدينة بصرى أي سنة 374 ب.

م اسم القيض بنت عبد مناة، وفي بعضها: برت عبد مناة.

(ملك العرب كله): أي كلهم، وأفرد الضمير على إرادة الشعب العربي.

(ذو أسر التج): ذو:؛ بمعنى الذي، وهي لغة طيء يستوي فيها الإفراد والجمع والتذكير والتأنيث.

وأسر: بمعنى شد وعصب التاج.

وفي مجاز الأساس للزمخشري: ما أحسن ما أسر قتبه: أي شده؛ وإنما حذفت ألف التاج لأنها من حروف اللين.

(وملك الأسدين): بمعنى أخضع.

كما يقال: ملك رقابهم.

(ونزرو) أي بني نزار، أسقط ألفها لأنها حرف لين، وألحقت بها الواو محاكاة لإلحاقها الأعلام في النبطية.

(وملوكهم وهرب مذحجو) أي جعل قبيلة مذحج تهرب منه، يريد أنه هزمهم.

(عكدي) أي غلابًا وقوة.

قال العالم لدزبورسكي Lidzborski: إن عكدي تدل على القوة ولعلها من النبطية.

(وجاء برجى) وفي بعض النسخ نزجى؛ قال بعضهم: إنها اسم مكان.

وربما كانت من برج برجًا الشيء إذا ظهر وارتفع؛ قال في لسان العرب: وإنما قبل للبروج بروج لارتفاعها وبيانها وظهورها؛ وتبرجت المرأة: أظهرت وجهها.

(في حبج نجرن) والحبج في العربية مجتمع الحي ومعظمه.

أو هو الحبج أيضًا، ومعناه في العربية الظهور بغتة، مصدر حبج يحبج، ويكون المراد: جاء ظاهرًا مهاجمًا لمجتمع هذا الحي من نجران مدينة شمر.

(وملك معدو) أي قبيلة معد.

(ونزل بنية الشعوب) أي القبائل العظيمة.

والشعب: القبيلة العظيمة والحي العظيم تتفرع منه القبيلة، أي: استعمل بنيه على القبائل.

(ووكلهن فرسو لروم) أي كان ذلك لهم وكالة للفرس والروم.

وأقام النون للجمع مكان الميم كما في الآرامية السريانية، لأن لغة النبط، التي تأثرت بها هذه القبرية، كانت متأثرة بالآرامية فسري ذلك إلى عربية هذا النقش.

(فلم يبلغ ملك مبلغه عكدى) أي لم يبلغ ملك مبلغه قوة.

هلك سنة 223 يوم 7 بكسول: أي سنة 328 ب.م.

(بلسعد ذو ولده) أي دام بالسعد الذي ولده.

وبعبارة مفسرة أوضح: هلك هو فالبقاء والسعد لولده.

وقد كشف أثر منقوش فوق كنيسة بحر أن اللجا، في المنطقة الشمالية من جبل الدروز، مكتوبًا بالعربية واليونانية - سنة 568 ب.م.

ونصه العربي: "تاشرحيل بن ظلمو بنيت دا المرطول سنة... بعد مفسد خيبر بعم" "أي بعام" وترجمة نصه اليوناني: "

أسس شراحيل بن ظالم سيد القبيلة مرطول ما يوحنا سنة 463 من الأندقطية الأولى ليذكر الكاتب.

منه هذين النصين يعلم الباحث أن البحث العربي في هذا الأثر ليس فيه خروج عن العربية الفصحى، بل هو منها ومن لبابها لفظًا وأسلوبًا.

ولا يدع ولا غرابة في ذلك لأن زمنه كان قبل ولادة"

النبي بعامين أو ثلاثة، وذلك في زمن زهرة الجاهلية.

وأما حذف حرف اللين من عام وظالم وإلحاق الواو بظالم فهو اصطلاح خطي كما عرفت.

وقد كان رسم هذا الأثر بعد اثر أنمارة بنحو مائتين وأربعين عامًا، فانظر مدى التطور في عبارة هذين الأثرين في هذه المدة من الزمن، وربما كان أثر أنمارة متأثرًا بمحاكاة اللغة النبطية ذات السلطان في وقته في العبارة والأسلوب، واستعارة كلمات لا وجود لها في العر

أما (مفسد خيبر) في نقش كنيسة حران فهو من ملوك غسان، قيل: إنه الحرث بن أبي شمر الغساني، كما في المعارف لابن قتيبة، وقيل: هو أبو جبيلة من ملوك غسان، غزا اليهود في الحجاز واستباحهم، كما في تاريخ ابن خلدون.

ويتصل بحوران مما وراءها منطقة الصفا وسكانها عرب؛ قال العالم ليتمان: إنه ليس بينهم وبين قبائل العرب في الجزيرة فروق كبرى.

وكانت في عصر هذا النقش مركزًا للرمان ترد عن الحاضرة غارات العرب المجاورين، ولذلك أثرت فيهم مدنية الرومان كما أنهم تأثروا قبل ذلك بمدنية الآراميين، ولكن حياتهم لم تزل صحراوية، كما يقول ليتمان.

وقد كشفت لهم آثار في هذه المنطقة ونقوش، يرجح الأستاذ ليتمان أنها ترجع غلى القرون الثلاثة الأولى بعد الميلاد، أكثر ألفاظها عربية بحتة أفعالًا وأسماء مثل: شتى أي أقام في الشتاء، وشنأه: بمعنى كرهه، ورعى الضأن، ووجد أثر أخيه فنقم، ورحض بمعني غسل، وذبح ذبيحة.

ومثل: أسد، وليث، ولبأة، وغزال، وإبل، وجمل، وبكر، ومهر، وحمار، وضأن، وماعز، وبقر، ووعل، وضبع، وضب، وقنفذ، وغير ذلك.

وقد استعملوا الهاء أداة للتعريف.

وكذلك وجدت في النقوش والآثار الثمودية التي هي أيضًا عربية، من العرب البائدة، وأسلوبها قريب من العربية الفصحى.

ونذكر مثالًا منها في أحد نقوشهم وهي: (هـ ل هـ ي) يا إلهي، (أسعد) ساعد، (سعدت) سعدة، (عل) علي، (دورت) دورة.

ونقش آخر وهو شطر بيت من الشعر:

ل ت م... ي غ ث ب ن ج ش م... هـ وع ل

(لتيم يغوث بن جشم الوعل) أي: هذا الوعل هو لتيم يغوث بن جشيم.

فقدم الظرف وهو خبر المبتدأ على المبتدأ، كما يقال: لزيد المال.

أثر التطور في اللغة العربية

الحميرية لغة عربية: بعد أن كانت الجزيرة العربية قسمين: جنوبية، وهي اليمن، باديتها

وحاضرتها، وشمالية موزعة بين الحجاز ونجد وما إليهما من البوادي والحواضر؛ وبعد أن كان لليمن قسطها من التمدن وكان لها دول وحكومات معروفة، تنوعت أسماؤها واختلفت ثقافاتها من معينيين وسبئيين وحميريين، ومضت على ذلك السنون، وتعاقبت الأجيال والقرون.

بعد هذا اختلفت اللهجات وتنوعت اللغات القومية، حتى قال بعض الباحثين بتغاير الحميرية والعربية الشمالية ونقلوا أن أبي عمرو بن العلاء قوله: "ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا. ويمكن الاعتذار لأبي عمرو عن قوله هذا، أنه يريد باللسان واللغة، في قوله هذ

وقد جعل ابن دريد الهسع والهميسع من أسماء الحميريين طارئتين على اللغة من العبرانية أو الآرامية، لأنه لا يعرف لها اشتقاقًا في العربية.

ويقول الصاغاني في رده عليه: "إن ابن دريد قد أبعد في المرام وأبعد في السوم.

ولو علم من أين تؤكل الكتف ومن أي الفصول يقتطف لتنصل من ارتكاب التكلف، وهذه الأسماء عربية حميرية.

واشتقاقها من هسع إذا أسرع.

فتأمل ذلك. هذا كلام الصاغاني، وهو صريح في أن الحميرية من صلب العربية.

ومع ذلك كله، فالاختلاف بين الحميرية والعدنانية مما لا ريب فيه.

وذلك ليس بغريب عند من يؤمن بتطور اللغات واختلاف اللهجات، بل وبعض المفردات، باختلاف البيئة والأحوال.

ولو لم يكن من المتفق عليه بين أهل الجنوب والشمال اشتراكهم في العربية، وأنهم جميعًا أبناؤها البررة، وأنها أصلهم الذي إليه يرجعون وجامعتهم التي عليها يجتمعون، لما عملوا في توحيد لهجاتهم ولغاتهم، ولما جاهدوا لتقريب ما بينهم، ولما كانوا يقولون في متون اللغ

ولا يستطيع منكر أن ينكر أن هذه القبائل كانت تجتمع من جنوبيين وشماليين في أسواقها، وتتفاهم دون أدنى كلفة.

يساعدهم على ذلك أن لغاتهم أو لهجاتهم على ما كانت عليه، كانت متحدة في صميمها، وأن هذا الاختلاف لمي عد كونها لهجات للغة واحدة.

كيف توحدت اللغة؟

لم يكن بين قسمي الجزيرة تقاطع ولا تهاجر، بل دلت الآثار والأخبار على انه كان بينهما اتصال دائم كما سيأتي.

لما حمل عمالقة العراق، أيام هجرتهم إلى جنوبي الجزيرة، لغتهم، وانتشرت بين سكان

اليمن الذين تديروها قبلهم، وتولوا السلطة فيها، غلبت أر ذوي السلطان على من سواهم في دولتهم، ولعب فيها التطور فتشعبت كما تشعبت الشماليين العدنانية.

وكانت الدولة الحميرية في الجنوب عندما تميزت لغة العمالقة عن لغة الشمال، فسميت لغة الجنوب بالغة الحميرية، وصارت إليها أكثر لهجات اليمن تقليدًا، ولكن العربية السعيدة لم تبق لها سعادتها، فطوحت بها الطوائح، وتفرقت قبائلها بالسيل العرم، فضربوا في أقطار الجز

وكثر الامتزاج والاختلاط، وضعفت السلطة وبادت، فضعف شأن الحميرية وحلت محلها اللغة العدنانية، لغة الشعر والخطابة، حيث كانوا الشماليون، وأكثرهم أهل وبر ليس لهم من المدر سوى مدن قليلة حضرية في استيطانها، بدوية في أخلاقها وعاداتها.

كانوا لا تشغلهم زخارف المدنية التي تتوسع معها الحاجات كما استبحرت لأنهم ما عرفوها أو لم يريدوا أن يعرفوها، فاقتصر همهم على ما لديهم من وسائل العيش، وهي عندهم قليلة النفقة.

وإنما يقوى الانصراف إلى المادة إذا كثرت الحاجة إليها، وتقوى الروح إذا قل الانصراف إلى المادة.

كانوا بحكم الطبع يشتغلون بالكماليات، ويزيدهم بها عناية، وإليها انصرافًا مباهاتهم ومفاخراتهم بالأحساب والأنساب والكرم وحفظ الذمام.

وتلك شيمة أهل الوبر، فأصبحوا بذلك أعم الأمم بأنسابهم حتى بأنساب خيلهم وإبلهم.

والمنافرات والتحدث بالغزوات يجلب بالطبع العناية بالبيان وبطرقه، وبتخير الألفاظ العذبة لتأخذ في السامع أثرها.

بهذا وبأمثاله كان للبيان والفصاحة عندهم المحل الأول.

تخيروا عذب الكلام، وهم أصفى الأمم أذهانًا مما تبعثه فيهم بيئتهم النقية وسماؤهم الصافية، فكانوا في تخيرهم من أبعد الأمم غورًا في هذا السبيل.

وكانت اللغة المهذبة تدعو إلى حظيرتها سائر اللهجات الغربية مهما بعدت عنها، ولو كانت أجنبية عنها لعصت عليها ولم تنقد.

ودام ذلك إلى أن اتحدت بها أو فنيت بجانبها حتى الحميرية وبقاياها، ولم يبق للحميرية غير مفردات مذكورة في تضاعيف كتب الأئمة.

وبقي من هذه اللهجات أو اللغات إلى زمن العصر الإسلامي مخلفات يسيرة، كالطمطمانية والشنشنة والوشم وغير ذلك.

وبعد أن نزل القرآن بأحسن اللغات العربية، وظهرت بها السنة النبوية، وكان أتباع القرآن والسنة هو الدين الغالب في الأقطار العربي جمعاء، وكان لهذا الملأ من قريش، الدولة

والسلطان والناس على دين ملوكهم، اتجهت إلى المضرية سائر اللهجات الأخرى وفنيت في جنبها، ثم جاء عصر التدوين فكانت هي المدونة.

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


44-معجم متن اللغة (قريش أصفى العرب لغة وأشدهم تأثيرا في توحيد اللغة)

قريش أصفى العرب لغة وأشدهم تأثيرًا في توحيد اللغة:

اتخذت قريش وهم سدنة الكعبة، البيت الحرام، وقطان أرض الحرم، مجمع العرب، رحلة الشتاء إلى اليمن ورحلة الصيف إلى الشام.

فنظموا برحلتيهم هاتين، جانبي الجزيرة في سلك تجارتهم.

وكانوا ينزلون بالقبائل الضاربة في طريقهم فيتخيرون الحسن من الأقوال، والعذب من الألفاظ- وهم قدوة العرب في الفصاحة والبيان- ويحرصون كل الحرص على أن يكون لما يتخيرونه من ذلك، المكان الأول، فكان يؤخذ بما يتخيرون بالقدوة.

قال ابن فارس: "أجمع علماؤنا بكلام العرب والرواة لأشعارهم والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالهم، أن قريشًا أفصح العرب السنة وأصفاهم لغة.

وذلك أن الله، عز وجل ثناؤه، اختارهم من جميع العرب واصطفاهم، واختار منهم نبي الرحمة محمدًا، صلى الله عليه وسلم.

فجعل قريشًا قطان وحرمه وجيران بيته وولاته.

فكانت وفود العرب من حجاجهم وغيرهم يفدون إلى مكة للحج ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم.

وكانت قريش تعلمهم مناسكهم وتحكم بينهم.

ولم تزل العرب تعرف لقريش فضلها وتسميهم أهلا الله لأنهم الصريح من ولد إسماعيل، عليه السلام، لمن تشبهم شائبة، ولم تنقلهم عن مناسبهم ناقلة، فضلًا من الله، جل ثناؤه، لهم وتشريفًا، إذ جعلهم رهط نبيه الأدنين وعترته الصالحين.

وكانت قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها ورقة ألسنتها، إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم، وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيروه من تلك اللغات إلى نحائزهم وسلائقهم التي طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب."

وفي لسان العرب، عن قتادة، قال: كانت قريش تجتبي (أي تختار) أفضل لغات العرب، حتى صارت لغتها أفضل لغاتهم.

فنزل القرآن بها وتحدى العرب وفصحاءهم أن يأتوا بمثله تحديًا يدل عل عظيم منزلة البلاغة عندهم.

ومن كانت هذه حالهم في تهذيب لغتهم بين أمة ترى لغتها من أكبر مفاخرها، كانوا قدوة في قومهم، بهم يقتدي وعلى مثالهم يحتذي.

هكذا كان سريان التقريب، بل التوحيد في لغات العرب، وهكذا كان جمع الشتات إلى لغة واحدة.

وكأنني من وراء خمسة عشر قرنًا انظر وفد الحجاز عند سيف بن ذي يزن، ملك اليمن، وسليل الأذواء من ملوك حمير، وطارد الأحباش عن أرض العرب، ارض اليمن، ارض آبائه وأجداده؛ وعلى رأس ذلك الوفد شيخ البطحاء وسيد قريش عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف يخطب ببيانه القرشي العدناني وبلاغته العذبة الهاشمية.

وسيد اليمن بل سيد حمير يصغي إليه وهو يهنئه بنصره وبجلوسه على عرش آبائه، ثم يسمع شاعر الوفد أمية بن أبي الصلت ينشد قصيدته بلهجته الفصحى ويقول: "

«لا تطلب الثأر إلا كابن ذي يزن *** إذ خيمي البحر للأعداء أهوالًا»

«فاشرب هنيئًا عليك التاج مرتفعًا *** في رأس غمدان دارًا منك محلالًا»

يصغي إليهما طروبًا لا يجد غرابة فيما يتكلمان به، بلا طرب عربي قح فتح للغة عربية خالصة

من قوم جمعته وإياهم جامعة اللغة والقومية، واستفزهم السرور بنصرة بني قومهم على الطارئين على ديارهم من الأحباش، الذين لا تربطهم بهم أية رابطة قومية مشتركة.

الجاهلية

الجاهلية اسم حدث بعد الإسلام، ولم يكن يعرف عند العرب بمعناه المراد، وإنما أطلق هذا الاسم على الزمن الذي مضى على الأمة العربية قبل بعثة الرسول المصطفى، صلوات الله عليه.

وهو غما من الجهل بأحوال ذلك الزمن على التحقيق، أو للضلالة التي كان عليها العرب قبل الإسلام من عبادة الأوثان، أو من الجهل الذي هو من نزوات الطبع والإغراق في الاندفاع مع الحمية الجاهلية.

والقول الثاني هو الظاهر من كثرة إطلاقهم الجاهلية ما يقابل عصر الإسلام.

فكأن معنى قولهم: عصر الجاهلية وعصر الإسلام هما عصر الضلالة وعصر الهدى.

وهو ما ذهب إليه المفسرون عند تفسيرهم قوله تعالى {أفحكم الجاهلية يبغون}.

إذ قالوا: إن معناه: أفحكم عبدة الأوثان تطلبون وأنتم أهل كتاب؟ وقالوا في تفسير قوله تعالى: {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية} أي عادة آبائهم في الجاهلية أن لا يذعنوا لأحد ولا ينقادوا له.

وهذا الاسم على إطلاقه يشمل كل الزمن الذي عبد العرب فيه الأوثان، أي زمن ضلالتهم، وهو زمن غير معلوم حده على التحقيق.

وقد أجمع مؤرخو العرب على أن أول من أدخل عبادة الأوثان غلى مكة هو عمرو بن طي الخزاعي، بل قيل: إنه أول من أدخلها الجزيرة العربية.

جاء بها من الشام حين ذهب ليستحم بمياهها المعدنية.

ولكن هذا القول يفتقر إلى دليل، وهو إلى الأسطورة أقرب منه إلى التحقيق.

قلنا: إن هذا الاسم، على إطلاقه، يشمل كل أزمان الضلالة عند العرب.

ولكن المألوف المتعارف بين أهل الأخبار وحملة التاريخ العربي أن إطلاقه لا يكاد يتجاوز أواخر المائة الخامسة بعد المسيح.

وقال ابن خالويه: "إن هذا اللفظ حدث في الإسلام للزمن الذي سبق البعثة النبوية..

وقد اصطلح أصحاب السير على أن يطلقوا اسم الجاهلي على من يدرك الإسلام، والإسلامي على من تأخر عن زمن البعثة ولم تدركه الجاهلية، والمخضرم على من أدرك أواخر الجاهلية وأوائل الإسلام.

ومع هذا فلم يتفقوا على الحد الفاصل بين العصرين بعينه، فقال بعضهم: الحد هو"

البعثة النبوية، كما سمعت من قول ابن خالويه، وقال آخرون: هو الهجرة النبوية، وقال غيرهم: هو فتح مكة.

وهذا أرجح الأقوال، لبانه بفتح مكة أظهر الله الإسلام فعلت كلمته على كلمة مشركي العرب، بل كسرت شوكة الشرك ودخلت عاصمة العرب الكبرى مكة في يد المسلمين، وطهرت الكعبة من رجس الأصنام، وهتف المؤذن: "الله أكبر" فوق أقدس موضع عند العرب بشهادة" أن لا إله إلا

وأما حدها الأعلى فلا سبيل إلى معرفته إلا بالاستنتاج، إذ لا نص يدل عليه.

وقد استظهر بضع الباحثين انه لم يتجاوز مائتي سنة، ويظهر من بعضهم أنه حدد بمائة وعشرين سنة.

وإليك هذا: "

ذكر الشريف المرتضى، علم الهدى، في "أماليه" عند كلامه على المعمرين: إن الربيع ابن ضبع الفزاري، أحد معمري العرب، أجاب عبد الملك بن مروان لما سأله عن عمره، بأنه عاش مائتي سنة في فترة عيسى عليه السلام، وعاش أيام الجاهلية كلها، وهي مائة وعشرون سنة، ثم ستين سنة في الإسلام؛ قال المرتضى: "إن هذا الخبر، فيشبه أن يكون سؤال عبد الملك له إنما كان في أيام غفلته (أي قبل خلافته) لا أيام ولايته، لأن عبد الملك ولي سنة 65 للهجرة فإذا كان صحيحًا فلابد مما ذكرناه..

هذا كلام المرتضى.

وظاهره أن المرتضى يرى أن الحد الفاصل بين عصري الجاهلية والإسلام هو الهجرة.

أما على القول بأن الحد (الفاصل) بين العصرين هو فتح مكة وهو في السنة الثامنة للهجرة، فيكون سؤال عبد الملك للربيع بعد خلافته بثلاث سنوات.

لا انظر في هذا الحديث عن الربيع من حيث انه صحيح أو سقيم، فقد شك فيه المرتضى بقوله: "إن كان هذا الخبر"، وإنما أنظر إليه من حيث أنه دلالة على مدة أيام الجاهلية وحصر لها بمائة وعشرين سنة.

لأن الربيع عاش قبلها وبعدها وقطع أيامها، وهي على قوله مائة وعشرون سنة.

والمرتضى، على علمه بأيام العرب وأحوالها ورسوخ قدمه في لغة العرب وتاريخ العرب، ومع شكه في الوقت الذي سأل فيه عبد الملك الربيع، لم ينف تحديد مدة الجاهلية المزعومة في كلام الربيع، أو لم يأت على الأقل بما يفيد أنه شاك فيها.

وأنا أشك في قول الربيع، على تقدير صحته، أنه عاش قبل الجاهلية أي في فترة عيسى مائتي سنة لأنه يقول فيما روي عنه في شعره:

«ها أنا ذا آمل الخلود وقد *** أدرك عقلي ومولدي حجرا»

«أبا امرئ القيس هل سمعت به *** هيهات هيهات طال ذا عمرا»

يقول في هذا الشعر: إن عقله ومولده أدركا زمن حجر، , أبي امرئ القيس، وهو حجر بن عمرو الكندي.

ومعنى إدراكه هذا أنه ولد في أيامه وعقل فيها.

ولا ريب أن ابنه امرأ القيس الذي طرده أبوه قبل موته حين أنكر سيرته، قد عقل أباه أيضًا، فهو إذًا مماثل للربيع في هذا على أقل تقدير، إن لم يكن إمرؤ القيس أكبر منه سنًا.

وقد ولد امرؤ القيس في سنة 500 للمسيح.

فيكون مولد الربيع في مفتتح القرن السادس بعد المسيح، ويكون عمره وقت جوابه لعبد الملك نحو مائة وثمانين سنة أي أيام الجاهلية كلها، وهي مائة وعشرون، وستين سنة في الإسلام.

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


45-معجم متن اللغة (أثر اختلاف اللغات في الفصحى)

أثر اختلاف اللغات في الفصحى:

إن اختلاف الزمان والمكان وانتشار أماكن القبائل في أطراف الجزيرة، قد أبقى في كل لهجة شيئًا من تراثها القديم.

فكانت لغة حمير ذات مفردات لم تبدل كلها، ولكنها مزجت بالعدنانية.

وكان لبعض اللغات ميزات خاصة من حيث التصريف والهيئة والإبدال وأوجه الإعراب والبناء.

فترى بين اللغات اختلافًا في حركة نون المضارعة، قريش تفتحها وأسد تكسرها.

وفي الحركة والسكون كالعين في معكم، فهي تحرك عند الجمهور وتسكن عند ربيعة وغنم.

وفي الإبدال كأولئك وأولالك، ولأنك ولهنك، وبكر ومكر، وما اسمك وبا اسمك.

والميم والباء يتعاقبان في لغة مازن.

واختلافًا في التقديم والتأخير كصاعقة وصاقعة، وجبذ وجذب، وفي الإعراب كإعمال ما النافية عند الحجازيين وإهمالها عند تميم.

وكنصب خبر ليس مطلقًا في الحجاز ورفعه إذا اقترن بألا، حملا على ما التميمية.

وكإعراب المثنى والأسماء الخمسة بالحروف أو"

بالحركات المقدرة على الألف.

واختلافًا في الإعراب والبناء كحذام وقطام، فهي مبنية على الكسرة عند قوم، معربة إعراب ما لا ينصرف عند غيرهم، وكاختلافهم في "أي" فهي معربة مطلقًا عند قوم، مبنية في أكثر حالاتها عند آخرين.

واختلافًا في الإدغام فالحجازيون يفكونه في مثل "إن تعضض" والتميميون يدغمون.

واختلافًا في التاء المربوطة، فهي تاء في الوقوف عليها عند قوم هم طيء، وهاء عند الآخرين كأمت وأمه.

واختلافًا في صور الجمع كأسارى وأسرى، وهذا كثير عند الإحصاء.

واختلافًا في الأسماء وهذا أظهر في لغة حمير ولا تخلو منه غيرها: كالمدية، والشناتر، والصنارة في لغة حمير للسكين، والأصابع والأذن في غيرها.

وفي لغات العرب من آثار الاختلاف:

العنعنة: وهي إبدال الهمزة عينًا، يقولون: "عنك" و"عنت" في "إنك" و"أنت"، وهي لتميم وقيس.

الكشكشة": وهي إلحاق كاف الخطاب المؤنث شينًا وبعضهم يجعلها مكان الكاف، وهي لربيعة.

الكسكسة: وهي كالكشكشة إلا أن شينها سين، وهي لربيعة أيضًا.

الغمغمة: وهي إخفاء بعض الحروف في الكلام فلا تكاد تظهر، وهي عند قضاعة.

الفحفحة: وهي إبدال الحاء عينًا كقولهم في حتى: "عتى" وهي في هذيل.

العجعجة: وهي قلب الياء الأخيرة جيمًا "كالساعج" في الساعي و"علج" في علي، وهي في قضاعة.

و"الشنشنة": وهي قلب الكاف في لبيك شينًا. يقولون: "لبيش اللهم لبيش" في "لبيك اللهم لبيك" وهي لليمن.

الطمطمانية: أو "الطنطنانية": وهي قلب لام التعريف ميمًا كامصيام في الصيام، وهي لحمير.

و"اللخلخانية": وهي حذف ألف ما شاء الله يقولون: "مشالله" وهي في الشحر وعمان واليمن.

التلتلة: وهي كسر تاء المضارعة، يقولون: "تلعب" وهي في بهراء.

الوتم: وهو قلب السين المتطرفة تاء كالنات في الناس، وهي لأهل اليمن.

الوكم: وهو كسر كاف الخطاب المتصلة بميم الجمع فيقولون "عليكم" و"بكم" وهي في ربيعة (قوم من كلب).

الوهم: وهو كسر هاء الضمير المتصلة بميم الجمع إذا لم تسبقها ياء ساكنة، وهي لكلب.

الترخيم: وهو قطع آخر الكلمة في غير النداء، يقولون: "أبو الحكا" في "أبي الحكم".

الاستنطاء: وهو قلب العين الساكنة قبل الطاء نونًا، يقولون: "أنطى" في "أعطى" وهي لغة سعد بن بكر، وهذيل، والأزد، وقيس، والأنصار، وهي اليوم لغة الأعراب كإبدالهم للكاف شينًا أو جيمًا فارسية.

وكقلب الشين ضادًا عند ربيعة واليمن، يقلبونها غير خالصة بل هي بين الضاد والشين، فيقولون في "مشط" "مضط" وفي "اشتر لي" "اضطر لي".

وقد كان أصل المشترك فيما أرى أن كل لفظة منه للغة، فلما جمعت اللغات العربية كان من هذا عدة أسماء لمسمى واحد.

وهكذا الحال في الأضداد: "فثب" بمعنى "اجلس" في لغة حمير من الوثاب وهو الفراش، ولكنها بمعنى الوثوب ضد الجلوس في لغة غيرهم، و"كالناهل" للعطشان والريان، وكالجون للأبيض وللأسود، وهكذا سائر الأضداد.

وإن في اللغة المدونة كلمات ذات لغات في أبنيتها من حيث الحركات والسكون، ومن حيث الإعلال، ومن حيث الهمز والتليين.

فمن ذلك ما جاء فيه لغتان مختلفتا الحركات: كرطل ورطل، وبخل وبخل، وسبروت وسبريت، وعباءة وعباية.

وما جاء في ثلاث لغات: كرشوة وربوة ووجنة وزجاج، مثلثة أوائلها.

وما جاء فيه أربع لغات: كعضد وعضد، مثلثة الأول.

وما جاء فيه خمس لغات: كعجز بتثليث الأول مع سكون الثاني، وفتح الأول مع ضم الثاني.

وما جاء فيه ست لغات: كفسطاط بضم الأول وكسره مع سكون السين ومع كسرها، وفستات بهما، وفساط كذلك.

وما جاء فيه ثماني لغات: كتراب وتراب وتيرب وتورب وتريب وترباء وترباء وتوراب وتيراب.

وما جاء فيه اثنتا عشرة لغة: كشمال، وشمال، وشأمل، وشامل، وشمل، وشمل، وشيمل، وشمول، وشميل، وشومل.

وما جاء في ثلاثة عشرة لغة: كالنخيب، وفضل، وقفل، وهمزة، وعنق، وكلمة، وكتف، وفلز، وجمرة، وهجف، ومنتخب، وينخوب، ومنخوب.

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


46-معجم متن اللغة (عناية العرب بلغتهم 1)

عناية العرب بلغتهم:

تقدم القول أن العرب كانوا أهل بادية وحاضرة؛ فالبادية من مشارف الشام إلى حدود اليمن يدخل فيها الحجاز ونجد وتهامة واليمامة وأرض عمان؛ وفيها مدن قليلة كمكة ويثرب والطائف، على أن مكة لم تنتقل من الوبر إلى المدر إلا بعد أن بنى قصي بن كلاب دار الندوة؛ وأما الحاضرة

فهي اليمن وما إليها من أرض حضر موت والشحر وفيها بواد فسيحة؛ وفي جنوبي فلسطين بدوي حضري؛ وفي أرض حوران عمرت بصرى، وكان من مدنهم في الشمال البتراء.

كانوا على عزلتهم في ديارهم هذه وعزة نفوسهم التي لم تستذلها الدول العظمة المكتنفة أرضهم، كانوا يرون أنفسهم في غبطة وسرور من حال ألفوها، وشاعرهم ينشد في باديته القفراء مفتخرًا بنعيم عيشه فيقول:

«إذا ما شربنا كل يوم مذيقة، *** وخمس تميرات صغار حوامز»

«فنحن ملوك الناس شرقًا ومغربًا، *** ونحن أسود الغاب وقت الهزاهز»

«وكم ممتن عيشة لا ينالها، *** ولو نالها أضحى بها جد فائز! »

كانوا وهم في هذه الحال في حرز حريز من أن يتطرق إلى لغتهم الصافية ما يكدرها، ويحرصون عليها حرص الشحيح على ماله، حتى أصبح ذلك خلة راسخة في نفوسهم وملكة ثابتة في طباعهم.

وتعدى ذلك إلى أتباعهم وحواشيهم.

قال الجاحظ: "رأيت عبدًا أسود لبني أسد، قدم علينا من اليمامة فبعثوه ناطورًا في البساتين.

وكان وحشًا لطول تغربه في اليمامة ورعي الإبل، فأصبح بعد أن صار ناطورًا لا يجتمع إلا بالأكراد وفلاحي النبط الفاسدي اللغة، فكان لا يفهم منهم ولا يفهمون منه؛ فلقيته يومًا فأنس بي، وكان مما قال لي: أبا عثمان، لعن الله بلادًا ليس فيها عرب! أبا عثمان، إن هذه العرب في جميع الناس كمقدار القرحة في جلد الفرس، فلولا أن الله رق عليهم، فجعلهم في حاشية الأرض، لطمست هذه العجمان آثارهم..

أنف هذا العبد الأسود الزنجي العرق السكني في بلاد ليس فيها عرب، ولعن البلاد الخالية منهم.

ويقول: إن من نعمة الله عليهم أن عزلهم في ناحية من الأرض لتبقى لغتهم سليمة من التحريف.

ويدلنا كلامه على تغير عظيم في اللغة وتباعد بين لغة عرب اليمامة ومستعربي الأمصار حتى عسر التفاهم بينهم.

رأى العرب، وهم في هذه العزلة بل هذه العزة، أنهم فوق الأمم مجدًا وشرف محتد وطيب عنصر وعزة نفس وإباء ضيم.

وهذه امرأة بدوية، وهي ليلى بنت لكيز، لم ترض أن تكون في نساء كسرى ملك العجم، لما حملت إليه مكرهة، فتقول: "

«يكذب الأعجم ما يقربني، *** وعمي بعض حساسات الحيا»

«غللوني قيدوني ضربوا *** ملمس العفة مني بالعصا! »

تنبز كسرى، ملك الملوك، بالأعجم احتقارًا لسلطانه لأنه غير عربي.

وتفر من النعمة السابغة"

والعيش الهني في حرم كسرى، مفضلة عليها سكنى الوبر وعيشه الخشن وطعامه الجشب في ظل الحرية والانطلاق، وحرصًا على الدم العربي أن يشاب بدم غيره، فلا يقربها الأعجم ما دام معها بعض حساسات الحياة، ولو كان له ملك كسرى! وإذا عرض الشك في صحة هذه القصة فإن النعمان، عامل كسرى، قد امتنع أن يزوج إحدى بناته من كسرى، لا جهلًا بمقام كسرى، ولا اعتقادًا منه بأنه أعلى منه شرفًا ومنزلة، ولكنه امتنع خوفًا من العار الذي يلحقه بين العرب من أنه زوج ابنته من غير عربي، وإن كان ملك الملوك، فيحط بذلك منزلة بناته بزواجهن من غير الأكفاء، ولا كفؤ للعربي إلا العربي.

امتنع النعمان فأثار حفيظة كسرى، فقتله بين أرجل الفيلة؛ ولكن أمته العربية الأبية ثارت له لأنه قتل في سبيل الشرف العربي؛ فكانت وقعة ذي قار.

بهذه الخلة قل امتزاجهم بالأمم، فقل التحريف والتبديل في لغتهم؛ وليس هذا وحده، بل انصرفوا بجهودهم كلهم إلى العناية بتحسين اللغة وصقلها، ما شاءت لهم قرائحهم وعلومهم.

لذلك بلغت لغتهم هذا المبلغ من السلعة في المادة وفي مراعاة مقتضى الحال بإيجاز الكلام أو إطنابه، وفي الرواء والعذوبة.

عناية الأئمة بحفظ لغة القرآن والسنة وتدوينها

جاء القرآن بأفصح لغات العرب.

ودان العرب بالإسلام دين القرآن.

وجرت السنة النبوية هذا المجرى؛ فكانت لغة القرآن والسنة أولى بالتدوين والحفظ، لما آن أوانها وأخذت سنة التطور طريقها في اللغة الفصحى، منذ خرج العرب من عزلتهم واختلطوا بالأعاجم، ودخل الأعاجم في سلطانهم.

وكان لهم ما للمسلمين العرب، وعليهم ما عليهم من حرية وإخاء ومساواة.

وبعد أن كثر تسريبهم بالأعجميات لكثرة السبي في أيديهم، يوم اتسعت فتوحاتهم، وشعر أبو الأسود الدؤلي، أقدم أئمة العربية، ببادرة من التغير بدرت على لسان ابنته إذ قالت لأبيها متعجبة وقد نظرت إلى السماء ونجومها في لسلة صافية: "ما أحسن السماء" فرفعت أحسن، وح

فأدركت خطأها وقالت: أنا متعجبة ولست بمستفهمة.

فهب أبو الأسود إلى إمام المسلمين والعرب في العلم والعمل، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام، وأخذ منه أصول النحو.

فعكف القوم بعد هذا على تقرير قواعد اللغة والنحو واختيار الفصيح من الكلام.

وعمل الأئمة على التقاط فرائد اللغة من البوادي البعيدة عن الأمصار، لبعدها عن مجاورة الأعاجم وفاسدي اللغة.

فكانت رحلة الأئمة إلى بوادي الحجاز وتهامة ونجد واليمامة.

قال الفارابي في أول كتابه المسمى "الألفاظ والحروف": "كانت قريش أجود العرب لأفصح الألفاظ، وأسهلها على اللسان، وأحسنها مسموعًا، وأبينها إبانة عما في النفس.

والذين نقلت عنهم العربية وبهم اقتدى، وعنهم أخذ اللسان العربي من بين القبائل العربية هم: قيس وتميم وأسد.

فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه.

وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف.

ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين؛ ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر القبائل.

وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البوادي ممن كان يسكن أطراف البلاد المجاورة لسائر الأمم حولهم.

فلم يؤخذ عن لخم ولا عن جذام لمجاوراتهم أهل فارس، ولا عن قضاعة وغسان لمجاورتهم أهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرأون بالعبرانية، ولا عن تغلب واليمن فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان، ولا عن بكر لمجاورتهم للفرس، ولا عن عبد القيس وأزد عمان لأنهم كانوا بالبحر

كان الباحث عن اللغة في بوادي العرب يقامر بنفسه، غير مبالٍ بحرها ولا ببردها ولا بخشونة عيشها ورتق مشربها، السنين الطوال ليكتب عن فضائحهم شيئًا من كلامهم.

وروي أن الكسائي أنفذ خمس عشرة قنينة من الحبر في الكتابة عنهم.

وكان الإمام منهم يفضل استفادة كلمة واحدة على حمر النعم.

ويروي عن أبي عمرو ابن العلاء قال: "إني كنت هاربًا من الحجاج بن يوسف، وكان يشتبه علي "فرجة" هل بالفتح أو بالضم، فسمعت قائلًا يقول: "

«ربما تجزع النفوس من الأمر *** له فرجة كحل العقال»

فحرك الفاء بالفتح، ثم قال: ألا إنه مات الحجاج؛ قال أبو عمرو: فما أدري بأيهما كنت اشد فرحًا: أبقوله فرجة، بفتح الفاء، أو بقوله مات الحجاج! "

وكان من مزيد عناية القوم باللغة أن ميزان التفاضل بين الأئمة وحملة اللغة كان سعة معرفة الرجل بكلام العرب ولغاتها وغريبها.

وكان الأمراء والملوك والخلفاء وأعيان الأمة يتسابقون إلى تأديب أبنائهم، أي تعليمهم الأدب العربي من اللغة والنحو والشعر وأخبار العرب ومفاخراتهم"

ومنافراتهم، ليحفظوا كلامهم ويقووا به ملكاتهم اللغوية.

وكان أكبر عيب في الشريف العربي أن يلحن في كلامه، فلا يأتي بالحركات الإعرابية أو الحركات اللغوية على وجهها؛ كل ذلك كان في سبيل حفظ اللغة ورونقها وجدتها، وتقوية ملكة الفصاحة في النفوس.

بدء انحراف العامية عن الفصحى

قلنا: إن أبا الأسود الدؤلي رأى بادرة التغير في كلام ابنته، فلجأ إلى أمير المؤمنين علي ووضع أصول النحو.

والظاهر أن بدء الانحراف كان قبل ذلك، وعلى كل حال لم يكن قبل عصر الراشدين.

وأول ما سمع ذلك في الحركات الإعرابية زمن خلافة أمير المؤمنين عمر، رضي الله عنه، على ما جاء في طبقات الأدباء لابن الانباري؛ وذلك أنه قدم أعرابي في زمن خلافته فقال: "من يقرئني شيئًا مما أنزل على محمد؟ " فأقرأه رجل سورة براءة وقال: "إن الله برئ من المشركين ورسوله "بالجر، فقال الأعرابي: "أو قد برئ الله من رسوله؟ إن يكن الله برئ منه فأنا أبرأ منه! " فبلغ ذلك عمر فدعاه وقال له: أتبرأ من رسول الله يا أعرابي؟ فقال: يا أمير المؤمنين إني قدمت المدينة ولا علم لي بالقرآن، فسألت: "من يقرئني؟ " فأقرأني هذا سورة براءة فقال: "إن الله يبرئ من المشركين ورسوله" فقلت: "أوفد برئ الله من رسوله؟ إن يكن الله برئ منه فأنا أبرأ منه! " فقال عمر: "ليس هذا يا أعرابي".

فقال: "كيف يا أمير المؤمنين؟ " قال عمر: "إن الله برئ من المشركين ورسوله" ورفع رسوله، فقال الإعرابي: وأنا أبرأ ممن برئ الله ورسوله منهم.

فأمر عمر أن لا يقرئ القرآن إلا عالم باللغة.

وكان أهل الحاضرة يومئٍذ، كيثرب، فيهم العلماء باللغة وغير العلماء، ولهذا خصص عمر أمره بالعالم باللغة.

وروى عاصم قال: جاء أبو الأسود الدؤلي إلى زياد، وهو أمير البصرة، فقال: إنني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم، وفسدت ألسنتها، أفتأذن لي أن أضع للعرب ما يعرفون به كلامهم؟ فقال زياد: لا تفعل؛ قال: وجاء رجل إلى زياد فقال: أصلح الله الأمير! توفي أبانا وترك بنون؛ فقال زياد يرجع كلامه: توفي أبانا وترك بنون؟ ادع لي أبا الأسود؛ فلما جاءه قال: "ضع للناس ما كنت نهيتك عنه.

وسئل أبو الأسود: من أين لك هذا النحو؟ فقال: لفقت حدوده من علي بن أبي طالب.

وأما اللحن في بناء الكلمة فكان بعد ذلك العهد.

ويظهر أنه كان في سكان الحاضرة أيضًا، ولم يأتِ زمن الحجاج حتى فشا اللحن في كلمات اللغة، وحتى صار يستهجن الفصيح في كلمات العامة.

قال في الطبقات: "قال محمد بن سلام: أخبرني أبي أن يزيد بن الملهب كتب إلى الحجاج: إنا لقينا العدو ففعلنا وفعلنا واضطررناه إلى عرعرة الجبل.

فقال الحجاج: ما لابن المهلب وهذا الكلام؟ فقيل له: إن يحيي بن المعمر عنده.

فقال: ذاك إذًا.

ويحيي بن المعمر هذا هو من حملة اللغة وأئمتها."

سارت العامة على خطها المنحرف، وامتد سيرها هذا لما كثر توغل العرب الفاتحين في بلاد الأعاجم، وكلما امتد السير زادت بعيدًا عن الفصحى؛ إلا أن هذا الطريق لم يكن ممهدًا بل كانت تعترضه عقبات من عناية العلماء بالفصحى، لما رأوا ما منيت به من التحريف، فأخذوا في محاربة هذا الداء، وصنفوا في تقويم العامية وردها إلى الفصحى وتطهيرها، أو تطهير أقلام الكتبة على الأقل، من اللحن.

ونجد كثيرًا من هذه الجهود في مثل: "أدب الكاتب" لابن القتيبة، و "درة الغواص" للحريري.

فلم يكن، والحال هذه، سير العامية في خطتها الملتوي، شديد الاندفاع كما هو الحال في غير العربية من اللغات.

وإن اللغات الراقية اليوم، التي دونت فصحاها بعد تدوين فصحى العربية بقرون، ترى فصحاها بعيدة عن عاميتها أكثر من بعد فصحى العربية عن عاميتها.

يقول جبر ضومط، أستاذ اللغة العربي في الجامعة الأميركية في بيروت، بعد أن أثبت أن للإنكليزية والفرنسية والألمانية- وهي في مقدمة اللغات الراقية في هذا العصر- لغة فصحى مكتبية، ولغة عامية دارجة: " فالمكتبية في أعلى درجات الفصاحة، والدارجة في أحط الدرجات في بعض أقسام لوندرة وباريس وبرلين، عواصم هذه اللغات الثلاث. ثم ذكر أنه تعرف بمستشرق اسوجي جاء بيروت لدرس اللغة العربية الدارجة، وكان عارفًا خبيرًا، فأخبره أن عندهم لغتين: فصحى ودارجة، وأن الدارجة الأجنبية أكثر من الدارجة العربية بعدًا عن الفصحى.

وأنا لا أرتاب في أن اللغة التي حملها الفرنسيس، أيام الحملات الصليبية إلى سورية، لم تكن كاللغة التي حملها حُفَداؤهم إليها في هذه الأيام؛ وأن اللغة التي نظم بها شكسبير قصائده لا يفهمها العامي الإنكليزي اليوم أكثر مما يفهم العربي قصائد المتنبي وأبي العلاء المعري.

ولكن لغة موليير الفرنسية، فيما أحسب، بعيدة عن لغة أميل زولا بعد لغة ملتون الإنكليزية عن لغة دوسكن.

بينما لم تتغير لغة المتنبي عن لغة شوقي وبينهما ألف عام.

إلا أن لغة المتنبي وابن الأحنف والطائيين تخالف لغة الزاجل في شعره اليوم، بل إن لغة الزاجل اليوم تخالف لغة الزاجل في عصر ابن خلدون.

الحركات الإعرابية

في اللغة العربية

من البديهي أن مفردات اللغة مؤلفة من الألفاظ، وأن مادة اللفظ لا تتعدى حروف الهجاء، ولكن للحروف هيئات في اللفظ من حركات وسكون يطلق عليها، على سبيل التغليب، اسم الحركات؛ وهذه الحركات إما عارضة لمادة الكلمة ومبناها، أو عارضة لآخرها.

وتسمى الأولى حركات المباني كما ترى في حركات: غَمر، وغِمر، وغُمر، وغَمِر، وغُمَر، وغَمَر؛ فهذه كلمات ست، وهي مع اتفاقها في الحروف وفي ترتيبها مختلفة المعاني باختلاف حركاتها اختلافًا من أصل الوضع.

وتسمى الثانية حركات الإعراب أو علامات الإعراب لأنها تعرب عن مراد المتكلم بموقع الكلمة من الجملة، ولكنها لا تؤثر بمعنى الكلمة الوضعي شيئًا.

فسعيد في قولك "رأى سعيد أحمد" وهو سعيد نفسه إذا رفعته فاعلًا أو نصبته مفعولًا به، ولكن حاله واقعًا منه الفعل، غير حاله واقعًا عليه؛ وإنما يعرف اختلاف حاليه من اختلاف حركات الإعراب.

فائدتها

لهذه الحركات أثرها في المعنى التركيبي، خاصة وهي تعطي الجملة إيجازًا بديعًا لا مثيل له، فيما أحسب، في غير العربية.

والإيجاز في اللفظ مع الوفاء بالدلالة على المراد من أعظم ميزات اللغة.

انظر إلى قولنا: "ما أحسن زيد" فإنك تجد لهذه الجملة ثلاثة معان تختلف باختلاف الحركات في أواخر كلمتها، مع بقاء مبانيها وتركيبها اللفظي كما هي، فنقول:

1 - " ما أحسن زيدًا! " تنصبها، وأنت تريد التعجب فيكون ذلك قائمًا مقام قولك: "أعجب كثيرًا لحسن زيد".

2 - "ما أحسن ويد؟ " ترفع أحسن وتخفض زيدًا، وأنت تريد الاستفهام، وهي قائمة مقام قولك: "استفهم واسأل عن أحسن شيء في زيد".

3 - " ما أحسن زيد؟ " تفتح أحسن وترفع زيدًا، وأنت تريد الاستفهام أيضًا، وهي قائمة

مقام قولك: "أي شيء من الإحسان فعله زيد".

ثم انظر إلى قولنا: "هذا كريم أحسن منه عالم" فإذا رفعت كريمًا وعالمًا كان المراد شخصين اثنين أحدهما عالم والآخر كريم، ولكن العالم أحسن منه الكريم؛ وإذا نصبتهما كانا شخصًا واحدًا عالمًا وكريمًا، ولكنه في كرمه أحسن منه في علمه.

وانظر إلى قولنا: "كم كتاب قرأت" فإذا جررت كتابًا كنت تريد الإخبار بكثرة ما قرأت من الكتب، وإذا نصبت كنت تريد الاستفهام عن عدد الكتب التي قرأتها.

قال ابن قتيبة في "مشكلات القرآن" ما نصه: "وللعرب الإعراب الذي جعله الله وشيًا لكلامها، وحلية لنظامها، وفارقًا في بعض الأحوال بين الكلامين المتكافئين والمعنيين المختلفين: كالفاعل والمفعول، لا يفرق بينهما، إذا تساوت حالاهما في إمكان أن يكون الفعل لكل واحد منهما، إلا بالإعراب, ولو أن قائلًا قال: هذا قاتل أخي، بالتنوين، وقال آخر: هذا قاتل أخي، بالإضافة، لدل بالتنوين على أنه لم يقتله، وبحذف التنوين على أنه قتله.

ولو أن قارئًا قرأ: "فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون" وترك طريق الابتداء بإنّا، واعمل القول فيها بالنصب، على مذهب من ينصب أن بالقول كما ينصبها بالظن، لقلب المعنى على جهته، وأزاله عن طريقته، وجعل النبي محزونًا لقولهم " إن الله يعلم ما يسر

وقال رسول الله، صلوات الله عليه: "لا يقتل قرشي صبرًا بعد اليوم" فمن رواه جزمًا أوجب ظاهر الكلام أن لا يقتل إن أرتد، ولا يقتص منه وإن قتل؛ ومن رواه رفعًا انصرف التأويل إلى الخبر عن قريش أنه لا يرتد أحد منهم عن الإسلام فيستحق القتل.

أفما ترى الإعراب كيف فرق بينهما؟ ثم قال: "وقد تكتنف الشيء معان فيشتق لكل معنى منها اسم من ذلك الشيء كاشتقاقهم من البطن الخميص "مبطان" وللمنهوم "بطن" وللعليل البطن "مبطون".

انتهى كلام ابن قتيبة.

وإنما اختلف المراد فيما ذكر باختلاف الحركات الإعرابية، مع أن الجمل المذكورة لم يتغير شئ من تركيبها وتنسيقها غير علامات الإعراب.

ولكن المعنى التركيبي قد تغير معها تغيرًا لا يستهان به، كما سمعت من كلام ابن قتيبة.

وكذلك إذا قلت: "علم زيد خالد الكتاب" لا تعلم أيهما المعلم وأيهما المتعلم: فإذا رفعت ونصبت علمت أن المرفوع هو المعلم وأن المنصوب هو المتعلم، تقدم أو تأخر لا فرق، وبقي للتقديم والتأخير فائدة خاصة من البيان، كما شرحه علماء الفصاحة والبلاغة، وإذا طرحت الحركات جانبًا وجعلت الدلالة على الفاعل تقدمه، وعلى المفعول تأخره بأن يكون الفاعل واجب التقديم مطلقًا،

كما إذا كان مقصورين لا تظهر عليهما علامات الإعراب، فاتتك النكات البيانية من المعاني التي يفيدها تقديم ما حقه التأخير أو العكس، وهي إفادات تأتيك من ترتيب الجملة دون زيادة في لفظها؛ وهذا من خصائص العربية فيما أحتسب.

وإني قد أسهبت القول في فوائد الإعراب في اللغة، ليعلم أن القول بتفضيل إهمال الحركات على استعمالها، بحجة أن المعنى لا يفسد بإهمالها، ولأن كل أبناء العربية يفهمون من قولنا "زيد مسافر" بالتسكين، كما يفهمون "زيد مسافر" بالتحريك هو قول باطل.

إنه عجيب حقًا، ولاسيما إذا كان من علامة مدقق ذي علم وغيرةٍ على الفصحى، كصاحب المقتطف الدكتور يعقوب صروف.

وقد ظهر لك مما تقدم أن كثيرًا من الجمل إذا أهمل فيها الإعراب اشتبه على السامع فهمها، لاحتمالها معاني لا يميزها إلا الإعراب، أو إطالتها بكلام مفصل يدل على المعنى المراد.

من أين جاءت؟

من الحقائق التي لا أحسب فيها جدالًا، وإذا كان فهو غير معتمد به، أن العرب الذين تبدوا وقل اختلاطهم بغيرهم من الأمم، كانوا أحفظ للغة وأصون لقديمها من غيرهم، لأن الاختلاط بغير أهل اللغة من أكبر الأسباب في تطورها.

وهذا القديم الذي حفظوه وصانوه بانعزالهم وببداوتهم، إن لم يكن هو نفسه اللغة الأم، أي التي تفرعت عنها اللغات السامية، فهو أقرب اللهجات المتفرعة عنها إليها، لأن المفروض أنه مصون ومحفوظ كل الصون والحفظ أو بعضهما، فلم يكن فيه من التطور ما كان في غيره من الف

وهذه الحقيقة ليست بغريبة عن استنتاج العلماء؛ فقد ذكرها كثير من الباحثين كمسألة لا تحتمل الجدال.

ثم أنه جاء في التاريخ القديم أن اللغة التي انتشرت في المملكة البابلية، قبل زمن حمو رابي بعشرين قرنًا أو أكثر، وهي أم اللغات السامية، كانت ذات حركات للإعراب؛ وأنها قضت أكثر من ألفي عامٍ وهي ذات حياة في سجلات الحكومة ودواوينها وعلى ألسنة العلية من القوم.

وإن كلام العلامة مسبيرو، ظاهر في أن لهجة العامة من سكان المدن والقرى أي أهل الحاضرة، كانت الآرامية.

أما لهجة سكان البوادي، وهم بدو الآراميين، فلم تكن اللغة الآرامية.

إن أهل الحاضرة هم الذين اختلطوا بغيرهم من الأمم، فاستعجمت لغتهم التي كانت فصحى بهذا الامتزاج، وكانت منه اللهجة الآرامية "العامية البابلية"، كما امتزج بعد الإسلام أهل الحاضرة من العرب بغيرهم من الأمم، فاستعجمت لغتهم وكانت منها اللهجة العامية.

هذه اللغة التي ثبتت ألفي عام فأكثر في السجلات الرسمية والدواوين العالية، وعلى ألسنة العلية من القوم، هي ولا ريب اللغة الأم.

وقد كان لها حركات إعرابية، ثم استعجمت في ألسنة العامة من"

أهل الحواضر.

وكان أول ما أضاعته هو حركات الإعراب.

فكانت السريانية القديمة، اللغة المستعجمة المتطورة منها، وهي ليست بذات إعراب؛ لأن ما لا يوجد في الأصل لا يوجد في الفرع.

أما سكان البادية وهم بدو الآراميين أو العرب فلم يفقدوها، فبقيت هذه الحركات ثابتة في لهجاتهم.

وقد حدث مثل ذلك لأهل الحواضر العربية، فأضاعوا حركات الإعراب التي كانت في لغة أهل البوادي منهم باستعجام لغتهم.

وكان أول ما أضاعوه منها هذه الحركات، كما سمعت ما سلف من قضية الأعرابي الذي جاء المدينة في خلافة عمر ليتعلم القرآن، فسمع اللحن في حركات الإعراب وأدى ذلك، بحكم الطبع في ذلك الأعرابي، إلى فهمه غير المراد فأنكره؛ وكما سمعت من قصة ابنة أبي الأسود مع أبيها ا

كان نصيب سكان البوادي الأولين كنصيب سكان البوادي الآخرين في حفظ اللغة بحركاتها الإعرابية ما استطاعوا إليه سبيلًا، وبقدر ما بعدوا عن الأمم الأخرى.

وهكذا نقيس بقياس التمثيل بين العصرين، ونعلم حال القديم الذي لم نره ولا تحققنا خبره، بحال الحديث الذي عرفناه وتحققناه.

ونطمئن إلى القول بأن حركات الإعراب التي كانت في اللغة الأم الأولى قد حفظتها لها البداوة حتى ظهرت في عربيتهم الأخيرة؛ وذلك باستصحاب القهقرى كما يسميه علماء الأصول.

وقد خلت منها اللغات الأخرى الأخوات إلا أثارًا في لغة بطراء ولغة تدمر وأهلها من بقايا العمالقة.

ثم نقول: لكن بدو الآراميين الذين سكنوا البادية العربية، والذين سموا عربًا، لم تذهب منهم هذه الحركات أو أشباهها، بدليل وجودها عند أعقابهم وحفدائهم يوم أخذنا اللغة عنهم، وبدليل أن الذين أخذوها وجدوها راسخة فيهم رسوخ الملكة الطبيعية في النفس، تجري على ألسنتهم في مواقعها دون أدنى قصد أو تعمل ولا كلفة، مما يدل على طول عهدهم بها حتى أصحبت جارية مجرى الطبع.

إن هذه الحركات إذًا متصلة بنا من ميراث اللغة الأولى، أم لغتنا العربية، حفظتها لنا البداوة وحفظها بعد حامليها عن فساد اللسان بالعزلة، وعدم امتزاجهم بالأمم الأخرى.

قلنا: إن هذه الحركات كانت في العرب، واتصلت في الأعقاب على مدى الأحقاب حتى وصلت إلينا.

وسواء أكانت هي كما رأيناها أو اعتراها بعض التحرير، فهي إن لم تكن عينها فليست بعيدة عنها؛ ففي واديها ربيت، وعلى غرارها طبعت، وفي حجرها نشأت، وبدرها غذيت.

والقول بأن العرب عرفوا هذا بمعرفتهم النحو وأنهم احتذوا فيه مثال اليونانيين، فلا أراني كثير الحاجة لدفعه، لأن الإلمام بأحوال العرب قبل الإسلام فضلًا عن الاضطلاع به يكفينا أمره.

وأنى لسكان البادية بمعرفة قواعد النحو كعلم من العلوم؟ وقد سئل أعرابي: أتجر فلسطين؟ فقال: إنني إذًا لقوي، فقيل له: أتهمز إسرائيل؟ فقال: إنني إذًا لرجل سوء! ففهم هذا البدوي، وهو ممن يوثق بعربيته ويتخذ أئمة اللغة كلامه حجة في النحو واللغة، فهو الجر والهمز بمعناهما اللغوي، ولم يكن للمعنى الاصطلاحي أقل مساس بفهمه وعلمه.

إن الإعرابي القادم من البادية إلى الحاضرة ليتعلم القرآن، وهو بعد لم يبل بفساد اللسان، قد عرف تغير المعنى بتغير حركة "ورسوله" لا من حيث أنه رفع وخفض، بل من حيث أن إفادتها مرفوعة غيرها إذا كانت مخفوضة؛ هكذا فطر طبعه ونمت غريزته.

كيف وضعت الحركات؟

إن الذي اتفق عليه المحققون أن وضع اللغات لم يكن بالتنصيص على لفظ خاص لمعنى خاص، وإنما كان الوضع بالتوسع في الاستعمال على قدر الحاجة وتنوعها بامتداد الزمن وتطاول المدة، وعلى حسب ما هو معروف من سنن التطور.

ويبعد في مثل هذه الحال أن توضع الحركات الإعرابية بمثل هذا النحو من الوضع، وأن تكون على هذه الطريقة، لأن الحركات الإعرابية على ما هو الظاهر ليست مما تدعو إليه الحاجة الماسة بأن تكون ركنًا من أركان التفاهم، فلا يتم بدونها، حتى يقال: إنها جاءت على قدر الح

فكيف كانت إذا هذه الحركات الإعرابية؟ هل هي بقايا كلماتٍ كانت تدل على ما تدل عليه علامات الإعراب، ثم اختزلت بتطاول المدة وصقلت بالاستعمال فصارت كما نراها؟"

يقول بهذا القول كثير من العلماء؛ وقد جاء في المقتطف ما نصه: "يستدل علماء اللغات على أن أصل هذه الحركات كلمات اختصرت على تمادي الزمن، وبقيت الحركات دلالة عليها" هذا قوله.

ولكن هل كانت هذه الكلمات، والتي هي أصل هذه الحركات، خاصة بأم اللغة العربية المعربة، وفي حيزها اختصرت هذا الاختصار؟ أو أنها في أمها الأولى ثم جاءت إليها بالإرث؟ وعلى تقدير أنها كانت في أصل الفرع الأسيوي الأول الذي منه كانت اللغات السامية والآرية والمغولية، فهل أصابها هذا الاختصار كله أو بعضه قبل انفصال السامية (أم العربية) عنه، أو أنه كان من صيغ اللغة السامية؟

ربما يعرف ذلك، ويكشف هذه الغوامض ويحل هذا الإشكال، الباحثون في مقابلة اللغات وتحليلها، إذا تيسر لهم ذلك، وكان في أخوات اللغة العربية وخالاتها ما ينير لهم الطريق بأن كان لهذه الكلمات الإعرابية ما يدل عليها، أو يشير إليها في هذه اللغات.

أما إذا كان مجرد حدسٍ وتخمين، فللحدس والتخمين أيضًا مجال آخر.

وحينئٍذ يجوز لذاهب أن يذهب إلى أن الحركات الإعرابية ربما كانت وضعت بوضع خاص، وذلك بأن يقال: إن أبناء اللغة الأولى كانوا في تمدنهم وعلومهم بمنزلٍة صالحة تدل عليها آثارهم، وقد دلت الآثار أنه كان للبابليين مدارس منظمة يعلمون فيها الحكمة والطب والفلك، وظهر

وأخبرنا التاريخ عن مزيد عنايتهم بلغتهم الفصحى والتي حفظوها واتخذوها لغة رسمية لهم، وكانت مصقولة مهذبة، كما تقدم القول عن العلامة مسبيرو، فلا يبعد، والحال هذه، عن الذين صقلوا لغتهم وهذبوها، أن يكون في جملة ما عملوه في صقلها وتهذيبها وتحريهم البلاغة فيها

ومن ضروب هذا الاختصار وضع العلامات الإعرابية على شكل حركات لا تطول بها الجملة، ولا يتغير بها وضع الكلمة من موقعها فيها، فدلوا بهذه الحركات على مرادهم بها في جملتها، فاعلة أو مفعولة أو غير ذلك، مقدمة أو مؤخرة، لتدل في التقدم والتأخير على معان مراده، وأن

ويكون ذلك منهم حيث قل انتشار الفساد في اللغة، وسرى ذلك في سكان البوادي فحفظوه وجروا عليه.

ولنفرض لذلك مثلًا فنقول: استعمل أبناء اللغة "ما" الاستفهامية بدلًا من "أي شيء" اختصارًا، فاشتبهت "بما" التعجبية ووقعت أفعل بعدها كأحسن في قولك: "ما أحسن زيد"، واشتبه على السامع أي المعنيين يريد المتكلم: ما الاستفهام أو التعجب؟ ونصب القرينة اللفظية تطويل، والمفروض أننا فررنا منه، فحركوا حينئِذ ما وقع بعد التعجب بالنصبـ، وما بعد ما الاستفهامية بالرفع؛ وليس في هذا مشقة ولا إطالة.

وكذلك يتميز الفاعل بالرفع والمفعول به بالنصب، وفي هذا لا يشتبه الفاعل بالمفعول به سواء تقدم أو تأخر.

وتبقى اعتبارات التقدم والتأخر وفوائدها البيانية صحيحة سليمة؛ ولكن هذا إنما يجري حيث يكون الفاعل صالحًا لأن يكون مفعولًا به، أما إذا لم يكن صالحًا لذلك في مثل: "كسر الزجاج الحجر" و "قال الشاعر قصيدة" فإنه يستغنى عن ذلك؛ لكن القسم الأول أكثر في الكلا

ولعل مثل هذا احتجاج إلى مدة متطاولة، وبعد اختلافات كثيرة بين الأصقاع والقبائل في الاستعمال، حتى استقر وثبت منه الأحسن والأصح في الاستعمال، فعم وشاع وذهب ما عداه.

والقول "بالكلمات المختصرة إلى الحركات" تعترضه صعوبات كبيرة في تعليل هذا الاختصار، وتطبيقه على الحركات الإعرابية التي لا يمكن تذليلها إلا بتكلف كثير.

وإذا رأينا أنه من السهل مثلًا أن نقول: إن علامة الرفع (الضمة) قد اختصرت من الكلمة الدالة عليها إلى الواو، الذي هو علامة للرفع أيضًا، ثم اختزل الواو إلى الضمة، فلسنا نرى من السهل تطبيق ذلك على غير هاتين من علامات الرفع، كالألف في المثنى، وثبوت النون في

ويعترض الحدس المفروض للوضع الخاص أن هذه العلامات نراها أول ما يذهب من اللغة عند امتزاج أهلها بغيرهم، وأن صيرورتها إلى الملكة أمر لا يقبله العقل بسهولةٍ وبدون مشقة.

وكيفما كان أحال فقد اتصل إلينا أن أم اللغة العربية أورثت ابنتها هذه نظام الإعراب بالعلامات، فتقف عند هذا القدر المحقق من البحث، ونترك ما عداه إلى المحققين في اللغات، حتى يظهر البحث ما تطمئن إليه النفوس.

والذي تحقق من ذلك أن العرب، وهم بدو الآراميين، قد اتخذوا هذا الميراث، وجرى فيهم مجرى الملكة، وهم في عزلتهم، فلم يتسرب إليهم الإهمال، وحفظته لهم البادية فلم يتأثروا بما تأثر به إخوانهم، وأصبح ملكة راسخة فيهم.

وليس معنى قولنا إنه أصبح ملكة راسخة، أنهم لا يقدرون على اللحن ولا يمكن أن تجري عليه ألسنتهم، كما كنا نتلقاه من مشايخنا زمن الدراسة، بل معناه أن ألسنتهم تجري بلا تعمل ولا كلفة على هذا النظام، شأن من يتمرن عليه في هذه الأيام، فينطلق به لسانه دون تعمل أيضًا؛ وإذا كان لا يسلم متمرن اليوم من الخطأ والغلط الذي يكثر ويقل بحسب مرانه، فلأن مرانه كان ناقصًا من حيث أنه يتمرن في بيئة ملؤها الخطأ والغلط.

وعلى العكس متمرن ذلك الزمن الذي ببيئته ملؤها صواب وصحة.

إن سكان هذه الجزيرة اتخذوا حفظ اللغة على هذا النحو تقليدًا لهم، في التجاوز عنه كل العيب والعار.

ولا ترسخ عادة في قوم ما لم تتخذ تقليدًا عامًا مستحبًا يعاب تاركه على تركه أو تجاوزه.

فكان التمرن عليها راسخًا يشب عليه الصغير ولا يشذ عنه الكبير، فيكون عامًا شاملًا شائعًا بين صغيرهم وكبيرهم، عالمهم وتجاهلهم.

ولم يحجم نقله اللغة من الأئمة، الآخذون اللغة عن الإعراب، أن يعتدوا بلغة الصبيان والمجانين لأنهم آمنون على ملكتهم من الخطأ، فكان بعضهم يحتج لمذهبه بكلام أمثال هؤلاء ولا ينكره عليه منكر.

قال ابن دريد في "أماليه" عن الأصمعي: "سمعت صبية بحمى ضرية يتراجزون، فوقفت وصدوني عن حاجتي وأقبلت أكتب ما أسمع، وإذا بشيخ أقبل فقال: أتكتب عن هؤلاء الأقزاع الأدناع؟ "

لم يحجم الأصمعي، وهو إمام اللغة، عن أن يكتب عن هؤلاء الأقزاع الأدناع أي صغار الناس وأراذلهم، لأنه يرى في كلامهم حجة لا تنكر عليه.

وأما قول الشيخ: "أتكتب": مستنكرًا، فما هو إلا استصغار لأمرهم واحتقار لأمرهم واحتقار لشأنهم من حيث أنهم أقزاع أدناع، لا من حيث أنه مخطئ أو مصيب بالأخذ عنهم.

فهو نظير أن تختار لأمرك حاذقًا فيه، ولكنه صغير المنزلة دنئ الحسب مستقذر العيش، مع أنك لا تعدم حاذقًا مثله يكون كريم الحسب رفيع المنزلة ظاهر المروءة.

ويصح لمن يغار عليك أن يلومك على هذا الاختيار، وليس معنى لومه أنه يطعن في حذقه بل كان الطعن عليه من حيث نفسه وحاله.

آخر عهد البادية بها

إن هذه الملكة الراسخة في هؤلاء الأعراب قد أهملت أولًا في القبائل المجاورة للأعاجم بالاختلاط بهم، ولم يسمع عن أحد من العرب الجاهليين أن الأئمة تحرزوا عن الاحتجاج بلغته قبل عد بن زيد العبادي، الذي نشأ بين الفرس وفي خدمة الأكاسرة.

ولما فسدت لغة الأمصار كان ذلك يسري منها إلى البادية بقوة الاختلاط وضعفها، وكانت السلامة تتقهقر أمام هذه القوة، وبقى هذا الغزو مستمرًا إلى أخريات القرن الثالث للهجرة وما بعده بقليل، حتى ذهبت هذه الملكة أو كادت.

وعم اللحن أقطار العربية، باديها وحاضرها، وصينت الفصحى المعربة في دفاتر العلماء والأدباء، وفي المجامع العلمية، وعلى ألسنة الخطباء والشعراء والكتاب.

ولم تزل للعامة في أزجالهم وأغانيهم مكانة باختلاف الأقطار العربية.

والعامية في بلاد المغاربة أصبحت كأنها لغة أخرى غير عامية المشارقة؛ وتختلف عامية الشام، وعن عامية نجد والعراق.

الفصيح والعامي من حيث الاستعمال

لم تخرج العامية في تحريفها وعدم ضبط قواعدها عن كونها لغة عربية.

والتحريف كان معروفًا في الفصحى باختلاف لغات العرب، كما سبق الكلام عليه، وإن كان في الفصيح أشد وأقوى وأبعد مرمى، فهو في العامي أظهر وأكثر، وبه ألصق.

فالعامية بالنسبة إلى الفصحى، وهذه بالنسبة إلى المتقدمين والمحدثين على ضروب: "

1 - ألفاظ انفرد بها المتقدمون من العرب وتركها المحدثون، إما لاستعمالهم مرادفها: كمبشور في الناقة الشديدة السريعة، استعملوا كأنها: علنداة؛ أو لأنها من الحواشي البعيد عن الطبع كقولهم: مخر نبق لينباع؛ قال ابن فارس: وكذلك يعلمون معنى ما تستغربه اليوم من

قولنا: "عبسور" في الناقة و "عيسجور" و "امرأة خناثى" و "فرس أشق أمق خبق.

ذهب هذا كله بذهاب أهله ولم يبق عندنا إلا الرسم الذي تراه، أو تركها المحدثون لأنها غير مأنوسة عندهم، وإن كانت غير حوشيه كأجبى في الحديث الشريف: "من أجبى فقد أربى.

2 - ألفاظ استعملها المتقدمون وخواص المحدثين ولم تعرفها العامة كقولهم: "طخية عمياء، ومرة سوداء.

3 - ألفاظ استعملها العرب وعرفتها العامة وقل استعمال الخاصة لها، فلم تشع بينها، وهو ما يسمى بالغريب الفصيح في العامي.

4 - ألفاظ للعرب فيها لغتان أو أكثر، أخذت العامة ببعضها والخاصة ببعض آخر "كفز" عند العامة و "قفز" عند الخاصة، و "ما فيها دومري أو تومري" عند العامة و "ما فيها ديار" عند الخاصة.

5 - ألفاظ استعملها العرب قديمهم وحديثهم، وقل استعمال العامة لها، فكانت من أجل ذلك مصونة لم تتبذل.

والفرق بين هذا الضرب والضرب الثاني أن ذاك لم تعرفه العامة أو لم تكد تعرفه، وهذا عرفته ولكنها لم تألفه كـ "أمررت الحبل وأحصدته" أي فتلته.

و "حبل ممر ومحصد" أي مفتول، وقد عرفت العامة منه قولهم "عقدة مرة" أي محكمة العقد.

6 - ألفاظ مثل ذلك ولكنها ابتذلت مد عركتها العامة بألسنتها وامتهنتها بتحريفها، فاجتنبتها الخاصة وأعرضت عنها مثل قول العام: "اصطفل في الأمر" أي افعل ما تشاء، محرفة عن "افتصل" وهو افتصال من الفصل أي اتخذ الفصل الذي تريده من عملك.

7- ألفاظ مثل ذلك كثيرة الدوران في الكلام لا يستغني عنها، فلم يضرها كثرة الاستعمال لمكان الحاجة، كقولك: "شربت ماء، وأكلت طعامًا، وقرأت كتابًا" وهذا أكثر الكلام العربي.

8 - ألفاظ حرفتها العامة باستعمالها إلى مستنكره، فتركت الخاصة استعمالها الأول لمكان الاستكراه في المعنى الثاني كـ "الصرم" بمعنى القطيعة و "الغائط" للمنخفض من الأرض؛ حرفت العامة الكلمة الأولى لمعنى "السرم" والثانية لمعنى "الخرء".

وإذا أردت مزيد تعمقٍ في هذا البحث وفي الفروق بين الفصيح وتحريفه العامي، فعليك بمراجعة كتابنا "رد العامي إلى الفصيح" ففيه ما يقوم بوفاء حاجتك فيه، إن شاء الله.

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


47-معجم متن اللغة (عناية العرب بلغتهم 2)

من أوهام الأعلام

العصمة لله

توفر الأئمة على جمع اللغة والتقاط أوابدها وشواردها من البادية الموثوق بعربيتها، وبذلوا في ذلك جهدًا جهيدًا، وتحرزوا من الكذب في النقل عن العرب، فكانت وثاقة الناقل وصدقة هما ميزان القبول في نقله.

وجعلوا ضابط الصحيح من اللغة ما تصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه، على حد الصحيح من الحديث.

وإنما شرطت الثقة والعدالة في الناقل لا في المأخوذ عنه.

ومع ذلك فإن الذين دونوا اللغة ورتبوها، وأخذوها عمن كتبها من العرب لم يكونوا في عصمة عن السهو والغلط والتحريف.

ولكنه قليل إلى جنب الكثير من إفادتهم وجهودهم.

فلم يسلم أجل الكتب وأقدمها ترتيبًا لأشهر إمام قام بين أئمة اللغة العربية، الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهو كتاب "العين" من اعتراضٍ، وإن جل قدر الخليل بينهم عن الاعتراض، فنسبوه إلى الليث ابن نصر بن سيار الذي أتم كتاب "العين".

قال الجوهري: إن "المحيط" لابن عباد فيه أغلاط فاحشة، ولذا ترك الأخذ منه (تاج م ظ ع).

وإن أحمد بن عبد الرحمن بن قابوس الطرابلسي اللغوي قرأ "الجمهرة" على ابن خالويه بروايته لها عن ابن دريد، وكتب عليها حواشي من استدراك ابن خالويه على مواقع منها، ونبه على أوهام وتصحيفات (المزهر: 1: 58.)

وأبو زكريا الخطيب التبريزي اللغوي يقول في صحاح الجوهري: "إنه كتاب حسن الترتيب سهل المطلب لما يراد منه، وقد أتى بأشياء حسنة وتفاسير مشكلات من اللغة، إلا أنه مع ذلك فيه تصحيف لا يشك في أنه من المصنف لا من الناسخ، لأن الكتاب مبني على الحروف؛ قال: ولا تخلو هذه الكتب الكبار من سهو يقع فيها أو غلط، وقد ورد على أبي عبيد، في الغريب المصنف، مواضع كثيرة منه.

غير أن القليل من الغلط الذي يقع في الكتب إلى جنب الكثير الذي اجتهدوا فيه، "

وأتعبوا نفوسهم في تصحيحه وتنقيحه، معفو عنه. هذا كلام الخطيب التبريزي أبي زكريا، على ما نقله المزهر (1 - 60).

وفي التاج: "وقد وقع فيه، أي الغلط والتحريف، جماعة من الأجلاء من أئمة اللغة وأئمة الحديث، حتى قال الإمام أحمد: ومن يعري عن الخطأ والتصحيف؟ "

قال ابن دريد: "صحف الخليل بن أحمد فقال: يوم لغاث، بالغين المعجمة وإنما هو بالمهملة، أورده ابن الجوزي.

وفي صحاح الجوهري قال الأصمعي: "كنت في مجلس شعبة فروى الحديث قال: تسمعون جرش طير الجنة، بالشين المعجمة، فقلت: جرس، فنظر إلي وقال: خذوها منه فإنه أعلم بهذا منا".

وقال الحافظ محمد ناصر الدمشقي في رسالة له: "إن ضبط القلم لا يؤمن التحريف عليه، بل يتطرق أوهام الظنانين إليه لاسيما من علمه من الصحف بالمطالعة، من غير تلقٍ من المشايخ ولا سؤلة ولا مراجعة.

ويقول الفيروز أبادي في مقدمة كتابه "المحيط": "واختصصت كتاب الجوهري- الصحاح- من بين الكتب اللغوية، مع ما في غالبها من الأوهام الواضحة والأغلاط الفاضحة، لتداوله واشتهاره واعتماد المدرسين على نقوله ونصوصه.

يقول هذا صاحب القاموس ويتبجج بفضله على الأوائل في صدر هذه المقدمة؛ ولكنه لم يسلم هو من التحريف والتصحيف في قاموسه، وإليك شاهدًا منها؛ وإذا أردت المزيد فعليك بتاج العروس تر فيه العجب العجاب: جاء في مادة "ت ر ع" من معاني الترعة، قال الشارح: "جعله – أي الوجه- من معاني الترعة وهو خطأ" أخذه من قول أبي عبيدة حين فسر الحديث وذكر تفسير راوي الحديث فقال: هو الوجه عندنا، فظن المصنف، الفيروز أبادي، أنه معنى من معاني الترعة.

وإنما يشير إلى ترجيح ما فسره الراوي فتأمل! وفي مادة "ح ر ز" المحارزة: المفاكهة التي تشبه السباب؛ يقول صاحب التاج: "قلت الصواب فيه الجيم كما تقدم وقد تصحف على المصنف هما. وقال صاحب القاموس في مادة "ج ر ز" المجارزة: مفاكهة تشبه السباب، نقله الصاغا

وفي القاموس مادة " س ع د": "وبنو ساعده قوم من الخزرج وسقيفتهم بمكة" يقول صاحب التاج هكذا في سائر المصححة والأصول المقررة، ولا شك في أنه سبق قلم، لأنه أدرى بذلك لكثرة مجاورته وتردده في الحرمين الشريفين، والصواب أنها بالمدينة كما وجد ذلك في بعض

النسخ على الصواب، وهو إصلاح من التلامذة.

وفي مادة " ج ر ر": "الجر أصل الجبل وسفحه والجمع جرار....

قال ابن دريد: "هو حيث علا من السهل على الغلظ وهو مجاز كما يقال قيل الجبل، أو تصحيف للفراء، والصواب: الجراصل كعلابط للجبل، والعجب من المصنف حيث لم يذكر الجر أصل في كتابه هذا- القاموس- بل ولا تعرض له أحد من أئمة الغريب، فإذًا لا تصحيف كما لا يخفى.

وجاء في القاموس ما نصه: "وغلط الجوهري فاحش في دراهم زائفات "ضرب جيات" فإنه قال: أي ضرب أصبهان، فجمع جيًا باعتبار أجزائها، والصواب ضربجيات أي دريات جمع ضربجي أي زائف.

وفي التاج عن ابن الأعرابي: درهم ضربجي أي زائف، ثم اعتذر الشارح بأن الأصل في ضربجي: ضرب جي، وهي المدينة القديمة.

من أغلاط الأئمة لسبق الوهم والقلم

وفي لسان العرب مادة "ح ب ك" بعد أن ذكر رواية أبي عبيد عن الأصمعي في الاحتباك أنه الاحتباء وهو غلط، وصوابه الاحتياك، بالياء، قال: "والذي سبق إلى وهمي أن أبا عبيد كتب هذا الحرف عن الأصمعي بالياء، ـ فنزل في النقط وتوهمه باء".

قال: "والعالم وإن كان غاية في الضبط والإتقان فإنه لا يكاد يخلو من خطيئة بزلة، والله أعلم."

قال صاحب اللسان: "ولقد أتصف الجوهري، رحمه الله، فيما بسطه في هذه المقابلة، فإنا نجد كثيرًا من أنفسنا ومن غيرنا أن القلم يجري فينفط ما لا يجب نفطه، ويسبق إلى ضبط ما لا يختاره كاتبه، ولكنه إذا قرأه بعد ذلك أو قرئ عليه تيقظ له وتفطن لما جرى به فاستدركه.

وفي أيضًا مادة "ح شء": وفي التهذيب: حشأت النار إذا غشيتها؛ قال الأزهري: "هو باطل وصوابه حشأت المرأة إذا غشيتها فافهمه؛ قال: "وهذا من تصحيف الوراقين.

وفي مادة " هـ ن ن" قال أبو حاتم: "حضرت الأصمعي وسأله إنسان عن قوله: "ما ببعيري هانة ولا هنانة" فقال: إنما هو "هتاتة" بتاءين؛ قال أبو حاتم: قلت إنما هو "هانة وهنانة" ويجنبه أعرابي فسأله فقال: "ما الهنانة؟ " قال: لعلك تريد الهنانة، فرجع إلى الصواب؛ قال الأزهري: "وهكذا سمعته من العرب: الهنانة، بالنون: الشحم، كل شحمةٍ هنانة؛ والهنانة: بقية المخ.

وفي مادة "ح ل ب" عند ذكر المثل: شتى تؤوب الحلبة.

قال الشيخ أبو محمد بن بري: هذا المثل ذكره الجوهري "شتى تؤوب الحلبة" وغيره ابن

القطاع فجعل بدل "شتى" ونصب تؤوب.

قال: "والمعروف هو الذي ذكره الجوهري، وكذلك أبو عبيد الأصبعي، وقال: أصله أنهم كانوا يوردون إبلهم الشريعة والحوض جميعًا، فإذا صدروا تفرقوا إلى منازلهم فحلب كل واحد منهم في أهله."

وفي مادة "خ ض م": والخضم المسن، لأنه إذا شحذ الحديد قطع؛ قال أبو وجزة:

«حرى موقعة ماج البنان بها *** على خضم لسقي الماء عجاج»

وفي الصحاح: "الخضم، في قول أبي وجزة: المسن من الإبل، قال ابن بري: "وصوابه المسن الذي يسن عليه الحديد؛ قال: وكذلك حكاه أبو عبيد، عن الأموي، وذكر البيت الذي ذكره لأبي وجزة؛ وقد أورده ابن سيده وغيره، وفسره فقال: شبهها بسهم موقع قد ماجت الأصابع في سنه على حجر خضم يأكل الحديد عجاج أي بصوته عجيج.

وأورد صاحب اللسان: "خبص خبصًا بمعنى عدا عدوًا شديدًا"؛ قال صاحب التاج: "أهله الجوهري وأورده صاحب اللسان والصاغاني، قلت: وهو تصحيف جنص جنصًا، بالجيم والنون.

وفي القاموس مادة "ص ن ق": الصنق، ككتف: المتبين الشديد الصلب كالصانق؛ قال في التاج: هكذا في سائر النسخ، وهو غلط نشأ عن تصحيف قبيح، والصواب الصنق: المتن، كالصانق كما هو نص العباب، وكأن صاحب القاموس قد تصحفت عليه كلمة المنتن بالمتين، وأعقبها من عنده بما يؤيد المتانة، وهو الشدة والصلابة، وهذا من الغرائب في الأوهام.

وفي مادة " ط وس": والطوس، بالضم: دوام الشيء؛ قال صاحب التاج: هكذا في أكثر النسخ وفي بعضها دوام المثنى.

وهو غلط فلحش لا أدري كيف ارتكبه المصنف مع جلالة قدره، ولعله من تجريف النساخ.

والصواب دواء المشي، نسبه الصاغاني إلى ابن الأعرابي ومعناه دواء يمشي البطن، وهو الأذريطوس.

وفي لسان العرب مادة "خ ش ف": والمخشف النجران الذي يجري منه الباب، وليس له فعل؛ وقال صاحب التاج: والمخشف "كمقعد" اليخدان، عن الليث، قال الصاغاني: ومعناه موضع الجمد؛ قلت: واليخ بالفارسية الجمد، ودان هو موضعه وهو الصواب، وقد غلط صاحب اللسان لما رأى لفظ اليخدان في كتاب العين ولم يفهم معناه فصحفه وقال: هو النجران، وزاد عبارة: الذي يجري عليه الباب؛ ولا أخاله إلا مقلدًا للأزهري، والصواب ما ذكرناه، رضي الله عليهم أجمعين.

من طرائف الأوهام:

لهؤلاء الأئمة الأعلام طرائف أوهام، منها ما جاء في التاج مادة "س ل م": وقول

الجوهري: ويقال للجلدة التي بين العين والأنف سالم غلط؛ تبع به خاله أبا نصر الفارابي- هكذا جاءت في التاج وفي طبقات ابن الأنبا ري، وإنما الفارابي أبو إبراهيم أو أبو يعقوب، في كتاب "ديوان الأدب" كما صرح به غير واحد من الأئمة، واستشهاده ببيت عبد الله بن عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، في ولده سالم:

«يديرونني عن سالم وأديرهم *** وجلدة بين العين والأنف سالم»

قال الجوهري: وهذا المعنى أراد عبد الله في جوابه على كتاب الحجاج أنه عندي كسالم؛ قال ابن بري: هذا وهم قبيح أي جعله سالمًا للجلدة التي بين العين والأنف، وإنما سالم بن عبد الله ابن عمر، فجعله لمحبته له بمنزلة جلدة ما بين عينه وأنفه.

قال شيخنا: والصحيح أن البيت المذكور هو لزهير، وإنما كان يتمثل به ابن عمر.

وجاء في اللسان مادة "ح وز" عن الأزهري: وحوزة المرأة: فرجها؛ وقال امرأة:

«فظلت أحشو الترب في وجهه *** عني، وأحمي حوزة الغائب»

قال محمد بن مكرم: "إن كان للأزهري دليل غير شعر المرأة في قولها: "وأحمي حوزة الغائب" على أن حوزة المرأة فرجها سمع؛ واستدلاله بهذا البيت فيه نظر لأنها لو قالت "وأحمي حوزتي للغائب" صح له الاستدلال، لكنها قالت: "وأحمي حوزة الغائب" وهذا القول منها لا يعطي حصر المعنى في أن الحوزة فرج المرأة، لأن كل عضو للإنسان قد جعله الله في حوزته، وجميع أعضاء المرأة والرجل حوزة، وفرج المرأة أيضًا في حوزتها حتى تتزوج، فيصبح في حوزة زوجها...."

ثم وما أشبه هذا بوهم الجوهري في استدلاله ببيت عبد الله بن عمر في محبته لابنه سالم، وأورد القصة ثم قال: وكذلك هذه المرأة، جعلت فرجها في حوزة زوجها فحمته له من غيره لا أن اسمه حوزة... إلخ

وقيل: إن أبا عبيد قال: صآة، في الماء الذي يكون في السلي، فرد عليه وقيل له هو: صاءة، فقيله؛ وقال: الصاءة على وزن الساعة لئلا ينساه بعد ذلك.

وقال ابن الأعرابي في النوادر: "أصنع الرجل إذا أعان أخرق" فأشتبه على ابن عباد فقال هو آخر، ثم زاد عليه من عنده: وأصنع الأخرق تعلم، وأحكم، كذا في العباب؛ وقلده الصاغاني من غير مراجعة لنص ابن الأعرابي.

قلت: ثم تبعهما صاحب القاموس؛ قال في التاج: والصواب ما ذكرناه ومثله في اللسان.

وفي التاج مادة "ظ ر ر": واختلف في البصرة في مجلس اليزيدي نديمان له نحويان في الظروري، فقال أحدهما: هو الكيس، وقال الآخر: هو الكيش؛ فكتبوا إلى أبي عمر الزاهد يسألونه عن ذلك، فقال أبو عمر: من قال إن الظروري الكيش فهو تيس، إنما هو الكيس!

من الإصرار على الغلط

ما جاء في التاج مادة "ج د ع" وأورد لبشر بن أبي حازم:

«ليبكك الشرب والمدامة *** والفتيان طرأ وطامع طمعًا.»

«وذات هدم عار نواشرها *** تصمت بالماء تولبًا جدعًا.»

وأورده اللسان لأوس بن حجر.

قال: وقد صحف بعض العلماء هذه اللفظة؛ قال الجوهري: ورواه المفضل بالذال المعجمة ورد عليه الأصمعي؛ قلت: قال الأزهري في أثناء خطبة كتابه: جمع سليمان بن علي الهاشمي بالبصرة بين المفضل الضبي والأصمعي، فأنشد المفضل "وذات هدم" وقال آخر البيت: "جذعًا" ففطن الأصمعي لخطأه، وكان أحدث سنًا منه، فقال: إنما هو "تولبًا جذعًا" وأراد تقريره على الخطأ فلم يفطن المفضل لمراده، وقال: كذلك أنشدته؛ فقال الأصمعي حينئٍذ: أخطأت إنما هو "تولبًا جدعًا" فقال له المفضل: جدعًا جذعًا! ورفع صوته ومده، فقال الأصمعي: لو نفخت في الشبور ما نفعك، تكلم كلام النمل وأصب، إنما هو جدعًا! فقال سليمان بن علي: من تختار أن أجعله بينكما؟ فاتفقا على غلام من بني أسد حافظ للشعر، فأحضر، فعرضا عليه ما اختلفا فيه، فصدق الأصمعي وصوب قوله، فقال له المفضل: وما الجدع؟ قال: السيئ الغذاء.

ومثل ذلك ما حكاه المبرد، عن أبي محمد التوزي، عن أبي عمر الشيباني، قال: كنا بالرقة فأنشد الأصمعي:

«عننا باطلًا وظلمًا كما تعنز *** عن حجرة الربيض الظباء»

فقلت له: إنما تعتر من العتيرة، والعتر الذبح، فقال الأصمعي: تعتز أي تطعن بالعنزة وهي الحربة، وجعل يصيح ويشغب، فقلت: تكلم كلام النمل وأصب، والله لو نفخت في شبور يهودي وصحت إلى التناد ما نفعك، ولا كان إلا تعتر، ولا رويته أنت بعد هذا اليوم إلا تعتر! فقال الأصمعي: والله لا رويته بعد هذا اليوم إلا تعنز! قال في اللسان: ومعنى البيت أن الرجل كان يقول في الجاهلية: إن بلغت إبلي مائة تعرت عنها عتيرة، فإذا بلغت مائة ضن بالغنم، فصاد ظبيًا فذبحه؛ يقول: فهذا الذي تسألوننا اعتراض وباطل وظلم كما يعتر الظبي عن ربيض الغنم.

وفي المزهر: قال الزبيدي: حدثني قاضي القضاة منذر بن سعيد قال: أنبت أبا جعفر النحاس فألفيته يملي في أخبار الشعراء شعر قيس بن معاذ المجنون حيث يقول:

«خليلي هل بالشام عين حزينة *** تبكي على نجد؟ لعلي أعينها»

«قد أسلمها الباكون إلا حمامة *** مطوقة باتت وبات قرينها»

فلما بلغ هذا الموضع قلت: باتا يفعلان ماذا، أعزل الله؟ فقال لي: كيف تقول أنت يا أندلسي؟ فقلت: بانت وبان قرينها.

وقال ابن جني في الخصائص، باب سقطات العلماء: حكي عن الأصمعي أنه صحف قول الحطيئة:

«وغررتني وزعمت أنك *** لابن بالصيف تامر»

فأنشده: لا تني بالضيف تأمر، أي تأمر بإنزاله وإكرامه.

ويحكي عن خلف قال: أخذت على المفضل الضبي في مجلس واحد ثلاث سقطات؛ أنشد لامرئ القيس:

«نمس بأعراف الجياد أكفنا *** إذا نحن قمنا عن سواء مصهب»

فقلت: عافاك الله! إنما هو نمش أي نمسح، ومنه المنديل الغمر مشوشًا؛ وأنشد للمخبل السعدي:

«وإذا ألم خيالها طرقت *** غيني بماء جفنها سجم»

فقلت: عافاك اله! إنما هو طرفت؛ وأنشد للأعشى:

«ساعة أكبر النهار كما شد *** محيل لبونه إعظامًا»

فقلت: عافاك الله! إنه مخبل، بالخاء المعجمة، رأى خال السحابة فأشفق منها على بهمه.

وفي المزهر عن كتاب "ليس" لابن خالويه: جمع أبا عمرو الجرمي والأصمعي مجلس فقال الجرمي: ما في الدنيا بيت للعرب إلا وأعرف قائله! فقال: ما نشك في فضلك، أيدك الله، ولكن كيف تنشد هذا البيت:

«قد كن يخبأن الوجوه تسترًا *** فالآن حين بدأن للنظار»

فقال "بدأن"؛ قال: بدين؛ قال: أخطأت إنما هو "بدون" من بدا يبدو إذا ظهر؛ فأفحمه.

وفيه: اختلف المعمري والنحويان في "الظرورى" فقال أحدهما: الكيس، وقال الآخر:

الكيش؛ فقال كل لصاحبه: صفحت! وكتب بذلك إلى أبي عمر الزاهد فقال: من قال إن الظرورى هو الكيش فهو تيس، وإنما الظرورى الكيس!

ومما لا يتسامح به ما يكون في نص الآيات كما جاء في التاج في مادة "ن ز ل": وشاهد الاستنزال قوله تعالى: {واستنزلوهم من صياصيهم.} ليس من القرآن مثل هذا، وإنما هي عبارة الأساس على سبيل المثال، ونص الآية {وانزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم}.

خطأ الأئمة

نقل في المزهر عن عبد الله بن بكر السهمي قال: دخل أبي علي عيسى، وهو أمير البصرة، فعزاه في طفل له مات؛ ودخل بعده شيب بن شبة فقال: أبشر أيها الأمير، فإن الطفل ما زال مجنظيًا على باب الجنة يقول لا أدخل حتى يدخل والدي! فقال أبي: يا أبا معمر، دع الظاء إي المعجمة، وألزم الطاء؛ فقال شيب: أتقول هذا وما بين لابنيها أفصح مني؟ فقال له أبي: وهذا أخطأت ثانية، من أين للبصرة لابة؟ (واللابة الحجارة السود، والبصرة الحجارة البيض) أورد هذه الحكاية ياقوت الحموي في معجم الأدباء، وابن الجوزي في كتاب الحمقى والمغفلين، والزجاجي في أماليه بسنده إلى عبد الله بن بكر بن حبيب السهمي.

ترتيب الكتاب

وضع الكتاب باقتراح المجمع العلمي العربي بدمشق، لمكان الحاجة إليه، وقد وضعته على النسق الذي رآه المجتمع، وابتدأت في جمعه في أول سنة 1351 هـ (1930 م) وأتممته في آخر سنة 1939، ومنذ ذلك الحين لا يزال الكتاب قيد المراجعة والتنقيح على الأمهات من كتب الأئمة المتقدمين حتى سنة 1947، تاريخ اتفاقي مع المجمع المذكور على البدء بطبعه سنة 1948.

وأما المنهاج الذي نهجته في ترتيبه وتصنيفه فهو ما يلي: "

1 - حثت في مقدمته بحثًا طريفًا في نشء اللغات إجمالًا، وفي نشء اللغة العربية خاصة وتطورها، وقد طبع على حدة بكتاب خاص هو "مولد اللغة".

2 - رتبته على أصل المادة المجردة من الزيادات في الحروف، كما هو الحال في سائر معاجم اللغة العربية قديمها وحديثها.

وإذا انقاد غير اللغة العربية من اللغات مع مرتبي المعاجم على حروف الكلمة كما هي في أصلها وزائدها، فإن اللغة العربية لا تنقاد كذلك، لأنها من اللغات المتصرفة التي تدخل في صلبها الزيادات على المادة لزيادة في المعنى.

وتتغير هيئة الكلمة، بتنوع الاشتقاق وسعته وكثرته، تنوعًا يبعث الشتات في الكلمات المشتقة من أصل واحد إذا أريد ترتيبها على صورتها، ويدعو إلى تباعدها عن محالها التي تألفها بعدًا يأباه الذوق العربي.

كأكرم وكرم، فالأولى تكون حينئِذ في أول المعجم والثانية في آخره.

ومكرم تأتي في مادة أخرى؛ وكذلك التكريم، وهو مصدر كرم، يجئ في غير مادتها.

ومثل ذلك: ودع وأودع وأتدع وايتدع وتودع واستودع والدعة والميدع، بل لا تسلم من هذا التشتيت كلمة من المشتقات، وهي تكاد تكون جماع اللغة.

وكذلك يأخذ بعض الحروف أكثر الكلمات إليه كحرف الألف مثلًا فإنه يحتضن في شتى فصوله من الكلمات، عدا الكلمات المبدوءة بالألف الأصلية، كل الكلمات المزيدة ألفًا في أولها، وصليه كانت أو قطعية، كأفعل وافتعل وانفعل واستفعل وافعنلل وافعل وأفعال.

وأنني أجد"

أن إرجاع الكلمة إلى ًاولها للاطلاع على معناها في المعجم هو من فضائل اللغة العربية كما قال المستشرق لوي ماسينيون: "وقد وجدنا خصائص في اللغات ولاسيما اللغة العربية، فإن فيها فضائل خاصة بها دون سواها، منها: الأصول الثلاثية في الكلمات، أي إرجاع أي كلمة كانت إلى ثلاثة أحرف للاطلاع على معناها في المعجم، ولكن هذه الخاصة لا توجد في اللغات الآرية، فلا ترتب المعاجم فيها بمقتضى أصول الكلمات بل ترتب كل كلمة كما تلفظ.

وبعد، فإن من يريد أن يحمل اللغة العربية السامية على منهاج غيرها من اللغات الآرية، مع تباين ما بينها من الخصائص والمزايا والمقومات، هو كمن يطلب في الماء جذوة نار.

«ومكلف الأيام ضد طباعها *** متطلب في الماء جذوة نار»

3 - بدأت بالترتيب على نسق: فالألف قبل الياء، والألف مع الباء قبل الألف مع التاء، وهكذا في ثالث الحروف منها.

وأول ما أذكر من المادة الفعل الثلاثي المجرد على ترتيب أبوابه الستة التي يجمعها قول بعضهم: "فتح ضم، فتح كسر، فتحتان، كسر فتح، ضم ضم، كسرتان. ثم أذكر بعد المجرد المعدي بالتضعيف من الثلاثي، كفرح من فرح؛ ثم المعدي بالهمز كأكرم، ثم افتعل، وتفعل، وهكذا وآ

ثم في الأسماء أبدأ بالثلاثي المجرد المفتوح الفاء، ثم مضمومها، ثم مكسورها، ثم المحرك، ثم صفة فاعل وفاعلة، ثم المفعول وما جرى مجراه، والفعال وما أشبهه، والفعيل وإضرابه، ثم المزيد الميم؛ ثم يتبع المادة المضاعف الرباعي، كزلزل في مادة ز ل ل، ثم أختم المادة

4 - إذا ذكرت الفعل الثلاثي ذكرت مصادره كلها لأنها ليس لها ضابط مطرد.

أما مصادر الثلاثي المزيد والرباعي مجردًا أو مزيدًا فلم أذكرها اكتفاء بعلم القارئ، لأنها مطردة إلا ما شد منها عن القاعدة، وهو نادر، فإني ذكرته إلى جانب فعله مثل: توضأ وضوءًا، وتطهر طهورًا، وصلى صلاة، وأدركه دركًا ومدركًا.

على أنني وضعت للمصادر المطردة جدولًا في هذا الكتاب، يستحضر الطالب فيه ما يغيب عن ذهنه منها.

5 - في الأكثر أذكر مع الفعل اسم الفاعل منه واسم المفعول.

أما إذا كان في ذكره مفردًا فائدة، فإني أفرده في الذكر.

6 - ذكرت النسب الشاذة عن القياس: كالجزي في النسبة إلى سجستان، والصنعاني في النسبة إلى صنعاء، والداوردي في النسبة إلى دراب جرد (بلد بفارس).

ونبهت على شذوذها، ولم أذكر النسب القياسية إلا فيما ندر.

7 - أشرت إلى الفعل المستقبل في الثلاثي المجرد بحركة عينه فوق خط أفقي، إن كان مفتوحها أو مضمومها، وتحت الخط أن كان مكسورها.

8 - ذكرت الجموع ما استطعت لأنها في الثلاثي سماعية في الأغلب، ليس لها ضابط مطرد.

9 - عند اختلاف عبارات الأئمة في تفسير الكلمة أختار فيما اتفق معناه أفضلها بحسب نظري، وأوفاها بالمراد.

وربما جاءت عبارتهم مغلقة لا يفهم كل طالب المراد منها، فأردفها بما يفسرها جمعًا بين حفظ النص وفهم الطالب.

مثال ذلك في مادة "ح ض ب" قالوا: الخصب سرعة أخذ الطرق الرهدن (الطرق: الفخ، الرهدن: العصفور).

وربما جئت بالمعنى وحده في التفسير حيث يقتضيه الاختصار؛ مثاله: قالوا: الطحنة جوبة تنجاب في الحرة، فقلت: الطحنة أرض لينة وسط الحرة.

وأما ما كان فيه اختلاف بينهم فإني أذكر الأقوال بعبارات موجزة.

10 - تجنبت ما استطعت مرد كل أقوال الأئمة في الاستدلال على ما ذهبوا إليه منهاـ، وتركت تعليلاتهم، إذ أن الطالب لا يطلب غير معنى الكلمة، وزبدة الأقوال فيها؛ وربما اقتصرت في هذه الأقوال على الأكثر استعمالًا والأشهر.

11 - أشرت إلى المجاز معتمدًا في الحكم بمجازيته على أقوال الأئمة، ولاسيما الزمخشري في الأساس، وصاحب التاج، وعلى ما جاء في تضاعيف كتب الأئمة، وصل إليه بحثي ووقع في يدي، وعلى ما كانت العلاقة فيه ظاهرة.

12 - أشرت ما استطعت إلى الأصل في معنى الكلمة معتمدًا على نصوص الأئمة في ذلك.

وأما لم يرد نص منهم في أصل معناه، وظهر لي فقد قلت فيه: والظاهر أن الأصل في المعنى كذا.

13 - كثيرًا ما كنت أعثر في تضاعيف مواد اللغة في كتب الأئمة على كلمة نادة عن مادتها، ولاحقة عرضًا بغيرها من المواد، بحيث يعسر الاهتداء إليها إذا طلبت، فأخذتها من حيث وجدتها وأبلغتها مأمنها في مادتها التي هي منها، وأشرت إلى المادة التي نقلتها ليراجعها من يريد.

14 - ذكرت ما وضعه أو صحح إطلاقه مجمعًا اللغة في عصرنا هذا (وهما مجمع اللغة العربية الملكي في مصر وهو المعروف بجمع فؤاد الأول، والمجمع العلمي العربي بدمشق) من الأسماء الجديدة للمسميات الحديثة منذ أنشئ المجمعان إلى يومنا هذا.

وأشرت إلى المجمع العلمي العربي بدمشق بـ "م د" وإلى مجمع اللغة العربية الملكي بمصر بـ "م م".

15 - رأيت أن الأوزان والمكاييل ومقادير المساحة قد اختلفت قديمًا كما تختلف حديثًا باختلاف الأزمان واختلاف الأمكنة والبلدان، وتتفاوت الاصطلاحات عليها، وكثيرًا ما يرى

الناظر في الكتب العربية اسم الطسوج والقيراط والدرهم والمثقال والإستار والكيلجة والقفيز والجريب والكر والوسق ونحو ذلك، ولا يهتدي إلى نسبتها فيما يعادلها من مقادير هذا العصر؛ فحرصت على حل المشكل بقدر ما أستطيع.

وعثرت في منشورات مجلة المقتبس الدمشقية على رسالة لنجم الأئمة الشيخ رضي الدين الإسترابادي، استخرج فيها من أقوال الأئمة اللغة وأئمة الفقه آراءهم في هذه المقادير، وبينها بالحبة والدرهم والمثقال، واعتمد على أشهر الأقوال التي اعتمدها الفقهاء في تقاديرهم الش

واستخرجت النسبة من معادلة الدرهم العثماني الذي هو الدرهم البغلي المعروف عند اللغويين بأنه 64 حبة على أنه 3 غرامات و 0.207362 من الغرام، حسب بيان دار الضرب العثمانية كما هو وارد في التقادير الرسمية، ووضعت لها جداول خاصة في كتابي هذا.

16 - رأيت كلمات طرأـ على اللغة في العصر العباسي، بعضها اندثر ولكنه لا يزال مذكورًا في مؤلفات ذلك العصر مثل الكردناج والبزماورد والدقدان والشامرك، وبعضها ما زال مستعملًا إلى اليوم.

وهذه الطارئة ليست من صلب اللغة وأكثرها دخيل، ولكنها شاعت، ولم يتحرج مؤلفو هذا العصر من إدماجها في عباراتهم، فكان من الخير أن أتعرض لها في كتابي هذا.

وقد وقع لأحد الجهابذة، وهو أبو عبد الله بن الطيب الفاسي المتوفى سنة 1170 هـ، أن أنكر على صاحب القاموس تفسيره العنة بالدقدان لأنه لم يعرف معناه فقال: ولعل المراد به الغليان.

والدقدان من الألفاظ العباسية لما ينصب عليه القدر، ويعرف اليوم في لبنان بالمنصب.

فبحثت فيما اطلعت عليه منها بقدر وسعي وأثبتها في كتابي هذا.

17 - كنت وما زلت أجد كثيرًا من العامي الذي يمكن رده إلى الفصيح، وأحس تحريف الفصيح في الكلام العامي، فتتوق نفسي إلى ولوج باب البحث فيه، فأقدمت بعد إحجام لصعوبة البحث ووعورة الطريق، وعنيت به، وفتحت الباب للمحققين بما أقدمت عليه بقدر المستطاع، وبقدر ما وصل إليه علمي وبحثي من جذبه إلى الفصيح وتطبيقه عليه.

وقد يكون المأخذ قريبًا سهلًا، وقد يكون بعيدًا يحتاج إلى شيء من التكلف، وقد تكون الكلمة دخيلة من الآرامية أو الفارسية أو غيرهما.

ومهما تيسر لي ردها إلى أصل عربي كان عندي أولى من حملها على ًال غير عربي، واعتبارها دخيلة، ما دام لي مجال لإلحاقها بالمادة العربية.

سلكت هذا الطريق وأنا أعلم أنني سلكت سبيلًا شاقة، وتوقلت عقبة صعبة لا آمن فيها العثار، ولا أبرأ من الزلل- والعصمة لله- ولكنه فتح يجب أن ينفتح ليستقر أمره وينتظم.

ولا بد لإدراك الثمرة من أن يتسع فيه المقال وتظهر آراء الرجال.

ولكنني خشيت أن يختلط الصحيح الفصيح بالعامي في متن الكتاب، فجعلت مكان العامي هامش

الكتاب، والله الموفق للصواب.

ولا حاجة لأن أقول أن أكثر ما ذكرته من العامي إنما هو من اللهجة التي أسمعها كل يوم، بل تدخل سمعي كل ساعة، وهي لهجة بلاد ساحل الشام من سفوح لبنان، وبالأخص لهجة بلدي جبل عاملة.

ولم آل جهدًا في إثبات ما سمعته من عامية غير هذه الديار.

على أنني توسعت في هذا البحث في كتاب خاص أسميته "رد العامي إلى الفصيح".

18 - حرصت أن لا تفوت كتابي هذا مادة ذكرت في لسان العرب وتاج العروس، وهما أكثر كتب الأئمة المعروفة لدينا جميعًا لمواد اللغة، فكان كتابي هذا جامعًا لكل ما يمكن أن يطلبه طال اللغة، فلا تمر به كلمة من كلماتهم إلا ويكون لها تفسير فيه؛ فإن بلغت بذلك رضا الطالب فهو غاية المرام، وإلا فاللغة بحر لا يدرك ساحله.

وقد رأيت كثيرًا من ناشئة اليوم قد أولعوا بالإعراض عن الكلمات الغريبة الوحشية التي هي غير مأنوسة في الاستعمال.

فإن كان هذا من حيث الاستعمال فصالح، وهو حق وصواب، ويحسن بنا أن نتخير لكلامنا في منظومنا ومنشورنا الألفاظ العذبة السائغة ونتجنب الحوشي والوحشي الثقيل على السمع واللسان.

وإن كان من حيث هجرها المطلق وطلاقها البائن حتى لا تذكر في معاجمنا، فذلك غير صالح لأنها من تراث اللغة القديم الذي لا يستغنى عن معرفته متأدب ينظر في كلام العرب وخطبهم وأشعارهم وأخبارهم، وهجرها هذا يقطع الصلة بينا وبين سلفنا، ذلك السلف الذي نفتخر ببيانه و

وقد تجد كلمات كانت غير مأنوسة في زمن، وأتى عليها زمن آخر تداولتها الألسن، فأنست بعد نفار، وتأهلت بعد استيحاش.

19 - رأيت منذ شرعت في كتابي هذا أن الاعتماد على كتب الأئمة السالفين، وهم الذين أوتوا خطأ وافرًا من العلم باللغة، وافنوا زهرة أيامهم في تحصيله، وبذلوا في سبيله كل جهد، وتحملوا كل عناء، حتى بلغوا من ذلك الذروة أو كادوا، وأحرزوا فيه ملكة راسخة، وتحقيقًا واسعًا، رأيت أ، الاعتماد عليهم هو الذي يجب علينا أن نهتم له، وأن نعني به كل العناية، لأن كتب المتأخرين المعاصرين غير مأمونة الخطأ.

فتجنبت بادئ بدء مراجعة كتب المتأخرين المعاصرين حتى لا تسري إلى أغلاطهم من حيث لا أشعر بها، وهذا كتاب أقرب المواد للشرتوني، وهو أكثر كتب المعاصرين رواجًا بين أيدي الكتاب والطلاب على جلالة قدره، فإني راجعت أوائله بعد إتمام مؤلفي هذا فاستخرجت له نحوًا من

ولكن ما وصل إلينا من كتب الأئمة وتداولته أيدينا على جامعيته الكبرى وتحقيقه الجم، كان عسير المأخذ لقلة ترتيبه، كلسان العرب لجمال الدين محمد بن مكرم الأنصاري الخرزجي الأفريقي، المعروف بابن منظور وبابن مكرم المتوفى سنة 711 هـ.

وهو الذي جمع فيه تهذيب الأزهري، ومحكم ابن سيده، وصحاح الجوهري، وحاشية ابن بري، وجمهرة ابن دريد، ونهاية ابن الأثير وغير ذلك، والذي قيل فيه: انه أعظم كتاب ألف في مفردات اللغة! ومثل: تاج العروس في شرح القاموس للسيد محمد بن محمد، المعروف بالمرتضى الزبيدي ا

فوضعت أمامي تاج العروس إلى جنب القاموس المحيط للشيخ مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي الشيرازي المتوفى سنة 817 هـ إلى جنب لسان العرب؛ فكنت آخذ المادة فأطالعها في القاموس مدققًا بقدر الاستطاعة في شرحها في التاج واختصرها في مسودة، ثم أعارضها بما في لسان العرب- والقاموس وشرحه التاج عيالان على لسان العرب كما لا يخفي- واحرص في الاختصار أن لا أخرج عن مرادهم ومدلول كلامهم؛ ثم انظر بعد ذلك في كتاب أساس اللغة للزمخشري، وفي مختار الصحاح للرازي، وفي المصباح المنير للفيومي؛ وبعد ذلك كله أثبت ما استخرجته في موضعه من كتابي هذا، على أنني فيما أنقله من هذه الكتب الخمسة لا أنبه إلى اسم الكتاب المنقول عنه؛ وأما ما أنقله عن غيرها فإني أنبه إليه وإلى اسم الكتاب.

وإنني أرجو أن لا يتسرع منتقد كتابي هذا بالحكم علي بالخطأ، إذا رأى ما يخالف نص بعض كتب الأئمة كالقاموس مثلًا، قبل أن يرجع إلى كتاب إمام آخر؛ فإنني وجدت اختلافًا بين هذه الكتب في ضبط الكلمة حتى بين التاج واللسان، مع أن الأول قد أخذ عن الثاني، وكثيرًا ما يكون أخذه بالحرف الواحد، فإذا رأى المخالفة لهما معًا ولم يكن مذكورًا سند القول عندي، صح له أن يسجل على الخطأ، وأما اختيار أحد القولين فليس من الخطأ في شيء.

20 - لم أذكر في معجمي اصطلاحات العلوم والفنون لأنها خارجة عن اللغة، اللهم إلا ما كان منها له أساس بالمتن.

21 - أما الحديث عن الواو والياء في المعتل الأجوف والناقص في كتابي هذا، فإنني وجدت من سنن العرب أنهم يدخلون أحد حرفي اللين على الآخر أي تدخل الواو على الياء، والياء على الواو، لأنهما من حيز واحد وهو الهواء، وهما حرف لين كما صرح به صاحب اللسان عن الأزهري في مادة "ح ي ض" وكما جاء في التاج في مادة "ط ل و" وحكاه الأحمر عن العرب من قوله: أن عندك لأشاوي، في جمع شيء، وأصلها أشايا؛ وكما جاء في الطلاوة لما يطلي به الشيء فإنها من "طليت" نص عليه صاحب التاج؛ وكما جاء في الدعاية فإنها من دعوت، وقد جاءت دعاية في

الحديث النبوي الشريف؛ وكذلك الشكاية فإنها من شكوت ولم يقولوا الشكاوة.

ووجدت أن الواو والياء بهذا الاعتبار قد أصبحا بكثرة تعاقبهما، وحلول أحدهما محل الآخر في كثرة لم تكن في حرفين من حروف الهجاء غيرهما، قد أصبحا كالحرف الواحد مثل: كينونة من الكون، ودام ديمومة من الدوام، وساد سيدودة من السيادة، وصاغ يصوغ صوغًا وصياغة وصيغوغة وهو صواغ وصياغ.

ومثل: صيم وصيام وصيامي من الصوم.

ووجدت أنهم أوجبوا اعلال الأجوف المفتوح الفاء بإبداله ألفًا لينة سواء كان واويًا أو يائيًا؛ فإذا لم يعلموا أصله حمله بعضهم على باب "نصر" وبعضهم على باب "ضرب" وبعضهم أجاز الأمرين.

وإن هذا الماضي المعتل يأتي على ضروب منها: "

1 - ما لا خلاف في أصله، كقام فيما ًاله الواو، وباع فيما ًاله الياء.

2 - ما صح عندهم مجيئه واويًا أو يائيًا بمعنى واحد، كحاز الإبل يحوزها ويحيزها حوزًا وحيزًا، بمعنى ساقها سوقًا شديدًا؛ وهذا الضرب أكثر من أن يحصى في كلامهم.

3 - ما اختلفوا في ًاله، كالأريحية، جعلها صاحب اللسان من بنات الياء، وعدها الفارسي من بنات الواو.

4 - ما استعمل في معنيين متفرعين من أصل واحد، فانفرد أحدهما بالاستعمال وجعل من بنات الياء، واستقر المعنى الآخر في بنات الواو، كالشوب بمعنى الخلط، والشيب لبياض الشعر في سواده، فقيل في الأول شاب يشوب شوبًا، وفي الثاني شاب يشيب شيبًا.

5 - ما لم يظهر لهم أصله فحملوه على أحد الوجهين أو أجازوه فيهما معًا.

وقد حاول بعضهم تخليص الواو من الياء في ترتيب المواد في معاجمهم، فلم يوفقوا كل التوفيق في ذلك.

وقد جريت في كتابي هذا على جعل ما كان من الضرب الثاني والثالث والخامس في مادة واحدة، وفصلت فصل الواو عن فصل الياء فيما كان من الضرب الرابع.

وأما الضرب الأول فهو متميز بلفظه ومعناه، وباب القول مثلًا غير باب البيع طبعًا.

ومن الله أستمد العون والتوفيق.

المصادر القياسية للأفعال المزيدة

الفعل - مصدره - مثاله.

فعل من الصحيح - تفعيلًا: التفعيل - علم تعليمًا.

فعل من المعتل اللام - تفعلة: التفعلة - سمى تسمية.

افعل من صحيح العين - إفعالًا: الإفعال - أكرم إكرامًا.

افعل من معتل العين - أفعاله - أقام إقامة.

تفعل - تفعلًا: التفعل - تعلم تعلمًا.

تفعل إذا كان معتل اللام قلبت ألفه الأخيرة ياء - تأتي تأتيًا.

افتعل - افتعالًا: الافتعال - اصطفى اصطفاء.

انفعل - انفعالًا: الانفعال - انفرج انفراجًا.

افعل - افعلالًا: الأفعلال - احمر احمرارًا.

افعال - فعيلالًا: الافعيلال - احمار احميرارًا.

استفعل - استفعالًا: الاستفعال - استخرج استخراجًا.

استفعل إذا كان معتل العين قلبت عينه ألفًا ولحقته تاء التأنيث استقام استقامة "واصلة استقوامًا"

افعنلل - افعنلالًا: الافعنلال - احرنج احرنجامًا.

فعلل - فعللة وفعلالًا: الفعللة والفعلال - دحرج دحرجة ودحراجًا والثاني - قياسي في المضاعف الرباعي وسماعي في غيره.

تفعلل - تفعللًا: التفعلل - تدحرج تدحرجًا.

فاعل - مفاعلة وفعالًا: المفاعلة والفعال - قاتل مقاتلة وقتالًا.

وتقل فعالًا في ما كانت فاؤه ياء - كياسرة مياسرة، ويامن ميامنة.

تفاعل - تفاعلًا: التفاعل - تظاهر تظاهرًا.

وإذا أعلت لأمه قلبت ألفه ياء نحو: - تقاضى تقاضيًا.

أفعول افعيلالًا: - الافعيلال - اعشوشب اعشيشابًا.

فوعل - فوعلة وفيعالًا: الفوعلة والفيعال - حوقل حوقلة وحيقالًا.

افعلل - افعلالًا وفعله: الافعلال والفعلة - اقشعر اقشعرارًا وقشعريرة.

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


48-معجم متن اللغة (الرفادة)

الرفادة: خرقة يرفد بها الجرح وغيره: دعامة السرج والرحل وغيرهما.

و- في قريش: شيء تترافد به قريش في الجاهلية فتستخرج فيما بينها كل إنسانٍ مالًا بقدر طاقته فيطعمون الحاج ويسقونهم بمكة حتى تنقضي أيام الموسم، وأول من قام بها هاشم بن عبد مناف وهو"

عمرو العلى، فكانت الرفادة والسقاية لبني هاشم.

وهو رفادة صدقٍ ورفيدة صدقٍ أي عون.

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


49-معجم متن اللغة (الكوفة)

الكوفة: كانت مدينة العراق الكبري وقبة الإسلام ودار هجرة المسلمين، مصرها سعد بن أبي وقاص وبني مسجدها الأعظم في خلافة ثاني الخلفاء الراشدين، وتسمي كوفان "بالضم وفي القاموس يفتح" قال اللحياني: وبكوفان كانت تدعي قبل.

ويقال لها كوفة الجند.

وقد قدرها بشر بن عبد الوهاب فكانت ستة عشر ميلا وثلثي الميل.

وقيل أنه كان فيها مائة ألف دار.

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


50-معجم متن اللغة (ها بتفخيم الألف)

ها "بتفخيم الألف": حرف تنبيه نحو: ها أنتم، وها أنا.

تفتح بها العرب الكلام بلا معنى سوى الافتتاح.

ومنه هاء هذا وهؤلاء.

وتأتي ها عند العرب حرف جواب بمعنى نعم.

وتفخم الألف تطويلا للصوت.

والواو: حرف هجاء من حروف المعجم، مجهور شفوي، يحصل من انطباق الشفتين جوار مخرج الفاء.

وهو من الأحرف الجوف.

وكان الخليل يسميها الأحرف الضعيفة الهوائية، وهي الألف والواء والياء؛ وسميت جوفا لأنه لا أحياز لها فتنسب إلى أحيازها، إنما تخرج من هواء الجوف.

وتعاقب الميم مثل: وهده ومهده.

وتأتي الواو في الدرجة الأولى بين الحروف العربية من حيث كثرة استعمالها.

وتأتي أصلا في مثل: وسل وسول وسلو.

وتأتي ثانية مثل كوثر، وثالثة مثل جدول؛ ورابعة مثل قرنوة، وخامسة مثل قمحدودة.

وتزاد: "

1- صلة نحو الأولها كتاب معلوم.

أراد الألها.

2- مقحمة نحو قوله تعالى: فاضرب به ولا تحنث.

أراد لا تحنث جزما على جواب الأمر "قاله ابن فارس".

3- عاطفة على كلام مضمر كواو الثمانية نحو: سبعة وثامنهم كلبهم.

وهي تبدل على تصديق القائلين بأنهم سبعة والكلام المضمر المعطوف عليه تقديره نعم هم سبعة وثامنهم كلبهم.

ومثل قولك: وفقيه، بعد أن يقول لك قائل إن زيدا شاعر.

فكنت كأنك صدقته بقوله وقلت له نعم هو كذلك وفقيه أيضا.

وأبطل واو الثمانية ابن هشام وغيره من المحققين.

4- وتزاد للتقوية كما في قولك: ربنا ولك الحمد.

ومثل قول الشاعر: بلى وغيرها الأرواح والديم.

أراد بلى غيرها.

5- للتعابي، وهي واو التذكر.

وتكون إذا وقف المتكلم على كلمة مضمومة الآخر ونسي ما بعدها فيمد صوته بالضم ليتذكر.

فتلد هذه الضمة الواو.

6- واو الصلة والقوافي نحو: قف بالديار التي لم يعفها القدمو.

7 - واو الإشباع كالبرقوع في البرقع.

وأنظور في أنظر.

ومثلها مد الاسم في النداء.

ومثلوا له أبا قورط يريد أبا قرط.

والإشباع فيها للنداء ومد الصوت.

8 - واوات الأبنية، ولا تكون أولا بل فيما عدا الأول.

وقد تقدم مثلها أول هذا الكلام.

9 - واو عمرو.

زيدت في آخر هذا الاسم فرقا بينه وبين عمر في حالتى الرفع والخفض.

ولم تزد في حالة النصب لأنه لا التباس.

10 - واو الفارقة بين كلمتين متشابهتين رسما كواو أولئك وأولى لئلا تشتبه بإليك وإلى؛ وواو الاستنكار نحو: الحسنوه بعد قول القائل جاء الحسن.

وتأتي الواو بدلا من الألف اللينة في مثل قال وجاء، مما كان فعلا مصدره واويا أو أسما جمعه بالواو.

فإن لم يكن له مصدر ولم يعلم أصله فقد وصى سيبويه بأن الألف إذا كانت في موضع العين، فأن تكون منقلبة عن الواو أكثر من أن تكون منقلبة عن الياء.

والواو المفردة مركب اسمها من واوين وألف منقلبة عن واو كما في المحكم وكما عن أبي الحسن الأخفش.

مستدلا بتفخيم العرب إياها.

وأنه لم تسمع الإمالة فيها.

فكانت عنده حروف الكلمة كلها واوات.

أو عن ياء.

وذهب إليه الكسائي.

وذهب ابن جني إلى تعادل المذهبين.

وهي تأتي على أقسام: "

1- العاطفة، وتكون لمطلق الجمع من غير ترتيب ولا تعقيب.

وتكون للترتيب دون تعقيب، "

نحو: أنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين.

وتكون بمعنى أو للتقسيم، نحو: الكلمة اسم وفعل وحرف.

وللتخيير، نحو قوله: وقالوا نأت فاختر لها الصبر والبكا.

وللإباحة، نحو: جالس الحسن وابن سيرين أي أحدهما.

2- للمعية نحو: سرت والنيل أي مع النيل.

3- بمعني باء الجر نحو: أنت أعلم ومالك أي بمالك.

4- وبمعني لام التعليل نحو قوله تعالى: يا ليتنا نرد ولا نكذب أي لئلا نكذب.

5- واو الاستئناف نحو: لا تأكل السمك وتشرب اللبن "فيمن رفع وتشرب".

6- واو القسم، وهي بدل من الباء.

ولا تدخل إلا على مظهر، ولا تتعلق إلا بمحذوف فلا يقال أقسم والله.

7- واو رب.

ولا تدخل إلا منكر موصوف نحو: وبلد ليس به أنيس.

8- واو جماعة الذكور نحو: الرجال قاموا ويقومون؛ وهي اسم عند الأكثرين، وحرف عند المازني والأخفش.

وتكون علامة للمذكرين في لغة طيء أو أزد شنوءة نحو: أكلوني البراغيث.

وفي الحديث: يتعاقبون عليكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار.

وفي التنزيل: وأسروا النجوى الذين كفروا.

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


51-جمهرة اللغة (وجج وج)

ومن معكوسه؛ وَج: وهو الطائف.

قال الشاعر:

«صَبَحْتُ بها وَجا فكانت صبيحةً*** على أهل وَج مثلَ راغيةِ البَكْرِ»

جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م


52-جمهرة اللغة (وجج وج)

ومن معكوسه؛ وَج: وهو الطائف.

قال الشاعر:

«صَبَحْتُ بها وَجا فكانت صبيحةً*** على أهل وَج مثلَ راغيةِ البَكْرِ»

جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م


53-جمهرة اللغة (دنه دهن نده نهد هدن هند)

الدَّنَه مثل الدَّلَه، تُقلب اللام نونًا.

والدُّهن: معروف، وكل شيء دهنتَه فهو مدهون ودهين، وجمع الدُّهن أدهان.

وناقة دَهين، إذا قلّ لبنُها.

ودَهَنَ المطرُ الأرضَ، إذا بلّها بَلاًّ يسيرًا.

وبنو داهن وبنو دُهْن: حيّان من العرب، ومن بني دُهْن عمّار الدُّهني المحدِّث.

وقد سمّت العرب دُهَيْنًا.

والمُدْهُن: ما جُعل فيه الدُّهن، وهو أحد ما جاء على مَفْعُل مضموم الأول ممّا يُستعمل باليد ممّا أوله ميم.

والمُدْهُن أيضًا: نَقْرٌ في صخرة يجتمع فيه ماء السماء.

وداهنتُ الرجل مداهنةً ودِهانًا، إذا واربته فأظهرت له خلافَ ما تضمر؛ والمدهَنة: المخادَعة؛ وأدهنتُ إدهانًا، فأنا مُدْهِنْ، إذا غششت.

والدَّهْناء، يُمدّ ويُقصر: بلد معروف.

وقال بعض المفسّرين في قوله عزّ وجلّ: {وَرْدَةً كالدِّهان}، أي حمراء شديدة الحُمرة لأنهم يقولون إن السماء تصير نارًا والله أعلم، كالدِّهان في صفة الدُّهن.

والنَّدْه: الزَّجْر والكفّ عن الشيء؛ يقال: نَدَهْتُ الإبل أندَهها نَدْهًا فهي مندوهة، إذا زجرتها أو رددتها عن وِجهتها.

وكان الرجلُ في الجاهلية يقول لامرأته: اذهبي فلا أنْدَهُ سَرْبَك؛ أي أنت طالق، فكانت تطلق بهذه الكلمة.

والنَّهْد: العظيم من الخيل وغيرها؛ رجل نَهد وفرس نَهد: عظيم الخَلْق، والأنثى نَهْدَة.

والنَّهيدة: الزُّبدة العظيمة.

وكل شيء دنا منك فقد نَهَدَ.

والناهد: التي قد عظم حجمُ ثديها حتى بدا ولم يتكسّر.

وتناهد القومُ الشيءَ، إذا تناولوه بينهم.

قال الشاعر:

«كمقاعد الرُّقَباء للضُّ***رباء أيديهم نَواهـدْ»

وتناهد القومُ في الحرب، إذا تناهضوا لها.

وكل ناهض فهو ناهد.

ونهدتُ الى القوم، إذا قمت إليهم.

وقيل لسلمان بن ربيعة رحمه الله وهو بالكوفة إن الأعاجم قد اجتمعوا بالمدائن فقال: انهَدوا بنا إليهم، أي انهضوا.

قال أبو بكر: وهذا أحد ما عُدَّ من فصاحة سلمان رضي الله تعالى عنه.

وبنو نَهْد: قبيلة من العرب.

ونَهْدان: اسم، وكذلك نُهيد ومُناهِد.

والهُدْنة: السّكون؛ هدّنت الرجل تهدينًا وهادنته مهادنةً، إذا وادعتَه الحربَ، والاسم الهُدنة.

ومنه حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: "هُدنة على دَخَنٍ"، أي موادعة تحتها عداوة.

والهِدان: الرجل الثقيل الجبان.

وهِند: اسم، أصله التّهنيد؛ يقال: هنّدته النساءُ، إذا سلبن عقله.

قال الراجز:

«شاقَكَ من هَنّادةَ التهنيدُ *** موعودُها والباطلُ الموعودُ»

والهِند: جيل معروف.

والسيف المهنَّد وكذلك الهُنْدُواني منسوب الى الهند.

وقد سمّت العرب: هَنّادًا وهُنَيْدًا.

وهُنَيْدَة: المائة من الإبل، معرفة لا تدخلها الألف واللام.

قال جرير:

«أعطَوا هُنيدةَ يحدوها ثمانـيةٌ***ما في عطائهم مَنٌّ ولا سَرَفُ»

وفي العرب بطون يُنسبون الى أمهات يُسمّين هِنْدًا: بنو هِند في كندة، وبنو هِند في بكر بن وائل وأحسب في قُضاعة، أيضًا.

وهِند: صنم، وقد سمّوا عبد هِند كما سمّوا عبد يَغوث.

وعمرو بن هند: رجل من الشعراء المجوَّدين.

وقد سمّوا الرجل هندًا: هِند بن أبي هالةَ، أمّه خديجة زوج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهِند بن أسماء: رجل من بني الحارث بن كعب.

قال الشاعر:

«قتلتَ في حَرَمٍ مِنّـا أخـا ثـقةٍ***هندَ بنَ أسماءَ لا يَهْنئْ لك الظَّفَرُ»

وبنو هِند: بطن من العرب، وكذلك بنو هَنّاد.

جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م


54-جمهرة اللغة (رظت رتظ ظرت ظتر ترظ تظر)

استعمل منها ظَرْف كل شيء: ما جُعل فيه، والجمع ظُروف.

ورجل ظَريف بَيِّن الظَّرْف والظَّرافة من قوم ظُرَفاء، والفعل منه ظَرُفَ يظرُف.

سئل أبو بكر عن الظَّريف ما معناه فقال: قال قوم: الظَّريف الحَسَن العبارة المتلافي حُجّته، وقال آخرون: بل الظَّريف الحَسَن الهيئة.

وأهل اليمن يسمّون الحاذق بالشيء ظَريفًا.

والظُّفر: ظُفر الإنسان، والجمع أظفار، ولا يقال: ظِفْر، وإن كانت العامّة قد أولعت به، ويجمع أظفار على أظافير، وقال قوم: بل أظافير جمع أُظْفُور، والظّفْر والأظْفور سواء.

أنشدَنا أبو حاتم قال: أنشدتني أمّ الهيثم واسمها غَيْثَة من بني نُمير بن عامر بن صَعْصَعَة:

«ما بين لُقمته الأولى إذا انحدرتْ***وبين أخرى تليها قِيسُ أُظْفورِ»

وظفَّر السَّبُعُ، إذا أنشبَ مخالبَه.

وظَفِرَ الرجلُ بحاجته يظفَر ظَفَرًا.

والظَّفَرَة: عَلَقَة تخرج في العين، ظَفِرَت عينُه تظفَر ظَفَرًا.

وظَفارِ: موضع ينسب إليه الجَزْع الظفاريّ.

قال أبو عُبيدة: وهو مبني على الكسر نحو حَذامِ وقطامِ وما أشبهه.

وقال غيره: سبيلها سبيل المؤنّث لا تنصرف، يقال: هذه ظَفارُ ورأيت ظَفارَ ومررت بظَفارَ.

وأخبرنا السَّكن بن سعيد قال: أخبرنا محمد بن عَبّاد عن ابن الكلبي قال: خرج ذو جَدَن الملكُ يطوف في أحياء مَعَدّ فنزل ببني تميم فضُرب له فسطاط على قارة مرتفعة فجاءه زُرارة بن عُدَس فصعِد إليه فقال له الملك: ثِبْ، أي اقعدْ بلغته فقال: ليعلم الملكُ أني سامع مُطيع، فوثب إلى الأرض فتقطّع أعضاءً، فقال الملك: ما شأنه.

فقالوا: أبيتَ اللعن إن الوثب بلغتهم الطَّمْر.

فقال: ليس عربيتُنا كعربيتكم، من دخل ظَفارِ حَمَّرَ، أي تكلِّم بكلام حِمْيَر ثم تذمَّم فقال: هل له من ولد? فأُتي بحاجب فضرب عليه قبّة فكانت عليه إلى الإسلام.

وقد سمّت العرب ظَفَرًا ومظفرًا ومِظْفارًا.

وفي العرب بطنان ينسبان إلى ظَفَر: بطن في الأنصار، وآخر في بني سُليم.

وقد قالوا: رجل ظِفّير، أي كثير الظَّفَر، وليس بثَبْت.

جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م


55-جمهرة اللغة (زفي زيف فزي فيز يزف يفز)

الزَّفْي: مصدر زَفَى الظليمُ يَزفي زَفْيًا، إذا نشر جناحيه وعَدا، وأحسب أن منه اشتقاق الزَّفَيان.

والزّائف: الرديء من الدّراهم، فأما الزَّيْف فمن كلام العامة.

قال الشاعر:

«فكانت سراويلٌ وسَحْقُ عِمامةٍ***وخمسُمىءٍ منها قَسِيٌّ وزائفُ»

جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م


56-جمهرة اللغة (سكن سنك كسن كنس نسك نكس)

السَّكْن: سُكّان الدار، والسَّكْن: الدار أيضًا.

والسَّكَن: صاحبك الذي تسكُن إليه؛ فلان سَكَني، أي الذي أسكن إليه.

وفي التنزيل: {فالقُ الإصباحِ وجَعَلَ الليلَ سَكَنًا}، أي تسكن فيه الحركات، والله أعلم.

والسَّكَن: النار.

قال الراجز:

«قُوِّمْنَ بالدُّهْنِ وبالأسكانِ»

ويُروى: بالدَّهن.

والسُّكون: ضدّ الحركة.

وقد سمّت العرب ساكنًا وسُكَيْنًا وسَكَنًا.

وقالوا أيضًا: المَسْكَن والمَسْكِن للموضع الذي يُسكن فيه، والجمع مَساكن، وكذلك فُسِّر في التنزيل، والله أعلم.

فأما مَسْكِن، اسم موضع، فليس إلا بكسر الكاف.

والمِسكين: الذي لا شيء له، والناس يجعلون المِسكين في غير موضعه فيجعلونه الفقير؛ قال أبو عبيدة: وليس كذلك، لأن الفقير الذي له شيء وإن كان قليلًا، والمسكين الذي لا شيء له.

قال الشاعر:

«أما الفقيرُ الذي كانت حَلوبتُه***وَفْقَ العيالِ فلم يُترك له سَبَدُ»

فأما قوله جلّ ثناؤه: {وأما السّفينةُ فكانت لمساكينَ يعملونَ في البحر}.

قال أبو حاتم: فأحسبه، والله أعلم، أنهم كانوا شركاء في سفينة لا يملكون سواها.

قال أبو بكر: وهذا مخالف لقول أبي عبيدة لأنه قال: المسكين الذي لا يملك شيئًا.

ويقال: على فلان سَكينة ووَقار.

والسِّكّين: عربي معروف، وهو فِعّيل من قولهم: ذبحت الشيء حتى سكنَ اضطرابُه.

والمَسْكَنَة: الفقر، وكذلك فُسِّر في التنزيل.

وسُكّان السفينة: عربي معروف، واشتقاقه من أنها تَسْكُنُ به عن الحركة والاضطراب.

وكانت سَكينة بني إسرائيل، على ما ذكره الحسن البصري، ما في التابوت من مواريث الأنبياء، عليهم السلام: عصا موسى، وعِمامة هارون الصفراء، ورُضاض اللوحين اللذين رُفعا.

وقال الحسن: قد جعل الله لهم سَكينةً لا يفرّون أبدًا وتطمئنّ قلوبهم إليه؛ وقال مقاتل: كان في رأس كرأس الهِرّة إذا صاح كان فيه الظَّفَر لبني إسرائيل.

وكَنَسْتُ البيتَ وغيرَه أكنِسه كَنْسًا، إذا كسحتَه.

والمِكنسة: المِكسحة.

والكُناسة: ما كُنس.

وكِناس الظبي من ذلك اشتقاقه لأنه يكنِس الرملَ حتى يصل الى بَرْد الثرى؛ وجمع كِناس: كُنُس وكُنْس.

وفسّر أبو عُبيدة قوله جلّ وعزّ: {الجَوارِ الكُنَّس} فقال: تكنِس في المغيب كما تكنِس الظِّباء في الكُنس، والله أعلم.

ويقال: فرس مكنوسة، وهي الملساء الرداء من الشَّعَر، زعموا، وليس بثَبْت.

والنُّسُك أصله ذبائح كانت تُذبح في الجاهلية.

قال الشاعر:

«كمَنْصِبِ العِتْرِ دَمّى رأسه النُّسُكُ»

والنّسيكة: شاة كانوا يذبحونها في المحرَّم في أول الإسلام ثم نُسخ ذلك بالأضاحي.

قال الشاعر:

«وذا النُّصُبَ المنصوبَ لا تَنْسُكَنَّه***ولا تَعْبُِ الشيطانَ والله فاعْبُدا»

والنُّسْك في الإسلام اختلفوا فيه، فقال قوم: هو نُسْك الحجّ، وقال آخرون: هو الزهد في الدنيا من قولهم: رجل ناسك.

والنَّكْس: قلبُك الشيء على رأسه؛ نَكَسْتُه أنكُسه نَكْسًا.

قال يصف السيوف:

«إذا نُكِسَتْ صار القوائمُ تحتهـا***وإن نُصِبَتْ شالت عليها القوائمُ»

والنُّكْس: العَوْد في المرض؛ نُكِسَ الرجلُ فهو منكوس.

والنِّكْس: النصل الذي ينكسر سِيخُه فتُجعل ظُبَتُه سِنْخًا فلا يزال ضعيفًا، ثم كثر ذلك في كلامهم حتى سمّوا كل ضعيف نِكْسًا.

وقال قوم: النَّكْس: اليَتْن، وليس بثَبْت؛ واليَتْن: الولد تخرج رجلاه قبل رأسه.

والنِّكْس من القوم: المقصِّر عن غاية النجدة والكَرَم، والجمع أنكاس.

جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م


57-جمهرة اللغة (بسو بوس سبو سوب بسا باس سبا ساب بسي بيس سبي سيب بسأ بأس سبأ سأب أبس أسب)

أبَسْتُ الرجلَ آبِسه أبْسًا، إذا قهرته وذلّلته.

قال الراجز:

«أسودُ هَيْجا لم تُرَمْ بأبْسِ *** إن ينزلوا بالسهل بعدَ الشّأسِ»

وسَبَيْتُ السَّبْيَ أسبيه سَبْيًا، وجمع السَّبي سُبِيّ.

وسبأت الخمر أسبَؤها سَبْأً وسِباءً، إذا اشتريتها، مهموز.

قال زهير:

«فلنِعْمَ معترَكُ الجِـياع إذا*** خَبّ السفيرُ وسابِئُ الخَمْرِ»

السّفير: الورق الذي يتساقط من الشجر بالريح؛ وسفرتُ: كسحتُ؛ والمِسفرة: المِكسحة.

وسَبَأتْه النارُ تسبَأه سَبْأً، إذا أحرقتْه ولذعتْه.

وسبأتُه، إذا ضربته مائة سَوْط.

وسَبَأ: أبو حي من العرب عظيم، وقد صُرف في التنزيل ولم يُصرف، فمن صرفه جعله اسم الرجل، ومن لم يصرفه جعله اسم قبيلة.

وقد قُرئ: {من سَبَأٍ بنبأ يقين}.

قال النابغة الجَعْدي:

«من سَبَأِ السّاكنين مـأْرِبَ إذ*** يَبنون من دون سَيله العَرِما»

مأْرِب: موضع؛ والعَرِم: المُسَنّاة كانت تُبنى في عُرض الوادي ليحبس الماء حتى يفيض على الأرض.

وقال أبو حاتم: العَرِم جمع لا واحد له من لفظه.

وقال قوم من أهل اللغة: بل واحدها عَرِمَة.

وساب الماءُ يَسيب سَيْبًا، إذا جرى على وجه الأرض، فهو سائب.

وكل دابّة تركتها وسَوْمَها فهي سائبة.

والسائبة التي في التنزيل؛ كان الرجل في الجاهلية إذا قَدِمَ من سفر بعيد أو نجّته دابةٌ من شُقّة أو حرب قال: هي سائبة.

وقال بعض أهل اللغة: بل كان ينزع من ظهرها فَقارة أو عظمًا فتُعرف بذلك فكانت لا تُحلأ عن ماء ولا كلأ ولا تُركب.

وأُغيرَ على رجل من العرب فلم يجد دابّة يركبها فركب سائبة فقيل له: أتركب حرامًا فقال: يَركب الحرامَ من لا حلالَ له، فذهبت مثلًا.

والسَّيَاب: البلح، الواحدة سَيَابة.

والوَسْب، كَبْش موسَّب، وهو الكثير من الصوف.

والوَسْب أيضًا، لغة يمانية: خشب يُطوى به أسفل البئر إذا خافوا أن تنهال.

والبُؤس ضدّ النعيم، والبأساء ضد النّعْماء.

والبأس: الحرب، ثم كثر حتى قيل: لا بأس عليك، أي لا خوف عليك.

ورجل بَئيس: شجاع؛ مأخوذ من البأس.

ورجل بَؤوس: ظاهر البُؤس.

وعذاب بئيس: شديد.

واليَبَس: الأرض اليابسة.

واليَبْس من النبت، وهو اليبيس.

واليابس: ضدّ الرَّطْب.

والأيْبَسان من الفَرَس: ما ظهر من عظم الوظيفة من قُدّامه.

وبَسَأتُ بالشيء وبَهَأتُ به، في معنى أنِسْتُ به.

جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م


58-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (الشحر)

الشّحر

لها عدّة إطلاقات:

الأوّل: أنّها اسم لكلّ ما شمله حدّ حضرموت السّابق ذكره أوائل الكتاب.

الثّاني: أنّها اسم لساحل المشقاص بأسره، فما كان منه لبني ظنّة.. فهو داخل في حدّ حضرموت، وما كان منه للمهرة كبديعوت.. فهو شحر المهرة.

الثّالث: أنّها اسم لجميع ما بين عدن وعمان، كما ذكره ياقوت [3 / 327] عن الأصمعيّ.

وكثير من يقول: إنّ ظفار هي قاعدة بلاد الشّحر، وفي «الأصل» بسط ذلك.

الرّابع: اختصاص الاسم بالمدينة اليوم.

لكن نقل السّيّد أحمد بن حسن الحدّاد عن الباب السّابع من «نخبة الدّهر»: (إنّ لحضرموت فرضتين على ساحل البحر، يقال لإحداهما: شرمة، وهي الآتي ذكرها. وللأخرى: الشّحر، ولم تكن بمدينة، وإنّما كانوا ينزلون بها في خصاص، حتّى بنى بها الملك المظفّر ـ صاحب اليمن في زماننا هذا ـ مدينة حصينة بعد سنة سبعين وستّ مئة) اه

وفي «صبح الأعشى» (5 / 16): (والشّحر ـ قال ياقوت الحمويّ: هي بليدة صغيرة ـ ولم يزد على ذلك. والّذي يظهر: أنّ لها إقليما ينسب إليها) اه

وما استظهره هو الواقع، ولا سيّما في الأعراف القديمة، وكانت وفاة ياقوت في سنة (626 ه‍)؛ أي: قبيل أن يجعلها المظفّر مدينة بمدّة ليست بالطّويلة.

وما جاء في «صبح الأعشى» عن ياقوت لعلّه من غير مادة الشّحر، أمّا فيها من «معجمه».. فقد أطال القول عن الشّحر، وقال: (هو صقع على ساحل بحر الهند من ناحية اليمن، وإليه ينسب العنبر الشّحريّ؛ لأنّه يوجد في سواحله، وهناك عدّة مدن يتناولها هذا الاسم، وإلى الشّحر ينسب جماعة منهم محمّد بن خويّ بن معاذ الشّحري) اه [3 / 327 ـ 328] باختصار.

وفي «مروج الذّهب» ذكر للنّسناس الّذي أفضت القول عنه ب «الأصل»، ثمّ قال المسعوديّ: ووجدت أهل الشّحر من بلاد حضرموت وساحلها ـ وهي تسعون مدينة على الشّاطىء من أرض الأحقاف، وهي أرض الرّمل وغيرها ممّا اتّصل بهذي الدّيار من أرض اليمن وغيرها، من عمان وأرض المهرة ـ يستظرفون أخبار النّسناس إذا ما حدّثوها، ويتعجّبون من وصفه، ويتوهّمون أنّه ببعض بقاع الأرض ممّا قد بعد عنهم؛ كسماع غيرهم من أهل البلاد بذلك عنهم، وهذا يدلّ على عدم كونه في العالم، وإنّما هو من هوس العامّة؛ كما وقع لهم من عنقاء مغرب، ونحن لا نحيل وجود النّسناس والعنقاء؛ لأنّ ذلك غير ممتنع في القدرة، غير أنّه لم يرد خبر قاطع للعذر بصحّة وجود ذلك في العالم.. فهذا داخل في حيّز الممكن الجائز... إلى آخر ما أطال به.

والذي يعنينا منه كون الشّحر فيما سلف من الزّمان تسعين مدينة، وكون هذه الأرض تسمّى كلّها أرض الأحقاف، وهو موافق لكثير ممّا سبق. والله أعلم.

وللشّحر ذكر في شعر سراقة بن مرداس البارقيّ، وذلك أنّه أخذ أسيرا يوم جبّانة السّبيع، فقدّم في الأسرى، فقال ـ كما عند الطّبريّ وغيره ـ [من الرّجز]:

«امنن عليّ اليوم يا خير معدّ *** وخير من حلّ بشحر والجند»

وخير من لبّى وصلّى وسجد

فعفا عنه المختار في قصّة طويلة تشهد لاستيلائه على الشّحر. وكانت دولة الشّحر لكندة إلى سنة (575 ه‍).. حيث هجم عليها الزّنجيليّ.

ثمّ تولّاها آل فارس المختلف في نسبهم: فقيل: إلى الأنصار، وهو أبعدها.

وقيل: إلى كندة، وهو أوسطها، ويؤيّده ما سبق في حجر أن لا تزال به طائفة من آل ابن دغّار الكنديّين، يقال لهم: آل فارس. وقيل: إلى المهرة، وهو الّذي رجّحته ودلّلت عليه.

وفي سنة (616 ه‍): انقضّ ابن مهديّ ـ وهو من صنائع آل رسول اليمانيّين ـ على آل فارس، وأخرجهم من الشّحر.

وفي سنة (621 ه‍): تولّى عليها عبد الرّحمن بن راشد، وكان يؤدّي الخراج لملوك الغزّ، فعزله نور الدّين الرّسوليّ برجل من الغزّ، وأضاف إليه نقيبا، فقتل الغزّيّ، واستولى على البلاد، وكان عبد الرّحمن بن راشد في ضيافة نور الدّين بتعز، فاستدعاه، وخلع عليه، وأمره أن يسير إلى الشّحر، فضبطها وبقيت تحت حكمه إلى سنة (678 ه‍) حيث دخلت الشّحر وحضرموت تحت حكم المظفّر الرّسوليّ، ولكنّه أبقى عبد الرّحمن بن راشد عليها نائبا عنه حتّى توفّي في سنة (664 ه‍)، ودفن بين تربة الشّيخ سعد الظّفاريّ وتربة عمرو، وقبره مشهور بها.

وخلفه أخوه راشد بن شجعنة، فبقي عليها إلى سنة (677 ه‍)، فتغيّر عليه المظفّر واعتقله بزبيد إلى أن مات.

وفي سنة (767 ه‍): وصل المظفّر بنفسه إلى الشّحر، فعمّرها ـ حسبما تقدّم ـ ثمّ لم يزل حكّامها من أسرته تحت أمر آل رسول حتّى ضعف أمرهم.

وصار النّفوذ بحضرموت لآل يمانيّ.

وفي سنة (812 ه‍): استولى دويس بن راصع على الشّحر، ثمّ عادت لآل فارس، حتّى انتزعها منهم آل كثير في سنة (867 ه‍)، وهي أوّل دولتهم بها.

ثمّ استردّها آل فارس منهم في سنة (894 ه‍).

ثمّ استرجعها آل كثير في سنة (901 ه‍)، وما زالت في أيديهم على مناوشات بينهم وبين أمراء العشائر حتّى استولى الإمام (المتوكّل على الله) على حضرموت وعليها في سنة (1070 ه‍).

وقال السّيّد أحمد بن حسن الحدّاد: (كان خروج الإمام أحمد بن حسن سنة «1072 ه‍»، وأقام بجيشه في حضرموت نصف شهر، ثمّ عاد طريق البحر من بندر الشّحر، واستخلف السّلطان بدر بن عمر الكثيريّ، وترك عنده جملة من عسكره الزيديّة، واستمرّ أمرهم نحو خمسين سنة إلى خروج يافع من الجبل سنة 1117 ه‍) اه

وقال السّيّد محمّد بن إسماعيل الكبسيّ في كتابه «المسالك اليمنيّة»: (وفي سنة «1064 ه‍»: خطب بدر بن عمر الكثيريّ للإمام، فقبض عليه ابن أخيه بدر بن عبد الله، فهمّ الإمام بالتّجهيز، وأمر بحشد الجنود إلى بني أرض، ومنعت بلاد الرّصّاص ويافع والعوالق والجرش والواحديّ والفضليّ عن المرور فيها، فجدّ الإمام في جهادهم، واجتمع لأولاد إخوته زهاء عشرة آلاف راجل وألف عنان، واشتدّ القتال بينهم وبين حسين الرّصّاصيّ حتّى قتل، وانهزم أخوه صالح إلى البيضاء، وانتهب العسكر جميع ما في مخيّمهم.

وكان محمّد بن الحسين لم يشهد الوقعة، ولكنّه حضر بعدها، فتقدّم إلى يافع يوم الإثنين (19) جمادى الآخرة من السّنة إلى ذيل جبل العرّ، فاستولى على الجبل، وعادوا إلى عند الإمام.

ولمّا انتهى خبر هذا النّصر العظيم إلى بدر بن عبد الله الكثيريّ.. أطلق عمّه، وخطب للإمام، فأرسل الإمام صالح بن حسين الجوفيّ إلى حضرموت، فألفى الأمر على حقيقته، فوجّه بدر بن عمر إلى ظفار واليا عليها.

وفي سنة «1068 ه‍»: غدر بدر بن عبد الله بعمّه بدر بن عمر، وأخرجه عن ظفار، فقدم على الإمام فأكرمه.

وفي جمادى الأوّلى من سنة «1069 ه‍»: اختار المتوكل الصّفيّ أحمد بن حسن لفتح حضرموت والشّحر وظفار.

وفي شعبان: توجّه الصّفيّ إلى وادي السّرّ بمخلاف خولان، ثمّ إلى فحوان ورغوان، ثمّ إلى مأرب وحبّان، ثمّ دخل أطراف بلاد العوالق فوصل بلدة واسط، ثمّ سار إلى وادي حجر، ثمّ تجرّد منها تجرّد الحسام.

وكان سلطان حضرموت قدّم عساكره إلى أعلى عقبة حجر فانهزموا من أحمد بن الحسن، وبانهزامهم.. انهزم من بعدهم، وهذا المحلّ يقال له: ريدة بامسدوس، ثمّ تقدّم إلى الهجرين، ثمّ التقوا بعسكر سلطان حضرموت فهزموهم واستولوا على حضرموت، وعاد الصّفيّ إلى حضرة الإمام بضوران، في أبّهة فاخرة، ودولة قاهرة، وفتح قريب، ونصر عجيب) اه باختصار.

وإنّما استوفيته مع عدم ملاءمته للإيجاز؛ لأنّ فيه ما ليس في «الأصل»، على أنّ في «الأصل» ما ليس فيه، فليضمّ إلى كلّ ما نقص.

أمّا استيلاء يافع على الشّحر وحضرموت: فكما ذكر السّيّد أحمد بن حسن الحدّاد: كان في سنة (1117 ه‍)، وقد سبق في المكلّا أنّ الشّيخ عمر بن صالح هرهرة أمير ذلك الجيش أقام بالشّحر ثلاثة أشهر، جبى فيها منها خمسة وثلاثين ألف ريال (35000).

وكان من يافع طائفة يقال لهم: آل عيّاش، سكن رئيسهم بحصن الشّحر الّذي كان يقال له: المصبّح، فأطلق عليه من ذلك اليوم: حصن ابن عيّاش.

وما زالت يافع على الشّحر حتّى أخذها الإمام المهديّ بالمهرة، ومعهم الأمير سعيد بن عليّ بن مطران، وحصل النّداء بالشّحر أنّ النّاس في أمان المهديّ.

واشترط يافع لأنفسهم أن يغادروا الشّحر بسلاحهم بعد ثمانية أيّام، فخرجوا منها إلى حضرموت، وانضمّوا إلى عسكر عمر بن جعفر.

وفي سنة (1118 ه‍): وصل السّلطان عمر بن جعفر من اليمن إلى الشّحر، وسلّمه النّقيب والعسكر حصن الشّحر، ونادى بالأمان، ثمّ كتب للعسكر بحضرموت: (إنّ سيّدي الإمام المهديّ وجّهني إلى حضرموت، فإن كنتم في الطّاعة.. سلّمتم النّاس من الضّرر، وإلّا.. فنحن واصلون بالجيش المنصور، وهو مؤلّف من ثلاث مئة من حاشد وبكيل، ونحو مئة من سائر عسكر الإمام، ونحو مئة من الحجاز، ونحو مئة وخمسين أخلاط من الخلق).

وكان السّلطان عيسى على سيئون وحضرموت، فانهزم.

ثمّ تغلّبت يافع على عمر بن جعفر، وعاد الأمر إليهم بالشّحر، إلى أن اختلفوا، فغلبهم آل بريك، وكانوا ولّوا رئيسهم بعض الأمر بالنّيابة عنهم، فلمّا اختلفوا.. استبدّ عليهم.

وأصل آل بريك من حريضة، وهم إمّا من بقايا بني ناعب الآتي ذكرهم في التّعريف بوادي عمد، وإمّا من بني جبر؛ قبيلة من يافع يسكنون جبلا في سرو حمير، يقال له: ذو ناخب، كما في «صفة جزيرة العرب» لابن الحائك الهمدانيّ [173].

وأوّل ما ابتدأ به آل بريك المصالحة بين الحموم، والتّحالف معهم، حتّى قرّبوا النّاس وعاملوهم بالإحسان حتّى أحبّوهم.

وأوّل أمير لهم هو: ناجي بن عمر، وكانت يافع جعلت إليه الماليّة في أيّام نفوذها؛ لأنّهم تنازعوها وكادوا أن يقتتلوا عليها، ولمّا استقلّ شيئا فشيئا على حساب اختلافهم وتفرّق آرائهم.. أفاقوا، فناوشهم، ولكنّه انتصر عليهم لأنّهم كانوا متحاسدين.

ولمّا مات ناجي بن عمر في سنة (1193 ه‍).. خلفه ولده عليّ بن ناجي بن عمر بن بريك، فخالفه محسن بن جابر بن همّام، وانضمّ إليه آل عمر باعمر، فجهز عليهم عليّ ناجي وأجلى آل همّام إلى المكلّا، وآل عمر باعمر إلى الرّيدة، واستنجد آل همّام بعبد الرّبّ بن صلاح الكساديّ، ولكنّه انهزم هو وإيّاهم كما سبق في المكلّا.

وفي أيّام عليّ ناجي هذا: ظهر أنّ القاضي سعيد بن عمر بن طاهر كان يعمل الأسحار، فأغرقه في بالوعة الأقذار، وكان آخر العهد به.

ولمّا مات عليّ بن ناجي سنة (1220 ه‍).. خلفه أخوه حسين بن ناجي، ثمّ ولده ناجي بن عليّ بن ناجي.

وفي أيّامه جاءت الوهّابيّة في خمس وعشرين سفينة تحت قيادة ابن قملة، بأمر الملك عبد العزيز بن سعود آل سعود، الّذي استفحل سلطانه لذلك العهد، فافتتح نجدا والحسا والعروض والقطيف والحجاز وغيرها، وكان أكثر فتوحه على يد القائد العظيم ابنه سعود المتوفّى سنة (1229 ه‍).. فامتلكوا البلاد، ولم يؤذوا أحدا في حال ولا مال، ولم يهلكوا حرثا ولا نسلا، وإنّما أخربوا القباب، وأبعدوا التّوابيت ـ وقد قرّرت في «الأصل» ما ذكره ابن قاسم العبّاديّ من حرمة التّوابيت.

وأمّا القباب: فإن كانت في مسبّلة.. فحرام، وإلّا.. فلا، بشرطه، ولم يعترضهم آل بريك.

وأقاموا بالشّحر أربعين يوما، ثمّ ركبوا سفائنهم وعادوا لطيّتهم.

وفي سنة (1227 ه‍): نشب الشّرّ ما بين الكساديّ ـ صاحب المكلّا ـ وآل بريك، وامتدّت المناوشات بينهم زمانا طويلا في البحر والبرّ.

وفي سنة (1242 ه‍): توفّي ناجي بن عليّ؛ وكان خادما للدّين، شديد الغيرة على شعائره، لا يخرج عن رأي الإمام الحبيب حسن بن صالح البحر في ذلك، حتّى لقد أمره أن لا يمكّن أحدا من البادية يدخل الشّحر ليمتار إلّا بعد أن يحلف اليمين على أن لا يقصّر في الصّلاة، فحصل بذلك نفع عظيم، وصلاح كبير، حتّى جاء العوابثة في قطار لهم، فلمّا أرادوا أن يدخلوا من سدّة العيدروس وهي باب الشّحر الشّماليّ.. عرضوهم على العهد، فأبوا، وصرفوا وجوه إبلهم إلى الغيل عند رفاقهم آل عمر باعمر، وارتجزوا بقول شاعرهم:

«قولوا لناجي بن عليّ *** كلّين يوخذ له ملاه »

«ماراس بن عوبث غلب *** ما بايعاهد عالصّلاه »

واختلفوا في تفسير هذا: فقوم يحملونه على العناد والمجاهرة بالفساد.

وآخرون يحملونه على أنّ الدّاعي إلى الصّلاة من الدّين، والسّائق لها من الضّمير، فلا تحتاج إلى عهد ولا إلى يمين. ولمّا مات ناجي بن عليّ.. خلفه ولده عليّ ناجي الثّاني.

وفي سنة (1267 ه‍): كانت حادثة مرير، وحاصلها: أنّ آل كثير أغاروا على الشّحر بعسكر مجر، وجاءتهم نجدة من الأتراك في البحر من مكّة المشرّفة، على رأسها شيخ العلويّين، السّيّد إسحاق بن عقيل بن يحيى، مؤلّفة تلك النّجدة من نحو خمس مئة جنديّ بعدّتهم وعتادهم، فبلغت العساكر البحريّة والبريّة نحوا من خمسة آلاف، إلّا أنّه لم يصحبها رفيق من التّوفيق، فكان عاقبتها الانهزام الشّامل، والفشل الشّائن، كما هو مفصّل ب «الأصل» [3 / 9 ـ 16].

وبعضهم يعلّل ذلك الانهزام بخيانة من سيبان الموجودين بكثرة في الجيش الكثيريّ؛ لأنّهم كانوا في طليعة الجيش المرابط بمرير، فلمّا هاجمتهم فرقة من عسكر الكساديّ جاءت من المكلّا لمساعدة آل بريك.. انهزموا وذهبوا بها عريضة وأكثروا من الأراجيف، فخلعوا قلوب الجيش الكثيريّ وملؤوا صدورهم رعبا، فركب كلّ منهم رأسه، وذهبوا عباديد لا يلوي أحدهم على شيء قطّ، وعادت النّجدة التّركيّة إلى أسطولها الرّاسي بشرمة؛ لأنّ مرسى الشّحر كان مكشوفا؛ وكان البحر هائجا، والوقت خريفا، وتفرّق الجيش الكثيريّ أيدي سبأ، وعاد بخيبة الرّجاء، ولم يبق بالمعسكر في اليوم الثّاني نافخ ضرم.

وكان من نتيجة ذلك الفشل: أنّ السّلطان عبد المجيد العثمانيّ أقال السّيّد إسحاق من مشيخة العلويّين بمكّة، وأبدله بالسّيّد محمّد بن محمّد السّقّاف.

وفي سنة (1283 ه‍): جهّز السّلطان غالب بن محسن الكثيريّ على الشّحر، فاستولى عليها، وهرب عليّ ناجي بمن معه وما قدر عليه، في خمس من السّفن أعدّها لذلك من يوم علم بالغزو، وكان هربه إلى المكلّا فلم يمكّنه الكساديّ من النّزول بها؛ معتذرا بأنّه لا يصلح سيفان في جفير، فأبحر إلى يشبم، وأذن له النّقيب أن يبقي نساءه وصغاره في خلف، ومات كثير منهم بالبرد.. فانتقل بعضهم إلى الحرشيات، أمّا المكلّا.. فلم يمكّنهم من دخولها، وأقام عليّ ناجي عند الشّيخ فريد بن محسن العولقيّ عاما، ثمّ ركب إلى عدن، وعاد منها إلى الشّحر.

وكان عليها الأمير عبد الله بن عمر القعيطيّ بعد جلاء غالب بن محسن عنها، فأكرم وفادته، وتحفّى به حتّى لقد دخل بين البحّارة الّذين حملوه من القارب إلى السّاحل، وأحسن مثواه، إلّا أنّ فكرة الإمارة عادت تتحرّك في صدره، وكلّما ذكر أيّامه عليها بالشّحر.. قال بلسان حاله:

«فوالهفة كم لي على الملك شهقة *** تذوب عليها قطعة من فؤاديا»

فعزم إلى الآستانة؛ ليستنجد بالخليفة العثمانيّ على الكساديّ بالمكلّا وعلى القعيطيّ بالشّحر، فسافر إلى عدن، ثمّ خرج إلى لحج، وبها فاجأته المنيّة، وعاد كثير من أعقابه إلى الشّحر، ولا يزال بها ناس منهم إلى اليوم.

أمّا غالب بن محسن: فلو قنع بالشّحر كما أشار عليه المخلصون.. لأوشك أن تطول بها مدّته، لكنّه طمع في أخذ المكلّا من الكساديّ، فانكسر دونها.

وفي آخر ذي الحجّة من نفس السّنة الّتي أخذ فيها الشّحر ـ أعني سنة (1283 ه‍) ـ: جهز القعيطيّ بمساعدة الكساديّ على الشّحر، وافتتحها بأسرع وقت، وتفرّق عسكر السّلطان غالب شذر مذر، بعدها أخذت السّيوف منهم كلّ مأخذ ولو لا أنّ أحد عبيده ـ وهو صنقور سليمان، وكان من أهل القوّة والأيد ـ احتمله على ظهره.. لذهب مع شفرات يافع، فما نجا إلّا بجريعة الذّقن وخيط الرّقبة.

وفي رجب من سنة (1284 ه‍): استأنف السّلطان غالب بن محسن التّجهيز على الشّحر؛ إذ بقي قلبه بحسرة عليها، ودخل أكثر جيشه من كوّة فتحوها في سور البلد، فانحصروا وانقطع عليهم خطّ الرّجعة، وأصلتهم يافع ومن لفّهم من عسكر القعيطيّ نارا حامية، فأثخنوا فيهم قتلا، وخرج الباقون لا يلوي آخرهم على أوّلهم.

ورسخت أقدام القعيطيّ بالشّحر، وجلس عليها الأمير عبد الله بن عمر القعيطيّ، كما عرف ممّا سبق.

وبعد وفاته في سنة (1306 ه‍): خلفه عليها ولده حسين بن عبد الله؛ لأنّ أكثر إقامة السّلطان عوض بن عمر كانت بحيدرآباد الدّكن في خدمة النّظام الآصفي، ثمّ نزغ الشّيطان بين السّلطان عوض وأولاد أخيه عبد الله، وهما: منصّر وحسين، وجرى بينهم ما فصّلناه ب «الأصل».

وكانت النّهاية تحكيم المنصب السّيّد أحمد بن سالم بن سقّاف، فحكم بأن لا حظّ لهم في الإمارة، وتمّ جلاؤهم عن الشّحر والغيل بمساعدة الحكومة الإنكليزيّة في سنة (1320 ه‍).

ومن العجب أنّ التّحكيم كان خاصّا بما بينهم من الدّعاوى الماليّة، ومع ذلك فقد كان الحكم شاملا للإمارة! !.

واستتبّ الأمر للسّلطان عوض بن عمر القعيطيّ، فحل حضرموت، وطلّاع نجادها، ومزلزل أوتادها.

«مدبّر ملك أيّ رأييه صارعوا *** به الخطب ردّ الخطب يدمى ويكلم »

«وظلّام أعداء إذا بدىء اعتدى *** بموجزة يرفضّ من وقعها الدّم »

«ولو بلغ الجاني أقاصي حلمه *** لأعقب بعد الحلم منه التّحلّم »

وقد أطلقنا عليه لقب السّلطان؛ لأنّه به حقيق في اتّساع ملكه، وامتداد نفوذه، وفي «الأصل» بسط الكلام عمّن يسمّى سلطانا ومن لا يسمّى.

ونزيد هنا قول الإمام الرّازيّ في تفسير قوله: (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) وهو أنّ: (من ملك بلدا صغيرا لا يحسن فيه أن يقال فيه: جلس على العرش، وإنّما يحسن ذلك فيمن ملك البلاد الشّاسعة، والأقطار الواسعة. فالعرش والكرسيّ لا يكونان إلّا عند عظمة الملك) اه

وهو لا يخرج عمّا هناك.

وللسّلطان عوض محاسن جمّة، ومناقب مهمّة، وقد حجّ في سنة (1317 ه‍)، وأظهر من التّواضع والخضوع ما يدلّ على قوّة دين، وصحّة إيمان، وأكرمه الشّريف عون الرّفيق، وأعاد له الزّيارة، فأدركته عنده نوبة صرع، فانزعج القعيطيّ، وظنّها القاضية، حتّى هدّأه أصحاب الشّريف، وقالوا له: إنّما هي عادة تعتاده من زمن قديم، وقدّم للشّريف هدايا طائلة.

ومع قرب سفره.. طلبوا منه معونة لإجراء سكّة الحديد بين الشّام والمدينة، فدفع لهم ثلاثين ألف ربيّة، فأرجعوها إليه استقلالا لها، فركب إلى المدينة على وعد الرّجوع إلى جدّة، ثمّ سار إلى الشّام، وكان آخر العهد به، وسلمت الثّلاثون ألف.

وقد سبق في حجر أنّه تعلّق بأستار الكعبة وتاب من كلّ سيّئة إلّا من فتح حجر وحضرموت.

توفّي بالهند آخر سنة (1328 ه‍)، ورثاه شيخنا العلّامة أبو بكر ابن شهاب بقصيدة حمينيّة ولكنّها مؤثّرة.

ووقع رداؤه على ولده السّلطان غالب بن عوض، وكان شهما كريما ليّن الجانب، دمث الشّمائل، وديع القلب، شريف الطّبع، وافر الحرمة، سعيد الحظّ، ميمون النّقيبة، مبسوط الكفّ، ينطبق عليه قول الطّائيّ [أبي تمّام في «ديوانه» 2 / 317 من الطّويل]:

«فتى سيط حبّ المكرمات بلحمه *** وخامره حقّ السّماح وباطله »

وقوله [في «ديوانه» 1 / 316 من الوافر]:

«له خلق نهى القرآن عنه *** وذاك عطاؤه السّرف البدار »

وقول البحتريّ [في «ديوانه» 2 / 339 من الطّويل]:

«تغطرس جود لم يملّكه وقفة *** فيختار فيها للصّنيعة موضعا»

وقوله [في «ديوانه» 1 / 63 من الطّويل]:

«إلى مسرف في الجود لو أنّ حاتما *** لديه.. لأمسى حاتم وهو عاذله »

وقول أبي الطّيّب [في «العكبريّ» 1 / 129 من الكامل]:

«ودعوه من فرط السّماح مبذّرا *** ودعوه من غصب النّفوس الغاصبا»

وفي أيّامه كانت حادثة الحموم في (27) ربيع الثّاني من سنة (1337 ه‍)، وحاصلها: أنّهم كانوا يخيفون السّابلة، والحكومة القعيطيّة تتوقّى شرّهم وتدفع لهم مواساة سنويّة يعتادونها من أيّام آل بريك.

وفي ذلك العهد انعقد الصّلح بين الحموم والحكومة القعيطيّة بدراهم بذلتها لهم الحكومة ـ لا يستهان بها ـ على العادة الجارية بينهم في ذلك، فبينا هم غارّون.. هاجمتهم سيبان، وكان لها عندهم ثار، فقتلت منهم عددا ليس بالقليل، فاتّهموا الحكومة بمساعدتهم، وظفروا بجماعة من يافع فقتلوهم، فما زال ناصر أحمد بريك أمير الشّحر يومئذ يداريهم ويستميلهم، ويظهر لهم أنّ قتلهم ليافع لم يثر حفاظه.. حتّى اجتمع منهم بالشّحر نحو من أربع مئة، وكانوا يعتدّون بأنفسهم وبهيبة الحكومة لهم.. فلم يبالوا بالدّخول من دون تجديد للصّلح الّذي وقع فيه ما وقع فألقى عليهم القبض أجمعين، وقتل سبعة وعشرين من رؤسائهم، ودفنهم في قبر واحد من غير غسل ولا صلاة ولا تكفين؛ منهم: سالم بن عليّ بن مجنّح، الملقّب (حبريش)، وحيمد بن عمرو بالفرج الغرابيّ، ومرضوح بن عوض اليمنيّ، وغيرهم. وأظهروا من الثّبات ساعة القتل ما أبقى لهم جميل الأحدوثة.

ومات في حبس القعيطيّ منهم مئة وسبعة، وأطلق بعد ذلك سراح الباقين، ولكن بعد ما وهن جانبهم، ونخرت عيدانهم، إلّا أنّ عليّ بن حبريش لم يزل يجمع جراميزه لأخذ الثّأر، ودار على حصون آل كثير فلم يجد عندهم منفعة، وإلّا.. فقد كانت بينهم وبين بعضهم أحلاف.

وبعد أن مضى لهذه الحادثة سبع سنين.. هجم على الدّيس فنهبها واستباحها، وقتل جماعة من عسكر القعيطيّ، وأسر ثمانية عشر منهم، ولم يقتل من أصحابه إلّا أربعة فقط، وطفق يتجاذب الحبال مع الدّولة القعيطيّة حتّى استعانوا عليه بالطّائرات الإنكليزيّة، فأضرّت بمكانه الواقع على مقربة من غيل ابن يمين، ولم يخضع مع ذلك.

وفي نحو سنة (1358 ه‍): كمن ولده في جماعة من الحموم بالمكان المسمّى حرو، فجاءتهم ثلّة من العساكر القعيطيّة في سيّارات، يتقدّمهم يافعيّ شجاع، يقال له: محمّد محسن السعديّ، فتبادلوا الرّصاص، لكن كانت يافع أثبت وأنفذ سلاحا، فاستأصلوهم قتلا، فانكسف بال عليّ بن حبريش، واستولى عليه الفراش، ومات غبنا.

وكان أهل الشّحر يلاقون عناء من قلّة الماء، فأجراه إليهم السّلطان غالب من تبالة، فاستراحوا بذلك.

وفي أيّامه انعقدت بينه وبين سلاطين آل كثير صاحب سيئون وصاحب تريم المعاهدة المشهورة ذات الإحدى عشرة مادّة، المحرّرة (27) شعبان سنة (1336 ه‍) وقد اعترفوا في المادّة الأولى منها بانسحاب حكم الحماية الإنكليزيّة عليهم.

ولقد بذلت جهدي في تحذير السّلاطين الكثيريّين ونصحهم عن الموافقة عليها، وذكرت لهم ما في ذلك من الوزر والخسر بما هو مبسوط في «الأصل»، ولكنّ السّيّد حسين بن حامد المحضار ألحّ في ذلك بسعي شديد، وجهد جهيد، وساعده ناس من أهل الثّروة.. فتمّ له ما أراد، ومعروف ومشهور ما لي في ذلك من المنظوم والمنثور.

وكانت بيني وبين السّلطان غالب هذا مودّة لو لا مكايدة السّيّد حسين بن حامد لها.. لكانت قويّة، وبيني وبينه مكاتبات ممتعة ذكرت بعضها في «الأصل»، ولي عليه عهود موثّقة بالنّصر على كلّ من عاداني، وبالإعفاء من الرّسوم عن ستّين طردا في كلّ عام، وبمرتّب سنويّ زهيد، ومع ذلك.. فقد كان وزيره المرحوم السّيّد حسين بن حامد المحضار يراوغني فيها، ويمانع العمل بها.

ولمّا توفّي.. أرسلتها إلى عند ولده السّيّد أبي بكر بن حسين أطالبه بإجرائها وتنفيذ ما فيها، فلم يردّها إليّ رأسا، وظنّها النّسخة الوحيدة، ولكن كانت عندي صورتها بإمضاء السّلطان غالب والسّيّد حسين، وشهادة السّيّد محمّد بن عبد الله بن هادون بن أحمد المحضار، والأمير عليّ بن صلاح، وطالما ذكّرت بها العلّامة السّلطان صالح بن غالب، فقلت له أمام الملأ: أهذه المعاهدات صحيحة معمول بها، أم تعتبر لاغية؟! فأجاب بصحّتها والتزام تنفيذها، وكان ذلك بمرأى ومسمع من وزيره المكرّم الفاضل سيف بن عليّ آل بو عليّ.

وقد تقدّمت إلى السّلطان صالح في سنة (1355 ه‍) بقصيدة [كما في «الدّيوان» ق / 167 ـ 169 من الطّويل] تزيد عن مئة وعشرين بيتا لم تعد فيها قافية، وأنشدتها له مرّات، أولاها بالمكلّا عامئذ، والثّانية بحورة في سنة (1360 ه‍)، والثّالثة بمنزلي في سنة (1365 ه‍). منها:

«وبين يدينا شرعة لا تزيدها *** تجاريب ذي عقل ولا عقد مؤتمر»

«هي القدّة المثلى العليّ منارها *** أتتنا بها غرّ الأحاديث والسّور »

«وحسبك بالإفرنج فالخطّة الّتي *** بها المشي فيما يحكمون به استمر»

«مدوّنة في الأصل من قول مالك *** وسائل تجدها في التّواريخ والسّير»

«ولكنّ أهل العلم والدّين داهنوا *** وباعوا حقوق الله بالماء والشّجر»

«فلن تلق منهم من نهى عن قبيحة *** ولا من بمعروف على مكره أمر»

«إذا انتهك الإسلام أغضى زعيمهم *** وإن أخذت شاة له اهتاج واستعر »

«فما شأنهم إلّا التّصنّع والرّيا *** وأعجب ما تلقى النّفاق لدى مضر»

«نفاق وأخلاق دقاق وذلّة *** بها شوّه الإدبار أيّامنا الأخر»

«تولّى الوفا والصّدق فاندكّ مجدهم *** وراحت عليهم كلّ مكرمة هدر»

«يقولون ما لا يعملون تصنّعا *** سواسية من قال شعرا ومن نثر»

«وقد كانت الآباء من قنّة العلا *** بشأو حثى في وجه كلّ من افتخر »

«تزلّ الوعول العصم عن قذفاتهم *** وكم من عقاب في مراقيهم انكسر »

«مضوا شهداء الحقّ في نصرة الهدى *** وما برحوا في هجرة وعلى سفر»

«ومن آل قحطان رجال على الوفا *** مضوا بسلام ذكرهم طاب واشتهر»

«إذا عاهدوا وفّوا العهود وإن دعوا *** أجابوا ولو كان الظّلام قد اعتكر»

«كرام يهابون الملام، ولذعة ال *** كلام لهم أشوى من الصّارم الذّكر »

«وجاءت خلوف سخنة العين بعدهم *** مشائيم قد ضمّوا إلى العجر البجر »

«مذاميم تطويل الإزار من العلا *** لديهم، وتصفيف الملابس والطّرر»

«إذا عقدوا عقدا وقالوا مقالة *** فلا عقدهم يرجى ولا القول يعتبر»

«فآه من الشّؤم الّذي مسّنا بهم! ! *** وآه على عقد الكرام الّذي انتثر! ! »

«ولمّا نصرت الحقّ بين بني أبي *** رأوا أنّه الذّنب الّذي ليس يغتفر»

«فدانوا ببغضي واستهانوا بحرمتي *** وكم قصدوني بالأذايا وبالضّرر»

«وكم حطّ من قدري حسود فلم ينل *** علاي لأنّي صنت نفسي عن القذر»

«فإن جاء عنّي فاسق بنميمة *** وألصق بي عيبا وأرجف وافتجر»

«فقولوا له: قابل، فذا هوّ حاضر *** وغبّ التّلاقي يعرف الصّفو والكدر»

«يعيبونني غيبا وأعلن ذمّهم *** وليس سواء من أسرّ ومن جهر»

«نناشدك الإسلام والحرمة الّتي *** نؤمّل فيها أن نلوذ إلى وزر»

«ولي بخصوصي في الذّمام وثائق *** أبوك بها ـ حيّاه مولاه ـ قد أقرّ»

«وأمضى بمرأى من رجال ومسمع *** عليها وعندي خطّه الآن مستطر»

«وأكّد إحداهنّ توقيعكم بها *** وشاع لدى أهل المدائن والوبر»

«فما بيّ من هضم يمسّ بمجدكم *** وأنت الحميّ الأنف والأمر قد ظهر»

«أترضى على هذا بواش يقول لي: *** كلام القعيطيّ الّذي قاله قصر؟! »

وكان الاقتصار أحقّ بالاختصار، لكن أخذ الكلام برقاب بعضه، واقتضاه سوق الحفيظة، والاستنجاز في هذا المعرض المناسب.

وقد توفّي السّلطان غالب بن عوض في سنة (1340 ه‍) ودفن بجانب أبيه بمقبرة أكبر شاه بحيدرآباد الدّكن.

وقد رثيته عن وجدان صحيح وودّ صادق، بقصيدة توجد بمكانها من «الدّيوان»

ورثاه شيخنا العلّامة ابن شهاب بأبيات، منها:

«جاء تاريخ موته *** عظّم الله أجركم »

وما سمعنا بسلطان بكته رعاياه بدموع حارّة، وأحزان متواصلة.. مثله، ولا جرم؛ فقد قال أبو الطّيّب [في «العكبريّ» 1 / 49 من الطّويل]:

«ومن سرّ أهل الأرض ثمّ بكى أسى *** بكى بعيون سرّها وقلوب »

وقال يزيد المهلّبيّ [من البسيط]:

«أشركتمونا جميعا في سروركم *** فلهونا إذ حزنتم غير إنصاف »

وخلفه أخوه السّلطان عمر بن عوض، وكان ثقة، حازما، صادقا، شجاعا، غيورا، وله وفادات مكرّرة إلى مكّة المعظّمة والمدينة المشرّفة، يتواتر عنه فيها ما يدلّ على صحّة الإيمان وقوّة الدّين، ولئن اتّهم بتقصير في العبادة، وانحراف في السّيرة.. فالنّدم أمارة صدق التّوبة.

وبقي على وزارته السّيّد حسين بن حامد المحضار، إلّا أنّه لم يكن في أيّامه وافر الحرمة نافذ الكلمة واسع الجاه، كما كان في أيّام السّلطان غالب الّذي لا يعترضه في أيّ أمر كان، بل يفوّض إليه الأمور تفويضا أعمى.

أمّا السّلطان عمر.. فقد أسمعه ما يكره، حتّى لقد أخبرني السّيّد محمّد بن عبد الله بن هادون بن أحمد المحضار: أنّ السّيّد حسين بن حامد قال لولده أبي بكر وهو على فراش الموت: (إنّني قتيل عمر بن عوض).

ولمّا مات السّيّد حسين في آخر سنة (1345 ه‍).. أبقى السّلطان عمر ولده أبا بكر، ثمّ عزله، ولم يثرّب عليه، ولم يؤذه في حال ولا مال.

واستوزر بعده المكرّم سالم بن أحمد القعيطيّ، وجعله موضع ثقته وأمانته.

توفّي السّلطان عمر بن عوض أواخر سنة (1354 ه‍) بحيدرآباد الدّكن، وخلفه العلّامة الجليل السّلطان صالح بن غالب، وكان غزير المادّة في العلم، كما تشهد له بذلك مؤلّفاته المنقطعة النّظير، وقد سبق في المكلّا شغفه بالعلم، وإنفاقه على المدارس ما يوازي ربع حاصلات البلاد بالتّقريب.

وقد تجدّدت بينه وبين الحكومة البريطانيّة معاهدة في الأخير ـ لعلّها في سنة (1358 ه‍) ـ قبل فيها أن يكون له مستشار إنكليزيّ، وعذره فيما يظهر: أنّ بعض آل حضرموت أكثروا الزّراية على وزارته، وتمضّغوها في الجرائد بحقّ وبغير حقّ، وأغدقوا العرائض في ذلك على دار الاعتماد بعدن، وعند ما أحسّ بالإصغاء إليها مع تردّد رجال الحكومة الإنكليزيّة إلى حضرموت ونزولهم على الرّحب والسّعة بأكثر ممّا يوافق هواهم، ويملأ رضاهم، ويوطّىء لهم المناكب، ويفتح لهم الأبواب.. لم يسعه ـ مع ما عرفه من الأحابيل المنصوبة له ولولده من بعده، مع حرصه على توثيق الأمر له ـ إلّا أن يقول بلسان حاله: (إذا سعيتم في موالاة الحكومة الإنكليزيّة برجل.. طرت فيها بجناح)، فكان ما كان، إلّا أنّه تنازل لهم عن أكثر ممّا التزمه.

ولقد كان السّلطان الكثيريّ ـ مع نزول درجته عنه وصغر مملكته بتفاوت عظيم ـ لا يزال ينازعهم، وقلّما يشتدّ في أمر إلّا وافقوه عليه، فتراه يتحمّل مع اتّساع ملكه ما لا يتحمّله الكثيريّ، والسّلطان صالح محبوب عند النّاس، مفدّى بالأرواح من سائر الأجناس:

«هو الملك الّذي جمعت عليه *** على قدر محبّات العباد»

«تولّته القلوب وبايعته *** بإخلاص النّصيحة والوداد »

وهو كآبائه، محبّ بنفسه للعدل، بعيد من الظّلم، إلّا أنّه يرخي الأعنّة للحكّام وللعمّال. وبما عرفوا من انبنائه على العفو الواسع، والحلم الشّامل.. أخذوا يتبسّطون في المظالم، ونخاف أن يخلقوا له بأعمالهم الّتي هو منها براء بغضا في القلوب من دون جناية فعلية، ولا نجاة من ذلك الخطر إلّا بأن يأخذ هو ووزيره بسيرة ابن الخطّاب في مراقبتهم وبثّ الأرصاد عليهم، حتّى إنّه ليصبح وكأنّما بات مع كلّ واحد في فراشه، تأتيه أخبارهم بدون غشّ في كلّ ممسى ومصبح، ويقول: (لو ضاعت ناقة بشاطىء الفرات.. لكان المسؤول عنها آل الخطّاب) وما يعني إلا نفسه، ويقول: (لو عثرت دابّة كانت التّبيعة عليّ)، قيل له: (ولم).. قال: (لأنّ من واجبي تعبيد الطّرقات) أو ما يقرب من هذا.

وتلك هي سيرة أزدشير بن بابك، وقد تقيّلها معاوية بن أبي سفيان، وزياد بن أبيه، فانتظمت الأمور، واندفعت الشّرور، وانعدم الجور، وإنّني لأتمنّى أن يتسمّتها هذا السّلطان ووزيره؛ لتثلج الصّدور، وتبرد الخواطر، وتبقى على انعقادها بمحبّتهم القلوب؛ إذ لا أنصر للسّلطان من أفئدة تمتلىء بودّه، وألسنة تهتف بشكره، وفّقنا الله وإيّاهم لما فيه خير الإسلام والمسلمين.

ولقد كانت الحكومة القعيطيّة في أيّام السّيّد حسين بن حامد أحبّ من جهة إلى النّاس منها اليوم، لا لأمن ينبسط، ولا لعدل ينتشر، ولا لخير يعمّ، ولا لشرّ يندفع، ولا لعطاء يرجى، ولا لسيوف تخشى، ولكن لخصلة واحدة، وهي: جبر القلوب، وأخذ الخواطر، وحلاوة اللّسان، والمقابلة بالتّرحيب والمعانقة، وإن زاد على ذلك شيئا.. فما هو إلّا كرم الضّيافة، حسبما قلت له في القصيدة الآتي خبرها في أحوال سيئون السّياسيّة [من البسيط]:

«ملكت قسرا قلوب النّاس قاطبة *** بخفّة الرّوح والأخلاق والحيل »

«وبالكلام الّذي نيط القبول به *** مع العناق لدى التّوديع والقبل »

وإنّما قلت: من جهة؛ لأنّ الجور في بعض الأماكن؛ كوادي الأيسر لعهده تكاد تنشقّ الأرض منه، وتخرّ الجبال هدّا، ومفاسد الاستبداد إذ ذاك فوق التّصوّر.

فإنكاري على عمّال الحكومة القعيطيّة جدّ شديد في جورهم وتنكّرهم للمناصب ولرؤساء يافع وآل تميم وآل كثير وغيرهم من حلفاء السّلطان القعيطيّ وأشياعه.

وقد كان السّبب الأكبر في سقوط دولة آل مروان: إدناء الأعداء، وإبعاد الأولياء؛ إذ صار الوليّ عدوّا بالإقصاء، ولم يعد العدوّ وليّا بالتّقريب.

وقد اتّفق أنّ بعض العمّال في سنة (1366 ه‍) أخذ أهل دوعن بالشّدّة والعنف، وحاول أن يضغط على سيبان وآل العموديّ والسّادة، ولم يدر أنّ الضّغط يورث الانفجار، فكانت النّتيجة أن تحالفت بطون سيبان من نوّح والحالكة والخامعة والمراشدة والقثم وآل باخشوين وآل باعمروش وآل نهيم، ودخلت معهم الدّيّن وناس من الحموم على إعلان الثّورة عندما يريد أحدهم عمّال الحكومة بالظّلم، وتعاقدوا أن لا يجيبوا باغي هضيمتهم إلّا بألسنة البنادق، وقالوا بلسان حالهم:

«إذا الملك الجبّار صعّر خدّه *** مشينا إليه بالسّيوف نخاطبه »

وعقدوا بينهم عهدا وثيقا وحلفا أكيدا، من قواعده: أن لا وفاء ولا بياض وجه لمن تأخّر عنه أو خاس به إلّا دفع ألف ريال وقتل أحد أقربائه على عوائدهم الجاهليّة.

وكان ذلك أواخر سنة (1366 ه‍) ببضه، وشهده الفاضل السّيّد علويّ بن محمّد بن أحمد المحضار، وأبو بكر بن حسين المحضار، وأحد السّادة آل البار.

فلم يكن من الحكومة إلّا أن عزلت ذلك وعملت بسياسة معاوية بن أبي سفيان؛ إذ يقول: (لو كانت بيني وبين النّاس شعرة.. لم تنقطع؛ لأنّهم إن شدّوا.. أرخيت، وإن أرخوا.. قبضت)، ونعمّا فعلت الحكومة بذلك؛ لأنّه إذا التقى السيفان.. ذهب الخيار، ولكن الصّيف ضيّعت اللّبن؛ إذ لم يكن إلّا بعد أن خسرت من الهيبة، وفقدت من الأبّهة ما لا يمكن تلافيه إلّا بتحمّل منّة تتفسّخ منها القوائم لحكومة عدن، مع أنّها كانت في غنى عن ذلك؛ لانعقاد القلوب على محبّة السّلطان، لعفّته عن أموال النّاس.. فلا يحتاج إلى العنف إلّا اللّثام الّذين لا يصلحهم غيره.

«ووضع النّدى في موضع السّيف بالعلا *** مضرّ كوضع السّيف في موضع النّدى »

ولو أنّ عمّال القعيطيّ سايسوا الكرام من سيبان والعموديّ بالرّفق.. لاستقام الحال، وانحلّ الإشكال؛ إذ الكرام كما قال الأوّل:

«قوم إذا شومسوا لجّ الشّماس بهم *** ذات العناد وإن ياسرتهم يسروا »

وقال سعيد بن ناسب [من الطّويل]:

«وما بي على من لان لي من فظاظة *** ولكنّني فظّ أبيّ على القسر»

هذا ما يحسن أن يعامل به الكرام، أمّا الرّذال.. فلا يصلحهم إلّا ضرب القذال وبمثل ذلك جاء القرآن العظيم، وسار عليه الشّارع الحكيم، ومعاذ الله أن يصلح آخر هذه الأمّة إلّا ما أصلح أوّلها، ولا معرفة لي تكفي اليوم للحكم بحال القوم، ولكنّ من يردني من آل العموديّ وآل العطّاس يحدّثني عن شهامتهم ونخوتهم بما يبعد معه أن تذلّل معاطسهم الخطم، وقد قال بعض شعرائهم المتأخّرين ـ واسمه سعيد بن سالم بانهيم المرشدي ـ:

«لا حق بامدّه ولا منقود *** ولا شريعه عند قاضي »

«لمّا يغلّق كسبي الموجود *** هفوه لهم والقلب راضي »

ولا أشنوعة عليه بالتّمدّح بالامتناع عن استدعاء القضاة؛ لأنّهم لصوص.. فله من جورهم مخرج عن هذا، وفيه شبه من قول بعض الأوائل [من الطّويل]:

«بني عمّنا لا تذكروا الشّعر بعدما *** دفنتم بصحراء الغميم القوافيا »

«فلسنا كمن كنتم تصيبون سلّة *** فنقبل ضيما أو نحكّم قاضيا »

«ولكنّ حكم السّيف فينا مسلّط *** فنرضى إذا ما أصبح السّيف راضيا »

ولا أذكر قائلها الآن، ولكنّني أعرف أنّ موسى بن المهديّ تمثّل بها لمّا جيء برأس الحسين بن عليّ بن الحسن المثنّى، وجعل يوبّخ من أسر من أصحابه ويقتلهم.

والحسين هذا هو الفخي نسبة إلى محلّ واقعته، وهو بمكّة أو قريب منها، أو هو وادي الزّاهر.. فكلّ ذلك قيل، وهي أقوال متقاربة.

ولطالما حدّثني الواردون عن شهامة أولئك، غير أنّ قياس المشاهدة على ما نعرف من قبائل بلادنا.. يجعل السّعي مهلا، والصّعب سهلا، والعسر إلى المياسرة.

وبعد أن فرغت من هذا الكتاب بشهور أخبرني غير واحد بأنّ أحد رؤساء آل ماضي ـ وكان يحطب في حبل الحكومة ـ ابتزّ امرأة رجل غائب بالهند، ولمّا حضر.. امتلأ غيظا ـ وفيما دون هذا يحمى أنف الكريم ـ فلم يبخل بالمال في سبيل غسل العار، فقتل ذلك الباغي في بلاده، واتّهم بقتله اثنان من آل باصليب، فجهّزت عليهم الحكومة نحو سبع مئة جنديّ بدبّاباتهم فما دونها من الآلات والأسلحة والعتاد، فصبر لهم رئيس آل باصليب، وكان شهما، وأبلى فيهم أحسن البلاء، ثمّ قتل، وأشبل عليه أخوه وابنه فأصيبا، ولكنّهما احتملاه، رحمة الله عليه، لقد مات شهيدا وأبقى ذكرا مجيدا:

«فتى مات بين الطّعن والضّرب ميتة *** تقوم مقام النّصر إن فاته النّصر »

«وقد كان فوت الموت سهلا فردّه *** إليه الحفاظ المرّ والخلق الوعر »

«ونفس تعاف العار حتّى كأنّما *** هو الكفر يوم الرّوع أو دونه الكفر»

وكان كلّ ذلك ـ حسبما يقال ـ بخيانة من بعض آل باصليب أنفسهم، ثمّ لم يكن من الحكومة إلّا إهانتهم، وأخذ أسلحتهم.

وبإثر هذه الحادثة تراخى أمر ذلك الحلف؛ إذ تقنّعت الأحلاف، ولم يلبّ صوت المقدّم سعيد باصليب إلّا المشاجرة، جاؤوا من يبعث ونواحيها في نحو سبع مئة رام، يتقدّمهم باشقير، ولكن بعد ما سبق السّيف العذل، وفرغوا من سعيد باصليب.. فعادوا أدارجهم.

وكان عند آل العموديّ بعض مأجوري الحكومة يشاغلونهم بالكلام، حتّى قضي الأمر، وما أظنّه إلّا يتساوى النّاس، ويصحّ القياس.

وقال الطّيّب بامخرمة في التّعريف بالشّحر: (سمّيت الشّحر بهذا الاسم لأنّ سكّانها كانوا جيلا من المهرة يسمّون: الشّحرات ـ بالفتح وسكون الحاء المهملة وفتح الرّاء، ثمّ ألف، فحذفوا الألف وكسروا الشّين، ومنهم من لم يكسرها، والكسر أكثر ـ وتسمّى: الأشحار أيضا؛ كالجمع. وتسمّى: الأشغاء؛ لأنّه كان بها واد يسمّى الأشغا، كان كثير الشّجر، وكان فيه آبار ونخيل، وكانت البلاد حوله من الجانب الشّرقيّ، والمقبرة القديمة في جانبه الغربيّ.

وتسمّى أيضا: سمعون؛ لأنّ بها واد يسمّى بذلك، والمدينة حوله من الشّرق والغرب، وشرب أهلها من آبار في سمعون. وتسمّى: الأحقاف أيضا.

وقد ذكر هذه الأسماء النّقيب أبو حنيفة، واسمه أحمد، كان من أولاد أحد تجّار عدن، ثمّ صار نقيبا لفقراء زاوية الشّيخ جوهر، ثمّ عزم إلى الشّحر، وامتدح سلطانها عبد الرّحمن بن راشد بأشعار كثيرة، معظمها على البال بال، وهو الّذي يسمّيه أهل حضرموت الدان دان.

وخرج من الشّحر جماعة من العلماء الفضلاء؛ كآل أبي شكيل، وآل السّبتيّ، وآل بن حاتم، وغيرهم. وإليها ينسب خلق كثير؛ منهم: محمّد بن معاذ الشّحريّ، سمع من أبي عبد الله الفزاريّ. والجمال محمّد بن عمر بن الأصفر الشّحريّ، سمع منه القواضي بماردين سنة «680 ه‍».

ومن شحر عمان: عمرو بن أبي عمر الشّحري، أنشد له الثّعالبيّ شعرا في «اليتيمة» اه

وقد أطلت القول على الأشحار ب «الأصل»، ومتى عرفنا أنّه من أسماء الشّحر.. انحلّ المشكل عليّ فيه، فهذا ممّا يستدرك على ما هناك.

وطالما استشكلت قولهم: (إنّ المظفّر هو الّذي جعل الشّحر مدينة)، مع عاديّ عمرانها، وتقادم أخبارها، والمفهوم: أنّها كانت مدينة عامرة ثمّ اندثرت حتّى عمّرها المظفّر، فهذا الجمع متعيّن.

ومرّ أوائل هذه المسوّدة عن ياقوت ذكر محمّد بن خويّ بن معاذ، ولكنّ الطّيّب بامخرمة نسبه إلى جدّه ولم يذكر أباه.

وقال الطّيّب أيضا في مادة (ذبحان)

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


59-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (بضه)

بضه

هي من كبريات بلاد دوعن وقداماها.

قال العلّامة السّيّد أحمد بن حسن العطّاس: (إنّها مأخوذة من بضيض الماء، يقال: بضّ الماء، إذا نزل قليلا قليلا. وعلى مقربة من حصن المنصب بها عين ماء قليل، لعلّها سمّيت بذلك من أجله) اه

وهي مقرّ مناصب آل مطهّر آل العموديّ، وحال الشّيخ سعيد بن عيسى العموديّ أشهر من أن يعرّف به، وقد توفّي سنة (671 ه‍)، وخلفه على منصبه ولده محمّد بن سعيد. ثمّ لم يزل منصبه يتوارث بين أولاده حتّى تحوّل بسعة الجاه وكثرة الأتباع ونفوذ الدّعوة إلى سلطنة، ثمّ اختلفوا وانقسموا، فكان لآل محمد بن سعيد بن عبد الله العموديّ قيدون وما نزل منها إلى الهجرين، ولآل مطهّر بضه وما حاذاها وما ارتفع عنها.

وفيهم عدّة رؤساء، منهم: آل صالح بن عبد الله في بضه، وكانت رئاستهم للشّيخ الجليل عبد الله بن صالح بعد أبيه، وقد لاقيته مرارا، ورأيت له من محاسن الأخلاق ولطف الشّمائل ما تقرّ به العين.

«له خلق سهل ونفس طباعها *** ليان ولكن عزمه من صفا صلد »

توفّي سنة (1364 ه‍) عن عمر ينيف على الثّمانين، قضاه في إكرام الضّيوف، وغوث الملهوف، ورقع الخروق، ورتق الفتوق.

وخلفه ولده النّبيل حسين، فانتهج ذلك السّبيل، وتحمّل عبء والده الثّقيل، حتّى يصحّ أن نقول في التّمثيل:

«ففي الحسين لهم من بعده خلف *** ما مثله خلف في النّاس منتخب »

«باق به لبني الأشياخ أسرته *** حمد الفعال وفضل العزّ والحسب »

«يرعى المكارم منه وارث شرفا *** بتاج والده في النّاس معتصب »

وفي بضه مثرى آل العموديّ، ولمّا سألتهم عن عددهم بها.. أجابوا بأنّهم لا يقلّون عن خمس مئة رام، يحملون الموازر الألمانيّة، لم يفرّطوا فيها، بخلاف آل حضرموت؛ فقد باعوا في أيّام المجاعة ما اشتروه بالألف الرّوبيّة منها بأقلّ من المئة، أقرّ الله عيون العروبة باجتماعهم واتّحادهم.

ولقد أعجبني ما عليه أكثرهم من الوسام وبسطة الأجسام، حتّى قلت أصف الشّيخ عبد الله بن صالح وإيّاهم في رحلتي الّتي نظمتها في سنة (1360 ه‍) [من الطّويل]:

«وذكّرني في قومه العرب الألى *** وساما وأجساما وبوعا وأذرعا»

ومن مناصبهم أو سلاطينهم في القرن التّاسع: الشّيخ عبد الله بن عثمان بن سعيد العموديّ؛ فلقد استولى سنة (837 ه‍) على الوادي الأيمن كلّه.

ومنهم في القرن العاشر: الشّيخ عثمان بن أحمد العموديّ، ممدوح الشّيخ عمر بامخرمة، بمثل قوله:

«يا عوض قل لمن كفّه غياث المساكين *** قل لعثمان وافي الذّرع شمس البراهين »

«والّذي في جبينه سرّ طه ويس *** زادك الله على مرّ الجديدين تمكين »

اذكر العهد يا ابن احمد وحصّنه تحصين

والشّيخ عثمان هذا هو الّذي تلقّى الشّيخ معروف باجمال بالصّدر الرّحب لمّا هرب من شبام في سنة (949 ه‍)، وآواه على أحسن تأهيل إلى أن مات.

ولآل العموديّ أخبار طويلة مع بدر بوطويرق ونهد وغيرهم من قبائل حضرموت، يوجد منها ب «الأصل» ما يكفي للتّعريف.

وعن الحبيب أحمد بن حسن العطّاس: (أنّه كان بدوعن جماعات من الأمراء، كلّ ينفرد بناحيته: فباقتادة بالقرين، وباعبد الله برحاب، وابن حمير بصيف، وباعويدين كان متولّيا على الأغلب من الوادي الأيسر، وكانت القويرة ونواحيها للكثيريّ، وليس للعموديّ إلّا الرّباط وبضه والجزع والعرسمة وقيدون) اه

وفي سنة (949 ه‍) نزل الشّيخ عبد الله بن أحمد العموديّ على فوّة ومعه سيبان وباهبري، وأقاموا ثلاثة أيّام، وأتلفوا أكثر من مئة عود من النّخل، ثمّ صالحهم أهل فوّة على مال دفعوه لهم، فانصرفوا إلى دوعن بعد أن ملؤوا قلوب أهل الشّحر والغيل خوفا، وهذا من الأدلّة على عدم وجود المكلّا شيئا يستحقّ الذّكر إذ ذاك.

ومنهم صاحب «المرعى الأخضر» وهو أجوبة من العلّامة الجليل السّيّد محمّد بن عبد الرّحمن بن محمّد البكريّ الصّدّيقيّ، ومن تلاميذه: العلّامة الشّهير أحمد بن حجر الهيتميّ.

وفي ذكر السّيّد الجليل عيسى بن محمّد بن أحمد الحبشيّ المتوفى في محرّم سنة (1125 ه‍) من «عقد شيخنا الأبرّ» يقول: (وانتفع به وأخذ عنه كثير من الأعيان؛ منهم: السّيّد الإمام أحمد بن زين الحبشيّ، والشّيخ الكبير عمر بن عبد القادر العموديّ، أشار على والده أن يتركه لله تعالى، وأن يعذره من كدّ الخلاء وتعب الحراثة.. فقبل الشّيخ عبد القادر رأيه، ثمّ إنّ ابنه عمر سلك وجاهد وصحب بعد ذلك سيّدنا قطب الإرشاد عبد الله الحدّاد، وكان من أمره ما كان) اه

ومنهم الشّيخ عبد الرّحمن بن عمر العموديّ أحد تلاميذ ابن حجر، وهو صاحب «حسن النّجوى فيما وقع لأهل اليمن من الفتوى».

ومنهم الشّيخ عبد الله بن محمّد العموديّ، قال في «المواهب والمنن»: إنّه كثيرا ما يقول: (الهمّة والعزم يأتيان برسل التّوفيق خير من كثير من العقل)، وهي حكمة عالية ما كنت أحسبها إلّا لبعض الفلاسفة أو لأحد رجال «الرّسالة القشيريّة».. حتّى رأيت هذا ولم آمن معه أن يكون العموديّ متمثّلا لا منشئا.

وفي (11) محرّم من سنة (965 ه‍) توفّي الشّيخ الكبير أحمد بن عثمان بن أحمد بن محمّد بن عمر بن عثمان العموديّ، المترجم له أصلا ولأبيه ضمنا في «النّور السّافر» [352].

وفي ترجمته منه يقول: (وبنو العموديّ أهل صلاح وولاية، اشتهر منهم جماعة بالعلوم الظّاهرة ومقامات الولاية الفاخرة، ويقال: إنّ نسبهم يرجع إلى أبي بكر الصّديق رضي الله عنه) اه

وقد أطلت القول عن ذلك ب «الأصل».

وترجم في «النّور السّافر» أيضا للشّيخ عبد الرّحمن بن عمر بن أحمد بن محمّد باعثمان، المتوفّى سنة (967 ه‍).

ومن غرائب الصّدف: أنّ بدر بوطويرق جهّز على العموديّ بجيش يرأسه يوسف التّركيّ، فهزمهم العموديّ وأخذ مدفعا معهم كانوا يطلقونه على عسكره، وورد به إلى صيف في سنة (955 ه‍).

وفي حدود سنة (1286 ه‍) استولى النّقيب الكساديّ على أكثر بلاد دوعن، وهزم العموديّين، ولكنّهم أعادوا الكرّة عليه فهزموه وأخذوا مدفعه، وانحدروا به إلى بضه حيث يوجد بها إلى اليوم.

وفي سنة (970 ه‍) كانت غارة الجرادف من أصحاب العموديّ، ونهبوا بيت السّيّد محمّد بن عبد الله عيديد. وقد مرّ ذكر الجرادف في غياض الشّحر. وأخبار آل العموديّ كثيرة، وقد سقنا ما وجدنا ب «الأصل».

وفي بضه كريف كبير يجتمع فيه ماء السّيل فيكفيهم تسعة أشهر أو أكثر، أظنّه من عمارة السّلطان عامر بن عبد الوهّاب صاحب اليمن وعدن، ولكنّي لم أره في مآثره، لكنّ الشّائع بين آل العموديّ ـ من قديم الزّمان إلى الآن ـ أنّ أوّل عمارة له كانت على يد سيّد من تريم، فتعيّن أنّه باساكوته؛ لأنّه الّذي عمر جامع تريم، وضمير ثبي، وكريف قيدون، على نفقة السّلطان عامر بن عبد الوهّاب صاحب اليمن وعدن، وإن لم يوجد ذكره بين مآثره في «النّور السّافر» وغيره من المظانّ الّتي بين يديّ.

ثمّ حصل فيه خلل فعمره الشّيخ عبد الله بن صالح العموديّ منصب بضه، ثمّ عمّره الشّيخ عبد القادر باياسين ساكن بضه، ثمّ أوصى له السّيّد عليّ بن جعفر بن محمّد العطّاس بما يعمره فعمره إخوانه، ثمّ عمره أولاد الشّيخين عبد الرّحمن وسعيد ابني عبد الله بن صالح.

وكان سريع التّغيّر؛ لأنّه قريب من النّخل، فكانت عروقه تنفذ إليه فتفسده.

وفي شرقيّ بضه مقبرة الشّيخ معروف باجمّال، المتوفّى بها في منفاه من بدر بوطويرق ـ حسبما تكرّر ذكره ـ سنة (969 ه‍).

وعند مقبرته حوض دون الأوّل جدّدوا عمارته في الوقت الأخير عمارة أكيدة، تصبّ فيه عيون ماء، فيكفي لضرورات آل بضه عند نفاد الأوّل.

ومن علماء بضه في القرن الحادي عشر: عمر بن محمّد خبيزان، له ذكر في «مجموع الأجداد» يأتي بعضه في سيئون.

وفي بضه كثير من السّادة آل العطّاس، منهم: الصّالح العظيم المقدار، جعفر بن محمّد بن عليّ بن حسين العطّاس، وقد اجتمعت به مرارا، آخرها بالشّحر سنة (1322 ه‍)، لمّا وردتها في طريقي إلى الحجاز لأداء حجّة الإسلام، وقد أحضرني عليه والدي بمكاننا علم بدر سنة (1306 ه‍)، فدعا لي وألبسني طاقيّته، وقال لوالدي: (هذا رأس العلم) فسرّ بذلك كثيرا، وعلّق كبريات الآمال على هذه الكلمة، نسأل الله قبول الدّعاء وتحقيق الرّجاء.

ومن فضلاء بضه اليوم: السّيّد حسين بن حامد بن عمر العطّاس، كان صحيح التّقوى، صادق الإخلاص، كثير العبادة، نقيّ الجيب، وقور الرّكن، جمّ التّواضع، نكب في حدود سنة (1337 ه‍) بقرّتي عين من أولاده، فاحتسبهم عند الله بجأش ثابت ورضا تامّ، وبال صابر.

ثافن الرّجال، وصحب أهل الكمال، وكان يتفتّح عن ثبج بحر إذا سئل عن بحر الجود المرحوم السّيّد محمّد بن طاهر الحدّاد؛ إذ كان معه في سفره إلى الهند وفي كثير من أحواله، مدّ الله في عمره ونفعنا به.

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


60-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (غيل بلخير)

غيل بلخير

قرية صغيرة فيها عين قليلة الماء، وفيها المشايخ آل بلخير، المنسوبة إليهم تلك القرية وغيلها، ومرجعهم في النّسب إلى أبي الخير ـ أحد ملوك بني عمرو بن معاوية الآتي ذكره في تريم ـ وقد نجعوا من تريم إلى الغرفة، وبها منهم بقايا، ثمّ نجع هؤلاء إلى دوعن.

ومنهم: الفاضل الشّيخ محمّد بن محمد بلخير، ورد إلى سيئون من دوعن وهو في العاشرة من عمره، فآواه والدي وتربّى في دارنا، وعنه تعلّمت والدتي ـ الشّريفة، الجليلة العفيفة، نور بنت محمّد بن سقّاف مولى خيله ـ المتوفّاة سنة (1340 ه‍) ـ الكتابة، وعليه قرأت القرآن.

وقد لبث زمنا طويلا يتعلّم الفقه والنّحو والعلوم الشّرعيّة على والدي، وعلى تلميذه وخادمه الشّيخ محمّد بن عليّ الدّثنيّ في دارنا، على نفقة والدنا.

وكان الشّيخ محمّد بلخير كثير التّوجّه والإقبال على التّعلّم، حتّى لقد التزم بطريق النّذر الشّرعيّ أن لا ينام في كلّ ليلة حتّى يحفظ صفحة من «تحفة العلّامة ابن حجر»، وكنّا نتعجّب من هذا النّذر الغريب في بابه، حتّى رأينا ما جاء في (ص 34 ج 2) من «المشرع» عن السّيّد الجليل أبي بكر العدنيّ ابن سيّدنا عبد الله العيدروس: من التزامه بطريق النّذر الشّرعيّ مطالعة شيء من «الإحياء» للغزاليّ في كلّ يوم.

وما ذكره الثعالبيّ في «اليتيمة»: أنّ ابن سكرة الهاشميّ حلف بطلاق امرأته وهي ابنة عمّه أن لا يخلي بياض يوم من هجاء القينة السّوداء المعروفة بخمرة، فكانت امرأته تجيئه بالدّواة والقرطاس كلّما انفتل من صلاة الصّبح، ثمّ لا تفارق مصلّاه حتّى يقرض في هجائها ولو بيتا.

وكان الشّيخ محمّد بلخير هذا يتناوب السّفر مع إخوانه إلى سنغافورة، ولهم هناك سدانة مشهد السّيّد الصّالح نوح بن محمّد بن أحمد الحبشيّ المتوفّى سنة (1287 ه‍).

وعلى الجملة: فآل بلخير بيت علم وعبادة، وتقوى وصلاح، وضيافة وشهامة، حسبما يليق بنسبهم الصميم.

ومن آل بلخير: الشّهم النّجيب، عبد الله بن حسن بلخير، ثقف لقف، شاعر كاتب أمين، شريف النّفس، طاهر النحيزة.

«على خير ما كان الرّجال خلاله *** وما الخير إلّا قسمة ونصيب »

أمّا عوده.. فأدب وفضل، وأمّا عرقه.. فشرف ونبل، وأمّا ثماره.. فعلم وعقل، وحسبك من نبله أنّ باكورة ثمار أدبه، ومخائل نوء فضله: كتاب «وحي الصّحراء» الّذي لا بدّ أن يرتفع عن مستواه بعد ذلك إذا بقي على ممارسة العلم والأدب، وهو الّذي اقترح عليّ تأليف هذا بإشارة وليّ عهد الحجاز ونجد، ليضمّه إلى ما ينويه من تقويم بلدان الجزيرة بأسرها.

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


61-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (جحي الخنابشة)

جحي الخنابشة

وهو قرية للخنابشة الآتي ذرو من أخبارهم في آخر قيدون؛ منهم الآن: الشّيخ عبد الله بن سعيد بن سالم الخنبشيّ، مضياف، وله مروءة.

وفيها ناس من السّادة آل مقيبل، منهم: السّيّد الغريب الحال، الطّاهر البال: عبد الله بن أبي بكر الملقّب بالنوّام، لكثرة نومه، حتّى أنّه لينام على حماره ويسقط ولا يشعر.

وله أحوال شريفة؛ منها: أنّه تذوكر إشراق النّور عند تلاوة القرآن والصّلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.. فقال: هل ينكر ذلك أحد؟! فقال الحاضرون: هل تقدر أن ترينا ذلك؟ قال: نعم، فتوضّأ وصلّى ركعتين، ثمّ أمرهم بإطفاء السّرج ـ وكان الوقت ليلا مظلما ـ وشرع يقرأ: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) فأشرق المنزل بمثل ضياء الشّمس، فبهت الحاضرون، ولمّا انتهى الخبر إلى العلّامة السّيّد عبد الله بن هادون بن أحمد المحضار.. قال لآل مقيبل: لا تلوموا صاحبكم على شرب الدّخان؛ وإلّا.. أوشك أن يطير عنكم.

وله مراء صادقة؛ منها: أنّه انتبه مرّة منزعجا يقول: قتلوه، قتلوه.. فجاء الخبر بمقتل سليم بن عيبان بالقوينص السّابق ذكر خبره في الكسر في تلك السّاعة.

ومن آل مقيبل بالجحي الآن: السّيّد حسين بن علويّ مقيبل.

ومنها: الشّيخ سعيد باحفظ الله السّابق ذكره في الرّشيد، وكان يحبّ الخير، وهو الّذي بنى جامع الجحي، وله في القراءات إتقان بديع، ومعرفة جيّدة، وهو صاحب التّاريخ الّذي أخذه باصرّة ولم يردّه، توفّي بعد الثّلاث مئة وألف.

ومنها: صاحبنا الفاضل، الشّيخ عبد الله بن سعيد باجنيد، طلب العلم بمكّة، وولي قضاء دوعن والمكلّا عدّة مرّات، ودرّس مدّة طويلة بمسيلة آل شيخ، وكان في سنة (1325 ه‍) بحوطة آل أحمد بن زين الحبشيّ يدرّس بها، وله باع في الفقه، وبضاعته مزجاة في النّحو، ومع ذلك فقد درّس فيه بالحوطة، وكان ليّن العريكة، سهل الجانب، عذب الرّوح، دمث الأخلاق، واسع الصّدر، توفّي بالجحي سنة (1359 ه‍)، وله ولد اسمه محمّد، تولّى القضاء بالمكلّا، وكان طلب العلم بمصر، ثمّ فصل عن قضاء المكلّا وجعل من أعضاء الاستئناف بها.

وآل باجنيد منتشرون في رحاب وهدون والجحي والمكلّا وعدن والحجاز، ومثراهم بالخريبة، حتّى لقد روي عن الحبيب حامد بن أحمد المحضار أنّه قال: دخلت الخريبة.. فإذا عالمها: باجنيد، وقاضيها: باجنيد، وتاجرها: باجنيد، ودلّالها: باجنيد، وقصّابها: باجنيد، ونجّارها: باجنيد، وسائر أعمالها بأيدي آل باجنيد.

وكانت الخريبة أولى بأخبارهم، ولكنّها تدحرجت علينا إلى هنا، ومنهم اليوم بعدن الشّابّ الغيور عبد الله بن سعيد بن بو بكر بن عبد الباسط، له دين متين، واهتمام بأمر المسلمين، وأخوه المكرّم محمّد، وابن عمّهم الشّيخ عبد القادر، والشّيخ جنيد بن محمّد، وكلّهم طيّبون مشكورون.

ومنهم: العلّامة الجليل الشّيخ عمر بن أبي بكر باجنيد، الغني باسمه عن كلّ تعريف وهو أحد أكابر علماء مكّة المشرّفة، بل إليه انتهت رئاسة الشّافعيّة بها بعد شيخه العلّامة الشّيخ محمّد سعيد بابصيل ـ وقد أخذنا عن الاثنين ـ توفّي الشّيخ عمر بمكّة المكرّمة سنة (1354 ه‍)، وقد سبق في الخريبة عن الحبيب أحمد بن محمّد المحضار ما يصرّح برجوع نسبهم إلى مضر.

ومن النّوادر: أنّ الشّيخ سعيد بن بو بكر باجنيد عمل للفاضل السّيّد حسين بن حامد المحضار ضيافة بداره في الخريبة سنة (1337 ه‍)، وما كاد يستقرّ به المجلس

حتّى قال له: خبّرونا عن نسبكم إلى من يرجع يا آل باجنيد، إلى الحبوش أو السّواحليّة؟ فلم يزد الشّيخ سعيد على أن قال له: هذا جزاؤنا لمّا زوّجناك وضيّفناك.

هكذا أخبرني الشّيخ عمر بن أحمد باسودان ـ وكان حاضرا ـ ولو أنّ الشّيخ سعيد بن أبي بكر حفظ شعر الحبيب أحمد المحضار السّابق في الخريبة.. لرماه بحجره.

ثمّ يأتي من قرى الوادي الأيسر عرض باقار. ثمّ عرض باهيثم. ثمّ الجديدة. ثمّ جريف، وهي قرى صغيرة كما يعرف من الإحصاء الآتي.

ومن جريف: السّيّد محمّد بن شيخ وولده علويّ، فاضلان جليلان.

ثمّ صبيخ، وهي قرية واسعة ـ كما يعرف من الكشف ـ وفيها السّيّد الجليل جعفر بن محمّد العطّاس، أحد تلاميذ العلّامة السّيّد عليّ بن حسن العطّاس وزوج إحدى بناته، وقد سبق ذكر ولده محمّد بن جعفر بغيل باوزير.

وكانت صبيخ مهد علم ومغرس معارف حتّى لقد اجتمع فيها أربعون عذراء يحفظن «إرشاد ابن المقري».

وأكثر سكّانها من آل العموديّ، ومنهم الشّيخ الوقور محمّد بن أحمد المخشّب، له مساع مشكورة في إصلاح ذات البين، وقد تزعّم حركة الإصلاح في وادي الأيسر لمّا اشتدّ عليهم الجور من أيّام الوزارة المحضاريّة، وكان الشّيخ سالم عبود بلّعمش يساعده، وهو لسانه وقلمه، وصلا معا إلى سيئون وأقاما بها نحوا من (18) يوما للمفاوضة مع المستشار.

وكانت صبيخ تحت سلطة ابن خالد العموديّ، وكان مضرب المثل في الجور والظّلم حسبما في «الأصل»، وفي ذلك يقول شاعرهم:

«يا نوب زنحي عامد الحيد البرق *** عامد في الغرفه وهي محميّه »

«لا شي عسل منّه ولا هو ذي فرق *** يرعى علوب الناس بالغصبيّه »

فأجابه بادحدح بقوله:

«الدّبر والعثّة يجيبه بالمدى *** والطير لخضر بايجيبه بالدوام »

«لا عذر ما تمسي جبوحه خاليه *** البطل ما له تاليه هو والحرام »

و (الدبر): معروف. و (العثّة) و (الطير الأخضر): آفات النّوب.

ثمّ قرى صغيرة.

ثمّ تولبة، وهي قرية متوسّطة، بينها وبين ضريح الشّيخ عمر نحو ساعة.

وفي رأس الوادي قرية على قلّة جبل مقطوع الرّأس من الجهات كلّها، لا طريق له إلّا من الجهة الغربيّة في غاية الوعورة، تتراءى ديارها الغبراء القليلة كما تتراءى طيور القطا، يقال لها: حيد الجزيل، مشهورة بزيادة حسن عسلها وهي على مقربة من ضريح الشّيخ عمر مولى خضمّ ابن الشّيخ محمّد بن سعيد العموديّ، الّذي ينسب إليه وادي الأيسر كلّه، فيقال: وادي عمر، يعنونه.

وأوّل ما يكون على يسار الدّاخل إلى وادي الأيسر: حصن الخنابشة.

ثمّ الدّوفة، وفيها السّادة آل مقيبل، يرأسهم الآن: السّيّد محمّد بن بو بكر وأخوه عبد الله.

وفيها آل العموديّ، ومنهم: الشّيخ عبد الله بن عثمان، كان الحبيب عبد الله بن علويّ الحدّاد كثير الثّناء عليه، ويقول: ما نحن مستأمنين بأهل الوديان إلّا على السّيّد حسين بن عمر العطّاس، والشّيخ عبد الله بن عثمان صاحب الدّوفة. وهو من مشايخ السّيّد عليّ بن حسن العطّاس صاحب المشهد.

ومنهم: العلّامة الشّيخ أحمد بن عبد الرّحيم العموديّ.

وفي حدود سنة (1362 ه‍) كان النّزاع قائما بين آل العموديّ آل باظفاريّ والخنابشة على جريب من الأرض، ملكه لآل باظفاريّ، ونشره للخنابشة، فخرج آل العموديّ لحرثه فمنعهم أحد الخنابشة، فلم يبالوا به، فأقبل ثلاثة نفر من الخنابشة.. لاقاهم اثنان من آل العموديّ، فاجتلدوا بالعصيّ ساعة، ثمّ لم يشعر النّاس إلّا بواحد يمكّن خنجره من خاصرة عبود بن محمّد بن العسكر العموديّ، فكانت القاضية.

واختلفت الرّواية، فقيل: إنّ عبودا هذا من المشتركين في المخاصمة على الجريب. وقيل: إنّما كان من النّظارة فقط.

وقد طلّ دمه؛ إذ لم يتعيّن القاتل بالحجّة الشّرعيّة، والتّهمة تحوم حول الخنابشة واللّوث الشّرعيّ ظاهر، ولكنّهم إمّا لا يعرفون القسامة، وإمّا لأنّهم لا يرون الأخذ بها تشفيا، وإمّا لأنّهم لا يرون لها منفذا.

ثمّ انحطّت التّهمة على سعيد بن سالم الخضر.. فأودع السّجن ثلاثة أعوام، ثمّ أطلق سراحه، ولكن! بعدما تغيّر مزاجه، وانحرفت صحّته، فلم يعش بعد تخلية سبيله إلّا مدّة يسيرة.

وكما اختلفت الرّواية في مقتل عبود.. اختلفت في مبدئه، فقيل: إنّه كمثل أخيه عثمان، على رأي الإرشاديّين، وإنّ لذلك مدخلا في قتله.

وقيل: إنّه إنّما كان يجامل أخاه بالتّظاهر بالإرشاد؛ لأنّه وليّ نعمته، وليس بالجادّ فيه.

ثمّ خيله، وهي حصون قليلة لآل بقشان، ومنهم: أحمد وعبد الله ابني سعيد بن سليمان بقشان، من الحالكة، لهم أشغال مهمّة بالحجاز، واتّصال أكيد بحكومة الملك الجليل ابن السّعود، وعليهم يعتمد في كثير من الأمور ـ وهم عرضة ذلك أمانة وكفاية ـ وهم لا يقصّرون في حمل الكلّ وإعانة المنقطع، ومساعدة المحتاج.

ثمّ حصن باخطيب.

ثمّ ضري ـ زنة (جري)، وهو مصدر (جرى) ـ وهي من أكبر بلاد الوادي الأيسر، وفيها آل علويّ بن ناصر، سادة من آل شيخان.

وفيها ناس من آل باوزير وآل بالبيد وآل باسلم، وناس من السّوقة.

وقد بتنا بها ليلة في سنة (1360 ه‍) بمنزل المكرّم الشّهم محمّد بن عوض اليافعيّ، في دار جميلة، مؤثّثة بالأثاث الطّيّب، في دار قوراء، جديدة العمارة على أحسن طراز.

ثمّ حوفة، فيها جماعة من ذرّيّة السّيّد عبد الله بن عبد الرّحمن الجفريّ.

قال شيخنا المشهور في «شمس الظّهيرة» [2 / 428]: (ومنهم الآن ـ يعني سنة (1307 ه‍) ـ: أحمد بن محمّد بن أحمد، شريف متواضع)، وهو جدّ السّيّد أحمد بن محمّد الجفريّ الّذي يعمل الآن في بير امبارك بسيئون للمكرّم سالم باحبيشيّ، وهو سيّد لطيف نشيط متواضع، مطرب الحداء، جميل الصّوت، يحفظ كثيرا من القصائد النّبويّة والصّوفيّة.

ومنهم: السّيّد صافي بن عبد الرّحمن بن صالح بن أحمد بن محمّد بن صالح بن عبد الله بن عبد الرّحمن مولى العرشة، ذكره في «شمس الظّهيرة» وقال: (إنّه ذو جاه وحشمة وثروة) اه

وقد نجع من حوفة إلى المدينة المشرّفة، ولم يكن له عمل إلّا الإنشاد على ضرب الطّار، حتّى ضمّه حفل مع شيخ السّادة بها، وهو السّيّد الجليل عبد الرّحيم بن سالم ـ الآتي ذكره في اللّسك ـ فلم يرقه أن يكون علويّ قوّالا، فأخذه إلى بيته وعاتبه.. فاعتذر بالحاجة، فقال له: الزم بيتي وأنا أكفيك المؤنة، ففعل وخدم بنشاط، فأحبّه وزوّجه من بنته آمنة، ولم يزل معه في حال طيّب حتّى جاء الأمر من السّلطان عبد المجيد باستقدام شيخ السّادة هذا، أو السّيّد المجمع على صلاحه وولايته: عمر بن عبد الله الجفريّ، للتبرّك بأحدهما والصّلاة خلفه، فلم يرغب في ذلك، ولم يكن بدّ من إجابة الطّلب.. فبعث شيخ السّادة بختنه السّيّد صافي، فكان له هناك جاه واسع حتّى إنّ السّلطان أطلق يده في تحف القصر، فكان في جملة ما أخذ: ستّة صحون من الذّهب مرصّعة بالجواهر، قوّمت في تركته باثني عشر ألف جنيه.

وبإثر رجوعه إلى المدينة.. أمر السلطان عبد المجيد بزيادته المعروفة في الحرم الشّريف، فكانت النّفقة على يد السّيّد صافي، فابتنى له عدّة قصور شاهقة، وتأثّل أموالا طائلة كان بها أغنى أهل المدينة، إلّا أنّ الأيّام تذكّره بما كان فيه أوّلا، فلم تنبسط يده في معروف، ثمّ لم يحمد المآل بينه وبين وليّ نعمته السّيّد عبد الرّحيم، فأبعده السّلطان عبد المجيد عن المدينة، ثمّ لم يقدر على الرّجوع إلّا بعد انحلال دولة السّلطان عبد المجيد بعد أن خرّف وذهب أكثر شعوره، وبها مات عن مئة وعشرين عاما.

وفيها جماعة من أعقاب السّيّد عقيل ابن سيّدنا عبد الرّحمن السّقّاف، منهم: عقيل بن أبي بكر.

ومن حوفة: آل باحبيشي، نجعوا إلى أسمرة، ومن ذرّيّتهم بها الآن أحمد وعمر وسعيد وسالم بنو عبيد باحبيشي، لهم تجارة واسعة، وثروة طائلة، ومآثر كريمة، منها: مكتبة بنوها إلى جانب جامع أسمرة، جمعوا لها نفائس الكتب وأعزّ دواوين الإسلام، ومن محاسنهم إجراء عين ماء إلى حوفة... إلى غير ذلك من مكارم الأخلاق وجلائل الأعمال، ولكبيرهم أحمد شجاعة وصرامة وشهامة، وبعد عن الذّلّ واحتمال الضّيم، ولسالم تعلّق بالصّحف والأخبار إلى تواضع عند الجميع.

وفي حوفة جماعة من آل باضريس، يتّفقون بالنّسب مع أهل الغرفة؛ منهم الشّيخ أحمد بن عمر بن عبد الله بن عليّ باضريس، كريم الخيم، نقيّ الأديم، طاهر السّيرة، أبيض السّريرة، نجع إلى مكّة المشرّفة من نحو سبع وأربعين عاما، يحترف بالتّجارة، ومع ذلك.. فقلّما فاتته فريضة في المسجد الحرام، وعليه كان نزولي في سنة (1354 ه‍)، فبالغ في راحتي، وسهر على خدمتي حتّى كأنّني في أهلي، فأسأل الله العظيم ربّ العرش الكريم أن يجازيه عنّي بأفضل الجزاء وأن يتقبّل ذلك منه بفضله وجوده.

وفي حوفة كثير من آل باعيسى العموديّين، وهي مقرّ آل بلّحمر، ومنهم: المقدّم الحاليّ سعيد بن عمر بلّحمر، صاحب الرّئاسة العامّة على جميع سيبان، وقد فصّلنا

أخباره في «الأصل» ويأتي شيء منها في قيدون.

وقد سبق في دوعن أن أحلنا على ما هنا في تسمية دوعن بهذا الاسم، قال الطّيّب بامخرمة: (ودوعان مركّب؛ ف (دو) بكلام فارس: عدد اثنين، و (عان) المعدّ المرتفع من الأودية، وهذان العانان أحدهما يمنة والآخر يسرة، فالأيمن مدينة الخريبة ـ وقد تقدّم ذكرها في حرف الخاء ـ والأيسر مدينة الدّوفة، وسيأتي ذكرها في هذا الحرف) اه

وأهل وادي ليسر ينبزون مع مأثور شجاعتهم بشيء من اللّيونة في الكلام كآل دمّون الواقعة بأسفل حضرموت، قال أحد شعراء الأيسر:

«يا الله على روس ليسر من قنيف انبطح *** تسمع رعوده كما ضفع البقر طح طح »

وقد أغفلنا كثيرا من القرى الصّغيرة في الواديين؛ لقلّة الأهميّة، ولكنّني كلّفت الولد الفاضل محمّد بن سالم بن حفيظ بن عبد الله ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم مع زيارته الأخيرة إلى دوعن أن يسأل أهل الخبرة ويكتب لي ما يتلقّاه منهم، ففعل كما تراه في الكشف الّذي يلي:

اسم البلد /عدد السّكان بالتّقريب /القبائل السّاكنة من سادة ومشايخ وغيرهم

كوكه /30/قبائل من الحالكة، يقال لهم: البلاغيث

خديش /500/سادة آل بروم، وآل العموديّ، وقبائل من الحالكة، وسوقة وغيرهم.

بلاد الماء /700/آل بروم، وآل خرد، وآل العموديّ، والحالكة، والسّوقة

بضه /3000/آل العطّاس، وآل خرد، وآل الجفريّ، وآل العموديّ، والسّوقة

حصن باعبد الصّمد /150/آل خرد، وآل العموديّ، وسوقة

الجبيل وقرن باجندوح /500/آل الشّيخ بو بكر، وآل باقيس، وقثم، ونوّح، وسوقة

مطروح /600/آل باجمّال، وقثم، ونوّح

عرض باسويد /100/نوّح

ظاهر /200/نوّح

حزم آل خالد /20/آل العموديّ

حويبة /20/أخدام آل المحضار

حلبون /500/آل باقيس، وآل باجبع، وسوقة، وعبيد

القويرة /900/آل المحضار، وآل باحسين، وآل باجبع، وسوقة

الرّشيد /1000/آل الحبشيّ، وآل باناجة، وآل بازرعة، والخامعة

باشعيب /15/الخامعة

حصن باعوم /7/آل باعوم

ذي بحور /100/مشايخ يقال لهم: آل محسن

الخريبة /3800/آل البار، وآل العطّاس، وآل الجفريّ، وآل باهارون، وآل العيدروس، وآل الجيلانيّ، وآل باسودان، وآل باراس، وآل حنشل، وآل باحويرث، وآل باجنيد، وسوقة

عرض آل منصّر /60/آل العموديّ، وسوقة

حصن خشامر /1/ليس فيه إلّا امرأة واحدة من آل العموديّ

قرن باحكيم /800/آل باحكيم، وآل باحشوان، ودار من آل العطّاس، وسوقة.

الحسوسة /40/آل باشحبل، وآل بامعلّم، وسوقة

حصن تنسبه /0/فارغ

قرحة آل باحميش /200/آل باحميش، وسوقة

غيل باحكوم /60/آل باحكوم

قرن ماجد /170/آل العموديّ، وسوقة

غيل بلخير /200/آل بلخير، وآل باطرفيّ

قارة الخزب /50/آل بافنع

خسوفر /170/آل بغلف، وسوقة

حصن الجبوب /30/قثم

هدون /600/آل باشيخ، وآل باخشوين من سيبان، وسوقة

رحاب /1100/آل الجفريّ، وآل الحبشيّ، وآل باعبد الله، وآل شماخ، وسوقة

القرين /1700/آل البار، وآل بلفقيه، وآل بامشموس، وسوقة

عورة /600/آل باصرّة، وآل باشنفر، وسوقة

الشّقّ الشّرقيّ /70/الخامعة من سيبان

باجاس /5/من سيبان

شويطة /50/من سيبان

شرق وحصن باقعر /350/آل باسودان وذيابنة، وآل بامقر، وآل بن زيد

حصن باحكيم /0/فارغ

حصن المكعمة /1/جنديّ واحد فقط

حصن باصمّ /200/آل باصم من نوّح

منوه /40/سوقة

رباط باعشن /2500/آل العطّاس، وآل الحامد، وآل الصّافي، وآل باعشن، وآل باسندوة، وسوقة

ليسر العرسمة /700/آل باشميل، والحالكة، وسوقة

جحي الخنابشة /450/آل مقيبل سادة، وآل باجنيد، والخنابشة من سيبان

عرض باقار /60/آل باقار من قبائل بني حسن

عرض باهيثم /100/آل باهيثم

الجديدة /220/الخنابشة

جريف /... /سادة من آل باصرّة، وآل باهبريّ، وسوقة

صبيخ /1000/آل العطّاس، وآل العموديّ، والحالكة، والخنابشة، وسوقة

حصن بقشان /70/آل بقشان من الحالكة

المشقعة /150/آل باوزير

حصن بعسر /40/آل بعسر من سيبان

حصن ابن العمر /50/آل باسعد من الحالكة

تولبة /500/آل باعقيل، وآل العموديّ، وسوقة

حيد الجزيل /150/آل العموديّ

حصن الخنابشة /60/الخنابشة من سيبان

الدّوفة /900/آل مقيبل، وآل جمل اللّيل، وآل العموديّ، والخنابشة، وحالكة، وسوقة

خيله /150/الحالكة من سيبان

ضري /700/آل علويّ بن ناصر، وآل باوزير، وغيرهم

حوفة وعرض الحمران /1500/آل الجفريّ، وآل السّقّاف، وآل المحضار، وآل باصرّة، وآل العطّاس، وآل العموديّ، وحالكة من سيبان، وسوقة

خليف آل باعبود /50/آل العموديّ

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


62-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (قيدون)

قيدون

هي من قدامى البلاد، وهي موطن الشّيخ الكبير سعيد بن عيسى العموديّ.

وهو والفقيه المقدّم أوّل من سلك طريق التّصوّف بحضرموت، وقد ترجمه غير واحد من أهل العلم؛ كالشّرجيّ في «طبقاته» [145 ـ 146]، واليافعيّ في «تاريخه»، وصاحب «المشرع»، وعبد الله بازرعة.

وممّن ألّف في مناقبه: الشّيخ عليّ بن عبد الله باعكابة الهيننيّ، والشّيخ عبد الله باسودان.

وكان صادعا بالحقّ، لا يخاف فيه لومة لائم، وكان كثير التّردّد على حضرموت، حتّى لقد قال السّيّد عليّ بن حسن العطّاس في كتابه «القرطاس»: (لا إله إلّا الله، عدد خروج الشّيخ سعيد بن عيسى العموديّ إلى حضرموت).

ولم يزل يسلّك الطّالبين، ويوصل الرّاغبين، إلى أن توفّي بقيدون سنة (671 ه‍)، وقصّته مع الشّيخ أحمد بن الجعد مع وصوله إلى حضرموت، مشهورة، وقد ابتلي إثرها بالجذام إلى أن وافاه الحمام.

وخلفه على منصبه ولده الشّيخ محمّد بن سعيد، وما زال أبناؤه يتوارثون منصبه حتّى انتهى إلى دولة ورئاسة دنيويّة، فاختلفوا وانقسموا؛ كما سبق في بضه.

وجرت بينهم وبين آل فارس النّهديّين، وبينهم وبين السّلطان بدر بوطويرق الكثيريّ.. حروب.

وتقلّبت بقيدون الأحوال، حتّى لقد خربت حوالي سنة (948 ه‍) من كثرة ما أخذ بدر بوطويرق الكثيريّ من أهلها من الضّرائب، ولم يبق فيها إلّا ستّة ديار، وهرب الباقون من أهلها إلى صيف. وهنا شاهد على أنّ صيفا لم تكن إذ ذاك في حوزته.

وجرت بين آل العموديّ وأعقاب بدر إلى أيّام السّلطان عمر بن جعفر الكثيريّ ـ المتوفّى بعمان أوائل القرن الثّاني عشر ـ أحوال كثيرة، ذكرنا ب «الأصل» نتفا منها كافية للتّعريف.

وفي قيدون صهريج واسع يحفظ لأهلها الماء، تنطق وثائق أوقافه أنّه من عمارة السّلطان عامر بن عبد الوهّاب الطّاهريّ السّابق ذكره في بضه، والآتي ذكره في ثبي وغيرها.

وقد أنجبت قيدون كثيرا من العلماء والفضلاء، وكان السّيّد يوسف بن عابد الحسنيّ أحد تلاميذ الشّيخ أبي بكر بن سالم يدرّس بها علم التّوحيد أوائل القرن الحادي عشر.

ومن علمائها في القرن العاشر: الشّيخ محمّد بن عمر معلّم له ذكر في «مجموع الأجداد».

والشّيخ عبد الله بن سعيد العموديّ، في أيّام القطب الحدّاد، وقد امتحنه بشرح خطبة معقّدة، فشرحها شرحا جميلا قضى له فيه القطب الحدّاد بالنّجاح.

وفيها من ذرّيّة السّيّد محمّد بن عبد الله بن علويّ الحدّاد: الفاضل الصّالح، الحسن الخطّ عمر بن أبي بكر، المتوفّى بها.

وخلفه ابنه النّاسك الكريم طاهر بن عمر الحدّاد، المتوفّى بها سنة (1319 ه‍) كان آية في حفظ القرآن، وكانت في لسانه حبسة شديدة، حتّى لقد أراد أن يعقد بإحدى بناته فلم ينطلق لسانه إلّا بعد الفراغ من الطّعام، وكانت العادة والسّنّة تقديم العقد فلم يؤخّروه إلّا اضطرارا، ولكن متى شرع في القراءة في الصّلاة.. اندفع بسرعة السّهام المرسلة.

ولمّا مات ولده محمّد.. تحاشى النّاس عن إخباره؛ لأنّه الأمر العظيم، لكنّه لم يظهر بعد ما أخبروه إلّا بأكمل ما يكون من مظاهر الرّضاء التّامّ، فلم ينزعج ولم يتغيّر، ولم يحلّ حبوته، وما زاد على الاسترجاع والاستغفار للفقيد والتّرحّم عليه، فذكرت ما رواه أبو نعيم وغيره: أنّه لمّا مات ذرّ بن عمر بن ذرّ جاء أهله يبكون إلى أبيه، فقال لهم: ما لكم؟! إنّا والله ما ظلمنا، ولا قهرنا، ولا ذهب لنا بحقّ، ولا أخطىء بنا، ولا أريد غيرنا، وما لنا على الله معتب، فلمّا وضعه في قبره.. قال: رحمك الله يا بنيّ؛ لقد كنت بي بارّا، وكنت عليك شفيقا، وما بي إليك من وحشة، ولا إلى أحد بعد الله فاقة، ولا ذهبت لنا بعزّ، ولا أبقيت علينا من ذلّ، ولقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك.. يا ذر؛ لو لا هول المطلع.. لتمنّيت ما صرت إليه، ليت شعري يا ذرّ ماذا قيل لك وماذا قلت.

وكذلك الحبيب طاهر لم يزد على التّرحّم على ولده والاستغفار له.

أمّا ولده محمّد بن طاهر الحدّاد: فقد كان طود المجد الرّاسخ، وركن الشّرف الشّامخ، تتحيّر الفصحاء في أخباره، وتندقّ أعناق الجياد في مضماره.

«متنقّل في سؤدد من سؤدد *** مثل الهلال جرى إلى استكماله »

لم يزل يتوقّل إلى العلا، ويتسوّر إلى الشرف.

«ويبيت يحلم بالمكارم والعلا *** حتّى يكون المجد جلّ منامه »

لا يصعد قلّة.. إلّا تسنّم ذراها، ثمّ اندفع إلى ما وراها.

«ما زال يسبق حتّى قال حاسده: *** له طريق إلى العلياء مختصر »

ينقطع دونه الكلام، وتتحيّر في وصفه الأقلام.

«لم أجر غاية فكري منه في صفة *** إلّا وجدت مداها غاية الأبد »

له همم تنفسخ منها الجبال، فضلا عن قوائم الرّجال.

«همّة تنطح النّجوم بروقي *** ها وعزّ يقلقل الأجبالا »

وقد بلغ من شهامته وكبر همّته أنّه كان يحاول إغناء العلويّين بحضرموت من أدناها إلى أقصاها مع تحمّله من الدّيون الّتي أثقلت كاهله ولذاك، أشار عليه أبوه ـ من أجلها ـ أن يتوجّه إلى حيدرآباد، وكان له بها قدر عظيم، وشأن فخيم، وأسلم على يده كثير من النّاس، إلّا أنّه كان بين جنبيه نفس عظيمة، غالى بها عن الكرام حتّى لم يكن الطّغرّائيّ إلّا كالسّوقة في جنب الملك حيث يقول:

«غالى بنفسي عرفاني بقيمتها *** فصنتها عن رخيص القدر مبتذل »

فوقع بذلك وبموافقته للعلّامتين أبي بكر بن شهاب ومحمّد بن عقيل في الإعراض عن السّلطان عوض بن عمر أن لاقاه، واستعدّ لإنزاله في قصره، وعمل لقدومه ضيافة عظيمة، فتركها وكان في ذلك تمهيد السّبيل لمن كان يحسده من العلويّين ففتلوا في الذّرى والغوارب لفشله.. فلم يقع له ما يروم من أمله ولم يتيّسر قضاء دينه إلّا بعد انقضاء أجله، ومنهم حسبما يتعالم النّاس: حسين وحسين وأبو حسين ـ ولا أدري كم عددهم يومئذ؛ فإنّ المنايا تخطّفتهم، والبلدان توزّعتهم؛ فهم أقلّ بكثير ممّا انتهوا إليه سنة (1202 ه‍) إذ بلغ عددهم بالتّحقيق يومئذ عشرة آلاف نفس.

في «تاريخ ابن حميد»: (أنّ القطب الحدّاد أشار بإحصاء العلويّين في سنة (1118 ه‍)؛ لدراهم وصلت من الهند على اسمهم، فبلغوا نحوا من ألفين بعدّ الصّغار والكبار والذّكور والإناث، من السّوم شرقا.. إلى هينن غربا).

والعجب أنّهم لم يدخلوا دوعن في حضرموت في هذا العدّ، فلعلّ الدّراهم مخصوصة بأهل هذه النّاحية، وإلّا.. أشكل الأمر.

وأمّا في سنة (1202 ه‍).. فقد بلغ عددهم عشرة آلاف؛ إذ جاءت صلة صاحب المغرب ودفعوا لمن بدوعن ومن بالشّحر ومن بأسفل حضرموت حسبما فصّلناه بالجزء الأوّل من «الأصل» ولا إشكال؛ لأنّ الاعتبار إنّما هو بما انحطّ عليه اعتمادهم بإجماعهم آخرا، وقد أحضرت الأنفس الشّحّ في صلة المغربيّ، وهي متأخّرة عن تلك، والعلماء في أيّامها أكثر، ولا شكّ أنّهم مطّلعون على ما كان أيّام القطب الحدّاد من مثل ذلك فلا مجال للشّكّ، لا سيّما وأنّ القطب الحدّاد من أهل الاجتهاد لا يتقيّد بمنقول المذهب بخلافهم.

ومن كتاب سيّره السّيّد عليّ بن شيخ بن محمّد بن شهاب للشّريف سرور بن مساعد بن حسن صاحب مكّة بتاريخ (1199 ه‍) يقول: وصلت الدّراهم وقدرها ثمانون ألف ريال وفرّقت على جميع السادة القاطنين بحضرموت من ثمانية ريالات إلّا ربع، وتحديد حضرموت من عين بامعبد إلى ظفار.

وقد اتفق العلويون إذ ذاك على تفويض الأمر في قبض الدراهم وتحرير مشجّر للعلويّين ـ على حسابها ـ إلى السّيّد عليّ بن شيخ بن شهاب.

وأمضى في أعلى المسطور السّادة: سالم بن أحمد ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم وأحمد بن عبد الله بن محمّد بن عليّ العيدروس، وصادق بن شيخ العيدروس، وسالم بن صالح العطّاس، وحسين بن علويّ، وهاشم، وحسين وعبد الله ابنا أحمد، وحسين وزين وأحمد بنو حسين بن أبي بكر، وأحمد وعليّ ابنا محسن، وأبو بكر بن عليّ، وكافّة آل حسين بن عليّ العيدروس.

وفي أسفله: حسين بن أحمد بن سهل جمل اللّيل، وأحمد بن حسن بن عبد الله الحدّاد، وعمر بن أحمد بن حسن بن عبد الله الحدّاد، ومحمّد بن حسن بن محمّد مولى خيله، ومحمّد بن أبي بكر العيدروس، وإسماعيل بن عيدروس بن عليّ بن عمر بن حسين، وعليّ بن شيخ بن شهاب، وطالب بن حسين بن عمر العطّاس، وعبد الرّحمن ابن حسين العطّاس، وعمر بن سقّاف بن محمّد بن عمر بن طه، وهادون بن عليّ الجنيد، وأحمد بن جعفر بن أحمد بن زين الحبشيّ، وعبد القادر بن جعفر بن أحمد بن زين الحبشيّ، وخادم الشّرع بتريم عمر بن إبراهيم المؤذّن بافضل، وطالب بن عوض بن يحيى، والمكتوب إليهم من أمين الدّراهم عبد الله بن حسين بن سهل، وسالم بن أحمد بن عليّ ابن الشّيخ أبي بكر، ومحمّد بن أبي بكر بن محمّد بن عبد الرّحمن العيدروس، ومحمّد بن عبد الرّحمن العيدروس، وأحمد بن حسن بن عبد الله الحدّاد، وحامد بن عمر بن حامد، وعليّ بن شيخ بن شهاب.

وفي حدود سنة (1311 ه‍) أصفق العلويّون ـ ومنهم سيّدنا الأستاذ الأبرّ فمن دونه ـ على تقديم صاحب التّرجمة السّيّد محمّد بن طاهر الحدّاد، فوضعوا في كفّه لواء نقابتهم، وعلى رأسه عصابة شرفهم، وعلى منكبه رداء زعامتهم، وأسجلوا له بذلك على أنفسهم، وكتبوا له عهدا وثيقا، فكان كما قال ذو الرّمّة [في «ديوانه» 119 من الطّويل]:

«وما زلت تسمو للمعالي وتجتني *** جنى المجد مذ شدّت عليك المآزر »

«إلى أن بلغت الأربعين فأسندت *** إليك جماهير الأمور الأكابر»

«فأحكمتها لا أنت في الحكم عاجز *** ولا أنت فيها عن هدى الحقّ جائر»

وقد جرت بينه وبين العلّامة السّيّد عليّ بن محمّد الحبشيّ مناقضات، منها: أنّ هذا جزم في كتاب سيّره إليه بدخوله تحت دائرته وإن لم يشعر، فأنكر الأوّل ذلك ـ وكان يتواضع أشدّ التّواضع بين يدي أستاذنا وأستاذه الأبرّ عيدروس بن عمر ـ وتقدّم إليه بأسئلة جزلة تدلّ على صدق حال وغزارة مادّة، فأجابه الأستاذ بأفضل جواب.

وجرت بينه وبين علّامة جاوة السّيّد عثمان بن عبد الله بن عقيل بن يحيى محاورات في الأوتار؛ لأنّ الأوّل يحضرها والسّيّد عثمان يشتدّ في منعها، وقد بسطت القول عن هذه المسألة في «بلابل التّغريد» بما لا يوجد في سواه.

وقد كان ما اشتهر من محاسن هذا الإمام، وملأ سمع الأرض وبصرها.. يملأ قلبي حسرة؛ إذ لم يقدّر لي الاجتماع به، مع أنّه قدم ذات المرّات إلى سيئون وأنا موجود، وقلّ من زارها من أهل الفضل إلّا زار والدي في مكانه علم بدر الّذي انجمع فيه بالآخرة عن النّاس. بل لا يوجد من يتخلّف عنه سوى من كان يتودّد إلى طائفة باطويح القاعدين بكلّ مرصد يصدّون البسطاء عن سبيله وعن سبيل سيّدنا الأستاذ الأبرّ ومن على شاكلتهم، ومعاذ الله أن يتأثّر بكلامهم السّيّد محمّد بن طاهر، وهو الّذي لا يقعقع له بالشّنان، ولكنّني لا أحفظ زيارته لوالدي مع أنّي لم أفارقه إلّا للحجّ في سنة (1322 ه‍)، وما كنت لأنسى زيارته لوالدي لو كانت، وأنا أحفظ كلّ من زاره من أهل الفضل منذ الرّابعة من عمري؛ لأنّه يقدّمني إليهم ـ ليبرّكوا عليّ ويلبسوني ولأقرأ عليهم شيئا من القرآن أو حديث معاذ في العلم وعلّ وصوله حضرموت صادف مرضي الشّديد في سنة (1313 ه‍)؛ فإن كان كذلك.. فقد انحلّ الإشكال ـ إلّا أنّه يبلّ من غليل تلك الحسرة ما كان يمثّله لنا السّيّد عبد القادر بن محمّد السّقّاف ـ الآتي ذكره ـ من كلامه وقراءته ومشيته.

ثمّ انحدر بعد ذلك إلى جاوة، وأدركته المنيّة بالتّقّل ـ إحدى مدنها ـ في سنة (1316 ه‍)، عن اثنين وأربعين ربيعا، فكان أكبر من قول حبيب [أبي تمّام في «ديوانه» 2 / 217 من الطّويل]:

«فتى سيط حبّ المكرمات بلحمه *** وخامره حقّ السّماح وباطله »

«فتى جاءه مقداره، واثنتا العلا *** يداه، وعشر المكرمات أنامله »

«فتى ينفح الأيّام من طيب ذكره *** ثناء كأنّ العنبر الورد شامله »

وقد زرت قبره، وألفيت عليه من المهابة والجلال ما ذكّرني بقول الأوّل [من الطّويل]:

«على قبره بين القبور مهابة *** كما قبله كانت على ساكن القبر»

وبإثره تقيّض فريقه، وانتهج طريقه ولده الفاضل علويّ؛ فلقد أحيا قدّته، وأظهر جدّته، وأطال مدّته، وأعاد جوده ونجدته، فما زال طويل العماد، كثير الرّماد، فحماد له حماد.

«تنميه في قلل المكارم والعلا *** زهر لزهر أبوّة وجدود »

«فرع من النّبع الشّريف إذا هم *** نسبوا وفلقة ذلك الجلمود»

ويذكر أخوه الحسين بجود غزير، وفضل كبير، يأتي فيه بحقّ قول الشّريف الرّضيّ [في «ديوانه» 2 / 8 من البسيط]:

«لو أنّ عين أبيه اليوم ناظرة *** تعجّب الأصل ممّا أثمر الطّرف »

ومن الأسف أن تستأثر جاوة بأمثالهم، لكنّ الأمر كما قال حافظ [في «ديوانه» 1 / 269 من البسيط]:

«كم غادة في ظلام اللّيل باكية *** على أليف لها يهوي به الطّلب »

«لو لا طلاب العلا لم يبتغوا بدلا *** من طيب ريّاك لكنّ العلا تعب »

وفي قيدون جماعة من ذرّيّة السّيّد عمر بن علويّ بن محمّد بن أحمد الحدّاد، أخي القطب الحدّاد، منهم:

الصّالح الفاضل السّيّد عبد الله بن طه بن عبد الله، له أحوال غريبة، ودعاء مستجاب، يأخذه عند ذكر الموت حال عظيم يخرجه عن حسّه ويذهب به هائما على وجهه.

وعلى قريب من حاله كان ولده الدّاعي إلى الله محمّد، المتوفّى بسيئون في أوائل سنة (1324 ه‍).

وكان عيشه على قدم التّوكّل، ولا تخلو عصمته عن أربع زوجات، وله نوادر، منها:

أنّه تعشّى عند أمّه في حوطة آل أحمد بن زين، فقال: أريد السّمر عند بعض الإخوان.

فقالت: خذ مفتاح الدّار معك؛ حتّى لا توقظني بقرع الباب.

فعنّ له أن يذهب إلى الفجير على نحو تسعة أميال من الحوطة ودون الميل من سيئون، وكره أن يزعج أهل الفجير بالقرع، فعمد لجذع طويل ألفاه هناك، فتسلّق عليه منزل زوجته ابنة السّيّد شيخ بن أبي بكر مولى خيله، ولمّا قضى وطره منها.. عنّ له أن يذهب إلى سيئون، فحمل الجذع وتسوّر به على بيت امرأته الأخرى بسيئون ـ وهي أمّ السّيّدين: إبراهيم وموسى آل الحبشيّ ـ ولمّا أخذ مأربه منها.. ردّ الجذع إلى موضعه بالفجير، ثمّ سرى، ولمّا كان بالغرفة.. دخل جامعها وتطهّر وتهجّد ما شاء، ثمّ سرى إلى الحوطة، فلمّا وصلها.. عرف أنّه نسي مفتاح الدّار بجامع الغرفة، فرجع أدراجه وأخذه من الميضأة، وسار إلى الحوطة، ولم يصلها إلّا بعد مطلع الفجر.

ومن نوادره: أنّ زوجته الّتي بسيئون هي بنت عمّه، واسمها: شيخة بنت محمد الحدّاد، وكان كلّما زارها.. وجد عندها ابنيها إبراهيم وموسى ابني عمر بن شيخ بن هاشم بن محمّد بن أحمد الحبشيّ.. فلم يتمكّن من الخلوة بها، حتّى جاشت نفسه ذات يوم، فقال:

«خيره في العشق لي *** فيه النّكد والنّغص »

«حلّيت في حصن لكن *** فيه جملة لصص »

«خليّ خلي لي ول *** كنّه شرد وافتحص »

«جفل كما الصيد لا *** قد شاف همزة مقص »

«ولو معي قرش باقنص *** مثل من قد قنص »

وكان وجد منها فرصة، ولمّا جلس بين شعبها.. أحسّت بقدومهما، فنهضت من تحته فقال الأبيات.. فأجابته من حينها بقولها:

«قال ابن هاشم من ال *** مولى هي الّا حصص »

«لو حد قسم غير ربّي *** قلت قسمي نقص »

«لو كنت عاشق دهنت *** السير وارميت خص »

«لا جبت لي شرك في *** قادم ولا جبت قص »

«من يطعم الخيل وكّب *** به إذا شا ورصّ »

«كانّك بغيته على *** ذا الشور والّا خلص »

وذكرت عند هذا أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم كلّما دخل على أمّ سلمة بإثر بنائه عليها.. بكت بنتها، فأخذت تعلّلها بالرّضاعة حتّى أخذها عمّار بن ياسر ـ وكان لها محرما ـ وقال: لقد حرمت هذه المقبوحة المشقوحة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ممّا يريد.

ومن ذرّيّة السّيّد عبد الله بن طه بقيدون: السّيّدان الجليلان: الواعظ العابد الصّالح عبد الله بن طاهر. والعلّامة الجليل علويّ بن طاهر، علم علوم، ونبراس فهوم.

«ويكنى باسمه عن فضل علم *** وكلّ اسم كنايته فلان »

فهو الخطيب المصقع، والفقيه المحقّق، والمحدّث النّقّاد، وله في التّفسير الفهم الوقّاد، ومؤلّفاته شاهدة وآثاره ناطقة، ولم أعرف مبلغ معرفته بالفقه، إلّا أنّه اختلف من نحو ثلاثين عاما هو والقاضي الشّيخ عبد الله سعيد باجنيد في مسألة في الشّفعة، وكتب في ذلك رسالة أسهب فيها حتّى انتهى إلى الثّناء على السّيّد الفاضل حسن بن عبد الله الكاف، ولمّا رفع إليّ كلام الاثنين للنّظر أظنّني ـ والعهد بعيد ـ رجّحت كلام القاضي، فرأيت منه جفوة من حينئذ ما كان له أن يتحمّلها؛ إذ لم يزل العلماء بين رادّ ومردود عليه، لكنّ الإنصاف عزيز، ولهذا لم أعامله بمثلها كما يعرف النّاس، وإن انضمّ إلى ذلك اختلاف الآراء بشأن الرّابطة حسبما فصّل ب «الأصل».

وكان على الإفتاء في بلاد جهور من ناحية الملايا، ثمّ انفصل في أيّام الحرب المشؤومة اليابانيّة.

وسبب كونهم بقيدون ما أخبرني به قاضي الحوطة الأسبق الفاضل السّيّد عبد الله بن حسين بن عبد الله الحبشيّ: أنّ جدّه لأمّه شفاء وهو السّيّد عبد الله بن طه بن عبد الله بن طه بن عمر بن علويّ الحدّاد ـ السّابق ذكر تردّده إلى هناك ـ حمل معه ابنه طاهرا، فتزوّج على الشّريفة شفاء بنت عيسى أخت الحبيب عبد الرّحمن بن عيسى الحبشيّ، وأولدها عبد الله في سنة (1296 ه‍)، وعلويّا في سنة (1301 ه‍)، وفي نفاسها به مرّ عليه في قيدون عمّه جعفر بن طه ـ الآتي ذكره في الحاوي ـ وقال له: لماذا تجلس بقيدون تضع الأولاد؟! فتعال معي إلى جاوة، ففعل، ومات بعد وصوله بشهر ونصف شهر، فعاشا في كنف أمّهما وأبيها، وكانت أمّ أعمامهم محمّد وحسن وعليّ ـ وهي سعديّة بنت الحبيب محمّد بن أحمد بن جعفر بن أحمد بن زين الحبشيّ ـ تبعث لهم بالمواساة، ولمّا يفع عبد الله.. نجع إليها بحوطة آل أحمد بن زين، فكفلته، وكان يتردّد إلى الغرفة؛ فله أخذ عن الأستاذ الأبرّ الحبيب عيدروس بن عمر، ولمّا استغلظ علويّ.. قدم عليها أيضا، فآوته؛ إلّا أنّها شغلته بالخدمة حتّى أنّها لا تمكّنه من حضور الرّوحة بالحوطة. هذا آخر كلام القاضي عبد الله بن حسين.

وأشهر أولاد عبد الله بن طه حالا، وأعلاهم كعبا، وأكثرهم جمالا: هو شيخنا صاحب النّفس الأبيّة، والهمم العليّة، والشّهامة والأريحيّة، كثير العبادة والتّلاوة والأذكار، ظاهر السّيادة والسّعادة والأنوار، صالح بن عبد الله، زرته بداره في نصاب آخر سنة (1349 ه‍) فأجلّني وأكرمني وألبسني وأجازني وشابكني ودعا لي بدعوات عظيمة.

وممّن بقيدون من السّادة: آل بافقيه، وقد مرّ في الخريبة ذكر السّيّد أبي بكر بن محمّد بافقيه، وأثنى عليه شيخنا المشهور في «شمس الظّهيرة»، وقال: «إنّه توفّي بقيدون في سنة (1053 ه‍) ».

ثمّ رأيت الشّليّ ترجم له في «مشرعه» وأطنب في الثناء عليه، وذكر له علما جمّا وفضلا كثيرا.

وبقيدون جماعة من ذرّيّة السّيّد عمر بن عبد الرّحمن بن عقيل بن عبد الرّحمن السّقّاف، وهم: آل باعقيل:

منهم: السّيّد الصّالح عبد الرّحمن، صاحب المشهد المعروف بصيف، توفّي ببضه منقرضا.

ومنهم: السّيّد عمر بن علويّ باعقيل، جمع ثروة طائلة بسربايا من أرض جاوة، ولم ينس حقّ الله فيها، من إعانة الضّعيف، وإغاثة اللهيف، وبقي مع كثرة أمواله على حاله من التّواضع، توفّي بسربايا، لعلّه في سنة (1328 ه‍)، وخلّف أولادا، منهم: محمّد، السّابق خبره في الضّليعة.

ومنهم: أحمد، قتله السّيّد محمّد بن عبد الله بن عمر البارّ ظهر النّهار علنا، وهو راكب سيّارته في الطّريق العامّة بسربايا.

ومنهم: محسن وحسين، قامت بينهم منازعات تلفت فيها أكثر أموالهم. وقد سبق في خبر محمّد أنّ إخوانه دفعوا عنه بأمره خمسين ألف روبيّة للقعيطيّ، وهي الّتي توقّف إطلاقه من السّجن على دفعها، وقد تعهّد محمّد بتسليم مقابلها، وأعطاهم وثيقة بذلك وهو مختار، وعلّق طلاق نسائه بالثّلاث بتأخّره عن دفعها لهم مدّة معيّنة بعد القدرة، مضت تلك المدّة وهو رخيّ الخناق، وبقي مع نسائه مع عدم عذره في المطل، ولمّا وصلت سربايا سنة (1349 ه‍).. سألني أصهاره من بني عمّه.. فأفتيتهم بنفوذ الطّلاق.

ومنهم: السّيّد النّزيه النّديم، الخفيف النّسيم، صاحب النّوادر اللّطيفة، والحالات الشّريفة، عبد القادر بن محمّد السّقّاف، وهو من المعمّرين، عاش في أكناف الأكابر، وحظي باعتنائهم وصحّة ولائهم، وله دالّة عظيمة عليهم، وكثيرا ما يمثّل هيآتهم وأصواتهم وقراءاتهم، وكيفيّات مشيهم وحركاتهم، فيخفّف من حسرتنا على عدم الاجتماع بكثير منهم؛ كسيّدي طاهر بن عمر الحّداد، وابنه محمّد، وسادتي: عمر بن هادون، ومحمّد بن صالح، وعمر بن صالح، وأمثالهم. وفي ذلك التّمثيل نوع من الوصال ليس بالقليل، وهو الآن بمكّة المشرّفة على ضيافة صاحب المروءة الشّيخ عبد الله سرور الصّبّان، أحسن الله جزاءه.

وفي قيدون جماعة من السّادة آل الحبشيّ، من آخرهم: الفاضل الجليل، السّيّد عبد الرّحمن بن عيسى الحبشيّ، كان على قضائها في سنة (1329 ه‍) وعنده علم غزير، وتواضع كثير، ونزاهة تامّة، وصدر واسع، وجانب سهل.

وآل قيدون يتعالمون بأخبار كبيرة عن نجاح الشّيخ أحمد بن سعيد باداهية في علاج الأمراض بطبّه العربيّ، لو لا انتهاؤها إلى التّواتر المعنويّ.. لكذّبناها؛ لأنّها ممّا تدهش العقول.

وفي قيدون عدد ليس بالقليل من حفّاظ كتاب الله، وبينما أنا مرّة عند السّيّد حسين بن حامد المحضار بالمكلّا.. ورد شيخ من آل العموديّ، يقال له: بن حسن، عليه زيّ البادية، فإذا به يحفظ كتاب الله ويجيد قراءته! ولمّا اشتدّ إعجابي به.. قال لي العمّ حسين: لكنّه سارق! فسألته، فقال: نعم إنّي لأحد جماعة من الحفّاظ، إذا كان من أوّل اللّيل.. سرقنا رأس غنم على أحد أهل قيدون واشتويناه، ثمّ إذا كان من آخر اللّيل.. سرنا إلى الجامع نتدارس آيات القرآن بظهر الغيب.

وما أدري أقال ذلك مازحا، ليوافق هوى الوالد حسين، أم عن حقيقة؟ غير أنّني عند هذا تذكّرت ثلاثة أمور:

الأوّل: ما جاء في «مسند الإمام أحمد» [2 / 247] ونصّه: حدّثني عبد الله، حدّثني أبي، حدّثنا وكيع، حدّثنا الأعمش، قال: أنبأنا أبو صالح، عن أبي هريرة قال: (جاء رجل إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: إنّ فلانا يصلّي باللّيل، فإذا أصبح.. سرق! قال: «إنّه سينهاه ما تقول») وهذا السّند جيّد.

الثّاني: لمّا كنت بسربايا في سنة (1349 ه‍).. حضر مجلسنا رجل أصله من مكّة، يقال له: محمود، فقرأ لنا حصّة من الكتاب العزيز بصوت جميل كاد يقتلع قلبي من مكانه، فطربت لذلك، وأمرتهم بالاكتتاب له، فقالوا: إنّه يشرب الخمر! فقلت لهم: إنّ من أدرج كتاب الله بين جنبيه، وحبّره هذا التّحبير.. لجدير أن لا يموت إلّا على حسن الختام، وذكرت الحديث، فاكتتبوا له على قدر هممهم بنحو من ثلاث مئة ربيّة.

والثّالث: قول النّجاشيّ الحارثيّ يهجو أهل الكوفة [من البسيط]:

«إذا سقى الله قوما صوب غادية *** فلا سقى الله أهل الكوفة المطرا»

«التّاركين على طهر نساءهم *** والنّاكحين بشطّي دجلة البقرا»

«والسّارقين إذا ما جنّ ليلهم *** والدّارسين إذا ما أصبحوا السّورا»

«ألق العداوة والبغضاء بينهم *** حتّى يكونوا لمن عاداهم جزرا»

وما إخاله في ذلك بارّا ولا راشدا، وكيف يصدق وقد بلغ به الفسوق إلى انتهاك حرمة رمضان بالسّكر في أوّل يوم منه، فحدّه مولانا عليّ بن أبي طالب وزاده عشرين فانسلّ إلى معاوية مع أحد نهد في خبر طويل ذكره شارح «النّهج».

وقد قال سفيان بن عيينة: (خذوا الحلال والحرام عن أهل الكوفة).

ومن النّوادر: ما أخبرني به منصب المشهد السيّد أحمد بن حسين: أنّ العبيد بدوعن ـ وفيهم كثرة لذلك العهد ـ يجتمعون ويتبعهم العتقاء لزيارة الشّيخ سعيد بن عيسى في آخر جمعة من رجب، ويدخلون والخطيب في خطبته بطبولهم ومزاميرهم، فقام لهم مرّة أحد آل العموديّ فكسرها عليهم، وهمّوا بقتله لكنّهم احترموه لأنّ خاله الشّيخ عمر بن عبد القادر العلّامة المشهور الشّبيه الحال بالشّيخ بامخرمة، ولكنّهم أجمعوا على الجلاء واجتمعوا بالسّويدا ـ وهي نخيل قيدون ـ فقال بعضهم: إنّ بالسّويدا رجالا.

وبينا هم معسكرون هناك للرّحيل بقضّهم وقضيضهم ـ وقد عجز أهل دوعن عن صدّهم، مع أنّ أكثر أعمالهم وخدمهم متوقّفة عليهم ـ.. إذ جاء العلّامة السّيّد عليّ بن حسن العطّاس فسار إليهم ـ ومعه الشّيخ عمر بن عبد القادر العموديّ ـ وأعطاهم البنّ

ليطبخوا القهوة، وسألهم عن شأنهم فأخبروه، فقال لهم: لا تطيب لنا الأرض من بعدكم فسنرحل معا، وما زال يلاينهم حتّى تمّ الأمر على أن تبقى زيارتهم بحالها وعلى أن تحبسوا الشّيخ الّذي كسر طبولهم شهرا، وسوّيت القضيّة.

ثمّ إنّ الشّيخ عمر بن عبد القادر ـ أحد تلاميذ الأستاذ الحدّاد ـ قد قيل له: إنّ الشّيخ عمر بن عبد القادر يريد أن يكون مثل بامخرمة، فقال الأستاذ الحدّاد: إنّه لأعظم حالا منه، وكان يستعمل السّماع إذا وصل كحلان، أمّا في تريم.. فلا؛ أدبا. وقال مرّة للحبيب عليّ بن حسن العطّاس: ما قصرن إلّا القحيبات؛ يعني: البغايا.

وقد ترجمه السّيّد عليّ بن حسن العطّاس وبالغ في الثّناء عليه، وترجمه أيضا الشّيخ محمّد بن ياسين باقيس، وكانت وفاته سنة (1147 ه‍)، وهو من أهل التّخريب، وذكره الشّيخ عبد الله بن أحمد باسودان في مواضع من كتبه ك «جواهر الأنفاس» وغيره.

عود إلى أخبار آل العموديّ ورئاستهم بعد انقسامهم: قد مرّ في بضه أنّ الكساديّ استولى على أكثر دوعن في حدود سنة (1286 ه‍)، غير أنّ العموديّين اجتمعوا إثر اغتيال الكساديّ أحد المشايخ، وهو الشّيخ محمّد بن شيخ العموديّ، في سنة (1288 ه‍)، ونجعوا بالرّئاسة العامّة للشّيخ صالح بن عبد الله العموديّ، فتحمّل أثقالا فادحة، عهّد من أجلها أموالا طائلة بسهوة السّابق ذكرها في مرخة، وساعدهم جميع قبائلهم من القثم وسيبان والمراشدة والجعدة وغيرهم، فأيّدهم الله على عدوّهم، فأصبحوا ظاهرين، ولكن لم تأت سنة (1300 ه‍) إلّا ووادي دوعن، حسبما قال الإمام المحضار [من مجزوء الرّجز]:

«انظر إلى الوادي فقد *** حلّت به السّبع الشّداد»

«الأخمعي والمرشدي *** هم والقثم بئس المهاد»

«والدّيّني والمشجري *** هو والعبيدي لا يعاد»

«وابن مطهّر سابع ال *** غلمه وهو رأس الفساد»

«الله يهديهم ويه *** دينا إلى طرق الرّشاد»

«والّا ينظّفهم من ال *** وادي ويجعلهم بعاد»

وقد سبق في بضه أنّهم منقسمون إلى قسمين: آل محمّد بن سعيد، ولهم قيدون وما نزل عنها إلى الهجرين.

وآل مطهّر، ولهم بضه وما إليها. وكان فيهم عدّة مناصب:

آل صالح بن عبد الله، ببضه. والشّيخ عبد الرّحمن بن عليّ بن عبد الكريم صاحب شرق، على مقربة من الخريبة. والشّيخ سعيد بن محمّد بن منصّر صاحب العرض، بالخريبة أيضا. والشّيخ محمّد باعمر صاحب البراز، قريبا من القرين.

وبينهم من المنافسات ما لا تبرك عليه الإبل، وكلّ منهم يوضع في سبيل الجور والظّلم، فلم يكن من أحد آل باسودان وأحد آل باعبيد.. إلّا أن رفعا شكوى إلى القعيطيّ بالمكلّا على الشّيخ عبد الرّحمن بن عليّ بن عبد الكريم، فاستدعاه القعيطيّ، فركب إليه مجلّلا محترما، ولم يزل في مفاوضة معه حتّى تمّ الكلام على أن تكون الرّئاسة العامّة للقعيطيّ، ولابن عبد الكريم استقلال داخليّ في الخريبة وأعمالها ضمن دائرة العدل، وعلى أن ليس له أن يأخذ شيئا من الرّسوم سوى مئتي ريال شهريّا.

وقبض إزاء ذلك الصّلح من يد القعيطيّ ما لا يستهان به من الدّراهم، وما كاد يصل إلى الخريبة حتّى حبس باسودان وباعبيد، فاغتاظ السّلطان غالب بن عوض القعيطيّ، ورأى أنّ شرفه مسّ، وأنّ المعاهدة انخرمت بحبس ذينك، وكره أن يتعجّل بعقوبة ابن عبد الكريم، فأشار على الشّيخ صالح بن عبد الله أن يعذر إليه، فأرسل بأخيه عبد الرّحمن، وبالسّادة: حامد بن أحمد المحضار، وحسين بن محمّد البارّ، وحسين بن عمر بن هادون صاحب المشهد، فلم يقبل ابن عبد الكريم لهم كلاما.

واتّفق أن وصل الشّيخ عليّ بن محمّد بن منصّر إلى المكلّا يتذمّر من مخالفة القعيطيّ لابن عبد الكريم، فصادف سخطة القعيطيّ على الثّاني، فحالف ابن منصّر بشرط أن يساعده على ابن عبد الكريم، وما كاد يرجع إلى مكانه العرض.. حتّى أذكى نار الحرب على ابن عبد الكريم، وجاءته نجدة القعيطيّ بقيادة عبد الله بن امبارك القعيطيّ، فلم يثبت ابن عبد الكريم إلّا نحوا من أربعين يوما، ثمّ هرب إلى جهة القبلة، فصادف أحد زعماء العموديّين، وهو: الشّيخ محمّد بن عبد الرّبّ، فجمع له عسكرا كثيفا هاجم به الخريبة فاستولى عليها، ودارت المفاوضات بينه وبين ابن منصّر صاحب العرض فانضمّ إليه، وعند ذلك تراجعت عساكر القعيطيّ إلى الهجرين، وغضب السّلطان غالب لذلك، وأرسل عسكرا مجرا بقيادة عبد الخالق ابن الماس عمر مولاهم، ولاقاه صلاح بن محمّد القعيطيّ ـ من القطن ـ مددا له بمن كان معه، وبفلول العساكر الّتي بالهجرين، وعند ذلك قالوا لآل العموديّ: اهبطوا منها جميعا، فانهزموا ولم يجدوا لهم ملجأ ولا مدّخرا إلّا الشّيخ صالح بن عبد الله العموديّ المحافظ على محايدته، فنزلوا عليه.. فآواهم، وكان ذلك في سنة (1317 ه‍).

وكان من رأي الأمير صلاح بن محمّد وعبد الخالق أن يطاردوهم وينتزعوهم من بضه، لكنّ السّلطان غالب بن عوض كان كريما، يجلّ الكرام، فنهاهم عن ذلك احتراما للشّيخ صالح بن عبد الله، وبإثر ذلك انتحر عبد الخالق الماس في القويرة، ولم تطل أيّام الأمير صلاح.. بل مات وشيكا في سنة (1318 ه‍). وب «الأصل» تفصيل تلك الحوادث.

وأسند القعيطيّ عمالة وادي الأيمن للمقدّم عمر بن أحمد باصرّة، وكان ما قد أسلفناه في عوره، وبعد أن استولى القعيطيّ على الوادي الأيمن.. حمل المقدّم باصرّة كلّ أسلحة الدّهاء لحمل القعيطيّ على التهام الوادي الأيسر، ولم يزل يتحيّن الفرص للوثوب عليه؛ لما في قلبه من البغضة للحالكة.

وكانت رئاسة الوادي الأيسر لآل الشّيخ محمّد بن سعيد ولقبائلهم الحالكة، ومن مناصبهم: الشّيخ محمّد عبود القحوم، السّابق ذكره في قرن ماجد، وله بلاد الماء وخديش وقرن ماجد، وهو من الوادي الأيمن، وله العرسمة ونصف صبيخ، وهي من الأيسر.

ومنهم: الشّيخ حسن بن بدر، وله صيف وفيل.

ومنهم: الشّيخ أحمد بن حسين بن عبد الله بن محمّد، وله حوفة وضري وتولبة.

ومنهم: الشّيخ عبد الله بن قاسم بن عبد الله بن محمّد، وله العرض، ونصف صبيخ مثرى القحوم.

ومنهم: الشّيخ حسين بن محسن، وعمر بن عبد الله، ولهم حيد الجزيل.

وأوّل ما انفتح الباب لباصرّة إلى الوادي الأيسر: شرّ حدث بين الخنابشة وآل باهبري، سببه: أنّ أحمد بن سالم باشجيرة الخنبشيّ تزوّج امرأة من آل باهبري، يقال لها: قمر، بدون رضا من بني عمّها، فبينما امرأة من الخنابشة تستقي من غيل جريف.. إذ عمد لها بعض آل باهبريّ فأراق ماءها، فخفّت إلى أهلها، فكانت بينهم وقعتان، قتل في الأولى عمر بن سالم الخنبشيّ، وفي الثّانية أخوه عبد الله بن سالم الخنبشيّ، وكان ذلك أوائل سنة (1322 ه‍)، فخاف آل باهبريّ من الخنابشة، وكان شيخ قبائل الحالكة كلّها المقدّم عمر بن أحمد بلحمر، فلجأ إليه آل باهبريّ، فأعطاهم بعض رجاله بصفة الخفارة، فسقط في يد الخنابشة، وأيقنوا بتعذّر الثّأر، فاستعانوا بالمقدّم عمر بن أحمد باصرّة، وكان ينظر إلى واديهم نظر الجزّار إلى التّيس، وتحالفوا معه سرّا حلفا هجوميّا دفاعيّا، آثروا التّكتّم به؛ لئلّا ينتبه آل باهبريّ فيأخذوا حذرهم، ولمّا ظهر لهم قاتل أحد إخوانهم.. أطلقوا عليه الرّصاص فنضخ دمه في ثياب بلحمر، فاستشاط المقدّم عمر بن أحمد بلحمر، وأحاط بجحي الخنابشة، ولمّا اشتدّ الأمر.. أمدّهم باصرّة بأربع مئة مقاتل، فأبلعوهم الرّيق.

وفي سنة (1325 ه‍) سار بلحمر وأهل ليسر ـ ومنهم: آل بقشان، ورؤساء الحالكة، والشّيخ أحمد بن حسين العموديّ ـ إلى المكلّا، وحالفوا القعيطيّ وأعطوه الوادي، وأعلنوا ذلك بالأسواق، ففتّ بذلك في أعضاد الخنابشة؛ إذ لا يستطيعون مقاومة بلحمر إلّا بالقعيطيّ، ومتى حالفه.. ماذا يفعلون؟ فبقوا ساكتين حتّى نزغ الشّيطان بينهم، ونشبت الحرب مرّة أخرى، وسرعان ما انعقد الصّلح بين الخنابشة وبلحمر على أن لا تكون مساعدة من القعيطيّ للخنبشيّ في مدّة الصّلح، ولمّا انتهى.. حصلت مساعدة قليلة استمرّ بها الخنبشيّ على الحرب عشرة أشهر، ولمّا اشتدّ الحصر على الخنابشة بالجحي.. جاءت نجدة المكلّا، وتقدّم باصرّة من الوادي الأيمن، وأحاط بالعرسمة فسلّمت في سنة (1328 ه‍)، ثمّ سلّمت الجديدة، ثمّ صبيخ، ثمّ جريف، ثمّ الدّوفة.

ثمّ انعقد الصّلح بين القعيطيّ والحالكة على بقائهم بمساكنهم وأموالهم في الوادي الأيسر مجلّين محترمين، إلّا أنّ المقدّم عمر بن أحمد بلحمر لم يطب له المقام مكتوف اليد، فذهب إلى سيئون ثمّ إلى وادي العين ثمّ إلى ريدة الجوهيّين ثمّ إلى لبنة بارشيد عند نوّح، فلم يعثر بطائل فعاد إلى بلاده، وأجرى له السّلطان غالب بن عوض ما يكفيه، وتفصيل هذه الأخبار ب «الأصل».

ومن وراء قيدون عدّة قرى وشراج، ومنها:

مسه، وهي قرية صغيرة على يسار الذّاهب إلى دوعن، يسكنها ناس قليل من آل بامحرز، وفيها غيل جار، عليه نخيل لآل بامحرز ولآل العموديّ، وعليه تزرع الخضراوات، وحواليها كانت وقعة مسه، وحاصلها: أنّ السّلطان عيسى بن بدر بن عليّ بن عبد الله بن عمر بن بدر بوطويرق أغرى ولده جعفرا على الشّيخ محمّد بن مطهّر العموديّ في ألف وثمان مئة.. فلاقاه العموديّ في عدد قليل، ولمّا رأى عسكر جعفر.. انهزم، فتبعه عسكر جعفر، ثمّ لم يشعروا إلا بكمين من العموديّ يركب أكتافهم، ويفعل بهم الأفاعيل، وفرّ الأمير جعفر بمن بقي معه إلى الهجرين، وفي ذلك يقول شاعرهم:

سبعة ومئتين غلبوا سبعة عشر مية

وكان ذلك في حدود سنة (1115 ه‍) كما فصّل ب «الأصل».

ومنها: نسرة، فيها آثار ديار قديمة، وقد بني فيها مسجد ومدرسة على نفقة الشّيخ أحمد بن مساعد ـ أو مداعس ـ الموجود الآن فيما يقال بالحديدة.

وقد رجوت أن يحصل من هذه المدرسة ما كنت أؤمّله؛ إذ لا يرجى الخير من مدرسة يختلط أبناؤها بالأوساط الفاسدة، وإنّما يرجى من مدرسة داخليّة ينتخب لها معلّمون صالحون، على أبلغ ما يكون من النّزاهة والتّقوى، حسبما اقترحته على السّلطان القعيطيّ في أواخر ذكر المكلّا؛ لأنّ الخلطة الدّاء، وإنّما التّلميذ هو ظلّ المعلّم.. ينحو نحوه، ويقتصّ أثره، ولكن بلغني ـ ويا للأسف ـ أنّ تلك المدرسة أقفلت، وطاحت تلك العبارات، وفنيت تلك الإشارات، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله، وما شاء الله.. كان، وما لم يشأ.. لم يكن.

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


63-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (عرض آل مخاشن)

عرض آل مخاشن

هو من وراء النّقعة في شرقيّها، وهم من مذحج، من أعقاب عمرو بن معديكرب الزّبيديّ، إلّا أنّهم قد ينطبق عليهم قول الشّاعر [من الوافر]:

«ورثنا المجد عن آباء صدق *** أسأنا في ديارهم الصّنيعا»

«إذا الحسب الصّميم تداولته *** بناة السّوء أو شك أن يضيعا»

ولهم شارات حسنة، وقامات مديدة؛ إلّا أنّهم لم يسلموا ممّا وصل إليه قبائل حضرموت عامّة من التّراذل والتّخاذل؛ لأنّ الشّرّ عمّ، والبلاء قد طمّ، وعلى من كان جدّه سعد العشيرة.. أن ينتبه لنفسه، وأن يعتبر بماضيه.

وفي «الأصل»: أنّ الشّيخ عمر بن عبد الله باوزير كاتب عليهم إذ لم يساعدوه بنقير ولا قطمير في بناء ضمير حوره، مع أنّه ينفعهم؛ إذ لم يحرمهم الشّيخ من السّقيا مع عدم استحقاقهم لشيء منها.

وقد كان أصل الحرب الأخيرة الّتي التهمت الأخضر واليابس لنهد: أنّ خميس بن عبد الله بن عمر ـ أحد آل ثابت ـ قتل اثنين من آل البقريّ في بحران، في حرمات ثلاث لم يبال بشيء منها؛ الأولى: أنّه في شهر المشهد، وهو شهر الميلاد النّبويّ، والثّانية: أنّهما كانا إلى جانب السّيّد عبد الله بن عمر العيدروس، والثّالثة: أنّ معهما واحدا من آل عجّاج، وواحدا من آل مخاشن.

فأمّا آل عجّاج: فحميت أنوفهم، وأذكوا نار الحرب حتّى غسلوا العار بالدّماء.

وأمّا آل مخاشن: فلم يشتركوا في الحرب؛ لأنّ السّعيد من كفي بغيره، ولأنّ أكبر العار في أعرافهم إنّما يتناول الأقرب ـ كما سيأتي في القارة ـ وابن عجّاج هو الأدنى في النّسب إلى آل ثابت.

وقد بقي منهم جماعة على النّخوة العربيّة، والأنفة المذحجيّة، منهم اليوم:

عبد الله بن سعيد بن مخاشن، ومحمّد عمرو بن مخاشن، وأظنّهما الآن في مقدشوه.

ومن أولي نجدتهم الشّيخ عمر بن عمرو، وهو شيخ شهم، نجذته الحروب، وحنّكته التّجارب، وعرك أذن الزّمان، وتعمّر حتّى نيّف على الثّمانين ممتّعا بالقوّة والحواسّ، ولم يمت إلّا في سنة (1361 ه‍)، فكان كدريد بن الصّمّة؛ إذ تركه قومه وانصرفوا عن رأيه إلى رأي مالك بن عوف النّصريّ، فكانت الدّبرة عليهم في يوم حنين.

وإلّا.. فقد كانت لعمر وأبيه عمرو قبولة حارّة على عادات الجاهليّة الجهلاء، منها: أنّ أحد آل مخاشن ـ واسمه قعاص ـ جاء بأموال طائلة من الهند، وما له إلّا ولد صغير، فخاف على نفسه أن يقتله قومه ليستأثروا بماله.. فطلب من نهد أن يعطوه خفيرا يأمن به عادية أصحابه، فأعطوه واحدا من آل شريشر، ونادوا في الأسواق بأنّه في جوارهم، فلم يكن من عمرو إلّا أن اقتحم داره في جماعة من أصحابه، فقتلوا قعاصا وولده وخفيره، فهاجت نهد وحاصرت عمرا، فثبت وانسلّ عنه أكثر آل مخاشن، إذ كانت فعلته شنيعة.

وما زالت نهد مجدّة في حصار عمرو.. حتّى قتل أحد أسرته المرابطين معه، فرأت نهد أنّ العار انمحى عنها وانصرفت، وفي ذلك يقول أحد نهد:

«يا العرض عربن لي ومدّ القاديه *** والّا دخلنا لك بدحنات الرّجال »

«تمسي بك الفتنه وتصبح غاديه *** مثل المسقّي في المطيره ما يزال »

فأجابه عمرو بقوله:

«العرض عاصي ما يمدّ القاديه *** قل للحكم نعطيك شنطوب الجبال »

«ما انته من القوم القروم العاديه *** إبليس غوّز لك ويفحس لك حبال »

وفي عرض آل مخاشن كانت روضتهم الّتي يقول فيها الأخطل [في «ديوانه» بنحوه 283 من الطويل]:

«لها مربع بالرّوض روض مخلّق *** ومنزلة لم يبق إلّا طلولها»

وقد حصل ب «الأصل» انتقال فكر، فذكرنا هذه الرّوضة في منوب، وإنّما الّتي فيها روضة هطيف.. فهي ممّا يستدرك من رياض العرب على ياقوت.

ومن أيّام العرب: يوم مخاشن، وفيه يقول جرير [في «ديوانه» 381 من الكامل]

«لو أنّ جمعهم غداة مخاشن *** يرمى به جبل لكاد يزول »

وكان عمرو بن معديكرب يقيم بالكسر كثيرا، وذلك لا ينافي قول الهمدانيّ في «الصّفة»: (إنّ له بتثليث حصنا ونخلا) اه؛ لأنّه كان كثير التّنقّل والغزو على عادة العرب، وكانت المواصلات كثيرة ـ وسيأتي قبيل هينن قرب تثليث ـ ولا سيّما بمراحل الأقدمين.

وعمرو بن معديكرب فارس اليمن، وهو القائل: (لو سرت بظعينة وحدي على مياه معدّ كلّها.. ما خفت أن أغلب عليها، ما لم يلقني حرّاها أو عبداها)؛ يعني بالحرّين: عامر بن الطفيل وعتيبة بن الحارث بن شهاب، والعبدين: السّليك وأسود بني عبس. وبه ضرب أبو تمّام المثل في قوله [في «ديوانه» 1 / 368 من الكامل]:

«إقدام عمرو في سماحة حاتم *** في حلم أحنف في ذكاء إياس »

وأبو عبادة في قوله [في «ديوانه» 2 / 311 من الكامل]:

«يهديهم الأسد المطاع كأنّه *** يوم ازدحام الجحفل المتألّف »

«عمرو القنا في مذحج أو حاتم *** في طيّء أو عامر في خندف »

ومع ذلك فقد كانت له هنات؛ منها: ما ذكره الهمدانيّ في الجزء العاشر [ص 187] من «الإكليل»: أنّ بني الأصيد ـ وهم قبيلة قليلة من سفيان بن أرحب ـ لقوه، فسلبوه وأخذوا فرسه، فلم يستح أن كتب لهم يقول [من الرّمل]:

«يا بني الأصيد ردّوا فرسي *** إنّما يفعل هذا بالذّليل »

«عوّدوه مثل ما عوّدته *** مقحم الصّفّ وإيطاء القتيل »

وفي «مروج الذّهب»: أنّ عمر بن الخطّاب آنس عمرا ذات يوم، وذاكره الحروب في الجاهليّة، وقال له: هل انصرفت عن فارس قطّ في الجاهليّة؟ فذكر له فرّة فرّها عن ربيعة بن مكدم في حديث طويل، قال: ثمّ إنّ عمرا أغار بعد ذلك بزمان على كنانة في صناديد قومه وأخذ الغنائم، ومنها امرأة ربيعة بن مكدم، فشعر بهم ـ وكان غير بعيد ـ فاستردّها وهزمهم.

وله وفادة على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قيل: مع الأشعث كما في «الأصل»، وقيل: لنفسه، ثمّ رجع إلى قومه.

ولمّا مصّرت الكوفة.. أقام بها، وكان له نبأ مذكور في حرب القادسيّة، وأخباره مشهورة.

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


64-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (صوران)

صوران

هي في شرقيّ القارة وقعوضه، وعلى بعض أحجاره كتابات كثيرة بالمسند، ولها ذكر كثير في التّاريخ.

وقد جاء ذكرها في شعر أبي تمّام، حيث يقول في هجاء عيّاش بن لهيعة [في «ديوانه» 2 / 263 من الكامل]:

«والمدّعي (صوران) منزل جدّه *** قل لي: لمن أهناس والفيّوم؟»

وكانت تظهر بها نار يعبدها كثير من الحضرميّين.

وقال ياقوت: (صوران قرية للحضارمة باليمن، بينها وبين صنعاء اثنا عشر ميلا، خرجت منها نار فثارت الحجارة وحرق الشّجر، حتّى احترقت الجنّة المذكورة في قوله تعالى: (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) وإليها ينسب سليمان بن زياد بن ربيعة بن نعيم الحضرميّ الصّورانيّ، مات سنة (216 ه‍)، وابنه أبو يحيى غوث بن سليمان، ولي قضاء مصر. وأبو زمعة، عرابيّ بن معاوية، وابنه زمعة روى عن أبيه وغيره) اه

وقد ترجم الحافظ لسليمان بن زياد في «تهذيب التّهذيب» [4 / 168]، وأخرج له ابن ماجه، والتّرمذيّ في «الشّمائل»، ووثّقه يحيى بن معين.

وقد أخطأ ياقوت في قوله: (إنّ بينها وبين صنعاء اثنا عشر ميلا)؛ لأنّ المسافة أكثر من ذلك، كما سبق في شبوة، ولا يمكن تأويلها ب (يوما)؛ لأنّ المسافة أقلّ من ذلك، إلّا أنّها تقارب ذلك، بل تزيد عليه بالمراحل القصيرة الآن الّتي عليها العمل.

وقد توهّم صاحب «التّاج» أنّها مصحّفة عن ضوران، وكأنّه لم يطّلع على ما في «المعجم».

وبعد هذا كلّه عرفت أنّ ياقوت وصاحب «التّاج» وكثيرا من المفسرين خبطوا في ضروان خبطا كثيرا، والّذي أصاب كبد الحقيقة فيهما إنّما هو ابن كثير؛ إذ قال في تفسير سورة (ن): (إنّ أهل الجنّتين كانوا من أهل اليمن، قال سعيد بن جبير رضي الله عنه: كانوا من قرية يقال لها: ضروان، على ستّة أميال من صنعاء. ثمّ نقل عن مجاهد أنّ حرثهم كان عنبا) اه

فإنّه موافق لقول الهمدانيّ في الجزء الثّامن [ص 67] من «الإكليل»: (ومخرج النّار من آخر ضروان على ما يقول علماء اليمن. والجنّة اقتصّ الله تعالى خبرها في سورة «ن») اه

وموافق لما يحدّث به من شاهد أنّها على ثلاث ساعات ونصف تقريبا من صنعاء.

ومن أثر احتراقها بالنّار الباقي إلى اليوم: خفّة حجارتها؛ لما أخذ من ثقالها الاحتراق حتّى صارت قريبا من الحجارة الّتي تحرق للنّورة في خفّتها.

أمّا البغويّ: فقد قارب ولم يبعد إلّا في قوله: (إنّها على فرسخين من صنعاء) وقوله: (إنّ حرثهم كان نخلا)، وليست بذات نخل.

وأمّا ضوران: فغير ضروان، وإنّما هو كما قال الهمدانيّ في ذلك الجزء: (جبل أنس بن الهان بن مالك بن ربيعة أخي همدان، وهو جبل منيف فوق بكيل) اه

وأمّا ياقوت.. فقد خلط صوران الحضرميّة بضروان الصّنعانيّة.

ونار صوران على ما يقول الحضارمة: متكرّرة تعبد، بخلاف نار ضروان الصّنعانيّة فإنّها ظهرت لإحراق الجنّتين، فليعلم ذلك، والله أعلم بحقيقة الحال.

ومن نيران العرب: نار الحرتين، قالوا: كانت في بلاد عبس إذا كان اللّيل.. سطعت نارا، ومتى جاء النّهار.. ارتفعت دخانا، وربّما خرج منها عنق فأحرق من يمرّ بها، فحفر لها خالد بن سنان ودفنها، فكانت معجزة له.

وقال ابن قتيبة: كانت نار بأشواف اليمن، لها سدنة، إذا تفاقم الأمر بين القوم فحلف بها.. انقطع بينهم، وكان اسمها الهولة، ويقال لها أيضا: هولة.

قال الكميت [من الطّويل]:

«هم خوّفونا بالعمى هوّة الرّدى *** كما شبّ نار الحالفين المهوّل »

وقال أوس بن حجر [من الطّويل]:

«إذا استقبلته الشّمس صدّ بوجهه *** كما صدّ عن نار المهوّل حالف »

وكان السّادن عندما يأتي الحالف.. يضع فيها الكبريت والملح فتتنغّص، فيقول: لقد تهدّدتك، فإن كان مريبا.. نكل، وإن كان بريئا.. حلف ومثله عن ابن قتيبة أيضا في [7 / 152] من «خزانة الأدب».

ومن قرى الكسر: (حرّة العين) لآل البقريّ، أهل شهامة ومروءة، لهم ثروة بجاوة.

ومن شراج الكسر: الرّملة، للسّادة آل العيدروس، وآل جذنان، وآل بايعشوت.

ومن قراه: المنبعث، وإليها انتقل كثير ممّن يسكن المخينيق بعد خرابه؛ كآل بو عسكر، وآل بو عيران، ومنهم: الشّابّ الأديب، عبد اللّطيف بن منصور بن خميس بو عيران، أحد أمناء القصر السّلطانيّ بالمكلّا منذ ثلاث وعشرين سنة، ومثله في صدق إخلاصه للسّلطان لا بدّ أن يكون عرضة مرامي أهل الغشّ؛ ليخلو لهم وجهه.

وفي غربيّ العجلانيّة إلى الجنوب: آثار قرية المخينيق. البالية.

والعجلانيّة لآل عمر بن جعفر الكثيريّين، موصوفين بشدّة البخل، لا يقرون ضيفا، ولا يؤوون طارقا، وهي بسفح الجبل الذّاهب إلى جهة الجنوب، وقد مرّ في قرن ابن عدوان من قرى وادي عمد عن الهمدانيّ أنّه قال: إن عمرو بن مرّة أولد قبائل بحضرموت؛ منهم العجلان، وإليه تنسب العجلانيّة بحضرموت اه فلعل هذه على اسمهم.

وفي شرقيّ قعوضة وشمال الطّريق المارّة في الكسر: حصن آل كوير، ورئيسهم الآن بمقدشوه: محمّد بن عبد الله بن كوير، وابناه ـ سعيد وعليّ ـ يبذلون المعروف، ويكرمون الضّيوف، ويحملون الكلّ، ويعينون على نوائب الحقّ، ولا ينصرف عنهم العفاة بمقدشوه إلّا رافعي عقائر الشّكر والثّناء عليهم.

وعندهم أعمال تجاريّة بمقدشوه، ولهم مركز في المكلّا إلّا أنّني نصحت سعيدا عمّا يحاوله من احتكار الأسماك إذا كان فيه إضرار بالصّيّادين ومضايقة لأهل السّاحل في حضرموت، فقال: ليس فيه إلّا خصبهم ومصلحتهم، والله أعلم بحقيقة الحال.

وفي حصنهم بحضرموت جماعة، يرأسهم سعيد بن أحمد بن كوير.

ثمّ: الوجيب، وفيه الشّراشرة من نهد. ثمّ: الخديد، لآل محمّد بن عامر، وهم من الشّراشرة.

وعلى شمال الخديد: جوة آل مهنّا، من نهد، رئيسهم: امبارك بن يسلم وعامر بن سالم.

وفي شرقيّ الجوّة المذكورة: شعب آل نهيد، ومقدّمهم: امبارك بن أحمد.

ثمّ: عنيبدة، لآل محمّد بن عامر من نهد، مقدّمهم: سعيد بن عبد الله من الشّراشرة.

ثمّ: ركيكة، للشّراشرة أيضا. ثمّ: غصيص، لآل محمّد بن عامر، وآل بني شبيب.

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


65-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (عرض مسرور)

عرض مسرور

هو أرض واسعة في جنوب الجبل الشّماليّ عن شبام، في غربيّها مفتك وادي سر، وكانت لآل سالم بن زيمة الكثيريّين.

ولمّا استولى السّلطان الكثيريّ على أموال بني بكر بمريمه، بعد إبعادهم عنها في سنة (1284 ه‍) حسبما تقدّم في ذكرهم.. حصل من السّلطان القعيطيّ ردّ فعل، فطرد آل سالم بن زيمة من عرض مسرور.

وفي جانبه الغربيّ: حويلة آل الشّيخ عليّ، وفيها آل نهيم، من المشايخ آل باوزير، لا يزيد رجالهم بها اليوم عن خمسة عشر، وآل حويل من آل كثير، ومن بقاياهم بها الآن نحو خمسة رجال بعائلاتهم.

وفي شرقيّ حويلة: مصنعة آل سالم بن عليّ وآل عبد الله بن عليّ. وفي جانبه الشّرقيّ: حصون آل الشّيخ أحمد بن عليّ أيضا، ولا تزال بينهم خماشات؛ وأمّا آل سالم بن حسين بن يحيى بن هرهرة.. فكانت ديارهم في وسط سيئون، وكانت لهم رئاسة شهارة بسيئون والسّوق، وكان سكن رئيسهم ـ بل رئيس آل الظّبي بسيئون: الشّيخ صالح بن سالم الشّرفيّ ـ: حصن الدّويل بسيئون، ولمّا زالوا عنها.. انتقلوا أوّلا، ثمّ ابتنوا لهم حصونا بالقطن، بين آل الفضليّ وآل المصلّي، وما بها منهم الآن غير الأطفال والنساء، وأمّا الرّجال ف (بجاوة).

وآل الشّيخ عليّ كلّهم مساعير حرب، وأباة ذلّ، وحماة حقائق، ينطبق على جدّهم قول أبي تمّام [في «ديوانه»: 1 / 229 من الكامل]:

«أكفاءهم تلد الرّجال وإنّما *** ولد الحتوف أساودا وأسودا»

وهذا البيت من البدائع، وقد تحرّش به الرّضيّ فيما يأتي عنه في حصن العزّ ولهم أخبار كثيرة في «الأصل».

وكان بينهم وبين جدّنا العلّامة الإمام محسن عداء وسوء تفاهم، أراد الماس عمر مولى القعيطيّ بدهائه ـ الّذي تتمزّق به سحب المشكلات ـ أن يزيله.. فلم يقدر، ولو نجح.. لما قامت لآل كثير قائمة قطّ.

وعدد آل الشّيخ عليّ هؤلاء لا يزال قليلا، لكنّهم كما قال أبو تمّام من القصيدة الأخرى [في «ديوانه»: 1 / 244 من البسيط]:

«فلّوا ولكنّهم طابوا فأنجدهم *** جيش من الصّبر لا يحصى له عدد »

«إذا رأوا للمنايا عارضا.. لبسوا *** من اليقين دروعا ما لها زرد »

«نأوا عن المصرخ الأدنى فليس لهم *** إلّا السّيوف على أعدائهم مدد »

ومن أخبار آل سالم بن عليّ ـ وهم صالح بن سالم وحسين بن سالم، وعليّ بن سالم ـ أنّ أحد آل جوفان في حدود سنة (1330 ه‍) كان يمشي بحمل من الحطب، ومعه عبد صغير لآل الشّيخ المشار إليهم، فلقيه بعض الغرباء من يافع، وكان يطلبه بثأر.. فأرداه، فسار العبد يقود بعير الجوفانيّ، وأخبر مولاه الشّيخ حسين بن سالم بن عليّ، فجمع أولاده وقال لهم: أمّكم طالق بالثّلاث إن لم تبيّضوا وجهي اليوم ولم أقتل أحدا منكم غدا.

فخفّوا إلى شبام ـ وعليها الشّيخ يحيى بن عبد الحميد بن عليّ جابر نائبا من جهة السّلطان غالب بن عوض ـ وحالا طلعوا إلى الحصن، وأغلقوا الأبواب، وقالوا للشّيخ: إمّا أن تسلّم لنا القاتل، وإلّا.. تقاسمنا الموت في هذا المنزل حتّى لا يسلم إلّا من عصمه الأجل.

ولمّا عرف أنّ الأمر جدّ.. تخلّص من فناء النّفوس الكثيرة بتسليمه، وما كادوا ينفصلون به عن شبام حتّى ذبحوه، غير أنّ السّلطان غالبا تميّز من الغيظ على يحيى ولم يولّه عملا بعدها، وقد تمكّن منه، ولو لا أنّه جبل على العفو وكلّمه النّاس.. لقطّعه إربا إربا؛ لأنّه كان قدر عليه؛ لأنّه لو لم يرض.. لم يقدر آل الشّيخ على ما فعلوا، ففي القضيّة ضمير تقديره: أنّ آل الشّيخ عليّ أرضوا آل عليّ جابر، وإلّا.. فما كانوا ليؤخذوا ضغطة، وإنّما أشاعوا ما سبق للتّغطية، وإلى ذلك يشير شاعر الهند المجهول الملقّب بالفرزدق:

«يا بن علي جابر تحيّل *** ما الجماعه للنقود»

«ضحك عليهم قد حشمتوهم *** وسرحوا بالبرود»

وقد اختلف في هذا الشّاعر؛ فقيل: إنّه العلّامة ابن شهاب، وقيل: إنّه الأمير حسين بن عبد الله القعيطيّ، وقيل: إنّه الشّيخ صلاح أحمد لحمديّ، وقيل: إنّه عبد القويّ بن سعيد بن عليّ الحاج.

وأمّا آل أحمد بن عليّ: فيرأسهم الشّيخ عليّ بن أحمد، صاحب الدّار الّتي بجانب سدّة سيئون القبليّة، وكان موجودا في سنة (1328 ه‍)، ثمّ أصابته رصاصة غرب من آل سالم بن عليّ، كان فيها حتفه.

واتفّق أن كان عندهم يوم قتله رجل شرّير من آل عليّ جابر يثير لأصحابه الفتن، فزعم أنّ قتله وهو عندهم يخفر ذمّته؛ فأشار الشّيخ يحيى بن عبد الحميد بقتله، وكان له ابن غائب، فقدم حتّى ختل يوما عبد الله بن عبد الحميد فأطلق عليه الرّصاص مع خروجه لصلاة الصّبح، ولكنّ آل عليّ جابر قتلوه في الحال، وما شيّعوهما إلّا معا.

ولعبد الله بن عبد الحميد هذا شذوذ، حتّى إنّه نزل مرة على الشّيخ محمّد بن عليّ بن عبود في باندوم، ولمّا شرعوا في راتب الحدّاد.. قال الشيخ عبد الله بن عبد الحميد: هذا بدعة. فقال الشّيخ محمّد بن عليّ: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.. إلخ.. بدعة! ! وطرده.

والشّيخ عليّ بن أحمد هو والد الشّيخ عبد القادر بن عليّ، الّذي أقام دهرا طويلا على إمارة شبام بالنّيابة عن السّلطان غالب بن عوض، وكان حسن الأخلاق موطّأ الأكناف، محبوبا عند النّاس.

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


66-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (حصن الشاووش)

حصن الشّاووش

هو رجل من آل مرعيّ بن طالب الكثيريّين، أقام زمانا طويلا بحيدرآباد الدّكن من الهند في خدمة النّظام الآصفي، وترقّى في المراتب العسكريّة حتّى انتهى إلى رتبة شاووش، فأفاد بها مالا طائلا، وأكثر ما يفيض الأموال على مثله هناك؛ كالقعيطيّ، والعولقيّ، وغالب بن محسن، على حساب من تحت رئاستهم من العساكر حتّى جاء صرار جنك فضبط الأمور، وفي ذلك يقول شاعر الحضارم:

«ما اليوم جاء صرّار صرّ الملك صرّ *** وألقى سياسه من سياسة لنقليز»

«إن عاد شي تركوب وإلا شي بصر *** وإلا مع الله يا طيور الطّيز ويز»

ولمّا وصل حضرموت.. كانت همّته متوجّهة إلى الإصلاح بين آل كثير، وتوحيد كلمتهم، وتأطيد الدّولة الكثيريّة بهم، فبذل فيها أموالا كثيرة، بسخاء عظيم، ولم يتمّ له شيء، إلّا أنّه وقع على شهرة عظيمة، حتّى إنّه لمّا دخل إلى سيئون.. استقبله سلطانها المنصور بن غالب استقبالا شائقا، حتّى كاد الأمراء يتساورون على الإمساك بيده في معرض استقباله.. حتّى اقتسموها، فكانت لأحدهما اليمين، وللآخر الشّمال، إلّا أنّ صاحب اليمين ندم؛ إذ مرّ أكثر الوقت وهي منتزعة منه لكثرة المصافحين!

وسمعت أنّ الشّيخ جعفر بن سالم ـ والد الشّيخ طالب بن جعفر وإخوانه ـ كان وكيلا له، فأمره ذات يوم أن يعطي أحدا ممّن لا يؤبه به من آل كثير كمّيّة وافرة من الرّيالات، ليستعين به على الإصلاح، فقال له: إنّ هذا لا ينيخ ولا يثوّر، ولا يملك شيئا من أمر الإصلاح فعزله، وأضعف لذلك الصّعلوك العطاء.

وما زال كذلك حتّى ضحك عليه آل كثير، وأتلفوا ماله بدون فائدة.

وفي أخبار الكساديّ والعموديّ من «الأصل»: أنّ آل عبد الله أمروا بنفوذ أربع مئة مقاتل في (24) صفر سنة (1288 ه‍) لمساعدة العموديّ، وأكثر خرجهم من الشّاووش بدر صاحب جفل.

وفي أخبار الهجرين منه: أنّ الشّاووش بدرا وصل من الهند إلى عدن سنة (1285 ه‍)، وأنّه متوجّه إلى مكّة بداع من الشّريف محمّد بن عون والسّيّد فضل، وذلك لتدبير الحملة التّركيّة الّتي سعى القعيطيّ في فشلها، بواسطة بعض العلماء من آل العطّاس، فتمّ له ما يريد.

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


67-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (ذي أصبح)

ذي أصبح

هي من قدامى بلدان حضرموت، لها ذكر عند الهمدانيّ وغيره. وكان بها كثير من الإباضية كما ينطق بذلك ما سبق في شبام من شعر إمامهم إبراهيم بن قيس.

واقتصر الطّيّب بامخرمة في كتابه «نسبة البلدان» [خ / 124] على قوله: (وذي أصبح قرية بحضرموت لآل باعبّاد) اه

وصدق في قوله: (لآل باعبّاد)؛ فكلّ من أراد أن يبني بها.. لا بدّ وأن يأخذ إجازة منهم؛ لأنّ أراضيها من جملة أوقافهم، ولكنّها قد اندثرت وجهلت مقاديرها، وكثير من بقاعها.

وجامعها الموجود الآن هو من بناء المكرّم عون بن سعيد بن روّاس السّابق ذكره بالحزم.

ومنها كان العلّامة الجليل الشّيخ عبد الله بن سعد بن سمير، وهو الشّيخ (19) من مشايخ سيّدي الأستاذ الأبرّ، توفّي سنة (1262 ه‍)، وخلفه علما وصلاحا ولده العلّامة سالم بن عبد الله، وكان السّيّد عبد الله بن عمر بن يحيى جعله وزيرا للسّلطان عبد الله بن محسن بن أحمد حينما كان نائبا عن أخيه غالب في أوائل دولتهم، واشترط عليه أن لا يخرج عن رأيه، وأن لا يخلو بأحد إلّا وهو معه، فبقي على ذلك مدّة يطالع السّيّد عبد الله بن عمر فيها بكلّ ما يجري، وينفّذ كلّ ما يشير به عليه، ولكنّ السّلطان عبد الله لم يقدر على ذلك.. فنقضه، وكان السّيّد عبد الله بن عمر يرشحه لقضاء تريم ليكون تحت إشارته في كلّ كبير وصغير، ولكن كان أهل تريم وفي مقدّمتهم الجليل عبد الله بن حسين بلفقيه ـ الشّيخ (12) للأستاذ الأبرّ ـ مخالفا للسّيّد عبد الله بن يحيى على خطّ مستقيم؛ حتّى لو قال أحدهما: (تمرة).. لقال الآخر: (جمرة)، وما نظنّ بهما إلّا الحقّ، غير أنّ الهوى يصوّر الشّيء في عين صاحبه بغير ما هو عليه، وكلّ يؤخذ من كلامه ويترك.

وكان الشّيخ عبد الله أحمد باسودان يفضّل بلفقيه في سعة العلم وغزارة المادّة.

ثمّ إنّ الشّيخ سالم بن عبد الله بن سمير توجّه إلى جاوة ومات ببتاوي في سنة (1270 ه‍).

وبذي أصبح سكن قطب الجود، وكعبة الوفود، سيّدنا الإمام حسن بن صالح

البحر، لقد كان علم هدى، ومصباح دجى، ومناط آمال، وحمّال أثقال، وغرّة زمان، وحرز أمان، ومعقل إيمان، عقل الدّين عقل وعاية ورعاية، لا عقل تدريس ورواية، أمّا العبادة.. فيبيت صافّا قدميه إذا استثقلت بالمؤمنين الوسادة.

«يبيت يجافي جنبه عن فراشه *** إذا استثقلت بالمخلصين المضاجع »

فلو زلزلت الأرض زلزالها.. لم يشعر بشيء مع استغراقه بالتّهجّد، ولقد جرت له في ذلك أخبار لا نطيل بها، من جنس ما وقع لابن الزّبير؛ إذ صبّوا على رأسه الماء الشّديد الحرارة لمّا اتّهموه بالرّياء وهو ساجد فما أحسّ به.

ولقد كان يصلّي مرّة ومن ورائه الحبيب محمّد بن أحمد الحبشيّ وأخوه صالح وعتيق ـ السّابق ذكره، الّذي كان لا يجازف قيد شعرة في تصوير الرّجال ـ ولمّا فرغوا.. قال عتيق: لقد تمثّلت واحدا نثر أمامنا صرّة من الرّيالات ونحن نصلّي، فقلت في نفسي: أمّا حسن.. فلن يشعر بها أصلا، وأمّا صالح.. فسيطاعن عليها، وأمّا محمد.. فسيجمع بيديه ويقول: سبحان الله، سبحان الله، فبكى محمّد وقال: لقد جعلتني شرّهم؛ إذ تلك سمة المنافقين.

وما تفرّسه عتيق هو عين الحقيقة؛ أمّا الإمام البحر.. فقد زمّت التّقوى أموره، وامتلك الإحسان شعوره، فما هو إلّا ملك في المعنى وإن بقي إنسانا في الصورة.

«فما دهره إلّا جهاد يقوده *** لإحقاق حقّ أو صلاة يقيمها »

كلّما حزبه أمر.. فزع إلى الصّلاة، فيصير عندها الجبل الخشام كرمل الفلاة.

وأمّا الشّجاعة: فقد رادى جبال الجور فأزالها، وكان لهاشم في النّجدة مثالها:

«رسا جبلا في الدّين فهو بنصره *** إذا ما تراخى الصّادقون مكلّف »

«ترى ملكا في بردتيه وتارة *** ترى اللّيث من أعطافه الموت ينطف »

«إذا سار هزّ الأرض بأسا وقلبه *** إذا قام في المحراب بالذّكر يرجف »

«يلوح التّقى في وجهه فكأنّه *** سنا قمر أو بارق يتكشّف »

فكثيرا ما قاد الكتائب للطّعان، ونصب صدره للأقران، فلقد صدّ عادية قوم في غربيّ شبام جاؤوا ليجتاحوا حضرموت، وأوقع بهم شرّ هزيمة، وقد أشكل عليّ أمر أولئك أوّلا، يمكن أن يكون المكارمة الّذين جاؤوا في سنة (1218 ه‍)، والنّاس يقولون: إنّهم الوهّابيّة، ولكنّ بعض أهل حضرموت يطلقون على المكارمة الباطنيّة لقب: الوهّابيّة؛ لأنّهم لا يفرّقون بينهم ـ على ما بينهم من البون ـ فالصّواب ـ كما يعرف من بعض المسوّدات ـ: أنّهم المكارمة، جاؤوا هاجمين مرّة أخرى غير الأولى فكسرهم، ولكنّ الّذي نقله والدي عن الأستاذ الأبرّ: أنّ بعض آل كثير قاوموا الوهابيّة، وساعدهم بعض السّادة، وحملوا السّلاح، وجرح السّيّد شيخ بن عبد الله الحبشيّ جرحا خطيرا، فشفاه الله بدعاء سيّدنا الحسن البحر، ولم يفصح سيّدي الوالد فيما كتبه بأنّ أمير القوم إذ ذاك هو سيّد الوادي مولانا الحسن البحر، ولكنّني سمعت من لسانه ذات المرّات أنّه هو، وقد مرّت الإشارة إليه في حوره.

وكان سيّدنا الحسن البحر لا يقرّ على كظّة ظالم، ولا على سغب مظلوم، ولقد جمع كلمة الشّنافر بعد جهد جهيد على ردّ الحقوق وإقامة الحدود، وأخذ منهم العهود والرّهائن، حتّى توجّه على رئيس منهم قصاص في قتل، ولمّا صمّم على استيفائه.. احتال بعضهم على امرأة المقتول ـ وكانت أجنبيّة ـ فعفت، فدخل الوهن على تلك الجمعيّة؛ لأنّ أكثرهم بسطاء لا يفهمون، ولو أنّه اطّلع على قول بعضهم بتحتّم القصاص إذا التزم الكاملون من الورثة بنصيب القاصرين، أو الّذين يعفون من الدّية.. لأخذ به؛ لأنّه مع قوّة عزيمته كان من أهل الاجتهاد والتّرجيح.

وكان لا يقوم أحد لغضبه إذا انتهكت حرمة الله أو اعتدي على من لا ناصر له سواه، وكان لا يخاطب عبد الله عوض غرامة فمن دونه من الرّؤساء في المعتبة إلّا باسمه، مجرّدا عن كلّ صفة، يسكت لغرامة على آرائه الوهّابيّة؛ لأنّ بعضها يوافق ما عنده من تجريد التّوحيد، ولكن لا هوادة له عنده متى انبسطت يده في ظلم من لا ناصر له إلّا الله، فهو ركن الإسلام، وموئل الأنام.

«ترى النّاس أفواجا إلى باب داره *** كأنّهم رجلا دبى وجراد »

قلّما تجد جذعا من النّخيل الحافّة بداره إلّا مربوطا بها ـ في أيّامه ـ حصان أو حمار.

ولقد رأى كثرة الوفود مرّة ببابه.. فخرج بمنجله يحتطب، ثمّ جاء أمامهم بحزمة على رأسه، وقال لبعض خاصّته: لقد أعجبتني نفسي فعمدت إلى وقذها، ومازال بها حتّى أماتها كما فعل ابن الخطّاب رضي الله عنه.

وإن كان ليقوم بالمصحف في الجامع، فقال له السّيّد عقيل الجفري ـ وكان آية في الإخلاص والنّصح ـ: نعم هذا لو كان في بيتك، فما أجابه إلّا بقول ابن الفارض [في «ديوانه» 46 من الطّويل]:

«فأبثثتها ما بي ولم يك حاضري *** رقيب لها حاظ بخلوة جلوتي »

فاقتنع؛ إذ كان لا يختلجه أدنى ريب في صدقه.

وبحقّ يقول فيه الإمام المحضار:

«ومن في (ذي صبح) أصبح *** وذبّاح بها يذبح »

«وطبّاخ بها يطبخ *** وبو صالح بها ينضح »

بلا عجب ولا كبر وكان في الجود آية، وفي الشّفقة بالأيامى واليتامى والضّعاف غاية، وإن كان جاهه الضّخم في آخر أيّامه ليدرّ عليه بالأموال الطّائلة من شرق الأرض وغربها، ثمّ لا يبيت عنده دينار ولا درهم، ولقد أراد جماعة من محبّيه أن يشتروا له عقارا.. فغضب عليهم.

وورده مرّة ألف ريال فلم يمس منه شيء.

«جود يحرّك منه كلّ عاطفة *** ورحمة رفرفت منه على الأمم »

ولقد كاد مع وقار ركنه يطير طربا عندما تمثّل له جدّي في مناسبة بقول جوبة بن النّضر [من البسيط]:

«إنّا إذا اجتمعت يوما دراهمنا *** ظلّت إلى طرق المعروف تستبق »

«لا يعرف الدّرهم المضروب صرّتنا *** لكن يمرّ عليها وهو منطلق »

لأنّ ذلك حاله رضوان الله عليه، لا ينزل موضعا إلّا عمّه نورا، وملأه سرورا.

«إن ضنّ غيث أو خبا قمر *** فجبينه ويمينه البدل »

وله من التّحنّن على الفقراء ما من أمثلته: أنّ جدّي المحسن طلب يد بنته بهيّة، فعمل لهم ضيافة حسب العادة، وبينما هو في انتظارهم.. أطلّ من النّافذة، فإذا الدّار محفوف بالنّظّارة من المساكين، فأمر بإدخالهم وتقديم الطّعام لهم، ثمّ لمّا أقبل جدّي بخيوله ومركبه وطبوله.. استأنف لهم الذّبائح والطّبخ. وله من هذا النّوع أمثال كثيرة، يعظّم أهل الدّين، ويكرم الفقراء والمساكين، وإن كان الأغنياء والرّؤساء في مجلسه لأذلّ منهم في مجلس سفيان الثّوريّ، وأخرج أبو نعيم [6 / 365] بسنده إلى عيسى بن يونس قال: (ما رأينا الأغنياء والسّلاطين في مجلس قطّ أحقر منهم في مجلس الأعمش، وهو محتاج إلى درهم)، ولئن صحّ هذا أو لا.. فقد جاء العيان بسيّد الوادي فألوى بالأسانيد.

«مناقب يبديها العيان كما ترى *** وإن نحن حدّثنا بها دفع العقل »

وقد اعترف السّيّد أحمد بن عليّ الجنيد ـ وهو من أقرانه ـ بالعيّ عن وصف ما شاهده من أعماله واجتهاده في سفره.. فكيف بمثلي؟

وهو بذلك جدير؛ إذ الإمام البحر أكبر من قول أبي الطّيّب [في «العكبريّ» 1 / 352 من البسيط]:

«لم أجر غاية فكري منه في صفة *** إلّا وجدت مداها غاية الأبد»

على أنّني لا أريد من عدم النّفاد إلّا ضيق العبارة عن سعة المعاني، وإلّا.. فكلّ شيء في الحياة نافد ما عداه جلّ جلاله.

وكان جدّي المحسن كثيرا ما يقول: إنّنا لا نعني الجوارح إلّا بطريق المجاز عندما نقول: اللهمّ متّعنا بأسماعنا وأبصارنا، وأمّا على الحقيقة.. فلا نقصد إلّا حسن بن صالح، وأحمد بن عمر بن سميط، وعبد الله بن حسين بن طاهر، فهؤلاء الثّلاثة هم أركان الإسلام والشّرف لذلك العهد، فلله درّ البحتريّ في قوله [في «ديوانه» 2 / 77 من الطّويل]:

«فأركانهم أركان (رضوى) (ويذبل) *** وأيديهم بأس اللّيالي وجودها»

وقد كان بينهم من التّصافي والاتّحاد ما يشبه امتزاج الماء بالرّاح، والأجسام بالأرواح، وكلّ واحد منهم أمّة تنكشف به الغمّة.

«لعمرك ما كانوا ثلاثة إخوة *** ولكنّهم كانوا ثلاث قبائل »

والمفاضلة بينهم لا تليق بمثلي، ومن دون ذلك الفلوات الفيح والعقبات الكأداء، غير أنّ ما يتفضّل به علينا التّاريخ من يوم إلى آخر يجعلنا لا نعدل بالحبيب حسن أحدا، لا في شهامته، ولا في شدّته في الله، ولا في قوّة ثقته به وفرط توكّله عليه وتفانيه في مواقع رضاه.

وبهذه المناسبة ذكرت شيئين:

أحدهما: ما رواه غير واحد أنّ الإمام أبا حنيفة سئل عن الأسود وعلقمة وعطاء أيّهم أفضل؟ فقال: والله ما قدري أن أذكرهم إلّا بالدّعاء والاستغفار؛ إجلالا لهم، فكيف أفاضل بينهم؟

هذا ما يقوله أبو حنيفة عن هضم للنّفس فيما نخال، وإذا نحن قلنا نحوه في أمثال هؤلاء.. فإنّما نتحدّث بالواقع، ونخبر عن الحقيقة؛ لأنّ الحكم بالشّيء فرع تصوّره، والأمر كما قال البوصيريّ [من الخفيف]:

«فورى السّائرين وهو أمامي *** سبل وعرة وأرض عراء»

والثّاني: ما ذكره ابن السّبكيّ في «طبقاته» [5 / 353] وياقوت في مادّة (المقدس) من «معجمه» [54 / 172] وغيرهما ـ عن بعض أهل العلم قال: (صحبت أبا المعالي الجوينيّ بخراسان، ثمّ قدمت العراق، فصحبت الشّيخ أبا إسحاق الشّيرازيّ، فكانت طريقته عندي أفضل من طريقة الجوينيّ، ثمّ قدمت الشّام فرأيت الفقيه أبا الفتح نصر بن إبراهيم المقدسيّ، فكانت طريقته أحسن من طريقتهما جميعا).

وقد ميّلت بين الجوينيّ والشّيرازيّ في «العود الهنديّ» قبل اطّلاعي على هذا بزمان طويل بما لا يبعد عنه، وما ظنّي بالرّاوي لو اطّلع على ثلاثتنا.. إلّا تفضيلهم في التّقوى والدّين، وإن كان أولئك أغزر في العلم.

«فما كان بين الهضب فرق وبينهم *** سوى أنّهم زالوا وما زالت الهضب »

وكلّا والله لم يزولوا ولكنّهم انتقلوا فعولوا، وقد جاء فيما يقولوا [من الكامل]:

«وإذا الكريم مضى وولّى عمره *** كفل الثّناء له بعمر ثاني »

وما أحسن قول أبي القاسم ابن ناقياء في رثائه لأبي إسحاق الشيّرازيّ [من الكامل]:

«إن قيل مات فلم يمت من ذكره *** حيّ على مرّ اللّيالي باقي »

والله أعلم بحقائق الأمور والمطّلع على خفيّ ما في الصّدور.

ولمّا توفّي في سنة (1273 ه‍) بقرية ذي أصبح عن عدّة أولاد.. لم يرث حاله منهم إلّا ولده عبد الله، وكان يسمّيه: قرّة العين، بسبب أنّه وصل له مال دثر فقال لأولاده: خذوا ما شئتم، فكلّ أخذ من الرّيالات ما يقدر على حمله.. إلّا عبد الله فإنّه اقتصر على طلب الدّعاء بالثّبات على الإيمان، فقال له: قرّت بك عيني يا ولدي، فأطلق عليه ذلك اللقب من يومئذ، فكان هو خليفته ووارث سرّه.

«أبقى لنا العبّاس غرّتك ابنه *** مرأى لنا وإلى القيامة مسمعا »

لقد كان ركن إسلام، وطود تقوى، وعمود محراب، وثمال أيامى، وموئل يتامى، ومعاذ مظلوم.. وحامي حمى، وحارس حدود.

«مزايد نفس في تقى الله لم تدع *** له غاية في جدّها واجتهادها »

«فما مالت الدّنيا به حين أشرقت *** له في تناهي حسنها واحتشادها»

«لسجّادة السّجّاد أحسن منظرا *** من التّاج في أحجاره واتّقادها»

لقد كان يستجهر النّاس بوسامته وما على جبينه من آثار القبول وارتسامه، ولا سيّما إذا قام في محفل يذكّرهم بالجلالة، بوجه جميل، عاليه جلالة، وتغشاه من الأنوار هالة.

«من البيض الوجوه بني عليّ *** لو انّك تستضيء بهم أضاؤوا »

«هم حلّوا من الشّرف المعلّى *** ومن كرم العشيرة حيث شاؤوا»

تزيده تلك السّجّادة نورا، فتمتلىء بمرآه القلوب سرورا، وما زال كأبيه علم المهتدين، وأسوة المقتدين، ومنهل الشّاربين، ومأمن الخائفين إلى أن دعاه الحمام، وهو يردّد كلمة الإسلام بقريته ذي أصبح، في سنة (1319 ه‍) عن غير أولاد ذكور.

وكانت صغرى بناته، وموضع رعايته، وأحبهنّ إليه.. هي زوجتي المعمّة المخولة؛ إذ كانت أمّها هي البرّة التّقيّة رقوان بنت سيّدنا الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر، المتوفّاة على أبلغ ما يكون من الثّبات على الإيمان في الحجّة من سنة (1362 ه‍).

«تخيّرتها من بنات الكرام *** ومن أشرف النّاس عمّا وخالا »

وهي أمّ أولادي: حسن، ومحمّد، وعيدروس، وأحمد، وعلويّ، وشقائقهم الموجودين اليوم، وقد مات لي منها: بصريّ، واشتدّ حزني عليه، ورثيته بعدّة مراث توجد بمواضعها من «الدّيوان»، وعليّ، ورثيته بمرثاة واحدة، وأكبر وجدي عليه؛ لأنّه جدّد الجروح الّتي لم تكن لتندمل على بصريّ [من الطّويل]:

«فما سرّ قلبي منذ شطّت به النّوى *** نعيم ولا كأس ولا متصرّف »

«وما ذقت طعم الماء إلّا وجدته *** سوى ذلك الماء الّذي كنت أعرف »

«ولم أشهد اللّذّات إلّا تكلّفا *** وأيّ نعيم يقتضيه التّكلّف »

وقد أشرت في بعض مراثيه إلى تكذيب زهير بن جناب في قوله [في «ديوان الحماسة» 2 / 102 من الوافر]:

«إذا ما شئت أن تنسى حبيبا *** فأكثر دونه عدّ اللّيالي »

وممّا صغّر المعرّيّ في نفسي قوله [في «سقط الزّند» 20 من الطّويل]:

«فإنّي رأيت الحزن للحزن ماحيا *** كما خطّ في القرطاس رسم على رسم »

فله اليوم منذ قضى سبع وعشرون عاما، والجرح عاند، والصّبر يعاند، ولا أزال أتمثّل بقول البهاء زهير [من الوافر]:

«فيا من غاب عنّي وهو روحي *** وكيف أطيق من روحي انفكاكا»

«يعزّ عليّ حين أدير عيني *** أفتّش في مكانك لا أراكا»

«ختمت على ودادك في ضميري *** وليس يزال مختوما هناكا»

«فوا أسفي لجسمك كيف يبلى *** ويذهب بعد بهجته سناكا»

ويعجبني قول ابن الرّوميّ في رثائه ليحيى بن عمر بن حسين بن زيد بن عليّ [من الطّويل]:

«مضى ومضى الفرّاط من أهل بيته *** يؤمّ بهم ورد المنيّة منهج »

«فلا هو أنساني أساي عليهم *** بلى هاجه والشّجو للشّجو أهيج »

وقول المرار العدويّ [من البسيط]:

«لم ينسني ذكركم مذ لم ألاقكم *** عيش سلوت به عنكم ولا قدم »

وقد مات لي منها أيضا غير هذين، ومع فرط الحزن.. فلم نتدرّع إلّا بالصّبر، ولم نستشعر إلّا الرّضا، ونحتسبهم عند الله فرطا وذخرا، ونرجو بهم مثل ما رآه مالك بن دينار عن بنته في الدّار الأخرى:

«وهوّن بعض الوجد عنّي أنّني *** أجاوره في داره اليوم أو غدا»

ويعجبني قول شبيب بن شبّة للمهديّ في التّعزية عن بنت: ثواب الله خير لك منها، ورحمة الله خير لها منك، وأحقّ ما صبر عليه.. ما لا سبيل إلى ردّه، وهو مثل قول الآخر [من الكامل]:

«اصبر نكن بك صابرين فإنّما *** صبر الّرعيّة بعد صبر الرّاس »

«خير من العبّاس ربّك بعده *** والله خير منك للعبّاس »

وخير منه ما عزّى الأشعث به ابن أبي طالب، وأشار إليه أبو تمّام بما لا حاجة إلى

الإملال به، وقد أشرت في بعض المراثي إلى أنّ نصيبي من الرّحمة كان أوفر، وأنّ حظّها من الرّضا بقضاء الله كان أكثر، وهي كما قال حسّان [في «ديوانه» 377 من الطّويل]:

«حصان رزان ما تزنّ بريبة *** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل »

راضية بعيشها، قانعة برزقها، مصونة في قصرها، من اللّاء يقول في مثلهنّ الفرزدق [في «ديوانه» 1 / 407 من الكامل]:

«رجح ولسن من اللّواتي بالضّحى *** لذيولهنّ على الطّريق غبار »

وكما يقول قيس بن الأسلت [من الطّويل]:

«ويكرمنها جاراتها فيزرنها *** وتعتلّ عن إتيانهنّ فتعذر»

«وليس بها أن تستهين بجارة *** ولكنّها من ذاك تحيا وتخفر»

وقول عليّة بنت المهديّ [من الطّويل]:

«فما خرّقت خفّا ولم تبل جوربا *** وأمّا سراويلاتها فتمزّق »

أي: لشدّة لزامها؛ من فرط الصّون والعفاف.

قائمة بحقّ ربّها، صالحة في دينها على جانب واسع من المعرفة والأدب، لا يعرض لها حال إلّا تمثّلت ببعض بيت؛ إذ كان عندها مئات الأطراف من الأبيات، ولكنّها بالأكثر لا تستوفي البيت حفظا ولا تقيمه لحنا، غير أنّها متى أنشدت بجملة منه.. ذكّرتني بباقيه فأنشدته إن حضرت.

وكانت إحدى بناتها ـ وعندها شيء من العلم ـ لا تقتدي بها؛ تزعم أنّها لا تحسن الضّاد، بل تبدلها ظاء، ولكنّ أكثر أهل العلم كما ذكره ابن كثير في «تفسيره» [1 / 31] على اغتفاره.

وأنا وإيّاها ـ ولله الحمد ـ في عيش طيّب، وبال رخيّ، وسكون تامّ، ومودّة ورحمة، واسترسال ومؤازرة، لا نختلف في شيء قطّ من أمر الدّنيا، وإليها ـ مع أنّها أمّيّة لا تكتب ولا تحسب ـ أمر البيت كما قضى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بين عليّ وفاطمة، إلّا أنّ من شأنها:

1 ـ بطء الحركة، ومن طبيعتي الاستعجال.

2 ـ وهي مبتلاة بضياع المفاتيح ـ وكلّها في يدها ـ فكثيرا ما أعدم حاجتي عند طلبها.

3 ـ وقد تقصر عن فهم إشارتي ولا تستوضحها؛ اعتمادا على فهمها، أو خشية أن تقطع عليّ فكرا أو كتابة أو مطالعة، من أمثلة ذلك: أنّه وردني ضيف وهو السّيّد عبد القادر بن عمر بن محمّد بن أحمد الحبشيّ بعد ما ترجّل النّهار، فأشرت بذبح جدي لا تزيد قيمته عن أربع روبيّات، فذهب وهمها إلى شاة تزيد عن ثلاثين، وأدخلوا اللّحم على حاله لم تؤثّر فيه النّار.

4 ـ وأنّها لا تلوم أحدا من أولادها.. إلّا كنت معها عليه، ومتى انعكست القضيّة.. كانت معه إلبا عليّ، مع اعتقادي أنّي مصيب في الحالين.

أمّا من هذه المواضع.. فإنّ الشّيطان يجد السّبيل المهيع، فيذكي جمرات الغضب، ويثير معركة النّزاع، ويقف مع النّظّارة، ولا تسل عمّا يجري حينئذ.

وربّما يكون أوّل المعركة العتب الجميل لشيء صغير من أنواع ما تقدّم، فيحصل في الاعتذار لون من التّلبيس، فعند ذلك يشتعل الوطيس، ويبلغ ما يريده الشّيخ إبليس.

ومن سيّئاتها: أنّها لم تغرس لنفسها هيبة في صدور أولادها تعينها على ما يجب على الأمّ من التّأديب والتّثقيف والتّعليم والتّهذيب.. بل تلقي لهم الحبال على الغوارب، فلا تعاتب أحدا على تقصير، ولا تزجره عن إساءة أدب، ولا تكلّف أحدا بعمل ينفعه عند الحاجة، فهي تسيء إليهم من حيث تريد الإحسان.

غير أنّه يكفّ من ثورتي عليها لذلك قول الإمام مالك: (الأدب أدب الله لا أدب الآباء والأمّهات)، وقول الشّعرانيّ: (لقد كنت في عناء من تأديب ولدي عبد الرّحمن، حتّى وكلت أمره إلى الله.. فصلح) أو ما يقرب من هذا.

ومن جرّاء ذلك: استهان الخدم بأوامرها؛ ولطالما أشرت عليها أن تعزم عليهم بقشر الباذنجان الأحمر ـ لأنّي أكره قشره وبذره ـ.. فلم يفعلوا يوما ما، وإنّه ليأتيني في كلّ وجبة بقشره وبذره على ما لا أحبّ، فإما أن تكون مستخفّة بعتبي ـ على شدّته في بعض الأحيان ـ وإمّا أن يكون الطّهاة غير مبالين بأمرها وإرشادها، ومهما يكن من الأمر.. فإنّ إفراطها في المياسرة مع رعيّتها.. قد أتعبنا وإيّاها، وأدى إلى خسائر جسيمة وإلى خلل لا يحتمل، ولا سيّما في تدبير أمر البيت؛ لأنّني أجعل تبعة تقصيرهم عليها؛ بحكم قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسؤولة عن رعيّتها».

ومتى عاتبتها وأجابت بما لم ترعو عنه من الأجوبة الباردة.. أصعبت لها القول، وناشبتها الشّرّ، فزاد النّكد، واشتدّ التّعب، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.

ومن النّوادر: أنّني لمّا ذاكرتها مرة بمسألة الشّاة.. تنصّلت من الذّنب، وأحالته على شؤم ناصية الضّيف، وقالت: إنّه قد جاءك مرّة، وأرسلت في شراء لحم له فأنسي الرّسول، ثمّ استأنفت رسولا فجاء به متأخّرا، واقتضى الوقت إدخاله عليه في مثل حال لحم الشّاة.

وأخرى، وهي: أنّ سروات النّساء يقصدنها للمشاورة في أمورهنّ، فيحمدن عاقبة رأيها لهنّ، ولكنّي لست كذلك؛ ولئن وجد عندي ضعف في مشاورة النّساء عندما تكلّمت على انطلاق خديجة برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى ورقة بن نوفل في كتابي «بلابل التغريد».. فما هو إلّا من هذه البابة، وأسأل الله أن ييسّرني وإيّاها وأولادنا لليسرى، وأن يجنّبنا وإيّاها العسرى، وأن يجمع لنا ولهم بين خيرات الدّنيا والأخرى، وأن يحسن عاقبتنا وعاقبتهم في الأمور كلّها، ويجيرنا وإيّاهم من خزي الدّنيا وعذاب الآخرة، وأن يبارك لي فيها وفي أولادها، ولا يضرّهم، وأن يجنّبنا وإيّاهم الشّيطان، ويرزقنا برّهم، وأن يطيل لنا ولهم الأعمار في خير ولطف وعافية وثبات على الإيمان، بمنّه وجوده.

ومن آل ذي أصبح: العلّامة الجليل، الشّيخ عبد الله بن سعد بن سمير، وهو الشّيخ التّاسع عشر من أشياخ أستاذنا الأبرّ، توفّي سنة (1262 ه‍).

وكانت وفاة ابنه العلّامة سالم بن عبد الله في بتاوي سنة (1270 ه‍)، وكان العلويّون جعلوه وزيرا للسّلطان عبد الله بن محسن حينما كان نائبا من أخيه أوائل دولتهم، واشترطوا عليه أن لا يخرج عن رأيه، وأن لا يخلو بأحد إلّا وهو معه، فنقض ذلك، وسار الشّيخ إلى جاوة.

وفي «مجموع الجدّ طه بن عمر» ذكر للشّيخ عبد الوهّاب بن عمر بن عبد الله بن عبد الرّحمن بن أحمد بن سمير، ولكتابه «الرّوضة الأنيقة».

وأكثر سكّان ذي أصبح من الحاكة والأكرة، وكانوا يبلغون أربع مئة نفس، لكنّ الأزمة اجتاحتهم، فلن يبلغوا اليوم الأربعين، فهي خاوية على عروشها بعد تلك العهود، وازدحام الوفود.

«أقوت فلم أذكر بها لمّا خلت *** إلّا منى لمّا تقضّى الموسم »

«ولقد أراها وهي عرس حقبة *** فاليوم أضحت وهي ثكلى أيّم »

نسأل الله أن يعمر الدّيار بأهلها، وأن يديل حزن الأيّام بسهلها.

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


68-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (الغرفة)

الغرفة

هي على مقربة من بابكر. وكان الشّيخ عبد الله بن محمّد بن عبد الرّحمن عبّاد ـ المشهور بالقديم المتوفّى سنة (687 ه‍) عن إحدى وسبعين سنة ـ أوّل من بنى غرفة بسفح الجبل الّذي يطلّ عليها، وحفر عندها بئرا سمّاها: غرفيّه، لا تزال تملأ منها جوابي مسجد عليّ بن عبد الله إلى الآن.

ثمّ زاد الشّيخ محمّد بن عمر بن محمّد بن عبد الرّحمن سنة (701 ه‍) في بناء تلك الغرفة حتّى صارت دارا، ثمّ انتقل إليها ولده الشّيخ عبد الله بن محمّد بن عمر من شبام بعائلته وتلاميذه، وابتنوا بها جامعا.

وكان لآل باعبّاد منصب عظيم عليه بإشارة الفقيه المقدّم ـ على ما يروى ـ كان انبناء دولة آل كثير، حسبما فصّل ب «الأصل».

وقال الطّيّب بامخرمة: (الغرفة: قرية معروفة بأعلى حضرموت، ذات نخيل ومزارع، بها فقراء صالحون، يعرفون بآل أبي عبّاد.

ومن مشايخهم الكبار ومشاهيرهم: الشّيخ الكبير، العارف بالله: عبد الله بن محمّد بن عبد الرّحمن باعبّاد، وهو أوّل من اشتهر بالتّصوّف بحضرموت، له ذرّيّة وفقراء أخيار صالحون، دفن بشبام، وتربته من التّرب المشهورة، المقصودة بالزّيارة من الأماكن الشّاسعة، ومنصبهم من أعلى مناصب حضرموت) اه

وقوله: (إنّ الغرفة بأعلى حضرموت).. من الأوهام، وكذلك قوله: (إنّ الشّيخ عبد الله أوّل من اشتهر بالتّصوّف). وأمّا قوله: (إنّ منصبهم من أعلى مناصب حضرموت).. فنعم كما سيأتي.

ومن أكبر مناصبهم: الشّيخ محمّد بن عبد الله بن محمّد بن عمر بن محمّد بن عبد الرّحمن عبّاد، الّذي يقال له: صاحب الجابية؛ لأنّه بنى جابية للواردين عليه من الحنفيّة، ولا يزال في ضيافته خمس مئة نفر غير الطّارئين. وكان حمّالا للأثقال، يتحمّل المغارم، ويدفع المظالم.

وفي مناقبه: أنّ أحد أهل اليمن ساءت حاله، ولزمه دين يقدّر بمئة دينار، وانقطعت به الحيل، وانسدّت في وجهه الأبواب، فطوى البلاد سائرا إلى الغرفة، فاستجهره ما رأى من عظيم حال الشّيخ وكثرة وفوده، فهابه ولم يقدر على مكالمته، إلى أن سنحت له الفرصة، فذكر له حاله، فأعطاه ألف دينار، ولمّا كان في أثناء الطّريق.. انتهبه اللّصوص، فعاد أدراجه إلى الغرفة حرّان آسفا، فعوّضه الشّيخ بألف آخر أعطاه به تحويلا إلى الشّحر كيلا يأخذه اللّصوص مرّة أخرى. وبالثّمرة الواحدة تعرف الشّجرة.

وكان للشّيخ عبد الله القديم ولذرّيّته من بعده تعلّق عظيم بالعلويّين، وسمعت من بعض المشايخ أنّهم أوّل من سنّ تقبيل أيدي العلويّين بحضرموت، إلّا أنّه حصل بعد ذلك ما يقتضي التّنافر، وأوّله ـ فيما أظنّ ـ ما وقع في زمان الشّيخ عمر المحضار والشّيخ عقيل باعبّاد، حتّى أصلح بينهما الفقيه محمّد بن حكم باقشير، حسبما ذكرناه ب «الأصل» عن «مفتاح السّعادة والخير في مناقب السّادة آل باقشير» لمؤلّف «القلائد».

وعن الفاضل السّيّد عليّ بن عبد الرّحمن المشهور عن والده مفتي الدّيار الحضرميّة أنّه يقول: (سمعت كثيرا من مشايخي يقولون: كانت المشيخة بتريم للخطباء وآل بافضل، فلمّا سكنها العلويّون.. تنازلوا لهم عن تقبيل اليد ولبس العمامة، والنّداء بلفظ الحبيب، فمحوه عن أنفسهم وخصّصوه بالأشراف، وجعلوه علامة لهم) اه

وهو في حاجة إلى البحث والنّظر والرّجوع إلى ما يأتي في المبحث الثّالث من الحسيّسة.

وقال لي بعضهم: إنّ آل باعبّاد هم الذين حملوا النّاس على دعائهم بالحبيب، وعلى تقبيل أيديهم، لا على تقبيل أيدي العلويّين.

وآية هذا أنّهم لا يزالون على ذلك بين أتباعهم إلى اليوم، والمسألة لا تعدو دائرة الظّنّ والاحتمال، لا سيّما وأنّ الخطباء وآل بافضل لا يزالون معمّمين، وإنّما كان جلّ آل سيئون لا يلبسون العمامة، إمّا اقتصادا، أو أدبا مع الأشراف والفقراء من آل بارجاء تلاميذ آل باعبّاد، والأقرب الثّاني؛ بأمارة وجود الكثير ممّن أدركنا من آل حسّان يلبسون القلنسوة المخصوصة بالعمامة ـ وهي المسمّاة بالألفيّة ـ من دون عمامة، ومهما يكن من الأمر.. فترك العمامة من البدء أخفّ إشكالا من ترك أهل العلم لها بعد استعمالها.

وللحضارمة أوليّات من هذا القبيل؛ منها: ما أظنّني ذكرته في الجزء الأوّل من «البضائع»: (أنّ الأشعث بن قيس الكنديّ أوّل من ركب والرّجال تمشي بين يديه).

وكان السّلف إذا نظروا إلى راكب ورجل يحضر معه.. قالوا: قاتله الله من جبّار.

وكان الحبيب أحمد بن محمّد الحبشيّ ـ المتوفّى سنة (1038 ه‍) ـ كثيرا ما يشكو إلى شيخه الشّيخ أبي بكر بن سالم ما يلقاه من أذيّة آل باعبّاد إذا جاء يدعو إلى الله بالغرفة، فقال له: (لعلّ الله يخرج من ذرّيّتك من يتبرّكون به) فلم يظهر أثر هذا الدّعاء إلّا في سيّدنا الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر.

وفي آل باعبّاد كثير من العلماء، ومن أكابرهم ـ كما في «جوهر الخطيب» ـ: إمام الطّريقين ومفتي الفريقين، الشّيخ محمّد بن أبي بكر عبّاد، ترجم له الأستاذ الأبرّ في «العقد» وقال: (إنّه ولد سنة «712 ه‍»، وتوفّي أوّل القرن التّاسع) وقد مرّ ذكره في شبام.

ورأيت في رسالة كتبها السّيّد شيخ بن عمر في «العهدة»: (أنّ الشّيخ محمّد بن أبي بكر هذا دعا على آل باعبّاد أن لا يجعل الله منهم عالما؛ لقضيّة منكرة أوجبت ذلك جهلا، فاستجاب الله دعوته) اه

وفي «مجموع الجدّ طه بن عمر» [ص 131] عن أحمد مؤذّن ما حاصله: (كان في الغرفة قبل أن تقام فيها الجمعة مسجدان متجاوران: أحدهما: لآل باعبّاد، والثّاني: لآل باجمّال، فأراد الشّيخ الجليل باني الجامع جعلهما مسجدا واحدا، واستفتى العلماء فتوقّفوا عن الجواب، فلم يكن منه إلّا أن خلطهما بدون فتوى من أحد، وسرّ العلماء بتوقّفهم عن الجواب) اه

وفي «مواهب البرّ الرّؤوف» لابن سراج التّصريح بأنّ الّذي جعل المسجدين واحدا هو الشّيخ عقيل، وهو ابن أحمد بن عمر بن محمّد بن عمر عبّاد، وقد سبق أنّ محمّد بن عمر هذا هو الّذي زاد في سنة (701 ه‍) في غرفة عمّه حتّى صارت دارا.

والعمل بخلط المساجد واقع بكثرة في تريم، حتّى لقد سمعت أنّ الجامع كان سبعة مساجد، ومسجد الشّيخ عليّ كان خمسة، وهلمّ جرّا.

وقد اختلف العلماء في نظير المسألة: فأفتى أحمد بن موسى بن عجيل المتوفّى سنة (690 ه‍) بجواز نقض المسجد لتوسعته وإن لم يكن خرابا، ومنعه أبو الحسن الأصبحيّ اليمنيّ المتوفّى سنة (700 ه‍).

وقال بعض شرّاح «الوسيط»: يجوز بشرط أن تدعو الحاجة إليه ويراه الإمام أو من يقوم مقامه؛ فقد فعل بالحرمين مرارا، مع وجود المجتهدين من غير نكير.

وقال الأشخر في «فتاويه»: (قال ابن الرّفعة: كان شيخنا الشّريف العبّاسيّ يقول: بتغيير بناء الوقف في صورته عند اقتضاء المصلحة. قال: وقلت ذلك لشيخ الإسلام ابن دقيق العيد فارتضاه.

وقال السّبكيّ: الّذي أراه: الجواز بثلاثة شروط: أن يكون التّغيير يسيرا لا يزيل اسم الواقف. وأن لا يزيل شيئا من عينه، بل ينقل نقضه من جانب إلى آخر، فإذا اقتضى زوال شيء من عينه لم يجز، فتجب المحافظة على صورته من حمّام ونحوه كما تجب على المادّة وإن وقع النّسخ في بعض الصّفات. وأن تكون فيه مصلحة للوقف) اه كلام الأشخر باختصار وزيادة من «تيسير الوقوف».

وأمّا هدم المسجد الخراب وإعادته.. فجائز بلا خلاف. ولا يعدم الشّيخ توسعة لما صنع من بعض هذه النقول. والله أعلم.

وكان آل باجمّال ولاة بور، فأخذها منهم آل بانجّار، فانتقلوا إلى شبام، ثمّ انتقل بعضهم إلى باثور من أعمال الغرفة، ثمّ انتقلوا إلى الغرفة.

وكان الشّيخ إبراهيم بن محمّد باهرمز يهنّىء آل شبام بمجاورة الفقيه عبد الله بن عمر جمّال، ويهنّىء أهل الغرفة بمجاورة الفقيه عبد الله بن محمّد جمّال.

وقال الشّيخ محمّد بن سراج: (لم يخل زمن من الأزمان من عصر قديم عن كثير فيهم من العلماء إلى وقتنا هذا، وقلّما نقصوا فيما مضى عن أربعين عالما، وبقيّة عامّتهم أخيار وصلحاء) اه

ونقل عن الشّيخ صالح بن محمّد بن أحمد عبّاد أنّه قال: (يكفينا فخرا مجاورتنا للفقيه عبد الرّحمن بن سراج، وخاله عبد الرّحمن بن عبد الله جمّال).

وكانت صلاتهم في المسجد الّذي يقال له: باجريدان في الغرفة، وقد سبق في الشّحر ذكر تخرّج الشّيخ عبد الرّحمن بن سراج من مدرستها، وقبل ذلك وبعده كان أخذه عن علماء بلاده ـ وفي مقدّمتهم: أبوه ـ كثيرا أثيرا.

وقد اضطرب الكلام في نسب آل باعبّاد بما هو مفصّل ب «الأصل»، والأكثر على أنّهم من بني أميّة، ولكن نقل بعضهم ـ أعني آل باعبّاد ـ عن «تاريخ ابن حسّان»: (أنّ جدّ الشّيخ القديم، وهو الشّيخ عبد الرّحمن، خرج وثلاثة معه من الحجاز للسّياحة، فنزلوا بالهجرين على الأمير محفوظ، فأحبّه وزوّجه بنته، فأولدها محمّدا والد القديم، فلمّا شبّ ـ أعني محمّدا ـ.. جاء إلى باثور فألفى فيه باجمّال، فخطب إليه بنته. فقال له: ما نسبك؟ فقال: التّقوى. فزوّجه ابنته، فأولدها عبد الله، وعبد الرّحمن، وعمر) اه

وهو صريح في كونهم طارئين على حضرموت لا من صميمها، ولماذا يعدل الشّيخ عن ذكر نسبه وهو من أشرف الأنساب؟! وعلّ له عذرا ونحن نلوم؛ فلربّما كان المانع عن التّصريح بنسبه الخلافات المذهبيّة؛ فإنّها كثيرة إذ ذاك، وهي عرضة المواربة والتّقيّة.

أمّا بنو أميّة اليزيديّون: فقد مرّ في شبام أنّ دولتهم استمرّت بحضرموت من سنة (206 ه‍) إلى سنة (412 ه‍)، وكون هؤلاء من الحجاز يمنع كونهم منهم، ولكنّ آل باعبّاد لم يدّعوا إلى يزيد، وإنّما ادّعوا في آل عثمان، وهم موجودون إذ ذاك بالحجاز، والبحث مستوفى ب «الأصل».

وفي «ذيل رشيدة الإخوان» لعبد الله بكران: (أن آل باحلوان وآل باعبّاد في

الغرفة لهم مآثر وصدقات جارية، وأوقاف ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، قال ابن خلدون في «مقدّمة تاريخه»: بنو عامر وبنو عبّاد من موالي بني أميّة، وكان أهلهم قضاة بني أميّة) اه

ونقل بعده عن ابن خلدون: أنّ بني عبّاد أصحاب إشبيلية من لخم، من قحطان وهو مناف لكونهم موالي بني أميّة، إلّا أنّه أشار إلى أن الموالاة كانت بالحلف، وبعيد أن يرجع نسب آل باعبّاد إلى أصحاب إشبيلية؛ لما عرف ممّا سبق.

ومن المقبورين بالغرفة: الشّيخ عمر بن عيسى باركوه السّمرقنديّ، أطال سيّدي الأستاذ الأبرّ في ذكره، وأثنى عليه ثناء جمّا، وهو من تلاميذ الشّيخ أبي بكر بن سالم.

وممّن أخذ عنه: السّيّد عمر بن عبد الرّحمن العطّاس، والشّيخ أحمد بن عبد القادر باعشن، صاحب الرّباط. وغيرهما. وله ذكر كثير في «القرطاس» و «شرح العينيّة» وغيرهما.

ومن أهل الغرفة: الشّيخ الصّالح الشّهير سالم بن عبد الله باعامر، له مسجد صغير في طرفها الشّرقيّ، اتّخذه آل الفاس مخفرا بالآخرة. وله أيضا مسجد آخر في جنوب البلاد، بسفح الجبل الّذي يطلّ عليها.

ومن اللّطائف: أنّ الشّيخ عوض بامختار ـ وكان مشهورا بالولاية والصّلاح ـ ماتت له امرأة، فاشتدّ وجده عليها، وبينا هو واضع كفّ حائر على ذقن نادم ـ من فرط اللّوعة ـ على دكّة دار بالغرفة.. إذ مرّ به الشّيخ عمر بن عبد الله بامخرمة، فقال له

يا عمر؛ (آه) طب أهل القلوب المراض؟

فأجابه الشّيخ عمر قبل أن يبلع الرّيق:

طبّه العذب لي ينزح على بير راضي وهي بئر يستقى منها بالغرفة ـ فذهب إليها فألفى امرأة تنزح منها فتزوّجها، وكان وإيّاها كما قال قيس [المجنون في «ديوانه» 166 من الطّويل]:

«محا حبّها حبّ الألى كنّ قبلها *** وحلّت محلّا لم يكن حلّ من قبل »

وبالغرفة جماعة من أعقاب السّيّد أحمد بن محمّد الحبشيّ، المتوفّى سنة (1038ه‍)

منهم: السّيّد زين بن علويّ بن أحمد، المتوفّى بها سنة (1100 ه‍).

ومنهم: الإمام الجليل، صاحب الفراسة الصّادقة والكشف الخارق، السّيّد عبد القادر بن محمّد بن حسين بن زين بن علويّ بن أحمد، المتوفّى بها سنة (1250 ه‍)، فلقد كان جليل الشّأن، عظيم المقدار، حتّى إنّ سيّد الوادي الحسن بن صالح البحر لا يزوره إلّا بعد أن يغتسل ويتطيّب، ويبالغ في احترامه، وبما غرس الله له من المحبّة في القلوب.. أقبلت عليه النّاس، فقامت عليه بعض نفوس السّادة آل أحمد بن زين وعقروا فرسه، وأصيب عاقرها، وتكلّموا عليه بما لا يليق، كما يعرف بعض ذلك من كتاب بخطّ يده سيّره إليهم، وهو هذا:

بسم الله الرّحمن الرّحيم: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ...) الآية.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) الآية.

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ...) إلخ.

(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) الحمد لله حمد من ردّ أمره إليه، ولجأ في مهماته عليه، والصّلاة والسّلام على سيّدنا محمّد أفضل الخلق لديه، وعلى آله وصحبه وسائر ذويه.

من عبد خائف من مولاه، الحقير عبد القادر بن محمّد الحبشي إلى إخوانه وأصحابه في الله السّادة الأشراف آل جعفر بن أحمد بن زين الحبشي، وكذلك محب أهل البيت عبد الله بن سعيد بن سمير.. سلك الله بهم إلى الطّريق السّديدة، ودلّهم على الأفعال الحميدة وإيّانا آمين.

السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، صدرت الأحرف من الغرفة والموجب ـ يا سادتي وأنت يا محب عبد الله ـ أنّ هذا أمر جرى في جنابنا وردّينا أمرنا إلى مولانا إخمادا للشرور وتقييدا للمحتري من الأشرار، ومعاملة مع عالم خفيات الأسرار، الّذي لا تضيع المعاملة لديه، والّذي كلّ شيء تحت حكمه وبين يديه، وبعد:

إنّ السادة يا محب عبد الله يتكلّمون بكلام قبيح ما يقال في البلدان، ويقولون: عاد نحن مرادنا منه الشّريعة، وكسر الشريعة وسار إلى سيئون خوف من طلّاب الشّريعة، ونحن سرنا إلى سيئون من القيل والقال على أنفسنا وقلوبنا ممّا جرى فينا من الأمور الشّنيعة، وجاؤوا لنا وسائط الله أعلم هل هم من طرف السّادة؟ أو هم حق فضول منهم؟ وقلنا نحن قد عفينا في الحقّ الّذي لنا ولا نحن طالبين حق من السّادة، وطرّبنا في السّوق أنّ كلا معذور من القبائل ووجهه أبيض من الّذي حضروا والّذي هم شالّين عنّا على أنفسهم، وفي وجيههم اعذرناهم ومرادنا السّكون لنا ودحر للسّادة حسبما حضر الولد جعفر بن هاشم، وما قد بلغكم، وبعد أن السادة بقي يصدر منهم كلام فينا ويزعمون أنّهم طالبين نحن الحقّ، وبعد جاء لنا واحد من أهل الفضل وقال: ما يمكن ما تعطي الحقّ السّادة في هذا الكلام الشّنيع، إن كان السّادة مطالبين.. نحن فيما يقولون الوعد منهم، وحيث أرادوا قريب أو بعيد وموفين لهم الحقّ في هذا الأمر وربّما وفّينا شيء من هذا الكلام ولا حد عالم به، ونحن مصرّين على فاحشة وإن لم يكن عندنا حق للسّادة ولا فينا شيء من هذا الكلام، وهذا إلّا بهتان ولغو وافتراء على الله؛ فالأمور كلّها إلى الله، (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ

أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) ولا نقول إلّا ما قاله الصّابرون:: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) و (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم، ولنا أسوة بمن مضى من سادتنا العلويّين كما قال سيدنا عبد الله الحداد [في «ديوانه» 127 من الرّمل]:

«بهتونا بمقال سيّء *** كانت الأحرى به لو أبصرت »

«قد حلمنا وصفحنا عنهم *** وبذا أسلافنا قد أخبرت »

و (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً)

ومن أجل الأمور الذي دخل في خواطر السادة من طرفها، يشهد الله علينا وملائكته: أنا ما طلبناها ولا دوّرنا لها غير جاءت نحن من غير طلب. انتهى الموجود من الكتاب.

وقد حذفت منه آيات وحديثا لا تكثر فيها مناسبة الموضوع، وفي الكتاب أغلاط حتى في الآيات تعرف بالفهم والذّوق، والله أعلم.

قال سيّدي الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر: وكانت للحبيب عبد القادر المذكور أمور غريبة من الرّياضات والخلوات، وله أربعينيّات متعدّدة.

وربّما تخلّف عن شهود الجمعة؛ لأنّ الله كشف له عن أحوال النّاس الباطنة، فيراهم في صور معانيهم. حتّى دعا له الحبيب حسن بن صالح البحر فستر الله ذلك عنه.

ومنهم السّادة الأجلّاء: عيدروس بن عبد الرّحمن بن عيسى الحبشيّ. وولداه: العلّامة الجليل محمّد بن عيدروس، المتوفّى بها سنة (1247 ه‍). وأخوه العلّامة الإمام عمر بن عيدروس، المتوفّى بها سنة (1250 ه‍).. مناهل علوم، ومفاتح فهوم، وقرّات عيون، وآحاد هي المئون، وصفاء كأنّما أخلصته القيون:

«لهم سرّة المجد التّليد وسرّه *** ومحض المعالي فيهم والمناقب »

ومنهم مسند حضرموت بل مسند الدّنيا كلّها في عصره إذ زلّت عن مرقاته الأصول، ولم يتّفق لأحد إلى مثل علوّه الوصول: أستاذنا الأبرّ عيدروس بن عمر؛ فإنّه مجمع المفاخر، وبحر العلم الزّاخر، وزينة الزّمن الآخر:

«أزالت به الأيّام عتبي كأنّما *** بنوها لها ذنب وهذا لها عذر »

وهو الإمام بحقّه، والكمال بصدقه، وعلى الجملة: فإنّي لا أجد عبارة ترضيني في وصف ما شاهدته من محاسنه، فضلا عمّا لم أشاهده، ولم ينته إلى تصوّره إذ ذاك سنّي؛ إذ الأمر كما قال أبو الطّيّب [في «العكبريّ» 2 / 287 من الطّويل]:

«وما حارت الأفهام في عظم شأنه *** بأكثر ممّا حار في حسنه الطّرف »

جمال يحسر الأنظار، وكمال يدهش الحضّار، وجلال يملأ البصائر، ومقام يملك الضّمائر، ووقار يأخذ النّفوس، فلا يبقى لديه رئيس ولا مرؤوس.. إلّا وهم خاضعو الأذقان، ناكسو الرّؤوس.

«كأنّ شعاع عين الشّمس فيه *** ففي أبصارنا عنه انكسار »

وحديث يهزّ الشّعور، ويجلب السّرور، كأنّما هو اللّؤلؤ المنثور، وتهتزّ له الجبال الرّكينة، وكأنّما تنزل عنده السّكينة.

«أندى على الأكباد من قطر النّدى *** وألذّ في الأجفان من سنة الكرى »

وممّا أستخرج به العجب من القوم، ولا أزال ممتلئا به في نفسي إلى اليوم.. أنّني وأترابي من الصّغار ـ مع الانطباع على الحركة ـ نبقى في مجلسه الشّريف الساعات العديدة، وكأنّما على الرّؤوس الطّير.

«فبقايا وقاره عافت النّا *** س وصارت ركانة في الجبال »

وكيف لا أعجب من شمول السكون، مع أنّنا لا نعرف كلّ ما يكون، وإنّما نلتذّ بريّاه، وننعم بمحيّاه، وحيّاه الله وبيّاه، فمع قصورنا عن فهم الكثير مما يسرح فيه من المعاني الرّائقة، والعبارات الفائقة.. نحسّ كأنّما تبسط له الملائكة أجنحتها، وتلقي ـ وما تدري ـ له الأكفّ أسلحتها، لا سيّما إذا ازدحم الجمع يستجلون هلاله، ويسمعون منه كلمة الجلاله.

«فتلقي وما تدري الأكفّ سلاحها *** ويخرق من زحم على الرّجل البرد »

وقد سبق في القويرة: أنّ شيخنا العلّامة ابن شهاب يقول: (لو لا أنّي رأيت ثلاثة؛ وهم: محسن بن علويّ السّقّاف، وأحمد بن محمّد المحضار، وعيدروس بن عمر الحبشيّ.. لما صدّقت بما يروى عن الرّجال من مقامات الكمال) ولكن جاء العيان فألوى بالرّوايات، وقد قال أبو عبادة [البحتريّ في «ديوانه» 2 / 310 من البسيط]

«رأيت مجدا عيانا في بني أدد *** إذ مجد كلّ قبيل غيرهم خبر»

ولا جرم فقد كان الأستاذ نسخة السّيرة النّبويّة، لا يحيد عنها شعرة، ولا يلتفت يمنة ولا يسرة.

«فما هو إلّا نبعة من غصونه *** وطلعة نور من شريف خلاله »

ولقد زرت هودا عليه السّلام معه في سنة (1311 ه‍)، ورأيت النّاس حافّين به.

«كأنّهم عند استلام ركابه *** عصائب حول البيت حان قفولها »

وهو يسير بسير ضعيفهم، وكلّما مشى ميلا.. عرض العقبة على مولى له ـ يقال له: فرج ـ يسير أمام دابّته، ينبو عن جنبه الرّمح، كأنّه المهر الأرن من فرط القوّة والنّشاط، ولكن هكذا كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

وما قدر ثنائي عليه بعدما كان ثناء مشايخه عليه الباب الواسع؟! ومن قيّل بين ما يأتي آخر هذا الكتاب من احتياط سيّدنا عبد الله بن حسين بلفقيه في توثيق الرّجال.. وبين ممادحه الضّخمة للأستاذ الأبرّ في أيّام شبابه.. عرف صدق ما أقول.

وصحّ أنّ أبناء الإمام الشّهير عبد الله بن حسين بن طاهر عادوا من زيارة دوعن، ولمّا سألهم أبوهم: هل عرّجتم على الولد عيدروس بن عمر؟ قالوا: لا. قال: لا تحلّوا الرّحال حتّى ترجعوا فتزوروه؛ لأنّ الأمر كما قال ذو الرّمّة [في «ديوانه» 270 من الوافر]:

«تمام الحجّ أن تقف المطايا *** على خرقاء واضعة اللّثام »

ومع إجماع النّاس على تفضيله، وإصفاقهم بتفرّده؛ لأنّ أمره كما قال الشّريف الرّضيّ [في «ديوانه» 2 / 403 من الطّويل]:

«ولو لم يقرّ الحاسدون بمجده *** أقرّوا على رغم بفضل التّقدّم »

.. فإنه لم يسلم من أذى الحسّاد، بل كان له منه النّصيب الكاثر، إلّا أنّه لمّا أبرّ عليهم.. سقطت هممهم عن منافسته، وكانوا معه كما قال مروان [في «ديوانه» 74 من الطّويل]:

«فما أحجم الأعداء عنك بقيّة *** عليك ولكن ما رأوا فيك مطمعا»

ولمّا لم يجدوا وسيلة لما يشفي ضباب ضغنهم عليه.. أرضوا المعلّم عليّ بن سعيد حميد ابن عبد هود على أن يسحره ـ وكان متمكّنا في ذلك الفنّ ـ ففعل.

ولمّا عرف خبره وانكشف أمره.. جاؤوا به إلى حضرة الأستاذ، فاعترف وقال:

إنّه بإغراء من بعض العلويّين وأحد آل باجمّال، واعتزم الشّيخ صالح بن محمّد بلفاس قتله، ولكّن الأستاذ حال بينه وبين ذلك، واقتنع منه بالتّوبة.

ثمّ إنّه خان وعاود العمل برشوة كبرى من أولئك، وهرب عن حضرموت، واشتهر أمره فقتل، والأمر أجلى من ابن جلا.

وما عسى أن أقول فيمن حفّه التّوفيق.. فالمجال رحب ولكن في الكلام ضيق، وما يزال بعيني ذلك الوجه الرّضي كأنّما هو فلقة القمر المضي، لا يكسف نوره بوس، ولا يغيّره عبوس، بل كان جبل رضا لا يتحلحل ولا يتكدّر ما عليه من الوسام، وقد تعوّد أن يطرد البكاء كلّما عرض له بالابتسام، كأنما عناه تميم بن المعزّ بقوله [من الطّويل]:

«وبي كلّ ما يبكي العيون أقلّه *** وإن كنت منه دائما أتبسّم »

ولقد مات له حفيد يسمى أحمد، كأنّه زهرة شرف في روضة ترف.

«زهرة غضّة تفتّح عنها ال *** مجد في منبت أنيق الجناب »

«قصدت نحوها المنيّة حتّى *** وهبت حسن وجهها للتّراب »

تعنو له البدور، كأنّما خلق من نور، وتلوح عليه شواهد الفتوح، ويضمّ إلى الشّرف والجمال خفّة الرّوح.

«رأته في المهد عتّاب فقال لها *** ذوو الفراسة هذا صفوة الكرم »

ولا عبارة تفي وقد بذّ جماله المكتفي، ومع الكمال النّاجم.. لم يأخذ بقول كشاجم [في «ديوانه» 61 من الكامل]:

«شخص الأنام إلى كمالك فاستعذ *** من شرّ أعينهم بعيب واحد»

دو كانت وفاته في جمادى الآخرة سنة (1313 ه‍)، فاشتدّ عليه وجده، وغلبته عينه؛ لأنّه وإن كان من سادات العارفين الّذين لا تبقى لهم مع الله إرادة.. لم ينس مقام الرّحمة، بل وفّى كلّا حقّه، كما قلت عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم من مطوّلة نبويّة [في «ديوان المؤلّف» 144 ـ 145 من الكامل]:

«واذكر مصارع آله فهم الألى *** يتقدّمون إذا الفوارس أحجموا»

«فلطالما حزن النّبيّ لجعفر *** ولعمّه وهو الكميّ المسلم »

«وبكى عبيدة يوم بدر قبلهم *** عيناه تدمع والفؤاد مسلّم »

وقلت في رثائي لثمرة الفؤاد ولدي بصريّ السّابق ذكره في ذي أصبح [من الكامل]:

«هذا الكمال فلو أخلّ بمظهر *** لأتى إلى أخلاقه يتذمّم »

وقلت من أخرى:

«وما زال حرب بين صبري ورحمتي *** وإنّي لراج فيهما كامل الأجر »

«وقد أنكروا فعل الفضيل ومشيه *** لدفن ابنه في حبرة ضاحك الثّغر »

«وخير الورى في غير ما موقف ذرى *** وبلّ الثّرى دمعا يفوق على الدّرّ»

أمّا سيّدنا الأستاذ الأبرّ.. فلو رآه أكبر أديب بذلك اليوم الرّهيب.. لما خرج عن قول حبيب [في «ديوانه» 1 / 123 من الكامل]:

«ورأيت غرّته صبيحة نكبة *** جلل فقلت: أبارق أم كوكب؟!»

ومع ذلك فقد وفّى حقّ المقامين يومئذ فأذال الدّمع باديا، ثمّ لجأ إلى التّبسّم ثانيا، على حدّ قول الرّضيّ [في «ديوانه» 2 / 211 من الكامل]:

«ولربّما ابتسم الفتى وفؤاده *** شرق الجنان برنّة وعويل »

وذكر الجنان بعد الفؤاد من الحشو القبيح.

وقول الآخر [من الطّويل]:

«ضحكت وكان الصّبر منّي سجيّة *** وقد يضحك الإنسان وهو حزين »

وقال الأوّل [من الكامل]:

«ولربّما ابتسم الكريم من الأذى *** وفؤاده من حرّه يتأوّه »

ثمّ إنّ ابتسامة الأستاذ لم تكن إلّا عن برد الرّضا، ولكنّها وقعت على والدي وأمثاله من محبّيه وعارفيه أمثال الصّاعقة، فانقبض رجاهم، واطلخمّ دجاهم، وفاضت منهم العبرات وتصاعدت منهم الزّفرات، وكان له أمر غريب، ومشهد مهيب، وزاد الطّين بلّة أنّ سيّدي علويّ بن عمر شقيق الأستاذ ـ وكان جبلا من الحلم والعبادة، وركنا من أركان الشّرف والسّيادة ـ توفّي قبله في جمادى الأولى من تلك السّنة.

والشّابّ المنغّص الشّباب أحمد، قال الشّيخ عمر شيبان ـ وقد أظهر الشّماتة له بعض أهل الظاهر ـ فقال أبياتا في يوم الإثنين (29) جمادى الآخر سنة (1313 ه‍) [من مجزوء الخفيف]:

«نحن بالله عوذنا *** والحبيب المقرّب »

«كلّ من رام ضرّنا *** من قريب واجنبي »

«سهمنا فيه قولنا *** حسبنا الله والنّبي »

في أبيات ضعيفة التّركيب؛ لأنّ الله لم يعلّمه الشّعر لعظيم نصيبه من الوراثة النّبويّة فيما أظنّ، وقد دعا فيها على الشّامت فاستجاب الله دعاءه إن كان الّذي عرفته في لحن القول برغم تكتّم والدي ورفاقه بذلك لبعدهم عن المنافسات رضوان الله عليهم.

وقد قرأت على سيّدنا الأستاذ الأبرّ، وسمعت منه، وحضرت لديه، وتكرّرت لي الإجازة والمصافحة والتّلقيم والإلباس منه، وتلقّيت عنه المسلسلات بالفعل بعضا، والإجازة في الباقي، وأخلصني بدعائه، وشملني باعتنائه، وما ألذّ على لساني وقلمي من ثنائه، ولله درّ المتنبّي في قوله [في «العكبري» 3 / 261 من الكامل]:

«ما دار في الحنك اللّسان وقلّبت *** قلما بأحسن من نثاك أنامل »

وقد ذكرته في «الأصل» و «الدّيوان» بأكثر ممّا هنا، وكلّه قليل، لا يشتفي به الغليل؛ لأنّ محاسنه الفضاء لا يقطعه نسر، والكثير لا يشمله حصر.

«وتحيّرت فيه الصّفات لأنّها *** ألفت طرائقه عليها تبعد »

وقد انتهت مناقب السّلف الصّالح إليه، وما رأى النّاس إجماعا على فضل أحد مثل إجماعهم عليه.

«ما زال منقطع القرين وقد أرى *** من لا يزال مشاكل يلقاه »

«ليس التّفرّد بالسّيادة عندنا *** أن توجد الضّرباء والأشباه »

ثمّ إنّه لم يزل يعاني الآلام، في ثبات الأعلام، حتّى نزل به الحمام، فاستدعى أهله وأولاده، وشرب من ماء سقاهم فضله، وودّعهم وأوصاهم ودعا لهم، ثمّ أخذ الموت يلتاط به، حتّى بردت أطرافه، ونزل به قوم من آل أحمد بن زين الحبشيّ فأمر بتسخين يده كيلا ينكروا بردها، وأذن لهم وقرأ الفاتحة، ولمّا نهضوا.. عزم على الصّلاة، فأريد على التّرخّص في الطّهارة لضعفه وموت أطرافه.. فقال: كيف آخذ بالتّوسعة وهذه آخر صلاتي في الدّنيا وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «صلّ صلاة مودّع».

«فما تلكم الأخلاق إلّا مواهب *** وإلّا حظوظ في الرّجال تقسّم »

وبعد أن فرغ من صلاة العصر على أتمّ حال.. أمر بأن يوجّه إلى القبلة على شقّه الأيمن، وما كاد ينتهي من الجلالة حتّى فاضت روحه في التّاسع من رجب سنة (1314 ه‍)، ولم يزل حيّا بآثاره المشاهدة، ومناقبه الخالدة، ونشره الفائح، وابنه الصّالح، غزير الحلم، ومن له من المكارم أفضل سهم، والصّادق عليه قول عليّ بن الجهم [من الطّويل]:

«فما مات من كان ابنه لا ولا الّذي *** له مثل ما سدّى أبوه وما سعى »

فلقد خلفه ولده جمال الدّين محمّد على مزايا فاضلة، وأخلاق كاملة، وخيرات شاملة، ولكنّه لم يطل عمره، بل مات وشيكا في سنة (1319 ه‍)، واتّفق أن توارد كثير من أهل هذا البيت الطّيّب ـ نساء ورجالا ـ على حياض المنيّة، قبيل وفاة الأستاذ الأبرّ وعقيبها، فكانوا كما قيل [من الخفيف]:

«أهل بيت تتابعوا للمنايا *** ما على الموت بعدهم من عتاب »

وكما قال الرّضيّ [في «ديوانه» 1 / 182 من الكامل]:

«هتف الرّدى لجميعهم فتتابعوا *** طلق العطاس بني أب وبني أب »

والقائم في مقامه اليوم، وترتيب مجالسه ومدارسه: حفيده الفاضل المكرّم عليّ بن محمّد بن عيدروس أخو أحمد السّابق ذكره، نسأل الله أن يسلك بنا وبه الطّريق، ويلحقنا وإيّاه بأولئك الفريق، ويعمّر بنا وبه الدّيار ويحيي بنا وبه الآثار، ولله درّ أبي عبادة في قوله [في «ديوانه» 1 / 336 من الكامل]:

«لا عذر للشّجر الّذي طابت له *** أعراقه أن لا يطيب جناه »

ونسيت ـ ما أنساني إلّا الشّيطان ـ ذكر أن لا مناسبة بين كلام سيّدنا الأستاذ الأبرّ في مجالسه وبين قلمه؛ إذ كان لا يريد من قلمه إلّا تقييد الشّوارد وتحصيل الفوائد، وكذلك كان شعره ضعيفا.

أمّا مجالسه.. فقد كانت بساتين نافحة الأزهار يانعة الأثمار، كما يعرف بعض ذلك بما حصّله والدي رضوان الله عليه باستذكاره بعد وفاته من كلامه.

ومن فضلاء الغرفة: شيخنا الإمام، السّيّد: شيخان بن محمّد الحبشيّ، كان بحرا من بحور العلم، وجبلا من جبال العبادة، ونجما من نجوم الإرشاد، ورجما من رجوم الإلحاد.

«إمام رست للعلم في أرض صدره *** جبال جبال الأرض في جنبها قفّ »

أقام في طلبه زمانا بمكّة المشرّفة، وأخذ عن أراكينها، وكان سريع المطالعة، طالع تفسير «الخازن» في أربعة أيّام مطالعة بحث وتحقيق، وكتب عليه تعليقات، وله شعر يرتفع عن أشعار العلماء، منه القصيدة الطّولى الّتي استهلّها بقوله [من الرّمل]:

«لمع البرق على أطلال ميّ *** وسقى الودق هضيبات لؤيّ »

وورد مرّة إلى سيئون سؤال من آل يحيى، يتعلّق بسجود التّلاوة في الصّلاة، فكتب عليه السّيّد محمّد بن حامد بن عمر السّقّاف جوابا، صادق عليه العلّامة السّيّد عليّ بن محمّد الحبشيّ وجماعة من طلبة العلم بسيئون، فوافق وصول العلّامة السّيّد شيخان، فعرضوه عليه، وطلبوا منه المصادقة، فأبى إلّا بعد المراجعة، فأعطوه «حاشية الإقناع» فاستند في ردّ ذلك الجواب إلى عبارة عن المدابغي، فقال له السيد محمد بن حامد: دعنا من المدابغيّ، فغضب السّيّد شيخان وقال للسّيّد محمّد: لا صواب في جوابكم إلّا البسملة وما والاها، فحالا أخذ السّيّد العلّامة عليّ بن محمّد الحبشيّ الجواب، وسحب مصادقته، وشطب اسمه.

وقد نوّهت بهذا في إحدى خطبي بالمحافل العامّة، وأشهد لتبقى أقدامه وسوقه متورّمة مدّة من شوّال؛ لكثرة قيامه برمضان؛ إذ كان يتلو ختمة باللّيل وختمة بالنّهار، كلّها من قيام.

وكان شديدا على أهل المنكرات، متجافيا عن أبناء الدّنيا منحرفا عنهم، يغلظ القول لهم، ولا يحابي ولا يداهن. وطائفة بني طويح يبغضونه، ويزعمون أن الحال خرج به عن حدّ الاعتدال، ولذا لم يجر الأمر بينه وبين العلّامة الشّهير السّيّد عليّ بن محمّد الحبشيّ على ما تقتضيه القرابة؛ إذ كانا مستويين في تعدّد النّسب، يجتمعان في الجدّ الخامس لكلّ منهما وهو السّيّد محمّد بن حسين بن أحمد الحبشيّ صاحب الحسيّسة.

وقد بدا له أن ينتقل في آخر أيّامه من الغرفة إلى سيئون، فاشترى أرضا ـ في شرقيّ حوطتنا علم بدر ـ واسعة بثمن يسير لائق بذلك الزّمان؛ لأنّها كانت غامرة، فابتنى له بها دارا واسعة على طبقة واحدة، لم يقدر على إكمالها؛ لضيق يده، وشدّة يبوسة عيشه، وصار يتردّد بينها وبين الغرفة إلى أن ألقى بها العصا وحطّ الرّحل.

وكان يتردّد على والدي كثيرا، وكان والدي يجلّه ويكرمه، ويجعله في مقام أشياخه. قرأت عليه وأخذت عنه وسمعت منه، مع أنّه لم يأخذ عنه إلّا القليل؛ كالشيخين عوض بكران الصّبّان وأخيه أحمد، والأخوين محمّد بن هادي بن حسن، وشيخ بن أحمد بن طه.

ولا يخلو الجوّ بينه وبين سيّدي الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر من تكدير نشأ عن وجود بنت الأستاذ الأبرّ في بيته عند ولده محمّد بن شيخان، فلم يحسنوا عشرتها، ولم يؤدّوا حقّها، ومع ذلك فكانت تأتيه منهم قوارص بظهر الغيب.

ويرى بعضهم أنّ ذلك هو السبب في قلّة الانتفاع به، ولا غرو؛ فقد أشار القشيريّ أنّ ما وقع للحلّاج سببه الاعتراض على المشايخ، وذكر اليافعيّ في «تاريخه» [3 / 477] أنّ ما جرى على ابن الجوزيّ سببه الكلام على الإمام الرّبّانيّ سيّدنا عبد القادر الجيلانيّ، توفّي المترجم في رجب من سنة (1313 ه‍) وانطبق على ذلك العام قول حافظ إبراهيم [في «ديوانه» من الطّويل]:

«فيا سنة مرّت بأعواد نعشه *** لأنت علينا أشأم السّنوات »

إذ مات بإثره جماعات من أراكين حضرموت، كان صاحبنا الشّيخ محمّد الدّثنيّ يوصلهم إلى خمسة وعشرين، كلّهم أعيان، ومع الأسف لم تكن أسماؤهم مجموعة، وإلّا.. فقد كان تقييدها من الفوائد، على أنّ كثيرا منهم يعرف ممّا في غير هذا المكان.

«لقد أولع الموت الزّؤام بجمعهم *** كأنّ الرّدى فيهم تحلّل من نذر »

«مضوا فكأنّ الحيّ فرع أراكة *** على إثرهم عري من الورق النّضر»

وصلّى عليه الأستاذ الأبرّ، وحصل ساعتئذ نزاع بين السّادة محمّد بن عبد الله الحدّاد ـ السّابق ذكره في قيدون ـ وبين رجل آخر من آل الحدّاد بالغرفة، ارتفع فيه الصّوت، حتّى أسكتهم الأستاذ الأبرّ بإشارته، وسبب ذلك اختلاف الرّجلين في المكان الّذي يصلّى فيه على الجنازة.

وبإثر انتقال الحبيب أحمد بن زين الحبشيّ من الغرفة ـ حسبما تقدّم بالحوطة ـ بقي بها ولده محمّد بن أحمد إلى أن مات، ولا يزال بها أعقابه.

وبالغرفة جماعة من ذرّيّة السّيّد عمر بن علويّ الحدّاد.

منهم: الشّيخ الرّابع من مشايخ سيّدنا الأستاذ الأبرّ، وهو: السّيّد الإمام عبد الله بن حسن بن عبد الله بن طه بن عمر المذكور، المتوفّى سنة (1285 ه‍).

ومنهم: الفاضل الجليل، أحد تلاميذ والدي السّيّد حسن بن أحمد الحدّاد، توفّي بالحرشيّات مرجعه من الحجّ سنة (1349 ه‍) ودفن بالمكلّا، وقد سار ولده المبارك أحمد الموجود الآن بالغرفة في طريقه.

ومن صلحاء الغرفة: الشّيخ عمر عبود بلخير، كان قطعة من النّور، كأنّما هو من فرط العبادة وصفاء السّريرة وصدق الفراسة، ملك من الملائكة، أخذت عنه، ولبست منه، توفّي بالغرفة في حدود سنة (1316 ه‍).

وكان بالغرفة كثير من آل باحفين، وآل فضل، وآل عطوفه، وآل مسلّم، ومنهم: آية الورع، ومثال النّزاهة، صاحب القصّة المذكورة ب «الأصل»، أحمد بن سالم بن عمر بن مسلّم، المتوفّى بها في سنة (1352 ه‍).

ومن أهل الغرفة: آل شيبان؛ منهم: الرّجل الصّالح، حليف المكارم، وحمّال المغارم، عوض بن عمر شيبان.

«لا يتبع المال أنفاسا مصعّدة *** ولا يعير العطايا زفرة النّدم »

توفّي بالغرفة سنة (1329 ه‍).

ومنهم: ابنه ـ الّذي حظي بخدمة سيّدنا الأستاذ الأبرّ، وكان يده ولسانه وموضع ثقته، ونجيّ روحه، وأنيسه في خلواته، وكاتبه وجامع بعض مناقبه ـ عمر بن عوض بن عمر شيبان، المتوفّى بالغرفة في سنة (1356 ه‍).

ومنهم: آل بلخير، أسرة الشّيخ عمر السّابق ذكره. يقال: إنهم من ذرية أبي الخير الكندي الآتي ذكره أوائل تريم.

ومن آل الغرفة: آل ابن ثعلب؛ فإنّهم لمّا تفرّقوا بعد زوال دولتهم بتريس.. توطّن بقاياهم بالغرفة.

ومن أهلها: آل بن ذياب، وآل بلجون، وآل طرموم، وآل باحارثة، وآل عمران، وآل منقوش، وآل باحلوان، وأصلهم من اليمن من بلدة يقال لها: برط من أعمال صعدة، ولكنّ جدّهم قيس بن زمليّ بن عمر عبد الله بن قاسم بن عبد الله بن فضل بن ناصر الدّين عبد الله باحلوان.. جاء هو وأولاده أحمد وبوبكر وزمليّ وعبد الله في جيش الصّفيّ أحمد بن حسن فاتح حضرموت للمتوكّل على الله إسماعيل، وبقي أميرا على الهجرين من جهة الإمام إلى أن توفّي بها سنة (1068 ه‍)، ثمّ انتقل أولاده السّابق ذكرهم إلى الغرفة، وانتشروا، وهاجر ناس منهم إلى جاوة، وأعقبوا هناك.

وزمليّ والد قيس هو مؤلّف كتاب «رشيدة الإخوان» الّذي نقلنا عنه في وادي عمد، وغيره.

وناصر الدّين باحلوان هو أمير زيلع، وهو صاحب الشّيخ أبي بكر العدنيّ.

أمّا حالات الغرفة السّياسيّة: فقد كان آل كثير ينتسبون للشّيخ عبد الله القديم عبّاد بالخدمة؛ لأنّ جدّهم تربّى به.

وكانوا يزورون الشّيخ محمّد بن عمر فيها، ويتردّدون عليه بها، ويتبرّكون بدعائه، كما كانوا عليه مع عمّه، حتّى لقد كاد من اعتقادهم فيه يكون هو الأمير لا على الغرفة فقط.. بل على كلّ ما تحت نفوذهم من بلاد حضرموت.

وفي الحكاية (349) من «الجوهر الشّفّاف» ما يعرف منه أنّ جاه آل باعبّاد كان أضخم من جاه العلويّين ـ وسيأتي ما يؤكّده في مدوده ـ غير أنّ السّلطان عبد الله بن عليّ بن عمر الكثيريّ المتوفّى سنة (894 ه‍) هو الّذي ابتدأ بإساءة الأدب على آل باعبّاد، فابتنى حصن الغرفة على القارة الّتي بها حصون آل عبود بن عمر الآن، فعظمت الرّزيّة على المشايخ بضغطه عليهم، وعزموا على التّحوّل من الغرفة.

أمّا بدر بوطويرق: فقد دلّت الأخبار على أنّ وطأته عليهم كانت أشدّ؛ إذ تدخّل في كلّ شيء من أمرهم، ونزع عنهم نظارة أوقافهم، وصار يولّي ويعزل، وبعث مرّة من الشّحر بعزل الشّيخ محمّد بن عقيل عبّاد، وإبداله بالشّيخ حسين بن عليّ عبّاد.

ولمّا ضعفت دولة آل عبد الله الكثيريّين.. استبدّ عليهم آل كثير بأمر الغرفة، وجعلوا لآل باعبّاد الاستقلال الاسميّ، وهم يفعلون ما شاؤوا بدون أن يتناهوا عن منكر يفعلونه بها قطّ؛ إذ لا وازع إلّا منصبة باعبّاد، وما سلاحها إلّا أمثال التّمائم، وقد قال أبو الطّيّب [في «العكبري» 4 / 111 من الطّويل]:

«ديار اللّواتي دارهنّ عزيزة *** بطول القنا يحفظن لا بالتّمائم »

وفي سنة (1344 ه‍) نشبت الحرب بين آل خالد بن عمر، الّذين يرأسهم صالح عبيد وعمر عبيد، وبين آل بابكر الّذين يرأسهم عوض بن عزّان بن عبد الله بن عوض بن ناصر بن عبدات، بالسّبب الّذي سبقت الإشارة إليه في بابكر، فلم يكن من آل بابكر إلّا أن وضعوا بعض عسكرهم بالغرفة بإشارة من عبيد صالح بن سالمين بن طالب؛ لأنّ عبد الله بن محسن بن قاسم ـ الّذي كانت عامّة كلف الحرب على كيس أبيه ـ كان يستنصحه ويأخذ بإشارته ـ وهو له غاشّ ـ فلم يسع عوض بن عزّان إلّا الموافقة، فتضرّر أهل الغرفة.

ونصحت أنا عبيد صالح بن سالمين، فوعدني أن يشير عليهم برفع عسكرهم عنها، ولم يفعل؛ لأنّه كان يبغضهم في السّرّ ـ وإن تظاهر بمساعدتهم فيما يرى النّاس ـ فلم يكن من صالح عبيد بن خالد بن عمر إلّا أن هجم على الغرفة وأخذ أكثرها عنوة، ثمّ أخذ البقيّة الباقية عن رضى من عوض بن عزّان بن عبد الله بن عوض بن ناصر، إزاء ثمان مئة ريال قبضها من آل خالد، حسبما يخبرني هو بنفسه.

ولمّا وضعت الحرب أوزارها بين آل عبدات بعضهم بعضا، ورسخت قدم صالح عبيد بالغرفة.. سيّر الكتب لقبائل آل كثير، وللسّيّد حسين بن حامد، ولدولة آل عبد الله بسيئون وتريم يخبرهم بأن لا قصد له إلّا إصلاح الغرفة وحفظها وتأمينها، ويدعو إلى المشاركة في الرّأي، فعادت أجوبتهم عليه بما يبرّر صنيعة، ثمّ جاشت جوائشهم، والّذي تولّى كبر أمرهم هو: الشّيخ سالم بن جعفر بن سالم بن مرعيّ بن طالب، والشّيخ عامر بن جعفر بلفاس، وساعدهما السّيّد حسين بن حامد، ودولة آل عبد الله، وحاصروا الغرفة وآل خالد بالحول، واحتلّوا الجبل الّذي يطلّ على الغرفة من جنوبها، وأذكوا نار الحرب، وصوّبوا المدافع، ولم يظفروا بطائل.

ثمّ تدخّلت

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


69-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (حصون آل كثير)

حصون آل كثير

والغرفة محاطة بحصون آل كثير:

ففي شرقيّها: حصون آل خالد بن عمر، وفي الرّسالة الّتي طبعها الشّيخ عبيد بن عبدات ووزّعها بين النّاس، ما يصرّح بأنّ آل خالد بن عمر لم يبنوا ديارهم بذلك المكان إلّا بمخابرة من آل الفاس.

وفيها أيضا: أن ديار آل الفاس كانت بالجانب الغربيّ من السّليل، في شمال ديار آل فحيثا.

وفيها أيضا: أنّ لآل الفاس ذكر في كلام الشّيخ سعد السّوينيّ حيث يقول: (باسير أرض لنفاس من ظلم بلفاس) وهذا يدلّ على تقادم عهدهم.

وفي الصّلح الواقع بين آل خالد وآل الفاس سنة (1336 ه‍).. كان من الشّروط لآل خالد: أن يستقلّوا بولاية الحول.

ومن الشّروط عليهم: أن تهدّم حصونهم تلك، فهدّمت، ولكنّ آل الفاس ابتنوا بها مخفرا وسمّوه (خيبر) تشبيها لآل خالد باليهود، فكانت حزازة في نفس الشّيخ صالح عبيد، يتحيّن الفرص لأن يثأر بها فمات بحسرته، ولكنّ ولده عبيدا أثلج خاطره وبلّ غليله، فتمكّن من استمالة عزّان بن محمّد أحد بلفاس، حتّى مكّنه من دياره ومن دار محمّد بن شعبان في مثوى آل الفاس ومن ذلك المخفر فهدمه، ولكنّها لم تطل مدّته من بعد ذلك.

وبينما عزّان بن محمّد راجع من الغرفة ذات يوم، بعد تسليمه دياره لعبيد صالح.. بصر به آل الفاس، فأطلقوا عليه الرّصاص حتّى قتلوه، ورفعوا محمّد بن شعبان إلى الحكومة، فأخذته إلى المكلّا، ثمّ ردّته إلى سجن سيئون، وبه كان هلاكه.

ومن اللّطائف: أنّني زرت سيّدي الشّهم الفاضل محمّد ابن سيّدنا وشيخنا الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر في سنة (1318 ه‍).. فألفيت منزله ملآنا برجال آل الفاس، للتّرضية عن حال صدر عن بعض سفهائهم إزاء بعض أتباعه وخدمه، وإذا رجال عليهم وسام، ولهم بسطة في الأجسام، وغرر باهرة، ووجوه زاهرة، ولحى غالية، وهمم عالية.

«إذا لبسوا عمائمهم طووها *** على كرم وإن سفروا أناروا »

ورئيسهم لذلك العهد الشّيخ صالح بن محمّد بلفاس، قدّموه عليهم عندما بقل عارضاه، وما زال على رئاستهم إلى أن مات عن عمر طويل، وكان جميلا طويلا، يأتي فيه قول الرّضيّ:

«مضى مثل ما يمضي السّنان وأشرقت *** به بسطة زادت على بسطة الرّمح »

وقول ليلى الأخيليّة [من الطّويل]:

«فنعم فتى الدّنيا وإن كان فاجرا *** وفوق الفتى لو أنّه غير فاجر»

بعد إبدال (فاجر) ب (ظالم)، وقد ذكرنا هذا البيت لمحسن بن عبد الله بن عليّ العولقيّ ولغيره، وصالح محمّد هو الأحقّ به.

وقبيل أن يهلك محمّد بن شعبان وردني في جماعة من آل الفاس ـ لا يقلّ عددهم عن عشرة ـ في مسألة، فتعجّبت من قصر قاماتهم وصغر هامتهم، ولم أصدّق ـ إلّا بعد الإلحاح في السّؤال ـ أنّهم من سلالة أولئك، وهكذا يهرم الزّمان، وتتراذل الأيّام.

وكانت لآل الفاس قبولة حارّة ونجدة قويّة، ولهم مع آل خالد بن عمر خاصّة، ومع آل عبدات عامّة حروب لم تضرع فيها خدودهم، ولا زلّت فيها نعالهم.

وقد بلغ من جرأتهم أنّهم أخفروا آل جعفر بن طالب، وقتلوا واحدا من آل عبدات في غربّي تريس، ومعه أحد آل جعفر بن طالب، فنضخ رشاش دمه في ثيابه، ولم ينتصفوا منهم.

ولم يبق بحصونهم منهم اليوم إلّا نحو الثّلاثين رجلا؛ إذ صار مثوى العلويّين وآل كثير اليوم بجاوة.

وحصون آل الفاس: واقعة في شمال حصون آل خالد بن عمر المهدومة. وفي شرقيّ الغرفة متشاملة: حصون آل العاس، لا يزيدون عن اثني عشر رجلا. ثمّ: حصون آل عون، وهم نحوهم في العدد. ثمّ: حصون آل مهريّ، الّتي سكنوا بها بعد جلائهم عن سحيل شبام، وعددهم بحضرموت نحو العشرين رجلا.

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


70-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (تريس)

تريس

هي من قدامى البلدان، ولم يذكرها ياقوت، ولم يزد الطيّب بامخرمة على قوله: (تريس: قرية من قرى حضرموت، شرقيّ محلّة المشايخ آل باعبّاد المعروفة بالغرفة، ذكرها القاضي مسعود) اه

وفي موضع من «صفة حزيرة العرب» للهمدانيّ [ص 293]: (تريم من ديار تميم، وتريس بحضرموت) اه

ولعلّ تريسا فيه محرّفة عن تريم؛ لأنّه الأليق بالسّياق.

وفي «الأصل» عن صاحب «معجم البلدان» عن «معجم البكريّ» أنّها:

(سمّيت باسم تريس بن خوالي بن الصّدف بن مرتع الكنديّ) اه

ثمّ رأيت «معجم البكريّ» فإذا النّقل صحيح، وفيه: أنّ لتريس أخا اسمه مديس، وما ذكره من سبب التّسمية معقول؛ فإن أغلب سكّانها من أعقاب الصّدف، ففيها مثرى المشايخ آل باكثير، وقد سبق في شبام أنّ منهم الشّيخ عبد الله بن أحمد بن محمّد، أحد أصحاب الإمام البخاريّ.

ولكنّه جاء في «الضّوء اللّامع» [5 / 11] للسخاوي ذكر: عبد الله بن أحمد باكثير هذا، وقال: إنّه أخذ عنه، فتبيّن به أنّ البخاريّ في «التّاج» [14 / 21] مصحّف تصحيفا مطبعيّا عن السّخاويّ، وقد ترجم السّيّد عبد القادر العيدروس في «النّور السّافر» [178] للشّيخ عبد الله بن أحمد باكثير هذا، وذكر أنّ وفاته سنة (925 ه‍)، وولادته بحضرموت، وطلبه للعلم بغيل باوزير. وكانت وفاة السّخاويّ بالمدينة المشرّفة سنة (902 ه‍).

ولا بأس بعلامة الدّرك بعد الفوت أن نتمثّل بقولهم: (إن ذهب عير.. فعير في الرّباط)؛ لأنّه إن فاتنا الشّيخ عبد الله بن أحمد باكثير.. ففي أيدينا من هو أقدم وأولى بالذّكر منه وهو الشّيخ عبد الله الحضرميّ الّذي كان يخطّىء الفرزدق في أشعاره، فهجاه فخطّأه في نفس هجائه.. جاء في «خزانة الأدب» [1 / 237] بعد ذكره لذلك ما نصّه: (وعبد الله هذا هو عبد الله بن أبي إسحاق الزّياديّ الحضرميّ، قال الواحديّ في كتاب «الإغراب في علم الإعراب» كان عبد الله من تلامذة عتبة بن سفيان، وهو من تلامذة أبي الأسود الدؤليّ واضع النّحو، وليس في أصحاب عتبة مثل عبد الله... إلى أن قال: وكان يقال: عبد الله أعلم أهل البصرة وأعقلهم، وفرّع النّحو وقاسه، وكان أبو عمرو بن العلاء قد أخذ عنه النّحو، ومن أصحابه الّذين أخذوا عنه النّحو: عيسى بن عمر الثّقفيّ، ويونس بن حبيب، وأبو الخطّاب الأخفش) اه

توفي سنة (117 ه‍)، وهو ابن ثمان وثمانين سنة، وصلّى عليه بلال بن أبي بردة، وقد ذكرناه هنا عن غير كبير مناسبة؛ لأنّ فيه تعزية عن باكثير. قال شنبل: وفي سنة (912 ه‍) توفّي الفقيه القاضي شجاع الدّين محمّد بن أحمد باكثير في سيئون، ودفن بها.

وفي سنة (913 ه‍): توفّي الرّجل الصّالح عتيق بن أحمد باكثير، وهذا هو جدّ آل بن عتيق أصحاب مدوده.

وقد ألّف العلّامة الجليل، شيخنا الشّيخ محمّد بن محمّد باكثير كتابا سمّاه «البنان المشير إلى علماء وفضلاء آل باكثير».

وممّن بتريس منهم: الشّيخ أبو بكر بن عمر، عنده حظّ وافر من الفقه، قال الشّيخ عليّ بن عبد الرّحيم: (ولم أعلم له مشاركة في غيره، ولي قضاء شبام بعد والدي وولي قضاء الغرفة وقضاء هينن، وإليه المرجع عند المنازعات بين الدّرسة) اه

قال الشّيخ محمّد باكثير: (وكانت وفاته في حدود سنة 1083 ه‍).

ومنهم: الشّيخ عبد الرّحيم بن محمّد بن عبد الله المعلّم بن عمر بن قاضي باكثير، وإنّما قيل لجدّهم: (قاضي)، ولم يكن به؛ لأنّه حضر نزاعا في مشكل فحلّه بفهمه، فقيل له: إنّك لقاضي، فلزمه، تولّى الشّيخ عبد الرّحيم القضاء ببور نحوا من سنتين، ثمّ حصلت عليه شدّة من بعض الظّلمة فعزل نفسه وعاد إلى بلده تريس، ثمّ طلبه السّلطان لقضاء شبام، ففعل وأقام سنتين وخمسة أشهر، ثمّ تعصّب عليه الحسّاد فعزل، وعاد إلى تريس، واشتغل بالمطالعة، ثمّ تولّى قضاء تريم في سنة (1094 ه‍).

وفي سنة (1096 ه‍) تنازع هو وآل تريم في قضيّة الهلال، وردّ على جواب في القضيّة للشّيخ محمّد بن عبد الله باعليّ برسالة سمّاها: «المنهل الزّلال في مسألة الهلال»، فوافقه السّيّد علويّ بن عبد الله باحسن ـ مع أنّه كان من منابذيه، والشّيخ عبد الله بن محمّد بن قطنة، والشّيخ عبد الله قدريّ باشعيب.

وفيه يقول عبد الله قدريّ [من السّريع]:

«فتريم قاضيها التّريسي غدا *** يقوّم الدّين لتهنا تري »

«فبالحري من بعد عري أتت *** تريم تزهو في ثياب الحري »

وفي البيتين الاكتفاء، وأمّا حذف الهمزة من (تهنا) للجزم.. فكما جاء في حديث توبة كعب بن مالك: «لتهنك توبة الله عليك». ولم يعلم بموته ولا قبره

ومنهم: الشّيخ أبو بكر بن عبد الله بن محمّد بن عبد الله بن عمر باكثير، ولم يعلم وقت وفاته، ولكنّه من تلاميذ السّيّد أحمد بن محمّد الحبشيّ، المتوفّى بالحسيّسة سنة (1038 ه‍)، والسّيّد عبد الرّحمن الجفريّ مولى العرشة، المتوفّى بتريس سنة (1037 ه‍).

ومنهم: الشّيخ أبو بكر بن عثمان باكثير، له ذكر في «مجموع الأجداد».

ومنهم: الشّيخ عبد القادر بن إبراهيم بن عبد القادر باكثير، توفّي بتريس.

ومنهم: الشّيخ إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم باكثير، توفّي بتريس.

ومنهم: الشّيخ أبو بكر بن أحمد بن محمّد باكثير، له مسجد بتريس.

ومنهم: الفاضل الجليل عليّ بن عبد الرّحيم بن محمّد بن عبد الله بن محمّد بن قاضي، ولد بتريس سنة (1081 ه‍)، له ترجمة طويلة بلا ذكر وقت الوفاة وقد ترجم لنفسه، وذكر جماعة من آل باكثير، ومنهم الشّيخ عبد الصّمد باكثير، بينه وبين العلّامة أحمد بن حسن الحدّاد مساجلات شعريّة؛ منها أنّ عبد الصّمد أرّخ ميلاد السّيّد حامد بن أحمد بن حسن بأبيات جاء فيها قوله:

«وقد أرّخت مولده بقولي: *** (شريف عارف حبر أديب) »

(590) + (351) + (210) + (17) ـ

سنة (1168 ه‍)

فأجابه الحبيب أحمد بقصيدة من بحره وقافيته.

ومنهم: صاحب التّصانيف الكثيرة، الشّيخ عليّ بن عمر بن قاضي، توفّي حوالي سنة (1230 ه‍).

ومنهم: الخطّاط الشّيخ أحمد بن عمر بن محمّد بن عمر بن عبد الرّحيم، توفّي بتريس سنة (1247 ه‍). وغيرهم.

ومرجع أكثر آل باكثير في النّسب إلى الشّيخ محمّد بن سلمة بن عيسى بن سلمة الكنديّ، تلميذ الشّيخ سعيد بن عيسى العموديّ المتوفّى بقيدون سنة (671 ه‍).

وقال الملك الأشرف المتوفّى سنة (696 ه‍): (وجدّ بني شهاب الّذين ينسبون إليه هو: محمّد بن سلمة الكنديّ، وهو الّذي انتجع من حضرموت، وسكن بالبلاد الشّهابيّة من أعمال صنعاء، وله ثلاثة أولاد: حاجب وعطوة ودغفان، ولكلّ منهم أولاد) اه

ولكن لا يمكن أن يكون هذا هو المراد؛ لأنّ قوله: (وجدّ بني شهاب.. إلخ) يدلّ على تقدّم زمانه، ولم يذكر من أولاده من اسمه أحمد، ولكنّه لا يبعد أن يكون محمّد بن سلمة المذكور في كلام الأشرف هو جدّ محمّد بن سلمة المذكور في نسب آل باكثير، والمدار في ذلك على النّقل، فعسى أن يوجد ما يوافق هذا.

وفي تريس خاصّة وحضرموت عامّة كثير من آل باعطوة، فيهم الشّعراء والشّحّاذون، فلا يبعد أن يكونوا من ذرّيّة عطوة بن محمّد بن سلمة جدّ بني شهاب، بل إنّ الأمر قريب من بعضه جدّا.

ومن أهل تريس: آل ابن حميد الصّدفيّون، منهم: القاضي الفاضل، الفقيه الصّالح المؤرّخ الشيخ: سالم بن محمّد بن سالم بن حميد، توفّي بتريس في حدود سنة (1314 ه‍) عن عمر ناهز المئة، قضاه في أعمال البرّ. وقد أحضرني والدي إليه، فألبسني، وأجازني، وبارك عليّ.

أمّا السّادة العلويّون الّذين بتريس.. فقد سبق منهم ذكر السّيّد عبد الرّحمن الجفريّ، وهو المعروف بصاحب العرشة، ومن خطّ سيّدي عبد الرّحمن بن عليّ السّقّاف: أنّ الأستاذ الحدّاد ذكر من أمر ونهى في القرون الماضية حتى وصل إلى ذكر القرن العاشر فذكر عن الشيخ عبد الرّحمن بن محمّد الجفريّ صاحب تريس فقال: إنّه كان قد طلب العلم وعمل وسلك ولقي المشايخ، وكان إذا أمر ونهى.. لا يبالي بمن يأمره كائنا من كان، وإنّه رأى رجلا في المسجد يقرأ القرآن وهو لا يحسن القراءة، فبعد الصّلاة سأل عنه؟ قال له رجل من أصحاب الدّولة: إنّه ألثغ، وهذا مقدوره.. فقال له: وأنت يوم تصلّي ولا تطمئنّ يا فاعل يا تارك، وبقي يصيح عليه حتّى انهزموا من المسجد، وكان يكتب إلى بعض سلاطين الجهة: (إلى فليّن، مردم جهنّم) اه

وقوله: فليّن: تصغير فلان.

وقد كان جدّه عبد الله من أهل تريس، ومن ذرّيّته السّيّد علويّ بن عمر بن سالم، تولّى القضاء بشبام.

وعيدروس وعبد الله ابنا أحمد أخيار فقهاء، توفّي الأخير منهما بتريس سنة (1264 ه‍).

ومن ذرّيّة شيخان بن علويّ بن عبد الله التّريسيّ: العلّامة الجليل علويّ بن سقّاف بن محمّد بن عيدروس بن سالم بن حسين بن عبد الله بن شيخان المذكور، وهو الشّيخ الخامس عشر من مشايخ سيّدنا الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر، كان واسع العلم والرّواية، متفنّنا، وله رحلات إلى اليمن وغيرها.

وكان هو وسيّدي الجدّ محسن بن علويّ أخصّ تلاميذ سيّدنا الحسن بن صالح البحر، وكان الحقّ عنده فوق كلّ عاطفة، من ذلك:

أنّ بعض الوهّابيّة أنكر على آل حضرموت جعلهم ختم المجالس بالفاتحة على الكيفيّة المعلومة سنّة مطّردة، مع أنّه لا دليل على ذلك، فردّ عليه سيّدنا طاهر بن حسين بردّ خرج مخرج الخطابة والوعظ، فنقضه الحبيب علويّ بن سقّاف الجفريّ هذا برسالة سمّاها «الدّلائل الواضحة في الرّدّ على رسالة الفاتحة»، ترجم فيها لابن تيمية، وتلميذه ابن القيّم، وللشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب صاحب الدّعوة المشهورة، وأطنب في الثّناء عليهم.

ولمّا اطّلع عليها الحبيب عبد الله بن حسين.. كتب عليها بخطّه: (علويّ بن سقّاف يقول الحقّ ولو كان مرّا) ! !

غير أنّني تحيّرت زمانا في الحبيب عبد الله بن حسين هذا المقرّض، أهو بلفقيه أم ابن طاهر؟ حتّى تذكّرت ما جاء في خطّ السّقّاف الّذي سيّره للسّيّد أحمد بن جعفر الحبشيّ ـ حسبما سبق في الحوطة ـ من قوله: (وأذعن لمصنّفه من لا يحبّه)، فعرفت أنّ المراد بلفقيه؛ لأنّه هو الّذي لا يحبّ مؤلّف «الدّلائل الواضحة»؛ لاتّساع شقّة الخلاف بينهما في عدّة مسائل فروعيّة، تبودلت بينهما في بعضها الرّدود اللّاذعة من الطّرفين.

وكانت «الدّلائل الواضحة» عندي.. فاستعارها منّي الفاضل الأديب السّيّد حسن بن عبد الله الكاف، ثمّ لم يردّها وأحالني إلى عدن بعدّة كتب قياضا عنها، فلم تدفع الحوالة، وأخاف أن يكون أعدمها؛ فإنّه بخوف شديد من أن يطّلع عليها الإرشاديّون فيجمعوا منها أيديهم على حجّة ضدّ العلويّين فيما هم فيه مختلفون.

ومن هذا ومن أخذ الجماعة كلّهم عن السّيّد أبي بكر بن عبد الله الهندوان ـ وهو وهّابيّ قحّ ـ تبيّنت أنّ عند مولانا شيخ الوادي الحسن بن صالح مسحة من تلك الآراء بغاية الاعتدال؛ لموافقتها لما هو فيه من الاستغراق في تجريد التّوحيد، وعدم التفاته إلى غير الحميد المجيد.

ولا يشكل ـ على هذا ما في «بغية المسترشدين» عن فتاوى الحبيب علويّ بن سقّاف الجفريّ هذا.. من جواز التّوسّل؛ لأنّه إنّما يبيح منه ما لا يوهم القدح في التّوحيد، كما لا يشكل ما يوجد في بعض مكاتبات الحبيب عبد الله بن حسين بلفقيه ـ مع توهيبه ـ من الإنكار على بعض المتشدّدين في ذلك؛ لأنّ ذلك الإنكار إنّما كان للتّهوّر وفرط الغلوّ اللّذين اشتطّ فيهما الرّجل، وظنّي أنّه السّيّد جعفر السّالف الذّكر عمّا قريب.

وقد قال أبو سليمان الخطّابيّ ـ وهو أحمد بن محمّد بن إبراهيم ـ [من الطّويل]:

«ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد *** كلا طرفي كلّ الأمور ذميم »

ومعاذ الله أن يخرج مولانا البحر ومن على طريقه عن حدّ الاعتدال، ويقول بتكفير أحد من المسلمين، إلّا بعد ثبوت المكفّر والإصرار عليه بعد الاستتابة، وقد قال العلّامة ابن تيميّة في (ص 258) من ردّه على البكريّ: (فلهذا كان أهل العلم والسّنّة لا يكفّرون من خالفهم) اه

مع أنّ هؤلاء ينكرون إنكارا شديدا على القبوريّين وجهّالهم ـ حسبما قاله لسان حالهم الشّيخ عبد الله بن أحمد باسودان في غير موضع من كتبه ـ ولم يكونوا في ذلك بمقلّدين، بل كما قال سيّدي عبد الله بن حسين بلفقيه حين رمى كتاب غرامة: (نحن وهّابيّون من أيّام محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الّذي جاء بتكسير الأوثان، والحنيفيّة البيضاء).

ورأيت للسّيّد محمّد بن أحمد الأهدل سياقة توافق ما هم عليه؛ منها: أنّ طلب التّوجّه إلى الله في المهمّات من الأولياء ـ مع اعتقاد براءتهم من الحول والقوّة والاتّصاف بالعبوديّة المحضة ـ جائز، وهو معنى التّوسّل. ولكنّه لا يكون إلّا عند ضعف اليقين، والأولى للمؤمن القويّ الإيمان أن لا يجعل بينه وبين الله واسطة؛ فقد قال تعالى:

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ)

وقد كان صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يستعين إلّا بالصّبر والصّلاة، ومتى حزبه أمر.. فزع إلى الصّلاة.

أمّا الأولياء.. فإنّهم ـ مع وجاهتهم وقرب دعائهم من القبول ـ ضعفاء فقراء لا يملكون لأنفسهم ـ فضلا عن غيرهم ـ نفعا ولا ضرّا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. والمكفّرات مقرّرة حتّى في المتون، والاستتابة واجبة، والكلام في العلل والأسباب معروف، والتّوسّلات من جملة ذلك.. فلا حاجة إلى الشّغب فيما الاتّفاق على أصله حاصل.

وذكر البرزالي وغيره أنّ شيخ الصّوفيّة كريم الأبليّ وابن عطاء جاءا ومعهم جماعة نحو من خمس مئة يشتكون إلى الدّولة من تقيّ الدّين ابن تيميّة.. فعقد له مجلس قال فيه أن لا يستغاث إلّا بالله، حتّى لا يستغاث بالنّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ الاستغاثة بمعنى العبادة ـ ولكنّه يتوسّل ويتشفّع به إلى الله.. فبعض الحاضرين قال: ليس في هذا شيء، ورأى قاضي القضاة أنّ فيه قلّة أدب؛ فالأمر لو لا الحسد والمنافسات الحزبيّة.. أدنى إلى الوفاق.

وما أكثر ما يوجد التّوسّل في شعري بالنّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أصلا وببقيّة الخمسة الأرواح تبعا، مع فرط تكيّفي بما في السّياق السّابق من أنّ التّوسّل به صلّى الله عليه وآله وسلّم ليس كغيره، كما نقله ابن القيّم وغيره عن ابن عبد السّلام؛ لحديث الأعمى، وهو مرويّ عند أحمد [4 / 138] والبيهقيّ، والتّرمذيّ [3578]، والنّسائيّ [في «الكبرى» 6 / 169]، وابن ماجه [1385]، والحاكم [1 / 707]، وغيرهم.

وذكره ابن تيميّة في «القاعدة الجليلة في التّوسّل والوسيلة»، ولم يقدر على تضعيفه بحال، بل ولا على إنكار الزّيادة المشهورة فيه عند الطّبرانيّ [طب 9 / 30] والبيهقيّ، وقال في تلك الرّسالة: (إذا كان التّوسّل بالإيمان بالنّبيّ عليه السّلام ومحبّته جائزا بلا نزاع.. فلم لا يحمل التّوسّل به على ذلك، قيل: من أراد هذا المعنى.. فهو مصيب في ذلك بلا نزاع) اه

ومن هنا يكثر التّوسل في أشعاري، ويشتدّ على القبوريّين إنكاري؛ لأنّهم لا يقصدون ما أقصده، وإنّما يأتون بصريح الإشراك والجهل، فالقرائن محكمة، والعلاقات معتبرة، والفروق بين الحقيقة والمجاز مرعيّة، وكلا جانبي الإفراط والتّفريط مردود.

ورأيت العلّامة ابن تيميّة في (ص 251) من ردّه على البكريّ يعذر الشّيخ يحيى الصّرصريّ الشّاعر المشهور في سؤال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد وفاته ما كان يسأل فيه أيّام حياته؛ حيث يقول: (وهذا ـ مشيرا إلى التّسوية ما بين المحيا والممات ـ ما علمته ينقل عن أحد من العلماء، لكنّه موجود في كلام بعض النّاس

مثل الشّيخ يحيى الصّرصريّ؛ ففي شعره قطعة منه، والشّيخ محمّد بن النّعمان كان له كتاب «المستغيثين بالنّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في اليقظة والمنام»، وهذا الرّجل قد نقل منه فيما يغلب على ظنّي، وهؤلاء لهم صلاح ودين، ولكنّهم ليسوا من أهل العلم) اه

وحسبنا منه عذرهم، وبه يتبيّن أنّ ابن تيميّة لم يثبت في إنكاره الاستغاثة والتّوسّل على حال واحد، بل يقول تارة: إنّه شرك، وأخرى: إنّه بدعة، والثّالثة: إنّه يعذر من يفعله من أهل الدّين والصّلاح، وكلامه الّذي يوافق الجمهور أحبّ إلينا من كلامه الّذي ينفرد به، وقد قال الإمام عليّ بن أبي طالب في أمّهات الأولاد قولا غير الّذي قاله بموافقة عمر، فقال له قاضيه: رأيك مع عمر أحبّ إلينا من رأيك في الفرقة. وحسب ابن تيميّة من منصفيه أن يقولوا هكذا. والله أعلم.

رأيت في «مجلّة الفتح» أنّ أشدّ ما يتألّم منه ملك الحجاز ونجد: أن يشيع المرجفون عنه أو عن قومه أنّهم يكفّرون المسلمين أو يخرجونهم عن دائرة الدّين.. إذن فنحن وإيّاهم من المتّفقين، وما ذكره العلّامة ابن تيميّة عن الصّرصريّ موجود بكثرة عند أهل العلم؛ كالحافظ ابن حجر، وابن الزّملكانيّ، وابن دقيق العيد... وغيرهم، وحسبنا بهم أسوة.

ورأيت ابن القيّم في «الزّاد» يعتبر كلام الصّرصريّ في زمن ولادة النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويعدّ قوله في شعره عنها من الأقوال الّتي تذكر، ومعاذ الله أن يثني العلّامة السّيّد علويّ بن سقّاف الجفريّ على الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب وهو يعلم أنّه يكفّر أحدا من المسلمين بمجرّد التّوسّل والاستغاثة القابلين الاحتمال، وكان العلّامة السّيّد محمّد بن إسماعيل الأمير امتدح الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب بقصيدة تستهلّ بقوله:

سلام على نجد ومن حلّ في نجد

ولمّا بلغه عن قومه ما لا يرضاه من الغلوّ.. أنشأ قصيدته المستهلّة بقوله:

رجعت عن القول الّذي قلت في النّجدي

وقد مرّ في ذي أصبح ما يعرف منه تعصّب عبد الله عوض غرامة لآراء الوهّابيّة، وأنّ الإمام البحر ينكر عليه جوره بعبارات قاسية تكاد تشقّق منها الحجارة، حتّى إنّه لا يقول في كتبه إليه عندما يثور عليه إلّا: من حسن بن صالح البحر إلى عبد الله عوض غرامة، السّلام على من اتّبع الهدى... ثمّ يصعب له القول، ويطيل في وعظه الجول، ولو كان من رأيه إنكار توهيبه.. لما سكت له في ذلك، وهو لسان الدّين النّاطق، وبرهان الحقّ الصّادق.

توفّي الحبيب علويّ بن سقّاف الجفريّ المذكور بتريس، سنة (1273 ه‍) قبيل وفاة شيخه البحر بمدّة يسيرة.

وخلفه ولده العلّامة الفقيه سالم بن علويّ، وكان على قضاء تريس، وجرت بيننا وبينه محاورات ومناقضات ورسائل؛ وخبر ذلك أنّني لمّا عدت من جاوة مشبّعا بالآمال في الإصلاح.. خطبت في الجامع في سنة (1330 ه‍) إثر الصّلاة ودعوت إلى التّسامح والتّصالح والتّآلف والاجتماع، فاستاءت لذلك طائفة باطويح، واشتدّ عليهم أن أتكلّم بمرأى ومسمع من حضرة السّيّد العلّامة عليّ بن محمّد الحبشيّ، وربّما فهموا من السّياق تعريضا بانحراف السّيّد عليّ عن سير السّلف الطّيّبين، فلم أشعر بعد مدّة إلّا بورقة فيها ما يشبه الرّدّ على بعض نقاط من تلك الخطبة الّتي اختزلها بعض الطّلبة ووزّع نسخا منها بين النّاس، معزوّة تلك الورقة إلى الفاضل الأديب ـ الّذي أخلص صداقتي فيما بعد ـ السّيّد عيدروس بن سالم بن علويّ الجفريّ، فكتبت ردّا عليها من لسان القلم عزوته إلى غيري.

وبعد شهر تقريبا وصلتني عدّة أوراق ـ نحو العشر ـ يراد منها دفع ذلك الرّدّ، فنقضتها في بضعة أيّام برسالة ضافية الذّيول، سمّيتها ب: «النّجم الدّرّيّ في الرّدّ على السّيّد سالم الجفريّ» فكانت القاضية ـ في أخبار طويلة مستوفاة ب «الأصل» ـ فلم يكن منه ـ أعني السّيّد سالم بن علويّ رحمه الله ـ إلّا أن جاءني بعد ذلك على شيخوخته، وصارحني بأنّه لم يراجعني القول إلّا عن إيعاز قويّ ممّن يذبّ عنهم، وأنّه مكره لا بطل، وأنّ الصّواب تبيّن له من «النّجم الدّرّيّ» فرجع إليه، فأكبرته وأعظمت طيب نيّته، وسلامة صدره، إلى ذلك الحدّ الّذي يصعب مثله إلّا على أهل الإخلاص، وقليل ما هم.

ومن العجب العجيب أنّ كلام العلّامة السّيّد سالم بن علويّ رحمه الله في دفاعه عن صاحبه كان مخالفا على طول الخطّ لما قرّره أبوه في «الدّلائل الواضحة» وهي موجودة عنده، والحقّ فيها أعظم وأوضح ممّا هو في «النّجم»، وما وقعت عليها إلّا بعد ذلك من يد ولده الفاضل السّيّد عيدروس، ولو كانت عندي من قبل.. لكانت الحجّة أدمغ والعبارة أبلغ، ويقيني أنّه لم يكن على ذكر منها حين كتب ما كتب، توفّي رحمه الله في حدود سنة (1336 ه‍).

وخلفه على القضاء والتّدريس بتريس ولده العالم الجليل، والفاضل النّبيل عيدروس، وكان أديبا شاعرا، جميل الوجه، نظيف الثّوب، حسن الشّارة، كبير الهمّة، لم تضع الأعادي قدر شأنه وقتما كان على القضاء، ولكنّه أراد ما أراده الطّغرائيّ في قوله [من البسيط]:

«أريد بسطة كفّ أستعين بها *** على قضاء حقوق للعلا قبلي »

فطوّحت به الأسفار إلى جاوة من حدود سنة (1342 ه‍) إلى اليوم، نسأل الله أن يقضي لنا وله الحاجات، ويفرّج الكربات، ويجمعنا به في الأوطان على أرغد عيش وأنعم بال.

أمّا دولة تريس: فقد كانت لآل ثعلب، ومن صلحائهم: السّلطان عمر بن سليمان بن ثعلب أثنى عليه الشّيخ محمّد بن عمر باجمال في كتابه «مقال النّاصحين» [ص 196] وقال: (كانت له أحوال محمودة، وشفقة على الرّعيّة صالحة، وتفقّد لهم تامّ، وكان يقتني من البهائم وآلات الحرث لرعاياه مثل ما يعدّه لنفسه، ويبذل ذلك لهم، وكان يتفقّد أهل الفقر والحاجة منهم، فيواسيهم ويحسن إليهم، ويصلح بين المتخاصمين، ويتحمّل في ذلك الأثقال الكثيرة) اه

ومع هذا.. فقد كان الشّيخ عمر بن عبد الله بامخرمة يغري به سلاطين آل كثير ويهيّجهم عليه، إلّا أنّ الشّيخ من أهل الأحوال الّذين لا يقتدى بهم.

ولمّا تلاشى ملك آل ثعلب.. صاروا سوقة وتجّارا بالغرفة وغيرها، حسبما مرّت الإشارة فيها إليه.

ثمّ استولت يافع على تريس، وكان عليها منهم: الأمير صالح بن ناصر بن نقيب، يعشّرها وما حواليها إلى مكان آل مهري، لا يقدر أحد من آل كثير أن يعترضه في شيء، مع أنّ عسكره قليل جدّا، غير أنّه كان شجاعا مهابا، وكان ولده عبد الله جمرة حرب، متورّدا على حياض القتل والضّرب.

وفي جمادى الآخرة من سنة (1264 ه‍): نازلهم آل عبد الله الكثيريّون بأشراف القبلة وغيرهم بعد أن فرغوا من آل الظّبي بسيئون.

وبعد حصار دام سبعين يوما.. سلّمت تريس، وتمّ الصّلح، وكان جلاء آل ابن نقيب إلى القطن حسبما هو مفصّل ب «الأصل»، وتلك الأيّام نداولها بين النّاس.

وعلى ذكر بيت الطّغرائيّ السّابق: بلغني أنّ بعض بني شيبة اعتزم السّفر فجاء لموادعة الشّريف، فقال له: فيم؟ قال: أريد.

فلم يصل داره إلا وقد سبقه ألف دينار له إليه من الشّريف، أراد الشّريف قول الطّغرّائيّ [من البسيط]:

«فيم اقتحامك لجّ البحر تركبه *** وأنت تكفيك منه مصّة الوشل؟ »

وأراد الرّجل ذلك البيت السّابق ذكره من نفس القصيدة.

رحمة الله على أهل الجود، ووا أسفا إذ قد تضمّنتهم اللّحود، ولله درّ الرّضيّ في قوله [في «ديوانه» 1 / 665 من الطّويل]:

«وهل تدّعي حفظ المكارم عصبة *** لئام ومثلي بينها اليوم ضائع »

«نعم لستم الأيدي الطّوال فعاونوا *** على قدركم قد تستعان الأصابع »

وللشّعراء في معنى الأوّل مجال واسع، ذكرنا منه في «العود الهنديّ» ما شاء الله أن نذكر.

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


71-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (سيئون)

سيئون

زنة: زيدون، بعضهم يكتبها بواو واحدة، وبعضهم بواوين، والقاعدة: أنّ ما كثر استعماله واشتهر وفيه واوان.. يكتب بواحدة فقط، كداود.

وقد قلت في «منظومة» أنشأتها في «علم الخطّ» [من الرّجز]:

«ما كثر استعماله وفيه *** واوان.. واو واحد يكفيه »

وهي من البلدان القديمة، نقل الشّيخ المؤرّخ سالم بن حميد: أنّ سيئون، وتريم، وشبام، وتريس أبناء حضرموت، وأنّ هذه البلاد سمّيت بأسمائهم.

وقد ذكرها الهمدانيّ في «صفة جزيرة العرب» [170] إلّا أنّه لم يسمّها باسمها، بل قال: (وشزن وذو أصبح مدينتان في دوعن) اه

وقد استشكلت هذا ردحا من الزّمن حتّى فرّج الله عنّي بما رأيته منقولا عن أبي شكيل، عن أبي الحسن أحمد بن إبراهيم الأشعريّ من قوله: (وذي أصبح وسيئون مدينتان عظيمتان لبني معاوية الأكرمين)، فدلّ ذلك على قدمهما.

فقول الهمدانيّ: (شزن).. إمّا غلط منه وإمّا أن يكون عرض بعده التّبديل، لكن من المعلوم أنّ سيئون منعطفة على الجبل الّذي هي بحضيضه انعطاف اللام. والانعطاف من الانحراف هو الشّزن بنفسه، قال ابن أحمر [من الوافر]:

«ألا ليت المنازل قد بلينا *** فلا يرمين عن شزن حزينا»

ولعلّ سيئون في القديم كانت كحالها اليوم في الانعطاف على جبلها.

وأمّا قوله: (بدوعن).. فخطأ ظاهر لا يحتمل التّأويل، ولهذا تركه أبو شكيل.

وقد يغبّر على قدم سيئون شيئان:

أحدهما: أنّه لا ذكر لها في الحوادث القديمة، وأوّل ما يحضرني من ذكرها فيها أنّ نهدا اقتسمت السّرير في (سنة 601 ه‍) فصارت سيئون وحبوظة لبني سعد وظبيان.

وثانيهما: أنّ الجامع الأوّل بسيئون كان صغيرا لا يتّسع لمئتي نفس تقريبا، ومع ذلك فالّذي بناه هو الشّيخ عبد الله بن محمّد بن أحمد بن محمّد بن سلمة باكثير، وهو متأخّر الزّمان، لم يمت كما في «البنان المشير» [ص 25] إلّا في حدود سنة (920 ه‍) وله قصّة مع سيّدنا الشّيخ أبي بكر العدنيّ ابن سيّدنا عبد الله العيدروس لمّا اجتاز بسيئون، وقد كانت وفاة العدنيّ في سنة (914 ه‍).

ولكنّ الجواب يحصل عن ذينك الأمرين، ممّا أجمع عليه المؤرّخون؛ كشنبل وباشراحيل وغيرهما: أنّ سيئون خربت في سنة (595 ه‍) فتحصل أنّها كانت مدينة عظيمة لبني معاوية الأكرمين من كندة، ثمّ خربت حتّى لم تكن شيئا مذكورا، ثمّ عادت شيئا مذكورا حتّى دخلت في قسمة نهد سنة (601 ه‍)، إن لم تؤل بأرباضها.

ثمّ كانت في أيّام العيدروس المتوفّى سنة (865 ه‍) قرية، كما يعرف من قول السّيّد عمر بن عبد الرّحمن صاحب الحمراء في ترجمته للعيدروس عن عبد الله بن عليّ باسلامة، وكان من الثّقات: (إنّ العيدروس جاء إلى عنده بمريمه، فكلّف عليه أن يذهب إلى سيئون ـ وهي قرية من قرى حضرموت ـ ليشفع إلى جعفر بن محمّد الجعفريّ نائب بدر بن عبد الله بن جعفر عليها في إطلاق عليّ باحارثة، فلم يقبل شفاعته) اه بل سبق في شبام عن الجدّ طه ما يفهم منه أنّها لم تكن في أيّامه إلّا قرية، مع أنّه متأخّر التّاريخ.

وأخبرني السّيّد عمر بن عبد الرّحمن بن عليّ بن عمر بن سقّاف عن والده: (أنّ سيئون اسم امرأة كان لها عريش في جانب سيئون الغربيّ، المسمّى اليوم بالسّحيل، يمرّ عليها أبناء السّبيل المنقطعون، فسمّيت باسمها البلاد).

وقد يجمع بينه وبين بعض ما تقدّم بأنّ اسم سيئون الأوّل إنّما هو شزن ـ حسبما مرّ عن الهمدانيّ ـ ثمّ خربت، وكانت المرأة المسمّاة سيئون أوّل من اتّخذت عريشا في أطلالها الدّاثرة.. فغلب عليها اسمها.

وحدّثني السّيّد المؤرّخ الرّاوية محمّد بن عقيل بن يحيى: أنّ سيئون اسم يهوديّ محرّف عن صهيون، وقد كان مثرى اليهود بسيئون. وصهيون كنيسة بيت المقدس، وإليها يشير الأعشى في مديحه لأساقفة نجران بقوله [في «ديوانه» 243 من الطّويل]:

«وإن أجلبت صهيون يوما عليكما *** فإنّ رحا الحرب الدّكوك رحاكما »

وفي (ص 309 ج 5) من «صبح الأعشى»: (إنّ صهيون بيعة قديمة البناء بالإسكندريّة، معظّمة عند النّصارى).

وقبله من تلك الصّفحة ـ في الكلام على بطارقة الإسكندريّة الّذين تنشّأ عن ولايتهم مملكة الحبشة ـ: (إنّ الملك الأكبر الحاكم على جميع أقطارهم يسمّى بلغتهم: (الحطيّ) ومعناه: السّلطان، وهو لقب لكلّ من قام عليهم ملكا كبيرا. ويقال: إنّ تحت يده تسعة وتسعين ملكا، وهو تمام المئة. وإنّ الملك الكبير في زمن صاحب «مسالك الأبصار» يقال له: عمد سيئون، ومعناه: ركن صهيون) اه

وهو كالصّريح في أنّ سيئون وصهيون شيء واحد.

ورأيت في بعض الصّحف أنّ اليهود قدّموا عريضة على يد أحد زعمائهم للسّلطان عبد الحميد رحمه الله يسترحمونه في أن يعيّن قطعة من فلسطين لسكنى اليهود الّذين قتلهم الضّغط في روسيا وإسبانيا، وفيها ما صورته: إنّ جمعيّة سيئون الّتي تشكّلت في صهيون بعد الميلاد بمئة وخمسة وثلاثين سنة قد اختارتني للمثول بين يديكم؛ لأقدّم لكم هذه العريضة. وتسترحم الجمعيّة اليهوديّة من صاحب الجلالة التّكرّم بتخصيص القطعة الفلانيّة ـ وحدّدها ـ لإسكان اليهود.

ونظرا لما انتاب خزينة الدّولة من الضّائقة الماليّة من جرّاء الحرب اليونانيّة.. فإنّ الجمعيّة تقدّم بواسطتي عشرين مليون ليرة ذهبا لصندوق الخزينة على سبيل القرض لمدّة غير معيّنة بدون فائدة، وخمسة ملايين ليرة ذهبا إلى خزينتكم الخاصّة، لقاء ما تكرّمتم به من البرّ والإحسان، وأسترحم قبول هذا العرض.

فلم يكن من السّلطان إلّا أن استشاط غضبا وطرده، ولكنّ جمعيّة الاتحاد والتّرقّي جعلت ذلك الزّعيم اليهوديّ على رأس الهيئة الّتي جاءت لتبليغ السّلطان خلعه عن العرش؛ لأنّ ذلك اليهوديّ كان من مؤسّسي تلك الجمعيّة!! وكان نائبا عن سبلانيك في مجلس المبعوثان. اه

ومنه تعرف أنّ سيئون اسم للجمعيّة الّتي ألّفت، أو للّذين ألّفوها، أو للمكان الّذي ألّفت فيه.

وقد ملأ العرب اليوم الدّنيا ضجيجا بشأن فلسطين، وسننظر ـ كما في المثل الحضرميّ ـ أسيادنا آل باعبّاد على الصّراط، فإمّا سبقناهم على الظّفر، وإلّا.. كان للنّاس الحقّ أن ينشدوهم ما نكرّره من قول الحطيئة [في «ديوانه» 40 من الطّويل]:

«أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم *** من اللّوم أو سدّوا المكان الّذي سدّوا»

وفي معناه ما أنشده الحجّاج [من الطّويل]:

«ألام على عمرو ولو مات أو نأى *** لقلّ الّذي يغني غناءك يا عمرو»

إذ كان اليهود لا يطمعون في شبر من فلسطين أيّام الأتراك، وعمّا قليل ينكشف الغبار عمّا في المضمار، والبيت الّذي يتمثّل به الحجّاج شبيه بقول ابن عرادة السّعدي

وكان بخراسان مع سلمة بن زياد يكرمه وهو يتجنّى عليه، ثمّ فارقه وصحب غيره فلم يحمد.. فعاد إليه وقال [من الطّويل]:

«عتبت على سلم فلمّا فقدته *** وصاحبت أقواما.. بكيت على سلم »

«رجعت إليه بعد تجريب غيره *** فكان كبرء بعد طول من السّقم »

وقال زياد ابن منقذ العدوي التميمي من قصيدة جزلة أنشأها بصنعاء يتشوق فيها إلى وطنه ببطن الرّمّة ـ وهو واد بنجد [في «ديوان الحماسة» 2 / 153 من البسيط]

«لم ألق بعدهم حيّا فأخبرهم *** إلّا يزيدهم حبّا إليّ هم »

وقال أبو العتاهية [في «ديوانه» 18 من الطّويل]:

«جزى الله عنّي جعفرا بوفائه *** وأضعف إضعافا له بوفائه »

«بلوت رجالا بعده في إخائهم *** فما ازددت إلّا رغبة في إخائه »

وقال أحمد بن أبي طاهر [من الوافر]:

«بلوت النّاس في شرق وغرب *** وميّزت الكرام من اللّئام »

«فردّني الزّمان إلى ابن يحيى *** عليّ بعد تجريب الأنام »

فإن نجح العرب حسبما يتبجّحون في هذه الأيّام.. فبها ونعمت؛ لأنّها أمنيّة كلّ مؤمن، وإلّا.. فما أخذوا إلّا يوم الثّور الأبيض؛ أي يوم نهض المنقذ، وكانت نهضته فاتحة هزائم الأتراك الّتي اهتزّت لها منابر الدّنيا بالدّعاء لهم عدّة قرون.

ولئن لم تكن زنة سيئون في اللّفظ.. فقد كانت على رسمها في الخطّ كما تقدّم أوّل المسوّدة، وما أكثر التّصحيف في مثل ذلك، فمهما يكن.. فالأمر قريب من بعضه، ولا مانع أن تكون المرأة المذكورة في كلام سيّدي عبد الرّحمن بن عليّ يهوديّة، وبذلك تلتئم أطراف الكلام.

ثمّ إنّ سيئون نهضت نهضة سريعة، ونبتت كما ينبت الحبّ في حميل السّيل، والدّليل على ذلك: أنّ باني الجامع الكبير الّذي يسع الألوف إلى اليوم.. هو الشّيخ أحمد بن مسعود بن محمّد بن مسعود بن عليّ بن سعد بارجاء بن عبد الله بن عليّ الظّفاريّ العبهليّ المذحجيّ ـ كما مرّ في الشّحر، كان موجودا في أواخر القرن التّاسع، بشهادة ما سقناه ب «الأصل» من خبره مع السّلطان بدر بن عبد الله بن علي بن عمر الكثيريّ، الّذي كانت ولايته في سنة (850 ه‍)، ووفاته في سنة (894 ه‍)، فباكثير باني الجامع الأوّل، وبارجاء باني الجامع الثّاني متعاصران، فغاية ما يحتمل: تقدّم الجامع الأوّل بسنوات معدودة، ومتى عرفت تعاصرهما.. تقرّر لديك أنّ عمارة البلاد حديثة، وأنّ اتّساعها كان دفعة واحدة في أيّام بدر بوطويرق.

وممّا يؤكّد ذلك: اتّفاقهم على أنّ مقبرة سيئون في شرقيّها. أمّا نسبتهم تلك المقبرة إلى الشّيخ عمر بامخرمة:

فإمّا أن يكون المراد جانبها الشّرقيّ منها فقط. وإمّا أن يكون للشّهرة، وإلّا.. فآل بارجاء كانوا متقدّمين عليه.

وكان الشّيخ سعد بارجاء موجودا بسيئون من أوائل القرن السّابع، وكانت وفاة عمّه تاج العارفين سعد الظّفاريّ بالشّحر سنة (609 ه‍).

وكان الشّيخ سعد بارجاء من المشهورين بالفضل، نجع هو وعمّه الشّيخ سعد بن عليّ الظّفاريّ من ظفار إلى الشّحر، واستوطنها أيّام كانت خصاصا قبل أن تكون مدينة، وأشار على ابن أخيه سعد هذا أن يذهب إلى أرض لا يكون له بها شأن، فكانت سيئون؛ لأنّها لم تكن إذ ذاك إلّا صغيرة جدّا.

ولا يشوّش على قولنا: (أنّ سيئون اتّسعت دفعة). ما سبق عن الجدّ طه، ممّا يفهم استصحاب اسم القرية عليها؛ لاحتمال أنّه باعتبار ما كان.

وكان الشّيخ أحمد بن مسعود ـ باني جامع سيئون الثّاني ـ أحد مشايخ سيئون المشهورين، وله بها آثار، منها: الجامع المذكور، وقد زاد فيه الشّيخ عليّ بارجاء صفّين في جهته الغربيّة أيّام السّلطان عمر بن بدر ـ أي: في القرن الحادي عشر ـ في أرض اشتراها من صلب ماله، ثمّ زاد فيه السّيّدان محمّد بن سقّاف بن محمّد وعبد الرّحمن بن عليّ بن عبد الله آل السّقّاف زيادات قليلة، ثمّ زاد فيه السّيّد حسين بن عليّ سميطة ثلاثة صفوف في جانبه الشّرقيّ، ثمّ جدّدت عمارته على عهد جدّنا محسن بن علويّ بن سقّاف، وهي الموجودة إلى الآن، وكانت النّفقة من الأمير عبد الله بن عليّ العولقيّ السّابق ذكره في الحزم وصداع، يرسلها من حيدرآباد الدّكن إلى يد الجدّ رضوان الله عليه.

ثمّ زاد فيه السّيّد الجليل أحمد بن جعفر بن أحمد بن عليّ بن عبد الله السّقّاف المتوفّى بسيئون سنة (1320 ه‍) رواقا في جانبه الغربيّ الجنوبيّ.

"وفي آل بارجاء كثير من العلماء والصّلحاء.

منهم: الشّيخ عمر بن عبد الرّحيم بن عمر بن عبد الرّحمن بارجاء، مؤلّف «تشييد البنيان»، وهو كتاب حافل في ربع العبادات، نقل فيه نقولا كثيرة الفائدة، فرغ منه في سنة (1036 ه‍).

ومنهم: الشّيخ عمر بن عبد الرّحيم، المشهور بقاضي ظفار.

ومنهم: الشّيخ عبد الجامع بن أبي بكر بارجاء، ذكره الشّلّيّ وأثنى عليه، توفّي بمكّة سنة (1082 ه‍) وترجم له المحبيّ في «الخلاصة» [2 / 298].

ومنهم: الشّيخ محمّد بن محمّد، خطيب جامع سيئون، كان شهما صلبا، عارفا بالقراءات والتّجويد، إلّا أنّه كان يأكل طعام الدّولة فأنكروا عليه؛ إذ كان أكل طعامهم من أكبر المنكرات لذلك العهد الصّالح، توفّي سنة (1328 ه‍).

ومنهم: الشّيخ أحمد بن محمّد بارجاء، تولّى القضاء مرّات بسيئون، وكانت له بها خطابة الجامع. وكان سخيّا، دمث الأخلاق، ليّن الجانب، خفيف الرّوح، فقيها مشاركا في بعض الفنون، وكان ممّن يحضر عليّ وله مكارم ومبرّات كثيرة. توفّي برمضان من سنة (1334 ه‍)، وله أولاد كثيرون، كان أحبّهم إليه سالم ومحمّد. وكانت له ثروة بجاوة فأتلفوها عليه، وقد أدركه ابنه الصّالح سعيد بجميل المواصلة وغزير المواساة.

وكان سعيد هذا من المثرين بالصّولو من أرض جاوة، فأنفق ماله في بذل المعروف، ولا سيّما للسّادة آل الحبشيّ وآل العطّاس، حتّى لقد كان يشتري من بعضهم عسلا بأغلى ثمن، ثمّ يقدّمه له كلّ يوم مع اللّحم الحنيذ إلى أن ينفد، وقد أملق بعد ذلك فلم يشنه الفقر؛ لغناه بالله، ولأنّه لا أهل له ولا عيال. وقد كمّت الأفواه عن المصارحة بالحقّ، ولكنّه رافع العقيرة بإنكار المنكر حسب جهده ومعرفته، لا يحابي ولا يداهن، جزاه الله خيرا.

وأمّا آل باكثير: فأكثر أعقابهم بتريس، حسبما سبق فيها، ومنهم جماعة بمكّة المشرّفة، ولا يزال بعضهم بسيئون، ولهم بها مآثر ومساجد.

ومن آخرهم بها: الشّيخ محمّد بن محمّد باكثير، كان عيبة علوم، ودائرة معارف، وعنه أخذت علم النّحو والصّرف، وكان يؤثرني ويقدّمني على النّاس، حتّى لقد قال لي مرّة ـ عن تدبير والدي ـ: (إن حفظت لاميّة الأفعال.. فلك ريال) فقرأتها عليه في الصّباح، ثمّ قلت له من العشيّ: اسمعها. وسردتها عن ظهر قلب وتسلّمت الرّيال، غير أنّ همّتي كانت ضعيفة في الصّرف ولا سيّما القلب والإبدال فتفلّت عنّي أكثره.

وكان الشّيخ ـ رحمه الله ـ متخصّصا في هذين العلمين، كثير الإكباب عليهما، والولوع بهما والبحث فيهما، وله مؤلّفات عديدة وأشعار كثيرة.

وكان شديد التّعلّق بوالدي، جمّ القراءة عليه. ثمّ كان يحضر دروسي في التّفسير والفقه والحديث، ولقد زارني مرّة في سنة (1352 ه‍) فقال: (لقد عددنا ستّين ماتوا ممّن كانوا يحضرون دروسك الشّيّقة). توفّي على أبلغ ما يكون من الثّبات بسيئون أوائل سنة (1355 ه‍).

ومنهم: أخوه أحمد بن محمّد باكثير، كانت له خيرات ومبرّات، وصلة أرحام، وكفالة أيتام، وقضاء حاجات، وتفريج كربات، توفّي بسيئون سنة (1343 ه‍).

ومنهم: ولده عبد القادر، كان تقيّا، متشدّدا في العبادة، متحرّيا في الطّهارة، آخذا بالعزيمة، سريع الحفظ، يكاد يحفظ من مرّة واحدة، وهو الّذي جمع بعض ما كنت أرتجله في المحافل المشهودة من الخطب الطّويلة، وكنت أظنّه الشّيخ محمّدا، لأنّه هو الّذي دفعها إليّ حتّى أخبرني ولده الأديب عمر بن محمّد بأنّ الجامع إنّما هو عبد القادر بن أحمد، بمساعدة من الشّيخ محمد في تحرير الآيات والأبيات والأحاديث فقط. توفّي بجاوة في حدود سنة (1344 ه‍).

وآل باكثير كلّهم على جانب عظيم من الذّكاء وقرض الشّعر، ولعمر بن محمّد شعر جيّد، وحامل لواء شعرهم اليوم هو: الشّيخ عليّ بن أحمد باكثير، نزيل مصر، وأنا مع حبّي له عاتب عليه؛ لأنّني أرسلت إليه مسوّدة «العود الهنديّ» فلم يردّها، وطبع لي محاضرة مسلّمة النّفقة ولم يدفع لأمري إلّا نحو ثلاث مئة نسخة فقط، وكان كلّ ذلك في سنة (1355 ه‍)، غير أنّني أحلت السّيّد عبد الله بن محمّد بن حامد السّقّاف ليقبض الجميع منه، ثمّ كاتبت وطالبت الاثنين حتّى عييت بدون جدوى ولا جواب، فأحدهما أو كلاهما ملوم، وكان الواجب على كلّ منهما أن يبرّىء نفسه، وأن يؤدّي الأمانة من كانت عنده.

ومن أكابر من تديّر سيئون: الشّيخ عمر بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بامخرمة، السّيبانيّ الهجرانيّ، ترجمه الشّليّ في «السّنا الباهر» ترجمة طويلة، وذكر أنّ فقهاء عصره أنكروا عليه بعض الأحوال، منها: أنّه يحضر أغاني الفتايا ويجلس إليهنّ وأنّهنّ ممّن يضرب الدّفوف ويغنّي بين يديه في المواكب والمجالس.

ولذا لم يذكره ولده عبد الله في «ذيل طبقات الفقهاء» للإسنوي، وذكر أخاه الطّيّب، مع أنّه لا يزيد عليه فقها. ونقل تلك التّرجمة بأسرها سيّدي عمر بن سقّاف في كتابه «تفريح القلوب».

وما صنعه عبد الله بن عمر من إغفال ذكر والده يدلّك على تحرّ شديد وحيطة هائلة، وماذا عليه لو ذكر فقهه وأشار إلى بعض أحواله؟ غير أنّ فرط إنصافه ذهب به إلى أن يتصوّر أنّ ذكر أبيه مع ما ينكر عليه يوقعه في شيء من الهوادة، وهو ينزّه عدالته عن كلّ ما يعلق بها من الرّيب أو يمسّها من التّهم، وإنّه لمقام صعب إلّا على من وفّقه الله، فلهو أحقّ بقول حبيب [أبي تمّام في «ديوانه» 2 / 171 من الكامل]:

«ويسيء بالإحسان ظنّا لا كمن *** هو بابنه وبشعره مفتون »

أخذ عنه جماعة من العلويّين، منهم: الشّيخ أبو بكر بن سالم. والشّيخ أحمد بن حسين العيدروس.

وأخذ هو عن جماعة من العلماء، منهم: سيّدنا أبو بكر العدنيّ، لكن لم يحمد بينهما المآل، لأنّ الشّيخ عبد الله باهرمز لم يقبل تحكّم الشّيخ عمر له إلّا بشرط أن يسمع العدنيّ ما يكره، ففعل، وساءت بينهما الحال حتّى لقد كان الشّيخ يمدح بدر بن محمّد الكثيريّ والعدنيّ يهجوه، والعدنيّ يمدح السّلطان عامر بن عبد الوهّاب ويذمّ البهّال، والشّيخ عمر بعكسه.

ولمّا جرت الحادثة الهائلة على البهّال.. عدّها الغواة من هواة الخوارق من كرامات العدنيّ، ثمّ لمّا قتل عامر شرّ قتلة.. عدّها الآخرون في كرامات الشّيخ عمر.

وما أحسن قول ابن نباتة: (والله.. لا يضرّ ولا ينفع، ولا يضع ولا يرفع، ولا يعطي ولا يمنع.. إلّا الله).

وكنت أظنّ النّفرة استحكمت بين العلويّين وآل بامخرمة في عهده وعهد ولده عبد الله إلى حدّ بعيد، حسبما أشرت إلى ذلك في «الأصل»، ويتأكّد ذلك بالقصّة الآتية له مع السّيّد علويّ بن عقيل في العرّ من ضرب السّيّد علويّ بن عقيل الشّيخ عمر بالنّعال، وما بعد ذلك من هوادة ولا حفظ لخطّ الرّجعة.

لا سيّما وقد نقل سيّدي عليّ بن حسن العطّاس عن القطب الحدّاد ما يقتضي انحصار أخذ الشّيخ عمر بامخرمة على الشّيخ عبد الرّحمن باهرمز وأن لا شيخ له من العلويّين.

ولا ينتقض ذلك بما كان من أخذه عن العدنيّ؛ لأنّه لم يدم، بل بطل حكمه، وقد أشرت إلى جميع هذا في «الأصل» وربّما كان مبالغا فيه، وقد عوّض الشّيخ عمر عمّا لحقه من جفاء العلويّين في زمانه بما كان من إصفاق أعقابهم على فضله والولوع بديوانه وقد أطنب سيّدي عمر بن سقّاف في مدحه.

أمّا أشعار الشّيخ عمر بامخرمة.. فألذّ من الوصال، وأحلى من السّلسال، وفيها فراسات صادقة عن أمور متأخّرة، كما يعرف ذلك بالاستقراء. ولم يزل بسيئون تحت الضّغط والمراقبة من بدر بوطويرق، لا من النّاحية الّتي ينكرها عليه الفقهاء، ولكن لما على كلامه من القبول: وله من التّأثير؛ فهو يخشى أن يحرّض عليه، فتتنكّر له النّاس، على أنّ ذلك وقع عليه مع شدّة تحرّيه، فثار عليه ولده، وألقى القبض عليه، وسجنه حتّى مات بغيظه مقهورا في سجنه سنة (977 ه‍).

وما كنت أدري أنّ للشّيخ عمر بامخرمة حشما وأبّهة وأتباعا إلّا من قصّته السّابقة في هينن مع الشّيخ حسين بن عبد الله بافضل، فإمّا أن تكون قبل المراقبة عليه، وإمّا أن تكون المراقبة محدودة بما يخشى منه الثّورة.

وكانت وفاة الشّيخ حسين كما في «النّور السّافر» سنة (979 ه‍).

وكانت وفاة الشّيخ عمر بامخرمة بسيئون في سنة (952 ه‍)، وكان السّيّد زين بن عبد الله بن علويّ الحدّاد كثير المدح له والثّناء عليه، وما أكثر ما يتمنّى أن يدفن بجواره.

وفي غربيّ قبره: ضريح الشّيخ أحمد مسعود بارجاء، باني الجامع الثّاني السّابق ذكره.

وفي غربيّه إلى الجنوب: مقبرة آل باحويرث، كان فيهم كثير من الأخيار، يكثرون العبادة، ويحافظون على الصّلاة، وأظنّهم على اتّصال في المناسب بآل حويرث السّابق ذكرهم في الخريبة.

وكانت أمّ جدّنا عليّ بن عبد الرّحمن السّقّاف من آل ثبتان، وهم من سيئون.

وكان جدّنا عمر الصّافي بن عبد الرّحمن المعلّم بن محمّد بن عليّ بن عبد الرّحمن السّقّاف يتردّد من تريم إلى سيئون بسبب أنّ أحد محبّيه من تريم انتقل منها إليها، ولمّا علم بدر بوطويرق بتردّده.. أمر ذلك الرّجل أن يزيّن له الزّواج بسيئون، فما زال به حتّى اقترن بسلطانة بنت محمّد بانجّار، من قوم يرجعون إلى نجّار بن نشوان من بني حارثة، وقد اختلف في بني حارثة: فقيل: كنديّون. وقيل: مذحجيّون.

وكانت لآل بانجّار دولة ببور فانمحت بدولة آل كثير وصاروا سوقة بسيئون وغيرها.

وقد ولد لجدّنا عمر ولده طه من سلطانة المذكورة، ونشأ في حجر أمّه بسيئون، ولمّا شبّ.. ذهب إلى تريم، فضجّ آل سيئون وراجعوه، فعاد وتزوّج بها وبنى بها مسجده المشهور، ولم يزل بها منفردا بالسّيادة إلى أن توفّي سنة (1007 ه‍).

وله ابن اسمه: عمر، له حالات شريفة، طلب العلم، ثمّ غلب عليه التّصوّف، وأكبّ على «رسالة القشيريّ»، ونقلها بخطّه، وكتب سبعة كراريس منها في يوم واحد.

وكان له اتّصال أكيد بالسّادة آل عبد الله بن شيخ العيدروس في تريم، لا ينزل هناك إلّا عليهم. وله عبادات جليلة، وأوقات موزّعة، توفّي بسيئون سنة (1053 ه‍).

وهو والد العلّامة الجليل طه بن عمر الثّاني، المتوفّى بسيئون سنة (1063 ه‍) المترجم له في «المشرع» [2 / 285]، ورثاه جماعة من الشّعراء، فكانت أبلغ مرثيّة فيه للشّيخ عمر بن محمّد باكثير.

وخلفه ولده عمر، توفّي بمكّة سنة (1085 ه‍)، وسنّه سبع وعشرون سنة، وخلفه ابنه محمّد بن عمر بن طه بن عمر.

وقد رسخت أقدام هذا البيت بسيئون، غير أنّهم كانوا لا يزيدون على سبعة، متى وجد لأحدهم ذكر.. مات أحد السّبعة حتّى كانت أيّام الجدّ سقّاف بن محمّد بن عمر بن طه المتوفّى سنة (1195 ه‍)، فبدؤوا يتكاثرون، ولم يمت إلّا وقد بلغوا الثّلاثين، إلّا أنّ عصاهم انشقّت، وأمرهم انفرج، وكانوا ـ وهم قليل ـ خيرا منهم بعدما كثروا، ولله درّ حبيب حيث يقول [في «ديوانه» 1 / 330 من البسيط]:

«إنّ الكرام كثير في البلاد وإن *** قلّوا، كما غيرهم قلّ وإن كثروا »

والشّريف الرّضيّ حيث يقول [في «ديوانه» 1 / 528 من البسيط]:

«قلّوا عناء وإن أثرى عديدهم *** وربّما قلّ أقوام وإن كثروا»

وهو بيت طيّب، مغرس علم، ومنبت صلاح، سيماهم التّواضع، وشأنهم الخمول، يقضون حوائجهم بأنفسهم، ولا يتميّزون عن أحد من النّاس إلّا بالعلم إذا سئلوا عنه أو تفتّحوا في الدّروس.

وكان نجوعهم من تريم على حين خلل بدأ في طريق العلويّين، كما يعرف من «الفوائد السّنيّة» لسيّدي أحمد بن حسن الحدّاد، ومن «العقود اللّؤلؤيّة» للعلّامة السّيّد محمّد بن حسين الحبشيّ، فانحفظت طريقهم بسيئون عن ذلك الخلل، وبقوا على ما كان عليه أوّلوهم من التلزّم بالفقه، حسبما قلت من قصيدة أردّ بها على بعض المغترّين من أهل البدع والرّئاسات [في «ديوان المؤلّف» ق 192 من البسيط]:

«سل من أردت فقد كانت أبوّتنا *** على طريق من الإنصاف محمود»

«طريقة من قذى الأوهام صافية *** ومنهل من زلال الفقه مورود»

لا يدخل مسجدهم طبل ولا يراع، ولقد عمل الشّيخ عوض جبران تابوتا لقبر جدّي المحسن فمنعته من وضعه عليه.

وكانوا يتوسّعون في الفقه، ويشاركون في التّفسير والحديث، وليس عندهم من علوم العربيّة إلّا القليل، ولبعضهم أشعار لا تنتهي إلى إجادة. ولهم من الأعمال الصّالحة وتحمّل المشاقّ في مجاهدة النّفوس ما لو لم أره عيانا في مثل والدي.. لم يكن لي بما يذكر عن السّلف سبيل إلى التّصديق، لكن جاء العيان فألوى بالأسانيد.

فلقد نشأ والدي في طاعة الله، لهوه التّحنّث مع أتراب له في جبال سيئون، وكان يكتفي بوجبة ويتصدّق بالأخرى، حتّى علم به أبوه لمّا كان يذهب بها من مخترفهم إلى من كانوا يعتادونه منه بالبلد، فنهاه.

ومنذ عرفته وهو يقوم من النّوم قبل انتصاف اللّيل فيخفّ إلى الطّهارة، ثمّ يصلّي سنّتها، ثمّ الوتر إحدى عشرة بحسن قراءة وطول قيام، ثمّ يقرأ حصّة من القرآن بصوت شجيّ، ثمّ يأخذ في الأوراد والمناجاة، وكثيرا ما يقول في آخر دعائه:

اللهمّ؛ ارحمنا إذا عرق منّا الجبين، وانقطع منّا الأنين، وأيس منّا الطّبيب، وبكى علينا الحبيب.

اللهمّ؛ ارحمنا يوم نركب على العود، ونساق إلى اللّحود.

اللهمّ؛ ارحمنا إذا نسي اسمنا، واندرس رسمنا، وفنينا وانطوى ذكرنا، فلم يزرنا زائر، ولم يذكرنا ذاكر.

اللهمّ؛ ارحمنا يوم تبلى السّرائر، وتكشف الضّمائر، وتوضع الموازين، وتنشر الدّواوين.

ومتى جاء فصل الصّيف والخريف.. كان تهجّده على سطح مصلّاه أو في بطن مسيله، فكأنّما تؤوّب معه الجبال، وتكاد تنقدّ لخشوعه الصّدور وتتفطر المرائر، ثمّ يصلّي الصّبح ونافلته، ويأخذ في أذكار الصّباح، حتّى إذا أسفر الأفق.. نبّهني وأعاد معي الصّلاة وجلس يقرئني إلى أن ترتفع الشّمس قدر رمح، فيصلّي سبحة الضّحى ثمانيا، وتارة يختصّ الإشراق بركعتين؛ إذ المسألة خلافيّة، فالّذي في «الإحياء» [1 / 337] أنّ صلاة الإشراق غير صلاة الضّحى، وجرى عليه في «العباب» [1 / 263] و «التّحفة» [2 / 237 ـ 238].

وقال ابن زياد في «فتاويه»: ويظهر عدم الاكتفاء في نيّتها بمطلق الصّلاة؛ لأنّها ذات وقت كالضّحى، وقال في «الإمداد»: وهي غير الضّحى على ما قاله في «الإحياء».

فتبرّأ منه، واعتمد في «الإيعاب» أنّها من الضّحى وأنّ مقتضى المذهب امتناع فعلها بنيّة الإشراق، وعليه الرّمليّ في «النّهاية»، ومال إليه السّيّد عمر البصريّ.

ثمّ يتناول ما تيسّر من الفطور ويعود إلى مصلّاه الّذي بناه في سنة (1300 ه‍)، ووقف منه قطعة صغيرة للمسجديّة علينا وعلى ذرّيّاتنا فقط؛ ليصحّ الاعتكاف فيه، فيجلس للتّدريس به لأناس مخصوصين؛ هم: السّيّد سقّاف بن علويّ بن محسن، والسّيّد عبد الله بن حسين بن محسن، والشيخ عمر عبيد حسّان، والشّيخ محمّد بن محمّد باكثير، والشّيخ محفوظ بن عبد القادر حسّان، وأمّا الشّيخ محمّد بن عليّ الدّثنيّ.. فإنّه لزيمه.

وكلّ هؤلاء حضر بعض دروسي في التّفسير والشّمائل والفقه بسيئون، إلّا السّيّد سقّاف بن علويّ فإنّما حضر دروسي بسربايا من أرض جاوة في سنة (1330 ه‍).

فإذا قضى أولئك دروسهم.. استدعاني ليباشر تعليمي بنفسه بعقب انصراف المخصّصين لتعليمي في محلّنا؛ إذ كان يحميني عن مخالطة أبناء النّاس، ويسرّب إليّ أولادا في سنّي يرضاهم للّعب معي، يراقب أخلاقهم وأحوالهم بنفسه، منهم السّيّد علويّ بن حسين بن محسن، ومنهم: سالم بن حسن بن محمّد حسّان.

ومتى فرغ من درسي.. جاء إليه الدّثنيّ يقرأ عليه إلى قريب الظّهر، عندئذ يتناول ما تيسّر من الغداء، ثمّ يقيل نصف ساعة أو أقلّ، ثمّ يتهيّأ للظّهر فريضة ونوافل، وبعد أن يفرغ فتارة يحضر عليه أولئك الرّهط فيقرؤون، وتارة يدخل إلى أهله، وهناك تحضر الوالدة بكتابها فتقرأ عليه، كلّما انتهت من كتاب.. شرعت في آخر؛ لأنّها كانت مشاركة في العلم، وأحيانا يضرب السّتر ويأتي الدّثنيّ بكتابه وسيدتي الوالدة من ورائه إلى أن تجب العصر، فيقوم إلى مصلّاه ويؤدّيها نافلة وفريضة بطهر مجدّد، ثمّ يشتغل بشيء من الأوراد والحزوب، ثمّ أحضر بكتابي فأقرأ درسا، ثمّ أنهض للّعب مع أصحابي المخصّصين لذلك، وكثيرا ما يزورنا ويراقبنا، وربّما شاركنا؛ تطييبا لأنفسنا دقيقة أو دقيقتين.

«يروع ركانة ويذوب ظرفا *** فما تدري أشيخ أم غلام »

ثمّ يحضر الدّثنيّ إلى المغرب، وعند ذاك يستأنف الطّهارة، ثمّ يؤدّي المغرب بنوافلها الرّاتبة وغيرها، ثمّ أحضر بكتابي فأقرأ درسا خفيفا، ويخلفني الدّثنيّ في القراءة إلى العشاء، وقد يحضر السّابقون في هذا الوقت وغيرهم فيكون درسهم واحدا.

ثمّ يؤدّي العشاء بدون تجديد طهارة، ثمّ يصلّي راتبته، ويشتغل بأذكار المساء، ثمّ يتناول العلقة من الطعام، ثمّ يأخذ مضجعه وقد غلب عليه الخوف من الله والشّوق إليه، فقلّما يطمئنّ به مضجعه، وهكذا دواليك.

وقد انطبعت نفسه ـ ورسخت أعضاؤه على اتّباع السّنّة في يقظته وانتباهه، وقيامه وقعوده، ومدخله ومخرجه، وقضائه للحاجة، وأكله وشربه ـ انطباعا لا يحتاج معه إلى تكلّف، بل كثيرا ما أراه يتضجّر من النّهار، ولا سيّما إذا كثر عليه الواردون ـ مع أنّ كلامه معهم لا يخرج عن التّمجيد والتّحميد، والتّعريف والتّوحيد، والوعظ الّذي يلين له الحديد ـ فيحنّ إلى اللّيالي حنين الصبّ المشتاق إلى حبيبه القادم بعد طول الفراق؛ لما يجده من لذّة العبادة، وحلاوة التّلاوة، وعذوبة المناجاة الّتي أشار إلى مثلها ابن القيّم في (ص 331) من «إغاثة اللهفان».

ومع ذلك فقد كان يتململ لما يجد من تلك اللّذة خوفا أن ينقطع بها عن المقصود، أو تكون حظّه من العمل، وكان يحكي مثل ذلك عن أبيه. وأقول: أمّا خوف الانقطاع بها عن المقصود.. فممكن، وأمّا أن تكون حظّه من العمل.. فلا؛ لأنّها بعض ثمرته المعجّلة.

وكان آية في عزّة النّفس والصّدع بالحقّ والشّدّة فيه والغيرة عليه، إلى بسطة كفّ، وفرط رحمة، وسلامة صدر، وورع حاجز، واحتياط تامّ، وقناعة بما يجد من حرثه، وما يصل من الفتوح إليه من غير طمع ولا إشراف نفس، فعنده غفّة من العيش، جمع إليها شعبة وافرة من القناعة، مغتبط بعيشه، قانع برزقه، راض عن ربّه، ليس له حجاب، ولا يغلق عليه باب، وإنّما هو كما قال السّلاميّ [من الطّويل]:

«كماء الفرات الجمّ أعرض ورده *** لكلّ أناس فهو سهل الشّرائع »

وكان له في الوعظ لسان، ويأخذه فيه حال عظيم يشغله عن نفسه، وله قلم سيّال في المكاتبات والرّسائل العلميّة، جمع من ذلك الفاضل السّيّد سالم بن حفيظ ما دخل في ستّة مجلّدات.

ولكنّ لسانه أقوى بكثير من قلمه.

«يقول عارف مقدار الكلام له *** سبحان خالقه سبحان باريه »

وطيلة حياتي لم أسمع منه لغوا قطّ، وكان أعيان زمانه يعرفون منه ذلك، فيحاولون أن يتسقّطوه الكلام ويحتالون ليخوض معهم، فلا يقدرون على شيء، فلا أجد لهم وإيّاه مثلا إلّا الرّبيع بن خيثم؛ إذ خفّوا إليه يوم قتل الحسين ليستخرجوا منه كلاما، فأخبروه، فلم يزد على أن قال: أو قد فعلوها؟! قالوا: نعم.

فرفع يديه إلى السّماء وقال: (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

فما أشبه هذا بذاك. لا ينفذ إلى فعله التّعليل، ولا يحتاج شيء منه إلى التّأويل؛ إذ صار هواه تبعا لما جاء به نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم، فجاء فيه موضع قول ابن كناسة في إبراهيم بن أدهم [من الطّويل]:

«أمات الهوى حتّى تجنّبه الهوى *** كما اجتنب الجاني الدّم الطّالب الدّما»

سروره في إقبال الخلق على الله، وحزنه في إعراضهم عنه، حتّى لقد كان سبب موته من هذا الباب.

وكان كثير الأخذ عن المشايخ، جمّ الحرص على الاستكثار من الأسانيد والاتّصال بسلاسل الرّجال وأئمّة الحديث والطّريق. وقد اجتمع له ولي بفضله ـ رضوان الله عليه ـ ما لا يوجد عند أحد من أهل عصره، ولله الحمد.

وكان في أيّام أستاذه الأبرّ عيدروس بن عمر يتردّد عليه من أيّام والده عن أمره في كلّ ثلاث ماشيا، وبينهما نحو من أربعة أميال أو أكثر، ولقد أراد أخوه في الله الشّيخ عوض بن عمر شيبان السّابق ذكره في الغرفة أن يشتري له مركوبا، فأبى وقال: لو أحسست بتعب.. لقبلت. ولقد كاد أن يخرج عن إهابه من الطّرب؛ إذ تمثّلت له عند مثل هذا الكلام بقول العبّاس بن الأحنف [من البسيط]:

«أرى الطّريق قريبا حين أسلكه *** إلى الحبيب بعيدا حين أنصرف »

وقول الآخر [كثيّر عزّة في «ديوانه» 109 من الطّويل]:

«وكنت إذا ما جئت ليلى أزورها *** أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها »

«من الخفرات اللّاء ودّ جليسها *** إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها»

ثمّ ظفر هو بقول الآخر [من السّريع]:

«والله ما جئتكم زائرا *** إلّا رأيت الأرض تطوى لي »

«ولا انثنى عزمي عن بابكم *** إلّا تعثّرت بأذيالي »

فكان كثير التّغنّي بهما، وهو معنى واسع للشّعراء فيه مجال، ولم ينس المتنبّي حظّه من هذا المعنى، لكن من غير إجادة، حيث يقول [في «العكبريّ» 1 / 63 من الطّويل]:

«أتى مرعشا يستقرب البعد مقبلا *** وأدبر إذ أقبلت يستبعد القربا »

وكانت ترعد عنده فرائص الملوك؛ لما عندهم من احترام الحقّ وهيبة الدّين، ولما يرون عليه من عزّة الإيمان وشرف العلم، وصولة الحقّ، وسلطان الصّدق، وقوّة اليقين، فيأمرهم وينهاهم، ولا يؤمّلون أبدا في أن يقبل منهم شيئا؛ إذ كانت الشّبهات في عهده ـ فضلا عن الحرام ـ ظاهرة النّكارة، فاحشة الملامة، حتّى لقد كان مكّاس الدّولة الكثيريّة ـ المسمّى توفيقا ـ منبوذا مهانا، وكثيرا ما يمرّ بجانب مدرسة طه بن عمر فيرميه صبيانها بالحجارة، فلا يقدر على الدّفاع، ولو دافع.. للقي أكبر.

وله محاسن، وكان موته يوم الجمعة، فأشكل ذلك على والدي، فخفّ إلى الأستاذ الأبرّ فقال ـ قبل أن يبلع الرّيق ـ: أحوج النّاس إلى الجمعة: توفيق.

ثمّ صار أبناء السّادة اليوم يتسابقون إلى مثل وظيفته، ويتنافسون فيها، ويشمخون بأنوفهم؛ ظنّا أن قد رفعت من أقدارهم.

وعلى الجملة: فكلّ ساعاته ذكر أو تذكير، أو قراءة أو تدريس، أو صلاة يستشعر حاضرها ـ بما يغشاه من الطّمأنينة والخشية ـ نزول السّكينة، وشمول الرّحمة، وحضور الملائكة.

وما ألذّ ما تسمع آيات القرآن من لسانه في الصّلاة الجهريّة، بصوته الجهير، ونغمته الشّجيّة، غضّة طريّة، تكاد تنتزع القلوب من أماكنها، ويخيّل لهم أنّهم لم يسمعوها من قبل، وأنّها إنّما نزلت تلك السّاعة، حتّى ليحسب المقتدون بما يشملهم من اللّذّة ويغمرهم من الهيبة ويستولي عليهم من الخشوع أن قد انفصلوا عن عالم الحسّ، والتحقوا بعوالم القدس، بحيث لا يمكن لمسبوق أن يقرأ (الفاتحة) من خلفه.

«وأذكر أيّامي لديه فأنثني *** على كبدي من خشية أن تقطّعا »

وما أذكر صلاة أشفى للنّفس، وأجمع للقلب، وأبرد للخاطر وأنفى للهمّ، وأدنى إلى الإخلاص من صلواتي في الجهريّات خلفه، وخلف شيخنا الفاضل الشّيخ حسن بن عوض بن زين مخدّم، وصلواتي خلف الأستاذ الأبرّ جهريّة كانت أو سرّيّة؛ فإنّه يسري إلينا سرّ من إخلاصه، يلذّ لنا به التّطويل مطلقا.

وأذكر أنّ أوّل صلاة كانت لي بالمسجد الحرام لمّا حججنا في سنة (1322 ه‍) هي الصّبح خلف واحد من العلماء ـ يدعى فيما أتوهّم خوقير ـ قرأ في الأولى بالتّين فكاد القلب يخرج عن شغافه عند إشارته إلى البلد بقوله: (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) ثمّ ما كفاه حتّى قرأ في الثّانية سورة ـ (قريش) فلا تسل عمّا داخلني عند إشارته إلى البيت ـ وما بيننا وبينه إلّا ثمانية أذرع أو أقلّ ـ بقوله: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) فلو لا الاعتصام بالأجل.. لا لتحقت الرّوح بالباري عزّ وجلّ، ولكنّي:

«ضممت على قلبي يديّ مخافة *** وقد قرعته بالغطاة القوارع »

«وما ينفع القلب الّذي طاش لبّه *** لتلك المعاني أن تضمّ الأصابع »

وكثيرا ما شنّف سمعي، واستوكف دمعي، وامتلك لبّي، واستأسر قلبي ما سمعته من قراءة إمام الحرم بأوساط المفصّل في صلاة الصّبح سنة (1354 ه‍)، وتذكّرت صلاة والدي، إلّا أنّ تلك أخشع وقراءة إمام الحرم أجود وأسمع، فهو مقرىء غير مدافع، ولكنّ خطابته دون ما يليق بالمسجد الحرام الّذي يطلب بلاغة تتفرّى لها الأهب، وتكاد لها النّفوس تنتهب.

ثمّ إنّ والدي رحمه الله مع ما سبق كلّه لم يكن بالمتزمّت ولا بالمتنطّع ولا بالمنقبض، بل لا يفارق ثغره الابتسام في سرّاء ولا ضرّاء، وله في الدّعابة مذهب جميل، يخرجه عن طريق المرائين المتصنّعين، ويحلّيه بقول المتنبّي [في «العكبريّ» 2 / 287 من الطّويل]:

«تفكّره علم، وسيرته هدى *** وباطنه دين، وظاهره ظرف »

فله معنا ـ ولا سيّما عند الأكل، بل وفي مثاني الدّروس عند المناسبات ـ مفاكهات شهيّة، ومنادرات لذيذة، وتراه يصغي بسمعه وقلبه لما أنشده إيّاه من الأبيات الأدبيّة عند المقتضيات، ويطرب لذلك ويستعيده.

وقد سبق أنّه يشاركني أحيانا في اللّعب إيناسا لي، وضنّة بي عن مخالطة الأضداد، فلم تكن الهيبة الغالبة عليه هيبة تعاظم ولا ترفّع، كلّا والله، ثمّ كلّا والله، ولكن كما قال أبو عبادة [في «ديوانه» 2 / 309 من البسيط]:

«يهاب فينا وما في لحظه شزر *** وسط النّديّ ولا في خدّه صعر »

وإن كان ليجرّني الرّسن فأناقشه المسائل وأجاذبه البحث فلا يزيده إلّا سرورا واغتباطا، على شرط أن أتوكّأ على الدّليل وأعتمد على النّصّ. ولقد جهدت أن أتعلّق له بهفوة أحتجّ بها عند ما يناقشني الحساب على المباحات، ويكلّفني الصّعب من المجاهدات فلم أستطع.

وقد سئل الحسن البصريّ عن عمرو بن عبيد، فقال: (لقد سألتني عن رجل كأنّ الملائكة أدّبته، وكأنّ الأنبياء ربّته، إن قام بأمر.. قعد به، وإن قعد بأمر.. قام به، وإن أمر بشيء.. كان ألزم النّاس له، وإن نهى عن شيء.. كان أبعد النّاس عنه، ما رأيت ظاهرا أشبه بباطن منه)، وكأنّما نظر في هذا بلحظ الغيب إلى والدي، فإنّه الوصف الّذي ينطبق عليه تماما، لا يأنف من حقّ، ولا يتقدّم إليه بباطل، فلهو والله من أحقّ النّاس بقول كثير [في «ديوانه» 145 من الطّويل]:

«ترى القوم يخفون التّبسّم عنده *** وينذرهم عور الكلام نذيرها »

«فلا هاجرات القول يؤثرن عنده *** ولا كلمات النّصح يقصى مشيرها»

وقول كعب بن سعد الغنويّ [من الطّويل]:

«إذا ما تراءاه الرّجال تحفّظوا *** فلم ينطقوا العوراء وهو قريب »

ولئن قال ابن عنقاء: (إذا قيلت العوراء.. أغضى) فإنّ هذا إذا قيلت: العوراء.. غضب، بل لا أذكر أنّ أحدا نطق في مجلسه بكلمة غيبة أو نحوها.

وكذلك كان يقول عنه الشّيخ الدّثنيّ، ويكثر التّعجّب من ذلك، وهو أشدّ وأقدم له لزاما منّي.

ومع هذا كلّه فما هو إلّا صورة مصغّرة من أحوال والده وأحوال سيّدنا الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر، وكلّما استكثرنا أعماله.. قلّل منها بالنّسبة لأعمالهم، وأقسم أنّه غير هاضم لنفسه، ولكنّه مخبر بالواقع.

وعلى مثل حاله رأيت سيّدي شيخان بن محمّد الحبشيّ، على ضيق في عطفه، وخشونة في خلقه، وإلّا.. فقد كان هذا أوسع علما وأكثر عبادة، وأشدّ مجاهدة للنّفس، إلّا أنّ والدي كان أجود وأسمح، وأنصح وأفصح، وأرأف وأعطف، وأظرف وألطف.

وكان سيّدي عبد الله بن حسن البحر على قريب من تلك الحال، بل هو أندى بنانا، وأشجع جنانا، وأكثر ضيفانا، وأطول قياما وركوعا، وأغزر بكاء وخشوعا، إلّا أنّ والدي كان أكثر علما وأغزر فهما، وأبلغ لسانا، وأفصح بيانا، وأحلى لفظا وأنجع وعظا.

ولقد أشهدت منهما مشهدا عجيبا بمنزل سيّدي الفاضل محمّد ابن الأستاذ الأبرّ المسمّى: باوعيل في شرقيّ تريس سنة (1318 ه‍)، تذاكرا فيه أحوال الإمام البحر والأستاذ الأبرّ وشدّة خوفهما من الباري عزّ وجلّ، وفرط انكسارهما بين يديه، وجرى لهما مثل ما جرى لابن المنكدر وأبي حازم؛ فقد ذكر غير واحد أنّ ابن المنكدر صلّى وبكى، ففزع أهله حتّى استعانوا بأبي حازم.. فقال له: ما الّذي يبكيك حتّى رعت أهلك؟

قال: مرّ بي قوله تعالى: (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) فصعق أبو حازم واشتدّ بكاؤهما، فقال بعض أهل ابن المنكدر لأبي حازم: جئنا بك لتفرّج عنه فزدته. فقريب من ذلك جرى لوالدي مع القانت الأوّاب البحر يومئذ، وكانا جاءا للترويح.. فعادا في مأتم.

وعلى الجملة: فقد كان كثير ممّن أدركناهم وأخذنا عنهم على غرارهم، وشريف آثارهم؛ كسادتي: عبد الله بن عمر بن سميط، المتوفّى بشبام سنة (1313 ه‍). وأحمد بن محمّد الكاف، المتوفّى بتريم سنة (1317 ه‍). وعبد الرّحمن بن حامد السّقّاف، المتوفّى بسيئون سنة (1316 ه‍). والشّيخ عمر عبود بلخير، المتوفّى بالغرفة في حدود سنة (1316 ه‍). وعبد الرّحمن بن محمّد المشهور، المتوفّى بتريم سنة (1320 ه‍).

والشّيخ أحمد بن عبد الله بن أبي بكر الخطيب، المتوفّى بتريم سنة (1331 ه‍). والشّيخ محمّد بن أحمد قعيطبان، المتوفّى بها سنة (1316 ه‍). والشيخ أحمد بن

عبد الله بن عمر الخطيب، المتوفّى بها سنة (1333 ه‍). والسّيّد عيدروس بن ع

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


72-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (الغرف)

الغرف

هي بلدة صغيرة في موقع جميل، يحيط بها الفضاء الواسع من كلّ جهة، تنشعب منها الطّرق، فعلى مقربة منها في شمالها تمرّ الطّريق السّلطانيّة الّتي تجيء من أعلى حضرموت إلى أسفلها، ومنها إلى الجنوب ممرّ الطّريق المهيع إلى الشّحر والمكلّا وغيرهما من السّواحل.

وهي من القرى الحديثة العهد، كانت لآل زيدان من القرامصة التّميميّين، فاشتراها منهم السّلطان عبد الله بن محسن بن أحمد الكثيريّ لأخيه السّلطان غالب، بهمّة جدّي المحسن، وإشارة سيّد الوادي الحسن بن صالح البحر، ومساعدة جبل العبادة عبد الله بن حسين بن طاهر بألف ومئتي ريال ـ والمبيع إنما هو إمارتها لا رقبتها ـ وكانت أوّل دولتهم بها، ولمّا بدأ السّلطان عبد الله بن محسن بسورها.. ثارت ثائرة القرامصة حتّى أرضاهم بنافلة من المال.

وكان يسكنها السّيّد الجليل، الدّاعي إلى الله بلسانه وقلمه، الوالد عثمان بن عبد الله بن يحيى، حفيد العلّامة الفاضل الجليل عقيل بن عمر بن يحيى، له مؤلّفات كثيرة في خدمة الدّين الإسلاميّ، ويد بيضاء في نشر دعوته وشرح أسراره بين الجاويّين.

ولمّا وردت جاوة في سنة (1330 ه‍).. وجدت جماعة من السّادة يناوئونه؛ منهم: السّيّد محمّد بن عبد الرّحمن بن شهاب، والسّيّد عبد الله بن عليّ بن شيخ العيدروس، ومن على شاكلتهم من الرّهط الّذي كان يبثّ مبادىء الإرشاد في الحضرميين لغرض الانتقام والتّشفّي منه ومن أمثال السّادة الأجلّاء الكرام محمّد بن أحمد المحضار، ومحمّد بن عيدروس بن محمّد الحبشيّ، وعبد الله بن محسن العطّاس وأمثالهم.

ثمّ انقلبوا بشدّة وحرد لنقض تلك المبادىء، فأشعلوا نار الفرقة والاختلاف والعداوة بين الحضارم ـ حسبما هو مفصّل ب «الأصل» ـ وكاد أولئك الرّهط يستميلوني إليه واشتدّ حرصه على أن ينفرج الأمر بيني وبين سيّدي الوالد عثمان، وكدت أقع في حبالتهم لا سيّما وقد زوّدني أهل فلمبان بشيء من ثمار نيّاتهم ومبادئهم الّتي كان يبثّها فيهم أحد أحفاد السّيّد عثمان ضدّ جدّه، ولكن عزم الله لي بالثّبات، لا سيّما بعد أن دعاني إلى بيته وأهداني مجموعة مؤلّفاته القيّمة معنى وإن لم تبلغ الإجادة مبنى، ورأيته بخلاف ما ذكروا لي عنه، فأكبرت صنيعه، وأحمدت أثره، واعترفت بفضله، ورأيت من سلوكه في طريق الحقّ ومجاهدته فيه ما يملأ صدري وصدر كلّ منصف باحترامه وإجلاله، وهو ملتزم بالسّنّة والفقه، ولقد جاء ذكر الكرامات بين يديه فأنكر مجازفة المغرورين فيها إنكارا شديدا، وقال: لقد كنت مختصّا بخالي وسيّدي عبد الله بن حسين بن طاهر وهو ممّن لا تدفع ولايته، وجالسته زمانا طويلا.. فلم أر منه إلّا كرامتين، ليس فيها خرق عادة، وإنّما:

أولاهما: أنّه خرج يصلّي العصر وعليه رداء فتنني، وتمنّيت أن لو كان لي مثله، ومرّت صلاتي وأنا أفكّر فيه، وما كان ينفتل من صلاته حتّى دعاني وقال لي: هذا الرّداء لك، وأعطاني مفتاحه الخاصّ لآتيه برداء آخر ـ وصفه لي ـ ولو لا أنّه تفرّس ما في خاطري.. ما خالف عادته من عدم الكلام إلّا بعد فراغه من ورده.

والأخرى: أنّ السّيّدين محمّدا وعمر ابني السّيّد عبد الله بن عمر بن يحيى عزما على الانتقال سرّا من المسيله، وتكتّما بالأمر حتّى لا يشعر فينهاهما، وأرادا أن لا يعلم إلّا بعد الأمر الواقع، فلمّا صلّينا العشاء وفرغ من ورده ونافلته.. قال لي: ادعهم لي، فدعوتهما، فقال لهما: إذا عزمتما على أمر فشاوراني؛ فعندي ما ليس عندكما من العقل، وقد جرّبت الزّمان وأهله، لم يزد على ذلك، فسكتا، ولكنّهما انصرفا عمّا كانا نوياه، وأنا على يقين أنّه لم يكن إلّا عن فراسة صادقة؛ إذ لم تعلم حتّى ثيابهم بما كانوا يبيّتون، ولقد حفظني بظهر الغيب، وطبع نشرتين في الذّبّ عنّي لمّا تكلّمت عليّ صحيفة «الوطن» الصّادرة بسنغافورة، إحداهما خاصّة بي، والثّانية جامعة لي وللسّادة الأجلّاء الكرام: محمّد بن حامد السّقّاف، وحسن بن علويّ بن شهاب، ومحمّد بن عبد الرّحمن بن شهاب، في الثّناء علينا والنّضال عنّا، مع أنّ الأخير كان ينافسه ويبتغي له الغوائل ويدبّر له المكايد، ولمّا خلى مكانه في سنة (1332 ه‍).. لم يستطع أولئك الرّهط الّذين ملؤوا نواحي جاوة بقاقا وأوراقا أن يشغلوا مكانه بأحد ممّن يرشّحونه ويتمنّون أن لو كان في موضعه، فانطبق عليهم معه قول الحطيئة [في «ديوانه»: 40 من الطّويل]:

«أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم *** من اللّوم أو سدّوا المكان الّذي سدّوا»

ومن اللّطائف: أنّ سيّدي عثمان وقتما كان بالغرف اعتلّ يوما عن حضور الجمعة ببعض أعذارها، وكان من عادته التّبكير، فكلّ من جاء إلى الجامع.. رجع وتوهّم أنّ الوقت لم يدخل، وهكذا حتّى بقي الخطيب وحده حتّى وجبت العصر.

ومن أهل الغرف: ولده العلّامة البحّاثة، المحقّق الفقيه محمّد بن عثمان، كان من استحضاره «تحفة ابن حجر» كأنّما يحفظها توفّي بسنغافورة سنة (1316 ه‍).

ومنهم: ولده علويّ بن عثمان، كان من أهل العقل والدّين والصّلاح، توفّي حوالي سنة (1344 ه‍).

ومنهم: ابنه محمّد بن علويّ بن عثمان، كان شهما صالحا، لمّا حضره الموت توضّأ واستاك وأخذ يكرّر الجلالة حتّى فارق الحياة، وكانت وفاته قبل وفاة أبيه.

ومنهم: أخوه صاحب النّوادر اللّطيفة، والنّكات العجيبة، عقيل بن عثمان بن عبد الله بن يحيى، كان شاعرا أديبا، له يد في التّاريخ حتّى لقد هنّأني على الرّويّة يوم اقترنت بأمّ حسن وأشقّائه بقصيدة طولى، كلّ شطر منها تاريخ، أخذ عن والده، وعن سيّدي الأستاذ الأبرّ، وعن والدي، وله فيه مدائح.

ولغزير الإحسان الوالد أحمد بن عمر بن يحيى فضل عليه، ولقد حضرت عنده أنا وهو ـ أعني الوالد أحمد ـ قبيل موته بيوم، فقال لي: مرّ عليّ مثل هذا اليوم العام الماضي وأنا أشقى أهل المسيله حالا، ثمّ إنّني اليوم ـ بفضله ـ أسعدهم، يبتدرون إشارتي إذا أشرت، ويتسابقون في مرضاتي إذا أمرت، وكانوا لا يردّون عليّ السّلام قبل.

ثمّ قلت له، أو قال لي: ما أراني إلّا متوفّى في مرضي هذا، فماذا تفعل؟ فقلت: أرثيك بقصيدة أستهلّها بقولي [من الطويل]:

«مصاب أصاب النّاس وهو جليل *** غداة أتى النّاعي فقال عقيل »

فقال: يكفيني منك هذا، وإنّه لكثير. توفّي بالمسيله سنة (1346 ه‍).

وفي حدود سنة (1298 ه‍) كان أحد عبيد الشّيخ صالح بن عائض بن جخير يخفر السّيّد محمّد بن عبد الرّحمن الكاف بتريم، فاستاء السّلطان الكثيريّ من جرأة الشّيخ صالح وجواره عليه في بلاده، فانتهك السّلطان الكثيريّ حرمته وطرد عبده ـ والعار مضّاض ـ عند الشّيخ صالح بن عائض، فلم يكن منه إلّا أن اقتحم الغرف واحتلّها في أسرع وقت، وطرد عبيد السّلطان منها وجاءت نجدات الدّولة من تريم وسيئون، والتحم القتال، وقتل أحد العوامر وثلاثة من أصحاب الدّولة، وما زالوا في الحرب حتّى وصل المنصب السّيّد عبد القادر بن سالم العيدروس من بور بطبوله وخيوله وراياته فحجز بينهم، وأخرجهم منها صلحا لا عنوة من الغرف بعد ما غسلوا العار، واستجهروا الأبصار، وسوّيت القضيّة على ما يحبّه الشّيخ صالح.

وأخبرني الأخ عقيل بن عثمان المذكور بأنّ أهل الغرف خرجوا في نزهة، ولمّا تهيّأ غداؤهم ـ وكان شربة ـ جاء بعض أعدائهم فطردهم عن موضع الفسحة، فهربوا وتركوا غداءهم، ولهذا كان النّاس يعيّرونهم فصاروا يغضبون من ذكر الشّربة كما يغضب آل شبام من وزن الهرّ.

وللأخ عقيل منظومة جميلة في ألقاب البلاد الحضرميّة.

وكان الوالد أحمد بن عمر بن يحيى يصنع بالمسيله عشاء من الشّربة للمساكين في كل ليلة من رمضان، فغضب آل الغرف وحقدوها عليه! فكانت شبيهة بقصّته مع الشّيخ سالم باسويدان السّابقة في شبام.

وأخبرني الأخ عقيل بن عثمان المذكور أنّ أكثر أهل الغرف مات بحسرة على عدم التّوفيق في قنص الوعول؛ إذ كان الغالب عليهم الإخفاق والخيبة كلّما صعدوا الجبال، حتّى إنّهم لمّا عزموا على صعود الجبال مرّة لذلك، ففيما يستعدّون ويعملون الأسمار والأشعار.. استقدموا شاعرا ليستعينوا به في أفراحهم، فكان أوّل ما أنشأه لهم قوله:

«قال بدّاع القوافي: بارق الجودات رفّ *** من خلقنا ما سمعنا زفّ عند اهل الغرف »

فطردوه وكادوا يسطون به! !

وقد اعتنت بها الحكومة الإنكليزيّة في السّنوات الأخيرة، واحتلّتها واتّخذتها مقرّا لإدارتها العامّة، ولكن بدون استئذان ـ حسبما يقول لي السّلطان عبد الله بن محسن ـ منهم، وهم ملّاكها، ثمّ نقلت إدارتها منها إلى سيئون.

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


73-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (المسيله)

المسيله

بميم مفتوحة، ثمّ سين مكسورة، ثمّ ياء ساكنة، ثمّ لام مفتوحة. سمّيت بذلك لأنّها على ضفّة مسيل عدم الغربيّة.

وعدم ـ بعين ودال مكسورتين ـ: أكبر ـ لا أكثر ـ مجاري السّيول بحضرموت، تنهر إليه مياه النّجد الجنوبيّ بحضرموت، عدا ما يسقط إلى السّاحل، وما يفيض إلى وادي سنا.

وكلّ مياهه تذهب ضياعا لا تنفع إلّا ما في عين المسيل من النّخيل، وتلتقي مياهه مع مياه سر عند طرف جبل كحلان.

والمسيله هي مسكن السّيّد شيخ بن أحمد بن يحيى، ولذا قيل لها: مسيلة آل شيخ.

قال السّيّد أحمد بن عليّ الجنيد: منهم: أبو بكر وعبد الله، ابنا عمر بن طه بن محمّد بن شيخ، كانا فاضلين، وقد انتقلا؛ أي: من قارة الشّناهز إلى عينات، واستوطناها حتّى ماتا.

فأمّا عبد الله: فقد انقرض عقبه من الذّكور.

وأمّا أبو بكر: فترك ولده عمر، فعاد إلى المسيله، وبنى عندهم الحبيب حسين بن طاهر بن محمّد بن هاشم مسجده وداره الّذي سكنه بعده أولاده:

الحبيب طاهر بن حسين، صاحب النّهضة المشهورة، المتوفّى بالمسيله سنة

(1241 ه‍).

والحبيب عبد الله بن حسين، الّذي لا تستوفي العبارة كنه ما له من الفضل، المتوفّى بها سنة (1272 ه‍).

وفي كلام الحبيب أحمد بن عمر بن سميط: أنّ أباهم فرّغهم للعلم، وسافر إلى جاوة نحو ثلاث مرّات.

ومن آل طاهر: شيخنا السّيّد الجليل أحمد بن عبد الله بن حسين بن طاهر، كان جبلا من جبال العلم والعبادة، توفّي بالمسيله لأربع في جمادى الآخرة من سنة (1317 ه‍)

ومنهم: هاشم بن عبد الرّحمن بن عبد الله بن حسين بن طاهر، كان من أهل الصّلاح والعبادة والأذكار، توفّي بعدن في رجب سنة (1316 ه‍)، وله ابن ذكيّ، ناظم ناثر، تقلّب في الأعمال المدرسيّة بفليمبان، ثمّ في جاوة، ورأس التّحرير بجريدة «حضرموت»، ثمّ وزر للسّلطان جعفر بن منصور، وهو الآن يدرّس بمدرسة جمعيّة الأخوّة والمعاونة بتريم.

ومنهم: السّيّد أبو بكر بن عبد الرّحمن بن طاهر، له جاه ورئاسة بالتّيمور، ثمّ وصل إلى المسيله ومعه الأعلام الحريريّة المحلّاة بالذّهب التّبر والطّبول والخيول، توفّي بالمسيله سنة (1331 ه‍)، وأبقى عتادا نفيسا، وأثاثا فاخرا، وعلوقا مثمّنة، تولّاها أحد خدّامه بعده، فعاث بها عيث الجراد بالزّروع، ولم يبق لأولاده الصّغار إلّا ما لا يسمن ولا يغني من جوع.

ومنهم: أخوه الخفيف الظّلّ: عبد الله بن عبد الرحمن بن حسين بن طاهر، كان ظاهر التّقوى والورع، وله معرفة بالطّبّ، وتعلّق بالسّيّد فضل بن علويّ مولى خيله، وطول صحبة معه في الأستانة، ولين جانب، ولطف أخلاق، وحسن محاضرة.

توفّي بالمدينة المنوّرة في رمضان سنة (1352 ه‍).

ومنهم: السّيّد الفاضل أحمد بن طاهر بن أحمد بن طاهر بن حسين، له اعتناء بالأوراد، توفّي بسنغافورة في (15) رمضان سنة (1314 ه‍).

ومنهم: العلّامة السّيّد عبد القادر بن أحمد بن طاهر بن حسين، له سعة اطّلاع، توفّي بالمسيله سنة (1300 ه‍).

وقد عاش آل طاهر إلى وفاة الحبيب عبد الله بن حسين مع آل يحيى على عبادة الله ومدارسة العلوم، والأمر بالمعروف، والإنكار للمنكر.

وكان عبد الله بن عمر بن يحيى جبلا من جبال التّقوى، وبحرا من بحور العلم، توفّي بالمسيله في سنة (1265 ه‍) بإثر وفاة ولد له شديد الأسر، حديد الفهم، يعرف مواقع رضاء أبيه ويفعل ما يحبّه من غير إشارة، حتّى لقد ورده السّيّد حسن بن حسين الحدّاد وحده، فذبح له كبشا ساحّا كبيرا، وما كاد يستقرّ به المجلس حتّى دعاه وسارّه بقوله: اذبح الكبش الفلانيّ ـ يعني المذبوح ـ وإنّما لم يكتف بعمله حسب العادة؛ لإيثار الخروج عنها بذبح الكبش الكبير لواحد، فقال لوالده: إنّه لم يأت إلّا وحده مع خادم واحد، فيكفي له رأس صغير.

فقال: لا تراجع، واذبح الكبير، قال: قد ذبحته. فسرّ منه وقرّت به عينه. واسمه أبو بكر.

وسمعت والدي يروي عن الأستاذ الأبرّ أنّ قصّة ذبح الكبش للحدّاد وقعت للحبيب عبد الله بن حسين مع أحد أولاده، والّذي يرويه آل يحيى بحذافيرهم: الأوّل، والأمر قريب، والتّعدّد بعيد.

ثمّ توفّي بعده بها ولده العلّامة الجليل عمر بن عبد الله في سنة (1277 ه‍) ثمّ أخوه الصّوفيّ الفقيه محمّد سنة (1308 ه‍)، ودفن بها.

وكان الشّيطان ـ كما قال بعضهم ـ يفرق من الحبيب عبد الله بن حسين بن طاهر فرقه من ابن الخطّاب رضي الله عنه فلم يدخل المسيله في أيّامه، ولكنّه لم يمت إلّا والشّيطان ممتلىء الصّدر غيظا من طول ما طرد عنها، فاحتبى إثره في محراب مسجدها.

ونزغ الشّيطان بين أبناء الحبيب عبد الله بن حسين وأبناء الحبيب عبد الله بن عمر بن يحيى على أوقاف المسجد ونظارته، وكان الّذي تولّى كبر المخاصمة السّيّد عقيل بن عبد الله بن عمر، وكان له اختصاص شديد بالدّولة الكثيريّة، فلم يبلّوا غليل صدره، بل خذلوه، فسافر إلى الهند وحالف آل القعيطيّ وهجم بهم على تريم، وكانت حادثة النّويدرة وهي جانب تريم الشّماليّ، واستولت عليه عساكر القعيطيّ من جهة دمّون، بمساعدة آل تميم وخيانة من بعض عبيد الدّولة، وكان ذلك في سنة (1292 ه‍)، ودام الحرب واحتلال النّويدرة إلى سنة (1294 ه‍)، وفي تلك الأثناء كانت وفاة السّيّد عقيل بن عبد الله بن يحيى عن أربعين ربيعا وأربعة أيّام، أخبرني الفاضل الوالد أحمد بن عمر بن يحيى: أنّ عمّه عقيلا رأى كأنّ قائلا يقول له: عمرك أربعون عاما، فانزعج، ولكن عاد فرأى ذلك القائل يقول له: زدناك أربع مرّات، فاطمأنّ.

فكانت الرّؤيا حقّا، ولكن لم تكن الزّيادة إلّا أربعة أيّام.

وفي تلك السّنة أيضا انتصر القعيطيّ على العولقيّ وعلى الدّولة الكثيريّة في الحزم وصداع، حسبما سبق عند ذكرهما.

وبإثر ذلك انعقد الصّلح بواسطة السّيّد عليّ بن عمر الحييد ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم، والعلّامة السّيّد أبي بكر بن عبد الرّحمن بن شهاب على تخيير الدّولة الكثيريّة بين أن تخرج من تريم، وتتسلّم عشرة آلاف ريال.

وبين أن تدفعها للقعيطيّ فيرتفع بعسكره عن النّويدرة فاختارت هذه، ووقع النّاس من جرّاء تحصيلها في قرن الحمار، وكتبت بينهم وثيقة بتاريخ ربيع الثّاني من سنة (1294 ه‍)، أوردناها مع تفصيل أخبار تلك الحادثة مفصّلة في «الأصل»، وإلى هذه الحادثة الإشارة بقول العلّامة ابن شهاب [في «ديوانه» 121 من الكامل]:

«كم فتنة فيها اكفهرّ وبالها *** حمد الأنام سراي في إخمادها»

وهو بارّ راشد في ذلك، فلقد كان له السّعي الحثيث في الإخماد، ثمّ كانت له اليد البيضاء في تحصيل الدّراهم.

أمّا محمّد بن عبد الله بن عمر.. فترك أولادا كراما؛ منهم: شيخ، وعمر، وأحمد، لهم مساع جليلة، وفضائل جميلة، وهم من أخصّ النّاس بأستاذي الأبرّ عيدروس بن عمر، أقاموا عنده بالغرفة مدّة طويلة للأخذ والتّلقّي عنه. توفّي الأوّل بالمسيله سنة (1311 ه‍)، والآخران بمكّة بعد أداء النّسكين سنة (1310 ه‍) وولده عبد القادر بن محمّد حيّ يرزق إلى الآن.

وأمّا السّيّد عمر بن عبد الله.. فقد ترك أولادا منهم: المتّفق على صلاحه وتقواه، السّيّد أبو بكر بن عمر، المتوفّى بسربايا سنة (1331 ه‍).

ومنهم: تاجر الآخرة، المشارك في كثير من فنون العلم، الوالد: أحمد بن عمر بن يحيى، المتوفّى بتريم سنة (1357 ه‍)، وكان النّاس ينسبونه إلى الشّذوذ؛ لأنّه يسامح في الكبير ويشتدّ في الصّغير، وربّما عزّ عليّ الانفصال عن قولهم: (لأنّه يجود بالألف وقد يضنّ بالدّرهم) وكنت ألوم نفسي، وأستحيي من نظيره حتّى رأيت ما يشبهه في سيرة عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، وحاتم الطّائيّ، وعبد الله بن جعفر. وقال البحتريّ [من الطّويل]:

«يضيق من الأمر اليسير مخافة *** وإن كان أضحى واسع الصّدر واليد»

وله أولاد؛ منهم: ابنه، قرّة العين، المنغّص الشباب محمّد بن أحمد، المتوفّى بتريم في حياة أبيه سنة (1354 ه‍)، وأخوه الفاضل الأديب عبد الله بن أحمد، يسكن الآن في سنغافورة، وهو الّذي كان يصدر مجلّة (عكاظ) في حضرموت بخطّ اليد، وقد اطّلعت على أعداد منها مليئة بالفوائد.

ولعمري، لقد كانت المسيله منزل علم، ومكرع ريّ، ومهاد تقوى، وعماد شرف، بها رست قواعد المجد، وانبثقت عيون الجود، واستحصفت أسباب المكارم، حتّى لقد وصفها بعضهم بقصيدة قال في مطلعها بحقّ:

«الله أكبر هذه المسيله *** فيها الهدى والنّور والفضيله »

إلّا أنّها تعاورها الظّلمة والنّور، والغمّ والسّرور، ولمّا وصلها الوالد أحمد بن عمر بن يحيى في سنة (1345 ه‍).. أطلع بوحها، وأعاد روحها، فأثّ نباتها، وانتشر رفاتها، ولكنّه لم يسلم من أذيّة آل تميم مع انتسابهم إليه وإلى أجداده بالخدمة، فغادرها إلى تريم، وكان له بها قصر فخيم، فعادت المسيله إلى الذّبول، وغاب عنها القبول.

«أشلى الزّمان عليها كلّ حادثة *** وفرقة تظلم الدّنيا لنازحها »

«دار أجلّ الهوى عن أن ألمّ بها *** في الرّكب إلّا وعيني من منائحها»

وسيأتي ذكر السّيّد عقيل وأولاده في يشحر.

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


74-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (حصن آل فلوقة)

حصن آل فلّوقة

هو قرية واقعة في سفح الجبل المسمّى باعشميل، في جنوب تريم بإزاء الرّملة، إلى شرقيّها، فيصلح عدّها هنا في القرى الّتي بجنوب تريم، ويصلح عدّها في القرى الّتي في شرقيّها، ولكنّي آثرت الأوّل لأتمكّن من كلمات تليق بفضيلة شيخنا العلّامة أبي بكر بن شهاب بمناسبة وجوده فيها مع نشاط الخاطر؛ إذ لا يمكنني أن أبلغ فيه شيئا ممّا أريد في أخبار تريم المقصود مراجيحها بالحظّ الأوفى من قول العلّامة الجليل عبد الرّحمن بن عبد الله بن أسعد اليافعيّ [من الطّويل]:

«مررت بوادي حضرموت مسلّما *** فألفيته بالبشر مبتسما رحبا»

«وألفيت فيه من جهابذة العلا *** أكابر لا يلفون شرقا ولا غربا»

وقد سمعت كثيرا من الشّيوخ وأهل العلم يقولون: (إنّ هذا كان جواب الشّيخ لمّا سأله أبوه عن أهل حضرموت)، وهو وهم ظاهر؛ لأنّ وفاة الشّيخ عبد الله بن أسعد كانت في سنة (768 ه‍)، ووفادة ولده إلى حضرموت إنّما كانت في سنة (794 ه‍) كما ذكره شنبل.

وسيأتي عن بامخرمة في تريم أنّ صاحب القصّة إنّما هو عليّ بن عبد الرّحمن بن عبد الله بن أسعد، ولكنّ كلام شنبل أثبت؛ لأنّه أعرف بحضرموت وأخبارها.

ولد شيخنا ـ الّذي لا حاجة إلى ذكر اطّراد نسبه؛ لغناه عنه بشهرته، كما قال المتنبّي [في «العكبريّ» 1 / 176 من البسيط]:

«يا أيّها الملك الغاني بتسمية *** في الشّرق والغرب عن وصف وتلقيب »

في تلك القرية سنة (1262 ه‍)، ودرج بين أحضان العناية، وشبّ محفوفا بالرّعاية، وكان في صفاء الذّهن وحدّة الفهم آية، نعس مرّة بين أصحاب له ـ منهم السّيّد الشّهير عليّ بن محمّد الحبشيّ ـ يقرؤون في الفرائض فعاتبه أحدهم، فسرد لهم ما كانوا فيه! ثمّ صبّحهم من اليوم الثّاني بمنظومته الموسومة ب: «ذريعة النّاهض» وقد أخذ قوله في آخرها [من الرّجز]:

«وعذر من لم يبلغ العشرينا *** يقبل عند النّاس أجمعينا»

من قول صاحب «السّلّم» [في البيت 138 من الرّجز]:

«ولبني إحدى وعشرين سنه *** معذرة مقبولة مستحسنه »

وجرى الاختلاف بمحضر شيخنا المشهور فيما لو اختلف الماء وزنا ومساحة بماذا يكون الاعتبار في القلّتين؟ فنظم على البديهة سؤالا سيّره لمفتي زبيد السّيّد داود حجر فعاد الجواب على غرار ذلك النّظم مصرّحا باعتبار المساحة.

وقد ذكر شيخنا المسألة في «البغية»، ولكنّه لم يشر إلى ما كان واقعا من القصّة، وامتحنت شاعريّته في حضرة الشّريف عبد الله بمكّة المشرّفة، فخرج كما يخرج الذّهب التبر من كير الصّائغ؛ إذ أنشأ في المجلس من لسان القلم أكثر ممّا اقترحوه عليه.

وفي «ديوانه» عدّة قصائد بهيئة الأرتقيّات في مديح خديوي مصر الجليل توفيق باشا، وزعم جامعو «ديوانه» أنّه لم يقدّمها إليه، وأنا لا أصدّق ذلك؛ لخروجه عن الطّبيعة الغالبة؛ إذ قلّما ينجز الشّاعر قصيدته إلّا كانت في صدره ولولة لا تهدأ إلّا بإظهارها، فالظّاهر أنّه قدّمها ولكنّها لم تحظ بالقبول، وقد قيل لأرسطو: إنّ أهل أنطاكيّة لم يقبلوا كلامك.. قال: لا يهمّني قبولهم، وإنّما يهمّني أن يكون صوابا.

وللعلّامة ابن شهاب أسوة بسابقيه من الفحول، فقد اقشعرّ بطن مصر بأراكين القريض؛ كحبيب وأبي عبادة، ولم ينج المتنبّي إلّا بجريعة الذّقن حسبما قرّرته في «النّجم المضي».

وأخبار العلّامة ابن شهاب أكثر من أن يتّسع لها المجال، وهو الّذي مهّد له الصّواب، وأطلق الخطاب، وألين القول، وأطيل الجول.

«كأنّ كلام النّاس جمّع حوله *** فأطلق في إحسانه يتخيّر »

لقد أخذ قصب السّبق، ولم تنجب حضرموت مثله من الخلق.

أمّا في الفقه.. فكثير من يفوقه من السّابقين، بل لا يصل فيه إلى درجة سادتي: علويّ بن عبد الرّحمن السّقّاف وعبد الرّحمن بن محمّد المشهور، وشيخان بن محمّد الحبشيّ، ومحمّد بن عثمان بن عبد الله بن يحيى من اللّاحقين.

وأمّا في التّفسير والحديث.. فلا أدري.

وأمّا في الأصلين، وعلم المعقول، وعلوم الأدب والعربيّة، وقرض الشّعر ونقده.. فهو نقطة بيكارها، وله فيها الرّتبة الّتي لا سبيل إلى إنكارها.

وقد رأينا أشعار إمام الإباضيّة، والشّيخ سالم بافضل، وابن عقبة، وعبد المعطي، وعبد الصّمد، ومطالع القطب الحدّاد الرّائعة، ومنقّحات العلّامة ابن مصطفى الشّاعرة، فضلا عمّن دونهم.. فلم نر أحدا يفري فريه، ولا يمتح بغربه، ولا يسعى بقدمه، والآثار شاهدة والمؤلّفات والأشعار ناطقة.

«مجد تلوح حجوله وفضيلة *** لك سافر والحقّ لا يتلثّم »

أما إنّ كلامه ليسوق القلوب النّافرة أحسن مساق، ويستصرف الأبصار الجامحة كما تستصرف الألحاظ العشّاق.

«ينسى لها الرّاكب العجلان حاجته *** ويصبح الحاسد الغضبان يرويها »

ولطالما وردت القصيدة بعد القصيدة من أشعاره إلى حضرة سيّدي الوالد في حفلة فلا تسل عمّا يقع من الاستحسان والثّناء من كلّ لسان، والإجماع على فضل ذلك الإنسان، غير أنّ والدي كثيرا ما يخشى عليّ الافتتان بتلك الرّوائع فيغيّر مجرى الحديث، ولكنّه لا يقدر أن ينقذ الموقف متى حضر سيّدي الوالد علويّ بن عبد الرّحمن، لأنّه من المولعين بابن شهاب وبأدبه، فلا يزال يكرّر إنشادها، ويطنب فيمن شادها، وكلّما أراد أبي أن ينقذ الموقف.. قال له: دعنا يا عبيد الله نتمتّع بهذا الكلام، لن يفوتك ما أنت فيه.

ونحن نجد من اللّذة بذلك الشّعر العذب، واللّؤلؤ الرّطب، ما يكاد ينطبق عليه قول المتنبّي [في «العكبريّ» 4 / 86 من الطّويل]:

«ألذّ من الصّهباء بالماء ذكره *** وأحسن من يسر تلقّاه معدم »

وكلّ من القوم ضارب بذقنه، أو باسط ذراعيه بالوصيد، ويزيد أهل الشّعر منهم بتمنّي أن لو كان لأحدهم بيت منها بجملة من القصيد.

وكما لقّحت البلاد بفنونه عن حيال.. فلا أكذب الله: كلّ من بعده عليه عيال، وأنا معترف بأنّ ما يوجد على شعري من مسحة الإجادة.. إنّما هو بفضله؛ لأنّني أطيل النّظر في شعره، وأتمنّى أن أصل إلى مثله.

«وكأنّنا لمّا انتحينا نهجه *** نقفو ضياء الكوكب الوقّاد »

وكان يحسد حسدا شديدا، لا من النّاحية العلميّة والأدبيّة اللّتين سقطت دونهما همم العدا ونفاسة الحسّاد؛ لأنّ الأمر من هذه النّاحية كما قال البحتريّ [في «ديوانه» 1 / 14 من الكامل]:

«فنيت أحاديث النّفوس بذكرها *** وأفاق كلّ منافس وحسود»

ولكن من قوّة نفسه ومغالاته بها، وما يصحبه من التّوفيق في الإصلاح؛ فإنّه لا يهيب بمشكل إلّا انحلّ، ولا ينبري لمعضل إلّا اضمحلّ.

«فأرى الأمور المشكلات تمزّقت *** ظلماتها عن رأيه المستوقد »

ومع تألّب الأعداء عليه من كلّ صوب.. تخلّص منهم قائبة من قوب، ووقي شرّهم وقيّا، وما زادوه إلّا رقيّا، فانطبق عليهم قول حبيب [في «ديوانه» 2 / 103 من الكامل]:

«ولقد أردتم أن تزيلوا عزّه *** فإذا (أبان) قد رسى و (يلملم) »

وهو محبوب بعد لدى فحول الرّجال وأئمة أهل الكمال، كسيّدي الجدّ، والأستاذ الأبرّ، والحبيب أحمد بن محمّد المحضار، والحبيب عليّ بن حسن الحدّاد، والحبيب عمر بن حسن الحدّاد، والحبيب محمّد بن إبراهيم، وأمثالهم. وقد قال الأوّل [من الطّويل]:

«إذا رضيت عنّي كرام عشيرتي *** فلا زال غضبانا عليّ لئامها»

وله رحلات كثيرة، أولاها سنة (1286 ه‍) إلى الحجاز، ثمّ عاد إلى تريم، وفي سنة (1288 ه‍) ركب إلى عدن واتّصل بأمراء لحج ومدحهم، وزعم بعض النّاس أنّه كان يعنيهم بقصيدته المستهلّة بقوله [في «ديوانه» (93 ـ 95) من الوافر]:

«ذهبت من الغريب بكلّ مذهب *** وملت إلى النّسيب وكان أنسب »

وأنا في شكّ من ذلك؛ لأنّ له فيهم بعدها غرر القصائد، ومنها قوله [من الطّويل]

«هو الحيّ إن بلّغته فانزل الحانا *** وحيّ الألى تلقاهم فيه سكّانا»

على أنّ للإنسان لسانا في الغضب غير لسانه في الرّضا، وقد قال الأوّل [من الطّويل]

«هجوت زهيرا ثمّ إنّي مدحته *** وما زالت الأشراف تهجى وتمدح »

ثمّ إنّ المترجم ركب من عدن إلى جاوة وأقام بها نحوا من أربع سنين، ثمّ عاد إلى الغنّاء في سنة (1292 ه‍)، وثمّ نجمت فتنة النّويدرة وكان له أفضل السّعي في إخمادها ونجح، ثمّ اشتدّ عليه الأذى فهجر حضرموت سنة (1302 ه‍)، وهي الرّحلة الّتي يقول عند رجوعه منها [من الطّويل]:

«ثلاثون عاما بالبعاد طويتها *** وكم أمل في طيّ أيّامها انطوى »

«وها عودتي لمّا أتيحت نويتها *** عسى وعسى أن ليس من بعدها نوى »

ولمّا قدم إلى تريم في سنة (1331 ه‍).. هنّأته بقصيدة نكر منها بعض أهل العلم بتريم أبياتا، فقال لي السّيّد عبد الرّحمن بن عبد الله الكاف: أتحبّ أن يبحث معك إخوانك في أبيات أنكروها من قصيدتك؟ فقلت له: نعم، بكلّ مسرّة وفرح.

فأقبل العلّامة السّيّد حسن بن علويّ بن شهاب ـ لأنّهم نصّبوه إذ ذاك للرّياسة العلميّة بتريم لينافس الوالد أبا بكر ابن شهاب في عشرين من علية طلّاب العلم، فيهم العلّامة عليّ بن زين الهادي، ولم أكره حضور أحد سواه؛ لما اشتهر به من الحدّة، فخشيت أن يخرج بنا الجدال عن اللّياقة، وما فرغنا من المناقشة.. إلّا وقد رجعوا إلى كلامي، وأوّل من انحاز إلى جانبي هو السّيّد عليّ بن زين الهادي مصداق أنّ الحدّة تعتري الأخيار.. فكان من خيار المنصفين، فهابه من رام المغالطة.

وما أنا في هذا بمجازف ولا كاذب، ولا أستشهد على طول الزّمان بميت ولا غائب؛ فقد بقي السّيّد يوسف بن عبد الله المشهور ممّن حضر ذلك البحث فليسأله من أحبّ.

وموضوع المناقشة أنّني عرّضت ـ في تلك القصيدة ـ ببعض من يعزّ عليهم ممّن غيّر منار سيرة السّلف بإعزاز الأغنياء وإذلال الفقراء والعلماء، ولمّا صدقتهم وذكرت لهم من أعمال أولئك ما يخالف هديه صلّى الله عليه وآله وسلّم.. لم يسعهم إلّا الإذعان، ووعدوا بالتّوسّط لإصلاح الأمور، وكأنّهم لم يجدوا قبولا من ذلك الجانب فانثنوا، والقصيدة بموضعها من «الدّيوان».

وأشهد لقد طلعت عليه فجأة إلى سطح قصره بعد المغرب.. فإذا به يدور على غاية من الاستغراق والحضور، ويكرّر قول أبي فراس [في «ديوانه» 45 من الطّويل]:

«فليتك تحلو والحياة مريرة *** وليتك ترضى والأنام غضاب »

«وليت الّذي بيني وبينك عامر *** وبيني وبين العالمين خراب »

فجمعت يدي منه على دين ثابت، ويقين فرعه في السّماء وأصله في التّخوم نابت.

ولطالما ترنّحت طربا لهذين البيتين، واستجهرني جمالهما، وترنّمت بهما في مناجاة الباري عزّ وجلّ، لا سيّما وقد تمثّل بهما جلّة العلماء، ومنهم سلطانهم عزّ الدّين ابن عبد السّلام، غير أنّي لمّا أنعمت النّظر، وأفقت من دهشة الإعجاب به.. ألفيته مصادما لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا تمنّوا لقاء العدوّ، واسألوا الله العافية»؛ إذ لم يترك شيئا من البلاء إلّا تمنّاه.

وربّما يكون ما وقع فيه ابن عبد السّلام من السّجن والامتحان مسبّبا عن ذلك، وقد ذكرت في «العود» [2 / 259] جماعة ممّن أصيبوا بالعاهات من جهة تمنّيهم ذلك في طريق الوصال، وقد أخذ الله بصر المؤمّل ابن أميل من صباح اللّيلة الّتي قال فيها [من البسيط]:

«شفّ المؤمّل يوم الحيرة النّظر *** ليت المؤمّل لم يخلق له بصر»

وبرص المجنون لقوله [في «ديوانه» 226 من الطّويل]:

«قضاها لغيري وابتلاني بحبّها *** فهلّا بشيء غير هذا ابتلانيا»

وقال عمر بن أبي ربيعة لكثيّر: أخبرني عن قولك لنفسك ولحبيبتك [في «ديوان كثير» 47 ـ 48 من الطّويل]:

«ألا ليتنا يا عزّ من غير ريبة *** بعيرين نرعى في الخلاء ونعزب »

«كلانا به عرّ فمن يرنا يقل *** على حسنها جرباء تعدي وأجرب »

«إذا ما وردنا منهلا صاح أهله *** علينا فما ننفكّ نرمى ونضرب »

«وددت وبيت الله أنّك بكرة *** هجان وأنّي مصعب ثمّ نهرب »

«نكون بعيري ذي غنى فيضيعنا *** فلا هوّ يرعانا ولا نحن نطلب »

ويلك! تمنّيت لها الزّفّ والجرب والرّمي والطّرد والمسخ! ! فأيّ مكروه لم تتمنّه لكما؟ أما والله لقد أصابها منك قول الأوّل: (مودّة الأحمق.. شرّ من معاداة العاقل).

وعاتبته عزّة على ذلك، ومعاذ الله أن يسلموا من سوء العاقبة.

وما وقع فيه أبو فراس لا ينقص ـ إن لم يزد ـ على ما تمنّاه كثيّر، وسبق في ذي أصبح أنّ جدّي المحسن كان يقول: ما نعني بالأسماع والأبصار عند ما ندعو بحفظها إلّا حسن بن صالح وأحمد بن عمر وعبد الله بن حسين، ولكنّه أضرّ بالآخرة، ومثله المترجم.. فلا بعد أن يكون من تلك البابة.

كما تبت عن الدّعاء بقول سيّدنا عمر بن الخطّاب: (بل أغناني الله عنهم)، لما قيل له: (نفعك بنوك)، وكنت أستحسنه وأدعو بمقتضاه، حتّى تفطّنت لما فيه، ورأيت أنّ أبناء ابن الخطّاب لم يكونوا هناك، وليس هو بأفضل من العبد الصّالح إذ عوقب على قوله: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ) كما جاء في الحديث.

بعد هذا كلّه ذهبت النّشوة، وانجابت الغفوة، وظهر ما تحته من الهفوة.

وفي رواية عن الشّافعيّ: أنّه لا يحبّ أن يقال في التّعزية: أعظم الله أجرك؛ لما في طيّه من الاستكثار من المصائب، فسحبت عندئذ ما كان منّي من استحسان ذلك، وتبت عنه توبة صادقة أرجو الله قبولها.

وما أشدّ ما يسيء هؤلاء الشّعراء الأدب ويقلّون الحياء؛ فمثل كلام أبي فراس لا يليق بخطاب المخلوق، ومن ثمّ صرفه المفتونون بجماله إلى خطاب الخالق غفلة عمّا فيه من التّعرّض للبلاء المنهيّ عن مثله، وكمثله قول البحتريّ للفتح بن خاقان [من الطّويل]:

«ويعجبني فقري إليك ولم يكن *** ليعجبني لو لا محبّتك الفقر»

وقد صرفته إلى الباري عزّ وجلّ في قصيدة إلهيّة جرى لي فيها حديث لا أملّ به، فأرجو أن لا يلحقني بأس بعد؛ إذ لا يحسن غير المأثور، وقد فتن الرّضيّ بهذا البيت، وأغار عليه فلم يحسن الاتّباع حيث يقول [في «ديوانه» 1 / 541 من الطّويل]:

«فما كان لولاكم يمرّ لي الغنى *** ويحلو إلى قلبي الخصاصة والفقر»

ومن الغلوّ الممقوت قول ابن هانىء الأندلسّي [من البسيط]:

«أتبعته فكرتي حتّى إذا بلغت *** غاياتها بين تصويب وتصعيد»

«أبصرت موضع برهان يلوح وما *** أبصرت موضع تكييف وتحديد»

ولقد احترست حين تمثّلت في ذي أصبح ببيت من شعر المتنبّي لا يخلو عن الغلوّ، على أنّ الرّوح لا تنفد فلا ينفد وصفها.

ومن التّرّهات الممقوتة أيضا: قول أبي عبد الله الخليع، يخاطب أحمد بن طولون المتوفّى سنة (270 ه‍) [من الكامل]:

«أنا حامد أنا شاكر أنا ذاكر *** أنا جائع أنا راجل أنا عاري »

«هي ستّة وأنا الضّمين لنصفها *** فكن الضّمين لنصفها بعيار»

ولذا نقلهما كسابقيهما أهل الحقّ إلى خطاب الباري عزّ وجلّ، وأبدلوا قافية الثّاني ب «ياباري» فكانت أعذب وأطيب.

وكنت معجبا بمختارات حافظ، ومع ذلك.. فإنّي أفضّل عليه الأستاذ، حتّى قلت

له مرّة: ألست أشعر منه؟ قال: أينك عن قوله [في «ديوانه» 2 / 161 من البسيط]:

«إنّي أرى وفؤادي ليس يكذبني *** روحا يحفّ بها الإجلال والعظم »

«أرى جلالا أرى نورا أرى ملكا *** أرى محيّا يحيّيني ويبتسم »

«الله أكبر هذا الوجه نعرفه *** هذا فتى النّيل هذا المفرد العلم »

وقوله [في «ديوانه» 1 / 289 من البسيط]:

«كم غادة في ظلام اللّيل باكية *** على أليف لها يهوي به الطّلب »

«لو لا طلاب العلا لم يبتغوا بدلا *** من طيب ريّاك لكنّ العلا تعب »

ولهذا حديث مبسوط في «العود الهنديّ» [2 / 40].

أمّا شوقي: فلم أقرأ شعره إلّا بعد ذلك، فلم يكن عندي شيئا في جانب جيّد حافظ، وما أرى إغراق بعضهم فيه وتأميره وتفضيله إلّا من جنس تفضيل جرير على الفرزدق، بدون حقّ، حسبما فصّلته بدلائله في «العود الهنديّ».

وبقي عليّ أن أشير إلى ما اجتمع للأستاذ من الشّدّة واللّين، والشّمم والإباء، ودماثة الأخلاق، وطوع الجانب، وحلاوة الغريزة.

«قسا فالأسد تهرب من قواه *** ورقّ فنحن نخشى أن يذوبا »

وما أظنّ العلّامة ابن شهاب إلّا على رأيي فيه، وإلّا.. لذكره لي وأثنى عليه، ولا أنكر أنّ له محاسن، لكنّهم رفعوه عن مستواها إلى مالا يستحقّ، وكان ابن شهاب يتشيّع، لكن بدون غلوّ، بل لقد اعتدل اعتدالا حسنا جميلا بعقب زيارته لحضرموت واطّلاعه على «الرّوض الباسم»، ورسائل الإمام يحيى بن حمزة، وكان قلمه أقوى من لسانه، أمّا لسانه مع فرط تواضعه ولطف ديدنه.. فإنّك لا تكاد تعرف أنّه هو الّذي ملأ سمع الأرض وبصرها إلّا إذا سئل فتفتّح عن ثبج بحر جيّاش الغوارب.

«إذا قال.. لم يترك مقالا لقائل *** بمبتدعات لا ترى بينها فصلا »

«كفى وشفى ما في النّفوس فلم يدع *** لذي إربة في القول جدّا ولا هزلا»

والأدلّة حاضرة، وما بين العينين لا يوصف، ولهو الأحقّ من القزّاز القيروانيّ بقول يعلى بن إبراهيم فيه [من الكامل]:

«أبدا على طرف اللّسان جوابه *** فكأنّما هو دفعة من صيّب »

وقد عرفت من قوله في حافظ.. أنّه من سادات المنصفين، ولي معه من ذلك ما يؤكّده، وقد ذكرت بعضه في خطبة الجزء الثّاني من «الديوان».

وفي سنة (1334 ه‍) توجّه من حضرموت إلى الهند ليقطع علائقه منها ويبيع دارا له بها، وبينا هو يجمع متاعه للسّفر النّهائيّ إلى مسقط رأسه، ومربع أناسه الّذي لا يزال يحنّ إليه بما يذيب الجماد، ويفتّت الأكباد؛ كقوله [في «ديوانه» 187 من البسيط]:

«بالهند ناء أخي وجد يحنّ إلى *** أوطانه وسهام البين ترشقه »

«إلى العرانين من أقرانه وإلى *** حديثهم عبرات الشّوق تخنقه »

.. إذ وافانا نعيه في جمادى الآخرة من سنة (1341 ه‍).

«فضاقت بنا الأرض الفضاء كأنّما *** تصعّدنا أركانها وتجول »

فاشتدّ الأسى، ولم تنفع عسى، وكادت الأرض تميد، لموت ذلك العميد، وطفق النّاس زمانا.

«يعزّون عن ثاو تعزّى به العلا *** ويبكي عليه الجود والعلم والشّعر »

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


75-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (الحاوي)

الحاوي:

هو قرية صغيرة في شرقيّ تريم، كانت منفصلة عنها، ولكنّها أدخلت في سورها الّذي بناه الأمير سالم بن عبود بن سالم الكثيريّ في سنة (1330 ه‍) وقتما كان على إمارتها، وقد أنفق فيه أموالا جزيلة، استدان بعضها من أخيه بدر بن عبود على ضوء وعد من السّلطان محسن بن غالب وأغنياء تريم بالوفاء، فلم يفعلوا، فانظلم سالم وظلم أخاه.

وكان بالحاوي جماعة من آل الجفريّ سكنوها قبل أن ينزل بها الحدّاد، وكان السّيّد علويّ بن شيخ بن حسن بن علويّ الجفريّ مؤاخيا للقطب الحدّاد، وصهر الحدّاد إلى السّيّد حسن بن علويّ الجفريّ على بنته.

ومن آل الجفريّ السّيّد الشّهير شيخ بن محمّد بن شيخ الجفريّ، صاحب مليبار؛ فقد وصل الحاوي سنة (1187 ه‍)، وأخذ عن العلّامة الحسن بن عبد الله الحدّاد، وبدأ به في الأرجوزة التي نظمها في الإسناد، وشرحها بكتابه المسمّى: «كنز البراهين».

وكان بالحاوي بيت ومسجد صغير للحبيب عمر بن أحمد المنفّر، وهو جدّ الحبيب عبد الله بن علويّ الحدّاد الغاني بتسميته عن كلّ وصف؛ إذ كان كما قيل [من الوافر]:

«وكان من العلوم بحيث يقضى *** له من كلّ فنّ بالجميع »

فلا حاجة للإطناب والآثار ناطقة بفضله، والإجماع منعقد على تقديمه.

وفي سنة (1083 ه‍) ابتنى الحبيب الحدّاد داره بالحاوي وبقي يتراوح بينه وبين داره بتريم.

وفي سنة (1099 ه‍) ـ وهي سنة ميلاد ابنه الحسن ـ استوطنه صيفا وشتاء، وانتشرت علومه في البلاد، وأخذ عنه الحاضر والباد.

ولنا إليه طرق كثيرة؛ من أقربها: أنّني أخذت عن السّيّد محمّد بن أحمد بن عليّ بن عبد الله السّقّاف المتوفّى سنة (1307 ه‍) عن مئة وخمسة عشر عاما، وهو أخذ عن أبيه عن جدّه عن القطب الحدّاد.

وأخذ السّيّد محمّد أيضا عن العلّامة الجليل أحمد بن حسن بن عبد الله الحدّاد، وأدرك من زمانه اثني عشر عاما.

والحبيب أحمد أخذ عن جدّه القطب الحدّاد، وأدرك من زمانه خمس سنين.

ومنها: أنّني أخذت عن الحبيب المعمّر محمّد بن إبراهيم بلفقيه، وهو أخذ عن عمّه الحبيب عيدروس، وهو أخذ عن الأستاذ عبد الله بن علويّ الحدّاد.

وكان السّلطان ياقوت يهدي للقطب الحدّاد الأكسية الفاخرة والشّالات المثمنة والعمائم الّتي تبلغ ثمانين ذراعا في عرض ذراع ونصف، وإن كانوا ليلوونها اثنتي عشرة ليّة، ثمّ يدخلونها الخاتم فتمرّ فيه، وكان يعطي بعضها لابنه الحسن فيلبسها؛ لولعه في شبابه بالثّياب الفاخرة، ولكنّه لمّا عاد من الحجّ في سنة (1148 ه‍).. اخشوشن، فلم يلبس إلّا الخوذة والبثت ـ من غزل الحاوي والسّبير ـ فوق الشّقة، ويقتصر في البيت على الشقّة والكوفيّة البيضاء المخرّمة، ويلبس العمامة للجمعة مع السّروال والقميص، ويلبس البثت من فوق القميص.

وفي أخباره ـ أعني الحسن بن الحدّاد ـ أنّه ترك الرّداء رأسا بعد رجوعه من الحجّ، وذكر الشّيخ عمر بن عوض شيبان عن سيّدنا الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر أنّه يقول: كانت الطّبقة الّتي قبلنا يكتفون بالقمصان الحضرميّة، وقليل من الأعيان من تكون عنده مصدّرة بثت، وأمّا الجبب.. فلا يلبسونها إلّا في الأعياد.

توفّي سيّدنا عبد الله بن علويّ الحدّاد في سنة (1132 ه‍) عن ثمان وثمانين سنة إلّا ثلاثة أشهر، وخلّف عدّة أولاد وبنات، وهم: علويّ وحسن وزين وحسين وسالم ومحمّد، وكلّهم أسنّ من الحسن إلّا زينا؛ فإنّه بعده.

وقام في مقامه بأمره ولداه علويّ وحسن؛ إذ قال لهما في حياته: (أقمتكما مقامي وأنبتكما عنّي)، ونزل لهما في آخر عمره عن إمامة الصّلاة، فكان يؤمّه علويّ إن

حضر، وحسن إن غاب، غير أنّ أكثر إقامة علويّ وأولاده بالسّبير.

وكان الحسن لا يفارقه؛ فهو الّذي تكثر إمامته له، وإذا زاروا هودا عليه السّلام.. كان الّذي يسلّم بالنّاس عند البير: علويّ، وعند الضّريح: الحسن.

وكان هو الّذي يحمل عن أبيه عامّة أمره في أيّام حياته، وذكر السّيّد علويّ بن أحمد: أنّ السّيّد محمّدا الجفريّ وزين العابدين الحبشيّ وسائر الدّرسة تأخّروا عن الحضور على علويّ بعد والده؛ لأنّه لم يدرّس في حياة أبيه، ولمّا رأى الحسن تثاقلهم عن دروس أخيه.. حضر عنده وأتمّ عليه «سنن أبي داود» الّتي مات والده في أثناء قراءته إيّاها عليه، وأراد السّيّد زين العابدين أن يعمل قبّة على ضريح القطب الحدّاد، فمنعه آل العيدروس، وأمّا الصّندوق.. فقد استوفينا قصّته في «الأصل».

وعن السّيّد حسين بن محمّد بن القطب الحدّاد أنّه قال: سمعت ناسا من تريم ـ منهم السّيّد شيخ بن محمّد بن شهاب ـ يقول: لو لا حسن.. لما قام منصب آل الحدّاد، لا يقدر علويّ ولا غيره على ما تحمّله حسن؛ لأنّ الحسين توفّي والده وهو مريض، وزين صغير، وعلويّ مائل عن تدبير ما النّاس فيه، وإنّما هو صاحب عبادة، وأمّا الحسن.. فقد جمع العلم والعمل والفتوّة ورجاحة الرّأي.

توفّي الحسن بن عبد الله الحدّاد في سنة (1188 ه‍) عن تسعين عاما إلّا تسعة أشهر، وقام في مقامه ابنه العالي المنار، الجليل المقدار: أحمد بن حسن، إلّا أنّه لم يسلم من منازعة السّيّد عليّ بن علويّ بن القطب الحدّاد له، غير أنّه توفّي وشيكا في سنة (1189 ه‍).

واستقلّ بعده الحبيب أحمد بن حسن بالمنصب، وكان أهلا؛ لتمام كفاءته، وهو صاحب العلوم الزّاخرة، والمؤلّفات الشهيرة، وأكثرها فائدة وأجملها عائدة: «سفينة الأرباح» في مجلّدات ثلاثة كبار.

وقد جاء في «المواهب والمنن» الّذي استعنت به في الموضوع: أنّه ـ أعني مؤلّفه الحبيب علويّ بن أحمد بن حسن ـ قرأ «سفينة الأرباح» على جدّه الحسن.

وجاء فيه أيضا: أنّ للحبيب حسن «سفينة» لا نظير لها في كلّ فنّ من العلوم النّافعة، غرقت فيما غرق على الحبيب أحمد بن حسن حينما انكسر به المركب في حجّه سنة (1157 ه‍)، فعمل «سفينة الأرباح» على غرارها.

وذكر الحبيب علويّ بن أحمد بن حسن: أنّ من نظم والده في حادثة الغرق قوله [من الطّويل]:

«لك الحمد أمّا ما نحبّ فلا نرى *** ونسمع ما لا نشتهي.. فلك الحمد»

وهو صريح في أنّ الحبيب علويّ بن أحمد قرأ ما ألّفه أبوه من «سفينة الأرباح» على جدّه بعدما غرقت «سفينته»، لكنّ العجب العجاب أنّ الحبيب أحمد لم يشر في خطبة «سفينته» إلى ما كان من تأليف والده! ولا بدّ أن يثقل على الحسن إغفال ابنه لذكره.

ومن مؤلّفاته: فتاواه المسمّاة: «القول الصّواب»، وشرح على راتب جدّه سمّاه: «سبيل الهداية والرّشاد»، ومنسك في الحجّ، و «الفوائد السّنيّة في تريم وحضرموت وما خصّ به السّادة العلويّة»، وهو الّذي حرّر «تثبيت الفؤاد» ورتّبه في نحو أربعين كرّاسا. ثمّ رأيت العجلونيّ المتوفّى سنة (1162 ه‍) يعزو البيت السّابق وهو: (لك الحمد أما ما نحب) إلخ للمتنبي، وهو مخطىء في ذلك، كما أنّ الحبيب علويّ بن أحمد لم يصب في عزوه لوالده، وإنّما قاله متمثّلا.

توفّي الحبيب أحمد بن حسن في سنة (1204 ه‍) عن سبع وسبعين عاما.

وخلفه ابنه عمر بن أحمد، وكان علّامة فاضلا، توفي سنة (1226 ه‍).

وخلفه أخوه حسين بن أحمد بن حسن وكان فاضلا سخيّا، وجد سنة (1180 ه‍) وتوفّي سنة (1248 ه‍).

وخلفه ابنه حسن بن حسين، وكان من أهل الفضل والعلم، وجد سنة (1205 ه‍) وتوفّي سنة (1284 ه‍).

وخلفه ابنه عليّ بن حسن، وكان جليل القدر عظيم الخطر، معظّما عند النّاس،

وله هيبة في الصّدور، توفّي سنة (1309 ه‍)، وكان ولده العالم النّاسك المتبتّل عبد الله بن عليّ غائبا بجاوة، ولكنّه وصل على وشك انقضاء أجل أبيه، ثمّ عاد إلى جاوة سريعا، فكأنّما كان على ميعاد من موت والده، ولمّا فرغ من أمره.. انقلب على إثره.

وقد أحضرني عليه والدي في قدمته تلك فقرأت عليه، وألبسني، وشابكني، وأجازني، كما قد استجاز لي من والده عليّ بن حسن، واجتمعت به ـ أعني الحبيب عبد الله ـ بمنزله في جاوة أوائل سنة (1330 ه‍)، وكان صادعا بالحقّ، شديدا على أهل الجاه والرّئاسة من العلويّين، وطالما احتجب عنهم وردّهم عن بابه، توفّي ببانقيل من أرض جاوة في سنة (1331 ه‍).

وأمّا الّذي خلف على المنصب بعد السّيّد عليّ بن حسن الحدّاد.. فهو السّيّد عبد القادر بن أحمد بن عبد الرّحمن بن أحمد بن حسن بن القطب الحدّاد، وكان شهما فاضلا عالي الهمّة قويّ النّفس، توفّي بخلع راشد في القعدة من سنة (1313 ه‍).

وخلفه الحبيب حسن بن عمر بن حسن بن عبد الله بن أحمد بن حسن بن القطب الحدّاد، وكان أبيض القلب، كثير التّواضع، صادق الإخاء لوالدي، توفّي في القعدة من سنة (1322 ه‍).

وخلفه ولده عليّ بن حسن، وكان شهما كريما، فحصلت عليه أذيّة من آل تريم، فركب إلى جاوة، وكان آخر العهد به.

وخلفه على المنصب أخوه عبد القادر بن حسن، وتوفّي في محرّم من سنة (1352 ه‍).

وخلفه السّيّد عبد الله بن محمّد بن أبي بكر بن محمّد الحدّاد، وتوفّي في جمادى الآخرة سنة (1353 ه‍).

وخلفه السّيّد عيسى بن عبد القادر بن أحمد بن عبد الرّحمن بن أحمد الحدّاد إلى أن توفّي في رجب من سنة (1354 ه‍).

وخلفه أخوه عبد الله، ثمّ تنازع هو وأبناء أخيه عيسى، فانفصل عن المنصب وابتنى له دارا في غربيّ خلع راشد، غرس حولها كثيرا من النّخل وتديّرها مع تردّده إلى الحاوي بتريم.

وخلفه على المنصب الولد حسن بن عليّ بن حسن بن عمر بن حسن الحدّاد، فهو الّذي عليه اليوم، ولكنّه مضغوط عليه كسائر المناصب بسبب اشتداد ركن الدّولة الكثيريّة بالإنكليز.

وفي الحاوي جماعة من آل باسالم، قال الحبيب عمر بن حسن: (كان جدّ عمر بن عبد الله جدّ آل باسالم من المغرب يكاتب الحبيب عبد الله بن علويّ الحدّاد، ثمّ وصل حضرموت وتزوّج بها. وآل باسالم تطول أعمارهم زائدا على النّاس).

ومن كلام الحبيب عمر بن حسن أيضا: (أنّ الحبيب عبد الله الحدّاد عنده ستّة أولاد، يلازمه منهم اثنان أو ثلاثة، والباقون يسكن بعضهم الحاوي، وبعضهم بقي بتريم، وهو يترك حبالهم على غواربهم، فيسافرون حيث شاؤوا، وأكبرهم محمّد. وكلّ من تزوّج من أولاد الحبيب عبد الله.. بنى له دارا لا تصل نفقتها إلى عشرين ريالا، ويقول له: اسكنها، وهو يواسيهم) اه

وكذلك كان سيّدي الحبيب عبد الله بن حسين بن طاهر، إذا زوّج أحد أولاده.. أفرده بدار وأعطاه بقرة وحمارا وسائر آلات الحرث ونفقة خمسة أشهر، وقال له: أنت بالخيار؛ إن شئت.. جعلتني أبا، وإن شئت.. جعلتني أخا، وإن شئت.. جعلتني كواحد من المسلمين.

وكان الحبيب عمر بن حسن الحدّاد من خيار العلويّين وصلحائهم، وكان كآبائه وأقربائه يسكن الحاوي، ثمّ حدث بينه وبين المنصب الحبيب عليّ بن حسن بن حسين شجار على خادمة منعها الحبيب عليّ عن الخدمة في بيت الحبيب عمر، فانتقل إلى نويدرة تريم، ولم يزل بها على العلم والعبادة حتّى توفّي ظهر الأربعاء (23) ذي الحجّة الحرام من سنة (1308 ه‍) أي: قبل وفاة الحبيب عليّ بن حسن بمديدة قصيرة.

ومن «المواهب والمنن»: أنّ فساد يافع زاد في سنة (1179 ه‍).

ومنها: أنّ محسن بن عمر بن جعفر نهب دمّون وضواحي تريم، فجاء الحبيب طاهر بن محمّد بن هاشم يقول للحسن بن عبد الله الحدّاد: (ما بقي لأحد جاه عند هذا الظّالم غيرك؛ فإن شفعت في ردّ أموال المساكين، وإلّا.. فالإثم عليك)، فتوجّه إليه فيها.. فردّها.

ومنها: عن الحبيب عمر بن زين بن سميط: أنّه سمع بعض السّادة من تريم يفضّل الحسن بن عبد الله على العلّامتين: عبد الرّحمن بن عبد الله بن أحمد بلفقيه وطاهر بن محمّد بن هاشم.

ومنها: أنّ السّلطان صالح بن ناصر بن أحمد الرّصّاص همّ بالخروج إلى حضرموت، ثمّ انثنى، ثمّ عزم بعد، فضلّ في الرّمل عتاده من البارود والرّصاص، وتفرّق شمل أصحابه وكثر فيهم الموت والمرض، وعاد خائبا.

ومنها: أنّ الحبيب حسنا خرج هو وأولاده وقرابته وأتباعه إلى بيت جبير فذهب أحد أحفاده ومعه الخدم يأمرهم أن يجمعوا القضب من الآبار الّتي حواليه لمراكيبهم، والمتبادر أنّهم يأخذونها ـ على عادة المناصب ـ بدون مقابل، وهو من المشكلات؛ كمثل ما سبق في المبحث الثّالث من الحسيّسة، إلّا أن يقال: إنّها مرصودة للمصالح فتلزم مواساتها؛ بآية أنّهم لا يأخذون إلّا للخيل، فقد يحتمل، إلّا أنّه من البعيد أن تكون مراكيب الحسن وأتباعه خيلا كلّها مع كثرة الخيل إذ ذاك بحضرموت؛ فقد كان السّلطان عيسى بن بدر يزور القطب الحدّاد في أربعين عنانا، وكان فراش مدرسة القطب الحدّاد بالحاوي حصيرا من دون وسادة، وأمّا في منزله.. فسجادة عليها وسادة.

وفي أيّام الحسن فرش منزله الواسع بالسّجّاد الفارسيّ من غير الهنديّ.

وتزوّج القطب الحدّاد بنيّف وثلاثين امرأة، أربع عشرة من الشّرائف، والبواقي من غيرهنّ، وأمّ ولده محمّد من آل كثير.

ولسيف بن محمّد الكثيريّ كان تأليف «رسالة المريد»، وعن الأستاذ الأبرّ أنّ سيّدنا الحدّاد يقول: لم نسمّ الّذي ألّفنا له «رسالة المريد»؛ لأنّه رجع عن الإرادة، وكثيرا ما يوكّل ابنه الحسن في قبول النّكاح له، وكان لا يزيد على مسحة واحدة لرأسه، إلّا أنّه يمسحه كلّه، وقد سرّني هذا لموافقته لما أنا عليه من زمان قبل أن أعلم به، وقبل أن أعرف أنّ جدّي المحسن بن علويّ كان على مثله.

وقد لقي القطب الحدّاد أذى كثيرا من إخوانه، قال الحبيب عمر بن حسن: إنّه اشترى مال أهله ثلاث مرّات، كلّما اشتراه.. ادّعى عليه بعض إخوانه. قيل له: وكذلك الحبيب حسن بن أحمد العيدروس، فقال: يرحمه الله رحمة الأبرار.

وأكثر ما وقع الأذى على القطب الحدّاد من أخيه عمر، حتّى لقد سمعت ـ لكن ممّن لا أثق به ـ أنّه ادّعى عليه بمئة بهار ذهب، فما زال أهل التّدبير ومحبّو الإصلاح يسفرون بينهم حتّى تمّ الصّلح على مئة بهار تمر من نخيل وادي الذّهب، والله أعلم بصحّة ذلك.

وقال بعضهم: إنّما كانت الدّعوى في بهار واحد من الذّهب. وهذا هو الأقرب.

ثم ما زالوا به حتّى أبعدوه عنه، ونقلوه إلى الحاوي الّذي اختطّه في شمال حوطة آل أحمد بن زين.

وفي قضاء الشّيخ عليّ بن عبد الرّحيم باكثير: توجّهت على الحدّاد دعوى لزمته بها اليمين.. فغلّظها عليه، وجاء معه بمصحف من تريم، فقال له الحدّاد: (أما عندنا مصاحف؟! ) وفي هذه القضيّة فوائد:

منها: أنّ خروج القاضي إلى الحاوي إمّا لتحليف الحدّاد على عين المدّعى به؛ لاشتباهه وتعذّر نقله، وإمّا لأنّه لا يليق به الحضور إلى مجلس الحكم.

والمسألة حينئذ خلافيّة، فبعضهم يلزمه الحضور لأجل اليمين، وبعض يلزم القاضي إرسال من يحلّفه في مكانه، وهو الّذي أظنّني رجّحته، والبحث مستوفى في المسألتين (570) و (976) من كتابي: «صوب الرّكام في تحقيق الأحكام».

وقد اختلف السّلف في الصّبر لليمين، فكرهه بعضهم حتّى خرج من المال أنفة، ولم ير به آخرون بأسا.

وقد ترافع محمّد بن داود الظّاهريّ مع خصم له إلى القاضي إسماعيل بن إسحاق، ولمّا توجّهت اليمين على ابن داود.. قال له القاضي: أيحلف مثلك يا أبا بكر؟ قال: ما يمنعني وقد أمر الله نبيّه بالحلف في ثلاثة مواضع من كتابه؟ قال القاضي: أين ذلك؟!

قال في قوله سبحانه وتعالى: (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ) وقوله: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) وقوله: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ)

والقصّة مبسوطة في كتابي: «بلابل التّغريد».

وفي المسألة (1381) من «الصّوب» صرّح الإمام في «النّهاية» بأنّ اليمين لا تجب، وأقرّه الرّافعيّ، لكن قال ابن عبد السّلام: ليس على إطلاقه:

أمّا يمين المدّعى عليه: فإن كانت كاذبة.. فحرام، وإن كانت صادقة: فإن كان الحقّ مما يباح بالإباحة؛ كالمال.. وجبت اليمين دفعا لمفسدة كذب خصمه.. إلى آخر ما أطلت به.

ومنه: أنّ ابن حجر استوجه عدم وجوب اليمين فيما يقبل الإباحة، ووجوبها فيما لا يقبله إذا تعيّنت. والله أعلم.

ودعوى السّيّد عمر بن علويّ الحدّاد على أخيه بالذّهب المشار إليه ممّا تحيله العادة، لكن قال فقهاؤنا بوجوب إحضار المدّعى عليه وإن أحالتها العادة، وهو من البعد بمكان، لا سيّما مع اتّفاقهم على ردّ كلّ دعوى وكلّ شهادة، بل وكلّ إقرار يكذّبه الشّرع أو الحسّ. والبحث مستوفى في المسألة (559) من «الصّوب».

وبعض النّاس ينتقد فعل الشّيخ عليّ بن عبد الرّحيم ويعدّه من إساءة الأدب، وليس من ذلك في شيء، وإنّما هو أداء للواجب، وبعد عن المحاباة، مع أنّ القطب الحدّاد لم يلاحظ عليه إلّا استصحاب المصحف من تريم.

وقد أطال الشّيخ عليّ في ترجمة القطب الحدّاد ووفّاه حقّه؛ لأنّه من كبار مشايخه، بل أكبرهم، وكان يخرج إلى الحاوي كلّ يوم بعد الظّهر، ولمّا حصلت عليه الأذيّة من الدّولة.. لم يعتصم إلّا بالإقامة في الحاوي.

ومن قرى تريم: المحيضرة.

وكانت للسّادة آل سميط، وهم وآل شبام قبيلة واحدة، ومنهم القاضي بتريم علويّ بن سميط، تعمّر كثيرا، وأضرّ في آخر وقته، ولكنّها انعمرت الآن. ولها ذكر كثير في حروب يافع وآل كثير.

ومنها: الحيوار، وقد أدخلت بعض ذبوره في سور تريم، وعمّرت فيها ديار كثيرة.

ومنها: بريح، كانت بين دمّون وتريم، ولا أثر لشيء منها إلّا المقبرة.

أمّا أحوال تريم الدّوليّة: فكما سبق في شبام ذرو منها، وهي كرسيّ مملكة آل قحطان المتفرّعة ولايتهم على حضرموت عن إمارة الهزيليّ على شبام في حدود سنة (270 ه‍)، وقد قال صاحب «البرد النّعيم»: (إنّ ولايتهم امتدّت إلى أكثر من ثلاث مئة سنة) اه والحال أنّها باعتبار أصلها امتدّت إلى أطول من ذلك بكثير.

ومدافنهم بالرّضيمة من تريم، وكانوا ـ كما في «الأصل» ـ يدفنون هلكاهم بها في صناديق، وفي كلام القطب الحدّاد أنّ بالرّضيمة صناديق من ذهب، فلعلّ الصّناديق الّتي كانوا يدفنون موتاهم فيها كانت من الذّهب كما الملوك تفعل، ومن مأثور الكلام: أنّ أمّ الإسكندر أمسكت على صندوق الذّهب الّذي وضعوا ابنها فيه ليدفن بعد أن قال كلّ من الحكماء كلمته المأثورة، فقالت: لقد جمعت هذا في حياتك.. فجمعك بعد مماتك.

ثمّ انتهى الأمر إلى آل أحمد والصّبرات، وجرى بينهم بعضهم بعضا وبينهم وبين غيرهم أمور طويلة عريضة، فصّلنا منها في «الأصل» ما شاء الله أن نفصّل، ثمّ صار الأمر لآل كثير، ثمّ للإمام، ثمّ ليافع.

وسبب اتّصال يافع بحضرموت: أنّهم زاروا حضرموت في أيّام الشّيخ أبي بكر بن سالم، وأحبّوه، واعتقدوا فيه الصّلاح، ثمّ زاروها في أيّام ابنه الحسين، كما سيأتي عند ذكره في عينات، ثمّ خرجوا مع أحد سلاطينهم ـ وهو: السّلطان عمر بن صالح بن الشّيخ عليّ هرهرة، اليافعيّ وطنا، الهمدانيّ نسبا ـ نجدة للأمير بدر بن محمّد المردوف، بإشارة من الحبيب عليّ بن أحمد أو من أخيه شيخ بن أحمد على اختلاف الرّواية، أو منهما كما هو الأقرب.. وكانت طريقهم بأرض العوالق، فأكرمهم سلطانها، ثمّ قدموا على العموديّ بدوعن فأضافهم، ثمّ التقوا مع سلطان آل كثير عمر بن جعفر في بحران سنة (1117 ه‍) وهناك انهزم آل كثير واستولت يافع على جميع بلدان حضرموت الوسطى والسّفلى؛ مثل: هينن، وشبام، وسيئون، وتريم.

وبعد أن ضبطها عمر بن صالح.. ركب إلى الشّحر واستولى عليها، ثمّ بلغه أنّ أهل هينن نكثوا وأخرجوا يافعا منها، فعاد لهم وأخضعهم، ورجع إلى يافع وقد اقتسمت يافع بلاد حضرموت، فكانت شبام وهينن للموسطه، وسيئون ومريمه لآل الضّبي، وتريم للبعوس ـ وفوقها بنادق من العلوق الغالية ـ والدولة، أقام أناس منهم بسيئون، وناس في باجلحبان، بحصن بناه آل مطهّر، فيه بئر عذبة الماء.

وأمّا بنو قاصد اليافعيّون المرؤوسون بابن عفيف.. فقد كان منهم ناس قليل في هذا التّجهيز، منهم: آل يزيد، رئاستهم بحضرموت للبطاطيّ؛ لأنّهم وإيّاهم شيء واحد، وكان مسكنهم بالهجرين والقزه، وفيه ناس أيضا من الكلديين، وناس من قبيلة يهر، يقال لهم: الشّناظير، أقاموا بغيل ابن يمين، فنسبه بعض النّاس إليهم.

وأمّا الكساديّ: فكان من ذي ناخب، وجاء بعد ذلك إلى المكلّا. اه من «بستان العجائب» للسّيّد محمّد بن سقّاف بن الشّيخ أبي بكر بن سالم.

وفيه مخالفة لما سبق في المكلّا عن سبب اتّصال الكساديّ بالمكلّا، ولبعض ما في «الأصل»، إلّا أنّه خلاف يسير، لا يضرّ بأصل الخبر، بل يتيسّر الجمع للنّاظر بينهما بأدنى تأمّل.

ومن (يهر) رئيس الحضارم بالسومال الإيطاليّ الحاجّ محمّد عبادي بن عاطف بن عبيد بن جبران الأرّجانيّ، وفي «إكليل الهمدانيّ»: أنّ ذا يهر أحد أذواء حمير، وهو ابن الحارث بن سعد بن مالك بن زيد بن سدد بن زرعة بن سبأ الأصغر، وفيه يقول أسعد بن تبّع [من المتقارب]:

«وقد كان ذو يهر في الأمو *** ر يأمر من شاء لا يؤمر»

وقصر ذي يهر على بعض يوم من صنعاء بموضع في بيت حنبص، وهو قصر جاهليّ يسكنه في عهدنا أبو نصر الحنبصيّ نسبة إليه، وهو من أوعية العلم، وفيه يقول بعض أهل عصره [من الطّويل]:

«لعمرك ما الكلبيّ إن عدّ علمه *** وعلم جبير والإمام أبي بكر»

«ودغفل في شجّيرة وابن شرية *** بأعرف فيما حاولوا من أبي نصر»

وهو محمّد بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن محمّد بن وهب بن شرحبيل بن عريب بن زيد بن وهب بن يعفر بن زيد بن شمر بن شرحبيل بن أشمر بن زرعة بن شرحبيل بن وهب بن نوف بن يعفر بن الحارث بن شرح بن يعفر ذي يهر. اه باختصار لفظ

ومنه تعرف أنّ الشّناظير ليسوا من يافع أنفسهم، ولكن قد آختهم.

وقد انقسمت لبعوس في تريم وأرباضها إلى فرق متعدّدة، أقواهم آل غرامة، ورئيسهم سالم بن غرامة صاحب حصن الدّكين الواقع في شرقيّ دمّون، وكان ابن أخيه عبد الله عوض غرامة ينازعه، ولمّا مات في حدود سنة (1226 ه‍).. صفا لعبد الله الجوّ، وكان شهما شجاعا، لا يملأ الهول صدره قبل موقعه، ولا يضيق به ذرعا إذا

وقع، ولا يقتضي حاجاته من حملة السّلاح إلّا بالسّيف، وقد قال المتنبّي [في «العكبريّ» 4 / 160 من البسيط]:

«من اقتضى بسوى الهنديّ حاجته *** أجاب كلّ سؤال عن هل بلم »

وكان ينكر بطبعه غلوّ القبوريّين فوافقته آراء الوهّابيّة، وأكثر التّعلّق بوحيد عصره، وفريد دهره، مقدّم الجماعة، وشيخ الصّناعة، الّذي انتهت إليه رياسة العلم بتريم، العلّامة الجليل السّيّد أبي بكر بن عبد الله الهندوان، المتوفّى بتريم سنة (1248 ه‍)، وقد اتّهمه العلويّون بأنّه هو الّذي يعلّم عبد الله عوض غرامة آراء الوهّابيّة، ويحثّه على الإلزام بها ومؤاخذة النّاس بمقتضاها، فتآمروا على قتله، فهرب إلى بيت جبير، ولم يقدر عبد الله غرامة على حمايته بتريم؛ لأنّه لا يملكها كلّها.

وفي أيّامه كان وصول الوهّابيّة إلى تريم سنة (1224 ه‍)، بقيادة الأمير عليّ بن قملا، فطوى بهم حضرموت، ولم يفسد حرثا ولا أهلك نسلا، وإنّما هدم القباب، وسوّى القبور المشرفة، وألقى القبض على المناصب آل عينات وآل تاربه وأهانهم، وأتلف قليلا من الكتب كثّره بعض العلويّين ـ كصاحبنا الفاضل السّيّد عليّ بن عبد الرّحمن بن سهل ـ بدون مبرّر من الدّليل، وأقاموا بتريم نحوا من أربعين يوما، وعاهده عبد الله عوض غرامة وعبد الله بن أحمد بن يمانيّ على أن يكفّ الأذى عن بلاديهما على شرط أن يقوما بنشر دعوته الّتي لاقت هوى من نفوسهم، وقبولا من خواطرهم.

ووجدت أيضا معاهدة بتاريخ سنة (1222 ه‍) بين عليّ بن صالح بن ثابت، وعبد الله بن سلطان بن ثابت، ومنصّر بن محمّد، وناجي بن محمّد آل قملا، وجعلا عبد الله بن سلطان أميرا من قبلهما على الكسر.

ووجدت أيضا معاهدة بينهما وآل العطّاس بحريضة وأمّرا من قبلهما عليها السّيّد عليّ بن أحمد العطّاس كما يروي جميع ذلك شيخنا العلّامة أحمد بن حسن العطّاس.

وكذلك توجد معاهدة بين آل قملا والسّادة آل المسيله.

وقال السّيّد علويّ بن أحمد بن حسن في مقدّمته ل «ديوان جدّه»: (وذكر الشّيخ عقيل بن دغمش أنّهم خرجوا إلى حضرموت ثلاث مرّات.

فالأولى: سنة (1218 ه‍)، وردّهم جعفر بن عليّ لمّا ملك شبام.

والثانية: سنة (1224 ه‍)، وجرى منهم ما تقدّم في تريم، وأخذوا نحوا من أربعين يوما، ثمّ ساروا منها كلّهم.

والثّالثة: خرجوا سنة (1226 ه‍)، ووصلوا قريبا من شبام وفازوا بالقتل والانهزام، ورجع منهم من رجع شذر مذر) اه

وقد سبقت الإشارة في تريس وغيرها إلى ميل الحبيب عبد الله بن حسين بلفقيه إلى بعض آراء الوهّابيّة، ومن أدلّة ذلك: أنّه أثنى على قسم وأهلها بقصيدة استهلّها بقوله: (لنا بمغنى قسم أهل وإخوان) انتهى بها إلى مدح آل تميم عموما، والمقدّم عبد الله بن أحمد خصوصا، فقال [من البسيط]:

«لا تنس أولاد روح هم قبائلها *** قد هدّمت للأعادي منهم اركان »

«فابن يمانيّهم رأس الأسود له *** في الحرب صيت وفي الإحسان عنوان »

«كم من فتى منهم عند اللّقا فرح *** كأنّ أعداه إذ يغشاهم ضان »

«كم كسّروا للأعادي منهم قمما *** حتّى غدا حدّهم بالأمن ملآن »

«جيرانهم في محلّ العزّ عندهم *** كأنّهم في ربوع القوم ضيفان »

«أقول حقّا بأنّ الله ناصرهم *** لأنّهم لأهيل البيت أعوان »

وفي سنة (1229 ه‍) أرسل الأمير عبد الله عوض غرامة ثلّة من جنده للتّحرّش بأهل المسيله فلم يجرؤوا، وعند انصرافهم التقوا بجماعة من السّادة عسكر الحبيب

طاهر، إمّا مصادفة، وإمّا طمعوا فيهم لمّا رأوهم انقلبوا بدون طائل، ومعهم العلّامة السّيّد سالم بن أبي بكر عيديد، فانهزم السّادة بمجرّد ما سمعوا إطلاق الرّصاص، مع أنّ جند غرامة لم يتعمّدوا إصابتهم، وإنّما أرادوا كفّهم وتخويفهم، فانهزموا هزيمة فاحشة، حتّى لقد سقط إزار أحدهم فهرب عريانا! فقالت إحدى شواعر تريم:

«إذا اقبلوا يافع المثقلين *** تقعون ساده حتّى حزمكم تلين »

أخبرني بهذا الثّقة الثّبت السّيّد أحمد بن عمر بن عوض الشّاطريّ، عن جدّه لأمّه شيخنا ابن شهاب. ولم يتبعهم جند عبد الله عوض، غير أنّ رصاصة أصابت السّيّد سالم عيديد فسقط ميّتا مع البارود، وفي اليوم الثّاني أرسل إليهم الأمير عبد الله عوض بتعزية يقول فيها: (إنّنا لا نريد ذلك ولا نحبّه، وإنّما كان قتله على غير اختيار منّا، لكنّ شؤم أعمالكم، والتفاتكم إلى غير الله، وعبادتكم للأموات والقبور.. هو الّذي جرّ عليكم المصائب، وسيجرّ عليكم ما هو أعظم) اه

ويقال: إنّ هذه المكاتبة كانت من إنشاء إمام تريم لذلك العهد ـ المتقدّم ذكره ـ السّيّد أبي بكر بن عبد الله الهندوان، والله أعلم.

وحصلت من عبد الله عوض غرامة مساعدات ماليّة للأمير عليّ بن قملا كلّف بها الرّعايا، حتّى لقد رأيت وثيقة فيها أنّ نوّاب وقف المحضار باعوا بئرين له ببيت جبير بثلاث مئة وعشرين ريالا على سبيل العهدة، في دفع ضرر ابن قملا وعبد الله عوض عن مال المحضار، وعليها إمضاء القاضي حسين بن علويّ مديحج، وتاريخها سنة (1263 ه‍)، ولعلّه كان غلطا؛ إذ تاريخ وصول ابن قملا إلى تريم إنّما كان سنة (1224 ه‍)، أو سنة (1226 ه‍) على اختلاف القول في ذلك، وأمّا سنة (1263 ه‍).. فبعد وفاة عبد الله غرامة بمدّة، ما لم يكونوا استدانوا ذلك القدر ثمّ لم تسنح الفرصة للتّعهّد إلّا بعد، وفيه فائدتان:

الأولى: التّوسّع ببيع الموقوف، إلّا أنّه قد يجاب بأنّ الأصل في أموال المساجد الملك.

والثّانية: بيعه عهدة والأغلب أنّها إنّما تكون بدون ثمن المثل، وهو ممتنع في مال المسجد، وقد صرّحوا بامتناع بيع مال المحجور عهدة مطلقا، والمسجد مثله ففي هذا الصنيع فسحة وتسامح.

ولعبد الله عوض أخبار عجيبة ذكرنا منها نتفا ب «الأصل»؛ ومنها: أنّ بعض أعيان السّادة ركب إلى زيارة نبيّ الله هود عليه السّلام، وبينا هو خارج من تريم وأمامه خشارة من الحاكة ومن لفّهم يرتجزون بمثل قولهم: يا شيخنا يا محضار.. إذ غضب غرامة واستلّ سيفه ليغمده بطلى زعيم الحاكة وانتصب لمساورته بعض السّادة آل ابن إبراهيم، لو لا أنّ شيخ مشايخنا ـ وهو الحبيب عبد الله بن حسين بلفقيه ـ تدارك الأمر وقال لهم: (قولوا: سبحان من لا يفنى ولا يزول ملكه)، فارتجزوا بها، فسرّ عبد الله غرامة وقال: (أستغفر الله) وهي كلمته الّتي يوشّح بها كلامه، ولا يزال الأكرة يتغنّون بها إلى اليوم.

وبه ذكرت قول العلّامة ابن حجر: (فائدة: أحدث المؤذّنون الصّلاة والسّلام على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عقب الأذان للفرائض، ما عدا الصّبح والجمعة؛ فإنّهم يقدّمون ذلك فيهما على الأذان، وإلّا المغرب، لضيق وقتها، وسببه: أنّ الحاكم لمّا قتل.. أمرت أخته المؤذّنين أن يقولوا في حقّ ولده: السّلام على الإمام الطّاهر، ثمّ استمرّ السّلام بعده على الخلفاء حتّى أبطله صلاح الدّين، وجعل محلّه الصّلاة والسّلام عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم، فجزاه الله خيرا، ونعمّا فعل. وقد أفتى مشايخنا وغيرهم بأنّ الأصل سنّة، والكيفيّة بدعة، وهو ظاهر) اه بنوع اختصار

ولا يبعد عنه ما كان من عمر بن عبد العزيز من إبداله ما اعتاده بنو أميّة بآية: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) إلى آخرها.

وكان عبد الله غرامة شديدا على الأعداء، ليّن العريكة للضّعفاء، سهل الجانب لهم، وله أصحاب من الحاكة والأراذل يتنادرون عليه كأنّه أحدهم، وهو يجرّئهم على نفسه ليأنس بهم، وتسقط كلفة التّحفّظ فيما بينهم، فهو:

«ممقر مرّ على أعدائه *** ولدى الأدنين حلو كالعسل »

عاش وسيفه يقطر مهجا، ويسيل دما، من آل تميم وغيرهم من حملة السّلاح، وكان لا يأخذ صلحا فيمن يقتله من آل تميم قطّ، توفّي بتريم سنة (1255 ه‍) بعد أن خبط الزّمان خبطا، وضبط الرّجال ضبطا، وكان كما قال بشّار [في «ديوانه» 145 ـ 146 من المتقارب]:

«فتى لا يبيت على دمنة *** ولا يشرب الماء إلّا بدم »

«يحبّ العطاء وسفك الدّما *** فيغدو على نعم أو نقم »

وتلقّى راية مجده باليمين ولده عبد القويّ وهو في إبّان البلوغ، فكان كما قالت الخنساء [في «ديوانها» 71 من المتقارب]:

«طويل النّجاد رفيع العما *** د ساد عشيرته أمردا»

وكما قال الرّضيّ [في «ديوانه» 1 / 464 من البسيط]:

«متيّم بالعلا والمجد يألفه *** وما مشى في نواحي خدّه الشّعر»

وقد برز به على قول المتنبّي [في «العكبريّ» 2 / 8 من الطّويل]:

«أرى القمر ابن الشّمس قد لبس العلا *** رويدك حتّى يلبس الشّعر الخدّ»

وقد ذكرنا في «الأصل» أنّ بعض أعدائه ألقى زاملا بين يديه، منه قوله:

«منّي سلام الفين يا عبد القوي *** يا شيخ يافع يا عريض السّاعدين »

وهو مثل قول السّيّد الحميريّ يمدح قاتل طلحة بن عبيد الله [من الكامل]:

«واعترّ طلحة عند مشتجر القنا *** عبل الذّراع شديد أصل المنكب »

ثمّ إنّي بعد أن افتتنت زمانا ببيت الشّريف الرّضيّ السّابق.. عرفت أنّه نظر فيه إلى قول أبي عبادة [في «ديوانه» 2 / 308 من البسيط]:

«وللفتى مهلة في الحبّ واسعة *** ما لم يمت في نواحي خدّه الشّعر»

وفي سنة (1261 ه‍) اشترى آل عبد الله الكثيريّون ناصفة الخليف من آل همّام اليافعيّين بنحو من ألفي ريال، وأدخلوا إليه بعض عبيدهم، وبقوا هم وإيّاهم على التّناصف بالتّصافي.

وفي سنة (1262 ه‍) باع عبد القويّ غرامة على آل عبد الله ناصفة ما تحت يده بتريم، وتمّت الصّفقة بالمسيله بمحضر العلّامة عبد الله بن عمر بن يحيى، والسّيّد الجواد حسين بن عبد الرّحمن بن سهل، على نحو أربعة آلاف ريال فرانصة ـ أو ستّة آلاف، لا نحفظ تحقيق ذلك ـ وعلى أن تكون الماليّة كلّها في أيدي آل عبد الله، بشرط أن يدفعوا لعبد القويّ ثمانية ريالات يوميّا إزاء دخل النّاصفة الباقية له.

ولمّا دخل آل عبد الله في رمضان من نفس السّنة.. عظم الأمر على عبد القويّ؛ لأنّهم دخلوها على غير الصّفة المشروطة بينهم من امتناع المظاهرات والزّوامل، وبعد المراجعات والأخذ والرّدّ.. أذكى عليهم نار الحرب، وكان عبود بن سالم يضمر الغدر لعبد القويّ، فركب إلى الجهات القبليّة في شعبان قبل أن يدخلوا إلى تريم أصلا، وأقبل في ربيع الأوّل من سنة (1263 ه‍) بنحو ألفين والحرب قائمة، فكثروا عبد القويّ وضايقوه، ولكنّه ثبت ثبات الرّواسي، ثمّ تواضعوا قريبا ممّا تمّ الأمر عليه أوّلا، وأراد السّيّد حسين بن سهل تأطيد الصّلح، فسعى ليمثّل حال خالد بن يزيد مع رملة بنت الزّبير حتّى صهر الأمير عبود بن سالم إلى آل غرامة، فاقترن بأخت عبد القويّ، وجرت أمور طويلة عريضة مستوفاة ب «الأصل»، ولكنّ سكنى تريم لم تطب لنفس عبد القويّ وأصحابه اللبعوسيّين؛ إذ كانت تلك الأسرة لذلك العهد حقيقة بقول المعريّ [من البسيط]:

«كانت تضمّ رجالا بين أعينهم *** معاطس لم تذلّل عزّها الخطم »

فبارح تريما إلى المكلّا، وأودع بعض سلاحه من العلوق الغوالي السّابق ذكر وقوعها للبعوس، مع اقتسام يافع بلاد حضرموت عند زعيم آل عامر الكثيريّين محمّد بن عزّان بن عبدات، فلم يردّها عليه؛ لنفاستها.

وتتابع بعد عبد القويّ غرامة جلاء آل لبعوس من تريم إلى عند آل الظّبي بسيئون، وهكذا قضي على دولة غرامة، وسبحان من لا يدوم إلّا ملكه.

ودولة تريم اليوم للسّلطان عبد الله بن محسن بن غالب وأخيه السّلطان محمّد، حسبما مرّ في سيئون.

والحكومة الإنكليزيّة تحاولهم على الاعتراف بقيادة السّلطنة لأمير سيئون لتتوحّد الدّولة الكثيريّة مع بقاء حقّهم من الاستقلال في حدودهم، وهم من ذلك في شماس شديد، ولكنّه لا يستغرب أن يعود إلى المياسرة.

وقولنا: إنّ آل همّام يافعيّون.. هو المشهور، ولا ينافيه ما يوجد في كلام الحبيب علويّ بن أحمد الحدّاد ممّا يوهم خلافه؛ كقوله: إنّ بين عسكر تريم آل همّام ويافع كلّ من لقي خادم أحد قبضه؛ لأنّ بعض البيوت قد يختصّ بالاسم؛ مثل آل السّقّاف.

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


76-إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت (أم الصميم)

أم الصميم

وهو موضع في الرّبع الخالي، قريب من مسقط، يرى مثل التّراب، وهو ماء إذا وقع فيه الإنسان.. غرق، ولكنّه ليس بواسع، وزعم بعض سيّاح الأجانب ممّن يدّعي أنّه قتلها علما: أنّها تسع مئة ميل في مثلها، لا تزيد على ذلك، وأورد الطّائيّ في المراثي من «حماسته» [1 / 398] أربعة أبيات لابن رواحة السّبنسيّ منها [من الطّويل]:

«وما زال من قتلى رزاح بعالج *** دم ناقع أو جاسد غير ماصح »

وفي مضرب المثل بسعتها يقول البحتريّ [في «ديوانه» 2 / 370 من الكامل]:

«ليس الّتي ضلّت تميم وسطها الدّ *** هناء لا بل صدرك الدّهناء»

وقال الهمدانيّ في موضع آخر من «الصّفة» بعد أن ذكر أودية كثيرة: (وكلّ هذه الأودية فيها نخل ومساكن وزروع؛ وهي تسمّى الثّنايا؛ ثنايا العارض وهو قفّ مستطيل، أدناه بحضرموت وأقصاه بالجزائر) اه

وقد أطلت القول عن وبار هذه ب «الأصل»، ومنه: أنّها تمتّعت بالشّرف قرونا طويلة، واستثمرت توسّط موقعها بين الشّرق والغرب، فكانت مركز التّجارة العظيمة، ومخزن البضائع الأهمّ؛ إذ كانت السّفن تقصد سواحلها ـ ومنها: إلى عمان وظفار وسيحوت الشّحر ـ من السّند والهند والصّين وجاوة وأفريقيا وغيرها من الجهات الغربيّة؛ كما أشار إليه صاحب «الشّهاب الرّاصد» وغيره.

وأكثر الدّهناء لتميم، ولهم إقطاع من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حسبما أظنّني ذكرته في «الأصل».

وقال الفرزدق في هجائه لعمرو بن عفراء [في «ديوانه» 1 / 59 من الطّويل]:

«ولمّا رأى الدّهنا رمته جبالها *** وقالت: ديافيّ مع الشّأم جانبه »

«فإن تغضب الدّهنا عليك فما بها *** طريق لزيّات تقاد ركائبه »

ومعناه: أنّ الدّهناء لا تقبل زياتا مثلك.

وقلّما ذكرت الدّهناء في «خزانة الأدب».. إلّا وقال صاحبها: وهو موضع ببلاد تميم، كما في شرح هذه الأبيات [5 / 237] منها، وشرح قول أبي زبيد الطّائيّ [من الخفيف]:

«فلحا الله طالب الصّلح منّا *** ما أطاف المبسّ بالدّهناء»

في (ص 155) منه: والمبسّ: حادي الإبل، وفيه تكثير لسالكيها؛ إذ جعله مضرب مثل على عكس ما سبق.

وقال عن الفرزدق ذو الرّمّة [في «ديوانه» 72 من البسيط]:

«حنّت إلى نعم الدّهنا فقلت لها *** أمّي بلالا على التّوفيق والرّشد»

وقد شرحها صاحب «الخزانة» في [9 / 424]، وقال: (والدّهنا: موضع ببلاد تميم، يمدّ ويقصر).

وقد اعترف كثير من الإفرنج أنّ المحيط الهنديّ كان بحيرة عربيّة من القرن الثّامن إلى نهاية القرن الخامس عشر كما سبق في تريم بمناسبة ذكر الملّاح العظيم أحمد بن ماجد عندما ذكرنا علماء آل باماجد.

ولوبار هذه ذكر كثير من الأشعار؛ منها قول النّابغة [من الكامل]:

«فتحمّلوا رحلا كأنّ حمولهم *** دوم ببيشة أو نخيل وبار »

وفي مضرب المثل بنخلها ما يؤكّد قولنا بغزارة خيراتها، وكثرة بركاتها، وقد أطال ياقوت فيها بما لا حاجة إلى ذكره؛ لأنّ الكتاب موجود، ولأنّ بعضه ممّا يشكّ فيه العاقل، ويحتاج في تصديقه إلى سذاجة وافرة.

وممّن نصّ على أنّها هي رمال عالج: ياقوت وابن خلدون وغيرهما.

وفي «شرح ديوان الحماسة» [1 / 242]: أنّ مروان الحمار آخر ملوك بني مروان كتب لمعدان بن عبيد بن عديّ: ثمّ والله لأبيلنّ الخيل في عرصاتك. فقال معدان للرّسول: قل له: تبيل الخيل في عرصاتي وبيني وبينك رمل عالج، وحولي عديد طيّء، وخلف ظهري الجبلان؟! ! فاجهد جهدك؛ فلا أبقى الله عليك إن أبقيت. في حديث طويل.

وقال ذو الرّمّة [في «ديوانه» 45 من الطّويل]:

«أبيت على ميّ كئيبا وبعلها *** على كالنّقا من عالج يتبطّح »

وقال ابن الأشعث الجنبيّ يصف صيهد حضرموت هذه ـ وكان سلكها إلى وادي نجران كما فعل فلبي ـ [من الكامل]:

«هلّا أرقت لبارق متهجّد *** برق تولّع في حبيّ منجد»

«برق يذكّرك الجريدة أنّها *** علقت علائقها طوال المسند»

«فلقد ذكرتك ثمّ راجعت الهوى *** يوم الشّرى ودعوت أن لا تقعدي »

منها:

«فإذا مفازة صيهد بتنوفة *** تيه تظلّ رياحها لا تهتدي »

«وتظلّ كدر من قطاها ولّها *** وتروح من دون المياه وتغتدي »

«بلد تخال بها الغراب إذا بدا *** ملكا يسربل في الرّياط ويرتدي »

«فسألت حين تغيّبت أعلامنا *** من حضرموت بأيّ نجم نهتدي؟»

«قالوا: المجرّة أو سهيل باديا *** ثمّ اهتدوا لقفولكم بالفرقد»

«نتجشّم الأهوال نبغي عامرا *** متحزّنين عليه أن لم يوجد»

وقال الهمدانيّ في الجزء الأوّل [ص 195 ـ 197] من «الإكليل»: (ذهب في الدّهناء بعهدنا قطار فيه سبعون محملا من حاجّ الحضارم، صادرين من نجران، لحق هذا القطار في أعقاب النّاس، ولم يكن فيه دليل، فساروا ليلة وأصبحوا وقد تياسروا عن الطّريق، وتمادى بهم الحور حتّى انقطعوا في الدّهناء، فلم يدر ما خبرهم؛ لأنّ أحدا لا يدخل ذلك المكان، ولو دخله.. لم يظفر بموضعهم؛ لسعة ذلك الخرق.. فهي فلاة واسعة جدّا، وفيها بقايا قصور في جانبها الغربيّ ممّا يصله العمران، يعدّنها النّاس في زماننا.. فيجدون فيها الذّهب وما لم يسرع إليه أكل التّراب من الفضّة) اه

وفيه كثرة حاجّ الحضارم لذلك العهد؛ لأنّه إذا كان اللّاحق سبعين محملا.. فما بالك بالسّابقين؟

ويشبه أن تكون هذه القصّة هي بنفسها الّتي سمعتها عن شيخنا العلّامة أحمد بن حسن العطّاس، وذكرتها في «الأصل»، وهي: أنّ مئة وأربعين دخلوا الدّهناء مردفين على سبعين مطيّة، كلّ اثنين على واحدة، فغرقوا في بحر الرّمل ما عدا واحدا تخلّف لقضاء حاجته، وانتظره صاحبه على مطيّته، فجاءت حيّة هائلة والتهمت الجمل وراكبه ولم ينج إلا قاضي الحاجة.

وكنت أستبعدها؛ لما اشتملت عليه من المحالات؛ حتّى رأيت كلام الهمدانيّ، فظننت أنّه هي، إلّا أنّه دخل عليها التّغيير. والله أعلم.

وفي المقدّمة: أنّ وبار اسم لحضرموت بأسرها، ولكنّ بعضهم يخصّه بهذه الفلاة الّتي قلّما تجلس مع أحد من بادية العوامر.. إلّا حدّثك بالأعاجيب عن أشجارها، وعن جنّها، وعن حيواناتها؛ ومنها النّعام، وبها يكثر بيضها، ومن المعلوم أنّها لا تبيض إلّا في خصب من الأرض، قال جابر بن حريش يصف أرضا بالخصب والرّخاء [من الكامل]:

«لا أرض أكثر منك بيض نعامة *** ومذانبا تندي وروضا أخضرا»

وقال الجاحظ في كتاب «الحيوان»: زعم ناس أنّ من الإبل وحشيّة وكذا الخيل، وقاسوا ذلك على الحمير والحمام والسّنانير وغيرها.

وزعموا أنّ مسكن الإبل الوحشيّة بوبار، قالوا: وربّما خرج الجمل منها لبعض ما يعرض فيضرب في أدنى هجمة من الإبل الأهليّة، ومن هذا النّتاج كانت الإبل المهريّة.

وفي «لسان العرب» لابن منظور: (أنّ الحوش الحوشيّة: إبل الجنّ. وقيل: المتوحّشة. ويقال: إنّ فحلا منها ضرب في إبل لمهرة بن حيدان فنتجت النّجائب المهريّة من تلك الفحول الوحشيّة.. فهي لا يكاد يدركها التّعب). وفي «الأصل» ذكر جميل من الأشعار في وبار.

ومن أشهى ما يحدّثك الخبير عن وبار: حسن التّربة، وزكاء المنبت؛ فإنّ الزّرع يحصد منها خمس مرّات بالسّقية الواحدة، والعوامر يسمّون المكان الصّالح للعمارة منها: الحجر؛ لأنّهم يحتجرونه لمراعيهم؛ كما يسمّي الصّيعر المكان النّازل عن نجدهم فيما يليهم منها: عيوه.

وخيام الصّيعر والعوامر والمناهيل منتشرة بكثرة في هذه الرمال.

هذا ما تلقيته بشأنها عن كثير من العوامر، يصدّق بعضهم بعضا، إلّا أنّ عندهم نصيبا كاثرا من البلادة وسوء الفهم.. فالعهدة عليهم.

إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت-عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف-توفي: 1375ه‍/1956م


77-التوقيف على مهمات التعاريف (عبارة النص)

عبارة النص: النظم المعنوي المسوق له الكلام، سميت عبارة لأن المستدل يعبر من النظم إلى المعنى، والمتكلم من المعنى إلى النظم، فكانت هي محل العبور، فإذا عمل بموجب الكلام من الأمر والنهي سمي استدلالا بعبارة النص، ذكره ابن الكمال. وقال الراغب: العبارة مختصة بالكلام العابر بالهواء من لسان المتكلم إلى سمع السامع، والاعتبار العبرة: الحالة التي يتوصل بها من معرفة الشاهد إلى ما ليس بمشاهد، والتعبير مختص بتفسير الرؤيا وهو العبور من ظاهرها إلى باطنها، وهو أخص من التأويل. وقال في السراج: العبارة: ما استفيد من لفظ وغيره مع بقاء رسم ذلك الغير.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


78-العباب الزاخر (بسس)

بسس

من أسماء مكَّة -حرسها الله تعالى-: الباسَّة والبسّاسة، لأنها تَبُسُّ من أَلْحَدَ فيها: أي تهلكه وتحطمه.

وقوله تعالى: (وبُسَّتِ الجِبالُ بَسَّا) أي فُتَّتَت وصارت أرضا، وقيل: نُسِفَت كما قال تعالى: (فَقُلْ يَنْسِفُها رَبّي نَسْفا)، وقيل: سِيقَت كما قال تعالى: (وسُيِّرَتِ الجبالُ فكانَتْ سَرابا).

وقال أبو زيد: البَسُّ: السَّوق اللَّيِّنُ، وقد بَسَسْتُ الإبل أبُسُّها -بالضم- بَسًَّا.

والبَسُّ- أيضًا- اتخاذ البَسِيسَة؛ وهو أن يُلَتَّ السَّوِيق أو الدقيق أو الأقطِ المطحون بالسَّمن أو بالزيت ثم يؤكل ولا يُطبخ، قال يعقوب: هو أشدُّ من اللَّتِ، قال شَمْلَةُ اللِّصُّ:

«لا تَخبِزا خُبزًا وبُسّا بَسّا»

وذكر أبو عبيدة أنّهُ لصٌّ من غطفان أراد أن يخبِز فخافَ أن يُعجَلَ عن ذلك فأكله عجينًا، ولم يجعل البَسَّ من السَّوقِ اللَّيِّن.

وبَسَسْتُ الإبلَ: إذا زجرتها وقلت: بِسّ بِسّ. ومنه حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: تُفتَح اليمن فيأتي قومٌ يَبُسُّونَ فيتحمّلون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتُفتَح الشامُ فيأتي قوم يَبُسُّونَ فيتحمّلون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتُفتَح العراقُ فيأتي قومٌ يَبُسُّونَ فيتحمّلون بأهليهم ومن أطاعهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون.

وبَسَّ عقارِبَه: أي أرسَلَ نمائِمَه وأذاه.

وَبَسَسْتُ المال في البلاد: أي أرسَلتُه وفرَّقته.

وقال الكِسائي: يقال جِيءَ به من حَسِّكَ وبَسِّكَ: أي ائْتِ به على كل حال من حيث شِئت. وقال أبو عمرو: يُقال جاء به من حسّه وبسّه: أي من جَهْدِه، ولأطلُبَنَّه من حَسِّي وبَسِّي: أي من جَهْدي، ويَنشد:

«تركت بيتي من الأشي *** اء قفرا مثل أمـسِ»

«كل شئ كنت قد جـم *** عت من حسّي وبَسِّي»

وقال ابن فارس: بَسٌّ: في معنى حَسب؛ ويسترذله بعضهم.

وقال ابن عبّاد: يقال للهرة الأهلية: البَسَّة.

والذَّكَر: بَسُّ، والجمع: بِساس.

قال: والبَسُّ: الطلب والجَهد.

ويقال: لا أفعل ذلك آخر باسوس الدهر: أي أبدًا.

وناقة بسوس: لا تدرُّ إلا على الإبساس.

والبسوس: اسم امرأة، وهي خالة جسّاس بن مُرة الشيباني، كانت لها ناقة يقال لها سراب، فرآها كُليب وائل في حِماه وقد كسرت بيض طائر قد أجاره، فرمى ضرعها بسهم، فوثب جساس على كُليب فقتله، فهاجت حرب بَكر وتَغلِب ابنَي وائل أربعين سنة، حتى ضَربت العرب المثل فيها بالشؤم. وبها سميَّت حرب البسوس.

وروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: (واتْلُ عليهم نَبَأَ الذي آتَيْناه آياتِنا فانْسَلَخَ منها) قال: هو رجل أُعطيَ ثلاث دعوات يُستجاب له فيها، وكانت له امرأة يقال لها البسوس، وكان له منها ولد، وكانت لها صُحبَة. فقالت: اجعل لي منها دعوة واحدة، قال: فلك واحدة فماذا تريدين؟ قالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأةٍ في بني إسرائيلَ، فلما علِمَت أنْ ليس فيهم مثلها رغبت عنه وأرادت سيئًا، فدعى الله عليها أن يجعلها كلبةً نبّاحة، فذهبت فيها دعوتان. فجاء بنوها فقالوا ليس لنا على هذا قرار؛ قد صارت أُمُّنَا كلبة يعيرنا الناس، فادعُ الله أن يَرُدها إلى الحال التي كانت عليها، فدعا الله فعادت كما كانت، فذهبت الدعوات الثلاث. وهي البسوس، وبها يضرب المثل في الشؤم فيقال: أشأمُ من البسوس.

وبَسوسي: موضع قرب الكوفة.

وقال اللحياني: يقال بُسَّ فلان في ماله بَسّاُ: إذا ذهب شئ من ماله.

ويقال في دعاء الغنم إذا دعوتها: بُس بُس وبَس بَس وبِس بِس -بالحركات الثلاث-.

وقال ابن الكَلبي: بُسٌ: هو البيت الذي كانت تعبُده بنو غطفان. وروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنَّه قال: حجَّ ظالم بن أسعد بن ربيعة بن مالك بن مُرَّة بن عوف بن سعد بن ذبيان، فرأى قريشًا يطوفون حول البيت ويسعَون بين الصفا والمروة، فمسح البيت برجله عرضه وطوله، ثم أخذ حجرًا من الصفا وحجرًا من المروة، ثم رجع إلى قومه فقال: يا معشر غطفان؛ لقريش بيت يطوفون حوله والصفا والمروة، وليس لكم شئ. فبنى بيتًا على قدر البيت، ووضع الحجرين فقال: هذا الصفا وهذا المروة، وسمّى البيت بُسًا، فاجتزءوا بذلك عن الحج وعن الصفا والمروة. فأغار زهير بن جناب الكلبي فقتل ظالمًا وهدم بناءه.

وبُسٌّ -أيضًا-: جبل قريب من ذاة عِرْقٍ، قال عاهان:

«بَنونَ وهَجمَةٌ كأشَاءِ بُسٍّ *** صَفايا كَثَّةُ الأوبار كُوْمُ»

وقيل: بُسٌ: أرض لبني نصر بن معاوية.

والبَسْبَسْ: القَفْر، قال ذو الرمة:

«ألم تُسأل اليومَ الرُّسـومُ الـدَّوارِسُ *** بِحُزْوى وهل تدري القِفَارُ البَسَابِسُ»

والتُّرَّهاتُ البَسَابِسُ: هي الباطل، وربما قالوا: تُّرَّهاتُ البَسَابِسِ -بالإضافة-.

وقال الليث: البَسْبَسُ: شجر تتخذ منه الرِّحال، ونسبَه الأزهري إلى التصحيف وقال: إنه السَّيْسَبُ.

وبَسْبَسُ بن عمرو -رضي الله عنه-: من الصحابة.

وبَسْبَاسَة: امرأة من بني أسد، وإيّاها عنى امرؤ القيس بقوله:

«ألا زعَمَت بَسْبَاسَة اليوم أنَّنـي *** كَبِرْتُ وألاّ يشهَدَ اللَّهو أمثالي»

ويُروى: "وألاّ يُحسِنَ السرَّ" أي النّكاح.

والبَسْبَاسَة: بَسْبَاسَتان، إحداهما: تعرفها العرب ويأكلها الناس والماشية، تذكر بها ريح الجزر إذا أكلتها وطعمه، ومَنبَتها الحُزون، قال طرفة بن العبد:

«جمادٌ بها البَسْبَاسُ يرهَصُ مُعْزُها *** بناتِ اللبون والصلاقمة الحمرا»

وقال الدينوري: زعم بعض الرواة أنّ البسباسَ هو نانْخُواه البَرِّ.

وفي طِيب ريح البَسْباس قال أعرابي:

«يا حبذا ريح الجنـوب إذا غـدت *** في الفجر وهي ضعيفة الأنفاس»

«قد حُمِّلَت بَرد الثَرى وتحمَّـلَـت *** عبقًا من الجَثْجَاثِ والبسـبـاسِ»

والأخرى: ما تستعملها الأطباء، وهي أوراق صُفُر تُجلَب من الهند. وكل واحدة منهما غير الأخرى.

وقال ابن دريد: البَسيسَة: خُبْز يُجفَّف ويُدَق ويشرب كما يُشرَب السُوَيق، قال: وأحسِبُها الذي يسمى الفَتوت.

وقال ابن عبّاد: البَسيسَة: الإيكال بين الناس والسِّعاية.

وما أعطاه بَسيسًا: أي شيئًا قليلًا من طعام.

وقال ابن الإعرابي: البُسُسُ -بضمّتين-: الأسوِقة المَلتوتَة.

والبُسُسُ: النُّوق الآنسة.

والبُسُسُ: الرُّعاة.

وأبْسَسْتُ الإبل: إذا زجرتَها، لغةٌ في بَسَسْتُها.

والإبساس عند الحَلَبِ: أن يقال بُسْ بُسْ؛ وهو صُوَيت للراعي يُسَكِّن به الناقة عند الحلب. ومنه المثل: الإيناسُ قبلَ الإبساسِ: أي ينبغي أن يتلطف للناقة وتؤنس وتُسَكَّن ثم تُحلَب، يُضرب في وجوب البَسطِ من الرجل قبل الانبساط إليه. وفي المثل: لا أفعَلُه ما أبَسَّ عَبْدٌ بِناقة.

وقال أبو زيد: أبْسَسْتُ بالمَعَزِ: إذا أشليتها على الماءِ.

وبَسْبَسَتِ الناقة: إذا دامت على الشيء.

وبَسْبَسَ: أسرع في السير.

وبَسْبَسْتُ بالغنمِ: إذا دعوتها فقلت لها: بسْ، وكذلك بَسْبَسَ بالناقة، قال الراعي يصف ناقته أنَّه أجراها عشر ليالٍ ثمَّ سَكَّنَها:

«ووَلَّت بوَخْدٍ كَوَخْدِ الظَّلِيْ *** مِ راح وخَمْلَتُهُ تُمْطَرُ»

«لعاشِرَةٍ وهو قد خافهـا *** وظلَّ يُبَسْبِسُ أو يَنْقُـرُ»

وتَبَسْبَسَ الماء: أي جرى، وهو مقلوب تسَبْسُبْ.

والإنبِساس: الانسياق والانسياب، قال أبو النجم يصف اشتداد الحر:

«وماتَ دعموصُ الغديرِ المُثمَلِ *** وانْبَسَّ حَيّاتُ الكَثِيبِ الأهْيَلِ»

هذه رواية الأصمعي، ورواه غيره: "وانْسَابَ".

والتركيب يدل على السَّوْقِ، وعلى فَتِّ الشيء وخَلْطِه.

العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م


79-العباب الزاخر (دهس)

دهس

ابن عبّاد: الدَّهْس: النَّبت الذي لم يَغلِب عليه لون الخُضرَة.

والدَّهْس والدَّهَاس -مثال نَبْت ونَبَات-: المكان السهل اللَّيِّن لا يَبْلُغُ أن يكون رَمْلًا وليس هو بِتُراب ولا طين. ومنه حديث النبي -صلى الله عليه وسلّم- أنَّه أقبَلَ من الحُدَيْبِيّة فنَزَلَ دَهاسًا من الأرضِ فقال: مَنْ يَكْلَؤها اللَّيلة؟ فقال بلال: أنا، ثم إنَّهم ناموا حتى طَلَعَتِ الشمس، فاستَيقَظَ ناسٌ فقالوا اهضِبوا. قال النابغة الجعدي رضي الله عنه:

«إذا ما الضَّجيجُ ثَنى جِـيْدَهـا *** تَدَاعَتْ فكانت عليه لِباسـا»

«تَمِيلُ كَمَـيْلِ نَـقـى رَمْـلَةٍ *** كَسَتْهُ العَوَاصِفُ تُرْبًا دَهَاسا»

وقال العجّاج يَصِفُ فَرَسًا:

«عافي الرَّقاقِ مِنْهَبٌ مُـوَاثِـمُ *** وفي الدَّهَاسِ مِضْبَرٌ مُتـائمُ»

«تَرْفَضُّ عن أرْساعِهِ الجَراثِمُ»

يقال: رَمْلٌ أدْهَس بَيِّن الدَّهَسِ والدُّهْسَة، قال العجّاج:

«ومَهْمَهٍ يُمْسي قَطَاهُ نُسَّسـا *** رَوابِعًا وبَعْدَ رِبْعٍ خُمَّسـا»

«وإن تَوَنّى رَكْضُهُ أو عَرَّسا *** أمسى من القابِلَتَيْنِ سُدَّسا»

«مُوَاصِلٍ قُفّا ورَمْلًا أدْهَسا»

ورجُلٌ دَهَاس الخُلُق: أي سهل الخُلُقِ دَمِيْثُه. والدَّهَاسَة: سُهُولة الخُلُق، واشتقاقها من الدِّهَاسِ. ويقال: رِمالٌ دُهْسٌ، قال العجّاج:

«وكم قَطَعْنا من قِفافٍ حُمْسٍ *** غُبْرِ الرِّعَانِ ورِمالٍ دُهْسِ»

وامرأةٌ دَهَاسٌ: عظيمة العَجيزَة.

وقال ابن عبّاد: داهِيَةٌ دَهْسَاءُ؛ كما يقال شَعْرَاءُ.

وعنزٌ دَهْسَاء: وهي مثل الصَّدْءاءِ إلاّ أنَّها أقل حُمْرَة منها، قال المُعَلّى بن حَمّال العَبْديُّ؛ وأنشَدَ ذلك أبو عُبَيْدَة في كتاب المَثالِب لحَمّاد بن سَلَمَة:

«وجاءت خُلْعَةٌ دُهْسٌ صَفـايا *** يَصُورُ عُنُوقَها أحْوى زَنِيْمُ»

«يُفَرِّقُ بَيْنَهـا صَـدَعٌ رَبَـاعٍ *** له ظَأْبٌ كما صَخِبَ الغَرِيْمُ»

ويُرْوى: يَصُوْعُ عُنُوْقَها.

والدَّهُوْسُ: الأسَدُ.

وقال ابن دريد: أدْهَسَ القوم: إذا سَلَكوا الدَّهْسَ.

وقال ابن عبّاد: ادْهاسَّت الأرضُ: صارَت دَهْساء اللون.

والتركيب يدل على لِيْنٍ في مَكانٍ.

العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م


80-العباب الزاخر (فرس)

فرس

الفَرَسُ: يَقَعُ على الذَكَرِ والأُنثى، ولا يقال للأُنثى فَرَسَة. وتصغير الفَرَسِ فُرَيس، وإنْ أرَدْتَ الأُنثى خاصّة لم تَقُل إلاّ فَريسَة بالهاء، عن أبي بكر بن السَّرّاج.

وأحمد بن محمد بن فُرَيْس: من أصحاب الحديث.

والجمع: أفْراس وأفْرس.

وروى أبو ذر -رضي الله تعالى عنه- عن النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- أنّه قال: ليس من فَرَسٍ عربيٍ إلاّ يؤذَن له كُلَّ فجرٍ يَدْعو: اللهمَّ انَّكَ خَوَّلْتَني مِمَّن خَوَّلْتَني من بَني آدم فاجْعَلْني أحَبَّ مالِه وأهلِه إليه.

وقال ابن فارِس: مَمكن أن يكون سمِّيَ الفَرَسُ فَرَسًا لِرَكْلِه الأرض بقوائِمِهِ وقوّةِ وطئِهِ.

وراكِبُهُ فارِسٌ، وهو مثل لابِنٍ وتامِرٍ، أي صاحِبُ فَرَسٍ. ويُجْمَع على فَوَارِس، وهو جمع شاذٌّ لا يُقاس عَلَيه، لأنَّ فواعِل إنَّما هيَ جمع فاعِلَة -مثال ضارِبَة وضَوَارِب-؛ أو جمع فاعِل إذا كان صفة للمؤنَّث مثل حائِض وحَوائِض-؛ أو ما كان لِغَير الآدَمِييِّن -مثل جَمَلٍ بازِل وجِمالٍ بوازِل؛ وجَمَلٍ عاضِهٍ وجمالٍ عَواضِه؛ وحائطٍ وحَوائِط-، فأمّا مُذَكَّرُ ما يَعْقِل فلم يُجْمَع عليه إلاّ فَوارِس وهَوَالِك ونَواكِس وعَواطِس وكَوادِس ورَواهِب وقَوارِس وقَوابِس وخَوالِف.

فأمّا فوارِس فلأنّه شيء لا يكونُ إلاّ في المؤنّث فلم يُخَفْ فيه اللّبْس. وأمّا هوالِك فانَّه جاء في المَثَل: هالِك في الهَوَالِك، فجرى على الأصل، لأنَّه قد يَجيء في الأمثال ما لا يَجِيءُ في غيرِها. وأما نواكِس فقد جاءت في ضرورة الشعر. وقد تُعَلَّل البواقي بما يُلائِمُها، ونذكر -إن شاء الله تعالى- كُلَّ لفظٍ منها ونتكَلّمُ عليه.

وفي المَثَل: هُما كَفَرَسَي رِهانٍ. يُضْرَب لاثْنَين يَسْتَبِقانِ إلى غاية فَيَتَسَاوَيان، وهذا التشبيه يقع في الابتِداء، لأنَّ النهاية تَجَلّى عن سَبْقِ أحَدِهِما لا مَحالَة.

وفي حديث الضَّحّاك في رَجُلٍ آلى من امرأتِهِ ثُمَّ طَلَّقَها فقال: هُما كَفَرَسَي رِهانٍ أيُّهُما سَبَقَ أُخِذَ به. وتفسيرُه: إنَّ العِدَّةَ -وهي ثلاث حِيَض- إن انقَضَت قَبْلَ انقضاء وقت ايلائه -وهو أربعة أشهر- فقد بانتْ منه المرأة بتلك التطليقة ولا شيء عليه من الإيلاء، لأنَّ الأربعة أشهر تنقضي وليست له بِزوجٍ، وإن مَضَت الأربعةُ أشهر وهي في العِدَّةِ بانَت منه بالإيلاء مع تلك التطليقة؛ فكانت اثْنَتَين.

وفي مثَلٍ آخَر: أبْصَرُ من فَرَس يهماءَ في غَلَسٍ.

وبالدَّهْناء جبال من الرمل تُسَمّى: الفَوارِس، قال ذو الرُّمَّة:

«إلى ظُعُنٍ يَقْرِضْنَ أجْوَازَ مُشْرِفٍ *** شِمالًا وعن أيْمانِهِنَّ الفَـوَارِسُ»

وقال ابن السكِّيت: إذا كان الرجل على ذي حافِر بِرْذَوْنًا كانَ أو فرِسًا أو بَغلًا أو حِمارًا قُلْتُ: مَرَّ بنا فارسٌ على بَغْلٍ ومَرَّ بنا فارِسٌ على حِمَارٍ، قال:

«وإنّي امرؤٌ للخَـيْلِ عِـنْـدي مَـزِيَّةٌ *** على فارِسِ البِرْذَوْنِ أو فارِسِ البغلِ»

وقال عُمارة بن عقيل بن بلال بن جرير: لا أقولُ لصاحِبِ البغلِ فارِسٌ ولكنّي أقولُ بَغّال، ولا أقولُ لصاحِبِ الحمارِ فارِسٌ ولكنّي أقولُ حَمّار.

وربيعة بن نِزار بن مَعَدِّ بن عدنان أخو مُضَرَ وأنمار يُقال له: ربيعةُ الفَرَسِ، وقد ذَكَرْتُ سَبَبَ إضافَتِه إلى الفَرَسِ في تركيب ح م ر.

وفَرَسان -مِثال غَطَفَان-: جزيرة مأهولة من جَزَائِر بَحر اليَمَن. قال الصغاني مؤلف هذا الكتاب: أرْسَيْتُ بها أيّامًا سَنَةَ خَمْسٍ وسِتِّمائة، وعندهم مَغَاصُ الدُّرِّ.

وقال ابن دريد: فَرَسَانُ: لقب قرية من العَرَب، ليس بأبٍ ولا أمٍّ؛ نحو تَنُوخ، وهم أخلاط من العرب اصْطَلَحوا على هذا الاسم. وكُلُّهُم من بَني تَغْلِب. قال: وقال ابنُ الكَلْبي: كان عَبْدِيْد الفَرَسَاني أحّد رجال العرب المذكورين.

والفارِس والفَروس والفَرّاس: الأسد، قال أبو ذؤيب الهُذَلي في رِوايةِ أبي نَصْرٍ، وفي رواية مَنْ سِوَاه: قال مالِك بن خالِد الخُناعيّ، وهو الصحيح:

«يا مَيّ إنَّ سِبَاعَ الأرضِ هالِـكَةٌ *** والعُفْرُ والأُدْمُ والآرامُ والنـاسُ»

«تاللهِ لا يُعْجِـزُ الأيّامَ مُـبْـتَـرِكٌ *** في حَوْمَةِ المَوْتِ رَزّامٌ وفَرّاسُ»

يقال: فَرَسَ الأسَدُ فريسَتَهُ يَفْرِسُها -بالكسر- فَرْسًا: أي دَقَّ عُنُقَها، هذا أصلُ الفَرْسِ، ثمَّ كَثُرَ واسْتُعمِلَ حتى صُيِّرَ كُلُّ قَتْلٍ فَرْسًا. وفي حديث عمر -رضي الله عنه-: أنَّه نهى عن الفَرْسِ في الذبيحَة، أي عن كَسْرِ رَقَبَتِها قبلَ أن تَبْرُد. وفي حديثه الآخَر: أنَّه أمَرَ مُنادِيًا أن لا تَنْخَعوا ولا تَفْرِسوا. وعن عُمَر بن عبد العزيز -رحمه الله-: أنَّه نهى عن الفَرْسِ والنَّخْعِ وأن يُسْتَعانَ على الذبيحة بغير حَدِيْدَتِها.

والفَريسَة: فَعيلَة بمعنى مَفْعُولَة.

والفَرِيْسُ: حلقة من خشب يقال لها بالفارسيّة: جَنْبَرْ أي الحَلَقَة المَعْطوفة التي تُشَدُّ في طَرَفِ الحَبْل، وأنشَدَ الأزْهَرِيّ:

«فلو كان الرِّشَاءُ مِئينَ باعـًا *** لكانَ مَمَرُّ ذلك في الفَرِيْسِ»

وفَريس بن ثعلَبَة: من التابعين.

والفَريس: القَتيل، والجَمْع: فَرْسى، كصَريع وصَرْعى. وفي حديث النبي -صلى الله عليه وسلّم-: أنَّه ذَكَرَ ياجُوجَ وماجُوجَ وإنَّ نبيَّ الله عيسى يُحْصَرُ وأصحابُه فَيَرْغَبُ إلى الله؛ فَيُرْسِلُ عليهم النَّغَفَ؛ فَيُصْبِحونَ فَرْسى كمَوْتِ نَفْسٍ واحِدَة، ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ مَطَرًا فَيَغْسِلُ الأرْضَ حتى يَتْرُكَها كالزَّلَفَة.

وأبو فِراس وأبو فَرّاس: كنية الأسد، لِفَرْسِهِ فَريْسَتَه.

وأبو فِراس ربيعة بن كعب الأسلمي -رضي الله عنه-: له صُحبَة.

وأبو فِراس: كنية الفَرَزْدَق.

وفِراس بن يَحْيى الهَمَداني: المُكَتِّب الكوفيّ، يَروي عن عامِر بن شراحيل الشَّعْبيّ.

وقال ابن السكِّيت: فَرَسَ الذِّئبُ الشاةَ فَرْسًا.

وفارِس: الفَرْس- بالضم-. وفي حديث النبي -صلى الله عليه وسلّم-: إذا مَشَت أُمَّتي المُطَيْطَاءَ وخَدَمَتْهُم فارِسُ والرُّومُ كانَ بَأْسُهم بينهم.

وفارِس -أيضًا-: بِلاد الفُرْس.

وقال ابن الأعرابي: الفَرْسَة: الحَدَبُ. وقال غيره: الفَرْسَة والفَرْصَة: ريحُ الحَدَبِ؛ كأنَّها تَفْرِسُ الظَّهْرَ أي تدُقُّه؛ وتَفْرصُه أي تَشُقُّه. وفي حديث قليلة بنت مخرَمة التَّميميَّة -رضي الله عنها-: كانَت قد أخَذَتْها الفَرْسَة. ذَكَرَها إبراهيم الحَرْبيّ -رحمه الله- بالسِّين؛ وذَكَرها أبو عُبَيد بالصاد وقال: العامّة تقولها بالسين؛ وأمّا المسموع عن العَرَب فبالصاد، وقد كُتِبَ الحديث بتمامِه في تركيب س ب ج.

وفَرْسٌ: موضِع ببلاد هُذَيْل، وقيل: بَلَدٌ من بِلادِها، قال أبو بُثَيْنَة القرمي:

«فأعْلُوْهُم بِنَصْلِ السَّيْفِ ضَرْبًا *** وقُلتُ لعلَّهم أصحاب فَرْسِ»

والفِرْس -بالكسر-: نَبْتٌ. قال الدِّيْنَوَري: ذَكَرَ بعض الرواة أنَّه ضرب من النَّبْتِ ولم تَبْلُغني له تَحْلِيَة. وقال الأزهري: اخْتَلَفَت الأعراب فيه؛ فقال أبو المَكارم: هو القَصْقَاص. وقال غيره: هو الحَبَن، وقيل: هو البَرْوَقُ.

وقال ابن الأعرابي: الفَرَاسُ -بالفتح-: تمرٌ أسْوَد وليس بالسّهْرِيْزِ، وانشد:

«إذا أكلوا الفَرَاسَ رَأيْتَ شامًا *** على الأنْشالِ منهم والغُيُوْبِ»

الأنثال: التِّلال.

والفِرَاسَة -بالكسر-: الاسم من التَفَرُّس، ومنها الحديث الذي يَرْفَعونَه إلى النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- اتَّقوا فِراسَة المؤمن فإنَّه يَنْظُرُ بنور الله. ولا يَثْبُتُ، تقول منه: رَجُلٌ فارِسُ النَّظَر. ويقال: أفْرَسُ النّاسِ صاحِبَةُ موسى صلوات الله عليه.

ورجُلٌ فارِسٌ على الخيل، بين الفَرَاسَة والفُرُوسيّة، وقد فَرُسَ -بالضم- يَفْرُسُ فُرُوْسَةً وفَرَاسَةً: إذا حَذَقَ أمرُ الخَيْل، وفي الحديث: عَلِّموا رِجالَكُم العَوْمَ والفَرَاسَةَ: يعني العِلمَ بركوب الخيل ورَكْضِها.

وقال ابن الأعرابي: الفُرْسَة: الفَرْصَة.

وفَرِسَ -بالكسر-: إذا دام على أكل الفَرَاس.

وفَرِسَ: إذا دام على رعْي الفِرْسِ.

والفِرْسِنُ للبعير: كالحافِر للبغل والفَرَس والحِمَار، والنون زائدة، وهي مؤنَّثَة، ووزنُها فِعْلِنٌ عن ابن السَّرّاج، ويأتي -إن شاء الله تعالى- ذِكرُها في حرف النون، وربَّما قيلَ: فِرْسِنُ شاةٍ على الاستِعارة، وفي حديث النبي -صلى الله عليه وسلّم-: يا نساء المسلمات لا تَحْقِرَنَّ جارَةٌ لِجارَتِها ولو فِرْسِن شاة. وكذلك النون في الفِرْناسِ والفُرَانِسِ للأسَد الغَليظ الرَّقَبَة الفَرّاس لِفَرِيْسَتِه.

وقال أبو عمر الزاهد: الفِرناس: الأسد الضاري. وقال ابن خالوَيْه في كتاب لَيْسَ: سُمِّيَ فِرْناسًا لأنَّه رئيس السِّبَاع.

قال ويقال لرئيس الدَّهاقين والقُرى: فِرْناسٌ، وجمع فِرْناس: فَرَانِسَة، وانشد لجرير:

«إنَّ الفرانِسَة الذينَ بأرْضِهِـم *** لا يَسْألونَ عن النِّكاحِ مُهُورا»

وفِرْناس: رجل من بَني سَليط.

وقال النَّضْرُ في كتاب الجود والكَرَم: الفِرْناس من الرجال. الشديد الشُّجاع، شُبِّهَ بالأسد، وانشد أبو زيد:

«أأنْ رأيْتَ أسَـدًا فُـرانِـسـا *** والوَجْهَ كَرْهًا والجبينَ عابسا»

«أبْغَضْتَ أنْ تَدْنو أو تُلابِسـا»

وقال أبو عمرو: يقال: أفْرَسَ عن بَقِيَّةِ مال فُلان: إذا أخَذَه وتَرَكَ منه بقِيّة.

وقال ابن السكِّيت: أفْرَسَ الراعي: أي فَرَسَ الذِّئْبُ شاةً من غَنَمِه.

قال: وأفْرَسَ الرَّجل الأسَدَ حِمارَه: إذا تَرَكَه له لِيَفْتَرِسَهُ وينجوَ هو.

ويقال: تَفَرَّسْتُ فيه خيرًا.

وهو يَتَفَرَّس: أي يَتَثَبَّتْ ويَنْظُر.

وقال الأصمعي: فلان يَتَفَرَّس: إذا كان يُري الناسَ أنَّه فارِس.

وافْتَرَسَ الأسد: اصْطادَ. وقال النَّضْرُ. لا يقال افتَرَسَ الذِّئبُ الشاةَ، ولكن يقال: أكَلَها. وقال معاوية -رضي الله عنه-: الدُّنيا لم تُرِد أبا بَكْرٍ -رضي الله عنه- ولم يُرِدْها، وأمّا نحنُ فافْتَرَسْناها افْتِراسًا.

وفَرْنَسَةُ المرأة: حُسْنُ تدبيرِها لأمور بيتِها.

والتركيب يدل على وَطْءِ الشَّيْءِ ودقِّه.

العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م


81-العباب الزاخر (لبس)

لبس

اللُّبْسُ -بالضم-: مصدر قولِكَ: لَبِسْتُ الثوبَ ألْبَسُه.

ولَبِسْتُ امْرَأةً: أيْ تَمَتَّعْتُ بها زمانًا.

ولَبِسْتُ قَومًا: أي تَمَلِّيْتُ بهم دَهْرًا.

ولَبِسْتُ فُلانَةَ عُمُري: أي كانَت معي شبابي كُلَّه، قال النابغة الجعديّ رضي الله عنه:

«لَبِسْتُ أُناسًا فأفْنَـيْتُـهُـم *** وأفْنَيْتُ بَعْدَ أُناسٍ أُناسا»

«ثَلاثَةَ أهْلِيْنَ أفْنَـيْتُـهُـم *** وكانَ الإلهُ هو المُسْتَآسا»

وقال عمرو بن أحْمَرَ الباهِليّ:

«لَبِسْتُ أبي حتّى تَبَلَّيْتُ عُمْرَهُ *** وبَلَّيْتُ أعْمامي وبَلَّيْتُ خالِيا»

واللِّباس والمَلْبَس واللِّبْس -بالكسر-: ما يُلْبَس، قال العجّاج:

«يَنْضِحْنَنا بالقَرْسِ بَعْدَ القَرْسِ *** دُوْنَ ظِهَار اللِّبْسِ بَعْدَ اللِّبْسِ»

ولِبْسُ الكعبة -شرَّفَها الله تعالى-: ما عَلَيْها مِنَ الكِسْوَة. وكذلك لِبْسُ الهَوْدَجِ، قال حُمَيْد بن ثَوْر -رضي الله عنه- يَصِفُ الغَبِيْطَ:

«فَلَمّا كَشَفْنَ اللِّبْسَ عنه مَسَحْـنَـهُ *** بأطْرافِ طَفْلٍ زانَ غَيْلًا مُوَشَّما»

واللِّبْسَة: حالة من حالات اللُّبْسِ، ومنها حديث عُمَر -رضي الله عنه-: عليكم باللِّبْسَةِ المَعَدِّيَّة.

وقال ابن عبّاد: اللِّبْسُ واللِّبْسَة: ضَرْبٌ من الثِّياب.

قال: واللِّبْس: السِّمْحَاقُ؛ وهو الجُلَيْدَة الرَّقيقة التي تكون بين الجِلْدِ واللَّحْم.

وقَولُهم لِلَّئيمِ: جِبْسٌ لِبْسٌ: إتْبَاعٌ.

ولباسُ الرجُل: امْرأتُه، وزوجُها لِباسُها، قال الله تعالى: (هُنَّ لِباسٌ لكُم وأنْتُم لِباسٌ لَهُنَّ) أي بمنزلة اللِّباس، قال النابغة الجعديّ رضي الله عنه:

«إذا ما الضّجيجُ ثَنى جيدَها *** تَداعَتْ عليه فكانتْ لِباسا»

وقال مُجاهِدٌ: أي سَكَنَ. وقال ابن عَرَفَة: اللِّباس من المُلابَسَة أي الاخْتِلاط والاجتِماع. وروى أبو عمرو: "ثَنى عِطْفَه تَثَنَّتْ".

ولِباس التَّقوى: الحَيَاء، وقيل: الغليظ الخَشِن القصير، وقال السُّدِّيُّ: هو الإيمان، وقيل: هو ستر العَوْرَة، وهو لِباس المُتّقين.

وقوله تعالى: (جَعَلَ لكم اللَّيْلَ لِباسا) أيْ يَسْتُرُ الناسَ بظُلْمَتِه، وكُلُّ شَيْءٍ سَتَرَهُ شَيْءٌ فهو لِباس.

وقوله تعالى: (فأذاقَها اللهُ لِباسَ الجُوعِ والخَوْفِ) أي جاصُوا حتى أكَلوا الوَبَرَ بالدَّم وهو العِلْهِزُ، وبَلَغَ بهم الجوعُ الحالَ التي لا غايَةَ بعدَها، فَضُرِبَ اللِّباسُ لِما نالَهُم مَثَلًا؛ لاشْتِمالِهِ على لابِسِه.

واللَّبُوْسُ: ما يُلْبَسُ، قال بَيْهَسٌ الفَزازيُّ:

«إلْبَسْ لكُلِّ حالَةٍ لَبُوْسَها *** إمّا نَعِيْمَها وإمّا بُوْسَها»

وقد ذُكِرَت القصّة بتمامها في تركيب ب ل د ح.

وقوله تعالى: (وعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوْسٍ لكم) يعني الدِّرْعَ، سُمِّيَت لَبوسًا لأنّها تُلْبَسُ، كما يقال للبَعير الذي يُرْكَبُ: رَكُوْب.

وداهِيَة لَبْساء ورَبْساء: أي مُنْكَرَة.

وثوب لَبيس: أي قد لُبِسَ فأُكْثِرَ لُبْسُه فأخْلَقَ. ومنه حديث مُعاذ بن جَبَل -رضي الله عنه- أنَّه كان يقول باليَمَن: ائْتُوني بِخَمِيسٍ أو لَبِيْسٍ آخُذْه منكم في الصّدَقَةِ؛ فإنَّه أيْسَرُ عليكم وأنفَعُ للمُهاجِرينَ بالمَدينَة.

ويقال: ليسَ لِفلان لَبيس: أي مِثْل.

ومُلاءةٌ لَبِيس -بغير هاء-.

وقال الليث: اللَّبَسَة -بالتحريك-: بَقْلَة. قال الأزهري: لا أعْرِفُ اللَّبْسَةَ في البُقُول، ولم أسْمَعْها لغير الليث.

وقال أبو زيد: يقال إنَّ في فلان لَمَلْبَسًا -بالفتح-: أي ليسَ به كِبْرٌ.

والمَلْبَس -أيضًا-: اللُّبْسُ، قال امرؤ القيس:

«ألا إنَّ بَعْدَ الفَقْرِ للمَـرْءِ قِـنْـوَةً *** وبَعْدَ المَشيبِ طُوْلَ عُمْرٍ ومَلْبَسا»

وفي المَثَل: أعْرَضَ ثَوْبُ المَلْبَس؛ والمِلْبَس؛ والمُلْبَس. قال الأعرابي: يُضْرَبُ لِمَن اتَّسَعَت قِرْفَتُه، أي كَثُرَ مَن يَتَّهِمُه، فيما قال، قال: والمَلْبَسُ ثَوْبُ اللَّبْسِ، والمِلْبَسُ: اللِّباسُ بِعَينِه، كما يقال: إزارٌ ومِئْزَرٌ ولِحَافُ ومِلْحَفٌ. ورُوِيَ عن الأصمعيّ في تفسير هذا المَثَل قال: يُقال للرَجُل: مِمَّنْ أنتَ؟ فيقول: من مُضَر أو مِن رَبيعَة أو مِنَ اليَمَن، أي عَمَمْتَ ولم تَخُصَّ. ومَنْ قال: ثَوْبُ المُلْبِس -بضم الميم- أرادَ: الذي يُلْبِسُكَ ويُجَلِّلُكَ.

ويقال لَبَسْتُ عليه الأمْرَ -بالفتح- ألْبِسُه- بالكسر- لَبْسًا: أي خَلَطْتُه، قال الله تعالى: (ولَلَبَسْنا عليه ما يَلْبِسُون) أي شَبَّهْنا عَلَيْهِم وأضْلَلْناههم كما ضَلُّوا.

وقال ابنُ عَرَفَة في قَوْلِهِ تعالى: (ولا تَلْبِسُوا الحَقَّ بالباطلِ) أي لا تَخْلِطُوه به.

وقوله تعالى: (أو يَلْبِسَكُم شِيَعًا) أي يَخْلِطَ أمْرَكم خَلْطَ اضْطِرابٍ لا خَلْطَ اتِّفاقٍ.

وقوله جَلَّ ذِكْرُه: (ولم يَلْبِسوا إيْمانَهُم بظُلْمٍ) أي لم يَخْلِطوهُ بِشِرْكٍ. قال العجّاج:

«ويَفْصِلونَ اللَّبْسَ بَعْدَ اللَّـبْـسِ *** من الأُمُورِ الرُّبْسِ بَعْدَ الرُّبْسِ»

واللَّبْس -أيضًا-: اخْتِلاط الظلام.

وفي الأمرِ لُبْسَة -بالضم-: أي شُبْهَةٌ وليسَ بِواضِح.

وألْبَسَه الثوب.

وألْبَسْتُ الشَّيْءَ: إذا غَطّيْتَه، يقال: ألْبَسَتِ السَّماءُ السَّحابَ: إذا غَطَّتْها، ويقال: الحَرَّة: الأرض التي ألْبَسَتْها حِجارةٌ سودٌ.

وأمرٌ مُلْبِس: أي مُشْتَبِه.

والتَّلْبيس: التَّخْليط، قال الأسْعَر الجُعْفيّ:

«وكَتيبَةٍ لَبَّسْتُـهـا بـكـتِـيْبَةٍ *** فيها السَّنَوَّرُ والمَغافِرُ والقَنا»

والتَّدْليس، شُدِّدَ للمبالغة.

والعامّة تقول: هذا رَجُلٌ مُلَبِّسٌ، يريدونَ كثير اللِّباسِ أو كَثيرَ اللُّبْسِ، والصَّواب: لَبّاس.

وتَلَبَّسَ بالأمرِ وبالثَّوْبِ، قال:

«تَلَبَّسَ حُبُّها بدَمي ولحمـي *** تَلَبُّسَ عُصْبَةٍ بِفُرُوعِ ضالِ»

أي اخْتَلَطَ.

وفي صفة أكْلِ رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- في حالِ صِغَرِه: فيَأْكُلُ فَما يَتَلَبَّسُ بِيَدِه طَعامٌ. أي لا يَلْزَقُ به لِنَظافَةِ أكْلِه.

ويقال: الْتَبَسَ عَليهِ الأمر: أي اخْتَلَطَ واشْتَبَه. وفي حديث المَوْلِدِ والمَبْعَثِ: فجاءَ المَلَكُ فَشَقَّ عن قَلْبِه، قال: فَخِفْتُ أنْ يكُونَ قد الْتُبِسَ بي. أي خُوْلِطْتُ، من قَوْلِكَ: في رأيِه لَبْسٌ: أي اخْتِلاطٌ، ويقال للمَجْنونِ: مُخالَطٌ.

ولابَسْتُ الأمْرَ: خالَطْتُه.

ولابَسْتُ فُلانًا: عَرَفْتُ باطِنَه.

والتركيب يدل على مخالَطَة ومُداخَلَة.

العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م


82-العباب الزاخر (حفف)

حفف

الحفوف: اليبس، من قولهم، حف رأسه يحف -بالكسر- حفوفًا: أي بعد عهده بالدهن. ومنه حديث عمر -رضي الله عنه-: أنه أرسل إلى أبي عبيدة -رضي الله عنه- رسولًا، فقال له حين رجع: كيف رأيت أبا عبيدة؟ فقال: رأيت بللًا من عيش، فقصر من رزقه ثم أرسل أليه وقال للرسول حين قدم: عليه: كيف رأيته؟ قال: رأيت حفوفًا، فقال: رحم الله أبا عبيدة بسطنا له فبسط وقبضنا فقبض. جعل البلل والحفوف عبارة عن الرخاء والشدة، لأن الخصب مع وجود الماء؛ والجدب مع فقده، يقال: حفت أرضنا: إذا يبس بقلها.

وقال الليث: سويق حاف: أي غير ملتوت.

وقال أعرابي: أتونا بعصيدة قد حفت فكأنها عقب فيها شقوق، وقال الكميت يصف وتدأ:

«وأشْعَثَ في الدّارِ ذا لِمَّةٍ *** يُطِيْلُ الحُفُوْفَ ولا يَقْمَلُ»

وقال رؤبة:

«تَنْدى إذا ما يَبِسَ الكُفُـوْفُ *** لا حَصَرٌ فيها ولا حُفُوْفُ»

وقال اللحياني: إنه لحاف بين الحفوف: أي شديد العين؛ ومعناه: أنه يصيب الناس بعينه.

وقال أبن الأعرابي: إذا ذهب سمع الرجل كله قيل: حف سمعه حفوفًا، قال:

«قالتْ سُلَيْمى إذْ رَأتْ حُفُوْفـي *** مَعَ اضْطِرابِ اللَّحْمِ والشُّفُوْفِ»

أنشده الأزهري لرؤبة، وليس له.

والحفيف والجفيف: اليابس من الكلأ.

وحف الفرس حفيفًا: سمع عند ركضه صوت، وكذلك حفف جناح الطائر، قال رؤبة:

«وَلَّتْ حُبَاراهُمْ لها حَفِيْفُ»

وأنْشَدَ الأصمعيُّ يَصِف حفيف: هوي حجر المنجنيق:

«حتّى إذا ما كَلَّتِ الطُّرُوْفُ *** من دُوْنِهِ واللُّمَّحُ الشُّنُوْفُ»

أقْبَلَ يَهْوي وله حَفِيْفُ والفيف: حفيف السهم النافذ، وكذلك حفيف الشجر. والأفعى تحف حفيفًا: أي تفح فحيحًا، إلا أنَّ الحَفِيف من جلدها والفحيح من فيها، وهذا عن أبي خيرة.

والحفة: كورة غربي حلب.

وقال الأصمعي: الحفة: المنوال: وهو الخشبة التي يلف عليها الثوب، قال: والذي يقال له الحف هو المنسج، وقال أبو سعيد: الحفة: المنوال؛ ولا يقال له حف؛ وإنما الحف المنسج.

والحفان: فراخ النعام، الواجد: حفانة، الذكر والأنثى فيه سواء، وقال أبو ذؤيب الهذلي:

«وزَفَّتِ الَّوْلُ من بَرْدِ العَشِيِّ كما *** زَفَّ النَّعَامُ إلى حَفّانِهِ الرُّوْحُ»

وقال أسامة الهذلي:

«وإلاّ النّـعَـامَ وحَـفَّـانَـهُ *** وطغْيَا مِنَ اللَّه قش النّاشِطِ»

وروى أبو عمرو وأبو عبد الله: "وطَغْيًَا" بالتنوين: أي صوتًا، يقال: طغى يطغى طغيًا، والطغيا: الصغير من بقر الوحش، وقال ثعلب: هو الطغيا -بالفتح-.

والحفان -أيضًا-: الخدم.

وإناء حفان: بلغ المكيل حفافيه، وحفافا الشيء: جانباه، قال طرفة بن العبد:

«كأنَّ جَنَاحَيْ مَضْرَحِيٍّ تَكَنَّـفـا *** حِفَافَيْهِ شُكّا في العَسِيْبِ بِمِسْرَدِ»

ويقال: جاء على حفافه: أي أثره.

ويقال: بقي من شعره حفاف: وذلك إذا صلع فبقيت من شعره طرة حول رأسه، وكان عمر -رضي الله عنه- أصلع له حفاف، والجمع: أحفة، قال ذو الرمة يذكر الجفان:

«لَهُنَّ إذا صَبَّحْنَ منهم أحِـفَّةٌ *** وحِيْنَ يَرَوْنَ اللَّيْلَ أقْبَلَ جائيا»

أحفة: أي قوم استداروا حولها.

والحفاف -أيضًا-: مصدر قولهم: حفت المرأة وجهها من الشعر تحفه حفافًا وحفًا: إذا قشرته.

وحف شاربه: إذا أحفاه، وكذلك حف رأسه.

وقال وهب بن منبه: لما أبتعت الله خليله إبراهيم -عليه السلام- ليبني البيت طلب الآس الأول الذي وضع أبو آدم في موضع الخيمة التي عزى الله تعالى بها آدم -عليه السلام- من خيام الجنة، حين وضعت له بمكة في موضع البيت، فلم يزل إبراهيم -عليه السلام- يحفر حتى وصل إلى القواعد التي أسس بنو أدم في زمانهم في موضع الخيمة، فلما وصل إليها أظل الله تعالى له مكان البيت بغمامة فكانت حفاف البيت الأول، ثم لم تزل راكدة على حفافه تظل إبراهيم -عليه السلام- وتهديه مكان القواعد حتى رفع إبراهيم -عليه السلام- القواعد قامة، ثم انكشطت الغمامة، فذلك قول الله عز وجل: (وإذْ بَوَّأْنا لإِبْراهِيمَ مَكانَ البَيْتِ) أي الغمامة التي ركدت على الحفاف ليهتدي بها إلى مكان القواعد، فلم يزل -والحمد لله- منذ يوم رفعه الله تعالى معمورًا.

وقوله تعالى: (وتَرى المَلائكَةَ حافِّيْنَ من حَوْلِ العَرْشِ) أي محدقين بأحفته أي بجوانبه.

وقوله تعالى: (وحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) أي جعلنا النخل مطيفة بأحفتهما.

والحفف والحفوف: عيش سوء؛ عن الأصمعي، وقلة مال، يقال: ما رئي عليهم حفف ولا ضفف: أي أثر عوز، وفي حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لم يبع من طعام إلا على حفف، ويروى: على ضفف، ويروى: على شظف. لثلاثة في معنى ضيق المعيشة وقلتها وغلظتها.

وجاء على حففه وحفه: أي أثره؛ مثل حفافه.

وفلان على حفف أمر: أي على ناحية منه.

وقال ابن عباد: الحفف من الرجال: القصير المقتدر الخلق.

والمحفة -بالكسر-: مركب من مراكب النساء كالهودج؛ إلا أنها لا تقبب كما تقبب الهوادج.

وحفة بالشيء يحفه كما يحف الهودج بالثياب، قال لبيد رضي الله عنه:

«من كُلِّ مَحْفُوفِ ُيظِلُّ عَصِيَّهُ *** زَوْجٌ عليه كِلَّةٌ وقِرَامُهـا»

ويقال: الحفة: الكرامة التامة.

وقال أبو عبيد: ومن أمثالهم في القصد في المدح: من حفنا أو رفنا فليقتصد؛ أي من طاف بنا واعتنى بأمرنا وأكرمنا وخدمنا وحاطنا وتعطف علينا. وقال أبو عبيد: أي من مدحنا فلا يغلون في ذلك ولكن ليتكلم بالحق منه.

وفي مثل آخر: من حفنا أو رفنا فليترك. وقد كتب أصل المثل في تركيب.

ويقال: ما له حاف ولا راف، وذهب من كان يحفه ويرفه.

والحفاف: اللحم اللين أسفل اللهاة، يقال: يبس حفافه.

وحفتهم الحاجة: إذا كانوا محاويج، وهم قوم محفوفون.

وقلا أبن عباد: الحف سمكة بيضاء شاكة.

قال: ويقال للديك والدجاجة إذا زجرتهما: حف حف.

قال: والحفافة: حفافة التبن وألقت وهي بقيتهما.

وأحففته: ذكرته بالقبيح.

وأحففت رأسي: أي أبعدت عهده بالدهن.

وأحففت الفرس: إذا حملته على أن يكون له حفيف وهو دوي جوفه.

وحفف الرجل: جهد وقل ماله، من حفت الأرض: أي يبست، وفي حديث معاوية -رضي الله عنه-: أنه بلغه أن عبد الله بن جعفر -رضي الله عنهما- حفف وجهد من بذله وإعطائه؛ فكتب إليه يأمره بالقصد وينهاه عن السرف، وكتب إليه ببيتين من شعر الشماخ:

«لَمَالُ المَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْني *** مَفَاقِرَهُ أعَزُّ من القُنُـوْعِ»

«يَسُدُّ به نَوَائبَ تَـعْـتَـرِيْهِ *** من الأيامِ كالنَّهَلِ الشُّرُوْعِ»

وأحففت الثوب وحففته تحفيفًا: من الحف.

وحففوا حوله: مثل حفوا، وكذلك احتفوا.

وأحتفت المرأة وجهها من الشعر: مثل حفت.

وأحتففت النبت: جزرته.

وقال الليث: احتفت المرأة: إذا أمرت من تحف شعر وجهها تنقي بخيطين.

وأغار فلان على بني فلان على بني فلان فاستحف أموالهم: أي أخذها بأسرها.

وقال أبن دريد: الحفحفة: حفيف جناحي الطائر.

ويقال: سمعت حفحفة الضبع وخفخفتها، أي صوتها.

وقال ابن الأعرابي: حفحف: إذا ضاقت معيشته.

والتركيب يدل على ضرب من الصوت؛ وعلى إلطافة الشيء بالشيء؛ وعلى شدة في العي.

العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م


83-العباب الزاخر (زيف)

زيف

زاف يَزِيْفُ زَيْفًا وزَيَفانًا: إذا تبختر في مشيته، قال عنترة بن شداد:

«يَنْبَاعُ من ذِفرى غضوبٍ جَسرَةٍ *** زَيَّافَةٍ مثل الفَتِيْقِ المُـكْـدَمِ»

وكذلك الحَمَام عند الحَمَامة إذا جر الذُّنابى ودفع مقدمته بمؤخره واستدار عليها. ويقال للأسد: الزّائف والزَّيّافُ: أي يتبختر في مشيته مثل البعير؛ والتشديد للمبالغة، قال عمرو بن معدي كَرِب رضي الله عنه- يصف أسدًا شبه نفسه به:

«يَزِيْفُ كما يَزِيْفُ الفَحْ *** لُ فوق شؤونه زَبَدُهْ»

ودرهم زائفٌ وزيفٌ. وقال اللحيانيُّ: زافَ الدرهم يَزِيْفُ وهو زَيْفٌ وزائفٌ. وقال ابن دريد: الزّائفُ: الرديء من الدراهم، فأما الزَّيْفُ فمن كلام العامة، قال مزرد:

«وقالوا أقيمـوا سُـنَّةَ لأخـيكـم *** بني عبد غنم ليس عنها مُخالِفُ»

«فكانت سراويلٌ وجردُ خمـيصةٍ *** وخمسُ مئىٍ منها قسيٌّ وزائف»

ويروى: "وسَحْقُ خَمِيْصةٍ".

وزافَتْ عليه دراهمه تَزِيْفُ زُيُوْفًا. ودراهم أزْيافٌ وزِيَافٌ: أي صارت مردودةً لغشٍ فيها. وفي حديث عمر -رضي الله عنه-: مَنْ زافَتْ معليه دراهمه فليأتِ بها السوق وليَشْتَرِ بها سحق ثوبٍ ولا يحالف الناس عليها أنها جِيَادٌ.

وقال اللحياني: زِفْتُ الدراهم: جعلتها زُيُوْفًا.

وزِفْتُ الحائط: أي قفزته.

فأما قول عدي بن زيد العبادي:

«تركوني لدى حديدٍ وأعْـرا *** ض قصورٍ لزَيْفِهِنَّ مراقِ»

فيقال: إن الزَّيْفَ الطنف الذي يقي الحائط، وقيل: الزَّيْفُ الدرج من المَراقي. والأعراض: الأوساط، وقيل: الجَوَانب. يريد أنهم إذا مشوا فيها فكأنما يصعدون في درج ومراق، وإنما عنى السجن الذي كان حُبِسَ فيه.

وقيل: الزَّيْفُ الشُّرَفُ الواحدة: زَيْفَةٌ.

وزَيَّفْتُ الدراهم تَزْييفًا: مثل زِفْتُها.

وتَزَيَّفَتِ المرأة: أي تزينت.

العباب الزاخر واللباب الفاخر-رضي الدين الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر العدوي العمري القرشي الصغاني الحنفي-توفي: 650هـ/1252م


84-القاموس المحيط (الحب)

الحُبُّ: الوِدادُ،

كالحِبابِ والحِبّ، بكسرهما،

والمَحَبَّةِ والحُبابِ بالضم.

أَحَبَّهُ، وهو مَحْبُوبٌ، على غيرِ قِياسٍ، ومُحَبُّ، قليلٌ.

وحَبَبْتُه أَحِبُّهُ، بالكسر، شاذٌّ، حُبًّا، بالضم وبالكسر،

وأحْبَبْتُه واسْتَحْبَبْتُه. والحَبِيبُ والحُبابُ، بالضم، والحِبُّ، بالكسر،

والحُبَّةُ، بالضم: المَحْبُوبُ، وهي بِهاءٍ، وجَمْعُ الحِبِّ: أحْبَابٌ وحِبَّانٌ وحُبُوبٌ وحَبَبَةٌ، محركةً، وحُبُّ، بالضم، عَزِيزٌ، أو اسمُ جَمْعٍ.

وحُبَّتُكَ، بالضم: ما

أَحْبَبْتَ أن تُعْطَاهُ، أو يكنَ لكَ.

والحَبِيبُ: المُحِبُّ. وبِلا لامٍ: خَمْسَةٌ وثلاثون صَحابيًا، وجماعةٌ مُحَدِّثُونَ. ومُصَغَّرًا: حُبَيِّبُ بنُ حَبِيبٍ أخُو حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ، وابنُ حَجْرٍ، وابنُ عَلِيٍّ: مُحَدِّثُونَ. وكَزُبَيْرٍ: ابنُ النُّعْمانِ تابِعيُّ، وهو غيرُ ابنِ النُّعْمانِ الأَسَدِيِّ عن خُرَيمٍ.

وحُبَّ بفلانٍ، أي: ما أحَبَّه.

وحَبُبْتُ إليه، كَكَرُمَ: صِرْتُ حَبِيبًا له، ولا نَظِيرَ له إلا شَرُرْتُ ولَبُبْتُ.

وحَبَّذَا الأَمْرُ، أي: هو حَبِيبٌ، جُعِلَ "حَبَّ" و"ذا" كَشَيْءٍ واحِدٍ، وهو اسمٌ، وما بعدَه مرفوعٌ به، ولَزِمَ "ذا" "حَبَّ"، وجرى كالمَثَلِ، بدليلِ قَوْلِهمْ في المُؤَنَّثِ: حَبَّذّا، لا حَبَّذِه.

وحَبَّ إليَّ هذا الشيءُ حُبًّا،

وحَبَّبَهُ إليَّ: جَعَلَنِي أُحِبُّهُ.

وحَبَابُك كذا، أي: غايةُ مَحَبَّتِكَ، أو مَبْلَغُ جُهْدِكَ.

وتَحَابُّوا: أحَبَّ بعضُهم بعضًا،

وتَحَبَّبَ: أظْهَرَه.

وحَبَّانُ وحُبَّانُ وحِبَّانُ وحُبَيَّبٌ وحُبَيِّبٌ، مُصغَّرًا، وكَكُمَيْتٍ وسَفِينَةٍ وجُهَيْنَةَ وسَحابَةٍ وسَحابٍ وعُقابٍ،

وحَبَّةُ، بالفتح،

وحُباحِبٌ، بالضم: أسْماءٌ.

وحَبَّانُ، بالفتح: وادٍ باليَمنِ، وابنُ مُنْقِذٍ: صَحابِيُّ، وابنُ هِلالٍ، وابنُ واسِعِ بنِ حَبَّانَ، وسَلَمَةُ بنُ حَبَّانَ: مُحَدِّثونَ. وبالكسر: مَحَلَّةٌ بِنَيْسابورَ، وابنُ الحَكَمِ السُّلَمِيُّ، وابنُ بَجٍّ الصُّدَائِيُّ، أو بالفتح، وابنُ قَيْسٍ، أو هو بالياءِ: صَحابِيُّونَ، وابنُ موسى، وابنُ عَطِيَّةَ، وابنُ عَلِّيٍ العَنزِيُّ، وابنُ يَسارٍ: مُحَدِّثُونَ. وبالضم: ابنُ محمودٍ البَغْدادِيُّ، ومحمدُ بنُ حُبانَ بن بَكْرٍ: رَوَيا.

والمُحَبَّةُ والمَحْبوبَةُ والمُحَبَّبَةُ والحَبيبَةُ: مَدينَةُ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم.

ومُحْبَبٌ، كَمَقْعَدٍ: اسمٌ.

وأَحَبَّ البَعيرُ: بَرَكَ فلم يَثُرْ، أو أصابَه كَسْرٌ أو مَرَضٌ فلم يَبْرَحْ مَكانَه حتى يَبْرَأَ أو يَموتَ،

وـ فلانٌ: بَرِئَ من مَرَضِهِ،

وـ الزَّرْعُ: صارَ ذا حَبٍّ.

واسْتَحَبَّتْ كَرِشُ المالِ: أمْسَكَتِ الماء، وطالَ ظِمْؤُها.

والحَبَّةُ: واحِدَةُ الحَبّ، ج: حَبَّاتٌ وحُبوبٌ وحُبَّانٌ، كَتُمْرَانٍ، والحاجَةُ. وبالضم: المُحَبَّةُ، وعَجَمُ العِنَبِ، ويُخَفَّفُ. وبالكسر: بُزُورُ البُقولِ والرَّياحِينِ، أو نَبْتٌ في الحَشِيشِ صَغِيرٌ، (أو الحُبوبُ المُخْتَلِفَةُ من كُلِّ شَيءٍ، أو بَزْرُ العُشْبِ)، أو جَمِيعُ بُزُورِ النَّباتِ وواحِدُها: حَبَّةٌ، بالفتح، أو بَزْرُ ما نَبَتَ بِلا بَذْرٍ، وما بُذِرَ فبالفتح، واليَبيسُ المُتَكَسِّرُ المُتَراكِمُ، (أو يابِسُ البَقْلِ).

وحَبَّةُ القَلْبِ: سُوَيْدَاؤُهُ أو مُهْجَتُهُ، أو ثَمَرَتُهُ، أو هَنَةٌ سَوْداءُ فيه.

وحَبَّةُ: امرأةٌ عَلِقَها مَنْظورٌ الجِنِّيُّ، فكانت تَتَطَبَّبُ بما يُعَلِّمُها مَنْظورٌ.

وحَبابُ الماءِ والرَّمْلِ: مُعْظَمُهُ،

كَحَبَبِهِ وحِبَبِهِ، أو طَرائِقُهُ، أو فَقَاقِيعُهُ التي تَطْفُو كأَنَّها القَوارِيرُ.

والحُبُّ: الجَرَّةُ، أو الضَّخْمَةُ منها، أو الخَشَباتُ الأَرْبَعُ تُوضَعُ عليها الجَرَّةُ ذاتُ العُرْوَتَيْنِ، والكَرَامَةُ: غِطاءُ الجَرَّة، ومنه: "حُبًّا وكَرامَةً"، ج: أحْبابٌ وحِبَبَةٌ وحِبابٌ، وبالكسر: المُحِبُّ، والقُرْطُ من حَبَّةٍ واحِدَةٍ،

كالحِبابِ، بالكسر. وكَغُرابٍ: الحَيَّةُ، وحَيُّ من بَنِي سُلَيْمٍ، واسمٌ،

جَمْعُ حُبابَةٍ: لِدُوَيبَّةٍ سَوْدَاءَ مائِيَّةٍ، واسمُ شَيْطانٍ.

وأمُّ حُبابٍ: الدُّنْيا. (وكَسَحابٍ: اسمٌ، والطَّلُّ). وكَكِتَابٍ: المُحَابَبَةُ.

والتَّحَبُّبُ: أوَّلُ الرِّيِّ. وحُبَابَةُ السَّعْدِيُّ، (بالضم): شاعِرٌ لِصٌّ. وبالفتح: حَبَابَةُ الوالِبِيَّةُ، وأُمُّ حَبابَةَ: تابِعِيَّتانِ،

وحَبَابَةُ: شَيْخَةٌ لأَبِي سَلَمَةَ التَّبُوذَكِيِّ. وعُبَيْدُ الله بنُ حَبَابَةَ: سَمِعَ البَغَويَّ. ومن أسْمائِهِنَّ: حَبَّابَةُ، مُشَدَّدَةً.

والحَبْحَبَةُ: جَرْيُ الماءِ قليلًا، كالحَبْحَبِ، والضَّعْفُ، وسَوْقُ الإِبِلِ،

وـ من النَّارِ: اتِّقَادُها، والبِطِّيخُ الشَّامِيُّ الذي تُسَمِّيهِ أهلُ العِراقِ: الرَّقِّيِّ، والفُرْسُ: الهِنْديَّ، ج: حَبْحَبٌ.

والحَبْحَابُ: صَحابِيُّ، والقَصِيرُ، والدَّمِيمُ السَّيِّئُ الخُلُقِ، وسَيْفُ عَمْرِو بنِ الخَلِيِّ، والرَّجُلُ، أو الجَمَلُ الضَّئِيلُ،

كالحَبْحَبِ والحَبْحَبِيِّ، وَوالِدُ شُعَيْبٍ البَصْرِيِّ التَّابِعِيِّ. والحُبَابُ بنُ المُنْذِرِ، بالضم، وابنُ قَيْظِيٍّ، وابنُ زَيْدٍ، وابنُ جَزْءٍ، وابنُ جُبَيْرٍ، وابنُ عُمَيْرٍ، وابنُ عَبْدِ اللَّهِ: صَحابِيُّونَ.

والمُحَبْحِبُ، بالكسر: السَّيِّئُ الغِذَاءِ.

وجِئْتُ بها حَبْحَبَةً، أي: مَهازِيلَ.

والحَبَاحِبُ: السَّرِيعَةُ الخَفيفَةُ، والصِّغَارُ،

جَمْعُ الحَبْحَابِ، ود. بالضم: ذُبابٌ يَطيرُ باللَّيْلِ له شُعاعٌ كالسِّراجِ، ومنه: نارُ الحُباحِبِ، أو هي ما اقْتَدَحَ من شَرَرِ النار في الهَواءِ من تَصادُمِ الحجارَةِ، أو كان أبو حُباحِبٍ من مُحارِبٍ وكان لا يُوقِدُ نارَهُ إلاَّ بالحَطَبِ الشَّخْتِ لئلا تُرَى، أو هي من الحَبْحَبَةِ: الضَّعْفِ، أو هي الشَّرَرَةُ تَسْقُطُ من الزِّنادِ.

وأُمُّ حُباحِبٍ: دُوَيْبَّةٌ كالجُنْدُبِ.

وذَرَّى حَبًّا: لَقَبٌ.

والحَبَّةُ

الخَضْراءُ: البُطْمُ، والسَّوْداءُ: الشُّونِيزُ.

والحَبَّةُ: القِطْعَةُ من الشَّيْءِ،

وـ مِنَ الوَزْنِ: م، في: م ك ك. وبلا لامٍ: ابنُ بَعْكَكٍ، وابنُ حابِسٍ، أو هو بالياء: صَحابِيَّان.

وحَبَّةُ: قَلْعَةٌ بِسَبَأٍ، وجَبَلٌ بِحَضْرَمَوْت.

وسَهْمٌ حابٌّ: وَقَعَ حَولَ القِرْطَاسِ، ج: حَوابُّ.

وحَبَّ: وَقَفَ، وبالضم: أُتْعِبَ.

والحَبَبُ، محركةً، وكَعِنَبٍ: تَنَضُّدُ الأَسْنانِ، وما جَرى عليها من الماءِ كَقِطَعِ القَوارِيرِ وحَبُّ بنُ أبي حَبَّةَ، وابنُ مُسْلِمٍ، وابنُ جُوَيْنٍ العُرَنِيُّ، وابنُ سَلَمَةَ التَّابِعِيُّ، وأبو حَبَّةَ البَدْرِيُّ، أو صَوابُهُ بالنُّونِ، والمازِنِيُّ، وابنُ عَبْدِ بنِ عَمرٍو، وابنُ غَزِيَّةَ، وعبدُ السَّلامِ بنُ أَحْمَدَ بن حَبَّةَ، وعبدُ الوَهَّاب بنُ هبَة الله بن أبي حَبَّةَ، محدِّثون وبالكسرِ يعقوب بن حُبَّةَ رَوَى عن أحمَدَ.

وحُبَّى، كَرُبَّى: امرأةٌ، وع.

وأُمُّ مَحْبُوبٍ: الحَيَّةُ.

والحُبَيِّبَةُ، مُصَغَّرَةً: ة باليَمامَةِ. وإبراهيمُ بنُ حُبَيِّبَةَ، وابنُ محمدِ بنِ يوسُفَ بنِ حُبَيِّبَةَ: مُحَدِّثَانِ.

وكَجُهَيْنَةَ: ع من نَواحي البَطِيحَةِ.

وامرأةٌ مُحِبٌّ: مُحِبَّةٌ.

وبَعِيرٌ مُحِبٌّ: حَسِيرٌ.

والتَّحابُّ: التَّوادُّ.

واسْتَحَبَّهُ عليه: آثَرَهُ.

وأحْبابُ: ع بِدِيارِ بَني سُلِيْمٍ.

والحُبَّابِيَّةُ، بالضم: قَرْيَتانِ بِمِصْرَ.

وبُطْنانُ حَبِيبٍ: د بالشَّأْمِ.

والحُبَّةُ، بالضم: الحَبِيبَةُ، ج: كَصُرَدٍ.

وحَبُّوبَةٌ: لَقَبُ إسماعيلَ بنِ إسحاقَ الرَّازِيِّ، وجَدُّ للِحافِظِ الحَسَنِ بنِ محمدٍ اليُونارِتِيِّ. وكَسَحابٍ: ابنُ صالِحٍ الواسِطِيُّ، وأحمدُ بنُ إبراهيمَ بنِ حَبابٍ الحَبابِيُّ: مُحَدِّثُونَ.

القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م


85-القاموس المحيط (أمه)

أَمَّهُ: قَصَدَه،

كائْتَمَّهُ وأَمَّمَهُ وتَأمَّمَهُ ويَمَّمَه وتَيَمَّمَه.

والتَّيَمُّمُ: التَّوَضُّؤُ بالتُّرابِ، إبْدالٌ، أَصْلُه التَّأمُّمُ.

والمِئَمُّ، بكسر الميمِ: الدليلُ الهادي، والجَملُ يَقْدُمُ الجِمالَ، وهي: بهاءٍ.

والإِمَّةُ، بالكسر: الحالةُ، والشِّرْعةُ، والدينُ، ويُضَمُّ، والنِّعْمةُ، والهَيْئَةُ، والشانُ، وغَضارةُ العَيْش، والسُّنَّةُ، ويُضَمُّ، والطريقةُ، والإِمامةُ، والائتمامُ بالإِمامِ، وبالضم: الرَّجُلُ الجامِع للخيرِ،

والإِمامُ، وجماعةٌ أُرْسِلَ إليهم رسولٌ، والجيلُ من كُلِّ حَيٍّ، والجِنْسُ،

كالأُمِّ فيهما، ومَن هو على الحَقِّ مُخَالِفٌ لسائر الأَدْيانِ، والحينُ، والقامةُ، والوجهُ، والنَّشاطُ، والطاعةُ، والعالِمُ،

وـ من الوَجْهِ والطريقِ: مُعْظَمُه،

وـ من الرجُل: قَوْمُه،

وـ للهِ تعالى: خَلْقُهُ.

والأمُّ، وقد تكسَرُ: الوالِدَةُ، وامرأةُ الرجُلِ المُسِنَّةُ، والمَسْكَنُ، وخادِمُ القَوْمِ.

ويقال للأَمِّ: الأُمَّةُ والأُمَّهَةُ.

ج: أُمَّاتٌ وأُمَّهاتٌ، أو هذه لمَنْ يَعْقلُ،

وأُمَّاتٌ لمَنْ لا يَعْقل.

وأُمُّ كُلِّ شيءٍ: أصْلُهُ وعِمادُهُ.

وـ للقَوْمِ: رئيسُهُم،

وـ من القرآنِ: الفاتِحَةُ، أو كُلُّ آيةٍ مُحْكَمَةٍ من آياتِ الشَّرائِعِ والأَحْكامِ والفَرائِضِ،

وـ للنُّجومِ: المَجَرَّةُ،

وـ للرأسِ: الدِّماغُ، أو الجِلْدَةُ الرَّقيقةُ التي عليها،

وـ للرُّمْحِ: اللِّواءُ،

وـ للتَّنائِفِ: الفازَةُ،

وـ للبَيْضِ: النَّعامَةُ، وكُلُّ شيءٍ انضَمَّتْ إليه أشْياءُ.

وأُمُّ القُرَى: مكَّةُ، لأنَّها تَوَسَّطتِ الأرضَ، فيما زَعَموا، أو لأَنَّها قِبْلَةُ الناسِ يَؤُمُّونَها، أو لأَنَّها أعْظَمُ القُرَى شَأنًا.

وأُمُّ الكتاب: أصلهُ، أو اللَّوْحُ المحفوظ، أو الفاتِحَةُ، أو القرآنُ جميعُهُ. ووَيْلُمِّه: في وي ل.

ولا أُمَّ لَكَ: رُبَّما وُضِعَ مَوْضِعَ المَدْحِ.

وأمَّتْ أُمومَةً: صارتْ أُمًّا.

وتأمَّمها واسْتَأمَّها:

اتَّخَذَها أُمًّا.

وما كُنْتِ أُمًّا فأَمِمْتِ، بالكسر، أُمومَةً.

وأمَّهُ أمًّا،

فهو أمِيمٌ ومآمومٌ: أصابَ أُمَّ رأسِه.

وشَجَّةٌ آمَّةٌ ومأمومةٌ: بَلَغَتْ أُمَّ الرأسِ.

والأَمَيْمَةُ، كجهينةَ: الحجارةُ تُشْدَخُ بها الرُّؤُوسُ، وتَصغيرُ الأُمِّ، ومِطْرَقَةُ الحَدَّادِ، واثنَتَا عَشَرَةَ صَحابِيَّةً.

وأبو أُمَيْمَةَ الجُشَمِيُّ أو الجَعْدِيُّ: صحابيُّ.

والمأمومُ: جَمَلٌ ذَهَبَ من ظَهْرِهِ وبَرُه من ضَرْبٍ أو دَبَرٍ، ورجُلٌ من طَيِّئٍ.

والأُمِّيُّ والأُمَّانُ: مَن لا يَكْتُبُ، أو مَن على خِلْقَةِ الأُمَّةِ لم يَتَعَلَّمِ الكِتابَ، وهو باقٍ على جِبِلَّتِه، والغَبِيُّ الجِلْفُ الجافي القليلُ الكلامِ.

والأَمامُ: نَقِيضُ الوَراءِ، كقُدَّامَ، يكونُ اسْمًا وظَرْفًا، وقد يُذَكَّرُ.

وأمامَك: كَلمَةُ تَحْذِيرٍ. وكثُمامَةٍ: ثَلاثُ مِئَةٍ من الإِبِلِ، وبنتُ قُشَيرٍ، وبنتُ الحَارِثِ، وبنتُ العاص، وبنتُ قُرَيْبَةَ: صحابيَّات.

وأبو أُمامَةَ الأَنْصارِيُّ، وابنُ سَهْلِ بنِ حُنَيْفٍ، وابنُ سَعْدٍ، وابنُ ثَعْلَبَةَ، وابنُ عَجْلانَ: صحابيُّونَ. وإلى ثانِيهمْ نُسِبَ عبدُ الرحمنِ الأُمامِيُّ، لأَنه من وَلَدِهِ.

وأمَّا تُبْدَلُ مِيمُها الأُولى ياءً باسْتِثْقالها للتَّضْعيف، كقولِ عُمَرَ بنِ أبي رَبيعَةَ:

«رأتْ رَجلًا أيْما إذا الشَّمْسُ عارَضَتْ *** فَيَضْحَى وأيْما بالعَشِيِّ فَيَخْصَرُ»

وهي حَرْفٌ للشَّرْطِ: {فأما الذين آمنوا فَيَعْلَمُون أنه الحَقُّ من ربِّهِمْ} وللتَّفصيلِ، وهو غالِبُ أحوالها، ومنه:

{أمَّا السفينَةُ فكانَتْ لمَساكينَ}،

{وأما الغُلامُ}،

{وأمَّا الجِدارُ} الآياتِ، وللتأكيد، كقولِك: أمَّا زيدٌ فَذاهِبٌ، إذا أرَدْتَ أنه ذاهِبٌ لا مَحالَةَ وأنه منه عَزِيمَةٌ.

وإِمَّا، بالكسر: في الجزاءِ، مُرَكَّبَةٌ من إن وما، وقد تُفْتَحُ، وقد تُبْدَلُ ميمُها الأُولى ياءً كقولِه:

«يالَيْتَمَا أُمُّنا شالَتْ نَعامَتُها *** إِيْما إلى جَنَّةٍ إِيْما إلى نارِ»

وقد تُحْذَفُ ما، كقولِهِ:

«سَقَتْهُ الرواعِدُ من صَيِّفٍ *** وإِنْ من خَرِيفٍ فَلَنْ يَعْدَما»

أي: إمَّا من صَيِّفٍ وإما من خَريفٍ. وتَرِدُ لمَعَانٍ: للشَّكِّ،

كجاءَني إِمَّا زيدٌ وإِمَّا عَمْرٌو، إذا لم يُعْلَمِ الجائي منهما، والإِبْهَامِ:

كـ {إِمَّا يُعَذِّبُهُم وإِمَّا يَتوبُ عليهم}، والتَّخييرِ: {إِمَّا أن تُعَذِّبَ وإِمَّا أن تَتَّخِذَ فيهم حُسْنًا}، والإِباحَةِ:

تَعَلَّمْ، إِمَّا فِقْهًا وإِمَّا نَحْوًا، ونازَعَ في هذا جَماعَةٌ،

وللتَّفْصيلِ: كـ {إِمَّا شاكِرًا وإِمَّا كَفُورًا}.

والأَمَمُ، محرَّكةً: القُرْبُ، واليَسِيرُ، والبَيِّنُ من الأَمْرِ،

كالمُؤَامِّ، والقَصْدُ، والوَسَطُ.

والمُؤامُّ: المُوافِقُ.

وأمَّهُمْ وـ بهم: تَقَدَّمَهُمْ، وهي: الإِمامةُ.

والإِمامُ: ما ائْتُمَّ به من رئيسٍ أو غيرِهِ

ج: إمامٌ، بِلَفْظ الواحِدِ وليسَ على حَدِّ عَدْلٍ لأَنَّهُم قالوا: إمامانِ، بَلْ جَمْعٌ مُكَسَّرٌ،

وأيِمَّةٌ، وأئِمَّةٌ: شاذٌّ،

و=: الخَيْطُ يمَدُّ على البِناء فَيُبْنَى، والطَّريقُ، وقَيِّمُ الأَمرِ المُصْلِحُ له، والقرآنُ، والنَّبيُّ، صلى الله عليه وسلم، والخليفَةُ، وقائِدُ الجُنْدِ، وما يَتَعَلَّمُهُ الغلام كُلَّ يومٍ، وما امْتُثِلَ عليه المِثالُ، والدَّليلَ، والحادي، وتِلْقاءُ القِبْلَةِ، والوَتَرُ، وخَشَبَةٌ يُسَوَّى عليها البناء.

وجَمْعُ آمٍّ، كصاحِبٍ وصِحَاب.

ومُحمدُ بنُ عبدِ الجَبَّارِ ومحمدُ بنُ إِسماعِيلَ البِسْطامِيُّ الإِماميَّانِ: محدِّثَانِ.

وهذا أيَمُّ منه وأوَمُّ: أحْسَنُ إمامَةً. وائْتَمَّ بالشيء وائْتَمَى به، على البَدَلِ.

وهُما أُمَّاكَ، أي: أبواكَ، أو أُمُّكَ وخالَتُكَ. وكأَميرٍ: الحَسَنُ القامَةِ.

القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م


86-القاموس المحيط (العين)

العَيْنُ: الباصِرَةُ، مُؤَنَّثَةٌ

ج: أعْيانٌ وأعْيُنٌ وعُيونٌ، ويُكْسَرُ

جج: أعْيُناتٌ، وأهلُ البَلَدِ، ويُحَرَّكُ، وأهلُ الدارِ، والإِصابَةُ بالعَيْنِ، ط والإِصابَةُ في العَيْن ط، والإِنْسانُ،

ومنه: ما بها عَيْنٌ، أي: أحَدٌ،

ود لهُذَيْلٍ، والجاسُوسُ، وجَرَيانُ الماءِ،

كالعَيَنَانِ، محركةً، والجِلْدَةُ التي يَقَعُ فيها البُنْدُقُ من القَوْسِ، والجَماعَةُ، ويُحَرَّكُ، وحاسَّةُ البَصَرِ، والحاضِرُ من كلِّ شيءٍ، وحَقيقَةُ القِبْلَةِ، وحَرْفُ هِجاءٍ حَلْقِيَّةٌ مَجْهورَةٌ، ويَنْبَغِي أنْ تُنْعَمَ إبانَتُهُ، ولا يُبالَغَ فيه فَيَؤُولُ إلى الاسْتِكْراهِ،

وعَيَّنَها: كَتَبَها، وخِيارُ الشيءِ، ودَوائرُ رَقيقَةٌ على الجِلْدِ، والدَّيْدَبانُ، والدِّينارُ، والذَّهَبُ، وذاتُ الشيءِ، والرِّبا، والسَّيِّدُ، والسَّحابُ من ناحِيَةِ القِبْلَةِ، أو ناحِيَةِ قِبْلَةِ العِراقِ، أو عن يَمِينِها، والشمسُ، أو شُعاعُها،

وهو صَديقُ عَيْنٍ، أي: ما دُمْتَ تَراهُ، وطائِرٌ، والعَتيدُ من المالِ، والعَيْبُ،

وع بِبِلادِ هُذَيْلٍ،

وة بالشامِ تَحْتَ جَبَلٍ اللُّكامِ،

وة باليَمَنِ بِمِخْلافِ سِنْحانَ، وكبيرُ القَوْمِ، والمالُ، ومَصَبُّ ماءِ القَناةِ، ومَطَرُ أيَّامٍ لا يُقْلِعُ، ومَفْجَرُ ماءِ الرَّكِيَّةِ، ومَنْظَرُ الرَّجُلِ، والمَيَلُ في المِيزانِ، والناحِيَةُ، ونِصْفُ دانِقٍ من سَبْعَةِ دَنانيرَ، والنَّظَرُ، ونَفْسُ الشيءِ، ونُقْرَةُ الرُّكْبَةِ،

وواحِدُ الأعْيَانِ، للإِخْوَةِ من أبٍ وأُمٍّ،

وهذه الأُخْوَّةُ تُسَمَّى: المُعايَنَةَ، ويَنْبُوعُ الماءِ

ج: أعْيُنٌ وعُيونٌ.

ونَظَرَتِ البلادُ بعَيْنٍ أو بعَيْنَيْنِ: طَلَعَ نَباتُها.

وأنتَ على عَيْنِي، أي: في الإِكْرامِ والحِفْظِ جميعًا.

وهو عَبْدُ عَيْنٍ، أي: كالعَبْدِ ما دامَ تَراهُ.

ورأسُ عَيْنٍ أو العَينِ: د بين حَرَّانَ ونَصيبينَ. وهو: رَسْعَنِيُّ.

وعَيْنُ شَمْسٍ: ة بمِصْرَ.

وعَيْنُ صَيْدٍ،

وعَيْنُ تَمْرٍ،

وعَيْنُ أنَّى: مَواضِعُ.

ورجلٌ مِعْيانٌ وعَيُونٌ: شديدُ الإِصابةِ بالعَيْنِ

ج: عِينٌ، بالكسر وككتُبٍ. وما أعْيَنَهُ.

وصَنَعَ ذلك على عَيْنٍ وعَيْنَيْنِ،

وعَمْدَ عَيْنٍ،

وعَمْدَ عَيْنَيْنِ، أي: تَعَمَّدَهُ بِجِدٍّ ويَقينٍ.

وهاهو عَرْضُ عَيْنٍ، أي: قريبٌ.

وكذا هو مِنِّي عَيْنُ عُنَّةَ.

ولقِيتُه أوَّلَ عَيْنٍ: أوَّلَ شيءٍ.

وتَعَيَّنَ الإِبِلَ واعْتانَها وأعانَها: اسْتَشْرَفَها ليَعِينَها.

ولقِيتُه عِيانًا، أي: مُعايَنَةً، لم يَشُكَّ في رُؤْيَته إياهُ.

ونَعِمَ الله بك عَيْنًا: أنْعَمَها.

وعَيِنَ، كفَرِحَ، عَيْنًا وعِينَةً، بالكسر: عَظُمَ سوادُ عَيْنِه في سَعَةٍ، فهو أعْيَنُ.

والعِينُ، بالكسر: بَقَرُ الوَحْشِ،

والأعْيَنُ: ثَوْرُهُ، ولا تَقُلْ: ثَوْرٌ أعْيَنُ.

وعُيونُ البَقَرِ: عِنَبٌ أسْوَدُ مُدَحْرَجٌ وإجَّاصٌ أسودُ.

والمُعَيَّنُ، كمُعَظَّمٍ: ثَوْبٌ في وشْيِهِ تَرابيعُ صِغارٌ كعُيونِ الوَحْشِ، وثَوْرٌ بين عَيْنَيْه سَوادٌ،

وفَحْلٌ من الثِّيرانِ م.

وبَعَثْنا عَيْنًا يَعْتانُنا،

وـ لَنا،

ويَعِينُنا عَيانةً: يأْتِينا بالخَبَرِ.

والمُعْتانُ: رائدُ القومِ.

وابْنا عِيانٍ، ككتابٍ: طائرانِ، أو خَطَّانِ يَخُطُّهُما العائفُ في الأرضِ،

ثم يقولُ: ابْنا عِيانٍ، أسْرِعَا البيانَ. وإذا عَلِمَ أن القامِرَ يفوزُ بِقِدْحِه، قيلَ: جَرَى ابْنا عِيانٍ.

والعِيانُ أيضًا: حديدةٌ في مَتاعِ الفَدَّانِ

ج: أعْيِنَةٌ وعُيُنٌ، بضمتين.

وماءٌ مَعْيونٌ ومَعِينٌ: ظاهِرٌ جارٍ على وجهِ الأرضِ.

وسِقاءٌ عَيِّنٌ، ككَيِّسٍ وتُفْتَحُ ياؤُه،

ومُتَعَيِّنٌ: سالَ ماؤُهُ، أو جديدٌ.

وعَيَّنَ: أخَذَ بالعِينةِ، بالكسر، أي: السَّلَفِ، أو أعْطَى بها،

وـ الشَّجَرُ: نَضِرَ، ونَوَّرَ،

وـ التاجِرُ: باعَ سِلْعَتَه بِثَمَنٍ إلى أجلٍ، ثم اشتراها منه بأقَلَّ من ذلك الثَّمَنِ،

وـ الحَرْبَ بَيْنَنا: أدارَها،

وـ اللُّؤْلُؤَةَ: ثَقَبَها،

وـ فلانًا: أخْبَرَهُ بِمَساويهِ في وجهِه،

وـ القِرْبَةَ: صَبَّ فيها الماءَ لتَنْسَدَّ عُيونُ الخُرَزِ.

والعِينةُ، بالكسر: السَّلَفُ، وخِيارُ المالِ، ومادَّةُ الحَرْبِ،

وـ من النَّعْجَةِ: ما حَوْل عَيْنَيْها.

وثَوْبُ عِينةٍ، مُضافةً: حَسَنُ المَرْآةِ.

والمَعانُ: المَنْزِلُ، ومَنْزِلَةٌ لحاجِّ الشامِ.

وعَيْنونُ، ويقالُ: عَيْنونَى: ة.

وعَيْنَيْنِ، بكسر العينِ وفتحِها، مُثَنًّى: جبلٌ بأُحُدٍ، قامَ عليه إبليسُ، عليه لَعْنَةُ الله تعالى، فَنادَى إِنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم، قد قُتِلَ،

وبفتح العين: ة بالبَحْرَيْنِ، منه خُلَيْدُ عَيْنَيْنِ.

وَعَيْنانِ: ع.

وعَيَّانُ، كجَيَّانَ: د.

وككتابةٍ: ع.

والعُيونُ، بالضم: د بالأنْدَلُسِ،

وة بالبَحْرَيْنِ. وكأَحْمَدَ وثُمامَة: حِصْنانِ باليمنِ.

والمَعِينةُ: ة.

والعَيْناءُ: الخَضْراءُ، والقِرْبَةُ المُتَهَيِّئَةُ للخَرْقِ، والنافِذَةُ من القوافِي، وبئْرٌ، وبالقَصْرِ: قُنَّةُ جَبَلِ ثَبِير، والصَّوابُ: بالمعجمةِ.

وذُو العَيْنِ: قَتادَةُ بنُ النّعْمانِ، رَدَّ رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم، عَيْنَهُ السائِلَةَ على وَجْهِهِ، فكانَتْ أصَحَّ عَيْنَيْهِ.

وذُو العَيْنَيْنِ: مُعَاوِيَةُ بنُ مالِكٍ، شاعِرٌ فارِسٌ.

وذُو العُيَيْنَتَيْنِ: الجاسوسُ.

وتَعَيَّنَ الرَّجُلُ: تَشَوَّهَ، وتأنَّى ليُصيبَ شيئًا بعَيْنِهِ،

وـ فُلانًا: رآهُ يَقينًا،

وـ عليه الشيءُ: لَزِمَهُ بعَيْنِهِ.

وأبو عَيْنانِ: جَدُّ نَهارِ بنِ تَوْسِعَةَ.

وعبدُ الله ابنُ أعْيَنَ، كأحمدَ: مُحَدِّثٌ.

وابنُ مَعينٍ: في م ع ن.

القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م


87-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (خلا)

(خلا) - قَولُه تَبارَك وتَعالَى: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ}.

هو تَفعَّلت من الخَلْوَة: أي خَلَت الأرضُ مِمَّا فيها.

- في حَديثِ الرُّؤْيا: "ألَيسَ كُلُّكم يَرَى القَمَر مُخلِيًا به".

يقال: خَلوتُ به ومَعَه وإليه، وأَخلَيتُ به. إذا انْفردْتُ به: أي يراه كُلُّكم مُنفَرِدًا، كقوله: "لا تُضَارُّون في رؤْيَتِه"

- وفي حديثِ أُمِّ حبِيبَةَ، رضي الله عنها: "لَستُ لك بمُخْلِيَةٍ"

: أي لم أَجِدْك خالِيًا من الأَزواج غَيرِي.

يقال: أَخليتُ: أي أَصبتُ خَلًا وخَلوةً، وخَلَا لكَ الشَّيءُ وأَخلَى، إذا أَمكنَك خَالِيًا، وأَخلَيتُ المكانَ: صادَفتُه خالِيًا، وليس من قَولِهم: امرأة مُخلِيَة: خَلَتْ من الزَّوج فهي عَزَبٌ، وكذلك رجل خَلِيّ: لا زوجَ له.

وفي حديث جابر، رضي الله عنه: "تزوَّجْتُ امرأةً قد خَلَا منها".

: أي أسَنَّت وتَخَلَّت من عُمرِها.

- في حديث ابن عُمَرَ، رضي الله عنهما: "الخَلِيَّةُ ثلاثٌ".

قال الأصْمَعيُّ: كان الرَّجلُ في الجاهِلِيَّة يقول للمَرْأَة: أنت خَلِيَّة. فكانت تُطَلَّق بِهَذه الكَلِمة، وقد بَقِي حُكمُها في الِإسلام إذا نَوَى بها الطَّلاقَ وَقَع، وأَصلُه ما ذَكرناه: أي لا زَوج لَكِ.

- في حديث تَحرِيم مَكَّة: "لا يُختَلَى خَلَاهَا".

: أي لا يُقطَع، والخَلَا مقصور: النَّبتُ الرَّقيق كله رَطْبًا، لأنه يُخلَى ويُخْتَلَى: أي يُقْطَع، فإذا يَبِس فهو حَشِيش، وأَخلَت الأَرضُ: أكثرت إنباتَ الخَلَا، والمِخْلاة من ذَلِك، لأنهم يَخْتَلون فيها والقِطعَة منها خَلاة، كالشُّهدة والجُبْنَة، من الشُّهد والجُبْن.

- في الحديث: "فاسْتَخلاه البُكَاء".

قال أبو عمر: هو بالخَاءِ المعجَمة، وبالحاء لا شيء. يقال: أَخلَى فلان على شرُبِ اللَّبن، إذا لم يأكُلْ غَيرَه.

- في حديث عمر: "أَنْتَ خَلِيَّة طالق".

هي النَّاقة تُخلَّى عن عِقالِها. وطَلَقَت من العِقال تَطلُق طَلْقًا، فهي طَالِق.

- في حديث ابنِ عُمَر: "كان يَخْتَلِي لفَرسِه".

: أي يجتَزُّ الخَلَا، وهو الرَّطْب، ولَامُه يَاءٌ، تقول: خَلَيْت الخَلَا.

المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م


88-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (غول)

(غول) - في حَديثِ الفِيلِ: "حِين أُتي به مَكَّة ضَربُوه بالمِغْول في رَأسِه"

وهي حَديدَةٌ دقِيقَة. وقال أبو عُبَيْد: هو سَوْط في جَوفِه سَيفٌ يَشُدُّه الفَاتِكُ على وَسَطه للغَوْلِ.

وقيل: هو سَيفٌ دقِيقٌ ماضٍ له قَفًا شِبْه مِشمَلٍ، نَصْلُه دَقيقٌ ماض.

- في حديث أَبي أَيُّوبَ: "كان لي تَمْرٌ في سَهْوَةٍ، فكانت الغُولُ تَجِيءُ فتَأْخُذ"

- وفي حديث آخر: "لا غُولَ"

قال الطَّحاوِيُّ: يُحتَمل أن يكون الغُولُ قد كان، ثم رَفَعه الله تَعالَى عن عِبادِه.

- في حديث قَيْسِ بنِ عَاصِم: "كنت أُغاوِلُهم"

: أي أُبادِرُهم بالغَارَةِ والشَرِّ؛ من غَالَه: أي أهلكه، وضعه مَوضِعَ المُغايَله، قال أبو عبيد: أُراهُ المُغَاوَرَة

المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م


89-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (قفع)

(قفع) - في حديث القاسم بنِ مُخَيْمرِة: "أنَّ غُلامًا مَر به فعَبَث به، فتَنَاولَه القاسِمُ، فقَفعَه قَفْعَةً شَدِيدةً"

: أي ضَرَبه. والمِقْفَعَةُ: خَشَبةٌ تُضْرَبُ بها الأَصَابع. فإمَّا أن يكُون قَفعَه بخَشَبَة، أو بِيَدِه، فَكانَت كالمِقْفَعَةِ، أو يكون من القَفْعِ. يقال: قَفَعه عَما أَرادَ: إذَا صَرفْهُ عنه.

المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م


90-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (قيل)

(قيل) - في حديث زيد بن عَمْرو بن نُفَيْل: "ما مُهاجِرٌ كمَن قال"

وفي رواية: "ما مُهَجِّر"

والتَّهْجِيرُ: السَّيْرُ في الهَاجِرةِ، والقَيلُولَة: النَّومُ فيها؛

: أي ليس المُتعَنّى كالمُسَتريح.

- في الحديث: "مَن أقالَ نَادِمًا "

: أي وَافَقَه على نَقْضِ البَيْع، وأَجابَه فيه. وقد تَقَايَلا: تَتَاركَا البَيْعَ وتَفَاسَخَا.

- في حَديثِ سَلْمانَ - رضي الله عنه -: "ابْنَا قَيْلَةَ "

يريد: الأَوسَ والخزرجَ: قَبيلَتي الأنصار، وقَيْلَة اسم أُمٍّ لهم؛ وهي بِنت كَاهِل

- في حديث ابن الزبير: "لا أسْتَقِيلُهَا أَبَدًا "

: أي لا أُقِيلُ هذهِ العَثْرةَ وِلا أَنْسَاها.

- في أوائل البُخارِي: " فكانَتْ منها نقِيَّة قَبِلَتْ الماءَ" بالباء.

وذُكِر عن بعضهم باليَاءِ [قَيَّلَت] وحُكِى عن جماعةٍ أنه باليَاءِ تَصْحِيف.

وقال ابنُ دُرَيْد: تَقَيَّل الماءُ في المكان المُنْخَفِض: اجْتَمع. والذي أورده البُخاري "فكان منها نَقِيَّة قَبِلَت المَاءَ"

وقال إسحاق: وكانت منها طائفة قَيَّلَتِ المَاءَ.

المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م


91-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (كيل)

(كيل) - قوله تعَالى: {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ}

: أي حِمْلَ بَعير.

- وقوله تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ}

: أي كالُوا لَهم، ولا يَجوزُ أن يَقِف على كالُوا حَتى يَصِلها بِهُم على هذا.

ومنهم مَن يَجعلُها توكيدًا لما كالُوا، فيجوز على هذا أن تَقِف عليه، والأوَّل أولى؛ لأَنّها لو كانت توكيدًا لكان في المُصحفِ أَلفٌ مكْتوبَةٌ، قيل: هي التي تُسمّى الألفُ الفاصِلَة.

- وقوله تعالى: {اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ}

يُقَال: اكْتلتُ من فُلانٍ، وعليه، إذَا أَخذتَ منه.

- وفي الحديث: "نَهَى عن المُكَايَلَةِ"

وهي المُقايَسَةُ بالقَولِ، تقول: له مثل مَا يقُول لكَ.

وقيل: هي التَّأخير. يُقالُ: كِلتُكَ دَينَك: أي أخَّرتُه عنك.

وقيل: هي أن تُباع الدَّارُ إلى جنْب دارِكَ، وأنتَ تريدُهَا، فتُؤخِّر ذلك، حتَّى يَستَوجِبَها المُشَترى، ثم يَأخذُ بالشُّفعَةِ.

- في الحديث: "المِكْيالُ مِكْيالُ أَهلِ المَدِينةِ، والمِيزَان مِيزانُ أهلِ مكّةَ"

قيل: إنّما هذا في نوع ما يتَعلَّق به أحكامُ الشرِيعَة في حُقوق الله عزَّ وجل دُون مَا يَتعَامل به النّاسُ في بِياعَتِهم.

فقولُه: "الوَزن وَزنُ أهل مَكَّةَ" يُريد: وَزْنَ الذهب والفِضَّةِ

خاصّةً دون غيرها.

ومعناه: أنَّ الوَزنَ الذي يتعلَّق به حَقُّ الزَّكاة في النقُود وَزْن مكَّةَ؛ لأنّ الدِّرهمَ البَعْلِىَّ ثمانيةُ دَوانِيق.

والطّبرىّ: أرْبَعَة. والذى هو من دَرَاهم الإسلام سِتَّةٌ وهو وَزن مَكَّة.

وأمَّا الدَّنانير فكانت تُحمَلُ من الرُّوم إلى أن ضَرَب عَبدُ الملك بنُ مرْوَان.

فأمَّا الأرْطالُ والأمْناءُ فللنَّاسِ فيها عاداتٌ مُختِلفة في البُلدان.

وأمَّا المِكْيال فهو الصَّاع الذي يتعلَّق به وُجوبُ الكَفَّارات وصَدَقَة الفِطر وتَقدير النفقات، وذلك مُقَدَّر بِكَيْلِ أهل المدينَةِ دون غيرها من البُلدان والله عزّ وجل أعلم.

المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م


92-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (لفت)

(لفت) - في الحديث: "لا تَتَزَوَّجَنّ لَفُوتًا "

: أي ذاتَ الولَد من زَوْج آخر، سُمِّيَت به؛ لأنّها لا تَزال تلْتَفِت إليه، وتَشْتَغِلُ به عن الزَّوْج.

واللَّفْتُ: صَرفُ الشَّىء عن وَجْهِه؛ وقد لفَتَه فالتَفتَ.

- وفي حديثٍ: "فكانَت مِنّى لفْتَةٌ "

: أي التفَاتَةٌ.

- في الحديث: "ثَنِيَّة لِفْتٍ"

وهي بَين مَكّةَ والمدينَة فيما أَحسِبُ

المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م


93-المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (نشف)

(نشف) - في حدِيثِ طَلْق: "قال لَنا: اكْسِرُوا بِيْعَتَكُم، وانْضَحُوا مكَانَها، واتَّخِذُوها مَسْجِدًا، قُلْنَا: البَلَدُ بَعيدٌ، والماءُ يَنْشَفُ، قال: فمُدّوهُ مِن الماءِ، فإنّه لَا يزِيدُهُ إلاّ طِيبًا"

أصْلُ النَّشْفِ: دُخُولُ الماءِ في الأرضِ والثَّوبِ.

يُقال: نَشِفَت الأرضُ الماءَ.

ومنه حدِيث أبى أيّوب - رضي الله عنه -: "فقُمتُ أنا وأُمُّ أيُّوبَ بقَطيفَةٍ ما لنا غَيرُها نُنَشِّفُ بها الماءَ".

- في حديث حذيفة - رضي الله عنه -: "أظَلَّتْكُم الفِتَنُ، تَرمى بالنِّشْفِ ثم التي تَلِيها تَرْمِى بالرَّضْفِ"

قال الجبَّانُ: النَّشفُ والنِّشفُ - بالكسر -: حَجَرٌ يُنَشّفُ به

الوَسَخُ مِن الرِّجْل وَغيرها. وقال غيره: حجَارَة مُضرّسَةٌ. وقال الأصمعىُّ: النشَفَةُ: حجارَةٌ سُوُد كأنها أُحْرِقتْ بالنّار، وقال غيرُه: حجَارَةٌ تَقَومُ على رَأسِ الماءِ؛ فمَعْنَاه: أن الأولى من الفِتَن لا تُؤَثِّرُ في أدْيان الناسِ لِخِفَّتِها، والتى بَعْدَها كَهَيْئَة حجَارَةٍ.

قد أُحْمِيَتْ بالنارِ، فكَانَت رَضْفًا، فهى أبلَغُ في أَديانِهم وأَثْلَمُ لأَبْدَانهم.

هذا إذا كان النَّشْفُ قَبل الرضْفِ، فإذا كان الرَّضْفُ قبلَ النشْفِ فالرّضف الحجارةُ المحماةُ، والنَّشْفُ السُّودُ، كأنها أُحرقَتْ، بالنارِ، فالأُولى أيضًا أخفُّ من الثانِيَةِ.

المجموع المغيث في غريبي القرآن-محمد بن عمر بن أحمد بن عمر بن محمد الأصبهاني المديني، أبو موسى-توفي: 581هـ/1185م


94-المعجم الاشتقاقي المؤصل (بوب)

(بوب): {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَال لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]

الباب: مدخل المكان، كباب البيت، والدار، والمدينة (1) "البَوْباة - بالفتح: الفلاة / المفازة الواسعة الملساء ".

° المعنى المحوري

لاستعمالات هذا التركيب هو: انفتاحٌ مع اتصالٍ دائم (2): كما أن الباب فتحةٌ توصل إلى ما كان محجوبًا، وهي تتيح الاتصال دائما،

وكما أن البَوْباة مفتوحةٌ مكشوفة واسعة أي دائمة الاتصال كأنما إلى غير نهاية (1). ثم إن كلمة باب تستعمل أيضًا لما تُسدُّ به تلك الفتحة، وذلك للمجاورة. ذكر الزَبيدي في [تاج] أنا الباب يُعْنَى به أيضًا ما يُغْلَق به ذلك المدخل من الخشب وغيره "اهـ وهو ما يتعلق به الفتح والإغلاق. ومِن معنوي هذا الانفتاح قيل: "بَوَّبَ الرجلُ - ض: حَمَل على العدو " (هجم واقتحم كأنه فتح بابًا في صف العدُوّ لنفسه، ولمن وراءه).

ومن (الاتصال) في المعنى المحوري: "البابة: الوجهُ من الشيء. وهذا مِن بابتي أي: من الوجه الذي أريده ويصلح لي " (يناسبني كأنه من جنس ما أريد). "والبابةُ كذلك: الخَصْلة " (= عادة معينة في مواجهة نوع من الأمور. فهي من نفس المعنى السابق كأن هذه العادة هي ما يناسبه عنده). والباب من أبواب الكتاب والعلم هو من هذا المعنى؛ لأنه "مسائل معدودة من جنس واحد... " [كشاف اصطلاحات الفنون 1/ 147]. وكذلك "البابة: الشرط... هذا بابة هذا أي: شرطه "المقصود هنا أنه يجرى به ومعه، وأنه لا يكون إلا هكذا. فكل هذا من الاتصال المعنوي أي المناسبة والمجانسة. وكذلك "البابيّة: الأعجوبة "هي من

المجانسة لكن في صورة تشابه والتباس.

وكل ما جاء من استعمالات هذا التركيب في القرآن الكريم هو: الباب: المدخل أو المنفذ إلى المكان، كما في آية الرأس {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [البقرة: 58] {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} [يوسف: 25] الخ.

أما في قوله تعالى {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} [النبأ: 19] فهذه تعني تمزقات وخروقا واسعة في أديم السماء، كما عُبِّر عنها بالشق، والفَطْر، والفرج، في قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق]، {انْفَطَرَتْ} [الانفطار] , {فُرِجَتْ} [المرسلات: 9]، وأيضًا {كُشِطَتْ} [التكوير: 11]. وفي قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44] جاء في [طب - شاكر 11/ 354 - 358] أخذًا مما في الآيتين السابقتين لهذه الآية وما فيها - أن الله سبحانه كان قد ابتلاهم بالبأْساء والضراء، وسدّ عنهم أبواب الرخاء والسلام؛ ليتضرعوا، ويُخلصوا العبادة له سبحانه. فلما نَسُوا، أي تركوا العمل بما ذُكِّروا به على ألْسِنَة الرسل، ولم يَتَضرعوا، ولم يَنْصاعوا ويؤمنوا = فتح اللهُ عليهم أبواب الرخاء والسعة استدراجًا. ونحو هذا في [قر 6/ 426]، لكنه عبّر عن فتح الأبواب بالإكثار من النعم والخيرات [وانظر كذلك قر 12/ 143]. وواضح أن فتح الأبواب هنا مجاز عن إطلاق النعم التي كانت محبوسة عنهم.

وأما قوله تعالى {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر: 11] فهو تصوير لغزارة انهمار المطر من السحاب.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


95-المعجم الاشتقاقي المؤصل (بثث بثبث)

(بثث - بثبث): {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]

تمر بثٌّ: منثورٌ متفرق ليس في جراب ولا وعاء. بثَّ الخيلَ في الغارة، وبَثَّ الصيادُ كلابه. وبثّ الخبرَ وأبثه فانْبثّ: فرّقه فتفرق ونشره. وانبثَّ الجرادُ في الأرض: انتشر. بَثْبَثَ الترابَ: استثارهُ وكشفه عما تحته.

° المعنى المحوري

نَشْر ما كان مجتمعًا منضمًّا وتفريقه (1): كالتمر وسائر

ما ذكر {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة: 5، 6]: غبارًا منتشرًا. {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة: 4]، {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة: 164] أي فرّق ونشر (وكلمة دابة تجمع الحيوان كله ومنه الطير) [قر 2/ 196 بتصرف]، ومثلها ما في [لقمان 10، الشورى 29، الجاثية 4]. {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]: فرّق ونشر في الأرض [قر 5/ 2] , وكأن كثيرًا صفة مؤكدة، فإن الكثرة من لوازم النشر في المعنى الأصلي. {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية: 16]: كثيرة منتشرة. والبَثّ: الحزن والغم والمرض الشديد المجتمع في النفس الذي (يضطر صاحبه من شدته إلى أن) يُفْضِي به إلى أصحابه. وهذا (الإفضاء) بث ونشر (والعامة تقول: فضفض). {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]: "حقيقة البث في اللغة: ما يَرِدُ على الإنسان من الأشياء المهلكة التي لا يتهيأ له أن يخفيها. وهو من بثثته، أي فرّقته، فسُميت المصيبة بثًّا مجازًا "اهـ [قر 9/ 251]. والخلاصة أن البثّ هنا هو الحزن المبثوث. وهو يشكو إلى الله، أي يرفع هذا الأمر أي سببه، أو أنه يشكو إلى الله أنه يبث ولا يستطيع أن يكظم، كأنما يطلب المعونة على الكظم.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


96-المعجم الاشتقاقي المؤصل (بسس بسبس)

(بسس - بسبس): {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة: 5]

البسيسة: أن يُلَتَّ (أي يُخْلَط) السَويق - أو الدقيق أو الأَقِطُ المطحون - بالسمن أو بالزيت أو بالماء ثم يؤكل ولا يطبخ. والبَسّ أشد من اللتّ بلَلًا. والبسيسة: خبز يُجفَّف ويُدَق (ويبس) ويُشرب [الأقط لبن رائب مطبوخ ومجفف، والسويق: دقيق الحن أو الشعير]. [كل ما لا يمضغ يمكن أن يُعبَّر عن تناوله بالشرب. ل شرب].

° المعنى المحوري

هو: تسيب (كُثَب) الدقاق الجافة بتسريب مائع (سمن أو نحوه) بينها ييسر ابتلاعها (1): كما وصف. (لنا ملحظ هنا هو أن الأصل هو

تسيّب مادة الشيء ذرات دقيقة مهما كثفت أو كثرت مع جفافها. والتسيب هكذا يحقق تصور أن تصير هباء منبثًا. كما قال تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا}. فكأن الخلط بالسمن أو الزيت أو الماء هو لتيسير البلع لا لإحداث التسيب. وقد فسروا {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} أيضًا بأنها "فُتَّتْ خُلِطت بالتُرْب "فتكون صيرورتها هباء مرحلة أخرى تالية.

وتسيب مادة الشيء يتأتى منه معنى الطواعية والانقياد والحركة الخفيفة، ومن هنا قالوا: "بَسَّ بالناقة وأبَسَّ بها: دعاها للحلب " (حاول إلانة صلابتها

بصوت لطيف)، وكذلك "بَسَسْتُ الناقة وأبْسَسْتُها: سُقْتُها سوقًا لطيفًا (السير حركة وانتقال فهو تسيب)، وبَسَسْتُ المالَ في البلاد فانبسّ: أرسلتُه فتفرق فيها، والرجلَ: طردتُه. وانبسّت الحيةُ: انسابت على وجه الأرض، والرجلُ: ذَهَب. وفي الحديث "يخرج قوم من المدينة... يُبِسّون أي يَسِيحون في الأرض (وقد أُرجع البس بالناقة وإبساسها إلى قولهم لها بَسْ). "وبَسّ فلان لفلان من يتخبّر له خبره ويأتيه به: دَسَّه إليه " (كل ذلك من الحركة الخفيفة اللطيفة أو السريعة وهي صورة من التسيب). والبَسْبَسة: السِعاية بين الناس (دسٌّ بلطف أو خفاء وهما من باب واحد) والبَسباس - بالفتح - من النبات: الطيبُ الريح (ينتشر ريحه ويتسرب لطيفًا).

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


97-المعجم الاشتقاقي المؤصل (دهن)

(دهن): {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9]

دُهن الزيتون: زيته. الدهين من النوق: البكيئة القليلة اللبن [ق]. وفَحْل دَهِين: لا يكاد يُلْقِح أصلًا. والدَهْنَاءُ: الفَلاة.. قليلة الماء. والمُدْهُن -بالضم: نُقْرة في الجَبَل يَسْتنقِع فيها الماءُ/ كلُّ موضعٍ حَفَره سَيْلٌ أو مَاءٌ واكفٌ في حَجَر.

° المعنى المحوري

مائع ذو لزوجة ما وأثر قوي ينشأ في مصدره بقلة أو عسر ويليَّن به. كما لا ينفذ الزيت من الزيتون إلا باعتصار شديد، وكالناقة البكيئة التي لا ينفذ منها لبن إلا بعسر وقلة. والفحل الذي لا يُلْقِحُ ماؤُه قيل

القيمة ولو كثر، والنقرة في الحجر، والفلاةُ ماؤها قليل. والماء الذي يغذو النبات واللبنُ والزيتُ وماءُ الفحل كلها موانعُ قويةُ الأثر. ومنه "الدهان -كرجال- من الأمطار: الضعيفة " (قليلة).

فمن معنى التليين: (الإدْهان: المقاربة في الكلام والتليين في القول " (كأن أصل ذلك احتواء مائع لزجٍ يجعل المُدْهن يلين كالمُلْبِن والمُتْمر والمُلْحم الذي عنده لبن وتمر ولحم) {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] أي لو تَلينُ فيلينون أي أنهم كانوا يريدون منه التساهل في أمر الدين وعدم أخذه بالجِدّ والصلابة التي رَأوْها منه. وكذلك أصل "المداهنة المصانعة "أي إلانَةُ الظاهر فقط فهي إيهام بوجود ودٍّ ورقة في الباطن نحو المداهَن، والأصل في صيغتها المشاركة والمبادلة. لكن تفسير الآية بها بعيد، فلا أظن أنهم كانوا يودون منه اللين الظاهري فحسْب.

وقوله تعالى: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} [الواقعة: 81]: أي مُكَذِّبون كافرون [قر 17/ 227] فهو من احتواء الباطن على مائع. والكذبُ والتكذيب رخاوة. كما أن الصدق صلابة (ينظر صدق، كذب).

ومن هذا قولهم "دَهَن غلامه: ضَرَبه. وكذا دَهَنه بالعصا (بمعنى ليّنه وروّضه وأزال تَصَلُّبه وعِصْيانه). والدِهن -بالكسر من الشجر: ما يُقْتَل به السباع " (يَفرى باطنها أو كأنه -يخفف عنهم حدة السباع).

أما قوله تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} أي هو محتوى فيها والمقصود زيت الزيتون. ولحال الدهن دهن الزيتون ودهن البان وما إليهما من حيث التميع أي عدم صلابتها، وربما من حيث اللون أيضًا وقع

التشبيه في قوله تعالى: {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37] [جمع دهن]. تمور كالدهن صافية [أبو عبيدة 2/ 245] وهذا كقوله تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} [المعارج: 8]، وكقوله تعالى: {فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة: 16].

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


98-المعجم الاشتقاقي المؤصل (ورد)

(ورد): {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]

وَرَدْتُ الماء: حضرتَه لتَشرب. ورد الماءَ وغيرهَ، وورد عليه (أي على الماء): أشرف عليه -دَخَلَه أَوْ لَمْ يَدْخُلْه [فلما وَرَدْنَ الماء]: بلغْنَ الماء. والموردة-بكسر الراء: مأتاة الماء، والجادّة. وكل من أتى مكانًا -منهلًا أو غيره- فقد وَرَدَه. ورد فلانٌ ورُودًا: حضر.

° المعنى المحوري

بلوغ الماء أو الشيء تدلِّيًا أو تقدُّمًا إليه: كورود الماء أي الوصول إليه وانتهاء السير عنده. وكالحضور في المكان. ومن ذلك قولهم "أرنبة (= طرف مارن الأنف) وَارِدةٌ: إذا كانت مقبلة على السَبَلة (= الشارب للرجل)، وشَعر وارد: مسترسل طويل: [وعلى المتنَيْن منها واردٌ] (يسترسل على متني الظهر)، وشجرة واردة الأغصان أي أغصانها متدلية إلى الأرض ". ومن ورود القوم الماء (وهو أمر بالغ القيمة عندهم) استعملوا لفظ الوِرد -بالكسر في ورود القوم (أي مصدرًا)، وفي الماء الذي يُورَد، وفي الإبل الواردة، وكذا في الطير ثم في الجيش، وفي يوم الورد (لأنه كان عندهم بتوقيت منظم) ثم في الحُمَّى التي تأتي لوقت منتظم، وفي النصيب من الماء (ثم في النصيب من القرآن).

ومما في القرآن من ورود الماء أو أصله كذلك: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} [القصص: 23]، {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ} [يوسف: 19]. وأما قوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود: 98]، وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء:

98 - 99]، فهذه وتلك لمعنى الدخول في جهنم قطعًا. ومأتاه اللغوي ثلاثة أمور: شمول المعنى اللغوي للدخول جوازًا، والسياق، واللزوم من بلوغها. وهناك أمر رابع هو ما يؤخذ مما قاله الزجاج في قوله تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم: 86]، قال: مُشاةً عطاشا "اه. [تاج]. وهو موفق [ينظر قر 11/ 152] فالثلاث للدخول. وأما قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] ففي [ل] أن الإجماع على أن الورود ليس بدخول (أي حتمًا)، وأُضيفُ سندًا ودعمًا لهذا: أن القَدْر المستيقن من معنى الاستعمالات اللغوية للتركيب هو مجرد الوصول إلى المكان. (والمستعمل لمعنى دخول الماء هو الشروع لا الورود)، كما أن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء: 101 - 102]، يقطع بعدم شمول الورود في آية [مريم 17] عباد الله الأخيار.

هذا والورود إلى الماء أو المكان تقدُّمٌ إليه وإقبال، ومن هنا استعمل التركيب في معنى الإقدام جاء في [تاج] "والوَرْد: الجريء من الرجال كالوارد وهو الجِريء المقبل على الشيء "اه. ويتأتى هذا أيضًا في تفسير قوله تعالى: {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ} [يوسف: 19] أي سابقهم " [تاج].

أما "الوَرْد -بالفتح: وهو نَوْر كل شجرة "فهو من معنى البلوغ المذكور أي مَجيء ثمرة الشجرة، لأن النَوْر هو مقدمة الثمرة. والعرب تستعمل الإتيان في هذا أيضًا فيقولون: "أتت النخلةُ والشجرةُ تأتو أَتْوًا -بالفتح، وإتاءً: طلع ثمرها أو بدا صلاحه. والإتاء -ككتاب: ما يخرج من أَكال الشجرة "- (مع ملاحظة تداخل معاني التركيبين وتلاقيها، وأنّ أتوت لغة في أتيت بمعنى جئت).

وقد اشتهر استعمال "الوَرْد "في الحوجم خاصة، للفته النظر بحمرته وطيب ريحه. وبه من هذه الحمرة قيل للأسد وَرْد، وللفرس وَرْد، ويجوز أن تكون تسميتها بذلك للإقدام. وفي قوله تعالى في وصف السماء {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37]، قيل صارت كلون الورد وهو لون غريب أن يعم السماء، وفي [ل] أنّ الوَرْد يتغير لونه "فيكون في الشتاء خلاف لونه في الصيف، وأراد أن السماء تتلون من الفزع الأكبر كما تتلون الدهان المختلفة ". ولكن جاء في [ل] أيضًا: "عشيةٌ ورَدْة إذا احمرّ أُفقها عند غرُوب الشمس وكذا عند طلوع الشمس وذلك علامة الجَدْب ". ويتأتى أن يكون هذا من بلوغ الشمس مغربها، وحُمِل عليه بلوغها مطلعها.

وأما الوريد في قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]، ففي [ل] أن الوريدين عرقان تحت الودجين. والودجان عرقان غليظان عن يمين ثُغْرة النحر ويسارها، والوريدان ينبضان أبدًا من الإنسان، وكل عرق ينبض فهو من الأوردة التي فيها مجرى الحياة " (بتصرف في ترتيب العبارة)، فهو من ورود الماء لأنه يسقى البدن بالدم وكأنه فعيل بمعنى مُفْعِل.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


99-المعجم الاشتقاقي المؤصل (زخرف)

(زخرف): {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} [الإسراء: 93]

زخارف الماء: طرائقه (الخطوط الدقاق المتوالية في أعلاه إذا كان ساكنًا وهبّت عليه الريح). والزخارف ما زُيّن من السفن. وفي [العين]: ما يُزَخْرَفُ به السفن [تاج].

° المعنى المحوري

مستطرف من دقاق كثيرة تعرو ظاهر الشيء نافذة منه تُسْتَمْلح لدقتها وانتظامها أو لغير ذلك - كطرائق الماء المذكورة. ومن ذلك الزخرف: الذهب، إما لأنه يُعَلَّق على ظاهر البدن للزينة، أو لأنه قد يوجد نثارًا لامعة على سطح الأرض بعدما يَقْشِرها ماءُ السيل بمروره قوقها. والوجه الأول هو المفهوم من كلامهم [في ل]. وجعل ابن سيده أصل التركيب الذهب "ثم سُمِّيَّ كلُّ زينة زُخْرُفًا، ثم شُبِّهَ كلُّ مموه مُزَوَّرٍ به ". "وفي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يدخل الكعبة حتى أمر بالزخرف فنُحِّىَ. قالوا: هي نُقوش وتصاوير (كانت) تُزَيَّن بها الكعبةُ فكانت بالذهب، فأمَر بها فحُتّتْ. ومنه قوله تعالى: {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا} [الزخرف: 34, 35] (ل). بينما في [قر 10/ 331] {بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} أي من ذهب وأصله الزينة، والمُزَخْرَفُ: المُزَيَّن. اهـ. وهذا أقرب إلى الأصل الذي قررناه. وإنما غلب على الذهب لأنه أَشْيعُ جواهر التَزَين والتمويه وأنفَسُها حيث يُطْلَى به ظاهر الشيء. {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا} [يونس: 24]: أي زينَتها من الأنوار والزَهَر من بين أحمر

وأصفر وأبيض [ل]. "وزُخْرُف القول: المموَّه المزين الظاهر ينخدع ويغتر بظاهره مَن لا يتدبر " {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112].

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


100-المعجم الاشتقاقي المؤصل (سرب)

(سرب): {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد: 10]

السَرَب - بالتحريك: القناة الجوفاء التي يدخل منها الماءُ الحائط، وجُحرُ الثعلب والأسد والضبع والذئب، وحَفيرٌ تحت الأرض. وقيل بيت تحت الأرض. والسَرْب - بالفتح: الحِرز.

° المعنى المحوري

نَفَقٌ أو تجوف دقيق يمتد متين الجوانب: كالقناة والجحر والحِرز الموصوفات. ومنه: "تسرَّب الوحش وانسرب في جُحره: دخل. وسَرِبَت العينُ والمزادة والماءُ (فرح): سالَ. خرج الماء سَرِبًا - كفرح: خرج من

عيون خُرَز القِرَب/ مرّ من عيون الخَرْز. (وهي سموم دقيقة في جلد القربة). "سَرَّب القربة - ض: صب فيها الماء لتبتلّ عيونُ الخرز فتنسد (هذا من باب معالجة الشيء، ويسميه اللغويون باب السلب). وسَرَبَ القِرْبة (نصر): خَرَزها (لتصير سَرَبًا، أي تجوُّفًا يُحْرِز ما يوضع فيه). والسَرَب - بالتحريك: المسلك في خفية {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا} [الكهف: 61] أي غاص في البحر (نفذ فيه ممتدًا كالسالك في سَرَب). وقيل تَجَمَّد الماءُ حيث سَلَك فبقى سَرَبًا [قر 11/ 12]، ولا ضرورة لهذا، فإن قبول الماء للنفاذ الممتد يجعله كالسَرَب "سَرَب الفحلُ وغيره: توجه للمرعى " (كأنما انسلّ من بين القطيع).

ومن الأصل: "السُرْبة - بالضم: جماعة ينسلّون من المعسكر (ينفذون من أثنائه في خفية كأنهم في نَفَق) فيُغِيرون ويَرْجعون ". (وكذلك كل ما خرج في خفية من مكان أو من بين جماعة).

ومن ذلك الأصل استعمل التركيب في الدقيق الممتد شأن ما يسرب في نفق "والسِرْب - بالكسر: القطيع من الظباء والبقر والشاء والنساء والطير وكذلك السُربة - بالضم " (جماعة تسير متضامة في خط طولي مستو. وانظر ثعب هنا) "السرب - بالفتح وبالتحريك وبالكسر: المَسْلَك والطريق ".

وفي قوله تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد: 10] فُسِّر السارب بالمتوارى أي الداخل سَرَبًا، وبالذاهب على وجهه في الأرض. والأول واضح، ووجه الثاني أن الانفراد دقة والتمادي امتداد. كما فسِّر بالظاهر أو الظاهر في الطرقات، وهو استنتاج من المقابلة، ولكن هذا يضاد معنى التركيب بلا بينة، فلا يقبل بهذا

الإطلاق في معنى الظهور. وقد جاء ابن عطية بشاهد للسارب بمعنى المتصرف هنا وهنا، وهذا جيد ويؤخذ من الامتداد مع الخفاء في الأصل، أي لكون المتصرف هنا مرة وهناك أخرى، فلا يُضْبَط كأنه خفى. وهو أمكن في مقابلة المستخفي بالليل، لأن هذا يسكن والظهور لازم للمتصرف بالنهار، فتكون المقابلة بين سكون وخفاء من ناحية، وتصرف وظهور من أخرى [ينظر ابن عطية وقر 9/ 290].

والسراب الذي يجرى على وجه الأرض (في المفاوز يراه المسافر من بعيد) كأنه الماء {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور: 39]، {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ: 20] من جَرَيانه وامتداده في جوف الأفق بعيدًا لا يُنال، كشأن ما هو في سَرب؛ فهو عربيّ. وزعم تعريبه عن السنسكريتية - كما في "فلسفة اللغة العربية "مثلًا - لا سَنَدَ له في ضوء ما سبق. وليس في القرآن من التركيب إلا (السَرَب) و (السراب) و (السارب) المذكورات.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


101-المعجم الاشتقاقي المؤصل (سفن)

(سفن): {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 15]

السَفَن - بالتحريك وكمِنْجَل: ما يُنحت به الشيء من قَدُوم أو نحوه. والسفَن - بالتحريك: حجر يُنحت به ويليَّن (= يَنعَّم)، وقطعة خَشْناء من جلدِ ضبٍّ أو جلد سمكة، يُسحج بها القِدْح حتى تذهب عنه آثار المِبراة. سَفَن الشيء (ضرب): قشره، وسَفَنت الريحُ التراب عن وجه الأرض.

° المعنى المحوري

النحت من ظاهر الشيء باتجاه باطنه للتسوية، أو لصنع فجوة في ذلك الظاهر: كنحت القدوم جِرْمَ الخشب، وتسوية ظاهر القِدْح بالسفَن (: السنفرة) وكشفِ التراب عن وجه الأرض.

ومنه: "السفينة؛ لأنها تقشر وجه الماء (تغوص فيه وتزيحه حين جريها). وعلى هذا فلفظ سفينة فعيل بمعنى فاعل، أو لأنها خشب نُحت وصُنع " [ل] (فتكون بمعنى مفعول) [ل] وهذا الأخير أقرب وأولى؛ إذ إن من السفن البدائية ما كان يُصنع بنحت فجوة مستطيلة في وَجْه من جذع شجرة؛ فيصير الجذع بذلك كالقارب يجلس راكبه في هذه الفجوة المستطيلة. ويسمى بالإنجليزية Canoe وقد كاد يقول هذا في [ل]، إذ قال: "ويكون (لفظ السفينة) مأخوذًا من السَفَن، وهو الفأس التي يَنحت بها النجّار "ثم قال: "والسَفَن - محركة: الفأس العظيمة/ قدوم تُقشَر به الأجذاع ". {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79].

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


102-المعجم الاشتقاقي المؤصل (سكك)

(سكك): السَكَك - محركة: صِغَرُ قُوفِ الأذن وضِيقُ الصِماخ. والنعامُ كلها سُكّ. وبئر سَكّ - بالفتح والضم: ضيقة الخرْق من أعلاها إلى أسفلها. والسُكّ - بالضم: جُحْر العقرب والعنكبوت.

° المعنى المحوري

تضايق بضبط شديد في المنفذ الممتد (المستقيم) (1):

كالأذن الضيقة الصِماخ، وكالبئر الضيقة، وكلاهما ممتد. وجُحر العقرب والعنكبوت كذلك. ومن ذلك: السِكَّة: السطر المصطف من الشجر والنخيل (تضايق ما بين كل نخلة وتاليتها مع انضباط وامتداد). والسِكّة: الزُقّاق (لاصطفاف الدُور في جانبيه مع ضيقه كذلك)، والسِكّة: الطريق المستوي، وبه سُميت سِكَك البريد (مرسومة محددة فكانت مستقيمة منضبطة والمحدَّد ضيّق). وكذلك السِكّة النقدية (الاسطمبة) المنقوشة التي يُصب فيها الذهب والفضة الذائبان وتُسك عليهما، فينطبعان ويجمدان على ذلك دنانير أو دراهم. (لُحظ فيها ضيق فراغها وإحكامُها وأنها دائمة. امتداد زمني).

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


103-المعجم الاشتقاقي المؤصل (سكن)

(سكن): {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 13]

السِكِّين: المُدْية. والسُكْن - بالضم: القوت.

° المعنى المحوري

استقرار في جوفِ حيِّز أو باطن: كالقُوت في الجوف، وكهمود ما يُذْبح بالسكين في مكانه: {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا} [يوسف: 31]. ومنه: "السَكَن (محركة وكمَقْعَد ومجلس): البيتُ والمنزلُ (يستقر الساكن في جوفه) والسَكْن - بالفتح: أَهل الدار (الساكنون). وسكن بالمكان (قعد): أقام " (استقر في جوفه)، {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [إبراهيم: 45]. ومنه: "السَكِنَة - كفرِحة: مَقَرُّ الرأس من العنق (استقرار). والسَكَن - محركة: النار " (الأقرب أن تسميتها بهذا لأنها تساعد على الاستقرار والإقامة، لأن بها يُعَدّ الطعام ويُستدفأ ويستضاء. وقد يُنظر إلى سكونها في الزَنْد وأنها تستخرج منه انظر: نور - ورى). ومنه: "سكن الحر والريح والبرد: هدأ وسكن " (فلا يتحرك) {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ} [الشورى: 33]. ومن هذا "السكون ضد الحركة ": ماديًّا: ما في [الأنعام: 13، 96، المؤمنون 18 (إقرار في الأرض) الفرقان: 45، النمل: 86، القصص: 72، معنويًّا: التوبة: 103، الأعراف: 189، الروم: 21].

والسَكِينة: الدَعَةُ والوَقَار. سكن: هدأ ووَدعَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 4 ومثله ما في 18، 26، البقرة: 248، التوبة: 26، 40]. وسَكَن الرجل وأسْكَن وتمسكن: صار مسكينًا (كما يقال: تطامن وخَشَع، كأنه انخفض في جوف استقر فيه) {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} [البقرة: 61 ومثلها ما في آل عمران: 112] (والمسكين من هذا، أى القارّ الصابر على ما هو فيه لا يجاهد للتخلص منه إما للتسليم لصاحب الأمر سبحانه، أو لسبب عنده. فهو

مِفْعيل من: سَكَن، كالمِنْطيق. ولذا يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم أَحْيني مسكينًا "أي مُخْبِتًا مطمئنًا. وقد استعاذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الفقر: فلا يكون الفقر من صلب معنى المسكنة. وقد يكون المسكين مُقلًّا أو مكثرًا، والأصل فيه شدة القرار ويصدق هذا بعدم التصرف والاحتيال). فمن المساكين الأغنياءِ ولكنهم ضعاف {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79] ومن الفقراء {أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} [القلم: 24] أي لطلب الصدقة. ومن أجل أن المسكنة لا تحمل معنى الفقر ضرورة جاء التخصيص في قوله تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] ولم يجتمع الفقير والمسكين في آية واحدة إلا في آية الصدقات. ومما لا ينبغي إغفاله أن القرآن الكريم لم يذكر لفظ الفقير بين المتصدَّق عليهم عند الحض على الصدقة إلا في ثلاثة مواضع {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28، والبقرة: 271، والتوبة: 60]، في حين أنه ذكر المسكين في تسعة عشر موضعًا، كما أن آية {أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} [القلم: 24] تُثبت وقوع التسول من المساكين (وهذا من العجز وقلة الحيلة) ولم أجد مثل ذلك للفقير. الخلاصة أن الملحظ في المسكين هو شدة القرار للتسليم أو لقلة الحيلة والعجز ونحوهما، واليهود {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} [البقرة: 61] وهم أكثر أهل الأرض مالًا؛ فليس الخلو من المال من أصل معنى المسكنة. وأما الفقير فهو أصلًا الخالي من المال، وقد تكون عنده صلابة السعي والكدح، وإن بقي في حاجة إلى الصدقة؛ لأن حاجاته أكثر مما يكسبه. أما المسكين ففيه استكانة واستسلام. وفي الحديث الشريف: "ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان،

وإنما المسكين الذي لا يَسأل ولا يُفْطَن له فيُعْطَى [ل] فعدم السؤال في هذه الحال من المبالغة في العجْز وقلة الحيلة ".

والذي في القرآن من التركيب هو (السكّين)، و (السكون) ضد الحركة، و (السكينة)، و (المسكنة) وقد حصرناهن ولم يبق إلا كلمة (مسكين) وجمعها وهي واضحة. وسائر كلمات التركيب بمعنى السَكَن الاستقرار في المساكن وهي البيوت ونحوها.

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


104-المعجم الاشتقاقي المؤصل (فطر)

(فطر): {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79]

"فَطَر نابُ البعير (نصر)؛ شَقَّ اللحْمَ وطَلَع. وفطَر البئرَ: ابتدأ حفرها، والناقةَ: حَلَبها بأطراف أصابعه. والتَفَاطِير: بَثْرٌ يَخْرُج في وجه الغلام والجارية. والفُطْر -بالضم: جِنْسٌ من الكمء أبيضُ عِظَام، واللبن ساعة يُحْلبُ، والعنب إذا بدت رءوسه. والتفاطير: أول نبات الوسمي [تاج].

° المعنى المحوري

خروج الشيء أو نفاذه أول أمره شاقًّا ما فوقه بضغط أو بما له معناه: كطلوع الناب، وبدء البئر، والبثور، والعنب، والكمأة، ونبات الوسمي، وكلها فيه الشق وقيد الأَوّلية. وصورة الحلب تعطي الشق، والضغط في الحلب صريح، وفي المبتدآت مع القلة متوهَّم.

ومن مراعاة الأوّلية أيضًا حَيْسٌ فَطير: أي طَرِيّ قريب حديث العمل. وفطرت العجين والطين: وهو أن تَعجِنه ثم تختبزه من ساعته (أي دون تخمير). وفَطَر الجِلد: لم يُرْوِه من دباغ، وسوط فطير: مُحَرَّم لم يجوّد دباغه "" (الأخيران كأنهما لم يدبغا - كما جاء عن الأول في [التاج] فهما على حالتهما الأولى."

ومن الشق وحده "انفطر الثوب وتفطّر: انشق. وتفطّرت قدماه: انشقتا {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار: 1] كما قال: {انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} [النبأ: 19]، {فُرِجَتْ} [المرسلات: 9]، {تَكَادُ

السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [مريم: 90]. وبمعناه ما في [الشورى: 5، الملك: 3، المزمل: 18] من ألفاظ (فطر) بمعناها هذا.

ومن الأولية البدء يأتي معنى الخلق، لأنه بدء وجود، كما أن الخلق يتأتى من الشق: كان المخلوق يشق الحيّز والظرف فيظهر فيه "فطر اللَّه الخلق: خلقهم وبدأهم " {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، الحالة والهيئة التي فُطِروا عليها من الإيمان به وحده. وسائر ما في القرآن من مفردات التركيب -عدا ما أسلفناه بمعنى الشق- فهو بمعنى الخلق هذا.

وأما "أفطر الصائمُ وفَطَر: إذا تناول الطعام والشراب " (فهو من الأولية من حيث إن الإفطار هذا هو أول شيء يتناوله أيًّا كان بعد بقاء اليوم كله بلا طعام ولا شراب).

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


105-المعجم الاشتقاقي المؤصل (مهل)

(مهل): {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيدًا} [الطارق: 17]

"المُهْل -بالضم: كلُّ فِلِزّ أُذِيبَ (والفِلِزّ: جواهر الأرض من ذهب وفضة

ونُحَاس) ما ذاب من صُفْر أو حديد. والمُهْل والمُهْلة -بالضم: ضرب من القَطِران ماهِيٌّ رقيقٌ يشبه الزيت وبضرب إلى الصفرة من مَهَاوَيهِ وهو دَسم تُدْهَن به الإبل في الشتاء، والقَطِران الخاثر لا يُهْنَأُ به. ومَهَلْتُ البعير إذا طَلَيتَه بالخَضْخاض (ضربٌ من النِفْط أسود دسم رقيق لا خثورة فيه) والمُهْلُ أيضًا: الصديد والقيح، ودُرْدي الزيت."

° المعنى المحوري

تسيبٌ وتميع لما هو في الأصل مادة متينة غير مشوبة. كذائب الفضة والصُفْر إلخ، وكذلك القطران والنفط، وكدُرْدِي الزَيت وكالصديد والقيح. كلها سائلة مع متانة أصولها. {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} [المعارج: 8]، (المهل: ذائب الفِلِزّ وقد شُرح، وهذا كما قال تعالى {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} [الطور: 9]، {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37]، {فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة: 16])، {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوي الْوُجُوهَ} [الكهف: 29]، {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان: 45]، فالمُهْل هنا ذوب جواهر الأرض ونحوها خاصة لأنه المتصف بالحرارة البالغة درجةَ إذابة الفضة والحديد، ولا يظل مُهْلًا إلا وهو في تلك الدرجة. وقد سئل ابن مسعود عن قوله تعالى: {كَالْمُهْلِ يَشْوي الْوُجُوهَ} فدعا بفضة فأذابها فجعلت تمَيَّعُ وَتَلوَّن فقال: هذا من أشبه ما أنتم راءون بالمهل " [ل 156].

ومن التميع يؤخذ معنى التراخي "المَهَلُ -بالفتح والتحريك، والمُهلة- بالضم: السَكِينة والتُؤَدَةُ والرِفْق والتباطؤ. وأمْهَلَه: أَنْظَره ورَفَق به، ولم يَعْجَل عليه. ومَهَّله- ض: أَجَّلَه. {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيدًا} [الطارق: 17]، ومَهَلَت الغَنَم: رَعَتْ بالليل أو بالنهار على مَهَلِها ". كما يؤخذ معنى الامتداده

ومنه "المُتْمهِلّ: الرجلُ الطويل المعتدل المنتصب "عُنُقٌ مُتْمَهِل: معتدل منتصب "وقوله: [لعمري لقد أمهلتَ في نهي خالد] أي بالغتَ في نهيه كأنه يقول استمررتَ ووقفتَ نفسك عليه حينًا.

ومن ملحظ التسيب إلى حد ما في الأصل جاء معنى السُرْعة والسبق إذ السرعة فيها تسيب. "الماهل: السريع المتقدم وهو ذو مَهل أي ذو تقدم في الخير ولا يقال في الشر. وأخذ عليه المُهلة- بالضم: إذا تقدمه في سن أو أدب ". "مَهَلُ الرجل- محركة: أسْلافه الذين يتقدمونه ".

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


106-المعجم الاشتقاقي المؤصل (نسف)

(نسف): {لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه: 97]

النِسْفة -بالكسر: من حجارة الحَرَّة تكون نَخِرة ذات نَخاريب يُنْسَف بها الوَسَخ. وناقة نَسُوف تَنْسِفُ الترابَ في عَدْوها. نَسَفَتْ الريح التراب عن وجه الأرض: سَلَبته. ونَسَف البعيرُ الكَلأَ: اقْتَلعه بأصله. ونَسَفْت البناء وانتسفته: استأصلته / قَلَعْته. ونَسَف الطعام: نَفَضَه / غَرْبله. والمِنسفة آلةٌ يُقْلَعُ بها البناء، والغِرْبالُ.

° المعنى المحوري

قَلْع الشيء من أصله أو من أثناء مَقَرّه مع إبعاده - كالذي ذهب من نخاريب تلك الحجارة النَخِرَة، وكنسف التراب، وقَلْع الكَلأ والبناء. ومنه ما في آية التركيب {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه: 105, ومثلها ما في المرسلات: 10]: تُنْقَض فيزول تماسكها وتصير كما قال تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج: 9]. وفي آية أخرى {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة: 5, 6].

وفي {لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} [طه: 97] الفعل الثلاثي (حرق) ومضعفه يستعملان للإحراق بالنار، وللحكّ بالمبرد. فعلى القول بأن العجل الذي عبدوه كان حيًّا حقيقة يكون الإحراق بالنار ويكون النسف لرماده، وإن كان جمادا كان التحريق بالمبرد ثم نسف ترابه. [ينظر بحر 6/ 257].

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


107-المعجم الاشتقاقي المؤصل (هو هي)

(هو- هي): {اللَّهُ لَا إِلَهَ إلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2]

(لم ترد هنا استعمالات حسية).

وبالنظر إلى ما ورد في (هوه) و (هيه) و (هوو) و (هوى) يتبين أساس تعبير الكلمتن عن ضميري الغائب الذي لا تدركه الحواس العادية كالهواء في الحجرة وكل فَجْوة لا تُشْعر به. ولعله لأن الضم والاشتمال في الواو أقوى منه في الياء كانت الواو للمذكر والياء للمؤنث، والكسر والياء مستعملان في المؤنث، والياء في التصغير، وهو من باب ضعف المؤنث. وفي الميم تعبير عن التضام، وهو يتمثل هنا في التجمع فكانت (هما وهم) للجمع (والتثنية من الجمع). وفي النون امتداد جوفي مع لطف أو رقة، ومن هنا عبرت عن جمع الإناث في (هُنّ).

وعن استعمال الضمير (هو) عائدًا على المولى عزَّ وجلَّ يظر [التفسير الكبير للفخر الرازي. (الفصل 9 من الباب 7 من كتاب 2 في مباحث البسملة) الغد العربي مجـ 1/ 190].

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


108-المعجم الاشتقاقي المؤصل (هبو)

(هبو): {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة: 6]

الهَبَاء: دُقاقُ التراب الذي تُطِيرُه الريحُ أو يرتفع من تحت سنابك الخيل / غُبارٌ شبهُ الدخان ساطعٌ في الهواء / يَعْلو الوجوهَ والجلودَ والثياب. والهَبْوة - بالفتح: الغَبَرة.

° المعنى المحوري

مفارقةُ التراب (ونحوه مما هو دقيقٌ أو خفيفٌ) مقرَّه بسطوع وانتشار: كالغبار كما في آية التركيب، وكما في {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23].

ومن معنويه مع لحظ اختلال الهباء: "هَبَا: مَاتَ، فرَّ ".

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


109-المعجم الجغرافي للسعودية (فيد)

فيد: ـ بفتح الفاء وإسكان الياء المثناة التحتية والدال مهملة ـ من أقدم القرى وأشهرها، ولقدمها تمحّل ابن الكلبي والزّجاجيّ أنها سميت بفائد أو (فيد) ابن حام من بني ـ عمليق وقال غيرهما: إنما سميت فيد لان من حولها يستفيد منها. وقد وردت في الشعر القديم غير مصروفة قال لبيد:

«مرّيّة حلّت بفيد وجاورت ***أهل العراق فأين منك مرامها؟»

وقال زهير بن أبي سلمى: ـ

«ثم استمرّوا وقالوا: إنّ مشربكم ***ماء بشرقيّ سلمى: فيد أوركك »

وكانت فيد من بلاد بني نبهان من طيّء ومعهم اخلاط غيرهم في القرية، ولكونها في بلاد بني نبهان أقطعها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيد الخيل النبهاني وكتب له كتابا بذلك وقال له: «قد أقطعتك فيدا وما حازت». وورد في «تاريخ ابن جرير»: وأقطعه فيد وأرضين معه). وبقي بنو نبهان هم أهلها إلى القرن الخامس الهجري وقد يمتدّ زمنهم إلى ما بعد هذا ولكن لا تسعفنا النصوص التي اطلعنا عليها

وكان بفيد ثلاث عيون: عين النخل احتفرها عثمان والأخرى نعرف بالحارة في وسط الحصن والسوق احتفرها المنصور، والباردة خارج المنزل على الطريق حفرها المهدي. وقال الهجريّ: أول من حفر في فيد في الاسلام أبو الديلم مولى يزيد بن عمر بن هبيرة، فاحتفر العين التي هي اليوم قائمة أساحها وغرس عليها فكانت بيده حتى قام بنو العباس فقبضوها من يده. قال السمهوديّ: وكأنه لم يقف على ما ذكره الأسديّ من عين عثمان. ووصف فيد صاحب «المناسك» في القرن الثالث فقال: (وبفيد قصر للسلطان وبساتين وحصون بعضها خربة، ومسجد جامع، ومنبر وبها بركة مربعة وثلاث عيون، وآبار ليست بالعذبة، فمن خيارها بئر تعرف بمسجد الملاقبين، وهي بئر عبد الصمد وبئر الفضل بن الربيع وبئر عمر بن فرج وبئر عمران بن عمر، وبئر تعرف بالطرفانية وثلاث في العلافين، وبئر تعرف بوهيب.. وعلى مقدار ميل من فيد على غير الطريق يسرة آبار كثيرة، ماء طيب ونخل ومزارع، وبناء خرب يقال له عزيزة؟

وقال في «الروض المعطار»: وفيها مات وكيع بن الجراح منصرفا من الحج سنة 197. وبفيد نزل سعد بن أبي وقاص رضي‌الله‌عنه لما وجهه عمر رضي‌الله‌عنه بالجيوش لحرب العراق فأقام بها شهرا، وارتفع بالناس إلى زرود.

وقال الجزيرىّ في «درر الفوائد المنظمة»: في سنة 412 حج بالناس عمر بن مسلم بن محمد بن عبد الله العلويّ وحج ركب العراق بعد انقطاعه، وكان في ركب كبير حافل، فلما بلغوا فيد حصرهم العرب، فبذل لهم خمسة آلاف دينار فلم يقنعوا، وكان مقدمهم رجلا يقال له حماد بن عديّ من بني نبهان وكان جبارا فركب فرسه وعليه درعه وسلاحه، وجال جولة وكان في جماعة من السّمرقنديّين شابّ أرمى خلق الله بالنّبل، يعرف بابن عفان، فرماه بسهم فوصل إلى قلبه فمات وتفرق أصحابه وسلم الحاج فحجوا وعادوا سالمين.

وقال الهجريّ: التقط أناس من بني سلام ومعهم نفر من طيء يفيد؟؟؟ ركيّين جاهليتين في ولاية بني مروان.

واشتهرت فيد بأمرين: أحدهما إضافتها إلى حمى كان من أشهر الأحماء، يقال إن أول من حماه عثمان بن عفان رضى الله عنه وتجد تحديد هذا الحمى في كتاب الهجري. والامر الثاني وقوعها في منتصف طريق الحج العراقي من بغداد والكوفة.

ووصفها ياقوت: ـ في القرن السابع الهجريّ ـ فقال: فيد بليدة في نصف طريق مكة من الكوفة عامرة إلى الآن، يودع الحاجّ فيها أزوادهم، وما يثقل من أمتعتهم عند أهلها، فإذا رجعوا أخذوا أزوادهم ووهبوا لمن أودعوها شيئا من ذلك، وهم مغوثة للحاج، في مثل ذلك الموضع المنقطع، ومعيشة أهلها من ادخار العلوفة طول العام، إلى أن يقدم الحاج، فيبيعونه عليهم.

ونقل عن السّكونيّ أنها أثلاث: ثلث للعمريين، وثلث لآل أبي سلامة من همدان وثلث لنبهان من طيّء. انتهى.

ولوقوعها في طريق الحج عني المتقدمون بحفر الآبار فيها.

ووصفها ابن بطوطة فى رحلته وقد مرّ بها سنة 727 بقوله: ثمّ أسرينا ليلا ـ من وادى الكروش ولا ماء به ـ وصبّحنا حصن فيد، وهو حصن كبير في بسيط من الأرض، يدور به سور، وعليه ربض، وساكنوه عرب يتعيّشون مع الحاج فى البيع والتجارة، وهناك يترك الحجاج بعض أزوادهم حين وصولهم من العراق إلى مكة، فإذا عادوا وجدوه. وهو نصف الطريق من مكة إلى بغداد، ومنه إلى الكوفة مسيرة اثني عشر يوما، فى طريق سهل به المياه فى المصانع، ومن عادة الركب أن يدخلوا هذا الموضع على تعبئة وأهبة للحرب إرهابا للعرب المجتمعين هنا لك، وقطعا لأطماعهم عن الركب.

وهناك لقينا أميري العرب وهما فيّاض وحيار وهما ابنا الأمير مهنّا بن عيسى، ومعهما من خيل العرب ورجالهم من لا يحصون كثرة ـ ـ فظهر منهما المحافظة على الحاج والرحال، والحوطة عليهم، وأتى العرب بالجمال والغنم فاشترى منهم الناس ما قدروا عليه. انتهى

ومن الطرف المتعلقة بها ما نقله صاحب «التاج» عن شيخه: رأيت في كتب الامثال، أنه يوجد بها كعك يضرب به المثل، ونظمه شيخ الأدباء مالك بن المرحّل في «نظم الفصيح» فقال:

«وتلك فيد قرية، والمثل ***في كعك فيد سائر لا يجهل »

وتقع فيد في أرض من أكرم نجد في فلاة بين أسد وطيء في الجاهلية. شرق جبل يدعى الصعانين، الواقع جنوب جبل سلمى الشرقي (بقرب الدرجة 30؟ ـ 42؟ طولا و 10؟ ـ 27؟ عرضا شماليا تقريبا).

وقد وصف موزل قرية فيد عندما مر بها سنة 1915 م فقال: وقرية فيد لقبيلة أسلم، وهي تتألف من ثلاثين كوخا، كان يقطن أكثرها أفراد من قبيلة تميم، وكان زعيمهم إبّان زيارتنا يدعى ناصر. وقد مرت فيد بتغير كبير عندما بدأ الحجاج السفر بطريق حايل، وعندما اتخذت القوافل الطريق المار بواحة العدوة وذلك قبل القرن السابع عشر الميلادي.

كما كتب فصلا ضافيا في تحديد حماها وذكر تاريخها القديم عول فيه على «معجم ما استعجم» وأصله من كلام الهجري كما في كتاب «وفاء الوفاء» للسمهودي.

وقال ساجر الرّفديّ من السويلمات من عنزة يردّ على راشد بن عمر الأسعديّ من أهل بقعاء:

«والّا يعسفك عسف أهل فيد للثّور***يا زين مشي مطارد بالعساف »

وذلك أن أهل فيد يمتهنون الفلاحة، ويعسفون البقر للسقي عليها وفيد الآن قرية كبيرة، يقارب عدد سكانها ألف نسمة، نصفهم بدو رحل، وفيها مدرسة عدد تلاميذها 84.

والمسافة بين فيد وحائل تقارب مئة كيل.

وبين فيد والأجفر 72 كيلا. ومن فيد إلى توز (التوزى) 64 كيلا من فيد إلى القرنين ـ وليس القرنتين ولا القريتين ـ كما فى كتاب ابن خرداذبه و «المناسك» ـ 36 كيلا والقرنان تلال صخرية على ما ذكر موزل. وذكر ياقوت أن بين الاجفر وفيد بركة وقصرا يدعى القرائن وكذا جاء في كتاب «المناسك» وحدد المسافة بينها وبين فيد ب 12 أو ـ؟؟ 2 ـ 1 11 ميلا وقال: هما أكيمتان سوداوان عن يسار الطريق. ولكنه حدد موقعهما بين فيد وتوز ـ أي في غرب فيد لا شرقيه وهو الصواب، لا كما ذكر ياقوت.

وينسب إلى فيد بعض رواة الحديث ومنهم على ما في كتاب «الاماكن» للحازمي و «معجم البلدان» محمد بن يحيى بن ضريس الفيديّ، ومحمد بن جعفر بن أبى مواتية الفيديّ، وعيسى بن ابراهيم الكوفي سكن فيد.

المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية-حمد الجاسر-صدر: 1398هـ/1978م


110-المعجم الجغرافي للسعودية (مليحة)

مليحة: ـ أيضا ـ: قال ياقوت: مليحة تصير ملحة ـ: اسم جبل في غربي سلمى وبه آبار كثيرة وملح، والعبد شماليّه.

وعدّ موزل: من بين الجبال الواقعة شمال سلمى: مليحة والمليحة وقال: وإلى الشمال من تلال فتك يرتفع سهل واسع تطل عليه تلال نوف، وقد رأينا أمام تلال نوف والحفاظيّة والأطراف السوداء لضلع مليحة. انتهى.

وفي مليحة منهل معروف بهذا الاسم تقدم ذكره.

ومليحة هذه هضاب تقع شمالا غربيا من سلمى، بين طريقى الروضة والسّبعان، وتبعد عن مدينة حايل في الجنوب الشرقي بما يقارب 45 كيلا.

مليحة ـ أيضا قال أبو عبيدة: مليحة من منازل بني يربوع، وقد أغارت عليهم فيها بكر بن وائل، فكانت لبني يربوع عليهم فهو يوم مليحة، ويوم أعشاش، ويوم الأفاقة، ويوم الإياد، وهي مواضع متقاربة، وكانت يربوع يتشتّون جفافا، فإذا انقطع الشتاء أسهلوا بنجفة مليحة، وبالحديقة من الآفاقة وبروضة الثّمد. قال متمّم بن نويرة:

«أخذن بها جنبي أفاق وبطنها***فما رجعوا حتّى أرقّوا وأعتقوا»

وقال العوّام بن شوذب يعنى بسطاما:

«إن تك في يوم الغبيط ملامة***فيوم العظالى كان أخزى وألوما»

«أبي لك قيد بالغبيط لقاءهم ***ويوم العظالى إذ نجوت مكلّما»

وكان جرح في هذا اليوم، وفرّ عن قومه، وأسر يوم غبيط المدرة، فهو الذي أراد العوام بقوله: (أبى لك قيد بالغبيط)..

ثم قال:

«ولو أنّها عصفورة لحسبتها***مسوّمّة تدعو عبيدا وأزنما»

وكان الذي اسره عتيبة بن الحارث بن شهاب.

وقال عمارة بن عقيل: مليحة: بين الحزن والشّيحة رملة إذا طلعت فيها طلعت في نجفة، وهي نجفة مليحة فالمستراد. ثم طلعت في حزن بني يربوع، قال أبو دواد:

«وآثار يلحن على ركيّ ***بجنب مليحة فالمستراد»

وقال في «معجم البلدان»: وقيل مليحة موضع في بلاد تميم. قال مرّة بن همّام بن مرة بن ذهل بن شيبان.

«فكأنّها بلوى مليحة خاضب ***شقّاء نقنقة تباري غيهبا»

وكان بمليحة يوم بين بني يربوع، وبسطام بن قيس الشيباني، فقال عميرة بن طارق اليربوعيّ:

«وغلمتنا السّاعين يوم مليحة***وحومل في الرّمضاء يوما مجرّما”

وفي «النقائض»: وأما قيل وأيهم فكان سبب قتلهما يوم طلحات حومل، وهو يوم مليحة، أن بسطام بن قيس خرج مغتربا، وذلك حين ولّى الرّبيع، واشتدّ الصيف، وقد توجهت بنو يربوع بينهم وبين طلح، فذكر لأخريات بني يربوع أنهم رأوا منسرا، فبعثوا مرسلا فأشرف ضفيرة حومل ـ والضّفيرة والعقدة المتراكم من الرمل ـ فرفع له عشرون بعيرا يعدّهنّ عند طلحات حومل، فحسب أنه ليس غيرهم والجيش في الخبراء دونهم، فكرّ يدعو: يا آل يربوع الغنيمة! ! فتسارع الناس أيّهم يسبق إليها، فجاؤوا متقطعين، فسقطوا على الجيش في الخبراء، فلم تجىء عصبة إلّا أخذوا. وأصابت بنو شيبان نعمان بن قيل، وأيهم اليربوعيّين، وأسروهما.

ثم ذكر أنهم اتفقوا معهما على أن يجيروهما حتى يسقوا دوابّهم ويستقوا من ماء طلح فأجاروهما.

وتعرف مليحة هذه الآن باسم (مليحا) تصغير ملحاء، وكثيرا ما تنطق العامة مثل هذا الاسم فهم يقولون (عرجاء) للبلدة التى تعرف قديما باسم (عرجة) وقبة (قبا).

ومليحة (مليحاء) جال مرتفع جلد من الأرض، متصل بجبل روية من الغرب، تقع بلدة قبة في جانبه الجنوبي، ويشاهد منها رأي العين بينها وبين الطّليحي (طلح).

وكلام عمارة يفهم منه أن مليحة نجفة ـ وهي كما وصف، ورملة الشيحة تقع غير بعيدة عنها، وهي واقعة في التّيسيّة وهي من حزن بني يربوع (تقع مليحة بقرب خط الطول 15؟ ـ 44؟ وخط العرض 29؟ ـ 27؟).

المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية-حمد الجاسر-صدر: 1398هـ/1978م


111-المعجم الجغرافي للسعودية (ميقوع)

ميقوع: ـ بفتح الميم بعدها ياء مثناه تحتية ساكنة فقاف مضمومة فواو ساكنة فعين مهملة ـ: يقع شمال دومة الجندل ب 75 كيلا في طرف وادي السّرحان، وهو منهل للبادية، وفيه مركز تابع لإمارة الجوف.

وعلى ميقوع وقعت وقعة بين بني صخر بقيادة الشيخ طراد بن زين، وبين خلف الأذن من آل شعلان من الرّولة من عنزة، فكانت الهزيمة على بني صخر فقال، خلف ـ وهو شاعر ـ قصيدة فيها وصف تلك المعركة أولها:

«الله يا كون جرى عند ميقوع ***كون ينشّر به غيارات وقماش »

وقال شاعر رويلىّ عاميّ يهوى فتاة تدعى ضبّة وأوهم في ذكر (ضبّة) التي هي ما يضبّب به أي يربط ـ:

«أشرفت أنا طعس ميقوع ***وطبّيت من عرض من طبّه »

«وغرّقت أنا الطّعس بدموعي ***مثل العزالى لهن صبّه »

«يالّلى تريدون منفوعي ***حطّوا على القلب له ضبّه »

المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية-حمد الجاسر-صدر: 1398هـ/1978م


112-المعجم العربي لأسماء الملابس (البدن)

البَدَن: بفتح الباء والدال: شبه درع إلا أنه قصير قدر ما يكون على الجسد فقط، قصير الكمين، وقيل: هي الدرع عامة، وفي حديث مسح الخفين: فأخرج يده من تحت بدنه، استعار البدن ها هنا للجبة الصغيرة تشبيها بالدرع، ويحتمل أن يريد من أسفل بدن الجبة، ويشهد له ما جاء في الرواية الأخرى: فأخرج يده من تحت البدن.

وفي حديث على لما خطب فاطمة، قيل: ما عندك؟ قال: فرسى وبدنى، والجمع أبدان.

وكلمة البدن تشير عند ابن بطوطة إلى ثوب قصير معدوم الردنين، وهو غاية في القصر ولا أردان له، ولا يرتديه الرجالى إِلا في الشتاء، وهو مصنوع من خام الهند المخطط، يلبسونه بدون حزام يقول ابن بطوطة: وأهل مكة لهم ظرف ونظافة في الملابس، وأكثر لباسهم البياض، فترى ثيابهم أبدانًا ناصعة ساطعة. ويبدو أن هذا اللباس لم يتجاوز حدود شبه الجزيرة العربية.

أما البَدَنة -بالتأنيث- فكانت معروفة في مصر في العهد الفاطمى، وكانت عبارة عن: ثوب من حرير مرقوم بالذهب، لا يدخل فيه من الغزل -سداة ولحمة- غير أوقيتين، ويُنسج باقيه بالذهب بصناعة محكمة لا تحوج إِلى تفصيل ولا خياطة. وكانت تبلغ قيمته -في العصر الفاطمى- ألف دينار.

وكان يُصنع للخليفة الفاطمى يلبسه يوم ركوبه لفتح الخليج ولا يلبسه في غير ذلك اليوم.

المعجم العربي لأسماء الملابس-رجب عبدالجواد إبراهيم-صدر: 1423هـ/2002م


113-المعجم العربي لأسماء الملابس (القباء)

القَبَاء: القباء بفتح القاف والباء: كلمة فارسية معربة، وأصلها في الفارسية: قُباى، وهي تعني في الفارسية: ثوب مفتوح من الإمام. وفى العربية: القَباء بالفتح: من الثياب؛ الذي يُلْبس، والجمع: أقبية؛ وقبَّى ثوبه: قطع منه قباء، وتقبَّى القباء: لبسه. قال ذو الرمة يصف الثور:

كأنَّه متقبَّى يلمقٍ عَزَبِ.

والقباء ممدود، وأصله من القبو؛ وهو أن تجمع الشيء بيديك؛ لاجتماع أطرافه، وقباء سقط: غير مبطَّن.

وقيل: أول من لبس القباء سليمان

عليه السلام، وقال القاضي المعافى: هو من ملابس الأعاجم في الأغلب.

وقد ورد في الشعر العربي يقول بشار (ت 167 هـ):

«خاط لي عمرو قَباءْ *** ليت عينيه سواءْ»

«قال لمن يسمع هذا *** أمديح أم هجاءْ»

والقباء في مصر يرادف القفطان؛ وهو ثوب للرجال ذو لفقين، يُلبس فوق الثياب، ويتمنطق عليه بحزام، ثم تلبس فوقه الجبة.

وعند دوزى: القباء ثوب طويل أزرق مقفل من الإمام بأزرار، ومقوَّر تمام التقوير في موضع الرقبة؛ يشبه بعض الشبه ملابس الأرمن، ويرجح أن يكون القباء هو القفطان نفسه.

ولقد كان الأمراء والجنود والسلطان نفسه أيام الدولة الجركسية يرتدون الأقبية البيض أو الحُمْر أو الزُرْق؛ وكانت ضيقة الأكمام على هيئة ملابس الفرنج اليوم، إلى أن أبطل السلطان المنصور قلاوون لبس الكم الضيق. وقد كانت الأقبية تعمل بصورة عامة من الأطلس.

كما كانت أقبية عرب الأندلس معمولة من الأرجوان "الأسقلاطون" وكانت تشبه أقبية المسيحيين.

والذى يؤكد أن القباء كالقفطان مفتوح الأمام ما رواه صاحب الأغانى أن عمر ابن أبي ربيعة لما سمع غناء جميلة عمد إلى جيب قميصه فشقه إلى أسفل فصار قباء.

والقباء: كان نوعًا من الملابس المملوكية، وهو قفطان ضيق الأكمام، ويُقال الأقبية؛ ويراد بها الثياب الخارجية كعباءة المرأة أو البرنس.

والقباء: ثوب يُلبس فوق الثياب، أو فوق القميص ويتمنطق عليه، ويحدثنا المسعودي أنه كان ليزيد بن معاوية

قرديكنى بأبى قيس عليه قباء من الحرير الأحمر والأصفر مُشمَّر، وعلى رأسه قلنسوة من الحرير ذات ألوان بشقائق.

ويحدثنا ابن بطوطة أيضًا عن سلطان جاوة أنه نزع ثياب الفقهاء ثم لبس ثياب الملك، وهي عبارة عن الأقبية المصنوعة من الحرير والقطن.

ويحدثنا ابن بطوطة عن أحد الشيوخ: فإذا شيخ عليه أقبية ضيقة داسة، وعلى رأسه عمامة، وهو مشدود الوسط بمنديل".

وقد كانت الأقبية في مصر في العصر المملوكى تُطلق أيضًا على نوع من القماش مصنوع من الحرير يُغطى به السلطان وغيره رأسه في الصيف.

ويحدثنا المسعودي أن يحيى البرمكى كان إذا ركب مع المأمون في سفر ركب معه بمنطقة وقباء وسيف بمعاليق وشاشية، وإذا كان الشتاء ركب في أقبية الخز وقلانس السمُّور والسروج المكشوفة.

وقد كان العلماء في مصر يلبسون تحت العمامة عطاء رأس صغير يطلقون عليه اسم: القباء، أما الطبقات الفقرة فكانت تلبس العمامة بدون غطاء رأسى.

وأطلق القباء أيضًا على جزء من الثوب يكون حول العنق كالياقة، أو الرقبة، أو طوق الثوب.

المعجم العربي لأسماء الملابس-رجب عبدالجواد إبراهيم-صدر: 1423هـ/2002م


114-معجم النحو (أما)

أمّا:

1 ـ ماهيّتها:

هي حرف فيه معنى الشّرط والتّوكيد دائما، والتفصيل غالبا، يدل على الأوّل: لزوم الفاء بعدها نحو {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلًا} وهي نائبة عن أداة الشّرط وجملته، ولهذا تؤوّل ب «مهما يكن من شيء»

ويدلّ على الثاني: أنّك إذا قصدت توكيد «زيد ذاهب» قلت «أمّا زيد فذاهب» أي لا محالة ذاهب.

ويدلّ على التّفصيل استقراء مواقعها نحو {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ... وَأَمَّا الْغُلامُ... وَأَمَّا الْجِدارُ} الآيات ونحو {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ}

وقد يترك تكرارها استغناء بذكر أحد القسمين عن الآخر، أو بكلام يذكر بعدها. فالأوّل: كقوله تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ} أي وأمّا الذين كفروا فلهم.. والثاني: نحو {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ} أي وأمّا غيرهم فيؤمنون به ويكلون معناه إلى ربّهم.

وقد يتخلّف التّفصيل كقولك «أمّا عليّ فمنطلق».

2 ـ وجوب وجود الفاء بعدها وقد يجب حذفها.

لا بدّ من «فاء» تالية لتالي «أمّا»، ولا تحذف إلّا إذا دخلت على «قول» قد طرح استغناء عنه بالمقول فيجب حذفها معه نحو {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ} أي فيقال لهم: أكفرتم. ولا تحذف في غير ذلك إلّا في ضرورة كقول الشاعر يهجو بني أسد:

«فأمّا القتال لا قتال لديكم ***ولكنّ سيرا في عراض المواكب »

3 ـ ما يفصل بين «الفاء» و «أمّا» يفصل بين «الفاء» و «أمّا»: بالمبتدأ نحو «أمّا محمّد فمسافر» أو بالخبر نحو «أمّا في الدّار فإبراهيم» أو بجملة الشّرط نحو {فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ} أو باسم منصوب بالجواب نحو {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} أو باسم معمول لمحذوف يفسّره ما بعد الفاء، نحو «أمّا من قصدك فأغثه» أو بظرف معمول ل «أمّا» نحو «أمّا اليوم فإني ذاهب».

معجم النحو-عبدالغني الدقر-صدر: 1395هـ/1975م


115-المعجم المفصل في النحو العربي (كاف التشبيه)

كاف التّشبيه

اصطلاحا: بمعنى يشبه، مثل: «وجه الحبيبة كالقمر» وكقوله تعالى: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ} ويقال في المدح: «زيد كهربيّ الذّكاء» أي: هو كالكهرباء في سرعة الفهم.

المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م


116-المعجم المفصل في النحو العربي (النعت)

النعت

تعريفه: هو تابع يكمل متبوعه بمعنى جديد يحقّق الغرض. وقد يكون المتبوع اسما ظاهرا، مثل: جاء الابن البارّ، وقد يكون مضافا كالكنية، مثل: جاء أبو قاسم الأمين. فكلمة الأمين نعت للاسم المتبوع قبله «أبو قاسم» وهو نعت للكلمتين معا أي: للمضاف والمضاف إليه ولا يصح أن يكون نعتا لأحدهما وإلّا فسد المعنى، لكنّ النّعت يتبع المضاف وحده في الإعراب.

فاللّفظ تابع لحركة المضاف، وأما معناه فواقع على المضاف والمضاف إليه معا.

أغراض النّعت: وأغراض النعت كثيرة منها:

1 ـ الإيضاح إذا كان المنعوت معرفة، كقول الشاعر:

«أشرق النور في العوالم لمّا***بشّرتها بأحمد الأنباء»

«اليتيم الأمّيّ والبشر المو***حى إليه العلوم والأسماء»

وفيه: «اليتيم»، و «الأمي»، و «الموحى» كلها نعوت تفيد توضيح منعوتها المعرفة.

2 ـ التخصيص، إذا كان المنعوت نكرة، كقول الشاعر:

«بنيّ إنّ البرّ شيء هيّن ***وجه طليق وكلام ليّن»

وفيه: «هيّن» و «طليق» و «ليّن» كلها نعوت تفيد تخصيص منعوتها النّكرة.

3 ـ المدح مثل: «بسم الله الرحمن الرحيم».

4 ـ الذمّ، مثل: «أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم».

5 ـ التّرحّم، مثل: «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء». النعت شبه الجملة «في الأرض» و «في السماء». والتقدير: «ارحموا من هو موجود في الأرض يرحمكم من هو موجود في السّماء».

6 ـ التوكيد. كقوله تعالى: {فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ}.

7 ـ يتمّم مع الخبر الفائدة الأساسيّة كقوله تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ} وكقول الشاعر:

«ونحن أناس لا توسط عندنا***لنا الصّدر دون العالمين أو القبر»

جملة «لا توسط عندنا» في محل رفع نعت «أناس».

أقسامه:

1 ـ باعتبار الأصل قسمان: النّعت الحقيقي. النّعت السّببيّ.

2 ـ باعتبار المعنى ثلاثة أقسام: النّعت المؤسّس. النعت المؤكّد. النّعت الموطّىء.

3 ـ باعتبار الإعراب قسمان: النّعت المتبوع. النّعت المقطوع.

ألفاظه: أولا: يكون النّعت اسما مشتقا كاسم الفاعل، مثل: «جاءني رجل عالم» واسم المفعول، مثل: «جاءني ولد محبوب» والصفة المشبّهة، مثل: «جاءني ولد جميل وجهه» وأفعل التفضيل، مثل: «جاء الرجل الأفضل».

ثانيا: يكون النعت جامدا بشرط أن يقوم مقام المشتق، وذلك:

1 ـ إذا كان مصدرا نكرة أو معرفة، مثل: «هذا طبيب ثقة» «ثقة» مصدر نكرة جاء نعتا للمنعوت «طبيب»، وهو مؤوّل بالمشتق والتّأويل: موثوق به. وكقول الشاعر:

«إنّ أخاك الحقّ من يسعى معك ***ومن يضرّ نفسه لينفعك»

وفيه «الحقّ» مصدر معرفة هو نعت للمنعوت «أخاك». والتقدير: الحقيقيّ.

2 ـ اسم إشارة، مثل: «جاء الرجل هذا» والتقدير: المشار إليه. وقد يكون اسم الإشارة دالّا على مكان، ولكن بقلّة. ولا يكون اسم الإشارة هو النعت بل يتعلّق بمحذوف يكون هو النعت، مثل: «أسرعت القافلة لتشرب من ماء هنا» أي: موجود هنا.

3 ـ كلمة «ذو» بمعنى صاحب، مثل: «زارني رجل ذو خبرة بالصّناعة». «ذو»: نعت «رجل» مرفوع بالواو لأنه من الأسماء السّتّة. وهو مضاف «خبرة»: مضاف إليه.

4 ـ «ذات» بمعنى صاحبة، مثل: «زارتني امرأة ذات حكمة بالغة». «ذات» نعت مرفوع بالضّمّة وهو مضاف «حكمة» مضاف إليه.

4 ـ اسم موصول مقترن بـ «أل»، مثل: «يسرّني العمل الذي اكتمل». «الذي»: اسم موصول مبنيّ على السكون في محل رفع نعت لـ «العمل».

5 ـ النعت الذي يدلّ على عدد المنعوت، مثل: «زارني رجال خمسة» أي: معدودين بهذا العدد. «خمسة»: نعت لـ «رجال».

6 ـ النّعت المنسوب أي: الذي لحقته «ياء» النّسبة، مثل: «زارني رجل لبنانيّ». «لبناني»: نعت «رجل».

7 ـ إذا دلّ النّعت على تشبيه، مثل: «زارني رجل سيبويه». «سيبويه»: نعت رجل وليست الكلمة مقصودة بذاتها إنما بمعناها. والتقدير: نحويّ كسيبويه. ومثل: «هذا رجل فراشة الحلم» أي: أحمق. و «هذا رجل فرعون العذاب» أي: قاس. و «هذا رجل غربال الإهاب» أي: حقير.

8 ـ إذا كان النعت «ما» النكرة التي يراد بها الإبهام، مثل: «لأمر ما عاد الطالب من سفره».

«ما» نكرة مبنيّة على السكون في محل جر نعت.

والتقدير: لأمر موصوف بصفة غير معروفة، ومثل: «أعطني كتابا ما» أي: كتابا مطلقا غير مقيد بصفة معينة.

9 ـ كلمة «كل» وكلمة «أي»، مثل: «أنت المجتهد كل المجتهد» ومثل: «أنت رجل أي رجل». «أي» نكرة تامة مبنية على الضم في محل رفع نعت. ولكي تقع «أي» نعتا يجب أن تضاف إلى نكرة مماثلة للمنعوت. لذلك تعرب «أي» مضافة «المجتهد» مضافا إليه.

10 ـ كلمة «حقّ» و «جدّ»، مثل: «أصغينا للخطيب إصغاء حقّ إصغاء».

وقد يكون النّعت الجامد إحدى الكلمات التي لا تنفرد بنفسها مثل: «اللصّ شيطان نيطان وعفريت نفريت». و «هذا رجل حسن بسن».

إعرابه: باعتبار إعرابه يقسم النّعت إلى ثلاثة أقسام: مفرد وجملة وشبه جملة. فالنعت المفرد هو الذي يكون لا جملة ولا شبه جملة ويدخل فيه المثنّى، والمصدر، واسم الموصول، واسم الإشارة، كقوله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِينًا} وكقوله تعالى: {عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} أما النّعت الجملة فيجب أن يكون منعوته نكرة مذكورا والجملة خبريّة مشتملة على ضمير يعود إلى المنعوت. مثل: رأيت ولدا يبكي.

ملاحظات:

1 ـ النكرة قد تكون محضة أي: لفظا ومعنى كقول الشاعر:

«إنّ في أضلاعنا أفئدة***تعشق المجد وتأبى أن تضاما»

«أفئدة» المنعوت نكرة لفظا ومعنى وجملة تعشق جملة فعليّة خبريّة هي نعت لـ «أفئدة» ومشتملة على ضمير يعود إلى المنعوت تقديره: هي. ومثلها جملة «أن تضاما» وقد تكون النكرة غير محضة أي: معرفة لفظا ونكرة في المعنى، وهي المحلّاة بـ «أل» الجنسيّة مثل:

«ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني ***فأعفّ ثمّ أقول لا يعنيني»

وفيه «اللئيم» المنعوت هو نكرة محلّاة بـ «أل» الجنسية. وجملة «يسبّني» نعت لـ «اللّئيم».

2 ـ تجب مطابقة الضمير للمنعوت الذي قد يكون بارزا، كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ} أو مستترا كقول الشاعر:

«وكلّ امرىء يولي الجميل محبّب ***وكلّ مكان ينبت العزّ طيّب»

فجملة «يولي الجميل» الخبرية الواقعة نعتا تشتمل على ضمير مستتر يعود إلى المنعوت تقديره «هو» وقد يكون الضمير محذوفا، كقول الشاعر:

«وما أدري أغيّرهم تناء***وطول الدّهر أم مال أصابوا»

فجملة «أصابوا» الخبريّة الواقعة نعتا لا تشتمل على ضمير، إنما هو مقدر، وتقديره: أصابوه.

3 ـ وقد يغني عن الضمير الذي يعود إلى المنعوت وجوده في جملة معطوفة «بالفاء» أو «بالواو»، أو «ثم» على الجملة الخالية من الضمير. مثل: «مررت بطفل تعوي الكلاب فيرتجف» التقدير: هو يرتجف. ويجوز في جملة الاستثناء التي أداتها فعل أن تقع نعتا، مثل: «زرعت حقولا ليس حقلا» أي: ليس المزروع حقلا. فهذه الجملة تكون إما حالا، أو استثنافيّة لا محل لها من الإعراب، أو نعتا.

وأما النّعت شبه الجملة، أي: ما كان ظرفا أو جارا ومجرورا، فإنه يكون مقيّدا بالإضافة أو بعدد، أو غيره من القيود التي يفيد بها النّعت معنى جديدا، والمنعوت نكرة محضة مثل: «وقف عصفور فوق الغصن»، ومثل: «طار عصفور من قفص»، وكقول الشاعر:

«وإذا امرؤ أهدى إليك صنيعة***من جاهه فكأنّها من ماله»

وفيه: «صنيعة» المنعوت النكرة والجار والمجرور «من جاهه» شبه جملة واقعة نعتا.

4 ـ إن لفظة «كل» تصلح أن تكون نعتا دون أن تكون منعوتا، والمضاف إليه بعدها يجب أن يكون اسما ظاهرا نكرة ويجوز أن يكون معرفة على حسب المنعوت مماثلا له في اللّفظ والمعنى، أو في ما له صلة معنويّة قويّة به، كقول الشاعر:

«كم قد ذكرتك لو أجزى بذكركمو***يا أشبه الناس كلّ الناس بالقمر»

وفيه «كلّ»: نعت أضيف إلى «الناس» معرفة مماثلة للمنعوت، وكقول الشاعر:

«وإن كان ذنبي كلّ ذنب فإنّه ***محا الذنب كلّ المحو من جاء تائبا»

وفيه «كل» الثانية نعت مضاف إلى ما له صلة معنوية قوية بالمنعوت أي: «الذنب».

5 ـ إذا وقعت لفظة «كل» نعتا اعتبرت من الألفاظ الجامدة التي تؤوّل بالمشتق ومعناها «الكامل».

6 ـ إن الكلمات التي لا تنفرد بنفسها في جملة تتبع الكلمة التي قبلها مباشرة في الوزن وضبط الآخر، والمشاركة في معظم الحروف، دون أن يكون لها علاقة بالتّوابع الأصيلة. مثل: «هذا رجل حسن بسن» و «هذا ولد عفريت نفريت».

7 ـ يجوز أن تكون شبه الجملة صفة بعد النكرة المحضة على تقدير متعلّقه معرفة، وتكون هي الصفة إذا استغنينا عن ذكر المتعلّق إذ أنّه من المعروف أنّ شبه الجملة بعد النّكرة المحضة يجب أن تكون نعتا.

8 ـ يصحّ في الجملة الاسميّة الواقعة نعتا أن يكون الرّابط بينها وبين منعوتها النّكرة هو «أل»، مثل: قرأت الرسالة الخط واضح، والكلمات متباعدة والسطور منتظمة أي: الخطّ فيها واضح وكلماتها متباعدة وسطورها منتظمة..

9 ـ لا تصلح «الواو» التي تسبق الجملة الواقعة نعتا أن تكون هي الرّابط بل تكون زائدة للإلصاق فقط، من ذلك قوله تعالى: {وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}. «الواو»: زائدة والجملة الاسميّة «هو خير لكم» في محل نصب نعت لـ «شيئا». ومثل:

«فيا للناس كيف غلبت نفسي ***على شيء ويكرهه ضميري»

«الواو»: زائدة والجملة الفعليّة «يكرهه ضميري» في محل جر نعت لـ «شيء».

10 ـ قد يحذف الرّابط في الجملة الواقعة نعتا إذا دلّ عليه دليل، وهذا المحذوف قد يكون مرفوعا أو منصوبا، أو مجرورا. فإذا كان مرفوعا فقد يقع نائب فاعل، كقول الشاعر:

«وإذا أراد الله نشر فضيلة***طويت أتاح لها لسان حسود»

وفي: «طويت» نائب الفاعل ضمير مستتر تقديره «هي» وتكون الرابط بين جملة النعت «طويت» والمنعوت «فضيلة». أو مجرورا «بفي» إذا كان المنعوت اسم زمان، كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} أي: لا تجزي فيه. أو مجرورا بـ «من» بشرط أمن اللّبس، سواء أكان المنعوت ظرف زمان أو غير ذلك، مثل: «مرّ ربيع قضيت شهرا في الجبل»، أي: شهرا منه.

ومثل: «اشتريت عسلا رطل بعشرين ورطل بأربعين» أي: رطل منه.

تعدّد النّعت: إذا تعدّدت النعوت والمنعوت واحد وجب ذكرها كلها بدون عطف أو معطوفة بالواو، مثل: «قرأت الصحيفة المصقولة النظيفة المزيّنة بالرّسوم» ويجوز أن تقول: المصقولة والنظيفة والمزيّنة. ويجب عدم العطف بالواو إذا كان المعنى لا يستفاد بنعت واحد، مثل: «الطعام الساخن مفيد، وأفيد منه البارد الحار» أي: المعتدل في الحرارة. وإذا تعدّدت النّعوت والمنعوت متعدّد بلفظ واحد والنعوت متّحدة في لفظها ومعناها وجب أن تكون النعوت بلفظ واحد أيضا، مثل: «ما أحلى القلاع القديمة». فالمنعوت متعدد بلفظ واحد أي جمع تكسير «القلاع» والنعت متعدد بلفظ واحد «القديمة». أما إذا اختلفت النعوت في اللفظ أو في المعنى أو بهما معا وجب التفريق بينها، مثل: عاد الجنود: الصحيح والسقيم والجريح...

فالنعوت مختلفة في اللّفظ والمعنى، ومثل: «قابلت رفيقتين: المقيمة والساكنة في الجوار» فالنّعت «الساكنة» مختلف في اللّفظ عن النعت «المقيمة»، ومثل: رأيت رفيقتين هاوية وهاوية.

«هاوية» الأولى أي: عاشقة. وهاوية الثانية أي: فاشلة. اتفقت الكلمات «هاوية» و «هاوية» في اللفظ واختلفتا في المعنى أما إذا كان المنعوت المتعدّد اسم إشارة، وجب في نعوته المتعدّدة عدم التفريق، مثل: مررت بهاتين المجتهدتين؛ ولا يصح المجتهدة والكسولة.

أما إذا تعدد النّعت والمنعوت متعدّد مع التفريق فإن اتّحدت النّعوت في اللّفظ والمعنى اتحدت أيضا في اللّفظ بدون تفريق، مثل: أقبل التلامذة خليل وسمير، وفؤاد، الكاتبون. وإن اختلفت النعوت فإمّا أن تتقدم أسماء المنعوت كلّها وبعدها النّعوت مرتبة على حسب ترتيب المنعوت، مثل: «ما أكثر الفائدة التي نجنيها من البيت والمدرسة والمجتمع... الأول، الحبيبة، الأمثل». وإما أن يوضع كل منعوت مع النّعت المناسب له مثل: «ما أكثر الفائدة التي نجنيها في البيت الأوّل والمدرسة الحبيبة، والمجتمع الأمثل». ومثل: «ما أحب الصحف الصادقة والمجلّات المزيّنة، والإذاعة الجيدة والمذيعة الحسناء».

حذف النعت: يجوز أن يحذف النّعت إذا دلّت عليه قرينة، كقوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها، وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} أي: يأخذ كلّ سفينة صالحة. والقرينة: أردت أن أعيبها ومثل:

«وقد كنت في الحرب ذا تدرا***فلم أعط شيئا ولم أمنع»

أي: شيئا نافعا. وكقول الشاعر:

«وربّ أسيلة الخدّين بكر***مهفهفة لها فرع وجيد»

«بكر»: نكرة «مهفهفة» نعت مجرور، «لها فرع»: جملة اسميّة مكوّنة من المبتدأ «فرع» والخبر «لها» في محل جرّ نعت. أما النعت المحذوف فقد دلّت عليه قرينة والتقدير: لها فرع فاحم وجيد طويل.

حذف المنعوت: يحذف المنعوت إذا كان النّعت يغني عن المنعوت تماما، مثل: نزل الراكب أي: الرجل الراكب، ومثل: قدم الفارس أي: الرجل الفارس. والنّعت في هذه الحالة «الراكب» أي: الرجل الراكب، ومثل: «قدم الفارس» أي: الرجل الفارس. والنّعت في هذه الحالة يعرب إعراب المنعوت المحذوف فهو فاعل أو مفعول به «الرّاكب»: فاعل «نزل». و «الفارس» فاعل «قدم».

ويحذف المنعوت أيضا إذا كان النّعت مصدرا نائبا عن صفته مضافا إلى مثل المنعوت المحذوف، مثل: «أكرمته أحسن الإكرام» والتقدير: أكرمته إكراما أحسن الإكرام ومثل: أصغيت إليه أيّ إصغاء. والتقدير: أصغيت إصغاء أيّ إصغاء. ويحذف أيضا إذا كان في الكلام ما يصلح أن يحلّ محلّه في الإعراب، كقوله تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ} والتقدير: دروعا سابغات وإذا كان معلوما أي: اختصّ معنى النعت به وقصر عليه مثل: «جاء قائد صاهلا» أي: قائد فرسا صاهلا. لأن النعت «صاهلا» لا يصلح إلا للفرس فهو مختص به.

ويجوز حذف المنعوت إذا كان النّعت جملة أو شبه جملة والمنعوت مرفوعا وبعضا من اسم متقدّم مجرور بـ «من» أو «في» مثل: المحسنون يذكر فضلهم فمنهم من ينفق من ماله ومنهم من ينفق من وقته ومنهم من يعطي كل ما ملكت يداه. فالمنعوت هو «هم» مجرور بـ «من» والتقدير: منهم قسم، ومثل: «لما توفي والدي بكى الجميع فلم يبق فيهم إلا لطم خدّه أو شقّ ثوبه أو فقد وعيه...» والتقدير: «إلا إنسان لطم خده أو انسان شقّ ثوبه، أو إنسان فقد وعيه».. فالمنعوت «إنسان» محذوف والتقدير لم يبق في الناس إلا إنسان...

17 ـ حذف النعت والمنعوت معا: إذا دلّت القرينة على النّعت والمنعوت معا فيجوز حذفهما معا، كقوله تعالى: {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى} أي: لا يحيا حياة هانئة.

18 ـ ترتيب النّعوت: إذا تعدّدت النّعوت وكانت كلّها مفردة جاز ترتيبها على حسب ما يريده المتكلّم وكذلك إذا تعدّدت وكانت كلّها من الجمل أو من شبه الجمل. مثل: «أحبّ الطالب الناجح المجتهد الشجاع».. ومثل: «شاهدت لصّا شعره مشعّث عيناه دامعتان وجهه شاحب» فالجملة الاسمية «شعره مشعّث» هي نعت للمنعوت «لصّا» ومثلها الجملة الاسمية «عيناه دامعتان» والجملة «وجهه شاحب». فلا ترتيب بين هذه النعوت الجمل إلّا ما يريده المتكلّم. ومثل: رأيت رجلا على مقعده، في سيّارته، على درّاجته، فكل من شبه الجملة «على مقعده»، «في سيّارته»، «على درّاجته» يقع نعتا ولا ترتيب بينها إلا ما يريده المتكلم. أمّا إذا اختلف نوعها فالأغلب أن يتقدم النّعت المفرد ويأتي بعده شبه الجملة وبعدها الجملة، مثل: «وقفت حمامة حزينة على غصن تستمع إلى شكوى جارها المسجون». وكقوله تعالى: {وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ} فالنّعت المفرد «مؤمن» تقدم على شبه الجملة «من آل» التي تقدّمت على الجملة الفعلية «يكتم إيمانه». وقد تتقدم الجملة على المفرد، كقوله تعالى: {وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ} فجملة «أنزلناه» الفعلية واقعة نعتا تقدم على النّعت المفرد «مبارك».

19 ـ عطف النعوت: إذا تعددت النّعوت المفردة وكانت مختلفة في المعنى يجوز العطف بينها، ولا فرق بين أن تكون هذه النعوت متبوعة كلها أو متبوعة في بعضها، ومقطوعة في البعض الآخر، مثل: «مررت بزيد التاجر المسكين الشاعر». أو التاجر والمسكين والشاعر. أما إذا تعددت النعوت وكانت من الجمل فالأكثر العطف بينها مثل: «يعجبني من يحترم نفسه، ويساعد رفاقه، ويضحّي في سبيلهم».

وإذا وقع العطف بين النعوت المتعددة يجب أن يكون بـ «الواو» لا بغيرها إذ لا يقع العطف بينها بـ «أم» أو بـ «حتى». ولا فرق بين أن تكون النعوت متفقة أو مختلفة في المعنى.

20 ـ تقدم النّعت على المنعوت: إذا تقدم النّعت على المنعوت وكانا معرفتين فيعرب النّعت حسب ما يقتضيه الإعراب في الجملة والمنعوت يكون بدلا منه، مثل: «جاء الطالب النّبيه» «النبيه» نعت للمنعوت «الطالب» مرفوع مثله متأخر عليه أما إذا تقدّم النعت، مثل: جاء النبيه الطالب.

«النبيه» فاعل جاء. «الطّالب»: بدل من «النّبيه».

أما إذا كان النعت أو المنعوت نكرتين وتقدم النّعت على منعوته نصب على الحال ويصير المنعوت صاحب الحال، مثل: «جاء طالب فقير». «فقير» نعت مرفوع والمنعوت «طالب» مرفوع مثله. أما إذا تقدم النّعت، مثل: جاء فقيرا طالب. يعرب النعت المتقدّم «فقيرا» حال منصوب و «طالب» صاحب الحال هو فاعل «جاء».

21 ـ ملاحظات:

1 ـ إذا وقع قبل النّعت المفرد «لا» النافية أو «إمّا» فيجب تكرارهما مع العطف بـ «الواو»، مثل: أحب الطعام لا باردا ولا ساخنا، ومثل: عاشر من الطلاب إما العقلاء وإمّا العلماء.

2 ـ يصح أن ينعت النعت إذا اقتضى المعنى ذلك، مثل: «كتبت على ورق أبيض ناصع».

3 ـ من النّعت ما لا يسمّى نعتا إلا إذا كان موصوفا، ويسمّى النّعت الموطّىء، مثل: «ألا مالا مالا كثيرا ينجد المظلومين». والتقدير: ألا تدفع مالا مالا كثيرا... «مالا»: الأولى مفعول به لفعل «تدفع» و «مالا»: الثانية نعت للأولى، لأنها موصوفة.

المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م


117-المعجم المفصّل في الإعراب (كان)

كان ـ

تأتي:

1 ـ فعلا ماضيا ناقصا، يدخل على المبتدأ والخبر، فيرفع الأوّل اسما له وينصب الثاني خبرا له، نحو: «كان الطقس مثلجا». («كان»: فعل ماض ناقص مبنيّ على الفتحة الظاهرة. «الطّقس»: اسم «كان» مرفوع بالضمّة الظاهرة. «مثلجا»: خبر «كان» منصوب بالفتحة الظاهرة) وكما تعمل «كان» ماضيا كذلك تعمل مضارعا، نحو قوله تعالى: {قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} («يكون»: فعل مضارع ناقص مرفوع بالضمّة الظاهرة. «لي»: اللّام: حرف جرّ مبنيّ على الكسر لا محلّ له من الإعراب. والياء ضمير متّصل مبنيّ على السّكون في محلّ جرّ بحرف الجرّ. والجار والمجرور متعلّقان بخبر «يكون» المقدّم المحذوف. وتقديره: موجودا. «غلام»: اسم يكون مرفوع بالضمّة الظاهرة)، وتعمل «كان» في صيغة الأمر، كما جاء في قوله تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيدًا}.

(«كونوا»: فعل أمر ناقص مبنيّ على الضمّ لاتّصاله بواو الجماعة. والواو ضمير متّصل مبنيّ على السّكون في محلّ رفع اسم «كونوا». «حجارة»: خبر «كونوا» منصوب بالفتحة الظاهرة)، وتعمل كمصدر، نحو: «كونك مجتهدا عليك أن تتابع الدّرس» (كونك»: مبتدأ مرفوع بالضمّة الظاهرة. وهو مضاف. والكاف ضمير متصل مبنيّ على الفتح في محلّ جرّ بالإضافة، وهو اسم المصدر «كون». «مجتهدا»: خبر «كون» منصوب بالفتحة الظاهرة. «عليك»: «على»: حرف جرّ مبني على السكون لا محلّ له من الإعراب. والكاف ضمير متّصل مبنيّ على الفتح في محلّ جرّ بحرف الجرّ. «أن»: حرف مصدري ونصب واستقبال مبنيّ على السكون لا محلّ له من الإعراب. «تتابع»: فعل مضارع منصوب بـ «أن» وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة. وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره: أنت. «الدّرس»: مفعول به منصوب بالفتحة الظاهرة. والمصدر المؤوّل من «أن تتابع الدّرس» في محلّ رفع خبر المبتدأ «كونك»)، وتعمل كاسم فاعل، نحو: «سأقف في وجه المستبدّ كائنا من كان».

(«كائنا»: حال منصوبة بالفتحة الظاهرة. واسم «كائنا» ضمير مستتر فيه جوازا تقديره: هو يعود على «المستبدّ». «من»: اسم موصول مبنيّ على السكون في محلّ نصب خبر «كائنا»).

ويأتي خبر «كان»:

1 ـ مفردا، نحو: «كان البرد قاسيا».

2 ـ جملة اسميّة، نحو: «كان الرّبيع هواؤه منعش».

3 ـ جملة فعليّة، نحو: «كان الفلّاح يبذر الحبّ».

4 ـ شبه جملة، نحو: «كان العامل في المصنع».

وقد تحذف «كان» وحدها ويعوّض عنها بـ «ما» الزّائدة، نحو: «أما أنت ذا تجارة تتباهى» والتّقدير: لأن كنت ذا تجارة تتباهى. وقد تحذف مع اسمها، وكثر ذلك بعد «إن» و «لو» الشرطيّتين، نحو قول الشاعر:

«لا تقربنّ الدهر آل مطرّف ***إن ظالما أبدا وإن مظلوما»

أي: إن كنت ظالما وإن كنت مظلوما.

كما قد تحذف مع اسمها وخبرها بعد «إن» و «لو» الشرطيّتين، نحو قول الشاعر:

«قالت بنات العمّ: يا سلمى وإن ***كان فقيرا معدما، قالت؛ وإن »

بمعنى وإن كان فقيرا معدما أتزوّجه.

2 ـ فعلا تامّا بمعنى: «حصل» أو «حدث»، نحو: «تواجه الخصمان فكانت معركة قاسية». («كانت»: فعل ماض تام مبنيّ على الفتحة الظاهرة. والتّاء للتّأنيث. «معركة»: فاعل «كانت» مرفوع بالضمّة الظاهرة. «قاسية»: نعت «معركة» مرفوع بالضمّة الظاهرة).

3 ـ زائدة لا عمل لها، بشرطين أوّلهما مجيئها بصيغة الماضي وثانيهما وقوعها بين جزئين متلازمين، كوقوعها: بين الفعل والفاعل، أو بين الفعل ونائب الفاعل، أو بين الصلة والموصول، أو بين الصفة والموصوف، أو بين «ما» التعجبيّة و «أفعل» التعجّب، أو بين المبتدأ والخبر، أو بين الجار والمجرور، أو بين «نعم» وفاعلها. نحو: «التلميذ ـ كان ـ مجتهد»، ونحو «لم يتأخّر ـ كان ـ خالد».

المعجم المفصّل في الإعراب-طاهر يوسف الخطيب-صدر: 1412هـ/1991م


118-المعجم المفصّل في الإعراب (متى ما)

متى ما ـ

لفظ مركّب من «متى» الشرطيّة و «ما» الزائدة فكانت كلمة «متى ما» وهي اسم شرط للزّمان. انظر: متى الشرطيّة، فلها أحكامها وإعرابها.

المعجم المفصّل في الإعراب-طاهر يوسف الخطيب-صدر: 1412هـ/1991م


119-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (الإباضية-الفرق العقائدية في الإسلام)

الإباضية

التعريف:

الإباضية إحدى فرق الخوارج، وتنسب إلى مؤسسها عبد الله بن إباض التميمي، ويدعي أصحابها أنهم ليسوا خوارج وينفون عن أنفسهم هذه النسبة، والحقيقة أنهم ليسوا من غلاة الخوارج كالأزارقة مثلًا، لكنهم يتفقون مع الخوارج في مسائل عديدة منها: أن عبد الله بن إباض يعتبر نفسه امتدادًا للمحكمة الأولى من الخوارج، كما يتفقون مع الخوارج في تعطيل الصفات والقول بخلق القرآن وتجويز الخروج على أئمة الجور.

التأسيس وأبرز الشخصيات:

مؤسسها الأول عبد الله بن إباض من بني مرة بن عبيد بن تميم، ويرجع نسبه إلى إباض وهي قرية العارض باليمامة، وعبد الله عاصر معاوية وتوفي في أواخر أيام عبد الملك بن مروان.

·يذكر الإباضية أن أبرز شخصياتهم جابر بن زيد (22ـ93ه‍) الذي يعد من أوائل المشتغلين بتدوين الحديث آخذًا العلم عن عبد الله بن عباس وعائشة و أنس بن مالك وعبد الله بن عمر وغيرهم من كبار الصحابة. مع أن جابرًا قد تبرأ منهم. (انظر تهذيب التهذيب 2/38).

أبو عبيدة مسلمة بن أبي كريمة: من أشهر تلاميذ جابر بن زيد، وقد أصبح مرجع الإباضية بعده مشتهرًا بلقب القفاف توفي في ولاية أبي جعفر المنصور 158هـ‍.

الربيع بن حبيب الفراهيدي الذي عاش في منتصف القرن الثاني للهجرة وينسبون له مسندًا خاصًا به مسند الربيع بن حبيب وهو مطبوع ومتداول.

من أئمتهم في الشمال الإفريقي أيام الدولة العباسية: الإمام الحارث بن تليد، ثم أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري، ثم أبو حاتم يعقوب بن حبيب ثم حاتم الملزوزي.

ومنهم الأئمة الذين تعاقبوا على الدولة الرستمية في تاهرت بالمغرب: عبد الرحمن، عبد الوهاب، أفلح، أبو بكر، أبو اليقظان، أبو حاتم.

من علمائهم:

سلمة بن سعد: قام بنشر مذهبهم في أفريقيا في أوائل القرن الثاني.

ـ ابن مقطير الجناوني: تلقى علومه في البصرة وعاد إلى موطنه في جبل نفوسه بليبيا ليسهم في نشر المذهب الإباضي.

ـ عبد الجبار بن قيس المرادي: كان قاضيًا أيام إمامهم الحارث بن تليد.

ـ السمح أبو طالب: من علمائهم في النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة، كان وزيرًا للإمام عبد الوهاب بن رستم ثم عاملًا له على جبل نفوسه ونواحيه بليبيا.

ـ أبو ذر أبان بن وسيم: من علمائهم في النصف الأول من القرن الثالث للهجرة، وكان عاملًا للإمام أفلح بن عبد الوهاب على حيز طرابلس.

الأفكار والمعتقدات:

يظهر من خلال كتبهم تعطيل الصفات الإلهية، وهم يلتقون إلى حد بعيد مع المعتزلة في تأويل الصفات، ولكنهم يدعون أنهم ينطلقون في ذلك من منطلق عقدي، حيث يذهبون إلى تأويل الصفة تأويلًا مجازيًا بما يفيد المعنى دون أن يؤدي ذلك إلى التشبيه، ولكن كلمة الحق في هذا الصدد تبقى دائمًا مع أهل السنة والجماعة المتبعين للدليل، من حيث إثبات الأسماء والصفات العليا لله تعالى كما أثبتها لنفسه، بلا تعطيل ولا تكييف ولا تحريف ولا تمثيل.

ينكرون رؤية المؤمنين لله تعالى في الآخرة؛ رغم ثبوتها في القرآن: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة).

يؤولون بعض مسائل الآخرة تأويلًا مجازيًا كالميزان والصراط.

أفعال الإنسان خلق من الله واكتساب من الإنسان، وهم بذلك يقفون موقفًا وسطًا بين القدريَّة والجبرية.

صفات الله ليست زائدة على ذات الله ولكنها هي عين ذاته.

القرآن لديهم مخلوق، وقد وافقوا الخوارج في ذلك، يقول الأشعري "والخوارج جميعًا يقولون بخلق القرآن"، مقالات الإسلاميين 1/203 طـ 2 ـ 1389هـ/1969م.

مرتكب الكبيرة ـ عندهم ـ كافر كفر نعمة أو كفر نفاق.

الناس في نظرهم ثلاثة أصناف:

ـ مؤمنون أوفياء بإيمانهم.

ـ مشركون واضحون في شركهم.

ـ قوم أعلنوا كلمة التوحيد وأقروا بالإسلام لكنهم لم يلتزموا به سلوكًا وعبادة، فهم ليسوا مشركين لأنهم يقرون بالتوحيد، وهم كذلك ليسوا بمؤمنين؛ لأنهم لا يلتزمون بما يقتضيه الإيمان، فهم إذن مع المسلمين في أحكام الدنيا لإقرارهم بالتوحيد وهم مع المشركين في أحكام الآخرة لعدم وفائهم بإيمانهم ولمخالفتهم ما يستلزمه التوحيد من عمل أو ترك.

للدار وحكمها عند محدثي الإباضية صور متعددة، ولكن محدثيهم يتفقون مع القدامى في أن دار مخالفيهم من أهل الإسلام هي دار توحيد إلا معسكر السلطان فإنه دار بغي.

يعتقدون بأن مخالفيهم من أهل القبلة كفار غير مشركين، ومناكحتهم جائزة وموارثتهم حلال، وغنيمة أموالهم من السلاح والخيل وكل ما فيه من قوة الحرب حلال وما سواه حرام.

مرتكب الكبيرة كافر ولا يمكن في حال معصيته وإصراره عليها أن يدخل الجنة إذا لم يتب منها، فإن الله لا يغفر الكبائر لمرتكبيها إلا إذا تابوا منها قبل الموت.

ـ الذي يرتكب كبيرة من الكبائر يطلقون عليه لفظة (كافر) زاعمين بأن هذا كفر نعمة أو كفر نفاق لا كفر ملة، بينما يطلق عليه أهل السنة والجماعة كلمة العصيان أو الفسوق، ومن مات على ذلك ـ في نظر أهل السنة ـ فهو في مشيئة الله، إن شاء غفر له بكرمه وإن شاء عذبه بعدله حتى يطهر من عصيانه ثم ينتقل إلى الجنة، أما الإباضية فيقولون بأن العاصي مخلد في النار. وهي بذلك تتفق مع بقية الخوارج والمعتزلة في تخليد العصاة في جهنم.

ينكرون الشفاعة لعصاة الموحدين؛ لأن العصاة ـ عندهم ـ مخلدون في النار فلا شفاعة لهم حتى يخرجوا من النار.

ينفون شرط القرشية في الإمام إذ أن كل مسلم صالح لها، إذا ما توفرت فيه الشروط، والإمام الذي ينحرف ينبغي خلعه وتولية غيره.

يتهجم بعضهم على أمير المؤمنين عثمان بن عفان وعلى معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص رضي الله عنهم.

ـ الإمامة بالوصية باطلة في مذهبهم، ولا يكون اختيار الإمام إلا عن طريق البيعة، كما يجوز تعدد الأئمة في أكثر من مكان.

ـ لا يوجبون الخروج على الإمام الجائر ولا يمنعونه، وإنما يجيزونه، فإذا كانت الظروف مواتية والمضار فيه قليلة فإن هذا الجواز يميل إلى الوجوب، وإذا كانت الظروف غير مواتية والمضار المتوقعة كثيرة والنتائج غير مؤكدة فإن هذا الجواز يميل إلى المنع. ومع كل هذا فإن الخروج لا يمنع في أي حال، والشراء (أي الكتمان) مرغوب فيه على جميع الأحوال ما دام الحاكم ظالما.

- لا يجوز لديهم أن يدعو شخص لآخر بخير الجنة وما يتعلق بها إلا إذا كان مسلمًا موفيًا بدينه مستحقًا الولاية بسبب طاعته، أما الدعاء بخير الدنيا وبما يحول الإنسان من أهل الدنيا إلى أهل الآخرة فهو جائز لكل أحد من المسلمين تقاة وعصاة.

لديهم نظام اسمه (حلقة العزابة) وهي هيئة محدودة العدد تمثل خيرة أهل البلد علمًا وصلاحًا وتقوم بالإشراف الكامل على شؤون المجتمع الإباضي الدينية والتعليمية والإجتماعية والسياسية، كما تمثل مجلس الشورى في زمن الظهور الدفاع، أما في زمن الشراء والكتمان فإنها تقوم بعمل الإمام وتمثله في مهامه.

ـ لديهم منظمة اسمها (ايروان) تمثل المجلس الاستشاري المساعد للعزابة وهي القوة الثانية في البلد بعدها.

ـ يشكلون من بينهم لجانًا تقوم على جمع الزكاة وتوزيعها على الفقراء، كما تمنع منعًا باتًا طلب الزكاة أو الاستجداء وما إلى ذلك من صور انتظار العطاء.

ـ انشق عن الإباضية عدد من الفرق التي اندثرت وهي:

ـ الحفصية: أصحاب حفص بن أبي المقدام.

ـ الحارثية: أصحاب الحارث الإباضي.

ـ اليزيدية: أصحاب يزيد بن أنيسة. الذي زعم أن الله سيبعث رسولًا من العجم، وينـزل عليه كتابًا من السماء، ومن ثم ترك شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.

وقد تبرأ سائر الإباضية من أفكارهم وكفروهم لشططهم وابتعادهم عن الخط الإباضي الأصلي، الذي ما يزال إلى يومنا هذا.

الجذور الفكرية والعقائدية:

الإباضيون يعتمدون في السنة على ما يسمونه (مسند الربيع بن حبيب) - وهو مسند غير ثابت كما بين ذلك العلماء المحققون -.

ولقد تأثروا بمذهب أهل الظاهر، إذا أنهم يقفون عند بعض النصوص الدينية موقفًا حرفيًّا ويفسرونها تفسيرًا ظاهريًا.

وتأثروا كذلك بالمعتزلة في قولهم بخلق القرآن.

·يعتبر كتاب النيل وشفاء العليل ـ الذي شرحه الشيخ محمد بن يوسف إطْفَيِّش المتوفى سنة 1332ه‍ ـ من أشهر مراجعهم. جمع فيه فقه المذهب الإباضي وعقائده.

الانتشار ومواقع النفوذ:

كانت لهم صولة وجولة في جنوبي الجزيرة العربية حتى وصلوا إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، أما في الشمال الإفريقي فقد انتشر مذهبهم بين البربر وكانت لهم دولة عرفت باسم الدولة الرستمية وعاصمتها تاهرت.

حكموا الشمال الإفريقي حكمًا متصلًا مستقلًا زهاء مائة وثلاثين سنة حتى أزالهم الرافضة (العبيديون).

قامت للإباضية دولة مستقلة في عُمان وتعاقب على الحكم فيها إلى العصر الحديث أئمة إباضيون.

من حواضرهم التاريخية جبل نفوسة بليبيا، إذ كان معقلًا لهم ينشرون منه المذهب الإباضي، ومنه يديرون شؤون الفرقة الإباضية.

ما يزال لهم وجود إلى وقتنا الحاضر في كل من عُمان بنسبة مرتفعة وليبيا وتونس والجزائر وفي واحات الصحراء الغربية وفي زنجبار التي ضُمت إلى تانجانيقا تحت اسم تنـزانيا.

ويتضح مما تقدم:

الإباضية إحدى فرق الخوارج، وتنسب إلى مؤسسها عبد الله بن إباض التميمي، ويدعي أصحابها أنهم ليسوا خوارج وينفون عنهم هذه النسبة، والحقيقة أنهم ليسوا من غلاة الخوارج كالأزارقة مثلًا، لكنهم يتفقون مع الخوارج في مسائل عديدة منها: أن عبد الله بن إباض يعتبر نفسه امتدادًا للمحكمة الأولى من الخوارج، كما يتفقون مع الخوارج في تعطيل الصفات والقول بخلق القرآن، وتجويز الخروج على أئمة الجور.

المعتزلة

التعريف:

المعتزلة فرقة إسلامية نشأت في أواخر العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي، وقد اعتمدت على العقل المجرد في فهم العقيدة الإسلامية لتأثرها ببعض الفلسفات المستوردة مما أدى إلى انحرافها عن عقيدة أهل السنة والجماعة. وقد أطلق عليها أسماء مختلفة منها: المعتزلة والقدرية والعدلية وأهل العدل والتوحيد والمقتصدة والوعيدية.

التأسيس وأبرز الشخصيات:

اختلفت رؤية العلماء في ظهور الاعتزال، واتجهت هذه الرؤية وجهتين:

ـ الوجهة الأولى: أن الاعتزال حصل نتيجة النقاش في مسائل عقدية دينية كالحكم على مرتكب الكبيرة، والحديث في القدر، بمعنى هل يقدر العبد على فعله أو لا يقدر، ومن رأي أصحاب هذا الاتجاه أن اسم المعتزلة أطلق عليهم لعدة أسباب:

1 ـ أنهم اعتزلوا المسلمين بقولهم بالمنزلة بين المنزلتين

2 ـ أنهم عرفوا بالمعتزلة بعد أن اعتزل واصل بن عطاء حلقة الحسن البصري وشكل حقلة خاصة به لقوله بالمنزلة بين المنزلتين فقال الحسن: "اعتزلنا واصل".

3 ـ أو أنهم قالوا بوجوب اعتزال مرتكب الكبيرة ومقاطعته.

ـ والوجهة الثانية: أن الاعتزال نشأ بسبب سياسي حيث أن المعتزلة من شيعة علي رضي الله عنه اعتزلوا الحسن عندما تنازل لمعاوية، أو أنهم وقفوا موقف الحياد بين شيعة علي ومعاوية فاعتزلوا الفريقين.

أما القاضي عبد الجبار الهمذاني ـ مؤرخ المعتزلة ـ فيزعم أن الاعتزال ليس مذهبًا جديدًا أو فرقة طارئة أو طائفة أو أمرًا مستحدثًا، وإنما هو استمرار لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، وقد لحقهم هذا الاسم بسبب اعتزالهم الشر لقوله تعالى: (وأعتزلكم وما تدعون) ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من اعتزل الشر سقط في الخير).

والواقع أن نشأة الاعتزال كان ثمرة تطور تاريخي لمبادئ فكرية وعقدية وليدة النظر العقلي المجرد في النصوص الدينية وقد نتج ذلك عن التأثر بالفلسفة اليونانية والهندية والعقائد اليهودية والنصرانية لما سنرى في فقرة (الجذور الفكرية والعقائدية).

قبل بروز المعتزلة كفرقة فكرية على يد واصل بن عطاء، كان هناك جدل ديني فكري بدأ بمقولات جدلية كانت هي الأسس الأولى للفكر المعتزلي وهذه المقولات نوجزها مع أصحابها بما يلي:

ـ مقولة أن الإنسان حر مختار بشكل مطلق، وهو الذي يخلق أفعاله بنفسه قالها: معبد الجهني، الذي خرج على عبد الملك بن مروان مع عبد الرحمن بن الأشعث.. وقد قتله الحجاج عام 80هـ بعد فشل الحركة.

ـ وكذلك قالها غيلان الدمشقي في عهد عمر بن عبد العزيز وقتله هشام بن عبد الملك.

ـ ومقولة خلق القرآن ونفي الصفات، قالها الجهم بن صفوان، وقد قتله سلم بن أحوز في مرو عام 128هـ.

ـ وممن قال بنفي الصفات أيضًا: الجعد بن درهم الذي قتله خالد بن عبد الله القسري والي الكوفة.

ثم برزت المعتزلة كفرقة فكرية على يد واصل بن عطاء الغزال (80هـ ـ 131هـ) الذي كان تلميذًا للحسن البصري، ثم اعتزل حلقة الحسن بعد قوله بأن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين (أي ليس مؤمنًا ولا كافرًا) وأنه مخلد في النار إذا لم يتب قبل الموت، وقد عاش في أيام عبد الملك بن مروان وهشام بن عبد الملك، والفرقة المعتزلية التي تنسب إليه تسمى: الواصيلة.

ولاعتماد المعتزلة على العقل في فهم العقائد وتقصيهم لمسائل جزئية فقد انقسموا إلى طوائف مع اتفاقهم على المبادئ الرئيسة الخمسة ـ التي سنذكرها لاحقًا ـ وكل طائفة من هذه الطوائف جاءت ببدع جديدة تميزها عن الطائفة الأخرى.. وسمت نفسها باسم صاحبها الذي أخذت عنه.

وفي العهد العباسي برز المعتزلة في عهد المأمون حيث اعتنق الاعتزال عن طريق بشر المريسي وثمامة بن أشرس وأحمد بن أبي دؤاد وهو أحد رؤوس بدعة الاعتزال في عصره ورأس فتنة خلق القرآن، وكان قاضيًا للقضاة في عهد المعتصم.

ـ في فتنة خلق القرآن امتحن الإمام أحمد بن حنبل الذي رفض الرضوخ لأوامر المأمون والإقرار بهذه البدعة، فسجن وعذب وضرب بالسياط في عهد المعتصم بعد وفاة المأمون وبقي في السجن لمدة عامين ونصف ثم أعيد إلى منزله وبقي فيه طيلة خلافة المعتصم ثم ابنه الواثق.

ـ لما تولى المتوكل الخلافة عام 232هـ انتصر لأهل السنة وأكرم الإمام أحمد وأنهى عهد سيطرة المعتزلة على الحكم ومحاولة فرض عقائدهم بالقوة خلال أربعة عشر عامًا.

في عهد دولة بني بويه عام 334 هـ في بلاد فارس ـ وكانت دولة شيعية ـ توطدت العلاقة بين الشيعة والمعتزلة وارتفع شأن الاعتزال أكثر في ظل هذه الدولة فعين القاضي عبد الجبار رأس المعتزلة في عصره قاضيًا لقضاء الري عام 360هـ بأمر من الصاحب بن عباد وزير مؤيد الدولة البويهي، وهو من الروافض المعتزلة، يقول فيه الذهبي: " وكان شيعيًّا معتزليًّا مبتدعًا " ويقول المقريزي: " إن مذهب الاعتزال فشا تحت ظل الدولة البويهية في العراق وخراسان وما وراء النهر ". وممن برز في هذا العهد: الشريف المرتضى الذي قال عنه الذهبي: " وكان من الأذكياء والأولياء المتبحرين في الكلام والاعتزال والأدب والشعر لكنه إمامي جلد ".

بعد ذلك كاد أن ينتهي الاعتزال كفكر مستقل إلا ما تبنته منه بعض الفرق كالشيعة وغيرهم.

عاد فكر الاعتزال من جديد في الوقت الحاضر، على يد بعض الكتاب والمفكرين، الذين يمثلون المدرسة العقلانية الجديدة وهذا ما سنبسطه عند الحديث عن فكر الاعتزال الحديث.

ومن أبرز مفكري المعتزلة منذ تأسيسها على يد واصل بن عطاء وحتى اندثارها وتحللها في المذاهب الأخرى كالشيعة والأشعرية والماتريدية ما يلي:

ـ أبو الهذيل حمدان بن الهذيل العلاف (135 ـ226 هـ) مولى عبد القيس وشيخ المعتزلة والمناظر عنها. أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل بن عطاء، طالع كثيرًا من كتب الفلاسفة وخلط كلامهم بكلام المعتزلة، فقد تأثر بأرسطو وأنبادقليس من فلاسفة اليونان، وقال بأن " الله عالم بعلم وعلمه ذاته، وقادر بقدرة وقدرته ذاته … " انظر الفرق بين الفرق للبغدادي ص 76. وتسمى طائفة الهذيلية.

ـ إبراهيم بن يسار بن هانئ النظام (توفي سنة 231هـ) وكان في الأصل على دين البراهمة وقد تأثر أيضًا بالفلسفة اليونانية مثل بقية المعتزلة.. وقال: بأن المتولدات من أفعال الله تعالى، وتسمى طائفته النظامية.

ـ بشر بن المعتمر (توفي سنة 226 هـ) وهو من علماء المعتزلة، وهو الذي أحدث القول بالتولد وأفرط فيه فقال: إن كل المتولدات من فعل الإنسان فهو يصح أن يفعل الألوان والطعوم والرؤية والروائح وتسمى طائفته البشرية.

ـ معمر بن عباد السلمي (توفي سنة 220 هـ) وهو من أعظم القدرية فرية في تدقيق القول بنفي الصفات ونفي القدر خيره وشره من الله وتسمى طائفته: المعمرية.

ـ عيسى بن صبيح المكنى بأبي موسى الملقب بالمردار (توفي سنة 226هـ) وكان يقال له: راهب المعتزلة، وقد عرف عنه التوسع في التكفير حتى كفر الأمة بأسرها بما فيها المعتزلة، وتسمى طائفته المردارية.

ـ ثمامة بن أشرس النميري (توفي سنة 213هـ)، كان جامعًا بين قلة الدين وخلاعة النفس، مع اعتقاده بأن الفاسق يخلد في النار إذا مات على فسقه من غير توبة. وهو في حال حياته في منزلة بين المنزلتين. وكان زعيم القدرية في زمان المأمون والمعتصم والواثق وقيل إنه الذي أغرى المأمون ودعاه إلى الاعتزال، وتسمى طائفته الثمامية.

ـ عمرو بن بحر: أبو عثمان الجاحظ (توفي سنة 256هـ) وهو من كبار كتاب المعتزلة، ومن المطلعين على كتب الفلاسفة، ونظرًا لبلاغته في الكتابة الأدبية استطاع أن يدس أفكاره المعتزلية في كتاباته كما يدس السم في الدسم مثل، البيان والتبيين، وتسمى فرقته الجاحظية.

ـ أبو الحسين بن أبي عمر الخياط (توفي سنة 300هـ) من معتزلة بغداد و بدعته التي تفرد بها قوله بأن المعدوم جسم، والشيء المعدوم قبل وجوده جسم، وهو تصريح بقدم العالم، وهو بهذا يخالف جميع المعتزلة وتسمى فرقته الخياطية.

ـ القاضي عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمداني (توفي سنة 414هـ) فهو من متأخري المعتزلة، قاضي قضاة الري وأعمالها، وأعظم شيوخ المعتزلة في عصره، وقد أرخ للمعتزلة وقنن مبادئهم وأصولهم الفكرية والعقدية.

المبادئ والأفكار:

جاءت المعتزلة في بدايتها بفكرتين مبتدعتين:

ـ الأولى: القول بأن الإنسان مختار بشكل مطلق في كل ما يفعل، فهو يخلق أفعاله بنفسه، ولذلك كان التكليف، ومن أبرز من قال ذلك غيلان الدمشقي، الذي أخذ يدعو إلى مقولته هذه في عهد عمر بن عبد العزيز. حتى عهد هشام بن عبد الملك، فكانت نهايته أن قتله هشام بسبب ذلك.

ـ الثانية: القول بأن مرتكب الكبيرة ليس مؤمنًا ولا كافرًا ولكنه فاسق فهو بمنزلة بين المنزلتين، هذه حاله في الدنيا أما في الآخرة فهو لا يدخل الجنة لأنه لم يعمل بعمل أهل الجنة بل هو خالد مخلد في النار، ولا مانع عندهم من تسميته مسلمًا باعتباره يظهر الإسلام وينطق بالشهادتين ولكنه لا يسمى مؤمنًا.

ثم حرر المعتزلة مذهبهم في خمسة أصول:

1 ـ التوحيد.

2 ـ العدل.

3 ـ الوعد والوعيد.

4 ـ المنزلة بين المنزلتين.

5 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

1 ـ التوحيد: وخلاصته برأيهم، هو أن الله تعالى منزه عن الشبيه والمماثل (ليس كمثله شيء) ولا ينازعه أحد في سلطانه ولا يجري عليه شيء مما يجري على الناس. وهذا حق ولكنهم بنوا عليه نتائج باطلة منها: استحالة رؤية الله تعالى لاقتضاء ذلك نفي الصفات، وأن الصفات ليست شيئًا غير الذات، وإلا تعدد القدماء في نظرهم، لذلك يعدون من نفاة الصفات وبنوا على ذلك أيضاَ أن القرآن مخلوق لله سبحانه وتعالى لنفيهم عنه سبحانه صفة الكلام.

2 ـ العدل: ومعناه برأيهم أن الله لا يخلق أفعال العباد، ولا يحب الفساد، بل إن العباد يفعلون ما أمروا به وينتهون عما نهوا عنه بالقدرة التي جعلها الله لهم وركبها فيهم وأنه لم يأمر إلا بما أراد ولم ينه إلا عما كره، وأنه ولي كل حسنة أمر بها، بريء من كل سيئة نهى عنها، لم يكلفهم ما لا يطيقون ولا أراد منهم ما لا يقدرون عليه. وذلك لخلطهم بين إرادة الله تعالى الكونية وإرادته الشرعية.

3 ـ الوعد والوعيد: ويعني أن يجازي الله المحسن إحسانًا ويجازي المسيء سوءًا، ولا يغفر لمرتكب الكبيرة إلا أن يتوب.

4 ـ المنزلة بين المنزلتين: وتعني أن مرتكب الكبيرة في منزلة بين الإيمان والكفر فليس بمؤمن ولا كافر. وقد قرر هذا واصل بن عطاء شيخ المعتزلة.

5 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فقد قرروا وجوب ذلك على المؤمنين نشرًا لدعوة الإسلام وهداية للضالين وإرشادًا للغاوين كل بما يستطيع: فذو البيان ببيانه، والعالم بعلمه، وذو السيف بسيفه وهكذا. ومن حقيقة هذا الأصل أنهم يقولون بوجوب الخروج على الحاكم إذا خالف وانحرف عن الحق.

ومن مبادئ المعتزلة الاعتماد على العقل كليًّا في الاستدلال لعقائدهم وكان من آثار اعتمادهم على العقل في معرفة حقائق الأشياء وإدراك العقائد، أنهم كانوا يحكمون بحسن الأشياء وقبحها عقلًا فقالوا كما جاء في الملل والنحل للشهرستاني: " المعارف كلها معقولة بالفعل، واجبة بنظر العقل، وشكر المنعم واجب قبل ورود السمع أي قبل إرسال الرسل، والحسن والقبيح صفتان ذاتيتان للحسن والقبيح ".

ـ ولاعتمادهم على العقل أيضًا أوَّلوا الصفات بما يلائم عقولهم الكلية، كصفات الاستواء واليد والعين وكذلك صفات المحبة والرضى والغضب والسخط ومن المعلوم أن المعتزلة تنفي كل الصفات لا أكثرها.

ـ ولاعتمادهم على العقل أيضًا، طعن كبراؤهم في أكابر الصحابة وشنعوا عليهم ورموهم بالكذب، فقد زعم واصل بن عطاء: أن إحدى الطائفتين يوم الجمل فاسقة، إما طائفة علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر والحسن والحسين وأبي أيوب الأنصاري أو طائفة عائشة والزبير، وردوا شهادة هؤلاء الصحابة فقالوا: لا تقبل شهادتهم.

ـ وسبب اختلاف المعتزلة فيما بينهم وتعدد طوائفهم هو اعتمادهم على العقل فقط ـ كما نوهنا ـ وإعراضهم عن النصوص الصحيحة من الكتاب والسنة، ورفضهم الإتباع بدون بحث واستقصاء وقاعدتهم التي يستندون إليها في ذلك:

كل مكلف مطالب بما يؤديه إليه اجتهاده في أصول الدين، فيكفي وفق مذهبهم أن يختلف التلميذ مع شيخه في مسألة ليكون هذا التلميذ صاحب فرقة قائمة، وما هذه الفرق التي عددناها آنفًا إلا نتيجة اختلاف تلاميذ مع شيوخهم، فأبو الهذيل العلاف له فرقة، خالفه تلميذه النظام فكانت له فرقة، فخالفه تلميذه الجاحظ فكانت له فرقة، والجبائي له فرقة، فخالفه ابنه أبو هاشم عبد السلام فكانت له فرقة أيضاَ وهكذا.

ـ وهكذا نجد أن المعتزلة قد حولوا الدين إلى مجموعة من القضايا العقلية والبراهين المنطقية، وذلك لتأثرهم بالفلسفة اليونانية عامة وبالمنطق الصوري الأوسطي خاصة.

وقد فند علماء الإسلام آراء المعتزلة في عصرهم، فمنهم أبو الحسن الأشعري الذي كان منهم، ثم خرج من فرقتهم ورد عليهم متبعًا أسلوبهم في الجدال والحوار.. ثم جاء الإمام أحمد بن حنبل الذي اكتوى بنار فتنتهم المتعلقة بخلق القرآن ووقف في وجه هذه الفتنة بحزم وشجاعة نادرتين.

ـ ومن الردود قوية الحجة، بارعة الأسلوب، رد شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عليهم في كتابه القيم: درء تعارض العقل والنقل فقد تتبع آراءهم وأفكارهم واحدة واحدة ورد عليها ردًّا مفحمًا.. وبين أن صريح العقل لا يكمن أن يكون مخالفًا لصحيح النقل.

وقد ذُكر في هذا الحديث أكثر من مرة أن المعتزلة اعتمدوا على العقل في تعاملهم مع نصوص الموحي، وقد يتوهم أحد أن الإسلام ضد العقل ويسعى للحجر عليه. ولكن هذا يرده دعوة الإسلام إلى التفكر في خلق السموات والأرض والتركيز على استعمال العقل في اكتشاف الخير والشر وغير ذلك مما هو معروف ومشهور مما دعا العقاد إلى أن يؤلف كتابًا بعنوان: التفكر فريضة إسلامية، ولهذا فإن من انحرافات المعتزلة هو استعمالهم العقل في غير مجاله: في أمور غيبية مما تقع خارج الحس ولا يمكن محاكمتها محاكمة عقلية صحيحة، كما أنهم بنوا عددًا من القضايا على مقدمات معينة فكانت النتائج ليست صحيحة على إطلاقها وهو أمر لا يسلّم به دائمًا حتى لو اتبعت نفس الأساليب التي استعملوها في الاستنباط والنظر العقلي: مثل نفيهم الصفات عن الله اعتمادًا على قوله تعالى: (ليس كمثله شيء). وكان الصحيح أن لا تنفى عنه الصفات التي أثبتها لنفسه سبحانه وتعالى ولكن تفهم الآية على أن صفاته سبحانه وتعالى لا تماثل صفات المخلوقين.

وقد حدد العلماء مجال استعمال العقل بعدد من الضوابط منها:

ـ أن لا يتعارض مع النصوص الصحيحة.

ـ أن لا يكون استعمال العقل في القضايا الغيبية التي يعتبر الوحي هو المصدر الصحيح والوحيد لمعرفتها.

ـ أن يقدم النقل على العقل في الأمور التي لم تتضح حكمتها " وهو ما يعرف بالأمور التوقيفية".

ولا شك أن احترام الإسلام للعقل وتشجيعه للنظر والفكر لا يقدمه على النصوص الشرعية الصحيحة. خاصة أن العقول متغيرة وتختلف وتتأثر بمؤثرات كثيرة تجعلها لا تصلح لأن تكون الحكم المطلق في كل الأمور. ومن المعروف أن مصدر المعرفة في الفكر الإسلامي يتكون من:

1 ـ الحواس وما يقع في مجالها من الأمور الملموسة من الموجودات.

2 ـ العقل وما يستطيع أن يصل إليه من خلال ما تسعفه به الحواس والمعلومات التي يمكن مشاهدتها واختبارها وما يلحق ذلك من عمليات عقلية تعتمد في جملتها على ثقافة الفرد ومجتمعه وغير ذلك من المؤثرات.

3 ـ الوحي من كتاب وسنة حيث هو المصدر الوحيد والصحيح للأمور الغيبية، وما لا تستطيع أن تدركه الحواس، وما أعده الله في الدار الآخرة، وما أرسل من الرسل إلخ …

وهكذا يظهر أنه لا بد من تكامل العقل والنقل في التعامل مع النصوص الشرعية كل فيما يخصه وبالشروط التي حددها العلماء.

الجذور الفكرية والعقائدية:

هناك رواية ترجع الفكر المعتزلي في نفي الصفات إلى أصول يهودية فلسفية فالجعد بن درهم أخذ فكره عن أبان بن سمعان وأخذها أبان عن طالوت وأخذها طالوت عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي.

وقيل: إن مناقشات الجهم بن صفوان مع فرقة السمنية ـ وهي فرقة هندية تؤمن بالتناسخ ـ قد أدت إلى تشكيكه في دينه وابتداعه لنفي الصفات.

إن فكر يوحنا الدمشقي وأقواله تعد موردًا من موارد الفكر الاعتزالي، إذ أنه كان يقول بالأصلح ونفي الصفات الأزلية حرية الإرادة الإنسانية.

ـ ونفي القدر عند المعتزلة الذي ظهر على يد الجهني وغيلان الدمشقي، قيل إنهما أخذاه عن نصراني يدعى أبو يونس سنسويه وقد أخذ عمرو بن عبيد صاحب واصل بن عطاء فكرة نفي القدر عن معبد الجهني.

ـ تأثر المعتزلة بفلاسفة اليونان في موضوع الذات والصفات، فمن ذلك قول أنبادقليس الفيلسوف اليوناني: "إن الباري تعالى لم يزل هويته فقط وهو العلم المحض وهو الإرادة المحضة وهو الجود والعزة، والقدرة والعدل والخير والحق، لا أن هناك قوى مسماة بهذه الأسماء بل هي هو، وهو هذه كلها" انظر الملل والنحل ج 2/ ص58.

وكذلك قول أرسطوطاليس في بعض كتبه "إن الباري علم كله، قدره كله، حياة كله، بصر كله".

فأخذ العلاف وهو من شيوخ المعتزله هذه الأفكار وقال: إن الله عالم بعلم وعلمه ذاته، قادر بقدرة وقدرته ذاته، حي بحياة وحياته ذاته.

ـ وأخذ النظام من ملاحدة الفلاسفة قوله بإبطال الجزء الذي لا يتجرأ، ثم بنى عليه قوله بالطفرة، أي أن الجسم يمكن أن يكون في مكان (أ) ثم يصبح في مكان (ج) دون أن يمر في (ب).

وهذا من عجائبه حتى قيل: إن من عجائب الدنيا: " طفرة النظام وكسب الأشعري ".

ـ وإن أحمد بن خابط والفضل الحدثي وهما من أصحاب النظام قد طالعا كتب الفلاسفة ومزجا الفكر الفلسفي مع الفكر النصراني مع الفكر الهندي وقالا بما يلي:

1 ـ إن المسيح هو الذي يحاسب الخلق في الآخرة.

2 ـ إن المسيح تدرع بالجسد الجسماني وهو الكلمة القديمة المتجسدة.

3 ـ القول بالتناسخ.

4 ـ حملا كل ما ورد في الخبر عن رؤية الله تعالى على رؤية العقل الأول هو أول مبتدع وهو العقل الفعال الذي منه تفيض الصور على الموجودات.

يؤكد العلماء تأثير الفلسفة اليونانية على فكر المعتزلة بما قام به الجاحظ وهو من مصنفي المعتزلة ومفكريهم فقد طالع كثيرًا من كتب الفلاسفة وتمذهب بمذهبهم ـ حتى إنه خلط وروج كثيرًا من مقالاتهم بعبارته البليغة.

ـ ومنهم من يرجع فكر المعتزلة إلى الجذور الفكرية والعقدية في العراق ـ حيث نشأ المعتزلة ـ الذي يسكنه عدة فرق تنتهي إلى طوائف مختلفة، فبعضهم ينتهي إلى الكلدان وبعضهم إلى الفرس وبعضهم نصارى وبعضهم يهود وبعضهم مجوس. وقد دخل هؤلاء في الإسلام وبعضهم قد فهمه على ضوء معلوماته القديمة وخلفيته الثقافية والدينية.

الفكر الاعتزالي الحديث:

يحاول بعض الكتاب والمفكرين في الوقت الحاضر إحياء فكر المعتزلة من جديد بعد أن عفى عليه الزمن أو كاد.. فألبسوه ثوبًا جديدًا، وأطلقوا عليه أسماء جديدة مثل … العقلانية أو التنوير أو التجديد أو التحرر الفكري أو التطور أو المعاصرة أو التيار الديني المستنير أو اليسار الإسلامي..

ـ وقد قوّى هذه النزعة التأثر بالفكر الغربي العقلاني المادي، وحاولوا تفسير النصوص الشرعية وفق العقل الإنساني.. فلجأوا إلى التأويل كما لجأت المعتزلة من قبل ثم أخذوا يتلمسون في مصادر الفكر الإسلامي ما يدعم تصورهم، فوجدوا في المعتزلة بغيتهم فأنكروا المعجزات المادية.. وما تفسير الشيخ محمد عبده لإهلاك أصحاب الفيل بوباء الحصبة أو الجدري الذي حملته الطير الأبابيل.. إلا من هذا القبيل.

وأهم مبدأ معتزلي سار عليه المتأثرون بالفكر المعتزلي الجدد هو ذاك الذي يزعم أن العقل هو الطريق الوحيد للوصول إلى الحقيقة، حتى لو كانت هذه الحقيقة غيبية شرعية، أي أنهم أخضعوا كل عقيدة وكل فكر للعقل البشري القاصر.

وأخطر ما في هذا الفكر الاعتزالي.. محاولة تغيير الأحكام الشرعية التي ورد فيها النص اليقيني من الكتاب والسنة.. مثل عقوبة المرتد، وفرضية الجهاد، والحدود، وغير ذلك.. فضلًا عن موضوع الحجاب وتعدد الزوجات، والطلاق والإرث.. إلخ.. وطلب أصحاب هذا الفكر إعادة النظر في ذلك كله.. وتحكيم العقل في هذه المواضيع. ومن الواضح أن هذا العقل الذي يريدون تحكيمه هو عقل متأثر بما يقوله الفكر الغربي حول هذه القضايا في الوقت الحاضر.

ومن دعاة الفكر الاعتزالي الحديث سعد زغلول الذي نادى بنزع الحجاب عن المرأة المصرية وقاسم أمين مؤلف كتاب تحرير المرأة و المرأة الجديدة، ولطفي السيد الذي أطلقوا عليه: " أستاذ الجيل " وطه حسين الذي أسموه "عميد الأدب العربي " وهؤلاء كلهم أفضوا إلى ما قدموا. هذا في البلاد العربية.

أما في القارة الهندية فظهر السير أحمد خان، الذي منح لقب سير من قبل الاستعمار البريطاني. وهو يرى أن القرآن الكريم لا السنة النبوية هو أساس التشريع وأحلّ الربا البسيط في المعاملات التجارية. ورفض عقوبة الرجم والحرابة، ونفى شرعية الجهاد لنشر الدين، وهذا الأخير قال به لإرضاء الإنجليز لأنهم عانوا كثيرًا من جهاد المسلمين الهنود لهم.

ـ وجاء تلميذه سيد أمير علي الذي أحلّ زواج المسلمة بالكتابي وأحل الاختلاط بين الرجل والمرأة.

ـ ومن هؤلاء أيضًا مفكرون علمانيون، لم يعرف عنهم الالتزام بالإسلام.. مثل زكي نجيب محمود صاحب (الوضعية المنطقية) وهي من الفلسفة الوضعية الحديثة التي تنكر كل أمر غيبي.. فهو يزعم أن الاعتزال جزء من التراث ويجب أن نحييه، وعلى أبناء العصر أن يقفوا موقف المعتزلة من المشكلات القائمة (انظر كتاب تجديد الفكر العربي ص 123).

ـ ومن هؤلاء أحمد أمين صاحب المؤلفات التاريخية والأدبية مثل فجر الإسلام وضحى الإسلام وظهر الإسلام، فهو يتباكى على موت المعتزلة في التاريخ القديم وكأن من مصلحة الإسلام بقاؤهم، ويقول في كتابه: ضحى الإسلام: " في رأيي أن من أكبر مصائب المسلمين موت المعتزلة " (ج3 ص207).

ـ ومن المعاصرين الأحياء الذين يسيرون في ركب الدعوة الإسلامية من ينادي بالمنهج العقلي الاعتزالي في تطوير العقيدة والشريعة مثل الدكتور محمد فتحي عثمان في كتابه الفكر الإسلامي والتطور.. والدكتور حسن الترابي في دعوته إلى تجديد أصول الفقه حيث يقول: " إن إقامة أحكام الإسلام في عصرنا تحتاج إلى اجتهاد عقلي كبير، وللعقل سبيل إلى ذلك لا يسع عاقل إنكاره، والاجتهاد الذي نحتاج إليه ليس اجتهادًا في الفروع وحدها وإنما هو اجتهاد في الأصول أيضًا " (انظر كتاب المعتزلة بين القديم والحديث ص 138).

ـ وهناك كتاب كثيرون معاصرون، ومفكرون إسلاميون يسيرون على المنهج نفسه ويدعون إلى أن يكون للعقل دور كبير في الاجتهاد وتطويره، وتقييم الأحكام الشرعية، وحتى الحوادث التاريخية.. ومن هؤلاء فهمي هويدي ومحمد عمارة ـ صاحب النصيب الأكبر في إحياء تراث المعتزلة والدفاع عنه ـ وخالد محمد خالد و محمد سليم العوا، وغيرهم. ولا شك بأهمية الاجتهاد وتحكيم العقل في التعامل مع الشريعة الإسلامية ولكن ينبغي أن يكون ذلك في إطار نصوصها الثابتة وبدوافع ذاتية وليس نتيجة ضغوط أجنبية وتأثيرات خارجية لا تقف عند حد، وإذا انجرف المسلمون في هذا الاتجاه ـ اتجاه ترويض الإسلام بمستجدات الحياة والتأثير الأجنبي بدلًا من ترويض كل ذلك لمنهج الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ فستصبح النتيجة أن لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ولا من الشريعة إلا رسمها ويحصل للإسلام ما حصل للرسالات السابقة التي حرفت بسبب إتباع الأهواء والآراء حتى أصبحت لا تمت إلى أصولها بأي صلة.

ويتضح مما سبق:

أن حركة المعتزلة كانت نتيجة لتفاعل بعض المفكرين المسلمين في العصور الإسلامية مع الفلسفات السائدة في المجتمعات التي اتصل بها المسلمون. وكانت هذه الحركة نوع من ردة الفعل التي حاولت أن تعرض الإسلام وتصوغ مقولاته العقائدية والفكرية بنفس الأفكار والمناهج الوافدة وذلك دفاعًا ع الإسلام ضد ملاحدة تلك الحضارات بالأسلوب الذي يفهمونه. ولكن هذا التوجه قاد إلى مخالفات كثيرة وتجاوزات مرفوضة كما فعل المعتزلة في إنكار الصفات الإلهية تنزيهًا لله سبحانه عن مشابهة المخلوقين.

ومن الواضح أيضًا أن أتباع المعتزلة الجدد وقعوا فيما وقع فيه أسلافهم، وذلك أن ما يعرضون الآن من اجتهادات إنما الهدف منها أن يظهر الإسلام بالمظهر المقبول عند أتباع الحضارة الغربية والدفاع عن نظامه العام قولًا بأنه إنْ لم يكن أحسن من معطيات الحضارة الغربية فهو ليس بأقل منها.

ولذا فلا بد أن يتعلم الخلف من أخطاء سلفهم ويعلموا أن عزة الإسلام وظهوره على الدين كله هي في تميز منهجه وتفرد شريعته واعتباره المرجع الذي تقاس عليه الفلسفات والحضارات في الإطار الذي يمثله الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح في شمولهما وكمالهما.

الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م


120-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (الماتريدية-الفرق العقائدية في الإسلام)

الماتريدية

التعريف:

الماتريدية: فرقة كلامية (بدعية)، تُنسب إلى أبي منصور الماتريدي، قامت على استخدام البراهين والدلائل العقلية والكلامية في محاججة خصومها، من المعتزلة والجهمية وغيرهم، لإثبات حقائق الدين والعقيدة الإسلامية.

التأسيس وأبرز الشخصيات:

مرت الماتريدية كفرقة كلامية بعدة مراحل، ولم تُعرف بهذا الاسم إلا بعد وفاة مؤسسها، كما لم تعرف الأشعرية وتنتشر إلا بعد وفاة أبي الحسن الأشعري، ولذلك فإنه يمكن إجمالها في أربع مراحل رئيسية كالتالي:

مرحلة التأسيس: [000ـ333هـ] والتي اتسمت بشدة المناظرات مع المعتزلة وصاحب هذه المرحلة:

ـ أبو منصور الماتريدي: [000ـ333هـ]: هو محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي، نسبة إلى (ماتريد) وهي محلة قرب سمرقند فيما وراء النهر، ولد بها ولا يعرف على وجه اليقين تاريخ مولده، بل لم يذكر من ترجم له كثيرًا عن حياته، أو كيف نشأ وتعلم، أو بمن تأثر. ولم يذكروا من شيوخه إلا العدد القليل مثل: نصير بن يحيى البلخي، وقيل نصر وتلقى عنه علوم الفقه الحنفي وعلوم الكلام.

ـ أطلق عليه الماتريدية، ومن وافقهم عدة ألقاب تدل على قدره وعلو منزلته عندهم مثل: "إمام المهدى"، "إمام المتكلمين".

قال عبد الله المرائي في كتاب الفتح المبين في طبقات الأصوليين: "كان أبو منصور قوي الحجة، فحما في الخصومة، دافع عن عقائد المسلمين، ورد شبهات الملحدين.." (1/193، 194). وقال عنه الشيخ أبو الحسن الندوي في كتابه رجال الفكر والدعوة "جهبذ من جهابذة الفكر الإنساني، امتاز بالذكاء والنبوغ وحذق الفنون العلمية المختلفة" (ص 139) بل كان يرجِّحه على أبي الحسن الأشعري في كتاب تاريخ الدعوة والعزيمة (1/114ـ115).

ـ عاصر أبا الحسن الأشعري، وعاش الملحمة بين أهل الحديث وأهل الكلام من المعتزلة وغيرهم، فكانت له جولاته ضد المعتزلة وغيرهم، ولكن بمنهاج غير منهاج الأشعري، وإن التقيا في كثير من النتائج غير أن المصادر التاريخية لا تثبت لهما لقاء أو مراسلات بينهما، أو إطلاع على كتب بعضها.

ـ توفي عام 333هـ ودفن بسمرقند، وله مؤلفات كثيرة: في أصول الفقه والتفسير. ومن أشهرها: تأويلات أهل السنة أو تأويلات القرآن وفيه تناول نصوص القرآن الكريم، ولا سيما آيات الصفات، فأوَّلها تأويلات جهمية. و من أشهر كتبه في علم الكلام كتاب التوحيد وفيه قرر نظرياته الكلامية، وبيَّن معتقده في أهم المسائل الاعتقادية، ويقصد بالتوحيد: توحيد الخالقية والربوبية، وشيء من توحيد الأسماء والصفات، ولكن على طريقة الجهمية بتعطيل كثير من الصفات بحجة التنزيه ونفي التشبيه؛ مخالفًا طريقة السلف الصالح. كما ينسب إليه شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة، وله في الردود على المعتزلة رد الأصول الخمسة وأيضًا في الرد على الروافض رد كتاب الإمامة لبعض الروافض، وفي الرد على القرامطة الرد على فروع القرامطة.

مرحلة التكوين: [333ـ500هـ]: وهي مرحلة تلامذة الماتريدي ومن تأثر به من بعده، وفيه أصبحت فرقة كلامية ظهرت أولًا في سمرقند، وعملت على نشر أفكار شيخهم وإمامهم، ودافعوا عنها، وصنفوا التصانيف متبعين مذهب الإمام أبي حنيفة في الفروع (الأحكام)، فراجت العقيدة الماتريدية في تلك البلاد أكثر من غيرها. ومن أشهر أصحاب هذه المرحلة: أبو القاسم إسحاق بن محمد بن إسماعيل الحكيم السمرقندي (342هـ)، عرف بأبي القاسم الحكيم لكثرة حكمه ومواعظه، وأبو محمد عبد الكريم بن موسى بن عيسى البزدوي (390هـ).

ثم تلى ذلك مرحلة أخرى تُعتبر امتدادًا للمرحلة السابقة. ومن أهم وأبرز شخصياتها:

ـ أبو اليسر البزدوي [421ـ493هـ]: هو محمد بن محمد بن الحسين ابن عبد الكريم، والبزدوي نسبة إلى بزدوة ويقال بزدة، ولقب بالقاضي الصدر، وهو شيخ الحنفية بعد أخيه الكبير علي البزودي، ولد عام (421هـ).

ـ تلقى العلم على يد أبيه، الذي أخذه عن جده عبد الكريم تلميذ أبي منصور الماتريدي، قرأ كتب الفلاسفة أمثال الكندي، وغيره، وكذلك كتب المعتزلة أمثال الجبائي، والكعبي، والنّظام، وغيرهم، وقال فيها: "لا يجوز إمساك تلك الكتب والنظر فيها؛ لكي لا تحدث الشكوك، وتوهن الاعتقاد"، ولا يرى نسبة الممسك إلى البدعة. كما اطلع على كتب الأشعري، وتعمق فيها، وقال بجواز النظر فيها بعد معرفة أوجه الخطأ فيها، كما اطلع على كتابي التأويلات، والتوحيد للماتريدي فوجد في كتاب التوحيد قليل انغلاق وتطويل، وفي ترتيبه نوع تعسير، فعمد إلى إعادة ترتيبه وتبسيطه مع ذكر بعض الإضافات عليه في كتاب أصول الدين.

ـ أخذ عن الشيخ أبو اليسر البزدوي جمٌّ غفير من التلاميذ؛ ومن أشهرهم: ولده القاضي أبو المعاني أحمد، ونجم الدين عمر بن محمد النسفي صاحب العقائد النسفية، وغيرهما.

ـ توفي في بخارى في التاسع من رجب سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة.

مرحلة التأليف والتأصيل للعقيدة الماتريدية: [500ـ700هـ]: وامتازت بكثرة التأليف وجمع الأدلة للعقيدة الماتريدية؛ ولذا فهي أكبر الأدوار السابقة في تأسيس العقيدة، ومن أهم أعيان هذه المرحلة:

ـ أبو المعين النسفي [438ـ508هـ]: وهو ميمون بن محمد بن معتمد النسفي المكحولي، والنسفي نسبة إلى نسف وهي مدينة كبيرة بين جيحون وسمرقند، والمكحولي نسبة إلى جده الأكبر، ولكن نسبته إلى بلده غلبت نسبته إلى جده، وله ألقاب عدة أشهرها: سيف الحق والدين.

ـ ويعد من أشهر علماء الماتريدية، إلا أن من ترجم له لم يذكر أحدًا من شيوخه، أو كيفية تلقيه العلم، يقول الدكتور فتح الله خليف: "ويعتبر الإمام! أبو المعين النسفي من أكبر من قام بنصرة مذهب الماتريدي، وهو بين الماتريدية كالباقلاني والغزالي بين الأشاعرة، ومن أهم كتبه تبصرة الأدلة، ويعد من أهم المراجع في معرفة عقيدة الماتريدية بعد كتاب التوحيد للماتريدي، بل هو أوسع مرجع في عقيدة الماتريدية على الإطلاق، وقد اختصره في كتابه التمهيد، وله أيضًا كتاب بحر الكلام، وهو من الكتب المختصرة التي تناول فيها أهم القضايا الكلامية".

ـ توفي في الخامس والعشرين من ذي الحجة سنة ثمانٍ وخمسمائة، وله سبعون سنة.

ـ نجم الدين عمر النسفي [462ـ537هـ]: هو أبو حفص نجم الدين عمر بن محمد ابن أحمد بن إسماعيل … بن لقمان الحنفي النسفي السمرقندي، وله ألقاب عدة أشهرها: نجم الدين، ولد في نسف سنة إحدى أو اثنتين وستين وأربعمائة.

ـ كان من المكثرين من الشيوخ، فقد بلغ عدد شيوخه خمسمائة رجلًا ومن أشهرهم: أبو اليسر البزدوي، وعبد الله بن علي بن عيسى النسفي. وأخذ عنه خلقٌ كثير، وله مؤلفات بلغت المائة، منها: مجمع العلوم، التيسير في تفسير القرآن، النجاح في شرح كتاب أخبار الصحاح في شرح البخاري وكتاب العقائد المشهورة بالعقائد النسفية، والذي يعد من أهم المتون في العقيدة الماتريدية وهو عبارة عن مختصر لتبصرة الأدلة لأبي المعين النسفي قال فيه السمعاني في ترجمة له: "كان إمامًا فاضلًا متقنًا، صنَّف في كل نوع من التفسير والحديث.. فلما وافيت سمرقند استعرت عدة كتب من تصانيفه، فرأيت فيها أوهامًا كثيرة خارجة عن الحد، فعرفت أنه كان ممن أحب الحديث، ولم يرزق فهمه".

ـ توفي بسمرقند ليلة الخميس ثاني عشر من جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين وخمسمائة.

مرحلة التوسع والانتشار: [700ـ1300هـ]: وتعد من أهم مراحل الماتريدية حيث بلغت أوجَ توسعها وانتشارها في هذه المرحلة؛ وما ذلك إلا لمناصرة سلاطين الدولة العثمانية، فكان سلطان الماتريدية يتسع حسب اتساع سلطان الدولة العثمانية، فانتشرت في: شرق الأرض، وغربها، وبلاد العرب، والعجم، والهند، والترك، وفارس، والروم.

وبرز فيها أمثال: الكمال بن الهمام صاحب المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة، والذي ما زال يدرَّس في بعض الجامعات الإسلامية. وفي هذا الدور كثرت فيها تأليف الكتب الكلامية من: المتون، والشروح، والشروح على الشروح، والحواشي على الشروح.

وهناك مدراس مازالت تتبنى الدعوة للماتريدية في شبه القارة الهندية وتتمثل في:

ـ مدرسة ديوبند و الندوية [1283هـ ـ …] وفيها كثر الاهتمام بالتأليف في علم الحديث وشروحه، فالديوبندية أئمة في العلوم النقلية والعقلية؛ إلا أنهم متصوفة محضة، وعند كثير منهم بدعٌ قبورية، كما يشهد عليهم كتابهم المهنَّد على المفنَّد لـ الشيخ خليل أحمد السهارنفوري أحد أئمتهم، وهو من أهم كتب الديوبندية في العقيدة، ولا تختلف عنها المدرسة الندوية في كونها ماتريدية العقيدة.

ـ مدرسة البريلوي [1272هـ ـ…] نسبة إلى زعيمهم أحمد رضا خان الأفغاني الحنفي الماتريدي الصوفي الملقب بعبد المصطفي [1340هـ] وفي هذا الدور يظهر الإشراك الصريح، والدعوة إلى عبادة القبور، وشدة العداوة للديوبندية، وتكفيرهم فضلًا عن تكفير أهل السنة.

ـ مدرسة الكوثري [1296هـ ـ …] و تنسب إلى الشيخ محمد زاهد الكوثري الجركسي الحنفي الماتريدي (1371هـ) ويظهر فيها شدة الطعن في أئمة الإسلام ولعنهم، وجعلهم مجسمة ومشبهة، وجعل كتب السلف ككتب: التوحيد، الإبانة، الشريعة، والصفات، والعلو، وغيرها من كتب أئمة السنة، كتب وثنيةٍ وتجسيمٍ وتشبيهٍ، كما يظهر فيها أيضًا شدة الدعوة إلى البدع الشركية وللتصوف من تعظيم القبور والمقبورين تحت ستار التوسل. انظر تعليقات الكوثري على كتاب الأسماء والصفات للبيهقي، وكتاب مقالات الكوثري.

أهم الأفكار والمعتقدات:

من حيث مصدر التلقي: قسّم الماتريدية أصول الدين حسب التلقي إلى:

ـ الإلهيات [العقليات]: وهي ما يستقل العقل بإثباتها والنقل تابع له، وتشمل أبواب التوحيد والصفات.

ـ الشرعيات [السمعيات]: وهي الأمور التي يجزم العقل بإمكانها ثبوتًا ونفيًا، ولا طريق للعقل إليها مثل: النبوات، و عذاب القبر، وأمور الآخرة، علماُ بأن بعضهم جعل النبوات من قبيل العقليات.

ولا يخفي ما في هذا من مخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة حيث أن القرآن والسنة وإجماع الصحابة هم مصادر التلقي عندهم، فضلاُ عن مخالفتهم في بدعة تقسيم أصول الدين إلى: عقليات وسمعيات، والتي قامت على فكرة باطلة أصّلها الفلاسفة من: أن نصوص الدين متعارضة مع العقل، فعملوا على التوسط بين العقل والنقل، مما اضطرهم إلى إقحام العقل في غير مجالات بحثه؛ فخرجوا بأحكام باطلة تصطدم مع الشرع ألجأتهم إلى التأويل والتفويض، بينما لا منافاة عند أهل السنة والجماعة بين العقل والسليم الصريح والنقل الصحيح.

بناءً على التقسيم السابق فإن موقفهم من الأدلة النقلية في مسائل الإلهيات [العقليات] كالتالي:

ـ إن كان من نصوص القرآن الكريم والسنة المتواترة مما هو قطعي الثبوت قطعي الدلالة عندهم، أي مقبولًا عقلاُ، خاليًا من التعارض مع عقولهم؛ فإنهم يحتجون به في تقرير العقيدة. وأما إن كان قطعي الثبوت ظني الدلالة عندهم أي: مخالفًا لعقولهم، فإنه لا يفيد اليقين، ولذلك تُؤوَّل الأدلة النقلية بما يوافق الأدلة العقلية، أو تفويض معانيها إلى الله عز وجل. وهم في ذلك مضطربون، فليست عندهم قاعدة مستقيمة في التأويل والتفويض؛ فمنهم من رجّح التأويل على التفويض، ومنهم من رجّح التفويض، ومنهم من أجاز الأمرين، وبعضهم رأى أن التأويل لأهل النظر والاستدلال، والتفويض أليق للعوام.

والملاحظ أن القول بالتأويل لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحاب القرون المفضلة، وإنما هي بدعة دخلت على الجهمية والمعتزلة من اليهود والنصارى، وإلى التأويل يرجع جميع ما أُحدث في الإسلام من بدع فرَّقت شمل الأمة، وهو أشرُّ من التعطيل؛ حيث يستلزم التشبيه، والتعطيل، واتهامًا للرسول صلى الله عليه وسلم بالجهل، أو كتمان بيان ما أنزل الله.

وأما القول بالتفويض فهو من أشر أقوال أهل البدع لمناقضته ومعارضته نصوص التدبر للقرآن، واستلزام تجهيل الأنبياء والمرسلين برب العالمين.

ـ وإن كان من أحاديث الآحاد فإنها عندهم تفيد الظن، ولا تفيد العلم اليقيني، ولا يعمل بها في الأحكام الشرعية مطلقًا، بل وفق قواعدهم وأصولهم التي قرروها، وأما في العقائد فإنه لا يحتج بها، ولا تثبت بها عقيدة، وإن اشتملت على جميع الشروط المذكورة في أصول الفقه، وإن وردت مخالفة للعقل ولا تحتمل التأويل رُدَّت بافتراء ناقله أو سهوه أو غلطة، وإن كانت ظاهرة فظاهرها غير مراد، وهذا موقف الماتريدية قديمًا وحديثًا؛ حتى أن الكوثري ومن وافقه من الديوبندية طعنوا في كتب السنة بما فيها الصحيحين، وفي عقيدة أئمة السنة بما فيها الصحيحين، وفي عقيدة أئمة السنة مثل: حماد بن سلمة راوي أحاديث الصفات، والإمام الدارمي عثمان بن سعيد صاحب السنن. وهذا قول مبتدع محدث ابتدعته القدرية والمعتزلة، لأن الأحاديث حجة عليهم وهو مخالف لفعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يبعث الرسل إلى الملوك والرؤساء فُرادَى يدعونهم إلى الإسلام. وكذلك فإن تقسيم ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى متواتر وآحاد لم يكن معروفًا في عصر الصحابة والتابعين.

ـ كما رتبوا على ذلك وجوب معرفة الله تعالى بالعقل قبل ورود السمع، واعتبروه أول واجب على المكلف، ولا يعذر بتركه ذلك، بل يعاقب عليه ولو قبل بعثة الأنبياء والرسل. وبهذا وافقوا قول المعتزلة: وهو قول ظاهر البطلان، تعارضه الأدلة من الكتاب والسنة التي تبين أن معرفة الله تعالى يوجبها العقل، ويذم من يتركها، لكن العقاب على الترك لا يكون إلا بعد ورود الشرع، يقول الله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا) [سورة الإسراء الآية 15] وأن أول واجب على المكلف، وبه يكون مسلمًا: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والبراءة من كل دين يخالف دين الإسلام على الإجمال، ولهذا لما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن لم يأمره بغير ذلك. وكذلك الأنبياء لم يدعوا أقوامهم إلا بقول (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) [سورة الأعراف الآية 59].

ـ وقالوا أيضًا بالتحسين والتقبيح العقليين، حيث يدرك العقل حسن الأشياء وقبحها، إلا أنهم اختلفوا في حكم الله تعالى بمجرد إدراك العقل للحسن والقبح. فمنهم من قال: إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة ولو لم يبعث إليهم رسول؛ كما سبق، ومنهم من قال بعكس ذلك.

ـ وذهبت كذلك الماتريدية كغيرها من الفرق الكلامية إلى أن المجاز واقع في اللغة والقرآن والحديث؛ ويقصدون بالمجاز بأنه اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، وهو قسيم الحقيقة عندهم. ولذلك اعتمدوا عليه في تأويل النصوص دفعًا ـ في ظنهم ـ لشبه التجسيم والتشبيه. وهو بهذا المعنى: قول مبتدع، محدث، لا أصل له في اللغة ولا في الشرع. ولم يتكلم فيه أئمة اللغة: كالخليل بن أحمد، وسيبويه فضلًا عن أئمة الفقهاء والأصوليين المتقدمين.

ـ مفهوم التوحيد عند الماتريدية هو: إثبات أن الله تعالى واحد في ذاته، لا قسيم له، ولا جزء له، واحد في صفاته، لا شبيه له، واحد في أفعاله، لا يشاركه أحد في إيجاد المصنوعات، ولذلك بذلوا غاية جهدهم في إثبات هذا النوع من التوحيد باعتبار أن الإله عندهم هو: القادر على الاختراع. مستخدمين في ذلك الأدلة والمقاييس العقلية والفلسفية التي أحدثها المعتزلة والجهمية، مثل دليل حدوث الجواهر والأعراض، وهي أدلة طعن فيها السلف والأئمة وأتباعهم وأساطين الكلام والفلسفة وبينوا أن الطرق التي دل عليها القرآن أصح. بيّن ذلك أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر، وابن رشد الحفيد في مناهج الأدلة. وشيخ الإسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل. وأيضًا خالفوا أهل السنة والجماعة بتسويتهم بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، فالإله عند أهل السنة: المألوه المعبود الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له. وما أرسلت الرسل إلا لتقرير ذلك الأمر، ودعوة البشرية إلى توحيد الله تعالى في ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته.

ـ أثبتوا لله تعالى أسماءه الحسنى، وقالوا: لا يسمَّى الله تعالى إلا بما سمى به نفسه، وجاء به الشرع. وفي ذلك وافقوا أهل السنة والجماعة في القول بالتوقيف في أسمائه تعالى إلا أنهم خالفوهم فيما أدخلوه في أسمائه تعالى: كالصانع، القديم، الذات … حيث لم يفرقوا بين باب الإخبار عن الله تعالى وباب التسمية.

ـ وقالوا بإثبات ثماني صفاتٍ لله تعالى فقط، على خلاف بينهم وهي: الحياة، القدرة، العلم، الإرادة، السمع، البصر، الكلام، التكوين. وعلى أن جميع الأفعال المتعدية ترجع إلى التكوين، أما ما عدا ذلك من الصفات التي دل عليها الكتاب والسنة [الصفات الخبرية] من صفات ذاتية، أو صفات فعلية، فإنها لا تدخل في نطاق العقل، ولذلك قالوا بنفيها جميعًا. أما أهل السنة والجماعة فهم كما يعتقدون في الأسماء يعتقدون في الصفات وأنها جميعًا توقيفية، ويؤمنون بها " بإثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل، مع تفويض الكيفية وإثبات المعنى اللائق بالله ـ تعالى ـ لقوله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير).

ـ قولهم بأن القرآن الكريم ليس بكلام الله تعالى على الحقيقة، وإنما هو كلام الله تعالى النفسي، لا يسمع، وإنما يسمع ما هو عبارة عنه، ولذلك فإن الكتب بما فيها القرآن مخلوقة؛ وهو قول مبتدع محدث لم يدل عليه الكتاب ولا السنة، ولم يرد عن سلف الأمة. وأول من ابتدعه ابن كلاب. فالله تعالى يتكلم إذا شاء متى شاء بما شاء، ولا يزال يتكلم كما كلم موسى، ويكلم عباده يوم القيامة، والقرآن كلام الله تعالى على الحقيقة، غير مخلوق. وكذلك التوراة والإنجيل والزبور. وهذا ما عليه أهل السنة والجماعة من سلف الأمة الصالح ومن تبعهم بإحسان.

ـ تقول الماتريدية في الإيمان أنه التصديق بالقلب فقط، وأضاف بعضهم الإقرار باللسان، ومنعوا زيادته ونقصانه، وقالوا بتحريم الاستثناء فيه، وأن الإسلام والإيمان مترادفان، لا فرق بينهما، فوافقوا المرجئة في ذلك، وخالفوا أهل السنة والجماعة، حيث إن الإيمان عندهم: اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، و عمل بالأركان. يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية. ويجوز الاستثناء فيه [والمقصود عدم تزكية النفس] والإيمان والإسلام متلازمان، إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.

وافقت الماتريدية أهل السنة والجماعة في الإيمان بالسمعيات مثل: أحوال البرزخ، وأمور الآخرة من: الحشر، والنشر، والميزان، والصراط، والشفاعة، والجنة، والنار؛ لأنهم جعلوا مصدر التلقي فيها السمع، لأنها من الأمور الممكنة التي أخبر بها الصادق صلى الله عليه وسلم، وأيدتها نصوص الكتاب والسنة.

ـ وبالتالي فإنهم أثبتوا رؤية الله تعالى في الآخرة؛ ولكن مع نفي الجهة والمقابلة. وهذا قول متناقض حيث أثبتوا ما لا يمكن رؤيته، ولا يخفي مخالفته لما عليه أهل السنة والجماعة.

كما وافقت الماتريدية أهل السنة والجماعة في القول في الصحابة على ترتيب خلافتهم، وأن ما وقع بينهم كان خطأ عن اجتهاد منهم؛ ولذا يجب الكف عن الطعن فيهم، لأن الطعن فيهم إما كفر، أو بدعة، أو فسق. كما يرون أن الخلافة في قريش، وتجوز الصلاة خلف كل برٍ وفاجرٍ، ولا يجوز الخروج على الإمام الجائر.

وأيضًا وافقوا أهل السنة والجماعة في القول: بالقدر، والقدرة، والاستطاعة، على أن كل ما يقع في الكون بمشيئة الله تعالى وإرادته، وأن أفعال العباد من خير وشر من خلق الله تعالى وأن للعباد أفعالًا اختيارية، يثأبون عليها، ويعاقبون عليها، وأن العبد مختار في الأفعال التكليفية غير مجبور على فعلها.

قالت الماتريدية بعدم جواز التكليف بما لا يُطاق موافقة المعتزلة في ذلك، والذي عليه أهل السنة والجماعة هو: التفضيل، وعدم إطلاق القول بالجواز أو بالمنع.

الجذور الفكرية والعقائدية:

يتبين للباحث أن عقيدة الماتريدية فيها حق وباطل؛ فالحق أخذوه عن أهل السنة من الحنفية السلفية، وغيرهم؛ لأن المستقرىء للتاريخ يجد أن الحنفية بعد الإمام أبي حنيفة رحمه الله تفرقوا فرقًا شتى في وقت مبكر، ولم يَسٍر على سيرة الإمام أبي حنيفة وصاحبيه إلا من وفقه الله عز وجل. وقد كانت الغلبة في ذلك للأحناف المنتسبين للفرق المبتدعة من: جهمية، ومعتزلة. ولأن المصادر التاريخية لم تُشِر إلى كيفية تلقي أبي منصور الماتريدي العلم أو من تأثر بهم من العلماء، نستطيع ترجيح الآتي:

ـ تأثُّر أبو منصور الماتريدي مباشرة أو بواسطة شيوخه بعقائد الجهمية من الإرجاء والتعطيل؛ وكذلك المعتزلة والفلاسفة في نفي بعض الصفات وتحريف نصوصها، ونفي العلو والصفات الخبرية ظنًا منه أنها عقيدة أهل السنة.

ـ تأثر بابن كلاب (240هـ) أول من ابتدع القول بالكلام النفسي لله عز وجل في بدعته هذه، وأن لم يثبت لهما لقاء، حيث توفي ابن كلاب قبل مولده، بل صرح شيخ الإسلام ابن تيمية أن أبا منصور الماتريدي تابع ابن كلاب في عدة مسائل: الصفات، وما يتعلق بها، كمسألة القرآن هل سبحانه يتكلم بمشيئته وقدرته؟ ومسألة الاستثناء في الإيمان. (مجموع الفتاوى 7/433، منهاج السنة 2/362).

الانتشار ومواقع النفوذ:

انتشرت الماتريدية، وكثر أتباعها في بلاد الهند وما جاورها من البلاد الشرقية: كالصين، وبنغلاديش، وباكستان، وأفغانستان. كما انتشرت في بلاد تركيا، والروم، وفارس، وبلاد ما وراء النهر، والمغرب حسب انتشار الحنفية وسلطانهم، وما زال لهم وجود قوي في هذه البلاد، وذلك لأسباب كثيرة منها:

1 ـ المناصرة والتأييد من الملوك والسلاطين لعلماء المذهب، وبخاصة سلاطين الدولة العثمانية.

2 ـ للمدارس الماتريدية دورٌ كبير في نشر العقيدة الماتريدية، وأوضح مثال على ذلك: المدارس الديوبندية بالهند وباكستان وغيرها؛ حيث لا زال يدرَّس فيها كتب الماتريدية في العقيدة على أنها عقيدة أهل السنة والجماعة.

3 ـ النشاط البالغ في ميدان التصنيف في علم الكلام، وردهم على الفرق المبتدعة الأخرى، مثل الجهمية الأولي، والمعتزلة، والروافض.

4 ـ انتسابهم للإمام أبي حنيفة ومذهبه في الفروع.

يتضح مما سبق:

أن الماتريدية فرقة كلامية نشأت بسمرقند في القرن الرابع الهجري، وتنسب إلى أبي منصور الماتريدي، مستخدمة الأدلة والبراهين العقلية والفلسفية في مواجهة خصومها من المعتزلة، والجهمية وغيرهما من الفرق الباطنية، في محاولة لم يحالفها التوفيق للتوسط بين مذهب أهل السنة والجماعة في الاعتقاد ومذاهب المعتزلة والجهمية وأهل الكلام، فأعْلَوا شأن العقل مقابل النقل، وقالوا ببدعة تقسيم أصول الدين إلى عقليات وسمعيات مما اضطرهم إلى القول بالتأويل والتفويض، وكذا القول بالمجاز في القرآن الكريم، والسنة النبوية، وعدم الأخذ بأحاديث الآحاد، وبالقول بخلق الكتب ومنها: القرآن الكريم؛ وعلى أن القرآن الكريم كلام الله تعالى النفسي. مما قربَّهم إلى المعتزلة والجهمية في هذا الباب، وإلى المرجئة في أبواب الإيمان، وأهل السنة والجماعة في مسائل: القدر، وأمور الآخرة وأحوال البرزخ، وفي القول في الإمامة، والصحابة رضي الله عنهم. ولما كان مفهومهم للتوحيد أنه يقتصر على: توحيد الخالقية، والربوبية، مما مكن التصوف الفلسفي بالتغلغل في أوساطهم، فغلب على كبار منتسبيهم وقوي بقوة نفوذ وانتشار المذهب؛ لوجود أكثر من دولة تحميه وتؤيده مثل: الدولة العثمانية؛ فضلًا عن وجود جامعات ومدارس مشهورة تعمل على نشره، وكان لانتسابهم لمذهب الإمام أبي حنيفة في الفروع أثره البالغ في انتشار المذهب الماتريدي إلى اليوم. ومع هذا فإن للماتريدية خدمات في الرد على: المعتزلة والباطنية والفلاسفة الملحدين والروافض، ولهم جهود في خدمة كتب الحديث لا تخلو من ملحوظات.

مراجع للتوسع:

أ ـ كتب المذهب:

ـ كتاب التوحيد، أبو منصور الماتريدي.

ـ تأويلات أهل السنة، أبو منصور الماتريدي.

ـ تبصرة الأدلة، أبو المعين النسفي.

ـ بحر الكلام في علم التوحيد، أبو المعين النسفي.

ـ شرح العقائد النسفية، لنجم الدين عمر النسفي / التفنازاني.

ـ المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة، ابن الهمام مع شرحه المسامرة لابن أبي شريف، شرح قاسم بن قطلويغا.

ـ رسالة التوحيد، الشيخ محمد عبده.

ـ رسالة في الخلافات بين الأشعرية والماتريدية والمعتزلة، مستحي زاده عبد الله بن عثمان.

ـ مقالات الكوثري ومعها مقدمة البنوري الديوبندي، لأحمد خيري.

ـ تاريخ الدعوة الإسلامية وتطورها في شبه القارة الهندية، د. محيى الدين الألوائي.

ـ العلماء العُزاب، الشيخ عبد الفتاح أبو غدة.

ـ الأجوبة الفاضلة، للكنوي، تعليقات الشيخ عبد الفتاح أبي غدة.

ـ عقيدة الإسلام والإمام الماتريدي، د. أبو الخير محمد أيوب البنغلاديشي.

ـ الفتاوى الرشيدية، للشيخ رشيد أحمد الكنكوهي الديوبندي.

ب ـ كتب ومراجع لغير المذاهب:

ـ شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، أبو القاسم هبة الله بن الحسن ابن منصور الطبري اللالكائي.

ـ الأسماء والصفات، البيهقي.

ـ الإيمان، [مجموع الفتاوى: 7/4 ـ 421] شيخ الإسلام ابن تيمية.

ـ الإكليل في المتشابه والتأويل [مجموع الفتاوى: 13/270 ـ 314] شيخ الإسلام ابن تيمية.

ـ درء تعارض العقل والنقل، شيخ الإسلام ابن تيمية ـ تحقيق د. رشاد محمد سالم.

ـ اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، ابن قيم الجوزية، تحقيق د. عبد الله المعتق.

ـ ذم التأويل، ابن قدامة المقدسي.

ـ التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل، عبد الرحمن بن يحيى اليماني المعلمي.

ـ البريلوية عقائد وتاريخ، إحسان إلهي ظهير.

ـ الماتريدية، رسالة ماجستير، أحمد بن عوض الله اللهيبي الحربي.

ـ الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات، رسالة ماجستير، لشمس الأفغاني السلفي.

ـ منهج الماتريدية في العقيدة، د. محمد بن عبد الرحمن الخميس.

ـ مناهج الأدلة في عقائد الملة، ابن رشد الحفيد [أبو الوليد الأصفر محمد ابن أحمد الفلسفي].

ـ براءة أهل السنة من الوقيعة في علماء الأمة، د. أبو زيد بكر بن عبد الله أبو زيد.

ـ مقدمة شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ـ محمد ناصر الدين الألباني.

ـ الاستقامة، شيخ الإسلام ابن تيمية.

ـ الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء الإثبات والتنزيه ـ محمد آمان بن علي الجامي.

(page)

الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م


121-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (جماعة أهل الحديث-الحركات الإسلامية)

جماعة أهل الحديث

التعريف:

جماعة أهل الحديث أقدم الحركات الإسلامية في شبه القارة الهندية، قامت على الدعوة لإتباع الكتاب والسنة وفهمهما على ضوء فهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وتقديمهما على كل قول وهدي سواء كان في العقائد أو العبادات أو المعاملات أو الأخلاق أو السياسة والاجتماع على طريقة الفقهاء المحدثين، ومحاربة الشركيات والبدع والخرافات بأنواعها.

التأسيس وأبرز الشخصيات:

تاريخ أهل الحديث في شبه القارة الهندية:

ـ يرجع تاريخ أهل الحديث في شبه القارة الهندية إلى العهد الإسلامي الأول حيث استضاءت بعض مناطق الهند بنور الإسلام بجهود التجار والمجاهدين العرب الذين وصلوا إلى مقاطعات السند ومالابار وكجرات على سواحل البحر الهندي، فكانت هناك مراكز للحديث في بلاد السند وملتان وفد إليها المحدثون من العرب والعجم، وقد زارها الرحالة المعروف أبو القاسم المقدسي عام 375هـ ووصف الحالة الدينية في بلاد السند في كتابه أحسن التقاسيم قائلًا: "إن مذاهب أكثرهم أصحاب الحديث، ولا تخلو القصبات من فقهاء على مذهب أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ وأنهم على طريقة مستقيمة، ومذاهب محمودة، وصلاح وعفة، وقد أراحهم الله من الغلو والعصبية والفتنة".

ـ وفي أواخر القرن الرابع بدأ الضعف يدب في نشاط أهل الحديث وقد بلغ منتهاه في القرن التاسع الهجري، نظرًا لانتشار الخلافات السياسية والعصبيات، وظهور فتنة الباطنية الإسماعيلية التي جرت على أهل السنة الفتن والمشاكل، فقل الاهتمام بالسنة، وفشا التقليد والتعصب للمذاهب، والجمود عليها، وسادت علوم اليونان. ومع هذا كله وجد في شبه القارة الهندية عدد من علماء أهل الحديث من تلاميذ الحافظ بن حجر العسقلاني والإمام السخاوي وشيخ الإسلام زكريا الأنصاري وغيرهم، حيث ظلوا محافظين على منهج أهل الحديث.

حركة أهل الحديث في شبه القارة الهندية في العصر الحديث:

ـ مع بداية القرن الحادي عشر الهجري بدأ دور جديد لأهل الحديث حيث ظهرت في عصر الشيخ أحمد السرهندي (ت 1034هـ)، وقويت في عهد أنجال الإمام شاه ولي الله المحدث الدهلوي (ت 1175هـ) وبخاصة ابنه الكبير شاه عبد العزيز بن ولي الله الدهلوي (1159 ـ 1239هـ) حيث استفادوا من منهج أبيهم في الدعوة والإرشاد والتدريس والإفادة والتأليف، ونبذ الجمود والتعصب المذهبي، وزادت قوتها وانتشارها في عهد حفيده الإمام إسماعيل بن عبد الغني الدهلوي (ت 1243هـ) قائد الدعوة والجهاد وصاحب كتاب تقوية الإيمان.

ـ بعد استشهاد الإمام شاه إسماعيل الدهلوي المعروف باسم إسماعيل الشهيد في معركة بالاكوت (1243هـ) تحمل أهل الحديث مسؤولية الدعوة والجهاد بكل أمانة وإخلاص، وكانت جهودهم في هذه الفترة مرتكزة على ثلاثة ميادين رئيسية:

1 ـ ميدان الجهاد: لم تقتصر حركة شاه إسماعيل الدهلوي على إحياء العمل بالكتاب والسنة وإقامة الخلافة على منهاج النبوة والقضاء على التعصب المذهبي والجمود والبدع والعقائد الباطلة فقط، بل قادت حركة الجهاد ضد السيخ والاستعمار الإنجليزي وبخاصة في الحدود الشمالية للهند إلى أن رحل الاستعمار الإنجليزي من الهند عام 1947م. وبعد تقسيم القارة إلى الهند وباكستان، واصل المجاهدون جهادهم وفتحت أحد كتائبهم مدينة مظفرآباد، وتحت قيادة الشيخ فضل إلهي الوزير آبادي فتحت باقي الرقعة التي تشكل كشمير الحرة الآن. ومن أبرز الشخصيات في هذا الميدان الشيخ ولايت علي الصادقفوي (ت 1269هـ) وشقيقه الشيخ عنايت علي الصادقفوري (ت 1274هـ) وأسرة (صادقفور) الذين تحملوا مسؤولية الجهاد ورفعوا رايته، وأبلوا فيه بلاءً حسنًا.

2 ـ ميدان التأليف: لأهل الحديث دور بارز في إحياء ونشر الثقافة الإسلامية من خلال الاهتمام بمجال التأليف والتصنيف في القرآن وعلومه، وعلوم الحديث، وبيان السنة وشروحها، مع الدفاع عن العقيدة، والرد على المبتدعة وأهل الاعتقادات الباطلة فكان منهم العلماء والمحدثون. ومن أبرز الشخصيات في هذا المجال العلامة النواب صديق حسن خان البهوبالي (ت 1307هـ) حاكم بوبهبال حيث اشتغل بالتصنيف والتأليف ونشر كتب الحديث ودواوين السنة فألف ما يبلغ قريبًا من ثلاثمائة كتاب، مع اشتغاله بمهمات الدولة، كما شكل مجلسًا علميًا مكونًا من العلماء السلفيين ليقوم بمهمات التأليف والترجمة وإفادة المسلمين بالتدريس، وأنشأ لذلك عدة مطابع على حسابه الخاص لطبع ونشر وتوزيع كتب السلف الصالح، وخاصة ما يتعلق منها بأصول الاعتقاد والتفسير والحديث.

3 ـ في ميدان التدريس: برز اهتمام أهل الحديث بالدعوة والتدريس وإنشاء المدارس والجامعات ومن أبرز الشخصيات في هذا الجانب العلامة الشيخ نذير حسين المحدث الدهلوي (ت 1320هـ) والذي انتهت إليه رئاسة الحديث في بلاد الهند واستمر في تدريس العلوم الشرعية والحديث في دهلي قرابة ستين عامًا بالإضافة إلى الدعوة إلى الإسلام الصحيح، حتى قيل إنه اعتنق في عصره نحو مليونين من المسلمين العقيدة الصحيحة تائبين عن العقائد الشركية والبدعية، وتخرج على يده عدد من أعلام السنة والدعوة في العصر الحديث أمثال: الإمام المحدث عبد الله الغزنوي (ت 1298هـ) وشمس الحق العظيم آبادي (ت 1329هـ) مؤلف عون المعبود شرح سنن أبي داود والعلامة عبد الرحمن المباركفوري (ت1353هـ) صاحب تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي والعلامة محمد بشير السهسواني (ت1326هـ) صاحب صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان والشيخ عبد الله بن إدريس السنوسي المغربي والشيخ محمد بن ناصر المبارك النجدي والشيخ سعد بن حمد بن عتيق النجدي والذي نشر سند شيخه في بلاد الحجاز ونجد، وغيرهم، ولا زالت مدرسته إلى اليوم بدهلي والمعروفة بجامعة السيد نذير حسين الدهلوي تخرج العلماء والدعاة.

تشكيل (جمعية أهل الحديث):

ـ في عام 1324هـ الموافق 1906م قرر علماء أهل الحديث برئاسة شيخ الإسلام أبي الوفا ثناء الله الأمرتسري (ت 1367هـ) تشكيل جمعية لهم تقوم على نشر الدعوة على منهج الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، ومقاومة الحركات الهدامة ومواجهة تحديات العصر تحت اسم (مؤتمر أهل الحديث لعموم الهند)، وعين شيخ الإسلام أبي الوفا ثناء الله الأمرتسري قامع الفتنة القاديانية وصاحب التصانيف الكثيرة في الدفاع عن الإسلام ومقاومة الهندوسية، والنصرانية، ومنكري السنة وغيرها من فرق وملل الضلال. بالإضافة إلى ما له من مساهمات فعالة في الحركة السياسية والوطنية والمؤتمر الوطني العام، أمينًا للجمعية بالإضافة إلى عضويته في ندوة العلماء وجمعية علماء الهند. وانتخب المحدث العلامة عبد الله الغاز يفوري (ت 1337هـ) رئيسًا للجمعية، فغطت جهودهما الهند وقراها.

ـ في عام 1947م انقسمت شبه القارة الهندية إلى الهند وباكستان، فضعفت حركتهم لفترة ما وفقدوا بسبب ذلك أكبر مؤسسة تعليمية لهم (دار الحديث الرحمانية) بدهلي، فسارعوا إلى تشكيل الجمعية من جديد في كلتا الدولتين فاستعادتا قوتهما، وأسسوا الجامعات والمعاهد والمدارس الجديدة لتلبية حاجات العصر وتدريس علوم الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح.

ـ ومن أبرز هذه الجامعات:

1 ـ في الهند: الجامعة السلفية ببنارس كأكبر جامعة عربية إسلامية في الهند. تأسست عام 1383هـ ـ 1963م بالإضافة إلى الجامعة الرحمانية، والجامعة الأحمدية السلفية، وجامعة دار السلام بعمر آباد، والجامعة السلفية بالقرية السلفية في كيرلا، والجامعة الإسلامية في بومباي، وجامعة ابن تيمية وجامعة الإمام البخاري في بيهاور.

2 ـ أما في باكستان فإن الجامعة السلفية بفيصل آباد تعد أول وأكبر جامعة إسلامية تأسست في باكستان بعد الانفصال في 7 شعبان 1374هـ ـ أبريل 1951م بالإضافة إلى الجامعات الأخرى مثل جامعة العلوم الأثرية بجلهم، وجامعة أبو بكر الصديق بكراتشي والجامعة المحمدية بكجرانوالة. هذا بالإضافة إلى المكتبات التي تحوي آلاف المخطوطات ونوادر الكتب. في المجال الإعلامي أصدرت الجمعية بفروعها المتعددة العديد من الصحف والمجلات باللغتين العربية والأردية على سبيل المثال: مجلة أهل الحديث الأمر تسرية ومجلة أهل الحديث، الصادرة من لاهور ترجمان الحديث، الحدث، الاعتصام، الرباط، صوت الأمة ومسلم وتوحيد وصوت الحق وصراط مستقيم.

ـ في عام 1985م اتخذ قرار بإنشاء جمعية شبان أهل الحديث في باكستان بالإضافة إلى جمعية طلبة أهل الحديث ومن ثم تم تعميم الفكرة على باقي الجمعيات في شبه القارة الهندية.

ـ في أكتوبر عام 1993م شاركت الجمعية في باكستان في الانتخابات النيابية وفاز عدد من مرشحيها بمقاعد في البرلمان الباكستاني وانتخب أمير الجماعة البروفيسور ساجد مير عضوًا بمجلس الشيوخ الباكستاني.

ـ شخصيات بارزة:

في باكستان:

1 ـ الشيخ محمد داود الغزنوي (1895 ـ 1963م) من المؤسسين لجمعية أهل الحديث بباكستان وأول رئيس لها، وشارك العلامة محمد إسماعيل في تأسيس الجامعة السلفية بمدينة فيصل آباد، كما تحمد له مواقفه من إقامة النظام الإسلامي وتطبيق الشريعة الإسلامية في باكستان، وله جهود علمية في الرد على منكري السنة والقاديانية. وعند تأسيس الجامعة الإسلامية بالمدينة اختير عضوًا في المجلس الاستشاري الأول لها، كما شارك في وضع مناهجها الدراسية.

ـ العلامة محمد إسماعيل السلفي المولود عام (1314هـ) في قرية دهونكي ونشأ في ظل أسرة متدينة، وطلب العلم في مراحل مبكرة على يد أبيه، ورحل في طلبه على يد أفاضل علماء عصره.وكان ـ رحمه الله ـ من الرواد الأوائل الذين ساهموا في تأسيس جمعية أهل الحديث بباكستان، وكانت لجهوده الدعوية والسياسية أثرها البالغ على البلاد، فتولى الخطابة في جامع أهل الحديث بكجرانوالة، وترأس هيئة التدريس في الجامعة المحمدية التي أنشأها، كما عين مشرفًا على مقر جمعية تنظيم أهل الحديث بالبنجاب ثم انتخب أمينًا عامًا للجنة العلم لجمعية أهل الحديث في مؤتمر دهلي 1946م، وبعد انفصال باكستان عن الهند عام 1947م انتخب أمينًا عامًّا لجمعية أهل الحديث بباكستان حتى وفاته 1968م، وكان الشيخ محمد إسماعيل السلفي أحد أعضاء المجلس التنفيذي لحركة ختم النبوة التي أنشئت لمقاومة الفتنة القاديانية، وعضوًا بارزًا في الوفد التبليغي الذي قاوم حركة شدهي الهندوسية التي بدأت تهنّد المسلمين سنة 1924م في منطقة مل كانون بالإضافة إلى دوره الدعوي في التدريس والإفتاء وأمور الدعوة والإرشاد. وللشيخ مساهمات جيدة في إقامة المستوطنات ومساعدة الأسر المهجرة من الهند إلى باكستان سنة 1947م، بالإضافة إلى بناء المساجد والمدارس الدينية، مع هذا كله فقد كان للشيخ محمد إسماعيل نشاط سياسي بارز متأثرًا في ذلك بالشيخ أبو الكلام آزاد، ومن ذلك تمثيله والشيخ محمد داود الغزنوي لجمعية أهل الحديث لدى الحكومة الباكستانية للمطالبة بإقامة الحكم الإسلامي في باكستان.وفي سنة 1952م اختير عضوًا في اللجنة التي شكلت لتدوين الدستور الإسلامي بباكستان. توفي ـ رحمه الله ـ يوم الثلاثاء العشرين من شهر ذي القعدة 1387هـ الموافق العشرين من فبراير 1968هـ تاركًا العديد من المؤلفات أبرزها: شرح وترجمة مشكاة المصابيح باللغة الأردية.

2 ـ العلامة المحدث الأصولي أبو عبد الله محمد بن فضل الدين الغوندلوي (ت 1985م) الذي خلف الشيخ محمد إسماعيل السلفي في رئاسة الجمعية.

3 ـ العلامة الشيخ إحسان إلهي ظهير خريج الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة (ت 1987م) وصاحب المؤلفات القيمة في الرد على أهل البدع والأهواء.

4 ـ الرئيس الحالي للجمعية هو البروفيسور ساجد مير اختير عضوًا في مجلس الشيوخ الباكستاني بتاريخ أكتوبر 1993م، وأمينها العام الشيخ ميان محمد جميل.

5 ـ ومن أبرز الشخصيات الأخرى العلامة المحدث أبو محمد بديع الدين شاه الراشدي السندي أحد كبار علماء السنة في العصر الحاضر، وصاحب الأسانيد المتصلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وله مشاركات جيدة في علوم الكتاب والسنة تأليفًا وتصنيفًا. وقد درس في الحرمين الشريفين، وله تلاميذ كثيرون من الهند وباكستان وغيرهما.

في الهند:

ـ الشيخ عبد الوهاب الأروي أول رئيس لجمعية الحديث بالهند بعد التشكيل الجديد.

ـ الشيخ عبد الجليل الرحماني (ت 1986م) أمين عام وصاحب تفسير القرآن بالاردو بالإضافة إلى إصداره مجلة مصباح الأردية.

ـ الشيخ عبد الحفيظ السلفي، خلف الشيخ الأروي في رئاسة الجمعية، ويتولى حاليًا إدارة الجامعة الأحمدية السلفية في ولاية بيهار.

ـ الشيخ عبد الوحيد بن عبد الحق السلفي (ت 1989م) خلف الشيخ عبد الحفيظ السلفي في رئاسة الجمعية، بالإضافة إلى توليه الأمانة العامة للجامعة السلفية ببنارس منذ إنشائها حتى وفاته.

ـ الشيخ عبد الحميد بن عبد الجبار الرحماني، خريج الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تولى منصب الأمين العام للجمعية في فترة سابقة، ويرأس حاليًا مركز أبي الكلام ازاد للتوعية الإسلامية بدلهي.

ـ الشيخ مختار أحمد الندوي، مدير الدار السلفية في بومباي ـ الرئيس الحالي للجمعية وأمينها العام الشيخ عبد الوهاب بن عبد الواحد الخلجي خريج الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

ـ تعتبر جمعية ندوة المجاهدين بولاية كيرالا، والممثلة في الجمعية المركزية لأهل الحديث بأربعة أعضاء من أنشط الجمعيات السلفية في شبه القارة الهندية، فهي تمتلك 280 مسجدًا، و3 جامعات، و400 مدرسة إسلامية وعامة، وعدد من الكليات ودور الأيتام والمستشفيات ومراكز التدريب المهني، كما تمتلك 4 جرائد ومجلات محلية منها ما يختص بالشباب أو النساء أو الأطفال، وللجمعية تنظيم نقابي تحت مسمى جمعية الأطباء المسلمين في ولاية كيرالا.

ـ وأبرز شخصية لدى جماعة أهل الحديث بالهند حاليًا هو رئيس الجامعة السلفية ببنارس ومحدث الديار الهندية الشيخ عبيد الله الرحماني المباركفوري مؤلف مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، والعلامة الشيخ عبد الصمد شرف الدين، بالإضافة إلى الدكتور الأديب مقتدى حسين الأزهري وكيل الجامعة السلفية ببنارس ورئيس تحرير مجلة صوت الأمة ورئيس إدارة البحوث العلمية بالجامعة. بالإضافة إلى عدد كبير من العلماء وطلبة العلم البارزين في خدمة السنة والدعوة.

في كشمير:

ـ كان لجهود الشيخ مولانا محمد حسين شاه تلميذ العلامة نذير حسين المحدث الدهلوي، ورفيق دربه الشيخ مولانا أنور شاه شوبياني ـ العالم الفرضي ـ أكبر الأثر في نشر دعوة أهل الحديث في كشمير.

ـ في عام 1923م أرسل مؤتمر عموم الهند لأهل الحديث والذي عرف فيما بعد باسم الجمعية المركزية لأهل الحديث مولانا عبد الكبير وسيد شمس الدين إلى كشمير كمبلغ جوال، وبمساعيهما أمكن تنظيم حركة أهل الحديث تحت اسم مؤتمر أهل كشمير لأهل الحديث والذي عرف في عام 1945م، عرفت باسم بزم التوحيد أي دعوة التوحيد. وفي عام 1946م تم تغيير اسم الجمعية إلى الاسم الحالي الجمعية المركزية لأهل الحديث جامو وكشمير كما تم وضع دستور للجمعية ويوضح أهدافها وينظم وسائل عملها من خلال وحدات إدارية تزيد على 500 وحدة إدارية على مستوى الولاية ويقدر عدد المنتسبين إليها بما يزيد على النصف مليون نسمة، واشتملت هذه الوحدات على عدد من الشعب والأقسام الرئيسية للتعليم والتربية والإفتاء والأوقاف والمساجد والبحوث العلمية والدعوة والإعلام. فأنشأت الكلية السلفية كأول كلية عربية إسلامية في سرينجار العاصمة بالإضافة إلى العديد من المدارس والمعاهد الإسلامية، بالإضافة إلى بناء ما يزيد على 500 مسجد. كما اهتمت الجمعية بعقد الدورات المتعدة لإعداد الدعاة والمربين، وكذلك تسيير القوافل الدعوية في جميع أنحاء كشمير. وفي الفترة من عام 1957م حتى عام 1994م أقامت 28 مؤتمرًا، وفي وسط العاصمة أنشأت مكتبة المسلم العامة التي تم تعميم فكرتها على جميع الوحدات الإدارية التابعة لها. وفي المجال الإعلامي أصدرت مجلة المسلم كل هذا في محاولة للوقوف في وجه أعداء الإسلام، وترسيخًا لاعتقاد منهج السلف الصالح في العلم والعمل لتخريج العلماء الراسخين في العلم الشرعي العارفين بالثقافة العصرية لتحقيق متطلبات المجتمع.

ـ وامتدادًا لحركة تحريك المجاهدين التي قادها شاه إسماعيل الشهيد الدهلوي ومرورًا بكتيبة الشيخ فضل إلهي الوزير آبادي محرر كشمير الحرة تأسست حركة تحريك المجاهدين جامو وكشمير تحت إشراف الشيخ عبد الغني دار الذي اعتقل في سجون كشمير المحتلة ما يزيد على السنتين، وقيادة الشيخ تنوير الإسلام الذي تولى رئاسة مجلس الجهاد الموحد المشتمل على ثلاثة عشر منظمة جهادية كشميرية لثلاث دورات متتالية حتى عام 1993م، وتولى قيادة تحريك المجاهدين الشيخ محمد إلهي، وللحركة مجلة شهرية الشهادة تصدر بالعربية والأردية كلسان حال الجهاد الكشميري بصفة عامة، ولحركة تحريك المجاهدين بصفة خاصة، كما لها العديد من المشروعات الخيرية والتعليمية والدعوية لخدمة أسر المجاهدين والمهاجرين على حد سواء.

ـ ومن أبرز شخصيات الجمعية في كشمير المحتلة: الحاج محمد شهداد أول رئيس للجمعية، بالإضافة إلى العلامة مولانا غلام نبي مبارك والذي تولى بعده رئاسة الجمعية مولانا محمد عبد الغني شوبياني والشيخ عبد الله طاري رئيس الجمعية ورئيس حركة تحرير كشمير فيما بعد مما سبب له الاعتقال من الحكومة الهندوسية لمدة تزيد على السنتين. ويتولى حاليًا رئاسة الجمعية الشيخ سيد محمد مقبول كيلاني خلفًا للشيخ محمد رمضان صوفي.

4 ـ في بنجلاديش:

ـ الشيخ نعمة الله البردواني مؤسس ورئيس جمعية أهل الحديث في منطقة آسام عام 1914م. تولى الشيخ عباس علي صاحب ترجمة معاني القرآن بالبنغالية الأمانة العامة، وفي عهدهما نشطت الجمعية في الدعوة للكتاب والسنة ومحاربة الشرك والبدع وأصدرت العديد من المجلات والرسائل الأسبوعية والشهرية.

ـ العلامة محمد عبد الله كافي القريشي تولى رئاسة الجمعية بعد مؤتمر 1946م، وفيه اختير اسم جديد بنجيل بنغو آسام جمعية أهل الحديث، وتولى الأمانة العامة مولى بخش الندوي وعقد أكثر من مؤتمر أقر فيها الدستور، والمناهج والبرامج، وإتخذ قرار تأسيس الجمعية على مستوى المناطق والمحافظات. وتحت إشرافه أيضًا تم إصدار مجلة ترجمان الحديث، كما كانت للشيخ محمد عبد الله كافي مشاركات متعددة في الجلسات والندوات السياسية الاحتجاجية التي تدعو إلى إقامة حكومة إسلامية بباكستان وكتب في ذلك أصول دستور الحكومة الإسلامية، الدستور الإسلامي لحكومة باكستان، وعقد لذلك مؤتمرًا عامًّا للأحزاب الإسلامية تحت رئاسته.

ـ الدكتور محمد عبد الباري تم انتخابه رئيسًا للجمعية بعد وفاة العلامة محمد عبد الله كافي عام 1960م، وتولى الشيخ محمد عبد الرحمن الأمانة العامة، ورئاسة تحرير مجلة عرفات الأسبوعية، وفي عهده واجهت الجمعية صعوبات عديدة بعد انفصال باكستان الشرقية عن الغربية عام 1972م وفيه تم تعديل اسم الجمعية إلى جمعية أهل الحديث ببنجلاديش وتم تشكيل 369 فرعًا على مستوى المناطق و5100 فرع تابع بالإضافة إلى خمس مؤتمرات مركزية.

5 ـ في نيبال:

ـ الشيخ عبد الرؤوف الرحماني، رئيس جمعية أهل الحديث في نيبال، وأمين عام جامعة سراج العلوم السلفية بنيبال، وعضو المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وله مؤلفات قيمة يبلغ عددها قريبًا من (45) مؤلفًا في الحديث وعلومه، والدفاع عن الحديث والمحدثين. ومن ذلك: أدلة توحيد الله تعالى، الخلافة الراشدة، حرمة الربا والميسر.

ـ الشيخ عبد الله عبد التواب المدني، مؤسس مدرسة خديجة الكبرى، بنيبال ومنشئ ورئيس تحرير مجلة نور التوحيد الشهرية. تخرج في الجامعة السلفية ببنارس ثم في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. ويعمل الآن مشرفًا عامًا على الدعاة المبعوثين في نيبال من قبل المملكة العربية السعودية، بالإضافة إلى توليه مسؤولية جمعية شبان أهل الحديث بنيبال.

ـ ولأهل الحديث في شبه القارة الهندية دور كبير في كل ناحية من نواحي الحياة: دعوة وتدريسًا وتصنيفًا. كما أن لهم شخصيات بارزة في مختلف المجالات العلمية سواء في العقيدة أو العبادات أو الأحوال الشخصية أو الأمور المدنية من الاقتصاد الإسلامي والسياسة الشرعية. وأبرزهم على سبيل المثال لا الحصر: الشيخ محمد حسين البتالوي والشيخ محمد إبراهيم السالكوتي والشيخ عبد الله الروري وأخوه الشيخ الحافظ محمد حسين والشيخ عطاء الله حنيف والشيخ محمد صديق السرجودي والشيخ عبد الستار الدهلوي والشيخ جميل الرحمن الأفغاني والشيخ عبد الجبار الكندبلوي والشيخ محمد علي اللكوي ثم المدني والشيخ عبد الحلق ملتاني والشيخ محمد الجوناكري والشيخ الحافظ عبد الحي الكيلاني والأستاذ عبد العزيز الميمني والشيخ عبد السلام البسنوي والشيخ أبو القاسم البنارسي والشيخ محمد السورتي والشيخ عبد الجليل السامرودي، والشيخ محمد أشرف سندهو والشيخ عبد القادر القصوري والشيخ محمد عبده الفلاح ومولانا معين الدين اللكنوي والحافظ عبد الرحمن المدني والحافظ محمد سعيد.

الأفكار والمعتقدات:

عقيدة أهل الحديث هي عقيدة السلف الصالح نفسها، المبنية على الكتاب والسنة، وتقوم الأصول العلمية والقواعد المنهجية لجماعة أهل الحديث على:

1 ـ التوحيد: فأهل الحديث، إيمانًاً منهم بأن التوحيد هو أصل الدين، يبدأون عملهم بنشر التوحيد الخالص، وغرسه في قلوب الناس، مع تفصيل أنواع التوحيد الثلاثة وخاصة توحيد الألوهية، الذي يخطئ فيه كثير من الناس مع إيمانهم بتوحيد الربوبية وما يقتضيه من الحاكمية لله تعالى ولا يكتفون بإقرار وتطبيق النظام السياسي الإسلامي فقط وإنما أن يكون الله جل وعلا هو الحاكم للفرد في تصوره وسلوكه وسائر أموره الحياتية بما فيها من تشريع ووضع القوانين.

2ـ الإتباع: أهل الحديث يركزون على إتباع ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم على ضوء فهم السلف الصالح، ولذلك لا يرون التقليد الجامد الذي يدعو إلى الالتزام بمذهب فقهي معين بدون سؤال عن الدليل، بل ينادون بفتح باب الاجتهاد لكل من تحققت لديه شروطه، وأن العامي مذهبه مذهب مفتيه ويدعون إلى احترام العلماء المجتهدين والأئمة المتبعين بشكل خاص.

3ـ تقديم النقل على العقل: يقدمون الرواية على الرأي، حيث يبدأون بالشرع ثم يخضعون له العقل، لأنهم يرون أن العقل السليم يتفق مع نصوص الشرع الصحيحة ولذلك لا تصح معارضة الشرع بالعقل ولا تقديمه عليه.

4ـ التزكية الشرعية: أي تزكية النفس تزكية شرعية، بحيث يتخذ لها الوسائل المشروعة التي جاء بها الكتاب والسنة، وينكرون على إتباع التزكية البدعية سواء كانت صوفية أو غيرها.

5 ـ التحذير من البدع: لأنهم يرون أن أمر الابتداع في الحقيقة استدراك على الله وتشريع بالرأي والعقل، ومن ثم يدعون إلى الالتزام بالسنة وتجنب أنواع البدع كلها.

6 ـ التحذير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة: فإن خطورة هذا النوع من الحديث كبيرة على الأمة، فلابد من التحري في الحديث المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وخاصة فيما يتعلق بالعقائد والأحكام.

7ـ الجهاد في سبيل الله: يرى أهل الحديث أن الجهاد من أفضل الأعمال وأنه ماض إلى يوم القيامة لإعلاء كلمة الله تعالى ودفع الفساد من الأرض، (حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله).

8ـ تطبيق النظام الشرعي: بالسعي لتأصيله وإقراره في جميع مجالات الحياة الشخصية أو الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية وما إلى ذلك بالطرق الشرعية.

9ـ يعتقد أهل الحديث أنه بتحقيق التوحيد الخالص لله رب العالمين وبالعمل الموافق لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه يتحقق النصر والتمكين فهما شرطا قبول الأعمال. وهما أيضًا شرطا النصر والتمكين وعودة الخلافة الإسلامية حسب الوعد الإلهي (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) الآية. ولذلك فهم يسعون بالدعوة بالوسائل الشرعية على أساس تصفية التوحيد من البدع والانحرافات العقدية والسلوكية وتصفية الأحاديث من الموضوعات وتربية الأمة على ذلك.

10ـ محاربة الفرق الضالة المنحرفة مثل الشيعة والقاديانية والبريلوية والبابية والبهائية وغيرها، والتصدي لحملات الأفكار الهدامة المعاصرة المعادية للإسلام، مثل العلمانية والرأسمالية والشيوعية والاشتراكية وغيرها باتخاذ كل الوسائل المشروعة.

الجذور الفكرية والعقائدية:

1 ـ جماعة أهل الحديث تستمد الأحكام من الكتاب والسنة، على طريقة الفقهاء المحدثين من السلف الصالح أهل السنة والجماعة.

2 ـ كما أن أهل الحديث مولعون بكتب السلف الصالح عامة وبكتب ومؤلفات إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل وشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن قيم الجوزية والإمام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمهم الله تعالى ـ كما ينشرون كتب أعلام الدعوة السلفية المعاصرين كالشيخ العلامة عبد العزيز بن باز مفتي عام المملكة العربية السعودية الحالي والمحدث العلامة محمد ناصر الدين الألباني - رحمهما الله -.

الانتشار ومواقع النفوذ:

تتركز جماعة أهل الحديث في كل من بلاد الهند وباكستان وبنغلاديش ونيبال وكشمير وسيرلانكا وجزر فيجي ولهم مركز في بريطانية وجمعياتهم في هذه الدول كلها معروفة باسم جمعية أهل الحديث.

ـ في كل دولة من هذه الدول المذكورة يوجد مركزًا للجمعية تتبعه فروع موزعة حسب الولايات والمديريات.

إلا أن للجمعية قيادة مستقلة في كل دولة، وذلك أمر إداري بحت، لكنه يجمعهم جميعًا المنهج السلفي الموحد الذي تتبناه الجمعية في الأصل.

تعمل الجمعية في ولاية كيرالا بالهند من خلال خمس جمعيات إصلاحية سلفية:

1 ـ ندوة المجاهدين: ويتركز جل عملها في الدعوة بين عامة الناس وخاصتهم وهي الجمعية الأم للأجنحة الأخرى، وعدد الفروع: 475 فرعًا.

2 ـ جمعية العلماء بكيرالا وتعمل في الإفتاء والبحوث العلمية والدعوة والإرشاد.

3 ـ اتحاد الشبان المجاهدين: مجال عمله قطاع الشباب (دعوة، تربية...) عدد الفروع: 471 فرعًا.

4 ـ حركة الطلبة المجاهدين: تعمل بين الطلاب في مختلف المراحل الدراسية ويبلغ عدد فروعها: 277.

5 ـ جمعية البنات والسيدات المسلمات: ويبلغ عدد فروعها 127.

ـ لجمعية أهل الحديث علاقة مع بعض الجمعيات الأخرى خارج شبه القارة الهندية، التي تتفق معها في الأصول والمنهج مثل جماعة الدعوة إلى القرآن والسنة بأفغانستان، والجمعية المحمدية باندونيسيا وسنغافورة وماليزيا، وجماعة أنصار السنة المحمدية بمصر والسودان واريتريا وجمعية إحياء التراث الإسلامي بالكويت وجمعية دار البر بدبي وغيرها من الدعوات السلفية المنتشرة في جميع أنحاء العالم، بالإضافة إلى عضوية جمعيات أهل الحديث في الندوة العالمية للشباب الإسلامي ورابطة العالم الإسلامي والمجلس الإسلامي العالمي بلندن، والمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة بالقاهرة.

يتضح مما تقدم:

أن جمعية أهل الحديث من أقدم الجمعيات والجماعات الإسلامية في شبه القارة الهندية، ومن مقاصدها الأولية تصفية الإسلام من البدع والانحرافات ودعوة الناس إلى إتباع منهج السلف الصالح في مجال العلم والعمل واختيار طريقة الفقهاء المحدثين في المسائل الفقهية إتباع الدليل ونبذ التعصب المذهبي بكافة صورة وأشكاله. وكان لها على المسلمين أيادي بيضاء، فحفظ الله بهم السنة وعلوم الحديث في وقت ضعفت فيه الحركة العلمية في مصر والشام والعراق والحجاز منذ القرن العاشر الهجري حتى بلغت منتهى الضعف في أوائل القرن الرابع عشر. يقول الشيخ محمد رشيد رضا: "ولولا عناية إخواننا علماء الهند بعلوم الحديث في هذا العصر، لقضي عليها بالزوال من أمصار الشرق..." ويقول الشيخ مناظر أحسن الكيلاني من تلاميذ الشيخ أنور شاه الكشميري الديوبندي: "إن اعتناء أحناف شبه القارة الهندية بالنبعين الأساسيين للدين: الكتاب والسنة، فيه دخل كبير لحركة أهل الحديث ورفض التقليد، وإن لم يترك عامة الناس التقليد إلا أنه قد تحطم سحر التقليد الجامد والاعتماد الأعمى". وقد كان للجمعية في باكستان دور بارز في مساعدة حركة الجهاد الأفغاني.

مراجع للتوسع:

ـ الحركة السلفية في الهند: عبد الوهاب خليل الرحمن (رسالة دكتوراه غير مطبوعة).عربي

ـ الحركة السلفية في البنغال محمد مصلح الدين (رسالة ماجستير).

ـ مجلة الأمة القطرية العدد 30عام 1404هـ ديسمبر 1983م.

ـ جهود مخلصة في خدمة السنة د. عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي، طبع الجامعة السلفية ببنارس 1406هـ. عربي.

ـ جهود أهل الحديث في خدمة القرآن الكريم د. عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي ط. الجامعة السلفية ببنارس 1413هـ. عربي.

ـ دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب في شبه القارة الهندية، أبو المكرم بن عبد الجليل السلفي ط. مكتبة دار السلام بالرياض 1413هـ. عربي.

ـ جمعية أهل الحديث المركزية بالهند ـ نشأتها وأهدافها، جمعية أهل الحديث بالهند ط، المطبعة السلفية ببنارس.

ـ تراجم علماء أهل الحديث في الهند، أبو يحيى إمام خان النوشهروي ط. لاهور 1391هـ.

ـ سياسيات بر صغير بين أهل الحديث كاحصة محمد أسلم، الفيروز "مساهمة أهل الحديث في سياسية شبه القارة الهندية". فورى ط جامعة تعليم الإسلام بامونانجن ـ باكستان، أردو.

ـ جماعة أهل الحديث كي تصنيفي خدمات، محمد مستقيم السلفي، ط الجامعة السلفية ببنارس 1412هـ.

ـ جماعة أهل حديث كي تدريس خدمات، عابد حسن الرحماني، وعزيز الرحمن السلفي ط. الجامعة السلفية ببنارس 1400هـ.

ـالتذكارـالمؤتمرالدولي السادس1992م د. محمد عبد الرحمن، جمعية أهل الحديث بنغلاديش، عربي.

ـ تاريخ أهل الحديث جامو وكشمير الكلية السلفية، عربي.

ـ أثر دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية في الحركات الإسلامية المعاصرة صلاح الدين مقبول ط. مجمع البحوث العلمية الإسلامية ـ نيودلهي، عربي.

ـ الخلافة الراشدة ـ عبد الرؤوف الرحماني.

ـ تاريخ أهل الحديث للشيخ محمد إبراهيم السيالكوت.

ـ تاريخ أهل الحديث للشيخ أحمد الدهلوي

ـ فقهاء الهند محمد إسحاق البهتي ـ تسع مجلدات.

ـ الجهود التأليفية لعلماء أهل الحديث؛ الشيخ أبو يحيى إمام خان النوشهري.

ـ مجلة صوت الأمة ـ تصدرها الجامعة السلفية ببنارس.

ـ مجلة أهل الحديث ـ تصدر من امرتسرو ـ لاهور ـ دهلي.

الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م


122-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (الصوفية 1)

الصوفية

التعريف:

التصوُّف حركة دينية انتشرت في العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري كنـزعاتٍ فردية تدعو إلى الزهد وشدة العبادة كرد فعل مضاد للانغماس في الترف الحضاري. ثم تطورت تلك النزعات بعد ذلك حتى صارت طرق مميزة معروفة باسم الصوفية، ويتوخّى المتصوفة تربية النفس والسمو بها بغية الوصول إلى معرفة الله تعالى بالكشف والمشاهدة لا عن طريق إتباع الوسائل الشرعية، ولذا جنحوا في المسار حتى تداخلت طريقتهم مع الفلسفات الوثنية: الهندية والفارسية واليونانية المختلفة. ويلاحظ أن هناك فروقًا جوهرية بين مفهومي الزهد والتصوف أهمها: أن الزهد مأمور به، والتصوف جنوح عن طريق الحق الذي اختطَّه أهل السنة والجماعة.

التأسيس وأبرز الشخصيات:

مقدمة هامة:

خلال القرنين الأولين ابتداءً من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين حتى وفاة الحسن البصري، لم تعرف الصوفية سواء كان باسمها أو برسمها وسلوكها، بل كانت التسمية الجامعة: المسلمين، المؤمنين، أو التسميات الخاصة مثل: الصحابي، البدري، أصحاب البيعة، التابعي.

لم يعرف ذلك العهد هذا الغلو العملي التعبُّدي أو العلمي الاعتقادي إلا بعض النزعات الفردية نحو التشديد على النفس الذي نهاهم عنه النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من مناسبة، ومنها قوله للرهط الذين سألوا عن عبادته صلى الله عليه وسلم: "لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني".

وقوله صلى الله عليه وسلم للحولاء بنت نويت التي طوَّقت نفسها بحبل حتى لا تنام عن قيام الليل كما في حديث عائشة رضي الله عنها: (عليكم من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يملّ حتى تملوا، وأحبُّ العمل إلى الله أدْوَمُه وإن قل).

ـ وهكذا كان عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم على هذا المنهج يسيرون، يجمعون بين العلم والعمل، والعبادة والسعي على النفس والعيال، وبين العبادة والجهاد، والتصدي للبدع والأهواء مثلما تصدى ابن مسعود رضي الله عنه لبدعة الذكر الجماعي بمسجد الكوفة وقضى عليها، وتصدِّيه لأصحاب معضّد بن يزيد العجلي لما اتخذوا دورًا خاصة للعبادة في بعض الجبال وردهم عن ذلك.

ظهور العُبّاد: في القرن الثاني الهجري في عهد التابعين وبقايا الصحابة ظهرت طائفة من العباد آثروا العزلة وعدم الاختلاط بالناس فشددوا على أنفسهم في العبادة على نحو لم يُعهد من قبل، ومن أسباب ذلك بزوغ بعض الفتن الداخلية، وإراقة بعض الدماء الزكية، فآثروا اعتزال المجتمع تصوُّنًا عما فيه من الفتن، وطلبًا للسلامة في دينهم، يضاف إلى ذلك أيضًا فتح الدنيا أبوابها أمام المسلمين، وبخاصة بعد اتساع الفتوحات الإسلامية، وانغماس بعض المسلمين فيها، وشيوع الترف والمجون بين طبقة من السفهاء، مما أوجد ردة فعل عند بعض العباد وبخاصة في البصرة والكوفة حيث كانت بداية الانحراف عن المنهج الأول في جانب السلوك.

ـ ففي الكوفة ظهرت جماعة من أهلها اعتزلوا الناس وأظهروا الندم الشديد بعد مقتل الحسين بن علي رضي الله عنه وسموا أنفسهم بالتوَّابين أو البكَّائين. كما ظهرت طبقة من العبَّاد غلب عليهم جانب التشدد في العبادة والبعد عن المشاركة في مجريات الدولة، مع علمهم وفضلهم والتزامهم بآداب الشريعة، واشتغالهم بالكتاب والسنة تعلمًا وتعليمًا، بالإضافة إلى صدعهم بالحق وتصديهم لأهل الأهواء. كما ظهر فيهم الخوف الشديد من الله تعالى، والإغماء والصعق عند سماع القرآن الكريم مما استدعى الإنكار عليهم من بعض الصحابة وكبار التابعين كأسماء بنت أبي بكر وعبد الله بن الزبير ومحمد بن سيرين ونحوهم رضي الله عنهم، وبسببهم شاع لقب العُبَّاد والزُهَّاد والقُرَّاء في تلك الفترة. ومن أعلامهم: عامر بن عبد الله بن الزبير، و صفوان بن سليم، وطلق بن حبيب العنزي، عطاء السلمي، الأسود بن يزيد بن قيس، وداود الطائي، وبعض أصحاب الحسن البصري.

بداية الانحراف: كدأب أي انحراف يبدأ صغيرًا، ثم ما يلبث إلا أن يتسع مع مرور الأيام، فقد تطور مفهوم الزهد في الكوفة والبصرة في القرن الثاني للهجرة على أيدي كبار الزهاد أمثال: إبراهيم بن أدهم، مالك بن دينار، وبشر الحافي، ورابعة العدوية، وعبد الواحد بن زيد، إلى مفهوم لم يكن موجودًا عند الزهاد السابقين من تعذيب للنفس بترك الطعام، وتحريم تناول اللحوم، والسياحة في البراري والصحاري، وترك الزواج. يقول مالك بن دينار: "لا يبلغ الرجل منزلة الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة، ويأوي إلى مزابل الكلاب". وذلك دون سند من قدوة سابقة أو نص كتاب أو سنة، ولكن مما يجدر التنبيه عليه أنه قد نُسب إلى هؤلاء الزهاد من الأقوال المرذولة والشطحات المستنكرة ما لم يثبت عنهم بشكل قاطع كما يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية.

ـ وفي الكوفة أخذ معضد بن يزيد العجلي هو وقبيلُه يروِّضون أنفسهم على هجر النوم وإدامة الصلاة، حتى سلك سبيلهم مجموعة من زهاد الكوفة، فأخذوا يخرجون إلى الجبال للانقطاع للعبادة، على الرغم من إنكار ابن مسعود عليهم في السابق.

ـ وظهرت من بعضهم مثل رابعة العدوية أقوال مستنكرة في الحب والعشق الإلهي للتعبير عن المحبة بين العبد وربه، وظهرت تبعًا لذلك مفاهيم خاطئة حول العبادة من كونها لا طمعًا في الجنة ولا خوفًا من النار مخالفةً لقول الله تعالى: (يَدْعُونَنا رَغَبًا ورَهَبًا).

ـ يلخص شيخ الإسلام ابن تيمية هذا التطور في تلك المرحلة بقوله: "في أواخر عصر التابعين حدث ثلاثة أشياء: الرأي، والكلام، والتصوف، فكان جمهور الرأي في الكوفة، وكان جمهور الكلام والتصوف في البصرة، فإنه بعد موت الحسن وابن سيرين ظهر عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء، وظهر أحمد بن علي الهجيمي ت200هـ، تلميذ عبد الواحد بن زيد تلميذ الحسن البصري، وكان له كلام في القدر، وبنى دويرة للصوفية ـ وهي أول ما بني في الإسلام ـ أي دارًا بالبصرة غير المساجد للالتقاء على الذكر والسماع ـ صار لهم حال من السماع والصوت ـ إشارة إلى الغناء. وكان أهل المدينة أقرب من هؤلاء في القول والعمل، وأما الشاميون فكان غالبهم مجاهدين".

ومنذ ذلك العهد أخذ التصوف عدة أطوار أهمها:

ـ البداية والظهور: ظهر مصطلح التصوف والصوفية أول ما ظهر في الكوفة بسبب قُربها من بلاد فارس، والتأثُّر بالفلسفة اليونانية بعد عصر الترجمة، ثم بسلوكيات رهبان أهل الكتاب، وقد تنازع العلماء والمؤرخون في أول مَن تسمَّ به. على أقوال ثلاثة:

1 ـ قول شيخ الإسلام ابن تيمية ومن وافقه: أن أول من عُرف بالصوفي هو أبو هاشم الكوفي ت150هـ أو 162هـ بالشام بعد أن انتقل إليها، وكان معاصرًا لسفيان الثوري ت 155هـ قال عنه سفيان: "لولا أبو هاشم ما عُرِفت دقائق الرياء". وكان معاصرًا لجعفر الصادق وينسب إلى الشيعة الأوائل، ويسميه الشيعة مخترع الصوفية.

2 ـ يذكر بعض المؤرخين أن عبدك ـ عبد الكريم أو محمد ـ المتوفى سنة 210هـ هو أول من تسمى بالصوفي، ويذكر عنه الحارث المحاسبي أنه كان من طائفة نصف شيعية تسمي نفسها صوفية تأسست بالكوفة. بينما يذكر الملطي في التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع أن عبدك كان رأس فرقة من الزنادقة الذين زعموا أن الدنيا كلها حرام، لا يحل لأحد منها إلا القوت، حيث ذهب أئمة الهدى، ولا تحل الدنيا إلا بإمام عادل، وإلا فهي حرام، ومعاملة أهلها حرام.

3 ـ يذهب ابن النديم في الفهرست إلى أن جابر بن حيان تلميذ جعفر الصادق والمتوفى سنة 208هـ أول من تسمى بالصوفي، والشيعة تعتبره من أكابرهم، والفلاسفة ينسبونه إليهم.

ـ وقد تنازع العلماء أيضًا في نسبة الاشتقاق على أقوال كثيرة أرجحها:

1ـ ما رجَّحه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن خلدون وطائفة كبيرة من العلماء من أنها نسبة إلى الصُّوف حيث كان شعار رهبان أهل الكتاب الذين تأثر بهم الأوائل من الصوفية، وبالتالي فقد أبطلوا كل الاستدلالات والاشتقاقات الأخرى على مقتضى قواعد اللغة العربية، مما يبطل محاولة نسبة الصوفية أنفسهم لأهل الصُّفَّة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو محاولة نسبة الصوفية أنفسهم إلى علي بن أبي طالب والحسن البصري وسفيان الثوري رضي الله عنهم جميعًا، وهي نسبة تفتقر إلى الدليل ويعوزها الحجة والبرهان.

2ـ الاشتقاق الآخر ما رجحه أبو الريحان البيروني 440هـ وفون هامر حديثًا وغيرهما من أنها مشتقة من كلمة سوف SOPHاليونانية والتي تعني الحكمة. ويدلِّل أصحاب هذا الرأي على صحته بانتشاره في بغداد وما حولها بعد حركة الترجمة النشطة في القرن الثاني الهجري بينما لم تعرف في نفس الفترة في جنوب وغرب العالم الإسلامي. ويضاف إلى الزمان والمكان التشابه في أصل الفكرة عند الصوفية واليونان حيث أفكار وحدة الوجود والحلول والإشراق والفيض. كما استدلوا على قوة هذا الرأي بما ورد عن كبار الصوفية مثل السهروردي ـ المقتول ردة ـ بقوله: (وأما أنوار السلوك في هذه الأزمنة القريبة فخميرة الفيثاغورثيين وقعت إلى أخي أخميم (ذي النون المصري) ومنه نزلت إلى سيارستري وشيعته (أي سهل التستري) وأضافوا إلى ذلك ظهور مصطلحات أخرى مترجمة عن اليونانية في ذلك العصر، مثل الفلسفة، الموسيقا، الموسيقار، السفسطة، الهيولي.

طلائع الصوفية: ظهر في القرنين الثالث والرابع الهجري ثلاث طبقات من المنتسبين إلى التصوف وهي:

· الطبقة الأولى: وتمثل التيار الذي اشتهر بالصدق في الزهد إلى حد الوساوس، والبعد عن الدنيا والانحراف في السلوك والعبادة على وجه يخالف ما كان عليه الصدر الأول من الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته بل وعن عبّاد القرن السابق له، ولكنه كان يغلب على أكثرهم الاستقامة في العقيدة، والإكثار من دعاوى التزام السنة ونهج السلف، وإن كان ورد عن بعضهم ـ مثل الجنيد ـ بعض العبارات التي عدها العلماء من الشطحات، ومن أشهر رموز هذا التيار:

ـ الجنيد: هو أبو القاسم الخراز المتوفى 298هـ يلقبه الصوفية بسيد الطائفة، ولذلك يعد من أهم الشخصيات التي يعتمد المتصوفة على أقواله وآرائه وبخاصة في التوحيد والمعرفة والمحبة. وقد تأثر بآراء ذي النون النوبي، فهذبها، وجمعها ونشرها من بعده تلميذه الشبلي، ولكنه خالف طريقة ذي النون والحلاّج و البسطامي في الفناء، حيث كان يُؤْثر الصحو على السكر وينكر الشطحات، ويؤثر البقاء على الفناء، فللفَناءِ عنده معنى آخر، وقد أنكر على المتصوفة سقوط التكاليف. وقد تأثر الجنيد بأستاذه الحارث المحاسبي الذي يعد أول من خلط الكلام بالتصوف، وبخاله السري السقطي ت 253هـ.

وهناك آخرون تشملهم هذه الطبقة أمثال: أبو سليمان الداراني عبد الرحمن بن أحمد بن عطية العني ت205هـ، وأحمد بن الحواري، والحسن بن منصور بن إبراهيم أبو علي الشطوي الصوفي وقد روى عنه البخاري في صحيحه، والسري بن المغلس السقطي أبوالحسن ت253هـ، سهل بن عبد الله التستري ت273هـ، معروف الكرخي أبو محفوظ 200هـ، وقد أتى من بعدهم ممن سار على طريقتهم مثل: أبي عبد الرحمن السلمي 412هـ محمد بن الحسين الأزدي السلمي، محمد بن الحسن بن الفضل بن العباس أبويعلى البصري الصوفي 368هـ شيخ الخطيب البغدادي.

ـ ومن أهم السمات الأخرى لهذه الطبقة: بداية التمييز عن جمهور المسلمين والعلماء، وظهور مصطلحات تدل على ذلك بشكل مهَّد لظهور الطرق من بعد، مثل قول بعضهم: علمُنا، مذهبنا، طريقنا، قال الجنيد: (علمنا مشتبك مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهو انتساب محرم شرعًا حيث يفضي إلى البدعة والمعصية بل وإلى الشرك أيضًا، وقد اشترطوا على من يريد السير معهم في طريقتهم أن يَخرُجَ من ماله، وأن يُقلَّ من غذائه وأن يترك الزواج مادام في سلوكه.

ـ كثر الاهتمام بالوعظ والقصص مع قلة العلم والفقه والتحذير من تحصيلهما في الوقت الذي اقتدى أكثرهم بسلوكيات رهبان ونُسَّاك أهل الكتاب حيث حدث الالتقاء ببعضهم، مما زاد في البعد عن سمت الصحابة وأئمة التابعين. ونتج عن ذلك اتخاذ دور للعبادة غير المساجد، يلتقون فيها للاستماع للقصائد الزهدية أو قصائد ظاهرها الغزل بقصد مدح النبي صلى الله عليه وسلم مما سبَّب العداء الشديد بينهم وبين الفقهاء، كما ظهرت فيهم ادعاءات الكشف والخوارق وبعض المقولات الكلامية. وفي هذه الفترة ظهرت لهم تصانيف كثيرة في مثل: كتب أبو طالب المكي قوت القلوب وحلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، وكتب الحارث المحاسبي. وقد حذر العلماء الأوائل من هذه الكتب لاشتمالها على الأحاديث الموضوعة والمنكرة، واشتمالها على الإسرائيليات وأقوال أهل الكتاب. سئل الإمام أبو زرعة عن هذه الكتب فقيل له: في هذه عبرة؟ قال: من لم يكن له في كتاب الله عز وجل عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة.

ومن أهم هذه السمات المميزة لمذاهب التصوف والقاسم المشترك للمنهج المميز بينهم في تناول العبادة وغيرها ما يسمونه (الذوق)، والذي أدى إلى اتساع الخرق عليهم، فلم يستطيعوا أن يحموا نهجهم الصوفي من الاندماج أو التأثر بعقائد وفلسفات غير إسلامية، مما سهَّل على اندثار هذه الطبقة وزيادة انتشار الطبقة الثانية التي زاد غلوها وانحرافها.

· الطبقة الثانية: خلطت الزهد بعبارات الباطنية، وانتقل فيها الزهد من الممارسة العملية والسلوك التطبيقي إلى مستوى التأمل التجريدي والكلام النظري، ولذلك ظهر في كلامهم مصطلحات: الوحدة، والفناء، والاتحاد، والحلول، والسكر، والصحو، والكشف، والبقاء، والمريد، والعارف، والأحوال، والمقامات، وشاع بينهم التفرقة بين الشريعة والحقيقة، وتسمية أنفسهم أرباب الحقائق وأهل الباطن، وسموا غيرهم من الفقهاء أهل الظاهر والرسوم مما زاد العداء بينهما، وغير ذلك مما كان غير معروف عند السلف الصالح من أصحاب القرون المفضلة ولا عند الطبقة الأولى من المنتسبين إلى الصوفية، مما زاد في انحرافها، فكانت بحق تمثل البداية الفعلية لما صار عليه تيار التصوف حتى الآن.

ومن أهم أعلام هذه الطبقة: أبو اليزيد البسطامي ت263هـ، ذوالنون المصري ت245هـ، الحلاج ت309هـ، أبوسعيد الخزار 277ـ 286هـ، الحكيم الترمذي ت320هـ، أبو بكر الشبلي 334 هـ وسنكتفي هنا بالترجمة لمن كان له أثره البالغ فيمن جاء بعده إلى اليوم مثل:

ـ ذو النون المصري: وهو أبو الفيض ثوبان بن إبراهيم، قبطي الأصل من أهل النوبة، من قرية أخميم بصعيد مصر، توفي سنة 245 هـ أخذ التصوف عن شقران العابد أو إسرائيل المغربي على حسب رواية ابن خلكان وعبد الرحمن الجامي. ويؤكد الشيعة في كتبهم ويوافقهم ابن النديم في الفهرست أنه أخذ علم الكيمياء عن جابر بن حيان، ويذكر ابن خلكان أنه كان من الملامتية الذين يخفون تقواهم عن الناس ويظهرون استهزاءهم بالشريعة، وذلك مع اشتهاره بالحكمة والفصاحة.

ويعدُّه كُتَّاب الصوفية المؤسسَ الحقيقي لطريقتهم في المحبة والمعرفة، وأول من تكلم عن المقامات والأحوال في مصر، وقال بالكشف وأن للشريعة ظاهرًا وباطنًا. ويذكر القشيري في رسالته أنه أول من عرَّف التوحيد بالمعنى الصوفي، وأول من وضع تعريفات للوجد والسماع، وأنه أول من استعمل الرمز في التعبير عن حاله، وقد تأثر بعقائد الإسماعيلية الباطنية وإخوان الصفا بسبب صِلاته القوية بهم، حيث تزامن مع فترة نشاطهم في الدعوة إلى مذاهبهم الباطلة، فظهرت له أقوال في علم الباطن، والعلم اللدني، والاتحاد، وإرجاع أصل الخلق إلى النور المحمدي، وكان لعلمه باللغة القبطية أثره على حل النقوش والرموز المرسومة على الآثار القبطية في قريته مما مكَّنه من تعلم فنون التنجيم والسحر والطلاسم الذي اشتغل بهم. ويعد ذو النون أول من وقف من المتصوفة على الثقافة اليونانية، ومذهب الأفلاطونية الجديدة، وبخاصة ثيولوجيا أرسطو في الإلهيات، ولذلك كان له مذهبه الخاص في المعرفة والفناء متأثرًا بالغنوصية.

ـ أبو يزيد البسطامي: طيفور بن عيسى بن آدم بن شروسان، ولد في بسطام من أصل مجوسي، وقد نسبت إليه من الأقوال الشنيعة؛ مثل قوله: (خرجت من الحق إلى الحق حتى صاح فيّ: يا من أنت أنا، فقد تحققت بمقام الفناء في الله)، (سبحاني ما أعظم شأني)، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يعده من أصحاب هذه الطبقة ويشكك في صدق نسبتها إليه حيث كانت له أقوال تدل على تمسكه بالسنة، ومن علماء أهل السنة والجماعة من يضعه مع الحلاج والسهروردي في طبقة واحدة.

ـ الحكيم الترمذي: أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسين الترمذي المتوفى سنة 320ه‍ أول من تكلم في ختم الولاية وألف كتابًا في هذا أسماه ختم الولاية كان سببًا لاتهامه بالكفر وإخراجه من بلده ترمذ، يقول عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: "تكلم طائفة من الصوفية في "خاتم الأولياء" وعظَّموا أمره كالحكيم الترمذي، وهو من غلطاته، فإن الغالب على كلامه الصحة بخلاف ابن عربي فإنه كثير التخليط). [مجموع الفتاوى [1/363] وينسب إليه أنه قال: "للأولياء خاتم كما أن للأنبياء خاتمًا"، مما مهد الطريق أمام فلاسفة الصوفية أمثال ابن عربي وابن سبعين وابن هود والتلمساني للقول بخاتم الأولياء، وأن مقامه يفضل مقام خاتم الأنبياء.

الطبقة الثالثة:

وفيها اختلط التصوف بالفلسفة اليونانية، وظهرت أفكار الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، على أن الموجود الحق هو الله وما عداه فإنها صور زائفة وأوهام وخيالات موافقة لقول الفلاسفة، كما أثرت في ظهور نظريات الفيض والإشراق على يد الغزالي والسهروردي. وبذلك تعد هذه الطبقة من أخطر الطبقات والمراحل التي مر بها التصوف والتي تعدت به مرحلة البدع العملية إلى البدع العلمية التي بها يخرج التصوف عن الإسلام بالكلية. ومن أشهر رموز هذه الطبقة: الحلاج ت309هـ، السهروردي 587هـ، ابن عربي ت638هـ، ابن الفارض 632هـ، ابن سبعين ت 667 هـ.

ـ الحـلاَّج: أبو مغيث الحسين بن منصور الحلاج 244 ـ 309هـ ولد بفارس حفيدًا لرجل زرادشتي، ونشأ في واسط بالعراق، وهو أشهر الحلوليين والاتحاديين، رمي بالكفر وقتل مصلوبًا لتهم أربع وُجِّهت إليه:

1ـ اتصاله بالقرامطة.

2ـ قوله "أنا الحق".

3ـ اعتقاد أتباعه ألوهيته.

4ـ قوله في الحج، حيث يرى أن الحج إلى البيت الحرام ليس من الفرائض الواجب أداؤها.

كانت في شخصيته كثير من الغموض، فضلًا عن كونه متشددًا وعنيدًا ومغاليًا، له كتاب الطواسين الذي أخرجه وحققه المستشرق الفرنسي ماسنيون.

يرى بعض الباحثين أن أفراد الطائفة في القرن الثالث الهجري كانوا على علم باطني واحد، منهم من كتمه ويشمل أهل الطبقة الأولى بالإضافة إلى الشبلي القائل: (كنت أنا والحسين بن منصور ـ الحلاج ـ شيئًا واحدًا إلا أنه أظهر وكتمت)، ومنهم من أذاع وباح به ويشمل الحلاج وطبقته فأذاقهم الله طعم الحديد، على ما صرَّحت به المرأة وقت صلبه بأمر من الجنيد حسب رواية المستشرق الفرنسي ماسنيون.

ظهور الفرق:

وضع أبو سعيد محمد أحمد الميهمي الصوفي الإيراني 357 ـ 430 هـ تلميذ أبي عبد الرحمن السلمي أوّل هيكل تنظيمي للطرق الصوفية بجعله متسلسلًا عن طريق الوراثة.

يعتبر القرن الخامس امتدادًا لأفكار القرون السابقة، التي راجت من خلال مصنفات أبي عبد الرحمن السلمي، المتوفى 412هـ والتي يصفها ابن تيمية بقوله: (يوجد في كتبه من الآثار الصحيحة والكلام المنقول ما ينتفع به في الدين، ويوجد فيه من الآثار السقيمة والكلام المردود ما يضر من لا خيرة له، وبعض الناس توقف في روايته) [مجموع الفتاوى 1/ 578]، فقد كان يضع الأحاديث لصالح الصوفية.

· ما بين النصف الثاني من القرن الخامس وبداية السادس في زمن أبي حامد الغزالي الملقَّب بحجَّة الإسلام ت505هـ أخذ التصوف مكانه عند من حسبوا على أهل السنة. وبذلك انتهت مرحلة الرواد الأوائل أصحاب الأصول غير الإسلامية، ومن أعلام هذه المرحلة التي تمتد إلى يومنا هذا:

ـ أبو حامد الغزالي: محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي 450 ـ 505هـ ولد بطوس من إقليم خراسان، نشأ في بيئة كثرت فيها الآراء والمذاهب مثل: علم الكلام والفلسفة، والباطنية، والتصوف، مما أورثه ذلك حيرة وشكًّا دفعه للتقلُّب بين هذه المذاهب الأربعة السابقة أثناء إقامته في بغداد، رحل إلى جرجان ونيسابور، ولازم نظام الملك، درس في المدرسة النظامية ببغداد، واعتكف في منارة مسجد دمشق، ورحل إلى القدس ومنها إلى الحجاز ثم عاد إلى موطنه. وقد ألف عددًا من الكتب منها: تهافُت الفلاسفة، والمنقذ من الضلال، وأهمها إحياء علوم الدين. ويعد الغزالي رئيس مدرسة الكشف في المعرفة، التي تسلمت راية التصوف من أصحاب الأصول الفارسية إلى أصحاب الأصول السنية، ومن جليل أعماله هدمُه للفلسفة اليونانية وكشفه لفضائح الباطنية في كتابه المستظهري أو فضائح الباطنية. ويحكي تلميذه عبد الغافر الفارسي آخرَ مراحل حياته، بعدما عاد إلى بلده طوس، قائلًا: (وكانت خاتمة أمره إقباله على حديث المصطفى ومجالسة أهله، ومطالعة الصحيحين ـ البخاري ومسلم ـ اللذين هما حجة الإسلام) ا. هـ. وذلك بعد أن صحب أهل الحديث في بلده من أمثال: أبي سهيل محمد بن عبد الله الحفصي الذي قرأ عليه صحيح البخاري، والقاضي أبي الفتح الحاكمي الطوسي الذي سمع عليه سنن أبي داود [طبقات السبكي 4 / 110].

ـ وفي هذه المرحلة ألف كتابه إلجام العوام عن علم الكلام الذي ذم فيه علم الكلام وطريقته، وانتصر لمذهب السلف ومنهجهم فقال: (الدليل على أن مذهب السلف هو الحق: أن نقيضه بدعة، والبدعة مذمومة وضلالة، والخوض من جهة العوام في التأويل والخوض بهم من جهة العلماء بدعة مذمومة، وكان نقيضه هو الكف عن ذلك سنة محمودة) ص [96].

ـ وفيه أيضًا رجع عن القول بالكشف وإدراك خصائص النبوة وقواها، والاعتماد في التأويل أو الإثبات على الكشف الذي كان يراه من قبل غاية العوام.

يمثل القرن السادس الهجري البداية الفعلية للطرق الصوفية وانتشارها حيث انتقلت من إيران إلى المشرق الإسلامي، فظهرت الطريقة القادرية المنسوبة لعبد القادر الجيلاني، المتوفى سنة 561ه‍، وقد رزق بتسعة وأربعين ولدًا، حمل أحد عشر منهم تعاليمه ونشروها في العالم الإسلامي، ويزعم أتباعه أنه أخذ الخرقة والتصوف عن الحسن البصري عن الحسن بن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهما ـ رغم عدم لقائه بالحسن البصري، كما نسبوا إليه من الأمور العظيمة فيما لا يقدر عليها إلا الله تعالى من معرفة الغيب، وإحياء الموتى، وتصرفه في الكون حيًّا أو ميتًا، بالإضافة إلى مجموعة من الأذكار والأوراد والأقوال الشنيعة. ومن هذه الأقوال أنه قال مرة في أحد مجالسه: "قدمي هذه على رقبة كل ولي لله"، وكان يقول: "من استغاث بي في كربة كشفت عنه، ومن ناداني في شدة فرجت عنه، ومن توسل بي في حاجة قضيت له)، ولا يخفى ما في هذه الأقوال من الشرك وادعاء الربوبية.

ـ يقول السيد محمد رشيد رضا: "يُنقل عن الشيخ الجيلاني من الكرامات وخوارق العادات ما لم ينقل عن غيره، والنقاد من أهل الرواية لا يحفلون بهذه النقول إذ لا أسانيد لها يحتج بها" [دائرة المعارف الإسلامية11/171].

· كما ظهرت الطريقة الرفاعية المنسوبة لأبي العباس أحمد بن أبي الحسين الرفاعي ت 540ه‍ ويطلق عليها البطائحية نسبةً إلى مكان ولاية بالقرب من قرى البطائح بالعراق، وينسج حوله كُتَّاب الصوفية ـ كدأبهم مع من ينتسبون إليهم ـ الأساطير والخرافات، بل ويرفعونه إلى مقام الربوبية. ومن هذه الأقوال: (كان قطب الأقطاب في الأرض، ثم انتقل إلى قطبية السماوات، ثم صارت السماوات السبع في رجله كالخلخال) [طبقات الشعراني ص141، قلادة الجواهرص42].

ـ وقد تزوج الرفاعي العديد من النساء ولكنه لم يعقب، ولذلك خلفه على المشيخة من بعده علي بن عثمان ت584ه‍ ثم خلفه عبد الرحيم بن عثمان ت604ه‍، ولأتباعه أحوال وأمور غريبة ذكرها الحافظ الذهبي ثم قال: "لكن أصحابه فيهم الجيد والرديء".

ـ وفي هذا القرن ظهرت شطحات وزندقة السهروردي شهاب الدين أبو الفتوح محيي الدين بن حسن 549-587ه‍‍، صاحب مدرسة الإشراق الفلسفية التي أساسها الجمع بين آراء مستمدة من ديانات الفرس القديمة ومذاهبها في ثنائية الوجود وبين الفلسفة اليونانية في صورتها الأفلاطونية الحديثة ومذهبها في الفيض أو الظهور المستمر، ولذلك اتهمه علماء حلب بالزندقة والتعطيل والقول بالفلسفة الإشراقية مما حدا بهم أن يكتبوا إلى السلطان صلاح الدين الأيوبي محضرًا بكفره وزندقته فأمر بقتله ردة، وإليه تنسب الطريقة السهروردية ومذاهبها في الفيض أو الظهور المستمر. ومن كتبه: حكمة الإشراق، هياكل النور، التلويحات العرشية، والمقامات.

تحت تأثير تراكمات مدارس الصوفية في القرون السالفة أعاد ابن عربي، وابن الفارض، وابن سبعين، بعثَ عقيدة الحلاج، وذي النون المصري، والسهروردي.

في القرن السابع الهجري دخل التصوف الأندلس وأصبح ابن عربي الطائي الأندلسي أحد رؤوس الصوفية حتى لُقِّب بالشيخ الأكبر.

ـ محيي الدين ابن عربي: الملقب بالشيخ الأكبر 560-638ه‍ رئيس مدرسة وحدة الوجود، يعتبر نفسه خاتم الأولياء، ولد بالأندلس، ورحل إلى مصر، وحج، وزار بغداد، واستقر في دمشق حيث مات ودفن، وله فيها الآن قبر يُزار، طرح نظرية الإنسان الكامل التي تقوم على أن الإنسان وحده من بين المخلوقات يمكن أن تتجلّى فيه الصفات الإلهية إذا تيسر له الاستغراق في وحدانية الله، وله كتب كثيرة يوصلها بعضهم إلى 400 كتاب ورسالة ما يزال بعضها محفوظًا بمكتبة يوسف أغا بقونية ومكتبات تركيا الأخرى، وأشهر كتبه: روح القدس، وترجمان الأشواق وأبرزها: الفتوحات المكية وفصوص الحكم.

ـ أبو الحسن الشاذلي 593-656ه‍: صاحبَ ابن عربي مراحل الطلب ـ طلب العلم ـ ولكنهما افترقا حيث فضّل أبو الحسن مدرسة الغزالي في الكشف بينما فضل ابن عربي مدرسة الحلاج وذي النون المصري، وقد أصبح لكلتا المدرستين أنصارهما إلى الآن داخل طرق الصوفية، مع ما قد تختلط عند بعضهم المفاهيم فيهما، ومن أشهر تلاميذ مدرسة أبي الحسن الشاذلي ت656ه‍ أبو العباس ت686ه‍، وإبراهيم الدسوقي، وأحمد البدوي ت675ه‍. ويلاحظ على أصحاب هذه المدرسة إلى اليوم كثرة اعتذارها وتأويلها لكلام ابن عربي ومدرسته.

وفي القرن السابع ظهر أيضًا جلال الدين الرومي صاحب الطريقة المولوية بتركيا ت672ه‍ـ.

أصبح القرن الثامن والتاسع الهجري ما هو إلا تفريع وشرح لكتب ابن عربي وابن الفارض وغيرهما، ولم تظهر فيه نظريات جديدة في التصوف. ومن أبرز سمات القرن التاسع هو اختلاط أفكار كلتا المدرستين. وفي هذا القرن ظهر محمد بهاء الدين النقشبندي مؤسس الطريقة النقشبندية ت791هـ. وكذلك القرن العاشر ما كان إلا شرحًا أو دفاعًا عن كتب ابن عربي، فزاد الاهتمام فيه بتراجم أعلام التصوف، والتي اتسمت بالمبالغة الشديدة. ومن كتّاب تراجم الصوفية في هذا القرن: عبد الوهاب الشعراني ت 973ه‍ صاحب الطبقات الصغرى والكبرى.

وفي القرون التالية اختلط الأمر على الصوفية، وانتشرت الفوضى بينهم، واختلطت فيهم أفكار كلتا المدرستين وبدأت مرحلة الدراويش.

ـ ومن أهم ما تتميز‍ به القرون المتأخرة ظهور ألقاب شيخ السجادة، وشيخ مشايخ الطرق الصوفية، والخليفة والبيوت الصوفية التي هي أقسام فرعية من الطرق نفسها مع وجود شيء من الاستقلال الذاتي يمارس بمعرفة الخلفاء، كما ظهرت فيها التنظيمات والتشريعات المنظمة للطرق تحت مجلس وإدارة واحدة الذي بدأ بفرمان أصدره محمد علي باشا والي مصر يقضي بتعيين محمد البكري خلفًا لوالده شيخًا للسجادة البكرية وتفويضه في الإشراف على جميع الطرق والتكايا والزوايا والمساجد التي بها أضرحة كما له الحق في وضع مناهج التعليم التي تعطى فيها. وذلك كله في محاولة لتقويض سلطة شيخ الأزهر وعلمائه، وقد تطورت نظمه وتشريعاته ليعرف فيما بعد بالمجلس الأعلى للطرق الصوفية في مصر.

من أشهر رموز القرون التأخرة:

ـ عبد الغني النابلسي 1050-1143ه‍.

ـ أبو السعود البكري المتوفى 1812م أول من عرف بشيخ مشايخ الطرق الصوفية في مصر بشكل غير رسمي.

ـ أبو الهدى الصيادي الرفاعي 1220-1287هـ.‍

ـ عمر الفوتي الطوري السنغالي الأزهري التيجاني ت 1281ه‍، ومما يحسن ذكره له أنه اهتم بنشر الإسلام بين الوثنيين، وكوَّن لذلك جيشًا، وخاض به حروبًا مع الوثنيين، واستولى على مملكة سيغو وعلى بلاد ماسينه. ومن مؤلفاته: سيوف السعيد، سفينة السعادة، رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم.

ـ محمد عثمان الميرغني ت1268ه‍. ستأتي ترجمة له في مبحث الختمية.

ـ أبو الفيض محمد بن عبد الكبير الكتاني، فقيه متفلسف، من أهل فاس بالمغرب، أسس الطريقة الكتانية 1290-1327ه‍، انتقد عليه علماء فاس بعض أقواله ونسبوه إلى فساد الاعتقاد. ومن كتبه: حياة الأنبياء، لسان الحجة البرهانية في الذب عن شعائر الطريقة الأحمدية الكتانية.

ـ أحمد التيجاني ت1230ه‍. ستأتي ترجمة له في مبحث التيجانية.

ـ حسن رضوان 1239-1310ه‍ صاحب أرجوزة روض القلوب المستطاب في التصوف.

ـ صالح بن محمد بن صالح الجعفري الصادقي 1328-1399ه‍ انتسب إلى الطريقة الأحمدية الإدريسية بعد ما سافر إلى مصر والتحق بالأزهر، وأخذ الطريقة عن الشيخ محمد بخيت المطيعي، والشيخ حبيب الله الشنقيطي، والشيخ يوسف الدجوي، ومن كتبه: الإلهام النافع لكل قاصد، القصيدة التائية، الصلوات الجعفرية.

الأفكار والمعتقدات:

مصادر التلقي:

ـ الكشف: ويعتمد الصوفية الكشف مصدرًا وثيقًا للعلوم والمعارف، بل تحقيق غاية عبادتهم، ويدخل تحت الكشف الصوفي جملة من الأمور الشرعية والكونية منها:

1ـ النبي صلى الله عليه وسلم: ويقصدون به الأخذ عنه يقظةً أو منامًا.

2ـ الخضر عليه الصلاة السلام: قد كثرت حكايتهم عن لقياه، والأخذ عنه أحكامًا شرعية وعلومًا دينية، وكذلك الأوراد، والأذكار والمناقب.

3ـ الإلهام: سواء كان من الله تعالى مباشرة، وبه جعلوا مقام الصوفي فوق مقام النبي حيث يعتقدون أن الولي يأخذ العلم مباشرة عن الله تعالى حيث أخذه الملك الذي يوحي به إلى النبي أو الرسول.

4ـ الفراسة: التي تختص بمعرفة خواطر النفوس وأحاديثها.

5ـ الهواتف: من سماع الخطاب من الله تعالى، أو من الملائكة، أو الجن الصالح، أو من أحد الأولياء، أو الخضر، أو إبليس، سواء كان منامًا أو يقظةً أو في حالة بينهما بواسطة الأذن.

6ـ الإسراءات والمعاريج: ويقصدون بها عروج روح الولي إلى العالم العلوي، وجولاتها هناك، والإتيان منها بشتى العلوم والأسرار.

7ـ الكشف الحسي: بالكشف عن حقائق الوجود بارتفاع الحجب الحسية عن عين القلب وعين البصر.

8 ـ الرؤى والمنامات: وتعتبر من أكثر المصادر اعتمادًا عليها حيث يزعمون أنهم يتلقَّون فيها عن الله تعالى، أو عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أحد شيوخهم لمعرفة الأحكام الشرعية.

ـ الذوق: وله إطلاقان:

1 ـ الذوق العام الذي ينظم جميع الأحوال والمقامات، ويرى الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال إمكان السالك أن يتذوَّق حقيقة النبوة، وأن يدرك خاصيتها بالمنازلة.

2ـ أما الذوق الخاص فتتفاوت درجاته بينهم حيث يبدأ بالذوق ثم الشرب.

ـ الوجد: وله ثلاثة مراتب:

1 ـ التواجد.

2 ـ الوجد.

3 ـ الوجود.

ـ التلقي عن الأنبياء غير النبي صلى الله عليه وسلم وعن الأشياخ المقبورين.

تتشابه عقائد الصوفية وأفكارهم وتتعدد بتعدد مدارسهم وطرقهم ويمكن إجمالها فيما يلي:

ـ يعتقد المتصوفة في الله تعالى عقائد شتى، منها الحلول كما هو مذهب الحلاج، ومنها وحدة الوجود حيث عدم الانفصال بين الخالق والمخلوق، ومنهم من يعتقد بعقيدة الأشاعرة والماتريدية في ذات الله تعالى وأسمائه وصفاته.

ـ والغلاة منهم يعتقدون في الرسول صلى الله عليه وسلم أيضًا عقائد شتى، فمنهم من يزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصل إلى مرتبتهم وحالهم، وأنه كان جاهلًا بعلوم رجال التصوف كما قال البسطامي: "خضنا بحرًا وقف الأنبياء بساحله". ومنهم من يعتقد أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هو قبة الكون، وهو الله المستوي على العرش وأن السماوات والأرض والعرش والكرسي وكل الكائنات خُلقت من نوره، وأنه أول موجود؛ وهذه عقيدة ابن عربي ومن تبعه. ومنهم من لا يعتقد بذلك بل يرده ويعتقد ببشريته ورسالته ولكنهم مع ذلك يستشفعون ويتوسلون به صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى على وجه يخالف عقيدة أهل السنة والجماعة.

ـ وفي الأولياء يعتقد الصوفية عقائد شتى، فمنهم من يفضِّل الولي على النبي، ومنهم يجعلون الولي مساويًا لله في كل صفاته، فهو يخلق ويرزق، ويحيي ويميت، ويتصرف في الكون. ولهم تقسيمات للولاية، فهناك الغوث، والأقطاب، والأبدال والنجباء حيث يجتمعون في ديوان لهم في غار حراء كل ليلة ينظرون في المقادير. ومنهم من لا يعتقد ذلك ولكنهم أيضًا يأخذونهم وسائط بينهم وبين ربهم سواءً كان في حياتهم أو بعد مماتهم.

وكل هذا بالطبع خلاف الولاية في الإسلام التي تقوم على الدين والتقوى، وعمل الصالحات، والعبودية الكاملة لله والفقر إليه، وأن الولي لا يملك من أمر نفسه شيئًا فضلًا عن أنه يملك لغيره، قال تعالى لرسوله: (قُل إنّي لا أملِكُ لكم ضَرًّا ولا رَشَدًا) [الجن: 21].

ـ يعتقدون أن الدين شريعة وحقيقة، والشريعة هي الظاهر من الدين وأنها الباب الذي يدخل منه الجميع، والحقيقة هي الباطن الذي لا يصل إليه إلا المصطفون الأخيار.

ـ التصوف في نظرهم طريقة وحقيقة معًا.

ـ لابد في التصوف من التأثير الروحي الذي لا يأتي إلا بواسطة الشيخ الذي أخذ الطريقة عن شيخه.

ـ لابد من الذكر والتأمل الروحي وتركيز الذهن في الملأ الأعلى، وأعلى الدرجات لديهم هي درجة الولي.

ـ يتحدث الصوفيون عن العلم الَّلدُنّي الذي يكون في نظرهم لأهل النبوة والولاية، كما كان ذلك للخضر عليه الصلاة والسلام، حيث أخبر الله تعالى عن ذلك فقال: (وعلَّمناهُ من لَدُنَّا عِلْمًا).

ـ الفناء: يعتبر أبو يزيد البسطامي أول داعية في الإسلام إلى هذه الفكرة، وقد نقلها عن شيخه أبي علي السندي حيث الاستهلاك في الله بالكلية، وحيث يختفي نهائيًّا عن شعور العبد بذاته ويفنى المشاهد فينسى نفسه وما سوى الله، ويقول القشيري: الاستهلاك بالكلية يكون (لمن استولى عليه سلطان الحقيقة حتى لم يشهد من الغبار لا عينًا ولا أثرًا ولا رسمًا) "مقام جمع الجمع" وهو: "فناء العبد عن شهود فنائه باستهلاكه في وجود الحق".

إن مقام الفناء حالة تتراوح فيها تصورات السالك بين قطبين متعارضين هما التنزيه والتجريد من جهة والحلول والتشبيه من جهة أخرى.

درجات السلوك:

ـ هناك فرق بين الصوفي والعابد والزاهد إذ أن لكل واحد منهم أسلوبًا ومنهجًا وهدفًا.

وأول درجات السلوك حبُّ الله ورسوله، ودليله الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم الأسوة الحسنة: (لَقد كانَ لكُم في رَسُولِ الله أُسوةٌ حَسَنةٌ).

ثم التوبة: وذلك بالإقلاع عن المعصية، والندم على فعلها، والعزم على أن لا يعود إليها، وإبراء صاحبها إن كانت تتعلق بآدمي.

ـ المقامات: "هي المنازل الروحية التي يمر بها السالك إلى الله فيقف فترة من الزمن مجاهدًا في إطارها حتى ينتقل إلى المنزل الثاني" ولابد للانتقال من جهاد وتزكية. وجعلوا الحاجز بين المريد وبين الحق سبحانه وتعالى أربعة أشياء هي: المال، والجاه، والتقليد، والمعصية.

ـ الأحوال: "إنها النسمات التي تهب على السالك فتنتعش بها نفسه لحظات خاطفة ثم تمر تاركة عطرًاً تتشوق الروح للعودة إلى تنسُّم أريجه". قال الجنيد: "الحال نازلة تنزل بالقلوب فلا تدوم".

والأحوال مواهب، والمقامات مكاسب، ويعبِّرون عن ذلك بقولهم: (الأحوال تأتي من عين الجود، والمقامات تحصل ببذل المجهود).

ـ الورع: أن يترك السالك كل ما فيه شبهة، ويكون هذا في الحديث والقلب والعمل.

ـ الزهد: وهو يعني أن تكون الدنيا على ظاهر يده، وقلبه معلق بما في يد الله. يقول أحدهم عن زاهد: (صدق فلان، قد غسل الله قلبه من الدنيا وجعلها في يده على ظاهره). قد يكون الإنسان غنيًّا وزاهدًا في ذات الوقت إذ أن الزهد لا يعني الفقر، فليس كل فقير زاهدًا، وليس كل زاهد فقيرًا، والزهد على ثلاث درجات:

1 ـ ترك الحرام، وهو زهد العوام.

2 ـ ترك الفضول من الحلال، وهو زهد الخواص.

3 ـ ترك ما يشغل العبد عن الله تعالى، وهو زهد العارفين.

ـ التوكل: يقولون: التوكل بداية، والتسليم واسطة، والتفويض نهاية إن كان للثقة في الله نهاية، ويقول سهل التستري: "التوكل: الاسترسال مع الله تعالى على ما يريد".

ـ المحبة: يقول الحسن البصري ت110ه‍: (فعلامة المحبة الموافقة للمحبوب والتجاري مع طرقاته في كل الأمور، والتقرب إليه بكل صلة، والهرب من كل ما لا يعينه على مذهبه).

ـ الرضا: يقول أحدهم: (الرضا بالله الأعظم، هو أن يكون قلب العبد ساكنًا تحت حكم الله عز وجل) ويقول آخر: (الرضا آخر المقامات، ثم يقتفي من بعد ذلك أحوال أرباب القلوب، ومطالعة الغيوب، وتهذيب الأسرار لصفاء الأذكار وحقائق الأحوال).

ـ يطلقون الخيال: لفهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يصل السالك إلى اليقين وهو على ثلاث مراتب:

1 ـ علم اليقين: وهو يأتي عن طريق الدليل النقلي من آيات وأحاديث (كلاَّ لَوْ تَعلمُونَ عِلمَ اليَقين). [سورة التكاثر: 5].

2ـ عين اليقين: وهو يأتي عن طريق المشاهدة والكشف: (ثمَّ لَتَرونَّها عَينَ اليقين) [سورة التكاثر: 7].

3ـ حق اليقين: وهو ما يتحقق عن طريق الذوق: (إنَّ هذا لهو حقُّ اليَقين فسبِّح باسمِ ربِّك العظيم) [سورة الواقعة: 95، 96].

- وأما في الحكم والسلطان والسياسة فإن المنهج الصوفي هو عدم جواز مقاومة الشر ومغالبة السلاطين لأن الله في زعمهم أقام العباد فيما أراد.

ـ ولعل أخطر ما في الشريعة الصوفية هو منهجهم في التربية حيث يستحوذون على عقول الناس ويلغونها، وذلك بإدخالهم في طريق متدرج يبدأ بالتأنيس، ثم بالتهويل والتعظيم بشأن التصوف ورجاله، ثم بالتلبيس على الشخص، ثم بالرزق إلى علوم التصوف شيئًا فشيئًا، ثم بالربط بالطريقة وسد جميع الطرق بعد ذلك للخروج.

مدارس الصوفية:

ـ مدرسة الزهد: وأصحابها: من النُّسَّاك والزُّهَّاد والعُبَّاد والبكَّائين، ومن أفرادها: رابعة العدوية، وإبراهيم بن أدهم، ومالك بن دينار.

ـ مدرسة الكشف والمعرفة: وهي تقوم على اعتبار أن المنطق العقلي وحده لا يكفي في تحصيل المعرفة وإدراك حقائق الموجودات، إذ يتطور المرء بالرياضة النفسية حتى تنكشف عن بصيرته غشاوة الجهل وتبدو له الحقائق منطبقة في نفسه تتراءى فوق مرآة القلب، وزعيم هذه المدرسة: أبو حامد الغزالي.

ـ مدرسة وحدة الوجود: زعيم هذه المدرسة محيي الدين بن عربي: (وقد ثبت عن المحققين أنه ما في الوجود إلا الله، ونحن إن كنا موجودين فإنما كان وجودنا به، فما ظهر من الوجود بالوجود إلا الحق، فالوجود الحق وهو واحد، فليس ثم شيء هو له مثل، لأنه لا يصح أن يكون ثم وجودان مختلفان أو متماثلان).

ـ مدرسة الاتحاد والحلول: وزعيمها: الحلاج، ويظهر في هذه المدرسة التأثر بالتصوف الهندي والنصراني، حيث يتصور الصوفي عندها أن الله قد حل فيه وأنه قد اتحد هو بالله، فمن أقوالهم: (أنا الحق) و (ما في الجبة إلا الله) وما إلى ذلك من الشطحات التي تنطلق على ألسنتهم في لحظات السكر بخمرة الشهود على ما يزعمون.

الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م


123-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (النورسية-جماعات متأثرة بالصوفية)

النورسية

التعريف:

النورسية: جماعة دينية إسلامية هي أقرب في تكوينها إلى الطرق الصوفية منها إلى الحركات المنظمة، ركز مؤسسها على الدعوة إلى حقائق الإيمان والعمل على تهذيب النفوس مُحْدِثًا تيارًا إسلاميًا في محاولة منه للوقوف أمام المد العلماني الماسوني الكمالي الذي اجتاح تركيا عقب سقوط الخلافة العثمانية واستيلاء كمال أتاتورك على دفة الحكم فيها.

التأسيس وأبرز الشخصيات:

المؤسس هو الشيخ سعيد النورسي 1873ـ 1960م ولد من أبوين كرديين في قرية نورس القريبة من بحيرة وان في مقاطعة هزان بإقليم بتلس شرقي الأناضول، تلقى تعليمه الأولي في بلدته، ولما شبّ ظهرت عليه علامات الذكاء والنجابة حتى لقب بـ (بديع الزمان) و (سعيدي مشهور).

ـ في الثامنة عشر من عمره ألَمَّ بالعلوم الدينية وبجانب كبير من العلوم العقلية، وعرف الرماية والمصارعة وركوب الخيل، فضلًا عن حفظه القرآن الكريم، آخذًا نفسه بالزهد والتقشف.

ـ عمل مدرسًا لمدة خمسة عشر عامًا في مدينة وان وهناك بدأ دعوته الإرشادية التربوية.

ـ انتقل إلى استانبول لتأسيس الجامعة الزهراء لتكون على شاكلة الجامع الأزهر بمصر، وصادف أن كان هناك الشيخ بخيت شيخ الجامع الأزهر الذي أبدى إعجابه الشديد ببديع الزمان.

ـ عين عضوًا في أعلى مجلس علمي في الدولة العثمانية وهو دار الحكمة الإسلامية.

ـ عندما دخل الحلفاء استانبول محتلين كان في مقدمة المجاهدين ضدهم.

ـ في عام 1908 م بعد الإطاحة بالسلطان عبد الحميد بتآمر من جمعية الاتحاد والترقي التي رفعت شعار (الوحدة ـ الحرية ـ الإصلاحية) لتخفي وراءه دسائسها ومؤامراتها على الإسلام والمسلمين، ألّف بديع الزمان جمعية (الاتحاد المحمدي) واستخدموا نفس شعارات الاتحاديين ولكن بالمفهوم الإسلامي كشفًا لخدعهم التي يتسترون خلفها وتجلية لحقيقتهم الماسونية.

ـ أرسل الماسونيون (قرّه صو) اليهودي لمقابلته، لكنه ما لبث أن خرج من عنده وهو يقول: "لقد كاد هذا الرجل العجيب أن يزجني في الإسلام بحديثه".

ـ في الحرب العالمية الأولى التحق بالجيش التركي ضابطًا فيه، وفي الأمسيات كان يلقي على تلاميذه وعساكره علومًا في القرآن.

ـ قبض عليه الروس ونفوه إلى سيبيريا، لكنه استطاع أن يهرب ويعود إلى استانبول عن طريق ألمانيا فبلغاريا فتركيا.

ـ حينما أعلن مصطفى كمال أتاتورك (1880ـ1938م) العصيان بالأناضول حاول استدراج بديع الزمان إلى جانبه إذ عرض عليه قصرًا فخمًا ومناصب عليا، لكنه رفض كل ذلك منصرفًا عن السياسة كليًّا جاعلًا شعاره "أعوذ بالله من الشيطان والسياسة" عاكفًا على العبادة والتربية وصقل النفوس.

ـ لقد كان العلمانيون الذين حكموا تركيا بعد زوال الخلافة يخشون من دعوته ويعارضونها أشد المعارضة فما كان منهم إلا أن استغرقوا حياته بالسجن والتعذيب والانتقال من سجن إلى منفى، ومن منفى إلى محاكمة.

ـ أصدرت المحاكم ضده أحكامًا بالإعدام عدة مرات لكنهم كانوا يعدلون عن تنفيذ هذا الحكم خوفًا من ثورة أتباعه وأنصاره.

ـ في عام 1327هـ انتقل إلى سوريا وأقام في دمشق وألقى في المسجد الأموي خطبته التي عرفت بالخطبة الشامية وضح فيها أسباب تقدم أوروبا وتخلف المسلمين بما يلي:

1 ـ اليأس الذي بلغ بالمسلمين مبلغه.

2 ـ فساد الأخلاق وفقدان الصدق في الحياة الاجتماعية والسياسية.

3 ـ انتشار العداوة والبغضاء بين صفوف المسلمين.

4 ـ فقدان روابط الحبة والتعاون والتكافل بين المسلمين.

5 ـ الاستبداد المنتشر انتشار الأمراض السارية.

6 ـ تقديم المصالح الشخصية على المصالح العامة.

ـ عاش آخر عمره في إسبارطة منعزلًا عن الناس، وقبل ثلاثة أيام من وفاته اتجه إلى أورفه دون إذن رسمي حيث عاش يومين فقط فكانت وفاته في اليوم السابع والعشرين من شهر رمضان سنة 1379هـ.

الأفكار والمعتقدات:

فكر هذه الجماعة هو ما كتبه المؤسس ذاته حتى إنك لا تكاد تجد ذِكرًا لآخرين تركوا إضافات مهمة على أفكارها.

قامت هذه الدعوة لإيقاظ العقيدة الإسلامية في نفوس أتباعها فكان عليها أن تواجه الظروف القاسية بتكتيك يناسب هذه الظروف التي كان مجرد الانتماء إلى الإسلام فيها يعد جريمة يعاقب عليها القانون.

كان بديع الزمان متواضعًا زاهدًا يتحرز عن مواطن الشبهة، وكان شعاره الدائم (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك).

التخلي عن السياسة واعتبرها من وساوس الشيطان وذلك إثر عدة مواجهات ومصادمات بين بديع الزمان ومصطفى كمال الذي كان يحاول استدراج الشيخ إلى صفه حيث غادر سعيد النورسي أنقره عام 1921م إلى (وان) تاركًا السياسة خلف ظهره ووُصِفَ هذا التاريخ بأنه فاصل بين مرحلتين: سعيد القديم وسعيد الجديد.

قال بديع الزمان للمحكمة عندما كان مسجونًا في سجن اسكشير: (لقد تساءلتم هل أنا ممن يشتغل بالطرق الصوفية وإنني أقول لكم: إن عصرنا هذا هو عصر حفظ الإيمان لا حفظ الطريقة، وإن كثيرين هم أولئك الذين يدخلون الجنة بغير طريقة ولكن أحدًا لا يدخل الجنة بغير إيمان).

وقال: "أقسم بالله أنني سأكرس نفسي للقرآن باذلًا حياتي مهما كانت مكائد الوزير البريطاني القذرة". ويقصد به وزير المستعمرات البريطاني غلادستون الذي قال آنذاك: "طالما أن القرآن مع المسلمين فسيبقون في طريقنا ولذلك يجب علينا أن نبعده عن حياتهم".

من أقواله: "لو أن لي ألف روح لما ترددت أن أجعلها فداء لحقيقة واحدة من حقائق الإسلام.. إنني لا أعترف إلا على ملة الإسلام.. إنني أقول لكم وأنا أقف أمام البرزخ الذي تسمونه السجن إنني في انتظار القطار الذي يمضي بي إلى الآخرة...".

ـ وله كذلك: "كما أنه لا يناسب الشيخ الوقور أن يلبس لباس الراقصين فكذلك لا يناسب استانبول أن تلبس أخلاق أوروبا".

إن التهم الرئيسية التي كانت توجه إلى بديع الزمان في المحاكمات يمكن تلخيصها فيما يلي:

ـ العمل على هدم الدولة العلمانية والثورة الكمالية.

ـ إثارة روح التدين في تركيا.

ـ تأليف جمعية سرية.

ـ التهجم على مصطفى كمال أتاتورك.

لكنه كان يتصدى لهذه التهم بمنطق بليغ من الحجة والبرهان حتى أصبحت هذه المحاكمات مجال دعاية له تزيد في عدد أتباعه.

لقد كرس المؤسس نشاطه ودعوته على مقاومة المد العلماني الذي تمثل في:

ـ إلغاء الخلافة العثمانية.

ـ استبدال القوانين الوضعية ـ والقانون السويسري المدني تحديدًا ـ بالشريعة الإسلامية.

ـ إلغاء التعليم الديني.

ـ منع الكتابة بالحروف العربية وفرضها بالحروف اللاتينية.

ـ تغيير الأذان من الكلمات العربية إلى الكلمات التركية.

ـ فرض النظرية الطورانية "وأن الترك أصل الحضارات".

ـ إلزام الناس بوضع القبعة غطاء للرأس.

ـ جعل يوم الأحد يوم العطلة الرسمية بدلًا من يوم الجمعة.

ـ ارتداء الجبة السوداء والعمامة البيضاء مقصور على رجال الدين.

ـ ترجمة القرآن إلى اللغة التركية وذلك عام 1350هـ/1931م وتوزيعه في المساجد.

ـ تحريم الاحتفال بعيدي الأضحى والفطر وإلغاء التقويم الهجري وإحداث تغييرات في نظام المواريث.

ـ الاتجاه نحو الغرب ومحاكاته في عاداته وتقاليده واهتماماته.

ـ طمس العقيدة الإسلامية في نفوس الناس بعامة والناشئة بخاصة.

يمتاز شباب هذه الجماعة بالعفة والنظافة، شباب قابض على دينه في عصر شاعت فيه الفتن والإغراءات والانحلال.

هذا وثمة بعض المآخذ على هذه الجماعة:

ـ أن هذه الجماعة لم تُعن بنشر عقيدة السلف والتوحيد الخالص بين أتباعها وبين عوام المسلمين ممن يحتاجون إلى تصحيح عقائدهم قبل شغلهم بأمور أخرى.

بل تبنت عقيدة الماتريدية التي كانت تُدعم من قبل الدولة العثمانية؛ فلم تحاول التخلص من هذه العقيدة البدعية.

ـ أنهم لم يستطيعوا تأسيس عمل إسلامي منظم يستطيع التصدي للمكر اليهودي الذي كان متغلغلًا في معظم نواحي الحياة السياسية المعادية للإسلام والمسلمين إذ ذاك. لكن الإنصاف يقتضينا أن نقر بأن الظروف المحيطة بنشأة هذه الجماعة لم تكن لتسمح لها بالظهور في غير الشكل الذي ظهرت فيه.

ـ أن اشتراك بديع الزمان مع آخرين في تأليف جمعية الاتحاد المحمدي ليس أكثر من رد فعل سرعان ما انفرطت فضلًا عن استعداء الاتحاديين عليه وتركيزهم الكيد والتآمر للقضاء عليه وعلى دعوته.

ـ إن تخلي هذه الجماعة عن السياسة واتخاذ سعيد النورسي شعار أعوذ بالله من الشيطان والسياسة وذلك منذ عام 1921م قد ترك أثرًا سلبيًا على أتباعها إذ وقع بعضهم فريسة لأحزاب علمانية.

ـ يؤخذ على الشيخ تخليه عن مساندة الشيخ سعيد الكردي الذي قام بثورة ضد مصطفى كمال أتاتورك سنة1925م واقفًا إلى جانب الخلافة، وقد حدثت معارك رهيبة بينه وبين الكماليين في منطقة ديار بكر سقط فيها آلاف من المسلمين.

ـ ويأتي هذا الموقف انطلاقًا من فكره في وجوب جهاد النفس أولًا ثم الدعوة إلى تنوير الأفكار، وقد نادت الجماعة بإصلاح القلوب وعدم الدخول في معارك داخلية مع المخالفين المسلمين سواء كانوا حكامًا أو محكومين والتزام طريق الدعوة السلمية، والتطور التدريجي، ولا يلجأ إلى الجهاد المسلح إلا ضد العدو الخارجي من الكفار والزنادقة.

ـ لدى بعض أفراد جماعة النور ـ مؤخرًا ـ شعور بالانعزالية والاستعلاء وهذا أفقدهم القدرة على التغلغل بين طبقات الشعب المسلم لدعوته وتوعيته.

تفرقت هذه الجماعة بعد موت المؤسس وانقسمت إلى ثلاثة أقسام رئيسية متنافرة:

قسم التحق بحزب السلامة.

قسم التزم الحياد.

وقسم ثالث عادى حزب السلامة (حزب الرفاه) متحالفًا مع حزب العدالة الذي يرأسه (ديميريل) ويملك هذا القسم كل وسائل الدعم والتأييد. وهناك محاولة واسعة لتخريب أفكار شبابه. ومن ذلك مجموعة يني آسيا جي لر مصدرو صحيفة يني آسيا التي اشتركت مع صحيفة أخرى اسمها يني نسل في التشهير بحزب السلامة (حزب الرفاه) وبزعيمه نجم الدين أربكان.

الجذور الفكرية والعقائدية:

ـ ليست جماعة النور إلا واحدة من الجماعات الإسلامية؛ لكنها على العقيدة الماتريدية عقيدة تركيا والخلافة العثمانية.

ـ سلكت الجماعة طريق التربية وعملت على حفظ الإيمان في النفوس وعليه فإنها تُشَبه بالطرق الصوفية من بعض الوجوه.

ـ يطلق بعضهم على هذه الجماعة اسم المدرسة اليوسفية أي التي يتحمل أصحابها في سبيل عقيدتهم السجن والتعذيب دون أن يتصدوا للطغيان إلا بالحجة والمنطق والصبر والمصابرة.

الانتشار ومواقع النفوذ:

ـ بدأت جماعة النور في المنطقة الكردية شرقي الأناضول وامتدت إلى أرض روم واسبارطة وما حولها ثم انتقلت إلى استانبول.

ـ وصلت هذه الدعوة إلى كل الأراضي التركية واكتسحت كل التنظيمات القائمة على أرضها آنذاك.

ـ بلغ عدد أعضائها أكثر من مليون شخص، يقضي أحدهم عمره في استنساخ رسائل النور وتوزيعها، وكانت الفتيات نشيطات في ذلك كثيرًا.

ـ لهذه الجماعة أتباع وأنصار في كل من الباكستان والهند. وكذلك لها نشاط في أمريكا يتمثل في الطلاب الأتراك من أتباع هذه المدرسة.

(page)

الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م


124-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (النصرانية)

النصرانية

التعريف:

هي الرسالة التي أُنزلت على عيسى عليه الصلاة والسلام، مكمِّلة لرسالة موسى عليه الصلاة والسلام، ومتممة لما جاء في التوراة من تعاليم، موجهة إلى بني إسرائيل، داعية إلى التوحيد والفضيلة والتسامح، ولكنها جابهت مقاومة واضطهادًا شديدًا، فسرعان ما فقدت أصولها، مما ساعد على امتداد يد التحريف إليها، فابتعدت كثيرًا عن أصولها الأولى لامتزاجها بمعتقدات وفلسفات وثنية.

التأسيس وأبرز الشخصيات:

مرت النصرانية بعدة مراحل وأطوار تاريخية مختلفة، انتقلت فيها من رسالة منزلة من عند الله تعالى إلى ديانة مُحرَّفة ومبدلة، تضافر على صنعها بعض الكهان ورجال السياسة، ويمكن تقسيم هذه المراحل كالتالي:

المرحلة الأولى:

النصرانية المُنزَّلة من عند الله التي جاء بها عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام:

- هي رسالة أنزلها الله تعالى على عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام إلى بني إسرائيل بعد أن انحرفوا وزاغوا عن شريعة موسى عليه السلام، وغلبت عليهم النزعات المادية. وافترقوا بسبب ذلك إلى فرق شتى، فمنهم من يؤمن بأن غاية الإنسان هي الحياة الدنيا، حي

- المبلِّغ: عيسى ابن مريم عليه السلام، أمُّه البتول مريم ابنة عمران أحد عظماء بني إسرائيل، نذرتها أمها قبل أن تحمل بها لخدمة المسجد، وكفلها زكريا أحد أنبياء بني إسرائيل وزوج خالتها، فكانت عابدة قانتة لله تعالى، حملت به من غير زوج بقدرة الله تعالى، وولدته

- بُعث عيسى عليه السلام نبيًّا إلى بني إسرائيل، مؤيَّدًا من الله تعالى بعدد من المعجزات الدالة على نبوته، فكان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيرًا بإذن الله. ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله.

كما كان يخبر الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم بإذن الله.

وقد أيده الله هو وحواريِّيه بمائدة من السماء أنزلها عليهم لتكون عيدًا لأولهم وأخرهم.

- تآمر اليهود على قتله برئاسة الحبر الأكبر (كايافاس) وأثاروا عليه الحاكم الروماني لفلسطين (بيلاطس) لكنه تجاهلهم أولًا، ثم لما كذبوا عليه وتقوَّلوا على عيسى عليه السلام بأنه يدعو نفسه مسيحًا ملكًا، ويرفض دفع الجزية للقيصر، دفع ذلك الحاكم إلى إصدار أمرًا با

- اختفى عيسى وأصحابه عن أعين الجند، إلا أن أحد أصحابه دلَّ جند الرومان على مكانه، فألقى الله تعالى شبه عيسى عليه الصلاة والسلام وصورته عليه، ويقال إنه يهوذا الإسخريوطي وقيل غيره، فنُفِّذ حكم الصلب فيه بدلًا من عيسى عليه الصلاة والسلام حيث رفعه الله إليه،

- آمن بدعوة المسيح عليه السلام الكثير ولكنه اصطفى منهم اثني عشر حواريًّا كما هم مذكورون في إنجيل متى.

- وهناك الرسل السبعون الذين يقال بأن المسيح عليه السلام اختارهم ليعلِّموا النصرانية في القرى المجاورة.

المرحلة الثانية:

ويسميها مؤرِّخو الكنيسة بالعصر الرسولي، وينقسم هذا العصر إلى قسمين: التبشير وبداية الانحراف، والاضطهاد الذي يستمر حتى بداية العهد الذهبي للنصارى.

التبشير وبداية الانحراف:

بعدما رُفع المسيح عليه الصلاة والسلام، واشتد الإيذاء والتنكيل بأتباعه وحوارييه بوجه خاص؛ حيث قُتل يعقوب بن زبدي أخو يوحنا الصياد فكان أول من قتل من الحواريين، وسجن بطرس، وعذب سائر الرسل، وحدثت فتنة عظيمة لأتباع المسيح عليه الصلاة والسلام حتى كادت النصرانية أن تفنى.

وفي ظل هذه الأجواء المضطربة أعلن شاول الطرسوسي اليهودي الفريسي، صاحب الثقافات الواسعة بالمدارس الفلسفية والحضارات في عصره، وتلميذ أشهر علماء اليهود في زمانه عمالائيل، أعلن شاول الذي كان يُذيق أتباع المسيح سوءَ العذاب، إيمانه بالمسيح بعد زعمه رؤيته عند عودته من دمشق، مؤنبًا له على اضطهاده لأتباعه، آمرًا له بنشر تعاليمه بين الأمم، فاستخف الطرب النصارى، في الوقت الذي لم يصدقه بعضهم، إلا أن برنابا الحواري دافع عنه وقدمه إلى الحواريين فقبلوه، وبما يمتلكه من حدة ذكاء وقوة حيلة ووفرة نشاط استطاع أن يأخذ مكانًا مرموقًا بين الحواريين وتسمى بـ بولس.

- انطلق الحواريون للتبشير بين الأمم اليهودية في البلدان المجاورة، التي سبق أن تعرفت على دعوة المسيح عليه السلام أثناء زيارتها لبيت المقدس في عيد العنصرة، وتذكر كتب التاريخ النصراني بأن متَّى ذهب إلى الحبشة، وقُتل هناك بعد أن أسس فيها كنيسة ورسَّم – عيَّن-

- أما بولس فذهب إلى روما وأفسس وأثينا وأنطاكية، وأسس فيها كنائس نصرانية نظير كنيسة أورشليم ورسَّم لهم أساقفة. وفي أحد جولاته في أنطاكية صحبه برنابا فوجدا خلافًا حادًّا بين أتباع الكنيسة حول إكراه الأمميين على إتباع شريعة التوراة فعادا إلى بيت المقدس لعرض

بداية الانحراف:

- فيما بين عام 51 – 55م عقد أول مجمع يجمع بين الحواريين – مجمع أورشليم – تحت رئاسة يعقوب بن يوسف النجار المقتول رجمًا سنة 62م ليناقش دعوى استثناء الأمميين، وفيه تقرر – إعمالًا لأعظم المصلحتين – استثناء غير اليهود من الالتزام بشريعة التوراة إن كان ذلك هو ا

- عاد بولس بصحبة برنابا إلى أنطاكية مرة أخرى، وبعد صحبة غير قصيرة انفصلا وحدث بينهما مشادة عظيمة نتيجة لإعلان بولس نسخ أحكام التوراة وقوله أنها: "كانت لعنة تخلَّصنا منها إلى الأبد" و"أن المسيح جاء ليبدل عهدًا قديمًا بعهد جديد" ولاستعارته من فلاسفة اليونان

- قد استمرت المقاومة الشديدة لأفكار بولس عبر القرون الثلاثة الأولى: ففي القرن الثاني الميلادي تصدى هيولتس، وإيبيي فايتس، وأوريجين لها، وأنكروا أن بولس كان رسولًا، وظهر بولس الشمشاطي في القرن الثالث، وتبعه فرقته البوليسية إلا أنها كانت محدودة التأثير. وهكذ

الاضطهاد:

- عانت الدعوة النصرانية أشدَّ المعاناة من سلسلة الاضطهادات والتنكيل على أيدي اليهود الذين كانت لهم السيطرة الدينية، ومن الرومان الذين كانت لهم السيطرة والحكم، ولذلك فإن نصيب النصارى في فلسطين ومصر كان أشد من غيرهم، حيث اتخذ التعذيب والقتل أشكالًا عديدة؛ م

- من أعنف الاضطهادات وأشدها:

1- اضطهاد نيرون سنة 64م الذي قُتل فيه بطرس وبولس.

2- واضطهاد دمتيانوس سنة 90م وفيه كتب يوحنا إنجيله في أفسس باللغة اليونانية.

3- واضطهاد تراجان سنة 106م وفيه أمر الإمبراطور بإبادة النصارى وحرق كتبهم، فحدثت مذابح مُروِّعة قُتل فيها يعقوب البار أسقف أورشليم.

4- ومن أشدها قسوة وأعنفها اضطهادُ الإمبراطور دقلديانوس 284م الذي صمم على أن لا يكف عن قتل النصارى حتى تصل الدماء إلى ركبة فرسه، وقد نفذ تصميمه؛ وهدم الكنائس وأحرق الكتب، وأذاقهم من العذاب صنوفًا وألوانًا، مما دفع النصارى من أقباط مصر إلى اتخاذ يوم 29 أغسطس 284م بداية لتقويمهم تخليدًا لذكرى ضحاياهم.

- هكذا استمر الاضطهاد يتصاعد إلى أن استسلم الإمبراطور جالير لفكرة التسامح مع النصارى لكنه مات بعدها، ليعتلي قسطنطين عرش الإمبراطورية.

- سعى قسطنطين بما لأبيه من علاقات حسنة مع النصارى إلى استمالة تأييدهم له لفتح الجزء الشرقي من الإمبراطورية حيث يكثر عددهم، فأعلن مرسوم ميلان الذي يقضي بمنحهم الحرية في الدعوة والترخيص لديانتهم ومساواتها بغيرها من ديانات الإمبراطورية الرومانية، وشيَّد لهم

نشأة الرهبانية والديرية وتأثير الفلسفة على النصرانية:

- في خلال هذه المرحلة ظهرت الرهبنة في النصرانية في مصر أولًا على يد القديس بولس الطبي 241 – 356م والقديس أنطوان المعاصر له، إلا أن الديرية – حركة بناء الأديرة – نشأت أيضًا في صعيد مصر عام 315 – 320م أنشأها القديس باخوم، ومنها انتشرت في الشام وآسيا الصغرى.

العهد الذهبي للنصارى:

- يطلق مؤرخو الكنيسة اسم العهد الذهبي للنصارى ابتداء من تربُّع الإمبراطور قسطنطين على عرش الإمبراطورية الرومانية عام 312م لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل تاريخ النصرانية.

ويمكن تقسيم ذلك العهد إلى مرحلتين رئيسيتين:

* مرحلة جمع النصارى على عقيدة واحدة (عصر المجامع أو عهد الخلافات والمناقشات):

- ما إن أعلن قسطنطين إعلان ميلان حتى قرَّب النصارى وأسند إليهم الوظائف الكبيرة في بلاط قصره، وأظهر لهم التسامح، وبنى لهم الكنائس، وزعمت أمه هيلينا اكتشاف الصليب المقدس، الذي اتخذه شعارًا لدولته بجانب شعارها الوثني، فنشطت الدعوة إلى النصرانية، ودخل الكثير

- وفي وسط هذه العقائد المختلفة والفرق المتضاربة مابين من يُؤَلِّه المسيح وأمه (الريمتين) أو من يؤله المسيح فقط، أو يدعي وجود ثلاثة آلهة: إله صالح، وإله طالح، وآخر عدل بينهما (مقالة مرقيون). أعلن آريوس أحد قساوسة كنيسة الإسكندرية صرخته المدوية بأن المسيح ع

1- لعن آريوس الذي يقول بالتوحيد ونفيه وحرق كتبه، ووضع قانون الإيمان النيقاوي (الأثناسيوسي) الذي ينص على ألوهية المسيح.

2- وضع عشرين قانونًا لتنظيم أمور الكنيسة والأحكام الخاصة بالأكليريوس.

3- الاعتراف بأربعة أناجيل فقط: (متى، لوقا، مرقس، يوحنا) وبعض رسائل العهد الجديد والقديم، وحرق باقي الأناجيل لخلافها عقيدة المجمع.

- للتغلب على عوامل انهيار وتفكك الإمبراطورية أنشأ قسطنطين مدينة روما الجديدة عام 324م في بيزنطة القديمة باليونان على نفس تصميم روما القديمة، وأنشأ بها كنيسة كبيرة (أجياصوفيا) ورسم لهم بطريركًا مساويًا لبطاركة الإسكندرية وأنطاكية في المرتبة على أن الإمبراط

- تمهيدًا لانتقال العاصمة إلى روما الجديدة (القسطنطينية) اجتمع قسطنطين بآريوس حيث يدين أهل القسطنطينية والجزء الشرقي من الإمبراطورية بعقيدته، وإحساسًا منه بالحاجة إلى استرضاء سكان هذا القسم أعلن الإمبراطور موافقته لآريوس على عقيدته، وعقد مجمع صور سنة 334م

مرحلة الانفصال السياسي:

- قسَّم قسطنطين الإمبراطورية قبل وفاته عام 337م على أبنائه الثلاثة: فأخذ قسطنطين الثاني الغرب، وقسطنطيوس الشرق، وأخذ قنسطانس الجزء الأوسط من شمال أفريقيا، وعمد كل منهم إلى تأييد المذهب السائد في بلاده لترسيخ حكمه. فاتجه قسطنطيوس إلى تشجيع المذهب الآريوسي،

- توحدت الإمبراطورية تحت حكم قسطنطيوس عام 353 – 361م بعد وفاة قسطنطين الثاني، ومقتل قنسطانس، ووجد الفرصة سانحة لفرض مذهبه الآريوسي على جميع أجزاء الإمبراطورية شرقًا وغربًا.

- لم يلبث الأمر طويلًا حتى اعتلى فلؤديوس عرش الإمبراطورية 379 – 395م الذي اجتهد في إلغاء المذهب الآريوسي والتنكيل بأصحابه، والانتصار للمذهب الأثناسيوسي. ولذا ظهرت في عهده دعوات تنكر الأقانيم الثلاثة ولاهوت الروح القدس، فقرر عقد مجمع القسطنطينية الأول 382م

نشأة البابوية:

- على إثر تقسيم الإمبراطورية إلى شرقية وغربية، ونتيجة لضعف الإمبراطورية الغربية تم الفصل بين سلطان الدولة والكنيسة، بعكس الأمر في الإمبراطورية الشرقية حيث رسخ الإمبراطور قسطنطين مبدأ القيصرية البابوية، ومن هنا زادت سلطات أسقف روما وتحوَّل كرسيه إلى بابوية

بداية الصراع والتنافس على الزعامة الدينية بين الكنيستين:

- ظهر الصراع والتنافس بين كنيسة روما بما تدعي لها من ميراث ديني، وبين كنيسة القسطنطينية عاصمة الدولة ومركز أباطرتها في مجمع أفسس الأول عام 431م حيث نادى نسطور أسقف القسطنطينية بانفصال طبيعة اللاهوت عن الناسوت في السيد المسيح عليه السلام، وبالتالي فإن اللا

- ويسبب دعوى أرطاخي باتحاد الطبيعتين في السيد المسيح عقد له أسقف القسطنطينية فلافيانوس مجمعًا محليًّا وقرر فيه قطعه من الكنيسة ولعنه؛ لكن الإمبراطور ثاؤديوس الصغير قبل التماس أرطاخي، وقرر إعادة محاكمته، ودعا لانعقاد مجمع أفسس الثاني عام 449م برئاسة بطريرك

انفصال الكنيسة مذهبيًّا:

- لم يعترف أسقف روما ليو الأول بقرارات مجمع أفسس الثاني 449م وسعى الإمبراطور مركيانوس لعقد مجمع آخر للنظر في قرارات ذلك المجمع، فوافق الإمبراطور على عقد المجمع في القسطنطينية، ثم في كلدونية 451م لمناقشة مقالة بابا الإسكندرية ديسقورس: من أن للمسيح طبيعتين

نشأة الكنيسة اليعقوبية:

- واجه الإمبراطور جستنيان 527 – 565م صعوبة بالغة في تحقيق طموحه بتوحيد مذهبي الإمبراطورية لتتحقق له سلطة الإمبراطورية والبابوية معًا. وبعد انتصاره في إيطاليا ودخول جيوشه روما حاول إرضاء زوجته بفرض مذهب الطبيعة الواحدة (المونوفيزتية) على البابا فجليوس الذي

- ومن آثار هذا المجمع استقلالُ أصحاب مذهب الطبيعة الواحدة إقامةُ كنيسة منفصلة لهم، تعرف بالكنيسة اليعقوبية، تحت رئاسة مؤسسها يعقوب البرادعي أسقف الرَّها مما زاد في عداء البابوية للإمبراطورية الشرقية.

نشأة الكنيسة المارونية:

في عام 678 – 681م عمل الإمبراطور قسطنطين الرابع على استرضاء البابا أجاثون بعدما فقد المراكز الرئيسية لمذهب الطبيعة الواحدة في مصر والشام لفتح المسلمين لهما، فتم عقد مجمع القسطنطينية الثالث عام 680م للفصل في قول يوحنا مارون من أن للمسيح طبيعتين ومشيئة واحدة. وفيه تقرر أن للمسيح طبيعتين ومشيئتين، ولعن وطرد من يقول بالطبيعة الواحدة أو بالمشيئة الواحدة، ولذلك انفصلت طائفة المارونية ولحقت بسابقتها من الكنائس المنفصلة.

انفصال الكنيسة إداريًّا:

- جاء هذا الانفصال بعد النزاع والصراع الطويل ابتداءً من الإمبراطور ليو الثالث 726م الذي أصدر مرسومًا يُحرِّم فيه عبادة الأيقونات، ويقضي بإزالة التماثيل والصور الدينية والصلبان من الكنائس والأديرة والبيوت على أنها ضرب من الوثنية، متأثرًا بدعوة المسلمين لإز

- تصدى لهذه الدعوة البابا جريجوري الثاني، ثم خَلَفه البابا جريجوري الثالث ليصدر الإمبراطور قرارًا بحرمان الكراسي الأسقفية في صقلية وجنوب إيطاليا من سلطة البابا الدينية والقضائية وجعلها تحت سلطان بطريرك القسطنطينية. واستمر الوضع على ذلك إلى أن جاء الإمبراط

- ولكن هذه القرارات لم تدم طويلًا حيث أمرت الإمبراطورة الأيقونية إيرين التي خلفت زوجها الإمبراطور ليو الخزري بعقد مجمع نيقية عام 787م بعد تعيينها للبطريرك خرسيوس المتحمس للآيقونية بطريركًا على القسطنطينية، وانتهى المجمع على تقديس صور المسيح ووالدته والقدي

- في عام 869م أثار بطريرك القسطنطينية فوسيوس مسألة انبثاق الروح القدس من الأب وحده، فعارضه – كالعادة – بطريرك روما وقال إن انبثاق الروح القدس من الأب والابن معًا، وعقد لذلك مجمع القسطنطينية الرابع 869م (مجمع الغرب اللاتيني) الذي تقرَّر فيه أن الروح القدس

- وهكذا تم الانفصال المذهبي للكنيسة الشرقية تحت مسمى الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية، أو كنيسة الروم الأرثوذكس برئاسة بطريرك القسطنطينية، ومذهبًا بأن الروح القدس منبثقة من الأب وحده، على أن الكنيسة الغربية أيضًا تميَّزت باسم الكنيسة البطرسية الكاثوليكية، وبزع

ومن أبرز سمات هذه المرحلة الأخيرة – القرون الوسطى – الفساد، ومحاربة العلم والعلماء والتنكيل بهم والاضطهاد لهم، وتقرير أن البابا معصوم له حق الغفران، مما دفع إلى قيام العديد من الحركات الداعية لإصلاح فساد الكنيسة، وفي وسط هذا الجو الثائر ضد رجال الكنيسة انعقد مؤتمر ترنت عام 1542 – 1563م لبحث مبادئ مارتن لوثر التي تؤيدها الحكومة والشعب الألماني، وانتهى إلى عدم قبول آراء الثائرين أصحاب دعوة الإصلاح الديني. ومن هنا انشقَّت كنيسة جديدة هي كنيسة البروتستانت ليستقر قارب النصرانية بين أمواج المجامع التي عصفت بتاريخها على ثلاث كنائس رئيسية لها النفوذ في العالم إلى اليوم، ولكل منها نحلة وعقيدة مستقلة، وهي: الأرثوذكس، الكاثوليك، البروتستانت، بالإضافة إلى الكنائس المحدودة مثل: المارونية، والنسطورية، واليعقوبية، وطائفة الموحدين، وغيرهم.

أهم الأفكار والمعتقدات:

يمكن إجمال أفكار معتقدات النصرانية بشكل عام فيما يلي، علمًا بأنه سيفصل فيما بينهم من خلاف في المباحث التالية:

* الألوهية والتثليث: مع أن النصرانية في جوهرها تُعنى بالتهذيب الوجداني، وشريعتها هي شريعة موسى عليه السلام، وأصل اعتقادها هو دين الإسلام حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الأنبياء أخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد" لكنه بعد ضياع الإنجيل وظهور العشرات من الأناجيل والمجامع والدعاوى المنحرفة استقرت أصول عقائد النصرانية على ما يلي:

- الإله: الإيمان بالله الواحد، الأب مالك كل شيء، وصانع ما يرى وما لا يرى. هكذا في قانون إيمانهم، وواضحٌ تأثُّرهم بألفاظ الفلاسفة في قولهم صانع ما يرى. والأولى قولهم خالق ما يرى وما لا يرى حيث بينهما فرق كبير؛ فالصانع يخلق على أساس مثال سابق، بينما الخالق

- المسيح: إن ابنه الوحيد يسوع المسيح بكر الخلائق ولد من أبيه قبل العوالم، وليس بمصنوع (تعالى الله عن كفرهم علوًّا كبيرًا)، ومنهم من يعتقد أنه هو الله نفسه – سبحانه وتعالى عن إفكهم – وقد أشار القرآن الكريم إلى كلا المذهبين، وبيَّن فسادهما، وكفَّر معتقدهما؛

ـ روح القدس: إن روح القدس الذي حلَّ في مريم لدى البشارة، وعلى المسيح في العماد على صورة حمامة، وعلى الرسل من بعد صعود المسيح، الذي لا يزال موجودًا، وينزل على الآباء والقديسين بالكنيسة يرشدهم ويعلمهم ويحل عليهم المواهب، ليس إلا روح الله وحياته، إله حق من إله حق.

- الأقانيم: ولذلك يؤمنون بالأقانيم الثلاثة: الأب، الابن، الروح القدس، بما يُسمونه في زعمهم وحدانية في تثليث وتثليث في وحدانية. وذل زعمٌ باطل صعُب عليهم فهمه، ولذلك اختلفوا فيه اختلافًا متباينًا، وكفرت كل فرقة من فرقهم الأخرى بسببه، وقد حكم الله تعالى بكفر

- الصلب والفداء: المسيح في نظرهم مات مصلوبًا فداءً عن الخليقة، لشدة حب الله للبشر ولعدالته، فهو وحيد الله – تعالى الله عن كفرهم – الذي أرسله ليخلص العالم من إثم خطيئة أبيهم آدم وخطاياهم، وأنه دفن بعد صلبه، وقام بعد ثلاثة أيام متغلبًا على الموت ليرتفع إلى

- قال تعالى مبينًا حقيقة ما حدث وزيف ما ادعوه: {وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا إتباع الظن وما قتلوه يقينًا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزًا حكيمًا}.

* الدينونة والحساب: يعتقدون بأن الحساب في الآخرة سيكون موكولًا للمسيح عيسى ابن مريم الجالس – في زعمهم – على يمين الرب في السماء؛ لأن فيه من جنس البشر مما يعينه على محاسبة الناس على أعمالهم.

* الصليب: يعتبر الصليب شعارًا لهم، وهو موضع تقديس الأكثرين، وحملُه علامة على أنهم من أتباع المسيح، ولا يخفى ما في ذلك من خفة عقولهم وسفاهة رأيهم، فمن الأولى لهم أن يكرهوا الصليب ويحقروه لأنه كان أحد الأدوات التي صلب عليه إلههم وسبب آلامه. وعلى حسب منطقهم فكان الأولى بهم أن يعظموا قبره الذي زعموا أنه دفن فيه، ولا مس جسده تربته فترة أطول مما لامس الصليب.

مريم البتول: يعتقد النصارى على ما أضيف في قانون الإيمان أن مريم ابنة عمران والدة المسيح عليه السلام، هي والدة الإله، ولذا يتوجَّه البعض منهم إليها بالعبادة.

* الدين: يؤمن النصارى بأن النصرانية دين عالمي غير مختص ببني إسرائيل وحدهم، ولا يخلو اعتقادهم هذا أيضًا من مخالفة لقول المسيح المذكور في إنجيل متى، الإصحاح (10: 5، 6): "إلى طرق الأمم لا تتجهوا، ومدن السامريين لا تدخلوا، بل انطلقوا بالحري إلى الخراف الضالة من آل بني إسرائيل".

* الكتاب المقدس: يؤمن النصارى بقدسية الكتاب المشتمل على:

العهد القديم: والذي يحتوي التوراة – الناموس – وأسفار الأنبياء التي تحمل تواريخ بني إسرائيل وجيرانهم، بالإضافة إلى بعض الوصايا والإرشادات.

العهد الجديد: والذي يشمل الأناجيل الأربعة: (متى، مرقس، لوقا، يوحنا) فقط، والرسائل المنسوبة للرسل، على أن ما في العهد الجديد يلغي ما في العهد القديم، لأنه في اعتقادهم كلمة الله، وذلك على خلاف بين طوائفهم في الاعتقاد في عدد الأسفار والرسائل بل وفي صحة التوراة نفسها.

* المجامع (التقليد): يؤمن النصارى بكل ما صدر عن المجامع المسكونية من أمور تشريعية سواء في العقيدة أو في الأحكام، وذلك على خلاف بينهم في عددها.

* الختان: يؤمن النصارى بعدم الختان للأطفال على عكس شريعة التوراة.

الشعائر والعبادات:

- الصلاة: الأصل عندهم في جميع الصلوات إنما هي الصلاة الربانية، والأصل في تلاوتها أن يتلوها المصلي ساجدًا، أو تكون بألفاظ منقولة أو مرتجلة أو عقلية بأن تنوي الألفاظ ويكون الابتهال قلبيًّا، وذلك على خلاف كبير بين طوائفهم في عددها وطريقة تأديتها. ليس لها عدد

- الصوم: هو الامتناع عن الطعام الدسم وما فيه شيء من الحيوان أو مشتقاته مقتصرين على أكل البقول، وتختلف مدته وكيفيته من فرقة إلى أخرى.

- الأسرار السبعة: والتي ينال بها النصراني النعم غير المنظورة في صورة نعم منظورة، ولا تتم إلا على يد كاهن شرعي، ولذا فهي واجبة على كل نصراني ممارستها وإلا أصبح إيمانه ناقصًا. وبالجملة فإنها من ضمن التشريعات التي لم يُنزل الله بها من سلطان، وإنما هي من تخرّ

- سر التعميد: ويقصد به تعميد الأطفال عقب ولادتهم بغطاسهم في الماء أو الرش به باسم الأب والابن والروح القدس، لتمحي عنهم آثار الخطيئة الأصلية، بزعم إعطاء الطفل شيئًا من الحرية والمقدرة لعمل الخير، وهذا أيضًا على خلاف بينهم في صورته ووقته.

- سر التثبيت (الميرون): ولا يكون إلا مرة واحدة، ولا تكمل المعمودية إلا به، حيث يقوم الكاهن بمسح أعضاء المعتمد بعد خروجه من جرن المعمودية في ستة وثلاثين موضعًا – الأعضاء والمفاصل – بدهن الميرون المقدس.

- سر العشاء الرباني: ويكون بالخمر أو الماء ومعه الخبز الجاف؛ حيث يتحول في زعمهم الماء أو الخمر إلى دم المسيح، والخبز إلى عظامه، وبذلك فإن من يتناوله فإنما يمتزج في تعاليمه بذلك، وكذلك ففرقُهم على خلاف في الاستحالة بل وفي العشاء نفسه.

- سر الاعتراف: وهو الإفضاء إلى رجل الدين بكل ما يقترفه المرء من آثام وذنوب، ويتبعه الغفران والتطهير من الذنب بسقوط العقوبة، وكان الاعتراف يتكرر عدة مرات مدى الحياة، ولكن منذ سنة 1215م أصبح لازمًا مرة واحدة على الأقل، وهذه الشعيرة عندهم أيضًا مما اختُلِف ف

- سر الزواج: يُسمح الزواج بزوجة واحدة مع منع التعدد الذي كان جائزًا في مطلع النصرانية، ويُشترط عند الزواج حضور القسيس ليقيم وحده بين الزوجين، والطلاق لا يجوز إلا في حالة الزنى – على خلاف بينهم – ولا يجوز الزواج بعده مرة أخرى، بعكس الفراق الناشئ عن الموت،

- سر مسحة المرضى: وهو السر السادس بزعم شفاء الأمراض الجسدية المتسببة عن العلل الروحية وهي الخطيئة، ولا يمارس الكاهن صلوات القنديل السبع إلا بعد أن يتثبَّت من رغبة المريض في الشفاء.

- سر الكهنوت: وهو السر الذي ينال به الإنسان بزعمهم النعمة التي تؤهِّله لأن يؤدي رسالة السيد المسيح بين إخوانه من البشر، ولا يتم إلا بوضع يد الأسقف على رأس الشخص المنتخب ثم يتلى عليه الصلوات الخاصة برسم الكهنة.

- الرهبانية: اختلفت طوائفهم في مدى لزوم الرهبنة التي يأخذ رجال الدين أنفسهم بها.

* التنظيم الكهنوتي: تختلف كل كنيسة – فرقة – عن الأخرى في التنظيم الكهنوتي، ولكنه بوجه عام هو تنظيمٌ استعارته الكنيسة في عهودها الأولى من الرومان حيث كان يرأسها أكبرهم سنًّا على أمل عودة المسيح، ويقدسون رهبانهم ورجال كنيستهم، ويجعلون لهم السلطة المطلقة في الدين وفي منح صكوك الغفران؛ يقول تعالى مبينًا انحرافهم: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله}. [التوبة: 31].

* الهرطقة ومحاربتها: حاربت الكنيسة العلوم والاكتشافات العلمية وكل المحاولات الجديدة لفهم كتابهم المقدس، ورمت ذلك كله بالهرطقة، وواجهت هذه الاتجاهات بمنتهى العنف والقسوة، مما أوجد ردة فعل قوية تمثَّلت في ظهور المذاهب العلمانية والأفكار الإلحادية.

- الجذور الفكرية والعقائدية:

أساسها نصوص العهد القديم، فقد انعكست الروح والتعاليم اليهودية من خلاله، ذلك أن النصرانية قد جاءت مكملة لليهودية، وهي خاصة بخراف بني إسرائيل الضالة، كما تذكر أناجيلهم.

- لقد أدخل أمنيوس المتوفى سنة 242م أفكارًا وثنية إلى النصرانية بعد أن اعتنقها وارتدَّ عنها إلى الوثنية الرومانية.

- عندما دخل الرومان في الديانة النصرانية نقلوا معهم إليها أبحاثهم الفلسفية وثقافتهم الوثنية، ومزجوها بالمسيحية التي صارت خليطًا من كل ذلك.

- لقد كانت فكرة التثليث التي أقرَّها مجمع نيقية 325م انعكاسًا للأفلوطونية الحديثة التي جلبت معظم أفكارها من الفلسفة الشرقية، وكان لأفلوطين المتوفى سنة 270م أثر بارز على معتقداتها، فأفلوطين هذا تتلمذ في الإسكندرية، ثم رحل إلى فارس والهند، وعاد بعدها وفي جع

1- المُنشئ الأزلي الأول.

2- العقل.

3- الروح التي هي مصدر تتشعب منه الأرواح جميعًا.

بذلك يضع أساسًا للتثليث إذ أن المنشئ هو الله، والعقل هو الابن، والروح هو الروح القدس.

- تأثرت النصرانية بديانة متراس التي كانت موجودة في بلاد فارس قبل الميلاد بحوالي ستة قرون التي تتضمن قصة مثيلة لقصة العشاء الرباني.

- في الهندوسية تثليث، وأقانيم، وصلب للتكفير عن الخطيئة، وزهد ورهبنة، وتخلُّص من المال للدخول في ملكوت السموات، والإله لديهم له ثلاثة أسماء فهو فشنو أي الحافظ وسيفا المهلك وبرهما المُوجِد. وكل ذلك انتقل إلى النصرانية بعد تحريفها.

- انتقلت بعض معتقدات وأفكار البوذية التي سبقت النصرانية بخمسة قرون إلى النصرانية المحرَّفة، وإن علم مقارنة الأديان يكشف تطابقًا عجيبًا بين شخصية بوذا وشخصية المسيح عليه السلام (انظر العقائد الوثنية في الديانة النصرانية لمحمد طاهر التنير).

- خالطت عقيدة البابليين القديمة النصرانية إذ أن هناك محاكمة لبعل إله الشمس تُماثِل وتطابق محاكمة المسيح عليه السلام.

وبالجملة فإن النصرانية قد أخذت من معظم الديانات والمعتقدات التي كانت موجودة قبلها، مما أفقدها شكلها وجوهرها الأساسي الذي جاء به عيسى عليه السلام من لدن رب العالمين.

الانتشار ومواقع النفوذ:

* تنتشر النصرانية اليوم في معظم بقاع العالم، وقد أعانها على ذلك الاستعمار والتنصير الذي تدعمه مؤسسات ضخمة عالمية ذات إمكانات هائلة.

يتضح مما سبق:

* لم تكن عقيدة التثليث معروفة في عصر الحواريين (العصر الرسولي) تقول دائرة المعارف الفرنسية: "وإن تلاميذ المسيح الأوّلين الذين عرفوا شخصه وسمعوا قوله كانوا أبعد الناس عن اعتقاد أنه أحد الأركان الثلاثة المكوِّنة لذات الخالق، وما كان بطرس حواريه يعتبره أكثر من رجل يوحي إليه من عند الله". وتستشهد على ذلك بأقوال قدماء المؤرخين مثل جوستن ماراستر من القرن الثاني الميلادي حيث يصرح بأنه كان في زمنه في الكنيسة مؤمنون يعتقدون أن عيسى هو المسيح، ويعتبرونه إنسانًا بحتًا، وأنه كان أرقى من غيره من الناس، وحدث بعد ذلك أنه كلما تنصَّر عدد من الوثنيين ظهرت عقائد جديدة لم تكن من قبل.

* لضياع النصوص الأصلية من الأناجيل نتيجة للاضطهاد من جانب وللاحتكاك والتأثر بالفلسفات والحضارات الشرقية والوثنية من جانب آخر، حملت الديانة النصرانية المحرفة عوامل اختلافها وتناقض نصوصها، الذي ظهر بشكل واضح من خلال المجامع المختلفة التي عقدت لوضع أصول الدين وتشريعاته بشكل لم يَرِد عن المسيح عليه السلام ولا عن حوارييه.

* سيطرت عقائد وأفكار بولس على النصرانية؛ يقول دبليو ريد "إن بولس قد غيَّر النصرانية لدرجة أنه أمسى مؤسسها الثاني، إنه في الواقع مؤسس المسيحية الكنسية". ويؤيده لوني دنيله، وستون استيورت، جيمبرلين في أن بولس أضفى على المسيحية بتمزيقها إطارًا غير اليهودية ولذلك فبات خالق الكنائس التي أسست باسم اليسوع. ويقول لوني نيك: "لو لم يكن بولس لعادت المسيحية فرقة من الديانة اليهودية، ولما كانت ديانة كونيه".

* كل ما ذكر عن برنابا وبطرس في رسائل بولس فإنما هي قبل الافتراق، حيث كان لتلاميذ بولس من أمثال لوقا ويوحنا دورٌ كبير في إخفاء تاريخهما بعد الخلاف بينهما، وهذا ما أيدته دائرة المعارف البريطانية من أن قوة نفوذ وأتباع بولس أخفت تاريخ كل من يعارض بولس مثل برنابا وبطرس.

- هناك رسالتان تُنسبان لبطرس يوافق فيهما أفكار بولس، أثبتت دائرة المعارف البريطانية أنهما ليستا له وأنهما مزوَّرتان عليه حيث تتعلق بتاريخ ما بعد موته، ولم تقبلهما كنيسة روما إلا في سنة (264م) بينما اعترفت بهما الإسكندرية في القرن الثالث، وكذلك بالنسبة للرس

* لم تُعرف الأناجيل الأربعة المتفق عليها عند النصارى اليوم المعرفة الكاملة قبل مجمع نيقية (335م) حيث تم اختيارها من بين عشرات الأناجيل، وأما الرسائل السبع فلم يعترف المجمع المذكور بالكثير منها، وإنما تم الاعتراف بها فيما بعد.

- إن تلاميذ المسيح عليه السلام ليسوا بكتَّاب هذه الأناجيل فهي مقطوعة الإسناد، والنصوص الأصلية المترجَم عنها مفقودة، بل ونصوص الإنجيل الواحد متناقضة مع بعضها فضلًا عن تناقضها مع غيرها من نصوص الأناجيل الأخرى مما يبطل دعوى أنها كُتبت بإلهام من الله تعالى.

- بعد الدراسة المتأنية لنصوص الإنجيل نجد فضلًا عن التناقضات، لا بين نصوص الإنجيل الواحد أو الأناجيل المختلفة فقط، وإنما بين نصوص الأناجيل ورسائل الرسل المزعومة، وأيضًا بينها وبين نصوص العهد القديم ما يدلِّل ويؤكد التحريف سواء كان بقصد أو بغير قصد.

- هناك مئات النصوص في الأناجيل الأربعة تدل على أن عيسى إنسان وليس إلهًا، وأنه ابن الإنسان وليس ابن الله، وأنه جاء رسولًا إلى بني إسرائيل فقط، مكملًا لشريعة موسى وليس ناقضًا لها.

- وهناك نصوص أخرى تدل على أن عيسى لم يُصلب وإنما أنجاه الله ورفعه إلى السماء، وتدحض كذلك عقيدة الغفران، وتبين أن الغفران يُنال بالتوبة وصلاح الأعمال. وهناك نصوص إنجيلية تؤكد بشارة عيسى بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم.

- بل إن هناك نصوصًا عديدة في الرسائل تثبت زيف زعم بولس بأنه يوحي إليه، وتبين كذلك تناقضه مع نفسه ومع عيسى عليه السلام.

* رأينا كيف تدخلت السياسة والحكام في تقرير عقائد الكنيسة وتبديلها من خلال المجامع المختلفة، وأن الأصل في الخلاف بين الكنيستين الشرقية والغربية نشأ لا عن موقف عقدي بقدر ما هو محاولة إثبات الوجود والسيطرة.

* لقد ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن في آيات عديدة إفكَ النصارى وقولهم في مريم، واعتقادهم في المسيح على اختلاف مذاهبهم، مبيِّنًا انحرافهم، ومصحِّحًا عقائدهم، وداعيًا إياهم عدم الغلو في الدين وأن لا يقولوا على الله إلا الحق.

وعمومًا فإن النصارى يُعتبرون بالنسبة للمسلمين أهل كتاب مثل اليهود، وحكمهم في الإسلام سواء، فقد كذَّبوا برسول الله وآياته، وأشركوا بالله، فهم بذلك كفار لهم نار جهنم خالدين فيها. يقول تعالى: {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية}. [البينة: 6]. لكنهم مع ذلك يعاملون بما أمر الله تعالى به من الإحسان والبر والقسط إليهم، وأكل طعامهم والتزوج من نسائهم، طالما أنهم لم يقاتلونا في الدين ولم يخرجونا من ديارنا، فهم أهل ذمة إذا عاشوا في ديار المسلمين،؛ ما لم ينقضوا عهدهم فإن نكثوا عهدهم وتجرؤوا على الإسلام والمسلمين؛ بأن حاولوا الدعوة إلى باطلهم وكفرهم بين أبناء المسلمين، أو طعنوا في الدين مثلًا، فلابد من قتالهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.

(page)

الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م


125-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (الأرثوذكس-النصرانية وما تفرع عنها من مذاهب)

الأرثوذكس

التعريف:

هي أحد الكنائس الرئيسية الثلاث في النصرانية، وقد انفصلت عن الكنيسة الكاثوليكية الغربية بشكل نهائي عام 1054م، وتمثَّلت في عدة كنائس مستقلة لا تعترف بسيادة بابا روما عليها، ويجمعهم الإيمان بأن الروح القدس منبثقة عن الأب وحده وعلى خلاف بينهم في طبيعة المسيح، وتُدعى أرثوذكسية بمعنى مستقيمة المعتقد مقابل الكنائس الأخرى، ويتركَّز أتباعها في المشرق ولذا يطلق عليها الكنيسة الشرقية.

التأسيس وأبرز الشخصيات:

في نهاية القرن التاسع الميلادي، وبالتحديد بعد انقضاء مجمع القسطنطينية الخامس عام 879م أصبح يمثل الأرثوذكسية كنيستان رئيسيتان:

* الكنيسة الأرثوذكسية المصرية أو القبطية، والمعروفة باسم الكنيسة المرقسية الأرثوذكسية أو كنيسة الإسكندرية، التي تؤمن بأن للمسيح طبيعة واحدة ومشيئة واحدة، وتضم كنائس الحبشة والسودان، ويوافقها على ذلك كنائس الأرمن واليعقوبية.

* الكنيسة الأرثوذكسية أو كنيسة القسطنطينية، والمعروفة باسم كنيسة الروم الأرثوذكس أو الكنيسة الشرقية، تخالف الكنيسة المصرية في طبيعة المسيح بينما توافق الكنيسة الكاثوليكية الغربية بأن للمسيح طبيعتين ومشيئتين، ويجمعها مع الكنيسة المصرية الإيمان بانبثاق الروح القدس عن الأب وحده، وتضم كنائس أورشليم واليونان وروسيا وأوروبا الشرقية.

* الكنيسة الأرثوذكسية المصرية:

- يدعي أصحابها أن مؤسسها مرقس الرسول عام 45 م.

* بوادر الانفصال: ظهرت بوادر الانفصال المذهبي للكنيسة المصرية، منذ أن جعل الإمبراطور ثيودوسيوس كنيسة القسطنطينية هي الكنيسة الرسمية للإمبراطورية الشرقية عام 381م وأن كنيسة الإسكندرية تليها في المرتبة، مما دفع بطريرك الإسكندرية كيرلس عام 412م إلى تولي زعامة الشعب ضد الإمبراطور وعماله في مصر.

- زادت هوَّة الخلاف بين الكنيستين على إثر إعلان نسطور – أسقف القسطنطينية – مقالته التي تصدى لها كيرلس بطريرك الإسكندرية في مجمع أفسس عام 431م الذي استطاع استصدار حكمًا ضد نسطور باللعن والطرد.

* الانفصال الرسمي:

- بعث فلافيانوس بطريرك القسطنطينية مقالة نسطور مرة أخرى فتصدى لها ديسقورس بطريرك الإسكندرية في مجمع أفسس عام 449م والذي لم يعترف به أسقف روما، فعقد لذلك مجمع كليدونية عام 451م ليقرر لعن ديسقورس ونفيه، بل وتعين بطريرك ملكاني خلفًا له، الأمر الذي دفع الكنيس

- هكذا عاشت الكنيسة المصرية سلسلة من المنازعات حول تعيين الأسقف، إلى أن تم الاتفاق عام 482م على أن يختار المصريون أسقفهم دون تدخل من الإمبراطور، فكان هذا التاريخ يمثل بداية الانفصال الحقيقي عن كنيسة القسطنطينية.

- سرعان ما عاد الاضطهاد مرة أخرى للكنيسة المصرية، بعدما ولَّى هرقلُ المقوقس حُكم مصر بعد استردادها م الفرس عام 628م في محاولة منه لتوطيد أركان ملكه عن طريق توحيد عقيدة الإمبراطورية على مذهب الطبيعتين، فلم يألُ المقوقس جهدًا في إنفاذ ذلك، كما لم يعدم حيلة،

ما أن ظهرت بشائر الفتح الإسلامي منطلقة من الجزيرة العربية حتى رحبت بها الكنيسة المصرية، للتخلص من ظلم واضطهاد إخوانهم نصارى الإمبراطورية البيزنطية.

وما إن وطئت طلائع الفتح الإسلامي أرض مصر بقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه، ودانت لهم، حتى أُعيد بنيامين بطريرك الكنيسة المصرية إلى كرسيه، واجتمع به عمرو بن العاص ووافقه على ما أبداه من مقترحات لحفظ كيان الكنيسة، كما وافقه على تشييد ما دعت إليه الحاجة من الكنائس وتجديد إصلاح البعض الآخر.

- تأثر الكثير من النصارى المصريين بعدالة الإسلام، وسماحة مبادئه، حيث ترك لهم حق الاعتقاد وحرية ممارسة العبادة والشعائر الخاصة بهم، كما سمح لهم بالمشاركة في بعض وظائف الدولة، مما فتح قلوبهم لقبول الحق، والدخول في دين الإسلام أفواجًا، وبذلك صارت اللغة العرب

* رغم ذلك لم يهدأ لكنيسة روما بال عن فرض سيادتها على كنائس الشرق، مستخدمة في ذلك أساليب الحرب والقوة تارة، والدبلوماسية والمفاوضات تارة أخرى. ففي سنة 1219م قامت الحملة الصليبية الخامسة بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا في محاولة لإخضاع الكنيسة المصرية الأرثوذكسية لمذهب الكنيسة الغربية الكاثوليكية. وقد تمكنت في بادئ الأمر من احتلال مدينة دمياط وفرض بطريرك كاثوليكي من الآباء الفرنسيسكان عليها، ليمثِّل أول وجود كاثوليكي في مصر، فما أن هب المسلمون لصد العدوان حتى انهزمت الحملة وأُسر قائدها وبذلك باءت مخططاتها بالفشل.

- وفي سنة 1769م أعادت الكنيسة الغربية الكَرَّة، ولكن هذه المرة عن طريق المفاوضات والمصالحة، وعرض انضمام الكنيسة المصرية إليها، ليقابلها بطريرك الكنيسة المصرية يؤانس الثامن عشر بالرفض التام.

* بدأت بوادر حركة إصلاح وتطوير الكنيسة المصرية في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وبخاصة في عهد البطريرك كيرلس الرابع 1854 – 1862م "أبو الإصلاح" كما يسميه أتباع الكنيسة لإدخاله العديد من الإصلاحات لمواجهة نشاط الإرساليات الكاثوليكية والبروتستانتية، التي زاد نشاطها واستطاعت تأسيس مراكز للدعوة إلى مذاهبهم في صعيد مصر بوجه خاص. وكانت استجابة بعض الأرثوذكس لهم دافعًا للقيام بهذه الإصلاحات وافتتاح مدارس للبنين والبنات، وإنشاء المدرسة البطريركية، بالإضافة إلى إدخال أول مطبعة إلى مصر.

- وبأسلوب آخر تصدى البطريرك ديمتريوس الثاني 1862- 1874م للتبشير الكاثوليكي والبروتستانتي في مصر، بإصدار قرارات الحرمان ضد المرسلين الأمريكيين ومن يتصل بهم من الأقباط.

- ازدادت حملة الكنيسة المصرية ضراوة ضد إرساليات الكنائس الغربية في مصر في عهد البطريرك كيرلس الخامس 1874 – 1927م حيث أغلق مدارسهم، وأصدر قرارات تَعتبر هذه الكنائس وإرساليتها وتابعيها ومن ينضم إليها من الأقباط مهرطقين، ولم يفلح تدخل القنصل الأمريكي وليم تا

* يُعد حبيب جرجس 1867-1951م من أبرز رواد الإصلاح والتطوير في الكنيسة المصرية، حيث أنشأ مدارس الأحد والمدرسة الإكليريكية، ودعم وساهم في العديد من الأنشطة الاجتماعية والثقافية التي توسَّعت بعده إلى حد كبير، فظهرت المجلات والجرائد النصرانية، كما أنشأ العديد من المدارس والمكتبات ودور النشر التي تهتم بنشر التعاليم النصرانية بين المسلمين. وازدادت تبعًا لذلك عدد المؤسسات الاجتماعية المختلفة التي تخدم الأرثوذكس، كل هذا بغية التصدي للإرساليات التبشيرية الغربية.

لكن هذا الموقف الرافض للتعاون أو القبول بوجود الكنائس الغربية بين الأرثوذكسية تغيَّر بشكل ملحوظ أيام الاحتلال الإنجليزي لمصر، الذي ساعد وشجع هذا الاتجاه بما أثاره في نفوس الأقباط من أن أرض مصر المسلمة أرض نصرانية وأن المسلمين دخلاء يجب طردهم، وشجع حبيب جرجس على رفع شعار الأمة القبطية مقابل الأمة الإسلامية.

وفي عهد الخديوي إسماعيل دخل عدد كبير من الأرثوذكس القضاء والمجالس النيابية وكلفوا بالخدمة العسكرية، وظهرت في الساحة السياسية أسماء كبيرة متعاونة مع الاستعمار الإنجليزي مثل بطرس باشا غالي ويوسف باشا سليمان.

ـ بعد مؤتمر 1910م والذي انعقد بمناسبة مقتل بطرس باشا غالي، زاد نفوذهم السياسي وبخاصة بعد انضمامهم إلى حزب الوفد وتولَّي مكرم عبيد منصب نائب رئيس الحزب.

في عهد البطريرك يوساب الثاني أصدر القس إبراهيم لوقا مجلة اليقظة للدعوة إلى تقارب الكنيستين: البروتستانتية الأسقفية والقبطية، كما دعا إلى أن الوقت قد حان لأن يتبادل قسوس الطوائف النصرانية المختلفة الوعظ في كنائس بعضهم البعض.

- في عام 1921م عُقد مؤتمر حلوان بضاحية حلوان بمصر لعموم الكنائس الشرقية والغربية بهدف توحيد جهود الكنائس لتنصير المسلمين لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ الكنيسة المصرية.

وإمعانًا في التقارب انضمت الكنيسة المصرية إلى عضوية مجلس الكنائس العالمي الذي أنشئ عام (1946م).

* في عام (1952م) عاد الأقباط مرة أخرى إلى الانزواء داخل الكنيسة لخوفهم من حكومة جمال عبد الناصر، ومن ثم هاجر الكثير منهم إلى أوروبا وأمريكا، مما كان لذلك أكبر الأثر في تحويل الرأي العام الغربي نحو الكنيسة الأرثوذكسية المصرية، ومساندتها وممارسة الضغط السياسي والاقتصادي على الحكومة المصرية لتحقيق مركز ديني وسياسي واجتماعي متميز للأقباط الأرثوذكس في مصر.

* وفي هذه الأثناء أعلن إبراهيم فهمي المحامي أحد خريجي مدارس الأحد تأسيس جماعة الأمة القبطية وأنشأ لها فروعًا على مستوى محافظات مصر. وقد دعا إلى إحياء مفهوم الأمة القبطية من خلال التمسك بالعادات والتقاليد الكنسية، وبإحياء اللغة القبطية، واستخدام التقويم القبطي، وكذلك بإصدار الجرائد والمجلات التي تهتم بالأقلية القبطية، وهكذا تطور معه الأمر إلى أن أعلن بيانًا يطالب فيه بالحكم الذاتي لأقباط مصر.

- في عام 1954م قامت جماعة الأمة القبطية باختطاف البطريرك يوساب الثاني وإجباره على توقيع وثيقة تنازل عن كرسي البابوية، ودعوة المجمع المقدس للانعقاد، ووضع وثيقة جديدة لانتخاب البطريرك تشارك فيها كل الطوائف النصرانية، لذلك ألقت الحكومة المصرية القبض على زعيم

* خطا البطريرك كيرلس السادس 1959 – 1969م خطوات جديدة نحو تطوير الكنيسة؛ حيث أنشأ العديد من الأسقفيات، منها أسقفيات الخدمات ومهمتها العلاقات الخارجية والاتصال بالكنائس الأخرى، سواء كانت الكنائس الغربية ومؤسساتها أو بالكنائس القبطية خارج مصر، وأسقفية للخدمات والشئون المالية مهمتها جلب فرص العمل للأقباط والحصول على توكيلات أكبر البنوك والشركات في العالم، وأسقفية البحث العلمي ومهمتها إنشاء معهد عالٍ للدراسات القبطية وإصدار طبعات جديدة للكتاب المقدس، ووضع دائرة معارف قبطية، كما أنشأ أسقفية للتربية الكنسية مهمتها الإشراف على كليات اللاهوت ومدارس الأحد وجميع شؤون التعليم والتربية الكنسية. واستغلالًا للثقل الدولي للكنيسة بعد انضمامها إلى مجلس الكنائس العالمي، ومجلس الكنائس العالمية العاملة في أفريقيا، وتعاونها مع مجلس كنائس أمريكا زاد الضغط على الحكومة لإلغاء النظام الهمايوني الذي أصدرته الدولة العثمانية في عام 1856م كنظام إصلاحي لتنظيم بناء وترميم الكنائس النصرانية داخل الدولة. وبالفعل تمت الاستجابة لمطلبهم، وأنشئت العديد من الكنائس منها كاتدرائية القديس مرقس بميدان العباسية بالقاهرة عام 1967م، وتم إصلاح الأديرة وتعميرها وتحويلها من أماكن للعبادة إلى مراكز إنتاجية ومراكز اتصالات واسعة ومؤثرة على شؤون الكنيسة؛ مستخدمة في ذلك الدعم السخي والأموال الطائلة من الكنائس الغربية والقبطية في الخارج.

* في عام 1971م تولى البابا شنودة الثالث رئاسة الكنيسة المصرية واسمه نظير جيد، تخرج من كلية الآداب جامعة القاهرة، والتحق بالقوات المسلحة كضابط احتياط، ثم عمل صحفيًا وكاتبًا وشاعرًا، وتسمى بعد ترهُنُه باسم شنودة الثالث. وللأب شنودة الثالث درس أسبوعي – درس الجمعة – ظل محافظًا على إلقائه في كاتدرائية العباسية منذ افتتاحها. مما كان لدرسه هذا الأثر الكبير في تكوين وانتشار الأسر الدينية النصرانية في أروقة الجامعة المصرية المختلفة.

- في عهده زاد التوجه السياسي للكنيسة المصرية وتقديم مفهوم جديد للنصرانية على أنها دين ودولة، مستخدمًا في ذلك سياسة الانتشار الدولي، والتقارب مع الكنائس الغربية ومؤسساتها لدعم السياسات الداخلية للكنيسة وتحقيق أغراضها، كما أعلن عن تنظيمات جديدة للكنيسة، ودع

- تحت رئاسة وإشراف البابا شنودة تعددت الاجتماعات ذات الصبغة الدينية والسياسية، التي تطالب بإعطاء الكنيسة الأرثوذكسية في مصر دورًا فاعلًا في السياسة، وأن يكون لها نصيبها من المناصب الوزارية. كما دعت الحكومة المصرية إلى التخلي عن فكرة تطبيق الشريعة الإسلامي

- وزادت في عهده أيضًا وبشكل ملحوظ النشرات والكتب، وحملات التنصير والاستفزاز للمسلمين، مما أشعل المواجهات بين المسلمين والنصارى فيما عرف بأحداث الفتنة الطائفية (الزاوية الحمراء ومناطق مختلفة من صعيد مصر) الأمر الذي دعا الرئيس السابق لمصر – السادات- إلى عزل

- نتيجة للمنحى الجديد للكنيسة المصرية في عهد البابا شنودة الثالث، ظهرت داخل الكنيسة اتجاهات أخرى تعارضه، ويمكن تقسيم اتجاهات الكنيسة في عهده إلى:

1- اتجاه علماني: يؤكد انفصال الدين عن الدولة في النصرانية ويرى أن الكنيسة في هذا العصر خرجت على النصرانية الصحيحة – بزعمهم – لخلطها بين الدين والدولة، كما يطالب بأهمية قيام الكنيسة بواجبها الديني وابتعادها ورجال الكنيسة عن السياسة. ومن أبرز ممثلي هذا التيار المهندس ميلاد حنا الخبير الإسكاني وأحد رموز الحركة اليسارية في مصر.

2- اتجاه انعزالي كنسي: يدعو إلى تبني الكنيسة للخطاب الديني المحض، ويتجه إلى إصلاح الأديرة وتطويرها، ويمثّله الأب متى المسكين اسمه يوسف اسكندر – صيدلي – انقطع للرهبنة في دير أبي مقّار قرب الإسكندرية.

3- اتجاه روحي انعزالي: يدعو إلى تكفير كل من يخالفه من المسلمين والأقباط على حد سواء، مستخدمًا في محاربتهم الحرب الروحية بصراع الأرواح الشريرة. كما يدعو إلى محاربة التلفزيون كأحد أساليب مملكة الشر، وإلى مواجهة المجتمع والدولة سواء كانوا مسلمين أو نصارى مواجهة علنية. وإلى هذا الاتجاه تُنسب الحوادث الأخيرة من إغماء الفتيات المسلمات في شوارع مصر، ويمثل هذا التيار الأب دانيال البراموسي خريج كلية الهندسة، وصاحب النشاط المؤثر بين الشباب النصراني في صعيد مصر خاصة، والقمص زكريا بطرس كاهن كنيسة مارجرجس بمصر الجديدة 1979م الذي أُبعد عن منصبه وحُرم من الوعظ لمهاجمته الدولة ودعوته لتنصير المسلمين بشكل علني.

4- اتجاه شمولي: يرى أن الكنيسة مؤسسة شاملة مكلفة بأن تقدم الحلول لكل المشكلات، والأجوبة لكل الأسئلة المتصلة بالدين والدنيا، ويمثله البابا شنودة الثالث، والأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي وأسمه وهيب عطا حاصل على دكتوراه في فلسفة اللغات.

5- اتجاه توفيقي: يرى أن للكنيسة دورًا دينيًّا ذا بعد وطني، يحتِّم عليها أداء أدوار وطنية محددة؛ مثل الوقوف في وجه المستعمر مع البعد عن الأمور السياسية، ويمثله المفكر القانوني وليم سليمان قلادة.

الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية:

- رغم الانفصال المذهبي للكنيسة الشرقية عن الكنيسة الغربية تحت اسم كنيسة الروم الأرثوذكس أو الكنيسة الشرقية، برئاسة بطريرك القسطنطينية بعد رفض قرارات مجمع القسطنطينية الرابع عام 896م إلا أنها خضعت إداريًّا للكنيسة الغربية تحت رئاسة بابا روما حتى الانفصال ا

- توسعت الكنيسة البيزنطية في القرن التاسع في أوروبا الشرقية؛ فأسست في بلغاريا كنيسة وأصبحت النصرانية الدين الرسمي للدولة بعدما أجْبر الحاكم البلغاري بوريس الأول 852-888م على قبول المعمودية من الإرساليات التبشيرية.

- عمل خليفته القيصر سيمون 893 – 927م على حماية الكنيسة، وجعل اللغة السلافية لغة الطقوس الكنيسية بدلًا من اليونانية وفي عهده استقلت الكنيسة البلغارية في بطريركية مستقلة.

- أثناء حكم الإمبراطور باسل الثاني 976 – 1025م توطدت دعائم الكنيسة الأرثوذكسية السلافية على يد مبشري الدولة البيزنطية مثل القديسان كيرلس، وميثيوديوس والمعروفان برسل السلاف، ولذلك حيكت ضد الإمبراطور المؤامرات مما اضطره إلى الاستعانة بأمير كييف فلاديمير 978

- في الفترة ما بين القرنين العاشر والخامس عشر ظهرت داخل الأرثوذكسية فرقة البوجوميلي نسبة إلى مؤسسها القس بوجوميل على أنها حركة سلافية تهدف إلى الإصلاح باسم الكنيسة الأرثوذكسية البلغارية، متأثرة في ذلك بآراء الثنوية والمانوية الحديثة. ولذلك فإنها تؤمن بأن

* أراد ميخائيل كيرولاريوس بطريرك القسطنطينية عام 1053م الانفصال النهائي عن سلطة الكنيسة الغربية ليصبح إمبراطورًا وبطريركًا، مساويًا لبابا روما، فاستغل الاضطراب السياسي في الإمبراطورية البيزنطية وأعلن أن البابوية في روما أصبحت ألعوبة في يد رجال الدولة الغربية، وأن تقاليد الكنيسة الغربية فيها كفر ومخالفة للتعاليم النصرانية الأولى؛ فتصدّى له بابا روما ليو التاسع وقضى على حركته باستمالة الإمبراطور البيزنطي قسطنطين التاسع إلى جانب دعواه بأحقيَّة سيادة الكنيسة الغربية على الكنيسة الشرقية.

- ما لبث أن توفي بابا روما ليو التاسع عام 1045م حتى استغل بطريرك القسطنطينية الفرصة السانحة ليجمع حول دعوى الانفصال رجالَ الكنيسة الشرقية مرة أخرى، حيث خضع لرأيهم الإمبراطور وأعلن رسميًّا استقلال الكنيسة الشرقية استقلالًا تامًّا عن الكنيسة الغربية لتصبح ك

* في عهد البابا أنورت الثالث 1198 – 1216م انطلقت الحملة الصليبية الرابعة لاحتلال القسطنطينية والقضاء على كنيستها لتحقيق وحدة الكنيسة المسيحية على مذهب روما الكاثوليكي.

- دخلت الحملة الصليبية الرابعة القسطنطينية عام 1204م كالجراد المنتشر، فأتت على الأخضر واليابس، فلم تترك فيها حرمة إلا انتهكتها، ولا ديرًا ولا كنيسة إلا خربتها بعد نهب ما فيها من تحف وثروات. ولما استقر لهم الأمر ودانت لهم الإمبراطورية تم تقسيمها وعاصمتها ع

* بعد عودة كنيسة القسطنطينية إلى سيادة الإمبراطورية البيزنطية، قامت محاولات عديدة لتوحيد الكنيستين الشرقية والغربية خلال الفترة من منتصف القرن الثالث عشر حتى بدايات القرن الخامس عشر الميلادي من أهمها:

- ما قام به الإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثامن 1259 – 1282م بالتعاون مع بابا روما نيقولا الثالث 1277 – 1280م والمتحمس لهذا الأمر، لكنها باءت بالفشل للمعارضة الشديدة من بطريرك القسطنطينية الذي أصدر قرارًا بحرمان الإمبراطور ميخائيل الثامن، وأيَّده على ذلك ب

- محاولة أخرى قام بها الإمبراطور البيزنطي مايكل فلايولتوس أثناء مواجهته لملك صقلية شارل أونجو حيث أرسل اعترافًا إلى البابا جورج العاشر بسيادة الكنيسة الغربية، وبذلك نجح الإمبراطور في فرض بطريرك كاثوليكي شرقي يدعى جون بيكوس على رئاسة كنيسة القسطنطينية، وما

- ومن آخر محاولات التوحيد في تلك الفترة ما قام به المجمع الذي عقد في فرارا ثم فلورنس امتدادًا لمجمع بال لمواجهة نشاط العسكرية الإسلامية التي طوَّقت القسطنطينية، وقد نجح هذا المجمع أن يقبل الأرثوذكس معظم النقاط التي عرضها الإمبراطور جون الثامن، ورغم توقيع

- في منتصف القرن التاسع عشر ارتفعت من جديد نداءات الاتحاد بين الكنيستين: ففي عام 1848م وجَّه البابا بيوس التاسع نداءه إلى الكنائس الشرقية للاتحاد مع كنيسة روما إلا أنه رُفِضَ كما رفض غيره من قبل.

* في عهد الأمير أيفان الأول 1328 – 1341م أصبحت موسكو المركز الروحي لروسيا بانتقال رئيس أساقفة روسيا من كييف إلى موسكو.

- تمتعت كنيسة روسيا بحماية ملوك المغول، وعدم تدخلهم في سياستها مما ضاعف من نفوذها وثرواتها.

* في مايو 1453م فتحت جيوش السلطان العثماني محمد الفاتح مدينة القسطنطينية، فأمَّن أهلهم وطمأنهم على أنفسهم وأعراضهم، ومنحهم حق الاعتقاد وحرية ممارسة الشعائر والعبادات الخاصة بهم، وأعلن الكثير منهم إسلامهم، ومن ثم أمر بتحويل كنيسة أجا صوفيا إلى مسجد. في الوقت نفسه اجتمع مع الأساقفة وهدَّأ من روعهم، وأمر بتنصيب بطريرك جديد، فانتخبوا جليارنوس الذي استقبله السلطان محمد الفاتح بحفاوة وإكرام بالغ.

- جعل السلطان بطريرك القسطنطينية رئيس النصارى الديني والمدني، وجرى تقسيم الكنيسة الأرثوذكسية البلقانية إلى وحدات قومية، أصبحت القسطنطينية مركزًا لليونان، وأصبح للصرب بطريركًا خاصًّا في بيج بيوغسلافيا، والبلغار مطرانيتهم في أوهريد. أما سكان رومانيا فكان له

* استقلت الكنيسة الروسية ببطريركية مستقلة عام 1588م وأبطلت سيادة كنيسة القسطنطينية عليها بعد فرار البطريرك اليوناني من القسطنطينية إلى موسكو.

- وفي عام 1589م عين الإمبراطور فيودا الأول أول بطريرك روسي وحمل بطاركة الشرق على الاعتراف به عام 1593م.

- أصبحت الكنيسة الروسية ذات أهمية خاصة بعد سقوط القسطنطينية في أيدي العثمانيين عام 1453م فقد اعتبرت نفسها المركز الحقيقي والحامية للأرثوذكسية الصحيحة، وبذلك أصبحت روما الثالثة. يقول الراهب فليوثيوس من باسكوف: "لقد سقطت الرومايان (روما والقسطنطينية) وهذه ر

- في أثناء حكم نيكون 1652 – 1658م انقسمت الكنيسة الروسية نتيجة لاقتراح نيكون بضرورة أن تتطابق الكنيسة الروسية في أفكارها، ومعتقداتها الكنيسة الإغريقية.

- ألغى بيتر العظيم عام 1721م البطريركية الروسية وتبنى المذهب البروتستانتي.

- ألغى الإمبراطور بطرس الأكبر البطريركية الروسية مرة ثانية، وتولى مجمع السينودس المقدس إدارة الكنيسة في المسائل الدينية محتفظًا لنفسه وخلفائه برئاستها.

- في عام 1744م أصدرت بطريركية الكنيسة في القسطنطينية مرسومًا بتحريم الماسونية والانتساب إليها.

- وفي أيام الإمبراطورة كاترين استولت الحكومة على أملاك الكنيسة الروسية واحتفظت لنفسها بأمر تعليم الكهنة وتعيينهم. وقد استمر أثر هذه الإجراءات حتى عام 1917م حيث الثورة البلشفية التي أدخلت النصرانية في روسيا في مرحلة جديدة منفصلة بذلك عن الكنائس الأخرى، وان

* استقلت الكنيسة اليونانية في عام 1833م عن كنيسة القسطنطينية.

* ظهرت في بلغاريا حركة تعمل على إصلاح الكنيسة البلغارية برئاسة الأب نيوفت بوزقيلي، وبعد أن عينت الحكومة العثمانية أساقفة غير بلغاريين على الكنيسة البلغارية.

- وفي عام 1860م أعلن الأسقف غيلادبون مكاريو بولسكي استقلال الكنيسة البلغارية، ووافقت السلطات العثمانية على ذلك، وأنشأت لهم كنيسة خاصة في استانبول تحت رئاسة مطران وهيئة مساعدة خاصة بهم.

- وردًّا على ذلك عقد مجمع القسطنطينية عام 1873م بحضور بطاركة القسطنطينية وأنطاكية وأورشليم والإسكندرية ليصدر قرارًا بحرمان جميع النظام الكنسي البلغاري.

- بعد سيادة الشيوعية في دول شرق أوربا انضمت الكنيسة البلغارية والرومانية إلى الكنيسة الروسية مرة أخرى.

- استقلت الكنيسة الأرثوذكسية اليابانية عام 1939م عن الكنيسة الروسية التي ظلت تابعة لها منذ تأسيسها عام 1860م على يد إرسالية أرثوذكسية روسية.

أهم الأفكار والمعتقدات:

* تؤمن الكنيسة الأرثوذكسية مثل باقي الكنائس الأخرى بإله واحد مثلث الأقانيم: الأب، الابن، الروح القدس على حسب ما ورد في قانون الإيمان النيقاوي 325م.

- كما تؤمن بربوبية وألوهية الرب والمسيح في آن واحد على أنهما من جوهر واحد ومشيئة واحدة، ومتساويين في الأزلية، لكن كنيسة أورشليم الأرثوذكسية اليونانية ومن يتبعها تؤمن بأن المسيح له طبيعتان ومشيئتان موافقةً لمجمع كليدونية 451م.

- يؤمن الأرثوذكس بالزيادة التي أضيفت على قانون الإيمان النيقاوي في مجمع القسطنطينية عام 381م التي تتضمن الإيمان بالروح القدس الرب المحيي والمنبثق من الأب وحده، فله طبيعته وجوهره، وهو روح الله وحياة الكون ومصدر الحكمة والبركة فيه.

- يعتقد الأرثوذكس الأقباط أن الأقانيم الثلاثة ما هي إلا خصائص للذات الإلهية الواحدة، ومتساوية معه في الجوهر والأزلية، ومنزَّهة عن التأليف والتركيب، لكن الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية ومن تبعها تعتبر أقنوم الابن أقل من أقنوم الأب في الدرجة، ولذلك فهي عند ال

- الإيمان بتجسُّد الإله في السيد المسيح من أجل خلاص البشرية من إثم خطيئة آدم، وذريته من بعده، فيعتقدون أنه وُلد من مريم وصلب ومات فداءً لخطاياهم، ثم قام بعد ثلاثة أيام ليجلس على يمين الرب ليحاسب الخلائق يوم الحشر.

* الإيمان بأن السيدة مريم العذراء والدة الإله، ولذا يوجبون تقديسها كما يقدسون القديسين، والأيقونات غير المجسمة، وذخائر القديسين، ويقدسون الصليب، ويتخذونه رمزًا وشعارًا.

* تؤمن الكنيسة الأرثوذكسية المصرية بالمجامع المسكونية السابقة على مجمع كليدونية لعام 451م بينما تؤمن الكنيسة اليونانية ومن تابعها وكنيسة أورشليم الأرثوذكسية بجميع المجامع السابقة على مجمع القسطنطينية 869م.

* الإيمان بنصوص الكتاب المقدس وبما يتضمنه من أسفار التوراة وأسفار الأنبياء بالإضافة إلى باقي الأسفار الأخرى، ولكنها تستخدم في الطقوس الكنسية النموذج البروتستانتي الذي يشتمل على الأسفار الخمسة فقط، كما تؤمن بنصوص العهد الجديد ورسائل الرسل على ما أقر في مجمع نيقية الأول (325م).

* العبادات والشعائر:

- تؤمن الكنيسة الأرثوذكسية بالأسرار السبعة للكنيسة:

1- سر المعمودية. 2- سر الميرون. 3- سر القربان. 4- سر الاعتراف.

5- سر مسحة المرض. 6- سر الزواج. 7- سر الكهنوت.

- الصلاة: يعتقد الأرثوذكس بوجوب سبع صلوات: صلاة باكر، وتقال في الفجر، والساعة الثالثة وتقال التاسعة صباحًا، وصلاة السادسة، وتقال ظهرًا، وصلاة التاسعة وتقال حوالي الثالثة بعد الظهر، وصلاة الغروب، وصلاة النوم، وصلاة نصف الليل وتقال على دفعات. والصلاة إما أن

- الصوم: وهو الامتناع عن الأكل حتى الغروب، ولغير المستطيع أن يصوم على قدر طاقته، ويعفى منه خمس فئات: المرضى، والرجل الشيخ، والمرأة العجوز، والأطفال أقل من اثنتي عشر سنة، والمرأة الحامل، والمرضع ويمكنهم أن يأكلوا تبعًا لما رسمه لهم آباء الكنيسة بالامتناع

وأنواع الصوم عندهم سبعة:

الصوم الكبير السابق لعيد القيامة عندهم، والصوم السابق لعيد الميلاد، صوم يونان، صوم الرسل بين عيد الخماسين وعيد الرسل، صوم السيدة العذراء، صوم البرمون، وذلك على مدد متفاوتة لكل منها.

- الأعياد: تنقسم الأعياد في الأرثوذكسية إلى:

1- أعياد سيدية كبرى. 2- أعياد سيدية صغرى، وللكنيسة المصرية أعياد خاصة بها مثل أعياد القديسين والشهداء.

- تحتفل الكنيسة الأرثوذكسية بعيد ميلاد السيد المسيح في اليوم السادس من شهر يناير.

* درجات الكهنوت: الكنيسة الأرثوذكسية كنيسة شعبية يقوم على رأسها البابا أو البطريرك، ويرأس كل مجموعة كنائس بطريركية في البلد أو الإقليم، ويقوم بجانبها مجلس مقدس كالمجلس الملي في مصر الذي يضم مطارنة وعلمانيين، وتشرف عليه الحكومة المصرية. ويتكون التنظيم الكهنوتي للكنيسة من البطريرك، ثم المطارنة، ثم الأساقفة، ثم القمامصة، ثم القساوسة ثم الشمامسة ولا تعترف الكنيسة بسلطة بابا روما ولا بعصمته.

* الرهبنة: وهي سبع مقامات روحية، وتنقسم إلى نوعين: رهبنة فردية، رهبنة ديرية.

* الدين: تؤمن الأرثوذكسية مثل باقي الكنائس بعالمية النصرانية، كما تؤمن الكنيسة الأرثوذكسية المصرية بضرورة بعث ميراث الكنيسة القبطية وإحياء القومية واللغة القبطية. وينادي بطريرك الكنيسة الحالي شنودة الثالث بأن الكنيسة مؤسسة شاملة مكلفة بأن تقدم حلولًا لكل المشكلات وأجوبة على كل الأسئلة المتصلة بالدنيا والدين، ولذلك نشطت في عهده في التنصير وإقامة الكنائس في أفريقيا وغيرها.

* تقبل زواج الكهنة إذا تزوجوا قبل الدخول في الرتب الكنسية، ولا تسمح بزواج الكهنة بعد وفاة الزوجة الثانية.

* تعمل الكنيسة الأرثوذكسية المصرية على عرقلة تطبيق الشريعة الإسلامية أو قصرها على المسلمين فقط، كما تسعى إلى امتلاك ناصية الاقتصاد المصري.

* تمنح الكنيسة الجوائز للمتزوجين ومساعدة من يريد الزواج منهم لزيادة نسلهم.

الجذور الفكرية والعقائدية:

* الكتاب المقدس بالإضافة إلى المجامع المسكونية حتى مجمع كليدونية 451م بالنسبة للكنيسة المصرية، ومجمع القسطنطينية بالنسبة للكنائس الأرثوذكسية الأخرى.

* الفلسفة الأفلاطونية الحديثة، والفلسفة الغنوصية.

* الحضارات القديمة: المصرية، اليونانية، الهندية.

الانتشار ومواقع النفوذ:

تنتشر الكنائس الأرثوذكسية اليونانية في الدول التالية: تركيا، اليونان، روسيا، ودول البلقان، وجزر البحر الأبيض، والمجر ورومانيا، وتشرف كنيسة أنطاكية على بيت المقدس، كما أن لطور سيناء في مصر كنيسة مستقلة تشرف على دير سانت كاترين ومطرانها هو الأب رئيس الدير.

* ينتشر نفوذ الكنيسة المصرية في مصر حيث يبلغ إجمالي نصارى مصر بجميع مذاهبهم وطوائفهم 5.78% من إجمالي السكان حسب الإحصائيات الرسمية بالتعاون مع عشر هيئات محلية وعالمية من بينها الأمم المتحدة ويتبعها نصارى الحبشة والسودان حيث بها أقدم الكنائس التابعة لكنيسة الإسكندرية. وفي العصر الحديث أسست الكنيسة المصرية عدة كنائس تابعة لها في كل من: كينيا، وليبيا، الجزائر، الكويت، العراق، الإمارات، دبي، أبو ظبي، البحرين، بلاد الشام، فلسطين، دير السلطان، الأردن، لبنان، أمريكا الشمالية: كندا، استراليا، وبعض دول أوروبا مثل: النمسا، وفرنسا.

* الأرمن: تتفق كنيسة الأرمن مع الكنيسة الأرثوذكسية المصرية في الأفكار والمعتقدات وإن كان لها ترتيب كنسي خاص بها.

* اليعقوبية: تتفق مع الكنيسة الأرثوذكسية المصرية في الإيمان بالمذهب المونوفيزيتي في القول بالطبيعة الواحدة للمسيح، ويتواجد معظم أتباعها في العراق، بينما يقيم بطريركهم في حمص بسوريا.

يتضح مما سبق:

* اختلاف أتباع المذهب الأرثوذكسي فيما بينهم في أصل العقيدة وقانون الإيمان، ولذلك فإن الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية فضلًا عن الكنيسة الغربية الكاثوليكية تحكم بكفر وهرطقة الكنيسة المصرية.

* كان للفلسفة الأفلاطونية الحديثة، وللأفكار الغنوصية أثرُها على عقيدة الكنيسة الأرثوذكسية.

* كان للتلفيق بين تعاليم النصرانية والعقائد الوثنية في مصر وبلاد الكنيسة الأرثوذكسية بزعم الترغيب في النصرانية أثره البالغ في انحراف عقائد وأفكار الكنيسة.

* ظهرت القسوة والاضطهاد بين أبناء الملة الواحدة لمحاولة السيطرة وفرض مذاهبهم بالقوة مثل ما حدث بين أتباع الأرثوذكسية البيزنطية وبين أبناء الكنيسة المصرية من الاضطهاد والتعذيب، وبين أتباع الكنائس الغربية سواء كانت كاثوليكية أو بروتستانتية أو أتباع الأرثوذكسية.

بالمقارنة بالمعاملة الحسنة من المسلمين للنصارى، وإظهار سماحة وعدالة الإسلام كيف كان لذلك دافعًا قويًّا للدخول في دين الله تعالى أفواجًا، ويتضح ذلك من مواقف عمرو بن العاص رضي الله عنه، وسائر خلفاء الدولة الإسلامية مع النصارى، ومن مواقف السلطان محمد الفاتح وسلاطين الدولة العثمانية مع رعايا دولتهم من النصارى.

* كان لتحكُّم الإمبراطورية البيزنطية في الكنيسة وسياستها أثره البالغ على عدم استقرارها وكثرة انحرافاتها.

* تحالف النصارى الأرثوذكس مع الحملات الصليبية في سوريا ولبنان ومصر إبان الحملة الفرنسية والحملة الإنجليزية على مصر والشام، وبرزت شخصيات نصرانية متعصبة، ومتأثرة بالدعاية الغربية التي أخذت تدعو في مصر مثلًا إلى إحياء القومية واللغة القبطية.

* الأثر البالغ والبعيد المدى لمدارس الأحد في تخريج قيادات الكنيسة المصرية على اختلاف اتجاهاتهم الفكرية.

* ظهور التوجه السياسي للكنيسة القبطية ومحاولة التأثير في السياسات الحكومية بما يوافق مصالحهم وخططهم، مستخدمة في ذلك انتشار وزيادة نفوذ الكنيسة في داخل وخارج مصر، مستغلة العلاقات الدولية والتجمعات القبطية في الخارج لتهيئة الرأي العام العالمي ضد المسلمين، لكسب المزيد من التعاطف الدولي لدعم قضاياهم الدينية والسياسية.

* اهتمام الكنيسة المصرية بالحملات التنصيرية في داخل وخارج مصر مستخدمة في ذلك وسائل متعددة. أما الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية ومن يتبعها فكانت جهودهم ضعيفة في هذا الجانب نظرًا للتحجيم الشيوعي لدور الكنائس في روسيا ودول أوروبا الشرقية.

(page)

الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م


126-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (الذرائعية البرجماتية المذاهب الفلسفية والمدارس الأدبية)

الذرائعية (البرجماتية)

التعريف:

الذرائعية مذهب فلسفي اجتماعي يقول بأن الحقيقة توجد في جملة التجربة الإنسانية: لا في الفكر النظري البعيد عن الواقع. وأن المعرفة آلة أو وظيفة في خدمة مطالب الحياة، وأن صدق قضية ما: هو في كونها مفيدة للناس، وأن الفكر في طبيعته غائي.

وقد أصبحت الذرائعية طابعًا مميزًا للسياسة الأمريكية وفلسفة الأعمال الأمريكية كذلك، لأنها تجعل الفائدة العملية معيارًا للتقدم بغض النظر عن المحتوى الفكري أو الأخلاقي أو العقائدي.

التأسيس وأبرز الشخصيات:

نشأت الذرائعية (البرجماتية) كمذهب عملي في الولايات المتحدة الأمريكية مع بداية القرن العشرين: وقد وجدت في النظام الرأسمالي الحر الذي يقوم على المنافسة الفردية، خير تربة للنمو الازدهار.

ومن أبرز رموز المذهب وأغلبهم من الأمريكيين:

تشارلس بيرس 1839 – 1914م ويعد مبتكر كلمة البرجماتية في الفلسفة المعاصرة. عمل محاضرًا في جامعة هارفارد الأمريكية، وكان متأثرًا بدارون ووصل إلى مثل آرائه.. وكان أثره عميقًا في الفلاسفة الأمريكيين الذين سنذكرهم فيما يلي:

وليم جيمس 1842 – 1910م وهو عالم نفسي وفيلسوف أمريكي من أصل سويدي بنى مذهب الذرائعية البرجماتية على أصول أفكار بيرس ويؤكد أن العمل والمنفعة هما مقياس صحة الفكرة ودليل صدقها. كان كتابه الأول: مبادئ علم النفس 1890م الذي أكسبه شهرة واسعة ثم توالت كتبه: موجز علم النفس 1892م وإرادة الاعتقاد 1897م وأنواع التجربة الدينية 1902م والبراجماتية 1907م وكون متكثر 1909م يعارض فيه وحدة الوجود. ويؤكد جيمس في كتبه الدينية أن الاعتقاد الديني صحيح لأنه ينظم حياة الناس ويبعث فيهم الطاقة.

جون ديوي 1856 – 1952م فيلسوف أمريكي، تأثر بالفلسفة الذرائعية، وكان له تأثير واسع في المجتمع الأمريكي وغيره من المجتمعات الغربية، إذ كان يعتقد أن الفلسفة مهمة إنسانية قلبًا وقالبًا وعلينا أن نحكم عليها في ضوء تأثرها الاجتماعي أو الثقافي.

كتب في فلسفة ما بعد الطبيعة (الميتافيزيقا) وفلسفة العلوم والمنطق وعلم النفس وعلم الجمال والدين.

وأهم مؤلفاته: دراسات في النظرية المنطقية 1903م، وكيف تفكر 1910 والعقل الخالق 1917م والطبيعة الإنسانية والسلوك 1922م وطلب اليقين 1929م.

شيلر 1864 – 1937م وهو فيلسوف بريطاني، كان صديقًا لوليم جيمس، وتعاطف معه في فلسفة الذرائعية: وقد آثر أن يطلق على آرائه وموقفه: المذهب الإنساني أو المذهب الإرادي.

الأفكار والمعتقدات:

من أهم أفكار ومعتقدات المذهب الذرائعي (البرجماتية) ما يلي:

إن أفكار الإنسان وآراءه ذرائع يستعين بها على حفظ بقائه أولًا ثم السير نحو السمو والكمال ثانيًا.

إذا تضاربت آراء الإنسان وأفكاره وتعارضت كان أحقها وأصدقها أنفعها وأجداها، والنفع هو الذي تنهض التجربة العملية دليلًا على فائدته.

إن العقل خُلق أداة للحياة ووسيلة لحفظها وكمالها، فليست مهمته تفسير عالم الغيب المجهول، بل يجب أن يتوجه للحياة العملية الواقعية.

الاعتقاد الديني لا يخضع للبيئات العقلية: والتناول التجريبي الوحيد له هو آثاره في حياة الإنسان والمجتمع إذ يؤدي إلى الكمال، بما فيه من تنظيم وحيوية.

النشاط الإنساني له وجهتان: فهو عقل، وهو أداة، ونموه كعقل ينتج العلم، وحين يتحقق كإرادة يتجه نحو الدين، فالصلة بين العلم والدين ترد إلى الصلة بين العقل والإرادة.

تقويم الذرائعية:

تعرضت الذرائعية لانتقادات معينة، وعرضت على أنها تبرير لأخلاقيات رجال الأعمال الأمريكيين.

أما عن فكرة الاعتقاد فمن رأي جيمس "أنها مفيدة لأنها صادقة" و"أنها صادقة لأنها مفيدة". وقد أنكر معظم الدارسين هذه المعادلة إذ أن موقف جيمس يسمح بصدق الفكرة لأنها "مفيدة ونافعة" لشخص ما، ويكذبها لعدم وجودها عند الآخرين.

وهكذا فإن جيمس طرح الحقيقة على أنها لعبة ذاتية للأفكار التي تستهوي الإنسان فائدتها: فيعتقد في صدقها.

إن الذرائعية اندثرت كحركة فكرية فردية، ولكنها كمجموعة أفكار ما زالت تعمل في الفكر البشري.. ومن أهم آثار هذه الأفكار تفسير الفكر والمعنى على أنهما من أشكال السلوك النائي عند الإنسان.

الجذور الفكرية والعقائدية:

إن البرجماتية أو الذرائعية ثورة ضد الفكر النظري البعيد عن الواقع وعن الإنسان خاصة والذي لا يخدم الإنسان في حياته العملية. أما كلمة (برجماتية) فكانت قليلة الاستعمال في اللغة الإنكليزية ولم تكن تستعمل مطلقًا في سياق الحديث الفلسفي، حتى أدخلها الفيلسوف الأمريكي بيرس عام 1878م كقاعدة منطقية: معرفًا البرجماتية بأنها النظرية القائلة: "بأن الفكرة إنما تنحصر فيما نتصوره لها من أثر على مسلك الحياة".

وقد استعار وليم جيمس ورفاقه الذرائعيون هذا المصطلح وأعطوه معاني جديدة وفق ما أوضحناه في أفكار ومعتقدات المذهب. مؤكدين على أن كل شيء حتى الفكر، لا بد أن يفهم في ضوء الغرض الإنساني.

الانتشار ومواقع النفوذ:

تأسس المذهب في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم انتقل إلى أوروبا وبريطانيا بشكل خاص.

يتضح مما سبق:

أن الذرائعية أو البراجماتية مذهب فلسفي نفعي يرى أن الحقيقة توجد من خلال الواقع العملي والتجربة الإنسانية، وأن صدق قضية ما يكمن في مدى كونها مفيدة للناس، كما أن أفكار الناس هي مجرد ذرائع يستعين بها الإنسان لحفظ بقائه ثم البحث عن الكمال. وعندما تتضارب الأفكار فإن أصدقها هو الأنفع والأجدى، والعقل لم يخلق لتفسير الغيب المجهول، ولذا فإن الاعتقاد الديني لا يخضع للبينات العقلية. ولما كان نشاط الإنسان يتمثل في العقل والإرادة، وكان العقل ينتج العلم، وحينما يتحقق العلم كإرادة يتجه نحو الدين، لذا فإن الصلة بين العلم والدين ترجع إلى الصلة بين العقل والإرادة. ومخاطر هذا المذهب الفلسفي على العقيدة واضحة جلية فهو مذهب يحبذ إلغاء دور العقل في الإفادة من معطيات النقل أو الوحي. وقد رأينا في واقعنا المعاصر كيف أفلست الذرائعية كما أفلست سواها من الفلسفات المادية وعجزت عن إسعاد الإنسان بعدما أدت إلى تأجيج سعار المادية، وأهدرت القيم والأخلاق السامية التي دعت إليها جميع الأديان السماوية.

مراجع للتوسع:

- الموسوعة الفلسفية المختصرة، ترجمة فؤاد كامل ورفاقه – دار القلم – بيروت.

- معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، د. أحمد زكي بدوي – مكتبة لبنان – بيروت –1982م.

- تاريخ الفلسفة الحديث، يوسف كرم – دار المعارف – القاهرة.

- قصة الفلسفة الحديثة، أحمد أمين وزكي نجيب محمود – مطبعة لجنة التأليف والنشر – القاهرة.

مراجع أجنبية:

- Philosophy of John Dewey: by P.A Schelop, Chicago 1951.

- The Will to Belive: by W. James Dever New York.

- John Dewey an Intellectual Portriat: by S. Hook Day, New York. 1939.

- History of Philosophy: by F.C. Coplestion, Burns London 1947.

- History of Modern Philosophy by H. Hoffding London 1956.

الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م


127-معجم البلدان (الأبواء)

الأبْوَاءُ:

بالفتح ثم السكون وواو وألف ممدودة، قال قوم: سمّي بذلك لما فيه من الوباء، ولو كان كذلك لقيل الأوباء، إلا أن يكون مقلوبا. وقال ثابت بن أبي ثابت اللغوي: سميّت الأبواء لتبوّء السيول بها وهذا أحسن. وقال غيره: الأبواء فعلاء، من الأبوّة، أو أفعال، كأنه جمع يوّ، وهو الجلد الذي يحشى ترأمه الناقة فتدرّ عليه إذا مات ولدها، أو جمع بوى، وهو السواء، إلّا أن تسمية الأشياء بالمفرد ليكون مساويا لما سمّي به، أولى، ألا ترى أنا نحتال لعرفات وأذرعات، مع أن أكثر أسماء البلدان مؤنّثة، ففعلاء أشبه به مع أنك لو جعلته جمعا لاحتجت إلى تقدير واحده؟

وسئل كثيّر الشاعر: لم سمّيت الأبواء أبواء؟

فقال: لأنهم تبوّأوا بها منزلا. والأبواء قرية من أعمال الفرع من المدينة، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلا. وقيل: الأبواء جبل على يمين آرة، ويمين الطريق للمصعد إلى مكة من المدينة، وهناك بلد ينسب إلى هذا الجبل، وقد جاء ذكره في حديث الصّعب بن جثّامة وغيره.

قال السّكّري: الأبواء جبل شامخ مرتفع ليس عليه شيء من النبات غير الخزم والبشام، وهو لخزاعة وضمرة. قال ابن قيس الرّقيّات:

«فمنى، فالجمار من عبد شمس *** مقفرات، فبلدح، فحراء»

«فالخيام التي بعسفان أقوت *** من سليمى، فالقاع، فالأبواء»

وبالأبواء قبر آمنة بنت وهب أمّ النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان السبب في دفنها هناك أن عبد الله والد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان قد خرج إلى المدينة يمتار تمرا، فمات بالمدينة، فكانت زوجته آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب، تخرج في كل عام إلى المدينة، تزور قبره، فلما أتى على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ست سنين، خرجت زائرة لقبره، ومعها عبد المطلب وأمّ أيمن حاضنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما صارت بالأبواء منصرفة إلى مكة، ماتت بها،

ويقال إن أبا طالب زار أخواله بني النّجّار بالمدينة وحمل معه آمنة أمّ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما رجع منصرفا إلى مكة، ماتت آمنة بالأبواء.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


128-معجم البلدان (إتل)

إِتِلُ:

بكسر أوله وثانيه ولام بوزن إبل: اسم نهر عظيم شبيه بدجلة في بلاد الخزر، ويمرّ ببلاد الروس وبلغار. وقيل: إتل قصبة بلاد الخزر، والنهر مسمّى بها.

قرأت في كتاب أحمد بن فضلان بن العباس بن راشد ابن حمّاد، رسول المقتدر إل بلاد الصقالبة، وهم أهل بلغار: بلغني أن فيها رجلا عظيم الخلق جدّا، فلما سرت إلى الملك سألته عنه، فقال: نعم قد كان في بلادنا ومات، ولم يكن من أهل البلاد، ولا من الناس أيضا، وكان من خبره أن قوما من التّجّار خرجوا إلى نهر إتل، وهو نهر بيننا وبينه يوم واحد، كانوا يخرجون إليه، وكان هذا النهر قد مدّ وطغى ماؤه، فلم أشعر إلا وقد وافاني جماعة، فقالوا:

أيها الملك قد طفا على الماء رجل، إن كان من أمّة تقرب منا، فلا مقام لنا في هذه الدّيار وليس لنا غير التحويل. فركبت معهم حتى سرت إلى النهر ووقفت عليه، وإذا برجل طوله اثنا عشر ذراعا بذراعي، وإذا رأسه كأكبر ما يكون من القدور، وأنفه أكبر من شبر، وعيناه عظيمتان، وأصابعه كل واحدة شبر، فراعني أمره وداخلني ما داخل القوم من الفزع، فأقبلنا نكلمه وهو لا يتكلّم ولا يزيد على النظر إلينا، فحملته إلى مكاني، وكتبت إلى أهل ويسو، وهم منا على ثلاثة أشهر، أسألهم عنه،

فعرّفوني أن هذا رجل من يأجوج ومأجوج، وهم منا على ثلاثة أشهر، يحول بيننا وبينهم البحر، وانهم قوم كالبهائم الهاملة، عراة حفاة ينكح بعضهم بعضا، يخرج الله تعالى لهم في كل يوم سمكة من البحر، فيجيء الواحد بمدية، فيحتزّ منها بقدر كفايته وكفاية عياله، فإن أخذ

ثم قال الملك: وأقام الرجل عندي مدّة، ثم علقت به علّة في نحره، فمات بها، وخرجت فرأيت عظامه، فكانت هائلة جدّا.

قال المؤلّف، رحمه الله تعالى: هذا وأمثاله هو الذي قدّمت البراءة منه، ولم أضمن صحته. وقصة ابن فضلان وإنفاذ المقتدر له إلى بلغار مدوّنة معروفة مشهورة بأيدي الناس، رأيت منها عدّة نسخ، وعلى ذلك فإن نهر إتل لا شك في عظمه وطوله، فإنه يأتي من أقصى الجنوب فيمرّ على البلغار والروس والخزر وينصبّ في بحيرة جرجان، وفيه يسافر التّجار إلى ويسو ويجلبون الوبر الكثير: كالنّقدز والسّمّور والسّنجاب. وقيل: إن مخرجه من أرض خرخيز فيما بين الكيماكية والغزية، وهو الحدّ بينهما، ثم يذهب مغرّبا إلى بلغار، ثم يعود إلى برطاس وبلاد الخزر حتى يصبّ في البحر الخزري. وقيل: إنه ينشعب من نهر إتل نيف وسبعون نهرا ويبقى عمود النهر يجري إلى الخزر حتى يقع في البحر. ويقال:

إن مياهه إذا اجتمعت في موضع واحد في أعلاه إنه يزيد على نهر جيحون، وبلغ من كثرة هذه المياه وغزارتها وحدّة جريها أنها إذا انتهت إلى البحر جرت في البحر داخله مسيرة يومين. وهي تغلب على ماء البحر حتى يجمد في الشّتاء لعذوبته، ويفرق بين لونه ولون ماء البحر.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


129-معجم البلدان (الأحص)

الأَحَصُّ:

بالفتح، وتشديد الصاد المهملة، يقال: رجل أحصّ، بيّن الحصص أي قليل شعر الرأس، وقد حصّت البيضة رأسي إذا أذهبت شعره، وطائر أحصّ الجناح، ورجل احصّ اللّحية، ورحم حصّاء كله بمعنى القطع، وقال أبو زيد: رجل أحصّ إذا كان نكدا مشؤوما، فكأنّ هذا الموضع، لقلة خيره، وعدم نباته، سمّي بذلك. وبنجد موضعان يقال لهما: الأحصّ وشبيث. وبالشام من نواحي حلب موضعان يقال لهما: الأحصّ وشبيث. فأمّا الذي بنجد، فكانت منازل ربيعة، ثم منازل ابني وائل بكر وتغلب. وقال أبو المنذر هشام بن محمد في كتابه في افتراق العرب:

ودخلت قبائل ربيعة ظواهر بلاد نجد والحجاز، وأطراف تهامة، وما والاها من البلاد، وانقطعوا إليها، وانتثروا فيها، فكانوا بالذنائب، وواردات، والأحصّ، وشبيث، وبطن الجريب، والتّغلمين، وما بينها وما حولها من المنازل. وروت العلماء الأئمة، كأبي عبيدة وغيره: أن كليبا، واسمه وائل بن ربيعة بن الحارث بن مرّة بن زهير بن جشم ابن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل، قال يوما لامرأته، وهي جليلة بنت مرّة أخت جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، وأمّ جساس هبلة بنت منقذ بن سلمان بن كعب بن عمرو ابن سعد بن زيد مناة بن تميم، وكانت أختها البسوس نازلة على ابن أختها جسّاس بن مرّة، قال لها: هل تعرفين في العرب من هو أعزّ مني؟ قالت: نعم، أخواي جسّاس وهمّام، وقيل: قالت نعم، أخي جسّاس وندمانه عمرو المزدلف بن أبي ربيعة الحارث بن ذهل بن شيبان. فأخذ قوسه وخرج فمرّ بفصيل لناقة البسوس فعقره، وضرب ضرع ناقتها حتى اختلط لبنها ودمها، وكانا قد قاربا حماه، فأغمضوا له على ذلك، واستغاثت البسوس، ونادت بويلها.

فقال جسّاس: كفّي، فسأعقر غدا جملا هو أعظم من عقر ناقة. فبلغ ذلك كليبا، فقال: دون عليّان خرط القتاد. فذهبت مثلا، وعليّان فحل إبل كليب. ثم أصابتهم سماء فمرّوا بنهر يقال له شبيث، فأراد جساس نزوله، فامتنع كليب قصدا للمخالفة. ثم مرّوا على الأحصّ، فأراد جساس وقومه النزول عليه، فامتنع كليب قصدا للمخالفة. ثم مرّوا ببطن الجريب، فجرى أمره على ذلك، حتى نزلوا الذنائب، وقد كلّوا وأعيوا وعطشوا، فأغضب ذلك جسّاسا، فجاء وعمرو المزدلف معه، فقال له: يا وائل، أطردت أهلنا من المياه حتى كدت تقتلهم؟ فقال كليب: ما منعناهم من ماء إلّا ونحن له شاغلون، فقال له: هذا كفعلك بناقة خالتي، فقال له: أو ذكرتها؟ أما إني لو وجدتها في غير إبل مرّة، يعني أبا جساس، لاستحللت تلك الإبل.

فعطف عليه جساس فرسه وطعنه بالرمح فأنفذه فيه.

فلما أحسّ بالموت، قال: يا عمرو اسقني ماء، يقول ذلك لعمرو المزدلف، فقال له: تجاوزت بالماء الأحصّ، وبطن شبيث. ثم كانت حرب ابني وائل، وهي حرب البسوس، أربعين سنة، وهي حروب يضرب بشدتها المثل. قالوا: والذنائب عن يسار ولجة للمصعد إلى مكة، وبه قبر كليب. وقد حكى هذه القصة بعينها النابغة الجعدي، يخاطب عقال بن خويلد، وقد أجار بني وائل ابن معن، وكانوا قتلوا رجلا من بني جعدة، فحذّرهم مثل حرب البسوس وحرب داحس والغبراء، فقال في ذلك:

«فأبلغ عقالا، إنّ غاية داحس *** بكفّيك، فاستأخر لها، أو تقدّم»

«تجير علينا وائلا بدمائنا، *** كأنّك، عمّا ناب أشياعنا، عم»

«كليب لعمري كان أكثر ناصرا، *** وأيسر جرما منك، ضرّج بالدم»

«رمى ضرع ناب، فاستمرّ بطعنة *** كحاشية البرد اليماني المسهّم»

«وقال لجسّاس: أغثني بشربة، *** تفضّل بها، طولا عليّ، وأنعم»

«فقال: تجاوزت الأحصّ وماءه، *** وبطن شبيث، وهو ذو مترسّم»

فهذا كما تراه، ليس في الشعر والخبر ما يدلّ على أنها بالشام. وأما الأحصّ وشبيث بنواحي حلب، وقد تحقق أمرهما، فلا ريب فيهما، أما الأحصّ فكورة كبيرة مشهورة، ذات قرّى ومزارع، بين القبلة وبين الشمال من مدينة حلب، قصبتها خناصرة، مدينة كان ينزلها عمر بن عبد العزيز، وهي صغيرة، وقد خربت الآن إلّا اليسير منها. وأما شبيث، فجبل في هذه الكورة أسود، في رأسه فضاء، فيه أربع قرى، وقد خربت جميعها. ومن هذا الجبل يقطع أهل حلب وجميع نواحيها حجارة رحيّهم، وهي سود خشنة، وإياها عنى عدي بن الرقاع بقوله:

«وإذا الربيع تتابعت أنواؤه، *** فسقى خناصرة الأحصّ وزادها»

فأضاف خناصرة الى هذا الموضع، وإياها عنى جرير أيضا بقوله:

«عادت همومي بالأحصّ وسادي، *** هيهات من بلد الأحصّ بلادي»

«لي خمس عشرة من جمادى ليلة، *** ما أستطيع على الفراش رقادي»

«ونعود سيّدنا وسيّد غيرنا، *** ليت التّشكي كان بالعوّاد»

وأنشد الأصمعي، في كتاب جزيرة العرب، لرجل من طيّء، يقال له الخليل بن قردة، وكان له ابن واسمه زافر، وكان قد مات بالشام في مدينة دمشق، فقال:

«ولا آب ركب من دمشق وأهله *** ولا حمص، إذ لم يأت، في الركب، زافر»

«ولا من شبيث والأحصّ ومنتهى ال *** مطايا بقنسّرين، أو بخناصر»

وإياه عنى ابن أبي حصينة المعرّي بقوله:

«لجّ برق الأحصّ في لمعانه، *** فتذكّرت من وراء رعانه»

«فسقى الغيث حيث ينقطع الأو *** عس من رنده ومنبت بانه»

«أو ترى النّور مثل ما نشر البر *** د، حوالي هضابه وقنانه»

«تجلب الريح منه أذكى من المس *** ك، إذا مرّت الصّبا بمكانه»

وهذا، كما تراه، ليس فيه ما يدل على أنه إلا بالشام. فإن كان قد اتفق ترادف هذين الاسمين بمكانين بالشام، ومكانين بنجد، من غير قصد، فهو عجب. وإن كان جرى الأمر فيهما، كما جرى لأهل نجران ودومة، في بعض الروايات، حيث أخرج عمر أهلهما منهما، فقدموا العراق، وبنوا لهم بها أبنية، وسموها باسم ما أخرجوا منه، فجائز أن تكون ربيعة فارقت منازلها، وقدمت الشام، فأقاموا بها، وسموا هذه بتلك، والله أعلم. وينسب إلى أحصّ حلب، شاعر يعرف بالناشي الأحصّي، كان في أيام سيف الدولة أبي الحسن علي بن حمدان، له خبر ظريف، أنا مورده ههنا، وإن لم أكن على ثقة منه، وهو

أن هذا الشاعر الأحصّي دخل على سيف الدولة، فأنشده قصيدة له فيه، فاعتذر سيف الدولة بضيق اليد يومئذ، وقال له: أعذر فما يتأخر عنا حمل المال إلينا، فإذا بلغك ذلك فأتنا لنضاعف جائزتك، ونحسن إليك. فخرج من عنده فوجد على باب سيف الدولة كلابا تذبح لها السّخال وت

«رأيت بباب داركم كلابا، *** تغذّيها وتطعمها السّخالا»

«فما في الأرض أدبر من أديب، *** يكون الكلب أحسن منه حالا»

ثم اتفق أن حمل إلى سيف الدولة أموال من بعض الجهات على بغال، فضاع منها بغل بما عليه، وهو عشرة آلاف دينار، وجاء هذا البغل حتى وقف على باب الناشي الشاعر بالأحصّ، فسمع حسّه، فظنّه لصّا، فخرج إليه بالسلاح، فوجده بغلا موقرا بالمال، فأخذ ما عليه من المال وأطلقه. ثم دخل حلب ودخل على سيف الدولة وأنشده قصيدة له يقول فيها:

«ومن ظنّ أن الرّزق يأتي بحيلة، *** فقد كذّبته نفسه، وهو آثم»

«يفوت الغنى من لا ينام عن السّرى، *** وآخر يأتي رزقه وهو نائم»

فقال له سيف الدولة: بحياتي! وصل إليك المال الذي كان على البغل؟ فقال: نعم. فقال: خذه بجائزتك مباركا لك فيه. فقيل لسيف الدولة: كيف عرفت ذلك؟ قال عرفته من قوله:

وآخر يأتي رزقه وهو نائم

بعد قوله:

يكون الكلب أحسن منه حالا

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


130-معجم البلدان (إرمينية)

إِرْمِينِيَةُ:

بكسر أوله ويفتح، وسكون ثانيه، وكسر الميم، وياء ساكنة، وكسر النون، وياء

خفيفة مفتوحة: اسم لصقع عظيم واسع في جهة الشمال، والنسبة إليها أرمنيّ على غير قياس، بفتح الهمزة وكسر الميم، وينشد بعضهم:

«ولو شهدت أمّ القديد طعاننا، *** بمرعش، خيل الأرمنيّ أرنّت»

وحكى إسماعيل بن حمّاد فتحهما معا، قال أبو عليّ:

أرمينية إذا أجرينا عليها حكم العربي كان القياس في همزتها أن تكون زائدة، وحكمها أن تكسر لتكون مثل إجفيل وإخريط وإطريح ونحو ذلك، ثم ألحقت ياء النسبة، ثم ألحق بعدها تاء التأنيث، وكان القياس في النسبة إليها أرمينيّ، إلا أنها لما وافق ما بعد الراء منها ما بعد الحاء في حنيفة حذفت الياء كما حذفت من حنيفة في النسب وأجريت ياء النسبة مجرى تاء التأنيث في حنيفة كما أجرينا مجراها في روميّ وروم، وسنديّ وسند، أو يكون مثل بدويّ ونحوه مما غيّر في النسب، قال أهل السّير:

سمّيت أرمينية بأرمينا بن لنطا بن أومر بن يافث ابن نوح، عليه السلام، وكان أول من نزلها وسكنها، وقيل: هما أرمينيتان الكبرى والصّغرى، وحدّهما من برذعة إلى باب الأبواب، ومن الجهة الأخرى إلى بلاد الروم وجبل القبق وصاحب السرير، وقيل: إرمينية الكبرى خلاط ونواحيها وإرمينية الصغرى تفليس ونواحيها، وقيل: هي ثلاث أرمينيات، وقيل:

أربع، فالأولى: بيلقان وقبلة وشروان وما انضمّ إليها عدّ منها، والثانية: جرزان وصغدبيل وباب فيروز قباذ واللّكز، والثالثة: البسفرجان ودبيل وسراج طير وبغروند والنّشوى، والرابعة وبها قبر صفوان بن المعطّل صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو قرب حصن زياد عليه شجرة نابتة لا يعرف أحد من الناس ما هي، ولها حمل يشبه اللوز يؤكل بقشره وهو طيّب جدّا، فمن الرابعة: شمشاط وقاليقلا وأرجيش وباجنيس، وكانت كور أرّان والسيسجان ودبيل والنّشوى وسراج طير وبغروند وخلاط وباجنيس في مملكة الروم، فافتتحها الفرس وضمّوها إلى ملك شروان التي فيها صخرة موسى، عليه السلام، التي بقرب عين الحيوان، ووجدت في كتاب الملحمة المنسوب إلى بطليموس: طول أرمينية العظمى ثمان وسبعون درجة، وعرضها ثمان وثلاثون درجة وعشرون دقيقة، داخلة في الإقليم الخامس، طالعها تسع عشرة درجة من السرطان، يقابلها خمس عشرة درجة من الجدي، ووسط سمائها خمس عشرة درجة من الحمل، بيت حياتها خمس عشرة درجة من الميزان، قال: ومدينة أرمينية الصغرى طولها خمس وسبعون درجة وخمسون دقيقة، وعرضها خمس وأربعون درجة، طالعها عشرون درجة من السرطان، يقابلها مثلها من الجدي بيت ملكها مثلها من الحمل بيت عاقبتها مثلها من الميزان، ولها شركة في العوّاء وفي الدّبّ الأكبر ولها شركة في كوكب هوز، وهو كوكب الحكماء، وما يولد مولود قط وكان طالعه كوكب هوز الا وكان حكيما، وبه ولد بطليموس وبقراط وأوقليدس، وهذه المدينة مقابلة لمدينة الحكماء، يدور عليها من كل بنات نعش أربعة أجزاء، وهي صحيحة الهواء، وكل من سكنها طال عمره، بإذن الله تعالى، هذا كله من كتاب الملحمة. وفي كتب الفرس: أن جرزان وأرّان كانتا في أيدي الخزر، وسائر ارمينية في ايدي الروم يتولّاها صاحبها أرميناقس وسمّته العرب أرميناق، فكانت الخزر تخرج فتغير، فربما بلغت الدينور، فوجّه قباذ بن فيروز الملك قائدا من عظماء

قواده في اثني عشر ألفا، فوطئ بلاد أرّان ففتح ما بين النهر الذي يعرف بالرّسّ إلى شروان، ثم ان قباذ لحق به فبنى بأرّان مدينة البيلقان، ومدينة برذعة، وهي مدينة الثغر كله، ومدينة قبلة، ونفى الخزر ثم بنى سدّ اللبن في ما بين شروان واللّان، وبنى على سدّ اللبن

هم الذين كانوا نبلاء بأرض أرمينية قبل أن تملكها الفرس، ثم إن الفرس أعتقوهم لما ملكوا وأقروهم على ولايتهم، وهم بخلاف الأحرار من الفرس الذين كانوا باليمن وبفارس فإنهم لم يملكوا قط قبل الإسلام فسمّوا أحرارا لشرفهم، وقد نسب بهذه النسبة قوم من أهل العلم، منهم: أبو عبد الله عيسى بن مالك بن شمر الأرمني، سافر إلى مصر والمغرب.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


131-معجم البلدان (أسفيجاب)

أَسْفِيجَاب:

بالفتح ثم السكون، وكسر الفاء، وياء ساكنة، وجيم، وألف، وباء موحدة: اسم بلدة كبيرة من أعيان بلاد ما وراء النهر في حدود تركستان، ولها ولاية واسعة وقرى كالمدن كثيرة، وهي من الإقليم الخامس، طولها ثمان وتسعون درجة وسدس، وعرضها تسع وثلاثون درجة وخمسون دقيقة، وكانت من أعمر بلاد الله وأنزهها وأوسعها خصبا وشجرا ومياها جارية ورياضا مزهرة، ولم يكن بخراسان ولا بما وراء النهر بلد لا خراج عليه إلّا أسفيجاب لأنها كانت ثغرا عظيما فكانت تعفى من الخراج وذلك ليصرف أهلها خراجها في ثمن السلاح والمعونة على المقام بتلك الأرض، وكذلك كان ما يصاقبها من المدن نحو طراز وصبران وسانيكث وفاراب حتى أتت على تلك النواحي حوادث الدهر وصروف الزمان، أولا من خوارزم شاه محمد بن تكش بن ألب أرسلان بن آق سنقر بن محمد بن أنوشتكين، فإنه لما ملك ما وراء النهر وأباد ملك الخائنة، وكانوا جماعة قد حفظ كل واحد منهم طرفه، فلما لم يبق منهم أحدا، عجز عن حفظ تلك البلاد لسعة مملكتها فخرّب بيده أكثر تلك الثغور وأنهبها عساكره، فجلا أهلها عنها وفارقوها بأجياد ملتفتة وأعناق إليها مائلة منعطفة، فبقيت تلك الجنان خاوية على عروشها تبكي العيون وتشجي القلوب منهدمة القصور متعطلة المنازل والدور، وضلّ هادي تلك الأنهار وجرت متحيرة في كلّ أوب على غير اختيار، ثم تبع ذلك حوادث في سنة 616 التي لم يجر منذ قامت السموات والأرض مثلها، وهو ورود التتر، خذلهم الله، من أرض الصين فأهلكوا من بقي هنالك متماسكا فيمن أهلكوا من غيرهم، فلم يبق من تلك الجنان المندرة والقصور المشرفة غير حيطان مهدومة وآثار من أمم معدومة، وقد كان أهل تلك البلاد أهل دين متين وصلاح مبين ونسك وعبادة، والإسلام فيهم غضّ المجنى حلو المعنى يحفظون حدوده ويلتزمون شروطه، لم تظهر فيهم بدعة استحقّوا بها العذاب والجلاء، ولكن يفعل الله بعباده ما يشاء،

ويحكم ما يريد:

«رمت بهم الأيام عن قوس غدرها، *** كأن لم يكونوا زينة الدّهر مرّه»

«وما زال جور الدهر يغشى ديارهم، *** يكرّ عليهم كرّة ثم كرّه»

«فأجلاهم عنها جميعا فأصبحت *** منازلهم للناظر اليوم عبره»

وقد خرج من أسفيجاب طائفة من أهل العلم في كل فنّ، منهم: أبو الحسن علي بن منصور بن عبد الله بن أحمد المؤدّب المقري الأسفيجابي، مات بعد الثمانين وثلاثمائة، ولم يكن ثقة، تكلموا فيه.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


132-معجم البلدان (إفريقية)

إِفْرِيقِيَّة:

بكسر الهمزة: وهو اسم لبلاد واسعة ومملكة كبيرة قبالة جزيرة صقلية، وينتهي آخرها إلى قبالة جزيرة الأندلس، والجزيرتان في شماليها، فصقلية منحرفة إلى الشرق والأندلس منحرفة عنها إلى جهة المغرب. وسميت إفريقية بإفريقيس بن أبرهة ابن الرائش، وقال أبو المنذر هشام بن محمد: هو إفريقيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان وهو الذي اختطّها، وذكروا أنه لما غزا المغرب انتهى إلى موضع واسع رحيب كثير الماء، فأمر أن تبنى هناك مدينة فبنيت وسمّاها إفريقية، اشتقّ اسمها من اسمه ثم نقل إليها الناس ثم نسبت تلك الولاية بأسرها إلى هذه المدينة، ثم انصرف إلى اليمن، فقال بعض أصحابه:

«سرنا إلى المغرب، في جحفل، *** بكلّ قرم أريحيّ همام»

«نسري مع افريقيس، ذاك الذي *** ساد بعزّ الملك أولاد سام»

«نخوض، بالفرسان، في مأقط *** يكثر فيه ضرب أيد وهام»

«فأضحت البربر في مقعص، *** نحوسهم بالمشرفيّ الحسام»

«في موقف، يبقى لنا ذكره *** ما غرّدت، في الأيك، ورق الحمام»

وذكر أبو عبد الله القضاعي أن إفريقية سمّيت بفارق ابن بيصر بن حام بن نوح، عليه السلام، وأن أخاه مصر لما حاز لنفسه مصر حاز فارق إفريقية، وقد ذكرت ذلك متّسقا في أخبار مصر، قالوا: فلما اختطّ المسلمون القيروان خربت إفريقية وبقي اسمها على الصّقع جميعه، وقال أبو الريحان البيروتي إن أهل مصر يسمّون ما عن أيمانهم إذا استقبلوا الجنوب بلاد المغرب، ولذلك سمّيت بلاد إفريقية وما وراءها بلاد المغرب يعني أنها فرقت بين مصر والمغرب فسميت إفريقية لا أنها مسماة باسم عامرها، وحدّ إفريقية من طرابلس الغرب من جهة برقة والإسكندرية إلى بجاية، وقيل: إلى مليانة، فتكون مسافة طولها نحو شهرين ونصف، وقال أبو عبيد البكري الأندلسي: حدّ إفريقية طولها من برقة شرقا إلى طنجة الخضراء غربا، وعرضها من البحر إلى الرمال التي في أول بلاد السودان، وهي جبال ورمال عظيمة متصلة

من الشرق إلى الغرب، وفيه يصاد الفنك الجيد، وحدث رواة السير ان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كتب إلى عمرو بن العاص: لا تدخل إفريقية فإنها مفرّقة لأهلها غير متجمعة، ماؤها قاس ما شربه أحد من العالمين إلا قست قلوبهم، فلما افتتحت في أيام عثمان، رضي الله عنه،

فقتل، ثم تغلّب الخوارج حتى ولّى المنصور محمد.

ابن الأشعث الخزاعي فقدمها سنة 144، فجرت بينه وبين الخوارج حروب ففارقها ورجع إلى المنصور، فولّى المنصور الأغلب بن سالم بن عقال بن خفاجة بن عبد الله بن عبّاد بن محرّث، وقيل: محارب بن سعد ابن حرام بن سعد بن مالك بن سعد بن زيد مناة بن تميم، فقدمها في جمادى الآخرة سنة 148، وجرت له حروب قتل في آخرها في شعبان سنة 150، وبلغ المنصور فولّى مكانه عمرو بن حفص بن عثمان بن قبيصة بن أبي صفرة أخا المهلّب المعروف بهزارمرد، فقدمها في صفر سنة 151، وكانت بينه وبين البربر وقائع قاتل فيها حتى قتل في منتصف ذي الحجة سنة 154، فولّاها المنصور يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلّب فصلحت البلاد بقدومه، ولم يزل عليها حتى مات المنصور والمهدي والهادي، ثم مات يزيد بن حاتم بالقيروان سنة 170 في أيام الرشيد، واستخلف ابنه داود بن يزيد بن حاتم، ثم ولّى الرشيد روح بن حاتم أخا يزيد، فقدمها وساسها أحسن سياسة حتى مات بالقيروان سنة 174، فولّى الرشيد نصر بن حبيب المهلّبي، ثم عزله وولّى الفضل بن روح بن حاتم، فقدمها في المحرم سنة 177، فقتله الخوارج سنة 178، فكانت عدّة من ولي من آل المهلّب ستة نفر في ثمان وعشرين سنة، ثم ولّى الرشيد هرثمة بن أعين فقدمها في سنة 179، ثم استعفى من ولايتها فأعفاه، وولّى محمد بن مقاتل العكّي فلم يستقم بها أمره فإنه أخرج منها، وولّى ابراهيم ابن الأغلب التميمي المقدم ذكره، فأقام بها إلى أن مات في شوال سنة 196، وولي ابنه عبد الله بن إبراهيم ومات بها ثم ولي أخوه زيادة الله بن إبراهيم في سنة 201 في أول أيام المأمون، ومات في رجب سنة 223، ثم ولي أخوه أبو عقال الأغلب بن ابراهيم، ثم مات سنة 226، فولي ابنه محمد بن الأغلب إلى أن مات في محرم سنة 242، فولي ابنه أبو القاسم إبراهيم بن محمد حتى مات في ذي القعدة سنة 249، فولي ابنه زيادة الله بن إبراهيم إلى أن مات سنة 250، فولي ابن أخيه محمد بن أحمد إلى أن مات سنة 261، فولي أخوه إبراهيم بن أحمد، وكان حسن السيرة شهما، فأقام واليا ثمانيا وعشرين سنة ثم مات في ذي القعدة سنة 289، فولي ابنه عبد الله بن إبراهيم بن أحمد فقتله ثلاثة من عبيده الصقالبة، فولي ابنه أبو نصر زيادة الله بن عبد الله بن إبراهيم، فدخل ابو عبد الله الشيعي فهرب منه إلى مصر، وهو آخرهم، في سنة 296، فكانت مدّة ولاية بني الأغلب على إفريقية مائة واثنتي عشرة سنة، وولي منهم أحد عشر ملكا، ثم انتقلت الدولة إلى بني عبيد الله العلوية، فوليها منهم المهدي والقائم والمنصور والمعز حتى ملك مصر، وانتقل إليها في سنة 362، واستمرت الخطبة لهم بإفريقية إلى سنة 407، ثم وليها بعد خروج المعز عنها يوسف الملقب بلكّين ابن زيري بن مناد الصّنهاجي باستخلاف المعز إلى أن مات في ذي الحجة سنة 373، ووليها ابنه المنصور إلى أن مات في شهر ربيع الأول سنة 386، ووليها ابنه باديس إلى أن مات في سلخ ذي القعدة سنة 406، ووليها ابنه المعز بن باديس وهو الذي أزال خطبة المصريين عن إفريقية، وخطب للقائم بالله وجاءته الخلعة من بغداد، وكاشف المستنصر الذي بمصر بخلع الطاعة، وذلك في سنة 435، وقتل من كان بإفريقية من شيعتهم فسلّط اليازوري وزير المستنصر العرب على إفريقية حتى خرّبوها، ومات المعزّ في سنة 453، وقد ملك سبعا وأربعين سنة، ووليها ابنه تميم ابن المعز إلى أن مات في رجب سنة 501، ووليها

ابنه يحيى بن تميم حتى مات سنة 509، ووليها ابنه عليّ بن يحيى إلى أن مات سنة 515، ووليها ابنه الحسن بن عليّ، وفي أيامه أنفذ رجار صاحب صقلية من ملك المهدية فخرج الحسن منها ولحق بعبد المؤمن ابن عليّ، وملك الأفرنج بلاد إفريقية، وذلك في سنة 543، وانتقضت دولت

يا جارية عندك حلواء؟ قالت: لا، قال: ولا التمر؟

قالت: ولا التمر، فاستلقى ثم قرأ هذه الآية: عسى ربّكم أن يهلك عدوّكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون، قال: فلما ولي المنصور الخلافة أرسل إليّ فقدمت عليه فدخلت، والربيع قائم على رأسه، فاستدناني وقال: يا عبد الرحمن بلغني أنك كنت تفد إلى بني أمية؟ قلت: أجل، قال: فكيف رأيت سلطاني من سلطانهم وكيف ما مررت به من أعمالنا حتى وصلت إلينا؟ قال: فقلت يا أمير المؤمنين رأيت أعمالا سيّئة وظلما فاشيا، وو الله يا أمير المؤمنين ما رأيت في سلطانهم شيئا من الجور والظّلم إلّا ورأيته في سلطانك، وكنت ظننته لبعد البلاد منك، فجعلت كلّما دنوت كان الأمر أعظم، أتذكر يا أمير المؤمنين يوم أدخلتني منزلك فقدّمت إليّ طعاما ومريقة من حبوب لم يكن فيها لحم ثم قدّمت زبيبا، ثم قلت: يا جارية عندك حلواء؟

قالت: لا، قلت: ولا التمر؟ قالت: ولا التمر، فاستلقيت ثم تلوت: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون؟ فقد والله أهلك عدوّك واستخلفك في الأرض، ما تعمل؟

قال: فنكّس رأسه طويلا ثم رفع رأسه إليّ وقال: كيف لي بالرجال؟ قلت: أليس عمر بن عبد العزيز كان يقول: إن الوالي بمنزلة السّوق يجلب إليها ما ينفق فيها، فإن كان برّا أتوه ببرّهم وإن كان فاجرا أتوه بفجورهم؟ فأطرق طويلا، فأومأ إليّ الربيع أن أخرج، فخرجت وما عدت إليه، وتوفي عبد الرحمن سنة 156، وينسب إليها أيضا سحنون بن سعيد الإفريقي من فقهاء أصحاب مالك، جالس مالكا مدة وقدم بمذهبه إلى إفريقية فأظهره فيها، وتوفي سنة 240، وقيل:

سنة 241.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


133-معجم البلدان (بئر رومة)

بِئْرُ رُومَةَ:

بضم الراء، وسكون الواو، وفتح الميم: وهي في عقيق المدينة، روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: نعم القليب قليب المزني، وهي التي اشتراها عثمان بن عفّان فتصدق بها، وروي عن موسى بن طلحة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: نعم الحفير حفير المزني، يعني رومة، فلما سمع عثمان ذلك ابتاع نصفها بمائة بكرة وتصدق بها على المسلمين فجعل الناس يستقون منها، فلما رأى صاحبها أن قد امتنع منه ما كان يصيب منها باعها من عثمان بشيء يسير، فتصدق بها كلها، وقال أبو عبد الله بن مندة:

رومة الغفاري صاحب بئر رومة روى حديثه عبد الله ابن عمر بن أبان بن عبد الرحمن المحاربي عن ابن مسعود عن أبي سلمة عن بشر بن بشير الأسلمي عن أبيه قال: لما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء وكان لرجل من بني غفار بئر يقال لها رومة، كان يبيع منها القربة بالمدّ، فقال له رسول الله، صلى الله

عليه وسلم: بعنيها بعين في الجنّة، فقال:

يا رسول الله ليس لي ولعيالي غيرها، لا أستطيع ذلك، فبلغ ذلك عثمان فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم، الحديث كذا، قال رومة الغفاري ثم قال: عين يقال لها رومة، وقال مصعب بن عبد الله الزبيري يذكر رومة ويتشوقها، وهو بالعراق:

«أقول لثابت، والعين تهمي *** دموعا ما أنهنهها انحدارا: »

«أعرني نظرة بقرى دجيل، *** تحايلها ظلاما أو نهارا»

«فقال: أرى برومة أو بسلع *** منازلنا معطّلة، قفارا»

وقال أهل السير: لما قدم تبّع المدينة وكان منزله بقبا، واحتفر البئر التي يقال لها بئر الملك وبه سمّيت فاحتوى ماءها، فدخلت عليه امرأة من بني زريق يقال لها فاكهة، فشكا إليها وباء بئره، فانطلقت واستقت له من ماء رومة ثم جاءته به فشربه فأعجبه، فقال لها: زيدي، فكانت تصير اليه مقامه بالماء من رومة، فلما ارتحل قال لها: يا فاكهة ما معنا من الصفراء ولا البيضاء شيء ولكن ما تركنا من أزوادنا ومتاعنا فهو لك، فلما سار نقلت جميع ذلك، فيقال: إنها وأولادها أكثر بني زريق مالا حتى جاء الإسلام، وقال عبد الله بن الزبير الأسدي يرثي يعقوب بن طلحة بن عبيد الله ومن قتل معه بالحرّة:

«لعمري! لقد جاء الكروّس كاظما *** على خبر، للمسلمين، وجيع»

«شباب ليعقوب بن طلحة، أقفرت *** منازلهم من رومة وبقيع»

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


134-معجم البلدان (با أيوب)

با أَيُّوبَ:

هو تخفيف أبي أيّوب، هكذا جاء: قرية كبيرة بين قرميسين وهمذان عن يمين الطريق للقاصد من بغداد إلى همذان، منسوب فيما قيل إلى رجل من جرهم يقال له أبو أيوب، وكانت بها أبنية نقضت، وتعرف هذه القرية بالدّكّان، وبالقرب منها بحيرة صغيرة في رأي العين، يقال إنه غرق فيها بعض الملوك فبذلت أمه لمن يخرجه الرغائب، فلما أعياها إخراجه عزمت على طمّها، فحشرت الناس وجاءوا بالتراب وألقوه فيها فلم يؤثر شيئا، فأيست من ذلك فجاءت أخيرا بحملة من التراب واحدة، فأمرت بصبها على شفير البحيرة فكانت تلّا عظيما، فهو إلى الآن باق، وأرادت أن تعرّف الناس أنها لم تعجز عن شيء ممكن، وماء هذه البحيرة يصبّ في واد وحياض تحتها.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


135-معجم البلدان (بالس)

بالِسُ:

بلدة بالشام بين حلب والرّقة، سميت فيما ذكر ببالس بن الروم بن اليقن بن سام بن نوح، عليه السلام، وكانت على ضفّة الفرات الغربية، فلم يزل الفرات يشرّق عنها قليلا قليلا حتى صار بينهما في أيامنا هذه أربعة أميال، قال المنجمون: طول بالس خمس وستون درجة وعرضها ست وثلاثون درجة، وهي في الإقليم الرابع، قال البلاذري: سار أبو عبيدة حتى نزل عراجين وقدّم مقدّمته إلى بالس، وبعث جيشا عليه حبيب بن مسلمة إلى قاصرين، وكانت بالس وقاصرين لأخوين من أشراف الروم أقطعا القرى التي بالقرب منهما وجعلا حافظين لما بينهما من مدن الروم، فصالحهم أهلها على الجزية أو الجلاء، فجلا أكثرهم إلى بلاد الروم وأرض الجزيرة وقرية جسر منبج، ولم يكن الجسر يومئذ وإنما اتخذ في زمن عثمان بن عفان، رضي الله عنه، للصوائف، ويقال: بل كان له رسم قديم، وأسكن بالس وقاصرين قوما من العرب والبوادي ثم رفضوا قاصرين، وبلغ أبو عبيدة إلى الفرات ثم رجع إلى فلسطين، فكانت بالس والقرى المنسوبة إليها في حدها الأعلى والأوسط والأسفل أعذاء عشرية. فلما كان مسلمة ابن عبد الملك توجه غازيا إلى الروم من نحو الثغور الجزرية عسكر ببالس فأتاه أهلها وأهل بويلس وقاصرين وعابدين وصفّين، وهي قرى منسوبة إليها، فسألوه جميعا أن يحفر لهم نهرا من الفرات يسقي أرضهم على أن يجعلوا له الثلث من غلّاتهم بعد عشر السلطان الذي كان يأخذه، فحفر النهر المعروف بنهر مسلمة ووفوا له بالشرط، ورمّ سور المدينة وأحكمه، فلما مات مسلمة صارت بالس وقراها لورثته فلم تزل في أيديهم حتى جاءت الدولة العباسية وقبض عبد الله بن عليّ أموال بني أمية فدخلت فيها فأقطعها السفاح محمد بن سليمان بن عليّ بن عبد الله بن عباس، فلما مات صارت للرشيد فأقطعها ابنه المأمون فصارت لولده من بعده، وقال مكحول: كل عشريّ بالشام فهو مما جلا عنه أهله فأقطعه المسلمون فأحيوه وكان مواتا لا حق فيه لأحد فأحيوه بإذن الولاة، قال ابن غسان السّكوني:

«أمّن الله، بالمبارك، يحيى *** خوف مصر إلى دمشق فبالس»

وينسب إليها جماعة، منهم أبو المجد معدان بن كثير

ابن عليّ البالسي الفقيه الشافعي، كان تفقه على أبي بكر محمد بن أحمد بن الحسين الشاشي ومدحه فقال:

«قد قلت للمتكلّفين لحاقه: *** كفّوا فما كلّ البحور تعام»

«غلّست في طلب الرّشاد وهجرّوا، *** وسهرت في طلب المراد وناموا»

«يا كعبة الفضل أفتنا: لم لم يجب *** شرعا، على قصّادك، الإحرام؟»

«ولمه يضمّخ زائروك بطيب ما *** تلقيه، وهو على الحجيج حرام»

وكان لمعدان معرفة جيدة بالأدب واللغة، وممن ينسب إلى بالس أيضا: الحسن بن عبد الله بن منصور بن حبيب بن إبراهيم أبو عليّ الأنطاكي، يعرف بالباسي، حدث بدمشق ومصر عن الهيثم بن جميل وإسحاق بن إبراهيم الحنيني وغيرهم، وروى عنه جماعة، منهم:

أبو العباس بن ملأس وأبو الجهم بن طلّاب ومكحول البيروتي، وإسمعيل بن أحمد بن أيوب بن الوليد بن هارون أبو الحسن البالسي الخيزراني، سمع خيثمة بن سليمان بأطرابلس وبالرّقّة أبا الفضل محمد بن عليّ بن الحسين بن حرب قاضي الرّقة، وببالس أبا القاسم جعفر بن سهل بن الحسن القاضي وأباه أحمد بن أيوب الزّيات وأبا العباس أحمد بن إبراهيم بن محمد بن بكر البالسي وجماعة وافرة سواهم ببلدان شتّى، روى عنه أبو الفرج عبيد الله بن محمد بن يوسف المراغي النحوي وأبو بكر محمد بن الحسن الشيرازي، وأحمد ابن إبراهيم بن فيل أبو الحسن البالسي ثم الأنطاكي نزل أنطاكية روى عن هشام بن عمار والمسيب بن واضح وطبقتهما كثيرا، روى عنه أبو عبد الرحمن النسائي في سننه وخيثمة وأبو عوانة الأسفراييني وسليمان الطبراني وخلق كثير، ومات بأنطاكية سنة 284.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


136-معجم البلدان (بغداد)

بَغْدَادُ:

أم الدنيا وسيدة البلاد، قال ابن الأنباري:

أصل بغداد للأعاجم، والعرب تختلف في لفظها إذ لم يكن أصلها من كلامهم ولا اشتقاقها من لغاتهم، قال بعض الأعاجم: تفسيره بستان رجل، فباغ بستان وداد اسم رجل، وبعضهم يقول: بغ اسم للصنم، فذكر أنه أهدي إلى كسرى خصيّ من المشرق فأقطعه إياها، وكان الخصيّ من عباد الأصنام ببلده فقال: بغ داد أي الصنم أعطاني، وقيل: بغ هو البستان وداد أعطى، وكان كسرى قد وهب لهذا الخصي هذا البستان فقال: بغ داد فسميت به، وقال حمزة بن الحسن: بغداد اسم فارسي معرّب عن باغ داذويه، لأن بعض رقعة مدينة المنصور كان باغا لرجل من الفرس اسمه داذويه، وبعضها أثر مدينة دارسة كان بعض ملوك الفرس اختطّها فاعتل فقالوا:

ما الذي يأمر الملك أن تسمى به هذه المدينة؟ فقال:

هلدوه وروز أي خلّوها بسلام، فحكي ذلك للمنصور فقال: سميتها مدينة السلام، وفي بغداد سبع لغات:

بغداد وبغدان، ويأبى أهل البصرة ولا يجيزون بغداذ في آخره الذال المعجمة، وقالوا: لأنه ليس في كلام العرب كلمة فيها دال بعدها ذال، قال أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق: فقلت لأبي إسحاق إبراهيم بن السري فما تقول في قولهم خرداد؟ فقال: هو فارسي ليس من كلام العرب، قلت أنا: وهذا حجة من قال بغداد فإنه ليس من كلام العرب، وأجاز الكسائي بغداد على الأصل، وحكى أيضا مغداذ ومغداد ومغدان، وحكى الخارزنجي: بغداد بدالين مهملتين، وهي في اللغات كلها تذكّر وتؤنث، وتسمى مدينة السلام أيضا، فأما الزوراء: فمدينة المنصور خاصة، وسميت مدينة السلام لأن دجلة يقال لها وادي السلام، وقال موسى بن عبد الحميد النسائي:

كنت جالسا عند عبد العزيز بن أبي روّاد فأتاه رجل فقال له: من أين أنت؟ فقال له: من بغداد، فقال:

لا تقل بغداد فإن بغ صنم وداد أعطى، ولكن قل مدينة السلام، فإن الله هو السلام والمدن كلها له، وقيل: إن بغداد كانت قبل سوقا يقصدها تجار أهل الصين بتجاراتهم فيربحون الرّبح الواسع، وكان اسم ملك الصين بغ فكانوا إذا انصرفوا إلى بلادهم قالوا:

بغ داد أي إن هذا الربح الذي ربحناه من عطية

الملك، وقيل إنما سميت مدينة السلام لأن السلام هو الله فأرادوا مدينة الله، وأما طولها فذكر بطلميوس في كتاب الملحمة المنسوب إليه أن مدينة بغداد طولها خمس وسبعون درجة وعرضها أربع وثلاثون درجة داخلة في الإقليم الرابع، وقال أبو عون وغيره: إنها في الإقليم ال

فصل

في بدء عمارة بغداد، كان أول من مصّرها وجعلها مدينة المنصور بالله أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي ابن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ثاني الخلفاء، وانتقل إليها من الهاشمية، وهي مدينة كان قد اختطّها أخوه أبو العباس السّفّاح قرب الكوفة وشرع في عمارتها سنة 145 ونزلها سنة 149، وكان سبب عمارتها أن أهل الكوفة كانوا يفسدون جنده فبلغه ذلك من فعلهم، فانتقل عنهم يرتاد موضعا، وقال ابن عيّاش: بعث المنصور روّادا وهو بالهاشمية يرتادون له موضعا يبني فيه مدينة ويكون الموضع واسطا رافقا بالعامة والجند، فنعت له موضع قريب من

بارمّا، وذكر له غذاؤه وطيب هوائه، فخرج إليه بنفسه حتى نظر إليه وبات فيه، فرأى موضعا طيبا فقال لجماعة، منهم سليمان بن مجالد وأبو أيوب المرزباني وعبد الملك بن حميد الكاتب: ما رأيكم في هذا الموضع؟ قالوا: طيب موافق، فقال: صدقتم ولكن لا مرفق فيه للرعية، وقد

وعن علي بن يقطين قال: كنت في عسكر أبي جعفر المنصور حين سار إلى الصراة يلتمس موضعا لبناء مدينة، قال: فنزل الدير الذي على الصراة في العتيقة فما زال على دابته ذاهبا جائيا منفردا عن الناس يفكر، قال: وكان في الدير راهب عالم فقال لي: لم يذهب الملك ويجيء؟ قلت: إنه يريد أن يبني مدينة، قال: فما اسمه؟ قلت: عبد الله بن محمد، قال: أبو من؟ قلت: أبو جعفر، قال:

هل يلقب بشيء؟ قلت: المنصور، قال: ليس هذا الذي يبنيها، قلت: ولم؟ قال: لأنا قد وجدنا في كتاب عندنا نتوارثه قرنا عن قرن أن الذي يبني

هذا المكان رجل يقال له مقلاص، قال: فركبت من وقتي حتى دخلت على المنصور ودنوت منه، فقال لي: ما وراءك؟ قلت: خير ألقيه إلى أمير المؤمنين وأريحه من هذا العناء، فقال: قل، قلت:

أمير المؤمنين يعلم أن هؤلاء معهم علم، وقد أخبرني راهب هذا الدير بكذا وكذا، فلما ذكرت له مقلاص ضحك واستبشر ونزل عن دابته فسجد وأخذ سوطه وأقبل يذرع به، فقلت في نفسي: لحقه اللجاج، ثم دعا المهندسين من وقته وأمرهم بخط الرماد، فقلت له: أظنّك يا أمير المؤمنين أردت معاندة الراهب وتكذيبه، فقال: لا والله ولكني كنت ملقّبا بمقلاص وما ظننت أن أحدا عرف ذلك غيري، وذاك أننا كنا بناحية السراة في زمان بني أمية على الحال التي تعلم، فكنت أنا ومن كان في مقدار سنّي من عمومتي وإخوتي نتداعى ونتعاشر، فبلغت النوبة إليّ يوما من الأيام وما أملك درهما واحدا فلم أزل أفكر وأعمل الحيلة إلى أن أصبت غزلا لداية كانت لهم، فسرقته ثم وجّهت به فبيع لي واشتري لي بثمنه ما احتجت إليه، وجئت إلى الداية وقلت لها:

افعلي كذا واصنعي كذا، قالت: من أين لك ما أرى؟ قلت: اقترضت دراهم من بعض أهلي، ففعلت ما أمرتها به، فلما فرغنا من الأكل وجلسنا للحديث طلبت الداية الغزل فلم تجده فعلمت أني صاحبه، وكان في تلك الناحية لص يقال له مقلاص مشهور بالسرقة، فجاءت إلى باب البيت الذي كنا فيه فدعتني فلم أخرج إليها لعلمي أنها وقفت على ما صنعت، فلما ألحّت وأنا لا أخرج قالت: اخرج يا مقلاص، الناس يتحذّرون من مقلاصهم وأنا مقلاصي معي في البيت، فمزح معي إخوتي وعمومتي بهذا اللقب ساعة ثم لم أسمع به إلا منك الساعة فعلمت أن أمر هذه المدينة يتم على يدي لصحة ما وقفت عليه، ثم وضع أساس المدينة مدوّرا وجعل قصره في وسطها وجعل لها أربعة أبواب وأحكم سورها وفصيلها، فكان القاصد إليها من الشرق يدخل من باب خراسان والقاصد من الحجاز يدخل من باب الكوفة والقاصد من المغرب يدخل من باب الشام والقاصد من فارس والأهواز وواسط والبصرة واليمامة والبحرين يدخل من باب البصرة.

قالوا: فأنفق المنصور على عمارة بغداد ثمانية عشر ألف ألف دينار، وقال الخطيب في رواية: إنه أنفق على مدينته وجامعها وقصر الذهب فيها والأبواب والأسواق إلى أن فرغ من بنائها أربعة آلاف ألف وثمانمائة وثلاثة وثمانين ألف درهم، وذاك أن الأستاذ من الصّنّاع كان يعمل في كل يوم بقيراط إلى خمس حبّات والروزجاري بحبتين إلى ثلاث حبات، وكان الكبش بدرهم والحمل بأربعة دوانيق والتمر ستون رطلا بدرهم، قال الفضل بن دكين: كان ينادى على لحم البقر في جبانة كندة تسعون رطلا بدرهم، ولحم الغنم ستون رطلا بدرهم، والعسل عشرة أرطال بدرهم، قال: وكان بين كل باب من أبواب المدينة والباب الآخر ميل، وفي كل ساف من أسواف البناء مائة ألف لبنة واثنان وستون ألف لبنة من اللبن الجعفري، وعن ابن الشّروي قال: هدمنا من السور الذي يلي باب المحوّل قطعة فوجدنا فيها لبنة مكتوبا عليها بمغرة:

وزنها مائة وسبعة عشر رطلا، فوزناها فوجدناها كذلك.

وكان المنصور كما ذكرنا بنى مدينته مدوّرة وجعل داره وجامعها في وسطها، وبنى القبة الخضراء فوق إيوان، وكان علوّها ثمانين ذراعا، وعلى رأس القبة صنم على صورة فارس في يده رمح، وكان السلطان إذا رأى أن ذلك الصنم قد استقبل بعض الجهات ومدّ

الرمح نحوها علم أن بعض الخوارج يظهر من تلك الجهة، فلا يطول عليه الوقت حتى ترد عليه الأخبار بأن خارجيّا قد هجم من تلك الناحية، قلت أنا:

هكذا ذكر الخطيب وهو من المستحيل والكذب الفاحش، وإنما يحكى مثل هذا عن سحرة مصر وطلسمات بليناس التي أوهم الأغمار صحتها تطاول الأزمان والتخيل أن المتقدّمين ما كانوا بني آدم، فأما الملة الإسلامية فإنها تجلّ عن مثل هذه الخرافات، فإن من المعلوم أن الحيوان الناطق مكلف الصنائع لهذا التمثال لا يعلم شيئا مما ينسب إلى هذا الجماد ولو كان نبيّا مرسلا، وأيضا لو كان كلما توجهت إلى جهة خرج منها خارجيّ لوجب أن لا يزال خارجيّ يخرج في كل وقت لأنها لا بدّ أن تتوجه إلى وجه من الوجوه، والله أعلم، قال: وسقط رأس هذه القبة سنة 329، وكان يوم مطر عظيم ورعد هائل، وكانت هذه القبة تاج البلد وعلم بغداد ومأثرة من مآثر بني العباس، وكان بين بنائها وسقوطها مائة ونيف وثمانون سنة، ونقل المنصور أبوابها من واسط، وهي أبواب الحجّاج، وكان الحجاج أخذها من مدينة بإزاء واسط تعرف بزندورد، يزعمون أنها من بناء سليمان بن داود، عليه السلام، وأقام على باب خراسان بابا جيء به من الشام من عمل الفراعنة وعلى باب الكوفة بابا جيء به من الكوفة من عمل خالد القسري وعمل هو بابا لباب الشام، وهو أضعفها، وكان لا يدخل أحد من عمومة المنصور ولا غيرهم من شيء من الأبواب إلّا راجلا إلا داود بن عليّ عمه، فإنه كان متفرّسا وكان يحمل في محفّة، وكذلك محمد المهدي ابنه، وكانت تكنس الرحاب في كل يوم ويحمل التراب إلى خارج، فقال له عمه عبد الصمد: يا أمير المؤمنين أنا شيخ كبير فلو أذنت لي أن أنزل داخل الأبواب، فلم يأذن له، فقال: يا أمير المؤمنين عدني بعض بغال الرّوايا التي تصل إلى الرّحاب، فقال: يا ربيع بغال الروايا تصل إلى رحابي تتخذ الساعة قنيّ بالساج من باب خراسان حتى تصل إلى قصري، ففعل ومدّ المنصور قناة من نهر دجيل الآخذ من دجلة وقناة من نهر كرخايا الآخذ من الفرات وجرّهما إلى مدينته في عقود وثيقة، من أسفلها محكمة بالصاروج والآجر من أعلاها، فكانت كل قناة منها تدخل المدينة وتنفذ في الشوارع والدروب والأرباض، تجري صيفا وشتاء لا ينقطع ماؤها في شيء من الأوقات، ثم أقطع المنصور أصحابه القطائع فعمّروها وسميت بأسمائهم، وقد ذكرت من ذلك ما بلغني في مواضعه حسب ما قضى به ترتيب الحروف، وقد صنّف في بغداد وسعتها وعظم رفعتها وسعة بقعتها وذكر أبو بكر الخطيب في صدر كتابه من ذلك ما فيه كفاية لطالبه.

فلنذكر الآن ما ورد في مدح بغداد

ومن عجيب ذلك ما ذكره أبو سهل بن نوبخت قال:

أمرني المنصور لما أراد بناء بغداد بأخذ الطالع، ففعلت فإذا الطالع في الشمس وهي في القوس، فخبّرته بما تدلّ النجوم عليه من طول بقائها وكثرة عمارتها وفقر الناس إلى ما فيها ثم قلت: وأخبرك خلّة أخرى أسرك بها يا أمير المؤمنين، قال: وما هي؟ قلت: نجد في أدلة النجوم أنه لا يموت بها خليفة أبدا حتف أنفه، قال: فتبسم وقال الحمد لله على ذلك، هذا من فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ولذلك يقول عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفى:

«أعاينت في طول من الأرض أو عرض، *** كبغداد من دار بها مسكن الخفض»

«صفا العيش في بغداد واخضرّ عوده، *** وعيش سواها غير خفض ولا غضّ»

«تطول بها الأعمار، إنّ غذاءها *** مريء، وبعض الأرض أمرأ من بعض»

«قضى ربّها أن لا يموت خليفة *** بها، إنه ما شاء في خلقه يقضي»

«تنام بها عين الغريب، ولا ترى *** غريبا بأرض الشام يطمع في الغمض»

«فإن جزيت بغداد منهم بقرضها، *** فما أسلفت إلّا الجميل من القرض»

«وإن رميت بالهجر منهم وبالقلى، *** فما أصبحت أهلا لهجر ولا بغض»

وكان من أعجب العجب أن المنصور مات وهو حاجّ، والمهدي ابنه خرج إلى نواحي الجبل فمات بما سبذان بموضع يقال له الرّذّ، والهادي ابنه مات بعيساباد قرية أو محلّة بالجانب الشرقي من بغداد، والرشيد مات بطوس، والأمين أخذ في شبارته وقتل بالجانب الشرقي، والمأمون مات بالبذندون من نواحي المصّيصة بالشام، والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر وباقي الخلفاء ماتوا بسامرّا، ثم انتقل الخلفاء إلى التاج من شرقي بغداد كما ذكرناه في التاج، وتعطّلت مدينة المنصور منهم.

وفي مدح بغداد قال بعض الفضلاء: بغداد جنة الأرض ومدينة السلام وقبة الإسلام ومجمع الرافدين وغرّة البلاد وعين العراق ودار الخلافة ومجمع المحاسن والطيبات ومعدن الظرائف واللطائف، وبها أرباب الغايات في كل فنّ، وآحاد الدهر في كل نوع، وكان أبو إسحاق الزّجّاج يقول: بغداد حاضرة الدنيا وما عداها بادية، وكان أبو الفرج الببغا يقول: هي مدينة السلام بل مدينة الإسلام، فإنّ الدولة النبوية والخلافة الإسلامية بها عشّشتا وفرّختا وضربتا بعروقهما وبسقتا بفروعهما، وإنّ هواءها أغذى من كل هواء وماءها أعذب من كل ماء، وإنّ نسيمها أرقّ من كل نسيم، وهي من الإقليم الاعتدالي بمنزلة المركز من الدائرة، ولم تزل بغداد موطن الأكاسرة في سالف الأزمان ومنزل الخلفاء في دولة الإسلام، وكان ابن العميد إذا طرأ عليه أحد من منتحلي العلوم والآداب وأراد امتحان عقله سأله عن بغداد، فإن فطن بخواصّها وتنبّه على محاسنها وأثنى عليها جعل ذلك مقدّمة فضله وعنوان عقله، ثم سأله عن الجاحظ، فإن وجد أثرا لمطالعة كتبه والاقتباس من نوره والاغتراف من بحره وبعض القيام بمسائله قضى له بأنه غرّة شادخة في أهل العلم والآداب، وإن وجده ذامّا لبغداد غفلا عما يحب أن يكون موسوما به من الانتساب إلى المعارف التي يختص بها الجاحظ لم ينفعه بعد ذلك شيء من المحاسن، ولما رجع الصاحب عن بغداد سأله ابن العميد عنها، فقال: بغداد في البلاد كالأستاذ في العباد، فجعلها مثلا في الغاية في الفضل، وقال ابن زريق الكاتب الكوفي:

«سافرت أبغي لبغداد وساكنها *** مثلا، قد اخترت شيئا دونه الياس»

«هيهات بغداد، والدنيا بأجمعها *** عندي، وسكان بغداد هم الناس»

وقال آخر:

«بغداد يا دار الملوك ومجتنى *** صوف المنى، يا مستقرّ المنابر»

«ويا جنّة الدنيا ويا مجتنى الغنى، *** ومنبسط الآمال عند المتاجر»

وقال أبو يعلى محمد بن الهبّارية: سمعت الشيخ الزاهد أبا إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآباذي يقول: من دخل بغداد وهو ذو عقل صحيح وطبع معتدل مات بها أو بحسرتها، وقال عمارة بن عقيل ابن بلال بن جرير:

«ما مثل بغداد في الدنيا ولا الدين، *** على تقلّبها في كلّ ما حين»

«ما بين قطربّل فالكرخ نرجسة *** تندى، ومنبت خيريّ ونسرين»

«تحيا النفوس بريّاها، إذا نفحت، *** وخرّشت بين أوراق الرّياحين»

«سقيا لتلك القصور الشاهقات وما *** تخفي من البقر الإنسيّة العين»

«تستنّ دجلة فيما بينها، فترى *** دهم السّفين تعالى كالبراذين»

«مناظر ذات أبواب مفتّحة، *** أنيقة بزخاريف وتزيين»

«فيها القصور التي تهوي، بأجنحة، *** بالزائرين إلى القوم المزورين»

«من كلّ حرّاقة تعلو فقارتها، *** قصر من الساج عال ذو أساطين»

وقدم عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس إلى بغداد فرأى كثرة الناس بها فقال: ما مررت بطريق من طرق هذه المدينة إلّا ظننت أن الناس قد نودي فيهم، ووجد على بعض الأميال بطريق مكة مكتوبا:

«أيا بغداد يا أسفي عليك! *** متى يقضى الرجوع لنا إليك؟»

«قنعنا سالمين بكلّ خير، *** وينعم عيشنا في جانبيك»

ووجد على حائط بجزيرة قبرص مكتوبا:

«فهل نحو بغداد مزار، فيلتقي *** مشوق ويحظى بالزيارة زائر»

«إلى الله أشكو، لا إلى الناس، إنه *** على كشف ما ألقى من الهمّ قادر»

وكان القاضي أبو محمد عبد الوهّاب بن علي بن نصر المالكي قد نبا به المقام ببغداد فرحل إلى مصر، فخرج البغداديون يودّعونه وجعلوا يتوجعون لفراقه، فقال: والله لو وجدت عندكم في كل يوم مدّا من الباقلّى ما فارقتكم، ثم قال:

«سلام على بغداد من كلّ منزل، *** وحقّ لها منّي السلام المضاعف»

«فو الله ما فارقتها عن قلى لها، *** وإني بشطّي جانبيها لعارف»

«ولكنها ضاقت عليّ برحبها، *** ولم تكن الأرزاق فيها تساعف»

«وكانت كخلّ كنت أهوى دنوّه، *** وأخلاقه تنأى به وتخالف»

ولما حج الرشيد وبلغ زرود التفت إلى ناحية العراق وقال:

«أقول وقد جزنا زرود عشيّة، *** وكادت مطايانا تجوز بنا نجدا»

«على أهل بغداد السلام، فإنني *** أزيد بسيري عن ديارهم بعدا»

وقال ابن مجاهد المقري: رأيت أبا عمرو بن العلاء في النوم فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: دعني مما فعل الله بي، من أقام ببغداد على السّنّة والجماعة ومات نقل من جنة إلى جنة، وعن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي محمد بن إدريس الشافعي، رضي الله عنه: أيا يونس دخلت بغداد؟ فقلت: لا، فقال: أيا يونس ما رأيت الدنيا ولا الناس، وقال طاهر بن المظفّر بن طاهر الخازن:

«سقى الله صوب الغاديات محلّة *** ببغداد، بين الخلد والكرخ والجسر»

«هي البلدة الحسناء، خصّت لأهلها *** بأشياء لم يجمعن مذ كنّ في مصر»

«هواء رقيق في اعتدال وصحّة، *** وماء له طعم ألذّ من الخمر»

«ودجلتها شطّان قد نظما لنا *** بتاج إلى تاج، وقصر إلى قصر»

«ثراها كمسك، والمياه كفضّة، *** وحصباؤها مثل اليواقيت والدّر»

قال أبو بكر الخطيب: أنشدني أبو محمد الباقي قول الشاعر:

«دخلنا كارهين لها، فلما *** ألفناها خرجنا مكرهينا»

فقال يوشك هذا أن يكون في بغداد، قيل وأنشد لنفسه في المعنى وضمنه البيت:

«على بغداد معدن كلّ طيب، *** ومغنى نزهة المتنزّهينا: »

«سلام كلما جرحت بلحظ *** عيون المشتهين المشتهينا»

«دخلنا كارهين لها، فلما *** ألفناها خرجنا مكرهينا»

«وما حبّ الديار بنا، ولكن *** أمرّ العيش فرقة من هوينا»

قال محمد بن عليّ بن حبيب الماوردي: كتب إليّ أخي من البصرة وأنا ببغداد:

«طيب الهواء ببغداد يشوّقني *** قدما إليها، وإن عاقت معاذير»

«وكيف صبري عنها، بعد ما جمعت *** طيب الهواءين ممدود ومقصور؟»

وقلّد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر اليمن، فلما أراد الخروج قال:

«أيرحل آلف ويقيم إلف، *** وتحيا لوعة ويموت قصف؟»

«على بغداد دار اللهو منّي *** سلام ما سجا للعين طرف»

«وما فارقتها لقلى، ولكن *** تناولني من الحدثان صرف»

«ألا روح ألا فرج قريب، *** ألا جار من الحدثان كهف»

«لعلّ زماننا سيعود يوما، *** فيرجع آلف ويسر إلف»

فبلغ الوزير هذا الشعر فأعفاه، وقال شاعر يتشوق بغداد:

«ولما تجاوزت المدائن سائرا، *** وأيقنت يا بغداد أني على بعد»

علمت بأنّ الله بالغ أمره، وأن قضاء الله ينفذ في العبد وقلت، وقلبي فيه ما فيه من جوى، ودمعي جار كالجمان على خدّي: ترى الله يا بغداد يجمع بيننا فألقى الذي خلّفت فيك على العهد؟

وقال محمد بن عليّ بن خلف النيرماني:

«فدى لك يا بغداد كل مدينة *** من الأرض، حتى خطّتي ودياريا»

«فقد طفت في شرق البلاد وغربها، *** وسيّرت خيلي بينها وركابيا»

«فلم أر فيها مثل بغداد منزلا، *** ولم أر فيها مثل دجلة واديا»

«ولا مثل أهليها أرقّ شمائلا، *** وأعذب ألفاظا، وأحلى معانيا»

«وقائلة: لو كان ودّك صادقا *** لبغداد لم ترحل، فقلت جوابيا: »

«يقيم الرجال الموسرون بأرضهم، *** وترمي النوى بالمقترين المراميا»

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


137-معجم البلدان (الثغر)

الثَّغْرُ:

بالفتح ثم السكون، وراء كل موضع قريب من أرض العدوّ يسمّى ثغرا، كأنه مأخوذ من الثّغرة، وهي الفرجة في الحائط، وهو في مواضع كثيرة، منها: ثغر الشام، وجمعه ثغور، وهذا الاسم يشمل بلادا كثيرة، وهي البلاد المعروفة اليوم ببلاد ابن لاون، ولا قصبة لها لأن أكثر بلادها متساوية، وكل بلد منها كان أهله يرون أنه أحقّ باسم القصبة، فمن مدنها بيّاس، ومنها إلى الاسكندرية مرحلة ومن بياس إلى المصّيصة مرحلتان ومن المصيصة إلى عين زربة مرحلة ومن المصيصة إلى أذنة مرحلة ومن أذنة إلى طرسوس يوم ومن طرسوس إلى الجوزات يومان ومن طرسوس إلى أولاس على بحر الروم يومان ومن بيّاس إلى الكنيسة السوداء، وهي مدينة، أقل من يوم ومن بياس إلى الهارونية مثله ومن الهارونية إلى مرعش، وهي من ثغور الجزيرة، أقل من يوم، ومن مشهور مدن هذا الثغر: أنطاكية وبغراس وغير ذلك، إلا أن هذا الذي ذكرنا أشهر مدنها.

وقال أحمد بن يحيى بن جابر: كانت الثغور الشامية أيام عمر وعثمان وبعد ذلك أنطاكية وغيرها المدعوّة بالعواصم، وكان المسلمون يغزون ما وراءها كغزوهم اليوم وراء طرسوس، وكانت فيما بين الإسكندرية وطرسوس حصون ومسالح للروم كالحصون والمسالح التي يمر بها المسلمون اليوم، وكان هرقل نقل أهل تلك الحصون معه وشعّثها، فكان المسلمون إذا غزوها لم يجدوا فيها أحدا، وربما كمن عندها قوم من الروم فأصابوا غرّة المسلمين المنقطعين عن عساكرهم، فكان ولاة الشواتي والصوائف إذا دخلوا بلاد الروم خلّفوا بها جندا كثيفا إلى خروجهم وقد اختلفوا في أول من قطع الدرب، وهو درب بغراس، فقيل قطعه ميسرة بن مسروق العبسي، وجّهه أبو عبيدة فلقي جمعا للروم ومعهم مستعربة من غسّان وتنوخ يريدون اللحاق بهرقل، فأوقع بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة ثم لحق به مالك الأشتر النّخعي مددا من قبل أبي عبيدة وهو بأنطاكية وقال بعضهم: أول من قطع الدرب عمير بن سعد الأنصاري حين توجه في أمر جبلة بن الأيهم وقال أبو الخطّاب الأزدي:

بلغني أن أبا عبيدة بنفسه غزا الصائفة فمر بالمصيصة وطرسوس وقد جلا أهلها وأهل الحصون التي تليها، فأدرب فبلغ في غزاته زندة، وقال غيره: إنما وجّه ميسرة بن مسروق فبلغ زندة، وقال أبو صالح: لمّا غزا معاوية عمورية سنة 25 وجد الحصون فيما بين أنطاكية وطرسوس خالية، فوقف عندها جماعة من أهل الشام والجزيرة وقنّسرين حتى انصرف من غزواته ثم أغزى بعد ذلك بسنة أو سنتين يزيد بن الحر العبسي الصائفة، وأمره معاوية أن يفعل مثل فعله قال: وغزا معاوية سنة 31 من ناحية المصيصة فبلغ درولية، فلما رجع جعل لا يمرّ بحصن فيما بينه وبين أنطاكية إلا هدمه.

قال المؤلف، رحمه الله: ثم لم يزل هذا الثغر، وهو طرسوس وأذنة والمصيصة وما ينضاف إليها، بأيدي المسلمين، والخلفاء متهمون بأمرها لا يولّونها إلا شجعان القوّاد والراغبين منهم في الجهاد والحروب بين أهلها والروم مستمرة، والأمور على مثل هذه الحال مستقرة، حتى ولي العواصم والثغور الأمير سيف الدولة علي بن أبي الهيجاء بن حمدان، فصمد للغزو وأمعن في بلادهم، واتّفق أن قابله من الروم ملوك أجلاد ورجال أولو بأس وجلاد وبصيرة بالحرب والدين شداد، فكانت الحرب بينهم سجالا إلى أن كان من وقعة مغارة الكحل في سنة 349، ومن ظفر الروم بعسكر سيف الدولة ورجوعه إلى حلب في خمسة فرسان على ما قيل ثم تلا ذلك هجوم الروم على حلب في سنة 351 وقتل كل من قدروا عليه من أهلها، وكان أن عجز سيف الدولة وضعف، فترك الشام شاغرا ورجع إلى ميّافارقين والثغر من الحماة فارغا، فجاءهم نقفور الدمستق، فحاصر المصيصة ففتحها ثم طرسوس ثم سائر الثغور، وذلك في سنة 354 كما ذكرناه في طرسوس، فهو في أيديهم إلى هذه الغاية، وتولاها لاون الأرمني ملك الأرمن يومئذ، فهي في عقبه إلى الآن وقد نسبوا إلى هذا الثغر جماعة كثيرة من الرّواة والزهّاد والعبّاد، منهم: أبو أميّة محمد بن إبراهيم بن مسلم بن سالم الطرسوسي الثّغري، كذا نسبه غير واحد من المحدثين، وهو بغدادي المولد، سكن طرسوس وسمع يوسف بن عمر اليمامي وعمر بن حبيب القاضي ويعقوب بن إسحاق

الحضرمي وأبا عاصم النبيل ومكي بن إبراهيم والفضل ابن دكين وقبيصة بن عقبة وإسحاق بن منصور السلولي وأسود بن عامر شاذان وغيرهم، روى عنه أبو حاتم الرازي ومحمد بن خلف وكيع ويحيى بن صاعد والحسين بن إبراهيم المحاملي وغيرهم، وسئل عنه أبو داود سليمان بن الأشعث ف

وأما ثغر أسفيجاب فلم يزل ثغرا من جهته، وقد ذكر أسفيجاب في موضعه نسب إليه هكذا:

طالب بن القاسم الفقيه الثغري الأسفيجابي، كان من فقهاء ما وراء النهر. وثغر فراوة قرب بلاد الدّيلم ينسب إليه محمد بن أحمد بن الحسين الغطريفي الجرجاني الثغري، وكان الإسماعيلي يدلس به في الرواية عنه، هكذا يقول: حدثنا محمد بن أحمد الثغري. وأما ثغر الأندلس فينسب إليه أبو محمد عبد الله بن محمد بن القاسم بن حزم بن خلف الثغري من أهل قلعة أيوب، سمع بتطيلة من ابن شبل وأحمد بن يوسف بن عباس، وبمدينة الفرج من وهب بن مسرّة، ورحل إلى المشرق سنة 350 فسمع ببغداد من أبي علي الصوّاف وأبي بكر بن حمدان، سمع منه مسند أحمد بن حنبل والتاريخ، دخل البصرة والكوفة وسمع بها، وسمع بالشام ومصر وغيرهما من جماعة يكثر تعدادهم، وانصرف إلى الأندلس ولزم العبادة والجهاد، واستقضاه الحكم المنتصر بموضعه ثم استعفاه منه فأعفاه، وقدم قرطبة في سنة 375، وقرأ عليه الناس قال ابن الفرضي:

وقرأت عليه علما كثيرا، فعاد إلى الثغر فأقام به إلى أن مات، وكان يعد من الفرسان، وتوفي سنة 383 بالثغر من مشرق الأندلس.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


138-معجم البلدان (جزيرة أقور)

جَزيرَةُ أَقُورَ:

بالقاف: وهي التي بين دجلة والفرات مجاورة الشام تشتمل على ديار مضر وديار بكر، سميت الجزيرة لأنها بين دجلة والفرات، وهما يقبلان من بلاد الروم وينحطّان متسامتين حتى يلتقيا قرب البصرة ثم يصبان في البحر، وطولها عند المنجمين سبع وثلاثون درجة ونصف، وعرضها ست وثلاثون درجة ونصف، وهي صحيحة الهواء جيدة الرّيع والنماء واسعة الخيرات، بها مدن جليلة وحصون وقلاع كثيرة، ومن أمهات مدنها حرّان والرّها والرّقّة ورأس عين ونصيبين وسنجار والخابور وماردين وآمد وميّافارقين والموصل وغير ذلك مما هو مذكور في مواضعه، وقد صنف لأهلها تواريخ، وخرج منها أئمة في كل فن وفيها قيل:

«نحنّ إلى أهل الجزيرة قبلة، *** وفيها غزال ساجي الطرف ساحره»

«يؤازره قلبي عليّ، وليس لي *** يدان بمن قلبي عليّ يؤازره»

وتوصف بكثرة الدماميل قال عبد الله بن همّام السلولي:

«أتيح له من شرطة الحيّ جانب *** عريض القصيرى، لحمه متكاوس»

«أبدّ، إذا يمشي يحيك كأنما *** به، من دماميل الجزيرة، ناخس»

القصيرى: الضّلع التي تلي الشاكلة، وهي الواهنة في أسفل البطن. والأبدّ: السمين قال: ولما تفرّقت قضاعة في البلاد سار عمرو بن مالك التزيذي في تزيد

وعشم ابني حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة وبنو عوف بن ربان وجرم بن ربّان إلى أطراف الجزيرة وخالطوا قراها وكثروا بها وغلبوا على طائفة منها، فكانت بينهم وبين من هناك وقعة هزموا الأعاجم فيها فأصابوا فيهم فقال شاعرهم جدي بن الدلهاث بن عشم العشمي:

«صففنا للأعاجم من معدّ *** صفوفا بالجزيرة كالسعير»

«لقيناهم بجمع من علاف، *** ترادى بالصلادمة الذكور»

«فلاقت فارس منهم نكالا، *** وقاتلنا هرابذ شهرزور»

ولم يزالوا بناحية الجزيرة حتى غزا سابور الجنود بن أردشير الحضر، وكانت مدينة تزيد، فافتتحها واستباح ما فيها وقتل جماعة من قبائل قضاعة وبقيت منهم بقية قليلة فلحقوا بالشام وساروا مع تنوخ وذكر سيف ابن عمر أن سعد بن أبي وقاص لما مصّر الكوفة في سنة 17 اجتمع الروم فحاصروا أبا عبيدة بن الجرّاح والمسلمين بحمص، فكتب عمر، رضي الله عنه، إلى سعد بإمداد أبي عبيدة بالمسلمين من أهل العراق، فأرسل إليه الجيوش مع القوّاد وكان فيهم عياض بن غنم، وبلغ الروم الذين بحمص مسير أهل العراق إليهم فخرجوا عن حمص ورجعوا إلى بلادهم، فكتب سعد إلى عياض بغزو الجزيرة، فغزاها في سنة 17 وافتتحها، فكانت الجزيرة أسهل البلاد افتتاحا لأن أهلها رأوا أنهم بين العراق والشام، وكلاهما بيد المسلمين، فأذعنوا بالطاعة فصالحهم على الجزية والخراج، فكانت تلك السهول ممتحنة عليهم وعلى من أقام بها من المسلمين قال عياض بن غنم:

«من مبلغ الأقوام أن جموعنا *** حوت الجزيرة، غير ذات رجام؟»

«جمعوا الجزيرة والغياب، فنفّسوا *** عمن بحمص غيابة القدّام»

«إن الأعزّة والأكارم معشر، *** فضّوا الجزيرة عن فراج الهام»

«غلبوا الملوك على الجزيرة، فانتهوا *** عن غزو من يأوي بلاد الشام»

وكان عمر، رضي الله عنه، قد نزل الجابية في سنة 17 ممدّا لأهل حمص بنفسه، فلما فرغ من أهل حمص أمدّ عمر عياض بن غنم بحبيب بن مسلمة الفهري فقدم على عياض ممدّا، وكتب أبو عبيدة إلى عمر بعد انصرافه من الجابية يسأله أن يضم إليه عياض بن غنم إذ كان صرف خالدا إلى المدينة، فصرفه إليه وصرف سهيل بن عدي وعبد الله بن عتبان إلى الكوفة واستعمل حبيب بن مسلمة على عجم الجزيرة والوليد ابن عقبة بن أبي معيط على عرب الجزيرة وبقي عياض ابن غنم على ذلك إلى أن مات أبو عبيدة في طاعون عمواس سنة 18، فكتب عمر، رضي الله عنه، عهد عياض على الجزيرة من قبله هذا قول سيف ورواية الكوفيين، وأما غيره فيزعم أن أبا عبيدة هو الذي وجه عياض بن غنم إلى الجزيرة من الشام من أول الأمر وأن فتوحه كان من جهة أبي عبيدة وزعم البلاذري فيما رواه عن ميمون بن مهران قال: الجزيرة كلّها من فتوح عياض بن غنم بعد وفاة أبي عبيدة بن الجرّاح ولاه إياها عمر، رضي الله عنه، وكان أبو عبيدة استخلفه على الشام فولى عمر يزيد بن أبي سفيان ثم معاوية من بعده الشام وأمر عياضا بغزو الجزيرة قال: وقال آخرون بعث أبو عبيدة عياض بن غنم إلى

الجزيرة فمات أبو عبيدة وهو بها فولاه عمر إياها بعده وقال محمد بن سعد عن الواقدي: أثبت ما سمعناه في عياض بن غنم أن أبا عبيدة مات في طاعون عمواس سنة 18 واستخلف عياضا فورد عليه كتاب عمر بتوليته حمص وقنّسرين والجزيرة للنصف من شعبان سنة 18 فسار إليها في خمس

أخذت الزيت والطعام والخل لمرفق المسلمين بالجزيرة مدة، ثم خفف عنهم واقتصر على ثمانية وأربعين وأربعة وعشرين واثني عشر درهما نظرا من عمر للناس، وكان على كل إنسان من جزيته مدّ قمح وقسطان من زيت وقسطان من خل.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


139-معجم البلدان (الحجر الأسود)

الحجَرُ الأَسْوَد:

قال عبد الله بن العباس: ليس في الأرض شيء من الجنة إلا الركن الأسود والمقام، فإنهما جوهرتان من جوهر الجنّة، ولولا من مسهما من أهل الشرك ما مسهما ذو عاهة إلا شفاه الله، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما، ولولا ذلك لأضاءا ما بين المشرق والمغرب، وقال محمد بن علي:

ثلاثة أحجار من الجنة: الحجر الأسود والمقام وحجر بني إسرائيل، وقال أبو عرارة: الحجر الأسود في الجدار، وذرع ما بين الحجر الأسود إلى الأرض ذراعان وثلثا ذراع، وهو في الركن الشمالي، وقد ذكرت أركان الكعبة في مواضعها، وقال عياض: الحجر الأسود يقال هو الذي أراده النبي، صلى الله عليه وسلم، حين قال: إني لأعرف حجرا كان يسلّم عليّ، إنه ياقوتة بيضاء أشد بياضا من اللبن فسوّده الله تعالى بخطايا بني آدم ولمس المشركين إياه، ولم يزل هذا الحجر في الجاهلية والإسلام محترما معظّما مكرّما يتبركون به ويقبّلونه إلى أن دخل القرامطة، لعنهم الله، في سنة 317 إلى مكة عنوة، فنهبوها وقتلوا الحجّاج وسلبوا البيت وقلعوا الحجر الأسود وحملوه معهم إلى بلادهم بالأحساء من أرض البحرين، وبذل لهم بجكم التركي الذي استولى على بغداد في أيام الراضي بالله ألوف دنانير على أن يردوه فلم يفعلوا حتى توسط الشريف أبو علي عمر بن يحيى العلوي بين الخليفة المطيع لله في سنة 339 وبينهم حتى أجابوا إلى ردّه وجاءوا به إلى الكوفة وعلقوه على الأسطوانة السابعة من أساطين الجامع ثم حملوه وردّوه إلى موضعه واحتجوا وقالوا: أخذناه بأمر ورددناه بأمر، فكانت مدة غيبته اثنتين وعشرين سنة، وقرأت في بعض الكتب أن رجلا من القرامطة قال لرجل من أهل العلم بالكوفة، وقد رآه يتمسّح به وهو معلّق على الأسطوانة السابعة كما ذكرناه: ما يؤمنكم أن نكون غيبنا ذلك الحجر وجئنا بغيره؟ فقال له: إن لنا فيه علامة، وهو أننا إذا طرحناه في الماء لا يرسب، ثم جاء بماء فألقوه فيه فطفا على وجه الماء.

وحجر الشّغرى، الغين والشين معجمتان وراء، بوزن سكرى، ورواه العمراني بالزاي، والأول أكثر، ولم أجد في كتب اللغة كلمة على شغز إلا ما ذكره الأزهري عن ابن الأعرابي أن الشغيزة المخيط، يعني المسلّة، عربية سمعها الأزهري بالبادية، وأما الراء فيقال: شغر الكلب إذا رفع إحدى رجليه ليبول، وشغر البلد إذا خلا من الناس، وفيه غير ذلك، وهو حجر بالمعرّف، وقيل مكان، وقال أبو خراش الهذلي:

«فكدت، وقد خلّفت أصحاب فائد *** لدى حجر الشغرى، من الشدّ أكلم»

كذا رواه السكري، ورواه بعضهم لدى حجر الشّغرى بضمتين. حجر الذّهب: محلّة بدمشق، أخبرني به الحافظ أبو عبد الله بن النجار عن زين الأمناء أبي البركات الحسن بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن عساكر، وقال الحافظ أبو القاسم الدمشقي: أحمد ابن يحيى من أهل حجر الذهب، روى عن إسماعيل ابن إبراهيم، أظنّه أبا معمر، وأبي نعيم عبيد بن هشام، روى عنه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن صالح ابن سنان وأثنى عليه. حجر شغلان، بضم الشين المعجمة وسكون الغين المعجمة أيضا، وآخره نون:

حصن في جبل اللّكّام قرب أنطاكية مشرف على بحيرة يغرا، وهو للداوية من الفرنج، وهم قوم حبسوا أنفسهم على قتال المسلمين ومنعوا أنفسهم النكاح، فهم بين الرهبان والفرسان.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


140-معجم البلدان (الحوأب)

الحَوْأَبُ:

بالفتح ثم السكون، وهمزة مفتوحة، وباء موحدة، وأصله في اللغة، يقال: حافر حوأب وأب صعب، والحوأبة: العلبة الضخمة، والحوأب:

الوادي الوسيع في هذه. والحوأب: موضع في طريق البصرة محاذي البقرة ماءة أيضا من مياههم، قال أبو زياد: ومن مياه أبي بكر بن كلاب الحوأب، وهو من المياه الأعداد وقديم جاهليّ، وقال نصر:

الحوأب من مياه العرب على طريق البصرة، والحوأب والعناب والحزيز: جبال سود أظنها في ديار عوف ابن عبد بن أبي بكر بن كلاب أخي قريط بن عبد، وقيل: سمي الحوأب بالحوأب بنت كلب بن وبرة، وهي أم تميم وبكر المعروف بالشعيراء والغوث وهو الربيط، وهو صوفة وثعلبة، وهو ظاعنة وغيرهم من ولد مرّ بن أد بن طابخة، وبالحوأب حصن لعبد العزيز بن زرارة الكلبي، وقال أبو منصور: الحوأب موضع بئر نبحت كلابه على عائشة أم المؤمنين عند مقبلها إلى البصرة، ثم أنشد:

«ما هي إلّا شربة بالحوأب، *** فصعّدي من بعدها أو صوّبي»

وفي الحديث: أن عائشة لما أرادت المضي إلى البصرة في وقعة الجمل مرّت بهذا الموضع فسمعت نباح الكلاب فقالت: ما هذا الموضع؟ فقيل لها: هذا موضع يقال له الحوأب، فقالت: إنا لله ما أراني إلا صاحبة لقصة، فقيل لها: وأيّ قصة؟ قالت: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول وعنده نساؤه: ليت شعري أيّتكنّ تنبحها كلاب الحوأب سائرة إلى الشرق في كتيبة! وهمّت بالرجوع فغالطوها وحلفوا لها أنه ليس بالحوأب، وفي كتاب سيف:

أن فلال يوم بزاخة الذين كانوا مع طليحة المتنبي أجمعت إلى ظفر وبها أم زمل سلمى بنت مالك ابن حذيفة بن بدر الفزارية، وكانت عزيزة في أهلها مثل أمّها أم قرفة، فنزلوا إليها فذمرتهم وأقرّتهم بالحرب، وكانت أم زمل قد سبيت أيام أمّ قرفة فوهبت لعائشة فأعتقتها، فكانت تكون عندها، وقد كان النبي، صلى الله عليه وسلم، دخل عليهن فقال: إن إحداكن تستنبح كلاب أهل الحوأب، ثم رجعت سلمى إلى قومها وارتدّت فيمن ارتدّ، فلما رجع إليها الفلال طلبت بذلك الثأر فسيّرت ما بين ظفر والحوأب حتى تجمع لها خلق كثير من غطفان وهوازن وسليم وأسد وطيء، فبلغ ذلك خالدا، فسار إليها واقتتل الفريقان قتالا شديدا وهي راكبة على جمل أمها حتى اجتمع على الجمل أناس من المسلمين فعقروه وقتلوها وقتلوا حولها مائة رجل، فكانوا يروون أنها التي عناها النبي، صلى الله عليه وسلم.

والحوأب في أخبار الردّة: مخلاف بالطائف. والحوأب أيضا: جبل أسود تقدم ذكره.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


141-معجم البلدان (خيبر)

خَيبرُ:

الموضع المذكور في غزاة النبي، صلى الله عليه وسلم، وهي ناحية على ثمانية برد من المدينة لمن يريد الشام، يطلق هذا الاسم على الولاية وتشتمل هذه الولاية على سبعة حصون ومزارع ونخل كثير، وأسماء حصونها: حصن ناعم وعنده قتل مسعود بن مسلمة ألقيت عليه رحى، والقموص حصن أبي الحقيق، وحصن الشّقّ، وحصن النّطاة، وحصن السّلالم، وحصن الوطيح، وحصن الكتيبة، وأما لفظ خيبر فهو بلسان اليهود الحصن، ولكون هذه البقعة تشتمل على هذه الحصون سمّيت خيابر، وقد فتحها النبي، صلى الله عليه وسلم، كلها في سنة سبع للهجرة وقيل سنة ثمان، وقال محمد بن موسى الخوارزمي: غزاها النبي صلى الله عليه وسلم، حين

مضى ست سنين وثلاثة أشهر وأحد وعشرون يوما للهجرة، وقال أحمد بن جابر: فتحت خيبر في سنة سبع عنوة، نازلهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قريبا من شهر ثم صالحوه على حقن دمائهم وترك الذرّية على أن يخلّوا بين المسلمين وبين الأرض والصفراء والبيضاء والبزّة إلا

أقرّكم ما أقرّكم الله، فلما كانت خلافة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ظهر فيهم الزنا وتعبّثوا بالمسلمين فأجلاهم إلى الشام وقسم خيبر بين من كان له فيها سهم من المسلمين وجعل لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فيها نصيبا وقال: أيّتكنّ شاءت أخذت الثمرة وأيتكن شاءت أخذت الضيعة فكانت لها ولعقبها، وإنما فعل عمر، رضي الله عنه، ذلك لأنه سمع أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: لا يجتمع دينان في جزيرة العرب، فأجلاهم، وقسم النبي، صلى الله عليه وسلم، خيبر لما فتحها على ستة وثلاثين سهما وجعل كل سهم مائة سهم فعزل نصفها لنوائبه وما ينزل به وقسم الباقي بين المسلمين، فكان سهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مما قسم الشق والنطاة وما حيز معهما، وكان فيما وقف على المسلمين الكتيبة وسلالم، وهي حصون خيبر، ودفعها إلى اليهود على النصف مما أخرجت فلم تزل على ذلك حياة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، رضي الله عنه، فلما كان عمر، رضي الله عنه، وكثر المال في أيدي المسلمين وقووا على عمارة الأرض وسمع أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال في مرض موته: لا يجتمع دينان في جزيرة العرب، فأجلى اليهود إلى الشام وقسم الأموال بين المسلمين، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعث عبد الله بن رواحة إلى أهل خيبر ليخرص عليهم فقال: إن شئتم خرصت وخيّرتكم وإن شئتم خرصتم وخيرتموني، فأعجبهم ذلك وقالوا: هذا هو العدل، هذا هو القسط وبه قامت السموات والأرض، وذكر أبو القاسم الزجاجي أنها سمّيت بخيبر بن قانية بن مهلائيل بن إرم بن عبل، وعبيل أخو عاد بن عوض بن إرم بن سام بن نوح، عليه السلام، وهو عم الرّبذة وزرود والشّقرة بنات يثرب وكان أول من نزل هذا الموضع، وخيبر موصوفة بالحمّى، قال شاعر:

«كأنّ به، إذ جئته، خيبريّة *** يعود عليه وردها وملالها»

وقدم أعرابيّ خيبر بعياله فقال:

«قلت لحمّى خيبر: استعدّي! *** هاك عيالي فاجهدي وجدّي»

«وباكري بصالب وورد، *** أعانك الله على ذا الجند»

فحمّ ومات وبقي عياله، واشتهر بالنسبة إليها جماعة، منهم: ابن القاهر الخيبري اللخمي الدمشقي، ولا أدري أهو اسم جده أم نسبه إلى هذا الموضع، روى عنه أبو القاسم الطبراني، ومات بعد سنة 559، وقال الأخنس بن شهاب:

«فلابنة حطّان بن قيس منازل *** كما نمّق العنوان في الرّقّ كاتب»

«ظللت بها أعرى وأشعر سخنة *** كما اعتاد محموما بخيبر صالب»

وهي أيضا موصوفة بكثرة النخل والتمر، قال حسان ابن ثابت:

«أتفخر بالكتّان لمّا لبسته، *** وقد تلبس الأنباط ريطا مقصّرا»

«فلا تك كالعاوي، فأقبل نحره، *** ولم تخشه سهما من النّبل مضمرا»

«فإنّا، ومن يهدي القصائد نحونا، *** كمستبضع تمرا إلى أرض خيبرا»

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


142-معجم البلدان (دار القوارير)

دَارُ القَوارير:

قال أحمد بن جابر: حدثني العباس بن هشام الكلبي قال: كتب بعض الكنديّين إلى أبي يسأله عن مواضع منها دار القوارير بمكة، فكتب:

فأما دار القوارير فكانت لعتبة بن ربيعة بن عبد شمس ابن عبد مناف ثم صارت للعباس بن عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب ثم صارت لأم جعفر زبيدة بنت أبي الفضل بن المنصور فاستعملت في بنائها القوارير فنسبت إليها، وكان حماد البربري بناها قريبا من خلافة الرشيد وأدخل بئر جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف إليها.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


143-معجم البلدان (دمشقين)

دِمَشْقِين:

مثل جمع دمشق جمع تصحيح: من قرى مصر في الفيوم، بها بصل كالبطيخ لا حرافة فيه، وحدثني من دخلها أنه شقّ بصلة وأخرج وسطها فكانت كالصّحفة فأخذ فيها لبنا وأكله بها.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


144-معجم البلدان (الدهناء)

الدَّهنَاءُ:

بفتح أوله، وسكون ثانيه، ونون، وألف تمد وتقصر، وبخط الوزير المغربي: الدهناء عند البصريين مقصور وعند الكوفيين يقصر ويمد، والدّهان:

الأمطار اللينة، واحدها دهن، وأرض دهناء مثل الحسن والحسناء، والدهان: الأديم الأحمر، قالوا في قوله تعالى: فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ 55: 37، قالوا: شبهها في اختلاف ألوانها من الفزع الأكبر بالدهن واختلاف ألوانه أو الأديم واختلاف ألوانه، ولعل الدهناء سميت بذلك لاختلاف النبت والأزهار في عراضها، قال الساجي: ومن خط ابن الفرات نقلت: بنى عتبة بن غزوان دار الإمارة بالبصرة في موضع حوض حماد وهو حوض سليمان بن عليّ في رحبة دعلج، وهي رحبة بني هاشم، وكانت الدار تسمى الدهناء، قال أبو منصور: الدهناء من ديار بني تميم معروفة، تقصر وتمدّ، والنسبة إليها دهناويّ، قال ذو الرّمة:

أقول لدهناويّة...

قال: وهي سبعة أجبل من الرمل في عرضها، بين كل جبلين شقيقة، وطولها من حزن ينسوعة إلى رمل يبرين، وهي من أكثر بلاد الله كلأ مع قلة أعذاء ومياه، وإذا أخصبت الدهناء ربّعت العرب جمعا لسعتها وكثرة شجرها، وهي عذاة مكرمة نزهة، من سكنها لا يعرف الحمّى لطيب تربتها وهوائها، آخر كلامه، وقال غيره: إذا كان المصعد بالينسوعة، وهو منزل بطريق مكة من البصرة، صبحت به أقماع الدهناء من جانبه الأيسر واتصلت أقماعها بعجمتها وتفرعت جبالها من عجمتها، وقد جعلوا رمل الدهناء بمنزلة بعير وجعلوا أقماعها التي شخصت من عجمتها نحو الينسوعة ثفنا كثفن البعير، وهي خمسة أجبل على عدد الثفنات: فالجبل الأعلى منها الأدنى إلى حفر بني سعد واسمه خشاخش لكثرة ما يسمع من خشخشة أموالهم فيه، والجبل الثاني يسمى حماطان، والثالث جبل الرمث، والرابع معبّر، والخامس جبل حزوى، وقال الهيثم بن عديّ:

الوادي الذي في بلاد بني تميم ببادية البصرة في أرض بني سعد يسمونه الدّهناء، يمر في بلاد بني أسد فيسمونه منعج ثم في غطفان فيسمونه الرّمّة، وهو بطن الرمة الذي في طريق فيد إلى المدينة، وهو وادي الحاجر، ثم يمر في بلاد طيّء فيسمونه حائل، ثم يمر في بلاد كلب فيسمونه قراقر، ثم يمر في بلاد تغلب فيسمونه سوى، وإذا انتهى إليهم عطف إلى بلاد كلب فيصير إلى النيل، ولا يمر في بلاد قوم إلا انصبّ إليهم كلها، هذا قول الهيثم، وقد أكثر الشعراء من ذكر الدهناء وعلى الخصوص ذو الرمة فقال أعرابي حبس بحجر اليمامة:

«هل الباب مفروج، فأنظر نظرة *** بعين قلت حجرا فطال احتمامها؟»

«ألا حبذا الدّهنا وطيب ترابها، *** وأرض خلاء يصدح الليل هامها»

«ونصّ المهارى بالعشيات والضحى *** إلى بقر، وحي العيون كلامها»

وقالت العيوف بنت مسعود أخي ذي الرّمّة:

«خليليّ قوما فارفعا الطرف وانظرا *** لصاحب شوق منظرا متراخيا»

«عسى أن نرى، والله ما شاء فاعل، *** بأكثبة الدّهنا من الحيّ باديا»

«وإن حال عرض الرمل والبعد دونهم، *** فقد يطلب الإنسان ما ليس رائيا»

«يرى الله أن القلب أضحى ضميره *** لما قابل الروحاء والعرج قاليا»

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


145-معجم البلدان (رانوناء)

رانُوناءُ:

بعد الألف نون، وواو ساكنة، ونون أخرى، وهو ممدود، قال ابن إسحاق في السيرة: لما قدم النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، المدينة أقام بقباء أربعة أيّام وأسس مسجده على التقوى وخرج منها يوم الجمعة فأدركت رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، الجمعة في بني سالم بن عوف وصلّاها في المسجد الذي في بطن الوادي وادي رانوناء، فكانت أوّل جمعة صلّاها بالمدينة، وهذا لم أجده في غير كتاب ابن إسحاق الذي لخّصه ابن هشام، وكلّ يقول صلّى بهم في بطن الوادي في بني سالم، ورانوناء بوزن عاشوراء وخابوراء.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


146-معجم البلدان (الراية)

الرّايَةُ:

هي محلة عظيمة بفسطاط مصر، وهي المحلة التي في وسطها جامع عمرو بن العاص، إنّما سميت الراية لأن عمرو بن العاص لما نزل محاصرا للحصن، كما ذكرنا في الفسطاط، وكان في صحبته قبائل كثيرة من العرب واختطت كل قبيلة خطة بأرض مصر هي معروفة بهم إلى الآن وكان في صحبته قوم من قريش والأنصار وخزاعة وغفار وأسلم ومزينة وأشجع وجهينة وثقيف ودوس وعبس وجرش والليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة والعنقاء فلم يكن لكل بطن من هؤلاء من العدد ما ينفرد بدعوة في الديوان، وكره كل بطن أن يدعى باسم قبيل غيره وتشاحّوا في ذلك، فقال عمرو بن العاص: فأنا أجعل راية ولا أنسبها إلى واحد منكم ويكون موقفكم تحتها وتسمون منزلكم بها، فأجابوه إلى ذلك، فكانت الراية لهم كالنسب الجامع وكان ديوانهم عليها واختطوا كلهم في موضع واحد، فسميت هذه الخطة بهم لذلك.

وراية القلزم: كورة من كور مصر القبليّة. وراية:

موضع في بلاد هذيل، قال قيس بن العيزارة الهذلي وهو في أسرهم:

«وقال نساء: لو قتلت نساءنا، *** سواكنّ ذو البثّ الذي أنا فاجع»

«رجال ونسوان بأكناف راية *** إلى حثن، تلك العيون الدوامع»

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


147-معجم البلدان (الزيتونة)

الزَّيتونةُ:

موضع كان ينزله هشام بن عبد الملك في بادية الشام فلمّا عمّر الرصافة انتقل إليها فكانت منزله إلى أن مات. وعين الزيتونة: بإفريقية على مرحلة من سفاقس، وفيها يقول الأعقب في الملاحم:

«عند حلول الجيش بالزيتونه *** ثمّ تكون الوقعة الملعونه»

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


148-معجم البلدان (سورية)

سُورِيَةُ:

موضع بالشام بين خناصرة وسلمية، وفي كتاب الفتوح: لما نصر الله المسلمين بفحل وقدم المنهزمون من الروم على هرقل بأنطاكية دعا رجالا منهم فأدخلهم عليه فقال: حدّثوني ويحكم عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بشرا مثلكم؟ قالوا: بلى، قال: فأنتم أكثر أو هم؟ قالوا: بل نحن، قال: فما بالكم؟ فسكتوا، فقام شيخ منهم وقال: أنا أخبرك أنّهم إذا حملوا صبروا ولم يكذّبوا، وإذا حملنا لم نصبر ونكذب، وهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويرون أن قتلاهم في الجنة وأحياءهم فائزون بالغنيمة والأجر، فقال: يا شيخ لقد صدقتني ولأخرجنّ من هذه القرية وما لي في صحبتكم من حاجة ولا في قتال القوم من أرب، فقال ذلك الشيخ: أنشدك الله أن تدع سورية جنة الدنيا للعرب وتخرج منها ولم تعذر، فقال: قد قاتلتم بأجنادين ودمشق وفحل وحمص كلّ ذلك تفرون ولا تصلحون، فقال الشيخ: أتفرّ وحولك من الروم عدد النجوم وأيّ عذر لك عند النصرانية؟

فثناه ذلك إلى المقام وأرسل إلى رومية وقسطنطينية وأرمينية وجميع الجيوش فقال لهم: يا معشر الروم إن العرب إذا ظهروا على سورية لم يرضوا حتى يتملكوا أقصى بلادكم ويسبوا أولادكم ونساءكم ويتخذوا أبناء الملوك عبيدا، فامنعوا حريمكم وسلطانكم، وأرسلهم نحو المسلمين، فكانت وقعة اليرموك، وأقام قيصر بأنطاكية، فلمّا هزم الروم وجاءه الخبر وبلغه أن المسلمين قد بلغوا قنسرين فخرج يريد القسطنطينية وصعد على نشز وأشرف على أرض الروم وقال: سلام عليك يا سورية سلام مودع لا يرجو أن يرجع إليك أبدا! ثمّ قال: ويحك أرضا! ما أنفعك أرضا! ما أنفعك لعدوك لكثرة ما فيك من العشب والخصب! ثمّ إنّه مضى إلى القسطنطينية.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


149-معجم البلدان (صنعاء)

صَنْعَاءُ:

منسوبة إلى جودة الصنعة في ذاتها، كقولهم:

امرأة حسناء وعجزاء وشهلاء، والنسبة إليها صنعانيّ

على غير قياس كالنسبة إلى بهراء بهراني، وصنعاء:

موضعان أحدهما باليمن، وهي العظمى، وأخرى قرية بالغوطة من دمشق، ونذكر أوّلا اليمانية ثمّ نذكر الدمشقية ونفرق بين من نسب إلى هذه وهذه، فأما اليمانية فقال أبو القاسم الزجاجي: كان اسم صنعاء في القديم أزال، قال ذلك الكلبي والشّرقي وعبد المنعم، فلمّا وافتها الحبشة قالوا نعم نعم فسمّي الجبل نعم أي انظر، فلمّا رأوا مدينتها وجدوها مبنية بالحجارة حصينة فقالوا هذه صنعة ومعناه حصينة فسمّيت صنعاء بذلك، وبين صنعاء وعدن ثمانية وستون ميلا، وصنعاء قصبة اليمن وأحسن بلادها، تشبّه بدمشق لكثرة فواكهها وتدفق مياهها فيما قيل، وقيل:

سميت بصنعاء بن أزال بن يقطن بن عابر بن شالخ وهو الذي بناها، وطول صنعاء ثلاث وستون درجة وثلاثون دقيقة، وعرضها أربع عشرة درجة وثلاثون دقيقة، وهي في الإقليم الأوّل، وقيل: كانت تسمى أزال، قال ابن الكلبي: إنما سميت صنعاء لأن وهرز لما دخلها قال: صنعة صنعة، بريد أن الحبشة أحكمت صنعتها، قال: وإنّما سميت باسم الذي بناها وهو صنعاء بن أزال بن عبير بن عابر بن شالخ فكانت تعرف بأزال وتارة بصنعاء، وقال مجاهد في قوله تعالى:

غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ 34: 12، كان سليمان، عليه السلام، يستعمل الشياطين بإصطخر ويعرضهم بالريّ ويعطيهم أجورهم بصنعاء فشكوا أمرهم إلى إبليس فقال: عظم البلاء وقد حضر الفرج، وقال عمارة بن أبي الحسن:

ليس بجميع اليمن أكبر ولا أكثر مرافق وأهلا من صنعاء، وهو بلد في خط الاستواء، وهي من الاعتدال من الهواء بحيث لا يتحوّل الإنسان من مكان طول عمره صيفا ولا شتاء، وتتقارب بها ساعات الشتاء والصيف، وبها بناء عظيم قد خرب، وهو تلّ عظيم عال وقد عرف بغمدان، وقال معمر: وطئت أرضين كثيرة شاما وخراسان وعراقا فما رأيت مدينة أطيب من صنعاء، وقال محمد بن أحمد الهمداني الفقيه:

صنعاء طيبة الهواء كثيرة الماء يقال إن أهلها يشتون مرتين ويصيّفون مرّتين وكذلك أهل فران ومأرب وعدن والشحر، وإذا صارت الشمس إلى أوّل الحمل صار الحر عندهم مفرطا، فإذا صارت إلى أوّل السرطان وزالت عن سمت رؤوسهم أربعة وعشرين شتوا ثمّ تعود الشمس إليهم إذا صارت إلى أول الميزان فيصيّفون ثانية ويشتدّ الحرّ عليهم، فإذا زالت إلى الجنوب وصارت إلى الجدي شتوا ثانية غير أن شتاءهم قريب من صيفهم، قال: وكان في ظفار وهي صنعاء، كذا قال، وظفار مشهورة على ساحل البحر، ولعلّ هذه كانت تسمّى بذلك، قريب من القصور قصر زيدان، وهو قصر المملكة، وقصر شوحطان، وقصر كوكبان، وهو جبل قريب منها، وقد ذكر في موضعه، قال:

وكان لمدينة صنعاء تسعة أبواب، وكان لا يدخلها غريب إلّا بإذن، كانوا يجدون في كتبهم أنها تخرب من رجل يدخل من باب لها يسمّى باب حقل فكانت عليه أجراس متى حركت سمع صوت الأجراس من الأماكن البعيدة، وكانت مرتبة صاحب الملك على ميل من بابها، وكان من دونه إلى الباب حاجبان بين كلّ واحد إلى صاحبه رمية سهم، وكانت له سلسلة من ذهب من عند الحاجب إلى باب المدينة ممدودة وفيها أجراس متى قدم على الملك شريف أو رسول أو بريد من بعض العمال حركت السلسلة فيعلم الملك بذلك فيرى رأيه، وقال أبو محمد اليزيدي يمدح صنعاء ويفضلها على غيرها وكان قد دخلها:

«قلت ونفسي جمّ تأوّهها *** تصبو إلى أهلها وأندهها: »

«سقيا لصنعاء! لا أرى بلدا *** أوطنه الموطنون يشبهها»

«خفضا ولينا، ولا كبهجتها، *** أرغد أرض عيشا وأرفهها»

«يعرف صنعاء من أقام بها *** أعذى بلاد عذا وأنزهها»

«ما أنس لا أنس ما فجعت به *** يوما بنا إبلها تجهجهها»

«فصاح بالبين ساجع لغب، *** وجاهرت بالشّمات أمّهها»

«ضعضع ركني فراق ناعمة *** في ناعمات تصان أوجهها»

«كأنّها فضّة مموّهة *** أحسن تمويهها مموّهها»

«نفس بين الأحباب والهة، *** وشحط ألّافها يولّهها»

«نفى عزائي وهاج لي حزني، *** والنّفس طوع الهوى ينفهها»

«كم دون صنعاء سملقا جددا *** ينبو بمن رامها معوّهها»

«أرض بها العين والظّباء معا *** فوضى مطافيلها وولّهها»

«كيف بها، كيف وهي نازحة، *** مشبّه تيهها ومهمهها»

وبنى أبرهة بصنعاء القليس وأخذ الناس بالحجّ إليه وبناه بناء عجيبا، وقد ذكر في موضعه، وقدم يزيد ابن عمرو بن الصّعق صنعاء ورأى أهلها وما فيها من العجائب، فلمّا انصرف قيل له: كيف رأيت صنعاء؟ فقال:

«ومن ير صنعاء الجنود وأهلها، *** وجنود حمير قاطنين وحميرا»

«يعلم بأنّ العيش قسّم بينهم، *** حلبوا الصفاء فأنهلوا ما كدّرا»

«ويرى مقامات عليها بهجة *** يأرجن هنديّا ومسكا أذفرا»

ويروى عن مكحول أنّه قال: أربع من مدن الجنة:

مكّة والمدينة وإيلياء ودمشق، وأربع من مدن النار:

أنطاكية والطوانة وقسطنطينية وصنعاء، وقال أبو عبيد: وكان زياد بن منقذ العدوي نزل صنعاء فاستوبأها وكان منزله بنجد في وادي أشيّ فقال يتشوق بلاده:

«لا حبّذا أنت يا صنعاء من بلد، *** ولا شعوب هوى مني ولا نقم»

«وحبّذا حين تمسي الرّيح باردة *** وادي أشيّ وفتيان به هضم»

«مخدّمون كرام في مجالسهم، *** وفي الرّحال إذا صحبتهم خدم»

«الواسعون إذا ما جرّ غيرهم *** على العشيرة، والكافون ما جرموا»

«ليست عليهم إذا يغدون أردية *** إلّا جياد قسيّ النّبع واللّجم»

«لم ألق بعدهم قوما فأخبرهم *** إلّا يزيدهم حبّا إليّ هم»

«يا ليت شعري عن جنبي مكشّحة *** وحيث تبنى من الحنّاءة الأطم»

«عن الأشاءة هل زالت مخارمها، *** وهل تغيّر من آرامها إرم؟»

«يا ليت شعري! متى أغدو تعارضني *** جرداء سابحة أم سابح قدم»

«نحو الأميلح أو سمنان مبتكرا *** في فتية فيهم المرّار والحكم»

«من غير عدم ولكن من تبذّلهم *** للصّيد حين يصيح الصائد اللّحم»

«فيفزعون إلى جرد مسحّجة *** أفنى دوابرهنّ الركض والأكم»

«يرضخن صمّ الحصى في كل هاجرة *** كما تطايح عن مرضاخه العجم»

وهي أكثر من هذا وإنّما ذكرت ما ذكرت منها وإن لم يكن فيها من ذكر صنعاء إلّا البيت الأوّل استحسانا لها وإيفاء بما شرط من ذكر ما يتضمن الحنين إلى الوطن ولكونها اشتملت على ذكر عدة أماكن، وقد نسب إلى ذلك خلق وأجلّهم قدرا في العلم عبد الرزاق ابن همّام بن نافع أبو بكر الحميري مولاهم الصنعاني أحد الثقات المشهورين، قال أبو القاسم: قدم الشام تاجرا وسمع بها الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وسعيد بن بشير ومحمد بن راشد المكحولي وإسماعيل ابن عباس وثور بن يزيد الكلاعي وحدّث عنهم وعن معمّر بن راشد وابن جريج وعبد الله وعبيد الله ابني عمرو بن مالك بن أنس وداود بن قيس الفرّاء وأبي بكر بن عبد الله بن أبي سبرة وعبد الله بن زياد بن سمعان وإبراهيم بن محمد بن أبي يحيى وأبي معشر نجيح السندي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ومعتمر بن سليمان التيمي وأبي بكر بن عباس وسفيان الثوري وهشيم بن بشير الواسطي وسفيان بن عيينة وعبد العزيز ابن أبي زياد وغير هؤلاء، روى عنه سفيان بن عيينة، وهو من شيوخه، ومعتمر بن سليمان، وهو من شيوخه، وأبو أسامة حمّاد بن أسامة وأحمد بن حنبل ويحيى ابن معين وإسحاق بن راهويه ومحمد بن يحيى الذّهلي وعليّ بن المديني وأحمد بن منصور الرّمادي والشاذكوني وجماعة وافرة وآخرهم إسحاق بن إبراهيم الدبري، وكان مولده سنة 126، ولزم معمّرا ثمانين سنة، قال أحمد بن حنبل: أتينا عبد الرزاق قبل المائتين وهو صحيح البصر، ومن سمع منه بعد ما ذهب بصره فهو ضعيف الإسناد، وكان أحمد يقول: إذا اختلف أصحاب معمر فالحديث لعبد الرزاق، وقال أبو خيثمة زهير بن حرب: لما خرجت أنا وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين نريد عبد الرزاق فلمّا وصلنا مكّة كتب أهل الحديث إلى صنعاء إلى عبد الرزاق:

قد أتاك حفّاظ الحديث فانظر كيف تكون أحمد ابن حنبل ويحيى بن معين وأبو خيثمة زهير بن حرب، فلمّا قدمنا صنعاء أغلق الباب عبد الرزاق ولم يفتحه لأحد إلّا لأحمد بن حنبل لديانته، فدخل فحدّثه بخمسة وعشرين حديثا ويحيى بن معين بين الناس جالس، فلمّا خرج قال يحيى لأحمد: أرني ما حلّ لك، فنظر فيها فخطّأ الشيخ في ثمانية عشر حديثا، فلمّا سمع أحمد الخطأ رجع فأراه مواضع الخطإ فأخرج عبد الرزاق الأصول فوجده كما قال يحيى ففتح الباب وقال: ادخلوا، وأخذ مفتاح بيته وسلّمه إلى أحمد ابن حنبل وقال: هذا البيت ما دخلته يد غيري منذ ثمانين سنة أسلّمه إليكم بأمانة الله على أنّكم لا تقولون ما لم أقل ولا تدخلون عليّ حديثا من حديث غيري، ثمّ أومأ إلى أحمد وقال: أنت أمين الدين عليك وعليهم، قال: فأقاموا عنده حولا، أنبأنا الحسن بن رستوا أنبأنا أبو عبد الرحمن النسائي قال: عبد الرزاق بن همّام فيه نظر لمن كتب عنه بآخره، وفي رواية أخرى: عبد الرزاق بن همام لمن

يكتب عنه من كتاب ففيه نظر ومن كتب عنه بآخره حاد عنه بأحاديث مناكير، حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألت أبي قلت عبد الرزاق كان يتشيّع ويفرط في التشيّع؟ فقال: أما أنا فلم أسمع منه في هذا شيئا ولكن كان رجلا تعجبه الأخبار، أنبأنا مخلد الشعيري قال: ك

فقمت فلم أعد إليه ولا أروي عنه حديثا أبدا، أنبأنا أحمد بن زهير بن حرب قال: سمعت يحيى بن معين يقول وبلغه أن أحمد بن حنبل يتكلم في عبد الله ابن موسى بسبب التشيّع قال يحيى: والله الذي لا إله إلّا هو عالم الغيب والشهادة لقد سمعت من عبد الرزاق في هذا المعنى أكثر ممّا يقول عبد الله بن موسى لكن خاف أحمد أن تذهب رحلته، أنبأنا سلمة بن شبيب قال: سمعت عبد الرزاق يقول والله ما انشرح صدري قطّ أن أفضّل عليّا على أبي بكر وعمر، رحم الله أبا بكر ورحم عمر ورحم عثمان ورحم عليّا ومن لم يحبّهم فما هو بمسلم فإن أوثق عملي حبّي إياهم، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. ومات عبد الرزّاق في شوّال سنة 211، ومولده سنة 126.

وصنعاء أيضا: قرية على باب دمشق دون المزّة مقابل مسجد خاتون خربت، وهي اليوم مزرعة وبساتين، قال أبو الفضل: صنعاء قرية على باب دمشق خربت الآن، وقد نسب إليها جماعة من المحدثين، قال عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتابه: أبو الأشعث شراحيل بن أدّة، ويقال شراحيل بن شراحيل الصنعاني، من صنعاء دمشق، ومنهم أبو المقدام الصنعاني، روى عن مجاهد وعنبسة، روى عنه الأوزاعي والهيثم بن حميد وإسماعيل بن عياش، قال الأوزاعي: ما أصيب أهل دمشق بأعظم من مصيبتهم بالمطعم بن المقدام الصنعاني وبأبي مزيد الغنوي وبأبي إبراهيم بن حدّاد العذري، فأضافه إلى أهل دمشق والحاكم أبو عبد الله نسبه إلى اليمن، وقال أبو بكر أحمد بن عليّ الحافظ الأصبهاني في كتابه الذي جمع فيه رجال مسلم بن الحجاج: حفص بن ميسرة الصنعاني صنعاء الشام كنيته أبو عمر، زيد بن أسلم وموسى بن عقبة وغيرهما، روى عنه عبد الله بن وهب وسويد بن سعيد وغيرهما، وأبو بكر الأصبهاني أخذ هذه النسبة من كتاب الكنى لأبي أحمد النيسابوري فإنّه قال: أبو عمر حفص بن ميسرة الصنعاني صنعاء الشام، وقال أبو نصر الكلاباذي في جمعه رجال كتاب أبي عبد الله البخاري:

هو من صنعاء اليمن نزل الشام، والقول عندنا قول الكلاباذي بدليل ما أخبرنا أبو عمر عبد الوهاب بن الإمام أبي عبد الله بن مندة، أنبأنا أبو تمام إجازة قال: أخبرنا أبو سعيد بن يونس بن عبد الأعلى في كتاب المصريين قال: حفص بن ميسرة الصنعاني يكنى أبا عمر من أهل صنعاء، قدم مصر وكتب عنه، وحدث عنه عبد الله بن وهب وزمعة بن عرابي ابن معاوية بن أبي عرابي وحسّان بن غالب، وخرج عن مصر إلى الشام فكانت وفاته سنة 181، وقال أبو سعيد: حدثني أبي عن جدي أنبأنا ابن وهب حدثني حفص بن ميسرة قال: رأيت على باب وهب بن منبّه مكتوبا: ما شاء الله لا قوّة إلّا بالله، فدلّ جميع ذلك على أنّه كان من صنعاء اليمن، قدم مصر ثمّ خرج منها إلى الشام، وحنش بن عبد الله الصنعاني صنعاء الشام، سمع فضالة بن عبيد، روى عنه خالد ابن معدان والحلّاج أبو كبير وعامر بن يحيى المعافري، قال ابن الفرضي: عداده في المصريين وهو تابعي كبير ثقة ودخل الأندلس، قال: وهو حنش بن عبد الله بن عمرو بن حنظلة بن فهد بن قينان بن ثعلبة ابن عبد الله بن ثامر السّبائي وهو الصنعاني يكنى أبا رشيد، كان مع عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، بالكوفة وقدم مصر بعد قتل عليّ وغزا المغرب مع رويفع بن ثابت والأندلس مع موسى بن نصير، وكان فيمن ثار مع ابن الزبير على عبد الملك بن مروان فأتي به عبد الملك في وثاق فعفا عنه، حدث عنه الحارث بن يزيد وسلامان بن عامر بن يحيى وسيّار ابن عبد الرحمن وأبو مرزوق مولى نجيب وغيرهم، ومات بإفريقية في الإسلام وولده بمصر، وقيل إنّه مات بمصر، وقيل بسرقسطة وقبره بها معروف، كل ذلك عن ابن الفرضي، ويزيد بن ربيعة أبو كامل الرحبي الصنعاني صنعاء دمشق، هكذا ذكره البخاري في التاريخ العساكري، روى عن أبي أسماء الرحبي وأبي الأشعث الصنعاني وربيعة بن يزيد وذكر جماعة أخرى، قال أبو حاتم: يزيد بن ربيعة الصنعاني ليس بثقة دمشقيّ، قال جماعة من أصحاب الحديث:

ليس يعرف بدمشق كذّاب إلّا رجلين: الحكم بن عبد الله الأبلّي ويزيد بن ربيعة، قال أبو موسى الأصبهاني محمد بن عمر: كان الحاكم أبو عبد الله لا يعرف إلّا صنعاء اليمن فإنّه ذكر فيمن يجمع حديثهم من أهل البلدان، قال: ومن أهل اليمن أبو الأشعث الصنعاني والمطعم بن المقدام وراشد بن داود وحنش ابن عبد الله الصنعانيون وهؤلاء كلّهم شاميون لا يمانيون، قال أبو عبد الله الحميدي: حنش بن علي الصنعاني الذي يروي عن فضالة بن عبيد من صنعاء الشام قرية بباب دمشق، وأبو الأشعث الصنعاني منها أيضا، قاله عليّ بن المديني، قال الحميدي: ولهذا ظنّ قوم أن حنش بن عبد الله من الشام لا من صنعاء اليمن ولا أعرف حنش بن عليّ والذي يروي عن فضالة هو ابن عبد الله فهذا بيان حسن لطالب هذا العلم، وقال ابن عساكر: يحيى بن مبارك الصنعاني من صنعاء دمشق، روى عن كثير بن سليم وشريك بن عبد الله النخعي وأبي داود شبل بن عبّاد ومالك بن أنس، روى عنه إسماعيل بن عياض الأرسوفي وخطّاب بن عبد السلام الأرسوفي وعبد العظيم بن إبراهيم وإسماعيل بن موسى بن ذرّ العسقلاني نزيل أرسوف، ويزيد بن السمط أبو السمط الصنعاني الفقيه، روى عن الأوزاعي والنّعمان بن المنذر ومطعم بن المقدام وذكر جماعة وذكر بإسناده أن عالمي أهل الجند بعد الأوزاعي يزيد بن السمط ويزيد ابن يوسف، وكان ثقة زاهدا ورعا من صنعاء دمشق، ويزيد بن مرثد أبو عثمان الهمداني المدعي حي من همدان من أهل صنعاء دمشق، روى عن عبد الرحمن ابن عوف ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء وأبي ذرّ وأبي رهم اجزاب بن أسيد السمعي وأبي صالح الخولاني، روى عنه عبد الرحمن بن يزيد بن عامر وخالد بن معدان والوضين بن عطاء، وراشد بن داود أبو المهلّب، ويقال أبو داود الرسمي الصنعاني صنعاء دمشق، روى عن أبي الأشعث شراحيل بن أدّة وأبي

عثمان شراحيل بن مرثد الصنعانيين وأبي أسماء الرحبي ونافع ويعلى بن أبي شدّاد بن أوس وغيرهم، روى عنه يحيى بن حمزة وعبد الله بن محمد الصنعاني وعبد الرحمن بن سليمان بن أبي الجون وغيرهم، وسئل عنه يحيى بن معين فقال: ليس به بأس ثقة، قال يحيى:

وصنعاء هذه قرية من قرى الشام ليست صنعاء اليمن.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


150-معجم البلدان (الطائف)

الطائفُ:

بعد الألف همزة في صورة الياء ثم فاء:

وهو في الإقليم الثاني، وعرضها إحدى وعشرون درجة، وبالطائف عقبة وهي مسيرة يوم للطالع من مكة ونصف يوم للهابط إلى مكة، عمّرها حسين ابن سلامة وسدّها ابنه، وهو عبد نوبيّ وزر لأبي

الحسين بن زياد صاحب اليمن في حدود سنة 430 فعمّر هذه العقبة عمارة يمشي في عرضها ثلاثة جمال بأحمالها، وقال أبو منصور: الطائف العاسّ بالليل، وأما الطائف التي بالغور فسميت طائفا بحائطها المبنيّ حولها المحدق بها، والطائف والطيف في قوله تعالى:

إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ من الشَّيْطانِ 7: 201، ما كان كالخيال والشيء يلمّ بك، وقوله تعالى: فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ من رَبِّكَ 68: 19، لا يكون الطائف إلا ليلا ولا يكون نهارا، وقيل في قول أبي طالب بن عبد المطلب:

نحن بنينا طائفا حصينا قالوا: يعني الطائف التي بالغور من القرى. والطائف:

هو وادي وجّ وهو بلاد ثقيف، بينها وبين مكة اثنا عشر فرسخا، قرأت في كتاب ابن الكلبي بخط أحمد بن عبيد الله محجج النحوي: قال هشام عن أبي مسكين عن رجل من ثقيف كان عالما بالطائف قال:

كان رجل من الصّدف يقال له الدّمون بن عبد الملك قتل ابن عمّ له يقال له عمرو بحضرموت ثم أقبل هاربا، وقال:

«وحربة ناهك أوجرت عمرا، *** فما لي بعده أبدا قرار»

ثم أتى مسعود بن معتب الثقفي ومعه مال كثير وكان تاجرا فقال: أحالفكم لتزوّجوني وأزوّجكم وأبني لكم طوفا عليكم مثل الحائط لا يصل إليكم أحد من العرب، قالوا: فابن، فبنى بذلك المال طوفا عليهم فسمّيت الطائف وتزوّج إليهم فزوّجوه ابنة، قال هشام: وبعض ولد الدمون بالكوفة ولهم بها خطّة مع ثقيف، وكان قبيصة من الدمون هذا على شرطة المغيرة بن شعبة إذ كان على الكوفة، وكانت الطائف تسمّى قبل ذلك وجّا بوجّ بن عبد الحيّ من العماليق وهو أخو أجإ الذي سمّي به جبل طيّء، وهو من الأمم الخالية، قال عرّام:

والطائف ذات مزارع ونخل وأعناب وموز وسائر الفواكه وبها مياه جارية وأودية تنصبّ منها إلى تبالة، وجلّ أهل الطائف ثقيف وحمير وقوم من قريش، وهي على ظهر جبل غزوان، وبغزوان قبائل هذيل، وقال ابن عباس: سمّيت الطائف لأن إبراهيم، عليه السلام، لما أسكن ذرّيته مكة وسأل الله أن يرزق أهلها من الثمرات أمر الله عز وجل قطعة من الأرض أن تسير بشجرها حتى تستقرّ بمكان الطائف فأقبلت وطافت بالبيت ثم أقرّها الله بمكان الطائف فسمّيت الطائف لطوافها بالبيت، وهي مع هذا الاسم الفخم بليدة صغيرة على طرف واد وهي محلّتان: إحداهما على هذا الجانب يقال لها طائف ثقيف والأخرى على هذا الجانب يقال لها الوهط والوادي بين ذلك تجري فيه مياه المدابغ التي يدبغ فيها الأديم يصرع الطيور رائحتها إذا مرّت بها، وبيوتها لاطئة حرجة، وفي أكنافها كروم على جوانب ذلك الجبل فيها من العنب العذب ما لا يوجد مثله في بلد من البلدان، وأما زبيبها فيضرب بحسنه المثل، وهي طيبة الهواء شمالية ربما جمد فيها الماء في الشتاء، وفواكه أهل مكة منها، والجبل الذي هي عليه يقال له غزوان، وروى أبو صالح: ذكرت ثقيف عند ابن عباس فقال، إن ثقيفا والنّخع كانا ابني خالة فخرجا منتجعين ومعهما أعنز لهما وجدي فعرض لهما مصدق لبعض ملوك اليمن فأراد أخذ شاة منهما فقالا: خذ ما شئت إلا هذه الشاة الحلوب فإنّا من لبنها نعيش وولدها، فقال: لا آخذ سواها، فرفقا به فلم يفعل فنظر أحدهما إلى صاحبه وهمّا بقتله ثم إن أحدهما انتزع له سهما فلق به قلبه فخرّ ميتا، فلما نظرا إلى ذلك قال

أحدهما لصاحبه: إنه لن تحملني وإياك الأرض أبدا فاما أن تغرّب وأنا أشرّق وإما أن أغرّب وتشرق أنت، فقال ثقيف: فاني أغرب، وقال النخع:

فأنا أشرق، وكان اسم ثقيف قسيّا واسم النخع جسرا، فمضى النخع حتى نزل ببيشة من أرض اليمن ومضى ثقيف حتى أتى وادي القرى فنزل على عجوز يهودية لا ولد لها فكان يعمل نهارا ويأوي إليها ليلا فاتخذته ولدا لها واتخذها امّا له، فلما حضرها الموت قالت له: يا هذا إنه لا أحد لي غيرك وقد أردت أن أكرمك لإلطافك إيّاي، انظر إذا أنا متّ وواريتني فخذ هذه الدنانير فانتفع بها وخذ هذه القضبان فإذا نزلت واديا تقدر فيه على الماء فاغرسها فاني أرجو أن تنال من ذلك فلاحا بيّنا. ففعل ما أمرته به، فلما ماتت دفنها وأخذ الدنانير والقضبان ومضى سائرا حتى إذا كان قريبا من وجّ، وهي الطائف، إذا هو بأمة حبشية ترعى مائة شاة فطمع فيها وهمّ بقتلها وأخذ الغنم فعرفت ما أراد فقالت: إنك أسررت في طمعا لتقتلني وتأخذ الغنم ولئن فعلت ذلك لتذهبنّ نفسك ولا تحصل من الغنم شيئا لأن مولاي سيد هذا الوادي وهو عامر بن الظرب العدواني، وإني لأظنّك خائفا طريدا، قال: نعم، فقالت: فاني أدلك على خير مما أردت، فقال: وما هو؟ قالت:

إن مولاي يقبل إذا طفلت الشمس للغروب فيصعد هذا الجبل ثم يشرف على الوادي فإذا لم ير فيه أحدا وضع قوسه وجفيره وثيابه ثم انحدر رسوله فنادى: من أراد اللحم والدّرمك، وهو دقيق الحوارى، والتمر واللبن فليأت دار عامر بن الظرب، فيأتيه قومه فاسبقه أنت إلى الصخرة وخذ قوسه ونباله وثيابه فإذا رجع ومن أنت فقل رجل غريب فأنزلني وخائف فأجرني وعزب فزوّجني، ففعل ثقيف ما قالت له الأمة وفعل عامر صاحب الوادي فعله، فلما أن أخذ قوسه ونشّابه وصعد عامر قال له: من أنت؟

فأخبره وقال: أنا قسيّ بن منبّه، فقال هات ما معك فقد أجبتك إلى ما سألت، وانصرف وهو معه إلى وجّ وأرسل إلى قومه كما كان يفعل فلما أكلوا قال لهم عامر: ألست سيدكم؟ قالوا: بلى، قال:

وابن سيّدكم؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تجيرون من أجرت وتزوّجون من زوّجت؟ قالوا: بلى، قال: هذا قسيّ بن منبّه بن بكر بن هوازن وقد زوّجته ابنتي فلانة وأمّنته وأنزلته منزلي، فزوّجه ابنة له يقال لها زينب، فقال قومه: قد رضينا بما رضيت، فولدت له عوفا وجشما ثم ماتت فزوّجه أختها فولدت له سلامة ودارسا فانتسبا في اليمن، فدارس في الأزد والآخر في بعض قبائل اليمن، وغرس قسيّ تلك القضبان بوادي وجّ فنبتت فلما أثمرت قالوا: قاتله الله كيف ثقف عامرا حتى بلغ منه ما بلغ وكيف ثقف هذه العيدان حتى جاء منها ما جاء، فسمي ثقيفا من يومئذ، فلم يزل ثقيف مع عدوان حتى كثر ولده وربلوا وقوي جأشهم، وجرت بينهم وبين عدوان هنات وقعت في خلالها حرب انتصرت فيها ثقيف فأخرجوا عدوان عن أرض الطائف واستخلصوها لأنفسهم ثم صارت ثقيف أعز الناس بلدا وأمنعه جانبا وأفضله مسكنا وأخصبه جنابا مع توسطهم الحجاز وإحاطة قبائل مضر واليمن وقضاعة بهم من كل وجه فحمت دارها وكاوحت العرب عنها واستخلصتها وغرست فيها كرومها وحفرت بها أطواءها وكظائمها، وهي من أزد السراة وكنانة وعذرة وقريش ونصر بن معاوية وهوازن جمعا والأوس والخزرج ومزينة وجهينة وغير ذلك من القبائل، ذلك كله يجري والطائف تسمّى وجّا إلى

أن كان ما كان مما تقدّم ذكره من تحويط الحضرمي عليها وتسميتها حينئذ الطائف، وقد ذكر بعض النّساب في تسميتها بالطائف أمرا آخر وهو أنه قال:

لما هلك عامر بن الظرب ورثته ابنتاه زينب وعمرة وكان قسيّ بن منبّه خطب إليه فزوّجه ابنته زينب فولدت له جشما وعوفا ثم ماتت بعد موت عامر فتزوّج أختها وكانت قبله عند صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن فولدت له عامر بن صعصعة، فكانت الطائف بين ولد ثقيف وولد عامر بن صعصعة، فلما كثر الحيّان قالت ثقيف لبني عامر: إنكم اخترتم العمد على المدن والوبر على الشجر فلستم تعرفون ما نعرف ولا تلطفون ما نلطف ونحن ندعوكم إلى حظ كبير لكم ما في أيديكم من الماشية والإبل والذي في أيدينا من هذه الحدائق فلكم نصف ثمره فتكونوا بادين حاضرين يأتيكم ريف القرى ولا تتكلفوا مؤونة وتقيموا في أموالكم وماشيتكم في بدوكم ولا تتعرضوا للوباء وتشتغلوا عن المرعى، ففعلوا ذلك فكانوا يأتونهم كل عام فيأخذون نصف غلّاتهم، وقد قيل: إن الذي وافقوهم عليه كان الربيع، فلما اشتدّت شوكة ثقيف وكثرت عمارة وجّ رمتهم العرب بالحسد وطمع فيهم من حولهم وغزوهم فاستغاثوا ببني عامر فلم يغيثوهم فأجمعوا على بناء حائط يكون حصنا لهم فكانت النساء تلبّن اللبن والرجال يبنون الحائط حتى فرغوا منه وسموه الطائف لإطافته بهم، وجعلوا لحائطهم بابين: أحدهما لبني يسار والآخر لبني عوف، وسموا باب بني يسار صعبا وباب بني عوف ساحرا، ثم جاءهم بنو عامر ليأخذوا ما تعوّدوه فمنعوهم عنه وجرت بينهم حرب انتصرت فيها ثقيف وتفرّدت بملك الطائف فضربتهم العرب مثلا، فقال أبو طالب ابن عبد المطلب:

«منعنا أرضنا من كل حيّ، *** كما امتنعت بطائفها ثقيف»

«أتاهم معشر كي يسلبوهم، *** فحالت دون ذلكم السيوف»

وقال بعض الأنصار:

«فكونوا دون بيضكم كقوم *** حموا أعنابهم من كل عادي»

وذكر المدائني أن سليمان بن عبد الملك لما حجّ مرّ بالطائف فرأى بيادر الزبيب فقال: ما هذه الحرار؟

فقالوا: ليست حرارا ولكنها بيادر الزبيب، فقال:

لله درّ قسيّ بأيّ أرض وضع سهامه وأيّ أرض مهّد عشّ فروخه! وقال مرداس بن عمرو الثقفي:

«فانّ الله لم يؤثر علينا *** غداة يجزّئ الأرض اقتساما»

«عرفنا سهمنا في الكف يهوي *** كذا نوح، وقسّمنا السهاما»

«فلما أن أبان لنا اصطفينا *** سنام الأرض، إنّ لها سناما»

«فأنشأنا خضارم متجرات *** يكون نتاجها عنبا تؤاما»

«ضفادعها فرائح كلّ يوم *** على جوب يراكضن الحماما»

«وأسفلها منازل كلّ حيّ، *** وأعلاها ترى أبدا حراما»

ثم حسدهم طوائف العرب وقصدوهم فصمدوا لهم وجدّوا في حربهم، فلما لم يظفروا منهم بطائل ولا طمعوا منهم بغرّة تركوهم على حالهم أغبط العرب عيشا إلى أن جاء الإسلام فغزاهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فافتتحها في سنة تسع من الهجرة

صلحا وكتب لهم كتابا، نزل عليها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في شوال سنة ثمان عند منصرفه من حنين وتحصنوا منه واحتاطوا لأنفسهم غاية الاحتياط فلم يكن إليهم سبيل، ونزل إلى رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، رقيق من رقيق أهل الطائف، منهم: أبو بكرة نفيع بن م

«تشتو بمكة نعمة *** ومصيفها بالطائف»

وذكر الأزرقي أبو الوليد عن الكلبي باسناده قال:

لما دعا إبراهيم، عليه السلام: فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات، فاستجاب الله له فجعله مثابة ورزق أهله من الثمرات فنقل إليهم الطائف، وكانت قرية بالشام وكانت ملجأ للخائف إذا جاءها أمن، وقد افتخرت ثقيف بذلك بما يطول ذكره ويسئم قارئه، وسأقف عند قول غيلان بن سلمة في ذلك حيث قال:

«حللنا الحدّ من تلعات قيس *** بحيث يحلّ ذو الحسب الجسيم»

«وقد علمت قبائل جذم قيس، *** وليس ذوو الجهالة كالعليم، »

«بأنّا نصبح الأعداء قدما *** سجال الموت بالكأس الوخيم»

«وأنّا نبتني شرف المعالي، *** وننعش عثرة المولى العديم»

«وأنّا لم نزل لجأ وكهفا، *** كذاك الكهل منّا والفطيم »

وسنذكر في وجّ من القول والشعر ما نوفّق له ويحسن ذكره إن شاء الله تعالى.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


151-معجم البلدان (طليطلة)

طُلَيْطُلَةُ:

هكذا ضبطه الحميدي بضم الطاءين وفتح اللامين، وأكثر ما سمعناه من المغاربة بضم الأولى وفتح الثانية: مدينة كبيرة ذات خصائص محمودة بالأندلس يتّصل عملها بعمل وادي الحجارة من أعمال الأندلس وهي غربي ثغر الروم وبين الجوف والشرق

من قرطبة وكانت قاعدة ملوك القرطبيين وموضع قرارهم، وهي على شاطئ نهر تاجه وعليه القنطرة التي يعجز الواصف عن وصفها، وقد ذكر قوم أنها مدينة دقيانوس صاحب أهل الكهف، قالوا:

وبقرب منها موضع يقال له جنان الورد فيه أجساد أصحاب الكهف لا تبلى إلى الآن، والله أعلم، وقد قيل فيهم غير ذلك كما ذكر في الرقيم، وهي من أجلّ المدن قدرا وأعظمها خطرا، ومن خاصيتها أن الغلال تبقى في مطاميرها سبعين سنة لا تتغير، وزعفرانها هو الغاية في الجودة، وبينها وبين قرطبة سبعة أيام للفارس، وما زالت في أيدي المسلمين منذ أيام الفتوح إلى أن ملكها الأفرنج في سنة 477، وكان الذي سلّمها إليهم يحيى بن يحيى بن ذي النون الملقب بالقادر بالله، وهي الآن في أيديهم، وكانت طليطلة تسمى مدينة الأملاك، ملكها اثنان وسبعون لسانا فيما قيل ودخلها سليمان بن داود وعيسى بن مريم وذو القرنين والخضر، عليهم السلام، فيما زعم أهلها، والله أعلم، قال ابن دريد: طليطلاء مدينة وما أظنها إلا هذه، ينسب إليها جماعة من العلماء، منهم:

أبو عبد الله الطليطلي، روى كتاب مسلم بن الحجاج، توفي يوم الأربعاء الثاني عشر من صفر سنة 458، وعيسى بن دينار بن واقد الغافقي الطليطلي، سكن قرطبة ورحل وسمع من أبي القاسم وصحبه وعوّل عليه وانصرف إلى الأندلس فكانت الفيتا تدور عليه لا يتقدمه في وقته أحد، قال ابن الفرضي قال يحيى ابن مالك بن عائذ: سمعت محمد بن عبد الملك بن أيمن يقول: كان عيسى بن دينار عالما متفننا وهو الذي علّم المسائل أهل عصرنا، وكان أفقه من يحيى ابن يحيى على جلالة قدر يحيى، وكان محمد بن عمر ابن لبابة يقول: فقيه الأندلس عيسى بن دينار وعالمها عبد الملك بن حبيب وغالقها يحيى بن يحيى، وتوفي سنة 212 بطليطلة وقبره بها معروف، ومحمد بن عبد الله بن عيشون الطليطلي أبو عبد الله، كان فقيها وله مختصر في الفقه وكتاب في توجيه حديث الموطّإ، وسمع كثيرا من الحديث ورواه، وله إلى المشرق رحلة سمع فيها من جماعة، وتوفي بطليطلة لتسع ليال خلون من صفر سنة 341.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


152-معجم البلدان (عتيب)

عَتِيبٌ:

بفتح أوله، وكسر ثانيه، وياء مثناة من تحت ساكنة، وباء موحدة، جفرة عتيب: بالبصرة إحدى محالها، تنسب إلى عتيب بن عمرو من بني قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة وعدادهم في بني شيبان، وقال الأزهري: قال ابن الكلبي عتيب بن أسلم بن مالك وكان قد أغار عليهم بعض الملوك فقتل رجالهم جميعهم فكانت النساء تقول إذا كبر صبياننا أخذوا بثأر رجالنا، فلم يكن ذلك، فقال عدي بن زيد:

«نرجّيها وقد وقعت بقرّ *** كما ترجو أصاغرها عتيب»

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


153-معجم البلدان (العزى)

العُزَّى:

بضم أوله في قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى 53: 19، اللّات: صنم كان لثقيف، والعزّى:

سمرة كانت لغطفان يعبدونها وكانوا بنوا عليها بيتا وأقاموا لها سدنة، فبعث النبي، صلّى الله عليه وسلّم، خالد بن الوليد إليها فهدم البيت وأحرق السّمرة، والعزّى تأنيث الأعزّ مثل الكبرى تأنيث الأكبر، والأعزّ بمعنى العزيز والعزى بمعنى العزيزة، وقال ابن حبيب: العزى شجرة كانت بنخلة عندها وثن تعبده غطفان وسدنتها من بني صرمة بن مرّة، قال أبو منذر بعد ذكر مناة واللّات: ثم اتخذوا العزّى وهي أحدث من اللات ومناة، وذلك أني سمعت العرب سمّت بها عبد العزّى فوجدت تميم بن مرّ سمّى ابنه زيد مناة بن تميم بن مرّ بن أدّ بن طابخة وعبد مناة بن أدّ، وباسم اللّات سمّى ثعلبة بن عكابة ابنه تيم اللات وتيم اللات بن رفيدة بن ثور وزيد اللات بن رفيدة بن ثور بن وبرة بن مرّ بن أدّ ابن طابخة وتيم اللات بن النمر بن قاسط وعبد العزّى ابن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، فهي أحدث من الأولين، وعبد العزّى بن كعب من أقدم ما سمّت به العرب، وكان الذي اتخذ العزّى ظالم بن أسعد، وكانت بواد من نخلة الشامية يقال له حراض بازاء الغمير عن يمين المصعد إلى العراق من مكة، وذلك فوق ذات عرق إلى البستان بتسعة أميال، فبني عليها بسّا، يريد بيتا، وكانوا يسمعون فيه الصوت، وكانت العرب وقريش تسمّي بها عبد العزّى، وكانت أعظم الأصنام عند قريش، وكانوا يزورونها ويهدون لها ويتقرّبون عندها بالذبائح، قال أبو المنذر: وقد بلغنا أن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، ذكرها يوما فقال: لقد اهتديت للعزّى شاة عفراء وأنا على دين قومي، وكانت قريش تطوف بالكعبة وتقول: واللّات والعزّى ومناة الثالثة الأخرى فانهنّ الغرانيق العلى وإن شفاعتهنّ لترتجى، وكانوا يقولون بنات الله، عز وجل، وهنّ يشفعن إليه، فلما بعث رسوله، صلّى الله عليه وسلّم، أنزل عليه:

أفرأيتم اللّات والعزّى ومناة الثالثة الأخرى، ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى، إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، وكانت قريش قد حمت لها شعبا من وادي حراض يقال له سقام يضاهئون به حرم الكعبة، وقد ذكر سقام في موضعه من هذا الكتاب، وللعزّى يقول درهم بن زيد الأوسي:

«إني وربّ العزّى السعيدة والل *** هـ الذي دون بيته سرف»

وكان لها منحر ينحرون فيه هداياهم يقال له الغبغب، وقد ذكر في موضعه أيضا، وكانت قريش تخصها بالإعظام فلذلك يقول زيد بن عمرو بن نفيل، وكان قد تألّه في الجاهلية وترك عبادتها وعبادة غيرها من الأصنام:

«تركت اللّات والعزّى جميعا، *** كذلك يفعل الجلد الصّبور»

«فلا العزّى أدين ولا ابنتيها، *** ولا صنمي بني عمرو أزور»

«ولا هبلا أزور وكان ربّا *** لنا في الدهر، إذ حلمي صغير»

وكانت سدنة العزّى بني شيبان بن جابر بن مرّة بن عبس بن رفاعة بن الحارث بن عتبة بن سليم بن منصور، وكانوا حلفاء بني الحارث بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وكان آخر من سدنها منهم دبيّة بن حرمي السلمي، وله يقول أبو خراش الهذلي وكان قدم عليه فحذاه نعلين ج

«حذاني بعد ما خذمت نعالي *** دبيّة، إنه نعم الخليل»

«مقابلتين من صلوي مشبّ *** من الثيران وصلهما جميل»

«فنعم معرّس الأضياف تدحى *** رحالهم شآمية بليل»

«يقابل جوعهم بمكلّلات *** من القربى يرعّبها الحميل»

فلم تزل العزى كذلك حتى بعث الله نبيّه، صلّى الله عليه وسلّم، فعابها وغيرها من الأصنام ونهاهم عن عبادتها ونزل القرآن فيها فاشتدّ ذلك على قريش ومرض أبو أحيحة سعيد بن العاصي بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف مرضه الذي مات فيه، فدخل عليه أبو لهب يعوده فوجده يبكي فقال له: ما يبكيك يا أبا أحيحة، أمن الموت تبكي ولا بدّ منه؟ فقال:

لا ولكني أخاف ألا تعبدوا العزّى بعدي، فقال له أبو لهب: ما عبدت في حياتك لأجلك ولا تترك عبادتها بعدك لموتك، فقال أبو أحيحة: الآن علمت أن لي خليفة، وأعجبه شدّة نصبه في عبادتها، قال أبو المنذر: وكان سعيد بن العاصي أبو أحيحة يعتمّ بمكة فإذا اعتم لم يعتمّ أحد بلون عمامته، قال أبو المنذر: حدّثني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس، رضي الله عنه، قال: كانت العزى شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة، فلما افتتح النبي، صلّى الله عليه وسلّم، مكة بعث خالد بن الوليد فقال له: ائت بطن نخلة فإنك تجد ثلاث سمرات فاعضد الأولى، فأتاها فعضدها، فلما عاد إليه قال: هل رأيت شيئا؟

قال: لا، قال: فاعضد الثانية، فأتاها فعضدها، فلما عاد إليه قال: هل رأيت شيئا؟ قال: لا، قال:

فاعضد الثالثة، فأتاها فإذا هو بخنّاسة نافشة شعرها واضعة يديها على عاتقها تصرف بأنيابها وخلفها دبيّة ابن حرمي السلمي ثم الشيباني وكان سادنها، فلما نظر إلى خالد قال:

«أعزّيّ شدّي شدّة لا تكذّبي، *** على خالد ألقي الخمار وشمّري»

«فإنك إلا تقتلي اليوم خالدا، *** فبوئي بذلّ عاجل وتنصّري»

فقال خالد:

«يا عزّ كفرانك لا سبحانك، *** إني رأيت الله قد أهانك»

ثم ضربها ففلّق رأسها فإذا هي حممة ثم عضد الشجر وقتل دبيّة السادن، وفيه يقول أبو خراش الهذلي يرثيه:

«ما لدبيّة منذ اليوم لم أره *** وسط الشروب ولم يلمم ولم يطف»

«لو كان حيّا لغاداهم بمترعة *** من الرواويق من شيزى بني الهطف»

«ضخم الرّماد عظيم القدر جفنته *** حين الشتاء كحوض المنهل اللّقف»

قال هشام: يطف من الطّوفان أو من طاف يطيف، والهطف: بطن من عمرو بن أسد، واللقف: الحوض المنكسر الذي يغلب أصله الماء فيتثلم، يقال: قد

لقف الحوض، ثم أتى النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره قال: تلك العزى ولا عزّى بعدها للعرب، أما إنها لن تعبد بعد اليوم! قال: ولم تكن قريش بمكة ومن أقام بها من العرب يعظمون شيئا من الأصنام إعظامهم العزّى ثم اللات ثم مناة، فأما العزى فكانت قريش تخصها دون غيرها بالهدية والزيارة وذلك فيما أظن لقربها منهم، وكانت ثقيف تخص اللات كخاصة قريش العزّى، وكانت الأوس والخزرج تخص مناة كخاصة هؤلاء الآخرين، وكلهم كان معظما لها ولم يكونوا يرون في الخمسة الأصنام التي دفعها عمرو بن لحيّ، وهي التي ذكرها الله تعالى في القرآن المجيد حيث قال: وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا 71: 23، كرأيهم في هذه ولا قريبا من ذلك فظننت أن ذلك كان لبعدها منهم، وكانت قريش تعظمها وكانت غنيّ وباهلة يعبدونها معهم، فبعث النبي، صلّى الله عليه وسلّم، خالد ابن الوليد فقطع الشجر وهدم البيت وكسر الوثن.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


154-معجم البلدان (عير)

عَيْرٌ:

بفتح أوله، وسكون ثانيه، بلفظ حمار الوحش، والعير: المثال الذي في الحدقة، والعير: الوتد، والعير: الطبل، والعير: العظم الناتئ في وسط الكتف، والعير عير النصل: وهو الناتئ في وسطه، وعير القدم: الناتئ في ظهرها، وعير الورقة: الناتئ

في وسطها، قالوا في قول الحارث بن حلّزة:

«زعموا أن كلّ من ضرب العي *** ر موال لنا وأنّا الولاء»

قال أبو عمرو: ذهب من يحسن تفسيره، ثم قال:

العير هو الناتئ في بؤبؤ العين، ومنه: أتيتك قبل عير وما جرى أي قبل أن ينتبه نائم، وقيل: العير جبل بالحجاز، قال عرّام: عير جبلان أحمران من عن يمينك وأنت ببطن العقيق تريد مكة ومن عن يسارك شوران وهو جبل مطلّ على السدّ، وذكر لي بعض أهل الحجاز أن بالمدينة جبلين يقال لأحدهما عير الوارد والآخر عير الصادر، وهما متقاربان، وهذا موافق لقول عرّام، وقال نصر: عير جبل مقابل الثنية المعروفة بشعب الخوز، وفي الحديث: أن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، حرّم ما بين عير إلى ثور، وهما جبلان: عير بالمدينة وثور بمكة، وهذه رواية لا معنى لها لأن ذلك بإجماعهم غير محرّم، وقد ذكر في ثور، وقال بعض أهل الحديث: إنما الرواية الصحيحة أنه، عليه الصلاة والسلام، حرّم ما بين عير إلى أحد، وهما بالمدينة، والعير: واد في قوله:

وواد كجوف العير قفر هبطته قوله كجوف العير أي كوادي العير، وكلّ واد عند العرب جوف، وقال صاحب العين: العير اسم واد كان مخصبا فغيره الدهر فأقفر فكانت العرب تضرب به المثل في البلد الوحش، وقال ابن الكلبي: إنه كان لرجل من عاد يقال له حمار بن مويلع، كان مؤمنا بالله ثم ارتد فأرسل الله على واديه نارا فاسودّ وصار لا ينبت شيئا فضرب به المثل، وإنما قيل جوف في المثل لأن الحمار ليس في جوفه شيء ينتفع به، وقال السكري في قول أبي صخر الهذلي:

«فجلّل ذا عير ووالى رهامه، *** وعن مخمص الحجّاج ليس بناكب»

قال: هو جبل، ومخمص: اسم طريق فيه، ويروى ذا عير.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


155-معجم البلدان (عين الوردة)

عَيْنُ الوَرْدَة:

بلفظ واحدة الورد الذي يشمّ، ويقال لكلّ نور ورد، والورد: من ألوان الدوابّ لون يضرب إلى الصفرة الحسنة، والأنثى وردة، وقد قلنا في قوله تعالى: فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ 55: 37، وهو رأس عين المدينة المشهورة بالجزيرة كانت فيها وقعة للعرب ويوم من أيامهم وكان أحد رؤسائهم يومئذ رفاعة بن شدّاد بن عبد الله بن قيس ابن جعال بن بدّا بن فتيان، جمع فتى، وبعض يصحف بالقاف والباء الموحدة.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


156-معجم البلدان (عينين)

عَيْنَيْن:

وهو تثنية عين، ولكن بعضهم يتلفظ به على هذه الصيغة في جميع أحواله، فان الأزهري ذكره فقال مبتدئا: عينين جبل بأحد، وقد بسطت القول فيه في عينان، قال أبو عبيدة في قول البعيث:

«ونحن منعنا يوم عينين منقرا *** ولم ننب في يومي جدود عن الأسل»

قال: أما يوم عينين بالبحرين فكانت بنو منقر بن عبيد الله بن الحارث، والحارث هو مقاعس بن عمرو ابن كعب بن سعد، خرجوا ممتارين فعرضت لهم بنو عبد القيس فاستعانوا بني مجاشع فحموهم حتى استنقذوهم، وقال الحفصي: عينين بالبحرين، وأنشد:

«يتبعن عودا قاليا لعينين *** راج وقد ملّ ثواء البحرين»

«ينسلّ منهنّ، إذا تدانين، *** مثل انسلال الدمع من جفن العين»

وإليها يضاف خليد عينين الشاعر، وقال الراعي:

«يحثّ بهنّ الحاديان كأنما *** يحثّان جبّارا بعينين مكرعا»

قال ثعلب: عينين مكان بشقّ البحرين به نخل، والمكرع: الذي يشرع في الماء.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


157-معجم البلدان (غمدان)

غُمْدَانُ:

بضم أوله، وسكون ثانيه، وآخره نون، وقد صحّفه الليث فقال عمدان بالعين المهملة، كما صحّف بعاث بالعين المهملة فجعله بالغين المعجمة، يجوز أن يكون جمع غمد مثل ذئب وذؤبان، وغمد الشيء: غشاؤه ولبسته، فكأن هذا القصر غشاء لما دونه من المقاصير والأبنية، قال هشام بن محمد بن السائب الكلبي: إن ليشرح بن يحصب أراد اتخاذ قصر بين صنعاء وطيوة فأحضر البنائين والمقدّرين لذلك فمدوا الخيط ليقدروه فانقضّت على الخيط حدأة فذهبت به فاتبعوه حتى ألقته في موضع غمدان فقال ليشرح:

ابنوا القصر في هذا المكان، فبني هناك على أربعة أوجه: وجه أبيض ووجه أحمر ووجه أصفر ووجه أخضر، وبنى في داخله قصرا على سبعة سقوف بين كل سقفين منها أربعون ذراعا، وكان ظله إذا طلعت الشمس يرى على عينان وبينهما ثلاثة أميال، وجعل في أعلاه مجلسا بناه بالرخام الملون، وجعل سقفه رخامة واحدة، وصيّر على كل ركن من أركانه تمثال أسد من شبه كأعظم ما يكون من الأسد فكانت الريح إذا هبّت إلى ناحية تمثال من تلك التماثيل دخلت من دبره وخرجت من فيه فيسمع له زئير كزئير السباع، وكان يأمر بالمصابيح فتسرج في ذلك البيت ليلا فكان سائر القصر يلمع من ظاهره كما يلمع البرق، فإذا أشرف عليه الإنسان من بعض الطرق ظنه برقا أو مطرا ولا يعلم أن ذلك ضوء المصابيح، وفيه يقول ذو جدن الهمذاني:

«دعيني لا أبا لك لن تطيقي، *** لحاك الله قد أنزفت ريقي»

«وهذا المال ينفذ كلّ يوم *** لنزل الضيف أو صلة الحقوق»

«وغمدان الذي حدّثت عنه *** بناه مشيّدا في رأس نيق»

«بمرمرة وأعلاه رخام *** تحام لا يعيّب بالشقوق»

«مصابيح السليط يلحن فيه *** إذا يمسي كتوماض البروق»

«فأضحى بعد جدّته رمادا، *** وغيّر حسنه لهب الحريق»

وقال قوم: إن الذي بنى غمدان سليمان بن داود، عليه السلام، أمر الشياطين فبنوا لبلقيس ثلاثة قصور بصنعاء: غمدان وسلحين وبينون، وفيها يقول الشاعر:

«هل بعد غمدان أو سلحين من أثر، *** أو بعد بينون يبني الناس أبياتا؟»

وفي غمدان وملوك اليمن يقول دعبل بن عليّ الخزاعي:

«منازل الحيّ من غمدان فالنّضد *** فمأرب فظفار الملك فالجند»

«أرض التبابع والأقيال من يمن، *** أهل الجياد وأهل البيض والزّرد»

«ما دخلوا قرية إلّا وقد كتبوا *** بها كتابا فلم يدرس ولم يبد»

«بالقيروان وباب الصين قد زبروا، *** وباب مرو وباب الهند والصّغد»

وقال أبو الصّلت يمدح ذا يزن:

«أرسلت أسدا على بقع الكلاب فقد *** أضحى شريدهم في الأرض فلّالا»

«فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا *** في رأس غمدان دارا منك محلالا»

تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

وهدم غمدان في أيام عثمان بن عفان، رضي الله عنه، فقيل له: إن كهّان اليمن يزعمون أن الذي يهدمه يقتل، فأمر باعادة بنائه، فقيل له: لو أنفقت عليه خرج الأرض ما أعدته كما كان، فتركه، وقيل:

وجد على خشبة لما خرّب وهدم مكتوب برصاص مصبوب: اسلم غمدان هادمك مقتول، فهدمه عثمان، رضي الله عنه، فقتل.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


158-معجم البلدان (فدك)

فَدَكُ:

بالتحريك، وآخره كاف، قال ابن دريد:

فدّكت القطن تفديكا إذا نفشته، وفدك: قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان، وقيل ثلاثة، أفاءها الله على رسوله، صلّى الله عليه وسلّم، في سنة سبع صلحا، وذلك أن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، لما نزل خيبر وفتح حصونها ولم يبق إلا ثلث واشتد بهم الحصار راسلوا رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، يسألونه أن ينزلهم على الجلاء وفعل، وبلغ ذلك أهل فدك فأرسلوا إلى رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، أن يصالحهم على النصف من ثمارهم وأموالهم فأجابهم إلى ذلك، فهي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكانت خالصة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفيها عين فوّارة ونخيل كثيرة، وهي التي قالت فاطمة، رضي الله عنها: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نحلنيها، فقال أبو بكر، رضي الله عنه:

أريد لذلك شهودا، ولها قصة، ثم أدى اجتهاد عمر ابن الخطاب بعده لما ولي الخلافة وفتحت الفتوح واتسعت على المسلمين أن يردّها إلى ورثة رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، فكان علي بن أبي طالب، رضي

الله عنه، والعباس بن عبد المطلب يتنازعان فيها، فكان عليّ يقول: إن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، جعلها في حياته لفاطمة، وكان العباس يأبى ذلك ويقول:

هي ملك لرسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، وأنا وارثه، فكانا يتخاصمان إلى عمر، رضي الله عنه، فيأبى أن يحكم بينهما ويقول: أنتما أعرف بشأنكما أما أنا فقد سلمتها إليكما فاقتصدا فيما يؤتى واحد منكما من قلة معرفة، فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب إلى عامله بالمدينة يأمره بردّ فدك إلى ولد فاطمة، رضي الله عنها، فكانت في أيديهم في أيام عمر بن عبد العزيز، فلما ولي يزيد بن عبد الملك قبضها فلم تزل في أيدي بني أمية حتى ولي أبو العباس السفّاح الخلافة فدفعها إلى الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب فكان هو القيّم عليها يفرّقها في بني علي بن أبي طالب، فلما ولي المنصور وخرج عليه بنو الحسن قبضها عنهم، فلما ولي المهدي بن المنصور الخلافة أعادها عليهم ثم قبضها موسى الهادي ومن بعده إلى أيام المأمون فجاءه رسول بني علي بن أبي طالب فطالب بها فأمر أن يسجّل لهم بها، فكتب السجلّ وقرئ على المأمون، فقام دعبل الشاعر وأنشد:

«أصبح وجه الزمان قد ضحكا *** بردّ مأمون هاشم فدكا»

وفي فدك اختلاف كثير في أمره بعد النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وآل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومن رواة خبرها من رواه بحسب الأهواء وشدة المراء، وأصح ما ورد عندي في ذلك ما ذكره أحمد بن جابر البلاذري في كتاب الفتوح له فانه قال: بعث رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، بعد منصرفه من خيبر إلى أرض فدك محيّصة بن مسعود ورئيس فدك يومئذ يوشع بن نون اليهودي يدعوهم إلى الإسلام فوجدهم مرعوبين خائفين لما بلغهم من أخذ خيبر فصالحوه على نصف الأرض بتربتها فقبل ذلك منهم وأمضاه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصار خالصا له، صلّى الله عليه وسلّم، لأنه لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فكان يصرف ما يأتيه منها في أبناء السبيل، ولم يزل أهلها بها حتى أجلى عمر، رضي الله عنه، اليهود فوجّه إليهم من قوّم نصف التربة بقيمة عدل فدفعها إلى اليهود وأجلاهم إلى الشام، وكان لما قبض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قالت فاطمة، رضي الله عنها، لأبي بكر، رضي الله عنه: إن رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، جعل لي فدك فأعطني إياها، وشهد لها علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فسألها شاهدا آخر فشهدت لها أمّ أيمن مولاة النبي، صلّى الله عليه وسلّم، فقال:

قد علمت يا بنت رسول الله أنه لا يجوز إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، فانصرفت، وروي عن أمّ هانئ أن فاطمة أتت أبا بكر، رضي الله عنه، فقالت له: من يرثك؟ فقال: ولدي وأهلي، فقالت له: فما بالك ورثت رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، دوننا؟ فقال: يا بنت رسول الله ما ورثت ذهبا ولا فضة ولا كذا ولا كذا ولا كذا، فقالت: سهمنا بخيبر وصدقتنا بفدك! فقال: يا بنت رسول الله سمعت رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، يقول: إنما هي طعمة أطعمنيها الله تعالى حياتي فإذا متّ فهي بين المسلمين. وعن عروة بن الزبير: أن أزواج رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، أرسلن عثمان بن عفان إلى أبي بكر يسألن مواريثهن من سهم رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة، إنما هذا المال لآل

محمد لنائبتهم وضيفهم فإذا متّ فهو إلى والي الأمر من بعدي، فأمسكن، فلما ولي عمر بن عبد العزيز خطب الناس وقصّ قصة فدك وخلوصها لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأنه كان ينفق منها ويضع فضلها في أبناء السبيل، وذكر أن فاطمة سألته أن يهبها لها فأبى وقال: ما كا

«لئن حللت بجوّ في بني أسد *** في دين عمرو وحالت بيننا فدك»

«ليأتينّك منّي منطق قذع *** باق كما دنّس القبطيّة الودك»

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


159-معجم البلدان (الفيوم)

الفَيُّوم:

بالفتح، وتشديد ثانيه ثم واو ساكنة، وميم:

وهي في موضعين أحدهما بمصر والآخر موضع قريب من هيت بالعراق، فأما التي بمصر فهي ولاية غربية بينها وبين الفسطاط أربعة أيام بينهما مفازة لا ماء بها ولا مرعى مسيرة يومين وهي في منخفض الأرض كالدارة، ويقال إن النيل أعلى منها وإن يوسف الصديق، عليه السّلام، لما ولي مصر ورأى ما لقي أهلها في تلك السنين المقحطة اقتضت فكرته أن حفر نهرا عظيما حتى ساقه إلى الفيّوم وهو دون محمل المراكب وبتشطّط علوّه وانخفاض أرض الفيوم على جميع مزارعها تشرب قراه مع نقصان النيل ثم يتفرّق في نواحي الفيوم على جميع مزارعها لكل موضع شرب معلوم، وذكر عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم قال: حدثنا هشام بن إسحاق أن يوسف لما ولي مصر عظمت منزلته من فرعون وجازت سنّه مائة سنة، قالت وزراء الملك: إن يوسف ذهب علمه وتغيّر عقله ونفدت حكمته فعنّفهم فرعون وردّ عليهم مقالتهم وأساء اللفظ لهم فكفّوا ثم عاودوه بذلك القول بعد سنين فقال لهم:

هلمّوا ما شئتم من شيء نختبره به، وكانت الفيوم يومئذ تدعى الجوبة وإنما كانت لمصالة ماء الصعيد وفضوله، فاجتمع رأيهم على أن تكون هي المحنة التي يمتحن بها يوسف، فقالوا لفرعون: سل يوسف أن يصرف ماء الجوبة فيزداد بلد إلى بلدك وخراج إلى خراجك، فدعا يوسف وقال: قد تعلم مكان ابنتي فلانة مني فقد رأيت إذا بلغت أن أطلب لها بلدا وإني لم أصب لها إلا الجوبة وذاك أنه بليد قريب

لا يؤتى من ناحية من نواحي مصر إلا من مفازة أو صحراء إلى الآن، قال: والفيوم وسط مصر كمثل مصر في وسط البلاد لأن مصر لا تؤتى من ناحية من نواح إلا من صحراء أو مفازة وقد أقطعتها إياها فلا تتركنّ وجها ولا نظرا إلا وبلغته، فقال يوسف: نعم أيها الملك متى أردت ذ

إنّ أحبّه إليّ أعجله، فأوحي إلى يوسف أن تحفر ثلاثة خلج: خليجا من أعلى الصعيد من موضع كذا إلى موضع كذا، وخليجا شرقيّا من موضع كذا إلى موضع كذا، وخليجا غربيّا من موضع كذا إلى موضع كذا، فوضع يوسف العمّال فحفر خليج المنهي من أعلى أشمون إلى اللّاهون وأمر الناس أن يحفروا اللّاهون وحفر خليج الفيوم وهو الخليج الشرقي وحفر خليجا بقرية يقال لها تيهمت من قرى الفيوم وهو الخليج الغربي فصبّ في صحراء تيهمت إلى الغرب فلم يبق في الجوبة ماء ثم أدخلها الفعلة تقطع ما كان بها من القصب والطرفاء فأخرجه منها، وكان ذلك في ابتداء جري النيل، وقد صارت الجوبة أرضا نقيّة برّيّة فارتفع ماء النيل فدخل في رأس المنهي فجرى فيه حتى انتهى إلى اللّاهون فقطعه إلى الفيوم فدخل خليجها فسقاها فصارت لجة من النيل، وخرج الملك ووزراؤه إليه وكان هذا في سبعين يوما فلما نظر الملك إليه قال لوزرائه: هذا عمل ألف يوم، فسميت بذلك الفيوم، وأقامت تزرع كما تزرع غوائط مصر ثم بلغ يوسف قول الوزراء له فقال للملك:

إن عندي من الحكمة غير ما رأيت، فقال الملك:

وما هو؟ قال: أنزل الفيوم من كل كورة من كور مصر أهل بيت وآمر كلّ أهل بيت أن يبنوا لأنفسهم قرية فكانت قرى الفيوم على عدد كور مصر فإذا فرغوا من بناء قراهم صيرت لكل قرية من الماء بقدر ما أصيّر لها من الأرض لا يكون في ذلك زيادة عن أرضها ولا نقصان، وأصير لكل قرية شرب زمان لا ينالهم الماء إلا فيه، وأصير مطأطئا للمرتفع ومرتفعا للمطأطئ بأوقات من الساعات في الليل والنهار، وأصير لها قبضين فلا يقصر بأحد دون قدره ولا يزداد فوق قدره، فقال فرعون: هذا من ملكوت السماء؟ قال: نعم، فأمر يوسف ببنيان القرى وحدّ لها حدودا وكانت أول قرية عمّرت بالفيوم يقال لها شنانة، وفي نسخة شانة، كانت تنزلها ابنة فرعون، ثم أمر بحفر الخليج وبنيان القناطر، فلما فرغ من ذلك استقبلوا وزن الأرض ووزن الماء ومن يومئذ وجدت الهندسة ولم يكن الناس يعرفونها قبل ذلك، وقال ابن زولاق: مدينة الفيوم بناها يوسف الصديق بوحي فدبّرها وجعلها ثلاثمائة وستين قرية يجيء منها في كل يوم ألف دينار، وفيها أنهار عدد أنهار البصرة، وكان فرعون يوسف وهو الرّيّان بن الوليد أحضر يوسف من السجن واستخلصه لنفسه وحمله وخلع عليه وضرب له بالطبل وأشاع أن يوسف خليفة الملك فقام له في الأمر كله ثم سعي به بعد أربعين سنة فقالوا قد خرف فامتحنه بإنشاء الفيوم فأنشأها بالوحي فعظم شأن يوسف وكان يجلس على سرير فقال له الملك: اجعل سريرك دون سريري بأربع أصابع، ففعل، وحدّثني أحمد بن محمد بن طرخان الكاتب قال: عقدت الفيوم لكافور في سنة 355 ستمائة ألف وعشرين ألف دينار، وفي الفيوم من المباح الذي يعيش به أهل التعفف ما لا يضبط ولا يحاط بعلمه، وقيل: إن عرضه سبعون ذراعا، وقيل:

بني بالفيوم ثلاثمائة وستون قرية وقدّر أن كل قرية تكفي أهل مصر يوما واحدا، وعمل على أن مصر إذا لم يزد النيل اكتفى أهلها بما يحصل من زراعتها،

وأتقن ذلك وأحكمه وجرى الأمر عليه مدة أيامه وزرعت بعده النخيل والبساتين فصارت أكثر ولايتها كالحديقة، ثم بعد تطاول السنين وإخلاق الجدّة تغيرت تلك القوانين باختلاف الولاة المتملكين فهي اليوم على العشر مما كانت عليه فيما بلغني، وقيل: إن مروان ابن محمد بن م

«عجبت لعطّار أتانا يسومنا *** بدسكرة الفيوم دهن البنفسج»

«فويحك يا عطار! هلّا أتيتنا *** بضغث خزامى أو بخوصة عرفج»

كأنّ هذا الأعرابي أنكر على العطار أن جاءه بما هو موجود بالفيوم وسأله أن يأتيه بما ألفه في صحاريه.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


160-معجم البلدان (قس الناطف)

قُسُّ النَّاطِفِ:

بضم أوله، والناطف بالنون، وآخره فاء: وهو موضع قريب من الكوفة على شاطئ الفرات الشرقي، والمروحة: موضع بشاطئ الفرات الغربي كانت به وقعة بين الفرس والمسلمين في سنة 13 في خلافة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وأمير المسلمين أبو عبيد بن مسعود بن عمرو، قالت الفرس لأبي عبيد: إمّا أن تعبر إلينا أو نعبر إليك، فقال: بل نحن نعبر إليكم، فنهاه أهل الرأي عن العبور فلجّ وعبر فكانت الكسرة على المسلمين، وفي هذه الوقعة قتل أبو عبيد بن مسعود بن عمرو الثّقفي وكان النصر في هذه الوقعة للفرس وانهزم المسلمون وأصيب فيها أربعة آلاف من المسلمين ما بين غريق وقتيل، ويعرف هذا اليوم أيضا بيوم الجسر.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


161-معجم البلدان (قضة)

قِضَةُ:

بكسر أوله وتخفيف ثانيه، قال صاحب كتاب العين: القضة أرض منخفضة ترابها رمل وإلى جانبها متن مرتفع، وجمعها القضون، قال أبو منصور: القضة، بتخفيف الضاد، ليست من حدّ المضاعف لأن لامه معتلة فهو من باب قضى، وهي شجرة من شجر الحمض معروفة، وقال ابن السكيت:

القضة نبت يجمع القضين والقضون، وإذا جمعته على مثال البرى قلت القضى، وأما الأرض التي ترابها رمل فهي القضّة، بالتشديد، وجمعها قضّات، قال أبو المنذر: قضة، بكسر القاف وبعدها ضاد معجمة مخففة، عقبة بعارض اليمامة، وعارض: جبل، وهي من قبل مهب الشمال، بينها وبين اليمامة وصمر ماء لبني أسد ثلاثة أيام، وأنشد غيره:

«قد وقعت في قضّة من شرج، *** ثم استقلّت مثل شدق العلج»

يصف دلوا، والعلج: الحمار الوحشي، يعني الدّلو أنها وقعت في ماء قليل على حصى في بئر فلم تمتلئ والماء يتحرك فيها كأنها شدق حمار، وقال الجميح واسمه منقذ بن الطماح بن قيس بن طريف:

«وإن يكن حادث يخشى فذو علق *** تظلّ تزجره من خشية الذيب»

«وإن يكن أهلها حلّوا على قضة، *** فإنّ أهلي الألى حلّوا بملحوب»

«لما رأت إبلي قلّت حلوبتها، *** وكل عام عليها عام تجنيب»

«أبقى الحوادث منها، وهي تتبعها *** والحقّ، صرمة راع غير مغلوب»

وبقضة كانت وقعة بكر وتغلب العظمى في مقتل كليب، والجاهلية تسميها حرب البسوس، وفيه كان يوم التحالق فكانت الدّبرة لبكر بن وائل على تغلب فتفرقوا من ذلك اليوم، وبعد تلك الوقعة كانت الوقائع التي جرّها قتل كليب بن ربيعة حين قتله جسّاس بن مرة فشتتهم أخوه المهلهل في البلاد، فقال الأخنس بن شهاب التغلبي وكان رئيسا شاعرا:

«لكل أناس من معدّ عمارة *** عروض إليها يلجؤون وجانب»

«لكيز لها البحران والسّيف دونها *** وإن يأتها بأس من الهند كارب»

«تطاير عن أعجاز حوش كأنها *** جهام هراق ماءه فهو آئب»

«وبكر لها برّ العراق، وإن تخف *** يحل دونها من اليمامة حاجب»

«وصارت تميم بين قفّ ورملة *** لها من جبال منتأى ومذاهب»

«وكلب لها خبت فرملة عالج *** إلى الحرّة الرجلاء حيث تحارب»

«وغسان جنّ غيرهم في بيوتهم *** تجالد عنهم حسّر وكتائب»

«وبهراء حيّ قد علمنا مكانهم، *** لهم شرك حول الرّصافة لاحب»

«وغارت إياد في السواد ودونها *** برازيق عجم تبتغي من تضارب»

«ونحن أناس لا حصون بأرضنا *** مع الغيث ما نلفى ومن هو عازب»

«ترى رائدات الخيل حول بيوتنا *** كمعزى الحجاز أعوزتها الزرائب»

«أرى كلّ قوم قاربوا قيد فحلهم، *** ونحن خلعنا قيده فهو سارب»

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


162-معجم البلدان (قعيقعان)

قُعَيْقِعَانُ:

بالضم ثم الفتح، بلفظ تصغير: وهو اسم جبل بمكة، قيل: إنما سمي بذلك لأن قطوراء وجرهم لما تحاربوا قعقعت الأسلحة فيه، وعن السّدّيّ أنه قال: سمّي الجبل الذي بمكة قعيقعان لأن جرهم كانت تجعل فيه قسيّها وجعابها ودرقها فكانت تقعقع فيه، قال عرّام: ومن قعيقعان إلى مكة اثنا عشر ميلا على طريق الحوف إلى اليمن. وقعيقعان:

قرية بها مياه وزروع ونخيل وفواكه وهي اليمانية، والواقف على قعيقعان يشرف على الركن العراقي إلا أن الأبنية قد حالت بينهما، قاله البلخي، وقال عمر ابن أبي ربيعة:

«قامت تراءى بالصّفاح كأنها *** كانت تريد لنا بذاك ضرارا»

«سقيت بوجهك كل أرض جئتها، *** ولمثل وجهك أسقي الأمطارا»

«من ذا نواصل إن صرمت حبالنا، *** أو من نحدّث بعدك الأسرارا؟»

«هيهات منك قعيقعان وأهلها *** بالحزنتين فشطّ ذاك مزارا»

وبالأهواز جبل يقال له قعيقعان منه نحتت أساطين

مسجد البصرة، سمي بذلك لأن عبد الله بن الزبير ابن العوّام ولّى ابنه حمزة البصرة فخرج إلى الأهواز فلما رأى جبلها قال: كأنه قعيقعان، فلزمه ذلك، قال أعرابيّ:

«لا ترجعنّ إلى الأهواز ثانية *** قعيقعان الذي في جانب السوق»

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


163-معجم البلدان (القليس)

القُلَيْسُ:

تصغير قلس، وهو الحبل الذي يصير من ليف النخل أو خوصه، لما ملك أبرهة بن الصبّاح اليمن بنى بصنعاء مدينة لم ير الناس أحسن منها ونقشها بالذهب والفضة والزجاج والفسيفساء وألوان الأصباغ وصنوف الجواهر وجعل فيها خشبا له رؤوس كرءوس الناس ولكّكها بأنواع الأصباغ وجعل لخارج القبة برنسا فإذا كان يوم عيدها كشف البرنس عنها فيتلألأ رخامها مع ألوان أصباغها حتى تكاد تلمع البصر وسمّاها القلّيس، بتشديد اللام، وروى عبد الملك بن هشام والمغاربة القليس، بفتح القاف وكسر اللام، وكذا قرأته بخطّ السكري أبي سعيد الحسن بن الحسين، أخبرنا سلموية أبو صالح قال: حدثني عبد الله بن المبارك عن محمد بن زياد الصنعاني قال: رأيت مكتوبا على باب القليس وهي الكنيسة التي بناها أبرهة على باب صنعاء بالمسند:

بنيت هذا لك من مالك ليذكر فيه اسمك وأنا عبدك، كذا بخط السكري بفتح القاف وكسر اللام، قال عبد الرحمن بن محمد: سميت القليس لارتفاع بنيانها وعلوّها، ومنه القلانس لأنها في أعلى الرؤوس، ويقال: تقلنس الرجل وتقلّس إذا لبس القلنسوة، وقلس طعامه إذا ارتفع من معدته إلى فيه، وما

ذكرنا من أنه جعل على أعلى الكنيسة خشبا كرءوس الناس ولكّكها دليل على صحة هذا الاشتقاق، وكان أبرهة قد استذلّ أهل اليمن في بنيان هذه الكنيسة وجشمهم فيها أنواعا من السّخر، وكان ينقل إليها آلات البناء كالرخام المجزّع والحجارة المنقوشة بالذهب من قصر بلقيس صا

أصابه كعيت، وذكر أبو الوليد كذلك وأن كعيتا كان من خشب طوله ستون ذراعا، وقال الحسم شاعر من أهل اليمن:

«من القليس هلال كلما طلعا *** كادت له فتن في الأرض أن تقعا»

«حلو شمائله لولا غلائله *** لمال من شدّة التهييف فانقطعا»

«كأنه بطل يسعى إلى رجل *** قد شدّ أقبية السّدّان وادّرعا»

ولما استتمّ أبرهة بنيان القليس كتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك ولست بمنته حتى أصرف إليها حجّ العرب، فلما تحدّث العرب بكتاب أبرهة الذي أرسله إلى النجاشي غضب رجل من النّسأة أحد بني فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، والنسأة هم الذين كانوا ينسئون الشهور على العرب في الجاهلية أي يحلونها فيؤخرون الشهر من الأشهر الحرم إلى الذي بعده ويحرّمون مكانه الشهر من أشهر الحل ويؤخرون ذلك الشهر، مثاله أن المحرّم من الأشهر الحرم فيحللون فيه القتال ويحرّمونه في صفر، وفيه قال الله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ في الْكُفْرِ 9: 37، قال ابن إسحاق:

فخرج الفقيمي حتى أتى القليس وقعد فيها، يعني أحدث وأطلى حيطانها، ثم خرج حتى لحق بأرضه فأخبر أبرهة فقال: من صنع هذا؟ فقيل له: هذا فعل رجل من أهل البيت الذي تحج إليه العرب بمكة

لما سمع قولك أصرف إليها حجّ العرب غضب فجاء فقعد فيها أي أنها ليست لذلك بأهل، فغضب أبرهة وحلف ليسيرنّ حتى يهدمه وأمر الحبشة بالتجهيز، فتهيأت وخرج ومعه الفيل، فكانت قصة الفيل المذكورة في القرآن العظيم.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


164-معجم البلدان (كتيبة)

كَتيبَةُ:

بالفتح ثم الكسر، وياء ساكنة، وباء موحدة، قال أبو زيد: كتبت السقاء أكتبه كتبا إذا خرزته، وكتبت البغلة أكتبها كتبا إذا خرزت حياها بحلقة حديد أو صفر تضم شفري حياها، وكتّبت الناقة تكتيبا إذا خرزت أخلافها، وكتّبت الكتائب إذا عبأتها، وكل هذا قريب بعضه من بعض وإنما هو جمعك بين الشيئين ومن ذلك سميت الكتيبة القطعة من الجيش لأنها اجتمعت: وهو حصن من حصون خيبر، لما قسمت خيبر كان القسم على نطاة والشّقّ والكتيبة، فكانت نطاة والشقّ في سهام المسلمين وكانت الكتيبة خمس الله وسهم النبيّ، صلى الله عليه وسلّم، وسهم ذوي القربى واليتامى والمساكين وطعم أزواج النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وطعم رجال مشوا بين رسول الله وبين أهل فدك بالصلح، وفي كتاب الأموال لأبي عبيد الكثيبة، بالثاء المثلثة.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


165-معجم البلدان (الكوفة)

الكُوفَةُ:

بالضم: المصر المشهور بأرض بابل من سواد العراق ويسمّيها قوم خدّ العذراء، قال أبو بكر محمد ابن القاسم: سميت الكوفة لاستدارتها أخذا من قول العرب: رأيت كوفانا وكوفانا، بضم الكاف وفتحها، للرميلة المستديرة، وقيل: سميت الكوفة كوفة لاجتماع الناس بها من قولهم: قد تكوّف الرمل، وطول الكوفة تسع وستون درجة ونصف، وعرضها إحدى وثلاثون درجة وثلثان، وهي في الإقليم الثالث، يتكوّف تكوّفا إذا ركب بعضه بعضا، ويقال: أخذت الكوفة من الكوفان، يقال: هم في

كوفان أي في بلاء وشر، وقيل: سميت كوفة لأنها قطعة من البلاد، من قول العرب: قد أعطيت فلانا كيفة أي قطعة، ويقال: كفت أكيف كيفا إذا قطعت، فالكوفة قطعة من هذا انقلبت الياء فيها واوا لسكونها وانضمام ما قبلها، وقال قطرب:

يقال القوم في كوفان أي في أمر يجمعهم، قال أبو القاسم: قد ذهبت جماعة إلى أنها سميت كوفة بموضعها من الأرض وذلك أن كل رملة يخالطها حصباء تسمى كوفة، وقال آخرون: سميت كوفة لأن جبل ساتيدما يحيط بها كالكفاف عليها، وقال ابن الكلبي:

سميت بجبل صغير في وسطها كان يقال له كوفان وعليه اختطت مهرة موضعها وكان هذا الجبل مرتفعا عليها فسمّيت به، فهذا في اشتقاقها كاف، وقد سمّاها عبدة بن الطبيب كوفة الجند فقال:

«إن التي وضعت بيتا مهاجرة *** بكوفة الجند غالت ودّها غول»

وأما تمصيرها وأوّليته فكانت في أيام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في السنة التي مصرّت فيها البصرة وهي سنة 17، وقال قوم: إنها مصّرت بعد البصرة بعامين في سنة 19، وقيل سنة 18، قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: لما فرغ سعد بن أبي وقّاص من وقعة رستم بالقادسية وضمّن أرباب القرى ما عليهم بعث من أحصاهم ولم يسمهم حتى يرى عمر فيهم رأيه، وكان الدهاقين ناصحوا المسلمين ودلوهم على عورات فارس وأهدوا لهم وأقاموا لهم الأسواق ثم توجه سعد نحو المدائن إلى يزدجرد وقدم خالد بن عرفطة حليف بني زهرة بن كلاب فلم يقدر عليه سعد حتى فتح خالد ساباط المدائن ثم توجه إلى المدائن فلم يجد معابر فدلوه على مخاضة عند قرية الصيادين أسفل المدائن فأخاضوها الخيل حتى عبروا وهرب يزدجرد إلى إصطخر فأخذ خالد كربلاء عنوة وسبى أهلها فقسّمها سعد بين أصحابه ونزل كل قوم في الناحية التي خرج بها سهمه فأحيوها فكتب بذلك سعد إلى عمر فكتب إليه عمر أن حوّلهم، فحوّلهم إلى سوق حكمة، ويقال إلى كويفة ابن عمر دون الكوفة، فنقضوا فكتب سعد إلى عمر بذلك، فكتب إليه: إن العرب لا يصلحها من البلدان إلا ما أصلح الشاة والبعير فلا تجعل بيني وبينهم بحرا وعليك بالريف، فأتاه ابن بقيلة فقال له: أدلك على أرض انحدرت عن الفلاة وارتفعت عن المبقّة؟

قال: نعم، فدلّه على موضع الكوفة اليوم وكان يقال له سورستان، فانتهى إلى موضع مسجدها فأمر غاليا فرمى بسهم قبل مهبّ القبلة فعلم على موقعه ثم غلا بسهم قبل مهب الشمال فعلم على موقعه ثم علم دار إمارتها ومسجدها في مقام الغالي وفيما حوله، ثم أسهم لنزار وأهل اليمن سهمين فمن خرج اسمه أولا فله الجانب الشرقي وهو خيرهما فخرج سهم أهل اليمن فصارت خططهم في الجانب الشرقي وصارت خطط نزار في الجانب الغربي من وراء تلك الغايات والعلامات وترك ما دون تلك العلامات فخط المسجد ودار الإمارة فلم يزل على ذلك، وقال ابن عباس: كانت منازل أهل الكوفة قبل أن تبنى أخصاصا من قصب إذا غزوا قلعوها وتصدّقوا بها فإذا عادوا بنوها فكانوا يغزون ونساؤهم معهم، فلما كان في أيام المغيرة بن شعبة بنت القبائل باللّبن من غير ارتفاع ولم يكن لهم غرف، فلما كان في أيام إمارة زياد بنوا أبواب الآجرّ فلم يكن في الكوفة أكثر أبواب الآجرّ من مراد والخزرج، وكتب عمر بن الخطاب إلى سعد أن اختط موضع المسجد الجامع على عدة مقاتلتكم، فخط على أربعين ألف إنسان، فلما قدم زياد زاد فيه عشرين ألف إنسان وجاء بالآجرّ وجاء بأساطينه من الأهواز،

قال أبو الحسن محمد بن علي بن عامر الكندي البندار أنبأنا علي بن الحسن بن صبيح البزاز قال: سمعت بشر ابن عبد الوهاب القرشي مولى بني أمية وكان صاحب خير وفضل وكان ينزل دمشق ذكر أنه قدر الكوفة فكانت ستة عشر ميلا وثلثي ميل وذكر أن فيها خمسين ألف دار للعرب من

الكوفة سفلت عن الشام ووبائها وارتفعت عن البصرة وحرّها فهي بريّة مريئة مريعة إذا أتتنا الشمال ذهبت مسيرة شهر على مثل رضراض الكافور وإذا هبّت الجنوب جاءتنا ريح السواد وورده وياسمينه وأترنجه، ماؤنا عذب وعيشنا خصب، فقال عبد الملك بن الأهتم السعدي: نحن والله يا أمير المؤمنين أوسع منهم بريّة وأعدّ منهم في السرية وأكثر منهم ذرّيّة وأعظم منهم نفرا، يأتينا ماؤنا عفوا صفوا ولا يخرج من عندنا إلا سائق أو قائد، فقال الحجاج: يا أمير المؤمنين إن لي بالبلدين خبرا، فقال: هات غير متّهم فيهم، فقال: أما البصرة فعجوز شمطاء بخراء دفراء أوتيت من كل حليّ، وأما الكوفة فبكر عاطل عيطاء لا حليّ لها ولا زينة، فقال عبد الملك: ما أراك إلا قد فضّلت الكوفة، وكان عليّ، عليه السلام، يقول: الكوفة كنز الإيمان وحجة الإسلام وسيف الله ورمحه يضعه حيث شاء، والذي نفسي بيده لينتصرن الله بأهلها في شرق الأرض وغربها كما انتصر بالحجاز، وكان سلمان الفارسي يقول: أهل الكوفة أهل الله وهي قبّة الإسلام يحنّ إليها كلّ مؤمن، وأما مسجدها فقد رويت فيه فضائل كثيرة، روى حبّة العرني قال: كنت جالسا عند عليّ، عليه السّلام، فأتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين هذه راحلتي وزادي أريد هذا البيت أعني بيت المقدس، فقال، عليه السّلام:

كل زادك وبع راحلتك وعليك بهذا المسجد، يعني مسجد الكوفة، فإنه أحد المساجد الأربعة ركعتان فيه تعدلان عشرا فيما سواه من المساجد والبركة منه إلى اثني عشر ميلا من حيث ما أتيته وهي نازلة من كذا ألف ذراع، وفي زاويته فار التنور وعند الأسطوانة الخامسة صلى إبراهيم، عليه السّلام، وقد صلى فيه ألف نبيّ وألف وصيّ، وفيه عصا موسى والشجرة اليقطين، وفيه هلك يغوث ويعوق وهو الفاروق، وفيه مسير لجبل الأهواز، وفيه مصلّى نوح عليه السّلام، ويحشر منه يوم القيامة سبعون ألفا ليس عليهم حساب ووسطه على روضة من رياض الجنة وفيه ثلاث أعين من الجنة تذهب الرّجس وتطهّر المؤمنين، لو علم الناس ما فيه من الفضل لأتوه حبوا، وقال الشعبي: مسجد الكوفة ستة أجربة وأقفزة، وقال زادانفرّوخ: هو تسعة أجربة، ولما بنى عبيد الله بن زياد مسجد الكوفة جمع الناس ثم صعد المنبر وقال: يا أهل الكوفة قد بنيت لكم مسجدا لم يبن على وجه الأرض مثله وقد أنفقت على كل أسطوانة سبع عشرة مائة ولا يهدمه إلا باغ أو جاحد، وقال عبد الملك بن عمير: شهدت زيادا وطاف بالمسجد فطاف به وقال: ما أشبهه بالمساجد

قد أنفقت على كل أسطوانة ثماني عشرة مائة، ثم سقط منه شيء فهدمه الحجاج وبناه ثم سقط بعد ذلك الحائط الذي يلي دار المختار فبناه يوسف بن عمر، وقال السيد إسماعيل بن محمد الحميري يذكر مسجد الكوفة:

«لعمرك! ما من مسجد بعد مسجد *** بمكة ظهرا أو مصلّى بيثرب»

«بشرق ولا غرب علمنا مكانه *** من الأرض معمورا ولا متجنّب»

«بأبين فضلا من مصلّى مبارك *** بكوفان رحب ذي أواس ومخصب»

«مصلّى، به نوح تأثّل وابتنى *** به ذات حيزوم وصدر محنّب»

«وفار به التنور ماء وعنده *** له قيل أيا نوح في الفلك فاركب»

«وباب أمير المؤمنين الذي به *** ممرّ أمير المؤمنين المهذّب»

عن مالك بن دينار قال: كان علي بن أبي طالب إذا أشرف على الكوفة قال:

«يا حبّذا مقالنا بالكوفة *** أرض سواء سهلة معروفه»

تعرفها جمالنا العلوفه

وقال سفيان بن عيينة: خذوا المناسك عن أهل مكة وخذوا القراءة عن أهل المدينة وخذوا الحلال والحرام عن أهل الكوفة، ومعما قدّمنا من صفاتها الحميدة فلن تخلو الحسناء من ذامّ، قال النجاشي يهجو أهلها:

«إذا سقى الله قوما صوب غادية *** فلا سقى الله أهل الكوفة المطرا»

«التاركين على طهر نساءهم، *** والنائكين بشاطي دجلة البقرا»

«والسارقين إذا ما جنّ ليلهم، *** والدارسين إذا ما أصبحوا السّورا»

«ألق العداوة والبغضاء بينهم *** حتى يكونوا لمن عاداهم جزرا»

وأما ظاهر الكوفة فإنها منازل النعمان بن المنذر والحيرة والنجف والخورنق والسدير والغريّان وما هناك من المتنزهات والديرة الكبيرة فقد ذكرت في هذا الكتاب حيث ما اقتضاه ترتيب أسمائها، ووردت رامة بنت الحسين بن المنقذ بن الطمّاح الكوفة فاستوبلتها فقالت:

«ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة *** وبيني وبين الكوفة النّهران؟»

«فإن ينجني منها الذي ساقني لها *** فلا بدّ من غمر ومن شنآن»

وأما المسافات فمن الكوفة إلى المدينة نحو عشرين مرحلة، ومن المدينة إلى مكة نحو عشر مراحل في طريق الجادّة، ومن الكوفة إلى مكة أقصر من هذا الطريق نحو من ثلاث مراحل لأنه إذا انتهى الحاجّ إلى معدن النّقرة عدل عن المدينة حتى يخرج إلى معدن بني سليم ثم إلى ذات عرق حتى ينتهي إلى مكة، ومن حفّاظ الكوفة محمد بن العلاء بن كريب الهمداني الكوفي، سمع بالكوفة عبد الله بن المبارك وعبد الله ابن إدريس وحفص بن غياث ووكيع بن الجرّاح وخلقا غيرهم، وروى عنه محمد بن يحيى الذّهلي وعبد الله بن يحيى الذهلي وعبد الله بن يحيى بن حنبل وأبو يعلى الموصلي والحسن بن سفيان الثوري وأبو عبد الله البخاري ومسلم بن الحجاج وأبو داود السجستاني وأبو عيسى الترمذي وأبو عبد الرحمن النسائي وابن ماجة القزويني وأبو عروة المراي وخلق سواهم،

وكان ابن عقدة يقدّمه على جميع مشايخ الكوفة في الحفظ والكثرة فيقول: ظهر لابن كريب بالكوفة ثلاثمائة ألف حديث، وكان ثقة مجمعا عليه، ومات لثلاث بقين من جمادى الأولى سنة 243، وأوصى أن تدفن كتبه فدفنت.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


166-معجم البلدان (مدينة يثرب)

مَدينَةُ يَثْرِبَ:

قال المنجمون: طول المدينة من جهة المغرب ستون درجة ونصف، وعرضها عشرون درجة، وهي في الإقليم الثاني، وهي مدينة الرسول، صلّى الله عليه وسلّم، نبدأ أولا بصفتها مجملا ثم نفصّل، أما قدرها فهي في مقدار نصف مكة، وهي في حرّة سبخة الأرض ولها نخيل كثيرة ومياه، ونخيلهم وزروعهم تسقى من الآبار عليها العبيد، وللمدينة سور والمسجد في نحو وسطها، وقبر النبي، صلّى الله عليه وسلّم، في شرقي المسجد وهو بيت مرتفع ليس بينه وبين سقف المسجد إلا فرجة وهو مسدود لا باب له وفيه قبر النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وقبر أبي بكر وقبر عمر، والمنبر الذي كان يخطب عليه رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، قد غشي بمنبر آخر والروضة أمام المنبر بينه وبين القبر ومصلّى النبي، صلّى الله عليه وسلّم، الذي كان يصلّي فيه الأعياد في غربي المدينة داخل الباب وبقيع الغرقد خارج المدينة من شرقيّها وقباء خارج المدينة على نحو ميلين إلى ما يلي القبلة، وهي شبيهة بالقرية، وأحد جبل في شمال المدينة، وهو أقرب الجبال إليها مقدار فرسخين، وبقربها مزارع فيها نخيل وضياع لأهل المدينة، ووادي العقيق فيما بينها وبين الفرع، والفرع من المدينة على أربعة أيام في جنوبيّها، وبها مسجد جامع، غير أن أكثر هذه الضياع خراب وكذلك حوالي المدينة ضياع كثيرة أكثرها خراب وأعذب مياه تلك الناحية آبار العقيق، ذكر ابن طاهر بإسناده إلى محمد بن إسماعيل البخاري قال: المديني هو الذي أقام بالمدينة ولم يفارقها، والمدني الذي تحول عنها وكان منها، والمشهور عندنا أن النسبة إلى مدينة الرسول مدنيّ مطلقا وإلى غيرها من المدن مدينيّ للفرق لا لعلة أخرى، وربما ردّه بعضهم إلى الأصل فنسب إلى مدينة الرسول أيضا مدينيّ، وقال

الليث: المدينة اسم لمدينة رسول الله خاصة والنسبة للإنسان مدنيّ، فأما العير ونحوه فلا يقال إلا مدينيّ، وعلى هذه الصيغة ينسب أبو الحسن علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح السعدي المعروف بابن المديني، كان أصله من المدينة ونزل البصرة وكان من أعلم أهل زمانه بعل

«نؤدي الخرج بعد خراج كسرى *** وخرج بني قريظة والنضير»

وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم: من صبر على أوار المدينة وحرّها كنت له يوم القيامة شفيعا شهيدا، وقال، صلى الله عليه وسلم، حين توجّه إلى الهجرة: اللهم إنك قد أخرجتني من أحبّ أرضك إليّ فأنزلني أحب أرض إليك، فأنزله المدينة، فلما نزلها قال: اللهم اجعل لنا بها قرارا ورزقا واسعا، وقال، عليه الصلاة والسلام:

من استطاع منكم أن يموت في المدينة فليفعل فإنه من مات بها كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة، وعن عبد الله بن الطّفيل: لما قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة وثب على أصحابه وباء شديد حتى أهمدتهم الحمّى فما كان يصلي مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلا اليسير فدعا لهم وقال:

اللهم حبّب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة واجعل ما كان بها من وباء بخمّ، وفي خبر آخر: اللهم حبّب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة وأشدّ وصححها وبارك لنا في صاعها ومدّها وانقل حمّاها إلى الجحفة، وقد كان همّ، صلّى الله عليه وسلّم، أن ينتقل إلى الحمى لصحته، وقال: نعم المنزل الحمى لولا كثرة حيّاته، وذكر العرض وناحيته فهمّ به وقال: هو أصح من المدينة، وروي عنه، صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال عن بيوت السّقيا: اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك ورسولك دعاك لأهل مكة وإن محمدا عبدك ونبيك ورسولك يدعوك لأهل المدينة بمثل ما دعاك إبراهيم أن تبارك في صاعهم ومدهم وثمارهم، اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة واجعل ما بها من وباء بخمّ، اللهم إني قد

حرّمت ما بين لابتيها كما حرّم إبراهيم خليلك، وحرّم رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، شجر المدينة بريدا في بريد من كل ناحية ورخّص في الهش وفي متاع الناضح ونهى عن الخبط وأن يعضد ويهصر، وكان أول من زرع بالمدينة واتخذ بها النخل وعمّر بها الدور والآطام واتخذ

نستحييه حتى نقدم به على موسى فيرى فيه رأيه، فأقبلوا وهو معهم وقبض الله موسى قبل قدومهم فلما قربوا وسمع بنو إسرائيل بذلك تلقوهم وسألوهم عن أخبارهم فأخبروهم بما فتح الله عليهم، قالوا: فما هذا الفتى الذي معكم؟ فأخبروهم بقصته، فقالوا: إن هذه معصية منكم لمخالفتكم أمر نبيكم، والله لا دخلتم علينا بلادنا أبدا، فحالوا بينهم وبين الشام، فقال ذلك الجيش: ما بلد إذ منعتم بلدكم خير لكم من البلد الذي فتحتموه وقتلتم أهله فارجعوا إليه، فعادوا إليها فأقاموا بها فهذا كان أول سكنى اليهود الحجاز والمدينة، ثم لحق بهم بعد ذلك بنو الكاهن بن هارون، عليه السلام، فكانت لهم الأموال والضياع بالسافلة، والسافلة ما كان في أسفل المدينة إلى أحد، وقبر حمزة والعالية ما كان فوق المدينة إلى أحد، وقبر حمزة والعالية ما كان فوق المدينة إلى مسجد قباء وما إلى ذلك إلى مطلع الشمس، فزعمت بنو قريظة أنهم مكثوا كذلك زمانا ثم إن الروم ظهروا على الشام فقتلوا من بني إسرائيل خلقا كثيرا فخرج بنو قريظة والنضير وهدل هاربين من الشام يريدون الحجاز الذي فيه بنو إسرائيل ليسكنوا معهم، فلما فصلوا من الشام وجّه ملك الروم في طلبهم من يردّهم فأعجزوا رسله وفآتوهم وانتهى الروم إلى ثمد بين الشام والحجاز فماتوا عنده عطشا فسمي ذلك الموضع ثمد الروم فهو معروف بذلك إلى اليوم، وذكر بعض علماء الحجاز من اليهود أن سبب نزولهم المدينة أن ملك الروم حين ظهر على بني إسرائيل وملك الشام خطب إلى بني هارون وفي دينهم أن لا يزوّجوا النصارى فخافوه وأنعموا له وسألوه أن يشرّفهم بإتيانه، فأتاهم ففتكوا به وبمن معه ثم هربوا حتى لحقوا بالحجاز وأقاموا بها، وقال آخرون: بل علماؤهم كانوا يجدون في التوراة صفة النبيّ، صلى الله عليه وسلّم، وأنه يهاجر إلى بلد فيه نخل بين حرّتين، فأقبلوا من الشام يطلبون الصفة حرصا منهم على اتباعه، فلما رأوا تيماء وفيها النخل عرفوا صفته وقالوا:

هو البلد الذي نريده، فنزلوا وكانوا أهله حتى أتاهم تبّع فأنزل معهم بني عمرو بن عوف، والله أعلم أيّ ذلك كان، قالوا: فلما كان من سيل العرم ما كان،

كما ذكرناه في مأرب، قال عمرو بن عوف: من كان منكم يريد الراسيات في الوحل، المطعمات في المحل، المدركات بالدّخل، فليلحق بيثرب ذات النخل، وكان الذين اختاروها وسكنوها الأنصار وهم الأوس والخزرج ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثع

«لم يقض دينك مل حسا *** ن وقد غنيت وقد غنينا»

«الراشقات المرشقا *** ت الجازيات بما جزينا»

«أشباه غزلان الصّرا *** ثم يأتزرن ويرتدينا»

«الرّيط والديباج وال *** حلي المضاعف والبرينا»

«وأبو جبيلة خير من *** يمشي وأوفاهم يمينا»

«وأبرّهم برّا وأع *** لمهم بفضل الصالحينا»

«أبقت لنا الأيام وال *** حرب المهمّة يعترينا»

«كبشا له زرّ يف *** لّ متونها الذّكر السّنينا»

«ومعاقلا شمّا وأس *** يافا يقمن وينحنينا»

«ومحلّة زوراء تج *** حف بالرجال الظالمينا»

ولعنت اليهود مالك بن العجلان في كنائسهم وبيوت عبادتهم، فبلغه ذلك فقال:

«تحايا اليهود بتلعانها *** تحايا الحمير بأبوالها»

«وماذا عليّ بأن يغضبوا *** وتأتي المنايا باذلالها! »

وقالت سارة القرظية ترثي من قتل من قومها:

«بأهلي رمّة لم تغن شيئا *** بذي حرض تعفّيها الرياح»

«كهول من قريظة أتلفتهم *** سيوف الخزرجية والرماح»

«ولو أذنوا بأمرهم لحالت *** هنالك دونهم حرب رداح»

ثم انصرف أبو جبيلة راجعا إلى الشام وقد ذلّل الحجاز والمدينة للأوس والخزرج فعندها تفرّقوا في عالية المدينة وسافلتها فكان منهم من جاء إلى القرى العامرة فأقام مع أهلها قاهرا لهم، ومنهم من جاء إلى عفا من الأرض لا ساكن فيه فبنى فيه ونزل ثم اتخذوا بعد ذلك القصور والأموال والآطام، فلما قدم رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، من مكة إلى المدينة مهاجرا أقطع الناس الدور والرباع فخطّ لبني زهرة في ناحية من مؤخر المسجد فكان لعبد الرحمن ابن عوف الحصن المعروف به وجعل لعبد الله وعتبة ابني مسعود الهذليّين الخطّة المشهورة بهم عند المسجد وأقطع الزبير بن العوّام بقيعا واسعا وجعل لطلحة بن عبيد الله موضع دوره ولأبي بكر، رضي الله عنه، موضع داره عند المسجد، وأقطع كل واحد من عثمان بن عفّان وخالد بن الوليد والمقداد وعبيد والطفيل وغيرهم مواضع دورهم، فكان رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، يقطع أصحابه هذه القطائع فما كان في عفا من الأرض فإنه أقطعهم إياه وما كان من الخطط المسكونة العامرة فإن الأنصار وهبوه له فكان يقطع من ذلك ما شاء، وكان أول من وهب له خططه ومنازله حارثة بن النعمان فوهب له ذلك وأقطعه، وأما مسجد النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، فقال ابن عمر: كان بناء المسجد على عهد رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، وسقفه جريد وعمده خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئا فزاد فيه عمر وبناه على ما كان من بنائه ثم غيّره عثمان وبناه بالحجارة المنقوشة والقصّة وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه ساجا وزاد فيه. وكان لما بناه رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، جعل له بابين شارعين باب عائشة والباب الذي يقال له باب عاتكة وبابا في مؤخر المسجد يقال له باب مليكة وبنى بيوتا إلى جنبه باللبن وسقفها بجذوع النخل، وكان طول المسجد مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، فلما ولي عمر بن عبد العزيز زاد في القبلة من موضع المقصورة اليوم، وكان بين المنبر وبين الجدار في عهد النبي، صلّى الله عليه وسلّم، قدر ما تمرّ الشاة، وكان طول المسجد في عهد عمر،

رضي الله عنه، مائة وأربعين ذراعا وارتفاعه أحد عشر ذراعا، وكان بنى أساسه بالحجارة إلى أن بلغ قامة وجعل له ستة أبواب وحصّنه، وروي أن عمر أول من حصّن المسجد وبناه سنة 17 حين رجع من سرع وجعل طول جداره من خارج ستة عشر ذراعا، وكان أول عمل عثمان إياه في شهر ر

معدن النقرة، ومن الرّقّة إلى المدينة نحو من عشرين مرحلة، ومن البحرين إلى المدينة نحو خمس عشرة مرحلة، ومن دمشق إلى المدينة نحو عشرين مرحلة ومثله من فلسطين إلى المدينة على طريق الساحل، ولأهل مصر وفلسطين إذا جاوزوا مدين طريقان إلى المدينة أحدهما على شغب وبدا وهما قريتان بالبادية كان بنو مروان أقطعوهما الزهريّ المحدّث وبها قبره، حتى ينتهي إلى المدينة على المروة، وطريق يمضي على ساحل البحر حتى يخرج بالجحفة فيجتمع بهما طريق أهل العراق وفلسطين ومصر.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


167-معجم البلدان (مراغة)

مَرَاغَةُ:

بالفتح، والغين المعجمة: بلدة مشهورة عظيمة أعظم وأشهر بلاد أذربيجان، طولها ثلاث وسبعون درجة وثلث، وعرضها سبع وثلاثون درجة وثلث، قالوا: وكانت المراغة تدعى أفرازهروذ فعسكر مروان بن محمد بن مروان بن الحكم وهو وإلى إرمينية وأذربيجان منصرفه من غزو موقان وجيلان بالقرب منها وكان فيها سرجين كثير فكانت دوابّه ودوابّ أصحابه تتمرّغ فيها فجعلوا يقولون ابنوا قرية المراغة، وهذه قرية المراغة، فحذف الناس القرية وقالوا مراغة، وكان أهلها ألجئوها إلى مروان فابتناها وتألّف وكلاؤه أهلها فكثروا فيها للتقرر وعمّروها ثم إنه قبضت مع ما قبض من ضياع بني أمية وصارت لبعض بنات الرشيد، فلما عاث الوجناء ابن رواد الأزدي وأفسد وولي خزيمة بن خازم إرمينية وأذربيجان في خلافة الرشيد بنى سورها وحصّنها ومصّرها وأنزل بها جندا كثيفا، ثم إنهم لما ظهر بابك الخرّمي بالبذّ لجأ الناس إليها فنزلوها فسكنوها وتحصّنوا فيها ورمّ سورها في أيام المأمون عدّة من عمّاله، منهم: أحمد بن محمد بن الجنيد فرزندا وعلي بن هشام ثم نزل الناس بربضها، وينسب إلى المراغة جماعة، منهم: جعفر بن محمد بن الحارث أبو محمد المراغي أحد الرحّالين في طلب الحديث وجمعه، سكن نيسابور، وسمع بدمشق وغيرها جماهير بن محمد الزملكاني وابن قتيبة محمد بن الحسن العسقلاني وأبا يعلى الموصلي وجعفر بن محمد القيرواني وعبد الله بن محمد بن ناجية ومحمد بن يحيى المروزي وأبا خليفة الفضل بن الحباب وزكرياء الساجي وعبدان الجواليقي وأحمد بن يحيى ابن زهير والمنصور بن إسماعيل الفقيه وأبا العباس الدّغولي وعلي بن عبدان وغيرهم، روى عنه أبو علي الحافظ وأبو عبد الله الحاكم وعبد الرحمن بن محمد السرّاح وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو بكر المقري، قال أبو عبد الله الحافظ: جعفر بن محمد بن الحارث أبو محمد المراغي مريد نيسابور شيخ الرحّالة في طلب الحديث وأكثرهم جهادا وجمعا، كتب الحديث نيفا وستين سنة ولم يزل يكتب إلى أن توفاه الله، وكان من أصدق الناس فيه وأثبتهم، سمع ببغداد القرباني وابن ناجية ومحمد بن يحيى المروزي وأقرانهم وذكر جماعة في بلاد شتى، قال: ومات يوم الاثنين السادس والعشرين من رجب سنة 356 بنيسابور وهو ابن نيف وثمانين سنة، ولم تزل قصبتها وبها آثار وعمائر ومدارس وخانكاهات حسنة، وقد كان فيها أدباء وشعراء ومحدّثون وفقهاء، قال ابن الكلبي: في مراغة هجر سوق لأهل نجد معروف، قال الخارزنجي: المراغة ردهة لأبي بكر ولذلك قال الفرزدق في مواضع من شعره يا ابن المراغة نسبه إلى هذا الموضع، كما يقال ابن بغداد وابن الكوفة، وهذا خلف من القول، والذي ذهب إليه الحذّاق أن المراغة الأتان فكان ينسبه إليها على أن في بلاد العرب موضعا يقال له

المراغة من منازل بني يربوع، قال الأصمعي وذكر مياها ثم قال: ومن هذه الأمواه من صلب العلم وهي المردمة رداه منها المراغة من مياه البقّة، قال أبو البلاد الطهوي وكان قد خطب امرأة فزوّجت من بني عمرو بن تميم فقتلها وهرب ثم قال:

«ألا أيها الرّبع الذي ليس بارحا *** جنوب الملا بين المراغة والكدر»

«سقيت بعذب الماء! هل أنت ذاكر *** لنا من سليمى إذ نشدناك بالذكر؟»

«لعمرك ما قنّعتها السيف عن قلى، *** ولا سأمان في الفؤاد ولا غمر»

«ولكن رأيت الحيّ قد غدروا بها، *** ونزغ من الشيطان زيّن لي أمري»

«وإنّا أنفنا أن ترى أمّ سالم *** عروسا تمشّى الخيزلى في بني عمرو»

«وإنا وجدنا الناس عودين: طيّبا، *** وعودا خبيثا لا يبضّ على العصر»

«تزين الفتى أخلاقه وتشينه، *** وتذكر أخلاق الفتى حيث لا يدري»

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


168-معجم البلدان (المسجد الحرام)

المَسْجِدُ الحَرَامُ:

الذي بمكة كان أول من بناه عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ولم يكن له في زمن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وأبي بكر جدار يحيط به، وذاك أن الناس ضيّقوا على الكعبة وألصقوا دورهم بها فقال عمر: إن الكعبة بيت الله ولا بدّ للبيت من فناء وإنكم دخلتم عليها ولم تدخل عليكم، فاشترى تلك الدور وهدمها وزادها فيه وهدم على قوم من جيران المسجد أبوا أن يبيعوا ووضع لهم الأثمان حتى أخذوها بعد واتخذ للمسجد جدارا دون القامة فكانت المصابيح توضع عليه، ثم كان عثمان فاشترى دورا أخر وأغلى في ثمنها وأخذ منازل أقوام أبوا أن يبيعوها ووضع لهم الأثمان فضجوا عليه عند البيت فقال: إنما جرّأكم عليّ حلمي عنكم وليني لكم، لقد فعل بكم عمر مثل هذا فأقررتم ورضيتم، ثم أمر بهم إلى الحبس حتى كلمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص فخلّى سبيلهم، ويقال: إن عثمان أول من اتخذ الأروقة حين وسع المسجد وزاد في سعة المسجد، فلما كان ابن الزبير زاد في إتقانه لا في سعته وجعل فيه عمدا من الرخام وزاد في أبوابه وحسّنها، فلما كان عبد الملك بن مروان زاد في ارتفاع حائط المسجد وحمل إليه السواري من مصر في البحر إلى جدّة واحتملت من جدّة على العجل إلى مكة، وأمر الحجّاج بن يوسف فكساها الديباج، فلما ولي الوليد بن عبد الملك زاد في حليتها وصرف في

ميزابها وسقفها ما كان في مائدة سليمان بن داود، عليه السلام، من ذهب وفضة وكانت قد حملت على بغل قوي فتفسّخ تحتها فضرب منها الوليد حلية الكعبة، وكانت هذه المائدة قد احتملت إليه من طليطلة بالأندلس لما فتحت تلك البلاد، وكان لها أطواق من ياقوت وزبرجد، فلما ولي المنصور وابنه المهدي زادا أيضا في إتقان المسجد وتحسين هيئته ولم يحدث فيه بعد ذلك عمل إلى الحين، وفي اشتراء عمر وعثمان الدور التي زاداها في المسجد دليل على أن رباع أهل مكة ملك لأهلها يتصرفون فيها بالبيع والشراء والكراء إذا شاءوا، وفيه اختلاف بين الفقهاء.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


169-معجم البلدان (مصر)

مِصْرُ:

سمّيت مصر بمصر بن مصرايم بن حام بن نوح، عليه السّلام، وهي من فتوح عمرو بن العاص في أيام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وقد استقصينا ذلك في الفسطاط، قال صاحب الزيج:

طول مصر أربع وخمسون درجة وثلثان، وعرضها تسع وعشرون درجة وربع، في الإقليم الثالث، وذكر ابن ما شاء الله المنجم أن مصر من إقليمين: من الإقليم الثالث مدينة الفسطاط، والإسكندرية، ومدن إخميم، وقوص، واهناس، والمقس، وكورة الفيوم، ومدينة القلزم، ومدن أتريب، وبنى، وما والى ذلك من أسفل الأرض، وإن عرض مدينة الإسكندرية وأتريب وبنى وما والى ذلك ثلاثون درجة، وإن عرض مصر وكورة الفيوم وما والى ذلك تسع وعشرون درجة، وإن عرض مدينة اهناس والقلزم ثمان وعشرون درجة، وإن عرض إخميم ست وعشرون درجة، ومن الإقليم الرابع تنيس ودمياط وما والى ذلك من أسفل الأرض، وإن عروضهنّ إحدى وثلاثون درجة، قال عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم في قوله تعالى: وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين، قال: يعني مصر، وإن مصر خزائن الأرضين كلها وسلطانها سلطان الأرضين كلها، ألا ترى إلى قول يوسف، عليه السّلام، لملك مصر: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم، ففعل فأغاث الله الناس بمصر وخزائنها، ولم يذكر، عز وجل، في كتابه مدينة بعينها بمدح غير مكة ومصر فإنه قال: أليس لي ملك مصر، وهذا تعظيم ومدح، وقال: اهبطوا مصرا، فمن لم يصرف فهو علم لهذا الموضع، وقوله تعالى: فإن لكم ما سألتم، تعظيم لها فإن موضعا يوجد فيه ما يسألون لا يكون إلا عظيما، وقوله تعالى: وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته، وقال: ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين، وقال: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوّا لقومكما بمصر بيوتا، وسمّى الله تعالى ملك مصر العزيز بقوله تعالى: وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه، وقالوا ليوسف حين ملك مصر: يا أيها العزيز مسّنا وأهلنا الضّرّ، فكانت هذه تحيّة عظمائهم، وأرض مصر أربعون ليلة في مثلها، طولها من الشجرتين اللتين كانتا بين رفح والعريش إلى أسوان، وعرضها من برقة إلى أيلة، وكانت منازل الفراعنة، واسمها باليونانية مقدونية، والمسافة ما بين بغداد إلى مصر خمسمائة وسبعون فرسخا، وروى أبو ميل أن عبد الله بن عمر الأشعري قدم من دمشق إلى مصر وبها عبد الرحمن بن عمرو ابن العاص فقال: ما أقدمك إلى بلدنا؟ قال: أنت أقدمتني، كنت حدثتنا أن مصر أسرع الأرض خرابا ثم أراك قد اتخذت فيها الرباع واطمأننت، فقال:

إن مصر قد وقع خرابها، دخلها بختنصر فلم يدع فيها حائطا قائما، فهذا هو الخراب الذي كان يتوقع لها، وهي اليوم أطيب الأرضين ترابا وأبعدها خرابا لن تزال فيها بركة ما دام في الأرض إنسان، قوله تعالى:

فإن لم يصبها وابل فطلّ، هي أرض مصر إن لم يصبها مطر زكت وإن أصابها أضعف زكاها، وقالوا:

مثلت الأرض على صورة طائر، فالبصرة ومصر الجناحان فإذا خربتا خربت الدنيا، وقرأت بخط أبي

عبد الله المرزباني حدثني أبو حازم القاضي قال: قال لي أحمد بن المدبّر أبو الحسن لو عمّرت مصر كلها لوفت بالدنيا، وقال لي: مساحة مصر ثمانية وعشرون ألف ألف فدّان وإنما يعمل فيها في ألف ألف فدّان، وقال لي: كنت أتقلّد الدواوين لا أبيت ليلة من الليالي وعليّ ش

يا أبا عبد الله أعلمت أن اللّقحة بعدك درّت؟ فقال:

نعم ولكنها أجاعت أولادها، وقال لنا أبو حازم:

إن هذا الذي رفعه عمرو بن العاص وابن أبي سرح إنما كان عن الجماجم خاصّة دون الخراج وغيره، ومن مفاخر مصر مارية القبطية أمّ إبراهيم ابن رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، ولم يرزق من امرأة ولدا ذكرا غيرها وهاجر أم إسماعيل، عليه السّلام، وإذا كانت أمّ إسماعيل فهي أم محمد، صلّى الله عليه وسلّم، وقال النبي، صلّى الله عليه وسلّم: إذا فتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيرا فإن لهم صهرا، وقرأت بخط محمد بن عبد الملك النارنجي حدثني محمد بن إسماعيل السلمي قال: قال إبراهيم بن محمد بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف وهو ابن عم أبي عبد الله محمد بن إدريس بن العباس الشافعي قال:

كتبت إلى أبي عبد الله عند قدومه مصر أسأله عن أهله في فصل من كتابي إليه فكتب إليّ: وسألت عن أهل البلد الذي أنا به وهم كما قال عباس بن مرداس السّلمي:

«إذا جاء باغي الخير قلن بشاشة *** له بوجوه كالدنانير: مرحبا»

«وأهلا ولا ممنوع خير تريده، *** ولا أنت تخشى عندنا أن تؤنّبا»

وفي رسالة لمحمد بن زياد الحارثي إلى الرشيد يشير عليه في أمر مصر لما قتلوا موسى بن مصعب يصف مصر وجلالتها: ومصر خزانة أمير المؤمنين التي يحمل عليها حمل مؤنة ثغوره وأطرافه ويقوّت بها عامّة جنده ورعيته مع اتصالها بالمغرب ومجاورتها أجناد الشام وبقية من بقايا العرب ومجمع عدد الناس فيما يجمع من ضروب المنافع والصناعات فليس أمرها بالصغير ولا فسادها بالهين ولا ما يلتمس به صلاحها بالأمر الذي يصير له على المشقة ويأتي بالرفق، وقد هاجر إلى مصر جماعة من الأنبياء وولدوا ودفنوا بها، منهم: يوسف الصدّيق، عليه السّلام، والأسباط وموسى وهارون، وزعموا أن المسيح، عليه السّلام، ولد بأهناس، وبها نخلة مريم، وقد وردها جماعة كثيرة من الصحابة الكرام، ومات بها طائفة أخرى، منهم: عمرو بن العاص وعبد الله بن الحارث الزبيدي وعبد الله بن حذافة السهمي وعقبة بن عامر الجهني وغيرهم، قال أمية:

يكتنف مصر من مبدئها في العرض إلى منتهاها جبلان أجردان غير شامخين متقاربان جدّا في وضعهما أحدهما في ضفّة النيل الشرقية وهو جبل المقطّم والآخر في الضّفّة الغربية منه والنيل منسرب فيما بينهما من لدن مدينة أسوان إلى أن ينتهيا إلى الفسطاط فثمّ تتّسع مسافة ما بينهما وتنفرج قليلا ويأخذ المقطم منها شرقا فيشرف على فسطاط مصر ويغرب الآخر على وراب من مسلكيهما وتعريج مسليكهما فتتسع أرض مصر من الفسطاط إلى ساحل البحر الرومي الذي عليه الفرما وتنّيس ودمياط ورشيد والإسكندرية،

ولذلك مهبّ الشمال يهب إلى القبلة شيئا مّا، فإذا بلغت آخر مصر عدت ذات الشمال واستقبلت الجنوب وتسير في الرمل وأنت متوجّه إلى القبلة فيكون الرمل من مصبّه عن يمينك إلى إفريقية وعن يسارك من أرض مصر الفيوم منها وأرض الواحات الأربع وذلك بغربي مصر وهو ما استقب

الفراعنة وظهر عليهم ورضوا بأن يملّكوه فملكهم خمسة من ملوك العمالقة: أولهم الوليد بن دوموز هذا ملكه نحوا من مائة سنة ثم افترسه سبع فأكل لحمه، ثم ملك ولده الريان صاحب يوسف، عليه السلام، ثم دارم بن الريان وفي زمانه توفي يوسف، عليه السّلام، ثم غرّق الله دا

كان من العرب من بليّ وكان أبرش قصيرا يطأ في لحيته، ملكها خمسمائة عام ثم غرّقه الله وأهلكه وهو الوليد بن مصعب، وزعم قوم أنه كان من قبط مصر ولم يكن من العمالقة، وخلت مصر بعد غرق فرعون من أكابر الرجال ولم يكن إلا العبيد والإماء والنساء والذراري فولوا عليهم دلوكة، كما ذكرناه في حائط العجوز، فملكتهم عشرين سنة حتى بلغ من أبناء أكابرهم وأشرافهم من قوي على تدبير الملك فملّكوه وهو دركون بن بلوطس، وفي رواية بلطوس، وهو الذي خاف الروم فشق من بحر الظلمات شقّا ليكون حاظرا بينه وبين الروم، ولم يزل الملك في أشراف القبط من أهل مصر من ولد دركون هذا وغيره وهي ممتنعة بتدبير تلك العجوز نحو أربعمائة سنة إلى أن قدم بختنصر إلى بيت المقدس وظهر على بني إسرائيل وخرّب بلادهم فلحقت طائفة من بني إسرائيل بقومس بن نقناس ملك مصر يومئذ لما يعلمون من منعته فأرسل إليه بختنصر يأمره أن يردّهم إليه وإلا غزاه، فامتنع من ردّهم وشتمه فغزاه بختنصر فأقام يقاتله سنة فظهر عليه بختنصر فقتله وسبى أهل مصر ولم يترك بها أحدا وبقيت مصر خرابا أربعين سنة ليس بها أحد يجري نيلها في كل عام ولا ينتفع به حتى خرّبها وخرّب قناطرها والجسور والشروع وجميع مصالحها إلى أن دخلها ارميا النبي، عليه السّلام، فملكها وعمّرها وأعاد أهلها إليها، وقيل: بل الذي ردّهم إليها بختنصر بعد أربعين سنة فعمّروها وملّك عليها رجلا منهم فلم تزل مصر منذ ذلك الوقت مقهورة، ثم ظهرت الروم وفارس على جميع الممالك والملوك الذين في وسط الأرض فقاتلت الروم أهل مصر ثلاثين سنة وحاصروهم برّا وبحرا إلى أن صالحوهم على شيء يدفعونه إليهم في كل عام على أن يمنعوهم ويكونوا في ذمتهم، ثم ظهرت فارس على الروم وغلبوهم على الشام وألحّوا على مصر بالقتال، ثم استقرّت الحال على خراج ضرب على مصر من فارس والروم في كل عام وأقاموا على ذلك تسع سنين ثم غلبت الروم فارس وأخرجتهم من الشام وصار صلح مصر. كله خالصا للروم وذلك في عهد رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، في أيام الحديبية وظهور الإسلام، وكان الروم قد بنوا موضع الفسطاط الذي هو مدينة مصر اليوم حصنا سموه قصر اليون وقصر الشام وقصر الشمع، ولما غزا الروم عمرو بن العاص تحصّنوا بهذا الحصن وجرت لهم حروب إلى أن فتحوا البلاد، كما نذكره إن شاء الله تعالى في الفسطاط، وجميع ما ذكرته ههنا إلا بعض اشتقاق مصر من كتاب الخطط الذي ألّفه أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعي، وقال أميّة: ومصر كلها بأسرها واقعة من المعمورة في قسم الإقليم الثاني والإقليم الثالث معظمها في الثالث، وأما سكان أرض مصر فأخلاط من الناس مختلفو الأصناف من قبط وروم وعرب وبربر وأكراد وديلم وأرمن وحبشان وغير ذلك من الأصناف والأجناس إلا أن جمهورهم قبط، والسبب في اختلاطهم تداول المالكين لها والمتغلّبين عليها من العمالقة واليونانيين والروم والعرب وغيرهم فلهذا اختلطت أنسابهم واقتصروا من

الانتساب على ذكر مساقط رؤوسهم، وكانوا قديما عبّاد أصنام ومدبّري هياكل إلى أن ظهر دين النصرانية بمصر فتنصّروا وبقوا على ذلك إلى أن فتحها المسلمون في أيام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فأسلم بعضهم وبقي البعض على دين النصرانية، وغالب مذهبهم يعاقبة، قال: أم

ومن عجائب مصر النّمس وليس يرى في غيرها وهو دويبة كأنها قديدة فإذا رأت الثعبان دنت منه فيتطوّى عليها ليأكلها فإذا صارت في فمه زفرت زفرة وانتفخت انتفاخا عظيما فينقدّ الثعبان من شدّته قطعتين، ولولا هذا النمس لأكلت الثعابين أهل مصر وهي أنفع لأهل مصر من القنافذ لأهل سجستان، قال الجاحظ: من عيوب مصر أن المطر مكروه بها، قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ 7: 57، يعني المطر وهم لرحمة الله كارهون وهو لهم غير موافق ولا تزكو عليه زروعهم، وفي ذلك يقول بعض الشعراء:

«يقولون مصر أخصب الأرض كلها، *** فقلت لهم: بغداد أخصب من مصر»

«وما خصب قوم تجدب الأرض عندهم *** بما فيه خصب العالمين من القطر»

«إذا بشّروا بالغيث ريعت قلوبهم *** كما ريع في الظلماء سرب القطا الكدر»

قالوا: وكان المقوقس قد تضمّن مصر من هرقل بتسعة عشر ألف ألف دينار وكان يجبيها عشرين ألف ألف دينار وجعلها عمرو بن العاص عشرة آلاف ألف دينار أول عام وفي العام الثاني اثني عشر ألف ألف، ولما وليها في أيام معاوية جباها تسعة آلاف ألف دينار، وجباها عبد الله بن سعد بن أبي سرح أربعة عشر ألف ألف دينار، وقال صاحب الخراج: إن نيل مصر إذا رقي ستة عشر ذراعا وافى خراجها كما جرت عادته، فإن زاد ذراعا آخر زاد في خراجها مائة ألف دينار لما يروي من الأعالي، فإن زاد ذراعا آخر نقص من الخراج الأول مائة ألف دينار لما يستبحر من البطون، قال كشاجم يصف مصر:

«أما ترى مصر كيف قد جمعت *** بها صنوف الرياح في مجلس»

«السوسن الغضّ والبنفسج وال *** ورد وصنف البهار والنرجس»

«كأنها الجنّة التي جمعت *** ما تشتهيه العيون والأنفس»

«كأنما الأرض ألبست حللا *** من فاخر العبقريّ والسّندس»

وقال شاعر آخر يهجو مصر:

«مصر دار الفاسقينا *** تستفزّ السامعينا»

«فإذا شاهدت شاهد *** ت جنونا ومجونا»

«وصفاعا وضراطا *** وبغاء وقرونا»

«وشيوخا ونساء *** قد جعلن الفسق دينا»

«فهي موت الناسكينا *** وحياة النائكينا»

وقال كاتب من أهل البندنيجين يذمّ مصر:

«هل غاية من بعد مصر أجيئها *** للرزق من قذف المحل سحيق»

«لم يأل من حطّت بمصر ركابه *** للرزق من سبب لديه وثيق»

«نادته من أقصى البلاد بذكرها، *** وتغشّه من بعد بالتعويق»

«كم قد جشمت على المكاره دونها *** من كل مشتبه الفجاج عميق»

«وقطعت من عافي الصّوى متخرّقا *** ما بين هيت إلى مخارم فيق»

«فعريش مصر هناك فالفرما إلى *** تنّيسها ودميرة ودبيق»

«برّا وبحرا قد سلكتهما إلى *** فسطاطها ومحلّ أيّ فريق»

«ورأيت أدنى خيرها من طالب *** أدنى لطالبها من العيّوق»

«قلّت منافعها فضجّ ولاتها، *** وشكا التّجار بها كساد السوق»

«ما إن يرى فيها الغريب إذا رأى *** شيئا سوى الخيلاء والتبريق»

«قد فضّلوا جهلا مقطّمهم على *** بيت بمكة للإله عتيق»

«لمصارع لم يبق في أجداثهم *** منهم صدى برّ ولا صدّيق»

«إن همّ فاعلهم فغير موفّق، *** أو قال قائلهم فغير صدوق»

«شيع الضلال وحزب كل منافق *** ومضارع للبغي والتّنفيق»

«أخلاق فرعون اللعينة فيهم، *** والقول بالتشبيه والمخلوق»

«لولا اعتزال فيهم وترفّض *** من عصبة لدعوت بالتّغريق»

وبعد هذا أبيات ذكرتها في رحا البطريق، وما زالت مصر منازل العرب من قضاعة وبليّ واليمن، ألا ترى إلى جميل حيث يقول:

«إذا حلّت بمصر وحلّ أهلي *** بيثرب بين آطام ولوب»

«مجاورة بمسكنها تجيبا، *** وما هي حين تسأل من مجيب»

«وأهوى الأرض عندي حيث حلّت *** بجدب في المنازل أو خصيب»

وبمصر من المشاهد والمزارات: بالقاهرة مشهد به رأس الحسين بن علي، رضي الله عنه، نقل إليها من عسقلان لما أخذ الفرنج عسقلان وهو خلف دار المملكة يزار، وبظاهر القاهرة مشهد صخرة موسى ابن عمران، عليه السّلام، به أثر أصابع يقال إنها أصابعه فيه اختفى من فرعون لما خافه، وبين مصر والقاهرة قبّة يقال إنها قبر السيدة نفيسة بنت الحسن ابن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ومشهد يقال إن فيه قبر فاطمة بنت محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق وقبر آمنة بنت محمد الباقر، ومشهد فيه قبر رقيّة بنت علي بن أبي طالب، ومشهد فيه قبر آسية بنت مزاحم زوجة فرعون، والله أعلم، وبالقرافة الصغرى قبر الإمام الشافعي، رضي الله عنه، وعنده في القبة قبر علي بن الحسين بن علي زين العابدين وقبر الشيخ أبي عبد الله الكيراني وقبور أولاد عبد الحكم من أصحاب الشافعي، وبالقرب منها مشهد يقال إن فيه قبر علي بن عبد الله بن القاسم ابن محمد بن جعفر الصادق وقبر آمنة بنت موسى الكاظم في مشهد، ومشهد فيه قبر يحيى بن الحسين بن

زيد بن الحسين بن علي بن أبي طالب وقبر أمّ عبد الله بنت القاسم بن محمد بن جعفر الصادق وقبر عيسى بن عبد الله بن القاسم بن محمد بن جعفر الصادق، ومشهد فيه قبر كلثم بنت القاسم بن محمد بن جعفر الصادق، وعلى باب الكورتين مشهد فيه مدفن رأس زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الذي قتل بالكوفة وأحرق وحمل رأسه فطيف به الشام ثم حمل إلى مصر فدفن هناك، وعلى باب درب معالي قبة لحمزة بن سلعة القرشي، وعلى باب درب الشعارين المسجد الذي باعوا فيه يوسف الصديق، عليه السلام، وبها غير ذلك مما يطول شرحه، منهم بالقرافة يحيى ابن عثمان الأنصاري وعبد الرحمن بن عوف، والصحيح أنه بالمدينة، وقبر صاحب انكلوته وقبر عبد الله بن حذيفة بن اليمان وقبر عبد الله مولى عائشة وقبر عروة وأولاده وقبر دحية الكلبي وقبر عبد الله بن سعيد الأنصاري وقبر سارية وأصحابه وقبر معاذ بن جبل، والمشهور أنه بالأردنّ، وقبر معن بن زائدة، والمشهور أنه بسجستان، وقبر ابنين لأبي هريرة ولا أعرف اسميهما وقبر روبيل بن يعقوب وقبر اليسع وقبر يهوذا بن يعقوب وقبر ذي النون المصري وقبر خال رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، وهو أخو حليمة السعدية، وقبر رجل من أولاد أبي بكر الصديق وقبر أبي مسلم الخولاني وهو بغباغب من أعمال دمشق، ويقال الخولاني عند داريا، وقبر عبد الله بن عبد الرحمن الزهري، وبالقرافة أيضا قبر أشهب وعبد الرحمن بن القاسم وورش المدني وقبر أبي الثريا وعبد الكريم بن الحسن ومقام ذي النون النبيّ وقبر شقران وقبر الكر وأحمد الروذباري وقبر الزيدي وقبر العبشاء وقبر علي السقطي وقبر الناطق والصامت وقبر زعارة وقبر الشيخ بكّار وقبر أبي الحسن الدينوري وقبر الحميري وقبر ابن طباطبا وقبور كثير من الأنبياء والأولياء والصدّيقين والشهداء، ولو أردنا حصرهم لطال الشرح.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


170-معجم البلدان (المقدس)

المَقْدِسُ:

في اللغة المنزه، قال المفسرون في قوله تعالى:

وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ 2: 30، قال الزّجاج: معنى نقدس لك أي نطهّر أنفسنا لك وكذلك نفعل بمن أطاعك نقدسه أي نطهّره، قال: ومن هذا قيل للسطل القدس لأنه يتقدّس منه أي يتطهّر، قال:

ومن هذا بيت المقدس، كذا ضبطه بفتح أوله، وسكون ثانيه، وتخفيف الدال وكسرها، أي البيت المقدّس المطهّر الذي يتطهر به من الذنوب، قال مروان:

«قل للفرزدق، والسفاهة كاسمها: *** إن كنت تارك ما أمرتك فاجلس»

«ودع المدينة إنها محذورة، *** والحق بمكة أو بيت المقدس»

وقال قتادة: المراد بأرض المقدس أي المبارك، وإليه ذهب ابن الأعرابي، ومنه قيل للراهب مقدّس، ومنه قول امرئ القيس:

«فأدركنه يأخذن بالساق والنّسا *** كما شبرق الولدان ثوب المقدّس»

وصبيان النصارى يتبرّكون به وبمسح مسحه الذي هو لابسه وأخذ خيوطه منه حتى يتمزق عنه ثوبه، وفضائل بيت المقدس كثيرة ولا بدّ من ذكر شيء منها حتى يستحسنه المطّلع عليه، قال مقاتل بن سليمان قوله تعالى: وَنَجَّيْناهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ، 21: 71 قال: هي بيت المقدس، وقوله تعالى لبني إسرائيل: وواعدناكم جانب الطور الأيمن، يعني بيت المقدس، وقوله تعالى: وجعلنا ابن مريم وأمه آيتين وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين، قال:

البيت المقدس، وقال تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا من الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى 17: 1، هو بيت المقدس، وقوله تعالى: في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، البيت المقدس، وفي الخبر: من صلى في بيت المقدس فكأنما صلى في السماء، ورفع الله عيسى بن مريم إلى السماء من بيت المقدس وفيه مهبطه إذا هبط وتزفّ الكعبة بجميع حجّاجها إلى البيت المقدس يقال لها مرحبا بالزائر والمزور، وتزف جميع مساجد الأرض إلى البيت المقدس، أول شيء حسر عنه بعد الطوفان صخرة بيت المقدس وفيه ينفخ في الصور يوم القيامة وعلى صخرته ينادي المنادي يوم القيامة، وقد قال الله تعالى لسليمان بن داود، عليهما السلام، حين فرغ من بناء البيت المقدس:

سلني أعطك، قال: يا رب أسألك أن تغفر لي ذنبي، قال: لك ذلك، قال: يا رب وأسألك أن تغفر لمن جاء هذا البيت يريد الصلاة فيه وأن تخرجه من ذنوبه كيوم ولد، قال: لك ذلك، قال: وأسألك من جاء فقيرا أن تغنيه، قال: لك ذلك، قال:

وأسألك من جاء سقيما أن تشفيه، قال: ولك ذلك، وعن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام ومسجد البيت المقدس، وإن الصلاة في بيت المقدس خير من ألف صلاة في غيره، وأقرب بقعة في الأرض من السماء البيت المقدس ويمنع الدّجال من دخولها ويهلك يأجوج ومأجوج دونها، وأوصى آدم، عليه السّلام، أن يدفن بها وكذلك إسحاق وإبراهيم، وحمل يعقوب من أرض مصر حتى دفن بها، وأوصى يوسف، عليه السّلام، حين مات بأرض مصر أن يحمل إليها، وهاجر إبراهيم من كوثى إليها، وإليها المحشر ومنها المنشر، وتاب الله على داود بها، وصدّق إبراهيم الرؤيا بها، وكلّم عيسى الناس في المهد بها، وتقاد الجنة يوم القيامة إليها ومنها يتفرّق

الناس إلى الجنة أو إلى النار، وروي عن كعب أن جميع الأنبياء، عليهم السلام، زاروا بيت المقدس تعظيما له، وروي عن كعب أنه قال: لا تسمّوا بيت المقدس إيلياء ولكن سموه باسمه فإن إيلياء امرأة بنت المدينة، وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله، صلّى الله عليه

الورع كان يظهر خياله في الحائط أبيض والفاجر يظهر خياله أسود، وكان أيضا مما اتخذ من الأعاجيب أن ينصب في زاوية من زواياه عصا آبنوس فكان من مسها من أولاد الأنبياء لم تضرّه ومن مسها من غيرهم أحرقت يده، وقد وصفها القدماء بصفات إن استقصيتها أمللت القارئ، وال

قتل أرضا عالمها وقتلت أرض جاهلها، هذا قول أبي عبد الله محمد بن أحمد بن البنّاء البشّاري المقدسي له كتاب في أخبار بلدان الإسلام وقد وصف بيت المقدس فأحسن فالأولى أن نذكر قوله لأنه أعرف ببلده وإن كان قد تغير بعده بعض معالمها، قال: هي متوسطة الحرّ والبرد قلّ ما يقع فيها ثلج، قال:

وسألني القاضي أبو القاسم عن الهواء بها فقلت: سجسج لا حرّ ولا برد، فقال: هذه صفة الجنّة، قلت:

بنيانهم حجر لا ترى أحسن منه ولا أنفس منه ولا أعفّ من أهلها ولا أطيب من العيش بها ولا أنظف من أسواقها ولا أكبر من مسجدها ولا أكثر من مشاهدها، وكنت يوما في مجلس القاضي المختار أبي يحيى بهرام بالبصرة فجرى ذكر مصر إلى أن سئلت: أيّ بلد أجلّ؟ قلت: بلدنا، قيل: فأيهما أطيب؟ قلت: بلدنا، قيل: فأيهما أفضل؟ قلت: بلدنا، قيل: فأيهما أحسن؟ قلت:

بلدنا، قيل: فأيهما أكثر خيرات؟ قلت: بلدنا، قيل: فأيهما أكبر؟ قلت: بلدنا، فتعجب أهل المجلس من ذلك وقيل: أنت رجل محصّل وقد ادّعيت ما لا يقبل منك وما مثك إلا كصاحب

الناقة مع الحجاج، قلت: أما قولي أجلّ فلأنها بلدة جمعت الدنيا والآخرة فمن كان من أبناء الدنيا وأراد الآخرة وجد سوقها، ومن كان من أبناء الآخرة فدعته نفسه إلى نعمة الدنيا وجدها، وأما طيب هوائها فإنه لا سمّ لبردها ولا أذى لحرها، وأما الحسن فلا يرى أحسن من

باب صهيون وباب النية وباب البلاط وباب جب ارميا وباب سلوان وباب أريحا وباب العمود وباب محراب داود، عليه السّلام، والماء بها واسع، وقيل: ليس ببيت المقدس أكثر من الماء والأذان قلّ أن يكون بها دار ليس بها صهريج أو صهريجان أو ثلاثة على قدر كبرها وصغرها، وبها ثلاث برك عظام: بركة بني إسرائيل وبركة سليمان وبركة عياض عليها حمّاماتهم لها دواع من الأزقة، وفي المسجد عشرون جبّا مشجّرة قلّ أن تكون حارة ليس بها جبّ مسيل غير أن مياها من الأزقة وقد عمد إلى واد فجعل بركتين تجتمع إليهما السيول في الشتاء وقد شقّ منهما قناه إلى البلد تدخل وقت الربيع فتدخل صهاريج الجامع وغيرها، وأما المسجد الأقصى فهو على قرنة البلد الشرقي نحو القبلة أساسه من عمل داود، طول الحجر عشرة أذرع وأقلّ منقوشة موجّهة مؤلفة صلبة وقد بنى عليه عبد الملك بحجارة صغار حسان وشرّفوه وكان أحسن من جامع دمشق لكن جاءت زلزلة في أيام بني العباس فطرحته إلّا ما حول المحراب، فلما بلغ الخليفة خبره أراد رده مثلما كان فقيل له:

تعيا ولا تقدر على ذلك، فكتب إلى أمراء الأطراف والقوّاد يأمرهم أن يبني كل واحد منهم رواقا، فبنوه أوثق وأغلظ صناعة مما كان، وبقيت تلك القطعة شامة فيه وهي إلى حذاء الأعمدة الرخام، وما كان من الأساطين المشيدة فهو محدث، وللمغطى ستة وعشرون بابا: باب يقابل المحراب يسمّى باب النحاس الأعظم مصفح بالصفر المذهّب لا يفتح مصراعه إلا رجل شديد القوّة عن يمينه سبعة أبواب كبار في وسطها باب مصفح مذهب وعلى اليسار مثلها وفي نحو المشرق أحد عشر بابا سواذج وخمسة عشر رواقا على أعمدة رخام أحدثها عبد الله بن طاهر، وعلى الصحن من الميمنة أروقة على أعمدة رخام وأساطين، وعلى المؤخر أروقة ازاج من الحجارة، وعلى وسط المغطى جمل عظيم خلف قبة حسنة، والسقوف كلها

إلّا المؤخر ملبسة بشقاق الرصاص والمؤخر مرصوف بالفسيفساء الكبار والصحن كله مبلط، وفي وسط الرواق دكة مربعة مثل مسجد يثرب يصعد إليها من أربع جهاتها بمراق واسعة، وفي الدكة أربع قباب:

قبة السلسلة وقبة المعراج وقبة النبي، صلّى الله عليه وسلّم، وهذه الثلاث الصغار ملبسة بالرصاص على أعمدة رخام مكشوفة، وفي وسط الدكة قبة الصخرة على بيت مثمن بأربعة أبواب كل باب يقابل مرقاة من مراقي الدكة، وهي: الباب القبليّ وباب إسرافيل وباب الصور وباب النساء، وهو الذي يفتح إلى المغرب، جميعها مذهبة في وجه كل واحد باب مليح من خشب التّنّوب، وكانت قد أمرت بعملها أمّ المقتدر بالله، وعلى كل باب صفّة مرخمة والتنّوبيّة مطبّقة على الصفرية من خارج، وعلى أبواب الصفّات أبواب أيضا سواذج داخل البيت ثلاثة أروقة دائرة على أعمدة معجونة أجلّ من الرخام وأحسن لا نظير لها قد عقدت عليه أروقة لاطئة داخلة في رواق آخر مستدير على الصخرة على أعمدة معجونة بقناطر مدورة فوق هذه منطقة متعالية في الهواء فيها طاقات كبار والقبة فوق المنطقة طولها غير القاعدة الكبرى مع السّفّود في الهواء مائة ذراع ترى من البعد فوقها سفود حسن طوله قامة وبسطة، والقبة على عظمها ملبسة بالصفر المذهب وأرض البيت مع حيطانه، والمنطقة من داخل وخارج على صفة جامع دمشق، والقبة ثلاث سافات: الأولى مروّقة على الألواح، والثانية من أعمدة الحديد قد شبكت لئلا تميلها الرياح، ثم الثالثة من خشب عليها الصفائح وفي وسطها طريق إلى عند السفود يصعد منها الصّنّاع لتفقدها ورمّها فإذا بزغت عليها الشمس أشرقت القبة وتلألأت المنطقة ورؤيت شيئا عجيبا، وعلى الجملة لم أر في الإسلام ولا سمعت أن في الشرك مثل هذه القبة، ويدخل المسجد من ثلاثة عشر موضعا بعشرين بابا، منها:

باب الحطّة وباب النبي، عليه الصلاة والسلام، وباب محراب مريم وباب الرحمة وباب بركة بني إسرائيل وباب الأسباط وباب الهاشميين وباب الوليد وباب إبراهيم، عليه السلام، وباب أمّ خالد وباب داود، عليه السّلام، وفيه من المشاهد محراب مريم وزكرياء ويعقوب والخضر ومقام النبي، صلى الله عليه وسلم، وجبرائيل وموضع المنهل والنور والكعبة والصراط متفرقة فيه وليس على الميسرة أروقة، والمغطى لا يتصل بالحائط الشرقي وإنما ترك هذا البعض لسبين أحدهما قول عمر: واتخذوا في غربي هذا المسجد مصلّى للمسلمين، فتركت هذه القطعة لئلا يخالف، والآخر لو مدّ المغطى إلى الزاوية لم تقع الصخرة حذاء المحراب فكرهوا ذلك، والله أعلم، وطول المسجد ألف ذراع بالذراع الهاشمي، وعرضه سبعمائة ذراع، وفي سقوفه من الخشب أربعة آلاف خشبة وسبعمائة عمود رخام، وعلى السقوف خمسة وأربعون ألف شقة رصاص، وحجم الصخرة ثلاثة وثلاثون ذراعا في سبعة وعشرين، وتحت الصخرة مغارة تزار ويصلّى فيها تسع مائة وستين نفسا، وكانت وظيفته كل شهر مائة دينار، وفي كل سنة ثمانمائة ألف ذراع حصرا، وخدّامه مماليك له أقامهم عبد الملك من خمس الأسارى ولذلك يسمّون الأخماس لا يخدمه غيرهم ولهم نوب يحفظونها، وقال المنجمون:

المقدس طوله ست وخمسون درجة، وعرضه ثلاث وثلاثون درجة، في الإقليم الثالث، وأما فتحها في أول الإسلام إلى يومنا هذا فإن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنفذ عمرو بن العاص إلى فلسطين ثم نزل البيت المقدس فامتنع عليه فقدم أبو عبيدة بن الجرّاح

بعد أن افتتح قنّسرين وذلك في سنة 16 للهجرة فطلب أهل بيت المقدس من أبي عبيدة الأمان والصلح على مثل ما صولح عليه أهل مدن الشام من أداء الجزية والخراج والدخول فيما دخل فيه نظراؤهم على أن يكون المتولّي للعقد لهم عمر بن الخطاب، فكتب أبو عبيدة بذلك إلى عمر ف

«أهيم بقاع القدس ما هبّت الصّبا، *** فتلك رباع الأنس في زمن الصّبا»

«وما زلت في شوقي إليها مواصلا *** سلامي على تلك المعاهد والرّبى»

والحمد لله الذي وفّقني لزيارته، وينسب إلى بيت المقدس جماعة من العبّاد الصالحين والفقهاء، منهم:

نصر بن إبراهيم بن نصر بن إبراهيم بن داود أبو الفتح المقدسي الفقيه الشافعي الزاهد أصله من طرابلس وسكن بيت المقدس ودرّس بها وكان قد سمع بدمشق من أبي الحسن السمسار وأبي الحسن محمد بن عوف وابن سعدان وابن شكران وأبي القاسم وابن الطبري، وسمع بآمد هبة الله بن سليمان وسليم بن أيوب بصور وعليه تفقّه وعلى محمد بن البيان الكازروني، وروى عنه أبو بكر الخطيب وعمر بن عبد الكريم

الدهستاني وأبو القاسم النسيب وأبو الفتح نصر الله اللاذقي وأبو محمد بن طاووس وجماعة، وكان قدم دمشق في سنة 71 في نصف صفر ثم خرج إلى صور وأقام بها نحو عشر سنين ثم قدم دمشق سنة 80 فأقام بها يحدث ويدرّس إلى أن مات، وكان فقيها فاضلا زاهدا عابدا ورعا أقام بدم

نحو ثلاثمائة جزء وما كتبت منها حرفا وأنا على غير وضوء، أو كما قال، وزاره تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان يوما فلم يقم إليه وسأله عن أحلّ الأموال السلطانية فقال: أموال الجزية، فخرج من عنده وأرسل إليه بمبلغ من المال وقال له: هذا من مال الجزية، ففرّقه على الأصحاب ولم يقبله وقال: لا حاجة لنا إليه، فلما ذهب الرسول لامه الفقيه أبو الفتح نصر الله بن محمد وقال له: قد علمت حاجتنا إليه فلو كنت قبلته وفرّقته فينا، فقال: لا تجزع من فوته فلسوف يأتيك من الدنيا ما يكفيك فيما بعد، فكان كما تفرّس فيه، وذكر بعض أهل العلم قال: صحبت أبا المعالي الجويني بخراسان ثم قدمت العراق فصحبت الشيخ أبا إسحاق الشيرازي فكانت طريقته عندي أفضل من طريقة الجويني، ثم قدمت الشام فرأيت الفقيه أبا الفتح فكانت طريقته أحسن من طريقتهما جميعا، وتوفي الشيخ أبو الفتح يوم الثلاثاء التاسع من المحرم سنة 490 بدمشق ودفن بباب الصغير، ولم تر جنازة أوفر خلقا من جنازته، رحمة الله عليه، ومحمد بن طاهر بن علي بن أحمد أبو الفضل المقدسي الحافظ ويعرف بابن القيسراني، طاف في طلب الحديث وسمع بالشام وبمصر والعراق وخراسان والجبل وفارس، وسمع بمصر من الجبّاني وأبي الحسن الخلعي، قال: وسمعت أبا القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الحافظ يقول: أحفظ من رائيّة محمد ابن طاهر ما هو هذا:

«إلى كم أمنّي النفس بالقرب واللّقا *** بيوم إلى يوم وشهر إلى شهر؟»

«وحتّام لا أحظى بوصل أحبّتي *** وأشكو إليهم ما لقيت من الهجر؟»

«فلو كان قلبي من حديد أذابه *** فراقكم أو كان من صالب الصخر»

«ولمّا رأيت البين يزداد والنّوى *** تمثّلت بيتا قيل في سالف الدهر: »

«متى يستريح القلب، والقلب متعب، *** ببين على بين وهجر على هجر؟»

قال الحافظ: سمعت أبا العلاء الحسن بن أحمد الهمذاني الحافظ ببغداد يذكر أن أبا الفضل ابتلي بهوى امرأة من أهل الرستاق كانت تسكن قرية على ستة فراسخ فكان يذهب كل ليلة فيرقبها فيراها تغزل في ضوء السراج ثم يرجع إلى همذان فكان يمشي كل يوم وليلة اثني عشر فرسخا، ومات ابن طاهر ودفن عند القبر الذي على جبلها يقال له قبر رابعة العدوية وليس هو بقبرها إنما قبرها بالبصرة وأما القبر الذي هناك فهو قبر رابعة زوجة أحمد بن أبي الحواري الكاتب وقد اشتبه على الناس.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


171-معجم البلدان (مكة)

مَكَّةُ:

بيت الله الحرام، قال بطليموس: طولها من جهة المغرب ثمان وسبعون درجة، وعرضها ثلاث وعشرون درجة، وقيل إحدى وعشرون، تحت نقطة السرطان، طالعها الثريّا، بيت حياتها الثور، وهي في الإقليم الثاني، أما اشتقاقها ففيه أقوال، قال أبو بكر بن الأنباري: سميت مكة لأنها تمكّ الجبّارين أي تذهب نخوتهم، ويقال إنما سميت مكة لازدحام الناس بها من قولهم: قد امتكّ الفصيل ضرع أمّه إذا مصه مصّا شديدا، وسميت بكة لازدحام الناس بها، قاله أبو عبيدة وأنشد:

«إذا الشريب أخذته أكّه *** فخلّه حتى يبكّ بكّه»

ويقال: مكة اسم المدينة وبكة اسم البيت، وقال آخرون: مكة هي بكة والميم بدل من الباء كما قالوا:

ما هذا بضربة لازب ولازم، وقال أبو القاسم: هذا الذي ذكره أبو بكر في مكة وفيها أقوال أخر نذكرها لك، قال الشرقيّ بن القطاميّ: إنما سميت مكة لأن العرب في الجاهلية كانت تقول لا يتم حجّنا حتى نأتي مكان الكعبة فنمكّ فيه أي نصفر صفير المكّاء حول الكعبة، وكانوا يصفرون ويصفقون بأيديهم إذا طافوا بها، والمكّاء، بتشديد الكاف: طائر يأوي الرياض، قال أعرابيّ ورد الحضر فرأى مكّاء يصيح فحنّ إلى بلاده فقال:

«ألا أيّها المكّاء ما لك ههنا *** ألاء ولا شيح فأين تبيض»

«فاصعد إلى أرض المكاكي واجتنب *** قرى الشام لا تصبح وأنت مريض»

والمكاء، بتخفيف الكاف والمد: الصفير، فكأنهم كانوا يحكون صوت المكّاء، ولو كان الصفير هو الغرض لم يكن مخفّفا، وقال قوم: سميت مكة لأنها بين جبلين مرتفعين عليها وهي في هبطة بمنزلة المكّوك، والمكوك عربيّ أو معرب قد تكلمت به العرب وجاء في أشعار الفصحاء، قال

«والمكاكيّ والصّحاف من الف *** ضّة والضامرات تحت الرحال»

قال وأما قولهم: إنما سميت مكة لازدحام الناس فيها من قولهم: قد امتكّ الفصيل ما في ضرع أمه إذا مصّه مصّا شديدا فغلط في التأويل لا يشبّه مص الفصيل الناقة بازدحام الناس وإنما هما قولان: يقال سميت مكة لازدحام الناس فيها، ويقال أيضا: سميت مكة لأنها عبّدت الناس فيها فيأتونها من جميع الأطراف من قولهم: امتكّ الفصيل أخلاف الناقة إذا جذب جميع ما فيها جذبا شديدا فلم يبق فيها شيئا، وهذا قول أهل اللغة، وقال آخرون: سميت مكة لأنها لا يفجر بها أحد إلا بكّت عنقه فكان يصبح وقد التوت عنقه، وقال الشرقيّ: روي أن بكة اسم القرية ومكة مغزى بذي طوى لا يراه أحد ممن مرّ من أهل الشام والعراق واليمن والبصرة وإنما هي أبيات في أسفل ثنية ذي طوى، وقال آخرون: بكة موضع البيت وما حول البيت مكة، قال: وهذه خمسة أقوال في مكة غير ما ذكره ابن الأنباري، وقال عبيد الله الفقير إليه: ووجدت أنا أنها سمّيت مكة من مك الثدي أي مصه لقلة مائها لأنهم كانوا يمتكون الماء أي يستخرجونه، وقيل: إنها تمك الذنوب أي تذهب بها كما يمك الفصيل ضرع أمه فلا يبقي فيه شيئا، وقيل: سميت مكة لأنها تمك من ظلم أي تنقصه، وينشد قول بعضهم:

«يا مكة الفاجر مكي مكّا، *** ولا تمكّي مذحجا وعكّا»

وروي عن مغيرة بن إبراهيم قال: بكة موضع البيت وموضع القرية مكة، وقيل: إنما سميت بكة لأن الأقدام تبك بعضها بعضا، وعن يحيى بن أبي أنيسة قال: بكة موضع البيت ومكة هو الحرم كله، وقال زيد بن أسلم: بكة الكعبة والمسجد ومكة ذو طوى وهو بطن الوادي الذي ذكره الله تعالى في سورة الفتح، ولها أسماء غير ذلك، وهي: مكة وبكة والنسّاسة وأم رحم وأم القرى ومعاد والحاطمة لأنها تحطم من استخفّ بها، وسمّي البيت العتيق لأنه عتق من الجبابرة، والرأس لأنها مثل رأس الإنسان، والحرم وصلاح والبلد الأمين والعرش والقادس لأنها تقدس من الذنوب أي تطهر، والمقدسة والناسّة والباسّة، بالباء الموحدة، لأنها تبسّ أي تحطم الملحدين وقيل تخرجهم، وكوثى باسم بقعة كانت منزل بني عبد الدار، والمذهب في قول بشر بن أبي خازم:

وما ضمّ جياد المصلّى ومذهب

وسماها الله تعالى أم القرى فقال: لتنذر أم القرى ومن حولها، وسماها الله تعالى البلد الأمين في قوله تعالى: والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين، وقال تعالى: لا أقسم بهذا البلد وأنت حلّ بهذا البلد، وقال تعالى: وليطّوّفوا بالبيت العتيق، وقال تعالى: جَعَلَ الله الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِيامًا لِلنَّاسِ، 5: 97 وقال تعالى على لسان إبراهيم، عليه السّلام:

رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ، 14: 35 وقال تعالى أيضا على لسان إبراهيم، عليه السلام: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ من ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي

زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ 14: 37 (الآية)، ولما خرج رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، من مكة وقف على الحزورة قال: إني لأعلم أنك أحبّ البلاد إليّ وأنك أحب أرض الله إلى الله ولولا أن المشركين أخرجوني منك ما خرجت، وقالت عائشة، رضي الله عنها: لولا

«يا حبّذا مكة من وادي، *** أرض بها أهلي وعوّادي»

«أرض بها ترسخ أوتادي، *** أرض بها أمشي بلا هادي»

ولما قدم رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، المدينة هو وأبو بكر وبلال فكان أبو بكر إذا أخذته الحمّى يقول:

«كلّ امرئ مصبّح في أهله، *** والموت أدنى من شراك نعله»

وكان بلال إذا انقشعت عنه رفع عقيرته وقال:

«ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة *** بفخّ وعندي إذخر وجليل؟»

«وهل أردن يوما مياه مجنّة، *** وهل يبدون لي شامة وطفيل؟»

اللهم العن شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من مكة! ووقف رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، عام الفتح على جمرة العقبة وقال:

والله إنك لخير أرض الله وإنك لأحب أرض الله إليّ ولو لم أخرج ما خرجت، إنها لم تحلّ لأحد كان قبلي ولا تحلّ لأحد كان بعدي وما أحلّت لي إلا ساعة من نهار ثم هي حرام لا يعضد شجرها ولا يحتش خلالها ولا تلتقط ضالتها إلا لمنشد، فقال رجل:

يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لبيوتنا وقبورنا، فقال، صلّى الله عليه وسلّم: إلا الإذخر، وقال، صلى الله عليه وسلم: من صبر على حرّ مكة ساعة تباعدت عنه جهنم مسيرة مائة عام وتقربت منه الجنة مائتي عام، ووجد على حجر فيها كتاب فيه: أنا الله رب بكة الحرام وضعتها يوم وضعت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزال أخشابها مبارك لأهلها في الحمإ والماء، ومن فضائله أنه من دخله كان آمنا ومن أحدث في غيره من البلدان حدثا ثم لجأ إليه فهو آمن إذا دخله فإذا خرج منه أقيمت عليه الحدود، ومن أحدث فيه حدثا أخذ بحدثه، وقوله تعالى: وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا، وقوله: لتنذر أم القرى ومن حولها، دليل على فضلها على سائر البلاد، ومن شرفها أنها كانت لقاحا لا تدين لدين الملوك ولم يؤدّ أهلها إتاوة ولا ملكها ملك قط من سائر البلدان، تحج إليها ملوك حمير وكندة وغسان ولخم فيدينون للحمس من قريش ويرون تعظيمهم والاقتداء بآثارهم مفروضا وشرفا عندهم عظيما، وكان أهله آمنين يغزون الناس ولا يغزون ويسبون ولا يسبون ولم تسب قرشيّة قط فتوطأ قهرا ولا يجال عليها السّهام، وقد ذكر عزهم وفضلهم الشعراء فقال بعضهم:

«أبوا دين الملوك فهم لقاح *** إذا هيجوا إلى حرب أجابوا»

وقال الزّبر قان بن بدر لرجل من بني عوف كان قد هجا أبا جهل وتناول قريشا:

«أتدري من هجوت أبا حبيب *** سليل خضارم سكنوا البطاحا»

«أزاد الركب تذكر أم هشاما *** وبيت الله والبلد اللّقاحا؟»

وقال حرب بن أميّة ودعا الحضرميّ إلى نزول مكة وكان الحضرمي قد حالف بني نفاثة وهم حلفاء حرب ابن أميّة وأراد الحضرمي أن ينزل خارجا من الحرم وكان يكنّى أبا مطر فقال حرب:

«أبا مطر هلمّ إلى الصلاح *** فيكفيك الندامى من قريش»

«وتنزل بلدة عزّت قديما، *** وتأمن أن يزورك ربّ جيش»

«فتأمن وسطهم وتعيش فيهم، *** أبا مطر هديت، بخير عيش»

ألا ترى كيف يؤمّنه إذا كان بمكة؟ ومما زاد في فضلها وفضل أهلها ومباينتهم العرب أنهم كانوا حلفاء متألفين ومتمسكين بكثير من شريعة إبراهيم، عليه السلام، ولم يكونوا كالأعراب الأجلاف ولا كمن لا يوقره دين ولا يزينه أدب، وكانوا يختنون أولادهم ويحجون البيت ويقيمون المناسك ويكفنون موتاهم ويغتسلون من الجنابة، وتبرأوا من الهربذة وتباعدوا في المناكح من البنت وبنت البنت والأخت وبنت الأخت غيرة وبعدا من المجوسية، ونزل القرآن بتوكيد صنيعهم وحسن اختيارهم، وكانوا يتزوجون بالصداق والشهود ويطلّقون ثلاثا ولذلك قال عبد الله بن عباس وقد سأله رجل عن طلاق العرب فقال: كان الرجل يطلق امرأته تطليقة ثم هو أحق بها فإن طلّقها ثنتين فهو أحق بها أيضا فإن طلقها ثلاثا فلا سبيل له إليها، ولذلك قال الأعشى:

«أيا جارتي بيني فإنك طالقه، *** كذاك أمور الناس غاد وطارقه»

«وبيني فقد فارقت غير ذميمة، *** وموموقة منّا كما أنت وامقه»

«وبيني فإنّ البين خير من العصا *** وأن لا تري لي فوق رأسك بارقه»

ومما زاد في شرفهم أنهم كانوا يتزوجون في أي القبائل شاءوا ولا شرط عليهم في ذلك ولا يزوجون أحدا حتى يشرطوا عليه بأن يكون متحمسا على دينهم يرون أن ذلك لا يحلّ لهم ولا يجوز لشرفهم حتى يدين لهم وينتقل إليهم، والتّحمّس: التشدّد في الدين، ورجل أحمس أي شجاع، فحمّسوا خزاعة ودانت لهم إذ كانت في الحرم وحمّسوا كنانة وجديلة قيس وهم فهم وعدوان ابنا عمرو بن قيس بن عيلان وثقيفا لأنهم سكنوا الحرم وعامر بن صعصعة وإن لم يكونوا من ساكني الحرم فإن أمّهم قرشية وهي مجد بنت تيم بن مرّة، وكان من سنّة الحمس أن لا يخرجوا أيام الموسم إلى عرفات إنما يقفون بالمزدلفة، وكانوا لا يسلأون ولا يأقطون ولا يرتبطون عنزا ولا بقرة ولا يغزلون صوفا ولا وبرا ولا يدخلون بيتا من الشّعر والمدر وإنما يكتنّون بالقباب الحمر في الأشهر الحرم ثم فرضوا على العرب قاطبة أن يطرحوا أزواد الحلّ إذا دخلوا الحرم وأن يخلّوا ثياب الحل ويستبدلوها بثياب الحرم إما شرى وإما عارية وإما هبة فإن وجدوا ذلك وإلا طافوا بالبيت عرايا وفرضوا على نساء العرب مثل ذلك إلا أن المرأة كانت تطوف في درع مفرّج المقاديم والمآخير، قالت امرأة وهي تطوف بالبيت:

«اليوم يبدو بعضه أو كلّه، *** وما بدا منه فلا أحلّه»

«أخثم مثل القعب باد ظلّه *** كأنّ حمّى خيبر تملّه»

وكلفوا العرب أن تفيض من مزدلفة وقد كانت تفيض من عرفة أيام كان الملك في جرهم وخزاعة وصدرا من أيام قريش، فلولا أنهم أمنع حيّ من العرب لما أقرّتهم العرب على هذا العزّ والإمارة مع نخوة العرب في إبائها كما أجلى قصيّ خزاعة وخزاعة جرهما، فلم تكن عيشتهم عيشة العرب، يهتبدون الهبيد ويأكلون الحشرات وهم الذين هشموا الثريد حتى قال فيهم الشاعر:

«عمرو العلى هشم الثريد لقومه، *** ورجال مكة مسنتون عجاف»

حتى سمي هاشما، وهذا عبد الله بن جدعان التيمي يطعم الرّغو والعسل والسمن ولبّ البرّ حتى قال فيه أمية بن أبي الصّلت:

«له داع بمكة مشمعلّ، *** وآخر فوق دارته ينادي»

«إلى ردح من الشّيزى ملاء *** لباب البرّ يلبك بالشّهاد»

وأول من عمل الحريرة سويد بن هرميّ، ولذلك قال الشاعر لبني مخزوم:

«وعلمتم أكل الحرير وأنتم *** أعلى عداة الدهر جدّ صلاب»

والحريرة: أن تنصب القدر بلحم يقطّع صغارا على ماء كثير فإذا نضج ذرّ عليه الدقيق فإن لم يكن لحم فهو عصيدة وقيل غير ذلك، وفضائل قريش كثيرة وليس كتابي بصددها، ولقد بلغ من تعظيم العرب لمكة أنهم كانوا يحجّون البيت ويعتمرون ويطوفون فإذا أرادوا الانصراف أخذ الرجل منهم حجرا من حجارة الحرم فنحته على صورة أصنام البيت فيحفى به في طريقه ويجعله قبلة ويطوفون حوله ويتمسحون به ويصلّون له تشبيها له بأصنام البيت، وأفضى بهم الأمر بعد طول المدة أنهم كانوا يأخذون الحجر من الحرم فيعبدونه فذلك كان أصل عبادة العرب للحجارة في منازلهم شغفا منهم بأصنام الحرم، وقد ذكرت كثيرا من فضائلها في ترجمة الحرم والكعبة فأغنى عن الإعادة، وأما رؤساء مكة فقد ذكرناهم في كتابنا المبدإ والمآل وأعيد ذكرهم ههنا لأن هذا الموضع مفتقر إلى ذلك، قال أهل الإتقان من أهل السير: إن إبراهيم الخليل لما حمل ابنه إسماعيل، عليهما السلام، إلى مكة، كما ذكرنا في باب الكعبة من هذا الكتاب، جاءت جرهم وقطوراء وهما قبيلتان من اليمن وهما ابنا عمّ وهما جرهم بن عامر بن سبإ بن يقطن بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، عليه السّلام، وقطوراء، فرأيا بلدا ذا ماء وشجر فنزلا ونكح إسماعيل في جرهم، فلما توفي ولي البيت بعده نابت بن إسماعيل وهو أكبر ولده ثم ولي بعده مضاض بن عمرو الجرهمي خال ولد إسماعيل ما شاء الله أن يليه ثم تنافست جرهم وقطوراء في الملك وتداعوا للحرب فخرجت جرهم من قعيقعان وهي أعلى مكة وعليهم مضاض ابن عمرو، وخرجت قطوراء من أجياد وهي أسفل مكة وعليهم السّميدع، فالتقوا بفاضح واقتتلوا قتالا شديدا فقتل السميدع وانهزمت قطوراء فسمي الموضع فاضحا لأن قطوراء افتضحت فيه، وسميت أجياد أجيادا لما كان معهم من جياد الخيل، وسميت فعيقعان لقعقعة السلاح، ثم تداعوا إلى الصلح واجتمعوا في الشعب وطبخوا القدور فسمي المطابخ، قالوا: ونشر الله ولد إسماعيل فكثروا وربلوا ثم انتشروا في البلاد لا يناوئون قوما إلا ظهروا عليهم بدينهم، ثم إن جرهما

بغوا بمكة فاستحلّوا حراما من الحرمة فظلموا من دخلها وأكلوا مال الكعبة وكانت مكة تسمى النّسّاسة لا تقرّ ظلما ولا بغيا ولا يبغي فيها أحد على أحد إلا أخرجته فكان بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة بن غسان وخزاعة حلولا حول مكة فآذنوهم بالقتال فاقتتلوا فجعل الحار

«لا همّ إنّ جرهما عبادك، *** الناس طرف وهم تلادك»

فغلبتهم خزاعة على مكة ونفتهم عنها، ففي ذلك يقول عمرو بن الحارث بن عمرو بن مضاض الأصغر:

«كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا *** أنيس ولم يسمر بمكة سامر»

«ولم يتربّع واسطا فجنوبه *** إلى السرّ من وادي الأراكة حاضر»

«بلى، نحن كنّا أهلها فأبادنا *** صروف الليالي والجدود العواثر»

«وأبدلنا ربي بها دار غربة *** بها الجوع باد والعدوّ المحاصر»

«وكنّا ولاة البيت من بعد نابت *** نطوف بباب البيت والخير ظاهر»

«فأخرجنا منها المليك بقدرة، *** كذلك ما بالناس تجري المقادر»

«فصرنا أحاديثا وكنا بغبطة، *** كذلك عضّتنا السنون الغوابر»

«وبدّلنا كعب بها دار غربة *** بها الذئب يعوي والعدوّ المكاثر»

«فسحّت دموع العين تجري لبلدة *** بها حرم أمن وفيها المشاعر»

ثم وليت خزاعة البيت ثلاثمائة سنة يتوارثون ذلك كابرا عن كابر حتى كان آخرهم حليل بن حبشيّة بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة وهو خزاعة بن حارثة بن عمرو مزيقياء الخزاعي وقريش إذ ذاك هم صريح ولد إسماعيل حلول وصرم وبيوتات متفرقة حوالي الحرم إلى أن أدرك قصيّ بن كلاب بن مرّة وتزوّج حبّى بنت حليل بن حبشية وولدت بنيه الأربعة وكثر ولده وعظم شرفه ثم هلك حليل بن حبشيّة وأوصى إلى ابنه المحترش أن يكون خازنا للبيت وأشرك معه غبشان الملكاني وكان إذا غاب أحجب هذا حتى هلك الملكاني، فيقال إن قصيّا سقى المحترش الخمر وخدعه حتى اشترى البيت منه بدنّ خمر وأشهد عليه وأخرجه من البيت وتملّك حجابته وصار ربّ الحكم فيه، فقصيّ أول من أصاب الملك من قريش بعد ولد إسماعيل وذلك في أيام المنذر ابن النعمان على الحيرة والملك لبهرام جور في الفرس، فجعل قصي مكة أرباعا وبنى بها دار النّدوة فلا تزوّج امرأة إلا في دار الندوة ولا يعقد لواء ولا يعذر غلام ولا تدرّع جارية إلا فيها، وسميت الندوة لأنهم كانوا ينتدون فيها للخير والشر فكانت قريش تؤدّي الرفادة إلى قصي وهو خرج يخرجونه من أموالهم يترافدون فيه فيصنع طعاما وشرابا للحاج أيام الموسم، وكانت قبيلة من جرهم اسمها صوفة بقيت بمكة تلي الإجازة بالناس من عرفة مدة، وفيهم يقول الشاعر:

«ولا يريمون في التعريف موقعهم *** حتى يقال أجيزوا آل صوفانا»

ثم أخذتها منهم خزاعة وأجازوا مدة ثم غلبهم عليها بنو عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان وصارت إلى رجل منهم يقال له أبو سيّارة أحد بني سعد بن وابش ابن زيد بن عدوان، وله يقول الراجز:

«خلّوا السبيل عن أبي سيّاره *** وعن مواليه بني فزاره»

«حتى يجيز سالما حماره *** مستقبل الكعبة يدعو جاره»

وكانت صورة الإجازة أن يتقدمّهم أبو سيّارة على حماره ثم يخطبهم فيقول: اللهمّ أصلح بين نسائنا وعاد بين رعائنا واجعل المال في سمحائنا، وأوفوا بعهدكم وأكرموا جاركم واقروا ضيفكم، ثم يقول: أشرق ثبير كيما نغير، ثم ينفذ ويتبعه الناس، فلما قوي أمر قصيّ أتى أبا سيّارة وقومه فمنعه من الإجازة وقاتلهم عليها فهزمهم فصار إلى قصيّ البيت والرفادة والسقاية والندوة واللواء، فلما كبر قصيّ ورقّ عظمه جعل الأمر في ذلك كله إلى ابنه عبد الدار لأنه أكبر ولده وهلك قصيّ وبقيت قريش على ذلك زمانا، ثم إن عبد مناف رأى في نفسه وولده من النباهة والفضل ما دلّهم على أنهم أحق من عبد الدار بالأمر، فأجمعوا على أخذ ما بأيديهم وهمّوا بالقتال فمشى الأكابر بينهم وتداعوا إلى الصلح على أن يكون لعبد مناف السقاية والرفادة وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار، وتعاقدوا على ذلك حلفا مؤكّدا لا ينقضونه ما بلّ بحر صوفة، فأخرجت بنو عبد مناف ومن تابعهم من قريش وهم بنو الحارث بن فهر وأسد بن عبد العزّى وزهرة بن كلاب وتيم بن مرّة جفنة مملوءة طيبا وغمسوا فيها أيديهم ومسحوا بها الكعبة توكيدا على أنفسهم فسمّوا المطيبين، وأخرجت بنو عبد الدار ومن تابعهم وهم مخزوم بن يقظة وجمح وسهم وعدي بن كعب جفنة مملوءة دما وغمسوا فيها أيديهم ومسحوا بها الكعبة فسمّوا الأحلاف ولعقة الدم ولم يل الخلافة منهم غير عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، والباقون من المطيّبين فلم يزالوا على ذلك حتى جاء الإسلام وقريش على ذلك حتى فتح النبي، صلّى الله عليه وسلّم، مكة في سنة ثمان للهجرة فأقرّ المفتاح في يد عثمان بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى ابن عثمان بن عبد الدار وكان النبي، صلّى الله عليه وسلّم، أخذ المفاتيح منه عام الفتح فأنزلت: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، فاستدعاه ورد المفاتيح إليه وأقر السقاية في يد العباس فهي في أيديهم إلى الآن، وهذا هو كاف من هذا البحث، وأما صفتها، يعني مكة، فهي مدينة في واد والجبال مشرفة عليها من جميع النواحي محيطة حول الكعبة، وبناؤها من حجارة سود وبيض ملس وعلوها آجرّ كثيرة الأجنحة من خشب الساج وهي طبقات لطيفة مبيّضة، حارّة في الصيف إلا أن ليلها طيّب وقد رفع الله عن أهلها مؤونة الاستدفاء وأراحهم من كلف الاصطلاء، وكل ما نزل عن المسجد الحرام يسمونه المسفلة وما ارتفع عنه يسمونه المعلاة، وعرضها سعة الوادي، والمسجد في ثلثي البلد إلى المسفلة والكعبة في وسط المسجد، وليس بمكة ماء جار ومياهها من السماء، وليست لهم آبار يشربون منها وأطيبها بئر زمزم ولا يمكن الإدمان على شربها، وليس بجميع مكة شجر مثمر إلا شجر البادية فإذا جزت الحرم فهناك عيون وآبار وحوائط كثيرة وأودية ذات خضر ومزارع ونخيل وأما الحرم فليس به شجر مثمر إلا نخيل يسيرة متفرقة، وأما المسافات فمن الكوفة إلى مكة سبع وعشرون مرحلة وكذلك من البصرة إليها ونقصان يومين، ومن دمشق إلى مكة شهر، ومن عدن إلى مكة شهر، وله طريقان أحدهما على ساحل البحر وهو أبعد والآخر يأخذ على طريق صنعاء وصعدة ونجران والطائف حتى ينتهي إلى مكة، ولها طريق آخر على البوادي وتهامة وهو أقرب من الطريقين المذكورين أولا على أنها على أحياء

العرب في بواديها ومخالفها لا يسلكها إلا الخواصّ منهم، وأما أهل حضرموت ومهرة فإنهم يقطعون عرض بلادهم حتى يتصلوا بالجادّة التي بين عدن ومكة، والمسافة بينهم إلى الأمصار بهذه الجادة من نحو الشهر إلى الخمسين يوما، وأما طريق عمان إلى مكة فهو مثل طريق دمشق صعب السلوك من البوادي والبراري القفر القليلة السكان وإنما طريقهم في البحر إلى جدّة فإن سلكوا على السواحل من مهرة وحضرموت إلى عدن بعد عليهم وقلّ ما يسلكونه، وكذلك ما بين عمان والبحرين فطريق شاقّ يصعب سلوكه لتمانع العرب فيما بينهم فيه.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


172-معجم البلدان (المنصورة)

المَنْصُورَةُ:

مفعولة من النصر في عدة مواضع، منها:

المنصورة بأرض السند وهي قصبتها مدينة كبيرة كثيرة الخيرات ذات جامع كبير سواريه ساج ولهم خليج من نهر مهران، قال حمزة: وهمناباذ اسم مدينة من مدن السند سموها الآن منصورة، وقال المسعودي: سميت المنصورة بمنصور بن جمهور عامل بني أمية، وهي في الإقليم الثالث، طولها من جهة المغرب ثلاث وتسعون درجة، وعرضها من جهة الجنوب اثنتان وعشرون درجة، وقال هشام: سميت المنصورة لأن منصور بن جمهور الكلبي بناها فسميت به وكان خرج مخالفا لهارون وأقام بالسند، وقال الحسن بن أحمد المهلبي: سميت المنصورة لأن عمرو بن حفص الهزارمرد المهلبي بناها في أيام المنصور من بني العباس فسميت به، وللمنصورة خليج من نهر مهران يحيط بالبلد فهي منه في شبه الجزيرة، وفي أهلها مروّة وصلاح ودين وتجارات، وشربهم من نهر يقال له مهران، وهي شديدة الحرّ كثيرة البقّ، بينها وبين الدّيبل ست مراحل، وبينها وبين الملتان اثنتا عشرة مرحلة، وإلى طوران خمس عشرة مرحلة، ومن المنصورة إلى أول حد البدهة خمس مراحل، وأهلها مسلمون وملكهم قرشيّ يقال إنه من ولد هبّار بن الأسود تغلّب عليها هو وأجداده يتوارثون بها الملك إلا أن الخطبة فيها للخليفة من بني العباس، وليس لهم من الفواكه لا عنب ولا تفاح ولا كمثرى ولا جوز، ولهم قصب السكر وثمرة على قدر التفاح يسمونها البهلوية شديدة الحموضة، ولهم فاكهة تشبه الخوخ تسمى الأنبج يقارب طعمه طعم الخوخ، وأسعارهم رخيصة، وكان لهم دراهم يسمونها القاهريات ودراهم يقال لها الطاطري في الدرهم درهم وثلث، ومنها:

المنصورة مدينة كانت بالبطيحة عمّرها فيما أحسب مهذّب الدولة في أيام بهاء الدولة بن عضد الدولة وأيام القادر بالله وقد خربت ورسومها باقية، ومنها: المنصورة وهي مدينة خوارزم القديمة كانت على شرقي جيحون مقابل الجرجانية مدينة خوارزم اليوم أخذها الماء حتى انتقل أهلها بحيث هم اليوم، ويروى أن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، رآها ليلة الإسراء من مكة إلى المسجد الأقصى في خبر لم يحضرني الآن، ومنها: المنصورة مدينة بقرب القيروان من نواحي إفريقية استحدثها المنصور بن القائم بن المهدي الخارج بالمغرب سنة 337 وعمّر أسواقها واستوطنها ثم صارت منزلا للملوك الذين لهم والذين زعموا أنهم علويّون وملكوا

مصر ولم تزل منزلا لملوك إفريقية من بني باديس حتى خربتها العرب لما دخلت إفريقية وخربت بلادها بعيد سنة 442 فكانت هي فيما خربت في ذلك الوقت، وقيل: سميت المنصوريّة بالمنصور بن يوسف بن زيري ابن مناد جدّ بني باديس، وأكثر ما يسمون هذه التي بإفريقية خاصّة المن

«أحسنت في فعالها المنصوره، *** وأقامت لنا من العدل صوره»

«رام تشييدها العزيز فأعطت *** هـ إلى وسط قبره دستوره»

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


173-معجم البلدان (مؤتة)

مُؤتَةُ:

بالضم ثم واو مهموزة ساكنة، وتاء مثناة من فوقها، وبعضهم لا يهمزه، وأما ثعلب فإنه قال في الفصيح: موتة بمعنى الجنون غير مهموز، وأما البلد

الذي قتل به جعفر بن أبي طالب فإنه مؤتة بالهمزة، قلت: لم أظفر في قول بمعنى مؤتة مهموز فأما غير مهموز فقالوا هو الجنون، وقال النضر: الموتة الذي يصرع من الجنون أو غيره ثم يفيق، وقال اللحياني:

الموتة شبه الغشية، ومؤتة: قرية من قرى البلقاء في حدود الشام، وقيل: موتة من قرى البلقاء في حدود الشام، وقيل: موتة من مشارف الشام وبها كانت تطبع السيوف وإليها تنسب المشرفية من السيوف، قال ابن السكيت في تفسير قول كثيّر:

«إذا الناس ساموكم من الأمر خطّة *** لها خطمة فيها السمام المثمّل»

«أبى الله للشّمّ الأنوف كأنهم *** صوارم يجلوها بمؤتة صيقل»

قال المهلبي: مآب وأذرح مدينتا الشراة، على اثني عشر ميلا من أذرح ضيعة تعرف بمؤتة بها قبر جعفر ابن أبي طالب بعث النبي، صلّى الله عليه وسلّم، إليها جيشا في سنة ثمان وأمّر عليهم زيد بن حارثة مولاه وقال: إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب الأمير، وإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة، فساروا حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف ثم دنا العدو وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها موتة فالتقى الناس عندها فلقيتهم الروم في جمع عظيم فقاتل زيد حتى قتل فأخذ الراية جعفر فقاتل حتى قتل فأخذ الراية عبد الله بن رواحة فكانت تلك حاله فاجتمع المسلمون إلى خالد بن الوليد فانحاز بهم حتى قدم المدينة فجعل الصبيان يحثون عليهم التراب ويقولون: يا فرّار فررتم في سبيل الله! فقال النبي، صلّى الله عليه وسلّم: ليسوا بالفرّار لكنهم الكرّار إن شاء الله، وقال حسان ابن ثابت:

«فلا يبعدنّ الله قتلى تتابعوا *** بموتة منهم ذو الجناحين جعفر»

«وزيد وعبد الله هم خير عصبة *** تواصوا واسباب المنية تنظر.»

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


174-معجم البلدان (مهزور)

مَهْزُورٌ:

بفتح أوله، وسكون ثانيه ثم زاي، وواو ساكنة، وراء، قال أبو زيد: يقال هزره يهزره هزرا وهو الضرب بالعصا على الظهر والجنب، وهو مهزور وهزير، والهزير: المتقحّم في البيع والإغلاء، وقد هزرت له في البيع أي أغليت، مهزور ومذينب:

واديان يسيلان بماء المطر خاصّة، وقال أبو عبيد:

مهزور وادي قريظة، قالوا: لما قدمت اليهود إلى المدينة نزلوا السافلة فاستوبؤوها فبعثوا رائدا لهم حتى أتى العالية بطحان ومهزورا وهما واديان يهبطان من حرّة تنصبّ منها مياه عذبة فرجع إليهم فقال: قد وجدت لكم بلدا نزها طيبا وأودية تنصبّ إلى حرّة عذبة ومياها طيبة في متأخر الحرة، فتحوّلوا إليها فنزل بنو النضير ومن معهم بطحان ونزلت قريظة وهدل على مهزور فكانت لهم تلاع وماء يسقي سمرات، وفي مهزور اختصم إلى النبي، صلّى الله عليه وسلّم، في حديث أبي مالك بن ثعلبة عن أبيه أن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، أتاه أهل مهزور فقضى أن الماء إذا بلغ الكعبين لم يحبس الأعلى، وكانت المدينة أشرفت على الغرق في خلافة عثمان، رضي الله عنه، من سيل مهزور حتى اتخذ عثمان له ردما، وجاء أيضا بماء عظيم مخوف في سنة 156 فبعث إليه عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس وهو الأمير يومئذ عبيد الله بن أبي سلمة العمري فخرج وخرج الناس بعد صلاة العصر وقد ملأ السيل صدقات رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، فدلتهم عجوز من أهل العالية على موضع كانت تسمع الناس يذكرونه فحضروه فوجدوا للماء مسيلا ففتحوه فغاض الماء منه إلى وادي بطحان، قال أحمد بن جابر:

ومن مهزور إلى مذينب شعبة تصب فيها.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


175-معجم البلدان (نهر المرأة)

نهرُ المرْأةِ:

بالبصرة، حفره أردشير الأصغر، قال الساجي: صالح خالد بن الوليد عند نزوله البصرة أهل نهر المرأة، واسم المرأة طماهيج، من رأس الفهرج إلى نهر المرأة فكانت طماهيج هي التي صالحته على عشرة آلاف درهم، وفي كتاب البلاذري: أن خالد بن الوليد أتى نهر المرأة ففتح القصر صلحا وصالحه عنه النوشجان بن جسنسماه والمرأة صاحبة القصر كامورزاد بنت نرسى وهي بنت عم النوشجان، وإنما سميت المرأة لأن أبا موسى الأشعري قد نزل بها فزوّدته خبيصا فجعل يكثر أن يقول: أطعمونا من خبيص المرأة، فغلب على اسمها.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


176-معجم البلدان (نهر مكحول)

نهر مَكْحُولٍ:

بالبصرة، وهو مكحول بن حاتم الأحمسي، ومكحول هو ابن عمّ شيبان صاحب مقبرة شيبان بن عبد الله الذي كان على شرطة زياد ابن أبيه، وكان مكحول يقول الشعر في الخيل، فكانت قطيعة من عبد الملك بن مروان، وقال القحذمي: نهر مكحول منسوب إلى مكحول بن عبد الله السعدي.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


177-معجم البلدان (نيسابور)

نَيْسَابُور:

بفتح أوله، والعامة يسمونه نشاوور:

وهي مدينة عظيمة ذات فضائل جسيمة معدن الفضلاء ومنبع العلماء لم أر فيما طوّفت من البلاد مدينة ومنبع العلماء لم أر فيما طوّفت من البلاد مدينة كانت مثلها، قال بطليموس في كتاب الملحمة: مدينة نيسابور طولها خمس وثمانون درجة، وعرضها تسع وثلاثون درجة، خارجة من الإقليم الرابع في الإقليم الخامس، طالعها الميزان، ولها شركة في كف الجوزاء مع الشعرى العبور تحت ثلاث عشرة درجة من السرطان، ويقابلها مثلها من الجدي، بيت عاقبتها مثلها من الميزان، بيت حياتها...، ومن هناك طالت أعمار أهلها، بيت ملكها ثلاث عشرة درجة من الحمل، وقد ذكرنا في جمل ذكر الأقاليم أنها في الرابع، وفي زيج أبي عون إسحاق بن علي: إن طول نيسابور ثمانون درجة ونصف وربع، وعرضها سبع وثلاثون درجة، وعدّها في الإقليم الرابع، واختلف في تسميتها بهذا الاسم فقال بعضهم: إنما سميت بذلك لأن سابور مرّ بها وفيها قصب كثير فقال: يصلح أن يكون ههنا مدينة، فقيل لها نيسابور، وقيل في تسمية نيسابور وسابور خواست وجنديسابور:

إن سابور لما فقدوه حين خرج من مملكته لقول المنجمين، كما ذكرناه في منارة الحوافر، خرج أصحابه يطلبونه فبلغوا نيسابور فلم يجدوه فقالوا نيست سابور أي ليس سابور، فرجعوا حتى وقعوا إلى سابور خواست فقيل لهم ما تريدون؟ فقالوا: سابور خواست، معناه سابور نطلب، ثم وقعوا إلى جنديسابور فقالوا وند سابور أي وجد سابور، ومن أسماء نيسابور أبرشهر وبعضهم يقول إيرانشهر، والصحيح أن إيرانشهر هي ما بين جيحون إلى القادسية، ومن الرّي إلى نيسابور مائة وستون فرسخا، ومنها إلى سرخس أربعون فرسخا، ومن سرخس إلى مرو الشاهجان ثلاثون فرسخا، وأكثر شرب أهل نيسابور من قنيّ تجري تحت الأرض ينزل إليها في سراديب مهيّأة لذلك فيوجد الماء تحت الأرض وليس بصادق الحلاوة، وعهدي بها كثيرة الفواكه والخيرات، وبها ريباس ليس في الدنيا مثله تكون الواحدة منه منّا وأكثر، وقد وزنوا واحدة فكانت خمسة أرطال بالعراقي وهي بيضاء صادقة البياض كأنها الطَّلع، وكان المسلمون فتحوها في أيام عثمان بن عفان، رضي الله عنه، والأمير عبد الله بن عامر بن كريز في سنة 31 صلحا وبنى بها جامعا، وقيل إنها فتحت في أيام عمر، رضي الله عنه، على يد الأحنف بن قيس وإنما انتقضت في أيام عثمان فأرسل إليها عبد الله بن عامر ففتحها ثانية وأصابها الغزّ في سنة 548 بمصيبة عظيمة حيث أسروا الملك سنجر وملكوا أكثر خراسان وقدموا نيسابور وقتلوا كل من وجدوا واستصفوا أموالهم حتى لم يبق فيها من يعرف وخرّبوها وأحرقوها ثم اختلفوا فهلكوا واستولى عليها المؤيد أحد مماليك سنجر فنقل الناس إلى محلة منها يقال لها شاذياخ وعمّرها وسوّرها وتقلّبت بها أحوال حتى عادت أعمر بلاد الله وأحسنها وأكثرها خيرا وأهلا وأموالا لأنها دهليز المشرق ولا بدّ للقفول من ورودها، وبقيت على ذلك إلى سنة 618، خرج من وراء النهر الكفار من الترك المسمون بالتتر واستولوا على بلاد خراسان وهرب منهم محمد ابن تكش بن ألب أرسلان خوارزم شاه وكان سلطان المشرق كله إلى باب همذان وتبعوه حتى أفضى به الأمر إلى أن مات طريدا بطبرستان في قصة طويلة، واجتمع أكثر أهل خراسان والغرباء بنيسابور وحصنوها بجهدهم فنزل عليها قوم من هؤلاء الكفار فامتنعت عليهم ثم خرج مقدّم الكفار يوما ودنا من السور فرشقه رجل من نيسابور بسهم فقتله فجرّى الأتراك خيولهم وانصرفوا إلى ملكهم الأعظم الذي يقال له جنكزخان فجاء بنفسه حتى نزل عليها وكان المقتول زوج ابنته فنازلها وجدّ في قتال من بها فزعم قوم أن علويّا كان متقدّما على أحد أبوابها راسل الكفار يستلزم منهم على تسليم البلد ويشرط عليهم أنهم إذا فتحوه جعلوه متقدّما فيه، فأجابوه إلى ذلك ففتح لهم الباب وأدخلهم فأول من قتلوا العلويّ ومن معه، وقيل:

بل نصبوا عليها المناجيق وغيرها حتى أخذوها عنوة ودخلوا إليها دخول حنق يطلب النفس والمال فقتلوا كل من كان فيها من كبير وصغير وامرأة وصبيّ ثم خرّبوها حتى ألحقوها بالأرض وجمعوا عليها جموع الرستاق حتى حفروها لاستخراج الدفائن، فبلغني أنه لم يبق بها حائط قائم، وتركوها ومضوا فجاء قوم من قبل خوارزم شاه فأقاموا بها يسبرون الدفائن فأذهبوها مرّة، فإنا لله وإنّا إليه راجعون، من مصيبة ما دهى الإسلام قط مثلها، وقال أبو يعلى محمد بن الهبّارية: أنشدني القاضي أبو الحسن الاستراباذي لنفسه فقال:

«لا قدّس الله نيسابور من بلد *** سوق النفاق بمغناها على ساق»

«يموت فيها الفتى جوعا وبرّهم *** والفضل ما شئت من خير وأرزاق»

«والحبر في معدن الغرثى، وإن برقت *** أنواره في المعاني، غير برّاق»

وقال المرادي يذمّ أهلها:

«لا تنزلنّ بنيسابور مغتربا *** إلا وحبلك موصول بسلطان»

«أو لا فلا أدب يجدي ولا حسب *** يغني ولا حرمة ترعى لإنسان»

وقال أبو العباس الزّوزني المعروف بالمأموني:

«ليس في الأرض مثل نيسابور *** بلد طيب وربّ غفور»

وقد خرج منها من أئمة العلم من لا يحصى، منهم:

الحافظ الإمام أبو علي الحسين بن علي بن زيد ابن داود بن يزيد النيسابوري الصائغ، رحل في طلب العلم والحديث وطاف وجمع فيه وصنف وسمع الكثير من أبي بكر بن خزيمة وعبدان الجواليقي وأبي يعلى الموصلي وأحمد بن نصر الحافظ والحسن بن سفيان وإبراهيم بن يوسف الهسنجاني وأبي خليفة وزكرياء الساجي وغيرهم، وكتب عنه أبو الحسن

ابن جوصا وأبو العباس بن عقدة وأبو محمد صاعد وإبراهيم بن محمد بن حمزة وأبو محمد الغسّال وأبو طالب أحمد بن نصر الحافظ وهم من شيوخه، روى عنه أبو عبد الله الحاكم وأبو عبد الرحمن السّلمي وأبو عبد الله بن مندة وأبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب الصّبغي وهو من أق

أنّ أبا علي أستاذي في هذا العلم وعقد له مجلس الإملاء بنيسابور سنة 337 وهو ابن ستين سنة، وإن مولده سنة 277، ولم يزل يحدث بالمصنّفات والشيوخ مدة عمره، وتوفي أبو علي عشية يوم الأربعاء الخامس عشر من جمادى الأولى سنة 349 ودفن في مقبرة باب معمر عن اثنتين وسبعين سنة.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


178-معجم البلدان (واسط)

واسِطٌ:

في عدة مواضع: نبدأ أولا بواسط الحجاج لأنه أعظمها وأشهرها ثم نتبعها الباقي، فأوّل ما نذكر لم سميت واسطا ولم صرفت: فأما تسميتها فلأنها متوسطة بين البصرة والكوفة لأن منها إلى كل واحدة منهما خمسين فرسخا، لا قول فيه غير ذلك إلا ما ذهب إليه بعض أهل اللغة حكاية عن الكلبي أنه كان قبل عمارة واسط هناك موضع يسمّى واسط قصب، فلما عمّر الحجاج مدينته سمّاها باسمها، والله أعلم، قال المنجمون: طول واسط إحدى وسبعون درجة وثلثان، وعرضها اثنتان وثلاثون درجة وثلث، وهي في الإقليم الثالث، قال أبو حاتم:

واسط التي بنجد والجزيرة يصرف ولا يصرف، وأما واسط البلد المعروف فمذكّر لأنهم أرادوا بلدا واسطا أو مكانا واسطا فهو منصرف على كل حال والدليل على ذلك قولهم واسطا بالتذكير ولو ذهب به إلى التأنيث لقالوا واسط، قالوا: وقد يذهب به مذهب البقعة والمدينة فيترك صرفه، وأنشد سيبويه في ترك الصرف:

«منهنّ أيام صدق قد عرفت بها *** أيام واسط والأيام من هجرا»

ولقائل أن يقول: إنه لم يرد واسط هذه، فيرجع إلى

ما قاله أبو حاتم، قال الأسود: وأخبرني أبو النّدى قال: إن للعرب سبعة أواسط: واسط نجد، وهو الذي ذكره خداش بن زهير حيث قال:

«عفا واسط كلّاؤه فمحاضره *** إلى حيث نهيا سيله فصدائره»

وواسط الحجاز، وهو الذي ذكره كثيّر فقال:

«أجدّوا فأما أهل عزّة غدوة *** فبانوا وأما واسط فمقيم»

وواسط الجزيرة، قال الأخطل:

«كذبتك عينك أم رأيت بواسط *** غلس الظلام من الرّباب خيالا؟»

وقال أيضا:

«عفا واسط من أهل رضوى فنبتل *** فمجتمع الحرّين فالصبر أجمل»

وواسط اليمامة، وهو الذي ذكره الأعشى، وواسط العراق، قال: وقد نسيت اثنين، وأول أعمال واسط من شرقي دجلة فم الصلح ومن الجانب الغربي زرفامية، وآخر أعمالها من ناحية الجنوب البطائح وعرضها الخيثمية المتصلة بأعمال باروسما وعرضها من ناحية الجانب الشرقي عند أعمال الطيب، وقال يحيى بن مهدي بن كلال: شرع الحجاج في عمارة واسط في سنة 84 وفرغ منها في سنة 86 فكان عمارتها في عامين في العام الذي مات فيه عبد الملك بن مروان، ولما فرغ منها كتب إلى عبد الملك: إني اتخذت مدينة في كرش من الأرض بين الجبل والمصرين وسمّيتها واسطا، فلذلك سمّي أهل واسط الكرشيّين، وقال الأصمعي: وجّه الحجاج الأطبّاء ليختاروا له موضعا حتى يبني فيه مدينة فذهبوا يطلبون ما بين عين التمر إلى البحر وجوّلوا العراق ورجعوا وقالوا: ما أصبنا مكانا أوفق من موضعك هذا في خفوف الريح وأنف البرّيّة، وكان الحجاج قبل اتخاذه واسطا أراد نزول الصين من كسكر وحفر بها نهر الصين وجمع له الفعلة ثم بدا له فعمّر واسطا ثم نزل واحتفر النيل والزاب وسمّاه زابا لأخذه من الزاب القديم وأحيا ما على هذين النهرين من الأرضين ومصر مدينة النيل، وقال قوم: إن الحجاج لما فرغ من حروبه استوطن الكوفة فآنس منهم الملال والبغض له، فقال لرجل ممن يثق بعقله:

امض وابتغ لي موضعا في كرش من الأرض أبني فيه مدينة وليكن على نهر جار، فأقبل ملتمسا ذلك حتى سار إلى قرية فوق واسط بيسير يقال لها واسط القصب فبات بها واستطاب ليلها واستعذب أنهارها واستمرأ طعامها وشرابها فقال: كم بين هذا الموضع والكوفة؟ فقيل له: أربعون فرسخا، قال: فإلى المدائن؟ قالوا: أربعون فرسخا، قال: فإلى الأهواز؟ قالوا: أربعون فرسخا، قال: فللبصرة؟

قالوا: أربعون فرسخا، قال: هذا موضع متوسط، فكتب إلى الحجاج بالخبر ومدح له الموضع، فكتب إليه: اشتر لي موضعا ابني فيه مدينة، وكان موضع واسط لرجل من الدهاقين يقال له داوردان فساومه بالموضع فقال له الدهقان: ما يصلح هذا الموضع للأمير، فقال: لم؟ فقال: أخبرك عنه بثلاث خصال تخبره بها ثم الأمر إليه، قال: وما هي؟ قال: هذه بلاد سبخة البناء لا يثبت فيها، وهي شديدة الحرّ والسموم وإن الطائر لا يطير في الجوّ إلا ويسقط لشدّة الحر ميتا، وهي بلاد أعمار أهلها قليلة، قال: فكتب بذلك إلى الحجاج، فقال: هذا رجل يكره مجاورتنا فأعلمه أنّا سنحفر بها الأنهار ونكثر من البناء والغرس فيها ومن الزرع حتى تعذو وتطيب، وأما

قوله إنها سبخة وإن البناء لا يثبت فيها فسنحكمه ثم نرحل عنه فيصير لغيرنا، وأما قلة أعمار أهلها فهذا شيء إلى الله تعالى لا إلينا، وأعلمه أننا نحسن مجاورتنا له ونقضي ذمامه بإحساننا إليه، قال: فابتاع الموضع من الدهقان وابتدأ في البناء في أول سنة 83 واستتمه

وحدّث عليّ بن حرب الموصلي عن أبي البختري وهب عن عمرو بن كعب بن الحارث الحارثي قال:

سمعت خالي يحيى بن الموفق يحدث عن مسعدة بن صدقة العبدي قال: أنبأنا عبد الله بن عبد الرحمن حدثنا سماك بن حرب قال: استعملني الحجاج بن يوسف على ناحية بادوريا، فبينما أنا يوما على شاطئ دجلة ومعي صاحب لي إذا أنا برجل على فرس من الجانب الآخر فصاح باسمي واسم أبي، فقلت: ما تشاء؟ فقال: الويل لأهل مدينة تبنى ههنا، ليقتلنّ فيها ظلما سبعون ألفا! كرّر ذلك ثلاث مرّات ثم أقحم فرسه في دجلة حتى غاب في الماء، فلما كان من قابل ساقني القضاء إلى ذلك الموضع فإذا أنا برجل على فرس فصاح بي كما صاح في المرّة الأولى وقال كما قال وزاد: سيقتل من حولها ما يستقلّ الحصى لعددهم، ثم أقحم فرسه في الماء حتى غاب، قال: وكانوا يرون أنها واسط وما قتل الحجاج فيها، وقيل إنه أحصي في محبس الحجاج ثلاثة وثلاثون ألف إنسان لم يحبسوا في دم ولا تبعة ولا دين وأحصي من قتله صبرا فبلغوا مائة وعشرين ألفا، ونقل الحجاج إلى قصره والمسجد الجامع أبوابا من الزند ورد والدّوقرة ودير ماسرجيس وسرابيط فضجّ أهل هذه المدن وقالوا:

قد غصبتنا على مدائننا وأموالنا، فلم يلتفت إلى قولهم، قالوا: وأنفق الحجاج على بناء قصره والجامع والخندقين والسور ثلاثة وأربعين ألف ألف درهم، فقال له كاتبه صالح بن عبد الرحمن: هذه نفقة كثيرة وإن احتسبها لك أمير المؤمنين وجد في نفسه، قال: فما نصنع؟

قال: الحروب لها أجمل، فاحتسب منها في الحروب بأربعة وثلاثين ألف ألف درهم واحتسب في البناء تسعة آلاف ألف درهم، قال: ولما فرغ منه وسكنه أعجبه إعجابا شديدا، فبينما هم ذات يوم في مجلسه إذ أتاه بعض خدمه فأخبره أن جارية من جواريه وقد كان مائلا إليها قد أصابها لمم فغمّه ذلك ووجّه إلى الكوفة في إشخاص عبد الله بن هلال الذي يقال له صديق إبليس، فلما قدم عليه أخبره بذلك فقال: أنا أحل السحر عنها، فقال له: افعل، فلما زال ما كان بها قال الحجاج: ويحك إني أخاف أن يكون هذا القصر محتضرا! فقال له: أنا أصنع فيه شيئا فلا ترى ما تكرهه، فلما كان بعد ثلاثة أيام جاء عبد الله بن هلال يخطر بين الصفين وفي يده قلّة مختومة فقال: أيها الأمير تأمر بالقصر أن يمسح ثم تدفن هذه القلة في وسطه فلا ترى فيه ما تكرهه أبدا، فقال الحجاج له: يا ابن هلال وما علامة ذلك؟ قال:

أن يأمر الأمير برجل من أصحابه بعد آخر من أشداء أصحابه حتى يأتي على عشرة منهم فليجهدوا أن يستقلوا بها من الأرض فإنهم لا يقدرون، فأمر الحجاج محضره بذلك فكان كما قال ابن هلال، وكان بين يدي الحجاج مخصرة فوضعها في عروة القلة ثم قال:

بسم الله الرّحمن الرّحيم، إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، ثم شال القلة فارتفعت على المخصرة فوضعها ثم فكّر منكّسا رأسه ساعة ثم التفت إلى عبد الله بن هلال فقال له: خذ قلتك والحق بأهلك، قال: ولم؟ قال:

إن هذا القصر سيخرب بعدي وينزله غيري ويختفر محتفر فيجد هذه القلة فيقول لعن الله الحجاج إنما كان

يبدأ أمره بالسحر، قال: فأخذها ولحق بأهله، قالوا: وكان ذرع قصره أربعمائة في مثلها وذرع مسجد الجامع مائتين في مائتين وصف الرحبة التي تلي صفّ الحدّادين ثلاثمائة في ثلاثمائة وذرع الرحبة التي تلي الجزّارين والحوض ثلاثمائة في مائة والرحبة التي تلي الإضمار ما

لبيك لبيك! وأنفق سبعة آلاف ألف درهم حتى افتتح الهند واستنقذ المرأة وأحسن إليها واتخذ المناظر بينه وبين قزوين، وكان إذا دخّن أهل قزوين دخّنت المناظر إن كان نهارا، وإن كان ليلا أشعلوا نيرانا فتجرّد الخيل إليهم فكانت المناظر متصلة بين قزوين وواسط فكانت قزوين ثغرا حينئذ. وأما قولهم تغافل واسطيّ قال المبرّد: سألت الثوري عنه فقال: إن الحجاج لما بناها قال: بنيت مدينة في كرش من الأرض، كما قدمنا، فسمي أهلها الكرشيّين، فكان إذا مر أحدهم بالبصرة نادوا يا كرشيّ فتغافل عن ذلك ويري أنه لا يسمع أو أن الخطاب ليس معه، ولقد جاءني بخوارزم أحد أعيان أدبائها وسألني عن هذا المثل وقال لي:

قد أطلت السؤال عنه والتفتيش عن معنى قولهم: تغافل واسطي، فلم أظفر به، ولم يكن لي في ذلك الوقت به علم حتى وجدته بعد ذلك فأخبرته ثم وضعته أنا ههنا، ورأيت أنا واسطا مرارا فوجدتها بلدة عظيمة ذات رساتيق وقرى كثيرة وبساتين ونخيل يفوت الحصر، وكان الرخص موجودا فيها من جميع الأشياء ما لا يوصف بحيث أني رأيت فيها كوز زبد بدرهمين واثنتي عشرة دجاجة بدرهم وأربعة وعشرين فروجا بدرهم والسمن اثنا عشر رطلا بدرهم والخبز أربعون رطلا بدرهم واللبن مائة وخمسون رطلا بدرهم والسمك مائة رطل بدرهم وجميع ما فيها بهذه النسبة، وممن ينسب إليها خلف بن محمد بن علي ابن حمدون أبو محمد الواسطي الحافظ صاحب كتاب أطراف أحاديث صحيحي البخاري ومسلم، حدث عن أحمد بن جعفر القطيعي والحسين بن أحمد المديني وأبي بكر الإسماعيلي وغيرهم، روى عنه الحاكم أبو عبد الله وأبو نعيم الأصبهاني وغيرهما، وأنشدني التنوخي للفضل الرقاشي يقول:

«تركت عيادتي ونسيت برّي، *** وقدما كنت بي برّا حفيّا»

«فما هذا التغافل يا ابن عيسى؟ *** أظنّك صرت بعدي واسطيّا»

وأنشدني أحمد بن عبد الرحمن الواسطي التاجر قال:

أنشدني أبو شجاع بن دوّاس القنا لنفسه:

«يا ربّ يوم مرّ بي في واسط *** جمع المسرة ليله ونهاره»

«مع أغيد خنث الدلال مهفهف *** قد كاد يقطع خصره زنّاره»

«وقميص دجلة بالنسيم مفرّك *** كسر تجرّ ذيوله أقطاره»

وأنشدني أيضا لأبي الفتح المانداني الواسطي:

«عرّج على غربيّ واسط إنني *** دائي الدويّ بها وفرط سقامي»

«وطني وما قضّيت فيه لبانتي، *** ورحلت عنه وما قضيت مرامي»

وقال بشار بن برد يهجو واسطا:

«على واسط من ربها ألف لعنة، *** وتسعة آلاف على أهل واسط»

«أيلتمس المعروف من أهل واسط *** وواسط مأوى كلّ علج وساقط؟»

«نبيط وأعلاج وخوز تجمّعوا *** شرار عباد الله من كل غائط»

«وإني لأرجو أن أنال بشتمهم *** من الله أجرا مثل أجر المرابط»

وقال غيره يهجوهم:

«يا واسطيين اعلموا أنني *** بذمّكم دون الورى مولع»

«ما فيكم كلكم واحد *** يعطي ولا واحدة تمنع»

وقال محمد بن الأجلّ هبة الله بن محمد بن الوزير أبي المعالي بن المطلب يلقب بالجرد يذكر واسطا:

«لله واسط ما أشهى المقام بها *** إلى فؤادي وأحلاه إذا ذكرا! »

«لا عيب فيها، ولله الكمال، سوى *** أنّ النسيم بها يفسو إذا خطر! »

وواسط أيضا: قرية متوسطة بين بطن مرّ ووادي نخلة ذات نخيل، قال لي صديقنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن محمود النجار: كنت ببطن مرّ فرأيت نخلا عن بعد فسألت عنه فقيل لي هذه قرية يقال لها واسط، وقال بعض شعراء الأعراب يذكر واسطا في بلادهم:

«ألا أيها الصّمد الذي كان مرّة *** تحلّل سقّيت الأهاضيب من صمد»

«ومن وطن لم تسكن النفس بعده *** إلى وطن في قرب عهد ولا بعد»

«ومنزلتي دلقاء من بطن واسط *** ومن ذي سليل كيف حالكما بعدي»

«تتابع أمطار الربيع عليكما، *** أما لكما بالمالكية من عهد؟»

وواسط أيضا: قرية مشهورة ببلخ، قال إبراهيم ابن أحمد السراج: حدثنا محمد بن إبراهيم المستملي بحديث ذكره محمد بن محمد بن إبراهيم الواسطي واسط بلخ، قال أبو إسحاق المستملي في تاريخ بلخ:

نور بن محمد بن علي الواسطي واسط بلخ وبشير بن ميمون أبو صيفي من واسط بلخ عن عبيد المكتب وغيره حدث عنه قتيبة، وقال أبو عبيدة في شرح قول الأعشى:

«في مجدل شيّد بنيانه *** يزلّ عنه ظفر الطائر»

مجدل: حصن لبني السّمين من بني حنيفة يقال له واسط.

واسط أيضا: قرية بحلب قرب بزاعة مشهورة عندهم وبالقرب منها قرية يقال لها الكوفة.

وواسط أيضا: قرية بالخابور قرب قرقيسيا، وإياها عنى الأخطل فيما أحسب لأن الجزيرة منازل تغلب:

عفا واسط من أهل رضوى فنبتل وواسط أيضا: بدجيل على ثلاثة فراسخ من بغداد، قال الحافظ أبو موسى: سمعت أبا عبد الله يحيى بن

أبي علي البنّاء ببغداد، حدثني القاضي أبو عبد الله محمد ابن أحمد بن شاده الأصبهاني ثم الواسطي، واسط دجيل على ثلاثة فراسخ من بغداد، ومحمد بن عمر بن علي العطار الحربي ثم الواسطي واسط دجيل، روى عن محمد بن ناصر السلامي، روى عنه جماعة، منهم:

محمد بن عبد الغني بن نقطة.

واسط الرّقّة: كان أول من استحدثها هشام بن عبد الملك لما حفر الهنيّ والمريّ، قال أبو الفضل قال أبو علي صاحب تاريخ الرقة: سعيد بن أبي سعيد الواسطي واسم أبيه مسلمة بن ثابت خراسانيّ سكن واسط الرقة وكان شيخا صالحا، حدث أبوه مسلمة عن شريك وغيره، قال أبو علي:

سمعت الميمون يقول ذكروا أن الزهري لما قدم واسط الرقة عبر إليه سبعة من أهل الرقة، وذكر قصة، وواسط هذه: قرية غربي الفرات مقابل الرقة، وقال أبو حاتم: واسط بالجزيرة فهي هذه أو التي بقرقيسيا أو غيرها، قال كثيّر عزة:

«سألت حكيما أين شطّت بها النوى، *** فخبّرني ما لا أحبّ حكيم»

«أجدّوا، فأما آل عزّة غدوة *** فبانوا وأما واسط فمقيم»

«فما للنوى؟ لا بارك الله في النوى! *** وعهد النوى عند الفراق ذميم»

«شهدت لئن كان الفؤاد من النوى *** معنّى سقيما إنني لسقيم»

«فإمّا تريني اليوم أبدي جلادة *** فإني لعمري تحت ذاك كليم»

«وما ظعنت طوعا ولكن أزالها *** زمان بنا بالصالحين غشوم»

«فوا حزني لمّا تفرّق واسط *** وأهل التي أهذي بها وأحوم! »

قال محمد بن حبيب: واسط هذه بناحية الرقة، قاله في شرح ديوان كثير، وأنا أرى أنه أراد واسط التي بالحجاز أو بنجد بلا شك ولكن علينا أن ننقل عن الأئمة ما يقولونه، والله أعلم، وقال ابن السكيت في قول كثير أيضا:

«فإذا غشيت لها ببرقة واسط *** فلوى لبينة منزلا أبكاني»

قال واسط بين العذيبة والصفراء.

وواسط أيضا: من منازل بني قشير لبني أسيدة وهم بنو مالك بن سلمة بن قشير وأسيدة وحيدة من بني سعد بن زيد مناة، وبنو أسيدة يقولون هي عربية.

وواسط أيضا: بمكة، وذكر محمد بن إسحاق الفاكهي في كتاب مكة قال: واسط قرن كان أسفل من جمرة العقبة بين المأزمين فضرب حتى ذهب، قال: ويقال له واسط لأنه بين الجبلين اللذين دون العقبة، قال:

وقال بعض المكيين بل تلك الناحية من بركة القسري إلى العقبة تسمى واسط المقيم، ووقف عبد المجيد بن أبي روّاد بأحمد بن ميسرة على واسط في طريق منى فقال له: هذا واسط الذي يقول فيه كثير عزّة:

... وأما واسط فمقيم وقد ذكر، وقال ابن إدريس قال الحميدي: واسط الجبل الذي يجلس عنده المساكين إذا ذهبت إلى منى، قاله في شرح قول عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي في قصيدته التي أولها:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

«ولم يتربّع واسطا وجنوبه *** إلى المنحنى من ذي الأراكة حاضر»

«وأبدلنا ربي بها دار غربة *** بها الجوع باد والعدوّ محاصر»

قال السهيلي في شرح السيرة قال الفاكهي: يقال إن أول من شهده وضرب فيه قبّة خالصة مولاة الخيزران.

وواسط أيضا: بالأندلس بليدة من أعمال قبرة، قال ابن بشكوال: أحمد بن ثابت بن أبي الجهم الواسطي ينسب إلى واسط قبرة، سكن قرطبة، يكنى أبا عمر، روى عن أبي محمد الأصيلي وكان يتولى القراءة عليه، حدث عنه أبو عبد الله بن ديباج ووصفه بالخير والصلاح، قال ابن حبّان: توفي الواسطي في جمادي الآخرة سنة 437 وكفّ بصره.

وواسط أيضا: قرية كانت قبل واسط في موضعها خرّبها الحجاج، وكانت واسط هذه تسمى واسط القصب، وقد ذكرتها مع واسط الحجاج، قال ابن الكلبي:

كان بالقرب من واسط موضع يسمى واسط القصب هي التي بناها الحجاج أولا قبل أن يبني واسط هذه التي تدعى اليوم واسطا ثم بنى هذه فسماها واسطا بها.

وواسط أيضا: قرية قرب مطيراباذ قرب حلّة بني مزيد يقال لها واسط مرزاباذ، قال أبو الفضل: أنشدنا أبو عبد الله أحمد الواسطي، واسط هذه القرية، قال:

أنشدنا أبو النجم عيسى بن فاتك الواسطي من هذه القرية لنفسه من قصيدة يمدح بعض العمّال:

«وما على قدره شكرت له، *** لكنّ شكري له على قدري»

«لأن شكري السّهى وأنعمه ال *** بدر، وأين السهى من البدر! »

وواسط أيضا قال العمراني: واسط مواضع في بلاد بني تميم، وهي التي أرادها ذو الرمة بقوله:

«غربيّ واسط نها *** ومجّت في الكثيب الأباطح »

وقال ابن دريد: واسط مواضع بنجد، ولعلها التي قبلها، والله أعلم.

وواسط أيضا: قرية في شرقي دجلة الموصل بينهما ميلان ذات بساتين كثيرة.

وواسط أيضا: قرية بالفرج من نواحي الموصل بين مرق وعين الرّصد أو بين مرق والمجاهدية، فإني نسيت هذا المقدار.

وواسط أيضا: باليمن بسواحل زبيد قرب العنبرة التي خرج منها علي بن مهدي المستولي على اليمن.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


179-معجم البلدان (وبار)

وَبَارِ:

مبني مثل قطام وحذام، يجوز أن يكون من الوبر وهو صوف الإبل والأرانب وما أشبهها، أو من التوبير وهو محو الأثر، والنسبة إليها أباريّ على غير قياس، عن السهيلي، وقال أهل السير: هي مسمّاة بوبار بن إرم بن سام بن نوح، عليه السلام، انتقل إليها وقت تبلبلت الألسن فابتنى بها منزلا وأقام به وهي ما بين الشّحر إلى صنعاء أرض واسعة زهاء ثلاثمائة فرسخ في مثلها، وقال الليث: وبار أرض كانت من محالّ عاد بين رمال يبرين واليمن فلما هلكت عاد أورث الله ديارهم الجنّ فلم يبق بها أحد من الناس، وقال محمد بن إسحاق: وبار أرض يسكنها النسناس، وقيل: هي بين حضرموت والسبوب، وفي كتاب أحمد بن محمد الهمذاني: وفي اليمن أرض وبار وهي فيما بين نجران وحضرموت وما بين بلاد مهرة والشّحر، وكان وبار وصحار وجاسم بني إرم، فكانت وبار تنزل وبار وجاسم الحجاز، ووبار بلادهم المنسوبة إليهم وهي ما بين الشحر إلى تخوم صنعاء، وكانت أرض وبار أكثر الأرضين خيرا وأخصبها ضياعا وأكثرها مياها وشجرا وثمرا فكثرت بها القبائل حتى شحنت بها أرضهم وعظمت أموالهم فأشروا وبطروا وطغوا وكانوا قوما جبابرة ذوي أجسام فلم يعرفوا حقّ نعم الله تعالى

فبدّل الله خلقهم وجعلهم نسناسا للرجل والمرأة منهم نصف رأس ونصف وجه وعين واحدة ويد واحدة ورجل واحدة فخرجوا على وجوههم يهيمون في تلك الغياض إلى شاطئ البحر يرعون كما ترعى البهائم وصار في أرضهم كل نملة كالكلب العظيم تستلب الواحدة منها الفارس عن فرسه فتمزقه

«ولقد ضللت أباك تطلب دارما *** كضلال ملتمس طريق وبار»

«لا تهتدي أبدا ولو بعثت به *** بسبيل واردة ولا آثار»

ويزعم علماء العرب أن الله تعالى لما أهلك عادا وثمود أسكن الجن في منازلهم وهي أرض وبار فحمتها من كل من يريدها، وأنها أخصب بلاد الله وأكثرها شجرا ونخلا وخيرا وأعذبها عنبا وتمرا وموزا فإن دنا رجل منها عامدا أو غالطا حثا الجن في وجهه التراب وإن أبى إلا الدخول خبّلوه وربما قتلوه، وعندهم الإبل الحوشيّة وهي فيما يزعم العرب التي ضربت فيها إبل الجنّ، وقال شاعر:

«كأني على حوشية أو نعامة *** لها نسب في الطير أو هي طائر»

وفي كتاب أخبار العرب أن رجلا من أهل اليمن رأى في إبله ذات يوم فحلا كأنه كوكب بياضا وحسنا فأقرّه فيها حتى ضربها فلما ألقحها ذهب ولم يره حتى كان في العام المقبل فإنه جاء وقد نتج الرجل إبله وتحركت أولاده فيها فلم يزل فيها حتى ألقحها ثم انصرف، وفعل ذلك ثلاث سنين، فلما كان في الثالثة وأراد الانصراف هدر فتبعه سائر ولده ومضى فتبعه الرجل حتى وصل إلى وبار وصار إلى عين عظيمة وصادف حولها إبلا حوشية وحميرا وبقرا وظباء وغير ذلك من الحيوانات التي لا تحصى كثرة وبعضه أنس ببعض ورأى نخلا كثيرا حاملا وغير حامل والتمر ملقى حول النخل قديما وحديثا بعضه على بعض ولم ير أحدا، فبينما هو واقف يفكر إذ أتاه رجل من الجن فقال له: ما وقوفك ههنا؟ فقصّ عليه قصة الإبل، فقال له: لو كنت فعلت ذلك على معرفة لقتلتك ولكن اذهب وإياك والمعاودة فإنّ هذا جمل من إبلنا عمد إلى أولاده فجاء بها، ثم أعطاه جملا وقال له: انج بنفسك وهذا الجمل لك، فيقال إن النجائب المهرية من نسل ذلك الجمل، ثم جاء الرجل وحدث بعض ملوك كندة بذلك فسار يطلب الموضع فأقام مدة فلم يقدر عليه وكانت العين عين وبار، قال أبو زيد الأنصاري: يقال تركته ببلد اصمت وتركته بملاحس البقر وتركته بمحارض الثعالب وتركته بهور ذابر وتركته بوحش إضم وتركته بعين وبار وتركته بمطارح البزاة، وهذه كلّها أماكن لا يدرى أين هي، وقول النابغة:

«فتحمّلوا رحلا كأن حمولهم *** دوم ببيشة أو نخيل وبار»

يدلّ على أنها بلاد مسكونة معروفة ذات نخيل، وكان لدعيميص الرّمل العبدي صرمة من الإبل، فبينما هو ذات ليلة إذا أتاه بعير أزهر كأنه قرطاس

فضرب في إبله فنتجت قلاصا زهرا كالنجوم فلم يذلل منها إلا ناقة واحدة فاقتعدها، فلما مضت عليه ثلاثة أحوال إذا هو ليلة بالفحل يهدر في إبله ثم انكفأ مرتدّا في الوجه الذي أقبل منه فلم يبق من نجله شيء إلا تبعه إلا النّويقة التي اقتعدها فأسف فقال: لأموتنّ أو ل

وبوبار النسناس يقال إنهم من ولد النسناس بن أميم ابن عمليق بن يلمع بن لاوذ بن سام وهم فيما بين وبار وأرض الشحر وأطراف أرض اليمن يفسدون الزرع فيصيدهم أهل تلك الأرض بالكلاب وينفرونهم عن زروعهم وحدائقهم، وعن محمد بن إسحاق أن النسناس خلق في اليمن لأحدهم يد واحدة ورجل واحدة وكذلك العين وسائر ما في الجسد وهو يقفز برجله قفزا شديدا ويعدو عدوا منكرا، ومن أحاديث أهل اليمن أن قوما خرجوا لاقتناص النسناس فرأوا ثلاثة منهم فأدركوا واحدا فأخذوه وذبحوه وتوارى اثنان في الشجر فلم يقفوا لهما على خبر، فقال الذي ذبحه: والله إن هذا لسمين أحمر الدم، فقال أحد المستترين في الشجر: إنه قد أكل حبّ الضّرو وهو البطم وسمن، فلما سمعوا صوته تبادروا إليه وأخذوه فقال الذي ذبح الأول:

والله ما أحسن الصمت هذا لو لم يتكلم ما عرفنا مكانه، فقال الثالث: فها أنا صامت لم أتكلم، فلما سمعوا صوته أخذوه وذبحوه وأكلوا لحومهم، وقال دغفل: أخبرني بعض العرب أنه كان في رفقة يسير في رمل عالج، قال: فأضللنا الطريق ووقفنا إلى غيضة عظيمة على شاطئ البحر فإذا نحن بشيخ طويل له نصف رأس وعين واحدة وكذلك جميع أعضائه، فلما نظر إلينا مرّ يركض كالفرس الجواد وهو يقول:

«فررت من جور الشّراة شدّا *** إذ لم أجد من الفرار بدّا»

«قد كنت دهرا في شبابي جلدا، *** فها أنا اليوم ضعيف جدّا»

وروى الحسام بن قدامة عن أبيه عن جدّه قال:

كان لي أخ فقلّ ما بيده وأنفض حتى لم يبق له شيء فكان لنا بنو عمّ بالشحر فخرج إليهم يلتمس برّهم فأحسنوا قراه وأكثروا برّه وقالوا له يوما: لو خرجت معنا إلى متصيّد لنا لتفرّجت، قال: ذاك إليكم، وخرج معهم فلما أصحروا ساروا إلى غيضة عظيمة فأوقفوه على موضع منها ودخلوها يطلبون الصيد، قال: فبينما أنا واقف إذ خرج من الغيضة شخص في صورة الإنسان له يد واحدة ورجل واحدة ونصف لحية وفرد عين وهو يقول: الغوث الغوث الطريق الطريق عافاك الله! ففزعت منه وولّيت هاربا ولم أدر أنه الصيد الذي يذكرونه، قال: فلما جازني سمعته يقول وهو يعدو:

«غدا القنيص فابتكر *** بأكلب وقت السّحر»

«لك النجا وقت الذكر *** ووزر ولا وزر»

«أين من الموت المفرّ؟ *** حذرت لو يغني الحذر»

«هيهات لن يخطي القدر، *** من القضا أين المفرّ؟»

فلما مضى إذا أنا بأصحابي قد جاءوا فقالوا: ما فعل الصيد الذي احتشناه إليك؟ فقلت لهم: أما الصيد فلم أره، ووصفت لهم صفة الذي مرّ بي، فضحكوا وقالوا: ذهبت بصيدنا! فقلت: يا سبحان الله! أتأكلون الناس؟ هذا إنسان ينطق ويقول الشعر! فقالوا: وهل أطعمناك منذ جئتنا إلا من لحمه قديدا وشواء؟ فقلت: ويحكم أيحلّ هذا؟ قالوا: نعم إن له كرشا وهو يجتر فلهذا يحل لنا، قلت: ولهذه الأخبار أشباه ونظائر في أخبارهم والله أعلم بحق ذلك من باطله.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


180-معجم البلدان (هنديجان)

هِنْدِيجان:

قال مسعر بن المهلهل: بخوزستان بعد آسك بينها وبين أرّجان قرية تعرف بهنديجان ذات آثار عجيبة وأبنية عالية وتثار منها الدفائن كما تثار بمصر، وبها نواويس بديعة الصنعة وبيوت نار، ويقال إن جيلا من الهند قصدت ملك الفرس لتزيل مملكته فكانت الوقعة في هذا المكان فغلبت الفرس الهند وهزمتهم هزيمة قبيحة فهم يتبركون بهذا الموضع.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


181-معجم القواعد العربية (أما)

أمّا:

1 ـ ماهيّتها:

هي حرف فيه معنى الشّرط والتّوكيد دائما، والتفصيل غالبا، يدلّ على الأوّل: لزوم الفاء بعدها نحو {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلًا} وهي نائبة عن أداة الشّرط وجملته، ولهذا تؤوّل ب «مهما يكن من شيء».

ويدل على الثاني: أنّك إذا قصدت توكيد «زيد ذاهب». قلت: «أمّا زيد فذاهب» أي لا محالة ذاهب. ويدلّ على التّفصيل استقراء مواقعها نحو: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ.... وَأَمَّا الْغُلامُ... وَأَمَّا الْجِدارُ} الآيات ونحو: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ}.

وقد يترك تكرارها استغناء بذكر أحد القسمين عن الآخر، أو بكلام يذكر بعدها. فالأوّل: كقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ}. والثاني: نحو: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ} أي وأمّا غيرهم فيؤمنون به ويكلون معناه إلى ربّهم. وقد يتخلّف التّفصيل كقولك: «أمّا عليّ فمنطلق». كما تقدّم.

2 ـ وجوب وجود الفاء بعدها وقد يجب حذفها.

لا بدّ من «فاء» تالية لتالي «أمّا» لما فيها من معنى الشّرط، ولا تحذف إلّا إذا دخلت على «قول» قد طرح استغناء عنه بالمقول، فيجب حذفها معه نحو: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ} أي فيقال لهم: أكفرتم. ولا تحذف في غير ذلك إلّا في ضرورة كقول الشاعر يهجو بني أسد:

«فأمّا القتال لا قتال لديكم *** ولكنّ سيرا في عراض المواكب »

3 ـ دخول «أمّا» على أداة الشّرط:

إذا اجتمع شرطان «أمّا وإن الشّرطية» كان الجواب للسّابق منهما فأغنى عن جواب الشّرط الثاني، وذلك إذا كان فعل الشّرط ماضي اللّفظ نحو قوله تعالى: {وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ}. الفاء في جواب «أمّا» والفاء وما بعدها يسّدان مسدّ جواب «إن».

4 ـ ما يفصل بين «الفاء» و «أمّا»:

يفصل بين «الفاء» و «أمّا» بالمبتدأ نحو: «أمّا محمّد فمسافر» أو بالخبر نحو: «أمّا في الدّار فإبراهيم» أو بجملة الشّرط نحو قوله تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ}. أو باسم منصوب بالجواب نحو {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ}. أو باسم معمول لمحذوف يفسّره ما بعد الفاء، نحو: «أمّا من قصدك فأغثه» أو بظرف معمول ل «أمّا» نحو «أمّا اليوم فإنّي ذاهب». ويقول سيبويه: واعلم أن كلّ موضع تقع فيه «أنّ» تقع فيه «أنّما» فمن ذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ}.

وقال ابن الأطنابة:

«أبلغ الحارث بن ظالم المو *** عد والنّاذر النذور عليّا»

«إنما تقتل النّيام ولا *** تقتل يقظان ذا سلاح كميّا»

معجم القواعد العربية في النحو والتصريف وذُيّل بالإملاء-عبدالغني الدقر-صدر: 1404ه‍/1984م


182-معجم القواعد العربية (التصغير)

التّصغير:

1 ـ تعريفه:

تغيير مخصوص في بنية الكلمة.

2 ـ فوائدة ستّ:

(1) تقليل ذات الشّيء نحو «كليب».

(2) تحقير شأنه نحو «رجيل».

(3) تقليل كمّيّته نحو «دريهمات».

(4) تقريب زمانه نحو «قبيل العصر» و «بعيد الظّهر».

(5) تقريب مسافته نحو «فويق الميل» و «تحيت البريد».

(6) تقريب منزلته نحو «أخيّ» وزاد بعضهم على ذلك: التّعظيم نحو «دويهية»، والتّحبّب نحو «بنيّة».

3 ـ شروطه:

شروطه أربعة:

(أحدها) أن يكون اسما فلا يصغّر الفعل ولا الحرف، وشذّ تصغير فعل التّعجّب نحو «ما أحيسنه».

(الثّاني) ألّا يكون متوغّلا في شبه الحرف، فلا تصغّر المضمرات ولا «من وكيف» ونحوهما.

(الثّالث) أن يكون خاليا من صيغ التّصغير وشبهها، فلا يصغّر نحو «كميت» لأنّه على صيغة التّصغير.

(الرّابع) أن يكون قابلا لصيغة التّصغير، فلا تصغّر الأسماء المعظّمة

ك «أسماء الله وأنبيائه وملائكته» ولا «جمع الكثرة» و «كلّ وبعض» ولا «أسماء الشّهور» و «الأسبوع» و «المحكي» و «غير» و «سوى» و «البارحة» و «الغد» و «الأسماء العاملة».

4 ـ أبنيته:

أبنيته ثلاثة:

(1) «فعيل».

(2) «فعيعل».

(3) «فعيعيل».

وذلك أنّه لا بدّ في كلّ تصغير من ثلاثة أعمال: ضمّ الحرف الأوّل، وفتح الثّاني واجتلاب ياء ثالثة.

أمّا الأوّل وهو فعيل، إنّما هو في الكلام على أدنى التّصغير، ولا يكون مصغّر على أقلّ من فعيل، وذلك نحو: «رجيل» تصغير رجل، ونحو «قييس» تصغير قيس، و «جميل» تصغير جمل، و «جبيل» تصغير جبل، وكذلك جميع ما كان على ثلاثة أحرف.

وأمّا الثّاني وهو فعيعل فإنّه ممّا يكون على أربعة أحرف وذلك نحو «جعيفر» تصغير جعفر، و «مطيرف» تصغير طريف، و «سبيطر» تصغير سبطر، و «غليّم» تصغير غلام.

وأمّا الثّالث وهو فعيعيل فإنّه ممّا يكون على خمسة أحرف وكان الرّابع منه واوا أو ألفا، أو ياء، وذلك في نحو «مصيبيح» تصغير مصباح، و «قنيديل» تصغير قنديل، وفي «كريديس» تصغير كردوس وفي «قريبيس» تصغير: قربوس. والتّصغير ممّا كان على خمسة أحرف ممّا ليس فيه واو أو ألف أو ياء. فنحو «سفيرج» تصغير سفرجل، و «فريزد» تصغير فرزدق، و «شميرد» تصغير شمردل، و «قبيعث» تصغير قبعثرى. يقول سيبويه: وإن شئت ألحقت في كلّ اسم منها ياء قبل آخر حروفه حرفا عوضا نحو «سفيريج» بدل سفيرج وهكذا.

5 ـ المستثنى من كسر ما بعد الياء:

تقدّم أنّه يجب كسر ما بعد ياء النسب ممّا تجاوز ثلاثة الأحرف، ويستثنى من هذه القاعدة أربع مسائل يفتح فيها ما بعد ياء النسب.

(إحداها) ما قبل علامة التّأنيث سواء أكانت تاء أم ألفا ك «شجرة» وحبلى فتقول في تصغيرهما «شجيرة» و «حبيلى».

(الثّانية) ما قبل ألف التّأنيث الممدودة ك «حمراء» تقول في تصغيرها «حميراء».

(الثّالثة) ما قبل أفعال،، ك «أجمال» و «أفراس» فتقول في التّصغير «أجيمال» و «أفيراس».

(الرّابعة) ما قبل ألف فعلان ك «سكران» و «عثمان» فتقول: «سكيران» و «عثيمان».

6 ـ تصغير المضاعف:

وذلك قولك في مدقّ: مديقّ، وفي أصمّ: أصيّم، ولا تغير الإدغام عن حاله كما أنّك إذ كسّرت مدقّا للجمع قلت: مداقّ، ولو كسّرت أصمّ لقلت أصام، فإنّما أجريت التّصغير على ذلك.

7 ـ تصغير ما كان على ثلاثة أحرف ولحقته الزيادة للتأنيث:

أمّا تصغير ما كان على ثلاثة أحرف ولحقته الزيادة للتّأنيث فصار أربعة وذلك نحو «حبلى» و «بشرى» و «أخرى» تقول في تصغيرها: «حبيلى، وبشيرى، وأخيرى». وذلك أنّ هذه الألف لمّا كانت ألف تأنيث لم يكسروا الحرف بعد ياء التّصغير، وجعلوها هنا بمنزلة هاء التّأنيث وذلك قولك في طلحة: طليحة.

وإن جاءت هذه الألف لغير التّأنيث كسرت الحرف بعد ياء التّصغير وذلك في نحو «معزى» تقول في تصغيرها: معيز، وفي «أرطى»: أريط.

وإن كانت هذه الألف خامسة فصاعدا فكانت للتّأنيث أو لغيره حذفت وذلك قولك في: «قرقرى: قريقر» و «حبركى:

حبيرك».

8 ـ تصغير ما فيه «ألف ونون» زائدتان: القاعدة في تصغير ما فيه «ألف ونون» زائدتان: أن الألف لا تقلب ياء فيما يأتي:

(1) في الصّفات مطلقا سواء أكان مؤنّثها خاليّا من التّاء وهو الأصل أم بالتّاء فالأولى نحو «سكران» و «جوعان». فإنّ مؤنثهما «سكرى، وجوعى». والثّانية نحو «عريان» و «ندمان». وصميان «للشّجاع» وقطوان «للبطيء». فإنّ مؤنّثها: عريانة، وندمانة، وصميانة، وقطوانة.

تقول في تصغيرها «سكيران» و «جويعان» و «عريّان» و «نديمان» و «صميّان» و «قطيّان».

(2) في الأعلام المرتجلة نحو «عثمان» و «عمران» و «سعدان» و «غطفان» و «سلمان» و «مروان» تقول في تصغيرها «عثيمان» و «عميران» و «سعيدان». و «غطيفان» و «سليمان» و «مريّان».

(3) أن تكون الألف رابعة في اسم جنس، ليس على وزن من الأوزان الآتية: «فعلان، فعلان، فعلان». ك «ظربان» و «سبعان» يقال في تصغيرهما: «ظربيان وسبيعان».

(4) أن تكون الألف خامسة في اسم جنس، أو في حكم الخامسة، نحو «زعفران» و «عقربان». و «أفعوان» و «صلّيان» و «عبوثران» تقول في تصغيرها: «زعيفران» و «عقيربان» و «أفيعيان» و «صليليان» و «عبيثران». فإن زادت على ذلك حذفت نحو «قرعبلانة». تقول في تصغيرها «قريعبة». وتقلب ياء لكسر ما بعد ياء التّصغير ألف إذا كانت رابعة في اسم جنس على وزن «فعلان أو فعلان أو فعلان» ك «حومان» و «سلطان» و «سرحان» تقول في تصغيرها «حويمين» و «سليطين» و «سريحين» تشبيها لها «بزلزال وقرطاس وسربال». إذ يقال في تصغيرها: زليزيل، وقريطيس و «سريبيل».

وأمّا العلم المنقول فحكمه حكم ما نقل عنه، فإن نقل عن صفة فحكمه حكم الصّفة، وإن نقل عن اسم جنس فحكمه حكم اسم الجنس، تقول في «سلطان» و «سكران» علمين «سليطين» و «سكيرين».

9 ـ ما يستثنى من الحذف:

يستثنى من الحذف ليتوصّل إلى مثالي «فعيعل وفعيعيل» سبع مسائل:

(1) ألف التّأنيث الممدودة ك «حمراء» و «قرفصاء» تقول في تصغيرهما: «حميراء» و «قريفصاء».

(2) تاء التّأنيث نحو «حنظلة» وتصغيرها: «حنيظلة».

(3) ياء النّسب نحو: «عبقريّ» وتصغيرها: «عبيقريّ».

(4) عجز المضاف نحو «عبد شمس» وتصغيرها «عبيد شمس».

(5) عجز المركب تركيب مزج نحو: «بعلبكّ» وتصغيرها «بعيلبكّ».

(6) علامة التّثنية نحو «مسلمين» وتصغيرها «مسيلمين» وكذا «مسيلمان».

(7) علامة جمع التّصحيح نحو: «مسلمين» وتصغيرها «مسيلمين» وكذا «مسيلمون».

10 ـ حكم ثاني المصغّر إذا كان ليّنا:

ثاني الاسم المصغّر يردّ إلى أصله إذا كان ليّنا منقلبا عن غيره، لأنّ التّصغير يردّ الأشياء إلى أصولها، ويشمل ذلك:

ما أصله واو فانقلبت «ياء» نحو «قيمة» فتقول في تصغيرها «قويمة» أو انقلبت «ألفا» نحو: «باب» فتقول فيه «بويب».

وما أصله ياء فانقلبت واوا نحو «موقن» تقول في تصغيرها «مييقن» أو أصلها ياء فانقلبت ألفا نحو «ناب» تقول في تصغيرها «نييب».

وما أصله همزة فانقلبت ياء نحو «ذئب» فتقول في تصغيرها «ذؤيب».

وما أصله حرف صحيح غير همزة نحو «دينار» و «قيراط» فإن أصلهما «دنّار» و «قرّاط» والياء فيهما بدل من أول المثلين، فتقول في تصغيرهما «دنينير» و «قريريط».

وإذا كان ثانيه تاء أصليّة تثبت في التّصغير وذلك نحو «بيت وشيخ وسيّد» فأحسنه أن تقول: «شييخ» وسييد، وبييت» لأنّ التّصغير يضم أوائل الأسماء وهو لازم له كما أنّ الياء لازمة له.

ومن العرب من يقول: شييخ وبييت وسييد كراهة الياء بعد الضمة. فخرج ما ليس بليّن نحو «متعدّ» تقول في تصغيرها «متيعد» بدون رد. وإذا كان حرف لين مبدلا من همزة تلي همزة، كألف «آدم» ففيه تقلب واوا تقول في تصغيرها «أويدم» كالألف الزّائدة في نحو «شارب» تقول «شويرب» وشذّ في «عيد» «عييد» وقياسه: عويد لأنّه من عاد يعود، فلم يردّوا الياء لئلا يلتبس بتصغير «عود» واحد الأعواد.

11 ـ تصغير المقلوب:

إذا صغّر اسم مقلوب صغّر على لفظه لا على أصله لعدم الحاجة نحو «جاه» من الوجاهة، تقول في تصغيره «جويه» لا وجيه.

12 ـ تصغير ما حذف أحد أصوله:

إذا صغّر ما حذف أحد أصوله فإن بقي على ثلاثة أحرف ك «شاك» و «هار» و «ميت» بالتّخفيف لم يردّ إليه شيء فتقول «شويك» و «هوير» و «مييت».

ووجب ردّ المحذوف إن بقي على حرفين فالمحذوف الفاء نحو «كل وخذ وعد» والعين نحو «مذ وقل وبع» واللام نحو «يد ودم» أو الفاء واللام نحو «قه» أو العين واللّام نحو «ره» بشرط أن تكون كلّها أعلاما، تقول: «أكيل وأخيذ، ووعيد» بردّ الفاء و «منيذ وقويل وببيع» برد العين، و «يديّة ودميّ» برد اللام و «وقيّ ووشيّ» برد الفاء واللام و «روي» برد العين واللام ليمكن بناء فعيل.

وإذا سمّي بما وضع ثنائيا فإن كان ثانيه صحيحا نحو «هل وبل» لم يزد عليه شيء حتى يصغّر، وعندئذ يجب أن يضعّف أو يزاد عليه «ياء» فيقال: «هليل» أو «هلي» و «بليل» أو «بليّ».

وإن كان معتلّا وجب التّضعيف قبل التّصغير فيقال: «لوّ وكيّ وماء». أعلاما، وذلك لأنك زدت على الألف ألفا فالتقى ألفان، فأبدلت الثانية همزة، فإذا صغّرت أعطيت حكم «دوّ وحيّ» فتقول: «لويّ وكييّ ومويّ» كما تقول «دويّ وحييّ ومويّة» إلّا أن «مويّه» لامه هاء فردّ إليها.

13 ـ ما يحذف في التّصغير من الزّيادات على الثلاثي:

تحذف الزّيادات من بنات الثّلاثة في التّصغير كما تحذف من جمع التكسير، وذلك قولك في مغتلم: مغيلم، وتقول في تكسيرها: مغالم فحذفت الألف وأبدلتها ياء فصارت مغيلما للتصغير، وإن شئت قلت: مغيليم، فألحقت الياء عوضا عن المحذوف في الجمع كما قال بعضهم: مغاليم، ومثلها: جوالق، تقول في تصغيرها: جويلق، وإن شئت قلت: جويليق عوضا كما قالوا: جواليق.

وتقول في تصغير المقدّم والمؤخّر: مقيدم ومؤيخر، وإن شئت عوّضت الياء كما قالوا في التكسير: مقاديم ومآخير، والمقادم والمآخر عربية جيّدة. وتقول في تصغير مذكّر: مذيكر، وفي مقترب: مقيرب، وإذا صغّرت مستمعا قلت: مسيمع ومسيميع. وتقول في تصغير محمارّ: محيمير، ولا تقول محيمر، وتقول في تصغير: حمارّة حميّرة كأنّك صغرت: حمرّة لأنّك لو كسّرتها تقول: حمارّ، ولا تقول: حمائر.

وتقول في تصغير مغدودن: مغيدين إن حذفت الدال الآخرة، كأنك صغّرت: مغدون، وإن حذفت الدال الأولى قلت في تصغيرها: مغيدن. وإذا صغّرت مقعنسس حذفت النون وإحدى السّينين فقلت: مقيعس، وإن شئت قلت: مقيعيس.

وأمّا معلوّط فليس فيه إلّا معيليط. وفي تصغير عفنجج: عفيجج، وعفيجيج وإذا صغّرت عطوّد قلت: عطيّد، وعطيّيد، وإذا صغّرت استبرق قلت: أبيرق.

14 ـ تصغير ما كان على أربعة أحرف فلحقته ألف التأنيث الممدودة. وذلك نحو «خنفساء، وعنصلاء، وقرملاء»، فإذا صغّرتها قلت: خنيفساء، وعنيصلاء، وقريملاء ولا تحذف ألف التّأنيث لأنّ الألفين ـ الألف والهمزة ـ لمّا كانتا بمنزلة الهاء في بنات الثلاث لم تحذفا هنا.

15 ـ تصغير ما كان على ثلاثة أحرف ولحقه ألف التأنيث المدودة:

وذلك قولك في تصغير حمراء: حميراء، وفي صفراء: صفيراء، وفي طرفاء: طريفاء.

وكلّ ما كان على ثلاثة أحرف ولحقته زائدتان ـ الألف والهمزة ـ فكان ممدودا منصرفا فإن تصغيره كتصغير الممدود الذي همزته بدل من ياء، وذلك نحو: علباء وحرباء تقول في تصغيرهما: عليبيّ، وحريبيّ، كما تقول في سقّاء سقيقيّ، وفي مقلاء: مقيليّ.

ومن قال: غوغاء وصرف قال: غويغي، ومن لم يصرف وأنّث فإنها عنده بمنزلة عوراء، يقول في تصغيرها غويغاء، وعويراء.

16 ـ من صيغ التّصغير ما ليس منه وإنما لدنوّه.

وذلك قولك: «هو دوين ذلك، وهو فويق ذاك» ومن ذلك: هو أصيغر منك ـ وإنّما أردت أن تقلّل الذي بينهما من السّن ـ ومثل ذلك قولهم: قبيل الظّهر، وبعيد العصر، فالمراد قبل الظهر بقليل، وبعد العصر بقليل، وكذلك قولك: دوين ذلك: أي أقرب أو أقل.

وأمّا قول العرب: هو مثيل هذا، وأميثال هذا، فإنّما أرادوا أنّ المشبّه حقير، كما أنّ المشبّه به حقير كما يقول سيبويه، وأما قولهم: ما أميلحة: فلا يقاس عليه، لأنه فعل والفعل لا يصغّر،.

17 ـ تصغير ما كان على خمسة أحرف:

وذلك نحو: سفرجل، وفرزدق، وقبعثرى، وشمردل، وجحمرش، وصهصلق، فتصغير العرب هذه الأسماء: هكذا: سفيرج، وفريزد، وشميرد، وقبيعث، وصهيصل، وجحيمر. وإن شئت ألحقت في كلّ اسم منها ياء قبل آخر حروفه عوضا، فتقول مثلا: سفيريج وفريزيد.... وهكذا.

وإنما صغّرت هكذا بحذف حرف منها لأنّ تكسيرها: سفارج وفرازد، ويأتي تصغير أمثال هذه الكلمات على حسب جمعها المكسّر، مع إبدال ألفه ياء وضمّ أوّله.

18 ـ ما تحذف منه الزّوائد من بنات الثّلاثة وأوّله الألفات الموصولات:

وذلك قولك: في استضراب: تضيريب، حذفت الألف الموصولة، وحذفت السين كما تحذفها لو كسرته للجمع حتى يصير على مثال مفاعيل ـ فتصير تضاريب ـ وإذا صغّرت الافتقار حذفت الألف ولا تحذف التاء لأنّ الزائدة إذا كانت ثانية في بنات الثّلاثة، وكان الاسم عدّة حروفه خمسة رابعهنّ حرف لين لم يحذف منه شيء في تكسيره للجمع لأنّه يجيء على مثال مفاعيل.

فتقول في تصغير الافتقار؛ فتيقير فإذا صغّرت انطلاق قلت: نطيليق. وإذا صغّرت: اشهيباب تحذف الألف ثم الياء كما تحذفها في التكسير فتصغيرها: شهيبيب.

19 ـ تصغير ما كان من الثّلاثة فيه زائدتان:

وذلك نحو: قلنسوة، إن شئت قلت في تصغيرها: قليسيّة، وإن شئت قلت: قلينسة كما قال بعضهم في تكسيرها: قلانس، وقال بعضهم قلاس.

وكذلك: حبنطى، إن شئت حذفت النون فقلت: حبيط، وإن شئت حذفت الألف فقلت: حبينط.

ومن ذلك كوألل ـ وإن كان غير مشتق ـ إن شئت حذفت الواو وقلت: كؤيلل وكؤيليل، وإن شئت حذفت إحدى اللّامين فقلت: كويئل، وكويئيل.

ومنه: حبارى، إن شئت قلت: حبيرى، وإن شئت قلت: حبيّر.

وإذا صغّرت علانية أو ثمانية أو عفارية، فأحسنه أن تقول: علينية وثمينية وعفيرية.

20 ـ تصغير ما أوّله ألف الوصل وفيه زيادة من بنات الأربعة:

وذلك نحو احرنجام، تقول في تصغيره: حريجيم، فتحذف ألف الوصل، ولا بدّ من تحريك ما بعدها، وتحذف النون حتى يصير ما بقي مثل فعيعيل، وذلك قولك في التصغير: حريجيم، ومثله الاطمئنان تحذف ألف الوصل وإحدى النّونين فتكون طمأيين على مثال فعيعيل.

ومثله الإسلنقاء تحذف الألف والنون حتى يصير على مثال فعيعيل أي سليقيّ.

21 ـ ما يحذف في التصغير من زوائد بنات الأربعة.

وذلك قولك في قمحدوّة:

قميحدة لأن تكسيرها: قماحد وفي سلحفاة: سليحفة وتكسيرها: سلاحف، وفي منجنيق: مجينيق، لأنّ تكسيرها: مجانيق، وفي عنكبوت: عنيكب وعنيكيب، لأنّ تكسيرها: عناكب، وعناكيب وفي تخربوت: تخيرب وتخيريب.

ويدلّك على زيادة التاء في عنكبوت وتخربوت والنون في منجنيق بأن العرب قد كسّرت ذلك، وإن كان العرب لا يكسّرون ما كان على خمسة أحرف حتى يحذفوا.

22 ـ تصغير ما ثبتت زيادته من بنات الثّلاثة.

وذلك نحو «تجفاف»، وإصليت، ويربوع، فتقول في تصغيرها: تجيفيف، وأصيليت، ويريبيع. لأنّك لو كسّرتها للجمع ثبتت هذه الزّوائد.

ومثل ذلك عفريت، وملكوت، تقول في تصغيرهما: عفيريت ومليكيت، لأنّك تقول في تكسيرهما: عفاريت وملاكيت. وكذلك: رعشن تقول في تكسيرها: رعاشن، وفي تصغيرها: رعيشن؛ وكذلك قرنوة، تقول في تصغيرها: قرينية لأنّك لو كسّرتها لقلت: قران، ومثلها: ترقوة تكسيرها: تراق، وتصغيرها: تريقية.

23 ـ تصغير ما ذهبت منه الفاء: وذلك نحو: عدة وزنة فإنّهما من وعدت ووزنت فإنّما ذهبت الواو وهي فاء الكلمة فعل، فإذا صغرت: أعدت ما حذفت، تقول: وعيدة ووزينة. وكذلك شية، تقول في تصغيرها: وشيّة، وإن شئت قلت: أعيدة وأزينة وأشيّة، لأنّ كلّ واو تكون مضمومة يجوز لك همزها.

وممّا ذهبت فاؤه وكان على حرفين: «كل وخذ» فإذا سميت رجلا بكل وخذ قلت في تصغيرهما: أكيل وأخيذ، لأنّهما من «أكلت وأخذت».

24 ـ تصغير ما ذهبت لأمه:

فمن ذلك: دم، تقول في تصغيرها: دميّ، يدلّك على أنّه من بنات الياء قولهم في الجمع: دماء.

ومن ذلك: يدّ، تقول: يديّة، ومثله: شفة، تقول في تصغيرها: شفيهة، يدلّ على حذف لام الكلمة. جمعها: شفاه.

ومن ذلك: سنة، فمن قال أصلها: سانيت قال سنيّة، ومن قال: أصلها: سانهت، قال في التّصغير سنيهة. ومن ذلك فم تقول في تصغيره: فويه. والدّليل أن الذي ذهب هو اللام قولهم في جمعها: أفواه.

ومثله مويه تصغير ماء ردّوا إليه الهاء كما ردّوها في الجمع: مياه وأمواه.

25 ـ تصغير ما ذهبت لامه وأوّله ألف الوصل:

%t%من ذلك: %l% اسم وابن، تقول في تصغيرهما: سميّ، وبنيّ، والدّليل على أنّ المحذوف في اسم وابن اللام، وأنّها الواو أو الياء، قولهم في الجمع: أسماء، وأبناء.

26 ـ تصغير ما أبدل فيه بعض حروفه:

فمن ذلك: ميزان، وميقات، وميعاد وأصلهنّ: موزان من وزن، وموقات من الوقت، وموعاد من الوعد.

سكّنت الواو وكسر ما قبلها فقلبت ياء فصارت ميزان والباقي مثلها.

فإذا صغّرتا حذفت البدل، ورددتها إلى أصلها: تقول في تصغير ميزان: مويزين، وفي ميقات: موبقيت، وفي ميعاد: مويعيد، وكذلك فعلوا حين كسّروا للجمع فقالوا: موازين ومواعيد ومواقيت. وإذا صغّرت: الطّيّ، قلت: طويّ، ومثل ذلك: ريّان وطيّان تقول في تصغيرهما: رويّان وطويّان.

ومن ذلك: عطاء وقضاء، ووشاء، تقول في تصغيرها: عطيّ وقضيّ ووشيّ. وكذلك جميع الممدود لا يكون البدل الذي في آخره لازما أبدا.

فأمّا تصغير عيد فعييد، ولم يقولوا: عويّد، لأنّ جمعها أعياد.

27 ـ ما يصغّر على جمعه المكسّر من الرباعي:

وذلك قولك في خاتم: خويتم، وأصل تكسيرها: خواتم، فأبدلت الياء بالألف ومثله في طابق: طويبق، ودانق:

%t%دوينق: %l% ودرهم: دريهم.

ومن العرب من يقول: خويتيم، ودوينيق، ودريهيم.

28 ـ تصغير كلّ اسم من شيئين ضم أحدهما للآخر:

ومثل هذا يكون تصغيره في الصّدر، وذلك قولك في حضرموت: حضيرموت، وفي بعلبكّ: بعيلبكّ.

وفي خمسة عشر: خميسة عشر، وكذلك جميع ما أشبه ذلك وأمّا اثنا عشر فتقول في تصغيره: ثنيّا عشر.

29 ـ تصغير المؤنّث الثّلاثي:

إذا صغّر المؤنّث الخالي من علامة التّأنيث الثّلاثيّ أصلا وحالا ك «دار، وسنّ، وأذن، وعين» أو أصلا ك «يد» أو مآلا بأن صار بالتّصغير مؤنثا. كلّ هذا تلحقه التاء إن أمن اللّبس فتقول في تصغير دار: «دويرة» وفي تصغير سنّ: «سنينة» وفي أذن: «أذينة» وفي عين: «عيينة» وفي يد: «يديّة». وفي حبلى، وسوداء: «حبيلة وسويدة». وفي سماء: «سميّة».

فلا تلحق التاء نحو «شجر وبقر» لئلا يلتبسا بالمفرد، وإنّما تقول: «شجير، وبقير».

ولا تلحق التّاء نحو: «خمس وست» لئلا يلتبسا بالعدد المذكر.

ولا تلحق التاء نحو «زينب وسعاد» لتجاوزها الثلاثة.

وشذّ ترك التاء في تصغير «حريب وعريب ودريع ونعيل» ونحوهن مع عدم اللبس.

وشذّ وجود التاء في تصغير «وراء وأمام وقدّام» مع زيادتهن على الثلاثة، فقد سمع «وريّئة وأميّمة وقديديمة».

30 ـ تصغير الإشارة والموصول:

التّصغير من خواصّ الأسماء المتمكّنة وممّا شذّ عن هذا أربعة: اسم الإشارة واسم الموصول، وأفعل في التّعجب.

فأمّا اسم الإشارة فقد سمع التّصغير منه في خمس كلمات، وذلك قولهم في هذا: هذيّا، وفي ذاك: ذيّاك وفي تا: تيّاك، وفي ذيّا: ذيّان، وفي تيّا: تيّان للتثنية، وفي ألاء: أليّاء.

«أو تحلفي بربّك العليّ *** أنّي أبو ذيّالك الصّبي »

وقالوا في تصغير «أولى» بالقصر «أوليّا» ولم يصغّروا منها غير ذلك. وأمّا اسم الموصول فقالوا في تصغير «الذي والتي». «اللّذيّا واللّتيّا» وفي تثنيتهما: «اللّذيّان واللّتيّان». وفي الجمع «اللّذيّون» رفعا و «اللّذيّين» جرّا ونصبّا، وفي جمع «اللّتيّا»: «اللّتيّات».

31 ـ تصغير اسم الجمع، وجمع القلة:

يصغّر اسم الجمع لشبهه بالواحد فيقال في ركب «ركيب» وكذلك جموع القلّة كقولك في «أجمال: أجيمال».

32 ـ جمع الكثرة لا يصغّر.

جمع الكثرة لا يصغّر لأن التّصغير للقلّة، والجمع للكثرة، فبينما منافاة، فعند إرادة تصغير جمع الكثرة يردّ الجمع إلى مفرده ويصغّر ثمّ يجمع بالواو والنون إن كان لمذكّر عاقل، تقول في: «غلمان» «غليّمون» وبالألف والتاء إن كان لمؤنّث أو لمذكّر لا يعقل تقول في «جوار» و «دراهم»: «جويريات» و «دريهمات» إلّا ما له جمع قلّة، فيجوز ردّه إليه كقولك في فتيان «فتية».

33 ـ ما يصغر على غير بناء مكبّره: فمن ذلك قول العرب في مغرب الشمس:

%t%مغيربان، وفي العشيّ: %l% آتيك عشيّانا. ويقول سيبويه: وسمعنا من العرب من يقول في تصغير عشيّة: عشيشية.

أمّا قولهم: آتيك أصيلالا فإنما هو أصيلان أبدلوا اللام منها.

وأمّا قولهم: آتيك عشيّانات ومغيربانات، فإنما جعلوا ذلك الحين أجزاء.

وممّا يصغّر على غير بناء مكبّره: إنسان، تقول في تصغيره: أنيسيان، وفي بنون: أبيّنون، ومثل ذلك ليلة، تصغيرها: لييلة، وقولهم في رجل: رويجل. ومن ذلك قولهم في صبية: أصيبية. وفي غلمة: أغيلمة.

كأنّهم صغّروا: أغلمة وأصبية.

34 ـ ما جرى في الكلام مصغّرا وترك تكبيره:

وذلك قولهم: جميل وكعيت وهو البلبل، وقالوا: كعتان، وجملان فجاءوا به على التّكبير، ولو جاءوا بجمعه على التّصغير لقالوا: جميلات وكعيّات. فليس شيء يراد به التّصغير إلّا وفيه ياء التّصغير.

ومثله: كميت: وهي حمرة مخالطها سواد، فإنّما حقّروها لأنّها بين السّواد والحمرة.

وأمّا سكيت فهو ترخيم سكّيت. وهو الذي يجيء آخر الخيل. (انظر ترخيم التصغير).

35 ـ أسماء لا تصغّر:

فمنها المضمرات، وأسماء الاستفهام، وأسماء الشّرط، ولا تصّغر غير، وكذلك: حسبك، وأمس، وغد ولا تصغّر أسماء شهور السّنة، ولا تصغّر عند، ولا عن، ولا مع، ولا يصغّر الاسم إذا كان بمنزلة الفعل، ألا ترى أنّه قبيح: هو ضويرب زيدا، وهو ضويرب زيد، وإن كان ضارب زيد لما مضى فتصغيره جيّد. وكذلك لا يصغّر: أوّل من أمس، والثّلاثاء، والأربعاء، والبارحة وأشباههنّ.

تصغير اسم الإشارة = (التصغير 30).

تصغير اسم الجمع = (التصغير 31).

تصغير اسم الإشارة، واسم الموصول والتعجب = (التصغير 30).

تصغير الترخيم = (ترخيم التصغير).

تصغير جمع القلة = (التصغير 31).

تصغير جمع الكثرة = (التصغير 32).

تصغير ما حذف أحد أصوله = (التصغير 12).

تصغير ما فيه ألف ونون = (التصغير 8).

تصغير المقلوب = (التصغير 11).

تصغير المؤنث الثلاثي = (التصغير 29).

معجم القواعد العربية في النحو والتصريف وذُيّل بالإملاء-عبدالغني الدقر-صدر: 1404ه‍/1984م


183-معجم القواعد العربية (النعت)

النّعت:

1 ـ تعريفه:

هو التّابع المقصود بالاشتقاق وضعا أو تأويلا، والذي يكمّل متبوعه بدلالته على معنى فيه، أو فيما له تعلّق به. ويخرج بالمقصود مثل الصّدّيق فإنّه كان مشتقا ثمّ غلب حتّى صار التّعيين به أتمّ من العلم وقوله «وضعا» نحو «مررت برجل كريم» أو «تأويلا» نحو: «رأيت غلاما ذا مال» أي صاحب مال، والمراد بدلالة على معنى فيه ظاهر في هذه الأمثلة، والمراد بقوله فيما له تعلّق به نحو قولك: «حضر الصّانع الماهر أبوه».

2 ـ أغراضه:

يساق النّعت لتخصيص نحو: {وَالصَّلاةِ الْوُسْطى} ونحو: {مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ}. أو «تعميم» نحو «إنّ الله يرزق عباده الصّالحين والطّالحين». أو «تفصيل» نحو «نظرت إلى رجلين: عربّي وعجميّ». أو «مدح» نحو: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}. أو «ذمّ» نحو: {فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ}. أو «ترحّم» نحو: «لطف الله بعباده الضّعفاء». أو «إبهام» نحو: «تصدّق بصدقة قليلة أو كثيرة». أو «توكيد» نحو: «أمس الدابر لن يعود» و {فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ} فالنّفخة تدل على الوحدة لأنّ بناءها للمرّة، وواحدة: نعت يفيد التّوكيد.

3 ـ موافقة النّعت المنعوت في التنكير والتعريف:

لا بدّ من موافقة النّعت المنعوت في التّنكير والتّعريف، وقد بسط سيبويه في كتابه موافقة النّعت منعوته، نلخّصها بما يلي، ونبدأ بما بدأ به، وهو نعت النكرة:

يقول سيبويه: ومن النّعت «مررت برجل أيّما رجل» فأيّما نعت للرجل في كماله، وبذّه غيره، كأنّه قال: مررت برجل كامل.

ومنه «مررت برجل حسبك من رجل» فهذا نعت للرجل بكماله، واجتماع كلّ معاني الرّجولة فيه. وكذلك: كافيك من رجل، وهمّك من رجل، وناهيك من رجل. و «مررت برجل ما شئت من رجل» و «مررت برجل شرعك من رجل» و «مررت برجل هدّك من رجل» و «بامرأة هدّك من امرأة»، فهذا كلّه على معنى واحد، وما كان يجري فيه الإعراب فصار نعتا لأوّله جرى على أوّله.

وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقول «مررت برجل هدّك من رجل» و «مررت بامرأة هدّتك من امرأة» فجعله فعلا مفتوحا، كأنّه قال: فعل وفعلت بمنزلة كفاك وكفتك.

ومن النّعت أيضا: مررت برجل مثلك، فمثلك نعت على أنّك قلت: هو رجل كما أنّك رجل. ويكون نعتا أيضا على أنّه لم يزد عليك، ولم ينقص عنك في شيء من الأمور، ومثله: مررت برجل، مثلك أي صورته شبيهة بصورتك» وكذلك: مررت برجل ضربك وشبهك وكذلك نحوك، يجرين في الإعراب مجرى واحدا، وهنّ مضافات إلى معرفة صفات لنكرة، ثم يقول: ومنه «مررت برجل شرّ منك» فهو نعت على أنّه نقص أن يكون مثله.

ومنه: «مررت برجل خير منك» فهو نعت بأنّه قد زاد على أنّه يكون مثله.

ومنه «مررت برجل غيرك» فغيرك نعت يفصل به بين من نعتّه بغير وبين من أضفتها إليه حتى لا يكون مثله، أو يكون مرّ باثنين. ومنه: «مررت برجل آخر» فآخر نعت على نحو غير.

ومنه «مررت برجل حسن الوجه».

نعت الرّجل بحسن وجهه، ولم تجعل فيه الهاء التي هي إضمار الرجل أي حسن وجهه.

وقال: وممّا يكون نعتا للنكرة وهو مضاف إلى معرفة قول الشاعر امرىء القيس:

«بمنجرد قيد الأوابد لاحه *** طراد الهوادي كلّ شأو مغرّب »

وممّا يكون مضافا إلى المعرفة ويكون نعتا للنكرة الأسماء التي أخذت من الفعل، فأريد بها معنى التنوين.

ومن ذلك «مررت برجل ضاربك» فهو نعت على أنه سيضربه، كأنّك قلت: مررت برجل ضارب زيدا ولكن حذف التّنوين ـ من ضاربك ـ استخفافا، وإن أظهرت الاسم وأردت التّخفيف، والمعنى معنى التّنوين، جرى مجراه حين كان الاسم مضمرا، ويدلّك على ذلك قول جرير:

«ظللنا بمستنّ الحرور كأننا *** لدى فرس مستقبل الريح صائم »

كأنه قال: لدى مستقبل صائم، وقال ومنه أيضا قول ذي الرّمّة:

«سرت تخبط الظلماء من جانبي قسا *** وحبّ بها من خابط الليل زائر»

حبّ بها أي احبب بها. ومن النّعت أيضا: «مررت برجل إمّا قائم وإمّا قاعد» أي ليس بمضطجع، ولكنه شكّ في القيام والقعود، وأعلمهم أنّه على أحدهما.

ومنه أيضا «مررت برجل لا قائم ولا قاعد».

ومنه «مررت برجل راكب وذاهب «أو «مررت برجل راكب فذاهب» ومنه «مررت برجل راكب ثمّ ذاهب».

ومنه «مررت برجل راكع أو ساجد، فإنّما هي بمنزلة: إمّا وإمّا.

ومنه «مررت برجل راكع لا ساجد» لا: إخراج للشك، ومنه «مررت برجل راكع بل ساجد» إمّا غلط فاستدرك أو نسي فذكر.

ومنه «مررت برجل حسن الوجه جميله».

ومنه «مررت برجل ذي مال»، ومنه «مررت برجل رجل صدق» منسوب إلى الصلاح، ومنه «مررت برجلين مثلك» أي كلّ واحد منهما مثلك، وكل ذلك جرّ.

ومنه «مررت برجلين غيرك» أي غيره في الخصال، أو رجلين آخرين، ومنه: «مررت برجلين سواء».

ومن النّعت أيضا: «مررت برجل مثل رجلين» وذلك في الغناء، وهذا مثل قولك: «مررت ببرّ ملء قدحين» وكذلك «مررت برجلين مثل رجل». في الغناء، كقولك: «مررت ببرّين ملء قدح» وتقول: «مررت برجل مثل رجل» ومنه «مررت برجل صالح بل طالح» و «ما مررت برجل كريم بل لئيم» أبدلت ـ أي ببل ـ الصفة الآخرة من الأولى، وأشركت بينهما ـ أي بالعطف ـ بل في الإجراء على المنعوت ولكنّه يجيء على النّسيان أو الغلط ـ أي ببل ـ فيتدارك كلامه، ومثله: «ما مررت برجل صالح ولكن طالح» أبدلت الآخر ـ أي النّعت الآخر ـ من الأول ـ أي من النعت الأول ـ فجرى مجراه في بل. ولا يتدارك ب «لكن» إلّا بعد النفي، وإن شئت رفعت على ـ تقدير ـ هو في «لكن» و «بل» فقلت «ما مررت برجل صالح ولكن طالح» ـ أي هو طالح ـ و «ما مررت برجل صالح بل طالح» أي هو طالح، من ذلك قوله عزوجل: {وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَدًا سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ} ويقول سيبويه: واعلم أنّ «بل ولا بل، ولكن» يشركن بين النّعتين فيجريان على المنعوت كما أشركت بينهما «الواو، والفاء، وثمّ، وأو، ولا، وإمّا».

أمّا الاستفهام، فله الصّدارة فلا يعمل فيه ما قبله، تقول: «ما مررت برجل مسلم فكيف راغب في الصدقة» بمنزلة: فأين راغب في الصدقة، على حدّ قول سيبويه.

4 ـ موافقة النعت لمنعوته في التّعريف:

يقول سيبويه «هذا باب مجرى نعت المعرفة عليها». ثم يقول: واعلم أنّ المعرفة لا توصف إلّا بمعرفة: كما أنّ النّكرة لا توصف إلّا بنكرة، واعلم أنّ العلم الخاصّ من الأسماء يوصف بثلاثة أشياء: بالمضاف إلى مثله وبالألف واللّام، والأسماء المبهمة وهي ـ أسماء الإشارة ـ فأما المضاف فنحو: «مررت بزيد أخيك» والألف واللام نحو «مررت بزيد الطّويل» وما أشبه هذا من الإضافة والألف واللّام، وأما المبهمة ـ أي أسماء الإشارة ـ فنحو «مررت بزيد هذا وبعمرو ذاك».

والمضاف إلى المعرفة يوصف بثلاثة أشياء: بما أضيف كإضافته وبالألف واللّام، والأسماء المبهمة، وذلك «مررت بصاحبك أخي زيد» و «مررت بصاحبك الطّويل». و «مررت بصاحبك هذا» فأمّا الألف واللام فتوصف بالألف واللّام، وبما أضيف إلى الألف واللّام، لأنّ ما أضيف إلى الألف واللّام بمنزلة الألف واللام فصار نعتا كما صار المضاف إلى غير الألف واللام صفة لما ليس فيه الألف واللام ـ وقد تقدم مثله ـ وذلك قولك: «مررت بالجميل النبيل» و «مررت بالرجل ذي المال».

وأمّا المبهمات وهي أسماء الإشارة ـ فهي ممّا ينعت به ـ وينعت، فالأول نحو قوله تعالى: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} وأما الثاني فنحو قوله تعالى: {أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ}.

ثم يقول سيبويه: واعلم أن صفات المعرفة تجري من المعرفة مجرى صفات النكرة من النكرة، وذلك قولك: «مررت بأخويك الطّويلين» فليس في هذا إلّا الجرّ، كما ليس في قولك: «مررت برجل طويل» إلّا الجرّ. ويقول، وإذا قلت «مررت بزيد الرّاكع ثم السّاجد» أو الرّاكع فالساجد، أو الراكع لا السّاجد، أو الرّاكع أو السّاجد، أو إمّا الراكع وإمّا السّاجد، وما أشبه هذا لم يكن وجه كلامه إلّا الجرّ، كما كان ذلك في النكرة ـ وقد تقدّمت ـ فإن أدخلت «بل ولكن» جاز فيهما ما جاز في النكرة ـ أي العطف على النعت أو القطع على أن يكون خبرا لمبتدأ هو ـ وقد مضى الكلام في النكرة فأغنى عن إعادته في المعرفة.

5 ـ ما يتبع به النّعت الحقيقيّ منعوته في غير التّنكير والتعريف:

قدّمنا متابعة النعت منعوته في التنكير والتعريف، ونذكر هنا ما يتبعه بغيرهما، من ذلك: متابعة النّعت منعوته بواحد من الإفراد والتثنية والجمع، وبواحد من الرّفع والنصب والجرّ، وبواحد من التّأنيث والتّذكير، فمثال الموافقة من الإفراد والتثنية والجمع قولك: «الرّجال الشّجعان ذخيرة الوطن» أتبع النعت منعوته بالجمع، وكذلك التثنية والإفراد، ويتابع النّعت منعوته بواحد من الرّفع والنّصب والجرّ، نحو «هذا رجل صالح» و «رأيت عمرا العالم» و «نظرت إلى هند المباركة»، وأمّا إتباعه في التّذكير والتأنيث فالنعت يكون مذكّرا إذا كان المنعوت مذكّرا، وإذا كان المنعوت مؤنّثا كان النعت مؤنّثا، وبهذا نفهم قول بعض المتأخّرين بأنّه يجب أن يوافق النّعت الحقيقي منعوته في أربعة من عشرة. واحد: من الرفع والنصب والجرّ، وواحد من الإفراد والتثنية والجمع، وواحد من التّذكير والتأنيث، وواحد من التعريف والتنكير.

6 ـ ما لا يوافق فيه النعت منعوته في التأنيث والتثنية والجمع:

هو ما يستوي فيه المذكّر والمؤنّث، ك «المصدر» غير الميمي، وصيغتي «فعول» و «فعيل» و «أفعل» التّفضيل، فهذه لا تطابق منعوتها في التأنيث والتثنية والجمع، بل تلزم الإفراد، والتّذكير، تقول: «جاءني رجل أو امرأة أو امرأتان أو رجلان أو نساء أو رجال عدل، أو صبور، أو جريح، أو أفضل من غيره».

وكذلك نعت جمع ما لا يعقل، فإنّها تعامل معاملة المؤنّثة المفردة أو جمع المؤنّث نحو: {إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} و {فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ}.

7 ـ ما يتبع به النّعت السّببيّ منعوته:

قدّمنا في تعريف النّعت: أنّه الذي يكمل متبوعه بدلالته على معنى فيه، أو فيما له تعلّق به، والذي يدلّ على معنى فيه هو الحقيقي، وقد قدّمناه، والذي له تعلّق به هو السّببي، وهنا الكلام عليه، وشرط النّعت السّببي أن يتبع منعوته في اثنين واحد من الرّفع والجرّ والنّصب وواحد من التّعريف والتّنكير، ويكون مفردا دائما، ولو كان منعوته مثنّى أو جمعا، إلّا جمع التكسير، فيجوز معه جمع النّعت تكسيرا، تقول: «زرت أبا نشطاء أبناؤه» أو نشيطا أبناؤه.

ويراعى في تذكير النّعت السّببيّ وتأنيثه ما بعده، فهي كالفعل مع الاسم الظّاهر وإن كان منعوتها خلاف ذلك تقول: «أثارت عجبي عائشة النّيّر عقلها» و «رأيت خالدا الثّابتة خطواته» و «سرّني القوم الكريم أبناؤهم» وهكذا....

8 ـ الأنواع التي ينعت بها:

%t%الأنواع التي ينعت بها أربعة: %l%

(1) المشتق، وهو ما دلّ على حدث وصاحبه ك «رام، ومنصور، وحسن، وأفضل».

(2) الجامد المؤوّل بالمشتق كاسم الإشارة المؤول بالمشار إليه، أو الحاضر ـ وقدّمنا جواز أن ينعت اسم الإشارة وينعت به ـ و «ذو» بمعنى صاحب، وأسماء النّسب، لأنّها مؤوّلة بمنسوب إلى كذا، تقول في اسم الإشارة: «سرّني كتابك هذا» وفي «ذي» بمعنى صاحب «صادقت رجلا ذا مروءة».

وفي النّسب «حضر رجل دمشقيّ» لأنّ معناه الحاضر أو المشار إليه، وصاحب المروءة، ومنسوب إلى دمشق. وهذه الأنواع المذكورة رمز إليها بالتعريف في أول الكلام على النعت هو التابع المقصود بالاشتقاق وضعا أو تأويلا.

9 ـ النّعت بالجملة:

ينعت بالجملة بشروط: شرط بالمنعوت، وشرطين في الجملة.

ويشترط بالمنعوت أن يكون نكرة إمّا لفظا ومعنى نحو: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ} أو معنى فقط وهو المعرّف ظاهرا بأل الجنسية كقول رجل من بني سلول:

«ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني *** فأعفّ ثم أقول لا يعنيني »

ويشترط في الجملة التي ينعت بها:

(1) أن تكون مشتملة على ضمير يربطها بالمنعوت إمّا ملفوظ به كما في الآية السابقة {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ} والهاء في «فيه» تعود على المنعوت وهو «يوما».

أو مقدّر نحو قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} أي لا تجزي فيه، وقد ينوب «أل» عن الضمير كقول الشّنفرى:

«كأنّ حفيف النّبل من فوق عجسها *** عوازب نحل أخطأ الغار مطنف »

الأصل: أخطأ غارها، فكانت «أل» بدلا من الضّمير.

(2) أن تكون خبريّة، فلا يجوز قولك: «رأيت رجلا كلّمه» بالأمر، ولا قولك «اشتريت فرسا بعتكه» بقصد إنشاء البيع، وقد جاء ما ظاهره الإنشاء ولكنّ المعنى خبر، كقول العجّاج:

«حتى إذا جنّ الظّلام واختلط *** جاؤوا بمذق هل رأيت الذّئب قطّ»

ولكنّ المعنى: جاؤوا بلبن لونه كلون الذّئب.

10 ـ النّعت بالمصدر:

يجوز النعت بالمصدر بشرط أن يكون مصدرا ثلاثيا، وأن يكون المصدر الثّلاثيّ غير ميميّ، سمع من العرب «هذا رجل عدل» و «رضا» و «زور» و «فطر» وذلك على التأويل بالمشتق، أي عادل، ومرضيّ وزائر، ومفطر، أو على تقدير مضاف، أي ذو عدل، وذو رضا...

11 ـ تعدّد النّعوت:

%t%النّعوت: %l%

(1) إمّا أن تكون لمنعوت واحد.

(2) وإمّا أن تكون لمنعوتين متعدّدين.

(1) فإن كانت النّعوت لمنعوت واحد وتعيّن المنعوت بدونها جاز إتباعها وهو الأصل، وذلك كقول خرنق، أخت طرفة:

«لا يبعدن قومي الذين هم *** سمّ العداة وآفة الجزر»

«النّازلون بكلّ معترك *** والطّيّبون معاقد الأزر»

ويجوز فيه القطع نحو: «رأيت أحمد العالم الأديب الشاعر» والقطع: أن تقدّر هو أو هم فتقول: الأديب أي هو الأديب، وهو الشاعر، ويجوز القطع بالنّصب بإضمار «أمدح أو أذكر» كما يجوز اتباع بعض النّعوت وقطع بعضها.

فإن لم يتعيّن أو لم يعرف المنعوت إلّا لجميع نعوته، وجب إتباعها كلّها، وذلك كقولك: «سمعت أخبار إبراهيم الكاتب الشاعر الخطيب» إذا كان المنعوت إبراهيم يشاركه في اسمه ثلاثة أحدهم كاتب شاعر، وثانيهم كاتب خطيب، وثالثهم شاعر خطيب، فإن تعيّن ببعضها جاز فيها الأوجه الثّلاثة عدا البعض. فإن كان المنعوت نكرة تعيّن في الأوّل الإتباع على النعت، وجاز في الباقي القطع، وذلك كقول أبي أميّة الهذلي يصف صائدا:

«ويأوي إلى نسوة عطّل *** وشعثا مراضيع مثل السّعالي »

أي: وأذكر شعثا.

فإن كان النعت المقطوع لمجرد «المدح أو الذّمّ أو التّرحّم» وجب حذف المبتدأ والفعل، فحذف المبتدأ في قولهم «الحمد لله الحميد» بإضمار هو، وفي حذف الفعل نحو قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} بنصب حمّالة بإضمار «أذمّ» والقراءة الثّانية بالضّم على أنّها نعت لامرأته، أي حمّالة.

(2) وإذا تعدّد النعت لمنعوتين فهو على نوعين:

(أ) أن يكون المنعوت مثنّى أو مجموعا من غير تفريق فإن اتّحد معنى النّعت ولفظه استغني بتثنية النّعت أو جمعه عن تفريقه بالعطف نحو «جاءني الرّجلان الفاضلان» و «جاءني المجاهدون الشّجعان».

وإن اختلف معنى النّعت ولفظه كعاقل وكريم، أو اختلف لفظه دون معناه كالذّاهب والمنطلق، وجب التّفريق فيها بالعطف ب «الواو» كقول الشّاعر ابن ميّادة:

«بكيت وما بكى رجل حزين *** على ربعين مسلوب وبالي »

(ب) أن يكون المنعوت مفرّقا وتتعدّد النّعوت مع اتّحاد لفظها، فإنّ اتّحد معنى العامل، ومعناه جاز الإتّباع مطلقا نحو «جاء عليّ وأتى عمر الحكيمان» و «هذا أحمد وذاك محمود الأديبان». وإن اختلف العامل وعمله في المعنى والعمل أو اختلفا في المعنى فقط، أو اختلفا في العمل فقط، وجب القطع ـ وهو تقدير مبتدأ أو فعل ـ فمثال الأوّل: «سافر محمد وانتظرت حامدا الفارسان» ومثال الثاني: «جاء زيد ومضى عمرو الفاضلان» أي هما الفاضلان، ومثال الثالث: «هذا يؤلم أخاك ويوجع أباك العاقلان» أي هما العاقلان، ويجوز في هذه الأمثلة النّصب بتقدير فعل: أمدح ـ أي أمدح الفارسين والفاضلين والعاقلين ـ، وتقدّم في هذا الباب من كلام سيبويه بعض هذا.

12 ـ حذف ما علم من نعت ومنعوت:

يحذف النّعت بقلّة، ويحذف المنعوت بكثرة جوازا إذا دلّت قرينة على المحذوف، فحذف النّعت نحو قوله تعالى: {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} أي كل سفينة صالحة.

وأمّا حذف المنعوت فمشروط بأن يكون النّعت صالحا لمباشرة العامل نحو: {أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ} أي دروعا سابغات، أو بأن يكون النّعت بعض اسم مقدّم مخفوض ب «من» أو «في» كقولهم «منا ظعن ومنّا أقام» أي منّا فريق ظعن، ومنا فريق أقام.

13 ـ ما ينعت وما ينعت به من الأسماء وما ليس كذلك:

من الأسماء ما ينعت وينعت به كاسم الإشارة ـ وتقدّمت الإشارة إليه ـ ولا ينعت إلّا بمصحوب أل خاصّة، فإن كان جامدا محضا نحو: «مررت بهذا الرّجل» فهو عطف بيان على الأصحّ أي الرجل وإلّا فهو نعت.

ومنها: ما لا ينعت ولا ينعت به كالضمير مطلقا.

ومنها: ما ينعت ولا ينعت به كالعلم.

ومنها: ما ينعت به ولا ينعت ك «أيّ» نحو «مررت بفارس أيّ فارس» (وانظر النعت بالنكرة) (3).

14 ـ النّعت بعد المركّب الإضافي:

إذا أردنا أن ننعت مركّبا إضافيا فالنعت للمضاف لا للمضاف إليه لأنّه المقصود بالحكم، تقول «جاء عبد الله النشيط» و «رحم الله ابن عباس بحر العلم» و «أبو خالد الشّجاع فارس».

ولا يكون النّعت للمضاف إليه إلّا بدليل، لأنّه يؤتى به لغرض التّخصيص كما لا يكون النّعت إلّا للمضاف إليه بلفظ «كلّ» إنما أتي بكل لغرض التّعميم تقول: «رأيت كلّ إنسان عاقل يأبى الجهل».

15 ـ فوائد تتعلّق بالنّعت:

(1) إذا تقدّم النّعت على المنعوت، كان المنعوت بدلا من النّعت نحو قوله سبحانه: {إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللهِ} فلفظ الجلالة بدل من العزيز الحميد. وبهذا يخرج من باب النعت.

(2) إذا جاء النّعت مفردا وظرفا وجملة فالغالب تأخير الجملة نحو: {وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ} ويقلّ تقديم الجملة نحو: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ}.

(3) قد يلي النّعت «لا» أو «إمّا» فيجب عندئذ تكرّرهما مقرونة بواو العطف نحو «اشتريت صوفا لا جيّدا ولا رديئا» ونحو «أعطني قطنا إمّا مصريّا وإمّا سوريّا».

(4) يجوز عطف بعض النّعوت المختلفة المعاني على بعض نحو: «لبست ثوبا جميلا ومتين الصّنع».

معجم القواعد العربية في النحو والتصريف وذُيّل بالإملاء-عبدالغني الدقر-صدر: 1404ه‍/1984م


184-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (براعة التخلص)

براعة التّخلّص:

هو التخلص وحسن التخلص، ويراد به حسن الانتقال من غرض الى آخر في القصيدة، ولم يكن القدماء يعنون بالتخلص وانما هو من حسنات المحدثين أو كما قال ابن طباطبا: «ما أبدعه المحدثون من الشعراء دون من تقدمهم، لان مذهب الاوائل في ذلك واحد وهو قولهم عند وصف الفيافي وقطعها بسير النوق وحكاية ما عانوه في أسفارهم: انا تجشمنا ذلك الى فلان يعنون الممدوح كقول الأعشى:

«الى هوذة الوهاب أزجي مطيتي ***أرجّي عطاء صالحا من نوالكا »

وكانوا يقولون عند الانتقال «دع ذا» و «عدّ عن ذا»، قال الباقلاني: «ألا ترى أنّ كثيرا من الشعراء وقد وصف بالنقص عند التنقل من معنى الى غيره والخروج من باب الى سواه، حتى أنّ أهل الصنعة قد اتفقوا على تقصير البحتري مع جودة نظمه وحسن وصفه في الخروج من النسيب الى المديح وأطبقوا على أنّه لا يحسنه ولا يأتي فيه بشيء وإنّما اتفق له في مواضع محدودة خروج يرتضي وتنقل يستحسن». وقال الحاتمي: «من حكم النسيب الذي يفتتح به الشاعر كلامه أن يكون ممتزجا بما بعده من مدح أو ذم أو غيرهما، غير منفصل منه. فانّ القصيدة مثلها مثل خلق الانسان في اتصال بعض أجزائه ببعض، فمتى انفصل واحد عن الآخر أو باينه في صحة التركيب غادر بالجسم عاهة تتخون محاسنه وتعفّي معالم جماله.

ووجدت حذاق الشعراء وأرباب الصناعة من المحدثين محترسين من مثل هذه الحال احتراسا يجنبهم شوائب النقصان ويقف على محجة الاحسان حتى يقع الاتصال ويؤمن الانفصال. وتأتي القصيدة في تناسب صدورها وأعجازها وانتظام نسيبها بمديحها كالرسالة البليغة والخطبة الموجزة لا ينفصل جزء منها عن جزء كقول مسلم بن الوليد وهو من بارع التخلص:

«أجدّك هل تدرين أن ربّ ليلة***كأنّ دجاها من قرونك ينشر»

«نصبت لها حتى تجلّت بغرّة***كغرّة يحيى حين يذكر جعفر»

وقول بكر بن النطاح:

«ودويّة خلقت للسراب ***فأمواجه بينها تزخر»

«كأنّ حنيفة تحميهم ***فأليتهم خشن أزور»

وهذا مذهب اختص به المحدثون لتوقد خواطرهم ولطف أفكارهم واعتمادهم البديع وأفانينه في أشعارهم، فكأنه مذهب سهّلوا حزنه ونهجوا رسمه.

وأما الفحول الاوائل ومن تلاهم من المخضرمين والاسلاميين فمذهب المتعالم فيه: «عدّ عن كذا الى كذا» وقصارى كل رجل منهم وصفه ناقته بالعتق والكرم والنجابة والنجاء وأنّه امتطاها وادّرع عليها جلباب ليل وتجاوز بها جوف تنوفة الى الممدوح.

وهذا الطريق المهيع والمحجة اللهجم، وربما اتفق لأحدهم معنى لطيف تخلص به الى غرضه ولم يتعمده إلا أنّ طبعه السليم ساقه اليه وصراطه المستقيم أضاء له مناره وأوقد له باليفاع ناره في الشعر».

ومنهم من يسمي هذا الفن خروجا وتوسلا قال ابن رشيق: «وأولى الشعر بأن يسمى تخلصا ما تخلص فيه الشاعر من معنى الى معنى ثم عاد الى الأول وأخذ في غيره ثم رجع الى ما كان فيه» كقول النابغة الذبياني آخر قصيدة اعتذر بها الى النعمان بن المنذر:

«وكفكفت مني عبرة فرددتها***الى النحر منها مستهلّ ودامع »

«على حين عاتبت المشيب على الصّبا***وقلت: ألما أصح والشيب وازع؟»

ثم تخلص الى الاعتذار فقال:

«ولكنّ هما دون ذلك شاغل ***مكان الشغاف تبتغيه الأصابع »

«وعيد أبي قابوس من غير كنهه ***أتاني ودوني راكش فالضّواجع »

ثم وصف حاله عند ما سمع من ذلك فقال:

«فبتّ كأني ساورتني ضئيلة***من الرقش في أنيابها السمّ ناقع »

«يسهّد في ليل التمام سليمها***لحلي النساء في يديه قعاقع “

«تناذرها الراقون من سوء سمّها***تطلقه طورا وطورا تراجع »

فوصف الحية والسليم الذي شبّه به نفسه ما شاء، ثم تخلص الى الاعتذار الذي كان فيه فقال:

«أتاني ـ أبيت اللعن ـ أنّك لمتني ***وتلك التي تستكّ منها المسامع »

وسماه ابن منقذ «التخليص والخروج» وقال: «ويستحب أن يكون الخروج والتشبيب في بيت واحد وهو شيء ابتدعه المحدثون دون المتقدمين». وسماه ابن الزملكاني «التخليص»، وسماه التنوخي. المخلص».

وقال ابن الاثير: «فأما التخلص فهو أن يأخذ المؤلف في معنى من المعاني فبينا هو فيه إذ أخذ معنى آخر وجعل الأول سببا اليه فيكون بعضه آخذا برقاب بعض من غير أن يقطع المؤلف كلامه ويستأنف كلاما آخر، بل يكون جميع كلامه كأنما أفرغ إفراغا، وذلك مما يدلّ على حذق الشاعر وقوة تصرفه وطول باعه واتساع قدرته».

وقال ابن الاثير الحلبي عن التخلص: «هو امتزاج ما يقدم الشاعر على المدح من نسيب أو غزل أو فخر أو وصف أو غير ذلك بأول بيت من قصيدة أو بأول كلام من النثر ثم يخرج منه الى المدح». ونقل ابن قيم الجوزية كلام ابن الاثير وقال «الانتقال من فن الى فن ويسمى التخلص» وفرّق بينه وبين «الاقتضاب» فقال: «فالفرق بينه وبين الاقتضاب أنّ التخلص لا يكون إلّا لعلاقة بينه وبين ما تخلص منه، وأما الاقتضاب فليس شرطه أن يكون بينه وبين ما قبله علاقة بل يكون كلاما مستأنفا منقطعا عن الأول».

ووضعه القزويني وشراح تلخيصه ملحقا بالبلاغة وقال: «التخلص ونعني به الانتقال مما شبب الكلام به من تشبيب أو غيره الى المقصود كيف يكون؟ فاذا كان حسنا متلائم الطرفين حرّك من نشاط السامع وأعان على اصغائه الى ما بعده، وإن كان بخلاف ذلك كان الأمر بالعكس».

وسماه ثعلب «حسن الخروج»، وتبعه في ذلك تلميذه ابن المعتز فقال وهو يتحدث عن محاسن الكلام: «ومنها حسن الخروج من معنى الى معنى». وسماه التبريزي «براعة التخلص»، وقال البغدادي: «وأما براعة التخلص فان من حكم التشبيب أن يكون ممتزجا بما بعده من مدح أو هجاء وغيرهما وغير منفصل منه، فان القصيدة مثلها كمثل الانسان في اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد عن الآخر بطل الجسم. وحذاق الشعر لا يفصلون بينهما بل يصلون الأول بالآخر حتى تراه كالرسالة والخطبة لا ينقطع جزء من جزء».

وقال المصري: «براعة التخلص هو امتزاج آخر ما يقدمه الشاعر على المدح من نسيب أو فخر أو وصف أو أدب أو زهد أو مجون أو غير ذلك بأول بيت من المدح. وقد يقع ذلك في بيتين متجاورين وقد يقع في بيت واحد. وهذه وإن لم تكن طريقة المتقدمين في غالب أشعارهم فان المتأخرين قد لهجوا بها وأكثروا منها، وهي لعمري من المحاسن».

وقال الحلبي والنويري: «براعة التخليص، هو أن يكون التشبيب أو النسيب ممزوجا بما بعده من مدح وغيره غير منفصل عنه». وذكرا قول مسلم بن الوليد:

«أجدك هل تدرين أن ربّ ليلة***كأنّ دجاها من قرونك تنشر»

«نصبت لها حتى تجلت بغرة***كغرّة يحيى حين يذكر جعفر»

وقول المتنبي:

«نودعهم والبين فينا كأنه ***قنا ابن أبي الهيجاء في قلب فيلق »

وهذا الاستشهاد كأنه يشير الى ما ذكره المصري من أنّ هذا الفن يقع في بيتين متجاورين أو يقع في بيت واحد.

ولا يخص براعة التخلص أو التخلص أو حسن التخلص أو حسن الخروج النظم وانما يشمل النثر أيضا، وقد ذهب بعض المتكلمين الى أنها أحد وجوه الاعجاز. وهو دقيق يكاد يخفى في غير الشعر إلا على الحذاق من ذوي النقد، وهو مبثوث في الكتاب العزيز». ومن براعة التخلص في الكتاب العزيز قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ}، فانه ـ سبحانه وتعالى ـ أشار بقوله: {أَحْسَنَ الْقَصَصِ} الى قصة يوسف ـ عليه‌السلام ـ فوطّأ بهذه الجملة الى ذكر القصة مشيرا اليها بهذه النكتة من باب الوحي والرمز، وإنّما كانت أحسن القصص بكون كل قضية منها كانت عاقبتها الى خير، فانّ أولها رميه في الجب فكانت عاقبته السلامة، وبيع ليكون عبدا فاتخذ ولدا، ومراودة امرأة العزيز له فعصمه الله، ودخوله السجن وخروجه ملكا وظفر أخوته به أولا وظفر بهم آخرا، وتطلعه الى أخيه بنيامين واجتماعه به وعمى أبيه وردّ بصره وفراقه له ولأخيه واجتماعه بهما، وسجود أبويه وأخوته له تحقيقا لرؤياه من قبل.

ومنه قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ قالُوا نَعْبُدُ أَصْنامًا فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ}. ثم قال: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} ثم أردفه بقوله: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ}. ثم قال: {فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ. وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} الى قوله: {فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. قال ابن الأثير: «هذا كلام يسكر العقول ويسحر الألباب» وكان هذا الاستشهاد وشرحه ردا على من ذهب الى أنّ كتاب الله خال من التخلص كأبي العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي، وقد قال ابن الاثير عن قوله: «وهذا القول فاسد». وذكر السيوطي مثل ذلك وردّ قول الغانمي أيضا.

فبراعة التخلص من الفنون التي تشمل الشعر كما تشمل النثر، وهو من محاسن الكلام، وأحد دعائم الارتباط بين أجزاء القصيدة او الخطبة والرسالة أو غير ذلك من الفنون.

معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م


185-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (ذو القافيتين)

ذو القافيتين:

هذه تسمية الوطواط وقد قال عنه: «وتكون هذه الصنعة بأن يقول الشاعر قصيدة او مقطوعة ويجعل لها قافيتين متجاورتين». ومثاله قول مسعود ابن سعد:

«يا ليلة أظلمت علينا***ليلاء قاريّة الدّجنّة»

«قد ركضت في الدّجى علينا***دهما خداريّة الأعنّة»

«فبتّ أقتاسها فكانت ***حللى نهاريّة الأجنّه »

ففي هذه الأبيات نجد أنّ القافية الأولى هي الكلمات «قاريّة» وخداريّة» و «نهاريّة»، اما القافية الثانية فهي: «الدجنة» و «الأعنة» و «الأجنة» وسماه التفتازاني «ذا القافيتين ايضا، وهو التشريع أو التوشيح وقد تقدّما.

معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م


186-معجم دمشق التاريخي (بيت ابن قرا سنقر)

بيت ابن قرا سنقر: كان عند المدرسة المقدّمية [ولكن من غير المعروف عند أي من المقدميتين كان، فالمقدمية البرّانية كانت في الصالحيّة وهو احتمال ضعيف، أمّا المدرسة المقدّمية الجوّانية فكانت داخل باب الفراديس وهو الاحتمال الأقوى].

معجم دمشق التاريخي-قتيبة الشهابي-صدر: 1420هـ/1999م


187-معجم دمشق التاريخي (ساحة آخر الخط)

ساحة آخر الخطّ: تسمية شائعة على ألسنة الناس للساحة التي تقع في آخر طريق المهاجرين من جهة الغرب، أطلقت نسبة لاخر محطّة للترام قبل إلغائه كانت في هذا الموقع، وتعرف الساحة أيضا باسم ساحة خورشيد نسبة لقصر بناه خورشيد المصري [وهو القصر الجمهوري القديم القائم حاليّا قربها]، وتعرف اليوم رسميّا باسم ساحة ذي قار [نسبة لمعركة ذي قار التي جرت في الجاهلية بالعراق بين العرب والفرس، وتوحّدت فيها قبائل العرب، فكانت أول انتصار لهم على العجم سنة 610 م].

معجم دمشق التاريخي-قتيبة الشهابي-صدر: 1420هـ/1999م


188-معجم دمشق التاريخي (قينية)

قينية: قرية دارسة كانت خارج دمشق، ومكانها اليوم في منتهى حيّ باب السريجة من جهة الجنوب الغربي، بعد جامع التابتيّة [جامع زيد بن ثابت الأنصاري]، بين البساتين، في الطريق الموصل إلى المزة وقبر عبد الرحمن المسجف [قبالة مشفى الأسد الجامعي اليوم]، وفي قينية كانت تقوم مدرسة الطب المعروفة «باللبّوديّة» ضمن بستان اللبّودي أو البودي شرقي بستان «الشموليات». تعدّدت المقولات حول موقع قرية قينية فكانت:

1 ـ عند ابن عساكر وابن شدّاد وابن عبد الهادي: كانت على طريق المزّة وداريّا.

2 ـ عند ابن طولون: خلف ميدان الحصى [الميدان التحتاني].

3 ـ عند ياقوت الحموي، وكرد علي: مقابل الباب الصغير، ثم أصبحت بساتين في القرن السادس الهجري أيام ياقوت الحموي.

معجم دمشق التاريخي-قتيبة الشهابي-صدر: 1420هـ/1999م


189-معجم دمشق التاريخي (مسجد الطرافيين)

مسجد الطرافيين: تعدّدت المقولات حول هذا المسجد وموقعه فكانت:

1 ـ عند ابن عساكر [2 / 57 رقم 24]: مسجد الطرايفيين في سوق السرّاجين.

2 ـ وعنده [2 / 58 رقم 31]: مسجد بالمقسلاط، كان يعرف بمسجد الطريفيين.

3 ـ وعنده [2 / 58 رقم 30]: مسجد الجلّادين وهو الذي يعرف اليوم بمسجد الرمّاحين.

1 ـ عند ابن شدّاد [ص 95 رقم 24]: مسجد الطرايفيين، يعرف الآن بالرمّاحين، في سوق السرّاجين.

2 ـ وعنده [ص 96 رقم 31]: مسجد بالمقلاص [المقسلاط] كان يعرف بمسجد الطرايفيين.

3 ـ وعنده [ص 63 رقم 30]: مسجد الجلّادين وهو الذي يعرف اليوم بمسجد الرمّاحين.

1 ـ عند ابن عبد الهادي [ص 62 رقم 24] مسجد الطرايفيين، يعرف الآن بالرمّاحين، في سوق السرّاجين.

2 ـ وعنده [ص 63 رقم 31] مسجد بالمقلاص [المقسلاط] كان يعرف بمسجد الطرايفيين.

3 ـ وعنده [ص 63 رقم 30]: مسجد الجلّادين، يعرف بمسجد الرمّاحين.

وتخبّط النعيمي بمسجد الجلّادين فذكره ثلاث مرّات [2 / 307، 309].

ـ والجدير بالذكر أن سوق السرّاجين كان داخل باب الجابية، قرب سوق القلانسيين، بجوار باب الخوّاصين [سوق الخيّاطين اليوم].

ـ وكان المقسلاط أو المقلاص: حوالي منتصف المسافة بين باب الجابية والباب الشرقي، قرب مئذنة الشحم، وهو الموضع الذي التقى فيه أبو عبيدة بن الجرّاح بخالد بن الوليد عند فتح دمشق 14 ه‍.

ـ والجلّادين: وهو سوق الجلّادين، كان عند طرف سوق علي وطرف المقسلاط قرب سوق الصوف الحالي].

وبتقاطع المعلومات نتوصّل إلى أن مسجد الطرايفيين هو مسجد الطريفيين وهو نفسه مسجد الجلّادين ومسجد الرمّاحين. كان داخل باب الجابية، قرب مئذنة الشحم.

معجم دمشق التاريخي-قتيبة الشهابي-صدر: 1420هـ/1999م


190-موسوعة الفقه الكويتية (الفقه الإسلامي 2)

الْفِقْهُ الْإِسْلَامِيُّ-2

وَهُنَاكَ مَنْ أُثِرَ عَنْهُ الْفَتْوَى فِي مَسْأَلَةٍ أَوْ مَسْأَلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ. وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَعْتَمِدُ فِي اجْتِهَادِهِ عَلَى رُوحِ التَّشْرِيعِ مَتَى سَاعَدَتْهُ النُّصُوصُ. وَيُعْتَبَرُ إِمَامُ هَذَا الْمَذْهَبِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- ثُمَّ تِلْمِيذُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَلْتَزِمُ الْحَرْفِيَّةَ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-.

وَفِي صَدْرِ هَذَا الْعَهْدِ، وَبِالتَّحْدِيدِ فِي عَهْدِ الشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ- رضي الله عنهما- جَدَّ مَصْدَرٌ ثَالِثٌ سِوَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَانَ مَرْجِعًا لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمَا، أَلَا وَهُوَ الْإِجْمَاعُ، فَقَدْ كَانَ إِذَا نَزَلَتِ الْحَادِثَةُ يَسْتَدْعِي الْخَلِيفَةُ مَنْ عُرِفُوا بِالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، وَكَانُوا مَعْرُوفِينَ مَشْهُورِينَ مَحْصُورِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَيَعْرِضُ عَلَيْهِمْ الْأَمْرَ، فَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى رَأْيٍ كَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا لَا يَسُوغُ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ أَنْ يُخَالِفُوهُ.

وَمَهْمَا شَكَّكَ الْمُشَكِّكُونَ فِي حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ أَوْ إِمْكَانِهِ فَقَدْ وَقَعَ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى إِنْكَارِهِ، كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَوْرِيثِ الْجَدَّةِ الصَّحِيحَةِ السُّدُسَ إِذَا انْفَرَدَتْ، وَاشْتِرَاكِ الْجَدَّاتِ فِيهِ إِذَا تَعَدَّدْنَ، وَكَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى حُرْمَةِ تَزْوِيجِ الْمُسْلِمَةِ لِلْكِتَابِيِّ مَعَ حِلِّ تَزَوُّجِ الْمُسْلِمِ لِلْكِتَابِيَّةِ. وَكَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى جَمْعِ الْقُرْآنِ فِي الْمَصَاحِفِ، وَلَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا.

وَدَعْوَى الْإِجْمَاعِ بَعْدَ عَهْدِ الشَّيْخَيْنِ دَعْوَى تَفْتَقِرُ إِلَى دَلِيلٍ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ انْتَشَرُوا فِي الْآفَاقِ وَتَفَرَّقُوا فِي الْأَمْصَارِ، وَغَايَةُ مَا يَسْتَطِيعُ الْفَقِيهُ أَنْ يَقُولَ: لَا أَعْلَمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا.

وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ أَنْكَرَ الْإِجْمَاعَ قَوْلٌ عَارٍ عَنْ الصِّحَّةِ، فَغَايَةُ مَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فَهُوَ كَاذِبٌ، فَإِنَّهُ يُرِيدُ الْإِجْمَاعَ بَعْدَ عَهْدِ الشَّيْخَيْنِ.

وَفِي هَذَا الْعَهْدِ لَمْ يُدَوَّنْ إِلاَّ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ أَيْضًا، وَكَانَتِ السُّنَّةُ وَفَتَاوَى الصَّحَابَةِ فِي الْمَسَائِلِ الْمُسْتَحْدَثَةِ تُنْقَلُ حِفْظًا فِي الصُّدُورِ، اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنَّ الْبَعْضَ كَانَ يُدَوِّنُ بَعْضَ هَذِهِ الْأُمُورِ لِنَفْسِهِ لِتَكُونَ تَذْكِرَةً لَهُ.

وَفِي آخِرِ عَهْدِ الصَّحَابَةِ أَطَلَّتِ الْفِتْنَةُ بِقَرْنَيْهَا بِقَتْلِ الْخَلِيفَةِ ذِي النُّورَيْنِ عُثْمَانَ- رضي الله عنه-، ثُمَّ تِلْكَ الْأَحْدَاثُ الْعِظَامُ الَّتِي وَقَعَتْ فِي عَهْدِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-، وَكَانَ مَا كَانَ مِنْ وُجُودِ الْفُرْقَةِ الَّتِي لَا زِلْنَا نَكْتَوِي بِنَارِهَا إِلَى الْيَوْمِ. وَبَدَأَ بَعْضُ الْمُتَعَصِّبِينَ يُسَوِّغُونَ آرَاءَهُمْ بِوَضْعِ أَحَادِيثَ يَرْفَعُونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَوْ إِلَى كِبَارِ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَعَصِّبُونَ مِنْ الصَّحَابَةِ بَلْ كَانُوا مِنْ الطَّبَقَةِ التَّالِيَةِ الَّذِينَ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ.

وَفِي هَذَا الْعَهْدِ لَمْ يَتَأَثَّرْ الْفِقْهُ بِالْقَوَانِينِ الرُّومَانِيَّةِ أَوِ الْفَارِسِيَّةِ. وَإِذَا كَانَ الصَّحَابَةُ قَدْ اقْتَبَسُوا بَعْضَ التَّنْظِيمَاتِ الْإِدَارِيَّةِ مِنْ هَؤُلَاءِ أَوْ أُولَئِكَ، فَلَيْسَ مَعْنَى هَذَا أَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ الْخَطِّ الْمَرْسُومِ، وَهُوَ رَدُّ الْأَحْكَامِ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- إِمَّا بِطَرِيقٍ مُبَاشِرٍ، وَإِمَّا بِطَرِيقِ الْإِجْمَاعِ أَوِ الْقِيَاسِ أَوِ الِاسْتِصْلَاحِ، فَقَدْ أَبْطَلَ الْمُسْلِمُونَ أَعْرَافًا كَانَتْ شَائِعَةً فِي الْبِلَادِ الْمَفْتُوحَةِ لِأَنَّهَا تُخَالِفُ التَّشْرِيعَ الْإِسْلَامِيَّ نَصًّا وَرُوحًا.

الطَّوْرُ الثَّالِثُ: طَوْرُ التَّابِعِينَ

16- وَهَذَا الطَّوْرُ امْتِدَادٌ لِعَهْدِ صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ اشْتَرَكَ أَكْثَرُهُمْ فِي حُرُوبِ الْفِتْنَةِ. وَلَكِنَّ هَذَا الْعَهْدَ تَمَيَّزَ بِوُجُودِ مَدْرَسَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا بِالْحِجَازِ، وَالْأُخْرَى بِالْعِرَاقِ. فَأَمَّا مَدْرَسَةُ الْحِجَازِ فَكَانَ اعْتِمَادُهَا فِي الِاجْتِهَادِ عَلَى نُصُوصٍ مِنْ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ، وَلَا تَلْجَأُ إِلَى الْأَخْذِ بِالرَّأْيِ إِلاَّ نَادِرًا، وَذَلِكَ لِوَفْرَةِ الْمُحَدِّثِينَ هُنَاكَ، إِذْ هُوَ مَوْطِنُ الرِّسَالَةِ، وَفِيهِ نَشَأَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، وَسِلْسِلَةُ الرُّوَاةِ عِنْدَهُمْ قَصِيرَةٌ، إِذْ لَا يَتَجَاوَزُ التَّابِعِيُّ فِي تَحْدِيثِهِ عَنْ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- أَكْثَرَ مِنْ رَاوٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الصَّحَابِيُّ غَالِبًا. وَالصَّحَابَةُ- رضي الله عنهم- عُدُولٌ ثِقَاتٌ.

وَكَانَتْ هَذِهِ الْمَدْرَسَةُ بِالْمَدِينَةِ يَتَزَعَّمُهَا أَوَّلًا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما-، وَمِنْ بَعْدِهِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرُهُ مِنْ التَّابِعِينَ، وَأُخْرَى بِمَكَّةَ، وَكَانَ يَتَزَعَّمُهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ. وَحَمَلَ الْأَمَانَةَ بَعْدَهُ تَلَامِيذُهُ كَعِكْرِمَةَ مَوْلَاهُ وَابْنِ جُرَيْجٍ.

أَمَّا الْمَدْرَسَةُ الْأُخْرَى- وَهِيَ مَدْرَسَةُ الْعِرَاقِ- فَكَانَتْ تَلْجَأُ إِلَى الرَّأْيِ كَثِيرًا. وَالرَّأْيُ عِنْدَهُمْ يَرْجِعُ إِمَّا إِلَى الْقِيَاسِ الْأُصُولِيِّ، وَهُوَ إِلْحَاقُ مَسْأَلَةٍ لَا نَصَّ فِيهَا بِمَسْأَلَةٍ فِيهَا نَصٌّ شَرْعِيٌّ، لِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا، وَإِمَّا رَدُّ الْمَسَائِلِ الْمُسْتَحْدَثَةِ إِلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّ أَسَاتِذَةَ هَذِهِ الْمَدْرَسَةِ شَدَّدُوا فِي الرِّوَايَةِ، نَظَرًا لِأَنَّ الْعِرَاقَ كَانَ يَوْمَئِذٍ مَوْطِنَ الْفِتَنِ، فَفِيهِ الشُّعُوبِيُّونَ الَّذِينَ يُكِنُّونَ الْعَدَاءَ لِلْإِسْلَامِ، وَلَكِنَّهُمْ يُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِكَرَاهِيَتِهِمْ لِلْعَرَبِ، وَمِنْهُمْ الْمَلَاحِدَةُ الَّذِينَ لَا يَفْتَئُونَ يُثِيرُونَ الشُّبُهَاتِ، وَمِنْهُمْ غُلَاةُ الرَّافِضَةِ الَّذِينَ بَالَغُوا فِي حُبِّ عَلِيٍّ حَتَّى جَعَلُوهُ إِلَهًا أَوْ شِبْهَ إِلَهٍ، وَمِنْهُمُ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ يَكْرَهُونَ عَلِيًّا وَشِيعَتَهُ، بَلْ وَيَسْتَبِيحُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ عَلَى غَيْرِ نِحْلَتِهِمْ، وَمِنْهُمْ وَمِنْهُمْ... فَكَانَ الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ يُعْتَدُّ بِهِمْ يَتَحَرَّوْنَ فِي الرِّوَايَةِ، وَيُدَقِّقُونَ فِيهَا، وَيَضَعُونَ شُرُوطًا لَمْ يَلْتَزِمْهَا أَهْلُ الْحِجَازِ.

وَذَلِكَ أَنَّهُمْ اعْتَبَرُوا عَمَلَ الصَّحَابِيِّ أَوِ التَّابِعِيِّ بِغَيْرِ مَا رَوَى قَدْحًا فِي رِوَايَتِهِ. فَيَحْمِلُونَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ أَوْ مُؤَوَّلَةٌ. وَكَذَلِكَ يَعْتَبِرُونَ أَنَّ انْفِرَادَ الثِّقَةِ بِرِوَايَةٍ فِي مَسْأَلَةٍ تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى قَدْحٌ فِي رِوَايَتِهِ، وَيَحْمِلُونَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَلَى أَنَّهَا إِمَّا مَنْسُوخَةٌ أَوْ خَطَأٌ مِنْ الرَّاوِي عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَاشَوْنَ وَصْفَ الثِّقَاتِ بِتَعَمُّدِ الْكَذِبِ، فَالْعَدْلُ قَدْ يَنْسَى أَوْ يُخْطِئُ.

وَمِنْ هُنَا كَثُرَ اعْتِمَادُ فُقَهَاءِ هَذِهِ الْمَدْرَسَةِ عَلَى الْأَخْذِ بِالرَّأْيِ فِيمَا يَجِدُّ لَهُمْ مِنْ أَحْدَاثٍ، اللَّهُمَّ إِلاَّ إِذَا ثَبَتَتْ عِنْدَهُمْ سُنَّةٌ لَا شَكَّ فِيهَا، أَوْ كَانَ احْتِمَالُ الْخَطَأِ فِيهَا احْتِمَالًا ضَعِيفًا.

وَكَانَ زَعِيمُ هَذِهِ الْمَدْرَسَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-. ثُمَّ جَاءَ مِنْ بَعْدِهِ تَلَامِيذُهُ، وَأَشْهَرُهُمْ عَلْقَمَةُ النَّخَعِيُّ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَعَلَيْهِ تَخَرَّجَ أَئِمَّةُ هَذَا الْمَذْهَبِ.

17- لَيْسَ مَعْنَى أَنَّ مَدْرَسَةَ الْحِجَازِ كَانَتْ مَدْرَسَةَ الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَيْنِ فُقَهَائِهَا مَنْ يَعْتَمِدُ عَلَى الرَّأْيِ فِي كَثِيرٍ مِنْ اسْتِنْبَاطَاتِهِ، فَقَدْ عُرِفَ فِي هَذَا الْعَهْدِ مِنْ الْحِجَازِيِّينَ رَبِيعَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، الْمَشْهُورُ بِرَبِيعَةَ الرَّأْيِ، وَهُوَ شَيْخُ الْإِمَامِ مَالِكٍ. كَمَا كَانَ فِي الْعِرَاقِ مَنْ يَكْرَهُ الْأَخْذَ بِالرَّأْيِ كَعَامِرِ بْنِ شَرَاحِيلَ الْمَشْهُورِ بِالشَّعْبِيِّ.

18- لَيْسَ مَعْنَى الْمَدْرَسَةِ فِي كَلَامِنَا هَذَا مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَنَا مِنْ مَبْنًى خَاصٍّ، أَوْ مَكَانٍ أُعِدَّ لِلدِّرَاسَةِ، بَلْ الْمُرَادُ بِالْمَدْرَسَةِ الْتِزَامُ اتِّجَاهٍ خَاصٍّ وَمَنْهَجٍ مُتَمَيِّزٍ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَسَاجِدُ الْجَامِعَةُ فِي الْجُمْلَةِ هِيَ مَكَانُ تَجَمُّعِ الْعُلَمَاءِ، وَفِيهَا حَلَقَاتُ التَّدْرِيسِ. عَلَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ فِي هَذَا الْعَهْدِ كَانُوا يُفْتُونَ فِي بُيُوتِهِمْ وَطُرُقِهِمْ.

19- وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ أَكْثَرَ حَمَلَةِ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْعَهْدِ كَانُوا مِنْ الْمَوَالِي، فَفِي الْمَدِينَةِ كَانَ نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَفِي مَكَّةَ كَانَ عِكْرِمَةُ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي الْكُوفَةِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مَوْلَى بَنِي وَالِبَةَ، وَفِي الْبَصْرَةِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ، وَفِي الشَّامِ مَكْحُولُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ أُسْتَاذُ الْأَوْزَاعِيِّ، وَفِي مِصْرَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ وَهُوَ أُسْتَاذُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ إِمَامِ أَهْلِ مِصْرَ... وَكَثِيرٌ غَيْرُ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمَوَالِي.

وَكَانَ هُنَاكَ عَرَبٌ خُلَّصٌ تَفَرَّغُوا لِلْعِلْمِ فِي هَذَا الْعَهْدِ كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَامِرٍ الشَّعْبِيِّ وَعَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ النَّخَعِيِّ.

وَكَانَتِ الْغَلَبَةُ فِي الْعِلْمِ فِي بَعْضِ الْأَمْصَارِ لِلْعَرَبِ، كَالْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ، وَفِي الْبَعْضِ الْآخَرِ لِلْمَوَالِي كَمَكَّةَ وَالْبَصْرَةِ، وَالشَّامِ وَمِصْرَ، مَعَ اخْتِلَاطِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَأَخْذِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ مِنْ غَيْرِ غَضَاضَةٍ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ نَزَعَ مِنْ قُلُوبِهِمْ عَصَبِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ.

وَلَكِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ- فِي هَذَا الْعَهْدِ- كَانَ مِنْ الْمَوَالِي. وَلِهَذَا أَسْبَابٌ:

أ- أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا- يَوْمَئِذٍ- حَمَلَةَ السَّيْفِ وَقَادَةَ الْجُيُوشِ؛ لِأَنَّهُمْ مَعْدِنُ الْإِسْلَامِ، وَهُمْ عَلَيْهِ أَغْيَرُ، فَشَغَلَهُمْ ذَلِكَ عَنْ التَّفَرُّغِ لِلْعِلْمِ تَعْلِيمًا وَتَعَلُّمًا.

ب- أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَوَالِيَ نَشَأُوا فِي بِيئَاتٍ لَهَا حَضَارَتُهَا وَثَقَافَتُهَا، وَأَرَادُوا أَنْ يُسْهِمُوا بِجُهُودِهِمْ فِي نُصْرَةِ هَذَا الدِّينِ الَّذِي اعْتَنَقُوهُ طَائِعِينَ مُخْتَارِينَ. وَلَمَّا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ السَّيْفِ، فَلْيَنْصُرُوا هَذَا الدِّينَ بِالْقَلَمِ.

ج- حَرَصَ سَادَتُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى تَعْلِيمِهِمْ حَتَّى يَحْمِلُوا عَنْهُمْ أَمَانَةَ مَا حَمَلُوا مِنْ الْعِلْمِ، فَهَذَا نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَلَّمَهُ وَهَذَّبَهُ وَأَخَذَ عَنْهُ وَعَنْ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أُمِّ سَلَمَةَ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ عُمَرَ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا بِنَافِعٍ.

وَهَذَا عِكْرِمَةُ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ مَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ عَلَى الرِّقِّ، فَبَاعَهُ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ لِخَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِينَارٍ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ لِعَلِيٍّ: بِعْتَ عِلْمَ أُمَّتِكَ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَاسْتَقَالَ عَلِيٌّ خَالِدًا مِنْ بَيْعَتِهِ، فَأَقَالَهُ، فَأَعْتَقَهُ.

وَهَذَا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ سَيِّدُ التَّابِعِينَ، نَشَأَ فِي بَيْتِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ السَّيِّدَةِ أُمِّ سَلَمَةَ- رضي الله عنها-، وَحَسْبُكَ هَذَا فَضْلًا.

د- إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَوَالِيَ لَازَمُوا سَادَتَهُمْ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ فِي حِلِّهِمْ وَتَرْحَالِهِمْ، فَكَانُوا أَعْرَفَ النَّاسِ بِسِرِّ هَؤُلَاءِ السَّادَةِ وَعَلَانِيَتِهِمْ، فَنَقَلُوا ذَلِكَ لِلْأُمَّةِ.

20- يُعْتَبَرُ هَذَا الْعَهْدُ- فِي الْجُمْلَةِ- امْتِدَادًا لِعَهْدِ كِبَارِ الصَّحَابَةِ مِنْ حَيْثُ عَدَمُ تَدْوِينِ شَيْءٍ سِوَى الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، اللَّهُمَّ إِلاَّ النَّزْرَ الْيَسِيرَ كَمَا تَقَدَّمَ، كَمَا لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ فُقَهَاءِ هَذَا الْعَهْدِ أَنَّهُ بَنَى رَأْيًا عَلَى نَظَرِيَّةٍ قَانُونِيَّةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْمَصَادِرِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ، وَإِلاَّ فَلْيَدُلَّنَا هَؤُلَاءِ الْمُشَكِّكُونَ عَلَى مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ لَيْسَ لَهَا مَصْدَرٌ شَرْعِيٌّ، مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي أُثِيرَتْ فِي هَذَا الْعَهْدِ.

وَالْمَسَائِلُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى الْأَعْرَافِ خَاضِعَةٌ لِلْمِيزَانِ الشَّرْعِيِّ، فَإِنْ رَدَّ الْإِسْلَامُ عُرْفًا مِنْهَا فَلَا قِيمَةَ لَهُ، وَالْأَخْذُ بِهِ ضَلَالَةٌ، وَإِنِ اعْتَبَرَهُ أُخِذَ بِهِ، لَا عَلَى أَنَّهُ عُرْفٌ وَلَكِنْ عَلَى أَنَّهُ مُعْتَمِدٌ عَلَى النَّصِّ، وَإِنْ سَكَتَ عَنْهُ كَانَ الْأَخْذُ بِهِ أَوْ رَدُّهُ مَبْنِيًّا عَلَى الْمَصْلَحَةِ.

21- وَبِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّ هَذَا الْعَهْدَ كَانَتْ فِيهِ فِتَنٌ كُبْرَى إِلاَّ أَنَّ هَذِهِ الْفِتَنَ كَانَ تَأْثِيرُهَا يَكَادُ يَنْحَصِرُ فِي أَمْرِ الْخِلَافَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنْ أَحْكَامٍ.

22- وَبِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّ هَذَا الْعَهْدَ كَانَ مُعَاصِرًا لِعَهْدِ الْأُمَوِيِّينَ، وَالْخُلَفَاءُ فِي هَذِهِ الدَّوْلَةِ يَتَفَاوَتُونَ فِي سِيَاسَتِهِمْ بَيْنَ اللِّينِ وَالشِّدَّةِ وَالتَّوَسُّطِ بَيْنَهُمَا، إِلاَّ أَنَّ الْكُلَّ كَانَ حَرِيصًا عَلَى أَلاَّ يَرْتَكِبَ كُفْرًا بَوَاحًا، وَمَنْ فَعَلَ مِنْهُمْ شَيْئًا قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ جُوبِهَ بِالْإِنْكَارِ. وَكَانَ أَهْلُ الْفِقْهِ فِي هَذَا الْعَهْدِ يُرَاسِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيُنَاظِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَنْزِلُ بَعْضُهُمْ عَلَى رَأْيِ بَعْضٍ، اتِّبَاعًا لِلْحَقِّ، فَإِنَّ هَذَا الْقَرْنَ قَدْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالْخَيْرِ، فَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ». وَلَا يَضُرُّ الْأُمَّةَ أَنْ يَشِذَّ مِنْهَا شَاذٌّ أَوْ يَخْرُجَ عَلَى صُفُوفِهَا خَارِجٌ، إِذَا كَانَتْ- فِي جُمْلَتِهَا- تَسِيرُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ.

الطَّوْرُ الرَّابِعُ: عَهْدُ صِغَارِ التَّابِعِينَ وَكِبَارِ تَابِعِي التَّابِعِينَ:

23- يَكَادُ هَذَا الطَّوْرُ يَبْدَأُ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ مِنْ الْهِجْرَةِ وَأَوَائِلِ الْقَرْنِ الثَّانِي، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَبْدَأُ مِنْ عَهْدِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.

وَكَمَا قُلْنَا: لَيْسَ هُنَاكَ حُدُودٌ زَمَنِيَّةٌ فَاصِلَةٌ بَيْنَ تِلْكَ الْأَطْوَارِ، فَهِيَ مُتَدَاخِلَةٌ يَتَلَقَّى الْخَلَفُ مِنْهَا عَنْ السَّلَفِ.

وَيَتَمَيَّزُ هَذَا الطَّوْرُ بِأَنَّهُ قَدْ بُدِئَ فِيهِ بِتَدْوِينِ السُّنَّةِ مُخْتَلِطَةً بِفَتَاوَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَذَلِكَ بِأَمْرٍ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، بَعْدَ أَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِهَذَا، وَخَشِيَ أَنْ تَضِيعَ السُّنَّةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَأَنْ تُصْبِحَ طَيَّ النِّسْيَانِ مَعَ تَوَالِي الْأَزْمَانِ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ زَالَتِ الْعِلَّةُ الَّتِي خُشِيَ مَعَهَا أَنْ يَخْتَلِطَ الْقُرْآنُ بِغَيْرِهِ. فَقَدْ حُفِظَ الْقُرْآنُ فِي الصُّدُورِ وَالسُّطُورِ، وَأَصْبَحَ حَفَظَةُ الْقُرْآنِ بِالْآلَافِ، وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ بَيْتٌ مُسْلِمٌ إِلاَّ وَفِيهِ مُصْحَفٌ، فَأَمَرَ حَمَلَةَ الْعِلْمِ فِي عَهْدِهِ بِأَنْ يُدَوِّنُوا مَا عِنْدَهُمْ مِنْ سُنَّةٍ وَفَتَاوَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، لِتَكُونَ مَرْجِعًا يُرْجَعُ إِلَيْهِ، وَنَمَاذِجَ يَهْتَدِي بِهَا الْمُجْتَهِدُونَ فِي حَلِّ مَشَاكِلِ الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ الْمُتَطَوِّرِ الَّذِي تَتَوَالَى فِيهِ الْأَحْدَاثُ الَّتِي تَتَطَلَّبُ أَحْكَامَهَا الشَّرْعِيَّةَ.

24- وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ زَيْفُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُسْتَشْرِقِينَ مِنْ أَنَّ تَدْوِينَ السُّنَّةِ كَانَ لِتَبْرِيرِ الْآرَاءِ الْفِقْهِيَّةِ، إِذْ التَّارِيخُ يَشْهَدُ بِأَنَّ الْآرَاءَ الْفِقْهِيَّةَ وَالسُّنَّةَ دُوِّنَتَا فِي عَهْدٍ وَاحِدٍ، وَبَذَلَ الْعُلَمَاءُ فِي جَمْعِهَا جُهْدًا لَمْ تَبْذُلْهُ أُمَّةٌ فِي تَنْقِيحِ الرِّوَايَةِ وَالتَّثَبُّتِ مِنْ صِحَّتِهَا.

25- وَإِذَا كَانَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْعَهْدِ قَدْ بَدَءُوا يَتَخَصَّصُونَ فِي مَنَاهِجِهِمْ وَاتِّجَاهَاتِهِمْ الْعِلْمِيَّةِ، فَمِنْهُمْ الْمُتَخَصِّصُ لِجَمْعِ اللُّغَةِ، وَمِنْهُمْ الْمُتَخَصِّصُ فِي آدَابِهَا وَتَارِيخِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ اتَّجَهَ إِلَى الِاشْتِغَالِ بِالْمَسَائِلِ النَّظَرِيَّةِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْعَقِيدَةِ، كَالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، وَرُؤْيَةِ اللَّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّنَا نَرَى أَنَّ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْفِقْهِ- فِي هَذَا الْعَهْدِ- كَانُوا يُعْتَبَرُونَ مِنْ حَمَلَةِ السُّنَّةِ، وَمُفَسَّرِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، مَعَ إِحَاطَتِهِمْ بِأَسْرَارِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِالْقَدْرِ الَّذِي يُسَاعِدُهُمْ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. وَلِهَذَا كَانَتْ مَنْزِلَةُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الْعَهْدِ مَنْزِلَةً مَرْمُوقَةً يَحْسِبُ لَهَا الْحُكَّامُ أَلْفَ حِسَابٍ، كَمَا أَنَّ الْعَامَّةَ كَانُوا يُقَدِّرُونَهُمْ حَقَّ قَدْرِهِمْ، وَيَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ فِي حَلِّ مَشَاكِلِهِمْ، وَيَعْتَبِرُونَهُمْ مَصَابِيحَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ مَرَاكِزِهِمْ السِّيَاسِيَّةِ فِي الدَّوْلَةِ. نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ لَا الْحَصْرِ: الزُّهْرِيَّ وَحَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ شَيْخَ أَبِي حَنِيفَةَ.

26- وَفِي أَوَاخِرِ هَذَا الطَّوْرِ بَدَأَتْ تَظْهَرُ الْمَذَاهِبُ الْفِقْهِيَّةُ الْمُتَمَيِّزَةُ. كَمَا أَنَّ هَذَا الطَّوْرَ شَهِدَ تَطَوُّرَ التَّدْوِينِ، فَبَعْدَ أَنْ كَانَ التَّدْوِينُ مُخْتَلِطًا بَدَأَ يَأْخُذُ طَرِيقَ التَّنْظِيمِ، وَكَانَ هَذَا الطَّوْرُ تَمْهِيدًا لِلطَّوْرِ الْخَامِسِ، وَهُوَ طَوْرُ الْأَئِمَّةِ الْعِظَامِ.

الطَّوْرُ الْخَامِسُ: طَوْرُ الِاجْتِهَادِ:

27- وَيَبْدَأُ هَذَا الطَّوْرُ مَعَ بَدْءِ النَّهْضَةِ الْعِلْمِيَّةِ الشَّامِلَةِ فِي الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، مِنْ أَوَاخِرِ عَهْدِ الْأُمَوِيِّينَ إِلَى نِهَايَةِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ الْهِجْرِيِّ تَقْرِيبًا، وَكَمَا قُلْنَا مِرَارًا وَتَكْرَارًا: لَا يُمْكِنُ الْمُؤَرِّخَ أَنْ يَضَعَ حُدُودًا زَمَنِيَّةً مُعَيَّنَةً بَدْءًا وَنِهَايَةً، كَمَا يُمْكِنُ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ هَذَا الطَّوْرَ يَتَنَاوَلُ عَهْدَ الْأَئِمَّةِ الْعِظَامِ وَالْأَئِمَّةِ الْمُنْتَسِبِينَ وَمُجْتَهِدِي الْمَذَاهِبِ وَأَهْلَ التَّرْجِيحِ. كَمَا أَنَّ هَذَا الْعَهْدَ يَتَنَاوَلُ عَهْدَ تَدْوِينِ الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ عَلَى الصُّورَةِ الْعِلْمِيَّةِ الدَّقِيقَةِ.

وَقَبْلَ أَنْ نَتَنَاوَلَ تَمْيِيزَ الْمُجْتَهِدِينَ وَطَبَقَاتِهِمْ يَجِبُ أَنْ نُبْرِزَ أَنَّ هَذَا الْعَهْدَ شَهِدَ مَوْلِدَ عِلْمٍ جَدِيدٍ، لَهُ اتِّصَالٌ وَثِيقٌ بِالْفِقْهِ وَهُوَ عِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ.

عِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ:

28- هَذَا الْعِلْمُ وُلِدَ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي الْهِجْرِيِّ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ مَنْ دَوَّنَ هَذَا الْعِلْمَ هُوَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ- رضي الله عنه-، وَذَهَبَ ابْنُ النَّدِيمِ فِي «الْفِهْرِسْتِ» أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَلَّفَ فِيهِ هُوَ أَبُو يُوسُفَ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَإِنَّ أَقْدَمَ مُؤَلَّفٍ فِي هَذَا الْعِلْمِ وَصَلَ إِلَيْنَا هُوَ رِسَالَةُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ- رضي الله عنه-. وَهَذَا الْعِلْمُ قَدْ بَيَّنَ الْقَوَاعِدَ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَلْتَزِمَهَا فِي اسْتِنْبَاطِهِ لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ سَوَاءٌ مِنْ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْقِيَاسِ. وَقَدْ وَضَعَ هَذِهِ الرِّسَالَةَ لِيُبَيِّنَ مِنْهَاجَهُ فِي الِاجْتِهَادِ. وَكَأَيِّ عِلْمٍ أَوْ كَائِنٍ حَيٍّ يُولَدُ صَغِيرًا ثُمَّ يَكْبَرُ، فَهَذَا الْعِلْمُ قَدْ أَخَذَ أَطْوَارًا، وَأُدْخِلَتْ فِيهِ مَبَاحِثُ مِنْ عُلُومٍ أُخْرَى رَأَى الْمُؤَلِّفُونَ فِيهِ أَنَّ لَهَا صِلَةً بِالِاجْتِهَادِ. بَلْ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا فَقَدْ تَنَاوَلَ هَذَا الْعِلْمُ مَبَاحِثَ نَظَرِيَّةً بَحْتَةً.

وَقَدْ تَقَلَّبَ هَذَا الْعِلْمُ مَا بَيْنَ مَوْسُوعَاتٍ وَمُخْتَصَرَاتٍ، سَنَتَنَاوَلُ- بِإِذْنِ اللَّهِ- بَيَانَهَا بِالتَّفْصِيلِ عِنْدَمَا نُقَدِّمُ الْمُلْحَقَ الْخَاصَّ بِعِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ.

29- وَلَا يَظُنَّنَّ ظَانٌّ أَنَّ الِاجْتِهَادَ قَبْلَ تَدْوِينِ هَذَا الْعِلْمِ لَمْ يَكُنْ مَبْنِيًّا عَلَى قَوَاعِدَ مُلْتَزَمَةٍ، بَلْ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، فَقَدْ كَانَ الْمُجْتَهِدُونَ مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ إِلَى عَهْدِ تَدْوِينِ أُصُولِ الْفِقْهِ يَلْتَزِمُونَ قَوَاعِدَ ثَابِتَةً، وَإِنْ اخْتَلَفَ رَأْيُ فَقِيهٍ عَنْ فَقِيهٍ فِي بَعْضِ الْقَوَاعِدِ فَإِنَّ اخْتِلَافَهُمْ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى تَحَرِّي الصَّوَابِ قَدْرَ الْإِمْكَانِ، وَالِابْتِعَادِ عَنْ تَحْكِيمِ الْهَوَى وَالْقَوْلِ بِالتَّشَهِّي فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. نَعَمْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْقَوَاعِدُ مُدَوَّنَةً، وَإِنْ كَانَتْ مُلْتَزَمَةً، كَشَأْنِ عِلْمِ النَّحْوِ مَثَلًا، فَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ قَبْلَ تَدْوِينِهِ يَلْتَزِمُونَ رَفْعَ الْفَاعِلِ وَنَصْبَ الْمَفْعُولِ مَثَلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْتَزِمُوا تِلْكَ الْمُصْطَلَحَاتِ الْعِلْمِيَّةَ.

وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ تَدْوِينَ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ جَاءَ مُتَأَخِّرًا عَنْ تَدْوِينِ الْفِقْهِ، وَإِنْ كَانَا- مِنْ حَيْثُ الْوُجُودُ- مُتَعَاصِرَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ.

30- وَفِي هَذَا الْعَهْدِ- أَيْضًا- ظَهَرَ الْفِقْهُ الِافْتِرَاضِيُّ (التَّقْدِيرِيُّ) وَقَدْ عَظُمَ هَذَا اللَّوْنُ مِنْ الْفِقْهِ فِي مَدْرَسَةِ الْعِرَاقِ مِنْ قَبْلِ ظُهُورِ أَبِي حَنِيفَةَ- رضي الله عنه- وَتَلَامِيذِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَزَايَدَ الِاشْتِغَالُ بِهَذَا الْفَنِّ فِي عَهْدِهِمْ وَعَهْدِ تَلَامِيذِهِمْ.

وَكَانَ الْفُقَهَاءُ- أَمَامَ هَذَا اللَّوْنِ مِنْ الْفِقْهِ- عَلَى ضَرْبَيْنِ: كَارِهُونَ لَهُ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِهِ غَيْرُ مُجْدٍ، وَقَدْ يَجُرُّ إِلَى الْجَدَلِ الْمُفْضِي إِلَى النِّزَاعِ. وَآخَرُونَ يُؤَيِّدُونَهُ وَيَقُولُونَ: إِنَّمَا نَعُدُّ لِكُلِّ حَادِثَةٍ حُكْمَهَا حَتَّى إِذَا وَقَعَتْ لَا نَتَحَيَّرُ فِي مَعْرِفَةِ هَذَا الْحُكْمِ. وَلِكُلِّ رَأْيٍ وُجْهَتُهُ وَوَجَاهَتُهُ. وَلَسْنَا بِصَدَدِ الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ الرَّأْيَيْنِ، وَإِنْ كُنَّا نَرَى أَنَّ الْإِسْرَافَ فِي هَذَا اللَّوْنِ مِنْ الْفِقْهِ بِافْتِرَاضِ مَسَائِلَ مُسْتَحِيلَةِ الْوُقُوعِ عَادَةً اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُجْدِي وَعَبَثٌ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْعَابِثِينَ. وَأَمَّا افْتِرَاضُ مَسَائِلَ مُمْكِنَةِ الْوُقُوعِ وَلَكِنْ لَمْ تَقَعْ فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَقَدْ رَأَيْنَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ مَسَائِلَ مَنْثُورَةً كَانَ الْمُتَقَدِّمُونَ يَرَوْنَهَا مُسْتَحِيلَةً الْوُقُوعِ قَدْ وَقَعَتْ بِالْفِعْلِ، كَانْقِلَابِ الْجِنْسِ مِنْ الذُّكُورَةِ إِلَى الْأُنُوثَةِ وَبِالْعَكْسِ، وَكَمَسَائِلِ التَّلْقِيحِ الصِّنَاعِيِّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نَقْلِ الْأَعْضَاءِ مِنْ الْمَوْتَى إِلَى الْأَحْيَاءِ، أَوْ مِنْ الْأَحْيَاءِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَإِنَّ الْفِقْهَ الِافْتِرَاضِيَّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فَتَحَ لَنَا بَابًا كَانَ يَصْعُبُ عَلَيْنَا أَنْ نَلِجَهُ. وَقَدْ مَهَّدَ الْفُقَهَاءُ الْقُدَامَى- رضي الله عنهم- لَنَا طَرِيقًا مُسْتَقِيمًا.

طَبَقَاتُ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْفُقَهَاءِ:

31- فِي هَذِهِ الْفِقْرَةِ سَنُبَيِّنُ طَبَقَاتِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى سَبِيلِ السَّرْدِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْبَسْطِ؛ لِأَنَّ بَسْطَ هَذَا الْمَوْضُوعِ تَكَفَّلَ بِهِ عِلْمُ تَارِيخِ التَّشْرِيعِ وَكُتُبُ طَبَقَاتِ الْفُقَهَاءِ. وَقَدْ قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ الْمُجْتَهِدِينَ إِلَى الطَّبَقَاتِ الْآتِيَةِ:

أ- الْمُجْتَهِدُونَ الْكِبَارُ

وَهُمْ أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ الْمَعْرُوفَةِ وَالْمُنْدَثِرَةِ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ لَهُ مَنْهَجُهُ الْخَاصُّ فِي الِاجْتِهَادِ تَأْصِيلًا وَتَفْرِيعًا، كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، الَّتِي يَعْتَنِقُهَا الْكَثْرَةُ الْكَاثِرَةُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا. وَكَانَ يُعَاصِرُ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةٌ لَا يَقِلُّونَ عَنْهُمْ مَنْزِلَةً، وَإِنْ انْدَثَرَتْ مَذَاهِبُهُمْ كَالْأَوْزَاعِيِّ بِالشَّامِ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ بِمِصْرَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيِّ بِالْعِرَاقِ... إِلَى غَيْرِ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ زَخَرَتْ بِهِمْ كُتُبُ الْخِلَافِ وَالتَّفَاسِيرِ وَشُرُوحِ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ.

ب- الْمُجْتَهِدُونَ الْمُنْتَسِبُونَ وَهُمْ أَصْحَابُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ وَتَلَامِيذُهُمْ. وَهُمْ يَتَّفِقُونَ مَعَ إِمَامِهِمْ فِي الْقَوَاعِدِ وَالْأُصُولِ. وَقَدْ يَخْتَلِفُونَ مَعَهُ فِي التَّفْرِيعِ. وَآرَاؤُهُمْ تُعْتَبَرُ مِنْ الْمَذْهَبِ الَّذِي يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ رَأْيُهُ غَيْرَ مَرْوِيٍّ عَنْ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ كَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَكَالْمُزَنِيِّ لِلشَّافِعِيِّ. أَمَّا أَصْحَابُ أَحْمَدَ فَكَانُوا رُوَاةً فَقَطْ لِأَحَادِيثِهِ وَآرَائِهِ الْفِقْهِيَّةِ وَلَمْ يُؤْثَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ خَالَفَ إِمَامَهُ فِي أَصْلٍ أَوْ فَرْعٍ. وَمِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ وَأَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ.

ج- مُجْتَهِدُو الْمَذَاهِبِ وَهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ مَعَ أَئِمَّتِهِمْ لَا فِي الْأُصُولِ وَلَا فِي الْفُرُوعِ، وَلَكِنْ يُخَرِّجُونَ الْمَسَائِلَ الَّتِي لَمْ يَرِدْ عَنْ الْإِمَامِ وَأَصْحَابِهِ رَأْيٌ فِيهَا، مُلْتَزِمِينَ مَنْهَجَ الْإِمَامِ فِي اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ. وَرُبَّمَا يُخَالِفُونَ إِمَامَهُمْ فِي الْمَسَائِلِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْعُرْفِ. وَيُعَبِّرُونَ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ قَبِيلِ اخْتِلَافِ الدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ، وَلَكِنْ لِاخْتِلَافِ الْعُرْفِ وَالزَّمَانِ، بِحَيْثُ لَوْ اطَّلَعَ إِمَامُهُمْ عَلَى مَا اطَّلَعُوا عَلَيْهِ لَذَهَبَ إِلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِمْ فِي تَحْقِيقِ الْمَذْهَبِ وَتَثْبِيتِ قَوَاعِدِهِ وَجَمْعِ شَتَاتِهِ.

د- الْمُجْتَهِدُونَ الْمُرَجِّحُونَ وَهَؤُلَاءِ مُهِمَّتُهُمْ تَرْجِيحُ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَلَى بَعْضٍ، مُرَاعِينَ الْقَوَاعِدَ الَّتِي وَضَعَهَا الْمُتَقَدِّمُونَ فِي هَذَا الْبَابِ، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ جَعَلُوا هَاتَيْنِ الطَّبَقَتَيْنِ- ج، د- طَبَقَةً وَاحِدَةً.

هـ- طَبَقَةُ الْمُسْتَدِلِّينَ: وَهَؤُلَاءِ لَا يَسْتَنْبِطُونَ وَلَا يُرَجِّحُونَ قَوْلًا عَلَى قَوْلٍ، وَلَكِنْ يَسْتَدِلُّونَ لِلْأَقْوَالِ، وَيُبَيِّنُونَ مَا اعْتَمَدَتْ عَلَيْهِ، وَيُوَازِنُونَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ لِلْحُكْمِ، وَلَا بَيَانٍ لِمَا هُوَ أَجْدَرُ بِالْعَمَلِ.

وَأَنْتَ إِذَا دَقَّقْتَ النَّظَرَ رَأَيْتَ أَنَّ هَذِهِ الطَّبَقَةَ لَا تَقِلُّ قَدْرًا عَنْ سَابِقَتَيْهَا، إِذْ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ اشْتِغَالُهُمْ بِالِاسْتِدْلَالِ لِلْأَحْكَامِ لَا يَنْتَهِي إِلَى تَرْجِيحِ رَأْيٍ عَلَى رَأْيٍ. وَمِنْ هُنَا فَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الطَّبَقَاتُ الثَّلَاثُ مُتَدَاخِلَةً.

32- وَمِمَّنْ عُدُّوا فِي هَذِهِ الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ كَمُجْتَهِدِي مَذْهَبٍ أَوْ مِنْ أَهْلِ التَّرْجِيحِ أَوِ الْمُسْتَدِلِّينَ، مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ، وَأَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ، وَالْجَصَّاصُ الرَّازِيُّ، وَأَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ إِلَخْ.

وَمِنْ الْمَالِكِيَّةِ: أَبُو سَعِيدٍ الْبَرَادِعِيُّ، وَاللَّخْمِيُّ، وَالْبَاجِيُّ، وَابْنُ رُشْدٍ، وَالْمَازِرِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَالْقَرَافِيُّ.

وَمِنْ الشَّافِعِيَّةِ: أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ، وَالْقَفَّالُ الْكَبِيرُ الشَّاشِيُّ، وَحُجَّةُ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيُّ.

وَمِنْ الْحَنَابِلَةِ: أَبُو بَكْرٍ الْخَلاَّلُ، وَأَبُو الْقَاسِمِ الْخِرَقِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الْكَبِيرُ.

وَبِالرُّجُوعِ إِلَى هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ نَجِدُ أَنَّ الْمُؤَرِّخِينَ اخْتَلَفُوا فِي تَقْدِيرِهِمْ وَفِي طَبَقَاتِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ قَدَمُ صِدْقٍ فِي تَثْبِيتِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَلَهُمْ الْأَثَرُ الْبَعِيدُ فِي بَقَائِهَا وَتَثْبِيتِ أَرْكَانِهَا.

33- الْمُقَلِّدُونَ: وَهَؤُلَاءِ لَيْسَ لَهُمْ اجْتِهَادٌ، وَإِنَّمَا عَمَلُهُمْ فِي قُوَّةِ النَّقْلِ. وَهُمْ طَبَقَتَانِ: طَبَقَةُ الْحُفَّاظِ، وَطَبَقَةُ الِاتِّبَاعِ الْمُجَرَّدِ.

أ- طَبَقَةُ الْحُفَّاظِ:

هُمْ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ أَكْثَرَ أَحْكَامِ الْمَذْهَبِ وَرِوَايَاتِهِ، وَهُمْ حُجَّةٌ فِي النَّقْلِ لَا فِي الِاجْتِهَادِ، فَهُمْ حُجَّةٌ فِي نَقْلِ الرِّوَايَاتِ وَبَيَانِ أَوْضَحِهَا، وَنَقْلِ أَقْوَى الْآرَاءِ تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَجِّحُوا. وَيَقُولُ فِيهِمُ ابْنُ عَابِدِينَ: وَإِنَّهُمْ الْقَادِرُونَ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْأَقْوَى وَالْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَالرِّوَايَةِ النَّادِرَةِ، كَأَصْحَابِ الْمُتُونِ الْمُعْتَبَرَةِ كَصَاحِبِ الْكَنْزِ وَصَاحِبِ تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ وَصَاحِبِ الْوِقَايَةِ وَصَاحِبِ الْمَجْمَعِ. وَشَأْنُهُمْ أَلاَّ يَنْقُلُوا فِي كُتُبِهِمْ الْأَقْوَالَ الْمَرْدُودَةَ وَالرِّوَايَاتِ الضَّعِيفَةَ، وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ عَمَلُهُمْ التَّرْجِيحَ، وَلَكِنْ مَعْرِفَةُ دَرَجَاتِ التَّرْجِيحِ وَتَرْتِيبُهَا عَلَى حَسَبِ مَا قَامَ بِهِ الْمُرَجِّحُونَ، وَيَخْتَلِفُونَ حِينَئِذٍ فِي نَقْلِ التَّرْجِيحِ، فَقَدْ يَنْقُلُ بَعْضُهُمْ تَرْجِيحَ رَأْيٍ عَلَى رَأْيٍ، وَيَنْقُلُ الْآخَرُ خِلَافَ ذَلِكَ، فَيَخْتَارُ مِنْ أَقْوَالِ الْمُرَجِّحِينَ أَقْوَاهَا تَرْجِيحًا وَأَكْثَرَهَا اعْتِمَادًا عَلَى أُصُولِ الْمَذْهَبِ، أَوْ مَا يَكُونُ أَكْثَرَ عَدَدًا، أَوْ مَا يَكُونُ صَاحِبُهُ أَكْثَرَ حُجِّيَّةً فِي الْمَذْهَبِ.

وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ حَقُّ الْإِفْتَاءِ كَالسَّابِقِينَ، وَلَكِنْ فِي دَائِرَةٍ ضَيِّقَةٍ عَنْ الْأَوَّلِينَ. وَقَدْ قَالَ فِيهِمُ ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْرِفَةَ رَاجِحِ الْمُخْتَلِفِ مِنْ مَرْجُوحِهِ وَمَرَاتِبِهِ قُوَّةً وَضَعْفًا هُوَ نِهَايَةُ مَآلِ الْمُشَمِّرِينَ فِي تَحْصِيلِ الْعِلْمِ. فَالْمَفْرُوضُ عَلَى الْمُفْتِي وَالْقَاضِي التَّثَبُّتُ فِي الْجَوَابِ، وَعَدَمُ الْمُجَازَفَةِ فِيهِ، خَوْفًا مِنْ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِتَحْلِيلِ حَرَامِهِ وَتَحْرِيمِ ضِدِّهِ.

وَنَرَى أَنَّ هَذِهِ الطَّبَقَةَ دِرَاسَتُهَا دِرَاسَةُ جَمْعٍ وَتَصْنِيفٍ وَتَرْتِيبٍ لِلْأَقْوَالِ فِي الْمَذْهَبِ مِنْ حَيْثُ صِحَّةُ نَقْلِهَا، لَا مِنْ حَيْثُ قُوَّةُ دَلِيلِهَا.

ب- الْمُتَّبِعُونَ:

نَقْصِدُ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ غَيْرَهُمْ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَذْهَبِ، فَيَتَّبِعُونَ مَنْ سَبَقَهُمْ فِي الِاجْتِهَادِ وَفِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْآرَاءِ وَفِي الِاسْتِدْلَالِ، وَفِي التَّرْجِيحِ فِي النَّقْلِ وَفِي سَلَامَتِهِ. فَهَؤُلَاءِ لَيْسَ لَهُمْ إِلاَّ فَهْمُ الْكُتُبِ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَى التَّرْجِيحِ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ التَّرْجِيحَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ، وَلَمْ يُؤْتَوْا عِلْمًا كَعِلْمِ الْمُرَجِّحِينَ فِي أَيِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ التَّرْجِيحِ وَتَمْيِيزِ دَرَجَاتِ التَّرْجِيحِ. وَهَؤُلَاءِ قَالَ فِيهِمُ ابْنُ عَابِدِينَ: لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْغَثِّ وَالسَّمِينِ، وَلَا يُمَيِّزُونَ الشِّمَالَ مِنْ الْيَمِينِ، بَلْ يَجْمَعُونَ مَا يَجِدُونَ كَحَاطِبِ لَيْلٍ، فَالْوَيْلُ كُلُّ الْوَيْلِ لِمَنْ قَلَّدَهُمْ.

وَإِنَّ هَذَا الصِّنْفَ مِنْ الْمُتَّبِعِينَ قَدْ كَثُرَ فِي الْعُصُورِ الْأَخِيرَةِ، فَهُمْ يَعْكُفُونَ عَلَى عِبَارَاتِ الْكُتُبِ، لَا يَتَّجِهُونَ إِلاَّ إِلَى الِالْتِقَاطِ مِنْهَا، مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِتَعَرُّفِ دَلِيلِ مَا يَلْتَقِطُونَ، وَيَبْنُونَ عَلَيْهِ، بَلْ يَكْتُمُونَ بِأَنْ يَقُولُوا: هُنَاكَ قَوْلٌ بِهَذَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَلِيلٌ قَوِيٌّ.

وَلَقَدْ كَانَ لِهَذَا الْفَرِيقِ أَثَرَانِ مُخْتَلِفَانِ: أَحَدُهُمَا خَيْرٌ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَضَاءِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْقَضَاءُ لَا يَصِحُّ إِلاَّ بِالرَّاجِحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ عَمَلُهُمْ الِاتِّبَاعُ لِهَذَا الرَّاجِحِ، وَفِي ذَلِكَ ضَبْطٌ لِلْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فُرُطًا. وَتَقْيِيدُ الْقَضَاءِ فِي الْأَزْمَانِ الَّتِي تَنْحَرِفُ فِيهَا الْأَفْكَارُ وَاجِبٌ، بَلْ إِنَّ الِاتِّبَاعَ لَا يَكُونُ حَسَنًا إِلاَّ فِي الْأَحْكَامِ الْقَضَائِيَّةِ.

الْأَثَرُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا فِيهِ تَقْدِيسٌ لِأَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ السَّابِقِينَ، وَاعْتِبَارُ أَقْوَالِهِمْ حُجَّةً سَائِغَةً مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى قُوَّةِ الدَّلِيلِ، وَمِقْدَارِ صِلَةِ الْقَوْلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى صَلَاحِيَتِهِ لِلتَّطْبِيقِ، وَقَدْ اخْتَلَطَ الْحَابِلُ بِالنَّابِلِ. وَقَدْ كَانَ لِهَذَا أَثَرٌ فِي الْبِيئَاتِ الَّتِي تُحَاوِلُ أَنْ تَجِدَ مُسَوِّغًا لِمَا تَفْعَلُ، فَيُسَارِعُ الْمُرَاءُونَ الْمُتَمَلِّقُونَ إِلَى تَبْرِيرِ أَفْعَالِ بَعْضِ ذَوِي النُّفُوذِ، بِذِكْرِ أَقْوَالٍ شَاذَّةٍ، فَيَتَعَلَّقُ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أَجَازُوا مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ وَمَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ أَفْعَالٍ، أَيًّا كَانَ قَائِلُهُ وَأَيًّا كَانَتْ حُجَّتُهُ، بَلْ أَيًّا كَانَتْ سَلَامَةُ نَقْلِهِ أَوْ قُوَّتُهُ فِي الْمَذْهَبِ الَّذِي دَوَّنَ فِي كُتُبِهِ، ثُمَّ يَنْثُرُ هَؤُلَاءِ الْمُتَمَلِّقُونَ ذَلِكَ نَثْرًا فِي الْمَجَالِسِ، مُبَاهَاةً بِكَثْرَةِ الْعِلْمِ. فَالْوَيْلُ لِهَؤُلَاءِ، وَالْوَيْلُ لِمَنْ قَلَّدَهُمْ، وَالْوَيْلُ لِمَنْ يَأْخُذُ كَلَامَهُمْ حُجَّةً فِي الدِّينِ، وَالْوَيْلُ لِمَنْ يُشَجِّعُهُمْ.

34- فِي عُصُورِ الِاجْتِهَادِ الْمُخْتَلِفَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُطْلَقًا أَمْ مُقَيَّدًا، بَلْ وَفِي عُصُورِ التَّقْلِيدِ، لَمْ نَجِدْ أَحَدًا مِنْ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْفِقْهِ اعْتَمَدَ فِي اسْتِنْبَاطِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَلَى غَيْرِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَمْ يَتَّجِهْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى الْأَخْذِ مِنْ الْقَانُونِ الرُّومَانِيِّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْقَوَانِينِ الَّتِي كَانَتْ سَائِدَةً فِي الْبِلَادِ الْمَفْتُوحَةِ.

وَعَلَى الَّذِينَ يُشَكِّكُونَ فِي أَنَّ فُقَهَاءَنَا قَدْ اعْتَمَدُوا عَلَى الْقَانُونِ الرُّومَانِيِّ فِي اسْتِنْبَاطِهِمْ أَنْ يَدُلُّونَا عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ اعْتَمَدُوا فِيهِ عَلَى هَذَا الْقَانُونِ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنْ وُجِدَ حُكْمٌ مُطَابِقٌ لِمَا فِي الْقَانُونِ الرُّومَانِيِّ فَلَيْسَ مَعْنَى هَذَا أَنَّهُ مُسْتَنْبَطٌ مِنْهُ، بَلْ هُوَ مِمَّا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْفِطَرُ السَّلِيمَةُ وَمِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَمْ تَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ الْعُصُورِ وَالْأَزْمَانِ. وَعِنْدَ النَّظَرِ فِي مَصْدَرِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ- إِنْ وُجِدَتْ- سَنَجِدُ أَنَّهَا مُعْتَمِدَةٌ عَلَى أَصْلٍ شَرْعِيٍّ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


191-موسوعة الفقه الكويتية (الفقه الإسلامي 4)

الْفِقْهُ الْإِسْلَامِيُّ-4

تَعْرِيفُ «الْمَوْسُوعَةِ..»

47- تُطْلَقُ الْمَوْسُوعَةُ- أَوْ دَائِرَةُ الْمَعَارِفِ، أَوِ الْمُعَلِّمَةُ- عَلَى الْمُؤَلَّفِ الشَّامِلِ لِجَمِيعِ مَعْلُومَاتِ عِلْمٍ أَوْ أَكْثَرَ، مَعْرُوضَةً مِنْ خِلَالِ عَنَاوِينَ مُتَعَارَفٍ عَلَيْهَا، بِتَرْتِيبٍ مُعَيَّنٍ لَا يُحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى خِبْرَةٍ وَمُمَارَسَةٍ، مَكْتُوبَةً بِأُسْلُوبٍ مُبَسَّطٍ لَا يَتَطَلَّبُ فَهْمُهُ تَوَسُّطَ الْمُدَرِّسِ أَوِ الشُّرُوحَ، بَلْ يَكْفِي لِلِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا الْحَدُّ الْأَوْسَطُ مِنْ الثَّقَافَةِ الْعَامَّةِ مَعَ الْإِلْمَامِ بِالْعِلْمِ الْمَوْضُوعَةِ لَهُ، وَلَا بُدَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ مِنْ تَوَافُرِ دَوَاعِي الثِّقَةِ بِمَعْلُومَاتِهَا بِعَزْوِهَا لِلْمَرَاجِعِ الْمُعْتَمَدَةِ، أَوْ نِسْبَتِهَا إِلَى الْمُخْتَصِّينَ الَّذِينَ عُهِدَ إِلَيْهِمْ بِتَدْوِينِهَا مِمَّنْ يُطْمَأَنُّ بِصُدُورِهَا عَنْهُمْ.

فَخَصَائِصُ (الْمَوْسُوعَةِ) الَّتِي تُوجِبُ لَهَا اسْتِحْقَاقَ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ هِيَ: الشُّمُولُ، وَالتَّرْتِيبُ السَّهْلُ، وَالْأُسْلُوبُ الْمُبَسَّطُ، وَمُوجِبَاتُ الثِّقَةِ.

وَيَتَبَيَّنُ مِنْ هَذَا التَّعْرِيفِ التَّوْضِيحِيِّ الْعَامِّ أَنَّ «الْمَوْسُوعَةَ الْفِقْهِيَّةَ» هِيَ مَا كَانَتْ فِيهِ هَذِهِ الْخَصَائِصُ، وَأَنَّ أَسَاسَ التَّرْتِيبِ فِيهَا هُوَ الْمُصْطَلَحَاتُ الْمُتَدَاوَلَةُ فِي الْفِقْهِ (وَهِيَ الْكَلِمَاتُ الْعُنْوَانِيَّةُ لِأَبْوَابِهِ وَمَسَائِلِهِ الْمَشْهُورَةِ)، وَالَّتِي تُرَتَّبُ أَلِفْبَائِيًّا لِتَمْكِينِ الْمُخْتَصِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْوُصُولِ لِمَظَانِّ الْبَحْثِ، وَإِنَّ مُوجِبَاتِ الثِّقَةِ هِيَ بَيَانُ الْأَدِلَّةِ وَالْعَزْوُ لِلْمَرَاجِعِ الْأَصْلِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّنْسِيقِ بَيْنَ جَمِيعِ مَعْلُومَاتِهَا بِمَا يَتَحَقَّقُ بِهِ التَّرَابُطُ وَالتَّكَامُلُ وَالْبَيَانُ الْمُتَكَافِئُ.

فَهِيَ إِذَنْ غَيْرُ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ: الْمُدَوَّنَاتِ، أَوِ الْمُطَوَّلَاتِ، أَوِ الْمَبْسُوطَاتِ، أَوِ الْأُمَّهَاتِ مِنْ كُتُبٍ فِقْهِيَّةٍ لَمْ تُرَاعَ فِيهَا جَمِيعُ الْخَصَائِصِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا، وَإِنَّ وُجُودَ خَصِيصَةٍ مِنْهَا أَوْ أَكْثَرَ، بِالْقَصْدِ أَوِ التَّوَافُقِ، وَلَا سِيَّمَا شُمُولُ قَدْرٍ كَبِيرٍ مِنْ الْمَادَّةِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُوَثَّقَةِ، هُوَ الَّذِي يُسِيغُ إِطْلَاقَ اسْمِ الْمَوْسُوعَاتِ عَلَيْهَا، مِنْ بَابِ التَّجَوُّزِ لَا الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّهَا تَفْتَقِرُ إِلَى أَهَمِّ الْخَصَائِصِ: اتِّخَاذُ الْمُصْطَلَحَاتِ الْمُرَتَّبَةِ أَسَاسًا لِلْبَحْثِ فِيهَا، فَضْلاً عَنْ سُهُولَةِ الْأُسْلُوبِ وَإِطْلَاقِ الْحُدُودِ لِلْبَيَانِ الْمُتَنَاسِقِ.

وَالْفِقْهُ الْإِسْلَامِيُّ غَنِيٌّ بِأَمْثَالِ تِلْكَ الْمَرَاجِعِ الَّتِي إِنْ خُدِمَتْ بِفَهَارِسَ تَحْلِيلِيَّةٍ كَانَتْ بِمَثَابَةِ مَوْسُوعَاتٍ مَبْدَئِيَّةٍ لِمَذْهَبٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَهِيَ بِهَذِهِ الْخِدْمَةِ سَتَكُونُ مِمَّا يُوَطِّئُ لِلْمَوْسُوعَةِ وَيَسُدُّ الْفَرَاغَ إِلَى حِينٍ.

أَهْدَافُ الْمَوْسُوعَةِ الْفِقْهِيَّةِ:

48- فَضْلاً عَمَّا فِي إِصْدَارِ الْمَوْسُوعَةِ الْفِقْهِيَّةِ مِنْ إِثْرَاءٍ لِلْمَكْتَبَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِبُحُوثٍ تَتَّصِفُ بِجِدَّةِ الصِّيَاغَةِ وَمُعَالَجَةِ الْمَوْضُوعَاتِ بِتَعَمُّقِ كُلٍّ عَلَى حِدَةٍ، وَبِجَهْدٍ جَمَاعِيٍّ تَتَلَاقَحُ فِيهِ الْأَفْكَارُ وَالْأَنْظَارُ قَبْلَ إِخْرَاجِهِ لِلنَّاسِ، فَإِنَّهَا هِيَ السَّبِيلُ لِتَوْفِيرِ الْوَقْتِ عَلَى الْمُخْتَصِّينَ- وَغَيْرِهِمْ بِالْأَحْرَى- فِي التَّعَمُّقِ بِدِرَاسَاتِهِمُ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا سِيَّمَا فِي التَّعْلِيمِ الْعَالِي وَالْقَضَاءِ وَالتَّشْرِيعِ، وَفِي إِحْيَاءِ التُّرَاثِ الْفِقْهِيِّ وَتَرْشِيحِهِ لِلدِّرَاسَاتِ الدُّوَلِيَّةِ الْحُقُوقِيَّةِ الْمُقَارَنَةِ (وَهُوَ الْهَدَفُ التَّارِيخِيُّ لِبُزُوغِ فِكْرَةِ الْمَوْسُوعَةِ).

وَبِالْمَوْسُوعَةِ تَسْهُلُ الْعَوْدَةُ إِلَى الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِاسْتِنْبَاطِ الْحُلُولِ الْقَوِيمَةِ مِنْهَا لِمُشْكِلَاتِ الْقَضَايَا الْمُعَاصِرَةِ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ الْإِقْبَالِ الْعَامِّ عَلَى تَطْوِيرِ التَّشْرِيعَاتِ بِاسْتِمْدَادِهَا مِنْ الشَّرِيعَةِ، وَهِيَ أَيْضًا وَسِيلَةٌ لِلْإِلْمَامِ بِأَحْكَامِ الدِّينِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى مَا اسْتَنْبَطَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِتَنْظِيمِ جَمِيعِ شُئُونِ الْحَيَاةِ، وَلِهَذَا أَعْظَمُ الْأَثَرِ فِي الْفَلَاحِ وَالْفَوْزِ بِرِضَا اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَالْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ.

وَبِإِنْجَازِ الْمَوْسُوعَةِ يَتَحَقَّقُ لِلْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ مُوَاكَبَةُ مَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ الْعُلُومُ وَالْمَعَارِفُ مِنْ تَطْوِيرٍ فِي الشَّكْلِ وَالْأُسْلُوبِ، فَيَجْمَعُ إِلَى أَصَالَةِ مَضْمُونِهِ وَغَزَارَةِ تُرَاثِهِ جَمَالَ الْإِخْرَاجِ وَسُهُولَةَ التَّرْتِيبِ، وَذَلِكَ لِتَدَارُكِ الْفَجْوَةِ الَّتِي حَدَثَتْ بِالتَّطَوُّرِ السَّرِيعِ فِي عَالَمِ النَّشْرِ وَعَرْضِ الْمَعْلُومَاتِ بِطُرُقٍ تَجْمَعُ بَيْنَ السُّهُولَةِ وَتَحْقِيقِ السُّرْعَةِ.

تَارِيخُ الْمَوْسُوعَةِ الْفِقْهِيَّةِ:

49- إِصْدَارُ الْمَوْسُوعَةِ الْفِقْهِيَّةِ أَمَلٌ إِسْلَامِيٌّ قَدِيمٌ وَمُتَجَدِّدٌ، فَقَدْ تَطَلَّعَ إِلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُهْتَمِّينَ بِنَهْضَةِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، عَلَى تَفَاوُتٍ فِي وُضُوحِ الْفِكْرَةِ وَالطَّرِيقَةِ الْمُقْتَرَحَةِ.

غَيْرَ أَنَّ أَهَمَّ النِّدَاءَاتِ الَّتِي تَرَدَّدَتْ لِإِنْجَازِ هَذَا الْمَشْرُوعِ الْعِلْمِيِّ الْمُبْتَكَرِ بِالنِّسْبَةِ لِلْفِقْهِ تَمَثَّلَ فِي النِّدَاءِ الصَّادِرِ عَنْ مُؤْتَمَرِ أُسْبُوعِ الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ فِي بَارِيسَ 1370 هـ (1951 م) وَاشْتَرَكَ فِيهِ ثُلَّةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ. فَكَانَ بَيْنَ تَوْصِيَاتِهِ الدَّعْوَةُ إِلَى تَأْلِيفِ مَوْسُوعَةٍ فِقْهِيَّةٍ تُعْرَضُ فِيهَا الْمَعْلُومَاتُ الْحُقُوقِيَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَفْقًا لِلْأَسَالِيبِ الْحَدِيثَةِ وَالتَّرْتِيبِ الْمُعْجَمِيِّ.

وَفِي 1375 هـ (1956 م) كَانَتْ بِدَايَةُ الْمُحَاوَلَاتِ الرَّسْمِيَّةِ لِإِبْرَازِ هَذَا الْقَرَارِ التَّارِيخِيِّ الْعَالَمِيِّ إِلَى حَيِّزِ الْوَاقِعِ مِنْ قِبَلِ لَجْنَةٍ مُلْحَقَةٍ بِكُلِّيَّةِ الشَّرِيعَةِ فِي جَامِعَةِ دِمَشْقَ مُكَوَّنَةٍ بِمَرْسُومٍ جُمْهُورِيٍّ، تَمَّ تَعْزِيزُهُ بَعْدَ الْوَحْدَةِ السُّورِيَّةِ الْمِصْرِيَّةِ بِقَرَارٍ جُمْهُورِيٍّ. فَصَدَرَ عَامَ 1381 هـ (1961 م) جُزْءٌ يَتَضَمَّنُ نَمَاذِجَ مِنْ بُحُوثِ الْمَوْسُوعَةِ- لِتَلَقِّي الْمُلَاحَظَاتِ- كَتَبَهَا فُقَهَاءُ مِنْ الْبَلَدَيْنِ ثُمَّ صَدَرَ عَنْ الْمَوْسُوعَةِ بَعْدَئِذٍ فِي سُورِيَّةَ بَعْضُ الْأَعْمَالِ التَّمْهِيدِيَّةِ كَمُعْجَمِ فِقْهِ ابْنِ حَزْمٍ، وَدَلِيلِ مَوَاطِنِ الْبَحْثِ عَنْ الْمُصْطَلَحَاتِ الْفِقْهِيَّةِ.

أَمَّا فِي مِصْرَ، فَإِنَّ فِكْرَةَ الْمَوْسُوعَةِ الَّتِي احْتَضَنَتْهَا وَزَارَةُ الْأَوْقَافِ عَامَ 1381 هـ (1961 م) بَيْنَ لِجَانِ الْمَجْلِسِ الْأَعْلَى لِلشُّئُونِ الْإِسْلَامِيَّةِ صَدَرَ أَوَّلُ أَجْزَائِهَا 1386 هـ وَبَلَغَتْ (15) جُزْءًا وَلَا تَزَالُ فِي مُصْطَلَحَاتِ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ لَيْسَتْ كُلَّ مَا أَنْجَزَتْهُ فَإِنَّ النَّشْرَ يَتَأَخَّرُ فِي مَسِيرَتِهِ عَنْ الْإِنْجَازِ.

وَفِي 1386 هـ (1967 م)- وَمَعَ ظُهُورِ الْحَاجَةِ إِلَى تَكَاتُفِ الْجُهُودِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِضَمَانِ إِنْجَازِ هَذَا الْمَشْرُوعِ فِي أَيِّ قُطْرٍ إِسْلَامِيٍّ مُقْتَدِرٍ بِالْمَالِ أَوِ الرِّجَالِ- احْتَضَنَتْ وَزَارَةُ الْأَوْقَافِ وَالشُّئُونِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي دَوْلَةِ الْكُوَيْتِ هَذَا الْمَشْرُوعَ، بِاعْتِبَارِهِ مِنْ الْفُرُوضِ الْكِفَائِيَّةِ الَّتِي يَتِمُّ بِهَا وَاجِبُ تَقْدِيمِ الْفِقْهِ بِالصُّورَةِ الْعَصْرِيَّةِ الدَّاعِيَةِ لِتَعَلُّمِهِ وَالْمُيَسِّرَةِ لِلْعَمَلِ بِهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْقِيَامِ بِهِ لِاغْتِنَامِ الْفَضْلِ وَالْأَجْرِ، وَإِسْقَاطِ الْمُؤَاخَذَةِ وَالْمَسْئُولِيَّةِ عَنْ الْأُمَّةِ كَافَّةً.

وَمِمَّا لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ هُنَا أَنَّهُ لَا ضَيْرَ مِنْ تَعَدُّدِ الْجُهُودِ فِي خِدْمَةِ الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ؛ لِافْتِقَارِهِ الشَّدِيدِ فِي مَجَالِ الْعَرْضِ الْحَدِيثِ وَالْإِخْرَاجِ الْفَنِّيِّ. وَمِنْ الْمَلْحُوظِ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ نَتَاجِ الْمَوْسُوعَاتِ الثَّلَاثِ الْقَائِمَةِ (فِي سُورِيَّةَ وَمِصْرَ وَالْكُوَيْتِ) أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهَا وُجْهَةً تَسْعَى مِنْ خِلَالِهَا إِلَى إِغْنَاءِ الْفِقْهِ فِي مَجَالٍ، أَوْ بِطَرِيقَةٍ غَيْرِ مَا تَسْعَى إِلَيْهِ الْأُخْرَى، وَإِنَّ فِي هَذَا التَّنَوُّعِ مَا يَفِي بِالْحَاجَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ وَأَلْوَانِ الْعِنَايَةِ بِالْفِقْهِ وَتَقْرِيبِهِ إِلَى طَالِبِيهِ.

مَرَاحِلُ مَشْرُوعِ الْمَوْسُوعَةِ الْفِقْهِيَّةِ فِي الْكُوَيْتِ:

(أَوَّلاً): الدَّوْرَةُ السَّابِقَةُ لِلْمَشْرُوعِ:

50- اسْتَمَرَّ الْعَمَلُ فِي مَشْرُوعِ الْمَوْسُوعَةِ الْفِقْهِيَّةِ فِي دَوْرَتِهِ الْأُولَى خَمْسَ سَنَوَاتٍ، تَمَّ فِيهَا وَضْعُ الْخُطَّةِ وَصُنْعُ مُعْجَمٍ فِقْهِيٍّ مُسْتَخْلَصٍ مِنَ «الْمُغْنِي» لِابْنِ قُدَامَةَ الْحَنْبَلِيِّ، وَكِتَابَةُ خَمْسِينَ بَحْثًا مُتَفَاوِتَةً فِي الْكَمْيَّةِ وَالنَّوْعِيَّةِ، نُشِرَ مِنْهَا ثَلَاثَةٌ فِي طَبْعَةٍ تَمْهِيدِيَّةٍ لِتَلَقِّي الْمُلَاحَظَاتِ. وَقَدْ انْتَهَتْ هَذِهِ الدَّوْرَةُ أَوَاخِرَ عَامِ 1971 م، ثُمَّ تَلَتْهَا فَتْرَةُ تَرَيُّثٍ قَطَعَتْهَا الْمُبَاشَرَةُ فِي عَامِ 1975 بِبَعْضِ الْأَعْمَالِ التَّحْضِيرِيَّةِ وَالِاتِّصَالَاتِ بِالْمُخْتَصِّينَ لِحَشْدِ الطَّاقَاتِ وَتَجْمِيعِ الْجُهُودِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِمُوَاصَلَةِ هَذَا الْمَشْرُوعِ، وَظَلَّ ذَلِكَ خِلَالَ الْعَامَيْنِ التَّالِيَيْنِ لِجَمْعِ الِاقْتِرَاحَاتِ وَدِرَاسَتِهَا بِقَصْدِ الْوُصُولِ إِلَى الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى لِاسْتِئْنَافِ الْعَمَلِ؛ اسْتِجَابَةً لِلْمَطَالِبِ الْإِسْلَامِيَّةِ- مِنْ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ- بِمُوَاصَلَةِ السَّيْرِ فِي إِنْجَازِهِ. وَلِهَذَا تَمَّ وَضْعُ تَقْرِيرٍ مُفَصَّلٍ عَنْ الْمَشْرُوعِ وَخُطُوَاتِهِ السَّابِقَةِ وَإِنْجَازَاتِهِ وَاحْتِيَاجَاتِهِ، ثُمَّ صَدَرَ قَرَارُ اسْتِئْنَافِهِ وَرَافَقَ ذَلِكَ إِجْرَاءَاتٌ عَدِيدَةٌ، أَهَمُّهَا:

أ- الِاتِّصَالُ ثَانِيَةً بِالْجِهَاتِ الْعِلْمِيَّةِ الْمَعْنِيَّةِ بِالْفِقْهِ وَالدِّرَاسَاتِ وَالشُّئُونِ الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي قَدَّمَتْ مُقْتَرَحَاتِهَا وَوَضَعَتْ إِمْكَانَاتِهَا لِلتَّعَاوُنِ وَالْعَمَلِ الْمُشْتَرَكِ، وَذَلِكَ لِتَجْنِيدِ الطَّاقَاتِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي تَنْتَسِبُ إِلَيْهَا.

ب- اخْتِيَارُ تِسْعَةِ نَمَاذِجَ أُخْرَى مِنْ الْبُحُوثِ السَّابِقَةِ لِنَشْرِهَا فِي طَبْعَةٍ تَمْهِيدِيَّةٍ، عَلَى نَمَطِ النَّمَاذِجِ الثَّلَاثِ الْمَنْشُورَةِ فِي الدَّوْرَةِ الْأُولَى، وَذَلِكَ لِتَلَقِّي الْمَزِيدِ مِنْ الْمُلَاحَظَاتِ، وَلِلْإِعْلَامِ الْفِعْلِيِّ عَنْ اسْتِئْنَافِ الْمَشْرُوعِ.

(ثَانِيًا) الدَّوْرَةُ الْحَالِيَّةُ لِلْمَشْرُوعِ:

51- بَدَأَتْ مَرْحَلَةُ التَّخْطِيطِ الْجَدِيدِ لِلْمَوْسُوعَةِ بِتَشْكِيلِ اللَّجْنَةِ الْعَامَّةِ لِلْمَوْسُوعَةِ الْفِقْهِيَّةِ بِالْقَرَارِ الْوِزَارِيِّ رَقْمِ 8: 77 بِتَارِيخِ 11 رَبِيعٍ الْأَوَّلِ 1397 هـ الْمُوَافِقِ 1: 3: 1977 م وَالَّتِي يَرْأَسُهَا وَزِيرُ الْأَوْقَافِ وَالشُّئُونِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَضْلاً عَنْ ثَمَانِيَةِ أَعْضَاءٍ مِنْ كِبَارِ الْإِدَارِيِّينَ فِي الْوَزَارَةِ وَبَعْضِ الْخُبَرَاءِ الْمُخْتَصِّينَ فِي الْفِقْهِ وَبَعْضِ الْمُسْتَشَارِينَ الْعَامِلِينَ فِي مَجَالِ الْقَضَاءِ. وَقَدْ تَوَالَتِ اجْتِمَاعَاتُهَا مُنْذُ ذَلِكَ التَّارِيخِ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ لِتَقْوِيمِ نَتَاجِ الدَّوْرَةِ السَّابِقَةِ وَوَجْهِ الِاسْتِفَادَةِ مِنْهُ لِلدَّوْرَةِ الْجَدِيدَةِ، وَالْإِشْرَافِ عَلَى تَنْفِيذِ مَا تُصْدِرُهُ مِنْ قَرَارَاتٍ وَتَوْصِيَاتٍ وَالْعَمَلِ لِتَوْفِيرِ الْمُتَطَلَّبَاتِ. وَمِنْ أَبْرَزِ مَا بَدَأَتْ بِهِ اللَّجْنَةُ الْعَامَّةُ:

أ- وَضْعُ خُطَّةٍ مُنَقَّحَةٍ لِلْكِتَابَةِ، وَخُطَطٍ أُخْرَى عِلْمِيَّةٍ لِلْأَعْمَالِ الْمَوْسُوعِيَّةِ لِضَمَانِ الْجَوْدَةِ وَالتَّنْسِيقِ.

ب- الْإِفَادَةُ مِنْ رَصِيدِ الدَّوْرَةِ السَّابِقَةِ بِتَبَنِّي مَا أَمْكَنَ مِنْهُ بَعْدَ إِخْضَاعِهِ لِدِرَاسَةٍ أَوَّلِيَّةٍ لِتَقْوِيمِهِ وَمُطَابَقَتِهِ لِلْخُطَّةِ الْمُنَقَّحَةِ.

وَقَدْ رَأَتِ اللَّجْنَةُ الْعَامَّةُ الِاكْتِفَاءَ بِالنَّمَاذِجِ الِاثْنَيْ عَشَرَ الَّتِي تَمَّ نَشْرُهَا فِي طَبْعَةٍ تَمْهِيدِيَّةٍ لِأَنَّهَا أَدَّتْ مُهِمَّتَهَا، وَلِتَوْفِيرِ الزَّمَنِ لِلْعَمَلِ النِّهَائِيِّ وَتَكْثِيفِ الْجُهُودِ لِلْإِنْتَاجِ الْجَدِيدِ، وَاسْتُعِيضَ عَنْ تَلَقِّي الْمُلَاحَظَاتِ (الْمُتَوَقَّعِ مِنْهَا) بِالْتِزَامِ إِجْرَاءِ مُرَاجَعَةٍ خَارِجِيَّةٍ لِلْبُحُوثِ الْكَبِيرَةِ يَقُومُ بِهَا عَدَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْمُخْتَصِّينَ فِي الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ لِتَوْثِيقِ الْمَادَّةِ الْعِلْمِيَّةِ وَتَوْسِيعِ سَاحَةِ التَّعَاوُنِ الْمُشْتَرَكِ، فَضْلاً عَمَّا يَقُومُ بِهِ الْجِهَازُ الْعِلْمِيُّ بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِ الْبُحُوثِ مِنْ مُرَاجَعَاتٍ وَتَنْقِيحٍ وَتَنْسِيقٍ.

مُشْتَمَلَاتُ الْمَوْسُوعَةِ:

مَوْضُوعُ الْمَوْسُوعَةِ:

52- تَشْتَمِلُ هَذِهِ الْمَوْسُوعَةُ الْفِقْهِيَّةُ عَلَى صِيَاغَةٍ عَصْرِيَّةٍ لِتُرَاثِ الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ (لِغَايَةِ الْقَرْنِ الثَّالِثِ عَشَرَ الْهِجْرِيِّ) مُرَاعًى فِيهَا خُطَّةٌ مُوَحَّدَةٌ لِلْكِتَابَةِ سَيَأْتِي الْحَدِيثُ عَنْهَا، عَلَى أَنَّ هُنَاكَ أَقْسَامًا ذَاتَ صِلَةٍ بِالْفِقْهِ اقْتَضَتْ طَبِيعَتُهَا وَالِالْتِزَامُ بِالْخُطَّةِ، أَنْ تُكْتَبَ مُنْفَصِلَةً عَنْ صَمِيمِ الْمَوْسُوعَةِ، مَعَ أَنَّهَا صَالِحَةٌ لِلدُّخُولِ فِي شُمُولِهَا الْعَامِّ لَوْلَا تَحَرِّي الدِّقَّةِ فِي الْمَوْقِعِ الْمُنَاسِبِ، وَتَوَقِّي اللَّبْسِ مِنْ النَّظَرِ إِلَى كُلِّ مَا فِي الْمَوْسُوعَةِ- إِنْ أُدْرِجَتْ فِيهَا تِلْكَ الْأَقْسَامُ- عَلَى أَنَّهُ مَحْكُومٌ بِخُطَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَمُسْتَمَدٌّ مِنْ الْمَرَاجِعِ الْقَدِيمَةِ، لِذَا اخْتِيرَ لِهَذِهِ الْأَقْسَامِ صُورَةُ الْمَلَاحِقِ بَعْدَ إِجْمَالِ الْكَلَامِ عَنْ الضَّرُورِيِّ مِنْهَا بَيْنَ مُصْطَلَحَاتِ الْمَوْسُوعَةِ. وَلَيْسَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْمُلْحَقِ هُنَا مَانِعًا مِنْ ظُهُورِ بَعْضِهَا عِنْدَ مُوَاتَاةِ الْفُرْصَةِ وَلَوْ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ مُشْتَمَلَاتِ الْمَوْسُوعَةِ الْأَسَاسِيَّةِ. كَمَا أَنَّ هُنَاكَ أَقْسَامًا أُخْرَى مِنْ الْفِقْهِ لَيْسَتْ مِنْ شَأْنِ الْمَوْسُوعَةِ بَلْ تُطْلَبُ فِي الْمَرَاجِعِ أَوِ الْكُتُبِ الْمُخَصَّصَةِ لَهَا، كَمُفْرَدَاتِ الْأَئِمَّةِ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ، وَرَسْمِ الْمُفْتِي (أُصُولِ الْإِفْتَاءِ وَالتَّرْجِيحِ) وَالْإِجْمَاعَاتِ، وَالْأَلْغَازِ الْفِقْهِيَّةِ، وَالْحِيَلِ، وَالشُّرُوطِ (الْمَحَاضِرِ وَالتَّوْثِيقَاتِ) إِلَخْ.

مَا يَخْرُجُ عَنْ الْمَوْسُوعَةِ:

وَعَلَى الْأَخَصِّ لَا تَشْتَمِلُ الْمَوْسُوعَةُ عَلَى (الْمُنَاقَشَاتِ الْمَذْهَبِيَّةِ، وَالتَّرْجِيحِ الشَّخْصِيِّ، وَالتَّقْنِينَاتِ) وَإِنْ كَانَ النَّوْعَانِ الْأَوَّلَانِ يُذْكَرَانِ فِي الْمَرَاجِعِ الْفِقْهِيَّةِ، وَالْأَخِيرُ تَتَعَرَّضُ لَهُ بَعْضُ الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ الْحَدِيثَةِ. وَذَلِكَ لِلْأَسْبَابِ التَّالِيَةِ:

أ- التَّقْنِينَاتُ:

53- وَضْعِيَّةً كَانَتْ أَوْ شَرْعِيَّةً، أَمَّا الْوَضْعِيَّةُ فَلِعَدَمِ اعْتِبَارِهَا فِقْهًا إِسْلَامِيًّا، وَأَمَّا الشَّرْعِيَّةُ فَلِاعْتِمَادِهَا غَالِبًا عَلَى اجْتِهَادٍ حَدِيثٍ أَوْ تَخْرِيجَاتٍ مُعَاصِرَةٍ، وَهِيَ بِهَذَا ذَاتُ مَصَادِرَ خَارِجَةٍ عَنْ الْإِطَارِ الزَّمَنِيِّ لِلْمَوْسُوعَةِ الْأَسَاسِيَّةِ، فَضْلاً عَنْ اخْتِلَافِ التَّقْنِينَاتِ بِحَسَبِ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَتَعَرُّضِهَا لِلتَّعْدِيلَاتِ الْكَثِيرَةِ بِحَيْثُ يَغْدُو الْقَدِيمُ مِنْهَا قَلِيلَ الْأَهَمِّيَّةِ بَعْدَ زَوَالِ أَهَمِّ مَا يَمْتَازُ بِهِ وَهِيَ صِفَةُ الْإِلْزَامِ النَّاشِئَةُ مِنْ تَخْصِيصِهِ لِلْحُكْمِ بِهِ.

وَلَا يَنْطَبِقُ هَذَا عَلَى الْإِشَارَةِ إِلَى بَعْضِ الْمُصْطَلَحَاتِ الْقَانُونِيَّةِ الَّتِي اشْتُهِرَتْ بِحَيْثُ يُفِيدُ بَيَانُهَا فِي تَمْيِيزِ الْمُصْطَلَحِ الْفِقْهِيِّ (الْمُوَافِقِ لَهَا فِي اللَّفْظِ) عَنْ الْمَعَانِي الْقَانُونِيَّةِ أَوِ الْعُرْفِيَّةِ غَيْرِ الْمُرَادَةِ لِلْفُقَهَاءِ.

ب- التَّرْجِيحُ الشَّخْصِيُّ:

54- يُقْصَدُ بِهَذَا التَّرْجِيحِ الْخَارِجِ عَنْ شُمُولِ الْمَوْسُوعَةِ كُلُّ مَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ خِلَالَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةَ عَشَرَ الْهِجْرِيَّةِ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ مُلْحَقُ الْمَسَائِلِ الْمُسْتَحْدَثَةِ. وَيَدْخُلُ فِي الْمَنْعِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ رَأْيُ الْكَاتِبِ الشَّخْصِيِّ فَلَا يُثْبِتُ مِنْهُ شَيْئًا إِلاَّ حِينَ تَمَسُّ الْحَاجَةُ لِإِبْدَاءِ مَا فَهِمَهُ مِنْ الْمَنْقُولِ حَسَبَ أُصُولِ الْمَذَاهِبِ، وَبِعِبَارَةٍ تُشْعِرُ بِذَلِكَ.

وَهُنَاكَ بَدِيلٌ عَنْ التَّرْجِيحِ الَّذِي يَرْكَنُ إِلَيْهِ الْبَعْضُ فِي مَوَاطِنِ الْخِلَافِ هُوَ الِاتِّجَاهُ الْمُوَافِقُ لِلْجُمْهُورِ، وَالْمُقَدَّمُ غَالِبًا عَلَى غَيْرِهِ عِنْدَ عَرْضِ الِاتِّجَاهَاتِ.

ج- الْمُنَاقَشَاتُ الْمَذْهَبِيَّةُ:

55- يُقْتَصَرُ فِي الِاسْتِدْلَالِ لِكُلِّ اتِّجَاهٍ بِمَذَاهِبِهِ عَلَى مَا يَحْتَجُّ بِهِ أَصْحَابُهُ مِنْ أَدِلَّةِ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ إِذَا جَاءَ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ الْمُبَاشِرَةِ، أَمَّا الِاسْتِدْلَالُ الْقَائِمُ عَلَى مُنَاقَشَةِ أَدِلَّةِ الْآخَرِينَ وَالْإِيرَادِ عَلَيْهَا عَلَى طَرِيقَةِ (النَّقَائِضِ الْمَذْهَبِيَّةِ) فَمَوْطِنُهُ الشُّرُوحُ وَكُتُبُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ وَمَا يُكْتَبُ مِنْ دِرَاسَاتٍ حَدِيثَةٍ مُخَصَّصَةٍ لِذَلِكَ. وَلَا شَأْنَ لِلْمَوْسُوعَةِ بِهَذَا لِصِلَتِهِ بِالتَّرْجِيحِ الشَّخْصِيِّ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي الْغَالِبِ حَدٌّ يَنْتَهِي إِلَيْهِ.

مَلَاحِقُ الْمَوْسُوعَةِ:

أ- تَرَاجِمُ الْأَعْلَامِ:

56- مِنْ الْبَدَهِيِّ أَنْ تُعْنَى الْمَوْسُوعَةُ بِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أَصْبَحَ مُلْتَزَمًا فِي جَمِيعِ الْمُؤَلَّفَاتِ الْمُحَقَّقَةِ، وَلِذَا الْتُزِمَ بِتَرْجَمَةِ الْأَعْلَامِ الَّذِينَ يَرِدُ ذِكْرُهُمْ فِي بُحُوثِ الْمَوْسُوعَةِ مِنْ فُقَهَاءَ دُونَ غَيْرِهِمْ بِصُورَةٍ مُوجَزَةٍ يَحْصُلُ بِهَا التَّعْرِيفُ بِهِمْ وَتَمْيِيزُهُمْ، حَيْثُ تَتَّفِقُ أَحْيَانًا شُهْرَةُ أَوْ نِسْبَةُ الْكَثِيرِينَ، مَعَ الْإِشَارَةِ لِأَشْهَرِ مُؤَلَّفَاتِهِمْ وَمَنْزِلَتِهِمْ فِي الْفِقْهِ، لِيُرَاعَى ذَلِكَ فِيمَا يُنْقَلُ عَنْهُمْ مِنْ تَرْجِيحٍ أَوْ تَخْرِيجٍ، وَتُخْتَمُ التَّرْجَمَةُ بِبَيَانِ بَعْضِ الْمَرَاجِعِ الَّتِي كُتِبَتْ عَنْهُمْ.

وَهَذِهِ التَّرَاجِمُ تُنْشَرُ كَمُلْحَقٍ مُفَرَّقٍ عَلَى أَجْزَاءِ الْمَوْسُوعَةِ، فَيُعَجَّلُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا بِتَرْجَمَةِ مَنْ جَرَى ذِكْرُهُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ (مُرَتَّبَةً تَرْتِيبًا أَلِفْبَائِيًّا فِيمَا بَيْنَهَا). أَمَّا مَنْ يَتَكَرَّرُ ذِكْرُهُ فِي جُزْءٍ تَالٍ وَقَدْ سَبَقَتْ تَرْجَمَتُهُ فَإِنَّهُ يُورَدُ فِي تَرْتِيبِ التَّرَاجِمِ لِذَلِكَ الْجُزْءِ وَيُكْتَفَى بِالدَّلَالَةِ إِلَى الْمَوْطِنِ السَّابِقِ.

ب- أُصُولُ الْفِقْهِ وَتَوَابِعُهُ:

57- أُصُولُ الْفِقْهِ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي قَالَ عَنْهُ الْمُخْتَصُّونَ: إِنَّهُ عِلْمٌ مَحْصُورٌ فِي حِينِ أَنَّ الْفِقْهَ مُسْتَمِرٌّ مُتَزَايِدٌ، وَالْكِتَابَاتُ فِي الْأُصُولِ كَثِيرَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، حَتَّى وَصَفُوهُ أَيْضًا بِأَنَّهُ الْعِلْمُ الَّذِي نَضِجَ وَاحْتَرَقَ. وَلَيْسَتِ الْحَاجَةُ إِلَى تَجْدِيدِ عَرْضِهِ كَالْحَاجَةِ الْقَائِمَةِ بِالْفِقْهِ.

لِلْأُصُولِ طَبِيعَتُهُ الْخَاصَّةُ فِي اعْتِمَادِ فَهْمِهِ وَاسْتِثْمَارِهِ عَلَى انْضِمَامِ مَعْلُومَاتِهِ وَتَرْتِيبِهَا الْمَنْطِقِيِّ فِي النَّشْأَةِ وَالِاسْتِنَادِ، كَمَا أَنَّ لِلْخِلَافِ فِيهِ مَنْحًى آخَرَ تَمْتَدُّ فِيهِ الْمُوَازَنَةُ حَتَّى تَشْمَلَ كُلَّ مَنْ عُنِيَ بِقَضَايَا الِاسْتِدْلَالِ مِنْ أَصْحَابِ الْفِرَقِ فَضْلاً عَنْ الْمَذَاهِبِ.

لِهَذِهِ الْأَسْبَابِ أُفْرِدَ عَنْ الْمَوْسُوعَةِ بِمُلْحَقٍ، وَاكْتُفِيَ بِإِدْرَاجِ جَمِيعِ الْمُصْطَلَحَاتِ الْأُصُولِيَّةِ مُرَتَّبَةً فِي تَضَاعِيفِ الْمُصْطَلَحَاتِ الْفِقْهِيَّةِ، لِلتَّعْرِيفِ وَالْإِشَارَةِ لِلْحُكْمِ وَإِحَالَةِ التَّفْصِيلِ إِلَى ذَلِكَ الْمُلْحَقِ الَّذِي سَيَكُونُ لَهُ تَرْتِيبٌ مَوْضُوعِيٌّ يَتَحَقَّقُ بِهِ لَمُّ أَجْزَاءِ مَبَاحِثِهِ تَسْهِيلاً لِلْإِفَادَةِ مِنْهُ كَمَا سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ، مَعَ احْتِوَاءِ الْمُلْحَقِ عَلَى فِهْرِسٍ أَلِفْبَائِيٍّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَوَاطِنِ الْكَلَامِ عَنْ مُصْطَلَحَاتِهِ فِيهِ وَفِي الْمَوْسُوعَةِ.

وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالنِّسْبَةِ لِلْعُلُومِ الْمُتَأَرْجِحَةِ بَيْنَ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ كَالْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ، وَالْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ، وَالْفُرُوقِ، سَيَكُونُ مَوْطِنُهَا ذَلِكَ الْمُلْحَقَ وَبِتَرْتِيبٍ يُنَاسِبُهَا. وَهَذِهِ الْجَوَانِبُ بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّهَا تُرَاثٌ فِقْهِيٌّ هِيَ أَقْرَبُ إِلَى أَنْ تَكُونَ مِنْ الْوَسَائِلِ الْمُيَسِّرَةِ لِفَهْمِ الْفِقْهِ وَتَكْوِينِ أَهْلِيَّةِ التَّخْرِيجِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَيَتَأَخَّرُ اعْتِبَارُهَا عَنْ الْفِقْهِ الْخَالِصِ الْمَقْصُودِ لِلْقَضَاءِ وَالْإِفْتَاءِ، وَلِهَذَا صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِضَرُورَةِ التَّرَيُّثِ فِي الْفَتْوَى بِمَا فِي كُتُبِهَا قَبْلَ تَبَيُّنِ انْسِجَامِهِ مَعَ مَا فِي الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ الْأَصِيلَةِ.

ج- الْمَسَائِلُ الْمُسْتَحْدَثَةُ:

58- وَهِيَ الْوَقَائِعُ الَّتِي جَدَّتْ وَلَيْسَ لَهَا حُكْمٌ ظَاهِرٌ مُفَصَّلٌ فِي الْمَرَاجِعِ الْفِقْهِيَّةِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي دُوِّنَتْ خِلَالَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةَ عَشَرَ لِلْهِجْرَةِ. وَقَدْ اخْتِيرَ أَنْ تُكْتَبَ فِي مُلْحَقٍ مُسْتَقِلٍّ عَنْ أَصْلِ الْمَوْسُوعَةِ، لِوُقُوعِ مُعْظَمِ مَرَاجِعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ خَارِجَ الْإِطَارِ الزَّمَنِيِّ لِلْمَوْسُوعَةِ، وَهِيَ فِي الْغَالِبِ ثَمَرَةُ اجْتِهَادٍ شَخْصِيٍّ جَدِيدٍ وَإِنْ كَانَ مُطَابِقًا لأُِصُولِ الِاسْتِنْبَاطِ، كَمَا أَنَّهَا قَائِمَةٌ عَلَى الْمُنَاقَشَاتِ وَالتَّرْجِيحِ وَالِاخْتِيَارِ، فَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ فَصْلِهَا عَنْ صَمِيمِ الْمَوْسُوعَةِ لِتَتَمَيَّزَ عَنْ تُرَاثِ الْفِقْهِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ وَالَّذِي يُعْتَبَرُ أَسَاسًا لِاسْتِخْرَاجِ الْحُلُولِ لِلْمُشْكِلَاتِ الْعَصْرِيَّةِ فِي ضَوْءِ مَبَادِئِهِ بِطَرِيقِ الْمُشَابَهَةِ وَالتَّخْرِيجِ وَالِاسْتِنْبَاطِ الْجَدِيدِ.

وَيُطْلَقُ فِيهِ لِلْكُتَّابِ الِاسْتِمْدَادُ مِنْ شَتَّى الْمَصَادِرِ الْقَدِيمَةِ وَالْحَدِيثَةِ، وَمِنْ الدَّوْرِيَّاتِ (الْمَجَلاَّتِ بِأَنْوَاعِهَا) وَالرَّسَائِلِ الْجَامِعِيَّةِ الْمُتَخَصِّصَةِ، وَمَا يَصْدُرُ عَنْ الْمَجَامِعِ وَالْمُؤْتَمَرَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ. فَضْلاً عَمَّا جَاءَ عَنْ مَوْضُوعِهِ فِي كُتُبِ الْفَتَاوَى الْفِقْهِيَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ.

وَفِي هَذَا الْمَجَالِ سَيَكُونُ لِلْمُخْتَصِّينَ فِي شَتَّى الْعُلُومِ دَوْرٌ أَسَاسِيٌّ لِتَقْدِيمِ التَّصَوُّرِ الصَّحِيحِ لِلْوَقَائِعِ الْمَبْحُوثِ فِيهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ نَظَرِيَّةً (اقْتِصَادِيَّةً أَوِ اجْتِمَاعِيَّةً..) أَمْ تَجْرِيبِيَّةً (طِبِّيَّةً أَوْ عِلْمِيَّةً..) لِأَنَّ لِذَلِكَ أَثَرَهُ فِي إِعْطَاءِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الصَّحِيحِ، فَالْحُكْمُ عَلَى الشَّيْءِ فَرْعٌ عَنْ تَصَوُّرِهِ، وَصِحَّةُ الْحُكْمِ تَتَوَقَّفُ عَلَى صِحَّةِ التَّصَوُّرِ، فَكَثِيرٌ مِنْ الِاخْتِلَافِ يَنْشَأُ مِنْ عَدَمِ تَحْدِيدِ التَّصَوُّرِ، أَوِ الْخَطَأِ فِيهِ، أَوِ الِاسْتِنَادِ إِلَى أَعْرَافٍ تَغَيَّرَتْ أَوْ وَسَائِلَ مَدَنِيَّةٍ تَطَوَّرَتْ... وَبِانْتِهَاءِ هَذَا الدَّوْرِ تَأْتِي مُهِمَّةُ اسْتِنْبَاطِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الَّتِي تُنَاطُ بِكُلِّ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةٌ مَعْرُوفَةٌ مُبَيَّنَةٌ فِي مَوَاطِنِهَا عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ الِاجْتِهَادِ وَالْإِفْتَاءِ.

وَسَيَكُونُ هَذَا الْمُلْحَقُ عُرْضَةً لِلتَّعْدِيلِ وَالتَّنْقِيحِ، عَلَى الْعَكْسِ مِنْ التُّرَاثِ الْفِقْهِيِّ الْمَنْقُولِ وَالْمُسْتَنْبَطِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُبَاشَرَةً أَوْ فِي عُصُورِ الِاجْتِهَادِ حَسَبَ أُصُولِ الْفِقْهِ الْمَوْثُوقِ بِهَا عَلَى مَدَى الْعُصُورِ، أَمَّا مَا يَتَضَمَّنُهُ الْمُلْحَقُ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى فَتْرَةٍ زَمَنِيَّةٍ يَخْضَعُ فِيهَا لِلنَّقْدِ وَالتَّمْحِيصِ قَبْلَ ضَمِّهِ إِلَى صَمِيمِ الْمَوْسُوعَةِ.

وَرُبَّمَا كَانَ مِنْ الْوَسَائِلِ الضَّرُورِيَّةِ لِإِغْنَاءِ هَذَا الْجَانِبِ وَإِتْقَانِهِ عَقْدُ مُؤْتَمَرَاتٍ لِلْفُقَهَاءِ الْمُعَاصِرِينَ لِلْوُقُوفِ عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ آرَاءٍ شَرْعِيَّةٍ فِي الْمُشْكِلَاتِ وَالْقَضَايَا الْعَصْرِيَّةِ، وَقَدْ يَقْتَضِي إِنْجَازُ ذَلِكَ فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ تَكْوِينَ مَجْمَعٍ فِقْهِيٍّ ذِي دَوْرَاتٍ مُنْتَظِمَةٍ.

د- غَرِيبُ لُغَةِ الْفِقْهِ:

59- فَضْلاً عَنْ أَثَرِ ذَلِكَ فِي الْإِفَادَةِ مِنْ الْمَرَاجِعِ الْفِقْهِيَّةِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي اسْتُمِدَّتْ مِنْهَا مَعْلُومَاتُ الْمَوْسُوعَةِ، فَإِنَّهُ تُسْتَكْمَلُ فِي هَذَا الْمُلْحَقِ مَعَانِي الْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةُ الَّتِي يَكْثُرُ تَدَاوُلُ الْفُقَهَاءِ لَهَا، فَيُوَضَّحُ مُرَادُهُمْ مِنْهَا لَا سِيَّمَا حَيْثُ يَنْحَصِرُ اخْتِيَارُهُمْ فِي أَحَدِ مَعَانِي اللَّفْظِ، أَوْ يَكُونُ مُشْتَرَكًا فَيَصْطَلِحُونَ عَلَى صَرْفِ لَفْظِهِ إِلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ. وَمَعْرِفَةُ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ لَا تُوَفَّى حَقَّهَا إِلاَّ بِتَنَاوُلِ لُغَةِ الْفِقْهِ عُمُومًا بِصُورَةٍ جَامِعَةٍ لِمَا تَفَرَّقَ وَتَكَرَّرَ فِي الْمُؤَلَّفَاتِ الَّتِي وُضِعَتْ لِأَهْلِ كُلِّ مَذْهَبٍ لِتَحْقِيقِ هَذَا الْغَرَضِ، فَكَانَتْ مَعَاجِمُ لُغَوِيَّةٌ مُتَخَصِّصَةٌ، كَالْمُغْرِبِ لِلْمُطَرِّزِيِّ وَطِلْبَةِ الطَّلَبَةِ لِلنَّسَفِيِّ (لِلْحَنَفِيَّةِ) وَكَالزَّاهِرِ لِلْأَزْهَرِيِّ وَالْمِصْبَاحِ لِلْفَيُّومِيِّ، وَغَيْرِهِمَا (لِلشَّافِعِيَّةِ) وَكَالْمَطْلَعِ لِلْبَعْلِيِّ (لِلْحَنَابِلَةِ) وَتَنْبِيهُ الطَّالِبِ لِفَهْمِ ابْنِ الْحَاجِبِ لِلْأُمَوِيِّ التُّونِسِيِّ (لِلْمَالِكِيَّةِ) وَغَيْرِهَا، وَهِيَ مَطْبُوعَةٌ مُتَدَاوَلَةٌ إِلاَّ الْأَخِيرَ.

وَسَيَكُونُ فِي عِدَادِ مَا يَتَضَمَّنُهُ الْمُلْحَقُ أَيْضًا الْأَلْفَاظُ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا الْفُقَهَاءُ كَتَعَابِيرَ اصْطِلَاحِيَّةٍ وَصِيَغٍ مُتَدَاوَلَةٍ، لَيْسَ لِلْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ نَفْسِهَا، بَلْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَرْتَبَةِ الْحُكْمِ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِبَارُ وَالرُّجْحَانُ، كَالْمُفْتَى بِهِ وَالْمُخْتَارِ وَالصَّحِيحِ.. فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ الظَّاهِرُ وَاضِحًا، فَإِنَّهُ بِمَا وُضِعَ لَهُ مِنْ دَلَالَاتٍ خَاصَّةٍ يُعْتَبَرُ مِنْ غَرِيبِ لُغَةِ الْفِقْهِ الْمُحْتَاجِ لِلْبَيَانِ.

خُطَّةُ كِتَابَةِ الْمَوْسُوعَةِ:

60- لَا بُدَّ لِأَيِّ مَوْسُوعَةٍ مِنْ خُطَّةٍ تَتَرَسَّمُهَا فِي تَحْقِيقِ أَهْدَافِهَا وَالْحِفَاظِ عَلَى أَهَمِّ خَصَائِصِهَا، وَهِيَ الْوَحْدَةُ وَالتَّنَاسُقُ. وَبَيَانُ الْخُطَّةِ الْمُسْتَهْدَى بِهَا فِي الْكِتَابَةِ أَمْرٌ فِي غَايَةِ الْأَهَمِّيَّةِ، لِأَنَّهُ يُنِيرُ السَّبِيلَ لِلِاسْتِفَادَةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ الْمَوْسُوعَةِ، كَمَا يُعِينُ عَلَى التَّعَرُّفِ إِلَى طَابَعِهَا الْعَامِّ.

وَتَجْدُرُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ هُنَاكَ خُطَطًا أُخْرَى ثَانَوِيَّةً نَدَعُ الْحَدِيثَ عَنْهَا لِأَنَّهَا لَا تَعْدُو أَنْ تَكُونَ مِنْ قَبِيلِ النَّهْجِ الْمَسْلُوكِ فِي إِعْدَادِ الْمَوْسُوعَةِ، وَهِيَ وَسَائِلُ تَتَعَدَّدُ وَتَتَطَوَّرُ. كَمَا نَتْرُكُ الْحَدِيثَ عَنْ الْخُطَّةِ الشَّكْلِيَّةِ لِلْإِخْرَاجِ الْمَوْسُوعِيِّ لِأَنَّهَا مَشْهُودَةٌ بِالنَّظَرِ، وَجَارِيَةٌ عَلَى السَّنَنِ الْمَعْهُودِ فِي تَحْقِيقِ النُّصُوصِ وَأُصُولِ الْإِخْرَاجِ.

وَنُورِدُ هُنَا إِيضَاحًا لِلْخُطَّةِ الْمُلْتَزَمَةِ فِي كِتَابَةِ هَذِهِ الْمَوْسُوعَةِ- فَضْلاً عَمَّا سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا- تَبَعًا لِعَنَاصِرِهَا التَّالِيَةِ: تَرْتِيبُ الْمَوْسُوعَةِ، تَصْنِيفُ الْمُصْطَلَحَاتِ، عَرْضُ الِاتِّجَاهَاتِ، الْأُسْلُوبُ وَالْمَرَاجِعُ، الْأَدِلَّةُ وَالتَّخْرِيجُ.

تَرْتِيبُ الْمَوْسُوعَةِ الْأَلِفْبَائِيِّ:

61- إِنَّ اخْتِيَارَ تَقْدِيمِ الْمَعْلُومَاتِ فِي الْمَوْسُوعَةِ مِنْ خِلَالِ مُصْطَلَحَاتٍ (أَلْفَاظٍ عُنْوَانِيَّةٍ مُتَعَارَفٍ عَلَى ارْتِبَاطِهَا بِمَدْلُولَاتٍ عِلْمِيَّةٍ خَاصَّةٍ) ثُمَّ تَرْتِيبَهَا أَلِفْبَائِيًّا (عَلَى حُرُوفِ الْهِجَاءِ) يُحَقِّقُ أَهَمَّ خَصَائِصِ الْمَوْسُوعَةِ، وَهُوَ سُهُولَةُ التَّرْتِيبِ وَاسْتِقْرَارُهُ، بِحَيْثُ يَزُولُ الِاضْطِرَابُ النَّاشِئُ عَنْ اخْتِلَافِ أَنْظَارِ الْمُؤَلِّفِينَ الْقُدَامَى فِي تَحْدِيدِ الْمَوْقِعِ الْمُنَاسِبِ لِلْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي تَتَجَاذَبُهَا أَبْوَابٌ شَتَّى، بَلْ امْتَدَّ الِاخْتِلَافُ إِلَى تَرْتِيبِ الْأَبْوَابِ نَفْسِهَا مَا بَيْنَ مَذْهَبٍ وَآخَرَ وَفِي الْمَذْهَبِ الْوَاحِدِ. وَالْتِزَامُ التَّرْتِيبِ الْأَلِفْبَائِيِّ يُزِيلُ الِاضْطِرَابَ وَيُيَسِّرُ الْبَحْثَ لِغَيْرِ الْمُخْتَصِّ.

وَيُنْظَرُ إِلَى الْمُصْطَلَحَاتِ عِنْدَ تَرْتِيبِهَا إِلَى حَالَتِهَا الرَّاهِنَةِ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهَا- بِحَسَبِ الِاشْتِقَاقِ- قَدْ دَخَلَتْ حُرُوفٌ زَائِدَةٌ عَلَى لَفْظِهِ الْأَصْلِيِّ الْمُجَرَّدِ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا كَذَلِكَ أَيْسَرُ لِلْكَشْفِ عَنْهَا، وَلِأَنَّ كُلَّ لَفْظٍ مِنْ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ صَارَ لَقَبًا مُلَازِمًا لِلْمَسْأَلَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِهِ، وَقَدْ لُوحِظَ مَا فِي الطُّرُقِ الْمُخْتَلِفَةِ لِتَرْتِيبِ بَعْضِ الْحُرُوفِ، فَرُوعِيَ تَغْلِيبُ جَانِبِ النُّطْقِ فِي اعْتِبَارِهَا، لِأَنَّهُ الْأَصْلُ الَّذِي تَسْتَنِدُ إِلَيْهِ الْكِتَابَةُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، كَمَا رُوعِيَ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُرَكَّبَةِ تَرْتِيبُ الْأَجْزَاءِ الْأُولَى ثُمَّ الِالْتِفَاتُ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا أَيْضًا (كَمَا فِي لَفْظِ «صَلَاةٍ» وَمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ). وَهُوَ مَا يُدْعَى: «النِّظَامَ الْكَلِمِيَّ لَا الْحَرْفِيَّ»، وَقُدِّمَ اللَّفْظُ «الْخَالِي أَوَّلاً» حِينَ تَزِيدُ حُرُوفُ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ عَنْ الْآخَرِ بَعْدَ التَّمَاثُلِ.

62- تَصْنِيفُ الْمُصْطَلَحَاتِ الْفِقْهِيَّةِ:

وَلِزِيَادَةِ إِيضَاحِ الْمَقْصُودِ بِالْمُصْطَلَحَاتِ نُشِيرُ إِلَى أَنَّهَا تِلْكَ الْأَلْفَاظُ الْعُنْوَانِيَّةُ الَّتِي اسْتَعْمَلَهَا الْفُقَهَاءُ لِمَعْنًى خَاصٍّ زَائِدٍ عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الْأَصْلِيِّ، أَوْ قَصَرُوهَا عَلَى أَحَدِ الْمَعَانِي الْمُرَادَةِ مِنْ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ، أَوِ اعْتَبَرُوهَا لَقَبًا لِلْمَسْأَلَةِ. وَمِنْهَا جَمِيعُ الْعَنَاوِينِ التَّبْوِيبِيَّةِ الْمُلَازِمَةِ لِمَوْضُوعٍ كُلِّيٍّ أَوْ جُزْئِيٍّ لَهُ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ.

وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا خَلَا عَنْ أَحَدِ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَتَرَدَّدَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْبِيرَاتِ الَّتِي تَتَعَاقَبُ لِبَيَانِ الْمَعَانِي، فَإِذَا حَلَّ أَحَدُهَا مَحَلَّ الْآخَرِ لَمْ يَخْتَلَّ الْقَصْدُ الْعِلْمِيُّ الْخَاصُّ مِنْ اخْتِيَارِ اللَّفْظِ.

وَالْمُصْطَلَحَاتُ لَهَا تَرْتِيبٌ وَاحِدٌ يَنْتَظِمُهَا مَهْمَا كَانَتْ صِيغَتُهَا وَمِقْدَارُ بَيَانِهَا، فَوَحْدَةُ التَّرْتِيبِ هِيَ الْمُحَقِّقَةُ لِلسُّهُولَةِ وَالْيُسْرِ، إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَصْنِيفِ الْمُصْطَلَحَاتِ فِيمَا بَيْنَهَا- لِنَاحِيَةٍ تَنْظِيمِيَّةٍ- تَبَعًا لِمِقْدَارِ بَيَانِهَا وَارْتِكَازِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، فَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: مُصْطَلَحَاتٌ أَصْلِيَّةٌ، وَمُصْطَلَحَاتُ إِحَالَةٍ، وَمُصْطَلَحَاتُ دَلَالَةٍ، وَإِلَيْكَ إِيضَاحُهَا:

أ- الْمُصْطَلَحَاتُ الْأَصْلِيَّةُ:

63- وَهِيَ الَّتِي يُسْتَوْفَى بَيَانُهَا بِالتَّفْصِيلِ بِمُجَرَّدِ أَنْ تُذْكَرَ (وَيُسْتَعَانُ لِتَفْصِيلِ أَحْكَامِهَا بِذِكْرِهَا ضِمْنَ عَنَاوِينَ عَدِيدَةٍ مُرَتَّبَةٍ مَوْضُوعِيًّا) وَذَلِكَ لِكَوْنِ اللَّفْظِ هُوَ الْمَظِنَّةُ الْوَحِيدَةُ- أَوِ الْغَالِبَةُ- لِاسْتِخْرَاجِ بَيَانَاتِ الْمَوْضُوعِ حَيْثُ لَا يَنْدَرِجُ تَحْتَ غَيْرِهِ كَجُزْءٍ تَابِعٍ لَا يَحْسُنُ إِفْرَادُهُ عَنْهُ.

وَالْأَصْلُ فِي اعْتِبَارِ الْمُصْطَلَحِ أَصْلِيًّا أَنْ يَكُونَ جَدِيرًا بِالِاسْتِقْلَالِ وَاسْتِجْمَاعِ بَيَانَاتِهِ فِي مَوْطِنٍ وَاحِدٍ لَيْسَ لَهُ مُنَازِعٌ، وَلَا عَلَاقَةَ لِذَلِكَ بِالْكَمِّيَّةِ بَلْ الْعِبْرَةُ بِأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَوْطِنٌ أَلْيَقُ بِانْدِرَاجِهِ ضِمْنَهُ وَتَفْصِيلِهِ فِيهِ.

أَمَّا إِيثَارُ لَفْظٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْمَوْضُوعِ الْمُتَعَدِّدَةِ لِتُرْبَطَ بِهِ الْبَيَانَاتُ الْمُفَصَّلَةُ فَمَرَدُّهُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مُفْرَدًا (كَالْحَجِّ، وَالْبَيْعِ، وَالشَّرِكَةِ) سَوَاءٌ أَكَانَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَصَرُّفٍ أَمْ وَاقِعَةٍ عِبَادِيَّةٍ أَوْ تَعَامُلِيَّةٍ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُصْطَلَحُ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَشْيَاءِ وَالذَّوَاتِ، وَلَا يُعْدَلُ عَنْ الْمَصْدَرِ أَوِ الْمُفْرَدِ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ وَصْفٍ أَوْ جَمْعٍ إِلاَّ إِذَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْغَالِبَ فِي اسْتِعْمَالَاتِ الْفُقَهَاءِ، أَوْ كَانَ لَهُ دَلَالَةٌ خَاصَّةٌ مُرَادَةٌ لَا تَحْصُلُ بِالْمَصْدَرِ أَوِ الْمُفْرَدِ (كَالشَّهِيدِ، وَالْأَيْمَانِ).

وَالِالْتِزَامُ بِتَفْصِيلِ مَا يَتَّصِلُ بِالْمُصْطَلَحِ الْأَصْلِيِّ لَا يَمْنَعُ مِنْ إِحَالَةِ التَّفْصِيلِ لِبَعْضِ بَيَانَاتِهِ إِلَى مُصْطَلَحٍ أَصْلِيٍّ آخَرَ فِيمَا يَتَكَرَّرُ اعْتِبَارُهُ فِيهِمَا، كَشُرُوطِ التَّعَاقُدِ مَثَلاً وَأَهْلِيَّةِ التَّكْلِيفِ. وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ لِعَدَدٍ مِنْ الْمُصْطَلَحَاتِ الْأَصْلِيَّةِ مُصْطَلَحٌ يَشْمَلُهَا كُلَّهَا كَمُصْطَلَحِ عَقْدٍ، أَوْ مُعَاوَضَةٍ، وَنَحْوِهَا.

وَكِتَابَةُ الْمُصْطَلَحَاتِ الْأَصْلِيَّةِ يَسْبِقُهَا التَّخْطِيطُ التَّفْصِيلِيُّ لِلْمُصْطَلَحِ بِالصُّورَةِ الَّتِي يُؤْمَنُ مَعَهَا مِنْ التَّكْرَارِ الْمَحْضِ وَالتَّدَاخُلِ إِلاَّ بِالْقَدْرِ الَّذِي لَا يَحْرِمُ الْمُسْتَفِيدَ مِنْ الْإِلْمَامِ الضَّرُورِيِّ بِمَا يَتَّصِلُ بِالْمَوْضُوعِ، كَمَا يُضْمَنُ مَعَهُ عَدَمُ الْإِخْلَالِ بِمَسَائِلِ الْفِقْهِ الْأَسَاسِيَّةِ الَّتِي تَتْبَعُ ذَلِكَ الْمُصْطَلَحَ.. وَعَنَاصِرُ هَذِهِ الْمُخَطَّطَاتِ تَتَحَوَّلُ بَعْدَ الْإِنْجَازِ إِلَى عَنَاوِينَ تَأْخُذُ مَوْطِنَهَا فِي فِهْرِسِ الْمُجَلَّدِ.

ب- الْمُصْطَلَحَاتُ الْفَرْعِيَّةُ (الْإِحَالَاتُ):

64- وَهِيَ الْمُصْطَلَحَاتُ الَّتِي أُجْمِلَ بَيَانُهَا فِي صُورَةِ (عُجَالَاتٍ) تَتَضَمَّنُ: «التَّعْرِيفَ» بِالْمُصْطَلَحِ لُغَةً وَشَرْعًا وَتَمْيِيزَهُ عَنْ الْأَلْفَاظِ ذَاتِ الصِّلَةِ بِهِ، ثُمَّ بَيَانَ «الْحُكْمِ الْإِجْمَالِيِّ» لَهُ، وَقَدْ يَتَضَمَّنُ الْإِشَارَةَ إِلَى الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَتَّبِعُهَا دُونَ التَّوَسُّعِ فِي الْأَدِلَّةِ أَوِ الْمَرَاجِعِ، وَأَخِيرًا الْإِرْشَادَ إِلَى «مَوَاطِنِ الْبَحْثِ» التَّفْصِيلِيِّ لَهُ، بِحَسَبِ الْمَعْهُودِ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَرَاجِعِ الْأَصْلِيَّةِ (وَهُوَ الْغَالِبُ حِينَ يَكُونُ الْمُصْطَلَحُ الْوَاجِبُ الْإِحَالَةُ إِلَيْهِ لَمْ تَتِمَّ مَرَاحِلُ إِنْجَازِهِ، أَوْ لَا يُجْزَمُ بِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْبَيَانِ الْمَوْعُودِ بِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَقْتَضِيَ التَّنْسِيقُ خِلَافَهُ) عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْطِنَ الْمَعْهُودَ لِلْفُقَهَاءِ لَا بُدَّ أَنْ يُؤْخَذَ بِالِاعْتِبَارِ فِي مُصْطَلَحَاتِ الْمَوْسُوعَةِ. وَيُشَارُ أَيْضًا إِلَى مَوْطِنِ بَحْثِهِ فِي الْمَوْسُوعَةِ كُلَّمَا أَمْكَنَ ذَلِكَ.

وَاسْتِخْدَامُ طَرِيقَةِ (الْإِحَالَاتِ) لَمْ يَكُنْ مِنْهُ بُدٌّ لِتَحْقِيقِ أَمْرَيْنِ:

(1) تَحَاشِي التَّكْرَارِ لِلْبَيَانَاتِ الْوَاحِدَةِ عَنْ الْمُصْطَلَحِ، مَرَّةً مُسْتَقِلًّا وَمَرَّةً مُنْدَرِجًا ضِمْنَ أَصْلِهِ مَعَ أَشْبَاهِهِ وَنَظَائِرِهِ.. فَاخْتِيرَ التَّعْجِيلُ فِي أَحَدِ الْمَوْطِنَيْنِ بِبَيَانَاتٍ إِجْمَالِيَّةٍ: إِمَّا أَنْ يُكْتَفَى بِهَا وَإِمَّا أَنْ تُمَهِّدَ لِلتَّفْصِيلِ الْوَارِدِ فِي الْمَوْطِنِ الْآخَرِ (الْأَوْلَى بِذَلِكَ).

(2) مُرَاعَاةُ حَاجَةِ غَيْرِ الْمُخْتَصِّ فِي إِسْعَافِهِ بِمَطْلَبِهِ سَوَاءٌ اتَّجَهَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْأَصْلِ أَوِ الْفَرْعِ بَدَلاً مِنْ إِهْدَارِ بَعْضِ الِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي قَدْ تَتَكَافَأُ فَيُعْذَرُ فِي انْصِرَافِ ذِهْنِهِ إِلَى أَحَدِهَا.

ج- مُصْطَلَحَاتُ الدَّلَالَةِ:

65- وَهِيَ الْمُصْطَلَحَاتُ الَّتِي جِيءَ بِهَا لِمُجَرَّدِ الْإِرْشَادِ إِلَى الْمَوْطِنِ الَّذِي اخْتِيرَ لِبَحْثِ الْمَوْضُوعِ، فَهِيَ بَدَائِلُ عَنْ أَحَدِ الْأَلْفَاظِ الْأَصْلِيَّةِ أَوِ الْمُحَالَةِ، مِنْ قَبِيلِ الْمُرَادِفَاتِ (كَالْقِرَاضِ مَعَ الْمُضَارَبَةِ، وَالْكِرَاءِ مَعَ الْإِجَارَةِ) أَوْ بَقِيَّةِ الْمُشْتَقَّاتِ الَّتِي جُعِلَ أَحَدُهَا مُرْتَكَزًا لِلْمَوْضُوعِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


192-موسوعة الفقه الكويتية (أجل 1)

أَجَلٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- أَجَلُ الشَّيْءِ لُغَةً: مُدَّتُهُ وَوَقْتُهُ الَّذِي يَحُلُّ فِيهِ، وَهُوَ مَصْدَرُ أَجِلَ الشَّيْءُ أَجَلًا مِنْ بَابِ تَعِبَ، وَأَجَّلْتُهُ تَأْجِيلًا جَعَلْتُ لَهُ أَجَلًا، وَالْآجِلُ- عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ- خِلَافُ الْعَاجِلِ.

إِطْلَاقَاتُ الْأَجَلِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى:

2- وَرَدَ إِطْلَاقُ الْأَجَلِ عَلَى أُمُورٍ:

أ- عَلَى نِهَايَةِ الْحَيَاةِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}.

ب- وَعَلَى نِهَايَةِ الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ أَجَلًا لِانْتِهَاءِ الْتِزَامٍ أَوْ لِأَدَائِهِ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}

ج- وَعَلَى الْمُدَّةِ أَوِ الزَّمَنِ.قَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}.

الْأَجَلُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ:

3- الْأَجَلُ هُوَ الْمُدَّةُ الْمُسْتَقْبَلَةُ الَّتِي يُضَافُ إِلَيْهَا أَمْرٌ مِنَ الْأُمُورِ، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ أَجَلًا لِلْوَفَاءِ بِالْتِزَامٍ، أَوْ أَجَلًا لِإِنْهَاءِ الْتِزَامٍ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ مُقَرَّرَةً بِالشَّرْعِ، أَوْ بِالْقَضَاءِ، أَوْ بِإِرَادَةِ الْمُلْتَزِمِ فَرْدًا أَوْ أَكْثَرَ.

وَهَذَا التَّعْرِيفُ يَشْمَلُ:

أَوَّلًا: الْأَجَلَ الشَّرْعِيَّ، وَهُوَ الْمُدَّةُ الْمُسْتَقْبَلَةُ الَّتِي حَدَّدَهَا الْمُشَرِّعُ الْحَكِيمُ سَبَبًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، كَالْعِدَّةِ.

ثَانِيًا: الْأَجَلَ الْقَضَائِيَّ: وَهُوَ الْمُدَّةُ الْمُسْتَقْبَلَةُ الَّتِي يُحَدِّدُهَا الْقَضَاءُ أَجَلًا لِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ كَإِحْضَارِ الْخَصْمِ، أَوِ الْبَيِّنَةِ.

ثَالِثًا: الْأَجَلَ الِاتِّفَاقِيَّ، وَهُوَ الْمُدَّةُ الْمُسْتَقْبَلَةُ الَّتِي يُحَدِّدُهَا الْمُلْتَزِمُ مَوْعِدًا لِلْوَفَاءِ بِالْتِزَامِهِ (أَجَلُ الْإِضَافَةِ)، أَوْ لِإِنْهَاءِ تَنْفِيذِ هَذَا الِالْتِزَامِ (أَجَلُ التَّوْقِيتِ) سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِيمَا يَتِمُّ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ بِإِرَادَةٍ مُنْفَرِدَةٍ أَوْ بِإِرَادَتَيْنِ.

خَصَائِصُ الْأَجَلِ:

4- أ- (الْأَجَلُ هُوَ زَمَنٌ مُسْتَقْبَلٌ)

ب- الْأَجَلُ هُوَ أَمْرٌ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ.وَتِلْكَ خَاصِّيَّةُ الزَّمَنِ، وَفِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ يَقُولُ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: «إِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِضَافَةِ تَأْخِيرُ الْحُكْمِ الْمُسَبَّبِ إِلَى وُجُودِ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي هُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، إِذِ الزَّمَانُ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ، فَالْإِضَافَةُ إِلَيْهِ إِضَافَةٌ إِلَى مَا قُطِعَ بِوُجُودِهِ».

ج- الْأَجَلُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَصْلِ التَّصَرُّفِ.وَذَلِكَ يُحَقِّقُهُ أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ قَدْ تَتِمُّ مُنَجَّزَةً، وَتَتَرَتَّبُ أَحْكَامُهَا عَلَيْهَا فَوْرَ صُدُورِ التَّصَرُّفِ، وَلَا يَلْحَقُهَا تَأْجِيلٌ، وَقَدْ يَلْحَقُهَا الْأَجَلُ، كَتَأْجِيلِ الدَّيْنِ، أَوِ الْعَيْنِ أَوْ تَأْجِيلِ تَنْفِيذِ آثَارِ الْعَقْدِ (فِيمَا يَصِحُّ فِيهِ ذَلِكَ) قَالَ السَّرَخْسِيُّ وَالْكَاسَانِيُّ مَا حَاصِلُهُ: إِنَّ الْأَجَلَ يُعْتَبَرُ أَمْرًا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَإِنَّمَا شُرِعَ رِعَايَةً لِلْمَدِينِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

التَّعْلِيقُ:

5- هُوَ لُغَةً: رَبْطُ أَمْرٍ بِآخَرَ.وَاصْطِلَاحًا: أَنْ يُرْبَطَ أَثَرُ تَصَرُّفٍ بِوُجُودِ أَمْرٍ مَعْدُومٍ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّعْلِيقِ وَالْأَجَلِ أَنَّ التَّعْلِيقَ يَمْنَعُ الْمُعَلَّقَ عَنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْحُكْمِ فِي الْحَالِ، أَمَّا الْأَجَلُ فَلَا صِلَةَ لَهُ بِالسَّبَبِ وَإِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ زَمَنِ فِعْلِ التَّصَرُّفِ.

الْإِضَافَةُ:

6- هِيَ لُغَةً: نِسْبَةُ الشَّيْءِ إِلَى الشَّيْءِ مُطْلَقًا.وَاصْطِلَاحًا: تَأْخِيرُ أَمْرِ التَّصَرُّفِ عَنْ وَقْتِ التَّكَلُّمِ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ يُحَدِّدُهُ الْمُتَصَرِّفُ بِغَيْرِ أَدَاةِ شَرْطٍ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِضَافَةِ وَالْأَجَلِ أَنَّ الْإِضَافَةَ فِيهَا تَصَرُّفٌ وَأَجَلٌ، فِي حِينِ أَنَّ الْأَجَلَ قَدْ يَخْلُو مِنْ إِيقَاعِ تَصَرُّفٍ.فَفِي كُلِّ إِضَافَةٍ أَجَلٌ.

التَّوْقِيتُ:

7- هُوَ لُغَةً: تَقْدِيرُ زَمَنِ الشَّيْءِ.وَاصْطِلَاحًا ثُبُوتُ الشَّيْءِ فِي الْحَالِ وَانْتِهَاؤُهُ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ.

فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَجَلِ أَنَّ الْأَجَلَ وَقْتٌ مَضْرُوبٌ مَحْدُودٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.

الْمُدَّةُ:

8- بِاسْتِقْصَاءِ مَا يُوجَدُ فِي الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ نَجِدُ أَنَّ لِلْمُدَّةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ اسْتِعْمَالَاتٍ أَرْبَعَةً: هِيَ مُدَّةُ الْإِضَافَةِ، وَمُدَّةُ التَّوْقِيتِ، وَمُدَّةُ التَّنْجِيمِ، وَمُدَّةُ الِاسْتِعْجَالِ.

وَبَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:

مُدَّةُ الْإِضَافَةِ:

9- وَهِيَ الْمُدَّةُ الْمُسْتَقْبَلَةُ الَّتِي يُضَافُ إِلَيْهَا ابْتِدَاءً تَنْفِيذُ آثَارِ الْعَقْدِ، أَوْ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ، أَوْ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ (لِلدَّيْنِ).

فَمِثَالُ الْأَوَّلِ مَا إِذَا قَالَ: «إِذَا جَاءَ عِيدُ الْأَضْحَى فَقَدْ وَكَّلْتُكَ فِي شِرَاءِ أُضْحِيَةٍ لِي» فَقَدْ أَضَافَ عَقْدَ الْوَكَالَةِ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَقَدْ صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِصِحَّةِ ذَلِكَ.

وَمِثَالُ الثَّانِي: مَا جَاءَ فِي السَّلَمِ، مِنْ إِضَافَةِ الْعَيْنِ الْمُسْلَمِ فِيهَا إِلَى زَمَنٍ مَعْلُومٍ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ أَوْ وَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ».

وَمِثَالُ الثَّالِثِ: مَا إِذَا بَاعَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}.

مُدَّةُ التَّوْقِيتِ:

10- وَهِيَ الْمُدَّةُ الْمُسْتَقْبَلَةُ الَّتِي يَسْتَمِرُّ فِيهَا تَنْفِيذُ الِالْتِزَامِ حَتَّى انْقِضَائِهَا، وَذَلِكَ كَمَا فِي الْعُقُودِ الْمُؤَقَّتَةِ، كَمَا فِي الْإِجَارَةِ، فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ إِلاَّ عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، أَوْ عَلَى عَمَلٍ مُعَيَّنٍ يَتِمُّ فِي زَمَنٍ، وَبِانْتِهَائِهَا يَنْتَهِي عَقْدُ الْإِجَارَةِ وَمُدَّةُ عَقْدِ الْإِجَارَةِ تُعْتَبَرُ أَجَلًا.مِصْدَاقَ ذَلِكَ قوله تعالى {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيُّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} كَمَا أَنَّ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ تَجْعَلُ «التَّأْجِيلَ تَحْدِيدَ الْوَقْتِ» «وَالتَّوْقِيتَ تَحْدِيدَ الْأَوْقَاتِ، يُقَالُ: وَقَّتَهُ لِيَوْمِ كَذَا تَوْقِيتًا مِثْلَ أَجَّلَ».

مُدَّةُ التَّنْجِيمِ:

11- جَاءَ فِي مُخْتَارِ الصِّحَاحِ: النَّجْمُ لُغَةً الْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمُنَجَّمُ، وَيُقَالُ: نَجَّمَ الْمَالَ تَنْجِيمًا إِذَا أَدَّاهُ نُجُومًا (أَقْسَاطًا)، وَالتَّنْجِيمُ اصْطِلَاحًا هُوَ «التَّأْخِيرُ لِأَجَلٍ مَعْلُومٍ، نَجْمًا أَوْ نَجْمَيْنِ» أَوْ هُوَ «الْمَالُ الْمُؤَجَّلُ بِأَجَلَيْنِ فَصَاعِدًا، يَعْلَمُ قِسْطَ كُلِّ نَجْمٍ وَمُدَّتَهُ مِنْ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا» فَالتَّنْجِيمُ نَوْعٌ مِنَ الْأَجَلِ يَرِدُ عَلَى الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ فَيُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ بَعْضِهِ عِنْدَ زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ يَلِيهِ الْبَعْضُ الْآخَرُ لِزَمَنٍ آخَرَ مَعْلُومٍ يَلِي الزَّمَنَ الْأَوَّلَ وَهَكَذَا.

وَمِنْ بَيْنِ مَا بَرَزَ فِيهِ التَّنْجِيمُ:

أ- دَيْنُ الْكِتَابَةِ: فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ تَنْجِيمِ مَالِ الْكِتَابَةِ. (وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابَةِ اتِّفَاقُ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ عَلَى مَالٍ يَنَالُ الْعَبْدُ نَظِيرَهُ حُرِّيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي الْحَالِ، وَالرَّقَبَةِ فِي الْمَآلِ، بَعْدَ أَدَاءِ الْمَالِ)، وَاخْتَلَفُوا فِي لُزُومِ ذَلِكَ، فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الرَّاجِحِ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَكُونُ إِلاَّ بِمَالٍ مُؤَجَّلٍ مُنَجَّمٍ، وَسَيَأْتِي التَّعَرُّضُ لِذَلِكَ فِي الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ.وَالْفِقْهُ الْإِسْلَامِيُّ يَجْعَلُ التَّنْجِيمَ نَوْعًا مِنَ الْأَجَلِ.

ب- الدِّيَةُ فِي الْقَتْلِ شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ: تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الْقَتْلِ شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُؤَجَّلَةً مُنَجَّمَةً عَلَى ثَلَاثِ سَنَوَاتٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَهَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

ج- الْأُجْرَةُ: جَاءَ فِي الْمُغْنِي أَنَّهُ «إِذَا شَرَطَ تَأْجِيلَ الْأَجْرِ فَهُوَ إِلَى أَجَلِهِ، وَإِنْ شَرَطَهُ مُنَجَّمًا يَوْمًا يَوْمًا، أَوْ شَهْرًا شَهْرًا، أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ، فَهُوَ عَلَى مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إِجَارَةَ الْعَيْنِ كَبَيْعِهَا، وَبَيْعُهَا يَصِحُّ بِثَمَنٍ حَالٍّ أَوْ مُؤَجَّلٍ، فَكَذَلِكَ إِجَارَتُهَا».

مُدَّةُ الِاسْتِعْجَالِ:

12- الْمُرَادُ بِهَا: الْوَقْتُ الَّذِي يُقْصَدُ بِذِكْرِهِ فِي الْعَقْدِ اسْتِعْجَالُ آثَارِ الْعَقْدِ، وَذِكْرُ الْوَقْتِ لِلِاسْتِعْجَالِ تَعَرَّضَ لَهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِجَارَةِ، فَقَالُوا إِنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى ضَرْبَيْنِ.أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْقِدَهَا عَلَى مُدَّةٍ.وَالثَّانِي: أَنْ يَعْقِدَهَا عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ، وَمَتَى تَقَدَّرَتِ الْمُدَّةُ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيرُ الْعَمَلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا يُزِيدُ الْإِجَارَةَ غَرَرًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَفْرُغُ مِنَ الْعَمَلِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ.فَإِنِ اسْتُعْمِلَ فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ فَقَدْ زَادَ عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ كَانَ تَارِكًا لِلْعَمَلِ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ، وَقَدْ لَا يَفْرُغُ مِنَ الْعَمَلِ فِي الْمُدَّةِ، فَإِنْ أَتَمَّهُ عَمِلَ فِي غَيْرِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْهُ لَمْ يَأْتِ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، وَهَذَا غَرَرٌ، أَمْكَنَ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ، فَلَمْ يَجُزِ الْعَقْدُ مَعَهُ.

وَيَرَى أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ تَجُوزُ الْإِجَارَةُ هُنَا؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ مَعْقُودَةٌ عَلَى الْعَمَلِ، وَالْمُدَّةُ مَذْكُورَةٌ لِلتَّعْجِيلِ فَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ.فَعَلَى هَذَا إِذَا فَرَغَ مِنَ الْعَمَلِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ، كَمَا لَوْ قَضَى الدَّيْنَ قَبْلَ أَجَلِهِ، وَإِنْ مَضَتِ الْمُدَّةُ قَبْلَ الْعَمَلِ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ فَسْخُ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ لَمْ يَفِ لَهُ بِشَرْطِهِ، وَإِنْ رَضِيَ بِالْبَقَاءِ عَلَيْهِ لَمْ يَمْلِكِ الْأَجِيرُ الْفَسْخَ؛ لِأَنَّ الْإِخْلَالَ بِالشَّرْطِ مِنْهُ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ وَسِيلَةً إِلَى الْفَسْخِ، كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ أَدَاءُ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي وَقْتِهِ فَيَمْلِكُ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ الْفَسْخَ.وَيَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُ، فَإِنِ اخْتَارَ إِمْضَاءَ الْعَقْدِ طَالَبَهُ بِالْعَمَلِ لَا غَيْرَ، كَالْمُسْلِمِ إِذَا صَبَرَ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ إِلَى حِينِ وُجُودِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَكْثَرُ مِنَ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَإِنْ فَسَخَ الْعَقْدَ قَبْلَ عَمَلِ شَيْءٍ مِنَ الْعَمَلِ سَقَطَ الْأَجْرُ وَالْعَمَلُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ عَمَلِ شَيْءٍ مِنْهُ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدِ انْفَسَخَ فَسَقَطَ الْمُسَمَّى، وَرَجَعَ إِلَى أَجَلِ الْمِثْلِ. تَقْسِيمَاتُ الْأَجَلِ

بِاعْتِبَارِ مَصْدَرِهِ

يَنْقَسِمُ الْأَجَلُ بِاعْتِبَارِ مَصْدَرِهِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَجَلٍ شَرْعِيٍّ، وَأَجَلٍ قَضَائِيٍّ، وَأَجَلٍ اتِّفَاقِيٍّ.وَنَتَنَاوَلُ فِيمَا يَلِي التَّعْرِيفَ بِكُلِّ قِسْمٍ، وَذِكْرَ مَا يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ مِنْ أَنْوَاعٍ.جَاعِلِينَ لِكُلِّ قِسْمٍ فَصْلًا مُسْتَقِلًّا.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

الْأَجَلُ الشَّرْعِيُّ

الْأَجَلُ الشَّرْعِيُّ: هُوَ الْمُدَّةُ الَّتِي حَدَّدَهَا الشَّرْعُ الْحَكِيمُ سَبَبًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ.وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذَا النَّوْعِ الْآجَالُ الْآتِيَةُ:

مُدَّةُ الْحَمْلِ:

13- مُدَّةُ الْحَمْلِ هِيَ الزَّمَنُ الَّذِي يَمْكُثُهُ الْجَنِينُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَقَدْ بَيَّنَ الْفِقْهُ الْإِسْلَامِيُّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَأَكْثَرَهُ، وَقَدِ اسْتُنْبِطَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ مِمَّا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ أَنَّهُ: «رُفِعَ إِلَى عُمَرَ أَنَّ امْرَأَةً وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَهَمَّ عُمَرُ بِرَجْمِهَا، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: لَيْسَ لَكَ ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} فَحَوْلَانِ وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ ثَلَاثُونَ شَهْرًا، لَا رَجْمَ عَلَيْهَا.فَخَلَّى عُمَرُ سَبِيلَهَا، وَوَلَدَتْ مَرَّةً أُخْرَى لِذَلِكَ الْحَدِّ».كَمَا بَيَّنَ الْفِقْهُ الْإِسْلَامِيُّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ، فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ) أَنَّهَا أَرْبَعُ سَنَوَاتٍ.وَفِي رَأْيٍ لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا خَمْسُ سَنَوَاتٍ، وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهَا سَنَتَانِ.وَقَدْ جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ دَلِيلُهُ الِاسْتِقْرَاءُ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: «جَارَتُنَا امْرَأَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، امْرَأَةُ صِدْقٍ، وَزَوْجُهَا رَجُلُ صِدْقٍ، حَمَلَتْ ثَلَاثَةَ أَبْطُنٍ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، تَحْمِلُ كُلَّ بَطْنٍ أَرْبَعَ سِنِينَ».وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ غَيْرِ الْمَرْأَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقِيلَ إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ حَمَلَتْ أُمُّهُ بِهِ ثَلَاثَ سِنِينَ وَفِي صِحَّتِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ شَيْبَةَ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ سَنَتَانِ، فَكَيْفَ يُخَالِفُ مَا وَقَعَ فِي نَفْسِهِ؟ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: «وَهَذَا مُشْكِلٌ مَعَ كَثْرَةِ الْفَسَادِ فِي هَذَا الزَّمَانِ».

مُدَّةُ الْهُدْنَةِ:

14- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ مُوَادَعَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ، كَمَا «وَادَعَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَهْلَ مَكَّةَ». وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ دُونَ تَحْدِيدٍ، مَا دَامَتْ مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ.أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ، لقوله تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ}.وَيَرَى الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ مُهَادَنَةُ الْمُشْرِكِينَ أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، اسْتِنَادًا إِلَى مَا يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ.فَإِنْ هُودِنَ الْمُشْرِكُونَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَالْهُدْنَةُ مُنْتَقَضَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فَرْضُ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ.وَالتَّفْصِيلَاتُ فِي مُصْطَلَحِ (هُدْنَةٌ).

مُدَّةُ تَعْرِيفِ اللُّقَطَةِ:

15- مُدَّةُ تَعْرِيفِهَا ثَبَتَتْ بِالشَّرْعِ، وَالْأَصْلُ فِيهَا مَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ زَيْدٍ الْجُهَنِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ اللُّقَطَةِ الذَّهَبِ أَوِ الْوَرِقِ فَقَالَ: اعْرَفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً.فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ فَأَدِّهَا إِلَيْهِ.

وَسَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ، فَقَالَ: مَالَكَ وَلَهَا؟ دَعْهَا، فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا.وَسَأَلَهُ عَنِ الشَّاةِ فَقَالَ: خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ، أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ».رَوَاهُ مُسْلِمٌ.وَلِلْفُقَهَاءِ فِي الزِّيَادَةِ عَنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ أَوِ النَّقْصِ مِنْهَا حَسَبَ أَهَمِّيَّةِ الْمَالِ أَقْوَالٌ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ (لُقَطَةٌ).

مُدَّةُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ:

16- رَوَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَاجَهْ فِي السُّنَنِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» وَقَدِ اعْتُبِرَ الْحَوْلُ فِي زَكَاةِ السَّوَائِمِ، وَالْأَثْمَانِ (الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) وَقِيَمِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ.وَأَمَّا الزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ وَالْمَعْدِنُ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الْحَوْلُ.

مُدَّةُ تَأْجِيلِ الْعِنِّينِ:

17- إِذَا ثَبَتَتْ عُنَّةُ الزَّوْجِ ضَرَبَ الْقَاضِي لَهُ سَنَةً كَمَا فَعَلَ عُمَرُ- رضي الله عنه-، رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعُثْمَانَ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اتِّبَاعِ قَضَاءِ عُمَرَ- رضي الله عنه- فِي قَاعِدَةِ الْبَابِ.وَالْمَعْنَى فِيهِ مُضِيُّ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ الْجِمَاعِ قَدْ يَكُونُ لِعَارِضِ حَرَارَةٍ فَتَزُولُ فِي الشِّتَاءِ.أَوْ بُرُودَةٍ فَتَزُولُ فِي الصَّيْفِ، أَوْ يُبُوسَةٍ فَتَزُولُ فِي الرَّبِيعِ، أَوْ رُطُوبَةٍ فَتَزُولُ فِي الْخَرِيفِ.فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ، وَلَا إِصَابَةَ، عَلِمْنَا أَنَّهُ عَجْزٌ خِلْقِيٌّ.

مُدَّةُ الْإِمْهَالِ فِي الْإِيلَاءِ:

18- إِذَا آلَى الرَّجُلُ مِنْ زَوْجَتِهِ أُمْهِلَ وُجُوبًا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، لقوله تعالى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.فَإِنْ وَطِئَهَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَسَقَطَ الْإِيلَاءُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى مَضَتِ الْأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَانَتْ مِنْهُ بِتَطْلِيقَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ أَنَّهُ إِذَا انْقَضَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى بَيْنَ الْفَيْئَةِ وَالتَّكْفِيرِ، وَبَيْنَ الطَّلَاقِ لِلْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ.

مُدَّةُ الرَّضَاعِ:

19- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، أَنَّ مُدَّةَ الرَّضَاعِ الَّتِي إِذَا وَقَعَ الرَّضَاعُ فِيهَا تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ سَنَتَانِ، لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} وَمُدَّةُ الْحَمْلِ أَدْنَاهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَبَقِيَ لِلْفِصَالِ حَوْلَانِ.وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا رَضَاعَ إِلاَّ مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَظَاهِرٌ «أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْأَحْكَامِ، وَقَالَ: لَمْ يُسْنِدْهُ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ إِلاَّ الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ حَافِظٌ» وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ مُدَّةَ الرَّضَاعِ ثَلَاثُونَ شَهْرًا؛ لقوله تعالى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} وَوَجْهُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ شَيْئَيْنِ وَضَرَبَ لَهُمَا مُدَّةً، فَكَانَتْ تِلْكَ الْمُدَّةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهَا، كَالْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ لِلدَّيْنَيْنِ عَلَى شَخْصَيْنِ، بِأَنْ قَالَ أَجَّلْتُ الدَّيْنَ الَّذِي لِي عَلَى فُلَانٍ، وَالدَّيْنَ الَّذِي لِي عَلَى فُلَانٍ سَنَةً، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ السَّنَةَ بِكَمَالِهَا لِكُلٍّ، وَكَالْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ لِلدَّيْنَيْنِ عَلَى شَخْصٍ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةُ أَقْفِزَةٍ إِلَى سَنَةٍ، فَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْأَجَلِ، فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ يَتِمُّ أَجَلُهُمَا جَمِيعًا، إِلاَّ أَنَّهُ قَامَ الْمُنَقِّصُ فِي أَحَدِهِمَا، يَعْنِي فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- الْوَلَدُ لَا يَبْقَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَلَوْ بِقَدْرِ فَلْكَةِ مِغْزَلٍ «وَفِي رِوَايَةٍ» وَلَوْ بِقَدْرِ ظِلِّ مِغْزَلٍ وَمِثْلُهُ مِمَّا لَا يُقَالُ إِلاَّ سَمَاعًا؛ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا الْعَقْلُ.وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «الْوَلَدُ لَا يَبْقَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ» فَتَبْقَى مُدَّةُ الْفِصَالِ عَلَى ظَاهِرِهَا.

وَيَرَى زُفَرُ أَنَّ مُدَّةَ الرَّضَاعِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلصَّبِيِّ مِنْ مُدَّةٍ يَتَعَوَّدُ فِيهَا غِذَاءً آخَرَ غَيْرَ اللَّبَنِ، لِيَنْقَطِعَ الْإِنْبَاتُ بِاللَّبَنِ، وَذَلِكَ بِزِيَادَةِ مُدَّةٍ يَتَعَوَّدُ فِيهَا الصَّبِيُّ تَغَيُّرَ الْغِذَاءِ، وَالْحَوْلُ حَسَنٌ لِلتَّحَوُّلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، فَقُدِّرَ بِثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ.

أَجَلُ الْعِدَّةِ:

20- الْعِدَّةُ أَجَلٌ ضَرَبَهُ الشَّرْعُ لِلْمُطَلَّقَةِ أَوِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَوْ مَنْ فُسِخَ نِكَاحُهَا.فَالْحَامِلُ فِي كُلِّ مَا ذُكِرَ عِدَّتُهَا وَضْعُ الْحَمْلِ.وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا- مَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا- عِدَّتُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أَمْ لَا.وَالْمُطَلَّقَةُ الْمَدْخُولُ بِهَا غَيْرُ الْحَامِلِ وَالْآيِسَةُ وَالصَّغِيرَةُ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ، عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْءِ أَهُوَ الطُّهْرُ أَمِ الْحَيْضُ، وَعِدَّةُ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَحِضْ وَالْآيِسَةُ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عِدَّةٌ). مُدَّةُ خِيَارِ الشَّرْطِ:

21- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ خِيَارِ الشَّرْطِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ هَذِهِ الْمُدَّةِ، فَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ خِيَارُ الشَّرْطِ فِي الْبَيْعِ لِلْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي، أَوْ لَهُمَا، ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَهَا، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ حِبَّانَ بْنَ مُنْقِذِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ- رضي الله عنه- كَانَ يُغْبَنُ فِي الْبِيَاعَاتِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ، وَلِيَ الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» وَيَرَى أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَجُوزُ إِذَا سَمَّى مُدَّةً مَعْلُومَةً وَإِنْ طَالَتْ.وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ.وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ أَجَازَ الْبَيْعَ إِلَى شَهْرَيْنِ، وَأَنَّ الْخِيَارَ حَقٌّ يَعْتَمِدُ عَلَى الشَّرْطِ، فَرَجَعَ فِي تَقْدِيرِهِ إِلَى مُشْتَرِطِهِ، كَالْأَجَلِ، وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ».وَلِأَنَّ الْخِيَارَ إِنَّمَا شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إِلَى التَّرَوِّي لِيَنْدَفِعَ الْغَبْنُ، وَقَدْ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، كَالتَّأْجِيلِ فِي الثَّمَنِ، فَإِنَّ الْأَجَلَ شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إِلَى التَّأْخِيرِ، مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، ثُمَّ جَازَ أَيُّ مِقْدَارٍ تَرَاضَيَا عَلَيْهِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مُدَّةَ الْخِيَارِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السِّلَعِ، فَإِنَّ الْقَصْدَ مَا تُخْتَبَرُ فِيهِ تِلْكَ السِّلْعَةُ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السِّلَعِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَيَضْرِبُ مِنَ الْأَجَلِ أَقَلَّ مَا يُمْكِنُ؛ تَقْلِيلًا لِلْغَرَرِ، كَشَهْرٍ فِي دَارٍ، وَكَثَلَاثٍ فِي دَابَّةٍ.وَإِذَا كَانَتِ الْمُدَّةُ الْمُشْتَرَطَةُ مَجْهُولَةً، كَمَا إِذَا شَرَطَ الْخِيَارَ أَبَدًا، أَوْ مَتَى شَاءَ، أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: وَلِيَ الْخِيَارُ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُدَّتَهُ، أَوْ شَرَطَاهُ إِلَى مُدَّةٍ مَجْهُولَةٍ كَقُدُومِ زَيْدٍ، أَوْ نُزُولِ الْمَطَرِ، أَوْ مُشَاوَرَةِ إِنْسَانٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَمْ يَصِحَّ فِي الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَصِحُّ، وَهُمَا عَلَى خِيَارِهِمَا أَبَدًا أَوْ يَقْطَعَاهُ، أَوْ تَنْتَهِي مُدَّتُهُ إِنْ كَانَ مَشْرُوطًا إِلَى مُدَّةٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ».

وَقَالَ مَالِكٌ: «يَصِحُّ، وَيُضْرَبُ لَهُمَا مُدَّةٌ يُخْتَبَرُ الْمَبِيعُ فِي مِثْلِهَا فِي الْعَادَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي الْعَادَةِ»، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَسْقَطَا الشَّرْطَ قَبْلَ مُضِيِّ الثَّلَاثِ، أَوْ حَذْفِ الزَّائِدِ عَلَيْهَا وَبَيَّنَا مُدَّتَهُ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُمَا حَذَفَا الْمُفْسِدَ قَبْلَ اتِّصَالِهِ بِالْعَقْدِ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ لَمْ يَشْتَرِطَاهُ. مُدَّةُ الْحَيْضِ:

22- أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَكْثَرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِلَيَالِيِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الشَّرْعِ مُطْلَقًا دُونَ تَحْدِيدٍ، وَلَا حَدَّ لَهُ فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الشَّرِيعَةِ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، كَمَا فِي الْقَبْضِ وَالْإِحْرَازِ وَالتَّفَرُّقِ وَأَشْبَاهِهَا.وَقَدْ وُجِدَ حَيْضٌ مُعْتَادٌ يَوْمًا.قَالَ عَطَاءٌ: رَأَيْتُ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ تَحِيضُ يَوْمًا وَتَحِيضُ خَمْسَةَ عَشَرَ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا، وَمَا نَقَصَ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «أَقَلُّ حَيْضِ الْجَارِيَةِ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، فَإِذَا زَادَ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ»، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَوْمَانِ وَالْأَكْثَرُ مِنَ الثَّالِثِ، إِقَامَةً لِلْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ، وَأَكْثَرُ الْحَيْضِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا، وَالزَّائِدُ اسْتِحَاضَةٌ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَقَلِّ الْحَيْضِ بِالزَّمَانِ، وَأَكْثَرُهُ لِمُبْتَدَأَةٍ غَيْرِ حَامِلٍ تَمَادَى بِهَا نِصْفُ شَهْرٍ، وَأَكْثَرُهُ لِمُعْتَادَةٍ غَيْرِ حَامِلٍ سَبَقَ لَهَا حَيْضٌ وَلَوْ مَرَّةً ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ زِيَادَةً عَلَى أَكْثَرِ عَادَتِهَا أَيَّامًا لَا وُقُوعًا.وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ (حَيْضٌ).

مُدَّةُ الطُّهْرِ:

23- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالثَّوْرِيُّ أَنَّ أَقَلَّ الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةٌ، وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَأَقَلُّ مَا بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا» مَنْقُولٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَقَدْ قِيلَ: أَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ مُدَّةُ اللُّزُومِ، فَكَانَ كَمُدَّةِ الْإِقَامَةِ.وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الشَّهْرَ غَالِبًا لَا يَخْلُو عَنْ حَيْضٍ وَطُهْرٍ، وَإِذَا كَانَ أَكْثَرُ الْحَيْضِ- عَلَى رَأْيِهِمْ- خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَقَلُّ الطُّهْرِ كَذَلِكَ، وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِ الطُّهْرِ بِالْإِجْمَاعِ، فَقَدْ لَا تَحِيضُ الْمَرْأَةُ فِي عُمُرِهَا إِلاَّ مَرَّةً، وَقَدْ لَا تَحِيضُ أَصْلًا.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ أَقَلَّ الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: «أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْهُ، وَقَدْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا، فَزَعَمَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ فِي شَهْرٍ ثَلَاثَ حِيَضٍ، طَهُرَتْ عِنْدَ كُلِّ قُرْءٍ وَصَلَّتْ.فَقَالَ عَلِيٌّ لِشُرَيْحٍ: قُلْ فِيهَا.فَقَالَ شُرَيْحٌ: إِنْ جَاءَتْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ بِطَانَةِ أَهْلِهَا، مِمَّنْ يُرْضَى دِينُهُ وَأَمَانَتُهُ، فَشَهِدَتْ بِذَلِكَ، وَإِلاَّ فَهِيَ كَاذِبَةٌ.فَقَالَ عَلِيٌّ: قَالُونُ» أَيْ جَيِّدٌ، بِالرُّومِيَّةِ.رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ.وَهَذَا لَا يَقُولُهُ إِلاَّ تَوْقِيفًا، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ انْتَشَرَ، وَلَمْ يُعْلَمْ خِلَافُهُ.

سِنُّ الْإِيَاسِ:

24- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْدِيرِ سِنِّ الْإِيَاسِ اخْتِلَافًا كَبِيرًا:

فَيَرَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ لِسِنِّ الْإِيَاسِ، وَإِيَاسُ الْمَرْأَةِ عَلَى هَذَا أَنْ تَبْلُغَ مِنَ السِّنِّ مَا لَا يَحِيضُ فِيهِ مِثْلُهَا.فَإِذَا بَلَغَتْ هَذَا الْمَبْلَغَ، وَانْقَطَعَ الدَّمُ، حُكِمَ بِإِيَاسِهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِمِثْلِهَا فِيمَا ذُكِرَ الْمُمَاثَلَةُ فِي تَرْكِيبِ الْبَدَنِ، وَالسِّمَنِ، وَالْهُزَالِ، وَهُوَ رَأْيٌ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ.

وَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ تَقْدِيرَهُ بِخَمْسِينَ سَنَةً، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: لَا يَكُونُ حَيْضٌ بَعْدَ الْخَمْسِينَ، وَيَكُونُ حُكْمُهَا فِيمَا تَرَاهُ مِنَ الدَّمِ حُكْمَ الْمُسْتَحَاضَةِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: إِذَا بَلَغَتِ الْمَرْأَةُ خَمْسِينَ سَنَةً خَرَجَتْ مِنْ حَدِّ الْحَيْضِ وَرُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: «لَنْ تَرَى الْمَرْأَةُ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا بَعْدَ الْخَمْسِينَ».

وَيَرَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهَا لَا تَيْأَسُ مِنَ الْمَحِيضِ يَقِينًا إِلَى سِتِّينَ سَنَةً.وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ- عَلَى أَشْهَرِ الْأَقْوَالِ- أَنَّ سِنَّ الْإِيَاسِ اثْنَتَانِ وَسِتُّونَ سَنَةً.وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ فِي سِنِّ السَّبْعِينَ، وَمِثْلُهُ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَنَّهَا بَعْدَ الْخَامِسَةِ وَالْخَمْسِينَ مَشْكُوكٌ فِي يَأْسِهَا، فَيَرْجِعُ فِيمَا تَرَاهُ إِلَى النِّسَاءِ لِمَعْرِفَةِ هَلْ هُوَ حَيْضٌ، أَوْ لَيْسَ بِحَيْضٍ، أَمَّا مَنْ بَلَغَتْ سِنَّ السَّبْعِينَ فَلَا يُسْأَلُ عَنْهَا.

مُدَّةُ النِّفَاسِ:

25- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَقَلِّ النِّفَاسِ، فَأَيُّ وَقْتٍ رَأَتِ الْمَرْأَةُ الطُّهْرَ اغْتَسَلَتْ، وَهِيَ طَاهِرٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَكْثَرِهِ: فَيَرَى جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ أَكْثَرَ النِّفَاسِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا.قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى أَنَّ النُّفَسَاءَ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، إِلاَّ أَنْ تَرَى الطُّهْرَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَتَغْتَسِلَ وَتُصَلِّيَ.وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَعَلَى هَذَا جَمَاعَةُ النَّاسِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَأُمِّ سَلَمَةَ- رضي الله عنهم-، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى أَبُو سَهْلٍ كَثِيرُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ مُسَّةَ الْأَزْدِيَّةِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «كَانَتِ النُّفَسَاءُ تَجْلِسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً»

وَرَوَى الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ عَنْ مُسَّةَ الْأَزْدِيَّةِ عَنْ «أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا سَأَلَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: كَمْ تَجْلِسُ الْمَرْأَةُ إِذَا وَلَدَتْ؟ قَالَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا، إِلاَّ أَنْ تَرَى الطُّهْرَ قَبْلَ ذَلِكَ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمْ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَقَدْ حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ إِجْمَاعًا، وَنَحْوَهُ حَكَى أَبُو عُبَيْدٍ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ أَكْثَرَهُ سِتُّونَ يَوْمًا، وَحَكَى ابْنُ عُقَيْلٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رِوَايَةً مِثْلَ قَوْلِهِمَا، لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: عِنْدَنَا امْرَأَةٌ تَرَى النِّفَاسَ شَهْرَيْنِ، وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ وَجَدَهُ، وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْوُجُودِ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ غَالِبَهُ أَرْبَعُونَ يَوْمًا.

سِنُّ الْبُلُوغِ:

26- لَقَدْ جَعَلَ الشَّارِعُ الْبُلُوغَ أَمَارَةً عَلَى تَكَامُلِ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى تَكَامُلِ الْعَقْلِ مُتَعَذِّرٌ، فَأُقِيمَ الْبُلُوغُ مَقَامَهُ.وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سِنِّ الْبُلُوغِ: فَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِرَأْيِهِمَا يُفْتَى فِي الْمَذْهَبِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، أَنَّ الْبُلُوغَ بِالسِّنِّ يَكُونُ بِتَمَامِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً قَمَرِيَّةً لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى (تَحْدِيدِيَّةٌ كَمَا صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ)، لِخَبَرِ «ابْنِ عُمَرَ.عُرِضْتُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يُجِزْنِي وَلَمْ يَرَنِي بَلَغْتُ، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَجَازَنِي، وَرَآنِي بَلَغْتُ».رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: «رَدَّ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- سَبْعَةَ عَشَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، لِأَنَّهُ لَمْ يَرَهُمْ بَلَغُوا، ثُمَّ عُرِضُوا عَلَيْهِ وَهُمْ أَبْنَاءُ خَمْسَ عَشْرَةَ، فَأَجَازَهُمْ، مِنْهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، وَابْنُ عُمَرَ».وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا اسْتَكْمَلَ الْمَوْلُودُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً كُتِبَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ الْحُدُودُ».

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْبُلُوغَ يَكُونُ بِتَمَامِ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ بِالدُّخُولِ فِيهَا، أَوِ الْحُلُمِ أَيِ الْإِنْزَالِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ..»، أَوِ الْحَيْضِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ» أَوِ الْحَبَلِ لِلْأُنْثَى، أَوِ الْإِنْبَاتِ الْخَشِنِ لِلْعَانَةِ.وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَطَّابُ خَمْسَةَ أَقْوَالٍ فِي الْمَذْهَبِ، فَفِي رِوَايَةٍ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَقِيلَ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَزَادَ بَعْضُ شُرَّاحِ الرِّسَالَةِ سِتَّةَ عَشَرَ، وَتِسْعَةَ عَشَرَ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ خَمْسَةَ عَشَرَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ.

وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ بُلُوغَ الْغُلَامِ بِالسِّنِّ هُوَ بُلُوغُهُ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً، وَالْجَارِيَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً.وَذَلِكَ لقوله تعالى {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه-: ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً وَهِيَ أَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ، فَأُخِذَ بِهِ احْتِيَاطًا.هَذَا أَشُدُّ الصَّبِيِّ، وَالْأُنْثَى أَسْرَعُ بُلُوغًا مِنَ الْغُلَامِ فَنَقَصْنَاهَا سَنَةً وَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِ الْأَحْكَامِ إِلَى مُصْطَلَحَيِ (احْتِلَامٌ) (وَبُلُوغٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


193-موسوعة الفقه الكويتية (إحداد)

إِحْدَادٌ

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الْإِحْدَادِ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ، وَمِنْهُ امْتِنَاعُ الْمَرْأَةِ عَنِ الزِّينَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا إِظْهَارًا لِلْحُزْنِ.وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: امْتِنَاعُ الْمَرْأَةِ مِنَ الزِّينَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مُدَّةً مَخْصُوصَةً فِي أَحْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ، وَكَذَلِكَ مِنَ الْإِحْدَادِ امْتِنَاعُهَا مِنَ الْبَيْتُوتَةِ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الِاعْتِدَادُ:

2- وَهُوَ تَرَبُّصُ الْمَرْأَةِ مُدَّةً مُحَدَّدَةً شَرْعًا لِفِرَاقِ زَوْجِهَا بِوَفَاةٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ فَسْخٍ.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الِاعْتِدَادِ وَالْإِحْدَادِ أَنَّ الِاعْتِدَادَ طَرَفٌ لِلْإِحْدَادِ، فَفِي الْعِدَّةِ.تَتْرُكُ الْمَرْأَةُ زِينَتَهَا لِمَوْتِ زَوْجِهَا.

صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):

3- أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْإِحْدَادِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ دُخُولٍ بِالزَّوْجَةِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا إِحْدَادَ عَلَى الرَّجُلِ.وَقَدْ أَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا إِحْدَادَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ رَجْعِيًّا، بَلْ يُطْلَبُ مِنْهَا أَنْ تَتَعَرَّضَ لِمُطَلِّقِهَا وَتَتَزَيَّنَ لَهُ لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا.عَلَى أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ رَأْيًا بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُطَلَّقَةِ رَجْعِيًّا الْإِحْدَادُ إِذَا لَمْ تَرْجُ الرَّجْعَةَ.

4- وَأَمَّا الْمُعْتَدَّةُ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ بَيْنُونَةً صُغْرَى أَوْ كُبْرَى فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:

الْأَوَّلِ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَدِيمِهِ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، أَنَّ عَلَيْهَا الْإِحْدَادَ، لِفَوَاتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ.فَهِيَ تُشْبِهُ مِنْ وَجْهٍ مَنْ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا.

الثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي جَدِيدِهِ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ (وَقِيلَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ إِنَّهَا الْمَذْهَبُ) إِلاَّ أَنَّهُ لَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الَّذِي فَارَقَهَا نَابِذًا لَهَا، فَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ تُحِدَّ عَلَيْهِ.وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَعَطَاءٌ، وَرَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَرَى فِي جَدِيدِهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تُحِدَّ.

5- وَأَمَّا الْمَنْكُوحَةُ نِكَاحًا فَاسِدًا إِذَا مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَنَّ بَقَاءَ الزَّوَاجِ الْفَاسِدِ نِقْمَةٌ، وَزَوَالُهُ نِعْمَةٌ، فَلَا مَحَلَّ لِلْإِحْدَادِ.

وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى وُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَيْهَا تَبَعًا لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ، وَذَهَبَ الْقَاضِي الْبَاجِيُّ الْمَالِكِيُّ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا الْمُتَوَفِّي شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، كَالتَّوَارُثِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، وَيَلْزَمُهَا الْإِحْدَادُ.

6- أَمَّا إِحْدَادُ الْمَرْأَةِ عَلَى قَرِيبٍ غَيْرِ زَوْجٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لِمُدَّةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَقَطْ، وَيَحْرُمُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا.وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَتْهُ زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَتْ: «لَمَّا أَتَى أُمَّ حَبِيبَةَ نَعْيُ أَبِي سُفْيَانَ دَعَتْ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ بِصُفْرَةٍ، فَمَسَحَتْ بِهِ ذِرَاعَيْهَا وَعَارِضَيْهَا، وَقَالَتْ: كُنْتُ عَنْ هَذَا غَنِيَّةً، سَمِعْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلَاثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَاللَّفْظُ لَهُ.

وَلِلزَّوْجِ مَنْعُهَا مِنَ الْإِحْدَادِ عَلَى الْقَرِيبِ.

إِحْدَادُ زَوْجَةِ الْمَفْقُودِ:

7- الْمَفْقُودُ: هُوَ مَنِ انْقَطَعَ خَبَرُهُ، وَلَمْ تُعْلَمْ حَيَاتُهُ مِنْ مَمَاتِهِ.فَإِذَا حُكِمَ بِاعْتِبَارِهِ مَيِّتًا فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ زَوْجَتَهُ تَعْتَدُّ عِدَّةَ وَفَاةٍ مِنْ حِينِ الْحُكْمِ، وَلَكِنْ أَيَجِبُ عَلَيْهَا الْإِحْدَادُ؟ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى وُجُوبِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ عِدَّةَ وَفَاةٍ، فَتَأْخُذُ حُكْمَهَا.وَذَهَبَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ فَإِنَّهُ لَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا.

بَدْءُ مُدَّةِ الْإِحْدَادِ:

8- يَبْدَأُ الْإِحْدَادُ عَقِيبَ الْوَفَاةِ سَوَاءٌ عَلِمَتِ الزَّوْجَةُ بِوَقْتِهَا، أَوْ تَأَخَّرَ عِلْمُهَا، وَعَقِيبَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ.هَذَا إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ وَالطَّلَاقُ مَعْلُومَيْنِ.أَمَّا إِذَا مَاتَ الزَّوْجُ، أَوْ طَلَّقَهَا، وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْهَا فَيَبْدَأُ الْإِحْدَادُ مِنْ حِينِ عِلْمِهَا.وَلَيْسَ عَلَيْهَا قَضَاءُ مَا فَاتَ، وَيَنْقَضِي بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَإِذَا انْتَهَتْ مُدَّةُ الْإِحْدَادِ وَبَقِيَتْ مُحِدَّةً بِلَا قَصْدٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهَا.

حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الْإِحْدَادِ:

9- شُرِعَ إِحْدَادُ الْمَرْأَةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَفَاءً لِلزَّوْجِ، وَمُرَاعَاةً لِحَقِّهِ الْعَظِيمِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ الرَّابِطَةَ الزَّوْجِيَّةَ أَقْدَسُ رِبَاطٍ، فَلَا يَصِحُّ شَرْعًا وَلَا أَدَبًا أَنْ تَنْسَى ذَلِكَ الْجَمِيلَ، وَتَتَجَاهَلَ حَقَّ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمَا.وَلَيْسَ مِنَ الْوَفَاءِ أَنْ يَمُوتَ زَوْجُهَا مِنْ هُنَا، ثُمَّ تَنْغَمِسُ فِي الزِّينَةِ وَتَرْتَدِي الثِّيَابَ الزَّاهِيَةَ الْمُعَطَّرَةَ، وَتَتَحَوَّلَ عَنْ مَنْزِلِ الزَّوْجِيَّةِ، كَأَنَّ عِشْرَةً لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمَا.وَقَدْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ تُحِدُّ عَلَى زَوْجِهَا حَوْلًا كَامِلًا تَفَجُّعًا وَحُزْنًا عَلَى وَفَاتِهِ، فَنَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ وَجَعَلَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.

هَكَذَا قَرَّرَ عُلَمَاءُ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِيمَا يُسْتَخْلَصُ مِنْ كَلَامِهِمْ عَلَى أَحْكَامِ الْإِحْدَادِ.فَقَدْ ذَكَرُوا «أَنَّ الْحِدَادَ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، إِظْهَارًا لِلتَّأَسُّفِ عَلَى مَمَاتِ زَوْجٍ وَفَّى بِعَهْدِهَا، وَعَلَى انْقِطَاعِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ، وَهِيَ لَيْسَتْ نِعْمَةً دُنْيَوِيَّةً فَحَسْبُ، وَلَكِنَّهَا أَيْضًا أُخْرَوِيَّةٌ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ فِي الْمَعَادِ وَالدُّنْيَا»«وَشُرِعَ الْإِحْدَادُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ تَشَوُّفَ الرِّجَالِ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا إِذَا تَزَيَّنَتْ يُؤَدِّي إِلَى التَّشَوُّفِ، وَهُوَ يُؤَدِّي إِلَى الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَهُوَ يُؤَدِّي إِلَى الْوَطْءِ، وَهُوَ يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ، وَهُوَ حَرَامٌ.وَمَا أَدَّى إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ».

مَنْ تُحِدُّ وَمَنْ لَا تُحِدُّ؟

10- تَبَيَّنَ فِيمَا سَبَقَ مَنْ يُطْلَبُ مِنْهَا الْإِحْدَادُ فِي الْجُمْلَةِ.وَهُنَاكَ حَالَاتٌ وَقَعَ فِيهَا خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، مِنْهَا: الْكِتَابِيَّةُ زَوْجَةُ الْمُسْلِمِ، وَالصَّغِيرَةُ.

11- أَمَّا الْكِتَابِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبَ مَالِكٌ- فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ- وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْإِحْدَادُ مُدَّةَ الْعِدَّةِ إِذَا مَاتَ زَوْجُهَا الْمُسْلِمُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِحْدَادَ تَبَعٌ لِلْعِدَّةِ فَمَتَى وَجَبَتْ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَجَبَ عَلَيْهَا الْإِحْدَادُ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا إِحْدَادَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْإِحْدَادَ مَطْلُوبٌ مِنَ الْمُسْلِمَةِ، لِظَاهِرِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ..الْحَدِيثَ».

12- وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهَا تُحِدُّ، وَعَلَى وَلِيِّهَا أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ فِعْلِ مَا يُنَافِي الْإِحْدَادَ؛ لِأَنَّ الْإِحْدَادَ تَبَعٌ لِلْعِدَّةِ.وَلِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَتَكْحُلُهَا؟ فَقَالَ: لَا.مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، الْحَدِيثَ» وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ سِنِّهَا، وَتَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ فِي مَقَامِ السُّؤَالِ دَلِيلٌ عَلَى الْعُمُومِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَيْهَا لِحَدِيثِ «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَبْرَأَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبَرَ».فَإِنْ بَلَغَتْ فِي الْعِدَّةِ حَدَّتْ فِيمَا بَقِيَ.وَمِثْلُهَا الْمَجْنُونَةُ الْكَبِيرَةُ إِذَا أَفَاقَتْ، وَأَمَّا الْأَمَةُ فَالْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهَا الْإِحْدَادُ مُدَّةَ عِدَّتِهَا؛ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ فِي وُجُوبِ الْإِحْدَادِ، وَحَكَى الشَّافِعِيَّةُ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.

مَا تَتَجَنَّبُهُ الْمُحِدَّةُ:

13- تَجْتَنِبُ الْمُحِدَّةُ كُلَّ مَا يُعْتَبَرُ زِينَةً شَرْعًا أَوْ عُرْفًا، سَوَاءٌ أَكَانَ يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ أَوِ الثِّيَابِ أَوْ يَلْفِتُ الْأَنْظَارَ إِلَيْهَا، كَالْخُرُوجِ مِنْ مَسْكَنِهَا، أَوِ التَّعَرُّضِ لِلْخُطَّابِ.وَهَذَا الْقَدْرُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ فَاعْتَبَرَهَا الْبَعْضُ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ عَلَى الْمُحِدَّةِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْهَا الْآخَرُونَ.وَذَلِكَ كَبَعْضِ الْمَلَابِسِ الْمَصْبُوغَةِ، وَاخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَلَابِسِ السَّوْدَاءِ وَالْبَيْضَاءِ وَالْمَصْبُوغَةِ بِغَيْرِ الزَّعْفَرَانِ وَالْمُعَصْفَرِ.

وَعِنْدَ التَّحْقِيقِ نَجِدُ أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ- فِيمَا عَدَا الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ- نَاشِئٌ عَنِ اخْتِلَافِ الْعُرْفِ: فَمَا اعْتُبِرَ فِي الْعُرْفِ زِينَةً اعْتَبَرُوهُ مُحَرَّمًا، وَمَا لَمْ يُعْتَبَرِ اعْتُبِرَ مُبَاحًا.وَالْمَمْنُوعُ يَرْجِعُ كُلُّهُ إِمَّا إِلَى الْبَدَنِ، أَوِ الثِّيَابِ، أَوِ الْحُلِيِّ، أَوِ التَّعَرُّضِ لِلْخُطَّابِ، أَوِ الْبَيْتُوتَةِ.

14- فَأَمَّا مَا يَتَّصِلُ بِالْبَدَنِ فَالَّذِي يَحْرُمُ عَلَيْهَا كُلُّ مَا يُعْتَبَرُ مُرَغِّبًا فِيهَا مِنْ طِيبٍ وَخِضَابٍ وَكُحْلٍ لِلزِّينَةِ.وَمِنْ ذَلِكَ الْأَشْيَاءُ الْمُسْتَحْدَثَةُ لِلزِّينَةِ، وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ مَا تَتَعَاطَاهُ الْمَرْأَةُ لِلتَّدَاوِي كَالْكُحْلِ وَالِامْتِشَاطِ بِمُشْطٍ وَاسِعٍ لَا طِيبَ فِيهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى كَرَاهِيَةِ الِامْتِشَاطِ بِمُشْطِ الْأَسْنَانِ وَهُوَ بِلَا طِيبٍ؛ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنَ الزِّينَةِ عِنْدَهُمْ.عَلَى أَنَّ مَنْ لَا كَسْبَ لَهَا إِلاَّ مِنَ الِاتِّجَارِ بِالطِّيبِ أَوْ صِنَاعَتِهِ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّةَ يَنُصُّونَ عَلَى جَوَازِ مَسِّهَا لَهُ.

وَهَذَا كُلُّهُ فِي بَدْءِ التَّطَيُّبِ بَعْدَ لُزُومِ الْإِحْدَادِ، أَمَّا لَوْ تَطَيَّبَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فَهَلْ عَلَيْهَا إِزَالَتُهُ بَعْدَ لُزُومِ الْإِحْدَادِ؟ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ- إِلَى وُجُوبِ ذَلِكَ- وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ اخْتَارَهُ ابْنُ رُشْدٍ.وَالرَّأْيُ الْآخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ وَاخْتَارَهُ الْقَرَافِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا إِزَالَتُهُ.

15- وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَدْهَانِ غَيْرِ الْمُطَيِّبَةِ، كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ، فَالْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا مِنَ الزِّينَةِ الْمَمْنُوعَةِ عَلَى الْمُحِدَّةِ، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

فَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَيْهَا حِينَ تُوُفِّيَ زَوْجُهَا أَبُو سَلَمَةَ، فَنَهَاهَا أَنْ تَمْتَشِطَ بِالطِّيبِ وَلَا بِالْحِنَّاءِ، فَإِنَّهُ خِضَابٌ.قَالَتْ: قُلْتُ بِأَيِّ شَيْءٍ أَمْتَشِطُ؟ قَالَ: بِالسِّدْرِ تُغَلِّفِينَ بِهِ رَأْسَكِ» أَيْ تَجْعَلِينَ عَلَيْهِ مِنَ السِّدْرِ مَا يُشْبِهُ الْغُلَافَ. 16- وَأَمَّا مَا يَتَّصِلُ بِالْمَلَابِسِ فَهُوَ كَمَا قُلْنَا كُلُّ مَا جَرَى الْعُرْفُ بِاعْتِبَارِهِ زِينَةً، بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ اللَّوْنِ، فَقَدْ يَكُونُ الثَّوْبُ الْأَسْوَدُ مَحْظُورًا إِذَا كَانَ يَزِيدُهَا جَمَالًا، أَوْ جَرَى الْعُرْفُ عِنْدَ قَوْمِهَا بِاعْتِبَارِهِ مِنْ مَلَابِسِ الزِّينَةِ.وَلَكِنْ وَرَدَ النَّصُّ بِالنَّهْيِ عَنِ الْمُعَصْفَرِ وَالْمُزَعْفَرِ مِنَ الثِّيَابِ؛ لِأَنَّهُمَا يَفُوحُ مِنْهُمَا الطِّيبُ، لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ «كُنَّا نُنْهَى أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَأَنْ نَكْتَحِلَ، وَأَنْ نَتَطَيَّبَ، وَأَنْ نَلْبَسَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا».

وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا إِلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ مِنَ الْمَنْهِيِّ عَنْ لُبْسِهِ فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا لُبْسُهُ حَتَّى تَجِدَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ أَوْجَبُ مِنَ الْإِحْدَادِ.

وَنُقِلَ عَنِ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهَا اسْتِعْمَالُ النِّقَابِ، فَإِنِ اضْطُرَّتْ إِلَى سَتْرِ وَجْهِهَا؛ فَلْتُسْدِلِ النِّقَابَ وَتُبْعِدْهُ عَنْ وَجْهِهَا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْمُحِدَّةَ كَالْمُحْرِمَةِ وَلَكِنَّ الْمَذْهَبَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَلَهَا اسْتِعْمَالُ النِّقَابِ مُطْلَقًا.

17- أَمَّا الْحُلِيُّ: فَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ الذَّهَبِ بِكُلِّ صُوَرِهِ عَلَيْهَا، فَيَلْزَمُهَا أَنْ تَنْزِعَهُ حِينَمَا تَعْلَمَ بِمَوْتِ زَوْجِهَا، لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْأَسَاوِرِ وَالدَّمَالِجِ وَالْخَوَاتِمِ، وَمِثْلُهُ الْحُلِيُّ مِنَ الْجَوَاهِرِ.وَيُلْحَقُ بِهِ مَا يُتَّخَذُ لِلْحِلْيَةِ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَالْعَاجِ وَغَيْرِهِ.وَجَوَّزَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لُبْسَ الْحُلِيِّ مِنَ الْفِضَّةِ، وَلَكِنَّهُ قَوْلٌ مَرْدُودٌ لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ لُبْسِ الْحُلِيِّ عَلَى الْمُحِدَّةِ.وَقَصَرَ الْغَزَالِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الْإِبَاحَةَ عَلَى لُبْسِ الْخَاتَمِ مِنَ الْفِضَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا تَخْتَصُّ بِحِلِّهِ النِّسَاءُ.وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُحِدَّةِ التَّعَرُّضُ لِلْخُطَّابِ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ مِنَ الْوَسَائِلِ تَلْمِيحًا أَوْ تَصْرِيحًا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ: «وَلَا تَلْبَسُ الْمُعَصْفَرَ مِنَ الثِّيَابِ، وَلَا الْحُلِيَّ».

مَا يُبَاحُ لِلْمُحِدَّةِ:

18- لِلْمُعْتَدَّةِ الْخُرُوجُ فِي حَوَائِجِهَا نَهَارًا سَوَاءٌ كَانَتْ مُطَلَّقَةً أَوْ مُتَوَفًّى عَنْهَا، لِمَا رَوَى «جَابِرٌ قَالَ: طَلُقَتْ خَالَتِي ثَلَاثًا، فَخَرَجَتْ تَجُذَّ نَخْلَهَا، فَلَقِيَهَا رَجُلٌ فَنَهَاهَا.فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: اخْرُجِي فَجُذِّي نَخْلَكِ، لَعَلَّكِ أَنْ تَتَصَدَّقِي مِنْهُ أَوْ تَفْعَلِي خَيْرًا» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ.وَرَوَى مُجَاهِدٌ قَالَ: «اسْتُشْهِدَ رِجَالٌ يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَاءَ نِسَاؤُهُمْ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، وَقُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَسْتَوْحِشُ بِاللَّيْلِ، أَفَنَبِيتُ عِنْدَ إِحْدَانَا، فَإِذَا أَصْبَحْنَا بَادَرْنَا إِلَى بُيُوتِنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: تَحَدَّثْنَ عِنْدَ إِحْدَاكُنَّ، حَتَّى إِذَا أَرَدْتُنَّ النَّوْمَ فَلْتَؤُبْ كُلُّ وَاحِدَةٍ إِلَى بَيْتِهَا».

وَلَيْسَ لَهَا الْمَبِيتُ فِي غَيْرِ بَيْتِهَا، وَلَا الْخُرُوجُ لَيْلًا إِلاَّ لِضَرُورَةٍ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ مَظِنَّةُ الْفَسَادِ، بِخِلَافِ النَّهَارِ فَإِنَّهُ مَظِنَّةُ قَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَالْمَعَاشِ وَشِرَاءِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ.وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهَا حَقٌّ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ إِلاَّ بِهَا، كَالْيَمِينِ وَالْحَدِّ، وَكَانَتْ ذَاتَ خِدْرٍ، بَعَثَ إِلَيْهَا الْحَاكِمُ مَنْ يَسْتَوْفِي الْحَقَّ مِنْهَا فِي مَنْزِلِهَا.وَإِنْ كَانَتْ بَرْزَةً جَازَ إِحْضَارُهَا لِاسْتِيفَائِهِ.فَإِذَا فَرَغَتْ رَجَعَتْ إِلَى مَنْزِلِهَا.

عَلَى أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْمُحِدَّةِ أَنْ تَحْضُرَ الْعُرْسَ، وَلَكِنْ لَا تَتَهَيَّأُ فِيهِ بِمَا لَا تَلْبَسُهُ الْمُحِدَّةُ.

اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى أَنَّهُ يُبَاحُ لِلْمُحِدَّةِ فِي عِدَّةِ وَفَاتِهَا الْأَشْيَاءُ التَّالِيَةُ

يُبَاحُ لَهَا أَنْ تَلْبَسَ ثَوْبًا غَيْرَ مَصْبُوغٍ صَبْغًا فِيهِ طِيبٌ وَإِنْ كَانَ نَفِيسًا.وَيُبَاحُ لَهَا مِنَ الثِّيَابِ كُلُّ مَا جَرَى الْعُرْفُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِزِينَةٍ مَهْمَا كَانَ لَوْنُهُ.وَلَمَّا كَانَ الْإِحْدَادُ خَاصًّا بِالزِّينَةِ فِي الْبَدَنِ أَوِ الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ، فَلَا تُمْنَعُ مِنْ تَجْمِيلِ فِرَاشِ بَيْتِهَا، وَأَثَاثِهِ، وَسُتُورِهِ وَالْجُلُوسِ عَلَى أَثَاثٍ وَثِيرٍ.

وَلَا بَأْسَ بِإِزَالَةِ الْوَسَخِ وَالتَّفَثِ مِنْ ثَوْبِهَا وَبَدَنِهَا، كَنَتْفِ الْإِبِطِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظَافِرِ إِلَخْ، وَالِاغْتِسَالِ بِالصَّابُونِ غَيْرِ الْمُطَيِّبِ، وَغَسْلِ رَأْسِهَا وَيَدَيْهَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الْمُحِدَّةِ أَنْ تُقَابِلَ مِنَ الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ مَنْ لَهَا حَاجَةٌ إِلَى مُقَابَلَتِهِ مَا دَامَتْ غَيْرَ مُبْدِيَةٍ زِينَتَهَا وَلَا مُخْتَلِيَةٍ بِهِ.

سَكَنُ الْمُحِدَّةِ:

19- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَلَا سِيَّمَا أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ مِنْ وَفَاةٍ أَنْ تَلْزَمَ بَيْتَ الزَّوْجِيَّةِ الَّذِي كَانَتْ تَسْكُنُهُ عِنْدَمَا بَلَغَهَا نَعْيُ زَوْجِهَا، سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْبَيْتُ مِلْكًا لِزَوْجِهَا، أَوْ مُعَارًا لَهُ، أَوْ مُسْتَأْجَرًا.وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحَضَرِيَّةِ وَالْبَدَوِيَّةِ، وَالْحَائِلِ وَالْحَامِلِ.وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قوله تعالى {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} وَحَدِيثُ «فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ وَأَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ فَقَتَلُوهُ بِطَرَفِ الْقَدُومِ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي، فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةَ.قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: نَعَمْ.قَالَتْ: فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ، أَوْ فِي الْمَسْجِدِ دَعَانِي، أَوْ أَمَرَ بِي فَدُعِيتُ لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: كَيْفَ قُلْتِ؟ فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ: امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، فَاعْتَدَّتْ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ- رضي الله عنه- أَرْسَلَ إِلَيَّ فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ».رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ.

وَذَهَبَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعَطَاءٌ مِنَ التَّابِعِينَ إِلَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ.وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَعَائِشَةَ- رضي الله عنهم-.

وَحَاصِلُ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ: أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي جَعَلَتْ عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَهِيَ قوله تعالى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} نَسَخَتِ الْآيَةَ الَّتِي جَعَلَتْ عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا حَوْلًا، وَهِيَ قوله تعالى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ}.وَالنَّسْخُ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى مَا زَادَ عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، فَبَقِيَ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ، ثُمَّ جَاءَ الْمِيرَاثُ فَأَسْقَطَ تَعَلُّقَ حَقِّ إِسْكَانِهَا بِالتَّرِكَةِ.

مُسَوِّغَاتُ تَرْكِ مَسْكَنِ الْإِحْدَادِ:

20- إِنْ طَرَأَ عَلَى الْمُحِدَّةِ مَا يَقْتَضِي تَحَوُّلَهَا عَنِ الْمَسْكَنِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهَا الْإِحْدَادُ فِيهِ، جَازَ لَهَا الِانْتِقَالُ إِلَى مَسْكَنٍ آخَرَ تَأْمَنُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا، كَأَنْ خَافَتْ هَدْمًا أَوْ عَدُوًّا، أَوْ أُخْرِجَتْ مِنَ السَّكَنِ مِنْ مُسْتَحِقٍّ أَخْذَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ عَارِيَّةً أَوْ إِجَارَةً انْقَضَتْ مُدَّتُهَا، أَوْ مُنِعَتِ السُّكْنَى تَعَدِّيًا، أَوْ طُلِبَ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ.وَإِذَا انْتَقَلَتْ تَنْتَقِلُ حَيْثُ شَاءَتْ إِلاَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَنْتَقِلَ إِلَى أَقْرَبِ مَا يُمْكِنُهَا الِانْتِقَالُ إِلَيْهِ قِيَاسًا عَلَى مَا إِذَا وَجَبَتِ الزَّكَاةُ وَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يَسْتَحِقُّهَا فِي مَكَانِ وُجُوبِهَا، فَإِنَّهَا تُنْقَلُ إِلَى أَقْرَبِ مَوْضِعٍ يَجِدُهُمْ فِيهِ.وَلِلْجُمْهُورِ أَنَّ الْوَاجِبَ سَقَطَ لِعُذْرٍ وَلَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ لَهُ بِبَدَلٍ فَلَا يَجِبُ، وَلِعَدَمِ النَّصِّ عَلَى اخْتِيَارِ الْأَقْرَبِ.

أَمَّا الْبَدَوِيَّةُ إِذَا انْتَقَلَ جَمِيعُ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ الَّذِينَ هِيَ مَعَهُمْ أَوْ بَقِيَ مِنْهُمْ مَنْ لَا تَأْمَنُ مَعَهُ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا فَإِنَّهَا تَنْتَقِلُ عَنِ السَّكَنِ الَّذِي بَدَأَتْ فِيهِ الْإِحْدَادَ كَذَلِكَ.وَإِذَا مَاتَ رُبَّانُ السَّفِينَةِ، أَوْ أَحَدُ الْعَامِلِينَ فِيهَا، وَكَانَتْ مَعَهُ زَوْجَتُهُ، وَلَهَا مَسْكَنٌ خَاصٌّ بِهَا فِي السَّفِينَةِ، فَإِنَّهَا تُحِدُّ فِيهِ، وَتَجْرِي عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ السَّابِقَةُ.

أُجْرَةُ سَكَنِ الْمُحِدَّةِ، وَنَفَقَتُهَا:

21- اخْتَلَفَتْ مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ فِيمَنْ يَلْزَمُهُ أَجْرُ سَكَنِ الْمُحِدَّةِ هَلْ هُوَ عَلَيْهَا أَمْ مِنْ مَالِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أُجْرَةَ سَكَنِ الْمُحِدَّةِ مِنْ وَفَاةٍ، مِنْ مَالِهَا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِتَوْرِيثِهَا، وَلَمْ يُثْبِتْ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.أَمَّا الْمُحِدَّةُ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ- عِنْدَهُمْ- فَأُجْرَةُ سُكْنَاهَا عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهَا عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ دَفَعَتْ مِنْ مَالِهَا رَجَعَتْ عَلَيْهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِهَا، فَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا سُكْنَاهَا مَعَ أَهْلِهَا أَوْ مِنْ مَالِهَا، لِلدَّلِيلِ السَّابِقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.وَأَمَّا الْمَدْخُولُ بِهَا فَإِنْ كَانَتْ تَسْكُنُ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي مَسْكَنٍ اسْتَأْجَرَهُ لَهَا وَعَجَّلَ أُجْرَتَهُ فَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ إِخْرَاجُهَا حَتَّى لَوْ بِيعَتِ الدَّارُ، فَيُسْتَثْنَى مِنْهَا مُدَّةُ إِحْدَادِهَا.فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَأُجْرَةُ سُكْنَاهَا مِنْ مَالِهَا، وَلَيْسَ لَهَا الرُّجُوعُ عَلَى مَالِ التَّرِكَةِ بِشَيْءٍ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْحَامِلُ وَالْحَائِلُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُحِدَّةَ تَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ السَّكَنِ مِنَ التَّرِكَةِ، بَلْ تَتَعَلَّقُ بِأَعْيَانِ التَّرِكَةِ.وَتُقَدَّمُ عَلَى مُؤْنَةِ التَّجْهِيزِ وَالدُّيُونِ الْمُرْسَلَةِ فِي الذِّمَّةِ فِي الْأَظْهَرِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ حَائِلًا أَمْ حَامِلًا، مَدْخُولًا بِهَا أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ.

وَفِي غَيْرِ الْأَظْهَرِ أَنَّ أُجْرَةَ السُّكْنَى عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا وَارِثَةٌ، فَتَلْزَمُهَا، كَالنَّفَقَةِ.وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّ الَّذِي يُقَدَّمُ عَلَى مُؤْنَةِ التَّجْهِيزِ أُجْرَةُ سُكْنَى يَوْمِ الْوَفَاةِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ تَكُنْ تَسْكُنُ فِيمَا يَمْلِكُهُ أَوْ يَمْلِكُ مَنْفَعَتَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَجَّلَ الْأُجْرَةَ قَبْلَ الْوَفَاةِ.وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَامِلِ وَالْحَائِلِ، فَالْحَائِلُ أُجْرَةُ سُكْنَاهَا فِي الْإِحْدَادِ مِنْ مَالِهَا بِلَا خِلَافٍ عِنْدَهُمْ، لِلدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ سَابِقًا.وَأَمَّا الْحَامِلُ فَعِنْدَهُمْ رِوَايَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: لَهَا أُجْرَةُ السُّكْنَى مِنْ مَالِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا حَامِلٌ مِنْ زَوْجِهَا، فَكَانَتْ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ، كَالْمُفَارَقَةِ فِي الْحَيَاةِ.

وَالثَّانِيَةُ: لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ.وَصَحَّحَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى هَذِهِ الرِّوَايَةَ.هَذَا عَنْ أُجْرَةِ سُكْنَى الْمُحِدَّةِ، أَمَّا نَفَقَتُهَا فَمَوْطِنُ بَحْثِهِ مُصْطَلَحُ (عِدَّةٌ)؛ لِأَنَّ حُكْمَ النَّفَقَةِ تَابِعٌ لِلِاعْتِدَادِ لَا لِلْإِحْدَادِ.

حَجُّ الْمُحِدَّةِ:

22- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَخْرُجُ الْمُعْتَدَّةُ إِلَى الْحَجِّ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَفُوتُ، وَالْعِدَّةُ تَفُوتُ.رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: تُوُفِّيَ أَزْوَاجٌ نِسَاؤُهُنَّ حَاجَّاتٌ أَوْ مُعْتَمِرَاتٌ، فَرَدَّهُنَّ عُمَرُ- رضي الله عنه- مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ حَتَّى يَعْتَدِدْنَ فِي بُيُوتِهِنَّ.فَإِذَا خَرَجَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى الْحَجِّ فَتُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ بِالْقُرْبِ، أَيْ دُونَ مَسَافَةِ قَصْرِ الصَّلَاةِ، رَجَعَتْ لِتَقْضِيَ الْعِدَّةَ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ.وَمَتَى رَجَعَتْ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ عِدَّتِهَا شَيْءٌ، أَتَتْ بِهِ فِي مَنْزِلِهَا.وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَبَاعَدَتْ بِأَنْ قَطَعَتْ مَسَافَةَ الْقَصْرِ فَأَكْثَرَ، مَضَتْ فِي سَفَرِهَا؛ لِأَنَّ عَلَيْهَا فِي الرُّجُوعِ مَشَقَّةً، فَلَا يَلْزَمُهَا.فَإِنْ خَافَتْ أَنْ تَتَعَرَّضَ لِمَخَاطِرَ فِي الرُّجُوعِ، مَضَتْ فِي سَفَرِهَا وَلَوْ كَانَتْ قَرِيبَةً؛ لِأَنَّ عَلَيْهَا ضَرَرًا فِي رُجُوعِهَا.وَإِنْ أَحْرَمَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ لَزِمَتْهَا الْإِقَامَةُ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ أَسْبَقُ.

وَفِي رَأْيٍ لِلْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا خَرَجَتْ إِلَى الْحَجِّ، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، فَالرُّجُوعُ أَوْلَى لِتَعْتَدَّ فِي مَنْزِلِهَا، فَلَا يَنْبَغِي لِمُعْتَدَّةٍ أَنْ تَحُجَّ، وَلَا تُسَافِرَ مَعَ مَحْرَمٍ أَوْ غَيْرِ مَحْرَمٍ، فَقَدْ تُوُفِّيَ أَزْوَاجٌ نِسَاؤُهُنَّ حَاجَّاتٌ أَوْ مُعْتَمِرَاتٌ، فَرَدَّهُنَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- مِنْ قَصْرِ النَّجَفِ.فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ تُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ.أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَقُولُونَ: إِذَا أَحْرَمَتْ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، ثُمَّ طَرَأَتْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ بِأَنْ تُوُفِّيَ زَوْجُهَا، بَقِيَتْ عَلَى مَا هِيَ فِيهِ، وَلَا تَرْجِعُ لِمَسْكَنِهَا لِتَعْتَدَّ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ سَابِقٌ عَلَى الْعِدَّةِ.وَإِنْ أَحْرَمَتْ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ بَعْدَ مُوجِبِ الْعِدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ وَفَاةٍ، فَإِنَّهَا تَمْضِي عَلَى إِحْرَامِهَا الطَّارِئِ، وَأَثِمَتْ بِإِدْخَالِ الْإِحْرَامِ عَلَى نَفْسِهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ بِخُرُوجِهَا مِنْ مَسْكَنِهَا.

وَلَمْ يَعْتَبِرِ الشَّافِعِيَّةُ الْمَسَافَةَ الَّتِي تَقْطَعُهَا الْمُحِدَّةُ الْمُحْرِمَةُ بِالْأَيَّامِ الَّتِي تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ.وَلَكِنْ قَالُوا: إِنْ فَارَقَتِ الْبُنْيَانَ، فَلَهَا الْخِيَارُ بَيْنَ الرُّجُوعِ وَالتَّمَامِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ فِي مَوْضِعٍ أَذِنَ لَهَا زَوْجُهَا فِيهِ وَهُوَ السَّفَرُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَعُدَتْ.

23- وَمِثْلُ الْحَجِّ كُلُّ سَفَرٍ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُنْشِئَ ذَلِكَ السَّفَرَ وَهِيَ مُحِدَّةٌ.وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمِصْرِ قَبْلَ أَنْ تَعْتَدَّ.

وَحَاصِلُ مَا تُفِيدُهُ عِبَارَاتُ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْمُخْتَلِفَةِ أَنَّهُ إِذَا أَذِنَ الزَّوْجُ بِالسَّفَرِ لِزَوْجَتِهِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَبَلَغَهَا الْخَبَرُ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فَلَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ؛ لِقِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ، حَتَّى لَوْ كَانَ مَعَهَا فِي السَّفَرِ تَمْضِي مَعَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَالطَّلَاقُ بَائِنٌ وَكَانَتْ أَقْرَبَ إِلَى بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تَعُودَ لِتَعْتَدَّ وَتُحِدَّ فِي بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ.وَإِنْ كَانَتْ أَقْرَبَ إِلَى مَقْصِدِهَا فَهِيَ مُخَيَّرَةٌ بَيْنَ الْمُضِيِّ إِلَى مَقْصِدِهَا وَبَيْنَ الْعَوْدَةِ، وَالْعَوْدَةُ أَوْلَى.إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُوجِبُونَ الْعَوْدَةَ، وَلَوْ بَلَغَتْ مَقْصِدَهَا، مَا لَمْ تُقِمْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَأَحْرَمَتْ فَإِنَّهَا تَمْضِي عِنْدَهُمْ فِي حَجَّتِهَا.

اعْتِكَافُ الْمُحِدَّةِ:

24- الْمُعْتَكِفَةُ إِذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، لَزِمَهَا الْخُرُوجُ لِقَضَاءِ الْعِدَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهَا لِقَضَاءِ الْعِدَّةِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ، كَمَا إِذَا خَرَجَ الْمُعْتَكِفُ لِلْجُمُعَةِ وَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ، كَإِنْقَاذِ غَرِيقٍ، أَوْ إِطْفَاءِ حَرِيقٍ، أَوْ أَدَاءِ شَهَادَةٍ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، أَوْ لِفِتْنَةٍ يَخْشَاهَا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوْ مَالِهِ.

وَإِذَا خَرَجَتِ الْمُعْتَكِفَةُ لِهَذِهِ الضَّرُورَاتِ، فَهَلْ يَبْطُلُ اعْتِكَافُهَا؟ وَهَلْ تَلْزَمُهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ، أَوْ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا؟ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ، أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهَا، فَتَقْضِي عِدَّتَهَا، ثُمَّ تَعُودُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَتَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنَ اعْتِكَافِهَا.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ: يَبْطُلُ اعْتِكَافُهَا، وَقَدْ خَرَّجَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ أَنَّهَا إِذَا لَزِمَهَا الْخُرُوجُ لِلْعِدَّةِ، فَمَكَثَتْ فِي الِاعْتِكَافِ، عَصَتْ وَأَجْزَأَهَا الِاعْتِكَافُ.قَالَهُ الدَّارِمِيُّ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَقُولُونَ: «تَمْضِي الْمُعْتَكِفَةُ عَلَى اعْتِكَافِهَا إِنْ طَرَأَتْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ مِنْ وَفَاةٍ أَوْ طَلَاقٍ.وَبِهَذَا قَالَ رَبِيعَةُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.أَمَّا إِذَا طَرَأَ اعْتِكَافٌ عَلَى عِدَّةٍ فَلَا تَخْرُجُ لَهُ، بَلْ تَبْقَى فِي بَيْتِهَا حَتَّى تُتِمَّ عِدَّتَهَا، فَلَا تَخْرُجُ لِلطَّارِئِ، بَلْ تَسْتَمِرُّ عَلَى السَّابِقِ» (ر: اعْتِكَافٌ).

عُقُوبَةُ غَيْرِ الْمُلْتَزِمَةِ بِالْإِحْدَادِ:

25- يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْإِحْدَادِ أَنَّ الْمُحِدَّةَ الْمُكَلَّفَةَ لَوْ تَرَكَتِ الْإِحْدَادَ الْوَاجِبَ كُلَّ الْمُدَّةِ أَوْ بَعْضَهَا، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ جَهْلٍ فَلَا حَرَجَ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا، فَقَدْ أَثِمَتْ مَتَى عَلِمَتْ حُرْمَةَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُقْرِي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.وَلَكِنَّهَا لَا تُعِيدُ الْإِحْدَادَ؛ لِأَنَّ وَقْتَهُ قَدْ مَضَى، وَلَا يَجُوزُ عَمَلُ شَيْءٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، وَانْقَضَتِ الْعِدَّةُ مَعَ الْعِصْيَانِ، كَمَا لَوْ فَارَقَتِ الْمُعْتَدَّةُ الْمَسْكَنَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهَا مُلَازَمَتُهُ بِلَا عُذْرٍ، فَإِنَّهَا تَعْصِي وَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا. (ف 24) وَعَلَى وَلِيِّ غَيْرِ الْمُكَلَّفَةِ إِلْزَامُهَا بِالْإِحْدَادِ فِي مُدَّتِهِ وَإِلاَّ كَانَ آثِمًا. وَلَمْ تَرِدْ فِي الشَّرْعِ عُقُوبَةٌ مُحَدَّدَةٌ لِمَنْ تَرَكَتِ الْإِحْدَادَ، وَلَكِنَّهَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا عَصَتْ.

هَذَا وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِمَامَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُعَزِّرَ الْمَرْأَةَ الْمُكَلَّفَةَ عَلَى تَرْكِ الْإِحْدَادِ إِذَا تَعَمَّدَتْ ذَلِكَ بِمَا يَرَاهُ مِنْ وَسَائِلِ التَّعْزِيرِ.

26- وَإِذَا أَمَرَ الْمُطَلِّقُ أَوِ الْمَيِّتُ قَبْلَ الْمَوْتِ، الزَّوْجَةَ بِتَرْكِ الْإِحْدَادِ، فَلَا تَتْرُكُهُ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الشَّرْعِ، فَلَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ إِسْقَاطَهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ دَوَاعِي الرَّغْبَةِ، وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ عَنِ النِّكَاحِ فَتَجْتَنِبُهَا لِئَلاَّ تَصِيرَ ذَرِيعَةً إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


194-موسوعة الفقه الكويتية (إحرام 1)

إِحْرَامٌ -1

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الْإِحْرَامِ فِي اللُّغَةِ: الْإِهْلَالُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَمُبَاشَرَةُ أَسْبَابِهَا، وَالدُّخُولُ فِي الْحُرْمَةِ.يُقَالُ: أَحْرَمَ الرَّجُلُ إِذَا دَخَلَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَأَحْرَمَ: دَخَلَ فِي الْحَرَمِ، وَمِنْهُ حَرَمُ مَكَّةَ، وَحَرَمُ الْمَدِينَةِ، وَأَحْرَمَ: دَخَلَ فِي حُرْمَةِ عَهْدٍ أَوْ مِيثَاقٍ.

وَالْحُرْمُ- بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ-: الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ أَيْضًا، وَبِالْكَسْرِ: الرَّجُلُ الْمُحْرِمُ، يُقَالُ أَنْتَ حِلٌّ، وَأَنْتَ حُرُمٌ.

وَالْإِحْرَامُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ يُرَادُ بِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ، أَوِ الْعُمْرَةِ.وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ وَيَسْتَعْمِلُونَ مَادَّتَهُ مَقْرُونَةً بِالتَّكْبِيرَةِ الْأُولَى، فَيَقُولُونَ: «تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ» وَيُسَمُّونَهَا «التَّحْرِيمَةَ» وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاةٌ).

وَيُطْلِقُ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ الْإِحْرَامَ عَلَى الدُّخُولِ فِي النُّسُكِ، وَبِهِ فَسَّرُوا قَوْلَ النَّوَوِيِّ فِي الْمِنْهَاجِ: «بَابُ الْإِحْرَامِ».

تَعْرِيفُ الْحَنَفِيَّةِ لِلْإِحْرَامِ:

2- الْإِحْرَامُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الدُّخُولُ فِي حُرُمَاتٍ مَخْصُوصَةٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ شَرْعًا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ مَعَ الذِّكْرِ أَوِ الْخُصُوصِيَّةِ.

وَالْمُرَادُ بِالدُّخُولِ فِي حُرُمَاتٍ: الْتِزَامُ الْحُرُمَاتِ، وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ التَّلْبِيَةُ وَنَحْوُهَا مِمَّا فِيهِ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى.

وَالْمُرَادُ بِالْخُصُوصِيَّةِ: مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ سَوْقِ الْهَدْيِ، أَوْ تَقْلِيدِ الْبُدْنِ.

تَعْرِيفُ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ لِلْإِحْرَامِ:

3- أَمَّا تَعْرِيفُ الْإِحْرَامِ عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ: الْمَالِكِيَّةِ- عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ- وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَهُوَ: نِيَّةُ الدُّخُولِ فِي حُرُمَاتِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.

حُكْمُ الْإِحْرَامِ:

4- أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنْ فَرَائِضِ النُّسُكِ، حَجًّا كَانَ أَوْ عُمْرَةً، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ أَمِنَ الْأَرْكَانِ هُوَ أَمْ مِنَ الشُّرُوطِ.

فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْإِحْرَامَ رُكْنٌ لِلنُّسُكِ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْحَجِّ، غَيْرَ أَنَّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ شَرْطٌ مِنْ وَجْهٍ رُكْنٌ مِنْ وَجْهٍ أَوْ «هُوَ شَرْطٌ ابْتِدَاءً، وَلَهُ حُكْمُ الرُّكْنِ انْتِهَاءً».

وَيَتَفَرَّعُ عَلَى كَوْنِ الْإِحْرَامِ شَرْطًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَكَوْنِهِ يُشْبِهُ الرُّكْنَ فُرُوعٌ.مِنْهَا:

1- أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، مَعَ الْكَرَاهَةِ، لِكَوْنِ الْإِحْرَامِ شَرْطًا عِنْدَهُمْ، فَجَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْوَقْتِ.

2- لَوْ أَحْرَمَ الْمُتَمَتِّعُ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَأَتَى بِأَفْعَالِهَا، أَوْ بِرُكْنِهَا، أَوْ أَكْثَرِ الرُّكْنِ- يَعْنِي أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنَ الطَّوَافِ- فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

3- تَفَرَّعَ عَلَى شِبْهِ الْإِحْرَامِ بِالرُّكْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ الصَّبِيُّ، ثُمَّ بَلَغَ بَعْدَمَا أَحْرَمَ، فَإِنَّهُ إِذَا مَضَى فِي إِحْرَامِهِ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ.لَكِنْ لَوْ جَدَّدَ الْإِحْرَامَ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَنَوَى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ، جَازَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اعْتِبَارًا لِشَبَهِ الرُّكْنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ احْتِيَاطًا فِي الْعِبَادَةِ.

حِكْمَةُ تَشْرِيعِ الْإِحْرَامِ:

5- فَرْضِيَّةُ الْإِحْرَامِ لِلنُّسُكِ لَهَا حِكَمٌ جَلِيلَةٌ، وَأَسْرَارٌ وَمَقَاصِدُ تَشْرِيعِيَّةٌ كَثِيرَةٌ، أَهَمُّهَا: اسْتِشْعَارُ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَلْبِيَةُ أَمْرِهِ بِأَدَاءِ النُّسُكِ الَّذِي يُرِيدُهُ الْمُحْرِمُ، وَأَنَّ صَاحِبَهُ يُرِيدُ أَنْ يُحَقِّقَ بِهِ التَّعَبُّدَ وَالِامْتِثَالَ لِلَّهِ تَعَالَى.

شُرُوطُ الْإِحْرَامِ:

6- يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّةِ الْإِحْرَامِ: الْإِسْلَامَ وَالنِّيَّةَ.وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، اشْتِرَاطَ التَّلْبِيَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا.

7- وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي النِّيَّةِ لِلنُّسُكِ الْفَرْضِ تَعْيِينُ أَنَّهُ فَرْضٌ فِي النِّيَّةِ، وَلَوْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ حَجَّ حَجَّةَ الْفَرْضِ يَقَعُ عَنْهَا اتِّفَاقًا.بِخِلَافِ مَا لَوْ نَوَى حَجَّةَ نَفْلٍ فَالْمَذْهَبُ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَقَعُ عَمَّا نَوَى.

وَبِهَذَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.

وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: إِنْ أَحْرَمَ بِتَطَوُّعٍ أَوْ نَذْرٍ مَنْ لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَقَعَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ.وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ.وَقَالُوا: مَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، رَدَّ مَا أَخَذَ، وَكَانَتِ الْحَجَّةُ عَنْ نَفْسِهِ، وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ.

اسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمْ: «بِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إِلَى الْفَرْدِ الْكَامِلِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ يَقَعُ عَنْهَا اسْتِحْسَانًا، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ أَيْ إِذَا أَطْلَقَ وَلَمْ يُعَيِّنْ.»

وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: «أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ مَنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ حَجَّةَ التَّطَوُّعِ، وَيُبْقِي نَفْسَهُ فِي عُهْدَةِ الْفَرْضِ، فَيُحْمَلُ عَلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، بِدَلَالَةِ حَالِهِ، فَكَانَ الْإِطْلَاقُ فِيهِ تَعْيِينًا، كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ».

وَقَالُوا فِي اعْتِبَارِهِ عَمَّا نَوَاهُ مِنْ غَيْرِ الْفَرْضِ: «إِنَّمَا أَوْقَعْنَاهُ عَنِ الْفَرْضِ عِنْدَ إِطْلَاقِ النِّيَّةِ بِدَلَالَةِ حَالِهِ، وَالدَّلَالَةُ لَا تَعْمَلُ مَعَ النَّصِّ بِخِلَافِهِ».

وَيَشْهَدُ لَهُمْ نَصُّ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الصَّحِيحِ: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ.قَالَ: مَنْ شُبْرُمَةُ؟ قَالَ: أَخٌ لِي، أَوْ قَرِيبٌ لِي.قَالَ: حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ قَالَ: لَا.قَالَ: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ».أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا.وَفِي رِوَايَةٍ: «اجْعَلْ هَذِهِ عَنْ نَفْسِكَ..» فَاسْتَدَلُّوا بِهَا.وَقَدْ صَحَّحَ النَّوَوِيُّ أَسَانِيدَهُ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُهُ، فَرَجَّحَ إِرْسَالَهُ، وَوَقْفَهُ.وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا صَرُورَةَ فِي الْإِسْلَامِ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَاخْتُلِفَ فِي صِحَّتِهِ كَذَلِكَ.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ «وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الصَّرُورَةَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ.

وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ عِنْدَهُ: أَنَّ الصَّرُورَةَ إِذَا شَرَعَ فِي الْحَجِّ عَنْ غَيْرِهِ صَارَ الْحَجُّ عَنْهُ، وَانْقَلَبَ عَنْ فَرْضِهِ، لِيَحْصُلَ مَعْنَى النَّفْيِ، فَلَا يَكُونُ صَرُورَةً، وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ..».وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُولِ: «أَنَّ النَّفَلَ وَالنَّذْرَ أَضْعَفُ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُمَا عَلَيْهَا، كَحَجِّ غَيْرِهِ عَلَى حَجِّهِ».وَبِقِيَاسِ النَّفْلِ وَالنَّذْرِ عَلَى مَنْ أَحْرَمَ عَنْ غَيْرِهِ وَعَلَيْهِ فَرْضُهُ.

التَّلْبِيَةُ:

8- التَّلْبِيَةُ لُغَةً إِجَابَةُ الْمُنَادِي.وَالْمُرَادُ بِالتَّلْبِيَةِ هُنَا: قَوْلُ الْمُحْرِمِ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ..» أَيْ إِجَابَتِي لَكَ يَا رَبُّ.وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ «لَبَّيْكَ» إِلاَّ عَلَى لَفْظِ التَّثْنِيَةِ.وَالْمُرَادُ بِهَا التَّكْثِيرُ.وَالْمَعْنَى: أَجَبْتُكَ إِجَابَةً بَعْدَ إِجَابَةٍ، إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ.

حُكْمُ التَّلْبِيَةِ:

9- التَّلْبِيَةُ شَرْطٌ فِي الْإِحْرَامِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، لَا يَصِحُّ الْإِحْرَامُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، حَتَّى يَقْرِنَهَا بِالتَّلْبِيَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ مِنْ ذِكْرٍ وَدُعَاءٍ أَوْ سَوْقِ الْهَدْيِ.فَإِذَا نَوَى النُّسُكَ الَّذِي يُرِيدُهُ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ هُمَا مَعًا وَلَبَّى فَقَدْ أَحْرَمَ، وَلَزِمَهُ كُلُّ أَحْكَامِ الْإِحْرَامِ الْآتِيَةِ، وَأَنْ يَمْضِيَ، فِي أَدَاءِ مَا أَحْرَمَ بِهِ.وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَهُمْ «أَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالنِّيَّةِ لَكِنْ عِنْدَ التَّلْبِيَةِ، كَمَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ بِالنِّيَّةِ، لَكِنْ بِشَرْطِ التَّكْبِيرِ، لَا بِالتَّكْبِيرِ».

وَقَدْ نُقِلَ هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ بَلِ ادَّعَى فِيهِ اتِّفَاقَ السَّلَفِ.وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ التَّلْبِيَةَ لَا تُشْتَرَطُ فِي الْإِحْرَامِ، فَإِذَا نَوَى فَقَدْ أَحْرَمَ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَلَزِمَتْهُ أَحْكَامُ الْإِحْرَامِ الْآتِيَةُ، وَالْمُضِيُّ فِي أَدَاءِ مَا أَحْرَمَ بِهِ.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا: فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: هِيَ وَاجِبَةٌ فِي الْأَصْلِ، وَالسُّنَّةُ قَرْنُهَا بِالْإِحْرَامِ.وَيَلْزَمُ الدَّمُ بِطُولِ فَصْلِهَا عَنِ النِّيَّةِ.وَلَوْ رَجَعَ وَلَبَّى لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ.وَسَوَاءٌ أَكَانَ التَّرْكُ أَوْ طُولُ الْفَصْلِ عَمْدًا أَمْ نِسْيَانًا.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ- إِلَى أَنَّ التَّلْبِيَةَ سُنَّةٌ فِي الْإِحْرَامِ مُطْلَقًا.

الْمِقْدَارُ الْوَاجِبُ مِنْ لَفْظِ التَّلْبِيَةِ:

10- الصِّيغَةُ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْفُقَهَاءُ لِلتَّلْبِيَةِ: هِيَ: «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ.لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ.إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكُ.لَا شَرِيكَ لَكَ».

هَذِهِ الصِّيغَةُ الَّتِي لَزِمَهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا وَالَّذِي يَحْصُلُ بِهِ أَدَاءُ التَّلْبِيَةِ فِي الْإِحْرَامِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّعْظِيمُ.فَإِنَّ الْمَشْرُوطَ عَلَى الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ تَقْتَرِنَ النِّيَّةُ «بِذِكْرٍ يُقْصَدُ بِهِ التَّعْظِيمُ، كَتَسْبِيحٍ، وَتَهْلِيلٍ» وَلَوْ مَشُوبًا بِالدُّعَاءِ.

النُّطْقُ بِالتَّلْبِيَةِ:

11- يُشْتَرَطُ لِأَدَاءِ التَّلْبِيَةِ أَنْ تُلْفَظَ بِاللِّسَانِ، فَلَوْ ذَكَرَهَا بِقَلْبِهِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إِنَّهَا شَرْطٌ، وَمَنْ يَقُولُ إِنَّهَا وَاجِبٌ، وَمَنْ يَقُولُ إِنَّهَا سُنَّةٌ.

وَتَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَرْعَانِ:

12- الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: لَوْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، فَنَطَقَ بِالتَّلْبِيَةِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، أَجْزَأَهُ اتِّفَاقًا.أَمَّا لَوْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، فَنَطَقَ بِهَا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، فَلَا يُجْزِئُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ.وَدَلِيلُهُمْ أَنَّهُ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ، فَلَا يُشْرَعُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، كَالْأَذَانِ وَالْأَذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الصَّلَاةِ.

وَدَلِيلُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ ذِكْرٌ مَقْصُودٌ بِهِ التَّعْظِيمُ، فَإِذَا حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ أَجْزَأَهُ، وَلَوْ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ.

13- الْفَرْعُ الثَّانِي فِي الْأَخْرَسِ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُسْتَحَبُّ لَهُ تَحْرِيكُ لِسَانِهِ بِالتَّلْبِيَةِ مَعَ النِّيَّةِ، وَلَا يَجِبُ.وَقِيلَ: يَجِبُ تَحْرِيكُ لِسَانِهِ، فَإِنَّهُ نَصُّ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ.وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَلاَّ يَلْزَمَهُ فِي الْحَجِّ بِالْأَوْلَى، فَإِنَّ بَابَ الْحَجِّ أَوْسَعُ، مَعَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ فَرْضٌ قَطْعِيٌّ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالتَّلْبِيَةُ أَمْرٌ ظَنِّيٌّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.

وَقْتُ التَّلْبِيَةِ:

14- الْأَفْضَلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يُلَبِّيَ بِنِيَّةِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوْ نِيَّتِهِمَا مَعًا عَقِبَ صَلَاتِهِ رَكْعَتَيْنِ سُنَّةَ الْإِحْرَامِ، وَبَعْدَ نِيَّةِ النُّسُكِ.وَإِنْ لَبَّى بَعْدَمَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ أَوْ رَكُوبَتُهُ جَازَ، إِلَى أَنْ يَبْلُغَ نِهَايَةَ الْمِيقَاتِ، فَإِذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ وَلَمْ يُلَبِّ بِنِيَّةِ النُّسُكِ صَارَ مُجَاوِزًا لِلْمِيقَاتِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَزِمَهُ مَا يَلْزَمُ ذَاكَ عِنْدَهُمْ.

وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يُسْتَحَبُّ الْبَدْءُ بِالتَّلْبِيَةِ إِذَا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، وَاسْتَوَتْ بِهِ، لَكِنْ يَلْزَمُهُ الدَّمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ تَرَكَهَا أَوْ أَخَّرَهَا حَتَّى طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْإِحْرَامِ وَالتَّلْبِيَةِ كَمَا تَقَدَّمَ (ف9).وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِقَوْلِهِمْ إِنَّ التَّلْبِيَةَ سُنَّةٌ.

مَا يَقُومُ مَقَامَ التَّلْبِيَةِ:

15- يَقُومُ مَقَامَ التَّلْبِيَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِصِحَّةِ الْإِحْرَامِ أَمْرَانِ:

الْأَوَّلُ: كُلُّ ذِكْرٍ فِيهِ تَعْظِيمٌ لِلَّهِ تَعَالَى، كَالتَّسْبِيحِ، وَالتَّحْمِيدِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَلَوْ بِغَيْرِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ (ف 10)

الثَّانِي: تَقْلِيدُ الْهَدْيِ وَسَوْقُهُ وَالتَّوَجُّهُ مَعَهُ.وَالْهَدْيُ يَشْمَلُ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ.لَكِنْ يُسْتَثْنَى مِنَ التَّقْلِيدِ الْغَنَمُ، لِعَدَمِ سُنِّيَّةِ تَقْلِيدِ الْغَنَمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. (ر: هَدْيٌ) وَالتَّقْلِيدُ هُوَ أَنْ يَرْبِطَ فِي عُنُقِ الْبَدَنَةِ أَوِ الْبَقَرَةِ عَلَامَةً عَلَى أَنَّهُ هَدْيٌ.

شُرُوطُ إِقَامَةِ تَقْلِيدِ الْهَدْيِ وَسَوْقِهِ مَقَامَ التَّلْبِيَةِ:

16- يُشْتَرَطُ:

1- النِّيَّةُ.

2- سَوْقُ الْبَدَنَةِ وَالتَّوَجُّهُ مَعَهَا.

3- يُشْتَرَطُ- إِنْ بَعَثَ بِهَا وَلَمْ يَتَوَجَّهْ مَعَهَا- أَنْ يُدْرِكَهَا قَبْلَ الْمِيقَاتِ وَيَسُوقَهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ بَعَثَهَا لِنُسُكِ مُتْعَةٍ أَوْ قِرَانٍ، وَكَانَ التَّقْلِيدُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا إِذَا تَوَجَّهَ بِنِيَّةِ الْإِحْرَامِ وَإِنْ لَمْ يَلْحَقْهَا، اسْتِحْسَانًا. الْفَصْلُ الثَّانِي

إِبْهَامُ الْإِحْرَامِ

تَعْرِيفُهُ:

17- هُوَ أَنْ يَنْوِيَ مُطْلَقَ نُسُكٍ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، كَأَنْ يَقُولَ: أَحْرَمْتُ لِلَّهِ، ثُمَّ يُلَبِّيَ، وَلَا يُعَيِّنَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً، أَوْ يَقُولَ: نَوَيْتُ الْإِحْرَامَ لِلَّهِ تَعَالَى، لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ.، أَوْ يَنْوِيَ الدُّخُولَ فِي حُرُمَاتِ نُسُكٍ، وَلَمْ يُعَيِّنْ شَيْئًا.فَهَذَا الْإِحْرَامُ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ.وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ كُلُّ أَحْكَامِ الْإِحْرَامِ، وَعَلَيْهِ اجْتِنَابُ جَمِيعِ مَحْظُورَاتِهِ، كَالْإِحْرَامِ الْمُعَيَّنِ

وَيُسَمَّى هَذَا إِحْرَامًا مُبْهَمًا، وَيُسَمُّونَهُ أَيْضًا إِحْرَامًا مُطْلَقًا.

تَعْيِينُ النُّسُكِ:

18- ثُمَّ عَلَى هَذَا الْمُحْرِمِ التَّعْيِينُ قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِي أَفْعَالِ أَحَدِهِمَا، وَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ لِلْعُمْرَةِ، أَوْ لِلْحَجِّ، أَوْ لَهُمَا مَعًا حَسْبَمَا يَشَاءُ.وَتَرْجِعُ الْأَفْضَلِيَّةُ فِيمَا يَخْتَارُهُ وَيُعَيِّنُهُ إِلَى خِلَافِ الْمَذَاهِبِ فِي أَيِّ أَوْجُهِ الْإِحْرَامِ أَفْضَلُ: الْقِرَانُ، أَوِ التَّمَتُّعُ، أَوِ الْإِفْرَادُ، وَإِلَى حُكْمِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، إِنْ وَقَعَ هَذَا الْإِحْرَامُ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَأَرَادَ التَّعْيِينَ قَبْلَهَا.

وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ التَّعْيِينِ.

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ عَيَّنَ مَا يُرِيدُهُ قَبْلَ الطَّوَافِ فَالْعِبْرَةُ لِهَذَا التَّعْيِينِ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ لِلْعُمْرَةِ، أَوْ مُطْلَقًا بِغَيْرِ تَعْيِينٍ وَلَوْ شَوْطًا، جَعَلَ إِحْرَامَهُ لِلْعُمْرَةِ، فَيُتِمُّ مَنَاسِكَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ وَيَصِيرُ مُتَمَتِّعًا.وَعِلَّةُ جَعْلِهِ لِلْعُمْرَةِ «أَنَّ الطَّوَافَ رُكْنٌ فِي الْعُمْرَةِ، وَطَوَافُ الْقُدُومِ فِي الْحَجِّ لَيْسَ بِرُكْنٍ، بَلْ هُوَ سُنَّةٌ، فَإِيقَاعُهُ عَنِ الرُّكْنِ أَوْلَى، وَتَتَعَيَّنُ الْعُمْرَةُ بِفِعْلِهِ كَمَا تَتَعَيَّنُ بِقَصْدِهِ».

أَمَّا إِنْ لَمْ يُعَيِّنْ، وَلَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ، بَلْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ، فَيَنْصَرِفُ إِحْرَامُهُ لِلْحَجِّ.وَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ الْحَجَّ فِي وُقُوفِهِ، فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إِلَى الْحَجِّ شَرْعًا، وَعَلَيْهِ أَنْ يُتَمِّمَ مَنَاسِكَ الْحَجِّ.هَذَا مُعْتَمَدُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا إِلاَّ بَعْدَ التَّعْيِينِ، فَإِنْ طَافَ قَبْلَ أَنْ يَصْرِفَ إِحْرَامَهُ لِشَيْءٍ- سَوَاءٌ أَكَانَ أَحْرَمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَمْ لَا- وَجَبَ صَرْفُهُ لِلْحَجِّ مُفْرَدًا، وَيَكُونُ هَذَا الطَّوَافُ الْوَاقِعُ قَبْلَ الصَّرْفِ وَالتَّعْيِينِ طَوَافَ الْقُدُومِ، وَهُوَ لَيْسَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ فَلَا يَضُرُّ وُقُوعُهُ قَبْلَ الصَّرْفِ.وَلَا يَصِحُّ صَرْفُ ذَلِكَ الْإِحْرَامِ لِعُمْرَةٍ بَعْدَ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ رُكْنٌ مِنْهَا، وَقَدْ وَقَعَ قَبْلَ تَعْيِينِهَا. أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَيَشْتَرِطُونَ التَّعْيِينَ قَبْلَ الشُّرُوعِ بِأَيِّ عَمَلٍ مِنَ الْمَنَاسِكِ.فَلَوْ عَمِلَ شَيْئًا مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ التَّعْيِينِ، لَمْ يُجْزِئْهُ، وَلَمْ يَصِحَّ فِعْلُهُ.

الْإِحْرَامُ بِإِحْرَامِ الْغَيْرِ

19- هُوَ أَنْ يَنْوِيَ الْمُحْرِمُ فِي إِحْرَامِهِ مِثْلَ مَا أَحْرَمَ بِهِ فُلَانٌ، بِأَنْ يَكُونَ قَاصِدًا مُرَافَقَتَهُ، أَوِ الِاقْتِدَاءَ بِهِ لِعِلْمِهِ وَفَضْلِهِ، فَيَقُولَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُهِلُّ أَوْ أُحْرِمُ أَوْ أَنْوِي مِثْلَ مَا أَهَلَّ أَوْ نَوَى فُلَانٌ، وَيُلَبِّي.فَهَذَا الْإِحْرَامُ صَحِيحٌ، وَيَنْعَقِدُ عَلَى مِثْلِ مَا أَحْرَمَ بِهِ ذَلِكَ الشَّخْصُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ.

وَدَلِيلُهُمْ حَدِيثُ «عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَدِمَ مِنَ الْيَمَنِ وَوَافَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: بِمَ أَهْلَلْتَ؟ قَالَ: بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-.فَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ لأَحْلَلْتُ».

زَادَ فِي رِوَايَةٍ: قَالَ: «فَأَهْدِ وَامْكُثْ حَرَامًا كَمَا أَنْتَ».

الِاشْتِرَاطُ فِي الْإِحْرَامِ

20- الِاشْتِرَاطُ فِي الْإِحْرَامِ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ إِحْرَامِهِ: «إِنْ حَبَسَنِي حَابِسٌ، فَمَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي».

21- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ الِاشْتِرَاطِ، وَأَنَّهُ يُفِيدُ إِبَاحَةَ التَّحَلُّلِ مِنَ الْإِحْرَامِ عِنْدَ وُجُودِ الْحَابِسِ كَالْمَرَضِ، فَإِذَا لَمْ يَشْتَرِطْ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّحَلُّلُ ثُمَّ إِنِ اشْتَرَطَ فِي التَّحَلُّلِ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْهَدْيِ وَجَبَ الْهَدْيُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ فَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ.عَلَى تَفَاصِيلَ تَجِدُهَا فِي بَحْثِ الْإِحْصَارِ.

وَتَوَسَّعَ الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَحْرَمَ بِنُسُكِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَنْ يَشْتَرِطَ عِنْدَ إِحْرَامِهِ.وَيُفِيدُ هَذَا الشَّرْطُ عِنْدَهُمْ شَيْئَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: إِذَا عَاقَهُ عَدُوٌّ أَوْ مَرَضٌ أَوْ غَيْرُهُمَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ.الثَّانِي: أَنَّهُ مَتَى أَحَلَّ بِذَلِكَ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ وَلَا صَوْمَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَانِعُ عَدُوًّا، أَوْ مَرَضًا، أَوْ غَيْرَهُمَا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ الِاشْتِرَاطِ، وَعَدَمِ إِفَادَتِهِ لِلتَّحَلُّلِ عِنْدَ حُصُولِ الْمَانِعِ لَهُ، بَلْ يَأْخُذُ حَالُهُ حُكْمَ ذَلِكَ الْمَانِعِ، عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَبْحَثِ الْإِحْصَارِ، اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «دَخَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ وَأَنَا شَاكِيَةٌ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: حُجِّي وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي».مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَهِيَ: قوله تعالى {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ (إِحْصَارٌ).

إِضَافَةُ الْإِحْرَامِ إِلَى الْإِحْرَامِ

أَوَّلًا

إِضَافَةُ إِحْرَامِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ

22- وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لَهَا، أَوْ بَعْدَمَا طَافَ قَبْلَ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْهَا.

وَتَتَنَوَّعُ صُوَرُ إِضَافَةِ إِحْرَامِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ بِحَسَبِ حَالِ إِضَافَتِهِ، وَبِحَسَبِ حَالِ الْمُحْرِمِ، وَتَأْخُذُ كُلُّ صُورَةٍ حُكْمَهَا.

23- وَلِلْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ خَاصٌّ فِي هَذَا، لِقَوْلِهِمْ بِكَرَاهَةِ الْقِرَانِ لِلْمَكِّيِّ، وَأَنَّهُ إِنْ فَعَلَهُ جَازَ وَأَسَاءَ، وَعَلَيْهِ دَمُ جَبْرٍ لِإِسَاءَتِهِ هَذِهِ.كَمَا أَنَّ لِلْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى تَفْصِيلًا بِحَسَبِ آرَائِهِمْ فِي مَسَائِلَ مِنَ الْإِحْرَامِ وَأَوْجُهِ الْإِحْرَامِ.وَالتَّفْصِيلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْمُحْرِمَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَكِّيًّا أَوْ آفَاقِيًّا.

وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِحَالِ إِضَافَةِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ فَعَلَى وُجُوهٍ.

24- الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُدْخِلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لِلْعُمْرَةِ:

أ- إِنْ كَانَ آفَاقِيًّا صَحَّ ذَلِكَ، بِلَا كَرَاهَةٍ، وَكَانَ قَارِنًا، بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ.بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، لِحَمْلِ فِعْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى ذَلِكَ، عَلَى مَا حَقَّقَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ، وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ «حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَفِيهِ قَوْلُهَا: وَكُنْتُ مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحِضْتُ قَبْلَ أَنْ أَدْخُلَ مَكَّةَ، فَأَدْرَكَنِي يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَشَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: دَعِي عُمْرَتَكِ، وَانْقُضِي رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِي، وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ..».مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.وَعَلَّلَ الْمَالِكِيَّةُ صِحَّةَ إِرْدَافِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ بِقَوْلِهِمْ: «لِقُوَّتِهِ وَضَعْفِهَا».

ب- وَإِنْ كَانَ مَكِّيًّا (أَوْ مِيقَاتِيًّا) فَتُرْتَفَضُ عُمْرَتُهُ اتِّفَاقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَيْهِ دَمُ الرَّفْضِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لِلْمَكِّيِّ عِنْدَهُمْ «وَالنُّزُوعُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ لَازِمٌ» وَيَرْفُضُ الْعُمْرَةَ هُنَا؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ عَمَلًا، وَالْحَجُّ أَكْثَرُ عَمَلًا.فَكَانَتِ الْعُمْرَةُ أَخَفَّ مُؤْنَةً مِنَ الْحَجَّةِ، فَكَانَ رَفْضُهَا أَيْسَرَ، وَلِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ حَصَلَتْ بِسَبَبِهَا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي دَخَلَتْ فِي وَقْتِ الْحَجِّ، فَكَانَتْ أَوْلَى بِالرَّفْضِ.وَيُمْضِي حَجَّتَهُ.وَعَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِ عُمْرَتِهِ.وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ.

أَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَحُكْمُ الْآفَاقِيِّ وَالْمَكِّيِّ عِنْدَهُمْ سَوَاءٌ فِي صِحَّةِ الْإِحْرَامَيْنِ وَصَيْرُورَتِهِ قَارِنًا، تَبَعًا لِمَذْهَبِهِمْ فِي تَجْوِيزِ الْقِرَانِ لِلْمَكِّيِّ عَلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي. (ف 30)

لَكِنْ شَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنْ تَكُونَ الْعُمْرَةُ صَحِيحَةً.وَهَذَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْإِرْدَافِ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْقِرَانِ فَقَطْ وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ اشْتِرَاطَ أَنْ يَكُونَ إِدْخَالُ الْحَجِّ عَلَيْهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.

25- الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُدْخِلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ بَعْدَ أَنْ طَافَ شَيْئًا قَلِيلًا، عَلَى أَلاَّ يَتَجَاوَزَ أَقَلَّ أَشْوَاطِ طَوَافِ الْعُمْرَةِ، أَيْ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ فَمَا دُونَ ذَلِكَ.فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ:

أ- إِذَا كَانَ آفَاقِيًّا كَانَ قَارِنًا.

ب- وَإِنْ كَانَ مَكِّيًّا (أَيْ مِيقَاتِيًّا): وَجَبَ عَلَيْهِ رَفْضُ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ، عَلَى التَّحْقِيقِ فِي عِبَارَاتِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَيِّ الرَّفْضَيْنِ أَوْلَى: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَرْفُضُ الْحَجَّ.وَعَلَيْهِ لِرَفْضِهِ دَمٌ.وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُ فَائِتِ الْحَجِّ، وَحُكْمُ فَائِتِ الْحَجِّ أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ يَأْتِي بِالْحَجِّ مِنْ قَابِلٍ حَتَّى لَوْ حَجَّ فِي سَنَتِهِ سَقَطَتِ الْعُمْرَةُ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ، بَلْ كَالْمُحْصَرِ، إِذَا تَحَلَّلَ ثُمَّ حَجَّ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ، بِخِلَافِ مَا إِذَا تَحَوَّلَتِ السَّنَةُ فَإِنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْعُمْرَةُ مَعَ حَجَّتِهِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: رَفْضُ الْعُمْرَةِ أَحَبُّ إِلَيْنَا، وَيَقْضِيهَا دُونَ عُمْرَةٍ أُخْرَى، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِلرَّفْضِ.وَكَذَلِكَ هُوَ الْحُكْمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَوِ اخْتَارَ هَذَا الْمُحْرِمُ رَفْضَ الْعُمْرَةِ.

اسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى اسْتِحْبَابِ رَفْضِ الْحَجِّ بِأَنَّ إِحْرَامَ الْعُمْرَةِ قَدْ تَأَكَّدَ بِأَدَاءِ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهَا، وَإِحْرَامُ الْحَجِّ لَمْ يَتَأَكَّدْ، وَرَفْضُ غَيْرِ الْمُتَأَكِّدِ أَيْسَرُ. وَلِأَنَّ فِي رَفْضِ الْعُمْرَةِ- وَالْحَالَةُ هَذِهِ- إِبْطَالُ الْعَمَلِ، وَفِي رَفْضِ الْحَجِّ امْتِنَاعٌ عَنْهُ «وَالِامْتِنَاعُ أَوْلَى مِنَ الْإِبْطَالِ، وَاسْتَدَلَّ الصَّاحِبَانِ عَلَى أَنَّ رَفْضَ الْعُمْرَةِ أَوْلَى: بِأَنَّهَا أَدْنَى حَالًا وَأَقَلُّ أَعْمَالًا، وَأَيْسَرُ قَضَاءً، لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ».

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يَصِحُّ هَذَا الْإِرْدَافُ.وَيَصِيرُ قَارِنًا، وَيُتَابِعُ عَلَى ذَلِكَ.وَتَنْدَرِجُ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ- وَهُوَ قَوْلُ أَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ- فَقَالُوا: يَصِحُّ إِدْخَالُ الْحَجَّةِ عَلَى الْعُمْرَةِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الطَّوَافِ، فَلَوْ شَرَعَ فِي الطَّوَافِ وَلَوْ بِخُطْوَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ إِحْرَامُهُ بِالْحَجِّ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ: بِأَنَّهُ «لِاتِّصَالِ إِحْرَامِهَا بِمَقْصُودِهِ، وَهُوَ أَعْظَمُ أَفْعَالِهَا، فَلَا يَنْصَرِفُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهَا».

لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَرَّرُوا أَنَّهُ «لَوِ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ بِنِيَّةِ الطَّوَافِ فَالْأَوْجَهُ جَوَازُ الْإِدْخَالِ، إِذْ الِاسْتِلَامُ مُقَدِّمَةُ الطَّوَافِ لَا بَعْضُهُ».

26- الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُدْخِلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ بَعْدَ أَنْ يَطُوفَ أَكْثَرَ أَشْوَاطِ طَوَافِ الْعُمْرَةِ.فَهَذَا حُكْمُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ حُكْمُ مَا لَوْ أَكْمَلَ الطَّوَافَ الْآتِيَ فِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ التَّالِي؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ عِنْدَهُمْ.

وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْوَجْهِ الثَّانِي السَّابِقِ.

27- الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يُدْخِلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ بَعْدَ إِكْمَالِ طَوَافِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ.مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ التَّفْصِيلُ الْمُتَقَدِّمُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي.

وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ تَفْصِيلًا آخَرَ فَقَالُوا:

أ- إِرْدَافُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ بَعْدَ طَوَافِهَا قَبْلَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ مَكْرُوهٌ.فَإِنْ فَعَلَهُ صَحَّ، وَلَزِمَهُ، وَصَارَ قَارِنًا، وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ.

ب- إِرْدَافُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ بَعْدَ أَنْ طَافَ وَصَلَّى رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ قَبْلَ السَّعْيِ مَكْرُوهٌ، وَلَا يَصِحُّ، وَلَا يَكُونُ قَارِنًا.وَكَذَلِكَ الْإِرْدَافُ فِي السَّعْيِ، إِنْ سَعَى بَعْضَ السَّعْيِ وَأَرْدَفَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ.فَإِنْ فَعَلَ فَلْيَمْضِ عَلَى سَعْيِهِ، فَيَحِلُّ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ الْحَجَّ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَمْ غَيْرِهَا.وَحَيْثُ إِنَّ الْإِرْدَافَ لَمْ يَصِحَّ بَعْدَ الرُّكُوعِ وَقَبْلَ السَّعْيِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ فَلَا يَلْزَمُ قَضَاءُ الْإِحْرَامِ الَّذِي أَرْدَفَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ. ج- إِرْدَافُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ بَعْدَ السَّعْيِ لِلْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَلْقِ لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَأْخِيرَ الْحَلْقِ.فَإِنْ أَقْدَمَ عَلَى إِرْدَافِ الْإِحْرَامِ فِي هَذَا الْحَالِ فَإِنَّ إِحْرَامَهُ صَحِيحٌ، وَهَذَا حَجٌّ مُسْتَأْنَفٌ.وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْحَلْقُ لِلْعُمْرَةِ، لَا خِلَالَهُ بِإِحْرَامِ الْحَجِّ، وَيَلْزَمُهُ هَدْيٌ لِتَأْخِيرِ حَلْقِ الْعُمْرَةِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ، وَلَا يَكُونُ قَارِنًا وَلَا مُتَمَتِّعًا إِنْ أَتَمَّ عُمْرَتَهُ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، بَلْ يَكُونُ مُفْرِدًا.وَإِنْ فَعَلَ بَعْضَ رُكْنِهَا فِي وَقْتِ الْحَجِّ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا.

وَلَوْ قَدَّمَ الْحَلْقَ بَعْدَ إِحْرَامِهِ بِالْحَجِّ وَقَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ فَلَا يُفِيدُهُ فِي سُقُوطِ الْهَدْيِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْهَدْيِ، وَعَلَيْهِ حِينَئِذٍ فِدْيَةٌ أَيْضًا.وَهِيَ فِدْيَةُ إِزَالَةِ الْأَذَى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِدْخَالُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ بَعْدَ الطَّوَافِ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعِلَّةِ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ.وَبَعْدَ السَّعْيِ لَا يَصِحُّ، مِنْ بَابِ أَوْلَى.

إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ اسْتَثْنَوْا مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَقَالُوا: يَصِحُّ إِدْخَالُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ مِمَّنْ مَعَهُ هَدْيٌ، وَلَوْ بَعْدَ سَعْيِهَا، بَلْ يَلْزَمُهُ كَمَا يَأْتِي؛ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ لقوله تعالى {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وَيَصِيرُ قَارِنًا عَلَى الْمَذْهَبِ.

وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ، وَشَرْحِ الْمُنْتَهَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَا يَصِيرُ قَارِنًا، وَلَوْ كَانَ إِدْخَالُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ يَصِحُّ عَلَى الْمَذْهَبِ، لِصِحَّةِ الْإِحْرَامِ بِهِ قَبْلَهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

ثَانِيًا

إِضَافَةُ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ

28- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الْأَصَحُّ فِي الْمَذْهَبِ- وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ بَعْدَمَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ.وَعَلَى ذَلِكَ لَا يَصِيرُ قَارِنًا، وَلَا يَلْزَمُهُ دَمُ الْقِرَانِ، وَلَا قَضَاءُ الْعُمْرَةِ الَّتِي أَهَلَّ بِهَا.وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِكَرَاهَةِ هَذَا الْعَمَلِ، لَكِنْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ بِصِحَّةِ الْإِحْرَامِ عَلَى تَفْصِيلٍ نَذْكُرُهُ.

ثَالِثًا

الْإِحْرَامُ بِحَجَّتَيْنِ مَعًا أَوْ عُمْرَتَيْنِ مَعًا

29- إِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ أَوْ عُمْرَتَيْنِ انْعَقَدَ بِإِحْدَاهُمَا وَلَغَتِ الْأُخْرَى.وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ لَا يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فِيهِمَا، فَلَمْ يَصِحَّ الْإِحْرَامُ بِهِمَا.وَعَلَى هَذَا لَوْ أَفْسَدَ حَجَّهُ أَوْ عُمْرَتَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلاَّ قَضَاؤُهَا.

وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِحْرَامَ يَنْعَقِدُ بِهِمَا، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ إِحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِهَا وَلَمْ يُتِمَّهَا.وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلَاتٌ وَفُرُوعٌ لَا حَاجَةَ إِلَى إِيرَادِهَا هُنَا لِنُدْرَةِ وُقُوعِهَا.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

حَالَاتُ الْإِحْرَامِ

30- يَنْقَسِمُ الْإِحْرَامُ بِحَسَبِ مَا يَقْصِدُ الْمُحْرِمُ أَدَاءَهُ بِهِ مِنَ النُّسُكِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْإِفْرَادِ لِلْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوِ الْجَمْعِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ، وَهُوَ إِمَّا تَمَتُّعٌ أَوْ قِرَانٌ.

الْإِفْرَادُ: هُوَ اصْطِلَاحًا: أَنْ يُهِلَّ- أَيْ يَنْوِيَ- فِي إِحْرَامِهِ الْحَجَّ فَقَطْ، أَوِ الْعُمْرَةَ فَقَطْ.

الْقِرَانُ:

الْقِرَانُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: هُوَ أَنْ يَجْمَعَ الْآفَاقِيُّ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا قَبْلَ أَكْثَرِ طَوَافِ الْعُمْرَةِ، وَلَوْ مِنْ مَكَّةَ، وَيُؤَدِّي الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا، بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ نِيَّتَيْنِ مُرَتَّبَتَيْنِ يَبْدَأُ فِيهِمَا بِالْعُمْرَةِ، أَوْ يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ وَيُرْدِفُ الْحَجَّ عَلَيْهَا قَبْلَ طَوَافِهَا أَوْ بِطَوَافِهَا.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الْقِرَانُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ جَمِيعًا، أَوْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ يُدْخِلُ الْحَجَّ عَلَيْهَا قَبْلَ الطَّوَافِ.

وَمِثْلُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلاَّ أَنَّهُمْ لَمْ يَشْتَرِطُوا الْإِحْرَامَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.

التَّمَتُّعُ:

التَّمَتُّعُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: هُوَ التَّرَفُّقُ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، مِنْ غَيْرِ إِلْمَامٍ بَيْنَهُمَا بِأَهْلِهِ إِلْمَامًا صَحِيحًا.

وَالْإِلْمَامُ الصَّحِيحُ: هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي حَالَةِ تَحَلُّلِهِ مِنْ عُمْرَتِهِ، وَقَبْلَ شُرُوعِهِ فِي حَجَّتِهِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: التَّمَتُّعُ هُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ يُحِلَّ مِنْهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ يَحُجَّ بَعْدَهَا.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ وَيَفْرُغَ مِنْهَا ثُمَّ يُنْشِئَ حَجًّا.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ أَيْنَ شَاءَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


195-موسوعة الفقه الكويتية (إحصار 3)

إِحْصَارٌ -3

مَوَانِعُ الْمُتَابَعَةِ بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ:

53- اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَاجَّ إِذَا مُنِعَ عَنِ الْمُتَابَعَةِ بَعْدَ أَدَاءِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَطَوَافِ الْإِفَاضَةِ فَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ، أَيًّا كَانَ الْمَانِعُ عَدُوًّا أَوْ مَرَضًا أَوْ غَيْرَهُمَا وَلَيْسَ لَهُ التَّحَلُّلُ بِهَذَا الْإِحْصَارِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْحَجِّ لَا تَقِفُ عَلَى مَا بَعْدَ الْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ فِدَاءُ تَرْكِ مَا تَرَكَهُ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ.

فُرُوعٌ:

وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فُرُوعٌ فِي الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ هِيَ.

54- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ مَانِعٌ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا شَرْعًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَبْقَى مُحْرِمًا فِي حَقِّ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ إِنْ لَمْ يَحْلِقْ، وَإِنْ حَلَقَ فَهُوَ مُحْرِمٌ فِي حَقِّ النِّسَاءِ لَا غَيْرُ إِلَى أَنْ يَطُوفَ لِلزِّيَارَةِ.

وَإِنْ مُنِعَ عَنْ بَقِيَّةِ أَفْعَالِ حَجِّهِ بَعْدَ وُقُوفِهِ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ فَعَلَيْهِ أَرْبَعَةُ دِمَاءٍ مُجْتَمِعَةٌ، لِتَرْكِ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَالرَّمْيِ، وَتَأْخِيرِ الطَّوَافِ، وَتَأْخِيرِ الْحَلْقِ.وَعَلَيْهِ دَمٌ خَامِسٌ لَوْ حَلَقَ فِي الْحِلِّ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِهِ فِي الْحَرَمِ، وَسَادِسٌ لَوْ كَانَ قَارِنًا أَوْ مُتَمَتِّعًا لِفَوَاتِ التَّرْتِيبِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ لِلزِّيَارَةِ وَلَوْ إِلَى آخِرِ عُمُرِهِ، وَيَطُوفَ لِلصَّدْرِ إِنْ خَلَّى بِمَكَّةَ وَكَانَ آفَاقِيًّا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَحِلُّ إِلاَّ بِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ إِذَا كَانَ قَدَّمَ السَّعْيَ قَبْلَ الْوُقُوفِ ثُمَّ حُصِرَ بَعْدَ ذَلِكَ.وَأَمَّا إِنْ كَانَ حُصِرَ قَبْلَ سَعْيِهِ فَلَا يَحِلُّ إِلاَّ بِالْإِفَاضَةِ وَالسَّعْيِ.

وَعَلَيْهِ هَدْيٌ وَاحِدٌ لِلرَّمْيِ وَمَبِيتُ لَيَالِي مِنًى وَنُزُولُ مُزْدَلِفَةَ إِذَا تَرَكَهَا لِلْحَصْرِ عَنْهَا، كَمَا لَوْ تَرَكَهَا بِنِسْيَانِهَا جَمِيعَهَا، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِ هَدْيٌ وَاحِدٌ.«وَكَأَنَّهُمْ لَاحَظُوا أَنَّ الْمُوجِبَ وَاحِدٌ، لَا سِيَّمَا وَهُوَ مَعْذُورٌ».

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْإِحْصَارُ بَعْدَ الْوُقُوفِ، فَإِنْ تَحَلَّلَ فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَتَحَلَّلْ حَتَّى فَاتَهُ الرَّمْيُ وَالْمَبِيتُ بِمِنًى فَهُوَ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى وُجُوبِ الدَّمِ لِفَوَاتِهِمَا كَغَيْرِ الْمُحْصَرِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أُحْصِرَ عَنِ الْبَيْتِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَلَهُ التَّحَلُّلُ؛ لِأَنَّ الْحَصْرَ يُفِيدُهُ التَّحَلُّلُ مِنْ جَمِيعِهِ فَأَفَادَ التَّحَلُّلُ مِنْ بَعْضِهِ.

وَإِنْ كَانَ مَا حُصِرَ عَنْهُ لَيْسَ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ كَالرَّمْيِ، وَطَوَافِ الْوَدَاعِ، وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ، أَوْ بِمِنًى فِي لَيَالِيهَا فَلَيْسَ لَهُ تَحَلُّلُ الْإِحْصَارِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْحَجِّ لَا تَقِفُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِهِ ذَلِكَ، وَحَجُّهُ صَحِيحٌ، كَمَا لَوْ تَرَكَهُ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ.

زَوَالُ الْإِحْصَارِ:

55- اخْتَلَفَتِ الْمَذَاهِبُ فِي الْآثَارِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى زَوَالِ الْإِحْصَارِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَأْتِي الْأَحْوَالُ الْآتِيَةُ.الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَزُولَ الْإِحْصَارُ قَبْلَ بَعْثِ الْهَدْيِ مَعَ إِمْكَانِ إِدْرَاكِ الْحَجِّ.

وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَزُولَ الْإِحْصَارُ بَعْدَ بَعْثِ الْهَدْيِ، وَهُنَاكَ مُتَّسَعٌ لِإِدْرَاكِ الْهَدْيِ وَالْحَجِّ جَمِيعًا.فَفِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي مُوجِبِ إِحْرَامِهِ وَأَدَاءِ النُّسُكِ الَّذِي أَحْرَمَ بِهِ.

الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى بَعْثِ الْهَدْيِ وَلَا الْحَجِّ مَعًا.فَلَا يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ، وَيَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ، لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ مِنَ الْمُضِيِّ، فَتَقَرَّرَ الْإِحْصَارُ، فَيَتَقَرَّرُ حُكْمُهُ.فَيَصْبِرُ حَتَّى يَتَحَلَّلَ بِنَحْرِ الْهَدْيِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي وَاعَدَ عَلَيْهِ.

وَلَهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ لِيَتَحَلَّلَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ فَائِتُ الْحَجِّ.فَإِذَا تَحَلَّلَ يَلْزَمُهُ فِي الْقَضَاءِ أَدَاءُ عُمْرَةٍ إِضَافَةً لِمَا فَاتَهُ، لِمَا سَبَقَ.

الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى إِدْرَاكِ الْهَدْيِ وَلَا يَقْدِرَ عَلَى إِدْرَاكِ الْحَجِّ.فَلَا يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ فِي أَدَاءِ الْحَجِّ أَيْضًا؛ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي إِدْرَاكِ الْهَدْيِ بِدُونِ إِدْرَاكِ الْحَجِّ، إِذِ الذَّهَابُ لِأَجْلِ إِدْرَاكِ الْحَجِّ، فَإِذَا كَانَ لَا يُدْرِكُهُ فَلَا فَائِدَةَ فِي الذَّهَابِ، فَكَانَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى إِدْرَاكِ الْهَدْيِ وَعَدَمُهَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ.

الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَقْدِرَ عَلَى إِدْرَاكِ الْحَجِّ وَلَا يَقْدِرَ عَلَى إِدْرَاكِ الْهَدْيِ

قِيَاسُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَلْزَمَهُ الْمُضِيُّ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا قَدَرَ عَلَى إِدْرَاكِ الْحَجِّ لَمْ يَعْجِزْ عَنِ الْمُضِيِّ فِي الْحَجِّ، فَلَمْ يُوجَدْ عُذْرُ الْإِحْصَارِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ، وَيَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ.

وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّا لَوْ أَلْزَمْنَاهُ التَّوَجُّهَ لَضَاعَ مَالُهُ؛ لِأَنَّ الْمَبْعُوثَ عَلَى يَدَيْهِ الْهَدْيُ يَذْبَحُهُ وَلَا حَصَلَ مَقْصُودُهُ.وَالْأَوْلَى فِي تَوْجِيهِ الِاسْتِحْسَانِ أَنْ نَقُولَ: يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِدْرَاكِ الْهَدْيِ صَارَ كَأَنَّ الْإِحْصَارَ زَالَ عَنْهُ بِالذَّبْحِ، فَيَحِلُّ بِالذَّبْحِ عَنْهُ؛ وَلِأَنَّ الْهَدْيَ قَدْ مَضَى فِي سَبِيلِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالذَّبْحِ عَلَى مَنْ بَعَثَ عَلَى يَدِهِ بَدَنَةً، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الذَّهَابِ بَعْدَ مَا ذَبَحَ عَنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا.

أ- مَنْ أُحْصِرَ فَلَمَّا قَارَبَ أَنْ يَحِلَّ انْكَشَفَ الْعَدُوُّ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ وَيَنْحَرَ فَلَهُ أَنْ يَحِلَّ وَيَحْلِقَ، كَمَا لَوْ كَانَ الْعَدُوُّ قَائِمًا إِذَا فَاتَهُ الْحَجُّ فِي عَامِهِ، وَهُوَ أَيْضًا عَلَى بُعْدٍ مِنْ مَكَّةَ.

ب- إِنِ انْكَشَفَ الْحَصْرُ وَكَانَ فِي الْإِمْكَانِ إِدْرَاكُ الْحَجِّ فِي عَامِهِ فَلَا يَحِلُّ.

ج- وَأَمَّا إِنِ انْكَشَفَ الْحَصْرُ وَقَدْ ضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ إِدْرَاكِ الْحَجِّ إِلاَّ أَنَّهُ بِقُرْبِ مَكَّةَ لَمْ يَحِلَّ إِلاَّ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ مِنْ غَيْرِ كَبِيرِ مَضَرَّةٍ.

وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا

أ- إِنْ زَالَ الْإِحْصَارُ وَكَانَ الْوَقْتُ وَاسِعًا بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ تَجْدِيدُ الْإِحْرَامِ وَإِدْرَاكُ الْحَجِّ، وَكَانَ حَجُّهُ تَطَوُّعًا، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ.

ب- وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ وَاسِعًا وَكَانَتِ الْحَجَّةُ قَدْ تَقَدَّمَ وُجُوبُهَا بَقِيَ وُجُوبُهَا كَمَا كَانَ.وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْرِمَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ التَّأْخِيرُ.

ج- وَإِنْ كَانَتِ الْحَجَّةُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ وَجَبَتْ هَذِهِ السَّنَةَ بِأَنِ اسْتَطَاعَ هَذِهِ السَّنَةَ دُونَ مَا قَبْلَهَا فَقَدِ اسْتَقَرَّ الْوُجُوبُ فِي ذِمَّتِهِ لِتَمَكُّنِهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْرِمَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ التَّأْخِيرُ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى التَّرَاخِي.انْظُرْ مُصْطَلَحَ (حَجٌّ).

د- وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ ضَيِّقًا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ إِدْرَاكُ الْحَجِّ، أَيْ وَلَمْ يَسْتَقِرَّ الْوُجُوبُ فِي ذِمَّتِهِ لِكَوْنِهَا وَجَبَتْ هَذِهِ السَّنَةَ- سَقَطَ عَنْهُ الْوُجُوبُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ بَعْدَهُ لَزِمَهُ، وَإِلاَّ فَلَا.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا

أ- إِنْ لَمْ يَحِلَّ الْمُحْصَرُ حَتَّى زَالَ الْحَصْرُ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّحَلُّلُ؛ لِأَنَّهُ زَالَ الْعُذْرُ.

ب- إِنْ زَالَ الْعُذْرُ بَعْدَ الْفَوَاتِ تَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ، وَعَلَيْهِ هَدْيٌ لِلْفَوَاتِ، لَا لِلْحَصْرِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ بِالْحَصْرِ.

ج- إِنْ فَاتَهُ الْحَجُّ مَعَ بَقَاءِ الْحَصْرِ فَلَهُ التَّحَلُّلُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا حَلَّ بِالْحَصْرِ قَبْلَ الْفَوَاتِ فَمَعَهُ أَوْلَى، وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ لِلْحِلِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَلْزَمَهُ هَدْيٌ آخَرُ لِلْفَوَاتِ.

د- إِنْ حَلَّ بِالْإِحْصَارِ ثُمَّ زَالَ الْإِحْصَارُ وَأَمْكَنَهُ الْحَجُّ مِنْ عَامِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ إِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ أَوْ كَانَتِ الْحَجَّةُ وَاجِبَةً لِأَنَّ الْحَجَّ عَلَى الْفَوْرِ، وَإِنْ لَمْ نَقُلْ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ وَلَمْ تَكُنِ الْحَجَّةُ وَاجِبَةً فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ.

زَوَالُ الْإِحْصَارِ بِالْعُمْرَةِ:

56- مَعْلُومٌ أَنَّ وَقْتَ الْعُمْرَةِ جَمِيعُ الْعُمْرِ، فَلَا يَتَأَتَّى فِيهَا كُلُّ الْحَالَاتِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي زَوَالِ الْإِحْصَارِ بِالْحَجِّ.وَيَتَأَتَّى فِيهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْأَحْوَالُ التَّالِيَةُ

الْحَالُ الْأُولَى: أَنْ يَزُولَ الْإِحْصَارُ قَبْلَ الْبَعْثِ بِالْهَدْيِ.وَهَذَا يَلْزَمُهُ التَّوَجُّهُ لِأَدَاءِ الْعُمْرَةِ وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ.الْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَمَكَّنَ بَعْدَ زَوَالِ الْإِحْصَارِ مِنْ إِدْرَاكِ الْهَدْيِ وَالْعُمْرَةِ، وَهَذَا يَلْزَمُهُ التَّوَجُّهُ لِأَدَاءِ الْعُمْرَةِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ.الْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ إِدْرَاكِ الْعُمْرَةِ فَقَطْ دُونَ الْهَدْيِ.

وَهَذِهِ حُكْمُهَا فِي الِاسْتِحْسَانِ أَلاَّ يَلْزَمَهُ التَّوَجُّهُ، وَفِي الْقِيَاسِ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّوَجُّهُ.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا

أ- إِنِ انْكَشَفَ الْعَدُوُّ عَنِ الْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ وَكَانَ بَعِيدًا مِنْ مَكَّةَ وَبَلَغَ أَنْ يَحِلَّ فَلَهُ أَنْ يَحِلَّ.

ب- وَإِنِ انْكَشَفَ الْعَدُوُّ وَكَانَ قَرِيبًا مِنْ مَكَّةَ «يَنْبَغِي أَلاَّ يَتَحَلَّلَ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى فِعْلِ الْعُمْرَةِ، كَمَا لَوِ انْكَشَفَ الْعَدُوُّ فِي الْحَجِّ وَالْوَقْتُ مُتَّسِعٌ».

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَعِنْدَهُمْ:

أ- إِنِ انْصَرَفَ الْعَدُوُّ قَبْلَ تَحَلُّلِ الْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّحَلُّلُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الْعُمْرَةِ.

ب- إِنِ انْصَرَفَ الْعَدُوُّ بَعْدَ التَّحَلُّلِ وَكَانَتِ الْعُمْرَةُ الَّتِي تَحَلَّلَ عَنْهَا وَاجِبَةً، وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا، لَكِنَّهُ لَا يُلْزَمُ بِهِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ.

ج- إِنْ زَالَ الْحَصْرُ بَعْدَ التَّحَلُّلِ وَكَانَتِ الْعُمْرَةُ تَطَوُّعًا فَعَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ وُجُوبِ قَضَاءِ التَّطَوُّعِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

تَفْرِيعٌ عَلَى التَّحَلُّلِ وَزَوَالِ الْإِحْصَارِ:

أ- (فَرْعٌ) فِي تَحَلُّلِ الْمُحْصَرِ مِنَ الْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ ثُمَّ زَوَالِ إِحْصَارِهِ:

57- يَتَفَرَّعُ عَلَى تَحَلُّلِ الْمُحْصَرِ مِنَ الْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ ثُمَّ زَوَالِ إِحْصَارِهِ: أَنَّهُ إِذَا تَحَلَّلَ الْمُحْصَرُ مِنَ الْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ، ثُمَّ زَالَ الْإِحْصَارُ وَفِي الْوَقْتِ مُتَّسَعٌ، فَإِنَّهُ يَقْضِي الْحَجَّ الْفَاسِدَ مِنْ سَنَتِهِ، وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْفَوْرِ.وَهَذِهِ لَطِيفَةٌ: أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ قَضَاءِ الْحَجِّ الْفَاسِدِ فِي سَنَةِ الْإِفْسَادِ نَفْسِهَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَقَّقَ ذَلِكَ إِلاَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ب- (فَرْعٌ) فِي الْإِحْصَارِ بَعْدَ الْإِحْصَارِ:

58- إِنْ بَعَثَ الْمُحْصَرُ بِالْهَدْيِ إِلَى الْحَرَمِ ثُمَّ زَالَ إِحْصَارُهُ، وَحَدَثَ إِحْصَارٌ آخَرُ، فَإِنْ عَلِمَ الْمُحْصَرُ أَنَّهُ يُدْرِكُ الْهَدْيَ حَيًّا، وَنَوَى بِهِ التَّحَلُّلَ مِنْ إِحْصَارِهِ الثَّانِي بَعْدَ تَصَوُّرِ إِدْرَاكِهِ جَازَ وَحَلَّ بِهِ، إِنْ صَحَّتْ شُرُوطُهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ يَجُزْ أَصْلًا.وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ بِوُجُوبِ بَعْثِ الْمُحْصَرِ هَدْيَهُ إِلَى الْحَرَمِ، أَمَّا عِنْدَ غَيْرِهِمْ فَهُوَ إِحْصَارٌ قَبْلَ التَّحَلُّلِ، يَتَحَلَّلُ مِنْهُ بِمَا يَتَحَلَّلُ مِنَ الْإِحْصَارِ السَّابِقِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


196-موسوعة الفقه الكويتية (إرث 1)

إِرْثٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الْإِرْثِ فِي اللُّغَةِ: الْأَصْلُ، وَالْأَمْرُ الْقَدِيمُ تَوَارَثَهُ الْآخَرُ عَنِ الْأَوَّلِ، وَالْبَقِيَّةُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.وَهَمْزَتُهُ أَصْلُهَا وَاوٌ.وَيُطْلَقُ الْإِرْثُ وَيُرَادُ مِنْهُ انْتِقَالُ الشَّيْءِ مِنْ قَوْمٍ إِلَى قَوْمٍ آخَرِينَ.وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ مِنْهُ الْمَوْرُوثُ.وَيُقَارِبُهُ عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ فِي الْمَعْنَى التَّرِكَةُ.وَعِلْمُ الْمِيرَاثِ- وَيُسَمَّى أَيْضًا عِلْمَ الْفَرَائِضِ- هُوَ عِلْمٌ بِأُصُولٍ مِنْ فِقْهٍ وَحِسَابٍ تُعَرِّفُ حَقَّ كُلٍّ فِي التَّرِكَةِ.وَالْإِرْثُ اصْطِلَاحًا: عَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي أَفْضَلُ الدِّينِ الْخُونَجِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ حَقٌّ قَابِلٌ لِلتَّجَزُّؤِ يَثْبُتُ لِمُسْتَحِقِّهِ بَعْدَ مَوْتِ مَنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِقَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا أَوْ نَحْوِهَا.

أَهَمِّيَّةُ الْإِرْثِ:

2- مَعْرِفَةُ الْفَرَائِضِ مِنْ أَهَمِّ الْعُلُومِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَرْكَانِ الدِّينِ.وَقَدْ حَثَّ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى تَعْلِيمِهَا وَتَعَلُّمِهَا.فَقَدْ رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-.أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ، وَتَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ، فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ، وَسَيُقْبَضُ هَذَا الْعِلْمُ مِنْ بَعْدِي حَتَّى يَتَنَازَعَ الرَّجُلَانِ فِي فَرِيضَةٍ فَلَا يَجِدَانِ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا».

وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ مُذَاكَرَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا فِي عِلْمِ الْفَرَائِضِ وَمُدِحُوا عَلَى ذَلِكَ.

عَلَاقَةُ الْإِرْثِ بِالْفِقْهِ:

3- وَالْفُقَهَاءُ فِي الْمَذَاهِبِ الْإِسْلَامِيَّةِ حِينَ يَتَكَلَّمُونَ عَنِ الْمِيرَاثِ يُعَنْوِنَونَ لِذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ بِكِتَابِ الْفَرَائِضِ.وَقَدْ أَفْرَدَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِكُتُبٍ مُسْتَقِلَّةٍ عَنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.وَابْتَدَأَ ذَلِكَ مِنَ الْقَرْنِ الثَّانِي لِلْهِجْرَةِ مَعَ ابْتِدَاءِ تَدْوِينِ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ.

وَمِنْ أَوَّلِ مَنْ أَلَّفَ الْكُتُبَ الْخَاصَّةَ بِأَحْكَامِ الْفَرَائِضِ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ ابْنُ شُبْرُمَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو ثَوْرٍ.

وَكَانَتْ كُتُبُ الْفِقْهِ الْمُدَوَّنَةُ فِي هَذَيْنِ الْقَرْنَيْنِ خَالِيَةً مِنْ أَحْكَامِ الْفَرَائِضِ مِثْلَ الْمُدَوَّنَةِ لِسَحْنُونٍ وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَالْأُمِّ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ.

وَعَلَى الْخِلَافِ مِنْ ذَلِكَ كَانَتْ كُتُبُ السُّنَّةِ، فَقَدْ شَمِلَتْ أَحْكَامَ الْفَرَائِضِ مَعَ أَحْكَامِ الْفِقْهِ كَالْمُوَطَّأِ وَمُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَصَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَصَحِيحِ مُسْلِمٍ.

وَلَمْ تَبْدَأْ كُتُبُ الْفِقْهِ تَشْمَلُ أَحْكَامَ الْفَرَائِضِ إِلاَّ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ، مِثْلَ رِسَالَةِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَمُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَاسْتَمَرَّ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.

دَلِيلُ مَشْرُوعِيَّتِهِ:

4- الْمِيرَاثُ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.

أَمَّا الْكِتَابُ فَآيَاتُ الْمَوَارِيثِ.وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَحَادِيثُ مِثْلُ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» وَمِثْلُ ثُبُوتِ مِيرَاثِ الْجَدَّةِ لِأُمٍّ بِشَهَادَةِ الْمُغِيرَةِ وَابْنِ سَلَمَةَ لَدَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَرَّثَهَا، وَلَمْ يَرِدْ تَوْرِيثُهَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ

وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَمِثْلُ إِرْثِ الْجَدَّةِ لِأَبٍ بِاجْتِهَادِ عُمَرَ- رضي الله عنه- الدَّاخِلِ فِي عُمُومِ الْإِجْمَاعِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي ذَلِكَ.

التَّدَرُّجُ فِي تَشْرِيعِ الْمِيرَاثِ:

5- كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَوَارَثُونَ بِشَيْئَيْنِ: النَّسَبُ وَالسَّبَبُ.

فَأَمَّا مَا يَسْتَحِقُّ بِالنَّسَبِ فَلَمْ يَكُونُوا يُوَرِّثُونَ الصِّغَارَ وَلَا الْإِنَاثَ، وَإِنَّمَا يُوَرِّثُونَ مَنْ قَاتَلَ وَحَازَ الْغَنِيمَةَ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَآخَرِينَ إِلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَسْتَفْتُونَك فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ}: إِلَى قوله تعالى: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}.

وَقَدْ كَانُوا بَعْدَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْمُنَاكَحَاتِ وَالطَّلَاقِ وَالْمِيرَاثِ إِلَى أَنْ نُقِلُوا عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ بِالشَّرِيعَةِ.

قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: «أَبَلَغَكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَقَرَّ النَّاسَ عَلَى مَا أَدْرَكَهُمْ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ مِيرَاثٍ؟، قَالَ: لَمْ يَبْلُغْنَا إِلاَّ ذَلِكَ».

وَرَوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا- صلى الله عليه وسلم- وَالنَّاسُ عَلَى أَمْرِ جَاهِلِيَّتِهِمْ إِلَى أَنْ يُؤْمَرُوا بِشَيْءٍ أَوْ يُنْهَوْا عَنْهُ، وَإِلاَّ فَهُمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ جَاهِلِيَّتِهِمْ.

وَكَانَ السَّبَبُ الَّذِي يَتَوَارَثُونَ بِهِ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْحَلِفُ وَالْمُعَاقَدَةُ، وَالْآخَرُ التَّبَنِّي.ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَتُرِكُوا بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ نُسِخَ.فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْحَلِفِ وَالْمُعَاقَدَةِ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ ثُمَّ نُسِخَ، وَقَالَ شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ فِي قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ عَقَدَت أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}: كَانَ الرَّجُلُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ: دَمِي دَمُكَ، وَهَدْمِي هَدْمُكَ، وَتَرِثُنِي وَأَرِثُكَ، وَتُطْلَبُ بِي وَأُطْلَبُ بِكَ.قَالَ: فَوَرَّثُوا السُّدُسَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْوَالِ، ثُمَّ يَأْخُذُ أَهْلُ الْمِيرَاثِ مِيرَاثَهُمْ، ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}.

الْحُقُوقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَّرِكَةِ وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَهَا:

6- مِنْ إِطْلَاقَاتِ الْإِرْثِ لُغَةً: التَّرِكَةُ.وَهِيَ فِي الِاصْطِلَاحِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: مَا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ مِنْ أَمْوَالٍ وَحُقُوقٍ.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: هِيَ مَا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ مِنَ الْأَمْوَالِ صَافِيًا عَنْ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِعَيْنٍ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَالْأَصْلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْحُقُوقَ لَا يُورَثُ مِنْهَا إِلاَّ مَا كَانَ تَابِعًا لِلْمَالِ أَوْ فِي مَعْنَى الْمَالِ، كَحَقِّ التَّعَلِّي وَحُقُوقِ الِارْتِفَاقِ، أَمَّا حَقُّ الْخِيَارِ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ وَحَقُّ الِانْتِفَاعِ بِالْعَيْنِ الْمُوصَى بِهَا فَلَا تُورَثُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَيَدْخُلُ فِي التَّرِكَةِ اتِّفَاقًا الدِّيَةُ الْوَاجِبَةُ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ، أَوْ بِالصُّلْحِ عَنِ الْعَمْدِ، أَوْ بِانْقِلَابِ الْقِصَاصِ مَالًا بِعَفْوِ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ فَتُقْضَى مِنْهُ دُيُونُ الْمَيِّتِ وَتَنْفُذُ وَصَايَاهُ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُبْدَأُ مِنَ التَّرِكَةِ بِالدُّيُونِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَعْيَانِهَا قَبْلَ الْوَفَاةِ كَالْأَعْيَانِ الْمَرْهُونَةِ، لِأَنَّ الْمُوَرِّثَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْأَعْيَانِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ، فَأَوْلَى أَلاَّ يَكُونَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ بَعْدَ وَفَاتِهِ.

فَإِذَا كَانَتْ التَّرِكَةُ كُلُّهَا مَرْهُونَةً فِي دَيْنٍ فَإِنَّ الْمُوَرِّثَ (الْمَيِّتَ) لَا يُجَهَّزُ إِلاَّ بَعْدَ سَدَادِ الدَّيْنِ، أَوْ فِيمَا يَفْضُلُ بَعْدَ سَدَادِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ سَدَادِ الدَّيْنِ يَكُونُ تَجْهِيزُهُ عَلَى مَنْ كَانَتْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فِي حَيَاتِهِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ بُدِئَ بِتَكْفِينِهِ وَتَجْهِيزِهِ مُقَدَّمًا عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا تُقَدَّمُ نَفَقَةُ الْمُفْلِسِ عَلَى دُيُونِ غُرَمَائِهِ، ثُمَّ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ تُقْضَى دُيُونُهُ مِنْ جَمِيعِ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ.

7- لَكِنْ اُخْتُلِفَ فِي الدُّيُونِ الَّتِي تُقْضَى بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ:

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الدَّيْنَ إِنْ كَانَ لِلْعِبَادِ فَالْبَاقِي بَعْدَ تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ إِنْ وَفَى بِهِ فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَفِ فَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ وَاحِدًا يُعْطِي لَهُ الْبَاقِيَ.وَمَا بَقِيَ لَهُ عَلَى الْمَيِّتِ إِنْ شَاءَ عَفَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ.

وَإِنْ كَانَ الْغَرِيمُ مُتَعَدِّدًا، فَإِنْ كَانَ الْكُلُّ دَيْنَ الصِّحَّةِ- وَهُوَ مَا كَانَ ثَابِتًا بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الْإِقْرَارِ فِي زَمَانِ صِحَّةِ الْمَدِينِ- أَوْ كَانَ الْكُلُّ دَيْنَ الْمَرَضِ- وَهُوَ مَا كَانَ ثَابِتًا بِإِقْرَارِهِ فِي مَرَضِهِ- فَإِنَّهُ يُصْرَفُ الْبَاقِي إِلَيْهِمْ عَلَى حَسَبِ مَقَادِيرِ دُيُونِهِمْ.

وَإِنِ اجْتَمَعَ الدَّيْنَانِ مَعًا يُقَدَّمُ دَيْنُ الصِّحَّةِ لِكَوْنِهِ أَقْوَى، لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ عَنِ التَّبَرُّعِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، فَفِي إِقْرَارِهِ حِينَئِذٍ نَوْعُ ضَعْفٍ.

وَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ عُلِمَ ثُبُوتُهُ بِطَرِيقِ الْمُعَايَنَةِ، كَاَلَّذِي يَجِبُ بَدَلًا عَنْ مَالِ مِلْكِهِ أَوِ اسْتَهْلَكَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ دَيْنِ الصِّحَّةِ، إِذْ قَدْ عُلِمَ وُجُوبُهُ بِغَيْرِ إِقْرَارِهِ، فَلِذَلِكَ سَاوَاهُ فِي الْحُكْمِ.

وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ- تَعَالَى- كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَحِجَّةِ الْإِسْلَامِ وَالنَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ، فَإِنْ أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ وَجَبَ تَنْفِيذُهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ الْبَاقِي بَعْدَ دَيْنِ الْعِبَادِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ لَمْ يَجِبْ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ تُقْضَى دُيُونُ الْمَيِّتِ الَّتِي لآِدَمِيٍّ كَانَتْ بِضَامِنٍ أَمْ لَا.حَالَّةً كَانَتْ أَوْ مُؤَجَّلَةً لِأَنَّ الْمُؤَجَّلَةَ تَحِلُّ بِالْمَوْتِ، ثُمَّ هَدْيُ تَمَتُّعٍ إِنْ مَاتَ بَعْدَ رَمْيِ الْعَقَبَةِ أَوْصَى بِهِ أَمْ لَا، ثُمَّ زَكَاةُ فِطْرٍ فَرَّطَ فِيهَا، وَكَفَّارَاتٌ فَرَّطَ فِيهَا، مِثْلُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالصَّوْمِ وَالظِّهَارِ وَالْقَتْلِ إِذَا أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ أَنَّهَا بِذِمَّتِهِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.سَوَاءٌ أَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا أَمْ لَمْ يُوصِ، لِأَنَّ الْمُقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ مَتَى أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ بِهَا خَرَجَتْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، أَوْصَى بِهَا أَمْ لَا، فَإِنْ أَوْصَى بِهَا، وَلَمْ يُشْهِدْ فَمِنَ الثُّلُثِ، وَمِثْلُ الْكَفَّارَاتِ عِنْدَهُمْ الَّتِي أَشْهَدَ بِهَا زَكَاةُ عَيْنٍ حَلَّتْ وَأَوْصَى بِهَا، وَزَكَاةُ مَاشِيَةٍ حَلَّتْ وَلَا سَاعِيَ، وَلَمْ تُوجَدِ السِّنُّ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا، فَإِنْ وُجِدَ فَهُوَ كَالدَّيْنِ الْمُتَعَلِّقِ بِحَقٍّ فَيَجِبُ إِخْرَاجُهُ قَبْلَ الْكَفَنِ وَالتَّجْهِيزِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ تُقْضَى الدُّيُونُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِذِمَّةِ الْمَيِّتِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ لِلَّهِ- تَعَالَى- أَمْ لآِدَمِيٍّ أَوْصَى بِهَا أَمْ لَا، لِأَنَّهَا حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَيُقَدَّمُ دَيْنُ اللَّهِ- تَعَالَى- كَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا عَلَى دَيْنِ الْآدَمِيِّ.وَذَلِكَ فِيمَا إِذَا تَلِفَ الْمَالُ.فَلَوْ كَانَ بَاقِيًا فَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الزَّكَاةِ فَتَخْرُجُ قَبْلَ التَّجْهِيزِ كَمَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ، وَإِنْ كَانَتِ الدُّيُونُ مُتَعَلِّقَةً بِعَيْنٍ قُدِّمَتْ عَلَى التَّجْهِيزِ كَمَا سَبَقَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ يُوفَى حَقُّ مُرْتَهِنٍ لَدَيْهِ، ثُمَّ إِنْ فَضَلَ لِلْمُرْتَهِنِ شَيْءٌ مِنْ دَيْنِهِ شَارَكَ الْغُرَمَاءَ، لِأَنَّهُ سَاوَاهُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ رُدَّ عَلَى الْمَالِ لِيُقْسَمَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ، ثُمَّ بَعْدَمَا سَبَقَ تُسَدَّدُ الدُّيُونُ غَيْرُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَعْيَانِ وَهِيَ الَّتِي ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ.وَيَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالتَّرِكَةِ كُلِّهَا وَإِنْ لَمْ يَسْتَغْرِقْهَا الدَّيْنُ سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ لِلَّهِ- تَعَالَى- كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحَجِّ الْوَاجِبِ، أَمْ كَانَ لآِدَمِيٍّ كَالْقَرْضِ وَالثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ، فَإِنْ زَادَتِ الدُّيُونُ عَنِ التَّرِكَةِ وَلَمْ تَفِ بِدَيْنِ اللَّهِ- تَعَالَى- وَدَيْنِ الْآدَمِيِّ يَتَحَاصُّونَ عَلَى نِسْبَةِ دُيُونِهِمْ كَمَالِ الْمُفْلِسِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الدُّيُونُ لِلَّهِ- تَعَالَى- أَمْ لِلْآدَمِيِّينَ أَمْ مُخْتَلِفَةً، ثُمَّ بَعْدَ الدَّيْنِ الْوَصِيَّةُ لِلْأَجْنَبِيِّ- وَهُوَ مَنْ لَيْسَ بِوَارِثٍ- مِنْ ثُلُثِ مَا يَفِي مِنَ الْمَالِ بَعْدَ الْحُقُوقِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ فَلَا بُدَّ مِنْ إِجَازَةِ بَاقِي الْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لِأَجْنَبِيٍّ فَمَا يَزِيدُ عَنِ الثُّلُثِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ كُلِّ الْوَرَثَةِ.

8- وَالْفُقَهَاءُ مُجْمِعُونَ- كَمَا سَبَقَ- عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ، لِمَا قَالَهُ عَلِيٌّ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَضَى أَنَّ الدَّيْنَ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ»، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ تَسْتَغْرِقُهُ حَاجَتُهُ فَقُدِّمَ كَمَئُونَةِ تَجْهِيزِهِ، ثُمَّ تَنْفُذُ وَصَايَاهُ. 9- وَإِنَّمَا قُدِّمَتْ الْوَصِيَّةُ فِي الذِّكْرِ عَلَى الدَّيْنِ فِي الْآيَةِ {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الْمِيرَاثَ، لِكَوْنِهَا مَأْخُوذَةً بِلَا عِوَضٍ، فَيَشُقُّ إِخْرَاجُهَا عَلَى الْوَرَثَةِ، فَكَانَتْ لِذَلِكَ مَظِنَّةً فِي التَّفْرِيطِ فِيهَا بِخِلَافِ الدَّيْنِ فَإِنَّ نُفُوسَهُمْ مُطْمَئِنَّةٌ إِلَى أَدَائِهِ، فَقُدِّمَ ذِكْرُهَا حَثًّا عَلَى أَدَائِهَا، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا مِثْلُهُ فِي وُجُوبِ الْأَدَاءِ، أَوِ الْمُسَارَعَةِ إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ جِيءَ بَيْنَهُمَا بِكَلِمَةِ التَّسْوِيَةِ، وَأَيْضًا إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالتَّبَرُّعَاتِ وَلَيْسَ فِي التَّرِكَةِ وَفَاءٌ بِالْكُلِّ فَتَقْدِيمُهُ عَلَيْهَا ظَاهِرٌ، لِأَنَّ أَدَاءَ الدَّيْنِ فَرْضٌ عَلَيْهِ يُجْبَرُ عَلَى أَدَائِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَالْوَصِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ تَطَوُّعٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْفَرْضَ أَقْوَى.

10- ثُمَّ بَعْدَ التَّكْفِينِ وَالدَّيْنِ تَنْفُذُ الْوَصَايَا مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ، وَذَلِكَ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ- عَدَا خُوَاهَرْ زَادَهْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- لَا مِنْ أَصْلِ الْمَالِ، لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّكْفِينِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ قَدْ صَارَ مَصْرُوفًا فِي ضَرُورَاتِهِ الَّتِي لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا، فَالْبَاقِي هُوَ مَالُهُ الَّذِي كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي ثُلُثِهِ، وَأَيْضًا رُبَّمَا اسْتَغْرَقَ ثُلُثُ الْأَصْلِ جَمِيعَ الْبَاقِي، فَيُؤَدِّي إِلَى حِرْمَانِ الْوَرَثَةِ بِسَبَبِ الْوَصِيَّةِ، وَهَذَا سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُطْلَقَةً أَمْ مُعَيَّنَةً، وَهُوَ الصَّحِيحُ.

11- وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُعَيَّنَةً كَانَتْ مُقَدَّمَةً عَلَى الْإِرْثِ.وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً كَأَنْ يُوصِيَ بِثُلُثِ مَالِهِ أَوْ رُبُعِهِ كَانَتْ فِي مَعْنَى الْمِيرَاثِ لِشُيُوعِهَا فِي التَّرِكَةِ، فَيَكُونُ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكًا لِلْوَرَثَةِ لَا مُقَدَّمًا عَلَيْهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَى شُيُوعِهِ فِيهَا كَحَقِّ الْوَارِثِ أَنَّهُ إِذَا زَادَ الْمَالُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ زَادَ عَلَى الْحَقَّيْنِ، وَإِذَا نَقَصَ نَقَصَ عَنْهُمَا، حَتَّى إِذَا كَانَ مَالُهُ حَالَ الْوَصِيَّةِ أَلْفًا مَثَلًا فَصَارَ أَلْفَيْنِ، فَلَهُ ثُلُثُ الْأَلْفَيْنِ.وَإِنِ انْعَكَسَ فَلَهُ ثُلُثُ الْأَلْفِ.

ثُمَّ بَعْدَ التَّكْفِينِ وَالدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ يُقْسَمُ الْبَاقِي مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الَّذِينَ ثَبَتَ إِرْثُهُمْ بِالْكِتَابِ وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، أَوِ الَّذِينَ ثَبَتَ إِرْثُهُمْ بِالنِّسْبَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَطْعِمُوا الْجَدَّاتِ السُّدُسَ»، أَوِ الَّذِينَ ثَبَتَ إِرْثُهُمْ بِالْإِجْمَاعِ كَالْجَدِّ وَابْنِ الِابْنِ وَبِنْتِ الِابْنِ وَسَائِرِ مَنْ عُلِمَ تَوْرِيثُهُمْ بِالْإِجْمَاعِ.

أَرْكَانُ الْإِرْثِ:

12- الرُّكْنُ لُغَةً جَانِبُ الشَّيْءِ الْأَقْوَى، وَفِي الِاصْطِلَاحِ عِبَارَةٌ عَنْ جُزْءِ الْمَاهِيَّةِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِرْثَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ مِنْهُ الِاسْتِحْقَاقُ وَبِهَذَا الْإِطْلَاقِ لَهُ أَرْكَانٌ ثَلَاثَةٌ إِنْ وُجِدَتْ كُلُّهَا تَحَقَّقَتِ الْوِرَاثَةُ، وَإِنْ فُقِدَ رُكْنٌ مِنْهَا فَلَا إِرْثَ.

أَوَّلُهَا: الْمُورَثُ وَهُوَ الْمَيِّتُ أَوِ الْمُلْحَقُ بِالْأَمْوَاتِ.

وَثَانِيهَا: الْوَارِثُ وَهُوَ الْحَيُّ بَعْدَ الْمُورَثِ أَوِ الْمُلْحَقُ بِالْأَحْيَاءِ.

وَثَالِثُهَا: الْمَوْرُوثُ (أَيِ التَّرِكَةُ) وَهُوَ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَالِ، بَلْ يَشْمَلُ الْمَالَ وَغَيْرَهُ.

وَعَلَى هَذَا فَمَنْ مَاتَ وَلَهُ وَارِثٌ وَلَا مَالَ لَهُ فَلَا إِرْثَ وَكَذَلِكَ مَنْ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ فَلَا إِرْثَ أَيْضًا عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى بَيْتَ الْمَالِ وَارِثًا، كَمَا سَيَأْتِي.

شُرُوطُ الْمِيرَاثِ:

13- الشُّرُوطُ جَمْعُ شَرْطٍ وَهُوَ لُغَةً الْعَلَامَةُ.وَاصْطِلَاحًا مَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ لِذَاتِهِ وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْمَاهِيَّةِ.

(وَلِلْإِرْثِ شُرُوطٌ ثَلَاثَةٌ):

أَوَّلُهَا: تَحَقُّقُ مَوْتِ الْمُورَثِ أَوْ إِلْحَاقُهُ بِالْمَوْتَى حُكْمًا كَمَا فِي الْمَفْقُودِ إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِمَوْتِهِ أَوْ تَقْدِيرًا كَمَا فِي الْجَنِينِ الَّذِي انْفَصَلَ بِجِنَايَةٍ عَلَى أُمِّهِ تُوجِبُ غُرَّةً.

ثَانِيهَا: تَحَقُّقُ حَيَاةِ الْوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُورَثِ، أَوْ إِلْحَاقُهُ بِالْأَحْيَاءِ تَقْدِيرًا، كَحَمْلٍ انْفَصَلَ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً لِوَقْتٍ يَظْهَرُ مِنْهُ وُجُودُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَلَوْ نُطْفَةً عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي فِي مِيرَاثِ الْحَمْلِ.

ثَالِثُهَا: الْعِلْمُ بِالْجِهَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْإِرْثِ مِنْ زَوْجِيَّةٍ أَوْ قَرَابَةٍ أَوْ وَلَاءٍ، وَتَعَيُّنُ جِهَةِ الْقَرَابَةِ مِنْ بُنُوَّةٍ أَوْ أُبُوَّةٍ أَوْ أُمُومَةٍ أَوْ أُخُوَّةٍ أَوْ عُمُومَةٍ، وَالْعِلْمُ بِالدَّرَجَةِ الَّتِي اجْتَمَعَ الْمَيِّتُ وَالْوَارِثُ فِيهَا.

أَسْبَابُ الْإِرْثِ:

14- السَّبَبُ لُغَةً مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ.وَاصْطِلَاحًا: مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ وَمِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ لِذَاتِهِ.

أَسْبَابُ الْإِرْثِ أَرْبَعَةٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَالرَّابِعُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.

فَالثَّلَاثَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا: النِّكَاحُ، وَالْوَلَاءُ، وَالْقَرَابَةُ، وَيُعَبِّرُ عَنْهَا الْحَنَفِيَّةُ بِالرَّحِمِ، وَالرَّابِعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ هُوَ جِهَةُ الْإِسْلَامِ، وَاَلَّذِي يَرِثُ بِهَذَا السَّبَبِ- عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهِ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- هُوَ بَيْتُ الْمَالِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ.

وَكُلُّ سَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ يُفِيدُ الْإِرْثَ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ

مَوَانِعُ الْإِرْثِ:

15- الْمَانِعُ: مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْعَدَمُ.

وَمَوَانِعُ الْإِرْثِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ثَلَاثَةٌ: الرِّقُّ، وَالْقَتْلُ، وَاخْتِلَافُ الدِّينِ، وَاخْتَلَفُوا فِي ثَلَاثَةٍ أُخْرَى وَهِيَ: الرِّدَّةُ، وَاخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ، وَالدَّوْرُ الْحُكْمِيُّ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مِنَ الْمَوَانِعِ جَهْلُ تَأَخُّرِ مَوْتِ الْوَارِثِ عَنْ مَوْتِ الْمُورَثِ وَاللِّعَانُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذِهِ الْمَوَانِعِ كُلِّهَا. الرِّقُّ:

16- اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ الرِّقَّ الْكَامِلَ يَمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ.وَذَلِكَ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ مِنَ الْمَالِ فَهُوَ لِمَوْلَاهُ.فَلَوْ وَرَّثْنَاهُ مِنْ أَقْرِبَائِهِ لَوَقَعَ الْمِلْكُ لِسَيِّدِهِ، فَيَكُونُ تَوْرِيثًا لِلْأَجْنَبِيِّ بِلَا سَبَبٍ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ إِجْمَاعًا.

الْقَتْلُ:

17- اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقِصَاصُ يَمْنَعُ الْقَاتِلَ الْبَالِغَ الْعَاقِلَ مِنَ الْمِيرَاثِ إِذَا كَانَ الْقَتْلُ مُبَاشِرًا.وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْقَتْلِ الَّذِي يُوجِبُ الْقِصَاصَ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ الْقَاتِلُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ غَيْرَ مُبَاشِرٍ لِلْقَتْلِ أَوْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً.فَذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْقَتْلَ الْعُدْوَانَ الْعَمْدَ الْمُوجِبَ لِلْقِصَاصِ: هُوَ أَنْ يَقْصِدَ الْجَانِي مَنْ يَعْلَمُهُ آدَمِيًّا مَعْصُومًا فَيَقْتُلَهُ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مَوْتُهُ بِهِ.

وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ الَّذِي يُوجِبُ الْقِصَاصَ: مَا يَكُونُ بِضَرْبَةِ سِلَاحٍ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فِي تَفْرِيقِ الْأَجْزَاءِ كَالْمُحَدَّدِ مِنَ الْخَشَبِ أَوِ الْحَجَرِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْقَتْلَ شِبْهَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ يَمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَالْقَتْلُ شِبْهُ الْعَمْدِ: كَأَنْ يَتَعَمَّدَ الْقَاتِلُ ضَرْبَ الْمَقْتُولِ بِمَا لَا يُقْتَلُ بِهِ غَالِبًا، وَمُوجِبُهُ عِنْدَ جَمِيعِ الْحَنَفِيَّةِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَالْإِثْمُ وَالْكَفَّارَةُ.

وَالْخَطَأُ كَأَنْ رَمَى إِلَى الصَّيْدِ فَأَصَابَ إِنْسَانًا، أَوِ انْقَلَبَ عَلَيْهِ فِي النَّوْمِ فَقَتَلَهُ، أَوْ وَطِئَتْهُ دَابَّةٌ، وَهُوَ رَاكِبُهَا أَوْ سَقَطَ مِنْ سَطْحٍ عَلَيْهِ، أَوْ سَقَطَ عَلَيْهِ حَجَرٌ مِنْ يَدِهِ فَمَاتَ.وَمُوجِبُهُ الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَا إِثْمَ فِيهِ.وَفِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ كُلِّهَا يُحْرَمُ الْقَاتِلُ مِنَ الْمِيرَاثِ عِنْدَهُمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ الْقَتْلُ بِحَقٍّ.

وَإِذَا كَانَ الْقَتْلُ بِالسَّبَبِ دُونَ الْمُبَاشَرَةِ كَحَافِرِ الْبِئْرِ أَوْ وَاضِعِ الْحَجَرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، أَوْ كَانَ الْقَاتِلُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَلَا حِرْمَانَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِالْقَتْلِ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْأَرْجَحِ إِلَى أَنَّ الْقَاتِلَ عَمْدًا مُبَاشِرًا أَوْ مُتَسَبِّبًا يُمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ مِنَ الْمَالِ وَالدِّيَةِ وَلَوْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا، وَإِنْ أَتَى بِشُبْهَةٍ تَدْفَعُ الْقِصَاصَ كَرَمْيِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ بِحَجَرٍ فَمَاتَ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ رَأْيٌ آخَرُ هُوَ أَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ كَالْخَطَأِ، فَيَرِثُ مِنَ الْمَالِ دُونَ الدِّيَةِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُمْ.وَأَمَّا إِذَا قَتَلَ مُورَثُهُ قِصَاصًا أَوْ حَدًّا أَوْ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يُحْرَمُ مِنَ الْمِيرَاثِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْقَتْلِ يُمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ، وَلَوْ كَانَ الْقَتْلُ بِحَقٍّ كَمُقْتَصٍّ، وَإِمَامٍ، وَقَاضٍ، وَجَلاَّدٍ بِأَمْرِ الْإِمَامِ وَالْقَاضِي وَشَاهِدٍ وَمُزَكٍّ.وَيُحْرَمُ الْقَاتِلُ وَلَوْ قَتَلَ بِغَيْرِ قَصْدٍ كَنَائِمٍ وَمَجْنُونٍ وَطِفْلٍ وَلَوْ قَصَدَ بِهِ مَصْلَحَةً كَضَرْبِ الْأَبِ ابْنَهُ لِلتَّأْدِيبِ، وَفَتْحِهِ الْجَرْحَ لِلْمُعَالَجَةِ، وَقَالُوا: لَوْ قَالَ الْمَقْتُولُ: وَرِّثُوهُ فَهُوَ وَصِيَّةٌ.

وَلَوْ سَقَطَ مُتَوَارِثَانِ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ وَأَحَدُهُمَا فَوْقَ الْآخَرِ فَمَاتَ الْأَسْفَلُ لَمْ يَرِثْهُ الْأَعْلَى، لِأَنَّهُ قَاتِلٌ.وَإِنْ مَاتَ الْأَعْلَى وَرِثَهُ الْأَسْفَلُ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَاتِلٍ لَهُ.

اسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ عَدَمِ الْحِرْمَانِ بِالْقَتْلِ بِالتَّسَبُّبِ، وَمِنْ عَدَمِ حِرْمَانِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ بِأَنَّ الْقَاتِلَ بِالتَّسَبُّبِ لَيْسَ بِقَاتِلٍ حَقِيقَةً، لِأَنَّهُ لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ وَوَقَعَ فِيهَا مُورَثُهُ فَمَاتَ فَلَا يُؤَاخَذُ عَلَى ذَلِكَ بِشَيْءٍ.وَالْقَاتِلُ يُؤَاخَذُ بِفِعْلِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ فِي مِلْكِهِ أَمْ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ كَالرَّامِي.وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقَتْلَ لَا يَتِمُّ إِلاَّ بِمَقْتُولٍ وَقَدِ انْعَدَمَ حَالَ التَّسَبُّبِ.فَإِنَّ حَفْرَهُ مَثَلًا قَدِ اتَّصَلَ بِالْأَرْضِ دُونَ الْحَيِّ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ قَاتِلًا حَالَ الْوُقُوعِ فِي الْبِئْرِ؛ إِذْ رُبَّمَا كَانَ الْحَافِرُ حِينَئِذٍ مَيِّتًا.وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَاتِلًا حَقِيقَةً لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ جَزَاءُ الْقَتْلِ، وَهُوَ الْحِرْمَانُ مِنَ الْمِيرَاثِ وَالْكَفَّارَةِ.وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا يُحْرَمَانِ مِنَ الْمِيرَاثِ بِالْقَتْلِ، لِأَنَّ الْحِرْمَانَ جَزَاءٌ لِلْقَتْلِ الْمَحْظُورِ، وَفِعْلُهُمَا مِمَّا لَا يَصْلُحُ أَنْ يُوصَفَ بِالْحَظْرِ شَرْعًا، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَجُّهُ خِطَابِ الشَّارِعِ إِلَيْهِمَا.وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحِرْمَانَ بِاعْتِبَارِ التَّقْصِيرِ فِي التَّحَرُّزِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ نِسْبَةُ التَّقْصِيرِ إِلَيْهِمَا.

وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ بِحَدِيثِ «لَيْسَ لِلْقَاتِلِ مِنَ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ» وَفَسَّرُوهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْقَتْلِ شَيْءٌ مِنَ الْإِرْثِ.

وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ خَوْفُ اسْتِعْجَالِ الْوَارِثِ لِلْإِرْثِ بِقَتْلِ مُورَثِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَهُوَ مَا إِذَا قَتَلَهُ عَمْدًا فَاقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ حِرْمَانَهُ مِنَ الْإِرْثِ، عَمَلًا بِقَاعِدَةِ: مَنَ اسْتَعْجَلَ بِشَيْءٍ قَبْلَ أَوَانِهِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِهِ، وَالِاسْتِعْجَالُ إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ ظَنِّهِ، وَبِالنَّظَرِ لِلظَّاهِرِ وَسَدِّ بَابِ الْقَتْلِ فِي بَاقِي الصُّوَرِ، وَهُوَ مَا إِذَا كَانَ الْقَتْلُ بِغَيْرِ قَصْدٍ كَمَا فِي النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَالطِّفْلِ.

وَلَا مَدْخَلَ لِلْمُفْتِي فِي الْقَتْلِ وَلَوْ أَخْطَأَ فِي الْإِفْتَاءِ وَإِنْ كَانَ عَلَى مُعَيَّنٍ، لِأَنَّ إِفْتَاءَهُ غَيْرُ مُلْزِمٍ، وَلَا رَاوِي الْحَدِيثِ، وَلَا الْقَاتِلِ بِالْعَيْنِ، وَلَا مَنْ أَتَى لِامْرَأَتِهِ بِلَحْمٍ فَأَكَلَتْ مِنْهُ حَيَّةٌ ثُمَّ أَكَلَتْ مِنْهُ الزَّوْجَةُ فَمَاتَتْ.

وَأَمَّا مَنْ شَهِدَ عَلَى مُورَثٍ بِمُقْتَضَى جَلْدٍ فَجُلِدَ فَمَاتَ فَلِلنَّظَرِ فِيهِ مَجَالٌ، لَكِنْ ظَاهِرُ إِطْلَاقِهِمْ مَنْعُهُ بِذَلِكَ.

اخْتِلَافُ الدِّينَيْنِ:

18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلُ عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَكْثَرِ الصَّحَابَةِ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ حَتَّى وَلَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ، لِأَنَّ الْمَوَارِيثَ قَدْ وَجَبَتْ لِأَهْلِهَا بِمَوْتِ الْمُورَثِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الِارْتِبَاطُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ بِالْقَرَابَةِ أَمْ بِالنِّكَاحِ أَمْ بِالْوَلَاءِ.

وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ قَبْلَ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ وَرِثَ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ» وَلِأَنَّ فِي تَوْرِيثِهِ تَرْغِيبًا فِي الْإِسْلَامِ. كَمَا ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ يَرِثُ عَتِيقَهُ الْمُسْلِمَ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ.

وَذَهَبَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَالْحَسَنُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَمَسْرُوقٌ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ الْكَافِرَ.

اسْتَدَلَّ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى مَذْهَبِهِمْ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَلٍ شَتَّى» وَلِقَوْلِهِ- عليه السلام-: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ».

وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِتَوْرِيثِ الْمُسْلِمِ مِنَ الْكَافِرِ بِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى» وَمِنَ الْعُلُوِّ أَنْ يَرِثَ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ.

وَفَسَّرَ الْمَانِعُونَ الْحَدِيثَ بِأَنَّ نَفْسَ الْإِسْلَامِ هُوَ الَّذِي يَعْلُو، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ الْإِسْلَامُ عَلَى وَجْهٍ وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ وَيَعْلُو.أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ الْعُلُوُّ بِحَسَبِ الْحُجَّةِ أَوْ بِحَسَبِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ.أَيِ النُّصْرَةِ فِي الْعَاقِبَةِ لِلْمُسْلِمِينَ.

إِرْثُ الْمُرْتَدِّ:

19- لَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي أَنَّ الْمُرْتَدَّ- وَهُوَ مَنْ تَرَكَ الْإِسْلَامَ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ- لَا يَرِثُ أَحَدًا مِمَّنْ يَجْمَعُهُ وَإِيَّاهُمْ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْمِيرَاثِ، لَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا مِنْ أَهْلِ الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ، أَوْ أَيِّ دِينٍ آخَرَ خِلَافُهُ، لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ.وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدَّةُ لَا تَرِثُ أَحَدًا، لِأَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فِي الْمُرْتَدِّ إِنْ كَانَ رَجُلًا هُوَ أَنْ يَتُوبَ وَيَرْجِعَ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوْ يُقْتَلَ إِنْ أَصَرَّ عَلَى رِدَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَإِنَّهَا تُحْبَسُ حَتَّى تَتُوبَ أَوْ يُدْرِكَهَا الْمَوْتُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا مَعْنَى مُطْلَقًا لأَنْ يُقَالَ بِأَنَّهُ يَرِثُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ.

أَمَّا كَوْنُهُ يُورَثُ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- قَالَ الْقَاضِي: هِيَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ- أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرُهُمْ مِمَّنِ انْتَقَلَ إِلَى دِينِهِمْ بَلْ مَالُهُ كُلُّهُ- إِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ- يَكُونُ فَيْئًا وَحَقًّا لِبَيْتِ الْمَالِ.

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالْحَسَنِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالشَّعْبِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَاسْتَدَلَّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِفِعْلِ الْخَلِيفَتَيْنِ الرَّاشِدَيْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَلِيٍّ، وَلِأَنَّ رِدَّتَهُ يَنْتَقِلُ بِهَا مَالُهُ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا لَوِ انْتَقَلَ بِالْمَوْتِ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ، فَالْمُرْتَدَّةُ يَرِثُهَا أَقَارِبُهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَيَرِثُونَ كُلَّ مَالِهَا، سَوَاءٌ مَا اكْتَسَبَتْهُ حَالَ إِسْلَامِهَا أَوْ حَالَ رِدَّتِهَا.

أَمَّا الْمُرْتَدُّ فَإِنَّ وَرَثَتَهُ الْمُسْلِمِينَ يَرِثُونَ مِنْهُ مَا اكْتَسَبَهُ فِي زَمَانِ إِسْلَامِهِ.وَلَا يَرِثُونَ مَا اكْتَسَبَهُ فِي زَمَانِ رِدَّتِهِ.وَيَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ لَكِنْ هَلْ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ وَقْتَ رِدَّتِهِ أَوْ وَقْتَ مَوْتِهِ أَوْ لَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ؟ أَوْ مَنْ كَانُوا مَوْجُودِينَ وَقْتَ رِدَّتِهِ وَوَقْتَ مَوْتِهِ؟

اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ.فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّ الْوَارِثَ لِلْمُرْتَدِّ مَنْ كَانَ وَارِثًا لَهُ وَقْتَ رِدَّتِهِ وَبَقِيَ إِلَى مَوْتِ الْمُرْتَدِّ، أَمَّا مَنْ حَدَثَتْ لَهُ صِفَةُ الْوِرَاثَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يَرِثُهُ، فَلَوْ أَسْلَمَ بَعْضُ قَرَابَتِهِ بَعْدَ رِدَّتِهِ أَوْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ رِدَّتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَرِثُهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ، لِأَنَّ سَبَبَ التَّوْرِيثِ هُنَا الرِّدَّةُ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ ذَلِكَ لَمْ يَنْعَقِدْ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ، وَتَمَامُ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْمَوْتِ، فَيُشْتَرَطُ بَقَاءُ الْوَارِثِ إِلَى حِينِ تَمَامِ السَّبَبِ.

وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْوَارِثِ وَقْتَ الرِّدَّةِ، وَلَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُرْتَدِّ، لِأَنَّ الرِّدَّةَ فِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ كَالْمَوْتِ، وَمَنْ مَاتَ مِنَ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُورَثِ قَبْلَ قِسْمَةِ مِيرَاثِهِ لَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ وَيَحِلُّ وَارِثُهُ مَحَلَّهُ.

وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَنْ يَكُونُ وَارِثًا لَهُ حِينَ مَاتَ أَوْ قُتِلَ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الرِّدَّةِ أَمْ حَدَثَ بَعْدَهُ، لِأَنَّ الْحَادِثَ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ قَبْلَ تَمَامِهِ يُعْتَبَرُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّبَبِ، مِثْلُ الزِّيَادَةِ الَّتِي تَحْدُثُ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ إِذْ تُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ فَتَكُونُ مَعْقُودًا عَلَيْهَا بِالْقَبْضِ، وَيَكُونُ لَهَا حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ، فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ هُنَا.

وَاعْتَبَرَ الْإِمَامُ مُحَمَّدٌ لَحَاقَ الْمُرْتَدِّ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ، فَتُقْسَمُ تَرِكَتُهُ مِنْ حِينِ اللَّحَاقِ.وَاعْتَبَرَ الْإِمَامُ أَبُو يُوسُفَ مَنْ يَكُونُ وَارِثًا لَهُ حِينَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ، وَتَرِثُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ إِنْ مَاتَ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ عَلَى رَأْيِ الصَّاحِبَيْنِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُرْتَدِّ وَإِنِ ارْتَفَعَ بِالرِّدَّةِ لَكِنَّهُ فَارٌّ عَنْ مِيرَاثِهَا.وَامْرَأَةُ الْفَارِّ تَرِثُ إِذَا كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ وَقْتَ مَوْتِهِ.

وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنِ الْإِمَامِ تَرِثُ وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَ مَوْتِهِ مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ، لِأَنَّ سَبَبَ التَّوْرِيثِ كَانَ مَوْجُودًا فِي حَقِّهَا عِنْدَ رِدَّتِهِ؛ إِذْ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُعْتَبَرُ قِيَامُ السَّبَبِ عِنْدَ أَوَّلِ الرِّدَّةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


197-موسوعة الفقه الكويتية (استثناء 1)

اسْتِثْنَاءٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الِاسْتِثْنَاءُ لُغَةً: مَصْدَرُ اسْتَثْنَى، تَقُولُ: اسْتَثْنَيْتُ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ إِذَا أَخْرَجْتَهُ، وَيُقَالُ: حَلَفَ فُلَانٌ يَمِينًا لَيْسَ فِيهَا ثُنْيَا، وَلَا مَثْنَوِيَّةً، وَلَا اسْتِثْنَاءَ، كُلُّهُ وَاحِدٌ.

وَذَكَرَ الشِّهَابُ الْخَفَاجِيُّ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي اللُّغَةِ وَالِاسْتِعْمَالِ يُطْلَقُ عَلَى: التَّقْيِيدِ بِالشَّرْطِ وَمِنْهُ قوله تعالى {وَلَا يَسْتَثْنُونَ} أَيْ لَا يَقُولُونَ: «إِنْ شَاءَ اللَّهُ».

وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظِيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا أَوْ حُكْمِيًّا، فَالِاسْتِثْنَاءُ اللَّفْظِيُّ هُوَ: الْإِخْرَاجُ مِنْ مُتَعَدِّدٍ بِإِلاَّ، أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا وَيَلْحَقُ بِهِ فِي الْحُكْمِ الْإِخْرَاجُ بِأَسْتَثْنِي وَأُخْرِجُ وَنَحْوِهِمَا عَلَى لَفْظِ الْمُضَارِعِ، وَعَرَّفَهُ السُّبْكِيُّ بِأَنَّهُ: الْإِخْرَاجُ بِإِلاَّ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ.

وَعَرَّفَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ الْحَنَفِيُّ بِأَنَّهُ: الْمَنْعُ مِنْ دُخُولِ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ فِي حُكْمِهِ بِإِلاَّ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا، فَعَرَّفَهُ بِالْمَنْعِ، وَلَمْ يُعَرِّفْهُ بِالْإِخْرَاجِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا إِخْرَاجَ بِهِ، إِذْ لَمْ يَدْخُلِ الْمُسْتَثْنَى فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَصْلًا حَتَّى يَكُونَ مُخْرَجًا.فَالِاسْتِثْنَاءُ لِمَنْعِهِ مِنَ الدُّخُولِ وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الِاسْتِثْنَاءَ أَيْضًا بِمَعْنَى قَوْلِ: «إِنْ شَاءَ اللَّهُ» فِي كَلَامٍ إِنْشَائِيٍّ أَوْ خَبَرِيٍّ.

وَهَذَا النَّوْعُ لَيْسَ اسْتِثْنَاءً حَقِيقِيًّا بَلْ هُوَ مِنْ مُتَعَارَفِ النَّاسِ.فَإِنْ كَانَ بِإِلاَّ وَنَحْوِهَا فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ حَقِيقِيٌّ، أَوِ «اسْتِثْنَاءٌ وَضْعِيٌّ»، كَأَنْ يَقُولَ: لَا أَفْعَلُ كَذَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، أَوْ: لأَفْعَلَنَّ كَذَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، وَمِنَ الْعُرْفِيِّ قَوْلُ النَّاسِ: إِنْ يَسَّرَ اللَّهُ، أَوْ إِنْ أَعَانَ اللَّهُ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ.

وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا التَّعْلِيقُ- وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ إِلاَّ- اسْتِثْنَاءً لِشِبْهِهِ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ فِي صَرْفِهِ الْكَلَامَ السَّابِقَ لَهُ عَنْ ظَاهِرِهِ.

وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمَعْنَوِيُّ هُوَ: الْإِخْرَاجُ مِنَ الْجُمْلَةِ بِغَيْرِ أَدَاةِ اسْتِثْنَاءٍ، كَقَوْلِ الْمُقِرِّ: «لَهُ الدَّارُ، وَهَذَا الْبَيْتُ مِنْهَا لِي».وَإِنَّمَا أَعْطَوْهُ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّهُ فِي قُوَّةِ قَوْلِهِ: «لَهُ جَمِيعُ الدَّارِ إِلاَّ هَذَا الْبَيْتِ».

وَالِاسْتِثْنَاءُ الْحُكْمِيُّ يُقْصَدُ بِهِ أَنْ يُرِدَ التَّصَرُّفَ مَثَلًا عَلَى عَيْنٍ فِيهَا حَقٌّ لِلْغَيْرِ، كَبَيْعِ الدَّارِ الْمُؤَجَّرَةِ، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْقَطِعُ بِذَلِكَ، وَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، فَكَأَنَّ الْبَيْعَ وَرَدَ عَلَى الْعَيْنِ بِاسْتِثْنَاءِ مَنْفَعَتِهَا مُدَّةَ الْإِجَارَةِ.

وَهَذَا الْإِطْلَاقُ قَلِيلٌ فِي مُتَعَارَفِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ لِلسُّيُوطِيِّ وَالْقَوَاعِدِ لِابْنِ رَجَبٍ إِلاَّ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ لَا يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ، وَلِذَا فَلَا تَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الِاسْتِثْنَاءِ فِيمَا يَلِي مِنْ هَذَا الْبَحْثِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّخْصِيصُ:

2- التَّخْصِيصُ: قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ فَهُوَ يُبَيِّنُ كَوْنَ اللَّفْظِ قَاصِرًا عَنِ الْبَعْضِ.وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُفَارِقُ التَّخْصِيصَ فِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُشْتَرَطُ اتِّصَالُهُ، وَأَنَّهُ يَتَطَرَّقُ إِلَى الظَّاهِرِ وَالنَّصِّ جَمِيعًا، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ ثَلَاثَةً، كَمَا يَقُولُ: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إِلاَّ زَيْدًا، وَالتَّخْصِيصُ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَى النَّصِّ أَصْلًا، وَمِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَيْضًا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِقَوْلٍ، وَيَكُونُ التَّخْصِيصُ بِقَوْلٍ أَوْ قَرِينَةٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ.

هَذَا وَإِنَّ الْفَرْقَ الْأَوَّلَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ مِنِ اشْتِرَاطِ الِاتِّصَالِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فِي التَّخْصِيصِ، لَا يَجْرِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِقَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ اتِّصَالِ الْمُخَصِّصَاتِ أَيْضًا.

ب- النَّسْخُ:

3- النَّسْخُ: رَفْعُ الشَّارِعِ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِهِ بِدَلِيلٍ لَاحِقٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ: أَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ لِمَا دَخَلَ تَحْتَ اللَّفْظِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَدْخُلُ عَلَى الْكَلَامِ فَيَمْنَعُ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ اللَّفْظِ مَا كَانَ يَدْخُلُ لَوْلَاهُ، فَالنَّسْخُ قَطْعٌ وَرَفْعٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مَنْعٌ أَوْ إِخْرَاجٌ، وَأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ، وَالنَّسْخَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُنْفَصِلًا.

ج- الشَّرْطُ:

4- يُشْبِهُ الِاسْتِثْنَاءُ بِإِلاَّ وَأَخَوَاتِهَا الشَّرْطَ (التَّعْلِيقَ)، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مَنْعِ الْكَلَامِ مِنْ إِثْبَاتِ مُوجِبِهِ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ الشَّرْطَ يَمْنَعُ الْكُلَّ، وَالِاسْتِثْنَاءَ يَمْنَعُ الْبَعْضَ.

وَيُشَابِهُ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ الشَّرْطَ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مَنْعِ الْكُلِّ وَذِكْرِ أَدَاةِ التَّعْلِيقِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ عَلَى طَرِيقِهِ؛ لِأَنَّهُ مَنْعٌ لَا إِلَى غَايَةٍ، وَالشَّرْطُ مَنْعٌ إِلَى غَايَةِ تَحَقُّقِهِ، كَمَا فِي قَوْلِكَ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ إِنْ دَخَلُوا دَارِي.وَمِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ لَا يَدْخُلُ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ فِي بَحْثِ التَّعْلِيقِ وَالشَّرْطِ.وَلَا يُورِدُهُ الْفُقَهَاءُ فِي مَبَاحِثِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا فِي بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ، لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي الِاسْمِ.

5- الْقَاعِدَةُ الْأَصِيلَةُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ:

الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ، فَنَحْوُ: مَا قَامَ أَحَدٌ إِلاَّ زَيْدًا، يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ، وَنَحْوُ: قَامَ الْقَوْمُ إِلاَّ زَيْدًا، يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْقِيَامِ عَنْهُ،

وَفِي هَذَا خِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ.

فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ قِيلَ: خِلَافُهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ.وَقِيلَ: بَلْ فِي الثَّانِيَةِ فَقَطْ، فَقَدْ قَالَ: إِنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ، فَزَيْدٌ فِي الْمِثَالِ الْمُتَقَدِّمِ غَيْرُ مَحْكُومٍ بِقِيَامِهِ وَلَا بِعَدَمِهِ.

وَحَاصِلُ الْخِلَافِ فِي نَحْوِ: قَامَ الْقَوْمُ إِلاَّ زَيْدًا، أَنَّ الْجُمْهُورَ يَقُولُونَ: إِنَّ زَيْدًا بِالِاسْتِثْنَاءِ دَخَلَ فِي عَدَمِ الْقِيَامِ.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ انْتَقَلَ إِلَى عَدَمِ الْحُكْمِ.وَعِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ هُوَ مُخْرَجٌ مِنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ.

وَأَمَّا مَالِكٌ فَيُوَافِقُ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ فِي غَيْرِ الْأَيْمَانِ، أَمَّا فِي الْأَيْمَانِ فَلَيْسَ الِاسْتِثْنَاءُ إِثْبَاتًا.

فَمَنْ حَلَفَ: لَا يَلْبَسُ الْيَوْمَ ثَوْبًا إِلاَّ الْكَتَّانَ، يَحْنَثُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِذَا قَعَدَ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَارِيًّا فَلَمْ يَلْبَسْ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ النَّفْيُ إِثْبَاتًا فَقَدْ حَلَفَ أَنْ يَلْبَسَ الْكَتَّانَ، فَإِذَا لَمْ يَلْبَسْهُ وَقَعَدَ عَارِيًّا حَنِثَ.

أَمَّا عِنْدَ مَالِكٍ فَلَا يَحْنَثُ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَجَّهَ الْقَرَافِيُّ ذَلِكَ بِأَنَّ (إِلاَّ) فِي هَذَا الْمِثَالِ وَنَحْوِهَا صِفَةٌ، فَهِيَ بِمَعْنَى غَيْرُ، فَيَكُونُ قَدْ حَلَفَ عَلَى أَلاَّ يَلْبَسَ ثِيَابًا مُغَايِرَةً لِلْكَتَّانِ.

وَوَجَّهَهُ أَيْضًا بِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّ جَمِيعَ الثِّيَابِ مَحْلُوفٌ عَلَيْهَا غَيْرَ الْكَتَّانِ.

أَنْوَاعُ الِاسْتِثْنَاءِ:

6- الِاسْتِثْنَاءُ إِمَّا مُتَّصِلٌ وَإِمَّا مُنْفَصِلٌ.

فَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُتَّصِلُ: مَا كَانَ فِيهِ الْمُسْتَثْنَى بَعْضُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ نَحْوُ جَاءَ الْقَوْمُ إِلاَّ زَيْدًا.

وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ: (وَيُسَمَّى الْمُنْفَصِلُ أَيْضًا) مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ الْمُسْتَثْنَى بَعْضُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، مِثْلُ قوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} فَإِنَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ لَيْسَ عِلْمًا.

وَيَتَبَيَّنُ مِنْ هَذَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ لَا إِخْرَاجَ بِهِ، وَلَا يَكُونُ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى لَمْ يَدْخُلْ أَصْلًا.هَذَا وَلَا بُدَّ لِلِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فِيمَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ الْمُوَافَقَةُ.وَالْفَائِدَةُ فِيهِ دَفْعُ هَذَا التَّوَهُّمِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ شَبِيهٌ بِ (لَكِنَّ)، فَإِنَّهُ لِلِاسْتِدْرَاكِ، أَيْ دَفْعِ التَّوَهُّمِ مِنَ السَّابِقِ.وَأَشْهَرُ صُوَرِ الْمُخَالَفَةِ: أَنْ يَنْفِيَ عَنِ الْمُسْتَثْنَى الْحُكْمَ الَّذِي ثَبَتَ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، نَحْوُ: جَاءَنِي الْمُدَرِّسُونَ إِلاَّ طَالِبًا، فَقَدْ نَفَيْنَا الْمَجِيءَ عَنِ الطَّالِبِ بَعْدَمَا أَثْبَتْنَاهُ لِلْمُدَرِّسِينَ.

وَلَمَّا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ لَا إِخْرَاجَ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً حَقِيقَةً، بَلْ هُوَ مَجَازٌ.

قَالَ الْمَحَلِّيُّ: هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ الْمُتَّصِلُ دُونَ الْمُنْقَطِعِ.

وَعَلَى هَذَا جَاءَ حَدُّ الِاسْتِثْنَاءِ فِيمَا سَبَقَ، فَقَدْ عُرِّفَ بِمَا لَا يَشْمَلُ الْمُنْقَطِعَ وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ أُخْرَى مَوْطِنُ تَفْصِيلِهَا كُتُبُ الْأُصُولِ.

صِيغَةُ الِاسْتِثْنَاءِ:

أ- أَلْفَاظُ الِاسْتِثْنَاءِ:

7- يَذْكُرُ اللُّغَوِيُّونَ وَالْأُصُولِيُّونَ لِلِاسْتِثْنَاءِ الْحَقِيقِيِّ الْأَلْفَاظَ التَّالِيَةَ: إِلاَّ، وَغَيْرَ، وَسِوَى، وَخَلَا، وَعَدَا، وَحَاشَا، وَبَيْدَ، وَلَيْسَ، وَلَا يَكُونُ.

ب- الِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ وَنَحْوِهَا:

8- شَرَعَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هَذَا النَّوْعَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ، فَقَدْ قَالَ لِنَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم-: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: عَاتَبَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - عليه الصلاة والسلام- عَلَى قَوْلِهِ لِلْكُفَّارِ حِينَ سَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، وَالْفِتْيَةِ، وَذِي الْقَرْنَيْنِ: (ائْتُونِي غَدًا) وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِي ذَلِكَ.فَاحْتُبِسَ الْوَحْيُ عَنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَأَرْجَفَ الْكُفَّارُ بِهِ، فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْكَهْفِ، وَأُمِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْهَا: أَلاَّ يَقُولَ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ: إِنِّي أَفْعَلُ غَدًا كَذَا وَكَذَا إِلاَّ أَنْ يُعَلِّقَ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى لَا يَكُونَ مُحَقِّقًا لِحُكْمِ الْخَبَرِ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ: لأَفْعَلَنَّ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَلْ كَانَ كَاذِبًا، وَإِذَا قَالَ لأَفْعَلَنَّ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُحَقِّقًا لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ إِلاَّ أَنْ تَقُولَ: إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ.أَوْ: إِلاَّ أَنْ تَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَقَالَ: وَالْآيَةُ لَيْسَتْ فِي الْأَيْمَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي سُنَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي غَيْرِ الْيَمِينِ وَأَوْضَحَ كَذَلِكَ أَنَّ آخِرَ الْآيَةِ، وَهُوَ قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}.يَدُلُّ- عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِهَا- أَنَّهُ إِذَا نَسِيَ الِاسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ يَقُولُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا تَذَكَّرَهُ.

فَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: مَا دَامَ فِي مَجْلِسِ الذِّكْرِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَنَتَيْنِ.فَيُحْمَلُ عَلَى تَدَارُكِ التَّبَرُّكِ بِالِاسْتِثْنَاءِ.

فَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ الْمُفِيدُ حُكْمًا- يَعْنِي فِي الْيَمِينِ وَنَحْوِهَا- فَلَا يَصِحُّ إِلاَّ مُتَّصِلًا.هَذَا، وَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ وَنَحْوِهَا يَدْخُلُ فِي كَلَامِ النَّاسِ فِي الْأَخْبَارِ، وَالْأَيْمَانِ، وَالنُّذُورِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَالْوَعْدِ، وَالْعَقْدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.ثُمَّ يَكُونُ لَهُ أَثَرُهُ فِي حِلِّ الْيَمِينِ وَنَحْوِهَا.

اسْتِثْنَاءُ عَدَدَيْنِ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الشَّكِّ:

9- إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إِلاَّ مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْحَاصِلِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَلْزَمُهُ تِسْعُمِائَةٍ؛ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا شَكَكْنَا فِي الْمُتَكَلِّمِ بِهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ شَغْلِ الذِّمَمِ، فَثَبَتَ الْأَقَلُّ.

وَالثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ «خُرُوجٌ بَعْدَ دُخُولٍ». يَلْزَمُهُ تِسْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الْأَلْفُ صَارَ الشَّكُّ فِي الْمُخْرَجِ، فَيَخْرُجُ الْأَقَلُّ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ وَالْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ:

10- إِذَا وَرَدَ الِاسْتِثْنَاءُ بِإِلاَّ وَنَحْوِهَا بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ بِالْوَاوِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْفَخْرِ الرَّازِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ.وَعِنْدَ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْكُلِّ.

وَقَالَ الْبَاقِلاَّنِيُّ بِالتَّوَقُّفِ فِي عَوْدِهِ إِلَى مَا عَدَا الْأَخِيرَ.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ بِالتَّوَقُّفِ مُطْلَقًا.

وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْمُعْتَزِلِيُّ: إِنْ ظَهَرَ الْإِضْرَابُ عَنِ الْأُولَى، كَمَا لَوِ اخْتَلَفَ بِالْإِنْشَائِيَّةِ وَالْخَبَرِيَّةِ، أَوِ الْأَمْرِيَّةِ وَالنَّهْيِيَّةِ، أَوْ لَمْ يَكُنِ اشْتِرَاكٌ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ، فَإِنَّهُ يَعُودُ لِلْأَخِيرَةِ فَقَطْ، وَإِلاَّ فَلِلْجَمِيعِ.

وَالنِّزَاعُ كَمَا تَرَى فِي الظُّهُورِ.وَلَا تَتَأَتَّى دَعْوَى النُّصُوصِيَّةِ فِي وَاحِدٍ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ.وَلَمْ يُنَازِعْ أَحَدٌ أَيْضًا فِي إِمْكَانِ عَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْأَخِيرَةِ وَحْدَهَا، وَإِمْكَانِ عَوْدِهِ إِلَى الْكُلِّ، فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ، هَذَا إِذَا كَانَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ أَوْ ثُمَّ فَالْخِلَافُ قَائِمٌ أَيْضًا، لَكِنْ ذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ- كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْآمِدِيِّ- إِلَى أَنَّهُ يَعُودُ حِينَئِذٍ إِلَى الْأَخِيرِ.

وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ حُكْمَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، ظَاهِرٌ فِي الثُّبُوتِ عُمُومًا، وَرَفْعُهُ عَنِ الْبَعْضِ بِالِاسْتِثْنَاءِ مَشْكُوكٌ فِيهِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ لِلْأَخِيرَةِ فَقَطْ، فَلَا يَرْفَعُ حُكْمَ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يُعَارِضُهُ الْمَشْكُوكُ.بِخِلَافِ الْأَخِيرَةِ، فَإِنَّ حُكْمَهَا غَيْرُ ظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ الرَّفْعَ ظَاهِرٌ فِيهَا فِيمَا لَا صَارِفَ لَهُ، فَيَتَعَلَّقُ بِهَا.

وَاحْتَجُّوا ثَانِيًا بِأَنَّ الِاتِّصَالَ مِنْ شَرْطِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالِاتِّصَالُ ثَابِتٌ فِي الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، أَمَّا فِيمَا قَبْلَهَا فَإِنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِالْعَطْفِ، إِلاَّ أَنَّ الِاتِّصَالَ بِالْعَطْفِ فَقَطْ ضَعِيفٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ آخَرَ مُوجِبٍ لِاعْتِبَارِ هَذَا الِاتِّصَالِ.

وَالشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمُ احْتَجُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى الشَّرْطِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا رَجَعَ إِلَيْهَا اتِّفَاقًا.

وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ الْعَطْفَ يَجْعَلُ الْمُتَعَدِّدَ كَالْمُفْرَدِ، فَالْمُتَعَلِّقُ بِالْوَاحِدِ هُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِالْكُلِّ.وَبِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْكُلِّ، فَإِمَّا أَنْ يُكَرَّرَ الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ كُلِّ جُمْلَةٍ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ وَاحِدَةٍ فَقَطْ، أَوْ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ الْجَمِيعِ.فَالتَّكْرَارُ مُسْتَهْجَنٌ، فَبَطَلَ الْأَوَّلُ وَفِي الثَّانِي تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، فَبَقِيَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ، فَيَلْزَمُ الظُّهُورُ فِيهِ.

11- وَمِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا}...قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الَّذِينَ تَابُوا مِنَ الْقَاذِفِينَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَالِاسْتِثْنَاءُ عَائِدٌ عَلَى الْحُكْمِ بِفِسْقِهِمْ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَعُودُ عَلَى الْجُمَلِ الثَّلَاثِ. أَمَّا الْجَلْدُ فَاتُّفِقَ عَلَى عَدَمِ سُقُوطِهِ بِالتَّوْبَةِ لِأَجْلِ الدَّلِيلِ الْمَانِعِ مِنْ تَعَلُّقِ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وَالْمَانِعُ هُوَ كَوْنُ الْجَلْدِ حَقًّا لِلْآدَمِيِّ، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ.

الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ الْمُفْرَدَاتِ الْمُتَعَاطِفَةِ:

12- إِنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ مُفْرَدَاتٍ مُتَعَاطِفَةٍ فَالْخِلَافُ فِيهِ كَالْخِلَافِ فِي الْجُمَلِ، وَلَكِنْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ أَوْلَى بِعَوْدِهِ لِلْكُلِّ مِنَ الْوَارِدِ بَعْدَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِ الْمُفْرَدَاتِ.نَحْوُ: تَصَدَّقْ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِلاَّ الْفَسَقَةَ مِنْهُمْ.

الِاسْتِثْنَاءُ الْعُرْفِيُّ بَعْدَ الْمُتَعَاطِفَاتِ:

13- أَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ الْعُرْفِيُّ بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ إِذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا نَحْوَ: وَاَللَّهِ لَا آكُلُ وَلَا أَشْرَبُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَيَتَعَلَّقُ بِالْجَمِيعِ اتِّفَاقًا.وَوَجْهُهُ أَنَّهُ شَرْطٌ وَلَيْسَ مِنْ حَقِيقَةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالشَّرْطُ مُقَدَّمٌ تَقْدِيرًا؛ لِأَنَّ لَهُ صَدْرَ الْكَلَامِ بِاتِّفَاقِ النُّحَاةِ، فَيَصِحُّ تَعَلُّقُهُ بِالْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مُقَارِنٌ لَهُ تَقْدِيرًا.بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ مُؤَخَّرٌ لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا.

الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ:

14- هَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ:

الْأَوَّلُ: الِاسْتِثْنَاءَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ الْمُتَعَاطِفَةُ نَحْوُ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ أَرْبَعَةً، وَإِلاَّ ثَلَاثَةً، وَإِلاَّ اثْنَيْنِ.

وَحُكْمُهَا أَنْ تَعُودَ كُلُّهَا إِلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَذْكُورُ قَبْلَهَا.فَيَلْزَمُهُ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ وَاحِدٌ فَقَطْ.

الثَّانِي: الِاسْتِثْنَاءَاتُ الْمُتَوَالِيَةُ بِدُونِ عَاطِفٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهَا مُسْتَغْرِقًا لِمَا قَبْلَهُ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا يَعُودُ إِلَى مَا قَبْلَهُ.فَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ سَبْعَةً، إِلاَّ خَمْسَةً إِلاَّ دِرْهَمَيْنِ، صَحَّ، وَكَانَ مُقِرًّا بِسِتَّةٍ، فَإِنَّ خَمْسَةَ إِلاَّ دِرْهَمَيْنِ عِبَارَةُ عَنْ ثَلَاثَةٍ اسْتَثْنَاهَا مِنْ سَبْعَةٍ بَقِيَ أَرْبَعَةٌ، اسْتَثْنَاهَا مِنْ عَشَرَةٍ بَقِيَ سِتَّةٌ.

وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الِاسْتِثْنَاءَاتِ مُسْتَغْرِقًا لِمَا قَبْلَهُ فَإِنَّهَا لَا تَبْطُلُ، بَلْ تَعُودُ جَمِيعُهَا إِلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَاخْتِلَافٌ.

شُرُوطُ الِاسْتِثْنَاءِ

15- شُرُوطُ الِاسْتِثْنَاءِ عَامَّةٌ، مَا عَدَا شَرْطَ الِاسْتِغْرَاقِ، فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الرَّمْلِيُّ وَسَيَأْتِي أَيْضًا أَنَّ شَرْطَ الْقَصْدِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ.

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ:

16- يُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، بِأَلاَّ يَكُونَ مَفْصُولًا بِمَا يُعَدُّ فِي الْعَادَةِ فَاصِلًا.فَلَوْ كَانَ مَفْصُولًا بِتَنَفُّسٍ أَوْ سُعَالٍ أَوْ نَحْوِهِمَا لَمْ يَمْنَعِ الِاتِّصَالَ، وَكَذَلِكَ إِنْ حَالَ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَلَامٌ غَيْرُ أَجْنَبِيٍّ، وَمِنْهُ النِّدَاءُ؛ لِأَنَّهُ لِلتَّنْبِيهِ وَالتَّأْكِيدُ.أَمَّا إِنْ سَكَتَ سُكُوتًا يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ فِيهِ، أَوْ فَصَلَ بِكَلَامٍ أَجْنَبِيٍّ، أَوْ عَدَلَ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ اسْتَقَرَّ حُكْمُ الْمُسْتَثْنَى فَلَمْ يَرْتَفِعْ، بِخِلَافِ مَا لَا يُمْكِنُ، كَمَا لَوْ أَخَذَ آخِذٌ بِفَمِهِ فَمَنَعَهُ الْكَلَامَ.هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمُقَدَّمُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَيُشْتَرَطُ لِتَحَقُّقِ الِاتِّصَالِ أَنْ يَنْوِيَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ، فَلَوْ لَمْ يَنْوِ إِلاَّ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الْعُمْدَةُ مُجَرَّدُ الِاتِّصَالِ سَوَاءٌ نَوَى أَوَّلَ الْكَلَامِ، أَوْ أَثْنَاءَهُ، أَوْ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ.

وَقَدْ نُقِلَ خِلَافُ هَذَا عَنْ قَوْمٍ.فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى شَهْرٍ، وَقِيلَ أَبَدًا.وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَعَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ: يَجُوزُ فِي الْمَجْلِسِ، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ: إِلَى سَنَتَيْنِ.وَقِيلَ: مَا لَمْ يَأْخُذْ فِي كَلَامٍ آخَرَ.وَقِيلَ:

إِنْ نَوَى الِاسْتِثْنَاءَ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ جَازَ التَّأْخِيرُ بَعْدَهُ.وَنُسِبَ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ.

وَقِيلَ: يَجُوزُ التَّأْخِيرُ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى خَاصَّةً.

وَمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- لَمَّا حَرَّمَ مَكَّةَ، وَقَالَ: «لَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، قَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ الْإِذْخِرَ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ، فَقَالَ: إِلاَّ الْإِذْخِرَ» فَهَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْفَصِلٌ.فَحُمِلَ عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ.

فَكَأَنَّهُ كَرَّرَ الْقَوْلَ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَلَامِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا

وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الِاتِّصَالِ؛ أَنَّ الْقَوْلَ بِجَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ غَيْرِ الْمُتَّصِلِ يَسْتَلْزِمُ أَلاَّ يَجْزِمَ بِصِدْقٍ أَوْ كَذِبٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَخْبَارِ لِاحْتِمَالِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ عَقْدٌ مِنَ الْعُقُودِ، وَلِإِجْمَاعِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ عَلَى وُجُوبِ الِاتِّصَالِ.فَلَوْ قَالَ: لَهُ عَشَرَةٌ، ثُمَّ زَادَ بَعْدَ شَهْرٍ: إِلاَّ ثَلَاثَةً يُعَدُّ لَغْوًا.

وَلَعَلَّ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَنْ قَالَ شِبْهَ قَوْلِهِ، إِنَّمَا قُصِدَ بِهِ أَنَّ مَنْ نَسِيَ أَنْ يَقُولَ: «إِنْ شَاءَ اللَّهُ» يَقُولُهَا مَتَى تَذَكَّرَ ذَلِكَ، وَلَوْ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، امْتِثَالًا لِلْآيَةِ، وَلَيْسَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُوجِبِ رَفْعُ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى كَمَا تَقَدَّمَ.الشَّرْطُ الثَّانِي:

17- وَيُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَلاَّ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مُسْتَغْرِقًا لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُسْتَغْرِقَ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بَاطِلٌ اتِّفَاقًا، إِلاَّ عِنْدَ مَنْ شَذَّ.

وَادَّعَى الْبَعْضُ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ.فَلَوْ قَالَ: «لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ عَشَرَةً» لَغَا قَوْلُهُ «إِلاَّ عَشَرَةً» وَلَزِمَهُ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ.وَمِمَّنْ شَذَّ ابْنُ طَلْحَةَ الْمَالِكِيُّ فِي الْمَدْخَلِ، نَقَلَ عَنْهُ الْقَرَافِيُّ أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: «أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلاَّ ثَلَاثًا»: لَا يَقَعُ عَلَيْهِ طَلَاقٌ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ، فَهُمْ يُوَافِقُونَ عَلَى بُطْلَانِ الِاسْتِثْنَاءِ إِنْ كَانَ بِعَيْنِ لَفْظِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، كَقَوْلِهِ: عَبِيدِي أَحْرَارٌ إِلاَّ عَبِيدِي، أَوْ بِلَفْظٍ مُسَاوٍ لَهُ، كَقَوْلِهِ: نِسَائِي طَوَالِقُ إِلاَّ زَوْجَاتِي.

أَمَّا إِنْ كَانَ بِغَيْرِهِمَا كَقَوْلِهِ: ثُلُثُ مَالِي لِزَيْدٍ إِلاَّ أَلْفًا، وَالثُّلُثُ أَلْفٌ.فَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَا يَسْتَحِقُّ زَيْدٌ شَيْئًا.

فَالشَّرْطُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِيهَامُ الْبَقَاءِ لَا حَقِيقَتُهُ، حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا سِتًّا إِلاَّ أَرْبَعًا صَحَّ، وَوَقَعَ ثِنْتَانِ.وَإِنْ كَانَتِ السِّتَّةُ لَا صِحَّةَ لَهَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَزِيدُ عَنْ ثَلَاثٍ، وَمَعَ هَذَا لَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلاَّ أَرْبَعًا، فَكَأَنَّ اعْتِبَارَ اللَّفْظِ أَوْلَى.

وَجَعَلَ صَاحِبُ الْمُغْنِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُسْتَغْرِقِ أَنْ يَقُولَ مَثَلًا: «لَهُ عَلَيَّ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَدِرْهَمَانِ إِلاَّ دِرْهَمَيْنِ» فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَهُوَ فِي مِثَالِنَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ.

اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ وَالْأَقَلِّ:

18- أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ النِّصْفِ، وَمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ، مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَغْرِقًا كَمَا تَقَدَّمَ، نَحْوُ: «لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ سِتَّةً أَوْ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ خَمْسَةً».وَنَسَبَ صَاحِبُ فَوَاتِحِ الرَّحَمُوتِ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى الْحَنَفِيَّةِ، وَالْأَكْثَرِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.

وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.

قِيلَ: إِنَّمَا يَمْنَعُ الْحَنَابِلَةُ اسْتِثْنَاءَ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ، وَيُجِيزُونَ اسْتِثْنَاءَ النِّصْفِ.وَقِيلَ: يَمْنَعُونَ النِّصْفَ أَيْضًا.

وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ يَمْنَعُ اسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ إِنْ كَانَ كُلٌّ مِنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَدَدًا صَرِيحًا.قِيلَ وَبِهَذَا قَالَ الْقَاضِي الْبَاقِلاَّنِيُّ آخِرًا.

وَقَدْ احْتَجَّ لِجَوَازِ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ فِي غَيْرِ الْعَدَدِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَك مِنَ الْغَاوِينَ} وَالْغَاوُونَ هُمْ الْأَكْثَرُ لقوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} وَاحْتَجَّ لِجَوَازِهِ أَيْضًا فِي الْعَدَدِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ جَمِيعًا عَلَى لُزُومِ وَاحِدٍ فِي الْإِقْرَارِ بِلَفْظِ: «لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ تِسْعَةً» وَاحْتَجَّ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ أَئِمَّةَ اللُّغَةِ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ جَائِزًا لُغَةً، مِنْهُمُ ابْنُ جِنِّي، وَالزَّجَّاجُ، وَالْقُتَيْبِيُّ.قَالَ الزَّجَّاجُ: لَمْ يَأْتِ الِاسْتِثْنَاءُ إِلاَّ فِي قَلِيلٍ مِنَ الْكَثِيرِ.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ:

19- وَيُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ إِذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَجَوَّزَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْبَاقِلاَّنِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ.وَمِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنَ الدَّنَانِيرِ إِلاَّ فَرَسًا.

وَكَذَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ فَرَسٌ إِلاَّ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ، فَيُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ فَإِنِ اسْتَغْرَقَتِ الْقِيمَةُ الْمُقَرَّ بِهِ بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ.وَلَزِمَهُ الْأَلْفُ بِتَمَامِهَا.

وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَصِحُّ اسْتِحْسَانًا اسْتِثْنَاءُ الْمُقَدَّرِ مِنَ الْمُقَدَّرِ الْكَيْلِيِّ وَالْوَزْنِيِّ، وَالْمَعْدُودِ الَّذِي لَا تَتَفَاوَتُ آحَادُهُ، كَالْفُلُوسِ وَالْجَوْزِ، مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ.وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فَاعْتُبِرَتْ جِنْسًا وَاحِدًا، فَكَانَتْ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.وَتُطْرَحُ قِيمَةُ الْمُسْتَثْنَى مِمَّا أَقَرَّ بِهِ.

وَيَصِحُّ عِنْدَهُمَا هَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَلَوِ اسْتَغْرَقَتِ الْقِيمَةُ جَمِيعَ مَا أَقَرَّ بِهِ، لِاسْتِغْرَاقِهِ بِغَيْرِ الْمُسَاوِي.

وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ.وَهُوَ الْقِيَاسُ.

أَمَّا فِي غَيْرِ الْمُقَدَّرَاتِ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إِلاَّ ثَوْبًا، فَلَا يَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ جَمِيعًا، قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ لَا يَصِحُّ إِلاَّ أَنْ يُسْتَثْنَى الدَّرَاهِمُ مِنَ الدَّنَانِيرِ، أَوِ الدَّنَانِيرُ مِنَ الدَّرَاهِمِ.وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَهُمْ لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا.

وَحُجَّةُ الْمُجِيزِينَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ، مِنْهُ قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآِدَم فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ}.وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلاَّ قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا}.

وَحُجَّةُ الْمَانِعِينَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ صَرْفُ اللَّفْظِ بِحَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ عَمَّا كَانَ يَقْتَضِيهِ لَوْلَاهُ.

وَغَيْرُ الْجِنْسِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي الْكَلَامِ، فَإِذَا ذَكَرَهُ فَمَا صَرَفَ الْكَلَامَ عَنْ صَوْبِهِ، وَلَا ثَنَاهُ عَنْ وَجْهِ اسْتِرْسَالِهِ، فَلَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً، وَإِنَّمَا يُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ اسْتِثْنَاءً مَجَازًا، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ (ف: 6) وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْتِدْرَاكٌ، وَتَكُونُ إِلاَّ بِمَعْنَى لَكِنَّ، فَإِذَا ذَكَرَ الِاسْتِدْرَاكَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ، كَأَنْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي مِائَةُ دِرْهَمٍ إِلاَّ ثَوْبًا لِي عَلَيْهِ كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُقِرًّا بِشَيْءٍ، مُدَّعِيًا لِشَيْءٍ سِوَاهُ، فَيُقْبَلُ إِقْرَارُهُ، وَتَبْطُلُ دَعْوَاهُ وَهِيَ الِاسْتِثْنَاءُ.

وَحُجَّةُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَثْمَانِ وَغَيْرِهَا أَنَّ قَدْرَ الدَّنَانِيرِ مِنَ الدَّرَاهِمِ مَعْلُومٌ، وَيُعَبَّرُ بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، فَإِذَا اسْتَثْنَى أَحَدَهُمَا مِنَ الْآخَرِ عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ التَّعْبِيرَ بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، فَإِنَّ قَوْمًا يُسَمُّونَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ دِينَارًا، وَفِي بِلَادٍ أُخْرَى يُسَمُّونَ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ دِينَارًا.

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: التَّلَفُّظُ بِالِاسْتِثْنَاءِ

20- ذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ تَحْرِيكُ الشَّفَتَيْنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحْلَفًا، فَإِنْ كَانَ مُسْتَحْلَفًا لَمْ يُجْزِئْهُ إِلاَّ الْجَهْرُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَنْفَعُهُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ الْمَحْلُوفُ لَهُ.

وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ لِلِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهِ بِحَيْثُ يُسْمِعُ غَيْرَهُ، وَإِلاَّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ خَصْمِهِ فِي النَّفْيِ، وَحَكَمَ بِالْوُقُوعِ إِذَا حَلَفَ الْخَصْمُ عَلَى نَفْيِ الِاسْتِثْنَاءِ.

هَذَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، أَمَّا فِيمَا عَدَاهُ فَيَكْفِي أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ، إِنِ اعْتَدَلَ سَمْعُهُ وَلَا عَارِضَ، وَيُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَلَمْ يَظْهَرْ لِلْحَنَابِلَةِ تَعَرُّضٌ لِصِفَةِ النُّطْقِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا فِي نِيَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْقَلْبِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَنْطُوقُ بِهِ عَامًّا، كَقَوْلِهِ: نِسَائِي طَوَالِقُ، وَاسْتَثْنَى بِقَلْبِهِ وَاحِدَةً، فَيَكُونُ لَهُ اسْتِثْنَاؤُهُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ «نِسَائِي» اسْمٌ عَامٌّ يَجُوزُ التَّعْبِيرُ بِهِ عَنْ بَعْضِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَصًّا فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ كَالْعَدَدِ، فَلَا يَرْتَفِعُ بِالنِّيَّةِ مَا ثَبَتَ بِاللَّفْظِ، كَقَوْلِهِ: نِسَائِي الْأَرْبَعُ أَوِ الثَّلَاثُ طَوَالِقُ، فَلَا يُقْبَلُ اسْتِثْنَاؤُهُ ظَاهِرًا، وَقِيلَ لَا يُقْبَلُ وَلَا بَاطِنًا.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ إِذَا تَكَلَّمَ بِالطَّلَاقِ وَاسْتَثْنَى فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاؤُهُ مَسْمُوعًا، وَالْمُرَادُ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُسْمَعَ، بِحَيْثُ لَوْ قَرَّبَ شَخْصٌ أُذُنَهُ إِلَى فَمِهِ يَسْمَعُ اسْتِثْنَاءَهُ، وَلَوْ حَالَ دُونَ سَمَاعِ الْمُنْشِئِ لِلْكَلَامِ صَمَمٌ أَوْ كَثْرَةُ أَصْوَاتٍ.وَفِي قَوْلِ الْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظٍ مَسْمُوعٍ وَيَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِالْكِتَابَةِ صَحِيحٌ، حَتَّى لَوْ تَلَفَّظَ بِالطَّلَاقِ وَكَتَبَ الِاسْتِثْنَاءَ مَوْصُولًا، أَوْ عَكَسَ، أَوْ أَزَالَ الِاسْتِثْنَاءَ بَعْدَ الْكِتَابَةِ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ.

وَجَاءَ فِي التَّتَارْخَانِيَّةِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الزَّوْجَةَ إِذَا سَمِعَتِ الطَّلَاقَ وَلَمْ تَسْمَعِ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَسَعُهَا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنَ الْوَطْءِ، وَيَلْزَمُهَا مُنَازَعَتُهُ.

21- وَلَوِ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي صُدُورِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَادَّعَاهُ الزَّوْجُ وَأَنْكَرَتْهُ الزَّوْجَةُ، فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ.وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.وَهُوَ الْمَذْهَبُ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يُقْبَلُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، عَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ وَالْفَتْوَى احْتِيَاطًا لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ، إِذْ قَدْ يُعَلِّمُهُ ذَلِكَ حِيلَةً بَعْضُ مَنْ لَا يَخَافُ اللَّهَ تَعَالَى، وَلِأَنَّ دَعْوَى الزَّوْجِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، فَإِنَّهُ بِدَعْوَى الِاسْتِثْنَاءِ يَدَّعِي إِبْطَالَ الْمُوجِبِ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بِهِ.

فَالظَّاهِرُ خِلَافُ قَوْلِهِ، وَإِذَا عَمَّ الْفَسَادُ يَنْبَغِي الرُّجُوعُ إِلَى الظَّاهِرِ.وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَهُمْ نَقَلَهُ ابْنُ الْهُمَامِ عَنِ الْمُحِيطِ إِنْ عُرِفَ الزَّوْجُ بِالصَّلَاحِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ تَصْدِيقًا لَهُ، وَإِنْ عُرِفَ بِالْفِسْقِ أَوْ جُهِلَ حَالُهُ فَلَا؛ لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ.وَأَيَّدَهُ ابْنُ عَابِدِينَ.وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى نُصُوصٍ لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


198-موسوعة الفقه الكويتية (استحاضة 2)

اسْتِحَاضَةٌ -2

اسْتِحَاضَةُ الْمُتَحَيِّرَةِ:

21- الْمُتَحَيِّرَةُ: هِيَ الَّتِي نَسِيَتْ عَادَتَهَا بَعْدَ اسْتِمْرَارِ الدَّمِ وَتُوصَفُ بِالْمُحَيِّرَةِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، لِأَنَّهَا تُحَيِّرُ الْمُفْتِيَ، وَبِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ لِأَنَّهَا حُيِّرَتْ بِسَبَبِ نِسْيَانِهَا وَتُدْعَى أَيْضًا الْمُضِلَّةَ؛ لِأَنَّهَا أَضَلَّتْ عَادَتَهَا.

وَمَسَائِلُ الْمُحَيِّرَةِ مِنْ أَصْعَبِ مَسَائِلِ الْحَيْضِ وَأَدَقِّهَا، وَلَهَا صُوَرٌ كَثِيرَةٌ وَفُرُوعٌ دَقِيقَةٌ، وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ حِفْظُ عَادَتِهَا فِي الزَّمَانِ وَالْعَدَدِ.

وَجَمِيعُ الْأَحْكَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تُبْنَى عَلَى الِاحْتِيَاطِ، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ تَشْدِيدٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ فَلَيْسَ الْقَصْدُ التَّشْدِيدَ لِأَنَّهَا لَمْ تَرْتَكِبْ مَحْظُورًا.

وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِ الْمُتَحَيِّرَةِ فِي مُصْطَلَحِهَا.

مَا تَرَاهُ الْمَرْأَةُ الْحَامِلُ مِنَ الدَّمِ أَثْنَاءَ حَمْلِهَا:

22- إِذَا رَأَتِ الْمَرْأَةُ الْحَامِلُ الدَّمَ حَالَ الْحَبَلِ وَقَبْلَ الْمَخَاضِ، فَلَيْسَ بِحَيْضٍ وَإِنْ كَانَ مُمْتَدًّا بَالِغًا نِصَابَ الْحَيْضِ، بَلْ هُوَ اسْتِحَاضَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَكَذَلِكَ مَا تَرَاهُ حَالَةَ الْمَخَاضِ وَقَبْلَ خُرُوجِ أَكْثَرِ الْوَلَدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الدَّمَ الَّذِي تَرَاهُ الْحَامِلُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ دَمُ نِفَاسٍ وَإِنْ كَانَ لَا يُعَدُّ مِنْ مُدَّةِ النِّفَاسِ.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ: بِقَوْلِ عَائِشَةَ الْحَامِلُ لَا تَحِيضُ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ حَيْضٌ فِي حَقِّ تَرْكِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَحُرْمَةِ الْقُرْبَانِ، لَا فِي حَقِّ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ، وَاحْتَجَّ بِمَا يُرْوَى عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ قَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: إِذَا أَقْبَلَ قُرْؤُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالٍ وَحَالٍ.وَلِأَنَّ الْحَامِلَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ إِلاَّ أَنَّ حَيْضَهَا لَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ فَرَاغُ الرَّحِمِ، وَحَيْضُهَا لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْحَامِلَ إِذَا رَأَتْ دَمًا فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي يُعْتَبَرُ حَيْضًا، وَتُعَامَلُ كَأَنَّهَا حَامِلٌ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَسْتَبِينُ- عَادَةً- فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَأَمَّا إِذَا رَأَتْ دَمًا فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ أَوِ الرَّابِعِ أَوِ الْخَامِسِ وَاسْتَمَرَّ كَانَ أَثَرُ حَيْضِهَا عِشْرِينَ يَوْمًا، وَمَا زَادَ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ.

وَإِنَّمَا فَرَّقُوا فِي أَكْثَرِ الْحَيْضِ بَيْنَ الْحَامِلِ وَغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ يَحْبِسُ الدَّمَ، فَإِذَا خَرَجَ كَانَ زَائِدًا، وَرُبَّمَا اسْتَمَرَّ لِطُولِ الْمُكْثِ.وَأَمَّا إِنْ رَأَتْهُ فِي الشَّهْرِ السَّابِعِ أَوِ الثَّامِنِ أَوِ التَّاسِعِ وَاسْتَمَرَّ نَازِلًا كَانَ أَكْثَرُ الْحَيْضِ فِي حَقِّهَا ثَلَاثِينَ يَوْمًا.وَأَمَّا إِنْ رَأَتْهُ فِي الشَّهْرِ السَّادِسِ فَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ مَا إِذَا حَاضَتْ فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ شُيُوخُ إِفْرِيقِيَّةَ فَرَأَوْا أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.

وَبَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ يُعْتَبَرُ اسْتِحَاضَةً.

مَا تَرَاهُ الْمَرْأَةُ مِنَ الدَّمِ بَيْنَ الْوِلَادَتَيْنِ (إِنْ كَانَتْ حَامِلًا بِتَوْأَمَيْنِ):

23- التَّوْأَمُ: اسْمُ وَلَدٍ إِذَا كَانَ مَعَهُ آخَرُ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ، فَالتَّوْأَمَانِ هُمَا الْوَلَدَانِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، يُقَالُ لِكُلِّ وَاحِدٍ تَوْأَمٌ، وَلِلْأُنْثَى تَوْأَمَةٌ.

فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَالدَّمُ الَّذِي تَرَاهُ النُّفَسَاءُ بَيْنَ الْوِلَادَتَيْنِ دَمٌ صَحِيحٌ، أَيْ نِفَاسٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ دَمٌ فَاسِدٌ أَيِ اسْتِحَاضَةٌ، وَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا وَلَدَتْ وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ آخَرُ، فَالنِّفَاسُ مِنَ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ مِنَ الْوَلَدِ الثَّانِي، وَانْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِالْوَلَدِ الثَّانِي بِالْإِجْمَاعِ.

وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ: أَنَّ النِّفَاسَ يَتَعَلَّقُ بِوَضْعِ مَا فِي الْبَطْنِ، كَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَيَتَعَلَّقُ بِالْوَلَدِ الْأَخِيرِ، وَهَذَا لِأَنَّهَا لَا تَزَالُ حُبْلَى، وَكَمَا لَا يُتَصَوَّرُ انْقِضَاءُ عِدَّةِ الْحَمْلِ بِدُونِ وَضْعِ الْحَمْلِ، لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ النِّفَاسِ مِنَ الْحُبْلَى؛ لِأَنَّ النِّفَاسَ بِمَنْزِلَةِ الْحَيْضِ، فَكَانَ الْمَوْجُودُ قَبْلَ وَضْعِ الْوَلَدِ الثَّانِي نِفَاسًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَلَا تَسْقُطُ الصَّلَاةُ عَنْهَا بِالشَّكِّ.

وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: أَنَّ النِّفَاسَ إِنْ كَانَ دَمًا يَخْرُجُ عَقِيبَ الْوِلَادَةِ فَقَدْ وُجِدَ بِوِلَادَةِ الْأَوَّلِ، بِخِلَافِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِفَرَاغِ الرَّحِمِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَبَقَاءُ الْوَلَدِ الثَّانِي فِي الْبَطْنِ لَا يُنَافِي النِّفَاسَ.

وَيَتَّفِقُ الْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ مَعَ الشَّيْخَيْنِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ مَعَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ أَوَّلَ النِّفَاسِ مِنَ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ.وَتَبْدَأُ لِلثَّانِي بِنِفَاسٍ جَدِيدٍ.

24- وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الدَّمُ الَّذِي بَيْنَ التَّوْأَمَيْنِ نِفَاسٌ، وَقِيلَ حَيْضٌ، وَالْقَوْلَانِ فِي الْمُدَوَّنَةِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ كَاَلَّتِي رُوِيَتْ عَنِ الْحَنَابِلَةِ.

أَحْكَامُ الْمُسْتَحَاضَةِ:

25- دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ حُكْمُهُ كَالرُّعَافِ الدَّائِمِ، أَوْ كَسَلَسِ الْبَوْلِ، حَيْثُ تُطَالَبُ الْمُسْتَحَاضَةُ بِأَحْكَامٍ خَاصَّةٍ تَخْتَلِفُ عَنْ أَحْكَامِ الْأَصِحَّاءِ، وَعَنْ أَحْكَامِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَهِيَ:

أ- يَجِبُ رَدُّ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ، أَوْ تَخْفِيفُهُ إِذَا تَعَذَّرَ رَدُّهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ بِرِبَاطٍ أَوْ حَشْوٍ أَوْ بِالْقِيَامِ أَوْ بِالْقُعُودِ، كَمَا إِذَا سَالَ أَثْنَاءَ السُّجُودِ وَلَمْ يَسِلْ بِدُونِهِ، فَتُومِئُ مِنْ قِيَامٍ أَوْ مِنْ قُعُودٍ، وَكَذَا لَوْ سَالَ الدَّمُ عِنْدَ الْقِيَامِ صَلَّتْ مِنْ قُعُودٍ؛ لِأَنَّ تَرْكَ السُّجُودِ أَوِ الْقِيَامِ أَوِ الْقُعُودِ أَهْوَنُ مِنَ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ.

وَهَكَذَا إِذَا كَانَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ تَسْتَطِيعُ مَنْعَ سَيَلَانِ الدَّمِ بِالِاحْتِشَاءِ فَيَلْزَمُهَا ذَلِكَ، فَإِذَا نَفَذَتِ الْبِلَّةُ أَوْ أَخْرَجَتِ الْحَشْوَةَ الْمُبْتَلَّةَ انْتَقَضَ وُضُوءُهَا.

فَإِذَا رَدَّتِ الْمُسْتَحَاضَةُ الدَّمَ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ أَوْ نَحْوِهَا خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ صَاحِبَةَ عُذْرٍ.

وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ الْمُسْتَحَاضَةَ صَاحِبَةَ عُذْرٍ كَمَنْ بِهِ سَلَسٌ، فَإِذَا فَارَقَهَا الدَّمُ أَكْثَرَ زَمَنِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لَمْ تُعَدَّ صَاحِبَةَ عُذْرٍ.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهَا إِذَا رَأَتِ الدَّمَ عِنْدَ الْوُضُوءِ فَإِذَا قَامَتْ ذَهَبَ عَنْهَا، قَالَ مَالِكٌ: تَشُدُّ ذَلِكَ بِشَيْءٍ وَلَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ.

وَيُسْتَثْنَى مِنْ وُجُوبِ الشَّدِّ أَوِ الِاحْتِشَاءِ أَمْرَانِ:

الْأَوَّلُ: أَنْ تَتَضَرَّرَ الْمُسْتَحَاضَةُ مِنَ الشَّدِّ أَوِ الِاحْتِشَاءِ.

الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ صَائِمَةً فَتَتْرُكُ الِاحْتِشَاءَ نَهَارًا لِئَلاَّ يَفْسُدَ صَوْمُهَا.

وَإِذَا قَامَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ وَمَنْ فِي حُكْمِهَا مِنَ الْمَعْذُورِينَ بِالشَّدِّ أَوِ الِاحْتِشَاءِ ثُمَّ خَرَجَ الدَّمُ رَغْمَ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْتَدَّ، أَوْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ وَاسْتَمَرَّ وَقْتَ صَلَاةٍ كَامِلٍ، فَلَا يَمْنَعُ خُرُوجُ الدَّمِ أَوْ وُجُودُهُ مِنْ صِحَّةِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ ذَلِكَ عِرْقٌ، وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلَاةَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي»،، وَفِي رِوَايَةٍ: «تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ»،، وَفِي رِوَايَةٍ: «تَوَضَّئِي لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ».

وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ لِلْمُسْتَحَاضَةِ وَلِغَيْرِهَا مِنَ الْمَعْذُورِينَ ثَلَاثَةَ شُرُوطٍ:

الْأَوَّلُ: شَرْطُ الثُّبُوتِ: حَيْثُ لَا يَصِيرُ مَنِ اُبْتُلِيَ بِالْعُذْرِ مَعْذُورًا، وَلَا تَسْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمَعْذُورِينَ، حَتَّى يَسْتَوْعِبَهُ الْعُذْرُ وَقْتًا كَامِلًا لِصَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ وَلَوْ حُكْمًا، وَلَيْسَ فِيهِ انْقِطَاعٌ- فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْوَقْتِ- زَمَنًا بِقَدْرِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ، وَهَذَا شَرْطٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

الثَّانِيَ: شَرْطُ الدَّوَامِ، وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ الْعُذْرُ فِي كُلِّ وَقْتٍ آخَرَ، سِوَى الْوَقْتِ الْأَوَّلِ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ الْعُذْرُ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً.

الثَّالِثَ: شَرْطُ الِانْقِطَاعِ، وَبِهِ يَخْرُجُ صَاحِبُهُ عَنْ كَوْنِهِ مَعْذُورًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَسْتَمِرَّ الِانْقِطَاعُ وَقْتًا كَامِلًا فَيَثْبُتُ لَهُ حِينَئِذٍ حُكْمُ الْأَصِحَّاءِ مِنْ وَقْتِ الِانْقِطَاعِ.

مَا تَمْتَنِعُ عَنْهُ الْمُسْتَحَاضَةُ:

26- قَالَ الْبِرْكَوِيُّ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: الِاسْتِحَاضَةُ حَدَثٌ أَصْغَرُ كَالرُّعَافِ.فَلَا تَسْقُطُ بِهَا الصَّلَاةُ وَلَا تَمْنَعُ صِحَّتَهَا أَيْ عَلَى سَبِيلِ الرُّخْصَةِ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا تُحَرِّمُ الصَّوْمَ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا، وَلَا تَمْنَعُ الْجِمَاعَ- لِحَدِيثِ حَمْنَةَ: أَنَّهَا كَانَتْ مُسْتَحَاضَةً وَكَانَ زَوْجُهَا يَأْتِيهَا- وَلَا قِرَاءَةَ قُرْآنٍ، وَلَا مَسَّ مُصْحَفٍ، وَلَا دُخُولَ مَسْجِدٍ، وَلَا طَوَافًا إِذَا أَمِنَتِ التَّلْوِيثَ.وَحُكْمُ الِاسْتِحَاضَةِ كَالرُّعَافِ الدَّائِمِ، فَتُطَالَبُ الْمُسْتَحَاضَةُ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ.

وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، قَالُوا: لَا تَمْتَنِعُ الْمُسْتَحَاضَةُ عَنْ شَيْءٍ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الطَّاهِرَاتِ فِي وُجُوبِ الْعِبَادَاتِ، وَاخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْوَطْءِ، فَهُنَاكَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْهُ بِالْمَنْعِ كَالْحَيْضِ مَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ الْوُقُوعَ فِي مَحْظُورٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ كَمَا فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: هِيَ طَاهِرٌ حَقِيقَةً.

وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمُسْتَحَاضَةِ الْمُتَحَيِّرَةِ، فَإِنَّ لَهَا أَحْكَامًا خَاصَّةً تُنْظَرُ تَحْتَ عِنْوَانِ (مُتَحَيِّرَة).

طَهَارَةُ الْمُسْتَحَاضَةِ:

27- يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ الِاحْتِيَاطُ فِي طَهَارَتَيِ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ، فَتَغْسِلُ عَنْهَا الدَّمَ، وَتَحْتَشِي بِقُطْنَةٍ أَوْ خِرْقَةٍ دَفْعًا لِلنَّجَاسَةِ أَوْ تَقْلِيلًا لَهَا، فَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعِ الدَّمُ بِذَلِكَ وَحْدَهُ تَحَفَّظَتْ بِالشَّدِّ وَالتَّعْصِيبِ.وَهَذَا الْفِعْلُ يُسَمَّى اسْتِثْفَارًا وَتَلَجُّمًا، وَسَمَّاهُ الشَّافِعِيُّ التَّعْصِيبَ.

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَهَذَا الْحَشْوُ وَالشَّدُّ وَاجِبٌ إِلاَّ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَتَأَذَّى بِالشَّدِّ.وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ صَائِمَةً فَتَتْرُكَ الْحَشْوَ نَهَارًا وَتَقْتَصِرَ عَلَى الشَّدِّ وَالتَّلَجُّمِ

فَإِذَا اسْتَوْثَقَتْ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ، ثُمَّ خَرَجَ دَمُهَا بِلَا تَفْرِيطٍ لَمْ تَبْطُلْ طَهَارَتُهَا وَلَا صَلَاتُهَا

28- وَأَمَّا إِذَا خَرَجَ الدَّمُ لِتَقْصِيرِهَا فِي التَّحَفُّظِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ طُهْرُهَا.

وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَيَجِبُ عَلَى الْمَعْذُورِ رَدُّ عُذْرِهِ، أَوْ تَقْلِيلُهُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ رَدُّهُ بِالْكُلِّيَّةِ.وَبِرَدِّهِ لَا يَبْقَى ذَا عُذْرٍ.أَمَّا إِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الرَّبْطِ أَوْ مَنْعِ النَّشِّ فَهُوَ مَعْذُورٌ.

وَأَمَّا غَسْلُ الْمَحَلِّ وَتَجْدِيدُ الْعِصَابَةِ وَالْحَشْوِ لِكُلِّ فَرْضٍ، فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُنْظَرُ إِنْ زَالَتِ الْعِصَابَةُ عَنْ مَوْضِعِهَا زَوَالًا لَهُ تَأْثِيرٌ، أَوْ ظَهَرَ الدَّمُ عَلَى جَوَانِبِهَا، وَجَبَ التَّجْدِيدُ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ كَثُرَتْ وَأَمْكَنَ تَقْلِيلُهَا وَالِاحْتِرَازُ عَنْهَا.فَإِنْ لَمْ تَزُلِ الْعِصَابَةُ عَنْ مَوْضِعِهَا وَلَا ظَهَرَ الدَّمُ، فَوَجْهَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَصَحُّهُمَا: وُجُوبُ التَّجْدِيدِ كَمَا يَجِبُ تَجْدِيدُ الْوُضُوءِ، وَالثَّانِي: إِذْ لَا مَعْنَى لِلْأَمْرِ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ مَعَ اسْتِمْرَارِهَا، بِخِلَافِ الْأَمْرِ بِتَجْدِيدِ طَهَارَةِ الْحَدَثِ مَعَ اسْتِمْرَارِهِ فَإِنَّهُ مَعْهُودٌ فِي التَّيَمُّمِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا يَلْزَمُهَا إِعَادَةُ الْغُسْلِ وَالْعَصْبِ لِكُلِّ صَلَاةٍ إِنْ لَمْ تُفَرِّطْ، قَالُوا: لِأَنَّ الْحَدَثَ مَعَ قُوَّتِهِ وَغَلَبَتِهِ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ «اعْتَكَفَ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ، فَكَانَتْ تَرَى الدَّمَ وَالصُّفْرَةَ وَالطَّسْتُ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ب- حُكْمُ مَا يَسِيلُ مِنْ دَمِ الْمُسْتَحَاضَةِ عَلَى الثَّوْبِ:

إِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ مِنَ الدَّمِ مِقْدَارُ مُقَعَّرِ الْكَفِّ فَأَكْثَرَ وَجَبَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ غَسْلُهُ، إِذَا كَانَ الْغَسْلُ مُفِيدًا، بِأَنْ كَانَ لَا يُصِيبُهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، حَتَّى لَوْ لَمْ تَغْسِلْ وَصَلَّتْ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا لَا يَجِبُ مَا دَامَ الْعُذْرُ قَائِمًا.أَيْ إِنْ كَانَ لَوْ غَسَلَتِ الثَّوْبَ تَنَجَّسَ ثَانِيًا قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، جَازَ أَلاَّ تَغْسِلَ؛ لِأَنَّ فِي إِلْزَامِهَا التَّطْهِيرَ مَشَقَّةً وَحَرَجًا.

وَإِنْ كَانَ لَوْ غَسَلَتْهُ لَا يَتَنَجَّسُ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، فَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ بَقَائِهِ، إِلاَّ فِي قَوْلٍ مَرْجُوحٍ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا تَحَفَّظَتْ لَمْ يَضُرَّ خُرُوجُ الدَّمِ، وَلَوْ لَوَّثَ مَلْبُوسَهَا فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ خَاصَّةً.

وَلَا يَضُرُّ كَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لِقَوْلِهِمْ: إِنْ غَلَبَ الدَّمُ وَقَطَرَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَبْطُلْ طَهَارَتُهَا.

مَتَى يَلْزَمُ الْمُسْتَحَاضَةَ أَنْ تَغْتَسِلَ:

29- نَقَلَ صَاحِبُ الْمُغْنِي فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا:

الْأَوَّلُ: تَغْتَسِلُ عِنْدَمَا يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ حَيْضِهَا أَوْ نِفَاسِهَا.وَلَيْسَ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلاَّ الْوُضُوءُ وَيُجْزِيهَا ذَلِكَ.وَهَذَا رَأْيُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.«لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: إِنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَدَعِي الصَّلَاةَ، فَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي، وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.وَلِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ: تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي، وَتَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ».

الثَّانِيَ: أَنَّهَا تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ.رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمُتَحَيِّرَةِ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ رَوَتْ «أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ اسْتُحِيضَتْ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ تَغْتَسِلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.إِلاَّ أَنَّ أَصْحَابَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالُوا: إِنَّ ذِكْرَ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا.وَمِنْ هُنَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ.وَيَكُونُ الْأَمْرُ فِي الْحَدِيثِ لِلِاسْتِحْبَابِ.

الثَّالِثُ: أَنَّهَا تَغْتَسِلُ لِكُلِّ يَوْمٍ غُسْلًا وَاحِدًا، رُوِيَ هَذَا عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.

الرَّابِعُ: تَجْمَعُ بَيْنَ كُلِّ صَلَاتَيْ جَمْعٍ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ، وَتَغْتَسِلُ لِلصُّبْحِ.

وُضُوءُ الْمُسْتَحَاضَةِ وَعِبَادَتُهَا:

30- قَالَ الشَّافِعِيُّ: تَتَوَضَّأُ الْمُسْتَحَاضَةُ لِكُلِّ فَرْضٍ وَتُصَلِّي مَا شَاءَتْ مِنَ النَّوَافِلِ، لِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ السَّابِقِ؛ وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ طَهَارَتِهَا ضَرُورَةٌ لِأَدَاءِ الْمَكْتُوبَةِ، فَلَا تَبْقَى بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا.

وَقَالَ مَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْنِ: تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ.فَمَالِكٌ عَمِلَ بِمُطْلَقِ اسْمِ الصَّلَاةِ، وَالشَّافِعِيُّ قَيَّدَهُ بِالْفَرْضِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ تَنْصَرِفُ إِلَى الْفَرْضِ، وَالنَّوَافِلُ أَتْبَاعُ الْفَرَائِضِ؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِتَكْمِيلِ الْفَرَائِضِ جَبْرًا لِلنُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ فِيهَا، فَكَانَتْ مُلْحَقَةً بِأَجْزَائِهَا، وَالطَّهَارَةُ الْوَاقِعَةُ لِصَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ وَاقِعَةٌ لَهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، بِخِلَافِ فَرْضٍ آخَرَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَبَعٍ، بَلْ هُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ تَجْدِيدَ الْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ مُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ طَرِيقَةُ الْعِرَاقِيِّينَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: تَتَوَضَّأُ الْمُسْتَحَاضَةُ وَأَمْثَالُهَا مِنَ الْمَعْذُورِينَ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ، وَتُصَلِّي بِهِ فِي الْوَقْتِ مَا شَاءَتْ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالنُّذُورِ وَالنَّوَافِلِ وَالْوَاجِبَاتِ، كَالْوِتْرِ وَالْعِيدِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالطَّوَافِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ.وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: «وَتَوَضَّئِي لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ».

وَلَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُ الْمُسْتَحَاضَةِ بِتَجَدُّدِ الْعُذْرِ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْوُضُوءُ فِي حَالِ سَيَلَانِ الدَّمِ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: فَلَوْ تَوَضَّأَتْ مَعَ الِانْقِطَاعِ ثُمَّ سَالَ الدَّمُ انْتَقَضَ الْوُضُوءُ.

وَلَوْ تَوَضَّأَتْ مِنْ حَدَثٍ آخَرَ- غَيْرِ الْعُذْرِ- فِي فَتْرَةِ انْقِطَاعِ الْعُذْرِ، ثُمَّ سَالَ الدَّمُ انْتَقَضَ الْوُضُوءُ أَيْضًا.

وَكَذَا لَوْ تَوَضَّأَتْ مِنْ عُذْرِ الدَّمِ، ثُمَّ أَحْدَثَتْ حَدَثًا آخَرَ انْتَقَضَ الْوُضُوءُ.

بَيَانُ ذَلِكَ: لَوْ كَانَ مَعَهَا سَيَلَانٌ دَائِمٌ مَثَلًا، وَتَوَضَّأَتْ لَهُ، ثُمَّ أَحْدَثَتْ بِخُرُوجِ بَوْلٍ انْتَقَضَ الْوُضُوءُ.

31- ثُمَّ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ، هَلْ تُنْتَقَضُ عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ؟ أَمْ عِنْدَ دُخُولِهِ؟ أَمْ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْخُرُوجِ وَالدُّخُولِ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: تُنْتَقَضُ عِنْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَعْذُورِ مُقَيَّدَةٌ بِالْوَقْتِ فَإِذَا خَرَجَ ظَهَرَ الْحَدَثُ.

وَقَالَ زُفَرُ: عِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَا غَيْرُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ لِحَدِيثِ «تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ» وَفِي رِوَايَةٍ «لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ».

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمَا، أَيْ لِلِاحْتِيَاطِ.وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ.

وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي مَوْضِعَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوجَدَ الْخُرُوجُ بِلَا دُخُولٍ، كَمَا إِذَا تَوَضَّأَتْ فِي وَقْتِ الْفَجْرِ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَإِنَّ طَهَارَتَهَا تُنْتَقَضُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِوُجُودِ الْخُرُوجِ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَأَحْمَدَ لَا تُنْتَقَضُ لِعَدَمِ دُخُولِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى الظُّهْرِ لَيْسَ بِوَقْتِ صَلَاةٍ، بَلْ هُوَ وَقْتٌ مُهْمَلٌ.

وَالثَّانِي: أَنْ يُوجَدَ الدُّخُولُ بِلَا خُرُوجٍ، كَمَا إِذَا تَوَضَّأَتْ قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ زَالَتِ الشَّمْسُ، فَإِنَّ طَهَارَتَهَا لَا تُنْتَقَضُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِعَدَمِ الْخُرُوجِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ وَأَحْمَدَ تُنْتَقَضُ لِوُجُودِ الدُّخُولِ.

فَلَوْ تَوَضَّأَتْ لِصَلَاةِ الضُّحَى أَوْ لِصَلَاةِ الْعِيدِ فَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ الظُّهْرَ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ، عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ وَأَحْمَدَ، بَلْ تُنْتَقَضُ الطَّهَارَةُ لِدُخُولِ وَقْتِ الظُّهْرِ.

وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَتَجُوزُ لِعَدَمِ خُرُوجِ الْوَقْتِ.

أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيُنْتَقَضُ وُضُوءُهَا بِمُجَرَّدِ أَدَاءِ أَيِّ فَرْضٍ، وَلَوْ لَمْ يَخْرُجِ الْوَقْتُ أَوْ يَدْخُلْ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَهِيَ طَاهِرٌ حَقِيقَةً عَلَى مَا سَبَقَ.

بُرْءُ الْمُسْتَحَاضَةِ وَشِفَاؤُهَا:

32- عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا انْقَطَعَ دَمُ الْمُسْتَحَاضَةِ انْقِطَاعًا مُحَقَّقًا حَصَلَ مَعَهُ بُرْؤُهَا وَشِفَاؤُهَا مِنْ عِلَّتِهَا، وَزَالَتِ اسْتِحَاضَتُهَا، نُظِرَ:

إِنْ حَصَلَ هَذَا خَارِجَ الصَّلَاةِ:

أ- فَإِنْ كَانَ بَعْدَ صَلَاتِهَا، فَقَدْ مَضَتْ صَلَاتُهَا صَحِيحَةً، وَبَطَلَتْ طَهَارَتُهَا فَلَا تَسْتَبِيحُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ نَافِلَةً.

ب- وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ بَطَلَتْ طَهَارَتُهَا، وَلَمْ تَسْتَبِحْ تِلْكَ الصَّلَاةَ وَلَا غَيْرَهَا.

أَمَّا إِذَا حَصَلَ الِانْقِطَاعُ فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: بُطْلَانُ طَهَارَتِهَا وَصَلَاتِهَا.

وَالثَّانِي: لَا تَبْطُلُ كَالتَّيَمُّمِ.

وَالرَّاجِحُ الْأَوَّلُ.

وَإِذَا تَطَهَّرَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ وَصَلَّتْ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهَا.

وَلَا يُتَصَوَّرُ هَذَا التَّفْصِيلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَهَا مَعْذُورَةً لِوُجُودِ الْعُذْرِ فِي الْوَقْتِ وَلَوْ لَحْظَةً كَمَا سَبَقَ.وَلَا يُتَصَوَّرُ هَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا طَاهِرٌ حَقِيقَةً.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَعِنْدَهُمْ تَفْصِيلٌ.قَالُوا: إِنْ كَانَ لَهَا عَادَةٌ بِانْقِطَاعٍ زَمَنًا يَتَّسِعُ لِلْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ تَعَيَّنَ فِعْلُهُمَا فِيهِ.وَإِنْ عَرَضَ هَذَا الِانْقِطَاعُ لِمَنْ عَادَتُهَا الِاتِّصَالُ بَطَلَتْ طَهَارَتُهَا، وَلَزِمَ اسْتِئْنَافُهَا.فَإِنْ وُجِدَ الِانْقِطَاعُ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَجُزِ الشُّرُوعُ فِيهَا.وَإِنْ عَرَضَ الِانْقِطَاعُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَبْطَلَهَا مَعَ الْوُضُوءِ.وَمُجَرَّدُ الِانْقِطَاعِ يُوجِبُ الِانْصِرَافَ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا عَادَةٌ بِانْقِطَاعٍ يَسِيرٍ.وَلَوْ تَوَضَّأَتْ ثُمَّ بَرِئَتْ بَطَلَ وُضُوءُهَا إِنْ وُجِدَ مِنْهَا دَمٌ بَعْدَ الْوُضُوءِ.

عِدَّةُ الْمُسْتَحَاضَةِ:

33- سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى بَعْضِ أَحْكَامِهَا.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عِدَّة).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


199-موسوعة الفقه الكويتية (استحسان)

اسْتِحْسَانٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الِاسْتِحْسَانُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ عَدُّ الشَّيْءِ حَسَنًا وَضِدُّهُ الِاسْتِقْبَاحُ.وَفِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ عَرَّفَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهُ: اسْمٌ لِدَلِيلٍ يُقَابِلُ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ يَكُونُ بِالنَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ أَوِ الضَّرُورَةِ أَوِ الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ.

كَمَا يُطْلَقُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- فِي كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ وَالِاسْتِحْسَانِ- عَلَى اسْتِخْرَاجِ الْمَسَائِلِ الْحِسَانِ، فَهُوَ اسْتِفْعَالٌ بِمَعْنَى إِفْعَالٍ، كَاسْتِخْرَاجٍ بِمَعْنَى إِخْرَاجٍ.قَالَ النَّجْمُ النَّسَفِيُّ: فَكَأَنَّ الِاسْتِحْسَانَ هَاهُنَا إِحْسَانُ الْمَسَائِلِ، وَإِتْقَانُ الدَّلَائِلِ.

حُجِّيَّةُ الِاسْتِحْسَانِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ:

2- اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي قَبُولِ الِاسْتِحْسَانِ، فَقَبِلَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَرَدَّهُ الشَّافِعِيَّةُ وَجُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ نَسَبَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْقَوْلَ بِهِ إِلَى مَالِكٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ الْقَوْلُ بِالِاسْتِحْسَانِ لَا عَلَى مَا سَبَقَ، بَلْ حَاصِلُهُ: اسْتِعْمَالُ مَصْلَحَةٍ جُزْئِيَّةٍ فِي مُقَابَلَةِ قِيَاسٍ كُلِّيٍّ، فَهُوَ يُقَدِّمُ الِاسْتِدْلَالَ الْمُرْسَلَ عَلَى الْقِيَاسِ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ حُكِيَ عَنْهُمُ الْقَوْلُ بِهِ أَيْضًا.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْسَانَ إِنْ كَانَ هُوَ الْقَوْلَ بِمَا يَسْتَحْسِنُهُ الْإِنْسَانُ وَيَشْتَهِيهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْعُدُولَ عَنْ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهُ، فَهَذَا مِمَّا لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ.

أَقْسَامُ الِاسْتِحْسَانِ:

يَنْقَسِمُ الِاسْتِحْسَانُ بِحَسَبِ تَنَوُّعِ الدَّلِيلِ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ: أَوَّلًا- اسْتِحْسَانُ الْأَثَرِ أَوِ السُّنَّةِ:

3- وَهُوَ أَنْ يَرِدَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ حُكْمٌ لِمَسْأَلَةٍ مَا مُخَالِفٌ لِلْقَاعِدَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي الشَّرْعِ فِي أَمْثَالِهَا؛ لِحِكْمَةٍ يُرَاعِيهَا الشَّارِعُ، كَبَيْعِ السَّلَمِ، جَوَّزَتْهُ السُّنَّةُ نَظَرًا لِلْحَاجَةِ، عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فِي بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَهُوَ الْمَنْعُ.

ثَانِيًا- اسْتِحْسَانُ الْإِجْمَاعِ:

4- وَهُوَ أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ فِي أَمْرٍ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ، كَمَا فِي صِحَّةِ عَقْدِ الِاسْتِصْنَاعِ، فَهُوَ فِي الْأَصْلِ أَيْضًا بَيْعُ مَعْدُومٍ لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا جُوِّزَ بِالْإِجْمَاعِ اسْتِحْسَانًا لِلْحَاجَةِ الْعَامَّةِ إِلَيْهِ.

ثَالِثًا- اسْتِحْسَانُ الضَّرُورَةِ:

5- وَهُوَ أَنْ يُخَالِفَ الْمُجْتَهِدُ حُكْمَ الْقَاعِدَةِ نَظَرًا إِلَى ضَرُورَةٍ مُوجِبَةٍ مِنْ جَلْبِ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا يَكُونُ اطِّرَادُ الْحُكْمِ الْقِيَاسِيِّ مُؤَدِّيًا إِلَى حَرَجٍ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، كَتَطْهِيرِ الْآبَارِ وَالْحِيَاضِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ إِلاَّ تَطْهُرَ إِلاَّ بِجَرَيَانِ الْمَاءِ عَلَيْهَا، وَفِيهِ حَرَجٌ شَدِيدٌ.

رَابِعًا- الِاسْتِحْسَانُ الْقِيَاسِيُّ:

6- وَهُوَ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ حُكْمِ الْقِيَاسِ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادَرِ إِلَى حُكْمٍ مُخَالِفٍ بِقِيَاسٍ آخَرَ هُوَ أَدَقُّ وَأَخْفَى مِنَ الْقِيَاسِ الْأَوَّلِ، لَكِنَّهُ أَقْوَى حُجَّةً وَأَسَدُّ نَظَرًا.فَهُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ قِيَاسٌ سُمِّيَ اسْتِحْسَانًا أَيْ قِيَاسًا مُسْتَحْسَنًا لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا.وَذَلِكَ كَالْحُكْمِ عَلَى سُؤْرِ سِبَاعِ الطَّيْرِ، فَالْقِيَاسُ نَجَاسَةُ سُؤْرِهَا قِيَاسًا عَلَى نَجَاسَةِ سُؤْرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ كَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ؛ لِأَنَّ السُّؤْرَ مُعْتَبَرٌ بِاللَّحْمِ، وَلَحْمُهَا نَجِسٌ.

وَالِاسْتِحْسَانُ طَهَارَةُ سُؤْرِهَا قِيَاسًا عَلَى طَهَارَةِ سُؤْرِ الْآدَمِيِّ، فَإِنَّ مَا يَتَّصِلُ بِالْمَاءِ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا طَاهِرٌ.وَإِنَّمَا رَجَحَ الْقِيَاسُ الثَّانِي لِضَعْفِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْحُكْمِ فِي الْقِيَاسِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مُخَالَطَةُ اللُّعَابِ النَّجِسِ لِلْمَاءِ فِي سُؤْرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ، فَإِنَّهُ مُنْتَفٍ فِي سِبَاعِ الطَّيْرِ إِذْ تَشْرَبُ بِمِنْقَارِهَا، وَهُوَ عَظْمٌ طَاهِرٌ جَافٌّ لَا لُعَابَ فِيهِ، فَانْتَفَتْ عِلَّةُ النَّجَاسَةِ فَكَانَ سُؤْرُهَا طَاهِرًا كَسُؤْرِ الْآدَمِيِّ، لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَرِزُ عَنِ الْمَيْتَةِ فَكَانَتْ كَالدَّجَاجَةِ الْمِخْلَاةِ.

وَلِبَيَانِ أَقْسَامِ الِاسْتِحْسَانِ الْأُخْرَى مِنْ حَيْثُ قُوَّتُهُ وَتَرْجِيحُهُ عَلَى الْقِيَاسِ وَبَقِيَّةُ مَبَاحِثِهِ يُنْظَرُ الْمُلْحَقُ الْأُصُولِيُّ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


200-موسوعة الفقه الكويتية (استحقاق 2)

اسْتِحْقَاقٌ -2

الِاسْتِحْقَاقُ فِي الشُّفْعَةِ:

25- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوِ اسْتَحَقَّ الْمَشْفُوعَ بَطَلَتِ الشُّفْعَةُ، وَرَجَعَ الشَّفِيعُ بِالثَّمَنِ عَلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ، وَقَرَارُ الضَّمَانِ (أَيْ نِهَايَتُهُ) عَلَى الْبَائِعِ.

وَيَخْتَلِفُونَ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ رَأْيَانِ:

أ- الْأَوَّلُ: بُطْلَانُ الْبَيْعِ وَالشُّفْعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَوْلُ غَيْرِ الْمُقَدَّمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ كَانَ الثَّمَنُ مُعَيَّنًا؛ لِأَنَّ مَالِكَهُ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، وَيَرْجِعُ الشَّفِيعُ بِمِثْلِ مَا دَفَعَ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ قَبْلَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ حَيْثُ كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ نَقْدٍ.

ب- وَالثَّانِي: صِحَّةُ الشُّفْعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِي هُوَ الْمَذْهَبُ إِنْ حَصَلَ الِاسْتِحْقَاقُ بَعْدَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَيَرْجِعُ الْبَائِعُ بِقِيمَةِ الشُّفْعَةِ لَا بِقِيمَةِ الْمُسْتَحَقِّ، إِلاَّ إِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ نَقْدًا مَسْكُوكًا فَيَرْجِعُ بِمِثْلِهِ.

أَمَّا إِنْ كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَيَصِحُّ الْبَيْعُ وَالشُّفْعَةُ اتِّفَاقًا- كَأَنِ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ وَدَفَعَ عَمَّا فِيهَا فَخَرَجَ الْمَدْفُوعُ مُسْتَحَقًّا- وَأَبْدَلَ الثَّمَنَ بِمَا يَحِلُّ مَحَلَّهُ فِي الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ عِنْدَ صِحَّةِ الْبَيْعِ وَالشُّفْعَةِ.

فَإِنِ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ بَطَلَ الْبَيْعُ فِيهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَصَحَّ فِي الْبَاقِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِيهِ خِلَافٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِنَاءً عَلَى رِوَايَتَيْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.

وَإِنْ دَفَعَ الشَّفِيعُ بَدَلًا مُسْتَحَقًّا لَمْ تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، زَادَ الشَّافِعِيَّةُ: وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ، لِأَنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ فِي الطَّلَبِ وَالْأَخْذِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِمُعَيَّنٍ أَمْ لَا، فَإِنْ كَانَ بِمُعَيَّنٍ احْتَاجَ إِلَى تَمَلُّكٍ جَدِيدٍ.

الِاسْتِحْقَاقُ فِي الْمُسَاقَاةِ:

26- الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْمُسَاقَاةَ تَنْفَسِخُ بِاسْتِحْقَاقِ الْأَشْجَارِ، وَلَا حَقَّ لِلْعَامِلِ فِي الثَّمَرَةِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِيهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ.

وَلِلْعَامِلِ عَلَى مَنْ تَعَاقَدَ مَعَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اشْتَرَطُوا لِوُجُوبِ الْأُجْرَةِ ظُهُورَ الثَّمَرِ، فَإِنْ لَمْ تَظْهَرِ الثِّمَارُ حَتَّى اسْتُحِقَّتِ الْأَشْجَارُ فَلَا أُجْرَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْأُجْرَةَ تُسْتَحَقُّ فِي حَالَةِ جَهْلِهِ بِالِاسْتِحْقَاقِ؛ لِأَنَّ الَّذِي تَعَاقَدَ مَعَهُ غَرَّهُ، فَإِنْ عَلِمَ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ.

وَلَوْ خَرَجَ الثَّمَرُ فِي الشَّجَرِ ثُمَّ اسْتُحِقَّتِ الْأَرْضُ، فَالْكُلُّ لِلْمُسْتَحِقِّ (الْأَرْضُ وَالشَّجَرُ وَالثَّمَرُ) وَيَرْجِعُ الْعَامِلُ عَلَى مَنْ تَعَاقَدَ مَعَهُ بِأَجْرِ مِثْلِ عَمَلِهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْمُسْتَحِقَّ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إِبْقَاءِ الْعَامِلِ وَبَيْنَ فَسْخِ عَقْدِهِ، فَإِنْ فَسَخَ دَفَعَ لَهُ أَجْرَ عَمَلِهِ.

وَالْحُكْمُ فِي ضَمَانِ تَلَفِ الْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ- بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ- يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى بَابِ الضَّمَانِ.

الِاسْتِحْقَاقُ فِي الْإِجَارَةِ

اسْتِحْقَاقُ الْعَيْنِ الْمُكْتَرَاةِ:

27- يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْعَيْنِ الْمُكْتَرَاةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِبُطْلَانِ الْإِجَارَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِتَوَقُّفِهَا عَلَى إِجَازَةِ الْمُسْتَحِقِّ، بِالْأَوَّلِ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَبِالثَّانِي قَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ احْتِمَالٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، بِنَاءً عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَتَوَقُّفِهِ عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ

كَذَلِكَ يَخْتَلِفُونَ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ، وَلَهُمْ فِي هَذَا ثَلَاثَةُ آرَاءٍ:

أ- الْأُجْرَةُ لِلْعَاقِدِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَتِ الْإِجَازَةُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَلَا اعْتِبَارَ لِلْإِجَازَةِ حِينَئِذٍ وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ بَعْدَ الْأَمَدِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ الْمُكْتَرَاةُ غَيْرَ مَغْصُوبَةٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّهَا بِالْمِلْكِ ظَاهِرًا.

ب- إِنَّ الْأُجْرَةَ لِلْمُسْتَحِقِّ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَتِ الْإِجَازَةُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَكَذَا إِنْ كَانَتْ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الْمَنْفَعَةِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ الْمُؤَجَّرَةُ مَغْصُوبَةً وَيَجْهَلُ الْمُسْتَأْجِرُ الْغَصْبَ.

وَيَرْجِعُ الْمَالِكُ عَلَى الْغَاصِبِ أَوِ الْمُسْتَأْجِرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ الَّتِي اسْتَوْفَاهَا، وَالْقَرَارُ (أَيْ نِهَايَةُ الضَّمَانِ) عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ إِنْ كَانَ قَدِ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِهَا فَقَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُؤَجِّرِ الْغَارِّ.

وَيَرْجِعُ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِمَا أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالْقَرَارُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَفِي الْمَوَاهِبِ السَّنِيَّةِ أَنَّ الْأَرْضَ الْمَوْقُوفَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ إِنْ آجَرَهَا النَّاظِرُ وَأَخَذَ الْأُجْرَةَ وَسَلَّمَهَا لِلْمُسْتَحِقِّينَ، فَإِنَّ الْمَالِكَ يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لَا عَلَى النَّاظِرِ، وَرُجُوعُ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى مَنْ أَخَذَ دَرَاهِمَهُ.

ج- أَجْرُ مَا مَضَى لِلْعَاقِدِ، وَمَا بَعْدَهُ لِلْمُسْتَحِقِّ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَيَتَصَدَّقُ الْعَاقِدُ عِنْدَهُ بِنَصِيبِهِ بَعْدَ ضَمَانِ النَّقْصِ.وَالْمُرَادُ بِمَا مَضَى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا قَبْلَ الْحُكْمِ بِالِاسْتِحْقَاقِ.

تَلَفُ الْعَيْنِ الْمُسْتَحَقَّةِ الْمُكْتَرَاةِ:

28- لَوْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ الْمُؤَجَّرَةُ أَوْ نَقَصَتْ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ فَلِلْمُسْتَحِقِّ تَضْمِينُ الْمُسْتَأْجِرِ أَوِ الْمُؤَجِّرِ، وَالْقَرَارُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ، هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ.

وَالرُّجُوعُ يَكُونُ بِأَعْلَى قِيمَةٍ مِنْ يَوْمِ الْغَصْبِ إِلَى يَوْمِ التَّلَفِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّهَا مَغْصُوبَةٌ فِي الْحَالِ الَّتِي زَادَتْ فِيهَا قِيمَتُهَا، فَالزِّيَادَةُ لِمَالِكِهَا مَضْمُونَةٌ عَلَى الْغَاصِبِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَرْجِعُ الْمُسْتَحِقُّ عَلَى الْمُكْتَرِي إِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَتَعَدَّ وَفَعَلَ مَا يَجُوزُ لَهُ، فَلَوِ اكْتَرَى دَارًا فَهَدَمَهَا، ثُمَّ ظَهَرَ مُسْتَحِقٌّ، فَلَهُ أَخْذُ النَّقْصِ إِنْ وَجَدَهُ وَقِيمَةُ الْهَدْمِ مِنَ الْهَادِمِ، أَيْ قِيمَةُ مَا أَفْسَدَ الْهَدْمُ مِنَ الْبِنَاءِ.

اسْتِحْقَاقُ الْأُجْرَةِ:

29- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْأُجْرَةَ لَوِ اسْتُحِقَّتْ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِثْلِيَّةً أَوْ عَيْنًا قِيَمِيَّةً، فَإِنْ كَانَتِ الْأُجْرَةُ عَيْنًا قِيَمِيَّةً وَاسْتُحِقَّتْ بَطَلَتِ الْإِجَارَةُ، وَتَجِبُ قِيمَةُ الْمَنْفَعَةِ (أَجْرُ الْمِثْلِ) لَا قِيمَةُ الْبَدَلِ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُجْرَةُ مِثْلِيَّةً لَمْ تَبْطُلِ الْإِجَارَةُ وَيَجِبُ الْمِثْلُ.فَلَوْ دَفَعَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أُجْرَةً فَاسْتُحِقَّتْ يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ عَشَرَةٌ مِثْلُهَا لَا قِيمَةُ الْمَنْفَعَةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ اسْتُحِقَّتِ الْأُجْرَةُ الْمُعَيَّنَةُ مِنْ يَدِ الْمُؤَجِّرِ، كَالدَّابَّةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ قَبْلَ حَرْثِ الْأَرْضِ الْمُؤَجَّرَةِ أَوْ قَبْلَ زَرْعِهَا، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ مِنْ أَصْلِهَا، وَيَأْخُذُ الْأَرْضَ صَاحِبُهَا، وَإِنِ اسْتُحِقَّتْ بَعْدَ حَرْثِ الْأَرْضِ أَوْ زَرْعِهَا فَإِنَّ الْإِجَارَةَ بَيْنَ الْمُؤَجِّرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ لَا تَنْفَسِخُ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِنْ أَخَذَ الْمُسْتَحِقُّ مَالَهُ مِنَ الْمُؤَجِّرِ، وَلَمْ يُجِزِ الْإِجَارَةَ، كَانَ لِلْمُؤَجِّرِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَتَبْقَى الْأَرْضُ لَهُ، كَمَا كَانَتْ أَوَّلًا.

وَإِنْ لَمْ يَأْخُذِ الْمُسْتَحِقُّ مَالَهُ مِنَ الْمُؤَجِّرِ وَأَبْقَاهُ لَهُ وَأَجَازَ الْإِجَارَةَ، فَإِنْ دَفَعَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أُجْرَةَ حَرْثِهِ كَانَ الْحَقُّ لَهُ فِي مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ، وَإِنْ أَبَى الْمُسْتَحِقُّ دَفْعَ أُجْرَةِ الْحَرْثِ قِيلَ لِلْمُسْتَأْجِرِ: ادْفَعْ لِلْمُسْتَحِقِّ أُجْرَةَ الْأَرْضِ، وَيَكُونُ لَكَ مَنْفَعَتُهَا، فَإِنْ دَفَعَ انْتَهَى الْأَمْرُ، وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ قِيلَ لَهُ: سَلِّمْ الْأَرْضَ لَهُ مَجَّانًا مُدَّةَ الْإِجَارَةِ بِلَا مُقَابِلٍ عَنِ الْحَرْثِ.

أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْأُجْرَةُ شَيْئًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَالنُّقُودِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَاسْتُحِقَّ، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْفَسِخُ، سَوَاءٌ أَكَانَ الِاسْتِحْقَاقُ قَبْلَ الْحَرْثِ أَمْ بَعْدَهُ، وَذَلِكَ لِقِيَامِ عِوَضِهِ مَقَامَهُ.

اسْتِحْقَاقُ الْأَرْضِ الَّتِي بِهَا غِرَاسٌ أَوْ بِنَاءٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ:

30- لَوِ اسْتُحِقَّتِ الْأَرْضُ الْمُؤَجَّرَةُ وَقَدْ غَرَسَ فِيهَا الْمُسْتَأْجِرُ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي قَلْعِ الْغِرَاسِ، وَفِي إِبْقَائِهِ وَتَمَلُّكِهِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ:

أَحَدُهَا: لِلْمُسْتَحِقِّ قَلْعُ الْغِرَاسِ دُونَ مُقَابِلٍ.وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ فِيمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ تَمَلُّكُ الْغِرَاسِ بِالْقِيمَةِ أَوِ الْإِبْقَاءُ لَهُ بِالْأُجْرَةِ؛ لِتَمَكُّنِ الْغَاصِبِ مِنَ الْقَلْعِ.

وَيُغَرِّمُ الْمُسْتَأْجِرُ الْمُؤَجِّرَ قِيمَةَ الشَّجَرِ مَقْلُوعًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَرْجِعُ الْمُسْتَأْجِرُ بِالْأَرْشِ عَلَى الْغَاصِبِ لِشُرُوعِهِ فِي الْعَقْدِ عَلَى ظَنِّ السَّلَامَةِ.

وَالثَّانِي: لِلْمُسْتَحِقِّ تَمَلُّكُ الْغِرَاسِ بِقِيمَتِهِ قَائِمًا، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ فَسَخَ الْمُسْتَحِقُّ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَلَيْسَ لَهُ قَلْعُ الْغِرَاسِ وَلَا دَفْعُ قِيمَتِهِ مَقْلُوعًا، لِأَنَّ الْمُكْتَرِيَ غَرَسَ بِوَجْهِ شُبْهَةٍ، فَإِنْ أَبَى الْمُسْتَحِقُّ دَفْعَ قِيمَةِ الْغِرَاسِ قَائِمًا قِيلَ لِلْمُكْتَرِي: ادْفَعْ لَهُ قِيمَةَ الْأَرْضِ، فَإِنْ أَبَى كَانَا شَرِيكَيْنِ الْمُكْتَرِي بِقِيمَةِ غَرْسِهِ، وَالْمُسْتَحِقُّ بِقِيمَةِ أَرْضِهِ، فَإِنْ أَجَازَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ يَدْفَعُ قِيمَةَ الْغِرَاسِ مَقْلُوعًا بَعْدَ طَرْحِ أَجْرِ الْقَلْعِ.

الثَّالِثُ: تَمَلُّكُ الْمُسْتَحِقِّ لِلْغِرَاسِ بِمَا أَنْفَقَهُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الْغِرَاسِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْمُتَوَجِّهُ عَلَى قَوْلِ الْقَاضِي وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّ غَرْسَهُ كَغَرْسِ الْغَاصِبِ، وَلَهُمْ قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْغِرَاسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، وَيَرْجِعُ عَلَى مَنْ آجَرَهُ.وَالْبِنَاءُ كَالْغِرَاسِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ

اسْتِحْقَاقُ الْهِبَةِ بَعْدَ التَّلَفِ:

31- لِلْعُلَمَاءِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْهِبَةِ التَّالِفَةِ اتِّجَاهَانِ:

أ- تَخْيِيرُ الْمُسْتَحِقِّ بَيْنَ الرُّجُوعِ عَلَى الْوَاهِبِ أَوْ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، أَمَّا عَلَى الْوَاهِبِ فَلِأَنَّهُ سَبَبُ إِتْلَافِ مَالِهِ، وَأَمَّا عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَهْلِكُ لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ جَعَلُوا الرُّجُوعَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرُّجُوعِ عَلَى الْوَاهِبِ، وَيَكُونُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مِنَ الْغَلَّةِ قِيمَةُ عَمَلِهِ وَعِلَاجِهِ.

فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْوَاهِبِ فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ.وَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ رَجَعَ هَذَا عَلَى الْوَاهِبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، ذَكَرَ ذَلِكَ صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَشَهَّرَهُ ابْنُ رَجَبٍ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ ضَامِنٍ لِشَيْءٍ فَهُوَ مَغْرُورٌ.وَالْخِلَافُ يَجْرِي كَذَلِكَ فِي رُجُوعِ الْمَوْهُوبِ لَهُ عَلَى الْوَاهِبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقِيلَ: لَا يَرْجِعُ عَلَى الْوَاهِبِ؛ لِأَنَّ الْوَاهِبَ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ عِوَضًا فَيَرْجِعُ بِعِوَضِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ غَرَّهُ مِنْ أَمْرٍ قَدْ كَانَ لَهُ أَلاَّ يَقْبَلَهُ.

ب- الرُّجُوعُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ دُونَ الْوَاهِبِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ وَالْوَاهِبُ غَيْرُ عَامِلٍ لَهُ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمَوْهُوبُ لَهُ السَّلَامَةَ، وَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْغُرُورُ؛ وَلِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ يَقْبِضُ لِنَفْسِهِ.

اسْتِحْقَاقُ الْمُوصَى بِهِ:

32- تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِاسْتِحْقَاقِ الْمُوصَى بِهِ، فَإِنِ اسْتُحِقَّ بَعْضُهُ بَقِيَتِ الْوَصِيَّةُ فِي الْبَاقِي، لِأَنَّهَا تَبْطُلُ بِخُرُوجِ الْمُوصَى بِهِ عَنْ مِلْكِ الْمُوصِي، وَبِالِاسْتِحْقَاقِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَوْصَى بِمَالٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ لَهُ، وَالْوَصِيَّةُ بِمَا لَا يَمْلِكُ بَاطِلَةٌ.

اسْتِحْقَاقُ الصَّدَاقِ:

33- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَبْطُلُ بِاسْتِحْقَاقِ الصَّدَاقِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّةِ النِّكَاحِ.لَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا يَجِبُ لِلزَّوْجَةِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ اتِّجَاهَانِ:

الْأَوَّلُ: الرُّجُوعُ بِقِيمَةِ الْمُتَقَوِّمِ وَمِثْلِ الْمِثْلِيِّ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ مَعَهُمْ فِي الْمِثْلِيِّ مُطْلَقًا، وَفِي الْمُتَقَوِّمِ إِنْ كَانَ مُعَيَّنًا، فَإِنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا مَوْصُوفًا رَجَعَتْ بِالْمِثْلِ.

وَالثَّانِي: الرُّجُوعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ.

اسْتِحْقَاقُ الْعِوَضِ فِي الْخُلْعِ:

34- اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَبْطُلُ بِخُرُوجِ الْعِوَضِ مُسْتَحَقًّا وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَجِبُ لِلزَّوْجِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ اتِّجَاهَانِ:

أَحَدُهُمَا: الرُّجُوعُ بِالْقِيمَةِ أَوْ بِالْمِثْلِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِتَعَذُّرِ تَسْلِيمِ الْعِوَضِ مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ تَسْلِيمَهُ، وَهُوَ الْخُلْعُ إِذْ هُوَ لَا يَقْبَلُ النَّقْضَ بَعْدَ تَمَامِهِ.إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا بِالْقِيمَةِ إِنْ كَانَ الْعِوَضُ مُقَوَّمًا، وَبِالْمِثْلِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِوُجُوبِ الْقِيمَةِ إِنْ كَانَ مُعَيَّنًا، فَإِنْ كَانَ مَوْصُوفًا فَفِيهِ الْمِثْلُ.

وَالثَّانِي: بَيْنُونَةُ الْمَرْأَةِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ لِأَنَّهُ الْمُرَادُ عِنْدَ فَسَادِ الْعِوَضِ.

اسْتِحْقَاقُ الْأُضْحِيَّةِ:

35- الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْأُضْحِيَّةَ الْمُسْتَحَقَّةَ لَا تُجْزِئُ عَنِ الذَّابِحِ وَلَا عَنِ الْمُسْتَحِقِّ، اسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ ضَمَّنَهُ الْمَالِكُ قِيمَتَهَا فَإِنَّهَا تُجْزِئُ عَنِ الذَّابِحِ.

وَفِي لُزُومِ الْبَدَلِ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ، يَلْزَمُ كُلًّا مِنْهُمَا أَنْ يُضَحِّيَ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجْزَاءِ، فَإِنْ فَاتَ وَقْتُ النَّحْرِ فَعَلَى الذَّابِحِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَةِ شَاةٍ وَسَطٍ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ يَلْزَمُهُ بَدَلُهَا إِنْ تَعَيَّنَتْ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَكَانَتْ وَاجِبَةً قَبْلَ التَّعْيِينِ، كَأَنْ نَذَرَهَا لِلْأُضْحِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ قَبْلَ التَّعْيِينِ فَلَا يَلْزَمُهُ بَدَلُهَا لِعَدَمِ صِحَّةِ التَّعْيِينِ حِينَئِذٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تَتَوَقَّفُ الْأُضْحِيَّةُ الْمُسْتَحَقَّةُ عَلَى إِجَازَةِ الْمُسْتَحِقِّ، فَإِنْ أَجَازَ الْبَيْعَ أَجْزَأَتْ قَطْعًا.

اسْتِحْقَاقُ بَعْضِ الْمَقْسُومِ:

36- لِلْفُقَهَاءِ فِي بُطْلَانِ الْقِسْمَةِ وَبَقَائِهَا صَحِيحَةً- عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ بَعْضِ الْمَقْسُومِ- اتِّجَاهَاتٌ:

أ- أَوَّلُهَا: بَقَاءُ الْقِسْمَةِ صَحِيحَةً إِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ بَعْضًا مُعَيَّنًا وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، سَوَاءٌ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ كَوْنُ الْجُزْءِ الْمُسْتَحَقِّ الْمُعَيَّنِ فِي نَصِيبِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَمْ فِي نَصِيبِ كُلٍّ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْمُسْتَحِقِّ.وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يَرَوْنَ بَقَاءَهَا صَحِيحَةً إِنْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ.

ب- بُطْلَانُ الْقِسْمَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ شَائِعًا فِي الْكُلِّ، أَوْ شَائِعًا فِي أَحَدِ الْأَنْصِبَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.وَالْبُطْلَانُ أَيْضًا قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ بَعْضًا شَائِعًا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ شَرِيكٌ لَهُمَا وَقَدِ اقْتَسَمَا مِنْ غَيْرِ حُضُورِهِ وَلَا إِذْنِهِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ لَهُمَا شَرِيكٌ يُعَلِّمَانِهِ فَاقْتَسَمَا دُونَهُ، وَمِثْلُ الشَّائِعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَيْضًا الْمُعَيَّنُ الْمُسْتَحَقُّ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا فَقَطْ أَوْ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهَا قِسْمَةٌ لَمْ تَعْدِلْ فِيهَا السِّهَامُ فَكَانَتْ بَاطِلَةً.

ج- بُطْلَانُ الْقِسْمَةِ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ إِنْ كَانَ شَائِعًا وَثُبُوتُ الْخِيَارِ فِي الْبَاقِي بَيْنَ إِنْفَاذِهِ الْقِسْمَةَ أَوْ إِلْغَائِهَا.وَهُوَ أَظْهَرُ الطَّرِيقَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

د- التَّخْيِيرُ بَيْنَ التَّمَسُّكِ بِالْبَاقِي وَعَدَمِ الرُّجُوعِ بِشَيْءٍ، وَبَيْنَ رُجُوعِهِ فِيمَا بِيَدِ شَرِيكِهِ بِنِصْفِ قَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ إِنْ كَانَ قَائِمًا، وَإِلاَّ فَبِنِصْفِ قِيمَتِهِ يَوْمَ قَبْضِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ إِنِ اسْتَحَقَّ النِّصْفَ أَوِ الثُّلُثَ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ الرُّبُعَ فَلَا خِيَارَ لَهُ وَالْقِسْمَةُ بَاقِيَةٌ لَا تُنْقَضُ، وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ إِلاَّ بِنِصْفِ قِيمَةِ مَا اسْتَحَقَّ.

هـ- التَّخْيِيرُ بَيْنَ إِبْقَاءِ الْقِسْمَةِ عَلَى حَالِهَا فَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ وَبَيْنَ فَسْخِ الْقِسْمَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ إِنِ اسْتَحَقَّ الْأَكْثَرَ، وَهُوَ مَا زَادَ عَنِ النِّصْفِ

و- التَّخَيُّرُ بَيْنَ رَدِّ الْبَاقِي وَالِاقْتِسَامِ ثَانِيًا، وَبَيْنَ الْإِبْقَاءِ عَلَى الْقِسْمَةِ وَالرُّجُوعِ عَلَى الشَّرِيكِ بِقَدْرِ مَا اسْتَحَقَّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ إِنِ اسْتُحِقَّ جُزْءٌ شَائِعٌ مِنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا وَحْدَهُ، وَتُنْتَقَضُ الْقِسْمَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ كَمَا تَقَدَّمَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


201-موسوعة الفقه الكويتية (استيلاء)

اسْتِيلَاء

التَّعْرِيفُ

1- مِنْ مَعَانِي الِاسْتِيلَاءِ لُغَةً: وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ، وَالْغَلَبَةُ عَلَيْهِ، وَالتَّمَكُّنُ مِنْهُ.

وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: إِثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى الْمَحَلِّ أَوْ الِاقْتِدَارُ عَلَى الْمَحَلِّ حَالًا وَمَآلًا أَوِ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ وَلَوْ حُكْمًا.

وَأَمَّا الْفِعْلُ الْمَادِّيُّ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ الِاسْتِيلَاءُ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ تَبَعًا لِلْأَشْيَاءِ وَالْأَشْخَاصِ، أَيْ أَنَّ مَدَارَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْعُرْفِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْحِيَازَةُ:

2- الْحِيَازَةُ وَالْحَوْزُ لُغَةً: الْجَمْعُ وَالضَّمُّ.

وَشَرْعًا: وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ الدَّرْدِيرُ.

ب- الْغَصْبُ:

3- الْغَصْبُ لُغَةً: أَخْذُ الشَّيْءِ قَهْرًا وَظُلْمًا.

وَشَرْعًا: الِاسْتِيلَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ بِلَا حَقٍّ.

فَالْغَصْبُ أَخَصُّ مِنْ الِاسْتِيلَاءِ، لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ يَكُونُ بِحَقٍّ وَبِغَيْرِ حَقٍّ.

ج- وَضْعُ الْيَدِ:

4- يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ وَضْعَ الْيَدِ هُوَ: الِاسْتِيلَاءُ عَلَى الشَّيْءِ بِالْحِيَازَةِ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ وَضْعَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفَ مِنْ أَقْوَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْمِلْكِ، وَلِذَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ بِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُخْرِجَ شَيْئًا مِنْ يَدِ أَحَدٍ إِلاَّ بِحَقٍّ ثَابِتٍ مَعْرُوفٍ وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ.

د- الْغَنِيمَةُ:

5- الِاغْتِنَامُ: أَخْذُ الْغَنِيمَةِ، وَهِيَ كَمَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَا أُخِذَ مِنْ أَهْلِ الْعَدُوِّ عَنْوَةً فَالِاغْتِنَامُ أَخَصُّ مِنْ الِاسْتِيلَاءِ.

هـ- الْإِحْرَازُ:

6- الْإِحْرَازُ لُغَةً: جَعْلُ الشَّيْءِ فِي الْحِرْزِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الْحَصِينُ الَّذِي يُحْفَظُ فِيهِ الشَّيْءُ.وَفِي الشَّرْعِ: حِفْظُ الْمَالِ فِيمَا يُحْفَظُ فِيهِ عَادَةً، كَالدَّارِ وَالْخَيْمَةِ، أَوْ بِالشَّخْصِ نَفْسِهِ.

وَبَيْنَ الْإِحْرَازِ وَالِاسْتِيلَاءِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ.وَلِذَا كَانَ الْإِحْرَازُ شَرْطًا لِتَرَتُّبِ الْمِلْكِ عَلَى الِاسْتِيلَاءِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، فَيَنْفَرِدُ الِاسْتِيلَاءُ فِي مِثْلِ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ إِحْرَازًا.

صِفَةُ الِاسْتِيلَاءِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):

7- يَخْتَلِفُ حُكْمُ الِاسْتِيلَاءِ بِحَسَبِ الشَّيْءِ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ، وَتَبَعًا لِكَيْفِيَّةِ الِاسْتِيلَاءِ، فَالْأَصْلُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَالِ الْمَعْصُومِ الْمَمْلُوكِ لِلْغَيْرِ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ عَلَيْهِ مُحَرَّمٌ، إِلاَّ إِذَا كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى طَرِيقٍ مَشْرُوعٍ.

أَمَّا الْمَالُ غَيْرُ الْمَعْصُومِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا، وَكَذَا الْمَالُ الْمُبَاحُ فَإِنَّهُ يُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

أَثَرُ الِاسْتِيلَاءِ فِي الْمِلْكِ وَالتَّمَلُّكِ:

8- الِاسْتِيلَاءُ يُفِيدُ الْمِلْكَ إِذَا وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ، عَلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي بَيَانُهُ، أَوْ كَانَ فِي حُكْمِ الْمُبَاحِ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ، بِأَنْ كَانَ مَالًا لَلْحَرْبِيِّينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ.وَهَذَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا، أَوْ عَقَارًا، وَلِكُلٍّ حُكْمُهُ الْخَاصُّ.

9- فَإِنْ كَانَ الْمَالُ الَّذِي تَمَّ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَرْبِيِّينَ مَنْقُولًا أُخِذَ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ إِلاَّ بِالْقِسْمَةِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَالْمِلْكُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهَا.وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الِاسْتِيلَاءِ بِدَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْقِتَالِ، لِزَوَالِ مِلْكِ الْكُفَّارِ بِالِاسْتِيلَاءِ، وَوُجُودِ مُقْتَضَى التَّمْلِيكِ، وَهُوَ انْقِضَاءُ الْقِتَالِ، وَفِي قَوْلٍ أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ سُلِّمَتِ الْغَنِيمَةُ إِلَى الْقِسْمَةِ بَانَ مِلْكُهُمْ عَلَى الشُّيُوعِ.

وَبِالْقِسْمَةِ- وَلَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ- ثَبَتَ الْمِلْكُ، وَيَسْتَقِرُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ.وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو ثَوْرٍ، لِمَا رَوَى أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ قَالَ: قُلْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ: هَلْ قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا مِنَ الْغَنَائِمِ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: لَا أَعْلَمُهُ، إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يَتَّبِعُونَ غَنَائِمَهُمْ وَيَقْسِمُونَهَا فِي أَرْضِ عَدُوِّهِمْ، وَلَمْ يَقْفُلْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ غَزَاةٍ قَطُّ، أَصَابَ فِيهَا غَنِيمَةً إِلاَّ خَمَّسَهُ وَقَسَّمَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقْفُلَ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ فِيهَا بِالْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ، فَصَحَّتْ قِسْمَتُهَا كَمَا لَوْ أُحْرِزَتْ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ الِاسْتِيلَاءُ التَّامُّ وَقَدْ وُجِدَ، فَإِنَّنَا أَثْبَتْنَا أَيْدِيَنَا عَلَيْهَا حَقِيقَةً، وَقَهَرْنَاهُمْ وَنَفَيْنَاهُمْ عَنْهَا، وَالِاسْتِيلَاءُ يَدُلُّ عَلَى حَاجَةِ الْمُسْتَوْلِي فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ كَالْمُبَاحَاتِ.

10- لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ لِلْغُزَاةِ بِدَارِ الْحَرْبِ بِالِاسْتِيلَاءِ، وَلَكِنْ يَنْعَقِدُ سَبَبُ الْمِلْكِ فِيهَا، عَلَى أَنْ يَصِيرَ عِلَّةً عِنْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى هَذَا فَلَمْ يَعْتَبِرُوا قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ قِسْمَةَ تَمْلِيكٍ، وَإِنَّمَا هِيَ قِسْمَةُ حَمْلٍ، لِأَنَّ مِلْكَ الْكُفَّارِ قَائِمٌ، إِذْ الْمِلْكُ لَا يَتِمُّ عَلَيْهَا إِلاَّ بِالِاسْتِيلَاءِ التَّامِّ، وَلَا يَحْصُلُ إِلاَّ بِإِحْرَازِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَمَا دَامَ الْغُزَاةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَاسْتِرْدَادُ الْكُفَّارِ لَيْسَ بِنَادِرٍ بَلْ هُوَ مُحْتَمَلٌ.

11- وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَالُ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ مِنَ الْكُفَّارِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ أَرْضًا، فَإِنَّ لِلْفُقَهَاءِ ثَلَاثَةَ اتِّجَاهَاتٍ: فَالْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ- عَلَيْهَا الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ- صَرَّحُوا بِأَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَقْسِمَهَا أَوْ يَتْرُكَهَا فِي يَدِ أَهْلِهَا بِالْخَرَاجِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ: إِنَّهَا لَا تُقْسَمُ، وَيُرْصَدُ خَرَاجُهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ أَنْ يَرَى الْإِمَامُ فِي وَقْتٍ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَقْتَضِي الْقِسْمَةَ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا تَصِيرُ وَقْفًا بِالِاسْتِيلَاءِ، وَيُرْصَدُ خَرَاجُهَا لِصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهَا تُمَلَّكُ لِلْفَاتِحِينَ كَالْمَنْقُولِ.

وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْمَالِكِيُّ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُقَابِلُ الْمَشْهُورَ، وَقَالُوا: إِنَّ الِاسْتِيلَاءَ الْحُكْمِيَّ كَالْحَقِيقِيِّ فِي تَرَتُّبِ الْمِلْكِ عَلَى الِاسْتِيلَاءِ.

12- أَمَّا الْأَرْضُ الَّتِي اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ جَلَاءِ الْكُفَّارِ عَنْهَا خَوْفًا، فَإِنَّهَا تَصِيرُ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا وَقْفًا لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.

وَأَمَّا الْأَرْضُ الَّتِي اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ صُلْحًا فَإِنَّهَا تَبْقَى فِي أَيْدِي أَصْحَابِهَا، إِذَا كَانَ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ تَبْقَى فِي مِلْكِيَّتِهِمْ، وَيُوضَعُ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ.أَمَّا إِذَا كَانَ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ يَتَمَلَّكَهَا الْمُسْلِمُونَ فَإِنَّهَا تَكُونُ وَقْفًا لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.

13- وَأَمَّا إِذَا كَانَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى مَالٍ مَعْصُومٍ مَمْلُوكٍ لِلْغَيْرِ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ التَّمَلُّكِ، فَإِنَّ الِاسْتِيلَاءَ وَحْدَهُ لَا يُكْسِبُ مِلْكِيَّةً، وَإِنَّمَا حُدُوثُ التَّمَلُّكِ يَكُونُ بِالسَّبَبِ الْمَشْرُوعِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ، وَحَقُّ الِاسْتِيلَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ أَثَرًا وَنَتِيجَةً لِلتَّمَلُّكِ وَلَيْسَ سَبَبًا لَهُ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ الِاسْتِيلَاءُ عُدْوَانًا، فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ مِلْكًا.وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِ (غَصْب) (وَسَرِقَة).

14- وَاسْتِيلَاءُ الْحَاكِمِ عَلَى مَا يَحْتَكِرُهُ التُّجَّارُ لَهُ أَثَرٌ فِي إِزَالَةِ مِلْكِيَّتِهِمْ، إِذْ لِلْحَاكِمِ رَفْعُ يَدِ الْمُحْتَكِرِينَ عَمَّا احْتَكَرُوهُ وَبَيْعُهُ لِلنَّاسِ جَبْرًا، وَالثَّمَنُ لِمَالِكِيهِ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ مُبَيَّنٍ فِي مُصْطَلَحِ (احْتِكَارٌ).

وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالُوهُ مِنِ اسْتِيلَاءِ الْحَاكِمِ عَلَى الْفَائِضِ مِنَ الْأَقْوَاتِ بِالْقِيمَةِ لِإِمْدَادِ جِهَةٍ انْقَطَعَ عَنْهَا الْقُوتُ أَوْ إِمْدَادِ جُنُودِهِ، لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُخْرِجَ ذَلِكَ إِذَا كَانَ بِحَقٍّ ثَابِتٍ مَعْرُوفٍ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى عَمَلِ الصَّانِعِ إِذَا احْتَاجَ النَّاسُ إِلَى صِنَاعَةِ طَائِفَةٍ كَالْفِلَاحَةِ وَالنِّسَاجَةِ، وَمَدَارُ الِاسْتِيلَاءِ فِي الصُّورَتَيْنِ عَلَى الْعُرْفِ.

اسْتِيلَاءُ الْكُفَّارِ الْحَرْبِيِّينَ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ:

15- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ مَشْهُورَةٍ:

(1) إِنَّ مَا اسْتَرَدَّهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَيْدِي الْحَرْبِيِّينَ فَهُوَ لِأَرْبَابِهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا أَصْلًا، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الشَّافِعِيَّةُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ أَنَّهُ «أُسِرَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَأُصِيبَتِ الْعَضْبَاءُ، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْوَثَاقِ، وَكَانَ الْقَوْمُ يُرِيحُونَ نَعَمَهُمْ بَيْنَ يَدَيْ بُيُوتِهِمْ، فَانْفَلَتَتْ مَعَ نَعَمِهَا ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنَ الْوَثَاقِ، فَأَتَتِ الْإِبِلَ، فَجَعَلَتْ إِذَا دَنَتْ مِنَ الْبَعِيرِ رَغَا فَتَتْرُكُهُ، حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى الْعَضْبَاءِ، فَلَمْ تَرْغُ.قَالَ: وَنَاقَةٌ مُنَوَّقَةٌ.فَقَعَدَتْ فِي عَجُزِهَا ثُمَّ زَجَرَتْهَا فَانْطَلَقَتْ، وَنَذَرُوا بِهَا، فَطَلَبُوهَا فَأَعْجَزَتْهُمْ.قَالَ: وَنَذَرَتْ لِلَّهِ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَلَمَّا قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ رَآهَا النَّاسُ، فَقَالُوا: الْعَضْبَاءُ نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَتْ: إِنَّهَا نَذَرَتْ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا.فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، بِئْسَمَا جَزَتْهَا، نَذَرَتْ لِلَّهِ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ» وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حَجَرٍ «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ».

(2) إِنَّ مَا غَنِمَهُ الْكُفَّارُ يَمْلِكُونَهُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَحْرَزُوهُ بِدَارِهِمْ أَوْ لَمْ يُحْرِزُوهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقَهْرَ سَبَبٌ يَمْلِكُ بِهِ الْمُسْلِمُ مَالَ الْكَافِرِ، فَمَلَكَ بِهِ الْكَافِرُ مَالَ الْمُسْلِمِ، وَعَلَى هَذَا إِذَا اسْتَرَدَّ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ كَانَ غَنِيمَةً سَوَاءٌ بَعْدَ الْإِحْرَازِ أَوْ قَبْلَهُ.

(3) إِنَّ الْكُفَّارَ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا شَرْطَ إحْرَازِهَا بِدَارِهِمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَدَلِيلُهُ «قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رَبَاعٍ» وَلِأَنَّ الْعِصْمَةَ تَزُولُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ، إِذِ الْمَالِكُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إِلاَّ بَعْدَ الدُّخُولِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَاطَرَةٍ، إِذْ الدَّارُ دَارُهُمْ، فَإِذَا زَالَ مَعْنَى الْمِلْكِ أَوْ مَا شُرِعَ لَهُ الْمِلْكُ يَزُولُ الْمِلْكُ ضَرُورَةً، فَبِاسْتِرْدَادِ الْمُسْلِمِينَ لِذَلِكَ يَكُونُ غَنِيمَةً.

اسْتِيلَاءُ الْكُفَّارِ عَلَى بَلَدٍ إِسْلَامِيٍّ:

16- إِذَا اسْتَوْلَى الْكُفَّارُ عَلَى بَلَدٍ إِسْلَامِيٍّ فَهَلْ تَصِيرُ دَارَ حَرْبٍ أَمْ تَبْقَى كَمَا هِيَ دَارَ إِسْلَامٍ؟

فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ، فَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ تَصِيرُ دَارَ كُفْرٍ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ إِظْهَارُ أَحْكَامِ الْكُفْرِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دَارُ الْإِسْلَامِ وَدَارُ الْحَرْبِ).

إِسْلَامُ الْحَرْبِيِّ بَعْدَ اسْتِيلَائِهِ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ:

17- إِذَا اسْتَوْلَى الْحَرْبِيُّ عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَحُكِمَ بِمِلْكِيَّتِهِ لَهُ شَرْعًا، ثُمَّ دَخَلَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا وَهُوَ فِي يَدِهِ، فَهُوَ لَهُ، لِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ» وَلِأَنَّ إِسْلَامَهُ يَعْصِمُ دَمَهُ وَمَالَهُ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ».وَاسْتَثْنَى الْجُمْهُورُ مِنْ ذَلِكَ اسْتِيلَاءَهُ عَلَى الْحُرِّ الْمُسْلِمِ فَلَا يُقَرُّ عَلَيْهِ.قَالَ أَبُو يُوسُفَ: كُلُّ مِلْكٍ لَا يَجُوزُ فِيهِ الْبَيْعُ فَإِنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ لَا يَمْلِكُونَهُ إِذَا أَصَابُوهُ وَأَسْلَمُوا عَلَيْهِ، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ مِثْلَهُ: الْوَقْفُ الْمُحَقَّقُ، وَالْمَسْرُوقُ فِي فَتْرَةِ عَهْدِهِ، وَاللُّقَطَةُ، وَالدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ، الْوَدِيعَةُ، وَمَا اسْتَأْجَرَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَالَ كُفْرِهِ فَلَا يُقَرُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى لَا تَأْبَى ذَلِكَ.

18- وَإِذَا اسْتَوْلَى الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ بِطَرِيقِ السَّرِقَةِ، أَوِ الِاغْتِصَابِ مِنْ حَرْبِيٍّ آخَرَ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَدَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ وَهُوَ فِي يَدِهِ، فَهُوَ لَهُ أَيْضًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ حَالَ كُفْرِهِ فَأَشْبَهَ مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ بِقَهْرِهِ لِلْمُسْلِمِينَ.وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ صَاحِبَهُ أَحَقُّ بِهِ بِالْقِيمَةِ.

الِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْمَالِ الْمُبَاحِ:

19- الْمَالُ الْمُبَاحُ كُلُّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ لِيَنْتَفِعَ بِهِ النَّاسُ عَلَى وَجْهٍ مُعْتَادٍ، وَلَيْسَ فِي حِيَازَةِ أَحَدٍ مَعَ إِمْكَانِ حِيَازَتِهِ، وَيَكُونُ حَيَوَانًا: بَرِّيًّا أَوْ بَحْرِيًّا، وَيَكُونُ نَبَاتًا: حَشَائِشَ وَأَعْشَابًا وَحَطَبًا، وَيَكُونُ جَمَادًا: أَرْضًا مَوَاتًا وَرِكَازًا، كَمَا يَكُونُ مَاءً وَهَوَاءً، وَمِنْ حَقِّ أَيِّ إِنْسَانٍ أَنْ يَتَمَلَّكَ مِنْهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ، وَيَتَحَقَّقُ الِاسْتِيلَاءُ وَتَسْتَقِرُّ الْمِلْكِيَّةُ إِذَا كَانَ الِاسْتِيلَاءُ بِفِعْلٍ يُؤَدِّي إِلَى التَّمَكُّنِ مِنْ وَضْعِ الْيَدِ.

رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أُمِّ جُنْدَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ» وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَحَاطَ حَائِطًا عَلَى أَرْضٍ فَهِيَ لَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ» وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْعَقَارِ الْمُبَاحِ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَنْقُولِ مِنَ الْمُبَاحَاتِ أَوْلَى، لِظُهُورِ الِاسْتِئْثَارِ بِهِ ظُهُورًا لَا يَكُونُ فِي الْعَقَارِ.

وَلَا يَحُدُّ مِنْ سُلْطَانِ النَّاسِ فِي الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْمَالِ الْمُبَاحِ إِلاَّ الْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ لِتَنْظِيمِ الِانْتِفَاعِ وَمَنْعِ الضَّرَرِ.

20- وَلِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْأَمْوَالِ الْمُبَاحَةِ طَرِيقٌ لِلِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ، فَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْمَاءِ الْمُبَاحِ وَالرِّكَازِ يَكُونُ بِالْحَوْزِ وَالْكَشْفِ، وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْكَلأَِ وَالْعُشْبِ يَكُونُ بِالْحَشِّ، وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى حَيَوَانِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يَكُونُ بِالِاصْطِيَادِ، وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْأَرْضِ الْمَوَاتِ يَكُونُ بِالْإِحْيَاءِ، وَبِإِقْطَاعِ التَّمْلِيكِ.

تَنَوُّعُ الِاسْتِيلَاءِ:

21- الِاسْتِيلَاءُ يَكُونُ حَقِيقِيًّا بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ الْمُبَاحِ فِعْلًا، وَهَذَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ وَقَصْدٍ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ، قَالَ الرَّمْلِيُّ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: يُمْلَكُ الصَّيْدُ بِضَبْطِهِ بِالْيَدِ، لِأَنَّهُ مُبَاحٌ، فَمُلِكَ بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ، سَوَاءٌ أَقَصَدَ بِذَلِكَ مِلْكَهُ أَمْ لَا، حَتَّى لَوْ أَخَذَهُ لِيَنْظُرَ إِلَيْهِ مَلَكَهُ.وَيُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِالِاسْتِيلَاءِ الْحَقِيقِيِّ الْمِلْكِيَّةُ مُسْتَقِرَّةً، وَكَذَلِكَ يَكُونُ الِاسْتِيلَاءُ حَقِيقِيًّا إِذَا كَانَ بِآلَةٍ أُعِدَّتْ لِذَلِكَ، وَكَانَ وَاضِعُهَا قَرِيبًا مِنْهَا، بِحَيْثُ لَوْ مَدَّ يَدَهُ إِلَيْهَا لأَمْسَكَ الصَّيْدَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ عَلَيْهِ.وَمِنْ هَذَا لَوْ نَصَبَ شَبَكَةً لِلصَّيْدِ فَوَقَعَ فِيهَا طَائِرٌ وَامْتَنَعَ عَلَيْهِ الطَّيَرَانُ، أَوْ أَغْرَى كَلْبًا مُعَلَّمًا فَاصْطَادَ حَيَوَانًا، فَإِنَّ مَنْ نَصَبَ الشَّبَكَةَ وَمَنْ أَغْرَى الْكَلْبَ يَتَمَلَّكُ الصَّيْدَ، سَوَاءٌ أَكَانَ هُوَ مَالِكُ الشَّبَكَةِ وَالْكَلْبِ أَمْ كَانَ الْمَالِكُ غَيْرَهُ.

22- وَيَكُونُ الِاسْتِيلَاءُ حُكْمِيًّا، وَهُوَ مَا كَانَ بِوَاسِطَةِ الْآلَةِ وَحْدَهَا الَّتِي تُهَيِّئُ الْمُبَاحَ لِوَضْعِ الْيَدِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ وَاضِعُهَا قَرِيبًا مِنْهَا.كَحُفْرَةٍ فِي جَوَرَةِ الْمُنْتَفِعِ بِالْأَرْضِ أَوْ مَالِكِهَا تَجَمَّعَ فِيهَا مَاءُ الْمَطَرِ، فَلَا بُدَّ لِتَمَلُّكِ مَا تَجَمَّعَ فِيهَا مِنْ مَاءٍ مِنْ وُجُودِ الْقَصْدِ، أَمَّا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَإِنَّ الْمِلْكِيَّةَ تَثْبُتُ غَيْرَ مُسْتَقِرَّةٍ، وَلَا تَسْتَقِرُّ إِلاَّ بِصَيْرُورَةِ الِاسْتِيلَاءِ حَقِيقِيًّا، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ.

23- وَقَدْ سُئِلَ الْحَلْوَانِيُّ الْحَنَفِيُّ عَمَّنْ عَلَّقَ كُوزَهُ، أَوْ وَضَعَهُ فِي سَطْحِهِ، فَأَمْطَرَ السَّحَابُ وَامْتَلأَ الْكُوزُ مِنَ الْمَطَرِ، فَجَاءَ إِنْسَانٌ وَأَخَذَ ذَلِكَ الْكُوزَ مَعَ الْمَاءِ، هَلْ لِصَاحِبِ الْكُوزِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مَعَ الْمَاءِ؟ فَقَالَ: لَا إِشْكَالَ فِي اسْتِرْدَادِ الْكُوزِ، وَأَمَّا الْمَاءُ فَإِنْ كَانَ قَدْ أُعِدَّ الْكُوزُ لِذَلِكَ حُقَّ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ، وَإِنْ لَمْ يُعِدَّهُ لِذَلِكَ لَمْ يَسْتَرِدَّهُ.

وَلَوْ الْتَجَأَ صَيْدٌ إِلَى أَرْضِ رَجُلٍ أَوْ إِلَى دَارِهِ، فَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ اسْتِيلَاءً مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ أَوِ الدَّارِ، لِأَنَّهُمَا لَمْ يُعَدَّا لِلِاصْطِيَادِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ مِنْهُ فِعْلُ الِاسْتِيلَاءِ، أَمَّا إِذَا رَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الدَّارِ الْبَابَ بِنِيَّةِ أَخْذِهِ مَلَكَهُ، لِتَحَقُّقِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ بِفِعْلِهِ مَعَ إِمْكَانِ أَخْذِهِ.

وَمَنْ نَصَبَ فُسْطَاطًا فَالْتَجَأَ إِلَيْهِ صَيْدٌ لَمْ يَمْلِكْ، لِأَنَّ الْفُسْطَاطَ لَمْ يَكُنْ آلَةَ صَيْدٍ، وَمَا كَانَ نَصَبَهُ بِقَصْدِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الصَّيْدِ، وَكَذَا لَوْ نَصَبَ شَبَكَةً لِلتَّجْفِيفِ فَتَعَلَّقَ بِهَا صَيْدٌ وَلَمْ يَكُنْ مَنْ عَلَّقَ الشَّبَكَةَ حَاضِرًا بِالْقُرْبِ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ، إِذْ الْقَصْدُ مَرْعِيٌّ فِي التَّمَلُّكِ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ إِنْ حَضَرَ وَهُوَ مُعَلَّقٌ بِالشَّبَكَةِ.

وَتَفْصِيلُ كُلِّ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اصْطِيَادٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


202-موسوعة الفقه الكويتية (أسرى 2)

أَسْرَى -2

بِمَ يُعْرَفُ إِسْلَامُهُ:

35- رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أَسَرَ الْمُسْلِمُونَ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ وَتَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ بِالْإِسْلَامِ دُونَ اعْتِرَافٍ جَازِمٍ، بَيَّنَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ}.

وَإِذَا كَانَ الْقُرْآنُ كَشَفَ نِيَّاتِ بَعْضِ الْأَسْرَى لِرَسُولِهِ، فَإِنَّ الْمُحَارِبِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُؤْمَرُوا بِالْبَحْثِ عَنْ هَذِهِ النِّيَّاتِ، وَلَقَدْ «حَدَّثَ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلاً مِنَ الْكُفَّارِ فَقَاتَلَنِي، فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا، ثُمَّ لَاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ فَقَالَ: أَسْلَمْتُ لِلَّهِ، أَفَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: لَا تَقْتُلْهُ.قَالَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ قَطَعَ يَدِيّ، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَطَعَهَا، أَفَأَقْتُلُهُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: لَا تَقْتُلْهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَ».

وَبِمِثْلِ ذَلِكَ قَالَ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ: «أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا».وَلِذَا فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا: لَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَخَذُوا أُسَرَاءَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَأَرَادُوا قَتْلَهُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَنَا مُسْلِمٌ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُ حَتَّى يَسْأَلُوهُ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ وَصَفَهُ لَهُمْ فَهُوَ مُسْلِمٌ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَصِفَهُ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَصِفُوهُ لَهُ، ثُمَّ يَقُولُوا لَهُ: هَلْ أَنْتَ عَلَى هَذَا؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، فَهُوَ مُسْلِمٌ، وَلَوْ قَالَ: لَسْتُ بِمُسْلِمٍ وَلَكِنِ اُدْعُونِي إِلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى أُسْلِمَ لَمْ يَحِلَّ قَتْلُهُ.

أَسْرَى الْبُغَاةِ:

36- الْبَغْيُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ بَغَى، وَهُوَ بِمَعْنَى عَلَا وَظَلَمَ وَعَدَلَ عَنِ الْحَقِّ وَاسْتَطَالَ.وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ}.

وَالْبُغَاةُ فِي الِاصْطِلَاحِ: هُمُ الْخَارِجُونَ عَلَى الْإِمَامِ الْحَقِّ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَهُمْ مَنَعَةٌ.وَيَجِبُ قِتَالُهُمْ لِرَدْعِهِمْ لَا لِقَتْلِهِمْ وَسَنَتَصَدَّى لِلْكَلَامِ عَنْ حُكْمِ أَسْرَاهُمْ.

37- أَسْرَى الْبُغَاةِ تُعَامِلُهُمُ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ مُعَامَلَةً خَاصَّةً، لِأَنَّ قِتَالَهُمْ لِمُجَرَّدِ دَفْعِهِمْ عَنِ الْمُحَارَبَةِ، وَرَدِّهِمْ إِلَى الْحَقِّ، لَا لِكُفْرِهِمْ.رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ مَا حُكْمُ مَنْ بَغَى عَلَى أُمَّتِي؟ قَالَ: فَقُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.قَالَ: لَا يُتْبَعُ مُدْبِرُهُمْ، وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهُمْ، وَلَا يُقْسَمُ فَيْؤُهُمْ».

38- وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ سَبْيِ نِسَاءِ الْبُغَاةِ وَذَرَارِيِّهِمْ.بَلْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى قَصْرِ الْأَسْرِ عَلَى الرِّجَالِ الْمُقَاتِلِينَ وَتَخْلِيَةِ سَبِيلِ الشُّيُوخِ وَالصِّبْيَةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- لَمَّا وَقَعَ الْقِتَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ، قَرَّرَ عَلِيٌّ عَدَمَ السَّبْيِ وَعَدَمَ أَخْذِ الْغَنِيمَةِ، فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ كَانُوا فِي صُفُوفِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَهُمْ: أَفَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ عَائِشَةَ؟ أَمْ تَسْتَحِلُّونَ مِنْهَا مَا تَسْتَحِلُّونَ مِنْ غَيْرِهَا.فَإِنْ قُلْتُمْ لَيْسَتْ أُمَّكُمْ كَفَرْتُمْ، لقوله تعالى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} وَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّهَا أُمُّكُمْ وَاسْتَحْلَلْتُمْ سَبْيَهَا فَقَدْ كَفَرْتُمْ، لقوله تعالى {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا}.فَلَا يُسْتَبَاحُ مِنْهُمْ إِلاَّ بِقَدْرِ مَا يَدْفَعُ الْقِتَالَ وَيَبْقَى حُكْمُ الْمَالِ وَالذُّرِّيَّةِ عَلَى أَصْلِ الْعِصْمَةِ.وَلِفُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ تَفْصِيلٌ فِي حُكْمِ أَسْرَى الْبُغَاةِ.

39- وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ اسْتِرْقَاقِ أَسْرَى الْبُغَاةِ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَمْنَعُ الِاسْتِرْقَاقَ ابْتِدَاءً، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْجَمَلِ: لَا يُقْتَلُ أَسِيرُهُمْ، وَلَا يُكْشَفُ سِتْرٌ، وَلَا يُؤْخَذُ مَالٌ أَيْ لَا يُسْتَرَقُّونَ وَلِذَا فَإِنَّهُ لَا تُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَلَا ذَرَارِيُّهُمْ.وَالْأَصْلُ أَنَّ أَسِيرَهُمْ لَا يُقْتَلُ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ كُلٌّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، حَتَّى قَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَإِنْ قَتَلَ أَهْلُ الْبَغْيِ أُسَارَى أَهْلِ الْعَدْلِ لَمْ يَجُزْ لِأَهْلِ الْعَدْلِ قَتْلُ أُسَارَاهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ بِجِنَايَةِ غَيْرِهِمْ، وَيَتَّجِهُ الْمَالِكِيَّةُ وُجْهَةَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي عَدَمِ قَتْلِ الْأَسْرَى.غَيْرَ أَنَّهُ جَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ إِذَا أُسِرَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ.وَقِيلَ: يُؤَدَّبُ وَلَا يُقْتَلُ وَإِنْ كَانَتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً فَلِلْإِمَامِ قَتْلُهُ.وَلَوْ كَانُوا جَمَاعَةً، إِذَا خَافَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ ضَرَرٌ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ لِأَسْرَى الْبُغَاةِ فِئَةٌ، وَبَيْنَ مَا إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ، فَقَالُوا: لَوْ كَانَ لِلْبُغَاةِ فِئَةٌ أُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ، وَاتُّبِعَ هَارِبُهُمْ لِقَتْلِهِ أَوْ أَسْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِئَةٌ فَلَا، وَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ فِي أَسِرْهُمْ إِنْ كَانَ لَهُ فِئَةٌ: إِنْ شَاءَ قَتَلَهُ لِئَلاَّ يَنْفَلِتَ وَيَلْحَقَ بِهِمْ، وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهُ حَتَّى يَتُوبَ أَهْلُ الْبَغْيِ، قَالَ الشَّرْنَبَلَالِيُّ: وَهُوَ الْحَسَنُ، لِأَنَّ شَرَّهُ يَنْدَفِعُ بِذَلِكَ، وَقَالُوا: إِنَّ مَا قَالَهُ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- مِنْ عَدَمِ قَتْلِ الْأَسِيرِ مُؤَوَّلٌ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ، وَقَالُوا: إِنَّ عَلِيًّا كَانَ إِذَا أَخَذَ أَسِيرًا اسْتَحْلَفَهُ أَلاَّ يُعِينَ عَلَيْهِ وَخَلاَّهُ أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ فَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهُمْ.وَالْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ إِذَا أُسِرَتْ وَكَانَتْ تُقَاتِلُ حُبِسَتْ وَلَا تُقْتَلُ، إِلاَّ فِي حَالِ مُقَاتَلَتِهَا.وَكَذَا الْعَبِيدُ وَالصِّبْيَانُ.

40- وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِدَاؤُهُمْ نَظِيرَ مَالٍ، وَإِنَّمَا إِذَا تَرَكَهُمْ مَعَ الْأَمْنِ كَانَ مَجَّانًا، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْصِمُ النَّفْسَ وَالْمَالَ كَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ مُوَادَعَتُهُمْ عَلَى مَالٍ، وَإِنْ وَادَعَهُمْ عَلَى مَالٍ بَطَلَتِ الْمُوَادَعَةُ وَنَظَرَ فِي الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ فَيْئِهِمْ أَوْ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ لَمْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَصَرَفَ الصَّدَقَاتِ فِي أَهْلِهَا، وَالْفَيْءَ فِي مُسْتَحَقِّيهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خَالِصِ أَمْوَالِهِمْ وَجَبَ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ.

41- وَيَجُوزُ مُفَادَاتُهُمْ بِأُسَارَى أَهْلِ الْعَدْلِ، وَإِنْ أَبَى الْبُغَاةُ مُفَادَاةَ الْأَسْرَى الَّذِينَ مَعَهُمْ وَحَبَسُوهُمْ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: اُحْتُمِلَ أَنْ يَجُوزَ لِأَهْلِ الْعَدْلِ حَبْسُ مَنْ مَعَهُمْ، لِيَتَوَصَّلُوا إِلَى تَخْلِيصِ أُسَارَاهُمْ، وَيُحْتَمَلُ أَلاَّ يَجُوزَ حَبْسُهُمْ وَيُطْلَقُونَ، لِأَنَّ الْمُتَرَتِّبَ فِي أُسَارَى أَهْلِ الْعَدْلِ لِغَيْرِهِمْ.

42- وَعَلَى مَا سَبَقَ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ قَتْلِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يُحْبَسُونَ وَلَا يُخَلَّى سَبِيلُهُمْ، إِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنَعَةٌ، وَلَوْ كَانَ الْأَسِيرُ صَبِيًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ عَبْدًا إِنْ كَانُوا مُقَاتِلِينَ، وَإِلاَّ أُطْلِقُوا بِمُجَرَّدِ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ، وَيَنْبَغِي عَرْضُ التَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ وَمُبَايَعَةُ الْإِمَامِ.وَلَوْ كَانُوا مُرَاهِقِينَ وَعَبِيدًا وَنِسَاءً غَيْرَ مُقَاتِلِينَ أَوْ أَطْفَالاً أُطْلِقُوا بَعْدَ الْحَرْبِ دُونَ أَنْ نَعْرِضَ عَلَيْهِمْ مُبَايَعَةَ الْإِمَامِ.وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُحْبَسُونَ، لِأَنَّ فِيهِ كَسْرًا لِقُلُوبِ الْبُغَاةِ.وَقَالُوا: إِنْ بَطَلَتْ شَوْكَتُهُمْ وَيُخَافُ اجْتِمَاعُهُمْ فِي الْحَالِ، فَالصَّوَابُ عَدَمُ إِرْسَالِ أَسِيرِهِمْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ.

أَسْرَى الْحَرْبِيِّينَ إِذَا أَعَانُوا الْبُغَاةَ:

43- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا اسْتَعَانَ الْبُغَاةُ عَلَى قِتَالِنَا بِقَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَمَّنُوهُمْ، أَوْ لَمْ يُؤْمِنُوهُمْ، فَظَهَرَ أَهْلُ الْعَدْلِ عَلَيْهِمْ، فَوَقَعُوا فِي الْأَسْرِ عِنْدَ أَهْلِ الْعَدْلِ، أَخَذُوا حُكْمَ أَسْرَى أَهْلِ الْحَرْبِ وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مَا إِذَا قَالَ الْأَسِيرُ: ظَنَنْتُ جَوَازَ إِعَانَتِهِمْ، أَوْ أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ وَلِيَ إِعَانَةُ الْمُحِقِّ، وَأَمْكَنَ تَصْدِيقُهُ فَإِنَّهُ يُبَلَّغُ مَأْمَنَهُ، ثُمَّ يُقَاتَلُ كَالْبُغَاةِ. الْأَسْرَى مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِذَا أَعَانُوا الْبُغَاةَ:

44- إِذَا اسْتَعَانَ الْبُغَاةُ عَلَى قِتَالِنَا بِأَهْلِ الذِّمَّةِ، فَوَقَعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي الْأَسْرِ، أَخَذَ حُكْمَ الْبَاغِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلَا يُقْتَلُ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ، وَيُخَيَّرُ الْإِمَامُ إِذَا كَانَتْ لَهُ فِئَةٌ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا اسْتَعَانَ الْبَاغِي الْمُتَأَوِّلُ بِذِمِّيٍّ فَلَا يَغْرَمُ الذِّمِّيُّ مَا أَتْلَفَهُ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ، وَلَا يُعَدُّ خُرُوجُهُ مَعَهُ نَقْضًا لِلْعَهْدِ.أَمَّا إِنْ كَانَ الْبَاغِي مُعَانِدًا- أَيْ غَيْرَ مُتَأَوِّلٍ- فَإِنَّ الذِّمِّيَّ الَّذِي مَعَهُ يَكُونُ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ، وَيَكُونُ هُوَ وَمَالُهُ فَيْئًا.وَهَذَا إِنْ كَانَ مُخْتَارًا، أَمَّا إِنْ كَانَ مُكْرَهًا فَلَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ، وَإِنْ قَتَلَ نَفْسًا يُؤْخَذُ بِهَا، حَتَّى لَوْ كَانَ مُكْرَهًا.

وَقَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِ الْمَالِكِيَّةِ.قَالُوا: لَوْ أَعَانَ الذِّمِّيُّونَ الْبُغَاةَ فِي الْقِتَالِ، وَهُمْ عَالِمُونَ بِالتَّحْرِيمِ مُخْتَارُونَ انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ، كَمَا لَوِ انْفَرَدُوا بِالْقِتَالِ.

أَمَّا إِنْ قَالَ الذِّمِّيُّونَ: كُنَّا مُكْرَهِينَ، أَوْ ظَنَنَّا جَوَازَ الْقِتَالِ إِعَانَةً، أَوْ ظَنَنَّا أَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِيمَا فَعَلُوهُ، وَأَنَّ لَنَا إِعَانَةَ الْمُحِقِّ وَأَمْكَنَ صِدْقُهُمْ، فَلَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ، لِمُوَافَقَتِهِمْ طَائِفَةً مُسْلِمَةً مَعَ عُذْرِهِمْ، وَيُقَاتَلُونَ كَبُغَاةٍ.

وَمِثْلُهُمْ فِي ذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُونَ، عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ.

وَلِلْحَنَابِلَةِ قَوْلَانِ فِي انْتِقَاضِ عَهْدِهِمْ، أَحَدُهُمَا: يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ، لِأَنَّهُمْ قَاتَلُوا أَهْلَ الْحَقِّ فَانْتَقَضَ عَهْدُهُمْ كَمَا لَوِ انْفَرَدُوا بِقَتْلِهِمْ.وَيَصِيرُونَ كَأَهْلِ الْحَرْبِ فِي قَتْلِ مُقْبِلِهِمْ وَاتِّبَاعِ مُدْبِرِهِمْ وَجَرِيحِهِمْ.

وَالثَّانِي: لَا يُنْتَقَضُ، لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يَعْرِفُونَ الْمُحِقَّ مِنَ الْمُبْطِلِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً لَهُمْ.وَيَكُونُ حُكْمُهُمْ حُكْمَ أَهْلِ الْبَغْيِ فِي قَتْلِ مُقْبِلِهِمْ، وَالْكَفِّ عَنْ أَسِيرِهِمْ وَمُدْبِرِهِمْ وَجَرِيحِهِمْ.

وَإِنْ أَكْرَهَهُمُ الْبُغَاةُ عَلَى مَعُونَتِهِمْ، أَوِ ادَّعَوْا ذَلِكَ قُبِلَ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ.وَكَذَلِكَ إِنْ قَالُوا: ظَنَنَّا أَنَّ مَنِ اسْتَعَانَ بِنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَزِمَتْنَا مَعُونَتُهُ، لِأَنَّ مَا ادَّعُوهُ مُحْتَمَلٌ، فَلَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ مَعَ الشُّبْهَةِ.

وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُونَ نُقِضَ عَهْدُهُمْ.وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ أَقْوَى حُكْمًا، لِأَنَّ عَهْدَهُمْ مُؤَبَّدٌ، وَلَا يَجُوزُ نَقْضُهُ لِخَوْفِ الْخِيَانَةِ مِنْهُمْ، وَيَلْزَمُ الْإِمَامَ الدَّفْعُ عَنْهُمْ، وَالْمُسْتَأْمَنُونَ بِخِلَافِ ذَلِكَ.

وَإِذَا أُسِرَ مَنْ يُرَادُ عَقْدُ الْإِمَامَةِ لَهُ، وَكَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْ الْأَسْرِ، مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ عَقْدِ الْإِمَامَةِ لَهُ.

أَسْرَى الْحِرَابَةِ:

45- الْمُحَارِبُونَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ، اجْتَمَعَتْ عَلَى شَهْرِ السِّلَاحِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَيَجُوزُ حَبْسُ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ لِاسْتِبْرَاءِ حَالِهِ وَمَنْ ظَفِرَ بِالْمُحَارِبِ فَلَا يَلِي قَتْلَهُ، وَيَرْفَعُهُ إِلَى الْإِمَامِ.قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلاَّ أَنْ يَخَافَ أَلاَّ يُقِيمَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ الْحُكْمَ. وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ تَأْمِينُهُ وَإِنِ اسْتَحَقُّوا الْهَزِيمَةَ فَجَرِيحُهُمْ أَسِيرٌ، وَالْحُكْمُ فِيهِمْ لِلْإِمَامِ، مُسْلِمِينَ كَانُوا أَوْ ذِمِّيِّينَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَأَحَدِ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.وَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالْأَوْزَاعِيِّ.وَمَوْضِعُ بَيَانِ ذَلِكَ مُصْطَلَحُ (حِرَابَة).

أَسْرَى الْمُرْتَدِّينَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ مِنْ أَحْكَامٍ

46- الرِّدَّةُ فِي اللُّغَةِ: الرُّجُوعُ، فَيُقَالُ: ارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ إِذَا كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامٍ.

وَتَخْتَصُّ الرِّدَّةُ- فِي الِاصْطِلَاحِ الْفِقْهِيِّ- بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ.وَكُلُّ مُسْلِمٍ ارْتَدَّ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ إِنْ لَمْ يَتُبْ، إِلاَّ الْمَرْأَةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهَا تُحْبَسُ، وَلَا يُتْرَكُ الْمُرْتَدُّ عَلَى رِدَّتِهِ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ وَلَا بِأَمَانٍ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ حَتَّى لَوْ أُسِرَ بَعْدَ أَنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا تُسْتَرَقُّ بَعْدَ اللِّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ، عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ مَوْضِعُهُ مُصْطَلَحُ (رِدَّةٌ).

47- وَإِذَا ارْتَدَّ جَمْعٌ، وَتَجَمَّعُوا وَانْحَازُوا فِي دَارٍ يَنْفَرِدُونَ بِهَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى صَارُوا فِيهَا ذَوِي مَنَعَةٍ وَجَبَ قِتَالُهُمْ عَلَى الرِّدَّةِ بَعْدَ مُنَاظَرَتِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيُسْتَتَابُونَ وُجُوبًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَاسْتِحْبَابًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَيُقَاتَلُونَ قِتَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَمَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ قُتِلَ صَبْرًا إِنْ لَمْ يَتُبْ، وَيُصَرِّحُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّنَا نَبْدَؤُهُمْ بِالْقِتَالِ إِذَا امْتَنَعُوا بِنَحْوِ حِصْنٍ.

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَرَقَّ رِجَالُهُمْ، وَلَكِنْ تُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ، وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمُ الَّذِينَ حَدَثُوا بَعْدَ الرِّدَّةِ، لِأَنَّهَا دَارٌ تَجْرِي فِيهَا أَحْكَامُ أَهْلِ الْحَرْبِ فَكَانَتْ دَارَ حَرْبٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُهَادَنُوا عَلَى الْمُوَادَعَةِ، وَلَا يُصَالَحُوا عَلَى مَالٍ يَقَرُّونَ بِهِ عَلَى رِدَّتِهِمْ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْحَرْبِ.وَقَدْ سَبَى أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنه- ذَرَارِيَّ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَسَبَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- بَنِي نَاجِيَةَ.

وَإِنْ أَسْلَمُوا حُقِنَتْ دِمَاؤُهُمْ، وَمَضَى فِيهِمْ حُكْمُ السَّبَاءِ عَلَى الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ، فَأَمَّا الرِّجَالُ فَأَحْرَارٌ لَا يُسْتَرَقُّونَ، وَلَيْسَ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ سَبْيٌ وَلَا جِزْيَةٌ، إِنَّمَا هُوَ الْقَتْلُ أَوِ الْإِسْلَامُ.وَإِنْ تَرَكَ الْإِمَامُ السَّبَاءَ وَأَطْلَقَهُمْ وَعَفَا عَنْهُمْ وَتَرَكَ لَهُمْ أَرْضَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَهُوَ فِي سَعَةٍ.

48- وَيُصَرِّحُ الْمَالِكِيَّةُ بِعَدَمِ اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ إِنْ حَارَبُوا بِأَرْضِ الْكُفْرِ أَوْ بِأَرْضِ الْإِسْلَامِ، يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ: إِذَا حَارَبَ الْمُرْتَدُّ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِالْحِرَابَةِ، وَلَا يُسْتَتَابُ، كَانَتْ حِرَابَتُهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ بَعْدَ أَنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ إِلاَّ أَنْ يُسْلِمَ، فَإِنْ كَانَتْ حِرَابَتُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ كَالْحَرْبِيِّ يُسْلِمُ، لَا تِبَاعَةَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِمَّا فَعَلَ فِي حَالِ ارْتِدَادِهِ.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ حِرَابَتُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يُسْقِطُ إِسْلَامُهُ عَنْهُ حُكْمَ الْحِرَابَةِ خَاصَّةً.وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ: إِذَا ارْتَدَّ جَمَاعَةٌ فِي حِصْنٍ فَإِنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ، وَأَمْوَالُهُمْ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ.وَقَالَ أَصْبَغُ: تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ وَتُقْسَمُ أَمْوَالُهُمْ.

وَهَذَا الَّذِي خَالَفَتْ فِيهِ سِيرَةُ عُمَرَ سِيرَةَ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنهما- فِي الَّذِينَ ارْتَدُّوا مِنَ الْعَرَبِ، فَقَدْ سَبَى أَبُو بَكْرٍ النِّسَاءَ وَالصِّغَارَ، وَأَجْرَى الْمُقَاسَمَةَ فِي أَمْوَالِهِمْ، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ نَقَضَ ذَلِكَ.

49- وَيَتَّفِقُ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ الْأَسِيرَ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ إِنْ لَمْ يَتُبْ وَيَعُدْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ.وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَمَكْحُولٌ، لِعُمُومِ حَدِيثِ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ».

50- وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُقْتَلُ، وَإِنَّمَا تُحْبَسُ حَتَّى تَتُوبَ.

أَمَّا لَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تُقَاتِلُ، أَوْ كَانَتْ ذَاتَ رَأْيٍ فَإِنَّهَا تُقْتَلُ اتِّفَاقًا.لَكِنَّهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تُقْتَلُ لَا لِرِدَّتِهَا، بَلْ لِأَنَّهَا تَسْعَى بِالْفَسَادِ.

وَيَسْتَدِلُّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى عَدَمِ قَتْلِ الْمَرْأَةِ الْمُرْتَدَّةِ إِذَا أُخِذَتْ سَبْيًا بِمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْحَقْ بِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَلَا يَقْتُلَنَّ ذُرِّيَّةً وَلَا عَسِيفًا» وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ وَالْكُفْرِ الطَّارِئِ، فَإِنَّ الْحَرْبِيَّةَ إِذَا سُبِيَتْ لَا تُقْتَلُ.

51- وَيَتَّفِقُ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْفِدَاءِ مِنَ الْأَسْرَى الْمُرْتَدِّينَ، وَلَا الْمَنُّ عَلَيْهِمْ بِأَمَانٍ مُؤَقَّتٍ أَوْ أَمَانٍ مُؤَبَّدٍ، وَلَا يُتْرَكُ عَلَى رِدَّتِهِ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ.كَمَا يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ مِنَ الرِّجَالِ لَا يَجْرِي فِيهِ إِلاَّ: الْعَوْدَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوِ الْقَتْلِ، لِأَنَّ قَتْلَ الْمُرْتَدِّ عَلَى رِدَّتِهِ حَدٌّ، وَلَا يُتْرَكُ إِقَامَةُ الْحَدِّ لِمَنْفَعَةِ الْأَفْرَادِ.

52- وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الرِّقَّ لَا يَجْرِي عَلَى الْمُرْتَدَّةِ أَيْضًا، وَإِنْ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِمْرَارُ أَحَدٍ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ عَلَى الْكُفْرِ بِالِاسْتِرْقَاقِ، بَيْنَمَا يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ تُسْتَرَقُّ بَعْدَ اللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَلَا تُسْتَرَقُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، كَمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي النَّوَادِرِ: أَنَّهَا تُسْتَرَقُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَيْضًا.

وَقَالُوا فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ: إِنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ قَتْلُهَا، وَلَا يَجُوزُ إِبْقَاءُ الْكَافِرِ عَلَى الْكُفْرِ إِلاَّ مَعَ الْجِزْيَةِ أَوْ مَعَ الرِّقِّ، وَلَا جِزْيَةَ عَلَى النِّسَاءِ، فَكَانَ إِبْقَاؤُهَا عَلَى الرِّقِّ أَنْفَعُ.وَقَدِ اسْتَرَقَّ الصَّحَابَةُ نِسَاءَ مَنِ ارْتَدَّ.

53- وَبِالنِّسْبَةِ لِأَصْحَابِ الْأَعْذَارِ مِنَ الْأَسْرَى الْمُرْتَدِّينَ، فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ أَيْضًا.وَنَقَلَ السَّرَخْسِيُّ قَوْلاً بِأَنَّ حُلُولَ الْآفَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأُنُوثَةِ، لِأَنَّهُ تَخْرُجُ بِهِ بِنْيَتُهُ (هَيْئَتُهُ وَجِسْمُهُ) مِنْ أَنْ تَكُونَ صَالِحَةً لِلْقِتَالِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُقْتَلُونَ بَعْدَ الرِّدَّةِ، كَمَا لَا يُقْتَلُونَ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ.

وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى وُجُوبَ قَتْلِ الْمُرْتَدَّةِ- إِذَا كَانَتِ الْأَسِيرَةُ الْمُرْتَدَّةُ ذَاتَ زَوْجٍ، وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ- فَإِنَّهَا تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةٍ قَبْلَ قَتْلِهَا خَشْيَةَ أَنْ تَكُونَ حَامِلاً، فَإِنْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ أُخِّرَتْ حَتَّى تَضَعَ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ اُسْتُبْرِئَتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يُتَوَقَّعُ حَمْلُهَا، وَإِلاَّ قُتِلَتْ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ.

أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ فِي يَدِ الْأَعْدَاءِ:

اسْتِئْسَارُ الْمُسْلِمِ وَمَا يَنْبَغِي لِاسْتِنْقَاذِهِ عِنْدَ تَتَرُّسِ الْكُفَّارِ بِهِ:

أ- الِاسْتِئْسَارُ:

54- الِاسْتِئْسَارُ هُوَ تَسْلِيمُ الْجُنْدِيِّ نَفْسَهُ لِلْأَسْرِ، فَقَدْ يَجِدُ الْجُنْدِيُّ نَفْسَهُ مُضْطَرًّا لِذَلِكَ.وَقَدْ وَقَعَ الِاسْتِئْسَارُ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَعَلِمَ بِهِ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ.رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- بِسَنَدِهِ قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَشَرَةً رَهْطًا عَيْنًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدَأَةِ- مَوْضِعٌ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ- ذُكِرُوا لِبَنِي لِحْيَانَ، فَنَفَرُوا لَهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَتِي رَجُلٍ كُلُّهُمْ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ- مَوْضِعٍ غَلِيظٍ مُرْتَفِعٍ- وَأَحَاطَ بِهِمُ الْقَوْمُ، فَقَالُوا لَهُمْ: انْزِلُوا وَأَعْطُوا بِأَيْدِيكُمْ، وَلَكُمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ أَلاَّ نَقْتُلَ مِنْكُمْ أَحَدًا، قَالَ عَاصِمٌ: أَمَّا أَنَا فَوَاَللَّهِ لَا أَنْزِلُ الْيَوْمَ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ، اللَّهُمَّ خَبِّرْ عَنَّا نَبِيَّكَ، فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِي سَبْعَةٍ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ الْأَنْصَارِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ الدَّثْنَةِ، وَرَجُلٌ آخَرُ.فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ فَأَوْثَقُوهُمْ، فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ، وَاَللَّهِ لَا أَصْحَبُكُمْ، إِنَّ لِي فِي هَؤُلَاءِ لأَُسْوَةً- يُرِيدُ الْقَتْلَى- فَجَرُّوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ- أَيْ مَارَسُوهُ وَخَادَعُوهُ لِيَتْبَعَهُمْ- فَأَبَى فَقَتَلُوهُ، وَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَابْنِ الدَّثْنَةِ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ...» فَعَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِمَا حَدَثَ، وَعَدَمُ إِنْكَارِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِئْسَارَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُرَخَّصٌ فِيهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُسْتَأْسَرُ الرَّجُلُ إِذَا خَافَ أَنْ يُغْلَبَ.وَإِلَى هَذَا اتَّجَهَ كُلٌّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

55- وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى شُرُوطٍ يَلْزَمُ تَوَافُرُهَا لِجَوَازِ الِاسْتِئْسَارِ هِيَ: أَنْ يَخَافَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِسْلَامِ قَتْلُهُ فِي الْحَالِ، وَأَلاَّ يَكُونَ الْمُسْتَسْلِمُ إِمَامًا، أَوْ عِنْدَهُ مِنَ الشَّجَاعَةِ مَا يُمْكِنُهُ مِنَ الصُّمُودِ، وَأَنْ تَأْمَنَ الْمَرْأَةُ عَلَى نَفْسِهَا الْفَاحِشَةَ.

وَالْأَوْلَى- كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ- إِذَا مَا خَشِيَ الْمُسْلِمُ الْوُقُوعَ فِي الْأَسْرِ أَنْ يُقَاتِلَ حَتَّى يُقْتَلَ، وَلَا يُسْلِمَ نَفْسَهُ لِلْأَسْرِ، لِأَنَّهُ يَفُوزُ بِثَوَابِ الدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ، وَيَسْلَمُ مِنْ تَحَكُّمِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ بِالتَّعْذِيبِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَالْفِتْنَةِ، وَإِنْ اسْتَأْسَرَ جَازَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ.

ب- اسْتِنْقَاذُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ وَمُفَادَاتُهُمْ:

56- إِذَا وَقَعَ الْمُسْلِمُ أَسِيرًا فَهُوَ حُرٌّ عَلَى حَالِهِ، وَكَانَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، يَلْزَمُهُمُ الْعَمَلُ عَلَى خَلَاصِهِ، وَلَوْ بِتَيْسِيرِ سُبُلِ الْفِرَارِ لَهُ، وَالتَّفَاوُضِ مِنْ أَجْلِ إِطْلَاقِ سَرَاحِهِ، فَإِذَا لَمْ يُطْلِقُوا سَرَاحَهُ تَرَبَّصُوا لِذَلِكَ.وَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ ( ( ( يَتَحَيَّنُ الْفُرْصَةَ الْمُنَاسِبَةَ لِتَخْلِيصِ الْأَسْرَى.رَوَتْ كُتُبُ السِّيرَةِ أَنَّ «قُرَيْشًا أَسَرَتْ نَفَرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا لَمْ يَجِدِ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- حِيلَةً لِإِنْقَاذِهِمْ كَانَ يَدْعُو اللَّهَ لِإِنْقَاذِهِمْ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ، وَلَمَّا أَفْلَتَ أَحَدُهُمْ مِنَ الْأَسْرِ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، سَأَلَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ رَفِيقَيْهِ فَقَالَ: أَنَا لَكَ بِهِمَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فَدَخَلَهَا مُسْتَخْفِيًا، فَلَقِيَ امْرَأَةً عَلِمَ أَنَّهَا تَحْمِلُ الطَّعَامَ لَهُمَا فِي الْأَسْرِ فَتَبِعَهَا، حَتَّى اسْتَطَاعَ تَخْلِيصَهُمَا، وَقَدِمَ بِهِمَا عَلَى الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- بِالْمَدِينَةِ».

وَقَدِ اسْتَنْقَذَ رَسُولُ اللَّهِ كُلًّا مِنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ- رضي الله عنهما- ، وَقَدْ أَسَرَهُمَا الْمُشْرِكُونَ، بِأَنْ فَاوَضَ عَلَيْهِمَا، وَحَبَسَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ حَتَّى يُطْلِقُوا سَرَاحَهُمَا، وَكَذَلِكَ فَعَلَ فِي اسْتِنْقَاذِ عُثْمَانَ وَعَشَرَةٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ- رضي الله عنهم- بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ.

وَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «إِنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي فَيْئِهِمْ أَنْ يُفَادُوا أَسْرَاهُمْ».وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: لأَنْ أَسْتَنْقِذَ رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ. 57- وَيَجِبُ اسْتِنْقَاذُ الْأَسْرَى بِالْمُقَاتَلَةِ مَا دَامَ ذَلِكَ مَيْسُورًا، فَإِذَا دَخَلَ الْمُشْرِكُونَ دَارَ الْإِسْلَامِ فَأَخَذُوا الْأَمْوَالَ وَالذَّرَارِيَّ وَالنِّسَاءَ، ثُمَّ عَلِمَ بِهِمْ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَهُمْ عَلَيْهِمْ قُوَّةٌ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ مَا دَامُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ دَخَلُوا بِهِمْ دَارَ الْحَرْبِ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ إِذَا غَلَبَ عَلَى رَأْيِهِمْ أَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى اسْتِنْقَاذِهِمْ، فَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ لِتَخْلِيصِهِمْ فَتَرَكُوهُ كَانُوا فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ فِي يَدِ الْكُفَّارِ بَعْضَ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا الْخُرُوجُ لِقِتَالِهِمْ لِاسْتِنْقَاذِ الْأَسْرَى.

58- وَالِاسْتِنْقَاذُ إِذَا لَمْ يَتَيَسَّرْ عَنْ طَرِيقِ الْقِتَالِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَنْ طَرِيقِ الْفِدَاءِ بِتَبَادُلِ الْأَسْرَى، عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُ الْقَوْلِ فِيهِ، كَمَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بِالْمَالِ أَيْضًا، لِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ، وَفُكُّوا الْعَانِيَ» لِأَنَّ مَا يُخَافُ مِنْ تَعْذِيبِ الْأَسِيرِ أَعْظَمُ فِي الضَّرُورَةِ مِنْ بَذْلِ الْمَالِ، فَجَازَ دَفْعُ أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ بِأَخَفِّهِمَا.

59- وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَفْتَدُوهُ.وَنَقَلَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ أَسِيرٍ كَانَ فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَفِكَاكُهُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ.وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، كَمَا نَقَلَهُ الْمَوَّاقُ عَنِ ابْنِ بَشِيرٍ مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَعَلَى عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْأَسِيرُ كَأَحَدِهِمْ، فَإِنْ ضَيَّعَ الْإِمَامُ وَالْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْأَسِيرِ مِنْ مَالِهِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ رُشْدٍ أَيْضًا.

وَفِي الْمُهَذَّبِ أَنَّهُ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

60- وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ بَذْلَ الْمَالِ لِفَكِّ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ- إِنْ خِيفَ تَعْذِيبُهُمْ- جَائِزٌ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَيَكُونُ فِي مَالِهِمْ، وَيُنْدَبُ عِنْدَ الْعَجْزِ افْتِدَاءُ الْغَيْرِ لَهُ، فَمَنْ قَالَ لِكَافِرٍ: أَطْلِقْ هَذَا الْأَسِيرَ، وَعَلَيَّ كَذَا، فَأَطْلَقَهُ لَزِمَهُ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْأَسِيرِ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي فِدَائِهِ.

61- وَأَسْرُ الْمُسْلِمِ الْحُرِّ لَا يُزِيلُ حُرِّيَّتَهُ، فَمَنِ اشْتَرَاهُ مِنَ الْعَدُوِّ لَا يَمْلِكُهُ، وَإِنِ اشْتَرَاهُ مُسْلِمٌ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِيمَا أَدَّى مِنْ فِدَائِهِ، وَإِنِ اشْتَرَاهُ بِأَمْرِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ، وَالْقِيَاسُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ نَصًّا.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ- كَمَا يَرْوِي الْمَوَّاقُ- أَنَّ لِلْمُشْتَرِيَّ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ، شَاءَ أَوْ أَبَى، لِأَنَّهُ فِدَاءٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ اُتُّبِعَ بِهِ فِي ذِمَّتِهِ.وَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَاَلَّذِي فَدَاهُ وَاشْتَرَاهُ مِنَ الْعَدُوِّ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غُرَمَائِهِ.أَمَّا إِنْ كَانَ يَقْصِدُ الصَّدَقَةَ، أَوْ كَانَ الْفِدَاءُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ، وَكَذَا إِنْ كَانَ الْأَسِيرُ يَرْجُو الْخَلَاصَ بِالْهُرُوبِ أَوِ التَّرْكِ.

62- وَلَوْ خَلَّى الْكُفَّارُ الْأَسِيرَ، وَاسْتَحْلَفُوهُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ بِفِدَائِهِ، أَوْ يَعُودَ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ هَذَا نَتِيجَةَ إِكْرَاهٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَفَاءُ، وَإِنْ لَمْ يُكْرَهْ عَلَيْهِ وَقَدَرَ عَلَى الْفِدَاءِ لَزِمَهُ، وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ، لِوُجُوبِ الْوَفَاءِ، وَلِأَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةَ الْأُسَارَى، وَفِي الْغَدْرِ مَفْسَدَةٌ فِي حَقِّهِمْ.وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَلْزَمُهُ، لِأَنَّهُ حُرٌّ لَا يَسْتَحِقُّونَ بَدَلَهُ.

وَأَمَّا إِنْ عَجَزَ عَنِ الْفِدَاءِ، فَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهَا الرُّجُوعُ إِلَيْهِمْ، لقوله تعالى {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} وَلِأَنَّ فِي رُجُوعِهَا تَسْلِيطًا لَهُمْ عَلَى وَطْئِهَا حَرَامًا.

وَإِنْ كَانَ رَجُلاً، فَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا يَرْجِعُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ.وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَهُمْ يَلْزَمُهُ، وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ صَالَحَ قُرَيْشًا عَلَى رَدِّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا أَمْضَى اللَّهُ ذَلِكَ فِي الرِّجَالِ، وَنَسَخَهُ فِي النِّسَاءِ.

ج- التَّتَرُّسُ بِأُسَارَى الْمُسْلِمِينَ:

63- التُّرْسُ بِضَمِّ التَّاءِ: مَا يُتَوَقَّى بِهِ فِي الْحَرْبِ، يُقَالُ: تَتَرَّسَ بِالتُّرْسِ إِذَا تَوَقَّى بِهِ وَمِنْ ذَلِكَ تَتَرُّسُ الْمُشْرِكِينَ بِالْأَسْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالذِّمِّيِّينَ فِي الْقِتَالِ، لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُمْ كَالتِّرَاسِ، فَيَتَّقُونَ بِهِمْ هُجُومَ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ رَمْيَ الْمُشْرِكِينَ- مَعَ تَتَرُّسِهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ- يُؤَدِّي إِلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ نَحْرِصُ عَلَى حَيَاتِهِمْ وَإِنْقَاذِهِمْ مِنَ الْأَسْرِ.وَقَدْ عُنِيَ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَتَنَاوَلُوهَا مِنْ نَاحِيَةِ جَوَازِ الرَّمْيِ مَعَ التَّتَرُّسِ بِالْمُسْلِمِينَ أَوِ الذِّمِّيِّينَ، كَمَا تَنَاوَلُوهَا مِنْ نَاحِيَةِ لُزُومِ الْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ، وَإِلَيْكَ اتِّجَاهَاتُ الْمَذَاهِبِ فِي هَذَا:

أ- رَمْيُ التُّرْسِ:

64- مِنْ نَاحِيَةِ رَمْيِ التُّرْسِ: يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي تَرْكِ الرَّمْيِ خَطَرٌ مُحَقَّقٌ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الرَّمْيُ بِرَغْمِ التَّتَرُّسِ، لِأَنَّ فِي الرَّمْيِ دَفْعَ الضَّرَرِ الْعَامِّ بِالذَّبِّ عَنْ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ، وَقَتْلُ الْأَسِيرِ ضَرَرٌ خَاصٌّ.وَيُقْصَدُ عِنْدَ الرَّمْيِ الْكُفَّارُ لَا التُّرْسُ، لِأَنَّهُ إِنْ تَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ فِعْلاً فَقَدْ أَمْكَنَ قَصْدًا، وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ السَّرَخْسِيِّ أَنَّ الْقَوْلَ لِلرَّامِي بِيَمِينِهِ فِي أَنَّهُ قَصَدَ الْكُفَّارَ، وَلَيْسَ قَوْلَ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ الَّذِي يَدَّعِي الْعَمْدَ. أَمَّا فِي حَالَةِ خَوْفِ وُقُوعِ الضَّرَرِ عَلَى أَكْثَرِ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ رَمْيُهُمْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّهَا حَالَةُ ضَرُورَةٍ أَيْضًا، وَتَسْقُطُ حُرْمَةُ التُّرْسِ.

وَيَقُولُ الصَّاوِيُّ الْمَالِكِيُّ: وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ الْمُتَتَرَّسُ بِهِمْ أَكْثَرَ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ.وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَجُوزُ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ مُجَرَّدَ الْخَوْفِ لَا يُبِيحُ الدَّمَ الْمَعْصُومَ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا كَانَ الْخَوْفُ عَلَى بَعْضِ الْغَازِينَ فَقَطْ.

65- وَأَمَّا فِي حَالَةِ الْحِصَارِ الَّذِي لَا خَطَرَ فِيهِ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنْ لَا يُقْدَرُ عَلَى الْحَرْبِيِّينَ إِلاَّ بِرَمْيِ التُّرْسِ، فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَجُمْهُورِ الْحَنَابِلَةِ، وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى الْمَنْعِ، لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، وَتَرْكُ قَتْلِ الْكَافِرِ جَائِزٌ.أَلَا يُرَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَلاَّ يَقْتُلَ الْأُسَارَى لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ مُرَاعَاةُ جَانِبِ الْمُسْلِمِ أَوْلَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلِأَنَّ مَفْسَدَةَ قَتْلِ الْمُسْلِمِ فَوْقَ مَصْلَحَةِ قَتْلِ الْكَافِرِ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ رَمْيِهِمْ، وَعَلَّلَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنَّ فِي الرَّمْيِ دَفْعَ الضَّرَرِ الْعَامِّ، وَأَنَّهُ قَلَّمَا يَخْلُو حِصْنٌ عَنْ مُسْلِمٍ، وَاعْتَبَرَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الضَّرُورَةِ.

ب- الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ:

66- وَمِنْ نَاحِيَةِ الْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ عِنْدَ إِصَابَةِ أَحَدِ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ نَتِيجَةَ رَمْيِ التُّرْسِ، فَإِنَّ جُمْهُورَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ مَا أَصَابُوهُ مِنْهُمْ لَا يَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ وَلَا كَفَّارَةٌ، لِأَنَّ الْجِهَادَ فَرْضٌ، وَالْغَرَامَاتُ لَا تُقْرَنُ بِالْفُرُوضِ، لِأَنَّ الْفَرْضَ مَأْمُورٌ بِهِ لَا مَحَالَةَ، وَسَبَبُ الْغَرَامَاتِ عُدْوَانٌ مَحْضٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ، فَوُجُوبُ الضَّمَانِ يَمْنَعُ مِنْ إِقَامَةِ الْفَرْضِ، لِأَنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْهُ خَوْفًا مِنْ لُزُومِ الضَّمَانِ، وَهَذَا لَا يَتَعَارَضُ مَعَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَنَّهُ «لَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ دَمٌ مُفْرَجٌ»- أَيْ مُهْدَرٌ- لِأَنَّ النَّهْيَ عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ الْبُغَاةُ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ، فَتُخَصُّ صُورَةُ النِّزَاعِ، كَمَا أَنَّ النَّهْيَ فِي الْحَدِيثِ خَاصٌّ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ.

67- وَعِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَجُمْهُورِ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ تَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ قَوْلاً وَاحِدًا، وَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ رِوَايَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: تَجِبُ، لِأَنَّهُ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا}.

الثَّانِيَةُ: لَا دِيَةَ، لِأَنَّهُ قَتَلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِرَمْيٍ مُبَاحٍ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قوله تعالى {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وَلَمْ يَذْكُرْ دِيَةً.وَعَدَمُ وُجُوبِ الدِّيَةِ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


203-موسوعة الفقه الكويتية (إسقاط 3)

إِسْقَاطٌ -3

حَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ:

53- حَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ الَّتِي يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا- وَهِيَ فِيمَا يَهَبُهُ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفِيمَا يَهَبُهُ الْإِنْسَانُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَانِعٌ مِنْ مَوَانِعِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- حَقٌّ ثَابِتٌ شَرْعًا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً أَوْ يَهَبَ هِبَةً، فَيَرْجِعَ فِيهَا، إِلاَّ الْوَالِدَ بِمَا يُعْطِي وَلَدَهُ».وَهَذَا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْجُمْهُورُ.وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا» أَيْ مَا لَمْ يُعَوَّضْ.قَالُوا: وَالْعِوَضُ فِيمَا وُهِبَ لِذِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ هُوَ: صِلَةُ الرَّحِمِ، وَقَدْ حَصَلَ.

وَمَا دَامَ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ- فِيمَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ- ثَابِتًا شَرْعًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِسْقَاطُهُ، وَلَا يَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ.وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ.وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ أَنَّ الرُّجُوعَ حَقُّهُ، وَهُوَ يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ فِيمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ، إِلاَّ إِذَا أَشْهَدَ عَلَيْهَا، أَوْ شَرَطَ عَدَمَ الِاعْتِصَارِ (أَيِ الرُّجُوعِ)، فَلَا رُجُوعَ لَهُ حِينَئِذٍ عَلَى الْمَشْهُورِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (هِبَة).

مَا لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ:

سَبَقَ أَنَّ كُلَّ جَائِزِ التَّصَرُّفِ لَا يُمْنَعُ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّهِ مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانِعٌ، وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ بَعْضِ مَا لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنَ الْحُقُوقِ اتِّفَاقًا أَوْ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، إِمَّا لِفَقْدِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْمَحَلِّ، أَوْ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْإِسْقَاطِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ.

مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ:

54- الْإِسْقَاطُ إِذَا كَانَ مَسَّ حَقًّا لِغَيْرِ مَنْ يُبَاشِرُهُ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ، إِذَا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْغَيْرِ كَحَقِّ الصَّغِيرِ، أَوْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ مَنْ يَمْلِكُ الْإِجَازَةَ كَالْوَارِثِ وَالْمُرْتَهِنِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا يَأْتِي: حَقُّ الْحَضَانَةِ:

55- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَيْضًا قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ خِلَافُ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ- أَنَّ لِلْحَاضِنِ أَنْ يَسْقُطَ حَقُّهُ بِإِسْقَاطِهِ، وَيَنْتَقِلَ الْحَقُّ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْحَضَانَةِ إِلاَّ إِذَا تَعَيَّنَ وَلَمْ يُوجَدْ حَاضِنٌ غَيْرُهُ، ثُمَّ إِنْ عَادَ الْحَاضِنُ فَطَلَبَ الْحَضَانَةَ عَادَ الْحَقُّ إِلَيْهِ.

وَخَالَفَ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ فَقَالُوا: إِنَّ الْحَاضِنَةَ إِذَا أَسْقَطَتْ حَقَّهَا مِنَ الْحَضَانَةِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، بَعْدَ وُجُوبِهَا لَهَا، ثُمَّ أَرَادَتِ الْعَوْدَ فَلَا تَعُودُ.وَلِلتَّفْصِيلِ ر: (حَضَانَة).

نَسَبُ الصَّغِيرِ:

56- النَّسَبُ حَقُّ الصَّغِيرِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْحَقُّ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ لَحِقَ بِهِ إِسْقَاطُ هَذَا الْحَقِّ، فَمَنْ أَقَرَّ بِابْنٍ، أَوْ هُنِّئَ بِهِ فَسَكَتَ، أَوْ أَمَّنَ عَلَى الدُّعَاءِ، أَوْ أَخَّرَ نَفْيَهُ مَعَ إِمْكَانِ النَّفْيِ فَقَدِ الْتَحَقَ بِهِ، وَلَا يَصِحُّ لَهُ إِسْقَاطُ نَسَبِهِ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ادَّعَتْ عَلَيْهِ صَبِيًّا فِي يَدِهِ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْهَا، وَجَحَدَ الرَّجُلُ فَصَالَحَتْ عَنِ النَّسَبِ عَلَى شَيْءٍ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ النَّسَبَ حَقُّ الصَّبِيِّ لَا حَقُّهَا.

عَزْلُ الْوَكِيلِ:

57- الْأَصْلُ أَنَّ الْمُوَكِّلَ يَجُوزُ لَهُ عَزْلُ الْوَكِيلِ مَتَى شَاءَ، لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ حَقِّهِ، لَكِنْ لَوْ تَعَلَّقَ بِالْوَكَالَةِ حَقٌّ لِلْغَيْرِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ بِغَيْرِ رِضَى صَاحِبِ الْحَقِّ، لِأَنَّ فِي الْعَزْلِ إِبْطَالُ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَذَلِكَ كَالْوَكِيلِ فِي الْخُصُومَةِ لَا يَجُوزُ عَزْلُهُ مَا دَامَتِ الْخُصُومَةُ مُسْتَمِرَّةً.وَكَالْعَدْلِ الْمُتَسَلِّطِ عَلَى بَيْعِ الْمَرْهُونِ.وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، مَعَ تَفْصِيلٍ كَثِيرٍ فِي شُرُوطِ الْعَزْلِ وَشُرُوطِ الْوَكَالَةِ فِي الْخُصُومَةِ، وَتُنْظَرُ فِي: (وَكَالَة، رَهْن).

تَصَرُّفُ الْمُفْلِسِ:

58- الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِلْفَلَسِ، يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِهِ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ تَصَرُّفًا مُسْتَأْنَفًا، كَوَقْفٍ، وَعِتْقٍ، وَإِبْرَاءٍ، وَعَفْوٍ مَجَّانًا فِيمَا لَا قِصَاصَ فِيهِ، وَذَلِكَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِهِ، فَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِيهِ، أَشْبَهَ الرَّاهِنَ يَتَصَرَّفُ فِي الرَّهْنِ.ر: (حَجْر، فَلَس).

إِسْقَاطُ الْحَقِّ قَبْلَ وُجُوبِهِ، وَبَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ:

59- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْإِسْقَاطِ قَبْلَ وُجُوبِ الْحَقِّ، وَقَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ، لِأَنَّ الْحَقَّ قَبْلَ ذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ بِالْفِعْلِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ وُرُودُ الْإِسْقَاطِ عَلَيْهِ، فَإِسْقَاطُ مَا لَمْ يَجِبْ، وَلَا جَرَى سَبَبُ وُجُوبِهِ لَا يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا، وَإِنَّمَا مُجَرَّدُ وَعْدٍ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْإِسْقَاطُ مُسْتَقْبَلًا، كَإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ، وَإِسْقَاطِ الْحَاضِنَةِ حَقَّهَا فِي الْحَضَانَةِ قَبْلَ وُجُوبِهَا، فَكُلُّ هَذَا لَا يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا، وَإِنَّمَا هُوَ امْتِنَاعٌ عَنِ الْحَقِّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ وَالْعَوْدُ إِلَى الْمُطَالَبَةِ بِالْحَقِّ.

60- أَمَّا إِذَا لَمْ يَجِبِ الْحَقُّ، وَلَكِنْ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ، فَفِي صِحَّةِ الْإِسْقَاطِ حِينَئِذٍ اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ:

فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَصِحُّ الْإِسْقَاطُ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ وَقَبْلَ الْوُجُوبِ.

فَقَدْ جَاءَ فِي بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ الْإِبْرَاءُ عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْوُجُوبِ جَائِزٌ، كَالْإِبْرَاءِ عَنِ الْأُجْرَةِ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ.وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ الْإِبْرَاءُ عَنْ سَائِرِ الْحُقُوقِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ جَائِزٌ.

وَفِي شَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ، وَمِثْلُهُ فِي الْمُغْنِي: إِنْ عَفَا مَجْرُوحٌ عَمْدًا أَوْ خَطَأً عَنْ قَوَدِ نَفْسِهِ أَوْ دِيَتِهَا صَحَّ عَفْوُهُ، لِإِسْقَاطِهِ حَقَّهُ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِهِ.

وَفِي فَتْحِ الْعَلِيِّ الْمَالِكِ وَرَدَتْ عِدَّةُ مَسَائِلَ: كَإِبْرَاءِ الزَّوْجَةِ زَوْجَهَا مِنَ الصَّدَاقِ فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَقَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ لَهَا، وَإِسْقَاطِ الْمَرْأَةِ عَنْ زَوْجِهَا نَفَقَةَ الْمُسْتَقْبَلِ، وَكَعَفْوِ الْمَجْرُوحِ عَمَّا يَئُولُ إِلَيْهِ الْجُرْحُ.ثُمَّ قَالَ نَقْلًا عَنِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ: وَبَعْضُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ، فَهَلْ يَلْزَمُ الْإِسْقَاطُ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ قَدْ وُجِدَ أَوْ لَا يَلْزَمُ لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ؟ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ رُشْدٍ

وَفِي الدُّسُوقِيِّ ذَكَرَ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ هُوَ لُزُومُ الْإِسْقَاطِ لِجَرَيَانِ السَّبَبِ.وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ يَصِحُّ إِسْقَاطُ الْحَقِّ قَبْلَ وُجُوبِهِ، وَإِنْ جَرَى سَبَبُ وُجُوبِهِ.

جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: لَوْ أَبْرَأَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ عَنِ الضَّمَانِ لَمْ يُبَرَّأْ فِي الْأَظْهَرِ، إِذْ هُوَ إِبْرَاءٌ عَمَّا لَمْ يَجِبْ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنْ وُجِدَ سَبَبُهُ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُبَرَّأُ لِوُجُودِ سَبَبِ الضَّمَانِ.

وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ صُورَةً يَصِحُّ فِيهَا الْإِسْقَاطُ قَبْلَ الْوُجُوبِ وَهِيَ: مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِلَا إِذْنٍ، وَأَبْرَأَهُ الْمَالِكُ، وَرَضِيَ بِبَقَائِهَا، فَإِنَّهُ يُبَرَّأُ مِمَّا وَقَعَ فِيهَا.

إِسْقَاطُ الْمَجْهُولِ:

61- إِسْقَاطُ الْحَقِّ الْمَعْلُومِ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَالْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَجْهُولِ، كَالدَّيْنِ، وَالْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ، وَحِصَّةٍ فِي تَرِكَةٍ، وَمَا مَاثَلَ ذَلِكَ.فَهَذَا النَّوْعُ مَحَلُّ خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ إِسْقَاطِهِ، بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ، هَلْ هُوَ تَمْلِيكٌ أَوْ إِسْقَاطٌ؟

فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْقَدِيمُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِبْرَاءُ مِنَ الْمَجْهُولِ، «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِمَنِ اخْتَصَمَا فِي مَوَارِيثَ قَدْ دَرَسَتْ: اسْتَهِمَا، وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ، وَلِيُحْلِلْ كُلٌّ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ».وَلِأَنَّهُ إِسْقَاطُ حَقٍّ لَا تَسْلِيمَ فِيهِ، فَصَحَّ فِي الْمَجْهُولِ، لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ لَا تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ.وَمِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: صِحَّةُ الصُّلْحِ عَمَّا تَعَذَّرَ عِلْمُهُ مِنَ الدَّيْنِ، لِئَلاَّ يُفْضِيَ إِلَى ضَيَاعِ الْمَالِ.

وَفِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِنَ الْمَجْهُولِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكُ مَا فِي ذِمَّتِهِ، فَيُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِهِ.

وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ بَيْنَ مَجْهُولِ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ.

وَيَسْتَثْنِي الشَّافِعِيَّةُ مِنَ الْإِبْرَاءِ مِنَ الْمَجْهُولِ صُورَتَيْنِ: الْأُولَى: الْإِبْرَاءُ مِنْ إِبِلِ الدِّيَةِ، فَيَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِنْهَا مَعَ الْجَهْلِ بِصِفَتِهَا، لِاغْتِفَارِهِمْ ذَلِكَ فِي إِثْبَاتِهَا فِي ذِمَّةِ الْجَانِي.وَكَذَا الْأَرْشُ وَالْحُكُومَةُ يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِنْهُمَا مَعَ الْجَهْلِ بِصِفَتِهِمَا.

الثَّانِيَةُ: إِذَا ذَكَرَ قَدْرًا يَتَحَقَّقُ أَنَّ حَقَّهُ أَقَلُّ مِنْهُ.

وَأُضِيفَ إِلَى هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ مَا لَوْ أَبْرَأَهُ عَمَّا عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ، لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ.

كَذَلِكَ الْجَهْلُ الْيَسِيرُ الَّذِي يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْإِسْقَاطِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، كَالْإِبْرَاءِ مِنْ حِصَّتِهِ مِنْ مُوَرِّثِهِ فِي التَّرِكَةِ، إِنْ عَلِمَ قَدْرَ التَّرِكَةِ، وَجَهِلَ قَدْرَ حِصَّتِهِ.

وَإِنْ أَجَازَ الْوَارِثُ وَصِيَّةَ مُوَرِّثِهِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَجَزْتُ لِأَنِّي ظَنَنْتُ الْمَالَ قَلِيلًا، وَأَنَّ الثُّلُثَ قَلِيلٌ، وَقَدْ بَانَ أَنَّهُ كَثِيرٌ، قُبِلَ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، وَلَهُ الرُّجُوعُ بِمَا زَادَ عَلَى ظَنِّهِ، مَا لَمْ يَكُنِ الْمَالُ ظَاهِرًا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُجِيزِ، أَوْ تَقُومُ بَيِّنَةٌ بِعِلْمِهِ وَبِقَدْرِهِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.

62- أَمَّا الْإِبْرَاءُ مِنَ الْعُيُوبِ فِي الْبَيْعِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ كَالْحُكْمِ فِي الدَّيْنِ، مَعَ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْحَادِثِ وَالْقَائِمِ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الْأَشْهَرُ فِيهِ عَدَمُ صِحَّةِ الْإِبْرَاءِ.وَالرَّأْيُ الثَّانِي: يَجُوزُ الْإِبْرَاءُ فِيهِ.وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَفِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ بِصِحَّةِ الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَقَوْلٌ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْبَرَاءَةِ وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَا يُبَرَّأُ إِلاَّ مِنْ عَيْبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْعَيْبُ الْبَاطِنُ فِي الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ بِهِ الْبَائِعُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ- رحمه الله-: لِأَنَّ الْحَيَوَانَ يُفَارِقُ مَا سِوَاهُ، وَقَلَّمَا يُبَرَّأُ مِنْ عَيْبٍ يَظْهَرُ أَوْ يَخْفَى، فَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّبَرِّي مِنَ الْعَيْبِ الْبَاطِنِ فِيهِ.

هَذِهِ أَمْثِلَةٌ لِمَا لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ بِالِاتِّفَاقِ، أَوْ مَعَ الِاخْتِلَافِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْمَحَلِّ أَوْ شُرُوطِ الْإِسْقَاطِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ.

63- وَهُنَاكَ كَثِيرٌ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ لِأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَمِنَ الْعَسِيرِ حَصْرُ هَذِهِ الْحُقُوقِ لِتَشَعُّبِهَا فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ الْمُخْتَلِفَةِ.وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: حَقُّ الزَّوْجِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ.

وَهُنَاكَ مَا لَا يَسْقُطُ لِقَاعِدَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهِيَ: أَنَّ صِفَاتِ الْحُقُوقِ لَا تُفْرَدُ بِالْإِسْقَاطِ كَالْأَجَلِ وَالْجَوْدَةِ، بَيْنَمَا يَجُوزُ إِسْقَاطُهُمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ خُرُوجًا عَنْ قَاعِدَةِ «التَّابِعُ تَابِعٌ».

كَذَلِكَ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الشَّرْطَ إِذَا كَانَ فِي عَقْدٍ لَازِمٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ وَلَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ، فَلَوْ قَالَ رَبُّ السَّلَمِ: أَسْقَطْتُ حَقِّي فِي التَّسْلِيمِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوِ الْبَلَدِ لَمْ يَسْقُطْ.وَكَمَنْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِيمَا شَرَطَ لَهُ مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ لَا لِأَحَدٍ، لِأَنَّ الِاشْتِرَاطَ لَهُ صَارَ لَازِمًا كَلُزُومِ الْوَقْفِ.وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ، وَيُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهِ.

تَجَزُّؤُ الْإِسْقَاطِ:

64- مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِسْقَاطَ يَرِدُ عَلَى مَحَلٍّ، وَالْمَحَلُّ هُوَ الْأَسَاسُ فِي بَيَانِ حُكْمِ التَّجَزُّؤِ، فَإِذَا كَانَ الْمَحَلُّ يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ فِي بَعْضِهِ دُونَ الْبَعْضِ الْآخَرِ، قِيلَ: إِنَّ الْإِسْقَاطَ يَتَجَزَّأُ.وَإِنْ كَانَ الْمَحَلُّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ بِالْإِسْقَاطِ فِي بَعْضِهِ، بَلْ يَثْبُتُ فِي الْكُلِّ، قِيلَ: إِنَّ الْإِسْقَاطَ لَا يَتَجَزَّأُ.

وَمِنَ الْقَوَاعِدِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ وَالْأَتَاسِيُّ شَارِحُ الْمَجَلَّةِ: «ذِكْرُ بَعْضِ مَا لَا يَتَجَزَّأُ كَذِكْرِ كُلِّهِ».فَإِذَا طَلَّقَ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ، أَوْ طَلَّقَ نِصْفَ الْمَرْأَةِ طُلِّقَتْ، وَمِنْهَا الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ: إِذَا عَفَا عَنْ بَعْضِ الْقَاتِلِ كَانَ عَفْوًا عَنْ كُلِّهِ، وَكَذَا إِذَا عَفَا بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ سَقَطَ الْقِصَاصُ كُلُّهُ وَانْقَلَبَ نَصِيبُ الْبَاقِينَ مَالًا.وَخَرَجَ عَنِ الْقَاعِدَةِ الْعِتْقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ إِذَا أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدِهِ لَمْ يَعْتِقْ كُلُّهُ.وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ لَا يَتَجَزَّأُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ فَعَلَيْهِ عِتْقُهُ كُلُّهُ».وَأَدْخَلَ شَارِحُ الْمَجَلَّةِ تَحْتَ الْقَاعِدَةِ أَيْضًا: الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ، وَالشُّفْعَةَ، وَوِصَايَةَ الْأَبِ، وَالْوِلَايَةَ.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ بِتَوْضِيحٍ أَكْثَر فَقَالُوا: مَا لَا يَقْبَلُ التَّبْعِيضَ يَكُونُ اخْتِيَارُ بَعْضِهِ كَاخْتِيَارِ كُلِّهِ، وَإِسْقَاطُ بَعْضِهِ كَإِسْقَاطِ كُلِّهِ.وَذَكَرُوا تَحْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْمَسَائِلَ الَّتِي سَبَقَ إِيرَادُهَا عَنِ ابْنِ نُجَيْمٍ، وَهِيَ: الطَّلَاقُ وَالْقِصَاصُ وَالْعِتْقُ وَالشُّفْعَةُ.فَإِذَا عَفَا الشَّفِيعُ عَنْ بَعْضِ حَقِّهِ سَقَطَ الْكُلُّ.وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنَ الْقَاعِدَةِ حَدَّ الْقَذْفِ، فَالْعَفْوُ عَنْ بَعْضِهِ لَا يُسْقِطُ شَيْئًا مِنْهُ.قَالَهُ الرَّافِعِيُّ.وَزَادَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: التَّعْزِيرَ، فَلَوْ عَفَا عَنْ بَعْضِهِ لَمْ يَسْقُطْ مِنْهُ شَيْءٌ.

وَالْمَسَائِلُ الْمَشْهُورَةُ الَّتِي وَرَدَتْ مِنْ طَلَاقٍ وَعِتْقٍ وَقِصَاصٍ هِيَ مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، فِي أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُبَعَّضَ أَوِ الْمُضَافَ إِلَى جُزْءٍ مِنَ الزَّوْجَةِ، أَوِ الْعِتْقَ الْمُضَافَ إِلَى جُزْءٍ مِنَ الْعَبْدِ، أَوْ عَفْوَ أَحَدِ الْمُسْتَحِقِّينَ عَنِ الْقِصَاصِ، كُلُّ هَذَا يَسْرِي عَلَى الْكُلِّ، وَلَا يَتَبَعَّضُ الْمَحَلُّ، فَتُطَلَّقُ الْمَرْأَةُ، وَيَعْتِقُ الْعَبْدُ، وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ فِي الْأَصْلِ الْعَامِّ، إِلاَّ مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْعِتْقِ كَمَا سَبَقَ.

وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي فُرُوعِ كُلِّ مَسْأَلَةٍ.فَمَثَلًا إِضَافَةُ الطَّلَاقِ أَوِ الْعِتْقِ إِلَى الظُّفُرِ وَالسِّنِّ وَالشَّعَرِ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَزُولُ وَيَخْرُجُ غَيْرُهَا فَكَانَتْ فِي حُكْمِ الْمُنْفَصِلِ.

وَفِي الْإِضَافَةِ إِلَى الشَّعَرِ قَوْلَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَيَقَعُ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَالشُّفْعَةُ أَيْضًا الْأَصْلُ الْعَامُّ فِيهَا أَنَّهَا لَا تَتَبَعَّضُ، حَتَّى لَا يَقَعَ ضَرَرٌ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.فَالشَّفِيعُ إِمَّا أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ أَوْ يَتْرُكَ، وَإِذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْبَعْضِ سَقَطَ الْكُلُّ.لَكِنْ وَقَعَ خِلَافٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِذْ قِيلَ: إِنَّ إِسْقَاطَ بَعْضِ الشُّفْعَةِ لَا يُسْقِطُ شَيْئًا مِنْهَا.

وَلَيْسَ مِنْ تَبْعِيضِ الشُّفْعَةِ مَا إِذَا كَانَ الْبَائِعُ أَوِ الْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَإِذَا تَعَدَّدَ الشُّفَعَاءُ فَالشُّفْعَةُ عَلَى قَدْرِ الْأَنْصِبَاءِ.

وَالدَّيْنُ مِمَّا يَقْبَلُ التَّبْعِيضَ، فَلِلدَّائِنِ أَخْذُ بَعْضِهِ وَإِسْقَاطُ بَعْضِهِ.

السَّاقِطُ لَا يَعُودُ

65- مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ السَّاقِطَ يَنْتَهِي وَيَتَلَاشَى، وَيُصْبِحُ كَالْمَعْدُومِ لَا سَبِيلَ إِلَى إِعَادَتِهِ إِلاَّ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ يَصِيرُ مِثْلَهُ لَا عَيْنَهُ، فَإِذَا أَبْرَأَ الدَّائِنُ الْمَدِينَ فَقَدْ سَقَطَ الدَّيْنُ، فَلَا يَكُونُ هُنَاكَ دَيْنٌ، إِلاَّ إِذَا وُجِدَ سَبَبٌ جَدِيدٌ، وَكَالْقِصَاصِ لَوْ عُفِيَ عَنْهُ فَقَدْ سَقَطَ وَسَلِمَتْ نَفْسُ الْقَاتِلِ، وَلَا تُسْتَبَاحُ إِلاَّ بِجِنَايَةٍ أُخْرَى، وَهَكَذَا.وَكَمَنْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الشُّفْعَةِ، ثُمَّ رَجَعَتِ الدَّارُ إِلَى صَاحِبِهَا بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ، أَوْ بِخِيَارِ شَرْطٍ لِلْمُشْتَرِي، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ، لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ بَطَلَ، فَلَا يَعُودُ إِلاَّ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ.

وَالْإِسْقَاطُ يَقَعُ عَلَى الْكَائِنِ الْمُسْتَحِقِّ، وَهُوَ الَّذِي إِذَا سَقَطَ لَا يَعُودُ، أَمَّا الْحَقُّ الَّذِي يَثْبُتُ شَيْئًا فَشَيْئًا، أَيْ يَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ سَبَبِهِ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْإِسْقَاطُ، لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ يُؤَثِّرُ فِي الْحَالِ دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ.وَمِثَالُ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي خَبَايَا الزَّوَايَا: لَوِ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَبَقَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَرَضِيَ الْمُشْتَرِي بِتَرْكِ الْفَسْخِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ، يُمَكَّنُ مِنَ الْفَسْخِ، لِأَنَّ التَّسْلِيمَ مُسْتَحَقٌّ لَهُ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا، وَالْإِسْقَاطُ يُؤَثِّرُ فِي الْحَالِ دُونَ مَا يُسْتَحَقُّ مِنْ بَعْدُ.

وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَوْ أَسْقَطَتِ الزَّوْجَةُ نَوْبَتَهَا لِضَرَّتِهَا فَلَهَا الرُّجُوعُ، لِأَنَّهَا أَسْقَطَتِ الْكَائِنَ، وَحَقُّهَا يَثْبُتُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَلَا يَسْقُطُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَا يَرِدُ أَنَّ السَّاقِطَ لَا يَعُودُ، لِأَنَّ الْعَائِدَ غَيْرُ السَّاقِطِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا.وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ قَاعِدَةً فِي ذَلِكَ فَقَالَ: الْأَصْلُ أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلْحُكْمِ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا وَالْحُكْمُ مَعْدُومٌ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمَانِعِ، وَإِنْ عُدِمَ الْمُقْتَضِي فَهُوَ مِنْ بَابِ السَّاقِطِ.

فَهُنَاكَ فَرْقٌ إِذَنْ بَيْنَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ، ثُمَّ سَقَطَ الْحُكْمُ لِمَانِعٍ، فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي عَادَ الْحُكْمُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا عُدِمَ الْمُقْتَضِي فَلَا يَعُودُ الْحُكْمُ.

وَمِنْ ذَلِكَ حَقُّ الْحَضَانَةِ.جَاءَ فِي مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ لَا حَضَانَةَ لِفَاسِقٍ، وَلَا لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ، وَلَا تَزْوِيجَ بِأَجْنَبِيٍّ مِنْ مَحْضُونٍ.وَبِمُجَرَّدِ زَوَالِ الْمَانِعِ مِنْ فِسْقٍ أَوْ كُفْرٍ، أَوْ تَزَوُّجٍ بِأَجْنَبِيٍّ، وَبِمُجَرَّدِ رُجُوعِ مُمْتَنِعٍ مِنْ حَضَانَةٍ يَعُودُ الْحَقُّ لَهُ فِي الْحَضَانَةِ، لِقِيَامِ سَبَبِهَا مَعَ زَوَالِ الْمَانِعِ.

هَذَا مَعَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، هَلِ الْحَضَانَةُ حَقُّ الْحَاضِنِ أَوْ حَقُّ الْمَحْضُونِ.وَفِي الدُّسُوقِيِّ: إِذَا انْتَقَلَتِ الْحَضَانَةُ لِشَخْصٍ لِمَانِعٍ، ثُمَّ زَالَ الْمَانِعُ فَإِنَّهَا تَعُودُ لِلْأَوَّلِ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتِ الْأُمُّ وَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ، وَأَخَذَتِ الْجَدَّةُ الْوَلَدَ، ثُمَّ فَارَقَ الزَّوْجُ الْأُمَّ، وَقَدْ مَاتَتِ الْجَدَّةُ، أَوْ تَزَوَّجَتْ، وَالْأُمُّ خَالِيَةٌ مِنَ الْمَوَانِعِ، فَهِيَ أَحَقُّ مِمَّنْ بَعْدَ الْجَدَّةِ، وَهِيَ الْخَالَةُ وَمَنْ بَعْدَهَا.كَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ (الدَّرْدِيرُ)، وَهُوَ ضَعِيفٌ.وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ الْجَدَّةَ إِذَا مَاتَتِ انْتَقَلَتِ الْحَضَانَةُ لِمَنْ بَعْدَهَا كَالْخَالَةِ، وَلَا تَعُودُ لِلْأُمِّ وَلَوْ كَانَتْ مُتَأَيِّمَةً (لَا زَوْجَ لَهَا).

وَفِي الْجُمَلِ عَلَى شَرْحِ الْمَنْهَجِ: لَوْ أَسْقَطَتِ الْحَاضِنَةُ حَقَّهَا انْتَقَلَتْ لِمَنْ يَلِيهَا، فَإِذَا رَجَعَتْ عَادَ حَقُّهَا.وَمِثْلُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا فِي الْبَدَائِعِ.

وَقَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: وَفَرَّعْتُ عَلَى «وَقَوْلُهُمْ: السَّاقِطُ لَا يَعُودُ» قَوْلَهُمْ إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِرَدِّ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ، مَعَ وُجُودِ الْأَهْلِيَّةِ، لِفِسْقٍ أَوْ لِتُهْمَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ.

وَمِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ نُجَيْمٍ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا هُوَ مُسْقِطٌ وَمَا هُوَ مَانِعٌ قَوْلُهُ: لَا يَعُودُ التَّرْتِيبُ بَعْدَ سُقُوطِهِ بِقِلَّةِ الْفَوَائِتِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا سَقَطَ بِالنِّسْيَانِ فَإِنَّهُ يَعُودُ بِالتَّذَكُّرِ، لِأَنَّ النِّسْيَانَ كَانَ مَانِعًا لَا مُسْقِطًا، فَهُوَ مِنْ بَابِ زَوَالِ الْمَانِعِ.وَلَا تَصِحُّ إِقَالَةُ الْإِقَالَةِ فِي السَّلَمِ، لِأَنَّهُ دَيْنٌ سَاقِطٌ فَلَا يَعُودُ.أَمَّا عَوْدُ النَّفَقَةِ- بَعْدَ سُقُوطِهَا بِالنُّشُوزِ- بِالرُّجُوعِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ زَوَالِ الْمَانِعِ، لَا مِنْ بَابِ عَوْدِ السَّاقِطِ.وَتُنْظَرُ الْفُرُوعُ فِي أَبْوَابِهَا.

أَثَرُ الْإِسْقَاطِ:

66- يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِسْقَاطِ آثَارٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ.وَمِنْ ذَلِكَ:

(1) إِسْقَاطُ رَجُلٍ الِانْتِقَاعَ بِالْبُضْعِ بِالطَّلَاقِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارٌ مُتَعَدِّدَةٌ، كَالْعِدَّةِ وَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَجَوَازِ الرَّجْعَةِ، إِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَعَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ إِنْ كَانَ بَائِنًا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ.ر: (طَلَاق).

(2) الْإِعْتَاقُ وَهُوَ: إِزَالَةُ الرِّقِّ عَنِ الْمَمْلُوكِ وَإِثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ لَهُ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِلْكُهُ لِمَالِهِ وَكَسْبِهِ، وَإِطْلَاقُ يَدِهِ فِي التَّصَرُّفَاتِ، وَإِثْبَاتُ حَقِّ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتَقِ، وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ.ر: (عِتْق).

(3) قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِسْقَاطِ إِثْبَاتُ حُقُوقٍ تَتَعَلَّقُ بِالْمَحَلِّ، كَإِسْقَاطِ حَقِّ الشُّفْعَةِ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ اسْتِقْرَارُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي، وَإِسْقَاطُ حَقِّ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ لُزُومُ الْبَيْعِ، لِأَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ بِالْبَيْعِ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ مِلْكٌ غَيْرُ لَازِمٍ.وَإِجَازَةُ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا لُزُومُ الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (بَيْع- خِيَار- شُفْعَة- فُضُولِيّ).

(4) وَمِنَ الْآثَارِ مَا يَرِدُ تَحْتَ قَاعِدَةِ: الْفَرْعُ يَسْقُطُ بِسُقُوطِ الْأَصْلِ، كَمَا إِذَا أُبْرِئَ الْمَضْمُونُ أَوِ الْمَكْفُولُ عَنِ الدَّيْنِ بُرِّئَ الضَّامِنُ وَالْكَفِيلُ، لِأَنَّ الضَّامِنَ وَالْكَفِيلَ فَرْعٌ، فَإِذَا سَقَطَ الْأَصْلُ سَقَطَ الْفَرْعُ وَلَا عَكْسَ، فَلَوْ أُبْرِئَ الضَّامِنُ لَمْ يُبَرَّأِ الْأَصِيلُ، لِأَنَّهُ إِسْقَاطُ وَثِيقَةٍ فَلَا يَسْقُطُ بِهَا الدَّيْنُ.ر: (كَفَالَة- ضَمَان).

(5) وَقَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِسْقَاطِ الْحُصُولُ عَلَى حَقٍّ كَانَ صَاحِبُهُ مَمْنُوعًا مِنْهُ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ، وَذَلِكَ مِثْلُ صِحَّةِ تَصَرُّفِ الرَّاهِنِ فِي الْمَرْهُونِ، بِنَحْوِ وَقْفٍ أَوْ هِبَةٍ، إِذَا أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ، لِأَنَّ مَنْعَهُ كَانَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ، وَقَدْ أَسْقَطَهُ بِإِذْنِهِ.

(6) الْغَرِيمُ إِذَا وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ عِنْدَ الْمُفْلِسِ كَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِيهِ بِشُرُوطٍ مِنْهَا: أَلاَّ يَتَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ حَقٌّ لِلْغَيْرِ كَشُفْعَةٍ وَرَهْنٍ.فَإِذَا أَسْقَطَ أَصْحَابُ الْحُقُوقِ حُقُوقَهُمْ، بِأَنْ أَسْقَطَ الشَّفِيعُ شُفْعَتَهُ، أَوْ أَسْقَطَ الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ فِي الرَّهْنِ فَلِرَبِّ الْعَيْنِ أَخْذُهَا.

(7) إِذَا أَجَّلَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ بَعْدَ الْعَقْدِ سَقَطَ حَقُّ الْحَبْسِ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْبَدَائِعِ، لِأَنَّهُ أَخَّرَ حَقَّ نَفْسِهِ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ، فَلَا يَتَأَخَّرُ حَقُّ الْمُشْتَرِي فِي قَبْضِ الْمَبِيعِ، وَكَذَا لَوْ أَبْرَأَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِي مِنَ الثَّمَنِ بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ.

(8) لَوْ أَجَّلَتِ الزَّوْجَةُ الْمَهْرَ لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ بِالتَّأْجِيلِ رَضِيَتْ بِإِسْقَاطِ حَقِّ نَفْسِهَا، فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الزَّوْجِ.وَهَذَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا، لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الْمَهْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَ تَسْلِيمُهُ عَلَى تَسْلِيمِ النَّفْسِ، فَلَمَّا قَبِلَ الزَّوْجُ التَّأْجِيلَ كَانَ ذَلِكَ رِضًا بِتَأْخِيرِ حَقِّ نَفْسِهَا فِي الْقَبْضِ، بِخِلَافِ الْبَائِعِ.وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الْوَصِيَّةُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ كُلِّ ذَلِكَ فِي: (إِفْلَاسٌ- بَيْعٌ- حَبْس- رَهْن).

(9) إِسْقَاطُ الشَّارِعِ الْعِبَادَاتِ بِسَبَبِ الْأَعْذَارِ قَدْ يَسْقُطُ الطَّلَبُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا يُطَالَبُ بِالْقَضَاءِ، كَالصَّوْمِ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ.وَقَدْ يُطَالَبُ بِالْقَضَاءِ، كَالصَّوْمِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَائِضِ وَالْمُسَافِرِ.

(10) الْإِبْرَاءُ مِنَ الدَّيْنِ أَوْ مِنَ الْحَقِّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْمُبَرَّأِ مَتَى اسْتَوْفَى الْإِبْرَاءُ شُرُوطَهُ.وَسَوَاءٌ أَكَانَ عَنْ حَقٍّ خَاصٍّ أَمْ حَقٍّ عَامٍّ، بِحَسَبِ مَا يَرِدُ فِي صِيغَةِ الْمُبَرِّئِ.

وَيَتَرَتَّبُ كَذَلِكَ سُقُوطُ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ، فَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى فِيمَا تَنَاوَلَهُ الْإِبْرَاءُ إِلَى حِينِ وُقُوعِهِ، دُونَ مَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ.وَلَا تُقْبَلُ الدَّعْوَى بَعْدَ ذَلِكَ بِحُجَّةِ الْجَهْلِ أَوِ النِّسْيَانِ.

إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِبْرَاءُ مَعَ الصُّلْحِ.فَإِذَا كَانَ الْإِبْرَاءُ مَعَ الصُّلْحِ، أَوْ وَقَعَ بَعْدَ الصُّلْحِ إِبْرَاءٌ عَامٌّ، ثُمَّ ظَهَرَ خِلَافُهُ فَلَهُ نَقْضُهُ، لِأَنَّهُ إِبْرَاءٌ عَلَى دَوَامِ صِفَةِ الصُّلْحِ لَا إِبْرَاءٌ مُطْلَقٌ، إِلاَّ إِذَا الْتَزَمَ فِي الصُّلْحِ عَدَمَ الْقِيَامِ عَلَيْهِ وَلَوْ بِبَيِّنَةٍ فَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى.هَذَا، مَعَ اسْتِثْنَاءِ الْحَنَفِيَّةِ مِنَ الْإِبْرَاءِ بَعْضَ الْمَسَائِلِ، كَضَمَانِ الدَّرَكِ (اسْتِحْقَاقُ الْمَبِيعِ)، وَكَدَعْوَى الْوَكَالَةِ وَالْوِصَايَةِ، وَكَادِّعَاءِ الْوَارِثِ دَيْنًا لِلْمَيِّتِ عَلَى رَجُلٍ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ كَثِيرٌ يُنْظَرُ فِي (إِبْرَاءٌ- دَعْوَى).

(11) الْإِبْرَاءُ الْعَامُّ يَمْنَعُ الدَّعْوَى بِالْحَقِّ قَضَاءً لَا دِيَانَةً، إِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ عَلِمَ بِمَالِهِ مِنَ الْحَقِّ لَمْ يُبَرِّئْهُ، كَمَا فِي الْفَتَاوَى الْوَلْوَالَجِيَّةِ.لَكِنْ فِي خِزَانَةِ الْفَتَاوَى: الْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُ يُبَرَّأُ قَضَاءً وَدِيَانَةً وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوْ أَبْرَأَهُ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ بُرِّئَ فِيهِمَا، لِأَنَّ أَحْكَامَ الْآخِرَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، ذَكَرَهُمَا الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ.

بُطْلَانُ الْإِسْقَاطِ

67- لِلْإِسْقَاطِ أَرْكَانٌ، وَلِكُلِّ رُكْنٍ شُرُوطُهُ الْخَاصَّةُ، فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ شَرْطٌ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي سَبَقَ بَيَانُهَا بَطَلَ الْإِسْقَاطُ، أَيْ بَطَلَ حُكْمُهُ، فَلَا يَنْفُذُ.وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُسْقِطِ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا، فَإِذَا كَانَ الْمُتَصَرِّفُ بِالْإِسْقَاطِ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَلَا يَصِحُّ الْإِسْقَاطُ وَلَا يَنْفُذُ.

وَلَوْ كَانَ التَّصَرُّفُ بِالْإِسْقَاطِ مُنَافِيًا لِلْمَشْرُوعِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ تَصَرُّفًا بَاطِلًا وَلَا يَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ، كَإِسْقَاطِ الْوِلَايَةِ، أَوْ إِسْقَاطِ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ.

وَكَذَلِكَ الْإِسْقَاطُ لَا يَرِدُ عَلَى الْأَعْيَانِ، وَيُعْتَبَرُ إِسْقَاطُهَا بَاطِلًا.وَلِذَلِكَ خَرَّجَهُ الْفُقَهَاءُ عَلَى إِسْقَاطِ الضَّمَانِ.

وَقَدْ يَقَعُ الْإِسْقَاطُ صَحِيحًا، لَكِنْ يَبْطُلُ إِذَا رَدَّهُ الْمُسْقَطُ عَنْهُ، عِنْدَ مَنْ يَقُولُ أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ كَالْحَنَفِيَّةِ. فِي قَاعِدَةٍ ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ هِيَ: أَنَّهُ إِذَا بَطَلَ الشَّيْءُ بَطَلَ مَا فِي ضِمْنِهِ، فَلْو أَبْرَأَهُ ضِمْنَ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَسَدَ الْإِبْرَاءُ.

وَأَغْلَبُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَرَدَتْ فِيمَا سَبَقَ فِي الْبَحْثِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


204-موسوعة الفقه الكويتية (إسلام 1)

إِسْلَامٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الْإِسْلَامِ فِي اللُّغَةِ: الْإِذْعَانُ وَالِانْقِيَادُ، وَالدُّخُولُ فِي السِّلْمِ، أَوْ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ.وَالْإِسْلَامُ يَكُونُ أَيْضًا بِمَعْنَى: الْإِسْلَافُ، أَيْ عَقْدُ السَّلَمِ يُقَالُ: أَسْلَمْتُ إِلَى فُلَانٍ فِي عِشْرِينَ صَاعًا مَثَلًا، أَيِ اشْتَرَيْتُهَا مِنْهُ مُؤَجَّلَةً بِثَمَنٍ حَالٍّ.

أَمَّا فِي الشَّرْعِ فَيَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ تَبَعًا لِوُرُودِهِ مُنْفَرِدًا، أَوْ مُقْتَرِنًا بِالْإِيمَانِ.

فَمَعْنَاهُ مُنْفَرِدًا: الدُّخُولُ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، أَوْ دِينُ الْإِسْلَامِ نَفْسُهُ.وَالدُّخُولُ فِي الدِّينِ هُوَ اسْتِسْلَامُ الْعَبْدِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِاتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- مِنَ الشَّهَادَةِ بِاللِّسَانِ، وَالتَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ، وَالْعَمَلِ بِالْجَوَارِحِ.

وَمَعْنَاهُ إِذَا وَرَدَ مُقْتَرِنًا بِالْإِيمَانِ هُوَ: أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةُ، مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ كَالشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةِ وَسَائِرِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ.

وَإِذَا انْفَرَدَ الْإِيمَانُ يَكُونُ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى: الِاعْتِقَادِ بِالْقَلْبِ وَالتَّصْدِيقِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ مَعَ الِانْقِيَادِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْإِيمَانُ:

2- سَبَقَ تَعْرِيفُ الْإِسْلَامِ مُنْفَرِدًا وَمُقْتَرِنًا بِالْإِيمَانِ.وَهَذَا يَتَأَتَّى فِي تَعْرِيفِ الْإِيمَانِ أَيْضًا.فَالْإِيمَانُ مُنْفَرِدًا: هُوَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم-.وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ وَالْعَمَلُ بِهِ.أَمَّا إِذَا اقْتَرَنَ بِالْإِسْلَامِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ يَقْتَصِرُ عَلَى تَصْدِيقِ الْقَلْبِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ وَنَصُّهُ: عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: الْإِسْلَامُ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.قَالَ: صَدَقْتَ.قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدْرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، قَالَ: صَدَقْتَ».الْحَدِيثَ.

إِطْلَاقُ الْإِسْلَامِ عَلَى مِلَلِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ:

3- اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ، فَبَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ يُطْلَقُ عَلَى الْمِلَلِ السَّابِقَةِ.وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} الْآيَةَ، وَآيَاتٍ أُخْرَى.

وَيَرَى آخَرُونَ: أَنَّهُ لَمْ تُوصَفْ بِهِ الْأُمَمُ السَّابِقَةُ، وَإِنَّمَا وُصِفَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فَقَطْ، وَشُرِّفَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِأَنْ وُصِفَتْ بِمَا وُصِفَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، تَشْرِيفًا لَهَا وَتَكْرِيمًا.

وَوَجْهُ اخْتِصَاصِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِهَذَا الِاسْمِ «الْإِسْلَامِ» هُوَ: أَنَّ الْإِسْلَامَ اسْمٌ لِلشَّرِيعَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْعِبَادَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَالْجِهَادِ، وَنَحْوِهَا.وَذَلِكَ كُلُّهُ مَعَ كَثِيرٍ غَيْرِهِ خَاصٍّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ، وَإِنَّمَا كُتِبَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَقَطْ.

وَيُؤَكِّدُ هَذَا الْمَعْنَى- وَهُوَ اخْتِصَاصُ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ- قوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ}.فَالضَّمِيرُ (هُوَ) يَرْجِعُ لِإِبْرَاهِيمَ- عليه السلام-، كَمَا يَرَاهُ عُلَمَاءُ السَّلَفِ لِسَابِقِيَّةِ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}.فَدَعَا بِذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَلِوَلَدِهِ، ثُمَّ دَعَا لِأُمَّةٍ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَهِيَ هَذِهِ الْأُمَّةُ فَقَالَ: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} الْآيَةَ وَهُوَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ- صلى الله عليه وسلم- فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، فَبَعَثَ مُحَمَّدًا إِلَيْهِمْ، وَسَمَّاهُمْ مُسْلِمِينَ.

فَاتَّفَقَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ أُمَّةً بِالْإِسْلَامِ غَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَمْ يُسْمَعْ بِأُمَّةٍ ذُكِرَتْ بِهِ غَيْرُهَا.

4- وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أُمَّةِ مُوسَى وَعِيسَى هَلْ هُمْ مُسْلِمُونَ أَمْ لَا؟ فَالْإِسْلَامُ الْحَاضِرُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا- صلى الله عليه وسلم- الْمُتَضَمِّنُ لِشَرِيعَةِ الْقُرْآنِ، لَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- وَالْإِسْلَامُ الْيَوْمَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَنَاوَلُ هَذَا.

وَأَمَّا الْإِسْلَامُ الْعَامُّ الْمُتَنَاوِلُ لِكُلِّ شَرِيعَةٍ بَعَثَ اللَّهُ بِهَا نَبِيًّا، فَإِنَّهُ إِسْلَامُ كُلِّ أُمَّةٍ مُتَّبِعَةٍ لِنَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ.

وَعَلَى هَذَا الْأَسَاسِ يُمْكِنُ أَنْ تُفْهَمَ كُلُّ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي تَعَرَّضَ فِيهَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مُسْتَعْمَلَةً بِالنِّسْبَةِ لِلْأُمَمِ الْأُخْرَى، إِمَّا عَلَى أَنَّهَا تُشِيرُ إِلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِمَادَّةِ أَسْلَمَ، أَوْ أَنَّهَا تُشِيرُ إِلَى الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الشَّرَائِعِ السَّمَاوِيَّةِ كُلِّهَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ جَمِيعَ الرُّسُلِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ، وَمِنْهَا قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.

أَثَرُ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ فِي التَّصَرُّفَاتِ السَّابِقَةِ:

5- الْأَصْلُ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ صَحِيحَةٌ إِلاَّ مَا جَاءَ الْإِسْلَامُ بِإِبْطَالِهِ، كَمَا يُعْلَمُ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ الْمُخْتَلِفَةِ.

وَإِذَا كَانَ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مُتَزَوِّجًا بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، أَوْ بِمَنْ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ، كَأُخْتَيْنِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُفَارِقَ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعٍ، أَوْ إِحْدَى الْأُخْتَيْنِ.وَاسْتَدَلَّ لَهُ الْقَرَافِيُّ «بِقَوْلِ النَّبِيِّ- عليه الصلاة والسلام- لِغَيْلَانَ لَمَّا أَسْلَمَ عَلَى عَشْرِ نِسْوَةٍ: أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ».وَهَلْ يَلْزَمُهُ فِرَاقُ مَنْ عَدَا الْأَرْبَعِ الَّتِي تَزَوَّجَهُنَّ أَوَّلًا، أَوْ مَنْ شَاءَ؟ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي بَابِهِ.وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ فِرَاقِ أَيِّ الْأُخْتَيْنِ شَاءَ.

وَإِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ الْكَافِرَانِ مَعًا، قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ.

إِذَا أَسْلَمَ زَوْجُ الْكِتَابِيَّةِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ أَسْلَمَا مَعًا، فَالنِّكَاحُ بَاقٍ بِحَالِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ زَوْجُهَا كِتَابِيًّا أَوْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ، لِأَنَّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَ كِتَابِيَّةٍ، فَاسْتِدَامَتُهُ أَوْلَى، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِإِجَازَةِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ.

وَأَمَّا إِنْ أَسْلَمَتِ الْكِتَابِيَّةُ قَبْلَهُ وَقَبْلَ الدُّخُولِ،

تَعَجَّلَتِ الْفُرْقَةُ، سَوَاءٌ أَكَانَ زَوْجُهَا كِتَابِيًّا أَوْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ، إِذْ لَا يَجُوزُ لِكَافِرٍ نِكَاحُ مُسْلِمَةٍ.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ، إِذَا كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ لَا فُرْقَةَ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَيَأْبَى.

وَإِنْ كَانَ إِسْلَامُهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِيمَا لَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْوَثَنِيَّيْنِ عَلَى مَا يَأْتِي:

6- وَإِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْوَثَنِيَّيْنِ، أَوِ الْمَجُوسِيَّيْنِ، أَوْ كِتَابِيٌّ مُتَزَوِّجٌ بِوَثَنِيَّةٍ، أَوْ مَجُوسِيَّةٌ قَبْلَ الدُّخُولِ، تَعَجَّلَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا مِنْ حِينِ إِسْلَامِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فَسْخًا لَا طَلَاقًا.وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا تَتَعَجَّلُ الْفُرْقَةُ، بَلْ إِنْ كَانَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عُرِضَ الْإِسْلَامُ عَلَى الْآخَرِ، فَإِنْ أَبَى وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ حِينَئِذٍ، وَإِنْ أَسْلَمَ اسْتَمَرَّتِ الزَّوْجِيَّةُ، وَإِنْ كَانَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَفَ ذَلِكَ عَلَى انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ، أَوْ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَلَيْسَتْ عِدَّةً، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمِ الْآخَرُ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ.وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةُ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ، فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلاَّ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُسْلِمُ تَعَجَّلَتِ الْفُرْقَةُ.

أَمَّا إِنْ كَانَ إِسْلَامُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْوَثَنِيَّيْنِ أَوِ الْمَجُوسِيَّيْنِ أَوْ زَوْجَةِ الْكِتَابِيِّ، بَعْدَ الدُّخُولِ، فَفِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ اتِّجَاهَاتٍ:

الْأَوَّلُ: يَقِفُ الْأَمْرُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَ الْآخَرُ قَبْلَ انْقِضَائِهَا فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ أَسْلَمَ حَتَّى انْقَضَتِ الْعِدَّةُ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ مُنْذُ اخْتَلَفَ الدِّينَانِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ الْعِدَّةِ.وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.

الثَّانِي.تَتَعَجَّلُ الْفُرْقَةُ.وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلُ الْحَسَنِ وطَاوُسٍ.

الثَّالِثُ: يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَى الْآخَرِ إِنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، كَقَوْلِهِ فِي إِسْلَامِ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الدُّخُولِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَانْقَضَتْ مُدَّةُ التَّرَبُّصِ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ أَوْ ثَلَاثَةُ حِيَضٍ، وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَى الْحَرْبِيَّةِ.

وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْلِمَةُ، فَخَرَجَتْ إِلَيْنَا مُهَاجِرَةً، فَتَمَّتِ الْحِيَضُ هُنَا، فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.وَقَالَ الصَّاحِبَانِ: عَلَيْهَا الْعِدَّةُ.

مَا يَلْزَمُ الْكَافِرَ إِذَا أَسْلَمَ مِنَ التَّكَالِيفِ السَّابِقَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ:

7- قَالَ الْقَرَافِيُّ: إِنَّ أَحْوَالَ الْكَافِرِ مُخْتَلِفَةٌ إِذَا أَسْلَمَ، فَيَلْزَمُهُ ثَمَنُ الْبِيَاعَاتِ، وَأَجْرُ الْإِجَارَاتِ، وَدَفْعُ الدُّيُونِ الَّتِي اقْتَرَضَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ الْقِصَاصُ، وَلَا الْغَصْبُ وَالنَّهْبُ إِنْ كَانَ حَرْبِيًّا.وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْمَظَالِمِ وَرَدُّهَا، لِأَنَّهُ عَقَدَ الذِّمَّةَ وَهُوَ رَاضٍ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ.وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ فَلَمْ يَرْضَ بِشَيْءٍ، فَلِذَلِكَ أَسْقَطْنَا عَنْهُ الْغُصُوبَ وَالنُّهُوبَ وَالْغَارَاتِ وَنَحْوَهَا.

وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا تَقَدَّمَ فِي كُفْرِهِ، فَلَا تَلْزَمُهُ وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا لَا ظِهَارٌ وَلَا نَذْرٌ وَلَا يَمِينٌ مِنَ الْأَيْمَانِ، وَلَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ، وَلَا الزَّكَوَاتِ، وَلَا شَيْءٍ فَرَّطَ فِيهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ» وَضَابِطُ الْفَرْقِ: أَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ قِسْمَانِ: مِنْهَا مَا رَضِيَ بِهِ حَالَةَ كُفْرِهِ، وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ، هَذَا لَا يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ، لِأَنَّ إِلْزَامَهُ إِيَّاهُ لَيْسَ مُنَفِّرًا لَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ لِرِضَاهُ.وَمَا لَمْ يَرْضَ بِدَفْعِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ، كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ إِنَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا مُعْتَمِدًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُوَفِّيهَا أَهْلَهَا، فَهَذَا كُلُّهُ يَسْقُطُ، لِأَنَّ فِي إِلْزَامِهِ مَا لَمْ يَعْتَقِدْ لُزُومَهُ تَنْفِيرًا لَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقُدِّمَتْ مَصْلَحَةُ الْإِسْلَامِ عَلَى مَصْلَحَةِ ذَوِي الْحُقُوقِ.وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَتَسْقُطُ مُطْلَقًا رَضِيَ بِهَا أَمْ لَا.

وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ وَجْهَيْنِ:

(أَحَدُهُمَا) أَنَّ الْإِسْلَامَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى،

وَالْعِبَادَاتُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا كَانَ الْحَقَّانِ لِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ نَاسَبَ أَنْ يُقَدِّمَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، Bوَيُسْقِطُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، لِحُصُولِ الْحَقِّ الثَّانِي لِجِهَةِ الْحَقِّ السَّاقِطِ.

وَأَمَّا حَقُّ الْآدَمِيِّينَ فَلِجِهَةِ الْآدَمِيِّينَ، وَالْإِسْلَامُ لَيْسَ حَقًّا لَهُمْ، بَلْ لِجِهَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَنَاسَبَ أَلاَّ يَسْقُطَ حَقُّهُمْ بِتَحْصِيلِ حَقِّ غَيْرِهِمْ.

(وَثَانِيهِمَا) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِيمٌ جَوَادٌ، تُنَاسِبُ رَحْمَتَهُ الْمُسَامَحَةُ، وَالْعَبْدُ بَخِيلٌ ضَعِيفٌ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ التَّمَسُّكُ بِحَقِّهِ، فَسَقَطَتْ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا، وَإِنْ رَضِيَ بِهَا، كَالنُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ، أَوْ لَمْ يَرْضَ بِهَا كَالصَّلَوَاتِ.وَلَا يَسْقُطُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ إِلاَّ مَا تَقَدَّمَ الرِّضَى بِهِ، فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ.

الْآثَارُ اللاَّحِقَةُ لِدُخُولِ الْإِسْلَامِ:

8- إِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ أَصْبَحَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لَهُ مَا لَهُمْ مِنَ الْحُقُوقِ، وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَاجِبَاتِ.

فَتَلْزَمُهُ التَّكَالِيفُ الشَّرْعِيَّةُ، كَالْعِبَادَاتِ وَالْجِهَادِ.إِلَخْ.وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ، كَإِبَاحَةِ تَوَلِّي الْوِلَايَاتِ الْعَامَّةِ كَالْإِمَامَةِ، وَالْقَضَاءِ، وَالْوِلَايَاتِ الْخَاصَّةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ...إِلَخْ

الْأَثَرُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الْإِسْلَامِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْعِبَادَاتِ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِهَا:

9- الْكَافِرُ فِي حَالِ كُفْرِهِ هَلْ هُوَ مُخَاطَبٌ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ وَمُكَلَّفٌ بِهَا أَمْ لَا؟ قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُخْتَارُ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَالْمَنْهِيِّ عَنْهَا، لِيَزْدَادَ عَذَابُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وَيَسْتَوْفِي الْمَسْأَلَةَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ فِي مَبَاحِثِ التَّكْلِيفِ، فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهَا.

فَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ فَإِنَّهُ يَعْصِمُ بِذَلِكَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ وَأَوْلَادَهُ الصِّغَارَ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ؛ اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، إِلاَّ بِحَقِّهَا، لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» فَتَثْبُتُ هَذِهِ الْعِصْمَةُ لِلنَّفْسِ مُبَاشَرَةً، وَلِلْمَالِ تَبَعًا لِعِصْمَةِ النَّفْسِ، وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ الْجَارِيَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تِلْكَ الَّتِي كَانَتْ مَمْنُوعَةً عَنْهُ بِالْكُفْرِ.وَيَحْصُلُ التَّوَارُثُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَقَارِبِهِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَرِثُهُمْ إِنْ مَاتُوا، وَيَرِثُونَهُ كَذَلِكَ.لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» Bوَلِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ.كَمَا أَنَّهُ يُحْرَمُ مِنْ إِرْثِ أَقَارِبِهِ الْكُفَّارِ، وَيَحِلُّ لَهُ تَزَوُّجُ الْمُسْلِمَةِ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ تَزَوُّجُ الْمُشْرِكَةِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَيِ الْوَثَنِيَّةِ.

وَتَبْطُلُ- فِي حَقِّ مَنْ أَسْلَمَ- مَالِيَّةُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ بَعْدَمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَتَلْزَمُهُ جَمِيعُ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ وَفِي مُقَدِّمَتِهَا أَرْكَانُ الْإِسْلَامِ: الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ، أُصُولًا وَفُرُوعًا، بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِ التَّكَالِيفِ.

وَكَذَلِكَ يُفْرَضُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ، بَعْدَمَا كَانَ غَيْرَ مُطَالَبٍ بِهِ، لِحَدِيثِ: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ» وَتَحِلُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ إِذَا مَاتَ، وَغُسْلُهُ وَكَفَنُهُ وَدَفْنُهُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، إِلَى غَيْرِ هَذَا مِنْ أَحْكَامٍ تَعَرَّضَتْ لَهَا كُتُبُ الْفِقْهِ فِي كُلِّ الْمَذَاهِبِ.

10- إِذَا بَاعَ ذِمِّيٌّ لآِخَرَ خَمْرًا وَخِنْزِيرًا، ثُمَّ أَسْلَمَا، أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ، يُفْسَخُ الْبَيْعُ، لِأَنَّهُ بِالْإِسْلَامِ حَرُمَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ، فَيَحْرُمُ الْقَبْضُ وَالتَّسْلِيمُ أَيْضًا، أَخْذًا مِنْ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.

وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: لَوْ أَسْلَمُوا لأَحْرَزُوا بِإِسْلَامِهِمْ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الرِّبَا وَثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ}.كَمَا يَجِبُ عَلَى الَّذِي أَسْلَمَ أَنْ يَهْجُرَ بَلَدَ الْكُفْرِ وَبَلَدَ الْحَرْبِ.

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: لَقَدْ وَجَبَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ بِبَلَدِ الْكُفْرِ أَنْ يَهْجُرَهُ، وَيَلْحَقَ بِدَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَسْكُنَ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، وَيُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِقَامَةِ شَعَائِرِ دِينِهِ، أَوْ يُجْبَرُ عَلَى أَحْكَامِ الْكُفْرِ.وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (هِجْرَة).

مَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ الْإِسْلَامُ:

11- مِمَّا يُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ لِصِحَّتِهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ:

(1) الْعَقْدُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ.

(2) وِلَايَةُ عَقْدِ نِكَاحِهَا.

(3) الشَّهَادَةُ عَلَى عَقْدِ نِكَاحِهَا.

(4) شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ، وَهِيَ أَنْ يَتَسَاوَى الشُّرَكَاءُ فِي الْمَالِ وَالدَّيْنِ وَالتَّصَرُّفِ.وَأَجَازَهَا أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ.

(5) الْوَصِيَّةُ بِمُصْحَفٍ أَوْ مَا بِمَعْنَاهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمُوصَى لَهُ مُسْلِمًا.

(6) النَّذْرُ، فَيُشْتَرَطُ إِسْلَامُ النَّاذِرِ، لِأَنَّ النَّذْرَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً، وَفِعْلُ الْكَافِرِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ Bقُرْبَةً.وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.وَيَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.قَالَ صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ: وَيَصِحُّ النَّذْرُ مِنْ كَافِرٍ وَلَوْ بِعِبَادَةٍ، لِحَدِيثِ عُمَرَ- رضي الله عنه- قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: أَوْفِ بِنَذْرِكَ».

(7) الْقَضَاءُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.

(8) الْوِلَايَاتُ الْعَامَّةُ كُلُّهَا، وَهِيَ الْخِلَافَةُ، وَمَا تَفَرَّعَ مِنْهَا، مِنَ الْوِلَايَةِ وَإِمَارَةِ الْجُيُوشِ، وَالْوَزَارَةِ وَالشُّرْطَةِ، وَالدَّوَاوِينِ الْمَالِيَّةِ، وَالْحِسْبَةِ، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}

(9) الشَّهَادَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ حَالِ ضَرُورَةِ الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ، لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} أَيْ مِنْ رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ.

وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ الْحَنْبَلِيُّ: أَجَازَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي السَّفَرِ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْحَاجَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ}.ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ضَرُورَةٌ حَضَرًا وَسَفَرًا، وَلَوْ قِيلَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ عُدِمَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ، وَيَكُونُ بَدَلًا مُطْلَقًا.

ب- الدِّينُ، أَوِ الْمِلَّةُ:

12- مِنْ مَعَانِي الدِّينِ لُغَةً: الْعَادَةُ وَالسِّيرَةُ وَالْحِسَابُ وَالطَّاعَةُ وَالْمِلَّةُ.

وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِمَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ.

التَّوْحِيدُ: كَمَا فِي قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}.

الْحِسَابُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ}.

الْحُكْمُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ}.

الْمِلَّةُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ}.

وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} يَعْنِي الْمِلَّةَ الْمُسْتَقِيمَةَ.

وَاصْطِلَاحًا: يُطْلَقُ الدِّينُ عَلَى الشَّرْعِ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى مِلَّةِ كُلِّ نَبِيٍّ.وَقَدْ يُخَصُّ بِمِلَّةِ الْإِسْلَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}.

13- وَعَلَى ضَوْءِ هَذِهِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ، وَعَلَى ضَوْءِ التَّوْجِيهِ الْقُرْآنِيِّ الَّذِي سَلَكَ فِي اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ Bبِالْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، أَوْ بِغَيْرِهَا الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، لَا نَكَادُ نَلْمِسُ فَرْقًا جَوْهَرِيًّا بَيْنَ مُسَمَّى الْإِسْلَامِ وَمُسَمَّى الدِّينِ، مَا عَدَا الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ.

مَا يُخْرِجُ الْمَرْءَ عَنِ الْإِسْلَامِ:

14- كُلُّ مَا يَصِيرُ الْكَافِرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ مُسْلِمًا يَكْفُرُ الْمُسْلِمُ بِإِنْكَارِهِ.وَكَذَا كُلُّ مَا يَقْطَعُ الْإِسْلَامَ مِنْ نِيَّةِ كُفْرٍ، أَوْ قَوْلِ كُفْرٍ، أَوْ فِعْلِ كُفْرٍ، سَوَاءٌ اسْتِهْزَاءً أَمِ اعْتِقَادًا أَمْ عِنَادًا.وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: كُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا مِنْ خَصَائِصِ الْكُفَّارِ عَلَى أَنَّهُ دِينٌ، أَوْ تَرَكَ فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِ الْمُسْلِمِينَ يَدُلُّ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنَ الدِّينِ، فَهُوَ كَافِرٌ بِهَذَيْنِ الِاعْتِقَادَيْنِ لَا بِالْفِعْلَيْنِ.

وَفِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: لَا يُخْرِجُ الرَّجُلَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلاَّ جُحُودُ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ، ثُمَّ مَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ رِدَّةٌ يُحْكَمُ بِهَا، وَمَا يُشَكُّ أَنَّهُ رِدَّةٌ لَا يُحْكَمُ بِهِ، إِذِ الْإِسْلَامُ الثَّابِتُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ، مَعَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ.

وَفِي الْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهَا، إِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ وُجُوهٌ تُوجِبُ التَّكْفِيرَ وَوَجْهٌ وَاحِدٌ يُمَانِعُهُ فَعَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَمِيلَ إِلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَمْنَعُ التَّكْفِيرَ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ، إِلاَّ إِذَا صَرَّحَ بِإِرَادَةِ مُوجِبِ الْكُفْرِ فَلَا يَنْفَعُ التَّأْوِيلُ.وَلِلتَّفْصِيلِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (رِدَّة). مَا يَصِيرُ بِهِ الْكَافِرُ مُسْلِمًا:

15- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ هُنَاكَ طُرُقًا ثَلَاثَةً يُحْكَمُ بِهَا عَلَى كَوْنِ الشَّخْصِ مُسْلِمًا وَهِيَ: النَّصُّ- وَالتَّبَعِيَّةُ- وَالدَّلَالَةُ.

أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ صَرِيحًا.وَأَمَّا التَّبَعِيَّةُ فَهِيَ أَنْ يَأْخُذَ التَّابِعُ حُكْمَ الْمَتْبُوعِ فِي الْإِسْلَامِ، كَمَا يَتَّبِعُ ابْنُ الْكَافِرِ الصَّغِيرِ أَبَاهُ إِذَا أَسْلَمَ مَثَلًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا مُسْتَوْفًى.

وَأَمَّا طَرِيقُ الدَّلَالَةِ فَهِيَ سُلُوكُ طَرِيقِ الْفِعْلِ لِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ.

أَوَّلًا: الْإِسْلَامُ النَّصُّ:

وَهُوَ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَ النُّطْقِ، وَالْبُرْءُ مِنْ كُلِّ دِينٍ غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ.

16- يَكْفِي كُلَّ الْكِفَايَةِ التَّصْرِيحُ بِالشَّهَادَةِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيسِهِ، مُدَعَّمًا بِالتَّصْدِيقِ الْبَاطِنِيِّ وَالِاعْتِقَادِ الْقَلْبِيِّ الْجَازِمِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ تَعَالَى، وَالتَّصْرِيحُ كَذَلِكَ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنْ أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، مِنْ صَلَاةٍ وَزَكَاةٍ وَصِيَامٍ وَحَجٍّ، فَلَيْسَ هُنَاكَ عُنْوَانٌ فِي قُوَّتِهِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى التَّحَقُّقِ مِنْ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ الْكَامِلَةِ أَصْرَحُ مِنَ النُّطْقِ بِصِيغَتَيِ الشَّهَادَتَيْنِ: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ».

فَالْكَافِرُ الَّذِي أَنَارَ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ وَأَشْرَقَتْ عَلَى قَلْبِهِ أَنْوَارُ الْيَقِينِ، وَيُرِيدُ أَنْ يَعْتَنِقَ الْإِسْلَامَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ التَّلَفُّظِ بِالشَّهَادَتَيْنِ عِنْدَ التَّمَكُّنِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْقَادِرِ كَالْأَخْرَسِ، وَمِنْ غَيْرِ Bالْمُتَمَكِّنِ كَالْخَائِفِ وَالشَّرِقِ وَمَنْ عَاجَلَتْهُ الْمَنِيَّةُ، وَكُلِّ مَنْ قَامَ بِهِ عُذْرٌ يَمْنَعُهُ النُّطْقَ، فَنُصَدِّقُ عُذْرَهُ إِنْ تَمَسَّكَ بِهِ بَعْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ.وَلَا لُزُومَ لِأَنْ تَكُونَ صِيغَتُهُمَا بِالْعَرَبِيَّةِ حَتَّى بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يُحْسِنُهَا.

وَأَمَّا مَنْ يَرَى اخْتِصَاصَ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- بِالْعَرَبِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُقِرَّ بِعُمُومِ رِسَالَتِهِ.

وَأَمَّا الْمُسْلِمُ أَصَالَةً، أَيْ مَنْ كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ مُسْلِمٌ تَبَعًا لِوَالِدَيْهِ، وَمَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَنْطِقْ بِالشَّهَادَتَيْنِ طِوَالَ عُمُرِهِ.وَأَوْجَبَهَا عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ وَلَوْ مَرَّةً فِي الْعُمُرِ.

17- وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ إِلَى أَنَّ التَّصْدِيقَ بِالْقَلْبِ كَافٍ فِي صِحَّةِ مُطْلَقِ الْإِيمَانِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ.

وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَإِنَّهُ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَيْهِ فَقَطْ، وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِكُفْرٍ إِلاَّ إِنِ اقْتَرَنَ بِهِ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِ كَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ.إِذَنْ فَحُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ يَثْبُتُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُمَا لِتُقَامَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ فِيمَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي.

وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ عَنِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ أُمِّي أَوْصَتْ أَنْ أُعْتِقَ عَنْهَا رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، وَعِنْدِي جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ نُوبِيَّةٌ أَفَأَعْتِقُهَا؟ قَالَ: اُدْعُهَا، فَدَعَوْتُهَا فَجَاءَتْ فَقَالَ: مَنْ رَبُّكِ؟ قَالَتِ: اللَّهُ، قَالَ: فَمَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: اعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ».

وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يُحْكَمُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَلَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ لَا يَكُونُ إِلاَّ مَنِ اعْتَقَدَ بِقَلْبِهِ دِينَ الْإِسْلَامِ اعْتِقَادًا جَازِمًا خَالِيًا مِنَ الشُّكُوكِ وَنَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ.

18- فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى إِحْدَاهُمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ إِلاَّ إِذَا عَجَزَ عَنِ النُّطْقِ لِخَلَلٍ فِي لِسَانِهِ، أَوْ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْهُ لِمُعَاجَلَةِ الْمَنِيَّةِ لَهُ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا، أَمَّا إِذَا أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ فَلَا يُشْتَرَطُ مَعَهُمَا أَنْ يَقُولَ: أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ دِينٍ خَالَفَ الْإِسْلَامَ، إِلاَّ إِذَا كَانَ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ اخْتِصَاصَ رِسَالَةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- لِلْعَرَبِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ إِلاَّ بِأَنْ يُسْتَبْرَأَ.أَمَّا إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَلَمْ يَقُلْ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ Bوَمَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا، وَمِنْ أَصْحَابِنَا الشَّافِعِيَّةِ مَنْ قَالَ: يَكُونُ مُسْلِمًا، وَيُطَالَبُ بِالشَّهَادَةِ الْأُخْرَى، فَإِنْ أَبَى جُعِلَ مُرْتَدًّا، وَيُحْتَجُّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ».

وَهَذَا مَحْمُولٌ عِنْدَ الْجَمَاهِيرِ عَلَى قَوْلِ الشَّهَادَتَيْنِ، وَاسْتُغْنِيَ بِذِكْرِ إِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى لِارْتِبَاطِهِمَا وَشُهْرَتِهِمَا.

وَجَاءَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: سُئِلَ أَبُو يُوسُفَ عَنِ الرَّجُلِ كَيْفَ يُسْلِمُ، فَقَالَ: يَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِرُّ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَيَتَبَرَّأُ مِنَ الدِّينِ الَّذِي انْتَحَلَهُ.وَفِيهِ أَنَّ النَّصْرَانِيَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَتَبَرَّأُ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ، وَكَذَا الْيَهُودِيَّةُ وَغَيْرُهَا.

وَأَمَّا مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْإِسْلَامِ إِذَا قَالَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، أَوْ قَالَ: دَخَلْتُ دِينَ الْإِسْلَامِ، أَوْ دَخَلْتُ دِينَ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- فَهُوَ دَلِيلُ إِسْلَامِهِ، فَكَيْفَ إِذَا أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ.

وَأَمَّا تَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ فَهُوَ أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْ كُلِّ دِينٍ غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ، بَعْدَ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَأَنْ يَتَبَرَّأَ مِمَّا انْتَقَلَ إِلَيْهِ.

أَرْكَانُ الْإِسْلَامِ

أَرْكَانُ الْإِسْلَامِ خَمْسَةٌ:

19- جَاءَتِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الْكَرِيمَةُ مُجْمَلَةً بِالْأَوَامِرِ وَالْأَحْكَامِ فِيمَا يَخُصُّ هَذِهِ الْأَرْكَانَ، وَكَذَلِكَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ».رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

وَأَيْضًا الْحَدِيثُ السَّابِقُ الْمَشْهُورُ بِحَدِيثِ جِبْرِيلَ.

الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ:

20- هَذِهِ الشَّهَادَةُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَدْخُلُ بِهِ الْمَرْءُ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَانَتْ أَوَّلَ وَاجِبٍ عَلَى الْمُكَلَّفِ يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ تَصْدِيقًا وَاعْتِقَادًا وَنُطْقًا.

وَأَئِمَّةُ السَّلَفِ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْعَبْدُ الشَّهَادَتَانِ.وَقَدْ كَانَتْ رِسَالَاتُ كُلِّ الرُّسُلِ تَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْكَلِمَةُ، وَالْإِقْرَارُ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} فَكَانَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ أَوَّلَ مَا يَدْخُلُ بِهِ Bالْمَرْءُ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِذَا كَانَتْ آخِرَ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْمُسْلِمُ مِنَ الدُّنْيَا دَخَلَ بِهَا الْجَنَّةَ، كَمَا قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ»..وَالْإِيمَانُ أَيْضًا بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- هُوَ إِيمَانٌ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا تَتَضَمَّنُهُ رِسَالَتُهُ، وَإِيمَانٌ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ، وَتَصْدِيقٌ بِرِسَالَاتِهِمْ.

وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِي هَذَا الرُّكْنِ الرَّكِينِ الَّذِي يَسْبِقُ كُلَّ الْأَرْكَانِ تَتَحَقَّقُ بِهِ بَاقِي الْأَرْكَانِ.

الرُّكْنُ الثَّانِي: إِقَامُ الصَّلَاةِ.

21- الصَّلَاةُ لُغَةً بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، وَقَدْ أَضَافَ الشَّرْعُ إِلَى الدُّعَاءِ مَا شَاءَ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ وَسُمِّيَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ الصَّلَاةَ، أَوْ هِيَ مَنْقُولَةٌ مِنَ الصِّلَةِ الَّتِي تَرْبِطُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، فَهِيَ بِذَلِكَ صِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ، وَفُرِضَتْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ.

وَوُجُوبُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ مِنَ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.

فَمَنْ جَحَدَهَا كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ.

أَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِوُجُوبِهَا وَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا، فَقِيلَ: فَاسِقٌ يُقْتَلُ حَدًّا إِنْ تَمَادَى عَلَى الِامْتِنَاعِ، وَقِيلَ: مَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا أَوْ مُفَرِّطًا فَهُوَ كَافِرٌ يُقْتَلُ كُفْرًا.وَقَدْ جَاءَتِ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ دَالَّةً عَلَى ذَلِكَ، مِنْهَا قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}

وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} وَغَيْرُهَا كَثِيرٌ.

أَمَّا الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ فَمِنْهَا «سُئِلَ- صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: الصَّلَاةُ لِمَوَاقِيتِهَا» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.ر: (صَلَاةٌ).

الرُّكْنُ الثَّالِثُ: إِيتَاءُ الزَّكَاةِ.

22- الزَّكَاةُ لُغَةً: النُّمُوُّ وَالزِّيَادَةُ.يُقَالُ: زَكَا الشَّيْءُ إِذَا نَمَا وَكَثُرَ، إِمَّا حِسًّا كَالنَّبَاتِ وَالْمَالِ، أَوْ مَعْنًى كَنُمُوِّ الْإِنْسَانِ بِالْفَضَائِلِ وَالصَّلَاحِ.

وَشَرْعًا: إِخْرَاجُ جُزْءٍ مِنْ مَالٍ مَخْصُوصٍ لِقَوْمٍ مَخْصُوصِينَ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ، وَسُمِّيَتْ صَدَقَةُ الْمَالِ زَكَاةً، لِأَنَّهَا تَعُودُ بِالْبَرَكَةِ فِي الْمَالِ الَّذِي أُخْرِجَتْ مِنْهُ وَتُنَمِّيهِ.وَرُكْنِيَّتُهَا وَوُجُوبُهَا ثَابِتَانِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.فَمَنْ جَحَدَ وُجُوبَهَا مُرْتَدٌّ، لِإِنْكَارِهِ مَا قَامَ مِنَ الدِّينِ ضَرُورَةً.

وَمَنْ أَقَرَّ بِوُجُوبِهَا وَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا أُخِذَتْ مِنْهُ كَرْهًا، بِأَنْ يُقَاتَلَ وَيُؤَدَّبَ عَلَى امْتِنَاعِهِ عَنْ أَدَائِهَا.وَقُرِنَتْ بِالصَّلَاةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي اثْنَيْنِ Bوَثَمَانِينَ آيَةً.وَفُرِضَتْ فِي مَكَّةَ مُطْلَقَةً أَوَّلًا، وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ حُدِّدَتِ الْأَنْوَاعُ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا، وَمِقْدَارُ النِّصَابِ فِي كُلٍّ ر: (زَكَاة).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


205-موسوعة الفقه الكويتية (الأشهر الحرم)

الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ

الْمُرَادُ بِالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ:

1- الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ هِيَ الَّتِي وَرَدَ ذِكْرُهَا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}.

وَهُنَّ: رَجَبُ مُضَرَ وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمِ.

وَهَذَا التَّحْدِيدُ تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.فَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ، ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ.وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ».

وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَتَادَةَ، وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.

الْمُقَارَنَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَشْهُرِ الْحَجِّ:

2- ذِكْرُ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَرَدَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}.وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ.فَقِيلَ: إِنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ كُلُّهُ، يُرِيدُونَ بِذَلِكَ أَنَّهُنَّ أَشْهُرُ الْحَجِّ، لَا أَشْهُرُ الْعُمْرَةِ، وَأَنَّ أَشْهُرَ الْعُمْرَةِ سِوَاهُنَّ مِنْ شُهُورِ السَّنَةِ.وَقِيلَ: يَعْنِي بِالْأَشْهُرِ الْمَعْلُومَاتِ شَوَّالًا وَذَا الْقَعْدَةِ وَعَشْرًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.

وَقَدْ صَوَّبَ الطَّبَرِيُّ ذَلِكَ الْقَوْلَ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ مِيقَاتِ الْحَجِّ، وَلَا عَمَلَ لِلْحَجِّ يُعْمَلُ بَعْدَ انْقِضَاءِ أَيَّامِ مِنًى

وَعَلَى ذَلِكَ فَبَيْنَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بَعْضُ التَّدَاخُلِ، إِذْ أَنَّ ذَا الْقَعْدَةِ وَعَشْرًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، أَمَّا شَوَّالٌ فَهُوَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَقَطْ، وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فَقَطْ.

فَضْلُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ:

3- الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَضَّلَهَا اللَّهُ عَلَى سَائِرِ شُهُورِ الْعَامِ، وَشَرَّفَهُنَّ عَلَى سَائِرِ الشُّهُورِ.فَخَصَّ الذَّنْبَ فِيهِنَّ بِالتَّعْظِيمِ، كَمَا خَصَّهُنَّ بِالتَّشْرِيفِ، وَذَلِكَ نَظِيرُ قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَصَّ اللَّهُ مِنْ شُهُورِ الْعَامِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَجَعَلَهُنَّ حُرُمًا، وَعَظَّمَ حُرُمَاتِهِنَّ، وَجَعَلَ الذَّنْبَ فِيهِنَّ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ وَالْأَجْرَ أَعْظَمَ، وَعَنْ قَتَادَةَ: الظُّلْمُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَعْظَمُ خَطِيئَةً وَوِزْرًا مِنَ الظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهَا، وَإِنْ كَانَ الظُّلْمُ فِي كُلِّ حَالٍ عَظِيمًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُعَظِّمُ مِنْ أَمْرِهِ مَا شَاءَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اصْطَفَى صَفَايَا مِنْ خَلْقِهِ، اصْطَفَى مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا، وَمِنَ النَّاسِ رُسُلًا، وَاصْطَفَى مِنَ الْكَلَامِ ذِكْرَهُ، وَاصْطَفَى مِنَ الْأَرْضِ الْمَسَاجِدَ، وَاصْطَفَى مِنَ الشُّهُورِ رَمَضَانَ وَالْأَشْهُرَ الْحُرُمَ، وَاصْطَفَى مِنَ الْأَيَّامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَاصْطَفَى مِنَ اللَّيَالِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ.قَالَ قَتَادَةُ: فَعَظِّمُوا مَا عَظَّمَ اللَّهُ، فَإِنَّمَا تُعَظَّمُ الْأُمُورُ بِمَا عَظَّمَهَا اللَّهُ عِنْدَ أَهْلِ الْفَهْمِ وَأَهْلِ الْعَقْلِ.

مَا تَخْتَصُّ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ:

أ- الْقِتَالُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ:

4- كَانَ الْقِتَالُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مُحَرَّمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَكَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تُعَظِّمُهُنَّ وَتُحَرِّمُ الْقِتَالَ فِيهِنَّ، حَتَّى لَوْ لَقِيَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فِيهِنَّ قَاتِلَ أَبِيهِ أَوْ أَخِيهِ تَرَكَهُ.

قَالَ النَّيْسَابُورِيُّ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أَيْ هُوَ الدِّينُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ- عليهما السلام-، وَقَدْ تَوَارَثَتْهُ الْعَرَبُ مِنْهُمَا فَكَانُوا يُحَرِّمُونَ الْقِتَالَ فِيهَا.ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ يُؤَيِّدُ حُرْمَةَ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}.

ب- هَلْ نُسِخَ الْقِتَالُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ؟

5- اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْآيَةِ الَّتِي أَثْبَتَتْ حُرْمَةَ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَهِيَ قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَمْ ثَابِتُ الْحُكْمِ؟

قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ ثَابِتٌ، لَا يَحِلُّ الْقِتَالُ لِأَحَدٍ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْقِتَالَ فِيهِ كَبِيرًا.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِ اللَّهِ {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} وَرَدَ ذَلِكَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَعَطَاءِ بْنِ مَيْسَرَةَ.

قَالَ عَطَاءُ بْنُ مَيْسَرَةَ: أُحِلَّ الْقِتَالُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فِي بَرَاءَةٌ قوله تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}، يَقُولُ: فِيهِنَّ وَفِي غَيْرِهِنَّ.

وَعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا بَلَغَنَا يُحَرِّمُ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ثُمَّ أُحِلَّ بَعْدُ».قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ مَا قَالَ عَطَاءُ بْنُ مَيْسَرَةَ مِنْ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِ اللَّهِ {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}.وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ نَاسِخٌ لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} لِتَظَاهُرِ الْأَخْبَارِ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ.

تَغْلِيظُ الدِّيَاتِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ:

6- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَغْلِيظِ دِيَةِ الْقَتْلِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أَوْ عَدَمِ تَغْلِيظِهَا، فَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يَرَوْنَ تَغْلِيظَ الدِّيَةِ لِلْقَتْلِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْإِمَامِ مَالِكٍ لَا تُغَلَّظُ الدِّيَةُ.

وَمَنْ قَالَ بِالتَّغْلِيظِ اخْتَلَفَ فِي صِفَتِهَا، فَقِيلَ: إِنَّهَا ثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً وَأَرْبَعُونَ خِلْفَةً، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَيُفَصِّلُ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي الدِّيَاتِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


206-موسوعة الفقه الكويتية (إطعام)

إِطْعَامٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْإِطْعَامُ لُغَةً- إِعْطَاءُ الطَّعَامِ لآِكِلِهِ وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّمْلِيكُ:

2- تَمْلِيكُ الشَّيْءِ جَعْلُهُ مِلْكًا لِلْغَيْرِ.وَعَلَى هَذَا قَدْ يَكُونُ الْإِطْعَامُ تَمْلِيكًا فَيَتَّفِقَانِ، وَقَدْ يَكُونُ الْإِطْعَامُ إِبَاحَةً فَيَفْتَرِقَانِ.كَمَا أَنَّ التَّمْلِيكَ قَدْ يَكُونُ تَمْلِيكًا لِلطَّعَامِ، وَقَدْ يَكُونُ تَمْلِيكًا لِغَيْرِهِ.

ب- الْإِبَاحَةُ:

3- الْإِبَاحَةُ لُغَةً: الْإِظْهَارُ وَالْإِعْلَانُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَبَاحَ السِّرَّ: أَعْلَنَهُ، وَقَدْ يَرِدُ بِمَعْنَى الْإِذْنِ وَالْإِطْلَاقِ يُقَالُ: أَبَحْتُهُ كَذَا إِذَا أَطْلَقْتُهُ.وَاصْطِلَاحًا، يُرَادُ بِهَا الْإِذْنُ بِإِتْيَانِ الْفِعْلِ أَوْ تَرْكِهِ.وَعَلَى هَذَا قَدْ يَكُونُ الْإِطْعَامُ إِبَاحَةً فَيَجْتَمِعَانِ فِي وَجْهٍ، وَقَدْ يَكُونُ تَمْلِيكًا فَيَفْتَرِقَانِ فِي وَجْهٍ آخَرَ، وَقَدْ تَكُونُ الْإِبَاحَةُ لِلطَّعَامِ أَوْ لِغَيْرِهِ.

حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:

4- يَجِبُ الْإِطْعَامُ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِي الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَحَالَاتِ الضَّرُورَةِ، كَسَدِّ الرَّمَقِ وَيُنْدَبُ فِي الصَّدَقَاتِ وَالْقُرُبَاتِ، كَالْإِطْعَامِ فِي الْأُضْحِيَّةِ.وَيُسْتَحَبُّ فِي أُمُورٍ، مِنْهَا النِّكَاحُ وَالْعَقِيقَةُ وَالْخِتَانُ.وَتَحْرُمُ فِي أُمُورٍ: مِنْهَا إِطْعَامُ الظَّلَمَةِ وَالْعُصَاةِ لِلْمُسَاعَدَةِ عَلَى الظُّلْمِ وَالْعِصْيَانِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ.

أَسْبَابُ الْإِطْعَامِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا:

أ- الِاحْتِبَاسُ:

5- احْتِبَاسُ الزَّوْجَةِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ النَّفَقَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْإِطْعَامِ، لِلْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ: النَّفَقَةُ نَظِيرُ الِاحْتِبَاسِ وَكَذَا الْحُكْمُ فِي احْتِبَاسِ الْعَجْمَاوَاتِ، لِأَنَّ حَبْسَهَا بِدُونِ طَعَامٍ هَلَاكٌ يَسْتَوْجِبُ الْعِقَابَ، لِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ».

أَمَّا إِطْعَامُ الْمَحْبُوسِ فِي التُّهْمَةِ، مِثْلُ حَبْسِ السَّارِقِ حَتَّى يَسْأَلَ الشُّهُودَ، وَالْمُرْتَدِّ حَتَّى يَتُوبَ، فَإِنَّهُ يُطْعَمُ مِنْ مَالِهِ، لَا خِلَافَ فِي هَذَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ، غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ أَجَازُوا الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إِذَا تَيَسَّرَ ذَلِكَ.وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ أُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وُجُوبًا كَمَا سَيَأْتِي.

ب- الِاضْطِرَارُ:

6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ إِطْعَامَ الْمُضْطَرِّ وَاجِبٌ، فَإِذَا أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ مِنَ الْجُوعِ أَوِ الْعَطَشِ، وَمَنَعَهُ مَانِعٌ فَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَ لِيَحْصُلَ عَلَى مَا يَحْفَظُ حَيَاتَهُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ الْهَيْثَمِ: أَنَّ قَوْمًا وَرَدُوا مَاءً فَسَأَلُوا أَهْلَهُ أَنْ يَدُلُّوهُمْ عَلَى بِئْرٍ فَأَبَوْا، فَسَأَلُوهُمْ أَنْ يُعْطُوهُمْ دَلْوًا فَأَبَوْا، فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّ أَعْنَاقَنَا وَأَعْنَاقَ مَطَايَانَا قَدْ كَادَتْ أَنْ تَتَقَطَّعَ فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِعُمَرَ- رضي الله عنه-.فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: فَهَلاَّ وَضَعْتُمْ فِيهِمُ السِّلَاحَ.قَالَ الْفُقَهَاءُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَهُمْ فِي الْمَاءِ حَقَّ الشَّفَةِ وَكَذَلِكَ الطَّعَامُ.وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ (اضْطِرَارٌ) (وَضَرُورَةٌ).

ج- الْإِكْرَامُ:

7- يُنْدَبُ الْإِطْعَامُ لِإِكْرَامِ الضَّيْفِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَبِرِّ الْجَارِ وَإِضَافَةِ الصِّدِّيقِ، وَأَهْلِ الْخَيْرِ وَالْفَضْلِ وَالتَّقْوَى، لقوله تعالى فِي ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ».كَمَا يُسَنُّ فِي أُمُورٍ تَدْخُلُ فِي بَابِ الْإِكْرَامِ كَالْأُضْحِيَّةِ وَالْوَلِيمَةِ.

الْإِطْعَامُ فِي الْكَفَّارَاتِ

8- الْإِطْعَامُ نَوْعٌ مِنَ الْأَنْوَاعِ الْوَاجِبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ، يُقَدَّمُ تَارَةً كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ، وَيُؤَخَّرُ تَارَةً كَمَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَكَذَا الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ عَلَى خِلَافٍ لِلْمَالِكِيَّةِ فِيهِ.

الْكَفَّارَاتُ الَّتِي فِيهِمَا إِطْعَامٌ:

أ- كَفَّارَةُ الصَّوْمِ:

9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْفِطْرِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ أَدَاءً، غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ قَصَرُوهُ عَلَى مَنْ جَامَعَ فِي رَمَضَانَ عَامِدًا، دُونَ مَنْ أَفْطَرَ فِيهِ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي رُتْبَتِهِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا.

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِتَأْخِيرِهِ عَنِ الْإِعْتَاقِ وَالصِّيَامِ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ: الْإِعْتَاقِ وَالصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي الْكَفَّارَاتِ.

ب- كَفَّارَةُ الْيَمِينِ:

10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى إِذَا حَنِثَ فِيهَا عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكِسْوَةِ وَتَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ، فَإِنْ عَجَزَ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} ج- كَفَّارَةُ الظِّهَارِ:

11- إِذَا ظَاهَرَ الرَّجُلُ مِنِ امْرَأَتِهِ بِأَنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ كَظَهْرِ أُمِّي، لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ بِالْعَوْدِ.وَمِنْ أَنْوَاعِهَا الْإِطْعَامُ عِنْدَ عَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أَوْ صِيَامُ شَهْرَيْنِ، عَلَى هَذَا اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ، فَلَا يُجْزِئُ إِلاَّ هَذَا التَّرْتِيبُ لقوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا}

مِقْدَارُ الْإِطْعَامِ الْوَاجِبِ فِي الْكَفَّارَةِ:

12- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَجِبُ لِكُلِّ فَقِيرٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعٌ كَامِلٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ.وَالدَّقِيقُ مِنَ الْبُرِّ أَوِ الشَّعِيرِ بِمَنْزِلَةِ أَصْلِهِ، وَكَذَا السَّوِيقُ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ تَمَامُ الْكَيْلِ أَوِ الْقِيمَةِ فِي كُلٍّ مِنَ الدَّقِيقِ وَالسَّوِيقِ؟.فِي ذَلِكَ رَأْيَانِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ لِكُلِّ فَقِيرٍ مُدٌّ مِنْ بُرٍّ، أَوْ مِقْدَارُ مَا يَصْلُحُ لِلْإِشْبَاعِ مِنْ بَقِيَّةِ الْأَقْوَاتِ التِّسْعَةِ، وَهِيَ الْقَمْحُ وَالشَّعِيرُ وَالسُّلْتُ، وَالذُّرَةُ، وَالدُّخْنُ، وَالْأَرُزُّ، وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ، وَالْأَقِطُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ لِكُلِّ فَقِيرٍ مُدٌّ وَاحِدٌ مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ مِمَّا ذُكِرَ مِنَ الْأَصْنَافِ السَّابِقَةِ أَوْ غَيْرِهَا.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ مِنْ بُرٍّ أَوْ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ زَبِيبٍ أَوْ أَقِطٍ، وَيُجْزِئُ دَقِيقٌ وَسَوِيقٌ بِوَزْنِ الْحَبِّ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ قُوتِ الْبَلَدِ أَوْ لَا، وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْهُمْ: يُجْزِئُ كُلُّ أَقْوَاتِ الْبَلَدِ، وَالْأَفْضَلُ عِنْدَهُمْ إِخْرَاجُ الْحَبِّ.

الْإِبَاحَةُ وَالتَّمْلِيكُ فِي الْكَفَّارَاتِ:

13- التَّمْلِيكُ هُوَ إِعْطَاءُ الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ فِي الْإِطْعَامِ، لِيَتَصَرَّفَ فِيهِ الْمُسْتَحِقُّ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ.

وَالْإِبَاحَةُ هِيَ تَمْكِينُ الْمُسْتَحِقِّ مِنْ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ الْمُخْرَجِ فِي الْكَفَّارَةِ.كَأَنْ يُغَدِّيَهُمْ وَيُعَشِّيَهُمْ، أَوْ يُغَدِّيَهُمْ غَدَاءَيْنِ أَوْ يُعَشِّيَهُمْ عَشَاءَيْنِ.وَقَدْ أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ التَّمْلِيكَ وَالْإِبَاحَةَ فِي الْإِطْعَامِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ مُنْفَرِدِينَ الْجَمْعَ بَيْنَهَا، لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ جَائِزَيْنِ، وَالْمَقْصُودُ سَدُّ الْخُلَّةِ، كَمَا أَجَازُوا دَفْعَ الْقِيمَةِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَالًا أَمْ غَيْرَهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَجِبُ التَّمْلِيكُ وَلَا تُجْزِئُ الْإِبَاحَةُ، فَلَوْ غَدَّى الْمَسَاكِينَ أَوْ عَشَّاهُمْ لَا يُجْزِئُ، لِأَنَّ الْمَنْقُولَ عَنِ الصَّحَابَةِ الْإِعْطَاءُ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ وَاجِبٌ لِلْفُقَرَاءِ شَرْعًا، فَوَجَبَ تَمْلِيكُهُمْ إِيَّاهُ كَالزَّكَاةِ.

الْإِطْعَامُ فِي الْفِدْيَةِ:

أ- فِدْيَةُ الصِّيَامِ:

14- اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ- عَلَى أَنَّهُ يُصَارُ إِلَى الْفِدْيَةِ فِي الصِّيَامِ عِنْدَ الْيَأْسِ مِنْ إِمْكَانِ قَضَاءِ الْأَيَّامِ الَّتِي أَفْطَرَهَا لِشَيْخُوخَةٍ لَا يَقْدِرُ مَعَهَا عَلَى الصِّيَامِ، أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ، لقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} وَالْمُرَادُ مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ.

وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ.

ب- الْإِطْعَامُ فِي فِدْيَةِ الصَّيْدِ:

15- يُخَيَّرُ الْمُحْرِمُ إِذَا قَتَلَ صَيْدًا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: إِمَّا شِرَاءُ هَدْيٍ بِالْقِيمَةِ وَذَبْحُهُ، أَوِ الْإِطْعَامُ بِالْقِيمَةِ، أَوِ الصِّيَامُ، لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةُ طَعَامِ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} وَمَنْ قَتَلَ مَا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ أَوْ قِيمَةٌ كَالْجَرَادِ وَالْقَمْلِ، تَصَدَّقَ بِمَا شَاءَ كَحَفْنَةٍ مِنْ طَعَامٍ لِلْوَاحِدَةِ وَحَفْنَتَيْنِ لِلِاثْنَتَيْنِ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ- (إِحْرَامٌ) - (فِدْيَةٌ).

الْإِطْعَامُ فِي النَّفَقَاتِ:

الْإِطْعَامُ فِي حَالَاتِ الضَّرُورَةِ:

16- يَرَى الْفُقَهَاءُ وُجُوبَ إِطْعَامِ الْمُضْطَرِّ الْمُشْرِفِ عَلَى الْهَلَاكِ، لِأَنَّ فِيهِ إِحْيَاءً لِنَفْسٍ مَعْصُومَةٍ.فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مِمَّا يُبَاعُ أَعْطَاهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَإِنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ جَازَ.وَضَمِنَهُ لَهُ، إِذِ الْقَاعِدَةُ الشَّرْعِيَّةُ: أَنَّ الِاضْطِرَارَ لَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ.

الِامْتِنَاعُ عَنْ إِطْعَامِ الْمُضْطَرِّ:

17- إِذَا فَقَدَ الْمُضْطَرُّ الطَّعَامَ وَأَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ وَلَمْ يَجِدْ إِلاَّ طَعَامًا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الطَّعَامِ مُضْطَرًّا إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ سَاوَاهُ فِي الضَّرُورَةِ وَانْفَرَدَ بِالْمِلْكِ، فَأَشْبَهَ غَيْرَ حَالِ الضَّرُورَةِ، وَإِنْ أَخَذَهُ مِنْهُ أَحَدٌ فَمَاتَ أَثِمَ وَضَمِنَ دِيَتَهُ، لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَالِكُ مُضْطَرًّا إِلَى الطَّعَامِ لَزِمَهُ بَذْلُهُ لِلْمُضْطَرِّ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قُلْنَا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَحِلُّ لِأَحَدِنَا مِنْ مَالِ أَخِيهِ إِذَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ؟ قَالَ: يَأْكُلُ وَلَا يَحْمِلْ، وَيَشْرَبُ وَلَا يَحْمِلْ».فَإِنْ مَنَعَهُ قَاتَلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ سِلَاحٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِسِلَاحٍ عِنْدَ غَيْرِهِمْ.فَإِنْ قُتِلَ الْمُضْطَرُّ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَعَلَى قَاتِلِهِ ضَمَانُهُ، وَإِنْ قَتَلَ صَاحِبَهُ فَهُوَ هَدَرٌ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (قِصَاصٌ).

تَحْدِيدُ الْإِطْعَامِ فِي النَّفَقَةِ:

18- النَّفَقَةُ الْوَاجِبَةُ قَدْ تَكُونُ عَيْنًا وَقَدْ تَكُونُ قِيمَةً، فَإِذَا كَانَتْ عَيْنًا فَالْوَاجِبُ مِنَ الْإِطْعَامِ- كَمَا فِي الْقِيمَةِ- يُعْتَبَرُ بِحَالِ الزَّوْجَيْنِ جَمِيعًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ فَإِطْعَامُ الْمُوسِرِينَ، وَإِنْ كَانَا مُتَوَسِّطَيْنِ فَإِطْعَامُ الْوَسَطِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُعْسِرًا وَالْآخَرُ مُوسِرًا فَالتَّوَسُّطُ، وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ فَنَفَقَةُ الْإِعْسَارِ، وَيُعْتَبَرُ الْعُرْفُ فِي ذَلِكَ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى اعْتِبَارِ حَالِ الزَّوْجِ فَقَطْ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} الْآيَةَ.

وَقَدْ أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ اسْتِبْدَالَ الْقِيمَةِ بِالْإِطْعَامِ.

التَّوْسِعَةُ فِي الْإِطْعَامِ:

19- يُنْدَبُ إِطْعَامُ الْأَقَارِبِ الْفُقَرَاءِ وَالْيَتَامَى وَالتَّوْسِعَةُ عَلَيْهِمْ، كَمَا يُنْدَبُ بَذْلُ الطَّعَامِ لِلْمَسَاكِينِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْمُحْتَاجِينَ وَقْتَ الْقَحْطِ وَالْجُوعِ وَالْحَاجَةِ، لقوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ}.وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مِنْ مُوجِبَاتِ الرَّحْمَةِ إِطْعَامُ الْمُسْلِمِ السَّغْبَانِ».كَمَا يُنْدَبُ إِطْعَامُ الْغَرِيبِ إِذَا كَانَ ضَيْفًا أَوْ مُحْتَاجًا لِلْإِطْعَامِ، وَقَدِ اعْتَبَرَ الْقُرْآنُ عَدَمَ إِطْعَامِهِ لُؤْمًا فِي قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا}

إِطْعَامُ الْمَسْجُونِ:

20- لَا يُضَيَّقُ عَلَى الْمَحْبُوسِ بِالْجُوعِ أَوِ الْعَطَشِ، سَوَاءٌ أَكَانَ حَبْسُهُ لِرِدَّةٍ أَمْ دَيْنٍ أَمْ أَسْرٍ، لِقَوْلِ عُمَرَ فِي الْمَحْبُوسِ لِلرِّدَّةِ: فَهَلاَّ حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا فَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا وَاسْتَتَبْتُمُوهُ.وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِطْعَامَ أَهْلِ الْحُبُوسِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَسَنٌ وَقُرْبَى إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يُطْعَمُ مِنْ مَالِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ.

إِطْعَامُ الْحَيَوَانِ الْمُحْتَبَسِ:

21- يَجُوزُ حَبْسُ حَيَوَانٍ لِنَفْعٍ، كَحِرَاسَةٍ وَسَمَاعِ صَوْتٍ وَزِينَةٍ، وَعَلَى حَابِسِهِ إِطْعَامُهُ وَسَقْيُهُ لِحُرْمَةِ الرُّوحِ وَيَقُومُ مَقَامَهُ التَّخْلِيَةُ لِلْحَيَوَانَاتِ لِتَرْعَى وَتَرِدُ الْمَاءَ إِنْ أَلِفَتْ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ تَأْلَفْهُ فُعِلَ بِهَا مَا تَأْلَفُهُ، لِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ» فَإِنِ امْتَنَعَ أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ أَوْ عَلَفِهِ أَوْ ذَبْحِ مَا يُذْبَحُ مِنْهُ.فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ نَابَ الْحَاكِمُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا يَرَاهُ.وَهَذَا رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الرَّأْيُ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَجْرِي فِيهَا دَعْوَى الْحِسْبَةِ.

الْإِطْعَامُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ:

22- يَنْبَغِي لِلْمُضَحِّي أَنْ يُطْعِمَ الْأَغْنِيَاءَ الثُّلُثَ، وَالْفُقَرَاءَ الثُّلُثَ، وَيَأْكُلَ الثُّلُثَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ، هَذَا هُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.وَقِيلَ: الْأَفْضَلُ أَنْ يُطْعِمَهَا كُلَّهَا الْفُقَرَاءَ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَيُنْظَرُ (أُضْحِيَّةٌ).

وَهَدْيُ التَّطَوُّعِ وَالْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فِي الْحَجِّ كَالْأُضْحِيَّةِ، لَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَيُطْعِمَ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا لِجَوَازِ أَكْلِهِ مِنْهُ أَلاَّ يَكُونَ قَدْ نَوَاهُ لِلْمَسَاكِينِ.

وَأَمَّا هَدْيُ الْفِدْيَةِ، وَجَزَاءِ الصَّيْدِ فَإِنَّهُ يُطْعِمُ الْفُقَرَاءَ فَقَطْ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ (ر: هَدْيٌ).

وَأَمَّا فِي النَّذْرِ فَإِذَا لَمْ يَنْوِهِ لِلْمَسَاكِينِ جَازَ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ لَا يَأْكُلُ مِنْهُ.

إِطْعَامُ أَهْلِ الْمَيِّتِ:

23- يُسْتَحَبُّ إِعْدَادُ طَعَامٍ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ، يُبْعَثُ بِهِ إِلَيْهِمْ إِعَانَةً لَهُمْ وَجَبْرًا لِقُلُوبِهِمْ، فَإِنَّهُمْ شُغِلُوا بِمُصِيبَتِهِمْ وَبِمَنْ يَأْتِي إِلَيْهِمْ عَنْ إِصْلَاحِ طَعَامٍ لِأَنْفُسِهِمْ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «اصْنَعُوا لِأَهْلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا.فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ».وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَنْ يُصْنَعُ لَهُمْ طَعَامٌ، أَلاَّ يَكُونُوا قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى نِيَاحَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَإِلاَّ حَرُمَ إِرْسَالُ طَعَامٍ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ عُصَاةٌ، وَكَرِهَ الْفُقَهَاءُ إِطْعَامَ أَهْلِ الْمَيِّتِ لِلنَّاسِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي السُّرُورِ لَا فِي الشُّرُورِ.

الْمُنَاسَبَاتُ الَّتِي يُسْتَحَبُّ الْإِطْعَامُ فِيهَا:

24- أ- النِّكَاحُ:

وَيُسَمَّى الْإِطْعَامُ فِيهِ وَفِي كُلِّ سُرُورٍ وَلِيمَةً، وَاسْتِعْمَالُ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ فِي الْعُرْسِ أَكْثَرُ.

ب- الْخِتَانُ:

وَيُطْلَقُ عَلَى الْإِطْعَامِ فِيهِ، إِعْذَارٌ أَوْ عَذِيرَةٌ أَوْ عَذِيرٌ.

ج- الْوِلَادَةُ:

وَيُطْلَقُ عَلَى الْإِطْعَامِ فِيهَا، الْخُرْسُ أَوِ الْخُرْسَةُ.

د- الْبِنَاءُ لِلدَّارِ:

وَيُطْلَقُ عَلَى الْإِطْعَامِ فِيهِ: وَكِيرَةٌ.

هـ- قُدُومُ الْغَائِبِ:

قُدُومُ الْغَائِبِ مِنَ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ وَيُطْلَقُ عَلَى الْإِطْعَامِ فِيهِ: نَقِيعَةٌ.

و- لِأَجْلِ الْوَلَدِ:

وَيُطْلَقُ عَلَى الْإِطْعَامِ لَهُ، عَقِيقَةٌ.وَيُسْتَحَبُّ فِي الْعُرْسِ، أَنْ يُطْعِمَ شَاةً إِنْ أَمْكَنَ، وَكَذَا يُسْتَحَبُّ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَذْبَحَ عَنِ الصَّبِيِّ شَاتَيْنِ إِنْ أَمْكَنَ، فَإِنْ أَوْلَمَ بِغَيْرِ الشَّاةِ جَازَ، فَقَدْ أَوْلَمَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِشَاةٍ، وَأَوْلَمَ عَلَى صَفِيَّةَ بِحَيْسٍ وَأَوْلَمَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ.وَإِجَابَةُ طَعَامِ الْوَلِيمَةِ وَاجِبٌ لِمَنْ دُعِيَ إِلَيْهَا إِذَا لَمْ يُخَالِطْهَا حَرَامٌ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِهَا».

الْقُدْرَةُ عَلَى الْإِطْعَامِ:

25- مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ إِطْعَامٌ فِي كَفَّارَةِ يَمِينٍ أَوْ ظِهَارٍ أَوْ فِطْرٍ فِي رَمَضَانَ فَعَجَزَ عَنِ الْإِطْعَامِ، اسْتَقَرَّ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِ، وَتَأَخَّرَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ إِلَى وَقْتِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ إِيجَابَ الْفِعْلِ عَلَى الْعَاجِزِ مُحَالٌ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ فِي غَيْرِ كَفَّارَةِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ، إِذْ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ لِلشَّافِعِيَّةِ تَسْقُطُ كَفَّارَةُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ عَمَّنْ عَجَزَ عَنْهَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِلْأَعْرَابِيِّ: «خُذْهُ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَأَطْعِمْ أَهْلَكَ» فَقَدْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُطْعِمَهُ أَهْلَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِكَفَّارَةٍ أُخْرَى، وَلَا بَيَّنَ لَهُ بَقَاءَهَا فِي ذِمَّتِهِ.وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ، بِخِلَافِ الْكَفَّارَاتِ الْأُخْرَى، لِعُمُومِ أَدِلَّتِهَا لِلْوُجُوبِ حَالَ الْإِعْسَارِ، وَلِأَنَّهُ الْقِيَاسُ، وَقَدْ خُولِفَ فِي رَمَضَانَ لِلنَّصِّ. (ر- كَفَّارَةٌ).

26- وَيُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِطْعَامُ أَلاَّ يَكُونَ سَفِيهًا، لِأَنَّ السَّفِيهَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ وَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ، وَلَوْ صَدَرَ مِنْهُ مَا يُوجِبُ الْإِطْعَامَ فِي كَفَّارَةِ يَمِينٍ أَوْ ظِهَارٍ أَوْ فِدْيَةٍ فِي الْحَجِّ.فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ وَلَا يُكَفِّرُ بِالْإِطْعَامِ، لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ مَالِهِ، وَرَأَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ الَّتِي لَا يُجْزِئُ فِيهَا الصَّوْمُ يَلْزَمُهُ فِيهَا الدَّمُ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ مِنَ التَّكْفِيرِ فِي الْحَالِ، بَلْ يُؤَخَّرُ إِلَى أَنْ يَصِيرَ رَشِيدًا مُصْلِحًا لِمَالِهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْفَقِيرِ الَّذِي لَا يَجِدُ مَالًا.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَلْزَمُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ إِطْعَامٍ فِي مَالِهِ.وَيَنْظُرُ وَلِيُّهُ فِيهِ بِوَجْهِ النَّظَرِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (سَفَهٌ، وَكَفَّارَةٌ).

الْإِطْعَامُ عَنِ الْغَيْرِ:

27- الْإِطْعَامُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ لِفِعْلٍ يُوجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ،

وَالْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ تَقْبَلُ النِّيَابَةَ عَنِ الْمُكَلَّفِ، وَلِذَلِكَ مَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يُطْعِمَ عَنْ ظِهَارِهِ فَفَعَلَ ذَلِكَ الْغَيْرُ صَحَّ.

وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَا لَوْ أَطْعَمَ إِنْسَانٌ عَنْ غَيْرِهِ بِدُونِ إِذْنِهِ، حَيْثُ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لَوْ كَفَّرَ عَنِ الْحَانِثِ رَجُلٌ بِغَيْرِ أَمْرِهِ أَجْزَأَ عَنْهُ، لِأَنَّهَا مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي يُقْصَدُ مِنْهَا مَصْلَحَةٌ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ فَاعِلِهَا فَلَمْ تَتَوَقَّفْ عَلَى النِّيَّةِ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَلاَّ يُكَفِّرَ إِلاَّ بِأَمْرِهِ.

إِطْعَامُ الزَّوْجَةِ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا:

28- أَجَازَ الْفُقَهَاءُ لِلزَّوْجَةِ التَّصَدُّقَ بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ، لِحَدِيثِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- مَرْفُوعًا «إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ.بِمَا كَسَبَ» وَلِأَنَّ الْعَادَةَ السَّمَاحُ وَطِيبُ النَّفْسِ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَمْنَعَ رَبُّ الْبَيْتِ فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ.

الْحَلِفُ عَلَى الْإِطْعَامِ:

29- حَلَفَ عَلَى آخَرَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ فَهُوَ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ مَا يُطْعِمُ عَلَى وَجْهِ التَّطَعُّمِ كَجُبْنٍ وَفَاكِهَةٍ وَخُبْزٍ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الْمَطْبُوخِ.

وَيُنْدَبُ إِبْرَارُ الْقَسَمِ، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «أَمَرَ بِإِبْرَارِ الْقَسَمِ».فَإِنْ أَحْنَثَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مَعَهُ فَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْحَالِفِ، لِأَنَّ الْحَالِفَ هُوَ الْحَانِثُ، فَكَانَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الْفَاعِلُ.وَكَذَلِكَ إِنْ حَلَفَ أَنْ يُطْعِمَ غَيْرَهُ فَهُوَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَإِنْ وَفَّى لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ لَمْ يُوفِ حَنِثَ.

الْوَصِيَّةُ بِالْإِطْعَامِ:

30- الْوَصِيَّةُ بِالْإِطْعَامِ إِذَا أَعَانَتْ عَلَى مُحَرَّمٍ فَهِيَ بَاطِلَةٌ فِي الْأَصَحِّ، كَالْوَصِيَّةِ بِالْإِطْعَامِ بَعْدَ الْمَوْتِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، حَيْثُ تَجْتَمِعُ النَّائِحَاتُ، لِأَنَّهَا مِنَ الْإِعَانَةِ عَلَى الْمُحَرَّمِ، فَإِذَا لَمْ تُعِنْ عَلَى حَرَامٍ جَازَتْ وَوَجَبَ إِخْرَاجُهَا مِنْ تَرِكَتِهِ فِي حُدُودِ الثُّلُثِ، كَمَنْ أَوْصَى بِالْأُضْحِيَّةِ، أَوْ بِإِطْعَامِ الْفُقَرَاءِ، أَوْ بِفِطْرَةِ رَمَضَانَ أَوْ بِنَذْرٍ عَلَيْهِ.

الْوَقْفُ عَلَى الْإِطْعَامِ:

31- فِي وَقْفِ الطَّعَامِ عَلَى الْإِطْعَامِ إِنْ قَصَدَ بِوَقْفِهِ بَقَاءَ عَيْنِهِ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى فَسَادِ الطَّعَامِ وَذَلِكَ إِضَاعَةٌ لِلْمَالِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ وَقْفٌ لِلْقَرْضِ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ مُحْتَاجٌ ثُمَّ يَرُدُّ مِثْلَهُ، فَقَدْ رَأَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) جَوَازَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ أَرْضًا أَوْ شَجَرَةً ذَاتَ ثَمَرٍ لِإِطْعَامِ ثَمَرِهَا جَازَ، لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَصَابَ أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُبْتَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ وَفِي الْقُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالضَّيْفِ» فَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا مَلَكَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ صُوفَهُ وَلَبَنَهُ وَسَائِرَ مَنَافِعِهِ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ لِمَعْصِيَةٍ أَوْ لِأَهْلِ الْفِسْقِ فَالْأَرْجَحُ رَدُّهُ، لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (وَقْفٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


207-موسوعة الفقه الكويتية (أطعمة 3)

أَطْعِمَةٌ -3

68- وَهُنَاكَ اجْتِهَادَاتٌ تَرَى جَرَيَانَ هَذَا التَّحْرِيمِ أَيْضًا فِي حَيَوَانِ الْحَرَمِ الْمَدَنِيِّ، وَهُوَ مَدِينَةُ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- وَالْأَرْضُ الْمُحِيطَةُ بِهَا إِلَى الْحُدُودِ الْمُقَرَّرَةِ لَهَا فِي النُّصُوصِ، وَفِيهِ حَدِيثُ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: «الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عِيرٍ إِلَى ثَوْرٍ، لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا» وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ حُكْمًا وَدَلِيلًا وَبَيَانُ حُدُودِ الْحَرَمَيْنِ يُرَى فِي مَحَلِّهِ مِنْ مَوْضُوعِ الْحَجِّ وَمَوْضُوعِ الصَّيْدِ.

وَهُنَاكَ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ وَصَيْدِ الْمُحْرِمِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَحْرُمُ، وَيُعْتَبَرُ كَالْمَيْتَةِ عَلَى صَائِدِهِ فَقَطْ عُقُوبَةً لَهُ.وَلَكِنَّهُ يَكُونُ لَحْمًا حَلَالًا فِي ذَاتِهِ، فَيَجُوزُ لِغَيْرِ صَائِدِهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ.وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَيَرَى قَوْمٌ تَحْرِيمَ صَيْدِ الْمُحْرِمِ فِي أَرْضِ الْحِلِّ عَلَى صَائِدِهِ فَقَطْ، وَيَرَى آخَرُونَ تَحْرِيمَهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سِوَاهُ مِنَ الْمُحْرِمِينَ دُونَ الْمُحِلِّينَ.

السَّبَبُ الْعَارِضُ الْمُوجِبُ لِلْكَرَاهَةِ:

الْحَيَوَانَاتُ الْجَلاَّلَةُ:

69- الْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ مَا يُكْرَهُ أَكْلُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمُبَاحِ الْأَصْلِ بِسَبَبٍ عَارِضٍ اقْتَضَى هَذِهِ الْكَرَاهَةَ، فَإِذَا زَالَ الْعَارِضُ زَالَتِ الْكَرَاهَةُ.وَلَمْ يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ سِوَى الْحَيَوَانَاتِ الْجَلاَّلَةِ.

فَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: إِنَّ الْجَلاَّلَةَ هِيَ الْإِبِلُ أَوِ الْبَقَرُ أَوِ الْغَنَمُ الَّتِي أَغْلَبُ أَكْلِهَا النَّجَاسَاتِ فَيُكْرَهُ أَكْلُهَا، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْإِبِلِ الْجَلاَّلَةِ»، وَلِأَنَّهَا إِذَا كَانَ الْغَالِبُ مِنْ أَكْلِهَا النَّجَاسَاتِ يَتَغَيَّرُ لَحْمُهَا وَيُنْتِنُ، فَيُكْرَهُ أَكْلُهُ كَالطَّعَامِ الْمُنْتِنِ.وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنِ الْجَلاَّلَةِ أَنْ تُشْرَبَ أَلْبَانُهَا».أَيْضًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ لَحْمَهَا إِذَا تَغَيَّرَ يَتَغَيَّرُ لَبَنُهَا.

وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ رُكُوبِهَا فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا أَنْتَنَتْ فَيَمْتَنِعُ مِنَ اسْتِعْمَالِهَا حَتَّى لَا يَتَأَذَّى النَّاسُ بِنَتِنِهَا.

وَقِيلَ: لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهَا، وَلَوْ لِغَيْرِ الْأَكْلِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إِلَى ذَاتِهَا، بَلْ لِعَارِضٍ جَاوَرَهَا، فَكَانَ الِانْتِفَاعُ بِهَا حَلَالًا فِي ذَاتِهِ، مَمْنُوعًا لِغَيْرِهِ.

70- وَتَزُولُ الْكَرَاهِيَةُ بِحَبْسِهَا عَنْ أَكْلِ النَّجَاسَةِ وَعَلَفِهَا بِالْعَلَفِ الطَّاهِرِ.

وَهَلْ لِحَبْسِهَا تَقْدِيرٌ زَمَنِيٌّ، أَوْ لَيْسَ لَهُ تَقْدِيرٌ؟ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُوَقِّتُ فِي حَبْسِهَا، وَقَالَ: تُحْبَسُ حَتَّى تَطِيبَ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ أَيْضًا.

وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا تُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي النَّاقَةِ وَالشَّاةِ وَالْبَقَرَةِ الْجَلاَّلَاتِ أَنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ جَلاَّلَةً إِذَا أَنْتَنَتْ وَتَغَيَّرَتْ وَوُجِدَ مِنْهَا رِيحٌ مُنْتِنَةٌ، فَهِيَ الَّتِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا وَلَا يُشْرَبُ لَبَنُهَا.هَذَا إِذَا كَانَتْ لَا تَخْلِطُ وَلَا تَأْكُلُ إِلاَّ الْجِلَّةَ أَوِ الْعَذِرَةَ غَالِبًا، فَإِنْ خَلَطَتْ فَلَيْسَتْ جَلاَّلَةً فَلَا تُكْرَهُ، لِأَنَّهَا لَا تُنْتِنُ.

71- وَلَا يُكْرَهُ أَكْلُ الدَّجَاجَةِ الْمُخْلَاةِ وَإِنْ كَانَتْ تَتَنَاوَلُ النَّجَاسَةَ، لِأَنَّهَا لَا يَغْلِبُ عَلَيْهَا أَكْلُهَا، بَلْ تَخْلِطُهَا بِالْحَبِّ.وَقِيلَ: إِنَّمَا لَا تُكْرَهُ، لِأَنَّهَا لَا تُنْتِنُ كَمَا تُنْتِنُ الْإِبِلُ، وَالْحُكْمُ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّتِنِ.وَلِهَذَا قَالُوا فِي الْجَدْيِ إِذَا ارْتَضَعَ بِلَبَنِ خِنْزِيرَةٍ حَتَّى كَبِرَ: إِنَّهُ لَا يُكْرَهُ أَكْلُهُ، لِأَنَّ لَحْمَهُ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يُنْتِنُ.وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ لِلنَّتِنِ لَا لِتَنَاوُلِ النَّجَاسَةِ.

وَالْأَفْضَلُ أَنْ تُحْبَسَ الدَّجَاجَةُ الْمُخْلَاةُ حَتَّى يَذْهَبَ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ النَّجَاسَةِ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّنَزُّهِ.

وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا تُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَكَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ مَا فِي جَوْفِهَا مِنَ النَّجَاسَةِ يَزُولُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ غَالِبًا.

هَذِهِ خُلَاصَةُ مَا أَفَادَهُ صَاحِبُ «الْبَدَائِعِ» وَيُؤْخَذُ مِنَ «الدُّرِّ الْمُخْتَارِ» وَحَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ عَلَيْهِ، وَتَقْرِيرُ الرَّافِعِيِّ أَنَّ كَرَاهَةَ الْجَلاَّلَةِ تَنْزِيهِيَّةٌ لَا تَحْرِيمِيَّةٌ، وَأَنَّ صَاحِبَ «التَّجْنِيسِ» اخْتَارَ حَبْسَ الدَّجَاجَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَالشَّاةِ أَرْبَعَةً، وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرَةِ عَشْرَةً، وَأَنَّ السَّرَخْسِيَّ قَالَ: الْأَصَحُّ عَدَمُ التَّقْدِيرِ وَأَنَّهَا تُحْبَسُ حَتَّى تَزُولَ الرَّائِحَةُ الْمُنْتِنَةُ.

72- وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ قَرِيبٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا ظَهَرَ تَغَيُّرٌ فِي لَحْمِ الْجَلاَّلَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنَ الدَّوَابِّ أَمْ مِنَ الطُّيُورِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ التَّغَيُّرُ فِي الطَّعْمِ أَمِ اللَّوْنِ أَمِ الرِّيحِ، فَفِيهَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الرَّافِعِيِّ الْحُرْمَةُ، وَعِنْدَ النَّوَوِيِّ الْكَرَاهَةُ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ، لِأَنَّ النَّهْيَ فِي الْحَدِيثِ إِنَّمَا هُوَ لِتَغَيُّرِ اللَّحْمِ فَلَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ.

وَيُلْحَقُ بِالْجَلاَّلَةِ وَلَدُهَا الَّذِي يُوجَدُ فِي بَطْنِهَا بَعْدَ ذَكَاتِهَا، إِذَا وُجِدَ مَيِّتًا وَظَهَرَ فِيهِ التَّغَيُّرُ، وَكَذَلِكَ الْعَنْزُ الَّتِي رُبِّيَتْ بِلَبَنِ كَلْبَةٍ أَوْ خِنْزِيرَةٍ إِذَا تَغَيَّرَ- لَحْمُهَا.فَإِنْ عُلِفَتِ الْجَلاَّلَةُ، أَوْ لَمْ تُعْلَفْ، فَطَابَ لَحْمُهَا حَلَّ بِلَا كَرَاهَةٍ، لِزَوَالِ عِلَّةِ الْكَرَاهَةِ وَهِيَ التَّغَيُّرُ.وَلَا تَقْدِيرَ لِمُدَّةِ الْعَلَفِ.وَتَقْدِيرُهَا بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي الْبَعِيرِ، وَثَلَاثِينَ فِي الْبَقَرِ، وَسَبْعَةٍ فِي الشَّاةِ، وَثَلَاثَةٍ فِي الدَّجَاجَةِ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ.وَلَا يَكْفِي الْغُسْلُ أَوِ الطَّبْخُ لِلْحُكْمِ بِطِيبِ اللَّحْمِ.وَإِذَا حَرُمَ أَوْ كُرِهَ أَكْلُ الْجَلاَّلَةِ حَرُمَ أَوْ كُرِهَ سَائِرُ أَجْزَائِهَا كَبَيْضِهَا وَلَبَنِهَا، وَيُكْرَهُ رُكُوبُهَا مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ، لِأَنَّ لِعَرَقِهَا حُكْمَ لَبَنِهَا وَلَحْمِهَا.

73- وَرَوَى الْحَنَابِلَةُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ قَوْلَيْنِ:

(أَوَّلُهُمَا) أَنَّ الْجَلاَّلَةَ تَحْرُمُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ.

(الثَّانِي) أَنَّهَا تُكْرَهُ.

وَرَوَوْا عَنْ أَحْمَدَ فِيمَا تَزُولُ بِهِ الْكَرَاهَةُ رِوَايَتَيْنِ:

(إِحْدَاهُمَا) أَنَّ الْجَلاَّلَةَ مُطْلَقًا تُحْبَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.

(الثَّانِيَةُ) أَنَّ الطَّائِرَ يُحْبَسُ ثَلَاثَةً، وَالشَّاةَ سَبْعَةً، وَمَا عَدَا ذَلِكَ (مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَنَحْوِهِمَا فِي الْكِبَرِ) أَرْبَعِينَ يَوْمًا.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّ الطُّيُورَ وَالْأَنْعَامَ الْجَلاَّلَةَ مُبَاحَةٌ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: إِنَّ مَالِكًا كَرِهَ الْجَلاَّلَةَ.

وَدَلِيلُ تَحْرِيمِ الْجَلاَّلَةِ عِنْدَ مَنْ حَرَّمَهَا مَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ أَكْلِ الْجَلاَّلَةِ وَأَلْبَانِهَا».

وَوَجْهُ حَبْسِهَا ثَلَاثًا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- كَانَ إِذَا أَرَادَ أَكْلَهَا حَبَسَهَا ثَلَاثًا وَأَطْعَمَهَا الطَّاهِرَاتِ.

وَوَجْهُ حَبْسِ الْإِبِلِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْإِبِلِ الْجَلاَّلَةِ أَنْ يُؤْكَلَ لَحْمُهَا، وَلَا يُشْرَبُ لَبَنُهَا، وَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا إِلاَّ الْأُدُمَ.وَلَا يَرْكَبُهَا النَّاسُ حَتَّى تُعْلَفَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً».

أَجْزَاءُ الْحَيَوَانِ وَمَا انْفَصَلَ مِنْهُ:

حُكْمُ الْعُضْوِ الْمُبَانِ:

74- إِنَّ الْعُضْوَ الَّذِي يُبَانُ مِنَ الْحَيَوَانِ، أَيْ يُفْصَلُ مِنْهُ، يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ فِي حِلِّ أَكْلِهِ وَحُرْمَتِهِ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ كَمَا يَلِي:

أ- الْعُضْوُ الْمُبَانُ مِنْ حَيَوَانٍ حَيٍّ:

يُعْتَبَرُ كَمَيْتَةِ هَذَا الْحَيَوَانِ فِي حِلِّ الْأَكْلِ وَحُرْمَتِهِ، فَالْمُبَانُ مِنَ السَّمَكِ الْحَيِّ أَوِ الْجَرَادِ الْحَيِّ يُؤْكَلُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّ مَيْتَتَهُمَا تُؤْكَلُ.

وَالْمَالِكِيَّةُ يَقُولُونَ فِي الْجَرَادِ: إِنْ كَانَتِ الْإِبَانَةُ خَالِيَةً عَنْ نِيَّةِ التَّذْكِيَةِ، أَوْ خَالِيَةً عَنِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا لَمْ يُؤْكَلِ الْمُبَانُ، وَإِنْ كَانَتْ مَصْحُوبَةً بِالنِّيَّةِ وَالتَّسْمِيَةِ أُكِلَ الْمُبَانُ إِنْ كَانَ هُوَ الرَّأْسُ، وَلَا يُؤْكَلُ إِنْ كَانَ جَنَاحًا أَوْ يَدًا أَوْ نَحْوَهُمَا.

وَالْمُبَانُ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ ذَاتِ الدَّمِ السَّائِلِ لَا يُؤْكَلُ، سَوَاءٌ أَكَانَ أَصْلُهُ مَأْكُولًا كَالْأَنْعَامِ، أَمْ غَيْرَ مَأْكُولٍ كَالْخِنْزِيرِ، فَإِنَّ مَيْتَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا لَا تُؤْكَلُ بِلَا خِلَافٍ، فَكَذَلِكَ مَا أُبِينَ مِنْهُ حَيًّا، فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهُوَ مَيْتَةٌ».

ب- الْعُضْوُ الْمُبَانُ مِنَ الْمَيْتَةِ:

حُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْمَيْتَةِ فِي الْأَكْلِ وَعَدَمِهِ بِلَا خِلَافٍ.

ج- الْعُضْوُ الْمُبَانُ مِنَ الْمُذَكَّى الْمَأْكُولِ فِي أَثْنَاءِ تَذْكِيَتِهِ قَبْلَ تَمَامِهَا:

حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُبَانِ مِنَ الْحَيِّ.فَلَوْ قَطَعَ إِنْسَانٌ حُلْقُومَ الشَّاةِ وَبَعْضَ مَرِّيئِهَا لِلتَّذْكِيَةِ، فَقَطَعَ إِنْسَانٌ آخَرُ يَدَهَا أَوْ أَلْيَتَهَا، فَالْمَقْطُوعُ نَجِسٌ حَرَامُ الْأَكْلِ، كَالْمَقْطُوعِ مِنَ الْحَيِّ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ أَيْضًا.

د- الْعُضْوُ الْمُبَانُ مِنَ الْمُذَكَّى الْمَأْكُولِ بَعْدَ تَمَامِ تَذْكِيَتِهِ وَقَبْلَ زُهُوقِ رُوحِهِ:

يَحِلُّ أَكْلُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمُذَكَّى، لِأَنَّ بَقَاءَ رَمَقٍ مِنَ الْحَيَاةِ هُوَ رَمَقٌ فِي طَرِيقِ الزَّوَالِ الْعَاجِلِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَوْتِ.

هـ- الْعُضْوُ الْمُبَانُ مِنَ الْمَصِيدِ بِآلَةِ الصَّيْدِ:

إِمَّا أَنْ يَبْقَى الْمَصِيدُ بَعْدَ إِبَانَتِهِ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً، وَإِمَّا أَنْ تَصِيرَ حَيَاتُهُ حَيَاةَ مَذْبُوحٍ: فَفِي الْحَالَةِ الْأُولَى: يَكُونُ عُضْوًا مُبَانًا مِنْ حَيَوَانٍ حَيٍّ، فَيَكُونُ كَمَيْتَتِهِ.

وَفِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ: يَكُونُ عُضْوًا مُبَانًا بِالتَّذْكِيَةِ، وَيَخْتَلِفُ النَّظَرُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ لَهُ صِفَتَيْنِ شِبْهَ مُتَعَارِضَتَيْنِ:

(الصِّفَةُ الْأُولَى) أَنَّهُ عُضْوٌ أُبِينَ قَبْلَ تَمَامِ التَّذْكِيَةِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُبَانِ مِنَ الْحَيِّ فَلَا يَحِلُّ.

(وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ) أَنَّ التَّذْكِيَةَ سَبَبٌ فِي حِلِّ الْمُذَكَّى، وَكُلٌّ مِنَ الْمُبَانِ وَالْمُبَانِ مِنْهُ مُذَكًّى، لِأَنَّ التَّذْكِيَةَ بِالصَّيْدِ هِيَ تَذْكِيَةٌ لِلْمَصِيدِ كُلِّهِ لَا لِبَعْضِهِ، فَيَحِلُّ الْعُضْوُ كَمَا يَحِلُّ الْبَاقِي.

وَلِهَذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ (ر: صَيْدٌ).

حُكْمُ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ الْمُذَكَّى:

75- لَا شَكَّ أَنَّ التَّذْكِيَةَ حِينَمَا تَقَعُ عَلَى الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ تَقْتَضِي إِبَاحَةَ أَكْلِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِبَعْضِ الْأَجْزَاءِ حُكْمٌ خَاصٌّ: فَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ مَثَلًا، حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ مَا سَالَ مِنَ الذَّبِيحَةِ، وَمَا بَقِيَ بِمَكَانِ الذَّبْحِ، وَمَا تَسَرَّبَ إِلَى دَاخِلِ الْحَيَوَانِ مِنَ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ.وَأَمَّا مَا بَقِيَ فِي الْعُرُوقِ وَاللَّحْمِ وَالْكَبِدِ وَالطِّحَالِ وَالْقَلْبِ فَإِنَّهُ حَلَالُ الْأَكْلِ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ طُبِخَ اللَّحْمُ فَظَهَرَتِ الْحُمْرَةُ فِي الْمَرَقِ لَمْ يَنْجُسْ وَلَمْ يَحْرُمْ.وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ أَشْيَاءَ تُكْرَهُ أَوْ تَحْرُمُ مِنَ الذَّبِيحَةِ.وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ مَا قَالُوهُ وَمَا قَالَهُ غَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ:

76- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَحْرُمُ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ سَبْعَةٌ: الدَّمُ الْمَسْفُوحُ، وَالذَّكَرُ، وَالْأُنْثَيَانِ، وَالْقُبُلُ (أَيْ فَرْجُ الْأُنْثَى وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْحَيَا)، وَالْغُدَّةُ، وَالْمَثَانَةُ (وَهِيَ مَجْمَعُ الْبَوْلِ)، وَالْمَرَارَةُ (وَهِيَ وِعَاءُ الْمُرَّةِ الصَّفْرَاءِ، وَتَكُونُ مُلْصَقَةً بِالْكَبِدِ).

وَهَذِهِ الْحُرْمَةُ فِي نَظَرِهِمْ لِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}، وَهَذِهِ السَّبْعَةُ مِمَّا تَسْتَخْبِثُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ فَكَانَتْ مُحَرَّمَةً، وَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى خُبْثِهَا، لِمَا رَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ وَاصِلِ بْنِ أَبِي جَمِيلَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنَ الشَّاةِ: الذَّكَرَ، وَالْأُنْثَيَيْنِ، وَالْقُبُلَ، وَالْغُدَّةَ، وَالْمَرَارَةَ، وَالْمَثَانَةَ، وَالدَّمَ».

وَالْمُرَادُ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ قَطْعًا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ وَبَيْنَ الدَّمِ فِي الْكَرَاهَةِ، وَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ مُحَرَّمٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ.

77- وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: الدَّمُ حَرَامٌ، وَأَكْرَهُ السِّتَّةَ.فَأَطْلَقَ وَصْفَ الْحَرَامِ عَلَى الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، وَسَمَّى مَا سِوَاهُ مَكْرُوهًا، لِأَنَّ الْحَرَامَ الْمُطْلَقَ مَا ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَحُرْمَةُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ قَدْ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَهُوَ قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} الْآيَةَ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ أَيْضًا عَلَى حُرْمَتِهِ.فَأَمَّا حُرْمَةُ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَجْزَاءِ فَلَمْ تَثْبُتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ بَلْ بِالِاجْتِهَادِ، أَوْ بِظَاهِرِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ الْمُحْتَمِلِ لِلتَّأْوِيلِ، وَهُوَ قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}، أَوْ بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ ذِكْرُهُ.لِذَلِكَ فَصَّلَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْوَصْفِ فَسَمَّى الدَّمَ حَرَامًا، وَالْبَاقِي مَكْرُوهًا.

وَقِيلَ: إِنَّ الْكَرَاهَةَ فِي الْأَجْزَاءِ السِّتَّةِ تَنْزِيهِيَّةٌ، لَكِنَّ الْأَوْجَهَ كَمَا فِي «الدُّرِّ الْمُخْتَارِ» أَنَّهَا تَحْرِيمِيَّةٌ.

78- هَذَا، وَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ مُتَّفَقٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ كَمَا مَرَّ.

وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ اسْتِثْقَالَ أَكْلِ عَشْرَةٍ- دُونَ تَحْرِيمٍ- الْأُنْثَيَانِ وَالْعَسِيبُ وَالْغُدَّةُ وَالطِّحَالُ وَالْعُرُوقُ وَالْمَرَارَةُ وَالْكُلْيَتَانِ وَالْمَثَانَةُ وَأُذُنَا الْقَلْبِ.

79- وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا بِكَرَاهَةِ أَكْلِ الْغُدَّةِ وَأُذُنِ الْقَلْبِ.أَمَّا الْغُدَّةُ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَرِهَ أَكْلَهَا، رَوَى ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ أَبِيهِ.

وَأَمَّا أُذُنُ الْقَلْبِ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ أَكْلِهَا، نَقَلَ ذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ الْحَنْبَلِيُّ.

حُكْمُ مَا انْفَصَلَ مِنَ الْحَيَوَانِ

80- مِنَ الْمُقَرَّرِ فِي مَوْضُوعِ «النَّجَاسَةِ» أَنَّ الْمَائِعَاتِ الْمُنْفَصِلَةَ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَالْفَضَلَاتِ، وَالْبَيْضِ، وَالْجَنِينِ، تَارَةً تَكُونُ نَجِسَةً، وَتَارَةً تَكُونُ طَاهِرَةً، فَمَا كَانَ نَجِسًا مِنْهَا فِي مَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ فَهُوَ غَيْرُ مَأْكُولٍ فِي ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، وَمَا كَانَ طَاهِرًا فَتَارَةً يَكُونُ مَأْكُولًا، وَتَارَةً يَكُونُ غَيْرَ مَأْكُولٍ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنَ الطَّهَارَةِ حِلُّ الْأَكْلِ، فَإِنَّ الطَّاهِرَ قَدْ يَكُونُ مُضِرًّا أَوْ مُسْتَقْذَرًا فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ.

وَيَكْفِينَا هُنَا أَنْ نَضْرِبَ أَمْثِلَةً لِمَا يَكْثُرُ السُّؤَالُ عَنْهُ:

أَوَّلًا- الْبَيْضُ:

81- إِنْ خَرَجَ الْبَيْضُ مِنْ حَيَوَانٍ مَأْكُولٍ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، أَوْ بَعْدَ تَذْكِيَتِهِ شَرْعًا، أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّذْكِيَةِ كَالسَّمَكِ، فَبَيْضُهُ مَأْكُولٌ إِجْمَاعًا، إِلاَّ إِذَا فَسَدَ.

وَفَسَّرَ الْمَالِكِيَّةُ الْبَيْضَ الْفَاسِدَ بِأَنَّهُ مَا فَسَدَ بَعْدَ انْفِصَالِهِ بِعَفَنٍ، أَوْ صَارَ دَمًا، أَوْ صَارَ مُضْغَةً، أَوْ فَرْخًا مَيِّتًا.

وَفَسَّرَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ الَّذِي تَغَيَّرَ بِحَيْثُ أَصْبَحَ غَيْرَ صَالِحٍ لِلتَّخَلُّقِ، فَلَا يَضُرُّ عِنْدَهُمْ صَيْرُورَتُهُ دَمًا، إِذَا قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: إِنَّهُ صَالِحٌ لِلتَّخَلُّقِ.

82- وَإِنْ خَرَجَ الْبَيْضُ مِنْ حَيَوَانٍ مَأْكُولٍ بَعْدَ مَوْتِهِ دُونَ تَذْكِيَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَهُوَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى الذَّكَاةِ، كَالدَّجَاجِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: يُؤْكَلُ سَوَاءٌ أَتَصَلَّبَتْ قِشْرَتُهُ أَمْ لَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُؤْكَلُ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُؤْكَلُ مَا تَصَلَّبَتْ قِشْرَتُهُ فَقَطْ.

وَحَكَى الزَّيْلَعِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَكُونُ نَجِسًا إِنْ كَانَ مَائِعًا، فَلَا يُؤْكَلُ عِنْدَهُمَا إِلاَّ إِذَا كَانَ جَامِدًا.

83- وَإِنْ خَرَجَ الْبَيْضُ مِنْ حَيَوَانٍ غَيْرِ مَأْكُولٍ فَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الدَّمِ السَّائِلِ، كَالْغُرَابِ الْأَبْقَعِ، فَبَيْضُهُ نَجِسٌ تَبَعًا لِلَحْمِهِ، فَلَا يَكُونُ مَأْكُولًا.

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الدَّمِ السَّائِلِ كَالزُّنْبُورِ فَبَيْضُهُ طَاهِرٌ تَبَعًا لِلَحْمِهِ، وَمَأْكُولٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَيْتَةٍ.

وَالْمَالِكِيَّةُ يَحِلُّ عِنْدَهُمْ كُلُّ الْبَيْضِ الْخَارِجِ مِنَ الْحَيِّ أَوِ الْمُذَكَّى، لِأَنَّ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تَبِيضُ لَا تَنْقَسِمُ عِنْدَهُمْ إِلَى مَأْكُولٍ وَغَيْرِ مَأْكُولٍ، بَلْ كُلُّهَا مُبَاحُ الْأَكْلِ، إِلاَّ مَا لَا يُؤْمَنُ سُمُّهُ كَالْوَزَغِ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى مَنْ يَضُرُّهُ.فَكَذَلِكَ بَيْضُهُ إِنْ كَانَ يَضُرُّ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ وَإِلاَّ فَلَا، فَالْعِبْرَةُ عِنْدَهُمْ إِنَّمَا هِيَ لِلضَّرَرِ.

وَصَرَّحَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّ بَيْضَ الْحَيِّ غَيْرِ الْمَأْكُولِ طَاهِرٌ مَأْكُولٌ:

أَمَّا كَوْنُهُ طَاهِرًا فَلِأَنَّهُ أَصْلُ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مَأْكُولًا فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقْذَرٍ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ الْمُقْرِي فِي الرَّوْضِ «وَفِي بَيْضِ مَا لَا يُؤْكَلُ تَرَدُّدٌ»

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ بَيْضَ غَيْرِ الْمَأْكُولِ نَجِسٌ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ.وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ لِهَذَا أَنَّ الْبَيْضَ بَعْضُ الْحَيَوَانِ، فَإِذَا كَانَ الْحَيَوَانُ غَيْرَ مَأْكُولٍ فَبَعْضُهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ.

ثَانِيًا: اللَّبَنُ:

84- إِنْ خَرَجَ اللَّبَنُ مِنْ حَيَوَانٍ حَيٍّ فَهُوَ تَابِعٌ لِلَحْمِهِ فِي إِبَاحَةِ التَّنَاوُلِ وَكَرَاهَتِهِ وَتَحْرِيمِهِ.

وَيُسْتَثْنَى مِنَ الْمُحَرَّمِ: الْآدَمِيِّ، فَلَبَنُهُ مُبَاحٌ، وَإِنْ كَانَ لَحْمُهُ مُحَرَّمًا، لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ لِلتَّكْرِيمِ لَا لِلِاسْتِخْبَاثِ.

وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الْمُحَرَّمِ أَوِ الْمَكْرُوهِ الْخَيْلُ، بِنَاءً عَلَى مَا نُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ أَوْ مَكْرُوهَةٌ، فَفِي لَبَنِهَا عَلَى هَذَا رَأْيَانِ:

(أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ تَابِعٌ لِلَّحْمِ فَيَكُونُ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا.

(وَثَانِيهِمَا): - وَهُوَ الصَّحِيحُ- أَنَّهُ مُبَاحٌ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْخَيْلِ أَوْ كَرَاهَتَهَا لِكَوْنِهَا آلَةَ الْجِهَادِ لَا لِاسْتِخْبَاثِ لَحْمِهَا، وَاللَّبَنُ لَيْسَ آلَةَ الْجِهَادِ.وَنُقِلَ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَالزُّهْرِيِّ أَنَّهُمْ رَخَّصُوا فِي لَبَنِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ.وَإِنْ خَرَجَ اللَّبَنُ مِنْ حَيَوَانٍ مَأْكُولٍ بَعْدَ تَذْكِيَتِهِ فَهُوَ مَأْكُولٌ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَإِنْ خَرَجَ مِنْ آدَمِيَّةٍ مَيِّتَةٍ فَهُوَ مَأْكُولٌ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْآدَمِيَّ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ.وَكَذَا أَيْضًا عِنْدَ بَعْضِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ كَأَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ مَعَ قَوْلِهِ بِنَجَاسَةِ الْآدَمِيِّ الْمَيِّتِ يَقُولُ: إِنَّ لَبَنَ الْمَرْأَةِ الْمَيْتَةِ طَاهِرٌ مَأْكُولٌ، خِلَافًا لِلصَّاحِبَيْنِ.

وَإِنْ خَرَجَ اللَّبَنُ مِنْ مَيِّتَةِ الْمَأْكُولِ، كَالنَّعْجَةِ مَثَلًا، فَهُوَ طَاهِرٌ مَأْكُولٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.وَيَرَى صَاحِبَاهُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ حَرَامٌ لِتَنَجُّسِهِ بِنَجَاسَةِ الْوِعَاءِ، وَهُوَ ضَرْعُ الْمَيْتَةِ الَّذِي تَنَجَّسَ بِالْمَوْتِ.

وَحُجَّةُ الْقَائِلِينَ بِطَهَارَتِهِ وَإِبَاحَتِهِ قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةٌ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}.

وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ خَالِصًا فَلَا يَتَنَجَّسُ بِنَجَاسَةِ مَجْرَاهُ، وَوَصَفَهُ بِكَوْنِهِ سَائِغًا وَهَذَا يَقْتَضِي الْحِلَّ، وَامْتَنَّ عَلَيْنَا بِهِ، وَالْمِنَّةُ بِالْحَلَالِ لَا بِالْحَرَامِ.

(ثَالِثًا): الْإِنْفَحَةُ

85- الْإِنْفَحَةُ هِيَ مَادَّةٌ بَيْضَاءُ صَفْرَاوِيَّةٌ فِي وِعَاءٍ جِلْدِيٍّ، يُسْتَخْرَجُ مِنْ بَطْنِ الْجَدْيِ أَوِ الْحَمَلِ الرَّضِيعِ، يُوضَعُ مِنْهَا قَلِيلٌ فِي اللَّبَنِ الْحَلِيبِ فَيَنْعَقِدُ وَيَتَكَاثَفُ وَيَصِيرُ جُبْنًا، يُسَمِّيهَا النَّاسُ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ: (مَجْبَنَةٌ).وَجِلْدَةُ الْإِنْفَحَةِ هِيَ الَّتِي تُسَمَّى: كَرِشًا، إِذَا رَعَى الْحَيَوَانُ الْعُشْبَ.

فَالْإِنْفَحَةُ إِنْ أُخِذَتْ مِنْ مُذَكًّى ذَكَاةً شَرْعِيَّةً فَهِيَ طَاهِرَةٌ مَأْكُولَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَإِنْ أُخِذَتِ الْإِنْفَحَةُ مِنْ مَيِّتٍ، أَوْ مُذَكًّى ذَكَاةً غَيْرَ شَرْعِيَّةٍ فَهِيَ نَجِسَةٌ غَيْرُ مَأْكُولَةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَطَاهِرَةٌ مَأْكُولَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، سَوَاءٌ كَانَتْ صُلْبَةً أَمْ مَائِعَةً قِيَاسًا عَلَى اللَّبَنِ كَمَا سَبَقَ.

وَقَالَ الصَّاحِبَانِ: إِنْ كَانَتْ صُلْبَةً يُغْسَلُ ظَاهِرُهَا وَتُؤْكَلُ، وَإِنْ كَانَتْ مَائِعَةً فَهِيَ نَجِسَةٌ لِنَجَاسَةِ وِعَائِهَا بِالْمَوْتِ فَلَا تُؤْكَلُ.

وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ الْجُبْنَ الْمَصْنُوعَ مِنْ لَبَنِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ إِذَا عُقِدَ بِإِنْفَحَةِ الْمُذَكَّى ذَكَاةً شَرْعِيَّةً فَهُوَ طَاهِرٌ مَأْكُولٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ عُقِدَ بِإِنْفَحَةِ الْمَيْتَةِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ.

رَابِعًا- الْجَنِينُ:

86- جَنِينُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ إِنْ خَرَجَ مِنْ حَيٍّ أَوْ مَيْتَةٍ لَا يَحِلُّ إِلاَّ إِنْ أُدْرِكَتْ ذَكَاتُهُ، فَذُكِّيَ ذَكَاةً شَرْعِيَّةً.

وَإِنْ خَرَجَ مِنْ مُذَكَّاةٍ ذَكَاةً شَرْعِيَّةً اخْتِيَارِيَّةً أَوِ اضْطِرَارِيَّةً فَهُنَاكَ حَالَتَانِ:

(الْحَالَةُ الْأُولَى): أَنْ يَخْرُجَ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ، بِأَنْ يَكُونَ عَلَقَةً أَوْ مُضْغَةً أَوْ جَنِينًا غَيْرَ كَامِلِ الْخِلْقَةِ فَلَا يَحِلُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ، إِذْ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمَوْتِ تَقَدُّمُ الْحَيَاةِ.قَالَ تَعَالَى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}.فَمَعْنَى قَوْلِهِ: (كُنْتُمْ أَمْوَاتًا) كُنْتُمْ مَخْلُوقِينَ بِلَا حَيَاةٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُنْفَخَ فِيهِمُ الرُّوحُ.

(الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ): أَنْ يَخْرُجَ بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ بِأَنْ يَكُونَ جَنِينًا كَامِلَ الْخِلْقَةِ- أَشْعَرَ أَوْ لَمْ يُشْعِرْ- وَلِهَذِهِ الْحَالَةِ صُوَرٌ:

(الصُّورَةُ الْأُولَى): أَنْ يَخْرُجَ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً فَتَجِبُ تَذْكِيَتُهُ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ التَّذْكِيَةِ فَهُوَ مَيْتَةٌ اتِّفَاقًا.

(الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ): أَنْ يَخْرُجَ حَيًّا حَيَاةَ مَذْبُوحٍ، فَإِنْ أَدْرَكْنَا ذَكَاتَهُ وَذَكَّيْنَاهُ حَلَّ اتِّفَاقًا، وَإِنْ لَمْ يُذَكَّ حَلَّ أَيْضًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّ حَيَاةَ الْمَذْبُوحِ كَلَا حَيَاةٍ، فَكَأَنَّهُ مَاتَ بِتَذْكِيَةِ أُمِّهِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ حَيًّا، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يَقْدِرُ عَلَى ذَبْحِهِ فَمَاتَ يُؤْكَلُ، وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِمَا: إِنَّ ذَكَاةَ الْجَنِينِ بِذَكَاةِ أُمِّهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ إِنْ سَارَعْنَا إِلَيْهِ بِالذَّكَاةِ فَمَاتَ قَبْلَهَا حَلَّ، لِأَنَّ حَيَاتَهُ حِينَئِذٍ كَلَا حَيَاةٍ، وَكَأَنَّهُ خَرَجَ مَيِّتًا بِذَكَاةِ أُمِّهِ، لَكِنَّهُمُ اشْتَرَطُوا فِي حِلِّهِ حِينَئِذٍ أَنْ يَنْبُتَ شَعْرُ جَسَدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَامَلْ، وَلَا يَكْفِي شَعْرُ رَأْسِهِ أَوْ عَيْنِهِ.

(الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ): أَنْ يَخْرُجَ مَيِّتًا، وَيُعْلَمُ أَنَّ مَوْتَهُ كَانَ قَبْلَ تَذْكِيَةِ أُمِّهِ، فَلَا يَحِلُّ اتِّفَاقًا، وَيُعْرَفُ مَوْتُهُ قَبْلَ ذَكَاةِ أُمِّهِ بِأُمُورٍ، مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ مُتَحَرِّكًا فِي بَطْنِهَا فَتُضْرَبُ فَتَسْكُنُ حَرَكَتُهُ، ثُمَّ تُذَكَّى، فَيَخْرُجُ مَيِّتًا، وَمِنْهَا: أَنْ يُخْرِجَ رَأْسَهُ مَيِّتًا ثُمَّ تُذَكَّى.

(الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ): أَنْ يَخْرُجَ مَيِّتًا بَعْدَ تَذْكِيَةِ أُمِّهِ بِمُدَّةٍ لِتَوَانِي الْمُذَكِّي فِي إِخْرَاجِهِ فَلَا يَحِلُّ اتِّفَاقًا لِلشَّكِّ فِي أَنَّ مَوْتَهُ كَانَ بِتَذْكِيَةِ أُمِّهِ أَوْ بِالِانْخِنَاقِ لِلتَّوَانِي فِي إِخْرَاجِهِ.

(الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ): أَنْ يَخْرُجَ مَيِّتًا عَقِبَ تَذْكِيَةِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْلَمَ مَوْتُهُ قَبْلَ التَّذْكِيَةِ، فَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ مَوْتَهُ بِسَبَبِ التَّذْكِيَةِ لَا بِسَبَبٍ آخَرَ.وَهَذِهِ الصُّورَةُ هِيَ مَحَلُّ الْخِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.فَأَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ.غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا الْإِشْعَارَ.وَهُوَ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.

وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ مَعَهُ قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وَالْجَنِينُ الَّذِي لَمْ يُدْرَكْ حَيًّا بَعْدَ تَذْكِيَةِ أُمِّهِ مَيْتَةٌ، وَمِمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ حَيَاةَ الْجَنِينِ مُسْتَقِلَّةٌ، إِذْ يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهَا بَعْدَ مَوْتِ أُمِّهِ فَتَكُونُ تَذْكِيَتُهُ مُسْتَقِلَّةً.

وَحُجَّةُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالْجُمْهُورِ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ» وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَتَذَكَّى بِذَكَاةِ أُمِّهِ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّهُ تَبَعٌ لأُِمِّهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، أَمَّا حَقِيقَةٌ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا حُكْمًا فَلِأَنَّهُ يُبَاعُ بِبَيْعِ الْأُمِّ، وَلِأَنَّ جَنِينَ الْأُمِّ يُعْتَقُ بِعِتْقِهَا، وَالْحُكْمُ فِي التَّبَعِ يَثْبُتُ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ، وَلَا تُشْتَرَطُ لَهُ عِلَّةٌ عَلَى حِدَةٍ، لِئَلاَّ يَنْقَلِبَ التَّبَعُ أَصْلًا.

تَنَاوُلُ الْمُضْطَرِّ لِلْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا:

87- أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إِبَاحَةِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا لِلْمُضْطَرِّ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ الِاضْطِرَارَ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ فِي خَمْسَةِ مَوَاطِنَ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ:

(الْأَوَّلُ) - الْآيَةُ 173 مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِيهَا بَعْدَ ذِكْرِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

(الثَّانِي) - الْآيَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَفِيهَا بَعْدَ ذِكْرِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. (الثَّالِثُ) - الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَفِيهَا بَعْدَ ذِكْرِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

(الرَّابِعُ) - الْآيَةُ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَقَدْ جَاءَ فِيهَا: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}.

(الْخَامِسُ) - الْآيَةُ مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ، وَفِيهَا بَعْدَ ذِكْرِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

88- فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ} مَعْنَاهُ: فَمَنْ دَفَعَتْهُ الضَّرُورَةُ وَأَلْجَأَتْهُ إِلَى تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا، بِأَنْ يَخَافَ عِنْدَ تَرْكِ تَنَاوُلِهَا ضَرَرًا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بَعْضِ أَعْضَائِهِ مَثَلًا.

(وَالْبَاغِي)، هُوَ الَّذِي يَبْغِي عَلَى غَيْرِهِ فِي تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ، بِأَنْ يُؤْثِرَ نَفْسَهُ عَلَى مُضْطَرٍّ آخَرَ، فَيَنْفَرِدُ بِتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا فَيَهْلَكُ الْآخَرُ مِنَ الْجُوعِ.

وَقِيلَ: الْبَاغِي هُوَ الْعَاصِي بِالسَّفَرِ وَنَحْوِهِ، وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِيهِ (ف 100).

(وَالْعَادِي): هُوَ الَّذِي يَتَجَاوَزُ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ وَيَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرَرُ، أَوْ يَتَجَاوَزُ حَدَّ الشِّبَعِ، عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي.

(وَالْمَخْمَصَةُ): الْمَجَاعَةُ، وَالتَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي مَخْمَصَةٍ}.إِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ الْحَالَةِ الَّتِي يَكْثُرُ فِيهَا وُقُوعُ الِاضْطِرَارِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ الِاحْتِرَازَ عَنِ الْحَالَةِ الَّتِي لَا مَجَاعَةَ فِيهَا، فَإِنَّ الْمُضْطَرَّ فِي غَيْرِ الْمَجَاعَةِ يُبَاحُ لَهُ التَّنَاوُلُ كَالْمُضْطَرِّ فِي الْمَجَاعَةِ.

(وَالْمُتَجَانِفُ لِلْإِثْمِ) هُوَ الْمُنْحَرِفُ الْمَائِلُ إِلَيْهِ، أَيِ الَّذِي يَقْصِدُ الْوُقُوعَ فِي الْحَرَامِ، وَهُوَ الْبَغْيُ وَالْعُدْوَانُ الْمَذْكُورَانِ فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى.

89- وَمِمَّا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ مَا رَوَاهُ أَبُو وَاقِدٍ اللَّيْثِيُّ- رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا بِأَرْضٍ تُصِيبُنَا مَخْمَصَةٌ، فَمَا يَحِلُّ لَنَا مِنَ الْمَيْتَةِ؟ فَقَالَ: إِذَا لَمْ تَصْطَبِحُوا، وَلَمْ تَغْتَبِقُوا، وَلَمْ تَحْتَفِئُوا بَقْلًا فَشَأْنُكُمْ بِهَا».

غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْمَقْصُودِ بِالْإِبَاحَةِ، وَفِي حَدِّ الضَّرُورَةِ الْمُبِيحَةِ، وَفِي تَفْصِيلِ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي يُبِيحُهَا الِاضْطِرَارُ، وَتَرْتِيبُهَا عِنْدَ التَّعَدُّدِ، وَفِي الشِّبَعِ أَوِ التَّزَوُّدِ مِنْهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ.وَبَيَانُ ذَلِكَ مَا يَأْتِي.

الْمَقْصُودُ بِإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا:

90- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَقْصُودِ بِإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَقْصُودُ جَوَازُ التَّنَاوُلِ وَعَدَمِهِ، لِظَاهِرِ قوله تعالى: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}.وَهَذَا الْقَوْلُ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الْمَقْصُودَ بِإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا لِلْمُضْطَرِّ وُجُوبُ تَنَاوُلِهَا.وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَدَلِيلُهُ قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وَقَوْلُهُ {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}.وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي يَتْرُكُ تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا حَتَّى يَمُوتَ يُعْتَبَرُ قَاتِلًا لِنَفْسِهِ، وَمُلْقِيًا بِنَفْسِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، لِأَنَّ الْكَفَّ عَنِ التَّنَاوُلِ فِعْلٌ مَنْسُوبٌ لِلْإِنْسَانِ.

91- وَلَا يَتَنَافَى الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ مَعَ قوله تعالى: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} لِأَنَّ نَفْيَ الْإِثْمِ فِي الْأَكْلِ عَامٌّ يَشْمَلُ حَالَتَيِ الْجَوَازِ وَالْوُجُوبِ، فَإِذَا وُجِدَتْ قَرِينَةٌ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِالْوُجُوبِ عُمِلَ بِهَا كَمَا فِي قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فَنَفْيُ الْجُنَاحِ عَنِ التَّطَوُّفِ، أَيِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، مَفْهُومٌ عَامٌّ قَدْ خُصِّصَ بِمَا دَلَّ عَلَى وُجُوبِهِ أَوْ فَرْضِيَّتِهِ.

حَدُّ الضَّرُورَةِ الْمُبِيحَةِ:

92- قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ: مَعْنَى الضَّرُورَةِ فِي الْآيَاتِ خَوْفُ الضَّرَرِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بَعْضِ أَعْضَائِهِ بِتَرْكِهِ الْأَكْلَ.وَقَدِ انْطَوَى تَحْتَهُ مَعْنَيَانِ:

(أَحَدُهُمَا) أَنْ يَحْصُلَ فِي وَضْعٍ لَا يَجِدُ غَيْرَ الْمَيْتَةِ.

(وَالثَّانِي) أَنْ يَكُونَ غَيْرُهَا مَوْجُودًا، وَلَكِنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِهَا بِوَعِيدٍ يُخَافُ مِنْهُ تَلَفُ نَفْسِهِ أَوْ تَلَفُ بَعْضِ أَعْضَائِهِ.وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُرَادٌ بِالْآيَةِ عِنْدَنَا لِاحْتِمَالِهِمَا.

وَحَالَةُ الْإِكْرَاهِ يُؤَيِّدُ دُخُولَهَا فِي مَعْنَى الِاضْطِرَارِ قَوْلُ الرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام-: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».

وَيُؤْخَذُ مِنَ «الدُّرِّ الْمُخْتَارِ» أَنَّ الضَّرُورَةَ تَشْمَلُ خَوْفَ الْهَلَاكِ، وَخَوْفَ الْعَجْزِ عَنِ الصَّلَاةِ قَائِمًا أَوْ عَنِ الصِّيَامِ.

وَفَسَّرَ «الشَّرْحُ الصَّغِيرُ» لِلْمَالِكِيَّةِ الضَّرُورَةَ بِخَوْفِ الْهَلَاكِ أَوْ شِدَّةِ الضَّرَرِ.

وَفَسَّرَهَا الرَّمْلِيُّ الشَّافِعِيُّ فِي «نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ» بِخَوْفِ الْمَوْتِ أَوِ الْمَرَضِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ كُلِّ مَحْذُورٍ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ، وَكَذَا خَوْفُ الْعَجْزِ عَنِ الْمَشْيِ، أَوِ التَّخَلُّفِ عَنِ الرُّفْقَةِ إِنْ حَصَلَ لَهُ بِهِ ضَرَرٌ، وَكَذَا إِجْهَادُ الْجُوعِ إِيَّاهُ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ مَعَهُ الصَّبْرُ.

وَالْمَحْذُورُ الَّذِي يُبِيحُ التَّيَمُّمَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ حُدُوثُ مَرَضٍ أَوْ زِيَادَتُهُ أَوِ اسْتِحْكَامُهُ، أَوْ زِيَادَةُ مُدَّتِهِ، أَوْ حُصُولُ شَيْنٍ فَاحِشٍ فِي عُضْوٍ ظَاهِرٍ، بِخِلَافِ الشَّيْنِ الْفَاحِشِ فِي عُضْوٍ بَاطِنٍ.وَالظَّاهِرُ: مَا يَبْدُو عِنْدَ الْمَهْنَةِ كَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، وَالْبَاطِنُ: بِخِلَافِهِ.

وَيُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الطَّبِيبِ الْعَدْلِ فِي الرِّوَايَةِ.وَإِذَا كَانَ الْمُضْطَرُّ عَارِفًا فِي الطِّبِّ عَمِلَ بِمُقْتَضَى مَعْرِفَتِهِ، وَلَا يُعْمَلُ بِتَجْرِبَتِهِ إِنْ كَانَ مُجَرِّبًا، عَلَى مَا قَالَهُ الرَّمْلِيُّ.وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: يُعْمَلُ بِهَا، وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ فَقْدِ الطَّبِيبِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الضَّرُورَةَ أَنْ يَخَافَ التَّلَفَ فَقَطْ لَا مَا دُونَهُ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا تَشْمَلُ خَوْفَ التَّلَفِ أَوِ الضَّرَرَ، وَقِيلَ: أَنْ يَخَافَ تَلَفًا أَوْ ضَرَرًا أَوْ مَرَضًا أَوِ انْقِطَاعًا عَنِ الرُّفْقَةِ يُخْشَى مَعَهُ الْهَلَاكُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


208-موسوعة الفقه الكويتية (إعسار)

إِعْسَارٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْإِعْسَارُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ أَعْسَرَ، وَهُوَ ضِدُّ الْيَسَارِ، وَالْعُسْرُ: اسْمُ مَصْدَرٍ وَهُوَ الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ وَالصُّعُوبَةُ، قَالَ تَعَالَى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}

وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}

وَالْعُسْرَةُ: قِلَّةُ ذَاتِ الْيَدِ، وَكَذَلِكَ الْإِعْسَارُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّفَقَةِ، أَوْ أَدَاءُ مَا عَلَيْهِ بِمَالٍ وَلَا كَسْبَ.

وَقِيلَ: هُوَ زِيَادَةُ خَرْجِهِ عَنْ دَخْلِهِ وَهُمَا تَعْرِيفَانِ مُتَقَارِبَانِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْإِفْلَاسُ:

2- الْإِفْلَاسُ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: الِانْتِقَالُ مِنْ حَالَةِ الْيُسْرِ إِلَى حَالَةِ الْعُسْرِ.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَى الشَّخْصِ أَكْثَرَ مِنْ مَالِهِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِعْسَارِ أَنَّ الْإِفْلَاسَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ دَيْنٍ، أَمَّا الْإِعْسَارُ فَقَدْ يَكُونُ عَنْ دَيْنٍ أَوْ عَنْ قِلَّةِ ذَاتِ الْيَدِ.

ب- الْفَقْرُ:

3- الْفَقْرُ: لُغَةً الْحَاجَةُ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ عَرَّفَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْفَقِيرَ: بِأَنَّهُ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ، وَالْمِسْكِينُ: الَّذِي لَهُ بَعْضُ مَا يَكْفِيهِ، وَعَرَّفَهُمَا بَعْضُهُمْ بِعَكْسِهِ.هَذَا إِذَا اجْتَمَعَا، كَمَا فِي قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} أَمَّا إِذَا افْتَرَقَا بِأَنْ ذُكِرَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا يَدُلُّ عَلَى مُطْلَقِ الْحَاجَةِ.

مَا يَثْبُتُ بِهِ الْإِعْسَارُ:

4- يَثْبُتُ الْإِعْسَارُ بِأُمُورٍ مِنْهَا:

أ- إِقْرَارُ الْمُسْتَحِقِّ (صَاحِبُ الدَّيْنِ) فَإِذَا أَقَرَّ أَنَّ مَدِينَهُ مُعْسِرٌ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ، وَيُخَلَّى سَبِيلُ الْمَدِينِ، لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ الْإِنْظَارَ بِالنَّصِّ.لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مُلَازَمَتُهُ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا: لَا يُمْنَعُ مِنْ مُلَازَمَتِهِ.

ب- وَيَثْبُتُ الْإِعْسَارُ بِأَدِلَّةٍ أُخْرَى كَالشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ وَالْقَرَائِنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (إِثْبَاتٌ).

آثَارُ الْإِعْسَارِ

أَوَّلًا: آثَارُ الْإِعْسَارِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ الْمَالِيَّةِ:

أ- أَثَرُ الْإِعْسَارِ فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا:

5- قَدْ يَكُونُ سَبَبُ الْإِعْسَارِ تَلَفَ الْمَالِ الَّذِي فِيهِ الزَّكَاةُ عَلَى وَجْهٍ يَصِيرُ بِهِ الْمُزَكِّي مُعْسِرًا.وَعَلَى هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَدَى الْمُزَكِّي غَيْرُ الْمَالِ التَّالِفِ فَهُوَ مُعْسِرٌ بِحَقِّ الزَّكَاةِ، فَيَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي (الزَّكَاةِ).

ب- أَثَرُ الْإِعْسَارِ فِي مَنْعِ وُجُوبِ الْحَجِّ ابْتِدَاءً:

6- أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ لَا يَجِبُ إِلاَّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ، وَمِنَ الِاسْتِطَاعَةِ الْقُدْرَةُ الْمَالِيَّةُ، لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} «وَسُئِلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ السَّبِيلِ فَقَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ».

فَمَنْ لَمْ يَجِدِ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ يَكُونُ مُعْسِرًا، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ ابْتِدَاءً.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْمُعْسِرَ لَوْ تَكَلَّفَ الْحَجَّ بِدُونِ إِلْحَاقِ ضَرَرٍ بِغَيْرِهِ، مِثْلَ أَنْ يَمْشِيَ وَيَكْتَسِبَ بِصِنَاعَتِهِ، أَوْ مُعَاوَنَةِ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ، اسْتُحِبَّ لَهُ الْحَجُّ.وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}

فَقَدَّمَ ذِكْرَ الرِّجَالِ وَهُمُ الْمُشَاةُ.

أَمَّا مَنْ بَلَغَ وَاسْتَطَاعَ الْحَجَّ فَلَمْ يَحُجَّ ثُمَّ أَعْسَرَ، ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ الْحَجُّ، وَعَلَيْهِ أَدَاؤُهُ إِذَا أَيْسَرَ، وَيَأْثَمُ إِذَا مَاتَ وَلَمْ يُؤَدِّهِ، فَإِنْ أَوْصَى وَلَهُ تَرِكَةٌ وَجَبَ الْإِحْجَاجُ عَنْهُ قَبْلَ تَقْسِيمِ التَّرِكَةِ.

ج- أَثَرُ الْإِعْسَارِ فِي سُقُوطِ النَّذْرِ:

7- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ نَذَرَ التَّصَدُّقَ بِشَيْءٍ، وَلَيْسَ فِي مِلْكِهِ إِلاَّ أَقَلُّ مِنْهُ، لَا يَلْزَمُهُ غَيْرُهُ، لِأَنَّ النَّذْرَ بِمَا لَا يَمْلِكُ لَا يَصِحُّ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ مَا لَا يَمْلِكُ لَزِمَهُ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ لَزِمَهُ بَدَلُهُ أَوْ بَدَلُ بَدَلِهِ، فَلَوْ نَذَرَ بَدَنَةً لَزِمَتْهُ، فَإِنْ أَعْسَرَ عَنْهَا فَبَقَرَةٌ، فَإِنْ أَعْسَرَ عَنْهَا فَسَبْعُ شِيَاهٍ، فَلَوْ قَدَرَ عَلَى مَا دُونَ السَّبْعَةِ مِنَ الْغَنَمِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ خَلِيلٍ وَالْمَوَّاقِ، وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُ مَا دُونَ السَّبْعَةِ مِنَ الْغَنَمِ، ثُمَّ يُكَمِّلُ مَا بَقِيَ مَتَى أَيْسَرَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا كُلِّهَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: مَنْ نَذَرَ طَاعَةً لَا يُطِيقُهَا، أَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهَا فَعَجَزَ عَنْهَا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، لِمَا رَوَى «عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ حَافِيَةً، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَاسْتَفْتَيْتُهُ فَقَالَ: لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ».

وَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ».

قَالَ: «وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَا يُطِيقُهُ فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ»

د- أَثَرُ الْإِعْسَارِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ:

8- إِذَا حَنِثَ الْحَالِفُ فِي الْأَيْمَانِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، لقوله تعالى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} إِنْ شَاءَ أَعْتَقَ رَقَبَةً، وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ أَوْ كَسَاهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ، لقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْأَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَهَا {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودِ- رضي الله عنه- (ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ) وَقِرَاءَتُهُ مَعَ شُذُوذِهَا عِنْدَ الْقُرَّاءِ هِيَ كَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ.

فَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ الْإِعْسَارَ بِالْعِتْقِ أَوِ الْإِطْعَامِ أَوِ الْكِسْوَةِ يَنْتَقِلُ بِهِ الْمُعْسِرُ إِلَى الصِّيَامِ.

هـ- الْإِعْسَارُ بِقِيمَةِ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ:

9- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ مُرِيدُ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ وَقَدَرَ عَلَيْهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِأَكْثَرَ، وَالْكَثِيرُ مَا فِيهِ غَبْنٌ فَاحِشٌ، وَفِي مِقْدَارِ الْغَبْنِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ، وَأَوْلَى مَا قِيلَ فِيهِ: إِنَّهُ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ.

وَعَلَى هَذَا فَإِنْ أَعْسَرَ بِمَا لَزِمَهُ شِرَاءُ الْمَاءِ بِهِ، فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ مَوْجُودًا.

و- أَثَرُ الْإِعْسَارِ فِي الْفِدْيَةِ:

10- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَعْسَرَ بِالْفِدْيَةِ فِي الصَّوْمِ سَقَطَتْ، وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا عَجَزَ عَنِ الْفِدْيَةِ تَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالْفِدْيَةُ عِنْدَهُمْ مَنْدُوبَةٌ.

ثَانِيًا: آثَارُ الْإِعْسَارِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ:

أ- الْإِعْسَارُ بِمَئُونَةِ تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ:

11- إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ مُعْسِرًا فَكَفَنُهُ عَلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ- وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ- وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، أَوْ كَانَ- وَهُوَ فَقِيرٌ- فَكَفَنُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْتُ الْمَالِ مَعْمُورًا أَوْ مُنْتَظِمًا فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ تَكْفِينُهُ.وَتَفْصِيلُهُ فِي (تَكْفِينٌ).

ب- الْإِعْسَارُ بِأُجْرَةِ الْأَجِيرِ وَأُجْرَةِ الْبَيْتِ وَنَحْوِهِ:

12- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْإِجَارَةَ تُفْسَخُ بِالْأَعْذَارِ، كَمَا لَوْ آجَرَ دُكَّانًا أَوْ دَارًا ثُمَّ أَفْلَسَ- وَلَزِمَتْهُ دُيُونٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهَا إِلاَّ بِثَمَنِ مَا آجَرَ- فَسَخَ الْقَاضِي الْعَقْدَ وَبَاعَهَا فِي الدُّيُونِ، لِأَنَّ فِي الْجَرْيِ عَلَى مُوجِبِ الْعَقْدِ إِلْزَامَ ضَرَرٍ زَائِدٍ لَمْ يُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ الْحَبْسُ، لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُصَدَّقُ عَلَى عَدَمِ مَالٍ آخَرَ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَجْرُ الْأَجِيرِ دَيْنٌ، وَمَتَى كَانَ عَلَى رَجُلٍ، وَكَانَ مُؤَجَّلًا، لَمْ يَجُزْ مُطَالَبَتُهُ بِهِ حَتَّى يَحِينَ أَجَلُهُ، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ مُطَالَبَتُهُ بِهِ سَقَطَتْ فَائِدَةُ التَّأْجِيلِ.وَإِنْ كَانَ حَالًّا، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَجُزْ مُطَالَبَتُهُ بِهِ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وَلَا يَمْلِكُ مُلَازَمَتَهُ، لِأَنَّ كُلَّ دَيْنٍ لَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِهِ لَمْ يَمْلِكِ الْمُلَازَمَةَ عَلَيْهِ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ.فَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ صَنْعَةً فَطَلَبَ الْغَرِيمُ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ لِيَكْسِبَ مَا يُعْطِيهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِجْبَارٌ عَلَى التَّكَسُّبِ، فَلَمْ يَجُزْ كَالْإِجْبَارِ عَلَى التِّجَارَةِ، وَإِنْ أَكْرَى أَرْضًا فَأَفْلَسَ الْمُكْتَرِي بِالْأُجْرَةِ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ شَيْءٍ مِنَ الْمَنَافِعِ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ، لِأَنَّ الْمَنَافِعَ فِي الْإِجَارَةِ كَالْأَعْيَانِ الْمَبِيعَةِ فِي الْبَيْعِ، ثُمَّ إِذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي وَالْعَيْنُ بَاقِيَةٌ ثَبَتَ لَهُ الْفَسْخُ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَفْلَسَ الْمُكْتَرِي وَالْمَنَافِعُ بَاقِيَةٌ وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ الْفَسْخُ.

ج- إِعْسَارُ الْمُحَالِ عَلَيْهِ:

13- لَا يَرْجِعُ الْمَدِينُ عَلَى الْمُحِيلِ إِلاَّ أَنْ يَمُوتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا، أَوْ يَجْحَدُ وَلَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى حَقِّهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْحَوَالَةِ سَلَامَةُ حَقِّهِ، فَكَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالسَّلَامَةِ، فَإِذَا فَاتَتِ السَّلَامَةُ انْفَسَخَتْ كَالْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ.هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَزَادَ الصَّاحِبَانِ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِوَجْهٍ آخَرَ أَيْضًا، وَهُوَ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِإِفْلَاسِهِ فِي حَيَاتِهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِفْلَاسَ يَتَحَقَّقُ عِنْدَهُمَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَعِنْدَهُ لَا.

وَهِيَ كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَإِنْ أَحَالَهُ عَلَى مَلِيءٍ فَأَفْلَسَ أَوْ جَحَدَ الْحَقَّ وَحَلَفَ عَلَيْهِ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى الْمُحِيلِ، لِأَنَّهُ انْتَقَلَ حَقُّهُ إِلَى مَالٍ يَمْلِكُ بَيْعَهُ فَسَقَطَ حَقُّهُ فِي الرُّجُوعِ، كَمَا لَوْ أَخَذَ بِالدَّيْنِ سِلْعَةً ثُمَّ تَلِفَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ.

وَإِنْ أَحَالَهُ عَلَى رَجُلٍ بِشَرْطِ أَنَّهُ مَلِيءٌ فَبَانَ أَنَّهُ مُعْسِرٌ، فَقَدْ ذَكَرَ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ، وَأَنْكَرَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ هَذَا وَقَالَ: لَهُ الْخِيَارُ، لِأَنَّهُ غَرَّهُ بِالشَّرْطِ فَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ بَقَرَةً بِشَرْطِ أَنَّهَا حَلُوبٌ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ.

وَقَالَ عَامَّةُ الْأَصْحَابِ: لَا خِيَارَ لَهُ لِأَنَّ الْإِعْسَارَ نَقْصٌ، فَلَوْ ثَبَتَ بِهِ الْخِيَارُ لَثَبَتَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ كَالْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ، وَيُخَالِفُ الصِّفَةَ الْمَرْغُوبَةَ، فَإِنَّ عَدَمَهَا لَيْسَ بِنَقْصٍ وَإِنَّمَا هُوَ عَدَمُ فَضِيلَةٍ، فَاخْتَلَفَ الْأَمْرُ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يُشْرَطَ وَبَيْنَ أَلاَّ يُشْرَطَ.

وَالْمَالِكِيَّةُ كَذَلِكَ يَرَوْنَ أَنَّهُ إِنْ شَرَطَ الْمُحَالُ عَلَى الْمُحِيلِ إِنْ أَفْلَسَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ رَجَعَ عَلَى الْمُحِيلِ فَلَهُ شَرْطُهُ.وَنَقَلَهُ الْبَاجِيُّ كَأَنَّهُ الْمَذْهَبُ، وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: هَذَا صَحِيحٌ لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ قَالُوا: مَتَى تَوَفَّرَتِ الشُّرُوطُ بَرِئَ الْمُحِيلُ مِنَ الدَّيْنِ بِمُجَرَّدِ الْحَوَالَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَحَوَّلَ مِنْ ذِمَّتِهِ، فَإِنْ أَفْلَسَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ مَاتَ أَوْ جَحَدَ الدَّيْنَ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُحِيلِ، كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ، لِأَنَّ الْحَوَالَةَ بِمَنْزِلَةِ الْإِيفَاءِ.

وَمَتَى لَمْ تَتَوَفَّرِ الشُّرُوطُ لَمْ تَصِحَّ الْحَوَالَةُ، وَإِنَّمَا تَكُونُ وَكَالَةً.

قَالَ الشَّمْسُ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: وَإِذَا لَمْ يَرْضَ الْمُحَالُ ثُمَّ بَانَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفَلِّسًا أَوْ مَيِّتًا رَجَعَ بِغَيْرِ خِلَافٍ.وَإِنْ رَضِيَ مَعَ الْجَهْلِ بِحَالِهِ رَجَعَ، لِأَنَّ الْفَلَسَ عَيْبٌ فِي الْمُحَالِ عَلَيْهِ.وَإِنْ شَرَطَ مَلَاءَةَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَبَانَ مُعْسِرًا رَجَعَ.لِحَدِيثِ: «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ».

د- إِعْسَارُ الزَّوْجِ بِالْمَهْرِ الْمُسَمَّى:

14- يُفَصِّلُ الشَّافِعِيَّةُ فِي إِعْسَارِ الزَّوْجِ بِالْمَهْرِ بَيْنَ حَالَتَيْنِ:

أَوَّلَاهُمَا: إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ، لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ بِالْإِفْلَاسِ بِالْمَهْرِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ يَجُزِ الْفَسْخُ، لِأَنَّ الزَّوْجَ اسْتَوْفَى حَقَّهُ فَلَمْ يُفْسَخْ بِالْإِعْسَارِ، وَقَدْ وَافَقَهُمُ الْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.

وَهُنَاكَ وَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهَا خِيَارُ الْفَسْخِ مُطْلَقًا، لَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَا بَعْدَهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ، لِأَنَّ الْمَهْرَ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ، فَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ لِلْإِعْسَارِ بِهِ، كَالنَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ، وَلِأَنَّ تَأْخِيرَهُ لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ مُجْحِفٌ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ دَعَتْ زَوْجَهَا لِلدُّخُولِ بِهَا، وَطَلَبَتْ حَالَّ الصَّدَاقِ فَلَمْ يَجِدْهُ، وَادَّعَى الْعُدْمَ وَلَمْ تُصَدِّقْهُ، وَلَمْ يَثْبُتْ عُدْمُهُ بِبَيِّنَةٍ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ، أَمْهَلَهُ الْحَاكِمُ لِإِثْبَاتِ عُسْرِهِ (فَقْرِهِ)، ثُمَّ إِذَا ثَبَتَ عُسْرُهُ، أَوْ صَدَّقَتْهُ فِيهِ زِيدَ لَهُ فِي الْأَجَلِ بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، فَإِنْ أَتَى بِشَيْءٍ وَإِلاَّ عَجَّزَهُ.

وَوُجُوبُ التَّلَوُّمِ لِمَنْ ثَبَتَ عُسْرُهُ وَلَا يُرْجَى يَسَارُهُ- لِأَنَّ الْغَيْبَ قَدْ يَكْشِفُ عَنِ الْعَجَائِبِ- هُوَ تَأْوِيلُ الْأَكْثَرِ.وَصَحَّحَ- أَيْ صَوَّبَهُ- الْمُتَيْطِيُّ وَعِيَاضٌ، وَعَدَمُ التَّلَوُّمِ لِمَنْ لَا يُرْجَى يَسَارُهُ، فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ نَاجِزًا هُوَ تَأْوِيلٌ فَضَلَ عَلَى الْمُدَوَّنَةِ.

ثُمَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ طَلَّقَ عَلَيْهِ، بِأَنْ يُطَلِّقَ الْحَاكِمُ، أَوْ تُوقِعَهُ الزَّوْجَةُ ثُمَّ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ، عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ.وَوَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ لِعَجْزِهِ عَنِ الْمَهْرِ نِصْفُهُ يَدْفَعُهُ إِنْ أَيْسَرَ، لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}

وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَلَا يُجِيزُونَ الْفَسْخَ بِالْإِعْسَارِ بِالْمَهْرِ أَوْ غَيْرِهِ، وَلِلزَّوْجَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ مَنْعُ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا لِلزَّوْجِ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ مُعَجَّلَ صَدَاقِهَا.

هـ- إِعْسَارُ الْمَدِينِ بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ.وَهَلْ يُحْبَسُ بِذَلِكَ أَمْ لَا؟

15- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ لِلْمُدَّعِي فَطَلَبَ مِنَ الْقَاضِي حَبْسَ الْمَدِينِ، أَمَرَهُ الْقَاضِي بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ حَبَسَهُ، لِأَنَّهُ ظَهَرَ ظُلْمُهُ.

لِلْحَدِيثِ «لَيُّ الْوَاجِدِ ظُلْمٌ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ».وَالْعُقُوبَةُ الْحَبْسُ.

فَإِنْ أَقَرَّ الْمُدَّعِي أَنَّ غَرِيمَهُ مُعْسِرٌ خُلِّيَ سَبِيلُهُ، لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ الْإِنْظَارَ بِالنَّصِّ، وَلَا يُمْنَعُ مِنَ الْمُلَازَمَةِ.وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي: هُوَ مُوسِرٌ، وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا مُعْسِرٌ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يَعْرِفُ يَسَارَهُ، أَوْ كَانَ الدَّيْنُ بَدَلَ مَالٍ كَالثَّمَنِ وَالْقَرْضِ، أَوِ الْتَزَمَهُ كَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَنَحْوِهِ حَبَسَهُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ بَقَاءُ مَا حَصَلَ فِي يَدِهِ، وَالْتِزَامُهُ يَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَلَا يَحْبِسُهُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ إِذَا ادَّعَى الْفَقْرَ، لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَذَلِكَ مِثْلُ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ، إِلاَّ أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ أَنَّ لَهُ مَالًا فَيَحْبِسُهُ، لِأَنَّهُ ظَالِمٌ.فَإِذَا حَبَسَهُ مُدَّةً يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَالٌ لَهُ أَظْهَرَهُ، وَسَأَلَ عَنْ حَالِهِ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَالٌ، خَلَّى سَبِيلَهُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ إِعْسَارُهُ فَيَسْتَحِقُّ الْإِنْظَارَ.وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِإِعْسَارِهِ.وَتُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْإِعْسَارِ بَعْدَ الْحَبْسِ بِالْإِجْمَاعِ وَقَبْلَهُ لَا.وَالْفَرْقُ أَنَّهُ وَجَدَ بَعْدَ الْحَبْسِ قَرِينَةً، وَهُوَ تَحَمُّلُ شِدَّةِ الْحَبْسِ وَمَضَايِقِهِ، وَذَلِكَ دَلِيلُ إِعْسَارِهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ قَبْلَ الْحَبْسِ، وَقِيلَ تُقْبَلُ فِي الْحَالَتَيْنِ، وَإِنْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى يَسَارِهِ أَبَدًا حَبَسَهُ لِظُلْمِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ الْحَبْسِ، قِيلَ: شَهْرَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ، وَبَعْضُهُمْ قَدَّرَهُ بِشَهْرٍ، وَبَعْضُهُمْ بِأَرْبَعَةٍ، وَبَعْضُهُمْ بِسِتَّةٍ.وَلَمَّا كَانَ النَّاسُ يَخْتَلِفُونَ فِي احْتِمَالِ الْحَبْسِ، وَيَتَفَاوَتُونَ تَفَاوُتًا كَثِيرًا فَإِنَّهُ يُفَوَّضُ إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُحْبَسُ الْمَدِينُ الْمَجْهُولُ إِذَا ادَّعَى الْعُدْمَ لِيَسْتَبِينَ أَمْرُهُ بِإِثْبَاتٍ، وَمَحَلُّ حَبْسِهِ مَا لَمْ يَسْأَلِ الصَّبْرَ وَالتَّأْخِيرَ إِلَى إِثْبَاتِ عُسْرِهِ، وَإِلاَّ أُخِّرَ مَعَ كَفَالَةِ كَفِيلٍ وَلَوْ بِالنَّفْسِ، وَيُحْبَسُ إِنْ جُهِلَ حَالُهُ إِلَى أَنْ يَثْبُتَ عُسْرُهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ الْحَمِيلُ (الْكَفِيلُ) غَرِمَ مَا عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَثْبُتَ عُسْرُهُ.

وَثُبُوتُ عُسْرِهِ يَكُونُ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّهُمَا لَا يَعْرِفَانِ لَهُ مَالًا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا، وَيَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ لَكِنْ عَلَى الْبَتِّ، وَيَزِيدُ فِي مِينِهِ: وَإِنْ وَجَدْتُ الْمَالَ لأَقْضِيَنَّهُ عَاجِلًا، وَإِنْ كُنْتُ مُسَافِرًا عَجَّلْتُ الْأَوْبَةَ (الْإِيَابَ).وَبَعْدَ الْحَلِفِ يَجِبُ إِطْلَاقُهُ وَإِنْظَارُهُ، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}.

فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عُسْرُهُ وَطَالَ حَبْسُهُ فَإِنَّهُ يُطَلِّقُ، لَكِنْ بَعْدَ حَلِفِهِ أَنَّهُ لَا مَالَ عِنْدَهُ.

وَلَا حَبَسَ عَلَى مُعْدَمٍ ثَابِتِ الْعُدْمِ، لِلْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، لِأَنَّ حَبْسَهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ فَائِدَةٌ، وَيَجِبُ عَلَى الْمَدِينِ أَنْ يُوصِيَ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، فَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَالٌ وُفِّيَ عَنْهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِقَوْلِهِ- عليه السلام- «فَمَنْ تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ».

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِيعَ مَا ظَهَرَ لَهُ وَدُفِعَ وَلَمْ يُحْبَسْ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حُبِسَ وَبِيعَ مَا قُدِرَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ ذَكَرَ عُسْرَهُ قُبِلَتْ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ، لِقَوْلِهِ {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}.وَأُحَلِّفُهُ مَعَ ذَلِكَ بِاَللَّهِ وَأُخَلِّيهِ، وَمَنَعْتُ غُرَمَاءَهُ مِنْ لُزُومِهِ، حَتَّى تَقُومَ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ قَدْ أَفَادَ مَالًا، فَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا فِي يَدِهِ مَالًا سُئِلَ، فَإِنْ قَالَ مُضَارَبَةٌ قُبِلَتْ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَا غَايَةَ لِحَبْسِهِ أَكْثَرَ مِنَ الْكَشْفِ عَنْهُ، فَمَتَى اسْتَقَرَّ عِنْدَ الْحَاكِمِ مَا وَصَفْتُ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسُهُ، وَلَا يَغْفُلُ الْمَسْأَلَةَ عَنْهُ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَالٌّ فَطُولِبَ بِهِ وَلَمْ يُؤَدِّهِ، نَظَرَ الْحَاكِمُ، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ ظَاهِرٌ أَمَرَهُ بِالْقَضَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَالًا ظَاهِرًا فَادَّعَى الْإِعْسَارَ وَصَدَّقَهُ غَرِيمُهُ لَمْ يُحْبَسْ وَوَجَبَ إِنْظَارُهُ، وَلَمْ تَجُزْ مُلَازَمَتُهُ، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِغُرَمَاءِ الَّذِي كَثُرَ دَيْنُهُ: «خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ»

وَلِأَنَّ الْحَبْسَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِإِثْبَاتِ عُسْرَتِهِ أَوْ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَعُسْرَتُهُ ثَابِتَةٌ، وَالْقَضَاءُ مُتَعَذِّرٌ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْحَبْسِ.وَإِنْ كَذَّبَهُ غَرِيمُهُ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ عُرِفَ لَهُ مَالٌ أَوْ لَمْ يُعْرَفْ، فَإِنْ عُرِفَ لَهُ مَالٌ لِكَوْنِ الدَّيْنِ ثَبَتَ عَنْ مُعَاوَضَةٍ، كَالْقَرْضِ وَالْبَيْعِ، أَوْ عُرِفَ لَهُ أَصْلُ مَالٍ سِوَى هَذَا.فَالْقَوْلُ قَوْلُ غَرِيمِهِ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِذَا حَلَفَ أَنَّهُ ذُو مَالٍ حُبِسَ حَتَّى تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ بِإِعْسَارِهِ.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَكْثَرُ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ وَقُضَاتِهِمْ يَرَوْنَ الْحَبْسَ فِي الدَّيْنِ.

و- الْإِعْسَارُ بِدَفْعِ الْجِزْيَةِ (الْجِزْيَةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَالْجِزْيَةُ الْمُصَالَحُ عَلَيْهَا):

16- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَى فَقِيرٍ غَيْرِ مُتَكَسِّبٍ لِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- شَرَطَ كَوْنَهُ مُعْتَمِلًا (أَيْ مُتَكَسِّبًا) وَهُوَ دَلِيلُ عَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَى الْفَقِيرِ غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُطِيقٍ لِلْأَدَاءِ حَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ.

لَكِنْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا أَيْسَرَ الْفَقِيرُ بَعْدَ وَضْعِ الْجِزْيَةِ عَنْهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْجِزْيَةِ، وَإِنَّمَا سَقَطَتْ عَنْهُ لِلْعَجْزِ وَقَدْ زَالَ وَلَا يُحَاسَبُ بِمَا مَضَى.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الذِّمِّيُّ الْفَقِيرُ يُضْرَبُ عَلَيْهِ بِوُسْعِهِ (أَيْ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ) وَلَوْ دِرْهَمًا إِنْ كَانَ لَهُ طَاقَةٌ، وَإِلاَّ سَقَطَتْ عَنْهُ.فَإِنْ أَيْسَرَ بَعْدُ لَمْ يُحَاسَبْ بِمَا مَضَى لِسُقُوطِهِ عَنْهُ.

وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ فَقِيرًا، لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيلِ الْعِوَضِ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْمُعْتَمِلُ وَغَيْرُ الْمُعْتَمِلِ، فَعَلَى هَذَا يُنْظَرُ إِلَى الْمَيْسَرَةِ، فَإِذَا أَيْسَرَ طُولِبَ بِجِزْيَةِ مَا مَضَى، وَقِيلَ: لَا يُنْظَرُ.

ز- إِعْسَارُ التَّرِكَةِ عَنِ الْوَفَاءِ بِمَا وَجَبَ فِيهَا مِنْ حُقُوقٍ:

17- إِذَا كَانَتْ تَرِكَةُ الْمَيِّتِ لَا تَفِي بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الدُّيُونِ، فَفِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحَيْ (إِرْثٌ، وَتَرِكَةٌ).

ح- الْإِعْسَارُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى النَّفْسِ:

18- الْأَصْلُ أَنَّ نَفَقَةَ الْإِنْسَانِ الْحُرِّ فِي مَالِهِ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا، إِلاَّ الزَّوْجَةُ فَإِنَّ نَفَقَتَهَا عَلَى زَوْجِهَا مَتَى اسْتَوْفَتْ شُرُوطَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ.وَلَا يَنْتَقِلُ حَقُّهُ إِلَى مُطَالَبَةِ الْغَيْرِ بِهَا سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْغَيْرُ أَصْلًا أَوْ فَرْعًا، إِلاَّ إِذَا كَانَ مُعْسِرًا وَغَيْرَ قَادِرٍ عَلَى الْكَسْبِ أَوْ عَاجِزًا عَنْهُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ.

وَفِي مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ تَحْتَ مُصْطَلَحِ (نَفَقَةُ الْأَقَارِبِ).

ط- الْإِعْسَارُ بِنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ:

19- فِيمَا تُقَدَّرُ بِهِ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ ثَلَاثَةُ اتِّجَاهَاتٍ:

الْأَوَّلُ: تُقَدَّرُ بِحَالِ الزَّوْجَيْنِ جَمِيعًا، فَإِنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ فَلَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ، وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ فَعَلَيْهِ لَهَا نَفَقَةُ الْمُعْسِرِينَ، وَإِنْ كَانَا مُتَوَسِّطَيْنِ فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُتَوَسِّطِينَ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا فَلَهَا نَفَقَةُ الْمُتَوَسِّطِينَ، سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْمُوسِرُ أَوْ هِيَ.

وَهَذَا هُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ جَمْعًا بَيْنَ النُّصُوصِ الْمُتَعَارِضَةِ وَرِعَايَةً لِكِلَا الْجَانِبَيْنِ.

الثَّانِي: تُقَدَّرُ بِحَالِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ.وَيُسْتَدَلُّ لَهُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}.

وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَصَحَّحَهُ فِي الْبَدَائِعِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

الثَّالِثُ: تُقَدَّرُ بِحَالِ الزَّوْجَةِ.أَخْذًا بِدَلَالَةِ قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}.وَبِحَدِيثِ هِنْدٍ إِذْ قَالَ لَهَا: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ».وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا وَهِيَ مِثْلُهُ فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُعْسِرِينَ اتِّفَاقًا، وَإِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً وَهُوَ مُعْسِرٌ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُتَوَسِّطِينَ، وَعَلَى الثَّانِي عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُعْسِرِينَ، وَعَلَى الثَّالِثِ نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ.

وَإِذَا عَجَزَ الزَّوْجُ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ، وَطَلَبَتِ الزَّوْجَةُ التَّفْرِيقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِذَلِكَ، بَلْ تَسْتَدِينُ عَلَيْهِ، وَيُؤْمَرُ بِالْأَدَاءِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا لَوْلَا الزَّوْجُ.

وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلَاتٌ أَوْفَى مِنْ هَذَا يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي أَبْوَابِ النَّفَقَاتِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ (ر: نَفَقَةٌ).

ي- الْإِعْسَارُ فِي النَّفَقَةِ عَلَى الْأَقَارِبِ:

20- يَجِبُ عَلَى الْغَنِيِّ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى وَالِدَيْهِ وَأَوْلَادِهِ الْمُعْسِرِينَ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا تَجِبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ النَّفَقَةُ عَلَى غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ الْمُبَاشِرِينَ، وَكَذَلِكَ تَجِبُ نَفَقَةُ سَائِرِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ مَهْمَا عَلَوْا أَوْ نَزَلُوا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَأَمَّا الْحَوَاشِي كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَأَوْلَادِهِمَا فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَشْتَرِطُونَ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِمُ الْمَحْرَمِيَّةَ، وَيَشْتَرِطُ الْحَنَابِلَةُ التَّوَارُثَ، وَيَكْتَفِي الشَّافِعِيَّةُ بِالْقَرَابَةِ.

وَيَتَحَقَّقُ الْإِعْسَارُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُنْفِقِ عَلَيْهِ لِعَدَمِ وُجُودِ الْكِفَايَةِ كُلًّا أَوْ جُزْءًا مَعَ الْعَجْزِ عَنِ الْكَسْبِ.

فَمَنْ كَانَ يَجِدُ كِفَايَتَهُ أَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ فَنَفَقَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى أَحَدٍ.

إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ أَوْجَبُوا نَفَقَةَ الْأُصُولِ وَلَوْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى الْكَسْبِ.

أَمَّا فِي النَّفَقَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ رِوَايَتَانِ، وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

ك- أُجْرَةُ الْحَضَانَةِ وَالْإِرْضَاعِ:

21- الْحُكْمُ فِيهِمَا عَلَى مَا سَبَقَ فِي النَّفَقَةِ، عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِلصَّغِيرِ مَالٌ فَذَلِكَ فِي مَالِهِ.

ل- النَّفَقَةُ عَلَى الْحَيَوَانِ الْمُحْتَبَسِ:

22- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الْحَيَوَانِ الْمُحْتَبَسِ وَاجِبَةٌ دِيَانَةً، وَبِأَنَّهُ يَأْثَمُ بِحَبْسِهِ عَنِ الْبَيْعِ، مَعَ عَدَمِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ.وَفِي الْحَدِيثِ «دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا فَلَا هِيَ أَطْلَقَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ، وَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا لِتَعِيشَ».وَنَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ.

ثُمَّ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ، إِذْ فِي عَدَمِ الْإِنْفَاقِ إِضَاعَةٌ لِلْمَالِ وَتَعْذِيبٌ لِلْحَيَوَانِ، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُمَا، وَلَيْسَ هَذَا الْحَيَوَانُ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ لِيُقْضَى لَهُ بِإِجْبَارِ الْمَالِكِ عَلَى نَفَقَتِهِ أَوْ بَيْعِهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ مَالِكُهُ عَلَى الْإِنْفَاقِ.فَإِنْ عَجَزَ مُحْتَبِسُ الْحَيَوَانِ عَنِ الْإِنْفَاقِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى إِجْبَارِهِ عَلَى الْبَيْعِ أَوِ التَّذْكِيَةِ إِنْ كَانَ مِمَّا يُذَكَّى، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُمْكِنُ إِجْبَارُهُ عَلَى التَّخْلِيَةِ لِلرَّعْيِ وَوُرُودِ الْمَاءِ إِنْ أَلِفَ ذَلِكَ.

م- الْإِعْسَارُ بِفِكَاكِ الْأَسِيرِ:

23- يَجِبُ فِكَاكُ الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ، وَيَجِبُ ذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ مَشْرُوعَةٍ، كَالْقِتَالِ وَالتَّفَاوُضِ وَالْمُفَادَاةِ بِأَسْرَاهُمْ أَوْ بِالْمَالِ.

فَإِذَا وَقَعَ الْفِدَاءُ عَلَى الْمَالِ فَإِنَّ فِدَاءَهُ يَكُونُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَلَوْ كَانَ لِلْأَسِيرِ مَالٌ.فَإِنْ قَصَّرَ بَيْتُ الْمَالِ فِي ذَلِكَ فَعَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ فَفِدَاؤُهُ مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَفِكَاكُهُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ. (ر: أَسْرَى).

ن- إِعْسَارُ الضَّامِنِ:

24- إِعْسَارُ الْكَفِيلِ حُكْمُهُ كَحُكْمِ إِعْسَارِ الْأَصِيلِ فِي وُجُوبِ الْإِنْظَارِ إِلَى مَيْسَرَةٍ، وَلَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ.

س- إِعْسَارُ الدَّوْلَةِ بِالتَّكَالِيفِ الْوَاجِبَةِ:

25- إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ يَكْفِي لِلْجِهَادِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَفْرِضَ الْإِمَامُ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ مَا يَسُدُّ الْحَاجَةَ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (بَيْتِ الْمَالِ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


209-موسوعة الفقه الكويتية (إقالة)

إِقَالَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْإِقَالَةُ فِي اللُّغَةِ: الرَّفْعُ وَالْإِزَالَةُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ إِذَا رَفَعَهُ مِنْ سُقُوطِهِ.

وَمِنْهُ الْإِقَالَةُ فِي الْبَيْعِ، لِأَنَّهَا رَفْعُ الْعَقْدِ.

وَهِيَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: رَفْعُ الْعَقْدِ، وَإِلْغَاءُ حُكْمِهِ وَآثَارِهِ بِتَرَاضِي الطَّرَفَيْنِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْبَيْعُ:

2- تَخْتَلِفُ الْإِقَالَةُ عَنِ الْبَيْعِ فِي أُمُورٍ مِنْهَا: أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْإِقَالَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا فَسْخٌ، وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ بَيْعٌ، وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى سَيَأْتِي تَفْصِيلُهَا.وَمِنْهَا أَنَّ الْإِقَالَةَ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِيهَا الْإِيجَابُ بِلَفْظِ الِاسْتِقْبَالِ كَقَوْلِ أَحَدِهِمَا: أَقِلْنِي، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ إِلاَّ بِلَفْظِ الْمَاضِي، لِأَنَّ لَفْظَةَ الِاسْتِقْبَالِ لِلْمُسَاوَمَةِ حَقِيقَةً، وَالْمُسَاوَمَةُ فِي الْبَيْعِ مُعْتَادَةٌ، فَكَانَتِ اللَّفْظَةُ مَحْمُولَةً عَلَى حَقِيقَتِهَا، فَلَمْ تَقَعْ إِيجَابًا، بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ، لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ فِيهَا لَيْسَتْ مُعْتَادَةً، فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ فِيهَا عَلَى الْإِيجَابِ.

ب- الْفَسْخُ:

3- تَخْتَلِفُ الْإِقَالَةُ عَنِ الْفَسْخِ فِي أَنَّ الْفَسْخَ هُوَ رَفْعُ جَمِيعِ أَحْكَامِ الْعَقْدِ وَآثَارِهِ وَاعْتِبَارِهِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَقْبَلِ.وَأَمَّا الْإِقَالَةُ فَقَدِ اعْتَبَرَهَا بَعْضُهُمْ فَسْخًا، وَاعْتَبَرَهَا آخَرُونَ بَيْعًا.

حُكْمُ الْإِقَالَةِ التَّكْلِيفِيِّ:

4- الْإِقَالَةُ دَائِرَةٌ بَيْنَ النَّدْبِ وَالْوُجُوبِ بِحَسَبِ حَالَةِ الْعَقْدِ، فَإِنَّهَا تَكُونُ مَنْدُوبًا إِلَيْهَا إِذَا نَدِمَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ، لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا يَرْوِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-: «مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا بَيْعَتَهُ أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ».وَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْإِقَالَةِ، وَعَلَى أَنَّهَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا، لِوَعْدِ الْمُقِيلِينَ بِالثَّوَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.وَأَمَّا كَوْنُ الْمُقَالِ مُسْلِمًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ لِكَوْنِهِ حُكْمًا أَغْلَبِيًّا، وَإِلاَّ فَثَوَابُ الْإِقَالَةِ ثَابِتٌ فِي إِقَالَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ، وَقَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ: «مَنْ أَقَالَ نَادِمًا...».وَتَكُونُ الْإِقَالَةُ وَاجِبَةً إِذَا كَانَتْ بَعْدَ عَقْدٍ مَكْرُوهٍ أَوْ بَيْعٍ فَاسِدٍ، لِأَنَّهُ إِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ فَاسِدًا أَوْ مَكْرُوهًا وَجَبَ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الرُّجُوعُ إِلَى مَا كَانَ لَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ صَوْنًا لَهُمَا عَنِ الْمَحْظُورِ، لِأَنَّ رَفْعَ الْمَعْصِيَةِ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالْإِقَالَةِ أَوْ بِالْفَسْخِ.كَمَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْإِقَالَةُ وَاجِبَةً إِذَا كَانَ الْبَائِعُ غَارًّا لِلْمُشْتَرِي وَكَانَ الْغَبْنُ يَسِيرًا، وَإِنَّمَا قُيِّدَ الْغَبْنُ بِالْيَسِيرِ هُنَا، لِأَنَّ الْغَبْنَ الْفَاحِشَ يُوجِبُ الرَّدَّ إِنْ غَرَّهُ الْبَائِعُ عَلَى الصَّحِيحِ.

رُكْنُ الْإِقَالَةِ:

5- رُكْنُ الْإِقَالَةِ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ الدَّالاَّنِ عَلَيْهَا.فَإِذَا وُجِدَ الْإِيجَابُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْقَبُولُ مِنَ الْآخَرِ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَقَدْ تَمَّ الرُّكْنُ، وَهِيَ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ فِي الْمَجْلِسِ، نَصًّا بِالْقَوْلِ أَوْ دَلَالَةً بِالْفِعْلِ.وَيَأْتِي الْقَبُولُ مِنَ الْآخَرِ بَعْدَ الْإِيجَابِ، أَوْ تَقَدَّمَ السُّؤَالُ، أَوْ قَبَضَ الْآخَرُ مَا هُوَ لَهُ فِي مَجْلِسِ الْإِقَالَةِ أَوْ مَجْلِسِ عِلْمِهَا، لِأَنَّ مَجْلِسَ الْعِلْمِ فِي حَقِّ الْغَائِبِ كَمَجْلِسِ اللَّفْظِ فِي الْحَاضِرِ، فَلَا يَصِحُّ مِنَ الْحَاضِرِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِهَا.

الْأَلْفَاظُ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا الْإِقَالَةُ:

6- لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْإِقَالَةَ تَنْعَقِدُ صَحِيحَةً بِلَفْظِ الْإِقَالَةِ أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، كَمَا لَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنِ الْمَاضِي.وَلَكِنَّ الْخِلَافَ فِي صِيغَةِ اللَّفْظِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَاضِيًا وَالْآخَرُ مُسْتَقْبَلًا.فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهَا تَصِحُّ بِلَفْظَيْنِ أَحَدُهُمَا مُسْتَقْبَلٌ وَالْآخَرُ مَاضٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَقِلْنِي: فَقَالَ، أَقَلْتُكَ، أَوْ قَالَ لَهُ: جِئْتُكَ لِتُقِيلَنِي، فَقَالَ: أَقَلْتُكَ، فَهِيَ تَنْعَقِدُ عِنْدَهُمَا بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ كَمَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ.

وَمَعَ أَنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعْطِ الْإِقَالَةَ حُكْمَهُ، لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ لَا تَجْرِي فِي الْإِقَالَةِ، فَحُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى التَّحْقِيقِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ.وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إِلاَّ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنِ الْمَاضِي، لِأَنَّهَا كَالْبَيْعِ فَأُعْطِيَتْ بِسَبَبِ الشَّبَهِ حُكْمَ الْبَيْعِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا: أَقَلْتُ، وَالْآخَرُ: قَبِلْتُ، أَوْ رَضِيتُ، أَوْ هَوَيْتُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.وَتَنْعَقِدُ بِفَاسَخْتُكَ وَتَارَكْتُ، كَمَا تَصِحُّ بِلَفْظِ «الْمُصَالَحَةِ» وَتَصِحُّ بِلَفْظِ «الْبَيْعِ» وَمَا يَدُلُّ عَلَى الْمُعَاطَاةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَعْنَى، وَكُلُّ مَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ أَجْزَأَ.خِلَافًا لِلْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي أَنَّ مَا يَصْلُحُ لِلْعَقْدِ لَا يَصْلُحُ لِلْحَلِّ، وَمَا يَصْلُحُ لِلْحَلِّ لَا يَصْلُحُ لِلْعَقْدِ.وَتَنْعَقِدُ الْإِقَالَةُ بِالتَّعَاطِي كَالْبَيْعِ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: أَقَلْتُكَ فَرَدَّ إِلَيْهِ الثَّمَنَ، وَتَصِحُّ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشَارَةِ مِنَ الْأَخْرَسِ.شُرُوطُ الْإِقَالَةِ:

7- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِقَالَةِ مَا يَلِي:

أ- رِضَى الْمُتَقَايِلَيْنِ: لِأَنَّهَا رَفْعُ عَقْدٍ لَازِمٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَى الطَّرَفَيْنِ.

ب- اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ: لِأَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ مَوْجُودٌ فِيهَا، فَيُشْتَرَطُ لَهَا الْمَجْلِسُ، كَمَا يُشْتَرَطُ لِلْبَيْعِ.

ج- أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ قَابِلًا لِلنَّسْخِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، فَإِنْ كَانَ التَّصَرُّفُ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ فَلَا تَصِحُّ الْإِقَالَةُ.

د- بَقَاءُ الْمَحَلِّ وَقْتَ الْإِقَالَةِ، فَإِنْ كَانَ هَالِكًا وَقْتَ الْإِقَالَةِ لَمْ تَصِحَّ، فَأَمَّا قِيَامُ الثَّمَنِ وَقْتَ الْإِقَالَةِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ.

هـ- تَقَابُضُ بَدَلَيِ الصَّرْفِ فِي إِقَالَةِ الصَّرْفِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا بَيْعٌ، لِأَنَّ قَبْضَ الْبَدَلَيْنِ إِنَّمَا وَجَبَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الْحَقُّ لَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ.و- أَلاَّ يَكُونَ الْبَيْعُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ فِي بَيْعِ الْوَصِيِّ، فَإِنْ كَانَ لَمْ تَصِحَّ إِقَالَتُهُ.

حَقِيقَتُهَا الشَّرْعِيَّةُ:

8- لِلْفُقَهَاءِ فِي تَكْيِيفِ الْإِقَالَةِ اتِّجَاهَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا فَسْخٌ يَنْحَلُّ بِهِ الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ.وَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْإِقَالَةَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الرَّفْعِ، يُقَالُ فِي الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ أَقِلْنِي عَثَرَاتِي، أَيِ ارْفَعْهَا، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَعْنَى التَّصَرُّفِ شَرْعًا مَا يُنْبِئُ عَنْهُ اللَّفْظُ لُغَةً، وَرَفْعُ الْعَقْدِ فَسْخُهُ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِقَالَةَ اخْتَلَفَا اسْمًا، فَتَخَالَفَا حُكْمًا، فَإِذَا كَانَتْ رَفْعًا لَا تَكُونُ بَيْعًا، لِأَنَّ الْبَيْعَ إِثْبَاتٌ وَالرَّفْعُ نَفْيٌ، وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ، فَكَانَتِ الْإِقَالَةُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَسْخًا مَحْضًا، فَتَظْهَرُ فِي حَقِّ كَافَّةِ النَّاسِ.

الثَّانِي: أَنَّهَا بَيْعٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، إِلاَّ إِذَا تَعَذَّرَ جَعْلُهَا بَيْعًا فَإِنَّهَا تَكُونُ فَسْخًا، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَالْإِمَامِ مَالِكٍ.وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ أَنْ تَقَعَ الْإِقَالَةُ فِي الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ.وَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ هُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَهُوَ أَخْذُ بَدَلٍ وَإِعْطَاءُ بَدَلٍ، وَقَدْ وُجِدَ، فَكَانَتِ الْإِقَالَةُ بَيْعًا لِوُجُودِ مَعْنَى الْبَيْعِ فِيهَا، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي لَا لِلْأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي.

الثَّالِثُ: أَنَّهَا فَسْخٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.وَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْإِقَالَةَ تُنْبِئُ عَنِ الْفَسْخِ وَالْإِزَالَةِ، فَلَا تَحْتَمِلُ مَعْنًى آخَرَ نَفْيًا لِلِاشْتِرَاكِ، وَالْأَصْلُ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا جُعِلَ بَيْعًا فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ، لِأَنَّ فِيهَا نَقْلَ مِلْكٍ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ بِعِوَضٍ مَالِيٍّ، فَجُعِلَتْ بَيْعًا فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ مُحَافَظَةً عَلَى حَقِّهِ مِنَ الْإِسْقَاطِ، إِذْ لَا يَمْلِكُ الْعَاقِدَانِ إِسْقَاطَ حَقِّ غَيْرِهِمَا.

آثَارُ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي حَقِيقَةِ الْإِقَالَةِ:

يَتَرَتَّبُ عَلَى اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي حَقِيقَةِ الْإِقَالَةِ آثَارٌ فِي التَّطْبِيقِ فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا مَا يَلِي: أَوَّلًا- الْإِقَالَةُ بِأَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ:

9- إِذَا تَقَايَلَ الْمُتَبَايِعَانِ وَلَمْ يُسَمِّيَا الثَّمَنَ الْأَوَّلَ، أَوْ سَمَّيَا زِيَادَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، أَوْ سَمَّيَا جِنْسًا آخَرَ سِوَى الْجِنْسِ الْأَوَّلِ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، أَوْ أَجَّلَا الثَّمَنَ الْأَوَّلَ، فَالْإِقَالَةُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَتَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ وَالْأَجَلِ وَالْجِنْسِ الْآخَرِ بَاطِلَةٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْإِقَالَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَبِيعُ مَنْقُولًا أَمْ غَيْرَ مَنْقُولٍ، لِأَنَّ الْفَسْخَ رَفْعُ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَالْعَقْدُ وَقَعَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَيَكُونُ فَسْخُهُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَحُكْمُ الْفَسْخِ لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَمَا بَعْدَهُ، وَبَيْنَ الْمَنْقُولِ وَغَيْرِ الْمَنْقُولِ، وَتَبْطُلُ تَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالْجِنْسِ الْآخَرِ وَالْأَجَلِ، وَتَبْقَى الْإِقَالَةُ صَحِيحَةً، لِأَنَّ تَسْمِيَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْإِقَالَةِ وَلِأَنَّ الْإِقَالَةَ رَفْعُ مَا كَانَ لَا رَفْعُ مَا لَمْ يَكُنْ، حَيْثُ إِنَّ رَفْعَ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا مُحَالٌ.وَتَكُونُ الْإِقَالَةُ أَيْضًا بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ الْمُسَمَّى، لَا بِمَا يُدْفَعُ بَدَلًا عَنْهُ، حَتَّى لَوْ كَانَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَدَفَعَ إِلَيْهِ دَرَاهِمَ عِوَضًا عَنْهَا، ثُمَّ تَقَايَلَا- وَقَدْ رُخِّصَتِ الدَّنَانِيرُ- رَجَعَ بِالدَّنَانِيرِ لَا بِمَا دَفَعَ، لِأَنَّهُ لَمَّا اعْتُبِرَتِ الْإِقَالَةُ فَسْخًا، وَالْفَسْخُ يُرَدُّ عَلَى عَيْنِ مَا يُرَدُّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، كَانَ اشْتِرَاطُ خِلَافِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ بَاطِلًا.ثَانِيًا- الشُّفْعَةُ فِيمَا يُرَدُّ بِالْإِقَالَةِ:

10- يَقْتَضِي الْقِيَاسُ أَلاَّ يَكُونَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ فِيمَا رُدَّ بِالْإِقَالَةِ إِذَا اعْتُبِرَتْ هَذِهِ الْإِقَالَةُ فَسْخًا مُطْلَقًا، وَهَذَا قِيَاسٌ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَسْخٌ، إِلاَّ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهَا فَسْخًا فَتُجْعَلُ بَيْعًا.وَعَنْ زُفَرَ: هِيَ فَسْخٌ فِي حَقِّ النَّاسِ كَافَّةً.أَمَّا سَائِرُ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى، فَإِنَّهَا تُعْطِي الشَّفِيعَ حَقَّ الشُّفْعَةِ فِيمَا رُدَّ بِالْإِقَالَةِ.فَعَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهَا فَسْخٌ فِي حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ، كَمَا هُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهَا بَيْعٌ فِي حَقِّهِمَا، كَمَا هُوَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ بَعْدَ تَقَايُلِ الْبَيْعِ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَمَنِ اشْتَرَى دَارًا وَلَهَا شَفِيعٌ، فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ، ثُمَّ تَقَايَلَا الْبَيْعَ، أَوِ اشْتَرَاهَا وَلَمْ يَكُنْ بِجَنْبِهَا دَارٌ، ثُمَّ بُنِيَتْ بِجَنْبِهَا دَارٌ، ثُمَّ تَقَايَلَا الْبَيْعَ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ.وَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ تَكُونُ الْإِقَالَةُ بَيْعًا فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ، وَالشَّفِيعُ غَيْرُهُمَا، فَتَكُونُ بَيْعًا فِي حَقِّهِ فَيَسْتَحِقُّ.وَعَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ تُعَدُّ الْإِقَالَةُ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَلَا مَانِعَ مِنْ جَعْلِهَا بَيْعًا فِي حَقِّ الشَّفِيعِ، وَلِهَذَا الشَّفِيعِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ، إِنْ شَاءَ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ شَاءَ بِالْبَيْعِ الْحَاصِلِ بِالْإِقَالَةِ، أَوْ بِمَعْنًى آخَرَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ: مِنَ الْمُشْتَرِي لِأَجْلِ الشِّرَاءِ، أَوْ مِنَ الْبَائِعِ لِشِرَائِهِ مِنَ الْمُشْتَرِي بِالْإِقَالَةِ، حَيْثُ تَكُونُ الْإِقَالَةُ بَيْعًا مِنَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ، وَحَيْثُ تَكُونُ فَسْخَ بَيْعٍ فَتُؤْخَذُ مِنَ الْمُشْتَرِي فَقَطْ، وَلَا يَتِمُّ فَسْخُهُ إِلاَّ إِنْ رَضِيَ الشَّفِيعُ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَهُ.

إِقَالَةُ الْوَكِيلِ:

11- مَنْ مَلَكَ الْبَيْعَ مَلَكَ الْإِقَالَةَ، فَصَحَّتْ إِقَالَةُ الْمُوَكِّلِ بَيْعَ وَكِيلِهِ، وَتَصِحُّ إِقَالَةُ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إِذَا تَمَّتْ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ.فَإِنْ أَقَالَ بَعْدَ قَبْضِهِ يَضْمَنُ الثَّمَنَ لِلْمُوَكِّلِ، إِذْ تُعْتَبَرُ الْإِقَالَةُ مِنَ الْوَكِيلِ حِينَئِذٍ شِرَاءً لِنَفْسِهِ.وَبِإِقَالَةِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ يَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَيَلْزَمُ الْمَبِيعُ الْوَكِيلَ.وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي أَصْلًا.وَتَجُوزُ الْإِقَالَةُ مِنَ الْوَكِيلِ بِالسَّلَمِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ كَالْإِبْرَاءِ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.وَالْمُرَادُ بِإِقَالَةِ الْوَكِيلِ بِالسَّلَمِ: الْوَكِيلُ بِشِرَاءِ السَّلَمِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِشِرَاءِ الْعَيْنِ.وَإِقَالَةُ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ لَا تَجُوزُ بِإِجْمَاعِ الْحَنَفِيَّةِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا تَجُوزُ إِقَالَةُ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا.وَاتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى صِحَّةِ التَّوْكِيلِ فِي حَقِّ كُلِّ آدَمِيٍّ مِنَ الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ.وَعَلَى هَذَا فَيَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِالْإِقَالَةِ عِنْدَهُمُ ابْتِدَاءً، سَوَاءٌ أَقُلْنَا: إِنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ عَلَى الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا أَمْ بَيْعٌ.هَذَا، وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مَنْ لَهُ حَقُّ الْإِقَالَةِ مِنْ غَيْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ سِوَى الْوَرَثَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ.أَمَّا حُكْمُ الْإِقَالَةِ الصَّادِرَةِ مِنَ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ فَلَمْ يَتَطَرَّقُوا لَهُ.وَالْمُتَوَلِّي عَلَى الْوَقْفِ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ فَإِنَّ إِقَالَتَهُ لَا تَصِحُّ.

مَحَلُّ الْإِقَالَةِ:

12- مَحَلُّ الْإِقَالَةِ الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ فِي حَقِّ الطَّرَفَيْنِ مِمَّا يَقْبَلُ الْفَسْخَ بِالْخِيَارِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لَا يُمْكِنُ فَسْخُهَا إِلاَّ بِاتِّفَاقِ الطَّرَفَيْنِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْإِقَالَةَ تَصِحُّ فِي الْعُقُودِ الْآتِيَةِ: الْبَيْعِ- الْمُضَارَبَةِ- الشَّرِكَةِ- الْإِجَارَةِ- الرَّهْنِ (بِالنِّسْبَةِ لِلرَّاهِنِ فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ قَضَاءِ الرَّاهِنِ دَيْنَهُ) - السَّلَمِ- الصُّلْحِ.وَأَمَّا الْعُقُودُ الَّتِي لَا تَصِحُّ فِيهَا الْإِقَالَةُ فَهِيَ الْعُقُودُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ، كَالْإِعَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْجِعَالَةِ، أَوِ الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الْفَسْخَ بِالْخِيَارِ، مِثْلُ الْوَقْفِ وَالنِّكَاحِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ فَسْخُ أَحَدِهِمَا بِالْخِيَارِ.

أَثَرُ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْإِقَالَةِ:

13- إِذَا اعْتَبَرْنَا الْإِقَالَةَ فَسْخًا، فَإِنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، بَلْ تَكُونُ هَذِهِ الشُّرُوطُ لَغْوًا، وَتَصِحُّ الْإِقَالَةُ.فَفِي الْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ، إِذَا شَرَطَ أَكْثَرَ مِمَّا دَفَعَ، فَالْإِقَالَةُ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، لِمُتَعَذِّرِ الْفَسْخِ عَلَى الزِّيَادَةِ، وَتُبْطِلُ الشَّرْطَ، لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الرِّبَا، وَفِيهِ نَفْعٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ خَالٍ عَنِ الْعِوَضِ.وَكَذَا إِذَا شَرَطَ أَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، لِتَعَذُّرِ الْفَسْخِ عَلَى الْأَقَلِّ، لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِهِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، وَالْفَسْخُ عَلَى الْأَقَلِّ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ فِيهِ رَفْعَ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا وَهُوَ مُحَالٌ.وَالنُّقْصَانُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فَرَفْعُهُ يَكُونُ مُحَالًا، إِلاَّ أَنْ يَحْدُثَ فِي الْمَبِيعِ عَيْبٌ فَتَجُوزُ الْإِقَالَةُ بِالْأَقَلِّ، لِأَنَّ الْحَطَّ يُجْعَلُ بِإِزَاءِ مَا فَاتَ مِنَ الْعَيْبِ.وَهَذَا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ يَرَوْنَ الْإِقَالَةَ فَسْخًا، وَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ، فَإِنَّهَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، فَإِذَا زَادَ كَانَ قَاصِدًا بِهَذَا ابْتِدَاءَ الْبَيْعِ، وَإِذَا شَرَطَ الْأَقَلَّ فَكَذَلِكَ.

الْإِقَالَةُ فِي الصَّرْفِ:

14- الْإِقَالَةُ فِي الصَّرْفِ كَالْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ، أَيْ يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّقَابُضُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ كَمَا فِي ابْتِدَاءِ عَقْدِ الصَّرْفِ.فَلَوْ تَقَايَلَا الصَّرْفَ، وَتَقَابَضَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، مَضَتِ الْإِقَالَةُ عَلَى الصِّحَّةِ.وَإِنِ افْتَرَقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ بَطَلَتِ الْإِقَالَةُ، سَوَاءٌ اعْتُبِرَتْ بَيْعًا أَمْ فَسْخًا.فَعَلَى اعْتِبَارِهَا بَيْعًا كَانَتِ الْمُصَارَفَةُ مُبْتَدَأَةً، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّقَابُضِ يَدًا بِيَدٍ، مَا دَامَتِ الْإِقَالَةُ بَيْعًا مُسْتَقِلًّا يُحِلُّهَا مَا يُحِلُّ الْبُيُوعَ، وَيُحَرِّمُهَا مَا يُحَرِّمُ الْبُيُوعَ، فَلَا تَصْلُحُ الْإِقَالَةُ إِذْ حَصَلَ الِافْتِرَاقُ قَبْلَ الْقَبْضِ.عَلَى اعْتِبَارِهَا فَسْخًا فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَهِيَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ، وَاسْتِحْقَاقُ الْقَبْضِ حَقٌّ لِلشَّرْعِ، وَهُوَ هُنَا ثَالِثٌ، فَيُعْتَبَرُ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَابُضُ.وَهَلَاكُ الْبَدَلَيْنِ فِي الصَّرْفِ لَا يُعَدُّ مَانِعًا مِنَ الْإِقَالَةِ، لِأَنَّهُ فِي الصَّرْفِ لَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ، بَلْ رَدُّهُ أَوْ رَدُّ مِثْلِهِ، فَلَمْ تَتَعَلَّقِ الْإِقَالَةُ بِعَيْنِهِمَا، فَلَا تَبْطُلُ بِهَلَاكِهِمَا.

إِقَالَةُ الْإِقَالَةِ:

15- إِقَالَةُ الْإِقَالَةِ إِلْغَاءٌ لَهَا وَالْعَوْدَةُ إِلَى أَصْلِ الْعَقْدِ، وَهِيَ تَصِحُّ فِي أَحْوَالٍ مُعَيَّنَةٍ، فَلَوْ تَقَايَلَا الْبَيْعَ، ثُمَّ تَقَايَلَا الْإِقَالَةَ، ارْتَفَعَتِ الْإِقَالَةُ وَعَادَ الْبَيْعُ.وَقَدِ اسْتَثْنَى الْعُلَمَاءُ مِنْ إِقَالَةِ الْإِقَالَةِ إِقَالَةَ الْمُسْلِمِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ، لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ وَقَدْ سَقَطَ بِالْإِقَالَةِ الْأُولَى، فَلَوِ انْفَسَخَتْ لَعَادَ الْمُسْلَمُ فِيهِ الَّذِي سَقَطَ، وَالسَّاقِطُ لَا يَعُودُ.

مَا يُبْطِلُ الْإِقَالَةَ:

16- مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَبْطُلُ فِيهَا الْإِقَالَةُ بَعْدَ وُجُودِهَا مَا يَأْتِي: أ- هَلَاكُ الْمَبِيعِ: فَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ بَعْدَ الْإِقَالَةِ وَقَبْلَ التَّسْلِيمِ بَطَلَتْ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا بَقَاءَ الْمَبِيعِ، لِأَنَّهَا رَفْعُ الْعَقْدِ وَهُوَ مَحَلُّهُ، بِخِلَافِ هَلَاكِ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْإِقَالَةَ لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِمَحَلِّ الْعَقْدِ، وَلِذَا بَطَلَ الْبَيْعُ بِهَلَاكِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ دُونَ الثَّمَنِ.وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ قِيَمِيًّا، فَإِنْ كَانَ قِيَمِيًّا فَهَلَكَ بَطَلَتِ الْإِقَالَةُ.وَلَكِنْ لَا يُرَدُّ عَلَى اشْتَرَطَ قِيَامَ الْمَبِيعِ لِصِحَّةِ الْإِقَالَةِ إِقَالَةَ السَّلَمِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، لِأَنَّهَا صَحِيحَةٌ سَوَاءٌ أَكَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا أَمْ دَيْنًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ أَمْ هَالِكًا.لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ دَيْنًا حَقِيقَةً فَلَهُ حُكْمُ الْعَيْنِ حَتَّى لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ.

ب- تَغَيُّرُ الْمَبِيعِ: كَأَنْ زَادَ الْمَبِيعُ زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً مُتَوَلِّدَةً، كَمَا لَوْ وَلَدَتِ الدَّابَّةُ بَعْدَ الْإِقَالَةِ، فَإِنَّهَا تَبْطُلُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ كَصَبْغِ الثَّوْبِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَبْطُلُ الْإِقَالَةُ بِتَغَيُّرِ ذَاتِ الْمَبِيعِ مَهْمَا كَانَ.كَتَغَيُّرِ الدَّابَّةِ بِالسِّمَنِ وَالْهُزَالِ، بِخِلَافِ الْحَنَابِلَةِ.

اخْتِلَافُ الْمُتَقَايِلَيْنِ:

17- قَدْ يَقَعُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْمُتَقَايِلَيْنِ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ، أَوْ عَلَى كَيْفِيَّتِهِ، أَوْ عَلَى الثَّمَنِ، أَوْ عَلَى الْإِقَالَةِ مِنْ أَسَاسِهَا.فَإِنَّهُمَا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي كَيْفِيَّتِهِ تَحَالَفَا، فَيَحْلِفُ كُلٌّ عَلَى نَفْيِ قَوْلِ صَاحِبِهِ وَإِثْبَاتِ قَوْلِهِ.وَيُسْتَثْنَى مِنَ التَّحَالُفِ مَا لَوْ تَقَايَلَا الْعَقْدَ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فَلَا تَحَالُفَ، بَلِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ غَارِمٌ.وَلَوِ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي، فَقَالَ الْمُشْتَرِي: بِعْتُهُ مِنَ الْبَائِعِ بِأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ قَبْلَ نَقْدِهِ

(وَفَسَدَ الْبَيْعُ بِذَلِكَ، وَقَالَ الْبَائِعُ: بَلْ تَقَايَلْنَاهُ، فَالْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ فِي إِنْكَارِهِ الْإِقَالَةَ.فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي يَدَّعِي أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنَ الْمُشْتَرِي بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَهُ، وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي الْإِقَالَةَ يَحْلِفُ كُلٌّ عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


210-موسوعة الفقه الكويتية (إقامة)

إقَامَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْإِقَامَةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ: أَقَامَ، وَأَقَامَ بِالْمَكَانِ: ثَبَتَ بِهِ، وَأَقَامَ الشَّيْءَ: ثَبَّتَهُ أَوْ عَدَّلَهُ، وَأَقَامَ الرَّجُلُ الشَّرْعَ: أَظْهَرَهُ، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ: أَدَامَ فِعْلَهَا، وَأَقَامَ لِلصَّلَاةِ إقَامَةً: نَادَى لَهَا.

وَتُطْلَقُ الْإِقَامَةُ فِي الشَّرْعِ بِمَعْنَيَيْنِ:

الْأَوَّلُ: الثُّبُوتُ فِي الْمَكَانِ، فَيَكُونُ ضِدَّ السَّفَرِ.

الثَّانِي: إعْلَامُ الْحَاضِرِينَ الْمُتَأَهِّبِينَ لِلصَّلَاةِ بِالْقِيَامِ إلَيْهَا، بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ وَصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ.

أَوَّلًا: أَحْكَامُ الْإِقَامَةِ الَّتِي بِمَعْنَى الثُّبُوتِ فِي الْمَكَانِ

أ- إقَامَةُ الْمُسَافِرِ:

2- يُصْبِحُ الْمُسَافِرُ مُقِيمًا إذَا دَخَلَ وَطَنَهُ، أَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي مَكَانٍ مَا بِالشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ، وَيَنْقَطِعُ بِذَلِكَ عَنْهُ حُكْمُ السَّفَرِ، وَتَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُقِيمِ، كَامْتِنَاعِ الْقَصْرِ فِي الصَّلَاةِ، وَعَدَمِ جَوَازِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ.وَإِقَامَةُ الْآفَاقِيِّ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ الْمَكَانِيَّةِ، أَوْ فِي الْحَرَمِ- تُعْطِيهِ حُكْمَ الْمُقِيمِ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ أَوْ دَاخِلَ الْحَرَمِ مِنْ حَيْثُ الْإِحْرَامُ، وَطَوَافُ الْوَدَاعِ، وَالْقُدُومُ، وَالْقِرَانُ، وَالتَّمَتُّعُ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلَاتُ ذَلِكَ فِي (قِرَان- تَمَتُّع- حَجّ- إحْرَام).

ب- إقَامَةُ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ:

3- إقَامَةُ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَقْدَحُ فِي إسْلَامِهِ، إلاَّ أَنَّهُ إذَا كَانَ يَخْشَى عَلَى دِينِهِ، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ إظْهَارَهُ، تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} وَهَذَا إذَا كَانَ يُمْكِنُهُ الْهِجْرَةُ وَلَمْ يَكُنْ بِهِ عَجْزٌ، لِمَرَضٍ أَوْ إِكْرَاهٍ عَلَى الْإِقَامَةِ.

أَمَّا إذَا كَانَ لَا يَخْشَى الْفِتْنَةَ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ مَعَ إِقَامَتِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، لِتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ وَمَعُونَتِهِمْ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ.وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ عَمُّ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مُقِيمًا بِمَكَّةَ مَعَ إسْلَامِهِ.

وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي ذَلِكَ: (ر: جِهَاد- دَارُ الْحَرْبِ- دَارُ الْإِسْلَامِ- هِجْرَة).

ثَانِيًا: الْإِقَامَةُ لِلصَّلَاةِ

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ:

4- هُنَاكَ أَلْفَاظٌ لَهَا صِلَةٌ بِالْإِقَامَةِ لِلصَّلَاةِ، مِنْهَا:

أ- الْأَذَانُ: يُعَرَّفُ الْأَذَانُ بِأَنَّهُ: إعْلَامٌ بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ بِأَلْفَاظٍ مَعْلُومَةٍ مَأْثُورَةٍ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ يَحْصُلُ بِهَا الْإِعْلَامُ،.

فَالْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ يَشْتَرِكَانِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إِعْلَامٌ، وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِعْلَامَ فِي الْإِقَامَةِ هُوَ لِلْحَاضِرِينَ الْمُتَأَهِّبِينَ لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَالْأَذَانُ لِلْغَائِبِينَ لِيَتَأَهَّبُوا لِلصَّلَاةِ، كَمَا أَنَّ صِيغَةَ الْأَذَانِ قَدْ تَنْقُصُ أَوْ تَزِيدُ عَنِ الْإِقَامَةِ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ.

ب- التَّثْوِيبُ:

التَّثْوِيبُ عَوْدٌ إِلَى الْإِعْلَامِ بَعْدَ الْإِعْلَامِ.وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، زِيَادَةُ « الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ ».

حُكْمُ الْإِقَامَةِ التَّكْلِيفِيُّ:

5- فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ التَّكْلِيفِيِّ رَأْيَانِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِقَامَةَ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْآخَرِينَ، وَإِذَا تُرِكَ أَثِمُوا جَمِيعًا.

قَالَ بِهَذَا الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَلِبَعْضٍ آخَرَ لِلْجُمُعَةِ فَقَطْ.وَهُوَ رَأْيُ عَطَاءٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ، حَتَّى رُوِيَ عَنْهُمَا أَنَّهُ إِنْ نَسِيَ الْإِقَامَةَ أَعَادَ الصَّلَاةَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنْ نَسِيَ الْإِقَامَةَ فِي السَّفَرِ أَعَادَ، وَلَعَلَّهُ لِمَا فِي السَّفَرِ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى إِظْهَارِ الشَّعَائِرِ.

وَاسْتُدِلَّ لِلْقَوْلِ بِأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ بِكَوْنِهَا مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ، وَفِي تَرْكِهَا تَهَاوُنٌ، فَكَانَتْ فَرْضَ كِفَايَةٍ مِثْلَ الْجِهَادِ.

الثَّانِي: أَنَّ الْإِقَامَةَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ بِالْوُجُوبِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِالسُّنَّةِ هُنَا السُّنَنُ الَّتِي هِيَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ، فَلَا يَسَعُ الْمُسْلِمِينَ تَرْكُهَا، وَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ أَسَاءَ، لِأَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ يُوجِبُ الْإِسَاءَةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، فَهَذَا أَوْلَى، وَفَسَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ السُّنِّيَّةَ بِالْوُجُوبِ، حَيْثُ قَالَ فِي التَّارِكِينَ: أَخْطَئُوا السُّنَّةَ وَخَالَفُوا وَأَثِمُوا، وَالْإِثْمُ إِنَّمَا يَلْزَمُ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ.وَاحْتَجُّوا لِلسُّنِّيَّةِ « بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِلْأَعْرَابِيِّ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ: افْعَلْ كَذَا وَكَذَا ».وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَذَانَ وَلَا الْإِقَامَةَ مَعَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ الْوُضُوءَ وَاسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ وَأَرْكَانَ الصَّلَاةِ، وَلَوْ كَانَتِ الْإِقَامَةُ وَاجِبَةً لَذَكَرَهَا.

تَارِيخُ تَشْرِيعِ الْإِقَامَةِ وَحِكْمَتُهَا:

6- تَارِيخُ تَشْرِيعِ الْإِقَامَةِ هُوَ تَارِيخُ تَشْرِيعِ الْأَذَانِ (ر: أَذَان).

أَمَّا حِكْمَتُهَا: فَهِيَ إِعْلَاءُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْمِ رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَإِقْرَارٌ لِلْفَلَاحِ وَالْفَوْزِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، لِتَرْكِيزِ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْمُسْلِمِ، وَإِظْهَارٌ لِشَعِيرَةٍ مِنْ أَفْضَلِ الشَّعَائِرِ.

كَيْفِيَّةُ الْإِقَامَةِ:

7- اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى أَنَّ أَلْفَاظَ الْإِقَامَةِ هِيَ نَفْسُ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ فِي الْجُمْلَةِ بِزِيَادَةِ: « قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ » بَعْدَ « حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ».

وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ أَلْفَاظِهَا هُوَ نَفْسُ تَرْتِيبِ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَكْرَارِ وَإِفْرَادِ أَلْفَاظِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي:

اللَّهُ أَكْبَرُ.

تُقَالُ فِي بَدْءِ الْإِقَامَةِ « مَرَّتَيْنِ » عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ، وَأَرْبَعَ مَرَّاتٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.

تُقَالُ « مَرَّةً وَاحِدَةً » عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ « وَمَرَّتَيْنِ » عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.

تُقَالُ « مَرَّةً وَاحِدَةً » عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ « وَمَرَّتَيْنِ » عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ.

تُقَالُ: « مَرَّةً وَاحِدَةً » عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ « وَمَرَّتَيْنِ » عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ.

تُقَالُ: « مَرَّةً وَاحِدَةً » عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ « وَمَرَّتَيْنِ » عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ.

تُقَالُ « مَرَّتَيْنِ » عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ « وَمَرَّةً وَاحِدَةً » عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ.

اللَّهُ أَكْبَرُ.

تُقَالُ « مَرَّتَيْنِ » عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ.

لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.

تُقَالُ « مَرَّةً وَاحِدَةً » عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ.

وَيُسْتَخْلَصُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَذَاهِبَ الثَّلَاثَةَ تَخْتَلِفُ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ بِإِفْرَادِ أَكْثَرِ أَلْفَاظِ الْإِقَامَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: « أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ ».وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: « إِنَّمَا كَانَ الْأَذَانُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَالْإِقَامَةُ مَرَّةً مَرَّةً ».

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَجْعَلُونَ الْإِقَامَةَ مِثْلَ الْأَذَانِ بِزِيَادَةِ « قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ » مَرَّتَيْنِ بَعْدَ « حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ».

وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ « عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ رَجُلًا قَامَ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ، فَقَامَ عَلَى حَائِطٍ فَأَذَّنَ مَثْنَى مَثْنَى، وَأَقَامَ مَثْنَى مَثْنَى » وَلِمَا رُوِيَ كَذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ « فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، يَعْنِي الْمَلَكَ، وَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ.اللَّهُ أَكْبَرُ..إِلَى آخِرِ الْأَذَانِ.قَالَ: ثُمَّ أَمْهَلَ هُنَيْهَةً، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ مِثْلَهَا، إِلَا أَنَّهُ قَالَ: زَادَ بَعْدَمَا قَالَ « حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ »: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ ».

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَخْتَلِفُونَ عَنْ غَيْرِهِمْ فِي تَثْنِيَةِ « قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ »، فَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا تُقَالُ مَرَّةً

وَاحِدَةً.لِمَا رَوَى أَنَسٌ قَالَ: « أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ ».

حَدْرُ الْإِقَامَةِ:

8- الْحَدْرُ هُوَ الْإِسْرَاعُ وَقَطْعُ التَّطْوِيلِ.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْحَدْرِ فِي الْإِقَامَةِ وَالتَّرَسُّلِ فِي الْأَذَانِ، لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: « إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْدُرْ »، وَلِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ: إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْذِمْ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَأَصْلُ الْحَذْمِ- بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ- فِي الْمَشْيِ إِنَّمَا هُوَ الْإِسْرَاعُ.

وَقْتُ الْإِقَامَةِ:

9- شُرِعَتِ الْإِقَامَةُ أُهْبَةً لِلصَّلَاةِ بَيْنَ يَدَيْهَا، تَفْخِيمًا لَهَا كَغُسْلِ الْإِحْرَامِ، وَغُسْلِ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ لِإِعْلَامِ النَّفْسِ بِالتَّأَهُّبِ وَالْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ، وَإِعْلَامِ الِافْتِتَاحِ.وَلَا يَصِحُّ تَقْدِيمُهَا عَلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ، بَلْ يَدْخُلُ وَقْتُهَا بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَيُشْتَرَطُ لَهَا شَرْطَانِ، الْأَوَّلُ: دُخُولُ الْوَقْتِ، وَالثَّانِي: إِرَادَةُ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ.

فَإِنْ أَقَامَ قُبَيْلَ الْوَقْتِ بِجُزْءٍ يَسِيرٍ بِحَيْثُ دَخَلَ الْوَقْتُ عَقِبَ الْإِقَامَةِ، ثُمَّ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ عَقِبَ ذَلِكَ لَمْ تَحْصُلِ الْإِقَامَةُ، وَإِنْ أَقَامَ فِي الْوَقْتِ وَأَخَّرَ الدُّخُولَ فِي الصَّلَاةِ بَطَلَتْ إِقَامَتُهُ إِنْ طَالَ الْفَصْلُ، لِأَنَّهَا تُرَادُ لِلدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ، فَلَا يَجُوزُ إِطَالَةُ الْفَصْلِ.

مَا يُشْتَرَطُ لِإِجْزَاءِ الْإِقَامَةِ:

10- يُشْتَرَطُ فِي الْإِقَامَةِ مَا يَأْتِي:

دُخُولُ الْوَقْتِ، وَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ، وَالْأَدَاءُ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْخُلُوُّ مِنَ اللَّحْنِ الْمُغَيِّرِ لِلْمَعْنَى، وَرَفْعُ الصَّوْتِ.وَلَكِنْ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْإِقَامَةِ يَكُونُ أَخَفَّ مِنْ رَفْعِهِ بِالْأَذَانِ، لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا.فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَذَانِ: إِعْلَامُ الْغَائِبِينَ بِالصَّلَاةِ، أَمَّا الْإِقَامَةُ فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا طَلَبُ قِيَامِ الْحَاضِرِينَ فِعْلًا لِلصَّلَاةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ الْإِقَامَةِ.وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْكَلِمَاتِ، وَالْمُوَالَاةُ بَيْنَ أَلْفَاظِ الْإِقَامَةِ.

وَفِي هَذِهِ الشُّرُوطِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ « أَذَان ». شَرَائِطُ الْمُقِيمِ:

11- تَشْتَرِكُ الْإِقَامَةُ مَعَ الْأَذَانِ فِي هَذِهِ الشَّرَائِطِ وَنَذْكُرُهَا إِجْمَالًا، وَمَنْ أَرَادَ زِيَادَةَ تَفْصِيلٍ فَلْيَرْجِعْ إِلَى مُصْطَلَحِ (أَذَان)، وَأَوَّلُ هَذِهِ الشُّرُوطِ.

أ- الْإِسْلَامُ:

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ فِي الْمُقِيمِ، فَلَا تَصِحُّ الْإِقَامَةُ مِنَ الْكَافِرِ وَلَا الْمُرْتَدِّ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِهَا.

ب- الذُّكُورَةُ:

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ أَذَانِ الْمَرْأَةِ وَإِقَامَتِهَا لِجَمَاعَةِ الرِّجَالِ، لِأَنَّ الْأَذَانَ فِي الْأَصْلِ لِلْإِعْلَامِ، وَلَا يُشْرَعُ لَهَا ذَلِكَ، وَالْأَذَانُ يُشْرَعُ لَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ، وَلَا يُشْرَعُ لَهَا رَفْعُ الصَّوْتِ، وَمَنْ لَا يُشْرَعُ فِي حَقِّهِ الْأَذَانُ لَا يُشْرَعُ فِي حَقِّهِ الْإِقَامَةُ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مُنْفَرِدَةً أَوْ فِي جَمَاعَةِ النِّسَاءِ فَفِيهِ اتِّجَاهَاتٌ.

الْأَوَّلُ: الِاسْتِحْبَابُ.وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

الثَّانِي: الْإِبَاحَةُ.وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.

الثَّالِثُ: الْكَرَاهَةُ.وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ.

ج- الْعَقْلُ:

نَصَّ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى بُطْلَانِ أَذَانِ وَإِقَامَةِ الْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ وَالسَّكْرَانِ، وَقَالُوا: يَجِبُ إِعَادَةُ أَذَانِهِمْ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي هَذَا إِلاَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ فِي السَّكْرَانِ، حَيْثُ قَالُوا بِكَرَاهَةِ أَذَانِهِ وَإِقَامَتِهِ وَاسْتِحْبَابِ إِعَادَتِهِمَا.

د- الْبُلُوغُ: لِلْعُلَمَاءِ فِي إِقَامَةِ الصَّبِيِّ ثَلَاثَةُ آرَاءَ:

الْأَوَّلُ: لَا تَصِحُّ إِقَامَةُ الصَّبِيِّ سَوَاءٌ أَكَانَ مُمَيِّزًا أَمْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ، وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

الثَّانِي: تَصِحُّ إِقَامَتُهُ إِنْ كَانَ مُمَيِّزًا عَاقِلًا، وَهُوَ رَأْيٌ آخَرُ فِي تِلْكَ الْمَذَاهِبِ.

الثَّالِثُ: الْكَرَاهَةُ إِذَا كَانَ مُمَيِّزًا، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ.

هـ- الْعَدَالَةُ:

فِي إِقَامَةِ الْفَاسِقِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ

الْأَوَّلُ: لَا يُعْتَدُّ بِهَا، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ.

الثَّانِي: الْكَرَاهَةُ: وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ.

الثَّالِثُ: يَصِحُّ وَيُسْتَحَبُّ إِعَادَتُهُ.وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ فِي (الْأَذَان).

و- الطَّهَارَةُ:

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ الْإِقَامَةِ مَعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، لِأَنَّ السُّنَّةَ وَصْلُ الْإِقَامَةِ بِالشُّرُوعِ بِالصَّلَاةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى سُنِّيَّةِ الْإِعَادَةِ مَا عَدَا الْحَنَفِيَّةَ.وَفِي رَأْيٍ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنَّ إِقَامَةَ الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَرَ جَائِزَةٌ بِغَيْرِ كَرَاهَةٍ.

أَمَّا مِنَ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ فَفِيهِ رَأْيَانِ:

الْأَوَّلُ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى كَرَاهَةِ إِقَامَةِ الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَكْبَرَ.

الثَّانِي: الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: بُطْلَانُ الْأَذَانِ مَعَ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ.

مَا يُسْتَحَبُّ فِي الْإِقَامَةِ:

12- اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْحَدْرِ فِي الْإِقَامَةِ وَالتَّرَسُّلِ فِي الْأَذَانِ كَمَا مَرَّ (ف).وَفِي الْوَقْفِ عَلَى آخِرِ كُلِّ جُمْلَةٍ فِي الْإِقَامَةِ رَأْيَانِ:

الْأَوَّلُ: قَالَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، الْإِقَامَةُ مُعْرَبَةٌ إِنْ وَصَلَ كَلِمَةً بِكَلِمَةٍ.فَإِنْ وَقَفَ الْمُقِيمُ وَقَفَ عَلَيْهَا بِالسُّكُونِ.

الثَّانِي: قَالَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رَأْيٌ آخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ: الْإِقَامَةُ عَلَى الْجَزْمِ مِثْلُ الْأَذَانِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّخَعِيِّ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.أَنَّهُ قَالَ: « الْأَذَانُ جَزْمٌ، وَالْإِقَامَةُ جَزْمٌ، وَالتَّكْبِيرُ جَزْمٌ ».

وَفِي التَّكْبِيرَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ أَقْوَالٌ، فَالتَّكْبِيرَةُ الْأُولَى فِيهَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ، لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: فِيهَا الْوَقْفُ بِالسُّكُونِ، وَالْفَتْحُ، وَالضَّمُّ.

الثَّانِي، رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ: فِيهَا السُّكُونُ، أَوِ الضَّمُّ.

أَمَّا التَّكْبِيرَةُ الثَّانِيَةُ فَفِيهَا أَيْضًا قَوْلَانِ:

الْأَوَّلُ، رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ: الْجَزْمُ لَا غَيْرُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ « الْإِقَامَةَ جَزْمٌ ».

الثَّانِي: الْإِعْرَابُ وَهُوَ: الضَّمُّ، وَهُوَ رَأْيٌ آخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَالْجَمِيعُ جَائِزٌ، وَلَكِنَّ الْخِلَافَ فِي الْأَفْضَلِ وَالْمُسْتَحَبِّ.

13- وَمِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ عِنْدَ الْمَذَاهِبِ: اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، غَيْرَ أَنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الِالْتِفَاتَ عِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ « حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ».وَفِي الِالْتِفَاتِ عِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ فِي الْإِقَامَةِ ثَلَاثَةُ آرَاءَ.

الْأَوَّلُ: يُسْتَحَبُّ الِالْتِفَاتُ عِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ

الثَّانِي: يُسْتَحَبُّ إِذَا كَانَ الْمَكَانُ مُتَّسَعًا، وَلَا يُسْتَحَبُّ إِذَا كَانَ الْمَكَانُ ضَيِّقًا، أَوِ الْجَمَاعَةُ قَلِيلَةً.

وَهَذَانِ الرَّأْيَانِ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.

الثَّالِثُ: لَا يُسْتَحَبُّ أَصْلًا لِأَنَّ الِاسْتِحْبَابَ فِي الْأَذَانِ كَانَ لِإِعْلَامِ الْغَائِبِينَ، وَالْإِقَامَةُ لِإِعْلَامِ الْحَاضِرِينَ الْمُنْتَظِرِينَ لِلصَّلَاةِ، فَلَا يُسْتَحَبُّ تَحْوِيلُ الْوَجْهِ، وَهَذَا الرَّأْيُ لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ.وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازُ الِالْتِفَاتِ فِي الْحَيْعَلَتَيْنِ.وَفِي رَأْيٍ آخَرَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ هُوَ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي الِابْتِدَاءِ.

14- وَيُسْتَحَبُّ فِيمَنْ يُقِيمُ الصَّلَاةَ: أَنْ يَكُونَ تَقِيًّا، عَالِمًا بِالسُّنَّةِ، وَعَالِمًا بِأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، وَحَسَنَ الصَّوْتِ، مُرْتَفِعَهُ مِنْ غَيْرِ تَطْرِيبٍ وَلَا غِنَاءٍ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْأَذَانِ.

15- وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمُقِيمِ الصَّلَاةِ أَنْ يُقِيمَ وَاقِفًا.وَتُكْرَهُ الْإِقَامَةُ قَاعِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.فَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ فَلَا بَأْسَ.قَالَ الْحَسَنُ الْعَبْدِيُّ: « رَأَيْتُ أَبَا زَيْدٍ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَكَانَتْ رِجْلُهُ أُصِيبَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يُؤَذِّنُ قَاعِدًا وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ « الصَّحَابَةَ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي مَسِيرٍ فَانْتَهَوْا إِلَى مَضِيقٍ، وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَمَطَرَتِ السَّمَاءُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَالْبِلَّةُ مِنْ أَسْفَل فِيهِمْ، فَأَذَّنَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَأَقَامَ، فَتَقَدَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَصَلَّى بِهِمْ يُومِئُ إِيمَاءً، يَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ ».كَمَا تُكْرَهُ إِقَامَةُ الْمَاشِي وَالرَّاكِبِ فِي السَّفَرِ وَغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.لِمَا رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا- رضي الله عنه- » أَذَّنَ وَهُوَ رَاكِبٌ، ثُمَّ نَزَلَ وَأَقَامَ عَلَى الْأَرْضِ.

وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْزِلْ لَوَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ بِالنُّزُولِ، وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَلِأَنَّهُ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَهَيِّئٍ لَهَا.وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ إِقَامَةَ الرَّاكِبِ فِي السَّفَرِ بِدُونِ عُذْرٍ جَائِزَةٌ بِدُونِ كَرَاهَةٍ.

مَا يُكْرَهُ فِي الْإِقَامَةِ

16- يُكْرَهُ فِي الْإِقَامَةِ: تَرْكُ شَيْءٍ مِنْ مُسْتَحَبَّاتِهَا الَّتِي سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا، وَمِمَّا يُكْرَهُ أَيْضًا: الْكَلَامُ فِي الْإِقَامَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ إِذَا كَانَ كَثِيرًا، أَمَّا إِنْ كَانَ الْكَلَامُ فِي الْإِقَامَةِ لِضَرُورَةٍ مِثْلَ مَا لَوْ رَأَى أَعْمَى يَخَافُ وُقُوعَهُ فِي بِئْرٍ، أَوْ حَيَّةً تَدِبُّ إِلَى غَافِلٍ، أَوْ سَيَّارَةً تُوشِكُ أَنْ تَدْهَمَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ إِنْذَارَهُ وَيَبْنِي عَلَى إِقَامَتِهِ.

أَمَّا الْكَلَامُ الْقَلِيلُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَفِيهِ رَأْيَانِ:

الْأَوَّلُ: لَا يُكْرَهُ بَلْ يُؤَدِّي إِلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ.قَالَ بِهَذَا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ « أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَكَلَّمَ فِي الْخُطْبَةِ، » فَالْأَذَانُ أَوْلَى أَلاَّ يَبْطُلَ، وَكَذَلِكَ الْإِقَامَةُ، وَلِأَنَّهُمَا يَصِحَّانِ مَعَ الْحَدَثِ، وَقَاعِدًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّخْفِيفِ.

الثَّانِي: يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، وَيَبْنِي عَلَى إِقَامَتِهِ، وَبِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، لِأَنَّ الْإِقَامَةَ حَدْرٌ، وَهَذَا يُخَالِفُ الْوَارِدَ، وَيَقْطَعُ بَيْنَ كَلِمَاتِهَا.

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّمْطِيطَ وَالتَّغَنِّيَ وَالتَّطْرِيبَ بِزِيَادَةِ حَرَكَةٍ أَوْ حَرْفٍ أَوْ مَدٍّ أَوْ غَيْرِهَا فِي الْأَوَائِلِ وَالْأَوَاخِرِ مَكْرُوهٌ، لِمُنَافَاةِ الْخُشُوعِ وَالْوَقَارِ.

أَمَّا إِذَا تَفَاحَشَ التَّغَنِّي وَالتَّطْرِيبُ بِحَيْثُ يُخِلُّ بِالْمَعْنَى فَإِنَّهُ يَحْرُمُ بِدُونِ خِلَافٍ فِي ذَلِكَ.لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عُمَرَ: إِنِّي لأَُحِبُّكَ فِي اللَّهِ.قَالَ: وَأَنَا أَبْغَضُكَ فِي اللَّهِ، إِنَّكَ تَتَغَنَّى فِي أَذَانِكَ.قَالَ حَمَّادٌ: يَعْنِي التَّطْرِيبَ.

إِقَامَةُ غَيْرِ الْمُؤَذِّنِ:

17- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَلَّى الْإِقَامَةَ مَنْ تَوَلَّى الْأَذَانَ.وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ أَنَّهُ قَالَ: « بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِلَالًا إِلَى حَاجَةٍ لَهُ فَأَمَرَنِي أَنْ أُؤَذِّنَ فَأَذَّنْتُ، فَجَاءَ بِلَالٌ وَأَرَادَ أَنْ يُقِيمَ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّ أَخَا صِدَاءٍ هُوَ الَّذِي أَذَّنَ، وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ الَّذِي يُقِيمُ » وَلِأَنَّهُمَا فِعْلَانِ مِنَ الذِّكْرِ يَتَقَدَّمَانِ الصَّلَاةَ، فَيُسَنُّ أَنْ يَتَوَلاَّهُمَا وَاحِدٌ كَالْخُطْبَتَيْنِ، وَوَافَقَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ إِذَا كَانَ الْمُؤَذِّنُ يَتَأَذَّى مِنْ إِقَامَةِ غَيْرِهِ، لِأَنَّ أَذَى الْمُسْلِمِ مَكْرُوهٌ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ رَجُلٌ وَيُقِيمَ غَيْرُهُ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ رَأَى الْأَذَانَ فِي الْمَنَامِ فَأَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: « أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ، فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ، فَأَذَّنَ بِلَالٌ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَنَا رَأَيْتُهُ وَأَنَا كُنْتُ أُرِيدُهُ قَالَ: أَقِمْ أَنْتَ »

وَلِأَنَّهُ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَوَلاَّهُمَا مَعًا، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ إِذَا كَانَ الْمُؤَذِّنُ لَا يَتَأَذَّى مِنْ إِقَامَةِ غَيْرِهِ.

إِعَادَةُ الْإِقَامَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ:

18- لَوْ صُلِّيَ فِي مَسْجِدٍ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، هَلْ يُكْرَهُ أَنْ يُؤَذَّنَ وَيُقَامَ فِيهِ ثَانِيًا؟ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ آرَاءَ:

الْأَوَّلُ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَرَأْيٌ ضَعِيفٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِذَا صُلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ كُرِهَ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ، وَشَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ مَنْ أَذَّنَ وَصَلَّى أَوَّلًا هُمْ أَهْلَ الْمَسْجِدِ « أَيْ أَهْلَ حَيِّهِ » فَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ فَأَذَانُ الْجَمَاعَةِ وَإِقَامَتُهُمْ لَهُمْ أَذَانٌ وَإِقَامَةٌ.

الثَّانِي فِي الرَّأْيِ الرَّاجِحِ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ لِلْجَمَاعَةِ الثَّانِيَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ مَا يَسْمَعُونَ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ إِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَلَيْسَ لَهُ أَهْلٌ مَعْلُومُونَ، أَوْ صَلَّى فِيهِ غَيْرُ أَهْلِهِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِأَهْلِهِ أَنْ يُؤَذِّنُوا وَيُقِيمُوا.

الثَّالِثُ لِلْحَنَابِلَةِ: الْخِيَارُ، إِنْ شَاءَ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَيُخْفِيَ أَذَانَهُ وَإِقَامَتَهُ، وَإِنْ شَاءَ صَلَّى مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ.

مَا يُقَامُ لَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ:

19- يُقَامُ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الْمَفْرُوضَةِ فِي حَالِ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ وَالِانْفِرَادِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ.

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَلَبِ الْإِقَامَةِ لِكُلٍّ مِنَ الصَّلَاتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ، لِأَنَّ « الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- جَمَعَ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِمُزْدَلِفَةَ وَأَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ »..وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ جَمَعَهُمَا وَقْتٌ وَاحِدٌ، وَتُصَلَّى كُلُّ صَلَاةٍ وَحْدَهَا، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ لِكُلِّ صَلَاةٍ إِقَامَةٌ.

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَلَبِ الْإِقَامَةِ لِلصَّلَوَاتِ الْفَوَائِتِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- « أَنَّهُ حِينَ شَغَلَهُمُ الْكُفَّارُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ أَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، حَتَّى قَالُوا: أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْعِشَاءَ ».وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْإِقَامَةِ لِلْمُنْفَرِدِ، سَوَاءٌ صَلَّى فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي مَكَانٍ آخَرَ غَيْرِ الْمَسْجِدِ، لِخَبَرِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: « سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: يَعْجَبُ رَبُّكَ مِنْ رَاعِي غَنَمٍ فِي رَأْسِ الشَّظِيَّةِ لِلْجَبَلِ يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ لِلصَّلَاةِ وَيُصَلِّي، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ يَخَافُ مِنِّي، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ »

وَلَكِنَّهُ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى أَذَانِ الْحَيِّ وَإِقَامَتِهِ أَجْزَأَهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ صَلَّى بِعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ وَقَالَ: يَكْفِينَا أَذَانُ الْحَيِّ وَإِقَامَتُهُمْ.

الْإِقَامَةُ لِصَلَاةِ الْمُسَافِرِ:

20- الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ لِلْفَرْدِ وَالْجَمَاعَةِ مَشْرُوعَانِ فِي السَّفَرِ كَمَا فِي الْحَضَرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ السَّفَرُ سَفَرَ قَصْرٍ أَوْ دُونَهُ. الْأَذَانُ لِلصَّلَاةِ الْمُعَادَةِ:

21- فِي الْإِقَامَةِ لِلصَّلَاةِ الْمُعَادَةِ فِي وَقْتِهَا لِلْفَسَادِ رَأْيَانِ:

الْأَوَّلُ: لِلْحَنَفِيَّةِ: تُعَادُ الصَّلَاةُ الْفَاسِدَةُ فِي الْوَقْتِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، وَأَمَّا إِنْ قَضَوْهَا بَعْدَ الْوَقْتِ قَضَوْهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ.

الثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ: يُقَامُ لِلصَّلَاةِ الْمُعَادَةِ لِلْبُطْلَانِ أَوِ الْفَسَادِ، وَلَمْ يُعْثَرْ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى تَصْرِيحٍ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّ قَوَاعِدَهُمْ لَا تَأْبَاهُ.

مَا لَا يُقَامُ لَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ:

22- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَنُّ الْإِقَامَةُ لِغَيْرِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ.فَلَا أَذَانَ وَلَا إِقَامَةَ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَلَا لِلْوَتْرِ وَلَا لِلنَّوَافِلِ وَلَا لِصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ.لِمَا رُوِيَ عَنْ « جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- الْعِيدَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ ».

وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: « خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَبَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ ».

إِجَابَةُ السَّامِعِ لِلْمُؤَذِّنِ وَالْمُقِيمِ:

23- نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِيغَةِ الْإِجَابَةِ بِاللِّسَانِ فَقَالُوا: يَقُولُ السَّامِعُ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُقِيمُ، إِلاَّ فِي الْحَيْعَلَتَيْنِ « حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ وَحَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ » فَإِنَّهُ يُحَوْقِلُ « لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاَللَّهِ ».

وَيَزِيدُ عِنْدَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ « أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا »، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: « أَنَّ بِلَالًا أَخَذَ فِي الْإِقَامَةِ، فَلَمَّا أَنْ قَالَ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا ».وَقَالَ فِي سَائِرِ الْإِقَامَةِ كَنَحْوِ حَدِيثِ عُمَرَ فِي الْأَذَانِ الَّذِي رَوَاهُ جَعْفَرُ بْنُ عَاصِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ أَحَدُكُمْ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ » وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ أَذَانٍ.

وَحُكْمُ الْإِجَابَةِ بِاللِّسَانِ أَنَّهَا سُنَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّ الْإِجَابَةَ عِنْدَهُمْ تَكُونُ فِي الْأَذَانِ دُونَ الْإِقَامَةِ. الْفَصْلُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ:

24- صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِاسْتِحْبَابِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ بِصَلَاةٍ أَوْ جُلُوسٍ أَوْ وَقْتٍ يَسَعُ حُضُورَ الْمُصَلِّينَ فِيمَا سِوَى الْمَغْرِبِ، مَعَ مُلَاحَظَةِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ لِلصَّلَاةِ.

وَتُكْرَهُ عِنْدَهُمُ الْإِقَامَةُ لِلصَّلَاةِ بَعْدَ الْأَذَانِ مُبَاشَرَةً بِدُونِ هَذَا الْفَصْلِ، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- « أَنَّهُ قَالَ لِبِلَالٍ: اجْعَلْ بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ نَفَسًا حَتَّى يَقْضِيَ الْمُتَوَضِّئُ حَاجَتَهُ فِي مَهْلٍ، وَحَتَّى يَفْرُغَ الْآكِلُ مِنْ أَكْلِ طَعَامِهِ فِي مَهْلٍ »

وَفِي رِوَايَةٍ: « لِيَكُنْ بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ مِقْدَارُ مَا يَفْرُغُ الْآكِلُ مِنْ أَكْلِهِ، وَالشَّارِبُ مِنْ شُرْبِهِ، وَالْمُعْتَصِرُ إِذَا دَخَلَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ ».

وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْأَذَانِ إِعْلَامُ النَّاسِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ لِيَتَهَيَّئُوا لِلصَّلَاةِ بِالطَّهَارَةِ فَيَحْضُرُوا الْمَسْجِدَ، وَبِالْوَصْلِ يَنْتَفِي هَذَا الْمَقْصُودُ، وَتَفُوتُ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

وَقَدْ وَرَدَ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ تَحْدِيدُ مِقْدَارِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مِقْدَارَ الْفَصْلِ فِي الْفَجْرِ قَدْرُ مَا يَقْرَأُ عِشْرِينَ آيَةً، وَفِي الظُّهْرِ قَدْرُ مَا يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ آيَاتٍ، وَفِي الْعَصْرِ مِقْدَارُ مَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ آيَاتٍ.

أَمَّا فِي الْمَغْرِبِ: فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَعْجِيلِ الْإِقَامَةِ فِيهَا لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: « بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ لِمَنْ شَاءَ إِلاَّ الْمَغْرِبَ » لِأَنَّ مَبْنَى الْمَغْرِبِ عَلَى التَّعْجِيلِ، وَلِمَا رَوَى أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ- رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: « لَنْ تَزَالَ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إِلَى اشْتِبَاكِ النُّجُومِ » وَعَلَى هَذَا يُسَنُّ أَنْ يَكُونَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِيهَا يَسِيرًا.

وَلِلْعُلَمَاءِ فِي مِقْدَارِ هَذَا الْفَصْلِ الْيَسِيرِ أَقْوَالٌ:

أ- قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ: يَفْصِلُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الْمَغْرِبِ قَائِمًا بِمِقْدَارِ ثَلَاثِ آيَاتٍ، وَلَا يَفْصِلُ بِالصَّلَاةِ، لِأَنَّ الْفَصْلَ بِالصَّلَاةِ تَأْخِيرٌ، كَمَا لَا يَفْصِلُ الْمُقِيمُ بِالْجُلُوسِ، لِأَنَّهُ تَأْخِيرٌ لِلْمَغْرِبِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَفْصِلْ بِالصَّلَاةِ فَبِغَيْرِهَا أَوْلَى.

ب- وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَفْصِلُ بِجَلْسَةٍ خَفِيفَةٍ كَالْجَلْسَةِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَوَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْفَصْلَ مَسْنُونٌ وَلَا يُمْكِنُ بِالصَّلَاةِ، فَيَفْصِلُ بِالْجَلْسَةِ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ.

ج- وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ الْفَصْلَ بِرَكْعَتَيْنِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الْمَغْرِبِ، أَيْ أَنَّهُمَا لَا يُكْرَهَانِ وَلَا يُسْتَحَبَّانِ.

الْأُجْرَةُ عَلَى الْإِقَامَةِ مَعَ الْأَذَانِ:

25- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ مَنْ يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ مُحْتَسِبًا- مِمَّنْ تَتَحَقَّقُ فِيهِ شَرَائِطُ الْمُؤَذِّنِ- فَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ أَحَدٍ لِلْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ.

وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُوجَدِ الْمُتَطَوِّعُ أَوْ وُجِدَ وَلَمْ تَتَحَقَّقْ فِيهِ الشُّرُوطُ فَهَلْ يُسْتَأْجَرُ عَلَى الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ؟

فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ آرَاءَ:

الْأَوَّلُ: الْمَنْعُ لِأَنَّهُ طَاعَةٌ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ أَحَدٍ عَلَى الطَّاعَةِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ « آخِرَ مَا عَهِدَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعُثْمَانَ بْنِ الْعَاصِ- رضي الله عنه- أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ، وَأَنْ يَتَّخِذَ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَيْهِ أَجْرًا »

وَهَذَا الرَّأْيُ لِمُتَقَدِّمِي الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

الثَّانِي: الْجَوَازُ لِأَنَّهُ كَسَائِرِ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِمُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةً إِلَيْهِ، وَقَدْ لَا يُوجَدُ مُتَطَوِّعٌ.وَلِأَنَّهُ إِذَا انْقَطَعَ لَهُ قَدْ لَا يَجِدُ مَا يُقِيتُ بِهِ عِيَالَهُ.

الثَّالِثُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ دُونَ آحَادِ النَّاسِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى مَصَالِحَ الْمُسْلِمِينَ.وَيَجُوزُ لَهُ الْإِعْطَاءُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.

هَذَا، وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْإِقَامَةِ فَقَطْ بِدُونِ الْأَذَانِ لِأَنَّهُ عَمَلٌ قَلِيلٌ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (أَذَان، وَإِجَارَة).

الْإِقَامَةُ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ:

26- يُسْتَحَبُّ الْأَذَانُ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ الْيُمْنَى وَالْإِقَامَةُ فِي الْيُسْرَى، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: « رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَذَّنَ فِي أُذُنِ الْحَسَنِ حِينَ وَلَدَتْهُ فَاطِمَةُ بِالصَّلَاةِ ».

وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (أَذَان) فِقْرَةُ 51 (ج 2 ص 372).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


211-موسوعة الفقه الكويتية (إقرار 4)

إِقْرَارٌ -4

66- وَإِنْ أَقَرَّ رَجُلَانِ عَدْلَانِ ابْنَانِ أَوْ أَخَوَانِ أَوْ عَمَّانِ بِثَالِثٍ ثَبَتَ النَّسَبُ لِلْمُقَرِّ بِهِ، فَإِنْ كَانَا غَيْرَ عَدْلَيْنِ فَلِلْمُقَرِّ بِهِ مَا نَقَصَهُ إِقْرَارُهُمَا وَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ.إِذِ الْمُرَادُ بِالْإِقْرَارِ هُنَا الشَّهَادَةُ، لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِالظَّنِّ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ عَدَالَةٌ.وَإِنْ أَقَرَّ عَدْلٌ بِآخَرَ يَحْلِفُ الْمُقِرُّ بِهِ مَعَ الْإِقْرَارِ وَيَرِثُ وَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِذَلِكَ، وَإِلاَّ يَكُنِ الْمُقِرُّ عَدْلًا فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ لِلْمُقَرِّ بِهِ مَا نَقَصَهُ الْإِقْرَارُ مِنْ حِصَّةِ الْمُقِرِّ، سَوَاءٌ كَانَ عَدْلًا أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ وَلَا يَمِينَ، وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْعَدْلِ وَغَيْرِهِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى تَفْصِيلٍ مُبَيَّنٍ عِنْدَهُمْ.وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنْ أَقَرَّ رَجُلَانِ عَدْلَانِ بِنَسَبٍ مُشَارِكٍ لَهُمَا فِي الْمِيرَاثِ وَثَمَّ وَارِثٌ غَيْرُهُمَا لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ إِلاَّ أَنْ يَشْهَدَا بِهِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ مِنْ بَعْضِ الْوَرَثَةِ فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهَا النَّسَبُ كَالْوَاحِدِ، وَفَارَقَ الشَّهَادَةَ لِأَنَّهُ تُعْتَبَرُ فِيهَا الْعَدَالَةُ وَالذُّكُورِيَّةُ، وَالْإِقْرَارُ بِخِلَافِهِ.

الرُّجُوعُ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ:

67- يَنُصُّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ رُجُوعُ الْمُقِرِّ عَمَّا أَقَرَّ فِيمَا سِوَى الْإِقْرَارِ بِالْبُنُوَّةِ وَالْأُبُوَّةِ وَالزَّوْجِيَّةِ وَوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ، فَإِنَّ مَنْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِأَخٍ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ ثُمَّ رَجَعَ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ يَصِحُّ إِنْ صَدَّقَهُ الْمُقِرُّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ مِنْ وَجْهٍ.وَفِي شَرْحِ السِّرَاجِيَّةِ، أَنَّهُ بِالتَّصْدِيقِ يَثْبُتُ النَّسَبُ فَلَا يَنْفَعُ الرُّجُوعُ.

وَيَقُولُ الشِّيرَازِيُّ: وَإِنْ أَقَرَّ بَالِغٌ عَاقِلٌ ثُمَّ رَجَعَ عَنِ الْإِقْرَارِ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الرُّجُوعِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَسْقُطُ النَّسَبُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ ثُمَّ رَجَعَ فِي الْإِقْرَارِ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الرُّجُوعِ.

وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَامِدٍ الإْسْفِرَايِينِيِّ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ، لِأَنَّ النَّسَبَ إِذَا ثَبَتَ لَا يَسْقُطُ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى نَفْيِهِ كَالنَّسَبِ الثَّابِتِ بِالْفِرَاشِ.

وَيَقْرَبُ مِنْ هَذَا الِاتِّجَاهِ الْحَنَابِلَةُ، يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِذَا ثَبَتَ النَّسَبُ بِالْإِقْرَارِ ثُمَّ أَنْكَرَ الْمُقِرُّ لَمْ يُقْبَلْ إِنْكَارُهُ، لِأَنَّهُ نَسَبٌ ثَبَتَ بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ فَلَمْ يَزُلْ بِإِنْكَارِهِ، كَمَا لَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِالْفِرَاشِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمُقَرُّ بِهِ غَيْرَ مُكَلَّفٍ أَمْ مُكَلَّفًا فَصَدَّقَ الْمُقِرَّ.وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَسْقُطَ نَسَبُ الْمُكَلَّفِ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الرُّجُوعِ عَنْهُ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِهِمَا فَزَالَ بِرُجُوعِهِمَا كَالْمَالِ.وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ نَسَبٌ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ فَأَشْبَهَ نَسَبَ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ، وَفَارَقَ الْمَالَ، لِأَنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ لِإِثْبَاتِهِ.

إِقْرَارُ الزَّوْجَةِ بِالْبُنُوَّةِ:

68- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُ الزَّوْجَةِ بِالْوَلَدِ وَإِنْ صَدَّقَهَا، لِأَنَّ فِيهِ تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ، لِأَنَّهُ يُنْسَبُ إِلَى الْأَبِ، إِلاَّ أَنْ يُصَدِّقَهَا الزَّوْجُ أَوْ تُقَدِّمَ الْبَيِّنَةَ، وَيَصِحُّ إِقْرَارُ الْمَرْأَةِ بِالْوَلَدِ مُطْلَقًا إِنْ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةً وَلَا مُعْتَدَّةً، أَوْ كَانَتْ زَوْجَةً وَادَّعَتْ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ، وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَيَتَوَارَثَانِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَارِثٌ مَعْرُوفٌ، لِأَنَّ وَلَدَ الزِّنَا يَرِثُ بِجِهَةِ الْأُمِّ فَقَطْ.

وَعَنِ ابْنِ رُشْدٍ عَنِ الْمُدَوَّنَةِ: وَإِنْ نَظَرَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَجُلٍ فَقَالَتْ: ابْنِي، وَمِثْلُهُ يُولَدُ لَهَا وَصَدَّقَهَا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهَا، إِذْ لَيْسَ هُنَا أَبٌ يُلْحَقُ بِهِ، وَإِنْ جَاءَتِ امْرَأَةٌ بِغُلَامٍ مَفْصُولٍ فَادَّعَتْ أَنَّهُ وَلَدُهَا لَمْ يُلْحَقْ بِهَا فِي مِيرَاثٍ، وَلَا يُحَدُّ مَنِ افْتَرَى عَلَيْهَا بِهِ.

وَيَنُصُّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ أَقَرَّتِ الْمَرْأَةُ بِوَلَدٍ وَلَمْ تَكُنْ ذَاتَ زَوْجٍ وَلَا نَسَبٍ قُبِلَ إِقْرَارُهَا، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهَا فِي رِوَايَةٍ، لِأَنَّ فِيهِ حَمْلًا لِنَسَبِ الْوَلَدِ عَلَى زَوْجِهَا وَلَمْ يُقِرَّ بِهِ، أَوْ إِلْحَاقًا لِلْعَارِ بِهِ بِوِلَادَةِ امْرَأَتِهِ مِنْ غَيْرِهِ.وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: يُقْبَلُ، لِأَنَّهَا شَخْصٌ أَقَرَّ بِوَلَدٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، فَقُبِلَ كَالرَّجُلِ.

وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِي امْرَأَةٍ ادَّعَتْ وَلَدًا: فَإِنْ كَانَ لَهَا إِخْوَةٌ أَوْ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَثْبُتَ أَنَّهُ ابْنُهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا دَافِعٌ فَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ؟ وَهَذَا لِأَنَّهَا مَتَى كَانَتْ ذَاتَ أَهْلٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَا تَخْفَى عَلَيْهِمْ وِلَادَتُهَا، فَمَتَى ادَّعَتْ وَلَدًا لَا يَعْرِفُونَهُ فَالظَّاهِرُ كَذِبُهَا.وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُقْبَلَ دَعْوَاهَا مُطْلَقًا، لِأَنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ لَهُ، فَأَشْبَهَتِ الرَّجُلَ.

الْإِقْرَارُ بِالزَّوْجِيَّةِ تَبَعًا:

69- وَمَنْ أَقَرَّ بِنَسَبِ صَغِيرٍ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِزَوْجِيَّةِ أُمِّهِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ، لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ لَيْسَتْ مُقْتَضَى لَفْظِهِ وَلَا مَضْمُونِهِ، فَلَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِهَا.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا كَانَتْ مَشْهُورَةً بِالْحُرِّيَّةِ كَانَ مُقِرًّا بِزَوْجِيَّتِهَا، لِأَنَّ أَنْسَابَ الْمُسْلِمِينَ وَأُصُولَهُمْ يَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى الصِّحَّةِ.وَالْإِقْرَارُ بِالزَّوْجِيَّةِ صَحِيحٌ بِشَرْطِ الْخُلُوِّ مِنَ الْمَوَانِعِ.

إِقْرَارُ الْمَرْأَةِ بِالْوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجِ:

70- نَصُّ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ إِقْرَارِ الْمَرْأَةِ بِالْوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجِ، إِذِ الْأُنُوثَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ عَلَى النَّفْسِ.وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ الْعَتَّابِيُّ فِي فَرَائِضِهِ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْأُمِّ لَا يَصِحُّ، وَكَذَا فِي ضَوْءِ السِّرَاجِ، لِأَنَّ النَّسَبَ لِلْآبَاءِ لَا لِلْأُمَّهَاتِ، وَفِيهِ حَمْلُ الزَّوْجِيَّةِ عَلَى الْغَيْرِ.قَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ: لَكِنَّ الْحَقَّ صِحَّتُهُ بِجَامِعِ الْأَصَالَةِ فَكَانَتْ كَالْأَبِ وَالْأَصْلُ: أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِنَسَبٍ يَلْزَمُهُ فِي نَفْسِهِ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى غَيْرِهِ فَإِقْرَارُهُ مَقْبُولٌ، كَمَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِسَائِرِ الْحُقُوقِ.

التَّصْدِيقُ بِالنَّسَبِ بَعْدَ الْمَوْتِ:

71- وَيَصِحُّ التَّصْدِيقُ فِي النَّسَبِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُقِرِّ، لِأَنَّ النَّسَبَ يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ، وَكَذَا تَصْدِيقُ الزَّوْجَةِ لِأَنَّ حُكْمَ النِّكَاحِ بَاقٍ، وَكَذَا تَصْدِيقُ الزَّوْجِ بَعْدَ مَوْتِهَا لِأَنَّ الْإِرْثَ مِنْ أَحْكَامِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ لِانْقِطَاعِ النِّكَاحِ بِالْمَوْتِ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ إِذَا كَانَ مَيِّتًا فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا ثَبَتَ نَسَبُهُ، لِأَنَّهُ يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ بِهِ إِذَا كَانَ حَيًّا فَقُبِلَ إِذَا كَانَ مَيِّتًا.وَإِنْ كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا فَفِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: لَا يَثْبُتُ لِأَنَّ نَسَبَ الْبَالِغِ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِتَصْدِيقِهِ، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ بَعْدَ الْمَوْتِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَثْبُتُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَوْلٌ، فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ بِالْإِقْرَارِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ.

وَقَالُوا: إِنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ لِمَنْ أَقَرَّ بِبُنُوَّةِ مَجْهُولِ النَّسَبِ مُسْتَوْفِيًا شُرُوطَهُ- ثَبَتَ نَسَبُهُ مُسْتَنِدًا لِوَقْتِ الْعُلُوقِ.

كَمَا نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْجَدِّ وَابْنِ الِابْنِ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ فِيهِ تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: إِنْ قَالَ الْمُقِرُّ: أَبُو هَذَا ابْنِي صُدِّقَ، لِأَنَّ الرَّجُلَ إِنَّمَا يُصَدَّقُ فِي إِلْحَاقِ وَلَدِهِ بِفِرَاشِهِ، لَا بِإِلْحَاقِهِ بِفِرَاشِ غَيْرِهِ.

وَفِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ بَيْنَ الْمُقِرِّ وَالْمُقَرِّ بِهِ وَاحِدٌ، وَهُوَ حَيٌّ- لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ إِلاَّ بِتَصْدِيقِهِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ إِلاَّ بِتَصْدِيقِ مَنْ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ النَّسَبَ يَتَّصِلُ بِالْمُقِرِّ مِنْ جِهَتِهِمْ فَلَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِتَصْدِيقِهِمْ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


212-موسوعة الفقه الكويتية (الإمامة الكبرى 2)

الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى -2

طَاعَةُ الْإِمَامِ:

21- اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ جَمْعَاءُ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ وَحُرْمَةِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ لِلْأَدِلَّةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ كَخَبَرِ: « مَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ ».وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وَحَدِيثِ: « مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً »

أَمَّا حُكْمُ الْخُرُوجِ عَلَى الْجَائِرِ مِنَ الْأَئِمَّةِ فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ دَوَامِ الْإِمَامَةِ.

وَيَدْعُو لِلْإِمَامِ بِالصَّلَاحِ وَالنُّصْرَةِ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا.وَيُكْرَهُ تَحْرِيمًا وَصْفُهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ مِنَ الصِّفَاتِ كَالصَّالِحِ وَالْعَادِلِ، كَمَا يَحْرُمُ أَنْ يُوصَفَ بِمَا لَا يَجُوزُ وَصْفُ الْعِبَادِ بِهِ، مِثْلُ شَاهِنْشَاهْ الْأَعْظَمِ، وَمَالِكِ رِقَابِ النَّاسِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ فَلَا يَجُوزُ وَصْفُ الْعِبَادِ بِهِ، وَالثَّانِي كَذِبٌ.

مَنْ يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْإِمَامِ:

22- لَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْإِمَامِ مَنْ عَيَّنَهُ الْإِمَامُ فِي وَظِيفَةٍ عَامَّةٍ كَالْقُضَاةِ، وَأُمَرَاءِ الْأَقَالِيمِ، وَنُظَّارِ الْوَقْفِ، وَأَمِينِ بَيْتِ الْمَالِ، وَأَمِيرِ الْجَيْشِ.وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ- رضي الله عنهم- وَلَّوْا حُكَّامًا فِي زَمَنِهِمْ، فَلَمْ يَنْعَزِلْ أَحَدٌ بِمَوْتِ الْإِمَامِ، وَلِأَنَّ الْخَلِيفَةَ أَسْنَدَ إِلَيْهِمُ الْوَظَائِفَ نِيَابَةً عَنِ الْمُسْلِمِينَ، لَا نُوَّابًا عَنْ نَفْسِهِ، فَلَا يَنْعَزِلُونَ بِمَوْتِهِ، وَفِي انْعِزَالِهِمْ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَتَعْطِيلٌ لِلْمَصَالِحِ.

أَمَّا الْوُزَرَاءُ فَيَنْعَزِلُونَ بِمَوْتِ الْإِمَامِ وَانْعِزَالِهِ، لِأَنَّ الْوَزَارَةَ نِيَابَةٌ عَنِ الْإِمَامِ فَيَنْعَزِلُ النَّائِبُ بِمَوْتِ الْمُسْتَنِيبِ.لِأَنَّ الْإِمَامَ اسْتَنَابَ الْوَزِيرَ لِيُعِينَهُ فِي أُمُورِ الْخِلَافَةِ.

عَزْلُ الْإِمَامِ وَانْعِزَالُهُ:

23- سَبَقَ نَقْلُ كَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ فِي مَسْأَلَةِ عَزْلِ الْإِمَامِ لِطُرُوءِ الْفِسْقِ وَالْجَوْرِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ دَوَامِ الْإِمَامِ.

ثُمَّ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا مَا طَرَأَ عَلَى بَدَنِهِ مِنْ نَقْصٍ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: نَقْصُ الْحَوَاسِّ، وَالثَّانِي: نَقْصُ الْأَعْضَاءِ، وَالثَّالِثُ: نَقْصُ التَّصَرُّفِ.

فَأَمَّا نَقْصُ الْحَوَاسِّ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَمْنَعُ مِنَ الْإِمَامَةِ، وَقِسْمٌ لَا يَمْنَعُ مِنْهَا، وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ

فَأَمَّا الْقِسْمُ الْمَانِعُ مِنْهَا فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: زَوَالُ الْعَقْلِ.وَالثَّانِي: ذَهَابُ الْبَصَرِ.

فَأَمَّا زَوَالُ الْعَقْلِ فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ عَارِضًا مَرْجُوَّ الزَّوَالِ كَالْإِغْمَاءِ، فَهَذَا لَا يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الْإِمَامَةِ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا، لِأَنَّهُ مَرَضٌ قَلِيلُ اللُّبْثِ سَرِيعُ الزَّوَالِ، وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي مَرَضِهِ.

وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ لَازِمًا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ كَالْجُنُونِ وَالْخَبَلِ، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُطْبِقًا دَائِمًا لَا يَتَخَلَّلُهُ إِفَاقَةٌ، فَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الْإِمَامَةِ وَاسْتِدَامَتِهَا، فَإِذَا طَرَأَ هَذَا بَطَلَتْ بِهِ الْإِمَامَةُ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ وَالْقَطْعِ بِهِ، وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَخَلَّلَهُ إِفَاقَةٌ يَعُودُ بِهَا إِلَى حَالِ السَّلَامَةِ فَيُنْظَرَ فِيهِ: فَإِنْ كَانَ زَمَانُ الْخَبَلِ أَكْثَرَ مِنْ زَمَانِ الْإِفَاقَةِ فَهُوَ كَالْمُسْتَدِيمِ يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الْإِمَامَةِ وَاسْتِدَامَتِهَا، وَيَخْرُجُ بِحُدُوثِهِ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ زَمَانُ الْإِفَاقَةِ أَكْثَرَ مِنْ زَمَانِ الْخَبَلِ مَنَعَ مِنْ عَقْدِ الْإِمَامَةِ.

وَاخْتُلِفَ فِي مَنْعِهِ مِنِ اسْتِدَامَتِهَا، فَقِيلَ: يَمْنَعُ مِنِ اسْتِدَامَتِهَا كَمَا يَمْنَعُ مِنِ ابْتِدَائِهَا، فَإِذَا طَرَأَ بَطَلَتْ بِهِ الْإِمَامَةُ، لِأَنَّ فِي اسْتِدَامَتِهِ إِخْلَالًا بِالنَّظَرِ الْمُسْتَحَقِّ فِيهِ، وَقِيلَ: لَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِدَامَةِ الْإِمَامَةِ، وَإِنْ مَنَعَ مِنْ عَقْدِهَا فِي الِابْتِدَاءِ، لِأَنَّهُ يُرَاعَى فِي ابْتِدَاءِ عَقْدِهَا سَلَامَةٌ كَامِلَةٌ، وَفِي الْخُرُوجِ مِنْهَا نَقْصٌ كَامِلٌ.

وَأَمَّا ذَهَابُ الْبَصَرِ فَيَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الْإِمَامَةِ وَاسْتِدَامَتِهَا، فَإِذَا طَرَأَ بَطَلَتْ بِهِ الْإِمَامَةُ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَبْطَلَ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ، وَمَنَعَ مِنْ جَوَازِ الشَّهَادَةِ، فَأَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنْ صِحَّةِ الْإِمَامَةِ.

وَأَمَّا غِشَاءُ الْعَيْنِ، وَهُوَ: أَلاَّ يُبْصِرَ عِنْدَ دُخُولِ اللَّيْلِ، فَلَا يَمْنَعُ مِنَ الْإِمَامَةِ فِي عَقْدٍ وَلَا اسْتِدَامَةٍ، لِأَنَّهُ مَرَضٌ فِي زَمَانِ الدَّعَةِ يُرْجَى زَوَالُهُ.

وَأَمَّا ضَعْفُ الْبَصَرِ، فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ بِهِ الْأَشْخَاصَ إِذَا رَآهَا لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْإِمَامَةِ، وَإِنْ كَانَ يُدْرِكُ الْأَشْخَاصَ وَلَا يَعْرِفُهَا مَنَعَ مِنَ الْإِمَامَةِ عَقْدًا وَاسْتِدَامَةً.

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْحَوَاسِّ، الَّتِي لَا يُؤَثِّرُ فَقْدُهَا فِي الْإِمَامَةِ فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: الْخَشْمُ فِي الْأَنْفِ الَّذِي يُدْرِكُ بِهِ شَمَّ الرَّوَائِحِ.وَالثَّانِي: فَقْدُ الذَّوْقِ الَّذِي يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الطُّعُومِ.فَلَا يُؤَثِّرُ هَذَا فِي عَقْدِ الْإِمَامَةِ، لِأَنَّهُمَا يُؤَثِّرَانِ فِي اللَّذَّةِ، وَلَا يُؤَثِّرَانِ فِي الرَّأْيِ وَالْعَمَلِ.

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنَ الْحَوَاسِّ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا فَشَيْئَانِ: الصَّمَمُ، وَالْخَرَسُ، فَيَمْنَعَانِ مِنِ ابْتِدَاءِ عَقْدِ الْإِمَامَةِ، لِأَنَّ كَمَالَ الْأَوْصَافِ بِوُجُودِهِمَا مَفْقُودٌ.

وَاخْتُلِفَ فِي الْخُرُوجِ بِهِمَا مِنَ الْإِمَامَةِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَخْرُجُ بِهِمَا مِنْهَا كَمَا يَخْرُجُ بِذَهَابِ الْبَصَرِ لِتَأْثِيرِهِمَا فِي التَّدْبِيرِ وَالْعَمَلِ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَخْرُجُ بِهِمَا مِنَ الْإِمَامَةِ، لِقِيَامِ الْإِشَارَةِ مَقَامَهُمَا، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا إِلاَّ بِنَقْصٍ كَامِلٍ.وَقَالَ آخَرُونَ: إِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ لَمْ يَخْرُجْ بِهِمَا مِنَ الْإِمَامَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُهَا خَرَجَ مِنَ الْإِمَامَةِ بِهِمَا، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مَفْهُومَةٌ وَالْإِشَارَةَ مَوْهُومَةٌ، وَالْأَوَّلُ مِنَ الْمَذَاهِبِ أَصَحُّ.

وَأَمَّا تَمْتَمَةُ اللِّسَانِ، وَثِقَلُ السَّمْعِ، مَعَ إِدْرَاكِ الصَّوْتِ إِذَا كَانَ عَالِيًا، فَلَا يَخْرُجُ بِهِمَا مِنَ الْإِمَامَةِ إِذَا حَدَثَا.وَاخْتُلِفَ فِي ابْتِدَاءِ عَقْدِهَا مَعَهُمَا، فَقِيلَ: يَمْنَعُ ذَلِكَ ابْتِدَاءَ عَقْدِهَا، لِأَنَّهُمَا نَقْصٌ يَخْرُجُ بِهِمَا عَنْ حَالِ الْكَمَالِ، وَقِيلَ: لَا يَمْنَعُ، لِأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى- عليه السلام- لَمْ تَمْنَعْهُ عُقْدَةُ لِسَانِهِ عَنِ النُّبُوَّةِ فَأَوْلَى أَلاَّ يَمْنَعَ مِنَ الْإِمَامَةِ.وَأَمَّا فَقْدُ الْأَعْضَاءِ فَيَنْقَسِمُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: مَا لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْإِمَامَةِ فِي عَقْدٍ وَلَا اسْتِدَامَةٍ، وَهُوَ مَا لَا يُؤَثِّرُ فَقْدُهُ فِي رَأْيٍ وَلَا عَمَلٍ وَلَا نُهُوضٍ وَلَا يَشِينُ فِي الْمَنْظَرِ، فَلَا يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الْإِمَامَةِ وَلَا مِنِ اسْتِدَامَتِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ، لِأَنَّ فَقْدَهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الرَّأْيِ وَالْحُنْكَةِ.مِثْلُ قَطْعِ الْأُذُنَيْنِ لِأَنَّهُمَا لَا يُؤَثِّرَانِ فِي رَأْيٍ وَلَا عَمَلٍ، وَلَهُمَا شَيْنٌ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَتِرَ فَلَا يَظْهَرَ.

وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الْإِمَامَةِ وَمِنِ اسْتِدَامَتِهَا: وَهُوَ مَا يَمْنَعُ مِنَ الْعَمَلِ، كَذَهَابِ الْيَدَيْنِ، أَوْ مِنَ النُّهُوضِ كَذَهَابِ الرِّجْلَيْنِ، فَلَا

تَصِحُّ مَعَهُ الْإِمَامَةُ فِي عَقْدٍ وَلَا اسْتِدَامَةٍ، لِعَجْزِهِ عَمَّا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ الْأُمَّةِ فِي عَمَلٍ أَوْ نَهْضَةٍ.

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الْإِمَامَةِ: وَاخْتُلِفَ فِي مَنْعِهِ مِنِ اسْتِدَامَتِهَا، وَهُوَ مَا ذَهَبَ بِهِ بَعْضُ الْعَمَلِ، أَوْ فَقَدَ بِهِ بَعْضَ النُّهُوضِ كَذَهَابِ إِحْدَى الْيَدَيْنِ أَوْ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ، فَلَا يَصِحُّ مَعَهُ عَقْدُ الْإِمَامَةِ لِعَجْزِهِ عَنْ كَمَالِ التَّصَرُّفِ، فَإِنْ طَرَأَ بَعْدَ عَقْدِ الْإِمَامَةِ فَفِي خُرُوجِهِ مِنْهَا مَذْهَبَانِ لِلْفُقَهَاءِ:

أَحَدُهُمَا: يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الْإِمَامَةِ، لِأَنَّهُ عَجْزٌ يَمْنَعُ مِنِ ابْتِدَائِهَا فَمَنَعَ مِنِ اسْتِدَامَتِهَا.

وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الْإِمَامَةِ وَإِنْ مَنَعَ مِنْ عَقْدِهَا، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي عَقْدِهَا كَمَالُ السَّلَامَةِ، وَفِي الْخُرُوجِ مِنْهَا كَمَالُ النَّقْصِ.

وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا لَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِدَامَةِ الْإِمَامَةِ.وَاخْتُلِفَ فِي مَنْعِهِ مِنِ ابْتِدَاءِ عَقْدِهَا، وَهُوَ مَا يَشِينُ وَيُقَبِّحُ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي عَمَلٍ وَلَا فِي نَهْضَةٍ، كَجَدْعِ الْأَنْفِ وَسَمْلِ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ، فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الْإِمَامَةِ بَعْدَ عَقْدِهَا، لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِهَا، وَفِي مَنْعِهِ مِنِ ابْتِدَاءِ عَقْدِهَا مَذْهَبَانِ لِلْفُقَهَاءِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهَا لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي حُقُوقِهَا.

وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الْإِمَامَةِ، وَتَكُونُ السَّلَامَةُ مِنْهُ شَرْطًا مُعْتَبَرًا فِي عَقْدِهَا لِيَسْلَمَ وُلَاةُ الْمِلَّةِ مِنْ شَيْنٍ يُعَابُ وَنَقْصٍ يُزْدَرَى، فَتَقِلُّ بِهِ الْهَيْبَةُ، وَفِي قِلَّتِهَا نُفُورٌ عَنِ الطَّاعَةِ، وَمَا أَدَّى إِلَى هَذَا فَهُوَ نَقْصٌ فِي حُقُوقِ الْأُمَّةِ.

وَأَمَّا نَقْصُ التَّصَرُّفِ فَضَرْبَانِ: حَجْرٌ، وَقَهْرٌ.

فَأَمَّا الْحَجْرُ: فَهُوَ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْوَانِهِ مَنْ يَسْتَبِدُّ بِتَنْفِيذِ الْأُمُورِ مِنْ غَيْرِ تَظَاهُرٍ بِمَعْصِيَةٍ وَلَا مُجَاهَرَةٍ بِمَشَاقَّةٍ، فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ إِمَامَتِهِ، وَلَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ وِلَايَتِهِ.

وَأَمَّا الْقَهْرُ فَهُوَ أَنْ يَصِيرَ مَأْسُورًا فِي يَدِ عَدُوٍّ قَاهِرٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهُ، فَيَمْنَعُ ذَلِكَ عَنْ عَقْدِ الْإِمَامَةِ لَهُ، لِعَجْزِهِ عَنِ النَّظَرِ فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَدُوُّ مُشْرِكًا أَوْ مُسْلِمًا بَاغِيًا، وَلِلْأُمَّةِ اخْتِيَارُ مَنْ عَدَاهُ مِنْ ذَوِي الْقُدْرَةِ.وَإِنْ أُسِرَ بَعْدَ أَنْ عُقِدَتْ لَهُ الْإِمَامَةُ فَعَلَى كَافَّةِ الْأُمَّةِ اسْتِنْقَاذُهُ، لِمَا أَوْجَبْتُهُ الْإِمَامَةُ مِنْ نُصْرَتِهِ، وَهُوَ عَلَى إِمَامَتِهِ مَا كَانَ مَرْجُوَّ الْخَلَاصِ مَأْمُولَ الْفِكَاكِ إِمَّا بقِتَالٍ أَوْ فِدَاءٍ، فَإِنْ وَقَعَ الْيَأْسُ مِنْهُ، لَمْ يَخْلُ حَالُ مَنْ أَسَرَهُ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُشْرِكِينَ أَوْ بُغَاةَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ فِي أَسْرِ الْمُشْرِكِينَ خَرَجَ مِنَ الْإِمَامَةِ لِلْيَأْسِ مِنْ خَلَاصِهِ، وَاسْتَأْنَفَ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ بَيْعَةَ غَيْرِهِ عَلَى الْإِمَامَةِ، وَإِنْ خَلَصَ قَبْلَ الْإِيَاسِ فَهُوَ عَلَى إِمَامَتِهِ.وَإِنْ كَانَ مَأْسُورًا مَعَ بُغَاةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ مَرْجُوَّ الْخَلَاصِ فَهُوَ عَلَى إِمَامَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُرْجَ خَلَاصُهُ، فَالْإِمَامُ الْمَأْسُورُ فِي أَيْدِيهِمْ خَارِجٌ مِنَ الْإِمَامَةِ بِالْإِيَاسِ مِنْ خَلَاصِهِ، وَعَلَى أَهْلِ الِاخْتِيَارِ فِي دَارِ الْعَدْلِ أَنْ يَعْقِدُوا الْإِمَامَةَ لِمَنِ ارْتَضَوْا لَهَا، فَإِنْ خَلَصَ الْمَأْسُورُ لَمْ يَعُدْ إِلَى الْإِمَامَةِ لِخُرُوجِهِ مِنْهَا.

وَاجِبَاتُ الْإِمَامِ:

24- مِنْ تَعْرِيفِ الْفُقَهَاءِ لِلْإِمَامَةِ الْكُبْرَى بِأَنَّهَا رِئَاسَةٌ عَامَّةٌ فِي سِيَاسَةِ الدُّنْيَا وَإِقَامَةِ الدِّينِ نِيَابَةً عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يَتَبَيَّنُ أَنَّ وَاجِبَاتِ الْإِمَامِ إِجْمَالًا هِيَ كَمَا يَلِي:

أ- حِفْظُ الدِّينِ عَلَى أُصُولِهِ الثَّابِتَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ، وَإِقَامَةُ شَعَائِرِ الدِّينِ.

ب- رِعَايَةُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْوَاعِهَا.

كَمَا أَنَّهُمْ- فِي مَعْرِضِ الِاسْتِدْلَالِ لِفَرْضِيَّةِ نَصْبِ الْإِمَامِ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ- يَذْكُرُونَ أُمُورًا لَا بُدَّ لِلْأُمَّةِ مِمَّنْ يَقُومُ بِهَا، وَهِيَ: تَنْفِيذُ الْأَحْكَامِ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ، وَسَدُّ الثُّغُورِ، وَتَجْهِيزُ الْجُيُوشِ، وَأَخْذُ الصَّدَقَاتِ، وَقَبُولُ الشَّهَادَاتِ، وَتَزْوِيجُ الصِّغَارِ الَّذِينَ لَا أَوْلِيَاءَ لَهُمْ، وَقِسْمَةُ الْغَنَائِمِ.وَعَدَّهَا أَصْحَابُ كُتُبِ الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ عَشَرَةً.وَلَا تَخْرُجُ فِي عُمُومِهَا عَمَّا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِيمَا مَرَّ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِحَسَبِ تَجَدُّدِ الْحَاجَاتِ الزَّمَنِيَّةِ وَمَا تَقْضِي الْمَصَالِحُ بِأَنْ لَا يَتَوَلاَّهُ الْأَفْرَادُ وَالْهَيْئَاتُ، بَلْ يَتَوَلاَّهُ الْإِمَامُ.

وِلَايَاتُ الْإِمَامِ:

25- الْوُلَاةُ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ تَنْقَسِمُ وِلَايَتُهُمْ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:

أ- وِلَايَةٌ عَامَّةٌ فِي الْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ: الْوَزَارَةُ، فَهِيَ نِيَابَةٌ عَنِ الْإِمَامِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ.

ب- وِلَايَةٌ عَامَّةٌ فِي أَعْمَالٍ خَاصَّةٍ، وَهِيَ الْإِمَارَةُ فِي الْأَقَالِيمِ، لِأَنَّ النَّظَرَ فِيمَا خُصَّ بِهَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ.

ج- وِلَايَةٌ خَاصَّةٌ فِي الْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ: كَرِئَاسَةِ الْقَضَاءِ وَنِقَابَةِ الْجَيْشِ، لِأَنَّ كِلَيْهِمَا مَقْصُورٌ عَلَى نَظَرٍ خَاصٍّ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ.

د- وِلَايَةٌ خَاصَّةٌ فِي أَعْمَالٍ خَاصَّةٍ كَقَاضِي بَلَدٍ، أَوْ مُسْتَوْفِي خَرَاجِهِ، وَجَابِي صَدَقَاتِهِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْ وِلَايَةِ هَؤُلَاءِ خَاصٌّ بِعَمَلٍ مَخْصُوصٍ لَا يَتَجَاوَزُهُ، وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (وَزَارَة، إِمَارَة)

مُؤَاخَذَةُ الْإِمَامِ بِتَصَرُّفَاتِهِ:

26- يَضْمَنُ الْإِمَامُ مَا أَتْلَفَهُ بِيَدِهِ مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ بِغَيْرِ خَطَأٍ فِي الْحُكْمِ أَوْ تَقْصِيرٍ فِي تَنْفِيذِ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ كَآحَادِ النَّاسِ فَيُقْتَصُّ مِنْهُ إِنْ قَتَلَ عَمْدًا، وَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى عَاقِلَتِهِ أَوْ بَيْتِ الْمَالِ فِي الْخَطَأِ وَشَبَهِ الْعَمْدِ، وَيَضْمَنُ مَا أَتْلَفَهُ بِيَدِهِ مِنْ مَالٍ، كَمَا يَضْمَنُ مَا هَلَكَ بِتَقْصِيرِهِ فِي الْحُكْمِ، وَإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَالتَّعْزِيرِ، بِالْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ مِنْ مَالِهِ أَوْ عَاقِلَتِهِ أَوْ بَيْتِ الْمَالِ حَسَبِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَحَسَبِ ظُرُوفِ التَّقْصِيرِ وَجَسَامَةِ الْخَطَأِ.وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (حَدّ، وَتَعْزِير، وَقِصَاص، وَضَمَان).

وَهَذَا الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ، وَلِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَأَمْوَالُهُمْ مَعْصُومَةٌ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَقَادَ مِنْ نَفْسِهِ وَكَانَ عُمَرُ- رضي الله عنه- يُقِيدُ مِنْ نَفْسِهِ.وَالْإِمَامُ وَالْمُعْتَدَى عَلَيْهِ نَفْسَانِ مَعْصُومَتَانِ كَسَائِرِ الرَّعِيَّةِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ كَمَا يُقَامُ عَلَى سَائِرِ النَّاس لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ، وَيَتَوَلَّى التَّنْفِيذَ عَلَيْهِ مَنْ يَتَوَلَّى الْحُكْمَ عَنْهُ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لِأَنَّ الْحَدَّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْإِمَامُ نَفْسُهُ هُوَ الْمُكَلَّفُ بِإِقَامَتِهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقِيمَهُ عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ إِقَامَتَهُ تَسْتَلْزِمُ الْخِزْيَ وَالنَّكَالَ وَلَا يَفْعَلُ أَحَدٌ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ حَقِّ الْعِبَادِ.أَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَقَالُوا: الْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْحُدُودِ، فَإِقَامَتُهُ إِلَيْهِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ.وَلَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ لِيَسْتَوْفِيَهُ، وَفَائِدَةُ الْإِيجَابِ الِاسْتِيفَاءُ، فَإِذَا تَعَذَّرَ لَمْ يَجِبْ.وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْحَدِّ، وَبَيْنَ الْقِصَاصِ وَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ بِأَنَّهُمَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَيَسْتَوْفِيهِمَا صَاحِبُ الْحَقِّ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَضَاءُ، بَلِ الْإِمْكَانُ وَالتَّمَكُّنُ، وَيَحْصُلُ ذَلِكَ بِتَمْكِينِهِ مِنْ نَفْسِهِ، إِنِ احْتَاجَ إِلَى مَنَعَةٍ.فَالْمُسْلِمُونَ مَنَعَتُهُ، فَبِهِمْ يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ فَكَانَ الْوُجُوبُ مُفِيدًا.

هَدَايَا الْإِمَامِ لِغَيْرِهِ:

27- هَدَايَا الْإِمَامِ لِغَيْرِهِ إِنْ كَانَتْ مِنْ مَالِهِ الْخَاصِّ فَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَفْرَادِ، وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (هَدِيَّة).

أَمَّا إِنْ كَانَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِذَا كَانَ مُقَابِلًا لِعَمَلٍ عَامٍّ فَهُوَ رِزْقٌ، وَإِنْ كَانَ عَطَاءً شَامِلًا لِلنَّاسِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَهُوَ عَطَاءٌ، وَإِنْ كَانَتِ الْهَدِيَّةُ بِمُبَادَرَةٍ مِنَ الْإِمَامِ مَيَّزَ بِهَا فَرْدًا عَنْ غَيْرِهِ فَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى (جَائِزَةَ السُّلْطَانِ) وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا، فَكَرِهَهَا أَحْمَدُ تَوَرُّعًا لِمَا فِي بَعْضِ مَوَارِدِ بَيْتِ الْمَالِ مِنَ الشُّبْهَةِ، لَكِنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَرَامٍ عَلَى آخِذِهَا، لِغَلَبَةِ الْحَلَالِ عَلَى مَوَارِدِ بَيْتِ الْمَالِ، وَكَرِهَهَا ابْنُ سِيرِينَ لِعَدَمِ شُمُولِهَا لِلرَّعِيَّةِ، وَمِمَّنْ تَنَزَّهَ عَنِ الْأَخْذِ مِنْهَا حُذَيْفَةُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَمُعَاذٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عُمَرَ.هَذَا مِنْ حَيْثُ أَخْذُ الْجَوَائِزِ.

أَمَّا مِنْ حَيْثُ تَصَرُّفُ الْإِمَامِ بِالْإِعْطَاءِ فَيَجِبُ أَنْ يُرَاعَى فِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ لِلْمُسْلِمِينَ دُونَ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالتَّشَهِّي، لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْإِمَامِ فِي الْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ.

قَبُولُ الْإِمَامِ الْهَدَايَا:

28- لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي كَرَاهِيَةِ الْهَدِيَّةِ إِلَى الْأُمَرَاءِ.

ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ.أَنَّ الْإِمَامَ (بِمَعْنَى الْوَالِي) لَا تَحِلُّ لَهُ الْهَدِيَّةُ، لِلْأَدِلَّةِ- الْوَارِدَةِ فِي هَدَايَا الْعُمَّالِ وَلِأَنَّهُ رَأْسُ الْعُمَّالِ.

وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي كَرَاهِيَةِ الْهَدِيَّةِ إِلَى السُّلْطَانِ الْأَكْبَرِ وَإِلَى الْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ وَجُبَاةِ الْأَمْوَالِ.وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ.وَكَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ، وَهَذَا مِنْ خَوَاصِّهِ، وَالنَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مَعْصُومٌ مِمَّا يُتَّقَى عَلَى غَيْرِهِ مِنْهَا، وَلَمَّا « رَدَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْهَدِيَّةَ، قِيلَ لَهُ: كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَقْبَلُهَا، فَقَالَ: كَانَتْ لَهُ هَدِيَّةً وَهِيَ لَنَا رِشْوَةٌ، لِأَنَّهُ كَانَ يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ لِنُبُوَّتِهِ لَا لِوِلَايَتِهِ، وَنَحْنُ يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَيْنَا لِوِلَايَتِنَا ».

هَدَايَا الْكُفَّارِ لِلْإِمَامِ.

29- لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ قَبُولُ هَدِيَّةٍ مِنْ كُفَّارٍ أَشْرَفَتْ حُصُونُهُمْ عَلَى السُّقُوطِ بِيَدِ الْمُسْلِمِينَ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَوْهِينِ الْمُسْلِمِينَ وَتَثْبِيطِ هِمَّتِهِمْ.أَمَّا إِذَا كَانُوا بِقُوَّةٍ وَمَنَعَةٍ جَازَ لَهُ قَبُولُ هَدِيَّتِهِمْ.وَهِيَ لِلْإِمَامِ إِنْ كَانَتْ مِنْ قَرِيبٍ لَهُ، أَوْ كَانَتْ مُكَافَأَةً، أَوْ رَجَاءَ ثَوَابٍ (أَيْ مُقَابِلٍ).وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ قَرِيبٍ، وَأَهْدَى بَعْدَ دُخُولِ الْإِمَامِ بَلَدَهُمْ فَهِيَ غَنِيمَةٌ.وَهُمْ فَيْءٌ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي بَلَدِهِمْ.

هَذَا إِذَا كَانَتْ مِنَ الْأَفْرَادِ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ مِنَ الطَّاغِيَةِ أَيْ رَئِيسِهِمْ، فَإِنَّهَا فَيْءٌ إِنْ أُهْدِيَ قَبْلَ دُخُولِ الْمُسْلِمِينَ فِي بَلَدِهِمْ، وَغَنِيمَةٌ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ لِلْمَالِكِيَّةِ.وَعِنْدَ أَحْمَدَ: يَجُوزُ لِلْإِمَامِ قَبُولُ الْهَدِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، لِأَنَّ « النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَبِلَ هَدِيَّةَ الْمُقَوْقِسِ صَاحِبِ مِصْرَ »، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَالِ الْغَزْوِ فَمَا أَهْدَاهُ الْكُفَّارُ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ أَوْ لِبَعْضِ قُوَّادِهِ فَهُوَ غَنِيمَةٌ، لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلاَّ خَوْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَذَهُ قَهْرًا.

وَأَمَّا إِنْ أَهْدَى مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، فَهُوَ لِمَنْ أَهْدَى إِلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ الْإِمَامَ أَوْ غَيْرَهُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَبِلَ الْهَدِيَّةَ مِنْهُمْ، فَكَانَتْ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ.وَعَزَا ابْنُ قُدَامَةَ هَذَا إِلَى الشَّافِعِيِّ أَيْضًا، وَنَقَلَ عَنِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهَا لِلْمُهْدَى لَهُ بِكُلِّ حَالٍ، لِأَنَّهُ خَصَّهُ بِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أُهْدِيَ لَهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَحَكَى فِي ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَهْدَى مُشْرِكٌ إِلَى الْأَمِيرِ أَوْ إِلَى الْإِمَامِ هَدِيَّةً، وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ فَهِيَ غَنِيمَةٌ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَهْدَى قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلُوا عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ لِلْمُهْدَى إِلَيْهِ.

وَقَالَ عَبْدُ الْغَنِيِّ النَّابْلُسِيُّ: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَنَزَاهَتُهُ عَنْهَا أَوْلَى مِنْ قَبُولِهَا، فَإِنْ قَبِلَهَا جَازَ وَلَمْ يُمْنَعْ، وَهَذَا حُكْمُ الْهَدَايَا لِلْقُضَاةِ، أَمَّا الْهَدَايَا لِلْأَئِمَّةِ فَقَدْ قَالَ فِي الْحَاوِي: إِنَّهَا إِنْ كَانَتْ مِنْ هَدَايَا دَارِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يُهْدِيَ إِلَيْهِ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى حَقٍّ يَسْتَوْفِيهِ، أَوْ عَلَى ظُلْمٍ يَدْفَعُهُ عَنْهُ، أَوْ عَلَى بَاطِلٍ يُعِينُهُ عَلَيْهِ، فَهَذِهِ الرِّشْوَةُ الْمُحَرَّمَةُ.

الثَّانِي: أَنْ يُهْدِيَ إِلَيْهِ مَنْ كَانَ يُهَادِيهِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ، فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ مَا كَانَ قَبْلَ الْوِلَايَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ عَرَضَتْ فَيَجُوزُ لَهُ قَبُولُهَا، وَإِنِ اقْتَرَنَ بِهَا حَاجَةٌ عَرَضَتْ إِلَيْهِ فَيُمْنَعُ مِنَ الْقَبُولِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَهَا بَعْدَ الْحَاجَةِ.وَإِنْ زَادَ فِي هَدِيَّتِهِ عَلَى قَدْرِ الْعَادَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مِنْ جِنْسِ الْهَدِيَّةِ جَازَ قَبُولُهَا لِدُخُولِهَا فِي الْمَأْلُوفِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْهَدِيَّةِ مُنِعَ مِنَ الْقَبُولِ.

الثَّالِثُ: أَنْ يُهْدِيَ إِلَيْهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ يُهَادِيهِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ، فَإِنْ (كَانَ) لِأَجْلِ وِلَايَتِهِ فَهِيَ رِشْوَةٌ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُهَا، وَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ جَمِيلٍ صَدَرَ (لَهُ) مِنْهُ إِمَّا وَاجِبًا أَوْ تَبَرُّعًا فَلَا يَجُوزُ قَبُولُهَا أَيْضًا.

وَإِنْ كَانَ لَا لِأَجْلِ وِلَايَةٍ، بَلْ لِمُكَافَأَةٍ عَلَى جَمِيلٍ، فَهَذِهِ هَدِيَّةٌ بَعَثَ عَلَيْهَا جَاهٌ، فَإِنْ كَافَأَهُ عَلَيْهَا جَازَ لَهُ قَبُولُهَا، وَإِنْ لَمْ يُكَافِئْ عَلَيْهَا فَلَا يَقْبَلُهَا لِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ هَدَايَا دَارِ الْحَرْبِ جَازَ لَهُ قَبُولُ هَدَايَاهُمْ، وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّشْوَةِ وَالْهَدِيَّةِ أَنَّ الرِّشْوَةَ مَا أُخِذَتْ طَلَبًا، وَالْهَدِيَّةُ مَا بُذِلَتْ عَفْوًا.

أَثَرُ فِسْقِ الْإِمَامِ عَلَى وِلَايَتِهِ الْخَاصَّةِ:

30- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سَلْبِ الْوِلَايَةِ الْخَاصَّةِ عَنِ الْإِمَامِ بِفِسْقِهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ- عِنْدَهُمُ- الْعَدَالَةُ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ أَصْلًا، حَتَّى يَسْلُبَهَا الْفِسْقُ، فَيُزَوِّجُ بَنَاتِهِ الْقَاصِرَاتِ بِالْوِلَايَةِ الْخَاصَّةِ، يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ الْخَاصَّةَ تُسْلَبُ بِالْفِسْقِ، فَلَا يَصِحُّ لَهُ تَزْوِيجُ بَنَاتِهِ بِالْوِلَايَةِ الْخَاصَّةِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْفَسَقَةِ، لِخُرُوجِهِ بِالْفِسْقِ عَنِ الْوِلَايَةِ الْخَاصَّةِ كَأَفْرَادِ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَسْلُبْهُ عَنِ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ الْإِمَامَةِ، عَلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ خِلَافًا سَبَقَ بَيَانُهُ.

وَتَنْتَقِلُ وِلَايَةُ النِّكَاحِ إِلَى الْبَعِيدِ مِنَ الْعَصَبَةِ، فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ عَصَبَةٌ زَوَّجَهُنَّ بِالْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ كَغَيْرِهِنَّ مِمَّنْ لَا وَلِيَّ لَهُنَّ.لِحَدِيثِ: « السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ ».

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


213-موسوعة الفقه الكويتية (انتحار 1)

انْتِحَارٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الِانْتِحَارُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ انْتَحَرَ الرَّجُلُ، بِمَعْنَى نَحَرَ نَفْسَهُ، أَيْ قَتَلَهَا.وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى.لَكِنَّهُمْ عَبَّرُوا عَنْهُ بِقَتْلِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ

وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَجُلًا قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَشَدَّ الْقِتَالِ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ إِذْ وَجَدَ الرَّجُلُ أَلَمَ الْجُرْحِ، فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى كِنَانَتِهِ، فَانْتَزَعَ مِنْهَا سَهْمًا فَانْتَحَرَ بِهَا».

وَفِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ: «انْتَحَرَ فُلَانٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- النَّحْرُ وَالذَّبْحُ:

2- النَّحْرُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ هُوَ: فَرْيُ الْأَوْدَاجِ وَقَطْعُ كُلِّ الْحُلْقُومِ، وَمَحَلُّهُ مِنْ أَسْفَلِ الْحُلْقُومِ.وَيُطْلَقُ الِانْتِحَارُ عَلَى قَتْلِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِأَيِّ وَسِيلَةٍ كَانَتْ.وَلِهَذَا ذَكَرُوا أَحْكَامَهُ بِاسْمِ (قَتْلِ الشَّخْصِ نَفْسَهُ)

بِمَ يَتَحَقَّقُ الِانْتِحَارُ:

3- الِانْتِحَارُ نَوْعٌ مِنَ الْقَتْلِ فَيَتَحَقَّقُ بِوَسَائِلَ مُخْتَلِفَةٍ.وَيَتَنَوَّعُ بِأَنْوَاعٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَالْقَتْلِ.

فَإِذَا كَانَ إِزْهَاقُ الشَّخْصِ نَفْسَهُ بِإِتْيَانِ فِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، كَاسْتِعْمَالِ السَّيْفِ أَوِ الرُّمْحِ أَوِ الْبُنْدُقِيَّةِ أَوْ أَكْلِ السُّمِّ أَوْ إِلْقَاءِ نَفْسِهِ مِنْ شَاهِقٍ أَوْ فِي النَّارِ لِيَحْتَرِقَ أَوْ فِي الْمَاءِ لِيَغْرَقَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَسَائِلِ، فَهُوَ انْتِحَارٌ بِطَرِيقِ الْإِيجَابِ.

وَإِذَا كَانَ الْإِزْهَاقُ بِالِامْتِنَاعِ عَنِ الْوَاجِبِ، كَالِامْتِنَاعِ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَتَرْكِ عِلَاجِ الْجُرْحِ الْمَوْثُوقِ بِبُرْئِهِ بِمَا فِيهِ مِنْ خِلَافٍ سَيَأْتِي، أَوْ عَدَمِ الْحَرَكَةِ فِي الْمَاءِ أَوْ فِي النَّارِ أَوْ عَدَمِ التَّخَلُّصِ مِنَ السَّبُعِ الَّذِي يُمْكِنُ النَّجَاةُ مِنْهُ، فَهُوَ انْتِحَارٌ بِطَرِيقِ السَّلْبِ

4- وَيُقَسَّمُ الِانْتِحَارُ بِحَسَبِ إِرَادَةِ الْمُنْتَحِرِ إِلَى نَوْعَيْنِ: الِانْتِحَارِ عَمْدًا وَالِانْتِحَارِ خَطَأً.

فَإِذَا ارْتَكَبَ الشَّخْصُ عَمَلًا حَصَلَ مِنْهُ قَتْلُ نَفْسِهِ، وَأَرَادَ النَّتِيجَةَ الْحَاصِلَةَ مِنَ الْعَمَلِ، يُعْتَبَرُ الْقَتْلُ انْتِحَارًا عَمْدًا.كَرَمْيِ نَفْسِهِ بِقَصْدِ الْقَتْلِ مَثَلًا.

وَإِذَا أَرَادَ صَيْدًا أَوْ قَتْلَ الْعَدُوِّ فَأَصَابَ نَفْسَهُ، وَمَاتَ، يُعْتَبَرُ انْتِحَارًا خَطَأً.وَسَتَأْتِي أَحْكَامُهُمَا قَرِيبًا.

وَيُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ الِانْتِحَارُ بِطَرِيقٍ يُعْتَبَرُ شَبَهَ الْعَمْدِ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ، كَقَتْلِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِمَا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، كَالسَّوْطِ وَالْعَصَا.ر: (قَتْل).

أَمْثِلَةٌ مِنَ الِانْتِحَارِ بِطَرِيقِ السَّلْبِ: أَوَّلًا: الِامْتِنَاعُ مِنَ الْمُبَاحِ:

5- مَنِ امْتَنَعَ مِنَ الْمُبَاحِ حَتَّى مَاتَ كَانَ قَاتِلًا نَفْسَهُ، مُتْلِفًا لَهَا عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ.لِأَنَّ الْأَكْلَ لِلْغِذَاءِ وَالشُّرْبَ لِدَفْعِ الْعَطَشِ فَرْضٌ بِمِقْدَارِ مَا يَدْفَعُ الْهَلَاكَ، فَإِنْ تَرَكَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ حَتَّى هَلَكَ فَقَدِ انْتَحَرَ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِلْقَاءَ النَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ.

وَإِذَا اضْطُرَّ الْإِنْسَانُ لِلْأَكْلِ أَوِ الشُّرْبِ مِنَ الْمُحَرَّمِ كَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ حَتَّى ظَنَّ الْهَلَاكَ جُوعًا لَزِمَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، فَإِذَا امْتَنَعَ حَتَّى مَاتَ صَارَ قَاتِلًا نَفْسَهُ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَرَكَ أَكْلَ الْخُبْزِ وَشُرْبَ الْمَاءِ فِي حَالِ الْإِمْكَانِ؛ لِأَنَّ تَارِكَهُ سَاعٍ فِي إِهْلَاكِ نَفْسِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}.وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ عَلَى أَكْلِ الْمُحَرَّمِ، فَلَا يُبَاحُ لِلْمُكْرَهِ الِامْتِنَاعُ مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَوِ الدَّمِ أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا يُبَاحُ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ لقوله تعالى: {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ التَّحْرِيمِ إِبَاحَةٌ، وَقَدْ تَحَقَّقَ الِاضْطِرَارُ بِالْإِكْرَاهِ، وَلَوِ امْتَنَعَ عَنْهُ حَتَّى قُتِلَ يُؤَاخَذُ بِهِ وَيُعَدُّ مُنْتَحِرًا، لِأَنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ صَارَ مُلْقِيًا نَفْسَهُ إِلَى التَّهْلُكَةِ.

ثَانِيًا: تَرْكُ الْحَرَكَةِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ:

6- مَنْ أُلْقِيَ فِي مَاءٍ جَارٍ أَوْ رَاكِدٍ لَا يُعَدُّ مُغْرَقًا، كَمُنْبَسِطٍ يُمْكِنُهُ الْخَلَاصُ مِنْهُ عَادَةً، فَمَكَثَ فِيهِ مُضْطَجِعًا مَثَلًا مُخْتَارًا لِذَلِكَ حَتَّى هَلَكَ، يُعْتَبَرُ مُنْتَحِرًا وَقَاتِلًا نَفْسَهُ، وَلِذَلِكَ لَا قَوَدَ وَلَا دِيَةَ عَلَى الَّذِي أَلْقَاهُ فِي الْمَاءِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَمْ يَقْتُلْهُ، وَإِنَّمَا حَصَلَ الْمَوْتُ بِلُبْثِهِ فِيهِ، وَهُوَ فِعْلُ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ غَيْرُهُ.كَذَلِكَ إِنْ تَرَكَهُ فِي نَارٍ يُمْكِنُهُ الْخَلَاصُ مِنْهَا لِقِلَّتِهَا، أَوْ لِكَوْنِهِ فِي طَرَفٍ مِنْهَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ بِأَدْنَى حَرَكَةٍ، فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى مَاتَ.

وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ تَرَكَهُ فِي نَارٍ يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا فَلَمْ يَخْرُجْ يَضْمَنُ، لِأَنَّهُ جَانٍ بِالْإِلْقَاءِ الْمُفْضِي إِلَى الْمَوْتِ.وَفَارَقَ الْمَاءَ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُهْلِكٍ بِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا يَدْخُلُهُ النَّاسُ لِلسِّبَاحَةِ، أَمَّا النَّارُ فَيَسِيرُهَا يُهْلِكُ، وَلِأَنَّ النَّارَ لَهَا حَرَارَةٌ شَدِيدَةٌ، فَرُبَّمَا أَزْعَجَتْهُ حَرَارَتُهَا عَنْ مَعْرِفَةِ مَا يَتَخَلَّصُ بِهِ، أَوْ أَذْهَبَتْ عَقْلَهُ بِأَلَمِهَا وَرَوْعَتِهَا.

ثَالِثًا: تَرْكُ الْعِلَاجِ وَالتَّدَاوِي:

7- الِامْتِنَاعُ مِنَ التَّدَاوِي فِي حَالَةِ الْمَرَضِ لَا يُعْتَبَرُ انْتِحَارًا عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، فَمَنْ كَانَ مَرِيضًا وَامْتَنَعَ مِنَ الْعِلَاجِ حَتَّى مَاتَ، لَا يُعْتَبَرُ عَاصِيًا، إِذْ لَا يَتَحَقَّقُ بِأَنَّهُ يَشْفِيهِ.

كَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ الْمَجْرُوحُ عِلَاجَ جُرْحٍ مُهْلِكٍ فَمَاتَ لَا يُعْتَبَرُ مُنْتَحِرًا، بِحَيْثُ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى جَارِحِهِ، إِذِ الْبُرْءُ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ وَإِنْ عَالَجَ.أَمَّا إِذَا كَانَ الْجُرْحُ بَسِيطًا وَالْعِلَاجُ مَوْثُوقًا بِهِ، كَمَا لَوْ تَرَكَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَصْبَ الْعِرْقِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ قَدْ قَتَلَ نَفْسَهُ، حَتَّى لَا يُسْأَلَ جَارِحُهُ عَنِ الْقَتْلِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِخِلَافِهِ، وَقَالُوا: إِنْ تَرَكَ شَدَّ الْفِصَادِ مَعَ إِمْكَانِهِ لَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ، كَمَا لَوْ جُرِحَ فَتَرَكَ مُدَاوَاةَ جُرْحِهِ.

وَمَعَ تَصْرِيحِ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ تَرْكَ الْعِلَاجِ لَا يُعْتَبَرُ عِصْيَانًا؛ لِأَنَّ الْبُرْءَ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ، قَالُوا: إِنْ ضَرَبَ رَجُلًا بِإِبْرَةٍ فِي غَيْرِ الْمَقْتَلِ عَمْدًا فَمَاتَ، لَا قَوَدَ فِيهِ فَقَدْ فَصَّلُوا بَيْنَ الْجُرْحِ الْمُهْلِكِ وَغَيْرِ الْمُهْلِكِ كَالشَّافِعِيَّةِ، فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ تَرْكَ الْجُرْحِ الْيَسِيرِ لِنَزْفِ الدَّمِ حَتَّى الْمَوْتِ يُشْبِهُ الِانْتِحَارَ.

وَلَمْ نَعْثُرْ عَلَى نَصٍّ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:

8- الِانْتِحَارُ حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَيُعْتَبَرُ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} وَقَالَ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} وَقَدْ قَرَّرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْمُنْتَحِرَ أَعْظَمُ وِزْرًا مِنْ قَاتِلِ غَيْرِهِ، وَهُوَ فَاسِقٌ وَبَاغٍ عَلَى نَفْسِهِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْبُغَاةِ، وَقِيلَ: لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ.

كَمَا أَنَّ ظَاهِرَ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ يَدُلُّ عَلَى خُلُودِهِ فِي النَّارِ.مِنْهَا قَوْلُهُ «مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهَا خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا».

وَهُنَاكَ حَالَاتٌ خَاصَّةٌ تُشْبِهُ الِانْتِحَارَ، لَكِنَّهُ لَا عِقَابَ عَلَى مُرْتَكِبِهَا، وَلَا يَأْثَمُ فَاعِلُهَا، لِأَنَّهَا لَيْسَتِ انْتِحَارًا فِي الْوَاقِعِ كَالْآتِي:

أَوَّلًا: الِانْتِقَالُ مِنْ سَبَبِ مَوْتٍ إِلَى آخَرَ:

9- إِذَا وَقَعَ حَرِيقٌ فِي سَفِينَةٍ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ ظَلَّ فِيهَا احْتَرَقَ، وَلَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ غَرِقَ.فَالْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ) عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّهُمَا شَاءَ.فَإِذَا رَمَى نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ وَمَاتَ جَازَ، وَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ انْتِحَارًا مُحَرَّمًا إِذَا اسْتَوَى الْأَمْرَانِ.

وَقَالَ الصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَقَامُ وَالصَّبْرُ، لِأَنَّهُ إِذَا رَمَى نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ كَانَ مَوْتُهُ بِفِعْلِهِ، وَإِنْ أَقَامَ فَمَوْتُهُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ

كَذَلِكَ جَازَ لَهُ الِانْتِقَالُ مِنْ سَبَبِ مَوْتٍ إِلَى سَبَبِ مَوْتٍ آخَرَ، إِذَا كَانَ فِي السَّبَبِ الَّذِي يَنْتَقِلُ إِلَيْهِ نَوْعُ خِفَّةٍ مَعَ التَّأَكُّدِ مِنَ الْقَتْلِ فِيهِمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: وَلَوْ قَالَ لَهُ: لَتُلْقِيَنَّ نَفْسَكَ فِي النَّارِ أَوْ مِنَ الْجَبَلِ، أَوْ لأَقْتُلَنَّكَ، وَكَانَ الْإِلْقَاءُ بِحَيْثُ لَا يَنْجُو مِنْهُ، وَلَكِنْ فِيهِ نَوْعُ خِفَّةٍ، فَلَهُ الْخِيَارُ إِنْ شَاءَ فَعَلَ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ وَصَبَرَ حَتَّى يُقْتَلَ، لِأَنَّهُ ابْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ فَيَخْتَارُ مَا هُوَ الْأَهْوَنُ فِي زَعْمِهِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ.وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَصْبِرُ وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْفِعْلِ سَعْيٌ فِي إِهْلَاكِ نَفْسِهِ فَيَصْبِرُ تَحَامِيًا عَنْهُ.

أَمَّا إِذَا ظَنَّ السَّلَامَةَ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ سَبَبٍ إِلَى سَبَبٍ آخَرَ لِلْمَوْتِ، أَوْ رَجَا طُولَ الْحَيَاةِ وَلَوْ مَعَ مَوْتٍ أَشَدَّ وَأَصْعَبَ مِنَ الْمَوْتِ الْمُعَجَّلِ، فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِوُجُوبِهِ؛ لِأَنَّ حِفْظَ النُّفُوسِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، وَعَبَّرَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ هُوَ الْأَوْلَى، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ.

10- وَمِنْ أَمْثِلَةِ الِانْتِقَالِ مِنْ سَبَبِ مَوْتٍ إِلَى سَبَبِ مَوْتٍ آخَرَ مَا ذَكَرُوا مِنْ أَنَّهُ لَوْ تَبِعَ بِسَيْفٍ وَنَحْوِهِ مُمَيِّزًا هَارِبًا مِنْهُ فَرَمَى نَفْسَهُ بِمَاءٍ أَوْ نَارٍ مِنْ سَطْحٍ فَمَاتَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، لِمُبَاشَرَتِهِ إِهْلَاكَ نَفْسِهِ عَمْدًا، كَمَا لَوْ أَكْرَهَ إِنْسَانًا عَلَى أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ فَقَتَلَهَا.فَكَأَنَّهُ يُشْبِهُ الِانْتِحَارَ عِنْدَهُمْ.وَالْقَوْلُ الْآخَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ عَلَيْهِ نِصْفَ الدِّيَةِ.

أَمَّا لَوْ وَقَعَ بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ جَاهِلًا بِهِ، لِعَمًى أَوْ ظُلْمَةٍ مَثَلًا أَوْ تَغْطِيَةِ بِئْرٍ، أَوْ أَلْجَأَهُ إِلَى السَّبُعِ بِمَضِيقٍ ضَمِنَ مَنْ تَبِعَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إِهْلَاكَ نَفْسِهِ وَقَدْ أَلْجَأَهُ التَّابِعُ إِلَى الْهَرَبِ الْمُفْضِي لِلْهَلَاكِ.وَكَذَا لَوِ انْخَسَفَ بِهِ سَقْفٌ فِي هَرَبِهِ فِي الْأَصَحِّ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا طَلَبَ إِنْسَانًا بِسَيْفٍ مَشْهُورٍ فَهَرَبَ مِنْهُ، فَتَلِفَ فِي هَرَبِهِ ضَمِنَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ الشَّاهِقِ، أَمِ انْخَسَفَ بِهِ سَقْفٌ أَمْ خَرَّ فِي بِئْرٍ، أَمْ لَقِيَهُ سَبْعٌ، أَمْ غَرِقَ فِي مَاءٍ، أَمِ احْتَرَقَ بِنَارٍ.وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَطْلُوبُ صَغِيرًا أَمْ كَبِيرًا، أَعْمَى أَمْ بَصِيرًا، عَاقِلًا أَمْ مَجْنُونًا.

وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَوْضُوعِ فَقَالُوا: مَنْ أَشَارَ إِلَى رَجُلٍ بِسَيْفٍ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ، فَتَمَادَى بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ وَهُوَ يَهْرُبُ مِنْهُ، فَطَلَبَهُ حَتَّى مَاتَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِدُونِ الْقَسَامَةِ إِذَا كَانَ الْمَوْتُ بِدُونِ السُّقُوطِ، وَإِذَا سَقَطَ وَمَاتَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ مَعَ الْقَسَامَةِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ بِدُونِ عَدَاوَةٍ فَلَا قِصَاصَ، وَفِيهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ

ثَانِيًا: هُجُومُ الْوَاحِدِ عَلَى صَفِّ الْعَدُوِّ:

11- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ هُجُومِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَحْدَهُ عَلَى جَيْشِ الْعَدُوِّ، مَعَ التَّيَقُّنِ بِأَنَّهُ سَيُقْتَلُ.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ إِقْدَامِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَثِيرِ مِنَ الْكُفَّارِ، إِنْ كَانَ قَصْدُهُ إِعْلَاءَ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَكَانَ فِيهِ قُوَّةٌ وَظَنَّ تَأْثِيرَهُ فِيهِمْ، وَلَوْ عَلِمَ ذَهَابَ نَفْسِهِ، فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ انْتِحَارًا.

وَقِيلَ: إِذَا طَلَبَ الشَّهَادَةَ، وَخَلَصَتِ النِّيَّةُ فَلْيَحْمِلْ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ وَاحِدٌ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنْ يَكُونَ قَدْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنْ سَيَقْتُلُ مَنْ حَمَلَ عَلَيْهِ وَيَنْجُوَ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَلِمَ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يُقْتَلُ، لَكِنْ سَيَنْكِي نِكَايَةً أَوْ سَيُبْلِي أَوْ يُؤَثِّرُ أَثَرًا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ.

وَلَا يُعْتَبَرُ هَذَا إِلْقَاءَ النَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} لِأَنَّ مَعْنَى التَّهْلُكَةِ- كَمَا فَسَّرَهَا أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ- هُوَ الْإِقَامَةُ فِي الْأَمْوَالِ وَإِصْلَاحُهَا وَتَرْكُ الْجِهَادِ.لِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ حِكَايَةً عَنْ غَزْوِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ أَنَّهُ «حَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْمَلِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ، فَصَاحَ النَّاسُ، وَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ، يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعَاشِرَ الْأَنْصَارِ لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا، فَأَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَرُدُّ عَلَى مَا قُلْنَا {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ الْإِقَامَةَ عَلَى الْأَمْوَالِ وَإِصْلَاحَهَا وَتَرْكَنَا الْغَزْوَ» وَنَقَلَ الرَّازِيُّ رِوَايَةً عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَيْنَ أَنَا؟ قَالَ: فِي الْجَنَّةِ، فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ فِي يَدَيْهِ ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ».

كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي جَوَازُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ: طَلَبُ الشَّهَادَةِ.

الثَّانِي: وُجُودُ النِّكَايَةِ.

الثَّالِثُ: تَجْرِئَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ.

الرَّابِعُ: ضَعْفُ نُفُوسِ الْأَعْدَاءِ، لِيَرَوْا أَنَّ هَذَا صُنْعُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَمَا ظَنُّكَ بِالْجَمِيعِ.

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا حَارَبَ قُتِلَ، وَإِذَا لَمْ يُحَارِبْ أُسِرَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقِتَالُ، لَكِنَّهُ إِذَا قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ جَازَ بِشَرْطِ أَنْ يَنْكِيَ فِيهِمْ.أَمَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْكِي فِيهِمْ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِحَمَلَتِهِ شَيْءٌ مِنْ إِعْزَازِ الدِّينِ

كَمَا نُقِلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ حَمَلَ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَلَى أَلْفِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ وَحْدَهُ، لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْسٌ، إِذَا كَانَ يَطْمَعُ فِي نَجَاةٍ أَوْ نِكَايَةٍ فِي الْعَدُوِّ. ثَالِثًا: الِانْتِحَارُ لِخَوْفِ إِفْشَاءِ الْأَسْرَارِ:

12- إِذَا خَافَ الْمُسْلِمُ الْأَسْرَ، وَعِنْدَهُ أَسْرَارٌ هَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَتَيَقَّنُ أَنَّ الْعَدُوَّ سَوْفَ يَطَّلِعُ عَلَى هَذِهِ الْأَسْرَارِ، وَيُحْدِثُ ضَرَرًا بَيِّنًا بِصُفُوفِ الْمُسْلِمِينَ وَبِالتَّالِي يُقْتَلُ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ وَيَنْتَحِرَ أَوْ يَسْتَسْلِمَ؟

لَمْ نَجِدْ فِي جَوَازِ الِانْتِحَارِ خَوْفَ إِفْشَاءِ الْأَسْرَارِ، وَلَا فِي عَدَمِ جَوَازِهِ نَصًّا صَرِيحًا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.

إِلاَّ أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ أَجَازُوا قِتَالَ الْكُفَّارِ إِذَا تَتَرَّسُوا بِالْمُسْلِمِينَ وَلَوْ تَأَكَّدُوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ سَيُقْتَلُونَ مَعَهُمْ، بِشَرْطِ أَنْ يَقْصِدَ بِالرَّمْيِ الْكُفَّارَ، وَيَتَوَقَّى الْمُسْلِمِينَ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِمَا إِذَا كَانَتِ الْحَرْبُ قَائِمَةً، وَعَلِمْنَا أَنَّنَا لَوْ كَفَفْنَا عَنْهُمْ ظَفِرُوا بِنَا أَوْ عَظُمَتْ نِكَايَتُهُمْ فِينَا، وَجَعَلُوا هَذَا مِنْ تَطْبِيقَاتِ قَاعِدَةِ: (يُتَحَمَّلُ الضَّرَرُ الْخَاصُّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ).

وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الْفُقَهَاءَ لَمْ يُجَوِّزُوا إِلْقَاءَ شَخْصٍ فِي الْبَحْرِ لِخِفَّةِ ثِقَلِ السَّفِينَةِ الْمُشْرِفَةِ لِلْغَرَقِ، لِأَجَلِ نَجَاةِ رُكَّابِهَا مَهْمَا كَثُرَ عَدَدُهُمْ، إِلاَّ مَا نَقَلَ الدُّسُوقِيُّ الْمَالِكِيُّ عَنِ اللَّخْمِيِّ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ بِالْقُرْعَةِ. أَمْرُ الشَّخْصِ لِغَيْرِهِ بِقَتْلِهِ:

إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لآِخَرَ: اقْتُلْنِي، أَوْ قَالَ لِلْقَائِلِ إِنْ قَتَلْتَنِي أَبْرَأْتُكَ، أَوْ قَدْ وَهَبْتُ لَكَ دَمِي، فَقَتَلَهُ عَمْدًا، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ:

13- أَنَّ الْقَتْلَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَا يُعْتَبَرُ انْتِحَارًا، لَكِنْ لَا يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ.

هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- مَا عَدَا زُفَرَ- وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَرَوَاهُ سَحْنُونٌ عَنْ مَالِكٍ، وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ لَا تَجْرِي فِي النُّفُوسِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ بِاعْتِبَارِ الْإِذْنِ، وَالشُّبْهَةُ لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْمَالِ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ عَمْدٌ، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَحْمِلُ دِيَةَ الْعَمْدِ.

وَفَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ فَقَالُوا: إِنْ قَتَلَهُ بِالسَّيْفِ فَلَا قِصَاصَ؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ لَا تَجْرِي فِي النَّفْسِ، وَسَقَطَ الْقِصَاصُ لِشُبْهَةِ الْإِذْنِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، وَإِنْ قَتَلَهُ بِمُثْقَلٍ فَلَا قِصَاصَ لَكِنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ

الثَّانِي:

14- أَنَّ الْقَتْلَ فِي هَذِهِ الْحَالِ قَتْلُ عَمْدٍ، وَلَا يَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الِانْتِحَارِ، وَلِهَذَا يَجِبُ الْقِصَاصُ.

وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ حَسَّنَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْقَتْلِ لَمْ يَقْدَحْ فِي الْعِصْمَةِ؛ لِأَنَّ عِصْمَةَ النُّفُوسِ مِمَّا لَا تَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ، وَإِذْنُهُ لَا يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لِوَارِثِهِ لَا لَهُ، وَلِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقًّا قَبْلَ وُجُوبِهِ.

الثَّالِثُ:

15- أَنَّ الْقَتْلَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَهُ حُكْمُ الِانْتِحَارِ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ وَلَا دِيَةَ.وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَصَحَّحَهُ الْقُدُورِيُّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ مَرْجُوحَةٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ.

أَمَّا سُقُوطُ الْقِصَاصِ فَلِلْإِذْنِ لَهُ فِي الْقَتْلِ وَالْجِنَايَةِ، وَلِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ تُورِثُ شُبْهَةً، وَالْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ.

وَأَمَّا سُقُوطُ الدِّيَةِ فَلِأَنَّ ضَمَانَ نَفْسِهِ هُوَ حَقٌّ لَهُ فَصَارَ كَإِذْنِهِ بِإِتْلَافِ مَالِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: اقْتُلْ دَابَّتِي فَفَعَلَ فَلَا ضَمَانَ إِجْمَاعًا، فَصَحَّ الْأَمْرُ، وَلِأَنَّ الْمُورَثَ أَسْقَطَ الدِّيَةَ أَيْضًا فَلَا تَجِبُ لِلْوَرَثَةِ.

وَإِذَا كَانَ الْآمِرُ أَوِ الْآذِنُ مَجْنُونًا أَوْ صَغِيرًا فَلَا يُسْقِطُ إِذْنُهُ شَيْئًا مِنَ الْقِصَاصِ وَلَا الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِإِذْنِهِمَا.

16- لَوْ قَالَ: اقْطَعْ يَدِي، فَإِنْ كَانَ لِمَنْعِ السِّرَايَةِ كَمَا إِذَا وَقَعَتْ فِي يَدِهِ آكِلَةٌ فَلَا بَأْسَ بِقَطْعِهِ اتِّفَاقًا.

وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَحِلُّ، وَلَوْ قَطَعَ بِإِذْنِهِ فَلَمْ يَمُتْ مِنَ الْقَطْعِ فَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ عَلَى الْقَاطِعِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ، فَكَانَتْ قَابِلَةً لِلسُّقُوطِ بِالْإِبَاحَةِ وَالْإِذْنِ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: أَتْلِفْ مَالِي فَأَتْلَفَهُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ قَالَ لَهُ: اقْطَعْ يَدِي وَلَا شَيْءَ عَلَيْكَ، فَلَهُ الْقِصَاصُ إِنْ لَمْ يَسْتَمِرَّ عَلَى الْإِبْرَاءِ بَعْدَ الْقَطْعِ، مَا لَمْ يَتَرَامَ بِهِ الْقَطْعُ حَتَّى مَاتَ مِنْهُ، فَلِوَلِيِّهِ الْقَسَامَةُ وَالْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ.

17- وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشُجَّهُ فَشَجَّهُ عَمْدًا، وَمَاتَ مِنْهَا، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ).

وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْجَارِحِ: فَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ مَرْجُوحَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ، لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الشَّجَّةِ لَا يَكُونُ عَفْوًا عَنِ الْقَتْلِ، فَكَذَا الْأَمْرُ بِالشَّجَّةِ لَا يَكُونُ أَمْرًا بِالْقَتْلِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ، إِلاَّ أَنَّهُ سَقَطَ لِوُجُودِ الشُّبْهَةِ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ.وَلِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفِعْلَ وَقَعَ قَتْلًا، وَالْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الْقَطْعُ لَا الْقَتْلُ.

أَمَّا لَوْ عَفَا عَنِ الْجِنَايَةِ أَوْ عَنِ الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ عَنِ النَّفْسِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الرَّاجِحِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ سَرَى الْقَطْعُ الْمَأْذُونُ بِهِ إِلَى النَّفْسِ فَهَدَرٌ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ الْحَاصِلَ مِنَ الْقَطْعِ وَالشَّجَّةِ الْمَأْذُونِ فِيهِمَا يُشْبِهُ الِانْتِحَارَ، فَلَا يَجِبُ فِيهِ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ، وَلِأَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الشَّجَّةِ يَكُونُ عَفْوًا عَنِ الْقَتْلِ، فَكَذَا الْأَمْرُ بِالشَّجَّةِ يَكُونُ أَمْرًا بِالْقَتْلِ.وَلِأَنَّ الْأَصَحَّ ثُبُوتُ الدِّيَةِ لِلْمُورِثِ ابْتِدَاءً، وَقَدْ أَسْقَطَهَا بِإِذْنِهِ.

وَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ يُفِيدُ ثُبُوتَ الْقِصَاصِ فِي هَذِهِ الْحَالِ إِنْ لَمْ يَسْتَمِرَّ عَلَى الْإِبْرَاءِ.

أَمْرُ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ بِأَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ:

18- إِذَا أَمَرَ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ- أَمْرًا لَمْ يَصِلْ إِلَى دَرَجَةِ الْإِكْرَاهِ- بِقَتْلِ نَفْسِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ مُنْتَحِرٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْآمِرِ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ قَتَلَ نَفْسَهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وَمُجَرَّدُ الْأَمْرِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الِاخْتِيَارِ وَلَا فِي الرِّضَا، مَا لَمْ يَصِلْ إِلَى دَرَجَةِ الْإِكْرَاهِ التَّامِّ الَّذِي سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

الْإِكْرَاهُ عَلَى الِانْتِحَارِ:

19- الْإِكْرَاهُ هُوَ: حَمْلُ الْمُكْرَهِ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ.وَهُوَ نَوْعَانِ: مُلْجِئٌ وَغَيْرُ مُلْجِئٍ.

فَالْمُلْجِئُ: هُوَ الْإِكْرَاهُ الْكَامِلُ، وَهُوَ أَنْ يُكْرَهَ بِمَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى تَلَفِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ.وَهَذَا النَّوْعُ يُعْدِمُ الرِّضَا، وَيُوجِبُ الْإِلْجَاءَ، وَيُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ.

وَغَيْرُ الْمُلْجِئِ: هُوَ أَنْ يُكْرِهَهُ بِمَا لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَلَا يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ.وَالْمُرَادُ هُنَا الْإِكْرَاهُ الْمُلْجِئُ الَّذِي يُعْدِمُ الرِّضَا وَيُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ.

20- إِذَا أَكْرَهَ إِنْسَانٌ غَيْرَهُ إِكْرَاهًا مُلْجِئًا لِيَقْتُلَ الْمُكْرَهَ، بِأَنْ قَالَ لَهُ: اقْتُلْنِي وَإِلاَّ قَتَلْتُكَ، فَقَتَلَهُ فَهُوَ فِي حُكْمِ الِانْتِحَارِ، حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَى الْقَاتِلِ الْقِصَاصُ وَلَا الدِّيَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) لِأَنَّ الْمُكْرَهَ (بِفَتْحِ الرَّاءِ) كَالْآلَةِ بِيَدِ الْمُكْرِهِ فِي الْإِكْرَاهِ التَّامِّ (الْمُلْجِئِ) فَيُنْسَبُ الْفِعْلُ إِلَى الْمُكْرِهِ وَهُوَ الْمَقْتُولُ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ، كَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَلِأَنَّ إِذْنَ الْمُكَلَّفِ يُسْقِطُ الدِّيَةَ وَالْقِصَاصَ مَعًا كَمَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ، فَكَيْفَ إِذَا اشْتَدَّ الْأَمْرُ إِلَى دَرَجَةِ الْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ؟

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يُبَاحُ بِالْإِذْنِ، إِلاَّ أَنَّهُ شُبْهَةٌ تُسْقِطُ الْقِصَاصَ.وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى نَصٍّ فِي الْمَوْضُوعِ، وَقَدْ سَبَقَ رَأْيُهُمْ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَاتِلِ إِذَا أَمَرَهُ الْمَقْتُولُ بِالْقَتْلِ.

21- إِذَا أَكْرَهَ شَخْصٌ غَيْرَهُ إِكْرَاهًا مُلْجِئًا لِيَقْتُلَ الْغَيْرُ نَفْسَهُ، بِأَنْ قَالَ لَهُ: اقْتُلْ نَفْسَكَ وَإِلاَّ قَتَلْتُكَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ، وَإِلاَّ يُعَدُّ مُنْتَحِرًا وَآثِمًا؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَيْهِ لَا يَخْتَلِفُ عَنِ الْمُكْرَهِ بِهِ، فَكِلَاهُمَا قَتْلٌ، فَلأَنْ يَقْتُلَهُ الْمُكْرِهُ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَقْتُلَ هُوَ نَفْسَهُ.وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَنْجُوَ مِنَ الْقَتْلِ بِتَرَاجُعِ الْمُكْرِهِ، أَوْ بِتَغَيُّرِ الْحَالَةِ بِأَسْبَابٍ أُخْرَى، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَحِرَ وَيَقْتُلَ نَفْسَهُ.

وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ نَفْسَهُ فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْمُكْرِهِ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لِانْتِفَاءِ كَوْنِهِ إِكْرَاهًا حَقِيقَةً، لِاتِّحَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمُخَوَّفِ بِهِ، فَكَأَنَّهُ اخْتَارَ الْقَتْلَ كَمَا عَلَّلَهُ الشَّافِعِيَّةُ، لَكِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْآمِرِ نِصْفُ الدِّيَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُكْرَهَ شَرِيكٌ، وَسَقَطَ عَنْهُ الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ بِسَبَبِ مُبَاشَرَةِ الْمُكْرَهِ قَتْلَ نَفْسِهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ، إِذَا قَتَلَ الْمُكْرَهُ نَفْسَهُ، كَمَا لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ.

وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ بِمَا يَتَضَمَّنُ تَعْذِيبًا شَدِيدًا كَإِحْرَاقٍ أَوْ تَمْثِيلٍ إِنْ لَمْ يَقْتُلْ نَفْسَهُ، كَانَ إِكْرَاهًا كَمَا جَرَى عَلَيْهِ الْبَزَّارُ، وَمَالَ إِلَيْهِ الرَّافِعِيُّ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِنْ نَازَعَ فِيهِ الْبُلْقِينِيُّ.

وَفَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَوْضُوعِ فَقَالُوا: لَوْ قَالَ لَتُلْقِيَنَّ نَفْسَكَ فِي النَّارِ أَوْ مِنْ رَأْسِ الْجَبَلِ أَوْ لأَقْتُلَنَّكَ بِالسَّيْفِ، فَأَلْقَى نَفْسَهُ مِنَ الْجَبَلِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُكْرِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ بَاشَرَ بِنَفْسِهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ عِنْدَهُ، لِأَنَّهُ قُتِلَ بِالْمُثَقَّلِ، فَكَذَا إِذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ.وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْمُكْرِهِ فِي مَالِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ الْقِصَاصُ، لِأَنَّهُ كَالْقَتْلِ بِالسَّيْفِ عِنْدَهُ.أَمَّا إِذَا أَلْقَى نَفْسَهُ فِي النَّارِ فَاحْتَرَقَ، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا. هَذَا، وَلَمْ نَجِدْ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصًّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَانْظُرْ (إِكْرَاه).

اشْتِرَاكُ الْمُنْتَحِرِ مَعَ غَيْرِهِ:

22- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ جَرَحَ نَفْسَهُ، ثُمَّ جَرَحَهُ غَيْرُهُ فَمَاتَ مِنْهُمَا، فَهَلْ يُعْتَبَرُ انْتِحَارًا؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُشَارِكِ لَهُ قِصَاصٌ أَوْ دِيَةٌ؟ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ عِنْدَهُمْ بِحَسَبِ الصُّوَرِ:

أ- فَلَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، كَأَنْ أَرَادَ ضَرْبَ مَنِ اعْتَدَى عَلَيْهِ بِجُرْحٍ فَأَصَابَ نَفْسَهُ، أَوْ خَاطَ جُرْحَهُ فَصَادَفَ اللَّحْمَ الْحَيَّ، ثُمَّ جَرَحَهُ شَخْصٌ آخَرُ خَطَأً، فَمَاتَ مِنْهُمَا، فَلَا قِصَاصَ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَى الْمُخْطِئِ بِالْإِجْمَاعِ، وَيَلْزَمُ عَاقِلَةَ الشَّرِيكِ نِصْفُ الدِّيَةِ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ اثْنَانِ خَطَأً.

ب- أَمَّا لَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ خَطَأً، وَجَرَحَهُ شَخْصٌ آخَرُ عَمْدًا، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ) بِنَاءً عَلَى الْقَاعِدَةِ الَّتِي تَقُولُ: لَا يُقْتَلُ شَرِيكُ مَنْ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ كَالْمُخْطِئِ وَالصَّغِيرِ، وَعَلَى الْمُتَعَمِّدِ نِصْفُ دِيَةِ الْعَمْدِ فِي مَالِهِ، إِذْ لَا يَدْرِي مِنْ أَيِّ الْأَمْرَيْنِ مَاتَ

وَفِي وَجْهٍ آخَرَ لِلْحَنَابِلَةِ: يُقْتَصُّ مِنَ الشَّرِيكِ الْعَامِدِ، لِأَنَّهُ قَصَدَ الْقَتْلَ، وَخَطَأُ شَرِيكِهِ لَا يُؤَثِّرُ فِي قَصْدِهِ.

ج- وَإِذَا جَرَحَ نَفْسَهُ عَمْدًا، وَجَرَحَهُ آخَرُ عَمْدًا، وَمَاتَ مِنْهُمَا، يُقْتَصُّ مِنَ الشَّرِيكِ الْعَامِدِ فِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِشَرْطِ الْقَسَامَةِ، لِأَنَّهُ قَتْلٌ عَمْدٌ مُتَمَحِّضٌ، فَوَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الشَّرِيكِ فِيهِ كَشَرِيكِ الْأَبِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَا قِصَاصَ عَلَى شَرِيكِ قَاتِلِ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ جُرْحَاهُمَا عَمْدًا، لِأَنَّهُ أَخَفُّ مِنْ شَرِيكِ الْمُخْطِئِ، كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ، وَلِأَنَّهُ شَارَكَ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْقِصَاصُ، كَشَرِيكِ الْمُخْطِئِ، وَلِأَنَّهُ قَتْلٌ تَرَكَّبَ مِنْ مُوجِبٍ وَغَيْرِ مُوجِبٍ، كَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ.

وَإِذَا لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ فَعَلَى الْجَارِحِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَسَامَةُ فِي وُجُوبِ نِصْفِ الدِّيَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لَكِنَّهُمْ أَضَافُوا: أَنَّ الْجَارِحَ يُضْرَبُ مِائَةً وَيُحْبَسُ عَامًا كَذَلِكَ

23- وَالْمَعْلُومُ أَنَّ الدِّيَةَ تُقْسَمُ عَلَى مَنِ اشْتَرَكَ فِي الْقَتْلِ، وَعَلَى الْأَفْعَالِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى الْقَتْلِ، فَإِذَا حَصَلَ الْقَتْلُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ وَبِفِعْلِ الشَّرِيكِ وَلَمْ نَقُلْ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ، يَجِبُ عَلَى الشَّرِيكِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَبِهَذَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِنْ مَاتَ شَخْصٌ بِفِعْلِ نَفْسِهِ وَفِعْلِ زَيْدٍ وَأَسَدٍ وَحَيَّةٍ ضَمِنَ زَيْدٌ ثُلُثَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْأَسَدِ وَالْحَيَّةِ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ هَدَرٌ فِي الدَّارَيْنِ، وَفِعْلُ زَيْدٍ مُعْتَبَرٌ فِي الدَّارَيْنِ وَفِعْلُ نَفْسِهِ هَدَرٌ فِي الدُّنْيَا لَا الْعُقْبَى، حَتَّى يَأْثَمَ بِالْإِجْمَاعِ.

24- وَتَعَرَّضَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى لَهَا أَهَمِّيَّتُهَا فِي اشْتِرَاكِ الشَّخْصِ فِي قَتْلِ نَفْسِهِ، وَهِيَ مُدَاوَاةُ الْجُرْحِ بِالسُّمِّ الْمُهْلِكِ.فَإِنْ جَرَحَهُ إِنْسَانٌ فَتَدَاوَى بِسُمٍّ مُذَفَّفٍ يَقْتُلُ فِي الْحَالِ، فَقَدْ قَتَلَ نَفْسَهُ وَقَطَعَ سِرَايَةَ الْجُرْحِ، وَجَرَى مَجْرَى مَنْ ذَبَحَ نَفْسَهُ بَعْدَ أَنْ جُرِحَ، فَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ عَلَى جَارِحِهِ فِي النَّفْسِ، وَيُنْظَرُ فِي الْجُرْحِ، فَإِنْ كَانَ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ فَلِوَلِيِّهِ اسْتِيفَاؤُهُ، وَإِلاَّ فَلِوَلِيِّهِ الْأَرْشُ وَإِنْ كَانَ السُّمُّ لَا يَقْتُلُ فِي الْغَالِبِ، أَوْ لَمْ يُعْلَمْ حَالُهُ، أَوْ قَدْ يَقْتُلُ بِفِعْلِ الرَّجُلِ فِي نَفْسِهِ، فَالْقَتْلُ شَبَهُ عَمْدٍ، وَالْحُكْمُ فِي شَرِيكِهِ كَالْحُكْمِ فِي شَرِيكِ الْمُخْطِئِ.وَإِذَا لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ عَلَى الْجَارِحِ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ.

وَإِنْ كَانَ السُّمُّ يَقْتُلُ غَالِبًا، وَعُلِمَ حَالُهُ، فَحُكْمُهُ كَشَرِيكِ جَارِحِ نَفْسِهِ، فَيَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ، وَفِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- أَوْ هُوَ شَرِيكٌ مُخْطِئٌ فِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ الْقَتْلَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ التَّدَاوِيَ

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَا قِصَاصَ عِنْدَهُمْ عَلَى الْجَارِحِ بِحَالٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ التَّدَاوِي بِالسُّمِّ عَمْدًا أَمْ كَانَ خَطَأً؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ شَرِيكُ مَنْ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ.

كَذَلِكَ لَا قِصَاصَ عَلَى الْجَارِحِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلًا وَاحِدًا إِذَا تَدَاوَى الْمَقْتُولُ بِالسُّمِّ خَطَأً، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ أَنَّهُ «لَا يُقْتَلُ شَرِيكٌ مُخْطِئٌ» وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِي شَرِيكِ جَارِحِ نَفْسِهِ عَمْدًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلَيْنِ

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


214-موسوعة الفقه الكويتية (انتفاع 2)

انْتِفَاعٌ -2

ثَالِثًا: نَفَقَاتُ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا:

33- لَا خِلَافَ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي أَنَّ نَفَقَاتِ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا تَكُونُ عَلَى صَاحِبِ الْعَيْنِ، إِذَا كَانَ الِانْتِفَاعُ بِمُقَابِلٍ، لَا عَلَى مَنْ لَهُ الِانْتِفَاعُ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَتَكْسِيَةُ الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ وَإِصْلَاحُ مَرَافِقِهَا وَمَا وَهَنَ مِنْ بِنَائِهَا عَلَى رَبِّ الدَّارِ (الْمُؤَجِّرِ).وَكَذَلِكَ عَلَفُ الدَّابَّةِ الْمُسْتَأْجَرَةِ وَمَئُونَةُ رَدِّ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ عَلَى الْآجِرِ.حَتَّى إِنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا: إِنْ شَرَطَ الْمُكْرِي أَنَّ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ تَكُونُ عَلَى الْمُكْتَرِي فَالشَّرْطُ فَاسِدٌ.وَإِذَا أَنْفَقَ الْمُكْتَرِي عَلَى ذَلِكَ احْتَسَبَ بِهِ عَلَى الْمُكْرِي.

لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ: إِذَا أَصْلَحَ الْمُسْتَأْجِرُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَحْتَسِبْ لَهُ بِمَا أَنْفَقَ، لِأَنَّهُ أَصْلَحَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا.كَمَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ آجِرُ الدَّارِ عَلَى إِصْلَاحِهَا لِلْمُكْتَرِي، وَيُخَيَّرُ السَّاكِنُ بَيْنَ الِانْتِفَاعِ بِالسُّكْنَى، فَيَلْزَمُهُ الْكِرَاءُ وَالْخُرُوجُ مِنْهَا.

34- أَمَّا إِذَا كَانَ الِانْتِفَاعُ بِالْمَجَّانِ، كَمَا فِي الْعَارِيَّةِ وَالْوَصِيَّةِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْعَارِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْوَصِيَّةِ- إِلَى أَنَّ نَفَقَاتِ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا تَكُونُ عَلَى مَنْ لَهُ الِانْتِفَاعُ.وَعَلَى ذَلِكَ فَعَلَفُ الدَّابَّةِ وَنَفَقَاتُ الدَّارِ الْمُسْتَعَارَةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، كَمَا أَنَّ نَفَقَةَ الدَّارِ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهَا عَلَى الْمُوصَى لَهُ، لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ الِانْتِفَاعَ بِالْمَجَّانِ، فَكَانَتِ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا، إِذِ الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ.وَلِأَنَّ صَاحِبَهَا فَعَلَ مَعْرُوفًا فَلَا يَلِيقُ أَنْ يُشَدَّدَ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ مَئُونَةَ الْمُسْتَعَارِ عَلَى الْمُعِيرِ دُونَ الْمُسْتَعِيرِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعَارِيَّةُ صَحِيحَةً أَمْ فَاسِدَةً.فَإِنْ أَنْفَقَ الْمُسْتَعِيرُ لَمْ يَرْجِعْ إِلاَّ بِإِذْنِ حَاكِمٍ أَوْ إِشْهَادِ بَيِّنَةٍ عَلَى الرُّجُوعِ عِنْدَ فَقْدِ الْحَاكِمِ.

كَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ بِالِانْتِفَاعِ، فَإِنَّ الْوَارِثَ أَوِ الْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ هُوَ الَّذِي يَتَحَمَّلُ نَفَقَاتِ الْعَيْنِ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهَا، إِنْ أَوْصَى بِمَنْفَعَتِهَا مُدَّةً، لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ لِلرَّقَبَةِ، وَكَذَلِكَ لِلْمَنْفَعَةِ فِيمَا عَدَا تِلْكَ الْمُدَّةَ كَمَا عَلَّلَهُ الرَّمْلِيُّ.وَهَذَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْعَارِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْوَصِيَّةِ.وَعَلَّلَهُ الْخَرَشِيُّ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ لَكَانَ كِرَاءً، وَرُبَّمَا كَانَ عَلَفُ الدَّابَّةِ أَكْثَرَ مِنَ الْكِرَاءِ.

رَابِعًا: ضَمَانُ الِانْتِفَاعِ:

35- الْأَصْلُ أَنَّ الِانْتِفَاعَ الْمُبَاحَ وَالْمَأْذُونَ بِعَيْنٍ مِنَ الْأَعْيَانِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَعَلَى ذَلِكَ فَمَنِ انْتَفَعَ بِالْمَأْجُورِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، وَبِالصِّفَةِ الَّتِي عُيِّنَتْ فِي الْعَقْدِ، أَوْ بِمِثْلِهَا، أَوْ دُونَهَا ضَرَرًا، أَوْ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ فَتَلِفَ لَا يُضْمَنُ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُكْتَرِي يَدُ أَمَانَةٍ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ، وَكَذَا بَعْدَهَا إِنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا اسْتِصْحَابًا لِمَا كَانَ.

وَمَنِ اسْتَعَارَ عَيْنًا فَانْتَفَعَ بِهَا، وَهَلَكَتْ بِالِاسْتِعْمَالِ الْمَأْذُونِ فِيهِ بِلَا تَعَدٍّ لَا يَضْمَنُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.وَكَذَلِكَ إِذَا هَلَكَتْ بِدُونِ اسْتِعْمَالٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْعُدْوَانِ لَا يَجِبُ إِلاَّ عَلَى الْمُتَعَدِّي، وَمَعَ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ لَا يُوصَفُ بِالتَّعَدِّي.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَضْمَنُ إِذَا هَلَكَتْ فِي غَيْرِ حَالِ الِاسْتِعْمَالِ، لِأَنَّهُ قَبْضُ مَالِ الْغَيْرِ لِنَفْسِهِ لَا عَنِ اسْتِحْقَاقٍ، فَأَشْبَهَ الْغَصْبَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْعَارِيَّةُ الْمَقْبُوضَةُ مَضْمُونَةٌ بِقِيمَتِهَا يَوْمَ التَّلَفِ بِكُلِّ حَالٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَعَدَّى فِيهَا أَوْ يُفَرِّطَ فِيهَا أَوْ لَا.أَمَّا إِذَا انْتَفَعَ بِهَا وَرَدَّهَا عَلَى صِفَتِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ (يَحْتَمِلُ الْإِخْفَاءَ) وَبَيْنَ مَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ، فَقَالُوا: يَضْمَنُ الْمُسْتَعِيرُ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ، كَالْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ، إِنِ ادَّعَى الضَّيَاعَ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ عَلَى ضَيَاعِهِ بِلَا سَبَبٍ مِنْهُ، كَذَلِكَ يَضْمَنُ بِانْتِفَاعِهِ بِهَا بِلَا إِذْنِ رَبِّهَا إِذَا تَلِفَتْ أَوْ تَعَيَّبَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ.أَمَّا فِيمَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ وَفِيمَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى تَلَفِهِ فَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ.

وَالِانْتِفَاعُ بِالرَّهْنِ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْعَارِيَّةِ، فَلَوْ هَلَكَ فِي حَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَالْعَمَلِ لَا يَضْمَنُ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ الْمَأْذُونَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ.وَإِذَا انْتَفَعَ بِهِ بِدُونِ إِذْنِ الرَّاهِنِ يَضْمَنُ مَعَ تَفْصِيلٍ سَبَقَ ذِكْرُهُ.

36- وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الْأَصْلِ الِانْتِفَاعُ بِمَالِ الْغَيْرِ حَالَ الِاضْطِرَارِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا شَرْعًا، لَكِنَّهُ يُوجِبُ الضَّمَانَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، عَمَلًا بِقَاعِدَةٍ فِقْهِيَّةٍ أُخْرَى، هِيَ: أَنَّ الِاضْطِرَارَ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الْغَيْرِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ الضَّمَانِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ، وَهُوَ أَنَّ الِانْتِفَاعَ الْمُبَاحَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ.وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمُضْطَرِّ ثَمَنُ الطَّعَامِ لِيَشْتَرِيَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِذِمَّتِهِ كَمَا عَلَّلَ بِذَلِكَ الدَّرْدِيرُ.

37- أَمَّا الِانْتِفَاعُ بِالْمَغْصُوبِ وَالْوَدِيعَةِ فَمُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ، إِلاَّ مَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْوَدِيعَةِ مِنْ عَدَمِ ضَمَانِ لُبْسِ الثَّوْبِ لِدَفْعِ الْعُفُونَةِ وَرُكُوبِ مَا لَا يَنْقَادُ لِلسَّقْيِ.

كَذَلِكَ تُضْمَنُ مَنْفَعَةُ الدَّارِ بِالتَّفْوِيتِ وَالْفَوَاتِ، بِأَنْ سَكَنَ الدَّارَ وَرَكِبَ الدَّابَّةَ، أَوْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: لَوْ غَصَبَ الْعَيْنَ لِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، لَا لِتَمَلُّكِ الذَّاتِ، فَتَلِفَتِ الْعَيْنُ الْمُنْتَفَعُ بِهَا فَلَا يَضْمَنُهَا الْمُتَعَدِّي.فَمَنْ سَكَنَ دَارًا غَاصِبًا لِلسُّكْنَى، فَانْهَدَمَتْ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ فَلَا يَضْمَنُ إِلاَّ قِيمَةَ السُّكْنَى.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنَافِعَ الْأَعْيَانِ الْمَنْقُولَةِ الْمَغْصُوبَةِ لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ.فَإِذَا غَصَبَ دَابَّةً فَأَمْسَكَهَا أَيَّامًا وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهَا، ثُمَّ رَدَّهَا إِلَى يَدِ مَالِكِهَا لَا يَضْمَنُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ تَفْوِيتُ يَدِ الْمَالِكِ عَنِ الْمَنَافِعِ، لِأَنَّهَا أَعْرَاضٌ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا.فَالْمَنْفَعَةُ الْحَادِثَةُ عَلَى يَدِ الْغَاصِبِ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي يَدِ الْمَالِكِ، فَلَمْ يُوجَدْ تَفْوِيتُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْهَا.

لَكِنْ إِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مَالَ وَقْفٍ أَوْ مَالَ صَغِيرٍ أَوْ كَانَ مُعَدًّا لِلِاسْتِغْلَالِ يَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْمَنْفَعَةِ.وَيُرْجَعُ لِتَفْصِيلِهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (ضَمَان).

خَامِسًا: تَسْلِيمُ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا:

38- لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَلْزَمُ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا إِلَى مَنْ لَهُ الِانْتِفَاعُ، إِذَا ثَبَتَ الِانْتِفَاعُ بِالْعَقْدِ اللاَّزِمِ وَبِعِوَضٍ، كَالْإِجَارَةِ.فَالْمُؤَجِّرُ مُكَلَّفٌ بَعْدَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ أَنْ يُسَلِّمَ الْمَأْجُورَ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَيُمَكِّنَهُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ.أَمَّا الِانْتِفَاعُ بِالْعَقْدِ غَيْرِ اللاَّزِمِ فَلَا يُوجِبُ تَسْلِيمَ الْعَيْنِ لِلْمُنْتَفِعِ، كَالْإِعَارَةِ، فَلَا يَلْزَمُ الْمُعِيرُ أَنْ يُسَلِّمَ الْمُسْتَعَارَ إِلَى الْمُسْتَعِيرِ؛ لِأَنَّ التَّبَرُّعَ لَا أَثَرَ لَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ.

39- أَمَّا رَدُّ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا إِلَى مَالِكِهَا، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الِانْتِفَاعَ إِذَا كَانَ بِدُونِ عِوَضٍ كَالْعَارِيَّةِ فَرَدُّ الْعَيْنِ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، مَتَى طَلَبَ الْمُعِيرُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ مِنَ الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَدُّهَا مَتَى شَاءَ، وَلَوْ مُؤَقَّتَةً بِوَقْتٍ لَمْ يُنْقَضْ أَمَدُهُ، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ، وَالْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ».وَلِأَنَّ الْإِذْنَ هُوَ السَّبَبُ لِإِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ، وَقَدِ انْقَطَعَ بِالطَّلَبِ.وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً، فَأَمْسَكَهَا بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ، وَلَمْ يَرُدَّهَا حَتَّى هَلَكَتْ ضَمِنَ.وَلَكِنْ إِذَا أَعَارَ أَرْضًا لِزِرَاعَةٍ وَرَجَعَ قَبْلَ إِدْرَاكِ الزَّرْعِ فَعَلَيْهِ الْإِبْقَاءُ إِلَى الْحَصَادِ، وَلَهُ الْأُجْرَةُ مِنْ وَقْتِ وُجُوبِ إِرْجَاعِهَا إِلَى حَصَادِ الزَّرْعِ.كَمَا لَوْ أَعَارَهُ دَابَّةً ثُمَّ رَجَعَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ نَقْلَ مَتَاعِهِ إِلَى مَأْمَنٍ بِأَجْرِ الْمِثْلِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَزِمَتِ الْعَارِيَّةُ الْمُقَيَّدَةُ بِعَمَلٍ أَوْ أَجَلٍ لِانْقِضَائِهِ، فَلَيْسَ لِرَبِّهَا أَخْذُهَا قَبْلَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَعَارُ أَرْضًا لِزِرَاعَةٍ، أَوْ سُكْنَى، أَوْ كَانَ حَيَوَانًا أَوْ كَانَ عَرَضًا.

40- أَمَّا إِذَا كَانَ الِانْتِفَاعُ بِعِوَضٍ كَالْإِجَارَةِ، فَلَا يُكَلَّفُ الْمُسْتَأْجِرُ رَدَّ الْمَأْجُورِ بَعْدَ الِانْقِضَاءِ، وَلَيْسَ لِلْآجِرِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَأْجُورَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودَةِ، وَلَا قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ الْمُقَرَّرَةِ.وَحُكْمُ بَقَاءِ الزَّرْعِ إِلَى الْحَصَادِ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ كَحُكْمِ الْعَارِيَّةِ، فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُبْقِيَ الزَّرْعَ فِي الْأَرْضِ إِلَى إِدْرَاكِهِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ.لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَيَّدُوهُ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ تَأْخِيرُ الزِّرَاعَةِ بِسَبَبِ تَقْصِيرِ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ.

أَمَّا مُؤْنَةُ رَدِّ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا، فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا فِي الْإِجَارَةِ عَلَى الْمُؤَجِّرِ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ مَقْبُوضَةٌ لِمَنْفَعَتِهِ بِأَخْذِ الْأَجْرِ، وَعَلَى الْمُسْتَعِيرِ فِي الْعَارِيَّةِ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ لَهُ، عَمَلًا بِقَاعِدَةِ (الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ). إِنْهَاءُ الِانْتِفَاعِ وَانْتِهَاؤُهُ

41- إِنْهَاءُ الِانْتِفَاعِ مَعْنَاهُ وَقْفُ آثَارِ الِانْتِفَاعِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِإِرَادَةِ الْمُنْتَفِعِ أَوْ مَالِكِ الرَّقَبَةِ أَوِ الْقَاضِي، وَعَبَّرَ عَنْهُ الْفُقَهَاءُ بِلَفْظِ (فَسْخٍ).وَانْتِهَاءُ الِانْتِفَاعِ مَعْنَاهُ أَنْ تَتَوَقَّفَ آثَارُهُ بِدُونِ إِرَادَةِ الْمُنْتَفِعِ أَوْ مَالِكِ الْعَيْنِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ الْفُقَهَاءُ بِلَفْظِ (انْفِسَاخٍ).

أَوَّلًا: إِنْهَاءُ الِانْتِفَاعِ:

يُنْهَى الِانْتِفَاعُ فِي الْحَالَاتِ الْآتِيَةِ:

أ- الْإِرَادَةُ الْمُنْفَرِدَةُ:

42- يُمْكِنُ إِنْهَاءُ الِانْتِفَاعِ بِالْإِرَادَةِ الْمُنْفَرِدَةِ فِي عُقُودِ التَّبَرُّعِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ قِبَلِ مَالِكِ الرَّقَبَةِ أَوِ الْمُنْتَفِعِ نَفْسِهِ.فَكَمَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالِانْتِفَاعِ يُمْكِنُ إِنْهَاؤُهَا مِنْ قِبَلِ الْمُوصَى لَهُ فِي حَيَاتِهِ، يَصِحُّ إِنْهَاؤُهَا مِنْ قِبَلِ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي.وَكَمَا أَنَّ الْإِعَارَةَ يُمْكِنُ إِنْهَاؤُهَا مِنْ قِبَلِ الْمُعِيرِ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ.كَذَلِكَ يَسُوغُ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يَرُدَّهَا أَيَّ وَقْتٍ شَاءَ.لِأَنَّ الْإِعَارَةَ وَالْوَصِيَّةَ مِنَ الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ كَالْوَكَالَةِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخُهَا مَتَى شَاءَ، وَلَوْ مُؤَقَّتَةً بِوَقْتٍ لَمْ يَنْقَضِ أَمَدُهُ، إِلاَّ فِي صُوَرٍ مُسْتَثْنَاةٍ لِدَفْعِ الضَّرَرِ.

ب- حَقُّ الْخِيَارِ:

43- يَصِحُّ إِنْهَاءُ الِانْتِفَاعِ بِاسْتِعْمَالِ الْخِيَارِ فِي بَعْضِ الْعُقُودِ كَالْإِجَارَةِ، فَإِنَّهَا تُفْسَخُ بِالْعَيْبِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَيْبُ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ أَوْ حَادِثًا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ- وَهِيَ الْمَنَافِعُ- يَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَمَا وُجِدَ مِنَ الْعَيْبِ يَكُونُ حَادِثًا قَبْلَ الْقَبْضِ فِي حَقِّ مَا بَقِيَ مِنَ الْمَنَافِعِ، فَيُوجَدُ الْخِيَارُ.

كَذَلِكَ يُمْكِنُ إِنْهَاءُ الِانْتِفَاعِ فِي الْإِجَارَةِ بِفَسْخِهَا بِسَبَبِ خِيَارِ الشَّرْطِ، وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنَافِعِ.فَكَمَا يَجُوزُ فَسْخُ الْبَيْعِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ- كَذَلِكَ يَصِحُّ إِنْهَاءُ الِانْتِفَاعِ فِي الْإِجَارَةِ بِسَبَبِ هَذَيْنِ الْخِيَارَيْنِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ.

44- وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِنْهَاءُ الِانْتِفَاعِ فِي حَالَةِ تَعَذُّرِهِ، وَذَلِكَ فِي الْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ، كَالْإِجَارَةِ.أَمَّا الْعُقُودُ غَيْرُ اللاَّزِمَةِ كَالْإِعَارَةِ فَإِنَّهَا قَابِلَةٌ لِلْفَسْخِ بِدُونِ التَّعَذُّرِ كَمَا سَبَقَ.

وَالتَّعَذُّرُ أَعَمُّ مِنَ التَّلَفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَيَشْمَلُ الضَّيَاعَ وَالْمَرَضَ وَالْغَصْبَ وَغَلْقَ الْحَوَانِيتِ قَهْرًا.وَقَدْ تَوَسَّعَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِنْهَاءِ الِانْتِفَاعِ بِسَبَبِ الْعُذْرِ.وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: عَجْزُ الْعَاقِدِ عَنِ الْمُضِيِّ بِمُوجِبِ الْعَقْدِ إِلاَّ بِتَحَمُّلِ ضَرَرٍ زَائِدٍ، كَمَنِ اسْتَأْجَرَ حَانُوتًا يَتَّجِرُ فِيهِ فَأَفْلَسَ.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِنْ تَعَذَّرَ الزَّرْعُ بِسَبَبِ غَرَقِ الْأَرْضِ أَوِ انْقِطَاعِ مَائِهَا فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ.وَإِنْ قَلَّ الْمَاءُ بِحَيْثُ لَا يَكْفِي الزَّرْعَ فَلَهُ الْفَسْخُ.وَكَذَلِكَ إِذَا انْقَطَعَ الْمَاءُ بِالْكُلِّيَّةِ، أَوْ حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ، أَوْ حَدَثَ خَوْفٌ عَامٌّ يَمْنَعُ مِنْ سُكْنَى الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِعُذْرٍ، كَتَعَذُّرِ وَقُودِ الْحَمَّامِ أَوْ خَرَابِ مَا حَوْلَ الدَّارِ وَالدُّكَّانِ.وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ وَافَقُوا الْجُمْهُورَ عَلَى جَوَازِ إِنْهَاءِ الِانْتِفَاعِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ حَيْثُ قَالُوا: إِذَا انْقَطَعَ مَاءُ أَرْضٍ لِلزِّرَاعَةِ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ، وَمَا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ شَرْعًا يُوجِبُ الْفَسْخَ، كَمَا لَوْ سَكَنَ أَلَمُ السِّنِّ الْمُسْتَأْجَرِ عَلَى قَلْعِهِ.

ج- الْإِقَالَةُ:

45- لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الِانْتِفَاعَ يُمْكِنُ إِنْهَاؤُهُ بِسَبَبِ الْإِقَالَةِ، وَهِيَ فَسْخُ الْعَقْدِ بِإِرَادَةِ الطَّرَفَيْنِ.وَهَذَا إِذَا كَانَ الِانْتِفَاعُ حَاصِلًا بِسَبَبِ عَقْدٍ لَازِمٍ كَالْإِجَارَةِ.

أَمَّا فِي غَيْرِ الْعَقْدِ، وَفِي الْعُقُودِ غَيْرِ اللاَّزِمَةِ، فَلَا يَحْتَاجُ لِلْإِقَالَةِ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ بِالرُّجُوعِ عَنِ الْإِذْنِ أَوِ الْإِرَادَةِ الْمُنْفَرِدَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ.

ثَانِيًا: انْتِهَاءُ الِانْتِفَاعِ:

يَنْتَهِي الِانْتِفَاعُ فِي الْحَالَاتِ الْآتِيَةِ:

أ- انْتِهَاءُ الْمُدَّةِ:

46- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ أَنَّ الِانْتِفَاعَ يَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ الْمُعَيَّنَةِ أَيًّا كَانَ سَبَبُهُ، فَإِذَا أَبَاحَ شَخْصٌ لآِخَرَ الِانْتِفَاعَ مِنْ أَمْلَاكِهِ الْخَاصَّةِ لِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ يَنْتَهِي الِانْتِفَاعُ بِانْتِهَاءِ تِلْكَ الْمُدَّةِ.وَإِذَا آجَرَهُ أَوْ أَعَارَهُ دَابَّةً لِشَهْرٍ فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا يَنْتَهِي بِمُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا بَعْدَهَا، وَإِلاَّ يَكُونُ غَاصِبًا كَمَا تَقَدَّمَ.

ب- هَلَاكُ الْمَحَلِّ أَوْ غَصْبُهُ:

47- يَنْتَهِي الِانْتِفَاعُ بِهَلَاكِ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ.فَتَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ وَالْإِعَارَةُ وَالْوَصِيَّةُ بِهَلَاكِ الدَّابَّةِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، وَبِتَلَفِ الْعَيْنِ الْمُسْتَعَارَةِ، وَبِانْهِدَامِ الدَّارِ الْمُوصَى بِمَنْفَعَتِهَا.

أَمَّا غَصْبُ الْمَحَلِّ فَمُوجِبٌ لِفَسْخِ الْعَقْدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ) لَا لِلِانْفِسَاخِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْغَصْبَ أَيْضًا مُوجِبٌ لِلِانْفِسَاخِ، لِزَوَالِ التَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ.

ج- وَفَاةُ الْمُنْتَفِعِ:

سَبَقَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى تَوْرِيثِ الِانْتِفَاعِ مَا يَتَّصِلُ بِهَذَا السَّبَبِ.انْظُرْ فِقْرَةَ (30).

د- زَوَالُ الْوَصْفِ الْمُبِيحِ:

48- يَنْتَهِي الِانْتِفَاعُ كَذَلِكَ بِزَوَالِ الْوَصْفِ الْمُبِيحِ كَمَا فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ، حَيْثُ قَالُوا: إِذَا زَالَتْ حَالَةُ الِاضْطِرَارِ زَالَ حِلُّ الِانْتِفَاعِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


215-موسوعة الفقه الكويتية (إنزاء)

إِنْزَاءٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْإِنْزَاءُ لُغَةً: حَمْلُ الْحَيَوَانِ عَلَى النَّزْوِ، وَهُوَ الْوَثْبُ، وَلَا يُقَالُ إِلاَّ لِلشَّاءِ، وَالدَّوَابِّ، وَالْبَقَرِ، فِي مَعْنَى السِّفَادِ.

وَلَا يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- عَسَبُ الْفَحْلِ:

2- قِيلَ: هُوَ الْكِرَاءُ الَّذِي يُؤْخَذُ عَلَى ضِرَابِ الْفَحْلِ، وَقِيلَ: هُوَ ضِرَابُهُ، وَقِيلَ: مَاؤُهُ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

3- الْإِنْزَاءُ الَّذِي لَا يَضُرُّ- كَالْإِنْزَاءِ عَلَى مِثْلِهِ أَوْ نَحْوِهِ أَوْ مُقَارِبِهِ- جَائِزٌ، كَخَيْلٍ بِمِثْلِهَا أَوْ بِحَمِيرٍ، أَمَّا إِذَا كَانَ يَضُرُّ- كَإِنْزَاءِ الْحَمِيرِ عَلَى الْخَيْلِ- فَإِنَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ كَرِهَهُ، أَخْذًا بِحَدِيثِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: «أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَغْلَةٌ فَرَكِبَهَا، فَقُلْتُ: لَوْ حَمَلْنَا الْحَمِيرَ عَلَى الْخَيْلِ فَكَانَتْ لَنَا مِثْلُ هَذِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ».وَقَالُوا: وَسَبَبُ النَّهْيِ أَنَّهُ سَبَبٌ لِقِلَّةِ الْخَيْلِ وَضَعْفِهَا.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ الْحُمُرَ إِذَا حَمَلَتْ عَلَى الْخَيْلِ تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُ الْخَيْلِ، وَقَلَّ عَدَدُهَا، وَانْقَطَعَ نَمَاؤُهَا.وَالْخَيْلُ يُحْتَاجُ إِلَيْهَا لِلرُّكُوبِ وَالطَّلَبِ، وَعَلَيْهَا يُجَاهَدُ الْعَدُوُّ، وَبِهَا تُحْرَزُ الْغَنَائِمُ، وَلَحْمُهَا مَأْكُولٌ، وَيُسْهَمُ لِلْفَرَسِ كَمَا يُسْهَمُ لِلْفَارِسِ، وَلَيْسَ لِلْبَغْلِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْفَضَائِلِ، فَأَحَبَّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَنْمُوَ عَدَدُ الْخَيْلِ وَيَكْثُرَ نَسْلُهَا لِمَا فِيهَا مِنَ النَّفْعِ وَالصَّلَاحِ.وَلَكِنْ قَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَمْلُ الْخَيْلِ عَلَى الْحُمُرِ جَائِزًا؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِنَّمَا جَاءَتْ فِي حَمْلِ الْحُمُرِ عَلَى الْخَيْلِ، لِئَلاَّ تُشْغَلَ أَرْحَامُهَا بِنَسْلِ الْحُمُرِ، فَيَقْطَعَهَا ذَلِكَ عَنْ نَسْلِ الْخَيْلِ، فَإِذَا كَانَتِ الْفُحُولَةُ خَيْلًا وَالْأُمَّهَاتُ حُمُرًا فَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ دَاخِلًا فِي النَّهْيِ، إِلاَّ أَنْ يَتَأَوَّلَ مُتَأَوِّلٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ صِيَانَةُ الْخَيْلِ عَنْ مُزَاوَجَةِ الْحُمُرِ، وَكَرَاهَةُ اخْتِلَاطِ مَائِهَا، لِئَلاَّ يَضِيعَ طُرُقُهَا، وَلِئَلاَّ يَكُونَ مِنْهُ الْحَيَوَانُ الْمُرَكَّبُ مِنْ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْمُرَكَّبَاتِ الْمُتَوَلِّدَةِ بَيْنَ جِنْسَيْنِ مِنَ الْحَيَوَانِ أَخْبَثُ طَبْعًا مِنْ أُصُولِهَا الَّتِي تَتَوَلَّدُ مِنْهَا وَأَشَدُّ شَرَاسَةً كَالسِّمْعِ، وَالْعِسْبَارِ وَنَحْوِهِمَا، وَكَذَلِكَ الْبَغْلُ لِمَا يَعْتَرِيهِ مِنَ الشِّمَاسِ وَالْحِرَانِ وَالْعِضَاضِ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْعُيُوبِ وَالْآفَاتِ، ثُمَّ هُوَ حَيَوَانٌ عَقِيمٌ لَيْسَ لَهُ نَسْلٌ وَلَا نَمَاءٌ وَلَا يُذَكَّى وَلَا يُزَكَّى.

قُلْتُ: وَمَا أَرَى هَذَا الرَّأْيَ طَائِلًا، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} فَذَكَرَ الْبِغَالَ وَامْتَنَّ عَلَيْنَا بِهَا كَامْتِنَانِهِ بِالْخَيْلِ وَالْحَمِيرِ، وَأَفْرَدَ ذِكْرَهَا بِالِاسْمِ الْخَاصِّ الْمَوْضُوعِ لَهَا، وَنَبَّهَ عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْإِرَبِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَالْمَكْرُوهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَذْمُومٌ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ وَلَا يَقَعُ بِهَا الِامْتِنَانُ، وَقَدِ «اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْبَغْلَ وَاقْتَنَاهُ، وَرَكِبَهُ حَضَرًا وَسَفَرًا، وَكَانَ يَوْمَ حُنَيْنٍ عَلَى بَغْلَتِهِ رَمَى الْمُشْرِكِينَ بِالْحَصْبَاءِ.وَقَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ فَانْهَزَمُوا»، وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لَمْ يَقْتَنِهِ وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَالْحَنَفِيَّةُ أَجَازُوا إِنْزَاءَ الْحَمِيرِ عَلَى الْخَيْلِ وَعَكْسَهُ.

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:

4- بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ تَكَلَّمَ الشَّافِعِيَّةُ فِي امْتِنَاعِ الْإِنْزَاءِ عَلَى الدَّابَّةِ الْمَرْهُونَةِ، إِلاَّ إِنْ ظَنَّ أَنَّهَا تَلِدُ قَبْلَ حُلُولِ الدَّيْنِ.وَيُفَصِّلُ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي بَابِ (الرَّهْنِ)، وَيُنْظَرُ حُكْمُ الْإِجَارَةِ عَلَى الْإِنْزَاءِ فِي مُصْطَلَحِ (عَسَبُ الْفَحْلِ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


216-موسوعة الفقه الكويتية (أنصاب)

أَنْصَابٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْأَنْصَابُ: جَمْعٌ مُفْرَدُهُ نُصُبٌ، وَقِيلَ: النُّصُبُ جَمْعٌ مُفْرَدُهُ نِصَابٌ، وَالنُّصُبُ: كُلُّ مَا نُصِبَ فَجُعِلَ عَلَمًا.وَقِيلَ: النُّصُبُ هِيَ الْأَصْنَامُ.وَقِيلَ: النُّصُبُ كُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: كَأَنَّ النُّصُبَ الْآلِهَةُ الَّتِي كَانَتْ تُعْبَدُ مِنْ أَحْجَارٍ.وَالْأَنْصَابُ حِجَارَةٌ كَانَتْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ تُنْصَبُ فَيُهَلُّ وَيُذْبَحُ عَلَيْهَا لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ، قَالُوا: إِنَّ النُّصُبَ أَحْجَارٌ مَنْصُوبَةٌ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا وَيُقَرِّبُونَ الذَّبَائِحَ لَهَا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْأَصْنَامُ وَالْأَوْثَانُ:

2- الْأَصْنَامُ: جَمْعُ صَنَمٍ، وَالصَّنَمُ: قِيلَ هُوَ الْوَثَنُ الْمُتَّخَذُ مِنَ الْحِجَارَةِ أَوِ الْخَشَبِ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.وَقِيلَ الصَّنَمُ: جُثَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ خَشَبٍ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مُتَقَرِّبِينَ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.

وَقِيلَ: الصَّنَمُ مَا كَانَ عَلَى صُورَةِ حَيَوَانٍ.وَقِيلَ: كُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى يُقَالُ لَهُ صَنَمٌ.وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَنْصَابِ وَالْأَصْنَامِ، أَنَّ الْأَصْنَامَ مُصَوَّرَةٌ مَنْقُوشَةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَنْصَابُ لِأَنَّهَا حِجَارَةٌ مَنْصُوبَةٌ.

وَفِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لِلْجَصَّاصِ: الْوَثَنُ كَالنُّصُبِ سَوَاءٌ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَثَنَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى مَا لَيْسَ بِمُصَوَّرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ حِينَ جَاءَهُ وَفِي عُنُقِهِ صَلِيبٌ: أَلْقِ هَذَا الْوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ فَسَمَّى الصَّلِيبَ وَثَنًا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النُّصُبَ وَالْوَثَنَ اسْمٌ لَمَا نُصِبَ لِلْعِبَادَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُصَوَّرًا وَلَا مَنْقُوشًا، فَعَلَى هَذَا الرَّأْيِ تَكُونُ الْأَنْصَابُ كَالْأَوْثَانِ فِي أَنَّهَا غَيْرُ مُصَوَّرَةٍ.وَعَلَى الرَّأْيِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَنْصَابِ وَالْأَوْثَانِ أَنَّ الْأَنْصَابَ غَيْرُ مُصَوَّرَةٍ وَالْأَوْثَانَ مُصَوَّرَةٌ.

التَّمَاثِيلُ:

3- التَّمَاثِيلُ: جَمْعُ تِمْثَالٍ، وَهُوَ الصُّورَةُ مِنْ حَجَرٍ أَوْ غَيْرِهِ سَوَاءٌ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَمْ لَمْ يُعْبَدْ.

أَنْصَابُ الْحَرَمِ:

4- حَرَمُ مَكَّةَ هُوَ مَا أَحَاطَ بِهَا مِنْ جَوَانِبِهَا، جَعَلَ اللَّهُ حُكْمَهُ حُكْمَهَا فِي الْحُرْمَةِ.وَلِلْحَرَمِ عَلَامَاتٌ مُبَيَّنَةٌ، وَهِيَ أَنْصَابٌ مَبْنِيَّةٌ فِي جَمِيعِ جَوَانِبِهِ، قِيلَ أَوَّلُ مَنْ نَصَبَهَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ- عليه السلام- بِدَلَالَةِ جِبْرِيلَ لَهُ، فَقِيلَ نَصَبَهَا إِسْمَاعِيلُ- عليه السلام-.ثُمَّ تَتَابَعَ ذَلِكَ حَتَّى نَصَبَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَامَ الْفَتْحِ، ثُمَّ الْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِهِ. (ر: أَعْلَامُ الْحَرَمِ).

وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَنْصَابِ الْكُفَّارِ: أَنَّ أَعْلَامَ الْحَرَمِ عَلَامَاتٌ تُبَيِّنُ حُدُودَ الْحَرَمِ دُونَ تَقْدِيسٍ أَوْ عِبَادَةٍ، أَمَّا أَنْصَابُ الْكُفَّارِ فَكَانَتْ تُقَدَّسُ وَيُتَقَرَّبُ بِهَا لِغَيْرِ اللَّهِ وَيُذْبَحُ عَلَيْهَا.

حُكْمُ الذَّبْحِ عَلَى النُّصُبِ:

5- الذَّبْحُ عَلَى النُّصُبِ كَانَ عَادَةً مِنْ عَادَاتِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، يَنْصِبُونَ الْأَحْجَارَ وَيُقَدِّسُونَهَا وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهَا بِالذَّبَائِحِ.وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذِهِ الذَّبَائِحَ لَا تَحِلُّ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبْعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}.قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْمَعْنَى: وَالنِّيَّةُ فِيهَا تَعْظِيمُ النُّصُبِ.

وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ جُزْءٌ مِمَّا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَكِنْ خُصَّ بِالذِّكْرِ بَعْدَ جِنْسِهِ لِشُهْرَةِ الْأَمْرِ.

حُكْمُ صُنْعِهَا وَبَيْعِهَا وَاقْتِنَائِهَا:

6- الْأَنْصَابُ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ الشَّامِلِ لِكُلِّ مَا صُنِعَ لِيُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تُعْتَبَرُ رِجْسًا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ كَمَا وَرَدَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}.

وَكُلُّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَحْرُمُ صُنْعُهُ وَبَيْعُهُ وَاقْتِنَاؤُهُ.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ صَنْعَةَ التَّصَاوِيرِ الْمُجَسَّدَةِ لِإِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ حَرَامٌ عَلَى فَاعِلِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ حَجَرٍ أَمْ خَشَبٍ أَمْ طِينٍ أَمْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «الَّذِينَ يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» وَعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بَيْتًا فِيهِ تَمَاثِيلُ، فَقَالَ لِتِمْثَالٍ مِنْهَا: تِمْثَالُ مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: تِمْثَالُ مَرْيَمَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ» وَالْأَمْرُ بِعَمَلِهِ مُحَرَّمٌ كَعَمَلِهِ، بَلْ إِنَّ الْأُجْرَةَ عَلَى صُنْعِ مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا تَجُوزُ وَهَذَا فِي مُطْلَقِ التَّصَاوِيرِ الْمُجَسَّدَةِ، فَإِذَا كَانَتْ مِمَّا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَذَلِكَ أَشَدُّ تَحْرِيمًا.

فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: لَوِ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَنْحِتُ لَهُ أَصْنَامًا لَا شَيْءَ لَهُ، وَالْإِجَارَةُ عَلَى الْمَعَاصِي لَا تَصِحُّ.

وَيَقُولُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّهُ لَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ صَنَمٍ وَصَلِيبٍ؛ لِأَنَّ التَّوَصُّلَ إِلَى إِزَالَةِ الْمَعْصِيَةِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، فَصَارَ شُبْهَةً كَإِرَاقَةِ الْخَمْرِ (ر: سَرِقَةٌ).

7- وَكَمَا يَحْرُمُ صُنْعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَحْرُمُ بَيْعُهَا وَاقْتِنَاؤُهَا، فَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ»، يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ بَيْعِ كُلِّ آلَةٍ مُتَّخَذَةٍ لِلشِّرْكِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَتْ، وَمِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَتْ.صَنَمًا أَوْ وَثَنًا أَوْ صَلِيبًا، فَهَذِهِ كُلُّهَا يَجِبُ إِزَالَتُهَا وَإِعْدَامُهَا.وَبَيْعُهَا ذَرِيعَةٌ إِلَى اقْتِنَائِهَا وَاتِّخَاذِهَا، وَلِذَلِكَ يَحْرُمُ الْبَيْعُ بَلْ إِنَّ الْمَادَّةَ الَّتِي تُصْنَعُ مِنْهَا هَذِهِ الْأَشْيَاءُ سَوَاءٌ كَانَتْ حَجَرًا أَمْ خَشَبًا أَمْ غَيْرَ ذَلِكَ- وَإِنْ كَانَتْ مَالًا وَيُنْتَفَعُ بِهَا- لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا لِمَنْ يَتَّخِذُهَا لِمِثْلِ ذَلِكَ، كَمَا لَا يَصِحُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بَيْعُ الْعِنَبِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، وَلَا بَيْعُ أَدَوَاتِ الْقِمَارِ وَلَا بَيْعُ دَارٍ لِتُعْمَلَ كَنِيسَةً، وَلَا بَيْعُ الْخَشَبَةِ لِمَنْ يَتَّخِذُهَا صَلِيبًا، وَلَا بَيْعُ النُّحَاسِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ نَاقُوسًا، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ عُلِمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَصَدَ بِهِ أَمْرًا لَا يَجُوزُ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ فِي بَابِ الْأَشْرِبَةِ أَوْرَدَ السَّرَخْسِيُّ قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ رِجْسٌ، وَالرِّجْسُ مَا هُوَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ وَأَنَّهُ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ.

حُكْمُ ضَمَانِ إِتْلَافِ الْأَنْصَابِ وَنَحْوِهَا:

8- يَقُولُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: مَنْ كَسَرَ صَلِيبًا أَوْ صَنَمًا لَمْ يَضْمَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ بَيْعُهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْأَصْنَامِ». (ر: ضَمَانٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


217-موسوعة الفقه الكويتية (أهل الكتاب)

أَهْلُ الْكِتَابِ

التَّعْرِيفُ:

1- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ (أَهْلَ الْكِتَابِ) هُمُ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِفِرَقِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ.

وَتَوَسَّعَ الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ هُمْ: كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِنَبِيٍّ وَيُقِرُّ بِكِتَابٍ، وَيَشْمَلُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، وَمَنْ آمَنَ بِزَبُورِ دَاوُدَ، وَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَشِيثٍ.وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ دِينًا سَمَاوِيًّا مُنَزَّلًا بِكِتَابٍ.

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} قَالُوا: وَلِأَنَّ تِلْكَ الصُّحُفَ كَانَتْ مَوَاعِظَ وَأَمْثَالًا لَا أَحْكَامَ فِيهَا، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا حُكْمُ الْكُتُبِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أَحْكَامٍ.

وَالسَّامِرَةُ مِنَ الْيَهُودِ، وَإِنْ كَانُوا يُخَالِفُونَهُمْ فِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الصَّابِئَةِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ أَوِ النَّصَارَى.وَفِي قَوْلٍ لِأَحْمَد، وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُمْ جِنْسٌ مِنَ النَّصَارَى.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ مَا صَحَّحَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُمْ إِنْ وَافَقُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي أُصُولِ دِينِهِمْ، مِنْ تَصْدِيقِ الرُّسُلِ وَالْإِيمَانِ بِالْكُتُبِ كَانُوا مِنْهُمْ، وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي أُصُولِ دِينِهِمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ، وَكَانَ حُكْمُهُمْ حُكْمَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ.

أَمَّا الْمَجُوسُ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ كَانُوا يُعَامَلُونَ مُعَامَلَتَهُمْ فِي قَبُولِ الْجِزْيَةِ فَقَطْ.وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ إِلاَّ أَبُو ثَوْرٍ، فَاعْتَبَرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي كُلِّ أَحْكَامِهِمْ.

وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ..» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُهُمْ، وَلَوْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَا تَوَقَّفَ عُمَرُ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ حَتَّى رُوِيَ لَهُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْكُفَّارُ

2- الْكُفَّارُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ أَهْلُ كِتَابٍ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُمْ، وَقِسْمٌ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ، وَهُمُ الْمَجُوسُ، وَقِسْمٌ لَا كِتَابَ لَهُمْ وَلَا شُبْهَةَ كِتَابٍ، وَهُمْ مَنْ عَدَا هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَغَيْرِهِمْ.وَعَلَى ذَلِكَ فَأَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْكُفَّارِ.فَالْكُفَّارُ أَعَمُّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ وَغَيْرَهُمْ.

ب- أَهْلُ الذِّمَّةِ:

3- أَهْلُ الذِّمَّةِ هُمُ: الْمُعَاهَدُونَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يُقِيمُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.وَيُقِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ بِشَرْطِ بَذْلِ الْجِزْيَةِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ.

فَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَدْ يَكُونُ ذِمِّيًّا غَيْرَ كِتَابِيٍّ، وَقَدْ يَكُونُ كِتَابِيًّا غَيْرَ ذِمِّيٍّ، وَهُمْ مَنْ كَانَ فِي غَيْرِ دَارِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.

التَّفَاوُتُ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ:

4- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ (الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى) إِذَا قُوبِلُوا بِالْمَجُوسِ.فَالْمَجُوسِيَّةُ شَرٌّ وَأَمَّا الْيَهُودِيَّةُ إِذَا قُوبِلَتْ بِالنَّصْرَانِيَّةِ فَاخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ عَلَى الِاتِّجَاهَاتِ التَّالِيَةِ:

الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْفِرْقَتَيْنِ.وَهَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ أَقْوَالِ أَصْحَابِ التَّفَاسِيرِ وَالْفُقَهَاءِ، الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِمَّنْ رَتَّبُوا أَحْكَامًا فِقْهِيَّةً كَثِيرَةً عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى دُونَ أَيِّ تَفْرِقَةٍ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، مِثْلُ: جَوَازِ الْمُنَاكَحَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، كَأَهْلِ الْمَذَاهِبِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَجَوَازِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَجَوَازِ أَكْلِ ذَبِيحَتِهِمْ، وَحِلِّ نِكَاحِ نِسَائِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ نِحَلُهُمْ؛ وَلِأَنَّهُ يَجْمَعُهُمُ اعْتِقَادُ الشِّرْكِ وَالْإِنْكَارِ لِنُبُوَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم-.

الِاتِّجَاهُ الثَّانِي: أَنَّ النَّصْرَانِيَّةَ شَرٌّ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ.

وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، مِنْهُمُ ابْنُ نُجَيْمٍ وَصَاحِبُ الدُّرَرِ وَابْنُ عَابِدِينَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَفَرَّعُوا عَلَى هَذَا الْفَرْقِ بِقَوْلِهِمْ: يَلْزَمُ عَلَى هَذَا كَوْنُ الْوَلَدِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ يَهُودِيَّةٍ وَنَصْرَانِيٍّ أَوْ عَكْسِهِ تَبَعًا لِلْيَهُودِيِّ لَا النَّصْرَانِيِّ.

وَفَائِدَتُهُ خِفَّةُ الْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ، حَيْثُ إِنَّ فِي الْآخِرَةِ يَكُونُ النَّصْرَانِيُّ أَشَدَّ عَذَابًا؛ لِأَنَّ نِزَاعَ النَّصَارَى فِي الْإِلَهِيَّاتِ، وَنِزَاعَ الْيَهُودِ فِي النُّبُوَّاتِ.

وَكَذَا فِي الدُّنْيَا؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْوَلْوَالِجِيُّ مِنْ كِتَابِ الْأُضْحِيَّةِ أَنَّهُ: يُكْرَهُ الْأَكْلُ مِنْ طَعَامِ الْمَجُوسِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَجُوسِيَّ يَطْبُخُ الْمُنْخَنِقَةَ وَالْمَوْقُوذَةَ وَالْمُتَرَدِّيَةَ، وَالنَّصْرَانِيَّ لَا ذَبِيحَةَ لَهُ، وَإِنَّمَا يَأْكُلُ ذَبِيحَةَ الْمُسْلِمِ أَوْ يَخْنُقُهَا، وَلَا بَأْسَ بِطَعَامِ الْيَهُودِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْكُلُ إِلاَّ مِنْ ذَبِيحَةِ الْيَهُودِيِّ أَوِ الْمُسْلِمِ، فَعُلِمَ أَنَّ النَّصْرَانِيَّ شَرٌّ مِنَ الْيَهُودِيِّ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا أَيْضًا.

وَالِاتِّجَاهُ الثَّالِثُ: مَا ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ، مَنْقُولًا عَنِ الْخُلَاصَةِ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ كُفْرَ الْيَهُودِ أَغْلَظُ مِنْ كُفْرِ النَّصَارَى؛ لِأَنَّهُمْ يَجْحَدُونَ نُبُوَّةَ نَبِيِّنَا- عليه السلام- وَنُبُوَّةَ عِيسَى- عليه السلام-، وَكُفْرُ النَّصَارَى أَخَفُّ لِأَنَّهُمْ يَجْحَدُونَ نُبُوَّةَ نَبِيٍّ وَاحِدٍ؛ وَلِأَنَّ الْيَهُودَ أَشَدُّ جَمِيعِ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَصْلَبُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَهُمْ أَلْيَنُ عَرِيكَةً مِنَ الْيَهُودِ، وَأَقْرَبُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ.

عَقْدُ الذِّمَّةِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ:

5- يَجُوزُ لِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ نَائِبِهِ أَنْ يُبْرِمَ عَقْدَ الذِّمَّةِ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ، عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي الْمُرَادِ بِهِمْ، وَاخْتُلِفَ فِي غَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَدَلِيلُ الِاتِّفَاقِ عَلَى جَوَازِ عَقْدِ الذِّمَّةِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَقْدِ أَنْ يَلْتَزِمُوا أَحْكَامَ الْإِمَامِ، وَالْمُرَادُ بِالْتِزَامِ الْأَحْكَامِ: قَبُولُ مَا يَحْكُمُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَدَاءِ حَقٍّ أَوْ تَرْكِ مُحَرَّمٍ، وَأَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، وَالْمُرَادُ بِالْإِعْطَاءِ: الْتِزَامُهُ وَالْإِجَابَةُ إِلَى بَذْلِهِ، لَا حَقِيقَةَ الْإِعْطَاءِ وَلَا جَرَيَانَ الْأَحْكَامِ فِعْلًا، وَبِالْعَقْدِ تُعْصَمُ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ كَالْخَلَفِ عَنِ الْإِسْلَامِ فِي إِفَادَةِ الْعِصْمَةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِذَا طَلَبَ أَهْلُ الْكِتَابِ عَقْدَ الذِّمَّةِ، وَكَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ إِجَابَتُهُمْ إِلَيْهِ.

وَلِتَفْصِيلِ أَحْكَامِ عَقْدِ الذِّمَّةِ، وَمَا يَنْعَقِدُ بِهِ، وَمِقْدَارُ الْجِزْيَةِ، وَعَلَى مَنْ تُفْرَضُ، وَبِمَ تَسْقُطُ، وَمَا يُنْتَقَضُ بِهِ عَقْدُ الذِّمَّةِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (أَهْلِ الذِّمَّةِ) (وَجِزْيَةٌ).

ذَبَائِحُ أَهْلِ الْكِتَابِ:

6- قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى إِبَاحَةِ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} يَعْنِي ذَبَائِحَهُمْ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَعَامُهُمْ ذَبَائِحُهُمْ، وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةَ، وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.

وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ إِبَاحَةَ صَيْدِهِمْ أَيْضًا، قَالَ ذَلِكَ عَطَاءٌ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا ثَبَتَ عَنْهُ تَحْرِيمُ صَيْدِ أَهْلِ الْكِتَابِ.

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ.

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَرْبِيِّ وَالذِّمِّيِّ فِي إِبَاحَةِ ذَبِيحَةِ الْكِتَابِيِّ مِنْهُمْ، وَتَحْرِيمِ ذَبِيحَةِ مَنْ سِوَاهُ.وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ ذَبَائِحِ نَصَارَى أَهْلِ الْحَرْبِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهَا.وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِمْ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ فِيهِمْ.

فَإِنْ كَانَ أَحَدُ أَبَوَيِ الْكِتَابِيِّ مِمَّنْ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ، وَالْآخَرُ مِمَّنْ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ، قَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَحِلُّ صَيْدُهُ وَلَا ذَبِيحَتُهُ.وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ كَانَ الْأَبُ غَيْرَ كِتَابِيٍّ لَا تَحِلُّ، وَإِنْ كَانَ الْأَبُ كِتَابِيًّا فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: تُبَاحُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ.وَالثَّانِي: لَا تُبَاحُ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ مَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَالْإِبَاحَةَ، فَغَلَبَ مَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمُ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُبَاحُ ذَبِيحَتُهُ بِكُلِّ حَالٍ لِعُمُومِ النَّصِّ؛ وَلِأَنَّهُ كِتَابِيٌّ يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ، فَتَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ ابْنَ كِتَابِيَّيْنِ.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ ابْنَ وَثَنِيَّيْنِ أَوْ مَجُوسِيَّيْنِ (وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) فَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ تَحْرِيمُهُ، وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ حِلُّهُ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِدِينِ الذَّابِحِ لَا بِدِينِ أَبِيهِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي قَبُولِ الْجِزْيَةِ بِذَلِكَ، وَلِعُمُومِ النَّصِّ وَالْقِيَاسِ

وَأَمَّا ذَبْحُ الْكِتَابِيِّ لِمَا يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فِي إِبَاحَةِ ذَلِكَ أَوْ مَنْعِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَجَعَلَ ابْنُ عَرَفَةَ الْكَرَاهَةَ قَوْلًا ثَالِثًا، وَالرَّاجِحُ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الْقَوْلُ بِالْكَرَاهَةِ.

أَمَّا غَيْرُ الْمَالِكِيَّةِ فَلَمْ نَعْثُرْ لَهُمْ عَلَى نَصٍّ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَطْلَقُوا الْقَوْلَ فِي حِلِّ ذَبِيحَةِ الْكِتَابِيِّ كَمَا سَبَقَ.وَلَمْ يُفَصِّلُوا كَمَا فَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ.وَالظَّاهِرُ مِنْ عِبَارَاتِهِمُ الْحِلُّ.

نِكَاحُ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ:

7- فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْمُسْلِمِ لِلْكِتَابِيَّةِ لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ تَحْرِيمُ نِكَاحِ نِسَاءِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ.وَالصَّحِيحُ عَنْهُ: أَنَّهُمْ كَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ خَصَّ الْجَوَازَ بِنِسَاءِ أَهْلِ الْعَهْدِ دُونَ أَهْلِ الْحَرْبِ.وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَرْبِيَّةِ وَغَيْرِهَا.

وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيلِ مُصْطَلَحَ (نِكَاحٍ).

اسْتِعْمَالُ آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ:

8- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ آنِيَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ إِذَا تَيَقَّنَ عَدَمَ طَهَارَتِهَا.وَصَرَّحَ الْقَرَافِيُّ الْمَالِكِيُّ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا يَصْنَعُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا مَحْمُولٌ عَلَى الطَّهَارَةِ.وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ أَوَانِي أَهْلِ الْكِتَابِ، إِلاَّ أَنْ يَتَيَقَّنَ طَهَارَتَهَا فَلَا كَرَاهَةَ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ الْأَحْكَامِ فِي مُصْطَلَحِ (آنِيَةٍ)

دِيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ:

9- دِيَةُ الْكِتَابِيِّ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَالْمَرْأَةُ مِنْهُمْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ دِيَةُ الْكِتَابِيِّ ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَدِيَةُ الْمَرْأَةِ نِصْفُ ذَلِكَ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ دِيَتُهُ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ وَرَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (دِيَةٍ).

مُجَاهَدَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ:

10- قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.

أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِمُقَاتَلَةِ جَمِيعِ الْكُفَّارِ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَخَصَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بِالذِّكْرِ لِتَعَاظُمِ مَسْئُولِيَّتِهِمْ؛ لِمَا أُوتُوا مِنْ كُتُبٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَلِكَوْنِهِمْ عَالِمِينَ بِالتَّوْحِيدِ وَالرُّسُلِ وَالشَّرَائِعِ وَالْمِلَلِ، وَخُصُوصًا ذِكْرُ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- وَمِلَّتِهِ وَأُمَّتِهِ، فَلَمَّا أَنْكَرُوهُ تَأَكَّدَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، وَعَظُمَتْ مِنْهُمُ الْجَرِيمَةُ، فَنَبَّهَ عَلَى مَحَلِّهِمْ، ثُمَّ جَعَلَ لِلْقِتَالِ غَايَةً، وَهِيَ إِعْطَاءُ الْجِزْيَةِ بَدَلًا مِنَ الْقَتْلِ.

وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِذَا طَلَبُوا الْكَفَّ عَنِ الْقِتَالِ، لَكِنَّ الْخِلَافَ فِي غَيْرِهِمْ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (أَهْلُ الْحَرْبِ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ، وَجِزْيَةٌ).

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ قِتَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَفْضَلُ مِنْ قِتَالِ غَيْرِهِمْ، وَكَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَأْتِي مِنْ مَرْوَ لِغَزْوِ الرُّومِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ «النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ لأُِمِّ خَلاَّدٍ: إِنَّ ابْنَكِ لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ، قَالَتْ: وَلِمَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ قَتَلَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ».

الِاسْتِعَانَةُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْقِتَالِ:

11- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَالشَّافِعِيَّةُ مَا عَدَا ابْنَ الْمُنْذِرِ، وَابْنَ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ إِلَى: جَوَازِ الِاسْتِعَانَةِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْقِتَالِ عِنْدَ الْحَاجَةِ.لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: اسْتَعَانَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ سَنَةَ ثَمَانٍ بِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَهُوَ مُشْرِكٌ»

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ الْإِمَامُ حُسْنَ رَأْيِهِمْ فِي الْمُسْلِمِينَ وَيَأْمَنَ خِيَانَتَهُمْ، فَإِنْ كَانُوا غَيْرَ مَأْمُونِينَ لَمْ تَجُزِ الِاسْتِعَانَةُ بِهِمْ؛ لِأَنَّنَا إِذَا مَنَعْنَا الِاسْتِعَانَةَ بِمَنْ لَا يُؤْمِنُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُ الْمُخْذِلِ وَالْمُرْجِفِ، فَالْكَافِرُ أَوْلَى.

كَمَا شَرَطَ الْإِمَامُ الْبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ شَرْطًا آخَرَ، وَهُوَ: أَنْ يَكْثُرَ الْمُسْلِمُونَ، بِحَيْثُ لَوْ خَانَ الْمُسْتَعَانُ بِهِمْ، وَانْضَمُّوا إِلَى الَّذِينَ يَغْزُونَهُمْ، أَمْكَنَهُمْ مُقَاوَمَتُهُمْ جَمِيعًا.

وَشَرَطَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَنْ يُخَالِفُوا مُعْتَقَدَ الْعَدُوِّ، كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ مَا عَدَا ابْنَ حَبِيبٍ، وَجَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْجُوزَجَانِيُّ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِعَانَةُ بِمُشْرِكٍ؛ لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام- «فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ».

وَلَا بَأْسَ أَنْ يَكُونُوا فِي غَيْرِ الْمُقَاتِلَةِ، بَلْ فِي خَدَمَاتِ الْجَيْشِ.وَلِتَفْصِيلِ ذَلِكَ (ر: جِهَادٌ).

تَرْكُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَا يَدِينُونَ:

12- إِنْ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَهْلَ ذِمَّةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَتَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِي الْعُقُودِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَغَرَامَاتِ الْمُتْلَفَاتِ، وَيُتْرَكُونَ وَمَا يَدِينُونَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِعَقَائِدِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ بِشُرُوطٍ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَهْلِ الذِّمَّةِ).

الْأَحْكَامُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ:

13- يَشْتَرِكُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكُونَ فِي أَحْكَامٍ مِنْهَا: أ- أَنَّهُ يُمْنَعُ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ دُخُولِ الْحَرَمِ، وَلَوْ دَخَلَ الْمُشْرِكُ الْحَرَمَ مُتَسَتِّرًا وَمَاتَ، نُبِشَ قَبْرُهُ، وَأُخْرِجَتْ عِظَامُهُ، فَلَيْسَ لَهُمُ الِاسْتِيطَانُ وَلَا الِاجْتِيَازُ.

فَإِذَا جَاءَ رَسُولٌ مِنْهُمْ خَرَجَ الْإِمَامُ إِلَى الْحِلِّ لِيَسْمَعَ مَا يَقُولُ.

وَأَمَّا جَزِيرَةُ الْعَرَبِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنَ التَّرَدُّدِ مُسَافِرِينَ، وَيُضْرَبُ لَهُمْ أَجَلٌ لِلْخُرُوجِ خِلَالَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، كَمَا ضَرَبَ عُمَرُ- رضي الله عنه- حِينَ أَجَلَاهُمْ.

وَفِيمَا يُعْتَبَرُ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَمَا لَا يُعْتَبَرُ، وَأَحْكَامُ دُخُولِ الْكُفَّارِ إِلَيْهَا يُنْظَرُ (أَرْضُ الْعَرَبِ).

ب- وَمِنْهَا أَنْ يُمْنَعَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكُونَ مِنْ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا، وَبِذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عُمَّالِهِ مُسْتَدِلًّا بِالْآيَةِ {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} إِلَخْ، وَدُخُولُ الْكُفَّارِ فِيهَا يُنَاقِضُ رَفْعَهُمَا.

وَعِنْدَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ، خَاصَّةً بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ غَيْرِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي دُخُولِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ بِالْمَنْعِ.وَالثَّانِيَةُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِعَدَمِ الْمَنْعِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنَ الْحَرَمِ بِكُلِّ حَالٍ. فَإِذَا امْتَنَعَ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ دَفْعِ الْجِزْيَةِ يُقَاتَلُونَ كَمَا يُقَاتَلُ الْمُشْرِكُونَ؛ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْصِمُونَ دِمَاءَهُمْ بِدَفْعِ الْجِزْيَةِ.

فَإِذَا مَنَعُوهَا سَاوَوُا الْمُشْرِكِينَ فِي إِهْدَارِ دَمِهِمْ.

ج- وَمِنَ الْأُمُورِ الْمُشْتَرَكَةِ أَلاَّ يُحْدِثُوا مَعْبَدًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَلاَّ يُدْفَنَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ.

وِلَايَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ:

14- لَا وِلَايَةَ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ، لَا وِلَايَةً عَامَّةً وَلَا خَاصَّةً، فَلَا يَكُونُ الْكَافِرُ إِمَامًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا قَاضِيًا عَلَيْهِمْ، وَلَا شَاهِدًا، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ فِي زَوَاجِ مُسْلِمَةٍ، وَلَا حَضَانَةَ لَهُ لِمُسْلِمٍ، وَلَا يَكُونُ وَلِيًّا عَلَيْهِ وَلَا وَصِيًّا.

وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}.

وَالتَّوْلِيَةُ شَقِيقَةُ التَّوَلِّي، فَكَانَتْ تَوْلِيَتُهُمْ نَوْعًا مِنْ تَوَلِّيهِمْ، وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ مَنْ تَوَلاَّهُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، وَلَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إِلاَّ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ، وَالْوِلَايَةُ تُنَافِي الْبَرَاءَةَ، فَلَا تَجْتَمِعُ الْبَرَاءَةُ وَالْوِلَايَةُ أَبَدًا.

وَالْوِلَايَةُ إِعْزَازٌ، فَلَا تَجْتَمِعُ هِيَ وَإِذْلَالُ الْكُفْرِ أَبَدًا. وَالْوِلَايَةُ صِلَةٌ، فَلَا تُجَامِعُ مُعَادَاةَ الْكُفَّارِ.

وَالتَّفْصِيلَاتُ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي أَبْوَابِ النِّكَاحِ وَالشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ، وَفِي مُصْطَلَحِ (كُفْرٍ).

بُطْلَانُ زَوَاجِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْمُسْلِمَاتِ:

15- وَالْأَصْلُ فِي هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَوْلُهُ {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} الْآيَةُ: أَيْ لَمْ يُحِلَّ اللَّهُ مُؤْمِنَةً لِكَافِرٍ، وَلَا نِكَاحَ مُؤْمِنٍ لِمُشْرِكَةٍ.

الْعَدْلُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ الْمُسْلِمَاتِ وَالْكِتَابِيَّاتِ:

16- الْعَدْلُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ- وَلَوْ مُخْتَلِفَاتٍ فِي الدِّينِ- وَاجِبٌ.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْقَسَمَ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ سَوَاءٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَسَمَ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، فَاسْتَوَتْ فِيهِ الْمُسْلِمَةُ وَالْكِتَابِيَّةُ، كَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى، وَهَذَا عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.

حُكْمُ التَّعَامُلِ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ:

17- التَّعَامُلُ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ جَائِزٌ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ سِلْعَةً إِلَى الْمَيْسَرَةِ» وَثَبَتَ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ» فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مُعَامَلَتِهِمْ، وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ زَارَعَهُمْ وَسَاقَاهُمْ وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ «أَكَلَ مِنْ طَعَامِهِمْ» وَهُنَاكَ وَقَائِعُ كَثِيرَةٌ غَيْرَ مَا ذُكِرَ، وَهُنَاكَ تَفْصِيلَاتٌ فِي مُشَارَكَتِهِمْ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مَوَاضِعِهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


218-موسوعة الفقه الكويتية (أهلية 1)

أَهْلِيَّةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْأَهْلِيَّةُ مَصْدَرٌ صِنَاعِيٌّ لِكَلِمَةِ (أَهْلٍ) وَمَعْنَاهَا لُغَةً- كَمَا فِي أُصُولِ الْبَزْدَوِيِّ-: الصَّلَاحِيَّةُ.

وَيَتَّضِحُ تَعْرِيفُ الْأَهْلِيَّةِ فِي الِاصْطِلَاحِ مِنْ خِلَالِ تَعْرِيفِ نَوْعَيْهَا: أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ، وَأَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ.

فَأَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ هِيَ: صَلَاحِيَّةُ الْإِنْسَانِ لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ الْمَشْرُوعَةِ لَهُ وَعَلَيْهِ.

وَأَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ هِيَ: صَلَاحِيَّةُ الْإِنْسَانِ لِصُدُورِ الْفِعْلِ مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّكْلِيفُ:

2- التَّكْلِيفُ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: إِلْزَامُ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ.

وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ كَذَلِكَ، حَيْثُ قَالُوا: التَّكْلِيفُ إِلْزَامُ الْمُخَاطَبِ بِمَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ.

فَالْأَهْلِيَّةُ وَصْفٌ لِلْمُكَلَّفِ.

ب- الذِّمَّةُ:

3- الذِّمَّةُ مَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ: الْعَهْدُ وَالضَّمَانُ وَالْأَمَانُ.

وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَإِنَّهَا: وَصْفٌ يُصَيِّرُ الشَّخْصَ بِهِ أَهْلًا لِلْإِلْزَامِ وَالِالْتِزَامِ.

فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَهْلِيَّةِ وَالذِّمَّةِ: أَنَّ الْأَهْلِيَّةَ أَثَرٌ لِوُجُودِ الذِّمَّةِ.

مَنَاطُ الْأَهْلِيَّةِ وَمَحَلُّهَا:

4- الْأَهْلِيَّةُ بِمَعْنَاهَا الْمُتَقَدِّمِ مَنَاطُهَا، أَيْ مَحَلُّهَا الْإِنْسَانُ، مِنْ حَيْثُ الْأَطْوَارُ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا، فَإِنَّهُ فِي الْبِدَايَةِ يَكُونُ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ، فَتَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الْأَهْلِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِالْجَنِينِ، وَبَعْدَ الْوِلَادَةِ إِلَى سِنِّ التَّمْيِيزِ يَكُونُ طِفْلًا، فَتَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الْأَهْلِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِالطِّفْلِ، وَبَعْدَ التَّمْيِيزِ تَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الْأَهْلِيَّةِ الْخَاصَّةِ بِالْمُمَيَّزِ إِلَى أَنْ يَصِلَ بِهِ الْأَمْرُ إِلَى سِنِّ الْبُلُوغِ، فَتَثْبُتُ لَهُ الْأَهْلِيَّةُ الْكَامِلَةُ، مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ، كَطُرُوءِ عَارِضٍ يَمْنَعُ ثُبُوتَ تِلْكَ الْأَهْلِيَّةِ الْكَامِلَةِ لَهُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى أَقْسَامِ الْأَهْلِيَّةِ وَعَوَارِضِهَا.

أَقْسَامُ الْأَهْلِيَّةِ وَأَنْوَاعُهَا:

5- الْأَهْلِيَّةُ قِسْمَانِ: أَهْلِيَّةُ وُجُوبٍ، وَأَهْلِيَّةُ أَدَاءً.

وَأَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ قَدْ تَكُونُ كَامِلَةً، وَقَدْ تَكُونُ نَاقِصَةً.

وَكَذَا أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلًا: أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ:

6- سَبَقَ أَنَّ مَعْنَى أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ: صَلَاحِيَّةُ الشَّخْصِ لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ الْمَشْرُوعَةِ لَهُ وَعَلَيْهِ مَعًا، أَوْ لَهُ، أَوْ عَلَيْهِ.

وَأَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ تَنْقَسِمُ فُرُوعُهَا وَتَتَعَدَّدُ بِحَسَبِ انْقِسَامِ الْأَحْكَامِ، فَالصَّبِيُّ أَهْلٌ لِبَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَلَيْسَ بِأَهْلٍ لِبَعْضِهَا أَصْلًا، وَهُوَ أَهْلٌ لِبَعْضِهَا بِوَاسِطَةِ رَأْيِ الْوَلِيِّ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَهْلِيَّةُ مُنْقَسِمَةً نَظَرًا إِلَى أَفْرَادِ الْأَحْكَامِ، وَأَصْلُهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ الصَّلَاحُ لِلْحُكْمِ، فَمَنْ كَانَ أَهْلًا لِحُكْمِ الْوُجُوبِ بِوَجْهٍ كَانَ هُوَ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ، وَمَنْ لَا فَلَا.

وَمَبْنَى أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ هَذِهِ عَلَى الذِّمَّةِ، أَيْ أَنَّ هَذِهِ الْأَهْلِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إِلاَّ بَعْدَ وُجُودِ ذِمَّةٍ صَالِحَةٍ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ هِيَ مَحَلُّ الْوُجُوبِ، وَلِهَذَا يُضَافُ إِلَيْهَا وَلَا يُضَافُ إِلَى غَيْرِهَا بِحَالٍ، وَلِهَذَا اخْتَصَّ الْإِنْسَانُ بِالْوُجُوبِ دُونَ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا ذِمَّةٌ.

وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ هَذِهِ الذِّمَّةِ لِلْإِنْسَانِ مُنْذُ وِلَادَتِهِ، حَتَّى يَكُونَ صَالِحًا لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ لَهُ وَعَلَيْهِ، فَيَثْبُتُ لَهُ مِلْكُ النِّكَاحِ بِتَزْوِيجِ الْوَلِيِّ إِيَّاهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْمَهْرُ بِعَقْدِ الْوَلِيِّ.

أَنْوَاعُ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ:

7- أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ نَوْعَانِ:

أ- أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ النَّاقِصَةُ، وَتَتَمَثَّلُ فِي الْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، بِاعْتِبَارِهِ نَفْسًا مُسْتَقِلَّةً عَنْ أُمِّهِ ذَا حَيَاةٍ خَاصَّةٍ، فَإِنَّهُ صَالِحٌ لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ لَهُ مِنْ وَجْهٍ كَمَا سَيَأْتِي، لَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ذِمَّتَهُ لَمْ تَكْتَمِلْ مَا دَامَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ.

ب- أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ الْكَامِلَةُ، وَهِيَ تَثْبُتُ لِلْإِنْسَانِ مُنْذُ وِلَادَتِهِ، فَإِنَّهُ تَثْبُتُ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ الْكَامِلَةُ؛ لِكَمَالِ ذِمَّتِهِ حِينَئِذٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَيَكُونُ بِهَذَا صَالِحًا لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ لَهُ وَعَلَيْهِ.

ثَانِيًا: أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ:

8- سَبَقَ أَنَّ أَهْلِيَّةَ الْأَدَاءِ هِيَ: صَلَاحِيَّةُ الْإِنْسَانِ لِصُدُورِ الْفِعْلِ مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ يُعْتَدَ بِهِ شَرْعًا.

وَأَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ هَذِهِ لَا تُوجَدُ عِنْدَ الشَّخْصِ إِلاَّ إِذَا بَلَغَ سِنَّ التَّمْيِيزِ؛ لِقُدْرَتِهِ حِينَئِذٍ عَلَى فَهْمِ الْخِطَابِ وَلَوْ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، وَلِقُدْرَتِهِ عَلَى الْقِيَامِ بِبَعْضِ الْأَعْبَاءِ، فَتَثْبُتُ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ الْقَاصِرَةُ، وَهِيَ الَّتِي تُنَاسِبُهُ مَا دَامَ نُمُوُّهُ لَمْ يَكْتَمِلْ جِسْمًا وَعَقْلًا، فَإِذَا اكْتَمَلَ بِبُلُوغِهِ وَرُشْدِهِ ثَبَتَتْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ الْكَامِلَةِ، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ أَهْلًا لِلتَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُمَيَّزِ، فَإِنَّهُ لَا تَثْبُتُ لَهُ هَذِهِ الْأَهْلِيَّةُ لِانْتِفَاءِ الْقُدْرَتَيْنِ عَنْهُ.

أَنْوَاعُ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ:

9- أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ نَوْعَانِ:

أ- أَهْلِيَّةُ أَدَاءٍ قَاصِرَةٍ، وَهِيَ الَّتِي تَثْبُتُ بِقُدْرَةٍ قَاصِرَةٍ.

ب- أَهْلِيَّةُ أَدَاءٍ كَامِلَةٍ، وَهِيَ الَّتِي تَثْبُتُ بِقُدْرَةٍ كَامِلَةٍ.

وَالْمُرَادُ بِالْقُدْرَةِ هُنَا: قُدْرَةُ الْجِسْمِ أَوِ الْعَقْلِ، أَوْ هُمَا مَعًا؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ- كَمَا قَالَ الْبَزْدَوِيُّ- يَتَعَلَّقُ بِقُدْرَتَيْنِ: قُدْرَةِ فَهْمِ الْخِطَابِ وَذَلِكَ بِالْعَقْلِ، وَقُدْرَةِ الْعَمَلِ بِهِ وَهِيَ بِالْبَدَنِ، وَالْإِنْسَانُ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِهِ عَدِيمُ الْقُدْرَتَيْنِ، لَكِنْ فِيهِ اسْتِعْدَادٌ وَصَلَاحِيَّةٌ لِأَنْ تُوجَدَ فِيهِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْقُدْرَتَيْنِ شَيْئًا فَشَيْئًا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، إِلَى أَنْ تَبْلُغَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا دَرَجَةَ الْكَمَالِ، فَقَبْلَ بُلُوغِ دَرَجَةِ الْكَمَالِ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قَاصِرَةً، كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي الصَّبِيِّ الْمُمَيَّزِ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَقَدْ تَكُونُ إِحْدَاهُمَا قَاصِرَةً، كَمَا فِي الْمَعْتُوهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَإِنَّهُ قَاصِرُ الْعَقْلِ مِثْلُ الصَّبِيِّ، وَإِنْ كَانَ قَوِيَّ الْبَدَنِ، وَلِهَذَا أُلْحِقَ بِالصَّبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ.

فَالْأَهْلِيَّةُ الْكَامِلَةُ: عِبَارَةٌ عَنْ بُلُوغِ الْقُدْرَتَيْنِ أَوَّلَ دَرَجَاتِ الْكَمَالِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالِاعْتِدَالِ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ.وَالْقَاصِرَةُ: عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَتَيْنِ قَبْلَ بُلُوغِهِمَا أَوْ بُلُوغِ إِحْدَاهُمَا دَرَجَةَ الْكَمَالِ.

ثُمَّ الشَّرْعُ بَنَى عَلَى الْأَهْلِيَّةِ الْقَاصِرَةِ صِحَّةَ الْأَدَاءِ، وَعَلَى الْكَامِلَةِ وُجُوبَ الْأَدَاءِ وَتَوَجَّهَ الْخِطَابُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلْزَامُ الْإِنْسَانِ الْأَدَاءَ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِهِ؛ إِذْ لَا قُدْرَةَ لَهُ أَصْلًا، وَإِلْزَامُ مَا لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ مُنْتَفٍ شَرْعًا وَعَقْلًا، وَبَعْدَ وُجُودِ أَصْلِ الْعَقْلِ وَأَصْلِ قُدْرَةِ الْبَدَنِ قَبْلَ الْكَمَالِ، فَفِي إِلْزَامِ الْأَدَاءِ حَرَجٌ؛ لِأَنَّهُ يُحْرِجُ الْفَهْمَ بِأَدْنَى عَقْلِهِ، وَيُثْقِلُ عَلَيْهِ الْأَدَاءَ بِأَدْنَى قُدْرَةِ الْبَدَنِ، وَالْحَرَجُ مُنْتَفٍ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} فَلَمْ يُخَاطَبْ شَرْعًا لِأَوَّلِ أَمْرِهِ حِكْمَةً، وَلِأَوَّلِ مَا يَعْقِلُ وَيَقْدِرُ رَحْمَةً، إِلَى أَنْ يَعْتَدِلَ عَقْلُهُ وَقُدْرَةُ بَدَنِهِ، فَيَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ الْفَهْمُ وَالْعَمَلُ بِهِ.

ثُمَّ وَقْتُ الِاعْتِدَالِ يَتَفَاوَتُ فِي جِنْسِ الْبَشَرِ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُ إِدْرَاكُهُ إِلاَّ بَعْدَ تَجْرِبَةٍ وَتَكَلُّفٍ عَظِيمٍ، فَأَقَامَ الشَّرْعُ الْبُلُوغَ الَّذِي تَعْتَدِلُ لَدَيْهِ الْعُقُولُ فِي الْأَغْلَبِ مَقَامَ اعْتِدَالِ الْعَقْلِ حَقِيقَةً، تَيْسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ، وَصَارَ تَوَهُّمُ وَصْفِ الْكَمَالِ قَبْلَ هَذَا الْحَدِّ، وَتَوَهُّمُ بَقَاءِ الْقُصُورِ بَعْدَ هَذَا الْحَدِّ سَاقِطِي الِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الظَّاهِرَ مَتَى أُقِيمَ مَقَامَ الْمَعْنَى الْبَاطِنِ دَارَ الْحُكْمُ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَأَيَّدَ هَذَا كُلَّهُ قَوْلُهُ- عليه السلام-: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَالْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَالنَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ».

وَالْمُرَادُ بِالْقَلَمِ: الْحِسَابُ، وَالْحِسَابُ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ لُزُومِ الْأَدَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِالْأَهْلِيَّةِ الْكَامِلَةِ، وَهِيَ اعْتِدَالُ الْحَالِ بِالْبُلُوغِ عَنْ عَقْلٍ.

أَثَرُ الْأَهْلِيَّةِ فِي التَّصَرُّفَاتِ:

10- التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَحْكُمُهَا الْأَهْلِيَّةُ- سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ أَمْ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ- تَخْتَلِفُ وَتَتَعَدَّدُ أَحْكَامُهَا تَبَعًا لِاخْتِلَافِ نَوْعِ الْأَهْلِيَّةِ، وَتَبَعًا لِاخْتِلَافِ مَرَاحِلِ النُّمُوِّ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا الْإِنْسَانُ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ تِلْكَ الْأَهْلِيَّةِ، فَالْأَهْلِيَّةُ- كَمَا سَبَقَ- إِمَّا أَهْلِيَّةُ وُجُوبٍ وَإِمَّا أَهْلِيَّةُ أَدَاءٍ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قَدْ تَكُونُ نَاقِصَةً وَقَدْ تَكُونُ كَامِلَةً، وَلِكُلٍّ حُكْمُهُ.

هَذَا، وَلِلْوُقُوفِ عَلَى تِلْكَ الْأَحْكَامِ، لَا بُدَّ أَنْ نَتَنَاوَلَ تِلْكَ الْمَرَاحِلَ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا الْإِنْسَانُ، وَبَيَانُ الْأَحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِهِ فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ مِنْ تِلْكَ الْمَرَاحِلِ.

الْمَرَاحِلُ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا الْإِنْسَانُ:

11- يَمُرُّ الْإِنْسَانُ مِنْ حِينِ نَشْأَتِهِ بِخَمْسِ مَرَاحِلَ أَسَاسِيَّةٍ، وَهَذِهِ الْمَرَاحِلُ هِيَ: (1) مَرْحَلَةُ مَا قَبْلَ الْوِلَادَةِ، أَيْ حِينَ يَكُونُ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ.

(2) مَرْحَلَةُ الطُّفُولَةِ وَالصِّغَرِ، أَيْ بَعْدَ انْفِصَالِهِ عَنْ أُمِّهِ، وَقَبْلَ بُلُوغِهِ سِنَّ التَّمْيِيزِ.

(3) مَرْحَلَةُ التَّمْيِيزِ، أَيْ مِنْ حِينِ بُلُوغِهِ سِنَّ التَّمْيِيزِ إِلَى الْبُلُوغِ.

(4) مَرْحَلَةُ الْبُلُوغِ، أَيْ بَعْدَ انْتِقَالِهِ مِنْ سِنِّ الصِّغَرِ إِلَى سِنِّ الْكِبَرِ.

(5) مَرْحَلَةُ الرُّشْدِ، أَيِ اكْتِمَالُ الْعَقْلِ.

هَذَا، وَلِكُلِّ مَرْحَلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَرَاحِلِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي:

الْمَرْحَلَةُ الْأُولَى- الْجَنِينُ:

12- الْجَنِينُ فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذٌ مِنَ الِاجْتِنَانِ، وَهُوَ الْخَفَاءُ، وَهُوَ وَصْفٌ لِلْوَلَدِ مَا دَامَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِهِمْ لِلْجَنِينِ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، إِذْ مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ: وَصْفٌ لِلْوَلَدِ مَا دَامَ فِي الْبَطْنِ.

وَالْجَنِينُ إِذَا نُظِرَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ كَالْجُزْءِ مِنْ أُمِّهِ يَتَغَذَّى بِغِذَائِهَا يُحْكَمُ بِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ، فَلَا تَثْبُتُ لَهُ ذِمَّةٌ، وَبِالتَّالِي فَلَا يَجِبُ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ شَيْءٌ.

وَإِذَا نُظِرَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ نَفْسًا مُسْتَقِلَّةً بِحَيَاةٍ خَاصَّةٍ يُحْكَمُ بِثُبُوتِ الذِّمَّةِ لَهُ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ أَهْلًا لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ لَهُ وَعَلَيْهِ.وَلَمَّا لَمْ يُمْكِنْ تَرْجِيحُ إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَإِنَّ الشَّرْعَ عَامَلَهُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ جُزْءًا مِنْ أُمِّهِ بِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لِلْوُجُوبِ عَلَيْهِ، وَعَامَلَهُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ نَفْسًا مُسْتَقِلَّةً بِحَيَاةٍ خَاصَّةٍ بِكَوْنِهِ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ لَهُ، وَبِهَذَا لَا يَكُونُ لِلْجَنِينِ أَهْلِيَّةُ وُجُوبٍ كَامِلَةٍ، بَلْ أَهْلِيَّةُ وُجُوبٍ نَاقِصَةٍ.

13- وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى إِثْبَاتِ بَعْضِ الْحُقُوقِ لِلْجَنِينِ، كَحَقِّهِ فِي النَّسَبِ، وَحَقِّهِ فِي الْإِرْثِ، وَحَقِّهِ فِي الْوَصِيَّةِ، وَحَقِّهِ فِي الْوَقْفِ.

فَأَمَّا حَقُّهُ فِي النَّسَبِ مِنْ أَبِيهِ: فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ رَجُلٌ وَأَتَتِ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، إِذَا تَوَافَرَتْ شُرُوطُ ثُبُوتِ النَّسَبِ الْمُبَيَّنَةُ فِي مَوْضِعِهَا.ر: (نَسَبٌ).

وَأَمَّا حَقُّهُ فِي الْإِرْثِ: فَهُوَ ثَابِتٌ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ كَمَا جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْحَمْلِ لِلْإِرْثِ مَتَى قَامَ بِهِ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ وَتَوَافَرَتْ فِيهِ شُرُوطُهُ.

وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ لَهُ.وَأَمَّا حَقُّهُ فِي الْوَقْفِ: فَقَدْ أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ الْوَقْفَ عَلَيْهِ، قِيَاسًا عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَيَسْتَحِقُّهُ إِنِ اسْتَهَلَّ.

وَلَمْ يُجَوِّزِ الشَّافِعِيَّةُ الْوَقْفَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ تَسْلِيطٌ فِي الْحَالِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُمُ الْوَقْفُ عَلَى حَمْلٍ أَصَالَةً، كَأَنْ يَقِفَ دَارَهُ عَلَى مَا فِي بَطْنِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ، وَالْحَمْلُ لَا يَصِحُّ تَمْلِيكُهُ بِغَيْرِ الْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ، أَمَّا إِذَا وَقَفَ عَلَى الْحَمْلِ تَبَعًا لِمَنْ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، كَأَنْ يَقِفَ عَلَى أَوْلَادِهِ، أَوْ عَلَى أَوْلَادِ فُلَانٍ وَفِيهِمْ حَمْلٌ، فَإِنَّ الْوَقْفَ يَشْمَلُهُ عِنْدَهُمْ.

الْمَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ- الطُّفُولَةُ:

14- تَبْدَأُ هَذِهِ الْمَرْحَلَةُ مِنْ حِينِ انْفِصَالِ الْجَنِينِ عَنْ أُمِّهِ حَيًّا، وَتَمْتَدُّ إِلَى سِنِّ التَّمْيِيزِ، فَفِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ تَثْبُتُ لِلْمَوْلُودِ الذِّمَّةُ الْكَامِلَةُ، فَيَصِيرُ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ لَهُ وَعَلَيْهِ، أَمَّا أَهْلِيَّتُهُ لِلْوُجُوبِ لَهُ فَهِيَ ثَابِتَةٌ حَتَّى قَبْلَ الْوِلَادَةِ- كَمَا سَبَقَ- فَتَثْبُتُ لَهُ بَعْدَهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، بَلْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّ لَهُ يَدًا وَاخْتِصَاصًا كَالْبَالِغِ.

وَأَمَّا أَهْلِيَّتُهُ لِلْوُجُوبِ عَلَيْهِ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ يَأْتِي.

وَوُجُوبُ الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ عَلَى الطِّفْلِ فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ، الْمُرَادُ مِنْهُ: حُكْمُهُ، وَهُوَ الْأَدَاءُ عَنْهُ، فَكُلُّ مَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهُ عَنْهُ يَجِبُ عَلَيْهِ، وَمَا لَا فَلَا.

وَإِنَّمَا قُيِّدَ الْأَدَاءُ بِالْمُمْكِنِ؛ لِأَنَّ الطِّفْلَ فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ، وَإِنْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ كَافَّةُ الْحُقُوقِ كَالْبَالِغِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُعَامَلُ بِمَا يُنَاسِبُهُ فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ؛ لِضَعْفِ بِنْيَتِهِ، وَلِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى مُبَاشَرَةِ الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ، فَيُؤَدِّي عَنْهُ وَلِيُّهُ مَا أَمْكَنَ أَدَاؤُهُ عَنْهُ، وَلِهَذَا فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوا تَفْصِيلًا فِي الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ، الَّتِي تُؤَدَّى عَنْهُ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ أَمْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، كَمَا ذَكَرُوا أَيْضًا حُكْمَ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ.وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلًا: حُقُوقُ الْعِبَادِ:

15- حُقُوقُ الْعِبَادِ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ عَنِ الطِّفْلِ لِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَلَا يُؤَدَّى عَنْهُ.

فَحُقُوقُ الْعِبَادِ الْوَاجِبَةُ وَالَّتِي تُؤَدَّى عَنْهُ هِيَ:

أ- مَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالَ وَيَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ، فَإِنَّهُ يُؤَدِّي عَنْهُ؛ لِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ كَالْغُرْمِ وَالْعِوَضِ.

ب- مَا كَانَ صِلَةً شَبِيهَةً بِالْمُؤَنِ كَنَفَقَةِ الْقَرِيبِ، أَوْ كَانَ صِلَةً شَبِيهَةً بِالْأَعْوَاضِ كَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، فَإِنَّهُ يُؤَدَّى عَنْهُ.

وَأَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ الَّتِي لَا تَجِبُ عَلَيْهِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ وَلَا تُؤَدَّى عَنْهُ فَهِيَ:

أ- الصِّلَةُ الشَّبِيهَةُ بِالْأَجْزِيَةِ كَتَحَمُّلِ الدِّيَةِ مَعَ الْعَاقِلَةِ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ.

ب- الْعُقُوبَاتُ كَالْقِصَاصِ، أَوِ الْأَجْزِيَةِ الشَّبِيهَةِ بِهَا كَالْحِرْمَانِ مِنَ الْمِيرَاثِ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ.

ثَانِيًا: حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى:

16- هَذِهِ الْحُقُوقُ أَيْضًا مِنْهَا مَا يَجِبُ عَلَى الطِّفْلِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَجِبُ.

فَالْحُقُوقُ الَّتِي هِيَ مَئُونَةٌ مَحْضَةٌ كَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَتُؤَدَّى عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الْمَالُ، فَتَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ، وَيُمْكِنُ أَدَاؤُهُ عَنْهُ.

وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ بَدَنِيَّةً أَمْ مَالِيَّةً.

أَمَّا الْبَدَنِيَّةُ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ لِعَجْزِهِ عَنِ الْفَهْمِ وَضَعْفِ بَدَنِهِ.

وَأَمَّا الْمَالِيَّةُ، فَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ فِطْرٍ، فَإِنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَإِنْ كَانَتْ زَكَاةَ مَالٍ، فَإِنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عِبَادَةً خَالِصَةً بَلْ فِيهَا مَعْنَى الْمَئُونَةِ، أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَغْنِيَاءِ حَقًّا لِلْمُحْتَاجِينَ، فَتَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ كَمَا فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ عِبَادَةٌ خَالِصَةٌ، وَتَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ، وَلَا تَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ.

وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ حُقُوقُ اللَّهِ عُقُوبَاتٍ كَالْحُدُودِ، فَإِنَّهَا لَا تَلْزَمُهُ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ، كَمَا لَمْ تَلْزَمْهُ الْعُقُوبَاتُ الَّتِي هِيَ حُقُوقُ الْعِبَادِ كَالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ إِنَّمَا وُضِعَتْ جَزَاءً لِلتَّقْصِيرِ، وَهُوَ لَا يُوصَفُ بِهِ.

ثَالِثًا: أَقْوَالُهُ وَأَفْعَالُهُ:

17- أَقْوَالُ الصَّبِيِّ وَأَفْعَالُهُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ لَمْ يُمَيِّزْ فَلَا اعْتِدَادَ بِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ.

الْمَرْحَلَةُ الثَّالِثَةُ: التَّمْيِيزُ:

18- التَّمْيِيزُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ: مِزْتُهُ مَيْزًا، مِنْ بَابِ بَاعَ، وَهُوَ: عَزْلُ الشَّيْءِ وَفَصْلُهُ مِنْ غَيْرِهِ.

وَيَكُونُ فِي الْمُشْتَبِهَاتِ وَالْمُخْتَلِطَاتِ، وَمَعْنَى تَمَيُّزِ الشَّيْءِ: انْفِصَالُهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَمِنْ هُنَا فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يَقُولُونَ: سِنُّ التَّمْيِيزِ، وَمُرَادُهُمْ بِذَلِكَ: تِلْكَ السِّنُّ الَّتِي إِذَا انْتَهَى إِلَيْهَا عَرَفَ مَضَارَّهُ وَمَنَافِعَهُ، وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ مَيَّزْتُ الْأَشْيَاءَ: إِذَا فَرَّقْتُهَا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِهَا، وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُونَ: التَّمْيِيزُ قُوَّةٌ فِي الدِّمَاغِ يُسْتَنْبَطُ بِهَا الْمَعَانِيَ.

وَهَذِهِ الْمَرْحَلَةُ تَبْدَأُ بِبُلُوغِ الصَّبِيِّ سَبْعَ سِنِينَ، وَهُوَ سِنُّ التَّمْيِيزِ كَمَا حَدَّدَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَتَنْتَهِي بِالْبُلُوغِ، فَتَشْمَلُ الْمُرَاهِقَ وَهُوَ الَّذِي قَارَبَ الْبُلُوغَ.

فَفِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ يُصْبِحُ عِنْدَ الصَّبِيِّ مِقْدَارٌ مِنَ الْإِدْرَاكِ وَالْوَعْيِ يَسْمَحُ لَهُ بِمُبَاشَرَةِ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ، فَتَثْبُتُ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ الْقَاصِرَةِ؛ لِأَنَّ نُمُوَّهُ الْبَدَنِيَّ وَالْعَقْلِيَّ لَمْ يَكْتَمِلَا بَعْدُ، وَبَعْدَ اكْتِمَالِهِمَا تَثْبُتُ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ الْكَامِلَةِ؛ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْأَدَاءِ الْكَامِلَةِ لَا تَثْبُتُ إِلاَّ بِاكْتِمَالِ النُّمُوِّ الْبَدَنِيِّ وَالنُّمُوِّ الْعَقْلِيِّ، فَمَنْ لَمْ يَكْتَمِلْ نُمُوُّهُ الْبَدَنِيُّ وَالْعَقْلِيُّ مَعًا، أَوْ لَمْ يَكْتَمِلْ فِيهِ نُمُوُّ أَحَدِهِمَا فَأَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ فِيهِ تَكُونُ قَاصِرَةً.

فَالْمَعْتُوهُ كَالصَّبِيِّ؛ لِعَدَمِ اكْتِمَالِ الْعَقْلِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ كَامِلًا مِنَ النَّاحِيَةِ الْبَدَنِيَّةِ، بِخِلَافِ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ، فَإِنَّهَا تَثْبُتُ كَامِلَةً مُنْذُ الْوِلَادَةِ، فَالطِّفْلُ أَهْلٌ لِلْوُجُوبِ لَهُ وَعَلَيْهِ، كَمَا سَبَقَ.

وَلِلتَّمْيِيزِ أَثَرُهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ، فَالصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ يَجُوزُ لَهُ بِأَهْلِيَّتِهِ الْقَاصِرَةِ مُبَاشَرَةُ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ وَتَصِحُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مَعَ الْأَهْلِيَّةِ الْقَاصِرَةِ صِحَّةُ الْأَدَاءِ، وَيُمْنَعُ مِنْ مُبَاشَرَةِ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ الْأُخْرَى، وَخَاصَّةً تِلْكَ الَّتِي يَعُودُ ضَرَرُهَا عَلَيْهِ، فَلَا تَصِحُّ مِنْهُ.

وَمِنَ التَّصَرُّفَاتِ أَيْضًا مَا يَمْتَنِعُ عَلَى الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ أَنْ يُبَاشِرَهَا بِنَفْسِهِ، بَلْ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ إِذْنِ الْوَلِيِّ.

وَفِيمَا يَلِي مَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ، أَمَّا التَّفْصِيلُ فَفِي مُصْطَلَحِ (تَمْيِيزٍ).

تَصَرُّفَاتُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ:

19- التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي يُبَاشِرُهَا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِمَّا: أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْحُقُوقُ عِبَادَاتٍ وَعَقَائِدَ، أَوْ حُقُوقًا مَالِيَّةً، أَوْ عُقُوبَاتٍ، وَإِمَّا: أَنْ تَكُونَ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَهِيَ إِمَّا: مَالِيَّةٌ أَوْ غَيْرُ مَالِيَّةٍ.

أ- حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى:

20- أَمَّا الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ كَالصَّلَاةِ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي عَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ إِلاَّ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِأَدَائِهَا فِي سِنِّ السَّابِعَةِ، وَيُضْرَبُ عَلَى تَرْكِهَا فِي سِنِّ الْعَاشِرَةِ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: «مُرُوا صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ».

وَأَمَّا الْعَقَائِدُ كَالْإِيمَانِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنَ الصَّبِيِّ، فَيُعْتَبَرُ إِيمَانُهُ؛ لِأَنَّهُ خَيْرٌ مَحْضٌ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ إِسْلَامَهُ لَا يَصِحُّ حَتَّى يَبْلُغَ؛ لِحَدِيثِ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ وَمِنْهَا عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ..»

وَأَمَّا رِدَّتُهُ، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ رِدَّتِهِ؛ لِأَنَّهَا ضَرَرٌ مَحْضٌ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى الْحُكْمِ بِصِحَّةِ رِدَّتِهِ، وَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّينَ مَا عَدَا الْقَتْلَ.

وَنُقِلَ فِي التَّتَارْخَانِيَّةِ وَالْمُنْتَقَى رُجُوعُ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.

وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَالِيَّةُ كَالزَّكَاةِ، فَإِنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَا تَجِبُ فِي مَالِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِحُقُوقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَحَدِّ السَّرِقَةِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهَا لَا تُقَامُ عَلَى الصَّبِيِّ، وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.

ب- حُقُوقُ الْعِبَادِ:

21- أَمَّا الْمَالِيَّةُ مِنْهَا كَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ وَأُجْرَةِ الْأَجِيرِ وَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالْأَقَارِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا هُوَ الْمَالُ، وَأَدَاؤُهُ يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ، فَيَصِحُّ لِلصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ أَدَاؤُهُ، فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّهِ أَدَّاهُ وَلِيُّهُ.

وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهَا عُقُوبَةُ الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّبِيِّ لَا يُوصَفُ بِالتَّقْصِيرِ، فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْعُقُوبَةِ لِقُصُورِ مَعْنَى الْجِنَايَةِ فِي فِعْلِهِ، وَلَكِنْ تَجِبُ فِي فِعْلِهِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ لِعِصْمَةِ الْمَحَلِّ، وَالصِّبَا لَا يَنْفِي عِصْمَةَ الْمَحَلِّ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ وُجُوبِهَا الْمَالُ، وَأَدَاؤُهُ قَابِلٌ لِلنِّيَابَةِ، وَوُجُوبُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَخَالَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ، حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ فِي الْجِنَايَاتِ عَمْدٌ، فَتَغْلُظُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ، وَيُحْرَمُ إِرْثَ مَنْ قَتَلَهُ.

22- أَمَّا تَصَرُّفَاتُهُ الْمَالِيَّةُ، فَفِيهَا تَفْصِيلٌ عَلَى النَّحْوِ الْآتِي: (1) تَصَرُّفَاتٌ نَافِعَةٌ لَهُ نَفْعًا مَحْضًا، وَهِيَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا دُخُولُ شَيْءٍ فِي مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ مُقَابِلٍ، مِثْلُ قَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْوَقْفِ، وَهَذِهِ تَصِحُّ مِنْهُ، دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ أَوِ الْوَصِيِّ؛ لِأَنَّهَا خَيْرٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ.

(2) تَصَرُّفَاتٌ ضَارَّةٌ بِالصَّغِيرِ ضَرَرًا مَحْضًا، وَهِيَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ مُقَابِلٍ، كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَقْفِ وَسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ وَالطَّلَاقِ وَالْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ، وَهَذِهِ لَا تَصِحُّ مِنْهُ، بَلْ تَقَعُ بَاطِلَةً، وَلَا تَنْعَقِدُ، حَتَّى وَلَوْ أَجَازَهَا الْوَلِيُّ أَوِ الْوَصِيُّ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ مُبَاشَرَتَهَا فِي حَقِّ الصَّغِيرِ فَلَا يَمْلِكَانِ إِجَازَتَهَا.

(3) تَصَرُّفَاتٌ دَائِرَةٌ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ بِحَسَبِ أَصْلِ وَضْعِهَا، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَهَذِهِ يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيهَا:

فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَصِحُّ صُدُورُهَا مِنْهُ، بِاعْتِبَارِ مَا لَهُ مِنْ أَصْلِ الْأَهْلِيَّةِ؛ وَلِاحْتِمَالِ أَنَّ فِيهَا نَفْعًا لَهُ، إِلاَّ أَنَّهَا تَكُونُ مَوْقُوفَةً عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ أَوِ الْوَصِيِّ لِنَقْصِ أَهْلِيَّتِهِ، فَإِذَا أَجَازَهَا نَفَذَتْ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهَا بَطَلَتْ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَقَعُ صَحِيحَةً لَكِنَّهَا لَا تَكُونُ لَازِمَةً، وَيَتَوَقَّفُ لُزُومُهَا عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ أَوِ الْوَصِيِّ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لَا يَصِحُّ صُدُورُهَا مِنَ الصَّبِيِّ، فَإِذَا وَقَعَتْ كَانَتْ بَاطِلَةً لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَيُّ أَثَرٍ.

الْمَرْحَلَةُ الرَّابِعَةُ- الْبُلُوغُ:

23- الْبُلُوغُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: قُوَّةٌ تَحْدُثُ لِلشَّخْصِ، تَنْقُلُهُ مِنْ حَالِ الطُّفُولَةِ إِلَى حَالِ الرُّجُولَةِ.

وَهُوَ يَحْصُلُ بِظُهُورِ عَلَامَةٍ مِنْ عَلَامَاتِهِ الطَّبِيعِيَّةِ كَالِاحْتِلَامِ، وَكَالْحَبَلِ وَالْحَيْضِ فِي الْأُنْثَى، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ كَانَ الْبُلُوغُ بِالسِّنِّ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْدِيرِهِ، فَقَدَّرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً لِلْفَتَى، وَسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً لِلْفَتَاةِ، وَقَدَّرَهُ الصَّاحِبَانِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَقْدِيرُهُ بِثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً لِكُلٍّ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى.

وَفِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ، وَهِيَ مَرْحَلَةُ الْبُلُوغِ، يَكْتَمِلُ فِيهَا لِلْإِنْسَانِ نُمُوُّهُ الْبَدَنِيُّ وَالْعَقْلِيُّ، فَتَثْبُتُ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ الْكَامِلَةِ، فَيَصِيرُ أَهْلًا لِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَحَمُّلِ التَّبِعَاتِ، وَيُطَالَبُ بِأَدَاءِ كَافَّةِ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، وَغَيْرِ الْمَالِيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ أَمْ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ.

وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا اكْتَمَلَ نُمُوُّهُ الْعَقْلِيُّ مَعَ اكْتِمَالِ نُمُوِّهِ الْبَدَنِيِّ، أَمَّا إِذَا وَصَلَ إِلَى سِنِّ الْبُلُوغِ وَلَمْ يَكْتَمِلْ نُمُوُّهُ الْعَقْلِيُّ، بِأَنْ بَلَغَ مَعْتُوهًا أَوْ سَفِيهًا، فَإِنَّهُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَيَسْتَمِرُّ ثُبُوتُ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي السَّفِيهِ.

الْمَرْحَلَةُ الْخَامِسَةُ- الرُّشْدُ:

24- الرُّشْدُ فِي اللُّغَةِ: الصَّلَاحُ وَإِصَابَةُ الصَّوَابِ.

وَالرُّشْدُ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: حُسْنُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِثْمَارِهِ وَاسْتِغْلَالِهِ اسْتِغْلَالًا حَسَنًا.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: صَلَاحُ الدِّينِ وَالصَّلَاحُ فِي الْمَالِ.

وَهَذَا الرُّشْدُ قَدْ يَأْتِي مَعَ الْبُلُوغِ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، تَبَعًا لِتَرْبِيَةِ الشَّخْصِ وَاسْتِعْدَادِهِ وَتَعَقُّدِ الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَبَسَاطَتِهَا، فَإِذَا بَلَغَ الشَّخْصُ رَشِيدًا كَمُلَتْ أَهْلِيَّتُهُ، وَارْتَفَعَتِ الْوِلَايَةُ عَنْهُ وَسُلِّمَتْ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}.

وَإِذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ، وَكَانَ عَاقِلًا كَمُلَتْ أَهْلِيَّتُهُ، وَارْتَفَعَتِ الْوِلَايَةُ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، إِلاَّ أَنَّهُ لَا تُسَلَّمُ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ، بَلْ تَبْقَى فِي يَدِ وَلِيِّهِ أَوْ وَصِيِّهِ حَتَّى يَثْبُتَ رُشْدُهُ بِالْفِعْلِ، أَوْ يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَإِذَا بَلَغَ هَذِهِ السِّنَّ سُلِّمَتْ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ، وَلَوْ كَانَ مُبَذِّرًا لَا يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الْمَالِ عَنْهُ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ وَالتَّأْدِيبِ، وَلَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ، وَالْإِنْسَانُ بَعْدَ بُلُوغِهِ هَذِهِ السِّنَّ وَصَلَاحِيَّتِهِ لأَنْ يَكُونَ جَدًّا لَا يَكُونُ أَهْلًا لِلتَّأْدِيبِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الشَّخْصَ إِذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ كَمُلَتْ أَهْلِيَّتُهُ، وَلَكِنْ لَا تَرْتَفِعُ الْوِلَايَةُ عَنْهُ، وَتَبْقَى أَمْوَالُهُ تَحْتَ يَدِ وَلِيِّهِ أَوْ وَصِيِّهِ حَتَّى يَثْبُتَ رُشْدُهُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} فَإِنَّهُ مَنَعَ الْأَوْلِيَاءَ وَالْأَوْصِيَاءَ مِنْ دَفْعِ الْمَالِ إِلَى السُّفَهَاءِ، وَنَاطَ دَفْعَ الْمَالِ إِلَيْهِمْ بِتَوَافُرِ أَمْرَيْنِ: الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ إِلَيْهِمْ بِالْبُلُوغِ مَعَ عَدَمِ الرُّشْدِ.

أَمَّا إِذَا بَلَغَ الشَّخْصُ رَشِيدًا، ثُمَّ طَرَأَ السَّفَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَنْهُ فِي هَذَا الْبَحْثِ، بَيْنَ عَوَارِضِ الْأَهْلِيَّةِ.

عَوَارِضُ الْأَهْلِيَّةِ:

25- الْعَوَارِضُ: جَمْعُ عَارِضٍ أَوْ عَارِضَةٍ، وَالْعَارِضُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ: السَّحَابُ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}.

وَأَمَّا الْعَوَارِضُ فِي الِاصْطِلَاحِ فَمَعْنَاهَا: أَحْوَالٌ تَطْرَأُ عَلَى الْإِنْسَانِ بَعْدَ كَمَالِ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ، فَتُؤَثِّرُ فِيهَا بِإِزَالَتِهَا أَوْ نُقْصَانِهَا، أَوْ تُغَيِّرُ بَعْضَ الْأَحْكَامِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ عَرَضَتْ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ فِي أَهْلِيَّتِهِ.

أَنْوَاعُ عَوَارِضِ الْأَهْلِيَّةِ:

26- عَوَارِضُ الْأَهْلِيَّةِ نَوْعَانِ: سَمَاوِيَّةٌ وَمُكْتَسَبَةٌ: فَالْعَوَارِضُ السَّمَاوِيَّةُ: هِيَ تِلْكَ الْأُمُورُ الَّتِي لَيْسَ لِلْعَبْدِ فِيهَا اخْتِيَارٌ، وَلِهَذَا تُنْسَبُ إِلَى السَّمَاءِ؛ لِنُزُولِهَا بِالْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَهِيَ: الْجُنُونُ، وَالْعَتَهُ، وَالنِّسْيَانُ، وَالنَّوْمُ، وَالْإِغْمَاءُ، وَالْمَرَضُ، وَالرِّقُّ، وَالْحَيْضُ، وَالنِّفَاسُ، وَالْمَوْتُ.

وَالْمُكْتَسَبَةُ: هِيَ تِلْكَ الْأُمُورُ الَّتِي كَسَبَهَا الْعَبْدُ أَوْ تَرَكَ إِزَالَتَهَا، وَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، فَالَّتِي تَكُونُ مِنْهُ: الْجَهْلُ، وَالسُّكْرُ، وَالْهَزْلُ، وَالسَّفَهُ، وَالْإِفْلَاسُ، وَالسَّفَرُ، وَالْخَطَأُ، وَالَّذِي يَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ الْإِكْرَاهُ.

وَفِيمَا يَلِي مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ إِجْمَالًا، مَعَ إِحَالَةِ التَّفْصِيلِ إِلَى الْعَنَاوِينِ الْخَاصَّةِ بِهَا.

الْعَوَارِضُ السَّمَاوِيَّةُ:

أَوَّلًا: الْجُنُونُ:

27- الْجُنُونُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ: أَجَنَّهُ اللَّهُ فَجُنَّ، فَهُوَ مَجْنُونٌ، بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ.

وَأَمَّا عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ فَإِنَّهُ: اخْتِلَالٌ لِلْعَقْلِ يَمْنَعُ مِنْ جَرَيَانِ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ عَلَى نَهْجِ الْعَقْلِ.وَالْجُنُونُ يُؤَثِّرُ فِي أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ، فَهُوَ مُسْقِطٌ لِلْعِبَادَاتِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ.

وَفِي زَكَاةِ مَالِ الْمَجْنُونِ خِلَافٌ، مَعَ مُرَاعَاةِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْجُنُونِ الْمُطْبَقِ وَغَيْرِهِ.

وَأَمَّا الْمُعَامَلَاتُ، فَحُكْمُهُ فِيهَا حُكْمُ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، فَلَا يُعْتَدُّ بِأَقْوَالِهِ لِانْتِفَاءِ تَعَقُّلِهِ لِلْمَعَانِي.

وَأَمَّا أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهَا الْجُنُونُ، فَإِنَّ الْمَجْنُونَ يَرِثُ وَيَمْلِكُ لِبَقَاءِ ذِمَّتِهِ، وَالْمُتْلَفَاتُ بِسَبَبِ أَفْعَالِهِ مَضْمُونَةٌ فِي مَالِهِ كَالصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَصِلْ إِلَى سِنِّ التَّمْيِيزِ.

وَتَفْصِيلُ الْأَحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِالْجُنُونِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (جُنُونٍ).

ثَانِيًا: الْعَتَهُ:

28- الْعَتَهُ فِي اللُّغَةِ: نُقْصَانُ الْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ جُنُونٍ أَوْ دَهْشٍ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: آفَةٌ تُوجِبُ خَلَلًا فِي الْعَقْلِ، فَيَصِيرُ صَاحِبُهَا مُخْتَلَطَ الْكَلَامِ، فَيُشْبِهُ بَعْضُ كَلَامِهِ كَلَامَ الْعُقَلَاءِ، وَبَعْضُهُ كَلَامَ الْمَجَانِينِ.

وَالْمَعْتُوهُ فِي تَصَرُّفَاتِهِ كَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، فَتَثْبُتُ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ الْقَاصِرَةِ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّبِيِّ كَمَا جَاءَ فِي التَّلْوِيحِ، إِلاَّ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ: أَنَّ امْرَأَةَ الْمَعْتُوهِ إِذَا أَسْلَمَتْ لَا يُؤَخَّرُ عَرْضُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ، كَمَا لَا يُؤَخَّرُ عَرْضُهُ عَلَى وَلِيِّ الْمَجْنُونِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ، فَإِنَّ الصِّبَا مُقَدَّرٌ بِخِلَافِ الْعَتَهِ وَالْجُنُونِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (عَتَهٍ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


219-موسوعة الفقه الكويتية (أيمان 1)

أَيْمَانٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْأَيْمَانُ: جَمْعُ يَمِينٍ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ وَتُذَكَّرُ.وَتُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى (أَيْمُنٍ) وَمِنْ مَعَانِي الْيَمِينِ لُغَةً: الْقُوَّةُ وَالْقَسَمُ، وَالْبَرَكَةُ، وَالْيَدُ الْيُمْنَى، وَالْجِهَةُ الْيُمْنَى.

وَيُقَابِلُهَا: الْيَسَارُ، بِمَعْنَى: الْيَدِ الْيُسْرَى، وَالْجِهَةِ الْيُسْرَى.

أَمَّا فِي الشَّرْعِ، فَقَدْ عَرَّفَهَا صَاحِبُ غَايَةِ الْمُنْتَهَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهَا: تَوْكِيدُ حُكْمٍ بِذِكْرِ مُعَظَّمٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.

وَمُقْتَضَى هَذَا التَّعْرِيفِ تَخْصِيصُ الْيَمِينِ بِالْقَسَمِ، لَكِنْ يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ الْحَنَابِلَةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كُتُبِهِمْ تَسْمِيَةُ التَّعْلِيقَاتِ السِّتَّةِ أَيْمَانًا، وَهِيَ تَعْلِيقُ الْكُفْرِ وَالطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ وَالْعِتْقِ وَالْتِزَامِ الْقُرْبَةِ، وَقَرَّرَ ذَلِكَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى.

حِكْمَةُ التَّشْرِيعِ:

2- مِنْ أَسَالِيبِ التَّأْكِيدِ الْمُتَعَارِفَةِ فِي جَمِيعِ الْعُصُورِ أُسْلُوبُ التَّأْكِيدِ بِالْيَمِينِ، إِمَّا لِحَمْلِ الْمُخَاطَبِ عَلَى الثِّقَةِ بِكَلَامِ الْحَالِفِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ فِيهِ إِنْ كَانَ خَبَرًا، وَلَا يَخْلُفُهُ إِنْ كَانَ وَعْدًا أَوْ وَعِيدًا أَوْ نَحْوَهُمَا، وَإِمَّا لِتَقْوِيَةِ عَزْمِ الْحَالِفِ نَفْسِهِ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ يَخْشَى إِحْجَامَهَا عَنْهُ، أَوْ تَرْكِ شَيْءٍ يُخْشَى إِقْدَامُهَا عَلَيْهِ، وَإِمَّا لِتَقْوِيَةِ الطَّلَبِ مِنَ الْمُخَاطَبِ أَوْ غَيْرِهِ وَحَثِّهِ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ مَنْعِهِ عَنْهُ.

فَالْغَايَةُ الْعَامَّةُ لِلْيَمِينِ قَصْدُ تَوْكِيدِ الْخَبَرِ ثُبُوتًا أَوْ نَفْيًا.

تَقْسِيمَاتُ الْيَمِينِ

(أَوَّلًا) تَقْسِيمُ الْيَمِينِ بِحَسَبِ غَايَتِهَا الْعَامَّةِ

تَنْقَسِمُ الْيَمِينُ بِحَسَبِ غَايَتِهَا الْعَامَّةِ إِلَى قِسْمَيْنِ:

3- الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْيَمِينُ الْمُؤَكِّدَةُ لِلْخَبَرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَاضِيًا أَمْ حَاضِرًا أَمْ مُسْتَقْبَلًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ إِثْبَاتًا أَمْ نَفْيًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ أَمْ مُخَالِفًا.

وَالْيَمِينُ عَلَى مَا طَابَقَ الْوَاقِعَ تُسَمَّى (الْيَمِينُ الصَّادِقَةُ) كَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} فَهَذَا أَمْرٌ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَحْلِفَ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ سَيُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يُحَاسَبُونَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ.

وَالْيَمِينُ عَلَى مَا خَالَفَ الْوَاقِعَ إِنْ كَانَ الْحَالِفُ بِهَا كَاذِبًا عَمْدًا تُسَمَّى (الْيَمِينُ الْغَمُوسُ) لِأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي الْإِثْمِ.

وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنِ الْمُنَافِقِينَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: قوله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ}.

فَهَذَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ حَلِفٌ عَلَى أَنَّهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ كَاذِبُونَ فِيهِ، وَمَا حَمَلَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ إِلاَّ أَنَّهُمْ يَخَافُونَ غَضَبَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ.

وَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ بِهَا مُتَعَمِّدًا صَدَّقَهَا، غَيْرَ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي اعْتِقَادِهِ، لَمْ تَكُنْ غَمُوسًا وَلَا صَادِقَةً، وَإِنَّمَا تَكُونُ (لَغْوًا) عَلَى بَعْضِ الْأَقْوَالِ.

وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا أَنْ يَقُولَ إِنْسَانٌ: وَاللَّهِ إِنَّ الشَّمْسَ طَلَعَتْ، بِنَاءً عَلَى إِشَارَةِ السَّاعَةِ وَالتَّقْوِيمِ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ طَلَعَتْ، وَأَنَّهُ أَخْطَأَ النَّظَرَ، أَوْ كَانَ بِالسَّاعَةِ خَلَلٌ، أَوْ بِالتَّقْوِيمِ خَطَأٌ.

4- الْقِسْمُ الثَّانِي: الْيَمِينُ الْمُؤَكِّدَةُ لِلْإِنْشَاءِ.

وَالْإِنْشَاءُ إِمَّا حَثٌّ أَوْ مَنْعٌ، وَالْمَقْصُودُ بِالْحَثِّ: حَمْلُ الْحَالِفِ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.

وَالْمَقْصُودُ بِالْمَنْعِ: حَمْلُ الْحَالِفِ نَفْسَهُ أَوْ غَيْرَهُ عَلَى تَرْكِ شَيْءٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.

مِثَالُ الْحَثِّ: وَاللَّهِ لأَفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ لَيَفْعَلَنَّ فُلَانٌ كَذَا.

وَمِثَالُ الْمَنْعِ: وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا، أَوْ لَا تَفْعَلْ كَذَا، أَوْ لَا يَفْعَلْ فُلَانٌ كَذَا.

وَهَذِهِ الْيَمِينُ تُسَمَّى (مُنْعَقِدَةً) أَوْ (مَعْقُودَةً) مَتَى تَمَّتْ شَرَائِطُهَا، وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا.

وَمِمَّا هُوَ جَدِيرٌ بِالْمُلَاحَظَةِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: لأَفْعَلَنَّ، أَوْ لَا أَفْعَلُ يَدُلُّ عَلَى حَثِّ نَفْسِهِ عَلَى الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ حَقِيقَةً إِنْ كَانَ يَتَحَدَّثُ فِي خَلْوَةٍ، نَحْوَ: وَاللَّهِ لأَصُومَنَّ غَدًا، أَوْ لَا أَشْرَبُ الْخَمْرَ، أَوْ لأَقْتُلَنَّ فُلَانًا، أَوْ لَا أَفْعَلُ مَا أَمَرَنِي بِهِ.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ يَتَحَدَّثُ فِي مُوَاجَهَةِ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حَثِّ نَفْسِهِ ظَاهِرًا، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الظَّاهِرُ مُوَافِقًا لِلْحَقِيقَةِ، بِأَنْ يَكُونَ عَازِمًا عَلَى الْوَفَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ مُخَالِفًا لَهَا، بِأَنْ يَكُون عَازِمًا عَلَى عَدَمِ الْوَفَاءِ.

وَقَوْلُ الْقَائِلِ: لَتَفْعَلَنَّ أَوْ لَا تَفْعَلْ يَدُلُّ عَلَى حَثِّ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ، وَيَكُونُ بِمَثَابَةِ الْأَمْرِ إِنْ كَانَ مِنْ أَعْلَى لِأَدْنَى، وَالدُّعَاءِ إِنْ كَانَ مِنْ أَدْنَى لِأَعْلَى، وَالِالْتِمَاسِ إِنْ كَانَ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ.ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ يَكُونُ حَقِيقِيًّا، وَقَدْ يَكُونُ ظَاهِرِيًّا فَقَطْ بِقَصْدِ الْمُجَامَلَةِ أَوْ غَيْرِهَا.

5- هَذَا، وَتَنْقَسِمُ الْيَمِينُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ إِلَى: يَمِينِ بِرٍّ، وَيَمِينِ حِنْثٍ.

(فَيَمِينُ الْبِرِّ) هِيَ مَا كَانَتْ عَلَى النَّفْيِ، نَحْوَ: وَاللَّهِ لَا فَعَلْتُ كَذَا، بِمَعْنَى: لَا أَفْعَلُ كَذَا، وَسُمِّيَتْ يَمِينَ بِرٍّ لِأَنَّ الْحَالِفَ بَارٌّ حِينَ حَلِفِهِ، وَمُسْتَمِرٌّ عَلَى الْبِرِّ مَا لَمْ يَفْعَلْ.

(وَيَمِينُ الْحِنْثِ) مَا كَانَتْ عَلَى الْإِثْبَاتِ، نَحْوَ: وَاللَّهِ لأَفْعَلَنَّ كَذَا، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ يَمِينَ حِنْثٍ لِأَنَّ الْحَالِفَ لَوِ اسْتَمَرَّ عَلَى حَالَتِهِ حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ أَوْ حَصَلَ الْيَأْسُ حَنِثَ.

(ثَانِيًا)

تَقْسِيمُ الْيَمِينِ بِحَسَبِ صِيغَتِهَا الْعَامَّةِ

6- الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْقِسْمُ الْمُنَجَّزُ بِالصِّيغَةِ الْأَصْلِيَّةِ لِلْيَمِينِ، وَتَكُونُ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، مِثْلَ (وَاللَّهِ) (وَالرَّحْمَنِ) أَوْ صِفَةً لَهُ مِثْلَ (وَعِزَّةِ اللَّهِ) (وَجَلَالِهِ).

وَكَانَ النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ وَبِمَعْبُودَاتِهِمْ كَاللاَّتِ وَالْعُزَّى، وَبِمَا يُعَظِّمُونَهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ مِمَّا لَا يَعْبُدُونَ كَالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْكَعْبَةِ، وَبِمَا يَحْمَدُونَهُ مِنَ الْأَخْلَاقِ كَالْأَمَانَةِ.

وَفِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ بَطَلَ تَعْظِيمُهُمْ لِلْأَصْنَامِ وَنَحْوِهَا مِمَّا كَانُوا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَبَطَلَ حَلِفُهُمْ بِهَا إِلاَّ مَا كَانَ سَبْقَ لِسَانٍ، وَاسْتَمَرَّ حَلِفُهُمْ بِمَا يُحِبُّونَهُ وَيُعَظِّمُونَهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذَلِكَ وَأَمَرَهُمْ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الْحَلِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهِ تَفْصِيلًا.

7- الْقِسْمُ الثَّانِي: التَّعْلِيقُ، وَيُمْكِنُ تَحْصِيلُ الْغَايَةِ الْعَامَّةِ مِنَ الْيَمِينِ- وَهِيَ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ أَوِ الْحَثِّ أَوِ الْمَنْعِ- بِطَرِيقٍ آخَرَ، وَهُوَ تَرْتِيبُ الْمُتَكَلِّمِ جَزَاءً مَكْرُوهًا لَهُ فِي حَالَةِ مُخَالَفَةِ الْوَاقِعِ أَوْ تَخَلُّفِ الْمَقْصُودِ.

وَلِهَذَا الْجَزَاءِ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ بِحَسَبِ الْعَادَةِ، لَكِنْ لَمْ يَعْتَبِرِ الْفُقَهَاءُ مِنْهَا إِلاَّ سِتَّةَ أَنْوَاعٍ وَهِيَ: الْكُفْرُ، وَالطَّلَاقُ، وَالظِّهَارُ، وَالْحَرَامُ، وَالْعِتْقُ، وَالْتِزَامُ الْقُرْبَةِ.

وَأَمْثِلَتُهَا: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، أَوْ: إِنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا، أَوْ: إِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتُ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنَ الْإِسْلَامِ.أَوْ: فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ، أَوْ: فَامْرَأَتُهُ عَلَيْهِ كَظَهْرِ أُمِّهِ، أَوْ: فَحَلَالُ اللَّهِ عَلَيْهِ حَرَامٌ، أَوْ: فَعَبْدُهُ حُرٌّ، أَوْ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ.

وَقَدْ يَكُونُ الطَّرِيقُ الْمُحَصِّلُ لِلْغَايَةِ تَرْتِيبَ جَزَاءٍ مَحْبُوبٍ لِلْمُخَاطِبِ عَلَى فِعْلِ أَمْرٍ مَحْبُوبٍ لِلْمُتَكَلِّمِ، كَمَا لَوْ قَالَ إِنْسَانٌ لِعَبْدِهِ: إِنْ بَشَّرْتَنِي فَأَنْتَ حُرٌّ، فَهَذَا الْجَزَاءُ مَحْبُوبٌ لِلْمُخَاطَبِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ تَخَلُّصًا مِنَ الرِّقِّ، وَإِنْ كَانَ شَاقًّا عَلَى الْمُتَكَلِّمِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ إِزَالَةً لِلْمِلْكِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَسْتَسْهِلُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُكَافَأَةٍ عَلَى فِعْلِ مَا يُحِبُّهُ وَشُكْرٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى ذَلِكَ.

وَالْجَزَاءُ الْمَحْبُوبُ لَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُهُ ظِهَارًا وَلَا كُفْرًا، فَهُوَ مُنْحَصِرٌ فِي الْعِتْقِ وَالْتِزَامِ الْقُرْبَةِ وَالطَّلَاقِ وَالْحَرَامِ، كَتَطْلِيقِ ضَرَّةِ الْمُخَاطَبَةِ وَتَحْرِيمِهَا.

وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ.

التَّعْلِيقُ بِصُورَةِ الْقَسَمِ:

8- قَدْ يَعْدِلُ الْحَالِفُ عَنْ أَدَاءِ الشَّرْطِ وَالْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ، وَيَأْتِي بِالْجَزَاءِ بِدُونِ الْفَاءِ، وَيَذْكُرُ بَعْدَهُ جُمْلَةً شَبِيهَةً بِجَوَابِ الْقَسَمِ، فَيَقُولُ: هُوَ يَهُودِيٌّ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ لَا يَفْعَلُ كَذَا، أَوِ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ لَا يَفْعَلُ كَذَا، أَوْ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا، فَالْجُمْلَةُ الَّتِي بُدِئَ الْكَلَامُ بِهَا جَزَاءٌ لِشَرْطٍ مَحْذُوفٍ، تَدُلُّ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ.

الْجَوَابُ الْإِنْشَائِيُّ يَتَضَمَّنُ الْخَبَرَ:

9- الْقَسَمُ حِينَمَا يَكُونُ إِنْشَائِيًّا لِلْحَثِّ أَوِ الْمَنْعِ، فَالْحَلِفُ عَلَيْهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَلِفًا عَلَى الْإِنْشَاءِ الْمَحْضِ، فَإِنَّ هَذَا الْإِنْشَاءَ يَحْصُلُ مَعْنَاهُ بِمُجَرَّدِ النُّطْقِ بِهِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى حَلِفٍ.فَإِنَّ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَى الْحَلِفِ، هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي يُخْشَى تَخَلُّفُهُ، وَهُوَ الْوَفَاءُ بِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْإِنْشَائِيَّةِ.

فَمَنْ حَلَفَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لأَقْضِيَنَّكَ حَقَّكَ غَدًا، وَقَدْ حَثَّ نَفْسَهُ عَلَى الْقَضَاءِ، وَهَذَا الْحَثُّ قَدْ حَصَلَ بِمُجَرَّدِ النُّطْقِ، فَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى الْقَسَمِ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ، فَالْقَسَمُ إِذَنْ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْحَثِّ الْمُسْتَتْبِعِ لِأَثَرِهِ، وَهُوَ حُصُولُ الْقَضَاءِ بِالْفِعْلِ فِي غَدٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى خَبَرِيٌّ، وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَقْضِهِ حَقَّهُ لَكَانَ حَانِثًا.

فَمَنْ قَالَ: لأَقْضِيَنَّكَ حَقَّكَ.أَثْبَتَ مَعْنَيَيْنِ:

(أَحَدُهُمَا) إِنْشَائِيٌّ، وَهُوَ حَثُّ نَفْسِهِ عَلَى الْقَضَاءِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الصَّرِيحُ.

(وَثَانِيهِمَا) خَبَرِيٌّ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ هَذَا الْقَضَاءَ سَيَحْصُلُ فِي الْغَدِ، وَهَذَا الْمَعْنَى ضِمْنِيٌّ، وَالْيَمِينُ إِنَّمَا أُتِيَ بِهَا مِنْ أَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى الضِّمْنِيِّ.

وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُجَابَ الْقَسَمُ بِفِعْلِ الْأَمْرِ، وَلَا بِفِعْلِ النَّهْيِ، فَلَا يُقَالُ: وَاللَّهِ قُمْ، أَوْ لَا تَقُمْ.

مُرَادِفَاتُ الْيَمِينِ:

10- قَالَ الْكَمَالُ: أَسْمَاءُ هَذَا الْمَعْنَى التَّوْكِيدِيِّ سِتَّةٌ: الْحَلِفُ وَالْقَسَمُ وَالْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ وَالْإِيلَاءُ وَالْيَمِينُ.

فَالْيَمِينُ مُرَادِفَةٌ لِلْأَلْفَاظِ الْخَمْسَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ مَعَهَا.

وَهُنَاكَ أَلْفَاظٌ أُخْرَى، فَقَدْ أَفَادَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ إِنْسَانٌ: أَشْهَدُ أَوْ أَعْزِمُ أَوْ شَهِدْتُ أَوْ عَزَمْتُ بِاللَّهِ لأَفْعَلَنَّ كَذَا.كَانَ يَمِينًا؛ لِأَنَّ الْعَزْمَ مَعْنَاهُ الْإِيجَابُ؛ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ وَرَدَتْ فِي قوله تعالى: {إِذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّك لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ أَفَادَتْ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ يَمِينٌ.

وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ الشَّهَادَةَ وَالْعَزْمَ مِنْ مُرَادِفَاتِ الْيَمِينِ عُرْفًا، وَأَفَادَ أَيْضًا أَنَّ الذِّمَّةَ كَالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، فَمَنْ قَالَ: عَلَيَّ ذِمَّةُ اللَّهِ لأَفْعَلَنَّ كَانَ يَمِينًا.

11- وَأَفَادَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ الْإِنْسَانُ صَوْمًا، كَأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا، أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَلَمْ يَخْطِرِ الْيَمِينُ بِبَالِهِ، أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَنَفَى الْيَمِينَ كَانَ نَذْرًا فَقَطْ.وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ وَنَفَى النَّذْرَ كَانَ يَمِينًا فَقَطْ.وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إِنْ أَفْطَرَ.وَإِنْ نَوَاهُمَا مَعًا، أَوْ نَوَى الْيَمِينَ وَلَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِ النَّذْرُ كَانَ نَذْرًا وَيَمِينًا، حَتَّى لَوْ أَفْطَرَ قَضَى وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ.

وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ صِيغَةَ النَّذْرِ تَكُونُ يَمِينًا بِالنِّيَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَتَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ، بِخِلَافِ الْأَلْفَاظِ السَّابِقَةِ، فَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهَا صَرِيحَةٌ عِنْدَهُمْ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا كِنَايَةً عِنْدَ غَيْرِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي.وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِي النَّذْرِ الْمُبْهَمِ مِثْلُ عَلَيَّ نَذْرٌ.وَسَيَأْتِي أَيْضًا أَنَّ الْكَفَالَةَ وَالْأَمَانَةَ الْمُضَافَيْنِ لِلَّهِ كَالْعَهْدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَقَدْ قَالُوا: مَنْ قَالَ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ، أَوْ مِيثَاقُهُ، أَوْ ذِمَّتُهُ، أَوْ كَفَالَتُهُ، أَوْ أَمَانَتُهُ لأَفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ لَا أَفْعَلُ كَذَا، كَانَ قَوْلُهُ ذَلِكَ يَمِينًا بِالنِّيَّةِ.

12- هَذَا مَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَقَدْ يَجِدُ الْبَاحِثُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ أَلْفَاظًا أُخْرَى كَالنَّفْلِ.فَفِي الْقَامُوسِ الْمُحِيطِ: نَفَلَ: حَلَفَ.وَهُوَ مِنْ بَابِ نَصَرَ.

وَيُؤْخَذُ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ (نَفَلَ) (وَانْتَفَلَ) وَ (أَنْفَلَ) مَعْنَاهَا حَلَفَ، وَيُقَالُ: نَفَّلْتُهُ بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ: حَلَّفْتُهُ.

أَيْمَانٌ خَاصَّةٌ

أ- الْإِيلَاءُ:

13- هُوَ أَنْ يَحْلِفَ الزَّوْجُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ وَطْءِ زَوْجَتِهِ مُطْلَقًا أَوْ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْحَلِفُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَمْ بِتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ أَوِ الْعِتْقِ أَوْ نَحْوِهِمَا.وَلِهَذَا الْإِيلَاءِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وَلِتَفْصِيلِهَا (ر: إِيلَاءٌ).

ب- اللِّعَانُ:

14- اللِّعَانُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ لَاعَنَ، بِمَعْنَى شَاتَمَ، فَإِذَا تَشَاتَمَ اثْنَانِ، فَشَتَمَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِ، بِأَنْ يَلْعَنَهُ اللَّهُ، قِيلَ لَهُمَا: تَلَاعَنَا، وَلَاعَنَ كُلٌّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ.

وَاللِّعَانُ فِي الشَّرْعِ لَا يَكُونُ إِلاَّ أَمَامَ الْقَاضِي، وَهُوَ: قَوْلُ الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ مُشِيرًا إِلَيْهَا: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ زَوْجَتِي هَذِهِ مِنَ الزِّنَى.

وَإِذَا كَانَتْ حَامِلًا أَوْ وَلَدَتْ وَلَدًا وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ زَادَ: وَأَنَّ هَذَا الْحَمْلَ أَوِ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنِّي.وَيُكَرِّرُ ذَلِكَ كُلَّهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَيَزِيدُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ: وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ.

وَلِعَانُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا إِذَا لَمْ تُصَدِّقْهُ أَنْ تَقُولَ بَعْدَ لِعَانِهِ إِيَّاهَا: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنَّ زَوْجِي هَذَا لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَى، وَتَزِيدُ لِإِثْبَاتِ نِسْبَةِ الْحَمْلِ أَوِ الْوَلَدِ: وَأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مِنْهُ.وَتُكَرِّرُ ذَلِكَ كُلَّهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَتَزِيدُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ: وَعَلَيْهَا غَضَبُ اللَّهِ إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ.

وَلِعَانُ الْحَاكِمِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ هُوَ: أَنْ يُحْضِرَهُمَا، وَيَأْمُرَ الزَّوْجَ بِمُلَاعَنَةِ زَوْجَتِهِ إِنْ كَانَ مُصِرًّا عَلَى قَذْفِهَا، وَلَيْسَ مَعَهُ أَرْبَعَةُ شُهُودٍ عُدُولٍ، وَلَمْ تَعْتَرِفِ الزَّوْجَةُ بِمَا قَالَهُ، ثُمَّ يَأْمُرُ الزَّوْجَةَ- بَعْدَ انْتِهَاءِ الزَّوْجِ مِنَ الْمُلَاعَنَةِ- أَنْ تُلَاعِنَهُ، فَإِذَا لَاعَنَتْهُ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ مَعْنَاهُ أُقْسِمُ بِاللَّهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ اللِّعَانُ يَمِينًا خَاصَّةً لَهَا أَحْكَامٌ تَخُصُّهَا، وَلِتَفْصِيلِهَا (ر: لِعَانٌ).

ج- الْقَسَامَةُ:

15- الْقَسَامَةُ فِي اللُّغَةِ لَهَا مَعَانٍ: مِنْهَا الْيَمِينُ.

وَفِي الشَّرْعِ: أَنْ يُقْسِمَ خَمْسُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِمْ دِيَةَ قَتِيلِهِمْ، إِذَا وَجَدُوهُ قَتِيلًا بَيْنَ قَوْمٍ، وَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ.فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا خَمْسِينَ رَجُلًا أَقْسَمَ الْمَوْجُودُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا.فَإِنِ امْتَنَعُوا وَطَلَبُوا الْيَمِينَ مِنَ الْمُتَّهَمِينَ رَدَّهَا الْقَاضِي عَلَيْهِمْ، فَأَقْسَمُوا بِهَا عَلَى نَفْيِ الْقَتْلِ عَنْهُمْ.فَإِنْ حَلَفَ الْمُدَّعُونَ اسْتَحَقُّوا الدِّيَةَ.وَإِنْ حَلَفَ الْمُتَّهَمُونَ لَمْ تَلْزَمْهُمُ الدِّيَةُ.عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (قَسَامَةٌ).

د- الْيَمِينُ الْمُغَلَّظَةُ:

16- هِيَ الْيَمِينُ الَّتِي غُلِّظَتْ بِالزَّمَانِ، وَالْمَكَانِ، وَزِيَادَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَبِحُضُورِ جَمْعٍ، وَبِالتَّكْرَارِ.

فَالتَّغْلِيظُ بِالزَّمَانِ هُوَ: أَنْ يَكُونَ الْحَلِفُ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَعَصْرُ الْجُمُعَةِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ.

وَالتَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ: أَنْ يَكُونَ الْحَلِفُ عِنْدَ مِنْبَرِ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ مِنْ جِهَةِ الْمِحْرَابِ، وَكَوْنُهُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَوْلَى.أَمَّا التَّغْلِيظُ فِي مَكَّةَ، فَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ وَالْمَقَامِ.

وَالتَّغْلِيظُ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ يَكُونُ فِي اللِّعَانِ وَالْقَسَامَةِ وَبَعْضِ الدَّعَاوَى.

وَالتَّغْلِيظُ بِزِيَادَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ نَحْوَ: وَاللَّهِ الطَّالِبِ الْغَالِبِ الْمُدْرِكِ الْمُهْلِكِ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، وَنَحْوَ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَعْلَمُ مِنَ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنَ الْعَلَانِيَةِ.

وَهَذَا التَّغْلِيظُ يَكُونُ فِي بَعْضِ الدَّعَاوَى.

وَالتَّغْلِيظُ بِحُضُورِ جَمْعٍ هُوَ: أَنْ يَحْضُرَ الْحَلِفَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الْبَلْدَةِ وَصُلَحَائِهَا، أَقَلُّهُمْ أَرْبَعَةٌ.

وَهَذَا التَّغْلِيظُ يَكُونُ فِي اللِّعَانِ.

وَالتَّغْلِيظُ بِالتَّكْرَارِ هُوَ: تَكْرَارُ الْيَمِينِ خَمْسِينَ مَرَّةً.

وَهَذَا يَكُونُ فِي الْقَسَامَةِ.وَلِتَفْصِيلِ ذَلِكَ كُلِّهِ (ر: لِعَانٌ وَقَسَامَةٌ وَدَعْوَى).

هـ- أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ:

17- مِمَّا أَحْدَثَهُ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ، أَنْ حَلَّفَ النَّاسَ عَلَى بَيْعَتِهِمْ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْيَمِينِ بِاللَّهِ وَصَدَقَةِ الْمَالِ.

فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَيْمَانُ الْأَرْبَعَةُ أَيْمَانَ الْبَيْعَةِ الْقَدِيمَةِ الْمُبْتَدَعَةِ.

ثُمَّ أَحْدَثَ الْمُسْتَحْلِفُونَ مِنَ الْأُمَرَاءِ عَنِ الْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ أَيْمَانًا كَثِيرَةً، تَخْتَلِفُ فِيهَا عَادَاتُهُمْ، وَمَنْ أَحْدَثَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ إِثْمُ مَا تَرَتَّبَ عَلَى هَذِهِ الْأَيْمَانِ مِنَ الشَّرِّ.

فَإِذَا حَلَفَ إِنْسَانٌ بِأَيْمَانِ الْبَيْعَةِ، بِأَنْ قَالَ: عَلَيَّ أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ، أَوْ أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ تَلْزَمُنِي إِنْ فَعَلْتُ كَذَا أَوْ إِنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا مَثَلًا:

فَالْمَالِكِيَّةُ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: أَجْمَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ فِيهَا بِالطَّلَاقِ لِجَمِيعِ نِسَائِهِ، وَالْعِتْقِ لِجَمِيعِ عَبِيدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَقِيقٌ فَعَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْمَشْيُ إِلَى مَكَّةَ، وَالْحَجُّ وَلَوْ مِنْ أَقْصَى الْمَغْرِبِ، وَالتَّصَدُّقُ بِثُلُثِ جَمِيعِ أَمْوَالِهِ، وَصِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ.ثُمَّ قَالَ: جُلُّ الْأَنْدَلُسِيِّينَ قَالُوا: إِنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ لَهُ تَطْلُقُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَقَالَ الْقَرَوِيُّونَ: إِنَّمَا تَطْلُقُ وَاحِدَةً وَاحِدَةً.وَأَلْزَمَهُ بَعْضُهُمْ صَوْمَ سَنَةٍ إِذَا كَانَ مُعْتَادًا لِلْحَلِفِ بِذَلِكَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ: إِنْ لَمْ يَذْكُرْ فِي لَفْظِهِ طَلَاقَهَا أَوْ عَتَاقَهَا أَوْ حَجَّهَا أَوْ صَدَقَتَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، سَوَاءٌ أَنَوَاهُ أَمْ لَمْ يَنْوِهِ، إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ طَلَاقَهَا أَوْ عَتَاقَهَا، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ، فَإِنَّ الْيَمِينَ بِهِمَا تَنْعَقِدُ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ، وَقَالَ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ: لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَإِنْ نَوَاهُ مَا لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ؛ لِأَنَّ الصَّرِيحَ لَمْ يُوجَدْ، وَالْكِنَايَةَ إِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ فِيمَا يَتَضَمَّنُ الْإِيقَاعُ، فَأَمَّا الِالْتِزَامُ فَلَا.

وَالْحَنَابِلَةُ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْخِرَقِيُّ: إِنْ نَوَاهَا لَزِمَتْهُ، سَوَاءٌ أَعَرَفَهَا أَمْ لَمْ يَعْرِفْهَا.وَقَالَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ وَمِنْهُمْ صَاحِبُ الْمُغْنِي: إِنْ لَمْ يَعْرِفْهَا لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ بِشَيْءٍ مِمَّا فِيهَا، وَفِي غَايَةِ الْمُنْتَهَى: يَلْزَمُ بِأَيْمَانِ الْبَيْعَةِ- وَهِيَ يَمِينٌ رَتَّبَهَا الْحَجَّاجُ تَتَضَمَّنُ الْيَمِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَالطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ وَصَدَقَةَ الْمَالِ- مَا فِيهَا إِنْ عَرَفَهَا وَنَوَاهَا، وَإِلاَّ فَلَغْوٌ.

و- أَيْمَانُ الْمُسْلِمِينَ:

18- جَاءَ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ تَشْمَلُ سِتَّةَ أَشْيَاءَ، وَهِيَ: الْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَالطَّلَاقُ الْبَاتُّ لِجَمِيعِ الزَّوْجَاتِ، وَعِتْقُ مَنْ يَمْلِكُ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ، وَالتَّصَدُّقُ بِثُلُثِ الْمَالِ، وَالْمَشْيُ بِحَجٍّ، وَصَوْمِ عَامٍ.

وَهَذَا الشُّمُولُ لِلسِّتَّةِ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ تَعَارُفِ الْحَلِفِ بِهَا، فَإِنْ تُعُورِفَ الْحَلِفُ بِبَعْضِهَا لَمْ تَشْمَلْ مَا سِوَاهُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى تَحْرِيمِ تَحْلِيفِ الْقَاضِي بِالطَّلَاقِ أَوِ الْعَتَاقِ أَوِ النَّذْرِ.قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَتَى بَلَغَ الْإِمَامَ أَنَّ قَاضِيًا يَسْتَحْلِفُ النَّاسَ بِطَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ نَذْرٍ عَزَلَهُ عَنِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ جَاهِلٌ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَلْزَمُ بِالْحَلِفِ بِأَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ ظِهَارٌ وَطَلَاقٌ وَعَتَاقٌ وَنَذْرٌ وَيَمِينٌ بِاللَّهِ تَعَالَى مَعَ النِّيَّةِ.كَمَا لَوْ حَلَفَ بِكُلٍّ مِنْهَا عَلَى انْفِرَادٍ.وَلَوْ حَلَفَ بِأَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى نِيَّةِ بَعْضِ مَا ذُكِرَ تَقَيَّدَ حَلِفُهُ بِهِ، وَلَوْ حَلَفَ بِهَا وَأَطْلَقَ بِأَنْ لَمْ يَنْوِ كُلَّهَا وَلَا بَعْضَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ بِلَفْظِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ فَلَمْ تَكُنْ يَمِينًا.

ز- أَيْمَانُ الْإِثْبَاتِ وَالْإِنْكَارِ:

19- يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ فِي مَبْحَثِ الدَّعْوَى أَيْمَانًا لِلْإِثْبَاتِ وَالْإِنْكَارِ.

(مِنْهَا): الْيَمِينُ الْمُنْضَمَّةُ، وَيَصِحُّ تَسْمِيَتُهَا بِالْيَمِينِ الْمُتَمِّمَةِ، وَهِيَ الَّتِي تُضَمُّ إِلَى شَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، أَوْ شَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ لِإِثْبَاتِ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ.

(وَمِنْهَا): يَمِينُ الْمُنْكِرِ بِكَسْرِ الْكَافِ، أَوْ يَمِينُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَصُورَتُهَا: أَنْ يَدَّعِيَ إِنْسَانٌ عَلَى غَيْرِهِ بِشَيْءٍ، وَلَا يَجِدُ بَيِّنَةً، فَيُبَيِّنُ لَهُ الْقَاضِي أَنَّ لَهُ الْحَقَّ فِي طَلَبِ الْيَمِينِ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَا دَامَ مُنْكِرًا، فَيَأْمُرُهُ الْقَاضِي أَنْ يَحْلِفَ، فَإِذَا حَلَفَ سَقَطَتِ الدَّعْوَى.

(وَمِنْهَا): يَمِينُ الرَّدِّ، وَصُورَتُهَا: أَنْ يَمْتَنِعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْحَالَةِ السَّابِقِ ذِكْرُهَا عَنِ الْيَمِينِ، فَيَرُدُّهَا الْقَاضِي عَلَى الْمُدَّعِي، فَيَحْلِفُ عَلَى دَعْوَاهُ، وَيَسْتَحِقُّ مَا ادَّعَاهُ.

(وَمِنْهَا): يَمِينُ الِاسْتِظْهَارِ، وَصُورَتُهَا: أَنْ يَتْرُكَ الْمَيِّتُ أَمْوَالًا فِي أَيْدِي الْوَرَثَةِ، فَيَدَّعِي إِنْسَانٌ حَقًّا عَلَى هَذَا الْمَيِّتِ، فَعِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ لَا تَثْبُتُ الدَّعْوَى فِي مُوَاجَهَةِ الْوَرَثَةِ بِالْبَيِّنَةِ فَقَطْ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ ضَمِّ الْيَمِينِ مِنَ الْمُدَّعِي، وَقَدْ تَجِبُ يَمِينُ الِاسْتِظْهَارِ فِي مَسَائِلَ أُخْرَى.

وَلِبَيَانِ كُلِّ مَا سَبَقَ تَفْصِيلًا (ر: إِثْبَاتٌ وَدَعْوَى).

إِنْشَاءُ الْيَمِينِ وَشَرَائِطُهَا

20- تَقَدَّمَ أَنَّ الْيَمِينَ تَنْقَسِمُ مِنْ حَيْثُ صِيغَتُهَا إِلَى قَسَمٍ وَتَعْلِيقٍ، وَمِنْ هُنَا حَسُنَ تَقْسِيمُ الْكَلَامِ إِلَى قِسْمَيْنِ.

إِنْشَاءُ الْقَسَمِ وَشَرَائِطُهُ

21- مَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَالَ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ لأَفْعَلَنَّ كَذَا، فَهَذِهِ الصِّيغَةُ تَحْتَوِي عَلَى جُمْلَتَيْنِ، أُولَاهُمَا: الْجُمْلَةُ الْمُكَوَّنَةُ مِنْ فِعْلِ الْقَسَمِ وَفَاعِلِهِ الضَّمِيرِ، وَحَرْفِ الْقَسَمِ وَهُوَ الْبَاءُ، وَالْمُقْسَمُ بِهِ وَهُوَ مَدْخُولُ الْبَاءِ.

وَثَانِيَتُهُمَا: الْجُمْلَةُ الْمُقْسَمُ عَلَيْهَا.

وَتَفْصِيلُ الْكَلَامِ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي.

أ- فِعْلُ الْقَسَمِ:

22- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ فِعْلَ الْقَسَمِ إِذَا ذُكِرَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ أَوِ الْمَاضِي، كَأَقْسَمْتُ أَوْ حَلَفْتُ، أَوْ حُذِفَ وَذُكِرَ مَكَانَهُ الْمَصْدَرُ نَحْوَ: قَسَمًا أَوْ حَلِفًا بِاللَّهِ، أَوْ لَمْ يَذْكُرْ نَحْوَ: اللَّهِ أَوْ بِاللَّهِ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ يَمِينًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا قَالَ: أَحْلِفُ أَوْ أُقْسِمُ أَوْ أَشْهَدُ أَوْ أَعْزِمُ، وَقَالَ بَعْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا: بِاللَّهِ، فَهِيَ يَمِينٌ.وَقَوْلُ الْقَائِلِ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ بِاللَّهِ لَيْسَ بِيَمِينٍ، بِخِلَافِ: عَزَمْتُ بِاللَّهِ، أَوْ: أَعْزِمُ بِاللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَالْفَرْقُ هُوَ أَنَّ التَّصْرِيحَ بِكَلِمَةِ (عَلَيْكَ) جَعْلُهُ غَيْرَ يَمِينٍ بِخِلَافِ (أُقْسِمُ) فَإِنَّهَا إِذَا زِيدَ بَعْدَهَا كَلِمَةُ عَلَيْكَ لَمْ تُخْرِجْهَا عَنْ كَوْنِهَا يَمِينًا؛ لِأَنَّ (أُقْسِمُ) صَرِيحٌ فِي الْيَمِينِ.

وَقَوْلُ الشَّخْصِ: يَعْلَمُ اللَّهُ، لَيْسَ بِيَمِينٍ، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ إِثْمُ الْكَذِبِ، وَلَا يَكُونُ كَافِرًا بِذَلِكَ، وَلَا بِقَوْلِهِ: أُشْهِدُ اللَّهَ، إِلاَّ إِنْ قَصَدَ أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَخْفَى عَلَيْهِ الْوَاقِعُ، وَلَا يَكُونُ الْقَسَمُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: اللَّهُ رَاعٍ، أَوْ حَفِيظٌ، أَوْ حَاشَا لِلَّهِ، أَوْ مَعَاذَ اللَّهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: آلَيْتُ، أَوْ أَقْسَمْتُ، أَوْ أُقْسِمُ عَلَيْكَ بِاللَّهِ، أَوْ أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ لَا تَفْعَلْ كَذَا، أَوْ قَالَ: بِاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ كَذَا، أَوْ لَا تَفْعَلْ كَذَا، فَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ يَمِينَ نَفْسِهِ أَوْ لَا:

فَإِنْ أَرَادَ يَمِينَ نَفْسِهِ فَيَمِينٌ؛ لِصَلَاحِيَّةِ اللَّفْظِ لَهَا مَعَ اشْتِهَارِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ حَمَلَةِ الشَّرْعِ.

وَإِنْ لَمْ يُرِدْ يَمِينَ نَفْسِهِ، بَلْ أَرَادَ الشَّفَاعَةَ، أَوْ يَمِينَ الْمُخَاطَبِ، أَوْ أَطْلَقَ لَمْ تَكُنْ يَمِينًا.

فَإِنْ قَالَ: وَاللَّهِ، أَوْ حَلَفْتُ عَلَيْكَ بِاللَّهِ كَانَ يَمِينًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ لِعَدَمِ اشْتِهَارِهِ فِي الشَّفَاعَةِ أَوْ يَمِينِ الْمُخَاطَبِ.

وَإِنْ قَالَ: آلَيْتُ، أَوْ أَقْسَمْتُ، أَوْ أُقْسِمُ بِاللَّهِ، وَلَمْ يَقُلْ: عَلَيْكَ كَانَ يَمِينًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَيْضًا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا قَالَ أَقْسَمْتُ، أَوْ أُقْسِمُ، أَوْ شَهِدْتُ، أَوْ أَشْهَدُ، أَوْ حَلَفْتُ، أَوْ أَحْلِفُ، أَوْ عَزَمْتُ، أَوْ أَعْزِمُ، أَوْ آلَيْتُ، أَوْ أُولِي، أَوْ قَسَمًا، أَوْ حَلِفًا، أَوْ أَلْيَةً، أَوْ شَهَادَةً، أَوْ يَمِينًا، أَوْ عَزِيمَةً، وَأَتْبَعَ كُلًّا مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِقَوْلِهِ (بِاللَّهِ) مَثَلًا كَانَتْ يَمِينًا، سَوَاءٌ أَنَوَى بِهَا إِنْشَاءَ الْيَمِينِ أَمْ أَطْلَقَ، فَإِنْ نَوَى بِالْفِعْلِ الْمَاضِي إِخْبَارًا عَنْ يَمِينٍ مَضَتْ، أَوْ بِالْمُضَارِعِ وَعْدًا بِيَمِينٍ مُسْتَقْبَلَةٍ، أَوْ نَوَى بِقَوْلِهِ: عَزَمْتُ وَأَعْزِمُ وَعَزِيمَةً: قَصَدْتُ أَوْ أَقْصِدُ أَوْ قَصْدًا، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ.

23- وَلَيْسَ مِنَ الْيَمِينِ قَوْلُهُ: أَسْتَعِينُ بِاللَّهِ، وَأَعْتَصِمُ بِاللَّهِ، وَأَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ، وَعِلْمُ اللَّهِ، وَعِزُّ اللَّهِ، وَتَبَارَكَ اللَّهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ وَلَوْ نَوَى الْيَمِينَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الْيَمِينَ شَرْعًا وَلَا لُغَةً وَلَا عُرْفًا.

وَلَوْ قَالَ: أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ لَمْ تَكُنِ الصِّيغَةُ يَمِينًا إِنْ أَطْلَقَ أَوْ قَصَدَ السُّؤَالَ أَوِ الْإِكْرَامَ أَوِ التَّوَدُّدَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَصَدَ الْيَمِينَ فَإِنَّهَا تَكُونُ يَمِينًا.

ب- حُرُوفُ الْقَسَمِ:

24- هِيَ: الْبَاءُ وَالْوَاوُ وَالتَّاءُ.أَمَّا الْبَاءُ فَهِيَ الْأَصْلُ، وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ قَبْلَهَا فِعْلُ الْقَسَمِ، وَأَنْ يُحْذَفَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى الظَّاهِرِ وَالْمُضْمَرِ، نَحْوَ: أُقْسِمُ بِك يَا رَبِّ لأَفْعَلَنَّ كَذَا.وَتَلِيهَا الْوَاوُ، وَهِيَ تَدْخُلُ عَلَى الظَّاهِرِ فَقَطْ، وَيُحْذَفُ مَعَهَا فِعْلُ الْقَسَمِ وُجُوبًا.وَتَلِيهَا التَّاءُ، وَلَا تَدْخُلُ إِلاَّ عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ، كَمَا فِي قوله تعالى حِكَايَةٍ عَنْ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ- عليه السلام- {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} وَرُبَّمَا دَخَلَتْ عَلَى (رَبِّ) نَحْوَ: تَرَبِّي، وَتَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَيَجِبُ مَعَهَا حَذْفُ فِعْلِ الْقَسَمِ أَيْضًا.

وَإِذَا وَجَبَ حَذْفُ الْفِعْلِ وَجَبَ حَذْفُ الْمَصَادِرِ أَيْضًا، نَحْوَ قَسَمًا.

وَيَقُومُ مَقَامَ بَاءِ الْقَسَمِ حُرُوفٌ أُخْرَى، وَهِيَ الْهَاءُ وَالْهَمْزَةُ وَاللاَّمُ.

أَمَّا الْهَاءُ فَمِثَالُهَا: هَا اللَّهِ، بِفَتْحِ الْهَاءِ مَمْدُودَةً وَمَقْصُورَةً مَعَ قَطْعِ هَمْزَةِ لَفْظِ الْجَلَالَةِ وَوَصْلِهَا، وَإِذَا وُصِلَتْ حُذِفَتْ.

وَأَمَّا الْهَمْزَةُ فَمِثَالُهَا: آللَّهُ، مَمْدُودَةً وَمَقْصُورَةً مَعَ وَصْلِ هَمْزَةِ لَفْظِ الْجَلَالَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تُحْذَفَ.

وَأَمَّا اللاَّمُ، فَقَدْ أَفَادَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ: أَنَّ مَنْ قَالَ (لِلَّهِ) بِلَامِ الْجَرِّ بَدَلِ الْبَاءِ كَانَتْ صِيغَتُهُ يَمِينًا.

وَلَا تُسْتَعْمَلُ اللاَّمُ إِلاَّ فِي قَسَمٍ مُتَضَمِّنٍ مَعْنَى التَّعَجُّبِ، كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: «دَخَلَ آدَمُ الْجَنَّةَ فَلِلَّهِ مَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ حَتَّى خَرَجَ».

وَفِي مُغْنِي اللَّبِيبِ وَالْقَامُوسِ وَشَرْحِهِ مَا يُفِيدُ أَنَّ اللاَّمَ تُسْتَعْمَلُ لِلْقَسَمِ وَالتَّعَجُّبِ مَعًا، وَتَخْتَصُّ بِلَفْظِ الْجَلَالَةِ.

هَذَا مَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَنَحْوُهُ بَقِيَّةُ الْمَذَاهِبِ.

حَذْفُ حَرْفِ الْقَسَمِ:

25- إِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْحَالِفُ شَيْئًا مِنْ أَحْرُفِ الْقَسَمِ، بَلْ قَالَ: اللَّهِ لأَفْعَلَنَّ كَذَا مَثَلًا، كَانَ يَمِينًا بِغَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى النِّيَّةِ سَوَاءٌ أَكَسَرَ الْهَاءَ عَلَى سَبِيلِ الْجَرِّ بِالْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ، أَمْ فَتَحَهَا عَلَى سَبِيلِ نَزْعِ الْخَافِضِ، أَمْ ضَمَّهَا عَلَى سَبِيلِ الرَّفْعِ بِالِابْتِدَاءِ، وَيَكُونُ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا وَتَقْدِيرُهُ: قَسَمِي أَوْ أُقْسِمُ بِهِ، أَمْ سَكَّنَهَا إِجْرَاءً لِلْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ.

وَبَقَاءُ الْجَرِّ عِنْدَ حَذْفِ الْحَرْفِ خَاصٌّ بِلَفْظِ الْجَلَالَةِ، فَلَا يَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُقَالَ: الرَّحْمَنِ لأَفْعَلَنَّ كَذَا بِكَسْرِ النُّونِ.كَذَا قِيلَ.لَكِنِ الرَّاجِحُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، وَأَيًّا مَا كَانَ فَاللَّحْنُ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْيَمِينِ.

هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَالَ: اللَّهِ، بِحَذْفِ حَرْفِ الْقَسَمِ.لَمْ يَكُنْ يَمِينًا إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، سَوَاءٌ جَرَّ الِاسْمَ أَمْ نَصَبَهُ أَمْ رَفَعَهُ أَمْ سَكَنَّهُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ قَسَمٌ بِغَيْرِ حُرُوفِهِ، نَحْوَ: اللَّهِ لأَفْعَلَنَّ، جَرًّا وَنَصْبًا.فَإِنْ رُفِعَ فَيَمِينٌ أَيْضًا إِلاَّ إِذَا كَانَ الرَّافِعُ يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ وَلَمْ يَنْوِ الْيَمِينَ، فَلَا يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّهُ إِمَّا مُبْتَدَأٌ أَوْ مَعْطُوفٌ بِخِلَافِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ، فَلَوْ رَفَعَ كَانَ يَمِينًا لِأَنَّ اللَّحْنَ لَا يَضُرُّ.

ج- اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمُقْسَمِ بِهِ:

26- اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمُقْسَمِ بِهِ: هُوَ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ الْقَسَمِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ صِفَةً لَهُ.

وَالْمَقْصُودُ بِالِاسْمِ: مَا دَلَّ عَلَى الذَّاتِ الْمُتَّصِفَةِ بِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَهُوَ لَفْظُ الْجَلَالَةِ (اللَّهُ) وَكَذَلِكَ تَرْجَمَتُهُ بِجَمِيعِ اللُّغَاتِ، أَوْ عَلَى الذَّاتِ الْمُتَّصِفَةِ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى، سَوَاءٌ أَكَانَ مُخْتَصًّا بِهِ كَالرَّحْمَنِ، وَرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَخَالِقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالْأَوَّلِ بِلَا بِدَايَةٍ، وَالْآخِرِ بِلَا نِهَايَةٍ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، وَالَّذِي بَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ بِالْحَقِّ، وَمَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ.أَمْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَالرَّحِيمِ وَالْعَظِيمِ وَالْقَادِرِ وَالرَّبِّ وَالْمَوْلَى وَالرَّازِقِ وَالْخَالِقِ وَالْقَوِيِّ وَالسَّيِّدِ، فَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ قَدْ تُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي حِكَايَةِ مَا قَالَهُ الْهُدْهُدُ لِسُلَيْمَانَ- عليه السلام- وَصْفًا لِمَلَكَةِ سَبَأٍ {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}.وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي وَصْفِ أَهْلِ الْحَدِيقَةِ الَّذِينَ عَزَمُوا عَلَى الْبُخْلِ بِثَمَرِهَا {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} وَمَعْنَى الْحَرْدِ: الْمَنْعُ، وَالْمُرَادُ مَنْعُ الْمَسَاكِينِ، وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ يُوسُفَ- عليه السلام- لِأَحَدِ صَاحِبَيْهِ فِي السِّجْنِ: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ مُخَاطِبًا لِزَوْجَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} وَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ مُخَاطِبًا لِمَنْ يَقْسِمُونَ الْمِيرَاثَ {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}

وَقَالَ سُبْحَانَهُ مُخَاطِبًا لِعِيسَى- عليه السلام- {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي} وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ لِأَبِيهَا عَنْ مُوسَى- عليه السلام- {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ}

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


220-موسوعة الفقه الكويتية (أيمان 4)

أَيْمَانٌ -4

تَعْلِيقُ الْحَرَامِ:

80- سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى تَحْرِيمِ الْعَيْنِ أَوِ الْفِعْلِ، وَأَنَّهُ يُعَدُّ يَمِينًا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَإِنْ كَانَ مُنَجَّزًا.كَمَا سَبَقَ أَنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ: الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي لأَفْعَلَنَّ كَذَا، يُعَدُّ طَلَاقًا أَوْ ظِهَارًا أَوْ عَتَاقًا أَوْ يَمِينًا.

وَأَيًّا مَا كَانَ، فَتَعْلِيقُ الْحَرَامِ يُقَالُ فِيهِ مَا قِيلَ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ، فَلَا حَاجَةَ لِلْإِطَالَةِ بِهِ.وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَنْ يَقُولَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا أَوْ إِنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا أَوْ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَا أَوْ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَا فَزَوْجَتِي عَلَيَّ حَرَامٌ.

هَذِهِ أَمْثِلَةٌ لِلتَّعْلِيقِ الصَّرِيحِ.

وَأَمَّا التَّعْلِيقُ الْمُقَدَّرُ فَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: عَلَيَّ الْحَرَامُ، أَوِ الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي، أَوْ زَوْجَتِي عَلَيَّ حَرَامٌ لأَفْعَلَنَّ كَذَا أَوْ لَا أَفْعَلُ كَذَا، أَوْ لَقَدْ كَانَ كَذَا أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَا.

وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَقَوْلِهِ: مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَلَيَّ حَرَامٌ.وَقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ خَمْسَةَ عَشَرَ مَذْهَبًا، وَيَكْفِي هُنَا الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا.وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْمَذَاهِبِ فِيهَا.

ثُمَّ نُقِلَ عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ اخْتِيَارُ مَذْهَبٍ فَوْقَ الْخَمْسَةَ عَشْرَةَ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ أَوْقَعَ التَّحْرِيمَ كَانَ ظِهَارًا وَلَوْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ، وَإِنْ حَلَفَ بِهِ كَانَ يَمِينًا مُكَفَّرَةً، فَإِنَّهُ إِذَا أَوْقَعَهُ كَانَ قَدْ أَتَى مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، وَكَانَ أَوْلَى بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ مِمَّنْ شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِالْمُحَرَّمَةِ، وَإِذَا حَلَفَ كَانَ يَمِينًا مِنَ الْأَيْمَانِ، كَمَا لَوْ حَلَفَ بِالْتِزَامِ الْعِتْقِ وَالْحَجِّ وَالصَّدَقَةِ وَأَسْهَبَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى ذَلِكَ.

شَرَائِطُ الْيَمِينِ التَّعْلِيقِيَّةِ:

81- يُشْتَرَطُ فِي الْيَمِينِ التَّعْلِيقِيَّةِ شَرَائِطُ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى مُنْشِئِ التَّعْلِيقِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إِلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ، وَبَعْضُهَا إِلَى جُمْلَةِ الْجَزَاءِ.

شَرَائِطُ مُنْشِئِ التَّعْلِيقِ (وَهُوَ الْحَالِفُ):

82- يُشْتَرَطُ فِيهِ شَرَائِطُ مُفَصَّلَةٌ فِي الْحَالِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى.

مَا يُشْتَرَطُ فِي جُمْلَةِ الشَّرْطِ:

83- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ التَّعْلِيقِ شَرَائِطُ تَتَعَلَّقُ بِالْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ، وَهِيَ مُفَصَّلَةٌ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُعْتَبَرُ تَعْلِيقُهَا يَمِينًا، وَنُشِيرُ هُنَا إِلَيْهَا إِجْمَالًا وَهِيَ:

(الشَّرِيطَةُ الْأُولَى): أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُ فِعْلِهَا مَعْدُومًا مُمْكِنَ الْوُجُودِ.فَالْمُحَقَّقُ نَحْوُ: إِنْ كَانَتِ السَّمَاءُ فَوْقَنَا فَامْرَأَتِي طَالِقٌ، يُعْتَبَرُ تَنْجِيزًا لَا تَعْلِيقًا، وَالْمُسْتَحِيلُ نَحْوُ: إِنْ دَخَلَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ فَزَوْجَتِي كَذَا، يُعْتَبَرُ لَغْوًا لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْحِنْثِ.

84- (الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ): الْإِتْيَانُ بِجُمْلَةِ الشَّرْطِ، فَلَوْ أَتَى بِأَدَاةِ الشَّرْطِ وَلَمْ يَأْتِ بِالْجُمْلَةِ- وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا- كَانَ الْكَلَامُ لَغْوًا، وَمِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ، أَوْ يَقُولَ بَعْدَ جُمْلَةِ الطَّلَاقِ «إِنْ كَانَ» أَوْ «إِنْ لَمْ يَكُنْ» أَوْ «إِلاَّ» أَوْ «لَوْلَا» فَفِي كُلِّ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ يَكُونُ الْكَلَامُ لَغْوًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَمَا فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تَطْلُقُ لِلْحَالِ.

85- (الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ): وَصْلُهَا بِجُمْلَةِ الْجَزَاءِ، فَلَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، ثُمَّ سَكَتَ، وَلَوْ بِقَدْرِ التَّنَفُّسِ بِلَا تَنَفُّسٍ وَبِلَا ضَرُورَةٍ، أَوْ تَكَلَّمَ كَلَامًا أَجْنَبِيًّا ثُمَّ قَالَ: فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيقُ، بَلْ يَكُونُ طَلَاقًا مُنَجَّزًا.

86- (الشَّرِيطَةُ الرَّابِعَةُ): أَلاَّ يَقْصِدَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْإِتْيَانِ بِهَا الْمُجَازَاةَ، فَإِنْ قَصَدَهَا كَانَتْ جُمْلَةُ الْجَزَاءِ تَنْجِيزًا لَا تَعْلِيقًا.

مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ تَنْسُبَ امْرَأَةٌ إِلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ فَاسِقٌ، فَيَقُولَ لَهَا: إِنْ كُنْتُ كَمَا قُلْتِ فَأَنْتِ كَذَا، فَيُتَنَجَّزُ الطَّلَاقُ، سَوَاءٌ أَكَانَ كَمَا قَالَتْ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ فِي الْغَالِبِ لَا يُرِيدُ إِلاَّ إِيذَاءَهَا بِالطَّلَاقِ الْمُنَجَّزِ عُقُوبَةً لَهَا عَلَى شَتْمِهِ.

فَإِنْ قَالَ: قَصَدْتُ التَّعْلِيقَ، لَمْ يُقْبَلْ قَضَاءً، بَلْ يَدِينُ عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ أَهْلُ بُخَارَى مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

87- (الشَّرِيطَةُ الْخَامِسَةُ): أَنْ يَكُونَ مُسْتَقْبَلًا إِثْبَاتًا أَوْ نَفْيًا، وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ إِنَّمَا تُشْتَرَطُ فِي تَعْلِيقِ الْكُفْرِ لَا فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ.ثُمَّ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرِطُونَهَا فِي تَعْلِيقِ الْكُفْرِ إِنَّمَا هُمُ الَّذِينَ يَشْتَرِطُونَهَا فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى.

وَالْخُلَاصَةُ أَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ يَصِحُّ فِي الْمَاضِي كَمَا يَصِحُّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ غَمُوسًا عِنْدَ مُخَالَفَةِ الْوَاقِعِ، بِخِلَافِ تَعْلِيقِ الْكُفْرِ، فَمَنْ قَالَ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى خِلَافِ مَا قُلْتُهُ، أَوْ: إِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتُهُ، أَوْ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ فُلَانٌ فَامْرَأَتِي كَذَا، أَوْ: فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ، أَوْ: فَهُوَ يَهُودِيٌّ، فَإِنْ كَانَ مَا أَثْبَتَهُ مَنْفِيًّا فِي الْوَاقِعِ، أَوْ مَا نَفَاهُ ثَابِتًا فِي الْوَاقِعِ طَلُقَتِ امْرَأَتُهُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَتُخَيَّرُ بَيْنَ مَا الْتَزَمَهُ مِنَ الصِّيَامِ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ فِي الصُّورَةِ الْأَخِيرَةِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِعَدَمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ.

مَا يُشْتَرَطُ فِي جُمْلَةِ الْجَزَاءِ:

88- لَيْسَ كُلُّ تَعْلِيقٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا شَرْعًا، وَإِنَّمَا الَّذِي يَصْلُحُ مَا كَانَ جَزَاؤُهُ وَاحِدًا مِنْ سِتَّةٍ، وَهِيَ: الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالْتِزَامُ الْقُرْبَةِ وَالْكُفْرُ وَالظِّهَارُ وَالْحَرَامُ.

فَيُشْتَرَطُ فِي جُمْلَةِ الْجَزَاءِ: أَنْ يَكُونَ مَضْمُونُهَا وَاحِدًا فِي هَذِهِ السِّتَّةِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِالْأَرْبَعَةِ الْأُوَلِ فَقَطْ، وَلَمْ يَذْكُرُوا تَعْلِيقَ الظِّهَارِ، وَلَا تَعْلِيقَ الْحَرَامِ، لَكِنَّهُمْ جَعَلُوا تَحْرِيمَ الْحَلَالِ فِي حُكْمِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ يَشْمَلُ الْمُنَجَّزَ وَالْمُعَلَّقَ، فَلَمْ يَبْقَ خَارِجًا عَنْ كَلَامِهِمْ سِوَى تَعْلِيقِ الظِّهَارِ.

وَيُشْتَرَطُ فِي جُمْلَةِ الْجَزَاءِ شَرِيطَةٌ ثَانِيَةٌ وَهِيَ: أَلاَّ يَذْكُرَ فِيهَا اسْتِثْنَاءً بِنَحْوِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتِ كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِنْ فَعَلْتِ كَذَا، أَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ فَعَلْتِ كَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَطَلَ تَعْلِيقُهُ.

وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.

وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، فَقَالُوا: لَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ بِالْمَشِيئَةِ فِيمَا لَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَمَثَّلَ لَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْتِزَامِ الْقُرْبَةِ، وَمَثَّلَ لَهُ الْحَنَابِلَةُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْقُرْبَةِ بِقَصْدِ الْيَمِينِ يَلْزَمُ فِيهِ مَا الْتَزَمَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَيُخَيَّرُ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَ مَا الْتَزَمَهُ وَبَيْنَ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي: الْحَلِفِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَبِالظِّهَارِ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ: عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ عَلَيَّ يَمِينٌ أَوْ عَلَيَّ كَفَّارَةٌ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي: الْحَلِفِ بِاللَّهِ، وَالظِّهَارِ، وَفِي تَعْلِيقِ النَّذْرِ بِقَصْدِ الْحَلِفِ، وَتَعْلِيقِ الْكُفْرِ.

وَهَذَا الْمَنْقُولُ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ هُوَ أَشْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عَنْ مَالِكٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ.

وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى الْمُوَافِقَةَ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ، فَقَالَ: هَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ الْمَأْثُورُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ.

لَكِنْ جَرَى صَاحِبُ الْمُنْتَهَى وَغَيْرُهُ عَلَى اخْتِصَاصِ الْمَشِيئَةِ بِمَا يُكَفِّرُ عَنْهُ فَتَكُونُ الرِّوَايَةُ الْأُولَى هِيَ الرَّاجِحَةَ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْحَنَابِلَةِ.

التَّعْلِيقُ الَّذِي لَا يُعَدُّ يَمِينًا شَرْعًا:

89- لَمَّا كَانَتِ التَّعْلِيقَاتُ السِّتَّةُ السَّابِقَةُ إِنَّمَا تُعَدُّ أَيْمَانًا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَمَا عَدَاهَا مِنَ التَّعْلِيقَاتِ لَا يُعَدُّ يَمِينًا أَصْلًا كَانَ التَّعْلِيقُ الَّذِي لَا يُعَدُّ يَمِينًا نَوْعَيْنِ.

أَحَدُهُمَا: مَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْحَثَّ وَلَا الْمَنْعَ وَلَا تَحْقِيقَ الْخَبَرِ، وَقَدْ خَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ فَعَدُّوهُ يَمِينًا، وَاشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ تَعْلِيقُهُ تَعْلِيقًا مَحْضًا.

وَثَانِيهِمَا: كُلُّ تَعْلِيقٍ مِنَ السِّتَّةِ اخْتَلَّتْ فِيهِ شَرِيطَةٌ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ التَّعْلِيقِ.

تَعْلِيقُ غَيْرِ السِّتَّةِ:

90- كُلُّ تَعْلِيقٍ لِغَيْرِ السِّتَّةِ لَا يُعَدُّ يَمِينًا شَرْعًا وَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ يَقْصِدُ بِهِ تَأْكِيدَ الْحَمْلِ عَلَى شَيْءٍ أَوِ الْمَنْعَ عَنْهُ أَوِ الْخَبَرَ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا بَرِيءٌ مِنَ الشَّفَاعَةِ؛ لِأَنَّ إِنْكَارَ الشَّفَاعَةِ بِدْعَةٌ، وَلَيْسَ كُفْرًا، أَوْ يَقُولُ: فَصَلَاتِي وَصِيَامِي لِهَذَا الْكَافِرِ قَاصِدًا أَنَّ ثَوَابَهُمَا يَنْتَقِلُ إِلَى هَذَا الْكَافِرِ، فَهَذَا الْقَوْلِ لَيْسَ كُفْرًا، فَإِنْ قَصَدَ بِهِ أَنَّ صَلَاتَهُ وَصِيَامَهُ عِبَادَةٌ لِهَذَا الْكَافِرِ، أَيْ: أَنَّهُ يَعْبُدُهُ كَانَتْ يَمِينًا لِأَنَّ هَذَا كُفْرٌ.

وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ: إِنْ فَعَلَ كَذَا فَعَلَيْهِ غَضَبُ اللَّهِ أَوْ سَخَطُهُ أَوْ لَعْنَتُهُ، أَوْ فَهُوَ زَانٍ أَوْ سَارِقٌ أَوْ شَارِبُ خَمْرٍ أَوْ آكِلُ رِبًا، فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يَمِينًا شَرْعًا.

هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ:

91- الْمُرَادُ بِالِاسْتِثْنَاءِ هُنَا هُوَ التَّعْلِيقُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا يُبْطِلُ الْحُكْمَ، كَمَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ: سَأَفْعَلُ كَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا التَّعْلِيقُ اسْتِثْنَاءً لِشَبَهِهِ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ فِي صَرْفِ اللَّفْظِ السَّابِقِ عَنْ ظَاهِرِهِ.

وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّي هَذَا التَّعْلِيقَ (اسْتِثْنَاءَ تَعْطِيلٍ) لِأَنَّهُ يُعَطِّلُ الْعَقْدَ أَوِ الْوَعْدَ أَوْ غَيْرَهُمَا.

وَالْفُقَهَاءُ يَذْكُرُونَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْأَيْمَانِ حِينَمَا يَقُولُونَ: إِنَّ مِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْيَمِينِ عَدَمُ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ إِلاَّ الِاسْتِثْنَاءَ، بِمَعْنَى التَّعْلِيقِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي لَوْ وُجِدَ لَبَطَلَ حُكْمُ الْيَمِينِ.

وَالضَّابِطُ الَّذِي يَجْمَعُ صُوَرَ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ: كُلُّ لَفْظٍ لَا يُتَصَوَّرُ مَعَهُ الْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ، كَمَا لَوْ قَالَ الْحَالِفُ عَقِبَ حَلِفِهِ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، أَوْ إِلاَّ أَنْ يَبْدُوَ لِي غَيْرُ هَذَا، أَوْ إِنْ أَعَانَنِي اللَّهُ، أَوْ يَسَّرَ اللَّهُ، أَوْ قَالَ: بِعَوْنِ اللَّهِ أَوْ بِمَعُونَةِ اللَّهِ أَوْ بِتَيْسِيرِهِ.

التَّعْلِيقُ بِالِاسْتِطَاعَةِ:

92- لَوْ قَالَ الْحَالِفُ: وَاللَّهِ لأَفْعَلَنَّ كَذَا إِنِ اسْتَطَعْتُ أَوْ: لأَفْعَلَنَّ كَذَا إِلاَّ أَلاَّ أَسْتَطِيعَ، فَإِنْ أَرَادَ بِهَا الِاسْتِطَاعَةَ الْخَاصَّةَ بِالْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ أَبَدًا لِأَنَّهَا مُقَارِنَةٌ لِلْفِعْلِ، فَلَا تُوجَدُ مَا لَمْ يُوجَدِ الْفِعْلُ.

وَإِنْ أَرَادَ الِاسْتِطَاعَةَ الْعَامَّةَ، وَهِيَ سَلَامَةُ الْآلَاتِ وَالْأَسْبَابِ وَالْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ هَذِهِ الِاسْتِطَاعَةُ فَلَمْ يَفْعَلْ حَنِثَ، وَإِلاَّ لَمْ يَحْنَثْ.

وَهَذَا لِأَنَّ لَفْظَ الِاسْتِطَاعَةِ يَحْتَمِلُ كُلًّا مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْمُشْرِكِينَ: {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ حَاكِيًا خِطَابَ الْخِضْرِ لِمُوسَى- عليهما السلام- {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} وَالْمُرَادُ فِي الْآيَتَيْنِ الِاسْتِطَاعَةُ الْمُقَارِنَةُ لِلْفِعْلِ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} وَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَالْمُرَادُ بِالِاسْتِطَاعَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ سَلَامَةُ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي- وَهُوَ سَلَامَةُ الْأَسْبَابِ- لِأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يُرَادُ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، فَيَنْصَرِفُ إِلَيْهِ اللَّفْظُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ.

أَثَرُ الِاسْتِثْنَاءِ وَمَا يُؤَثِّرُ فِيهِ:

93- وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُتَّصِلُ «بِإِلاَّ» وَنَحْوِهَا مَتَى وُجِدَتْ شَرَائِطُهُ أَفَادَ التَّخْصِيصَ فِي الْيَمِينِ الْقَسَمِيَّةِ والتَّعْلِيقِيَّةِ، وَفِي غَيْرِ الْيَمِينِ أَيْضًا، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: وَاللَّهِ لَا آكُلُ سَمْنًا إِلاَّ فِي الشِّتَاءِ، وَإِنْ أَكَلْتُهُ فِي غَيْرِ الشِّتَاءِ فَنِسَائِي طَوَالِقُ إِلاَّ فُلَانَةَ، أَوْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ إِلاَّ فُلَانًا، وَإِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا فَعَلَيَّ الْمَشْيُ إِلَى مَكَّةَ إِلاَّ أَنْ يُكَلِّمَنِي ابْتِدَاءً.

وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا أَيْضًا قَوْلُ الْقَائِلِ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشْرَةُ دَنَانِيرَ إِلاَّ ثَلَاثَةً، وَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلاَّ اثْنَتَيْنِ كَمَا سَبَقَ.

وَالِاسْتِثْنَاءُ بِمَعْنَى تَعْلِيقِ الْمَشِيئَةِ وَنَحْوِهِ يُفِيدُ إِبْطَالَ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ يَمِينًا قَسَمِيَّةً أَمْ يَمِينًا تَعْلِيقِيَّةً أَمْ غَيْرَهُمَا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ.

وَذَهَبَ مَالِكٌ فِي أَشْهَرِ الْقَوْلَيْنِ، وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ- وَهِيَ أَرْجَحُهُمَا- إِلَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْإِبْطَالَ، إِلاَّ فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِمَّا فِيهِ كَفَّارَةٌ، فَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ لَا يَبْطُلَانِ بِتَعْلِيقِ الْمَشِيئَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَا مُنَجَّزَيْنِ أَمْ مُعَلَّقَيْنِ، فَمَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَأَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ إِنْ خَرَجْتِ مِنَ الدَّارِ فَأَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، يَقَعُ طَلَاقُهُ مُنَجَّزًا فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ، وَيَقَعُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فِي الْمِثَالِ الثَّانِي، وَعِنْدَ خُرُوجِهَا مِنَ الدَّارِ فِي الْمِثَالِ الثَّالِثِ، وَأَمَّا تَعْلِيقُ الْتِزَامِ الْقُرْبَةِ بِقَصْدِ الْيَمِينِ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَلْزَمُهُ فِيهِ مَا الْتَزَمَهُ، فَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالْمَشِيئَةِ فَلَا تَبْطُلُ الْيَمِينُ بِهِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ فَيَصِحُّ عِنْدَهُمْ تَعْلِيقُهُ بِالْمَشِيئَةِ.وَهُنَاكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي فَتَاوَاهُ، وَهُوَ: أَنَّ الْمَشِيئَةَ تُفِيدُ الْإِبْطَالَ فِي كُلِّ مَا كَانَ حَلِفًا سَوَاءٌ أَكَانَ قَسَمًا بِاللَّهِ أَمْ تَعْلِيقًا لِلطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ، وَلَا تُفِيدُ الْإِبْطَالَ فِيمَا لَيْسَ حَلِفًا كَتَنْجِيزِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْتِزَامِ الْقُرْبَةِ وَتَعْلِيقِهَا بِغَيْرِ قَصْدِ الْحَلِفِ كَتَعْلِيقِهَا عَلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ.

94- هَذَا وَيُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ» فَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ حَلَفَ» يَشْمَلُ الْحَالِفَ بِالصِّيغَةِ الْقَسَمِيَّةِ وَبِالصِّيغَةِ التَّعْلِيقِيَّةِ، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ كُلُّ عَقْدٍ وَكُلُّ حِلٍّ.

شَرَائِطُ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ:

95- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ شَرَائِطُ:

(الشَّرِيطَةُ الْأُولَى): الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ كِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةِ أَخْرَسَ- كَمَا تَقَدَّمَ فِي شَرَائِطِ الْحَالِفِ- ثُمَّ إِنْ كَانَتْ بِاللَّفْظِ وَجَبَ الْإِسْمَاعُ وَلَوْ بِالْقُوَّةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

ثُمَّ اشْتِرَاطُ الدَّلَالَةِ بِاللَّفْظِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ يَخْرُجُ بِهِ مَا لَوْ نَوَى الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ، فَلَا تَكْفِي النِّيَّةُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، لَكِنْ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ النِّيَّةَ تَكْفِي فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِإِلاَّ وَأَخَوَاتِهَا قَبْلَ انْتِهَاءِ النُّطْقِ بِالْيَمِينِ، وَكَالِاسْتِثْنَاءِ بِإِلاَّ سَائِرُ التَّخْصِيصَاتِ كَالشَّرْطِ، وَالصِّفَةِ، وَالْغَايَةِ، وَمِثَالُ الشَّرْطِ: وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُ زَيْدًا إِنْ لَمْ يَأْتِنِي، وَمِثَالُ الصِّفَةِ: لَا أُكَلِّمُهُ وَهُوَ رَاكِبٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالصِّفَةِ مَا يَشْمَلُ الْحَالَ، وَمِثَالُ الْغَايَةِ: لَا أُكَلِّمُهُ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي (اسْتِثْنَاءٍ وَطَلَاقٍ).

96- وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ نُطْقُ غَيْرِ الْمَظْلُومِ الْخَائِفِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ...يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ النُّطْقِ بِاللِّسَانِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ هُوَ اللَّفْظُ، وَأَمَّا الْمَظْلُومُ الْخَائِفُ فَتَكْفِيهِ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ، أَوْ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَأَوِّلِ.

97- (الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ): أَنْ يَصِلَ الْمُتَكَلِّمُ الِاسْتِثْنَاءَ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ، فَلَوْ فَصَلَ عَنْهُ بِسُكُوتٍ كَثِيرٍ بِغَيْرِ عُذْرٍ، أَوْ بِكَلَامٍ أَجْنَبِيٍّ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، فَلَا يُخَصَّصُ مَا قَبْلَهُ إِنْ كَانَ اسْتِثْنَاءً بِنَحْوِ إِلاَّ، وَلَا يُلْغِيهِ إِنْ كَانَ بِنَحْوِ الْمَشِيئَةِ.

وَمِنَ الْأَعْذَارِ: التَّنَفُّسُ وَالسُّعَالُ وَالْجُشَاءُ وَالْعُطَاسُ وَثِقَلُ اللِّسَانِ وَإِمْسَاكُ إِنْسَانٍ فَمَ الْمُتَكَلِّمِ، فَالْفَصْلُ بِالسُّكُوتِ لِهَذِهِ الْأَعْذَارِ كُلِّهَا لَا يَضُرُّ. وَالْمُرَادُ بِالسُّكُوتِ الْكَثِيرِ مَا كَانَ بِقَدْرِ التَّنَفُّسِ بِغَيْرِ تَنَفُّسٍ، عَلَى مَا أَفَادَهُ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ.

وَالْمُرَادُ بِالْكَلَامِ الْأَجْنَبِيِّ مَا لَمْ يُفِدْ مَعْنًى جَدِيدًا، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَثَلَاثًا إِلاَّ وَاحِدَةً إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَهَذَا الْعَطْفُ لَغْوٌ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ هِيَ أَكْثَرُ الطَّلَاقِ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ.

98- وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ إِجْمَالًا (وَهِيَ عَدَمُ الْفَصْلِ بِلَا عُذْرٍ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْفَاصِلِ مِنْ سُكُوتٍ أَوْ كَلَامٍ، مَتَى يُعَدُّ مَانِعًا مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَمَتَى لَا يُعَدُّ؟ وَالتَّفَاصِيلُ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا هِيَ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الْحَنَفِيَّةُ، وَفِي كُتُبِ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى تَفَاصِيلُ يَطُولُ الْكَلَامُ عَلَيْهَا، فَلْتُرَاجَعْ فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَدَمُ اشْتِرَاطِ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ كَانَ يَرَى الِاسْتِثْنَاءَ وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ وَيَقْرَأُ قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي رَجُلٍ حَلَفَ وَنَسِيَ أَنْ يَسْتَثْنِيَ، قَالَ: لَهُ ثَنِيَّاهُ إِلَى شَهْرٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَلَهُ الثَّنِيَّا حَلْبُ نَاقَةٍ قَالَ: وَكَانَ طَاوُسُ يَقُولُ: مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيُّ قَالَ: يَسْتَثْنِي مَا دَامَ فِي كَلَامِهِ.

وَمِمَّا يُؤَيِّدُ اشْتِرَاطَ عَدَمِ الْفَصْلِ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ جَوَازُ الْفَصْلِ وَعَدَمُ تَأْثِيرِهِ فِي الْأَحْكَامِ، وَلَا سِيَّمَا إِلَى الْغَايَةِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لَمَا تَقَرَّرَ إِقْرَارٌ وَلَا طَلَاقٌ وَلَا عَتَاقٌ، وَلَمْ يُعْلَمْ صِدْقٌ وَلَا كَذِبٌ.وَأَيْضًا لَوْ صَحَّ هَذَا لأَقَرَّ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَيُّوبَ- عليه السلام- بِالِاسْتِثْنَاءِ رَفْعًا لِلْحِنْثِ، فَإِنَّهُ أَقَلُّ مُؤْنَةً مِمَّا أَرْشَدَهُ سُبْحَانَهُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ}.

99- (الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ) الْقَصْدُ: وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ ذَكَرَهَا الْمَالِكِيَّةُ وَعُنُوا بِهَا: قَصْدُ اللَّفْظِ مَعَ قَصْدِ مَعْنَاهُ، وَخَرَجَ بِذَلِكَ أَمْرَانِ.أَحَدُهُمَا: أَنْ يَجْرِيَ اللَّفْظُ عَلَى لِسَانِ الْحَالِفِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، فَلَا يُعْتَبَرُ الِاسْتِثْنَاءُ بِإِلاَّ مُخَصَّصًا، وَلَا الِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ مُبْطِلًا.

ثَانِيهِمَا: مَا لَوْ قَصَدَ التَّبَرُّكَ بِذِكْرِ الْمَشِيئَةِ، أَوْ قَصَدَ الْإِخْبَارَ بِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ يَحْصُلُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَفِي هَذِهِ الْحَالِ لَا تَبْطُلُ الْيَمِينُ، بَلْ تَبْقَى مُنْعَقِدَةً، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا، بِأَنْ قَصَدَ مُجَرَّدَ النُّطْقِ بِلَفْظِ الِاسْتِثْنَاءِ بِنَوْعَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْوِيَ تَخْصِيصَ الْيَمِينِ وَحِلَّهَا.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ قَصْدَ الِاسْتِثْنَاءِ إِنْ كَانَ مَعَ الْيَمِينِ مِنْ أَوَّلِهَا أَوْ فِي أَثْنَائِهَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ النُّطْقِ بِالْيَمِينِ صَحَّ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَعَلَيْهِ لَوْ حَلَفَ، فَذَكَّرَهُ إِنْسَانٌ قَائِلًا: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، فَقَالَهُ بِغَيْرِ فَصْلٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِي نِيَّتِهِ مِنْ قَبْلُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَنَفِيَّةُ هَذِهِ الشَّرِيطَةَ.

وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ شَرَطُوا الْقَصْدَ مَعَ الْعِلْمِ بِالْمَعْنَى، وَشَرَطُوا كَوْنَ الْقَصْدِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنَ الْيَمِينِ، وَقَالُوا: لَوْ لَمْ يَقْصِدِ الِاسْتِثْنَاءَ إِلاَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْيَمِينِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ رَفْعُ الْيَمِينِ بَعْدَ انْعِقَادِهَا، وَقَالُوا أَيْضًا: يَصِحُّ تَقْدِيمُ الِاسْتِثْنَاءِ وَتَوْسِيطُهُ.

100- (الشَّرِيطَةُ الرَّابِعَةُ): أَنْ يَكُونَ حَلِفُهُ فِي غَيْرِ تَوَثُّقٍ بِحَقٍّ.

وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ نَصَّ عَلَيْهَا الْمَالِكِيَّةُ.وَإِيضَاحُهَا: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ الْحَلِفُ الَّذِي ذُكِرَ مَعَهُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي غَيْرِ تَوَثُّقٍ بِحَقٍّ، كَمَا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ أَلاَّ يَضُرَّ زَوْجَتَهُ فِي عِشْرَةٍ، أَوْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْ بَلَدِهَا، وَكَأَنْ يَشْرِطَ عَلَيْهِ فِي بَيْعٍ أَنْ يَأْتِيَ بِالثَّمَنِ فِي وَقْتِ كَذَا، وَطُلِبَ مِنْهُ يَمِينٌ عَلَى ذَلِكَ، فَحَلَفَ وَاسْتَثْنَى سِرًّا لَمْ يُفِدْهُ الِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَ سَحْنُونٍ وَأَصْبَغَ وَابْنِ الْمَوَّازِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، خِلَافًا لِمَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ يَنْفَعُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا ذُكِرَ، فَلَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، لَكِنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ بِمَنْعِهِ حَقَّ الْغَيْرِ.

وَالَّذِي يَتَصَفَّحُ كُتُبَ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى يَجِدُ أَنَّهُ مَا مِنْ مَذْهَبٍ إِلاَّ يَرَى أَصْحَابُهُ أَنَّ الْيَمِينَ تَكُونُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ- وَسَيَأْتِي ذَلِكَ- فَيُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ بِأَنْ يُقَالَ: يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ أَلاَّ يَكُونَ عَلَى خِلَافِ نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ، فِي الصُّوَرِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا مُرَاعَاةُ نِيَّتِهِ.

أَحْكَامُ الْيَمِينِ

101- تَقَدَّمَ أَنَّ الْيَمِينَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ قَسَمِيَّةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ تَعْلِيقِيَّةً.وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَحْكَامٌ.

أَحْكَامُ الْيَمِينِ الْقَسَمِيَّةِ:

أَحْكَامُ الْيَمِينِ الْقَسَمِيَّةِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ ثُمَّ بَيَانُ أَحْكَامِهَا.

أَنْوَاعُ الْيَمِينِ الْقَسَمِيَّةِ:

قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الْيَمِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَمَا أُلْحِقَ بِهَا كَتَعْلِيقِ الْكُفْرِ- مِنْ حَيْثُ الْكَذِبُ وَعَدَمُهُ- إِلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ، وَهِيَ: الْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَالْيَمِينُ اللَّغْوُ، وَالْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ.

102- فَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ: هِيَ الْكَاذِبَةُ عَمْدًا فِي الْمَاضِي أَوِ الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَلَى النَّفْيِ أَمْ عَلَى الْإِثْبَاتِ كَأَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ فَعَلَهُ، أَوْ وَاللَّهِ لَقَدْ فَعَلْتُ كَذَا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ، أَوْ: وَاللَّهِ مَا لَكَ عَلَيَّ دَيْنٌ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ لِلْمُخَاطَبِ دَيْنًا عَلَيْهِ، أَوْ: وَاللَّهِ لَا أَمُوتُ أَبَدًا. وَكَأَنْ يَقُولَ: إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ كَذَا، أَوْ إِنْ لَمْ أَكُنْ فَعَلْتُهُ، أَوْ إِنْ كَانَ لَكَ عَلَيَّ دَيْنٌ، أَوْ إِنْ مِتُّ فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ.هَذَا تَعْرِيفُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْغَمُوسَ هِيَ الْحَلِفُ بِاللَّهِ مَعَ شَكٍّ مِنَ الْحَالِفِ فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، أَوْ مَعَ ظَنٍّ غَيْرِ قَوِيٍّ، أَوْ مَعَ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى مَاضٍ نَحْوُ: وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا، أَوْ لَمْ يَفْعَلْ زَيْدٌ كَذَا، مَعَ شَكِّهِ فِي عَدَمِ الْفِعْلِ، أَوْ ظَنِّهِ عَدَمَهُ ظَنًّا غَيْرَ قَوِيٍّ، أَوْ جَزْمِهِ بِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ، أَمْ كَانَ عَلَى حَاضِرٍ نَحْوُ: وَاللَّهِ إِنَّ زَيْدًا لَمُنْطَلِقٌ أَوْ مَرِيضٌ، وَهُوَ جَازِمٌ بِعَدَمِ ذَلِكَ، أَوْ مُتَرَدِّدٌ فِي وُجُودِهِ عَلَى سَبِيلِ الشَّكِّ أَوِ الظَّنِّ غَيْرِ الْقَوِيِّ، أَمْ كَانَ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ نَحْوُ: وَاللَّهِ لآَتِيَنَّكَ غَدًا، أَوْ لأَقْضِيَنَّكَ حَقَّكَ غَدًا وَهُوَ جَازِمٌ بِعَدَمِ ذَلِكَ، أَوْ مُتَرَدِّدٌ فِي حُصُولِهِ عَلَى سَبِيلِ الشَّكِّ أَوِ الظَّنِّ غَيْرِ الْقَوِيِّ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْغَمُوسَ هِيَ الْمَحْلُوفَةُ عَلَى مَاضٍ مَعَ كَذِبِ صَاحِبِهَا وَعِلْمِهِ بِالْحَالِ.

وَالْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لَا يُوَافِقُونَ الْمَالِكِيَّةَ عَلَى التَّوَسُّعِ فِي تَفْسِيرِ الْغَمُوسِ.

103- وَالْيَمِينُ اللَّغْوُ: اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهَا أَيْضًا، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: هِيَ الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ خَطَأً أَوْ غَلَطًا فِي الْمَاضِي أَوْ فِي الْحَالِ، وَهِيَ: أَنْ يُخْبِرَ إِنْسَانٌ عَنِ الْمَاضِي أَوْ عَنِ الْحَالِ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ كَمَا أَخْبَرَ، وَهُوَ بِخِلَافِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي النَّفْيِ أَمْ فِي الْإِثْبَاتِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ إِقْسَامًا بِاللَّهِ تَعَالَى أَمْ تَعْلِيقًا لِلْكُفْرِ، كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ مَا كَلَّمْتُ زَيْدًا، وَفِي ظَنِّهِ أَنَّهُ لَمْ يُكَلِّمْهُ، وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ كَلَّمَهُ.

هَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ الْمُتُونِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ اللَّغْوَ: مَا يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِمْ لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ، أَيْ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الْيَمِينِ.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ نَوْعًا آخَرَ مِنَ اللَّغْوِ، فَيَكُونُ اللَّغْوُ عِنْدَهُمْ نَوْعَيْنِ وَكِلَاهُمَا فِي الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ دُونَ الْمُسْتَقْبَلِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ اللَّغْوَ هُوَ الْحَلِفُ بِاللَّهِ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ أَوِ الظَّنِّ الْقَوِيِّ فَيَظْهَرُ خِلَافُهُ سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ إِثْبَاتًا أَمْ نَفْيًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَاضِيًا أَمْ حَاضِرًا أَمْ مُسْتَقْبَلًا.

وَيُلَاحَظُ أَنَّهُمْ مَثَّلُوا بِالْمُسْتَقْبَلِ بِمَا لَوْ قَالَ «وَاللَّهِ لأَفْعَلَنَّ كَذَا» مَعَ الْجَزْمِ أَوِ الظَّنِّ الْقَوِيِّ بِفِعْلِهِ ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْيَمِينُ اللَّغْوُ هِيَ الَّتِي يُسْبَقُ اللِّسَانُ إِلَى لَفْظِهَا بِلَا قَصْدٍ لِمَعْنَاهَا، كَقَوْلِهِمْ «لَا وَاللَّهِ» «وَبَلَى وَاللَّهِ» فِي نَحْوِ صِلَةِ كَلَامٍ أَوْ غَضَبٍ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي الْمَاضِي أَمِ الْحَالِ أَمِ الْمُسْتَقْبَلِ.

وَهُمْ يُخَالِفُونَ الْحَنَفِيَّةَ فِي هَذَا الْأَخِيرِ، وَهُوَ مَا كَانَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لَغْوَ الْيَمِينِ كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ، وَوَافَقُوهُمْ أَيْضًا فِي أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى مَاضٍ كَاذِبًا جَاهِلًا صَدَّقَ نَفْسَهُ، أَوْ ظَانًّا صِدْقَ نَفْسِهِ، فَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ لَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَا يُسَمِّيهِ الْحَنَفِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ لَغْوًا يُوَافِقُهُمُ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى حُكْمِهِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمُّوهُ لَغْوًا.وَنَقَلَ صَاحِبُ غَايَةِ الْمُنْتَهَى عَنِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ ظَانًّا صِدْقَ نَفْسِهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ لَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ، وَكَذَا مَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ ظَانًّا أَنَّهُ يُطِيعُهُ فَلَمْ يَفْعَلْ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَغْوٌ، ثُمَّ قَالَ: وَالْمَذْهَبُ خِلَافُهُ.

ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، لقوله تعالى فِي هَذِهِ الْآيَةِ {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} أَيْ حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ.

وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ لِمَا يَأْتِي فِي بَيَانِ حُكْمِ الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى.

104- وَوَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: مَا ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ- {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} - فِي قَوْلِ الرَّجُلِ: لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّيِّدَةَ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- شَهِدَتِ التَّنْزِيلَ وَقَدْ جَزَمَتْ بِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي هَذَا الْمَعْنَى، قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ: إِنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ قَدْ دَلَّ عَلَى عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي يَمِينِ اللَّغْوِ، وَذَلِكَ يَعُمُّ الْإِثْمَ وَالْكَفَّارَةَ، فَلَا يَجِبَانِ، وَالْمُتَوَجَّهُ الرُّجُوعُ فِي مَعْرِفَةِ مَعْنَى اللَّغْوِ إِلَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَأَهْلُ عَصْرِهِ- صلى الله عليه وسلم- أَعْرَفُ النَّاسِ بِمَعَانِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُمْ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ قَدْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الشَّرْعِ وَمِنَ الْمُشَاهِدِينَ لِلرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- وَالْحَاضِرِينَ فِي أَيَّامِ النُّزُولِ، فَإِذَا صَحَّ عَنْ أَحَدِهِمْ تَفْسِيرٌ لَمْ يُعَارِضْهُ مَا يُرَجَّحُ عَلَيْهِ أَوْ يُسَاوِيهِ وَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْ مَا نَقَلَهُ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الَّذِي نَقَلَهُ إِلَيْهِ شَرْعِيًّا لَا لُغَوِيًّا، وَالشَّرْعِيُّ مُقَدَّمٌ عَلَى اللُّغَوِيِّ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، فَكَانَ الْحَقُّ فِيمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ، هُوَ أَنَّ اللَّغْوَ مَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-.

فَثَبَتَ أَنَّ الْيَمِينَ اللَّغْوَ هِيَ الَّتِي لَا يَقْصِدُهَا الْحَالِفُ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ.

وَأَيْضًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَابَلَ الْيَمِينَ اللَّغْوَ بِالْيَمِينِ الْمَكْسُوبَةِ بِالْقَلْبِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}.

وَالْمَكْسُوبَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ، فَكَانَتْ غَيْرُ الْمَقْصُودَةِ دَاخِلَةً فِي قِسْمِ اللَّغْوِ بِلَا فَصْلٍ بَيْنَ مَاضِيهِ وَحَالِهِ وَمُسْتَقْبَلِهِ تَحْقِيقًا لِلْمُقَابَلَةِ.

وَوَجْهُ قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَابَلَ اللَّغْوَ بِالْمَعْقُودَةِ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِالْمُؤَاخَذَةِ وَنَفْيِهَا، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ اللَّغْوُ غَيْرَ الْمَعْقُودَةِ تَحْقِيقًا لِلْمُقَابَلَةِ، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ مَعْقُودَةٌ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَقْصُودَةً أَمْ لَا، فَلَا تَكُونُ لَغْوًا.

105- وَأَيْضًا اللَّغْوُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} أَيْ بَاطِلًا، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ خَبَرًا عَنِ الْكَفَرَةِ {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي الْحَلِفِ عَلَى ظَنٍّ مِنَ الْحَالِفِ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَالْحَقِيقَةُ بِخِلَافِهِ، وَكَذَا مَا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَكِنْ فِي الْمَاضِي أَوِ الْحَالِ.فَهُوَ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: اللَّغْوُ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ عَلَى الشَّيْءِ يَرَاهُ حَقًّا وَلَيْسَ بِحَقٍّ

وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: أَنَّ اللَّغْوَ فِي الْأَيْمَانِ قَوْلُ الرَّجُلِ لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ، إِنَّمَا أَرَدْتُ بِهِ التَّمْثِيلَ لَا الْحَصْرَ، وَأَيْضًا إِنَّهُ خَاصٌّ بِالْمَاضِي وَالْحَاضِرِ لِيَكُونَ النَّوْعَانِ مُتَمَاثِلَيْنِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


221-موسوعة الفقه الكويتية (بكاء)

بُكَاءٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْبُكَاءُ: مَصْدَرُ بَكَى يَبْكِي بُكًى، وَبُكَاءً.

قَالَ فِي اللِّسَانِ: الْبُكَاءُ يُقْصَرُ وَيُمَدُّ.قَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: إِذَا مَدَدْتَ أَرَدْتَ الصَّوْتَ الَّذِي يَكُونُ مَعَ الْبُكَاءِ، وَإِذَا قَصَرْتَ أَرَدْتَ الدُّمُوعَ وَخُرُوجَهَا.قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ- رضي الله عنه- فِي رِثَاءِ حَمْزَةَ فِي رِثَاءِ حَمْزَةَ

بَكَتْ عَيْنِي وَحُقَّ لَهَا بُكَاهَا

وَمَا يُغْنِي الْبُكَاءُ وَلَا الْعَوِيلُ

قَالَ الْخَلِيلُ: مَنْ قَصَرَ ذَهَبَ بِهِ إِلَى مَعْنَى الْحُزْنِ، وَمَنْ مَدَّهُ ذَهَبَ بِهِ إِلَى مَعْنَى الصَّوْتِ.وَالتَّبَاكِي: تَكَلُّفُ الْبُكَاءِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ «فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا».

وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنْ ذَلِكَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الصِّيَاحُ وَالصُّرَاخُ:

2- الصِّيَاحُ وَالصُّرَاخُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الصَّوْتُ بِأَقْصَى الطَّاقَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَهُمَا بُكَاءٌ، وَقَدْ لَا يَكُونُ، وَيَرِدُ الصُّرَاخُ أَيْضًا لِرَفْعِ الصَّوْتِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغَاثَةِ.

ب- النِّيَاحُ:

3- النِّيَاحُ وَالنِّيَاحَةُ لُغَةً: الْبُكَاءُ بِصَوْتٍ عَلَى الْمَيِّتِ.

وَقَالَ فِي الْمِصْبَاحِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا جَاءَ فِي الْقَامُوسِ: نَاحَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى الْمَيِّتِ نَوْحًا مِنْ بَابِ قَالَ، وَالِاسْمُ النُّوَاحُ وِزَانُ غُرَابٍ، وَرُبَّمَا قِيلَ: النِّيَاحُ بِالْكَسْرِ، فَهِيَ نَائِحَةٌ، وَالنِّيَاحَةُ بِالْكَسْرِ: الِاسْمُ مِنْهُ، وَالْمَنَاحَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ: مَوْضِعُ النَّوْحِ.

ج- النَّدْبُ:

4- النَّدْبُ لُغَةً: الدُّعَاءُ إِلَى الْأَمْرِ وَالْحَثُّ عَلَيْهِ.وَالنَّدْبُ: الْبُكَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ وَتَعْدَادُ مَحَاسِنُهُ.وَالِاسْمُ: النُّدْبَةُ.

د- النَّحْبُ، أَوِ النَّحِيبُ:

5- النَّحْبُ لُغَةً: أَشَدُّ الْبُكَاءِ، كَالنَّحِيبِ.

الْعَوِيلُ:

6- الْعَوِيلُ: هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْبُكَاءِ، يُقَالُ: أَعْوَلَتِ الْمَرْأَةُ إِعْوَالًا وَعَوِيلًا.هَذَا وَيَتَّضِحُ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ النَّحِيبَ وَالْعَوِيلَ مَعْنَاهُمَا الْبُكَاءُ الشَّدِيدُ، وَأَنَّ الصُّرَاخَ وَالصِّيَاحَ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى، وَأَنَّ النُّوَاحَ يَأْتِي بِمَعْنَى الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَأَنَّ النَّدْبَ هُوَ تَعْدَادُ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ، وَأَنَّ الْبُكَاءَ مَا كَانَ مَصْحُوبًا بِصَوْتٍ، وَالْبُكَى مَا كَانَ بِلَا صَوْتٍ، بِأَنْ كَانَ قَاصِرًا عَلَى خُرُوجِ الدَّمْعِ.

أَسْبَابُ الْبُكَاءِ:

7- لِلْبُكَاءِ أَسْبَابٌ، مِنْهَا: خَشْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْحُزْنُ، وَشِدَّةُ الْفَرَحِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْبُكَاءِ فِي الْمُصِيبَةِ:

8- الْبُكَاءُ قَدْ يَكُونُ قَاصِرًا عَلَى خُرُوجِ الدَّمْعِ فَقَطْ بِلَا صَوْتٍ، أَوْ بِصَوْتٍ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَقَدْ يَكُونُ مَصْحُوبًا بِصَوْتٍ كَصُرَاخٍ أَوْ نُوَاحٍ أَوْ نَدْبٍ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَنْ يَصْدُرُ مِنْهُ الْبُكَاءُ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى كِتْمَانِ الْحُزْنِ، وَيَمْلِكُ السَّيْطَرَةَ عَلَى مَشَاعِرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ.

فَإِنْ كَانَ الْبُكَاءُ مُجَرَّدًا عَنْ فِعْلِ الْيَدِ، كَشَقِّ جَيْبٍ أَوْ لَطْمٍ، وَعَنْ فِعْلِ اللِّسَانِ، كَالصُّرَاخِ وَدَعْوَى الْوَيْلِ وَالثُّبُورِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «إِنَّهُ مَهْمَا كَانَ مِنَ الْعَيْنِ وَالْقَلْبِ فَمِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمِنَ الرَّحْمَةِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْيَدِ وَاللِّسَانِ فَمِنَ الشَّيْطَانِ» وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- أَيْضًا «إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا- وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ- أَوْ يَرْحَمُ».

أَمَّا حُكْمُ الْبُكَاءِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَسَيَأْتِي فِيمَا بَعْدُ.

الْبُكَاءُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى:

9- الْمُؤْمِنُ يَعِيشُ فِي جِهَادٍ مَعَ نَفْسِهِ، وَيُرَاقِبُ اللَّهَ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ، فَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ، وَيَبْكِي عِنْدَ ذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ تَعَالَى، فَهَذَا مِنَ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ بَشَّرَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} وَهُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.

وَمِمَّا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ الْقَرِيبَةِ مِنْهَا فِي الْمَعْنَى: وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْخَوْفِ وَالْوَجَلِ عِنْدَ ذِكْرِهِ، وَذَلِكَ لِقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ وَمُرَاعَاتِهِمْ لِرَبِّهِمْ، وَكَأَنَّهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} وَقَالَ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} فَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى كَمَالِ الْمَعْرِفَةِ وَثِقَةِ الْقَلْبِ، وَالْوَجَلُ: الْفَزَعُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، فَلَا تَنَاقُضَ، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ فِي قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أَيْ تَسْكُنُ نُفُوسُهُمْ مَعَ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ الْيَقِينُ، وَإِنْ كَانُوا يَخَافُونَ اللَّهَ.

10- فَهَذِهِ حَالَةُ الْعَارِفِينَ بِاللَّهِ، الْخَائِفِينَ مِنْ سَطْوَتِهِ وَعُقُوبَتِهِ.لَا كَمَا يَفْعَلُهُ جُهَّالُ الْعَوَامِّ وَالْمُبْتَدِعَةُ الطَّغَامُ، مِنَ الزَّعِيقِ وَالزَّئِيرِ وَمِنَ النُّهَاقِ الَّذِي يُشْبِهُ نُهَاقَ الْحَمِيرِ، فَيُقَالُ لِمَنْ تَعَاطَى ذَلِكَ، وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ وَجْدٌ وَخُشُوعٌ: لَمْ تَبْلُغْ أَنْ تُسَاوِيَ حَالَ الرَّسُولِ وَلَا حَالَ أَصْحَابِهِ فِي الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ، وَالْخَوْفِ مِنْهُ، وَالتَّعْظِيمِ لِجَلَالِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكَانَتْ حَالُهُمْ عِنْدَ الْمَوَاعِظِ الْفَهْمُ عَنِ اللَّهِ وَالْبُكَاءُ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ أَحْوَالَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ عِنْدَ سَمَاعِ ذِكْرِهِ وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ فَقَالَ: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}.فَهَذَا وَصْفُ حَالِهِمْ وَحِكَايَةُ مَقَالِهِمْ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَى هَدْيِهِمْ وَلَا عَلَى طَرِيقَتِهِمْ، فَمَنْ كَانَ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِهِمْ، وَمَنْ تَعَاطَى أَحْوَالَ الْمَجَانِينِ وَالْجُنُونَ فَهُوَ مِنْ أَخَسِّهِمْ حَالًا، وَالْجُنُونُ فُنُونٌ.رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ النَّاسَ سَأَلُوا النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- حَتَّى أَحْفَوْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: سَلُونِي، لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ بَيَّنْتُهُ لَكُمْ، مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا.فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْقَوْمُ أَرَمُّوا وَرَهِبُوا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْ أَمْرٍ قَدْ حَضَرَ، قَالَ أَنَسٌ: فَجَعَلْتُ أَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِذَا كُلُّ إِنْسَانٍ لَافٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي...».وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ».الْحَدِيثَ.وَلَمْ يَقُلْ: زَعَقْنَا وَلَا رَقَصْنَا وَلَا زُفْنَا وَلَا قُمْنَا.

وَقَالَ صَاحِبُ رُوحِ الْمَعَانِي فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أَيْ خَافَتْ قُلُوبُهُمْ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ لِإِشْرَاقِ أَشِعَّةِ الْجَلَالِ عَلَيْهَا.

11- وَالْبُكَاءُ خَشْيَةً مِنَ اللَّهِ لَهُ أَثَرُهُ فِي الْعَمَلِ، وَفِي غُفْرَانِ الذُّنُوبِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».

قَالَ صَاحِبُ تُحْفَةِ الْأَحْوَذِيِّ: قَوْلُهُ: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ» أَيْ لَا تَمَسُّ صَاحِبَهُمَا، فَعَبَّرَ بِالْجُزْءِ عَنِ الْجُمْلَةِ، وَعَبَّرَ بِالْمَسِّ إِشَارَةً إِلَى امْتِنَاعِ مَا فَوْقَهُ بِالْأَوْلَى، وَفِي رِوَايَةٍ: «أَبَدًا» وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا يَقْرَبَانِ النَّارَ».

وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ رُوحِ الْمَعَانِي أَخْبَارًا وَرَدَتْ فِي مَدْحِ الْبُكَاءِ خَشْيَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، مِنْ بَيْنِهَا هَذَا الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَلَا يَجْتَمِعُ عَلَى عَبْدٍ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَدُخَانُ جَهَنَّمَ».

الْبُكَاءُ فِي الصَّلَاةِ:

12- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْبُكَاءَ فِي الصَّلَاةِ إِنْ كَانَ سَبَبُهُ أَلَمًا أَوْ مُصِيبَةً فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُ ذِكْرَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ فَإِنَّهُ لَا يُفْسِدُهَا؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْخُشُوعِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِي الصَّلَاةِ، فَكَانَ فِي مَعْنَى التَّسْبِيحِ أَوِ الدُّعَاءِ.وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا حَدِيثُ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَلَهُ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنَ الْبُكَاءِ».

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ فِيمَا إِذَا كَانَ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ حَرْفَيْنِ، أَوْ عَلَى حَرْفَيْنِ أَصْلِيَّيْنِ، أَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى حَرْفَيْنِ مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ، أَوْ أَحَدُهَا مِنْ حُرُوفِ الزِّيَادَةِ وَالْآخَرُ أَصْلِيٌّ، لَا تَفْسُدُ فِي الْوَجْهَيْنِ مَعًا، وَحُرُوفُ الزِّيَادَةِ عَشَرَةٌ يَجْمَعُهَا قَوْلُكَ: أَمَانٌ وَتَسْهِيلٌ.

وَحَاصِلُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ فِي هَذَا: أَنَّ الْبُكَاءَ فِي الصَّلَاةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِصَوْتٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِلَا صَوْتٍ، فَإِنْ كَانَ الْبُكَاءُ بِلَا صَوْتٍ فَإِنَّهُ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ، بِأَنْ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ تَخَشُّعًا أَوْ لِمُصِيبَةٍ، أَمْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا مَا لَمْ يَكْثُرْ ذَلِكَ فِي الِاخْتِيَارِيِّ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْبُكَاءُ بِصَوْتٍ، فَإِنْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا فَإِنَّهُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، سَوَاءٌ كَانَ لِمُصِيبَةٍ أَمْ لِتَخَشُّعٍ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، بِأَنْ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ تَخَشُّعًا لَمْ يُبْطِلْ، وَإِنْ كَثُرَ، وَإِنْ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ بِغَيْرِ تَخَشُّعٍ أَبْطَلَ.

هَذَا وَقَدْ ذَكَرَ الدُّسُوقِيُّ أَنَّ الْبُكَاءَ بِصَوْتٍ، إِنْ كَانَ لِمُصِيبَةٍ أَوْ لِوَجَعٍ مِنْ غَيْرِ غَلَبَةٍ أَوْ لِخُشُوعٍ فَهُوَ حِينَئِذٍ كَالْكَلَامِ، يُفَرَّقُ بَيْنَ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ، أَيْ فَالْعَمْدُ مُبْطِلٌ مُطْلَقًا، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَالسَّهْوُ يُبْطِلُ إِنْ كَانَ كَثِيرًا، وَيُسْجَدُ لَهُ إِنْ قَلَّ.

وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَإِنَّ الْبُكَاءَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَصَحِّ إِنْ ظَهَرَ بِهِ حَرْفَانِ فَإِنَّهُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ؛ لِوُجُودِ مَا يُنَافِيهَا، حَتَّى وَإِنْ كَانَ الْبُكَاءُ مِنْ خَوْفِ الْآخِرَةِ.وَعَلَى مُقَابِلِ الْأَصَحِّ:

لَا يُبْطِلُ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى كَلَامًا فِي اللُّغَةِ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ، فَكَانَ أَشْبَهَ بِالصَّوْتِ الْمُجَرَّدِ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ إِنْ بَانَ حَرْفَانِ مِنْ بُكَاءٍ، أَوْ تَأَوُّهِ خَشْيَةٍ، أَوْ أَنِينٍ فِي الصَّلَاةِ لَمْ تَبْطُلْ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الذِّكْرِ، وَقِيلَ: إِنْ غَلَبَهُ وَإِلاَّ بَطَلَتْ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ خَشْيَةً؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْهِجَاءِ، وَيَدُلُّ بِنَفْسِهِ عَلَى الْمَعْنَى كَالْكَلَامِ، قَالَ أَحْمَدُ فِي الْأَنِينِ: إِذَا كَانَ غَالِبًا أَكْرَهُهُ، أَيْ مِنْ وَجَعٍ، وَإِنِ اسْتَدْعَى الْبُكَاءَ فِيهَا كُرِهَ كَالضَّحِكِ وَإِلاَّ فَلَا.

الْبُكَاءُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ:

13- الْبُكَاءُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مُسْتَحَبٌّ، وَيُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ قوله تعالى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا مَدْحٌ لَهُمْ، وَحُقَّ لِكُلِّ مَنْ تَوَسَّمَ بِالْعِلْمِ، وَحَصَّلَ مِنْهُ شَيْئًا أَنْ يَجْرِيَ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، فَيَخْشَعُ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَيَتَوَاضَعُ وَيَذِلُّ.وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} أَيْ يَزِيدُهُمْ لِينَ قَلْبٍ وَرُطُوبَةَ عَيْنٍ.

وَقَالَ الطَّبَرِيُّ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ.وَيَخِرُّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْفُرْقَانِ، إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِ الْقُرْآنُ لِأَذْقَانِهِمْ يَبْكُونَ، وَيَزِيدُهُمْ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ خُشُوعًا، يَعْنِي خُضُوعًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ اسْتِكَانَةً لَهُ.

وَيُفْهَمُ اسْتِحْبَابُ الْبُكَاءِ أَيْضًا عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ بِحُزْنٍ، فَإِذَا قَرَأْتُمُوهُ فَابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا».

الْبُكَاءُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ:

14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْبُكَاءَ إِنْ كَانَ قَاصِرًا عَلَى خُرُوجِ الدَّمْعِ فَقَطْ بِلَا صَوْتٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ، قَبْلَ الْمَوْتِ وَبَعْدَهُ، وَمِثْلُهُ غَلَبَةُ الْبُكَاءِ بِصَوْتٍ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِ، وَمِثْلُهُ حُزْنُ الْقَلْبِ.وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى تَحْرِيمِ النَّدْبِ بِتَعْدَادِ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ بِرَفْعِ صَوْتٍ، إِلاَّ مَا نُقِلَ فِي الْفُرُوعِ عَنْ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ.

وَاتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ النُّوَاحِ وَشَقِّ الْجَيْبِ أَوِ الثَّوْبِ وَلَطْمِ الْخَدِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ عَبَّرُوا فِي ذَلِكَ بِالْكَرَاهَةِ، وَمُرَادُهُمُ الْكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِيَّةُ، وَبِذَلِكَ لَا يَكُونُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْبُكَاءُ بِصَوْتٍ وَغَيْرَ مَصْحُوبٍ بِنِيَاحَةٍ وَنَدْبٍ أَوْ شَقِّ جَيْبٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ جَائِزٌ، وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ عَدَمَ الِاجْتِمَاعِ لِلْبُكَاءِ، وَإِلاَّ كُرِهَ.

وَلِلشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلٌ أَتَى بِهِ الْقَلْيُوبِيُّ، فَقَالَ: إِنَّ الْبُكَاءَ عَلَى الْمَيِّتِ إِنْ كَانَ لِخَوْفٍ عَلَيْهِ مِنْ هَوْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَنَحْوِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، أَوْ لِمَحَبَّةٍ وَرِقَّةٍ كَطِفْلٍ فَكَذَلِكَ، وَلَكِنَّ الصَّبْرَ أَجْمَلُ، أَوْ لِصَلَاحٍ وَبَرَكَةٍ وَشَجَاعَةٍ وَفَقْدِ نَحْوِ عِلْمٍ فَمَنْدُوبٌ، أَوْ لِفَقْدِ صِلَةٍ وَبِرٍّ وَقِيَامٍ بِمَصْلَحَةٍ فَمَكْرُوهٌ، أَوْ لِعَدَمِ تَسْلِيمٍ لِلْقَضَاءِ وَعَدَمِ الرِّضَى بِهِ فَحَرَامٌ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ الْبُكَاءُ قَبْلَ الْمَوْتِ، فَإِذَا مَاتَ أَمْسَكْنَ.وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ النَّسَائِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا.وَالْفُقَهَاءُ فِيمَا قَالُوهُ فِي ذَلِكَ اسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «أَخَذَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ- رضي الله عنه- فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ، فَوَجَدَهُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ فَبَكَى، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَتَبْكِي؟ أَوَلَمْ تَكُنْ نَهَيْتَ عَنِ الْبُكَاءِ؟ قَالَ: لَا.وَلَكِنْ نَهَيْتُ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ: صَوْتٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ، خَمْشِ وُجُوهٍ وَشَقِّ جُيُوبٍ وَرَنَّةِ شَيْطَانٍ».

وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ».فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنَ اللَّطْمِ وَشَقِّ الْجَيْبِ وَدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ.

وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ- رضي الله عنه-: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- جَاءَ يَعُودُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَابِتٍ فَوَجَدَهُ قَدْ غُلِبَ، فَصَاحَ النِّسْوَةُ وَبَكَيْنَ، فَجَعَلَ ابْنُ عَتِيكٍ يُسْكِتُهُنَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: دَعْهُنَّ، فَإِذَا وَجَبَ فَلَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ.قَالُوا: وَمَا الْوُجُوبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْمَوْتُ».

الْبُكَاءُ عِنْدَ زِيَارَةِ الْقَبْرِ:

15- الْبُكَاءُ عِنْدَ زِيَارَةِ الْقَبْرِ جَائِزٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «زَارَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى، وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ...» إِلَخِ الْحَدِيثِ.

اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ لِلْبُكَاءِ:

16- اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ لِلْبُكَاءِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَكْرُوهٌ إِنْ كَانَ بِلَا صَوْتٍ، وَحَرَامٌ إِنْ كَانَ مَعَهُ صَوْتٌ.وَالشَّافِعِيَّةُ لَا يُجِيزُونَ الِاجْتِمَاعَ لِلْبُكَاءِ.

وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْحَنَفِيَّةُ وَلَا الْحَنَابِلَةُ لِاجْتِمَاعِ النِّسَاءِ لِلْبُكَاءِ.عَلَى أَنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَازِ الْبُكَاءِ بِالدَّمْعِ فَقَطْ بِلَا صَوْتٍ، وَإِنَّمَا تَأْتِي الْكَرَاهَةُ أَوِ التَّحْرِيمُ عَلَى مَا إِذَا قُصِدَ الِاجْتِمَاعُ لَهُ.

هَذَا، وَإِذَا كَانَ اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ لِلْبُكَاءِ مَكْرُوهًا أَوْ مُحَرَّمًا فَكَرَاهَةُ أَوْ تَحْرِيمُ اجْتِمَاعِ الرِّجَالِ لَهُ أَوْلَى، وَإِنَّمَا خَصَّ الْفُقَهَاءُ النِّسَاءَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُهُنَّ.

أَثَرُ بُكَاءِ الْمَوْلُودِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ:

17- إِذَا بَكَى الْمَوْلُودُ عِنْدَ وِلَادَتِهِ، بِأَنِ اسْتَهَلَّ صَارِخًا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ حَيَاتِهِ، سَوَاءٌ انْفَصَلَ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَمْ لَمْ يَنْفَصِلْ كَمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.فَإِنْ لَمْ يَبْكِ، وَلَمْ تُوجَدْ مِنْهُ عَلَامَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ فَلَا يُحْكَمُ بِحَيَاتِهِ.فَإِنْ بَدَا مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى حَيَاتِهِ، كَالْبُكَاءِ وَالصُّرَاخِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُعْطَى حُكْمَ الْأَحْيَاءِ، فَيُسَمَّى وَيَرِثُ، وَيُقْتَصُّ مِنْ قَاتِلِهِ عَمْدًا، وَيَسْتَحِقُّ مَوَالِيهِ الدِّيَةَ فِي غَيْرِ الْعَمْدِ فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ تَحَقُّقِ حَيَاتِهِ فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُورَثُ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِهْلَال).

أَثَرُ بُكَاءِ الْبِكْرِ عِنْدَ الِاسْتِئْذَانِ لِتَزْوِيجِهَا:

18- إِذَا اسْتُؤْذِنَتِ الْبِكْرُ فِي النِّكَاحِ فَبَكَتْ، فَإِنَّ لِلْفُقَهَاءِ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الرِّضَا وَعَدَمِهِ اتِّجَاهَاتٍ ثَلَاثَةً:

أ- فَالْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنْ كَانَ الْبُكَاءُ بِلَا صَوْتٍ فَيَدُلُّ عَلَى الرِّضَا، وَإِنْ كَانَ بِصَوْتٍ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا.

ب- وَالْمَالِكِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنَّ بُكَاءَ الْبِكْرِ غَيْرِ الْمُجْبَرَةِ، وَهِيَ الَّتِي يُزَوِّجُهَا غَيْرُ الْأَبِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، يُعْتَبَرُ رِضًا؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّ هَذَا الْبُكَاءَ إِنَّمَا هُوَ لِفَقْدِ الْأَبِ مَثَلًا، فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ لِلْمَنْعِ مِنَ الزَّوَاجِ لَمْ يَكُنْ رِضًا.

ج- وَالْحَنَابِلَةُ يَقُولُونَ: إِنَّ الْبُكَاءَ إِذْنٌ فِي النِّكَاحِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فَإِذَا بَكَتْ أَوْ سَكَتَتْ فَهُوَ رِضَاهَا، وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا» وَلِأَنَّهَا غَيْرُ نَاطِقَةٍ بِالِامْتِنَاعِ مَعَ سَمَاعِ الِاسْتِئْذَانِ، فَكَانَ ذَلِكَ إِذْنًا مِنْهَا كَالصُّمَاتِ.وَالْبُكَاءُ يَدُلُّ عَلَى فَرْطِ الْحَيَاءِ لَا الْكَرَاهَةِ.وَلَوْ كَرِهَتْ لَامْتَنَعَتْ، فَإِنَّهَا لَا تَسْتَحِي مِنَ الِامْتِنَاعِ.

بُكَاءُ الْمَرْءِ هَلْ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ:

19- بُكَاءُ الْمَرْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى فِي سُورَةِ يُوسُفَ {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ}.فَإِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ تَصَنَّعُوا الْبُكَاءَ لِيُصَدِّقَهُمْ أَبُوهُمْ بِمَا أَخْبَرُوهُ بِهِ، مَعَ أَنَّ الَّذِي أَخْبَرُوهُ بِهِ كَذِبٌ، هُمُ الَّذِينَ دَبَّرُوهُ وَفَعَلُوهُ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بُكَاءَ الْمَرْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ تَصَنُّعًا، فَمِنَ الْخَلْقِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَفِيهِمْ مَنْ لَا يَقْدِرُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الدَّمْعَ الْمَصْنُوعَ لَا يَخْفَى.كَمَا قَالَ حَكِيمٌ:

إِذَا اشْتَبَكَتْ دُمُوعٌ فِي خُدُودٍ

تَبَيَّنَ مَنْ بَكَى مِمَّنْ تَبَاكَى.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


222-موسوعة الفقه الكويتية (بيت المال 1)

بَيْتُ الْمَالِ -1

التَّعْرِيفُ:

1- بَيْتُ الْمَالِ لُغَةً: هُوَ الْمَكَانُ الْمُعَدُّ لِحِفْظِ الْمَالِ، خَاصًّا كَانَ أَوْ عَامًّا.

وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ: فَقَدِ اسْتُعْمِلَ لَفْظُ «بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ»، أَوْ «بَيْتِ مَالِ اللَّهِ» فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَبْنَى وَالْمَكَانِ الَّذِي تُحْفَظُ فِيهِ الْأَمْوَالُ الْعَامَّةُ لِلدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنَ الْمَنْقُولَاتِ، كَالْفَيْءِ وَخُمُسِ الْغَنَائِمِ وَنَحْوِهَا، إِلَى أَنْ تُصْرَفَ فِي وُجُوهِهَا.ثُمَّ اكْتُفِيَ بِكَلِمَةِ «بَيْتِ الْمَالِ» لِلدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى أَصْبَحَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ.

وَتَطَوَّرَ لَفْظُ «بَيْتِ الْمَالِ» فِي الْعُصُورِ الْإِسْلَامِيَّةِ اللاَّحِقَةِ إِلَى أَنْ أَصْبَحَ يُطْلَقُ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي تَمْلِكُ الْمَالَ الْعَامَّ لِلْمُسْلِمِينَ، مِنَ النُّقُودِ وَالْعُرُوضِ وَالْأَرَاضِي الْإِسْلَامِيَّةِ وَغَيْرِهَا.

وَالْمَالُ الْعَامُّ هُنَا: هُوَ كُلُّ مَالٍ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ الْيَدُ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُهُ، بَلْ هُوَ لَهُمْ جَمِيعًا.قَالَ الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: كُلُّ مَالٍ اسْتَحَقَّهُ الْمُسْلِمُونَ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُهُ مِنْهُمْ، فَهُوَ مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ.ثُمَّ قَالَ: وَبَيْتُ الْمَالِ عِبَارَةٌ عَنِ الْجِهَةِ لَا عَنِ الْمَكَانِ.

أَمَّا خَزَائِنُ الْأَمْوَالِ الْخَاصَّةِ لِلْخَلِيفَةِ أَوْ غَيْرِهِ فَكَانَتْ تُسَمَّى «بَيْتَ مَالِ الْخَاصَّةِ».

2- وَيَنْبَغِي عَدَمُ الْخَلْطِ بَيْنَ (دِيوَانِ بَيْتِ الْمَالِ) (وَبَيْتِ الْمَالِ) فَإِنَّ دِيوَانَ بَيْتِ الْمَالِ هُوَ الْإِدَارَةُ الْخَاصَّةُ بِتَسْجِيلِ الدَّخْلِ وَالْخَرْجِ وَالْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ.وَهُوَ عِنْدَ الْمَاوَرْدِيِّ وَأَبِي يَعْلَى: أَحَدُ دَوَاوِينِ الدَّوْلَةِ، فَقَدْ كَانَتْ فِي عَهْدِهِمَا أَرْبَعَةُ دَوَاوِينَ: دِيوَانٌ يَخْتَصُّ بِالْجَيْشِ.وَدِيوَانٌ يَخْتَصُّ بِالْأَعْمَالِ، وَدِيوَانٌ يَخْتَصُّ بِالْعُمَّالِ، وَدِيوَانٌ يَخْتَصُّ بِبَيْتِ الْمَالِ.وَلَيْسَ لِلدِّيوَانِ سُلْطَةُ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا عَمَلُهُ قَاصِرٌ عَلَى التَّسْجِيلِ فَقَطْ.

وَالدِّيوَانُ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى (السِّجِلِّ) أَوِ (الدَّفْتَرِ) وَكَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عِبَارَةً عَنِ الدَّفْتَرِ الَّذِي تُثْبَتُ فِيهِ أَسْمَاءُ الْمُرْتَزِقَةِ (مَنْ لَهُمْ رِزْقٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ) ثُمَّ تَنَوَّعَ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا سَبَقَ.

وَمِنْ وَاجِبَاتِ كَاتِبِ الدِّيوَانِ أَنْ يَحْفَظَ قَوَانِينَ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الرُّسُومِ الْعَادِلَةِ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ تَتَحَيَّفُ بِهَا الرَّعِيَّةُ، أَوْ نُقْصَانٍ يَنْثَلِمُ بِهِ حَقُّ بَيْتِ الْمَالِ.

وَعَلَيْهِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِبَيْتِ الْمَالِ أَنْ يَحْفَظَ قَوَانِينَهُ وَرُسُومَهُ، وَقَدْ حَصَرَ الْقَاضِيَانِ الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى أَعْمَالَهُ فِي سِتَّةِ أُمُورٍ، نَذْكُرُهَا بِاخْتِصَارٍ:

أ- تَحْدِيدُ الْعَمَلِ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَتَفْصِيلُ نَوَاحِيهِ الَّتِي تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا.

ب- أَنْ يَذْكُرَ حَالَ الْبَلَدِ، هَلْ فُتِحَتْ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا، وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حُكْمُ أَرْضِهَا مِنْ عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ بِالتَّفْصِيلِ.

ج- أَنْ يَذْكُرَ أَحْكَامَ خَرَاجِ الْبَلَدِ وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَى أَرَاضِيهِ، هَلْ هُوَ خَرَاجُ مُقَاسَمَةٍ، أَمْ خَرَاجُ وَظِيفَةٍ (دَرَاهِمُ مَعْلُومَةٌ مُوَظَّفَةٌ عَلَى الْأَرْضِ).

د- أَنْ يَذْكُرَ مَا فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِمْ فِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ.

هـ- إِنْ كَانَ الْبَلَدُ مِنْ بُلْدَانِ الْمَعَادِنِ، يَذْكُرُ أَجْنَاسَ مَعَادِنِهِ، وَعَدَدَ كُلِّ جِنْسٍ؛ لِيُعْلَمَ مَا يُؤْخَذُ مِمَّا يُنَالُ مِنْهُ.

و- إِنْ كَانَ الْبَلَدُ يُتَاخِمُ دَارَ الْحَرْبِ، وَكَانَتْ أَمْوَالُهُمْ إِذَا دَخَلَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ تُعَشَّرُ عَنْ صُلْحٍ اسْتَقَرَّ مَعَهُمْ، أَثْبَتَ فِي الدِّيوَانِ عَقْدَ صُلْحِهِمْ وَقَدْرَ الْمَأْخُوذِ مِنْهُمْ.

نَشْأَةُ بَيْتِ الْمَالِ فِي الْإِسْلَامِ:

3- تُشِيرُ بَعْضُ الْمَصَادِرِ إِلَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- كَانَ أَوَّلَ مَنِ اتَّخَذَ بَيْتَ الْمَالِ.نَقَلَ ذَلِكَ ابْنُ الْأَثِيرِ.

غَيْرَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَصَادِرِ تَذْكُرُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ- رضي الله عنه- كَانَ قَدِ اتَّخَذَ بَيْتَ مَالٍ لِلْمُسْلِمِينَ.

فَفِي الِاسْتِيعَابِ لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَتَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ لِابْنِ حَجَرٍ فِي تَرْجَمَةِ مُعَيْقِيبِ بْنِ أَبِي فَاطِمَةَ: اسْتَعْمَلَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ.بَلْ ذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ- رضي الله عنه- كَانَ لَهُ بَيْتُ مَالٍ بِالسُّنْحِ (مِنْ ضَوَاحِي الْمَدِينَةِ) وَكَانَ يَسْكُنُهُ إِلَى أَنِ انْتَقَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ.فَقِيلَ لَهُ: أَلَا نَجْعَلُ عَلَيْهِ مَنْ يَحْرُسُهُ؟ قَالَ: لَا.فَكَانَ يُنْفِقُ مَا فِيهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَبْقَى فِيهِ شَيْءٌ، فَلَمَّا انْتَقَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ جَعَلَ بَيْتَ الْمَالِ فِي دَارِهِ.وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ جَمَعَ عُمَرُ الْأُمَنَاءَ، وَفَتَحَ بَيْتَ الْمَالِ، فَلَمْ يَجِدُوا فِيهِ غَيْرَ دِينَارٍ سَقَطَ مِنْ غِرَارَةٍ، فَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِ.

وَقَالَ: وَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يُرَدَّ جَمِيعُ مَا أَخَذَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِنَفَقَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ.

وَفِي كِتَابِ الْخَرَاجِ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ- فِي عَهْدِهِ لِأَهْلِ الْحِيرَةِ زَمَنَ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه- كَتَبَ لَهُمْ: وَجَعَلْتُ لَهُمْ أَيُّمَا شَيْخٍ ضَعُفَ عَنِ الْعَمَلِ، أَوْ أَصَابَتْهُ آفَةٌ، أَوْ كَانَ غَنِيًّا فَافْتَقَرَ وَصَارَ أَهْلُ دِينِهِ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِ، طُرِحَتْ جِزْيَتُهُ، وَعِيلَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَعِيَالُهُ مَا أَقَامَ بِدَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ...وَشَرَطْتُ عَلَيْهِمْ جِبَايَةَ مَا صَالَحْتُهُمْ عَلَيْهِ، حَتَّى يُؤَدُّوهُ إِلَى بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ عَمَّا لَهُمْ مِنْهُمْ.

4- أَمَّا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَلَا تَذْكُرُ السُّنَّةُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْمَرَاجِعِ- فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ- اسْتِعْمَالَ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ «بَيْتِ الْمَالِ» فِي عَهْدِهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَلَكِنْ يَظْهَرُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ أَنَّ بَعْضَ وَظَائِفِ بَيْتِ الْمَالِ كَانَتْ قَائِمَةً، فَإِنَّ الْأَمْوَالَ الْعَامَّةَ مِنَ الْفَيْءِ، وَأَخْمَاسِ الْغَنَائِمِ، وَأَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ، وَمَا يُهَيَّأُ لِلْجَيْشِ مِنَ السِّلَاحِ وَالْعَتَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كُلُّ ذَلِكَ كَانَ يَضْبِطُهُ الْكُتَّابُ وَكَانَ يُخَزَّنُ إِلَى أَنْ يَحِينَ مَوْعِدُ إِخْرَاجِهِ.

أَمَّا فِيمَا بَعْدَ عَهْدِ عُمَرَ- رضي الله عنه- فَقَدِ اسْتَمَرَّ بَيْتُ الْمَالِ يُؤَدِّي دَوْرَهُ طِيلَةَ الْعُهُودِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَى أَنْ جَاءَتِ النُّظُمُ الْمُعَاصِرَةُ، فَاقْتَصَرَ دَوْرُهُ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ- فِي بَعْضِ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ- عَلَى حِفْظِ الْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ وَمَالِ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، وَقَامَ بِدَوْرِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَزَارَاتُ الْمَالِيَّةِ وَالْخِزَانَةِ.

سُلْطَةُ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ:

5- سُلْطَةُ التَّصَرُّفِ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ لِلْخَلِيفَةِ وَحْدَهُ أَوْ مَنْ يُنِيبُهُ.وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِمَامَ نَائِبٌ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا لَمْ يَتَعَيَّنِ الْمُتَصَرِّفُ فِيهِ مِنْهُمْ.وَكُلُّ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِي شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَمِدَّ سُلْطَتَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ سُلْطَةِ الْإِمَامِ.وَيَجِبُ- وَهُوَ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ الْعَادَةُ- أَنْ يُوَلِّيَ الْخَلِيفَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْأَمَانَةِ وَالْقُدْرَةِ.وَكَانَ الْمُتَصَرِّفُ فِي بَيْتِ الْمَالِ بِإِنَابَةِ الْخَلِيفَةِ يُسَمَّى «صَاحِبُ بَيْتِ الْمَالِ» وَإِنَّمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ طِبْقًا لِمَا يُحَدِّدُهُ الْخَلِيفَةُ مِنْ طُرُقِ الصَّرْفِ.

وَكَوْنُ الْحَقِّ فِي التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ لِلْخَلِيفَةِ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا طِبْقًا لِمَا يَشْتَهِي، كَمَا يَتَصَرَّفُ فِي مَالِهِ الْخَاصِّ، فَإِنْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ بَيْتَ الْمَالِ قَدْ فَسَدَ، أَوْ أَصْبَحَ غَيْرَ مُنْتَظِمٍ، وَيَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ أَحْكَامًا خَاصَّةً يَأْتِي بَيَانُهَا، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُهُ فِي تِلْكَ الْأَمْوَالِ كَتَصَرُّفِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-: إِنِّي أَنْزَلْتُ نَفْسِي مِنْ هَذَا الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ، إِنِ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ، وَإِنِ افْتَقَرْتُ أَكَلْتُ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِذَا أَيْسَرْتُ قَضَيْتُ.

وَيَعْنِي ذَلِكَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْمَالِ بِالَّذِي يَرَى أَنَّهُ خَيْرٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَصْلَحُ لِأَمْرِهِمْ، دُونَ التَّصَرُّفِ بِالتَّشَهِّي وَالْهَوَى وَالْأَثَرَةِ.

وَبَيَّنَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى أَنَّ مَا يَلْزَمُ الْإِمَامَ مِنْ أُمُورِ الْأُمَّةِ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ، مِنْهَا: جِبَايَةُ الْفَيْءِ Cوَالصَّدَقَاتِ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ.وَمِنْهَا تَقْدِيرُ الْعَطَاءِ وَمَا يُسْتَحَقُّ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا تَقْصِيرٍ، وَدَفْعُهُ فِي وَقْتٍ لَا تَقْدِيمَ فِيهِ وَلَا تَأْخِيرَ.وَلَهُ أَنْ يُعْطِيَ الْجَوَائِزَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِمَنْ كَانَ فِيهِ نَفْعٌ ظَاهِرٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَقُوَّةٌ عَلَى الْعَدُوِّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ.

وَقَدْ كَانَتِ الْعَادَةُ فِي صَدْرِ الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَنَّ الْعَامِلَ (أَيِ الْوَالِي) عَلَى بَلَدٍ أَوْ إِقْلِيمٍ، يَنُوبُ عَنِ الْإِمَامِ بِتَفْوِيضٍ مِنْهُ فِي الْجِبَايَةِ لِبَيْتِ الْمَالِ وَالْإِنْفَاقِ مِنْهُ، وَكَانَ الْمُفْتَرَضُ فِيهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ الْمُعْتَبَرِ.وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِلْقُضَاةِ.وَرُبَّمَا كَانَ صَاحِبُ بَيْتِ الْمَالِ فِي بَعْضِ الْأَمْصَارِ يَتَّبِعُ الْخَلِيفَةَ مُبَاشَرَةً، مُسْتَقِلًّا عَنْ عَامِلِ الْمِصْرِ.

مَوَارِدُ بَيْتِ الْمَالِ:

6- مَوَارِدُ بَيْتِ الْمَالِ الْأَصْنَافُ التَّالِيَةُ، وَأَمَّا صِفَةُ الْيَدِ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا فَإِنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِيمَا بَعْدُ.

أ- الزَّكَاةُ بِأَنْوَاعِهَا، الَّتِي يَأْخُذُهَا الْإِمَامُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ زَكَاةَ أَمْوَالٍ ظَاهِرَةٍ أَمْ بَاطِنَةٍ، مِنَ السَّوَائِمِ وَالزُّرُوعِ وَالنُّقُودِ وَالْعُرُوضِ، وَمِنْهَا عُشُورُ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا مَرُّوا بِتِجَارَتِهِمْ عَلَى الْعَاشِرِ. ب- خُمُسُ الْغَنَائِمِ الْمَنْقُولَةِ.وَالْغَنِيمَةُ هِيَ كُلُّ مَالٍ أُخِذَ مِنَ الْكُفَّارِ بِالْقِتَالِ، مَا عَدَا الْأَرَاضِيَ وَالْعَقَارَاتِ، فَيُورَدُ خُمُسُهَا لِبَيْتِ الْمَالِ، لِيُصْرَفَ فِي مَصَارِفِهِ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} الْآيَةَ.

ج- خُمُسُ الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ مِنَ الْمَعَادِنِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَغَيْرِهَا وَقِيلَ: مِثْلُهَا الْمُسْتَخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَعَنْبَرٍ وَسِوَاهُمَا.

د- خُمُسُ الرِّكَازِ (الْكُنُوزِ) وَهُوَ كُلُّ مَالٍ دُفِنَ فِي الْأَرْضِ بِفِعْلِ الْإِنْسَانِ، وَالْمُرَادُ هُنَا كُنُوزُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْكُفْرِ إِذَا وَجَدَهُ مُسْلِمٌ، فَخُمُسُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَبَاقِيهِ بَعْدَ الْخُمُسِ لِوَاجِدِهِ.

هـ- الْفَيْءُ: وَهُوَ كُلُّ مَالٍ مَنْقُولٍ أُخِذَ مِنَ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ قِتَالٍ، وَبِلَا إِيجَافِ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ.

وَالْفَيْءُ أَنْوَاعٌ:

(1) مَا جَلَا عَنْهُ الْكُفَّارُ خَوْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَرَاضِي وَالْعَقَارَاتِ، وَهِيَ تُوقَفُ كَالْأَرَاضِيِ الْمَغْنُومَةِ بِالْقِتَالِ، وَتُقَسَّمُ غَلاَّتُهَا كُلَّ سَنَةٍ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ.وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ (انْظُرْ: فَيْء).

(2) مَا تَرَكُوهُ وَجَلَوْا عَنْهُ مِنَ الْمَنْقُولَاتِ.وَهُوَ يُقَسَّمُ فِي الْحَالِ وَلَا يُوقَفُ.

(3) مَا أُخِذَ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ خَرَاجٍ أَوْ أُجْرَةٍ عَنِ الْأَرَاضِي الَّتِي مَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَدُفِعَتْ بِالْإِجَارَةِ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ، أَوْ عَنِ الْأَرَاضِي الَّتِي أُقِرَّتْ بِأَيْدِي أَصْحَابِهَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ صُلْحًا أَوْ عَنْوَةً عَلَى أَنَّهَا لَهُمْ، وَلَنَا عَلَيْهَا الْخَرَاجُ.

(4) الْجِزْيَةُ وَهِيَ: مَا يُضْرَبُ عَلَى رِقَابِ الْكُفَّارِ لِإِقَامَتِهِمْ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ.فَيُفْرَضُ عَلَى كُلِّ رَأْسٍ مِنَ الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ الْقَادِرِينَ مَبْلَغٌ مِنَ الْمَالِ، أَوْ يُضْرَبُ عَلَى الْبَلَدِ كُلِّهَا أَنْ تُؤَدِّيَ مَبْلَغًا مَعْلُومًا.وَلَوْ أَدَّاهَا مَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ كَانَتْ هِبَةً لَا جِزْيَةً.

(5) عُشُورُ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَهِيَ: ضَرِيبَةٌ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَنْ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي يَتَرَدَّدُونَ بِهَا مُتَاجِرِينَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ يَدْخُلُونَ بِهَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ يَنْتَقِلُونَ بِهَا مِنْ بَلَدٍ فِي دَارِ الْإِسْلَام إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، تُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي السَّنَةِ مَرَّةً، مَا لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يَعُودُوا إِلَيْهَا.

وَمِثْلُهَا عُشُورُ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنَ التُّجَّارِ كَذَلِكَ، إِذَا دَخَلُوا بِتِجَارَتِهِمْ إِلَيْنَا مُسْتَأْمَنِينَ.

(6) مَا صُولِحَ عَلَيْهِ الْحَرْبِيُّونَ مِنْ مَالٍ يُؤَدُّونَهُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ.

(7) مَالُ الْمُرْتَدِّ إِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ، وَمَالُ الزِّنْدِيقِ إِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ، فَلَا يُورَثُ مَالُهُمَا بَلْ هُوَ فَيْءٌ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي مَالِ الْمُرْتَدِّ تَفْصِيلٌ.

(8) مَالُ الذِّمِّيِّ إِنْ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ، وَمَا فَضَلَ مِنْ مَالِهِ عَنْ وَارِثِهِ فَهُوَ فَيْءٌ كَذَلِكَ.

(9) الْأَرَاضِي الْمَغْنُومَةُ بِالْقِتَالِ، وَهِيَ الْأَرَاضِي الزِّرَاعِيَّةُ عِنْدَ مَنْ يَرَى عَدَمَ تَقْسِيمِهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ.

و- غَلاَّتُ أَرَاضِي بَيْتِ الْمَالِ وَأَمْلَاكِهِ وَنِتَاجُ الْمُتَاجَرَةِ وَالْمُعَامَلَةِ.

ز- الْهِبَاتُ وَالتَّبَرُّعَاتُ وَالْوَصَايَا الَّتِي تُقَدَّمُ لِبَيْتِ الْمَالِ لِلْجِهَادِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ.

ح- الْهَدَايَا الَّتِي تُقَدَّمُ إِلَى الْقُضَاةِ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ يُهْدَى لَهُمْ قَبْلَ الْوِلَايَةِ، أَوْ كَانَ يُهْدَى لَهُمْ لَكِنْ لَهُ عِنْدَ الْقَاضِي خُصُومَةٌ، فَإِنَّهَا إِنْ لَمْ تُرَدَّ إِلَى مُهْدِيهَا تُرَدُّ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ.لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَخَذَ مِنَ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ مَا أُهْدِيَ إِلَيْهِ».

وَكَذَلِكَ الْهَدَايَا الَّتِي تُقَدَّمُ إِلَى الْإِمَامِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَالْهَدَايَا الَّتِي تُقَدَّمُ إِلَى عُمَّالِ الدَّوْلَةِ، وَهَذَا إِنْ لَمْ يُعْطِ الْآخِذُ مُقَابِلَهَا مِنْ مَالِهِ الْخَاصِّ.

ط- الضَّرَائِبُ الْمُوَظَّفَةُ عَلَى الرَّعِيَّةِ لِمَصْلَحَتِهِمْ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ لِلْجِهَادِ أَمْ لِغَيْرِهِ، وَلَا تُضْرَبُ عَلَيْهِمْ إِلاَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَا يَكْفِي لِذَلِكَ، وَكَانَ لِضَرُورَةٍ، وَإِلاَّ كَانَتْ مَوْرِدًا غَيْرَ شَرْعِيٍّ. ي- الْأَمْوَالُ الضَّائِعَةُ، وَهِيَ مَالٌ وُجِدَ وَلَمْ يُمْكِنْ مَعْرِفَةُ صَاحِبِهِ، مِنْ لُقَطَةٍ أَوْ وَدِيعَةٍ أَوْ رَهْنٍ، وَمِنْهُ مَا يُوجَدُ مَعَ اللُّصُوصِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّا لَا طَالِبَ لَهُ، فَيُوَرَّدُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ.

ك- مَوَارِيثُ مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِلَا وَارِثٍ، أَوْ لَهُ وَارِثٌ لَا يَرِثُ كُلَّ الْمَالِ- عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى الرَّدَّ- وَمَنْ قُتِلَ وَكَانَ بِلَا وَارِثٍ فَإِنَّ دِيَتَهُ تُوَرَّدُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَيُصْرَفُ هَذَا فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ.

وَحَقُّ بَيْتِ الْمَالِ فِي هَذَا النَّوْعِ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمِيرَاثِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَيْ عَلَى سَبِيلِ الْعُصُوبَةِ.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ: يُرَدُّ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ فَيْئًا لَا إِرْثًا (ر: إِرْث).

ل- الْغَرَامَاتُ وَالْمُصَادَرَاتُ: وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ تَغْرِيمُ مَانِعِ الزَّكَاةِ بِأَخْذِ شَطْرِ مَالِهِ، وَبِهَذَا يَقُولُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَوَرَدَ تَغْرِيمُ مَنْ أَخَذَ مِنَ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ وَخَرَجَ بِهِ ضِعْفَ قِيمَتِهِ، وَبِهَذَا يَقُولُ الْحَنَابِلَةُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْغَرَامَاتِ إِذَا Cأُخِذَتْ تُنْفَقُ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، فَتَكُونُ بِذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ.

وَوَرَدَ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- صَادَرَ شَطْرَ أَمْوَالِ بَعْضِ الْوُلَاةِ، لَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهِمُ الْإِثْرَاءُ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمْ، فَيَرْجِعُ مِثْلُ ذَلِكَ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ أَيْضًا.

أَقْسَامُ بَيْتِ الْمَالِ وَمَصَارِفُ كُلِّ قِسْمٍ:

7- الْأَمْوَالُ الَّتِي تَدْخُلُ بَيْتَ الْمَالِ مُتَنَوِّعَةُ الْمَصَارِفِ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْنَافِهَا لَا يَجُوزُ صَرْفُهُ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي تُصْرَفُ فِيهَا الْأَصْنَافُ الْأُخْرَى.

وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ احْتِيجَ إِلَى فَصْلِ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ بِحَسَبِ مَصَارِفِهَا؛ لِأَجْلِ سُهُولَةِ التَّصَرُّفِ فِيهَا، وَقَدْ نَصَّ أَبُو يُوسُفَ عَلَى فَصْلِ الزَّكَاةِ عَنِ الْخَرَاجِ فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَقَالَ: مَالُ الصَّدَقَةِ وَالْعُشُورِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْمَعَ إِلَى مَالِ الْخَرَاجِ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ فَيْءٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَالصَّدَقَاتُ لِمَنْ سَمَّى اللَّهُ فِي كِتَابِهِ.

وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ تَوْزِيعُ مَوْجُودَاتِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى أَرْبَعَةِ بُيُوتٍ، وَلَا تَأْبَى قَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى التَّقْسِيمَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ.وَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْ أَحَدِ الْبُيُوتِ الْأَرْبَعَةِ لِيَصْرِفَهُ فِي مَصَارِفِ الْبُيُوتِ الْأُخْرَى، وَيَجِبُ رَدُّهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمُسْتَقْرَضِ مِنْهُ، مَا لَمْ يَكُنْ مَا صَرَفَهُ إِلَيْهِ يَجُوزُ صَرْفُهُ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ الْآخَرِ.

وَالْبُيُوتُ الْأَرْبَعَةُ هِيَ:

الْبَيْتُ الْأَوَّلُ: بَيْتُ الزَّكَاةِ:

8- مِنْ حُقُوقِهِ: زَكَاةُ السَّوَائِمِ، وَعُشُورِ الْأَرَاضِي الزَّكَوِيَّةِ، وَالْعُشُورِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنَ التُّجَّارِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا مَرُّوا عَلَى الْعَاشِرِ، وَزَكَاةُ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ إِنْ أَخَذَهَا الْإِمَامُ.

وَمَصْرِفُ هَذَا النَّوْعِ الْمَصَارِفُ الثَّمَانِيَةُ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ.وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاة).

وَقَدْ نَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ الْخِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِفَةِ الْيَدِ عَلَى هَذِهِ الْأَمْوَالِ، فَنَقَلَ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّهَا مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ، أَيْ أَمْلَاكِهِ الَّتِي يَرْجِعُ التَّصَرُّفُ فِيهَا إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ، كَمَالِ الْفَيْءِ.وَلِذَا يَجُوزُ صَرْفُهُ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ كَالْفَيْءِ، وَإِنْ رَأَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ بَيْتَ الْمَالِ مُجَرَّدُ حِرْزٍ لِلزَّكَاةِ يُحَرِّزُهَا لِأَصْحَابِهَا، فَإِنْ وُجِدُوا وَجَبَ الدَّفْعُ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا أَحْرَزَهَا لِبَيْتِ الْمَالِ، وُجُوبًا عَلَى مَذْهَبِهِ الْقَدِيمِ، وَجَوَازًا عَلَى مَذْهَبِهِ الْجَدِيدِ، بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ دَفْعِ الزَّكَاةِ إِلَى الْإِمَامِ، أَوْ جَوَازِ ذَلِكَ.

وَنَقَلَ أَبُو يَعْلَى الْحَنْبَلِيُّ أَنَّ قَوْلَ أَحْمَدَ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ وَخَرَّجَ وَجْهًا فِي زَكَاةِ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.

الْبَيْتُ الثَّانِي: بَيْتُ الْأَخْمَاسِ:

9- وَالْمُرَادُ بِالْأَخْمَاسِ:

أ- خُمُسُ الْغَنَائِمِ الْمَنْقُولَةِ، وَقِيلَ: وَخُمُسُ الْعَقَارَاتِ الَّتِي غُنِمَتْ أَيْضًا.

ب- خُمُسُ مَا يُوجَدُ مِنْ كُنُوزِ الْجَاهِلِيَّةِ وَقِيلَ هُوَ زَكَاةٌ.

ج- خُمُسُ أَمْوَالِ الْفَيْءِ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَإِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ.وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: لَا يُخَمَّسُ الْفَيْءُ.

وَمَصْرِفُ هَذَا النَّوْعِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَسَهْمٌ لِذَوِي الْقُرْبَى، وَسَهْمٌ لِلْيَتَامَى، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ، عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} وَكَانَ السَّهْمُ الْأَوَّلُ يَأْخُذُهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَيَاتِهِ، وَبَعْدَهُ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، فَيُنْقَلُ لِبَيْتِ مَالِ الْفَيْءِ الْآتِي ذِكْرُهُ.

وَسَائِرُ الْأَسْهُمِ الْأَرْبَعَةِ تُحَرَّزُ لِأَصْحَابِهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، حَتَّى تُقَسَّمَ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَصْرِفَهَا فِي الْمَصَالِحِ.

الْبَيْتُ الثَّالِثُ: بَيْتُ الضَّوَائِعِ:

10- وَهِيَ الْأَمْوَالُ الضَّائِعَةُ وَنَحْوُهَا مِنْ لُقَطَةٍ لَا يُعْرَفُ صَاحِبُهَا، أَوْ مَسْرُوقٍ لَا يُعْلَمُ صَاحِبُهُ وَنَحْوِهِمَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَتُحْفَظُ فِي هَذَا الْبَيْتِ مُحَرَّزَةً لِأَصْحَابِهَا، فَإِنْ حَصَلَ الْيَأْسُ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ صُرِفَ فِي وَجْهِهِ.وَمَصْرِفُ أَمْوَالِ هَذَا الْبَيْتِ- عَلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الزَّيْلَعِيِّ، وَقَالَ: إِنَّهُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- هُوَ اللَّقِيطُ الْفَقِيرُ، وَالْفُقَرَاءُ الَّذِينَ لَا أَوْلِيَاءَ لَهُمْ، فَيُعْطَوْنَ مِنْهُ نَفَقَتَهُمْ وَأَدْوِيَتَهُمْ وَتَكَالِيفَ أَكْفَانِهِمْ وَدِيَةَ جِنَايَاتِهِمْ.وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُصْرَفُ لِهَؤُلَاءِ صَدَقَةٌ عَمَّنِ الْمَالُ لَهُ، أَوْ مَنْ خَلَّفَ الْمَالَ.

وَلَمْ نَعْثُرْ لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى تَخْصِيصِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْأَمْوَالِ بِمَصْرِفٍ خَاصٍّ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا عِنْدَهُمْ تُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ كَالْفَيْءِ، وَهُوَ Cمَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو يَعْلَى وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي مَالِ مَنْ مَاتَ بِلَا وَارِثٍ وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ تَكُونُ الْبُيُوتُ عِنْدَهُمْ ثَلَاثَةً لَا أَرْبَعَةً.

الْبَيْتُ الرَّابِعُ: وَهُوَ بَيْتُ مَالِ الْفَيْءِ:

11- أَهَمُّ مَوَارِدِ هَذَا الْبَيْتِ مَا يَلِي:

أ- أَنْوَاعُ الْفَيْءِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا.

ب- سَهْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنَ الْأَخْمَاسِ.

ج- الْأَرَاضِي الَّتِي غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا لَا تُقَسَّمُ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْوَقْفِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ.

د- خَرَاجُ الْأَرْضِ الَّتِي غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ، سَوَاءٌ اعْتُبِرَتْ وَقْفًا أَمْ غَيْرَ وَقْفٍ.

هـ- خُمُسُ الْكُنُوزِ الَّتِي لَمْ يُعْلَمْ صَاحِبُهَا، أَوْ تَطَاوَلَ عَلَيْهَا الزَّمَنُ.

و- خُمُسُ الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ مَعْدِنٍ أَوْ نِفْطٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.وَقِيلَ: مَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ زَكَاةٌ مِقْدَارُهَا رُبُعُ الْعُشْرِ، وَيُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الزَّكَاةِ.

ز- مَالُ مَنْ مَاتَ بِلَا وَارِثٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ ذَلِكَ دِيَتُهُ.

ح- الضَّرَائِبُ الْمُوَظَّفَةُ عَلَى الرَّعِيَّةِ، الَّتِي لَمْ تُوَظَّفْ لِغَرَضٍ مُعَيَّنٍ. ط- الْهَدَايَا إِلَى الْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ وَالْإِمَامِ.

ى- أَمْوَالُ الْبَيْتِ السَّابِقِ عَلَى قَوْلِ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ.

مَصَارِفُ بَيْتِ مَالِ الْفَيْءِ:

12- مَصْرِفُ أَمْوَالِ هَذَا الْبَيْتِ الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ تَحْتَ يَدِ الْإِمَامِ، وَيَصْرِفُ مِنْهُ بِحَسَبِ نَظَرِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ.

وَالْفُقَهَاءُ إِذَا أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِأَنَّ نَفَقَةَ كَذَا هِيَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، يَقْصِدُونَ هَذَا الْبَيْتَ الرَّابِعَ؛ لِأَنَّهُ وَحْدَهُ الْمُخَصَّصُ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، بِخِلَافِ مَا عَدَاهُ، فَالْحَقُّ فِيهِ لِجِهَاتٍ مُحَدَّدَةٍ، يُصْرَفُ لَهَا لَا لِغَيْرِهَا.وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ بَعْضِ الْمَصَالِحِ الَّتِي تُصْرَفُ فِيهَا أَمْوَالُ هَذَا الْبَيْتِ مِمَّا وَرَدَ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ وَالِاسْتِقْصَاءِ، فَإِنَّ أَبْوَابَ الْمَصَالِحِ لَا تَنْحَصِرُ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ مِنْ عَصْرٍ إِلَى عَصْرٍ، وَمِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ.

13- وَمِنْ أَهَمِّ الْمَصَالِحِ الَّتِي تُصْرَفُ فِيهَا أَمْوَالُ هَذَا الْبَيْتِ مَا يَلِي:

أ- الْعَطَاءُ، وَهُوَ نَصِيبٌ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ يُعْطَى لِكُلِّ مُسْلِمٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ أَمْ لَمْ يَكُنْ.وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْحَنَابِلَةِ قَدَّمَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي، وَهُوَ كَذَلِكَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ هُوَ خِلَافُ الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ.قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: فِي الْفَيْءِ حَقٌّ لِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ.

وَمِنَ الْحُجَّةِ لِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} الْآيَةَ.ثُمَّ قَالَ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} فَاسْتَوْعَبَ كُلَّ الْمُسْلِمِينَ.وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- بَعْدَ أَنْ قَرَأَ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ الْحَشْرِ: هَذِهِ- يَعْنِي الْآيَةَ الْأَخِيرَةَ- اسْتَوْعَبَتِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً، وَلَإِنْ عِشْتُ لَيَأْتِيَنَّ الرَّاعِي بِسَرْوِ حِمْيَرَ نَصِيبَهُ مِنْهَا، لَمْ يَعْرَقْ فِيهِ جَبِينُهُ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ أَهْلَ الْفَيْءِ هُمْ أَهْلُ الْجِهَادِ الْمُرَابِطُونَ فِي الثُّغُورِ، وَجُنْدُ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ- أَيْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَبْوَابِ الْمَصَالِحِ الْآتِي بَيَانُهَا.

وَأَمَّا الْأَعْرَابُ وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ لَا يُعِدُّ نَفْسَهُ لِلْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ، مَا لَمْ يُجَاهِدُوا فِعْلًا.وَمِنَ الْحُجَّةِ لِهَذَا الْقَوْلِ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ...» إِلَى أَنْ قَالَ: «ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ.فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ، إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ»

وَقِيلَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الْفَيْءَ كُلَّهُ يَجِبُ قَسْمُهُ بَيْنَ مَنْ لَهُ رِزْقٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ فِي عَامِهِ، وَلَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يُوَفَّرُ شَيْءٌ لِلْمَصَالِحِ مَا عَدَا خُمُسِ الْخُمُسِ (أَيِ الَّذِي لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) وَالتَّحْقِيقُ عِنْدَهُمْ: إِعْطَاءُ مَنْ لَهُمْ رِزْقٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ كِفَايَتَهُمْ، وَصَرْفُ مَا يَتَبَقَّى مِنْ مَالِ الْفَيْءِ Cلِلْمَصَالِحِ.

ب- الْأَسْلِحَةُ وَالْمُعِدَّاتُ وَالتَّحْصِينَاتُ وَتَكَالِيفُ الْجِهَادِ وَالدِّفَاعِ عَنْ أَوْطَانِ الْمُسْلِمِينَ.

ج- رَوَاتِبُ الْمُوَظَّفِينَ الَّذِينَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ فِي أُمُورِهِمُ الْعَامَّةِ، مِنَ الْقُضَاةِ وَالْمُحْتَسِبِينَ، وَمَنْ يُنَفِّذُونَ الْحُدُودَ، وَالْمُفْتِينَ وَالْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ وَالْمُدَرِّسِينَ، وَنَحْوِهِمْ مِنْ كُلِّ مَنْ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَسْتَحِقُّ الْكِفَايَةَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لَهُ وَلِمَنْ يَعُولُهُ.وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَالْبُلْدَانِ لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَسْعَارِ.

وَلَيْسَتْ هَذِهِ الرَّوَاتِبُ أُجْرَةً لِلْمُوَظَّفِينَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بَلْ هِيَ كَالْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَنَحْوَهُ مِنَ الطَّاعَاتِ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ أَصْلًا.

ثُمَّ إِنْ سُمِّيَ لِلْمُوَظَّفِ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ اسْتَحَقَّهُ، وَإِلاَّ اسْتَحَقَّ مَا يَجْرِي لِأَمْثَالِهِ إِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَعْمَلُ إِلاَّ بِمُرَتَّبٍ.

وَأَرْزَاقُ هَؤُلَاءِ، وَأَرْزَاقُ الْجُنْدِ إِنْ لَمْ تُوجَدْ فِي بَيْتِ الْمَالِ، تَبْقَى دَيْنًا عَلَيْهِ، وَوَجَبَ إِنْظَارُهُ، كَالدُّيُونِ مَعَ الْإِعْسَارِ.بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَصَالِحِ فَلَا يَجِبُ الْقِيَامُ بِهَا إِلاَّ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَتَسْقُطُ بِعَدَمِهَا.

وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ، كَالْقَاضِي وَالْمُفْتِي وَالْمُدَرِّسِ وَنَحْوِهِمْ قَبْلَ انْتِهَاءِ الْعَامِ، يُعْطَى حِصَّتَهُ مِنَ الْعَامِ، أَمَّا مَنْ مَاتَ فِي آخِرِهِ أَوْ بَعْدَ تَمَامِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِعْطَاءُ إِلَى وَارِثِهِ.

د- الْقِيَامُ بِشُئُونِ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَجَزَةِ وَاللُّقَطَاءِ وَالْمَسَاجِينِ الْفُقَرَاءِ، الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مَا يُنْفَقُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ، وَلَا أَقَارِبَ تَلْزَمُهُمْ نَفَقَتُهُمْ، فَيَتَحَمَّلُ بَيْتُ الْمَالِ نَفَقَاتِهِمْ وَكِسْوَتَهُمْ وَمَا يُصْلِحُهُمْ مِنْ دَوَاءٍ وَأُجْرَةِ عِلَاجٍ وَتَجْهِيزِ مَيِّتٍ، وَكَذَا دِيَةُ جِنَايَةِ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ كَانَ لَهُ عَاقِلَةٌ فَعَجَزُوا عَنِ الْكُلِّ أَوِ الْبَعْضِ، فَإِنَّ بَيْتَ الْمَالِ يَتَحَمَّلُ بَاقِي الدِّيَةِ، وَلَا تُعْقَلُ عَنْ كَافِرٍ.وَنَبَّهَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ إِقْرَارَ الْجَانِي لَا يُقْبَلُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، كَمَا لَا يُقْبَلُ عَلَى الْعَاقِلَةِ.

هـ- الْإِنْفَاقُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ: لَيْسَ لِكَافِرٍ ذِمِّيٍّ أَوْ غَيْرِهِ حَقٌّ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ.لَكِنَّ الذِّمِّيَّ إِنِ احْتَاجَ لِضَعْفِهِ يُعْطَى مَا يَسُدُّ جَوْعَتَهُ.وَفِي كِتَابِ الْخَرَاجِ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مِمَّا أَعْطَاهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ- رضي الله عنه- فِي عَهْدِهِ لِأَهْلِ الْحِيرَةِ: أَيُّمَا شَيْخٍ ضَعُفَ عَنِ الْعَمَلِ، أَوْ أَصَابَتْهُ آفَةٌ مِنَ الْآفَاتِ، أَوْ كَانَ غَنِيًّا فَافْتَقَرَ، وَصَارَ أَهْلُ دِينِهِ يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِ طُرِحَتْ جِزْيَتُهُ، وَعِيلَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَعِيَالُهُ مَا أَقَامَ بِدَارِ الْهِجْرَةِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ.وَنَقَلَ مِثْلَ ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ.

و- وَمِنْ مَصَارِفِ بَيْتِ مَالِ الْفَيْءِ أَيْضًا: فِكَاكُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ، وَنَقَلَ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ قَوْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-: كُلُّ أَسِيرٍ كَانَ فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَفِكَاكُهُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ.وَهُنَاكَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ فِكَاكَهُ فِي مَالِهِ هُوَ (ر: أَسْرَى).

وَشَبِيهٌ بِهَذَا مَا قَالَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَالِكَ الدَّوَابِّ- غَيْرِ الْمَأْكُولَةِ- لَوِ امْتَنَعَ مِنْ عَلْفِهَا، وَلَمْ يُمْكِنْ إِجْبَارُهُ لِفَقْرِهِ مَثَلًا يُنْفَقُ عَلَيْهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَجَّانًا، وَكَذَلِكَ الدَّابَّةُ الْمَوْقُوفَةُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَخْذُ النَّفَقَةِ مِنْ كَسْبِهَا.

ز- الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ لِبُلْدَانِ الْمُسْلِمِينَ، مِنْ إِنْشَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالطُّرُقِ وَالْجُسُورِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْأَنْهَارِ وَالْمَدَارِسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِصْلَاحِ مَا تَلِفَ مِنْهَا.

ح- ضَمَانُ مَا يَتْلَفُ بِأَخْطَاءِ أَعْضَاءِ الْإِدَارَةِ الْحُكُومِيَّةِ:

مِنْ ذَلِكَ أَخْطَاءُ وَلِيِّ الْأَمْرِ وَالْقَاضِي وَنَحْوِهِمْ مِنْ سَائِرِ مَنْ يَقُومُ بِالْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ، إِذَا أَخْطَئُوا فِي عَمَلِهِمُ الَّذِي كُلِّفُوا بِهِ، فَتَلِفَ بِذَلِكَ نَفْسٌ أَوْ عُضْوٌ أَوْ مَالٌ، كَدِيَةِ مَنْ مَاتَ بِالتَّجَاوُزِ فِي التَّعْزِيرِ، فَحَيْثُ وَجَبَ ضَمَانُ ذَلِكَ يَضْمَنُ بَيْتُ الْمَالِ.

فَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ الْمُكَلَّفُ بِهِ لِشَأْنٍ خَاصٍّ لِلْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَسْئُولِينَ فَالضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، أَوْ فِي مَالِهِ الْخَاصِّ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ.وَذَلِكَ لِأَنَّ أَخْطَاءَهُمْ قَدْ تَكْثُرُ، فَلَوْ حَمَلُوهَا هُمْ أَوْ عَاقِلَتُهُمْ لأَجْحَفَ بِهِمْ.

هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْقَوْلُ غَيْرُ الْأَظْهَرِ لِلشَّافِعِيَّةِ.أَمَّا الْأَظْهَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ Cفَهُوَ أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى عَاقِلَتِهِ.أَمَّا ضَمَانُ الْعَمْدِ فَيَتَحَمَّلُهُ فَاعِلُهُ اتِّفَاقًا.

ط- تَحَمُّلُ الْحُقُوقِ الَّتِي أَقَرَّهَا الشَّرْعُ لِأَصْحَابِهَا، وَاقْتَضَتْ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ أَنْ لَا يَحْمِلَهَا أَحَدٌ مُعَيَّنٌ:

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا لَوْ قُتِلَ شَخْصٌ فِي زِحَامِ طَوَافٍ أَوْ مَسْجِدٍ عَامٍّ أَوِ الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ، وَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ، فَتَكُونُ دِيَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِقَوْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: لَا يُطَلُّ فِي الْإِسْلَامِ دَمٌ وَقَدْ «تَحَمَّلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- دِيَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيِّ حِينَ قُتِلَ فِي خَيْبَرَ، لَمَّا لَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ، وَأَبَى الْأَنْصَارُ أَنْ يَحْلِفُوا الْقَسَامَةَ، وَلَمْ يَقْبَلُوا أَيْمَانَ الْيَهُودِ، فَوْدَاهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ عِنْدِهِ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ».. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أُجْرَةُ تَعْرِيفِ اللُّقَطَةِ، فَلِلْقَاضِي أَنْ يُرَتِّبَ أُجْرَةَ تَعْرِيفِهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، عَلَى أَنْ تَكُونَ قَرْضًا عَلَى صَاحِبِهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


223-موسوعة الفقه الكويتية (بيع الأمانة)

بَيْعُ الْأَمَانَةِ

التَّعْرِيفُ:

1- الْأَمَانَةُ لُغَةً: الِاطْمِئْنَانُ، يُقَالُ: أَمِنَ أَمْنًا وَأَمَانًا وَأَمَنَةً: إِذَا اطْمَأَنَّ وَلَمْ يَخَفْ، فَهُوَ آمِنٌ وَأَمِنٌ وَأَمِينٌ.وَأُمِنَ الرَّجُلُ وَأَمِنَ أَيْضًا: صَارَ أَمِينًا، وَالْمَصْدَرُ: الْأَمَانَةُ.وَاسْتُعْمِلَ فِي الْأَعْيَانِ مَجَازًا فَقِيلَ: الْوَدِيعَةُ مَثَلًا أَمَانَةٌ.

وَأَمَّنَ فُلَانًا عَلَى كَذَا: وَثِقَ بِهِ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: يُطْلَقُ (بَيْعُ الْأَمَانَةِ) عَلَى مَا فِيهِ اطْمِئْنَانٌ مِنْ قِبَلِ الْبَائِعِ، لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَبَيْعُ الْأَمَانَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الثِّقَةِ وَالِاطْمِئْنَانِ فِي التَّعَامُلِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ.

أَنْوَاعُ بَيْعِ الْأَمَانَةِ:

2- بَيْعُ الْأَمَانَةِ يُطْلَقُ عَلَى بَيْعِ الْوَفَاءِ، وَبَيْعِ التَّلْجِئَةِ، وَبَيْعِ الْمُرَابَحَةِ، وَالْوَضِيعَةِ، وَالْإِشْرَاكِ، وَبَيْعِ الْمُسْتَرْسِلِ أَوِ الْبَيْعِ بِسِعْرِ السُّوقِ.

وَهَذِهِ الْأَمَانَةُ وَالثِّقَةُ تَارَةً تَكُونُ مَطْلُوبَةً مِنْ قِبَلِ الْمُشْتَرِي، وَتَارَةً تَكُونُ مَطْلُوبَةً مِنْ قِبَلِ الْبَائِعِ.

3- فَإِنْ كَانَتْ مَطْلُوبَةً مِنْ جَانِبِ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّهَا تَتَحَقَّقُ بِبَيْعِ الْوَفَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِي أَمِينٌ عَلَى الْمَبِيعِ حَتَّى يَرُدَّ لَهُ الثَّمَنَ الَّذِي دَفَعَهُ، وَيَأْخُذَ الْبَائِعُ مَبِيعَهُ.

أَمَّا إِذَا كَانَتْ مَطْلُوبَةً مِنْ جَانِبِ الْبَائِعِ- وَهُوَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الصِّدْقُ بِثَمَنِ مَبِيعِهِ وَشِرَائِهِ لَهُ- فَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ فَهُوَ بَيْعُ التَّوْلِيَةِ، وَإِنْ كَانَ بَيْعُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِبَعْضِ الثَّمَنِ فَهُوَ بَيْعُ إِشْرَاكٍ، وَإِنْ كَانَ بِالثَّمَنِ مَعَ زِيَادَةٍ فَبَيْعُ الْمُرَابَحَةِ، وَإِنْ كَانَ بِأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ فَهُوَ بَيْعُ الْوَضِيعَةِ أَوِ الْحَطِيطَةِ.

وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ بِغَضِّ النَّظَرِ عَنِ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ الْمَبِيعَ، مِنْ مُسَاوَاةٍ أَوْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، وَكَانَ بِسِعْرِ السُّوقِ، فَهُوَ بَيْعُ الْمُسْتَرْسِلِ أَوِ الْبَيْعُ بِسِعْرِ السُّوقِ.

4- وَيُقَابِلُ بَيْعُ الْأَمَانَةِ بَيْعَ الْمُسَاوَمَةِ، وَهُوَ الْبَيْعُ بِالثَّمَنِ الَّذِي يَتَرَاضَى عَلَيْهِ الْعَاقِدَانِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ الْبَائِعُ.

بَيْعُ الْوَفَاءِ:

5- هُوَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ أَنَّ الْبَائِعَ مَتَى رَدَّ الثَّمَنَ يَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ.وَإِنَّمَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ (بَيْعَ الْأَمَانَةِ) عِنْدَ مَنْ سَمَّاهُ كَذَلِكَ مِنَ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِهِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ بِمَنْزِلَةِ الْأَمَانَةِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، لَا يَحِقُّ لَهُ فِيهِ التَّصَرُّفُ النَّاقِلُ لِلْمِلْكِ إِلاَّ لِبَائِعِهِ، وَيُسَمِّيهِ الْمَالِكِيَّةُ «بَيْعَ الثُّنْيَا» وَالشَّافِعِيَّةُ «بَيْعَ الْعُهْدَةِ» وَالْحَنَابِلَةُ «بَيْعَ الْأَمَانَةِ».

وَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَالْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى: أَنَّ بَيْعَ الْوَفَاءِ فَاسِدٌ.وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى جَوَازِهِ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا إِلَى أَنَّ بَيْعَ الْوَفَاءِ رَهْنٌ، وَيَثْبُتُ لَهُ جَمِيعُ أَحْكَامِهِ.وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (بَيْعُ الْوَفَاءِ).

بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ:

6- الْمُرَابَحَةُ مَصْدَرُ رَابَحَ.تَقُولُ: بِعْتُهُ الْمَتَاعَ أَوِ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ مُرَابَحَةً: إِذَا سَمَّيْتَ لِكُلِّ قَدْرٍ مِنَ الثَّمَنِ رِبْحًا.

وَاصْطِلَاحًا: بَيْعُ مَا مَلَكَهُ بِمَا قَامَ عَلَيْهِ وَبِفَضْلٍ.أَوْ هُوَ: بَيْعُ السِّلْعَةِ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ وَزِيَادَةِ رِبْحٍ مَعْلُومٍ لَهُمَا.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ لَفْظَ الْمُرَابَحَةِ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَفِي الْمُسَاوَاةِ وَالْوَضِيعَةِ، إِلاَّ أَنَّ النَّوْعَ الْغَالِبَ فِي الْمُرَابَحَةِ الْكَثِيرَ الْوُقُوعِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ.

وَبَيْعُ الْمُرَابَحَةِ مِنَ الْبُيُوعِ الْجَائِزَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَتَرْكُهُ أَحَبُّ، لِكَثْرَةِ مَا يَحْتَاجُ الْبَائِعُ فِيهِ إِلَى الْبَيَانِ.فَالْأَوْلَى عِنْدَهُمُ الْبَيْعُ بِطَرِيقِ الْمُسَاوَمَةِ.

بَيْعُ التَّوْلِيَةِ:

7- هُوَ نَقْلُ جَمِيعِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمَوْلَى بِمَا قَامَ عَلَيْهِ، بِلَفْظِ: وَلَّيْتُكَ أَوْ نَحْوِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ رِبْحٍ وَلَا نُقْصَانٍ.وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ (تَوْلِيَة).

بَيْعُ الْإِشْرَاكِ:

8- هُوَ كَبَيْعِ التَّوْلِيَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ بَيْعُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِبَعْضِ الثَّمَنِ.وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِشْرَاك، بَيْع).

بَيْعُ الْوَضِيعَةِ:

9- هُوَ بَيْعُ الشَّيْءِ بِنُقْصَانٍ مَعْلُومٍ مِنَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ ضِدُّ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ.وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (وَضِيعَة).

بَيْعُ الْمُسْتَرْسِلِ:

10- عَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ: قَوْلُ الشَّخْصِ لِغَيْرِهِ بِعْنِي كَمَا تَبِيعُ النَّاسَ، أَوْ بِسِعْرِ السُّوقِ، أَوْ بِسِعْرِ الْيَوْمِ، أَوْ بِمَا يَقُولُهُ فُلَانٌ، أَوْ أَهْلُ الْخِبْرَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

وَالْمُسْتَرْسِلُ- كَمَا عَرَّفَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ- هُوَ الْجَاهِلُ بِقِيمَةِ السِّلْعَةِ وَلَا يُحْسِنُ الْمُمَاكَسَةَ أَوْ لَا يُمَاكِسُ.

وَبَيْعُ الْمُسْتَرْسِلِ بِهَذَا التَّعْرِيفِ يَنْعَقِدُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُسْتَرْسِلِ فِيهِ.

حُكْمُ الْخِيَانَةِ فِي بُيُوعِ الْأَمَانَةِ:

سَبَقَ أَنَّ هَذِهِ الْبُيُوعَ إِنَّمَا سُمِّيَتْ بُيُوعَ الْأَمَانَةِ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الثِّقَةِ وَالِاطْمِئْنَانِ فِي التَّعَامُلِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ: الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي.

11- فَأَمَّا فِي بَيْعِ الْوَفَاءِ- عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُهُ- فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّ الْمَبِيعِ إِلَى بَائِعِهِ بَعْدَ تَسَلُّمِ الثَّمَنِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ إِمْسَاكُ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْوَفَاءِ لَا يَسُوغُ لِلْمُشْتَرِي التَّصَرُّفُ النَّاقِلُ لِلْمِلْكِيَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِغَيْرِ بَائِعِهِ وَلَيْسَ فِيهِ الشُّفْعَةُ، وَخَرَاجُهُ عَلَى بَائِعَةِ، وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْمَبِيعِ يَدُ أَمَانَةٍ.

وَإِذَا مَاتَ الْبَائِعُ انْتَقَلَ الْمَبِيعُ بِالْإِرْثِ إِلَى وَرَثَتِهِ.وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ (بَيْعُ الْوَفَاءِ).

12- وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِبُيُوعِ الْأَمَانَةِ الْأُخْرَى فَإِنَّهُ إِذَا ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ فِي الْمُرَابَحَةِ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ قَدْ ظَهَرَتْ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ، أَوْ أَنَّهَا ظَهَرَتْ فِي قَدْرِهِ.

فَإِنْ ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ، بِأَنِ اشْتَرَى شَيْئًا بِنَسِيئَةٍ ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِنَسِيئَةٍ، أَوْ بَاعَهُ تَوْلِيَةً وَلَمْ يُبَيِّنْ، ثُمَّ عَلِمَ الْمُشْتَرِي، فَلَهُ الْخِيَارُ بِالْإِجْمَاعِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ؛ لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ عَقْدٌ بُنِيَ عَلَى الْأَمَانَةِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ اعْتَمَدَ الْبَائِعَ وَائْتَمَنَهُ فِي الْخَبَرِ عَنِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَكَانَتِ الْأَمَانَةُ مَطْلُوبَةً فِي هَذَا الْعَقْدِ، فَكَانَتْ صِيَانَتُهُ عَنِ الْخِيَانَةِ مَشْرُوطَةً دَلَالَةً، وَفَوَاتُهَا يُوجِبُ الْخِيَارَ كَفَوَاتِ السَّلَامَةِ عَنِ الْعَيْبِ.

وَإِنْ ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فِي الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ، بِأَنْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ بِعَشَرَةٍ وَبِعْتُكَ بِرِبْحِ دِينَارٍ عَلَى كُلِّ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ، أَوْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ بِعَشَرَةٍ وَوَلَّيْتُكَ بِمَا تَوَلَّيْتَ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ اشْتَرَاهُ بِتِسْعَةٍ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حُكْمِهِ:

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ- فِي الْأَظْهَرِ- وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَالَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ، وَلَكِنْ يَحُطُّ قَدْرَ الْخِيَانَةِ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَذَلِكَ دِرْهَمٌ فِي التَّوْلِيَةِ وَدِرْهَمٌ فِي الْمُرَابَحَةِ، وَحِصَّتُهُ مِنَ الرِّبْحِ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ دِرْهَمٍ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي الْمُرَابَحَةِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَفِي التَّوْلِيَةِ لَا خِيَارَ لَهُ، لَكِنْ يَحُطُّ قَدْرَ الْخِيَانَةِ، وَيَلْزَمُ الْعَقْدُ بِالثَّمَنِ الْبَاقِي.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ حَطَّ الْبَائِعُ الزَّائِدَ الْمَكْذُوبَ وَرِبْحَهُ لَزِمَ الْبَيْعُ، وَإِنْ لَمْ يَحُطَّ لَمْ يَلْزَمِ الْمُشْتَرِيَ وَخُيِّرَ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَالرَّدِّ.

وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدٌ: لَهُ الْخِيَارُ فِي الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ جَمِيعًا، إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ.

13- وَأَمَّا الْمُوَاضَعَةُ، فَإِنَّهَا تُطَبَّقُ عَلَيْهَا شُرُوطُ الْمُرَابَحَةِ وَأَحْكَامُهَا، إِذْ هِيَ بَيْعٌ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ مَعَ نُقْصَانٍ مَعْلُومٍ مِنْهُ.

وَكَذَا الْإِشْرَاكُ حُكْمُهُ حُكْمُ التَّوْلِيَةِ، وَلَكِنَّهُ تَوْلِيَةُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِبَعْضِ الثَّمَنِ.

14- وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِبَيْعِ الْمُسْتَرْسِلِ فَمِنْ صُوَرِهِ: أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: بِعْنِي كَمَا تَبِيعُ النَّاسَ، فَهَذَا الْبَيْعُ صَحِيحٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَكِنْ إِنْ غَبَنَهُ بِمَا يَخْرُجُ عَنِ الْعَادَةِ فَلَهُ الْخِيَارُ.

15- وَمِنْ صُوَرِهِ أَيْضًا: أَنْ يَبِيعَ شَخْصًا لَا يُمَاكِسُ، أَوْ لَا يُحْسِنُ الْمُمَاكَسَةَ، فَكَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ اسْتَرْسَلَ إِلَى الْبَائِعِ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، فَأَخَذَ مَا أَعْطَاهُ مِنْ غَيْرِ مُمَاكَسَةٍ، وَلَا مَعْرِفَةٍ بِغَبْنِهِ.

وَبَيْعُ الْمُسْتَرْسِلِ بِهَذَا التَّعْرِيفِ يَنْعَقِدُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُسْتَرْسِلِ فِيهِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ- وَالشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ قِيمَةِ السِّلْعَةِ مَعَ سَلَامَتِهَا لَا يَمْنَعُ لُزُومَ الْعَقْدِ، وَمُجَرَّدُ كَوْنِهِ مَغْبُونًا لَا يُثْبِتُ لَهُ خِيَارًا، لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَهُمْ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُ إِذَا كَانَ الْغَبْنُ فَاحِشًا.وَفَسَّرَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِمَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِتَحْدِيدِهِ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْعُرْفِ، وَفَسَّرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْغَبْنَ الْفَاحِشَ بِأَنَّهُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- فِي الْوَصِيَّةِ: «الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» فَقَدْ وَصَفَ الثُّلُثَ بِأَنَّهُ كَثِيرٌ، وَقِيلَ: السُّدُسُ، وَقِيلَ: مَا لَا يَتَغَابَنُ بِهِ النَّاسُ عَادَةً.وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ - عليه الصلاة والسلام-: «غَبْنُ الْمُسْتَرْسِلِ حَرَامٌ» وَلِأَنَّهُ غَبْنٌ حَصَلَ لِجَهْلِهِ بِالْمَبِيعِ، فَأَثْبَتَ الْخِيَارَ، كَالْغَبْنِ فِي تَلَقِّي الرُّكْبَانِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


224-موسوعة الفقه الكويتية (بيعة)

بَيْعَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- لِلْبَيْعَةِ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ، فَتُطْلَقُ عَلَى: الْمُبَايَعَةِ عَلَى الطَّاعَةِ.وَتُطْلَقُ عَلَى: الصَّفْقَةِ مِنْ صَفَقَاتِ الْبَيْعِ، وَيُقَالُ: بَايَعْتُهُ، وَهِيَ مِنَ الْبَيْعِ وَالْبَيْعَةِ جَمِيعًا وَالتَّبَايُعُ مِثْلُهُ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِمُجَاشِعٍ حِينَمَا سَأَلَهُ: عَلَامَ تُبَايِعُنَا؟ قَالَ: عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ».وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُعَاقَدَةِ وَالْمُعَاهَدَةِ.كَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بَاعَ مَا عِنْدَهُ لِصَاحِبِهِ، وَأَعْطَاهُ خَالِصَةَ نَفْسِهِ وَطَاعَتَهُ وَدَخِيلَةَ أَمْرِهِ.وَمِثْلُهُ: أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ.وَهِيَ: الَّتِي رَتَّبَهَا الْحَجَّاجُ مُشْتَمِلَةً عَلَى أُمُورٍ مُغَلَّظَةٍ مِنْ طَلَاقٍ وَعِتْقٍ وَصَوْمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَالْبَيْعَةُ اصْطِلَاحًا، كَمَا عَرَّفَهَا ابْنُ خَلْدُونٍ فِي مُقَدِّمَتِهِ: الْعَهْدُ عَلَى الطَّاعَةِ، كَأَنَّ الْمُبَايِعَ يُعَاهِدُ أَمِيرَهُ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ النَّظَرَ فِي أَمْرِ نَفْسِهِ وَأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، لَا يُنَازِعُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَيُطِيعَهُ فِيمَا يُكَلِّفُهُ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ عَلَى الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَكَانُوا إِذَا بَايَعُوا الْأَمِيرَ وَعَقَدُوا عَهْدَهُ جَعَلُوا أَيْدِيَهُمْ فِي يَدِهِ تَأْكِيدًا لِلْعَهْدِ، فَأَشْبَهَ ذَلِكَ فِعْلَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، وَصَارَتِ الْبَيْعَةُ تَقْتَرِنُ بِالْمُصَافَحَةِ بِالْأَيْدِي.

هَذَا مَدْلُولُهَا فِي اللُّغَةِ وَمَعْهُودُ الشَّرْعِ، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ فِي بَيْعَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، وَعِنْدَ الشَّجَرَةِ، وَحَيْثُمَا وَرَدَ هَذَا اللَّفْظُ.وَمِنْهُ: بَيْعَةُ الْخُلَفَاءِ، وَمِنْهُ أَيْمَانُ الْبَيْعَةِ.فَقَدْ كَانَ الْخُلَفَاءُ يَسْتَحْلِفُونَ عَلَى الْعَهْدِ وَيَسْتَوْعِبُونَ الْأَيْمَانَ كُلَّهَا لِذَلِكَ.فَسُمِّيَ هَذَا الِاسْتِيعَابُ أَيْمَانَ الْبَيْعَةِ.

2- هَذَا وَقَدِ اسْتَفَاضَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُبَايِعُونَهُ تَارَةً عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، وَتَارَةً عَلَى إِقَامَةِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَتَارَةً عَلَى الثَّبَاتِ وَالْقَرَارِ فِي مَعْرَكَةِ الْكُفَّارِ، وَتَارَةً عَلَى التَّمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ وَاجْتِنَابِ الْبِدْعَةِ وَالْحِرْصِ عَلَى الطَّاعَاتِ».

هَذَا، وَالْكَلَامُ عَنِ الْبَيْعَةِ بِمَعْنَى (الْمَرَّةِ مِنَ الْبَيْعِ) مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ: (بَيْع).

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْعَقْدُ:

3- الْعَقْدُ وَجَمْعُهُ عُقُودٌ، وَلَهُ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ مِنْهَا: عَقْدُ الْحَبْلِ وَنَحْوِهِ، وَمِنْهَا الْعَهْدُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: رَبْطُ أَجْزَاءِ التَّصَرُّفِ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ شَرْعًا.

فَالْعَقْدُ أَعَمُّ مِنَ الْبَيْعَةِ.

ب- الْعَهْدُ:

4- مِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: كُلُّ مَا عُوهِدَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَا بَيْنَ الْعِبَادِ مِنَ الْمَوَاثِيقِ.

وَالْعَهْدُ: الَّذِي يُكْتَبُ لِلْوُلَاةِ عِنْدَ تَقْلِيدِهِمُ الْأَعْمَالَ، وَالْجَمْعُ: عُهُودٌ، وَقَدْ عَهِدَ إِلَيْهِ عَهْدًا.وَالْعَهْدُ: الْمَوْثِقُ وَالْيَمِينُ يَحْلِفُ بِهَا الرَّجُلُ.تَقُولُ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ، وَأَخَذْتُ عَلَيْهِ عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ.فَالْبَيْعَةُ نَوْعٌ مِنَ الْعُهُودِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْبَيْعَةِ:

5- يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْمُبَايَعَةِ بِاخْتِلَافِ الْمُبَايِعَيْنِ، فَأَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ يَجِبُ عَلَيْهِمْ بَيْعَةُ مَنْ يَخْتَارُونَهُ لِلْإِمَامَةِ مِمَّنْ قَدِ اسْتَوْفَى الشُّرُوطَ الشَّرْعِيَّةَ لَهَا.

وَأَمَّا سَائِرُ النَّاسِ، فَالْأَصْلُ وُجُوبُ الْبَيْعَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِنَاءً عَلَى بَيْعَةِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ لِإِمَامٍ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» وَلَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ يَكْفِي سَائِرَ النَّاسِ أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّهُمْ تَحْتَ أَمْرِ الْإِمَامِ الْمُبَايَعِ، وَأَنَّهُمْ مُلْتَزِمُونَ بِالطَّاعَةِ لَهُ.

هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُبَايِعَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَسَائِرِ النَّاسِ،

أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمُخْتَارِ لِيَكُونَ إِمَامًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ قَبُولُ الْبَيْعَةِ إِنْ تَعَيَّنَتِ الْإِمَامَةُ، بِأَنْ لَا يُوجَدَ غَيْرُهُ مُسْتَوْفِيًا لِلشُّرُوطِ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَوْفُونَ لِلشُّرُوطِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، كَانَ قَبُولُ الْبَيْعَةِ فَرْضَ كِفَايَةٍ (وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى، وَأَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ).

أَدِلَّةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْبَيْعَةِ:

6- مُبَايَعَةُ الْمُسْلِمِينَ لِلرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- إِنَّمَا هِيَ مُبَايَعَةٌ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} فَيَدُهُ سُبْحَانَهُ فِي الثَّوَابِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فِي الْوَفَاءِ، وَيَدُهُ فِي الْمِنَّةِ عَلَيْهِمْ بِالْهِدَايَةِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فِي الطَّاعَةِ.وَالْمُرَادُ بِالْمُبَايَعَةِ فِي الْآيَةِ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَنْ بَايَعَهُ فِيهَا قَوْلَهُ جَلَّ شَأْنُهُ: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، فَبَايَعْنَاهُ وَعُمَرُ آخِذٌ بِيَدِهِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَهِيَ سَمُرَةٌ.وَقَالَ: بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ، وَلَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ»

وَفِي بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ الْأُولَى بَايَعَ الْمُسْلِمُونَ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْهِمُ الْحَرْبُ.«فَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ- رضي الله عنه-، وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: بَايَعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَهُوَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ.فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ»

7- أَمَّا بَيْعَةُ النِّسَاءِ فَقَدْ بُيِّنَتْ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

وَلَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَكَّةَ جَاءَهُ نِسَاءُ أَهْلِهَا يُبَايِعْنَهُ فَأَخَذَ عَلَيْهِنَّ: أَنْ لَا يُشْرِكْنَ..إِلَخْ.

فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَتِ الْمُؤْمِنَاتُ إِذَا هَاجَرْنَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُمْتَحَنَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ فَقَدْ أَقَرَّ بِالْمِحْنَةِ.كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَقْرَرْنَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِنَّ، قَالَ لَهُنَّ: انْطَلِقْنَ فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ وَلَا وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ، غَيْرَ أَنَّهُ بَايَعَهُنَّ بِالْكَلَامِ.قَالَتْ عَائِشَةُ: وَاللَّهِ مَا أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى النِّسَاءِ قَطُّ إِلاَّ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَا مَسَّتْ كَفُّ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَفَّ امْرَأَةٍ قَطُّ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُنَّ إِذَا أَخَذَ عَلَيْهِنَّ قَدْ بَايَعْتُكُنَّ كَلَامًا». (أَيْ دُونَ مُصَافَحَةٍ).

وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ- رضي الله عنها- «لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ جَمَعَ نِسَاءَ الْأَنْصَارِ فِي بَيْتٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْنَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَامَ عَلَى الْبَابِ، فَسَلَّمَ، فَرَدَدْنَ عَلَيْهِ السَّلَامَ، فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَيْكُنَّ: أَنْ لَا تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا فَقُلْنَ: نَعَمْ.فَمَدَّ يَدَهُ مِنْ خَارِجِ الْبَيْتِ وَمَدَدْنَا أَيْدِيَنَا مِنْ دَاخِلِ الْبَيْتِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ».

وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا بَايَعَ النِّسَاءَ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَغَمَسَ يَدَهُ فِيهِ، ثُمَّ أَمَرَ النِّسَاءَ فَغَمَسْنَ أَيْدِيَهُنَّ فِيهِ». فَبَيْعَةُ رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ لِلرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَتْ بِالْمُصَافَحَةِ مَعَ الْكَلَامِ.أَمَّا بَيْعَةُ نِسَائِهِمْ لَهُ- صلى الله عليه وسلم- فَكَانَتْ بِالْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ مُصَافَحَةٍ.قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، إِنَّ بَيْعَةَ النِّسَاءِ بِالْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ أَخْذِ كَفٍّ، وَبَيْعَةَ الرِّجَالِ بِأَخْذِ الْكَفِّ مَعَ الْكَلَامِ.

وَحِينَ تَخَوَّفَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: ابْسُطْ يَدَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، فَبَسَطَهَا، فَبَايَعَهُ، ثُمَّ بَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ، ثُمَّ بَايَعَهُ الْأَنْصَارُ.

الْفَرْقُ بَيْنَ مُبَايَعَةِ الصَّحَابَةِ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَبَيْنَ مُبَايَعَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ:

8- إِنَّ مَوْضُوعَ بَيْعَةِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- يَقْتَصِرُ عَلَى الْتِزَامِ الْمُبَايِعِينَ وَتَعَهُّدِهِمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَخَاصَّةً الِالْتِزَامُ بِمَا بَايَعُوا عَلَيْهِ، أَمَّا تَعْيِينُهُ- صلى الله عليه وسلم- لِلْإِمَامَةِ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ.وَأَمَّا بَيْعَةُ غَيْرِهِ فَهِيَ الْتِزَامٌ مِنْ كُلٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، فَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الْتِزَامٌ لِلْإِمَامِ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالْإِقْرَارِ بِإِمَامَتِهِ، وَالْتِزَامٌ مِنَ الْمُبَايَعِ بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَالْقِيَامِ بِفُرُوضِ الْإِمَامَةِ.وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا إِذَا تَمَّتْ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ انْعِقَادُ الْإِمَامَةِ لِمَنْ بَايَعَهُ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَأَمَّا سَائِرُ النَّاسِ غَيْرُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُبَايِعُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَبَعًا لِأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ.

هَلِ الْبَيْعَةُ عَقْدٌ؟ وَتَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ؟

9- الْبَيْعَةُ عَقْدُ مُرَاضَاةٍ وَاخْتِيَارٍ لَا يَدْخُلُهُ إِكْرَاهٌ وَلَا إِجْبَارٌ، وَهُوَ عَقْدٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ.وَثَانِيهِمَا: الشَّخْصُ الَّذِي أَدَّاهُمُ اجْتِهَادُهُمْ إِلَى اخْتِيَارِهِ مِمَّنْ قَدِ اسْتَوْفَوْا شَرَائِطَ الْإِمَامَةِ لِيَكُونَ إِمَامًا لَهُمْ.فَإِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لِلِاخْتِيَارِ، وَتَصَفَّحُوا أَحْوَالَ أَهْلِ الْإِمَامَةِ الْمَوْجُودَةِ فِيهِمْ شُرُوطُهَا، فَقَدَّمُوا لِلْبَيْعَةِ مِنْهُمْ أَكْثَرَهُمْ فَضْلًا وَأَكْمَلَهُمْ فِي تِلْكَ الشُّرُوطِ، وَمَنْ يُسْرِعُ النَّاسُ إِلَى طَاعَتِهِ وَلَا يَتَوَقَّفُونَ عَنْ بَيْعَتِهِ.فَإِذَا تَعَيَّنَ لَهُمْ مِنْ بَيْنِ الْجَمَاعَةِ مَنْ أَدَّاهُمُ الِاجْتِهَادُ إِلَى اخْتِيَارِهِ عَرَضُوهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ أَجَابَ إِلَيْهَا بَايَعُوهُ عَلَيْهَا، وَانْعَقَدَتْ بِبَيْعَتِهِمْ لَهُ الْإِمَامَةُ، فَلَزِمَ كَافَّةَ الْأَمَةِ الدُّخُولُ فِي بَيْعَتِهِ وَالِانْقِيَادُ لِطَاعَتِهِ، وَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ الْإِمَامَةِ وَلَمْ يُجِبْ إِلَيْهَا لَمْ يُحْبَرْ عَلَيْهَا، وَعُدِلَ عَنْهُ إِلَى مَنْ سِوَاهُ مِنْ مُسْتَحِقِّيهَا. أَثَرُ الْبَيْعَةِ فِي انْعِقَادِ الْإِمَامَةِ:

10- اخْتِيَارُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لِلْإِمَامِ وَبَيْعَتُهُمْ لَهُ هِيَ الْأَصْلُ فِي انْعِقَادِ الْإِمَامَةِ، وَأَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ هُمُ الْعُلَمَاءُ وَجَمَاعَةُ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ الَّذِينَ اجْتَمَعَ فِيهِمُ الْعِلْمُ بِشُرُوطِ الْأَمَانَةِ وَالْعَدَالَةِ وَالرَّأْيِ. (ر: أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ).

أَمَّا انْعِقَادُ الْإِمَامَةِ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ أَوْ بِالتَّغَلُّبِ فَيُنْظَرُ حُكْمُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِمَامَةٌ كُبْرَى).

وَلَيْسَ لِمَنْ كَانَ فِي بَلَدِ الْإِمَامِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْبِلَادِ فَضْلُ مَزِيَّةٍ يَتَقَدَّمُ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ فِي الِاخْتِيَارِ، وَإِنَّمَا صَارَ مَنْ يَحْضُرُ بِبَلَدِ الْإِمَامِ مُتَوَلِّيًا لِعَقْدِ الْإِمَامَةِ عُرْفًا لَا شَرْعًا، لِسَبْقِ عِلْمِهِمْ بِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخِلَافَةِ فِي الْأَغْلَبِ مَوْجُودُونَ فِي بَلَدِهِ.

عَدَدُ مَنْ تَنْعَقِدُ بِمُبَايَعَتِهِمُ الْإِمَامَةُ:

11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَةَ تَنْعَقِدُ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ عَلَى الْمُبَايَعَةِ، وَبِمُبَايَعَةِ جُمْهُورِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، لِيَتِمَّ الرِّضَا بِهِ وَالتَّسْلِيمُ لِإِمَامَتِهِ.وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- قَالَ: مَنْ بَايَعَ رَجُلًا مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُبَايَعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ.

قَالَ أَبُو يَعْلَى: أَمَّا انْعِقَادُ الْإِمَامَةِ بِاخْتِيَارِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فَلَا تَنْعَقِدُ إِلاَّ بِجُمْهُورِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: الْإِمَامُ الَّذِي يَجْتَمِعُ قَوْلُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ عَلَيْهِ، كُلُّهُمْ يَقُولُ هَذَا إِمَامٌ.قَالَ أَبُو يُعْلَى: وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِجَمَاعَتِهِمْ.

وَقِيلَ: تَنْعَقِدُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ.

وَمِمَّنْ قَالَ بِعَدَمِ انْعِقَادِهَا إِلاَّ بِجُمْهُورِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَقَالَ الْمُعْتَزِلَةُ بِانْعِقَادِهَا بِخَمْسَةٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ بِانْعِقَادِهَا بِالْأَرْبَعَةِ وَالثَّلَاثَةِ وَالِاثْنَيْنِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ بِانْعِقَادِهَا بِوَاحِدٍ، وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيلِ مُصْطَلَحَ (إِمَامَةٌ كُبْرَى). كَيْفِيَّةُ الْبَيْعَةِ:

12- كَيْفِيَّتُهَا أَنْ يَقُولَ كُلٌّ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الْمُبَايِعِينَ لِمَنْ يُبَايِعُونَهُ بِالْخِلَافَةِ: قَدْ بَايَعْنَاكَ عَلَى إِقَامَةِ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَالْقِيَامِ بِفُرُوضِ الْإِمَامَةِ.وَلَا يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى صَفْقَةِ الْيَدِ، وَقَدْ كَانَتِ الْبَيْعَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ بِالْمُصَافَحَةِ، فَلَمَّا وَلِيَ الْحَجَّاجُ رَتَّبَهَا أَيْمَانًا تَشْتَمِلُ عَلَى الْيَمِينِ بِاللَّهِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَصَدَقَةِ الْمَالِ.وَزَادَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ: وَبَيْعَةُ النِّسَاءِ بِالْكَلَامِ «وَمَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَدَ امْرَأَةٍ لَا يَمْلِكُ عِصْمَتَهَا».

وَفِي مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه- حِينَ تَخَوَّفَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه-: ابْسُطْ يَدَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعَهُ، ثُمَّ بَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ، ثُمَّ بَايَعَهُ الْأَنْصَارُ.

وَحَدِيثُ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- فِي بَيْعَةِ النِّسَاءِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ كَلَامًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضْرِبَ يَدَهُ عَلَى أَيْدِيهِنَّ كَمَا كَانَ يُبَايِعُ الرِّجَالَ.

نَقْضُ الْبَيْعَةِ:

13- يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ إِذَا بَايَعَ الْإِمَامَ أَنْ يَنْقُضَ بَيْعَتَهُ أَوْ يَتْرُكَ طَاعَتَهُ، إِلاَّ لِمُوجِبٍ شَرْعِيٍّ يَقْتَضِي انْتِقَاضَ الْبَيْعَةِ، كَرِدَّةِ الْإِمَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي مَبْحَثِ (الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى) فَإِنْ نَقَضَ الْبَيْعَةَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمِنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمِنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} وَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ»

- رحمه الله-

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


225-موسوعة الفقه الكويتية (تحول 1)

تَحَوُّلٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- التَّحَوُّلُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ تَحَوَّلَ، وَمَعْنَاهُ: التَّنَقُّلُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى آخَرَ، وَمِنْ مَعَانِيهِ أَيْضًا: الزَّوَالُ، كَمَا يُقَالُ: تَحَوَّلَ عَنِ الشَّيْءِ أَيْ: زَالَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ.

وَكَذَلِكَ: التَّغَيُّرُ وَالتَّبَدُّلُ.وَالتَّحْوِيلُ مَصْدَرُ حَوَّلَ، وَهُوَ: النَّقْلُ، فَالتَّحَوُّلُ مُطَاوِعٌ وَأَثَرٌ لِلتَّحْوِيلِ.

وَيَقْصِدُ الْفُقَهَاءُ بِالتَّحَوُّلِ مَا يُقْصَدُ بِهِ فِي اللُّغَةِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الِاسْتِحَالَةُ:

2- مِنْ مَعَانِي الِاسْتِحَالَةِ لُغَةً: تَغَيُّرُ الشَّيْءِ عَنْ طَبْعِهِ وَوَصْفِهِ، أَوْ عَدَمُ الْإِمْكَانِ.

فَالِاسْتِحَالَةُ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى التَّحَوُّلِ، كَاسْتِحَالَةِ الْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ مِنَ الْعَذِرَةِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَتَحَوُّلِهَا عَنْ أَعْيَانِهَا وَتَغَيُّرِ أَوْصَافِهَا، وَذَلِكَ بِالِاحْتِرَاقِ، أَوْ بِالتَّخْلِيلِ، أَوْ بِالْوُقُوعِ فِي شَيْءٍ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.

أَحْكَامُ التَّحَوُّلِ:

لِلتَّحَوُّلِ أَحْكَامٌ تَعْتَرِيهِ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَوَاطِنِهَا، أَهَمُّهَا مَا يَلِي:

أ- تَحَوُّلُ الْعَيْنِ وَأَثَرُهُ فِي الطَّهَارَةِ وَالْحِلِّ:

3- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى: أَنَّ نَجِسَ الْعَيْنِ يَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ، فَرَمَادُ النَّجِسِ لَا يَكُونُ نَجِسًا، وَلَا يُعْتَبَرُ نَجِسًا مِلْحٌ كَانَ حِمَارًا أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ غَيْرَهُمَا، وَلَا نَجِسٌ وَقَعَ فِي بِئْرٍ فَصَارَ طِينًا، وَكَذَلِكَ الْخَمْرُ إِذَا صَارَتْ خَلًّا سَوَاءٌ بِنَفْسِهَا أَوْ بِفِعْلِ إِنْسَانٍ أَوْ غَيْرِهِ، لِانْقِلَابِ الْعَيْنِ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ رَتَّبَ وَصْفَ النَّجَاسَةِ عَلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ، فَيَنْتَفِي بِانْتِقَائِهَا.فَإِذَا صَارَ الْعَظْمُ وَاللَّحْمُ مِلْحًا أَخَذَا حُكْمَ الْمِلْحِ؛ لِأَنَّ الْمِلْحَ غَيْرُ الْعَظْمِ وَاللَّحْمِ.

وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: الْعَلَقَةُ فَإِنَّهَا نَجِسَةٌ، فَإِذَا تَحَوَّلَتْ إِلَى الْمُضْغَةِ تَطْهُرُ، وَالْعَصِيرُ طَاهِرٌ فَإِذَا تَحَوَّلَ خَمْرًا يَنْجُسُ.

فَيَتَبَيَّنُ مِنْ هَذَا: أَنَّ اسْتِحَالَةَ الْعَيْنِ تَسْتَتْبِعُ زَوَالَ الْوَصْفِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا.

وَالْأَصْلُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ: أَنَّ نَجِسَ الْعَيْنِ لَا يَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ، فَالْكَلْبُ أَوْ غَيْرُهُ يُلْقَى فِي الْمَلاَّحَةِ فَيَصِيرُ مِلْحًا، وَالدُّخَانُ الْمُتَصَاعِدُ مِنْ وُقُودِ النَّجَاسَةِ، وَكَذَلِكَ الْبُخَارُ الْمُتَصَاعِدُ مِنْهَا إِذَا اجْتَمَعَتْ مِنْهُ نَدَاوَةٌ عَلَى جِسْمٍ صَقِيلٍ، ثُمَّ قَطَّرَ، نَجِسٌ.

4- ثُمَّ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الْخَمْرَ إِذَا انْقَلَبَتْ بِنَفْسِهَا خَلًّا فَتَطْهُرُ بِالتَّخَلُّلِ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ النَّجَاسَةِ الْإِسْكَارُ وَقَدْ زَالَتْ، وَلِأَنَّ الْعَصِيرَ لَا يَتَخَلَّلُ إِلاَّ بَعْدَ التَّخَمُّرِ غَالِبًا، فَلَوْ لَمْ يُحْكَمْ بِالطَّهَارَةِ تَعَذَّرَ الْحُصُولُ عَلَى الْخَلِّ، وَهُوَ حَلَالٌ بِالْإِجْمَاعِ.

وَأَمَّا إِنْ خُلِّلَتْ بِطَرْحِ شَيْءٍ فِيهَا بِفِعْلِ إِنْسَانٍ فَلَا تَطْهُرُ عِنْدَهُمْ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا لَوْ تَخَلَّلَتْ بِإِلْقَاءِ الرِّيحِ فَلَا تَطْهُرُ عِنْدَهُمْ أَيْضًا، سَوَاءٌ أَكَانَ لَهُ دَخْلٌ فِي التَّخْلِيلِ كَبَصَلٍ وَخُبْزٍ حَارٍّ، أَمْ لَا كَحَصَاةٍ.

وَكَذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الْمُلْقَاةُ طَاهِرَةً أَوْ نَجِسَةً.وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ أَكْثَرُ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (تَخْلِيلٌ وَاسْتِحَالَةٌ).

ب- تَطْهِيرُ الْجِلْدِ بِالدِّبَاغِ:

5- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي نَجَاسَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي طَهَارَتِهِ بَعْدَهُ عَلَى اتِّجَاهَاتٍ كَثِيرَةٍ.وَفِي الْمَوْضُوعِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ وَخِلَافٌ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، فَصَّلَهُ الْفُقَهَاءُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ النَّجَاسَةِ وَكَيْفِيَّةِ تَطْهِيرِهَا، وَيُرَاجَعُ فِيهِ أَيْضًا مُصْطَلَحُ: (دِبَاغَةٌ).

ج- تَحَوُّلُ الْوَصْفِ أَوِ الْحَالَةِ:

تَحَوُّلُ الْمَاءِ الرَّاكِدِ إِلَى الْمَاءِ الْجَارِي:

6- الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمَاءَ النَّجِسَ الرَّاكِدَ إِذَا تَحَوَّلَ إِلَى جَارٍ يَطْهُرُ بِمُجَرَّدِ جَرَيَانِهِ، وَالْجَارِي مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ جَارِيًا بِأَنْ يَدْخُلَ الْمَاءَ مِنْ جَانِبٍ وَيَخْرُجَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ حَالَ دُخُولِهِ، وَإِنْ قَلَّ الْخَارِجُ، لِأَنَّهُ صَارَ جَارِيًا حَقِيقَةً، وَبِخُرُوجِ بَعْضِهِ وَقَعَ الشَّكُّ فِي بَقَاءِ النَّجَاسَةِ، فَلَا تَبْقَى مَعَ الشَّكِّ.

وَفِيهِ قَوْلَانِ ضَعِيفَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

الْأَوَّلُ: لَا يَطْهُرُ بِمُجَرَّدِ التَّحَوُّلِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ خُرُوجِ قَدْرِ مَا فِيهِ.

وَالثَّانِي: لَا بُدَّ مِنْ خُرُوجِ ثَلَاثَةِ أَمْثَالِهِ.

وَيَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ وَالْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ فِي: أَنَّ الْخَارِجَ مِنَ الْحَوْضِ يَكُونُ طَاهِرًا بِمُجَرَّدِ خُرُوجِهِ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ.وَلَا يَكُونُ طَاهِرًا قَبْلَ الْحُكْمِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ الرَّاكِدِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ.

وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ: الْبِئْرُ وَحَوْضُ الْحَمَّامِ وَالْأَوَانِي.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ يَتَحَوَّلُ الْمَاءُ الْكَثِيرُ النَّجِسُ طَهُورًا بِزَوَالِ التَّغَيُّرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِصَبِّ مَاءٍ مُطْلَقٍ عَلَيْهِ، قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، أَوْ مَاءٍ مُضَافٍ مُقَيَّدٍ انْتَفَتْ نَجَاسَتُهُ، أَمْ بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهِ كَتُرَابٍ أَوْ طِينٍ، وَلَمْ يَظْهَرْ فِيهِ أَحَدُ أَوْصَافِ مَا أُلْقِيَ فِيهِ.لِأَنَّ تَنَجُّسَهُ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ التَّغَيُّرِ وَقَدْ زَالَ، وَالْحُكْمُ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا، كَالْخَمْرِ إِذَا صَارَتْ خَلًّا، وَفِي تَغَيُّرِهِ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِنَزْحِ بَعْضِهِ قَوْلَانِ.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْمَاءَ إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ لَا يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ نَجِسٍ، لِحَدِيثِ «إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ».أَيْ لَا يَقْبَلُ النَّجِسَ.

هَذَا مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ فَيَنْجُسُ لِحَدِيثِ: «إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ».

فَإِنْ تَغَيَّرَ وَصْفٌ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ تَنَجَّسَ، فَإِنْ زَالَ تَغَيُّرُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَاءٍ انْضَمَّ إِلَيْهِ طَهُرَ.وَمَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ يَنْجُسُ بِالْمُلَاقَاةِ، فَإِنْ بَلَغَهُمَا بِمَاءٍ وَلَا تَغَيُّرَ بِهِ فَطَهُورٌ.وَلَوْ كَوْثَرٌ بِإِيرَادِ طَهُورٍ فَلَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَطْهُرْ.وَقِيلَ: هُوَ طَاهِرٌ لَا طَهُورٌ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَخْتَلِفُ تَطْهِيرُ الْمَاءِ الْمُتَنَجِّسِ بِالْمُكَاثَرَةِ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالٍ ثَلَاثٍ لِلْمَاءِ: أَنْ يَكُونَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، أَوْ وَفْقَ الْقُلَّتَيْنِ، أَوْ زَائِدًا عَنْهُمَا.

(1) فَإِنْ كَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ فَتَطْهِيرُهُ بِالْمُكَاثَرَةِ بِمَاءٍ آخَرَ.

فَإِنِ اجْتَمَعَ نَجِسٌ إِلَى نَجِسٍ، فَالْكُلُّ نَجِسٌ وَإِنْ كَثُرَ، لِأَنَّ اجْتِمَاعَ النَّجِسِ إِلَى النَّجِسِ لَا يَتَوَلَّدُ بَيْنَهُمَا طَاهِرٌ، كَالْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ، وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَطْهُرَ إِذَا زَالَ التَّغَيُّرُ وَبَلَغَ الْقُلَّتَيْنِ، لِحَدِيثِ: «إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ» وَحَدِيثِ: «إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَاءٌ غُيِّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ».

وَجَمِيعُ النَّجَاسَاتِ فِي هَذَا سَوَاءٌ، إِلاَّ بَوْلَ الْآدَمِيِّينَ وَعَذِرَتَهُمُ الْمَائِعَةَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تُنَجِّسُ الْمَاءَ الْكَثِيرَ، إِلاَّ أَنْ يَبْلُغَ حَدًّا لَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ كَالْغُدْرَانِ، فَذَلِكَ الَّذِي لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ.

(2) فَإِنْ كَانَ وَفْقَ الْقُلَّتَيْنِ:

وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ فَيَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ الْمَذْكُورَةِ.

وَإِنْ كَانَ مُتَغَيِّرًا يَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ إِذَا أَزَالَتِ التَّغَيُّرَ، أَوْ بِتَرْكِهِ حَتَّى يَزُولَ تَغَيُّرُهُ بِطُولِ الْمُكْثِ.

(3) وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الْقُلَّتَيْنِ: فَإِنْ كَانَ نَجِسًا بِغَيْرِ التَّغَيُّرِ فَلَا طَرِيقَ إِلَى تَطْهِيرِهِ بِغَيْرِ الْمُكَاثَرَةِ.

وَإِنْ كَانَ نَجِسًا مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ فَتَطْهِيرُهُ إِمَّا بِالْمُكَاثَرَةِ، أَوْ زَوَالِ تَغَيُّرِهِ بِمُكْثِهِ، أَوْ أَنْ يُنْزَحَ مِنْهُ مَا يَزُولُ بِهِ التَّغَيُّرُ، وَيَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ قُلَّتَانِ فَصَاعِدًا.

وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (طَهَارَةٌ).

التَّحَوُّلُ إِلَى الْقِبْلَةِ أَوْ عَنْهَا:

7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا كَانَ مُعَايِنًا لِلْكَعْبَةِ، فَفَرْضُهُ الصَّلَاةُ إِلَى عَيْنِهَا بِجَمِيعِ بَدَنِهِ، بِأَنْ لَا يَخْرُجَ شَيْءٌ مِنْهُ عَنِ الْكَعْبَةِ وَلَوْ عُضْوًا، فَلَوْ تَحَوَّلَ بِغَيْرِ عُذْرٍ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.

وَأَمَّا فِي تَحْوِيلِ الْوَجْهِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوِ انْحَرَفَ وَجْهُهُ عَنْ عَيْنِ الْكَعْبَةِ انْحِرَافًا لَا تَزُولُ فِيهِ الْمُقَابَلَةُ بِالْكُلِّيَّةِ، جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ.

وَأَمَّا تَحْوِيلُ الصَّدْرِ عَنِ الْقِبْلَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَمُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: مَنِ الْتَفَتَ بِجَسَدِهِ كُلِّهِ عَنِ الْقِبْلَةِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، إِنْ بَقِيَتْ قَدَمَاهُ إِلَى الْقِبْلَةِ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ التَّحَوُّلَ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى عَامِدًا مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ، وَإِنْ فَعَلَهُ نَاسِيًا لَمْ تَبْطُلْ.وَفِي الْمَوْضُوعِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (اسْتِقْبَالٌ).

التَّحَوُّلُ مِنَ الْقِيَامِ إِلَى الْقُعُودِ فِي الصَّلَاةِ:

8- التَّحَوُّلُ مِنَ الْقِيَامِ إِلَى الْقُعُودِ، وَمِنْهُ إِلَى الِاسْتِلْقَاءِ أَوِ الِاضْطِجَاعِ مِنْ فُرُوعِ قَاعِدَةِ: «الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ» وَالْأَصْلُ فِيهَا قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا يُطِيقُ الْقِيَامَ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَوْ أَثْنَاءَهَا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، بِأَنْ خَافَ زِيَادَةَ مَرَضٍ، أَوْ بُطْءَ بُرْئِهِ، أَوْ دَوَرَانَ رَأْسِهِ، أَوْ وَجَدَ لِقِيَامِهِ أَلَمًا شَدِيدًا وَنَحْوَهُ، لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ جَالِسًا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْمَأَ مُسْتَلْقِيًا، «لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» زَادَ النَّسَائِيُّ: «فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقِيًا».

وَيُزَادُ فِي النَّافِلَةِ: أَنَّ لَهُ التَّحَوُّلَ مِنَ الْقِيَامِ إِلَى الْقُعُودِ بِلَا عُذْرٍ.

وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى كِتَابِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْكَلَامِ فِي صَلَاةِ الْمَرِيضِ.

تَحَوُّلُ الْمُقِيمِ إِلَى مُسَافِرٍ وَعَكْسُهُ:

أ- تَحَوُّلُ الْمُقِيمِ إِلَى مُسَافِرٍ:

9- يَصِيرُ الْمُقِيمُ مُسَافِرًا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:

أَوَّلُهُمَا: إِذَا جَاوَزَ بُيُوتَ مَقَامِهِ، وَجَاوَزَ مَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ تَوَابِعِ الْبَلَدِ بِنِيَّةِ السَّفَرِ، قَاصِدًا الْمَسَافَةَ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِهَا السَّفَرُ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الْأَحْكَامُ.وَالْمُعْتَبَرُ فِي النِّيَّةِ نِيَّةُ الْمَتْبُوعِ لَا التَّابِعِ، حَتَّى تَصِيرَ الزَّوْجَةُ مُسَافِرَةً بِنِيَّةِ الزَّوْجِ، وَالْجُنْدِيُّ بِنِيَّةِ الْقَائِدِ، وَكُلُّ مَنْ لَزِمَهُ طَاعَةُ غَيْرِهِ كَالسُّلْطَانِ وَأَمِيرِ الْجَيْشِ.

ثَانِيهِمَا: إِذَا أَنْشَأَ السَّيْرَ بَعْدَ الْإِقَامَةِ.

وَلِتَفْصِيلِ الْمَوْضُوعِ يُرْجَعُ إِلَى (صَلَاةُ الْمُسَافِرِ).

ب- تَحَوُّلُ الْمُسَافِرِ إِلَى مُقِيمٍ:

10- يَصِيرُ الْمُسَافِرُ مُقِيمًا بِأَحَدِ الْأُمُورِ التَّالِيَةِ:

الْأَوَّلُ: الْعَوْدُ إِلَى الْوَطَنِ الْأَصْلِيِّ، وَلَوْ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ فِيهِ.

وَالضَّبْطُ فِيهِ: أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي شَرَطَ الْفُقَهَاءُ مُفَارَقَتَهُ فِي إِنْشَاءِ السَّفَرِ مِنْهُ.

الثَّانِي: الْوُصُولُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُسَافِرُ إِلَيْهِ، إِذَا عَزَمَ عَلَى الْإِقَامَةِ فِيهِ الْقَدْرَ الْمَانِعَ مِنَ التَّرَخُّصِ، وَكَانَ صَالِحًا لِلْإِقَامَةِ.وَالْمُدَّةُ الْمَانِعَةُ مِنَ التَّرَخُّصِ خِلَافِيَّةٌ يُرْجَعُ فِيهَا إِلَى (صَلَاةُ الْمُسَافِرِ).

الثَّالِثُ: إِذَا تَزَوَّجَ الْمُسَافِرُ بِبَلَدٍ، وَإِنْ لَمْ يَتَّخِذْهُ وَطَنًا، وَلَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ.

الرَّابِعُ: نِيَّةُ الْإِقَامَةِ فِي الطَّرِيقِ: وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: نِيَّةُ الْإِقَامَةِ، وَنِيَّةُ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ، وَاتِّحَادُ الْمَكَانِ، وَصَلَاحِيَّتُهُ لِلْإِقَامَةِ.

وَأَمَّا الْمَفَازَةُ وَنَحْوُهَا فَفِي انْقِطَاعِ السَّفَرِ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِيهَا خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (صَلَاةُ الْمُسَافِرِ).

الْخَامِسُ: الْإِقَامَةُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ: وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْأَصْلُ مُقِيمًا، فَيَصِيرَ التَّبَعُ أَيْضًا مُقِيمًا، بِإِقَامَةِ الْأَصْلِ.

التَّحَوُّلُ عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَلِ:

الْكَلَامُ عَلَى التَّحَوُّلِ عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَلِ يَكُونُ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا:

أ- الزَّكَاةُ:

11- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّحَوُّلِ عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَلِ فِي الزَّكَاةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.فَيَجُوزُ لِلْمَالِكِ أَنْ يَدْفَعَ الْعَيْنَ أَوِ الْقِيمَةَ مِنَ النَّقْدَيْنِ وَالْعُرُوضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَوْ مَعَ وُجُودِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}.

نَصَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَأْخُوذِ (صَدَقَةً) وَكُلُّ جِنْسٍ يَأْخُذُهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ.

وَلِقَوْلِ مُعَاذٍ لِأَهْلِ الْيَمَنِ حِينَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمُ: «ائْتُونِي بِعَرْضِ ثِيَابٍ خَمِيصٍ أَوْ لَبِيسٍ فِي الصَّدَقَةِ مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ، أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ يَأْتِي بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- وَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ».

وَالْفِقْهُ فِيهِ: أَنَّ الْمَقْصُودَ إِيصَالُ الرِّزْقِ الْمَوْعُودِ إِلَى الْفَقِيرِ، وَدَفْعُ حَاجَةِ الْمِسْكِينِ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِالْقِيمَةِ أَيْضًا.قَالَ - عليه الصلاة والسلام-: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ قُوتَ الْفُقَرَاءِ، وَسَمَّاهُ زَكَاةً».

وَفِي اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ هَلْ تُدْفَعُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْأَدَاءِ أَمْ يَوْمَ الْوُجُوبِ؟ خِلَافٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مَوْطِنِهِ.

وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: فَيَجُوزُ التَّحَوُّلُ عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَلِ فِي الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ فَقَطْ، فَيَجُوزُ لِلْمُزَكِّي أَنْ يُخْرِجَ فِي زَكَاةِ الدَّنَانِيرِ دَرَاهِمَ بِقِيمَتِهَا، وَيُخْرِجَ عَنِ الْفِضَّةِ ذَهَبًا بِقِيمَتِهِ، قَلَّتِ الْقِيمَةُ أَوْ كَثُرَتْ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُعَاوَضَةٌ فِي حَقِّهِ، فَكَانَتْ بِالْقِيمَةِ كَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَهُمَا كَجِنْسٍ وَاحِدٍ.

وَلَمْ يُجِزْ ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ.

وَأَمَّا فِي الْمَوَاشِي: فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ جَائِزٌ، بِنَاءً عَلَى قَاعِدَتِهِمْ بِجَوَازِ الْقِيمَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ.وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ التَّحَوُّلُ عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَلِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الرُّجُوعِ فِي الصَّدَقَةِ، وَلِئَلاَّ تَكُونَ الْقِيمَةُ أَقَلَّ مِمَّا عَلَيْهِ، فَيَكُونُ قَدْ بَخَسَ الْفُقَرَاءَ حَقَّهُمْ، إِلاَّ إِذَا أَجْبَرَ السَّاعِي الْمُزَكِّيَ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ دَرَاهِمَ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ صَدَقَتِهِ، فَيُجْزِئُ عَنْهُ، إِذَا كَانَ فِيهِ وَفَاءٌ بِقِيمَةِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَكَانَ عِنْدَ مَحَلِّهَا.

وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يُجْزِئُ إِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ عَنْ قِيمَةِ الشَّاةِ.وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْإِبِلُ مِرَاضًا، أَوْ قَلِيلَةَ الْقِيمَةِ لِعَيْبٍ أَجْزَأَ الْبَعِيرُ النَّاقِصُ عَنْ قِيمَةِ الشَّاةِ، وَإِنْ كَانَتْ صِحَاحًا سَلِيمَةً لَمْ يُجْزِئِ النَّاقِصُ.

وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي (الزَّكَاةُ).

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمُ التَّحَوُّلُ فِي الْمَاشِيَةِ مِنْ جِنْسٍ إِلَى آخَرَ وَلَا إِلَى الْقِيمَةِ..

ب- زَكَاةُ الْفِطْرِ:

12- التَّحَوُّلُ عَنِ الْعَيْنِ إِلَى الْقِيمَةِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَأَمَّا التَّحَوُّلُ مِنْ جِنْسٍ إِلَى آخَرَ مِنْ أَجْنَاسِ الْأَقْوَاتِ، أَوِ التَّحَوُّلُ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى وَعَكْسُهُ فَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (زَكَاةُ الْفِطْرِ).

ج- الْعُشُورُ:

13- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّحَوُّلِ عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَلِ فِي الْعُشُورِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّحَوُّلِ عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْبَدَلِ فِي الْعُشُورِ، وَذَلِكَ لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ التَّحَوُّلُ مِنَ الْوَاجِبِ إِلَى الْأَعْلَى فَقَطْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا كَانَتِ الْحُبُوبُ وَالثِّمَارُ نَوْعًا وَاحِدًا.

وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْأَنْوَاعُ: أَخَذَ الْوَاجِبَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِالْحِصَّةِ إِنْ لَمْ يَتَعَسَّرْ، فَإِنْ عَسُرَ أَخْذُ الْوَاجِبِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِأَنْ كَثُرَتْ، وَقَلَّ ثَمَرُهَا فَفِيهِ أَوْجُهٌ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّهُ يُخْرِجُ مِنَ الْوَسَطِ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ.

وَالثَّانِي: يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِقِسْطِهِ.

وَالثَّالِثُ: مِنَ الْغَالِبِ، وَقِيلَ: يُؤْخَذُ الْوَسَطُ قَطْعًا.

وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عُشْرٌ).

د- الْكَفَّارَاتُ:

14- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّحَوُّلُ عَنِ الْوَاجِبِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ فِي الْكَفَّارَاتِ، فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا تَعَيَّنَ، وَإِنْ كَانَ مُخَيَّرًا تَخَيَّرَ فِي الْخِصَالِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الشَّارِعُ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ التَّحَوُّلِ عَنِ الْوَاجِبِ إِنْ كَانَ مَالِيًّا إِلَى الْبَدَلِ فِي الْكَفَّارَاتِ.وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (كَفَّارَاتٌ).

هـ- النُّذُورُ:

15- الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الصَّحِيحُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ مَنْ نَذَرَ نَذْرًا مُعَيَّنًا وَغَيْرَ مُطْلَقٍ فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُهُ مِمَّا عَيَّنَهُ، وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنِ الْمُعَيَّنِ إِلَى غَيْرِهِ بَدَلًا أَوْ قِيمَةً.وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (النَّذْرُ).

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ ذَلِكَ مُطْلَقًا، كَمَا يَجُوزُ عِنْدَهُمُ الْعُدُولُ عَنِ الْوَاجِبِ إِلَى الْقِيمَةِ فِي النُّذُورِ، وَاسْتَثْنَوْا نَذْرَ الْعِتْقِ وَالْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ.

تَحَوُّلُ فَرِيضَةِ الصَّوْمِ إِلَى فِدْيَةٍ:

16- اتَّفَقَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الشَّيْخَ الْهَرِمَ الَّذِي لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ، أَوْ تَلْحَقُهُ بِهِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ لَا صَوْمَ عَلَيْهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلٌ غَيْرُ مَشْهُورٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ غَيْرُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ.وَفِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَى الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ خَافَتْ عَلَى نَفْسِهَا أَوْ وَلَدِهَا، وَالْمَرِيضِ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ

، يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (صَوْمٌ وَفِدْيَةٌ)..

تَحَوُّلُ الْعَقْدِ الَّذِي لَمْ تُسْتَكْمَلْ شَرَائِطُهُ إِلَى عَقْدٍ آخَرَ:

17- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى أَنَّ الْهِبَةَ إِذَا كَانَتْ بِشَرْطِ الْعِوَضِ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَتَحَوَّلُ إِلَى بَيْعٍ، فَيَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ وَالشُّفْعَةُ، وَيَلْزَمُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَيُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ.وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: يَبْطُلُ الْعَقْدُ، لِأَنَّهُ شَرَطَ فِي الْهِبَةِ مَا يُنَافِي مُقْتَضَاهَا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: أَنَّ هِبَةَ الثَّوَابِ بَيْعٌ ابْتِدَاءً، وَلِذَا لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْوَاهِبِ قَبْلَ حِيَازَةِ الْهِبَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُثَابَ عَنِ الذَّهَبِ فِضَّةً أَوِ الْعَكْسُ، لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنَ الصَّرْفِ الْمُؤَخَّرِ، مَا لَمْ يَحْدُثِ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ.وَفِي كَوْنِ الْعِوَضِ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا، وَكَذَلِكَ فِي كَوْنِهَا بَيْعًا ابْتِدَاءً أَوِ انْتِهَاءً تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ: (هِبَةٌ).

وَلِتَحَوُّلِ الْعَقْدِ الَّذِي لَمْ تُسْتَكْمَلْ شَرَائِطُهُ إِلَى عَقْدٍ آخَرَ أَمْثِلَةٌ أُخْرَى مِنْهَا: تَحَوُّلُ الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ إِلَى وَكَالَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِتَصَرُّفَاتِ الْمُضَارِبِ، وَلِذَلِكَ يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ: أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُضَارِبِ مَنُوطَةٌ بِالْمَصْلَحَةِ كَالْوَكِيلِ.

وَإِلَى شَرِكَةٍ إِنْ رَبِحَ الْمُضَارِبُ، وَإِلَى إِجَارَةٍ فَاسِدَةٍ إِنْ فَسَدَتْ.

وَمِنْهَا: تَحَوُّلُ السَّلَمِ إِلَى بَيْعٍ مُطْلَقًا، إِذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ عَيْنًا فِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَإِلَى هِبَةٍ لَوْ قَالَ: بِعْتُ بِلَا ثَمَنٍ، وَالْأَظْهَرُ الْبُطْلَانُ.

وَمِنْهَا: تَحَوُّلُ الِاسْتِصْنَاعِ سَلَمًا إِذَا ضُرِبَ فِيهِ الْأَجَلُ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، حَتَّى تُعْتَبَرَ فِيهِ شَرَائِطُ السَّلَمِ.

وَفِي كُلٍّ مِنَ الْأَمْثِلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِ (عَقْدٌ، وَسَلَمٌ، وَمُضَارَبَةٌ، وَشَرِكَةٌ، وَاسْتِصْنَاعٌ).

تَحَوُّلُ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ إِلَى نَافِذٍ:

18- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ، فَإِذَا أَجَازَهُ الْمَالِكُ أَصْبَحَ نَافِذًا، وَإِلاَّ فَلَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الْجَدِيدِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى: أَنَّ هَذَا الْبَيْعَ بَاطِلٌ وَيَجِبُ رَدُّهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

وَقَدْ فَصَّلَ الْقَائِلُونَ بِانْعِقَادِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ الْكَلَامَ حَوْلَهُ، وَيُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحَاتِ: (عَقْدٌ، وَمَوْقُوفٌ، وَفُضُولِيٌّ).

تَحَوُّلُ الدَّيْنِ الْآجِلِ إِلَى حَالٍّ:

يَتَحَوَّلُ الدَّيْنُ الْآجِلُ إِلَى حَالٍّ فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا:

أ- الْمَوْتُ:

19- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ الْآجِلَ يَتَحَوَّلُ بِالْمَوْتِ إِلَى حَالٍّ، لِانْعِدَامِ ذِمَّةِ الْمَيِّتِ وَتَعَذُّرِ الْمُطَالَبَةِ.وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ إِذَا وَثَّقَهُ الْوَرَثَةُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ أَيْضًا.

وَفِي لِحَاقِ الْمُرْتَدِّ بِدَارِ الْحَرْبِ هَلْ يَتَقَرَّرُ مَوْتُهُ، وَتَثْبُتُ الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ؟ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ يُنْظَرُ فِي مَوَاطِنِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَمُصْطَلَحِ: (رِدَّةٌ).وَمُصْطَلَحِ أَجَلٌ (ف: 95 ج 2).

ب- التَّفْلِيسُ:

20- الْمُتَبَادَرُ مِنْ أَقْوَالِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ الْحَجْرِ لِلْإِفْلَاسِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ لَا يَحِلُّ بِالتَّفْلِيسِ، لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقٌّ لِلْمُفَلِّسِ فَلَا يَسْقُطُ بِفَلَسِهِ، كَسَائِرِ حُقُوقِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ حُلُولَ مَا لَهُ، فَلَا يُوجِبُ حُلُولَ مَا عَلَيْهِ.

وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَتَأَتَّى هَذَا، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ الْحَجْرُ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ ذَكَرَهَا أَبُو الْخَطَّابِ إِلَى: أَنَّ مَنْ حُجِرَ عَلَيْهِ لِإِفْلَاسِهِ يَتَحَوَّلُ دَيْنُهُ الْآجِلُ إِلَى حَالٍّ، لِأَنَّ التَّفْلِيسَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الدَّيْنُ بِالْمَالِ، فَيَسْقُطُ الْأَجَلُ كَالْمَوْتِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَجْرٌ).

تَحَوُّلُ الْوَقْفِ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ:

21- ذَهَبَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطٌ فِي الْوَقْفِ، وَأَنَّ الْوَقْفَ الَّذِي لَا خِلَافَ فِي صِحَّتِهِ: مَا كَانَ مَعْلُومَ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ، مِثْلُ أَنْ يَجْعَلَ نِهَايَتَهُ إِلَى جِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ، كَأَنْ يَجْعَلَ آخِرَهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ، أَوْ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ انْقِرَاضُهُمْ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَوِ انْقَطَعَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ:

فَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّهُ يُرْجَعُ إِلَى الْوَاقِفِ، أَوْ إِلَى وَرَثَتِهِ، إِلاَّ أَنْ يَقُولَ: صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ يُنْفَقُ مِنْهَا عَلَى فُلَانٍ، وَعَلَى فُلَانٍ فَإِذَا انْقَرَضَ الْمُسَمَّى كَانَتْ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.

وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ يَبْقَى وَقْفًا، وَيَنْصَرِفُ إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْوَاقِفِ.وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي مَصْرِفِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْوَقْفِ.

وَيُرْجَعُ إِلَى تَفْصِيلِ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْفٌ).

تَحَوُّلُ الْمِلْكِيَّةِ الْعَامَّةِ مِنَ الْإِبَاحَةِ إِلَى الْمِلْكِيَّةِ الْخَاصَّةِ وَعَكْسُهُ:

22- قَدْ تَتَحَوَّلُ الْمِلْكِيَّةُ مِنَ الْعَامَّةِ إِلَى الْخَاصَّةِ بِأَيِّ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ التَّمَلُّكِ، كَالْإِقْطَاعِ مِنْ أَرَاضِي بَيْتِ الْمَالِ.

فَلِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ الْأَرْضَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ، كَمَا يُعْطِي الْمَالَ حَيْثُ رَأَى الْمَصْلَحَةَ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالْمَالِ فِي الدَّفْعِ لِلْمُسْتَحِقِّ.وَرَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (إِقْطَاعٌ).

وَيَتَحَوَّلُ الْمِلْكُ الْخَاصُّ إِلَى الْعَامِّ إِذَا مَاتَ عَنْهُ أَرْبَابُهُ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ وَارِثُهُ بِفَرْضٍ وَلَا تَعْصِيبٍ، فَيَنْتَقِلُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ مِيرَاثًا لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ.

وَذَكَرَ أَبُو يَعْلَى أَنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ مَصْرُوفًا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، لَا عَلَى طَرِيقِ الْمِيرَاثِ.

وَيَتَحَوَّلُ الْمِلْكُ الْخَاصُّ إِلَى عَامٍّ، فِي نَحْوِ الْبَيْتِ الْمَمْلُوكِ إِذَا اُحْتِيجَ إِلَيْهِ لِلْمَسْجِدِ، أَوْ تَوْسِعَةِ الطَّرِيقِ، أَوْ لِلْمَقْبَرَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، بِشَرْطِ التَّعْوِيضِ.

تَحَوُّلُ الْوِلَايَةِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ:

23- تَتَحَوَّلُ الْوِلَايَةُ مِنَ الْوَلِيِّ الْأَقْرَبِ إِلَى الْوَلِيِّ الْأَبْعَدِ فِي مَوَاطِنَ مِنْهَا:

- إِذَا فُقِدَ الْوَلِيُّ الْأَقْرَبُ، وَكَذَلِكَ إِذَا أُسِرَ أَوْ حُبِسَ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ تَتَحَوَّلُ مِنَ الْوَلِيِّ الْأَقْرَبِ إِلَى الْأَبْعَدِ.

وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالْوِلَايَةُ عِنْدَهُمْ تَنْتَقِلُ إِلَى الْحَاكِمِ.

- وَمِنْهَا غَيْبَةُ الْوَلِيِّ، فَإِذَا غَابَ الْوَلِيُّ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً تَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ مِنَ الْأَقْرَبِ إِلَى الْأَبْعَدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَنْتَقِلُ إِلَى الْحَاكِمِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ وَلِيُّ الْغَائِبِ.وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِمَوْتِ الْوَلِيِّ الْأَقْرَبِ وَقَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، فَتَنْتَقِلُ عِنْدَهُمْ إِلَى الْأَبْعَدِ.

وَمِنْهَا: الْعَضْلُ، وَهُوَ: مَنْعُ الْوَلِيِّ مُوَلِّيَتَهُ مِنْ زَوَاجِ الْكُفْءِ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: إِلَى أَنَّ الْوَلِيَّ الْأَقْرَبَ إِذَا عَضَلَهَا انْتَقَلَتِ الْوِلَايَةُ إِلَى السُّلْطَانِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ - رضي الله عنه-.وَذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رضي الله عنه- وَشُرَيْحٍ.وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَنْصُوصِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهَا تَنْتَقِلُ إِلَى الْأَبْعَدِ.وَانْظُرْ لِتَفْصِيلِ ذَلِكَ وَالْخِلَافِ فِيهِ مُصْطَلَحَ: (وِلَايَةُ النِّكَاحِ).

تَحَوُّلُ حَقِّ الْحَضَانَةِ:

24- الْأَصْلُ فِي الْحَضَانَةِ أَنَّ الْأُمَّ أَوْلَى النَّاسِ بِحَضَانَةِ الطِّفْلِ إِذَا كَمُلَتِ الشُّرُوطُ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضي الله عنهما- «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي، وَأَرَادَ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-: أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي».

فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْأُمُّ مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ لِفِقْدَانِ جَمِيعِ الشُّرُوطِ فِيهَا أَوْ بَعْضِهَا، أَوِ امْتَنَعَتْ مِنَ الْحَضَانَةِ، فَهِيَ كَالْمَعْدُومَةِ، وَتَنْتَقِلُ الْحَضَانَةُ إِلَى مَنْ يَلِيهَا، وَهَكَذَا تَتَحَوَّلُ مِنَ الْأَقْرَبِ إِلَى الْأَبْعَدِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ.عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَضَانَةٌ).

تَحَوُّلُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ:

25- إِذَا مَاتَ الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ فِي عِدَّةِ طَلَاقِهِ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا سَقَطَتْ عَنْهَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ، وَانْتَقَلَتْ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ، أَيْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةِ أَيَّامٍ مِنْ حِينِ الْوَفَاةِ، بِلَا خِلَافٍ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ رَجْعِيًّا زَوْجَةٌ يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ، وَيَنَالُهَا مِيرَاثُهُ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ.

وَإِذَا مَاتَ مُطَلِّقُ الْبَائِنِ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، وَكَانَ الطَّلَاقُ فِي حَالِ صِحَّتِهِ، أَوْ طَلَّقَهَا بِطَلَبِهَا، بَنَتْ عَلَى مُدَّةِ الطَّلَاقِ، وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ.أَمَّا إِذَا طَلَّقَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِغَيْرِ طَلَبٍ مِنْهَا، فَهَذِهِ خِلَافِيَّةٌ:

فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ احْتِيَاطًا لِشُبْهَةِ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ، بِاعْتِبَارِ إِرْثِهَا مِنْهُ.

وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو يُوسُفَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّهَا تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ لِانْقِطَاعِ الزَّوْجِيَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.

تَحَوُّلُ الْعِدَّةِ مِنَ الْأَشْهُرِ إِلَى الْأَقْرَاءِ وَعَكْسُهُ:

أ- تَحَوُّلُ الْعِدَّةِ مِنَ الْأَشْهُرِ إِلَى الْأَقْرَاءِ:

26- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الصَّغِيرَةَ الَّتِي لَمْ تَحِضْ، وَكَذَلِكَ الْبَالِغَةُ الَّتِي لَمْ تَحِضْ، إِذَا اعْتَدَّتْ بِبَعْضِ الْأَشْهُرِ، فَحَاضَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، أَنَّ عِدَّتَهَا تَتَحَوَّلُ مِنَ الْأَشْهُرِ إِلَى الْأَقْرَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشُّهُورَ بَدَلٌ عَنِ الْأَقْرَاءِ، وَقَدْ ثَبَتَتِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُبْدَلِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْمُبْدَلِ، قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ تُبْطِلُ حُكْمَ الْبَدَلِ كَالْقُدْرَةِ عَلَى الْوُضُوءِ فِي حَقِّ الْمُتَيَمِّمِ، فَيَبْطُلُ حُكْمُ الْأَشْهُرِ، وَتَنْتَقِلُ عِدَّتُهَا إِلَى الْأَقْرَاءِ.

وَكَذَا الْآيِسَةُ إِذَا اعْتَدَّتْ بِبَعْضِ الْأَشْهُرِ، ثُمَّ رَأَتِ الدَّمَ، فَتَتَحَوَّلُ عِدَّتُهَا إِلَى الْأَقْرَاءِ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَلِكَ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي لَمْ يُقَدِّرُوا فِيهَا لِلْإِيَاسِ سِنًّا مُعَيَّنَةً.

وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: فَإِذَا رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ وَقَبْلَ السَّبْعِينَ- وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بَعْدَ الْخَمْسِينَ وَقَبْلَ السِّتِّينَ- يَكُونُ دَمًا مَشْكُوكًا فِيهِ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى النِّسَاءِ.

إِلاَّ أَنَّ ابْنَ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ قَالَ: إِنَّ الْمَرْأَةَ إِنْ رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ عَلَى الْعَادَةِ الَّتِي كَانَتْ تَرَاهُ فِيهَا، فَهُوَ حَيْضٌ عَلَى الصَّحِيحِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي وَقَّتُوا لِلْإِيَاسِ فِيهَا وَقْتًا: إِلَى أَنَّ مَا رَأَتْهُ مِنَ الدَّمِ بَعْدَهَا لَيْسَ بِحَيْضٍ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ دَمًا خَالِصًا فَحَيْضٌ، حَتَّى يَبْطُلَ بِهِ الِاعْتِدَادُ بِالْأَشْهُرِ.وَلِتَفْصِيلِ الْمَوْضُوعِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحَيْ: (إِيَاسٌ، وَعِدَّةٌ).

27- وَأَمَّا مَنِ انْقَطَعَ حَيْضُهَا بَعْدَ أَنْ رَأَتِ الدَّمَ، وَقَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ سِنَّ الْيَأْسِ- وَهِيَ الْمُرْتَابَةُ- فَذَهَبَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ انْقِطَاعُ الدَّمِ بِسَبَبٍ مَعْرُوفٍ كَرَضَاعٍ وَنِفَاسٍ أَوْ مَرَضٍ يُرْجَى بُرْؤُهُ، فَإِنَّهَا تَصْبِرُ حَتَّى تَحِيضَ، فَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ، أَوْ تَبْلُغُ سِنَّ الْيَأْسِ، فَتَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ بَعْدَ سِنِّ الْيَأْسِ، وَلَا عِبْرَةَ بِطُولِ مُدَّةِ الِانْتِظَارِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِدَادَ بِالْأَشْهُرِ جُعِلَ بَعْدَ الْيَأْسِ بِالنَّصِّ، فَلَمْ يَجُزِ الِاعْتِدَادُ بِالْأَشْهُرِ قَبْلَهُ.

أَمَّا مَنِ انْقَطَعَ حَيْضُهَا لَا لِعِلَّةٍ تُعْرَفُ.فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، فَهَذِهِ سَنَةٌ.وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ الْأَغْلَبَ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ، فَإِذَا مَضَتْ تَبَيَّنَتْ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ، فَتَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَيْضًا، وَقَضَى بِهِ عُمَرُ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ( ( (.

وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ أَيْضًا أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ ثَلَاثَةً، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْقَدِيمِ: أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


226-موسوعة الفقه الكويتية (تداوي)

تَدَاوِي

التَّعْرِيفُ:

1- التَّدَاوِي لُغَةً: مَصْدَرُ تَدَاوَى أَيْ: تَعَاطَى الدَّوَاءَ، وَأَصْلُهُ دَوِيَ يَدْوِي دَوًى أَيْ مَرِضَ، وَأَدْوَى فُلَانًا يُدْوِيهِ بِمَعْنَى: أَمْرَضَهُ، وَبِمَعْنَى: عَالَجَهُ أَيْضًا، فَهِيَ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَيُدَاوِي: أَيْ يُعَالِجُ، وَيُدَاوِي بِالشَّيْءِ أَيْ: يُعَالِجُ بِهِ، وَتَدَاوَى بِالشَّيْءِ: تَعَالَجَ بِهِ، وَالدَّوَاءُ وَالدِّوَاءُ وَالدُّوَاءُ: مَا دَاوَيْتُهُ بِهِ.

وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ عِبَارَاتُهُمْ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّطْبِيبُ:

2- التَّطْبِيبُ لُغَةً: الْمُدَاوَاةُ وَالْعِلَاجُ، يُقَالُ: طَبَّ فُلَانٌ فُلَانًا أَيْ: دَاوَاهُ، وَجَاءَ يَسْتَطِبُّ لِوَجَعِهِ: أَيْ يَسْتَوْصِفُ الْأَدْوِيَةَ أَيُّهَا يَصْلُحُ لِدَائِهِ.

وَالطِّبُّ: عِلَاجُ الْجِسْمِ وَالنَّفْسِ، فَالتَّطْبِيبُ مُرَادِفٌ لِلْمُدَاوَاةِ.

ب- التَّمْرِيضُ:

3- التَّمْرِيضُ مَصْدَرُ مَرَّضَ، وَهُوَ التَّكَفُّلُ بِالْمُدَاوَاةِ.يُقَالُ: مَرَّضَهُ تَمْرِيضًا: إِذَا قَامَ عَلَيْهِ وَوَلِيَهُ فِي مَرَضِهِ وَدَاوَاهُ لِيَزُولَ مَرَضُهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّمْرِيضُ حُسْنُ الْقِيَامِ عَلَى الْمَرِيضِ.

ج- الْإِسْعَافُ:

4- الْإِسْعَافُ فِي اللُّغَةِ: الْإِعَانَةُ وَالْمُعَالَجَةُ بِالْمُدَاوَاةِ، وَيَكُونُ الْإِسْعَافُ فِي حَالِ الْمَرَضِ وَغَيْرِهِ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّدَاوِي؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلاَّ فِي حَالِ الْمَرَضِ.

حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:

5- التَّدَاوِي مَشْرُوعٌ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا، وَلَا تَتَدَاوَوْا بِالْحَرَامِ»،، وَلِحَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «قَالَتِ الْأَعْرَابُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَتَدَاوَى؟ قَالَ: نَعَمْ عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاَّ وَضَعَ لَهُ شِفَاءً إِلاَّ دَاءً وَاحِدًا.قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُوَ؟ قَالَ: الْهَرَمُ».

وَعَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الرُّقَى، فَجَاءَ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنَ الْعَقْرَبِ: فَإِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا أَرَى بِهَا بَأْسًا، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ».

وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ» وَلِمَا ثَبَتَ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ تَدَاوَى، فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ أَنَّ عُرْوَةَ كَانَ يَقُولُ لِعَائِشَةَ: يَا أُمَّتَاهُ، لَا أَعْجَبُ مِنْ فِقْهِك، أَقُولُ: زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ، وَلَا أَعْجَبُ مِنْ عِلْمِكِ بِالشِّعْرِ وَأَيَّامِ النَّاسِ، أَقُولُ: ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ أَوْ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ، وَلَكِنْ أَعْجَبُ مِنْ عِلْمِكِ بِالطِّبِّ، كَيْفَ هُوَ؟ وَمِنْ أَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فَضَرَبَتْ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، وَقَالَتْ: « أَيْ عُرَيَّةُ؟ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَسْقَمُ عِنْدَ آخِرِ عُمْرِهِ، وَكَانَتْ تَقْدَمُ عَلَيْهِ وُفُودُ الْعَرَبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَكَانَتْ تَنْعَتُ لَهُ الْأَنْعَاتَ، وَكُنْتُ أُعَالِجُهَا لَهُ، فَمِنْ ثَمَّ عَلِمْتُ».

وَفِي رِوَايَةٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَثُرَتْ أَسَقَامُهُ، فَكَانَ يَقْدَمُ عَلَيْهِ أَطِبَّاءُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَيَصِفُونَ لَهُ فَنُعَالِجُهُ».

وَقَالَ الرَّبِيعُ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: الْعِلْمُ عِلْمَانِ: عِلْمُ الْأَدْيَانِ وَعِلْمُ الْأَبْدَانِ.

6- وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ) إِلَى أَنَّ التَّدَاوِيَ مُبَاحٌ، غَيْرَ أَنَّ عِبَارَةَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا بَأْسَ بِالتَّدَاوِي.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى اسْتِحْبَابِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا، وَلَا تَتَدَاوَوْا بِالْحَرَامِ».

وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ، وَاَلَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ بِالتَّدَاوِي.قَالُوا: وَاحْتِجَامُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَتَدَاوِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّدَاوِي.وَمَحَلُّ الِاسْتِحْبَابِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الْقَطْعِ بِإِفَادَتِهِ.أَمَّا لَوْ قَطَعَ بِإِفَادَتِهِ كَعَصْبِ مَحَلِّ الْفَصْدِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ.

وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ تَرْكَهُ أَفْضَلُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، قَالُوا: لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى التَّوَكُّلِ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْأَمْرُ بِالتَّدَاوِي، وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ، كَمَا لَا يُنَافِيهِ دَفْعُ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ بِأَضْدَادِهَا، بَلْ لَا تَتِمُّ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ إِلاَّ بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي نَصَبَهَا اللَّهُ مُقْتَضِيَاتٍ لِمُسَبَّبَاتِهَا قَدَرًا وَشَرْعًا، وَأَنَّ تَعْطِيلَهَا يَقْدَحُ فِي نَفْسِ التَّوَكُّلِ، كَمَا يَقْدَحُ فِي الْأَمْرِ وَالْحِكْمَةِ، وَيُضْعِفُهُ مِنْ حَيْثُ يَظُنُّ مُعَطِّلُهَا أَنَّ تَرْكَهَا أَقْوَى فِي التَّوَكُّلِ، فَإِنَّ تَرْكَهَا عَجْزٌ يُنَافِي التَّوَكُّلَ الَّذِي حَقِيقَتُهُ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ فِي حُصُولِ مَا يَنْفَعُ الْعَبْدَ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَلَا بُدَّ مَعَ هَذَا الِاعْتِمَادِ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ، وَإِلاَّ كَانَ مُعَطِّلًا لِلْحِكْمَةِ وَالشَّرْعِ، فَلَا يَجْعَلُ الْعَبْدُ عَجْزَهُ تَوَكُّلًا، وَلَا تَوَكُّلُهُ عَجْزًا.

أَنْوَاعُ التَّدَاوِي:

7- التَّدَاوِي قَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالتَّرْكِ، فَالتَّدَاوِي بِالْفِعْلِ: يَكُونُ بِتَنَاوُلِ الْأَغْذِيَةِ الْمُلَائِمَةِ لِحَالِ الْمَرِيضِ، وَتَعَاطِي الْأَدْوِيَةِ وَالْعَقَاقِيرِ، وَيَكُونُ بِالْفَصْدِ وَالْكَيِّ وَالْحِجَامَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعَمَلِيَّاتِ الْجِرَاحِيَّةِ.

فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- مَرْفُوعًا «الشِّفَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةِ عَسَلٍ، أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ، وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الْكَيِّ» وَفِي رِوَايَةٍ «وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ».وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ السَّعُوطُ، وَاللَّدُودُ، وَالْحِجَامَةُ، وَالْمَشْيُ» وَإِنَّمَا كَرِهَ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- الْكَيَّ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَلَمِ الشَّدِيدِ وَالْخَطَرِ الْعَظِيمِ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ فِي أَمْثَالِهَا» آخِرُ الدَّوَاءِ الْكَيُّ «وَقَدْ «كَوَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَغَيْرَهُ»، وَاكْتَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ لَيْسَ الْمَنْعُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْفِيرُ عَنِ الْكَيِّ إِذَا قَامَ غَيْرُهُ مَقَامَهُ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: وَلَمْ يُرِدِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْحَصْرَ فِي الثَّلَاثَةِ، فَإِنَّ الشِّفَاءَ قَدْ يَكُونُ فِي غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا نَبَّهَ بِهَا عَلَى أُصُولِ الْعِلَاجِ.

وَأَمَّا التَّدَاوِي بِالتَّرْكِ: فَيَكُونُ بِالْحِمْيَةِ، وَذَلِكَ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ كُلِّ مَا يُزِيدُ الْمَرَضَ أَوْ يَجْلِبُهُ إِلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ أَطْعِمَةٍ وَأَشْرِبَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوِ الِامْتِنَاعِ عَنِ الدَّوَاءِ نَفْسِهِ إِذَا كَانَ يَزِيدُ مِنْ حِدَّةِ الْمَرَضِ.«لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَلِيٍّ- رضي الله عنه- حِينَ أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الدَّوَالِي إِنَّك نَاقِهٌ».

التَّدَاوِي بِالنَّجَسِ وَالْمُحَرَّمِ:

8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ وَالنَّجَسِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ» وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا، وَلَا تَتَدَاوَوْا بِالْحَرَامِ»

وَعَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ» إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُدَلِّكُ بِالْخَمْرِ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ظَاهِرَ الْخَمْرِ وَبَاطِنَهَا، وَقَدْ حَرَّمَ مَسَّ الْخَمْرِ كَمَا حَرَّمَ شُرْبَهَا، فَلَا تُمِسُّوهَا أَجْسَادَكُمْ، فَإِنَّهَا نَجَسٌ «.

وَقَدْ عَمَّمَ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا الْحُكْمَ فِي كُلِّ نَجَسٍ وَمُحَرَّمٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ خَمْرًا، أَمْ مَيْتَةً، أَمْ أَيَّ شَيْءٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَسَوَاءٌ كَانَ التَّدَاوِي بِهِ عَنْ طَرِيقِ الشُّرْبِ أَوْ طِلَاءِ الْجَسَدِ بِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ صِرْفًا أَوْ مَخْلُوطًا مَعَ دَوَاءٍ جَائِزٍ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ حَالَةً وَاحِدَةً أَجَازُوا التَّدَاوِيَ بِهِمَا، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ التَّدَاوِي بِالطِّلَاءِ، وَيُخَافُ بِتَرْكِهِ الْمَوْتُ، سَوَاءٌ كَانَ الطِّلَاءُ نَجَسًا أَوْ مُحَرَّمًا، صِرْفًا أَوْ مُخْتَلِطًا بِدَوَاءٍ جَائِزٍ.

وَأَضَافَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى الْمُحَرَّمِ وَالنَّجَسِ كُلَّ مُسْتَخْبَثٍ، كَبَوْلِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ أَوْ غَيْرِهِ، إِلاَّ أَبْوَالَ الْإِبِلِ فَيَجُوزُ التَّدَاوِي بِهَا، وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الدَّوَاءَ الْمَسْمُومَ إِنْ غَلَبَتْ مِنْهُ السَّلَامَةُ، وَرُجِيَ نَفْعُهُ، أُبِيحَ شُرْبُهُ لِدَفْعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَدْوِيَةِ، كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُمُ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ وَالنَّجَسِ، بِغَيْرِ أَكْلٍ وَشُرْبٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا إِلَى حُرْمَةِ التَّدَاوِي بِصَوْتِ مَلْهَاةٍ، كَسَمَاعِ الْغِنَاءِ الْمُحَرَّمِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «وَلَا تَتَدَاوَوْا بِالْحَرَامِ».

وَشَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِجَوَازِ التَّدَاوِي بِالنَّجَسِ وَالْمُحَرَّمِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ فِيهِ شِفَاءً، وَلَا يَجِدُ دَوَاءً غَيْرَهُ، قَالُوا: وَمَا قِيلَ إِنَّ الِاسْتِشْفَاءَ بِالْحَرَامِ حَرَامٌ غَيْرُ مُجْرًى عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَإِنَّ الِاسْتِشْفَاءَ بِالْحَرَامِ إِنَّمَا لَا يَجُوزُ إِذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ فِيهِ شِفَاءً، أَمَّا إِذَا عَلِمَ، وَلَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ غَيْرَهُ، فَيَجُوزُ.

وَمَعْنَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- » لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ فِي دَاءٍ عُرِفَ لَهُ دَوَاءٌ غَيْرَ الْمُحَرَّمِ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَسْتَغْنِي بِالْحَلَالِ عَنِ الْحَرَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ تَنْكَشِفُ الْحُرْمَةُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَلَا يَكُونُ الشِّفَاءُ بِالْحَرَامِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِالْحَلَالِ.

وَقَصَرَ الشَّافِعِيَّةُ الْحُكْمَ عَلَى النَّجَسِ وَالْمُحَرَّمِ الصِّرْفِ، فَلَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهِمَا، أَمَّا إِذَا كَانَا مُسْتَهْلَكَيْنِ مَعَ دَوَاءٍ آخَرَ، فَيَجُوزُ التَّدَاوِي بِهِمَا بِشَرْطَيْنِ: أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالطِّبِّ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ فَاسِقًا فِي نَفْسِهِ، أَوْ إِخْبَارِ طَبِيبٍ مُسْلِمٍ عَدْلٍ، وَأَنْ يَتَعَيَّنَ هَذَا الدَّوَاءُ فَلَا يُغْنِي عَنْهُ طَاهِرٌ.

وَإِذَا كَانَ التَّدَاوِي بِالنَّجَسِ وَالْمُحَرَّمِ لِتَعْجِيلِ الشِّفَاءِ بِهِ، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِهِ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَهُمْ، وَلِلْحَنَفِيَّةِ فِيهِ قَوْلَانِ.

التَّدَاوِي بِلُبْسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ:

9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ لِحِكَّةٍ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ فِي الْقَمِيصِ الْحَرِيرِ فِي السَّفَرِ مِنْ حِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا».وَرَوَى أَنَسٌ أَيْضًا: «أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرَ شَكَيَا إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- الْقَمْلَ فَأَرْخَصَ لَهُمَا فِي الْحَرِيرِ، فَرَأَيْتُهُ عَلَيْهِمَا فِي غَزَاةٍ» وَجَازَ لِلْمَرِيضِ قِيَاسًا عَلَى الْحِكَّةِ وَالْقَمْلِ.

وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْحُرْمَةُ مُطْلَقًا. وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى جَوَازِ لُبْسِهِ فِي الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَوْ لَمْ يُؤَثِّرْ لُبْسُهُ فِي زَوَالِهَا، وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ نَافِعًا فِي لُبْسِهِ.

وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ عَصْبَ الْجِرَاحَةِ بِالْحَرِيرِ مَعَ الْكَرَاهَةِ.

10- كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ الْأَنْفِ مِنَ الذَّهَبِ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: السِّنَّ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: الْأُنْمُلَةَ.

كَمَا نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: عَلَى جَوَازِ رَبْطِ السِّنِّ أَوِ الْأَسْنَانِ بِالذَّهَبِ.

وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ «عَرْفَجَةَ بْنَ أَسْعَدَ- رضي الله عنه- قُطِعَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلَابِ، فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ، فَأَنْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ».

وَلِمَا رَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، وَأَبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيِّ، وَأَبِي رَافِعِ بْنِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ وَإِسْمَاعِيلِ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُمْ شَدُّوا أَسْنَانَهُمْ بِالذَّهَبِ.وَالسِّنُّ مَقِيسٌ عَلَى الْأَنْفِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقِيَاسِ الْأُنْمُلَةَ دُونَ الْأُصْبُعِ وَالْيَدِ، قَالُوا: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأُنْمُلَةِ وَالْأُصْبُعِ أَوِ الْيَدِ أَنَّهَا تَعْمَلُ بِخِلَافِهِمَا، وَعِنْدَهُمْ وَجْهٌ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَإِنَّمَا قَصَرَ الْحَنَفِيَّةُ الْجَوَازَ عَلَى الْأَنْفِ فَقَطْ لِضَرُورَةِ نَتْنِ الْفِضَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ لَا يُبَاحُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ.قَالُوا: وَقَدِ انْدَفَعَتْ فِي السِّنِّ بِالْفِضَّةِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْأَعْلَى، وَهُوَ الذَّهَبُ.

تَدَاوِي الْمُحْرِمِ:

11- الْأَصْلُ أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنَ الطِّيبِ، «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ فَمَاتَ: لَا تُمِسُّوهُ طِيبًا» وَفِي رِوَايَةٍ «لَا تُحَنِّطُوهُ» فَلَمَّا مُنِعَ الْمَيِّتُ مِنَ الطِّيبِ لِإِحْرَامِهِ فَالْحَيُّ أَوْلَى، وَمَتَى تَطَيَّبَ الْمُحْرِمُ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ مَا حُظِرَ عَلَيْهِ بِالْإِحْرَامِ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ كَاللِّبَاسِ.

وَلَمْ يَسْتَثْنِ الْفُقَهَاءُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ مَا لَوْ تَدَاوَى الْمُحْرِمُ بِالطِّيبِ، أَوْ بِمَا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، وَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْفِدْيَةَ، غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ خَصُّوا الْحُكْمَ بِالطِّيبِ بِنَفْسِهِ كَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالْكَافُورِ وَنَحْوِهَا، وَأَمَّا الزَّيْتُ وَالْخَلُّ مِمَّا فِيهِمَا رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ بِسَبَبِ مَا يُلْقَى فِيهِمَا مِنَ الْأَنْوَارِ كَالْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ إِنْ تَدَاوَى بِهَا.

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَإِنْ دَاوَى قُرْحَةً بِدَوَاءٍ فِيهِ طِيبٌ، ثُمَّ خَرَجَتْ قُرْحَةٌ أُخْرَى فَدَاوَاهَا مَعَ الْأُولَى، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ تَبْرَأِ الْأُولَى، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَصْدِهِ وَعَدَمِهِ.

وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ- رحمه الله- أَنَّهُ إِذَا خَضَّبَ (أَيِ الْمُحْرِمُ) رَأْسَهُ بِالْوَسْمَةِ لِأَجْلِ الْمُعَالَجَةِ مِنَ الصُّدَاعِ، فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُغَلِّفُ رَأْسَهُ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هَذَا صَحِيحٌ أَيْ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ خِلَافٌ؛ لِأَنَّ التَّغْطِيَةَ مُوجِبَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، غَيْرَ أَنَّهَا لِلْعِلَاجِ، فَلِهَذَا ذَكَرَ الْجَزَاءَ وَلَمْ يَذْكُرِ الدَّمَ.وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: فِيهِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّهُ يُلَيِّنُ الشَّعْرَ وَيَقْتُلُ الْهَوَامَّ، فَإِنِ اسْتَعْمَلَ زَيْتًا مُطَيَّبًا كَالْبَنَفْسَجِ وَالزَّنْبَقِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا كَدُهْنِ الْبَانِ وَالْوَرْدِ، فَيَجِبُ بِاسْتِعْمَالِهِ الدَّمُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ طِيبٌ، وَهَذَا إِذَا اسْتَعْمَلَهُ عَلَى وَجْهِ التَّطَيُّبِ، وَلَوْ دَاوَى بِهِ جُرْحَهُ أَوْ شُقُوقَ رِجْلَيْهِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ فِي نَفْسِهِ، إِنَّمَا هُوَ أَصْلُ الطِّيبِ، أَوْ طِيبٌ مِنْ وَجْهٍ، فَيُشْتَرَطُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى وَجْهِ التَّطَيُّبِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا تَدَاوَى بِالْمِسْكِ وَمَا أَشْبَهَهُ؛ لِأَنَّهُ طِيبٌ بِنَفْسِهِ، فَيَجِبُ الدَّمُ بِاسْتِعْمَالِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّدَاوِي.

وَفِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ: أَنَّ الْجَسَدَ وَبَاطِنَ الْكَفِّ وَالرِّجْلَ يَحْرُمُ دَهْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا كُلًّا أَوْ بَعْضًا، إِنْ كَانَ لِغَيْرِ عِلَّةٍ، وَإِلاَّ فَلَا حُرْمَةَ.وَأَمَّا الْفِدْيَةُ فَإِنْ كَانَ الدُّهْنُ مُطَيَّبًا افْتَدَى مُطْلَقًا كَانَ الْإِدْهَانُ لِعِلَّةٍ أَوْ لَا.وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُطَيَّبٍ، فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عِلَّةٍ افْتَدَى أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ لِعِلَّةٍ فَقَوْلَانِ.وَفِي الْكُحْلِ إِذَا كَانَ فِيهِ طِيبٌ حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى الْمُحْرِمِ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً إِذَا كَانَ اسْتِعْمَالُهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ كَالزِّينَةِ، وَلَا حُرْمَةَ إِذَا اسْتَعْمَلَهُ لِضَرُورَةِ حَرٍّ وَنَحْوِهِ، وَالْفِدْيَةُ لَازِمَةٌ لِمُسْتَعْمِلِهِ مُطْلَقًا اسْتَعْمَلَهُ لِضَرُورَةٍ أَوْ لِغَيْرِهَا.وَإِنْ كَانَ الْكُحْلُ لَا طِيبَ فِيهِ فَلَا فِدْيَةَ مَعَ الضَّرُورَةِ، وَافْتَدَى فِي غَيْرِهَا.

وَفِي الْإِقْنَاعِ لِلشِّرْبِينِيِّ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ اسْتِعْمَالَ الطِّيبِ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَكَرًا أَمْ غَيْرَهُ، وَلَوْ أَخْشَمَ بِمَا يَقْصِدُ مِنْهُ رَائِحَتَهُ غَالِبًا وَلَوْ مَعَ غَيْرِهِ كَالْمِسْكِ وَالْعُودِ وَالْكَافُورِ وَالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ، وَإِنْ كَانَ يُطْلَبُ لِلصَّبْغِ وَالتَّدَاوِي أَيْضًا، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي مَلْبُوسِهِ كَثَوْبِهِ أَمْ فِي بَدَنِهِ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «وَلَا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ مَا مَسَّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ» سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِأَكْلٍ أَمِ اسْتِعَاطٍ أَمِ احْتِقَانٍ، فَيَجِبُ مَعَ التَّحْرِيمِ فِي ذَلِكَ الْفِدْيَةُ. وَلَوِ اسْتَهْلَكَ الطِّيبَ فِي الْمُخَالِطِ لَهُ بِأَنْ لَمْ يَبْقَ رِيحٌ وَلَا طَعْمٌ وَلَا لَوْنٌ، كَأَنِ اُسْتُعْمِلَ فِي دَوَاءٍ، جَازَ اسْتِعْمَالُهُ وَأَكْلُهُ وَلَا فِدْيَةَ.وَمَا يُقْصَدُ بِهِ الْأَكْلُ أَوِ التَّدَاوِي لَا يَحْرُمُ وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ رِيحٌ طَيِّبَةٌ، كَالتُّفَّاحِ وَالسُّنْبُلِ وَسَائِرِ الْأَبَازِيرِ الطَّيِّبَةِ كَالْمُصْطَكَى؛ لِأَنَّ مَا يُقْصَدُ مِنْهُ الْأَكْلُ أَوِ التَّدَاوِي لَا فِدْيَةَ فِيهِ.

وَفِي الْمُغْنِي لِابْنِ قُدَامَةَ حُرْمَةُ التَّدَاوِي بِمَا لَهُ رِيحٌ طَيِّبَةٌ لِلْمُحْرِمِ.أَمَّا مَا لَا طِيبَ فِيهِ كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ وَالسَّمْنِ وَالشَّحْمِ وَدُهْنِ الْبَانِ فَنَقَلَ الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمُحْرِمِ يَدْهُنُ بِالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ فَقَالَ: نَعَمْ يَدْهُنُ بِهِ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ، وَيَتَدَاوَى الْمُحْرِمُ بِمَا يَأْكُلُ.وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ صَدَعَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالُوا: أَلَا نَدْهُنُكَ بِالسَّمْنِ؟ فَقَالَ: لَا.قَالُوا: أَلَيْسَ تَأْكُلُهُ؟ قَالَ: لَيْسَ أَكْلُهُ كَالْإِدْهَانِ بِهِ.وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: إِنْ تَدَاوَى بِهِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.

أَثَرُ التَّدَاوِي فِي الضَّمَانِ:

12- ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يُدَاوِ جُرْحَهُ وَمَاتَ كَانَ عَلَى الْجَانِي الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ التَّدَاوِيَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا مُسْتَحَبٍّ، فَتَرْكُهُ لَيْسَ بِقَاتِلٍ.

وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ عِلَاجِ الْجُرْحِ الْمُهْلِكِ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ تَرَكَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عِلَاجَ الْجُرْحِ الْمُهْلِكِ وَمَاتَ، فَعَلَى الْجَانِي الضَّمَانُ؛ لِأَنَّ الْبُرْءَ لَا يَوْثُقُ بِهِ وَإِنْ عَالَجَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْجُرْحُ غَيْرَ مُهْلِكٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْجَانِي.

التَّدَاوِي بِالرُّقَى وَالتَّمَائِمِ:

13- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّدَاوِي بِالرُّقَى عِنْدَ اجْتِمَاعِ ثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُونَ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَبِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ أَوْ بِمَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الرُّقْيَةَ لَا تُؤَثِّرُ بِذَاتِهَا بَلْ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى.فَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «كُنَّا نَرْقِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ، لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ» وَمَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى الشِّرْكِ فَيُمْنَعُ احْتِيَاطًا.

وَقَالَ قَوْمٌ: لَا تَجُوزُ الرُّقْيَةُ إِلاَّ مِنَ الْعَيْنِ وَاللَّدْغَةِ لِحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ- رضي الله عنه- «لَا رُقْيَةَ إِلاَّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَّةٍ» وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَى الْحَصْرِ فِيهِ أَنَّهُمَا أَصْلُ كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الرُّقْيَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْحَصْرِ مَعْنَى الْأَفْضَلِ، أَوْ لَا رُقْيَةَ أَنْفَعَ، كَمَا قِيلَ لَا سَيْفَ إِلاَّ ذُو الْفَقَارِ.

وَقَالَ قَوْمٌ: الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مِنَ الرُّقَى مَا يَكُونُ قَبْلَ وُقُوعِ الْبَلَاءِ، وَالْمَأْذُونُ فِيهِ مَا كَانَ بَعْدَ وُقُوعِهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا؛ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا «إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتَّوَلَةَ شِرْكٌ»

وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنَ الشِّرْكِ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا دَفْعَ الْمَضَارِّ وَجَلْبَ الْمَنَافِعِ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَكَلَامِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ قَبْلَ وُقُوعِهِ كَحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ نَفَثَ فِي كَفَّيْهِ بِ «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» وَبِالْمُعَوِّذَتَيْنِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ».

وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ».

قَالَ الرَّبِيعُ: سَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ عَنِ الرُّقْيَةِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَرْقِيَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَمَا يَعْرِفُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ.قُلْتُ: أَيَرْقِي أَهْلُ الْكِتَابِ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا رَقُوا بِمَا يُعْرَفُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَبِذِكْرِ اللَّهِ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ: الرُّقْيَةُ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ هُوَ الطِّبُّ الرُّوحَانِيُّ، إِذَا كَانَ عَلَى لِسَانِ الْأَبْرَارِ مِنَ الْخَلْقِ حَصَلَ الشِّفَاءُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا عَزَّ هَذَا النَّوْعُ فَزِعَ النَّاسُ إِلَى الطِّبِّ الْجُسْمَانِيِّ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


227-موسوعة الفقه الكويتية (تركة 2)

تَرِكَةٌ -2

ثَانِيًا: أَدَاءُ الدَّيْنِ:

23- يَأْتِي فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ أَدَاءُ الدُّيُونِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّرِكَةِ بَعْدَ تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ- عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ- لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}.

وَيُقَدَّمُ الدَّيْنُ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ وَاجِبٌ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، لَكِنَّ الْوَصِيَّةَ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً، وَالْوَاجِبُ يُؤَدَّى قَبْلَ التَّبَرُّعِ.

«وَعَنِ الْإِمَامِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ الدَّيْنِ، وَقَدْ شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَدَأَ بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ» وَهَذِهِ الدُّيُونُ أَوِ الْحُقُوقُ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا: مَا يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى، كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحَجِّ الْوَاجِبِ.

وَمِنْهَا: مَا يَكُونُ لِلْعِبَادِ، كَدَيْنِ الصِّحَّةِ وَدَيْنِ الْمَرَضِ.

وَهَذِهِ الدُّيُونُ بِشَطْرَيْهَا، إِمَّا أَنْ تَتَعَلَّقَ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ أَوْ بِجُزْءٍ مِنْهَا.

وَمِنْهَا: دُيُونٌ مُطْلَقَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالذِّمَّةِ وَحْدَهَا.

24- وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَسَوَّارٌ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمَرْجُوحَةُ لِلْحَنَابِلَةِ إِلَى: أَنَّ الدُّيُونَ الَّتِي عَلَى الْمَيِّتِ تَحُلُّ بِمَوْتِهِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَبْقَى الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ، أَوِ الْوَرَثَةِ، أَوْ يَتَعَلَّقَ بِالْمَالِ لَا يَجُوزُ بَقَاؤُهُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ لِخَرَابِهَا وَتَعَذُّرِ مُطَالَبَتِهِ بِهَا، وَلَا ذِمَّةِ الْوَرَثَةِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَزِمُوهَا، وَلَا رَضِيَ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِذِمَمِهِمْ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ مُتَبَايِنَةٌ، وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ عَلَى الْأَعْيَانِ وَتَأْجِيلُهُ؛ لِأَنَّهُ ضَرَرٌ بِالْمَيِّتِ وَصَاحِبِ الدَّيْنِ وَلَا نَفْعَ لِلْوَرَثَةِ فِيهِ أَمَّا الْمَيِّتُ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ مَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ»، وَأَمَّا صَاحِبُهُ فَيَتَأَخَّرُ حَقُّهُ، وَقَدْ تَتْلَفُ الْعَيْنُ فَيَسْقُطُ حَقُّهُ، وَأَمَّا الْوَرَثَةُ فَإِنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِالْأَعْيَانِ وَلَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا، وَإِنْ حَصَلَتْ لَهُمْ مَنْفَعَةٌ فَلَا يَسْقُطُ حَظُّ الْمَيِّتِ وَصَاحِبُ الدَّيْنِ لِمَنْفَعَةٍ لَهُمْ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ: أَنَّ الدُّيُونَ عَلَى الْمَيِّتِ لَا تَحُلُّ بِمَوْتِهِ، إِذَا وَثِقَ الْوَرَثَةُ أَوْ غَيْرُهُمْ بِرَهْنٍ أَوْ كَفِيلٍ مَلِيءٍ عَلَى أَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَةِ التَّرِكَةِ أَوِ الدَّيْنِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لِأَنَّ الْمَوْتَ مَا جُعِلَ مُبْطِلًا لِلْحُقُوقِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِيقَاتٌ لِلْخِلَافَةِ وَعَلَامَةٌ عَلَى الْوِرَاثَةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ تَرَكَ حَقًّا أَوْ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ»،، فَعَلَى هَذَا يَبْقَى الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ كَمَا كَانَ، وَيَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ مَالِهِ كَتَعَلُّقِ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ بِمَالِ الْمُفْلِسِ عِنْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَحَبَّ الْوَرَثَةُ أَدَاءَ الدَّيْنِ وَالْتِزَامَهُ لِلْغَرِيمِ وَيَتَصَرَّفُونَ فِي الْمَالِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَرْضَى الْغَرِيمُ، أَوْ يُوَثِّقُوا الْحَقَّ بِضَمِينٍ مَلِيءٍ أَوْ رَهْنٍ يَثِقُ بِهِ لِوَفَاءِ حَقِّهِ، فَأَنَّهُمْ قَدْ لَا يَكُونُونَ أَمْلِيَاءَ وَلَمْ يَرْضَ بِهِمُ الْغَرِيمُ، فَيُؤَدِّي إِلَى فَوَاتِ الْحَقِّ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: أَنَّ الْحَقَّ يَنْتَقِلُ إِلَى ذِمَمِ الْوَرَثَةِ بِمَوْتِ مُوَرِّثِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَ الْتِزَامَهُمْ لَهُ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَ الْإِنْسَانَ دَيْنٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَلَمْ يَتَعَاطَ سَبَبَهُ، وَلَوْ لَزِمَهُمْ ذَلِكَ لِمَوْتِ مُوَرِّثِهِمْ لَلَزِمَهُمْ وَإِنْ لَمْ يُخَلِّفْ وَفَاءً.

25- وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَيِّ الدَّيْنَيْنِ يُؤَدَّى أَوَّلًا إِذَا ضَاقَتِ التَّرِكَةُ عَنْهُمَا.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى: أَنَّ دُيُونَ اللَّهِ تَعَالَى تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِهَا كَمَا سَيَأْتِي.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ يُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَامَحَةِ، وَحُقُوقَ الْعِبَادِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُشَاحَّةِ، أَوْ لِاسْتِغْنَاءِ اللَّهِ وَحَاجَةِ النَّاسِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى تَقْدِيمِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ دُيُونِهِ عَلَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّ إِذَا ضَاقَتِ التَّرِكَةُ عَنْهُمَا، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» وَقَوْلِهِ: «اقْضُوا اللَّهَ، فَاَللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ».وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ وَفَاءَ الدَّيْنِ الْمُتَعَلِّقِ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ أَوْ بِبَعْضِهَا، كَالدَّيْنِ الْمَرْهُونِ بِهِ شَيْءٌ مِنْهَا، ثُمَّ بَعْدَهَا الدَّيْنُ الْمُطْلَقَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِذِمَّةِ الْمُتَوَفَّى، وَلَا فَرْقَ فِي التَّقْدِيمِ بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ أَوْ حَقِّ الْعَبْدِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِرْثٌ، وَدَيْنٌ).

تَعَلُّقُ دَيْنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالتَّرِكَةِ:

26- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَجِبُ أَدَاؤُهُ مِنَ التَّرِكَةِ، سَوَاءٌ أَوْصَى بِهِ أَمْ لَا، عَلَى خِلَافٍ سَبَقَ فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى دَيْنِ الْآدَمِيِّ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ دَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ مِنَ التَّرِكَةِ إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِهِ الْمَيِّتُ، فَإِنْ أَوْصَى بِهِ فَيَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ التَّرِكَةِ.

قَالَ الْفَنَارِيُّ فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ: إِنَّ أَدَاءَ دَيْنِ اللَّهِ عِبَادَةٌ، وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِنِيَّةٍ وَفِعْلٍ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، كَمَا فِي الْإِيصَاءِ لِتَحَقُّقِ أَدَائِهَا مُخْتَارًا، فَيَظْهَرُ اخْتِيَارُهُ الطَّاعَةَ مِنِ اخْتِيَارِهِ الْمَعْصِيَةِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّكْلِيفِ، وَفِعْلُ الْوَارِثِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ الْمُبْتَلَى بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا يُحَقِّقُ اخْتِيَارَهُ، فَإِذَا مَاتَ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ وَلَا أَمْرٍ بِهِ فَقَدْ تَحَقَّقَ عِصْيَانُهُ؛ لِخُرُوجِهِ مِنْ دَارِ التَّكْلِيفِ وَلَمْ يَمْتَثِلْ، وَذَلِكَ تَقْرِيرٌ عَلَيْهِ مُوجِبُ الْعِصْيَانِ، فَلَيْسَ فِعْلُ الْوَارِثِ الْفِعْلَ الْمَأْمُورَ بِهِ، فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْوَاجِبُ، كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ بِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، بِخِلَافِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا وُصُولُهَا إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا لَا غَيْرُ، وَلِهَذَا لَوْ ظَفِرَ بِهِ الْغَرِيمُ يَأْخُذُهُ، وَيَبْرَأُ مَنْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ.ثُمَّ الْإِيصَاءُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى تَبَرُّعٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّةِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ فِعْلٌ لَا مَالٌ، وَالْأَفْعَالُ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ اسْتِيفَاؤُهَا بِالتَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ التَّرِكَةَ مَالٌ يَصْلُحُ لِاسْتِيفَاءِ الْمَالِ مِنْهَا لَا لِاسْتِيفَاءِ الْفِعْلِ.أَلَا يُرَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لَا يُسْتَوْفَى مِنْ تَرِكَتِهِ، فَصَارَتِ الْحُقُوقُ الْمَذْكُورَةُ كَالسَّاقِطِ فِي حَقِّ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ يُوصِ بِهَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْوَرَثَةِ أَدَاؤُهَا، فَكَانَ الْإِيصَاءُ بِأَدَائِهَا تَبَرُّعًا، فَيُعْتَبَرُ كَسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ مِنَ الثُّلُثِ بِخِلَافِ دُيُونِ الْعِبَادِ، فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ثَمَّةَ الْمَالُ لَا الْفِعْلُ؛ لِحَاجَةِ الْعِبَادِ إِلَى الْأَمْوَالِ.وَفِيهِ بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ الْإِيصَاءَ بِأَدَاءِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْهِدَايَةِ، وَالْإِيصَاءُ بِسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، فَلَا وَجْهَ لِقِيَاسِ الْإِيصَاءِ بِأَدَاءِ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى الْإِيصَاءِ بِسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ، فَتَأَمَّلْ.

هَذَا وَقَدِ اخْتَلَفَ الْجُمْهُورُ فِي بَعْضِ التَّفْصِيلَاتِ:

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ بَعْدَ وَفَاءِ دَيْنِ الْعَبْدِ يَبْدَأُ بِوَفَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَيُقَدَّمُ هَدْيُ التَّمَتُّعِ إِنْ مَاتَ الْحَاجُّ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، أَوْصَى بِهِ أَمْ لَا، ثُمَّ زَكَاةُ فِطْرٍ فَرَّطَ فِيهَا، وَكَفَّارَاتٌ فَرَّطَ فِيهَا أَيْضًا، كَكَفَّارَةِ يَمِينٍ وَصَوْمٍ وَظِهَارٍ وَقَتْلٍ إِذَا أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ أَنَّهَا بِذِمَّتِهِ، كُلُّ ذَلِكَ يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، أَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا أَمْ لَمْ يُوصِ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ مَتَى أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ بِهَا خَرَجَتْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، فَإِنْ أَوْصَى بِهَا وَلَمْ يُشْهِدْ فَتَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ.

وَمِثْلُ مَا تَقَدَّمَ: زَكَاةُ النَّقْدَيْنِ الَّتِي حَلَّتْ وَأَوْصَى بِهَا، وَزَكَاةُ مَاشِيَةٍ وَجَبَتْ وَلَا سَاعِيَ لِأَخْذِهَا وَلَمْ تُوجَدِ السِّنُّ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا، فَإِنْ وُجِدَتْ فَهُوَ كَالدَّيْنِ الْمُتَعَلِّقِ بِعَيْنٍ، فَيَجِبُ إِخْرَاجُهُ قَبْلَ الْكَفَنِ وَالتَّجْهِيزِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى: أَنَّهُ بَعْدَ تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ تُقْضَى دُيُونُهُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِذِمَّتِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ لِلَّهِ تَعَالَى أَمْ لآِدَمِيٍّ، أَوْصَى بِهَا أَمْ لَمْ يُوصِ؛ لِأَنَّهَا حَقُّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ.هَذَا وَإِنَّ مَحَلَّ تَأْخِيرِ الدَّيْنِ عَنْ مُؤَنِ التَّجْهِيزِ إِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ حَقٌّ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ حَقٌّ قُدِّمَ عَلَى التَّجْهِيزِ، وَذَلِكَ كَالزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ فِيمَا قَبْلَ مَوْتِهِ، وَلَوْ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، فَيُقَدَّمُ عَلَى مُؤَنِ التَّجْهِيزِ، بَلْ عَلَى كُلِّ حَقٍّ تَعَلَّقَ بِهَا فَكَانَتْ كَالْمَرْهُونِ بِهَا.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّهُ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ يُوَفَّى حَقَّ مُرْتَهِنٍ بِقَدْرِ الرَّهْنِ، ثُمَّ إِنْ فَضَلَ لِلْمُرْتَهِنِ شَيْءٌ مِنْ دَيْنِهِ شَارَكَ الْغُرَمَاءَ.

ثُمَّ بَعْدَ مَا سَبَقَ مِنْ تَسْدِيدِ الدُّيُونِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَعْيَانِ التَّرِكَةِ، تُسَدَّدُ الدُّيُونُ غَيْرُ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَعْيَانِ، وَهِيَ الَّتِي تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَيَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِالتَّرِكَةِ كُلِّهَا، سَوَاءٌ اسْتَغْرَقَهَا الدَّيْنُ أَمْ لَمْ يَسْتَغْرِقْهَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ لِلَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحَجِّ الْوَاجِبِ، أَمْ كَانَ لآِدَمِيٍّ كَالْقَرْضِ وَالثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ.

فَإِنْ زَادَتِ الدُّيُونُ عَنِ التَّرِكَةِ، وَلَمْ تَفِ بِدَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَدَيْنِ الْآدَمِيِّ، يَتَحَاصُّونَ بِنِسْبَةِ دُيُونِهِمْ كَمَالِ الْمُفْلِسِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحَجِّ

وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (حَجٍّ، وَدَيْنٍ، وَإِرْثٍ).

دَيْنُ الْآدَمِيِّ:

27- دَيْنُ الْآدَمِيِّ هُوَ الدَّيْنُ الَّذِي لَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ، فَإِنَّ إِخْرَاجَ هَذَا الدَّيْنِ مِنَ التَّرِكَةِ وَالْوَفَاءَ بِهِ وَاجِبٌ شَرْعًا عَلَى الْوَرَثَةِ قَبْلَ تَوْزِيعِ التَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ، لقوله تعالى. {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وَعَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ، وَذَلِكَ حَتَّى تَبْرَأَ ذِمَّتُهُ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ، أَوْ حَتَّى تَبْرُدَ جِلْدَتُهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ.

وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي نَوْعِ تَعَلُّقِ دَيْنِ الْآدَمِيِّ بَيْنَ كَوْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِعَيْنِ التَّرِكَةِ أَوْ بِذِمَّةِ الْمُتَوَفَّى، وَفِي دَيْنِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَفِي ضِيقِ التَّرِكَةِ عَنْ تَسْدِيدِ الدَّيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَيَأْتِي.

نَوْعُ التَّعَلُّقِ:

الدَّيْنُ الَّذِي لَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ إِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ أَوْ لَا. أ- الدَّيْنُ الْمُتَعَلِّقُ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ:

28- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَهُمْ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) إِلَى أَنَّهُ يَبْدَأُ مِنَ الدُّيُونِ بِمَا تَعَلَّقَ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ، كَالدَّيْنِ الْمُوثَقِ بِرَهْنٍ، وَمِنْ ثَمَّ يَجِبُ تَقْدِيمُ هَذِهِ الدُّيُونِ عَلَى تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ، لِأَنَّ الْمُوَرِّثَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْأَعْيَانِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ، فَأَوْلَى أَلاَّ يَكُونَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ بَعْدَ وَفَاتِهِ.

فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ سَدَادِ هَذَا الدَّيْنِ جَهَّزَ مِنْهُ الْمَيِّتَ، وَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ بَعْدَ سَدَادِ الدَّيْنِ، كَانَ تَجْهِيزُ الْمَيِّتِ عَلَى مَنْ كَانَتْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ فِي حَيَاتِهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَالْحَنَفِيَّةُ فِي غَيْرِ الْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ بُدِئَ بِتَكْفِينِهِ وَتَجْهِيزِهِ مُقَدَّمًا عَلَى غَيْرِهِ، كَمَا تُقَدَّمُ نَفَقَةُ الْمُفْلِسِ عَلَى دُيُونِ غُرَمَائِهِ، ثُمَّ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ تُقْضَى دُيُونُهُ مِمَّا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ.

ب- الدُّيُونُ الْمُطْلَقَةُ:

29- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الدُّيُونَ الْمُطْلَقَةَ، وَهِيَ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ التَّرِكَةِ تُؤَخَّرُ عَنْ تَجْهِيزِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ بَعْدَ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ دُفِعَ لِلدَّائِنِ وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ بِقَدْرِ حِصَصِهِمْ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (دَيْنٌ وَإِرْثٌ)

ج- دَيْنُ الصِّحَّةِ وَدَيْنُ الْمَرَضِ:

30- دَيْنُ الصِّحَّةِ: هُوَ مَا كَانَ ثَابِتًا بِالْبَيِّنَةِ مُطْلَقًا، أَيْ فِي حَالِ الصِّحَّةِ أَوِ الْمَرَضِ عَلَى السَّوَاءِ.وَمَا كَانَ ثَابِتًا بِالْإِقْرَارِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَكَذَا الدَّيْنُ الثَّابِتُ بِنُكُولِ الْمُتَوَفَّى فِي زَمَانِ صِحَّتِهِ.

وَدَيْنُ الْمَرَضِ: هُوَ مَا كَانَ ثَابِتًا بِإِقْرَارِهِ فِي مَرَضِهِ، أَوْ مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمَرَضِ، كَإِقْرَارِ مَنْ خَرَجَ لِلْمُبَارَزَةِ، أَوْ خَرَجَ لِلْقَتْلِ قِصَاصًا، أَوْ لِيُرْجَمَ.ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى إِلَى: أَنَّ دَيْنَ الصِّحَّةِ وَدَيْنَ الْمَرَضِ سَوَاءٌ فِي الْأَدَاءِ، وَلِهَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ وَفَاءٌ بِهِمَا يَكُونُ لِكُلِّ دَائِنٍ حِصَّةٌ مِنْهُمَا، بِنِسْبَةِ مِقْدَارِ دَيْنِهِ، بِلَا تَمْيِيزٍ بَيْنَ مَا كَانَ مِنْهَا مِنْ دُيُونِ الصِّحَّةِ أَوْ دُيُونِ الْمَرَضِ، فَهِيَ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهُ إِنْ عَرَّفَ سَبَبَهَا لِلنَّاسِ فَهِيَ دُيُونُ الصِّحَّةِ- وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ- وَإِنْ لَمْ يُعَرِّفْ سَبَبَهَا فَيَكْفِي الْإِقْرَارُ فِي إِثْبَاتِهَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ، إِلاَّ إِذَا قَامَ دَلِيلٌ أَوْ قَرِينَةٌ عَلَى كَذِبِهِ.وَالْإِنْسَانُ وَهُوَ مَرِيضٌ يَكُونُ أَبْعَدَ عَنْ هَوَاهُ، وَأَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنَ الصِّدْقِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ مَظِنَّةُ التَّوْبَةِ.يَصْدُقُ فِيهِ الْكَاذِبُ، وَيَبَرُّ فِيهِ الْفَاجِرُ، وَتَنْتَفِي تُهْمَةُ الْكَذِبِ عَنْ إِقْرَارِهِ، فَيَكُونُ الثَّابِتُ بِالْإِقْرَارِ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى تَقْدِيمِ دَيْنِ الصِّحَّةِ عَلَى دَيْنِ الْمَرَضِ الَّذِي ثَبَتَ بِطَرِيقِ الْإِقْرَارِ، وَلَمْ يَعْلَمِ النَّاسُ بِهِ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ مَظِنَّةُ التَّبَرُّعِ أَوِ الْمُحَابَاةِ، فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْوَصَايَا الَّتِي تَنْفُذُ مِنَ الثُّلُثِ، وَالْوَصَايَا مُؤَخَّرَةٌ عَنِ الدُّيُونِ.

تَزَاحُمُ الدُّيُونِ:

31- إِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ مُتَّسِعَةً لِلدُّيُونِ كُلِّهَا عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، فَلَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ حِينَئِذٍ، إِذْ يُمْكِنُ الْوَفَاءُ بِهَا جَمِيعًا مِنَ التَّرِكَةِ.

أَمَّا إِذَا ضَاقَتِ التَّرِكَةُ وَلَمْ تَتَّسِعْ لِجَمِيعِ الدُّيُونِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْدِيمِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ فِي تَقْدِيمِ الدُّيُونِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِعَيْنِ التَّرِكَةِ عَلَى غَيْرِهَا، وَتَقْدِيمِ دَيْنِ الصِّحَّةِ عَلَى دَيْنِ الْمَرَضِ أَوْ عَدَمِ تَقْدِيمِهِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (دَيْنٌ، وَرَهْنٌ، وَقِسْمَةٌ).

ثَالِثًا: الْوَصِيَّةُ:

32- يَأْتِي فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَنْفِيذَ مَا يُوصِي بِهِ الْمَيِّتُ يَجِيءُ بَعْدَ الدَّيْنِ وَقَبْلَ أَخْذِ الْوَرَثَةِ أَنْصِبَاءَهُمْ مِنَ التَّرِكَةِ؛ لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وَلَا يَكُونُ تَنْفِيذُ مَا يُوصَى بِهِ مِنْ أَصْلِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّكْفِينِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ قَدْ صَارَ مَصْرُوفًا فِي ضَرُورَاتِهِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا، وَالْبَاقِي هُوَ مَالُهُ الَّذِي كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي ثُلُثِهِ.وَأَيْضًا رُبَّمَا اسْتَغْرَقَ ثُلُثُ الْأَصْلِ جَمِيعَ الْبَاقِي، فَيُؤَدِّي إِلَى حِرْمَانِ الْوَرَثَةِ بِسَبَبِ الْوَصِيَّةِ، وَهَذَا سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُطْلَقَةً أَمْ مُعَيَّنَةً.

وَتَقْدِيمُ الْوَصِيَّةِ عَلَى الدَّيْنِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لَا يُفِيدُ التَّقْدِيمَ فِعْلًا كَمَا تَبَيَّنَ مِنْ قَبْلُ (ف 23) وَإِنَّمَا يُفِيدُ الْعِنَايَةَ بِأَمْرِ وَصِيَّةِ الْمَيِّتِ، وَإِنْ كَانَتْ تَبَرُّعًا مِنْهُ، كَيْ لَا تَشِحَّ نُفُوسُ الْوَرَثَةِ بِإِخْرَاجِهَا مِنَ التَّرِكَةِ قَبْلَ تَوْزِيعِهَا بَيْنَهُمْ.

وَمِنْ هُنَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عَلَى الدَّيْنِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهَا مِثْلُهُ فِي وُجُوبِ الْأَدَاءِ أَوِ الْمُسَارَعَةِ إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ جِيءَ بَيْنَهُمَا بِأَوِ الَّتِي هِيَ هُنَا لِلتَّسْوِيَةِ. وَتَقْدِيمُ الْوَصِيَّةِ عَلَى حُقُوقِ الْوَرَثَةِ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ؛ لِأَنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ مُقَيَّدٌ بِحُدُودِ الثُّلُثِ، فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ شَيْئًا مُعَيَّنًا أَخَذَهُ، وَإِنْ كَانَ بِثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ مَثَلًا كَانَ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكًا لِلْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ بِنِسْبَةِ نَصِيبِهِ الْمُوصَى لَهُ بِهِ، لَا مُقَدَّمًا عَلَيْهِمْ.فَإِذَا نَقَصَ الْمَالُ لَحِقَهُ النَّقْصُ، وَهَذَا بِخِلَافِ التَّجْهِيزِ وَالدَّيْنِ، فَإِنَّهُمَا مُتَقَدِّمَانِ حَقًّا عَلَى الْوَصِيَّةِ وَحُقُوقِ الْوَرَثَةِ.

وَلَمَّا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِنِسْبَةٍ شَائِعَةٍ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَارَكَةِ مَعَ حُقُوقِ الْوَرَثَةِ- فَلَوْ هَلَكَ شَيْءٌ مِنَ التَّرِكَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَإِنَّهُ يَهْلِكُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ وَالْوَرَثَةِ جَمِيعًا، وَلَا يُعْطَى الْمُوصَى لَهُ كُلَّ الثُّلُثِ مِنَ الْبَاقِي، بَلِ الْهَالِكُ يَهْلِكُ عَلَى الْحَقَّيْنِ، وَالْبَاقِي يَبْقَى عَلَى الْحَقَّيْنِ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ- فَإِنَّهُ إِذَا هَلَكَ بَعْضُ التَّرِكَةِ يُسْتَوْفَى كُلُّ الدَّيْنِ مِنَ الْبَاقِي.

ثُمَّ إِنَّ طَرِيقَةَ حِسَابِ الْوَصِيَّةِ: أَنْ يَحْسِبَ قَدْرَ الْوَصِيَّةِ مِنْ جُمْلَةِ التَّرِكَةِ لِتَظْهَرَ سِهَامُ الْوَرَثَةِ، كَمَا تُحْسَبُ سِهَامُ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ أَوَّلًا لِيَظْهَرَ الْفَاضِلُ لِلْعَصَبَةِ.

وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (وَصِيَّةٍ، وَإِرْثٍ).

رَابِعًا: قِسْمَةُ التَّرِكَةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ:

33- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ التَّرِكَةَ تُقْسَمُ بَيْنَ الْوَارِثِينَ بَعْدَ أَدَاءِ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا

انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِرْثٌ).

إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا قُسِّمَتِ التَّرِكَةُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ قَبْلَ أَدَاءِ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا، هَلْ تُنْقَضُ هَذِهِ الْقِسْمَةُ أَمْ تَلْزَمُ؟

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّرِكَةَ الْمُسْتَغْرَقَةَ بِالدَّيْنِ تَبْقَى عَلَى مِلْكِ الْمُوَرِّثِ، أَوْ هِيَ فِي حُكْمِ مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَشْغَلُهَا جَمِيعًا.

أَمَّا غَيْرُ الْمُسْتَغْرَقَةِ فَإِنَّهَا تَنْتَقِلُ إِلَى مِلْكِ الْوَارِثِ مِنْ حِينِ وَفَاةِ الْمُوَرِّثِ أَوْ يَنْتَقِلُ الْجُزْءُ الْفَارِغُ مِنَ الدَّيْنِ.

وَمِنْ ثَمَّ لَا يَجُوزُ لِلْوَرَثَةِ اقْتِسَامُ التَّرِكَةِ مَا دَامَتْ مَشْغُولَةً بِالدَّيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِلْكَهُمْ لَا يَظْهَرُ إِلاَّ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ؛ لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فَإِذَا قَسَمُوهَا نُقِضَتْ قِسْمَتُهُمْ حِفْظًا لِحَقِّ الدَّائِنِينَ؛ لِأَنَّهُمْ قَسَمُوا مَا لَا يَمْلِكُونَ.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: الَّذِي يُوجِبُ نَقْضَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُجُودِهَا أَنْوَاعٌ: مِنْهَا ظُهُورُ دَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ، إِذَا طَلَبَ الْغُرَمَاءُ دُيُونَهُمْ وَلَا مَالَ لِلْمَيِّتِ سِوَاهُ وَلَا قَضَاهُ الْوَرَثَةُ مِنْ مَالِ أَنْفُسِهِمْ.

وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ فَمِلْكُ الْمَيِّتِ وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ ثَابِتٌ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ مِنَ التَّرِكَةِ عَلَى الشُّيُوعِ، فَيَمْنَعُ جَوَازَ الْقِسْمَةِ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى: جَوَازِ الْقِسْمَةِ اسْتِحْسَانًا، إِذَا كَانَ الدَّيْنُ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ لِلتَّرِكَةِ، لِأَنَّهُ قَلَّمَا تَخْلُو تَرِكَةٌ مِنْ دَيْنٍ يَسِيرٍ.

وَلَا تُنْقَضُ الْقِسْمَةُ أَيْضًا إِذَا أَبْرَأَ الدَّائِنُ الْمَيِّتَ مِنَ الدَّيْنِ، أَوْ ضَمِنَ الدَّيْنَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ بِرِضَى الدَّائِنِ نَفْسِهِ، أَوْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ مِنْ غَيْرِ الْمَقْسُومِ مَا يَكْفِي لِأَدَاءِ الدَّيْنِ.

وَقَدْ جَاءَ فِي مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ مَا نَصُّهُ:

إِذَا ظَهَرَ دَيْنٌ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ تَقْسِيمِ التَّرِكَةِ تُفْسَخُ الْقِسْمَةُ، إِلاَّ إِذَا أَدَّى الْوَرَثَةُ الدَّيْنَ، أَوْ أَبْرَأَهُمُ الدَّائِنُونَ مِنْهُ، أَوْ تَرَكَ الْمَيِّتُ مَالًا سِوَى الْمَقْسُومِ يَفِي بِالدَّيْنِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا تُفْسَخُ الْقِسْمَةُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى: أَنَّ مِلْكَ الْوَرَثَةِ لِلتَّرِكَةِ يَبْدَأُ مِنْ حِينِ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ، سَوَاءٌ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِالتَّرِكَةِ أَمْ لَا.وَقِسْمَةُ التَّرِكَةِ مَا هِيَ إِلاَّ تَمْيِيزٌ وَإِفْرَازٌ لِحُقُوقِ كُلٍّ مِنَ الْوَرَثَةِ، وَمِنْ ثَمَّ فَلَا وَجْهَ لِنَقْضِ الْقِسْمَةِ عِنْدَهُمْ.وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا بَيْعٌ فَفِي نَقْضِهَا وَجْهَانِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَا تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ بِظُهُورِ دَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِالتَّرِكَةِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهَا بِغَيْرِ رِضَا الْوَرَثَةِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (قِسْمَةٌ).

نَقْضُ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ:

34- الْمَقْصُودُ بِنَقْضِ الْقِسْمَةِ: إِبْطَالُهَا بَعْدَ تَمَامِهَا، وَتُنْقَضُ قِسْمَةُ التَّرِكَةِ فِي الْحَالَاتِ التَّالِيَةِ: -

أ- الْإِقَالَةُ أَوِ التَّرَاضِي عَلَى فَسْخِ الْقِسْمَةِ.

ب- ظُهُورُ دَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ وَقَدْ تَقَدَّمَ.

ج- ظُهُورُ وَارِثٍ أَوْ مُوصًى لَهُ فِي قِسْمَةِ التَّرَاضِي؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ وَالْمُوصَى لَهُ شَرِيكَانِ لِلْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ.

د- ظُهُورُ غَبْنٍ فَاحِشٍ لَحِقَ بِبَعْضِ الْوَرَثَةِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، كَأَنْ قُوِّمَ الْمَالُ بِأَلْفٍ، وَهُوَ يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ.وَتُنْقَضُ هُنَا قِسْمَةُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْقَاضِي مُقَيَّدٌ بِالْعَدْلِ وَلَمْ يُوجَدْ.وَتُنْقَضُ أَيْضًا قِسْمَةُ التَّرَاضِي؛ لِأَنَّ شَرْطَ جَوَازِهَا الْمُعَادَلَةُ وَلَمْ تُوجَدْ، فَجَازَ نَقْضُهَا.

هـ- وُقُوعُ غَلَطٍ فِي الْمَالِ الْمَقْسُومِ. وَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّورَةِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قِسْمَةٌ).

التَّصَرُّفُ فِي التَّرِكَةِ:

35- تَقَدَّمَ خِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي نَفَاذِ أَوْ عَدَمِ نَفَاذِ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ إِذَا كَانَتْ مُسْتَغْرَقَةً بِالدَّيْنِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا.

وَإِذَا تَصَرَّفَ الْوَرَثَةُ فِي التَّرِكَةِ الْمَدِينَةِ بِالْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَنْقُلَ الْمِلْكِيَّةَ أَوْ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا حُقُوقًا عَيْنِيَّةً كَالرَّهْنِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ- وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا بِمَنْعِ مِلْكِيَّةِ الْوَارِثِ إِلاَّ بَعْدَ سَدَادِ الدَّيْنِ- إِلَى: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَيُّ تَصَرُّفٍ مِنَ الْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ إِلاَّ فِي الْأَحْوَالِ التَّالِيَةِ:

أ- أَنْ تَبْرَأَ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ مِنَ الدَّيْنِ قَبْلَ تَصَرُّفِ الْوَرَثَةِ، إِمَّا بِالْأَدَاءِ أَوِ الْكَفَالَةِ.

ب- أَنْ يَرْضَى الدَّائِنُونَ بِقِيَامِ الْوَرَثَةِ بِبَيْعِ التَّرِكَةِ لِسَدَادِ دُيُونِهِمْ؛ لِأَنَّ مَنْعَ تَصَرُّفِ الْوَرَثَةِ بِالتَّرِكَةِ كَانَ ضَمَانًا لِحَقِّ الدَّائِنِينَ الْمُتَعَلِّقِ بِالتَّرِكَةِ.

ج- أَنْ يَأْذَنَ الْقَاضِي بِالتَّصَرُّفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَاضِيَ بِمَا لَهُ مِنَ الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ يَمْلِكُ الْإِذْنَ لِلْوَرَثَةِ بِالْبَيْعِ لِجَمِيعِ التَّرِكَةِ أَوْ بَعْضِهَا.

وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى- وَهُمُ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ مِلْكَ الْوَارِثِ يَبْدَأُ مِنْ وَقْتِ وَفَاةِ الْمُوَرِّثِ، سَوَاءٌ كَانَتِ التَّرِكَةُ مَدِينَةً أَمْ لَا- فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَ الْوَارِثِ بِالْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ مَعَ اسْتِغْرَاقِ التَّرِكَةِ بِالدَّيْنِ لَا يَنْفُذُ مُرَاعَاةً لِحَقِّ الْمَيِّتِ، أَذِنَ الدَّائِنُ أَمْ لَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ التَّصَرُّفُ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ.

وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْهِبَةِ، وَإِلَى بَيْعٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَمُصْطَلَحِ: (دَيْنٌ).

تَصْفِيَةُ التَّرِكَةِ:

36- تَقَدَّمَ الْكَلَامُ حَوْلَ تَصَرُّفِ الْوَارِثِينَ الْبَالِغِينَ فِي التَّرِكَةِ قِسْمَةً أَوْ بَيْعًا، أَمَّا إِذَا كَانَ الْوَرَثَةُ أَوْ بَعْضُهُمْ قُصَّرًا: فَإِنَّ التَّصَرُّفَ فِيهَا يَكُونُ رَاجِعًا لِلْوَصِيِّ إِنْ كَانَ، أَوْ لِلْقَاضِي إِنْ لَمْ يَكُنْ وَصِيٌّ، وَذَلِكَ لِضَمَانِ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّرِكَةِ مِنْ جِهَةٍ، وَلِحِفْظِ أَمْوَالِ الْوَرَثَةِ الضُّعَفَاءِ كَيْ لَا يُظْلَمُوا مِنْ غَيْرِهِمْ. وَلِتَفْصِيلِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ يُنْظَرُ (الْوَصِيَّةُ) وَمُصْطَلَحُ: (إِيصَاءٌ).

التَّرِكَةُ الَّتِي لَا وَارِثَ لَهَا:

37- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّرِكَةِ الَّتِي لَا وَارِثَ لَهَا، أَوْ لَهَا وَارِثٌ لَا يَرِثُهَا جَمِيعَهَا، فَمَنْ قَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِالرَّدِّ قَالَ: لَا تَئُولُ التَّرِكَةُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ مَا دَامَ لَهَا وَارِثٌ.وَمَنْ لَا يَرَى الرَّدَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ قَالَ: إِنَّ بَيْتَ الْمَالِ يَرِثُ جَمِيعَ التَّرِكَةِ، أَوْ مَا بَقِيَ بَعْدَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ.

وَإِذَا آلَتِ التَّرِكَةُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ كَانَتْ عَلَى سَبِيلِ الْفَيْءِ لَا الْإِرْثِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ حَقَّ بَيْتِ الْمَالِ هُنَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمِيرَاثِ، أَيْ عَلَى سَبِيلِ الْعُصُوبَةِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (إِرْثٌ، وَبَيْتُ الْمَالِ).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


228-موسوعة الفقه الكويتية (ترميم)

تَرْمِيمٌ

التَّعْرِيفُ:

1- لِلتَّرْمِيمِ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ.مِنْهَا: الْإِصْلَاحُ.يُقَالُ: رَمَّمْتُ الْحَائِطَ وَغَيْرَهُ تَرْمِيمًا: أَصْلَحْتُهُ.

وَرَمَّمْتُ الشَّيْءَ أَرُمُّهُ وَأَرِمُّهُ رَمًّا وَمَرَمَّةً: إِذَا أَصْلَحْتُهُ.

وَيُقَالُ: قَدْ رَمَّ شَأْنَهُ.وَاسْتَرَمَّ الْحَائِطَ: أَيْ حَانَ لَهُ أَنْ يُرَمَّ، وَذَلِكَ إِذَا بَعُدَ عَهْدُهُ بِالتَّطْيِينِ وَنَحْوِهِ.

وَالرَّمُّ: إِصْلَاحُ الشَّيْءِ الَّذِي فَسَدَ بَعْضُهُ مِنْ نَحْوِ حَبْلٍ يَبْلَى فَيَرُمُّهُ، أَوْ دَارٍ تُرَمُّ مَرَمَّةً.

وَلَا يَخْرُجُ فِي مَعْنَاهُ الِاصْطِلَاحِيِّ عَنْ هَذَا.

وَالتَّرْمِيمُ قَدْ يَكُونُ بِقَصْدِ التَّقْوِيَةِ، إِذَا كَانَ الشَّيْءُ مُعَرَّضًا لِلتَّلَفِ، وَقَدْ يَكُونُ بِقَصْدِ التَّحْسِينِ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

أَوَّلًا: تَرْمِيمُ الْوَقْفِ:

2- إِذَا احْتَاجَتْ عَيْنُ الْوَقْفِ إِلَى تَرْمِيمٍ، فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِهِ مِنْ غَلَّتِهِ قَبْلَ الصَّرْفِ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الْوَاقِفِ صَرْفُ الْغَلَّةِ مُؤَبَّدًا، وَلَا تَبْقَى دَائِمَةً إِلاَّ بِعِمَارَتِهِ، وَمَا بَقِيَ بَعْدَ الْعِمَارَةِ يُصْرَفُ لِلْمُسْتَحِقِّينَ، هَذَا مَا عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.

وَفِي هَذَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ تَقْدِيمَ الْعِمَارَةِ، ثُمَّ الْفَاضِلُ لِلْفُقَرَاءِ أَوْ لِلْمُسْتَحِقِّينَ، لَزِمَ النَّاظِرَ إِمْسَاكُ قَدْرِ مَا تَحْتَاجُهُ الْعِمَارَةُ كُلَّ سَنَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْهُ وَقْتَ الْإِمْسَاكِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَحْدُثَ فِي الْوَقْفِ بَعْدَ التَّوْزِيعِ حَدَثٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَرْمِيمٍ وَلَا يَجِدُ غَلَّةً يُرَمِّمُ بِهَا، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَشْتَرِطْهُ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَعَدَمِهِ: أَنَّهُ مَعَ السُّكُوتِ تُقَدَّمُ الْعِمَارَةُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَلَا يُدَّخَرُ لَهَا عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَمَعَ الِاشْتِرَاطِ تُقَدَّمُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَيُدَّخَرُ لَهَا عِنْدَ عَدَمِهَا، ثُمَّ يُفَرَّقُ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ الْوَاقِفَ إِنَّمَا جَعَلَ الْفَاضِلَ عَنْهَا لِلْفُقَرَاءِ.

وَلَوْ كَانَ الْمَوْقُوفُ دَارًا، فَعِمَارَتُهَا عَلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى، أَيْ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهَا مِنْ مَالِهِ لَا مِنَ الْغَلَّةِ، إِذْ الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ.وَمُفَادُهُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَعْضُ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلسُّكْنَى غَيْرَ سَاكِنٍ فِيهَا يَلْزَمُهُ التَّعْمِيرُ مَعَ السَّاكِنِينَ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُ لِحَقِّهِ لَا يُسْقِطُ حَقَّ الْوَقْفِ، فَيُعَمِّرُ مَعَهُمْ، وَإِلاَّ تُؤَجَّرُ حِصَّتُهُ.وَلَوْ أَبَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى، أَوْ عَجَزَ لِفَقْرِهِ، آجَرَهَا الْحَاكِمُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَعَمَّرَهَا بِأُجْرَتِهَا كَعِمَارَةِ الْوَقْفِ، ثُمَّ يَرُدُّهَا بَعْدَ التَّعْمِيرِ إِلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى رِعَايَةً لِلْحَقَّيْنِ.

3- فَإِذَا امْتَنَعَ عَنِ الْعِمَارَةِ مِنْ مَالِهِ يُؤَجِّرُهَا الْمُتَوَلِّي وَيُعَمِّرُهَا مِنْ غَلَّتِهَا؛ لِأَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ لِلْغَلَّةِ.

وَلَوْ كَانَ هُوَ الْمُتَوَلِّيَ وَامْتَنَعَ مِنْ عِمَارَتِهَا يَنْصِبُ غَيْرَهُ لِيُعَمِّرَهَا، أَوْ يُعَمِّرُهَا الْحَاكِمُ.وَلَوْ احْتَاجَ الْخَانُ الْمَوْقُوفُ إِلَى الْمَرَمَّةِ آجَرَ بَيْتًا أَوْ بَيْتَيْنِ مِنْهُ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ، أَوْ يُؤْذَنُ لِلنَّاسِ بِالنُّزُولِ فِيهِ سَنَةً، وَيُؤَجَّرُ سَنَةً أُخْرَى، وَيُرَمُّ مِنْ أُجْرَتِهِ.

وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ إِصْلَاحَ الْوَقْفِ مِنْ غَلَّتِهِ.فَإِنْ شَرَطَ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ إِصْلَاحَهُ يُلْغَى الشَّرْطُ، وَالْوَقْفُ صَحِيحٌ، وَيُصْلَحُ مِنْ غَلَّتِهِ.فَإِنْ أَصْلَحَ مَنْ شُرِطَ عَلَيْهِ الْإِصْلَاحُ رَجَعَ بِمَا أَنْفَقَ لَا بِقِيمَتِهِ مَنْقُوضًا.

فَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ يَبْدَأَ مِنْ غَلَّتِهِ بِمَنَافِعِ أَهْلِهِ، وَيَتْرُكَ إِصْلَاحَ مَا تَهَدَّمَ مِنْهُ، أَوْ يَتْرُكَ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ حَيَوَانًا بَطَلَ شَرْطُهُ، وَتَجِبُ الْبُدَاءَةُ بِمَرَمَّتِهِ وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ مِنْ غَلَّتِهِ لِبَقَاءِ عَيْنِهِ.

وَلَمَّا كَانَتْ رَقَبَةُ الْوَقْفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِلْوَاقِفِ وَالْغَلَّةُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ إِذَا خَرِبَ الْوَقْفُ فَلِلْوَاقِفِ إِنْ كَانَ حَيًّا- وَلِوَارِثِهِ إِنْ مَاتَ- مَنْعُ مَنْ يُرِيدُ إِصْلَاحَهُ إِذَا خَرِبَ أَوِ احْتَاجَ لِلْإِصْلَاحِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَلِأَنَّ إِصْلَاحَ الْغَيْرِ مَظِنَّةٌ لِتَغْيِيرِ مَعَالِمِهِ، وَهَذَا إِذَا أَصْلَحَهُ الْوَاقِفُ أَوْ وَرَثَتُهُ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ لَهُمُ الْمَنْعُ، بَلِ الْأَوْلَى لَهُمْ تَمْكِينُ مَنْ أَرَادَ بِنَاءَهُ إِذَا خَرِبَ؛ لِأَنَّهُ مِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى الْخَيْرِ.

وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ، وَأَمَّا هِيَ فَقَدِ ارْتَفَعَ مِلْكُهُ عَنْهَا قَطْعًا.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ خَرِبَتِ الدَّارُ الْمَوْقُوفَةُ، وَلَمْ يُعَمِّرْهَا الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ لِلْوَقْفِ مَالٌ كَانَتْ عِمَارَتُهُ فِي مَالِ الْوَقْفِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ أُوجِرَ وَعُمِّرَ مِنْ أُجْرَتِهِ.فَإِذَا تَعَطَّلَتْ مَنَافِعُ الْوَقْفِ وَكَانَ حَيَوَانًا كَخَيْلِ الْجِهَادِ، فَالنَّفَقَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.

أَمَّا عِمَارَةُ الدَّارِ الْمَوْقُوفَةِ فَلَا تَجِبُ عَلَى أَحَدٍ كَالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ بِخِلَافِ الْحَيَوَانِ فَإِنَّ نَفَقَتَهُ تَجِبُ لِصِيَانَةِ رُوحِهِ.وَرَيْعُ الْأَعْيَانِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الْمَسْجِدِ إِذَا انْهَدَمَ وَتُوُقِّعَ عَوْدُهُ حُفِظَ لَهُ، وَإِلاَّ فَإِنْ أَمْكَنَ صَرْفُهُ إِلَى مَسْجِدٍ آخَرَ صُرِفَ إِلَيْهِ، وَإِلاَّ فَمُنْقَطِعُ الْآخِرِ فَيُصْرَفُ لِأَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْوَاقِفِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا صُرِفَ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ أَوْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.

4- أَمَّا غَيْرُ الْمُنْهَدِمِ فَمَا فَضَلَ مِنْ غَلَّةِ الْمَوْقُوفِ عَلَى مَصَالِحِهِ يُشْتَرَى بِهَا عَقَارٌ وَيُوقَفُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمَوْقُوفِ عَلَى عِمَارَتِهِ يَجِبُ ادِّخَارُهُ لِأَجْلِهَا، وَإِلاَّ لَمْ يَعُدْ مِنْهُ شَيْءٌ لِأَجْلِهَا؛ لِأَنَّهُ يُعَرَّضُ لِلضَّيَاعِ أَوْ لِظَالِمٍ يَأْخُذُ.

5- وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَرْجِعُ عِنْدَهُمْ إِلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْوَقْفِ وَفِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِوَقْفِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُتْبَعَ فِيهِ شَرْطُهُ.فَإِنْ عَيَّنَ الْوَاقِفُ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ مِنْ غَلَّتِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا عَمِلَ بِهِ رُجُوعًا إِلَى شَرْطِهِ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ- وَكَانَ الْمَوْقُوفُ ذَا رُوحٍ كَالْخَيْلِ- فَإِنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ غَلَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ يَقْتَضِي تَحْبِيسَ الْأَصْلِ وَتَسْبِيلَ مَنْفَعَتِهِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَتِهِ

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْقُوفِ غَلَّةٌ لِضَعْفٍ بِهِ وَنَحْوِهِ فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ عِنْدَهُمْ يَخْرُجُ مِنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ إِلَى مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ آدَمِيًّا مُعَيَّنًا، مَعَ مَنْعِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ.فَإِنْ تَعَذَّرَ الْإِنْفَاقُ مِنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لِعَجْزِهِ أَوْ غَيْبَتِهِ وَنَحْوِهِمَا بِيعَ الْوَقْفُ، وَصُرِفَ ثَمَنُهُ فِي عَيْنٍ أُخْرَى تَكُونُ وَقْفًا لِمَحَلِّ الضَّرُورَةِ.

وَلَوِ احْتَاجَ خَانٌ مُسَبَّلٌ إِلَى مَرَمَّةٍ، أَوِ احْتَاجَتْ دَارٌ مَوْقُوفَةٌ لِسُكْنَى الْحَاجِّ أَوِ الْغُزَاةِ أَوْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ وَنَحْوِهِمْ إِلَى مَرَمَّةٍ، يُؤَجَّرُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَرَمَّتِهِ.

6- وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالْمَسَاكِينِ وَنَحْوِهِمْ كَالْفُقَهَاءِ فَنَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِانْتِفَاءِ الْمَالِكِ الْمُعَيَّنِ فِيهِ.فَإِنْ تَعَذَّرَ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بِيعَ وَصُرِفَ ثَمَنُهُ فِي عَيْنٍ أُخْرَى تَكُونُ وَقْفًا.

وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ مِمَّا لَا رُوحَ فِيهِ كَالْعَقَارِ وَنَحْوِهِ مِنْ سِلَاحٍ وَمَتَاعٍ وَكُتُبٍ، لَمْ تَجِبْ عِمَارَتُهُ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ.فَإِنْ شَرَطَ عِمَارَتَهُ عُمِلَ بِشَرْطِهِ، سَوَاءٌ شَرَطَ الْبُدَاءَةَ بِالْعِمَارَةِ أَوْ تَأْخِيرَهَا، فَيُعْمَلُ بِمَا شُرِطَ.لَكِنْ إِنْ شَرَطَ تَقْدِيمَ الْجِهَةِ عُمِلَ بِهِ مَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى التَّعْطِيلِ، فَإِذَا أَدَّى إِلَيْهِ قُدِّمَتِ الْعِمَارَةُ حِفْظًا لِأَصْلِ الْوَقْفِ.فَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْبُدَاءَةَ بِالْعِمَارَةِ أَوْ تَأْخِيرَهَا، فَتُقَدَّمُ عَلَى أَرْبَابِ الْوَظَائِفِ، مَا لَمْ يُفْضِ ذَلِكَ إِلَى تَعْطِيلِ مَصَالِحِهِ، فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا حَسَبَ الْإِمْكَانِ.

وَيَصِحُّ بَيْعُ بَعْضِهِ لِإِصْلَاحِ بَاقِيهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ بَيْعُ الْكُلِّ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَبَيْعُ الْبَعْضِ مَعَ بَقَاءِ الْبَعْضِ أَوْلَى، إِنِ اتَّحَدَ الْوَاقِفُ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (وَقْفٍ).

ثَانِيًا: التَّرْمِيمُ فِي الْإِجَارَةِ:

7- إِذَا احْتَاجَتِ الدَّارُ الْمُسْتَأْجَرَةُ لِلتَّرْمِيمِ.فَإِنَّ عِمَارَتَهَا وَإِصْلَاحَ مَا تَلِفَ مِنْهَا وَكُلُّ مَا يُخِلُّ بِالسُّكْنَى عَلَى الْمُؤَجِّرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَيَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ أَبَى صَاحِبُهَا أَنْ يَفْعَلَ كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَأْجِرُ اسْتَأْجَرَهَا وَهِيَ كَذَلِكَ وَقَدْ رَآهَا لِرِضَاهُ بِالْعَيْبِ، وَأَنَّهُ لَا يُجْبَرُ الْمُؤَجِّرُ عَلَى إِصْلَاحِ بِئْرِ الْمَاءِ وَالْبَالُوعَةِ وَالْمَخْرَجِ إِنْ أَبَى إِصْلَاحَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى إِصْلَاحِ مِلْكِهِ، فَإِنْ فَعَلَهُ الْمُسْتَأْجِرُ فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ، وَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ إِنْ أَبَى الْمُؤَجِّرُ.

وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ إِصْلَاحُ مَا تَلِفَ مِنَ الْعَيْنِ بِسَبَبِ اسْتِعْمَالِهِ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ بَادَرَ الْمُؤَجِّرُ إِلَى إِصْلَاحِ مَا تَلِفَ فَلَا خِيَارَ لِلْمُكْتَرِي، وَإِلاَّ فَلَهُ الْخِيَارُ لِتَضَرُّرِهِ بِنَقْصِ الْمَنْفَعَةِ.

وَالْحَنَابِلَةُ كَالشَّافِعِيَّةِ فِي هَذَا، إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ شَرَطَ الْمُؤَجِّرُ عَلَى الْمُكْتَرِي النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ لِعِمَارَةِ الْمَأْجُورِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةِ الْإِجَارَةِ، فَلَوْ عَمَّرَ الْمُسْتَأْجِرُ بِهَذَا الشَّرْطِ أَوْ عَمَّرَ بِإِذْنِ الْمُؤَجِّرِ رَجَعَ عَلَيْهِ.وَإِنْ أَنْفَقَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ، لَكِنْ لَهُ أَخْذُ أَعْيَانِ آلَاتِهِ.

وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ شَرْطَ الْمَرَمَّةِ لِلدَّارِ وَتَطْيِينَهَا إِنِ احْتَاجَتْ عَلَى الْمُكْتَرِي، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مِنْ كِرَاءٍ وَجَبَ عَلَى الْمُكْتَرِي، إِمَّا فِي مُقَابَلَةِ سُكْنَى مَضَتْ، أَوْ بِاشْتِرَاطِ تَعْجِيلِ الْكِرَاءِ، أَوْ يَجْرِي الْعُرْفُ بِتَعْجِيلِهِ، لَا إِنْ لَمْ يَجِبْ فَلَا يَجُوزُ.أَوْ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى أَنَّ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الدَّارُ مِنَ الْمَرَمَّةِ وَالتَّطْيِينِ مِنْ عِنْدِ الْمُكْتَرِي، فَلَا يَجُوزُ لِلْجَهَالَةِ.

تَرْمِيمُ الْمُسْتَأْجَرِ مِنْ شَرِيكَيْنِ:

8- إِذَا اسْتَأْجَرَ شَخْصٌ مَا دَارًا مُشْتَرَكَةً بَيْنَ اثْنَيْنِ مَثَلًا مِنْ صَاحِبَيْهَا، ثُمَّ احْتَاجَتْ إِلَى مَرَمَّةٍ، فَاسْتَأْذَنَ فِيهَا وَاحِدًا مِنْهُمَا فَحَسْبُ، فَأَذِنَ لَهُ دُونَ رُجُوعٍ إِلَى شَرِيكِهِ فَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الشَّرِيكِ الْآخَرِ بِمَا أَنْفَقَهُ فِي الْمَرَمَّةِ.

فَإِنْ كَانَ لِلْآذِنِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى شَرِيكِهِ كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ الرُّجُوعُ عَلَى آذِنِهِ بِالنَّفَقَةِ كُلًّا، ثُمَّ يَرْجِعُ هَذَا عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ مِنَ النَّفَقَةِ.وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فَإِذْنُهُ لَغْوٌ فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ، وَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ إِلاَّ الرُّجُوعُ عَلَى الْآذِنِ وَحْدَهُ بِنِسْبَةِ حِصَّتِهِ.

ثَالِثًا: تَرْمِيمُ الرَّهْنِ:

9- كُلُّ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِبَقَاءِ الرَّهْنِ وَمَصْلَحَتِهِ فَهُوَ عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، وَذَلِكَ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ.

وَكُلُّ مَا كَانَ لِحِفْظِهِ فَعَلَى الْمُرْتَهِنِ؛ لِأَنَّ حَبْسَهُ لَهُ، فَلَوْ شُرِطَ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى الرَّاهِنِ لَا يَلْزَمُهُ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ» وَاَلَّذِي يَرْكَبُ هُوَ الرَّاهِنُ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الرَّقَبَةَ وَالْمَنْفَعَةَ عَلَى مِلْكِهِ، فَكَانَتِ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ.

وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ مُؤْنَةَ الرَّهْنِ عَلَى رَاهِنِهِ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» وَلِأَنَّهُ مِلْكٌ لِلرَّاهِنِ فَكَانَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.

فَإِنِ امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنْ بَذْلِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَخَذَ الْحَاكِمُ مِنْ مَالِهِ وَفَعَلَهُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ أَخْذُ ذَلِكَ مِنَ الرَّهْنِ بِيعَ مِنْهُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الرَّاهِنِ فِعْلُهُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ حِفْظَ الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ إِضَاعَةِ الْكُلِّ، فَإِنْ خِيفَ اسْتِغْرَاقُ الْبَيْعِ لِلرَّهْنِ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ بِيعَ كُلُّهُ وَجُعِلَ ثَمَنُهُ رَهْنًا مَكَانَهُ لِأَنَّهُ أَحَظُّ لَهُمَا.

وَإِنْ أَنْفَقَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّهْنِ بِلَا إِذْنِ الرَّاهِنِ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى اسْتِئْذَانِهِ، فَمُتَبَرِّعٌ حُكْمًا لِتَصَدُّقِهِ بِهِ، فَلَا يَرْجِعُ بِعِوَضِهِ وَلَوْ نَوَى الرُّجُوعَ، كَالصَّدَقَةِ عَلَى مِسْكِينٍ؛ وَلِتَفْرِيطِهِ بِعَدَمِ الِاسْتِئْذَانِ.وَإِنْ تَعَذَّرَ اسْتِئْذَانُهُ وَأَنْفَقَ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ رَجَعَ وَلَوْ لَمْ يَسْتَأْذِنِ الْحَاكِمَ؛ لِاحْتِيَاجِهِ لِحِرَاسَةِ حَقِّهِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي (رَهْنٍ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


229-موسوعة الفقه الكويتية (تسليم)

تَسْلِيمٌ

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي التَّسْلِيمِ فِي اللُّغَةِ: التَّوْصِيلُ، يُقَالُ سَلَّمَ الْوَدِيعَةَ لِصَاحِبِهَا: إِذَا أَوْصَلَهَا فَتَسَلَّمَ ذَلِكَ، وَأَسْلَمَ إِلَيْهِ الشَّيْءَ: دَفَعَهُ.وَمِنْهُ السَّلَمُ، وَتَسَلَّمَ الشَّيْءَ: قَبَضَهُ وَتَنَاوَلَهُ.وَسَلَّمْتُ إِلَيْهِ الشَّيْءَ فَتَسَلَّمَهُ: أَيْ أَخَذَهُ.وَسَلَّمَ الشَّيْءَ لِفُلَانٍ: أَيْ خَلَّصَهُ.وَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ: أَعْطَاهُ إِيَّاهُ.وَسَلَّمَ الْأَجِيرُ نَفْسَهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ: مَكَّنَهُ مِنْ مَنْفَعَةِ نَفْسِهِ حَيْثُ لَا مَانِعَ.وَالتَّسْلِيمُ بَذْلُ الرِّضَى بِالْحُكْمِ.

وَالتَّسْلِيمُ: السَّلَامُ، وَسَلَّمَ الْمُصَلِّي: خَرَجَ مِنَ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ.وَسَلَّمَ عَلَى الْقَوْمِ: حَيَّاهُمْ بِالسَّلَامِ، وَسَلَّمَ: أَلْقَى التَّحِيَّةَ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ: قَالَ لَهُ: سَلَامٌ عَلَيْكَ.

وَلَا يَخْرُجُ مَعْنَى التَّسْلِيمِ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ.

حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:

يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّسْلِيمِ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ.

أ- التَّسْلِيمُ بِمَعْنَى التَّحِيَّةِ:

2- ابْتِدَاءُ السَّلَامِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» وَيُسْتَحَبُّ مُرَاعَاةُ صِيغَةِ الْجَمْعِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَاحِدًا، أَخْذًا بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ يَقْصِدُ مَعَ الْوَاحِدِ الْمَلَائِكَةَ.

وَيَجِبُ الرَّدُّ إِنْ كَانَ السَّلَامُ عَلَى وَاحِدٍ.وَإِنْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ فَالرَّدُّ فِي حَقِّهِمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِنْ رَدَّ أَحَدُهُمْ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنْ رَدَّ الْجَمِيعُ كَانُوا مُؤَدِّينَ لِلْفَرْضِ، سَوَاءٌ رَدُّوا مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبِينَ، فَإِنِ امْتَنَعُوا كُلُّهُمْ أَثِمُوا لِخَبَرِ؛ «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلَامِ...»

وَيُشْتَرَطُ فِي ابْتِدَاءِ السَّلَامِ رَفْعُ الصَّوْتِ بِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِسْمَاعُ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ مُتَّصِلًا بِالسَّلَامِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى صِيغَةِ ابْتِدَاءِ السَّلَامِ فِي الرَّدِّ أَفْضَلُ، وَيُسَنُّ ابْتِدَاءُ السَّلَامِ عِنْدَ الْإِقْبَالِ وَالِانْصِرَافِ، لِخَبَرِ: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاللَّهِ مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ» وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا لَقِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ أَوْ جِدَارٌ أَوْ حَجَرٌ، ثُمَّ لَقِيَهُ، فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ» (ر: سَلَامٌ وَتَحِيَّةٌ).

ب- التَّسْلِيمُ لِلْخُرُوجِ مِنَ الصَّلَاةِ:

3- التَّسْلِيمَةُ الْأُولَى لِلْخُرُوجِ مِنَ الصَّلَاةِ حَالَ الْقُعُودِ فَرْضٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ فَرْضِيَّةَ الثَّانِيَةِ أَيْضًا إِلاَّ فِي صَلَاةِ جِنَازَةٍ وَنَافِلَةٍ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الْأَخِيرَ مِنَ الْجُلُوسِ الَّذِي يُوقَعُ فِيهِ السَّلَامُ فَرْضٌ.

وَلَا بُدَّ مِنْ نُطْقِ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ» بِالْعَرَبِيَّةِ بِتَقْدِيمِ «السَّلَامِ» وَتَأْخِيرِ «عَلَيْكُمْ» وَهَذَا لِلْقَادِرِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ، وَلَا يَكْفِي الْخُرُوجُ بِالنِّيَّةِ وَلَا بِمُرَادِفِهَا مِنْ لُغَةٍ أُخْرَى، وَأَمَّا الْعَاجِزُ عَنِ الْعَرَبِيَّةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ بِالنِّيَّةِ قَطْعًا، وَإِنْ أَتَى بِمُرَادِفِهَا بِالْعَجَمِيَّةِ صَحَّ عَلَى الْأَظْهَرِ، قِيَاسًا عَلَى الدُّعَاءِ بِالْعَجَمِيَّةِ لِلْقَادِرِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ.وَالْأَفْضَلُ كَوْنُ السَّلَامِ مُعَرَّفًا بِأَلْ.لِخَبَرِ «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» فَقَوْلُهُ: «تَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» أَيْ لَا يَخْرُجُ مِنَ الصَّلَاةِ إِلاَّ بِهِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «كَانَ يُسَلِّمُ مِنْ صَلَاتِهِ عَنْ يَمِينِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ، وَعَنْ يَسَارِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْسَرِ».

وَلِحَدِيثِ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كُنْتُ أَرَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى أَرَى بَيَاضَ خَدِّهِ» وَلِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُدِيمُ ذَلِكَ وَلَا يُخِلُّ بِهِ وَقَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي».

وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ فِي التَّسْلِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ قَوْلُهُ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ» مَرَّةً عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمَرَّتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَمَا سَبَقَ، وَأَكْمَلُهُ «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» يَمِينًا وَشِمَالًا مُلْتَفِتًا فِي الْأُولَى حَتَّى يُرَى خَدُّهُ الْأَيْمَنُ، وَفِي الثَّانِيَةِ حَتَّى يُرَى خَدُّهُ الْأَيْسَرُ، نَاوِيًا السَّلَامَ عَمَّنْ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ مِنْ مَلَائِكَةٍ وَإِنْسٍ وَصَالِحِ الْجِنِّ.

وَيَنْوِي الْإِمَامُ أَيْضًا- زِيَادَةً عَلَى مَا سَبَقَ- السَّلَامُ عَلَى الْمُقْتَدِينَ، وَهُمْ يَنْوُونَ الرَّدَّ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَنْوِيهِ الْمُقْتَدُونَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ، وَعَنْ يَسَارِهِ بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى.وَلِحَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ نَرُدَّ عَلَى الْإِمَامِ، وَأَنْ نَتَحَابَّ، وَأَنْ يُسَلِّمَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ»

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْخُرُوجُ مِنَ الصَّلَاةِ بِلَفْظِ السَّلَامِ لَيْسَ فَرْضًا، بَلْ هُوَ وَاجِبٌ.لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا عَلَّمَ ابْنَ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- التَّشَهُّدَ قَالَ لَهُ: إِذَا قُلْتَ هَذَا فَقَدْ قَضَيْتَ صَلَاتَكَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ» فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الصَّلَاةِ بِالسَّلَامِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفَرْضَ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ هُوَ الْقُعُودُ بِمِقْدَارِ التَّشَهُّدِ عِنْدَهُمْ.لِخَبَرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا أَحْدَثَ- يَعْنِي الرَّجُلَ- وَقَدْ جَلَسَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَقَدْ جَازَتْ صَلَاتُهُ».وَالْوَاجِبُ عِنْدَهُمْ تَسْلِيمَتَانِ: الْأُولَى عَنْ يَمِينِهِ، فَيَقُولُ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» وَيُسَلِّمُ عَنْ يَسَارِهِ كَذَلِكَ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ خَدِّهِ وَعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ خَدِّهِ».وَيَنْوِي فِي التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى التَّسْلِيمَ عَلَى مَنْ عَلَى يَمِينِهِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْحَفَظَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ.

وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ فِي لَفْظِ السَّلَامِ مَرَّتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ «السَّلَامُ» دُونَ قَوْلِهِ «عَلَيْكُمْ».وَأَكْمَلُهُ وَهُوَ السُّنَّةُ أَنْ يَقُولَ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» مَرَّتَيْنِ.وَتَنْقَضِي الصَّلَاةُ بِالسَّلَامِ الْأَوَّلِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلَاةٌ).

ج- التَّسْلِيمُ بِمَعْنَى التَّمْكِينِ مِنَ الْقَبْضِ:

4- التَّسْلِيمُ، أَوِ الْقَبْضُ مَعْنَاهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: التَّخْلِيَةُ أَوِ التَّخَلِّي، وَهُوَ أَنْ يُخَلِّيَ الْبَائِعُ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَالْمُشْتَرِي بِرَفْعِ الْحَائِلِ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ الْمُشْتَرِي مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، بِحَيْثُ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِالتَّخْلِيَةِ، فَيُجْعَلُ الْبَائِعُ مُسَلِّمًا لِلْمَبِيعِ وَالْمُشْتَرِي قَابِضًا لَهُ، فَكَانَتِ التَّخْلِيَةُ تَسْلِيمًا مِنَ الْبَائِعِ، وَالتَّخَلِّي قَبْضًا مِنَ الْمُشْتَرِي.وَكَذَا هَذَا فِي تَسْلِيمِ الثَّمَنِ إِلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ وَاجِبٌ، وَمَنْ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَبِيلُ الْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَالَّذِي فِي وُسْعِهِ هُوَ التَّخْلِيَةُ وَرَفْعُ الْمَوَانِعِ.

وَالْقَبْضُ يَتِمُّ بِطَرِيقِ التَّخْلِيَةِ، وَهِيَ أَنْ يَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنَ الْمَبِيعِ بِلَا مَانِعٍ- أَيْ بِأَنْ يَكُونَ مُفْرَزًا وَلَا حَائِلَ- فِي حَضْرَةِ الْبَائِعِ مَعَ الْإِذْنِ لَهُ بِالْقَبْضِ.

فَقَبْضُ الْعَقَارِ عِنْدَ الْجَمِيعِ- كَالْأَرْضِ وَمَا فِيهَا مِنْ بِنَاءٍ وَنَخْلٍ وَنَحْوِهِمَا- يَكُونُ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي وَتَمْكِينِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَذَلِكَ بِتَسْلِيمِ الْمَفَاتِيحِ إِنْ وُجِدَتْ بِشَرْطِ الْفَرَاغِ مِنَ الْأَمْتِعَةِ، إِنْ كَانَ شِرَاءُ الْعَقَارِ لِلسَّكَنِ- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ- وَقَبْضُ الْمَنْقُولِ كَالْأَمْتِعَةِ، وَالْأَنْعَامُ وَالدَّوَابُّ بِحَسَبِ الْعُرْفِ الْجَارِي بَيْنَ النَّاسِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَالثَّوْبُ قَبْضُهُ بِاحْتِيَازِهِ، وَالْحَيَوَانُ بِتَمْشِيَتِهِ مِنْ مَكَانِهِ، وَقَبْضُ الْمَوْزُونِ بِوَزْنِهِ، وَقَبْضُ الْمَكِيلِ بِكَيْلِهِ، إِذَا بِيعَا كَيْلًا وَوَزْنًا.وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: تَفْرِيغُهُ فِي أَوْعِيَةِ الْمُشْتَرِي، حَتَّى لَوْ هَلَكَ قَبْلَ التَّفْرِيغِ فِي أَوْعِيَةِ الْمُشْتَرِي كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْبَائِعِ عِنْدَهُمْ.

وَهَذَا: لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا بِعْتَ فَكِلْ، وَإِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَلْ» وَعَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يُجْرَى فِيهِ الصَّاعَانِ: صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي».وَإِنْ بِيعَ جُزَافًا فَقَبْضُهُ نَقْلُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَبْضُهُ بِالتَّخْلِيَةِ. (ر: قَبْضٌ).

التَّسْلِيمُ فِي الْعُقُودِ يَشْمَلُ مَا يَلِي:

أ- التَّسْلِيمُ فِي الْبَيْعِ:

5- التَّسْلِيمُ فِي الْبَيْعِ يَكُونُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَيْعِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِذَلِكَ.

وَمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ أَوَّلًا، يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ نَوْعِ الْبَدَلَيْنِ، وَهُوَ كَالْآتِي: إِنْ كَانَ الْبَيْعُ بَيْعَ عَيْنٍ بِعَيْنٍ، وَاخْتَلَفَا فِيمَنْ يُسَلِّمُ أَوَّلًا، يَجِبُ عَلَى الْعَاقِدَيْنِ التَّسْلِيمُ مَعًا تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ فِي الْمُعَاوَضَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْمُسَاوَاةِ عَادَةً الْمَطْلُوبَةِ بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ؛ إِذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالتَّقْدِيمِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، فَيُجْعَلُ بَيْنَهُمَا عَدْلٌ يَقْبِضُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَيُسَلِّمُ الْآخَرَ.

وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ إِنْ تَبَايَعَا دَيْنًا بِدَيْنٍ، كَمَا فِي عَقْدِ الصَّرْفِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ.

وَإِنْ كَانَ بَيْعَ عَيْنٍ بِدَيْنٍ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ- أَيِ الدَّيْنِ أَوَّلًا- وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وُجُوبُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ أَوَّلًا، وَاسْتَثْنَى الْجَمِيعُ مِنْ ذَلِكَ أَمْرَيْنِ:

أَوَّلُهُمَا: الْمُسْلَمُ فِيهِ لِأَنَّهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ.وَالثَّانِي: الثَّمَنُ الْمُؤَجَّلُ، فَإِنْ كَانَ عَيْنًا أَوْ عَرَضًا بِعَرَضٍ جُعِلَ بَيْنَهُمَا عَدْلٌ- عِنْدَ الْجُمْهُورِ-، فَيَقْبِضُ مِنْهُمَا، ثُمَّ يُسَلِّمُ إِلَيْهِمَا، وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِقْرَارُ الْبَيْعِ وَتَمَامُهُ، فَكَانَ تَقْدِيمُهُ أَوْلَى، سِيَّمَا مَعَ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ، وَتَعَلُّقِ حَقِّ الْبَائِعِ بِالذِّمَّةِ، وَتَقْدِيمُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ أَوْلَى لِتَأَكُّدِهِ.وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُمَا يُسَلَّمَانِ مَعًا.

ب- تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ

6- تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الرِّبَا حَرَامٌ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (رِبًا).

ج- التَّسْلِيمُ فِي السَّلَمِ:

7- اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ فِي السَّلَمِ إِنْ كَانَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ- سَوَاءٌ أَكَانَ عَيْنًا (سِلْعَةً مُعَيَّنَةً) أَمْ نُقُودًا- فَلَا بُدَّ مِنْ تَسْلِيمِهِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، وَلَوْ طَالَ الْمَجْلِسُ.وَإِذَا قَامَا مِنَ الْمَجْلِسِ يَمْشِيَانِ، ثُمَّ قَبَضَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ رَأْسَ السَّلَمِ بَعْدَ مَسَافَةٍ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ إِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا.وَكَذَا إِذَا تَعَاقَدَا ثُمَّ قَامَ رَبُّ السَّلَمِ- الْمُشْتَرِي- لِيُحْضِرَ الثَّمَنَ مِنْ دَارِهِ، فَإِنْ لَمْ يَغِبْ شَخْصُهُ عَنِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ- الْبَائِعِ- يَصِحُّ وَإِلاَّ فَلَا؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ، فَلَوْ أُخِّرَ تَسْلِيمُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ لَكَانَ التَّسْلِيمُ فِي مَعْنَى مُبَادَلَةِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ» وَلِأَنَّ تَسْمِيَةَ هَذَا الْعَقْدِ دَلِيلٌ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَإِنَّهُ يُسَمَّى سَلَمًا وَسَلَفًا، وَالسَّلَمُ يُنْبِئُ عَنِ التَّسْلِيمِ، وَالسَّلَفُ يُنْبِئُ عَنِ التَّقَدُّمِ، فَيَقْتَضِي لُزُومَ تَقْدِيمِ رَأْسِ الْمَالِ، وَيُقَدَّمُ قَبْضُهُ عَلَى قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ فِي السَّلَمِ غَرَرًا- أَيْ تَعْرِيضًا لِلْهَلَاكِ أَوْ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ- فَلَا يُضَمُّ إِلَيْهِ غَرَرُ تَأْخِيرِ رَأْسِ الْمَالِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَقُومُ مَقَامَ الْقَبْضِ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، كَمَا إِذَا كَانَ عِنْدَ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ أَمَانَةٌ أَوْ عَيْنٌ مَغْصُوبَةٌ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَجْعَلَهَا صَاحِبُ السَّلَمِ رَأْسَ مَالٍ مَا دَامَتْ مِلْكًا لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْقَبْضِ. وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَكُونَ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ قَبْضًا حَقِيقِيًّا، فَلَا تَنْفَعُ فِيهِ الْحَوَالَةُ، وَلَوْ قَبَضَهُ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ، لِأَنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ مَا دَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ إِلاَّ إِذَا قَبَضَهُ رَبُّ السَّلَمِ وَسَلَّمَهُ بِنَفْسِهِ لِلْمُسْلَمِ إِلَيْهِ.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ اشْتِرَاطُ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ كُلِّهِ، وَيَجُوزُ تَأْخِيرُ قَبْضِهِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَأَقَلَّ، وَلَوْ بِشَرْطٍ فِي الْعَقْدِ سَوَاءٌ أَكَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا؛ لِأَنَّ السَّلَمَ مُعَاوَضَةٌ لَا يَخْرُجُ بِتَأْخِيرِ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ عَنْ أَنْ يَكُونَ سَلَمًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَأَخَّرَ إِلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، وَكُلُّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ، وَلَا يَكُونُ لَهُ بِذَلِكَ حُكْمُ الْكَالِئِ، فَإِنْ أَخَّرَ رَأْسَ الْمَالِ عَنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ: فَإِنْ كَانَ التَّأْخِيرُ بِشَرْطٍ فَسَدَ السَّلَمُ اتِّفَاقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ التَّأْخِيرُ كَثِيرًا جِدًّا، بِأَنْ حَلَّ أَجَلُ الْمُسْلَمِ فِيهِ، أَوْ لَمْ يَكْثُرْ جِدًّا بِأَنْ لَمْ يَحِلَّ أَجَلُهُ.وَإِنْ كَانَ التَّأْخِيرُ بِلَا شَرْطٍ فَقَوْلَانِ فِي الْمُدَوَّنَةِ الْكُبْرَى لِمَالِكٍ بِفَسَادِ السَّلَمِ وَعَدَمِ فَسَادِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ التَّأْخِيرُ كَثِيرًا جِدًّا أَمْ لَا.وَالْمُعْتَمَدُ الْفَسَادُ بِالزِّيَادَةِ عَنِ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ وَلَوْ قَلَّتْ مُدَّةُ الزِّيَادَةِ بِغَيْرِ شَرْطٍ. (ر: سَلَمٌ)

.د- قَبْضُ الْمَرْهُونِ:

8- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي الرَّهْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ نَوْعِ الشَّرْطِ.هَلْ هُوَ شَرْطُ لُزُومٍ أَوْ شَرْطُ تَمَامٍ؟ فَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْقَبْضُ لَيْسَ شَرْطَ صِحَّةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطُ لُزُومِ الرَّهْنِ، فَلَا يَتِمُّ الرَّهْنُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ لقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فَقَدْ عَلَّقَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْقَبْضِ، فَلَا يَتِمُّ إِلاَّ بِهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَتِمُّ الرَّهْنُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، أَوِ الْحَوْزِ، وَهُوَ شَرْطُ تَمَامٍ وَلَيْسَ شَرْطَ صِحَّةٍ أَوْ لُزُومٍ، فَإِذَا عُقِدَ الرَّهْنُ بِالْقَوْلِ (الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ) لَزِمَ الْعَقْدُ، وَأُجْبِرَ الرَّاهِنُ عَلَى إِقْبَاضِهِ لِلْمُرْتَهِنِ بِالْمُطَالَبَةِ بِهِ، فَإِنْ تَرَاضَى الْمُرْتَهِنُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِهِ، أَوْ رَضِيَ بِتَرْكِهِ فِي يَدِ الرَّاهِنِ بَطَلَ الرَّهْنُ.وَدَلِيلُهُمْ قِيَاسُ الرَّهْنِ عَلَى سَائِرِ الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ اللاَّزِمَةِ بِالْقَوْلِ.لقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، وَالرَّهْنُ عَقْدٌ فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ.

(ر: رَهْنٌ).

هـ- تَسْلِيمُ الْمَرْهُونِ:

9- لِلْمُرْتَهِنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- مَا عَدَا الشَّافِعِيَّةَ- حَقُّ الْحَبْسِ الدَّائِمِ لِلْمَرْهُونِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ؛ لِيَضْطَرَّ الْمَدِينُ إِلَى تَسْلِيمِ دَيْنِهِ، لِيَتَمَكَّنَ مِنَ اسْتِرْدَادِ الْمَرْهُونِ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ، وَلِلْمُرْتَهِنِ أَيْضًا عِنْدَ حُلُولِ أَجَلِ الدَّيْنِ الْمُطَالَبَةُ بِدَيْنِهِ مَعَ بَقَاءِ الرَّهْنِ تَحْتَ يَدِهِ، وَعَلَى الْمُرْتَهِنِ تَسْلِيمُ الْمَرْهُونِ لِصَاحِبِهِ، إِمَّا بِانْتِهَاءِ أَجَلِ الدَّيْنِ، أَوْ بِانْتِهَاءِ عَقْدِ الرَّهْنِ.وَانْتِهَاءُ الدَّيْنِ يَكُونُ بِأَسْبَابٍ كَالْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ أَوْ هِبَتِهِ، أَوْ وَفَاءِ الدَّيْنِ، أَوْ شِرَاءِ سِلْعَةٍ مِنَ الرَّاهِنِ بِالدَّيْنِ، أَوْ إِحَالَةِ الرَّاهِنِ الْمُرْتَهِنَ عَلَى غَيْرِهِ.

وَانْقِضَاءُ عَقْدِ الرَّهْنِ أَوِ انْتِهَاؤُهُ يَكُونُ بِأَسْبَابٍ كَالْإِبْرَاءِ وَالْهِبَةِ وَوَفَاءِ الدَّيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَالْبَيْعِ الْجَبْرِيِّ الصَّادِرِ مِنَ الرَّاهِنِ بِأَمْرِ الْقَاضِي، أَوْ مِنَ الْقَاضِي إِذَا أَبَى الرَّاهِنُ الْبَيْعَ.وَالتَّفْصِيلُ فِي (رَهْنٌ).

وَالشَّافِعِيَّةُ مَعَ الْجُمْهُورِ فِي اشْتِرَاطِ اسْتِدَامَةِ الْقَبْضِ، لَكِنَّهُمْ قَالُوا: قَدْ يَتَخَلَّفُ هَذَا الشَّرْطُ لِمَانِعٍ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَرْهُونُ مُصْحَفًا وَالْمُرْتَهِنُ كَافِرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

مَا يَتِمُّ بِهِ تَسْلِيمُ الْمَرْهُونِ:

10- يُسَلِّمُ الرَّاهِنُ الدَّيْنَ أَوَّلًا، ثُمَّ يُسَلِّمُ الْمُرْتَهِنُ الْمَرْهُونَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ يَتَعَيَّنُ بِتَسْلِيمِ الدَّيْنِ، وَحَقُّ الرَّاهِنِ مُتَعَيِّنٌ فِي تَسَلُّمِ الْمَرْهُونِ، فَيَتِمُّ التَّسْلِيمُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ تَحْقِيقًا لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ.وَإِذَا سَلَّمَ الرَّاهِنُ بَعْضَ الدَّيْنِ يَظَلُّ الْمَرْهُونُ كُلُّهُ رَهْنًا بِحَالِهِ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الدَّيْنِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ كُلَّهُ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ كُلِّهِ، وَهُوَ مَحْبُوسٌ بِكُلِّ الْحَقِّ، وَالْحَبْسُ بِالدَّيْنِ الَّذِي هُوَ مُوجِبُ الرَّهْنِ لَا يَتَجَزَّأُ، فَيَكُونُ مَحْبُوسًا بِكُلِّ جُزْءٍ مِنَ الدَّيْنِ لَا يَنْفَكُّ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى يَقْضِيَ جَمِيعَ الدَّيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الرَّهْنُ مِمَّا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ أَمْ لَا يُمْكِنُ.ر: (رَهْنٌ).

و- تَسْلِيمُ ثَمَنِ الْمَرْهُونِ عِنْدَ الْبَيْعِ:

11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرْهُونَ يَظَلُّ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ لِلْمُرْتَهِنِ، كَمَا دَلَّتِ السُّنَّةُ «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ» وَلَكِنْ تَعَلَّقَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ بِعَيْنِ الرَّهْنِ، فَاسْتَحَقَّ الْمُرْتَهِنُ حَبْسَهُ وَثِيقَةً بِالدَّيْنِ إِلَى أَنْ يُوَفِّيَ الدَّيْنَ، وَلَا يَجُوزُ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الرَّهْنِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهِ إِلاَّ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، فَيُعْتَبَرُ مُتَنَازِلًا عَنْ حَقِّهِ فِي حَبْسِ الرَّهْنِ.

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، وَهَذَا يُسَمَّى الْبَيْعُ الِاخْتِيَارِيُّ بَعْدَ الْإِذْنِ، وَحِينَئِذٍ فَالْمُرْتَهِنُ أَوْلَى وَأَحَقُّ بِثَمَنِ الْمَرْهُونِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ الدَّائِنِينَ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ، حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا.وَيَثْبُتُ هَذَا الْحَقُّ لِلْمُرْتَهِنِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.

وَإِذَا لَمْ يَتِمَّ الْبَيْعُ لِلْمَرْهُونِ اخْتِيَارِيًّا، وَحَلَّ أَجَلُ الدَّيْنِ طَالَبَ الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ بِوَفَاءِ الدَّيْنِ، فَإِنِ اسْتَجَابَ وَوَفَّى سُلِّمَ الْمَرْهُونُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَجِبْ لِمَطْلٍ أَوْ إِعْسَارٍ، رُفِعَ أَمْرُهُ إِلَى الْقَاضِي.وَيَطْلُبُ الْقَاضِي أَوَّلًا مِنَ الرَّاهِنِ الْحَاضِرِ بَيْعَ الْمَرْهُونِ، فَإِنِ امْتَثَلَ تَمَّ الْمَقْصُودُ، وَإِنِ امْتَنَعَ بَاعَهُ الْقَاضِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ، بِدُونِ حَاجَةٍ إِلَى إِجْبَارِهِ بِحَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ تَهْدِيدٍ، وَيُسَلَّمُ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ دَيْنِهِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الرَّاهِنِ، لَكِنَّهُ يَحْبِسُ الرَّاهِنَ حَتَّى يَبِيعَهُ بِنَفْسِهِ.وَإِذَا وُجِدَ فِي مَالِ الْمَدِينِ الرَّاهِنِ مَالٌ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، وَفَّى الدَّيْنَ مِنْهُ، وَلَا حَاجَةَ حِينَئِذٍ إِلَى الْبَيْعِ جَبْرًا.

وَالتَّفْصِيلُ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ: (رَهْنٌ).

ز- تَسْلِيمُ الْمَالِ لِلْمَحْجُورِ عَلَيْهِ:

12- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ لَا يُسَلَّمُ إِلَيْهِ مَالُهُ إِلاَّ بَعْدَ مَعْرِفَةِ رُشْدِهِ، وَذَلِكَ بِاخْتِبَارِ الصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ فِي التَّصَرُّفَاتِ؛ لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} أَيِ اخْتَبِرُوهُمْ، وَاخْتِبَارُ الصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ يَحْصُلُ بِتَفْوِيضِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا أَمْثَالُهُ إِلَيْهِ؛ لِيُتَبَيَّنَ مَدَى إِدْرَاكِهِ وَحُسْنُ تَصَرُّفِهِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (حَجْرٌ). وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَمْوَالَ الصَّغِيرِ لَا تُسَلَّمُ إِلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ رَاشِدًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ دَفْعَ الْمَالِ إِلَيْهِ عَلَى شَرْطَيْنِ هُمَا الْبُلُوغُ وَالرُّشْدُ فِي قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}، وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطَيْنِ لَا يَثْبُتُ بِدُونِهِمَا، فَإِذَا بَلَغَ الصَّغِيرُ رَشِيدًا مُصْلِحًا لِلْمَالِ، وَجَبَ دَفْعُ مَالِهِ إِلَيْهِ وَفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ.وَإِذَا دَفَعَ إِلَيْهِ مَالَهُ أَشْهَدَ عِنْدَ الدَّفْعِ.لقوله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}

وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ تَفْصِيلَاتٌ مَوْطِنُهَا بَابُ الْحَجْرِ.

ح- التَّسْلِيمُ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ:

13- الْكَفَالَةُ تَكُونُ بِالنَّفْسِ، وَتَكُونُ بِالْفِعْلِ، وَالْمُرَادُ بِالْفِعْلِ الْمَكْفُولِ بِهِ فِعْلُ التَّسْلِيمِ، وَعَلَى هَذَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِنَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَتُسَمَّى الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ كَمَا تُسَمَّى الْكَفَالَةَ بِالْوَجْهِ: وَهِيَ الْتِزَامُ إِحْضَارِ الْمَكْفُولِ إِلَى الْمَكْفُولِ لَهُ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهَا؛ ذَلِكَ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ كَفَالَةٌ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ تَسْلِيمُ النَّفْسِ، وَفِعْلُ التَّسْلِيمِ مَضْمُونٌ عَلَى الْأَصِيلِ فَجَازَتِ الْكَفَالَةُ بِهِ.

وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إِذَا كَانَتْ بِسَبَبِ الْمَالِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» وَهَذَا يَشْمَلُ الْكَفَالَةَ بِنَوْعَيْهَا؛ وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ تَسْلِيمُهُ بِعَقْدٍ وَجَبَ تَسْلِيمُهُ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ كَالْمَالِ؛ وَلِأَنَّ الْكَفِيلَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِ الْأَصِيلِ، بِأَنْ يُعْلِمَ مَنْ يَطْلُبُهُ مَكَانَهُ فَيُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، أَوْ يَسْتَعِينُ بِأَعْوَانِ الْقَاضِي فِي التَّسْلِيمِ.

وَإِذَا اشْتَرَطَ الْأَصِيلُ فِي الْكَفَالَةِ تَسْلِيمَ الْمَكْفُولِ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ لَزِمَ الْكَفِيلُ إِحْضَارَ الْمَكْفُولِ بِهِ إِذَا طَالَبَهُ بِهِ فِي الْوَقْتِ، وَفَاءً بِمَا الْتَزَمَهُ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، فَإِنْ أَحْضَرَهُ فَبِهَا، وَإِنْ لَمْ يُحْضِرْهُ حَبَسَهُ الْحَاكِمُ لِامْتِنَاعِهِ عَنْ إِيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ.وَإِنْ أَحْضَرَهُ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْمُطَالِبِ بِهِ فِي مَوْضِعٍ يَقْدِرُ عَلَى إِحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ بَرِئَ مِنَ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ يَتَحَقَّقُ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ وَالْمَكْفُولِ لَهُ؛ وَلِأَنَّهُ أَتَى بِمَا الْتَزَمَهُ وَحَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ، وَهُوَ إِمْكَانُ الْمُحَاكَمَةِ عِنْدَ الْقَاضِي.

وَيَتَعَيَّنُ مَحَلُّ التَّسْلِيمِ بِالتَّعْيِينِ، وَإِنْ أُطْلِقَ وَلَمْ يُعَيَّنْ، وَجَبَ التَّسْلِيمُ فِي مَكَانِ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ يَقْتَضِي ذَلِكَ.

ط- التَّسْلِيمُ فِي الْوَكَالَةِ:

14- الْوَكَالَةُ بِأَجْرٍ (بِجُعْلٍ) حُكْمُهَا حُكْمُ الْإِجَارَاتِ، فَيَسْتَحِقُّ الْوَكِيلُ الْجُعْلَ بِتَسْلِيمِ مَا وُكِّلَ فِيهِ إِلَى الْمُوَكِّلِ- إِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ- كَثَوْبٍ يَخِيطُهُ فَمَتَى سَلَّمَهُ مَخِيطًا فَلَهُ الْأَجْرُ.وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعٍ، وَقَالَ: إِذَا بِعْتَ الثَّوْبَ وَقَبَضْتَ ثَمَنَهُ وَسَلَّمْتَهُ إِلَيَّ فَلَكَ الْأَجْرُ، لَمْ يَسْتَحِقَّ مِنَ الْأُجْرَةِ شَيْئًا حَتَّى يُسَلِّمَهُ إِلَيْهِ.فَإِنْ فَاتَ التَّسْلِيمُ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا لِفَوَاتِ الشَّرْطِ.

وَالْوَكِيلُ فِي بَيْعِ شَيْءٍ يَمْلِكُ تَسْلِيمَهُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْوَكَالَةِ فِي الْبَيْعِ يَقْتَضِي التَّسْلِيمَ، وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ طَلَبُ الثَّمَنِ مِنَ الْمُشْتَرِي وَقَبْضُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الْبَيْعِ، وَكَذَا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ، لَهُ قَبْضُ الْمَبِيعِ مِنَ الْبَائِعِ وَتَسْلِيمُهُ لِمَنْ وَكَّلَهُ بِالشِّرَاءِ، وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ.

وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الْمَقْبُوضَ فِي يَدِ الْوَكِيلِ يُعْتَبَرُ أَمَانَةً؛ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ نِيَابَةٍ عَنِ الْمُوَكِّلِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ الْمَقْبُوضِ عِنْدَ طَلَبِ الْمُوَكِّلِ مَعَ الْإِمْكَانِ، وَيَضْمَنُ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّقْصِيرِ كَمَا يَضْمَنُ فِي الْوَدَائِعِ، وَيَبْرَأُ بِمَا يَبْرَأُ فِيهَا. (ر: وَكَالَةٌ).

ي- التَّسْلِيمُ فِي الْإِجَارَةِ:

15- إِذَا كَانَ الْعَمَلُ يَجْرِي فِي عَيْنٍ تُسَلَّمُ لِلْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ، كَانَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ بَعْدَ قِيَامِهِ بِالْعَمَلِ فِيهَا.وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ لَا يَجْرِي فِي عَيْنٍ تُسَلَّمُ لِلْأَجِيرِ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ قِيَامِهِ بِالْعَمَلِ الْمَطْلُوبِ يُعْتَبَرُ تَسْلِيمًا كَالطَّبِيبِ أَوِ السِّمْسَارِ.وَإِنْ كَانَ الْأَجِيرُ خَاصًّا كَانَ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ لِلْعَمَلِ فِي مَحَلِّ الْعَمَلِ تَسْلِيمًا مُعْتَبَرًا، وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَارَةٌ).

ك- تَسْلِيمُ اللُّقَطَةِ:

16- لِلْإِمَامِ، أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ، أَنْ يَتَسَلَّمَ اللُّقَطَةَ مِنَ الْمُلْتَقِطِ إِنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُبَاحُ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَدْفَعَ اللُّقَطَةَ لِلْإِمَامِ إِنْ كَانَ عَدْلًا، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي ذَلِكَ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّ الْمُلْتَقِطَ إِنْ دَفَعَ اللُّقَطَةَ إِلَى الْقَاضِي لَزِمَ الْقَاضِيَ الْقَبُولُ حِفْظًا لَهَا عَلَى صَاحِبِهَا.وَالتَّفْصِيلُ فِي (لُقَطَةٌ).

ل- تَسْلِيمُ اللَّقِيطِ لِلْقَاضِي:

17- يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَتَسَلَّمَ اللَّقِيطَ مِنْ مُلْتَقِطِهِ إِذَا عَلِمَ عَجْزَهُ عَنْ حِفْظِهِ بِنَفْسِهِ وَأَتَى بِهِ إِلَيْهِ، وَالْأَوْلَى لِلْقَاضِي أَنْ يَقْبَلَهُ.وَتَفْصِيلُهُ فِي بَحْثِ (لَقِيطٌ).

م- تَسْلِيمُ الصَّدَاقِ لِلزَّوْجَةِ:

18- إِذَا طَالَبَتِ الزَّوْجَةُ بِالْمَهْرِ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ تَسْلِيمُهُ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فِي الْمَرْأَةِ مُتَعَيِّنٌ، وَحَقَّ الْمَرْأَةِ فِي الْمَهْرِ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ، فَوَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ التَّسْلِيمُ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَالْبَعْضُ الْآخَرُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ تَسْلِيمُ الصَّدَاقِ لِزَوْجَتِهِ، أَوْ لِوَلِيِّهَا الْمُجْبِرِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ إِجْبَارُهَا عَلَى النِّكَاحِ كَانَ لَهُ تَسَلُّمُ صَدَاقِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا كَالصَّغِيرَةِ.

ن- تَسْلِيمُ الزَّوْجَةِ نَفْسَهَا:

19- يَجُوزُ لِلزَّوْجَةِ قَبْلَ دُخُولِ الزَّوْجِ بِهَا أَنْ لَا تُسَلِّمَ نَفْسَهَا إِلَى زَوْجِهَا، حَتَّى تَقْبِضَ جَمِيعَ مَهْرِهَا الْمُعَيَّنِ الْحَالِّ، سَوَاءٌ أَكَانَ بَعْضَهُ أَمْ كُلَّهُ.وَإِنِ انْتَقَلَتْ إِلَى بَيْتِ زَوْجِهَا فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ لِتَعَيُّنِ حَقِّهَا فِي الْبَدَلِ، كَمَا يَتَعَيَّنُ حَقُّهُ فِي الْمُبْدَلِ.

وَلَا يَتَعَيَّنُ حَقُّهَا إِلاَّ بِالتَّسْلِيمِ وَالِانْتِقَالِ إِلَى حَيْثُ يُرِيدُ زَوْجُهَا إِنْ أَرَادَ، وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ.

فَإِنْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا بِالدُّخُولِ، أَوْ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ، فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا؛ لِأَنَّهَا بِالدُّخُولِ أَوْ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ سَلَّمَتْ جَمِيعَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِرِضَاهَا، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ التَّسْلِيمِ، فَبَطَلَ حَقُّهَا فِي الْمَنْعِ.

وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ زَوْجِهَا حَتَّى تَأْخُذَ الْمُعَجَّلَ لَهَا مِنَ الْمَهْرِ، وَلَوْ دَخَلَ بِهَا بِرِضَاهَا وَهِيَ مُكَلَّفَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ مُقَابَلٌ بِجَمِيعِ مَا يُسْتَوْفَى مِنْ مَنَافِعِ الْبُضْعِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الِاسْتِمْتَاعِ الَّتِي تُوجَدُ فِي هَذَا الْمِلْكِ، وَيَكُونُ رِضَاهَا بِالدُّخُولِ أَوِ الْخَلْوَةِ قَبْلَ قَبْضِ مُعَجَّلِ مَهْرِهَا إِسْقَاطًا لِحَقِّهَا فِي مَنْعِ نَفْسِهَا فِي الْمَاضِي، وَلَيْسَ لِحَقِّهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ أَنَّ لَهَا الِامْتِنَاعَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ مَهْرَهَا، كَمَا لَوْ كَانَ حَالًّا ابْتِدَاءً.

20- وَالتَّسْلِيمُ الْوَاجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ يَحْصُلُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ فِيهِ زَوْجُهَا مِنَ اسْتِمْتَاعِهِ بِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَكَانُ بَيْتَ أَبِيهَا إِنْ رَضِيَا مَعًا بِالْإِقَامَةِ فِيهِ، أَمْ كَانَ مَسْكَنًا شَرْعِيًّا أَعَدَّهُ لَهَا زَوْجُهَا.وَيَتَرَتَّبُ عَلَى تَسْلِيمِ نَفْسِهَا لِزَوْجِهَا وُجُوبُ نَفَقَتِهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ لِحَقِّهِ، وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ.

تَسْلِيمُ النَّفَقَةِ:

21- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ حَقٌّ أَصِيلٌ مِنْ حُقُوقِهَا الْوَاجِبَةِ عَلَى زَوْجِهَا، وَأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْحَاضِرِ، إِذَا سَلَّمَتِ الزَّوْجَةُ نَفْسَهَا إِلَى الزَّوْجِ وَقْتَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ.

وَإِذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنِ الْإِنْفَاقِ عَلَى زَوْجَتِهِ بَعْدَمَا فَرَضَهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ بَعْدَ فَرْضِ الْقَاضِي بَاعَ الْقَاضِي مِنْ مَالِهِ، إِنْ كَانَ مُوسِرًا وَلَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ، وَأَعْطَى لِزَوْجَتِهِ مَا يَكْفِي النَّفَقَةَ.

وَلِلتَّفْصِيلِ: (ر: نَفَقَةٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


230-موسوعة الفقه الكويتية (تصوير 3)

تَصْوِيرٌ -3

47- وَالْحُجَّةُ لِذَلِكَ مَا مَرَّ «أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ فَلْيَقْطَعْ حَتَّى يَكُونَ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ» وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ فِي الْبَيْتِ سِتْرًا، وَفِي الْحَائِطِ تَمَاثِيلَ، فَاقْطَعُوا رُءُوسَهَا فَاجْعَلُوهَا بِسَاطًا أَوْ وَسَائِدَ فَأَوْطِئُوهُ، فَإِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ تَمَاثِيلُ»

وَلَا يَكْفِي أَنْ تَكُونَ قَدْ أُزِيلَ مِنْهَا الْعَيْنَانِ أَوِ الْحَاجِبَانِ أَوِ الْأَيْدِي أَوِ الْأَرْجُلُ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعُضْوُ الزَّائِلُ مِمَّا لَا تَبْقَى الْحَيَاةُ مَعَهُ، كَقَطْعِ الرَّأْسِ أَوْ مَحْوِ الْوَجْهِ، أَوْ خَرْقِ الصَّدْرِ أَوِ الْبَطْنِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْقَطْعُ بِخَيْطٍ خُيِّطَ عَلَى جَمِيعِ الرَّأْسِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ، أَوْ بِطَلْيِهِ بِمُغْرَةٍ، أَوْ بِنَحْتِهِ، أَوْ بِغَسْلِهِ.وَأَمَّا قَطْعُ الرَّأْسِ عَنِ الْجَسَدِ بِخَيْطٍ مَعَ بَقَاءِ الرَّأْسِ عَلَى حَالِهِ فَلَا يَنْفِي الْكَرَاهَةَ؛ لِأَنَّ مِنَ الطُّيُورِ مَا هُوَ مُطَوَّقٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْقَطْعُ بِذَلِكَ.

وَقَالَ صَاحِبُ شَرْحِ الْإِقْنَاعِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ قُطِعَ مِنَ الصُّورَةِ رَأْسُهَا فَلَا كَرَاهَةَ، أَوْ قُطِعَ مِنْهَا مَا لَا تَبْقَى الْحَيَاةُ بَعْدَ ذَهَابِهِ فَهُوَ كَقَطْعِ الرَّأْسِ كَصَدْرِهَا أَوْ بَطْنِهَا، أَوْ جَعَلَ لَهَا رَأْسًا مُنْفَصِلًا عَنْ بَدَنِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي النَّهْيِ.

وَقَالَ صَاحِبُ مِنَحِ الْجَلِيلِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ مَا يَحْرُمُ مَا يَكُونُ كَامِلَ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي لَا يَعِيشُ بِدُونِهَا وَلَهَا ظِلٌّ.

غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ كَانَ الْبَاقِي الرَّأْسَ، عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: يَحْرُمُ وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَالْآخَرُ: لَا يَحْرُمُ.وَقَطْعُ أَيِّ جُزْءٍ لَا تَبْقَى الْحَيَاةُ مَعَهُ يُبِيحُ الْبَاقِيَ، كَمَا لَوْ قُطِعَ الرَّأْسُ وَبَقِيَ مَا عَدَاهُ.

جَاءَ فِي أَسْنَى الْمَطَالِبِ وَحَاشِيَتِهِ: وَكَذَا إِنْ قُطِعَ رَأْسُهَا، قَالَ: الكوهكيوني: وَكَذَا حُكْمُ مَا صُوِّرَ بِلَا رَأْسٍ، وَأَمَّا الرُّءُوسُ بِلَا أَبْدَانٍ فَهَلْ تَحْرُمُ؟ فِيهِ تَرَدُّدٌ.وَالْحُرْمَةُ أَرْجَحُ.قَالَ الرَّمْلِيُّ: وَهُوَ وَجْهَانِ فِي الْحَاوِي، وَبَنَاهُمَا عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ تَصْوِيرُ حَيَوَانٍ لَا نَظِيرَ لَهُ: إِنْ جَوَّزْنَاهُ جَازَ ذَلِكَ وَإِلاَّ فَلَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ.

وَفِي حَاشِيَةِ الشِّرْوَانِيِّ وَابْنِ قَاسِمٍ: إِنَّ فَقْدَ النِّصْفِ الْأَسْفَلِ كَفَقْدِ الرَّأْسِ.

48- وَيَكْفِي لِلْإِبَاحَةِ أَنْ تَكُونَ الصُّورَةُ قَدْ خُرِقَ صَدْرُهَا أَوْ بَطْنُهَا، بِذَلِكَ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: هَلْ مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ كَانَتْ مَثْقُوبَةَ الْبَطْنِ مَثَلًا: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الثَّقْبُ كَبِيرًا يَظْهَرُ بِهِ نَقْصُهَا فَنَعَمْ، وَإِلاَّ فَلَا، كَمَا لَوْ كَانَ الثَّقْبُ لِوَضْعِ عَصًا تُمْسَكُ بِهَا، كَمِثْلِ صُوَرِ خَيَالِ الظِّلِّ الَّتِي يُلْعَبُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا تَبْقَى مَعَهُ صُورَةً تَامَّةً، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِي صُوَرِ الْخَيَالِ خَالَفَهُ فِيهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، فَرَأَوْا أَنَّ الْخَرْقَ الَّذِي يَكُونُ فِي وَسَطِهَا كَافٍ فِي إِزَالَةِ الْكَرَاهَةِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ الْبَاجُورِيُّ وَيَأْتِي النَّقْلُ عَنْهُ فِي بَحْثِ النَّظَرِ إِلَى الصُّوَرِ

ج- اسْتِعْمَالُ وَاقْتِنَاءُ الصُّوَرِ الْمَنْصُوبَةِ وَالصُّوَرِ الْمُمْتَهَنَةِ:

49- يَرَى الْجُمْهُورُ أَنَّ الصُّوَرَ لِذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ- مُجَسَّمَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُجَسَّمَةٍ- يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهَا عَلَى هَيْئَةٍ تَكُونُ فِيهَا مُعَلَّقَةً أَوْ مَنْصُوبَةً، وَهَذَا فِي الصُّوَرِ الْكَامِلَةِ الَّتِي لَمْ يُقْطَعْ فِيهَا عُضْوٌ لَا تَبْقَى الْحَيَاةُ مَعَهُ، فَإِنْ قُطِعَ مِنْهَا عُضْوٌ- عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْفِقْرَةِ السَّابِقَةِ- جَازَ نَصْبُهَا وَتَعْلِيقُهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُسَطَّحَةً جَازَ تَعْلِيقُهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَنُقِلَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ إِجَازَةُ تَعْلِيقِ الصُّوَرِ الَّتِي فِي الثِّيَابِ، وَهُوَ رَاوِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي لَعْنِ الْمُصَوِّرِينَ، وَكَانَ مِنْ خَيْرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِقْهًا وَوَرَعًا.

وَأَمَّا إِذَا اقْتُنِيَتِ الصُّورَةُ- وَهِيَ مُمْتَهَنَةٌ- فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي بِسَاطٍ مَفْرُوشٍ أَوْ فِرَاشٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.وَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ أَيْضًا، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: إِنَّهَا حِينَئِذٍ خِلَافُ الْأَوْلَى.

وَوَجَّهُوا التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْمَنْصُوبِ وَالْمُمْتَهَنِ: بِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ مَرْفُوعَةً تَكُونُ مُعَظَّمَةً وَتُشْبِهُ الْأَصْنَامَ.أَمَّا الَّذِي فِي الْأَرْضِ وَنَحْوِهِ فَلَا يُشْبِهُهَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْأَصْنَامِ يَنْصِبُونَهَا وَيَعْبُدُونَهَا وَلَا يَتْرُكُونَهَا مُهَانَةً.

وَقَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَقَاءُ الصُّورَةِ الْمَقْطُوعَةِ مَنْصُوبَةً، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهَا، وَهُوَ مَا نَقَلْنَاهُ سَابِقًا مِنْ «أَنَّ جِبْرِيلَ- عليه السلام- قَالَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مُرْ بِرَأْسِ التِّمْثَالِ فَلْيُقْطَعْ حَتَّى يَكُونَ كَهَيْئَةِ الشَّجَرَةِ» وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «فَإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَاقْطَعْ رُءُوسَهَا أَوِ اقْطَعْهَا وَسَائِدَ أَوِ اجْعَلْهَا بُسُطًا» فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ بَقَائِهَا بَعْدَ الْقَطْعِ مَنْصُوبَةً.

وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى بَقَاءِ الصُّورَةِ الْمُمْتَهَنَةِ فِي الْبَيْتِ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «أَنَّهَا قَطَعَتِ السِّتْرَ وَجَعَلَتْهُ وِسَادَتَيْنِ، وَكَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَتَّكِئُ عَلَيْهِمَا وَفِيهِمَا الصُّوَرُ».

وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ مَا نُصِبَ مِنَ التَّمَاثِيلِ وَلَا يَرَوْنَ بَأْسًا بِمَا وَطِئَتْهُ الْأَقْدَامُ.وَكَانَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ يَتَّكِئُ عَلَى مِخَدَّةٍ فِيهَا تَصَاوِيرُ.

وَلِذَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ بَعْدَ ذِكْرِ قَطْعِ رَأْسِ التِّمْثَالِ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَرْجِيحُ قَوْلِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الصُّورَةَ الَّتِي تَمْتَنِعُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ دُخُولِ الْبَيْتِ الَّذِي هِيَ فِيهِ: مَا تَكُونُ فِيهِ مَنْصُوبَةً بَاقِيَةً عَلَى هَيْئَتِهَا.أَمَّا لَوْ كَانَتْ مُمْتَهَنَةً، أَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُمْتَهَنَةٍ لَكِنَّهَا غُيِّرَتْ هَيْئَتُهَا إِمَّا بِقَطْعِ رَأْسِهَا أَوْ بِقَطْعِهَا مِنْ نِصْفِهَا فَلَا امْتِنَاعَ.

50- وَالنَّصْبُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: أَيُّ نَصْبٍ كَانَ.حَتَّى إِنَّ اسْتِعْمَالَ إِبْرِيقٍ فِيهِ صُوَرٌ تَرَدَّدَ فِيهِ صَاحِبُ الْمُهِمَّاتِ، وَمَالَ إِلَى الْمَنْعِ، أَيْ لِأَنَّهُ يَكُونُ مَنْصُوبًا.وَقَالُوا فِي الْوِسَادِ: إِنِ اسْتُعْمِلَتْ مَنْصُوبَةً حَرُمَ، وَإِنِ اسْتُعْمِلَتْ غَيْرَ مَنْصُوبَةٍ جَازَ.

وَذَهَبَ بَعْضٌ آخَرُ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ النَّصْبَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ خَاصَّةً مَا يَظْهَرُ فِيهِ التَّعْظِيمُ، فَقَدْ قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: إِنَّ مَا عَلَى السُّتُورِ وَالثِّيَابِ مِنَ الصُّوَرِ لَا يَحْرُمُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ امْتِهَانٌ لَهُ.وَهَذَا يُوَافِقُ مَا تَقَدَّمَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ.

وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: إِنَّ نَصْبَ الصُّوَرِ فِي حَمَّامٍ أَوْ مَمَرٍّ لَا يَحْرُمُ، بِخِلَافِ مَا كَانَ مَنْصُوبًا فِي الْمَجَالِسِ وَأَمَاكِنِ التَّكْرِيمِ.أَيْ لِأَنَّهَا فِي الْمَمَرِّ وَالْحَمَّامِ مُهَانَةٌ، وَفِي الْمَجَالِسِ مُكَرَّمَةٌ.وَظَاهِرُ كَلَامِ صَاحِبِ الْمُغْنِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ نَصْبَ الصُّوَرِ فِي الْحَمَّامِ وَنَحْوِهِ مُحَرَّمٌ.

هَذَا، وَمِمَّا نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الصُّوَرِ الْمُهَانَةِ: مَا كَانَ فِي نَحْوِ قَصْعَةٍ وَخِوَانٍ وَطَبَقٍ.

وَيُلْتَحَقُ بِالْمُمْتَهَنَةِ- عِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ- الصُّوَرُ الَّتِي عَلَى النُّقُودِ.قَالَ الرَّمْلِيُّ: وَعِنْدِي أَنَّ الدَّنَانِيرَ الرُّومِيَّةَ الَّتِي عَلَيْهَا الصُّوَرُ مِنَ الْقِسْمِ الَّذِي لَا يُنْكَرُ، لِامْتِهَانِهَا بِالْإِنْفَاقِ وَالْمُعَامَلَةِ، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ- رضي الله عنهم- يَتَعَامَلُونَ بِهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَلَمْ تَحْدُثِ الدَّرَاهِمُ الْإِسْلَامِيَّةُ إِلاَّ فِي عَهْدِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ.وَقَالَ مِثْلَهُ الزَّرْكَشِيُّ.

51- هَذَا بَيَانُ حُكْمِ مَا ظَهَرَ فِيهِ التَّعْظِيمُ، أَوْ ظَهَرَتْ فِيهِ الْإِهَانَةُ.أَمَّا مَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ أَيٌّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ، وَذَلِكَ فِي مِثْلِ الصُّورَةِ الْمَطْبُوعَةِ فِي كِتَابٍ، أَوِ الْمَوْضُوعَةِ فِي دُرْجٍ أَوْ خِزَانَةٍ أَوْ عَلَى مِنْضَدَةٍ، مِنْ غَيْرِ نَصْبٍ.فَفِي كَلَامِ الْقَلْيُوبِيِّ نَقْلًا عَنِ ابْنِ حَجَرٍ وَغَيْرِهِ: يَجُوزُ لُبْسُ مَا عَلَيْهِ صُورَةُ الْحَيَوَانِ وَدَوْسُهُ وَوَضْعُهُ فِي صُنْدُوقٍ أَوْ مُغَطًّى.

وَفِي مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى قَصْرِ التَّحْرِيمِ عَلَى الْمَنْصُوبِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَصُورَةُ ذَاتِ رُوحٍ إِنْ كَانَتْ مَنْصُوبَةً وَرَوَى ابْنُ شَيْبَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ فِي حِلْيَةِ السَّيْفِ وَلَا بَأْسَ بِهَا (أَيْ بِالتَّمَاثِيلِ) فِي سَمَاءِ الْبَيْتِ (أَيِ السَّقْفِ)، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ مِنْهَا مَا نُصِبَ نَصْبًا.

وَأَصْلُ ذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهم-، فَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى سَالِمٍ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى وِسَادَةٍ فِيهَا تَمَاثِيلُ طَيْرٍ وَوَحْشٍ، فَقُلْتُ: أَلَيْسَ يُكْرَهُ هَذَا؟ قَالَ: لَا، إِنَّمَا يُكْرَهُ مِنْهَا مَا نُصِبَ نَصْبًا.

اسْتِعْمَالُ لُعَبِ الْأَطْفَالِ الْمُجَسَّمَةِ وَغَيْرِ الْمُجَسَّمَةِ:

52- تَقَدَّمَ أَنَّ قَوْلَ الْجُمْهُورِ جَوَازُ صِنَاعَةِ اللُّعَبِ الْمَذْكُورَةِ.فَاسْتِعْمَالُهَا جَائِزٌ مِنْ بَابٍ أَوْلَى، وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ جَوَازَهُ عَنِ الْعُلَمَاءِ، وَتَابَعَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، قَالَ: قَالَ الْقَاضِي: يُرَخَّصُ لِصِغَارِ الْبَنَاتِ.

وَالْمُرَادُ بِصِغَارِ الْبَنَاتِ مَنْ كَانَ غَيْرَ بَالِغٍ مِنْهُنَّ.وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَإِنَّمَا أَرْخَصَ لِعَائِشَةَ فِيهَا لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ كَانَتْ غَيْرَ بَالِغٍ.قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي الْجَزْمِ بِهِ نَظَرٌ، لَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ، لِأَنَّ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- كَانَتْ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ بِنْتَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَأَمَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ فَكَانَتْ قَدْ بَلَغَتْ قَطْعًا فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّرْخِيصَ لَيْسَ قَاصِرًا عَلَى مَنْ دُونَ الْبُلُوغِ مِنْهُنَّ، بَلْ يَتَعَدَّى إِلَى مَرْحَلَةِ مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ مَا دَامَتِ الْحَاجَةُ قَائِمَةً لِذَلِكَ.

53- وَالْعِلَّةُ فِي هَذَا التَّرْخِيصِ تَدْرِيبُهُنَّ عَنْ شَأْنِ تَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ، وَتَقَدَّمَ النَّقْلُ عَنِ الْحَلِيمِيِّ: أَنَّ مِنَ الْعِلَّةِ أَيْضًا اسْتِئْنَاسَ الصِّبْيَانِ وَفَرَحَهُمْ.وَأَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُمْ بِهِ النَّشَاطُ وَالْقُوَّةُ وَالْفَرَحُ وَحُسْنُ النُّشُوءِ وَمَزِيدُ التَّعَلُّمِ.فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ الْأَمْرُ قَاصِرًا عَلَى الْإِنَاثِ مِنَ الصِّغَارِ، بَلْ يَتَعَدَّاهُ إِلَى الذُّكُورِ مِنْهُمْ أَيْضًا.وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ: فَفِي الْقُنْيَةِ عَنْهُ: يَجُوزُ بَيْعُ اللُّعْبَةِ، وَأَنْ يَلْعَبَ بِهَا الصِّبْيَانُ.

54- وَمِمَّا يُؤَكِّدُ جَوَازَ اللُّعَبِ الْمُصَوَّرَةِ لِلصِّبْيَانِ- بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْبَنَاتِ- مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ الْأَنْصَارِيَّةِ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: «أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ الَّتِي حَوْلَ الْمَدِينَةِ: مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ».فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ نَصُومُهُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ مِنْهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَنَذْهَبُ بِهِمْ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَنَجْعَلُ- وَفِي رِوَايَةٍ: «فَنَصْنَعُ- لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ إِيَّاهُ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ».

55- وَانْفَرَدَ الْحَنَابِلَةُ بِاشْتِرَاطِ أَنْ تَكُونَ اللُّعْبَةُ الْمُصَوَّرَةُ بِلَا رَأْسٍ، أَوْ مَقْطُوعَةَ الرَّأْسِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمُرَادُهُمْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْبَاقِي الرَّأْسَ، أَوْ كَانَ الرَّأْسُ مُنْفَصِلًا عَنِ الْجَسَدِ جَازَ، كَمَا تَقَدَّمَ.وَقَالُوا: لِلْوَلِيِّ شِرَاءُ لُعَبٍ غَيْرِ مُصَوَّرَةٍ لِصَغِيرَةٍ تَحْتَ حِجْرِهِ مِنْ مَالِهَا نَصًّا، لِلتَّمْرِينِ.

لُبْسُ الثِّيَابِ الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ:

56- يُكْرَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لُبْسُ الثِّيَابِ الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ، قَالَ صَاحِبُ الْخُلَاصَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: صُلِّيَ فِيهَا أَوْ لَا.لَكِنْ تَزُولُ الْكَرَاهَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِمَا لَوْ لَبِسَ الْإِنْسَانُ فَوْقَ الصُّورَةِ ثَوْبًا آخَرَ يُغَطِّيهَا، فَإِنْ فَعَلَ فَلَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجُوزُ لُبْسُ الثِّيَابِ الَّتِي فِيهَا صُوَرٌ حَيْثُ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الصُّورَةَ فِي الثَّوْبِ الْمَلْبُوسِ مُنْكَرٌ، لَكِنَّ اللُّبْسَ امْتِهَانٌ لَهُ فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ.كَمَا لَوْ كَانَ مُلْقًى بِالْأَرْضِ وَيُدَاسُ.وَالْأَوْجَهُ كَمَا قَالَ الشِّرْوَانِيُّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنَ الْمُنْكَرِ إِذَا كَانَ مُلْقًى بِالْأَرْضِ (أَيْ مُطْلَقًا).

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُهُمْ فِي لُبْسِ الثَّوْبِ الَّذِي فِيهِ الصُّورَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: التَّحْرِيمُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ قَدَّمَهُ فِي الْفُرُوعِ وَالْمُحَرَّرِ.وَالْآخَرُ: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ فَقَطْ وَلَيْسَ مُحَرَّمًا، قَدَّمَهُ ابْنُ تَمِيمٍ.

وَوَجْهُ الْقَوْلِ بِعَدَمِ التَّحْرِيمِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِلاَّ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ».

اسْتِعْمَالُ وَاقْتِنَاءُ الصُّوَرِ الصَّغِيرَةِ فِي الْخَاتَمِ وَالنُّقُودِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ:

57- يُصَرِّحُ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الصُّوَرَ الصَّغِيرَةَ لَا يَشْمَلُهَا تَحْرِيمُ الِاقْتِنَاءِ وَالِاسْتِعْمَالِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَادَةِ عُبَّادِ الصُّوَرِ أَنْ يَسْتَعْمِلُوهَا كَذَلِكَ.وَضَبَطُوا حَدَّ الصِّغَرِ بِضَوَابِطَ مُخْتَلِفَةٍ.

قَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ لَا تَبْدُو لِلنَّاظِرِ إِلاَّ بِتَبَصُّرٍ بَلِيغٍ.وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْ لَا تَبْدُوَ مِنْ بَعِيدٍ.وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ: هِيَ الَّتِي لَا تَتَبَيَّنُ تَفَاصِيلُ أَعْضَائِهَا لِلنَّاظِرِ قَائِمًا وَهِيَ عَلَى الْأَرْضِ.وَقِيلَ: هِيَ مَا كَانَتْ أَصْغَر مِنْ حَجْمِ طَائِرٍ.وَهَذَا يَذْكُرُونَهُ فِي بَيَانِ أَنَّهَا لَا تُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي.لَكِنْ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: ظَاهِرُ كَلَامِ عُلَمَائِنَا أَنَّ مَا لَا يُؤَثِّرُ كَرَاهَةً فِي الصَّلَاةِ لَا يُكْرَهُ إِبْقَاؤُهُ.وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْفَتْحِ وَغَيْرِهِ بِأَنَّ الصُّورَةَ الصَّغِيرَةَ لَا تُكْرَهُ فِي الْبَيْتِ، وَنُقِلَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى خَاتَمِ أَبِي هُرَيْرَةَ ذُبَابَتَانِ.

وَفِي التَّتَارْخَانِيَّةَ: لَوْ كَانَ عَلَى خَاتَمِ فِضَّةٍ تَمَاثِيلُ لَا يُكْرَهُ، وَلَيْسَتْ كَتَمَاثِيلَ فِي الثِّيَابِ؛ لِأَنَّهُ صَغِيرٌ.وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمُ اسْتَعْمَلُوا الصُّوَرَ فِي الْخَوَاتِمِ، فَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ- رضي الله عنه- رَجُلًا مُتَقَلِّدًا سَيْفًا، وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِ حُذَيْفَةَ- رضي الله عنه- كُرْكِيَّيْنِ، وَكَانَ عَلَى خَاتَمِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ- رضي الله عنه- أَيَّلٌ.

وَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الصُّوَرِ الصَّغِيرَةِ عَنِ الصُّوَرِ الْكَبِيرَةِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ.إِلاَّ أَنَّ الصُّوَرَ الَّتِي عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ جَائِزَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا لِصِغَرِهَا، وَلَكِنْ لِأَنَّهَا مُمْتَهَنَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ.وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لُبْسُ الْخَاتَمِ الَّذِي فِيهِ الصُّورَةُ.

النَّظَرُ إِلَى الصُّوَرِ:

58- يَحْرُمُ التَّفَرُّجُ عَلَى الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.لَكِنْ إِذَا كَانَتْ مُبَاحَةَ الِاسْتِعْمَالِ- كَمَا لَوْ كَانَتْ مَقْطُوعَةً أَوْ مُهَانَةً- فَلَا يَحْرُمُ التَّفَرُّجُ عَلَيْهَا.

قَالَ الدَّرْدِيرُ فِي تَعْلِيلِ تَحْرِيمِ النَّظَرِ: لِأَنَّ النَّظَرَ إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ.

وَلَا يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَى الصُّورَةِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ صُوَرٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّ النَّصَارَى صَنَعُوا لِعُمَرَ- رضي الله عنه- حِينَ قَدِمَ الشَّامَ طَعَامًا فَدَعَوْهُ، فَقَالَ: أَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي الْكَنِيسَةِ.فَأَبَى أَنْ يَذْهَبَ: وَقَالَ لِعَلِيٍّ- رضي الله عنه-: امْضِ بِالنَّاسِ فَلْيَتَغَدَّوْا.فَذَهَبَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- بِالنَّاسِ فَدَخَلَ الْكَنِيسَةَ، وَتَغَدَّى هُوَ وَالنَّاسُ، وَجَعَلَ عَلِيٌّ يَنْظُرُ إِلَى الصُّوَرِ، وَقَالَ: مَا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ دَخَلَ فَأَكَلَ.

وَلَمْ نَجِدْ نَصًّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ.لَكِنْ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: هَلْ يَحْرُمُ النَّظَرُ بِشَهْوَةٍ إِلَى الصُّورَةِ الْمَنْقُوشَةِ؟ مَحَلُّ تَرَدُّدٍ، وَلَمْ أَرَهُ، فَلْيُرَاجَعْ.

فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَعَ عَدَمِ الشَّهْوَةِ لَا يَحْرُمُ.

عَلَى أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ دُونَ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا نَظَرَ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ بِشَهْوَةٍ، فَإِنَّهَا تَنْشَأُ بِذَلِكَ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ؛ لَكِنْ لَوْ نَظَرَ إِلَى صُورَةِ الْفَرْجِ فِي الْمِرْآةِ فَلَا تَنْشَأُ تِلْكَ الْحُرْمَةُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَدْ رَأَى عَكْسَهُ لَا عَيْنَهُ.فَفِي النَّظَرِ إِلَى الصُّورَةِ الْمَنْقُوشَةِ لَا تَنْشَأُ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى.

59- وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَحْرُمُ النَّظَرُ- وَلَوْ بِشَهْوَةٍ- فِي الْمَاءِ أَوِ الْمِرْآةِ.قَالُوا: لِأَنَّ هَذَا مُجَرَّدُ خَيَالِ امْرَأَةٍ وَلَيْسَ امْرَأَةً.وَقَالَ الشَّيْخُ الْبَاجُورِيُّ: يَجُوزُ التَّفَرُّجُ عَلَى صُوَرِ حَيَوَانٍ غَيْرِ مَرْفُوعَةٍ.أَوْ عَلَى هَيْئَةٍ لَا تَعِيشُ مَعَهَا، كَأَنْ كَانَتْ مَقْطُوعَةَ الرَّأْسِ أَوِ الْوَسَطِ، أَوْ مُخَرَّقَةَ الْبُطُونِ.قَالَ: وَمِنْهُ يُعْلَمُ جَوَازُ التَّفَرُّجِ عَلَى خَيَالِ الظِّلِّ الْمَعْرُوفِ؛ لِأَنَّهَا شُخُوصٌ مُخَرَّقَةُ الْبُطُونِ.

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ، يَجِيءُ بِكَ الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، فَقَالَ لِي: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَكَشَفْتُ عَنْ وَجْهِكِ الثَّوْبَ، فَإِذَا أَنْتِ هِيَ» قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: عِنْدَ الْآجُرِّيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ: «لَقَدْ نَزَلَ جِبْرِيلُ بِصُورَتِي فِي رَاحَتِهِ حِينَ أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَتَزَوَّجَنِي» فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرُ الرَّجُلِ إِلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا، مَا لَمْ تَكُنِ الصُّورَةُ مُحَرَّمَةً، عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّفْصِيلِ وَالْخِلَافِ.وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الدُّخُولُ إِلَى مَكَان فِيهِ صُوَرٌ:

60- يَجُوزُ الدُّخُولُ إِلَى مَكَان يَعْلَمُ الدَّاخِلُ إِلَيْهِ أَنَّ فِيهِ صُوَرًا مَنْصُوبَةً عَلَى وَضْعٍ مُحَرَّمٍ، وَلَوْ كَانَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَوْ دَخَلَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ.

هَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ.قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ عَنْهُ، لِمَنْ سَأَلَهُ قَائِلًا: إِنْ لَمْ يَرَ الصُّوَرَ إِلاَّ عِنْدَ وَضْعِ الْخِوَانِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ.أَيَخْرُجُ؟ قَالَ: لَا تُضَيِّقْ عَلَيْنَا.إِذَا رَأَى الصُّوَرَ وَبَّخَهُمْ وَنَهَاهُمْ.يَعْنِي: وَلَا يَخْرُجُ.قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ فِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيْنِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.وَقَطَعَ بِهِ فِي الْمُغْنِي، قَالَ: لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ الْكَعْبَةَ فَرَأَى فِيهَا صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ يَسْتَقْسِمَانِ بِالْأَزْلَامِ، فَقَالَ: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا قَطُّ» قَالُوا: وَلِأَنَّهُ كَانَ فِي شُرُوطِ عُمَرَ- رضي الله عنه- عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يُوَسِّعُوا أَبْوَابَ كَنَائِسِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ، لِيَدْخُلُوهَا لِلْمَبِيتِ بِهَا، وَلِلْمَارَّةِ بِدَوَابِّهِمْ.وَذَكَرُوا قِصَّةَ عَلِيٍّ فِي دُخُولِهَا بِالْمُسْلِمِينَ وَنَظَرِهِ إِلَى الصُّورَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.قَالُوا: وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ «أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ»؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَلَيْنَا تَحْرِيمَ دُخُولِهِ، كَمَا لَا يُوجِبُ عَلَيْنَا الِامْتِنَاعَ مِنْ دُخُولِ بَيْتٍ فِيهِ كَلْبٌ أَوْ جُنُبٌ أَوْ حَائِضٌ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُهُ.

61- وَمِثْلُ هَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الصُّوَرِ الْمُجَسَّمَةِ الَّتِي لَيْسَتْ عَلَى وَضْعٍ مُحَرَّمٍ عِنْدَهُمْ، أَوْ غَيْرِ الْمُجَسَّمَةِ.أَمَّا الْمُحَرَّمَةُ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ وُجُوبَ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ عَلَى مَا يَأْتِي.وَلَمْ نَجِدْ فِي كَلَامِهِمْ مَا يُبَيِّنُ حُكْمَ الدُّخُولِ إِلَى مَكَان هِيَ فِيهِ.

62- وَاخْتَلَفَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ- وَهُوَ الْقَوْلُ الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- أَنَّهُ يَحْرُمُ الدُّخُولُ إِلَى مَكَان فِيهِ صُوَرٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى وَضْعٍ مُحَرَّمٍ.قَالُوا: لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ.قَالَ الشَّافِعِيُّ- رحمه الله-: إِنْ رَأَى صُوَرًا فِي الْمَوْضِعِ ذَوَاتَ أَرْوَاحٍ لَمْ يَدْخُلِ الْمَنْزِلَ الَّذِي فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرُ إِنْ كَانَتْ مَنْصُوبَةً لَا تُوطَأُ، فَإِنْ كَانَتْ تُوطَأُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْخُلَهُ.وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ: عَدَمُ تَحْرِيمِ الدُّخُولِ، بَلْ يُكْرَهُ.وَهُوَ قَوْلُ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ وَالصَّيْدَلَانِيِّ، وَالْإِمَامِ، وَالْغَزَالِيِّ فِي الْوَسِيطِ، وَالْإِسْنَوِيِّ.

قَالُوا: وَهَذَا إِنْ كَانَتِ الصُّوَرُ فِي مَحَلِّ الْجُلُوسِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَمَرِّ أَوْ خَارِجَ بَابِ الْجُلُوسِ لَا يُكْرَهُ الدُّخُولُ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ كَالْخَارِجَةِ مِنَ الْمَنْزِلِ.وَقِيلَ: لِأَنَّهَا فِي الْمَمَرِّ مُمْتَهَنَةٌ.

إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ إِلَى مَكَانٍ فِيهِ صُوَرٌ:

63- إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ- وَهِيَ طَعَامُ الْعُرْسِ- وَاجِبَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِحَدِيثِ «مَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» وَقِيلَ هِيَ: سُنَّةٌ.وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ لِغَيْرِهَا مُسْتَحَبَّةٌ.

وَفِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إِذَا كَانَ فِي الْمَكَانِ صُوَرٌ عَلَى وَضْعٍ مُحَرَّمٍ- وَمِثْلُهَا أَيُّ مُنْكَرٍ ظَاهِرٍ- وَعَلِمَ بِذَلِكَ الْمَدْعُوُّ قَبْلَ مَجِيئِهِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِجَابَةَ لَا تَكُونُ وَاجِبَةً؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَ يَكُونُ قَدْ أَسْقَطَ حُرْمَةَ نَفْسِهِ بِارْتِكَابِهِ الْمُنْكَرَ، فَتُتْرَكُ الْإِجَابَةُ عُقُوبَةً لَهُ وَزَجْرًا عَنْ فِعْلِهِ.وَقَالَ الْبَعْضُ- كَالشَّافِعِيَّةِ-: تَحْرُمُ الْإِجَابَةُ حِينَئِذٍ.

ثُمَّ قِيلَ: إِنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهَا بِحُضُورِهِ تُزَالُ، أَوْ يُمْكِنُهُ إِزَالَتُهَا، فَيَجِبُ الْحُضُورُ لِذَلِكَ.

وَفِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ تَحْتَ عِنْوَانِ (دَعْوَةٌ)

مَا يُصْنَعُ بِالصُّورَةِ الْمُحَرَّمَةِ إِذَا كَانَتْ فِي شَيْءٍ يُنْتَفَعُ بِهِ:

64- يَنْبَغِي إِخْرَاجُ الصُّورَةِ عَنْ وَضْعِهَا الْمُحَرَّمِ إِلَى وَضْعٍ تَخْرُجُ فِيهِ عَنِ الْحُرْمَةِ، وَلَا يَلْزَمُ إِتْلَافُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ يَكْفِي حَطُّهَا إِنْ كَانَتْ مَنْصُوبَةً.فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ بَقَائِهَا فِي مَكَانِهَا، فَيَكْفِي قَطْعُ الرَّأْسِ عَنِ الْبَدَنِ، أَوْ خَرْقُ الصَّدْرِ أَوِ الْبَطْنِ، أَوْ حَكُّ الْوَجْهِ مِنَ الْجِدَارِ، أَوْ مَحْوُهُ أَوْ طَمْسُهُ بِطِلَاءٍ يُذْهِبُ مَعَالِمَهُ، أَوْ يَغْسِلُ الصُّورَةَ إِنْ كَانَتْ مِمَّا يُمْكِنُ غَسْلُهُ.وَإِنْ كَانَتْ فِي ثَوْبٍ مُعَلَّقٍ أَوْ سَتْرٍ مَنْصُوبٍ، فَيَكْفِي أَنْ يَنْسِجَ عَلَيْهَا مَا يُغَطِّي رَأْسَهَا.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ أَنَّهُ قَطَعَ الرَّأْسَ عَنِ الْجَسَدِ بِخَيْطٍ- مَعَ بَقَاءِ الرَّأْسِ عَلَى حَالِهِ- فَلَا يَنْفِي الْكَرَاهَةَ؛ لِأَنَّ مِنَ الطُّيُورِ مَا هُوَ مُطَوَّقٌ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الْقَطْعُ بِذَلِكَ.

65- وَالدَّلِيلُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- بَعَثَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُسَوِّيَ كُلَّ قَبْرٍ، وَيَكْسِرَ كُلَّ صَنَمٍ، وَيَطْمِسَ كُلَّ صُورَةٍ».

وَفِي رِوَايَاتِ مُسْنَدِ أَحْمَدَ لِلْحَدِيثِ وَرَدَتِ الْعِبَارَاتُ الْآتِيَةُ: أَنْ يُلَطِّخَ الصُّورَةَ، أَوْ أَنْ يُلَطِّخَهَا، أَوْ يَنْحِتَهَا، أَوْ يَضَعَهَا، وَرِوَايَةُ الْوَضْعِ صَحِيحَةٌ.وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ كَسْرُ الصُّورَةِ أَوْ إِتْلَافُهَا كَمَا نَصَّ عَلَى كَسْرِ الْأَصْنَامِ.وَمِنَ الدَّلِيلِ أَيْضًا حَدِيثُ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- فِي شَأْنِ السِّتْرِ الَّذِي فِيهِ الصُّوَرُ، وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ: «أَخِّرِيهِ عَنِّي»، وَفِي رِوَايَةٍ «أَنَّهُ هَتَكَهُ بِيَدِهِ»، وَفِي أُخْرَى «أَنَّهُ أَمَرَ بِجَعْلِهِ وَسَائِدَ».

الصُّوَرُ وَالْمُصَلِّي:

66- اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى وَفِي قِبْلَتِهِ صُورَةُ حَيَوَانٍ مُحَرَّمَةٌ فَقَدْ فَعَلَ مَكْرُوهًا؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ سُجُودَ الْكُفَّارِ لِأَصْنَامِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ التَّشَبُّهَ.أَمَّا إِنْ كَانَتِ الصُّورَةُ فِي غَيْرِ الْقِبْلَةِ: كَأَنْ كَانَتْ فِي الْبِسَاطِ، أَوْ عَلَى جَانِبِ الْمُصَلِّي فِي الْجِدَارِ، أَوْ خَلْفَهُ، أَوْ فَوْقَ رَأْسِهِ فِي السَّقْفِ، فَقَدِ اخْتَلَفَتْ كَلِمَتُهُمْ فِي ذَلِكَ.

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ- كَمَا فِي الدُّرِّ وَحَاشِيَةِ الطَّحْطَاوِيِّ- يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي لُبْسُ ثَوْبٍ فِيهِ تَمَاثِيلُ ذِي رُوحٍ، وَأَنْ يَكُونَ فَوْقَ رَأْسِهِ، أَوْ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ بِحِذَائِهِ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً، أَوْ مَحَلَّ سُجُودِهِ تِمْثَالٌ.وَاخْتُلِفَ فِيمَا إِذَا كَانَ التِّمْثَالُ خَلْفَهُ.وَالْأَظْهَرُ: الْكَرَاهَةُ.وَلَا يُكْرَهُ لَوْ كَانَتْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ أَوْ مَحَلَّ جُلُوسِهِ إِنْ كَانَ لَا يَسْجُدُ عَلَيْهَا، أَوْ فِي يَدِهِ، أَوْ كَانَتْ مُسْتَتِرَةً بِكِيسٍ أَوْ صُرَّةٍ أَوْ ثَوْبٍ، أَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ لَا تُعْبَدُ، فَلَيْسَ لَهَا حُكْمُ الْوَثَنِ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ- كَمَا فِي أَسْنَى الْمَطَالِبِ- عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبًا فِيهِ تَصْوِيرٌ، وَأَنْ يُصَلِّيَ إِلَيْهِ أَوْ عَلَيْهِ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ إِلَى صُورَةٍ مَنْصُوبَةٍ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ.قَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَتِ الصُّورَةُ صَغِيرَةً لَا تَبْدُو لِلنَّاظِرِ إِلَيْهَا، وَلَا تُكْرَهُ إِلَى غَيْرِ مَنْصُوبَةٍ، وَلَا يُكْرَهُ سُجُودٌ وَلَوْ عَلَى صُورَةٍ، وَلَا صُورَةَ خَلْفَهُ فِي الْبَيْتِ، وَلَا فَوْقَ رَأْسِهِ فِي السَّقْفِ أَوْ عَنْ أَحَدِ جَانِبَيْهِ.وَأَمَّا السُّجُودُ عَلَى الصُّورَةِ فَيُكْرَهُ عِنْدَ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ يَعْنِي ابْنَ تَيْمِيَّةَ، وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ: لَا يُكْرَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ صَلَّى إِلَيْهَا.وَيُكْرَهُ حَمْلُهُ فَصًّا فِيهِ صُورَةٌ أَوْ حَمْلُهُ ثَوْبًا وَنَحْوَهُ كَدِينَارٍ أَوْ دِرْهَمٍ فِيهِ صُورَةٌ.

وَلَمْ نَجِدْ لِلْمَالِكِيَّةِ تَعَرُّضًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا تَزْوِيقَ قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ أَوْ أَيِّ جُزْءٍ مِنْهُ كَمَا يَأْتِي بَعْدَ هَذَا.

الصُّوَرُ فِي الْكَعْبَةِ وَالْمَسَاجِدِ وَأَمَاكِنِ الْعِبَادَةِ:

67- يَنْبَغِي تَنْزِيهُ أَمَاكِنِ الْعِبَادَةِ عَنْ وُجُودِ الصُّوَرِ فِيهَا، لِئَلاَّ يَئُولَ الْأَمْرُ إِلَى عِبَادَتِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَصْلَ عِبَادَةِ قَوْمِ نُوحٍ لِأَصْنَامِهِمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا رِجَالًا صَالِحِينَ، فَلَمَّا مَاتُوا صَوَّرُوهُمْ ثُمَّ عَبَدُوهُمْ.وَأَيْضًا فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَقُولُ بِكَرَاهَةِ الصَّلَاةِ مَعَ وُجُودِ الصُّورَةِ، وَلَوْ كَانَتْ إِلَى جَانِبِ الْمُصَلِّي أَوْ خَلْفَهُ أَوْ فِي مَكَانِ سُجُودِهِ.وَالْمَسَاجِدُ تُجَنَّبُ الْمَكْرُوهَاتِ كَمَا تُجَنَّبُ الْمُحَرَّمَاتِ.

68- وَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ الْكَعْبَةَ فَوَجَدَ فِيهَا صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَصُورَةَ مَرْيَمَ- عليهما السلام- فَقَالَ: أَمَّا هُمْ فَقَدْ سَمِعُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ، هَذَا إِبْرَاهِيمُ مُصَوَّرٌ فَمَا لَهُ يَسْتَقْسِمُ» وَفِي رِوَايَةٍ «أَنَّهُ لَمَّا رَأَى الصُّوَرَ فِي الْبَيْتِ لَمْ يَدْخُلْ حَتَّى أَمَرَ بِهَا فَمُحِيَتْ، وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ- عليهما السلام- بِأَيْدِيهِمَا الْأَزْلَامُ.فَقَالَ: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، وَاللَّهِ إِنِ اسْتَقْسَمَا بِالْأَزْلَامِ قَطُّ».

وَوَرَدَ «أَنَّ النَّبِيَّ أَمَرَ بِالصُّوَرِ كُلِّهَا فَمُحِيَتْ، فَلَمْ يَدْخُلِ الْكَعْبَةَ وَفِيهَا مِنَ الصُّوَرِ شَيْءٌ».

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا اشْتَكَى ذَكَرَ بَعْضُ نِسَائِهِ كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يُقَالُ لَهَا مَارِيَةَ، وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ أَتَتَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ، فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: أُولَئِكَ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ» فَهَذَا يُفِيدُ تَحْرِيمَ الصُّوَرِ فِي الْمَسَاجِدِ.وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الصُّوَرُ فِي الْكَنَائِسِ وَالْمَعَابِدِ غَيْرِ الْإِسْلَامِيَّةِ:

69- الْكَنَائِسُ وَالْمَعَابِدُ الَّتِي أُقِرَّتْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِالصُّلْحِ لَا يُتَعَرَّضُ لِمَا فِيهَا مِنَ الصُّوَرِ مَا دَامَتْ فِي الدَّاخِلِ.

وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ دُخُولِ الْمُسْلِمِ الْكَنِيسَةَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.وَتَقَدَّمَ مَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي أَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- دَخَلَ الْكَنِيسَةَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَأَخَذَ يَتَفَرَّجُ عَلَى الصُّوَرِ.وَأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يُوَسِّعُوا أَبْوَابَ كَنَائِسِهِمْ، لِيَدْخُلَهَا الْمُسْلِمُونَ وَالْمَارَّةُ.

وَلِذَا قَالَ الْحَنَابِلَةُ: لِلْمُسْلِمِ دُخُولُ الْكَنِيسَةِ وَالْبِيَعَةِ، وَالصَّلَاةُ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ.

وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ: يُكْرَهُ دُخُولُهَا لِأَنَّهَا مَأْوَى الشَّيَاطِينِ.

وَقَالَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ: يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَدْخُلَ الْكَنِيسَةَ الَّتِي فِيهَا صُوَرٌ مُعَلَّقَةٌ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


231-موسوعة الفقه الكويتية (تطبيب)

تَطْبِيبٌ

التَّعْرِيفُ:

1- لِلتَّطْبِيبِ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ، مِنْهَا وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا: أَنَّهُ الْمُدَاوَاةُ.

يُقَالُ: طَبَّبَ فُلَانٌ فُلَانًا: أَيْ دَاوَاهُ.وَجَاءَ يَسْتَطِبُّ لِوَجَعِهِ: أَيْ يَسْتَوْصِفُ الْأَدْوِيَةَ أَيُّهَا يَصْلُحُ لِدَائِهِ.

وَالطِّبُّ: عِلَاجُ الْجِسْمِ وَالنَّفْسِ، وَرَجُلٌ طَبٌّ وَطَبِيبٌ: عَالِمٌ بِالطِّبِّ.

وَالطَّبُّ.وَالطُّبُّ: لُغَتَانِ فِي الطِّبِّ.وَتَطَبَّبَ لَهُ: سَأَلَ لَهُ الْأَطِبَّاءَ.

وَالطَّبِيبُ فِي الْأَصْلِ: الْحَاذِقُ بِالْأُمُورِ الْعَارِفُ بِهَا، وَبِهِ سُمِّيَ الطَّبِيبُ الَّذِي يُعَالِجُ الْمَرْضَى وَنَحْوَهُمْ

وَلَا يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الِاصْطِلَاحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّدَاوِي:

2- التَّدَاوِي: تَعَاطِي الدَّوَاءِ، وَمِنْهُ الْمُدَاوَاةُ أَيِ الْمُعَالَجَةُ: يُقَالُ: فُلَانٌ يُدَاوَى: أَيْ يُعَالَجُ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّطْبِيبِ وَالتَّدَاوِي: أَنَّ التَّطْبِيبَ تَشْخِيصُ الدَّاءِ وَمُدَاوَاةُ الْمَرِيضِ، وَالتَّدَاوِي تَعَاطِي الدَّوَاءِ.

حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:

3- التَّطْبِيبُ تَعَلُّمًا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فَيَجِبُ أَنْ يَتَوَفَّرَ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْرِفُ أُصُولَ حِرْفَةِ الطِّبِّ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (احْتِرَافٌ).

أَمَّا التَّطْبِيبُ مُزَاوَلَةً فَالْأَصْلُ فِيهِ الْإِبَاحَةُ.وَقَدْ يَصِيرُ مَنْدُوبًا إِذَا اقْتَرَنَ بِنِيَّةِ التَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي تَوْجِيهِهِ لِتَطْبِيبِ النَّاسِ، أَوْ نَوَى نَفْعَ الْمُسْلِمِينَ لِدُخُولِهِ فِي مِثْلِ قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} وَحَدِيثُ: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ».

إِلاَّ إِذَا تَعَيَّنَ شَخْصٌ لِعَدَمِ وُجُودِ غَيْرِهِ أَوْ تَعَاقَدَ فَتَكُونُ مُزَاوَلَتُهُ وَاجِبَةً.

وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا رَوَى «رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ: عَادَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- رَجُلًا بِهِ جُرْحٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: ادْعُوا لَهُ طَبِيبَ بَنِي فُلَانٍ.قَالَ: فَدَعَوْهُ فَجَاءَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَيُغْنِي الدَّوَاءُ شَيْئًا؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ.وَهَلْ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ دَاءٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ جَعَلَ لَهُ شِفَاءً».

وَعَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الرُّقَى.فَجَاءَ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنَ الْعَقْرَبِ، وَإِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى.قَالَ: فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ.فَقَالَ: مَا أَرَى بِهَا بَأْسًا، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ».

وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا شِرْكٌ».

وَلِمَا ثَبَتَ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ تَدَاوَى، فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ أَنَّ عُرْوَةَ كَانَ يَقُولُ لِعَائِشَةَ- رضي الله عنها-: يَا أُمَّتَاهُ، لَا أَعْجَبُ مِنْ فَهْمِكِ.أَقُولُ: زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ.وَلَا أَعْجَبُ مِنْ عِلْمِكِ بِالشِّعْرِ وَأَيَّامِ النَّاسِ، أَقُولُ: ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ أَوْ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ.وَلَكِنْ أَعْجَبُ مِنْ عِلْمِكِ بِالطِّبِّ، كَيْفَ هُوَ؟ وَمِنْ أَيْنَ هُوَ؟ قَالَ فَضَرَبَتْ عَلَى مَنْكِبِهِ وَقَالَتْ: «أَيْ عُرَيَّةُ؟ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَسْقَمُ عِنْدَ آخِرِ عُمْرِهِ، أَوْ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، فَكَانَتْ تَقْدَمُ عَلَيْهِ وُفُودُ الْعَرَبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَتَنْعَتُ لَهُ الْأَنْعَاتَ، وَكُنْتُ أُعَالِجُهَا، فَمِنْ ثَمَّ».وَفِي رِوَايَةٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَثُرَتْ أَسَقَامُهُ، فَكَانَ يَقْدَمُ عَلَيْهِ أَطِبَّاءُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَيَصِفُونَ لَهُ فَنُعَالِجُهُ».

وَقَالَ الرَّبِيعُ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: الْعِلْمُ عِلْمَانِ: عِلْمُ الْأَدْيَانِ وَعِلْمُ الْأَبْدَانِ.

نَظَرُ الطَّبِيبِ إِلَى الْعَوْرَةِ:

4- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ نَظَرِ الطَّبِيبِ إِلَى الْعَوْرَةِ وَلَمْسِهَا لِلتَّدَاوِي.وَيَكُونُ نَظَرُهُ إِلَى مَوْضِعِ الْمَرَضِ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ.إِذِ الضَّرُورَاتُ تُقَدَّمُ بِقَدْرِهَا.فَلَا يَكْشِفُ إِلاَّ مَوْضِعَ الْحَاجَةِ، مَعَ غَضِّ بَصَرِهِ مَا اسْتَطَاعَ إِلاَّ عَنْ مَوْضِعِ الدَّاءِ.وَيَنْبَغِي قَبْلَ ذَلِكَ أَنْ يُعَلِّمَ امْرَأَةً تَدَاوِي النِّسَاءَ، لِأَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ إِلَى الْجِنْسِ أَخَفُّ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّهُ إِذَا كَانَ الطَّبِيبُ أَجْنَبِيًّا عَنِ الْمَرِيضَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ مَا يُؤْمَنُ مَعَهُ وُقُوعُ مَحْظُورٍ.لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَلَا لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ».

وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ وُجُودِ امْرَأَةٍ تُحْسِنُ التَّطْبِيبَ إِذَا كَانَ الْمَرِيضُ امْرَأَةً، وَلَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ الْمُدَاوِيَةُ كَافِرَةً، وَعُدِمَ وُجُودُ رَجُلٍ يُحْسِنُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَرِيضُ رَجُلًا.

كَمَا شَرَطُوا أَنْ لَا يَكُونَ غَيْرَ أَمِينٍ مَعَ وُجُودِ أَمِينٍ، وَلَا ذِمِّيًّا مَعَ وُجُودِ مُسْلِمٍ، أَوْ ذِمِّيَّةً مَعَ وُجُودِ مُسْلِمَةٍ.

قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: يُقَدَّمُ فِي عِلَاجِ الْمَرْأَةِ مُسْلِمَةٌ، فَصَبِيٌّ مُسْلِمٌ غَيْرُ مُرَاهِقٍ، فَمُرَاهِقٌ، فَكَافِرٌ غَيْرُ مُرَاهِقٍ، فَمُرَاهِقٌ، فَامْرَأَةٌ كَافِرَةٌ، فَمَحْرَمٌ مُسْلِمٌ، فَمَحْرَمٌ كَافِرٌ، فَأَجْنَبِيٌّ مُسْلِمٌ، فَكَافِرٌ.

وَاعْتَرَضَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيُّ عَلَى تَقْدِيمِ الْكَافِرَةِ عَلَى الْمَحْرَمِ.وَقَالَ: وَالَّذِي يُتَّجَهُ تَقْدِيمُ نَحْوِ مَحْرَمٍ مُطْلَقًا عَلَى كَافِرَةٍ، لِنَظَرِهِ مَا لَا تَنْظُرُ هِيَ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ كَذَلِكَ عَلَى تَقْدِيمِ الْأَمْهَرِ مُطْلَقًا وَلَوْ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ وَالدِّينِ عَلَى غَيْرِهِ.

وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إِنْ وُجِدَ مَنْ لَا يَرْضَى إِلاَّ بِأَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَالْعَدَمِ حِينَئِذٍ حَتَّى لَوْ وُجِدَ كَافِرٌ يَرْضَى بِدُونِهَا وَمُسْلِمٌ لَا يَرْضَى إِلاَّ بِهَا احْتَمَلَ أَنَّ الْمُسْلِمَ كَالْعَدَمِ.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى فَرْجِ الْمَرْأَةِ إِلاَّ إِذَا كَانَ لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ إِلاَّ بِرُؤْيَتِهِ بِنَفْسِهِ.أَمَّا لَوْ كَانَ الطَّبِيبُ يَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ النِّسَاءِ لِفَرْجِ الْمَرِيضَةِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ.

اسْتِئْجَارُ الطَّبِيبِ لِلْعِلَاجِ:

5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ اسْتِئْجَارِ الطَّبِيبِ لِلْعِلَاجِ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ وَمَأْذُونٌ فِيهِ شَرْعًا، فَجَازَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ الْمُبَاحَةِ.غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ شَرَطُوا لِصِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ الطَّبِيبُ مَاهِرًا، بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ خَطَؤُهُ نَادِرًا، وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ التَّجْرِبَةُ عِنْدَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَاهِرًا فِي الْعِلْمِ.

وَاسْتِئْجَارُ الطَّبِيبِ يُقَدَّرُ بِالْمُدَّةِ لَا بِالْبُرْءِ وَالْعَمَلِ، فَإِنْ تَمَّتِ الْمُدَّةُ وَبَرِئَ الْمَرِيضُ أَوْ لَمْ يَبْرَأْ فَلَهُ الْأُجْرَةُ كُلُّهَا.وَإِنْ بَرِئَ قَبْلَ تَمَامِ الْمُدَّةِ انْفَسَخَتِ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ مَاتَ الْمَرِيضُ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ.

وَقَدْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الدَّوَاءِ عَلَى الطَّبِيبِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِمَا فِيهِ مِنِ اجْتِمَاعِ الْجُعْلِ وَالْبَيْعِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ بِالْجَوَازِ.

وَالطَّبِيبُ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِتَسْلِيمِهِ نَفْسَهُ مَعَ مُضِيِّ زَمَنِ إِمْكَانِ الْمُدَاوَاةِ، فَإِنِ امْتَنَعَ الْمَرِيضُ مِنَ الْعِلَاجِ مَعَ بَقَاءِ الْمَرَضِ اسْتَحَقَّ الطَّبِيبُ الْأَجْرَ، مَا دَامَ قَدْ سَلَّمَ نَفْسَهُ، وَمَضَى زَمَنُ الْمُدَاوَاةِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ وَقَدْ بَذَلَ الطَّبِيبُ مَا عَلَيْهِ.

وَأَمَّا إِذَا سَلَّمَ الطَّبِيبُ نَفْسَهُ وَقَبْلَ مُضِيِّ زَمَنِ إِمْكَانِ الْمُدَاوَاةِ سَكَنَ الْمَرَضُ، فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ) مُتَّفِقُونَ عَلَى انْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ حِينَئِذٍ.

6- وَلَا تَجُوزُ مُشَارَطَةُ الطَّبِيبِ عَلَى الْبُرْءِ.وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُوسَى الْجَوَازَ، إِذْ قَالَ: لَا بَأْسَ بِمُشَارَطَةِ الطَّبِيبِ عَلَى الْبُرْءِ، لِأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ- رضي الله عنه- حِينَ رَقَى الرَّجُلَ شَارَطَهُ عَلَى الْبُرْءِ.وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَكِنْ يَكُونُ جَعَالَةً لَا إِجَارَةً، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ مُدَّةٍ أَوْ عَمَلٍ مَعْلُومٍ.

وَأَجَازَ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا، فَفِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: لَوْ شَارَطَهُ طَبِيبٌ عَلَى الْبُرْءِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ إِلاَّ بِحُصُولِهِ.وَسَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَارَةٌ).

وَإِذَا زَالَ الْأَلَمُ وَشُفِيَ الْمَرِيضُ قَبْلَ مُبَاشَرَةِ الطَّبِيبِ كَانَ عُذْرًا تَنْفَسِخُ بِهِ الْإِجَارَةُ.

يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا سَكَنَ الضِّرْسُ الَّذِي اسْتُؤْجِرَ الطَّبِيبُ لِخَلْعِهِ، فَهَذَا عُذْرٌ تَنْفَسِخُ بِهِ الْإِجَارَةُ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ، حَتَّى مَنْ لَمْ يَعْتَبِرِ الْعُذْرَ مُوجِبًا لِلْفَسْخِ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَقْلَعَ لَهُ ضِرْسًا فَسَكَنَ الْوَجَعُ، أَوْ لِيُكَحِّلَ لَهُ عَيْنًا فَبَرِئَتْ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ بِالْعَمَلِ، انْفَسَخَ الْعَقْدُ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.

ضَمَانُ الطَّبِيبِ لِمَا يُتْلِفُهُ:

7- يَضْمَنُ الطَّبِيبُ إِنْ جَهِلَ قَوَاعِدَ الطِّبِّ أَوْ

كَانَ غَيْرَ حَاذِقٍ فِيهَا، فَدَاوَى مَرِيضًا وَأَتْلَفَهُ بِمُدَاوَاتِهِ، أَوْ أَحْدَثَ بِهِ عَيْبًا.أَوْ عُلِّمَ قَوَاعِدَ التَّطْبِيبِ وَقَصَّرَ فِي تَطْبِيبِهِ، فَسَرَى التَّلَفُ أَوِ التَّعْيِيبُ.أَوْ عُلِّمَ قَوَاعِدَ التَّطْبِيبِ وَلَمْ يُقَصِّرْ وَلَكِنَّهُ طَبَّبَ الْمَرِيضَ بِلَا إِذْنٍ مِنْهُ.كَمَا لَوْ خَتَنَ صَغِيرًا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ، أَوْ كَبِيرًا قَهْرًا عَنْهُ، أَوْ وَهُوَ نَائِمٌ، أَوْ أَطْعَمَ مَرِيضًا دَوَاءً قَهْرًا عَنْهُ فَنَشَأَ عَنْ ذَلِكَ تَلَفٌ وَعَيْبٌ، أَوْ طَبَّبَ بِإِذْنٍ غَيْرِ مُعْتَبَرٍ لِكَوْنِهِ مِنْ صَبِيٍّ، إِذَا كَانَ الْإِذْنُ فِي قَطْعِ يَدٍ مَثَلًا، أَوْ بِعَضُدٍ أَوْ حِجَامَةٍ أَوْ خِتَانٍ، فَأَدَّى إِلَى تَلَفٍ أَوْ عَيْبٍ، فَإِنَّهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يَضْمَنُ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ.

أَمَّا إِذَا أُذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ الْإِذْنُ مُعْتَبَرًا، وَكَانَ حَاذِقًا، وَلَمْ تَجْنِ يَدُهُ، وَلَمْ يَتَجَاوَزْ مَا أُذِنَ فِيهِ، وَسَرَى إِلَيْهِ التَّلَفُ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ فِعْلًا مُبَاحًا مَأْذُونًا فِيهِ.وَلِأَنَّ مَا يَتْلَفُ بِالسِّرَايَةِ إِنْ كَانَ بِسَبَبٍ مَأْذُونٍ فِيهِ- دُونَ جَهْلٍ أَوْ تَقْصِيرٍ- فَلَا ضَمَانَ.وَعَلَى هَذَا فَلَا ضَمَانَ عَلَى طَبِيبٍ وَبَزَّاغٍ (جَرَّاحٍ) وَحَجَّامٍ وَخَتَّانٍ مَا دَامَ قَدْ أُذِنَ لَهُمْ بِهَذَا وَلَمْ يُقَصِّرُوا، وَلَمْ يُجَاوِزُوا الْمَوْضِعَ الْمُعْتَادَ، وَإِلاَّ لَزِمَ الضَّمَانُ.

يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا فَعَلَ الْحَجَّامُ وَالْخَتَّانُ وَالْمُطَبِّبُ مَا أُمِرُوا بِهِ، لَمْ يَضْمَنُوا بِشَرْطَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا ذَوِي حِذْقٍ فِي صِنَاعَتِهِمْ، فَإِذَا لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ كَانَ فِعْلًا مُحَرَّمًا، فَيَضْمَنُ سِرَايَتَهُ.

الثَّانِي: أَلاَّ يَتَجَاوَزَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ، فَإِنْ كَانَ حَاذِقًا وَتَجَاوَزَ، أَوْ قَطَعَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْقَطْعِ، أَوْ فِي وَقْتٍ لَا يَصْلُحُ فِيهِ الْقَطْعُ وَأَشْبَاهِ هَذَا، ضَمِنَ فِيهِ كُلَّهُ؛ لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ لَا يَخْتَلِفُ ضَمَانُهُ بِالْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، فَأَشْبَهَ إِتْلَافَ الْمَالِ.

وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْقَاطِعِ فِي الْقِصَاصِ وَقَاطِعِ يَدِ السَّارِقِ.ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: إِذَا خَتَنَ الْخَاتِنُ صَبِيًّا، أَوْ سَقَى الطَّبِيبُ مَرِيضًا دَوَاءً، أَوْ قَطَعَ لَهُ شَيْئًا، أَوْ كَوَاهُ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا فِي مَالِهِ وَلَا عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا فِيهِ تَغْرِيرٌ، فَكَأَنَّ صَاحِبَهُ هُوَ الَّذِي عَرَّضَهُ لِمَا أَصَابَهُ.وَهَذَا إِذَا كَانَ الْخَاتِنُ أَوِ الطَّبِيبُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، وَلَمْ يُخْطِئْ فِي فِعْلِهِ.فَإِذَا كَانَ أَخْطَأَ فِي فِعْلِهِ- وَالْحَالُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ- فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ عُوقِبَ وَفِي كَوْنِ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ أَوْ فِي مَالِهِ قَوْلَانِ:

الْأَوَّلُ: لِابْنِ الْقَاسِمِ.

وَالثَّانِي: لِمَالِكٍ.وَهُوَ الرَّاجِحُ لِأَنَّ فِعْلَهُ عَمْدٌ، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَحْمِلُ الْعَمْدَ.

وَفِي الْقُنْيَةِ: سُئِلَ مُحَمَّدُ نَجْمُ الدِّينِ عَنْ صَبِيَّةٍ سَقَطَتْ مِنْ سَطْحٍ، فَانْفَتَحَ رَأْسُهَا، فَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْجَرَّاحِينَ: إِنْ شَقَقْتُمْ رَأْسَهَا تَمُوتُ.وَقَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: إِنْ لَمْ تَشُقُّوهُ الْيَوْمَ تَمُوتُ، وَأَنَا أَشُقُّهُ وَأُبْرِئُهَا، فَشَقَّهُ فَمَاتَتْ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ.هَلْ يَضْمَنُ؟ فَتَأَمَّلَ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ: لَا، إِذَا كَانَ الشَّقُّ بِإِذْنٍ، وَكَانَ الشَّقُّ مُعْتَادًا، وَلَمْ يَكُنْ فَاحِشًا خَارِجَ الرَّسْمِ (أَيِ الْعَادَةِ).قِيلَ لَهُ: فَلَوْ قَالَ: إِنْ مَاتَتْ فَأَنَا ضَامِنٌ، هَلْ يَضْمَنُ؟ فَتَأَمَّلَ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ: لَا.فَلَمْ يُعْتَبَرْ شَرْطُ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ عَلَى الْأَمِينِ بَاطِلٌ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْفَتْوَى.

وَفِي مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ: مَنِ اسْتُؤْجِرَ عَلَى عَبْدٍ يَحْجُمُهُ، أَوْ عَلَى دَابَّةٍ يُبَزِّغُهَا، فَفَعَلَ ذَلِكَ فَعَطِبَا بِفِعْلِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعَمَلِ كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ، فَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ إِلاَّ إِذَا تَعَدَّى، فَحِينَئِذٍ يَضْمَنُ.

وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي يَدِهِ أَكِلَةٌ، فَاسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَقْطَعَ يَدَهُ فَمَاتَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.

وَمَنِ اسْتُؤْجِرَ لِيَقْلَعَ ضِرْسًا لِمَرِيضٍ، فَأَخْطَأَ، فَقَلَعَ غَيْرَ مَا أُمِرَ بِقَلْعِهِ ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنَايَتِهِ.

وَإِنْ أَخْطَأَ الطَّبِيبُ، بِأَنْ سَقَى الْمَرِيضَ دَوَاءً لَا يُوَافِقُ مَرَضَهُ، أَوْ زَلَّتْ يَدُ الْخَاتِنِ أَوِ الْقَاطِعِ فَتَجَاوَزَ فِي الْقَطْعِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَلَمْ يَغُرَّ مِنْ نَفْسِهِ فَذَلِكَ خَطَأٌ (أَيْ تَتَحَمَّلُهُ عَاقِلَتُهُ) إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ فَفِي مَالِهِ.وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ، أَوْ غُرَّ مِنْ نَفْسِهِ فَيُعَاقَبُ.وَمَنْ أَمَرَ خَتَّانًا لِيَخْتِنَ صَبِيًّا، فَفَعَلَ الْخَتَّانُ ذَلِكَ فَقَطَعَ حَشَفَتَهُ، وَمَاتَ الصَّبِيُّ مِنْ ذَلِكَ، فَعَلَى عَاقِلَةِ الْخَتَّانِ نِصْفُ دِيَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِفِعْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَأْذُونٌ فِيهِ، وَهُوَ قَطْعُ الْقُلْفَةِ.

وَالْآخَرُ: غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ، وَهُوَ قَطْعُ الْحَشَفَةِ، فَيَجِبُ نِصْفُ الضَّمَانِ.

أَمَّا إِذَا بَرِئَ، جُعِلَ قَطْعُ الْجِلْدَةِ- وَهُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ- كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَقَطْعُ الْحَشَفَةِ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ، فَوَجَبَ ضَمَانُ الْحَشَفَةِ كَامِلًا، وَهُوَ الدِّيَةُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


232-موسوعة الفقه الكويتية (تعارض 1)

تَعَارُضٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- التَّعَارُضُ فِي اللُّغَةِ: التَّقَابُلُ.أَصْلُهُ مِنَ الْعَرْضِ وَهُوَ الْمَنْعُ.يُقَالُ: لَا تَعْتَرِضْ لَهُ، أَيْ: لَا تَمْنَعْهُ بِاعْتِرَاضِكَ أَنْ يَبْلُغَ مُرَادَهُ.وَمِنْهُ: الِاعْتِرَاضَاتُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْقِيَاسِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ مِنَ التَّمَسُّكِ بِالدَّلِيلِ وَمِنْهُ: تَعَارُضُ الْبَيِّنَاتِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ تَعْتَرِضُ الْأُخْرَى وَتَمْنَعُ نُفُوذَهَا.وَمِنْهُ: تَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ، وَمَوْطِنُهُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

وَالتَّعَارُضُ اصْطِلَاحًا: التَّمَانُعُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ مُطْلَقًا، بِحَيْثُ يَقْتَضِي أَحَدُهُمَا غَيْرَ مَا يَقْتَضِي الْآخَرُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّنَاقُضُ:

2- التَّنَاقُضُ: هُوَ التَّدَافُعُ يُقَالُ: تَنَاقَضَ الْكَلَامَانِ، أَيْ: تَدَافَعَا، كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْقُضُ الْآخَرَ وَيَدْفَعَهُ، وَالْمُتَنَاقَضَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا وَلَا يَرْتَفِعَانِ.

أَمَّا الْمُتَعَارِضَانِ فَقَدْ يُمْكِنُ ارْتِفَاعُهُمَا.

ب- التَّنَازُعُ:

3- التَّنَازُعُ الِاخْتِلَافُ.يُقَالُ: تَنَازَعَ الْقَوْمُ، أَيِ: اخْتَلَفُوا وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}.

فَالتَّنَازُعُ أَعَمُّ، لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الِاخْتِلَافَ فِي الرَّأْيِ وَغَيْرِهِ.

حُكْمُ التَّعَارُضِ:

4- إِذَا تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ، وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا جُمِعَ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ يُصَارُ إِلَى التَّرْجِيحِ.

وَالتَّرْجِيحُ: تَقْدِيمُ دَلِيلٍ عَلَى دَلِيلٍ آخَرَ يُعَارِضُهُ، لِاقْتِرَانِ الْأَوَّلِ بِمَا يُقَوِّيهِ وَالتَّعَارُضُ وَالتَّرْجِيحُ يَرِدُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ.

فَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُصُولِ فَيُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَمُعْظَمُهُ فِي شَأْنِ الْبَيِّنَاتِ، وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ: وُجُوهُ التَّرْجِيحِ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ:

5- فِي كُلِّ مَذْهَبٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ وُجُوهٌ لِلتَّرْجِيحِ.

ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ- فِي بَابِ دَعْوَى الرَّجُلَيْنِ- وُجُوهًا لِتَرْجِيحِ إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى إِذَا تَعَارَضَتَا وَتَسَاوَتَا فِي الْقُوَّةِ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ عَلَى بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ (الَّذِي لَمْ يُذْكَرْ سَبَبُهُ) إِنْ وَقَّتَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ (أَيْ ذَكَرَ تَارِيخًا) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَنْ وَقَّتَ أَحَقُّ بِالْعَيْنِ، فَإِنْ أَرَّخَا وَاتَّحَدَ الْمُمَلَّكُ، فَالْأَسْبَقُ تَارِيخًا أَحَقُّ بِالْعَيْنِ لِقُوَّةِ بَيِّنَتِهِ، وَلَوِ اخْتَلَفَ الْمُمَلَّكُ اسْتَوَيَا.

وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِ ثَالِثٍ، وَأَقَامَ خَارِجَانِ كُلَّ بَيِّنَةٍ، وَتَسَاوَتَا، قُضِيَ لَهُمَا بِهَا مُنَاصَفَةً، وَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ.

وَإِنْ كَانَ النِّزَاعُ عَلَى نِكَاحِ امْرَأَةٍ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ حَيَّةً أَوْ مَيِّتَةً، فَإِنْ كَانَتْ حَيَّةً سَقَطَتِ الْبَيِّنَتَانِ لِعَدَمِ إِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا.وَإِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً وَرِثَاهَا مِيرَاثَ زَوْجٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ وَلَدَتْ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُمَا.

وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ فِي أَيْدِيهِمَا مَعًا، وَاسْتَوَيَا فِي الْحُجَّةِ وَالتَّارِيخِ، فَالْعَيْنُ بَيْنَهُمَا.فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي التَّارِيخِ فَهِيَ لِلسَّابِقِ.

وَلَا عِبْرَةَ عِنْدَهُمْ بِكَثْرَةِ الشُّهُودِ وَلَا بِزِيَادَةِ الْعَدَالَةِ- وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلَاتٌ أُخْرَى تُنْظَرُ فِي كُتُبِهِمْ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ التَّرْجِيحُ يَحْصُلُ بِوُجُوهٍ:

6- الْأَوَّلُ: بِزِيَادَةِ الْعَدَالَةِ فِي الْمَشْهُورِ.وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يُرَجَّحُ بِهَا، وَذَلِكَ مُوَافِقٌ لِمَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ.وَعَلَى الْقَوْلِ بِالتَّرْجِيحِ بِزِيَادَةِ الْعَدَالَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْلِفَ مَنْ زَادَتْ عَدَالَتُهُ، وَفِي الْمَوَّازِيَّةِ: لَا يَحْلِفُ، وَلَا يُرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ عَلَى الْمَشْهُورِ كَمَا هُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ.وَرُوِيَ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ يُرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ عِنْدَ تَكَافُؤِ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي الْعَدَالَةِ، إِلاَّ أَنْ يَكْثُرُوا كَثْرَةً يُكْتَفَى بِهَا فِيمَا يُرَادُ مِنَ الِاسْتِظْهَارِ، وَالْآخَرُونَ كَثِيرُونَ جِدًّا، فَلَا تُرَاعَى الْكَثْرَةُ حِينَئِذٍ، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِمَزِيَّةِ الْعَدَالَةِ دُونَ مَزِيَّةِ الْعَدَدِ.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: مَنْ رَجَّحَ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ لَمْ يَقُلْ بِهِ كَيْفَمَا اتَّفَقَ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرَهُ مَعَ قَيْدِ الْعَدَالَةِ.

7- الثَّانِي: يَكُونُ التَّرْجِيحُ أَيْضًا بِقُوَّةِ الْحُجَّةِ فَيُقَدَّمُ الشَّاهِدَانِ عَلَى الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ.وَعَلَى الشَّاهِدِ وَالْمَرْأَتَيْنِ، وَذَلِكَ إِذَا اسْتَوَوْا فِي الْعَدَالَةِ، قَالَ ذَلِكَ أَشْهَبُ.وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يُقَدَّمَانِ ثُمَّ رَجَعَ لِقَوْلِ أَشْهَبَ.قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَلَوْ كَانَ الشَّاهِدُ أَعْدَلَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكِمَ بِهِ مَعَ الْيَمِينِ، وَقُدِّمَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ.وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَمُطَرِّفٌ: لَا يُقَدَّمُ وَلَوْ كَانَ أَعْدَلَ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَهُوَ أَقْيَسُ؛ لِأَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ لَا يَرَى الْيَمِينَ مَعَ الشَّاهِدِ.

8- الثَّالِثُ: اشْتِمَالُ إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى زِيَادَةِ تَارِيخٍ مُتَقَدِّمٍ أَوْ سَبَبِ مِلْكٍ، وَهَذَا يَتَّفِقُ مَعَ قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ بِالْأَخْذِ بِتَارِيخِ السَّابِقِ.

وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِأَعْدَلِ الْبَيِّنَتَيْنِ عِنْدَ مَنْ رَأَى ذَلِكَ إِلاَّ فِي الْأَمْوَالِ خَاصَّةً.

وَقَالُوا: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْمِلْكِ عَلَى بَيِّنَةِ الْحَوْزِ، وَإِنْ كَانَ تَارِيخُ الْحَوْزِ مُتَقَدِّمًا، لِأَنَّ الْمِلْكَ أَقْوَى مِنَ الْحَوْزِ.وَتُقَدَّمُ الْبَيِّنَةُ النَّاقِلَةُ عَلَى الْبَيِّنَةِ الْمُسْتَصْحَبَةِ.وَمِثَالُهَا: أَنْ تَشْهَدَ بَيِّنَةٌ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ لِزَيْدٍ بَنَاهَا مُنْذُ مُدَّةٍ، وَلَا نَعْلَمُ أَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِهِ إِلَى الْآنَ.وَتَشْهَدُ الْبَيِّنَةُ الْأُخْرَى: أَنَّ هَذَا اشْتَرَاهَا مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَالْبَيِّنَةُ النَّاقِلَةُ عُلِمَتْ، وَالْمُسْتَصْحَبَةُ لَمْ تُعْلَمْ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ.

وَإِذَا لَمْ يُمْكِنِ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ سَقَطَتَا، وَبَقِيَ الْمُتَنَازَعُ عَلَيْهِ بِيَدِ حَائِزِهِ مَعَ يَمِينِهِ.فَإِنْ كَانَ بِيَدِ غَيْرِهِمَا، فَقِيلَ: يَبْقَى بِيَدِهِ.وَقِيلَ: يُقْسَمُ بَيْنَ مُقِيمِي الْبَيِّنَتَيْنِ، لِاتِّفَاقِ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى سُقُوطِ مِلْكِ الْحَائِزِ.وَإِقْرَارِ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ لِأَحَدِهِمَا يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْيَدِ لِلْمُقَرِّ لَهُ.

9- وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَوْ تَنَازَعَ اثْنَانِ عَيْنًا، وَكَانَتْ بِيَدِ أَحَدِهِمَا، وَأَقَامَ كُلٌّ بَيِّنَةً، وَتَسَاوَتَا قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ.وَلَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ إِلاَّ بَعْدَ بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي.

وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِ ثَالِثٍ، وَأَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً سَقَطَتِ الْبَيِّنَتَانِ، وَيُصَارُ إِلَى التَّحْلِيفِ، فَيَحْلِفُ صَاحِبُ الْيَدِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا يَمِينًا.وَقِيلَ: تُسْتَعْمَلُ الْبَيِّنَتَانِ وَتُنْزَعُ الْعَيْنُ مِمَّنْ هِيَ فِي يَدِهِ، وَتُقْسَمُ بَيْنَهُمَا مُنَاصَفَةً فِي قَوْلٍ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَيَأْخُذَهَا مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، وَفِي قَوْلٍ: يُوقَفُ الْأَمْرُ حَتَّى يُتَبَيَّنَ أَوْ يَصْطَلِحَا.

وَسَكَتَ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ تَرْجِيحٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ.وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: قَضِيَّةُ كَلَامِ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ تَرْجِيحُ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ أَعْدَلُ.

وَإِنْ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمَا، وَأَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ، بَقِيَتْ فِي أَيْدِيهِمَا، كَمَا كَانَتْ عَلَى قَوْلِ السُّقُوطِ.وَقِيلَ: تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْلِ الْقِسْمَةِ، وَلَا يَجِيءُ الْوَقْفُ، وَفِي الْقُرْعَةِ قَوْلَانِ.

وَلَوْ أُزِيلَتْ يَدُهُ بِبَيِّنَةٍ، ثُمَّ أَقَامَ بَيِّنَةً بِمِلْكِهِ مُسْتَنِدًا إِلَى مَا قَبْلَ إِزَالَةِ يَدِهِ، وَاعْتَذَرَ بِغَيْبَةِ شُهُودِهِ، سُمِعَتْ وَقُدِّمَتْ؛ لِأَنَّهَا إِنَّمَا أُزِيلَتْ لِعَدَمِ الْحُجَّةِ، وَقَدْ ظَهَرَتْ، فَيُنْقَضُ الْقَضَاءُ.وَقِيلَ: لَا، وَالْقَضَاءُ عَلَى حَالِهِ.وَلَوْ قَالَ الْخَارِجُ: هُوَ مِلْكِي اشْتَرَيْته مِنْكَ.فَقَالَ: بَلْ مِلْكِي.وَأَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ بِمَا قَالَاهُ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ، لِزِيَادَةِ عِلْمِ بَيِّنَتِهِ بِالِانْتِقَالِ.

وَالْمَذْهَبُ أَنَّ زِيَادَةَ عَدَدِ شُهُودِ أَحَدِهِمَا لَا تُرَجَّحُ، لِكَمَالِ الْحُجَّةِ فِي الطَّرَفَيْنِ، كَمَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ.

وَفِي قَوْلٍ مِنْ طَرِيقٍ تُرَجَّحُ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ إِلَى الزَّائِدِ أَمْيَلُ.وَكَذَا لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا رَجُلَانِ، لِلْآخَرِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، لَا يُرَجَّحُ الرَّجُلَانِ.وَفِي قَوْلٍ مِنْ طَرِيقٍ يُرَجَّحَانِ، لِزِيَادَةِ الْوُثُوقِ بِقَوْلِهِمَا.

فَإِنْ كَانَ لِلْآخَرِ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ يُرَجَّحُ الشَّاهِدَانِ فِي الْأَظْهَرِ، لِأَنَّهُمَا حُجَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ.وَفِي الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ خِلَافٌ.وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَتَعَادَلَانِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حُجَّةٌ كَافِيَةٌ.

وَلَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ لِأَحَدِهِمَا بِمِلْكٍ مِنْ سَنَةٍ، وَبَيِّنَةٌ لِلْآخَرِ بِمِلْكٍ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ إِلَى الْآنَ كَسَنَتَيْنِ، وَالْعَيْنُ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا، فَالْأَظْهَرُ تَرْجِيحُ الْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّ الْأُخْرَى لَا تُعَارِضُهَا فِيهِ.وَالرَّأْيُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَا تَرْجِيحَ بِهِ؛ لِأَنَّ مَنَاطَ الشَّهَادَةِ الْمِلْكُ فِي الْحَالِ، وَقَدِ اسْتَوَيَا فِيهِ، وَلِصَاحِبِ بَيِّنَةِ الْأَكْثَرِ- عَلَى الْقَوْلِ بِتَرْجِيحِهَا- الْأُجْرَةُ، وَالزِّيَادَةُ الْحَادِثَةُ مِنْ يَوْمِ الْحُكْمِ.وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا، أَوْ يُقْرَعُ، أَوْ يُوقَفُ حَتَّى يُبَيِّنَ أَوْ يَصْطَلِحَا حَسَبَ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ.

وَلَوْ أُطْلِقَتْ بَيِّنَةٌ، وَأُرِّخَتْ بَيِّنَةٌ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ بِيَدِهِمَا أَوْ بِيَدِ غَيْرِهِمَا، أَوْ لَا بِيَدِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

وَقِيلَ- كَمَا فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ- تُقَدَّمُ الْبَيِّنَةُ الْمُؤَرِّخَةُ؛ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي الْمِلْكَ قَبْلَ الْحَالِ، بِخِلَافِ الْمُطْلَقَةِ.وَلَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا بِالْحَقِّ، وَبَيِّنَةُ الْآخَرِ بِالْإِبْرَاءِ قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْإِبْرَاءِ.هَذَا وَمَحَلُّ الِاسْتِوَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ- عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَلْيُوبِيُّ- مَا لَمْ يُوجَدْ مُرَجِّحٌ.فَإِنْ وُجِدَ الْمُرَجِّحُ كَكَوْنِهِ بِيَدِ أَحَدِهِمَا، أَوْ كَانَتْ بَيِّنَتُهُ غَيْرَ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ، أَوْ أُسْنِدَتْ بَيِّنَتُهُ لِسَبَبٍ: كَأَنْ شَهِدَتْ بِأَنَّهُ نَتَجَ فِي مِلْكِهِ، أَوْ ثَمَرَ فِيهِ، أَوْ حُمِلَ فِيهِ، أَوْ وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ فَتُقَدَّمُ بَيِّنَتُهُ.

10- وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ مَنِ ادَّعَى شَيْئًا بِيَدِ غَيْرِهِ فَأَنْكَرَهُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَا إِذَا تَعَارَضَتَا: فَالْمَشْهُورُ عَنْهُ تَقْدِيمُ بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى بَيِّنَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِحَالٍ، وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» فَأُمِرْنَا بِسَمَاعِ بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي وَيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ شَهِدَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهَا لَهُ، أَوْ قَالَتْ: وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ عَلَيْهِ.وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ: إِنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ (أَيْ صَاحِبِ الْيَدِ وَهُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) بِسَبَبِ الْمِلْكِ، وَقَالَتْ مَثَلًا: إِنَّ الدَّابَّةَ الْمُتَنَازَعَ عَلَيْهَا نَتَجَتْ فِي مِلْكِهِ أَوِ اشْتَرَاهَا، أَوْ كَانَتْ بَيِّنَتُهُ أَقْدَمَ تَارِيخًا قُدِّمَتْ بَيِّنَتُهُ، وَإِلاَّ قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي، لِأَنَّ (بَيِّنَةَ الدَّاخِلِ) أَفَادَتْ بِذِكْرِ السَّبَبِ مَا لَا تُفِيدُهُ الْيَدُ.وَاسْتُدِلَّ لِتَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ: بِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله عنهما-: أَنَّ «النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- اخْتَصَمَ إِلَيْهِ رَجُلَانِ فِي دَابَّةٍ أَوْ بَعِيرٍ، فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ بِأَنَّهَا لَهُ نَتْجُهَا، فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ».

وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً ثَالِثَةً: أَنَّ بَيِّنَةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ تُقَدَّمُ بِكُلِّ حَالٍ، وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ وَأَهْلِ الشَّامِ وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَكَمِ وَأَبِي عُبَيْدٍ.وَقَالَ: هُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ.

وَأَنْكَرَ الْقَاضِي كَوْنَ هَذَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، وَقَالَ: لَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ إِذَا لَمْ تُفِدْ إِلاَّ مَا أَفَادَتْهُ يَدُهُ، رِوَايَةً وَاحِدَةً.وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ جِهَةَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَقْوَى؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَعَهُ، وَيَمِينُهُ تُقَدَّمُ عَلَى يَمِينِ الْمُدَّعِي.فَإِذَا تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ: وَجَبَ إِبْقَاءُ يَدِهِ عَلَى مَا فِيهَا، وَتَقْدِيمُهُ، كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا.وَحَدِيثُ جَابِرٍ يَدُلُّ عَلَى هَذَا، فَإِنَّهُ إِنَّمَا قُدِّمَتْ بَيِّنَتُهُ لِيَدِهِ.

11- وَاسْتَدَلَّ لِتَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» فَجَعَلَ جِنْسَ الْبَيِّنَةِ فِي جِهَةِ الْمُدَّعِي، فَلَا يَبْقَى فِي جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ.

وَلِأَنَّ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي أَكْثَرُ فَائِدَةً فَوَجَبَ تَقْدِيمُهَا كَتَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الْجُرْحِ عَلَى بَيِّنَةِ التَّعْدِيلِ.

وَدَلِيلُ كَثْرَةِ فَائِدَتِهَا: أَنَّهَا تُثْبِتُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ.وَبَيِّنَةُ الْمُنْكِرِ إِنَّمَا تُثْبِتُ ظَاهِرًا تَدُلُّ الْيَدُ عَلَيْهِ، فَلَمْ تَكُنْ مُفِيدَةً؛ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْمِلْكِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنِدُهَا رُؤْيَةَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفَ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَصَارَتِ الْبَيِّنَةُ بِمَنْزِلِ الْيَدِ الْمُجَرَّدَةِ، فَتُقَدَّمُ عَلَيْهَا بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي، كَمَا تٌقَدَّمُ عَلَى الْيَدِ، كَمَا أَنَّ شَاهِدَيِ الْفَرْعِ لَمَّا كَانَا مَبْنِيَّيْنِ عَلَى شَاهِدَيِ الْأَصْلِ، لَمْ تَكُنْ لَهُمَا مَزِيَّةٌ عَلَيْهِمَا.

وَإِذَا كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ شَاةٌ، فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ سَنَةٍ، وَأَقَامَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً.وَادَّعَى الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ أَنَّهَا فِي يَدِهِ مُنْذُ سِنِينَ، وَأَقَامَ لِذَلِكَ بَيِّنَةً، فَهِيَ لِلْمُدَّعِي بِغَيْرِ خِلَافٍ، لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ تَشْهَدُ لَهُ بِالْمِلْكِ، وَبَيِّنَةُ الدَّاخِلِ تَشْهَدُ لَهُ بِالْيَدِ خَاصَّةً، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا، لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِأَنْ تَكُونَ الْيَدُ عَلَى غَيْرِ مِلْكٍ، فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الْمِلْكِ أَوْلَى.فَإِنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهَا مِلْكُهُ مُنْذُ سَنَتَيْنِ، فَقَدْ تَعَارَضَ تَرْجِيحَانِ: فَقُدِّمَ التَّارِيخُ مِنْ جِهَةِ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ، وَكَوْنُ الْأُخْرَى بَيِّنَةَ الْخَارِجِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ، وَهُوَ قَوْلُ صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي ثَوْرٍ.وَالثَّانِيَةُ: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ زِيَادَةً. تَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى:

12- الْمُقَرَّرُ شَرْعًا: أَنَّ الْحُدُودَ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ، فَإِذَا أُقِيمَتْ بَيِّنَةٌ تَامَّةٌ عَلَى فِعْلٍ كَالزِّنَى مَثَلًا، وَعَارَضَتْهَا بَيِّنَةٌ وَلَوْ أَقَلَّ مِنْهَا بِعَدَمِ الْفِعْلِ قُدِّمَتْ، وَذَلِكَ اسْتِنَادًا إِلَى قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم-: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ مَا اسْتَطَعْتُمْ» بَلْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَادَّعَى شُبْهَةً مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، سَقَطَ الْحَدُّ.

وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ، قَالُوا: إِذَا شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُ زَنَى عَاقِلًا، وَشَهِدَتِ الْأُخْرَى بِأَنَّهُ كَانَ مَجْنُونًا: إِنْ كَانَ الْقِيَامُ عَلَيْهِ (أَيِ الِادِّعَاءِ) وَهُوَ عَاقِلٌ، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْعَقْلِ.وَإِنْ كَانَ الْقِيَامُ عَلَيْهِ وَهُوَ مَجْنُونٌ، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْجُنُونِ، فَاعْتَبَرُوا شَهَادَةَ الْحَالِ فِي التَّرْجِيحِ.

وَقَالَ ابْنُ اللَّبَّادِ: يُعْتَبَرُ وَقْتُ الرُّؤْيَةِ لَا وَقْتُ الْقِيَامِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ ظَاهِرُ الْحَالِ.وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: إِثْبَاتُ الزِّيَادَةِ، فَإِذَا شَهِدَتْ

إِحْدَاهُمَا: بِالْقَتْلِ أَوِ السَّرِقَةِ أَوِ الزِّنَى، وَشَهِدَتِ الْأُخْرَى: أَنَّهُ كَانَ فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ أَنَّهُ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْقَتْلِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ زِيَادَةً، وَلَا يُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ.قَالَ سَحْنُونٌ: إِلاَّ أَنْ يَشْهَدَ الْجَمْعُ الْعَظِيمُ- كَالْحَجِيجِ وَنَحْوِهِمْ- أَنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، أَوْ صَلَّى بِهِمُ الْعِيدَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُشْتَبَهُ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ، بِخِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ.

تَعَارُضُ تَعْدِيلِ الشُّهُودِ وَتَجْرِيحِهِمُ:

13- اعْتِبَارُ الْعَدَالَةِ فِي الشَّاهِدِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا لَوْ رَضِيَ الْخَصْمُ بِأَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِقَوْلِ فَاسِقٍ لَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ بِهِ.وَالْعَدَالَةُ أَوِ التَّجْرِيحُ لَا يَثْبُتُ كُلٌّ مِنْهُمَا إِلاَّ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، فَيَثْبُتُ كُلٌّ مِنَ التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ عِنْدَهُمَا بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ.وَسَبَبُ الْخِلَافِ هَلْ هُمَا شَهَادَةٌ أَوْ إِخْبَارٌ؟ فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ: شَهَادَةٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: إِخْبَارٌ، فَيَكْفِي الْوَاحِدُ فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ، وَنِصَابُ الشَّهَادَةِ فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ.

فَلَوْ عَدَّلَ الشَّاهِدَ اثْنَانِ، وَجَرَّحَهُ اثْنَانِ، فَالْجَرْحُ أَوْلَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا: بِأَنَّ الْجَارِحَ مَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ خَفِيَتْ عَلَى الْمُعَدِّلِ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ؛ لِأَنَّ التَّعْدِيلَ يَتَضَمَّنُ تَرْكَ الرِّيَبِ وَالْمَحَارِمِ، وَالْجَارِحُ مُثْبِتٌ لِوُجُودِ ذَلِكَ، وَالْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّفْيِ؛ وَلِأَنَّ الْجَارِحَ يَقُولُ: رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ كَذَا، وَالْمُعَدِّلُ مُسْتَنَدُهُ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ يَفْعَلُ، وَيُمْكِنُ صِدْقُهُمَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلَيْهِمَا: بِأَنْ يَرَاهُ الْجَارِحُ يَفْعَلُ الْمَعْصِيَةَ، وَلَا يَرَاهُ الْمُعَدِّلُ، فَيَكُونُ مَجْرُوحًا.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْجَرْحِ مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا ذَلِكَ فِي التَّعْدِيلِ.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْمُزَكِّيَ يَقُولُ فِي الشَّاهِدِ الْمَجْرُوحِ «وَاللَّهُ أَعْلَمُ» وَلَا يَزِيدُ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ فِي ذِكْرِ فِسْقِهِ هَتْكَ عِرْضِهِ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِالسَّتْرِ عَلَى الْمُسْلِمِ.وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْقَاضِي حَالَ الشُّهُودِ، إِذْ إِنَّهُ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ حَكَمَ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ عَدَّلَهُ شَاهِدَانِ رَجُلَانِ وَجَرَّحَهُ آخَرَانِ، فَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ، قِيلَ: يُقْضَى بِأَعْدَلِهِمَا، لِاسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ: يُقْضَى بِشَهَادَةِ الْجَرْحِ، لِأَنَّ شُهُودَ الْجَرْحِ زَادُوا عَلَى شُهُودِ التَّعْدِيلِ، إِذِ الْجَرْحُ يَبْطُنُ، فَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ كُلُّ النَّاسِ، بِخِلَافِ الْعَدَالَةِ.

وَلِلَّخْمِيِّ تَفْصِيلٌ، قَالَ: إِنْ كَانَ اخْتِلَافُ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي فِعْلِ شَيْءٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، كَدَعْوَى إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ: أَنَّهُ فَعَلَ كَذَا، فِي وَقْتِ كَذَا، وَقَالَتِ الْبَيِّنَةُ الْأُخْرَى: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُقْضَى بِأَعْدَلِهِمَا.وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ قُضِيَ بِشَهَادَةِ الْجَرْحِ؛ لِأَنَّهَا زَادَتْ عِلْمًا فِي الْبَاطِنِ. وَإِنْ تَبَاعَدَ مَا بَيْنَ الْمَجْلِسَيْنِ قُضِيَ بِآخِرِهِمَا تَارِيخًا، وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَدْلًا فَفَسَقَ، أَوْ فَاسِقًا فَتَزَكَّى، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتِ تَقْيِيدِ الْجَرْحِ ظَاهِرُ الْعَدَالَةِ، فَبَيِّنَةُ الْجَرْحِ مُقَدَّمَةٌ؛ لِأَنَّهَا زَادَتْ.

تَعَارُضُ احْتِمَالِ بَقَاءِ الْإِسْلَامِ وَحُدُوثِ الرِّدَّةِ:

14- فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ لَمْ يُجْمِعُوا عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ.وَأَكْثَرُ الْمَذَاهِبِ تَوَسُّعًا فِيهِ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: إِذْ قَالُوا: لَا يُخْرِجُ الرَّجُلَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلاَّ جُحُودُ مَا أَدْخَلَهُ فِيهِ، ثُمَّ مَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ رِدَّةٌ يُحْكَمُ بِهَا، وَمَا يُشَكُّ أَنَّهُ رِدَّةٌ لَا يُحْكَمُ بِهَا، إِذِ الْإِسْلَامُ الثَّابِتُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ، وَالْإِسْلَامُ يَعْلُو.وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ هَذَا أَلاَّ يُبَادِرَ بِتَكْفِيرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، مَعَ أَنَّهُ يَتَسَاهَلُ فِي إِثْبَاتِ الْإِسْلَامِ، فَيُقْضَى بِصِحَّةِ إِسْلَامِ الْمُكْرَهِ.وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ صَاحِبِ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى قَوْلَهُ: الْكُفْرُ شَيْءٌ عَظِيمٌ، فَلَا أَجْعَلُ الْمُؤْمِنَ كَافِرًا مَتَى وُجِدَتْ رِوَايَةٌ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ.وَفِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ: إِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ وُجُوهٌ تُوجِبُ التَّكْفِيرَ، وَوَجْهٌ وَاحِدٌ يَمْنَعُهُ، فَعَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَمِيلَ إِلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَمْنَعُ التَّكْفِيرَ، تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ، إِلاَّ إِذَا صَرَّحَ بِإِرَادَةِ مُوجِبِ الْكُفْرِ، فَلَا يَنْفَعُهُ التَّأْوِيلُ.وَلَا يَكْفُرُ بِالْمُحْتَمَلِ؛ لِأَنَّ عُقُوبَةَ الْكُفْرِ نِهَايَةٌ فِي الْعُقُوبَةِ، تَسْتَدْعِي نِهَايَةً فِي الْجِنَايَةِ، وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا نِهَايَةَ فِي الْجِنَايَةِ، وَالَّذِي تَقَرَّرَ: أَنَّهُ لَا يُفْتَى بِكُفْرِ مُسْلِمٍ أَمْكَنَ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى مَحْمَلٍ حَسَنٍ، أَوْ كَانَ فِي كُفْرِهِ اخْتِلَافٌ، وَلَوْ رِوَايَةً ضَعِيفَةً.

15- وَفُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى يَقُولُونَ أَيْضًا: إِذَا قَامَ دَلِيلٌ أَوْ قَرِينَةٌ تَقْتَضِي عَدَمَ الْقَتْلِ قُدِّمَتْ.قَالُوا: وَلَوْ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْ قُرْبٍ، وَقَالَ: أَسْلَمْتُ عَنْ ضِيقٍ أَوْ خَوْفٍ أَوْ غُرْمٍ، وَظَهَرَ عُذْرُهُ، فَفِي قَبُولِ عُذْرِهِ قَوْلَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

هَذَا، وَقَدْ أَوْرَدَ الْفُقَهَاءُ قَوَاعِدَ عَامَّةً فِي التَّعَارُضِ، وَهِيَ إِنْ كَانَتْ أَقْرَب إِلَى الْأُصُولِ مِنْهَا إِلَى الْفِقْهِ، إِلاَّ أَنَّهُ رُتِّبَتْ عَلَيْهَا مَسَائِلُ فِقْهِيَّةٌ يَسُوغُ ذِكْرُهَا هُنَا.

تَعَارُضُ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ:

16- مِنَ الْقَوَاعِدِ الَّتِي أَوْرَدَهَا الزَّرْكَشِيُّ: أَنَّهُ لَوْ تَعَارَضَ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ يُقَدَّمُ الْحَظْرُ.

وَمِنْ ثَمَّ لَوْ تَوَلَّدَ الْحَيَوَانُ مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ، حَرُمَ أَكْلُهُ، وَإِذَا ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ وَجَبَ الْجَزَاءُ تَغْلِيبًا لِلتَّحْرِيمِ.

وَمِنْهَا: لَوْ تَعَارَضَ الْوَاجِبُ وَالْمَحْظُورُ، يُقَدَّمُ الْوَاجِبُ، كَمَا إِذَا اخْتَلَطَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَى الْكُفَّارِ، وَجَبَ غَسْلُ الْجَمِيعِ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ.وَكَذَلِكَ اخْتِلَاطُ الشُّهَدَاءِ بِغَيْرِهِمْ.وَإِنْ كَانَ الشَّهِيدُ لَا يُغَسَّلُ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُنْوَى الصَّلَاةُ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا.وَلَوْ أَسْلَمَتِ الْمَرْأَةُ وَجَبَ عَلَيْهَا الْهِجْرَةُ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ سَافَرَتْ وَحْدَهَا، وَإِنْ كَانَ سَفَرُهَا وَحْدَهَا فِي الْأَصْلِ حَرَامًا.وَيُعْذَرُ الْمُصَلِّي فِي التَّنَحْنُحِ إِذَا تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ الْوَاجِبَةُ.

17- وَمِنَ الْقَوَاعِدِ: مَا لَوْ تَعَارَضَ وَاجِبَانِ، قُدِّمَ آكَدُهُمَا، فَيُقَدَّمُ فَرْضُ الْعَيْنِ عَلَى فَرْضِ الْكِفَايَةِ.فَالطَّائِفُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ لَا يَقْطَعُ الطَّوَافَ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ.وَلَوِ اجْتَمَعَتْ جِنَازَةٌ وَجُمُعَةٌ وَضَاقَ الْوَقْتُ، قُدِّمَتِ الْجُمُعَةُ.وَمِنْ هَذَا لَيْسَ لِلْوَالِدَيْنِ مَنْعُ الْوَلَدِ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ عَلَى الصَّحِيحِ، بِخِلَافِ الْجِهَادِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا، لِأَنَّ بِرَّهُمَا فَرْضُ عَيْنٍ، وَالْجِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَفَرْضُ الْعَيْنِ مُقَدَّمٌ.

18- وَلَوْ تَعَارَضَتْ فَضِيلَتَانِ، يُقَدَّمُ أَفْضَلُهُمَا، فَلَوْ تَعَارَضَ الْبُكُورُ إِلَى الْجُمُعَةِ بِلَا غُسْلٍ وَتَأْخِيرُهُ مَعَ الْغُسْلِ، فَالظَّاهِرُ: أَنَّ تَحْصِيلَ الْغُسْلِ أَوْلَى لِلْخِلَافِ فِي وُجُوبِهِ.وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ.

19- وَمِنْ فُرُوعِ قَاعِدَةِ تَعَارُضِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ: مَا إِذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَالْآخَرُ الْإِبَاحَةَ، قُدِّمَ التَّحْرِيمُ.وَعَلَّلَهُ الْأُصُولِيُّونَ بِتَقْدِيمِ النَّسْخِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قُدِّمَ الْمُبِيحُ لَلَزِمَ تَكْرَارُ النَّسْخِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ، فَلَوْ جُعِلَ الْمُبِيحُ مُتَأَخِّرًا كَانَ الْمُحَرَّمُ نَاسِخًا لِلْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، ثُمَّ يَصِيرُ مَنْسُوخًا بِالْمُبِيحِ، وَلَوْ جُعِلَ الْمُحَرَّمُ مُتَأَخِّرًا كَانَ نَاسِخًا لِلْمُبِيحِ، وَهُوَ لَمْ يَنْسَخْ شَيْئًا لِكَوْنِهِ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُثْمَانُ - رضي الله عنه- لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ- أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ، وَالتَّحْرِيمُ أَحَبُّ إِلَيْنَا.قَالُوا: وَإِنَّمَا كَانَ التَّحْرِيمُ أَحَبَّ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ مُبَاحٍ، لَا اجْتِنَابَ مُحَرَّمٍ، وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ.

20- وَمِنْ أَقْسَامِ التَّعَارُضِ: أَنْ يَتَعَارَضَ أَصْلَانِ، فَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ يُعْمَلُ بِالْأَرْجَحِ مِنْهُمَا، لِاعْتِضَادِهِ بِمَا يُرَجِّحُهُ.

وَمِنْ صُوَرِهِ: مَا إِذَا جَاءَ بَعْضُ الْعَسْكَرِ بِمُشْرِكٍ، فَادَّعَى الْمُشْرِكُ: أَنَّ الْمُسْلِمَ أَمَّنَهُ، وَأَنْكَرَ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلِمِ فِي إِنْكَارِ الْأَمَانِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْأَمَانِ.

وَالثَّانِيَةُ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْرِكِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الدِّمَاءِ الْحَظْرُ إِلاَّ بِيَقِينِ الْإِبَاحَةِ، وَقَدْ وَقَعَ الشَّكُّ هُنَا فِيهَا.وَفِيهِ رِوَايَةٌ

ثَالِثَةٌ: أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ يَدُلُّ الْحَالُ عَلَى صِدْقِهِ مِنْهُمَا، تَرْجِيحًا لِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ بِالظَّاهِرِ الْمُوَافِقِ لَهُ.وَلَوْ تَعَارَضَ الْحِنْثُ وَالْبِرُّ فِي يَمِينٍ، قُدِّمَ الْحِنْثُ عَلَى الْبِرِّ، فَمَنْ حَلَفَ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ وُجُودِهِ فَهُوَ عَلَى حِنْثٍ، حَتَّى يَقَعَ الْفِعْلُ فَيَبَرُّ.وَالْحِنْثُ يَدْخُلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَقَلِّ الْوُجُوهِ، وَالْبِرُّ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِأَكْمَلِ الْوُجُوهِ، فَمَنْ حَلَفَ أَنْ يَأْكُلَ رَغِيفًا لَمْ يَبَرَّ إِلاَّ بِأَكْلِ الرَّغِيفِ كُلِّهِ، وَإِنْ حَلَفَ أَلاَّ يَأْكُلَهُ حَنِثَ بِأَكْلِ بَعْضِهِ.

قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى: وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ: إِلَى أَنَّ الْخَاصَّ وَالْعَامَّ يَتَعَارَضَانِ وَيَتَدَافَعَانِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ سَابِقًا، وَقَدْ وَرَدَ الْعَامُّ بَعْدَهُ لِإِرَادَةِ الْعُمُومِ، فَنُسِخَ الْخَاصُّ.وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامُّ سَابِقًا وَقَدْ أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ، ثُمَّ نُسِخَ بِاللَّفْظِ الْخَاصِّ بَعْدَهُ.فَعُمُومُ الرَّقَبَةِ مَثَلًا يَقْتَضِي إِجْزَاءَ الْكَافِرَةِ مَهْمَا أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْمُؤْمِنَةِ يَقْتَضِي مَنْعَ إِجْزَاءِ الْكَافِرَةِ، فَهُمَا مُتَعَارِضَانِ.وَإِذَا أَمْكَنَ النَّسْخُ وَالْبَيَانُ جَمِيعًا فَلَمْ يَتَحَكَّمْ بِحَمْلِهِ عَلَى الْبَيَانِ دُونَ النَّسْخِ؟ وَلَمْ يُقْطَعْ بِالْحُكْمِ عَلَى الْعَامِّ بِالْخَاصِّ؟ وَلَعَلَّ الْعَامَّ هُوَ الْمُتَأَخِّرُ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ، وَيُنْسَخُ بِهِ الْخَاصُّ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي، وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا: تَقْدِيمُ الْخَاصِّ وَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي مُمْكِنًا، وَلَكِنَّ تَقْدِيرَ النَّسْخِ مُحْتَاجٌ إِلَى الْحُكْمِ بِدُخُولِ الْكَافِرَةِ تَحْتَ اللَّفْظِ، ثُمَّ خُرُوجُهُ عَنْهُ، فَهُوَ إِثْبَاتُ وَضْعٍ، وَرَفْعٌ بِالتَّوَهُّمِ، وَإِرَادَةُ الْخَاصِّ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ غَالِبٌ مُعْتَادٌ، بَلْ هُوَ الْأَكْثَرُ، وَالنَّسْخُ كَالنَّادِرِ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى تَقْدِيرِهِ بِالتَّوَهُّمِ، وَيَكَادُ يَشْهَدُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ سِيَرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَثِيرٌ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ إِلَى الْحُكْمِ بِالْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَمَا اشْتَغَلُوا بِطَلَبِ التَّارِيخِ وَالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ.

وَقِيلَ عَلَى الشُّذُوذِ: إِنَّهُ يُخَصَّصُ مِنْ طَرِيقِ الْمَفْهُومِ، فَإِنَّ الرِّجَالَ يَقْتَضِي مَفْهُومُهُ قَتْلَ غَيْرِهِمْ، فَإِذَا لَمْ يَتَنَافَيَا، وَكَانَ لِأَحَدِهِمَا مُنَاسَبَةٌ تَخُصُّهُ فِي مُتَعَلَّقَهِ- كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وقوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} - فَيُضْطَرُّ الْمُحْرِمُ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَوِ الصَّيْدِ، فَعِنْدَ مَالِكٍ: يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَيَتْرُكُ الصَّيْدَ؛ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا- وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا- إِلاَّ أَنَّ تَحْرِيمَ الصَّيْدِ لَهُ مُنَاسَبَةٌ بِالْإِحْرَامِ، وَمَفْسَدَتُهُ الَّتِي اعْتَمَدَهَا النَّهْيُ إِنَّمَا هِيَ فِي الْإِحْرَامِ، وَأَمَّا مَفْسَدَةُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَذَلِكَ أَمْرٌ عَامٌّ، لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِخُصُوصِ الْإِحْرَامِ، وَالْمُنَاسِبُ إِذَا كَانَ لِأَمْرٍ عَامٍّ- وَهُوَ كَوْنُهَا مَيْتَةً- لَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خُصُوصِ الْإِحْرَامِ مُنَافَاةٌ وَلَا تَعَلُّقٌ، وَالْمُنَافِي الْأَخَصُّ أَوْلَى بِالِاجْتِنَابِ.

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ: إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُصَلِّي ثَوْبًا يَسْتُرُهُ إِلاَّ حَرِيرًا أَوْ نَجِسًا فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِي الْحَرِيرِ وَيَتْرُكَ النَّجِسَ؛ لِأَنَّ مَفْسَدَةَ النَّجَاسَةِ خَاصَّةٌ بِالصَّلَاةِ، بِخِلَافِ مَفْسَدَةِ الْحَرِيرِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِخُصُوصِ الصَّلَاةِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا.

وَهُنَاكَ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ أُخْرَى تَتَرَتَّبُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي الْأُصُولِ وَأَبْوَابِ الْفِقْهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


233-موسوعة الفقه الكويتية (تعارض 2)

تَعَارُضٌ -2

تَعَارُضُ الْأَصْلِ وَالظَّاهِرِ:

21- الْمُرَادُ بِالْأَصْلِ: بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، وَالظَّاهِرُ: مَا يَتَرَجَّحُ وُقُوعُهُ.

فَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَلِذَا لَمْ يُقْبَلْ فِي شَغْلِهَا شَاهِدٌ وَاحِدٌ، وَلِذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِمُوَافَقَتِهِ الْأَصْلَ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، لِدَعْوَاهُ مَا خَالَفَ الْأَصْلَ، فَإِذَا اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْمُتْلَفِ وَالْمَغْصُوبِ- فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَارِمِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الْبَرَاءَةُ عَمَّا زَادَ عَنْ قَوْلِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ أَوْ حَقٍّ قَبْلَ تَفْسِيرِهِ بِمَا لَهُ قِيمَةٌ، فَالْقَوْلُ لِلْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ.وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: الْحُكْمُ عِنْدَهُمْ كَذَلِكَ فِي تَقْدِيمِ الظَّاهِرِ الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ.

وَلِلشَّافِعِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي غَيْرِ الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ، إِذْ قَالُوا: إِنَّ الْأَصْلَ يُرَجَّحُ جَزْمًا.وَضَابِطُهُ: أَنْ يُعَارِضَهُ احْتِمَالٌ مُجَرَّدٌ.وَمَا يُرَجَّحُ فِيهِ الظَّاهِرُ جَزْمًا، وَضَابِطُهُ: أَنْ يَسْتَنِدَ إِلَى سَبَبٍ مَنْصُوبٍ شَرْعًا، كَالشَّهَادَةِ تُعَارِضُ الْأَصْلَ، وَالرِّوَايَةَ، وَالْيَدَ فِي الدَّعْوَى.وَإِخْبَارُ الثِّقَةِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ.وَمَا يُرَجَّحُ فِيهِ الْأَصْلُ عَلَى الظَّاهِرِ فِي الْأَصَحِّ، وَضَابِطُهُ: أَنْ يَسْتَنِدَ الِاحْتِمَالُ إِلَى سَبَبٍ ضَعِيفٍ، وَمِثْلُهُ الشَّيْءُ الَّذِي لَا يُتَيَقَّنُ بِنَجَاسَتِهِ، وَلَكِنَّ الْغَالِبَ فِيهِ النَّجَاسَةُ كَثِيَابِ مُدْمِنِ الْخَمْرِ، وَالْقَصَّابِينَ، وَالْكُفَّارِ، وَأَوَانِيهِمْ.وَمَا يُتَرَجَّحُ فِيهِ الظَّاهِرُ عَلَى الْأَصْلِ، بِأَنْ كَانَ سَبَبًا قَوِيًّا مُنْضَبِطًا، كَمَنْ شَكَّ بَعْدَ الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي تَرْكِ رُكْنٍ غَيْرِ النِّيَّةِ فَالْمَشْهُورُ لَا يُؤَثِّرُ.

وَالْحَنَابِلَةُ يُقَدِّمُونَ كَغَيْرِهِمُ الظَّاهِرَ، الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا شَرْعًا، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْأَصْلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، بِأَنْ كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى الْعُرْفِ أَوِ الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ أَوِ الْقَرَائِنِ أَوْ غَلَبَةِ الظَّنِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَتَارَةً يُعْمَلُ بِالْأَصْلِ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى الظَّاهِرِ، وَتَارَةً يُعْمَلُ بِالظَّاهِرِ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى الْأَصْلِ، وَتَارَةً يَخْرُجُ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:

(1) مَا تُرِكَ فِيهِ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ لِلْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهِيَ قَوْلُ مَنْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِ، كَشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ بِشَغْلِ ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهَذِهِ مَحَلُّ إِجْمَاعٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ.

(2) مَا عُمِلَ فِيهِ بِالْأَصْلِ، وَلَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى الْقَرَائِنِ الظَّاهِرَةِ وَنَحْوِهَا.وَذَلِكَ كَمَا إِذَا ادَّعَتْ زَوْجَةٌ بَعْدَ طُولِ مُقَامِهَا مَعَ الزَّوْجِ: أَنَّهَا لَمْ تَصِلْهَا مِنْهُ النَّفَقَةُ الْوَاجِبَةُ، فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا عِنْدَ الْأَصْحَابِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ مَعَهَا، مَعَ أَنَّ الْعَادَةَ تُبْعِدُ ذَلِكَ جِدًّا، وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ الرُّجُوعَ إِلَى الْعَادَةِ، وَخَرَّجَهُ وَجْهًا مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا.

(3) مَا عُمِلَ فِيهِ بِالظَّاهِرِ وَلَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى الْأَصْلِ، كَمَا إِذَا شَكَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي تَرْكِ رُكْنٍ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إِلَى الشَّكِّ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ الْإِتْيَانِ بِهِ وَعَدَمَ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ فِعْلِ الْمُكَلَّفِينَ لِلْعِبَادَاتِ: أَنْ تَقَعَ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، فَيُرَجَّحُ هَذَا الظَّاهِرُ عَلَى الْأَصْلِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ فِي الْمَنْصُوصِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.

(4) مَا خَرَجَ فِيهِ خِلَافٌ فِي تَرْجِيحِ الظَّاهِرِ عَلَى الْأَصْلِ وَبِالْعَكْسِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ غَالِبًا عِنْدَ تَقَادُمِ الظَّاهِرِ وَالْأَصْلِ وَتَسَاوِيهِمَا، وَمِنْ صُوَرِهِ: طَهَارَةُ طِينِ الشَّوَارِعِ، نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مَوَاضِعَ، تَرْجِيحًا لِلْأَصْلِ، وَهُوَ الطَّهَارَةُ فِي الْأَعْيَانِ كُلِّهَا.وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ ثَانِيَةٍ: أَنَّهُ نَجِسٌ تَرْجِيحًا لِلظَّاهِرِ، وَجَعَلَهُ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ الْمَذْهَبَ.

تَعَارُضُ الْعِبَارَةِ (اللَّفْظِ) وَالْإِشَارَةِ الْحِسِّيَّةِ:

22- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْعِبَارَةَ تُقَدَّمُ عَلَى الْإِشَارَةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: عَلَى الْجَبْهَةِ وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ...» إِلَخْ.وَأَحَالَ شَرْحَ الْحَدِيثِ عَلَى مَا قَالَهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَمَرَّهَا عَلَى أَنْفِهِ، وَقَالَ: هَذَا وَاحِدٌ» فَهَذِهِ رِوَايَةٌ مُفَسِّرَةٌ.قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَبْهَةَ الْأَصْلُ، وَالسُّجُودَ عَلَى الْأَنْفِ تَبَعٌ.

وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمَا جُعِلَا كَعُضْوٍ وَاحِدٍ، وَإِلاَّ لَكَانَتِ الْأَعْضَاءُ ثَمَانِيَةً.قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يُكْتَفَى بِالسُّجُودِ عَلَى الْأَنْفِ.قَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُعَارِضُ التَّصْرِيحَ بِذِكْرِ الْجَبْهَةِ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهُمَا كَعُضْوٍ وَاحِدٍ فَذَاكَ فِي التَّسْمِيَةِ وَالْعِبَارَةِ، لَا فِي الْحُكْمِ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ.

وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِشَارَةَ قَدْ لَا تُعَيِّنُ الْمُشَارَ إِلَيْهِ، فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْجَبْهَةِ لِأَجْلِ الْعِبَارَةِ، فَإِذَا تَقَارَبَ مَا فِي الْجَبْهَةِ أَمْكَنَ أَنْ لَا يُعَيَّنَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ تَعْيِينًا.وَأَمَّا الْعِبَارَةُ: فَإِنَّهَا مُعَيَّنَةٌ لِمَا وُصِفَتْ لَهُ، فَتَقْدِيمُهُ أَوْلَى.وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِ الْجَبْهَةِ قَالَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ: وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ: عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ السُّجُودُ عَلَى الْأَنْفِ وَحْدَهُ.وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ عَلَى الْجَبْهَةِ وَحْدَهَا.

وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: يَجِبُ أَنْ يَجْمَعَهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا اجْتَمَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى شَيْءٍ، وَالْعِبَارَةُ عَنْهُ فِي الْمَهْرِ- فَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُسَمَّى إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُشَارِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَوْجُودٌ فِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ ذَاتًا، وَالْوَصْفُ يَتْبَعُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مِثْلُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ بِتَابِعٍ لَهُ.وَالتَّسْمِيَةُ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تُعَرِّفُ الْمَاهِيَّةَ، وَالْإِشَارَةُ تُعَرِّفُ الذَّاتَ.فَمَنِ اشْتَرَى فَصًّا عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ، فَإِذَا هُوَ زُجَاجٌ لَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ، لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ.وَلَوِ اشْتَرَى عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ أَحْمَرُ فَإِذَا هُوَ أَخْضَرُ، انْعَقَدَ الْعَقْدُ لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ.

وَقَالَ الشَّارِحُونَ: إِنَّ هَذَا الْأَصْلَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي النِّكَاحِ، وَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَلَكِنَّ الْإِمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ جَعَلَ الْخَلَّ وَالْخَمْرَ جِنْسًا، فَتَعَلَّقَ بِالْمُشَارِ إِلَيْهِ، فَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ، فِيمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَا الدَّنِّ مِنَ الْخَلِّ، وَأَشَارَ إِلَى خَمْرٍ.وَلَوْ سَمَّى حَرَامًا، وَأَشَارَ إِلَى حَلَالٍ فَلَهَا الْحَلَالُ فِي الْأَصَحِّ.

وَأَمَّا فِي النِّكَاحِ فَقَالَ فِي الْخَانِيَّةِ: رَجُلٌ لَهُ بِنْتٌ وَاحِدَةٌ اسْمُهَا عَائِشَةُ: فَقَالَ الْأَبُ وَقْتَ الْعَقْدِ: زَوَّجْتُ مِنْكَ بِنْتِي فَاطِمَةَ، لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ.وَلَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ حَاضِرَةً فَقَالَ الْأَبُ: زَوَّجْتُكَ بِنْتِي فَاطِمَةَ هَذِهِ، وَأَشَارَ إِلَى عَائِشَةَ وَغَلِطَ فِي اسْمِهَا، فَقَالَ الزَّوْجُ: قَبِلْتُ، جَازَ.

23- وَمِمَّا سَبَقَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَحْدَهُمْ هُمُ الَّذِينَ قَالُوا بِإِجْزَاءِ السُّجُودِ عَلَى الْأَنْفِ وَحْدَهُ، تَقْدِيمًا لِلْإِشَارَةِ عَلَى الْعِبَارَةِ، وَأَنَّ الْجُمْهُورَ يُجْزِئُ عِنْدَهُمُ السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ دُونَ الْأَنْفِ، وَأَنَّ الْعِبَارَةَ عِنْدَهُمْ تُقَدَّمُ عَلَى الْإِشَارَةِ لِأَنَّهَا تُعَيِّنُ الْمُرَادَ، وَالْإِشَارَةُ قَدْ لَا تُعَيِّنُهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا اجْتَمَعَتِ الْإِشَارَةُ وَالْعِبَارَةُ، وَاخْتَلَفَ مُوجِبُهُمَا، غُلِّبَتِ الْإِشَارَةُ.فَلَوْ قَالَ: أُصَلِّي خَلْفَ زَيْدٍ هَذَا، أَوْ قَالَ: أُصَلِّي عَلَى زَيْدٍ هَذَا، فَبَانَ عَمْرًا فَالْأَصَحُّ الصِّحَّةُ.وَلَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ فُلَانَةَ هَذِهِ، وَسَمَّاهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا صَحَّ قَطْعًا، وَحُكِيَ فِيهِ وَجْهٌ.وَلَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكِ هَذَا الْغُلَامَ، وَأَشَارَ إِلَى بِنْتِهِ، نَقَلَ الرُّويَانِيُّ عَنِ الْأَصْحَابِ صِحَّةَ النِّكَاحِ.تَعْوِيلًا عَلَى الْإِشَارَةِ.وَهَذَا يَتَّفِقُ وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.

وَلَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ هَذِهِ الْعَرَبِيَّةَ، فَكَانَتْ أَعْجَمِيَّةً.أَوْ: هَذِهِ الْعَجُوزَ، فَكَانَتْ شَابَّةً.أَوْ: هَذِهِ الْبَيْضَاءَ، فَكَانَتْ سَوْدَاءَ أَوْ عَكْسُهُ- وَكَذَا الْمُخَالَفَةُ فِي جَمِيعِ وُجُوهِ النَّسَبِ وَالصِّفَاتِ وَالْعُلُوِّ وَالنُّزُولِ- فَفِي صِحَّةِ النِّكَاحِ قَوْلَانِ، وَالْأَصَحُّ: الصِّحَّةُ.

وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ دَارِي هَذِهِ وَحَدَّدَهَا وَغَلِطَ فِي حُدُودِهَا، صَحَّ الْبَيْعُ.بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: بِعْتُك الدَّارَ الَّتِي فِي الْمَحَلَّةِ الْفُلَانِيَّةِ وَحَدَّدَهَا وَغَلِطَ؛ لِأَنَّ التَّعْوِيلَ هُنَاكَ عَلَى الْإِشَارَةِ.

وَلَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا الْفَرَسَ فَكَانَ بَغْلًا أَوْ عَكْسُهُ، فَوَجْهَانِ، وَالْأَصَحُّ هُنَا الْبُطْلَانُ.وَإِنَّمَا صُحِّحَ الْبُطْلَانُ هُنَا تَغْلِيبًا لِاخْتِلَافِ غَرَضِ الْمَالِيَّةِ.وَصَحَّحَ الصِّحَّةَ فِي الْبَاقِي تَغْلِيبًا لِلْإِشَارَةِ.وَحِينَئِذٍ يُسْتَثْنَى هَذِهِ الصُّورَةُ مِنَ الْقَاعِدَةِ.

وَيُضَمُّ إِلَى هَذِهِ الصُّورَةِ صُوَرٌ، مِنْهَا: مَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ فَكَلَّمَهُ شَيْخًا، أَوْ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرُّطَبَ فَأَكَلَهُ تَمْرًا، أَوْ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا عَرْصَةً، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ.وَلَوْ خَالَعَهَا عَلَى هَذَا الثَّوْبِ الْكَتَّانِ فَبَانَ قُطْنًا، أَوْ عَكْسُهُ، فَالْأَصَحُّ فَسَادُ الْخُلْعِ، وَيُرْجَعُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ.

وَهُنَاكَ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ تَتَرَتَّبُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ.

هَذِهِ جُمْلَةُ قَوَاعِدَ أُصُولِيَّةٍ فِي التَّعَارُضِ، ذُكِرَتْ مَعَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ أَحْكَامٍ.

وَأَمَّا التَّعَارُضُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ فَيُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


234-موسوعة الفقه الكويتية (تعدي)

تَعَدِّي

التَّعْرِيفُ:

1- التَّعَدِّي لُغَةً: الظُّلْمُ، وَأَصْلُهُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَالْقَدْرِ وَالْحَقِّ.يُقَالُ: تَعَدَّيْتُ الْحَقَّ وَاعْتَدَيْتُهُ وَعَدَوْتُهُ أَيْ: جَاوَزْتَهُ.وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ، فَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى: الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ، وَبِمَعْنَى: انْتِقَالُ الْحُكْمِ إِلَى مَحَلٍّ آخَرَ، كَتَعَدِّي الْعِلَّةِ، وَالتَّعَدِّي فِي الْحُرْمَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

2- سَبَقَ أَنَّ التَّعَدِّيَ لَهُ إِطْلَاقَانِ، وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ: الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْغَيْرِ، وَهَذَا الْبَحْثُ مَحَلُّ تَفْصِيلِهِ.وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ: انْتِقَالُ الْحُكْمِ إِلَى مَحَلٍّ آخَرَ.

أَمَّا التَّعَدِّي بِالْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ فَهُوَ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ حَرَامٌ.وَلِلتَّعَدِّي أَحْكَامُهُ الْخَاصَّةُ: كَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، وَالْأَطْرَافِ، وَالتَّعْوِيضِ، وَالْحَبْسِ وَمَا إِلَى ذَلِكَ، كَمَا سَيَتَبَيَّنُ.

التَّعَدِّي عَلَى الْأَمْوَالِ:

التَّعَدِّي بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ وَالسَّرِقَةِ وَالِاخْتِلَاسِ:

3- مَنْ تَعَدَّى عَلَى مَالِ غَيْرِهِ فَغَصَبَهُ، أَوْ أَتْلَفَ مَالًا غَيْرَ مَأْذُونٍ فِي إِتْلَافِهِ شَرْعًا أَوْ سَرَقَهُ أَوِ اخْتَلَسَهُ- تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمَانِ:

أَحَدُهُمَا أُخْرَوِيٌّ.وَهُوَ: الْإِثْمُ، لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسِهِ».

وَالْآخَرُ دُنْيَوِيٌّ: وَهُوَ الْحَدُّ أَوِ التَّعْزِيرُ مَعَ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» وَلِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ- رضي الله عنهم-: «لَا يَأْخُذَنَّ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ لَاعِبًا أَوْ جَادًّا، وَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّهَا» فَيَجِبُ عَلَى الْمُتَعَدِّي رَدُّ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ إِنْ بَقِيَتْ بِيَدِهِ كَمَا هِيَ، فَإِنْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ، أَوْ تَعَدَّى عَلَيْهَا فَأَتْلَفَهَا بِدُونِ غَصْبٍ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهَا إِنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً، فَإِذَا انْقَطَعَ الْمِثْلُ أَوْ لَمْ تَكُنْ مِثْلِيَّةً وَجَبَ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا.

وَمِثْلُ مَا تَقَدَّمَ: الْبَاغِي فِي غَيْرِ زَمَنِ الْقِتَالِ، حَيْثُ يَضْمَنُ الْأَمْوَالَ الَّتِي أَتْلَفَهَا أَوْ أَخَذَهَا.

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (غَصْبٌ، إِتْلَافٌ، ضَمَانٌ، سَرِقَةٌ، اخْتِلَاسٌ، بُغَاةٌ).

التَّعَدِّي فِي الْعُقُودِ:

أَوَّلًا: التَّعَدِّي فِي الْوَدِيعَةِ:

4- الْأَصْلُ فِي الْوَدِيعَةِ: أَنَّهَا أَمَانَةٌ، لقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}، وَأَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُودَعِ فِي الْوَدِيعَةِ، لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: مَنْ أَوْدَعَ وَدِيعَةً فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ» وَلِأَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ يَحْفَظُهَا لِمَالِكِهَا فَلَوْ ضُمِنَتْ لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنَ الدُّخُولِ فِيهَا، وَذَلِكَ مُضِرٌّ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا.

وَيَضْمَنُ الْوَدِيعُ فِي حَالَيْنِ:

الْأَوَّلُ: إِذَا فَرَّطَ فِي حِفْظِ الْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّ الْمُفَرِّطَ مُتَسَبِّبٌ بِتَرْكِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِهَا.

الثَّانِي: أَنْ يَتَعَدَّى الْوَدِيعُ عَلَى الْوَدِيعَةِ، لِأَنَّ الْمُتَعَدِّيَ مُتْلِفٌ لِمَالِ غَيْرِهِ فَضَمِنَهُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ مِنْ غَيْرِ إِيدَاعٍ.

وَمِنْ صُوَرِ التَّعَدِّي عَلَيْهَا: انْتِفَاعُهُ بِهَا، كَأَنْ يَرْكَبَ الدَّابَّةَ الْمُودَعَةَ لِغَيْرِ نَفْعِهَا، أَوْ يَلْبَسَ الثَّوْبَ الْمُودَعَ فَيَبْلَى.وَمِنْ صُوَرِ التَّعَدِّي أَيْضًا: جُحُودُهَا.

ثَانِيًا: التَّعَدِّي فِي الرَّهْنِ:

5- يَكُونُ التَّعَدِّي فِي الرَّهْنِ مِنَ الرَّاهِنِ أَوْ مِنَ الْمُرْتَهِنِ.

أ- تَعَدِّي الرَّاهِنِ:

6- إِذَا تَعَدَّى الرَّاهِنُ عَلَى الرَّهْنِ فَأَتْلَفَهُ أَوْ أَتْلَفَ جُزْءًا مِنْهُ، فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِدَفْعِ قِيمَةِ مَا أَتْلَفَهُ، لِتَكُونَ رَهْنًا إِلَى حُلُولِ الْأَجَلِ.

وَأَمَّا تَصَرُّفَاتُ الرَّاهِنِ الَّتِي تَنْقُلُ مِلْكَ الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، فَإِنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ قَضَاءِ الدَّيْنِ.

ب- تَعَدِّي الْمُرْتَهِنِ:

7- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الرَّهْنَ إِنْ هَلَكَ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَهْلِكُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوِ اسْتَهْلَكَهُ الْمُرْتَهِنُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَتْلَفَ مَمْلُوكًا مُتَقَوِّمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ، فَيَضْمَنُ مِثْلَهُ أَوْ قِيمَتَهُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ وَكَانَ رَهْنًا مَكَانَهُ.

وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ: أَيْ مَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ كَبَعْضِ الْمَنْقُولَاتِ، وَمَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ، كَالْعَقَارِ وَالسَّفِينَةِ وَالْحَيَوَانِ، فَأَوْجَبُوا الضَّمَانَ فِي الْأَوَّلِ- دُونَ الثَّانِي بِشَرْطَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ، لَا أَنْ يَكُونَ بِيَدِ أَمِينٍ.

وَالثَّانِي: أَنْ لَا تَشْهَدَ بَيِّنَةٌ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى التَّلَفِ أَوِ الضَّيَاعِ، بِغَيْرِ سَبَبِهِ، وَغَيْرِ تَفْرِيطِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ الرَّهْنَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَأَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ هَلَكَ بِيَدِهِ، إِلاَّ إِذَا تَعَدَّى عَلَيْهِ، أَوْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهِ.

وَعَلَى هَذَا: فَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَهِنَ ضَامِنٌ لِلرَّهْنِ بِتَعَدِّيهِ عَلَيْهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ فِي حِفْظِهِ.

ثَالِثًا: التَّعَدِّي فِي الْعَارِيَّةِ:

8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ: عَلَى أَنَّ الْعَارِيَّةَ مَضْمُونَةٌ بِالتَّعَدِّي وَالتَّفْرِيطِ مِنَ الْمُسْتَعِيرِ، لِحَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ- رضي الله عنه-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ»

أَمَّا إِذَا هَلَكَتْ بِلَا تَعَدٍّ وَلَا تَفْرِيطٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الْعَارِيَّةَ إِنْ هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ وَلَا تَفْرِيطٍ مِنْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ»، وَلِأَنَّهُ قَبَضَهَا بِإِذْنِ مَالِكِهَا فَكَانَتْ أَمَانَةً كَالْوَدِيعَةِ، وَهُوَ: قَوْلُ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالثَّوْرِيِّ.وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ.

وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ فِي تَضْمِينِ الْمُسْتَعِيرِ: مَا إِذَا لَمْ يَظْهَرْ سَبَبُ هَلَاكِ الْعَارِيَّةِ، وَكَانَتْ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ، فَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى تَلَفِهَا أَوْ ضَيَاعِهَا بِدُونِ سَبَبِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ الْعَارِيَّةَ مَضْمُونَةٌ مُطْلَقًا، تَعَدَّى الْمُسْتَعِيرُ، أَوْ لَمْ يَتَعَدَّ، لِحَدِيثِ سَمُرَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ»، وَعَنْ صَفْوَانَ: «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- اسْتَعَارَ مِنْهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَدْرَاعًا، فَقَالَ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: بَلْ عَارِيَّةً مَضْمُونَةٌ».وَهُوَ: قَوْلُ عَطَاءٍ، وَإِسْحَاقَ، وَأَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنهم-.

رَابِعًا: التَّعَدِّي فِي الْوَكَالَةِ:

9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ: عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ أَمِينٌ، لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ وَلَا تَعَدٍّ، لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنِ الْمَالِكِ فِي الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ، فَكَانَ الْهَلَاكُ فِي يَدِهِ كَالْهَلَاكِ فِي يَدِ الْمَالِكِ، فَأَصْبَحَ كَالْمُودَعِ.

وَلِأَنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدُ إِرْفَاقٍ وَمَعُونَةٍ، وَالضَّمَانُ مُنَافٍ لِذَلِكَ وَمُنَفِّرٌ عَنْهُ.أَمَّا إِذَا تَعَدَّى الْوَكِيلُ فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا.وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (وَكَالَةٌ).

خَامِسًا: التَّعَدِّي فِي الْإِجَارَةِ:

10- سَبَقَ الْكَلَامُ عَنِ التَّعَدِّي فِي الْإِجَارَةِ فِي مُصْطَلَحِ (إِجَارَةٌ).

سَادِسًا: التَّعَدِّي فِي الْمُضَارَبَةِ:

11- الْمُضَارَبَةُ: عَقْدٌ عَلَى الشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ بِمَالٍ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَعَمَلٍ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَلَا مُضَارَبَةَ بِدُونِهِمَا.

ثُمَّ الْمَدْفُوعُ إِلَى الْمُضَارِبِ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِأَمْرِ مَالِكِهِ، لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ وَالْوَثِيقَةِ، وَهُوَ وَكِيلٌ فِيهِ، فَإِذَا رَبِحَ فَهُوَ شَرِيكٌ فِيهِ، وَإِذَا فَسَدَتِ انْقَلَبَتْ إِجَارَةً، وَاسْتَوْجَبَ الْعَامِلُ أَجْرَ مِثْلِهِ، وَإِذَا خَالَفَ كَانَ غَاصِبًا لِوُجُودِ التَّعَدِّي مِنْهُ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (قِرَاضٌ، شَرِكَةٌ).

12- هَذَا وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَنِ التَّعَدِّي فِي الصَّدَقَةِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، فِي مُصْطَلَحِ (إِسْرَافٌ).

سَابِعًا: التَّعَدِّي عَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا:

13- التَّعَدِّي عَلَى الْأَبْدَانِ بِمَا يُوجِبُ قِصَاصًا أَوْ غَيْرَهُ هُوَ: قَتْلُ الْآدَمِيِّ بِغَيْرِ حَقٍّ، بِأَنْ لَا يَكُونَ مُرْتَدًّا، أَوْ زَانِيًا مُحْصَنًا، أَوْ قَاتِلًا لِمُكَافِئِهِ، أَوْ حَرْبِيًّا. (وَمِثْلُهُ قَتْلُ الصَّائِلِ).

وَالتَّعَدِّي عَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا: يَكُونُ بِالْمُبَاشَرَةِ أَوْ بِالتَّسَبُّبِ، كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا أَوْ حُفْرَةً فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَوَقَعَ فِيهِ إِنْسَانٌ.أَوْ بِالسَّبَبِ، كَالْإِكْرَاهِ عَلَى التَّعَدِّي.

وَالتَّعَدِّي بِأَنْوَاعِهِ يُوجِبُ الضَّمَانَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُلْحِقُ ضَرَرًا بِالْغَيْرِ.

أَمَّا الْقَتْلُ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ- وَهُوَ الْقَتْلُ بِحَقٍّ- فَلَا ضَمَانَ فِيهِ، كَرَجْمِ الزَّانِي.

وَالتَّعَدِّي عَلَى النَّفْسِ يَكُونُ بِالْقَتْلِ عَمْدًا أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ- عِنْدَ الْجُمْهُورِ- أَوْ قَتْلًا خَطَأً.وَيَجِبُ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ: الْقَوَدُ، أَوِ الدِّيَةُ.وَيَجِبُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ: الدِّيَةُ فَقَطْ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (جِنَايَةٌ، قَتْلٌ، قِصَاصٌ).

أَمَّا التَّعَدِّي عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، فَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَفِيهِ الْقِصَاصُ، أَوِ الدِّيَةُ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَفِيهِ الدِّيَةُ.عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (جِنَايَةٌ، جِرَاحٌ، قِصَاصٌ).

وَمِثْلُ التَّعَدِّي بِإِتْلَافِ الْعُضْوِ: التَّعَدِّي بِإِتْلَافِ مَنْفَعَةِ الْعُضْوِ، فَفِيهِ الضَّمَانُ أَيْضًا.

14- وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَنِ التَّعَدِّي فِي الْعُقُوبَاتِ وَالْقِصَاصِ وَالتَّعْزِيرِ فِي مُصْطَلَحِ: (إِسْرَافٌ).

ثَامِنًا: التَّعَدِّي عَلَى الْعِرْضِ:

15- التَّعَدِّي عَلَى الْأَعْرَاضِ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ الْأَعْرَاضَ يَجِبُ أَنْ تُصَانَ مِنَ الدَّنَسِ، وَقَدْ أَبَاحَ الْإِسْلَامُ دَمَ مَنِ اعْتَدَى عَلَى الْعِرْضِ، لِأَنَّ حِفْظَ الْأَعْرَاضِ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، قَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»، وَجْهُ الدَّلَالَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُ شَهِيدًا دَلَّ أَنَّ لَهُ الْقَتْلَ وَالْقِتَالَ.وَأَنَّ الدِّفَاعَ عَنِ الْعَرْضِ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى إِبَاحَتِهِ.وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ بُضْعُ زَوْجَتِهِ أَوْ غَيْرِهِ.وَمِثْلُ الدِّفَاعِ عَنِ الْبُضْعِ: الدِّفَاعُ عَنْ مُقَدِّمَاتِهِ كَالْقُبْلَةِ وَغَيْرِهَا.

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (صِيَالٌ).

تَاسِعًا: تَعَدِّي الْبُغَاةِ:

16- مَا يُتْلِفُهُ الْبُغَاةُ- إِذَا تَحَقَّقَتْ فِيهِمُ الشُّرُوطُ- مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ، يُنْظَرُ إِنْ كَانَ أَثْنَاءَ الْقِتَالِ فَلَا ضَمَانَ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ قِتَالٍ ضَمِنُوا النَّفْسَ وَالْمَالَ، وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (بُغَاةٌ).

عَاشِرًا: التَّعَدِّي فِي الْحُرُوبِ:

17- يَجِبُ مُرَاعَاةُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الْحُرُوبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ، فَلَا يَجُوزُ قِتَالُ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ، حَتَّى نَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (دَعْوَةٌ).

وَلَا يَجُوزُ فِي الْحُرُوبِ قَتْلُ مَنْ لَمْ يَحْمِلِ السِّلَاحَ مِنَ الصِّبْيَانِ، وَالْمَجَانِينِ، وَالنِّسَاءِ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ، وَالرَّاهِبِ، وَالزَّمِنِ، وَالْأَعْمَى- بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ- إِلاَّ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي الْقِتَالِ، أَوْ كَانُوا ذَا رَأْيٍ وَتَدْبِيرٍ وَمَكَايِدَ فِي الْحَرْبِ، أَوْ أَعَانُوا الْكُفَّارَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْأَسْرَى، بَلْ يَجِبُ الْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ: (جِهَادٌ، جِزْيَةٌ، أَسْرَى).

التَّعَدِّي بِالْإِطْلَاقِ الثَّانِي بِمَعْنَى الِانْتِقَالِ:

أ- تَعَدِّي الْعِلَّةِ:

الْعِلَّةُ: هِيَ الْمَعْنَى الَّذِي شُرِعَ الْحُكْمُ عِنْدَهُ تَحْصِيلًا لِلْمَصْلَحَةِ.

18- وَهِيَ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَعَدِّيَةً، أَوْ قَاصِرَةً وَتُسَمَّى (نَاقِصَةً).

فَالْمُتَعَدِّيَةُ: هِيَ الَّتِي يَثْبُتُ وُجُودُهَا فِي الْأَصْلِ وَالْفُرُوعِ، أَيْ: أَنَّهَا تَتَعَدَّى مِنْ مَحَلِّ النَّصِّ إِلَى غَيْرِهِ، كَعِلَّةِ الْإِسْكَارِ.

وَالْقَاصِرَةُ: هِيَ الَّتِي لَا تَتَعَدَّى مَحَلَّ الْأَصْلِ، كَالرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ، فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ الْأُولَى، لِإِظْهَارِ الْجَلَدِ وَالْقُوَّةِ لِلْمُشْرِكِينَ.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْأُصُولِيُّونَ: عَلَى أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْعِلَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَتِمُّ إِلاَّ بِعِلَّةٍ مُتَعَدِّيَةٍ إِلَى الْفَرْعِ، لِيُلْحَقَ بِالْأَصْلِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي التَّعْلِيلِ بِالْعِلَلِ الْقَاصِرَةِ.وَمَحَلُّ تَفْصِيلِ ذَلِكَ الْمُلْحَقُ الْأُصُولِيُّ.

ب- التَّعَدِّي بِالسِّرَايَةِ:

19- وَمِثَالُهُ: إِذَا أَوْقَدَ شَخْصٌ نَارًا فِي أَرْضِهِ أَوْ فِي مِلْكِهِ، أَوْ فِي مَوَاتِ حِجْرِهِ، أَوْ فِيمَا يَسْتَحِقُّ الِانْتِفَاعَ بِهِ، فَطَارَتْ شَرَارَةٌ إِلَى دَارِ جَارِهِ فَأَحْرَقَتْهَا، فَإِنْ كَانَ الْإِيقَادُ بِطَرِيقَةٍ مِنْ شَأْنِهَا أَلاَّ تَنْتَقِلَ النَّارُ إِلَى مِلْكِ الْغَيْرِ- فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ، وَإِلاَّ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ لِتَعَدِّيهِ، سَوَاءٌ كَانَ إِيقَادُ النَّارِ، وَالرِّيحُ عَاصِفٌ، أَمْ بِاسْتِعْمَالِ مَوَادَّ تَنْتَشِرُ مَعَهَا النَّارُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ.وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ (ضَمَانٌ، إِحْرَاقٌ).

آثَارُ التَّعَدِّي:

20- سَبَقَ أَنَّ التَّعَدِّيَ يَكُونُ عَلَى الْمَالِ، وَعَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا، وَعَلَى الْعِرْضِ، وَلِلتَّعَدِّي بِأَنْوَاعِهِ آثَارٌ نُجْمِلُهَا فِيمَا يَلِي:

(1) الضَّمَانُ: وَذَلِكَ فِيمَا يَخُصُّ الْأَمْوَالَ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ، أَوْ فِيمَا يَخُصُّ الْقَتْلَ بِأَنْوَاعِهِ، إِذَا صُولِحَ فِي عَمْدِهِ عَلَى مَالٍ، أَوْ عَفَا أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ عَنِ الْقِصَاصِ- وَمِثْلُ ذَلِكَ الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ كُلٌّ فِي بَابِهِ.

(2) الْقِصَاصُ: وَيَكُونُ فِي الْعَمْدِ مِنْ قَتْلٍ أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ أَوْ إِتْلَافِهِ مِمَّا فِيهِ الْقِصَاصُ، وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَتْلٌ، قِصَاصٌ).

(3) الْحَدُّ: وَهُوَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ التَّعَدِّي فِي السَّرِقَةِ، وَالزِّنَى، وَالْقَذْفِ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ، وَيُنْظَرُ كُلٌّ فِي مُصْطَلَحِهِ.

(4) التَّعْزِيرُ: وَهُوَ حَقُّ الْإِمَامِ يُعَاقِبُ بِهِ الْجُنَاةَ وَيَكُونُ التَّعْزِيرُ: بِالْحَبْسِ أَوْ بِالْجَلْدِ أَوْ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ مُنَاسِبًا.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (تَعْزِيرٌ).

(5) الْمَنْعُ مِنَ الْمِيرَاثِ: وَذَلِكَ كَقَتْلِ الْوَارِثِ مُوَرِّثَهُ، عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْعَمْدِ وَغَيْرِهِ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِرْثٌ).

- رحمهم الله-

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


235-موسوعة الفقه الكويتية (تغليظ)

تَغْلِيظٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّغْلِيظُ مِنْ غَلُظَ غِلَظًا خِلَافُ دَقَّ.وَكَذَا اسْتَغْلَظَ، وَالتَّغْلِيظُ التَّوْكِيدُ وَالتَّشْدِيدُ وَهُوَ مَصْدَرُ غَلَّظَ: أَيْ أَكَّدَ الشَّيْءَ وَقَوَّاهُ.وَهُوَ ضِدُّ التَّخْفِيفِ.وَمِنْهُ غَلَّظْتُ عَلَيْهِ فِي الْيَمِينِ تَغْلِيظًا أَيْ شَدَّدْتُ عَلَيْهِ وَأَكَّدْتُ.وَغَلَّظْتُ الْيَمِينَ تَغْلِيظًا أَيْضًا قَوَّيْتُهَا وَأَكَّدْتُهَا الْمُغَلَّظُ مِنَ النَّجَاسَاتِ:

2- يُقَسِّمُ الْفُقَهَاءُ النَّجَاسَاتِ إِلَى مُغَلَّظَةٍ وَمُخَفَّفَةٍ.ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ الْمُغَلَّظِ مِنَ النَّجَاسَاتِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ هِيَ نَجَاسَةُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا.

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هِيَ مَا وَرَدَ فِي نَجَاسَتِهَا نَصٌّ لَمْ يُعَارَضْ بِنَصٍّ آخَرَ، فَإِنْ عَارَضَهُ نَصٌّ فَمُخَفَّفَةٌ.وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ نَجِسٌ، فَالْأَرْوَاثُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ وَرَدَ فِيهَا نَصٌّ يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَتِهَا، وَهُوَ مَا رَوَاهُ «ابْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-، أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- طَلَبَ مِنْهُ لَيْلَةَ الْجِنِّ أَحْجَارًا لِلِاسْتِنْجَاءِ، فَأَتَى بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ، وَرَمَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ: إِنَّهَا رِكْسٌ» وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ يُعَارِضُهُ، فَكَانَتْ نَجَاسَتُهَا مُغَلَّظَةً.

أَمَّا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ فَمُخَفَّفَةٌ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي نَجَاسَتِهَا.وَبَوْلُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً مُغَلَّظَةً بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالصَّاحِبَيْنِ، لِانْعِدَامِ النَّصِّ الْمُعَارِضِ عِنْدَ الْإِمَامِ وَاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى نَجَاسَتِهِ عِنْدَهُمَا.

وَالنَّجَاسَةُ الْمُغَلَّظَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ هِيَ مَا عَدَا فَضَلَاتِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ النَّجَاسَاتِ.وَيُفَرِّقُ الْحَنَابِلَةُ فِي النَّجَاسَاتِ بَيْنَ كُلٍّ مِنَ الْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ وَبَيْنَ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ، فَنَجَاسَةُ الْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ أَشَدُّ، وَيَلِيهَا بَوْلُ الْآدَمِيِّ وَعَذِرَتِهِ، ثُمَّ سَائِرُ النَّجَاسَاتِ، ثُمَّ بَوْلُ الرَّضِيعِ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَحْكَامِ النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَنَ النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ قَدْرُ دِرْهَمٍ إِذَا أَصَابَتِ الثَّوْبَ أَوِ الْبَدَنَ فِي الصَّلَاةِ، أَمَّا الْمُخَفَّفَةُ فَيُعْفَى مَا لَيْسَ بِفَاحِشٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تَطْهُرُ النَّجَاسَةُ الْمُخَفَّفَةُ بِالدَّلْكِ.أَمَّا الْمُغَلَّظَةُ فَلَا تَطْهُرُ إِلاَّ بِالْغُسْلِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي بَابِ النَّجَاسَةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ النَّجَاسَةَ الْمُغَلَّظَةَ لَا تَطْهُرُ إِلاَّ بِسَبْعِ غَسَلَاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ، وَمَا عَدَاهَا فَتَطْهُرُ بِغَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ.

وَأَنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْ قَلِيلِ النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ وَإِنْ قَلَّتْ، أَوْ أَصَابَتِ الْبَدَنَ، أَوِ الثَّوْبَ.أَمَّا غَيْرُ الْمُغَلَّظَةِ فَيُعْفَى عَنْ قَلِيلِهَا عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي بَابِ (النَّجَاسَةُ).

الْعَوْرَةُ الْمُغَلَّظَةُ:

3- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حُرْمَةِ النَّظَرِ إِلَى الْعَوْرَةِ، وَوُجُوبِ سَتْرِهَا فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجِهَا.

وَلَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْمَالِكِيَّةَ قَسَّمُوهَا فِي الصَّلَاةِ، وَالنَّظَرِ إِلَيْهَا إِلَى: مُغَلَّظَةٍ وَمُخَفَّفَةٍ.فَالْمُغَلَّظَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ السَّوْأَتَانِ، وَهُمَا الْقُبُلُ، وَالدُّبُرُ، بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ عَلَى السَّوَاءِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْعَوْرَةَ الْمُغَلَّظَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّوْعِ، فَعَوْرَةُ الرَّجُلِ الْمُغَلَّظَةِ هِيَ السَّوْأَتَانِ فِي الصَّلَاةِ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَهِيَ مَا عَدَا صَدْرَهَا وَأَطْرَافَهَا، وَهِيَ الذِّرَاعَانِ وَالرِّجْلَانِ وَالْعُنُقُ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا صَلَّى مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ الْمُغَلَّظَةِ فَإِنَّهُ يُعِيدُ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ وَبَعْدَ الْوَقْتِ.

وَلَمْ يَرِدْ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ هَذَا التَّقْسِيمُ لِلْعَوْرَةِ، وَكُلُّ مَا جَاءَ فِيهَا أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجِدْ مَا يَسْتُرُ بِهِ الْعَوْرَةَ كُلَّهَا يُقَدِّمُ السَّوْأَتَيْنِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي بَابِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ.

تَغْلِيظُ الدِّيَةِ:

4- اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ- عَلَى أَصْلِ تَغْلِيظِ الدِّيَةِ.ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَسْبَابِ التَّغْلِيظِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَسْبَابَ التَّغْلِيظِ هِيَ مَا يَأْتِي:

أ- أَنْ يَقَعَ الْقَتْلُ فِي حَرَمِ مَكَّةَ.

ب- أَنْ يَقْتُلَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَهِيَ ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ.

ج- أَنْ يَقْتُلَ قَرِيبًا لَهُ مَحْرَمًا.وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

د- أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ عَمْدًا أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ.

هـ- أَنْ يَقْتُلَ فِي الْإِحْرَامِ، أَيْ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مُحْرِمًا وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُغَلَّظُ فِي قَتْلٍ لَمْ يَجِبْ فِيهِ قِصَاصٌ، كَقَتْلِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ، وَالْمُرَادُ الْأَبُ وَإِنْ عَلَا، وَالْأُمُّ كَذَلِكَ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا تَغْلِيظَ إِلاَّ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ إِنْ قَضَى الدِّيَةَ مِنَ الْإِبِلِ، وَإِنْ قَضَى مِنْ غَيْرِ الْإِبِلِ فَلَا تُغَلَّظُ.

أَمَّا صِفَةُ التَّغْلِيظِ وَبَاقِي التَّفَاصِيلِ فَيُرْجَعُ فِيهَا إِلَى مُصْطَلَحِ (دِيَةٌ).

مَا يَجْرِي التَّغْلِيظُ فِيهِ مِنَ الدَّعَاوَى

5- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّغْلِيظَ يَجْرِي فِي دَعْوَى الدَّمِ، وَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالرَّجْعَةِ، وَالْإِيلَاءِ، وَاللِّعَانِ، وَالْعِدَّةِ، وَالْحِدَادِ، وَالْوَلَاءِ، وَالْوَكَالَةِ، وَالْوِصَايَةِ، وَكُلِّ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَا يُقْصَدُ مِنْهُ الْمَالُ.أَمَّا الْأَمْوَالُ فَيَجْرِي التَّغْلِيظُ فِي كَثِيرِهَا، وَهُوَ نِصَابُ الزَّكَاةِ عِشْرُونَ دِينَارًا أَوْ مِائَتَا دِرْهَمٍ.

أَمَّا قَلِيلُهَا- وَهُوَ مَا دُونَ ذَلِكَ- فَلَا تَغْلِيظَ فِيهِ، إِلاَّ أَنْ يَرَى الْقَاضِي التَّغْلِيظَ لِجُرْأَةِ الْحَالِفِ.

أَمَّا الْيَمِينُ الَّتِي تُغَلَّظُ فَيَسْتَوِي فِيهِ يَمِينُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ، وَالْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ.

وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا تُغَلَّظُ الْيَمِينُ إِلاَّ فِيمَا لَهُ خَطَرٌ، كَالْجِنَايَاتِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعِتَاقِ، وَمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنَ الْمَالِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يُغَلَّظُ الْيَمِينُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَأَكْثَرَ.

صِفَةُ تَغْلِيظِ الْأَيْمَانِ:

6- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَغْلِيظِ الْأَيْمَانِ فِي الْخُصُومَاتِ بِزِيَادَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي الْوُجُوبِ وَالِاسْتِحْبَابِ وَالْجَوَازِ.كَأَنْ يَقُولَ الْحَالِفُ مَثَلًا: بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الَّذِي يَعْلَمُ مِنَ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنَ الْعَلَانِيَةِ.

وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-، «أَنَّ رَجُلًا حَلَفَ بَيْنَ يَدَيِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- بِذَلِكَ»، وَلِأَنَّ فِي النَّاسِ مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ الْيَمِينِ إِذَا غُلِّظَ عَلَيْهِ، وَيَتَجَاسَرُ بِدُونِهَا.

وَاخْتَلَفُوا فِي تَغْلِيظِهَا بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى: أَنَّهَا تُغَلَّظُ بِالْمَكَانِ كَالْجَامِعِ، وَأَدَاءُ الْقَسَمِ بِالْقِيَامِ، وَعِنْدَ مِنْبَرِهِ- صلى الله عليه وسلم- إِنْ وَقَعَ الْيَمِينُ فِي الْمَدِينَةِ، وَلَا يُغَلَّظُ بِالزَّمَانِ عِنْدَهُمْ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يُغَلَّظُ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، فَيَجْرِي بَعْدَ صَلَاةِ عَصْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مَثَلًا فِي الْجَامِعِ فِي غَيْرِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَفِيهِمَا عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَعِنْدَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ.

وَهَلِ التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ مُسْتَحَبٌّ أَمْ وَاجِبٌ لَا يُعْتَدُّ بِالْقَسَمِ إِلاَّ بِهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ، أَظْهَرُهُمَا: الْأَوَّلُ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: وَاجِبٌ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّهُ لَا تُغَلَّظُ الْيَمِينُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، لَا بِالزَّمَانِ وَلَا بِالْمَكَانِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ، وَهُوَ حَاصِلٌ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ كَمَا يَحْصُلُ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَكِنَّ الْحَنَابِلَةَ جَوَّزُوا التَّغْلِيظَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ إِنْ رَأَى الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً، وَتُغَلَّظُ الْيَمِينُ عِنْدَ الْمَذْهَبَيْنِ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ.

7- وَهَلْ يَتَوَقَّفُ تَغْلِيظُ الْيَمِينِ عَلَى طَلَبِ الْخَصْمِ، أَمْ يُغَلِّظُ الْقَاضِي وَإِنْ لَمْ يَطْلُبِ الْخَصْمُ؟

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّغْلِيظَ إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي، وَلَا دَخْلَ لِلْخَصْمِ فِي التَّغْلِيظِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ التَّغْلِيظَ فِي الْيَمِينِ هُوَ حَقٌّ لِلْخَصْمِ، فَإِنْ طَلَبَ الْخَصْمُ غُلِّظَتْ وُجُوبًا، فَإِنْ أَبَى مَنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ مِمَّا طَلَبَهُ الْمُحَلِّفُ مِنَ التَّغْلِيظِ عُدَّ نَاكِلًا.

وَانْظُرْ لِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيلِ مُصْطَلَحَ (أَيْمَانٌ).

التَّغْلِيظُ فِي اللِّعَانِ:

8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَغْلِيظِ اللِّعَانِ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَغْلِيظِهِ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَيَجْرِي اللِّعَانُ عِنْدَهُمْ فِي أَشْرَفِ مَوَاضِعِ الْبَلَدِ، فَإِنْ كَانَ فِي مَكَّةَ فَبَيْنَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ وَالْمَقَامِ، وَفِي الْمَدِينَةِ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، وَفِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ فِي الْجَامِعِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ.وَيُلَاعِنُ غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُعَظِّمُونَهُ كَالْكَنَائِسِ عِنْدَ النَّصَارَى، وَبَيْتِ النَّارِ لِلْمَجُوسِ.وَقَالَ الْقَفَّالُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا بَلْ يُلَاعَنُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ أَوْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَا يُؤْتَى بَيْتَ الْأَصْنَامِ فِي لِعَانِ الْوَثَنِيِّينَ؛ لِأَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْحُرْمَةِ، وَاعْتِقَادُهُمْ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ.

وَيُغَلَّظُ بِالزَّمَانِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ.

وَيُغَلَّظُ بِحُضُورِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْيَانِ الْبَلَدِ وَصُلَحَائِهِ.

ثُمَّ التَّغْلِيظُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ وُقُوعُهُ بَعْدَ صَلَاةٍ، فَهُوَ مَنْدُوبٌ عِنْدَهُمْ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيهِ أَقْوَالٌ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُمُ الِاسْتِحْبَابُ فِي الْجَمِيعِ.وَلَا يُغَلَّظُ اللِّعَانُ بِالزَّمَانِ وَلَا بِالْمَكَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَطْلَقَ الْأَمْرَ بِذَلِكَ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِزَمَنٍ وَلَا مَكَانٍ فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ هِلَالًا بِإِحْضَارِ امْرَأَتِهِ، وَلَمْ يَخُصَّهُ بِزَمَنٍ وَلَا مَكَانٍ، وَلَوْ خَصَّهُ بِذَلِكَ لَنُقِلَ وَلَمْ يُهْمَلْ.

وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَلَاعَنَا فِي الْأَزْمَانِ وَالْأَمَاكِنِ الَّتِي تُعَظَّمُ.

تَغْلِيظُ عُقُوبَةِ التَّعْزِيرِ:

9- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ تَغْلِيظَ عُقُوبَةِ التَّعْزِيرِ- وَهِيَ كُلُّ عُقُوبَةٍ شُرِعَتْ فِي مَعْصِيَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ- يَكُونُ بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الزَّجْرُ وَأَحْوَالُ النَّاسِ تَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


236-موسوعة الفقه الكويتية (تكفين)

تَكْفِينٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّكْفِينُ: مَصْدَرُ كَفَّنَ، وَمِثْلُهُ الْكَفَنُ، وَمَعْنَاهُمَا فِي اللُّغَةِ: التَّغْطِيَةُ وَالسَّتْرُ.

وَمِنْهُ: سُمِّيَ كَفَنُ الْمَيِّتِ، لِأَنَّهُ يَسْتُرُهُ

وَمِنْهُ: تَكْفِينُ الْمَيِّتِ أَيْ لَفُّهُ بِالْكَفَنِ

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنْ ذَلِكَ

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

2- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَكْفِينَ الْمَيِّتِ بِمَا يَسْتُرُهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ».وَلِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ خَبَّابٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نَلْتَمِسُ وَجْهَ اللَّهِ، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَاتَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ: مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يُهْدِيهَا قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ نَجِدْ مَا نُكَفِّنُهُ إِلاَّ بُرْدَةً، إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَأَمَرَنَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ، وَأَنْ نَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الْإِذْخِرِ»

صِفَةُ الْكَفَنِ:

3- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَيِّتَ يُكَفَّنُ- بَعْدَ طُهْرِهِ- بِشَيْءٍ مِنْ جِنْسِ مَا يَجُوزُ لَهُ لُبْسُهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، فَيُكَفَّنُ فِي الْجَائِزِ مِنَ اللِّبَاسِ.

وَلَا يَجُوزُ تَكْفِينُ الرَّجُلِ بِالْحَرِيرِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَجُوزُ تَكْفِينُهَا فِيهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا لُبْسُهُ فِي الْحَيَاةِ، لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ، لِأَنَّ فِيهِ سَرَفًا وَيُشْبِهُ إِضَاعَةَ الْمَالِ، بِخِلَافِ لُبْسِهَا إِيَّاهُ فِي الْحَيَاةِ، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ شَرْعًا.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَحْرُمُ التَّكْفِينُ فِيهِ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ ذَكَرًا كَانَ الْمَيِّتُ أَوْ أُنْثَى؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أُبِيحَ الْحَرِيرُ لِلْمَرْأَةِ حَالَ الْحَيَاةِ، لِأَنَّهَا مَحَلُّ زِينَةٍ وَقَدْ زَالَ بِمَوْتِهَا.

وَيُسْتَحَبُّ تَحْسِينُ الْكَفَنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بِأَنْ يُكَفَّنَ فِي مَلْبُوسِ مِثْلِهِ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ مَا لَمْ يُوصِ بِأَدْنَى مِنْهُ، فَتُتَّبَعُ وَصِيَّتُهُ، لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ».

وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَيَجِبُ أَنْ يُكَفَّنَ الْمَيِّتُ فِي مَلْبُوسِ مِثْلِهِ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ إِذَا لَمْ يُوصِ بِدُونِهِ، لِأَمْرِ الشَّارِعِ بِتَحْسِينِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الْأَكْفَانِ الْمُبَاحَةِ حَالَ الْمَيِّتِ، فَإِنْ كَانَ مُكْثِرًا فَمِنْ جِيَادِ الثِّيَابِ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَسِّطًا فَأَوْسَطُهَا، وَإِنْ كَانَ مُقِلًّا فَخَشِنُهَا.

وَتُجْزِئُ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْقُمَاشِ، وَالْخَلِقُ إِذَا غُسِلَ وَالْجَدِيدُ سَوَاءٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: اغْسِلُوا ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ وَكَفِّنُونِي فِيهِمَا فَإِنَّهُمَا لِلْمُهْلِ وَالصَّدِيدِ.

وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ التَّكْفِينُ بِالثِّيَابِ الْبِيضِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ».

وَيُشْتَرَطُ فِي الْكَفَنِ أَلاَّ يَصِفَ الْبَشَرَةَ، لِأَنَّ مَا يَصِفُهَا غَيْرُ سَاتِرٍ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَيُكْرَهُ إِذَا كَانَ يَحْكِي هَيْئَةَ الْبَدَنِ، وَإِنْ لَمْ يَصِفِ الْبَشَرَةَ.

وَتُكْرَهُ الْمُغَالَاةُ فِي الْكَفَنِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تُغَالُوا فِي الْكَفَنِ فَإِنَّهُ يُسْلَبُ سَلَبًا سَرِيعًا».

كَمَا يُكْرَهُ التَّكْفِينُ بِمُزَعْفَرٍ، وَمُعَصْفَرٍ، وَشَعْرٍ، وَصُوفٍ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ خِلَافُ فِعْلِ السَّلَفِ.

وَيَحْرُمُ التَّكْفِينُ بِالْجُلُودِ لِأَمْرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِنَزْعِ الْجُلُودِ عَنِ الشُّهَدَاءِ، وَأَنْ يُدْفَنُوا فِي ثِيَابِهِمْ.

وَلَا يُكَفَّنُ الْمَيِّتُ فِي مُتَنَجِّسٍ نَجَاسَةً لَا يُعْفَى عَنْهَا وَإِنْ جَازَ لَهُ لُبْسُهُ خَارِجَ الصَّلَاةِ مَعَ وُجُودِ طَاهِرٍ، وَلَوْ كَانَ الطَّاهِرُ حَرِيرًا.أَنْوَاعُ الْكَفَنِ:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَفَنَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:

1- كَفَنُ السُّنَّةِ.

2- كَفَنُ الْكِفَايَةِ.

3- كَفَنُ الضَّرُورَةِ.

4- أ- كَفَنُ السُّنَّةِ: هُوَ أَكْمَلُ الْأَكْفَانِ، وَهُوَ لِلرَّجُلِ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ: إِزَارٌ وَقَمِيصٌ وَلِفَافَةُ، وَالْقَمِيصُ مِنْ أَصْلِ الْعُنُقِ إِلَى الْقَدَمَيْنِ بِلَا دِخْرِيصٍ وَلَا أَكْمَامٍ.وَالْإِزَارُ لِلْمَيِّتِ مِنْ أَعْلَى الرَّأْسِ إِلَى الْقَدَمِ بِخِلَافِ إِزَارِ الْحَيِّ وَاللِّفَافَةُ كَذَلِكَ.لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، فَإِنَّهُ قَالَ: كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ: قَمِيصٌ وَإِزَارٌ وَلِفَافَةٌ.

وَلِلْمَرْأَةِ خَمْسَةُ أَثْوَابٍ: قَمِيصٌ وَإِزَارٌ وَخِمَارٌ وَلِفَافَةٌ وَخِرْقَةٌ تُرْبَطُ فَوْقَ ثَدْيَيْهَا، لِحَدِيثِ أُمِّ لَيْلَى بِنْتِ قَانِفٍ الثَّقَفِيَّةِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَاوَلَ اللَّوَاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ فِي كَفَنِهَا ثَوْبًا ثَوْبًا حَتَّى نَاوَلَهُنَّ خَمْسَةَ أَثْوَابٍ» وَلِأَنَّهَا تَخْرُجُ فِيهَا حَالَةَ الْحَيَاةِ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ.

5- ب- كَفَنُ الْكِفَايَةِ: هُوَ أَدْنَى مَا يُلْبَسُ حَالَ الْحَيَاةِ، وَهُوَ ثَوْبَانِ لِلرَّجُلِ فِي الْأَصَحِّ، لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ- رضي الله عنه- حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ: كَفِّنُونِي فِي ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ اللَّذَيْنِ كُنْتُ أُصَلِّي فِيهِمَا، وَاغْسِلُوهُمَا، فَإِنَّهُمَا لِلْمُهْلِ وَالتُّرَابِ

وَلِأَنَّ أَدْنَى مَا يَلْبَسُهُ الرَّجُلُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ ثَوْبَانِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ فِيهِمَا، وَيُصَلِّيَ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، فَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفَّنَ فِيهِمَا أَيْضًا.

وَيُكْرَهُ أَنْ يُكَفَّنَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ تَجُوزُ صَلَاتُهُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مَعَ الْكَرَاهَةِ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ.

وَالْمُرَاهِقُ كَالرَّجُلِ يُكَفَّنُ فِيمَا يُكَفَّنُ فِيهِ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّ الْمُرَاهِقَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ يَخْرُجُ فِيمَا يَخْرُجُ فِيهِ الْبَالِغُ عَادَةً، فَكَذَا يُكَفَّنُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا لَمْ يُرَاهِقْ، فَإِنْ كُفِّنَ فِي خِرْقَتَيْنِ إِزَارٍ وَرِدَاءٍ فَحَسَنٌ، وَإِنْ كُفِّنَ فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ جَازَ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ كَانَ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ فِي حَقِّهِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ.

وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَأَقَلُّ مَا تُكَفَّنُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ: إِزَارٌ وَرِدَاءٌ وَخِمَارٌ، لِأَنَّ مَعْنَى السَّتْرِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ يَحْصُلُ بِثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ، حَتَّى يَجُوزَ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ فِيهَا وَتَخْرُجَ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ.وَيُكْرَهُ أَنْ تُكَفَّنَ الْمَرْأَةُ فِي ثَوْبَيْنِ.

وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تُكَفَّنَ فِي ثَوْبَيْنِ، وَالْمُرَاهِقَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَالِغَةِ فِي الْكَفَنِ، وَالسِّقْطُ يُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حُرْمَةٌ كَامِلَةٌ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا وَرَدَ بِتَكْفِينِ الْمَيِّتِ، وَاسْمُ الْمَيِّتِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ، كَمَا لَا يَنْطَلِقُ عَلَى بَعْضِ الْمَيِّتِ.

6- ج- الْكَفَنُ الضَّرُورِيُّ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ: هُوَ مِقْدَارُ مَا يُوجَدُ حَالَ الضَّرُورَةِ أَوِ الْعَجْزِ بِأَنْ كَانَ لَا يُوجَدُ غَيْرُهُ، وَأَقَلُّهُ مَا يَعُمُّ الْبَدَنَ، لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ فِي تَكْفِينِ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ- رضي الله عنه-، وَكَذَا رُوِيَ «أَنَّ حَمْزَةَ- رضي الله عنه- لَمَّا اسْتَشْهَدَ كُفِّنَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَمْ يُوجَدْ لَهُ غَيْرُهُ» فَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ.

7- وَأَقَلُّ الْكَفَنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، وَأَكْثَرُهُ سَبْعَةٌ.وَيُسْتَحَبُّ الْوِتْرُ فِي الْكَفَنِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُلُ بِخَمْسَةِ أَثْوَابٍ، وَهِيَ: الْقَمِيصُ وَالْعِمَامَةُ وَالْإِزَارُ وَلِفَافَتَانِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُزَادَ لِلرَّجُلِ عَلَيْهَا.وَالْأَفْضَلُ أَنْ تُكَفَّنَ الْمَرْأَةُ فِي سَبْعَةِ أَثْوَابٍ.دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَإِزَارٌ وَأَرْبَعُ لَفَائِفَ، وَنُدِبَ خِمَارٌ يُلَفُّ عَلَى رَأْسِ الْمَرْأَةِ وَوَجْهِهَا بَدَلَ الْعِمَامَةِ لِلرَّجُلِ، وَنُدِبَ عَذَبَةٌ قَدْرُ ذِرَاعٍ تُجْعَلُ عَلَى وَجْهِ الرَّجُلِ.

8- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: أَقَلُّ الْكَفَنِ ثَوْبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ.وَفِي قَدْرِ الثَّوْبِ الْوَاجِبِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ، وَهِيَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ فِي الرَّجُلِ، وَمَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ فِي الْمَرْأَةِ.

وَالثَّانِي: مَا يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِهِ إِلاَّ رَأْسَ الْمُحْرِمِ وَوَجْهَ الْمُحْرِمَةِ.

وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُلُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ: إِزَارٍ وَلِفَافَتَيْنِ بِيضٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-، قَالَتْ: «كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ سُحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ».

وَالْبَالِغُ وَالصَّبِيُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَإِنْ كُفِّنَ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ لَمْ يُكْرَهْ، لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- كَانَ يُكَفِّنُ أَهْلَهُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ فِيهَا قَمِيصٌ وَعِمَامَةٌ، وَلِأَنَّ أَكْمَلَ ثِيَابِ الْحَيِّ خَمْسَةٌ، وَيُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ سَرَفٌ.

وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تُكَفَّنُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ: إِزَارٍ وَدِرْعٍ (قَمِيصٍ) وَخِمَارٍ وَلِفَافَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- كَفَّنَ فِيهَا ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ.لِمَا رَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: نَاوَلَهَا إِزَارًا وَدِرْعًا وَخِمَارًا وَثَوْبَيْنِ» وَيُكْرَهُ مُجَاوَزَةُ الْخَمْسَةِ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَالْخُنْثَى كَالْمَرْأَةِ.9

- وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْكَفَنُ الْوَاجِبُ ثَوْبٌ يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِ الْمَيِّتِ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُلُ فِي ثَلَاثِ لَفَائِفَ، وَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ فِي الْكَفَنِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْهُ.

وَيَجُوزُ التَّكْفِينُ فِي ثَوْبَيْنِ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ» وَكَانَ سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ يَقُولُ: يُكَفَّنُ فِي ثَوْبَيْنِ.

وَقَالَ أَحْمَدُ: يُكَفَّنُ الصَّبِيُّ فِي خِرْقَةٍ (أَيْ ثَوْبٍ وَاحِدٍ) وَإِنْ كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةٍ فَلَا بَأْسَ.

تَعْمِيمُ الْمَيِّتِ:

10- الْأَفْضَلُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُلُ فِي ثَلَاثِ لَفَائِفَ بِيضٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْكَفَنِ عِمَامَةٌ لَمْ يُكْرَهْ، لَكِنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْأَفْضَلُ أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُلُ بِخَمْسَةِ أَثْوَابٍ وَهِيَ: قَمِيصٌ، وَعِمَامَةٌ، وَإِزَارٌ، وَلِفَافَتَانِ.وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَتُكْرَهُ الْعِمَامَةُ فِي الْأَصَحِّ، لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي كَفَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَلِأَنَّهَا لَوْ وُجِدَتِ الْعِمَامَةُ لَصَارَ الْكَفَنُ شَفْعًا، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ وِتْرًا، وَاسْتَحْسَنَهَا الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- كَانَ يُعَمِّمُ الْمَيِّتَ مِنْ أَهْلِهِ وَيَجْعَلُ الْعَذَبَةَ عَلَى وَجْهِهِ.

عَلَى مَنْ يَجِبُ الْكَفَنُ:

11- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ كَفَنَ الْمَيِّتِ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَيُكَفَّنُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ إِلاَّ حَقًّا تَعَلَّقَ بِعَيْنٍ كَالرَّهْنِ وَيُقَدَّمُ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ فَصَارَ كَنَفَقَتِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَهِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ.وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَكَفَنُهُ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ- وَإِذَا تَعَدَّدَ مَنْ وَجَبَتِ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ كَفَنُهُ عَلَيْهِمْ، عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي بَابِ النَّفَقَاتِ- كَمَا تَلْزَمُ كِسْوَتُهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ.وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَلَا مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ فَكَفَنُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، كَنَفَقَتِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ لِأَنَّهُ أُعِدَّ لِحَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ.

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ تَكْفِينُهُ، فَإِنْ عَجَزُوا سَأَلُوا النَّاسَ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ غُسِّلَ وَجُعِلَ عَلَيْهِ الْإِذْخِرُ (أَوْ نَحْوُهُ مِنَ النَّبَاتِ) وَدُفِنَ وَيُصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ.

وَعَلَى الزَّوْجِ تَكْفِينُ زَوْجَتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْلٍ مُفْتَى بِهِ، وَالْمَالِكِيَّةِ فِي قَوْلٍ، وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ، لِأَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى زَوْجِهَا فِي حَالِ حَيَاتِهَا، فَكَذَلِكَ التَّكْفِينُ وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ التَّفْرِيقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ غَيْرُ مَعْقُولٍ.

وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ كَفَنُ امْرَأَتِهِ وَلَا مُؤْنَةُ تَجْهِيزِهَا؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ وَجَبَا فِي حَالَةِ الزَّوَاجِ وَقَدِ انْقَطَعَ بِالْمَوْتِ فَأَشْبَهَتِ الْأَجْنَبِيَّةَ.وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ كَفَنُ زَوْجِهَا بِالْإِجْمَاعِ، كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهَا كِسْوَتُهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ.

كَيْفِيَّةُ تَكْفِينِ الرَّجُلِ:

12- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْأَكْفَانَ تُجَمَّرُ أَيْ تُطَيَّبُ أَوَّلًا وِتْرًا قَبْلَ التَّكْفِينِ بِهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا أَجْمَرْتُمُ الْمَيِّتَ فَأَجْمِرُوا وِتْرًا» وَلِأَنَّ الثَّوْبَ الْجَدِيدَ أَوِ الْغَسِيلَ مِمَّا يُطَيَّبُ وَيُجَمَّرُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ، ثُمَّ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ تُؤْخَذَ أَحْسَنُ اللَّفَائِفِ وَأَوْسَعُهَا فَتُبْسَطُ أَوَّلًا لِيَكُونَ الظَّاهِرُ لِلنَّاسِ حُسْنُهَا، فَإِنَّ هَذَا عَادَةُ الْحَيِّ يُجْعَلُ الظَّاهِرُ أَفْخَرَ ثِيَابِهِ.وَيُجْعَلُ عَلَيْهَا حَنُوطٌ، ثُمَّ تُبْسَطُ الثَّانِيَةُ الَّتِي تَلِيهَا فِي الْحُسْنِ وَالسَّعَةِ عَلَيْهَا، وَيُجْعَلُ فَوْقَهَا حَنُوطٌ وَكَافُورٌ ثُمَّ تُبْسَطُ فَوْقَهُمَا الثَّالِثَةُ وَيُجْعَلُ فَوْقَهَا حَنُوطٌ وَكَافُورٌ، وَلَا يُجْعَلُ عَلَى وَجْهِ الْعُلْيَا وَلَا عَلَى النَّعْشِ شَيْءٌ مِنَ الْحَنُوطِ، لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ- رضي الله عنه- قَالَ: لَا تَجْعَلُوا عَلَى أَكْفَانِي حَنُوطًا ثُمَّ يُحْمَلُ الْمَيِّتُ مَسْتُورًا بِثَوْبٍ وَيُتْرَكُ عَلَى الْكَفَنِ مُسْتَلْقِيًا عَلَى ظَهْرِهِ بَعْدَ مَا يُجَفَّفُ، وَيُؤْخَذُ قُطْنٌ فَيُجْعَلُ فِيهِ الْحَنُوطُ وَالْكَافُورُ وَيُجْعَلُ بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ وَيُشَدُّ عَلَيْهِ كَمَا يُشَدُّ التُّبَّانُ.

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤْخَذَ الْقُطْنُ وَيُجْعَلُ عَلَيْهِ الْحَنُوطُ وَالْكَافُورُ وَيُتْرَكُ عَلَى الْفَمِ وَالْمَنْخِرَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ وَعَلَى جِرَاحٍ نَافِذَةٍ إِنْ وُجِدَتْ عَلَيْهِ لِيَخْفَى مَا يَظْهَرُ مِنْ رَائِحَتِهِ، وَيُجْعَلُ الْحَنُوطُ وَالْكَافُورُ عَلَى قُطْنٍ وَيُتْرَكُ عَلَى مَوَاضِعِ السُّجُودِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: تُتْبَعُ مَسَاجِدُهُ بِالطِّيبِ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ شُرِّفَتْ بِالسُّجُودِ فَخُصَّتْ بِالطِّيبِ.

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحَنَّطَ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ بِالْكَافُورِ كَمَا يَفْعَلُ الْحَيُّ إِذَا تَطَيَّبَ، ثُمَّ يُلَفُّ الْكَفَنُ عَلَيْهِ بِأَنْ يُثْنَى مِنَ الثَّوْبِ الَّذِي يَلِي الْمَيِّتَ طَرَفُهُ الَّذِي يَلِي شِقَّهُ الْأَيْسَرَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، وَاَلَّذِي يَلِي الْأَيْمَنَ عَلَى الْأَيْسَرِ، كَمَا يَفْعَلُ الْحَيُّ بِالْقَبَاءِ، ثُمَّ يُلَفُّ الثَّانِي وَالثَّالِثُ كَذَلِكَ، وَإِذَا لُفَّ الْكَفَنُ عَلَيْهِ جُمِعَ الْفَاضِلُ عِنْدَ رَأْسِهِ جَمْعَ الْعِمَامَةِ، وَرُدَّ عَلَى وَجْهِهِ وَصَدْرِهِ إِلَى حَيْثُ بَلَغَ، وَمَا فَضَلَ عِنْدَ رِجْلَيْهِ يُجْعَلُ عَلَى الْقَدَمَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ، ثُمَّ تُشَدُّ الْأَكْفَانُ عَلَيْهِ بِشِدَادٍ خِيفَةَ انْتِشَارِهَا عِنْدَ الْحَمْلِ، فَإِذَا وُضِعَ فِي الْقَبْرِ حُلَّ الشِّدَادُ، هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَكَذَلِكَ إِلاَّ أَنَّهُ يُلْبَسُ الْقَمِيصَ أَوَّلًا إِنْ كَانَ لَهُ قَمِيصٌ ثُمَّ يُعْطَفُ الْإِزَارُ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا سَبَقَ ثُمَّ تُعْطَفُ اللِّفَافَةُ وَهِيَ الرِّدَاءُ كَذَلِكَ.

أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَيَكُونُ الْإِزَارُ مِنْ فَوْقِ السُّرَّةِ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ تَحْتَ الْقَمِيصِ وَاللَّفَائِفِ فَوْقَ ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَيُزَادُ عَلَيْهَا الْحِفَاظُ وَهِيَ خِرْقَةٌ تُشَدُّ عَلَى قُطْنٍ بَيْنَ فَخِذَيْهِ خِيفَةَ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْمَخْرَجَيْنِ، وَاللِّثَامُ وَهُوَ خِرْقَةٌ تُوضَعُ عَلَى قُطْنٍ يُجْعَلُ عَلَى فَمِهِ وَأَنْفِهِ خِيفَةَ مَا يَخْرُجُ مِنْهُمَا.

كَيْفِيَّةُ تَكْفِينِ الْمَرْأَةِ:

12 م- وَأَمَّا تَكْفِينُ الْمَرْأَةِ فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: تُبْسَطُ لَهَا اللِّفَافَةُ وَالْإِزَارُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الرَّجُلِ، ثُمَّ تُوضَعُ عَلَى الْإِزَارِ وَتُلْبَسُ الدِّرْعَ، وَيُجْعَلُ شَعْرُهَا ضَفِيرَتَيْنِ عَلَى صَدْرِهَا فَوْقَ الدِّرْعِ، وَيُسْدَلُ شَعْرُهَا مَا بَيْنَ ثَدْيَيْهَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا تَحْتَ الْخِمَارِ، وَلَا يُسْدَلُ شَعْرُهَا خَلْفَ ظَهْرِهَا، ثُمَّ يُجْعَلُ الْخِمَارُ فَوْقَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُعْطَفُ الْإِزَارُ وَاللِّفَافَةُ كَمَا قَالُوا فِي الرَّجُلِ: ثُمَّ الْخِرْقَةُ فَوْقَ ذَلِكَ تُرْبَطُ فَوْقَ الْأَكْفَانِ فَوْقَ الثَّدْيَيْنِ وَالْبَطْنِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا تُلْبَسُ الْإِزَارَ مِنْ تَحْتِ إِبِطَيْهَا إِلَى كَعْبَيْهَا، ثُمَّ تُلْبَسُ الْقَمِيصَ، ثُمَّ تُخَمَّرُ بِخِمَارٍ يُخَمَّرُ بِهِ رَأْسُهَا وَرَقَبَتُهَا، ثُمَّ تُلَفُّ بِأَرْبَعِ لَفَائِفَ، وَيُزَادُ عَلَيْهَا الْحِفَاظُ وَاللِّثَامُ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمُفْتَى بِهِ تُؤَزَّرُ بِإِزَارٍ، ثُمَّ تُلْبَسُ الدِّرْعَ، ثُمَّ تُخَمَّرُ بِخِمَارٍ، ثُمَّ تُدَرَّجُ فِي ثَوْبَيْنِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ- رحمه الله-: وَيُشَدُّ عَلَى صَدْرِهَا ثَوْبٌ لِيَضُمَّ ثِيَابَهَا فَلَا تَنْتَشِرُ.

وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَتُشَدُّ الْخِرْقَةُ عَلَى فَخِذَيْهَا أَوَّلًا، ثُمَّ تُؤَزَّرُ بِالْمِئْزَرِ، ثُمَّ تُلْبَسُ الْقَمِيصَ، ثُمَّ تُخَمَّرُ بِالْمِقْنَعَةِ ثُمَّ تُلَفُّ بِلِفَافَتَيْنِ عَلَى الْأَصَحِّ.

كَيْفِيَّةُ تَكْفِينِ الْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ:

13- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِذَا مَاتَ الْمُحْرِمُ وَالْمُحْرِمَةُ حَرُمَ تَطْيِيبُهُمَا وَأَخْذُ شَيْءٍ مِنْ شَعْرِهِمَا أَوْ ظُفْرِهِمَا، وَحَرُمَ سَتْرُ رَأْسِ الرَّجُلِ وَإِلْبَاسُهُ مَخِيطًا.وَحَرُمَ سَتْرُ وَجْهِ الْمُحْرِمَةِ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ فَمَاتَ: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ اللَّذَيْنِ مَاتَ فِيهِمَا، وَلَا تُمِسُّوهُ بِطِيبٍ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا».

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يُكَفَّنُ الْمُحْرِمُ وَالْمُحْرِمَةُ، كَمَا يُكَفَّنُ غَيْرُ الْمُحْرِمِ أَيْ يُغَطَّى رَأْسُهُ وَوَجْهُهُ وَيُطَيَّبُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ يَمُوتُ: خَمِّرُوهُمْ وَلَا تُشَبِّهُوهُمْ بِالْيَهُودِ» وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ: إِذَا مَاتَ انْقَطَعَ إِحْرَامُهُ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلَاثٍ: وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ، أَوْ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ».

وَالْإِحْرَامُ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ.

تَكْفِينُ الشَّهِيدِ:

14- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ شَهِيدَ الْمَعْرَكَةِ- الَّذِي قَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، أَوْ وُجِدَ بِالْمَعْرَكَةِ جَرِيحًا، أَوْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ ظُلْمًا وَلَمْ يَجِبْ فِيهِ مَالٌ- يُكَفَّنُ فِي ثِيَابِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ» وَقَدْ رُوِيَ فِي ثِيَابِهِمْ، وَعَنْ عَمَّارٍ وَزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا..الْحَدِيثَ، غَيْرَ أَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ الْجُلُودُ وَالسِّلَاحُ وَالْفَرْوُ وَالْحَشْوُ وَالْخُفُّ وَالْمِنْطَقَةُ وَالْقَلَنْسُوَةُ.لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: تُنْزَعُ عَنْهُ الْعِمَامَةُ وَالْخُفَّانِ وَالْقَلَنْسُوَةُ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمُ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ، وَأَنْ يُدْفَنُوا بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِمْ.» وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي أُمِرَ بِنَزْعِهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْكَفَنِ، وَلِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «زَمِّلُوهُمْ بِثِيَابِهِمُ» الثِّيَابُ الَّتِي يُكَفَّنُ بِهَا وَتُلْبَسُ لِلسَّتْرِ، وَلِأَنَّ الدَّفْنَ بِالسِّلَاحِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ كَانَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدْفِنُونَ أَبْطَالَهُمْ بِمَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَسْلِحَةِ وَقَدْ نُهِينَا عَنِ التَّشَبُّهِ بِهِمْ.

وَيَجُوزُ أَنْ يُزَادَ فِي أَكْفَانِهِمْ أَوْ يُنْقَصُ عَلَى أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْ كَفَنِ السُّنَّةِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ خَبَّابٍ أَنَّ «حَمْزَةَ- رضي الله عنه- لَمْ يُوجَدْ لَهُ كَفَنٌ إِلاَّ بُرْدَةٌ مَلْحَاءُ إِذَا جُعِلَتْ عَلَى قَدَمَيْهِ قَلَصَتْ عَنْ رَأْسِهِ حَتَّى مُدَّتْ عَلَى رَأْسِهِ وَجُعِلَ عَلَى قَدَمَيْهِ الْإِذْخِرُ».

وَذَاكَ زِيَادَةٌ، وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى مَا عَلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ عَدَدَ السُّنَّةِ مِنْ بَابِ الْكَمَالِ وَأَمَّا النُّقْصَانُ فَهُوَ مِنْ بَابِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْوَرَثَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مِنَ الثِّيَابِ مَا يَضُرُّ بِالْوَرَثَةِ تَرْكُهُ عَلَيْهِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.أَنَّ شَهِيدَ الْمَعْرَكَةِ يُدْفَنُ بِثِيَابِهِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا وُجُوبًا إِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً وَإِلاَّ فَلَا يُدْفَنُ بِهَا، وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَسْتُرَهُ كُلَّهُ فَتُمْنَعُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، فَإِنْ لَمْ تَسْتُرْهُ زِيدَ عَلَيْهَا مَا يَسْتُرُهُ، فَإِنْ وُجِدَ عُرْيَانًا سُتِرَ جَمِيعُ جَسَدِهِ.قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: مَنْ عَرَّاهُ الْعَدُوُّ فَلَا رُخْصَةَ فِي تَرْكِ تَكْفِينِهِ بَلْ ذَلِكَ لَازِمٌ.وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى ثِيَابِهِ إِذَا كَانَ فِيهَا مَا يُجْزِيهِ فَلَا بَأْسَ بِهَا، وَلَيْسَ لِوَلِيِّهِ نَزْعُ ثِيَابِهِ وَتَكْفِينُهُ بِغَيْرِهَا.

وَيُنْدَبُ دَفْنُهُ بِخُفٍّ وَقَلَنْسُوَةٍ وَمِنْطَقَةٍ (مَا يُحْتَزَمُ بِهِ فِي وَسَطِهِ) إِنْ قَلَّ ثَمَنُهَا وَخَاتَمٌ قَلَّ ثَمَنُهُ، وَلَا يُدْفَنُ الشَّهِيدُ بِآلَةِ حَرْبٍ قُتِلَ وَهِيَ مَعَهُ كَدِرْعٍ وَسِلَاحٍ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ إِنَّ شَهِيدَ الْمَعْرَكَةِ يَجِبُ دَفْنُهُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا وَلَوْ كَانَتْ حَرِيرًا عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ.وَيُنْزَعُ السِّلَاحُ وَالْجُلُودُ وَالْفَرْوُ وَالْخُفُّ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه- السَّابِقِ، وَلَا يُزَادُ فِي ثِيَابِ الشَّهِيدِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهَا، وَلَوْ لَمْ يَحْصُلِ الْمَسْنُونُ بِهَا لِنَقْصِهَا أَوْ زِيَادَتِهَا.

وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي تَخْرِيجِهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِمَا، وَجَاءَ فِي الْمُبْدِعِ: فَإِنْ سُلِبَ مَا عَلَى الشَّهِيدِ مِنَ الثِّيَابِ، كُفِّنَ بِغَيْرِهَا وُجُوبًا كَغَيْرِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُكَفَّنُ شَهِيدُ الْمَعْرَكَةِ نَدْبًا فِي ثِيَابِهِ لِخَبَرِ أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «رُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمِ فِي صَدْرِهِ أَوْ فِي حَلْقِهِ فَمَاتَ فَأُدْرِجَ فِي ثِيَابِهِ كَمَا هُوَ قَالَ: وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- » وَالْمُرَادُ ثِيَابُهُ الَّتِي مَاتَ فِيهَا وَاعْتَادَ لُبْسَهَا غَالِبًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُلَطَّخَةً بِالدَّمِ، وَيُفْهَمُ مِنْ عِبَارَتِهِمْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَكْفِينُهُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ وَقْتَ اسْتِشْهَادِهِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُكَفَّنَ كَسَائِرِ الْمَوْتَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا عَلَيْهِ سَابِغًا أَيْ سَاتِرًا لِجَمِيعِ بَدَنِهِ تَمَّمَ وُجُوبًا، لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلْمَيِّتِ، وَيُنْدَبُ نَزْعُ آلَةِ الْحَرْبِ عَنْهُ كَدِرْعٍ وَخُفٍّ، وَكُلُّ مَا لَا يُعْتَادُ لُبْسُهُ غَالِبًا كَجِلْدٍ وَفَرْوٍ وَجُبَّةٍ مَحْشُوَّةٍ.

وَأَمَّا شُهَدَاءُ غَيْرِ الْمَعْرَكَةِ كَالْغَرِيقِ وَالْحَرِيقِ وَالْمَبْطُونِ وَالْغَرِيبِ فَيُكَفَّنُ كَسَائِرِ الْمَوْتَى وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.

إِعْدَادُ الْكَفَنِ مُقَدَّمًا:

15- فِي الْبُخَارِيِّ: عَنِ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ- رضي الله عنه-: «أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ فِيهَا حَاشِيَتُهَا...فَحَسَّنَهَا فُلَانٌ فَقَالَ: أَكْسِنِيهَا مَا أَحْسَنَهَا.قَالَ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ، لَبِسَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ، وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ، قَالَ: إِنِّي وَاَللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ لِأَلْبَسَهَا، إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي، قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ».وَهَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى الْجَوَازِ، لِعَدَمِ إِنْكَارِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِذَلِكَ.وَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ.وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُكْرَهَ تَهْيِئَةُ الْكَفَنِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهِ مُتَحَقِّقَةٌ غَالِبًا.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يُنْدَبُ أَنْ يَعُدَّ لِنَفْسِهِ كَفَنًا لِئَلاَّ يُحَاسَبَ عَلَى اتِّخَاذِهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ حَلٍّ أَوْ أَثَرٍ مِنْ ذِي صَلَاحٍ فَحَسُنَ إِعْدَادُهُ، لَكِنْ لَا يَجِبُ تَكْفِينُهُ فِيهِ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِ، بَلْ لِلْوَارِثِ إِبْدَالُهُ.وَلِهَذَا لَوْ نُزِعَتِ الثِّيَابُ الْمُلَطَّخَةُ بِالدَّمِ عَنِ الشَّهِيدِ وَكُفِّنَ فِي غَيْرِهَا جَازَ مَعَ أَنَّ فِيهَا أَثَرَ الْعِبَادَةِ الشَّاهِدَةِ لَهُ بِالشَّهَادَةِ، فَهَذَا أَوْلَى.

إِعَادَةُ تَكْفِينِ الْمَيِّتِ:

16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كُفِّنَ الْمَيِّتُ فَسُرِقَ الْكَفَنُ قَبْلَ الدَّفْنِ أَوْ بَعْدَهُ كُفِّنَ كَفَنًا ثَانِيًا مِنْ مَالِهِ أَوْ مِنْ مَالِ مَنْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى الْحَاجَةُ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ.

الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ الْكَفَنِ:

17- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى قَطْعِ النَّبَّاشِ إِذَا تَحَقَّقَتْ شُرُوطُ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، لِمَا رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ حَرَّقَ حَرَّقْنَاهُ، وَمَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ، وَمَنْ نَبَشَ قَطَعْنَاهُ».وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: سَارِقُ أَمْوَاتِنَا كَسَارِقِ أَحْيَائِنَا لِأَنَّ الْقَبْرَ حِرْزٌ لِلْكَفَنِ، وَإِنْ كَانَ الْكَفَنُ زَائِدًا عَلَى كَفَنِ السُّنَّةِ أَوْ دُفِنَ فِي تَابُوتٍ فَسُرِقَ التَّابُوتُ لَمْ يُقْطَعْ، لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْمَشْرُوعِ فِي الْكَفَنِ لَمْ يُجْعَلِ الْقَبْرُ حِرْزًا لَهُ وَكَذَلِكَ التَّابُوتُ

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيَّةُ: لَا قَطْعَ عَلَى النَّبَّاشِ مُطْلَقًا.لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «لَا قَطْعَ عَلَى الْمُخْتَفِي» وَهُوَ النَّبَّاشُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) وَلِأَنَّ الشُّبْهَةَ تَمَكَّنَتْ فِي الْمِلْكِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَيِّتِ حَقِيقَةً وَلَا لِلْوَارِثِ لِتَقَدُّمِ حَاجَةِ الْمَيِّتِ، فَتَمَكَّنَتِ الشُّبْهَةُ الْمُسْقِطَةُ لِلْقَطْعِ، وَوَافَقَهُمَا الشَّافِعِيَّةُ إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ مَدْفُونًا فِي بَرِيَّةٍ لِعَدَمِ الْحِرْزِ.

الْكِتَابَةُ عَلَى الْكَفَنِ:

18- جَاءَ فِي الْجَمَلِ عَلَى شَرْحِ الْمَنْهَجِ، لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ الْأَسْمَاءِ الْمُعَظَّمَةِ صِيَانَةً لَهَا مِنَ الصَّدِيدِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


237-موسوعة الفقه الكويتية (تلف 2)

تَلَفٌ -2

ب- تَلَفُ زَوَائِدِ الْمَبِيعِ:

19- زَوَائِدُ الْمَبِيعِ الْحَادِثَةِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، كَثَمَرَةٍ وَلَبَنٍ وَبَيْضٍ، أَمَانَةً فِي يَدِ الْبَائِعِ، لَا يَضْمَنُهَا إِذَا تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ضَمَانَ الْأَصْلِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ لَمْ يَشْمَلْهَا، وَلَمْ تَمْتَدَّ يَدُهُ عَلَيْهَا لِتَمَلُّكِهَا، كَالْمُسْتَامِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ تَعَدٍّ كَالْغَاصِبِ حَتَّى يَضْمَنَ.

ج- التَّلَفُ فِي الْإِجَارَةِ:

20- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَإِنْ تَلِفَتْ أَوْ ضَاعَتْ بِغَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ وَلَا تَفْرِيطٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا تَعَدَّى أَوْ فَرَّطَ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا لِمَا يَلْحَقُ الْعَيْنَ مِنْ تَلَفٍ أَوْ نُقْصَانٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا تَجَاوَزَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا حَقُّهُ فِيهِ فَتَلِفَتْ عِنْدَ ذَلِكَ.

وَاتَّفَقُوا كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَجِيرَ الْخَاصَّ أَمِينٌ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ فِي يَدِهِ مِنْ مَالٍ أَوْ مَا تَلِفَ بِعَمَلِهِ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّفْرِيطِ.لِأَنَّهُ نَائِبُ الْمَالِكِ فِي صَرْفِ مَنَافِعِهِ إِلَى مَا أَمَرَ بِهِ، فَلَمْ يَضْمَنْ كَالْوَكِيلِ، وَلِأَنَّ عَمَلَهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ كَسِرَايَةِ الْقِصَاصِ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ صُنْعٌ يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ.

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ إِذَا تَلِفَ عِنْدَهُ الْمَتَاعُ بِتَعَدٍّ أَوْ تَفْرِيطٍ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ.وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا تَلِفَ بِغَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ أَوْ تَفْرِيطٍ.

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ إِلَى أَنَّ يَدَهُ يَدُ أَمَانَةٍ فَلَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَجِبَ الضَّمَانُ إِلاَّ عَلَى الْمُتَعَدِّي، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَلَا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} وَلَمْ يُوجَدِ التَّعَدِّي مِنَ الْأَجِيرِ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الْقَبْضِ، وَالْهَلَاكُ لَيْسَ مِنْ صُنْعِهِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُودَعِ.قَالَ الرَّبِيعُ: اعْتِقَادُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْأَجِيرِ، وَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِعِلْمِهِ، وَكَانَ لَا يَبُوحُ بِهِ خَشْيَةَ قُضَاةِ السُّوءِ وَأُجَرَاءِ السُّوءِ.

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالتَّلَفِ، إِلاَّ فِي حَرْقٍ غَالِبٍ، أَوْ غَرَقٍ غَالِبٍ، أَوْ لُصُوصٍ مُكَابِرِينَ، فَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَوِ احْتَرَقَ مَحَلُّ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكُ بِسِرَاجٍ يَضْمَنُ الْأَجِيرُ، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِحَرِيقٍ غَالِبٍ، وَهُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى اسْتِدْرَاكِهِ لَوْ عَلِمَ بِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِهِ لأَطْفَأَهُ فَلَمْ يَكُنْ مَوْضِعَ الْعُذْرِ.

وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ».وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ كَانَ يُضَمِّنُ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ احْتِيَاطًا لِأَمْوَالِ النَّاسِ، وَهُوَ الْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأُجَرَاءَ الَّذِينَ يُسَلَّمُ الْمَالُ إِلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ شُهُودٍ تُخَافُ الْخِيَانَةُ مِنْهُمْ، فَلَوْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ لَهَلَكَتْ أَمْوَالُ النَّاسِ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْجِزُونَ عَنْ دَعْوَى الْهَلَاكِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْحَرِيقِ الْغَالِبِ، وَالْغَرَقِ الْغَالِبِ، وَالسَّرَقِ الْغَالِبِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِفِعْلِهِ وَلَوْ بِخَطَئِهِ، كَتَخْرِيقِ الْقَصَّارِ الثَّوْبَ، وَغَلَطِهِ كَأَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى غَيْرِ رَبِّهِ، وَأَمَّا مَا تَلِفَ مِنْ حِرْزِهِ بِنَحْوِ سَرِقَةٍ أَوْ تَلَفٍ بِغَيْرِ فِعْلِهِ إِذَا لَمْ يُفَرِّطْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْعَيْنَ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ، أَشْبَهَ بِالْمُودَعِ.

وَشَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِتَضْمِينِهِ شَرْطَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَغِيبَ الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ عَلَى السِّلْعَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَصْنَعَهَا بِغَيْرِ حُضُورِ رَبِّهَا وَبِغَيْرِ بَيْتِهِ، وَأَمَّا إِنْ صَنَعَهَا بِبَيْتِهِ وَلَوْ بِغَيْرِ حُضُورِ رَبِّهَا، أَوْ صَنَعَهَا بِحُضُورِهِ لَمْ يَضْمَنْ مَا نَشَأَ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ كَسَرِقَةٍ، أَوْ تَلِفَ بِنَارٍ مَثَلًا بِلَا تَفْرِيطٍ.

وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَصْنُوعُ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ كَثَوْبٍ وَنَحْوِهِ.

ثَالِثًا: التَّلَفُ فِي عُقُودِ الْأَمَانَاتِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا:

21- الْأَصْلُ فِي عُقُودِ الْأَمَانَاتِ كَالْوَدِيعَةِ أَنَّ مَا تَلِفَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ يَكُونُ تَلَفُهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَيْسَ عَلَى مَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ إِنْ لَمْ يَتَعَدَّ أَوْ يُفَرِّطْ فِيهَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ، وَلَا عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ» وَلِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ أُودِعَ وَدِيعَةً فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ» وَلِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَى تِلْكَ الْعُقُودِ وَفِي إِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ تَنْفِيرٌ عَنْهَا.

وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مِنْ تِلْكَ الْعُقُودِ الْعَارِيَّةَ، فَقَالُوا بِضَمَانِهَا مُطْلَقًا إِنْ تَلِفَتْ عِنْدَ الْمُسْتَعِيرِ فَرَّطَ أَمْ لَمْ يُفَرِّطْ، لِحَدِيثِ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ».«وَعَنْ صَفْوَانَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- اسْتَعَارَ مِنْهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَدْرُعًا وَلَمْ يَكُنْ قَدْ أَسْلَمَ بَعْدُ فَقَالَ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: بَلْ عَارِيَّةً مَضْمُونَةٌ» وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَجِبُ رَدُّهُ لِمَالِكِهِ فَيَضْمَنُ عِنْدَ تَلَفِهِ كَالْمُسْتَامِ.

وَأَشَارَ أَحْمَدُ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَارِيَّةِ وَالْوَدِيعَةِ وَهُوَ أَنَّ الْعَارِيَّةَ أَخَذْتَهَا بِالْيَدِ، وَالْوَدِيعَةَ دُفِعَتْ إِلَيْكَ.

وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ مِنْ ضَمَانِ الْعَارِيَّةِ التَّلَفَ الْمُنْمَحِقَ- أَيْ مَا يَتْلَفُ بِالْكُلِّيَّةِ عِنْدَ الِاسْتِعْمَالِ- وَالْمُنْسَحِقُ- أَيْ مَا يَتْلَفُ بَعْضُهُ عِنْدَ الِاسْتِعْمَالِ- إِذَا تَلِفَ بِاسْتِعْمَالٍ مَأْذُونٍ فِيهِ لِحُدُوثِهِ عَنْ سَبَبٍ مَأْذُونٍ فِيهِ، فَأَشْبَهَ قَوْلَهُ: كُلْ طَعَامِي.وَعِنْدَهُمْ قَوْلٌ بِضَمَانِ الْمُنْمَحِقِ دُونَ الْمُنْسَحِقِ، لِأَنَّ مُقْتَضَى الْإِعَارَةِ الرَّدُّ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْمُنْمَحِقِ، فَيَضْمَنُهُ بِخِلَافِ الْمُنْسَحِقِ

وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ الضَّمَانَ بِتَلَفِ الْعَارِيَّةِ الْمُغَيَّبِ عَلَيْهَا- أَيْ مَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ- كَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ بِخِلَافِ مَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِتَلَفِهِ، كَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ، إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ الْمُسْتَعِيرُ بِبَيِّنَةٍ تُثْبِتُ تَلَفَهُ أَوْ ضَيَاعَهُ بِلَا سَبَبِهِ، فَلَا يَضْمَنُهُ خِلَافًا لِأَشْهَبَ الْقَائِلِ بِالضَّمَانِ مُطْلَقًا.

22- وَهُنَاكَ عُقُودٌ فِيهَا مَعْنَى الْأَمَانَةِ كَالْمُضَارَبَةِ وَالْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ، فَهِيَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي أَصْلِهَا عَقْدُ أَمَانَةٍ إِلاَّ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُضَارِبِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُرْتَهِنِ أَمِينٌ عَلَى مَا فِي يَدِهِ.

فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَا تَلِفَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ يَكُونُ تَلَفُهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَلَا يَضْمَنُهُ الْمُضَارِبُ، فَهُوَ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ، لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ وَالْوَثِيقَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْمُضَارِبَ يَصِيرُ ضَامِنًا لِرَأْسِ الْمَالِ إِذَا تَلِفَ بِسَبَبِ مُخَالَفَةِ شَرْطِ رَبِّ الْمَالِ، كَأَنْ شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ أَلاَّ يُسَافِرَ بِهِ فِي الْبَحْرِ فَسَافَرَ فَغَرِقَ الْمَالُ، فَإِنَّ الْمُضَارِبَ حِينَئِذٍ ضَامِنٌ لَهُ لِمُخَالَفَتِهِ شَرْطَ رَبِّ الْمَالِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ.

وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء فِي أَنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ يَدُ أَمَانَةٍ، فَمَا تَلِفَ فِي يَدِهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّفْرِيطِ، أَمَّا إِذَا تَعَدَّى أَوْ فَرَّطَ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا لِمَا يَلْحَقُ الْعَيْنَ مِنْ تَلَفٍ أَوْ نُقْصَانٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا تَجَاوَزَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا حَقَّهُ فِيهِ فَتَلِفَتْ عِنْدَ ذَلِكَ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الرَّهْنِ إِذَا تَلِفَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، هَلْ يَضْمَنُهُ الْمُرْتَهِنُ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْهُونَ إِذَا تَلِفَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنَ الدَّيْنِ، وَإِنْ سَاوَتْ قِيمَتُهُ الدَّيْنَ صَارَ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ، وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ ضَمَانَ الْمَرْهُونِ بِمَا إِذَا كَانَ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ، كَحُلِيٍّ وَثِيَابٍ وَسِلَاحٍ وَكُتُبٍ مِنْ كُلِّ مَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ وَكَتْمُهُ، بِخِلَافِ مَا لَا يُمْكِنُ كَتْمُهُ كَحَيَوَانٍ وَعَقَارٍ، وَهَذَا إِنْ لَمْ تَشْهَدْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَإِنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِتَلَفِهِ أَوْ هَلَاكِهِ بِغَيْرِ سَبَبِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الضَّمَانَ هُنَا ضَمَانُ تُهْمَةٍ، وَهِيَ تَنْتَفِي بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْهُونَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، فَلَا يَسْقُطُ بِتَلَفِهِ شَيْءٌ مِنَ الدَّيْنِ بِغَيْرِ تَعَدٍّ مِنَ الْمُرْتَهِنِ أَوْ تَفْرِيطٍ، لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ».وَلِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ فِعْلِهِ خَوْفًا مِنَ الضَّمَانِ، وَذَلِكَ وَسِيلَةٌ إِلَى تَعْطِيلِ الْمُدَايَنَاتِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ.

رَابِعًا: التَّلَفُ فِي الْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ:

23- الْمُزَارَعَةُ وَالْمُسَاقَاةُ صُورَتَانِ مِنْ صُوَرِ عُقُودِ الْعَمَلِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُسَاقَاةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْمُزَارَعَةِ.

وَقَدِ اعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ الْعَامِلَ فِي عَقْدَيِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ أَمِينًا عَلَى مَا فِي يَدِهِ، فَمَا تَلِفَ مِنْهُ بِلَا تَعَدٍّ وَلَا تَفْرِيطٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَأَمَّا إِذَا فَرَّطَ الْعَامِلُ، كَأَنْ تَرَكَ السَّقْيَ حَتَّى فَسَدَ الزَّرْعُ فَإِنَّهُ ضَامِنٌ لَهُ، لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ وَعَلَيْهِ حِفْظُهُ.

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (مُزَارَعَةٌ، وَمُسَاقَاةٌ).

خَامِسًا: تَلَفُ الْمَغْصُوبِ:

24- تَلَفُ الْمَغْصُوبِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حِسِّيًّا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَوِيًّا، فَالتَّلَفُ الْحِسِّيُّ: هُوَ تَفْوِيتُ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ عَنْ رَبِّهِ، وَالتَّلَفُ الْمَعْنَوِيُّ: هُوَ تَفْوِيتُ مَعْنًى فِي الْمَغْصُوبِ.وَفِي كِلَيْهِمَا الضَّمَانُ

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ تَلِفَ الْمَغْصُوبُ الْمَنْقُولُ عِنْدَ الْغَاصِبِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ الضَّمَانَ، سَوَاءٌ تَلِفَ عِنْدَهُ بِآفَةٍ أَوْ بِإِتْلَافٍ، وَيَكُونُ الضَّمَانُ بِالْمِثْلِ إِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مِثْلِيًّا، وَبِالْقِيمَةِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا، وَإِنْ تَلِفَ بَعْضُهُ فَعَلَيْهِ أَرْشُ النُّقْصَانِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي غَاصِبِ الْعَقَارِ، إِذَا تَلِفَ الْعَقَارُ عِنْدَهُ بِسَيْلٍ أَوْ حَرِيقٍ أَوْ شِبْهِ ذَلِكَ هَلْ عَلَيْهِ الضَّمَانُ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) إِلَى تَضْمِينِهِ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ تَضْمِينِهِ إِلاَّ فِي ثَلَاثٍ: الْمَوْقُوفِ، وَمَالِ الْيَتِيمِ، وَالْمُعَدِّ لِلِاسْتِغْلَالِ.هَذَا فِي التَّلَفِ الْحِسِّيِّ.

أَمَّا التَّلَفُ الْمَعْنَوِيُّ، فَمِنْ صُوَرِهِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ، مَا لَوْ غَصَبَ عَبْدًا ذَا حِرْفَةٍ فَنَسِيَ الْمَغْصُوبُ الْحِرْفَةَ عِنْدَ الْغَاصِبِ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَرْشَ النَّقْصِ، إِلاَّ أَنْ يَتَذَكَّرَهَا سَوَاءٌ عِنْدَ الْغَاصِبِ أَوِ الْمَالِكِ، أَوْ يَتَعَلَّمُهَا عِنْدَ الْغَاصِبِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، أَمَّا لَوْ تَعَلَّمَهَا عِنْدَ الْمَالِكِ فَالْأَرْشُ بَاقٍ عَلَى الْغَاصِبِ.

وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ مَا إِذَا كَانَ شَابًّا فَشَاخَ عِنْدَ الْغَاصِبِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ أَيْضًا.

سَادِسًا: تَلَفُ اللُّقَطَةِ:

25- لِتَلَفِ اللُّقَطَةِ حَالَانِ، فَهِيَ فِي حَالِ أَمَانَةٍ لَا شَيْءَ عَلَى الْمُلْتَقِطِ إِذَا تَلِفَتْ عِنْدَهُ أَوْ ضَاعَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ وَلَا تَعَدٍّ.وَفِي حَالٍ مَضْمُونَةٌ بِالتَّلَفِ أَوِ الضَّيَاعِ.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ اللُّقَطَةَ أَمَانَةٌ عِنْدَ الْمُلْتَقِطِ إِذَا أَخَذَهَا لِيَحْفَظَهَا لِصَاحِبِهَا، فَإِنْ تَلِفَتْ عِنْدَهُ أَوْ ضَاعَتْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ أَخَذَهَا عَلَى سَبِيلِ الْأَمَانَةِ فَكَانَتْ يَدُهُ يَدَ أَمَانَةٍ كَيَدِ الْمُودَعِ.

وَإِنْ أَخَذَهَا بِقَصْدِ الْخِيَانَةِ فَإِنَّهُ ضَامِنٌ لَهَا إِنْ تَلِفَتْ عَمَلًا بِقَصْدِهِ الْمُقَارِنِ لِفِعْلِهِ وَيُعْتَبَرُ كَالْغَاصِبِ.

سَابِعًا: تَلَفُ الْمَهْرِ:

26- فَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ فِي تَلَفِ الصَّدَاقِ الْمُعَيَّنِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّلَفُ فَاحِشًا أَوْ غَيْرَ فَاحِشٍ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الزَّوْجِ أَوْ فِي يَدِ الزَّوْجَةِ، وَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي كُلٍّ بِاخْتِلَافِ مُتْلِفِهِ.

أ- الصَّدَاقُ بِيَدِ الزَّوْجِ وَالنُّقْصَانُ فَاحِشٌ:

إِنْ كَانَ نُقْصَانُ الصَّدَاقِ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ وَكَانَ فَاحِشًا، فَالْمَرْأَةُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِ الْمَهْرِ نَاقِصًا مَعَ الْأَرْشِ، وَبَيْنَ تَرْكِ الصَّدَاقِ وَأَخْذِ قِيمَتِهِ مِنَ الزَّوْجِ يَوْمَ الْعَقْدِ، ثُمَّ يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِضَمَانِ النُّقْصَانِ.

وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، فَالزَّوْجَةُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَتْ أَخَذَتْهُ نَاقِصًا وَلَا شَيْءَ لَهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَتْ تَرَكَتْهُ وَأَخَذَتْ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْعَقْدِ.

وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الزَّوْجِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِهِ نَاقِصًا مَعَ أَرْشِ النُّقْصَانِ مِنَ الزَّوْجِ، وَبَيْنَ أَخْذِ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْعَقْدِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا جَنَى عَلَى الْمَهْرِ فَالزَّوْجَةُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَتْ أَخَذَتْهُ نَاقِصًا وَلَا شَيْءَ لَهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَتْ أَخَذَتِ الْقِيمَةَ، وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الزَّوْجَةِ نَفْسِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَى الزَّوْجِ، وَصَارَتْ قَابِضَةً بِالْجِنَايَةِ، فَجُعِلَ كَأَنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ فِي يَدِهَا.

وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الْمَهْرِ، بِأَنْ جَنَى الْمَهْرُ عَلَى نَفْسِهِ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنَّ حُكْمَهُ كَمَا لَوْ تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَالثَّانِيَةُ: كَمَا لَوْ تَلِفَ بِفِعْلِ الزَّوْجِ.

ب- الصَّدَاقُ بِيَدِ الزَّوْجِ وَالنُّقْصَانُ غَيْرُ فَاحِشٍ:

إِذَا كَانَ نُقْصَانُ الصَّدَاقِ يَسِيرًا غَيْرَ فَاحِشٍ، فَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجَةِ، كَمَا إِذَا كَانَ هَذَا الْعَيْبُ بِهِ يَوْمَ الْعَقْدِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا النُّقْصَانُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِهَا أَوْ بِفِعْلِ الْمَهْرِ فَلَا شَيْءَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ أَوْ بِفِعْلِ الزَّوْجِ أَخَذَتْهُ مَعَ أَرْشِ النُّقْصَانِ.

ج- الصَّدَاقُ بِيَدِ الزَّوْجَةِ وَالنُّقْصَانُ فَاحِشٌ:

إِذَا كَانَ نُقْصَانُ الصَّدَاقِ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ، وَكَانَ فَاحِشًا قَبْلَ الطَّلَاقِ فَالْأَرْشُ لَهَا، فَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ فَلَهُ نِصْفُ الْقِيمَةِ يَوْمَ قَبَضَتْ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ جِنَايَةُ الْأَجْنَبِيِّ عَلَيْهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَلِلزَّوْجَةِ نِصْفُ الْمَهْرِ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ فِي الْأَرْشِ بَيْنَ أَخْذِ نِصْفِهِ مِنَ الْمَرْأَةِ مَعَ اعْتِبَارِ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْقَبْضِ، وَبَيْنَ أَخْذِ نِصْفِهِ مِنَ الْجَانِي.

وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الزَّوْجِ فَجِنَايَتُهُ كَجِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ، لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ وَلَا يَدَ لَهُ فِيهِ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَسَبَقَ حُكْمُ إِتْلَافِ الْأَجْنَبِيِّ.

وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ قَبْلَ الطَّلَاقِ فَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِ نِصْفِهِ نَاقِصًا وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَبَيْنَ أَخْذِ نِصْفِ الْقِيمَةِ يَوْمَ الْقَبْضِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ أَيْضًا بَيْنَ أَخْذِ نِصْفِهِ وَنِصْفِ الْأَرْشِ، وَبَيْنَ أَخْذِ قِيمَتِهِ يَوْمَ قَبَضَتْ.

وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الْمَرْأَةِ فَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِ نِصْفِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ، وَبَيْنَ أَخْذِ نِصْفِ قِيمَتِهِ.

وَقَالَ زُفَرُ: لِلزَّوْجِ أَنْ يُضَمِّنَهَا الْأَرْشَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَعَلَيْهَا نِصْفُ الْأَرْشِ، وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الْمَهْرِ نَفْسِهِ فَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِ نِصْفِهِ نَاقِصًا وَبَيْنَ أَخْذِ نِصْفِ قِيمَتِهِ. د- الصَّدَاقُ بِيَدِ الْمَرْأَةِ وَالنُّقْصَانُ غَيْرُ فَاحِشٍ:

إِنْ كَانَ النُّقْصَانُ غَيْرَ فَاحِشٍ وَهُوَ بِيَدِ الْمَرْأَةِ وَكَانَ النُّقْصَانُ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ أَوِ الزَّوْجِ، فَإِنَّ الْمَهْرَ لَا يَتَنَصَّفُ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ يَمْنَعُ التَّنْصِيفَ، وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِهَا أَوْ بِفِعْلِ الْمَهْرِ أَخَذَ النِّصْفَ وَلَا خِيَارَ لَهُ.

27- وَيُفَرِّقُ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الصَّدَاقُ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ أَوْ مِمَّا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ:

فَإِذَا تَلِفَ الصَّدَاقُ وَكَانَ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَثْبُتْ هَلَاكُهُ بِبَيِّنَةٍ، فَضَمَانُهُ مِمَّنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِيَدِ الزَّوْجِ أَمِ الزَّوْجَةِ، فَإِذَا كَانَ بِيَدِ الزَّوْجِ وَادَّعَى ضَيَاعَهُ وَكَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا ضَمِنَ لَهَا قِيمَتَهُ أَوْ مِثْلَهُ، وَإِنْ كَانَ بِيَدِهَا ضَاعَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَزِمَ لَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ إِنْ ضَاعَ بِيَدِهِ، وَإِنْ كَانَ بِيَدِهَا غَرِمَتْ لَهُ نِصْفَ الْقِيمَةِ أَوْ نِصْفَ الْمِثْلِ.

وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ مِمَّا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ، وَقَامَتْ عَلَى هَلَاكِهِ بَيِّنَةٌ، فَضَمَانُهُ مِنْهُمَا سَوَاءٌ كَانَ بِيَدِ الزَّوْجِ أَوْ بِيَدِ الزَّوْجَةِ، فَكُلُّ مَنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ لَا يَغْرَمُ لِلْآخَرِ حِصَّتَهُ.وَهَذَا فِيمَا إِذَا حَصَلَ طَلَاقٌ قَبْلَ الدُّخُولِ.

وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ طَلَاقٌ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَكَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا، فَإِنَّ ضَمَانَ الصَّدَاقِ عَلَى الزَّوْجَةِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَلَوْ كَانَ بِيَدِ الزَّوْجِ، وَالْمُرَادُ بِضَمَانِهَا لَهُ أَنَّهُ يَضِيعُ عَلَيْهَا.

وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا فَإِنَّهَا لَا تَضْمَنُ الصَّدَاقَ إِلاَّ بِقَبْضِهِ.

28- وَقَسَّمَ الشَّافِعِيَّةُ تَلَفَ الْمَهْرِ إِذَا كَانَ عَيْنًا إِلَى تَلَفٍ كُلِّيٍّ وَتَلَفٍ جُزْئِيٍّ، وَفَرَّقُوا فِي الْحُكْمِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّلَفُ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ، أَوْ بِفِعْلِ الزَّوْجِ، أَوِ الزَّوْجَةِ، أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ.

أ- التَّلَفُ الْكُلِّيُّ: فَإِذَا تَلِفَ الْمَهْرُ فِي يَدِ الزَّوْجِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ بَدَلُهُ مِنْ مِثْلٍ أَوْ قِيمَةٍ.

وَإِنْ تَلِفَ بِفِعْلِ الزَّوْجَةِ فَيُعْتَبَرُ إِتْلَافُهَا قَبْضًا لَهُ إِذَا كَانَتْ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الزَّوْجِ لِأَنَّهَا قَبَضَتْ حَقَّهَا وَأَتْلَفَتْهُ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ رَشِيدَةٍ، فَلَا يُعْتَبَرُ إِتْلَافُهَا قَبْضًا، لِأَنَّ قَبْضَهَا غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ، وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الضَّمَانُ.

وَإِنْ تَلِفَ بِفِعْلِ الزَّوْجِ فَحُكْمُهُ كَمَا لَوْ تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ بَدَلُهُ مِنْ مِثْلٍ أَوْ قِيمَةٍ.

وَإِنْ تَلِفَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ، فَالزَّوْجَةُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ فَسْخِ الصَّدَاقِ وَإِبْقَائِهِ، فَإِنْ فَسَخَتِ الصَّدَاقَ أَخَذَتْ مِنَ الزَّوْجِ مَهْرَ الْمِثْلِ.وَيَأْخُذُ الزَّوْجُ الْغُرْمَ مِنَ الْمُتْلِفِ، وَإِنْ أَبْقَتْهُ غَرِمَ الْمُتْلِفُ لَهَا الْمِثْلَ أَوِ الْقِيمَةَ، وَلَيْسَ لَهَا مُطَالَبَةُ الزَّوْجِ

ب- التَّلَفُ الْجُزْئِيُّ: إِنْ تَلِفَ بَعْضُ الصَّدَاقِ قَبْلَ قَبْضِهِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِ الزَّوْجِ.انْفَسَخَ عَقْدُ الصَّدَاقِ فِي التَّالِفِ دُونَ الْبَاقِي، وَلَهَا الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ لِعَدَمِ سَلَامَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، فَإِنْ فَسَخَتِ الصَّدَاقَ فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ.وَإِنْ أَجَازَتْ فَلَهَا حِصَّةُ التَّالِفِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ مَعَ الْبَاقِي مِنَ الْمَهْرِ بَعْدَ التَّلَفِ.

وَإِنْ تَلِفَ بَعْضُهُ بِفِعْلِ الزَّوْجَةِ فَهِيَ قَابِضَةٌ لِقِسْطِهِ الَّذِي تَلِفَ بِفِعْلِهَا، وَلَا شَيْءَ عَلَى الزَّوْجِ وَلَهَا الْبَاقِي مِنَ الْمَهْرِ بَعْدَ التَّلَفِ.

وَإِنْ أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ فَهِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ، فَإِنْ فَسَخَتْ طَالَبَتِ الزَّوْجَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ أَجَازَتْ طَالَبَتِ الْأَجْنَبِيَّ بِالْبَدَلِ.عَلَى تَفْصِيلٍ فِي الْمَذْهَبِ يُنْظَرُ فِي (صَدَاقٌ).

29- وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ ضَمَانَ الْمَهْرِ عَلَى الزَّوْجَةِ سَوَاءٌ أَقَبَضَتْهُ أَمْ لَمْ تَقْبِضْهُ لِدُخُولِهِ فِي مِلْكِهَا بِالْعَقْدِ، إِلاَّ أَنْ يَمْنَعَهَا الزَّوْجُ قَبْضَهُ فَيَكُونُ ضَمَانُهُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ.إِلاَّ أَنْ يَتْلَفَ الصَّدَاقُ بِفِعْلِهَا، فَيَكُونُ إِتْلَافُهَا قَبْضًا مِنْهَا وَيَسْقُطُ عَنْهُ ضَمَانُهُ، هَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ الصَّدَاقُ مُعَيَّنًا.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ الصَّدَاقُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهَا إِلاَّ بِقَبْضِهِ.وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا دَخَلَ بِهَا.

وَأَمَّا إِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَتَلِفَ بَعْضُ الصَّدَاقِ وَهُوَ بِيَدِهَا، فَإِنْ كَانَ التَّلَفُ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ عَلَيْهِ كَأَنْ نَقَصَ بِمَرَضٍ، أَوْ نِسْيَانِ صَنْعَةٍ، فَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِ نِصْفِ عَيْنِهِ نَاقِصًا وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ، وَبَيْنَ أَخْذِ نِصْفِ قِيمَتِهِ، وَإِنْ كَانَ نُقْصَانُ الصَّدَاقِ بِجِنَايَةِ جَانٍ عَلَيْهِ فَلِلزَّوْجِ أَخْذُ نِصْفِ الصَّدَاقِ الْبَاقِي مَعَ نِصْفِ الْأَرْشِ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَا فَاتَ مِنْهُ

مَا يُتْلِفُهُ الْبُغَاةُ:

الْبُغَاةُ وَهُمْ مُخَالِفُو الْإِمَامِ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِ وَتَرْكِ الِانْقِيَادِ لَهُ، أَوْ مَنْعِ حَقٍّ تَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ، بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ شَوْكَةٌ وَتَأْوِيلٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِفَسَادِهِ وَمُطَاعٌ يَصْدُرُونَ عَنْ أَمْرِهِ 30- وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يُتْلِفُهُ الْبُغَاةُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ عَلَى الْإِمَامِ الْعَادِلِ لَا ضَمَانَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ مَا يُتْلِفُهُ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ.لِقَوْلِ الزُّهْرِيِّ: هَاجَتِ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ مُتَوَاتِرُونَ، فَأَجْمَعُوا أَنْ لَا يُقَادَ أَحَدٌ، وَلَا يُؤْخَذُ مَالٌ عَلَى تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ إِلاَّ مَا وُجِدَ بِعَيْنِهِ.فَقَدْ جَرَتِ الْوَقَائِعُ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ ( (، كَوَقْعَةِ الْجَمَلِ، وَصِفِّينَ، وَلَمْ يُطَالِبْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِضَمَانِ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ، وَلِأَجْلِ التَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَةِ لِئَلاَّ يَنْفِرُوا عَنْهَا وَيَتَمَادَوْا عَلَى مَا هُمْ فِيهِ، وَلِهَذَا سَقَطَتِ التَّبِعَةُ عَنِ الْحَرْبِيِّ إِذَا أَسْلَمَ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مَأْمُورٌ بِالْقِتَالِ فَلَا يَضْمَنُ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ، وَهُمْ إِنَّمَا أَتْلَفُوا بِتَأْوِيلٍ. وَيُشْتَرَطُ لِنَفْيِ الضَّمَانِ أَنْ يَكُونَ الْإِتْلَافُ فِي حَالِ الْقِتَالِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ حَالِ الْقِتَالِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِمْ.وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الْحُكْمَ وَخَصُّوهُ بِمَا أُتْلِفَ فِي الْقِتَالِ لِضَرُورَتِهِ، فَإِنْ أُتْلِفَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ عِنْدَهُمْ.وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا قَصَدَ أَهْلُ الْعَدْلِ بِإِتْلَافِ الْمَالِ إِضْعَافَهُمْ وَهَزِيمَتَهُمْ، فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَصَدُوا التَّشَفِّيَ وَالِانْتِقَامَ.

وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الشَّرْطَ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرُوا التَّحَيُّزَ وَعَدَمَهُ، وَقَالُوا: مَا فَعَلُوهُ قَبْلَ التَّحَيُّزِ وَالْخُرُوجِ وَبَعْدَ تَفَرُّقِ جَمْعِهِمْ يُؤَاخَذُونَ بِهِ، وَأَمَّا مَا فَعَلُوهُ بَعْدَ التَّحَيُّزِ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ.وَعِنْدَهُمْ كَذَلِكَ يَضْمَنُ الْإِمَامُ مَا أَتْلَفَهُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ تَحَيُّزِهِمْ وَخُرُوجِهِمْ، أَوْ بَعْدَ كَسْرِهِمْ وَتَفَرُّقِ جَمْعِهِمْ.

مَا تُتْلِفُهُ الدَّوَابُّ:

31- قَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِتْلَافٌ)

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


238-موسوعة الفقه الكويتية (تولية)

تَوْلِيَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّوْلِيَةُ لُغَةً مَصْدَرُ: وَلَّى، يُقَالُ: وَلَّيْتُ فُلَانًا الْأَمْرَ جَعَلْتُهُ وَالِيًا عَلَيْهِ، وَيُقَالُ: وَلَّيْتُهُ الْبَلَدَ، وَعَلَى الْبَلَدِ.وَوَلَّيْتُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ أَيْ جَعَلْتُ وَالِيًا عَلَيْهِمَا.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ تُطْلَقُ التَّوْلِيَةُ بِإِطْلَاقَيْنِ:

أَحَدِهِمَا: مُوَافِقٍ لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَثَانِيهِمَا: تُطْلَقُ عَلَى التَّوْلِيَةِ فِي الْبَيْعِ وَهِيَ: أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ سِلْعَةً بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ يَبِيعَ تِلْكَ السِّلْعَةَ لِرَجُلٍ آخَرَ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ فَإِنْ قَالَ: وَلَّيْتُك إِيَّاهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَهُ إِيَّاهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا اشْتَرَاهَا أَوْ بِأَقَلَّ؛ لِأَنَّ لَفْظَ التَّوْلِيَةِ يَقْتَضِي دَفْعَهَا إِلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَاهَا بِهِ.

وَعَرَّفَهَا الشَّيْخُ عَمِيرَةُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: بِأَنَّهَا نَقْلُ جَمِيعِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُوَلَّى بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْمِثْلِيِّ أَوْ عَيْنِ الْمُتَقَوِّمِ (الْقِيَمِيِّ) بِلَفْظِ وَلَّيْتُكَ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْإِشْرَاكُ:

2- الْإِشْرَاكُ لُغَةً: جَعْلُ الْغَيْرِ شَرِيكًا، وَاصْطِلَاحًا: نَقْلُ بَعْضِ الْمَبِيعِ إِلَى الْغَيْرِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ (أَيْ بِمِثْلِ ثَمَنِ الْبَعْضِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ كُلِّهِ).

ب- الْمُرَابَحَةُ:

3- الْمُرَابَحَةُ لُغَةً: الزِّيَادَةُ، وَاصْطِلَاحًا: نَقْلُ كُلِّ الْمَبِيعِ إِلَى الْغَيْرِ بِزِيَادَةٍ عَلَى مِثْلِ الثَّمَنِ ا لْأَوَّلِ.

ج- الْمُحَاطَّةُ:

4- الْمُحَاطَّةُ لُغَةً: النَّقْصُ.وَاصْطِلَاحًا: نَقْلُ كُلِّ الْمَبِيعِ إِلَى الْغَيْرِ بِنَقْصٍ عَنْ مِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ.وَالْفَرْقُ وَاضِحٌ بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَبَيْنَ بَيْعِ التَّوْلِيَةِ وَجَمِيعُهَا مِنْ بُيُوعِ الْأَمَانَةِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

أَوَّلًا: التَّوْلِيَةُ (بِمَعْنَى نَصْبِ الْوُلَاةِ)

5- تَوْلِيَةُ إِمَامٍ عَامٍّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَفْصِلُ فِي أُمُورِهِمْ وَيَسُوسُهُمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ، مُخَاطَبٌ بِهِ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَوُجُوهِ النَّاسِ حَتَّى يَخْتَارُوا الْإِمَامَ.

وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي السَّقِيفَةِ، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ، دَفَعَهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ- رضي الله عنهما-.وَقَالَا: (إِنَّ الْعَرَبَ لَا تَدِينُ إِلاَّ لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ).وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ أَخْبَارًا، فَلَوْلَا أَنَّ الْإِمَامَةَ وَاجِبَةٌ لَمَا سَاغَتْ تِلْكَ الْمُحَاوَرَةُ وَالْمُنَاظَرَةُ عَلَيْهَا وَلَقَالَ قَائِلٌ: لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ لَا فِي قُرَيْشٍ وَلَا فِي غَيْرِهِمْ.

وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُوَلِّيَ مَنْ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الدَّوْلَةُ فِي أُمُورِهَا الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ مِنْ وُزَرَاءَ وَقُضَاةٍ وَأُمَرَاءِ الْجُيُوشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ أَمْرَ الدَّوْلَةِ لَا يَصْلُحُ وَلَا يَسْتَقِيمُ إِلاَّ بِتَوْلِيَةِ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ؛ لِأَنَّ مَا وُكِّلَ إِلَى الْإِمَامِ مِنْ تَدْبِيرِ الْأُمَّةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى مُبَاشَرَةِ جَمِيعِهِ إِلاَّ بِاسْتِنَابَةٍ.

6- وَالْإِمَامَةُ تَنْعَقِدُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا اخْتِيَارِ أَهْلِ الْعَقْدِ وَالْحَلِّ، وَالثَّانِي بِعَهْدِ الْإِمَامِ مِنْ قَبْلُ.

وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِشُرُوطِ اخْتِيَارِ الْإِمَامِ وَمَنْ يَخْتَارُهُ وَمَا تَنْتَهِي بِهِ الْإِمَامَةُ وَمَنْ يُوَلِّيهِمُ الْإِمَامُ لِمُعَاوَنَتِهِ مِنْ وُزَرَاءَ وَغَيْرِهِمْ وَصِيَغِ تَوْلِيَتِهِمْ تَفْصِيلَاتٌ وَشُرُوطٌ مَحَلُّهَا (الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى، وَقَضَاءٌ، وَوَزَارَةٌ، وَإِمَارَةٌ.إِلَخْ).

7- تَوْلِيَةُ الْوُزَرَاءِ جَائِزَةٌ شَرْعًا، فَإِنَّ سَيِّدَنَا مُوسَى- عليه السلام- طَلَبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُ وَزِيرًا مِنْ أَهْلِهِ {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي} فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي النُّبُوَّةِ فَهُوَ فِي غَيْرِهَا أَوْلَى {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَك يَا مُوسَى} وَتَعْيِينُ الْوُزَرَاءِ لِمُسَاعَدَةِ الْأَمِيرِ لَا بُدَّ مِنْهُ؛ إِذْ إِنَّ الْأَمِيرَ لَا يَسْتَطِيعُ وَحْدَهُ مُبَاشَرَةَ جَمِيعِ الْأُمُورِ.

وَالْوَزَارَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ: وَزَارَةِ تَفْوِيضٍ، وَوَزَارَةِ تَنْفِيذٍ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (وَزَارَةٌ).

تَوْلِيَةُ الْقُضَاةِ:

8- الْقَضَاءُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي أَنَّ الْقِيَامَ بِالْقَضَاءِ وَاجِبٌ، وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ أَنْ لَا يُوجَدَ غَيْرُهُ فَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ إِلْزَامُهُ بِتَوَلِّيهِ لِئَلاَّ تَتَعَطَّلَ مَصَالِحُ النَّاسِ.

أَمَّا الشُّرُوطُ الَّتِي يَجِبُ تَحَقُّقُهَا فِيمَنْ يُوَلَّى الْقَضَاءَ، وَفِيمَنْ يَمْلِكُ تَوْلِيَةَ الْقَاضِي، وَفِي اخْتِصَاصِ الْقَاضِي فَمَحَلُّهَا (مُصْطَلَحِ قَضَاءٌ).

الْوِلَايَاتُ الْأُخْرَى:

9- عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُوَلِّيَ فِي كُلِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدَّوْلَةِ مَنْ يَقُومُ بِهَا؛ لِأَنَّ أُمُورَ الدَّوْلَةِ لَا تَسْتَقِيمُ إِلاَّ إِذَا كَانَ فِيهَا مَنْ يَقُومُ عَلَى مُبَاشَرَتِهَا.

قَالَ أَبُو يَعْلَى: وَمَا يَصْدُرُ عَنِ الْإِمَامِ مِنْ وِلَايَاتِ خُلَفَائِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهَا: مَنْ تَكُونُ وِلَايَتُهُ عَامَّةً فِي الْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ، وَهُمُ الْوُزَرَاءُ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْتَنَابُونَ فِي جَمِيعِ النَّظَرَاتِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ.

الثَّانِي: مَنْ تَكُونُ وِلَايَتُهُ عَامَّةً فِي أَعْمَالٍ خَاصَّةٍ، وَهُمُ الْأُمَرَاءُ لِلْأَقَالِيمِ وَالْبُلْدَانِ.لِأَنَّ النَّظَرَ فِيمَا خُصُّوا بِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ.

الثَّالِثُ: مَنْ تَكُونُ وِلَايَتُهُ خَاصَّةً فِي الْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ، وَهُمْ مِثْلُ قَاضِي الْقُضَاةِ، وَنَقِيبِ الْجُيُوشِ، وَحَامِي الثُّغُورِ، وَمُسْتَوْفِي الْخَرَاجِ، وَجَابِي الصَّدَقَاتِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَقْصُورٌ عَلَى نَظَرٍ خَاصٍّ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ.

الرَّابِعُ: مَنْ تَكُونُ وِلَايَتُهُ خَاصَّةً فِي أَعْمَالٍ خَاصَّةٍ، وَهُمْ مِثْلُ قَاضِي بَلَدٍ، أَوْ إِقْلِيمٍ، أَوْ مُسْتَوْفِي خَرَاجَهُ، أَوْ جَابِي صَدَقَاتِهِ، أَوْ حَامِي ثَغْرِهِ، أَوْ نَقِيبِ جُنْدِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَاصُّ النَّظَرِ مَخْصُوصُ الْعَمَلِ.وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْوُلَاةِ شُرُوطٌ تَنْعَقِدُ بِهَا وِلَايَتُهُ وَيَصِحُّ مَعَهَا نَظَرُهُ تُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا.

الْأَلْفَاظُ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا الْوِلَايَةُ:

10- وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا الْوِلَايَةُ ضَرْبَانِ: صَرِيحٌ، وَكِنَايَةٌ.

فَالصَّرِيحُ أَرْبَعَةُ أَلْفَاظٍ» قَدْ وَلَّيْتُك، وَقَلَّدْتُك، وَاسْتَخْلَفْتُك، وَاسْتَنَبْتُكَ «.فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ انْعَقَدَتْ بِهِ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ وَغَيْرُهَا مِنَ الْوِلَايَاتِ، وَلَا يَحْتَاجُ مَعَهَا إِلَى قَرِينَةٍ.

وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا سَبْعَةُ أَلْفَاظٍ: » قَدِ اعْتَمَدْتُ عَلَيْكَ، وَعَوَّلْتُ عَلَيْكَ، وَرَدَدْتُ إِلَيْكَ، وَجَعَلْتُ إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ إِلَيْكَ، وَوَكَّلْتُ إِلَيْكَ، وَأَسْنَدْتُ إِلَيْكَ «

فَإِنِ اقْتُرِنَ بِهَا قَرِينَةٌ صَارَتْ فِي حُكْمِ الصَّرِيحِ، نَحْوُ قَوْلِهِ: » فَانْظُرْ فِيمَا وَكَلْتُهُ إِلَيْكَ «وَاحْكُمْ فِيمَا اعْتَمَدْتُ فِيهِ عَلَيْكَ».

فَإِنْ كَانَ التَّقْلِيدُ مُشَافَهَةً فَقَبُولُهُ عَلَى الْفَوْرِ لَفْظًا، وَإِنْ كَانَ مُرَاسَلَةً، أَوْ مُكَاتَبَةً، جَازَ أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّرَاخِي.

فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْقَبُولُ لَفْظًا، لَكِنْ وُجِدَ مِنْهُ الشُّرُوعُ فِي النَّظَرِ، احْتَمَلَ أَنْ يَجْرِيَ ذَلِكَ مَجْرَى النُّطْقِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَجْرِيَ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي النَّظَرِ فَرْعٌ لِعَقْدِ الْوِلَايَةِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ قَبُولُهَا.وَالْكَلَامُ عَنْ ذَلِكَ مَنْثُورٌ فِي أَبْوَابِ الْجِهَادِ وَالْقَضَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

ثَانِيًا: التَّوْلِيَةُ فِي الْبَيْعِ:

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ بَيْعَ التَّوْلِيَةِ جَائِزٌ شَرْعًا؛ لِأَنَّ شَرَائِطَ الْبَيْعِ مُجْتَمِعَةٌ فِيهِ، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَحْكَامِهِ كَتَجَدُّدِ شُفْعَةٍ عَفَا عَنْهَا الشَّفِيعُ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَبَقَاءِ الزَّوَائِدِ لِلْمُولِّي- بِكَسْرِ اللاَّمِ- وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ جَدِيدٌ، وَلِتَعَامُلِ النَّاسِ بِهِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا؛ وَلِأَنَّ مَنْ لَا يَهْتَدِي إِلَى التِّجَارَةِ يَحْتَاجُ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى فِعْلِ الذَّكِيِّ الْمُهْتَدِي فِيهَا «وَلَمَّا أَرَادَ- عليه الصلاة والسلام- الْهِجْرَةَ وَابْتَاعَ أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنه- بَعِيرَيْنِ، قَالَ- عليه الصلاة والسلام- وَلِّنِي أَحَدَهُمَا، فَقَالَ لَهُ هُوَ لَك بِغَيْرِ شَيْءٍ، فَقَالَ ((: أَمَّا بِغَيْرِ شَيْءٍ فَلَا»، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِهَا.

مَا تَصِحُّ فِيهِ التَّوْلِيَةُ:

12- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالدَّرْدِيرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّوْلِيَةِ فِي بَيْعِ الْمَنْقُولِ الَّذِي لَمْ يُقْبَضْ وَجَعَلُوهُ كَالْبَيْعِ الْمُسْتَقِلِّ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تَجُوزُ التَّوْلِيَةُ فِي الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.أَنَّهُ قَالَ: «مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ وَيَسْتَوْفِيَهُ، إِلاَّ أَنْ يُشْرِكَ فِيهِ أَوْ يُوَلِّيَهُ أَوْ يُقِيلَهُ».

وَشَرْطُهَا قَبْلَ قَبْضِهِ: اسْتِوَاءُ الْعَقْدَيْنِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ وَأَجَلِهِ أَوْ حُلُولِهِ وَكَوْنُ الثَّمَنِ عَيْنًا. أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَتَجُوزُ التَّوْلِيَةُ فِي الْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِيمَا عَدَا الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ وَنَحْوَهُمَا مِمَّا يَحْتَاجُ فِي قَبْضِهِ إِلَى كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ.

مَا يُشْتَرَطُ فِي بَيْعِ التَّوْلِيَةِ:

13- أ- اشْتَرَطَ الْجُمْهُورُ فِي بَيْعِ التَّوْلِيَةِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ فِي الْبَيْعِ الْأَوَّلِ مَعْلُومًا لِلْمُشْتَرِي الثَّانِي لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالثَّمَنِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ؛ وَلِأَنَّ بَيْعَ التَّوْلِيَةِ يَعْتَمِدُ عَلَى أَسَاسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمِ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ إِلاَّ أَنْ يَعْلَمَ فِي الْمَجْلِسِ وَيَرْضَى بِهِ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى افْتَرَقَ الْعَاقِدَانِ عَنِ الْمَجْلِسِ بَطَلَ الْعَقْدُ لِتَقَرُّرِ الْفَسَادِ.

14- وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ مَنِ اشْتَرَى سِلْعَةً ثُمَّ وَلاَّهَا لِشَخْصٍ بِمَا اشْتَرَاهَا بِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا لَهُ وَلَا ثَمَنَهَا أَوْ ذَكَرَ لَهُ أَحَدَهُمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْإِلْزَامِ، وَلَهُ الْخِيَارُ إِذَا رَأَى وَعَلِمَ الثَّمَنَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا، أَوْ عَرَضًا، أَوْ حَيَوَانًا.وَإِنْ عَلِمَ حِينَ التَّوْلِيَةِ بِأَحَدِ الْعِوَضَيْنِ- الثَّمَنِ أَوِ الْمُثَمَّنِ- دُونَ الْآخَرِ ثُمَّ عَلِمَ بِالْآخَرِ فَكَرِهَ الْبَيْعَ فَلَهُ الْخِيَارُ؛ لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ مِنَ المَعْرُوفِ تَلْزَمُ الْمُوَلِّيَ- بِالْكَسْرِ- وَلَا تَلْزَمُ الْمُولَّى- بِالْفَتْحِ- إِلاَّ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ.

15- ب- اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مُعَيَّنًا إِنْ كَانَتِ التَّوْلِيَةُ فِي الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ.وَأَمَّا فِيهِ بَعْدَ الْقَبْضِ أَوْ فِي غَيْرِ الطَّعَامِ مُطْلَقًا فَتَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ.

16- ج- يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ كَالْمَكِيلَاتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ، وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ، سَوَاءٌ تَمَّ الْعَقْدُ مَعَ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ كَالْعَرَضِ، فَلَا يَجُوزُ التَّوْلِيَةُ مِمَّنْ لَيْسَ الْعَرَضُ فِي مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ بَيْعٌ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ مِنْ جِنْسِهِ كَالذَّرْعِيَّاتِ، وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى عَيْنِ ذَلِكَ الْعَرَضِ، وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ عَلَى قِيمَتِهِ، وَعَيْنُهُ لَيْسَتْ فِي مِلْكِهِ، وَقِيمَتُهُ مَجْهُولَةٌ تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ لِاخْتِلَافِ أَهْلِ التَّقْوِيمِ فِيهِ، وَلَكِنْ يَجُوزُ بَيْعُهُ تَوْلِيَةً مِمَّنِ الْعَرَضُ نَفْسُهُ فِي مِلْكِهِ وَيَدِهِ.

17- د- وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ لَا يَكُونَ الْبَيْعُ صَرْفًا حَتَّى لَوْ بَاعَ دَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ لَا تَجُوزُ فِيهِ التَّوْلِيَةُ؛ لِأَنَّهُمَا فِي الذِّمَّةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ التَّوْلِيَةُ، وَالْمَقْبُوضُ غَيْرُ مَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ.

حُكْمُ الْخِيَانَةِ فِي بَيْعِ التَّوْلِيَةِ:

إِذَا ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ فِي التَّوْلِيَةِ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ، أَوْ بِالْبَيِّنَةِ، أَوِ النُّكُولِ عَنِ الْيَمِينِ، فَإِمَّا أَنْ تَظْهَرَ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ أَوْ فِي قَدْرِهِ:

18- أ- فَإِنْ ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ: بِأَنِ اشْتَرَى شَيْئًا نَسِيئَةً ثُمَّ بَاعَهُ تَوْلِيَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ نَسِيئَةً ثُمَّ عَلِمَ الْمُشْتَرِي فَلَهُ الْخِيَارُ- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ- إِنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَبِيعَ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ؛ لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ عَقْدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَمَانَةِ، إِذْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ اعْتَمَدَ عَلَى أَمَانَةِ الْبَائِعِ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَكَانَتْ صِيَانَةُ الْبَيْعِ الثَّانِي عَنِ الْخِيَانَةِ مَشْرُوطَةً دَلَالَةً، فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقِ الشَّرْطُ ثَبَتَ الْخِيَارُ كَمَا فِي حَالَةِ عَدَمِ تَحَقُّقِ سَلَامَةِ الْمَبِيعِ عَنِ الْعَيْبِ.

وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا، وَأَمَّا بَعْدَ الْهَلَاكِ أَوِ الِاسْتِهْلَاكِ فَلَا خِيَارَ لَهُ، بَلْ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ حَالًّا؛ لِأَنَّ الرَّدَّ تَعَذَّرَ بِالْهَلَاكِ أَوْ غَيْرِهِ فَيَسْقُطُ خِيَارُهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَرُدُّ قِيمَةَ الْهَالِكِ وَيَسْتَرِدُّ كُلَّ الثَّمَنِ كَمَا قَالَ فِيمَا إِذَا اسْتَوْفَى عَشَرَةً زُيُوفًا مَكَانَ عَشَرَةٍ جِيَادٍ وَعَلِمَ بَعْدَ الْإِنْفَاقِ، يَرُدُّ مِثْلَ الزُّيُوفِ وَيَرْجِعُ بِالْجِيَادِ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى أَنْ يُقَوَّمَ الْمَبِيعُ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِفَضْلِ مَا بَيْنَهُمَا لِلتَّعَارُفِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْأَجَلُ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ وَكَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فِيهِ وَلَكِنْ مَعْنَاهُ مُتَعَارَفٌ بَيْنَهُمْ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ قَدْرٌ مَعْلُومٌ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ ظَهَرَ الثَّمَنُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ مُؤَجَّلًا وَقَدْ كَتَمَهُ، ثُمَّ عَلِمَ الْمُشْتَرِي تَأْجِيلَهُ أَخَذَ الْمَبِيعَ بِالثَّمَنِ مُؤَجَّلًا بِالْأَجَلِ الَّذِي اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ إِلَيْهِ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي فَلَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ.وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا كَانَ لَهُ ذَلِكَ إِلَى الْأَجَلِ يَعْنِي وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتُهْلِكَ حَبَسَ الْمُشْتَرِيُ الثَّمَنَ بِقَدْرِ الْأَجَلِ وَهَذَا قَوْلُ شُرَيْحٍ؛ لِأَنَّهُ كَذَلِكَ وَقَعَ عَلَى الْبَائِعِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُشْتَرِي أَخْذُهُ بِذَلِكَ عَلَى صِفَتِهِ، كَمَا لَوْ أَخْبَرَ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثَّمَنِ.

19- ب- وَإِنْ ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ فِي التَّوْلِيَةِ بِأَنْ قَالَ اشْتَرَيْتُ بِعَشَرَةٍ، وَوَلَّيْتُكَ بِمَا تَوَلَّيْتُ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ اشْتَرَاهُ بِتِسْعَةٍ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- فِي الْأَظْهَرِ- وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَحُطُّ قَدْرَ الْخِيَانَةِ وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَيَلْزَمُ الْعَقْدُ بِالثَّمَنِ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ الْخِيَانَةَ فِي بَيْعِ التَّوْلِيَةِ تُخْرِجُ الْعَقْدَ عَنْ كَوْنِهِ تَوْلِيَةً؛ لِأَنَّهَا بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، فَإِذَا ظَهَرَ النُّقْصَانُ فِي الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَلَوْ ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي خَرَجَ الْعَقْدُ عَنْ كَوْنِهِ تَوْلِيَةً وَصَارَ مُرَابَحَةً، وَهَذَا إِنْشَاءُ عَقْدٍ جَدِيدٍ لَمْ يَتَرَاضَيَا عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ فَيَحُطُّ قَدْرَ الْخِيَانَةِ وَيَلْزَمُهُ الْعَقْدُ بِالثَّمَنِ الْبَاقِي.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْبَائِعَ إِذَا كَذَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِأَنْ زَادَ فِي ثَمَنِ السِّلْعَةِ عَلَى مَا هُوَ فِي الْوَاقِعِ سَوَاءٌ عَمْدًا أَوْ غَيْرَ عَمْدٍ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ، فَإِنْ حَطَّ الْبَائِعُ الزَّائِدَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ الْبَيْعُ وَإِنْ لَمْ يَحُطَّ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ السِّلْعَةَ وَيَأْخُذَ ثَمَنَهُ أَوْ يَأْخُذَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لِلْمُشْتَرِي الثَّانِي الْخِيَارُ إِنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَبِيعَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَرْضَ بِلُزُومِ الْعَقْدِ إِلاَّ بِالْقَدْرِ الَّذِي سَمَّاهُ عَنِ الثَّمَنِ فَلَا يَلْزَمُ بِدُونِهِ، وَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ لِفَوَاتِ السَّلَامَةِ عَنِ الْخِيَانَةِ كَمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ بِفَوَاتِ السَّلَامَةِ عَنِ الْعَيْبِ إِذَا وَجَدَ الْمَبِيعَ مَعِيبًا.

وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، أَوِ اسْتَهْلَكَهُ قَبْلَ رَدِّهِ أَوْ حَدَثَ بِهِ مَا يَمْنَعُ الرَّدَّ كَعَيْبٍ مَثَلًا لَزِمَهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي الرِّوَايَاتِ الظَّاهِرَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ خِيَارٍ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إِنَّهُ يَفْسَخُ الْبَيْعَ عَلَى الْقِيمَةِ إِنْ كَانَتْ أَقَلّ مِنَ الثَّمَنِ حَتَّى يَنْدَفِعَ الضَّرَرُ عَنِ الْمُشْتَرِي بِنَاءً عَلَى حَاصِلِهِ فِي مَسْأَلَةِ التَّحَالُفِ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ، أَنَّهُ يَفْسَخُ بَعْدَ التَّحَالُفِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْمُشْتَرِي وَيَرُدُّ الْقِيمَةَ وَيَسْتَرِدُّ الثَّمَنَ كَذَا هَاهُنَا.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، إِنْ فَاتَتِ السِّلْعَةُ خُيِّرَ الْمُشْتَرِي بَيْنَ دَفْعِ الثَّمَنِ الصَّحِيحِ أَوِ الْقِيمَةِ مَا لَمْ تَزِدْ عَلَى الْكَذِبِ.أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ: إِذَا ظَهَرَ الْحَالُ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ، فَقَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ بِسُقُوطِ الزِّيَادَةِ، قَالَهُ فِي الرَّوْضَةِ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ وَالشَّاشِيُّ عَنِ الْأَصْحَابِ مُطْلَقًا. ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْأَصَحُّ طَرْدُ الْقَوْلَيْنِ السُّقُوطَ وَعَدَمَهُ، فَإِنْ قُلْنَا بِالسُّقُوطِ فَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، وَإِنْ قُلْنَا بِعَدَمِ السُّقُوطِ فَهَلْ لِلْمُشْتَرِي الْفَسْخُ؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: لَا، كَمَا لَوْ عَلِمَ الْعَيْبَ بَعْدَ تَلَفِ الْمَبِيعِ، لَكِنْ يَرْجِعُ بِقَدْرِ التَّفَاوُتِ كَمَا يَرْجِعُ بِأَرْشِ الْعَيْبِ

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


239-موسوعة الفقه الكويتية (ثمار 1)

ثِمَارٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الثِّمَارُ لُغَةً جَمْعُ ثَمَرٍ، وَالثَّمَرُ: حَمْلُ الشَّجَرِ.وَيُطْلَقُ الثَّمَرُ أَيْضًا عَلَى أَنْوَاعِ الْمَالِ.

وَاصْطِلَاحًا: اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُسْتَطْعَمُ مِنْ أَحْمَالِ الشَّجَرِ.قَالَهُ صَاحِبُ الْكُلِّيَّاتِ، وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ: الثَّمَرُ الْحَمْلُ الَّذِي تُخْرِجُهُ الشَّجَرَةُ وَإِنْ لَمْ يُؤْكَلْ فَيُقَالُ: ثَمَرُ الْأَرَاكِ وَالْعَوْسَجِ، كَمَا يُقَالُ ثَمَرُ الْعِنَبِ وَالنَّخْلِ.قَالَ: وَفِي الْفَتْحِ: وَيَدْخُلُ فِي الثَّمَرَةِ الْوَرْدُ وَالْيَاسَمِينُ وَنَحْوُهُمَا مِنَ الْمَشْمُومَاتِ، وَقَدْ عَرَّفَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِتَعْرِيفِ صَاحِبِ الْكُلِّيَّاتِ وَشَهَّرَهُ.وَقَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الدُّسُوقِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ: الثِّمَارُ الْفَوَاكِهُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْفَوَاكِهُ:

2- الْفَوَاكِهُ لُغَةً أَجْنَاسُ الْفَاكِهَةِ وَهِيَ اسْمٌ لِمَا يُؤْكَلُ عَلَى سَبِيلِ التَّفَكُّهِ أَيِ التَّنَعُّمِ بِأَكْلِهِ وَالِالْتِذَاذِ بِهِ

فَالْفَوَاكِهُ أَخَصُّ مِنَ الثِّمَارِ.

ب- الزُّرُوعُ:

3- الزُّرُوعُ جَمْعُ زَرْعٍ وَهُوَ مَا اسْتُنِبْتَ بِالْبَذْرِ، سُمِّيَ بِالْمَصْدَرِ، يُقَالُ زَرَعَ الْحَبَّ يَزْرَعُهُ زَرْعًا وَزِرَاعَةً إِذَا بَذَرَهُ.وَقَدْ غَلَبَ عَلَى الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ.

وَقِيلَ: الزَّرْعُ نَبَاتُ كُلِّ شَيْءٍ يُحْرَثُ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالثِّمَارِ:

4- بَعْضُ الثِّمَارِ مِنَ الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فِيمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلِلثِّمَارِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ فِي الْبَيْعِ، وَالرَّهْنِ، وَالشُّفْعَةِ، وَالسَّرِقَةِ، كَمَا سَيَأْتِي:

أَوَّلًا: زَكَاةُ الثِّمَارِ:

أ- الثِّمَارُ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ:

5- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي ثَمَرٍ إِلاَّ التَّمْرَ وَالزَّبِيبَ لِكَوْنِهِمَا مِنَ الْقُوتِ.

وَأَوْجَبَ الْحَنَابِلَةُ الزَّكَاةَ فِي كُلِّ ثَمَرٍ يُكَالُ وَيُدَّخَرُ، كَالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبِ، وَاللَّوْزِ، وَالْفُسْتُقِ، وَالْبُنْدُقِ.

وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الثِّمَارِ- الَّتِي يُقْصَدُ بِزِرَاعَتِهَا نَمَاءُ الْأَرْضِ- لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} وَلِأَنَّ السَّبَبَ هِيَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ وَقَدْ تُسْتَنْمَى بِمَا لَا يَبْقَى فَيَجِبُ الْعُشْرُ كَالْخَرَاجِ.

وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الثِّمَارِ الَّتِي لَهَا ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ».

ب- نِصَابُ الثِّمَارِ:

6- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِي زَكَاةِ الثِّمَارِ:

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الثِّمَارِ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيمَا دُونَهَا.وَمِمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ».

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ عِنْدَهُ فِي كَثِيرِ الْخَارِجِ وَقَلِيلِهِ.

وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ عُمُومُ قوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}.

ج- وَقْتُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الثِّمَارِ:

7- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الثِّمَارِ بِبُدُوِّ صَلَاحِهَا؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ ثَمَرَةٌ كَامِلَةٌ.وَالْمُرَادُ بِالْوُجُوبِ هُنَا هُوَ انْعِقَادُ سَبَبِ وُجُوبِ إِخْرَاجِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ عِنْدَ الصَّيْرُورَةِ كَذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وُجُوبَ إِخْرَاجِهَا فِي الْحَالِ.

وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ هُوَ وَقْتُ ظُهُورِ الثَّمَرِ مُحْتَجًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}.قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا أَخْرَجَهُ مِنَ الْأَرْضِ فَدَلَّ أَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِالْخُرُوجِ.

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ هُوَ وَقْتُ اسْتِحْقَاقِ الْحَصَادِ وَالْإِدْرَاكِ لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وَيَوْمُ حَصَادِهِ يَوْمُ إِدْرَاكِهِ فَكَانَ هُوَ وَقْتُ الْوُجُوبِ.

وَذَهَبَ مُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ وَقْتُ الْجِذَاذِ لِأَنَّ حَالَ الْجِذَاذِ هِيَ حَالُ تَنَاهِي عِظَمِ الثَّمَرِ وَاسْتِحْكَامِهِ فَكَانَتْ هِيَ حَالُ الْوُجُوبِ.

د- الْقَدْرُ الْوَاجِبُ فِي زَكَاةِ الثَّمَرِ:

8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْعُشْرِ فِي الثِّمَارِ الَّتِي تُسْقَى بِغَيْرِ مُؤْنَةٍ كَالَّذِي يُسْقَى بِالْغَيْثِ، وَالسُّيُولِ، وَالْأَنْهَارِ، وَالسَّوَّاقِي الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْمَاءُ مِنَ الْأَنْهَارِ بِلَا آلَةٍ، وَمَا يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ لِقُرْبِهِ مِنَ الْمَاءِ.وَيَجِبُ نِصْفُ الْعُشْرِ فِيمَا سُقِيَ مِنْهَا بِمُؤْنَةٍ كَالدَّالِيَةِ، وَالنَّاعُورَةِ، وَالسَّانِيَةِ.لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ».

وَفِي زَكَاةِ الثِّمَارِ تَفْصِيلَاتٌ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةٌ).

ثَانِيًا: بَيْعُ الثِّمَارِ:

9- بَيْعُ الثِّمَارِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ ظُهُورِهَا أَوْ بَعْدَهُ.

وَإِذَا بِيعَتْ بَعْدَ ظُهُورِهَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ أَوْ بَعْدَهُ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ- بَيْعُ الثِّمَارِ قَبْلَ ظُهُورِهَا:

10- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ ظُهُورِهَا لِأَنَّهَا مَعْدُومَةٌ.وَبَيْعُ الْمَعْدُومِ غَيْرُ جَائِزٍ لِلْغَرَرِ.

ب- بَيْعُ الثِّمَارِ بَعْدَ ظُهُورِهَا وَقَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ:

11- بَيْعُ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إِحْدَاهَا: أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ بِالْإِجْمَاعِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ» وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِجُمْلَةِ هَذَا الْحَدِيثِ.

ثَانِيَتُهَا: أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ فِي الْحَالِ فَيَصِحُّ الْبَيْعُ بِالْإِجْمَاعِ.لِأَنَّ الْمَنْعَ إِنَّمَا كَانَ خَوْفًا مِنْ تَلَفِ الثَّمَرَةِ وَحُدُوثِ الْعَاهَةِ عَلَيْهَا قَبْلَ أَخْذِهَا بِدَلِيلِ مَا رَوَى أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى عَنْ بَيْعِ ثَمَرِ التَّمْرِ حَتَّى يَزْهُوَ.قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَ، بِمَ تَسْتَحِلُّ مَالَ أَخِيكَ» وَهَذَا مَأْمُونٌ فِيمَا يُقْطَعُ فَصَحَّ بَيْعُهُ كَمَا لَوْ بَدَا صَلَاحُهُ.

ثُمَّ إِنَّ صِحَّةَ هَذَا الْبَيْعِ لَيْسَتْ عَلَى إِطْلَاقِهَا، بَلْ هِيَ مَشْرُوطَةٌ بِشُرُوطٍ، بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ.

فَالَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ الِانْتِفَاعُ، أَيْ أَنْ تَكُونَ الثِّمَارُ الْمَقْطُوعَةُ مُنْتَفَعًا بِهَا.

وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهَا عِنْدَ الْقَطْعِ، وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى مُطْلَقِ الِانْتِفَاعِ.

وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْقَطْعَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَالِ، وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا مِنْهُ لَكِنْ بِحَيْثُ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْتَقِلُ مِنْ طَوْرِهِ إِلَى طَوْرٍ آخَرَ.

وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ شَرْطَيْنِ آخَرَيْنِ هُمَا: الْحَاجَةُ، وَعَدَمُ التَّمَالُؤِ.وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْحَاجَةُ مُتَعَلِّقَةً بِأَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ أَوْ بِكِلَيْهِمَا.وَالْمُرَادُ بِالتَّمَالُؤِ اتِّفَاقُهُمْ وَلَوْ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ، فَإِنْ تَمَالأَ عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ بِالْفِعْلِ مُنِعَ.

وَشَرَطَ الْحَنَابِلَةُ أَنْ لَا يَكُونَ الثَّمَرُ مَشَاعًا، بِأَنْ يَشْتَرِيَ نِصْفَ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مَشَاعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ قَطْعُ مَا يَمْلِكُهُ إِلاَّ بِقَطْعِ مَا لَا يَمْلِكُهُ.وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.

ثَالِثَتُهَا: أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ مُطْلَقًا- أَيْ لَا يَذْكُرُ قَطْعًا وَلَا تَبْقِيَةً- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى بُطْلَانِ الْبَيْعِ لِإِطْلَاقِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَرُ مُنْتَفَعًا بِهِ أَوْ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَ الثَّمَرُ بِحَالٍ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْأَكْلِ، وَلَا فِي عَلَفِ الدَّوَابِّ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى خِلَافٍ لِبَعْضِ الْمَشَايِخِ.وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُنْتَفَعُ بِهِ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ، وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ مَا إِذَا بِيعَ الثَّمَرُ مَعَ الْأَصْلِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَبِيعَ الثَّمَرَةَ مَعَ الشَّجَرِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا بِيعَ مَعَ الْأَصْلِ دَخَلَ تَبَعًا فِي الْبَيْعِ فَلَمْ يَضُرَّ احْتِمَالُ الْغَرَرِ فِيهِ، كَمَا احْتُمِلَتِ الْجَهَالَةُ فِي بَيْعِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ مَعَ الشَّاةِ، وَالنَّوَى فِي التَّمْرِ مَعَ التَّمْرِ؛ وَلِأَنَّ الثَّمَرَةَ هُنَا تَبَعٌ لِلْأَصْلِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَعَرِّضٍ لِلْعَاهَةِ.

وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ كَذَلِكَ بَيْعَ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ إِذَا أُلْحِقَ بِأَصْلِهِ الْمَبِيعِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْإِلْحَاقُ قَرِيبًا أَمْ بَعِيدًا.

ج- بَيْعُ الثِّمَارِ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ:

12- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الثِّمَارِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مُطْلَقًا، وَبِشَرْطِ قَطْعِهَا، وَبِشَرْطِ إِبْقَائِهَا، لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا.فَيَجُوزُ بَعْدَ بُدُوِّهِ وَهُوَ صَادِقٌ بِكُلٍّ مِنَ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ.وَالْفَارِقُ أَمْنُ الْعَاهَةِ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ غَالِبًا لِغِلَظِهَا وَكِبَرِ نَوَاهَا.وَقَبْلَهُ تُسْرِعُ إِلَيْهِ لِضَعْفِهِ فَيَفُوتُ بِتَلَفِهِ الثَّمَنُ. ثُمَّ إِنَّ مَعْنَى بُدُوِّ الصَّلَاحِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالْحَنَفِيَّةِ، فَبُدُوُّ الصَّلَاحِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ ظُهُورُ مَبَادِئِ النُّضْجِ وَالْحَلَاوَةِ بِأَنْ يَتَمَوَّهَ وَيَلِينَ فِيمَا لَا يَتَلَوَّنُ، وَأَنْ يَأْخُذَ فِي الْحُمْرَةِ، أَوْ السَّوَادِ، أَوْ الصُّفْرَةِ فِيمَا يَتَلَوَّنُ.وَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ تُؤْمَنَ الْعَاهَةُ وَالْفَسَادُ.

بَيْعُ الثِّمَارِ الْمُتَلَاحِقَةِ الظُّهُورِ:

13- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ بَيْعِ الثِّمَارِ الْمُتَلَاحِقَةِ الظُّهُورِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ الْجَوَازِ لِأَنَّ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهَا مَعْدُومٌ، «وَنَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ»، وَلِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِهِ، ثُمَّ هِيَ ثَمَرَةٌ لَمْ تُخْلَقْ فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا كَمَا لَوْ بَاعَهَا قَبْلَ ظُهُورِ شَيْءٍ مِنْهَا.

وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مَا لَوْ حَصَلَ الِاخْتِلَاطُ قَبْلَ التَّخْلِيَةِ فِيمَا يَغْلِبُ فِيهِ التَّلَاحُقُ وَالِاخْتِلَاطُ، أَوْ فِيمَا يَنْدُرُ فِيهِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ لِبَقَاءِ عَيْنِ الْمَبِيعِ؛ وَلِإِمْكَانِ تَسْلِيمِهِ، وَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَاطَ عَيْبٌ حَدَثَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ. وَذَهَبَ مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى الْجَوَازِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَشُقُّ تَمْيِيزُهُ فَجُعِلَ مَا لَمْ يَظْهَرْ تَبَعًا لِمَا ظَهَرَ، كَمَا أَنَّ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ تَبَعٌ لِمَا بَدَا.

غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَصَرُوا الْجَوَازَ عَلَى الثِّمَارِ الْمُتَتَابِعَةِ، فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ بَيْعُ سَائِرِ الْبُطُونِ بِبُدُوِّ صَلَاحِ الْأَوَّلِ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ مُنْفَصِلَةً فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الثَّانِي بِصَلَاحِ الْأَوَّلِ اتِّفَاقًا.

وَالْحَنَفِيَّةُ إِنَّمَا أَجَازُوا ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ.قَالُوا: وَالنَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِنَّمَا رَخَّصَ فِي السَّلَمِ لِلضَّرُورَةِ مَعَ أَنَّهُ بَيْعٌ لِلْمَعْدُومِ فَحَيْثُ تَحَقَّقَتِ الضَّرُورَةُ هُنَا أَيْضًا أَمْكَنَ إِلْحَاقُهُ بِالسَّلَمِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ، فَلَمْ يَكُنْ مُصَادِمًا لِلنَّصِّ، فَلِذَا جَعَلُوهُ مِنَ الِاسْتِحْسَانِ، وَمَا ضَاقَ الْأَمْرُ إِلاَّ اتَّسَعَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مُسَوِّغٌ لِلْعُدُولِ عَنْ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.

مِلْكِيَّةُ الثِّمَارِ عِنْدَ بَيْعِ الشَّجَرِ:

14- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الثِّمَارِ الَّتِي تَكُونُ عَلَى الشَّجَرِ عِنْدَ بَيْعِهِ، هَلْ هِيَ لِلْبَائِعِ أَمْ لِلْمُشْتَرِي.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ إِلَى أَنَّهَا لِلْبَائِعِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُشْتَرِي فَتَكُونُ لَهُ وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: {مَنِ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلَّذِي بَاعَهَا إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ» وَلِأَنَّ هَذَا نَمَاءٌ لَهُ حَدٌّ، فَلَمْ يَتْبَعْ أَصْلَهُ فِي الْبَيْعِ كَمَا لَا يَتْبَعُ الزَّرْعَ فِي الْأَرْضِ.وَيُؤْمَرُ الْبَائِعُ بِقَطْعِ الثَّمَرِ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ صَلَاحُهُ إِذَا لَمْ يَشْتَرِطْهُ الْمُشْتَرِي، وَتَسْلِيمِ الشَّجَرِ عِنْدَ وُجُوبِ تَسْلِيمِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي مَشْغُولٌ بِمِلْكِ الْبَائِعِ، فَيُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَارِغًا.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: هِيَ لِلْمُشْتَرِي وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِالْأَصْلِ اتِّصَالَ خِلْقَةٍ، فَكَانَتْ تَابِعَةً لَهُ كَالْأَغْصَانِ.

وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَرُ مُؤَبَّرًا أَوْ غَيْرَ مُؤَبَّرٍ: فَقَرَّرُوا أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ مُؤَبَّرَةً فَهِيَ لِلْبَائِعِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهَا أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ فَهِيَ لَهُ مُؤَبَّرَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «مَنِ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلَّذِي بَاعَهَا، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ» فَإِنَّهُ جَعَلَ التَّأْبِيرَ حَدًّا لِمِلْكِ الْبَائِعِ لِلثَّمَرَةِ، فَيَكُونُ مَا قَبْلَهُ لِلْمُشْتَرِي، وَإِلاَّ لَمْ يَكُنْ حَدًّا، وَلَا كَانَ ذِكْرُ التَّأْبِيرِ مُفِيدًا؛ وَلِأَنَّهُ نَمَاءٌ كَامِنٌ لِظُهُورِهِ غَايَةٌ، فَكَانَ تَابِعًا لِأَصْلِهِ قَبْلَ ظُهُورِهِ، وَغَيْرَ تَابِعٍ لَهُ بَعْدَ ظُهُورِهِ كَالْحَمْلِ فِي الْحَيَوَانِ. إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ مَنَعُوا أَنْ يَشْتَرِطَ الْبَائِعُ الثَّمَرَ غَيْرَ الْمُؤَبَّرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اشْتِرَاطَهُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ شِرَائِهِ لَهُ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ بِشَرْطِ التَّرْكِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ.

وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ جَوَازِ اشْتِرَاطِ الْبَائِعِ الثَّمَرَ غَيْرَ الْمُؤَبَّرِ، بِأَنَّهُ اسْتَثْنَى بَعْضَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ وَهُوَ مَعْلُومٌ، فَصَحَّ كَمَا لَوْ بَاعَ بُسْتَانًا وَاسْتَثْنَى نَخْلَةً بِعَيْنِهَا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى عَنْ الثُّنْيَا إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ» وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ فَصَحَّ اشْتِرَاطُهُ لِلثَّمَرَةِ كَالْمُشْتَرِي وَقَدْ ثَبَتَ الْأَصْلُ بِالِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ وَبِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ».

15- ثُمَّ إِنَّ الْجُمْهُورَ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي حَالَةِ مَا إِذَا أُبِّرَ بَعْضُ الشَّجَرِ دُونَ بَعْضٍ:

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا كُلَّهَا لِلْبَائِعِ كَمَا لَوْ أُبِّرَتْ كُلُّهَا لِمَا فِي تَتَبُّعِ ذَلِكَ مِنَ الْعُسْرِ، وَلِأَنَّا إِذَا لَمْ نَجْعَلِ الْكُلَّ لِلْبَائِعِ أَدَّى إِلَى الْإِضْرَارِ بِاشْتِرَاكِ الْأَيْدِي فِي الْبُسْتَانِ، فَيَجِبُ أَنْ يُجْعَلَ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ تَبَعًا لِمَا أُبِّرَ، كَثَمَرَةِ النَّخْلَةِ الْوَاحِدَةِ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ تَأْبِيرَ بَعْضِ النَّخْلَةِ يَجْعَلُ جَمِيعَ ثَمَرِهَا لِلْبَائِعِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَا أُبِّرَ فَلِلْبَائِعِ وَمَا لَمْ يُؤَبَّرْ فَلِلْمُشْتَرِي، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ نَوْعِ مَا تَشَقَّقَ أَوْ غَيْرِهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَبَّرُ النِّصْفَ وَمَا قَارَبَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ، فَإِنْ كَانَ الْمُؤَبَّرُ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ فَهِيَ لِلْبَائِعِ، وَالْعَقْدُ حِينَئِذٍ عَلَى الْأُصُولِ لَا يَتَنَاوَلُ تِلْكَ الثَّمَرَةَ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي أَنَّ التَّأْبِيرَ كَانَ قَبْلَ الْعَقْدِ إِنْ نَازَعَهُ الْمُشْتَرِي وَادَّعَى حُدُوثَهُ بَعْدَهُ.وَإِنْ كَانَ الْمُؤَبَّرُ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ فَالثَّمَرَةُ لِلْمُشْتَرِي.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُؤَبَّرُ النِّصْفَ أَوْ مَا قَارَبَهُ فَلِكُلٍّ حُكْمُهُ أَيْ إِنَّ مَا أُبِّرَ لِلْبَائِعِ، وَمَا لَمْ يُؤَبَّرْ لِلْمُشْتَرِي، وَهَذَا إِذَا كَانَ النِّصْفُ مُعَيَّنًا بِأَنْ كَانَ مَا أُبِّرَ فِي نَخَلَاتٍ بِعَيْنِهَا، وَمَا لَمْ يُؤَبَّرْ فِي نَخَلَاتٍ بِعَيْنِهَا.وَأَمَّا إِنْ كَانَ النِّصْفُ الْمُؤَبَّرُ شَائِعًا فِي كُلِّ نَخْلَةٍ، وَكَذَلِكَ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ شَائِعًا، فَفِيهِ عِنْدَهُمْ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: فَقِيلَ: كُلُّهُ لِلْبَائِعِ، وَقِيلَ: كُلُّهُ لِلْمُبْتَاعِ، وَقِيلَ: يُخَيَّرُ الْبَائِعُ فِي تَسْلِيمِهِ جَمِيعَ الثَّمَرَةِ وَفِي فَسْخِ الْبَيْعِ، وَقِيلَ: الْبَيْعُ مَفْسُوخٌ، وَقِيلَ: إِنَّ الْبَيْعَ لَا يَجُوزُ إِلاَّ بِرِضَا أَحَدِهِمَا بِتَسْلِيمِ الْجَمِيعِ لِلْآخَرِ.قَالَ ابْنُ الْعَطَّارِ: وَهُوَ الَّذِي بِهِ الْقَضَاءُ.وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ الشَّيْخُ الدُّسُوقِيُّ وَشَيْخُهُ الْعَدَوِيُّ.

16- ثُمَّ إِنَّ الْفُقَهَاءَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمَقْصُودِ بِالتَّأْبِيرِ هُنَا، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّأْبِيرِ هُنَا هُوَ بُرُوزُ جَمِيعِ الثَّمَرَةِ عَنْ مَوْضِعِهَا وَتَمَيُّزُهَا عَنْ أَصْلِهَا وَذَلِكَ فِي غَيْرِ النَّخْلِ مِنَ الثِّمَارِ.وَأَمَّا فِي النَّخْلِ فَهُوَ تَعْلِيقُ طَلْعِ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى.وَلَمْ يُخَالِفِ الشَّافِعِيَّةُ الْمَالِكِيَّةَ فِي مَعْنَى التَّأْبِيرِ الْمُضَافِ لِلنَّخْلِ، وَفَصَّلُوا فِي غَيْرِهِ مِنَ الثِّمَارِ.

فَقَالُوا: إِنْ كَانَ الثَّمَرُ بِلَا نَوْرٍ، كَتِينٍ وَعِنَبٍ فَالِاعْتِبَارُ بِالْبُرُوزِ، فَإِنْ بَرَزَ الثَّمَرُ فَهُوَ لِلْبَائِعِ، وَإِنْ لَمْ يَبْرُزْ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي.

وَإِنْ كَانَ الثَّمَرُ بِنَوْرٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لِلْبَائِعِ وَهِيَ أَنْ يَسْقُطَ النَّوْرُ وَتَكُونَ الثَّمَرَةُ بَارِزَةً فَهِيَ حِينَئِذٍ لِلْبَائِعِ، أَمَّا إِنْ سَقَطَ النَّوْرُ وَلَمْ تَنْعَقِدِ الثَّمَرَةُ، أَوِ انْعَقَدَتْ وَلَمْ يَسْقُطِ النَّوْرُ فَهِيَ حِينَئِذٍ لِلْمُشْتَرِي، لِأَنَّهَا فِي حَالَةِ سُقُوطِ النَّوْرِ وَعَدَمِ انْعِقَادِهَا كَالْمَعْدُومَةِ، وَفِي حَالَةِ انْعِقَادِهَا وَعَدَمِ سُقُوطِ النَّوْرِ كَالطَّلْعِ قَبْلَ تَشَقُّقِهِ؛ لِأَنَّ اسْتِتَارَهَا بِالنَّوْرِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِتَارِ ثَمَرَةِ النَّخْلِ بِأَكْمَامِهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّأْبِيرِ هُنَا هُوَ ظُهُورُ الثَّمَرِ مُطْلَقًا وَذَلِكَ فِي غَيْرِ النَّخْلِ.وَأَمَّا فِي النَّخْلِ فَهُوَ تَشَقُّقُ طَلْعِهِ وَإِنْ لَمْ يُؤَبَّرْ، فَالْحُكْمُ عِنْدَهُمْ مَنُوطٌ بِالتَّشَقُّقِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


240-موسوعة الفقه الكويتية (ثمن 1)

ثَمَنٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الثَّمَنُ لُغَةً: مَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الشَّيْءُ.وَفِي الصِّحَاحِ: الثَّمَنُ ثَمَنُ الْمَبِيعِ، وَفِي التَّهْذِيبِ: ثَمَنُ كُلِّ شَيْءٍ قِيمَتُهُ.

قَالَ الزَّبِيدِيُّ: قَالَ شَيْخُنَا: اشْتُهِرَ أَنَّ الثَّمَنَ مَا يَقَعُ بِهِ التَّرَاضِي وَلَوْ زَادَ أَوْ نَقَصَ عَنْ الْوَاقِعِ، وَالْقِيمَةُ مَا يُقَاوِمُ الشَّيْءَ، أَيْ: يُوَافِقُ مِقْدَارَهُ فِي الْوَاقِعِ وَيُعَادِلُهُ.

وَقَالَ الرَّاغِبُ: الثَّمَنُ اسْمٌ لِمَا يَأْخُذُهُ الْبَائِعُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَبِيعِ، عَيْنًا كَانَ أَوْ سِلْعَةً، وَكُلُّ مَا يُحَصَّلُ عِوَضًا عَنْ شَيْءٍ فَهُوَ ثَمَنُهُ.

وَالثَّمَنُ هُوَ: مَبِيعٌ بِثَمَنٍ.

وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَالثَّمَنُ، مَا يَكُونُ بَدَلًا لِلْمَبِيعِ وَيَتَعَيَّنُ فِي الذِّمَّةِ، وَتُطْلَقُ الْأَثْمَانُ أَيْضًا عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْقِيمَةُ:

2- الْقِيمَةُ مَا قُوِّمَ بِهِ الشَّيْءُ بِمَنْزِلَةِ الْمِعْيَارِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ.

وَالثَّمَنُ مَا تَرَاضَى عَلَيْهِ الْمُتَعَاقِدَانِ سَوَاءٌ زَادَ عَلَى الْقِيمَةِ أَوْ نَقَصَ.

فَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الثَّمَنِ أَنَّ الْقِيمَةَ عِبَارَةٌ عَنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، وَالثَّمَنُ الْمُتَرَاضَى عَلَيْهِ قَدْ يُسَاوِي الْقِيمَةَ أَوْ يَزِيدُ عَنْهَا أَوْ يَنْقُصُ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ أَحْكَامِ ثَمَنِ الْمِثْلِ فِي (الْقِيمَةُ).

ب- السِّعْرُ:

3- السِّعْرُ هُوَ الثَّمَنُ الْمُقَدَّرُ لِلسِّلْعَةِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّمَنِ أَنَّ الثَّمَنَ هُوَ مَا يَتَرَاضَى عَلَيْهِ الْعَاقِدَانِ أَمَّا السِّعْرُ فَهُوَ مَا يَطْلُبُهُ الْبَائِعُ.

الثَّمَنُ مِنْ أَرْكَانِ عَقْدِ الْبَيْعِ:

4- اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ (وَهُوَ الثَّمَنُ وَالْمَبِيعُ) مِنْ أَرْكَانِ عَقْدِ الْبَيْعِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ (الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ) أَمَّا الثَّمَنُ فَهُوَ أَحَدُ جُزْأَيْ مَحَلِّ عَقْدِ الْبَيْعِ الَّذِي هُوَ (الْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ) وَلَيْسَ الْمَحَلُّ رُكْنًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا تَفَاسَخَ الْمُتَبَايِعَانِ بَعْدَ قَبْضِ الْعِوَضَيْنِ، كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ حَتَّى يَرُدَّ الْبَائِعُ الَّذِي قَبَضَهُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَبِيعِ، عَرَضًا كَانَ أَوْ نَقْدًا، ثَمَنًا كَانَ أَوْ قِيمَةً؛

لِأَنَّ الْمَبِيعَ مُقَابَلٌ بِهِ فَيَصِيرُ مَحْبُوسًا بِهِ كَالرَّهْنِ.فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ أَنْ لَا يَدْفَعَ الْمَبِيعَ إِلَى أَنْ يَأْخُذَ الثَّمَنَ مِنَ الْبَائِعِ.

وَإِنْ مَاتَ الْبَائِعُ فِي حَالَةِ التَّفَاسُخِ فَالْمُشْتَرِي أَحَقُّ بِحَبْسِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ حَالَ حَيَاتِهِ، فَكَذَا يُقَدَّمُ عَلَى تَجْهِيزِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ.

شُرُوطُ الثَّمَنِ:

5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، وَأَنْ يَكُونَ مَالًا، وَمَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي، وَمَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، وَمَعْلُومَ الْقَدْرِ وَالْوَصْفِ، وَإِيضَاحُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي: الشَّرْطُ الْأَوَّلُ- تَسْمِيَةُ الثَّمَنِ:

6- تَسْمِيَةُ الثَّمَنِ حِينَ الْبَيْعِ لَازِمَةٌ، فَلَوْ بَاعَ بِدُونِ تَسْمِيَةِ ثَمَنٍ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَعَ نَفْيِ الثَّمَنِ بَاطِلٌ، إِذْ لَا مُبَادَلَةَ حِينَئِذٍ، وَمَعَ السُّكُوتِ عَنْهُ فَاسِدٌ، كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ.

فَإِذَا بِيعَ الْمَالُ وَلَمْ يُذْكَرِ الثَّمَنُ حَقِيقَةً، كَأَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: بِعْتُكَ هَذَا الْمَالَ مَجَّانًا أَوْ بِلَا بَدَلٍ فَيَقُولَ الْمُشْتَرِي: قَبِلْتُ، فَهَذَا الْبَيْعُ بَاطِلٌ.

وَإِذَا لَمْ يُذْكَرِ الثَّمَنُ حُكْمًا، كَأَنْ يَقُولَ إِنْسَانٌ لآِخَرَ: بِعْتُكَ هَذَا الْمَالَ بِالْأَلْفِ الَّتِي لَكَ فِي ذِمَّتِي، فَيَقْبَلُ الْمُشْتَرِي، مَعَ كَوْنِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَعْلَمَانِ أَنْ لَا دَيْنَ، فَالْبَيْعُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ بَاطِلٌ أَيْضًا، وَيَكُونُ الشَّيْءُ هِبَةً فِي الصُّورَتَيْنِ.

وَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ مَسْكُوتًا عَنْهُ حِينَ الْبَيْعِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ وَلَيْسَ بِبَاطِلٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي الْمُعَاوَضَةَ، فَإِذَا سَكَتَ الْبَائِعُ عَنِ الثَّمَنِ كَانَ مَقْصِدُهُ أَخْذَ قِيمَةِ الْمَبِيعِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: بِعْتُ مَا لِي بِقِيمَتِهِ، وَذِكْرُ الْقِيمَةِ مُجْمَلَةً يَجْعَلُ الثَّمَنَ مَجْهُولًا فَيَكُونُ الْبَيْعُ فَاسِدًا.

وَبَيْعُ التَّعَاطِي صَحِيحٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِأَنَّ الثَّمَنَ وَالْمُثَمَّنَ مَعْلُومَانِ فِيهِ، وَالتَّرَاضِي قَائِمٌ بَيْنَهُمَا وَلَوْ لَمْ تُوجَدْ فِيهِ صِفَةٌ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ إِلاَّ بِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ.قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الصَّدَاقِ: الصَّدَاقُ نِحْلَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَرَضَهَا لِلزَّوْجَاتِ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، لَا عَنْ عِوَضٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَفْتَقِرْ عَقْدُ النِّكَاحِ إِلَى تَسْمِيَةٍ، وَلَوْ كَانَ الصَّدَاقُ ثَمَنًا لِلْبُضْعِ حَقِيقَةً لَمَا صَحَّ النِّكَاحُ دُونَ تَسْمِيَةٍ، كَالْبَيْعِ الَّذِي لَا يَنْعَقِدُ إِلاَّ بِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ.وَفِي الْمَجْمُوعِ قَالَ النَّوَوِيُّ: يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ أَنْ يَذْكُرَ الثَّمَنَ فِي حَالِ الْعَقْدِ، فَيَقُولَ: بِعْتُكَ كَذَا بِكَذَا، فَإِنْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا، وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا، فَقَالَ الْمُخَاطَبُ: اشْتَرَيْتُ أَوْ قَبِلْتُ لَمْ يَكُنْ هَذَا بَيْعًا بِلَا خِلَافٍ، وَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْمِلْكُ لِلْقَابِلِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: فِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا هَذَا، وَالثَّانِي: يَكُونُ هِبَةً.

وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: إِذَا قَالَ: بِعْتُكَ بِلَا ثَمَنٍ، أَوْ لَا ثَمَنَ لِي عَلَيْكَ، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ وَقَبَضَهُ فَلَيْسَ بَيْعًا، وَفِي انْعِقَادِهِ هِبَةً قَوْلَا تَعَارُضِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَإِذَا قَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُكَ وَلَمْ يَذْكُرْ ثَمَنًا، فَإِنْ رَاعَيْنَا الْمَعْنَى انْعَقَدَ هِبَةً، أَوْ اللَّفْظَ فَهُوَ بَيْعٌ فَاسِدٌ.

وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَقَدْ جَاءَ فِي الْإِنْصَافِ: يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الثَّمَنِ حَالَ الْعَقْدِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، وَاخْتَارَ الشَّيْخُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ صِحَّةَ الْبَيْعِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الثَّمَنَ، وَلَهُ ثَمَنُ الْمِثْلِ كَالنِّكَاحِ.

الشَّرْطُ الثَّانِي- كَوْنُ الثَّمَنِ مَالًا:

7- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الثَّمَنِ لِانْعِقَادِ الْبَيْعِ: أَنْ يَكُونَ مَالًا مُتَقَوِّمًا.

لِأَنَّ الْبَيْعَ هُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ بِالتَّرَاضِي.

وَالْمَالُ هُوَ مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ الطَّبْعُ وَيُمْكِنُ ادِّخَارُهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ، وَالْمَالِيَّةُ إِنَّمَا تَثْبُتُ بِتَمَوُّلِ النَّاسِ كَافَّةً أَوْ بَعْضِهِمْ.

وَالتَّقَوُّمُ يَثْبُتُ بِهَا وَبِإِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ شَرْعًا.فَمَا يَكُونُ مُبَاحَ الِانْتِفَاعِ بِدُونِ تَمَوُّلِ النَّاسِ لَا يَكُونُ مَالًا، كَحَبَّةِ حِنْطَةٍ.وَمَا يَكُونُ مَالًا بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا يَكُونُ مُبَاحَ الِانْتِفَاعِ لَا يَكُونُ مُتَقَوِّمًا، كَالْخَمْرِ.وَإِذَا عُدِمَ الْأَمْرَانِ لَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا كَالدَّمِ.

فَالْمَالُ أَعَمُّ مِنَ الْمُتَقَوِّمِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مَا يُمْكِنُ ادِّخَارُهُ وَلَوْ غَيْرَ مُبَاحٍ كَالْخَمْرِ، وَالْمُتَقَوِّمُ مَا يُمْكِنُ ادِّخَارُهُ مَعَ الْإِبَاحَةِ.فَالْخَمْرُ مَالٌ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ، فَلِذَا فَسَدَ الْبَيْعُ بِجَعْلِهَا ثَمَنًا، وَإِنَّمَا لَمْ يَنْعَقِدْ أَصْلًا بِجَعْلِهَا مَبِيعًا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بَلْ وَسِيلَةٌ إِلَى الْمَقْصُودِ، إِذْ الِانْتِفَاعُ بِالْأَعْيَانِ لَا بِالْأَثْمَانِ، وَلِهَذَا اشْتُرِطَ وُجُودُ الْمَبِيعِ دُونَ الثَّمَنِ فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ صَارَ الثَّمَنُ مِنْ جُمْلَةِ الشُّرُوطِ بِمَنْزِلَةِ آلَاتِ الصُّنَّاعِ.

وَمِنْ هَذَا قَالَ فِي الْبَحْرِ: الْبَيْعُ وَإِنْ كَانَ مَبْنَاهُ عَلَى الْبَدَلَيْنِ، لَكِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْمَبِيعُ دُونَ الثَّمَنِ، وَلِذَا تُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمَبِيعِ دُونَ الثَّمَنِ، وَيَنْفَسِخُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ دُونَ الثَّمَنِ.

وَالتَّقَوُّمُ فِي الثَّمَنِ شَرْطُ صِحَّةٍ، وَفِي الْمَبِيعِ شَرْطُ انْعِقَادٍ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ الثَّمَنِ:

أَنْ يَكُونَ مَالًا طَاهِرًا، فَلَا يَصِحُّ مَا نَجَاسَتُهُ أَصْلِيَّةٌ كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ».وَقِيسَ عَلَيْهَا مَا فِي مَعْنَاهَا.وَلَا يَصِحُّ مَا هُوَ مُتَنَجِّسٌ لَا يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ كَسَمْنٍ وَلَبَنٍ تَنَجَّسَ.وَأَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ انْتِفَاعًا شَرْعِيًّا وَلَوْ فِي الْمَالِ كَالْبَهِيمَةِ الصَّغِيرَةِ.فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ مَا لَا نَفْعَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ مَالًا، كَالْحَشَرَاتِ الَّتِي لَا نَفْعَ فِيهَا.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مَالًا.

وَالْمَالُ شَرْعًا: (مَا يُبَاحُ نَفْعُهُ مُطْلَقًا، وَيُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ بِلَا حَاجَةٍ) فَخَرَجَ: مَا لَا نَفْعَ فِيهِ أَصْلًا كَبَعْضِ الْحَشَرَاتِ، وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُحَرَّمَةٌ كَالْخَمْرِ، وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ لِلْحَاجَةِ كَالْكَلْبِ، وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ تُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ كَالْمَيْتَةِ فِي حَالِ الْمَخْمَصَةِ، وَخَمْرٍ لِدَفْعِ لُقْمَةٍ غَصَّ بِهَا.

أَنْوَاعُ الْأَمْوَالِ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةِ:

8- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْأَمْوَالَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:

أ- ثَمَنٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَهُوَ النَّقْدَانِ، صَحِبَهُ الْبَاءُ أَوْ لَا، قُوبِلَ بِجِنْسِهِ أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ عِنْدَ الْعَرَبِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ، وَالنُّقُودُ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ إِلاَّ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، فَكَانَتْ ثَمَنًا بِكُلِّ حَالٍ.

ب- مَبِيعٌ بِكُلِّ حَالٍ، كَالدَّوَابِّ وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَعْيَانِ غَيْرِ الْمِثْلِيَّةِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ؛ لِأَنَّ الْعُرُوضَ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ إِلاَّ عَيْنًا فَكَانَتْ مَبِيعَةً.

ج- ثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا مِثْلِيَّةٌ فَثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ فَأَشْبَهَتِ النَّقْدَ، وَمَبِيعٌ مِنْ وَجْهٍ، نَظَرًا إِلَى الِانْتِفَاعِ بِأَعْيَانِهَا فَأَشْبَهَتِ الْعُرُوضَ.وَذَلِكَ كَالْمِثْلِيَّاتِ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ مِنَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ كَالْبَيْضِ.فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ مُعَيَّنًا فِي الْعَقْدِ كَانَ مَبِيعًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا وَصَحِبَهُ الْبَاءُ، وَقُوبِلَ بِالْمَبِيعِ فَهُوَ ثَمَنٌ.وَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ حَرْفُ الْبَاءِ وَلَمْ يُقَابِلْهُ ثَمَنٌ فَهُوَ مَبِيعٌ؛

لِأَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ غَيْرَ النَّقْدَيْنِ يُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ عَيْنًا تَارَةً، وَدَيْنًا أُخْرَى، فَكَانَ ثَمَنًا فِي حَالٍ، مَبِيعًا فِي حَالٍ.

د- ثَمَنٌ بِالِاصْطِلَاحِ، وَهُوَ سِلْعَةٌ فِي الْأَصْلِ كَالْفُلُوسِ.

فَإِنْ كَانَ رَائِجًا كَانَ ثَمَنًا، وَإِنْ كَانَ كَاسِدًا فَهُوَ سِلْعَةٌ مُثَمَّنٌ.وَالْحَاصِلُ- كَمَا قَالَ الْحَصْكَفِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ- إِنَّ الْمِثْلِيَّاتِ تَكُونُ ثَمَنًا إِذَا دَخَلَتْهَا الْبَاءُ وَلَمْ تُقَابَلْ بِثَمَنٍ، أَيْ: بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ، سَوَاءٌ تَعَيَّنَتْ أَوْ لَا.وَكَذَا إِذَا لَمْ تَدْخُلْهَا الْبَاءُ، وَلَمْ تُقَابَلْ بِثَمَنٍ وَتَعَيَّنَتْ.وَتَكُونُ مَبِيعًا إِذَا قُوبِلَتْ بِثَمَنٍ مُطْلَقًا، أَيْ: سَوَاءٌ دَخَلَتْهَا الْبَاءُ أَوْ لَا، تَعَيَّنَتْ أَوْ لَا.وَكَذَا إِذَا لَمْ تُقَابَلْ بِثَمَنٍ وَلَمْ يَصْحَبْهَا الْبَاءُ وَلَمْ تُعَيَّنْ، كَبِعْتُكَ كُرَّ حِنْطَةٍ بِهَذَا الْعَبْدِ.

وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: الْفُلُوسُ الرَّائِجَةُ إِنْ قُوبِلَتْ بِخِلَافِ جِنْسِهَا فَهِيَ أَثْمَانٌ، وَكَذَا إِنْ قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا مُتَسَاوِيَةً فِي الْعَدَدِ.وَإِنْ قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلَةً فِي الْعَدَدِ فَهِيَ مَبِيعَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هِيَ أَثْمَانٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ.

وَقَرِيبٌ مِنْهُ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ الثَّمَنَ النَّقْدُ إِنْ قُوبِلَ بِغَيْرِهِ لِلْعُرْفِ، فَإِنْ كَانَ الْعِوَضَانِ نَقْدَيْنِ أَوْ عَرَضَيْنِ فَالثَّمَنُ مَا الْتَصَقَتْ بِهِ بَاءُ الثَّمَنِيَّةِ وَالْمُثَمَّنُ مَا يُقَابِلُهُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ كُلًّا مِنَ الْعِوَضَيْنِ ثَمَنٌ لِلْآخَرِ وَمُثَمَّنٌ، وَلَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِ النُّقُودِ مَبِيعَةً؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْعِوَضَيْنِ مَبِيعٌ بِالْآخَرِ، لَكِنْ جَرَى الْعُرْفُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ وَالْعِوَضُ الثَّانِي شَيْئًا مِنَ الْمُثَمَّنَاتِ، عَرَضًا أَوْ نَحْوَهُ، أَنَّ الثَّمَنَ هُوَ الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ وَمَا عَدَاهُمَا مُثَمَّنَاتٌ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الثَّمَنَ يَتَمَيَّزُ عَنِ الْمُثَمَّنِ بِبَاءِ الْبَدَلِيَّةِ، وَلَوْ أَنَّ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ نَقْدٌ.

فَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْبَاءُ فَهُوَ ثَمَنٌ، فَدِينَارٌ بِثَوْبٍ: الثَّمَنُ الثَّوْبُ، لِدُخُولِ الْبَاءِ عَلَيْهِ.

تَعَيُّنُ الثَّمَنِ بِالتَّعْيِينِ:

9- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعَيُّنِ الْأَثْمَانِ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعَقْدِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّ النُّقُودَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، فَإِذَا اشْتَرَى بِهَذَا الدِّرْهَمِ فَلَهُ دَفْعُ دِرْهَمٍ غَيْرِهِ.

وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ- إِلاَّ زُفَرَ- وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ إِلاَّ إِنْ كَانَ الْعَاقِدُ مِنْ ذَوِي الشُّبُهَاتِ.

وَلِلْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي تَعَيُّنِ الْأَثْمَانِ.

فَالْأَثْمَانُ النَّقْدِيَّةُ الرَّائِجَةُ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ.

أَمَّا فِي غَيْرِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالْأَمَانَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْغَصْبِ فَإِنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَسَائِلَ لِغَيْرِهَا بَلْ تَكُونُ مَقْصُودَةً بِالذَّاتِ، فَإِذَا هَلَكَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ قَبْلَ الشِّرَاءِ وَقَبْلَ الْخَلْطِ تَنْفَسِخُ الشَّرِكَةُ.

أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْأَثْمَانُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ غَيْرِ النُّقُودِ، فَإِنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ؛ لِأَنَّهَا إِذَا عُيِّنَتْ تَكُونُ مَبِيعَةً مِنْ وَجْهٍ وَمَقْصُودَةً بِالذَّاتِ.

أَمَّا الْفُلُوسُ وَالدَّرَاهِمُ الَّتِي غَالِبُهَا الْغِشُّ:

فَإِنْ كَانَتْ رَائِجَةً فَلَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، لِكَوْنِهَا أَثْمَانًا بِالِاصْطِلَاحِ، فَمَا دَامَ ذَلِكَ الِاصْطِلَاحُ مَوْجُودًا لَا تَبْطُلُ الثَّمَنِيَّةُ، لِقِيَامِ الْمُقْتَضِي.وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ رَائِجَةٍ فَتَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ؛ لِزَوَالِ الْمُقْتَضِي لِلثَّمَنِيَّةِ وَهُوَ الِاصْطِلَاحُ، وَهَذَا لِأَنَّهَا فِي الْأَصْلِ سِلْعَةٌ، وَإِنَّمَا صَارَتْ أَثْمَانًا بِالِاصْطِلَاحِ، فَإِذَا تَرَكُوا الْمُعَامَلَةَ بِهَا رَجَعَتْ إِلَى أَصْلِهَا.

كَمَا أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اسْتَثْنَوُا الصَّرْفَ وَالْكِرَاءَ فَفِيهِمَا تَتَعَيَّنُ النُّقُودُ بِالتَّعْيِينِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَثْمَانَ النَّقْدِيَّةَ وَهِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، أَنَّ الْمَبِيعَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِمَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَالثَّمَنَ فِي الْأَصْلِ مَا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ.فَالْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُتَبَايِنَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ.

فَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَثْمَانٌ لَا تَتَعَيَّنُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فِي حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ وَإِنْ عُيِّنَتْ، حَتَّى لَوْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذَا الثَّوْبَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ أَوْ بِهَذِهِ الدَّنَانِيرِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُمْسِكَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ وَيَرُدَّ مِثْلَهُ.

وَلَكِنَّهَا تَتَعَيَّنُ فِي حَقِّ ضَمَانِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ، حَتَّى يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ جِنْسًا وَنَوْعًا وَقَدْرًا وَصِفَةً، وَلَوْ هَلَكَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ.

10- وَالثَّمَنُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا فِي الذِّمَّةِ، هَكَذَا نُقِلَ عَنِ الْفَرَّاءِ، وَهُوَ إِمَامٌ فِي اللُّغَةِ، وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُسَمَّى ثَمَنًا، وَالْآخَرَ مَبِيعًا فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ، وَاخْتِلَافُ الْأَسَامِي دَلِيلُ اخْتِلَافِ الْمَعَانِي فِي الْأَصْلِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ أَحَدُهُمَا مَكَانَ صَاحِبِهِ تَوَسُّعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُقَابِلُ صَاحِبَهُ، فَيُطْلَقُ اسْمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ، كَمَا يُسَمَّى جَزَاءُ السَّيِّئَةِ سَيِّئَةً، وَجَزَاءُ الِاعْتِدَاءِ اعْتِدَاءً.

وَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ اسْمًا لِمَا فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلتَّعْيِينِ بِالْإِشَارَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ التَّعْيِينُ حَقِيقَةً فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الْعَيْنِ، فَجُعِلَ كِنَايَةً عَنْ بَيَانِ الْجِنْسِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَنَوْعِهِ وَصِفَتِهِ وَقَدْرِهِ، تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِ الْعَاقِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.وَلِأَنَّ التَّعْيِينَ غَيْرُ مُفِيدٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ عِوَضٍ يُطْلَبُ مِنَ الْمُعَيَّنِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ مِثْلِهِ، فَلَمْ يَكُنِ التَّعْيِينُ فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الْعَيْنِ مُفِيدًا فَيَلْغُو فِي حَقِّهِ، وَيُعْتَبَرُ فِي بَيَانِ حَقِّ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ، وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ فِي حَقِّهِ مُفِيدٌ.

وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ إِطْلَاقُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي الْعَقْدِ، فَلَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِيهِ، كَالْمِكْيَالِ وَالصَّنْجَةِ.

وَيَسْتَثْنِي الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ الصَّرْفَ فَتَتَعَيَّنُ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ بِالتَّعْيِينِ فِيهِ لِاشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِيهِ فِي الْمَجْلِسِ وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ أَيْضًا الْكِرَاءَ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: الْأَثْمَانُ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ:

11- فَيَتَعَيَّنُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ، حَتَّى يَسْتَحِقَّ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي الدَّرَاهِمَ الْمُشَارَ إِلَيْهَا، كَمَا فِي سَائِرِ الْأَعْيَانِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا، وَلَوْ هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ، كَمَا لَوْ هَلَكَ سَائِرُ الْأَعْيَانِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِبْدَالُهُ.

وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ:

أَنَّ الْمَبِيعَ وَالثَّمَنَ يُسْتَعْمَلَانِ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا- فَهُمَا مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ فِي الْأَحْكَامِ بِحَرْفِ الْبَاءِ- قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} سَمَّى تَعَالَى الْمُشْتَرَى وَهُوَ الْمَبِيعُ ثَمَنًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ مَبِيعٌ، وَالْمَبِيعَ ثَمَنٌ.

وَلِهَذَا جَازَ أَنْ يُذَكَّرَ الشِّرَاءُ بِمَعْنَى الْبَيْعِ، يُقَالُ: شَرَيْتُ الشَّيْءَ بِمَعْنَى بِعْتُهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ} أَيْ: وَبَاعُوهُ؛

وَلِأَنَّ ثَمَنَ الشَّيْءِ قِيمَتُهُ، وَقِيمَةَ الشَّيْءِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ.وَلِهَذَا سُمِّيَ قِيمَةً لِقِيَامِهِ مَقَامَ غَيْرِهِ.وَالثَّمَنُ وَالْمُثَمَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُومُ مَقَامَ صَاحِبِهِ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا وَمَبِيعًا.دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ فِي اللُّغَةِ.

وَالْمَبِيعُ يَحْتَمِلُ التَّعَيُّنَ بِالتَّعْيِينِ فَكَذَا الثَّمَنُ، إِذْ هُوَ مَبِيعٌ.

وَلِأَنَّ الثَّمَنَ عِوَضٌ فِي عَقْدٍ، فَيَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَسَائِرِ الْأَعْوَاضِ.

مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّعْيِينُ:

12- يَحْصُلُ التَّعْيِينُ بِالْإِشَارَةِ، سَوَاءٌ أَضَمَّ إِلَيْهَا الِاسْمَ أَمْ لَا، كَقَوْلِهِ: بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، أَوْ بِهَذِهِ فَقَطْ، مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الدَّرَاهِمِ.

أَوْ بِعْتُكَ هَذَا بِهَذَا مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْعِوَضَيْنِ.

وَيَحْصُلُ التَّعْيِينُ أَيْضًا بِالِاسْمِ كَبِعْتُكَ دَارِي بِمَوْضِعِ كَذَا، أَوْ بِمَا فِي يَدِي أَوْ كِيسِي مِنَ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ، وَهُمَا يَعْلَمَانِ ذَلِكَ.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ مَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي:

13- يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ مَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي.وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَمِلْكُ الْمُشْتَرِي يَكُونُ وَقْتَ الْعَقْدِ مِلْكًا تَامًّا، لَا حَقَّ لِغَيْرِهِ فِيهِ.لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ»، وَهُوَ يُفِيدُ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَمْلُوكًا لِبَائِعِهِ.وَالثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ مِثْلُ الْمَبِيعِ فِي هَذَا الْحُكْمِ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ:

14- يُشْتَرَطُ فِي الثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ شَبِيهٌ بِالْمَعْدُومِ، وَالْمَعْدُومُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا.فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الطَّيْرُ فِي الْهَوَاءِ ثَمَنًا، وَكَذَا الْجَمَلُ الشَّارِدُ الَّذِي لَا يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ.لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْغَرَرُ مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ مُتَضَادَّيْنِ أَغْلَبُهُمَا أَخْوَفُهُمَا.وَقِيلَ: مَا انْطَوَتْ عَنَّا عَاقِبَتُهُ...وَالْمَبِيعُ وَمِثْلُهُ الثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ إِذَا لَمْ يُقْدَرْ عَلَى تَسْلِيمِهِ دَاخِلٌ فِي الْغَرَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.

الشَّرْطُ الْخَامِسُ: مَعْرِفَةُ الْقَدْرِ وَالْوَصْفِ فِي الثَّمَنِ:

15- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الثَّمَنُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُشَارًا إِلَيْهِ أَوْ غَيْرَ مُشَارٍ إِلَيْهِ.

فَإِنْ كَانَ مُشَارًا إِلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِهِ وَصِفَتِهِ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ.

(وَالْقَدْرُ: كَخَمْسَةِ أَوْ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ أَكْرَارُ حِنْطَةٍ.وَالصِّفَةُ: كَعَشْرَةِ دَنَانِيرَ كُوَيْتِيَّةٍ أَوْ أُرْدُنِيَّةٍ، وَكَذَا حِنْطَةٌ بُحَيْرِيَّةٌ أَوْ صَعِيدِيَّةٌ).

فَإِذَا قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ مِنَ الْحِنْطَةِ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ الَّتِي فِي يَدِكَ وَهِيَ مَرْئِيَّةٌ لَهُ فَقَبِلَ جَازَ وَلَزِمَ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ أَبْلَغُ طُرُقِ التَّعْرِيفِ، وَجَهَالَةُ وَصْفِهِ وَقَدْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ مِنَ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ اللَّذَيْنِ أَوْجَبَهُمَا عَقْدُ الْبَيْعِ فَلَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَيْنِ حَاضِرَانِ.

وَهَذَا بِخِلَافِ الرِّبَوِيِّ إِذَا بِيعَ بِجِنْسِهِ، حَيْثُ لَا يَجُوزُ جُزَافًا؛ لِاحْتِمَالِ الرِّبَا لِأَنَّ عَدَمَ تَحَقُّقِ التَّمَاثُلِ يُعْتَبَرُ بِمَثَابَةِ الْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ، وَبِخِلَافِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ، حَيْثُ لَا يَجُوزُ إِذَا كَانَ مِنَ الْمُقَدَّرَاتِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفَ الْقَدْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَوَافَقَ الْحَنَابِلَةُ الْحَنَفِيَّةَ فِي ذَلِكَ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَثْمَانِ وَالْمُثَمَّنَاتِ فِي صِحَّةِ بَيْعِهَا جُزَافًا). فَذَهَبُوا إِلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ إِذَا عُقِدَ عَلَى ثَمَنٍ بِوَزْنِ صَنْجَةٍ وَمِلْءِ كَيْلٍ مَجْهُولَيْنِ عُرْفًا، وَعَرَفَهُمَا الْمُتَعَاقِدَانِ بِالْمُشَاهَدَةِ، كَبِعْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ بِوَزْنِ هَذَا الْحَجَرِ فِضَّةً، أَوْ بِمِلْءِ هَذَا الْوِعَاءِ أَوْ الْكِيسِ دَرَاهِمَ.

وَذَهَبُوا أَيْضًا إِلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ بِصُبْرَةٍ مُشَاهَدَةٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ دَرَاهِمَ وَنَحْوِهَا، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمَا كَيْلَهَا وَلَا وَزْنَهَا وَلَا عَدَّهَا.

وَنَحْوُ هَذَا الْقَوْلِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، قَالَ الشِّيرَازِيُّ: إِنْ بَاعَهُ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ جُزَافًا جَازَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَيُكْرَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُجْهَلُ قَدْرُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ النَّقْدِ أَيِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ جُزَافًا إِذَا كَانَ مَسْكُوكًا، وَكَانَ التَّعَامُلُ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدَدِ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ الْوَزْنِ، لِقَصْدِ أَفْرَادِهِ.

أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ النَّقْدُ مَسْكُوكًا سَوَاءٌ تَعَامَلُوا بِهِ وَزْنًا أَوْ عَدَدًا جَازَ بَيْعُهُ جُزَافًا، لِعَدَمِ قَصْدِ آحَادِهِ.

16- أَمَّا إِنْ كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ مُشَارٍ إِلَيْهِ فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِهِ الْعَقْدُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ؛ لِأَنَّ جَهَالَتَهُ تُفْضِي إِلَى النِّزَاعِ الْمَانِعِ مِنَ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ، فَيَخْلُو الْعَقْدُ عَنِ الْفَائِدَةِ، وَكُلُّ جَهَالَةٍ تُفْضِي إِلَيْهِ يَكُونُ مُفْسِدًا.

وَالصِّفَةُ إِذَا كَانَتْ مَجْهُولَةً تَتَحَقَّقُ الْمُنَازَعَةُ فِي وَصْفِهَا، فَالْمُشْتَرِي يُرِيدُ دَفْعَ الْأَدْوَنِ، وَالْبَائِعُ يَطْلُبُ الْأَرْفَعَ.فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ شَرْعِيَّةِ الْعَقْدِ، وَهُوَ دَفْعُ الْحَاجَةِ بِلَا مُنَازَعَةٍ.

فَالْعِلْمُ بِالثَّمَنِ عِلْمًا مَانِعًا مِنَ الْمُنَازَعَةِ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ عِنْدَهُمْ.

17- وَبِنَاءً عَلَى هَذَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ.

أ- لَا يَجُوزُ بَيْعُ الشَّيْءِ بِقِيمَتِهِ.فَإِذَا بَاعَهُ بِقِيمَتِهِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ ثَمَنَهُ قِيمَتَهُ، وَالْقِيمَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، فَكَانَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا.

ب- وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الشَّيْءِ بِمَا حَلَّ بِهِ، أَوْ بِمَا تُرِيدُ، أَوْ تُحِبُّ، أَوْ بِرَأْسِ مَالِهِ، أَوْ بِمَا اشْتَرَاهُ، أَوْ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَى فُلَانٌ.فَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِالْقَدْرِ فِي الْمَجْلِسِ فَرَضِيَهُ انْقَلَبَ جَائِزًا.

- وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إِلاَّ دِينَارًا، أَوْ بِمِائَةِ دِينَارٍ إِلاَّ دِرْهَمًا.

- وَكَذَا لَا يَجُوزُ بِمِثْلِ مَا يَبِيعُ النَّاسُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا لَا يَتَفَاوَتُ كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ.

- وَكَذَا إِذَا بَاعَ بِحُكْمِ الْمُشْتَرِي، أَوْ بِحُكْمِ فُلَانٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي بِمَاذَا يَحْكُمُ فُلَانٌ فَكَانَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا.

18- ج- وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا بِأَنَّهُ وَإِنْ بَاعَهُ بِمَا يَنْقَطِعُ السِّعْرُ بِهِ، أَوْ بِمِثْلِ مَا بَاعَ بِهِ فُلَانٌ، وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِهِ أَوْ أَحَدُهُمَا، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ.

د- وَإِنْ بَاعَهُ سِلْعَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ذَهَبًا وَفِضَّةً لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ، لِأَنَّ مِقْدَارَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْأَلْفِ مَجْهُولٌ، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ بِمِائَةٍ بَعْضُهَا ذَهَبٌ؛ وَلِأَنَّهُ بَيْعُ غَرَرٍ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ.

هـ- وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الشَّيْءِ بِرَقْمِهِ، وَالْمُرَادُ الثَّمَنُ لَا يَعْلَمُ بِهِ الْمُشْتَرِي حَتَّى يَنْظُرَهُ بَعْدَ الْعَقْدِ.

وَهَذَا قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَالرَّقْمُ: عَلَامَةٌ يُعْلَمُ بِهَا مِقْدَارُ مَا وَقَعَ الْبَيْعُ بِهِ مِنَ الثَّمَنِ.

وَالْبَيْعُ بِالرَّقْمِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ جَهَالَةٍ تَمَكَّنَتْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، وَهِيَ جَهَالَةُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهَا بِرَقْمٍ لَا يَعْلَمُهُ الْمُشْتَرِي، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْقِمَارِ، لِلْخَطَرِ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُ سَيَظْهَرُ كَذَا وَكَذَا.

وَإِنْ عَلِمَ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ الْعَقْدُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْعِلْمِ بَطَلَ.

وَكَانَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ يَقُولُ: وَإِنْ عَلِمَ بِالرَّقْمِ فِي الْمَجْلِسِ لَا يَنْقَلِبُ ذَلِكَ الْعَقْدُ جَائِزًا، وَلَكِنْ إِنْ كَانَ الْبَائِعُ دَائِمًا عَلَى ذَلِكَ الرِّضَا وَرَضِيَ بِهِ الْمُشْتَرِي فِي الْمَجْلِسِ يَنْعَقِدُ بَيْنَهُمَا عَقْدَ ابْتِدَاءٍ بِالتَّرَاضِي.

وَوَرَدَ فِي الْمُغْنِي لِابْنِ قُدَامَةَ: (قَالَ أَحْمَدُ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَبِيعَ بِالرَّقْمِ.وَمَعْنَاهُ: أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِرَقْمِهِ، وَهُوَ الثَّمَنُ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مَعْلُومًا لَهُمَا حَالَ الْعَقْدِ.وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَكَرِهَهُ طَاوُسٌ

وَلَنَا أَنَّهُ بَيْعٌ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ذَكَرَ مِقْدَارَهُ، أَوْ مَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا بِمَا اشْتَرَيْتُهُ بِهِ وَقَدْ عَلِمَا قَدْرَهُ.فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ).

إِذَنْ فَالْحُكْمُ بِجَوَازِهِ هُنَا بِنَاءٌ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الَّذِي يُفِيدُ أَنَّ الثَّمَنَ مَعْلُومٌ.أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا حَسَبَ التَّفْسِيرِ الْمُتَقَدِّمِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَلَا خِلَافَ عِنْدَئِذٍ.

و- بَيْعُ صُبْرَةِ طَعَامٍ، كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ:

19- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ.وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ؛ بِحُجَّةِ: أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَبْلَغَ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ حَالَ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُ بَعْدَ الْكَيْلِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ، إِلاَّ أَنْ يُسَمِّيَ جُمْلَةَ قُفْزَانِهَا.وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، بِحُجَّةِ: أَنَّ صَرْفَ اللَّفْظِ إِلَى الْكُلِّ مُتَعَذِّرٌ؛ لِجَهَالَةِ الْبَيْعِ وَالثَّمَنِ جَهَالَةً تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَطْلُبُ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ أَوَّلًا، وَالثَّمَنُ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَيَقَعُ النِّزَاعُ.وَإِذَا تَعَذَّرَ الصَّرْفُ إِلَى الْكُلِّ صُرِفَ إِلَى الْأَقَلِّ، وَهُوَ مَعْلُومٌ، إِلاَّ أَنْ تَزُولَ الْجَهَالَةُ فِي الْمَجْلِسِ بِتَسْمِيَةِ جَمِيعِ الْقُفْزَانِ أَوْ بِالْكَيْلِ فِي الْمَجْلِسِ فَيَجُوزُ، لِأَنَّ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ بِمَنْزِلَةِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا قَدْرَ قُفْزَانِهَا حَالَ الْعَقْدِ.

وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَجُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا يَلِي:

1- أَنَّ الْمَبِيعَ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَالثَّمَنَ مَعْلُومٌ لِإِشَارَتِهِ إِلَى مَا يُعْرَفُ مَبْلَغُهُ بِجِهَةٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَهُوَ كَيْلُ الصُّبْرَةِ، فَجَازَ كَمَا لَوْ بَاعَ مَا رَأْسُ مَالِهِ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ، لِكُلِّ ثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمٌ، فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِالْحِسَابِ، كَذَا هَاهُنَا. 2- أَنَّ الْمَبِيعَ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَالثَّمَنَ مَعْلُومٌ قَدْرَ مَا يُقَابِلُ كُلَّ جُزْءٍ مِنَ الْمَبِيعِ فَصَحَّ كَالْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، وَالْغَرَرَ مُنْتَفٍ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُ كُلَّ صَاعٍ مَعْلُومُ الْقَدْرِ حِينَئِذٍ.فَغَرَرُ الْجَهَالَةِ يَنْتَفِي بِالْعِلْمِ بِالتَّفْصِيلِ.كَمَا يَنْتَفِي بِالْعِلْمِ بِالْجُمْلَةِ، فَإِذَا جَازَ بِالْعِلْمِ بِالْجُمْلَةِ جَازَ بِالْعِلْمِ بِالتَّفْصِيلِ أَيْ: لَا يَضُرُّ الْجَهْلُ بِحَمَلَةِ الثَّمَنَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالتَّفْصِيلِ، وَالْغَرَرُ مُرْتَفِعٌ بِهِ، كَمَا إِذَا بَاعَ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ جُزَافًا.

3- لِأَنَّ إِزَالَةَ الْجَهَالَةِ بِيَدِهِمَا، فَتَرْتَفِعُ بِكَيْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مَانِعٍ.

وَانْظُرْ أَيْضًا (بَيْعُ الْجُزَافِ).

ز- لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إِلاَّ بِثَمَنٍ مَعْلُومِ الصِّفَةِ:

20- لِذَلِكَ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ:

مَنْ أَطْلَقَ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ عَنْ ذِكْرِ الصِّفَةِ دُونَ الْقَدْرِ، كَأَنْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ، وَلَمْ يَقُلْ بُخَارِيَّةً أَوْ سَمَرْقَنْدِيَّةً، وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ، أَيْ يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُتَعَامَلِ بِهِ فِي بَلَدِهِ.

وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ:

أَنَّ الْمَعْلُومَ بِالْعُرْفِ كَالْمَعْلُومِ بِالنَّصِّ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِيهِ تَصْحِيحُ تَصَرُّفِهِ.

وَيَبْنِي الْحَنَفِيَّةُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ النُّقُودُ مُخْتَلِفَةً فِي الْمَالِيَّةِ كَالذَّهَبِ الْمِصْرِيِّ وَالْمَغْرِبِيِّ، فَإِنَّ الْمِصْرِيَّ أَفْضَلُ فِي الْمَالِيَّةِ مِنَ الْمَغْرِبِيِّ، وَكَانَتْ مُتَسَاوِيَةً فِي الرَّوَاجِ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْجَهَالَةِ مُفْضِيَةٌ إِلَى الْمُنَازَعَةِ، فَالْمُشْتَرِي يُرِيدُ دَفْعَ الْأَنْقَصِ مَالِيَّةً، وَالْبَائِعُ يُرِيدُ أَخْذَ الْأَعْلَى، فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ إِلاَّ أَنْ تُرْفَعَ الْجَهَالَةُ بِبَيَانِ أَحَدِهِمَا فِي الْمَجْلِسِ وَيَرْضَى الْآخَرُ؛ لِارْتِفَاعِ الْمُفْسِدِ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ.

- وَإِذَا كَانَتِ النُّقُودُ مُخْتَلِفَةً فِي الرَّوَاجِ وَالْمَالِيَّةِ صَحَّ الْبَيْعُ وَانْصَرَفَ إِلَى الْأَرْوَجِ.

- وَإِذَا كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي الرَّوَاجِ مُسْتَوِيَةً فِي الْمَالِيَّةِ صَحَّ الْبَيْعُ وَانْصَرَفَ إِلَى الْأَرْوَجِ أَيْضًا تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ.

- أَمَّا إِذَا اسْتَوَتْ فِي الرَّوَاجِ وَالْمَالِيَّةِ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي الِاسْمِ كَالْمِصْرِيِّ وَالدِّمَشْقِيِّ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ وَيَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي فِي أَنْ يُؤَدِّيَ أَيَّهُمَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَازَعَةَ فِيهَا. فَالْحَاصِلُ:

أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ لِأَنَّ النُّقُودَ إِمَّا أَنْ تَسْتَوِيَ فِي الرَّوَاجِ وَالْمَالِيَّةِ مَعًا، أَوْ تَخْتَلِفَ فِيهِمَا، أَوْ يَسْتَوِيَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ.

وَالْفَسَادُ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ: وَهِيَ: الِاسْتِوَاءُ فِي الرَّوَاجِ وَالِاخْتِلَافُ فِي الْمَالِيَّةِ، وَالصِّحَّةُ فِي الثَّلَاثِ الْبَاقِيَةِ.

وَهَذِهِ الصُّورَةُ الْفَاسِدَةُ ذَكَرَهَا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ تَعَدَّدَتِ السِّكَكُ فِي الْبَلَدِ وَلَمْ يُبَيِّنْ، فَإِنْ اتَّحَدَتْ رَوَاجًا قَضَاهُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ قَضَاهُ مِنَ الْغَالِبِ إِنْ كَانَ، وَإِلاَّ فَسَدَ الْبَيْعُ لِعَدَمِ الْبَيَانِ.

وَعِبَارَةُ الشِّرْبِينِيِّ الشَّافِعِيِّ: إِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدَانِ وَلَمْ يَغْلِبْ أَحَدُهُمَا أَوْ غَلَبَ أَحَدُهُمَا وَاخْتَلَفَتِ الْقِيمَةُ اشْتُرِطَ التَّعْيِينُ لَفْظًا لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ بِاخْتِلَافِهِمَا.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ بَاعَ بِدِينَارٍ مُطْلَقٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَلَا مَوْصُوفٍ وَفِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنَ الدَّنَانِيرِ كُلُّهَا رَائِجَةٌ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


241-موسوعة الفقه الكويتية (ثمن 2)

ثَمَنٌ -2

الْحُلُولُ وَالتَّأْجِيلُ فِي الثَّمَنِ:

21- يَجُوزُ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ حَالٍّ، أَوْ مُؤَجَّلٍ إِذَا كَانَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا، بِدَلِيلِ:

1- إِطْلَاقِ قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} فَشَمَلَ مَا بِيعَ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَمَا بِيعَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ.

2- عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتِ: «اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ».

قَالَ فِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ:

إِنَّ الْحُلُولَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَمُوجَبُهُ، وَالْأَجَلُ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِالشَّرْطِ.

فَإِذَا بَاعَ بِثَمَنٍ حَالٍّ ثُمَّ أَجَّلَهُ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ.

وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ بِيعَ عَلَى شَرْطِ النَّقْدِ أَيْ تَعْجِيلِ الثَّمَنِ ثُمَّ تَرَاضَيَا عَلَى تَأْجِيلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْمُرَابَحَةِ بَيَانُ الْأَجَلِ، فَيُفْهَمُ مِنْهُ لُزُومُ الْأَجَلِ الَّذِي تَرَاضَيَا عَلَيْهِ.قَالُوا: لِأَنَّ اللاَّحِقَ لِلْعَقْدِ كَالْوَاقِعِ فِيهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْأَجَلِ إِنْ كَانَتْ فِي مُدَّةِ الْخِيَارَيْنِ- خِيَارِ الْمَجْلِسِ أَوْ خِيَارِ الشَّرْطِ- لَحِقَتْ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، أَمَّا بَعْدَ لُزُومِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْأَجَلِ لَا تَلْحَقُ وَلَكِنْ يُنْدَبُ الْوَفَاءُ بِهَا، وَكَذَلِكَ تَأْجِيلُ الدَّيْنِ الْحَالِّ.

وَدَلِيلُ وُجُوبِ كَوْنِ الْأَجَلِ مَعْلُومًا:

1- أَنَّ جَهَالَتَهُ تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، فَتَكُونُ مَانِعَةً مِنَ التَّسَلُّمِ وَالتَّسْلِيمِ الْوَاجِبَيْنِ بِالْعَقْدِ، فَرُبَّمَا يُطَالِبُ الْبَائِعُ فِي مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ وَالْمُشْتَرِي يُؤَخِّرُ إِلَى بَعِيدِهَا.

2- وَلِأَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- فِي مَوْضِعِ شَرْطِ الْأَجَلِ وَهُوَ السَّلَمُ أَوْجَبَ فِيهِ التَّعْيِينَ، حَيْثُ قَالَ: «مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» فَيُقَاسُ عَلَيْهِ تَأْجِيلُ الثَّمَنِ.

3- وَعَلَى كُلِّ ذَلِكَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ.

22- وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ مَعْلُومِيَّةَ الْأَجَلِ فِي الْبَيْعِ الْمُؤَجَّلِ ثَمَنُهُ.فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا فَهُوَ فَاسِدٌ.

وَمِنْ جَهَالَةِ الْأَجَلِ:

أ- مَا إِذَا بَاعَهُ بِأَلْفٍ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَيْهِ الثَّمَنَ فِي بَلَدٍ آخَرَ.

وَلَوْ قَالَ: إِلَى شَهْرٍ عَلَى أَنْ تُؤَدِّيَ الثَّمَنَ فِي بَلَدٍ آخَرَ جَازَ بِأَلْفٍ إِلَى شَهْرٍ.وَيَبْطُلُ شَرْطُ الْإِيفَاءِ فِي بَلَدٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ مَكَانِ الْإِيفَاءِ فِيمَا لَا حَمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ لَا يَصِحُّ.فَلَوْ كَانَ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ صَحَّ.

وَمِنْهُ: عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ: مَا إِذَا بَاعَهُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ الْمَبِيعَ قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ الثَّمَنَ، فَإِنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا- رحمه الله- عَلَّلَهُ بِتَضَمُّنِهِ أَجَلًا مَجْهُولًا، حَتَّى لَوْ سَمَّى الْوَقْتَ الَّذِي يُسَلِّمُ إِلَيْهِ فِيهِ الْمَبِيعَ جَازَ الْبَيْعُ.

وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَإِنَّمَا عَلَّلَهُ بِالشَّرْطِ الَّذِي لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ.

ب- وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ جَهَالَةَ الْأَجَلِ هِيَ مِنَ الْغَرَرِ فِي الثَّمَنِ، وَمَثَّلُوا لَهُ: بِأَنْ يَبِيعَ مِنْهُ السِّلْعَةَ بِثَمَنٍ إِلَى قُدُومِ زَيْدٍ أَوْ إِلَى مَوْتِهِ.قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: فَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ السِّلْعَةَ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ أَوْ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ فُسِخَ عَلَى كُلِّ حَالٍ فِي الْقِيَامِ وَالْفَوَاتِ، شَاءَ الْمُتَبَايِعَانِ أَوْ أَبَيَا.

ج- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ:

إِنْ بَاعَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ لَمْ يَجُزْ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ، كَالْبَيْعِ إِلَى الْعَطَاءِ، لِأَنَّهُ عِوَضٌ فِي بَيْعٍ، فَلَمْ يَجُزْ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ كَالْمُسَلَّمِ فِيهِ.

د- وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ تَأْجِيلِ الثَّمَنِ إِلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ، وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ وَيَصِحُّ الْعَقْدُ، وَلِلْمُشْتَرِي حَقُّ الْفَسْخِ؛ لِفَوَاتِ غَرَضِهِ بِفَسَادِ الشَّرْطِ.

الِاخْتِلَافُ فِي الْأَجَلِ:

23- إِذَا اخْتَلَفَا فِي الْأَجَلِ فَالْقَوْلُ لِمَنْ يَنْفِيهِ وَهُوَ الْبَائِعُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ وَهُوَ الْحُلُولُ.

وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ، فَالْقَوْلُ لِمُدَّعِي الْأَقَلَّ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ.

وَالْبَيِّنَةُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ.

وَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى قَدْرِهِ، وَاخْتَلَفَا فِي مُضِيِّهِ فَالْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَمْ يَمْضِ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهُ أَيْضًا.

لِأَنَّهُمَا لَمَّا اتَّفَقَا عَلَى الْأَجَلِ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ، فَكَانَ الْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي فِي عَدَمِ مُضِيِّهِ؛ وَلِأَنَّهُ مُنْكِرٌ تَوَجُّهَ الْمُطَالَبَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.

وَأَمَّا تَقْدِيمُ بَيِّنَتِهِ عَلَى بَيِّنَةِ الْبَائِعِ فَعَلَّلَهُ فِي الْبَحْرِ عَنِ الْجَوْهَرَةِ بِأَنَّ الْبَيِّنَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الدَّعْوَى.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: «وَهُوَ مُشْكِلٌ، فَإِنَّ شَأْنَ الْبَيِّنَةِ إِثْبَاتُ خِلَافِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ هُنَا دَعْوَى الْبَائِعِ عَلَى أَنَّ بَيِّنَةَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَدَمِ الْمُضِيِّ شَهَادَةٌ عَلَى النَّفْيِ، وَقَدْ يُجَابُ عَنِ الثَّانِي بِأَنَّهُ إِثْبَاتٌ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الْأَجَلَ بَاقٍ.

وَحِينَئِذٍ فَوَجْهُ تَقْدِيمِ بَيِّنَتِهِ كَوْنُهَا أَكْثَرَ إِثْبَاتًا، وَيَدُلُّ لَهُ مَا سَيَأْتِي فِي السَّلَمِ مِنْ أَنَّهُمَا لَوِ اخْتَلَفَا فِي مُضِيِّ الْأَجَلِ فَالْقَوْلُ لِلْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ بِيَمِينِهِ.

وَإِنْ بَرْهَنَا فَبَيِّنَتُهُ أَوْلَى، وَعَلَّلَهُ فِي الْبَحْرِ بِإِثْبَاتِهَا زِيَادَةَ الْأَجَلِ.قَالَ: فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهُ».

وَانْظُرْ لِاسْتِكْمَالِ مَبَاحِثِ الْأَجَلِ مُصْطَلَحَ (أَجَلٌ).

اعْتِبَارُ مَكَانِ الْعَقْدِ وَزَمَنِهِ عِنْدَ دَفْعِ الثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ:

24- يُعْتَبَرُ الْبَلَدُ الَّذِي جَرَى فِيهِ الْبَيْعُ، لَا بَلَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ.

فَإِنْ بَاعَ عَيْنًا مِنْ رَجُلٍ بِأَصْفَهَانَ بِكَذَا مِنَ الدَّنَانِيرِ، فَلَمْ يَنْقُدِ الثَّمَنَ حَتَّى وَجَدَ الْمُشْتَرِيَ بِبُخَارَى، يَجِبُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ بِعِيَارِ أَصْفَهَانَ.فَيُعْتَبَرُ مَكَانُ الْعَقْدِ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ:

وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ ذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مَالِيَّةُ الدِّينَارِ مُخْتَلِفَةً فِي الْبَلَدَيْنِ، وَتَوَافَقَ الْعَاقِدَانِ عَلَى أَخْذِ قِيمَةِ الدِّينَارِ لِفَقْدِهِ أَوْ كَسَادِهِ فِي الْبَلْدَةِ الْأُخْرَى، فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يُلْزِمَهُ بِأَخْذِ قِيمَتِهِ الَّتِي فِي بُخَارَى إِذَا كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ الَّتِي فِي أَصْفَهَانَ.

وَهَذَا قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ.

وَاعْتِبَارُ مَكَانِ الْعَقْدِ قَالَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ.

وَكَمَا يُعْتَبَرُ مَكَانُ الْعَقْدِ يُعْتَبَرُ زَمَنُهُ أَيْضًا، فَلَا يُعْتَبَرُ زَمَنُ الْإِيفَاءِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ فِيهِ مَجْهُولَةٌ وَقْتَ الْعَقْدِ.

وَفِي الْبَحْرِ عَنْ شَرْحِ الْمَجْمَعِ: لَوْ بَاعَهُ إِلَى أَجَلٍ مُعَيَّنٍ، وَشَرَطَ أَنْ يُعْطِيَهُ الْمُشْتَرِي أَيَّ نَقْدٍ يَرُوجُ يَوْمَئِذٍ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا.

زِيَادَةُ الثَّمَنِ وَالْحَطُّ مِنْهُ:

25- بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ قَدْ يَرَى الْبَائِعُ أَوْ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ مَغْبُونٌ فِي الصَّفْقَةِ، أَوْ يَرَى تَعْدِيلَهَا لِمَصْلَحَةِ الْآخَرِ لِسَبَبٍ مَا، فَيَجُوزُ الزِّيَادَةُ أَوْ الْحَطُّ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ اتِّفَاقًا.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الزِّيَادَةِ وَالْحَطِّ، هَلْ يَلْتَحِقَانِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ اتِّجَاهَاتٍ:

26- الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ: مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ عَدَا زُفَرَ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الثَّمَنِ وَالْحَطَّ مِنْهُ أَوْ الزِّيَادَةَ فِي الْمَبِيعِ تَلْحَقُ بِالْعَقْدِ وَتَأْخُذُ حُكْمَ الثَّمَنِ.

فَإِذَا اشْتَرَى عَيْنًا بِمِائَةٍ ثُمَّ زَادَ عَشْرَةً مَثَلًا، أَوْ بَاعَ عَيْنًا بِمِائَةٍ، ثُمَّ زَادَ عَلَى الْمَبِيعِ شَيْئًا، أَوْ حَطَّ بَعْضَ الثَّمَنِ جَازَ وَالْتَحَقَتِ الزِّيَادَةُ أَوْ الْحَطُّ بِأَصْلِ الْعَقْدِ.

وَيَتَعَلَّقُ الِاسْتِحْقَاقُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، مِنَ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ وَالزِّيَادَةِ، فَيَكُونُ لِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ إِلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الزِّيَادَةَ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ حَالًّا، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَمْنَعَ الزِّيَادَةَ، وَلَا مُطَالَبَةَ الْبَائِعِ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ قَبْلَ إِعْطَائِهَا.وَلَوْ سَلَّمَهَا ثُمَّ اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ رَجَعَ بِهَا مَعَ أَصْلِ الثَّمَنِ.

وَفِي صُورَةِ الْحَطِّ: لِلْمُشْتَرِي مُطَالَبَةُ الْبَائِعِ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إِذَا سَلَّمَ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْحَطِّ.

فَالزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ يَلْتَحِقَانِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ.

27- وَاحْتَجُّوا بِمَا يَلِي:

1- أَنَّ الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ بِالْحَطِّ وَالزِّيَادَةِ غَيَّرَا الْعَقْدَ بِتَرَاضِيهِمَا مِنْ وَصْفٍ مَشْرُوعٍ إِلَى وَصْفٍ مَشْرُوعٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْمَشْرُوعَ إِمَّا خَاسِرٌ، أَوْ رَابِحٌ، أَوْ عَدْلٌ، وَالزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ تَجْعَلُ الْخَاسِرَ عَدْلًا، وَالْعَدْلَ رَابِحًا، وَالْحَطُّ يَجْعَلُ الرَّابِحَ عَدْلًا، وَالْعَدْلَ خَاسِرًا، وَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ فِي الْمَبِيعِ.

2- لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ بِرَفْعِ أَصْلِ الْعَقْدِ بِالْإِقَالَةِ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهُمَا وِلَايَةُ التَّغْيِيرِ مِنْ وَصْفٍ إِلَى وَصْفٍ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي صِفَةِ الشَّيْءِ أَهْوَنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي أَصْلِهِ، وَصَارَ كَمَا إِذَا كَانَ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، أَوْ لَهُمَا خِيَارُ الشَّرْطِ، فَأَسْقَطَاهُ أَوْ شَرَطَاهُ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَصَحَّ إِلْحَاقُ الزِّيَادَةِ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ.وَإِذَا صَحَّ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الثَّمَنِ كَالْوَصْفِ لَهُ، وَوَصْفُ الشَّيْءِ يَقُومُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ لَا بِنَفْسِهِ، فَالزِّيَادَةُ تَقُومُ بِالثَّمَنِ لَا بِنَفْسِهَا.

3- ثَبَتَتْ صِحَّةُ الزِّيَادَةِ وَالْحَطِّ شَرْعًا فِي الْمَهْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} فَبَيَّنَ أَنَّهُمَا إِذَا تَرَاضَيَا بَعْدَ تَقْدِيرِ الْمَهْرِ عَلَى حَطِّ بَعْضِهِ أَوْ زِيَادَتِهِ جَازَ.فَهَذَا نَظِيرُهُ.

4- رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ لِلْوَازِنِ: «زِنْ وَأَرْجِحْ» وَهَذَا زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ، وَقَدْ نُدِبَ ( (إِلَيْهَا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَأَقَلُّ أَحْوَالِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ الْجَوَازُ.

28- وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِجَوَازِ الزِّيَادَةِ مَا يَأْتِي:

1- الْقَبُولُ مِنَ الْآخَرِ، حَتَّى لَوْ زَادَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَقْبَلَ الْآخَرُ لَمْ تَصِحَّ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَمْلِيكٌ.

2- اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ، حَتَّى لَوِ افْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبُولِ بَطَلَتِ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ إِيجَابُ الْبَيْعِ فِيهِمَا، فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَبُولِ فِي الْمَجْلِسِ كَمَا فِي أَصْلِ الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ.

29- وَأَمَّا الْحَطُّ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْقَبُولُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الثَّمَنِ بِالْإِسْقَاطِ وَالْإِبْرَاءِ عَنْ بَعْضِهِ، فَيَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ، إِلاَّ أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ كَالْإِبْرَاءِ عَنِ الثَّمَنِ كُلِّهِ.

وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ قَائِمًا، قَابِلًا لِلتَّصَرُّفِ ابْتِدَاءً، حَتَّى لَا تَصِحُّ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ هَلَاكِهِ، وَيَصِحُّ الْحَطُّ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ مَحْضٌ، وَالزِّيَادَةُ إِثْبَاتٌ.

29 م- الِاتِّجَاهُ الثَّانِي: مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الثَّمَنِ أَوِ الْحَطَّ مِنْهُ إِنْ كَانَ فِي زَمَنِ أَحَدِ الْخِيَارَيْنِ (خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ) فَإِنَّهُ يَلْتَحِقُ بِالْعَقْدِ وَتَأْخُذُ الزِّيَادَةُ أَوْ الْحَطُّ حُكْمَ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الثَّمَنِ فَوَجَبَ إِلْحَاقُهُ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ أَوِ الْحَطُّ مِنَ الثَّمَنِ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ فَإِنَّهَا لَا تَلْحَقُ بِالْعَقْدِ.

30- الِاتِّجَاهُ الثَّالِثُ: قَوْلُ زُفَرَ إِنَّ الزِّيَادَةَ وَالْحَطَّ لَا يَصِحَّانِ عَلَى اعْتِبَارِ الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، بَلِ الزِّيَادَةُ بِرٌّ مُبْتَدَأٌ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، وَالْحَطُّ إِبْرَاءٌ عَنْ بَعْضِ الثَّمَنِ مَتَى رَدَّهُ يَرْتَدُّ.

وَاسْتَدَلَّ زُفَرُ بِأَنَّ الْمَبِيعَ دَخَلَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِالْقَدْرِ الْأَوَّلِ لِلثَّمَنِ، فَلَوِ الْتَحَقَ الزَّائِدُ بِالْعَقْدِ صَارَ مِلْكَهُ وَالْمُشْتَرِي لَمْ يَزِدْهُ بَدَلًا عَنْ مِلْكِهِ، وَهُوَ الْمَبِيعُ، وَكَذَا الثَّمَنُ دَخَلَ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ، فَلَوْ جَازَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْمَبِيعِ كَانَ الْمَزِيدُ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ أَيِ الثَّمَنِ.

31- وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الِاتِّجَاهِ الْقَائِلِ بِالْتِحَاقِ الزِّيَادَةِ وَالْحَطِّ مَا يَلِي:

1- فِي التَّوْلِيَةِ وَالْمُرَابَحَةِ، تَجُوزُ عَلَى الْكُلِّ فِي الزِّيَادَةِ وَعَلَى الْبَاقِي فِي الْحَطِّ، فَإِنَّ الْبَائِعَ إِذَا حَطَّ بَعْضَ الثَّمَنِ عَنِ الْمُشْتَرِي، وَالْمُشْتَرِي قَالَ لآِخَرَ: وَلَّيْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ وَقَعَ عَقْدُ التَّوْلِيَةِ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الثَّمَنِ بَعْدَ الْحَطِّ، فَكَانَ الْحَطُّ بَعْدَ الْعَقْدِ مُلْتَحِقًا بِأَصْلِ الْعَقْدِ، كَأَنَّ الثَّمَنَ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ هُوَ ذَلِكَ الْمِقْدَارُ، وَكَذَلِكَ فِي الزِّيَادَةِ.

2- فِي الشُّفْعَةِ، يَأْخُذُ الشَّفِيعُ الْمَشْفُوعَ بِمَا بَقِيَ بَعْدَ الْحَطِّ، وَلَا تَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِبْطَالَ حَقِّهِ الثَّابِتِ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ وَهُمَا لَا يَمْلِكَانِهِ.أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْتَقِضُ جَمِيعُ تَصَرُّفَاتِ الْمُشْتَرِي حَتَّى الْفَسْخُ.

3- فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالزِّيَادَةِ، وَلَوْ أَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ الْبَيْعَ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِالزِّيَادَةِ.

4- فِي حَبْسِ الْمَبِيعِ، فَلَهُ حَبْسُهُ حَتَّى يَقْبِضَ الزِّيَادَةَ.

5- فِي هَلَاكِ الزِّيَادَةِ، فَلَوْ هَلَكَتِ الزِّيَادَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ تَسْقُطُ حِصَّتُهَا مِنَ الثَّمَنِ، بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الْمَبِيعِ حَيْثُ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ بِهَلَاكِهَا قَبْلَ الْقَبْضِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ الْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ فِي الْمَوْسُوعَةِ ج 9 ص 30 مُصْطَلَحُ (بَيْعٌ) ف 56

تَصَرُّفُ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ:

32- يَصِحُّ تَصَرُّفُ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُطْلَقًا إِذَا كَانَ التَّصَرُّفُ بِتَمْلِيكِهِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ؛ وَلِأَنَّ الثَّمَنَ فِي الذِّمَّةِ وَلَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، فَلَا يُحْتَمَلُ فِيهِ غَرَرُ الِانْفِسَاخِ بِالْهَلَاكِ؛ وَلِأَنَّ الثَّمَنَ مَا وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ، وَالْقَبْضُ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا بِقَبْضِ غَيْرِهِ مِثْلَهُ عَيْنًا، فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الثَّمَنُ قِسْمَانِ: تَارَةً يَكُونُ حَاضِرًا كَمَا لَوِ اشْتَرَى فَرَسًا بِهَذَا الْإِرْدَبِّ مِنَ الْحِنْطَةِ أَوْ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، فَهَذَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ بِهِبَةٍ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُشْتَرِي وَغَيْرِهِ.

وَتَارَةً يَكُونُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ كَمَا لَوِ اشْتَرَى الْفَرَسَ بِإِرْدَبِّ حِنْطَةٍ فِي الذِّمَّةِ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فِي الذِّمَّةِ فَهَذَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِتَمْلِيكِهِ مِنَ الْمُشْتَرِي فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ وَلَا يَصِحُّ إِلاَّ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ الْقَوْلُ الْمُقَابِلُ الْمُعْتَمَدُ لِلشَّافِعِيَّةِ.

وَاسْتَثْنَى ابْنُ نُجَيْمٍ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ تَمْلِيكِ الدَّيْنِ- وَمِنْهُ الثَّمَنُ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ- لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ صُوَرٍ:

الْأُولَى: إِذَا سَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ، فَيَكُونُ وَكِيلًا قَابِضًا.

الثَّانِيَةُ: الْحَوَالَةُ.

الثَّالِثَةُ: الْوَصِيَّةُ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ قَبْلَ قَبْضِهِ.

أَمَّا الثَّمَنُ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ: فَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ طَعَامًا فَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ الثَّمَنُ مُعَيَّنًا فَإِنْ كَانَ التَّعَاقُدُ عَلَيْهِ بِكَيْلٍ، أَوْ وَزْنٍ، أَوْ ذَرْعٍ، أَوْ عَدٍّ فَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ بِالْكَيْلِ، أَوِ الْوَزْنِ، أَوِ الزَّرْعِ أَوِ الْعَدِّ، وَإِنْ كَانَ التَّعَاقُدُ عَلَيْهِ جُزَافًا أَوْ لَمْ يَكُنْ مَكِيلًا، وَلَا مَوْزُونًا، وَلَا مَعْدُودًا، وَلَا مَزْرُوعًا، جَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ.

وَأَمَّا الَّذِي فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ وَيَصِحُّ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ.

تَسْلِيمُ الثَّمَنِ:

33- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِسِلْعَةٍ أَوْ ثَمَنًا بِثَمَنٍ أَيْ نَقْدًا بِنَقْدٍ سُلِّمَا مَعًا، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّعْيِينِ فِي الْأَوَّلِ، وَعَدَمِ التَّعْيِينِ فِي الثَّانِي؛ وَلِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ مَطْلُوبَةٌ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ عَادَةً، وَتَحْقِيقُ الْمُسَاوَاةِ هَاهُنَا فِي التَّسْلِيمِ مَعًا.

وَبِنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ ثَمَنٌ وَمُثَمَّنٌ، فَالثَّمَنُ الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ وَعَدَا ذَلِكَ مُثَمَّنَاتٌ، فَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى دَنَانِيرَ بِدَنَانِيرَ أَوْ بِدَرَاهِمَ، أَوْ عَلَى دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ وَتَشَاحَّا فِي الْإِقْبَاضِ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَى أَحَدِهِمَا وُجُوبُ التَّسْلِيمِ قَبْلَ الْآخَرِ.وَكَذَا إِنْ وَقَعَ الْعَقْدُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمُثَمَّنَاتِ كَعَرَضٍ بِعَرَضٍ وَتَشَاحَّا فِي الْإِقْبَاضِ.إِلاَّ أَنَّ الْعَقْدَ يُفْسَخُ بِالتَّرَاضِي فِي الْقَبْضِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى (الصَّرْفُ) وَلَا يُفْسَخُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي الصَّرْفِ دُونَ الْمُقَايَضَةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الثَّمَنَ إِذَا كَانَ مُعَيَّنًا نَقْدًا أَوْ عَرْضًا، يُجْبَرُ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي كِلَاهُمَا عَلَى التَّسْلِيمِ فِي الْأَظْهَرِ؛ لِاسْتِوَاءِ الْجَانِبَيْنِ، لِأَنَّ الثَّمَنَ الْمُعَيَّنَ كَالْمَبِيعِ فِي تَعَلُّقِ الْحَقِّ بِالدَّيْنِ، وَالتَّسْلِيمُ وَاجِبٌ عَلَيْهِمَا، فَيُلْزِمُ الْحَاكِمُ كُلًّا مِنْهُمَا إِحْضَارَ مَا عَلَيْهِ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى عَدْلٍ، ثُمَّ يُسَلِّمُ كُلًّا مَا وَجَبَ لَهُ، وَالْخِيَرَةُ فِي الْبِدَايَةِ إِلَيْهِ.

وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عَدَمُ إِجْبَارِهِمَا.أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ عَيْنًا بَلْ فِي الذِّمَّةِ (الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ) فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ، الْمُقَدَّمُ مِنْهَا إِجْبَارُ الْبَائِعِ.

وَبِنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ الْحَنَابِلَةُ: فَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا أَوْ عَرْضًا، وَالْمَبِيعُ مِثْلُهُ جُعِلَ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي عَدْلٌ يَقْبِضُ مِنْهُمَا وَيُسَلِّمُ إِلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْبَائِعِ قَدْ تَعَلَّقَ بِعَيْنِ الثَّمَنِ، كَمَا تَعَلَّقَ حَقُّ الْمُشْتَرِي بِعَيْنِ الْمَبِيعِ فَاسْتَوَيَا.

وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ أَوَّلًا.

34- وَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً حَاضِرَةً بِثَمَنٍ فِي الذِّمَّةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَلْزَمُهُ التَّسْلِيمُ أَوَّلًا عَلَى اتِّجَاهَاتٍ:

الْأَوَّلُ: يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ أَوَّلًا.

وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيَّةِ).فَلِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ حَالًّا، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ إِلَى الْبَائِعِ حَتَّى يَقْبِضَ الْمَبِيعَ، وَمِثْلُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ نَقْدًا مُعَيَّنًا لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ.

35- وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الدَّيْنُ مَقْضِيٌّ» فَقَدْ وَصَفَ- عليه الصلاة والسلام- الدَّيْنَ بِكَوْنِهِ مَقْضِيًّا عَامًّا أَوْ مُطْلَقًا، فَلَوْ تَأَخَّرَ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لَمْ يَكُنْ هَذَا الدَّيْنُ مَقْضِيًّا، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ.

وَاسْتَدَلُّوا بِالْمَعْقُولِ بِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فِي تَعَيُّنِ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَحَقُّ الْمُشْتَرِي قَدْ تَعَيَّنَ فِي الْمَبِيعِ، فَيُسَلِّمُ هُوَ الثَّمَنَ أَوَّلًا، لِيَتَعَيَّنَ حَقُّ الْبَائِعِ فِيهِ، كَمَا تَعَيَّنَ حَقُّهُ فِي الْمَبِيعِ، إِذْ الثَّمَنُ لَا يَتَعَيَّنُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إِلاَّ بِالْقَبْضِ.

وَصُورَةُ هَذَا: أَنْ يُقَالَ لِلْبَائِعِ أَحْضِرِ الْمَبِيعَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ قَائِمٌ، فَإِذَا حَضَرَ قِيلَ لِلْمُشْتَرِي: سَلِّمِ الثَّمَنَ أَوَّلًا.

36- وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ: لَوْ بَاعَ بِشَرْطِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَبِيعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ فَسَدَ الْبَيْعُ، لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ.وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَصِحُّ لِجَهَالَةِ الْأَجَلِ، حَتَّى لَوْ سَمَّى الْوَقْتَ الَّذِي يُسَلِّمُ فِيهِ الْمَبِيعَ جَازَ.وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ غَائِبًا فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ حَتَّى يُحْضِرَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ لِتَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ، وَإِذَا كَانَ الْمَبِيعُ غَائِبًا لَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بِالتَّقْدِيمِ، بَلْ يَتَقَدَّمُ حَقُّ الْبَائِعِ وَيَتَأَخَّرُ حَقُّ الْمُشْتَرِي، حَيْثُ يَكُونُ الثَّمَنُ بِالْقَبْضِ عَيْنًا مُشَارًا إِلَيْهَا وَالْمَبِيعُ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ قَدْ هَلَكَ وَسَقَطَ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي، فَلَا يُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ إِلاَّ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَبِيعُ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ أَمْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِحَيْثُ تَلْحَقُهُ الْمُؤْنَةُ بِالْإِحْضَارِ، وَالْمُشْتَرِي إِذَا لَقِيَ الْبَائِعَ فِي غَيْرِ مِصْرِهِمَا، وَطَلَبَ مِنْهُ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، يَأْخُذُ الْمُشْتَرِي مِنْهُ كَفِيلًا أَوْ يَبْعَثُ وَكِيلًا يَنْقُدُ الثَّمَنَ لَهُ ثُمَّ يَتَسَلَّمُ الْمَبِيعَ.

لِذَلِكَ فَإِنَّ لِلْبَائِعِ حَقَّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ كُلَّهُ، وَلَوْ بَقِيَ مِنْهُ دِرْهَمٌ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ لَا يَتَجَزَّأُ، فَكَانَ كُلُّ الْمَبِيعِ مَحْبُوسًا بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الثَّمَنِ.

فَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا، فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّأْجِيلِ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْحَبْسِ.

وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُ حَالًّا وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلًا، فَلَهُ حَبْسُ الْمَبِيعِ إِلَى اسْتِيفَاءِ الْحَالِّ.

وَلَوْ أَبْرَأَ الْمُشْتَرِيَ مِنْ بَعْضِ الثَّمَنِ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْبَاقِيَ، لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ كَالِاسْتِيفَاءِ.

وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ حَبْسِ الْبَائِعِ لِلْمَبِيعِ، وَلَوْ أَخَذَ بِالثَّمَنِ كَفِيلًا أَوْ رَهَنَ الْمُشْتَرِي بِهِ رَهْنًا؛ لِأَنَّ هَذَا وَثِيقَةٌ بِالثَّمَنِ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ عَنْ حَبْسِ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ.

37- الِاتِّجَاهُ الثَّانِي: يَلْزَمُ الْبَائِعَ تَسَلُّمُ الْمَبِيعِ أَوَّلًا.

وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَأَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيَّةِ، لِأَنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي فِي الْعَيْنِ وَحَقَّ الْبَائِعِ فِي الذِّمَّةِ، فَيُقَدَّمُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ، وَهَذَا كَأَرْشِ الْجِنَايَةِ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الدُّيُونِ.

وَلِأَنَّ مِلْكَ الْبَائِعِ لِلثَّمَنِ مُسْتَقِرٌّ، لِأَمْنِهِ مِنْ هَلَاكِهِ وَنُفُوذِ تَصَرُّفِهِ فِيهِ بِالْحَوَالَةِ وَالِاعْتِيَاضِ، وَمِلْكُ الْمُشْتَرِي لِلْمَبِيعِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، فَعَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُهُ لِيَسْتَقِرَّ.

38- الِاتِّجَاهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُسَلِّمَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي مَعًا.

وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيَّةِ.

فَالْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي إِذَا تَرَافَعَا إِلَى حَاكِمٍ يُجْبَرَانِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمَا، فَيُلْزِمُ الْحَاكِمُ كُلًّا مِنْهُمَا بِإِحْضَارِ مَا عَلَيْهِ إِلَيْهِ، أَوْ إِلَى عَدْلٍ، فَإِنْ فَعَلَ سَلَّمَ الثَّمَنَ لِلْبَائِعِ وَالْمَبِيعَ لِلْمُشْتَرِي، يَبْدَأُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ.

39- الِاتِّجَاهُ الرَّابِعُ: إِذَا اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي، وَتَرَافَعَا إِلَى حَاكِمٍ، فَلَا إِجْبَارَ أَوَّلًا، وَعَلَى هَذَا يَمْنَعُهُمَا الْحَاكِمُ مِنَ التَّخَاصُمِ، فَمَنْ سَلَّمَ أُجْبِرَ صَاحِبُهُ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيَّةِ.

وَذَلِكَ: لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ إِيفَاءٌ وَاسْتِيفَاءٌ وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَكْلِيفِ الْإِيفَاءِ.

وَتَرِدُ هَذِهِ الْأَقْوَالُ الْأَرْبَعَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيمَا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ حَالًّا فِي الذِّمَّةِ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ.

40- وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الْحَبْسَ بِخَوْفِ الْفَوْتِ، فَقَالُوا: لِلْبَائِعِ حَبْسُ مَبِيعِهِ حَتَّى يَقْبِضَ ثَمَنَهُ الْحَالَّ كُلَّهُ إِنْ خَافَ فَوْتَهُ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَا لِلْمُشْتَرِي حَبْسُ الثَّمَنِ الْمَذْكُورِ إِنْ خَافَ فَوْتَ الْمَبِيعِ بِلَا خِلَافٍ، لِمَا فِي التَّسْلِيمِ حِينَئِذٍ مِنَ الضَّرَرِ الظَّاهِرِ.

وَإِنَّمَا الْأَقْوَالُ السَّابِقَةُ فِيمَا إِذَا لَمْ يَخَفِ الْبَائِعُ فَوْتَ الثَّمَنِ، وَكَذَا الْمُشْتَرِي إِذَا لَمْ يَخَفْ فَوْتَ الْمَبِيعِ، وَتَنَازَعَا فِي مُجَرَّدِ الِابْتِدَاءِ بِالتَّسْلِيمِ؛ لِأَنَّ الْإِجْبَارَ عِنْدَ خَوْفِ الْفَوَاتِ بِالْهَرَبِ، أَوْ تَمْلِيكِ الْمَالِ لِغَيْرِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فِيهِ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ.

أَمَّا الثَّمَنُ الْمُؤَجَّلُ فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ بِهِ، لِرِضَاهُ بِتَأْخِيرِهِ.

وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا مَا إِذَا كَانَ الْبَائِعُ وَكِيلًا، أَوْ وَلِيًّا، أَوْ نَاظِرَ وَقْفٍ، أَوْ الْحَاكِمَ فِي بَيْعِ مَالِ الْمُفْلِسِ، فَإِنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ بَلْ لَا يَجُوزُ لَهُ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ.فَلَا يَأْتِي إِلاَّ إِجْبَارُهُمَا أَوْ إِجْبَارُ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ تَبَايَعَ وَلِيَّانِ أَوْ وَكِيلَانِ لَمْ يَأْتِ سِوَى إِجْبَارِهِمَا.

الْحَوَالَةُ بِالثَّمَنِ هَلْ تُبْطِلُ حَقَّ حَبْسِ الْمَبِيعِ:

41- قَالَ أَبُو يُوسُفَ: تُبْطِلُهُ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْحَوَالَةُ مِنَ الْمُشْتَرِي، بِأَنْ أَحَالَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى إِنْسَانٍ وَقَبِلَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ الْحَوَالَةَ، أَمْ كَانَتْ مِنَ الْبَائِعِ، بِأَنْ أَحَالَ الْبَائِعُ غَرِيمًا لَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِنْ كَانَتِ الْحَوَالَةُ مِنَ الْمُشْتَرِي لَا تُبْطِلُ حَقَّ الْحَبْسِ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ.

وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْبَائِعِ: فَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً لَا تُبْطِلُهُ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِمَا عَلَيْهِ تُبْطِلُهُ.

فَأَبُو يُوسُفَ أَرَادَ بَقَاءَ الْحَبْسِ عَلَى بَقَاءِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي، وَذِمَّتُهُ بَرِئَتْ مِنْ دَيْنِ الْمُحِيلِ بِالْحَوَالَةِ، فَيَبْطُلُ حَقُّ الْحَبْسِ.

وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ بَقَاءَ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ لِبَقَاءِ حَقِّ الْحَبْسِ، وَحَقُّ الْمُطَالَبَةِ لَمْ يَبْطُلْ بِحَوَالَةِ الْمُشْتَرِي، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْمُحَالَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الْحَبْسِ، وَبَطَلَتْ حَوَالَةُ الْبَائِعِ إِذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِمَا عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَبَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَالصَّحِيحُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ فِي الشَّرْعِ يَدُورُ مَعَ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ، لَا مَعَ قِيَامِ الثَّمَنِ فِي ذَاتِهِ بِدَلِيلِ: أَنَّ الثَّمَنَ إِذَا كَانَ مُؤَجَّلًا لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْحَبْسِ وَالثَّمَنُ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي قَائِمٌ، وَإِنَّمَا سَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ يَتْبَعُ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ لَا قِيَامَ الثَّمَنِ فِي ذَاتِهِ، وَحَقُّ الْمُطَالَبَةِ فِي حَوَالَةِ الْمُشْتَرِي، وَحَوَالَةُ الْبَائِعِ إِذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً فَكَانَ حَقُّ الْحَبْسِ ثَابِتًا، وَفِي حَوَالَةِ الْبَائِعِ إِذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً يَنْقَطِعُ فَلَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّ الْحَبْسِ.

مَصْرُوفَاتُ التَّسْلِيمِ:

42- أُجْرَةُ كَيَّالِ الْمَبِيعِ وَوَزَّانِهِ وَذُرَّاعِهِ وَعَادِّهِ.

إِنْ كَانَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ أَوْ الذَّرْعِ أَوْ الْعَدِّ تَكُونُ عَلَى الْبَائِعِ.قَالَ الدَّرْدِيرُ: مَا لَمْ يَكُنْ شَرْطٌ أَوْ عُرْفٌ بِخِلَافِهِ.لِأَنَّ عَلَيْهِ إِيفَاءَ الْمَبِيعِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إِلاَّ بِكَيْلِهِ وَوَزْنِهِ وَعَدِّهِ وَلِأَنَّهُ بِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ يُمَيِّزُ مِلْكَهُ عَنْ مِلْكِ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ كَبَائِعِ الثَّمَرَةِ الَّذِي عَلَيْهِ سَقْيُهَا.

وَأُجْرَةُ كَيَّالِ الثَّمَنِ وَوَزَّانِهِ وَذُرَّاعِهِ وَعَادِّهِ تَكُونُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛

لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَحْتَاجُ إِلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ وَتَمْيِيزِ صِفَتِهِ، فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِ، وَبِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ قَالَ الصَّاوِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ:

لَوْ تَوَلَّى الْمُشْتَرِي الْكَيْلَ أَوِ الْوَزْنَ أَوِ الْعَدَّ بِنَفْسِهِ، هَلْ لَهُ مُطَالَبَةُ الْبَائِعِ أُجْرَةَ ذَلِكَ أَمْ لَا؟

وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَهُ الدُّسُوقِيُّ أَنَّ لَهُ الْأُجْرَةَ إِذَا كَانَ شَأْنُهُ ذَلِكَ أَوْ سَأَلَهُ الْآخَرُ.

وَأُجْرَةُ إِحْضَارِ الْمَبِيعِ الْغَائِبِ إِلَى مَجْلِسِ الْعَقْدِ عَلَى الْبَائِعِ، وَأُجْرَةُ إِحْضَارِ الثَّمَنِ الْغَائِبِ عَلَى الْمُشْتَرِي، صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ.

43- أَمَّا أُجْرَةُ النَّقْلِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ فِي تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا عَلَى الْمُشْتَرِي.

وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ وَنَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ.

قَالُوا: وَقِيَاسُهُ أَنْ يَكُونَ فِي الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ.

الثَّانِي: عَلَى حَسَبِ عُرْفِ الْبَلْدَةِ وَعَادَتِهَا.

وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا نَصَّتْ عَلَيْهِ الْمَادَّةُ 291 مِنْ مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ.

أَمَّا الْأَشْيَاءُ الْمَبِيعَةُ جُزَافًا فَمُؤَنُهَا وَمَصَارِيفُهَا عَلَى الْمُشْتَرِي..مَثَلًا: لَوْ بِيعَتْ ثَمَرَةُ كَرْمٍ جُزَافًا كَانَتْ أُجْرَةُ قَطْعِ تِلْكَ الثَّمَرَةِ وَجَزِّهَا عَلَى الْمُشْتَرِي.

وَكَذَا لَوْ بِيعَ أَنْبَارُ حِنْطَةٍ مُجَازَفَةً فَأُجْرَةُ إِخْرَاجِ الْحِنْطَةِ مِنَ الْأَنْبَارِ وَنَقْلِهَا عَلَى الْمُشْتَرِي.

وَهُوَ مُفَادُ الْمَادَّةِ 290 مِنْ مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ.

وَقِيَاسُهُ أَنْ تَكُونَ مُؤَنُ الثَّمَنِ وَمَصَارِيفُهُ إِنْ كَانَ جُزَافًا عَلَى الْبَائِعِ.

44- وَاخْتَلَفُوا فِي أُجْرَةِ نَاقِدِ الثَّمَنِ عَلَى الْأَقْوَالِ الْآتِيَةِ:

1- أَنَّهُ عَلَى الْبَائِعِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْمُخْتَصَرِ، وَوَجْهُهُ:

أَنَّ النَّقْدَ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَهُوَ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى تَمَيُّزِ حَقِّهِ وَهُوَ الْجِيَادُ عَنْ غَيْرِ حَقِّهِ، أَوْ لِيَعْرِفَ الْمَعِيبَ لِيَرُدَّهُ.

2- أَنَّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ سَمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الصَّدْرُ الشَّهِيدُ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَسْلِيمِ الْجَيِّدِ، وَالْجَوْدَةُ تُعْرَفُ بِالنَّقْدِ، كَمَا يُعْرَفُ الْمِقْدَارُ بِالْوَزْنِ فَكَانَ هُوَ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ.

3- أَنَّ أُجْرَةَ النَّقْدِ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَقَبْلَهُ عَلَى الْمَدِينِ لِأَنَّ عَلَى الْمَدِينِ إِيفَاءَ حَقِّهِ، فَتَكُونُ أُجْرَةُ التَّمْيِيزِ عَلَيْهِ وَبَعْدَ الْقَبْضِ دَخَلَ فِي ضَمَانِ رَبِّ الدَّيْنِ، وَيَدَّعِي أَنَّهُ خِلَافُ حَقِّهِ، فَيَكُونُ تَمْيِيزُ حَقِّهِ عَلَيْهِ.

هَذَا وَهُنَاكَ أَحْكَامٌ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِالثَّمَنِ تُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا مِنْهَا مَا يَلِي:

اخْتِلَافُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ (ر: دَعْوَى).

وَبَيْعُ جِنْسِ الْأَثْمَانِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ (ر: صَرْفٌ).

وَكُلُّ مَا أَوْجَبَ نُقْصَانَ الثَّمَنِ فِي عَادَةِ التُّجَّارِ فَهُوَ عَيْبٌ: (ر: خِيَارُ الْعَيْبِ).

وَالْبَيْعُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ (ر: تَوْلِيَةٌ).

وَالْبَيْعُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ مَعَ زِيَادَةٍ (ر: مُرَابَحَةٌ).

وَالْبَيْعُ بِأَنْقَصَ مِنَ الثَّمَنِ: (ر: وَضِيعَةٌ).

وَإِشْرَاكُ الْغَيْرِ فِيمَا اشْتَرَاهُ بِأَنْ يَبِيعَهُ نِصْفَهُ مَثَلًا (ر: شَرِكَةٌ).

الثَّمَنِيَّةُ فِي عِلَّةِ الرِّبَا (ر: رِبًا).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


242-موسوعة الفقه الكويتية (ثواب)

ثَوَابٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الثَّوَابُ: الْعِوَضُ: وَاللَّهُ يَأْجُرُ عَبْدَهُ، أَيْ يُثِيبُهُ، وَأَصْلُهُ مِنْ ثَابَ أَيْ رَجَعَ، كَأَنَّ الْمُثِيبَ يُعَوِّضُ الْمُثَابَ مِثْلَ مَا أَسْدَى إِلَيْهِ

وَالثَّوَابُ: الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّهُ نَفْعٌ يَعُودُ إِلَى الْمَجْزِيِّ، وَهُوَ اسْمٌ مِنَ الْإِثَابَةِ أَوِ التَّثْوِيبِ، مِنْهُ قَوْلُهُ فِي الْهِبَةِ: مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا، أَيْ مَا لَمْ يُعَوَّضْ.

وَالثَّوَابُ: جَزَاءُ الطَّاعَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَثُوبَةُ، قَالَ تَعَالَى: {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} وَأَعْطَاهُ ثَوَابَهُ وَمَثُوبَتَهُ، أَيْ جَزَاءَ مَا عَمِلَهُ.

وَفِي تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ: الثَّوَابُ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الرَّحْمَةَ وَالْمَغْفِرَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالشَّفَاعَةَ مِنَ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-.

وَقِيلَ: الثَّوَابُ هُوَ إِعْطَاءُ مَا يُلَائِمُ الطَّبْعَ.

وَفِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: الثَّوَابُ مِقْدَارٌ مِنَ الْجَزَاءِ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى يُعْطِيهِ لِعِبَادِهِ فِي نَظِيرِ أَعْمَالِهِمْ الْحَسَنَةِ الْمَقْبُولَةِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْحَسَنَةُ:

2- الْحَسَنَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَدْحُ فِي الْعَاجِلِ وَالثَّوَابُ فِي الْآجِلِ.وَهِيَ بِذَلِكَ تَكُونُ سَبَبًا لِلثَّوَابِ.

ب- الطَّاعَةُ:

3- الطَّاعَةُ: الِانْقِيَادُ فَإِذَا كَانَتْ فِي الْخَيْرِ كَانَتْ سَبَبًا لِلثَّوَابِ، وَإِذَا كَانَتْ فِي الْمَعْصِيَةِ كَانَتْ سَبَبًا فِي الْعِقَابِ.

مَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّوَابِ مِنْ أَحْكَامٍ.

لِلثَّوَابِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ إِطْلَاقَانِ:

أ- الثَّوَابُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ جَزَاءَ طَاعَتِهِ.

ب- الثَّوَابُ فِي الْهِبَةِ (أَيْ الْعِوَضِ الْمَالِيِّ).

وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلًا:

الثَّوَابُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى:

4- الْأَصْلُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ، بَلِ الثَّوَابُ فَضْلُهُ وَالْعِقَابُ عَدْلُهُ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} وَالتَّكَالِيفُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ عِبَادَةِ الْكُلِّ، لَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ الطَّائِعِينَ، وَلَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ الْعَاصِينَ.، وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحْكَامَهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَسْبَابٍ رَبَطَهَا بِهَا، لِيَعْرِفَ الْعِبَادُ بِالْأَسْبَابِ أَحْكَامَهَا، فَيُسَارِعُوا بِذَلِكَ إِلَى طَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ، إِذَا وَقَفُوا عَلَى الْأَسْبَابِ، فَأَمَرَ الْمُكَلَّفِينَ كُلَّهُمْ وَنَهَاهُمْ، وَقَدْ وَعَدَ مَنْ أَطَاعَهُ بِالثَّوَابِ، وَتَوَعَّدَ مَنْ عَصَاهُ بِالْعِقَابِ.

مَنْ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ:

5- لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُكَلَّفَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُثَابُ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَيُعَاقَبُ عَلَى الْمَعَاصِي إِلاَّ أَنْ يَشْمَلَهُ اللَّهُ بِعَفْوِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ أَوَامِرَ وَنَوَاهٍ وَهِيَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ.

6- أَمَّا غَيْرُ الْمُكَلَّفِينَ كَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ فَالْأَصْلُ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ أَهْلٌ لِلثَّوَابِ لِمَا لَهُ مِنْ قُدْرَةٍ قَاصِرَةٍ، وَتَصِحُّ عِبَادَتُهُ مِنْ صَلَاةٍ، وَصَوْمٍ، وَاعْتِكَافٍ، وَحَجٍّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيُكْتَبُ لَهُ ثَوَابُ مَا يَعْمَلُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ عِبَادَتِهِ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ» وَحَدِيثُ صَلَاةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ فَجِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ» وَحَدِيثُ تَصْوِيمِ الصَّحَابَةِ الصِّبْيَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ.فَعَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: «أَرْسَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ: مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيَصُمْ.قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ.فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ» وَقَدْ رَجَّحَ الْمَالِكِيَّةُ تَعَلُّقَ النَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ بِالصَّبِيِّ دُونَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ فَيُشْتَرَطُ لَهَا الْبُلُوغُ، وَذَلِكَ لِأَمْرِهِ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ مِنَ الشَّارِعِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَمْرِ أَمْرٌ بِالشَّيْءِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ أَهْلٌ لِلثَّوَابِ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى مُسْلِمًا بَعْدَ الْجُنُونِ وَالْمُسْلِمُ يُثَابُ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ: (صَبِيٌّ، جُنُونٌ، أَهْلِيَّةٌ).

7- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَفْعَلُهُ الْكَافِرُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ ثُمَّ يُسْلِمُ، هَلْ يَنْفَعُهُ عَمَلُهُ السَّابِقُ أَوْ لَا يَنْفَعُهُ؟ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ «حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ وَمِنْ صِلَةِ رَحِمٍ فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَجْرٍ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ».

قَالَ الْحَرْبِيُّ: مَعْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ لَكَ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي عَمِلْتَهُ هُوَ لَكَ.وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْخَيْرَ الَّذِي أَسْلَفَهُ، كُتِبَ لَهُ، لَكِنَّ ابْنَ حَجَرٍ نَقَلَ عَنِ الْمَازِرِيِّ رِوَايَةً أُخْرَى فِي مَكَانٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّقَرُّبُ، فَلَا يُثَابُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ الصَّادِرِ مِنْهُ فِي شِرْكِهِ...وَتَابَعَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَلَى ذَلِكَ.

وَاسْتَضْعَفَ النَّوَوِيُّ رَأْيَ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ الثَّوَابِ وَقَالَ: الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ بَلْ نَقَلَ بَعْضُهُمْ فِيهِ الْإِجْمَاعَ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا فَعَلَ أَفْعَالًا جَمِيلَةً كَالصَّدَقَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ أَنَّ ثَوَابَ ذَلِكَ يُكْتَبُ لَهُ، وَقَدْ جَزَمَ بِمَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وَابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْقُدَمَاءِ، وَالْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ الْمُنِيرِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ.

أَمَّا مَا فَعَلَهُ الْكَافِرُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ ثُمَّ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ، فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَا قَالَ النَّوَوِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا ثَوَابَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا يُطْعَمُ فِي الدُّنْيَا بِمَا عَمِلَهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا».

مَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَشُرُوطُهُ:

8- مِنَ الْمُقَرَّرِ شَرْعًا أَنَّ الْإِنْسَانَ يُثَابُ- بِفَضْلِ اللَّهِ- عَلَى مَا يُؤَدِّي مِنْ طَاعَاتٍ، وَاجِبَةً كَانَتْ أَوْ مَنْدُوبَةً، وَعَلَى مَا يَتْرُكُ مِنْ مُحَرَّمَاتٍ وَمَكْرُوهَاتٍ.يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} وَيَقُولُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ» لَكِنَّ فِعْلَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ وَتَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ لَيْسَ سَبَبًا فِي حَدِّ ذَاتِهِ- لِلثَّوَابِ- مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْفِعْلُ مُجْزِئًا وَمُبْرِئًا لِلذِّمَّةِ وَالتَّرْكُ كَافِيًا لِلْخُرُوجِ مِنَ الْعُهْدَةِ؛ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِحُصُولِ الثَّوَابِ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ نِيَّةُ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى.بَلْ إِنَّ الْمُبَاحَاتِ رَغْمَ أَنَّهَا لَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، لَكِنْ إِنْ أُرِيدَ بِهَا الثَّوَابُ بِجَعْلِهَا وَسِيلَةً لِلْعِبَادَةِ الْمَشْرُوعَةِ افْتَقَرَتْ إِلَى نِيَّةٍ.

قَالَ الشَّاطِبِيُّ: الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَالْمَقَاصِدُ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا تَنْحَصِرُ، مِنْهَا قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى».وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ: لَا ثَوَابَ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: قَرَّرَ الْمَشَايِخُ فِي حَدِيثِ.«إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»، أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُقْتَضَى، إِذْ لَا يَصِحُّ بِدُونِ تَقْدِيرٍ لِكَثْرَةِ وُجُودِ الْأَعْمَالِ بِدُونِهَا فَقَدَّرُوا مُضَافًا أَيْ حُكْمَ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: أُخْرَوِيٌّ، وَهُوَ الثَّوَابُ وَاسْتِحْقَاقُ الْعِقَابِ، وَدُنْيَوِيٌّ وَهُوَ الصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ، وَقَدْ أُرِيدَ الْأُخْرَوِيُّ بِالْإِجْمَاعِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، وَسَاقَ ابْنُ نُجَيْمٍ الْأَمْثِلَةَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا تُشْتَرَطُ لِلثَّوَابِ صِحَّةُ الْعِبَادَةِ، بَلْ يُثَابُ عَلَى نِيَّتِهِ وَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةً بِغَيْرِ تَعَمُّدِهِ، كَمَا لَوْ صَلَّى مُحْدِثًا عَلَى ظَنِّ طَهَارَتِهِ.

9- بَلْ إِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُثَابُ عَلَى مَا لَمْ يَعْمَلْ، وَيَكُونُ الثَّوَابُ عَلَى النِّيَّةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً» وَقَوْلِهِ: «مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّيَ فِي اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ»

وَيُثَابُ كَذَلِكَ عَلَى الْعَمَلِ وَإِنْ لَمْ يَقَعِ الْمَوْقِعَ الْمُنَاسِبَ، فَفِي الْبُخَارِيِّ حَدِيثُ الْمُتَصَدِّقِ الَّذِي وَقَعَتْ صَدَقَتُهُ فِي يَدِ زَانِيَةٍ وَغَنِيٍّ وَسَارِقٍ.وَحَدِيثُ «مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الْأَخْنَسِ الَّذِي أَخَذَ صَدَقَةَ أَبِيهِ مِنَ الرَّجُلِ الَّذِي وُضِعَتْ عِنْدَهُ وَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ» قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الْمُتَصَدِّقِ إِذَا كَانَتْ صَالِحَةً قُبِلَتْ صَدَقَتُهُ وَإِنْ لَمْ تَقَعِ الْمَوْقِعَ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْقُرُبَاتِ الَّتِي لَا لُبْسَ فِيهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ كَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (نِيَّةٌ).

مَا يُثَابُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِمَّا لَيْسَ مِنْ كَسْبِهِ:

لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الثَّوَابَ يَتَعَلَّقُ بِمَا هُوَ مِنْ كَسْبِ الْإِنْسَانِ وَاكْتِسَابِهِ، أَمَّا ثَوَابُ مَا لَيْسَ مِنْ كَسْبِهِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ.وَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ:

أَوَّلًا- فِيمَا يَهَبُهُ الْإِنْسَانُ لِغَيْرِهِ مِنَ الثَّوَابِ:

10- يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يَجْعَلَ الْإِنْسَانُ ثَوَابَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ عِبَادَةٍ لِغَيْرِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعِبَادَةُ صَلَاةً، أَمْ صَوْمًا، أَمْ حَجًّا، أَمْ صَدَقَةً، أَمْ قِرَاءَةً وَذِكْرًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ لِظَاهِرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهَا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} وقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وَقَدْ «ضَحَّى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْهُ وَالْآخَرُ عَنْ أُمَّتِهِ» وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ أَبِيهِ: لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَأَعْتَقْتُمْ عَنْهُ، أَوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ، أَوْ حَجَجْتُمْ عَنْهُ بَلَغَهُ ذَلِكَ». وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَأَمَّا قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} فَمَعْنَاهُ لَا يَجِبُ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ فِيمَا عَدَا الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيمَا عَدَا الصَّلَاةَ، وَفِي الصِّيَامِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ خِلَافٌ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ.

11- وَاخْتُلِفَ فِي إِهْدَاءِ الثَّوَابِ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ وَمَنَعَهُ الْآخَرُونَ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي بَعْضِ فَتَاوِيهِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ ثَوَابُ الْقِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الثَّوَابِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الشَّارِعِ، لَكِنَّ الْحَطَّابَ قَالَ: التَّصَرُّفُ الْمَمْنُوعُ مَا يَكُونُ بِصِيغَةِ جَعَلْتُهُ لَهُ، أَوْ أَهْدَيْتُهُ لَهُ، أَمَّا الدُّعَاءُ بِجَعْلِ ثَوَابِهِ لَهُ فَلَيْسَ تَصَرُّفًا بَلْ سُؤَالٌ لِنَقْلِ الثَّوَابِ إِلَيْهِ وَلَا مَانِعَ مِنْهُ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ أَدَاءٌ (ف 14).

(الْمَوْسُوعَةُ 2 334).

ثَانِيًا- ثَوَابُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ لِمَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ:

12- مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، لَكِنْ هَلْ يَحْصُلُ ثَوَابُ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَفْعَلْ؟

قَالَ الْفُقَهَاءُ: الثَّوَابُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ يَحْصُلُ لِفَاعِلِهِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ ثَوَابُ الْفِعْلِ نَفْسِهِ، وَهُوَ لِفَاعِلِهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْفَاعِلِ فَيَسْتَوِي مَعَ الْفَاعِلِ فِي سُقُوطِ التَّكْلِيفِ، لَا فِي الثَّوَابِ وَعَدَمِهِ، نَعَمْ إِنْ كَانَ نَوَى الْفِعْلَ فَلَهُ الثَّوَابُ عَلَى نِيَّتِهِ، قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الرِّسَالَةِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَحْصُلُ الثَّوَابُ بِغَيْرِ مَنْ رَدَّ السَّلَامَ- أَيْ بَعْدَ رَدِّ غَيْرِهِ- إِذَا نَوَى الرَّدَّ وَتَرَكَهُ لِأَجْلِ رَدِّ الْغَيْرِ، وَإِلاَّ فَلَا.وَنُقِلَ عَنِ الْأَبِيِّ أَنَّ الثَّوَابَ يَحْصُلُ مُطْلَقًا قَالَ الزُّرْقَانِيُّ: وَفِيهِ تَعَسُّفٌ.

ثَالِثًا- الْمَصَائِبُ الَّتِي تَنْزِلُ بِالْإِنْسَانِ هَلْ يُثَابُ عَلَيْهَا أَمْ لَا

13- الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلَا وَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ، وَلَا حُزْنٍ، وَلَا أَذًى، وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ».

قَالَ الشَّاطِبِيُّ: إِنْ كَانَتِ الْمَصَائِبُ مِنْ فِعْلِ الْغَيْرِ، كَفَّرَ بِهَا مِنْ سَيِّئَاتِهِ، وَأَخَذَ بِهَا مِنْ أَجْرِ غَيْرِهِ، وَحَمَلَ غَيْرُهُ وِزْرَهُ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- فِي الْمُفْلِسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَصَائِبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى: فَهِيَ كَفَّارَاتٌ فَقَطْ، أَوْ كَفَّارَاتٌ وَأُجُورٌ.

وَقَالَ الْقَرَافِيُّ وَالْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: الْمَصَائِبُ كَفَّارَاتٌ لِلذُّنُوبِ قَطْعًا، سَوَاءٌ أَسَخِطَ، أَمْ رَضِيَ، غَيْرَ أَنَّهُ إِنْ صَبَرَ وَرَضِيَ اجْتَمَعَ مَعَ التَّكْفِيرِ الثَّوَابُ، فَالْمَصَائِبُ لَا ثَوَابَ فِيهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مُصِيبَةٌ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُكْتَسَبَةٍ، وَالتَّكْفِيرُ بِالْمُصِيبَةِ يَقَعُ بِالْمُكْتَسَبِ وَغَيْرِ الْمُكْتَسَبِ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُصِيبَةَ كَفَّارَةٌ لِذَنْبٍ يُوَازِيهَا، وَبِالرِّضَا يُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُصَابِ ذَنْبٌ عُوِّضَ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الثَّوَابِ بِمَا يُوَازِيهِ.

وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: مَا وَرَدَ بِهِ السَّمْعُ مِنْ وَعْدِ الرِّزْقِ، وَوَعْدِ الثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَعَلَى أَلَمِ الْمُؤْمِنِ، وَأَلَمِ طِفْلِهِ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا مَحْضُ فَضْلٍ وَتَطَوُّلٍ مِنْهُ تَعَالَى لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِ لِوَعْدِهِ الصَّادِقِ.

تَفَاوُتُ الثَّوَابِ:

يَتَفَاوَتُ الثَّوَابُ قِلَّةً وَكَثْرَةً بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَلِي:

أ- مِنْ حَيْثُ الْمَشَقَّةُ:

14- الْأَصْلُ أَنَّ الْمَشَقَّةَ مِنْ حَيْثُ هِيَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ، فَإِنَّ الْحَرَجَ مَرْفُوعٌ عَنِ الْمُكَلَّفِ، وَلَكِنَّ الْمَشَقَّةَ فِي الْجُمْلَةِ مُثَابٌ عَلَيْهَا إِذَا لَحِقَتْ فِي أَثْنَاءِ التَّكْلِيفِ، وَيَخْتَلِفُ أَجْرُ تَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ بِشِدَّةِ الْمَشَاقِّ وَخِفَّتِهَا، وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَيْنِ إِذَا اتَّحَدَا فِي الشَّرَفِ، وَالشَّرَائِطِ، وَالسُّنَنِ، وَالْأَرْكَانِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا شَاقًّا فَقَدِ اسْتَوَيَا فِي أَجْرِهِمَا لِتَسَاوِيهِمَا فِي جَمِيعِ الْوَظَائِفِ، وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ لِأَجْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَأُثِيبَ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ لَا عَلَى عَيْنِ الْمَشَاقِّ، وَذَلِكَ كَالِاغْتِسَالِ فِي الصَّيْفِ وَالرَّبِيعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الِاغْتِسَالِ فِي شِدَّةِ بَرْدِ الشِّتَاءِ، فَيَزِيدُ أَجْرُ الِاغْتِسَالِ فِي الشِّتَاءِ لِأَجْلِ تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ الْبَرْدِ، وَكَذَلِكَ مَشَاقُّ الْوَسَائِلِ فِي مَنْ يَقْصِدُ الْمَسَاجِدَ، وَالْحَجَّ، وَالْغَزْوَ، مِنْ مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ، وَمَنْ يَقْصِدُ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ مِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ، فَإِنَّ ثَوَابَهَا يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الْوَسِيلَةِ، وَيَتَسَاوَى مِنْ جِهَةِ الْقِيَامِ بِسُنَنِ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ وَشَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا، فَإِنَّ الشَّرْعَ يُثِيبُ عَلَى الْوَسَائِلِ إِلَى الطَّاعَاتِ، كَمَا يُثِيبُ عَلَى الْمَقَاصِدِ مَعَ تَفَاوُتِ أُجُورِ الْوَسَائِلِ وَالْمَقَاصِدِ، وَكَذَلِكَ جَعَلَ لِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا الْمُصَلِّي إِلَى إِقَامَةِ الْجَمَاعَةِ رَفْعَ دَرَجَةٍ وَحَطَّ خَطِيئَةٍ، وَجَعَلَ أَبْعَدَهُمْ مَمْشًى إِلَى الصَّلَاةِ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ أَقْرَبِهِمْ مَمْشًى إِلَيْهَا، وَجَعَلَ لِلْمُسَافِرِينَ إِلَى الْجِهَادِ بِمَا يَلْقَوْنَهُ مِنَ الظَّمَأِ، وَالنَّصَبِ، وَالْمَخْمَصَةِ، وَالنَّفَقَةِ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ، وَقَطْعِ الْأَوْدِيَةِ، وَبِمَا يَنَالُونَهُ مِنَ الْأَعْدَاءِ أَجْرَ عَمَلٍ صَالِحٍ، وَعَلَى ذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْمَشَقَّاتُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَشَقَّاتٌ مُثَابًا عَلَيْهَا زِيَادَةً عَلَى مُعْتَادِ التَّكْلِيفِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ لَهُ، وَإِلاَّ فَلَوْ لَمْ يَقْصِدْهَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا ثَوَابٌ.

ب- تَفَاوُتُ الثَّوَابِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ:

15- مِنْ ذَلِكَ تَفْضِيلُ شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ، وَتَفْضِيلُ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَعَرَفَةَ عَلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَيَّامِ، وَتَفْضِيلُ الْعَمَلِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ اللَّيَالِيِ مَعَ مُسَاوَاتِهَا لِقِيَامِ كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَتَفْضِيلُ الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَزْمِنَةِ.وَغَيْرُ ذَلِكَ.وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ الْكَثِيرُ مِنَ الْأَدِلَّةِ.

مِنْهَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}.

ج- تَفَاوُتُ الثَّوَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانُ:

16- تَفَضَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِتَضْعِيفِ الْأُجُورِ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ، فَجَعَلَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَفْضَلَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَالصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَفْضَلَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِهِ، وَكَتَفْضِيلِ عَرَفَةَ، وَالْمَطَافِ وَالْمَسْعَى وَمُزْدَلِفَةَ، وَمِنًى، وَمَرْمَى الْجِمَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْبِقَاعِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَفْضِيلِهَا عَلَى غَيْرِهَا.يَقُولُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ». د- تَفَاوُتُ الثَّوَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَصْلَحَةُ فِي الْفِعْلِ:

17- مِنْ ذَلِكَ الْإِيمَانُ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ بِكَثْرَةِ ثَوَابِهِ، فَإِنَّ ثَوَابَهُ الْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ وَالْخُلُوصُ مِنَ النَّارِ.

وَصَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً.

بُطْلَانُ الثَّوَابِ:

18- لَا تَلَازُمَ بَيْنَ صِحَّةِ الْعِبَادَةِ وَإِجْزَائِهَا وَبَيْنَ بُطْلَانِ ثَوَابِهَا، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ قَدْ تَكُونُ صَحِيحَةً مُجْزِئَةً لِاسْتِكْمَالِ أَرْكَانِهَا وَشَرَائِطِهَا، وَلَكِنْ لَا يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهَا الثَّوَابَ، لِمَا يَقْتَرِنُ بِهَا مِنَ الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ الَّتِي تُبْطِلُ ثَمَرَتَهَا فِي الْآخِرَةِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».

وَمِنْ ذَلِكَ الرِّيَاءُ فَإِنَّهُ يُبْطِلُ ثَوَابَ الْعِبَادَةِ فِي الْجُمْلَةِ.

19- وَقَدْ يَصِحُّ الْعَمَلُ وَيَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ الثَّوَابَ وَلَكِنْ يُتْبِعُهُ بِمَا يُبْطِلُ هَذَا الثَّوَابَ، فَالْمَنُّ وَالْأَذَى يُبْطِلُ أَجْرَ الصَّدَقَةِ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: فَمَثَلُ صَاحِبِهَا وَبُطْلَانِ عَمَلِهِ {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا} وَمِنَ الْمَعَاصِي مَا يُبْطِلُ ثَوَابَ الْعِبَادَةِ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً».

قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا ثَوَابَ لَهُ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ مُجْزِئَةً فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ عَنْهُ.

20- وَالْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ يُبْطِلُ صِحَّةَ الْعَمَلِ وَثَوَابَهُ لقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكَتْ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}.

وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (رِدَّةٌ).

ثَانِيًا:

الثَّوَابُ فِي الْهِبَةِ:

21- الْمَقْصُودُ بِالثَّوَابِ فِي الْهِبَةِ الْعِوَضُ الْمَالِيُّ، وَالْأَصْلُ فِي الْهِبَةِ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا عِوَضٌ مَادِّيٌّ، لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ وَلَيْسَتْ مُعَاوَضَةً، إِلاَّ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْوِيضُ فِيهَا وَتُسَمَّى هِبَةَ الثَّوَابِ، وَهِيَ الْهِبَةُ الَّتِي يَتِمُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا، وَالْعِوَضُ فِي الْهِبَةِ إِمَّا أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْعَقْدِ أَوْ لَا:

فَإِنِ اشْتُرِطَ فِي الْعَقْدِ وَكَانَ مَعْلُومًا صَحَّ الْعَقْدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَظْهَرِ نَظَرًا لِلْمَعْنَى عِنْدَهُمْ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ لِتَنَاقُضِهِ، فَإِنَّ لَفْظَ الْهِبَةِ يَقْتَضِي التَّبَرُّعَ.

وَإِذَا صَحَّ الْعَقْدُ اعْتُبِرَ بَيْعًا أَوْ كَالْبَيْعِ فِي الْجُمْلَةِ.وَيَكُونُ لَهُ أَحْكَامُ الْبَيْعِ فَيَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ الْخِيَارِ، وَحَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَحَقُّ الشُّفْعَةِ، وَيَسْقُطُ حَقُّ الرُّجُوعِ إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اشْتَرَطُوا لِإِسْقَاطِ حَقِّ الرُّجُوعِ التَّقَابُضَ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَقْتَضِي أَنْ يُغَلَّبَ فِيهَا حُكْمُ الْهِبَةِ فَلَا تَثْبُتُ فِيهَا أَحْكَامُ الْبَيْعِ.

22- وَإِذَا اشْتُرِطَ الْعِوَضُ وَكَانَ مَجْهُولًا صَحَّ الْعَقْدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَمُقَابِلُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.إِلاَّ أَنَّ الْعَقْدَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُعْتَبَرُ هِبَةً ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، فَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا عَلَى أَصْلِ مَذْهَبِهِمُ الَّذِي يُجِيزُ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لِلْمَوْهُوبِ لَهُ دَفْعُ الْقِيمَةِ أَوْ رَدُّ الْهِبَةِ، فَإِذَا دَفَعَ الْقِيمَةَ أُلْزِمَ الْوَاهِبُ قَبُولَهَا، وَإِذَا لَمْ يَدْفَعْ كَانَ لِلْوَاهِبِ الرَّدُّ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بُطْلَانُ الْعَقْدِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ.

23- وَإِنْ وَهَبَ مُطْلَقًا دُونَ تَقْيِيدٍ بِثَوَابٍ أَوْ عَدَمِهِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا ثَوَابَ إِنْ وَهَبَ الشَّخْصُ لِمَنْ هُوَ دُونَهُ، وَكَذَا الْأَعْلَى مِنْهُ فِي الْأَظْهَرِ وَلِنَظِيرِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُصَدَّقُ الْوَاهِبُ فِي قَصْدِهِ مَا لَمْ يَشْهَدِ الْعُرْفُ بِضِدِّهِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لَا تَقْتَضِي ثَوَابًا، أَيْ عِوَضًا، وَالْعِوَضُ فِي الْهِبَةِ الْمُطْلَقَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ هُوَ قِيمَةُ الْمَوْهُوبِ أَوْ مَا يُعْتَبَرُ ثَوَابًا لِمِثْلِهِ عَادَةً.

24- وَمِنْ أَحْكَامِ هِبَةِ الثَّوَابِ- غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ، وَالْخِيَارِ، وَإِسْقَاطِ الرُّجُوعِ- أَنَّ وَلِيَّ الصَّغِيرِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَهَبَ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ هِبَةَ ثَوَابٍ، وَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهَا هِبَةٌ ابْتِدَاءً يَتَوَقَّفُ الْمِلْكُ فِيهَا عَلَى الْقَبْضِ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مُعَاوَضَةً انْتِهَاءً، وَالْوَلِيُّ لَا يَمْلِكُ الْهِبَةَ فَلَمْ يَنْعَقِدْ هِبَةً، فَلَا يُتَصَوَّرُ صَيْرُورَتُهَا مُعَاوَضَةً يَمْلِكُهَا الْوَلِيُّ كَالْبَيْعِ، وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْأَبِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَبِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَهَبَ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ هِبَةَ ثَوَابٍ؛ لِثُبُوتِ الْعِوَضِ فِيهَا فَكَانَتْ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ فَيَجُوزُ لِلْوَلِيِّ، كَالْبَيْعِ.

وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (هِبَةٌ- شُفْعَةٌ- خِيَارٌ).

- رحمهم الله-

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


243-موسوعة الفقه الكويتية (جد)

جَدٌّ

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الْجَدِّ لُغَةً أَبُو الْأَبِ وَأَبُو الْأُمِّ، وَالْجَمْعُ أَجْدَادٌ وَجُدُودٌ

وَالْجَدَّةُ أُمُّ الْأُمِّ وَأُمُّ الْأَبِ، وَالْجَمْعُ جَدَّاتٌ

وَالْجَدُّ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ أَبُو الْأَبِ وَأَبُو الْأُمِّ، وَإِنْ عَلَوْا، فَإِنْ أُطْلِقَ انْصَرَفَ إِلَى أَبِي الْأَبِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْجَدِّ:

يَتَعَلَّقُ بِالْجَدِّ أَحْكَامٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنْهَا:

وِلَايَةُ الْجَدِّ فِي النِّكَاحِ:

2- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وِلَايَةِ الْجَدِّ (أَبِي الْأَبِ) وَإِنْ عَلَا فِي النِّكَاحِ.فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَدَّ كَالْأَبِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ، وَأَنَّهُ أَحَقُّ الْأَوْلِيَاءِ بَعْدَ الْأَبِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يُجْبِرَ بِنْتَ ابْنِهِ الْبِكْرَ سَوَاءٌ أَكَانَتْ بَالِغَةً أَمْ صَغِيرَةً.

وَوَافَقَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّغِيرَةِ، وَالْمَجْنُونَةِ، وَالْمَعْتُوهَةِ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا عِنْدَهُمْ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجَدَّ لَيْسَ كَالْأَبِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْبُرَ بِنْتَ ابْنِهِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ صَغِيرَةً أَمْ كَبِيرَةً، بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا، عَاقِلَةً أَمْ مَجْنُونَةً.

وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَنْزِلَتِهِ بَيْنَ سَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَأْتِي فِي التَّرْتِيبِ بَعْدَ الْأَخِ وَابْنِ الْأَخِ وَإِنْ نَزَلَ، وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَأْتِي بَعْدَ الْأَبِ وَوَصِيِّهِ.

أَمَّا الْجَدُّ لِأُمِّ وَهُوَ مَنْ أَدْلَى إِلَى الْمَرْأَةِ بِأُنْثَى فَلَا وِلَايَةَ لَهُ فِي النِّكَاحِ.

إِرْثُ الْجَدِّ:

3- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَدَّ (أَبَا الْأَبِ) يَرِثُ بِالْفَرْضِ وَيَرِثُ بِالتَّعْصِيبِ.

وَالْجَدُّ أَبُو الْأَبِ وَإِنْ عَلَا لَا يَحْجُبُهُ إِلاَّ ذَكَرٌ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَدْلَى إِلَى الْمَيِّتِ بِشَخْصٍ لَا يَرِثُ مَعَ وُجُودِهِ إِلاَّ أَوْلَادَ الْأُمِّ.

فَالْجَدُّ أَبُو الْأَبِ فِي الْمِيرَاثِ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْأَبِ عِنْدَ فَقْدِ الْأَبِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ إِلاَّ فِي أَرْبَعِ مَسَائِلَ: إِحْدَاهَا: زَوْجٌ وَأَبَوَانِ

وَالثَّانِيَةُ: زَوْجَةٌ وَأَبَوَانِ، لِلْأُمِّ ثُلُثُ الْبَاقِي فِيهِمَا مَعَ الْأَبِ، وَيَكُونُ لَهَا ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ فِيهِمَا لَوْ كَانَ مَكَانَ الْأَبِ جَدٌّ.

وَالثَّالِثَةُ: الْجَدُّ مَعَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأَبَوَيْنِ أَوْ لِلْأَبِ، فَإِنَّ الْأَبَ يَحْجُبُهُمْ بِاتِّفَاقٍ.وَفِي الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الْجَدِّ بَدَلَ الْأَبِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي إِرْثٍ.

وَالرَّابِعَةُ: الْجَدُّ مَعَ الْإِخْوَةِ لِأُمٍّ، فَإِنَّ الْأَبَ يَحْجُبُهُمْ إِجْمَاعًا، وَلَا يَحْجُبُهُمْ الْجَدُّ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ.

نَفَقَةُ الْجَدِّ:

4- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْجَدِّ وَاجِبَةٌ عَلَى حَفِيدِهِ أَوْ حَفِيدَتِهِ بِشُرُوطِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الْجَدُّ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ وَارِثًا أَمْ غَيْرَ وَارِثٍ، وَلَوِ اخْتَلَفَ دِينُهُمَا، بِأَنْ كَانَ وَلَدُ الْوَلَدِ مُسْلِمًا وَالْجَدُّ كَافِرًا، أَوْ كَانَ الْجَدُّ مُسْلِمًا وَوَلَدُ الْوَلَدِ كَافِرًا لقوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} وَمِنَ الْمَعْرُوفِ الْقِيَامُ بِكِفَايَتِهِمَا عِنْدَ حَاجَتِهِمَا.

وَلِحَدِيثِ: «إِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ، فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلَادِكُمْ».

وَالْجَدُّ مُلْحَقٌ بِالْأَبِ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي عُمُومِ لَفْظِ الْأَبِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ نَفَقَةِ الْجَدِّ عَلَى وَلَدِ الْوَلَدِ.

كَمَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ وَلَدِ الْوَلَدِ وَإِنْ سَفَلَ عَلَى الْجَدِّ وَإِنْ عَلَا إِذَا فُقِدَ الْأَبُ بِشَرْطِهَا «لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِهِنْدٍ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» وَالْأَحْفَادُ مُلْحَقُونَ بِالْأَوْلَادِ إِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ إِطْلَاقُ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ عَدَمَ وُجُوبِ نَفَقَةِ الْحَفِيدِ عَلَى الْجَدِّ.

وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي النَّفَقَةِ.

إِعْفَافُ الْجَدِّ:

5- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِهِمْ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ وَلَدَ الْوَلَدِ إِعْفَافُ الْجَدِّ وَإِنْ عَلَا بِالنِّكَاحِ، لِأَنَّ هَذَا مِنْ وُجُوهِ حَاجَتِهِ الْمُهِمَّةِ كَالنَّفَقَةِ؛ وَلِئَلاَّ يُعَرِّضَهُمْ لِلزِّنَا الْمُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ، وَلَيْسَ مِنَ الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي قوله تعالى {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}.

كَمَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ زَوْجَةِ الْجَدِّ عَلَى وَلَدِ الْوَلَدِ إِذَا كَانَتْ وَاحِدَةً.

أَمَّا إِذَا كَانَ عِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ زَوْجَةٍ فَعَلَى الْحَفِيدِ أَنْ يَدْفَعَ لَهُ نَفَقَةَ زَوْجَةٍ وَاحِدَةٍ، وَعَلَى الْجَدِّ أَنْ يُوَزِّعَ هَذَا الْقَدْرَ عَلَى جَمِيعِ زَوْجَاتِهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْحَفِيدَ إِعْفَافُ الْجَدِّ، كَمَا لَا يَلْزَمُهُ عِنْدَهُمْ نَفَقَةُ زَوْجَةِ الْجَدِّ.وَلِزِيَادَةِ التَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (نَفَقَةٌ).

حَضَانَةُ الْجَدِّ:

6- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَرْتِيبِ الْجَدِّ فِي الْحَضَانَةِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَرْتِيبَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ حَضَانَةِ الْحَفِيدِ يَأْتِي بَعْدَ الْأَبِ مُبَاشَرَةً، لِأَنَّهُ كَالْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ كَذَلِكَ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْحَضَانَةَ بَعْدَ الْأَخِ الشَّقِيقِ، ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَهُ الْأَخُ لِأُمٍّ، ثُمَّ الْأَخُ لِأَبٍ.

حُكْمُ دَفْعِ الزَّكَاةِ لِلْجَدِّ:

7- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْحَفِيدِ أَنْ يَدْفَعَ زَكَاتَهُ إِلَى جَدِّهِ وَإِنْ عَلَا.

كَمَا لَا يَجُوزُ لِلْجَدِّ أَنْ يَدْفَعَ زَكَاتَهُ لِوَلَدِ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَنْتَفِعُ بِمَالِ الْآخَرِ، فَيَكُونُ كَأَنَّهُ صَرَفَ إِلَى نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ؛ وَلِأَنَّ نَفَقَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا تَجِبُ عَلَى الْآخَرِ، وَقَدْ يَرِثُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَدْفَعَ زَكَاتَهُ لِلْآخَرِ مَا لَمْ يَكُنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ بِنَفَقَتِهِ.وَلِزِيَادَةِ التَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (نَفَقَةٌ وَحَضَانَةٌ).

الْقِصَاصُ مِنَ الْجَدِّ:

8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ مِنَ الْجَدِّ إِذَا قَتَلَ حَفِيدَهُ.

فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ مِنَ الْجَدِّ وَإِنْ عَلَا إِذَا قَتَلَ حَفِيدَهُ وَإِنْ سَفَلَ، لِحَدِيثِ: «لَا يُقَادُ الْأَبُ مِنِ ابْنِهِ» وَلِرِعَايَةِ حُرْمَتِهِ الْأَبَوِيَّةِ؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ سَبَبًا فِي وُجُودِ الْحَفِيدِ فَلَا يَكُونُ الْحَفِيدُ سَبَبًا فِي عَدَمِهِ.

كَمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْحَفِيدُ الْقِصَاصَ مِنْ جَدِّهِ وَإِنْ عَلَا، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ أَمْ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْوِلَادِ فَاسْتَوَى فِيهِ جَمِيعُ الْأَجْدَادِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَدَّ إِذَا قَتَلَ حَفِيدَهُ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ الْمَحْضِ، مِثْلَ أَنْ يَذْبَحَهُ أَوْ يَشُقَّ بَطْنَهُ يُقْتَصُّ لَهُ مِنْهُ، لِعُمُومِ ظَاهِرِ قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ}.

وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ الْمُنْذِرِ.

سَرِقَةُ الْجَدِّ مِنْ مَالِ حَفِيدِهِ:

9- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَطْعِ يَدِ الْجَدِّ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ حَفِ يدِهِ.

فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى عَدَمِ قَطْعِ يَدِ الْجَدِّ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ وَلَدِ الْوَلَدِ وَإِنْ سَفَلَ دَرْءًا لِلشُّبْهَةِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ».

وَلِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الِاتِّحَادِ وَالِاشْتِرَاكِ؛ وَلِأَنَّ مَالَ كُلٍّ مِنْهُمَا مُرْصَدٌ لِحَاجَةِ الْآخَرِ، وَلِأَنَّ لِلْجَدِّ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ وَلَدِ وَلَدِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ عَادَةً، فَاخْتَلَّ مَعْنَى الْحِرْزِ؛ وَلِأَنَّ الْقَطْعَ بِسَبَبِ السَّرِقَةِ فِعْلٌ يُفْضِي إِلَى قَطْعِ الرَّحِمِ وَذَلِكَ حَرَامٌ، وَالْمُفْضِي إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْجَدَّ تُقْطَعُ يَدُهُ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ حَفِيدِهِ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ.

قَذْفُ الْجَدِّ حَفِيدَهُ:

10- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْجَدِّ إِذَا قَذَفَ حَفِيدَهُ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِقَذْفِ حَفِيدِهِ وَإِنْ سَفَلَ؛ لِأَنَّ الْأُبُوَّةَ مَعْنًى يُسْقِطُ الْقِصَاصَ فَمَنَعَتِ الْحَدَّ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَا يَجِبُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ عَلَى جَدِّهِ، لقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} وَالنَّهْيُ عَنِ التَّأْفِيفِ نَصًّا نَهْيٌ عَنِ الضَّرْبِ دَلَالَةً، فَلَوْ حُدَّ الْجَدُّ كَانَ ضَرْبُهُ الْحَدَّ بِسَبَبِ حَفِيدِهِ؛ وَلِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْقَذْفِ لَيْسَتْ مِنَ الْإِحْسَانِ فِي شَيْءٍ فَكَانَتْ مَنْفِيَّةً نَصًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.

كَمَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ لَا يَثْبُتُ لَهُ حَدُّ قَذْفٍ عَلَى جَدِّهِ، فَلَوْ قَذَفَ الْجَدُّ أُمَّ وَلَدِ وَلَدِهِ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ فَمَاتَتْ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِ وَلَدِهِ الْمُطَالَبَةُ بِالْحَدِّ؛ لِأَنَّ مَا مَنَعَ ثُبُوتَهُ ابْتِدَاءً أَسْقَطَهُ طَارِئًا.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْجَدَّ يُحَدُّ إِذَا قَذَفَ وَلَدَ وَلَدِهِ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ.

شَهَادَةُ الْجَدِّ لِوَلَدِ وَلَدِهِ:

11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْجَدِّ لِحَفِيدِهِ وَإِنْ سَفَلَ وَعَكْسَهُ لَا تُقْبَلُ، لِأَنَّ بَيْنَهُمَا بَعْضِيَّةً فَكَأَنَّهُ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا قَالَ- عليه الصلاة والسلام- «فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي».

وَلِأَنَّ شَهَادَةَ الْجَدِّ إِذَا تَضَمَّنَتْ مَعْنَى النَّفْعِ وَالدَّفْعِ فَقَدْ صَارَ مُتَّهَمًا وَلَا شَهَادَةَ لِمُتَّهَمٍ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا مَجْلُودٍ حَدًّا وَلَا مَجْلُودَةٍ، وَلَا ذِي غَمْرٍ لِأَخِيهِ، وَلَا الْقَانِعِ أَهْلَ الْبَيْتِ لَهُمْ، وَلَا ظَنِينٍ فِي وَلَاءٍ، وَلَا قَرَابَةٍ» وَالظَّنِينُ الْمُتَّهَمُ.

وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- أَيْضًا: «لَا يَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَلَا الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا».

وَذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ كَشُرَيْحٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَإِسْحَاقَ إِلَى أَنَّ شَهَادَةَ كُلٍّ مِنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ لِلْآخَرِ مَقْبُولَةٌ؛ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وقوله تعالى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}.

مَرْتَبَةُ الْجَدِّ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ:

12- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَوْلَى الْأَقَارِبِ مِنَ الرِّجَالِ فِي غَسْلِ الْمَيِّتِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، الْأَبُ ثُمَّ الْجَدُّ أَبُو الْأَبِ وَإِنْ عَلَا، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْأَبِ أَنْ يُقَدِّمَ أَبَاهُ جَدَّ الْمَيِّتِ تَعْظِيمًا لَهُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَدَّ يَأْتِي بَعْدَ الْأَخِ وَابْنِ الْأَخِ وَإِنْ نَزَلَ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


244-موسوعة الفقه الكويتية (جدة)

جَدَّةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْجَدَّةُ لُغَةً: أُمُّ الْأُمِّ وَأُمُّ الْأَبِ وَإِنْ عَلَتَا، وَجَمْعُهَا جَدَّاتٌ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْجَدَّةِ:

مِيرَاثُ الْجَدَّةِ:

2- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَوْرِيثِ جَدَّتَيْنِ: أُمِّ الْأُمِّ، وَأُمِّ الْأَبِ، وَأُمَّهَاتِهِمَا وَإِنْ عَلَوْنَ بِمَحْضِ الْإِنَاثِ أَيْ دُونَ تَخَلُّلِ ذَكَرٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي أُمِّ الْجَدِّ (أُمِّ أَبِي الْأَبِ) فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَوْرِيثِهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ كَعَلِيٍّ وَزَيْدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمْ، وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ وَالثَّوْرِيِّ.وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ تَوْرِيثِهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَرَبِيعَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ.

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَدَّةَ الَّتِي تُدْلِي إِلَى الْمَيِّتِ بِذَكَرٍ بَيْنَ أُمَّيْنِ فَاسِدَةٌ، وَلَا تَرِثُ؛ لِأَنَّهَا تُدْلِي بِأَبٍ غَيْرِ وَارِثٍ كَمَا فِي حَالَةِ أُمِّ أَبِي الْأُمِّ.

هَذَا وَعَدَمُ تَوْرِيثِ الْجَدَّةِ غَيْرِ الصَّحِيحَةِ إِنَّمَا هُوَ بِالْفَرْضِ.وَهِيَ تَرِثُ مِيرَاثَ الْأَرْحَامِ.

فَرْضُ الْجَدَّةِ وَالْجَدَّاتِ:

3- أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ لِلْجَدَّةِ السُّدُسَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ أُمٌّ.وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ قَالَ: جَاءَتِ الْجَدَّةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ تَطْلُبُ مِيرَاثَهَا.

فَقَالَ: مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ، وَمَا أَعْلَمُ لَكِ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا.وَلَكِنِ ارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ.فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: «حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَعْطَاهَا السُّدُسَ».

فَقَالَ: هَلْ مَعَكَ غَيْرُكَ؟ فَشَهِدَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَأَمْضَاهُ لَهَا.

وَهَذَا سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْجَدَّةُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ أَمْ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ.

وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَعَهَا فَرْعٌ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ أَمْ لَمْ يَكُنْ.

وَسَوَاءٌ أَقَرُبَتِ الْجَدَّةُ أَمْ بَعُدَتْ مَا دَامَتْ وَارِثَةً.

وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ وَاحِدَةً أَمْ أَكْثَرَ، فَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مِيرَاثَ الْجَدَّاتِ السُّدُسُ أَيْضًا وَإِنْ كَثُرْنَ، وَذَلِكَ «لِقَضَائِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمِيرَاثِ بِالسُّدُسِ بَيْنَهُمَا».وَلِقَضَاءِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بَيْنَ الْجَدَّتَيْنِ فَقَالَ عَنِ السُّدُسِ: إِنِ اجْتَمَعْتُمَا فَهُوَ لَكُمَا، وَأَيَّتُكُمَا خَلَتْ بِهِ فَهُوَ لَهَا.

حَجْبُ الْجَدَّةِ:

4- الْجَدَّاتُ قَدْ يَحْجُبُهُنَّ غَيْرُهُنَّ، وَقَدْ يَحْجُبُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا فِي الْمِيرَاثِ.فَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْأُمَّ تَحْجُبُ كُلَّ الْجَدَّاتِ سَوَاءٌ أَكُنَّ مِنْ جِهَتِهَا أَوْ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْجَدَّاتِ يَرِثْنَ بِالْوِلَادِ، فَكَانَتِ الْأُمُّ أَوْلَى مِنْهُنَّ لِمُبَاشَرَتِهَا الْوِلَادَةَ.

وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ جَدَّةٍ قُرْبَى تَحْجُبُ الْبُعْدَى الَّتِي مِنْ جِهَتِهَا مُطْلَقًا.

وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْجَدَّةَ الْقُرْبَى مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ تُسْقِطُ الْبُعْدَى الَّتِي مِنْ جِهَةِ الْأَبِ.وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ خِلَافًا فِي ذَلِكَ.

وَاخْتَلَفُوا فِي إِسْقَاطِ الْجَدَّةِ الْقُرْبَى مِنْ جِهَةِ الْأَبِ لِلْبُعْدَى الَّتِي مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا تَحْجُبُهَا لِأَنَّهَا أَقْرَبُ مِنْهَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهَا لَا تَحْجُبُهَا وَالسُّدُسُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ.

وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْمَنْصُوصَةُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا لَا تَحْجُبُهَا، وَتَشْتَرِكَانِ فِي السُّدُسِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ نَفْسَهُ لَا يَحْجُبُهَا فَالْجَدَّةُ الْمُدْلِيَةُ بِهِ أَوْلَى.

وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَحْجُبُهَا لِقُرْبِهَا مِنَ الْمَيِّتِ.

5- وَاخْتَلَفُوا فِي حَجْبِ الْجَدَّةِ بِابْنِهَا، أَيْ بِأَبِي الْمَيِّتِ أَوْ جَدِّهِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، إِلَى أَنَّهُ يَحْجُبُهَا، فَلَا تَرِثُ مَعَ وُجُودِ الْأَبِ إِلاَّ جَدَّةً وَاحِدَةً وَهِيَ الَّتِي مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهَا تُدْلِي بِهِ فَلَا تَرِثُ مَعَهُ كَالْجَدِّ مَعَ الْأَبِ، وَأُمِّ الْأُمِّ مَعَ الْأُمِّ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَهِيَ رِوَايَةٌ لِلشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا تَرِثُ مَعَ ابْنِهَا لِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «أَوَّلُ جَدَّةٍ أَطْعَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- السُّدُسَ أُمُّ أَبٍ مَعَ ابْنِهَا، وَابْنُهَا حَيٌّ».وَلِأَنَّ الْجَدَّاتِ أُمَّهَاتٌ، فَيَرِثْنَ مِيرَاثَ الْأُمِّ لَا مِيرَاثَ الْأَبِ، فَلَا يُحْجَبْنَ بِهِ كَأُمَّهَاتِ الْأُمِّ.

تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْجَدَّةِ:

6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ نِكَاحُ الْجَدَّاتِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كُنَّ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ وَإِنْ عَلَوْنَ، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} فَالْأُمَّهَاتُ كُلُّ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِنَّ بِوِلَادَةٍ سَوَاءٌ وَقَعَ عَلَيْهَا اسْمُ الْأُمِّ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا- أَيِ الَّتِي وَلَدَتْكَ أَوْ وَلَدَتْ مَنْ وَلَدَتْكَ- وَإِنْ عَلَتْ وَارِثَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ وَارِثَةٍ.

تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الزَّوْجَةِ وَجَدَّتِهَا:

7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الزَّوْجَةِ وَجَدَّتِهَا، إِذِ الْجَدَّاتُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْأُمَّهَاتِ فِي الْحُرْمَةِ.عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ أَيْضًا نِكَاحُ جَدَّةِ الزَّوْجَةِ بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجَةِ أَوْ طَلَاقِهَا، كَمَا يَحْرُمُ نِكَاحُ بِنْتِ بِنْتِ الزَّوْجَةِ الْمَدْخُولِ بِهَا بَعْدَ طَلَاقِ الزَّوْجَةِ أَوْ مَوْتِهَا، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا وَفَارَقَهَا فَيَحِلُّ لَهُ الزَّوَاجُ بِبِنْتِ بِنْتِهَا.

تَشْبِيهُ الزَّوْجَةِ بِالْجَدَّةِ فِي الظِّهَارِ:

8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِظَهْرِ جَدَّتِهِ فَهُوَ ظِهَارٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْجَدَّةُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ أَمْ الْأَبِ؛ لِأَنَّ تَشْبِيهَ الزَّوْجَةِ بِظَهْرِ الْأُمِّ أَوِ الْجَدَّةِ أَوْ مَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ سَوَاءٌ.

حَقُّ الْجَدَّةِ بِالْحَضَانَةِ:

9- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْحَضَانَةِ بَعْدَ الْأُمِّ سَوَاءٌ مَاتَتْ أَوْ نَكَحَتْ أَجْنَبِيًّا أُمَّهَاتُهَا الْمُدْلِيَاتُ بِإِنَاثٍ الْقُرْبَى فَالْقُرْبَى- أَيْ جَدَّةُ الطِّفْلِ لِأُمِّهِ- وَإِنْ عَلَتْ.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ تَنْتَقِلُ الْحَضَانَةُ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَضَانَةَ تَنْتَقِلُ بَعْدَ الْجَدَّةِ لِأُمٍّ إِلَى الْجَدَّاتِ لِأَبٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْأَخَوَاتِ ثُمَّ الْخَالَاتِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَضَانَةَ تَنْتَقِلُ إِلَى الْخَالَاتِ ثُمَّ الْجَدَّاتِ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ ثُمَّ الْأَخَوَاتِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ إِلَى تَقْدِيمِ الْجَدَّاتِ لِأَبٍ عَلَى الْأَخَوَاتِ وَالْخَالَاتِ، وَفِي الْقَدِيمِ إِلَى تَأْخِيرِهِنَّ عَنِ الْأَخَوَاتِ وَالْخَالَاتِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْحَضَانَةَ تَنْتَقِلُ بَعْدَ أُمِّ الْأُمِّ إِلَى الْأَبِ، ثُمَّ إِلَى أُمَّهَاتِهِ، ثُمَّ إِلَى الْأَخَوَاتِ وَالْخَالَاتِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِتَقْدِيمِ أُمِّ الْأُمِّ بِمَا قَضَاهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ- رضي الله عنه- فِي عَاصِمٍ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنهما-.فَقَدْ طَلَّقَ عُمَرُ زَوْجَتَهُ وَلَهُ مِنْهَا عَاصِمٌ، ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ، وَكَانَ لَهَا أُمٌّ فَقَبَضَتْ عَاصِمًا عِنْدَهَا، فَخَاصَمَهَا عُمَرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَضَى لِجَدَّتِهِ (أُمِّ أُمِّهِ) بِالْحَضَانَةِ وَقَالَ عُمَرُ: سَمِعْتُ وَأَطَعْتُ.

قَتْلُ الْجَدَّةِ بِحَفِيدِهَا:

10- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَى وَالِدٍ يَقْتُلُ وَلَدَهُ، وَكَذَا الْأُمُّ وَالْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ سَوَاءٌ أَكَانُوا مِنْ جِهَةِ الْأَبِ أَمْ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ، قَرُبُوا أَمْ بَعُدُوا.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يُقَادُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ» وَالْجَدَّةُ وَالِدَةٌ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى التَّفْصِيلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَاتَّفَقُوا مَعَ الْجُمْهُورِ فِيمَا لَوْ حَذَفَهُ بِالسَّيْفِ.أَمَّا إِنْ قَصَدَ قَتْلَ الِابْنِ وَإِزْهَاقَ رُوحِهِ بِأَنْ أَضْجَعَهُ فَذَبَحَهُ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَيَجْرِي مَجْرَاهُ الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ.

اسْتِئْذَانُ الْجَدَّةِ فِي الْجِهَادِ:

11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا إِذْنَ لِأَحَدٍ مُطْلَقًا فِي النَّفِيرِ الْعَامِّ، حَيْثُ يَتَعَيَّنُ الْجِهَادُ وَيَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْإِذْنُ، كَالْحَجِّ الْوَاجِبِ، وَبَقِيَّةِ الْفَرَائِضِ.

وَاتَّفَقُوا فِي غَيْرِ النَّفِيرِ الْعَامِّ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مَنْ لَهُ وَالِدَانِ بِغَيْرِ إِذْنِهِمَا، وَلَوْ فَعَلَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ لِأَنَّ بِرَّهُمَا وَاجِبٌ.

وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ اسْتِئْذَانِ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ فِي حَالِ عَدَمِ وُجُودِ الْوَالِدَيْنِ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ- إِلَى أَنَّ الْأَجْدَادَ وَالْجَدَّاتِ كَالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ فَيَحْرُمُ خُرُوجُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ لِلْجِهَادِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِمْ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ اسْتِئْذَانُهُمَا لِأَنَّهُمَا لَيْسَا كَالْأَبَوَيْنِ، فَإِنْ أَبَى الْجَدَّانِ فَلَهُ الْخُرُوجُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا إِذْنَ لِغَيْرِ الْأَبَوَيْنِ مِنَ الْأَقَارِبِ حَتَّى الْجَدَّيْنِ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


245-موسوعة الفقه الكويتية (جزية 1)

جِزْيَةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْجِزْيَةُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَالْجَمْعُ الْجِزَى (بِالْكَسْرِ) مِثْلُ لِحْيَةٍ وَلِحًى.وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمَالِ الَّذِي يُعْقَدُ الذِّمَّةُ عَلَيْهِ لِلْكِتَابِيِّ.وَهِيَ فِعْلَةٌ مِنَ الْجَزَاءِ كَأَنَّهَا جَزَتْ عَنْ قَتْلِهِ.وَقَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ: الْجِزْيَةُ أَيْضًا خَرَاجُ الْأَرْضِ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْجِزْيَةُ (بِكَسْرِ الْجِيمِ) جَمْعُهَا جِزًى (بِالْكَسْرِ) أَيْضًا كَقِرْبَةٍ وَقِرَبٍ وَنَحْوِهِ، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْجَزَاءِ كَأَنَّهَا جَزَاءُ إِسْكَانِنَا إِيَّاهُ فِي دَارِنَا، وَعِصْمَتِنَا دَمَهُ وَمَالَهُ وَعِيَالَهُ.وَقِيلَ: هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ جَزَى يَجْزِي إِذَا قَضَى.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} أَيْ لَا تَقْضِي.

وَقَالَ الْخُوَارِزْمِيُّ: جَزَاءُ رُءُوسِ أَهْلِ الذِّمَّةِ جَمْعُ جِزْيَةٍ وَهُوَ مُعَرَّبٌ: كَزَيْتٍ، وَهُوَ الْخَرَاجُ بِالْفَارِسِيَّةِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَتْ وُجْهَاتُ نَظَرِ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ الْجِزْيَةِ اصْطِلَاحًا تَبَعًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِي طَبِيعَتِهَا، وَفِي حُكْمِ فَرْضِهَا عَلَى الْمَغْلُوبِينَ الَّذِينَ فُتِحَتْ أَرْضُهُمْ عَنْوَةً (أَيْ قَهْرًا لَا صُلْحًا).

فَعَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا: «اسْمٌ لِمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَهُوَ عَامٌّ يَشْمَلُ كُلَّ جِزْيَةٍ سَوَاءٌ أَكَانَ مُوجِبُهَا الْقَهْرَ وَالْغَلَبَةَ وَفَتْحَ الْأَرْضِ عَنْوَةً، أَوْ عَقْدَ الذِّمَّةِ الَّذِي يَنْشَأُ بِالتَّرَاضِي».

وَعَرَّفَهَا الْحِصْنِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهَا: «الْمَالُ الْمَأْخُوذُ بِالتَّرَاضِي لِإِسْكَانِنَا إِيَّاهُمْ فِي دِيَارِنَا، أَوْ لِحَقْنِ دِمَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، أَوْ لِكَفِّنَا عَنْ قِتَالِهِمْ» وَعَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهَا: «مَالٌ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ كُلَّ عَامٍ بَدَلًا عَنْ قَتْلِهِمْ وَإِقَامَتِهِمْ بِدَارِنَا».

قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: «تُطْلَقُ- أَيِ الْجِزْيَةَ- عَلَى الْمَالِ وَعَلَى الْعَقْدِ وَعَلَيْهِمَا مَعًا».

هَذَا وَيُطْلِقُ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْجِزْيَةِ عِدَّةَ مُصْطَلَحَاتٍ وَأَلْفَاظٍ مِنْهَا:

أ- خَرَاجُ الرَّأْسِ:

2- قَالَ السَّرَخْسِيُّ: «إِذَا جَعَلَ الْإِمَامُ قَوْمًا مِنَ الْكُفَّارِ أَهْلَ ذِمَّةٍ وَضَعَ الْخَرَاجَ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ، وَعَلَى الْأَرَضِينَ بِقَدْرِ الِاحْتِمَالِ، أَمَّا خَرَاجُ الرُّءُوسِ فَثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ».

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي أَحْكَامِ أَهْلِ الذِّمَّةِ: الْجِزْيَةُ هِيَ الْخَرَاجُ الْمَضْرُوبُ عَلَى رُءُوسِ الْكُفَّارِ إِذْلَالًا وَصِغَارًا».

ب- الْجَالِيَةُ:

3- الْجَالِيَةُ فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْجَلَاءِ، فَيُقَالُ: جَلَوْتُ عَنِ الْبَلَدِ جَلَاءً إِذَا خَرَجْتُ.وَتُطْلَقُ الْجَالِيَةُ عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَمِنْهُ قِيلَ: لِأَهْلِ الذِّمَّةِ الَّذِينَ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- عَنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ الْجَالِيَةَ، وَقَدْ لَزِمَهُمْ هَذَا الِاسْمُ أَيْنَمَا حَلُّوا، ثُمَّ لَزِمَ كُلَّ مَنْ لَزِمَتْهُ الْجِزْيَةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِكُلِّ بَلَدٍ، وَإِنْ لَمْ يَجْلُوا عَنْ أَوْطَانِهِمْ.ثُمَّ أُطْلِقَتْ «الْجَالِيَةُ» عَلَى الْجِزْيَةِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَقِيلَ: اسْتُعْمِلَ فُلَانٌ عَلَى الْجَالِيَةِ.

أَيْ عَلَى جِزْيَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ.وَجَمْعُ الْجَالِيَةِ الْجَوَالِي.

وَقَدْ عَرَّفَهَا الْقَلْقَشَنْدِيُّ بِأَنَّهَا: «مَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنِ الْجِزْيَةِ الْمُقَرَّرَةِ عَلَى رِقَابِهِمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ».

وَقَدِ اسْتُخْدِمَ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ، وَفِي الْإِيصَالَاتِ الَّتِي كَانَتْ تُعْطَى لِأَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْدَ دَفْعِ الْجِزْيَةِ مُنْذُ عَصْرِ الْمَمَالِيكِ.

قَالَ الْمَقْرِيزِيُّ: فَأَمَّا الْجِزْيَةُ فَتُعْرَفُ فِي زَمَنِنَا بِالْجَوَالِي، فَإِنَّهَا تُسْتَخْرَجُ سَلَفًا وَتَعْجِيلًا فِي غُرَّةِ السَّنَةِ، وَكَانَ يَتَحَصَّلُ مِنْهَا مَالٌ كَثِيرٌ فِيمَا مَضَى.

قَالَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ فِي مُتَجَدِّدَاتِ الْحَوَادِثِ: الَّذِي انْعَقَدَ عَلَيْهِ ارْتِفَاعُ الْجَوَالِي لِسَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ مِائَةُ أَلْفٍ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَأَمَّا فِي وَقْتِنَا هَذَا، فَإِنَّ الْجَوَالِيَ قَلَّتْ جِدًّا، لِكَثْرَةِ إِظْهَارِ النَّصَارَى لِلْإِسْلَامِ فِي الْحَوَادِثِ الَّتِي مَرَّتْ بِهِمْ.

وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: تُسَمَّى- أَيْ الْجِزْيَةَ- جَالِيَةً.

ج- مَالُ الْجَمَاجِمِ:

4- الْجَمَاجِمُ جَمْعُ جُمْجُمَةٍ: وَهِيَ عَظْمُ الرَّأْسِ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الدِّمَاغِ، وَرُبَّمَا عُبِّرَ بِهَا عَنِ الْإِنْسَانِ، فَيُقَالُ: خُذْ مِنْ كُلِّ جُمْجُمَةٍ دِرْهَمًا، كَمَا يُقَالُ: خُذْ مِنْ كُلِّ رَأْسٍ دِرْهَمًا.

وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى الْجِزْيَةِ مَالُ الْجَمَاجِمِ؛ لِأَنَّهَا تُفْرَضُ عَلَى الرُّءُوسِ.

قَالَ ابْنُ سَعْدٍ فِي تَرْجَمَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-: «هُوَ أَوَّلُ مَنْ مَسَحَ السَّوَادَ وَأَرْضَ الْجَبَلِ، وَوَضَعَ الْخَرَاجَ عَلَى الْأَرَضِينَ، وَالْجِزْيَةَ عَلَى جَمَاجِمِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيمَا فُتِحَ مِنْ الْبُلْدَانِ.

وَقَالَ الْخُوَارِزْمِيُّ: وَيُسَمَّى- أَيُّ خَرَاجُ الرَّأْسِ- فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ مَالَ الْجَمَاجِمِ، وَهِيَ جَمْعُ جُمْجُمَةٍ، وَهِيَ الرَّأْسُ.

وَجَاءَ فِي خُطَطِ الْمَقْرِيزِيِّ عِنْدَ الْحَدِيثِ عَنْ خَرَاجِ مِصْرَ: » أَوَّلُ مَنْ جَبَى خَرَاجَ مِصْرَ فِي الْإِسْلَامِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ- رضي الله عنه-، فَكَانَتْ جِبَايَتُهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ بِفَرِيضَةِ دِينَارَيْنِ دِينَارَيْنِ مِنْ كُلِّ رَجُلٍ، ثُمَّ جَبَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ...أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ..وَهَذَا الَّذِي جَبَاهُ عَمْرٌو ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ هُوَ مِنَ الْجَمَاجِمِ خَاصَّةً دُونَ الْخَرَاجِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ بِالْجِزْيَةِ:

أ- الْغَنِيمَةُ:

5- الْغَنِيمَةُ: اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ.

وَيَدْخُلُ فِيهَا الْأَمْوَالُ وَالْأَسْرَى مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ إِذَا اسْتُرِقُّوا فَالْغَنِيمَةُ مُبَايِنَةٌ لِلْجِزْيَةِ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَالْغَنِيمَةَ لَا تَكُونُ إِلاَّ فِي الْقِتَالِ.

ب- الْفَيْءُ:

6- الْفَيْءُ: كُلُّ مَا صَارَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ قَبْلِ الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجَفَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ أَوْ رِجْلٍ (مُشَاةٍ) - أَيْ بِغَيْرِ قِتَالٍ- «

وَالْفَيْءُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا انْجَلَوْا عَنْهُ: أَيْ هَرَبُوا عَنْهُ خَوْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ بَذَلُوهُ لِلْكَفِّ عَنْهُمْ.وَالثَّانِي: مَا أُخِذَ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ: كَالْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ الصُّلْحِيِّ وَالْعُشُورِ.فَبَيْنَ الْفَيْءِ وَالْجِزْيَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، فَالْفَيْءُ أَعَمُّ مِنَ الْجِزْيَةِ.

ج- الْخَرَاجُ:

7- الْخَرَاجُ هُوَ مَا يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ غَيْرِ الْعُشْرِيَّةِ مِنْ حُقُوقٍ تُؤَدَّى عَنْهَا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَوَجْهُ الصِّلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِزْيَةِ أَنَّهُمَا يَجِبَانِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَيُصْرَفَانِ فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ.

وَمِنَ الْفُرُوقِ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْجِزْيَةَ تُوضَعُ عَلَى الرُّءُوسِ، أَمَّا الْخَرَاجُ فَيُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ، وَالْجِزْيَةُ تَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ، أَمَّا الْخَرَاجُ فَلَا يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ، وَيَبْقَى مَعَ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ.

د- الْعُشُورُ:

8- الْعُشُورُ فِي الِاصْطِلَاحِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: عُشُورُ الزَّكَاةِ وَهِيَ مَا يُؤْخَذُ فِي زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي بَابِهِ، وَالثَّانِي: مَا يُفْرَضُ عَلَى الْكُفَّارِ فِي أَمْوَالِهِمُ الْمُعَدَّةِ لِلتِّجَارَةِ إِذَا انْتَقَلُوا بِهَا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِكَوْنِ الْمَأْخُوذِ عُشْرًا، أَوْ مُضَافًا إِلَى الْعُشْرِ: كَنِصْفِ الْعُشْرِ.

وَوَجْهُ الصِّلَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجِزْيَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ الْمُسْتَأْمَنِينَ، وَيُصْرَفُ فِي مَصَارِفِ الْفَيْءِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعُشُورِ وَالْجِزْيَةِ أَنَّ الْجِزْيَةَ عَلَى الرُّءُوسِ وَهِيَ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ لَا يَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ الشَّخْصِ، وَال ْعُشْرُ عَلَى الْمَالِ.

تَارِيخُ تَشْرِيعِ الْجِزْيَةِ فِي الْإِسْلَامِ:

9- بَعْدَ أَنْ تَمَّ فَتْحُ مَكَّةَ فِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ الثَّامِنَةِ لِلْهِجْرَةِ، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا وَاسْتَقَرَّتِ الْجَزِيرَةُ الْعَرَبِيَّةُ عَلَى دِينِ اللَّهِ تَعَالَى أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَسُولَهُ الْكَرِيمَ بِمُجَاهَدَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} وَلِهَذَا جَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِقِتَالِ الرُّومِ وَدَعَا الْمُسْلِمِينَ إِلَى ذَلِكَ، وَنَدَبَ الْأَعْرَابَ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ إِلَى قِتَالِهِمْ، فَأَوْعَبُوا مَعَهُ وَاجْتَمَعَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ نَحْوُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَتَخَلَّفَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ.وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِمَنْ مَعَهُ يُرِيدُ الشَّامَ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ، فَبَلَغَ تَبُوكَ وَنَزَلَ بِهَا، وَأَقَامَ فِيهَا نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا، يُبَايِعُ الْقَبَائِلَ الْعَرَبِيَّةَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيَعْقِدُ الْمُعَاهَدَاتِ مَعَ الْقَبَائِلِ الْأُخْرَى عَلَى الْجِزْيَةِ إِلَى أَنْ تَمَّ خُضُوعُ تِلْكَ الْمِنْطَقَةِ لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ.قَالَ الطَّبَرِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ آيَةِ الْجِزْيَةِ: » نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي أَمْرِهِ بِحَرْبِ الرُّومِ، فَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ نُزُولِهَا غَزْوَةَ تَبُوكَ «.ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ.

بِهَذِهِ الْآيَةِ تَمَّ تَشْرِيعُ الْجِزْيَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَقْتِ تَشْرِيعِهَا تَبَعًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْآيَةِ.

فَذَهَبَ ابْنُ الْقَيِّمِ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْكُفَّارِ إِلاَّ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ سُورَةِ بَرَاءَةٍ فِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ.

وَذَهَبَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ إِلَى أَنَّ آيَةَ الْجِزْيَةِ نَزَلَتْ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ، حَيْثُ قَالَ عِنْدَ تَفْسِيرِهِ لِلْآيَةِ: هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَوَّلُ الْأَمْرِ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ بَعْدَمَا تَمَهَّدَتْ أُمُورُ الْمُشْرِكِينَ وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا وَاسْتَقَامَتْ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ، أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ.

هَذَا وَلَمْ يَأْخُذْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- جِزْيَةً مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْكُفَّارِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْجِزْيَةِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ أَخَذَهَا مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ، وَمَجُوسِ هَجَرَ، ثُمَّ أَخَذَهَا مِنْ أَهْلِ أَيْلَةَ، وَأَذْرُحَ، وَأَهْلِ أَذْرِعَاتٍ وَغَيْرِهَا مِنَ الْقَبَائِلِ النَّصْرَانِيَّةِ الَّتِي تَعِيشُ فِي أَطْرَافِ الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ.

رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ- بِسَنَدِهِ- إِلَى ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: «أَوَّلُ مَنْ أَعْطَى الْجِزْيَةَ أَهْلُ نَجْرَانَ وَكَانُوا نَصَارَى».

وَذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي زَادِ الْمَعَادِ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْجِزْيَةِ أَخَذَهَا- أَيْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْمَجُوسِ وَأَخَذَهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَخَذَهَا مِنَ النَّصَارَى.وَيَقْصِدُ مَجُوسَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ مَجُوسَ هَجَرَ.

رَوَى الْبُخَارِيُّ- بِسَنَدِهِ- إِلَى الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ الْأَنْصَارِيَّ وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا أَخْبَرَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَة إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ».

وَبَعْدَ أَنْ أَخَذَهَا- صلى الله عليه وسلم- مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ وَمَجُوسِ هَجَرَ أَخَذَهَا مِنْ بَعْضِ الْقَبَائِلِ الْيَهُودِيَّةِ، وَالنَّصْرَانِيَّة فِي تَبُوكَ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ لِلْهِجْرَةِ فَأَخَذَهَا مِنْ أَهْلِ أَيْلَةَ حَيْثُ «قَدِمَ يُوحَنَّا بْنُ رُؤْبَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي تَبُوكَ، وَصَالَحَهُ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ بَالِغٍ بِأَرْضِهِ فِي السَّنَةِ دِينَارٌ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ قِرَى مَنْ مَرَّ بِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا بِأَنْ يُحْفَظُوا وَيُمْنَعُوا.وَأَخَذَهَا مِنْ أَهْلِ أَذْرُحَ وَأَهْلِ الْجَرْبَاءِ وَأَهْلِ تَبَالَةَ وَجَرَشَ، وَأَهْلِ أَذْرِعَاتٍ وَأَهْلِ مَقْنَا وَكَانَ أَهْلُهَا يَهُودًا، فَصَالَحَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى رُبُعِ غُزُولِهِمْ وَثِمَارِهِمْ وَمَا يَصْطَادُونَ عَلَى الْعَرُوكِ».

وَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، حَيْثُ أَرْسَلَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَيْهِمْ.فَقَالَ مُعَاذٌ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْيَمَنِ وَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا».

وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ «كِتَابَ الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ حَيْثُ جَاءَ فِيهِ: مِنْ مُحَمَّدٍ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ..وَأَنَّهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ فَإِنَّهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، لَهُ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ، وَمَنْ كَانَ عَلَى يَهُودِيَّتِهِ أَوْ نَصْرَانِيَّتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُفْتَنُ عَنْهَا وَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ».

الْأَدِلَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْجِزْيَةِ:

10- ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الْجِزْيَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.

أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.

فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا.وَلِهَذَا شَرَعَ اللَّهُ مُجَاهَدَةَ الْكَافِرِينَ، وَمُقَاتَلَتَهُمْ حَتَّى يَرْجِعُوا عَنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ، وَيَدْخُلُوا الدِّينَ الْحَقَّ، أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ سَبَقَ بَعْضُهَا.

وَمِنْهَا مَا رَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ بُرَيْدَةَ.«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا.ثُمَّ قَالَ: اغْزُوَا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ.اغْزُوَا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا.وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ.فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ.فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ عَنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ.وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ، إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ».

فَقَوْلُهُ: «فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ» يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْجِزْيَةِ وَإِقْرَارِهَا.

11- أَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ أَحَادِيثَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنَ الْكُفَّارِ إِلاَّ الْإِسْلَامُ أَوِ السَّيْفُ: كَحَدِيثِ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي نَفْسَهُ وَمَالَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ».

فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا كَانَتْ فِي بِدَايَةِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ بَرَاءَةٍ، وَسُورَةُ بَرَاءَةٍ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: » وَإِنَّمَا تُوَجَّهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ، وَقَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ سُورَةُ بَرَاءَةٍ، وَيُؤْمَرَ فِيهَا بِقَبُولِ الْجِزْيَةِ فِي قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} وَإِنَّمَا نَزَلَ هَذَا فِي آخِرِ الْإِسْلَامِ، وَفِيهِ أَحَادِيثُ، مِنْهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُثْمَانَ- رضي الله عنهما- قَالَ: «كَانَتْ بَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي آيَةِ الْجِزْيَةِ: نَزَلَتْ حِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَصْحَابَهُ بِغَزْوَةِ تَبُوكَ وَقَالَ: سَمِعْتُ هُشَيْمًا يَقُولُ: كَانَتْ تَبُوكُ آخِرَ غَزَاةٍ غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.

وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ أَخْذِهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ أَخَذَهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ- رضي الله عنهما- وَسَائِرُ الْخُلَفَاءِ دُونَ إِنْكَارٍ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ إِجْمَاعًا.

الْحِكْمَةُ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الْجِزْيَةِ:

1- الْجِزْيَةُ عَلَامَةُ خُضُوعٍ وَانْقِيَادٍ لِحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ:

12- قَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ}

قِيلَ: مَعْنَاهُ عَنْ ذُلٍّ وَعَنِ اعْتِرَافٍ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ أَيْدِيَهُمْ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، وَقِيلَ عَنْ يَدٍ: أَيْ عَنْ إِنْعَامٍ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْجِزْيَةِ وَتَرْكَ أَنْفُسِهِمْ عَلَيْهِمْ نِعْمَةٌ عَلَيْهِمْ وَيَدٌ مِنَ الْمَعْرُوفِ جَزِيلَةٌ.وَقِيلَ: عَنْ يَدٍ أَيْ عَنْ قَهْرٍ وَذُلٍّ وَاسْتِسْلَامٍ كَمَا تَقُولُ: الْيَدُ فِي هَذَا لِفُلَانٍ أَيِ الْأَمْرُ النَّافِذُ لِفُلَانٍ.وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ الْبَزِّيِّ: عَنْ يَدٍ قَالَ: نَقْدًا عَنْ ظَهْرِ يَدٍ لَيْسَ بِنَسِيئَةٍ

وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ مَنْ أَطَاعَ لِمَنْ قَهَرَهُ فَأَعْطَاهُ عَنْ غَيْرِ طِيبَةِ نَفْسِهِ، فَقَدْ أَعْطَاهَا عَنْ يَدٍ».

وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ عِنْدَ تَفْسِيرِ قوله تعالى: {عَنْ يَدٍ}، فَقَالَ النَّيْسَابُورِيُّ:

{عَنْ يَدٍ} إِنْ أُرِيدَ بِهَا يَدُ الْمُعْطِي فَالْمُرَادُ: عَنْ يَدٍ مُؤَاتِيَةٍ غَيْرِ مُمْتَنِعَةٍ، يُقَالُ أَعْطَى بِيَدِهِ إِذَا انْقَادَ وَأَصْحَبَ، أَوِ الْمُرَادُ حَتَّى يُعْطُوهَا عَنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ نَقْدًا غَيْرَ نَسِيئَةٍ وَلَا مَبْعُوثًا عَلَى يَدِ أَحَدٍ.وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا يَدُ الْآخِذِ فَمَعْنَاهُ حَتَّى يُعْطُوهَا عَنْ يَدٍ قَاهِرَةٍ مُسْتَوْلِيَةٍ أَيْ بِسَبَبِهَا، أَوِ الْمُرَادُ عَنْ إِنْعَامٍ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ قَبُولَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ بَدَلًا عَنْ أَرْوَاحِهِمْ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَيْهِمْ.

وَفَسَّرَ الشَّافِعِيُّ الصَّغَارَ بِإِجْرَاءِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ حَيْثُ قَالَ: سَمِعْتُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: الصَّغَارُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْإِسْلَامِ وَمَا أَشْبَهَ مَا قَالُوا بِمَا قَالُوا، لِامْتِنَاعِهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ.فَإِذَا جَرَى عَلَيْهِمْ حُكْمُهُ فَقَدْ أَصَغَرُوا بِمَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنْهُ، فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ دَفْعُ الْجِزْيَةِ مِنَ الْكَافِرِينَ وَالْخُضُوعُ لِسُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ مُوجِبًا لِلصَّغَارِ.

2- الْجِزْيَةُ وَسِيلَةٌ لِهِدَايَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ:

13- قَالَ الْقَرَافِيُّ: «إِنَّ قَاعِدَةَ الْجِزْيَةِ مِنْ بَابِ الْتِزَامِ الْمَفْسَدَةِ الدُّنْيَا لِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الْعُلْيَا وَتَوَقُّعِ الْمَصْلَحَةِ، وَذَلِكَ هُوَ شَأْنُ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ، بَيَانُهُ: أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا قُتِلَ انْسَدَّ عَلَيْهِ بَابُ الْإِيمَانِ، وَبَابُ مَقَامِ سَعَادَةِ الْإِيمَانِ، وَتَحَتَّمَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ وَالْخُلُودُ فِي النَّارِ، وَغَضَبُ الدَّيَّانِ، فَشَرَعَ اللَّهُ الْجِزْيَةَ رَجَاءَ أَنْ يُسْلِمَ فِي مُسْتَقْبَلِ الْأَزْمَانِ، لَا سِيَّمَا بِاطِّلَاعِهِ عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ».

وَتَظْهَرُ هَذِهِ الْحِكْمَةُ فِي تَشْرِيعِ الْجِزْيَةِ مِنْ جَانِبَيْنِ:

الْأَوَّلُ: الصَّغَارُ الَّذِي يَلْحَقُ أَهْلَ الذِّمَّةِ عِنْدَ دَفْعِ الْجِزْيَةِ.

وَقَالَ إِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: فَكَمَا يَقْتَرِنُ بِالزَّكَاةِ الْمَدْحُ وَالْإِعْظَامُ وَالدُّعَاءُ لَهُ، فَيَقْتَرِنُ بِالْجِزْيَةِ الذُّلُّ وَالذَّمُّ، وَمَتَى أُخِذَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى أَنْ لَا يَثْبُتُوا عَلَى الْكُفْرِ لِمَا يَتَدَاخَلُهُمْ مِنَ الْأَنَفَةِ وَالْعَارِ، وَمَا كَانَ أَقْرَب إِلَى الْإِقْلَاعِ عَنِ الْكُفْرِ فَهُوَ أَصْلَحُ فِي الْحِكْمَةِ وَأَوْلَى بِوَضْعِ الشَّرْعِ.

وَالثَّانِي: مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى دَفْعِ الْجِزْيَةِ مِنْ إِقَامَةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَاطِّلَاعٍ عَلَى مَحَاسِنِهِ.

وَقَالَ الْحَطَّابُ- فِي بَيَانِ الْحِكْمَةِ-: الْحِكْمَةُ فِي وَضْعِ الْجِزْيَةِ أَنَّ الذُّلَّ الَّذِي يَلْحَقُهُمْ يَحْمِلُهُمْ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ مَعَ مَا فِي مُخَالَطَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ.

3- الْجِزْيَةُ وَسِيلَةٌ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ الِاسْتِئْصَالِ وَالِاضْطِهَادِ:

14- الْجِزْيَةُ نِعْمَةٌ عُظْمَى تُسْدَى لِأَهْلِ الذِّمَّةِ، فَهِيَ تَعْصِمُ أَرْوَاحَهُمْ وَتَمْنَعُ عَنْهُمْ الِاضْطِهَادَ، وَقَدْ أَدْرَكَ هَذِهِ النِّعْمَةَ أَهْلُ الذِّمَّةِ الْأَوَائِلُ، فَلَمَّا رَدَّ أَبُو عُبَيْدَةَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ حِمْصَ لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ تَوْفِيرَ الْحِمَايَةِ لَهُمْ قَالُوا لِوُلَاتِهِ: وَاللَّهِ لَوِلَايَتُكُمْ وَعَدْلُكُمْ، أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْغَشْمِ فَقَدْ أَقَرَّ أَهْلُ حِمْصَ بِأَنَّ حُكْمَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ خِلَافِهِمْ لَهُمْ فِي الدِّينِ، أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ حُكْمِ أَبْنَاءِ دِينِهِمْ، وَذَلِكَ لِمَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ ذَلِكَ الْحُكْمُ مِنْ ظُلْمٍ وَجَوْرٍ وَاضْطِهَادٍ وَعَدَمِ احْتِرَامٍ لِلنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ.

فَإِذَا قَارَنَّا بَيْنَ الْجِزْيَةِ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ صَغَارٍ، وَبَيْنَ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الْوَحْشِيَّةِ الَّتِي يُمَارِسُهَا أَهْلُ الْعَقَائِدِ مَعَ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي الْمُعْتَقَدِ، تَكُونُ الْجِزْيَةُ نِعْمَةً مُسْدَاةً إِلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَرَحْمَةً مُهْدَاةً إِلَيْهِمْ، وَهِيَ تَسْتَلْزِمُ شُكْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالِاعْتِرَافَ بِالْجَمِيلِ لِلْمُسْلِمِينَ.

4- الْجِزْيَةُ مَوْرِدٌ مَالِيٌّ تَسْتَعِينُ بِهِ الدَّوْلَةُ

الْإِسْلَامِيَّةُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ

وَالْحَاجَاتِ الْأَسَاسِيَّةِ لِلْمُجْتَمَعِ.

15- تُعْتَبَرُ الْجِزْيَةُ مَوْرِدًا مَالِيًّا مِنْ مَوَارِدِ الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، تُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَالْحَاجَاتِ الْأَسَاسِيَّةِ لِلْمُجْتَمَعِ: كَالدِّفَاعِ عَنِ الْبِلَادِ، وَتَوْفِيرِ الْأَمْنِ فِي الْمُجْتَمَعِ، وَتَحْقِيقِ التَّكَافُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ، وَالْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ: كَبِنَاءِ الْمَدَارِسِ وَالْمَسَاجِدِ وَالْجُسُورِ وَالطُّرُقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي بَيَانِ الْحِكْمَةِ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الْجِزْيَةِ: «فِي أَخْذِهَا مَعُونَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَرِزْقٌ حَلَالٌ سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ».

وَجَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: «بَلْ هِيَ نَوْعُ إِذْلَالٍ لَهُمْ وَمَعُونَةٌ لَنَا».

وَجِبَايَةُ الْمَالِ لَيْسَتْ هِيَ الْهَدَفُ الْأَسَاسِيُّ مِنْ تَشْرِيعِ الْجِزْيَةِ، وَإِنَّمَا الْهَدَفُ الْأَسَاسِيُّ هُوَ تَحْقِيقُ خُضُوعِ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِلَى حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعَيْشُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ لِيَطَّلِعُوا عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَعَدْلِ الْمُسْلِمِينَ، فَتَكُونَ هَذِهِ الْمَحَاسِنُ بِمَثَابَةِ الْأَدِلَّةِ الْمُقْنِعَةِ لَهُمْ عَلَى الْإِقْلَاعِ عَنِ الْكُفْرِ وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَالَّذِي يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الْجِزْيَةَ تَسْقُطُ عَمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ دُخُولِهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ الْحُكُومَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ لَا تُقْدِمُ عَلَى فَرْضِ الْجِزْيَةِ عَلَى الْأَفْرَادِ إِلاَّ بَعْدَ تَخْيِيرِهِمْ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْجِزْيَةِ، وَهِيَ تُفَضِّلُ دُخُولَ أَهْلِ الْبِلَادِ الْمَفْتُوحَةِ فِي الْإِسْلَامِ وَإِعْفَاءَهُمْ مِنَ الْجِزْيَةِ عَلَى الْبَقَاءِ فِي الْكُفْرِ وَدَفْعِ الْجِزْيَةِ؛ لِأَنَّهَا دَوْلَةُ هِدَايَةٍ لَا جِبَايَةٍ.

جَاءَ فِي تَارِيخِ الطَّبَرِيِّ عَنْ زِيَادِ بْنِ جُزْءٍ الزُّبَيْدِيِّ قَالَ: «كَتَبَ عُمَرُ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ..فَاعْرِضْ عَلَى صَاحِبِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ أَنْ يُعْطِيَكَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَنْ تُخَيِّرُوا مَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ سَبْيِهِمْ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ دِينِ قَوْمِهِ، فَمَنِ اخْتَارَ مِنْهُمُ الْإِسْلَامَ فَهُوَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَهُ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ، وَمَنِ اخْتَارَ دِينَ قَوْمِهِ وُضِعَ عَلَيْهِ مِنَ الْجِزْيَةِ مَا يُوضَعُ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ» ثُمَّ قَالَ: «فَجَمَعْنَا مَا فِي أَيْدِينَا مِنَ السَّبَايَا وَاجْتَمَعَتِ النَّصَارَى، فَجَعَلْنَا نَأْتِي بِالرَّجُلِ مِمَّنْ فِي أَيْدِينَا، ثُمَّ نُخَيِّرُهُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ النَّصْرَانِيَّةِ، فَإِذَا اخْتَارَ الْإِسْلَامَ كَبَّرْنَا تَكْبِيرَةً هِيَ أَشَدُّ مِنْ تَكْبِيرِنَا حِينَ نَفْتَحُ الْقَرْيَةَ، ثُمَّ نَحُوزُهُ إِلَيْنَا.وَإِذَا اخْتَارَ النَّصْرَانِيَّةَ نَخَرَتِ النَّصَارَى- أَيْ أَخْرَجُوا أَصْوَاتًا مِنْ أُنُوفِهِمْ- ثُمَّ حَازُوهُ إِلَيْهِمْ وَوَضَعْنَا عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ، وَجَزِعْنَا مِنْ ذَلِكَ جَزَعًا شَدِيدًا حَتَّى كَأَنَّهُ رَجُلٌ خَرَجَ مِنَّا إِلَيْهِمْ..فَكَانَ ذَلِكَ الدَّأْبُ حَتَّى فَرَغْنَا مِنْهُمْ».

أَنْوَاعُ الْجِزْيَةِ:

قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْجِزْيَةَ- بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ- إِلَى أَقْسَامٍ، فَقَسَّمُوهَا- بِاعْتِبَارِ رِضَا الْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَعَدَمِ رِضَاهُ- إِلَى صُلْحِيَّةٍ وَعَنْوِيَّةٍ.

وَقَسَّمُوهَا- بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهَا: هَلْ تَكُونُ عَلَى الرُّءُوسِ أَوْ عَلَى الْأَمْوَالِ الَّتِي يَكْتَسِبُهَا الذِّمِّيُّ؟ إِلَى جِزْيَةِ رُءُوسٍ وَجِزْيَةٍ عُشْرِيَّةٍ.

وَقَسَّمُوهَا- بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ إِلَى طَبَقَاتِ النَّاسِ وَأَوْصَافِهِمْ وَعَدَمِ النَّظَرِ إِلَيْهَا- إِلَى جِزْيَةِ أَشْخَاصٍ، وَجِزْيَةِ طَبَقَاتٍ أَوْ أَوْصَافٍ.

أَوَّلًا- الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ وَالْعَنْوِيَّةُ:

16- صَرَّحَ بِهَذَا التَّقْسِيمِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَلَا يَرِدُ هَذَا التَّقْسِيمُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ عَدَمَ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ عَلَى الْمَغْلُوبِينَ بِدُونِ رِضَاهُمْ.

فَالْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ: هِيَ الَّتِي تُوضَعُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالتَّرَاضِي وَالصُّلْحِ.

وَعَرَّفَهَا الْعَدَوِيُّ بِأَنَّهَا: مَا الْتَزَمَ كَافِرٌ قَبْلَ الِاسْتِعْلَاءِ عَلَيْهِ أَدَاءَهُ مُقَابِلَ إِبْقَائِهِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَيُمَثَّلُ لِهَذَا النَّوْعِ بِمَا وَقَعَ مِنْ صُلْحِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِأَهْلِ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ وَكَذَا مَا وَقَعَ مِنْ صُلْحِ عُمَرَ- رضي الله عنه- لِأَهْلِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.

وَأَمَّا الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ: فَهِيَ الَّتِي تُوضَعُ عَلَى أَهْلِ الْبِلَادِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً بِدُونِ رِضَاهُمْ، فَيَضَعُهَا الْإِمَامُ عَلَى الْمَغْلُوبِينَ الَّذِينَ أَقَرَّهُمْ عَلَى أَرْضِهِمْ.وَقَدْ عَرَّفَهَا ابْنُ عَرَفَةَ بِأَنَّهَا: «مَا لَزِمَ الْكَافِرَ مِنْ مَالٍ لِأَمْنِهِ بِاسْتِقْرَارِهِ تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ وَصَوْنِهِ، وَيُمَثَّلُ لِهَذَا النَّوْعِ بِمَا فَرَضَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي سَوَادِ الْعِرَاقِ.

الْفَرْقُ بَيْنَ الْجِزْيَةِ الصُّلْحِيَّةِ وَالْجِزْيَةِ الْعَنْوِيَّةِ:

17- تَفْتَرِقُ الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ عَنِ الْجِزْيَةِ الْعَنْوِيَّةِ مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ وَهِيَ:

1- الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ تُوضَعُ عَلَى أَهْلِ الصُّلْحِ مِنَ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ طَلَبُوا بِاخْتِيَارِهِمْ وَرِضَاهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُصَالَحَةَ عَلَى الْجِزْيَةِ.

أَمَّا الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ فَهِيَ الَّتِي تُفْرَضُ عَلَى الْمَغْلُوبِينَ بِدُونِ رِضَاهُمْ.

2- الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ مُحَدَّدَةُ الْمِقْدَارِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ كَمَا سَنُبَيِّنُ فِي مِقْدَارِ الْجِزْيَةِ.أَمَّا الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ فَلَيْسَ لَهَا حَدٌّ مُعَيَّنٌ وَإِنَّمَا تَكُونُ بِحَسَبِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ.

3- الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ يُشْتَرَطُ لَهَا شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ كَالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَالذُّكُورَةِ أَمَّا الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا هَذِهِ الشُّرُوطُ، فَإِذَا صَالَحَ الْإِمَامُ أَهْلَ بَلَدٍ عَلَى أَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ أَوْلَادِهِمُ الصِّغَارِ، وَعَنِ النِّسَاءِ جَازَ لِلْإِمَامِ أَخْذُهَا مِنْهُمْ.

4- الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ تُضْرَبُ عَلَى الْأَشْخَاصِ وَلَا تُضْرَبُ عَلَى الْأَمْوَالِ، أَمَّا الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ فَيَجُوزُ أَنْ تُضْرَبَ عَلَى الْأَمْوَالِ كَمَا تُضْرَبُ عَلَى الْأَشْخَاصِ، فَيَجُوزُ ضَرْبُهَا عَلَى الْمَاشِيَةِ وَأَرْبَاحِ الْمِهَنِ الْحُرَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

5- الْجِزْيَةُ الْعَنْوِيَّةُ تُضْرَبُ عَلَى الْأَشْخَاصِ تَفْصِيلًا وَلَا تُضْرَبُ عَلَيْهِمْ إِجْمَالًا، أَمَّا الْجِزْيَةُ الصُّلْحِيَّةُ فَيَجُوزُ ضَرْبُهَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا، فَيَجُوزُ ضَرْبُهَا عَلَى أَهْلِ بَلَدٍ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ يَدْفَعُونَهُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ كُلَّ سَنَةٍ، كَالصُّلْحِ الَّذِي وَقَعَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَهْلِ نَجْرَانَ، فَقَدْ صَالَحَهُمْ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ فِي السَّنَةِ.

ثَانِيًا- جِزْيَةُ الرُّءُوسِ، وَالْجِزْيَةُ عَلَى الْأَمْوَالِ:

قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْجِزْيَةَ- بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ- إِلَى جِزْيَةِ رُءُوسٍ وَجِزْيَةٍ عَلَى الْأَمْوَالِ.

18- فَجِزْيَةُ الرُّءُوسِ تُوضَعُ عَلَى الْأَشْخَاصِ: كَدِينَارٍ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ، وَمِنْ ذَلِكَ جِزْيَةُ أَهْلِ الْيَمَنِ، حَيْثُ وَضَعَ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا.

وَالْجِزْيَةُ الْعُشْرِيَّةُ: مَا يُفْرَضُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي أَمْوَالِهِمْ: كَالْعُشْرِ أَوْ نِصْفِ الْعُشْرِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ مِنْ صُلْحِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِأَهْلِ» مَقْنَا «عَلَى رُبُعِ عَرُوكِهِمْ وَغُزُولِهِمْ وَرُبُعِ ثِمَارِهِمْ.

وَكَذَا مَا وَقَعَ مِنْ صُلْحِ عُمَرَ- رضي الله عنه- لِنَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ عَلَى نِصْفِ عُشْرِ أَمْوَالِهِمْ، أَوْ ضِعْفِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ مِنَ الزَّكَاةِ.

فَالْجِزْيَةُ الْعُشْرِيَّةُ- بِهَذَا الْوَصْفِ- تَدْخُلُ تَحْتَ الْجِزْيَةِ الصُّلْحِيَّةِ الَّتِي تَتِمُّ بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ وَبَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَيَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ كَمَا يَجُوزُ عَلَى أَشْخَاصِهِمْ.وَيُرْجَعُ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهَا إِلَى مُصْطَلَحِ: (عُشْرٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


246-موسوعة الفقه الكويتية (جزية 2)

جِزْيَةٌ -2

طَبِيعَةُ الْجِزْيَةِ:

19- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِيقَةِ الْجِزْيَةِ، هَلْ هِيَ عُقُوبَةٌ عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ، أَمْ أَنَّهَا عِوَضٌ عَنْ مُعَوَّضٍ، أَمْ أَنَّهَا صِلَةٌ مَالِيَّةٌ وَلَيْسَتْ عِوَضًا عَنْ شَيْءٍ؟

فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا وَجَبَتْ عُقُوبَةً عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ، وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ مِنَ الذِّمِّيِّ إِذَا بَعَثَ بِهَا مَعَ شَخْصٍ آخَرَ، بَلْ يُكَلَّفُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا بِنَفْسِهِ، فَيُعْطِي قَائِمًا وَالْقَابِضُ مِنْهُ قَاعِدٌ.

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {عَنْ يَدٍ} - يَدْفَعُهَا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُسْتَنِيبٍ فِيهَا أَحَدًا.فَلَا بُدَّ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ وَهُوَ بِحَالَةِ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ.

وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الثَّوَابِ بِسَبَبِ الطَّاعَةِ، وَإِمَّا أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الْعُقُوبَةِ بِسَبَبِ الْمَعْصِيَةِ.وَلَا شَكَّ فِي انْتِفَاءِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْكُفْرَ مَعْصِيَةٌ وَشَرٌّ، وَلَيْسَ طَاعَةً فَيَتَعَيَّنُ الثَّانِي لِلْجَزَاءِ: وَهُوَ الْعُقُوبَةُ بِسَبَبِ الْكُفْرِ.قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَاسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّهَا عُقُوبَةٌ بِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِسَبَبِ الْكُفْرِ وَهُوَ جِنَايَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُسَبِّبُهَا عُقُوبَةً، وَلِذَلِكَ وَجَبَتْ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ وَهُمُ الْبَالِغُونَ الْعُقَلَاءُ الْمُقَاتِلُونَ.

وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ ابْتِدَاءً هُوَ الْقَتْلُ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ، فَلَمَّا دُفِعَ عَنْهُمُ الْقَتْلُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ الْجِزْيَةَ، صَارَتِ الْجِزْيَةُ عُقُوبَةً بَدَلَ عُقُوبَةِ الْقَتْلِ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ عِوَضًا عَنْ مُعَوَّضٍ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمُعَوَّضِ الَّذِي تَجِبُ الْجِزْيَةُ بَدَلًا عَنْهُ.

فَقَالَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: الْجِزْيَةُ تَجِبُ عِوَضًا عَنِ النُّصْرَةِ: وَيَقْصِدُونَ بِذَلِكَ نُصْرَةَ الْمُقَاتِلَةِ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِحِمَايَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَالدِّفَاعِ عَنْهَا.

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ النُّصْرَةَ تَجِبُ عَلَى جَمِيعِ رَعَايَا الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَمِنْهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ.

فَالْمُسْلِمُونَ يَقُومُونَ بِنُصْرَةِ الْمُقَاتِلَةِ: إِمَّا بِأَنْفُسِهِمْ، وَإِمَّا بِأَمْوَالِهِمْ، فَيَخْرُجُونَ مَعَهُمْ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَيُنْفِقُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.

وَلَمَّا فَاتَتِ النُّصْرَةُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِأَنْفُسِهِمْ بِسَبَبِ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِمُ النُّصْرَةُ بِالْمَالِ: وَهِيَ الْجِزْيَةُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: الْجِزْيَةُ تَجِبُ بَدَلًا عَنِ الْعِصْمَةِ أَوْ حَقْنِ الدَّمِ، كَمَا تَجِبُ عِوَضًا عَنْ سُكْنَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْإِقَامَةِ فِيهَا.

فَإِذَا كَانَتْ عِوَضًا عَنِ الْعِصْمَةِ وَحَقْنِ الدَّمِ تَكُونُ فِي مَعْنَى بَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ.

وَإِذَا كَانَتْ عِوَضًا عَنِ السُّكْنَى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَالْإِقَامَةِ فِيهَا، تَكُونُ فِي مَعْنَى بَدَلِ الْإِجَارَةِ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى كَوْنِهَا بَدَلًا عَنِ الْعِصْمَةِ أَوْ حَقْنِ الدَّمِ بِآيَةِ الْجِزْيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى دِمَاءَ الْكُفَّارِ ثُمَّ حَقَنَهَا بِالْجِزْيَةِ، فَكَانَتِ الْجِزْيَةُ عِوَضًا عَنْ حَقْنِ الدَّمِ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى كَوْنِهَا عِوَضًا عَنْ سُكْنَى الدَّارِ بِأَنَّ الْكُفَّارَ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ وَعَدَمِ الْخُضُوعِ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ لَا يُقَرُّونَ فِي دَارِنَا، وَلَا يَصِيرُونَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الدَّارِ إِلاَّ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ وَأَدَاءِ الْجِزْيَةِ.فَتَكُونُ الْجِزْيَةُ بِذَلِكَ بَدَلًا عَنْ سُكْنَى دَارِ الْإِسْلَامِ.

وَقَدْ رَدَّ ابْنُ الْقَيِّمِ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ.وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ صِلَةٌ مَالِيَّةٌ تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَلَيْسَتْ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ، فَهِيَ لَيْسَتْ بَدَلًا عَنْ حَقْنِ الدَّمِ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْكَافِرِ جَزَاءٌ مُسْتَحَقٌّ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَجُوزُ إِسْقَاطُهُ بِعِوَضٍ مَالِيٍّ أَصْلًا كَالْحُدُودِ، وَلِذَا لَا تَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ الْعَاجِزِ وَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْأَدَاءِ.وَهِيَ لَيْسَتْ بَدَلًا عَنْ سُكْنَى الدَّارِ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ يَسْكُنُ مِلْكَ نَفْسِهِ.

عَقْدُ الذِّمَّةِ:

20- يَتَرَتَّبُ عَلَى عَقْدِ الذِّمَّةِ لُزُومُ الْجِزْيَةِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ.

فَعَقْدُ الذِّمَّةِ هُوَ: الْتِزَامُ تَقْرِيرِ الْكُفَّارِ فِي دَارِنَا وَحِمَايَتِنَا لَهُمْ، وَالذَّبِّ عَنْهُمْ بِشَرْطِ بَذْلِ الْجِزْيَةِ.

إِجَابَةُ الْكَافِرِ إِلَى عَقْدِ الذِّمَّةِ بِالْجِزْيَةِ:

21- قَالَ النَّوَوِيُّ: إِذَا طَلَبَتْ طَائِفَةٌ عَقْدَ الذِّمَّةِ وَكَانَتْ مِمَّنْ يَجُوزُ إِقْرَارُهُمْ بِدَارِ الْإِسْلَامِ بِالْجِزْيَةِ وَجَبَتْ إِجَابَتُهُمْ مَا لَمْ تُخَفْ غَائِلَتُهُمْ، أَيْ غَدْرُهُمْ بِتَمْكِينِهِمْ مِنَ الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَا يَجُوزُ عَقْدُهَا لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ عَلَيْنَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}. {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} فَجَعَلَ إِعْطَاءَ الْجِزْيَةِ غَايَةً لِقِتَالِهِمْ فَمَتَى بَذَلُوهَا لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُمْ.وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «فَادْعُهُمْ إِلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ».

وَفِي كِتَابِ (الْبَيَانِ) وَغَيْرِهِ لِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهٌ أَنَّهَا لَا تَجِبُ إِلاَّ إِذَا رَأَى الْإِمَامُ فِيهَا مَصْلَحَةً كَمَا فِي الْهُدْنَةِ.

رُكْنَا عَقْدِ الذِّمَّةِ:

22- وَرُكْنَا عَقْدِ الذِّمَّةِ: إِيجَابٌ وَقَبُولٌ: إِيجَابٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَصِيغَتُهُ إِمَّا لَفْظٌ صَرِيحٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مِثْلُ لَفْظِ الْعَهْدِ وَالْعَقْدِ عَلَى أُسُسٍ مُعَيَّنَةٍ، وَإِمَّا فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ الْجِزْيَةِ، كَأَنْ يَدْخُلَ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ وَيَمْكُثَ فِيهَا سَنَةً، فَيُطْلَبُ مِنْهُ إِمَّا أَنْ يَخْرُجَ أَوْ يُصْبِحَ ذِمِّيًّا.

وَأَمَّا الْقَبُولُ فَيَكُونُ مِنْ إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ، وَلِذَا لَوْ قَبِلَ عَقْدَ الذِّمَّةِ مُسْلِمٌ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ عَقْدِ الْأَمَانِ لَا عَقْدِ الذِّمَّةِ، فَيُمْنَعُ ذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ.

23- وَيُشْتَرَطُ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ التَّأْبِيدُ: فَإِنْ وُقِّتَ الصُّلْحُ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِعِصْمَةِ الْإِنْسَانِ فِي مَالِهِ وَنَفْسِهِ بَدِيلٌ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَالْإِسْلَامُ مُؤَبَّدٌ، فَكَذَا بَدِيلُهُ، وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ.وَهَذَا شَرْطٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَقْدُ الذِّمَّةِ عَقْدٌ مُؤَبَّدٌ لَا يَمْلِكُ الْمُسْلِمُونَ نَقْضَهُ مَا دَامَ الطَّرَفُ الْآخَرُ مُلْتَزِمًا بِهِ، وَيَنْتَقِضُ مِنْ قِبَلِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِأُمُورٍ اخْتُلِفَ فِيهَا، وَلَا يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ بِغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْجِزْيَةِ بَاقٍ، وَيَسْتَطِيعُ الْحَاكِمُ أَنْ يَجْبُرَهُ عَلَى أَدَائِهَا، وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْمُخَالَفَاتِ فَهِيَ مَعَاصٍ ارْتَكَبُوهَا، وَهِيَ دُونَ الْكُفْرِ، وَقَدْ أَقْرَرْنَاهُمْ عَلَيْهِ، فَمَا دُونَهُ أَوْلَى.

فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْعَقْدَ يَنْتَقِضُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، أَوْ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ جَرَيَانِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ، أَوْ سَبِّ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَوْ قَتْلِ مُسْلِمٍ أَوِ الزِّنَا بِمُسْلِمَةٍ، أَوْ بِإِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَإِطْلَاعِ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ارْتِكَابَ هَذِهِ الْأُمُورِ يُخَالِفُ مُقْتَضَى عَقْدِ الذِّمَّةِ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْعَقْدَ يَنْتَقِضُ بِقِتَالِهِمْ لَنَا أَوِ امْتِنَاعِهِمْ مِنْ إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، أَوْ مِنْ جَرَيَانِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ.

أَمَّا لَوْ زَنَى الذِّمِّيُّ بِمُسْلِمَةٍ أَوْ دَلَّ أَهْلَ الْحَرْبِ عَلَى عَوْرَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ فَتَنَ مُسْلِمًا عَنْ دِينِهِ، أَوْ طَعَنَ فِي الْإِسْلَامِ أَوِ الْقُرْآنِ، أَوْ ذَكَرَ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- بِسُوءٍ فَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ شُرِطَ انْتِقَاضُ الْعَهْدِ بِهَا انْتَقَضَ وَإِلاَّ فَلَا يَنْتَقِضُ.

وَيَنْتَقِضُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَحَدِ أُمُورِ ثَلَاثَةٍ: وَهِيَ أَنْ يُسْلِمَ الذِّمِّيُّ، أَوْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، أَوْ يَغْلِبَ الذِّمِّيُّونَ عَلَى مَوْضِعٍ فَيُحَارِبُونَنَا.

مَحَلُّ الْجِزْيَةِ:

24- الْجِزْيَةُ تُفْرَضُ عَلَى رُءُوسِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنَ الْمُسْتَأْمَنِ الَّذِي يَدْخُلُ دَارَ الْإِسْلَامِ بِعَقْدِ أَمَانٍ مُؤَقَّتٍ لِقَضَاءِ غَرَضٍ ثُمَّ يَرْجِعُ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِذَا أَطَالَ الْمُسْتَأْمَنُ الْمُقَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَيُؤْمَرُ بِالْخُرُوجِ، فَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ ذَلِكَ حَوْلًا وُضِعَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ.

فَمَحَلُّ الْجِزْيَةِ إِذَا هَمَّ الذِّمِّيُّونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إِقَامَةً دَائِمَةً أَوْ طَوِيلَةً، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ فَتُضْرَبُ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ، وَيُشْتَرَطُ فِي الذِّمِّيِّ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ الْإِقَامَةُ بِالْجِزْيَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَنْ يَكُونَ مِنَ الطَّوَائِفِ الَّتِي يُسْمَحُ لَهَا بِالْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَالَّتِي تُقْبَلُ مِنْهَا الْجِزْيَةُ.

الطَّوَائِفُ الَّتِي تُقْبَلُ مِنْهَا الْجِزْيَةُ:

25- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُشْرِكِينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي أَوْصَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ الَّذِينَ تُقْبَلُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ.

أَهْلُ الْكِتَابِ:

26- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ: كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِنَبِيٍّ وَيُقِرُّ بِكِتَابٍ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَمَنْ آمَنَ بِزَبُورِ دَاوُدَ- عليه السلام- وَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ- عليه السلام-، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ دِينًا سَمَاوِيًّا مُنَزَّلًا بِكِتَابٍ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِجَمِيعِ فِرَقِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يُؤْمِنُ إِلاَّ بِصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَزَبُورِ دَاوُدَ.

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} فَالطَّائِفَتَانِ اللَّتَانِ أُنْزِلَ عَلَيْهِمَا الْكِتَابُ مِنْ قَبْلِنَا هُمَا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.وَأَمَّا صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ وَدَاوُدَ فَقَدْ كَانَتْ مَوَاعِظَ وَأَمْثَالًا لَا أَحْكَامَ فِيهَا، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا حُكْمُ الْكُتُبِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أَحْكَامٍ.قَالَ الشِّهْرِسْتَانِيُّ: أَهْلُ الْكِتَابِ: الْخَارِجُونَ عَنِ الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ، وَالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، مِمَّنْ يَقُولُ بِشَرِيعَةٍ وَأَحْكَامٍ وَحُدُودٍ وَأَعْلَامٍ...وَمَا كَانَ يَنْزِلُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ- عليهم السلام- مَا كَانَ يُسَمَّى كِتَابًا، بَلْ صُحُفًا.

وَتَفْصِيلُهُ فِي: (يَهُودٌ) (وَنَصَارَى).

أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَرَبِ:

27- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَجَمِ، وَاخْتَلَفُوا فِي قَبُولِهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَرَبِ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَرَبِ.وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِإِطْلَاقِ قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.

وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَبِلَهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَرَبِ، فَقَدْ «أَخَذَهَا مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ، وَيَهُودِ الْيَمَنِ، وَأُكَيْدِرِ دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ».

فَقَدْ رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ- بِسَنَدِهِ- عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: » أَوَّلُ مَنْ أَعْطَى الْجِزْيَةَ أَهْلُ نَجْرَانَ وَكَانُوا نَصَارَى «وَأَهْلُ نَجْرَانَ عَرَبٌ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ.

وَقَدْ كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى مُعَاذٍ- وَهُوَ بِالْيَمَنِ- أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، أَوْ عَدْلَهُ مِنَ الْمَعَافِرِ وَلَا يُفْتَنُ يَهُودِيٌّ عَنْ يَهُودِيَّتِهِ.

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فَقَدْ «قَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ وَهُمْ عَرَبٌ إِذْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ».

كَمَا اسْتَدَلُّوا بِالْإِجْمَاعِ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: » إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ- رضي الله عنهما- قَبِلَا الْجِزْيَةَ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ وَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ.فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا.

وَقَدْ ثَبَتَ بِالْقَطْعِ وَالْيَقِينِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ وَيَهُودِهِمْ كَانُوا فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَجُوزُ إِقْرَارُهُمْ فِيهَا بِغَيْرِ جِزْيَةٍ، فَثَبَتَ يَقِينًا أَنَّهُمْ أَخَذُوا الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْعَرَبِ.

وَقَدْ نَسَبَ الطَّبَرِيُّ هَذَا الْمَذْهَبَ إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.

الْمَجُوسُ:

28- وَالْمَجُوسُ هُمْ عَبَدَةُ النَّارِ الْقَائِلُونَ أَنَّ لِلْعَالَمِ أَصْلَيْنِ اثْنَيْنِ مُدَبِّرَيْنِ، يَقْتَسِمَانِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَالنَّفْعَ وَالضَّرَّ، وَالصَّلَاحَ وَالْفَسَادَ، أَحَدُهُمَا النُّورُ، وَالْآخَرُ الظُّلْمَةُ.وَفِي الْفَارِسِيَّةِ «يَزْدَانَ» «وَأَهْرَمَنَ».

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنَ الْمَجُوسِ سَوَاءٌ أَكَانُوا عَرَبًا أَمْ عَجَمًا.

29- وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَبِلَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ أَوِ الْبَحْرَيْنِ.رَوَى ابْنُ زَنْجُوَيْهِ- بِسَنَدِهِ- إِلَى الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: «كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى مَجُوسِ هَجَرَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ.فَمَنْ أَسْلَمَ قُبِلَ مِنْهُ، وَمَنْ أَبَى ضُرِبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، وَأَنْ لَا يُؤْكَلَ لَهُمْ ذَبِيحَةٌ، وَلَا تُنْكَحَ لَهُمُ امْرَأَةٌ».

وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ذَكَرَ الْمَجُوسَ فَقَالَ: مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ فِي أَمْرِهِمْ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَشْهَدُ أَنِّي لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ.}.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ سُنَّةُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ فَقَطْ، أَيْ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، كَمَا تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ.

وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ فَارِسٍ، وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ الْبَرْبَرِ.

وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِ، وَعَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ- رضي الله عنهم- وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَلَا مُخَالِفٍ.وَقَدْ نَقَلَ هَذَا الْإِجْمَاعَ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ: مِنْهُمُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ قُدَامَةَ.

وَذَهَبَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ الْمَالِكِيُّ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُؤْخَذُ إِلاَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَا تُقْبَلُ مِنَ الْمَجُوسِ، لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الْآيَةَ.

فَإِنَّ مَفْهُومَهَا أَنَّ غَيْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْمَجُوسِ وَغَيْرِهِمْ لَا يُشَارِكُونَهُمْ فِي حُكْمِ الْآيَةِ.

وَذَهَبَ ابْنُ وَهْبٍ الْمَالِكِيُّ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُقْبَلُ مِنَ الْمَجُوسِ الْعَرَبِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَرَبِ مَجُوسٌ إِلاَّ وَجَمِيعُهُمْ أَسْلَمَ، فَمَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ.

وَقَدْ نُسِبَ هَذَا الْمَذْهَبُ أَيْضًا إِلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (مَجُوسٌ).

قَبُولُ الْجِزْيَةِ مِنَ الصَّابِئَةِ:

30- ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الصَّابِئَةَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمْ يَقْرَءُونَ الزَّبُورَ، وَلَا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ، وَلَكِنْ يُعَظِّمُونَهَا كَتَعْظِيمِ الْمُسْلِمِينَ الْكَعْبَةَ فِي اسْتِقْبَالِهَا.

وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَأَبِي الشَّعْثَاءِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالضَّحَّاكِ.فَتُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ كَمَا تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.

وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ، لِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ، وَعَابِدُ الْكَوَاكِبِ كَعَابِدِ الْوَثَنِ، فَتُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ إِذَا كَانُوا مِنَ الْعَجَمِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ مُعْتَقِدُونَ تَأْثِيرَ النُّجُومِ، وَأَنَّهَا فَعَّالَةٌ، فَلَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ، وَتُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، لِأَنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ عِنْدَ مَالِكٍ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ يُنْظَرُ فِيهِمْ، فَإِنْ كَانُوا يُوَافِقُونَ أَحَدَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ فِي تَدَيُّنِهِمْ وَكِتَابِهِمْ فَهُمْ مِنْهُمْ، وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي ذَلِكَ فَلَيْسُوا مِنْهُمْ، فَتُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ إِذَا أَقَرَّ النَّصَارَى بِأَنَّهُمْ مِنْهُمْ وَلَمْ يُكَفِّرُوهُمْ، فَإِنْ كَفَّرُوهُمْ لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ.

وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُمْ مِنَ النَّصَارَى؛ لِأَنَّهُمْ يَدِينُونَ بِالْإِنْجِيلِ.وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.فَتُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ كَالنَّصَارَى.

وَذَهَبَ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ إِلَى أَنَّهُمْ مِنَ الْيَهُودِ لِأَنَّهُمْ يُسْبِتُونَ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: هُمْ يُسْبِتُونَ.فَتُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ كَمَا تُؤْخَذُ مِنَ الْيَهُودِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي: (صَابِئَةٌ).

أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ:

31- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ:

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُقْبَلُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ أَكَانُوا مِنَ الْعَرَبِ أَوْ مِنَ الْعَجَمِ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِلاَّ الْإِسْلَامُ، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا قُتِلُوا.وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ......مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.

فَالْآيَةُ تَقْضِي بِجَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً، وَلَا دَلَالَةَ لِلَّفْظِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ- بِسَنَدِهِ- إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ فَمَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي نَفْسَهُ وَمَالَهُ إلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ».

فَالْحَدِيثُ عَامٌّ يَقْتَضِي عَدَمَ قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ، وَلَمْ يُخَصِّصْ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ إلاَّ أَهْلَ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسَ فَمَنْ عَدَاهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ يَبْقَى عَلَى قَضِيَّةِ الْعُمُومِ، فَلَا تُقْبَلُ الْجِزْيَةُ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ سَوَاءٌ أَكَانُوا عَرَبًا أَمْ عَجَمًا وَلِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مُقَدِّمَةٌ (سَابِقَةٌ) مِنَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، فَلَا حُرْمَةَ لِمُعْتَقَدِهِمْ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ حَكَاهَا عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَخَذَ بِهَا هُوَ وَأَشْهَبُ وَسَحْنُونٌ وَكَذَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ حَكَاهَا عَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ ثَوَابٍ، ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إلاَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ.وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} فَهُوَ خَاصٌّ بِمُشْرِكِي الْعَرَبِ، لِأَنَّهُ مُرَتَّبٌ عَلَى قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِين} وَهِيَ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي كَانَ الْعَرَبُ يُحَرِّمُونَ الْقِتَالَ فِيهَا.

وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَأْخُذِ الْجِزْيَةَ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ.

رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَالَحَ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ عَلَى الْجِزْيَةِ إلاَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الْعَرَبِ» وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَبَى أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ إلاَّ الْإِسْلَامَ أَوِ السَّيْفَ}.

وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُولِ:

بِأَنَّ كُفْرَهُمْ قَدْ تَغَلَّظَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَشَأَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَالْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ، فَالْمُعْجِزَةُ فِي حَقِّهِمْ أَظْهَرُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَعْرَفَ بِمَعَانِيهِ وَوُجُوهِ الْفَصَاحَةِ فِيهِ.وَكُلُّ مَنْ تَغَلَّظَ كُفْرُهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلاَّ الْإِسْلَامُ، أَوِ السَّيْفُ لقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} أَيْ تُقَاتِلُونَهُمْ إلَى أَنْ يُسْلِمُوا.

وَذَهَبَ مَالِكٌ فِي قَوْلٍ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ إلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ، وَمِنْهُمُ الْمُشْرِكُونَ وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ، سَوَاءٌ أَكَانُوا مِنَ الْعَرَبِ، أَمْ مِنَ الْعَجَمِ، وَسَوَاءٌ أَكَانُوا قُرَشِيِّينَ أَمْ غَيْرَ قُرَشِيِّينَ.وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ...وَقَالَ: اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ.....وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ.فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ» وَذَكَرَ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ الْجِزْيَةَ.

فَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» إمَّا أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ.وَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ وَهُوَ قَبُولُ الْجِزْيَةِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ؛ لِأَنَّهُ لَوِ اخْتَصَّ بِغَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ.فَالْحَدِيثُ يُفِيدُ قَبُولَ الْجِزْيَةِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَإِذَا كَانَ عَامًّا فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ أَيْضًا قَبُولُ الْجِزْيَةِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ.

وَاسْتَدَلُّوا لِقَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ.وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ إلاَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ.وَقَدْ أَخَذَ بِهَذَا النَّقْلِ كُلٌّ مِنِ ابْنِ رُشْدٍ صَاحِبِ الْمُقَدِّمَاتِ، وَابْنِ الْجَهْمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي تَعْلِيلِ عَدَمِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ: فَعَلَّلَهُ ابْنُ الْجَهْمِ بِأَنَّ ذَلِكَ إكْرَامٌ لَهُمْ، لِمَكَانِهِمْ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.

وَعَلَّلَهُ الْقَرَوِيُّونَ بِأَنَّ قُرَيْشًا أَسْلَمُوا كُلُّهُمْ قَبْلَ تَشْرِيعِ الْجِزْيَةِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ عَلَى الشِّرْكِ، فَمَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الشِّرْكِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ، فَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ.

أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ:

32- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ الْجِزْيَةُ مِنَ الْمُرْتَدِّ عَنِ الْإِسْلَامِ.

الْأَمَاكِنُ الَّتِي يُقَرُّ الْكَافِرُونَ فِيهَا بِالْجِزْيَةِ:

33- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ إقْرَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ بِالْجِزْيَةِ فِي أَيِّ مَكَانٍ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ مَا عَدَا جَزِيرَةَ الْعَرَبِ: وَهِيَ مِنْ أَقْصَى عَدَنِ أَبْيَنَ جَنُوبًا إلَى أَطْرَافِ الشَّامِ شَمَالًا، وَمِنْ جُدَّةَ وَمَا وَالَاهَا مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ غَرْبًا إلَى رِيفِ الْعِرَاقِ شَرْقًا.كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ إقْرَارِهِمْ فِي بِلَادِ الْحِجَازِ وَهِيَ: مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَمَخَالِيفُهَا.

وَاخْتَلَفُوا فِي إِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ فِيمَا عَدَا بِلَادِ الْحِجَازِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ كَالْيَمَنِ وَغَيْرِهَا.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ إِقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ فِيمَا عَدَا بِلَادَ الْحِجَازِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ؛ لِأَنَّهُمْ مَمْنُوعُونَ مِنَ السُّكْنَى فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ كُلِّهَا.

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «أَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ، » وَنَسِيتُ الثَّالِثَةَ..وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ سَأَلْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَقَالَ: مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَالْيَمَنُ، وَقَالَ يَعْقُوبُ: وَالْعَرْجُ أَوَّلُ تِهَامَةَ.

فَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إِخْرَاجِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ كُلِّهَا.وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مُشْرِكٍ سَوَاءٌ أَكَانَ وَثَنِيًّا، أَمْ يَهُودِيًّا، أَمْ نَصْرَانِيًّا، أَمْ مَجُوسِيًّا.

وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: «كَانَ مِنْ آخِرِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ قَالَ: «قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، لَا يَبْقَيَنَّ دِينَانِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ » وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَفَحَصَ عَنْ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَتَّى أَتَاهُ الثَّلْجُ وَالْيَقِينُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ» فَأَجْلَى يَهُودَ خَيْبَرَ.

وَبِقَوْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «كَانَ آخِرُ مَا عَهِدَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَلاَّ يَنْزِلَ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ».

وَبِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «لأَُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، حَتَّى لَا أَدَعَ إلاَّ مُسْلِمًا».

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى إِقْرَارِ مَنْ تُقْبَلُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ عَلَى السُّكْنَى فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ فِيمَا عَدَا الْحِجَازَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَتَجُوزُ لَهُمْ سُكْنَى الْيَمَنِ وَغَيْرِهَا مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مِمَّا لَا يَدْخُلُ فِي بِلَادِ الْحِجَازِ.

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ: «كَانَ آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: أَخْرِجُوا يَهُودَ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَأَهْلَ نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ شِرَارَ النَّاسِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ».

قَالُوا: فَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «أَخْرِجُوا يَهُودَ أَهْلِ الْحِجَازِ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ تُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ سُكْنَى الْحِجَازِ وَالْإِقَامَةُ فِيهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى الْإِقَامَةِ فِيهِ بِجِزْيَةٍ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ الصُّلْحُ فَاسِدًا.وَالْمُرَادُ بِالْحِجَازِ- كَمَا سَبَقَ- مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَامَةُ وَمَخَالِيفُهَا.وَأَمَّا قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- «أَخْرِجُوا أَهْلَ نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ».

فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ بِلَادَهُمْ- وَهِيَ الْيَمَنُ- مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُمْ نَقَضُوا الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَهُ- صلى الله عليه وسلم- عَلَيْهِمْ، وَكَانَ قَدْ صَالَحَهُمْ عَلَى أَلَا يُحْدِثُوا حَدَثًا، وَلَا يَأْكُلُوا الرِّبَا، فَأَكَلُوا الرِّبَا، وَنَقَضُوا الْعَهْدَ، فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لِهَذَا السَّبَبِ، لَا لِكَوْنِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لَا تَصْلُحُ لِسُكْنَى أَهْلِ الذِّمَّةِ.

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَجْلَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ.

وَلِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ أَنَّهُ أَجْلَى مَنْ كَانَ بِالْيَمَنِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَقَدْ أَجَلَاهُمْ عُمَرُ مِنَ الْحِجَازِ وَأَقَرَّهُمْ بِالْيَمَنِ.

شُرُوطُ مَنْ تُفْرَضُ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ:

34- اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِفَرْضِ الْجِزْيَةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ عِدَّةَ شُرُوطٍ مِنْهَا: الْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ، وَالذُّكُورَةُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْمَقْدِرَةُ الْمَالِيَّةُ، وَالسَّلَامَةُ مِنَ الْعَاهَاتِ الْمُزْمِنَةِ.

وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الشُّرُوطِ.

أَوَّلًا: الْبُلُوغُ:

35- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تُضْرَبُ عَلَى صِبْيَانِ أَهْلِ الذِّمَّةِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي هَذَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، لَا أَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ وَاسْتَدَلُّوا لِهَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّه} آيَةَ الْجِزْيَةِ.

فَالْمُقَاتَلَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْقِتَالِ تَسْتَدْعِي أَهْلِيَّةَ الْقِتَالِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَلَا تَجِبُ عَلَى مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلْقِتَالِ، وَالصِّبْيَانُ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ فَلَا تَجِبُ الْجِزْيَةُ عَلَيْهِمْ وَبِحَدِيثِ مُعَاذٍ السَّابِقِ.حَيْثُ أَمَرَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، أَوْ عَدْلَهُ مِنَ الْمَعَافِرِ.

وَالْحَالِمُ: مَنْ بَلَغَ الْحُلُمَ بِالِاحْتِلَامِ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ عَلَامَاتِ الْبُلُوغِ، فَمَفْهُومُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَجِبُ عَلَى الصِّبْيَانِ.

وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ- رضي الله عنه- إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ أَنْ يَضْرِبُوا الْجِزْيَةَ وَلَا يَضْرِبُوهَا عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَلَا يَضْرِبُوهَا إِلاَّ عَلَى مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى.

قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فِي مَعْنَى «مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى»: يَعْنِي مَنْ أَنْبَتَ، وَقَالَ فِي وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ: هَذَا الْحَدِيثُ هُوَ الْأَصْلُ فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، وَمَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِنَّمَا جَعَلَهَا عَلَى الذُّكُورِ الْمُدْرِكِينَ دُونَ الْإِنَاثِ وَالْأَطْفَالِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ كَانَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ لَوْ لَمْ يُؤَدُّوهَا، وَأَسْقَطَهَا عَمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ وَهُمُ الذُّرِّيَّةُ.

وَقَدْ مَضَتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنْ لَا جِزْيَةَ عَلَى الصِّبْيَانِ، وَعَمِلَ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ.

فَقَدْ صَالَحَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ أَهْلَ بُصْرَى عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا عَنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا وَجَرِيبَ حِنْطَةٍ، وَصَالَحَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَهْلَ أَنْطَاكِيَةَ عَلَى الْجِزْيَةِ أَوِ الْجَلَاءِ، فَجَلَا بَعْضُهُمْ وَأَقَامَ بَعْضُهُمْ، فَأَمَّنَهُمْ وَوَضَعَ عَلَى كُلِّ حَالِمٍ مِنْهُمْ دِينَارًا وَجَرِيبًا.

وَوَضَعَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَلَى أَهْلِ مِصْرَ دِينَارَيْنِ دِينَارَيْنِ وَأَخْرَجَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ لِحَقْنِ الدَّمِ، وَالصِّبْيَانُ دِمَاؤُهُمْ مَحْقُونَةٌ بِدُونِهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


247-موسوعة الفقه الكويتية (جناية على ما دون النفس 1)

جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ -1

التَّعْرِيف:

1- الْجِنَايَةُ فِي اللُّغَةِ الذَّنْبُ وَالْجُرْمُ.وَقَالَ الْحَصْكَفِيُّ: الْجِنَايَةُ شَرْعًا: اسْمٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ حَلَّ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ، إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ خَصُّوا لَفْظَ الْجِنَايَةِ بِمَا حَلَّ بِنَفْسٍ أَوْ أَطْرَافٍ، وَالْغَصْبَ وَالسَّرِقَةَ بِمَا حَلَّ بِمَالٍ.

وَالْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ كُلُّ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ وَقَعَ عَلَى الْأَطْرَافِ أَوِ الْأَعْضَاءِ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِالْقَطْعِ، أَمْ بِالْجَرْحِ، أَمْ بِإِزَالَةِ الْمَنَافِعِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيّ:

كُلُّ جِنَايَةٍ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ عَمْدًا عُدْوَانًا مُحَرَّمَةٌ شَرْعًا.

الْحُكْمُ الْوَضْعِيّ:

2- يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ بِاخْتِلَافِ كَوْنِهَا عَمْدًا أَوْ خَطَأً، فَإِذَا كَانَتْ عَمْدًا فَمُوجِبُهَا الْقِصَاصُ إِذَا تَوَفَّرَتْ فِيهَا شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ يَأْتِي ذِكْرُهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْمَعْقُولُ.

أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.

وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رَوَى أَنَسٌ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَسَرَتِ الرُّبَيِّعُ، وَهِيَ عَمَّةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَطَلَبَ الْقَوْمُ الْقِصَاصَ، فَأَتَوْا النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَمَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: لَا: وَاللَّهِ لَا تُكْسَرُ سِنُّهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: يَا أَنَسُ، كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ، فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَقَبِلُوا الْأَرْشَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ».

وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إِذَا أَمْكَنَ.

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَلِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ كَالنَّفْسِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى حِفْظِهِ؛ لِأَنَّهُ خُلِقَ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ فَشُرِعَ الْجَزَاءُ صَوْنًا لَهُ.

وَإِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ خَطَأً أَوْ عَمْدًا غَيْرَ مُسْتَجْمِعٍ لِسَائِرِ الشُّرُوطِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ فَمُوجِبُهَا الدِّيَةُ، أَوِ الْأَرْشُ، أَوْ حُكُومَةُ عَدْلٍ، عَلَى حَسَبِ الْأَحْوَالِ.

فَالْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ قِسْمَانِ: الْجِنَايَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقِصَاصِ، وَالْجِنَايَةُ الْمُوجِبَةُ لِلدِّيَةِ وَغَيْرِهَا.

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ الْمُوجِبَةُ لِلْقِصَاصِ:

3- تَكُونُ الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ إِذَا تَحَقَّقَتْ فِيهَا الشُّرُوطُ الْآتِيَةُ:

(1) أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ عَمْدًا:

4- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَمْدَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ.وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ:

فَذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ أَبِي مُوسَى مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ شِبْهُ عَمْدٍ، فَمَا كَانَ شِبْهَ عَمْدٍ فِي النَّفْسِ فَهُوَ عَمْدٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ لَا يُقْصَدُ إِتْلَافُهُ بِآلَةٍ دُونَ آلَةٍ عَادَةً فَاسْتَوَتِ الْآلَاتُ كُلُّهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْقَصْدِ، فَكَانَ الْفِعْلُ عَمْدًا مَحْضًا.

وَيَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ لِلْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ أَنْ يَكُونَ الْجُرْحُ نَاتِجًا عَنْ قَصْدِ الضَّرْبِ عَدَاوَةً، فَالْجُرْحُ النَّاتِجُ عَنِ اللَّعِبِ، أَوِ الْأَدَبِ لَا قِصَاصَ فِيهِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا يُعْتَبَرُ فِي الْقَتْلِ أَنْ يَكُونَ عَمْدًا مَحْضًا، يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الطَّرَفِ أَيْضًا، فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِالْجِرَاحَاتِ وَإِبَانَةِ الْأَطْرَافِ إِذَا كَانَتْ خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، وَمِنْ صُوَرِ شِبْهِ الْعَمْدِ أَنْ يَضْرِبَ رَأْسَهُ بِلَطْمَةٍ أَوْ حَجَرٍ لَا يَشُجُّ غَالِبًا لِصِغَرِهِ، فَيَتَوَرَّمُ الْمَوْضِعُ وَيَتَّضِحُ الْعَظْمُ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ ضَرْبَهُ بِمَا لَا يُفْضِي إِلَى ذَلِكَ غَالِبًا، مِثْلَ أَنْ يَضْرِبَهُ بِحَصَاةٍ لَا تُوضِحُ مِثْلُهَا، فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ شِبْهُ عَمْدٍ.

(2) أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ عُدْوَانًا:

5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعُدْوَانَ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ كَمَا هُوَ شَرْطٌ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْجَانِي مُتَعَدِّيًا فِي فِعْلِهِ، فَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُ.كَأَنْ يَكُونَ الْجَانِي:

أ- غَيْرَ أَهْلٍ لِلْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ هِيَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ، وَيُعْتَبَرُ الشَّخْصُ كَامِلَ الْأَهْلِيَّةِ بِالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ.

ب- إِذَا كَانَ ارْتِكَابُ الْفِعْلِ الضَّارِّ بِحَقٍّ أَوْ شُبْهَةٍ.

فَلَا يُقْتَصُّ مِمَّنْ أَقَامَ الْحَدَّ، أَوْ نَفَّذَ التَّعْزِيرَ، سَوَاءٌ أَكَانَ قَتْلًا أَمْ قَطْعًا، وَلَا مِنَ الطَّبِيبِ بِشُرُوطِهِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ فِعْلِ الطَّبِيبِ هُوَ شِفَاءُ الْمَرِيضِ لَا الِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِ، وَلَا مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَفْعُ الصَّائِلِ بِشُرُوطِهِ.وَلَا مِمَّنِ ارْتَكَبَ الْجِنَايَةَ بِأَمْرٍ مِنَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَمَنْ قَالَ لآِخَرَ: اقْطَعْ يَدَيَّ وَلَا شَيْءَ عَلَيْكَ، فَقَطَعَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مَعَ الْإِثْمِ عَلَيْهِمَا.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ إِنْ لَمْ يَسْتَمِرَّ الْمَقْطُوعُ عَلَى إِبْرَاءِ الْقَاطِعِ، بِأَنْ رَجَعَ عَنْهُ بَعْدَ الْقَطْعِ، أَمَّا إِنِ اسْتَمَرَّ عَلَى الْإِبْرَاءِ فَلَيْسَ عَلَى الْقَاطِعِ إِلاَّ الْأَدَبُ، وَقِيلَ: عَلَيْهِ الْأَدَبُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ اسْتِمْرَارِ الْمَقْطُوعِ عَلَى الْإِبْرَاءِ وَالرُّجُوعِ عَنْهُ.

(3) كَوْنُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مُكَافِئًا لِلْجَانِي فِي الصِّفَاتِ الْآتِيَةِ عَلَى الْخِلَافِ وَالتَّفْصِيلِ الْآتِيَيْنِ:

أ- التَّكَافُؤُ فِي النَّوْعِ (الذُّكُورَةُ وَالْأُنُوثَةُ):

6- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي النَّوْعِ، فَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ بِنَفْسِ أَحْكَامِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَالْمُعْتَمَدِ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُكَافِئَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْجَانِيَ فِي النَّوْعِ؛ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلتَّكَافُؤِ أَنْ يَكُونَ أَرْشُ كُلٍّ مِنَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مُسَاوِيًا لِلْآخَرِ، فَيَجْرِي الْقِصَاصُ عِنْدَهُمْ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إِذَا كَانَا ذَكَرَيْنِ أَوْ أُنْثَيَيْنِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالْآخَرُ أُنْثَى، فَلَا قِصَاصَ؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْأُرُوشُ شَرْطُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ.وَفِي الْوَاقِعَاتِ: لَوْ قَطَعَتِ الْمَرْأَةُ يَدَ رَجُلٍ كَانَ لَهُ الْقَوَدُ، إِذَا رَضِيَ بِالْقَوَدِ عَنِ الْأَرْشِ.

وَنَصَّ مُحَمَّدٌ عَلَى جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الشِّجَاجِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الشِّجَاجِ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إِلْحَاقُ شَيْنٍ وَقَدِ اسْتَوَيَا فِيهِ، وَفِي الطَّرَفِ تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفَا فِيهِ.

ب- التَّكَافُؤُ فِي الدِّينِ:

7- اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ التَّكَافُؤِ فِي الدِّينِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجْرِي الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْأَرْشِ، وَكَذَا بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنَ الْكَافِرِ لِلْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ النَّاقِصِ عَلَى الْكَامِلِ كَجِنَايَةِ ذِي يَدٍ شَلاَّءَ عَلَى صَحِيحَةٍ فِي الْجِرَاحِ، وَيَلْزَمُهُ لِلْكَامِلِ مَا فِيهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَإِلاَّ فَحُكُومَةُ عَدْلٍ إِنْ بَرِئَ عَلَى شَيْنٍ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ عَلَى الْجَانِي إِلاَّ الْأَدَبُ.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي قِصَاصِ الطَّرَفِ التَّسَاوِي فِي الْبَدَلِ، فَيُقْطَعُ الذِّمِّيُّ بِالْمُسْلِمِ، وَلَا عَكْسَ فِيهِ.وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ لَا يُقْتَلُ بِقَتْلِهِ، لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لَهُ أَيْضًا كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ نَفْسُهُ بِنَفْسِهِ، فَلَا يُؤْخَذُ طَرَفُهُ بِطَرَفِهِ، وَلَا يُجْرَحُ بِجُرْحِهِ كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْمُسْتَأْمَنِ. ج- التَّكَافُؤُ فِي الْعَدَدِ:

8- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ إِذَا اشْتَرَكُوا فِي جُرْحٍ مُوجِبٍ لِلْقِصَاصِ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى جَمِيعِهِمْ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَقَطَعَ يَدَهُ، ثُمَّ جَاءَا بِآخَرَ، فَقَالَا: هَذَا هُوَ السَّارِقُ وَأَخْطَأْنَا فِي الْأَوَّلِ فَرَدَّ شَهَادَتَهُمَا عَلَى الثَّانِي وَغَرَّمَهُمَا دِيَةَ الْأَوَّلِ وَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا.فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقِصَاصَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ تَعَمَّدَ؛ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْقِصَاصِ، فَتُؤْخَذُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ كَالْأَنْفُسِ.

هَذَا إِذَا لَمْ يَتَمَيَّزْ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ، أَمَّا لَوْ تَمَيَّزَ: بِأَنْ قَطَعَ هَذَا مِنْ جَانِبٍ، وَهَذَا مِنْ جَانِبٍ حَتَّى الْتَقَتِ الْحَدِيدَتَانِ، أَوْ قَطَعَ أَحَدُهُمَا بَعْضَ الْيَدِ، وَأَبَانَهَا الْآخَرُ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكُومَةُ عَدْلٍ تَلِيقُ بِجِنَايَتِهِ.وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْلُغَ مَجْمُوعُ الْحُكُومَتَيْنِ دِيَةَ الْيَدِ.

وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنَ الْكُلِّ إِذَا كَانُوا ثَلَاثَةً: قَلَعَ أَحَدُهُمْ عَيْنَهُ، وَالْآخَرُ قَطَعَ يَدَهُ، وَالثَّالِثُ رِجْلَهُ وَلَمْ يُعْلَمْ مَنِ الَّذِي فَقَأَ الْعَيْنَ وَقَطَعَ الرِّجْلَ أَوِ الْيَدَ، وَلَا تَمَالُؤَ بَيْنَهُمُ، اقْتُصَّ مِنْ كُلٍّ بِفَقْءِ عَيْنِهِ، وَقَطْعِ يَدِهِ وَرِجْلِهِ، وَأَمَّا إِنْ تَمَيَّزَتْ جِنَايَةُ كُلِّ وَاحِدٍ وَلَا تَمَالُؤَ بَيْنَهُمْ، فَيُقْتَصُّ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ كَفِعْلِهِ بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي وَجْهٍ فَلَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي بِالْيَدِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ، كَالِاثْنَيْنِ إِذَا قَطَعَا يَدَ رَجُلٍ، أَوْ رِجْلَهُ، أَوْ أَذْهَبَا سَمْعَهُ أَوْ بَصَرَهُ، أَوْ قَلَعَا سِنًّا لَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْجِنَايَاتِ الَّتِي عَلَى الْوَاحِدِ مِنْهُمَا فِيهَا الْقِصَاصُ لَوِ انْفَرَدَ بِهَا، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِمَا، بَلْ عَلَيْهِمَا الْأَرْشُ نِصْفَيْنِ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْنِ فَعَلَيْهِمُ الْأَرْشُ عَلَى عَدَدِهِمْ بِالسَّوَاءِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مُعْتَبَرَةٌ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْأَيْدِي وَيَدٍ وَاحِدَةٍ لَا فِي الذَّاتِ وَلَا فِي الْمَنْفَعَةِ وَلَا فِي الْفِعْلِ.وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

(4) الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَحَلِّ:

9- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ تَوَافُرُ التَّمَاثُلِ بَيْنَ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ، وَمَحَلِّ الْقِصَاصِ، فَلَا يُؤْخَذُ شَيْءٌ مِنَ الْأَصْلِ إِلاَّ بِمِثْلِهِ، فَلَا تُؤْخَذُ الْيَدُ إِلاَّ بِالْيَدِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْيَدِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا، فَلَمْ يَكُنْ مِثْلًا لَهَا، إِذْ التَّجَانُسُ شَرْطٌ لِلْمُمَاثِلَةِ، وَكَذَا الرِّجْلُ، وَالْإِصْبَعُ، وَالْعَيْنُ، وَالْأَنْفُ وَنَحْوُهَا.وَكَذَا لَا تُؤْخَذُ الْأَصَابِعُ إِلاَّ بِمِثْلِهَا، فَلَا تُؤْخَذُ الْإِبْهَامُ إِلاَّ بِالْإِبْهَامِ، وَلَا السَّبَّابَةُ إِلاَّ بِالسَّبَّابَةِ، وَهَكَذَا فِي الْبَاقِي؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَصَابِعِ مُخْتَلِفَةٌ، فَكَانَتْ كَالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ.

وَكَذَلِكَ لَا تُؤْخَذُ الْيَمِينُ بِالْيَسَارِ فِي كُلِّ مَا انْقَسَمَ إِلَى يَمِينٍ وَيَسَارٍ، كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَالْأُذُنَيْنِ وَالْمَنْخِرَيْنِ وَغَيْرِهَا.وَكَذَلِكَ فِي الْأَسْنَانِ لَا تُؤْخَذُ الثَّنِيَّةُ إِلاَّ بِالثَّنِيَّةِ لِاخْتِلَافِ مَنَافِعِهَا، فَإِنَّ بَعْضَهَا قَوَاطِعُ، وَبَعْضَهَا ضَوَاحِكُ، وَاخْتِلَافُ الْمَنْفَعَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ يُلْحِقُهُمَا بِجِنْسَيْنِ، وَلَا مُمَاثَلَةَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ مِنَ الْأَسْنَانِ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ، وَهُوَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَا انْقَسَمَ إِلَى أَعْلَى وَأَسْفَل.

(5) الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَنْفَعَةِ:

10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ أَنْ تَتَمَاثَلَ مَنَافِعُهَا عِنْدَ الْجَانِي وَعِنْدَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَإِذَا اتَّحَدَ الْجِنْسُ فِي الْأَطْرَافِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ لَمْ يُؤَثِّرِ التَّفَاوُتُ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَالضَّخَامَةِ وَالنَّحَافَةِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْحَجْمِ لَا يُؤَثِّرُ فِي مَنَافِعِهَا.وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ الْأَعْضَاءِ عَلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ أَنْوَاعِ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَالْأَطْرَافِ.

إِمْكَانُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ:

11- يَتَحَقَّقُ هَذَا بِأَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ مِنْ مَفْصِلٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ مِنْ مَوْضِعِ الْقَطْعِ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَقَدْ رَوَى نَمِرُ بْنُ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ عَلَى سَاعِدِهِ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ، فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَمَرَ لَهُ بِالدِّيَةِ، قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ الْقِصَاصَ، قَالَ: خُذِ الدِّيَةَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا» وَلَمْ يَقْضِ لَهُ بِالْقِصَاصِ. وَهَذَا مَا لَمْ يَرْضَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ مِنْ مَفْصِلٍ أَدْنَى مِنْ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَظْمِ..

أَنْوَاعُ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ:

(إِذَا كَانَتْ عَمْدًا):

12- الْجِنَايَةُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِالْقَطْعِ وَالْإِبَانَةِ، أَوْ بِالْجُرْحِ الَّذِي يَشُقُّ، أَوْ بِإِزَالَةِ مَنْفَعَةٍ بِلَا شَقٍّ وَلَا إِبَانَةَ.

النَّوْعُ الْأَوَّلُ- أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ بِالْقَطْعِ وَالْإِبَانَةِ:

13- يَجِبُ الْقِصَاصُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْأَعْضَاءِ وَالْأَطْرَافِ إِذَا أَدَّتْ إِلَى قَطْعِ الْعُضْوِ أَوِ الطَّرَفِ بِشُرُوطٍ مُعَيَّنَةٍ، وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ الْكَلَامِ عَلَى كُلٍّ:

1- الْجِنَايَةُ عَلَى الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ:

14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تُؤْخَذُ الْيَدُ بِالْيَدِ، وَالرِّجْلُ بِالرِّجْلِ، وَلَا يُؤَثِّرُ التَّفَاوُتُ فِي الْحَجْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ، فَتُؤْخَذُ الْيَدُ الصَّغِيرَةُ بِالْكَبِيرَةِ، وَالْقَوِيَّةُ بِالضَّعِيفَةِ، وَيَدُ الصَّانِعِ بِيَدِ الْأَخْرَقِ.وَلَكِنْ يُؤَثِّرُ الْكَمَالُ وَالصِّحَّةُ عَلَى الْوَجْهِ التَّالِي:

أ- الْكَمَال:

15- اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِي قَطْعِ كَامِلَةِ الْأَصَابِعِ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ بِنَاقِصَةِ الْأَصَابِعِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ كَامِلَةُ الْأَصَابِعِ بِنَاقِصَةِ الْأَصَابِعِ، لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ وَعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ، فَلَوْ قَطَعَ مَنْ لَهُ خَمْسُ أَصَابِعَ، يَدَ مَنْ لَهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَجُزِ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهَا فَوْقَ حَقِّهِ، وَلَا ذَاتُ أَظْفَارٍ بِمَا لَا أَظْفَارَ لَهَا؛ لِزِيَادَتِهَا عَلَى حَقِّهِ، وَلَا بِنَاقِصَةِ الْأَظْفَارِ، سَوَاءٌ رَضِيَ الْجَانِي بِذَلِكَ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الدِّمَاءَ لَا تُسْتَبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ.وَإِنْ كَانَتْ أَظْفَارُ الْمَقْطُوعَةِ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ خَضْرَاءَ أَوْ رَدِيئَةٍ أُخِذَتْ بِهَا السَّلِيمَةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِلَّةٌ وَمَرَضٌ، وَالْمَرَضُ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ.

ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ لَدَى الْحَنَابِلَةِ أَنَّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْطَعَ مِنْ أَصَابِعِ الْجَانِي بِعَدَدِ أَصَابِعِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْمَقْطُوعَةِ، أَوْ يَأْخُذَ دِيَتَهَا.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ النُّقْصَانُ فِي طَرَفِ الْجَانِي، فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ أَرْشَ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْمِثْلِ هُوَ السَّلِيمُ، وَلَا يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَعَ فَوَاتِ السَّلَامَةِ، وَأَمْكَنَهُ مِنْ وَجْهٍ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى إِلْزَامِ الِاسْتِيفَاءِ حَتْمًا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إِلْزَامِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ نَاقِصًا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَيُخَيَّرُ: إِنْ شَاءَ رَضِيَ بِقَدْرِ حَقِّهِ وَاسْتَوْفَاهُ نَاقِصًا، وَإِنْ شَاءَ عَدَلَ إِلَى بَدَلِ حَقِّهِ وَهُوَ كَمَالُ الْأَرْشِ، وَلَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَيُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي وَجْهٍ.

وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ النُّقْصَانِ إِذَا كَانَ أُصْبُعًا، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ أُصْبُعٍ فَقَالُوا: إِنْ نَقَصَتْ يَدُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ رِجْلُهُ أُصْبُعًا، فَالْقَوَدُ عَلَى الْجَانِي الْكَامِلِ الْأَصَابِعِ وَلَا غَرَامَةَ عَلَيْهِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ الْأُصْبُعُ النَّاقِصُ إِبْهَامًا.وَإِنْ كَانَ النَّاقِصُ أَكْثَرَ مِنْ أُصْبُعٍ بِأَنْ نَقَصَتِ الْيَدُ أُصْبُعَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَلَا يُقْتَصُّ مِنَ الْكَامِلَةِ.

وَكَذَلِكَ تُقْطَعُ يَدُ أَوْ رِجْلُ الْجَانِي النَّاقِصَةُ أُصْبُعًا بِالْكَامِلَةِ بِلَا غُرْمٍ عَلَيْهِ لِأَرْشِ الْأُصْبُعِ، إِذْ هُوَ نَقْصٌ لَا يَمْنَعُ الْمُمَاثَلَةَ.وَلَا خِيَارَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.

وَيُخَيَّرُ إِنْ نَقَصَتْ يَدُ الْجَانِي أَوْ رِجْلُهُ أَكْثَر مِنْ أُصْبُعٍ فِي الْقِصَاصِ، وَأَخْذِ الدِّيَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ وَيَأْخُذَ أَرْشَ النَّاقِصِ.

وَأَمَّا النَّاقِصَةُ بِالنَّاقِصَةِ، فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى، بِأَنَّهُ تُؤْخَذُ إِذَا تَسَاوَتَا فِيهِ، بِأَنْ يَكُونَ الْمَقْطُوعُ مِنْ يَدِ الْجَانِي كَالْمَقْطُوعِ مِنْ يَدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمَا تَسَاوَتَا فِي الذَّاتِ وَالصِّفَةِ، فَأَمَّا إِنِ اخْتَلَفَا فِي النَّقْصِ، بِأَنْ يَكُونَ الْمَقْطُوعُ مِنْ يَدِ أَحَدِهِمَا الْإِبْهَامَ، وَمِنَ الْأُخْرَى أُصْبُعَ غَيْرِهَا لَمْ يَجُزِ الْقِصَاصُ؛ لِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ.

ب- الصِّحَّة:

16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ يَدٌ أَوْ رِجْلٌ صَحِيحَةٌ بِشَلاَّءَ وَإِنْ رَضِيَ الْجَانِي؛ لِأَنَّ الشَّلاَّءَ لَا نَفْعَ فِيهَا سِوَى الْجَمَالِ، فَلَا يُؤْخَذُ بِهَا مَا فِيهِ نَفْعٌ، وَالْوَاجِبُ فِي الطَّرَفِ الْأَشَلِّ حُكُومَةُ عَدْلٍ.

وَاخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ الشَّلاَّءِ بِالصَّحِيحَةِ، وَقَطْعِ الشَّلاَّءِ بِالشَّلاَّءِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَفِي قَطْعِ الشَّلاَّءِ بِالصَّحِيحَةِ: يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَهَا، فَذَلِكَ لَهُ، وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهَا، وَإِنْ شَاءَ عَفَا، وَأَخَذَ دِيَةَ يَدِهِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي وَجْهٍ لَا تُقْطَعُ يَدُ الْجَانِي إِذَا كَانَتْ شَلاَّءَ بِالْيَدِ الصَّحِيحَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِالْقِصَاصِ فِيهَا.وَعَلَيْهِ الْعَقْلُ أَيِ الدِّيَةُ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْوَجْهُ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا تُقْطَعُ إِنْ قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ وَالْبَصَرِ، بِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ الدَّمُ، وَلَا تُقْطَعُ إِنْ قَالُوا: لَا يَنْسَدُّ فَمُ الْعُرُوقِ بِالْحَسْمِ، وَلَا يَنْقَطِعُ الدَّمُ، وَتَجِبُ دِيَةُ يَدِهِ.

وَفِي قَطْعِ الشَّلاَّءِ بِالشَّلاَّءِ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ إِلَى أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ، لِأَنَّ الشَّلَلَ عِلَّةٌ، وَالْعِلَلُ يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهَا فِي الْبَدَنِ.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُمَا إِنِ اسْتَوَيَا فِي الشَّلَلِ، أَوْ كَانَ شَلَلُ يَدِ الْقَاطِعِ أَكْثَرَ قُطِعَتْ بِهَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يُخَافَ نَزْفُ الدَّمِ.وَإِنْ كَانَ الشَّلَلُ فِي يَدِ الْمَقْطُوعِ أَكْثَرَ لَمْ يُقْطَعْ بِهَا.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الْأَشَلَّيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْمَقْطُوعَةُ يَدُهُ أَقَلَّ شَلَلًا أَمْ أَكْثَرَهُمَا، أَمْ هُمَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الشَّلَلِ فِي يَدَيْهِمَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ أَرْشَيْهِمَا، وَذَلِكَ يُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ، فَلَا تُعْرَفُ الْمُمَاثَلَةُ.

وَقَالَ زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنْ كَانَا سَوَاءً فَفِيهِمَا الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ أَقَلَّ شَلَلًا كَانَ بِالْخِيَارِ، وَإِنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَ الْقَاطِعِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ أَرْشَ يَدِهِ شَلاَّءَ، وَإِنْ كَانَتْ يَدُ الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ أَكْثَرَ شَلَلًا، فَلَا قِصَاصَ وَلَهُ أَرْشُ يَدِهِ.

2- الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَيْنِ:

17- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْعَيْنِ بِالْقَلْعِ مُوجِبَةٌ لِلْقِصَاصِ؛ لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}؛ وَلِأَنَّهَا تَنْتَهِي إِلَى مَفْصِلٍ فَجَرَى الْقِصَاصُ فِيهَا كَالْيَدِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَسْرُوقٌ، الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، كَمَا رُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-.

وَتُؤْخَذُ عَيْنُ الشَّابِّ بِعَيْنِ الشَّيْخِ، وَعَيْنُ الصَّغِيرِ، بِعَيْنِ الْكَبِيرِ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الصِّفَةِ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ، لَكِنْ إِنْ كَانَ الْجَانِي قَدْ قَلَعَ عَيْنَهُ بِأُصْبُعِهِ لَا يَجُوزُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ بِإِصْبَعِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْمُمَاثَلَةُ فِيهِ.

وَأَمَّا أَخْذُ الْعَيْنِ السَّلِيمَةِ بِالْمَرِيضَةِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تُؤْخَذُ الْعَيْنُ السَّلِيمَةُ بِالضَّعِيفَةِ الْإِبْصَارِ.

وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- فِي الْأَرْجَحِ- إِلَى أَنَّهُ لَوْ فَقَأَ شَخْصٌ عَيْنًا حَوْلَاءَ، وَكَانَ الْحَوَلُ لَا يَضُرُّ بِبَصَرِهِ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَإِلاَّ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ.وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا قِصَاصَ فِي الْعَيْنِ الْحَوْلَاءِ مُطْلَقًا.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَوْ جَنَى عَلَى عَيْنٍ فِيهَا بَيَاضٌ يُبْصِرُ بِهَا، وَعَيْنُ الْجَانِي كَذَلِكَ فَلَا قِصَاصَ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ فَقَأَ عَيْنَ رَجُلٍ، وَفِي عَيْنِ الْفَاقِئِ بَيَاضٌ يُنْقِصُهَا، فَلِلرَّجُلِ أَنْ يَفْقَأَ الْبَيْضَاءَ، أَوْ أَنْ يَأْخُذَ أَرْشَ عَيْنِهِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا تُؤْخَذُ الْعَيْنُ السَّلِيمَةُ بِالْحَدَقَةِ الْعَمْيَاءِ. جِنَايَةُ الْأَعْوَرِ عَلَى صَحِيحِ الْعَيْنَيْنِ وَعَكْسُهَا:

18- إِذَا قَلَعَ الْأَعْوَرُ الْعَيْنَ الْيُمْنَى لِصَحِيحِ الْعَيْنَيْنِ، وَيُسْرَى الْفَاقِئِ ذَاهِبَةٌ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَيُتْرَكُ أَعْمَى، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَسْرُوقٌ وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَابْنُ مُغَفَّلٍ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنْ فَقَأَ أَعْوَرُ مِنْ سَالِمٍ مُمَاثَلَتَهُ فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةً كَامِلَةً، وَإِنْ فَقَأَ غَيْرَ مُمَاثَلَتِهِ فَنِصْفُ دِيَةٍ فَقَطْ فِي مَالِ الْجَانِي، وَلَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ؛ لِانْعِدَامِ مَحَلِّهِ، وَإِنْ فَقَأَ الْأَعْوَرُ عَيْنَيِ السَّالِمِ عَمْدًا فَالْقِصَاصُ فِي الْمُمَاثِلَةِ لِعَيْنِهِ، وَنِصْفُ الدِّيَةِ فِي الْعَيْنِ الَّتِي لَيْسَ لَهُ مِثْلُهَا.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِنْ قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَ صَحِيحٍ فَلَا قَوَدَ، وَعَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ- رضي الله عنهما- وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمَا مُخَالِفٌ فِي عَصْرِهِمَا، فَصَارَ إِجْمَاعًا.وَلِأَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الِاقْتِصَاصُ مِنْهُ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ ذَا عَيْنَيْنِ.

وَصَرَّحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ بِأَنَّهُ إِنْ شَاءَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَخَذَ دِيَةً كَامِلَةً، وَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ، وَأَعْطَاهُ نِصْفَ دِيَةٍ.

وَإِنْ قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَيْ صَحِيحٍ فَقَدْ صَرَّحَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَلَا شَيْءَ لَهُ سِوَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ جَمِيعَ بَصَرِهِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةً وَاحِدَةً وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ».

وَإِذَا فَقَأَ صَحِيحُ الْعَيْنَيْنِ الْعَيْنَ السَّالِمَةَ مِنْ عَيْنِ أَعْوَرَ:

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ لَدَى الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْقَوَدَ بِأَخْذِ نَظِيرَتِهَا مِنْ صَحِيحِ الْعَيْنَيْنِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، أَوْ أَخْذِ الدِّيَةِ كَامِلَةً؛ لِأَنَّ عَيْنَهُ بِمَنْزِلَةِ عَيْنَيْنِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ لَهُ الْقِصَاصَ مِنْ مِثْلِهَا، وَيَأْخُذُ نِصْفَ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِجَمِيعِ بَصَرِهِ، وَأَذْهَبَ الضَّوْءَ الَّذِي بَدَلُهُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَقَدْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ جَمِيعِ الضَّوْءِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَخْذُ عَيْنَيْنِ بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا أَخْذُ يُمْنَى بِيُسْرَى، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ بِبَدَلِ نِصْفِ الضَّوْءِ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ الْقِصَاصُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ أَوِ الْعَفْوُ عَلَى الدِّيَةِ كَمَا لَوْ قَطَعَ الْأَشَلُّ يَدًا صَحِيحَةً، وَلِعُمُومِ قوله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}.

وَلَوْ قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَ مِثْلِهِ فَفِيهِ الْقِصَاصُ بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِتَسَاوِيهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، إِذَا كَانَتِ الْعَيْنُ مِثْلَ الْعَيْنِ فِي كَوْنِهَا يَمِينًا أَوْ يَسَارًا، وَإِنْ عَفَا إِلَى الدِّيَةِ فَلَهُ جَمِيعُهَا.

19- أَمَّا الْأَجْفَانُ، وَالْأَشْفَارُ، فَلَا قِصَاصَ فِيهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا بِالدِّيَةِ وَالْمَالِكِيَّةَ بِحُكُومَةِ عَدْلٍ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِيهَا الْقِصَاصُ؛ لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ لِانْتِهَائِهِ إِلَى مَفْصِلٍ، وَيُؤْخَذُ جَفْنُ الْبَصِيرِ بِجَفْنِ الْبَصِيرِ وَالضَّرِيرِ، وَجَفْنُ الضَّرِيرِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي السَّلَامَةِ مِنَ النَّقْصِ.

3- الْجِنَايَةُ عَلَى الْأَنْفِ:

20- الْجِنَايَةُ عَلَى الْمَارِنِ- وَهُوَ مَا لَانَ مِنَ الْأَنْفِ- مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ} وَلِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ فِيهِ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّ لَهُ حَدًّا مَعْلُومًا وَهُوَ مَا لَانَ مِنْهُ، وَإِنْ قَطَعَ الْمَارِنَ كُلَّهُ مَعَ قَصَبَةِ الْأَنْفِ، فَفِي الْمَارِنِ الْقِصَاصُ، وَفِي الْقَصَبَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ إِذْ لَا قِصَاصَ فِي الْعَظْمِ وَلَكِنْ فِي الْمَارِنِ قِصَاصٌ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُؤْخَذُ الْأَنْفُ الْكَبِيرُ بِالصَّغِيرِ، وَالْأَقْنَى بِالْأَفْطَسِ، وَأَنْفُ صَحِيحِ الشَّمِّ بِالْأَخْشَمِ الَّذِي لَا يَشُمُّ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِعِلَّةٍ فِي الدِّمَاغِ، وَالْأَنْفُ صَحِيحٌ.وَكَذَلِكَ يُؤْخَذُ الصَّحِيحُ بِالْمَجْذُومِ مَا لَمْ يَسْقُطْ مِنْهُ شَيْءٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَرَضٌ، فَإِنْ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ، يُقْطَعُ مِنْهُ مَا كَانَ بَقِيَ مِنَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِنْ أَمْكَنَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ قَطَعَ مِثْلَ مَا بَقِيَ مِنْهُ، أَوْ أَخَذَ أَرْشَ ذَلِكَ.

وَفَصَّلَ الْبَغَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فَقَالَ: يُؤْخَذُ الْأَنْفُ السَّلِيمُ بِالْمَجْذُومِ إِنْ كَانَ فِي حَالِ الِاحْمِرَارِ، وَإِنِ اسْوَدَّ فَلَا قِصَاصَ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي حَدِّ الْبِلَى، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِيهِ الْحُكُومَةُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَنْفُ الْقَاطِعِ أَصْغَرَ، خُيِّرَ الْمَقْطُوعُ أَنْفُهُ الْكَبِيرُ إِنْ شَاءَ قَطَعَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ، وَكَذَا إِذَا كَانَ قَاطِعُ الْأَنْفِ أَخْشَمَ، أَوْ أَصْرَمَ الْأَنْفِ، أَوْ بِأَنْفِهِ نُقْصَانٌ مِنْ شَيْءٍ أَصَابَهُ، فَإِنَّ الْمَقْطُوعَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَطْعِ وَبَيْنَ أَخْذِ دِيَةِ أَنْفِهِ.

وَيُؤْخَذُ الْمَنْخِرُ الْأَيْمَنُ بِالْأَيْمَنِ، وَالْأَيْسَرُ بِالْأَيْسَرِ، وَلَا يُؤْخَذُ الْعَكْسُ، وَيُؤْخَذُ الْحَاجِزُ بِالْحَاجِزِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ لِانْتِهَائِهِ إِلَى حَدٍّ.

وَفِي قَطْعِ بَعْضِ الْمَارِنِ الْقِصَاصُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقُدِّرَ ذَلِكَ بِالْأَجْزَاءِ دُونَ الْمِسَاحَةِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا قِصَاصَ فِيهِ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ.

4- الْجِنَايَةُ عَلَى الْأُذُنِ:

21- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْأُذُنَ تُؤْخَذُ بِالْأُذُنِ؛ لقوله تعالى: {وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ}.وَلِأَنَّهَا تَنْتَهِي إِلَى حَدٍّ فَاصِلٍ، فَأَشْبَهَتِ الْيَدَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ أُذُنِ السَّمِيعِ وَالْأَصَمِّ؛ لِتَسَاوِيهِمَا، فَإِنَّ ذَهَابَ السَّمْعِ نَقْصٌ فِي الرَّأْسِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّهُ، وَلَيْسَ بِنَقْصٍ فِيهَا، كَمَا نَصَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَخْذِ الْأُذُنِ الشَّلاَّءِ بِغَيْرِهَا، لِبَقَاءِ مَنْفَعَتِهَا بِجَمْعِ الصَّوْتِ.

فَإِنْ قُطِعَ بَعْضُهَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَصُّ فِي بَعْضِ الْأُذُنِ، وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ فِيهِ الْقِصَاصَ إِنْ كَانَ لَهُ حَدٌّ يُعْرَفُ وَتُمْكِنُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ، وَإِلاَّ سَقَطَ الْقِصَاصُ.

وَتُؤْخَذُ الصَّحِيحَةُ بِالْمَثْقُوبَةِ؛ لِأَنَّ الثُّقْبَ لَيْسَ بِعَيْبٍ، وَإِنَّمَا يُفْعَلُ فِي الْعَادَةِ لِلْقُرْطِ وَالتَّزَيُّنِ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الثُّقْبُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، أَوْ كَانَتْ أُذُنُ الْقَاطِعِ مَخْرُومَةً، وَالْمَقْطُوعَةُ سَالِمَةً، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ قَطَعَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَقْطُوعَةُ نَاقِصَةً كَانَتْ لَهُ حُكُومَةُ عَدْلٍ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تُؤْخَذُ الْمَخْرُومَةُ بِالصَّحِيحَةِ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِ مَا ذَهَبَ مِنَ الْمَخْرُومَةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: تُؤْخَذُ الْمَخْرُومَةُ بِالصَّحِيحَةِ، وَلَا تُؤْخَذُ الصَّحِيحَةُ بِهَا؛ لِأَنَّ الثُّقْبَ إِذَا انْخَرَمَ صَارَ نَقْصًا فِيهَا، وَالثُّقْبُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ عَيْبٌ.

أَمَّا الْأُذُنُ الْمُسْتَحْشِفَةُ (الْيَابِسَةُ) فَتُؤْخَذُ بِالصَّحِيحَةِ، وَكَذَلِكَ الصَّحِيحَةُ تُؤْخَذُ بِهَا فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا جَمْعُ الصَّوْتِ، وَحِفْظُ مَحَلِّ السَّمْعِ وَالْجَمَالِ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِهَا، كَحُصُولِهِ بِالصَّحِيحَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ.وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا تُؤْخَذُ الصَّحِيحَةُ بِالْمُسْتَحْشِفَةِ؛ لِأَنَّهَا نَاقِصَةٌ، فَتَكُونُ كَالْيَدِ الشَّلاَّءِ، وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ.

5- الْجِنَايَةُ عَلَى اللِّسَانِ:

22- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- إِلَى أَنَّهُ يُؤْخَذُ اللِّسَانُ بِاللِّسَانِ، لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}.وَلِأَنَّ لَهُ حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، فَاقْتُصَّ مِنْهُ كَالْعَيْنِ، وَلَا يُؤْخَذُ لِسَانُ نَاطِقٍ بِلِسَانِ أَخْرَسَ؛ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَيَجُوزُ الْعَكْسُ بِرِضَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- مَا عَدَا أَبَا يُوسُفَ- إِلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي اللِّسَانِ، وَلَوْ قُطِعَ مِنْ أَصْلِهِ، وَذَلِكَ لِعُسْرِ اسْتِقْصَاءِ اللِّسَانِ مِنْ أَصْلِهِ.

6- الْجِنَايَةُ عَلَى الشَّفَةِ:

23- يَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِي الشَّفَةِ مُطْلَقًا لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}.وَلِأَنَّ لَهَا حَدًّا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، يُمْكِنُ الْقِصَاصُ مِنْهُ، فَوَجَبَ كَالْيَدَيْنِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الشَّفَةِ إِذَا قَطَعَهَا جَمِيعًا؛ لِلْمُسَاوَاةِ، وَإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


248-موسوعة الفقه الكويتية (حدث 1)

حَدَثٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْحَدَثُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْحُدُوثِ: وَهُوَ الْوُقُوعُ وَالتَّجَدُّدُ وَكَوْنُ الشَّيْءِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَمِنْهُ يُقَالُ: حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ إِذَا تَجَدَّدَ وَكَانَ مَعْدُومًا قَبْلَ ذَلِكَ.وَالْحَدَثُ اسْمٌ مِنْ أَحْدَثَ الْإِنْسَانُ إِحْدَاثًا: بِمَعْنَى الْحَالَةِ النَّاقِضَةِ لِلْوُضُوءِ.وَيَأْتِي بِمَعْنَى الْأَمْرِ الْحَادِثِ الْمُنْكَرِ الَّذِي لَيْسَ بِمُعْتَادٍ وَلَا مَعْرُوفٍ، وَمِنْهُ مُحْدَثَاتُ الْأُمُورِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ أُمُورٌ:

أ- الْوَصْفُ الشَّرْعِيُّ (أَوِ الْحُكْمِيُّ) الَّذِي يَحِلُّ فِي الْأَعْضَاءِ وَيُزِيلُ الطَّهَارَةَ وَيَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، وَهَذَا الْوَصْفُ يَكُونُ قَائِمًا بِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَقَطْ فِي الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، وَبِجَمِيعِ الْبَدَنِ فِي الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ، وَهُوَ الْغَالِبُ فِي إِطْلَاقِهِمْ.كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.

وَقَدْ وَرَدَ هَذَا التَّعْرِيفُ فِي كُتُبِ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ بِاخْتِلَافٍ بَسِيطٍ فِي الْعِبَارَةِ.

ب- الْأَسْبَابُ الَّتِي تُوجِبُ الْوُضُوءَ أَوِ الْغُسْلَ، وَلِهَذَا نَجِدُ الْحَنَفِيَّةَ يُعَرِّفُونَهُ بِأَنَّهُ: خُرُوجُ النَّجَسِ مِنَ الْآدَمِيِّ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِمَا مُعْتَادًا كَانَ أَمْ غَيْرَ مُعْتَادٍ.

وَالْمَالِكِيَّةُ يُعَرِّفُونَهُ بِأَنَّهُ الْخَارِجُ الْمُعْتَادُ مِنَ الْمُخْرَجِ الْمُعْتَادِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَالْحَنَابِلَةُ يُعَرِّفُونَهُ بِمَا أَوْجَبَ وُضُوءًا أَوْ غُسْلًا كَمَا وَضَعَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بَابًا لِلْأَحْدَاثِ ذَكَرُوا فِيهَا أَسْبَابَ نَقْضِ الْوُضُوءِ.

ج- وَيُطْلَقُ الْحَدَثُ عَلَى الْمَنْعِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ

د- وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ إِطْلَاقَهُ عَلَى خُرُوجِ الْمَاءِ فِي الْمُعْتَادِ كَمَا قَالَ الدُّسُوقِيُّ.

وَالْمُرَادُ هُنَا مِنْ هَذِهِ الْإِطْلَاقَاتِ هُوَ الْأَوَّلُ، أَمَّا الْمَنْعُ فَإِنَّهُ حُكْمُ الْحَدَثِ، وَهُوَ الْحُرْمَةُ وَلَيْسَ نَفْسَ الْحَدَثِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الطَّهَارَةُ:

2- الطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ النَّزَاهَةُ وَالنَّظَافَةُ وَالْخُلُوصُ مِنَ الْأَدْنَاسِ حِسِّيَّةً كَانَتْ كَالْأَنْجَاسِ، أَمْ مَعْنَوِيَّةً كَالْعُيُوبِ مِنَ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَنَحْوِهِمَا.

وَفِي الشَّرْعِ رَفْعُ مَا يَمْنَعُ الصَّلَاةَ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ حَدَثٍ أَوْ نَجَاسَةٍ بِالْمَاءِ أَوْ رَفْعُ حُكْمِهِ بِالتُّرَابِ.

فَالطَّهَارَةُ ضِدُّ الْحَدَثِ (ر: طَهَارَةٌ).

ب- الْخَبَثُ:

3- الْخَبَثُ بِفَتْحَتَيْنِ النَّجَسُ، وَإِذَا ذُكِرَ مَعَ الْحَدَثِ يُرَادُ مِنْهُ النَّجَاسَةُ الْحَقِيقِيَّةُ أَيِ الْعَيْنُ الْمُسْتَقْذِرَةُ شَرْعًا، وَمِنْ هُنَا عَرَّفُوا الطَّهَارَةَ بِأَنَّهَا النَّظَافَةُ مِنْ حَدَثٍ أَوْ خَبَثٍ.

وَالْخُبْثُ بِسُكُونِ الْبَاءِ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ خَبُثَ الشَّيْءُ خُبْثًا ضِدُّ طَابَ، يُقَالُ: شَيْءٌ خَبِيثٌ أَيْ نَجِسٌ أَوْ كَرِيهُ الطَّعْمِ، وَالْخُبْثُ كَذَلِكَ الشَّرُّ وَالْوَصْفُ مِنْهُ الْخُبْثُ وَجَمْعُهُ الْخُبُثُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ» أَيْ ذُكْرَانِ الشَّيَاطِينِ وَإِنَاثِهِمْ، وَاسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ حَرَامٍ

ج- النَّجَسُ:

4- النَّجَسُ بِفَتْحَتَيْنِ مَصْدَرُ نَجُسَ الشَّيْءُ نَجَسًا، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ اسْمًا لِكُلِّ مُسْتَقْذَرٍ، وَالنَّجِسُ بِكَسْرِ الْجِيمِ ضِدُّ الطَّاهِرِ، وَالنَّجَاسَةُ ضِدُّ الطَّهَارَةِ، فَالنَّجَسُ لُغَةً يَعُمُّ الْحَقِيقِيَّ وَالْحُكْمِيَّ، وَعُرْفًا يَخْتَصُّ بِالْأَوَّلِ كَالْخُبْثِ.وَإِذَا أَحْدَثَ الْإِنْسَانُ وَنُقِضَ وُضُوءُهُ يُقَالُ لَهُ: مُحْدِثٌ، وَلَا يُقَالُ لَهُ نَجِسٌ فِي عُرْفِ الشَّارِعِ.أَمَّا الْخُبْثُ فَيَخُصُّ النَّجَاسَةَ الْحَقِيقِيَّةَ كَمَا أَنَّ الْحَدَثَ يَخُصُّ الْحُكْمِيَّةَ، وَالطَّهَارَةُ ارْتِفَاعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

أَقْسَامُ الْحَدَثِ:

5- سَبَقَ فِي تَعْرِيفِ الْحَدَثِ أَنَّهُ بِالْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ وَصْفٌ يَحِلُّ بِالْأَعْضَاءِ وَيَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا.فَهَذَا الْوَصْفُ إِنْ كَانَ قَائِمًا فِي جَمِيعِ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ وَأَوْجَبَ غُسْلًا يُسَمَّى حَدَثًا أَكْبَرَ، وَإِذَا كَانَ قَائِمًا بِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَقَطْ وَأَوْجَبَ غَسْلَ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ فَقَطْ يُسَمَّى حَدَثًا أَصْغَرَ.

وَالْحَدَثُ بِالْإِطْلَاقِ الثَّانِي أَيِ الْأَسْبَابُ الَّتِي تُوجِبُ الْوُضُوءَ أَوِ الْغُسْلَ كَذَلِكَ نَوْعَانِ: حَدَثٌ حَقِيقِيٌّ، وَحَدَثٌ حُكْمِيٌّ.

وَالْحَدَثُ الْحُكْمِيُّ: فَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُوجَدَ أَمْرٌ يَكُونُ سَبَبًا لِخُرُوجِ النَّجَسِ الْحَقِيقِيِّ غَالِبًا فَيُقَامُ السَّبَبُ مَكَانَ الْمُسَبَّبِ احْتِيَاطًا، وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُوجَدَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَكِنَّهُ جُعِلَ حَدَثًا شَرْعًا تَعَبُّدًا مَحْضًا.وَهَذَا التَّقْسِيمُ صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْلِيلَاتُ غَيْرِهِمْ.

أَسْبَابُ الْحَدَثِ:

أَوَّلًا- خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ:

6- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِخُرُوجِ النَّجَسِ مِنَ الْآدَمِيِّ الْحَيِّ مِنَ السَّبِيلَيْنِ (الدُّبُرِ وَالذَّكَرِ أَوْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ) مُعْتَادًا كَانَ كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ وَدَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، أَمْ غَيْرَ مُعْتَادٍ كَدَمِ الِاسْتِحَاضَةِ.أَوْ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ كَالْجُرْحِ وَالْقُرْحِ وَالْأَنْفِ وَالْفَمِ سَوَاءٌ كَانَ الْخَارِجُ دَمًا أَوْ قَيْحًا أَوْ قَيْئًا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِالْخَارِجِ الْمُعْتَادِ مِنَ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ، لَا حَصًى وَدُودٍ وَلَوْ بِبِلَّةٍ، وَهَذَا يَشْمَلُ الْبَوْلَ وَالْغَائِطَ وَالْمَذْيَ وَالْمَنِيَّ وَالْوَدْيَ وَالرِّيحَ، سَوَاءٌ أَكَانَ خُرُوجُهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ بِاخْتِيَارٍ، أَمْ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ، كَسَلَسٍ فَارَقَ أَكْثَرَ الزَّمَنِ، أَيِ ارْتَفَعَ عَنِ الشَّخْصِ، زَمَانًا يَزِيدُ عَلَى النِّصْفِ.فَإِنْ لَازَمَهُ كُلَّ الزَّمَنِ أَوْ أَكْثَرَهُ أَوْ نِصْفَهُ فَلَا نَقْضَ، وَيَشْمَلُ الْحَدَثُ عِنْدَهُمُ الْخَارِجَ مِنْ ثُقْبَةٍ تَحْتَ الْمَعِدَةِ إِنِ انْسَدَّ السَّبِيلَانِ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَالْخَارِجُ غَيْرُ الْمُعْتَادِ، وَالدُّودُ، وَالْحَصَى، وَالدَّمُ، وَالْقَيْحُ، وَالْقَيْءُ وَنَحْوُهَا لَا يُعْتَبَرُ حَدَثًا وَلَوْ كَانَ مِنَ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِخُرُوجِ شَيْءٍ مِنْ قُبُلِهِ أَوْ دُبُرِهِ عَيْنًا كَانَ أَوْ رِيحًا، طَاهِرًا أَوْ نَجِسًا، جَافًّا أَوْ رَطْبًا، مُعْتَادًا كَبَوْلٍ أَوْ نَادِرًا كَدَمٍ، قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، طَوْعًا أَوْ كَرْهًا.إِلاَّ الْمَنِيَّ فَلَيْسَ خُرُوجُهُ نَاقِضًا قَالُوا: لِأَنَّهُ أَوْجَبَ أَعْظَم الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ الْغُسْلُ فَلَا يُوجِبُ أَدْوَنَهُمَا وَهُوَ الْوُضُوءُ بِعُمُومِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا انْسَدَّ مَخْرَجُهُ وَانْفَتَحَ تَحْتَ مَعِدَتِهِ فَخَرَجَ الْمُعْتَادُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: النَّاقِضُ لِلْوُضُوءِ هُوَ الْخَارِجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، نَادِرًا كَانَ كَالدُّودِ وَالدَّمِ وَالْحَصَى، أَوْ مُعْتَادًا كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْوَدْيِ وَالْمَذْيِ وَالرِّيحِ، طَاهِرًا أَوْ نَجِسًا، وَكَذَلِكَ خُرُوجُ النَّجَاسَاتِ مِنْ بَقِيَّةِ الْبَدَنِ، فَإِنْ كَانَتْ غَائِطًا أَوْ بَوْلًا نَقَضَ وَلَوْ قَلِيلًا مِنْ تَحْتِ الْمَعِدَةِ أَوْ فَوْقِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ السَّبِيلَانِ مَفْتُوحَيْنِ أَمْ مَسْدُودَيْنِ.وَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَاتُ الْخَارِجَةُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ غَيْرَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ كَالْقَيْءِ وَالدَّمِ وَالْقَيْحِ، وَدُونَ الْجِرَاحِ لَمْ يَنْقُضْ إِلاَّ كَثِيرُهَا.

وَمِمَّا سَبَقَ يَظْهَرُ أَنَّ أَسْبَابَ الْحَدَثِ الْحَقِيقِيِّ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ:

أَسْبَابُ الْحَدَثِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا:

7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ الْمُعْتَادَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ وَالرِّيحِ، وَأَيْضًا دَمُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ يُعْتَبَرُ حَدَثًا حَقِيقِيًّا قَلِيلًا كَانَ الْخَارِجُ أَوْ كَثِيرًا وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْحَدَثِ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ وَنَحْوِهِمَا.وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا، فَلَا يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا».

وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ بَعْضُهَا حَدَثٌ أَكْبَرُ فَيُوجِبُ الْغُسْلَ كَخُرُوجِ الْمَنِيِّ، وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَبَعْضُهَا حَدَثٌ أَصْغَرُ يُوجِبُ الْوُضُوءَ فَقَطْ كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ وَالرِّيحِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.

الْأَسْبَابُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا:

أ- مَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ نَادِرًا:

8- مَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ نَادِرًا كَالدُّودِ وَالْحَصَى وَالشَّعْرِ وَقِطْعَةِ اللَّحْمِ وَنَحْوِهَا تُعْتَبَرُ أَحْدَاثًا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ)، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ، لِأَنَّهَا خَارِجَةٌ مِنَ السَّبِيلَيْنِ فَأَشْبَهَتِ الْمَذْيَ، وَلِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ بِلَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِهَا وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْمُسْتَحَاضَةَ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَدَمُهَا خَارِجٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْخَارِجَ غَيْرَ الْمُعْتَادِ مِنَ السَّبِيلَيْنِ كَحَصًى تَوَلَّدَ بِالْبَطْنِ وَدُودٍ لَا يُعْتَبَرُ حَدَثًا وَلَوْ بِبِلَّةٍ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ غَيْرِ مُتَفَاحِشٍ بِحَيْثُ يُنْسَبُ الْخُرُوجُ لِلْحَصَى وَالدُّودِ لَا لِلْبَوْلِ وَالْغَائِطِ.وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ تَخْرُجَ الدُّودَةُ وَالْحَصَى غَيْرَ نَقِيَّةٍ.

9- وَاخْتَلَفُوا فِي الرِّيحِ الْخَارِجَةِ مِنَ الذَّكَرِ أَوْ قُبُلِ الْمَرْأَةِ:

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَا تُعْتَبَرُ حَدَثًا، وَلَا يُنْتَقَضُ بِهَا الْوُضُوءُ، لِأَنَّهَا اخْتِلَاجٌ وَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ رِيحًا مُنْبَعِثَةً عَنْ مَحَلِّ النَّجَاسَةِ، وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمُفْضَاةِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْمُفْضَاةِ فَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُنْدَبُ لَهَا الْوُضُوءُ، وَقِيلَ: يَجِبُ، وَقِيلَ: لَوْ مُنْتِنَةً، لِأَنَّ نَتَنَهَا دَلِيلُ خُرُوجِهَا مِنَ الدُّبُرِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ الْخَارِجَةَ مِنَ الذَّكَرِ أَوْ قُبُلِ الْمَرْأَةِ حَدَثٌ يُوجِبُ الْوُضُوءَ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا وُضُوءَ إِلاَّ مِنْ صَوْتٍ أَوْ رِيحٍ».

ب- مَا يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ:

10- الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ إِذَا لَمْ يَكُنْ نَجِسًا لَا يُعْتَبَرُ حَدَثًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ نَجِسًا، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: مَا يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ مِنَ النَّجَاسَةِ حَدَثٌ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ سَائِلًا جَاوَزَ إِلَى مَحَلٍّ يُطْلَبُ تَطْهِيرُهُ وَلَوْ نَدْبًا، كَدَمٍ وَقَيْحٍ وَصَدِيدٍ عَنْ رَأْسِ جُرْحٍ، وَكَقَيْءٍ مَلأَ الْفَمَ مِنْ مُرَّةٍ أَوْ عَلَقٍ أَوْ طَعَامٍ أَوْ مَاءٍ، لَا بَلْغَمٍ، وَإِنْ قَاءَ دَمًا أَوْ قَيْحًا نَقَضَ وَإِنْ لَمْ يَمْلأَِ الْفَمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا إِلاَّ الْغَائِطَ وَالْبَوْلَ فَلَا تُشْتَرَطُ فِيهِمَا الْكَثْرَةُ عِنْدَهُمْ.

وَالْقَوْلُ بِأَنَّ النَّجِسَ الْخَارِجَ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ حَدَثٌ هُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.

مِنْهُمُ: ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ، مِنْهَا: قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ» وَقَوْلُهُ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلْسٌ أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ، فَلْيَتَوَضَّأْ ثُمَّ لْيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ» وَلِأَنَّ الدَّمَ وَنَحْوَهُ نَجَاسَةٌ خَارِجَةٌ مِنَ الْبَدَنِ فَأَشْبَهَ الْخَارِجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ.

وَوَجْهُ مَا اشْتَرَطَهُ الْحَنَابِلَةُ مِنَ الْكَثْرَةِ فِي غَيْرِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ فِي الدَّمِ: إِذَا كَانَ فَاحِشًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- عَصَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ دَمٌ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ: الْخَارِجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ لَا يُعْتَبَرُ حَدَثًا، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَعْنِي فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ- فَأَصَابَ رَجُلٌ امْرَأَةَ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَحَلَفَ أَنْ لَا أَنْتَهِيَ حَتَّى أُهْرِيقَ دَمًا فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، فَخَرَجَ يَتْبَعُ أَثَرَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَنَزَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مَنْزِلًا، فَقَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَكْلَؤُنَا؟ فَانْتَدَبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: كُونَا بِفَمِ الشِّعْبِ قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلَانِ إِلَى فَمِ الشِّعْبِ اضْطَجَعَ الْمُهَاجِرِيُّ وَقَامَ الْأَنْصَارِيُّ يُصَلِّي، وَأَتَى الرَّجُلُ، فَلَمَّا رَأَى شَخْصَهُ عَرَفَ أَنَّهُ رَبِيئَةٌ لِلْقَوْمِ، فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَوَضَعَهُ فِيهِ، فَنَزَعَهُ حَتَّى رَمَاهُ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ، ثُمَّ انْتَبَهَ صَاحِبُهُ، فَلَمَّا عَرَفَ أَنَّهُمْ قَدْ نَذِرُوا بِهِ هَرَبَ، وَلَمَّا رَأَى الْمُهَاجِرِيُّ مَا بِالْأَنْصَارِيِّ مِنَ الدَّمِ: قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَلَا أَنْبَهْتنِي أَوَّلَ مَا رَمَى؟ قَالَ: كُنْتُ فِي سُورَةٍ أَقْرَؤُهَا، فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ أَقْطَعَهَا» وَلِمَا رُوِيَ أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام-: «قَاءَ فَلَمْ يَتَوَضَّأْ».

وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ مَا خَرَجَ مِنْ ثُقْبَةٍ تَحْتَ الْمَعِدَةِ إِنِ انْسَدَّ مَخْرَجُهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَنْسَدَّ فِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَيُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ.ثَانِيًا- الْحَدَثُ الْحُكْمِيُّ:

11- الْحَدَثُ الْحُكْمِيُّ هُوَ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِخُرُوجِ الْحَدَثِ الْحَقِيقِيِّ غَالِبًا فَيُقَامُ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ احْتِيَاطًا.فَيَأْخُذُ حُكْمَ الْحَدَثِ الْحَقِيقِيِّ شَرْعًا، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا النَّوْعِ:

- زَوَالُ الْعَقْلِ أَوِ التَّمْيِيزُ وَذَلِكَ بِالنَّوْمِ أَوِ السُّكْرِ أَوِ الْإِغْمَاءِ أَوِ الْجُنُونِ أَوْ نَحْوِهَا.وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْمَذَاهِبِ فِي الْجُمْلَةِ.وَاسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ لِنَقْضِ الْوُضُوءِ بِالنَّوْمِ بِحَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفَرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ إِلاَّ مِنْ جَنَابَةٍ، لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ».

وَبِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ».

وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ النَّوْمِ النَّاقِضِ لِلْوُضُوءِ:

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: النَّوْمُ النَّاقِضُ هُوَ مَا كَانَ مُضْطَجِعًا أَوْ مُتَّكِئًا أَوْ مُسْتَنِدًا إِلَى شَيْءٍ لَوْ أُزِيلَ مِنْهُ لَسَقَطَ، لِأَنَّ الِاضْطِجَاعَ سَبَبٌ لِاسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ فَلَا يَعْرَى عَنْ خُرُوجِ شَيْءٍ عَادَةً، وَالثَّابِتُ عَادَةً كَالْمُتَيَقَّنِ.وَالِاتِّكَاءُ يُزِيلُ مُسْكَةَ الْيَقِظَةِ، لِزَوَالِ الْمَقْعَدَةِ عَنِ الْأَرْضِ.بِخِلَافِ النَّوْمِ حَالَةَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، لِأَنَّ بَعْضَ الِاسْتِمْسَاكِ بَاقٍ، إِذْ لَوْ زَالَ لَسَقَطَ، فَلَمْ يَتِمَّ الِاسْتِرْخَاءُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ النَّاقِضَ هُوَ النَّوْمُ الثَّقِيلُ بِأَنْ لَمْ يَشْعُرْ بِالصَّوْتِ الْمُرْتَفِعِ، بِقُرْبِهِ، أَوْ بِسُقُوطِ شَيْءٍ مِنْ يَدِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، طَالَ النَّوْمُ أَوْ قَصُرَ.وَلَا يُنْقَضُ بِالْخَفِيفِ وَلَوْ طَالَ، وَيُنْدَبُ الْوُضُوءُ إِنْ طَالَ النَّوْمُ الْخَفِيفُ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: الصَّحِيحُ مِنْهَا أَنَّ مَنْ نَامَ مُمَكِّنًا مَقْعَدَتَهُ مِنَ الْأَرْضِ أَوْ نَحْوِهَا لَمْ يُنْقَضْ وُضُوءُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمَكِّنًا يُنْتَقَضُ عَلَى أَيَّةِ هَيْئَةٍ كَانَ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا لِحَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ فَيَنَامُونَ، أَحْسَبُهُ قَالَ: قُعُودًا حَتَّى تَخْفِقَ رُءُوسُهُمْ ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ..وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَيْسَ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا وُضُوءٌ حَتَّى يَضَعَ جَنْبَهُ إِلَى الْأَرْضِ» وَيُنْدَبُ الْوُضُوءُ عِنْدَهُمْ إِلاَّ مَعَ التَّمْكِينِ خُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَسَمُوا النَّوْمَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

الْأَوَّلُ: نَوْمُ الْمُضْطَجِعِ فَيُنْقَضُ بِهِ الْوُضُوءُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا أَخْذًا لِعُمُومِ الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ.الثَّانِي: نَوْمُ الْقَاعِدِ، فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا نُقِضَ بِنَاءً عَلَى الْحَدِيثَيْنِ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَمْ يُنْقَضْ لِحَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيَّةُ.الثَّالِثُ: مَا عَدَا هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، وَهُوَ نَوْمُ الْقَائِمِ وَالرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ.وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْحَالَاتِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: يُنْقَضُ مُطْلَقًا لِلْعُمُومِ فِي الْحَدِيثَيْنِ، وَالثَّانِيَةُ: لَا يُنْقَضُ، إِلاَّ إِذَا كَثُرَ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَسْجُدُ وَيَنَامُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي فَقُلْتُ لَهُ: صَلَّيْتَ وَلَمْ تَتَوَضَّأْ، وَقَدْ نِمْتَ، فَقَالَ إِنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا فَإِنَّهُ إِذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ»

وَالْعِبْرَةُ فِي تَحْدِيدِ الْكَثِيرِ وَالْيَسِيرِ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمُ الْعُرْفُ.

أَمَّا السُّكْرُ وَالْجُنُونُ وَالْإِغْمَاءُ فَدَلِيلُ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِهَا أَنَّهَا أَبْلَغُ فِي إِزَالَةِ الْمُسْكَةِ مِنَ النَّوْمِ، لِأَنَّ النَّائِمَ يَسْتَيْقِظُ بِالِانْتِبَاهِ، بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ.

وَلِتَعْرِيفِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَمَعْرِفَةِ حُكْمِهَا وَأَثَرِهَا عَلَى الْوُضُوءِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحَاتِهَا.

الْمُبَاشَرَةُ الْفَاحِشَةُ دُونَ الْجِمَاعِ:

12- وَتَفْسِيرُهَا، كَمَا قَالَ الْكَاسَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنْ يُبَاشِرَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ بِشَهْوَةٍ وَيَنْتَشِرَ لَهَا وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا ثَوْبٌ وَلَمْ يَرَ بَلَلًا.

وَقَالَ فِي الدُّرِّ: أَنْ تَكُونَ بِتَمَاسِّ الْفَرْجَيْنِ وَلَوْ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ أَوِ الرَّجُلَيْنِ مَعَ الِانْتِشَارِ وَلَوْ بِلَا بَلَلٍ.فَهَذِهِ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- إِلاَّ مُحَمَّدًا مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- فَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُ قَالَ: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَسْجِدِ، وَنَحْنُ قُعُودٌ مَعَهُ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ أَعَادَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَسَكَتَ عَنْهُ.وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ.فَلَمَّا انْصَرَفَ نَبِيُّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: فَاتَّبَعَ الرَّجُلُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ انْصَرَفَ وَاتَّبَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْظُرُ مَا يَرُدُّ عَلَى الرَّجُلِ فَلَحِقَ الرَّجُلُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ.قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: أَرَأَيْتَ حِينَ خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِكَ أَلَيْسَ قَدْ تَوَضَّأْتَ فَأَحْسَنْتَ الْوُضُوءَ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ: ثُمَّ شَهِدْتَ الصَّلَاةَ مَعَنَا فَقَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ حَدَّكَ، أَوْ قَالَ ذَنْبَكَ».

وَلِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا لَا تَخْلُو عَنْ خُرُوجِ الْمَذْيِ عَادَةً إِلاَّ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ جَفَّ بِحَرَارَةِ الْبَدَنِ فَلَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ أَوْ غَفَلَ عَنْ نَفْسِهِ لِغَلَبَةِ الشَّبَقِ فَكَانَتْ سَبَبًا مُفْضِيًا إِلَى الْخُرُوجِ، وَهُوَ الْمُتَحَقِّقُ فِي مَقَامِ وُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ.

الْتِقَاءُ بَشَرَتَيْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ:

13- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ لَمْسَ بَشَرَتَيِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ حَدَثٌ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ تَخْتَلِفُ عِبَارَاتُهُمْ فِي الشُّرُوطِ وَالتَّفْصِيلِ.

فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الَّذِي يَنْقُضُ الْوُضُوءَ هُوَ اللَّمْسُ بِعُضْوٍ أَصْلِيٍّ أَوْ زَائِدٍ يَلْتَذُّ صَاحِبُهُ بِهِ عَادَةً، وَلَوْ لِظُفْرٍ أَوْ شَعْرٍ أَوْ سِنٍّ، وَلَوْ بِحَائِلٍ خَفِيفٍ يُحِسُّ اللاَّمِسُ فَوْقَهُ بِطَرَاوَةِ الْجَسَدِ، إِنْ قَصَدَ اللَّذَّةَ أَوْ وَجَدَهَا بِدُونِ الْقَصْدِ، قَالُوا: وَمِمَّنْ يُلْتَذُّ بِهِ عَادَةً الْأَمْرَدُ وَاَلَّذِي لَمْ تَتِمَّ لِحْيَتُهُ، فَلَا نَقْضَ بِلَمْسِ جَسَدِ أَوْ فَرْجِ صَغِيرَةٍ لَا تُشْتَهَى عَادَةً، وَلَوْ قَصَدَ.اللَّذَّةَ أَوْ وَجَدَهَا، كَمَا لَا تُنْقَضُ بِلَمْسِ مَحْرَمٍ بِغَيْرِ لَذَّةٍ، أَمَّا الْقُبْلَةُ بِفَمٍ فَنَاقِضَةٌ وَلَا تُشْتَرَطُ فِيهَا اللَّذَّةُ وَلَا وُجُودُهَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: هُوَ لَمْسُ بَشَرَتَيِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى اللَّذَيْنِ بَلَغَا حَدًّا يُشْتَهَى، وَلَوْ لَمْ يَكُونَا بَالِغَيْنِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِشَهْوَةٍ أَوْ إِكْرَاهٍ أَوْ نِسْيَانٍ، أَوْ يَكُونَ الذَّكَرُ مَمْسُوحًا أَوْ خَصِيًّا أَوْ عِنِّينًا، أَوِ الْمَرْأَةُ عَجُوزًا شَوْهَاءَ، أَوِ الْعُضْوُ زَائِدًا أَوْ أَصْلِيًّا سَلِيمًا أَوْ أَشَلَّ أَوْ أَحَدُهُمَا مَيِّتًا.وَالْمُرَادُ بِالْبَشَرَةِ ظَاهِرُ الْجِلْدِ.وَفِي مَعْنَاهَا اللَّحْمُ، كَلَحْمِ الْأَسْنَانِ وَاللِّسَانِ وَاللِّثَةِ وَبَاطِنِ الْعَيْنِ، فَخَرَجَ مَا إِذَا كَانَ عَلَى الْبَشَرَةِ حَائِلٌ وَلَوْ رَقِيقًا.وَالْمَلْمُوسُ فِي كُلِّ هَذَا كَاللاَّمِسِ فِي نَقْضِ وُضُوئِهِ فِي الْأَظْهَرِ.

وَلَا يُنْقَضُ بِلَمْسِ الْمَحْرَمِ فِي الْأَظْهَرِ، وَلَا صَغِيرَةٍ، وَشَعْرٍ، وَسِنٍّ، وَظُفْرٍ فِي الْأَصَحِّ، كَمَا لَا يُنْقَضُ بِلَمْسِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ وَالْخُنْثَى مَعَ الْخُنْثَى أَوْ مَعَ الرَّجُلِ أَوِ الْمَرْأَةِ وَلَوْ بِشَهْوَةٍ، لِانْتِفَاءِ مَظِنَّتِهَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَسُّ بَشَرَةِ الذَّكَرِ بَشَرَةَ أُنْثَى أَوْ عَكْسُهُ لِشَهْوَةٍ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ غَيْرِ طِفْلَةٍ وَطِفْلٍ وَلَوْ كَانَ اللَّمْسُ بِزَائِدٍ أَوْ لِزَائِدٍ أَوْ شَلَلٍ، وَلَوْ كَانَ الْمَلْمُوسُ مَيِّتًا أَوْ عَجُوزًا أَوْ مَحْرَمًا أَوْ صَغِيرَةً تُشْتَهَى، وَلَا يُنْقَضُ وُضُوءُ الْمَلْمُوسِ بَدَنُهُ وَلَوْ وُجِدَ مِنْهُ شَهْوَةٌ، وَلَا بِلَمْسِ شَعْرٍ وَظُفْرٍ وَسِنٍّ وَعُضْوٍ مَقْطُوعٍ وَأَمْرَدَ مَسَّهُ رَجُلٌ وَلَا مَسِّ خُنْثَى

مُشْكِلٍ، وَلَا بِمَسِّهِ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، وَلَا بِمَسِّ الرَّجُلِ رَجُلًا، وَلَا الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ وَلَوْ بِشَهْوَةٍ فِيهِمْ.

هَذَا، وَيَسْتَدِلُّ الْجُمْهُورُ فِي اعْتِبَارِهِمُ اللَّمْسَ مِنَ الْأَحْدَاثِ بِمَا وَرَدَ فِي الْآيَةِ مِنْ قوله تعالى. {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمِ النِّسَاءَ} أَيْ لَمَسْتُمْ كَمَا قُرِئَ بِهِ، فَعَطَفَ اللَّمْسَ عَلَى الْمَجِيءِ مِنَ الْغَائِطِ وَرَتَّبَ عَلَيْهِمَا الْأَمْرَ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ حَدَثٌ كَالْمَجِيءِ مِنَ الْغَائِطِ.وَلَيْسَ مَعْنَاهُ (أَوْ جَامَعْتُمْ) لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، إِذْ اللَّمْسُ لَا يَخْتَصُّ بِالْجِمَاعِ.قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «لَعَلَّكَ لَمَسْتَ».

أَمَّا مَا اشْتَرَطَهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ قَصْدِ اللَّذَّةِ أَوْ وُجُودِهَا وَالْحَنَابِلَةُ مِنْ أَنْ يَكُونَ اللَّمْسُ بِالشَّهْوَةِ فَلِلْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَةِ وَبَيْنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ النَّقْضِ بِمُجَرَّدِ الِالْتِقَاءِ كَمَا سَيَأْتِي.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَا يَعْتَبِرُونَ مَسَّ الْمَرْأَةِ مِنَ الْأَحْدَاثِ مُطْلَقًا، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَرِجْلَايَ فِي قِبْلَتِهِ فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْتُ رِجْلِي فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا..وَعَنْهَا أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.

مَسُّ فَرْجِ الْآدَمِيِّ:

14- ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَسَّ فَرْجِ الْآدَمِيِّ حَدَثٌ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي الشُّرُوطِ وَالتَّفْصِيلِ:

فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مُطْلَقُ مَسِّ ذَكَرِ الْمَاسِّ الْبَالِغِ الْمُتَّصِلِ وَلَوْ كَانَ خُنْثَى مُشْكِلًا بِبَطْنٍ أَوْ جَنْبٍ لِكَفٍّ أَوْ إِصْبَعٍ وَلَوْ كَانَتِ الْإِصْبَعُ زَائِدَةً وَبِهَا إِحْسَاسٌ.وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَمُّدُ أَوِ الِالْتِذَاذُ.أَمَّا مَسُّ ذَكَرِ غَيْرِهِ فَيَجْرِي عَلَى حُكْمِ اللَّمْسِ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِالْقَصْدِ أَوْ وُجْدَانِ اللَّذَّةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: النَّاقِضُ مَسُّ قُبُلِ الْآدَمِيِّ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى مِنْ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا بِبَطْنِ الْكَفِّ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ.وَكَذَا (فِي الْجَدِيدِ) حَلْقَةُ دُبُرِهِ وَلَوْ فَرْجَ الْمَيِّتِ وَالصَّغِيرِ وَمَحَلَّ الْجَبِّ وَالذَّكَرَ الْأَشَلَّ وَبِالْيَدِ الشَّلاَّءِ عَلَى الْأَصَحِّ، لَا بِرَأْسِ الْأَصَابِعِ وَمَا بَيْنَهُمَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي تَجْعَلُ مَسَّهُ حَدَثًا: النَّاقِضُ مَسُّ ذَكَرِ الْآدَمِيِّ إِلَى أُصُولِ الْأُنْثَيَيْنِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَاسُّ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا بِشَهْوَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، لَا مَسُّ مُنْقَطِعٍ وَلَا مَحَلِّ الْقَطْعِ، وَيَكُونُ الْمَسُّ بِبَطْنِ الْكَفِّ أَوْ بِظَهْرِهِ أَوْ بِحَرْفِهِ غَيْرِ ظُفْرٍ، مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ، وَلَوْ بِزَائِدٍ.

كَمَا يَنْقُضُ مَسُّ حَلْقَةِ دُبُرٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَسُّ امْرَأَةٍ فَرْجَهَا الَّذِي بَيْنَ شَفْرَيْهَا أَوْ فَرْجَ امْرَأَةٍ أُخْرَى، وَمَسُّ رَجُلٍ فَرْجَهَا وَمَسُّهَا ذَكَرَهُ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَسَّ الْفَرْجِ حَدَثٌ مَا رَوَاهُ بُسْرُ بْنُ صَفْوَانَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلَا يُصَلِّ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» وَمَا رُوِيَ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَفْضَى بِيَدِهِ إِلَى ذَكَرِهِ لَيْسَ دُونَهُ سِتْرٌ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ» وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَسَّتْ فَرْجَهَا فَلْتَتَوَضَّأْ»

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ- وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَسَّ الْفَرْجِ لَا يُعْتَبَرُ مِنَ الْأَحْدَاثِ فَلَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، لِحَدِيثِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ «عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَمَسُّ ذَكَرَهُ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: هَلْ هُوَ إِلاَّ بَضْعَةٌ مِنْكَ».

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَغْسِلُ يَدَهُ نَدْبًا لِحَدِيثِ «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» أَيْ لِيَغْسِلْ يَدَهُ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «هَلْ هُوَ إِلاَّ بَضْعَةٌ مِنْكَ» حِينَ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَمَسُّ ذَكَرَهُ بَعْدَمَا يَتَوَضَّأُ وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّلَاةِ.

الْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلَاةِ:

15- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- لَا يَعْتَبِرُونَ الْقَهْقَهَةَ مِنَ الْأَحْدَاثِ مُطْلَقًا، فَلَا يُنْتَقَضُ الْوُضُوءُ بِهَا أَصْلًا وَلَا يَجْعَلُونَ فِيهَا وُضُوءًا، لِأَنَّهَا لَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَلَا تَنْقُضُهُ دَاخِلَهَا، وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ خَارِجًا نَجِسًا، بَلْ هِيَ صَوْتٌ كَالْكَلَامِ وَالْبُكَاءِ.

وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْأَحْدَاثِ الَّتِي تَنْقُضُ الْوُضُوءَ الْقَهْقَهَةَ فِي الصَّلَاةِ إِذَا حَدَثَتْ مِنْ مُصَلٍّ بَالِغٍ يَقْظَانَ فِي صَلَاةٍ كَامِلَةٍ ذَاتِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُتَوَضِّئًا أَمْ مُتَيَمِّمًا أَمْ مُغْتَسِلًا فِي الصَّحِيحِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْقَهْقَهَةُ عَمْدًا أَمْ سَهْوًا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ ضَحِكَ فِي الصَّلَاةِ قَهْقَهَةً فَلْيُعِدِ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ مَعًا».

وَالْقَهْقَهَةُ مَا يَكُونُ مَسْمُوعًا لِجِيرَانِهِ، وَالضَّحِكُ مَا يَسْمَعُهُ هُوَ دُونَ جِيرَانِهِ، وَالتَّبَسُّمُ مَا لَا صَوْتَ فِيهِ وَلَوْ بَدَتْ أَسْنَانُهُ.قَالُوا: الْقَهْقَهَةُ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَتُبْطِلُ الصَّلَاةَ مَعًا، وَالضَّحِكُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ خَاصَّةً، وَالتَّبَسُّمُ لَا يُبْطِلُ شَيْئًا.

وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا يَبْطُلُ وُضُوءُ صَبِيٍّ وَنَائِمٍ بِالْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، كَمَا لَا يُنْقَضُ وُضُوءُ مَنْ قَهْقَهَ خَارِجَ الصَّلَاةِ، أَوْ مَنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ غَيْرِ كَامِلَةٍ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ.

ثُمَّ قِيلَ: إِنَّ الْقَهْقَهَةَ مِنَ الْأَحْدَاثِ عِنْدَهُمْ، وَقِيلَ: لَا بَلْ وَجَبَ الْوُضُوءُ بِهَا عُقُوبَةً وَزَجْرًا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالصَّلَاةِ إِظْهَارُ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ وَالتَّعْظِيمِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْقَهْقَهَةُ تُنَافِي ذَلِكَ فَنَاسَبَ انْتِقَاضَ وُضُوئِهِ زَجْرًا لَهُ.

وَالرَّاجِحُ أَنَّهَا لَيْسَتْ حَدَثًا وَإِلاَّ لَاسْتَوَى فِيهَا جَمِيعُ الْأَحْوَالِ مَعَ أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ بِأَنْ تَكُونَ فِي الصَّلَاةِ الْكَامِلَةِ مِنْ مُصَلٍّ بَالِغٍ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَرَجَّحَ فِي الْبَحْرِ الْقَوْلَ الثَّانِيَ لِمُوَافَقَتِهِ الْقِيَاسَ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ خَارِجًا نَجِسًا بَلْ هِيَ صَوْتٌ كَالْكَلَامِ وَالْبُكَاءِ، وَلِمُوَافَقَتِهِ لِلْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ فِيهَا، إِذْ لَيْسَ فِيهَا إِلاَّ الْأَمْرُ بِإِعَادَةِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُهَا حَدَثًا.

16- وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي الْقَوْلَيْنِ تَظْهَرُ فِي جَوَازِ مَسِّ الْمُصْحَفِ وَكِتَابَةِ الْقُرْآنِ، فَمَنْ جَعَلَهَا حَدَثًا مَنَعَ كَسَائِرِ الْأَحْدَاثِ، وَمَنْ أَوْجَبَ الْوُضُوءَ عُقُوبَةً وَزَجْرًا جَوَّزَ.

أَكْلُ لَحْمِ الْجَزُورِ:

17- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَكْلَ لَحْمِ الْجَزُورِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ كَأَكْلِ سَائِرِ الْأَطْعِمَةِ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ وَلَيْسَ مِمَّا يَدْخُلُ» وَلِمَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ: «كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ» وَلِأَنَّهُ مَأْكُولٌ أَشْبَهَ سَائِرَ الْمَأْكُولَاتِ فِي عَدَمِ النَّقْضِ، وَالْأَمْرُ بِالْوُضُوءِ فِيهِ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ أَوِ الْوُضُوءِ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ- بِأَنْ أَكْلَ لَحْمِ الْإِبِلِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ عَلَى كُلِّ حَالٍ نِيئًا وَمَطْبُوخًا، عَالِمًا كَانَ الْآكِلُ أَوْ جَاهِلًا.لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ».

وَقَالُوا: إِنَّ وُجُوبَ الْوُضُوءِ مِنْ أَكْلِ لَحْمِ الْجَزُورِ تَعَبُّدِيٌّ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ فَلَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ، فَلَا يَجِبُ الْوُضُوءُ بِشُرْبِ لَبَنِهَا، وَمَرَقِ لَحْمِهَا، وَأَكْلِ كَبِدِهَا وَطِحَالِهَا وَسَنَامِهَا وَجِلْدِهَا وَكَرِشِهَا وَنَحْوِهِ.

غُسْلُ الْمَيِّتِ:

18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ بِتَغْسِيلِ الْمَيِّتِ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَكُونُ مِنَ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي هَذَا نَصٌّ فَبَقِيَ عَلَى الْأَصْلِ.وَلِأَنَّهُ غَسْلُ آدَمِيٍّ فَأَشْبَهَ غَسْلَ الْحَيِّ، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ.

وَيَرَى أَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَنْ غَسَّلَ الْمَيِّتَ أَوْ بَعْضَهُ وَلَوْ فِي قَمِيصٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَغْسُولُ صَغِيرًا أَمْ كَبِيرًا، ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، مُسْلِمًا أَمْ كَافِرًا.لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم- أَنَّهُمَا كَانَا يَأْمُرَانِ غَاسِلَ.الْمَيِّتِ بِالْوُضُوءِ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ أَنْ تَقَعَ يَدُهُ عَلَى فَرْجِ الْمَيِّتِ فَتُقَامُ مَظِنَّةُ ذَلِكَ مَقَامَ حَقِيقَتِهِ كَمَا أُقِيمَ النَّوْمُ مَقَامَ الْحَدَثِ.

الرِّدَّةُ:

19- الرِّدَّةُ- وَهِيَ الْإِتْيَانُ بِمَا يُخْرِجُ مِنَ الْإِسْلَامِ بَعْدَ تَقَرُّرِهِ- حَدَثٌ حُكْمِيٌّ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، فَالْمُرْتَدُّ إِذَا عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَرَجَعَ إِلَى دِينِ الْحَقِّ فَلَيْسَ لَهُ الصَّلَاةُ حَتَّى يَتَوَضَّأَ وَإِنْ كَانَ مُتَوَضِّئًا قَبْلَ رِدَّتِهِ وَلَمْ يُنْقَضْ وُضُوءُهُ بِأَسْبَابٍ أُخْرَى.لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وَالطَّهَارَةُ عَمَلٌ.

وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ اسْتِحْبَابُ الْوُضُوءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.

وَلَمْ يَعُدَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الرِّدَّةَ مِنْ أَسْبَابِ الْحَدَثِ فَلَا يُنْقَضُ الْوُضُوءُ بِهَا عِنْدَهُمْ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة} فَشَرَطَ الْمَوْتَ بَعْدَ الرِّدَّةِ لِحُبُوطِ الْعَمَلِ- كَمَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (رِدَّةٌ)

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


249-موسوعة الفقه الكويتية (حرير)

حَرِيرٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْحَرِيرُ مَعْرُوفٌ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ دُودَةٍ تُسَمَّى دُودَةَ الْقَزِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْإِبْرَيْسَمُ:

2- الْإِبْرَيْسَمُ بِفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّهَا: الْحَرِيرُ وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِالْخَامِ.

الْإِسْتَبْرَقُ:

3- الْإِسْتَبْرَقُ: غَلِيظُ الدِّيبَاجِ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ.

الْخَزُّ

4- الْخَزُّ مِنَ الثِّيَابِ مَا يُنْسَجُ مِنْ صُوفٍ وَإِبْرَيْسَمٍ، أَوْ مِنْ خَالِصِ الْإِبْرَيْسَمِ.وَفِي اللِّسَانِ، الْخَزُّ يُنْسَجُ مِنْ صُوفٍ وَغَيْرِهِ وَيُحْمَلُ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَبِسُوهُ.

الدِّيبَاجُ:

5- الدِّيبَاجُ: ثَوْبٌ سُدَاهُ وَلُحْمَتُهُ إِبْرَيْسَمٌ.

السُّنْدُسُ

6- السُّنْدُسُ: ضَرْبٌ مِنْ رَقِيقِ الدِّيبَاجِ.

الْقَزُّ:

7- الْقَزُّ الْإِبْرَيْسَمُ وَجَاءَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّ الْقَزَّ هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْحَرِيرِ كَمِدُ اللَّوْنِ وَهُوَ مَا قَطَعَتْهُ الدُّودَةُ وَخَرَجَتْ مِنْهُ.وَالْحَرِيرُ مَا يَحِلُّ بَعْدَ مَوْتِهَا.

الدِّمَقْسُ:

8- الدِّمَقْسُ: الْإِبْرَيْسَمُ أَوِ الْقَزُّ أَوِ الدِّيبَاجُ، أَوِ الْكَتَّانُ.

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَرِيرِ مِنْ أَحْكَامٍ:

لُبْسُ الْحَرِيرِ الْمُصْمَتِ وَاسْتِعْمَالُهُ:

9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حِلِّ الْحَرِيرِ الْمُصْمَتِ أَيِ الْخَالِصِ لِلنِّسَاءِ لُبْسًا وَاسْتِعْمَالًا.

لِمَا رَوَى أَبُو مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أُحِلَّ الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لِإِنَاثٍ مِنْ أُمَّتِي وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا».

وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَخَذَ حَرِيرًا فَجَعَلَهُ فِي يَمِينِهِ وَذَهَبًا فِي شِمَالِهِ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ بِهِمَا فَقَالَ: إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهِمْ».

وَلِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ حِلٌّ لِإِنَاثِ أُمَّتِي حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِهَا».

وَلِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ (أَنَّهُ رَأَى عَلَى أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بُرْدُ حَرِيرٍ سِيَرَاءُ)

وَلِمَا رُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: (رَأَيْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَمِيصَ حَرِيرٍ سِيَرَاءَ)

وَاتَّفَقُوا عَلَى حُرْمَةِ لُبْسِ الْحَرِيرِ الْمُصْمَتِ عَلَى الرِّجَالِ ثِيَابًا وَغِطَاءً لِلرَّأْسِ وَاشْتِمَالًا وَلَوْ بِحَائِلٍ لِلْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ الَّتِي تُصَرِّحُ بِحُرْمَتِهِ عَلَى الرِّجَالِ.وَهَذَا فِي غَيْرِ حَالَةِ الْحَرْبِ أَوِ الْمَرَضِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُمَا.

أَمَّا فِي الْحَرْبِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لُبْسُ الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مُطْلَقًا.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِقَيْدٍ، وَهُوَ مَا إِذَا كَانَتْ بِاللاَّبِسِ حَاجَةٌ إِلَيْهِ.فَإِذَا لَمْ تَكُنْ بِاللاَّبِسِ حَاجَةٌ إِلَيْهِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ عِنْدَهُمْ.

أَحَدُهُمَا: الْإِبَاحَةُ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ لُبْسِهِ لِلْخُيَلَاءِ، وَالْخُيَلَاءُ وَقْتَ الْحَرْبِ غَيْرُ مَذْمُومَةٍ.

وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: الْحُرْمَةُ وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ إِبَاحَتُهُ مُطْلَقًا.

وَأَضَافَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ حَالَ الْحَكَّةِ.وَهَذَا مُوَافِقٌ لِرِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِمَا رَوَى أَنَسٌ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ- رضي الله عنهما- فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحَكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا».

وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لِلْمَرَضِ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الرُّخْصَةُ خَاصَّةً بِهَذَيْنِ الصَّحَابِيِّينَ.

وَتَوَسَّعَ الشَّافِعِيَّةُ فِي حَالِ الْعُذْرِ الْمُبِيحِ مَعَ التَّقْيِيدِ فَقَالُوا: كَحَرٍّ وَبَرْدٍ مُضِرَّيْنِ إِذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ، وَحَاجَةٍ كَجَرَبٍ إِنْ آذَى الْمَرِيضَ غَيْرُهُ.

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لُبْسُ ثِيَابِ الْحَرِيرِ الْمُصْمَتِ مُطْلَقًا لِعُمُومِ الْخَبَرِ.

إِلْبَاسُ الْحَرِيرِ لِصِغَارِ الذُّكُورِ:

10- يَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلْبَاسُ الصَّغِيرِ الذَّكَرِ الْحَرِيرَ.لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَدَارَ الْحُرْمَةَ عَلَى الذُّكُورَةِ.إِلاَّ أَنَّ اللاَّبِسَ إِذَا كَانَ صَغِيرًا فَالْإِثْمُ عَلَى مَنْ أَلْبَسَهُ لَا عَلَيْهِ.لِأَنَّهُ لَيْسَ مُكَلَّفًا.وَلِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا».

وَلِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ «جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا نَنْزِعُهُ عَنِ الْغِلْمَانِ وَنَتْرُكُهُ عَلَى الْجَوَارِي» وَالْجَوَارِي الْبَنَاتُ الصَّغِيرَاتُ.وَمَنْ قَالَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِذَلِكَ اسْتَثْنَى الرَّضِيعَ لِلْمَشَقَّةِ الدَّاخِلَةِ عَلَى أُمِّهِ.

وَيَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ إِلْبَاسِهِ صِغَارَ الذُّكُورِ.وَهَذَا قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ فَلَا يَتَعَلَّقُ التَّحْرِيمُ بِلُبْسِهِمْ.

وَهُنَاكَ وَجْهٌ ثَالِثٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ سَبْعَ سَنَوَاتٍ يَحْرُمُ إِلْبَاسُهُ ثَوْبَ حَرِيرٍ.

أَعْلَامُ الْحَرِيرِ فِي الثَّوْبِ غَيْرِ الْحَرِيرِ:

11- الْأَعْلَامُ جَمْعُ عَلَمٍ.وَهُوَ الْقِطْعَةُ فِي الثَّوْبِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ لَوْنِهِ.يَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى أَنَّ أَعْلَامَ الْحَرِيرِ فِي الثَّوْبِ غَيْرِ الْحَرِيرِ جَائِزَةٌ إِذَا كَانَتْ قَدْرَ أَرْبَعِ أَصَابِع فَمَا دُونَهَا.لِمَا رَوَى عُمَرُ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: «نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ إِلاَّ مَوْضِعَ إِصْبَعَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلاَّ الْبُخَارِيُّ.وَزَادَ فِيهِ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدُ «وَأَشَارَ بِكَفِّهِ» وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْلَامَ تَابِعَةٌ.وَالْعِبْرَةُ لِلْمَتْبُوعِ.وَلِأَنَّ لَابِسَهُ لَا يُسَمَّى لَابِسَ حَرِيرٍ.

وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا بَأْسَ بِالْعَلَمِ الْحَرِيرِ فِي الثَّوْبِ وَإِنْ عَظُمَ.وَتُبَاحُ الْعُرَى وَالْأَزْرَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِأَنَّهَا تَبَعٌ وَيَسِيرٌ.

وَتُبَاحُ أَيْضًا لِبْنَةُ جَيْبٍ- بِكَسْرِ اللاَّمِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ- وَهُوَ الزِّيقُ الْمُحِيطُ بِالْعُنُقِ.وَالْجَيْبِ وَهُوَ مَا يُفْتَحُ عَلَى نَحْرٍ أَوْ طَوْقٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.وَقَيَّدَتْهُ بَعْضُ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ بِمَا إِذَا كَانَ قَدْرَ أَرْبَعِ أَصَابِع مَضْمُومَةٍ فَمَا دُونَهَا.وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ.

لُبْسُ الثِّيَابِ الْمَنْسُوجَةِ مِنَ الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ:

12- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الثَّوْبَ إِنْ كَانَتْ لُحْمَتُهُ حَرِيرًا وَسُدَاهُ غَيْرَ حَرِيرٍ، فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ فِي حَالِ الْحَرْبِ لِدَفْعِ مَضَرَّةِ السِّلَاحِ وَتَهَيُّبِ الْعَدُوِّ.أَمَّا فِي غَيْرِ حَالِ الْحَرْبِ فَمَكْرُوهٌ- كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ- لِانْعِدَامِ الضَّرُورَةِ.

وَإِنْ كَانَ سُدَاهُ حَرِيرًا وَلُحْمَتُهُ غَيْرَ حَرِيرٍ لَا يُكْرَهُ فِي حَالِ الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا.لِأَنَّ الثَّوْبَ يَصِيرُ ثَوْبًا بِاللُّحْمَةِ.لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَصِيرُ ثَوْبًا بِالنَّسْجِ.وَالنَّسْجُ تَرْكِيبُ اللُّحْمَةِ بِالسُّدَى.فَكَانَتِ اللُّحْمَةُ كَالْوَصْفِ الْأَخِيرِ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إِلَيْهِ.

وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ وَأَوْلَاهَا بِالصَّوَابِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ، أَنَّ لُبْسَ هَذِهِ الثِّيَابِ مَكْرُوهٌ يُؤْجَرُ عَلَى تَرْكِهِ وَلَا يَأْثَمُ فِي فِعْلِهِ.لِأَنَّهُ مِنَ الْمُشْتَبِهَاتِ الْمُتَكَافِئَةِ أَدِلَّةُ حُرْمَتِهَا وَأَدِلَّةُ حِلِّهَا الَّتِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ».

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَا أَكْثَرُهُ مِنَ الْحَرِيرِ يَحْرُمُ تَغْلِيبًا لِلْأَكْثَرِ.بِخِلَافِ مَا أَكْثَرُهُ مِنْ غَيْرِهِ.لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يُسَمَّى ثَوْبَ حَرِيرٍ.وَالْأَصْلُ الْحِلُّ.وَتَغْلِيبًا لِلْأَكْثَرِ.وَلِأَنَّ الْحَرِيرَ مُسْتَهْلَكٌ فِي غَيْرِهِ.

أَمَّا الْمُسْتَوِي مِنْهُمَا فَإِنَّ الشَّافِعِيَّةَ يُبِيحُونَهُ.وَالتَّفْصِيلُ الَّذِي قَالَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ كَمَا وَرَدَ فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ بَعْضَ الثَّوْبِ حَرِيرًا وَبَعْضُهُ غَيْرَهُ وَنُسِجَ مِنْهُمَا فَفِيهِ طَرِيقَانِ:

أَحَدُهُمَا: إِنْ كَانَ الْحَرِيرُ ظَاهِرًا يُشَاهَدُ حَرُمَ وَإِنْ قَلَّ وَزْنُهُ، وَإِنِ اسْتَتَرَ لَمْ يَحْرُمْ وَإِنْ كَثُرَ وَزْنُهُ لِأَنَّ الْخُيَلَاءَ وَالْمَظَاهِرَ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِالظَّاهِرِ.

وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْوَزْنِ فَإِنْ كَانَ الْحَرِيرُ أَقَلَّ وَزْنًا حَلَّ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَر حَرُمَ، وَإِنِ اسْتَوَيَا فَوَجْهَانِ.الصَّحِيحُ مِنْهُمَا الْحِلُّ، لِأَنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا حَرَّمَ ثَوْبَ الْحَرِيرِ، وَهَذَا لَيْسَ بِحَرِيرٍ.

وَلِلْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَخْلُوطِ بِالْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُسَاوِيًا لَهُ أَوْ أَكْثَر مِنْهُ عِدَّةُ أَقْوَالٍ: قَوْلٌ بِالْجَوَازِ، وَقَوْلٌ بِالْكَرَاهَةِ، وَقَوْلٌ بِالْحُرْمَةِ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ لِمَا ثَبَتَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِيمَا اسْتَوَى فِيهِ الْحَرِيرُ وَغَيْرُهُ وَجْهَانِ.وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: الْأَشْبَهُ التَّحْرِيمُ لِأَنَّ النِّصْفَ كَثِيرٌ.وَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ عَنْ لُبْسِ الْخَزِّ فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا.وَيُرَادُ بِالْخَزِّ هُنَا مَا كَانَ سُدَاهُ حَرِيرًا وَلُحْمَتُهُ صُوفًا أَوْ قُطْنًا أَوْ غَيْرَهُمَا.

وَأَطْلَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ جَوَازَ السُّدَى وَالْعَلَمِ مِنَ الْحَرِيرِ دُونَ تَقْيِيدٍ.فَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الثَّوْبِ الْمُصْمَتِ مِنْ قَزٍّ».قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا السُّدَى وَالْعَلَمُ فَلَا نَرَى بِهِ بَأْسًا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدُ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

اسْتِعْمَالُ الْحَرِيرِ فِي غَيْرِ اللِّبَاسِ:

13- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اللِّبَاسِ فَيَكُونُ مُحَرَّمًا عَلَى الرِّجَالِ.

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِ حُذَيْفَةَ- رضي الله عنه-: «نَهَانَا النَّبِيُّ أَنْ نَشْرَبَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَنْ نَأْكُلَ فِيهَا، وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ».

وَقَوْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: «نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ لُبْسِ الْقَسِّيِّ، وَعَنْ جُلُوسٍ عَلَى الْمَيَاثِرِ».

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْحَرِيرِ فِي الْبُسُطِ وَالِافْتِرَاشِ وَالْوَسَائِدِ لِأَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ بِاللُّبْسِ وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ لَهُ مِرْفَقَةٌ مِنْ حَرِيرٍ عَلَى بِسَاطِهِ، وَلِأَنَّ فَرْشَهُ اسْتِخْفَافٌ بِهِ فَصَارَ كَالتَّصَاوِيرِ عَلَى الْبِسَاطِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْجُلُوسُ عَلَيْهِ.

كِسْوَةُ الْكَعْبَةِ بِالْحَرِيرِ:

14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ بِالْحَرِيرِ بَلْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ تَعْظِيمًا لَهَا.

تَبْطِينُ الثِّيَابِ بِالْحَرِيرِ:

15- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ تَبْطِينِ الثِّيَابِ بِالْحَرِيرِ.لِأَنَّ لَابِسَ الثَّوْبِ الْمُبَطَّنِ لَابِسٌ لِلْحَرِيرِ حَقِيقَةً.وَمَعْنَى التَّنَعُّمِ حَاصِلٌ لِلتَّزَيُّنِ بِالْحَرِيرِ وَلُطْفِهِ.

وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ عَدَمَ الْجَوَازِ بِمَا إِذَا كَانَ كَثِيرًا.وَقَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ قَرِيبٌ مِمَّا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ إِذْ قَيَّدُوا عَدَمَ الْجَوَازِ بِمُخَالَفَةِ الْعَادَةِ.

اسْتِعْمَالُ الْحَرِيرِ رِبَاطًا لِلسَّرَاوِيلِ:

16- وَهُوَ الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ- التِّكَّةُ- تُكْرَهُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.وَقِيلَ لَا بَأْسَ بِهَا عِنْدَهُمْ.وَهَذَا الْقَوْلُ مُوَافِقٌ لِمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ.

وَتَحْرُمُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ.

عَصْبُ الْجِرَاحَةِ بِالْحَرِيرِ:

17- قَدْ صَرَّحَ ابْنُ عَابِدِينَ بِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.

وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِهِمْ تَصْرِيحًا بِذَلِكَ.

اسْتِعْمَالَاتٌ أُخْرَى:

18- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ خِيَاطَةِ الثِّيَابِ بِالْحَرِيرِ وَاِتِّخَاذِهِ كِيسًا لِلْمُصْحَفِ وَاِتِّخَاذِ الرَّايَةِ مِنْهُ، كَمَا يَجُوزُ حَشْوُ الْجِبَابِ وَالْفُرُشِ بِهِ.لِأَنَّهُ لَا فَخْرَ فِيهِ وَلَا خُيَلَاءَ وَلَا عُجْبَ وَلَيْسَ لُبْسًا لَهُ وَلَا افْتِرَاشًا إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَيَّدُوا الْجَوَازَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَثِيرًا أَمَّا إِذَا كَانَ كَثِيرًا فَلَا يَجُوزُ.

وَيَجُوزُ اتِّخَاذُ خَيْطِ حَرِيرٍ وَشُرَّابَةٍ لِلْمِسْبَحَةِ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَأَكْثَرُ الْحَنَابِلَةِ مَنَعَ ذَلِكَ.وَلَمْ نَجِدْ لِلْمَالِكِيَّةِ نَصًّا فِي إِبَاحَةُ ذَلِكَ أَوْ مَنْعِهِ.

وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ تَزْيِينَ الْجُدْرَانِ بِالْحَرِيرِ وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ

19- تُذْكَرُ الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْحَرِيرِ فِي بَابِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ أَوِ الْكَرَاهَةِ أَوِ الِاسْتِحْسَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.وَبَابِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ، وَفِي بَعْضٍ آخَرَ كِتَابِ اللِّبَاسِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


250-موسوعة الفقه الكويتية (حريم)

حَرِيمٌ

التَّعْرِيفُ:

1- لِلْحَرِيمِ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا: مَا حُرِّمَ فَلَا يُنْتَهَكُ، وَالْحَرِيمُ أَيْضًا مَا يَتَجَرَّدُ عَنْهُ الْمُحْرِمُ مِنْ ثِيَابِ، وَفِنَاءُ الدَّارِ أَوِ الْمَسْجِدِ، وَحَرِيمُ الرَّجُلِ مَا يُقَاتِلُ عَنْهُ وَيَحْمِيهِ، وَالْحَرِيمُ أَيْضًا الْحِمَى، وَجَمْعُهُ حُرُمٌ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: حَرِيمُ الشَّيْءِ: مَا حَوْلَهُ مِنْ حُقُوقِهِ وَمَرَافِقِهِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِ مَالِكِهِ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ.

وَعَرَّفَ الشَّافِعِيَّةُ الْحَرِيمَ بِأَنَّهُ مَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ لِتَمَامِ الِانْتِفَاعِ وَإِنْ حَصَلَ أَصْلُ الِانْتِفَاعِ بِدُونِهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْحِمَى:

2- الْحِمَى بِمَعْنَى الْمَحْمِيِّ، مَصْدَرٌ يُرَادُ بِهِ اسْمُ الْمَفْعُولِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ الْحِمَايَةُ وَالتَّحْجِيرُ.يُقَالُ: هَذَا شَيْءٌ حِمًى.أَيْ مَحْظُورٌ لَا يُقْرَبُ.

وَشَرْعًا: أَنْ يَحْمِيَ الْإِمَامُ أَرْضًا مِنَ الْمَوَاتِ، فَيَمْنَعَ النَّاسَ مِنْ رَعْيِ مَا فِيهَا مِنَ الْكَلَأِ لِيَخْتَصَّ بِهَا دُونَهُمْ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ لَا لِنَفْسِهِ.

وَعَرَّفَ الْمَالِكِيَّةُ الْحِمَى الشَّرْعِيَّ بِقَوْلِهِمْ: أَنْ يَحْمِيَ الْإِمَامُ مَكَانًا خَاصًّا لِحَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ.

وَحِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «الْمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ، مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ».

فَالْحِمَى وَالْحَرِيمُ فِي بَعْضِ إِطْلَاقَاتِهِمَا اللُّغَوِيَّةِ مُتَّفِقَانِ.وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَمُخْتَلِفَانِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

3- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِحْيَاءُ حَرِيمِ الْبِئْرِ وَالنَّهْرِ، وَالْعَيْنِ، وَكُلِّ مَمْلُوكٍ لَا يَجُوزُ إِحْيَاءُ مَا تَعَلَّقَ بِمَصَالِحِهِ، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ فَهِيَ لَهُ».لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْمَمْلُوكِ، فَلَوْ جُوِّزَ إِحْيَاؤُهُ لَبَطَلَ الْمِلْكُ فِي الْعَامِرِ عَلَى أَهْلِهِ.

وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَمَلُّكُ حَرِيمِ الْأَرَاضِيِ الْعَامِرَةِ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْعَامِرِ، فَلَا يُمْلَكُ، لَكِنَّ صَاحِبَ الْأَرَاضِيِ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُمْلَكُ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي حَرِيمِ الْبِئْرِ، وَالنَّهْرِ، لِأَنَّهُ مَكَانٌ اسْتَحَقَّهُ بِالْإِحْيَاءِ، فَمَلَكَهُ كَالْمَحْمِيِّ، وَلِأَنَّ مَعْنَى الْمِلْكِ مَوْجُودٌ فِيهِ، لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ يَخْتَصُّ بِهِ صَاحِبُهَا.

4- وَالْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْحَرِيمِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- جَعَلَ لِلْبِئْرِ وَالْعَيْنِ وَكُلِّ أَرْضٍ حَرِيمًا، بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ».

وَشُرُوطُ تَمَلُّكِ حَرِيمِ الْبِئْرِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَالْعُيُونِ، وَالْأَنْهَارِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّهُ يُرْجَعُ فِيهَا إِلَى شُرُوطِ تَمَلُّكِ الْأَرْضِ الْمَوَاتِ بِإِحْيَائِهَا.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ).

مِقْدَارُ الْحَرِيمِ:

5- يَخْتَلِفُ مِقْدَارُ الْحَرِيمِ بِاخْتِلَافِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَرِيمُ كَالْبِئْرِ، وَالنَّهْرِ، وَالْعَيْنِ، وَالشَّجَرِ وَغَيْرِهَا، وَفِي كُلٍّ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

أ- حَرِيمُ الْبِئْرِ:

6- اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي مِقْدَارِ حَرِيمِ الْبِئْرِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْآتِي:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ حَرِيمَ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَقِيلَ مِنَ الْجَوَانِبِ كُلِّهَا: أَيْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ» وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْحَرِيمِ دَفْعُ الضَّرَرِ، كَيْ لَا يَحْفِرَ بِحَرِيمِهِ أَحَدٌ بِئْرًا أُخْرَى فَيَتَحَوَّلُ إِلَيْهَا مَاءُ بِئْرِهِ، وَهَذَا الضَّرَرُ لَا يَنْدَفِعُ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَإِنَّ الْأَرَاضِيَ تَخْتَلِفُ بِالصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ حَافِرَ الْبِئْرِ يَحْتَاجُ أَنْ يَقِفَ عَلَى شَفِيرِ الْبِئْرِ لِيَسْتَقِيَ الْمَاءَ، وَإِلَى أَنْ يَبْنِيَ عَلَى شَفِيرِ الْبِئْرِ مَا يُرَكَّبُ عَلَيْهِ الْبَكَرَةُ، وَإِلَى أَنْ يَبْنِيَ حَوْضًا يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ، وَإِلَى مَوْضِعٍ تَقِفُ فِيهِ مَوَاشِيهِ حَالَةَ الشُّرْبِ وَبَعْدَهُ، فَقَدَّرَهُ الشَّارِعُ بِأَرْبَعِينَ ذِرَاعًا.

ثُمَّ اخْتَلَفَ أَئِمَّةُ الْحَنَفِيَّةِ فِي بِئْرِ النَّاضِحِ- وَهِيَ الْبِئْرُ الَّتِي يُنْزَعُ الْمَاءُ مِنْهَا بِالْبَعِيرِ- فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ، وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ حَرِيمَ بِئْرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَحَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا» وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى أَنْ يُسَيِّرَ دَابَّتَهُ لِلِاسْتِسْقَاءِ، وَأَمَّا بِئْرُ الْعَطَنِ فَالِاسْتِسْقَاءُ مِنْهُ بِالْيَدِ، فَقَلَّتِ الْحَاجَةُ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّفَاوُتِ.

وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ التَّاتَرْخَانِيَّةِ أَنَّهُ يُفْتَى بِقَوْلِ الصَّاحِبَيْنِ، وَفِي الشُّرُنْبُلَالِيَّةِ أَنَّهُ يُفْتَى بِقَوْلِ الْإِمَامِ.

وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ ذَكَرَهُ الْقُهُسْتَانِيُّ وَعَزَاهُ لِلْهِدَايَةِ: وَهُوَ أَنَّ التَّقْدِيرَ فِي الْبِئْرِ بِمَا ذَكَرَ فِي أَرَاضِيِهِمْ لِصَلَابَتِهَا، أَمَّا فِي أَرَاضِيِنَا فَفِيهَا رَخْوَةٌ، فَيَزْدَادُ، لِئَلاَّ يَنْتَقِلَ الْمَاءُ إِلَى الثَّانِي

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْبِئْرَ لَيْسَ لَهَا حَرِيمٌ مُقَدَّرٌ.

فَقَدْ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ حَرِيمَ الْبِئْرِ مَا حَوْلَهُ، فَهُوَ يَخْتَلِفُ بِقَدْرِ كُبْرِ الْبِئْرِ، وَصِغَرِهَا، وَشِدَّةِ الْأَرْضِ وَرَخَاوَتِهَا، وَمَا يَضِيقُ عَلَى وَارِدٍ لِشُرْبٍ أَوْ سَقْيٍ.

قَالَ عِيَاضٌ: حَرِيمُ الْبِئْرِ مَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي مِنْ حَقِّهَا أَنْ لَا يَحْدُثَ فِيهَا مَا يَضُرُّ بِهَا لَا بَاطِنًا كَحَفْرِ بِئْرٍ يُنَشِّفُ مَاءَهَا أَوْ يُذْهِبُهُ، أَوْ يُغَيِّرُهُ كَحَفْرِ مِرْحَاضٍ تُطْرَحُ النَّجَاسَاتُ فِيهِ، وَيَصِلُ إِلَيْهَا وَسَخُهَا.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ حَرِيمَ الْبِئْرِ الْمَحْفُورَةِ فِي الْمَوَاتِ مَوْقِفُ النَّازِحِ مِنْهَا (وَهُوَ الْقَائِمُ عَلَى رَأْسِ الْبِئْرِ لِيَسْتَقِيَ)، وَالْحَوْضُ (وَهُوَ مَا يَصُبُّ النَّازِحُ فِيهِ مَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْبِئْرِ) وَمَوْضِعُ الدُّولَابِ، وَمُجْتَمَعُ الْمَاءِ الَّذِي يُطْرَحُ فِيهِ مِنَ الْحَوْضِ لِسَقْيِ الْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ، وَمُتَرَدَّدُ الْبَهِيمَةِ إِنْ كَانَ الِاسْتِقَاءُ بِهَا.

وَحَرِيمُ بِئْرِ الشُّرْبِ: مَوْضِعُ الْمُسْتَقِي مِنْهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ مُحَدَّدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَهَلْ مِنْ سَائِرِ الْجَوَانِبِ، أَوْ جَانِبٍ وَاحِدٍ؟ الْأَقْرَبُ اعْتِبَارُ الْعَادَةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَحَلِّ.

وَفِي مُخَالِفِ الْمَشْهُورِ: حَرِيمُ الْبِئْرِ قَدْرُ عُمْقِهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْبِئْرِ الْقَدِيمَةِ، وَالْبِئْرِ الْبَدِيءِ أَيِ الَّتِي ابْتُدِئَ عَمَلُهَا: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ نَافِعٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى أَنَّ حَرِيمَ الْبِئْرِ الْقَدِيمَةِ خَمْسُونَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَالْمَقْصُودُ بِالْبِئْرِ الْقَدِيمَةِ هِيَ الَّتِي انْطَمَّتْ وَذَهَبَ مَاؤُهَا فَجُدِّدَ حَفْرُهَا وَعِمَارَتُهَا.

وَحَرِيمُ الْبِئْرِ الْبَدِيءِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، لِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: السُّنَّةُ فِي حَرِيمِ الْقَلِيبِ- الْبِئْرِ الْعَادِيَّةِ- خَمْسُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمِ الْبَدِيءِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ بِئْرِ الزَّرْعِ ثَلَثُمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْبِئْرِ لَا تَنْحَصِرُ فِي تَرْقِيَةِ الْمَاءِ، فَإِنَّهُ يُحْتَاجُ إِلَى مَا حَوْلَهَا عَطَنًا لِإِبِلِهِ، وَمَوْقِفًا لِدَوَابِّهِ وَغَنَمِهِ، وَمَوْضِعًا يَجْعَلُ فِيهِ أَحْوَاضًا يَسْقِي مِنْهَا مَاشِيَتَهُ، وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، فَلَا يَخْتَصُّ الْحَرِيمُ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِتَرْقِيَةِ الْمَاءِ فَقَطْ.

وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَأَبُو الْخَطَّابِ: لَيْسَ هَذَا عَلَى طَرِيقُ التَّحْدِيدِ، بَلْ حَرِيمُهَا فِي الْحَقِيقَةِ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي تَرْقِيَةِ مَائِهَا مِنْهَا فَإِنْ كَانَ بِدُولَابٍ فَقَدْرُ مَدِّ الثَّوْرِ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ بِسَاقِيَّةٍ فَبِقَدْرِ طُولِ الْبِئْرِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «حَرِيمُ الْبِئْرِ قَدْرُ رِشَائِهَا».وَلِأَنَّهُ الْمَكَانُ الَّذِي تَمْشِي إِلَيْهِ الْبَهِيمَةُ.وَإِنْ كَانَ يَسْتَقِي مِنْهَا بِيَدِهِ فَبِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْوَاقِفُ عِنْدَهَا.وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ) فِقْرَةُ 18.

ب- حَرِيمُ الْعَيْنِ:

7- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّ حَرِيمَ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، لِقَوْلِ الزُّهْرِيِّ: حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ.فَيَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنَ الْحَفْرِ فِيهِ، وَلَهُ تَضْمِينُ الْمُعْتَدِي، أَوْ رَدْمُ الْحُفْرَةِ.

وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ».

وَلِأَنَّ الْعَيْنَ تُسْتَخْرَجُ لِلزِّرَاعَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَوْضِعٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ، وَمِنْ مَوْضِعٍ يَجْرِي إِلَيْهِ وَمِنْهُ إِلَى الْمَزْرَعَةِ، فَقَدَّرَهُ الشَّارِعُ بِخَمْسِمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَلَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي الْمَقَادِيرِ فَاقْتُصِرَ عَلَيْهِ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: هُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ صَاحِبُهَا لِلِانْتِفَاعِ بِهَا، وَلَوْ عَلَى أَلْفِ ذِرَاعٍ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مُقَدَّرٌ، وَالْمَرْجِعُ فِيهِ إِلَى الْعُرْفِ.

ج- حَرِيمُ الْقَنَاةِ:

8- اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي حَرِيمِ الْقَنَاةِ عَلَى أَقْوَالٍ:

فَقِيلَ: يَكُونُ حَرِيمُهَا بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهَا لِإِلْقَاءِ الطِّينِ وَنَحْوِهِ.

وَقِيلَ: إِنَّ لَهَا حَرِيمًا مُفَوَّضًا إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، لِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِي الشَّرْعِ.

وَقِيلَ: حُكْمُ الْقَنَاةِ عِنْدَ خُرُوجِ الْمَاءِ كَالْعَيْنِ، وَقَبْلَهُ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، قِيلَ: هَذَا قَوْلُهُمَا، أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا حَرِيمَ لِلْقَنَاةِ مَا لَمْ يَظْهَرِ الْمَاءُ، لِأَنَّهُ نَهْرٌ مَطْوِيٌّ فَيُعْتَبَرُ بِالنَّهْرِ الظَّاهِرِ، وَلَا حَرِيمَ لِلنَّهْرِ عِنْدَهُ فِي قَوْلٍ كَمَا سَيَأْتِي.

وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّهَا كَالْبِئْرِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ حَرِيمَ الْقَنَاةِ الْمُحَيَّاةِ، لَا لِلِاسْتِسْقَاءِ مِنْهَا الْقَدْرُ الَّذِي لَوْ حُفِرَ فِيهِ لَنَقَصَ مَاؤُهَا، أَوْ خِيفَ مِنْهُ انْهِيَارٌ أَوِ انْكِبَاسٌ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِصَلَابَةِ الْأَرْضِ وَرَخَاوَتِهَا، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، وَفِي وَجْهٍ حَرِيمُهَا حَرِيمُ الْبِئْرِ الَّتِي يُسْتَقَى مِنْهَا، وَلَا يُمْنَعُ مِنَ الْحَفْرِ إِذَا جَاوَرَهُ وَإِنْ نَقَصَ الْمَاءُ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَمَنْ تَابَعَهُ.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْعَيْنِ.

د- حَرِيمُ النَّهْرِ:

9- الْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ لِلنَّهْرِ حَرِيمًا بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِإِلْقَاءِ الطِّينِ وَنَحْوِهِ، فِيمَا لَوْ أَحْيَاهُ فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ، وَقِيلَ: لَا حَرِيمَ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَئِمَّةُ الْحَنَفِيَّةِ فِيمَا لَوْ كَانَ النَّهْرُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ:

فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا حَرِيمَ لِلنَّهْرِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ إِلاَّ بِبُرْهَانٍ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يَشْهَدُ لَهُ، بَلْ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ أَرْضِهِ، وَالْقَوْلُ لِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ، إِلاَّ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ.وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَهُ حَرِيمٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ لِلْحَاجَةِ، وَصَاحِبُ النَّهْرِ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ كَصَاحِبِ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ، إِذْ إِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الْمَشْيِ عَلَى حَافَّتَيِ النَّهْرِ، كَمَا يَحْتَاجُ إِلَى مَوْضِعٍ لِإِلْقَاءِ الطِّينِ عَلَيْهِ عِنْدَ كَرْيِ النَّهْرِ.

ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِهِ:

فَقَدَّرَهُ مُحَمَّدٌ بِقَدْرِ عَرْضِ النَّهْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَاخْتَارَهُ الْكَرْخِيُّ، وَهُوَ أَرْفَقُ، لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُمْكِنُهُ إِلْقَاءُ التُّرَابِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَيَحْتَاجُ إِلَى إِلْقَائِهِ فِي أَحَدِهِمَا، وَقَدَّرَهُ أَبُو يُوسُفَ بِنِصْفِ عَرْضِهِ وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيُّ، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْحَاجَةُ الْغَالِبَةُ وَذَلِكَ بِنَقْلِ تُرَابِهِ إِلَى حَافَّتَيْهِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى.

وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ قَوْلَ الْقُهُسْتَانِيِّ الَّذِي عَزَاهُ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيِّ: أَنَّ الِاخْتِلَافَ الْمَذْكُورَ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ فِي نَهْرٍ كَبِيرٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى كَرْيِهِ (حَفْرِهِ) فِي كُلِّ حِينٍ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ النَّهْرُ صَغِيرًا يَحْتَاجُ إِلَى كَرْيِهِ فِي كُلِّ حِينٍ فَلَهُ حَرِيمٌ بِالِاتِّفَاقِ.

وَحَرِيمُ النَّهْرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا لَا يَضِيقُ عَلَى مَنْ يَرِدُهُ مِنَ الْآدَمِيِّينَ، وَالْبَهَائِمِ، وَقِيلَ أَلْفَا ذِرَاعٍ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ حَرِيمَ النَّهْرِ مِنْ حَافَّتَيْهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّهْرُ لِإِلْقَاءِ الطِّينِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهُ بِحَسَبِ الْعُرْفِ.

هـ- حَرِيمُ الشَّجَرِ:

10- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ حَرِيمَ الشَّجَرَةِ الْمَغْرُوسَةِ بِالْإِذْنِ السُّلْطَانِيِّ فِي الْأَرَاضِي الْمَوَاتِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- جَعَلَ حَرِيمَ الشَّجَرَةِ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ وَلِأَنَّهُ يُحْتَاجُ إِلَى الْحَرِيمِ لِجُذَاذِ ثَمَرِهِ، وَالْوَضْعِ فِيهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ لَا تَقْدِيرَ لَهُ، لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ الْحَالُ بِكِبَرِ الشَّجَرَةِ وَصِغَرِهَا. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ عُرْفًا لِشَجَرَةٍ مِنْ نَخْلٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَيُتْرَكُ مَا أَضَرَّ بِهَا.وَيُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِهِ، فَيَكُونُ الْحَرِيمُ لِكُلِّ شَجَرَةٍ بِقَدْرِ مَصْلَحَتِهَا.وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي تَقْدِيرِ الْحَرِيمِ الرُّجُوعُ إِلَى الْعُرْفِ، حَتَّى إِنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ قَدْ رُوعِيَ فِيهِ الْعُرْفُ وَالْحَاجَةُ.

وَقَدْ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي النَّخْلَةِ: إِنَّ حَرِيمَهَا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ ذِرَاعًا مِنْ نَوَاحِيهَا كُلِّهَا إِلَى عَشَرَةِ أَذْرُعٍ، قَالَ الْمَوَّاقُ: وَذَلِكَ حَسَنٌ.

وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَحَرِيمُ الشَّجَرَةِ قَدْرُ مَا تَمُدُّ إِلَيْهِ أَغْصَانُهَا حَوَالَيْهَا، وَفِي النَّخْلَةِ قَدْرُ مَدِّ جَرِيدِهَا لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: اخْتُصِمَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَرِيمِ نَخْلَةٍ، فَأَمَرَ بِجَرِيدَةٍ مِنْ جَرَائِدِهَا، فَذُرِعَتْ فَكَانَتْ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ أَوْ خَمْسَةً، فَقَضَى بِذَلِكَ.

و- حَرِيمُ الدَّارِ:

11- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ حَرِيمَ الدَّارِ الْمَحْفُوفَةِ بِالْمَوَاتِ مَا يَرْتَفِقُ بِهِ مِنْ مَطْرَحِ تُرَابٍ وَكُنَاسَةٍ وَثَلْجٍ، أَوْ مَصَبِّ مِيزَابٍ، وَمَمَرٍّ فِي صَوْبِ الْبَابِ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ يَرْتَفِقُ بِهِ سَاكِنُهَا.

وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ مَنْ بَنَى دَارًا فِي مَفَازَةٍ لَا يَسْتَحِقُّ حَرِيمًا، وَإِنِ احْتَاجَهُ لِإِلْقَاءِ الْكُنَاسَةِ.

وَلَا تُخْتَصُّ الدَّارُ الْمَحْفُوفَةُ بِمِلْكِ الْغَيْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِالْحَرِيمِ، لِانْتِفَاءِ الْمُرَجِّحِ لَهَا عَلَى غَيْرِهَا، لِأَنَّ الْأَمْلَاكَ مُتَعَارِضَةٌ، وَلَيْسَ جَعْلُ مَوْضِعٍ حَرِيمًا لِدَارٍ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ حَرِيمًا لأُِخْرَى، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُلاَّكِ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ عَلَى الْعَادَةِ فِي التَّصَرُّفِ.

ز- حَرِيمُ الْقَرْيَةِ:

12- صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ حَرِيمَ الْقَرْيَةِ مُحْتَطَبُهَا وَمَرْعَاهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ عَلَى الْعَادَةِ مِنَ الذَّهَابِ وَالْإِيَابِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْمَصْلَحَةِ، فَيَخْتَصُّونَ بِهِ، وَلَهُمْ مَنْعُ غَيْرِهِمْ مِنْهُ، وَلَا يَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، لِأَنَّهُ مُبَاحٌ لِلْجَمِيعِ.وَمَنْ أَتَى مِنْهُ بِحَطَبٍ أَوْ حَشِيشٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مَلَكَهُ وَحْدَهُ. ح- حَرِيمُ أَرْضِ الزِّرَاعَةِ:

13- قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: حَرِيمُ أَرْضِ الزَّرْعِ مَا بَعُدَ مِنْهَا وَلَمْ يَبْلُغْهُ مَاؤُهَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: حَرِيمُهَا مَا انْتَهَى إِلَيْهِ صَوْتُ الْمُنَادِي مِنْ حُدُودِهَا.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ حَرِيمَ أَرْضِ الزِّرَاعَةِ قَدْرُ مَا يَحْتَاجُهُ زُرَّاعُهَا لِسَقْيِهَا، وَرَبْطِ دَوَابِّهَا، وَطَرْحِ سَبَخِهَا وَنَحْوِهِ، لِأَنَّ كُلَّ الْمَذْكُورِ مِنْ مَرَافِقِهَا.

الْبِنَاءُ فِي حَرِيمِ النَّهْرِ وَالدَّارِ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ:

14- يَجُوزُ الْبِنَاءُ فِي حَرِيمِ الدَّارِ، وَيَمْتَنِعُ فِي حَرِيمِ النَّهْرِ، وَلَوْ مَسْجِدًا، وَيُهْدَمُ مَا بُنِيَ فِيهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَإِنْ بَعُدَ عَنْهُ الْمَاءُ، لِاحْتِمَالِ عَوْدِهِ إِلَيْهِ.

وَيَقُولُ الشَبْرَامَلِّسِي: وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ أَيِسَ مِنْ عَوْدِهِ جَازَ.

وَلَا تَحْرُمُ الصَّلَاةُ فِي حَرِيمِ النَّهْرِ، فَكَذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي بُنِيَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبَ الْهَدْمِ.

أَمَّا الِانْتِفَاعُ بِحَرِيمِ الْأَنْهَارِ كَحَافَّاتِهَا بِوَضْعِ الْأَحْمَالِ وَالْأَثْقَالِ، وَجَعْلِ زَرِيبَةٍ مِنْ قَصَبٍ وَنَحْوِهِ لِحِفْظِ الْأَمْتِعَةِ فِيهَا فَيَجُوزُ بِشَرْطِ أَنْ يَفْعَلَهُ لِلِارْتِفَاقِ بِهِ وَلَا يُضِرُّ بِانْتِفَاعِ غَيْرِهِ، وَلَا يُضَيِّقُ عَلَى الْمَارَّةِ وَنَحْوِهِمْ، وَلَا يُعَطِّلُ أَوْ يُنْقِصُ مَنْفَعَةَ النَّهْرِ.

فَإِذَا كَانَ الِانْتِفَاعُ مِنَ الْحَرِيمِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ عِوَضٍ مِنْهُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِلاَّ حَرُمَ، وَلَزِمَتْهُ الْأُجْرَةُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.

اسْتِعْمَالَاتٌ أُخْرَى لِكَلِمَةِ الْحَرِيمِ:

اسْتَعْمَلَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ كَلِمَةَ الْحَرِيمِ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى: كَحَرِيمِ الْمُصَلِّي، وَحَرِيمِ النَّجَاسَةِ وَغَيْرِهَا، نُجْمِلُهَا فِيمَا يَلِي:

أ- حَرِيمُ الْمُصَلِّي:

15- صَرَّحَ الدُّسُوقِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي حَرِيمِ الْمُصَلِّي الَّذِي يُمْنَعُ الْمُرُورُ فِيهِ:

قَالَ ابْنُ هِلَالٍ: كَانَ ابْنُ عَرَفَةَ يَقُولُ: هُوَ مَا لَا يُشَوِّشُ عَلَيْهِ الْمُرُورُ فِيهِ، وَيَحُدُّهُ بِنَحْوِ عِشْرِينَ ذِرَاعًا.

وَاخْتَارَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَنَّ حَرِيمَ الْمُصَلِّي قَدْرُ مَا يَحْتَاجُهُ لِقِيَامِهِ وَرُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ.

وَقِيلَ: إِنَّ قَدْرَهُ رَمْيَةُ الْحَجَرِ أَوِ السَّهْمِ، أَوِ الْمُضَارَبَةُ بِالسَّيْفِ.

وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ عِنْدَهُمْ وَهُوَ: أَنَّ حَرِيمَ الْمُصَلِّي غَايَةُ إِمْكَانِ سُجُودِهِ الْمُقَدَّرِ بِثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ.

وَالْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوا هَذَا الْإِطْلَاقَ إِلاَّ أَنَّهُمْ قَدَّرُوا هَذِهِ الْمَسَافَةَ بِثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ، وَأَقَلُّهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ذِرَاعٌ وَاحِدٌ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّرَاعِ ذِرَاعُ الْيَدِ- كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ- وَهُوَ شِبْرَانِ.

ب- حَرِيمُ النَّجَاسَةِ:

16- صَرَّحَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَا حَرِيمَ لَهَا يُجْتَنَبُ، وَقِيلَ: يَجِبُ التَّبَاعُدُ عَنْ حَرِيمِ النَّجَاسَةِ، وَهُوَ مَا تَغَيَّرَ شَكْلُهُ بِسَبَبِ النَّجَاسَةِ.

وَدَلِيلُهُمْ: أَنَّ تَرَادَّ الْمَاءِ يُوجِبُ تَسَاوِي أَجْزَائِهِ فِي النَّجَاسَةِ، فَالْقَرِيبُ، وَالْبَعِيدُ سَوَاءٌ.

وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فِي الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى فَقَدْ تَعَرَّضُوا لِهَذَا الْمَوْضُوعِ دُونَ اسْتِعْمَالِ كَلِمَةِ الْحَرِيمِ.

حَرِيمُ الْحَرَامِ، وَالْوَاجِبِ، وَالْمَكْرُوهِ:

17- حُكْمُ الْحَرِيمِ حُكْمُ مَا هُوَ حَرِيمٌ لَهُ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: الْحَرِيمُ يَدْخُلُ فِي الْوَاجِبِ وَالْمَكْرُوهِ، فَكُلُّ مُحَرَّمٍ لَهُ حَرِيمٌ يُحِيطُ بِهِ، وَالْحَرِيمُ هُوَ الْمُحِيطُ بِالْحَرَامِ كَالْفَخِذَيْنِ: فَإِنَّهُمَا حَرِيمٌ لِلْعَوْرَةِ الْكُبْرَى.

وَحَرِيمُ الْوَاجِبِ، مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ، وَأَمَّا الْإِبَاحَةُ فَلَا حَرِيمَ لَهَا لِسَعَتِهَا، وَعَدَمِ الْحَجْرِ فِيهَا.

وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ».

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


251-موسوعة الفقه الكويتية (حسبة 5)

حِسْبَةٌ -5

خَامِسًا- الِاحْتِسَابُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ:

40- أَهْلُ الذِّمَّةِ عَاهَدُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، إِذْ هُمْ مُقِيمُونَ فِي الدَّارِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِخِلَافِ أَهْلِ الْهُدْنَةِ فَإِنَّهُمْ صَالَحُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ يَكُونُوا فِي دَارِهِمْ، وَلَا تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ، وَبِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِينَ فَإِنَّ إِقَامَتَهُمْ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ اسْتِيطَانٍ لَهَا، وَلِذَلِكَ كَانَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ أَحْكَامٌ تَخُصُّهُمْ دُونَ هَؤُلَاءِ.

وَمِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ أَنَّهُمْ إِنْ أَقَامُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ يُحْتَسَبُ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ مَا يُحْتَسَبُ فِيهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنْ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ فِيمَا لَا يُظْهِرُونَهُ فِي كُلِّ مَا اعْتَقَدُوا حِلَّهُ فِي دِينِهِمْ مِمَّا لَا أَذَى لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَاِتِّخَاذِهِ، وَنِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، فَلَا تَعَرُّضَ لَهُمْ فِيمَا الْتَزَمْنَا تَرْكَهُ، وَمَا أَظْهَرُوهُ مِنْ ذَلِكَ تَعَيَّنَ إِنْكَارُهُ عَلَيْهِمْ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ إِظْهَارِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.

وَإِذَا انْفَرَدُوا فِي مِصْرِهِمْ فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ إِظْهَارِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ فِي الْقُرَى، وَلَوْ كَانَ مِنْ بَيْنِ سُكَّانِهَا مُسْلِمُونَ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَوْضِعِ إِعْلَامِ الدِّينِ مِنْ إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَالْأَعْيَادِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَتَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ.وَإِذَا أَظْهَرُوا شَيْئًا مِنَ الْفِسْقِ فِي قُرَاهُمْ مِمَّا لَمْ يُصَالِحُوا عَلَيْهِ مِثْلَ الزِّنَى وَإِتْيَانِ الْفَوَاحِشِ مُنِعُوا مِنْهُ، لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِدِيَانَةٍ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُ فِسْقٌ فِي الدِّيَانَةِ فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ حُرْمَةَ ذَلِكَ كَمَا يَعْتَقِدُهُ الْمُسْلِمُونَ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ «أَهْلُ الذِّمَّةِ».

الرُّكْنُ الرَّابِعُ: فِي الِاحْتِسَابِ وَمَرَاتِبِهِ:

41- الْقِيَامُ بِالْحِسْبَةِ- وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ- مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ وَأَهَمِّ الْمُحْتَسَبَاتِ ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً وَامْتَدَحَهُ فِيهِ بِأَسَالِيبَ عَدِيدَةٍ، وَكَانَ حَظُّهُ مَعَ ذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ أَوْفَرَ وَذِكْرُهُ فِيهَا أَكْثَرَ، وَذَلِكَ لِعِظَمِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ مَصَالِحَ، وَمَا يُدْرَأُ بِهِ مِنْ مَفَاسِدَ، وَذَلِكَ أَسَاسُ كُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ الدِّينُ، وَحِكْمَةُ كُلِّ مَا نَهَى عَنْهُ.

وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ هُوَ رُجْحَانُ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ عَلَى الْآخَرِ إِذْ لَا يَخْلُو كُلُّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ مِنْ مَصْلَحَةٍ يُحَقِّقُهَا وَمَفْسَدَةٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، فَإِذَا رَجَحَتْ الْمَصْلَحَةُ أَمَرَ بِهِ، وَإِذَا رَجَحَتِ الْمَفْسَدَةُ نَهَى عَنْهُ.كَانَ كُلٌّ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَشْرُوعًا وَطَاعَةً مَطْلُوبَةً، وَكَانَ تَرْكُهَا، أَوْ وَضْعُ أَحَدِهِمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ عِصْيَانًا وَأَمْرًا مُحَرَّمًا مَطْلُوبًا تَرْكُهُ، لِأَنَّ مَغَبَّةَ ذَلِكَ الْفَسَادُ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ.

مَرَاتِبُ الِاحْتِسَابِ:

ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي مَرَاتِبِ التَّغْيِيرِ مَا يُمْكِنُ إِيجَازُهُ فِيمَا يَلِي:

42- النَّوْعُ الْأَوَّلُ: التَّنْبِيهُ وَالتَّذْكِيرُ وَذَلِكَ فِيمَنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يُزِيلُ فَسَادَ مَا وَقَعَ لِصُدُورِ ذَلِكَ عَلَى غِرَّةٍ وَجَهَالَةٍ، كَمَا يَقَعُ مِنَ الْجَاهِلِ بِدَقَائِقِ الْفَسَادِ فِي الْبُيُوعِ، وَمُسَالِكِ الرِّبَا الَّتِي يُعْلَمُ خَفَاؤُهَا عَنْهُ، وَكَذَلِكَ مَا يَصْدُرُ مِنْ عَدَمِ الْقِيَامِ بِأَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَشُرُوطِ الْعِبَادَاتِ فَيُنَبَّهُونَ بِطَرِيقِ.التَّلَطُّفِ وَالرِّفْقِ وَالِاسْتِمَالَةِ.

43- النَّوْعُ الثَّانِي: الْوَعْظُ وَالتَّخْوِيفُ مِنَ اللَّهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ لِمَنْ عُرِفَ أَنَّهُ قَدِ اقْتَرَفَ الْمُنْكَرَ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي الَّتِي لَا تَخْفَى عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُكَلَّفِ فَيَتَعَاهَدُهُ الْمُحْتَسِبُ بِالْعِظَةِ وَالْإِخَافَةِ مِنْ رَبِّهِ.

44- النَّوْعُ الثَّالِثُ: الزَّجْرُ وَالتَّأْنِيبُ وَالْإِغْلَاظُ بِالْقَوْلِ وَالتَّقْرِيعِ بِاللِّسَانِ وَالشِّدَّةِ فِي التَّهْدِيدِ وَالْإِنْكَارِ، وَذَلِكَ فِيمَنْ لَا يَنْفَعُ فِيهِ وَعْظٌ، وَلَا يَنْجَحُ فِي شَأْنِهِ تَحْذِيرٌ بِرِفْقٍ، بَلْ يَظْهَرُ عَلَيْهِ مَبَادِئُ الْإِصْرَارِ عَلَى الْمُنْكَرِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِالْعِظَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَا لَا يُعَدُّ فُحْشًا فِي الْقَوْلِ وَلَا إِسْرَافًا فِيهِ خَالِيًا مِنَ الْكَذِبِ، وَمِنْ أَنْ يَنْسُبَ إِلَى مَنْ نَصَحَهُ مَا لَيْسَ فِيهِ مُقْتَصِرًا عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ حَتَّى لَا يَكُونَ مِنْ نَتِيجَتِهِ إِصْرَارٌ وَاسْتِكْبَارٌ.

45- النَّوْعُ الرَّابِعُ: التَّغْيِيرُ بِالْيَدِ بِإِزَالَةِ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ وَذَلِكَ فِيمَنْ كَانَ حَامِلًا الْخَمْرَ، أَوْ مَاسِكًا لِمَالٍ مَغْصُوبٍ، وَعَيْنُهُ قَائِمَةٌ بِيَدِهِ، وَرَبُّهُ مُتَظَلِّمٌ مِنْ بَقَاءِ ذَلِكَ بِيَدِهِ، طَالِبٌ رَفْعَ الْمُنْكَرِ فِي بَقَائِهِ تَحْتَ حَوْزِهِ وَتَصَرُّفِهِ، فَأَمْثَالُ هَذَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الزَّجْرِ وَالْإِغْلَاظِ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ لِلْإِزَالَةِ بِالْيَدِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْيَدِ كَأَمْرِ الْأَعْوَانِ الْمُمْتَثِلِينَ أَمْرَ الْمُغَيِّرِ فِي إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ.

46- النَّوْعُ الْخَامِسُ: إِيقَاعُ الْعُقُوبَةِ بِالنَّكَالِ وَالضَّرْبِ.وَذَلِكَ فِيمَنْ تَجَاهَرَ بِالْمُنْكَرِ وَتَلَبَّسَ بِإِظْهَارِهِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ إِلاَّ بِذَلِكَ.

47- النَّوْعُ السَّادِسُ: الِاسْتِعْدَاءُ وَرَفْعُ الْأَمْرِ إِلَى الْحَاكِمِ وَالْإِمَامِ لِمَا لَهُ مِنْ عُمُومِ النَّظَرِ وَنُفُوذِ الْكَلِمَةِ، مَا لَمْ تَدْعُ الضَّرُورَةُ لِتَرْكِ النُّصْرَةِ بِهِ لِمَا يُخْشَى مِنْ فَوَاتِ التَّغْيِيرِ، فَيَجِبُ قِيَامُ الْمُحْتَسِبِ بِمَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ فِي الْحَالِ.

48- وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَّخِذَ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ أُمُورِ الْحِسْبَةِ بِمَا يَرَى فِيهِ صَلَاحَ الرَّعِيَّةِ، وَزَجْرَ الْمُفْسِدِينَ، وَلَهُ فِي سَبِيلِ ذَلِكَ- بِوَجْهٍ خَاصٍّ- التَّعْزِيرُ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ، مِمَّا لَا يَدْخُلُ فِي اخْتِصَاصِ الْقَاضِي، وَيَكُونُ التَّعْزِيرُ بِالضَّرْبِ، أَوِ الْحَبْسِ، أَوِ الْإِتْلَافِ، أَوِ الْقَتْلِ أَوِ النَّفْيِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ «تَعْزِيرٌ».

خَطَأُ الْمُحْتَسِبِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الضَّمَانِ «ضَمَانُ الْوُلَاةِ»:

49- الْمُحْتَسِبُ مَأْمُورٌ بِإِزَالَةِ الْمُنْكَرِ، فَلَهُ أَنْ يَحْتَسِبَ عَلَى كُلِّ مَنِ اقْتَرَفَ شَيْئًا مِنَ الْمَعَاصِي وَأَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَيْهَا بِمَا يَرَاهُ مُنَاسِبًا، وَقَدْ يَحْدُثُ أَثْنَاءَ ذَلِكَ تَجَاوُزٌ فِي الْعُقُوبَةِ، فَيَتَسَبَّبُ عَنْهُ تَلَفٌ فِي الْمَالِ أَوْ فِي الْبَدَنِ فَهَلْ يَضْمَنُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّجَاوُزِ فِي إِتْلَافِ الْمَالِ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ إِلَى عَدَمِ الضَّمَانِ مُطْلَقًا وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ:

لَا ضَمَانَ فِي إِتْلَافِ خَمْرٍ وَخِنْزِيرٍ، وَكَذَا لَوْ كَسَرَ صَلِيبًا أَوْ مِزْمَارًا أَوْ طُنْبُورًا أَوْ صَنَمًا.لِلنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ.وَلِحَدِيثِ: «بُعِثْتُ بِمَحْقِ الْقَيْنَاتِ وَالْمَعَازِفِ» وَقَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: وَفِي كَسْرِ آنِيَةِ الْخَمْرِ رِوَايَتَانِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى الضَّمَانِ إِذَا تَجَاوَزَ الْمُحْتَسِبُ الْقَدْرَ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ.

قَالَ صَاحِبُ تُحْفَةِ النَّاظِرِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا لَمْ يَقَعِ التَّمَكُّنُ مِنْ إِرَاقَةِ الْخَمْرِ إِلاَّ بِكَسْرِ أَنَابِيبِهَا وَتَحْرِيقِ وِعَائِهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي هَذَا النَّوْعِ، وَإِنْ أَمْكَنَ زَوَالُ عَيْنِهَا مَعَ بَقَاءِ الْوِعَاءِ سَلِيمًا وَلَمْ يَخَفِ الْفَاعِلُ مُضَايَقَةً فِي الزَّمَانِ وَلَا فِي الْمَكَانِ بِتَغَلُّبِ فَاعِلِهِ مَعَ انْتِفَاءِ هَذِهِ الْمَوَانِعِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ، إِنْ كَانَ لِأَمْثَالِهِ قِيمَةٌ وَهُوَ يُنْتَفَعُ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: وَفِي إِرَاقَةِ الْخُمُورِ يَتَوَقَّى كَسْرَ الْأَوَانِي إِنْ وَجَدَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَحَيْثُ كَانَتِ الْإِرَاقَةُ مُتَيَسِّرَةً بِلَا كَسْرٍ، فَكَسَرَهَا لَزِمَهُ الضَّمَانُ.

وَقَالَ أَيْضًا: الْوَالِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، وَلَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِكَسْرِ الظُّرُوفِ الَّتِي فِيهَا الْخَمْرُ زَجْرًا، وَقَدْ فُعِلَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَأْكِيدًا لِلزَّجْرِ، وَلَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهُ، وَلَكِنْ كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الزَّجْرِ وَالْفِطَامِ شَدِيدَةً، فَإِذَا رَأَى الْوَالِي بِاجْتِهَادِهِ مِثْلَ الْحَاجَةِ جَازَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ هَذَا مَنُوطًا بِنَوْعِ اجْتِهَادٍ دَقِيقٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لآِحَادِ الرَّعِيَّةِ.

50- أَمَّا الشِّقُّ الْآخَرُ وَهُوَ الضَّمَانُ فِي تَلَفِ النُّفُوسِ بِسَبَبِ مَا يَقُومُ بِهِ الْمُحْتَسِبُ، فَإِنَّ لِلْفُقَهَاءِ أَقْوَالًا فِي ذَلِكَ:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنَ التَّعْزِيرِ لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهُ، لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ مَشْرُوعَةٌ لِلرَّدْعِ وَالزَّجْرِ، فَلَمْ يُضْمَنْ مَنْ تَلِفَ بِهَا كَالْحَدِّ، وَلِأَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ بِأَمْرِ الشَّرْعِ، وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، وَلِأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى بِأَمْرِهِ، فَصَارَ كَأَنَّ اللَّهَ أَمَاتَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ قَالَ صَاحِبُ التَّبْصِرَةِ: فَإِنْ عَزَّرَ الْحَاكِمُ أَحَدًا فَمَاتَ أَوْ سَرَى ذَلِكَ إِلَى النَّفْسِ فَعَلَى الْعَاقِلَةِ، وَكَذَلِكَ تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ الثُّلُثَ فَأَكْثَرَ، وَفِي عُيُونِ الْمَجَالِسِ لِلْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ إِذَا عَزَّرَ الْإِمَامُ إِنْسَانًا فَمَاتَ فِي التَّعْزِيرِ لَمْ يَضْمَنَ الْإِمَامُ شَيْئًا لَا دِيَةً وَلَا كَفَّارَةً.

وَذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ فُقَهَائِهِمْ إِلَى أَنَّ عَدَمَ الضَّمَانِ مَبْنِيٌّ عَلَى ظَنِّ السَّلَامَةِ، فَإِنْ شَكَّ فِيهَا ضَمِنَ مَا سَرَى عَلَى نَفْسٍ أَوْ عُضْوٍ، وَإِنْ ظَنَّ عَدَمَ السَّلَامَةِ فَالْقِصَاصُ.

وَالشَّافِعِيُّ يَرَى التَّضْمِينَ فِي التَّعْزِيرِ إِذَا حَصَلَ بِهِ هَلَاكٌ، لِأَنَّهُ مَشْرُوطٌ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ وَلَا يُعْفَى مِنَ التَّعْزِيرِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْهَلَاكُ بِنَحْوِ تَوْبِيخٍ بِكَلَامٍ وَصَفْعٍ فَلَا شَيْءَ فِيهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ عَزَّرَ غَيْرَهُ بِإِذْنِهِ، وَلَا عَلَى مَنْ عَزَّرَهُ مُمْتَنِعًا مِنْ أَدَاءِ حَقٍّ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَدَّى إِلَى قَتْلِهِ قَالَ الرَّمْلِيُّ: لِلْحَاكِمِ تَعْزِيرُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ أَدَاءِ دَيْنٍ عَلَيْهِ بَعْدَ طَلَبِ مُسْتَحِقِّهِ بِحَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ وَإِنْ زَادَ عَلَى التَّعْزِيرِ بَلْ وَإِنْ أَدَّى إِلَى مَوْتِهِ لِأَنَّهُ بِحَقٍّ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ.وَلَا يَكُونُ التَّعْزِيرُ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَإِنْ ضَرَبَهُ ضَرْبًا يَقْتُلُ غَالِبًا أَوْ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا أَوْ قَصَدَ قَتْلَهُ وَجَبَ الْقِصَاصُ أَوْ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ فِي مَالِهِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (تَعْزِيرٌ، حُدُودٌ، ضَمَانٌ).

مِقْدَارُ الضَّمَانِ وَعَلَى مَنْ يَجِبُ:

51- وَحَيْثُ قِيلَ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَفِي قَدْرِهِ قَوْلَانِ:

الْأَوَّلُ: لُزُومُ كَامِلِ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ قَتْلٌ حَصَلَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ وَعُدْوَانِ الضَّارِبِ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْعَادِي، كَمَا لَوْ ضَرَبَ مَرِيضًا سَوْطًا فَمَاتَ بِهِ، وَلِأَنَّهُ تَلَفٌ بِعُدْوَانٍ وَغَيْرِهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَلْقَى عَلَى سَفِينَةٍ مُوقَرَةٍ حَجَرًا فَغَرَّقَهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَالثَّانِي: عَلَيْهِ نِصْفُ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ تَلَفٌ بِفِعْلٍ مَضْمُونٍ وَغَيْرِ مَضْمُونٍ، فَكَانَ الْوَاجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ كَمَا لَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ وَجَرَحَهُ غَيْرُهُ فَمَاتَ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ.

وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: يَجِبُ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِ مَا تَعَدَّى بِهِ.

عَلَى مَنْ يَجِبُ الضَّمَانُ:

52- فِي غَيْرِ حَالَاتِ التَّعَمُّدِ وَالتَّعَدِّي إِذَا قُلْنَا يَضْمَنُ الْإِمَامُ فَهَلْ يَلْزَمُ عَاقِلَتَهُ أَوْ بَيْتَ الْمَالِ؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: هُوَ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ خَطَأَهُ يَكْثُرُ فَلَوْ وَجَبَ ضَمَانُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ أَجْحَفَ بِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَالثَّانِيَةُ: عَلَى عَاقِلَتِهِ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِخَطَئِهِ فَكَانَتْ عَلَى عَاقِلَتِهِ، كَمَا لَوْ رَمَى صَيْدًا فَقَتَلَ آدَمِيًّا.وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


252-موسوعة الفقه الكويتية (حق 1)

حَقٌّ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْحَقُّ فِي اللُّغَةِ خِلَافُ الْبَاطِلِ، وَهُوَ مَصْدَرُ، حَقَّ الشَّيْءُ يَحِقُّ إِذَا ثَبَتَ وَوَجَبَ.وَجَاءَ فِي الْقَامُوسِ أَنَّ الْحَقَّ يُطْلَقُ عَلَى الْمَالِ وَالْمِلْكِ وَالْمَوْجُودِ الثَّابِتِ.وَمَعْنَى حَقَّ الْأَمْرُ وَجَبَ وَوَقَعَ بِلَا شَكٍّ، وَعَرَّفَهُ الْجُرْجَانِيُّ بِأَنَّهُ الثَّابِتُ الَّذِي لَا يَسُوغُ إِنْكَارُهُ.

وَالْحَقُّ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ مِنْ صِفَاتِهِ.

وَمِنْ مَعَانِي الْحَقِّ فِي اللُّغَةِ: النَّصِيبُ، وَالْوَاجِبُ، وَالْيَقِينُ، وَحُقُوقُ الْعَقَارِ مَرَافِقُهُ.

وَالْحَقُّ فِي الِاصْطِلَاحِ يَأْتِي بِمَعْنَيَيْنِ:

الْأَوَّلُ: هُوَ الْحُكْمُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْأَقْوَالِ وَالْعَقَائِدِ وَالْأَدْيَانِ وَالْمَذَاهِبِ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهَا عَلَى ذَلِكَ وَيُقَابِلُهُ الْبَاطِلُ.

وَالْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْوَاجِبِ الثَّابِتِ.وَهُوَ قِسْمَانِ: حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعِبَادِ.

فَأَمَّا حَقُّ اللَّهِ، فَقَدْ عَرَّفَهُ التَّفْتَازَانِيُّ: بِأَنَّهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْعُ الْعَامُّ لِلْعَالَمِ مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصٍ بِأَحَدٍ، فَيُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِعِظَمِ خَطَرِهِ، وَشُمُولِ نَفْعِهِ، أَوْ كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: حَقُّ اللَّهِ مَا لَا مَدْخَلَ لِلصُّلْحِ فِيهِ، كَالْحُدُودِ وَالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَغَيْرِهَا.

وَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ خَاصَّةٌ لَهُ، كَحُرْمَةِ مَالِهِ، أَوْ كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَأَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ، فَهِيَ الَّتِي تَقْبَلُ الصُّلْحَ وَالْإِسْقَاطَ وَالْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهَا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْحُكْمُ:

2- الْحُكْمُ هُوَ خِطَابُ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِالِاقْتِضَاءِ، أَوِ التَّخْيِيرِ، أَوِ الْوَضْعِ، وَالْحَقُّ أَثَرٌ لِلْحُكْمِ لِأَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ بِالشَّرْعِ.

فَبَيْنَ الْحَقِّ وَالْحُكْمِ عَلَاقَةُ الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ.

الْحَقُّ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ:

3- الْمُرَادُ بِالْحَقِّ عِنْدَ عُلَمَاءِ أُصُولِ الْفِقْهِ:

اتَّجَهَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ الَّذِينَ ذَكَرُوا الْحَقَّ اتِّجَاهَيْنِ:

الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْحُكْمُ، وَهُوَ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِالِاقْتِضَاءِ أَوِ التَّخْيِيرِ أَوِ الْوَضْعِ.

قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ أَمَّا الْأَحْكَامُ فَأَنْوَاعٌ: الْأَوَّلُ: حُقُوقُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَالِصَةً.وَالثَّانِي: حُقُوقُ الْعِبَادِ خَالِصَةً.وَالثَّالِثُ: مَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْحَقَّانِ، وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى غَالِبٌ.وَالرَّابِعُ: مَا اجْتَمَعَا مَعًا وَحَقُّ الْعَبْدِ فِيهِ غَالِبٌ.

ثُمَّ قَالَ عَلَاءُ الدِّينِ الْبُخَارِيُّ فِي شَرْحِهِ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ- رحمه الله- فِي أُصُولِ الْفِقْهِ: الْحَقُّ: الْمَوْجُودُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ الَّذِي لَا رَيْبَ فِي وُجُودِهِ، وَمِنْهُ: «السِّحْرُ حَقٌّ، وَالْعَيْنُ حَقٌّ»، أَيْ مَوْجُودٌ بِأَثَرِهِ، وَهَذَا الدِّينُ حَقٌّ، أَيْ مَوْجُودٌ صُورَةً وَمَعْنًى، وَلِفُلَانٍ حَقٌّ فِي ذِمَّةِ فُلَانٍ، أَيْ شَيْءٌ مَوْجُودٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.

وَقَالَ أَيْضًا: حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى: مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْعُ الْعَامُّ لِلْعَالَمِ، فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدٌ.وَيُنْسَبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا، أَوْ لِئَلاَّ يَخْتَصَّ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، مِثْلُ: حُرْمَةِ الْبَيْتِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةُ الْعَالَمِ، بِاِتِّخَاذِهِ قِبْلَةً لِصَلَوَاتِهِمْ، وَمَثَابَةً لَهُمْ.وَكَحُرْمَةِ الزِّنَى لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ عُمُومِ النَّفْعِ فِي سَلَامَةِ الْأَنْسَابِ، وَصِيَانَةِ الْفِرَاشِ، وَإِنَّمَا الْحَقُّ يُنْسَبُ إلَيْهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا، لِأَنَّهُ يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ حَقًّا لَهُ بِهَذَا الْوَجْهِ.وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا لَهُ بِجِهَةِ التَّخْلِيقِ، لِأَنَّ الْكُلَّ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ.بَلِ الْإِضَافَةُ إِلَيْهِ لِتَشْرِيفِ مَا عَظُمَ خَطَرُهُ، وَقَوِيَ نَفْعُهُ، وَشَاعَ فَضْلُهُ، بِأَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ النَّاسُ كَافَّةً.

وَحَقُّ الْعَبْدِ: مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ خَاصَّةٌ لَهُ، مِثْلُ: حُرْمَةِ مَالِهِ، فَإِنَّهَا حَقُّ الْعَبْدِ، لِيَتَعَلَّقَ صِيَانَةُ مَالِهِ بِهَا.فَلِهَذَا يُبَاحُ مَالُ الْغَيْرِ بِإِبَاحَةِ الْمَالِكِ، وَلَا يُبَاحُ الزِّنَى بِإِبَاحَةِ الْمَرْأَةِ، وَلَا بِإِبَاحَةِ أَهْلِهَا.

وَقَالَ صَاحِبُ تَيْسِيرِ التَّحْرِيرِ: وَيَرِدُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ، وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: يَعْنِي بِحَقِّ اللَّهِ مَا يَكُونُ الْمُسْتَحِقُّ هُوَ اللَّهَ، وَبِحَقِّ الْعَبْدِ مَا يَكُونُ الْمُسْتَحِقُّ هُوَ الْعَبْدَ.

وَقَالَ الْكِنْدِيُّ: الْحَقُّ: الْمَوْجُودُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا: حُكْمٌ يَثْبُتُ.

وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: حَقُّ اللَّهِ: أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ.وَحَقُّ الْعَبْدِ: مَصَالِحُهُ.وَالتَّكَالِيفُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ، كَالْإِيمَانِ وَتَحْرِيمِ الْكُفْرِ.وَالثَّانِي: حَقُّ الْعِبَادِ فَقَطْ، كَالدُّيُونِ وَالْأَثْمَانِ.

وَالثَّالِثُ: قِسْمٌ اخْتُلِفَ فِيهِ، هَلْ يَغْلِبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ، أَوْ يَغْلِبُ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ، كَحَدِّ الْقَذْفِ، وَنَعْنِي بِحَقِّ الْعَبْدِ الْمَحْضِ: أَنَّهُ لَوْ أَسْقَطَهُ لَسَقَطَ، وَإِلاَّ فَمَا مِنْ حَقٍّ لِلْعَبْدِ إِلاَّ وَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَمْرُهُ بِإِيصَالِ ذَلِكَ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ.

ثُمَّ قَالَ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ، مُشْكِلٌ بِمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا» فَيَقْتَضِي أَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ نَفْسُ الْفِعْلِ، لَا الْأَمْرُ بِهِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا نَقَلْتُهُ قَبْلَ هَذَا.وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَدِيثَ مُئَوَّلٌ، وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْأَمْرِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ، فَظَاهِرُهُ مُعَارِضٌ لِمَا حَرَّرَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِنَا: الصَّلَاةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى إِلاَّ أَمْرُهُ بِهَا، إِذْ لَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهَا لَمْ يَصْدُقْ أَنَّهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، فَنَجْزِمُ بِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ نَفْسُ الْأَمْرِ، لَا الْفِعْلُ، وَمَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ مُئَوَّلٌ.

الِاتِّجَاهُ الثَّانِي:

4- الْحَقُّ هُوَ الْفِعْلُ: ذَكَرَ سَعْدٌ التَّفْتَازَانِيُّ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْفِعْلُ فَقَالَ: الْمَحْكُومُ بِهِ (وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ بَعْضُهُمُ الْمَحْكُومَ فِيهِ) هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ خِطَابُ الشَّارِعِ.فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهِ حِسًّا، أَيْ مِنْ وُجُودِهِ فِي الْوَاقِعِ، بِحَيْثُ يُدْرَكُ بِالْحِسِّ أَوْ بِالْعَقْلِ، إِذِ الْخِطَابُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا لَا يَكُونُ لَهُ وُجُودٌ أَصْلًا.

وَأَكَّدَ صَاحِبُ تَهْذِيبِ الْفُرُوقِ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْفِعْلُ، فَقَالَ: حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى: هُوَ مُتَعَلَّقُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، الَّذِي هُوَ عَيْنُ عِبَادَتِهِ، لَا نَفْسُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا، لِأَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ: قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} وَقَوْلُ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا».

الثَّانِي: أَنَّ الْحَقَّ مَعْنَاهُ: اللاَّزِمُ لَهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَاللاَّزِمُ عَلَى الْعِبَادِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُكْتَسَبًا لَهُمْ، وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْكَسْبُ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَهُوَ كَلَامُهُ، وَكَلَامُهُ صِفَتُهُ الْقَدِيمَةُ.

وَحَقُّ الْعَبْدِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: حَقُّهُ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ مَلْزُومُ عِبَادَتِهِ إِيَّاهُ بِوَعْدِهِ، وَهُوَ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَيُخَلِّصَهُ مِنَ النَّارِ.وَالثَّانِي: حَقُّهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي تَسْتَقِيمُ بِهِ أُولَاهُ وَأُخْرَاهُ مِنْ مَصَالِحِهِ.وَالثَّالِثُ: حَقُّهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادِ، وَهُوَ مَا لَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الذِّمَمِ وَالْمَظَالِمِ.

وَفِي هَذَا تَأْيِيدٌ لِابْنِ الشَّاطِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ قَالَ: الْحَقُّ وَالصَّوَابُ مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، مِنْ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ عَيْنُ الْعِبَادَةِ.لَا الْأَمْرُ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا.

5- وَقَسَّمَ ابْنُ رَجَبٍ حُقُوقَ الْعِبَادِ إِلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ:

1- حَقُّ الْمِلْكِ

2- حَقُّ التَّمَلُّكِ كَحَقِّ الْوَالِدِ فِي مَالِ وَلَدِهِ وَحَقِّ الشَّفِيعِ فِي الشُّفْعَةِ.

3- حَقُّ الِانْتِفَاعِ كَوَضْعِ الْجَارِ خَشَبَةً عَلَى جِدَارِ جَارِهِ إِذَا لَمْ يَضُرُّهُ.

4- حَقُّ الِاخْتِصَاصِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا يُخْتَصُّ مُسْتَحِقُّهُ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مُزَاحَمَتَهُ فِيهِ، وَهُوَ غَيْرُ قَابِلٍ لِلشُّمُولِ وَالْمُعَاوَضَاتِ مِثْلُ مَرَافِقِ الْأَسْوَاقِ، وَالْجُلُوسِ فِي الْمَسَاجِدِ.

5- حَقُّ التَّعَلُّقِ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِثْلُ تَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالرَّهْنِ.

الْمُرَادُ بِالْحَقِّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:

6- الْمُرَادُ بِالْحَقِّ غَالِبًا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: مَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّجُلُ. وَإِطْلَاقَاتُ الْفُقَهَاءِ لِلْحَقِّ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً وَمُتَعَدِّدَةً، مِنْهَا:

1- إِطْلَاقُ الْحَقِّ عَلَى مَا يَشْمَلِ الْحُقُوقَ الْمَالِيَّةَ وَغَيْرَ الْمَالِيَّةِ، مِثْلُ قَوْلِهِمْ: مَنْ بَاعَ بِثَمَنٍ حَالٍّ ثُمَّ أَجَّلَهُ صَحَّ، لِأَنَّهُ حَقُّهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ إِسْقَاطَهُ، فَيَمْلِكُ تَأْجِيلَهُ.

2- الِالْتِزَامَاتُ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَقْدِ- غَيْرُ حُكْمِهِ- وَتَتَّصِلُ بِتَنْفِيذِ أَحْكَامِهِ.

مِثْلُ: تَسْلِيمِ الثَّمَنِ الْحَالِّ أَوَّلًا ثُمَّ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِمْ: وَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ سَلَّمَهُ أَوَّلًا، تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، لِأَنَّ الْمَبِيعَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَالثَّمَنُ لَا يَتَعَيَّنُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، فَلِهَذَا اشْتُرِطَ تَسْلِيمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا، لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِالتَّأْجِيلِ، فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْآخَرِ.

3- الْأَرْزَاقُ الَّتِي تُمْنَحُ لِلْقُضَاةِ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ نُجَيْمٍ: مَنْ لَهُ حَقٌّ فِي دِيوَانِ الْخَرَاجِ كَالْمُقَاتِلَةِ وَالْعُلَمَاءِ وَطَلَبَتِهِمْ وَالْمُفْتِينَ وَالْفُقَهَاءِ يُفْرَضُ لِأَوْلَادِهِمْ تَبَعًا، وَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ الْأَصْلِ تَرْغِيبًا.

4- مَرَافِقُ الْعَقَارِ، مِثْلُ: حَقِّ الطَّرِيقِ، وَحَقِّ الْمَسِيلِ، وَحَقِّ الشُّرْبِ. 5- الْحُقُوقُ الْمُجَرَّدَةُ، وَهِيَ الْمُبَاحَاتُ، مِثْلُ: حَقِّ التَّمَلُّكِ، وَحَقِّ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي، وَحَقِّ الطَّلَاقِ لِلزَّوْجِ.

مَصْدَرُ الْحَقِّ:

7- مَصْدَرُ الْحَقِّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لِتَنْظِيمِ حَيَاةِ الْخَلْقِ، حَتَّى يَكُونُوا سُعَدَاءَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.وَكَانَ يُمْكِنُ أَلاَّ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْعَبْدِ حَقًّا أَصْلًا، وَلَكِنَّهُ تَفَضَّلَ عَلَى عِبَادِهِ فَجَعَلَ لِلشَّخْصِ حُقُوقًا تُؤَدَّى لَهُ، وَكَلَّفَهُ بِأَدَاءِ حُقُوقٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلْآخَرِينَ، ثُمَّ أَعْلَمَهُ وَبَلَّغَهُ مَا لَهُ مِنْ حُقُوقٍ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ وَاجِبَاتٍ عَنْ طَرِيقِ الشَّرَائِعِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي خُتِمَتْ بِالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَكَانَتْ نَاسِخَةً لِمَا قَبْلَهَا وَعَامَّةً لِجَمِيعِ الْخَلْقِ.

فَمَا أَثْبَتَتْهُ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ حَقًّا فَهُوَ حَقٌّ، وَمَا عَدَاهُ فَلَيْسَ بِحَقٍّ، فَالْحَاكِمُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} وَعَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْحُقُوقُ هِيَ أَثَرُ خِطَابِ الشَّرْعِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، قَالَ الشَّاطِبِيُّ إِنَّ كُلَّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَيْسَ بِخَالٍ عَنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ جِهَةُ التَّعَبُّدِ، فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَعِبَادَتُهُ امْتِثَالُ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ بِإِطْلَاقٍ. فَإِنْ جَاءَ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ حَقٌّ لِلْعَبْدِ مُجَرَّدًا فَلَيْسَ كَذَلِكَ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ جَاءَ عَلَى تَغْلِيبِ حَقِّ الْعَبْدِ فِي الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ.كَمَا أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَفِيهِ حَقٌّ لِلْعِبَادِ، إِمَّا عَاجِلًا وَإِمَّا آجِلًا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا وُضِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَلاَّ يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا».

ثُمَّ ذَكَرَ الشَّاطِبِيُّ أَنَّ كُلَّ الْحُقُوقِ حَتَّى حَقَّ الْعَبْدِ هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ وَحْدَهُ بَادِئَ ذِي بَدْءٍ، فَقَالَ: كُلُّ تَكْلِيفٍ حَقُّ اللَّهِ، فَإِنَّ مَا هُوَ لِلَّهِ فَهُوَ لِلَّهِ، وَمَا كَانَ لِلْعَبْدِ فَرَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أ- مِنْ جِهَةِ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ.

ب- وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِ حَقِّ الْعَبْدِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، إِذْ كَانَ لِلَّهِ أَلاَّ يَجْعَلَ لِلْعَبْدِ حَقًّا أَصْلًا، إِذِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَضْعِهَا الْأَوَّلِ مُتَسَاوِيَةٌ، لَا قَضَاءَ لِلْعَقْلِ فِيهَا بِحُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ، فَإِذَنْ كَوْنُ الْمَصْلَحَةِ مَصْلَحَةً هُوَ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ، بِحَيْثُ يُصَدِّقُهُ الْعَقْلُ، وَتَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ النَّفْسُ. 8- أَرْكَانُ الْحَقِّ هِيَ:

أ- صَاحِبُ الْحَقِّ، وَهُوَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ الشَّخْصُ الَّذِي ثَبَتَ لَهُ الْحَقُّ، كَالزَّوْجِ بِاعْتِبَارِهِ صَاحِبَ حَقٍّ عَلَى الزَّوْجَةِ بِالنِّسْبَةِ لِطَاعَتِهِ.

أَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَإِنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ فِيهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ وَلَا يُشَارِكُهُ فِي هَذَا الْحَقِّ أَحَدٌ غَيْرَهُ، وَلِذَا لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ إِسْقَاطَ حَقِّهِ تَعَالَى.

ب- مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَهُوَ الشَّخْصُ الْمُكَلَّفُ بِالْأَدَاءِ، فَإِذَا كَانَ صَاحِبُ الْحَقِّ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى، فَيَكُونُ الْمُكَلَّفُ بِأَدَاءِ الْحَقِّ هُوَ مَنْ عَلَيْهِ هَذَا الْحَقُّ، سَوَاءٌ أَكَانَ فَرْدًا كَمَا فِي فَرْضِ الْعَيْنِ، أَمْ جَمَاعَةً كَمَا فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ مَثَلًا.

ج- مَحِلُّ الْحَقِّ أَيْ الشَّيْءُ الْمُسْتَحَقُّ، كَالْفَرَائِضِ الْخَمْسِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.وَالْمَالُ حَقِيقَةٌ، كَالْقَدْرِ الْمَقْبُوضِ مِنَ الْمَهْرِ، وَهُوَ مُعَجَّلُ الصَّدَاقِ أَوْ حُكْمًا، كَالْقَدْرِ الْمُؤَخَّرِ مِنَ الْمَهْرِ لِأَقْرَبِ الْأَجَلَيْنِ، وَكَذَا سَائِرُ الدُّيُونِ.وَالِانْتِفَاعُ، كَحِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِعَقْدِ الزَّوَاجِ.وَالْعَمَلُ، مِثْلُ: مَا تَقُومُ بِهِ الزَّوْجَةُ مِنْ أَعْمَالٍ، وَتَمْكِينِ الزَّوْجِ مِنْ نَفْسِهَا.وَالِامْتِنَاعُ عَنْ عَمَلٍ، مِثْلُ: عَدَمِ فِعْلِ الزَّوْجَةِ مَا يُغْضِبُ اللَّهَ أَوْ يُغْضِبُ الزَّوْجَ.

وَيُشْتَرَطُ فِي الشَّيْءِ الْمُسْتَحَقِّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَمْنُوعٍ شَرْعًا، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ شَرْعًا إِلاَّ مَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ، فَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ فَلَا يَكُونُ حَقًّا، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ الْمُطَالَبَةُ بِمَا هُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، مِثْلُ: تَمْكِينِ الزَّوْجِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِزَوْجَتِهِ فَإِنَّهُ حَقٌّ مَشْرُوعٌ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مَشْرُوعًا دَائِمًا فِي كُلِّ وَقْتٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَشْرُوعًا فِي حَالِ الْحَيْضِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزَلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}.

أَقْسَامُ الْحَقِّ:

9- يُقَسَّمُ الْحَقُّ إِلَى تَقْسِيمَاتٍ عِدَّةٍ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ.

بِاعْتِبَارِ اللُّزُومِ وَعَدَمِهِ، بِاعْتِبَارِ عُمُومِ النَّفْعِ وَخُصُوصِهِ، وَبِاعْتِبَارِ وُجُودِ حَقِّ الْعَبْدِ وَعَدَمِهِ، بِاعْتِبَارِ إِسْقَاطِ الْعَبْدِ لِلْحَقِّ وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَقِّ، وَبِاعْتِبَارِ إِسْقَاطِ الْإِسْلَامِ لِلْحَقِّ وَعَدَمِ إِسْقَاطِهِ لَهُ، وَبِاعْتِبَارِ مَعْقُولِيَّةِ الْمَعْنَى وَعَدَمِ مَعْقُولِيَّتِهِ، وَبِاعْتِبَارِ عَدَمِ خُلُوِّ كُلِّ حَقٍّ مِنْ حَقٍّ لِلَّهِ تَعَالَى وَحَقٍّ لِلْعَبْدِ، وَبِاعْتِبَارِ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ التَّامِّ وَالْحَقِّ الْمُخَفَّفِ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ الْمُحَدَّدِ وَغَيْرِ الْمُحَدَّدِ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ الْمُعَيَّنِ وَالْمُخَيَّرِ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ الْعَيْنِيِّ وَالْكِفَائِيِّ، وَبِاعْتِبَارِ مَا يُورَثُ مِنَ الْحُقُوقِ وَمَا لَا يُورَثُ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ الْمَالِيِّ وَغَيْرِ الْمَالِيِّ، وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِّ الدِّيَانِيِّ وَالْقَضَائِيِّ، أَوِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَمَرْجِعُ هَذِهِ التَّقْسِيمَاتِ، إِمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى صَاحِبِ الْحَقِّ، أَوْ بِالنَّظَرِ إِلَى مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، أَوْ بِالنَّظَرِ إِلَى الشَّيْءِ الْمُسْتَحَقِّ، أَوْ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَقُّ.

أَوَّلًا: بِاعْتِبَارِ اللُّزُومِ وَعَدَمِهِ:

10- يُقَسَّمُ الْحَقُّ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ إِلَى قِسْمَيْنِ: لَازِمٌ، وَجَائِزٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ.

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الْحَقُّ اللاَّزِمُ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يُقَرِّرُهُ الشَّرْعُ عَلَى جِهَةِ الْحَتْمِ، فَإِذَا قَرَّرَهُ الشَّرْعُ أَوْجَدَ فِي مُقَابِلِهِ وَاجِبًا، وَقَرَّرَ هَذَا الْوَاجِبَ عَلَى الْآخَرِينَ فِي نَفْسِ الْوَقْتِ، فَالْحَقُّ وَالْوَاجِبُ فِي الْمُقَابِلِ قَدْ وُجِدَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، دُونَ تَخَلُّفِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ وَإِنِ اخْتَلَفَ مَعْنَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ، كَحَقِّ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ يَجِبُ، فَمِثْلًا: حَقُّ الْحَيَاةِ حَقٌّ لِكُلِّ شَخْصٍ، وَيَجِبُ عَلَى الْآخَرِينَ- أَفْرَادًا وَمُجْتَمَعًا- أَنْ يَحْتَرِمُوا هَذَا الْحَقَّ، وَلَا يَجُوزُ لَهُمُ الِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِ، أَوْ حِرْمَانُهُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فَلَا يُسْتَعْبَدُ الْحُرُّ، وَكَذَلِكَ حَقُّ الْمِلْكِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُقُوقِ. وَإِذَا كَانَ لِأَصْحَابِ هَذِهِ الْحُقُوقِ حَقٌّ، وَيَجِبُ عَلَى الْآخَرِينَ عَدَمُ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ لِهَؤُلَاءِ الْآخَرِينَ حَقًّا فِي عَدَمِ الْإِضْرَارِ بِهِمْ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْحُقُوقِ وَالتَّمَتُّعِ بِهَا.

النَّوْعُ الثَّانِي: الْحَقُّ الْجَائِزُ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي يُقَرِّرُهُ الشَّرْعُ مِنْ غَيْرِ حَتْمٍ، وَإِنَّمَا يُقَرِّرُهُ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ أَوِ الْإِبَاحَةِ.مِثَالُهُ أَمْرُ الْمُحْتَسِبِ بِصَلَاةِ الْعِيدِ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَلْ يَكُونُ الْأَمْرُ بِهَا مِنَ الْحُقُوقِ اللاَّزِمَةِ أَوْ مِنَ الْحُقُوقِ الْجَائِزَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهَا، هَلْ هِيَ مَسْنُونَةٌ أَوْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا مَسْنُونَةٌ كَانَ الْأَمْرُ بِهَا نَدْبًا، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ كَانَ الْأَمْرُ بِهَا حَتْمًا.ثَانِيًا: تَقْسِيمُ الْحُقُوقِ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ النَّفْعِ وَخُصُوصِهِ:

11- قَسَّمَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ الْحُقُوقَ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ النَّفْعِ وَخُصُوصِهِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:

حُقُوقُ اللَّهِ الْخَالِصَةُ، حُقُوقُ الْعِبَادِ الْخَالِصَةُ، مَا اجْتَمَعَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ لَكِنْ حَقُّ اللَّهِ غَالِبٌ، وَمَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْحَقَّانِ لَكِنْ حَقُّ الْعَبْدِ غَالِبٌ.

الْقَسَمُ الْأَوَّلُ: حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الْخَالِصَةُ:

12- حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى: مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْعُ الْعَامُّ لِلْعَالَمِ، فَلَا يُخْتَصُّ بِهِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا هُوَ عَائِدٌ عَلَى مَجْمُوعِ الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَإِنَّمَا يُنْسَبُ هَذَا الْحَقُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا، أَوْ لِئَلاَّ يُخْتَصَّ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، كَحُرْمَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةُ الْعَالَمِ، وَذَلِكَ بِاِتِّخَاذِهِ قِبْلَةً لِصَلَوَاتِهِمْ، وَمَثَابَةً لَهُمْ، وَكَحُرْمَةِ الزِّنَى لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ عُمُومِ النَّفْعِ فِي سَلَامَةِ الْأَنْسَابِ، وَصِيَانَةِ الْفِرَاشِ وَإِنَّمَا يُنْسَبُ الْحَقُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ حَقًّا لَهُ بِهَذَا الْوَجْهِ، لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ التَّضَرُّرِ أَوِ الِانْتِفَاعِ هُوَ مُتَعَالٍ عَنِ الْكُلِّ.

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا لَهُ بِجِهَةِ التَّخْلِيقِ، لِأَنَّ الْكُلَّ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ، بَلِ الْإِضَافَةُ إِلَيْهِ لِتَشْرِيفِ مَا عَظُمَ خَطَرُهُ، وَقَوِيَ نَفْعُهُ، وَشَاعَ فَضْلُهُ، بِأَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ النَّاسُ كَافَّةً، فَبِاعْتِبَارِ التَّخْلِيقِ الْكُلُّ سَوَاءٌ فِي الْإِضَافَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أَنْوَاعُ حُقُوقِ اللَّهِ الْخَالِصَةِ:

13- حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الْخَالِصَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا ثَمَانِيَةُ أَنْوَاعٍ:

أ- عِبَادَةٌ خَالِصَةٌ، مِثْلُ: الْإِيمَانِ، وَالصَّلَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ.وَكَذَلِكَ زَكَاةُ الْمَالِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- عِبَادَةٌ خَالِصَةٌ، لِأَنَّهَا قُرِنَتْ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَعُدَّتْ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ».

ب- عِبَادَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْمَئُونَةِ، مِثْلُ: صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَكَذَلِكَ زَكَاةُ الْمَالِ- عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَالْمَئُونَةُ هِيَ الْوَظِيفَةُ الَّتِي تَعُودُ بِالنَّفْعِ الْعَامِّ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ}

وَإِنَّمَا كَانَتْ صَدَقَةُ الْفِطْرِ فِيهَا مَعْنَى الْمَئُونَةِ، لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الْإِنْسَانِ بِسَبَبِ نَفْسِهِ وَبِسَبَبِ غَيْرِهِ، وَهُمُ الْأَشْخَاصُ الَّذِينَ يُمَوِّنُهُمْ وَيَلِي عَلَيْهِمْ.

وَلِكَوْنِهَا وَجَبَتْ عَلَى الْمُخْرِجِ بِسَبَبِ الْغَيْرِ لَمْ تَكُنْ عِبَادَةً خَالِصَةً، وَإِنَّمَا كَانَ فِيهَا مَعْنَى الْمَئُونَةِ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ الْخَالِصَةَ لَا تَجِبُ بِسَبَبِ الْغَيْرِ.

أَمَّا زَكَاةُ الْمَالِ- عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- فَفِيهَا مَعْنَى الْمَئُونَةِ، لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الشَّخْصِ بِسَبَبٍ خَارِجٍ عَنْ ذَاتِهِ، وَهُوَ مَلَكِيَّتُهُ لِلْمَالِ الْمُسْتَوْفِي لِشُرُوطِ الزَّكَاةِ، وَشُكْرًا لِلَّهِ عَلَى بَقَائِهِ زَائِدًا عَنْ حَاجَتِهِ، وَعَدَمِ هَلَاكِهِ.

كَمَا أَنَّ كُلًّا مِنْ زَكَاةِ الْمَالِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ مُسَاعِدَةٌ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ. ج- مَئُونَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ، مِثْلُ: زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ الْمُقَدَّرَةِ بِالْعُشْرِ أَوْ نِصْفِ الْعَشْرِ عَلَى الزَّارِعِ حَسَبَ شُرُوطِهَا.وَإِنَّمَا كَانَتْ مَئُونَةً، لِأَنَّهَا وَظِيفَةٌ مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا عَلَى نَمَاءِ الْأَرْضِ مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَتَجِبُ بِسَبَبِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، اعْتِرَافًا بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُنْبِتُ وَالرَّازِقُ، حَيْثُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا}.

وَإِنَّمَا كَانَ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ لأُِمُورٍ: مِنْهَا:

1- أَنَّهَا وَجَبَتِ ابْتِدَاءً عَلَى الْمُسْلِمِ فَقَطْ، وَلَمْ تَجِبُ ابْتِدَاءً عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِ مِنَ الزُّرَّاعِ، وَالْعِبَادَةُ لَا يُكَلَّفُ بِهَا غَيْرُ الْمُسْلِمِ.

2- أَنَّهَا تُعْطَى لِفِئَاتٍ مُعَيَّنَةٍ مِمَّنْ تَسْتَحِقُّ الْأَخْذَ مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَلَا يَجُوزُ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُعْطِيَهَا لِلْأَغْنِيَاءِ.

د- مَئُونَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ، مِثْلُ: الْخَرَاجِ عَلَى الْأَرْضِ الزِّرَاعِيَّةِ.

وَهُوَ الْوَظِيفَةُ الْمُبَيَّنَةُ الْمَوْضُوعَةُ عَلَى الْأَرْضِ بِسَبَبِ التَّمَكُّنِ مِنْ زِرَاعَةِ الْأَرْضِ، وَبَقَائِهَا تَحْتَ أَيْدِي أَصْحَابِهَا مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ.

أَمَّا الْمَئُونَةُ فَلِتَعَلُّقِ بَقَاءِ الْأَرْضِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ بِالْمُقَاتِلِينَ الَّذِينَ هُمْ مَصَارِفُ الْخَرَاجِ.وَالْعُقُوبَةُ لِلِانْقِطَاعِ بِالزِّرَاعَةِ عِنْدَ الْجِهَادِ، لِأَنَّ الْخَرَاجَ يَتَعَلَّقُ بِالْأَرْضِ بِصِفَةِ التَّمَكُّنِ مِنَ الزِّرَاعَةِ، وَالِاشْتِغَالُ بِهَا عُمَارَةٌ لِلدُّنْيَا، وَإِعْرَاضٌ عَنِ الْجِهَادِ.وَهُوَ سَبَبُ الذُّلِّ شَرْعًا، فَكَانَ الْخَرَاجُ فِي الْأَصْلِ صَغَارًا.

هـ- حُقُوقٌ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ وَهِيَ الْكَفَّارَاتُ، مِثْلُ: كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَكَفَّارَةِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ عَمْدًا، وَكَفَّارَةِ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ، وَالْكَفَّارَةُ عُقُوبَةٌ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ جَزَاءً عَلَى الْفِعْلِ الْمَحْظُورِ شَرْعًا، فَالْعُقُوبَةُ فِي الْكَفَّارَةِ مِنْ جِهَةِ الْوُجُوبِ.

وَأَمَّا الْعِبَادَةُ فِي الْكَفَّارَاتِ فَهِيَ مِنْ جِهَةِ الْأَدَاءِ، لِأَنَّهَا تُؤَدَّى بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، مِثْلُ: الصَّوْمِ وَالْإِطْعَامِ وَالْعِتْقِ.

أَمَّا كَفَّارَةُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ عَمْدًا فَإِنَّ جِهَةَ الْعُقُوبَةِ فِيهَا غَالِبَةٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْإِفْطَارِ عَمْدًا شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ بِوَجْهٍ مَا، وَلَمَّا كَانَتْ جِنَايَةُ الْمُفْطِرِ عَمْدًا كَامِلَةً، كَانَ الْمَفْرُوضُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ، وَلَكِنَّهُ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ لِقُصُورِ الْجِنَايَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُفْطِرَ لَيْسَ مُبْطِلًا لِحَقِّ اللَّهِ الثَّابِتِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَانِعٌ مِنْ تَسْلِيمِ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ.وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الزَّجْرُ عُقُوبَةً مَحْضَةً، لِأَنَّ تَقْصِيرَهُ كَانَ لِضَعْفِهِ وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مَعَ التَّسْلِيمِ بِخَطَئِهِ وَقُبْحِ فِعْلِهِ.

أَمَّا بَقِيَّةُ الْكَفَّارَاتِ فَإِنَّ الْعُقُوبَةَ فِيهَا تَبَعٌ.

و- عُقُوبَةٌ خَالِصَةٌ وَهِيَ الْحُدُودُ، مِثْلُ: حَدِّ السَّرِقَةِ، وَحَدِّ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَحَدِّ الزِّنَى.

ز- عُقُوبَةٌ قَاصِرَةٌ وَهِيَ حِرْمَانُ الْقَاتِلِ مِنَ الْإِرْثِ، إِذَا قَتَلَ الْوَارِثُ الْبَالِغُ مُورِثَهُ.وَإِنَّمَا كَانَتْ قَاصِرَةً لِأَنَّهُ لَمْ يَلْحَقِ الْقَاتِلَ أَلَمٌ فِي بَدَنِهِ وَلَا نُقْصَانٌ فِي مَالِهِ، بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ مَنْعٍ لِثُبُوتِ مِلْكِهِ فِي التَّرِكَةِ، فَهِيَ لَيْسَتْ عُقُوبَةً كَامِلَةً أَصْلِيَّةً، وَإِنَّمَا هِيَ عُقُوبَةٌ إِضَافِيَّةٌ لِلْعُقُوبَةِ الْأَصْلِيَّةِ لِلْقَتْلِ سَوَاءٌ أَكَانَ عَمْدًا أَمْ غَيْرَ عَمْدٍ، لِأَنَّهُ قَصَدَ حِرْمَانَ هَذَا الْقَاتِلِ مِنْ تَحْقِيقِ هَدَفِهِ، وَهُوَ تَعَجُّلُ الْمِيرَاثِ، وَلِذَلِكَ حُرِمَ مِنَ الْمِيرَاثِ الَّذِي يَأْتِي إِلَيْهِ عَنْ طَرِيقِ الْمَقْتُولِ، لِأَنَّ مَنِ اسْتَعْجَلَ الشَّيْءَ قَبْلَ أَوَانِهِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِهِ.

ح- حَقٌّ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ ثَبَتَ لِلَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً، مِثْلُ: الْخُمْسِ فِي الْغَنَائِمِ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}

وَمِثْلُ: خُمُسِ مَا يُسْتَخْرَجُ مِنَ الْأَرْضِ وَالْبِحَارِ مِنْ مَعَادِنَ وَنِفْطٍ وَفَحْمٍ حَجَرِيٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ.وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْحَقُّ قَائِمًا بِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِذِمَّةِ شَخْصٍ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكٍ شَخْصٍ ثُمَّ أَخْرَجَهُ زَكَاةً أَوْ صَدَقَةً تَبَرُّعًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِهَادَ وَالْقِتَالَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ إِعْلَاءٌ لِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَنَشْرٌ لِدِينِهِ، وَذَلِكَ بِإِزَالَةِ الْعَوَائِقِ أَيًّا كَانَتْ أَمَامَ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَلَمَّا كَانَ النَّاصِرُ لِلْمُسْلِمِينَ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى، حَيْثُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} فَالْغَنَائِمُ كُلُّهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لِلْمُحَارِبِينَ حَقًّا فِي الْغَنِيمَةِ، حَيْثُ مَنَحَهُمْ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ، وَبَقِيَ الْخُمُسُ عَلَى مِلْكِ اللَّهِ، حَقًّا لَهُ، فَيَكُونُ طَاهِرًا فِي ذَاتِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَدَاةً لِلتَّطْهِيرِ وَالتَّزْكِيَةِ، فَلَا يَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهِ دَنَسًا أَوْ وِزْرًا، وَلِذَلِكَ جَازَ لِلرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- وَآلِهِ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ، بِخِلَافِ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ فَلَا تَحِلُّ لَهُمْ.

وَلِذَلِكَ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ إِعْطَاءُ الْمَعْدِنِ وَالنِّفْطِ لِلَّذِي وَجَدَهُ وَاسْتَخْرَجَهُ مِنَ الْأَرْضِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا وَمُسْتَحَقًّا لِلصَّدَقَةِ كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ إِعْطَاءُ الْخُمُسِ لِغَيْرِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ صَدَقَةً وَلَا عِبَادَةً وَلَا مَئُونَةً وَلَا عُقُوبَةً، لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ حَتَّى يَأْخُذَ صِفَةً مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَإِنَّمَا هُوَ بَاقٍ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، حَقِيقَةً وَحُكْمًا.

الْقِسْمُ الثَّانِي: حَقُّ الْعَبْدِ الْخَالِصُ

14- حَقُّ الْعَبْدِ الْخَالِصُ هُوَ: مَا كَانَ نَفْعُهُ مُخْتَصًّا بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ، مِثْلُ: حُقُوقِ الْأَشْخَاصِ الْمَالِيَّةِ أَوِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَالِ، كَحَقِّ الدِّيَةِ، وَحَقِّ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، وَحَقِّ اسْتِرْدَادِ الْمَغْصُوبِ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا، أَوْ حَقِّ اسْتِرْدَادِ مِثْلِهِ أَوْ قِيمَتِهِ إِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ هَالِكًا.

فَتَحْرِيمُ مَالِ الشَّخْصِ عَلَى غَيْرِهِ حَقٌّ لِهَذَا الشَّخْصِ.حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ حِمَايَةِ مَالِهِ وَصِيَانَتِهِ، وَلِهَذَا يَمْلِكُ أَنْ يُحِلَّ مَالَهُ لِغَيْرِهِ بِالْإِبَاحَةِ وَالتَّمْلِيكِ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اجْتَمَعَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ وَلَكِنَّ حَقَّ اللَّهِ غَالِبٌ:

15- مِثَالُهُ: حَدُّ الْقَذْفِ بَعْدَ تَبْلِيغِ الْمَقْذُوفِ، وَثُبُوتُ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ. فَلِلْعَبْدِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ حَقٌّ، لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ بِالزِّنَى قَدِ اتُّهِمَ فِي عِرْضِهِ وَدِينِهِ، وَلِلَّهِ فِيهِ حَقٌّ، لِأَنَّ الْقَذْفَ بِالزِّنَى مِسَاسٌ بِالْأَعْرَاضِ عَلَنًا، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى شُيُوعِ الْفَاحِشَةِ، وَانْتِشَارِ الْأَلْفَاظِ الْمُخِلَّةِ بِالْآدَابِ.وَغَلَبَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لِكَيْ يَتَحَتَّمَ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ، لِاعْتِدَائِهِ عَلَى الْمُجْتَمَعِ وَعَلَى الْمَقْذُوفِ، وَلِكَيْ يَمْنَعَ الْمَقْذُوفَ مِنَ التَّنَازُلِ عَنْ حَقِّهِ، أَوِ الصُّلْحِ عَلَيْهِ، أَوْ تَوَلِّي تَنْفِيذِ الْحَدِّ بِنَفْسِهِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى تَغْلِيبِ حَقِّ اللَّهِ مَا يَأْتِي:

أ- تَدَاخُلُ الْعُقُوبَةِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ أَوْ كَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ، لَا يُقَامُ عَلَيْهِ إِلاَّ حَدٌّ وَاحِدٌ فَقَطْ.

ب- لَا يَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ.

ج- لَا يَسْقُطُ بِعَفْوِ الْمَقْذُوفِ.

د- تَتَنَصَّفُ الْعُقُوبَةُ بِالرِّقِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}.

هـ- يُفَوَّضُ تَنْفِيذُ الْحَدِّ لِلْإِمَامِ.

الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا اجْتَمَعَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ لَكِنَّ حَقَّ الْعَبْدِ غَالِبٌ:

16- مِثْلُ: الْقِصَاصِ مِنَ الْقَاتِلِ عَمْدًا عُدْوَانًا.

فَلِلَّهِ فِيهِ حَقٌّ، لِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى الْمُجْتَمَعِ، وَاعْتِدَاءٌ عَلَى مَخْلُوقِ اللَّهِ وَعَبْدِهِ الَّذِي حَرَّمَ دَمَهُ إِلاَّ بِحَقٍّ، وَلِلَّهِ فِي نَفْسِ الْعَبْدِ حَقُّ الِاسْتِعْبَادِ، حَيْثُ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}

وَلِلْعَبْدِ فِي الْقِصَاصِ حَقٌّ، لِأَنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ اعْتِدَاءٌ عَلَى شَخْصِهِ، لِأَنَّ لِلْعَبْدِ الْمَقْتُولِ فِي نَفْسِهِ حَقَّ الْحَيَاةِ، وَحَقَّ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَحَرَمَهُ الْقَاتِلُ مِنْ حَقِّهِ، وَهُوَ اعْتِدَاءٌ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ، لِأَنَّهُ حَرَمَهُمْ مِنْ رِعَايَةِ مُورَثِهِمْ، وَاسْتِمْتَاعِهِمْ بِحَيَاتِهِ.فَكَانَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ اعْتِدَاءً عَلَى حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعَبْدِ، وَلِذَلِكَ كَانَ فِي شَرْعِيَّةِ الْقِصَاصِ إِبْقَاءٌ لِلْحَقَّيْنِ، وَإِخْلَاءٌ لِلْعَالَمِ مِنَ الْفَسَادِ.تَصْدِيقًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.

وَغَلَبَ حَقُّ الْعَبْدِ، لِأَنَّ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ يَمْلِكُ رَفْعَ دَعْوَى الْقِصَاصِ أَوْ عَدَمَ رَفْعِهَا، وَبَعْدُ الْمُطَالَبَةِ بِالْقِصَاصِ وَالْحُكْمِ عَلَى الْجَانِي الْقَاتِلِ يَمْلِكُ التَّنَازُلَ عَنْهُ وَالصُّلْحَ عَلَى مَالٍ أَوِ الصُّلْحَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، كَمَا يَمْلِكُ تَنْفِيذَ حُكْمِ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَاتِلِ إِنْ أَرَادَ ذَلِكَ وَكَانَ يُتْقِنُ التَّنْفِيذَ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلاَّ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ، لِئَلاَّ يُفْتَاتَ عَلَيْهِ، فَلَوْ فَعَلَ وَقَعَ الْقِصَاصُ مَوْقِعَهُ وَاسْتَحَقَّ التَّعْزِيرَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


253-موسوعة الفقه الكويتية (حلي)

حُلِيٌّ

التَّعْرِيفُ:

1- الْحُلِيُّ لُغَةً: جَمْعُ الْحَلْيِ وَهُوَ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ مِنْ مَصُوغِ الْمَعْدِنِيَّاتِ أَوِ الْأَحْجَارِ الْكَرِيمَةِ.

وَحَلِيَتِ الْمَرْأَةُ حَلْيًا لَبِسَتِ الْحُلِيَّ، فَهِيَ حَالٍ وَحَالِيَةٌ.

وَتَحَلَّى بِالْحُلِيِّ أَيْ تَزَيَّنَ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الزِّينَةُ:

2- الزِّينَةُ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ.

وَالزِّينَةُ أَعَمُّ مِنَ الْحُلِيِّ لِأَنَّهَا تَكُونُ بِغَيْرِ الْحُلِيِّ أَيْضًا.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْحُلِيِّ:

أَوَّلًا: حِلْيَةُ الذَّهَبِ:

أ- حِلْيَةُ الذَّهَبِ لِلرِّجَالِ:

3- يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ اتِّخَاذُ حُلِيِّ الذَّهَبِ بِجَمِيعِ أَشْكَالِهَا.وَذَلِكَ لِعُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أُحِلَّ الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لِإِنَاثِ أُمَّتِي وَحَرُمَ عَلَى ذُكُورِهَا».

وَيُسْتَثْنَى مِنَ التَّحْرِيمِ حَالَتَانِ:

الْحَالَةُ الْأُولَى: اتِّخَاذُهُ لِلْحَاجَةِ.ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ أَنْفٍ أَوْ سِنٍّ مِنَ الذَّهَبِ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ.

لِحَدِيثِ «عَرْفَجَةَ بْنِ أَسْعَدَ الَّذِي قُلِعَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلَابِ، فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ فَأَنْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَاِتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ».

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلٌ لِأَبِي يُوسُفَ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ اتِّخَاذِ السِّنِّ أَوْ شَدِّهِ بِالذَّهَبِ لِلرِّجَالِ دُونَ الْفِضَّةِ، لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الْأَنْفِ دُونَ غَيْرِهِ وَلِضَرُورَةِ النَّتْنِ بِالْفِضَّةِ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: تَحْلِيَةُ آلَاتِ الْقِتَالِ بِالذَّهَبِ.ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ تَحْلِيَةِ آلَاتِ الْقِتَالِ بِالذَّهَبِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ التَّحَلِّيَ بِالذَّهَبِ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ إِلاَّ مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ وَلَمْ يَثْبُتْ مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ.وَلِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ إِسْرَافٍ وَخُيَلَاءَ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى جَوَازِ تَحْلِيَةِ السَّيْفِ بِالذَّهَبِ سَوَاءٌ مَا اتَّصَلَ بِهِ كَالْقَبِيعَةِ وَالْمِقْبَضِ، أَوْ مَا انْفَصَلَ عَنْهُ كَالْغِمْدِ، وَقَصَرَ الْحَنَابِلَةُ الْجَوَازَ عَلَى الْقَبِيعَةِ لِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- كَانَ لَهُ سَيْفٌ فِيهِ سَبَائِكُ مِنْ ذَهَبٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ كَانَ فِي سَيْفِهِ مِسْمَارٌ مِنْ ذَهَبٍ.«وَكَانَتْ قَبِيعَةُ سَيْفِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ فِضَّةٍ».

ب- حِلْيَةُ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ:

5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ الرَّجُلِ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، وَعَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ سِنٍّ أَوْ أَنْفٍ مِنْ فِضَّةٍ، وَعَلَى جَوَازِ تَحْلِيَةِ آلَاتِ الْحَرْبِ بِالْفِضَّةِ.

وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ الْخَاتَمَ بِأَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى دِرْهَمَيْنِ شَرْعِيَّيْنِ.

وَقَيَّدَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنْ لَا يَبْلُغَ بِهِ حَدَّ الْإِسْرَافِ فَلَا يَتَجَاوَزَ بِهِ عَادَةً أَمْثَالَ اللاَّبِسِ.

وَلِلْحَنَابِلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي تَحَلِّي الرِّجَالِ بِالْفِضَّةِ فِيمَا عَدَا الْخَاتَمَ وَحِلْيَةَ السِّلَاحِ أَحَدُهَا: الْحُرْمَةُ.وَالثَّانِي: الْكَرَاهَةُ، وَالثَّالِثُ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْفُرُوعِ: لَا أَعْرِفُ عَلَى تَحْرِيمِ لُبْسِ الْفِضَّةِ نَصًّا عَنْ أَحْمَدَ وَكَلَامُ شَيْخِنَا (يَعْنِي ابْنَ تَيْمِيَّةَ) يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ لُبْسِهَا لِلرِّجَالِ إِلاَّ مَا دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، أَيْ مِمَّا فِيهِ تَشَبُّهٌ أَوْ إِسْرَافٌ أَوْ مَا كَانَ عَلَى شَكْلِ صَلِيبٍ وَنَحْوِهِ.

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِالْقِيَاسِ عَلَى خَاتَمِ الْفِضَّةِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ، وَمَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ، وَالتَّحْرِيمُ يَفْتَقِرُ إِلَى دَلِيلٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى تَحْرِيمِ حُلِيِّ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ عَدَا الْخَاتَمَ وَحِلْيَةَ السَّيْفِ وَالْمُصْحَفِ وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَفِيَّةِ تَصْرِيحًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمُرَجَّحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى إبَاحَةِ يَسِيرِ الذَّهَبِ فِي خَاتَمِ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ شَرِيطَةَ أَنْ يَقِلَّ الذَّهَبُ عَنِ الْفِضَّةِ وَأَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِلْفِضَّةِ، وَذَلِكَ كَالْمِسْمَارِ يُجْعَلُ فِي حَجَرِ الْفَصِّ.

وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ.

أَمَّا فِيمَا عَدَا خَاتَمَ الْفِضَّةِ مِنَ الْحُلِيِّ لِلرِّجَالِ كَالدُّمْلُجِ، وَالسِّوَارِ، وَالطَّوْقِ، وَالتَّاجِ، فَلِلشَّافِعِيَّةِ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ التَّحْرِيمُ، وَالثَّانِي الْجَوَازُ مَا لَمْ يَتَشَبَّهْ بِالنِّسَاءِ.لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْفِضَّةِ إِلاَّ تَحْرِيمُ الْأَوَانِي، وَتَحْرِيمُ الْحُلِيِّ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ التَّشَبُّهَ بِالنِّسَاءِ.

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ أَنْفٍ أَوْ سِنٍّ مِنْ فِضَّةٍ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ تَحْلِيَةِ آلَاتِ الْحَرْبِ بِالْفِضَّةِ عَدَا السَّرْجَ وَاللِّجَامَ وَالثَّغْرَ لِلدَّابَّةِ فَهُوَ حَرَامٌ، لِأَنَّهُ حِلْيَةٌ لِلدَّابَّةِ لَا لِلرَّجُلِ.وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ، وَقَصَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ الْجَوَازَ عَلَى حِلْيَةِ السَّيْفِ فَقَطْ.

حِلْيَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلنِّسَاءِ:

6- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ اتِّخَاذِ الْمَرْأَةِ أَنْوَاعَ حُلِيِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ جَمِيعًا كَالطَّوْقِ، وَالْعَقْدِ، وَالْخَاتَمِ، وَالسِّوَارِ، وَالْخَلْخَالِ، وَالتَّعَاوِيذِ، وَالدُّمْلُجِ، وَالْقَلَائِدِ، وَالْمُخَانِقِ، وَكُلِّ مَا يُتَّخَذُ فِي الْعُنُقِ، وَكُلُّ مَا يَعْتَدْنَ لُبْسَهُ وَلَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الْإِسْرَافِ أَوِ التَّشَبُّهَ بِالرِّجَالِ.وَفِي لُبْسِ الْمَرْأَةِ نِعَالَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَجْهَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ: أَحَدُهُمَا التَّحْرِيمُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ السَّرَفِ الظَّاهِرِ، وَأَصَحُّهُمَا الْإِبَاحَةُ كَسَائِرِ الْمَلْبُوسَاتِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ تَحْلِيَةِ الْمَرْأَةِ آلَاتِ الْحَرْبِ بِالذَّهَبِ أَوْ بِالْفِضَّةِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالرِّجَالِ.وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ».

وَخَالَفَ فِي هَذَا الشَّاشِيُّ وَالرَّافِعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فَقَالَا: بِجَوَازِ التَّحْلِيَةِ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ لُبْسِ آلَةِ الْحَرْبِ وَاسْتِعْمَالِهَا لِلنِّسَاءِ غَيْرَ مُحَلاَّةٍ فَتَجُوزُ مَعَ التَّحْلِيَةِ، لِأَنَّ التَّحْلِيَةَ لِلنِّسَاءِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنَ الرِّجَالِ.

وَلَمْ نَقِفْ عَلَى نَصٍّ لِلْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

حُكْمُ الْمُمَوَّهِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ:

7- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ إِلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الرَّجُلِ مَا مُوِّهَ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ مِمَّا يَجُوزُ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ مِنَ الْحُلِيِّ كَالْخَاتَمِ، إِذَا لَمْ يَخْلُصْ مِنْهُ شَيْءٌ بِالْإِذَابَةِ وَالْعَرْضِ عَلَى النَّارِ، لِأَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مُسْتَهْلَكٌ فَصَارَ كَالْعَدَمِ وَهُوَ تَابِعٌ لِلْمُمَوَّهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْأَوَانِي الْمُمَوَّهَةِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَإِلَى حُرْمَةِ التَّمْوِيهِ بِهِمَا.وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَمْوِيهُ غَيْرِ الْأَوَانِي بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ بِحَيْثُ يَتَغَيَّرُ اللَّوْنُ وَلَا يَحْصُلُ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ شَيْءٌ إِنْ عُرِضَ عَلَى النَّارِ.

الْحُلِيُّ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:

8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ تَحَلِّي الْمَرْأَةِ بِأَنْوَاعِ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ كَالْيَاقُوتِ وَالْعَقِيقِ وَاللُّؤْلُؤِ.

كَمَا ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ إِلَى جَوَازِهِ لِلرِّجَالِ.

وَكَرِهَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ مِنْ جِهَة الْأَدَبِ، لِأَنَّهُ مِنْ زِيِّ النِّسَاءِ أَوْ مِنْ جِهَةِ السَّرَفِ.

وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي حُكْمِ تَحَلِّي الرَّجُلِ بِالْأَحْجَارِ الْكَرِيمَةِ.

وَاخْتَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَقَاضِيخَانَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ الْحِلَّ قِيَاسًا عَلَى الْعَقِيقِ.

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ خَاتَمِ الْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ وَالشَّبَهِ (وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ النُّحَاسِ) وَالْقَصْدِيرِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ.وَوَرَدَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ شَبَهٍ، فَقَالَ لَهُ: مَا لِي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ الْأَصْنَامِ؟ فَطَرَحَهُ ثُمَّ جَاءَ وَعَلَيْهِ خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَ: مَا لِي أَرَى عَلَيْكَ حِلْيَةَ أَهْلِ النَّارِ.فَطَرَحَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَتَّخِذُهُ؟ قَالَ: اتَّخِذْهُ مِنْ وَرِقٍ وَلَا تُتِمَّهُ مِثْقَالًا».

وَاخْتَارَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ عَدَمَ الْكَرَاهَةِ مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِلَّذِي خَطَبَ الْوَاهِبَةَ نَفْسَهَا «اذْهَبْ فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ» وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ.كَمَا اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ مُعَيْقِيبٍ- رضي الله عنه- وَكَانَ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «كَانَ خَاتَمُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ حَدِيدٍ مَلْوِيٍّ عَلَيْهِ فِضَّةٌ».

ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ: «وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ».

زَكَاةُ الْحُلِيِّ:

9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحَلْيِ الْمُسْتَعْمَلِ اسْتِعْمَالًا مُحَرَّمًا، كَأَنْ يَتَّخِذَ الرَّجُلُ حَلْيَ الذَّهَبِ لِلِاسْتِعْمَالِ، لِأَنَّهُ عَدَلَ بِهِ عَنْ أَصْلِهِ بِفِعْلٍ غَيْرِ مُبَاحٍ فَسَقَطَ حُكْمُ فِعْلِهِ وَهُوَ صِيَاغَتُهُ صِيَاغَةً مُحَرَّمَةً، وَبَقِيَ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ.

كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِهَا فِي الْحَلْيِ الْمَكْنُوزِ الْمُقْتَنَى الَّذِي لَمْ يَقْصِدْ بِهِ مُقْتَنِيهِ اسْتِعْمَالًا مُحَرَّمًا وَلَا مَكْرُوهًا وَلَا مُبَاحًا، لِأَنَّهُ مَرْصَدٌ لِلنَّمَاءِ فَصَارَ كَغَيْرِ الْمَصُوغِ، وَلَا يَخْرُجُ عَنِ التَّنْمِيَةِ إِلاَّ بِالصِّيَاغَةِ الْمُبَاحَةِ وَنِيَّةِ اللُّبْسِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَلْيِ الْمُسْتَعْمَلِ اسْتِعْمَالًا مُبَاحًا كَحَلْيِ الذَّهَبِ لِلْمَرْأَةِ وَخَاتَمِ الْفِضَّةِ لِلرَّجُلِ.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحَلْيِ الْمُبَاحِ الْمُسْتَعْمَلِ.

وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَأَسْمَاءَ- رضي الله عنهم- وَالْقَاسِمِ وَالشَّعْبِيِّ وَقَتَادَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَعَمْرَةَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ.

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ مِنْ آثَارٍ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَأَسْمَاءَ وَجَابِرٍ- رضي الله عنهم-، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا كَانَتْ تَلِي بَنَاتِ أَخِيهَا فِي حِجْرِهَا لَهُنَّ الْحُلِيَّ فَلَا تُخْرِجُ مِنْهُ الزَّكَاةَ.

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ كَانَ يُحَلِّي بَنَاتِهِ وَجَوَارِيَهُ الذَّهَبَ ثُمَّ لَا يُخْرِجُ مِنْ حُلِيِّهِنَّ الزَّكَاةَ.

وَرُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهَا كَانَتْ تُحَلِّي ثِيَابَهَا الذَّهَبَ، وَلَا تُزَكِّيهِ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا.

وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ جَابِرًا- رضي الله عنه- عَنِ الْحُلِيِّ أَفِيه زَكَاةٌ؟ فَقَالَ جَابِرٌ لَا، فَقَالَ: وَإِنْ كَانَ يَبْلُغُ أَلْفَ دِينَارٍ فَقَالَ جَابِرٌ كَثِيرٌ.

وَالْمَأْثُورُ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- يُخَالِفُ مَا رَوَتْهُ عَنِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تُخَالِفْهُ إِلاَّ فِيمَا عَلِمْتُهُ مَنْسُوخًا، فَإِنَّهَا زَوْجُهُ وَأَعْلَمُ النَّاسِ بِهِ، وَكَذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ فَإِنَّ أُخْتَهُ حَفْصَةَ كَانَتْ زَوْجَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَحُكْمُ حُلِيِّهَا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ وَلَا يَخْفَى عَنْهَا حُكْمُهُ فِيهِ.كَمَا اسْتَدَلُّوا بِقِيَاسِ الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ عَلَى ثِيَابِ الْبَدَنِ وَالْأَثَاثِ وَعَوَامِلِ الْبَقَرِ فِي أَنَّهَا مُرْصَدَةٌ فِي اسْتِعْمَالٍ مُبَاحٍ فَسَقَطَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهَا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ فِي الْجَدِيدِ إِلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحَلْيِ الْمُبَاحِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ، وَطَاوُسٍ، وَابْنِ مِهْرَانَ وَمُجَاهِدٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَابْنِ حَبِيبٍ.

وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو «أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا وَفِي يَدِ ابْنَتِهَا مَسَكَتَانِ غَلِيظَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ لَهَا: أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا؟ قَالَتْ: لَا.قَالَ: أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ بِهِمَا سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ؟ قَالَ: فَخَلَعَتْهُمَا فَأَلْقَتْهُمَا إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَقَالَتْ: هُمَا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ».

كَمَا اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَرَأَى فِي يَدِيَّ فَتَخَاتٍ مِنْ وَرِقٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ، فَقُلْتُ: صَنَعْتُهُنَّ أَتَزَيَّنُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ: أَتُؤْتِينَ زَكَاتَهُنَّ؟ قُلْتُ: لَا، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ قَالَ: هَذَا حَسْبُكِ مِنَ النَّارِ».

وَالْحُلِيُّ مَالٌ نَامٍ وَدَلِيلُ النَّمَاءِ الْإِعْدَادُ لِلتِّجَارَةِ خِلْقَةً.

حُكْمُ انْكِسَارِ الْحَلْيِ:

10- فَصَّلَ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحَلْيِ مَا إِذَا انْكَسَرَ الْحَلْيُ، فَلَهُ حِينَئِذٍ أَحْوَالٌ:

الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يَمْنَعَ الِانْكِسَارُ اسْتِعْمَالَهُ وَلُبْسَهُ فَلَا أَثَرَ لِلِانْكِسَارِ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ.وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَقَيَّدَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنْ لَا يَنْوِيَ تَرْكَ لُبْسِهِ.

الثَّانِي: أَنْ يَمْنَعَ الِانْكِسَارُ اسْتِعْمَالَهُ فَيَحْتَاجَ إِلَى سَبْكٍ وَصَوْغٍ.

فَتَجِبُ زَكَاتُهُ، وَأَوَّلُ الْحَوْلِ وَقْتُ الِانْكِسَارِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.

الثَّالِثُ: أَنْ يَمْنَعَ الِانْكِسَارُ الِاسْتِعْمَالَ وَلَكِنْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى سَبْكٍ وَصَوْغٍ وَيَقْبَلُ الْإِصْلَاحَ بِالْإِلْحَامِ وَهَذَا عَلَى أَحْوَالٍ:

أ- إِنْ قَصَدَ جَعْلَهُ تِبْرًا أَوْ دَرَاهِمَ، أَوْ كَنَزَهُ وَجَبَتْ زَكَاتُهُ وَانْعَقَدَ حَوْلُهُ مِنْ يَوْمِ الِانْكِسَارِ.وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.

ب- أَنْ يَقْصِدَ إِصْلَاحَهُ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

ج- إِنْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا وَجَبَتْ زَكَاتُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَلَا تَجِبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الِانْكِسَارَ إِذَا مَنَعَ الِاسْتِعْمَالَ مُطْلَقًا فَلَا زَكَاةَ فِي الْحَلْيِ.

إِجَارَةُ الْحَلْيِ:

11- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ إِجَارَةِ الْحَلْيِ بِأُجْرَةٍ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ.لِأَنَّهُ عَيْنٌ يُنْتَفَعُ بِهَا مَنْفَعَةً مُبَاحَةً مَقْصُودَةً مَعَ بَقَائِهَا فَجَازَتْ إِجَارَتُهَا كَالْأَرَاضِيِ.

وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ إِجَارَةَ الْحَلْيِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ النَّاسِ، وَالْأَوْلَى إِعَارَتُهُ لِأَنَّهَا مِنَ الْمَعْرُوفِ.

وَلَمْ نَقِفْ عَلَى رَأْيِ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ.

وَقْفُ الْحَلْيِ:

12- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى صِحَّةِ وَقْفِ الْحُلِيِّ لِمَا رَوَى نَافِعٌ أَنَّ حَفْصَةَ ابْتَاعَتْ حُلِيًّا بِعَشْرَيْنِ أَلْفًا حَبَسَتْهُ عَلَى نِسَاءِ آلِ الْخَطَّابِ فَكَانَتْ لَا تُخْرِجُ زَكَاتَهُ.

وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ الْجَوَازُ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ وَقْفِ الْمَمْلُوكِ مُطْلَقًا: الْعَقَارِ وَالْمُقَوَّمِ وَالْمِثْلِيِّ وَالْحَيَوَانِ.

وَلَا يَجُوزُ وَقْفُ الْحُلِيِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُمْ عَدَمُ جَوَازِ الْوَقْفِ فِي غَيْرِ الْعَقَارِ لِأَنَّ حُكْمَ الْوَقْفِ الشَّرْعِيِّ التَّأْبِيدُ، وَلَا يَتَأَبَّدُ غَيْرُ الْعَقَارِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ «وَقْفٌ»

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


254-موسوعة الفقه الكويتية (حيازة 1)

حِيَازَةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْحَوْزُ لُغَةً الْجَمْعُ وَضَمُّ الشَّيْءِ، وَكُلُّ مَنْ ضَمَّ شَيْئًا إِلَى نَفْسِهِ مِنْ مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ فَقَدْ حَازَهُ حَوْزًا وَحِيَازَةً وَاحْتَازَهُ احْتِيَازًا.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ قَالَ الدَّرْدِيرُ: الْحِيَازَةُ: هِيَ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِ.وَالْحِيَازَةُ بِهَذَا التَّعْرِيفِ بِمَعْنَى الْقَبْضِ، يُؤَيِّدُهُ قَوْلُ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيِّ: وَلَا تَتِمُّ هِبَةٌ وَلَا صَدَقَةٌ وَلَا حَبْسٌ إِلاَّ بِالْحِيَازَةِ.فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تُحَازَ عَنْهُ فَهِيَ مِيرَاثٌ.

وَفِي الْقَوَانِينِ الْفِقْهِيَّةِ: الْقَبْضُ: هُوَ الْحَوْزُ.

وَفِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ اسْتِعْمَالُ كَلِمَةِ (حَوْزٍ) بَدَلَ (حِيَازَةٍ).

قَالَ صَاحِبُ الْبَهْجَةِ: الْحَوْزُ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ الْمَحُوزِ.

بِمَ تَكُونُ الْحِيَازَةُ:

2- قَالَ الْحَطَّابُ: الْحِيَازَةُ تَكُونُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَضْعَفُهَا: السُّكْنَى وَالِازْدِرَاعُ، وَيَلِيهَا: الْهَدْمُ، وَالْبِنَاءُ، وَالْغَرْسُ، وَالِاسْتِغْلَالُ، وَيَلِيهَا التَّفْوِيتُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالنِّحْلَةِ، وَالْعِتْقِ، وَالْكِتَابَةِ، وَالتَّدْبِيرِ، وَالْوَطْءِ، وَكُلِّ مَا يَفْعَلُهُ الشَّخْصُ فِي مَالِهِ.

وَفِي كَوْنِ الْحِيَازَةِ سَنَدًا لِلْمِلْكِيَّةِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، يَتَّضِحُ مِنْ خِلَالِ الْبَحْثِ.وَتُطْلَقُ الْحِيَازَةُ عَلَى الْحِيَازَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْبَاطِلَةِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْيَدُ الْحَائِزَةُ مُتَعَدِّيَةً أَوْ مَأْذُونَةً مِنَ الْمَالِكِ الْحَقِيقِيِّ، أَوْ مُدَّعِيَةً الْمِلْكَ، فَكُلُّهَا حِيَازَةٌ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْقَبْضُ:

3- الْقَبْضُ لُغَةً: مَصْدَرُ قَبَضْتُ الشَّيْءَ قَبْضًا: أَخَذْتُهُ، وَهُوَ فِي قَبْضَتِهِ، أَيْ: فِي مِلْكِهِ، وَقَبَضَ عَلَيْهِ بِيَدِهِ ضَمَّ عَلَيْهِ أَصَابِعَهُ.

وَالْقَبْضُ فِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ حِيَازَةُ الشَّيْءِ وَالتَّمَكُّنُ مِنْهُ.قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَمَعْنَى الْقَبْضِ هُوَ التَّمْكِينُ وَالتَّخَلِّي وَارْتِفَاعُ الْمَوَانِعِ عُرْفًا وَعَادَةً حَقِيقَةً.

وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ جُزَيٍّ: الْقَبْضُ: هُوَ الْحَوْزُ.

فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقَبْضَ وَالْحِيَازَةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ.ر: مُصْطَلَحُ (تَقَابُضٌ).

ب- وَضْعُ الْيَدِ:

4- يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: الْأَمْرُ بِيَدِ فُلَانٍ أَيْ: فِي تَصَرُّفِهِ، وَالدَّارُ فِي يَدِ فُلَانٍ أَيْ: فِي مِلْكِهِ.

وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَقَدْ قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ: الْيَدُ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُرْبِ وَالِاتِّصَالِ، وَأَعْظَمُهَا ثِيَابُ الْإِنْسَانِ الَّتِي عَلَيْهِ وَنَعْلُهُ وَمِنْطَقَتُهُ، وَيَلِيهِ الْبِسَاطُ الَّذِي هُوَ جَالِسٌ عَلَيْهِ، وَالدَّابَّةُ الَّتِي هُوَ رَاكِبُهَا، وَتَلِيهِ الدَّابَّةُ الَّتِي هُوَ سَائِقُهَا أَوْ قَائِدُهَا، وَالدَّارُ الَّتِي هُوَ سَاكِنُهَا، فَهِيَ دُونَ الدَّابَّةِ لِعَدَمِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى جَمِيعِهَا.

وَتُقَدَّمُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ الْمُعْتَبَرَةِ، وَأَمَّا الْيَدُ الَّتِي لَا تُعْتَبَرُ فِي التَّرْجِيحِ أَلْبَتَّةَ فَعِبَارَةٌ عَنْ حِيَازَةٍ بِطَرِيقٍ تَقْتَضِي عَدَمَ الْمِلْكِ بِحَقٍّ، كَالْغَصْبِ وَالْعَارِيَّةِ.إِذَا عَلِمْنَا ذَلِكَ بِأَنْفُسِنَا أَوْ بِالْبَيِّنَةِ.وَالْيَدُ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ نَفْسُ مَعْنَى الْحِيَازَةِ بِمَعْنَيَيْهَا.

ج- التَّقَادُمُ:

4 م- التَّقَادُمُ لُغَةً: مَصْدَرُ تَقَادَمَ، يُقَالُ: تَقَادَمَ الشَّيْءُ أَيْ: صَارَ قَدِيمًا.وَفِي الِاصْطِلَاحِ يُعَبَّرُ عَنِ التَّقَادُمِ بِمُرُورِ الزَّمَانِ.كَمَا فِي مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَقَادُمٌ) مِنَ الْمَوْسُوعَةِ.

أَحْكَامُ الْحِيَازَةِ:

5- تَقَدَّمَ أَنَّ الْحِيَازَةَ تَكُونُ عَنْ طَرِيقٍ مَشْرُوعٍ وَعَنْ طَرِيقٍ، غَيْرِ مَشْرُوعٍ، فَالطُّرُقُ غَيْرُ الْمَشْرُوعَةِ كَالْغَصْبِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالْحِرَابَةِ، هِيَ مِنَ الْكَسْبِ غَيْرِ الْمَشْرُوعِ، وَتُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.وَهَذِهِ الْحِيَازَةُ لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً وَلَا عِبْرَةَ بِهَا شَرْعًا.لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمَحُوزَ هُنَا لَا يَكُونُ لِلَّذِي بِيَدِهِ بَلْ لِمَالِكِهِ الْأَصْلِيِّ.

وَأَمَّا الطُّرُقُ الْمَشْرُوعَةُ فَتَكُونُ بِحِيَازَةِ بَيْتِ الْمَالِ لِلْأَرْضِ، الَّتِي مَاتَ أَرْبَابُهَا بِلَا وَارِثٍ وَآلَتْ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ فُتِحَتْ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا، وَلَمْ تُمْلَكْ لِأَهْلِهَا بَلْ أُبْقِيَتْ رَقَبَتُهَا لِلْمُسْلِمِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

وَتَكُونُ بِإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ، وَالِاصْطِيَادِ، وَاحْتِشَاشِ الْكَلَأِ مِنَ الْأَرْضِ الْمُبَاحَةِ، وَاسْتِخْرَاجِ مَا فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ مِنَ الْمَعْدِنِ وَالرِّكَازِ، وَاللُّقَطَةِ.وَتُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.وَتَكُونُ أَيْضًا عَنْ طَرِيقِ الْعَقْدِ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَنْ طَرِيقِ الْإِرَادَةِ الْمُنْفَرِدَةِ أَمْ عَنْ طَرِيقِ إِرَادَتَيْنِ، وَيُنْظَرُ كُلُّ عَقْدٍ فِي مُصْطَلَحِهِ.

ثُمَّ الْحِيَازَةُ بِمَعْنَى الْقَبْضِ تُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي مُصْطَلَحِ (قَبْضٌ).

الْحِيَازَةُ كَدَلِيلٍ عَلَى الْمِلْكِيَّةِ:

6- الْأَصْلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَصَرَّفُ فِيمَا يَمْلِكُهُ بِوَجْهٍ شَرْعِيٍّ، فَسَاكِنُ الدَّارِ، وَسَائِقُ السَّيَّارَةِ، أَوِ الدَّرَّاجَةِ وَصَاحِبُ الدُّكَّانِ الْغَالِبُ أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ مَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ، وَلَكِنْ قَدْ يُمَكِّنُ الْمَالِكُ غَيْرَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ، إِمَّا بِعِوَضٍ أَوْ بِدُونِ عِوَضٍ- وَقَدْ يَكُونُ الْمُتَصَرِّفُ مُتَعَدِّيًا كَالْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ- فَاحْتِمَالُ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمِلْكِيَّةِ وَالتَّصَرُّفِ احْتِمَالٌ قَائِمٌ، وَلَكِنْ كُلَّمَا طَالَتْ مُدَّةُ التَّصَرُّفِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ مَالِكٌ إِلَى أَنْ يَحْصُلَ الِاطْمِئْنَانُ بِمِلْكِيَّةِ الْحَائِزِ لِلشَّيْءِ حَسْبَمَا يَشْهَدُ بِهِ الْعُرْفُ.

وَمِنْ هُنَا كَانَتْ عَلَاقَةُ الْحَائِزِ بِمُدَّعِي مِلْكِيَّةِ الشَّيْءِ الْمَحُوزِ لَهَا تَأْثِيرٌ حَسْبَمَا يَشْهَدُ بِهِ الْعُرْفُ مِنَ التَّسَامُحِ أَوِ الْمُشَاحَّةِ.فَالْعُرْفُ يَشْهَدُ أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ لَا يَسْكُتُ عَنْ تَصَرُّفِ الْأَجْنَبِيِّ فِي عَقَارِهِ عَشْرَ سَنَوَاتٍ وَأَكْثَرَ وَهُوَ حَاضِرٌ سَاكِتٌ، بَيْنَمَا يَشْهَدُ الْعُرْفُ أَنَّ الْأَبَ يَتَسَامَحُ مَعَ ابْنِهِ فِي تَصَرُّفِهِ فِي مَالِ الْأَبِ عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ.

فَكَانَتِ الصِّلَةُ بَيْنَ الْحَائِزِ وَبَيْنَ مُدَّعِي الْمِلْكِيَّةِ مُؤْثِّرَةً فِي مُدَّةِ الْحِيَازَةِ كَمَا أَنَّ حُضُورَ مُدَّعِي الْمِلْكِيَّةِ وَبُعْدَهُ وَالْمَسَافَةَ الْفَاصِلَةَ بَيْنَ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَبَيْنَ الْقَائِمِ بِالْحَقِّ لَهَا تَأْثِيرُهَا، وَكَذَلِكَ الشَّيْءُ الْمَحُوزُ فَحِيَازَةُ الدُّورِ وَالْأَرْضِينَ لَيْسَتْ كَحِيَازَةِ الثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ، فَإِذَا كَانَ الْمَالِكُ قَدْ يَتَسَامَحُ فِي سُكْنَى دَارِهِ الْخَمْسَ سَنَوَاتٍ مَثَلًا فَإِنَّهُ لَا يَتَسَامَحُ فِي اسْتِعْمَالِ دَابَّتِهِ مِثْلَ هَذِهِ الْمُدَّةِ.كَمَا أَنَّ أَنْوَاعَ التَّصَرُّفِ مُخْتَلِفَةٌ فَهُنَاكَ التَّصَرُّفُ بِالسُّكْنَى، وَأَقْوَى مِنْهَا التَّصَرُّفُ بِالْهَدْمِ وَالْبِنَاءِ وَقَلْعِ الشَّجَرِ وَغِرَاسَةِ الْأَرْضِ، وَأَقْوَى مِنْ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ مِنْ وُجُوهِ التَّفْوِيتِ فَكَانَتْ أَحْكَامُ الْحِيَازَةِ تَتَأَثَّرُ بِهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ- فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ- إِلَى أَنَّ مَنِ ادَّعَى شَيْئًا فِي يَدِ غَيْرِهِ فَأَنْكَرَهُ وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَبَيِّنَتُهُ عَلَى الْمُدَّعِي (الْخَارِجِ) تُقَدَّمُ عَلَى بَيِّنَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (الدَّاخِلِ).

وَقَالَ إِسْحَاقُ: لَا تُسْمَعُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِحَالٍ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» فَجَعَلَ جِنْسَ الْبَيِّنَةِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي، فَلَا يَبْقَى فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ.وَلِأَنَّ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي أَكْثَرُ فَائِدَةً فَوَجَبَ تَقْدِيمُهَا، كَتَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الْجَرْحِ عَلَى التَّعْدِيلِ، وَدَلِيلُ كَثْرَةِ فَائِدَتِهَا: أَنَّهَا تُثْبِتُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ، وَبَيِّنَةُ الْمُنْكِرِ إِنَّمَا تُثْبِتُ ظَاهِرًا تَدُلُّ الْيَدُ عَلَيْهِ فَلَمْ تَكُنْ مُفِيدَةً، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْمِلْكِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهَا رُؤْيَةَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفَ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَصَارَتِ الْبَيِّنَةُ بِمَنْزِلَةِ الْيَدِ الْمُفْرَدَةِ، فَتُقَدَّمُ عَلَيْهَا بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (صَاحِبِ الْيَدِ) كَمَا أَنَّ شَاهِدَيِ الْفَرْعِ لَمَّا كَانَا مَبْنِيَّيْنِ عَلَى شَاهِدَيِ الْأَصْلِ لَمْ تَكُنْ لَهُمَا مَزِيَّةٌ.

وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ: إِنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ بِسَبَبِ الْمِلْكِ، وَقَالَتْ: نَتَجَتْ فِي مِلْكِهِ أَوِ اشْتَرَاهَا، أَوْ نَسَجَهَا، أَوْ كَانَتْ بَيِّنَتُهُ أَقْدَمَ تَارِيخًا قُدِّمَتْ، وَإِلاَّ قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ فِي النِّتَاجِ وَالنَّسَّاجِ فِيمَا لَا يَتَكَرَّرُ نَسْجُهُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحِيَازَةَ لَا تَنْقُلُ الْمِلْكَ عَنِ الْمَحُوزِ عَلَيْهِ إِلَى الْحَائِزِ بِاتِّفَاقٍ وَلَكِنَّهَا تَدُلُّ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ مَعَهَا قَوْلَ الْحَائِزِ: إِنَّهُ يَمْلِكُهُ بِيَمِينِهِ.

فَإِذَا كَانَتْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ وَلِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ قُدِّمَ صَاحِبُ الْيَدِ بِبَيِّنَتِهِ، لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَتُهُ بِيَدِهِ كَالْخَبَرَيْنِ اللَّذَيْنِ مَعَ أَحَدِهِمَا قِيَاسٌ فَيُقْضَى لَهُ بِهَا.

لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- اخْتَصَمَ إِلَيْهِ رَجُلَانِ فِي دَابَّةٍ أَوْ بَعِيرٍ، فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ بِأَنَّهَا لَهُ أَنْتَجَهَا فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ».

وَبِتَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِكُلِّ حَالٍ، قَالَ شُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَكَمُ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَقَالَ: هُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الشَّامِ، وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ فِي (دَعْوَى، شَهَادَةٌ، تَقَادُمٌ).

هَذَا، وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلَاتٌ انْفَرَدُوا بِهَا فِي مَسَائِلِ الْحِيَازَةِ، وَلَا سِيَّمَا بِمَعْنَى دَلِيلِ الْمِلْكِ أَوْ سَبَبِهِ، بَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:

يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ: إِنَّ الْحِيَازَةَ عَلَى سِتِّ مَرَاتِبَ:

أ- أَضْعَفُهَا حِيَازَةُ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ، وَحِيَازَةُ الِابْنِ عَلَى أَبِيهِ.

ب- وَيَلِيهَا حِيَازَةُ الْأَقَارِبِ الشُّرَكَاءِ بِالْمِيرَاثِ أَوْ بِغَيْرِ الْمِيرَاثِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.

ج- تَلِيهَا حِيَازَةُ الْقَرَابَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا لَا شِرْكَ بَيْنَهُمْ فِيهِ، وَالْأَخْتَانُ، وَالْمَوَالِي الْأَشْرَاكُ بِمَنْزِلَتِهِمْ.

د- وَيَلِيهَا حِيَازَةُ الْمَوَالِي وَالْأُخْتَيْنِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا لَا شِرْكَ بَيْنَهُمْ فِيهِ.

هـ- وَتَلِيهَا حِيَازَةُ الْأَجْنَبِيِّينَ الْأَشْرَاكِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا لَا شِرْكَ بَيْنَهُمْ فِيهِ.

و- حِيَازَةُ الْأَجْنَبِيِّينَ الَّذِينَ لَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمْ فِيهِ.وَكُلَّمَا كَانَتِ الرَّابِطَةُ قَوِيَّةً وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْحِيَازَةُ ضَعِيفَةَ التَّأْثِيرِ فِي ادِّعَاءِ الْمِلْكِ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ قُوَّةٍ تُسْنِدُهَا، إِمَّا طُولُ مُدَّةٍ، وَإِمَّا نَوْعٌ قَوِيٌّ مِنَ التَّصَرُّفِ عَلَى مَا سَيَتَبَيَّنُ بَعْدُ.

أَنْوَاعُ الْحِيَازَةِ:

7- الْحِيَازَةُ تَكُونُ بِنَوْعٍ مِنَ الْأَنْوَاعِ الْآتِيَةِ:

(أ) فِي الْعَقَارِ: السُّكْنَى، الِازْدِرَاعُ وَنَحْوُ ذَلِكَ.وَفِي الْمَنْقُولِ: الرُّكُوبُ فِي الدَّوَابِّ.اللُّبْسُ فِي الثِّيَابِ.الِانْتِفَاعُ فِي الْأَوَانِي وَنَحْوُ ذَلِكَ. (ب) النَّوْعُ الْمُتَوَسِّطُ فِي الْعَقَارِ: الْهَدْمُ وَالْبِنَاءُ فِيمَا Bلَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِبَقَاءِ الْأَصْلِ، وَالْغَرْسُ لِلْأَشْجَارِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَفِي الْمَنْقُولِ الِاسْتِغْلَالُ وَهُوَ إِيجَارُ الدَّوَابِّ، وَالثِّيَابِ، وَقَبْضُ الْأُجْرَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. (ج) النَّوْعُ الْأَقْوَى: التَّفْوِيتُ بِالْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَالنُّحْلِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَفْعَلُهُ الرَّجُلُ إِلاَّ فِي مَالِهِ.

أَثَرُ الْحِيَازَةِ:

8- يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ: إِنَّ مُجَرَّدَ الْحِيَازَةِ لَا تَنْقُلُ الْمِلْكَ عَنِ الْمَحُوزِ عَلَيْهِ إِلَى الْحَائِزِ، وَلَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ كَإِرْخَاءِ السُّتُورِ، وَمَعْرِفَةِ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ.مَعْنَى هَذَا أَنَّ الْحَائِزَ لَا يَنْتَفِعُ بِالْحِيَازَةِ إِلاَّ إِذَا جَهِلَ الْوَجْهَ الَّذِي حَازَ بِهِ أَوِ ادَّعَى شِرَاءً، وَأَمَّا إِذَا عَرَفَ وَجْهَ دُخُولِهِ فِي حَوْزِهِ كَكِرَاءٍ، أَوْ عُمْرَى، أَوْ إِسْكَانٍ، أَوْ إِرْفَاقٍ، أَوْ إِجَارَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ طُولَ الْحَوْزِ لَا يَنْقُلُ الْمِلْكَ.

شُرُوطُ الْحِيَازَةِ بَيْنَ الْأَجَانِبِ غَيْرِ الشُّرَكَاءِ:

9- يَقُولُ خَلِيلٌ: إِنْ حَازَ أَجْنَبِيٌّ غَيْرُ شَرِيكٍ وَتَصَرَّفَ ثُمَّ ادَّعَى حَاضِرٌ سَاكِتٌ بِلَا مَانِعٍ عَشْرَ سِنِينَ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ، وَلَا بَيِّنَتُهُ إِلاَّ بِإِسْكَانٍ وَنَحْوِهِ.

فَالْحَوْزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَكُونُ دَالًّا عَلَى مِلْكِ الْحَائِزِ إِذَا تَوَفَّرَ مَا يَلِي:

أَوَّلًا: أَنْ يَتَصَرَّفَ الْحَائِزُ: وَالتَّصَرُّفُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ هُوَ مَا كَانَ كَالْهَدْمِ وَالْبِنَاءِ فِيمَا لَا ضَرُورَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهِ.أَمَّا السُّكْنَى وَنَحْوُهَا، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ حِيَازَةٌ.يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ: وَأَمَّا حِيَازَةُ الْأَجْنَبِيِّينَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا لَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمْ فِيهِ، فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْحِيَازَةَ تَكُونُ بَيْنَهُمْ فِي الْعَشَرَةِ أَعْوَامٍ.وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَدْمٌ وَلَا بُنْيَانٌ، وَفِي كِتَابِ الْجِدَارِ لِابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهَا لَا تَكُونُ حِيَازَةً إِلاَّ مَعَ الْهَدْمِ وَالْبُنْيَانِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي رِوَايَةِ حَسَنِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْهُ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ مَا أَخْرَجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ بَلَاغًا (أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ تَكَارَى أَرْضًا.فَلَمْ تَزَلْ فِي يَدَيْهِ بِكِرَاءٍ حَتَّى قَالَ ابْنُهُ وَهُوَ أَبُو سَلَمَةَ أَوْ حُمَيْدٌ: فَمَا كُنْتُ أَرَاهَا إِلاَّ لَنَا مِنْ طُولِ مَا مَكَثَتْ فِي يَدَيْهِ حَتَّى ذَكَرَهَا لَنَا عِنْدَ مَوْتِهِ فَأَمَرَ بِقَضَاءِ شَيْءٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ كِرَائِهَا ذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ).

10- ثَانِيًا: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي حَاضِرًا عَالِمًا، فَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي غَائِبًا غَيْبَةً بَعِيدَةً فَهُوَ بَاقٍ عَلَى حَقِّهِ وَيَخْتَلِفُ تَقْدِيرُ الْغَيْبَةِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَالْبُعْدِ وَالْقُرْبِ، وَتَقْدِيرُ الْغَيْبَةِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ هُوَ بِالْمَرَاحِلِ.

فَإِذَا كَانَ الْمُدَّعِي عَلَى سَبْعَةِ مَرَاحِلَ فَأَكْثَرَ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى حُجَّتِهِ وَلَوْ طَالَ أَمَدُ غِيَابِهِ مَا طَالَ، فَالْغَائِبُ فِي مِثْلِ هَذَا الْبُعْدِ مَعْذُورٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ رَجُلًا أَمِ امْرَأَةً، وَإِذَا كَانَ عَلَى ثَلَاثِ أَوْ أَرْبَعِ مَرَاحِلَ فَالْمَرْأَةُ مَعْذُورَةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ إِنْ أَبْدَى عُذْرَهُ فِي عَدَمِ الْقِيَامِ، وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ عُذْرُهُ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: هُوَ عَلَى حَقِّهِ لَهُ الْقِيَامُ مُعَلِّلًا بِأَنَّهُ كَمْ مِمَّنْ لَا يَتَبَيَّنُ عُذْرُهُ لِلنَّاسِ وَهُوَ مَعْذُورٌ.وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: مَنْ كَانَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاحِلَ لَا قِيَامَ لَهُ بَعْدَ الْأَجَلِ إِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ عُذْرُهُ، فَابْنُ الْقَاسِمِ جَعَلَهُ مَعْذُورًا: وَابْنُ حَبِيبٍ جَعَلَهُ غَيْرَ مَعْذُورٍ حَتَّى يَثْبُتَ خِلَافُ ذَلِكَ.وَحَدَّدَ ابْنُ عَرَفَةَ مَوْطِنَ الْخِلَافِ قَائِلًا: الْخِلَافُ فِي الْقَرِيبِ هُوَ إِذَا عَلِمَ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ فَلَا حِيَازَةَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا، غَيْرَ أَنَّهُ فِي الْغَالِبِ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْعِلْمِ حَتَّى يَثْبُتَ عِلْمُهُ، وَفِي الْحَاضِرِ مَحْمُولٌ عَلَى الْعِلْمِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ.

وَاسْتَحَبَّ مُطَرِّفٌ وَأَصْبَغُ لِلْغَائِبِ إِذَا عَلِمَ وَمَنَعَهُ مَانِعٌ مِنَ الْحُضُورِ لِطَلَبِ حَقِّهِ أَنْ يُشْهِدَ أَنَّهُ عَلِمَ، وَأَنَّ سُكُوتَهُ عَنِ الْمُطَالَبَةِ إِنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الْعُذْرِ مَعَ تَأْكِيدِهِمَا عَلَى أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ وَلَمْ يُشْهِدْ لَمْ يُوهِنْ ذَلِكَ حُجَّتَهُ إِلاَّ أَنْ يَطُولَ الزَّمَانُ جِدًّا، مِثْلَ السَّبْعِينَ وَالثَّمَانِينَ سَنَةً وَمَا قَارَبَهَا، وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ سَمَاعٌ مُسْتَفِيضٌ بِأَنَّهَا مِلْكٌ لِلَّذِينَ هِيَ بِأَيْدِيهِمْ تَدَاوَلُوهَا هُمْ وَمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ بِمَا يُحَازُ بِهِ الْمِلْكُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كَالْحِيَازَةِ عَلَى الْحَاضِرِ، وَإِنْ كَانَتِ الْغَيْبَةُ بَعِيدَةً، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَبِقَوْلِهِمَا أَقُولُ.

فَالْغَائِبُ يَكُونُ عَلَى حُجَّتِهِ إِذَا اجْتَمَعَ أَمْرَانِ: أَنْ يَطُولَ ذَلِكَ جِدًّا فِيمَا تَهْلِكُ فِيهِ الْبَيِّنَاتُ، وَتَتَعَاقَبُ الْأَجْيَالُ كَالسَّبْعِينَ وَالثَّمَانِينَ، وَأَنْ يَتَأَيَّدَ الْحَوْزُ بِشَهَادَةِ سَمَاعٍ أَنَّ الْحَائِزَ وَمَنْ سَبَقَهُ مَالِكُونَ لِمَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ.

وَإِذَا كَانَتِ الْغَيْبَةُ عَلَى مَسَافَةِ يَوْمٍ فَالرَّجُلُ هُوَ كَالْحَاضِرِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَهِيَ عَلَى حَقِّهَا.قَالَ ابْنُ فَرْحُونَ: فَرْعٌ: وَفِي الطُّرُرِ لِابْنِ عَاتٍ وَمَغِيبُ الْمَرْأَةِ عَلَى مَسِيرَةِ الْيَوْمِ لَا يَقْطَعُ حُجَّتَهَا لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ عَلَيْهَا».

قَالَهُ بَعْضُ الشُّيُوخِ الْمُتَأَخِّرِينَ.

وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ هُوَ الْعِلْمُ الشَّامِلُ لِأَمْرَيْنِ.الْعِلْمُ بِأَنَّ الْحَائِزَ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ Bالْمَحُوزَ مِلْكُهُ، فَإِذَا جَهِلَ أَنَّ الْمَحُوزَ مِلْكُهُ فَإِنْ كَانَ وَارِثًا حَلَفَ عَلَى عَدَمِ عِلْمِهِ وَقُضِيَ لَهُ بِبَيِّنَتِهِ، وَإِذَا قَالَ عَلِمْتُ بِالْمِلْكِ وَلَكِنِّي لَمْ أَجِدِ الْوَثِيقَةَ الْمُثْبِتَةَ لِلْمِلْكِ إِلاَّ الْآنَ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، وَرَجَّحَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ بِذَلِكَ فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا ادَّعَى أَنَّ سُكُوتَهُ إِنَّمَا كَانَ مِنْ أَجْلِ عَدَمِ وُجُودِ الْبَيِّنَةِ الَّتِي تَشْهَدُ لَهُ.

ثَالِثًا: أَنْ يَسْكُتَ الْمَحُوزُ عَنْهُ الْحَاضِرُ طِوَالَ الْمُدَّةِ وَلَا يُطَالِبُ بِحَقِّهِ، فَإِنْ نَازَعَ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ وَلَمْ يَزَلْ يُخَاصِمُ وَيَطْلُبُ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ، وَإِنْ نَازَعَ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ لَمْ يُفِدْهُ، وَيَكُونُ كَمَنْ هُوَ سَاكِتٌ، قَالَ ابْنُ سَحْنُونٍ عَنْ أَبِيهِ: فِيمَنْ أَثْبَتَ بَيِّنَةً فِي أَرْضٍ أَنَّهَا لَهُ، وَأَثْبَتَ الَّذِي فِي يَدِهِ أَنَّهُ يَحُوزُهَا عَشْرَ سِنِينَ بِمَحْضَرِ الطَّالِبِ، فَأَقَامَ الطَّالِبُ بَيِّنَةً أَنَّهُ طَلَبَهَا وَنَازَعَ فِيهَا هَذَا، قَالَ: إِنْ قَالُوا إِنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُخَاصِمُ وَيَطْلُبُ لَيْسَ أَنْ يُخَاصِمَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ يُمْسِكَ نَفَعَهُ ذَلِكَ، وَإِلاَّ لَمْ يَنْفَعْهُ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الطَّلَبُ عِنْدَ الْحَاكِمِ.قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الصَّغِيرُ: الطَّلَبُ النَّافِعُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ.

11- رَابِعًا: أَنْ لَا يَمْنَعَهُ مِنَ الْمُطَالَبَةِ مَانِعٌ: وَالْمَوَانِعُ كَثِيرَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ لَمْ يَقَعِ اسْتِقْصَاؤُهَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَى بَعْضِهَا احْتِيَاطًا لِحَقِّ الْمَالِكِ.

فَمِنَ الْمَوَانِعِ، الْخَوْفُ مِنَ الْحَائِزِ كَمَا إِذَا كَانَ الْحَائِزُ ذَا سُلْطَةٍ وَظَالِمًا.أَوْ كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى سُلْطَانٍ جَائِرٍ وَكَأَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ مَدِينًا مُعْسِرًا وَحَلَّ أَجَلُ الدَّيْنِ، وَالْحَائِزُ رَبُّ الدَّيْنِ يَخْشَى إِنْ هُوَ طَالَبَهُ بِالتَّخَلِّي عَنِ الْحَوْزِ أَنْ يُطَالِبَ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ، وَمِثْلُهُ إِذَا كَانَ الْمُدَّعِي سَفِيهًا أَوْ صَغِيرًا أَوْ بِكْرًا لَمْ تُعَنِّسْ مَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ، فَإِنَّ أَجَلَ الْحَوْزِ مُعْتَبَرٌ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْمَانِعِ، وَفِي وَثَائِقِ ابْنِ الْعَطَّارِ لَا يَقْطَعُ قِيَامُ الْبِكْرِ غَيْرِ الْعَانِسِ وَلَا قِيَامُ الصَّغِيرِ، وَلَا قِيَامُ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ فِي رِقَابِ الْأَمْلَاكِ، وَلَا فِي إِحْدَاثِ الِاعْتِمَارِ بِحَضْرَتِهِمْ إِلاَّ أَنْ يَبْلُغَ الصَّغِيرُ وَيَمْلِكَ نَفْسَهُ مِنَ الْوَلِيِّ، وَتُعَنِّسَ الْجَارِيَةُ وَيُحَازَ عَلَيْهِمْ عَشَرَةَ أَعْوَامٍ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَهُمْ عَالِمُونَ بِحُقُوقِهِمْ لَا يَعْتَرِضُونَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَيَنْقَطِعُ حِينَئِذٍ قِيَامُهُمْ وَمَا لَمْ يَعْرِفُوا لَا يَنْقَطِعُ قِيَامُهُمْ.

فَأَصْحَابُ الْأَعْذَارِ هَؤُلَاءِ يُعْتَبَرُ أَمَدُ السُّكُوتِ الْمُسْقِطِ لِحَقِّهِمْ بَعْدَ حُصُولِ أَمْرَيْنِ.حُصُولِ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْحَائِزَ يَحُوزُ مِلْكَهُمْ وَسُكُوتَهُمْ بَعْدَ الْعِلْمِ عَشْرَ سِنِينَ بِغَيْرِ عُذْرٍ.

وَمِنَ الْأَعْذَارِ الْمَقْبُولَةِ الَّتِي يَبْقَى مَعَهَا الْمُدَّعِي عَلَى حَقِّهِ وَإِنْ طَالَ كَوْنُ الْمَحُوزِ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الثَّرَاءِ وَالْفَضْلِ، مِنْ شَأْنِهِ إِرْفَاقُ النَّاسِ وَالتَّوْسِعَةُ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ سُئِلَ أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى السَّرَّاجُ عَنْ أُنَاسٍ لَهُمْ أَمْلَاكٌ عَدِيدَةٌ فِي بِلَادٍ شَتَّى وَبِكُلِّ Bمَوْطِنٍ، وَجَرَتْ عَادَتُهُمْ مَعَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَتَفَضَّلُونَ مَعَهُمْ فِي أَمْلَاكِهِمْ بِالْبِنَاءِ وَالْحَرْثِ وَالْغِرَاسَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِمَارَةِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ لِكَثْرَةِ ذِمَّتِهِمْ وَغِنَاهُمْ وَعُلُوِّ هِمَّتِهِمْ وَمَحَاسِنِهِمْ مَعَ النَّاسِ، ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ السَّاكِنِينَ أَنْكَرُوا الْفَضْلَ وَالْإِحْسَانَ وَالْخَيْرَ، وَأَرَادُوا بِزَعْمِهِمْ أَنْ يَمْتَازُوا بِبَعْضِ الْأَمْلَاكِ بِسَبَبِ الْعِمَارَةِ وَيَنْسُبُوهَا لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ عَلَى ذَلِكَ، فَهَلْ تَجُوزُ الْعِمَارَةُ عَلَى أَصْحَابِ الْأَمْلَاكِ أَمْ لَا تَجُوزُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ إِلاَّ إِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ بِانْتِقَالِ الْأَمْلَاكِ بِبَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ صَدَقَةٍ؟ فَأَجَابَ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ إِلاَّ إِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ مَقْبُولَةٌ بِانْتِقَالِ الْأَمْلَاكِ، إِمَّا بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ الْعِمَارَةِ الْعَارِيَةِ عَنْ ذَلِكَ فَلَغْوٌ، وَلَا عِبْرَةَ بِهَا وَلَا مُعَوَّلَ عَلَيْهَا.وَدَقَّقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْحَائِكُ فَقَالَ: إِنَّ فَتْوَى السَّرَّاجِ هِيَ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ الْمَذْكُورَةُ مَعْرُوفَةً لِلْقَائِمِ وَمَنْسُوبَةً إِلَيْهِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا تُنْزَعُ مِنْ يَدِ حَائِزِهَا.

12- خَامِسًا: أَنْ تَسْتَمِرَّ الْحِيَازَةُ عَشْرَ سِنِينَ فَأَكْثَرَ: إِذَا حَازَ الْأَجْنَبِيُّ غَيْرُ الشَّرِيكِ عَقَارًا وَتَوَفَّرَتِ الشُّرُوطُ الْمَذْكُورَةُ قَبْلَ هَذَا فَإِنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِحِيَازَتِهِ إِلاَّ إِذَا طَالَ أَمَدُ الْحِيَازَةِ.

وَالطُّولُ الْمُعْتَبَرُ دَلِيلًا عَلَى الْمِلْكِيَّةِ قَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِهِ هَلْ يُؤَقَّتُ بِزَمَنٍ، أَوْ مَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى اقْتِنَاعِ الْحَاكِمِ.

فَفِي الْمُدَوَّنَةِ: مَا سَمِعْتُ مَالِكًا يُحَدِّدُ فِيهِ عَشْرَ سِنِينَ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى أَنَّ هَذَا قَدْ حَازَهَا دُونَ الْآخَرِ فِيمَا يُكْرَى وَيُهْدَمُ وَيُبْنَى وَيُسْكَنُ.

وَذَهَبَ رَبِيعَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ حَاضِرًا وَمَالُهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ فَمَضَتْ لَهُ عَشْرُ سِنِينَ وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ، كَانَ الْمَالُ لِلَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ بِحِيَازَتِهِ إِيَّاهُ عَشْرَ سِنِينَ، إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ الْآخَرُ بِبَيِّنَةٍ عَلَى أَنَّهُ أَكْرَى، أَوْ أَسْكَنَ، أَوْ أَعَارَ عَارِيَّةً، أَوْ صَنَعَ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَإِلاَّ فَلَا شَيْءَ لَهُ.

وَعُمْدَةُ التَّقْدِيرِ بِعَشْرِ سِنِينَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عُمَرَ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ يَرْفَعُهُ إِلَى الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَازَ شَيْئًا عَشْرَ سِنِينَ فَهُوَ لَهُ».قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُطَّلِبِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِمِثْلِهِ.

وَرَوَاهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ مَرْفُوعًا: «مَنِ احْتَازَ شَيْئًا عَشْرَ سِنِينَ فَهُوَ لَهُ».كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي بَابِ الْأَقْضِيَةِ.

قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: وَبِالْعَشْرِ سِنِينَ أَخَذَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغُ.

وَلِابْنِ الْقَاسِمِ كَمَا فِي الْمَوَّازِيَّةِ أَنَّ السَّبْعَ وَالثَّمَانَ وَمَا قَارَبَ الْعَشْرَ مِثْلُ الْعَشَرَةِ.

وَيَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ فِي شَرْحِهِ لِكَلَامِ الْمُسْتَخْرَجَةِ الْعَشْرَ سِنِينَ وَمَا قَارَبَهَا يُرِيدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.وَالشَّهْرَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ وَمَا قَارَبَ مِنْهَا ثُلُثَ الْعَامِ وَأَقَلَّ.وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَا قَرُبَ مِنَ الْعَشَرَةِ الْأَعْوَامِ بِالْعَامِ وَالْعَامَيْنِ حِيَازَةٌ.

قَالَ الْحَطَّابُ: فَتَحَصَّلَ فِي مُدَّةِ الْحِيَازَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: قَوْلُ مَالِكٍ إِنَّهَا لَا تُحَدُّ بِسِنِينَ مُقَدَّرَةٍ بَلْ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ.

الثَّانِي: أَنَّ الْمُدَّةَ عَشْرُ سِنِينَ وَهُوَ الْقَوْلُ الْمُعْتَمَدُ بِنَاءً عَلَى الْحَدِيثِ وَوَجَّهَهُ أَيْضًا ابْنُ سَحْنُونٍ بِأَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَمَرَ نَبِيَّهُ بِالْقِتَالِ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ كَانَ أَبْلَغَ فِي الْإِعْذَارِ.

الثَّالِثُ: أَنَّ مُدَّةَ الْحِيَازَةِ سَبْعُ سِنِينَ فَأَكْثَرُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ الثَّانِي.

وَإِذَا كَانَتِ الْحِيَازَةُ فِي إِرْفَاقٍ فَفِي الْمَسَائِلِ الْمَلْقُوطَةِ الْمَنْسُوبَةِ لِوَلَدِ ابْنِ فَرْحُونَ (مَسْأَلَةٌ) فِي قَنَاةٍ تَجْرِي مُنْذُ أَرْبَعِ سِنِينَ فِي أَرْضِ رَجُلٍ، وَالَّذِي تَجْرِي عَلَيْهِ سَاكِتٌ لَا تَكُونُ السَّنَةُ حِيَازَةً لِلتَّغَافُلِ عَنْ مِثْلِهَا وَسُكُوتُ أَرْبَعِ سِنِينَ طُولٌ.

أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْحِيَازَةُ فِي مَنْقُولٍ فَقَالَ أَصْبَغُ: إِنَّ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ فِي الثِّيَابِ حِيَازَةٌ إِذَا كَانَتْ تُلْبَسُ وَتُمْتَهَنُ، وَإِنَّ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ حِيَازَةٌ فِي الدَّوَابِّ إِذَا كَانَتْ تُرْكَبُ، وَفِي الْإِمَاءِ إِذَا كُنَّ يُسْتَخْدَمْنَ، وَفِي الْعَبِيدِ وَالْعُرُوضِ فَوْقَ ذَلِكَ وَلَا تَبْلُغُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بَيْنَ الْأَجْنَبِيِّينَ إِلَى عَشَرَةِ أَعْوَامٍ كَمَا يَصْنَعُ فِي الْأُصُولِ (الْعَقَارِ).

وَجَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْأَجَلِ بَيْنَ الثِّيَابِ وَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ، وَبَيْنَ الدُّورِ، وَنَصُّ الْمُدَوَّنَةِ قُلْتُ: أَرَأَيْتَ الدَّوَابَّ وَالثِّيَابَ وَالْعُرُوضَ كُلَّهَا وَالْحَيَوَانَ كُلَّهُ، هَلْ كَانَ مَالِكٌ يَرَى أَنَّهَا إِذَا حَازَهَا رَجُلٌ بِمَحْضَرٍ مِنْ رَجُلٍ فَادَّعَاهَا الَّذِي حِيزَتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا، Bلِأَنَّ هَذَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ، وَهَلْ كَانَ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِثْلَ مَا يَقُولُهُ فِي الدُّورِ وَالْحِيَازَةِ؟ قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ مِنْ مَالِكٍ فِي هَذَا شَيْئًا إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدِي مِثْلُ مَا قَالَ مَالِكٌ فِي الدُّورِ إِذَا كَانَتِ الثِّيَابُ تُلْبَسُ وَتُمْتَهَنُ، وَالدَّوَابُّ تُكْرَى وَتُرْكَبُ.

وَيَجِبُ حَمْلُ نَصِّ الْمُدَوَّنَةِ عَلَى أَنَّ التَّحْدِيدَ لَيْسَ قَارًّا، وَإِنَّمَا هُوَ لِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ يَنْظُرُ فِي الظُّرُوفِ الْمُحِيطَةِ بِالْقَضِيَّةِ وَيُعْطِي لِكُلِّ حَالَةٍ مَا يُنَاسِبُهَا حَسَبَ اخْتِلَافِ الْأَعْرَافِ وَالْأَشْخَاصِ.

13- وَتُضَافُ مُدَّةُ حِيَازَةِ الْوَارِثِ إِلَى مُدَّةِ حِيَازَةِ الْمُوَرِّثِ، فَإِذَا حَازَ الْمُوَرِّثُ الشَّيْءَ خَمْسَ سِنِينَ وَحَازَهُ الْوَارِثُ خَمْسَ سِنِينَ ضُمَّتْ مُدَّةُ هَذَا إِلَى مُدَّةِ ذَاكَ وَسَقَطَ حَقُّ الْقَائِمِ فِي الدَّعْوَى.

14- سَابِعًا: أَلاَّ يَكُونَ الْمَحُوزُ وَقْفًا: إِذَا كَانَ الْمَحُوزُ حَبْسًا فَإِنَّهُ لَا تَسْقُطُ الدَّعْوَى وَلَوْ طَالَ الزَّمَانُ، فَفِي نَوَازِلِ ابْنِ رُشْدٍ: سُئِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ وَاضِعِينَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ وَمُوَرِّثِهِمْ وَمُوَرِّثِ مُوَرِّثِهِمْ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ عَامًا يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَالتَّعْوِيضِ وَالْقِسْمَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ وُجُوهِ التَّفْوِيتِ، فَادَّعَى عَلَيْهِمْ بِوَقْفِيَّتِهَا شَخْصٌ حَاضِرٌ عَالِمٌ بِالتَّفْوِيتِ الْمَذْكُورِ وَالتَّصَرُّفِ هُوَ وَمُوَرِّثُهُ مِنْ قَبْلِهِ.فَأَجَابَ بِمَا نَصُّهُ: لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ بِالْحَبْسِ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَثْبُتَ التَّحْبِيسُ وَمِلْكُ الْمُحَبِّسِ لِمَا حَبَسَهُ يَوْمَ التَّحْبِيسِ وَبَعْدَ أَنْ تَتَعَيَّنَ الْأَمْلَاكُ الْمُحَبَّسَةُ بِالْحِيَازَةِ لَهَا عَلَى مَا تَصِحُّ فِيهِ الْحِيَازَةُ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى وَجْهِهِ وَأَعْذَرَ إِلَى الْمَقُومِ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ مِنْ تَرْكِ الْقَائِمِ وَأَبِيهِ قَبْلَهُ عَلَيْهِمْ وَطُولِ سُكُوتِهِمَا عَنْ طَلَبِ حَقِّهِمَا مَعَ عِلْمِهِمَا بِتَفْوِيتِ الْأَمْلَاكِ فَالْقَضَاءُ بِالْحَبْسِ وَاجِبٌ، وَالْحُكْمُ بِهِ لَازِمٌ.

وَمِنْ بَابِ أَوْلَى الْحَبْسُ الْعَامُّ بِمَا يَشْمَلُهُ مِنْ مَسْجِدٍ وَطَرِيقٍ وَمَصَالِحَ عَامَّةٍ.

قَالَ الزَّرْقَانِيُّ: وَمِنْ شُرُوطِهَا- أَيِ الْحِيَازَةِ- أَنْ يَدَّعِيَ الْحَائِزُ مِلْكَ الشَّيْءِ الْمَحُوزِ، أَيْ وَلَوْ مَرَّةً، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُجَّةٌ إِلاَّ مُجَرَّدَ الْحَوْزِ فَلَا يَنْفَعُهُ.

وَلَا يَنْفَعُ الْحَائِزَ الْمُدَّعِيَ الْمِلْكِيَّةُ بِحِيَازَتِهِ إِلاَّ مَعَ جَهْلِ الْمُدْخَلِ فِي هَذَا الْأَصْلِ الْمَحُوزِ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ هَلْ بِعَارِيَّةٍ مَثَلًا أَوْ لَا؟ أَعْنِي هَلْ دَخَلَ بِوَجْهٍ لَا يَقْتَضِي نَقْلَ الْمِلْكِ كَالْعَارِيَّةِ وَالْإِسْكَانِ وَنَحْوِهِمَا أَمْ لَا.لِأَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ أَنَّ دُخُولَهُ كَانَ بِشَيْءٍ مِنْهَا مَا نَفَعَتْهُ حِيَازَتُهُ وَلَوْ طَالَتْ.

مَا تُوجِبُهُ الْحِيَازَةُ:

15- يَقُولُ ابْنُ الْحَاجِبِ: إِنَّ الدَّعْوَى تَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: Bأ- الدَّعْوَى الْمُشَبَّهَةُ: وَهِيَ الدَّعْوَى الَّتِي تُوجِبُ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِهَا مِنْ غَيْرِ إِثْبَاتِ خُلْطَةٍ، وَهِيَ الدَّعْوَى اللاَّئِقَةُ بِالْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ.وَذَلِكَ كَالدَّعَاوَى عَلَى الصُّنَّاعِ الْمُنْتَصِبِينَ لِلصِّنَاعَةِ وَالتِّجَارَةِ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْمُسَافِرِ عَلَى رُفْقَتِهِ.

ب- الدَّعْوَى الْبَعِيدَةُ: وَهِيَ الَّتِي لَا تُشْبِهُ فَلَا تُسْمَعُ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا، كَدَعْوَى دَارٍ بِيَدِ حَائِزٍ يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِالْهَدْمِ، وَالْبُنْيَانِ، وَالْعِمَارَةِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَالْمُدَّعِي شَاهِدٌ سَاكِتٌ وَلَا مَانِعَ مِنْ خَوْفٍ وَلَا قَرَابَةٍ وَلَا صِهْرٍ وَشُبْهَةٍ.

ج- الدَّعْوَى الْمُتَوَسِّطَةُ بَيْنَ الْمُشْبِهَةِ وَالْبَعِيدَةِ، فَتُسْمَعُ مِنْ مُدَّعِيهَا، وَيُمَكَّنُ مِنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي غَيْرِ مَا فِيهِ مَعَرَّةٌ.

وَأَمَّا الدَّعْوَى بِمَا فِيهِ مَعَرَّةٌ عَلَى غَيْرِ لَائِقٍ بِهِ فَلَا يَمِينَ فِيهَا.

فَابْنُ الْحَاجِبِ كَمَا يَدُلُّ النَّصُّ أَعْلَاهُ يَعْتَبِرُ الْحِيَازَةَ بِشُرُوطِهَا، كَالشَّهَادَةِ الْقَاطِعَةِ الَّتِي تُثْبِتُ الْحَقَّ لِصَاحِبِهَا بِدُونِ يَمِينٍ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَدَعْوَى الْقَائِمِ (الْمُدَّعِي) بَاطِلَةٌ مِنْ أَصْلِهَا، وَطُولُ الْمُدَّةِ كَافٍ فِي إِثْبَاتِ الْحَائِزِ لِشَهَادَةِ الْعُرْفِ، وَابْنُ الْحَاجِبِ يَعْتَبِرُ الْعُرْفَ كَشَاهِدَيْنِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


255-موسوعة الفقه الكويتية (حيازة 2)

حِيَازَةٌ -2

16- وَذَهَبَ ابْنُ رُشْدٍ إِلَى التَّفْصِيلِ، فَقَالَ: إِنَّ الدَّعْوَى عَلَى الْحَائِزِ تَنْقَسِمُ إِلَى أَقْسَامٍ، وَلِكُلِّ قِسْمٍ حُكْمُهُ:

1- أَنْ لَا تَتَأَيَّدَ دَعْوَى الْمُدَّعِي عَلَى الْحَائِزِ بِبَيِّنَةٍ وَلَا إِقْرَارٍ مِنَ الْحَائِزِ، وَلَمْ تَتَضَمَّنِ الدَّعْوَى الْوَجْهَ الَّذِي يَتَصَرَّفُ بِهِ الْحَائِزُ، وَكَانَتْ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ فَهَذِهِ الدَّعْوَى مِنْ أَصْلِهَا لَا تُوجِبُ سُؤَالَ الْحَائِزِ وَلَا تَلْزَمُهُ الْيَمِينُ لِرَدِّ دَعْوَى الْمُدَّعِي.

2- مِثْلُ الصُّورَةِ الْأُولَى إِلاَّ أَنَّ الْقَائِمَ يَدَّعِي أَنَّ الْحَائِزَ إِنَّمَا كَانَ يَتَصَرَّفُ فِي الْحَوْزِ كِرَاءً، أَوْ إِسْكَانًا، أَوْ إِعَارَةً، فَتَجِبُ يَمِينُ الْحَائِزِ لِرَدِّ دَعْوَى الْمُدَّعِي.

3- أَنْ يَقُومَ الْقَائِمُ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الْحِيَازَةِ وَلَمْ يُؤَيِّدْ دَعْوَاهُ فَتَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ عَلَى الْحَائِزِ.

4- أَنْ تَتَأَيَّدَ دَعْوَى الْمُدَّعِي بِبَيِّنَةٍ، أَوْ بِإِقْرَارِ الْحَائِزِ بَعْدَ أَمَدِ الْحِيَازَةِ، وَهُنَا يُسْأَلُ الْحَائِزُ عَنِ الْوَجْهِ الَّذِي صَارَ بِهِ إِلَيْهِ الْمَحُوزُ، فَإِنْ بَيَّنَ وَجْهًا قُبِلَ مَعَ يَمِينِهِ، وَتَسْقُطُ دَعْوَى الْمُدَّعِي سَوَاءٌ أَذَكَرَ أَنَّهُ صَارَ إِلَيْهِ بِشِرَاءٍ مِنَ الْقَائِمِ، أَوْ مِنْ مُوَرِّثِهِ، أَوْ بِهِبَةٍ، أَوْ بِصَدَقَةٍ مِنْهُ، وَنَقَلَ ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ يَقُولُ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ ادِّعَاءِ الشِّرَاءِ وَادِّعَاءِ التَّبَرُّعِ فَقَدْ سُئِلَ عَنِ الَّذِي يَكُونُ بِيَدِهِ الْمَسْكَنُ أَوِ الْأَرْضُ فَيُقِيمُ رَجُلٌ عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَنَّهُ مَسْكَنُهُ أَوْ أَرْضُهُ، أَوْ يُقِرُّ لَهُ بِذَلِكَ الَّذِي هُوَ بِيَدِهِ، وَيَدَّعِي الَّذِي هُوَ بِيَدِهِ أَنَّهُ بَاعَهُ مِنْهُ، أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ، أَوْ وَهَبَهُ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَا يَأْتِي بِبَيِّنَةٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْ دَعْوَاهُ.قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: الْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي هُوَ بِيَدِهِ، إِذَا كَانَ قَدْ حَازَهُ الزَّمَانُ الَّذِي يُعْلَمُ فِي مِثْلِهِ أَنْ قَدْ هَلَكَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْبَيْعِ مَعَ يَمِينِهِ، وَأَمَّا الصَّدَقَةُ وَالْهِبَةُ وَالنُّزُولُ (أَيِ الْإِسْكَانُ) فَإِنِّي أَرَى أَنْ يَحْلِفَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ مَا وَهَبَ وَلَا تَصَدَّقَ وَلَا أَنْزَلَ وَلَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إِلاَّ عَلَى وَجْهِ الْتِمَاسِ الرِّفْقِ بِهِ.فَيُرَدُّ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ يَدْفَعَ قِيمَةَ مَا أَحْدَثَ عَلَيْهِ نَقْضًا إِنْ أَحَبَّ، وَإِنْ أَبَى أَسْلَمَ إِلَيْهِ نَقْضَهُ مَقْلُوعًا، وَوَجْهُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالتَّبَرُّعِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي نَقْلِ الْأَمْلَاكِ هُوَ الْبَيْعُ، وَأَمَّا التَّبَرُّعُ فَنَادِرٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْبَيْعِ فَضَعُفَتْ دَعْوَى مُدَّعِيهِ.

وَإِذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنَ الْحَائِزِ وَصَادَقَهُ الْحَائِزُ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ أَنَّهُ ادَّعَى الْإِقَالَةَ بَعْدَ الْبَيْعِ فَيُصَدَّقُ الْحَائِزُ بِيَمِينِهِ، قَالَ ابْنُ عَاصِمٍ: وَإِذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنَ الْحَائِزِ وَصَادَقَهُ الْحَائِزُ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ أَنَّهُ ادَّعَى الْإِقَالَةَ بَعْدَ الْبَيْعِ فَيُصَدَّقُ الْحَائِزُ بِيَمِينِهِ، قَالَ ابْنُ عَاصِمٍ:

وَإِنْ يَكُنْ مُدَّعِيًا إِقَالَةً

فَمَعَ يَمِينِهِ لَهُ الْمَقَالَةُ

الْحِيَازَةُ بَيْنَ الْأَجَانِبِ الشُّرَكَاءِ:

17- حُكْمُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ كَحُكْمِ الْمَرْتَبَةِ السَّابِقَةِ فِي كُلِّ التَّفْصِيلَاتِ، إِلاَّ أَنَّ الْحِيَازَةَ لَا تَكُونُ مُؤَثِّرَةً إِلاَّ إِذَا كَانَتْ مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي، أَعْنِي الْغَرْسَ وَالْقَلْعَ فِي الْأَشْجَارِ، وَالْبِنَاءَ وَالْهَدْمَ فِي الدُّورِ، وَكِرَاءَ الْحَيَوَانِ وَأَخْذَ أُجْرَةِ ذَلِكَ، أَمَّا لَوْ ضَعُفَتِ الْحِيَازَةُ فَكَانَتْ بِالسُّكْنَى أَوِ الزِّرَاعَةِ أَوِ الِاسْتِخْدَامِ، فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ يَبْقَى عَلَى حَقِّهِ وَلَوْ مَضَتِ الْمُدَّةُ.

وَرُوِيَ عَنْ مُطَرِّفٍ أَنَّ الشُّرَكَاءَ الْأَجَانِبَ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِ الشُّرَكَاءِ، وَوَهَّنَ ابْنُ رُشْدٍ هَذَا الْقَوْلَ لِأَنَّ إِلْغَاءَ تَأْثِيرِ عَلَاقَةِ الشَّرِكَةِ فِي التَّسَامُحِ بَعِيدٌ، ثُمَّ رَجَّحَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَشْرَاكِ الْأَجْنَبِيِّينَ حُكْمَ الْقَرَابَةِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمِيرَاثِ الَّذِينَ لَيْسُوا بِأَشْرَاكٍ وَهَذَا الِاخْتِيَارُ يُبَيِّنُهُ الْبَنْدُ التَّالِي.

الْحِيَازَةُ بَيْنَ الْأَقَارِبِ غَيْرِ الشُّرَكَاءِ، وَالْأَقَارِبِ الشُّرَكَاءِ:

18- الْحِيَازَةُ بَيْنَ الْأَقَارِبِ غَيْرِ الشُّرَكَاءِ، وَالْأَقَارِبِ الشُّرَكَاءِ، حَصَّلَ ابْنُ رُشْدٍ فِي هَاتَيْنِ الْمَرْتَبَتَيْنِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحِيَازَةَ بَيْنَهُمْ إِذَا كَانَتْ بِالْهَدْمِ وَالْبُنْيَانِ وَاسْتَمَرَّتْ عَشَرَةَ أَعْوَامٍ، فَهِيَ قَاطِعَةٌ لِحُجَّةِ الْقَائِمِ.

الثَّانِي: أَنَّهَا لَا تَكُونُ حِيَازَةً بَيْنَهُمْ إِلاَّ فِيمَا جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ سَنَةً.

الثَّالِثُ: التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْأَقَارِبِ الشُّرَكَاءِ وَغَيْرِ الشُّرَكَاءِ، فَغَيْرُ الشُّرَكَاءِ تَكْفِي مُدَّةُ السَّنَوَاتِ الْعَشْرِ مَعَ الْهَدْمِ وَالْبِنَاءِ، وَالشُّرَكَاءُ لَا بُدَّ مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً.

وَالْمُعْتَمَدُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي.يَقُولُ الزَّرْقَانِيُّ فِي تَحْلِيلِ قَوْلِ خَلِيلٍ: وَفِي الشَّرِيكِ الْقَرِيبِ مَعَ الْهَدْمِ وَالْبُنْيَانِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَ كُلٍّ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: عَشْرُ سِنِينَ، وَالثَّانِي: زِيَادَةٌ عَلَى أَرْبَعِينَ عَامًا مَعَهُمَا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.

وَذَلِكَ إِذَا لَمْ تَكُنْ عَدَاوَةٌ بَيْنَ الْأَقَارِبِ شُرَكَاءَ كَانُوا أَوْ لَا، أَمَّا إِذَا حَصَلَتْ بَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ الْأَجَانِبِ السَّابِقُ.يَقُولُ ابْنُ عَاصِمٍ.وَذَلِكَ إِذَا لَمْ تَكُنْ عَدَاوَةٌ بَيْنَ الْأَقَارِبِ شُرَكَاءَ كَانُوا أَوْ لَا، أَمَّا إِذَا حَصَلَتْ بَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ الْأَجَانِبِ السَّابِقُ.يَقُولُ ابْنُ عَاصِمٍ.

وَالْأَقْرَبُونَ حَوْزُهُمْ مُخْتَلِفٌ

بِحَسَبِ اعْتِمَارِهِمْ يَخْتَلِفُ

فَإِنْ يَكُنْ بِمِثْلِ سُكْنَى الدَّارِ

وَالزَّرْعِ لِلْأَرْضِ وَالِاعْتِمَارِ

فَهُوَ بِمَا يَجُوزُ الْأَرْبَعِينَ

وَذُو تَشَاجُرٍ كَالْأَبْعَدِينَ

وَمِثْلُهُ مِمَّا إِذَا كَانَ عُرْفُ الْبَلَدِ عَدَمَ التَّسَامُحِ.ذَكَرَهُ ابْنُ سَلَمُونَ فِي وَثَائِقِهِ.

الْحِيَازَةُ بَيْنَ الْأَبِ وَابْنِهِ:

19- بِمَا أَنَّ التَّسَامُحَ بَيْنَ الْأَبِ وَابْنِهِ مِمَّا جَرَى بِهِ الْعُرْفُ فِي الْأَقْطَارِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَإِنَّ حِيَازَةَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ إِنْ كَانَتْ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ فَهِيَ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ، وَلِلْقَائِمِ مِنْهُمَا الْحَقُّ فِي الْمُطَالَبَةِ بِدُونِ تَحْدِيدِ أَمَدٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي، أَعْنِي الْهَدْمَ، أَوِ الْبِنَاءَ، أَوِ الْغَرْسَ، أَوِ الْإِيجَارَ، وَقَبَضَ الْأُجْرَةَ فَلَا تَكُونُ الْحِيَازَةُ مُؤَثِّرَةً إِلاَّ إِذَا طَالَ أَمَدُهَا طُولًا تَهْلِكُ فِيهِ الْبَيِّنَاتُ، وَيَنْقَطِعُ الْعِلْمُ بِحَقِيقَةِ مَا يَدَّعِيهِ كُلٌّ مِنْهُمَا.فَإِذَا بَلَغَتِ الْحِيَازَةُ مِثْلَ هَذَا الطُّولِ، انْقَطَعَتْ حُجَّةُ الْمُدَّعِي وَقُضِيَ لِلْحَائِزِ الْمُدَّعِي الْمِلْكِيَّةَ- وَلَمْ يُحَدِّدِ الزَّرْقَانِيُّ الْمُدَّةَ بِأَجَلٍ وَإِنَّمَا رَبَطَهَا بِسِنِّ الشُّهُودِ- وَنُقِلَ عَنْ مُخْتَصَرِ الْمُتَيْطِيِّ، أَنَّهُ ذَكَرَ فِي مَحَلٍّ عِشْرِينَ سَنَةً، وَفِي مَحَلٍّ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ اسْتُشْكِلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْأَقَارِبَ بِغَيْرِ عَلَاقَةِ الْبُنُوَّةِ وَالْأُبُوَّةِ تَكُونُ الْحِيَازَةُ بَيْنَهُمْ بِمَا يُجَاوِزُ الْأَرْبَعِينَ، فَكَيْفَ تَكُونُ بَيْنَ الْأَبِ وَابْنِهِ دُونَ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِعِشْرِيْنَ سَنَةً، أَوْ كَيْفَ تَكُونُ مُسَاوِيَةً عَلَى الْقَوْلِ بِأَرْبَعِينَ.

وَحَدَّدَ الدَّرْدِيرُ فِي شَرْحِهِ عَلَى خَلِيلٍ أَقَلَّ الْمُدَّةِ بِسِتِّينَ سَنَةً بَيْنَ الِابْنِ وَأَبِيهِ.

الْحِيَازَةُ بَيْنَ الْأَخْتَانِ وَالْأَصْهَارِ وَالْمَوَالِي:

20- وَيَشْمَلُ الْمَوْلَى الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ إِذَا لَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمْ قَرَابَةٌ، وَاخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ كُلُّهَا لِابْنِ الْقَاسِمِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كَالْأَقَارِبِ فَلَا تَحْصُلُ الْحِيَازَةُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ مَعَ الطُّولِ جِدًّا، بِأَنْ تَزِيدَ مُدَّتُهَا عَلَى أَرْبَعِينَ سَنَةً سَوَاءٌ كَانَ التَّصَرُّفُ بِالْهَدْمِ وَالْبُنْيَانِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا، أَوْ كَانَ بِالِاسْتِغْلَالِ بِالْكِرَاءِ، أَوِ الِانْتِفَاعِ بِنَفْسِهِ بِسُكْنَى أَوِ ازْدِرَاعٍ.وَقِيلَ إِنَّهُمْ كَالْأَجَانِبِ غَيْرِ الشُّرَكَاءِ فَيَكْفِي فِي الْحِيَازَةِ عَشْرُ سِنِينَ مَعَ التَّصَرُّفِ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ كَانَ بِالْهَدْمِ، أَوِ الْبِنَاءِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ كُلٍّ مِنْهُمَا، أَوِ بِالْإِجَارَةِ أَوْ بِالِاسْتِغْلَالِ بِنَفْسِهِ بِسُكْنَى أَوِ ازْدِرَاعٍ، وَقِيلَ كَالْأَجَانِبِ الشُّرَكَاءِ، فَيَكْفِي فِي الْحِيَازَةِ عَشْرُ سِنِينَ مَعَ التَّصَرُّفِ بِالْهَدْمِ، أَوِ الْبِنَاءِ، وَمَا يَقُومُ مَقَامَ كُلٍّ، لَا بِاسْتِغْلَالٍ أَوْ سُكْنَى أَوِ ازْدِرَاعٍ.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ بَيْنَ الْأَصْهَارِ قَرَابَةٌ يَجْرِي فِيهِمْ مَا يَجْرِي فِي الْأَقَارِبِ.

الْحِيَازَةُ فِي غَيْرِ الْعَقَارِ فِي الْمَرَاتِبِ الْخَمْسَةِ.

21- سَبَقَ أَنَّ الْحِيَازَةَ بَيْنَ الْأَجَانِبِ فِي الْمَنْقُولَاتِ أَقَلُّ مُدَّةٍ مِنَ الرِّبَاعِ وَالْعَقَارَاتِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَإِنَّ حِيَازَةَ الْمَنْقُولَاتِ لَا تَخْتَلِفُ عَنْ حِيَازَةِ الْعَقَارَاتِ، يَقُولُ خَلِيلٌ: وَإِنَّمَا تَفْتَرِقُ الدَّارُ مِنْ غَيْرِهَا فِي حِيَازَةِ الْأَجْنَبِيِّ، وَمَفْهُومُ هَذَا أَنَّ الْحِيَازَةَ بَيْنَ الْأَقَارِبِ لَا تَفْتَرِقُ فِيهَا حِيَازَةُ الْعَقَارِ عَنْ حِيَازَةِ الْمَنْقُولِ فَلَا بُدَّ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى أَرْبَعِينَ عَامًا، وَالرَّاجِحُ أَنَّ الْمَنْقُولَ كَالْعُرُوضِ الَّتِي تَطُولُ مُدَّتُهَا كَالنُّحَاسِ وَالْبُسُطِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُسْتَعْمَلُ، فَيَكْفِي فِيهَا الْعَشْرُ سِنِينَ بِخِلَافِ مَا لَا تَطُولُ مُدَّتُهَا كَالثِّيَابِ تُلْبَسُ فَيَنْبَغِي أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ بِالِاجْتِهَادِ.

وَيُوَضِّحُ الزَّرْقَانِيُّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَا كَثِيَابٍ مَعَ لُبْسٍ فَيَنْبَغِي حِيَازَتُهُ دُونَ تِلْكَ الْمُدَّةِ لِعَدَمِ بَقَائِهِ فِيهَا فَيَبْعُدُ تَحْدِيدُهُ بِذَلِكَ.

التَّصَرُّفُ مِنَ النَّوْعِ الثَّالِثِ:

22- سَبَقَ أَنَّ التَّصَرُّفَ بِسَبَبِ الْحِيَازَةِ أَنْوَاعٌ: وَأَنَّ أَقْوَى الْأَنْوَاعِ هُوَ التَّصَرُّفُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالنُّحْلِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمُفَوِّتَةِ عَنِ الْمَالِكِ حُقُوقَ الْمِلْكِيَّةِ، وَهَذَا التَّفْوِيتُ مِنَ الْحَائِزِ لَا يَخْلُو وَضْعُهُ، إِمَّا أَنْ يَفُوتَ الْكُلُّ، أَوِ الْبَعْضُ، فَإِنْ فَوَّتَ الْكُلَّ فَلَهُ أَحْوَالٌ.

أ- الْحَالَةُ الْأُولَى: أَنْ يَفُوتُ الْحَائِزُ بِالْبَيْعِ بِحُضُورِ الْمَحُوزِ عَنْهُ فَيَعْتَرِضَ عَلَى الْبَيْعِ فَلَا يَنْفُذَ الْبَيْعُ.

ب- الثَّانِيَةُ: أَنْ يَسْكُتَ وَقْتَ مَجْلِسِ الْبَيْعِ بِدُونِ عُذْرٍ ثُمَّ يَقُومَ عَقِبَ الْمَجْلِسِ مُطَالِبًا بِحَقِّهِ فَيَنْفُذُ الْبَيْعُ وَيَسْتَحِقُّ الثَّمَنَ، وَإِنْ سَكَتَ حَتَّى مَضَى الْعَامُ وَنَحْوُهُ نَفَذَ الْبَيْعُ وَاسْتَحَقَّ الْبَائِعُ الثَّمَنَ مَعَ يَمِينِهِ فِي بَيَانِ الْوَجْهِ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ مِنْ شِرَاءٍ أَوْ مُقَاسَمَةٍ.

ج- الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ حَاضِرًا مَجْلِسَ الْبَيْعِ فَيَعْلَمَ بِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَيَقُومَ بِمُجَرَّدِ مَا يَبْلُغُهُ الْخَبَرُ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ، إِنْ شَاءَ أَنْفَذَ الْبَيْعَ وَأَخَذَ الثَّمَنَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْبَيْعَ.

د- الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ حَاضِرًا مَجْلِسَ الْعَقْدِ فَيَعْلَمَ بِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَلَا يَقُومَ إِلاَّ بَعْدَ الْعَامِ وَنَحْوِهِ، فَالْبَيْعُ نَافِذٌ وَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ الثَّمَنُ.

هـ- الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ حَاضِرًا وَيَبْلُغُهُ الْخَبَرُ وَيَسْكُتُ حَتَّى تَمْضِيَ مُدَّةُ الْحِيَازَةِ فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا.

و- الْحَالَةُ السَّادِسَةُ: أَنْ يَقَعَ التَّفْوِيتُ بِالْهِبَةِ أَوِ الصَّدَقَةِ، وَقَدْ كَانَ حَاضِرًا مَجْلِسَ التَّفْوِيتِ وَاعْتَرَضَ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ.

ز- الْحَالَةُ السَّابِعَةُ: مِثْلُ سَابِقَتِهَا إِلاَّ أَنَّهُ سَكَتَ فِي مَجْلِسِ التَّفْوِيتِ، ثُمَّ أَبْدَى اعْتِرَاضَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ.

ح- الْحَالَةُ الثَّامِنَةُ: أَنْ يَكُونَ غَائِبًا عَنْ مَجْلِسِ التَّفْوِيتِ فَيَقُومُ بِمُجَرَّدِ مَا يَبْلُغُهُ الْخَبَرُ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ.

ط- الْحَالَةُ التَّاسِعَةُ: أَنْ يَقُومَ بَعْدَ الْعَامِ وَنَحْوِهِ فَالْقَوْلُ لِلْحَائِزِ.

تَفْوِيتُ الْبَعْضِ وَلَهُ أَحْوَالٌ:

وَكَذَلِكَ إِذَا فَوَّتَ الْبَعْضَ لَهُ أَحْوَالٌ:

الْحَالَةُ الْأُولَى: إِذَا فَوَّتَ الْأَكْثَرَ، فَمَا فَاتَ حُكْمُهُ عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ وَالْقَلِيلُ قَد اخْتُلِفَ فِيهِ، فَرَوَى يَحْيَى عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الْأَقَلَّ يَتْبَعُ الْأَكْثَرَ يَسْتَحِقُّهُ الْحَائِزُ بِيَمِينِهِ، وَفُهِمَ مِنْ كَلَامِ سَحْنُونٍ أَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ لَا يَرَى أَنَّ الْأَقَلَّ تَبَعٌ لِلْأَكْثَرِ، فَيَكُونُ لِلْمَحُوزِ عَلَيْهِ حَقُّهُ بَعْدَ يَمِينِهِ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا فَوَّتَ الْأَقَلَّ فَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ رِوَايَتَانِ أَنَّ الْأَقَلَّ قَدْ تَمَّتْ حِيَازَتُهُ وَيَبْقَى الْأَكْثَرُ عَلَى حَالِهِ يُطَبَّقُ فِيهِ مَقَايِيسُ الْحِيَازَةِ السَّابِقَةِ، وَرُوِيَ أَنَّ الْأَقَلَّ يَكُونُ تَبَعًا لِلْأَكْثَرِ فَلَا يَرْتَفِعُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ وَيَأْخُذُ الْمَحُوزُ عَلَيْهِ حَقَّهُ.

وَإِذَا فَوَّتَ النِّصْفَ فَلِكُلٍّ حُكْمُهُ، وَلَا يَكُونُ بَعْضُ ذَلِكَ تَبَعًا لِلْبَعْضِ.

تَأَخُّرُ الْحِيَازَةِ عَنْ ثُبُوتِ حَقِّ الْمِلْكِيَّةِ:

23- إِذَا مَلَكَ شَخْصٌ مَالًا بِوَجْهٍ شَرْعِيٍّ وَتَأَخَّرَ حَوْزُهُ لَهُ فَهَلْ يُعْتَبَرُ هَذَا الْحَوْزُ مُسْقِطًا لِحَقِّهِ؟ أَنَّهُ إِنْ أَعْلَمَ وَجْهَ التَّمَلُّكِ وَتَأَخَّرَ الْحَوْزُ، فَإِنَّ الْمُدَّةَ لَا تُؤَثِّرُ عَلَى الْمِلْكِيَّةِ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَبْطُلُ حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ وَإِنْ قَدُمَ» وَبِنَاءً عَلَى هَذَا فَإِذَا عَيَّنَ لِامْرَأَةٍ صَدَاقَهَا حُقُولًا فَقَبَضَتِ الْبَعْضَ مِنْ يَدِ الزَّوْجِ أَوْ وَالِدِهِ، وَبَقِيَ قِسْمٌ لَمْ تَقْبِضْهُ إِلَى أَنْ مَاتَ الْمَالِكُ الْأَصْلِيُّ وَالْيَدُ لِلزَّوْجِ فَإِنَّ طُولَ الْمُدَّةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي مُطَالَبَتِهَا بِحَقِّهَا وَتَسْتَحِقُّهُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا فَوَّتَتْ صَدَاقَهَا بِمُفَوِّتٍ.وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِّ أَنَّ مَنْ قَامَ بِعَقْدِ شِرَاءٍ مِنَ الْمُقَّوَمِ عَلَيْهِ أَوْ مِنْ أَبِيهِ قَبْلَهُ، وَتَارِيخُ الشِّرَاءِ أَكْثَرُ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً، وَقَالَ لَمْ يَعْلَمْ بِشِرَاءِ أَبِيهِ وَلَا جَدِّهِ إِلَى الْآنَ فَلْيَحْلِفْ عَلَى ذَلِكَ وَيَأْخُذُ الْأَمْلَاكَ.ا هـ.عَلَّقَ عَلَيْهِ الرَّهُونِيُّ وَلَا يَعْتَرِضُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ رُسُومَ الْأَشْرِيَةِ لَا يُنْزَعُ بِهَا مِنْ يَدِ حَائِزٍ، لِأَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَقْدُ الشِّرَاءِ مِنَ الْمُقَوَّمِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ عِلَّةَ عَدَمِ الِانْتِزَاعِ بِعُقُودِ الْأَشْريَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَبِيعُ مَا لَا يَمْلِكُ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ مُنْتَفِيَةً إِذَا كَانَ الْمُقَوَّمُ عَلَيْهِ هُوَ الْبَائِعَ، كَانَ رَسْمُ الشِّرَاءِ مُؤَيِّدًا لِلْقَائِمِ تَأْيِيدًا يُوجِبُ رَفْعَ يَدِ الْحَائِزِ، وَكَذَلِكَ إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالْحَقِّ وَلَمْ يَحُزِ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ حَقَّهُ، فَإِنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ لَا يَنْتَفِعُ بِطُولِ الْحِيَازَةِ، وَالْقَائِمُ يَكُونُ عَلَى حَقِّهِ مَتَى قَامَ بِهِ.وَوَرَثَةُ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحِيَازَةَ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا إِلاَّ مَعَ جَهْلِ أَصْلِ الدُّخُولِ فِيهَا، وَالطُّولُ الْمَذْكُورُ قِيلَ: عِشْرُونَ سَنَةً عَلَى مَا وَقَعَ فِي سَمَاعِ عِيسَى فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ، وَحَدَّهُ ابْنُ حَبِيبٍ خَمْسِينَ سَنَةً وَحَكَاهُ عَنْ مُطَرِّفٍ وَأَصْبَغَ وَدَقَّقَ ابْنُ رُشْدٍ بِأَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ إِذَا ادَّعَى الْحَائِزُ بَعْدَ طُولِ الْمُدَّةِ أَنَّهُ صَارَ إِلَيْهِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِوَجْهٍ عَيَّنَهُ مِمَّا يَصِحُّ بِهِ انْتِقَالُ الْأَمْلَاكِ، وَأَمَّا طُولُ بَقَائِهِ وَحْدَهُ بِيَدِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ نَاقِلًا لِلْمِلْكِ.

الْحِيَازَةُ كَسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِيَّةِ:

24- تَكُونُ الْحِيَازَةُ مُفِيدَةً لِلْمِلْكِيَّةِ إِذَا كَانَ مَوْضُوعُهَا الْمَالَ الْمُبَاحَ الَّذِي لَيْسَ فِي مِلْكِ أَحَدٍ وَقْتَ وَضْعِ الْيَدِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُوجَدْ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ يَمْنَعُ مِنْ تَمَلُّكِهِ وَيَشْمَلُ أَنْوَاعًا أَرْبَعَةً:

أ- إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ (ر: إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ، وَأَرْضٌ).

ب- الِاصْطِيَادُ (ر.صَيْدٌ).

ج- أَخْذُ الْكَلأَِ وَنَحْوِهِ (ر: احْتِشَاشٌ، وَكَلأٌَ).

د- أَخْذُ مَا يُوجَدُ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ (ر.مَعَادِنُ، رِكَازٌ).

هَذَا، وَهُنَاكَ مَسَائِلُ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِالْحِيَازَةِ، كَضَرُورَتِهَا فِي عَقْدِ الْهِبَةِ، وَعَدَمِ تَمَامِ التَّبَرُّعِ بِدُونِهَا، وَأَثَرُهَا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ وَتَعْيِينُ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَثَرُ شَهَادَةِ السَّمَاعِ عَلَى الْحِيَازَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ، تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (تَبَرُّعٌ، دَعْوَى، رَهْنٌ، شَهَادَةٌ، قَبْضٌ، هِبَةٌ).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


256-موسوعة الفقه الكويتية (ختان)

خِتَانٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْخِتَانُ وَالْخِتَانَةُ لُغَةً الِاسْمُ مِنَ الْخَتْنِ، وَهُوَ قَطْعُ الْقُلْفَةِ مِنَ الذَّكَرِ، وَالنَّوَاةُ مِنَ الْأُنْثَى، كَمَا يُطْلَقُ الْخِتَانُ عَلَى مَوْضِعِ الْقَطْعِ.

يُقَالُ خَتَنَ الْغُلَامَ وَالْجَارِيَةَ يَخْتِنُهُمَا وَيَخْتُنُهُمَا خَتْنًا.

وَيُقَالُ: غُلَامٌ مَخْتُونٌ وَجَارِيَةٌ مَخْتُونَةٌ وَغُلَامٌ وَجَارِيَةٌ خَتِينٌ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْخَفْضُ وَالْإِعْذَارُ، وَخَصَّ بَعْضُهُمُ الْخَتْنَ بِالذَّكَرِ، وَالْخَفْضَ بِالْأُنْثَى، وَالْإِعْذَارُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا.

وَالْعُذْرَةُ: الْخِتَانُ، وَهِيَ كَذَلِكَ الْجِلْدَةُ يَقْطَعُهَا الْخَاتِنُ.وَعَذَرَ الْغُلَامَ وَالْجَارِيَةَ يَعْذِرُهُمَا، عُذْرًا وَأَعْذَرَهُمَا خَتَنَهُمَا.

وَالْعَذَارُ وَالْإِعْذَارُ وَالْعَذِيرَةُ وَالْعَذِيرُ طَعَامُ الْخِتَانِ.

وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِلْمُصْطَلَحِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.

حُكْمُ الْخِتَانِ:

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْخِتَانِ عَلَى أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ:

2- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ شَاذٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ الْخِتَانَ سُنَّةٌ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.وَهُوَ مِنَ الْفِطْرَةِ وَمِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، فَلَوِ اجْتَمَعَ أَهْلُ بَلْدَةٍ عَلَى تَرْكِهِ حَارَبَهُمُ الْإِمَامُ، كَمَا لَوْ تَرَكُوا الْأَذَانَ.

وَهُوَ مَنْدُوبٌ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي رِوَايَةٍ يُعْتَبَرُ خِتَانُهَا مَكْرُمَةً وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّهُ سُنَّةٌ فِي حَقِّهِنَّ كَذَلِكَ، وَفِي ثَالِثٍ: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ.

وَاسْتَدَلُّوا لِلسُّنِّيَّةِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- مَرْفُوعًا: « الْخِتَانُ سُنَّةٌ لِلرِّجَالِ مَكْرُمَةٌ لِلنِّسَاءِ » وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا « خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ الْخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ ».

وَقَدْ قُرِنَ الْخِتَانُ فِي الْحَدِيثِ بِقَصِّ الشَّارِبِ وَغَيْرِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ وَاجِبًا.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ كَذَلِكَ أَنَّ الْخِتَانَ قَطْعُ جُزْءٍ مِنَ الْجَسَدِ ابْتِدَاءً فَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ قِيَاسًا عَلَى قَصِّ الْأَظْفَارِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي:

3- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ سَحْنُونٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْخِتَانَ وَاجِبٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.

وَاسْتَدَلُّوا لِلْوُجُوبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} قَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: « اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً بِالْقَدُومِ » وَأُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ إِبْرَاهِيمَ- صلى الله عليه وسلم- أَمْرٌ لَنَا بِفِعْلِ تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي كَانَ يَفْعَلُهَا فَكَانَتْ مِنْ شَرْعِنَا.

وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ كَذَلِكَ: « أَلْقِ عَنْكَ شَعْرَ الْكُفْرِ وَاخْتَتِنْ » قَالُوا: وَلِأَنَّ الْخِتَانَ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَمَا جَازَ كَشْفُ الْعَوْرَةِ مِنْ أَجْلِهِ، وَلَمَا جَازَ نَظَرُ الْخَاتِنِ إِلَيْهَا وَكِلَاهُمَا حَرَامٌ، وَمِنْ أَدِلَّةِ الْوُجُوبِ كَذَلِكَ أَنَّ الْخِتَانَ مِنْ شِعَارِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ وَاجِبًا كَسَائِرِ شِعَارِهِمْ.

وَفِي قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: « إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْلُ » دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَخْتَتِنَّ؛ وَلِأَنَّ هُنَاكَ فَضْلَةً فَوَجَبَ إِزَالَتُهَا كَالرَّجُلِ.وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْوُجُوبِ أَنَّ بَقَاءَ الْقُلْفَةِ يَحْبِسُ النَّجَاسَةَ وَيَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ فَتَجِبُ إِزَالَتُهَا.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ:

4- هَذَا الْقَوْلُ نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي، وَهُوَ أَنَّ الْخِتَانَ وَاجِبٌ عَلَى الرِّجَالِ، وَمَكْرُمَةٌ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِنَّ.

مِقْدَارُ مَا يُقْطَعُ فِي الْخِتَانِ:

5- يَكُونُ خِتَانُ الذُّكُورِ بِقَطْعِ الْجِلْدَةِ الَّتِي تُغَطِّي الْحَشَفَةَ، وَتُسَمَّى الْقُلْفَةَ، وَالْغُرْلَةَ، بِحَيْثُ تَنْكَشِفُ الْحَشَفَةُ كُلُّهَا.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّهُ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى أَخْذِ أَكْثَرِهَا جَازَ.وَفِي قَوْلِ ابْنِ كَجٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ يَكْفِي قَطْعُ شَيْءٍ مِنَ الْقُلْفَةِ وَإِنْ قَلَّ بِشَرْطِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ الْقَطْعُ تَدْوِيرَ رَأْسِهَا.

وَيَكُونُ خِتَانُ الْأُنْثَى بِقَطْعِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ مِنَ الْجِلْدَةِ الَّتِي كَعُرْفِ الدِّيكِ فَوْقَ مَخْرَجِ الْبَوْلِ.وَالسُّنَّةُ فِيهِ أَنْ لَا تُقْطَعَ كُلُّهَا بَلْ جُزْءٌ مِنْهَا.

وَذَلِكَ لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ- رضي الله عنها- « أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَخْتِنُ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: لَا تُنْهِكِي فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْظَى لِلْمَرْأَةِ وَأَحَبُّ إِلَى الْبَعْلِ ».

وَقْتُ الْخِتَانِ:

6- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي يَصِيرُ فِيهِ الْخِتَانُ وَاجِبًا هُوَ مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ؛ لِأَنَّ الْخِتَانَ مِنْ أَجْلِ الطَّهَارَةِ، وَهِيَ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ قَبْلَهُ.

وَيُسْتَحَبُّ خِتَانُهُ فِي الصِّغَرِ إِلَى سِنِّ التَّمْيِيزِ لِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِهِ؛ وَلِأَنَّهُ أَسْرَعُ بُرْءًا فَيَنْشَأُ عَلَى أَكْمَلِ الْأَحْوَالِ.

وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي تَعْيِينِ وَقْتِ الِاسْتِحْبَابِ وَجْهَانِ: الصَّحِيحُ الْمُفْتَى بِهِ أَنَّهُ يَوْمُ السَّابِعِ وَيُحْتَسَبُ يَوْمُ الْوِلَادَةِ مَعَهُ لِحَدِيثِ جَابِرٍ: « عَقَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَخَتَنَهُمَا لِسَبْعَةِ أَيَّامٍ » وَفِي مُقَابِلِهِ وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ الْيَوْمُ السَّابِعُ بَعْدَ يَوْمِ الْوِلَادَةِ.وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الْمُسْتَحَبَّ مَا بَيْنَ الْعَامِ السَّابِعِ إِلَى الْعَاشِرِ مِنْ عُمْرِهِ؛ لِأَنَّهَا السِّنُّ الَّتِي يُؤْمَرُ فِيهَا بِالصَّلَاةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ وَقْتُ الْإِثْغَارِ، إِذَا سَقَطَتْ أَسْنَانُهُ، وَالْأَشْبَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِطَاقَةِ الصَّبِيِّ إِذْ لَا تَقْدِيرَ فِيهِ فَيُتْرَكُ تَقْدِيرُهُ إِلَى الرَّأْيِ، وَفِي قَوْلٍ: إِنَّهُ إِذَا بَلَغَ الْعَاشِرَةَ لِزِيَادَةِ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ إِذَا بَلَغَهَا.وَكَرِهَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْخِتَانَ يَوْمَ السَّابِعِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَشَبُّهًا بِالْيَهُودِ.

خِتَانُ مَنْ لَا يَقْوَى عَلَى الْخِتَانِ:

7- مَنْ كَانَ ضَعِيفَ الْخِلْقَةِ بِحَيْثُ لَوْ خُتِنَ خِيفَ عَلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْتَنَ حَتَّى عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِهِ، بَلْ يُؤَجَّلُ حَتَّى يَصِيرَ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ سَلَامَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا تَعَبُّدَ فِيمَا يُفْضِي إِلَى التَّلَفِ؛ وَلِأَنَّ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ يَسْقُطُ بِخَوْفِ الْهَلَاكِ فَالسُّنَّةُ أَحْرَى، وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْخِتَانَ سُنَّةٌ.

وَلِلْحَنَابِلَةِ تَفْصِيلٌ فِي مَذْهَبِهِمْ، مُلَخَّصُهُ أَنَّ وُجُوبَ الْخِتَانِ يَسْقُطُ عَمَّنْ خَافَ تَلَفًا، وَلَا يَحْرُمُ مَعَ خَوْفِ التَّلَفِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ، أَمَّا مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَتْلَفُ بِهِ وَجَزَمَ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْخِتَانُ لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}

مَنْ مَاتَ غَيْرَ مَخْتُونٍ:

8- لَا يُخْتَنُ الْمَيِّتُ الْأَقْلَفُ الَّذِي مَاتَ غَيْرَ مَخْتُونٍ.لِأَنَّ الْخِتَانَ كَانَ تَكْلِيفًا، وَقَدْ زَالَ بِالْمَوْتِ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْخِتَانِ التَّطْهِيرُ مِنَ النَّجَاسَةِ، وَقَدْ زَالَتِ الْحَاجَةُ بِمَوْتِهِ.وَلِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الْمَيِّتِ فَلَا يُقْطَعُ، كَيَدِهِ الْمُسْتَحَقَّةِ فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ، أَوِ الْقِصَاصِ وَهِيَ لَا تُقْطَعُ مِنَ الْمَيِّتِ، وَخَالَفَ الْخِتَانُ قَصَّ الشَّعْرِ وَالظُّفْرِ؛ لِأَنَّهُمَا يُزَالَانِ فِي

الْحَيَاةِ لِلزِّينَةِ، وَالْمَيِّتُ يُشَارِكُ الْحَيَّ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا الْخِتَانُ فَإِنَّهُ يُفْعَلُ لِلتَّكْلِيفِ بِهِ، وَقَدْ زَالَ بِالْمَوْتِ.

وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ يُخْتَنُ الْكَبِيرُ وَالصَّغِيرُ لِأَنَّهُ كَالشَّعْرِ وَالظُّفْرِ وَهِيَ تُزَالُ مِنَ الْمَيِّتِ.وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ عِنْدَهُمْ: إِنَّهُ يُخْتَنُ الْكَبِيرُ دُونَ الصَّغِيرِ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَى الْبَالِغِ دُونَ الصَّغِيرِ.

مَنْ وُلِدَ مَخْتُونًا بِلَا قُلْفَةٍ:

9- مَنْ وُلِدَ مَخْتُونًا بِلَا قُلْفَةٍ فَلَا خِتَانَ عَلَيْهِ لَا إِيجَابًا وَلَا اسْتِحْبَابًا، فَإِنْ وُجِدَ مِنَ الْقُلْفَةِ شَيْءٌ يُغَطِّي الْحَشَفَةَ أَوْ بَعْضَهَا، وَجَبَ قَطْعُهُ كَمَا لَوْ خُتِنَ خِتَانًا غَيْرَ كَامِلٍ، فَإِنَّهُ يَجِبُ تَكْمِيلُهُ ثَانِيًا حَتَّى يُبِينَ جَمِيعَ الْقُلْفَةِ الَّتِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِإِزَالَتِهَا فِي الْخِتَانِ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّهُ تُجْرَى عَلَيْهِ الْمُوسَى، فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا يُقْطَعُ قُطِعَ.

تَضْمِينُ الْخَاتِنِ:

10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَضْمِينِ الْخَاتِنِ إِذَا مَاتَ الْمَخْتُونُ بِسَبَبِ سِرَايَةِ جُرْحِ الْخِتَانِ، أَوْ إِذَا جَاوَزَ الْقَطْعُ إِلَى الْحَشَفَةِ أَوْ بَعْضِهَا أَوْ قُطِعَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْقَطْعِ.

وَحُكْمُهُ فِي الضَّمَانِ حُكْمُ الطَّبِيبِ أَيْ أَنَّهُ يُضْمَنُ مَعَ التَّفْرِيطِ أَوِ التَّعَدِّي وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْخِتَانِ.

وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخَاتِنَ إِذَا خَتَنَ صَبِيًّا فَقَطَعَ حَشَفَتَهُ وَمَاتَ الصَّبِيُّ، فَعَلَى عَاقِلَةِ الْخَاتِنِ نِصْفُ دِيَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَمُتْ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ كُلُّهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِفِعْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَأْذُونٌ فِيهِ وَهُوَ قَطْعُ الْقُلْفَةِ، وَالْآخَرُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ وَهُوَ قَطْعُ الْحَشَفَةِ، فَيَجِبُ نِصْفُ الضَّمَانِ.أَمَّا إِذَا بَرِئَ فَيُجْعَلُ قَطْعُ الْجِلْدَةِ وَهُوَ الْمَأْذُونُ فِيهِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَقَطْعُ الْحَشَفَةِ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ فَوَجَبَ ضَمَانُ الْحَشَفَةِ كَامِلًا وَهُوَ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الْحَشَفَةَ عُضْوٌ مَقْصُودٌ لَا ثَانِيَ لَهُ فِي النَّفْسِ فَيُقَدَّرُ بَدَلُهُ بِبَدَلِ النَّفْسِ كَمَا فِي قَطْعِ اللِّسَانِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْخَاتِنِ إِذَا كَانَ عَارِفًا مُتْقِنًا لِمِهْنَتِهِ وَلَمْ يُخْطِئْ فِي فِعْلِهِ كَالطَّبِيبِ؛ لِأَنَّ الْخِتَانَ فِيهِ تَغْرِيرٌ فَكَأَنَّ الْمَخْتُونَ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِمَا أَصَابَهُ.

فَإِنْ كَانَ الْخَاتِنُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْخِتَانِ وَأَخْطَأَ فِي فِعْلِهِ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ عُوقِبَ، وَفِي كَوْنِ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ أَوْ فِي مَالِهِ قَوْلَانِ: فَلِابْنِ الْقَاسِمِ إِنَّهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَعَنْ مَالِكٍ وَهُوَ الرَّاجِحُ إِنَّهَا فِي مَالِهِ.لِأَنَّ فِعْلَهُ عَمْدٌ وَالْعَاقِلَةُ لَا تَحْمِلُ عَمْدًا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخَاتِنَ إِذَا تَعَدَّى بِالْجُرْحِ الْمُهْلِكِ، كَأَنْ خَتَنَهُ فِي سِنٍّ لَا يَحْتَمِلُهُ لِضَعْفٍ وَنَحْوِهِ أَوْ شِدَّةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ فَمَاتَ لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، فَإِنْ ظَنَّ كَوْنَهُ مُحْتَمِلًا فَالْمُتَّجَهُ عَدَمُ الْقَوَدِ لِانْتِفَاءِ التَّعَدِّي.وَيُسْتَثْنَى مِنْ حُكْمِ الْقَوَدِ الْوَالِدُ وَإِنْ عَلَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِوَلَدِهِ، وَتَلْزَمُهُ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ عَمْدٌ مَحْضٌ.فَإِنِ احْتَمَلَ الْخِتَانَ وَخَتَنَهُ وَلِيٌّ، أَوْ وَصِيٌّ، أَوْ قَيِّمٌ فَمَاتَ، فَلَا ضَمَانَ فِي الْأَصَحِّ لِإِحْسَانِهِ بِالْخِتَانِ، إِذْ هُوَ أَسْهَلُ عَلَيْهِ مَا دَامَ صَغِيرًا بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ لِتَعَدِّيهِ وَلَوْ مَعَ قَصْدِ إِقَامَةِ الشِّعَارِ.

وَلَمْ يَرَ الزَّرْكَشِيُّ الْقَوَدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ أَيْضًا لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ يُقِيمُ شَعِيرَةً.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْخَاتِنِ إِذَا عُرِفَ مِنْهُ حِذْقُ الصَّنْعَةِ، وَلَمْ تَجْنِ يَدُهُ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ فِعْلًا مُبَاحًا فَلَمْ يَضْمَنْ سِرَايَتَهُ كَمَا فِي الْحُدُودِ، وَكَذَلِكَ لَا ضَمَانَ إِذَا كَانَ الْخِتَانُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ، أَوْ وَلِيِّ غَيْرِهِ أَوِ الْحَاكِمِ.فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حِذْقٌ فِي الصَّنْعَةِ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ مُبَاشَرَةُ الْقَطْعِ، فَإِنْ قُطِعَ فَقَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ، لِقَوْلِهِ: - صلى الله عليه وسلم-: « مَنْ تَطَبَّبَ وَلَا يُعْلَمُ مِنْهُ طِبٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ » وَكَذَلِكَ يَضْمَنُ إِذَا أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ وَكَانَ حَاذِقًا وَلَكِنْ جَنَتْ يَدُهُ وَلَوْ خَطَأً، مِثْلُ أَنْ جَاوَزَ قَطْعَ الْخِتَانِ فَقَطَعَ الْحَشَفَةَ أَوْ بَعْضَهَا، أَوْ غَيْرَ مَحَلِّ الْقَطْعِ، أَوْ قَطَعَ بِآلَةٍ يَكْثُرُ أَلَمُهَا، أَوْ فِي وَقْتٍ لَا يَصْلُحُ الْقَطْعُ فِيهِ.وَكَذَلِكَ يَضْمَنُ إِذَا قَطَعَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْوَلِيِّ.

آدَابُ الْخِتَانِ:

11- تُشْرَعُ الْوَلِيمَةُ لِلْخِتَانِ وَتُسَمَّى الْإِعْذَارُ وَالْعَذَارُ، وَالْعُذْرَةُ، وَالْعَذِيرُ.

وَالسُّنَّةُ إِظْهَارُ خِتَانِ الذَّكَرِ، وَإِخْفَاءُ خِتَانِ الْأُنْثَى.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا تُسْتَحَبُّ فِي الذَّكَرِ وَلَا بَأْسَ بِهَا فِي الْأُنْثَى لِلنِّسَاءِ فِيمَا بَيْنَهُنَّ وَالتَّفْصِيلُ فِي (وَلِيمَةٌ، وَدَعْوَةٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


257-موسوعة الفقه الكويتية (خراج 1)

خَرَاجٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْخَرَاجُ لُغَةً، مِنْ خَرَجَ يَخْرُجُ خُرُوجًا أَيْ بَرَزَ وَالِاسْمُ الْخَرَاجُ، وَأَصْلُهُ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ.وَالْجَمْعُ أَخْرَاجٌ، وَأَخَارِيجُ، وَأَخْرِجَةٌ.

وَيُطْلَقُ الْخَرَاجُ عَلَى الْغَلَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنَ الشَّيْءِ كَغَلَّةِ الدَّارِ، وَالدَّابَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: « الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ ».

وَيُطْلَقُ الْخَرَاجُ أَيْضًا عَلَى الْأُجْرَةِ، أَوِ الْكِرَاءِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} وقوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ}.

وَالْخُرْجُ وَالْخَرَاجُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ عِنْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ وَاللَّيْثِ وَهُوَ الْأُجْرَةُ.وَفَرَّقَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ الْخُرْجُ مَا تَبَرَّعْتَ بِهِ أَوْ تَصَدَّقْتَ بِهِ، وَالْخَرَاجُ مَا لَزِمَكَ أَدَاؤُهُ.

وَيُطْلَقُ الْخَرَاجُ أَيْضًا عَلَى الْإِتَاوَةِ، أَوِ الضَّرِيبَةِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ، فَيُقَالُ خَارَجَ السُّلْطَانُ أَهْلَ الذِّمَّةِ، إِذَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ ضَرِيبَةً يُؤَدُّونَهَا لَهُ كُلَّ سَنَةٍ.

2- الْخَرَاجُ فِي الِاصْطِلَاحِ:

لِلْخَرَاجِ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ مَعْنَيَانِ عَامٌّ وَخَاصٌّ.

فَالْخَرَاجُ- بِالْمَعْنَى الْعَامِّ- هُوَ الْأَمْوَالُ الَّتِي تَتَوَلَّى الدَّوْلَةُ أَمْرَ جِبَايَتِهَا وَصَرْفِهَا فِي مَصَارِفِهَا.وَأَمَّا الْخَرَاجُ- بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ- فَهُوَ الْوَظِيفَةُ أَوِ (الضَّرِيبَةُ) الَّتِي يَفْرِضُهَا الْإِمَامُ عَلَى الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ النَّامِيَةِ.

وَعَرَّفَهُ كُلٌّ مِنَ الْمَاوَرْدِيِّ وَأَبِي يَعْلَى بِأَنَّهُ (مَا وُضِعَ عَلَى رِقَابِ الْأَرْضِ مِنْ حُقُوقٍ تُؤَدَّى عَنْهَا).

الْأَلْفَاظُ الَّتِي تُطْلَقُ عَلَى الْخَرَاجِ:

أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْخَرَاجِ- بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ- عِدَّةَ أَلْفَاظٍ وَمُصْطَلَحَاتٍ مِنْهَا:

أ- جِزْيَةُ الْأَرْضِ:

3- يُطْلَقُ عَلَى الْخَرَاجِ جِزْيَةُ الْأَرْضِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْجِزْيَةِ خَرَاجُ الرَّأْسِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَيْنِ يَشْتَرِكَانِ فِي مَعْنًى، وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَالٌ يُؤْخَذُ مِنَ الذِّمِّيِّ.

ب- أُجْرَةُ الْأَرْضِ:

4- أَطْلَقَ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْخَرَاجِ « أُجْرَةَ الْأَرْضِ » وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَرَاجَ الْمَفْرُوضَ عَلَى الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ النَّامِيَةِ بِمَثَابَةِ الْأُجْرَةِ لَهَا.فَالْإِمَامُ يَقِفُ الْأَرْضَ الْمَفْتُوحَةَ عَنْوَةً عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَتْرُكُهَا فِي أَيْدِي أَهْلِهَا يَزْرَعُونَهَا بِخَرَاجٍ مَعْلُومٍ.

ج- الطَّسْقُ:

5- أَوَّلُ مَنِ اسْتَعْمَلَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ فِي الْإِسْلَامِ الْإِمَامُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- حَيْثُ كَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ- رضي الله عنه- فِي رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَسْلَمَا، كِتَابًا جَاءَ فِيهِ: (ارْفَعِ الْجِزْيَةَ عَنْ رُءُوسِهِمَا وَخُذِ الطَّسْقَ عَنْ أَرْضِيهِمَا) وَبَوَّبَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ بَابًا بِاسْمِ (أَرْضُ الْعَنْوَةِ تُقَرُّ فِي يَدِ أَهْلِهَا وَيُوضَعُ عَلَيْهَا الطَّسْقُ وَهُوَ الْخَرَاجُ).

وَالطَّسْقُ كَلِمَةٌ فَارِسِيَّةٌ مُعَرَّبَةٌ يُرَادُ بِهَا الْوَظِيفَةُ الْمُقَرَّرَةُ عَلَى الْأَرْضِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْغَنِيمَةُ:

6- الْغَنِيمَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ: اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَالْخَرَاجُ كَمَا تَقَدَّمَ، الْوَظِيفَةُ الَّتِي يَفْرِضُهَا الْإِمَامُ عَلَى الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ.

ب- الْفَيْءُ:

7- الْفَيْءُ فِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ كُلُّ مَالٍ صَارَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ.وَالْفَيْءُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا انْجَلُوا عَنْهُ أَيْ هَرَبُوا عَنْهُ: خَوْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ بَذَلُوهُ لِلْكَفِّ عَنْهُمْ وَالثَّانِي: مَا أُخِذَ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ كَالْجِزْيَةِ، وَالْخَرَاجِ الصُّلْحِيِّ، وَالْعُشُورِ.وَالْفَيْءُ أَعَمُّ مِنَ الْخَرَاجِ.

ج- الْجِزْيَةُ:

8- الْجِزْيَةُ مَالٌ يُوضَعُ عَلَى الرُّءُوسِ لَا عَلَى الْأَرْضِ، وَالْخَرَاجُ يُوضَعُ عَلَى رَقَبَةِ الْأَرْضِ.

د- الْخُمُسُ:

9- الْخُمُسُ فِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَالرِّكَازِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُخَمَّسُ.

هـ- الْعُشْرُ:

10- الْعُشْرُ فِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ اسْمٌ لِلْمَأْخُوذِ مِنَ الْمُسْلِمِ فِي زَكَاةِ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ.وَالْعُشْرُ يَتَّفِقُ مَعَ خَرَاجِ الْمُقَاسَمَةِ فِي أَنَّهُمَا يَجِبَانِ فِي الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ الزِّرَاعِيَّةِ.

وَيَخْتَلِفَانِ فِي مَحَلِّهِمَا، فَمَحَلُّ الْعُشْرِ الْأَرْضُ الْعُشْرِيَّةُ الَّتِي يَمْلِكُهَا مُسْلِمٌ، وَمَحَلُّ الْخَرَاجِ الْأَرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ.

الْخَرَاجُ فِي الْإِسْلَامِ:

11- لَمَّا آلَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-، وَازْدَادَتِ الْفُتُوحَاتُ الْإِسْلَامِيَّةُ، وَاتَّسَعَتْ رُقْعَةُ الدَّوْلَةِ، وَزَادَتْ نَفَقَاتُهَا، رَأَى عُمَرُ- رضي الله عنه- أَنْ لَا يَقْسِمَ الْأَرْضَ الْمَفْتُوحَةَ عَنْوَةً بَيْنَ الْفَاتِحِينَ، بَلْ يَجْعَلُهَا وَقْفًا عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَيَضْرِبُ عَلَى مَنْ يَقُومُ بِزِرَاعَتِهَا خَرَاجًا مَعْلُومًا.فَوَافَقَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ، وَخَالَفَهُ آخَرُونَ فِي بِدَايَةِ الْأَمْرِ.

قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَشَاوَرَهُمْ فِي قِسْمَةِ الْأَرَضِينَ الَّتِي أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ فَتَكَلَّمَ قَوْمٌ فِيهَا، وَأَرَادُوا أَنْ يَقْسِمَ لَهُمْ حُقُوقَهُمْ وَمَا فَتَحُوا.فَقَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: فَكَيْفَ بِمَنْ يَأْتِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَجِدُونَ الْأَرْضَ بِعُلُوجِهَا قَدِ اقْتُسِمَتْ وَوُرِثَتْ عَنِ الْآبَاءِ وَحِيزَتْ، مَا هَذَا بِرَأْيٍ.فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ- رضي الله عنه-: فَمَا الرَّأْيُ؟ مَا الْأَرْضُ وَالْعُلُوجُ إِلاَّ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.فَقَالَ عُمَرُ: مَا هُوَ إِلاَّ كَمَا تَقُولُ، وَلَسْتُ أَرَى ذَلِكَ، وَاللَّهِ لَا يُفْتَحُ بَعْدِي بَلَدٌ فَيَكُونُ فِيهِ كَبِيرُ نَيْلٍ، بَلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ كُلًّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ.فَإِذَا قُسِمَتْ أَرْضُ الْعِرَاقِ بِعُلُوجِهَا، وَأَرْضُ الشَّامِ بِعُلُوجِهَا، فَمَا يُسَدُّ بِهِ الثُّغُورُ، وَمَا يَكُونُ لِلذُّرِّيَّةِ وَالْأَرَامِلِ بِهَذَا وَبِغَيْرِهِ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ؟ فَأَكْثَرُوا عَلَى عُمَرَ- رضي الله عنه-، وَقَالُوا: أَتَقِفُ مَا أَفَاءَ اللَّهُ بِأَسْيَافِنَا عَلَى قَوْمٍ لَمْ يَحْضُرُوا وَلَمْ يَشْهَدُوا، وَلِأَبْنَاءِ الْقَوْمِ وَلآِبَاءِ أَبْنَائِهِمْ وَلَمْ يَحْضُرُوا؟.

وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ- رحمه الله- أَنَّ بِلَالَ بْنَ رَبَاحٍ كَانَ مِنْ أَشَدِّ الصَّحَابَةِ وَأَكْثَرِهِمْ تَمَسُّكًا بِالرَّأْيِ الْمُخَالِفِ، حَتَّى قَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِلَالًا وَأَصْحَابَهُ « وَمَكَثُوا فِي ذَلِكَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً أَوْ دُونَ ذَلِكَ وَعُمَرُ- رضي الله عنه- يُحَاجُّهُمْ إِلَى أَنْ وَجَدَ مَا يُؤَيِّدُ رَأْيَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: قَدْ وَجَدْتُ حُجَّةً، قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} حَتَّى فَرَغَ مِنْ شَأْنِ بَنِي النَّضِيرِ فَهَذِهِ عَامَّةٌ فِي الْقُرَى كُلِّهَا.ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ثُمَّ قَالَ {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}.ثُمَّ لَمْ يَرْضَ حَتَّى خُلِطَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ فَقَالَ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فَهَذَا فِيمَا بَلَغَنَا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- لِلْأَنْصَارِ خَاصَّةً، ثُمَّ لَمْ يَرْضَ حَتَّى خُلِطَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ فَقَالَ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} فَكَانَتْ هَذِهِ عَامَّةً لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، فَقَدْ صَارَ الْفَيْءُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا فَكَيْفَ نَقْسِمُهُ لِهَؤُلَاءِ، وَنَدَعُ مَنْ تَخَلَّفَ بَعْدَهُمْ بِغَيْرِ قَسْمٍ؟.قَالُوا: فَاسْتَشِرْ.فَاسْتَشَارَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ فَاخْتَلَفُوا، فَأَمَّا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ- رضي الله عنه- فَكَانَ رَأْيُهُ أَنْ يَقْسِمَ لَهُمْ حُقُوقَهُمْ.وَرَأْيُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهم- رَأْيُ عُمَرَ.فَأَرْسَلَ إِلَى عَشَرَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: خَمْسَةٍ مِنَ الْأَوْسِ، وَخَمْسَةٍ مِنَ الْخَزْرَجِ مِنْ كُبَرَائِهِمْ وَأَشْرَافِهِمْ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي لَمْ أُزْعِجْكُمْ إِلاَّ لأَنْ تَشْتَرِكُوا فِي أَمَانَتِي فِيمَا حُمِّلْتُ مِنْ أُمُورِكُمْ، فَإِنِّي وَاحِدٌ كَأَحَدِكُمْ، وَأَنْتُمُ الْيَوْمَ تُقِرُّونَ بِالْحَقِّ، خَالَفَنِي مَنْ خَالَفَنِي، وَوَافَقَنِي مَنْ وَافَقَنِي، وَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَتَّبِعُوا هَذَا الَّذِي هُوَ هَوَايَ، مَعَكُمْ مِنَ اللَّهِ كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ كُنْتُ نَطَقْتُ بِأَمْرٍ أُرِيدُهُ مَا أُرِيدُ بِهِ إِلاَّ الْحَقَّ ».قَالُوا: نَسْمَعُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.قَالَ: قَدْ سَمِعْتُمْ كَلَامَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنِّي أَظْلِمُهُمْ حُقُوقَهُمْ.وَإِنِّي أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَرْكَبَ ظُلْمًا، لَئِنْ كُنْتُ ظَلَمْتُهُمْ شَيْئًا هُوَ لَهُمْ وَأَعْطَيْتُهُ غَيْرَهُمْ لَقَدْ شَقِيتُ وَلَكِنْ رَأَيْتُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ يُفْتَحُ بَعْدَ كِسْرَى، وَقَدْ غَنَّمَنَا اللَّهُ أَمْوَالَهُمْ، وَأَرْضَهُمْ، وَعُلُوجَهُمْ، فَقَسَمْتُ مَا غَنِمُوا مِنْ أَمْوَالٍ بَيْنَ أَهْلِهِ وَأَخْرَجْتُ الْخُمُسَ فَوَجَّهْتُهُ عَلَى وَجْهِهِ وَأَنَا فِي تَوْجِيهِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَحْبِسَ الْأَرَضِينَ بِعُلُوجِهَا، وَأَضَعَ عَلَيْهِمْ فِيهَا الْخَرَاجَ، وَفِي رِقَابِهِمُ الْجِزْيَةُ يُؤَدُّونَهَا فَتَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ، الْمُقَاتِلَةِ وَالذُّرِّيَّةِ وَلِمَنْ يَأْتِي مِنْ بَعْدِهِمْ.أَرَأَيْتُمْ هَذِهِ الثُّغُورَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ رِجَالٍ يَلْزَمُونَهَا، أَرَأَيْتُمْ هَذِهِ الْمُدُنَ الْعِظَامَ- كَالشَّامِّ، وَالْجَزِيرَةِ وَالْكُوفَةِ، وَالْبَصْرَةِ، وَمِصْرَ- لَا بُدَّ لَهَا مِنْ أَنْ تُشْحَنَ بِالْجُيُوشِ، وَإِدْرَارِ الْعَطَاءِ عَلَيْهِمْ، فَمِنْ أَيْنَ يُعْطَى هَؤُلَاءِ إِذَا قُسِمَتِ الْأَرْضُونَ وَالْعُلُوجُ؟ فَقَالُوا جَمِيعًا: الرَّأْيُ رَأْيُكَ فَنِعْمَ مَا قُلْتَ وَمَا رَأَيْتَ إِنْ لَمْ تُشْحَنْ هَذِهِ الثُّغُورُ وَهَذِهِ الْمُدُنُ بِالرِّجَالِ وَتَجْرِي عَلَيْهِمْ مَا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ رَجَعَ أَهْلُ الْكُفْرِ إِلَى مُدُنِهِمْ فَقَالَ: قَدْ بَانَ لِي الْأَمْرُ، فَمِنْ رَجُلٍ لَهُ جَزَالَةٌ، وَعَقْلٌ، يَضَعُ الْأَرْضَ مَوَاضِعَهَا، وَيَضَعُ عَلَى الْعُلُوجِ مَا يَحْتَمِلُونَ؟ فَاجْتَمَعُوا عَلَى عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ وَقَالُوا: تَبْعَثُهُ إِلَى أَهَمَّ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ لَهُ بَصَرًا وَعَقْلًا وَتَجْرِبَةً فَأَسْرَعَ إِلَيْهِ عُمَرُ فَوَلاَّهُ مِسَاحَةَ أَرْضِ السَّوَادِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْخَرَاجِ:

12- الْخَرَاجُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ بِيَدِهِ أَرْضٌ خَرَاجِيَّةٌ نَامِيَةٌ سَوَاءٌ أَكَانَ مُسْلِمًا، أَمْ كَافِرًا، صَغِيرًا أَمْ كَبِيرًا، عَاقِلًا، أَمْ مَجْنُونًا، رَجُلًا، أَمِ امْرَأَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَرَاجَ مَئُونَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ، وَهُمْ فِي حُصُولِ النَّمَاءِ سَوَاءٌ.

أَدِلَّةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْخَرَاجِ:

13- يَسْتَنِدُ اجْتِهَادُ الْإِمَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- فِي تَشْرِيعِ الْخَرَاجِ إِلَى الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَالْمَصْلَحَةِ.

1- الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ:

بَيَّنَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا الْإِمَامُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-، حُكْمَ مَسْأَلَةِ وَقْفِ أَرْضِ السَّوَادِ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.

2- السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ:

أ- رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- « مَنَعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا، وَمَنَعَتِ الشَّامُ مُدْيَهَا وَدِينَارَهَا، وَمَنَعَتْ مِصْرُ إِرْدَبَّهَا وَدِينَارَهَا، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ » شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ لَحْمُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَدَمُهُ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ لِإِخْبَارِهِ بِمَا سَيَكُونُ مِنْ مُلْكِ الْمُسْلِمِينَ هَذِهِ الْأَقَالِيمَ وَوَضْعِهِمُ الْجِزْيَةَ وَالْخَرَاجَ، ثُمَّ بُطْلَانِ ذَلِكَ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ عَلِمَ أَنَّ الصَّحَابَةَ ( (سَيَضَعُونَ الْخَرَاجَ عَلَى الْأَرْضِ وَلَمْ يُرْشِدْهُمْ إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ، بَلْ قَرَّرَهُ وَحَكَاهُ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ: يُرِيدُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ الْقَفِيزَ وَالدِّرْهَمَ قَبْلَ أَنْ يَضَعَهُ عُمَرُ عَلَى الْأَرْضِ «.

ب- رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ: « قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- خَيْبَرَ نِصْفَيْنِ، نِصْفًا لِنَوَائِبِهِ وَحَاجَتِهِ، وَنِصْفًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قَسَمَهَا بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا ».

فَالْحَدِيثُ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِمَا وَقَعَ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي شَأْنِ خَيْبَرَ حَيْثُ وَقَفَ نِصْفَهَا لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ.وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً.

3- الْمَصْلَحَةُ:

رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- أَنَّ مِنَ الْمَصْلَحَةِ عَدَمَ تَقْسِيمِ الْأَرَاضِي الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً، وَوَقْفَهَا عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَضَرْبَ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا.وَأَهَمُّ مَا تَقْضِي بِهِ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ.

أ- تَأْمِينُ مَوْرِدٍ مَالِيٍّ ثَابِتٍ لِلْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ

بِأَجْيَالِهَا الْمُتَعَاقِبَةِ وَمُؤَسَّسَاتِهَا الْمُخْتَلِفَةِ:

نَظَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- إِلَى مُسْتَقْبَلِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَأَجْيَالِهَا الْقَادِمَةِ، فَرَأَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْهَا سَيَقَعُ فِي شَظَفِ الْعَيْشِ وَالْحِرْمَانِ، إِذَا مَا قُسِمَتْ تِلْكَ الْأَرَاضِي الْمَفْتُوحَةُ عَنْوَةً وَوُزِّعَتْ عَلَى الْفَاتِحِينَ.وَلِهَذَا رَأَى عَدَمَ التَّقْسِيمِ، وَوَقَفَ الْأَرَضِينَ، وَضَرَبَ الْخَرَاجَ عَلَيْهَا لِيَكُونَ مَوْرِدًا مَالِيًّا ثَابِتًا لِلْأَجْيَالِ الْقَادِمَةِ.

وَقَالَ: لَوْلَا أَنْ أَتْرُكَ آخِرَ النَّاسِ بَبَّانًا لَيْسَ لَهُمْ مِنْ شَيْءٍ مَا فُتِحَتْ عَلَيَّ قَرْيَةٌ إِلاَّ قَسَمْتُهَا كَمَا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- خَيْبَرَ، وَلَكِنْ أَتْرُكُهَا خِزَانَةً لَهُمْ.

ب- تَوْزِيعُ الثَّرْوَةِ وَعَدَمُ حَصْرِهَا فِي فِئَةٍ مُعَيَّنَةٍ:

كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}

وَقَدْ أَشَارَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ- رضي الله عنه- عَلَى عُمَرَ- رضي الله عنه-، لَمَّا رَأَى إِصْرَارَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ عَلَى التَّقْسِيمِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهِ إِذًا لَيَكُونَنَّ مَا تَكْرَهُ.إِنَّكَ إِنْ قَسَمْتَهَا صَارَ الرِّيعُ الْعَظِيمُ فِي أَيْدِي الْقَوْمِ يُبِيدُونَهُ فَيَصِيرُ ذَلِكَ إِلَى الرَّجُلِ الْوَاحِدِ، أَوِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ، ثُمَّ يَأْتِي مَنْ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَسُدُّونَ مِنَ الْإِسْلَامِ مَسَدًّا، فَلَا يَجِدُونَ شَيْئًا، فَانْظُرْ أَمْرًا يَسَعُ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ فَرَضِيَ عُمَرُ قَوْلَ مُعَاذٍ، فَوَقَفَ الْأَرْضَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَضَرَبَ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ، وَأَصْبَحَ يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا بِمَا فِيهِمُ الْفُقَرَاءُ وَالْأَغْنِيَاءُ.

ج- عِمَارَةُ الْأَرْضِ بِالزِّرَاعَةِ وَعَدَمُ تَعْطِيلِهَا:

إِنَّ عِمَارَةَ الْأَرْضِ بِالزِّرَاعَةِ وَالِانْتِفَاعَ بِمَا فِي بَاطِنِهَا مِنْ مَعَادِنَ مَطْلُوبٌ مِنَ النَّاسِ عَامَّةً، وَمِنَ الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً، فَهُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الِاسْتِخْلَافِ الْعَامِّ لِلنَّاسِ فِي الْأَرْضِ {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}.

وَكَانَ قَصْدُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- مِنْ ضَرْبِ الْخَرَاجِ أَنْ تَبْقَى الْأَرْضُ عَامِرَةً بِالزِّرَاعَةِ فَأَهْلُهَا أَقْدَرُ مِنَ الْغَانِمِينَ عَلَى ذَلِكَ لِتَوَفُّرِ الْخِبْرَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الزِّرَاعَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي أَهْلِهَا: يَكُونُونَ عُمَّارَ الْأَرْضِ فَهُمْ أَعْلَمُ بِهَا وَأَقْوَى عَلَيْهَا ».

وَقَدْ سَلَكَ عُمَرُ- رضي الله عنه- فِي ذَلِكَ مَسْلَكَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ وَصَارَتِ الْأَرْضُ وَالْأَمْوَالُ الْمَغْنُومَةُ تَحْتَ يَدِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْعُمَّالِ مَا يَكْفُونَ عِمَارَةَ الْأَرْضِ وَزِرَاعَتَهَا، دَفَعَهَا إِلَى أَهْلِهَا عَلَى أَنْ يَزْرَعُوهَا وَلَهُمْ نِصْفُ ثَمَرَتِهَا.وَبَقِيَتْ عَلَى ذَلِكَ طِيلَةَ حَيَاةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَحَيَاةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ- رضي الله عنه-.حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ- رضي الله عنه- إِلَى الشَّامِ.

أَنْوَاعُ الْخَرَاجِ:

قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْخَرَاجَ- بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ- إِلَى أَنْوَاعٍ:

فَقَسَمُوهُ- بِاعْتِبَارِ الْمَأْخُوذِ مِنَ الْأَرْضِ- إِلَى خَرَاجِ وَظِيفَةٍ، وَمُقَاسَمَةٍ.

وَقَسَمُوهُ- بِاعْتِبَارِ الْأَرْضِ الَّتِي تَخْضَعُ لِلْخَرَاجِ إِلَى خَرَاجٍ عَنْوِيٍّ، وَصُلْحِيٍّ

وَفِيمَا يَلِي هَذِهِ الْأَنْوَاعُ.

1- خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ وَالْمُقَاسَمَةِ:

أ- خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ:

14- يُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ أَيْضًا خَرَاجَ الْمُقَاطَعَةِ وَخَرَاجَ الْمِسَاحَةِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَنْظُرُ إِلَى مِسَاحَةِ الْأَرْضِ وَنَوْعِ مَا يُزْرَعُ عِنْدَ تَوْظِيفِ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا.

وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ شَيْئًا فِي الذِّمَّةِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الزِّرَاعَةِ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَقَعِ الزَّرْعُ بِالْفِعْلِ فَيَجِبُ الْخَرَاجُ عَلَى مَالِكِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ التَّمَكُّنَ مِنَ الِانْتِفَاعِ قَائِمٌ وَهُوَ الَّذِي قَصَّرَ فِي تَحْصِيلِهِ.فَيَتَحَمَّلُ نَتِيجَةَ تَقْصِيرِهِ.

وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْخَرَاجِ هُوَ الَّذِي وَظَّفَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- عَلَى أَرْضِ السَّوَادِ، وَمِصْرَ، وَالشَّامِ.

ب- خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ:

15- هُوَ: أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ جُزْءًا شَائِعًا مِنَ الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ، كَالرُّبُعِ وَالْخُمُسِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْخَرَاجِ يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ لَا بِالتَّمَكُّنِ، فَلَوْ عَطَّلَ الْمَالِكُ الْأَرْضَ لَا يَجِبُ الْخَرَاجُ.

وَقَدْ حَدَثَ هَذَا النَّوْعُ فِي عَهْدِ الْمَهْدِيِّ بْنِ الْمَنْصُورِ الْعَبَّاسِيِّ (عَامَ 169 هـ) حَيْثُ قَرَّرَهُ بَدَلًا مِنْ خَرَاجِ الْوَظِيفَةِ الَّذِي كَانَ مَعْمُولًا بِهِ مُنْذُ زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-.

قَالَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ: (أَمَّا مُقَاسَمَةُ السَّوَادِ فَإِنَّ النَّاسَ سَأَلُوهَا السُّلْطَانَ فِي آخِرِ خِلَافَةِ الْمَنْصُورِ (عَامَ 158 هـ) فَقُبِضَ قَبْلَ أَنْ يُقَاسِمُوا، ثُمَّ أَمَرَ الْمَهْدِيَّ بِهَا فَقُوسِمُوا فِيهَا دُونَ عَقَبَةَ حُلْوَانَ).

أَمَّا الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى الْفَرَّاءُ فَقَدْ ذَكَرَا وَجْهًا آخَرَ فِي سَبَبِ تَغْيِيرِ خَرَاجِ الْوَظِيفَةِ الَّذِي فَرَضَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- إِلَى خَرَاجِ مُقَاسَمَةٍ حَيْثُ قَالَا: (وَلَمْ يَزَلِ السَّوَادُ عَلَى الْمِسَاحَةِ وَالْخَرَاجِ إِلَى أَنْ عَدَلَ بِهِمُ الْخَلِيفَةُ الْمَنْصُورُ فِي الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ عَنِ الْخَرَاجِ إِلَى الْمُقَاسَمَةِ؛ لِأَنَّ السِّعْرَ نَقَصَ، فَلَمْ تَفِ الْغَلاَّتُ بِخَرَاجِهَا، وَخَرِبَ السَّوَادُ، فَجَعَلَهُ مُقَاسَمَةً، وَأَشَارَ وَزِيرُ الْمَهْدِيِّ أَنْ يَجْعَلَ أَرْضَ الْخَرَاجِ مُقَاسَمَةً).

وَالْفَرْقُ بَيْنَ خَرَاجِ الْوَظِيفَةِ، وَخَرَاجِ الْمُقَاسَمَةِ أَيْضًا، أَنَّ خَرَاجَ الْوَظِيفَةِ يُؤْخَذُ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي السَّنَةِ، وَلَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ.

أَمَّا خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ فَيَتَكَرَّرُ أَخْذُهُ بِتَكَرُّرِ الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ.

2- الْخَرَاجُ الصُّلْحِيُّ وَالْعَنَوِيُّ:

أ- الْخَرَاجُ الصُّلْحِيُّ:

1 6- هُوَ: (الْخَرَاجُ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي صُولِحَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ لَهُمْ، وَيُقَرُّونَ عَلَيْهَا بِخَرَاجٍ مَعْلُومٍ) قَالَ الْبَاجِيُّ: (فَمَا صَالَحُوا عَلَى بَقَائِهِ بِأَيْدِيهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَهُوَ مَالُ صُلْحٍ، أَرْضًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ).

ب- الْخَرَاجُ الْعَنْوِيُّ:

17- هُوَ الْخَرَاجُ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي افْتُتِحَتْ عَنْوَةً بَعْدَ أَنْ وَقَفَهَا الْإِمَامُ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.

وَيَدْخُلُ فِي هَذَا النَّوْعِ الْخَرَاجُ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي جَلَا عَنْهَا أَهْلُهَا خَوْفًا وَفَزَعًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.وَكَذَا الْخَرَاجُ الَّذِي يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي صُولِحَ أَهْلُهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ وَيُقَرُّونَ عَلَيْهَا بِخَرَاجٍ مَعْلُومٍ.

قَالَ الْبَاجِيُّ: (وَمَا صَالَحُوا بِهِ أَوْ أَعْطَوْهُ عَلَى إِقْرَارِهِمْ فِي بِلَادِهِمْ وَتَأْمِينِهِمْ كَانَ أَرْضًا أَوْ غَيْرَهُ)، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَالِ صُلْحٍ، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ حَرْبٍ قُوتِلُوا حَتَّى صَالَحُوا عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ حَقٌّ وَيُؤَمَّنُونَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْبَلَدِ أَوِ الْمُقَامِ بِهِ عَلَى الذِّمَّةِ، لَمَّا كَانَتْ تِلْكَ أَرْضَ صُلْحٍ، وَإِنَّمَا تَكُونُ أَرْضَ صُلْحٍ مَا صُولِحُوا عَلَى بَقَائِهَا بِأَيْدِيهِمْ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ ذَلِكَ حَرْبٌ، أَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ حَرْبٌ.

وَأَمَّا الْعَنْوَةُ فَهِيَ الْغَلَبَةُ، فَكُلُّ مَالٍ صَارَ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى وَجْهِ الْغَلَبَةِ مِنْ أَرْضٍ أَوْ عَيْنٍ دُونَ اخْتِيَارِ مَنْ غُلِبَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفَّارِ فَهُوَ أَرْضُ عَنْوَةٍ سَوَاءٌ دَخَلْنَا الدَّارَ غَلَبَةً، أَمْ أُجْلُوا عَنْهَا مَخَافَةَ الْمُسْلِمِينَ، تَقَدَّمَتْ فِي ذَلِكَ حَرْبٌ، أَمْ لَمْ تَتَقَدَّمْ، أَقَرَّ أَهْلُهَا فِيهَا أَمْ نُقِلُوا عَنْهَا..وَقَالَ أَيْضًا: (وَمُرَادُنَا بِالصُّلْحِ وَالْعَنْوَةِ أَنَّ الْأَرْضَ آلَ حَالُهَا إِلَى أَنِ اسْتَقَرَّتْ بِأَيْدِي أَرْبَابِهَا بِصُلْحٍ صَالَحُوا عَلَيْهَا أَوْ زَالَ عَنْهَا مُلْكُهُمْ بِالْعَنْوَةِ وَالْغَلَبَةِ).

أَنْوَاعُ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ:

18- النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الْأَرْضُ الَّتِي صَالَحَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَهَا عَلَيْهَا وَهِيَ نَوْعَانِ:

الْأَوَّلُ: أَنْ يَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لِأَهْلِهَا، وَلِلْمُسْلِمِينَ الْخَرَاجُ، فَهِيَ مَمْلُوكَةٌ لِأَهْلِهَا وَتُعْتَبَرُ أَرْضًا خَرَاجِيَّةً.

وَالثَّانِي: أَنْ يَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لِلْمُسْلِمِينَ وَيُقَرُّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا بِخَرَاجٍ مَعْلُومٍ.

19- النَّوْعُ الثَّانِي: الْأَرْضُ الَّتِي جَلَا عَنْهَا أَهْلُهَا خَوْفًا وَفَزَعًا وَبِدُونِ قِتَالٍ.فَهِيَ أَرْضٌ خَرَاجِيَّةٌ وَتَصِيرُ وَقْفًا عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا فَيْءٌ وَلَيْسَتْ غَنِيمَةً.وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ إِلَى أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْأَرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً فَلَا تَصِيرُ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ بِوَقْفِ الْإِمَامِ لَهَا؛ لِأَنَّهَا مَالٌ ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِقُوَّتِهِمْ فَلَا يَكُونُ وَقْفًا بِنَفْسِ الِاسْتِيلَاءِ كَالْمَنْقُولِ.

أَمَّا أَرْضُ الْعَرَبِ فَكُلُّهَا أَرْضٌ عُشْرِيَّةٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- عليه الصلاة والسلام- وَالْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ لَمْ يَأْخُذُوا الْخَرَاجَ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ، وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْفَيْءِ فَلَا يَثْبُتُ فِي أَرَاضِيِهِمْ، كَمَا لَا تَثْبُتُ الْجِزْيَةُ فِي رِقَابِهِمْ، وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (أَرْضٌ، وَأَرْضُ الْعَرَبِ).

النَّوْعُ الثَّالِثُ: الْأَرْضُ الَّتِي افْتَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً:

20- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْسِيمِ الْأَرْضِ الَّتِي افْتُتِحَتْ عَنْوَةً بَيْنَ الْفَاتِحِينَ.

فَيَرَى بَعْضُهُمْ وُجُوبَ تَقْسِيمِهَا، وَيَرَى آخَرُونَ وَقْفَهَا، وَيَرَى بَعْضُهُمْ تَخْيِيرَ الْإِمَامِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ.رَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (أَرْضٌ).

شُرُوطُ الْأَرْضِ الَّتِي تَخْضَعُ لِلْخَرَاجِ:

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ خَرَاجِيَّةً.

21- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي تَخْضَعُ لِوَظِيفَةِ الْخَرَاجِ، لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ خَرَاجِيَّةً، وَلِذَا فَلَا تَجِبُ وَظِيفَةُ الْخَرَاجِ عَلَى الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ، كَالْأَرْضِ الَّتِي أَسْلَمَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا طَوْعًا.

وَالْأَرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ: هِيَ الْأَرْضُ الَّتِي صُولِحَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا، وَكَذَا الْأَرْضُ الَّتِي جَلَا عَنْهَا أَهْلُهَا خَوْفًا وَفَزَعًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْأَرْضُ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً وَتَرَكَهَا الْإِمَامُ فِي أَيْدِي أَهْلِهَا يَزْرَعُونَهَا وَيَنْتَفِعُونَ بِهَا بِخَرَاجٍ مَعْلُومٍ، سَوَاءٌ أَسْلَمَ أَهْلُهَا بَعْدَ فَتْحِهَا أَوْ لَمْ يُسْلِمُوا.

الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ نَامِيَةً.

22- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ، فَلَا تَخْضَعُ الْأَرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ لِوَظِيفَةِ الْخَرَاجِ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ نَامِيَةً.

وَالنَّمَاءُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقِيقِيًّا، بِأَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ مُغِلَّةً بِالْفِعْلِ، كَأَنْ تَكُونَ مَزْرُوعَةً بِالْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ كَالنَّخِيلِ وَالْعِنَبِ وَغَيْرِهِمَا.

وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّمَاءُ تَقْدِيرِيًّا، بِأَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ بَيْضَاءَ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ.وَصَلَاحِيَّتُهَا لِلزِّرَاعَةِ بِأَنْ تَكُونَ تُرْبَتُهَا قَابِلَةً لِلزِّرَاعَةِ، وَأَنْ يَنَالَهَا الْمَاءُ.

وَلِذَا فَلَا يَجِبُ الْخَرَاجُ فِي الْأَرْضِ الْمَبْنِيَّةِ مَسَاكِنَ وَدُورًا، وَلَا فِي الْأَرْضِ الْمَوَاتِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ، كَأَنْ تَكُونَ نَزَّةً- لَا تُمْسِكُ الْمَاءَ- أَوْ سَبِخَةً، لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي الزِّرَاعَةِ، وَلِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- لَمْ يُدْخِلْهَا فِي الْوَقْفِ، وَلَمْ يَفْرِضْ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ.

رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: وَضَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ عَامِرٍ أَوْ غَامِرٍ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا، وَعَلَى جَرِيبِ الرَّطْبَةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَخَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ، وَعَلَى جَرِيبِ الشَّجَرَةِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَعَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ.

وَقَدْ عَلَّقَ أَبُو عُبَيْدٍ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: (وَفِي تَأْوِيلِ حَدِيثِ عُمَرَ مِنَ الْعِلْمِ أَنَّهُ جَعَلَ الْخَرَاجَ عَلَى الْأَرَضِينَ الَّتِي تُغِلُّ مِنْ ذَوَاتِ الْحَبِّ وَالثِّمَارِ، وَالَّتِي تَصْلُحُ لِلْغَلَّةِ مِنَ الْعَامِرِ وَالْغَامِرِ، وَعَطَّلَ مِنْ ذَلِكَ الْمَسَاكِنَ وَالدُّورَ الَّتِي هِيَ مَنَازِلُهُمْ فَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهَا فِيهَا شَيْئًا).

وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ بِمَثَابَةِ أُجْرَةِ الْأَرْضِ وَمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لَا أَجْرَ لَهُ.

انْتِقَالُ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ إِلَى الذِّمِّيِّ، وَمَا يَجِبُ فِيهَا:

23- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ بَيْعِ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ مِنَ الذِّمِّيِّ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا بِالْجَوَازِ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِإِفْضَائِهِ إِلَى إِسْقَاطِ عُشْرِ الْخَارِجِ مِنْهَا.

وَاسْتَدَلُّوا لِمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ جَوَازِ بَيْعِ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ لِلذِّمِّيِّ؛ بِأَنَّهَا مَالٌ مَمْلُوكٌ لِلْمُسْلِمِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِ لِلذِّمِّيِّ أَوْ غَيْرِهِ.

وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى مَنْعِ الْمُسْلِمِ مِنْ بَيْعِهَا إِلَى الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ بِانْتِقَالِهَا إِلَى الذِّمِّيِّ يَسْقُطُ الْعُشْرُ فَيَتَضَرَّرُ الْفُقَرَاءُ.

وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَظِيفَةِ الْمَفْرُوضَةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ إِذَا تَمَلَّكُوا الْأَرْضَ الْعُشْرِيَّةَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الرَّاجِحَةِ عِنْدَهُمْ، وَالثَّوْرِيُّ، وَشَرِيكٌ وَأَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً بِمُجَرَّدِ انْتِقَالِهَا إِلَى

الذِّمِّيِّ وَلَا يُفْرَضُ عَلَيْهَا عُشْرٌ، وَلَا خَرَاجٌ لِفَقْدِ مُوجِبِهِمَا.

فَالْخَرَاجُ يَجِبُ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي خَضَعَتْ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْغَلَبَةِ، أَوِ الصُّلْحِ وَلَا يَجِبُ بِالْبَيْعِ وَلَا بِمُجَرَّدِ انْتِقَالِهَا إِلَى ذِمِّيٍّ.

وَالْعُشْرُ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ عِبَادَةٌ، وَالذِّمِّيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا.

كَمَا قَاسُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى مَسْأَلَةِ انْتِقَالِ الْحَيَوَانَاتِ السَّائِمَةِ إِلَى الذِّمِّيِّ فَكَمَا تَسْقُطُ زَكَاةُ السَّائِمَةِ بِانْتِقَالِهَا إِلَى الذِّمِّيِّ، يَسْقُطُ الْعُشْرُ عَنِ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ بِانْتِقَالِهَا إِلَى الذِّمِّيِّ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ إِلَى أَنَّهَا تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً، وَيُؤْخَذُ مِنَ الذِّمِّيِّ الَّذِي انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ الْخَرَاجُ لَا الْعُشْرُ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ فِي مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَالذِّمِّيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعُشْرُ كَمَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ الْمَعْهُودَةُ، وَلِهَذَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً.وَإِذَا تَعَذَّرَ إِيجَابُ الْعُشْرِ وَجَبَ الْخَرَاجُ إِذْ لَا بُدَّ مِنْ فَرْضِ وَظِيفَةٍ عَلَى الْأَرْضِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.

وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي وَقْتِ صَيْرُورَتِهَا خَرَاجِيَّةً، فَفِي رِوَايَةٍ تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً بِالشِّرَاءِ.وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَا تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً مَا لَمْ يُوضَعْ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْخَرَاجُ إِذَا مَضَتْ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ مُدَّةٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا، سَوَاءٌ زَرَعَ أَمْ لَمْ يَزْرَعْ.

وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهَا تُعْتَبَرُ خَرَاجِيَّةً وَيُؤْخَذُ مِنَ الذِّمِّيِّ الْعُشْرُ مُضَاعَفًا، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ- رضي الله عنه- مَعَ نَصَارَى تَغْلِبَ.وَلِأَنَّ انْتِقَالَهَا إِلَى الذِّمِّيِّ يُؤَدِّي إِلَى إِسْقَاطِ الْعُشْرِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى الْإِضْرَارِ بِالْفُقَرَاءِ، فَإِذَا تَعَرَّضَ أَهْلُ الذِّمَّةِ لِذَلِكَ ضُوعِفَ عَلَيْهِمُ الْعُشْرُ كَمَا لَوِ اتَّجَرُوا بِأَمْوَالِهِمْ إِلَى غَيْرِ بَلَدِهِمْ ضُوعِفَتْ عَلَيْهِمُ الزَّكَاةُ فَأُخِذَ مِنْهُمْ نِصْفُ الْعُشْرِ.وَيُوضَعُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ.

وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ إِلَى أَنَّهَا تَبْقَى عُشْرِيَّةً، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ سِوَى الْعُشْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ أَرْضٍ ابْتَدَأَتْ بِضَرْبِ حَقٍّ عَلَيْهَا لَا يَتَبَدَّلُ الْحَقُّ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ، كَالْخَرَاجِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَئُونَةُ الْأَرْضِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمَالِكِ، حَتَّى يَجِبَ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ، فَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَالِكِ.

وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي مَوْضِعِ الْمَأْخُوذِ وَمَصْرِفِهِ، فَقِيلَ: يُوضَعُ مَوْضِعَ الصَّدَقَةِ لِأَنَّهُ قَدْرُ الْوَاجِبِ لَمْ يَتَغَيَّرْ عِنْدَهُ، فَلَمْ تَتَغَيَّرْ صِفَتُهُ أَيْضًا.

وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ، لِأَنَّ مَالَ الصَّدَقَةِ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ لِكَوْنِهِ مَالًا مَأْخُوذًا مِنْ كَافِرٍ، فَيُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ.

وَذَهَبَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إِلَى وُجُوبِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ مَعًا، فَأَمَّا الْعُشْرُ فَاسْتِصْحَابًا، وَأَمَّا الْخَرَاجُ فَغُرْمٌ يَلْحَقُهُ بِمَصِيرِهَا إِلَيْهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


258-موسوعة الفقه الكويتية (خراج 3)

خَرَاجٌ -3

آدَابُ عَامِلِ الْخَرَاجِ:

1- الرِّفْقُ بِأَهْلِ الْخَرَاجِ:

50- يَنْبَغِي لِعَامِلِ الْخَرَاجِ أَنْ يَكُونَ رَفِيقًا بِأَهْلِ الْخَرَاجِ.وَمِنْ مَظَاهِرِ الرِّفْقِ فِي اسْتِيفَاءِ الْخَرَاجِ أَيْضًا أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِالْخَرَاجِ كُلَّمَا خَرَجَتْ غَلَّةٌ، فَيَأْخُذَهُمْ بِقَدْرِ ذَلِكَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ تَمَامَ الْخَرَاجِ فِي آخِرِ الْغَلَّةِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يُوَزِّعَ الْخَرَاجَ عَلَى قَدْرِ الْغَلَّةِ، حَتَّى إِنَّ الْأَرْضَ إِذَا كَانَتْ تُزْرَعُ فِي الرَّبِيعِ وَالْخَرِيفِ قَسَمَ الْخَرَاجَ نِصْفَيْنِ، فَيَأْخُذُ نِصْفَ الْخَرَاجِ مِنْ غَلَّةِ الرَّبِيعِ، وَيُؤَخِّرُ النِّصْفَ الثَّانِيَ إِلَى غَلَّةِ الْخَرِيفِ.

2- الْعَدْلُ وَالْإِنْصَافُ:

51- يَجِبُ عَلَى عَامِلِ الْخَرَاجِ أَنْ يَكُونَ عَادِلًا فِي وَضْعِ الْخَرَاجِ، وَتَقْدِيرِهِ، فَيُسَاوِي بَيْنَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ، وَلَا يُحَابِي الْقَرِيبَ عَلَى الْبَعِيدِ، وَلَا الشَّرِيفَ عَلَى الْوَضِيعِ، وَيَأْخُذُ مِنْهُمُ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ.

3- الْعِفَّةُ:

52- يَجِبُ عَلَى عَامِلِ الْخَرَاجِ أَنْ يَكُونَ عَفِيفَ النَّفْسِ، فَلَا يَطْلُبُ رِشْوَةً مِنْ أَحَدٍ، وَلَا يَقْبَلُ هَدِيَّةً مِنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: « لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ ».

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الرَّاشِي الْمُعْطِي، وَالْمُرْتَشِي الْآخِذُ.وَإِنَّمَا يَلْحَقُهُمَا الْعُقُوبَةُ مَعًا إِذَا اسْتَوَيَا فِي الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ.فَرِشَا الْمُعْطِي لِيَنَالَ بِهِ بَاطِلًا وَيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى ظُلْمٍ.فَأَمَّا إِذَا أَعْطَى لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى حَقٍّ أَوْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ ظُلْمًا، فَإِنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي هَذَا الْوَعِيدِ.وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَخَذَ فِي شَيْءٍ وَهُوَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَأَعْطَى دِينَارَيْنِ حَتَّى خُلِّيَ سَبِيلُهُ.

وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعَطَاءٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا بَأْسَ أَنْ يُصَانِعَ الرَّجُلُ عَنْ نَفْسِهِ، وَمَالِهِ، إِذَا خَافَ الظُّلْمَ.

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: « اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- رَجُلًا مِنَ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي.فَقَالَ: فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ، أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ شَيْئًا إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ.ثُمَّ رَفَعَ بِيَدِهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبِطَيْهِ.

اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ.اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ.ثَلَاثًا ».

فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَدَايَا الَّتِي يُقَدِّمُهَا أَهْلُ الْخَرَاجِ إِلَى الْعُمَّالِ حَرَامٌ.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ هَدَايَا الْعُمَّالِ سُحْتٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ سَبِيلُهَا سَبِيلَ سَائِرِ الْهَدَايَا الْمُبَاحَاتِ، وَإِنَّمَا يُهْدَى إِلَيْهِ لِلْمُحَابَاةِ، وَلِيُخَفِّفَ عَنِ الْمُهْدِي، وَيُسَوِّغَ لَهُ بَعْضَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَهُوَ خِيَانَةٌ مِنْهُ، وَبَخْسٌ لِلْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ اسْتِيفَاؤُهُ لِأَهْلِهِ.

وَاجِبُ الْإِمَامِ تُجَاهَ عُمَّالِ الْخَرَاجِ:

1- الرِّقَابَةُ الْفَعَّالَةُ عَلَى عُمَّالِ الْخَرَاجِ:

53- لِضَمَانِ تَحْقِيقِ الْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ هُنَاكَ رِقَابَةٌ فَعَّالَةٌ عَلَى عُمَّالِ الْخَرَاجِ.وَقَدْ نَصَحَ أَبُو يُوسُفَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونَ الرَّشِيدَ بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: وَأَنَا أَرَى أَنْ تَبْعَثَ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْعَفَافِ مِمَّنْ يُوثَقُ بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ يَسْأَلُونَ عَنْ سِيرَةِ الْعُمَّالِ وَمَا عَمِلُوا بِهِ فِي الْبِلَادِ وَكَيْفَ جَبَوْا الْخَرَاجَ عَلَى مَا أُمِرُوا بِهِ، وَعَلَى مَا وُظِّفَ عَلَى أَهْلِ الْخَرَاجِ وَاسْتَقَرَّ، فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَكَ وَصَحَّ، أُخِذُوا بِمَا اسْتَفْضَلُوا مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْأَخْذِ حَتَّى يُؤَدُّوهُ بَعْدَ الْعُقُوبَةِ الْمُوجِعَةِ وَالنَّكَالِ حَتَّى لَا يَتَعَدَّوْا مَا أُمِرُوا بِهِ وَمَا عُهِدَ إِلَيْهِمْ فِيهِ.فَإِنَّ كُلَّ مَا عَمِلَ بِهِ وَالِي الْخَرَاجِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْعَسْفِ فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَمَرَ بِهِ، وَقَدْ أَمَرَ بِغَيْرِهِ، وَإِنْ أَحْلَلْتَ بِوَاحِدٍ

مِنْهُمُ الْعُقُوبَةَ الْمُوجِعَةَ انْتَهَى غَيْرُهُ وَاتَّقَى وَخَافَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ هَذَا بِهِمْ تَعَدَّوْا عَلَى أَهْلِ الْخَرَاجِ وَاجْتَرَءُوا عَلَى ظُلْمِهِمْ وَتَعَسُّفِهِمْ وَأَخْذِهِمْ بِمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ.وَإِذَا صَحَّ عِنْدَكَ مِنَ الْعَامِلِ وَالْوَالِي تَعَدٍّ بِظُلْمٍ وَعَسْفٍ وَخِيَانَةٍ لَكَ فِي رَعِيَّتِكَ وَاحْتِجَازِ شَيْءٍ مِنَ الْفَيْءِ، أَوْ خَبَثِ طُعْمَتِهِ، أَوْ سُوءِ سِيرَتِهِ فَحَرَامٌ عَلَيْكَ اسْتِعْمَالُهُ، وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ، وَأَنْ تُقَلِّدَهُ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ رَعِيَّتِكَ، أَوْ تُشْرِكَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِكَ.بَلْ عَاقِبْهُ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةً تَرْدَعُ غَيْرَهُ مِنْ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِمِثْلِ مَا تَعَرَّضَ لَهُ، وَإِيَّاكَ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا دَعْوَةٌ مُجَابَةٌ.

2- ضَرُورَةُ مَنْحِ عُمَّالِ الْخَرَاجِ رَوَاتِبَ تَكْفِيهِمْ:

54- لِاجْتِنَابِ وُقُوعِ عُمَّالِ الْخَرَاجِ فِي الرِّشْوَةِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، لَا بُدَّ أَنْ تُصْرَفَ لَهُمْ أُجُورٌ « رَوَاتِبُ » مُجْزِيَةٌ تَفِي بِحَاجَاتِهِمْ وَتَكْفِي نَفَقَاتِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ: أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنهما-: دَنَّسْتَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا أَبَا عُبَيْدَةَ إِذَا لَمْ أَسْتَعِنْ بِأَهْلِ الدِّينِ عَلَى سَلَامَةِ دِينِي فَبِمَنْ أَسْتَعِينُ؟ قَالَ: أَمَا إِنْ فَعَلْتَ فَأَغْنِهِمْ بِالْعِمَالَةِ عَنِ الْخِيَانَةِ.

يَقُولُ: إِذَا اسْتَعْمَلْتَهُمْ عَلَى شَيْءٍ فَأَجْزِلْ لَهُمْ فِي الْعَطَاءِ وَالرِّزْقِ، لَا يَحْتَاجُونَ.

الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: نِظَامُ التَّقْبِيلِ « التَّضْمِينِ »:

55- نَشَأَ عَنْ تَطْبِيقِ الْخَرَاجِ بَعْضُ الظَّوَاهِرِ الِاقْتِصَادِيَّةِ، كَنِظَامِ التَّقْبِيلِ « التَّضْمِينِ » حَيْثُ بَدَأَ وُجُودُ هَذَا النِّظَامِ فِي الْعَصْرِ الْأُمَوِيِّ، وَانْتَشَرَ فِي الْعَصْرِ الْعَبَّاسِيِّ.وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ عَلَى تَطْبِيقِ هَذَا النِّظَامِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ، أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ الْمَنْصُورَ كَتَبَ إِلَى نَوْفَلِ بْنِ الْفُرَاتِ- عَامِلِ خَرَاجِ مِصْرَ- سَنَةَ 141 هـ أَنِ اعْرِضْ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ ضَمَانَ خَرَاجِ مِصْرَ.فَإِنْ ضَمِنَهُ فَأَشْهِدْ عَلَيْهِ، وَاشْخُصْ إِلَيَّ (أَيْ عُدْ أَنْتَ إِلَيَّ) وَإِنْ أَبَى فَاعْمَلْ عَلَى الْخَرَاجِ.فَعَرَضَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَأَبَى.

وَالتَّقْبِيلُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ قَبَّلَ أَيْ كَفَلَ، يُقَالُ قَبَلَ (بِالْفَتْحِ) إِذَا كَفَلَ أَوْ قَبُلَ (بِالضَّمِّ) إِذَا صَارَ قَبِيلًا أَيْ كَفِيلًا.

وَالتَّقْبِيلُ فِي الِاصْطِلَاحِ: أَنْ يَتَكَفَّلَ شَخْصٌ بِتَحْصِيلِ الْخَرَاجِ، وَأَخْذِهِ لِنَفْسِهِ مُقَابِلَ قَدْرٍ مُحَدَّدٍ يَدْفَعُهُ.وَهُوَ مَا يُعْرَفُ بِاسْمِ نِظَامِ الِالْتِزَامِ.وَقَدْ عَرَّفَهُ أَبُو عُبَيْدٍ بِقَوْلِهِ: أَنْ يَتَقَبَّلَ الرَّجُلُ النَّخْلَ وَالشَّجَرَ، وَالزَّرْعَ النَّابِتَ، قَبْلَ أَنْ يُسْتَحْصَدَ وَيُدْرَكَ.

حُكْمُ التَّقْبِيلِ « التَّضْمِينِ »:

56- لَمْ يَرْتَضِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ هَذَا النِّظَامَ وَاعْتَبَرُوهُ بَاطِلًا غَيْرَ مَشْرُوعٍ.وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ.قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَأَمَّا تَضْمِينُ الْعُمَّالِ لِأَمْوَالِ الْعُشْرِ، وَالْخَرَاجِ، فَبَاطِلٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي الشَّرْعِ حُكْمٌ.

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ- بِسَنَدِهِ- إِلَى جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنه- يَقُولُ: الْقَبَالَاتُ رِبًا وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: الْقَبَالَاتُ حَرَامٌ قَالَ أَحْمَدُ: هُوَ أَنْ يَتَقَبَّلَ بِالْقَرْيَةِ وَفِيهَا الْعُلُوجُ وَالنَّخْلُ، وَمَعْنَاهُ حُكْمُهُ حُكْمُ الرِّبَا وَقَالُوا: يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا النِّظَامِ الظُّلْمُ وَالْعَسْفُ، وَخَرَابُ الدِّيَارِ.وَقَدْ كَتَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ يُحَذِّرُهُ مِنْ تَطْبِيقِ هَذَا النِّظَامِ مَا نَصُّهُ: وَرَأَيْتُ أَنْ لَا تَقْبَلَ شَيْئًا مِنَ السَّوَادِ وَلَا غَيْرِ السَّوَادِ مِنَ الْبِلَادِ، فَإِنَّ الْمُتَقَبِّلَ إِذَا كَانَ فِي قَبَالَتِهِ فَضْلٌ عَنِ الْخَرَاجِ، عَسَفَ بِأَهْلِ الْخَرَاجِ وَحَمَّلَ عَلَيْهِمْ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، وَظَلَمَهُمْ، وَأَخَذَهُمْ بِمَا يُجْحِفُ بِهِمْ لِيَسْلَمَ مِمَّا دَخَلَ فِيهِ، وَفِي ذَلِكَ وَأَمْثَالِهِ خَرَابُ الْبِلَادِ وَهَلَاكُ الرَّعِيَّةِ.

وَالْمُتَقَبِّلُ لَا يُبَالِي بِهَلَاكِهِمْ بِصَلَاحِ أَمْرِهِ فِي قَبَالَتِهِ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَفْضِلَ بَعْدَ أَنْ يَتَقَبَّلَ بِهِ فَضْلًا كَثِيرًا، وَلَيْسَ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِشِدَّةٍ مِنْهُ عَلَى الرَّعِيَّةِ وَضَرْبٍ لَهُمْ شَدِيدٍ، وَإِقَامَتِهِ لَهُمْ فِي الشَّمْسِ وَتَعْلِيقِ الْحِجَارَةِ فِي الْأَعْنَاقِ، وَعَذَابٍ عَظِيمٍ يَنَالُ أَهْلَ الْخَرَاجِ مِمَّا لَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا أَكْرَهُ الْقَبَالَةَ، لِأَنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَحْمِلَ هَذَا الْمُتَقَبِّلُ عَلَى أَهْلِ الْخَرَاجِ مَا لَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَيُعَامِلَهُمْ بِمَا وَصَفْتُ لَكَ فَيَضُرَّ ذَلِكَ بِهِمْ فَيُخَرِّبُوا مَا عَمَّرُوا، وَيَدَعُوهُ فَيَنْكَسِرَ الْخَرَاجُ.

وَالْأَصْلُ فِي كَرَاهَتِهِ هَذَا أَنَّهُ بَيْعُ ثَمَرٍ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ، وَلَمْ يُخْلَقْ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ، فَأَمَّا الْمُعَامَلَةُ عَلَى الثُّلُثِ، وَالرُّبُعِ، وَكِرَاءُ الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ، فَلَيْسَتَا مِنَ الْقَبَالَاتِ وَلَا يَدْخُلَانِ فِيهِمَا، وَقَدْ رُخِّصَ فِي هَذَيْنِ، وَلَا نَعْلَمُ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفُوا فِي كَرَاهَةِ الْقَبَالَةِ.

فَإِذَا أَمِنَ الْإِمَامُ عَدَمَ الظُّلْمِ، وَالْجَوْرِ، وَالْعَسْفِ وَرَضِيَ أَهْلُ الْخَرَاجِ بِهَذَا النِّظَامِ، فَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ جَاءَ أَهْلُ طَسُّوجٍ- نَاحِيَةٍ- أَوْ مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ وَمَعَهُمْ رَجُلٌ مِنَ الْبَلَدِ الْمَعْرُوفِ مُوسِرٌ، فَقَالُوا: هَذَا أَخَفُّ عَلَيْنَا، نُظِرَ فِي ذَلِكَ: فَإِنْ كَانَ صَلَاحًا لِأَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ وَالطَّسُّوجِ، قُبِلَ وَضُمِنَ وَأُشْهِدَ عَلَيْهِ وَصِيرَ مَعَهُ أَمِيرٌ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ يُوثَقُ بِدِينِهِ، وَأَمَانَتِهِ، وَيَجْرِي عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ أَرَادَ ظُلْمَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ، أَوِ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ أَوْ تَحْمِيلَهُ شَيْئًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، مَنَعَهُ الْأَمِيرُ مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْمَنْعِ.

وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَى عَيْنًا بِمَا رَأَى مِنْ ذَلِكَ، وَمَا رَأَى أَنَّهُ أَصْلَحُ لِأَهْلِ الْخَرَاجِ، وَأَوْفَرُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ عَمِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْقَبَالَةِ، وَالْوِلَايَةِ بَعْدَ الْإِعْذَارِ وَالتَّقَدُّمِ إِلَى الْمُتَقَبِّلِ، وَالْوَالِي يَرْفَعُ الظُّلْمَ عَنِ الرَّعِيَّةِ، وَالْوَعِيدُ لَهُ إِنْ حَمَّلَهُمْ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، أَوْ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ فَعَلَ فَفُوا لَهُ بِمَا أَوْعَدَ بِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ زَاجِرًا وَنَاهِيًا لِغَيْرِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

(وَسَيَأْتِي التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: قَبَالَةٌ).

مُسْقِطَاتُ الْخَرَاجِ:

أَوَّلًا: انْعِدَامُ صَلَاحِيَّةِ الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ:

57- الْمَقْصُودُ بِانْعِدَامِ صَلَاحِيَّةِ الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ هُوَ أَنْ يَطْرَأَ عَلَى الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ طَارِئٌ خَارِجٌ عَنْ فِعْلِ الْإِنْسَانِ، يَمْنَعُ صَاحِبَهَا مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا كَانْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنْهَا، أَوْ غَلَبَتِهِ عَلَيْهَا بِحَيْثُ تُصْبِحُ غَيْرَ صَالِحَةٍ لِلزِّرَاعَةِ.

فَإِذَا تَعَرَّضَتِ الْأَرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ لِذَلِكَ سَقَطَ عَنْهَا الْخَرَاجُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْخَرَاجُ الْوَاجِبُ مُقَاسَمَةً، أَمْ وَظِيفَةً، فَيَسْقُطُ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِالْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ حَقِيقَةً وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ.وَيَسْقُطُ خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ.

هَذَا فِي حَالَةِ عَدَمِ إِمْكَانِيَّةِ إِصْلَاحِهَا وَإِعْمَارِهَا، أَمَّا إِذَا أَمْكَنَ إِصْلَاحُهَا وَإِعْمَارُهَا فَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَعْمُرَ الْأَرْضَ وَيُصْلِحَهَا مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ، وَلَا يَجُوزُ إِلْزَامُ أَهْلِهَا بِعِمَارَتِهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ.

فَإِنْ سَأَلَهُمْ أَنْ يُعَمِّرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَيَعْتَدُّ لَهُمْ بِمَا أَنْفَقُوا عَلَيْهَا مِنْ خَرَاجِهَا فَرَضُوا بِذَلِكَ جَازَ.

وَإِذَا كَانَ سَهْمُ الْمَصَالِحِ عَاجِزًا عَنْ سَدِّ نَفَقَاتِ إِصْلَاحِ هَذِهِ الْأَرْضِ أُجْبِرَ أَهْلُهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً لَهُمْ وَلِأَصْحَابِ الْفَيْءِ، وَإِنْ أَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِتِلْكَ الْأَرْضِ بَعْدَ أَنْ بَارَتْ فِي غَيْرِ الزِّرَاعَةِ كَالرَّعْيِ وَالصَّيْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، يُوضَعُ عَلَيْهَا خَرَاجٌ جَدِيدٌ بِحَسَبِ مَا تَحْتَمِلُهُ.

وَهَذِهِ الْأَرْضُ تَخْتَلِفُ عَنْ أَرْضِ الْمَوَاتِ، فَإِنَّ أَرْضَ الْمَوَاتِ مُبَاحَةٌ.

ثَانِيًا: تَعْطِيلُ الْأَرْضِ عَنِ الزِّرَاعَةِ:

58- إِنْ كَانَ التَّعْطِيلُ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ صَاحِبِ الْأَرْضِ، كَأَنْ يَدْهَمَ الْبِلَادَ عَدُوٌّ يَمْنَعُ أَهْلَ الْأَرْضِ مِنْ زِرَاعَتِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا، أَوْ يَلْحَقَهُمْ جَوْرٌ مِنَ الْوُلَاةِ لَمْ تُمْكِنْهُمُ الْإِقَامَةُ عَلَيْهِ.فَهَذَا يُسْقِطُ الْخَرَاجَ عَنْهُمْ حَتَّى تَعُودَ الْأَرْضُ كَمَا كَانَتْ وَيَتَمَكَّنُوا مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا.

وَإِنْ كَانَ التَّعْطِيلُ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْأَرْضِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ، أَوْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ.

فَإِذَا عَطَّلَهَا بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ كَأَنْ يَتْرُكَهَا بِلَا زِرَاعَةٍ وَاسْتِغْلَالٍ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَقَادِرٌ عَلَى زِرَاعَتِهَا سَقَطَ عَنْهُ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ اتِّفَاقًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ خَرَاجَ الْمُقَاسَمَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ حَقِيقَةً وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ.

وَلَا يُقِرُّ الْمُفَرِّطُ عَلَى عَدَمِ اسْتِغْلَالِهِ لِلْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ، بَلْ يُؤْمَرُ بِزِرَاعَتِهَا وَاسْتِغْلَالِهَا لِئَلاَّ يَتَضَرَّرَ أَصْحَابُ الْفَيْءِ.

وَأَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَلَا يَسْقُطُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ وَهُوَ مَوْجُودٌ، وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ فَإِذَا عَطَّلَ الْمُسْتَأْجِرُ الِانْتِفَاعَ بِالْمُؤَجَّرِ لَمْ تَسْقُطِ الْأُجْرَةُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ خَرَاجِ الْوَظِيفَةِ بِتَعْطِيلِ الْأَرْضِ عَنِ الزِّرَاعَةِ، سَوَاءٌ عَطَّلَهَا مُخْتَارًا أَمْ مَعْذُورًا، لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ.

وَإِذَا عَطَّلَهَا بِلَا تَفْرِيطٍ مِنْهُ كَأَنْ تَرَكَ زِرَاعَتَهَا لِعَدَمِ قُوَّتِهَا وَقُدْرَتِهِ الْجِسْمِيَّةِ، أَوْ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى تَحَمُّلِ تَكَالِيفِ الزِّرَاعَةِ وَنَفَقَاتِهَا يَسْقُطُ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ حَقِيقَةً.

وَأَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَيَسْقُطُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى عَدَمِ سُقُوطِ الْخَرَاجِ.

وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْأَرْضِ تَصَرُّفًا يُحَقِّقُ الْمَصْلَحَةَ لِأَهْلِ الْفَيْءِ، وَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ.

وَمِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ: مَا قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: مِنْ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْمُرَ صَاحِبَ الْأَرْضِ بِتَأْجِيرِهَا لِمَنْ يَقُومُ بِزِرَاعَتِهَا وَإِلاَّ رَفَعَ يَدَهُ عَنْهَا، وَلَا تُتْرَكُ بِيَدِهِ خَرَابًا وَإِنْ دَفَعَ خَرَاجَهَا، لِئَلاَّ تَصِيرَ بِالْخَرَابِ مَوَاتًا، فَيَتَضَرَّرَ أَهْلُ الْفَيْءِ بِتَعْطِيلِهَا.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ دَفَعَ الْأَرْضَ لِغَيْرِ صَاحِبِهَا مُزَارَعَةً، وَيَأْخُذُ الْخَرَاجَ مِنْ نَصِيبِهِ وَيُمْسِكُ الْبَاقِيَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ آجَرَهَا وَأَخَذَ الْخَرَاجَ مِنَ الْأُجْرَةِ، وَإِنْ شَاءَ زَرَعَهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَإِذَا حَصَلَتِ الْغَلَّةُ أَخَذَ قَدْرَ الْخَرَاجِ وَمَا أَنْفَقَ، وَيَحْفَظُ الْبَاقِيَ لِمُسْتَغِلِّ الْأَرْضِ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لِلْإِمَامِ أَنْ يَدْفَعَ لِلْعَاجِزِ كِفَايَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ قَرْضًا لِيَعْمَلَ وَيَسْتَغِلَّ أَرْضَهُ.

فَإِذَا لَمْ يَجِدِ الْإِمَامُ مَنْ يَعْمَلُ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ مُزَارَعَةً أَوْ بِالْأُجْرَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَيَرَى أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ بَيْعَهَا وَأَخْذَ الْخَرَاجِ مِنْ ثَمَنِهَا، وَيُحْفَظُ الْبَاقِي لِمُسْتَغِلِّ الْأَرْضِ.

وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ عَدَمَ جَوَازِ بَيْعِهَا، وَإِنَّمَا يَحْجُرُهَا لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَرَى جَوَازَ الْحَجْرِ عَلَى الْكَبِيرِ إِلاَّ أَنَّ هَذَا الْحَجْرَ يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الْعَامَّةِ.

ثَالِثًا: هَلَاكُ الزَّرْعِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ:

59- إِذَا زَرَعَ صَاحِبُ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ أَرْضَهُ بِزَرْعٍ مَا، فَأَصَابَتْهُ آفَةٌ سَمَاوِيَّةٌ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا، كَغَرَقٍ، أَوْ حَرْقٍ، أَوْ شِدَّةِ بَرْدٍ، أَوْ جَرَادٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْهَلَاكُ قَبْلَ الْحَصَادِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ.

أ- فَإِذَا هَلَكَ الزَّرْعُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ قَبْلَ الْحَصَادِ يَسْقُطُ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ إِذَا أَدَّتْ تِلْكَ الْآفَةُ إِلَى هَلَاكِ جَمِيعِ الزَّرْعِ؛ لِأَنَّ خَرَاجَ الْمُقَاسَمَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ حَقِيقَةً.

وَأَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَيَسْقُطُ عَنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُصَابٌ وَيَسْتَحِقُّ الْمَعُونَةَ؛ وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ صِلَةٌ وَاجِبَةٌ بِاعْتِبَارِ الْأَرَاضِي، فَلَا يُمْكِنُ إِيجَابُهَا بَعْدَ هَلَاكِ الزَّرْعِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ اسْتِغْلَالِ الْأَرْضِ.

وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِسُقُوطِ الْخَرَاجِ بِهَذَا السَّبَبِ شَرْطَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنْ لَا تَبْقَى مِنَ السَّنَةِ مُدَّةٌ يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنْ زِرَاعَةِ الْأَرْضِ مَرَّةً أُخْرَى، فَإِنْ بَقِيَتْ مِنَ السَّنَةِ مُدَّةٌ يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنْ أَنْ يَزْرَعَ الْأَرْضَ ثَانِيَةً لَمْ يَسْقُطِ الْخَرَاجُ لِتَحَقُّقِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ، وَقَدَّرُوا الْمُدَّةَ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ.

وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَبْقَى مِنَ الزَّرْعِ ضِعْفُ الْخَرَاجِ الْمُوَظَّفِ عَلَى الْأَرْضِ، فَإِنْ بَقِيَ مِنَ الزَّرْعِ ضِعْفُ الْخَرَاجِ الْمُوَظَّفِ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَسْقُطِ الْخَرَاجُ وَيُؤْخَذُ مِنَ الزَّارِعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى النِّصْفِ.وَإِنْ بَقِيَ أَقَلُّ مِنْ ضِعْفِ الْخَرَاجِ الْمُوَظَّفِ عَلَى الْأَرْضِ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْخَرَاجُ الْمُوَظَّفُ، وَيُكْتَفَى فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِأَخْذِ نِصْفِ الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ بَعْدَ خَصْمِ نَفَقَاتِ الزِّرَاعَةِ.

هَذَا مَا جَاءَ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ، أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ نَصًّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

ب- إِذَا هَلَكَ الْخَارِجُ مِنَ الْأَرْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا، كَغَرَقٍ، وَحَرْقٍ يَسْقُطُ خَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ، لِتَعَلُّقِهِ بِالْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ حَقِيقَةً.

جَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: وَلَوْ هَلَكَ الْخَارِجُ فِي خَرَاجِ الْمُقَاسَمَةِ قَبْلَ الْحَصَادِ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْخَارِجِ حَقِيقَةً، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الشَّرِيكِ شَرِكَةَ الْمِلْكِ فَلَا يَضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي.

وَأَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ فَلَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْخَارِجِ بَعْدَ الْحَصَادِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ خَرَاجَ الْوَظِيفَةِ يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ، وَيَتَعَلَّقُ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ وَزِرَاعَتِهَا، وَبِالْحَصَادِ قَدْ تَحَقَّقَ الِانْتِفَاعُ بِالْأَرْضِ، وَحَصَلَتِ الزِّرَاعَةُ بِالْفِعْلِ فَلَا يَسْقُطُ الْخَرَاجُ الْمُوَظَّفُ بِهَلَاكِ الْخَارِجِ بَعْدَ الْحَصَادِ.

جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ أَنَّ هَلَاكَ الْخَارِجِ قَبْلَ الْحَصَادِ يُسْقِطُ الْخَرَاجَ، وَهَلَاكُهُ بَعْدَ الْحَصَادِ لَا يُسْقِطُهُ.وَبِالنِّسْبَةِ لِلْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى كَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَلَمْ نَقِفْ لَهُمْ عَلَى نُصُوصٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

رَابِعًا: إِسْقَاطُ الْإِمَامِ لِلْخَرَاجِ عَمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ

60- إِذَا رَأَى الْإِمَامُ إِسْقَاطَ الْخَرَاجِ عَمَّنْ بِيَدِهِ أَرْضٌ خَرَاجِيَّةٌ لِمَصْلَحَةٍ، أَوْ لِكَوْنِ مَنْ بِيَدِهِ تِلْكَ الْأَرْضُ يَقُومُ بِعَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَحْتَاجُهَا الْمُسْلِمُونَ، كَالْقَضَاءِ، أَوِ التَّدْرِيسِ، أَوْ حِمَايَةِ الثُّغُورِ الْإِسْلَامِيَّةِ، أَوِ التَّجَسُّسِ عَلَى الْأَعْدَاءِ لِمَعْرِفَةِ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ وَسَائِلِ الْقُوَّةِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

فَهَلْ يَجُوزُ هَذَا التَّصَرُّفُ مِنَ الْإِمَامِ أَوْ لَا؟ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَهُ حَقُّ النَّظَرِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِعْلُ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لَهُمْ، وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ الَّتِي قَرَّرَهَا الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ أَنَّ: (تَصَرُّفَ الْإِمَامِ عَلَى الرَّعِيَّةِ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ) وَقَالُوا: لَوْ صَارَ الْخَرَاجُ فِي يَدِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَخُصَّ بِهِ شَخْصًا إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ فَجَازَ لَهُ تَرْكُهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ وَلِأَنَّ صَاحِبَ الْخَرَاجِ لَهُ حَقٌّ فِي الْخَرَاجِ فَصَحَّ تَرْكُهُ عَلَيْهِ.

وَقَدْ قَيَّدَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الَّذِي يَنْوِي الْإِمَامُ إِسْقَاطَ الْخَرَاجِ عَنْهُ، مِمَّنْ يَسْتَحِقُّونَ الْخَرَاجَ كَالْفَقِيهِ وَالْجُنْدِيِّ، وَالْقَاضِي، وَالْمُؤَذِّنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ إِسْقَاطُ الْخَرَاجِ عَمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ إِسْقَاطُهُ كَالْعُشْرِ.وَبِالنِّسْبَةِ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَلَمْ نَقِفْ لَهُمْ عَلَى نُصُوصٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

خَامِسًا: الْبِنَاءُ عَلَى الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ:

61- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِمْرَارِ وَظِيفَةِ الْخَرَاجِ عَلَى الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ بَعْدَ أَنْ يُبْنَى عَلَيْهَا أَبْنِيَةٌ وَحَوَانِيتُ.

1- فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى اسْتِمْرَارِ وُجُوبِ الْخَرَاجِ وَعَدَمِ سُقُوطِهِ عَنْ تِلْكَ الْأَرْضِ، لِأَنَّ الْخَرَاجَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الزَّرْعِ وَالْغَرْسِ.رَوَى يَعْقُوبُ بْنُ بُخْتَانَ أَنَّهُ سَأَلَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، تَرَى أَنْ يُخْرِجَ الرَّجُلُ عَمَّا فِي يَدِهِ مِنْ دَارٍ، أَوْ ضَيْعَةٍ عَلَى مَا وَظَّفَ عُمَرُ- رضي الله عنه- عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ فَيَتَصَدَّقَ بِهِ؟ فَقَالَ مَا أَجْوَدُ هَذَا.فَقَالَ يَعْقُوبُ: بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ تُعْطِي مِنْ دَارِكَ الْخَرَاجَ فَتَتَصَدَّقُ بِهِ.فَقَالَ: نَعَمْ.وَقَدْ عَلَّلَ عُلَمَاءُ الْحَنَابِلَةِ فِعْلَ أَحْمَدَ بِقَوْلِهِمْ: (إِنَّمَا كَانَ أَحْمَدُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَنَّ بَغْدَادَ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ الَّتِي وَضَعَ عَلَيْهَا عُمَرُ الْخَرَاجَ، فَلَمَّا بُنِيَتْ مَسَاكِنُ، رَاعَى أَحْمَدُ حَالَهَا الْأُولَى الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا فِي عَهْدِ عُمَرَ- رضي الله عنه-.

2- وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ الْخَرَاجِ عَنِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ بَعْدَ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهَا مَنْ هِيَ بِيَدِهِ أَبْنِيَةً وَحَوَانِيتَ، وَلَا يَجِبُ الْخَرَاجُ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ إِذَا جَعَلَهَا بُسْتَانًا، أَوْ مَزْرَعَةً؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يَتَعَلَّقُ بِنَمَاءِ الْأَرْضِ وَغَلَّتِهَا.

3- وَيَرَى الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الْخَرَاجَ يَسْقُطُ عَنِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا مَنْ هِيَ بِيَدِهِ أَبْنِيَةً ضَرُورِيَّةً لَا غِنًى لَهُ عَنْهَا.كَأَنْ يَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا يَسْكُنُهُ.وَأَمَّا الْأَبْنِيَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ فَلَا تَكُونُ سَبَبًا فِي سُقُوطِ الْخَرَاجِ عَنِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ كَأَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهَا أَبْنِيَةً لِلِاسْتِغْلَالِ وَالنَّمَاءِ.

سَادِسًا: إِسْلَامُ مَالِكِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ أَوِ

انْتِقَالُهَا إِلَى مُسْلِمٍ:

62- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخَرَاجَ الْعَنْوِيَّ لَا يَسْقُطُ عَنِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ بِإِسْلَامِ صَاحِبِهَا وَلَا بِانْتِقَالِهَا إِلَى مُسْلِمٍ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ الْمَفْتُوحَةَ عَنْوَةً مَوْقُوفَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْخَرَاجُ الْمَضْرُوبُ عَلَيْهَا بِمَثَابَةِ الْأُجْرَةِ فَلَا يَسْقُطُ بِإِسْلَامِ مَنْ بِيَدِهِ هَذِهِ الْأَرْضُ وَلَا بِانْتِقَالِهَا إِلَى مُسْلِمٍ.

وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَرَاجِ الصُّلْحِيِّ (الْمَضْرُوبِ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي صَالَحَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَهَا عَلَى أَنَّ لَهُمُ الْأَرْضَ وَلِلْمُسْلِمِينَ الْخَرَاجَ) هَلْ يَسْقُطُ بَعْدَ إِسْلَامِ صَاحِبِهَا، أَوِ انْتِقَالِهَا إِلَى مُسْلِمٍ:

1- فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى سُقُوطِ الْخَرَاجِ الصُّلْحِيِّ إِذَا أَسْلَمَ صَاحِبُ الْأَرْضِ، أَوِ انْتَقَلَتْ إِلَى مُسْلِمٍ، لِمَا رَوَى « الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْبَحْرَيْنِ، أَوْ إِلَى هَجَرَ، فَكُنْتُ آتِي الْحَائِطَ يَكُونُ بَيْنَ الْإِخْوَةِ يُسْلِمُ أَحَدُهُمْ، فَآخُذُ مِنَ الْمُسْلِمِ الْعُشْرَ، وَمِنَ الْمُشْرِكِ الْخَرَاجَ ».وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ الصُّلْحِيَّ بِمَثَابَةِ الْجِزْيَةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْكُفْرِ، فَإِذَا زَالَ الْكُفْرُ سَقَطَ الْخَرَاجُ كَمَا تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ.

2- وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ سُقُوطِ الْخَرَاجِ الصُّلْحِيِّ قِيَاسًا عَلَى الْخَرَاجِ الْعَنْوِيِّ؛ وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ، وَالْأَصْلُ فِيهَا أَنَّهَا لَا تَتَغَيَّرُ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، فَإِذَا أَسْلَمَ صَاحِبُ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ أَوْ بَاعَهَا مِنْ مُسْلِمٍ فَلَا ضَرُورَةَ لِتَغَيُّرِ الْمُؤْنَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْخَرَاجِ- أَيْ فِي الْجُمْلَةِ-

اجْتِمَاعُ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ:

63- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي يَمْلِكُ الْأَرْضَ الْخَرَاجِيَّةَ يُطَالَبُ بِالزَّكَاةِ « الْعُشْرِ » وَالْخَرَاجِ مَعًا إِذَا زَرَعَهَا أَوِ انْتَفَعَ بِهَا.

وَاسْتَدَلُّوا لِاجْتِمَاعِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}.فَالْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ أَرْضٍ يُنْتَفَعُ بِهَا وَتُزْرَعُ سَوَاءٌ أَكَانَتْ خَرَاجِيَّةً، أَوْ عُشْرِيَّةً، كَمَا اسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ: « فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ ».وَلِأَنَّ الْعُشْرَ وَالْخَرَاجَ حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ ذَاتًا، وَسَبَبًا، وَمَصْرِفًا، وَدَلِيلًا: أَمَّا اخْتِلَافُهُمَا ذَاتًا فَلِأَنَّ الْعُشْرَ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَالْخَرَاجُ فِيهِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ.وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا سَبَبًا فَلِأَنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ، وَالْخَرَاجَ يَجِبُ فِي الْأَرْضِ النَّامِيَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ النَّمَاءُ حَقِيقِيًّا أَمْ تَقْدِيرِيًّا بِأَنْ يُتَمَكَّنَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ.

وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا مَصْرِفًا، فَلِأَنَّ مَصْرِفَ الْعُشْرِ: الْأَصْنَافُ الثَّمَانِيَةُ، الْمُحَدَّدُ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ، وَمَصْرِفَ الْخَرَاجِ: الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ.

وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمَا دَلِيلًا، فَلِأَنَّ دَلِيلَ الْعُشْرِ: النَّصُّ، وَدَلِيلَ الْخَرَاجِ الِاجْتِهَادُ الْمَبْنِيُّ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ.

وَإِذَا ثَبَتَ اخْتِلَافُهُمَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَلَا مَانِعَ مِنَ اجْتِمَاعِهِمَا، وَوُجُوبُ أَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْآخَرِ، كَاجْتِمَاعِ الْجَزَاءِ وَالْقِيمَةِ عِنْدَ قَتْلِ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اجْتِمَاعِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ فِي الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ الَّتِي يَمْلِكُهَا مُسْلِمٌ، وَلَا يَجِبُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ سِوَى الْخَرَاجِ.

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: « لَا يَجْتَمِعُ عَلَى الْمُسْلِمِ خَرَاجٌ وَعُشْرٌ ».

وَبِمَا رَوَى طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ قَالَ كَتَبَ إِلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي دِهْقَانَةَ نَهْرِ الْمَلِكِ- كُورَةٌ وَاسِعَةٌ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي بُنِيَتْ بِهَا بَغْدَادُ- أَسْلَمَتْ فَكَتَبَ: أَنِ ادْفَعُوا إِلَيْهَا أَرْضَهَا تُؤَدِّي عَنْهَا الْخَرَاجَ.

فَأَمَرَ عُمَرُ- رضي الله عنه- بِأَخْذِ الْخَرَاجِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِأَخْذِ الْعُشْرِ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لأَمَرَ بِهِ.

وَلِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ، وَوُلَاةِ الْجَوْرِ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ عُشْرًا؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ، فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ كَمَا لَا يَجْتَمِعُ زَكَاتَانِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ كَزَكَاةِ السَّائِمَةِ وَالتِّجَارَةِ فِي الْحَيَوَانَاتِ.

مَصَارِفُ الْخَرَاجِ:

64- لَمْ يُفَرِّقِ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الْخَرَاجِ وَالْفَيْءِ فِي الصَّرْفِ، كَمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الْفَيْءِ وَالزَّكَاةِ مِنْ جِهَةٍ، وَمِنْ جِهَةٍ ثَانِيَةٍ بَيْنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ.

فَالْفَيْءُ يَتَوَقَّفُ صَرْفُهُ عَلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فِي تَقْدِيرِ الْمَصَالِحِ، وَتَقْدِيمِ الْأَهَمِّ عَلَى الْمُهِمِّ، وَالزَّكَاةُ تُصْرَفُ فِي الْمَصَارِفِ الثَّمَانِيَةِ الَّتِي حَدَّدَتْهَا آيَةُ الصَّدَقَاتِ.وَالْغَنِيمَةُ تُخَمَّسُ، وَتُقْسَمُ الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ كَمَا حَدَّدَتْ آيَةُ الْغَنَائِمِ.

قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: يُصْرَفُ خَرَاجُهَا- أَيْ خَرَاجُ الْأَرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً- فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَرْزَاقِ الْمُقَاتِلَةِ وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ، وَالْمَسَاجِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سُبُلِ الْخَيْرِ.

(وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَمَصْرِفُ الْخَرَاجِ كَفَيْءٍ لِأَنَّهُ مِنْهُ).

وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَأَمَّا مَصْرِفُ النَّوْعِ الثَّالِثِ مِنَ الْخَرَاجِ وَأَخَوَاتِهِ فَعِمَارَةُ الدِّينِ، وَإِصْلَاحُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ رِزْقُ الْوُلَاةِ، وَالْقُضَاةِ وَأَهْلِ الْفَتْوَى مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْمُقَاتِلَةِ، وَرَصْفُ الطُّرُقِ وَعِمَارَةُ الْمَسَاجِدِ، وَالرِّبَاطَاتِ، وَالْقَنَاطِرِ، وَالْجُسُورِ، وَسَدُّ الثُّغُورِ، وَإِصْلَاحُ الْأَنْهَارِ الَّتِي لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهَا.

(وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: مَا يُؤْخَذُ مِنْ خَرَاجِ هَذِهِ الْأَرْضِ يَصْرِفُهُ الْإِمَامُ فِي مَصَالِحِ

الْمُسْلِمِينَ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، وَيَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ وَغَيْرِهِمْ).

هَذَا مَا قَرَّرَهُ الْفُقَهَاءُ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ مِنْ جُمْلَةِ الْفَيْءِ الْمَصْرُوفِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.

وَانْظُرْ أَيْضًا مُصْطَلَحَ: بَيْتُ الْمَالِ، وَفَيْءٌ).

حُكْمُ تَخْمِيسِ الْخَرَاجِ:

65- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْفَيْءَ لَا يُخَمَّسُ، بَلْ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ الْإِمَامَ يُعْطِي مِنْهُ لِلْمُقَاتِلِينَ، وَالْوُلَاةِ، وَالْقُضَاةِ، وَالْعُمَّالِ، وَالْأَئِمَّةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ، وَالْفُقَهَاءِ، وَكُلِّ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَيُصْرَفُ عَلَى بِنَاءِ الْقَنَاطِرِ، وَالْمَسَاجِدِ، وَشَقِّ الطُّرُقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَبْدَأُ الْإِمَامُ بِالْأَهَمِّ فَالْمُهِمِّ، فَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُ شَيْءٌ قَسَمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ.

وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَارِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: طَلَبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُخَمِّسَ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ لَمَّا أُجْلُوا عَنْهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تُبَيِّنُ أَنَّهَا فَيْءٌ لَمْ تَحْصُلْ لَهُمْ بِمُحَارَبَتِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ بِتَسْلِيطِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً يَفْعَلُ مِنْهُ مَا يَشَاءُ.وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- خَاصَّةً، يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً لِلْمُسْلِمِينَ.هَذَا مَا كَانَ يُفْعَلُ بِالْفَيْءِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَقَدْ أَصْبَحَ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ خَاصَّةً، يَصْرِفُهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُقَدِّمُ الْأَهَمَّ عَلَى الْمُهِمِّ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ الْإِمَامَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُمَا كَانَا يَجْعَلَانِهِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً.

وَلِذَا لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَخْتَصَّ بِالْفَيْءِ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْإِمَامَ يُنْصَرُ بِسَبَبِ قَوْمِهِ لَا بِسَبَبِهِ خَاصَّةً فَكَانَتْ أَمْوَالُ الْفَيْءِ لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفَيْءَ يُخَمَّسُ لقوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}.

فَذِكْرُ الْأَصْنَافِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ بَابِ التَّعْدِيدِ لِلْأَصْنَافِ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ هَذَا الْمَالَ وَمِنْ ثَمَّ فَلَا يَتَعَدَّى بِهِ هَؤُلَاءِ.

(انْظُرْ: خُمُسٌ، وَفَيْءٌ).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


259-موسوعة الفقه الكويتية (خز)

خَزٌّ

التَّعْرِيفُ:

1- الْخَزُّ مِنَ الثِّيَابِ مَا يُنْسَجُ مِنْ صُوفٍ وَإِبْرَيْسَمٍ (حَرِيرٍ) أَوْ إِبْرَيْسَمٍ وَحْدَهُ

وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مِنَ الْخُزَزِ وَهُوَ وَلَدُ الْأَرْنَبِ أَوِ الْأَرْنَبُ الذَّكَرُ، لِنُعُومَةِ وَبَرِهِ.

وَأَطْلَقَهُ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَا سُدَاهُ حَرِيرٌ وَلُحْمَتُهُ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ عَكْسُهُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْقَزُّ:

2- الْقَزُّ مُعَرَّبٌ، وَهُوَ مَا يُعْمَلُ مِنْهُ الْإِبْرَيْسَمُ (الْحَرِيرُ) وَلِهَذَا قَالُوا: الْقَزُّ وَالْإِبْرَيْسَمُ مِثْلُ الْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ.فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَزِّ، هُوَ أَنَّ الْقَزَّ أَصْلُ الْحَرِيرِ، وَالْخَزُّ يَكُونُ مُرَكَّبًا مِنَ الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ، كَالصُّوفِ، وَالْقُطْنِ وَنَحْوِهِمَا.

ب- الدِّيبَاجُ:

3- الدِّيبَاجُ هُوَ مَا سُدَاهُ إِبْرَيْسَمٌ وَلُحْمَتُهُ إِبْرَيْسَمٌ، فَيَحْرُمُ لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ اتِّفَاقًا.وَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِهِ بِسَائِرِ الْوُجُوهِ غَيْرِ اللُّبْسِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ كَالْحَنَفِيَّةِ، وَفِيهِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ تَفْصِيلٌ وَيُنْظَرُ أَحْكَامُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَرِيرٌ، أَلْبِسَةٌ).

الْأَحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْخَزِّ:

4- الْخَزُّ إِذَا كَانَ سُدَاهُ وَلُحْمَتُهُ كِلَاهُمَا مِنَ الْحَرِيرِ فَلَا يَجُوزُ لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ اتِّفَاقًا، وَيَجُوزُ لِلنِّسَاءِ مُطْلَقًا، لِمَا رَوَى حُذَيْفَةُ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلَا الدِّيبَاجَ » وَقَوْلُهُ- عليه الصلاة والسلام-: « أُحِلَّ الذَّهَبُ وَالْحَرِيرُ لِإِنَاثِ أُمَّتِي وَحُرِّمَ عَلَى ذُكُورِهَا » (ر: حَرِيرٌ).

أَمَّا إِذَا كَانَ مَنْسُوجًا مِنَ الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ، كَمَا إِذَا كَانَ سُدَاهُ مِنْ إِبْرَيْسَمٍ وَلُحْمَتُهُ مِنَ الصُّوفِ أَوِ

الْقُطْنِ فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى جَوَازِ لُبْسِهِ لِلرِّجَالِ.قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ كَانَتْ نَفِيسَةً وَغَالِيَةً.وَقَالَ أَحْمَدُ: أَمَّا الْخَزُّ فَقَدْ لَبِسَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ لَبِسُوا جِبَابَ الْخَزِّ.

وَرُوِيَ عَنْ مُعْتَمِرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: (رَأَيْتُ عَلَى أَنَسٍ بُرْنُسًا أَصْفَرَ مِنْ خَزٍّ) كَمَا رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَلْبَسُونَ الْخَزَّ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لُبْسُهُ مَكْرُوهٌ يُؤْجَرُ عَلَى تَرْكِهِ وَلَا يَأْثَمُ فِي فِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُشْتَبِهَاتِ الْمُتَكَافِئَةِ أَدِلَّةُ حِلِّهَا وَحُرْمَتِهَا الَّتِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: « فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ » 5- وَقَدْ فَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةً عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مِنَ الْحَرِيرِ فِي النَّسِيجِ، فَقَالُوا: الْمُرَكَّبُ مِنَ الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ، إِنْ زَادَ وَزْنُ الْحَرِيرِ يَحْرُمُ لُبْسُهُ، وَيَحِلُّ إِذَا كَانَ الْأَكْثَرُ غَيْرَ الْحَرِيرِ، وَكَذَا إِنِ اسْتَوَيَا، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: « إِنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الثَّوْبِ الْمُصْمَتِ مِنْ قَزٍّ ».وَالْمُصْمَتُ الْخَالِصُ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ هُوَ الْأَشْبَهُ: التَّحْرِيمُ إِنِ اسْتَوَيَا.

وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ جَوَازُ لُبْسِهِ إِذَا كَانَتْ لُحْمَتُهُ غَيْرَ الْحَرِيرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَغْلُوبًا، أَمْ غَالِبًا، أَمْ مُسَاوِيًا؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ إِنَّمَا يَصِيرُ ثَوْبًا بِالنَّسْجِ، وَالنَّسْجُ بِاللُّحْمَةِ فَكَانَتْ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ. (ر: حَرِيرٌ).

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:

6- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَحْكَامَ الْخَزِّ فِي كِتَابِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَبَابِ اللُّبْسِ، وَبَعْضُهُمْ فِي بَحْثِ (الْعِدَّةِ) وَإِحْدَادِ الْمَرْأَةِ، وَفِي تَكْفِينِ الْمَيِّتِ وَغَيْرِهَا.

يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (حَرِيرٌ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


260-موسوعة الفقه الكويتية (خصاء)

خِصَاءٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْخِصَاءُ: سَلُّ الْخُصْيَيْنِ، وَخَصَيْتُ الْفَرَسَ أَخْصِيهِ، قَطَعْتَ ذَكَرَهُ فَهُوَ مَخْصِيٌّ وَخَصِيٌّ.

فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَالْجَمْعُ خِصْيَةٌ وَخِصْيَانٌ.

وَالْخُصْيَةُ: الْبَيْضَةُ مِنْ أَعْضَاءِ التَّنَاسُلِ، وَهُمَا خُصْيَتَانِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ الْخِصَاءَ عَلَى أَخْذِ الْخُصْيَتَيْنِ دُونَ الذَّكَرِ أَوْ مَعَهُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْجَبُّ:

2- يُقَالُ: جَبَبْتُهُ مِنْ بَابِ قَتَلَ أَيْ قَطَعْتَهُ.فَهُوَ مَجْبُوبٌ بَيِّنُ الْجِبَابِ- بِالْكَسْرِ- إِذَا اسْتُؤْصِلَتْ مَذَاكِيرُهُ.

وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ: الْمَجْبُوبُ هُوَ الَّذِي قُطِعَ ذَكَرُهُ.

وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ الْمَجْبُوبَ فَقَالَ: الْمُتَضَمِّنُ مَعْنَى الْعُنَّةِ فِي الْعَجْزِ عَنِ الْوَطْءِ.

وَقَالَ الْمُطَرِّزِيُّ: الْمَجْبُوبُ: الْخَصِيُّ الَّذِي اسْتُؤْصِلَ ذَكَرُهُ وَخُصْيَاهُ.

ب- الْعُنَّةُ:

3- الْعُنَّةُ وَالتَّعْنِينُ: الْعَجْزُ عَنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ، أَوْ أَنْ لَا يَشْتَهِيَ النِّسَاءَ فَهُوَ عِنِّينٌ، وَالْمَرْأَةُ عِنِّينَةٌ: أَيْ: لَا تَشْتَهِي الرِّجَالَ.

وَعُنِّنَ عَنِ امْرَأَتِهِ تَعْنِينًا بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ: إِذَا حَكَمَ عَلَيْهِ الْقَاضِي بِذَلِكَ، أَوْ مُنِعَ عَنْهَا بِالسِّحْرِ.

وَالِاسْمُ مِنْهُ: الْعُنَّةُ، وَسُمِّيَ عِنِّينًا: لِأَنَّ ذَكَرَهُ يَعِنُّ لِقُبُلِ الْمَرْأَةِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ، أَيْ يَعْتَرِضُ إِذَا أَرَادَ إِيلَاجَهُ.

وَسُمِّيَ عِنَانُ اللِّجَامِ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَعِنُّ: أَيْ يَعْتَرِضُ الْفَمَ فَلَا يَلِجُهُ.

فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ وُجُودُ الْآلَةِ فِي الْعِنِّينِ.

وَيَجْتَمِعُ الْخَصِيُّ مَعَ الْعِنِّينِ فِي عَدَمِ الْإِنْزَالِ، وَعَدَمُ الْإِنْزَالِ عِنْدَ الْخَصِيِّ لِذَهَابِ الْخُصْيَةِ، أَمَّا عَدَمُ الْإِنْزَالِ عِنْدَ الْعِنِّينِ فَهُوَ لِعِلَّةٍ فِي الظَّهْرِ أَوْ غَيْرِهِ.

ج- الْوِجَاءُ:

4- الْوِجَاءُ اسْمٌ لِـ وَجَأَ، وَيُطْلَقُ عَلَى رَضِّ عُرُوقِ الْبَيْضَتَيْنِ حَتَّى تَنْفَضِخَا مِنْ غَيْرِ إِخْرَاجٍ، فَيَكُونُ شَبِيهًا بِالْخِصَاءِ، لِأَنَّهُ يَكْسِرُ الشَّهْوَةَ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالُوا:

الْمَوْجُوءُ هُوَ الَّذِي رُضَّتْ بَيْضَتَاهُ.

وَقِيلَ فِي مَعْنَى الْوِجَاءِ:

إِنَّ الْمَوْجُوءَ هُوَ مَنْزُوعُ الْأُنْثَيَيْنِ، وَقِيلَ: هُوَ الْمَشْقُوقُ عِرْقُ الْأُنْثَيَيْنِ وَالْخُصْيَتَانِ بِحَالِهِمَا.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

أَوَّلًا: فِي الْآدَمِيِّ:

5- إِنَّ خِصَاءَ الْآدَمِيِّ حَرَامٌ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْهُ عَلَى مَا يَأْتِي: وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ بِلَا خِلَافٍ فِي بَنِي آدَمَ.

وَمِنَ النَّهْيِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: « كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَلَيْسَ لَنَا شَيْءٌ، فَقُلْنَا: أَلَا نَسْتَخْصِي؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ ».

وَحَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: « رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا ».وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَخْرَجَهَا الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ نَفْسِهِ أَنَّهُ « قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ تَشُقُّ عَلَيَّ هَذِهِ الْعُزُوبَةُ فِي الْمَغَازِي فَتَأْذَنُ لِي فِي الْخِصَاءِ فَأَخْتَصِي؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالصِّيَامِ ».

وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- قَالَ: « يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي الِاخْتِصَاءِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَنَا بِالرَّهْبَانِيَّةِ الْحَنِيفِيَّةَ السَّمْحَةَ ».

وَيُرْوَى مَوْقُوفًا عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: (لَا كَنِيسَةَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا خِصَاءَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ تَعْقِيبًا عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ:

وَالْحِكْمَةُ فِي مَنْعِ الْخِصَاءِ أَنَّهُ خِلَافُ مَا أَرَادَهُ الشَّارِعُ مِنْ تَكْثِيرِ النَّسْلِ لِيَسْتَمِرَّ جِهَادُ الْكُفَّارِ، وَإِلاَّ لَوْ أَذِنَ فِي ذَلِكَ لأَوْشَكَ تَوَارُدُهُمْ عَلَيْهِ فَيَنْقَطِعُ النَّسْلُ فَيَقِلُّ الْمُسْلِمُونَ بِانْقِطَاعِهِ وَيَكْثُرُ الْكُفَّارُ، فَهُوَ خِلَافُ الْمَقْصُودِ مِنْ بَعْثَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.

كَمَا أَنَّ فِيهِ مِنَ الْمَفَاسِدِ، تَعْذِيبَ النَّفْسِ وَالتَّشْوِيهَ مَعَ إِدْخَالِ الضَّرَرِ الَّذِي قَدْ يُفْضِي إِلَى الْهَلَاكِ.وَفِيهِ إِبْطَالُ مَعْنَى الرُّجُولِيَّةِ الَّتِي أَوْجَدَهَا اللَّهُ فِيهِ، وَتَغْيِيرُ خَلْقِ اللَّهِ، وَكُفْرُ النِّعْمَةِ، وَفِيهِ تَشَبُّهٌ بِالْمَرْأَةِ وَاخْتِيَارُ النَّقْصِ عَلَى الْكَمَالِ.

ثَانِيًا: فِي غَيْرِ الْآدَمِيِّ:

6- قَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِخِصَاءِ الْبَهَائِمِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْبَهِيمَةِ وَالنَّاسِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ خِصَاءُ الْمَأْكُولِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ اللَّحْمِ.

وَالشَّافِعِيَّةُ فَرَّقُوا بَيْنَ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِهِ، فَقَالُوا: يَجُوزُ خِصَاءُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فِي الصِّغَرِ، وَيَحْرُمُ فِي غَيْرِهِ.وَشَرَطُوا أَنْ لَا يَحْصُلَ فِي الْخِصَاءِ هَلَاكٌ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيُبَاحُ عِنْدَهُمْ خَصِيُّ الْغَنَمِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِصْلَاحِ لَحْمِهَا، وَقِيلَ: يُكْرَهُ كَالْخَيْلِ وَغَيْرِهَا وَالشَّدْخُ أَهْوَنُ مِنَ الْجَبِّ.وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا يُعْجِبُنِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْصِيَ شَيْئًا، وَإِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْ إِيلَامِ الْحَيَوَانِ.وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: « نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ إِخْصَاءِ الْبَهَائِمِ نَهْيًا شَدِيدًا ».

الْأَحْكَامُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْخِصَاءِ:

أ- فِي الْعُيُوبِ الَّتِي يُفْسَخُ بِهَا النِّكَاحُ:

7- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخَصِيَّ يَأْخُذُ حُكْمَ الْعِنِّينِ فَيُؤَجَّلُ سَنَةً، وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ سَلِّ الْخُصْيَتَيْنِ أَوْ قَطْعِهِمَا، وَبَيْنَ مَا لَوْ كَانَ ذَكَرُهُ لَا يَنْتَشِرُ؛ لِأَنَّ آلَتَهُ لَوْ كَانَتْ تَنْتَشِرُ فَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجَةِ.

وَحُكْمُ ذَلِكَ التَّأْجِيلِ كَالْعِنِّينِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ اسْمِ الْعِنِّينِ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ عَالِمَةً بِحَالِهِ لَا خِيَارَ لَهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَالِمَةً فَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْفُرْقَةِ.

وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: الْخَصِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْعِنِّينِ، لِأَنَّ الْوُصُولَ فِي حَقِّهِ مَوْجُودٌ لِبَقَاءِ الْآلَةِ.وَلَوْ تَزَوَّجَتْ وَهِيَ تَعْلَمُ بِحَالِهِ فَلَا خِيَارَ لَهَا فِيهِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ رَاضِيَةً بِهِ حِينَ أَقْدَمَتْ عَلَى الْعَقْدِ مَعَ عِلْمِهَا بِحَالِهِ، وَلَوْ رَضِيَتْ بِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ بِأَنْ قَالَتْ: رَضِيتُ، سَقَطَ خِيَارُهَا، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ عَالِمَةً بِهِ، وَلَا فَرْقَ فِي قَوْلِهَا رَضِيتُ بِالْمُقَامِ مَعَهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ السُّلْطَانِ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ لِحَقِّهَا.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَهَا الْخِيَارُ إِذَا كَانَ لَا يُمْنِي، أَمَّا إِنْ أَمْنَى فَلَا رَدَّ بِهِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ إِنَّمَا هُوَ لِعَدَمِ تَمَامِ اللَّذَّةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ مَعَ الْإِنْزَالِ.

وَلِلشَّافِعِيَّةِ إِذَا وَجَدَتِ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا خَصِيًّا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ تَعَافُهُ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهَا لِأَنَّهَا، تَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْخَصِيُّ إِنْ وَصَلَ إِلَيْهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ مُمْكِنٌ، وَالِاسْتِمْتَاعُ حَاصِلٌ بِوَطْئِهِ.

ب- حُكْمُ الْخِصَاءِ فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ:

8- سَبَقَ أَنْ بَيَّنَّا أَنَّ الْخِصَاءَ هُوَ أَخْذُ الْخُصْيَتَيْنِ دُونَ الذَّكَرِ أَوْ مَعَهُ، وَفِيمَا يَلِي نَذْكُرُ مُوجِبَ قَطْعِ الْخُصْيَتَيْنِ دُونَ الذَّكَرِ أَوْ مَعَهُ:

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقِصَاصَ يَجْرِي عِنْدَ تَوَافُرِ شُرُوطِهِ فِي الْأُنْثَيَيْنِ لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} فَيُقْطَعُ الْأُنْثَيَانِ بِالْأُنْثَيَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَهِي إِلَى حَدٍّ فَاصِلٍ يُمْكِنُ الْقِصَاصُ فِيهِ فَوَجَبَ فِيهِ الْقِصَاصُ.

وَأَلْحَقَ الشَّافِعِيَّةُ إِشْلَالَ الْأُنْثَيَيْنِ وَدَقَّهُمَا بِالْقَطْعِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ.قَالَ النَّوَوِيُّ: وَفِي قَطْعِ الْأُنْثَيَيْنِ وَإِشْلَالِهِمَا الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ أَقُطِعَ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَيَيْنِ مَعًا، أَمْ قُدِّمَ الذَّكَرُ أَوِ الْأُنْثَيَيْنِ، وَلَوْ دَقَّ خُصْيَيْهِ فَفِي التَّهْذِيبِ أَنَّهُ يُقْتَصُّ بِمِثْلِهِ إِنْ أَمْكَنَ، وَإِلاَّ وَجَبَتِ الدِّيَةُ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ فِي الرَّضِّ، قَالَ أَشْهَبُ: إِنْ قُطِعَتِ الْأُنْثَيَانِ أَوْ أُخْرِجَتَا فَفِيهِمَا الْقَوَدُ لَا فِي رَضِّهِمَا، لِأَنَّهُ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى التَّلَفِ لِعَدَمِ الِانْضِبَاطِ فِي الْقِصَاصِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ نَقْلًا عَنِ الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ، أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكُتُبِ الظَّاهِرَةِ نَصٌّ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي قَطْعِ الْأُنْثَيَيْنِ حَالَةَ الْعَمْدِ وَيَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الْقِصَاصُ فِيهِمَا، حَيْثُ لَيْسَ لَهُمَا مَفْصِلٌ مَعْلُومٌ فَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْمِثْلِ.

وَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ لِعَدَمِ تَوَافُرِ أَيِّ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الْأُنْثَيَيْنِ، فَقَدْ وَرَدَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ « وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ » وَلِأَنَّ فِيهِمَا الْجَمَالَ وَالْمَنْفَعَةَ، فَإِنَّ النَّسْلَ يَكُونُ بِهِمَا، فَكَانَتْ فِيهِمَا الدِّيَةُ كَالْيَدَيْنِ، وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ فِي الصُّلْبِ الدِّيَةَ، وَفِي الْأُنْثَيَيْنِ الدِّيَةَ.وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِأَنَّ مَا وَجَبَ فِي اثْنَيْنِ مِنْهُ الدِّيَةُ، وَجَبَ فِي أَحَدِهِمَا نِصْفُهَا، كَالْيَدَيْنِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ؛ وَلِأَنَّهُمَا ذَوَا عَدَدٍ تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ فَاسْتَوَتْ دِيَتُهُمَا كَالْأَصَابِعِ، وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ فِي الْيُسْرَى ثُلُثَيِ الدِّيَةِ، وَفِي الْيُمْنَى ثُلُثَهَا؛ لِأَنَّ الْيُسْرَى أَكْثَرُ لِأَنَّ النَّسْلَ يَكُونُ بِهَا.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنْ رَضَّ أُنْثَيَيْهِ أَوْ أَشَلَّهُمَا كَمُلَتْ دِيَتُهُمَا كَمَا لَوْ أَشَلَّ يَدَيْهِ أَوْ ذَكَرَهُ، فَإِنْ قَطَعَ أُنْثَيَيْهِ فَذَهَبَ نَسْلُهُ لَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَفْعَهُمَا فَلَمْ تَزْدَدِ الدِّيَةُ بِذَهَابِهِ مَعَهُمَا، كَالْبَصَرِ مَعَ ذَهَابِ الْعَيْنَيْنِ، وَالْبَطْشِ مَعَ ذَهَابِ الْيَدَيْنِ، وَإِنْ قُطِعَ إِحْدَاهُمَا فَذَهَبَ النَّسْلُ لَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ ذَهَابَهُ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ.

هَذَا مُوجِبٌ قَطْعَ الْأُنْثَيَيْنِ دُونَ الذَّكَرِ، أَمَّا إِذَا قَطَعَ الْأُنْثَيَيْنِ مَعَ الذَّكَرِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَفِيهِمَا دِيَتَانِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، دِيَةٌ لِلْأُنْثَيَيْنِ وَدِيَةٌ لِلذَّكَرِ؛ لِأَنَّ الْجَانِيَ فَوَّتَ مَنْفَعَةَ الْجِمَاعِ بِقَطْعِ الذَّكَرِ وَمَنْفَعَةَ الْإِنْزَالِ بِقَطْعِ الْأُنْثَيَيْنِ، فَقَدْ وُجِدَ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ فِي قَطْعِ كُلٍّ مِنْهُمَا فَيَجِبُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ إِنْ قَطَعَ الذَّكَرَ أَوَّلًا ثُمَّ قَطَعَ الْأُنْثَيَيْنِ تَجِبُ دِيَتَانِ، فَإِنْ قَطَعَ الْأُنْثَيَيْنِ ثُمَّ قَطَعَ الذَّكَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلاَّ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْأُنْثَيَيْنِ، وَفِي الذَّكَرِ حُكُومَةُ الْعَدْلِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرُ الْخَصِيِّ وَلَا تَكْمُلُ الدِّيَةُ فِي ذَكَرِ الْخَصِيِّ.

وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ فِي تَعْلِيلِهِ لِهَذَا الْحُكْمِ: لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأُنْثَيَيْنِ كَانَتْ كَامِلَةً وَقْتَ قَطْعِهِمَا، وَمَنْفَعَةَ الذَّكَرِ تَفُوتُ بِقَطْعِ الْأُنْثَيَيْنِ إِذْ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِنْزَالُ بَعْدَ قَطْعِ الْأُنْثَيَيْنِ فَنَقَصَ أَرْشُهُ.

وَيُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ تَجِبُ فِي قَطْعِ الْأُنْثَيَيْنِ مَعَ الذَّكَرِ دِيَتَانِ سَوَاءٌ أَقُطِعَتَا قَبْلَ الذَّكَرِ أَمْ بَعْدَهُ.

قَالَ الْمَوَّاقُ: إِنْ قُطِعَتِ الْأُنْثَيَانِ مَعَ الذَّكَرِ فَفِي ذَلِكَ دِيَتَانِ، إِنْ قُطِعَتَا قَبْلَ الذَّكَرِ أَوْ بَعْدَهُ فَفِيهِمَا الدِّيَةُ، وَإِنْ قُطِعَ الذَّكَرُ قَبْلَهُمَا أَوْ بَعْدَهُمَا فَفِيهِ الدِّيَةُ، وَمَنْ لَا ذَكَرَ لَهُ فَفِي أُنْثَيَيْهِ الدِّيَةُ، وَمَنْ لَا أُنْثَيَيْنِ لَهُ فَفِي ذَكَرِهِ الدِّيَةُ.

كَمَا أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يُوجِبُونَ دِيَةً كَامِلَةً فِي الْأُنْثَيَيْنِ، وَدِيَةً كَامِلَةً فِي الذَّكَرِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ ذَكَرُ الشَّيْخِ، وَالشَّابِّ، وَالصَّغِيرِ، وَالْعِنِّينِ، وَالْخَصِيِّ وَغَيْرِهِمْ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ، دِيَةٌ، قِصَاصٌ).

حُكْمُ الْخَصِيِّ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْأُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ:

9- أَصْلُ ذَلِكَ: مَا رَوَى أَبُو رَافِعٍ قَالَ: « ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ خَصِيَّيْنِ ».

وَمَا رَوَى أَبُو سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَوْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-: « أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ اشْتَرَى كَبْشَيْنِ عَظِيمَيْنِ سَمِينَيْنِ أَقَرْنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ فَذَبَحَ أَحَدَهُمَا عَنْ أُمَّتِهِ لِمَنْ شَهِدَ لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ وَشَهِدَ لَهُ بِالْبَلَاغِ، وَذَبَحَ الْآخَرَ عَنْ مُحَمَّدٍ وَعَنْ آلِ مُحَمَّدٍ ».

وَالْمَوْجُوءُ هُوَ مَنْزُوعُ الْأُنْثَيَيْنِ كَمَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقِيلَ: هُوَ الْمَشْقُوقُ عِرْقُ الْأُنْثَيَيْنِ، وَالْخُصْيَتَانِ بِحَالِهِمَا.

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّضْحِيَةِ بِالْمَوْجُوءِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ وَعَلَى الصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَحَادِيثِ.

ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا مُقْتَضَى لِلِاسْتِحْبَابِ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- التَّضْحِيَةُ بِالْفَحِيلِ، فَيَكُونُ الْكُلُّ سَوَاءً.

وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ:

أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ، الْغَنَمِ، أَوِ الْإِبِلِ أَوِ الْبَقَرِ، وَيَدْخُلُ فِي كُلِّ جِنْسٍ نَوْعُهُ، وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى مِنْهُ، وَالْخَصِيُّ وَالْفَحْلُ لِإِطْلَاقِ اسْمِ الْجِنْسِ عَلَى ذَلِكَ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيُفَضِّلُونَ الْفَحِيلَ فِي الْأُضْحِيَّةِ عَلَى الْخَصِيِّ، إِنْ لَمْ يَكُنِ الْخَصِيُّ أَسْمَنَ، وَإِلاَّ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ بِخُصْيَةٍ وَاحِدَةٍ فَيُجْزِئُ إِنْ لَمْ يَحْصُلْ بِهَا مَرَضٌ.

وَإِنَّمَا أَجْزَأَ لِأَنَّهُ يَعُودُ بِمَنْفَعَةٍ فِي لَحْمِهَا، فَيُجْبَرُ مَا نَقَصَ.

وَعِنْدَهُمْ أَيْضًا سَوَاءٌ كَانَ فَوَاتُ الْجُزْءِ خِلْقَةً أَوْ كَانَ طَارِئًا بِقَطْعٍ فَجَائِزٌ لِمَا ذَكَرُوا.

كَمَا نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى جَوَازِ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ بِالْخَصِيِّ بِقَوْلِهِمْ: وَيُجْزِئُ الْخَصِيُّ وَمَكْسُورُ الْقَرْنِ، وَالْخَصِيُّ هُوَ مَقْطُوعُ الْأُنْثَيَيْنِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُجْزِئُ؛ لِأَنَّ نَقْصَهُمَا سَبَبٌ لِزِيَادَةِ اللَّحْمِ وَطِيبِهِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ كَجٍّ فَحَكَى فِيهِ قَوْلَيْنِ، وَوَجْهُ عَدَمِ الْإِجْزَاءِ مَا فِيهِ مِنْ فَوَاتِ جُزْءٍ مَأْكُولٍ مُسْتَطَابٍ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا: أَنَّ التَّضْحِيَةَ بِخَصِيٍّ بِلَا جَبٍّ تُجْزِئُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- « ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ »، وَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- نَحْوُهُ.

وَالْمَوْجُوءُ: الْمَرْضُوضُ الْخُصْيَتَيْنِ سَوَاءٌ أَقُطِعَتَا أَمْ سُلَّتَا؛ وَلِأَنَّهُ إِذْهَابُ عُضْوٍ غَيْرِ مُسْتَطَابٍ، بَلْ يَطِيبُ اللَّحْمُ بِزَوَالِهِ وَيَسْمَنُ، أَمَّا الْخَصِيُّ الْمَجْبُوبُ فَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


261-موسوعة الفقه الكويتية (خطأ 4)

خَطَأٌ -4

ثَانِيًا- مَا يَجِبُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ خَطَأً:

62- الْوَاجِبُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إِمَّا دِيَةٌ كَامِلَةٌ كَمَا فِي ذَهَابِ كُلٍّ مِنَ الْكَلَامِ، وَالسَّمْعِ، وَاللِّسَانِ، وَالْأَنْفِ، وَفِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، أَوْ نِسْبَةٍ مِنَ الدِّيَةِ كَمَا فِي الْمُوضِحَةِ، وَالْمُنَقِّلَةِ، وَالْآمَّةِ، وَالْجَائِفَةِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَةٌ).

ثَالِثًا- جِنَايَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ أَطْرَافِهِ خَطَأً:

63- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ خَطَأً لَا تَجِبُ الدِّيَةُ بِقَتْلِهِ وَلَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ دِيَتَهُ.لِأَنَّ « عَامِرَ بْنَ الْأَكْوَعِ بَارَزَ مَرْحَبًا يَوْمَ خَيْبَرَ فَرَجَعَ سَيْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَمَاتَ، وَلَمْ يَقْضِ فِيهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِدِيَةٍ وَلَا غَيْرِهَا »، وَلَوْ وَجَبَتْ لَبَيَّنَهُ؛ وَلِأَنَّهُ جَنَى عَلَى نَفْسِهِ فَلَمْ يَضْمَنْهُ غَيْرُهُ كَالْعَمْدِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْأَظْهَرِ مِنَ الرِّوَايَتَيْنِ: إِنَّ عَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَتَهُ لِوَرَثَتِهِ إِنْ قَتَلَ نَفْسَهُ، أَوْ أَرْشَ جُرْحِهِ لِنَفْسِهِ إِذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ رَجُلًا سَاقَ حِمَارًا فَضَرَبَهُ بِعَصًا كَانَتْ مَعَهُ فَطَارَتْ مِنْهَا شَظِيَّةٌ فَفَقَأَتْ عَيْنَهُ فَجَعَلَ عُمَرُ- رضي الله عنه- دِيَتَهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ فِي عَصْرِهِ.

وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْكَفَّارَةِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْحَنَابِلَةُ: تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ: لَا تَجِبُ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مَشْرُوطَةٌ بِعَدَمِ الْقَتْلِ فَإِذَا حَصَلَ الْقَتْلُ بَطَلَ الْخِطَابُ بِهَا كَمَا تَسْقُطُ دِيَتُهُ عَنِ الْعَاقِلَةِ لِوَرَثَتِهِ.

رَابِعًا- الْخَطَأُ فِي التَّصَادُمِ:

64- التَّصَادُمُ قَدْ يَقَعُ مِنْ فَارِسَيْنِ، أَوْ مِنْ مَاشِيَيْنِ، أَوْ مِنْ سَفِينَتَيْنِ، وَقَدْ يَقَعُ عَمْدًا أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ أَوْ خَطَأٍ، وَالْوَاجِبُ فِي حَالِ الْخَطَأِ هَلْ يَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مَا تَلِفَ مِنَ الْآخَرِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ مَالٍ، أَوْ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ بِأَنْ يَضْمَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ قِيمَةِ مَا تَلِفَ مِنَ الْآخَرِ؟ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ مَحَلُّهُ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَةٌ، إِتْلَافٌ، قَتْلٌ، ضَمَانٌ).

خَامِسًا- فِي خَرْقِ السَّفِينَةِ خَطَأً:

65- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ خَرَقَ شَخْصٌ سَفِينَتَهُ عَامِدًا خَرْقًا يُهْلِكُ غَالِبًا، فَالْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ عَلَى الْخَارِقِ، وَخَرْقُهَا لِلْإِصْلَاحِ شِبْهُ عَمْدٍ، فَإِنْ أَصَابَ غَيْرَ مَوْضِعِ الْإِصْلَاحِ فَخَرَقَهُ فَخَطَأٌ مَحْضٌ.

وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهُ إِذَا خَرَقَ السَّفِينَةَ خَطَأً فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا تَلِفَ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ.

وَإِذَا قَامَ لِيُصْلِحَ مَوْضِعًا فَقَلَعَ لَوْحًا، أَوْ يُصْلِحَ مِسْمَارًا فَثَقَبَ مَوْضِعًا، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ قَبِيلِ عَمْدِ الْخَطَأِ، أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْخَطَأِ الْمَحْضِ؟

ذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَالثَّانِي هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ قَصَدَ فِعْلًا مُبَاحًا فَأَفْضَى إِلَى التَّلَفِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ رَمَى صَيْدًا فَأَصَابَ آدَمِيًّا، لَكِنْ إِنْ قَصَدَ قَلْعَ اللَّوْحِ مِنْ مَوْضِعٍ يَغْلِبُ أَنَّهُ لَا يُتْلِفُهَا فَأَتْلَفَهَا فَهُوَ عَمْدُ الْخَطَأِ وَفِيهِ مَا فِيهِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ضَمَانِ الْمَلاَّحِ: لَوْ دَخَلَهَا الْمَاءُ فَأَفْسَدَ الْمَتَاعَ فَلَوْ بِفِعْلِهِ وَحْدَهُ يَضْمَنُ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ بِلَا فِعْلِهِ إِنْ لَمْ يُمْكِنَ التَّحَرُّزُ عَنْهُ لَا يَضْمَنُ إِجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ بِسَبَبٍ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ لَا يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ.

وَهَذَا كُلُّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ رَبُّ الْمَتَاعِ أَوْ وَكِيلُهُ فِي السَّفِينَةِ، فَلَوْ كَانَ لَا يَضْمَنُ فِي جَمِيعِ مَا مَرَّ إِذَا لَمْ يُخَالِفْ بِأَنْ لَمْ يُجَاوِزَ الْمُعْتَادَ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْعَمَلِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ إِلَيْهِ.

م- الْخَطَأُ فِي الْأَيْمَانِ:

أَوَّلًا: الْخَطَأُ فِي حَلِفِ الْيَمِينِ:

66- مَعْنَى الْخَطَأِ فِي الْيَمِينِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سَبْقُ اللِّسَانِ إِلَى غَيْرِ مَا قَصَدَهُ الْحَالِفُ وَأَرَادَهُ بِأَنْ أَرَادَ شَيْئًا فَسَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: اسْقِنِي الْمَاءَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَشْرَبُ الْمَاءَ.

وَأَوْجَبُوا فِيهِ الْكَفَّارَةَ إِنْ حَنِثَ لقوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: « ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْيَمِينُ »

وَقَالُوا: إِنَّ الْكَفَّارَةَ تَرْفَعُ الْإِثْمَ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ مِنْهُ التَّوْبَةُ.وَخَالَفَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ فِي انْعِقَادِ يَمِينِ الْمُخْطِئِ وَقَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ حَدِيثُ الْيَمِينِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ جَعَلَ الْهَزْلَ بِالْيَمِينِ جِدًّا، وَالْهَازِلُ قَاصِدٌ لِلْيَمِينِ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ عَدَمُ رِضَاهُ بِهِ شَرْعًا بَعْدَ مُبَاشَرَتِهِ السَّبَبَ مُخْتَارًا، وَالنَّاسِي بِالتَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا أَصْلًا وَلَمْ يَدْرِ مَا صَنَعَ، وَكَذَا الْمُخْطِئُ لَمْ يَقْصِدْ قَطُّ التَّلَفُّظَ بِهِ، بَلْ بِشَيْءٍ آخَرَ فَلَا يَكُونُ الْوَارِدُ فِي الْهَازِلِ وَارِدًا فِي النَّاسِي الَّذِي لَمْ يَقْصِدْ قَطُّ مُبَاشَرَةَ السَّبَبِ، فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ نَصًّا وَلَا قِيَاسًا.

وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ نَوْعَيْنِ مِنَ الْخَطَأِ:

الْأَوَّلُ- سَبْقُ اللِّسَانِ بِمَعْنَى غَلَبَتِهِ وَجَرَيَانِهِ عَلَى لِسَانِهِ نَحْوُ: لَا وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا، وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا.

الثَّانِي- انْتِقَالُهُ مِنْ لَفْظٍ لآِخَرَ وَالْتِفَاتُهُ إِلَيْهِ عِنْدَ إِرَادَةِ النُّطْقِ بِغَيْرِهِ.

وَقَالُوا: إِنَّ الْقِسْمَ الْأَخِيرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ وَيَدِينُ أَيْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ دِيَانَةً، كَسَبْقِ اللِّسَانِ فِي الطَّلَاقِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَيَلْزَمُهُ الْيَمِينُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ سَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى لَفْظِ الْيَمِينِ بِلَا قَصْدٍ فِي حَالِ غَضَبِهِ: كَلَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ، وَكَذَا فِي حَالِ عَجَلَتِهِ، أَوْ صِلَةِ كَلَامِهِ، أَوْ أَرَادَ الْيَمِينَ عَلَى شَيْءٍ فَسَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَهَذَا لَا يَنْعَقِدُ يَمِينُهُ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ كَفَّارَةٌ.فَإِذَا حَلَفَ وَقَالَ: لَمْ أَقْصِدَ الْيَمِينَ صُدِّقَ، أَمَّا الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْإِيلَاءِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الظَّاهِرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عِنْدَهُمْ: أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِإِجْرَاءِ لَفْظِ الْيَمِينِ بِلَا قَصْدٍ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَدَعْوَاهُ فِيهِمَا بِخِلَافِ الظَّاهِرِ فَلَا يُقْبَلُ، وَلَوِ اقْتَرَنَ بِالْيَمِينِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَصْدِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَظُنُّهُ فَيُبَيِّنُ بِخِلَافِهِ، وَمَنْ سَبَقَ الْيَمِينُ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَلَا إِثْمَ فِي هَذَا النَّوْعِ وَلَا كَفَّارَةَ وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ وَقَالُوا: إِنْ عَقَدَهَا (أَيِ الْيَمِينَ) عَلَى زَمَنٍ خَاصٍّ مَاضٍ يَظُنُّ صِدْقَ نَفْسِهِ كَأَنْ حَلَفَ مَا فَعَلَ كَذَا يَظُنُّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ فَبَانَ بِخِلَافِهِ حَنِثَ فِي طَلَاقٍ وَعَتَاقٍ فَقَطْ، بِخِلَافِ الْحَلِفِ بِاللَّهِ أَوْ بِنَذْرٍ أَوْ ظِهَارٍ؛ لِأَنَّهُ مِنْ لَغْوِ الْأَيْمَانِ.

وَكَذَا إِذَا عَقَدَهَا عَلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ ظَانًّا صِدْقَهُ فَلَمْ يَكُنْ كَمَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ يَظُنُّ أَنَّهُ يُطِيعُهُ فَلَمْ يَفْعَلْ، أَوْ ظَنَّ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ خِلَافَ نِيَّةِ الْحَالِفِ وَنَحْوَ ذَلِكَ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (أَيْمَانٌ).

ثَانِيًا- الْخَطَأُ فِي الْحِنْثِ:

67- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي الْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ سَوَاءٌ مَعَ الْإِكْرَاهِ أَوِ النِّسْيَانِ فِي الْيَمِينِ أَوِ الْحِنْثِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْحَقِيقِيَّ لَا يَعْدَمُهُ الْإِكْرَاهُ وَالنِّسْيَانُ، وَكَذَا الْإِغْمَاءُ وَالْجُنُونُ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ، كَمَا لَوْ فَعَلَهُ ذَاكِرًا لِيَمِينِهِ مُخْتَارًا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الْحِنْثُ هُوَ مُخَالَفَةُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ مِنْ نَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ، فَمَنْ حَنِثَ مُخْطِئًا كَأَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَدَخَلَهَا مُعْتَقِدًا أَنَّهَا غَيْرُهَا فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْخَطَأِ أَيْضًا مَا إِذَا حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ مِنْهُ دَرَاهِمَ فَتَنَاوَلَ مِنْهُ ثَوْبًا فَتَبَيَّنَ أَنَّ فِيهِ دَرَاهِمَ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، وَقِيلَ بِعَدَمِ الْحِنْثِ، وَقِيلَ بِالْحِنْثِ إِنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ فِيهِ دَرَاهِمَ قِيَاسًا عَلَى السَّرِقَةِ وَإِلاَّ فَلَا حِنْثَ.

وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْخَطَأِ وَالْغَلَطِ فَقَالُوا: مُتَعَلِّقُ الْخَطَأِ الْجَنَانُ، وَمُتَعَلِّقُ الْغَلَطِ اللِّسَانُ فَحَيْثُ قَالُوا بِالْحِنْثِ الْمُرَادُ بِهِ الْغَلَطُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْخَطَأِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الْجَنَانِ لَا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْغَلَطِ اللِّسَانِيِّ فَالصَّوَابُ عَدَمُ الْحِنْثِ فِيهِ.وَمَثَّلُوا لِلْغَلَطِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْخَطَأِ: حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ زَيْدًا فَكَلَّمَهُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ عَمْرٌو، أَوْ حَلَفَ لَا يَذْكُرُ فُلَانًا فَذَكَرَهُ لِظَنِّهِ أَنَّهُ غَيْرُ الِاسْمِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا نَاسِيًا لِلْيَمِينِ أَوْ جَاهِلًا أَنَّهَا الدَّارُ الْمَحْلُوفَةُ عَلَيْهَا هَلْ يَحْنَثُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: سَوَاءٌ كَانَ الْحَلِفُ بِاللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِالطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَوَجْهُ الْحِنْثِ قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} وَهِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ.وَوَجْهُ عَدَمِ الْحِنْثِ وَهُوَ الرَّاجِحُ قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: « إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ » وَالْيَمِينُ دَاخِلَةٌ فِي هَذَا الْعُمُومِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ حَالَ كَوْنِهِ مُخْتَارًا ذَاكِرًا إِنْ فَعَلَهُ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا فَلَا كَفَّارَةَ، لِحَدِيثِ: « إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ ».وَيَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ إِذَا فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِهِمَا نَاسِيًا وَالْجَاهِلُ كَالنَّاسِي فَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ زَيْدٍ فَدَخَلَهَا جَاهِلًا بِأَنَّهَا دَارُهُ حَنِثَ فِي طَلَاقٍ وَعَتَاقٍ فَقَطْ.

ن- الْغَلَطُ فِي الْقِسْمَةِ:

68- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا تَقَاسَمَا أَرْضًا ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا غَلَطًا، فَإِنْ كَانَ فِي قِسْمَةِ إِجْبَارٍ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، لِأَنَّ الْقَاسِمَ كَالْحَاكِمِ فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَى الْغَلَطِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ.

فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْغَلَطِ نُقِضَتِ الْقِسْمَةُ.

وَإِنْ كَانَتْ قِسْمَةَ اخْتِيَارٍ: فَإِنْ تَقَاسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا مِنْ غَيْرِ قَاسِمٍ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِأَخْذِ حَقِّهِ نَاقِصًا، وَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً لَمْ تُقْبَلْ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَضِيَ دُونَ حَقِّهِ نَاقِصًا، وَإِنْ قَسَمَ بَيْنَهُمَا قَاسِمٌ نَصَّبَاهُ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى التَّرَاضِي بَعْدَ خُرُوجِ الْقُرْعَةِ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِأَخْذِ حَقِّهِ نَاقِصًا، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى التَّرَاضِي بَعْدَ خُرُوجِ الْقُرْعَةِ فَهُوَ كَقِسْمَةِ الْإِجْبَارِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ.

وَقَالَ فِي الْمُغْنِي: إِنَّهُ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ- حَتَّى فِي صُورَةِ مَا تَمَّتْ قِسْمَتُهُ تَرَاضَيَا- إِنَّهُ مَتَى أَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِالْغَلَطِ نُقِضَتِ الْقِسْمَةُ، لِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ مُحْتَمَلٌ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِقَبْضِ الثَّمَنِ أَوِ الْمُسْلَمِ فِيهِ ثُمَّ ادَّعَى غَلَطًا فِي كَيْلِهِ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا ادَّعَى أَحَدُ الْمُتَقَاسِمَيْنِ الْغَلَطَ فِي الْقِسْمَةِ وَزَعَمَ أَنَّ شَيْئًا مِمَّا أَصَابَهُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ- وَكَانَ قَدْ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ- لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي فَسْخَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُقُوعِهَا فَلَا يُصَدَّقُ إِلاَّ بِحُجَّةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ اسْتُحْلِفَ الشُّرَكَاءُ فَمَنْ نَكَلَ مِنْهُمْ جَمَعَ بَيْنَ نَصِيبِ النَّاكِلِ وَالْمُدَّعِي فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمَا، لِأَنَّ النُّكُولَ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ خَاصَّةً فَيُعَامَلَانِ عَلَى زَعْمِهِمَا، وَإِنْ قَالَ أَصَابَنِي إِلَى مَوْضِعِ كَذَا فَلَمْ يُسَلِّمْهُ إِلَيَّ وَلَمْ يُشْهِدْ عَلَى نَفْسِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ وَكَذَّبَهُ شَرِيكُهُ تَحَالَفَا وَفُسِخَتِ الْقِسْمَةُ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي مِقْدَارِ مَا حَصَلَ لَهُ بِالْقِسْمَةِ فَصَارَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي مِقْدَارِ الْمَبِيعِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ ادَّعَى أَحَدُ الْمُتَقَاسِمَيْنِ الْجَوْرَ وَالْغَلَطَ، فَإِنْ تَحَقَّقَ الْحَاكِمُ عَدَمَهُمَا مُنِعَ مُدَّعِيهِ مِنْ دَعْوَاهُ، وَإِنْ أَشْكَلَ الْأَمْرُ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَفَاحِشًا وَلَمْ يَثْبُتْ بِقَوْلِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ حَلَفَ الْمُنْكِرُ لِدَعْوَى صَاحِبِهِ أَنَّ الْقَاسِمَ لَمْ يَجْرِ، وَلَمْ يَغْلَطْ، فَإِنْ نَكَلَ الْمُنْكِرُ لِدَعْوَى صَاحِبِهِ قُسِمَ مَا ادَّعَى الْآخَرُ أَنَّهُ حَصَلَ بِهِ الْجَوْرُ وَالْغَلَطُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ نَصِيبِ كُلٍّ، وَأَمَّا إِذَا ثَبَتَ مَا ذُكِرَ بِقَوْلِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، أَوْ كَانَ مُتَفَاحِشًا وَهُوَ مَا يَظْهَرُ لِأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهَا تُنْقَضُ الْقِسْمَةُ.

وَقَالُوا: الْمُرَادُ بِالْجَوْرِ مَا كَانَ عَنْ عَمْدٍ، وَبِالْغَلَطِ مَا لَمْ يَكُنْ عَنْ عَمْدٍ.

س- الْخَطَأُ فِي الْإِقْرَارِ وَالْغَلَطُ فِيهِ:

69- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا رَجَعَ الْمُقِرُّ فِي حَالِ تَكْذِيبِ الْمُقَرِّ لَهُ، بِأَنْ يَقُولَ غَلِطْتُ فِي الْإِقْرَارِ، قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الْأَصَحِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَالَ الْمُقَرَّ بِهِ يُتْرَكُ فِي يَدِهِ، وَالثَّانِي: لَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى هِيَ أَنَّهُ إِذَا كَذَّبَ الْمُقَرُّ لَهُ الْمُقِرَّ بِمَالٍ كَثَوْبٍ هَلْ يُتْرَكُ الْمَالُ فِي يَدِ الْمُقِرِّ أَوْ يَنْتَزِعُهُ الْحَاكِمُ وَيَحْفَظُهُ إِلَى ظُهُورِ مَالِكِهِ؟ فَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَالَ يُتْرَكُ فِي يَدِهِ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ يُنْتَزَعُ مِنْهُ فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذِهِ.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِقْرَارٌ).

ع- الْخَطَأُ فِي الشَّهَادَةِ:

70- وَفِيهَا مَسَائِلُ:

أَوَّلًا- إِذَا قَالَ الشَّاهِدَانِ بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا وَهِمْنَا أَوْ غَلِطْنَا فِي شَهَادَتِنَا بِدَمٍ أَوْ حَقٍّ عَلَى زَيْدٍ بَلْ هُوَ عَمْرٌو. قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ شَهِدَ عَدْلٌ فَلَمْ يَبْرَحْ عَنْ مَجْلِسِ الْقَاضِي وَلَمْ يَطُلِ الْمَجْلِسُ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ الْمَشْهُودُ لَهُ حَتَّى قَالَ: أَخْطَأْتُ بَعْضَ شَهَادَتِي، وَلَا مُنَاقَضَةَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ بِجَمِيعِ مَا شَهِدَ بِهِ لَوْ عَدْلًا، وَلَوْ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَقِيلَ يُقْضَى بِمَا بَقِيَ إِنْ تَدَارَكَهُ بِنُقْصَانٍ، وَإِنْ بِزِيَادَةٍ يُقْضَى بِهَا إِنِ ادَّعَاهَا الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ مَا حَدَثَ بَعْدَهَا قَبْلَ الْقَضَاءِ يُجْعَلُ كَحُدُوثِهِ عِنْدَهَا.

قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: ثُمَّ قِيلَ: يُقْضَى بِجَمِيعِ مَا شَهِدَ بِهِ أَوَّلًا، حَتَّى لَوْ شَهِدَ بِأَلْفٍ ثُمَّ قَالَ: غَلِطْتُ فِي خَمْسِمِائَةٍ يُقْضَى بِأَلْفٍ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ أَوَّلًا صَارَ حَقًّا لِلْمُدَّعِي وَوَجَبَ عَلَى الْقَاضِي الْقَضَاءُ بِهِ فَلَا يَبْطُلُ بِرُجُوعِهِ.

وَقِيلَ: يُقْضَى بِمَا بَقِيَ لِأَنَّ مَا حَدَثَ بَعْدَ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ كَحُدُوثِهِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ.ثُمَّ قَالَ: وَذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ: أَنَّ الشَّاهِدَ إِذَا قَالَ وَهِمْتُ فِي الزِّيَادَةِ أَوْ فِي النُّقْصَانِ: يُقْبَلُ قَوْلُهُ إِذَا كَانَ عَدْلًا وَلَا يَتَفَاوَتُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: سَقَطَتِ الشَّهَادَتَانِ: الْأُولَى لِاعْتِرَافِهِمَا بِأَنَّهُمَا عَلَى وَهْمٍ وَشَكٍّ، وَالثَّانِيَةُ لِاعْتِرَافِهِمَا بِعَدَمِ عَدَالَتِهِمَا حَيْثُ شَهِدَا عَلَى شَكٍّ، وَكَذَا بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ إِنْ كَانَتْ فِي دَمٍ لَا فِي مَالٍ فَلَا تَسْقُطُ، وَيَدْفَعُ لِمَنْ شَهِدَا لَهُ بِهِ أَوَّلًا ثُمَّ يُغَرِّمَانِهِ.وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَالْأَكْثَرُ: لَا يَغْرَمَانِ إِذَا قَالَا وَهِمْنَا.

وَفِي الْقَوَانِينِ الْفِقْهِيَّةِ: إِذَا ادَّعَى الشَّاهِدُ الْغَلَطَ فَاخْتُلِفَ هَلْ يَلْزَمُهُ مَا لَزِمَ الْمُتَعَمِّدَ لِلْكَذِبِ أَمْ لَا؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ فِي الْأَمْوَالِ لِأَنَّهَا تُضْمَنُ فِي الْخَطَأِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا رَجَعَ الشُّهُودُ قَبْلَ الْحُكْمِ امْتَنَعَ الْحُكْمُ بِالشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَصَدَقُوا فِي الْأَوَّلِ أَوْ فِي الثَّانِي فَلَا يَبْقَى ظَنُّ الصِّدْقِ فِي الشَّهَادَةِ، أَوْ بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَبْلَ اسْتِيفَاءِ مَالٍ اسْتُوْفِيَ، أَوْ قَبْلَ عُقُوبَةٍ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَالزِّنَى وَالشُّرْبِ، فَلَا يُسْتَوْفَى لِأَنَّهَا تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَالرُّجُوعُ شُبْهَةٌ، وَالْمَالُ لَا يَسْقُطُ بِهَا.

فَلَوْ كَانَ الرُّجُوعُ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ لَمْ يُنْقَضِ الْحُكْمُ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَوْفَى قِصَاصًا، أَوْ قَتْلَ رِدَّةٍ، أَوْ رَجْمَ زِنًى أَوْ جَلْدَهُ وَمَاتَ الْمَجْلُودُ، وَقَالُوا تَعَمَّدْنَا فَعَلَيْهِمْ قِصَاصٌ أَوْ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ، فَإِنْ قَالُوا أَخْطَأْنَا فَلَا قِصَاصَ، فَإِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ تَعَمَّدْتُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَخْطَأْتُ فَلِكُلٍّ حُكْمُهُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا رَجَعَ شُهُودُ الْأَصْلِ بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَالُوا غَلِطْنَا ضَمِنُوا لِاعْتِرَافِهِمْ بِتَعَمُّدِ الْإِتْلَافِ بِقَوْلِهِمْ كَذَبْنَا، أَوْ بِخَطَئِهِمْ بِقَوْلِهِمْ غَلِطْنَا.

وَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ قِصَاصٍ أَوْ شُهُودُ حَدٍّ بَعْدَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ وَقَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ لَمْ يُسْتَوْفَ الْقَوَدُ وَلَا الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْمَحْكُومَ بِهِ عُقُوبَةٌ لَا سَبِيلَ إِلَى جَبْرِهَا إِذَا اسْتُوْفِيَتْ بِخِلَافِ الْمَالِ، وَلِأَنَّ رُجُوعَ الشُّهُودِ شُبْهَةٌ لِاحْتِمَالِ صِدْقِهِمْ، وَالْقَوَدُ وَالْحَدُّ يُدْرَآنِ بِالشُّبْهَةِ، وَوَجَبَتْ دِيَةُ قَوَدٍ لِلْمَشْهُودِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالْعَمْدِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ وَقَدْ سَقَطَ أَحَدُهُمَا فَتَعَيَّنَ الْآخَرُ، وَيَرْجِعُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِمَا غَرِمَهُ مِنَ الدِّيَةِ عَلَى الشُّهُودِ.

وَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُمْ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ وَقَالُوا أَخْطَأْنَا فَعَلَيْهِمْ دِيَةُ مَا تَلِفَ مُخَفَّفَةٌ؛ لِأَنَّهُ خَطَأٌ، وَتَكُونُ فِي أَمْوَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُ بِإِقْرَارِهِمْ، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَحْمِلُهُ.

ثَانِيًا- مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ فِي الْغَلَطِ فِي الشَّهَادَةِ:

71- الْأُولَى-

إِذَا غَلِطَ الشُّهُودُ فِي الْحَدِّ الرَّابِعِ مِنْ حُدُودِ الدَّارِ فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ الْمُدَّعَى بِالْغَلَطِ نَظِيرُ مَا إِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْبَيْعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ وَتَرَكَا ذِكْرَ الثَّمَنِ جَازَ، وَلَوْ غَلَطَا فِي الثَّمَنِ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُ صَارَ عَقْدًا آخَرَ بِالْغَلَطِ.

الثَّانِيَةُ- إِذَا قَالَ شُهُودُ الْأَصْلِ أَشْهَدْنَا شُهُودَ الْفَرْعِ وَغَلِطْنَا، قَالَ مُحَمَّدٌ بِالضَّمَانِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ بِعَدَمِهِ.

الثَّالِثَةُ- الشَّهَادَةُ عَلَى الْخَطِّ: قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْخَطِّ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ غَلَطٌ لِلْعَقْلِ بِذَلِكَ وَعَزَاهُ الْبَاجِيُّ لِلْمَشْهُورِ.وَقِيلَ: إِنَّ الْغَلَطَ نَادِرٌ.

الرَّابِعَةُ- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ اتَّهَمَ الْقَاضِي الشَّاهِدَيْنِ بِالْغَلَطِ فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا لِئَلاَّ يُرْعَبَ الشَّاهِدُ وَيَخْتَلِطَ عَقْلُهُ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُفَرَّقُ إِنِ ارْتَابَ فِي الشُّهُودِ.

الْخَامِسَةُ- لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ شَخْصٍ مَعْرُوفٍ بِكَثْرَةِ غَلَطٍ وَنِسْيَانٍ؛ لِأَنَّ الثِّقَةَ لَا تَحْصُلُ بِقَوْلِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُ مِمَّا غَلِطَ فِيهَا وَسَهَا.

السَّادِسَةُ- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ: لَا يَكْفِي فِي التَّعْدِيلِ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ عَدْلٌ وَقَدْ غَلِطَ فِي شَهَادَتِهِ عَلَيَّ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ الِاكْتِفَاءُ بِذَلِكَ فِي الْحُكْمِ عَلَيْهِ لَا فِي التَّعْدِيلِ، وَقَوْلُهُ غَلِطَ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ؛ لِأَنَّ إِنْكَارَهُ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِعَدَالَتِهِ مُسْتَلْزِمٌ لِنِسْبَتِهِ لِلْغَلَطِ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ.

ثَالِثًا- الشُّهُودُ إِذَا رَجَعُوا عَنِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَالُوا أَخْطَأْنَا هَلْ يُعَزَّرُونَ؟

قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يُعَزَّرُونَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} هَذَا إِنْ كَانَ قَوْلُهُمْ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ فِي الْخَطَأِ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْهُ عُزِّرُوا وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ.

قَالَ الْعَدَوِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ الْخَرَشِيِّ: وَإِنْ أَشْكَلَ فَقَوْلَانِ، وَقَالَ الرَّمْلِيُّ: وَإِنِ ادَّعَوْا الْغَلَطَ أَيْ فِي اسْتِحْقَاقِهِمُ التَّعْزِيرَ.

وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَتْحِ قَوْلَهُ: يُعَزَّرُ الشُّهُودُ سَوَاءٌ رَجَعُوا قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ.قَالَ: وَلَا يَخْلُو عَنْ نَظَرٍ: لِأَنَّ الرُّجُوعَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ تَوْبَةٌ عَنْ تَعَمُّدِ الزُّورِ إِنْ تَعَمَّدَهُ، أَوِ السَّهْوِ وَالْعَجَلَةِ إِنْ كَانَ أَخْطَأَ فِيهِ، وَلَا تَعْزِيرَ عَلَى التَّوْبَةِ وَلَا عَلَى ذَنْبٍ ارْتَفَعَ بِهَا وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ.

ف- الْخَطَأُ فِي الْقَضَاءِ:

72- قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: مَدَارُ نَقْضِ الْحُكْمِ عَلَى تَبَيُّنِ الْخَطَأِ، وَالْخَطَأُ إِمَّا فِي اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ حَيْثُ تَبَيَّنَ النَّصُّ أَوِ الْإِجْمَاعُ أَوِ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ بِخِلَافِهِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ مُرَتَّبًا عَلَى سَبَبٍ صَحِيحٍ، وَإِمَّا فِي السَّبَبِ حَيْثُ يَكُونُ الْحُكْمُ مُرَتَّبًا عَلَى سَبَبٍ بَاطِلٍ، كَشَهَادَةِ الزُّورِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءٌ).

الْخَطَأُ فِي تَنْفِيذِ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ:

73- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: قَالَ الْكَاسَانِيُّ: إِذَا أَخْطَأَ الْإِمَامُ فَظَنَّ الْيَسَارَ يَمِينًا مَعَ اعْتِقَادِ وُجُوبِ قَطْعِ الْيَمِينِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.

وَنَظِيرُهُ لَوْ قَالَ الْحَاكِمُ لِمُقِيمِ الْحَدِّ: اقْطَعْ يَدَ السَّارِقِ، فَقَطَعَ الْيُسْرَى خَطَأً قَالَ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَعِنْدَ زُفَرَ يَضْمَنُ لِأَنَّ الْخَطَأَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لَيْسَ بِعُذْرٍ.وَدَلِيلُهُمْ أَنَّ هَذَا خَطَأٌ فِي الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ الْيَسَارَ مُقَامَ الْيَمِينِ بِاجْتِهَادِهِ مُتَمَسِّكًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْيَمِينِ وَالْيَسَارِ، فَكَانَ هَذَا خَطَأً مِنَ الْمُجْتَهِدِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ مَوْضُوعٌ. وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ أَخْطَأَ الْإِمَامُ أَوْ غَيْرُهُ فَقَطَعَ يَدَ السَّارِقِ الْيُسْرَى أَوَّلًا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ عَنْ قَطْعِ يَدِهِ الْيُمْنَى، وَمَحَلُّ الْإِجْزَاءِ إِذَا حَصَلَ الْخَطَأُ بَيْنَ مُتَسَاوِيَيْنِ، وَأَمَّا لَوْ أَخْطَأَ فَقَطَعَ الرَّجُلُ وَقَدْ وَجَبَ قَطْعُ الْيَدِ، وَنَحْوِهِ، فَلَا يُجْزِئُ، وَيُقْطَعُ الْعُضْوُ الَّذِي تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ وَيُؤَدِّي دِيَةَ الْآخَرِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَا وَجَبَ بِخَطَأِ إِمَامٍ أَوْ نُوَّابِهِ فِي حَدٍّ، أَوْ تَعْزِيرٍ، وَحُكْمٍ فِي نَفْسٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، فَعَلَى عَاقِلَتِهِ كَغَيْرِهِ، وَفِي قَوْلٍ: فِي بَيْتِ الْمَالِ إِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ تَقْصِيرٌ؛ لِأَنَّ خَطَأَهُ يَكْثُرُ بِكَثْرَةِ الْوَقَائِعِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ قَطْعًا وَكَذَا خَطَؤُهُ فِي الْمَالِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ زَادَ عَلَى الْحَدِّ فَتَلِفَ وَجَبَ الضَّمَانُ وَفِي مِقْدَارِهِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: كَمَالُ الدِّيَةِ.

وَالثَّانِي: نِصْفُ الضَّمَانِ، وَسَوَاءٌ زَادَ خَطَأً أَوْ عَمْدًا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ فِي الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ.

وَقَالُوا: إِذَا مَاتَ مِنَ التَّعْزِيرِ لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ مَشْرُوعَةٌ لِلرَّدْعِ وَالزَّجْرِ فَلَمْ يَضْمَنْ مَنْ تَلِفَ بِهَا.

ثُمَّ قَالُوا: وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا يَضْمَنُ الْإِمَامُ فَهَلْ يَلْزَمُ عَاقِلَتَهُ أَوْ بَيْتَ الْمَالِ، رِوَايَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: بَيْتُ الْمَالِ، لِأَنَّ خَطَأَهُ يَكْثُرُ، فَلَوْ وَجَبَ ضَمَانُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ أَجْحَفَ بِهِمْ وَهَذَا أَصَحُّ.

وَالثَّانِيَةُ: عَلَى عَاقِلَتِهِ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِخَطَئِهِ فَكَانَتْ عَلَى عَاقِلَتِهِ.

الْخَطَأُ فِي الْقِصَاصِ:

74- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ عَمْدًا حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، فَقَطَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ فَمَاتَ ضَمِنَ الدِّيَةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى غَيْرَ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ الْقَطْعُ، وَهُوَ أَتَى بِالْقَتْلِ، وَفِي قَوْلِهِمَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُبَاشِرَ لِلْقِصَاصِ إِذَا زَادَ عَلَى الْقَدْرِ الْمَطْلُوبِ الْمَأْذُونِ فِيهِ تَعَمُّدًا، فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا زَادَ عَلَى الْقَدْرِ الْمَطْلُوبِ بِالْمِسَاحَةِ، فَإِنْ نَقَصَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَإِنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ ثَانِيًا لِأَنَّهُ قَدِ اجْتَهَدَ.

وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: إِذَا قَطَعَ الطَّبِيبُ فِي الْمَوْضِعِ الْمُعْتَادِ فَمَاتَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ يَسِيرًا وَوَقَعَ الْقَطْعُ فِيمَا قَارَبَ كَانَ خَطَأً، وَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ فِيمَا لَا يَشُكُّ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ عَمْدٌ كَانَ فِيهِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ تَرَدَّدَ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ كَانَتْ فِيهِ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ وَجَبَ لَهُ الْقِصَاصُ بِالسَّيْفِ فَضَرَبَهُ فَأَصَابَ غَيْرَ الْمَوْضِعِ وَادَّعَى أَنَّهُ أَخْطَأَ، فَإِنْ كَانَ يَجُوزُ فِي مِثْلِهِ الْخَطَأُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ مَا يَدَّعِيهِ مُحْتَمَلٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ فِي مِثْلِهِ الْخَطَأُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَلَا يُسْمَعُ فِيهِ يَمِينُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ مَا يَدَّعِيهِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ وَيُقْتَصَّ فَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ يُمْكِنُ.

وَقَالَ: وَمَنْ وَجَبَ لَهُ الْقِصَاصُ فِي مُوضِحَةٍ فَاسْتَوْفَى أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ فِي الزِّيَادَةِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَرْشُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ خَطَأً مِثْلَ أَنْ يَسْتَحِقَّ قَطْعَ أُصْبُعٍ فَيَقْطَعُ اثْنَتَيْنِ، أَوْ جُرْحًا لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ، مِثْلُ أَنْ يَسْتَحِقَّ مُوضِحَةً فَاسْتَوْفَاهَا هَاشِمَةً فَعَلَيْهِ أَرْشُ الزِّيَادَةِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ مِنَ الْجَانِي كَاضْطِرَابِهِ حَالَ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُقْتَصِّ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُمْكِنُ الْخَطَأُ فِيهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِقَصْدِهِ.

حُكْمُ الْخَطَأِ فِي الْفَتْوَى مِنْ حَيْثُ الضَّمَانُ وَعَدَمُهُ:

75- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي تَضْمِينِ الْمُفْتِي إِذَا أَخْطَأَ قَوْلَانِ:

الْأَوَّلُ: تَضْمِينُ الْمُفْتِي إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى فَتْوَاهُ ضَرَرٌ لِلْمُسْتَفْتِي قِيَاسًا عَلَى خَطَأِ الْقَاضِي.

وَالثَّانِي: عَدَمُ تَضْمِينِهِ لِأَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ وَلَيْسَ مُبَاشِرًا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُفْتِيَ إِذَا أَتْلَفَ بِفَتْوَاهُ شَيْئًا وَتَبَيَّنَ خَطَؤُهُ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا ضَمِنَ إِنِ انْتَصَبَ وَتَوَلَّى فِعْلَ مَا أَفْتَى فِيهِ، وَإِلاَّ كَانَتْ فَتْوَاهُ غُرُورًا قَوْلِيًّا، لَا ضَمَانَ فِيهِ وَيُزْجَرُ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ اشْتِغَالٌ بِالْعِلْمِ أُدِّبَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا عُمِلَ بِفَتْوَاهُ فِي إِتْلَافٍ فَبَانَ خَطَؤُهُ، وَأَنَّهُ خَالَفَ دَلِيلًا قَاطِعًا فَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ يَضْمَنُ إِنْ كَانَ أَهْلًا لِلْفَتْوَى، وَلَا يَضْمَنُ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلْفَتْوَى، لِأَنَّ الْمُسْتَفْتِيَ قَصَّرَ.حَكَاهُ أَبُو عَمْرٍو وَسَكَتَ عَلَيْهِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ الضَّمَانُ عَلَى قَوْلَيِ الْغُرُورِ الْمَعْرُوفَيْنِ فِي بَابَيِ الْغَصْبِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِمَا، أَوْ يُقْطَعُ بِعَدَمِ الضَّمَانِ، إِذْ لَيْسَ فِي الْفَتْوَى إِلْزَامٌ وَلَا إِلْجَاءٌ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ بَانَ خَطَأُ الْحَاكِمِ فِي إِتْلَافٍ، كَقَطْعٍ وَقَتْلٍ، لِمُخَالَفَةِ دَلِيلٍ قَاطِعٍ، أَوْ بَانَ خَطَأُ مُفْتٍ لَيْسَ أَهْلًا لِلْفُتْيَا ضَمِنَا، أَيِ الْحَاكِمُ وَالْمُفْتِي؛ لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ حَصَلَ بِفِعْلِهِمَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ بَاشَرَاهُ، وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ أَخْطَأَ فِيمَا لَيْسَ بِقَاطِعٍ مِمَّا يَقْبَلُ الِاجْتِهَادَ لَا ضَمَانَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


262-موسوعة الفقه الكويتية (خطبة)

خُطْبَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْخُطْبَةُ- بِضَمِّ الْخَاءِ لُغَةً الْكَلَامُ الْمَنْثُورُ يُخَاطِبُ بِهِ مُتَكَلِّمٌ فَصِيحٌ جَمْعًا مِنَ النَّاسِ لِإِقْنَاعِهِمْ.

وَالْخَطِيبُ: الْمُتَحَدِّثُ عَنِ الْقَوْمِ، وَمَنْ يَقُومُ بِالْخَطَابَةِ فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ.

وَالْخُطْبَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ هِيَ الْكَلَامُ الْمُؤَلَّفُ الَّذِي يَتَضَمَّنُ وَعْظًا وَإِبْلَاغًا عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْمَوْعِظَةُ:

2- الْمَوْعِظَةُ هِيَ النُّصْحُ وَالتَّذْكِيرُ بِالْعَوَاقِبِ، وَالْأَمْرُ بِالطَّاعَةِ.قَالَ الْخَلِيلُ: هِيَ التَّذْكِيرُ بِالْخَيْرِ فِيمَا يَرِقُّ لَهُ الْقَلْبُ.

ب- الْوَصِيَّةُ:

3- الْوَصِيَّةُ هِيَ لُغَةُ التَّقَدُّمِ إِلَى الْغَيْرِ بِمَا يَعْمَلُ بِهِ مُقْتَرِنًا بِوَعْظٍ.

ج- النَّصِيحَةُ:

4- النَّصِيحَةُ هِيَ الدَّعْوَةُ إِلَى مَا فِيهِ الصَّلَاحُ، وَالنَّهْيُ عَمَّا فِيهِ الْفَسَادُ.

وَمِنْ آدَابِهَا أَنْ تَكُونَ سِرًّا، فِي حِينِ يُشْتَرَطُ فِي الْخُطْبَةِ أَنْ يَسْمَعَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ.

د- الْكَلِمَةُ:

5- تُسْتَعْمَلُ الْكَلِمَةُ بِمَعْنَى الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ الْمُطَوَّلِ: خُطْبَةً كَانَ أَوْ غَيْرَهَا كَالْقَصِيدَةِ وَالْمَقَالَةِ وَالرِّسَالَةِ.

أَحْكَامُ الْخُطَبِ الْمَشْرُوعَةِ:

6- الْخُطَبُ الْمَشْرُوعَةُ هِيَ: خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَالْكُسُوفَيْنِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَخُطَبِ الْحَجِّ، وَكُلُّهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ إِلاَّ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ، وَخُطْبَةَ الْحَجِّ يَوْمَ عَرَفَةَ.

وَمِنَ الْخُطَبِ الْمَشْرُوعَةِ أَيْضًا الْخُطْبَةُ فِي خِطْبَةِ النِّكَاحِ.

أ- خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ:

حُكْمُهَا:

7- هِيَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ.

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ شَرْطٌ فِي انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ، إِلاَّ الْحَنَفِيَّةَ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الشَّرْطَ خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَتُسَنُّ خُطْبَتَانِ.

وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ فِعْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- مَعَ قَوْلِهِ: « صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي » وَلِأَنَّ الْخُطْبَتَيْنِ أُقِيمَتَا مُقَامَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَكُلَّ خُطْبَةٍ مَكَانَ رَكْعَةٍ، فَالْإِخْلَالُ بِإِحْدَاهُمَا كَالْإِخْلَالِ بِإِحْدَى الرَّكْعَتَيْنِ.

أَرْكَانُهَا:

8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَرْكَانِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ:

فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ رُكْنَ الْخُطْبَةِ تَحْمِيدَةٌ أَوْ تَهْلِيلَةٌ أَوْ تَسْبِيحَةٌ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} مُطْلَقُ الذِّكْرِ الشَّامِلِ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَالْمَأْثُورُ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- لَا يَكُونُ بَيَانًا لِعَدَمِ الْإِجْمَالِ فِي لَفْظِ الذِّكْرِ.

وَقَالَ الصَّاحِبَانِ: لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرٍ طَوِيلٍ يُسَمَّى خُطْبَةً.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ رُكْنَهَا هُوَ أَقَلُّ مَا يُسَمَّى خُطْبَةً عِنْدَ الْعَرَبِ وَلَوْ سَجْعَتَيْنِ، نَحْوُ: اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا أَمَرَ، وَانْتَهُوا عَمَّا عَنْهُ نَهَى وَزَجَرَ.

فَإِنْ سَبَّحَ أَوْ هَلَّلَ أَوْ كَبَّرَ لَمْ يُجْزِهِ.

وَجَزَمَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ أَقَلَّهَا حَمْدُ اللَّهِ وَالصَّلَاةُ عَلَى نَبِيِّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَتَحْذِيرٌ، وَتَبْشِيرٌ، وَيَقْرَأُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ لَهَا خَمْسَةَ أَرْكَانٍ وَهِيَ:

أ- حَمْدُ اللَّهِ، وَيَتَعَيَّنُ لَفْظُ (اللَّهِ) وَلَفْظُ (الْحَمْدِ).

ب- الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَيَتَعَيَّنُ صِيغَةُ صَلَاةِ، وَذِكْرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِاسْمِهِ أَوْ بِصِفَتِهِ، فَلَا يَكْفِي ((.

ج- الْوَصِيَّةُ بِالتَّقْوَى، وَلَا يَتَعَيَّنُ لَفْظُهَا.

د- الدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ.

هـ- قِرَاءَةُ آيَةٍ مُفْهِمَةٍ- وَلَوْ فِي إِحْدَاهُمَا- فَلَا يُكْتَفَى بِنَحْوِ « ثُمَّ نَظَرَ »، لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهَا بِالْإِفْهَامِ، وَلَا بِمَنْسُوخِ التِّلَاوَةِ، وَيُسَنُّ جَعْلُهَا فِي الْخُطْبَةِ الْأُولَى.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذِهِ الْأَرْكَانِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.

أَمَّا أَرْكَانُهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَأَرْبَعَةٌ، وَهِيَ:

أ- حَمْدُ اللَّهِ تَعَالَى بِلَفْظِ الْحَمْدِ.

ب- الصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِصِيغَةِ الصَّلَاةِ.

ح- الْمَوْعِظَةُ، وَهِيَ الْقَصْدُ مِنَ الْخُطْبَةِ، فَلَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِهَا.

د- قِرَاءَةُ آيَةٍ كَامِلَةٍ وَزَادَ بَعْضُهُمْ رُكْنَيْنِ آخَرَيْنِ:

أ- الْمُوَالَاةُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ.

فَلَا يُفْصَلُ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْخُطْبَتَيْنِ، وَلَا بَيْنَ إِحْدَاهُمَا وَبَيْنَ الْأُخْرَى، وَلَا بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ.

ب- الْجَهْرُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْعَدَدُ الْمُعْتَبَرُ لِلْجُمُعَةِ، حَيْثُ لَا مَانِعَ.

وَعَدَّهُمَا الْآخَرُونَ فِي الشُّرُوطِ- وَهُوَ الْأَلْيَقُ- كَمَا يُعْرَفُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالشَّرْطِ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ.

شُرُوطُهَا:

9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى بَعْضِ الشُّرُوطِ لِصِحَّةِ الْخُطْبَةِ وَهِيَ: (1) أَنْ تَقَعَ فِي وَقْتِ الْجُمُعَةِ.

وَوَقْتُهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ، يَبْدَأُ مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ إِلَى دُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ، لِلْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ، وَجَرَيَانِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ وَقْتَهَا يَبْدَأُ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ الْعِيدِ، وَهُوَ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ بِمِقْدَارِ رُمْحٍ.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَابِلَةُ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِيلَانَ قَالَ « شَهِدْتُ الْجُمُعَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه- فَكَانَتْ خُطْبَتُهُ وَصَلَاتُهُ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ، ثُمَّ شَهِدْتُهَا مَعَ عُمَرَ- رضي الله عنه- فَكَانَتْ خُطْبَتُهُ وَصَلَاتُهُ إِلَى أَنْ أَقُولَ: قَدِ انْتَصَفَ النَّهَارُ، ثُمَّ شَهِدْتُهَا مَعَ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- فَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَخُطْبَتُهُ إِلَى أَنْ أَقُولَ: قَدْ زَالَ النَّهَارُ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا عَابَ ذَلِكَ وَلَا أَنْكَرَهُ ».

(2) أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الصَّلَاةِ.

فَلَوْ خَطَبَ بَعْدَهَا أَعَادَ الصَّلَاةَ- فَقَطْ- إِنْ قَرُبَ، وَإِلاَّ اسْتَأْنَفَهَا؛ لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِهَا وَصْلَ الصَّلَاةِ بِهَا.

(3) حُضُورُ جَمَاعَةٍ تَنْعَقِدُ بِهِمْ.

وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَدَدِ الَّذِي تَصِحُّ بِهِمْ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَكْفِي حُضُورُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهَا سِوَى الْإِمَامِ- عَلَى الصَّحِيحِ-

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ وُجُوبَ حُضُورِ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ أَهْلِهَا الْخُطْبَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرُوهُمَا مِنْ أَوَّلِهِمَا لَمْ يُكْتَفَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا مُنَزَّلَتَانِ مَنْزِلَةَ رَكْعَتَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ حُضُورِ أَرْبَعِينَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِهَا.

فَلَوْ حَضَرَ الْعَدَدُ، ثُمَّ انْفَضُّوا كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ، وَبَقِيَ مَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ، فَإِنِ انْفَضُّوا قَبْلَ افْتِتَاحِ الْخُطْبَةِ لَمْ يُبْتَدَأْ بِهَا حَتَّى يَجْتَمِعَ أَرْبَعُونَ، وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَائِهَا فَإِنَّ الرُّكْنَ الْمَأْتِيَّ بِهِ فِي غَيْبَتِهِمْ غَيْرُ مَحْسُوبٍ، فَإِنْ عَادُوا قَبْلَ طُولِ الْفَصْلِ بَنَى عَلَى خُطْبَتِهِ، وَبَعْدَ طُولِهِ يَسْتَأْنِفُهَا لِفَوَاتِ شَرْطِهَا وَهُوَ الْمُوَالَاةُ.هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَفِي الْمَذَاهِبِ أَقْوَالٌ أُخْرَى يُنْظَرُ فِي الْمُطَوَّلَاتِ.

(4) رَفْعُ الصَّوْتِ بِهَا، بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْعَدَدُ الْمُعْتَبَرُ، إِنْ لَمْ يَعْرِضْ مَانِعٌ.

وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْإِنْصَاتِ عَلَى الْمُصَلِّينَ، فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَأَنَّهُ يَحْرُمُ الْكَلَامُ إِلاَّ لِلْخَطِيبِ أَوْ لِمَنْ يُكَلِّمُهُ الْخَطِيبُ، وَكَذَا لِتَحْذِيرِ إِنْسَانٍ مِنْ مَهْلَكَةٍ.وَدَلِيلُهُمْ قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}، وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- « إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: أَنْصِتْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ ».

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَدِيمِ مُتَّفِقٌ مَعَ مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، أَمَّا فِي الْجَدِيدِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِنْصَاتُ وَلَا يَحْرُمُ الْكَلَامُ، لِمَا صَحَّ « أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَخْطُبُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَ الْمَالُ وَجَاعَ الْعِيَالُ...» وَسَأَلَهُ آخَرُ عَنْ مَوْعِدِ السَّاعَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمَا وُجُوبَ السُّكُوتِ.

وَحَمَلُوا الْأَمْرَ عَلَى النَّدْبِ، وَالنَّهْيَ عَلَى الْكَرَاهَةِ.

(5) الْمُوَالَاةُ بَيْنَ أَرْكَانِ الْخُطْبَةِ، وَبَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ.

وَيُغْتَفَرُ يَسِيرُ الْفَصْلِ، هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَشْتَرِطُونَ أَنْ لَا يَفْصِلَ بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ بِأَكْلٍ أَوْ عَمَلٍ قَاطِعٍ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ قَاطِعًا كَمَا إِذَا تَذَكَّرَ فَائِتَةً وَهُوَ فِي الْجُمُعَةِ فَاشْتَغَلَ بِقَضَائِهَا أَوْ أَفْسَدَ الْجُمُعَةَ فَاحْتَاجَ إِلَى إِعَادَتِهَا، أَوِ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ بَعْدَ الْخُطْبَةِ فَلَا تَبْطُلُ الْخُطْبَةُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَمَلٍ قَاطِعٍ، وَلَكِنَّ الْأَوْلَى إِعَادَتُهَا، وَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ يَصِيرُ مُسِيئًا.

(6) كَوْنُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ، تَعَبُّدًا.لِلِاتِّبَاعِ، وَالْمُرَادُ أَنْ تَكُونَ أَرْكَانُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ؛ وَلِأَنَّهَا ذِكْرٌ مَفْرُوضٌ فَاشْتُرِطَ فِيهِ ذَلِكَ كَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَلَوْ كَانَ الْجَمَاعَةُ عَجَمًا لَا يَعْرِفُونَ الْعَرَبِيَّةَ.وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: تَصِحُّ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَوْ كَانَ الْخَطِيبُ عَارِفًا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَوَافَقَ الصَّاحِبَانِ الْجُمْهُورَ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِهَا بِالْعَرَبِيَّةِ إِلاَّ لِلْعَاجِزِ عَنْهَا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لَا تَلْزَمُهُمُ الْجُمُعَةُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْخَطِيبِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا مَعْنَى مَا يَقُولُ، فَلَا يَكْفِي أَعْجَمِيٌّ لُقِّنَ مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ- عَلَى الظَّاهِرِ-

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: عِنْدَ عَدَمِ مَنْ يَخْطُبُ بِالْعَرَبِيَّةِ إِنْ أَمْكَنَ تَعَلُّمُ الْعَرَبِيَّةِ خُوطِبَ بِهِ الْجَمِيعُ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَإِنْ زَادُوا عَلَى الْأَرْبَعِينَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا عَصَوْا وَلَا جُمُعَةَ لَهُمْ بَلْ يُصَلُّونَ الظُّهْرَ، وَأَجَابَ الْقَاضِي عَنْ سُؤَالِ مَا فَائِدَةُ الْخُطْبَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ إِذَا لَمْ يَعْرِفْهَا الْقَوْمُ بِأَنَّ فَائِدَتَهَا الْعِلْمُ بِالْوَعْظِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ.وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ فِيمَا إِذَا سَمِعُوا الْخُطْبَةَ وَلَمْ يَعْرِفُوا مَعْنَاهَا أَنَّهَا تَصِحُّ.وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَعَلُّمُهَا خَطَبَ وَاحِدٌ بِلُغَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهَا الْقَوْمُ، فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ أَحَدٌ مِنْهُمُ التَّرْجَمَةَ فَلَا جُمُعَةَ لَهُمْ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهَا.

(7) النِّيَّةُ: اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ النِّيَّةَ لِصِحَّةِ الْخُطْبَةِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: « إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ».فَلَوْ حَمِدَ اللَّهَ لِعُطَاسِهِ أَوْ تَعَجُّبًا، أَوْ صَعِدَ الْمِنْبَرَ وَخَطَبَ بِلَا نِيَّةٍ فَلَا تَصِحُّ.

وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ النِّيَّةَ لِصِحَّةِ الْخُطْبَةِ.

وَهُنَاكَ أُمُورٌ شَرَطَهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى سُنِّيَّتِهَا وَتَأْتِي فِي السُّنَنِ.

سُنَنُهَا:

10- تَنْقَسِمُ هَذِهِ السُّنَنُ إِلَى سُنَنٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا وَأُخْرَى مُخْتَلَفٍ فِيهَا

أَمَّا السُّنَنُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا فَهِيَ:

(1) أَنْ تَكُونَ الْخُطْبَةُ عَلَى مِنْبَرٍ لِإِلْقَاءِ الْخُطْبَةِ، اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمِنْبَرُ عَلَى يَمِينِ الْمِحْرَابِ (بِالنِّسْبَةِ لِلْمُصَلِّي)، لِلِاتِّبَاعِ.

فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرِ الْمِنْبَرُ فَعَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِعْلَامِ.

(2) الْجُلُوسُ عَلَى الْمِنْبَرِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْخُطْبَةِ، عَمَلًا بِالسُّنَّةِ.

(3) اسْتِقْبَالُ الْخَطِيبِ الْقَوْمَ بِوَجْهِهِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْقَوْمِ الْإِقْبَالُ بِوَجْهِهِمْ عَلَيْهِ، وَجَاءَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: « كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ اسْتَقْبَلَهُ أَصْحَابُهُ بِوُجُوهِهِمْ ».

(4) الْأَذَانُ بَيْنَ يَدَيِ الْخَطِيبِ، إِذَا جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ.وَهَذَا الْأَذَانُ هُوَ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ « إِنَّ الْأَذَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَانَ أَوَّلُهُ حِينَ يَجْلِسُ الْإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ، فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ- رضي الله عنهما-، فَلَمَّا كَانَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- وَكَثُرُوا أَمَرَ عُثْمَانُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْأَذَانِ الثَّالِثِ فَأَذَّنَ بِهِ عَلَى الزَّوْرَاءِ، فَثَبَتَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ ».

(5) رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْخُطْبَةِ زِيَادَةً عَلَى الْجَهْرِ الْوَاجِبِ السَّابِقِ بَيَانُهُ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِعْلَامِ، لِقَوْلِ جَابِرٍ- رضي الله عنه- « كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ: صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ ».

(6) تَقْصِيرُ الْخُطْبَتَيْنِ، وَكَوْنُ الثَّانِيَةِ أَقْصَرَ مِنَ الْأُولَى، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: « إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَاقْصِرُوا الْخُطْبَةَ ».

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الْخُطْبَةُ فَصِيحَةً بَلِيغَةً مُرَتَّبَةً مَفْهُومَةً بِلَا تَمْطِيطٍ وَلَا تَقْعِيرٍ، وَلَا تَكُونُ أَلْفَاظًا مُبْتَذَلَةً مُلَفَّقَةً، حَتَّى تَقَعَ فِي النُّفُوسِ مَوْقِعَهَا.

(7) أَنْ يَعْتَمِدَ الْخَطِيبُ عَلَى قَوْسٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ عَصًا، لِمَا رَوَى الْحَكَمُ بْنُ حَزْنٍ- رضي الله عنه- قَالَ: « وَفَدْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-...فَأَقَمْنَا أَيَّامًا شَهِدْنَا فِيهَا الْجُمُعَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا أَوْ قَوْسٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ كَلِمَاتٍ خَفِيفَاتٍ طَيِّبَاتٍ مُبَارَكَاتٍ ».

وَلِلْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالُوا: يَتَّكِئُ عَلَى السَّيْفِ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ فُتِحَتْ عَنْوَةً، لِيُرِيَهُمْ قُوَّةَ الْإِسْلَامِ وَالْحَزْمَ، وَيَخْطُبُ بِدُونِهِ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ فُتِحَتْ صُلْحًا.

11- وَأَمَّا السُّنَنُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا فَهِيَ:

(1) الْقِيَامُ فِي الْخُطْبَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ، لِلِاتِّبَاعِ.

وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ.

وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الْقِيَامَ وَاجِبٌ غَيْرُ شَرْطٍ، فَإِنْ جَلَسَ أَثِمَ وَصَحَّتْ.

فَإِنْ عَجَزَ خَطَبَ قَاعِدًا فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ خَطَبَ مُضْطَجِعًا كَالصَّلَاةِ، وَيَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ سَوَاءٌ أَقَالَ لَا أَسْتَطِيعُ أَمْ سَكَتَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذَلِكَ لِعُذْرٍ.

وَالْأَوْلَى لِلْعَاجِزِ الِاسْتِنَابَةُ.

وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَوْ قَعَدَ فِيهِمَا أَوْ فِي إِحْدَاهُمَا أَجْزَأَ، وَكُرِهَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.

(2) الْجُلُوسُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ مُطْمَئِنًّا فِيهِ، لِلِاتِّبَاعِ.

وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.وَشَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

(3) الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ غَيْرِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَالْمَكَانِ.

وَهِيَ لَيْسَتْ شَرْطًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ بَلْ هِيَ سُنَّةٌ.

وَهِيَ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبِي يُوسُفَ.

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: فَلَوْ أَحْدَثَ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ اسْتَأْنَفَهَا، وَإِنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ وَقَصُرَ الْفَصْلُ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا تُؤَدَّى بِطَهَارَتَيْنِ كَالصَّلَاةِ، وَمِنْ ثَمَّ لَوْ أَحْدَث بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ وَتَطَهَّرَ عَنْ قُرْبٍ لَمْ يَضُرَّ.

وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْخُطْبَتَيْنِ وَلَكِنَّ تَرْكَهَا مَكْرُوهٌ.

(4) سَتْرُ الْعَوْرَةِ:

سَتْرُ الْعَوْرَةِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

(5) السَّلَامُ عَلَى النَّاسِ:

يُسَنُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يُسَلِّمَ الْخَطِيبُ عَلَى النَّاسِ مَرَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا حَالَ خُرُوجِهِ لِلْخُطْبَةِ (أَيْ مِنْ حُجْرَتِهِ أَوْ عِنْدَ دُخُولِهِ الْمَسْجِدَ إِنْ كَانَ قَادِمًا مِنْ خَارِجِهِ) وَالْأُخْرَى، إِذَا وَصَلَ أَعْلَى الْمِنْبَرِ وَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ سَلَامُهُ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ خُرُوجِهِ لِلْخُطْبَةِ فَقَطْ، وَلَا يُسَلِّمُ عَلَى الْمُصَلِّينَ عِنْدَ انْتِهَاءِ صُعُودِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَيْهِ، وَلَا يَجِبُ رَدُّهُ؛ لِأَنَّهُ يُلْجِئُهُمْ إِلَى مَا نُهُوا عَنْهُ.

6- الْبَدَاءَةُ بِحَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ الشَّهَادَتَيْنِ ثُمَّ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، وَالْعِظَةِ وَالتَّذْكِيرِ، وَقِرَاءَةِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَالدُّعَاءُ فِيهَا لِلْمُؤْمِنِينَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، كَمَا يُنْدَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا خَتْمُهَا بِيَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ التَّرْتِيبُ بِأَنْ يَبْدَأَ بِالْحَمْدِ، ثُمَّ بِالثَّنَاءِ، ثُمَّ بِالصَّلَاةِ، ثُمَّ بِالْمَوْعِظَةِ، فَإِنْ نَكَسَ أَجْزَأَهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ.وَهَذَا التَّرْتِيبُ سُنَّةٌ عِنْدَهُمْ.

وَالدُّعَاءُ لِلْمُؤْمِنِينَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِلاَّ الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُ رُكْنٌ عِنْدَهُمْ.وَقَدْ تَقَدَّمَ.

7- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِسُنِّيَّةِ حُضُورِ الْخَطِيبِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، بِحَيْثُ يَشْرَعُ فِي الْخُطْبَةِ أَوَّلَ وُصُولِهِ إِلَى الْمِنْبَرِ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَنْقُولُ، وَلَا يُصَلِّي تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ.

8- أَنْ يَصْعَدَ الْخَطِيبُ الْمِنْبَرَ عَلَى تُؤَدَةٍ، وَأَنْ يَنْزِلَ مُسْرِعًا عِنْدَ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ.

مَكْرُوهَاتُهَا:

12- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ التَّطْوِيلُ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ بِزَمَنٍ، فِي الشِّتَاءِ لِقِصَرِ الزَّمَانِ، وَفِي الصَّيْفِ لِلضَّرَرِ بِالزِّحَامِ وَالْحَرِّ، وَيُكْرَهُ تَرْكُ شَيْءٍ مِنْ سُنَنِ الْخُطْبَةِ، وَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ، إِلاَّ إِذَا تَذَكَّرَ فَائِتَةً وَلَوْ وِتْرًا، وَهُوَ صَاحِبُ تَرْتِيبٍ فَلَا يُكْرَهُ الشُّرُوعُ فِيهَا حِينَئِذٍ، بَلْ يَجِبُ لِضَرُورَةِ صِحَّةِ الْجُمُعَةِ، وَيُكْرَهُ التَّسْبِيحُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا كَانَ يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ، إِلاَّ إِذَا أَمَرَ الْخَطِيبُ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَإِنَّهُ يُصَلِّي سِرًّا إِحْرَازًا لِلْفَضِيلَتَيْنِ، وَيَحْمَدُ فِي نَفْسِهِ إِذَا عَطَسَ- عَلَى الصَّحِيحِ- وَيُكْرَهُ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ وَرَدُّ السَّلَامِ؛ لِاشْتِغَالِهِ بِسَمَاعٍ وَاجِبٍ، وَيَجُوزُ إِنْذَارُ أَعْمَى وَغَيْرِهِ إِذَا خُشِيَ تَعَرُّضُهُ لِلْوُقُوعِ فِي هَلَاكٍ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِنْصَاتِ- حَقِّ اللَّهِ-

وَيُكْرَهُ لِحَاضِرِ الْخُطْبَةِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، وَقَالَ الْكَمَالُ: يَحْرُمُ الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْبِيحًا، وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْكِتَابَةُ.

وَيُكْرَهُ الْعَبَثُ وَالِالْتِفَاتُ، وَيُكْرَهُ تَخَطِّي رِقَابِ النَّاسِ إِذَا أَخَذَ الْخَطِيبُ بِالْخُطْبَةِ، وَلَا بَأْسَ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ.

13- وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ تَخَطِّي الرِّقَابِ قَبْلَ جُلُوسِ الْخَطِيبِ عَلَى الْمِنْبَرِ لِغَيْرِ فُرْجَةٍ؛ لِأَنَّهُ يُؤْذِي الْجَالِسِينَ، وَأَنْ يَخْطُبَ الْخَطِيبُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، وَالتَّنَفُّلُ عِنْدَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ لِجَالِسٍ فِي الْمَسْجِدِ يُقْتَدَى بِهِ كَعَالِمٍ وَأَمِيرٍ، كَمَا يُكْرَهُ التَّنَفُّلُ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إِلَى أَنْ يَنْصَرِفَ النَّاسُ وَيَحْرُمُ الْكَلَامُ مِنَ الْجَالِسِينَ حَالَ الْخُطْبَةِ وَبَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَلَوْ لَمْ يَسْمَعُوا الْخُطْبَةَ إِلاَّ أَنْ يَلْغُوَ الْخَطِيبُ فِي خُطْبَتِهِ، بِأَنْ يَأْتِيَ بِكَلَامٍ سَاقِطٍ، فَيَجُوزَ الْكَلَامُ حِينَئِذٍ، وَيَحْرُمَ السَّلَامُ مِنَ الدَّاخِلِ أَوِ الْجَالِسِ عَلَى أَحَدٍ، وَكَذَا رَدُّهُ، وَلَوْ بِالْإِشَارَةِ وَيَحْرُمُ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَنَهْيٌ لَاغٍ، وَالْإِشَارَةُ لَهُ، وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، وَابْتِدَاءُ صَلَاةِ نَفْلٍ بَعْدَ خُرُوجِ الْخَطِيبِ لِلْخُطْبَةِ، وَلَوْ لِدَاخِلٍ.

14- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُكْرَهُ فِي الْخُطْبَةِ أَشْيَاءُ مِنْهَا:

مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ جَهَلَةِ الْخُطَبَاءِ مِنَ الدَّقِّ عَلَى دَرَجِ الْمِنْبَرِ فِي صُعُودِهِ، وَالدُّعَاءِ إِذَا انْتَهَى صُعُودُهُ قَبْلَ جُلُوسِهِ، وَالِالْتِفَاتِ فِي الْخُطْبَةِ، وَالْمُجَازَفَةِ فِي أَوْصَافِ السَّلَاطِينِ فِي الدُّعَاءِ لَهُمْ وَكَذِبِهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ، وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْإِسْرَاعِ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ، وَخَفْضِ الصَّوْتِ بِهَا، وَاسْتِدْبَارِ الْخَطِيبِ لِلْمُصَلِّينَ، وَهُوَ قَبِيحٌ خَارِجٌ عَنْ عُرْفِ الْخِطَابِ، وَالتَّقْعِيرِ وَالتَّمْطِيطِ فِي الْخُطْبَةِ، وَيُكْرَهُ شُرْبُ الْمَاءِ لِلْمُصَلِّينَ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ لِلتَّلَذُّذِ، وَلَا بَأْسَ بِشُرْبِهِ لِلْعَطَشِ، وَيُكْرَهُ لِلدَّاخِلِ أَنْ يُسَلِّمَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، وَيَجِبُ الرَّدُّ عَلَيْهِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُسْتَمِعِ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ، وَيُكْرَهُ تَحْرِيمًا تَنَفُّلٌ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْحَاضِرِينَ بَعْدَ صُعُودِ الْخَطِيبِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَجُلُوسُهُ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ تَخْفِيفُهَا عِنْدَ صُعُودِ الْخَطِيبِ الْمِنْبَرَ وَجُلُوسِهِ، وَيُكْرَهُ الْأَذَانُ جَمَاعَةً بَيْنَ يَدَيِ الْخَطِيبِ.

وَتُسْتَثْنَى التَّحِيَّةُ لِدَاخِلِ الْمَسْجِدِ وَالْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَيُسَنُّ لَهُ فِعْلُهَا، وَيُخَفِّفُهَا وُجُوبًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: « إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا ». (ر: تَحِيَّةٌ ف 5)

15- وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ الِالْتِفَاتُ فِي الْخُطْبَةِ، وَاسْتِدْبَارُ النَّاسِ، وَيُكْرَهُ لِلْإِمَامِ رَفْعُ يَدَيْهِ حَالَ الدُّعَاءِ فِي الْخُطْبَةِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُشِيرَ بِأُصْبُعِهِ فِي دُعَائِهِ، وَيُكْرَهُ الدُّعَاءُ عَقِبَ صُعُودِهِ الْمِنْبَرَ، وَيُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يُسْنِدَ ظَهْرَهُ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَمَدُّ رِجْلَيْهِ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَيُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ قُدَّامَ بَعْضِ الْخُطَبَاءِ، وَابْتِدَاءُ تَطَوُّعٍ بِخُرُوجِ الْخَطِيبِ خَلَا تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ فَلَا يُمْنَعُ الدَّاخِلُ مِنْهَا، وَيُكْرَهُ الْعَبَثُ، وَشُرْبُ مَاءٍ عِنْدَ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ، مَا لَمْ يَشْتَدَّ عَطَشُهُ.

ب- خُطْبَةُ الْعِيدَيْنِ:

حُكْمُهَا:

16- خُطْبَتَا الْعِيدِ سُنَّةٌ لَا يَجِبُ حُضُورُهُمَا وَلَا اسْتِمَاعُهُمَا، لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: « شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْعِيدَ فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ: إِنَّا نَخْطُبُ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَجْلِسَ لِلْخُطْبَةِ فَلْيَجْلِسْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَذْهَبَ فَلْيَذْهَبْ ».

وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: الْخُطْبَةُ مِنْ سُنَّةِ الصَّلَاةِ، فَمَنْ شَهِدَ الصَّلَاةَ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ أَوْ لَا تَلْزَمُهُ مِنْ صَبِيٍّ أَوِ امْرَأَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ حُضُورَ سُنَّتِهَا، كَطَوَافِ النَّفْلِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ رُكُوعَهُ (أَيْ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ) لِأَنَّهُ مِنْ سُنَّتِهِ.

وَهِيَ كَخُطْبَةِ الْجُمُعَةِ فِي صِفَتِهَا وَأَحْكَامِهَا، إِلاَّ فِيمَا يَلِي:

1- أَنْ تُفْعَلَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ، لَا قَبْلَهَا.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَخُطْبَتَا الْعِيدِ بَعْدَ الصَّلَاةِ لَا نَعْلَمُ فِيهِ (أَيْ فِي كَوْنِهِمَا بَعْدَ الصَّلَاةِ) خِلَافًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.

فَإِذَا خَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ وَقَدْ أَسَاءَ الْخَطِيبُ بِذَلِكَ، أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَيَرَوْنَ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ، وَيُعِيدُهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ.

2- وَيُسَنُّ افْتِتَاحُهَا بِالتَّكْبِيرِ، كَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَبِّرَ فِي أَثْنَائِهَا، بِخِلَافِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ يَفْتَتِحُهَا بِالْحَمْدُ لِلَّهِ.

وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنْ يَفْتَتِحَ الْأُولَى بِتِسْعِ تَكْبِيرَاتٍ وَالثَّانِيَةَ بِسَبْعٍ، وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لَا حَدَّ لِذَلِكَ، فَإِنْ كَبَّرَ ثَلَاثًا أَوْ سَبْعًا أَوْ غَيْرَهَا، فَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ.

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُبَيِّنَ فِي خُطْبَةِ الْفِطْرِ أَحْكَامَ زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَفِي الْأَضْحَى أَحْكَامَ الْأُضْحِيَّةِ 3- أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ- عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- الْقِيَامُ، وَالطَّهَارَةُ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَالْجُلُوسُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ.

د- خُطْبَةُ الْكُسُوفِ:

17- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا خُطْبَةَ لِصَلَاةِ الْكُسُوفِ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِالصَّلَاةِ دُونَ الْخُطْبَةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ وَعْظٌ بَعْدَهَا، يَشْتَمِلُ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ، وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى نَبِيِّهِ، لِفِعْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-.

وَلَا يَكُونُ عَلَى طَرِيقَةِ الْخُطْبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا خُطْبَةَ لِصَلَاةِ الْكُسُوفِ.

وَيُنْدَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ بَعْدَ صَلَاةِ الْكُسُوفِ خُطْبَتَيْنِ كَخُطْبَتَيِ الْجُمُعَةِ فِي أَرْكَانِهِمَا وَسُنَنِهِمَا، وَلَا تُعْتَبَرُ فِيهِمَا الشُّرُوطُ كَمَا فِي الْعِيدِ، وَاسْتَدَلُّوا بِفِعْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-.

وَلَا تَصِحُّ الْخُطْبَةُ إِنْ قَدَّمَهَا عَلَى الصَّلَاةِ.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي (كُسُوفٌ).

د- خُطْبَةُ الِاسْتِسْقَاءِ:

18- يُنْدَبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ بَعْدَ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ خُطْبَةً كَخُطْبَةِ الْعِيدِ فِي الْأَرْكَانِ، وَالشُّرُوطِ، وَالسُّنَنِ، يَعِظُ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا وَيُخَوِّفُهُمْ مِنَ الْمَعَاصِي، وَيَأْمُرُهُمْ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ وَالصَّدَقَةِ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ- وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ- إِلَى أَنَّهُ لَا يُصَلِّي جَمَاعَةً وَلَا يَخْطُبُ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَدَدِ الْخُطَبِ وَكَيْفِيَّتِهَا، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُمَا خُطْبَتَانِ كَخُطْبَتَيِ الْعِيدِ، لَكِنْ يَسْتَبْدِلُ بِالتَّكْبِيرِ الِاسْتِغْفَارَ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهَا خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ.

قَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُكَبِّرُ فِي أَوَّلِهَا تِسْعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُكَبِّرُ.

وَانْظُرِ التَّفْصِيلَ فِي (اسْتِسْقَاءٌ).

هـ- خُطَبُ الْحَجِّ:

19- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ الْخُطْبَةُ فِي الْحَجِّ، يُبَيِّنُ فِيهَا مَنَاسِكَ الْحَجِّ لِلنَّاسِ، وَذَلِكَ اقْتِدَاءٌ بِالنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَاخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ الْخُطَبِ الَّتِي يَخْطُبُهَا، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا ثَلَاثُ خُطَبٍ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا أَرْبَعٌ.

1- الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

يُسَنُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَدَا الْحَنَابِلَةِ أَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ بِمَكَّةَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَيُسَمَّى بِيَوْمِ الزِّينَةِ، خُطْبَةً وَاحِدَةً لَا يَجْلِسُ فِيهَا يُعَلِّمُ فِيهَا النَّاسَ مَنَاسِكَ الْحَجِّ، اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.

2- الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

تُسَنُّ هَذِهِ الْخُطْبَةُ يَوْمَ عَرَفَةَ بِنَمِرَةَ، قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ- جَمْعَ تَقْدِيمٍ- اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يُعَلِّمُ فِيهَا النَّاسَ مَا أَمَامَهُمْ مِنْ مَنَاسِكَ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الدُّعَاءِ وَالْعِبَادَةِ.

وَهِيَ خُطْبَتَانِ كَخُطْبَتَيِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ هِيَ خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ.

3- الْخُطْبَةُ الثَّالِثَةُ:

يُسَنُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى، خُطْبَةً وَاحِدَةً يُعَلِّمُ النَّاسَ فِيهَا مَنَاسِكَهُمْ مِنَ النَّحْرِ وَالْإِفَاضَةِ وَالرَّمْيِ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ « أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ النَّحْرِ، يَعْنِي بِمِنًى ».

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْخُطْبَةَ تَكُونُ يَوْمَ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، لَا يَوْمَ النَّحْرِ؛ لِأَنَّهُ يَوْمُ اشْتِغَالٍ بِالْمَنَاسِكِ، يُعَلِّمُ فِيهَا النَّاسَ جَوَازَ الِاسْتِعْجَالِ لِمَنْ أَرَادَ، وَهِيَ الْخُطْبَةُ الْأَخِيرَةُ عِنْدَهُمْ.

4- الْخُطْبَةُ الرَّابِعَةُ:

يُسَنُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ بِمِنًى ثَانِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ خُطْبَةً وَاحِدَةً يُعَلِّمُ فِيهَا النَّاسَ جَوَازَ النَّفْرِ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَيُوَدِّعُهُمْ.

و- خُطْبَةُ النِّكَاحِ:

20- يُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْطُبَ الْعَاقِدُ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْحَاضِرِينَ خُطْبَةً وَاحِدَةً، بَيْنَ يَدَيِ الْعَقْدِ، وَإِنْ خَطَبَ بِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَهُوَ أَحْسَنُ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ خُطْبَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا قَبْلَ الْخِطْبَةِ، وَالْأُخْرَى قَبْلَ الْعَقْدِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


263-موسوعة الفقه الكويتية (خلع 1)

خَلْعٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْخَلْعُ (بِالْفَتْحِ) لُغَةً هُوَ النَّزْعُ وَالتَّجْرِيدُ، وَالْخُلْعُ (بِالضَّمِّ) اسْمٌ مِنَ الْخَلْعِ.

وَأَمَّا الْخُلْعُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَقَدْ عَرَّفُوهُ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ تَبَعًا لِاخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ فِي كَوْنِهِ طَلَاقًا أَوْ فَسْخًا، فَالْحَنَفِيَّةُ يُعَرِّفُونَهُ بِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ: أَخْذِ مَالٍ مِنَ الْمَرْأَةِ بِإِزَاءِ مِلْكِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْخُلْعِ.

وَتَعْرِيفُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي الْجُمْلَةِ هُوَ: فُرْقَةٌ بِعِوَضٍ مَقْصُودٍ لِجِهَةِ الزَّوْجِ بِلَفْظِ طَلَاقٍ أَوْ خُلْعٍ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الصُّلْحُ:

2- الصُّلْحُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ مِنَ الْمُصَالَحَةِ وَهِيَ التَّوْفِيقُ وَالْمُسَالَمَةُ بَعْدَ الْمُنَازَعَةِ، وَمَعْنَاهُ فِي الشَّرْعِ عَقْدٌ يَرْفَعُ النِّزَاعَ، وَالصُّلْحُ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَئُولُ إِلَيْهَا مَعْنَى الْخُلْعِ الَّذِي هُوَ بَذْلُ الْمَرْأَةِ الْعِوَضَ عَلَى طَلَاقِهَا، وَالْخُلْعُ يُطْلَقُ غَالِبًا عَلَى حَالَةِ بَذْلِهَا لَهُ جَمِيعَ مَا أَعْطَاهَا، وَالصُّلْحُ عَلَى حَالَةِ بَذْلِهَا بَعْضَهُ.

ب- الطَّلَاقُ:

3- الطَّلَاقُ مِنْ أَلْفَاظِ الْخُلْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ بِمَعْنَى التَّطْلِيقِ، كَالسَّلَامِ بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ وَتَرْكِيبُ هَذَا اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى الْحِلِّ وَالِانْحِلَالِ، وَمِنْهُ إِطْلَاقُ الْأَسِيرِ إِذَا حَلَّ إِسَارُهُ وَخُلِّيَ عَنْهُ.

وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَمَعْنَاهُ: رَفْعُ قَيْدِ النِّكَاحِ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ، وَأَمَّا صِلَتُهُ بِالْخُلْعِ، سِوَى مَا ذُكِرَ فَهِيَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْخُلْعِ هَلْ هُوَ طَلَاقٌ بَائِنٌ، أَوْ رَجْعِيٌّ، أَوْ فَسْخٌ، عَلَى أَقْوَالٍ سَيَأْتِي تَفْصِيلُهَا.

وَالطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ هُوَ فِي أَحْكَامِهِ كَالْخُلْعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَلَاقٌ بِعِوَضٍ فَيُعْتَبَرُ فِي أَحَدِهِمَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الْآخَرِ إِلاَّ أَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: يَسْقُطُ بِالْخُلْعِ فِي رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ كُلُّ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِسَبَبِ الزَّوَاجِ، كَالْمَهْرِ، وَالنَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ الْمُتَجَمِّدَةِ أَثْنَاءَ الزَّوَاجِ، لَكِنْ لَا تَسْقُطُ نَفَقَةُ الْعِدَّةِ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً قَبْلَ الْخُلْعِ فَلَا يُتَصَوَّرُ إِسْقَاطُهَا بِهِ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجَيْنِ، وَيَجِبُ بِهِ الْمَالُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فَقَطْ.

الثَّانِي: إِذَا بَطَلَ الْعِوَضُ فِي الْخُلْعِ مِثْلُ أَنْ يُخَالِعَ الْمُسْلِمُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مَيْتَةٍ فَلَا شَيْءَ لِلزَّوْجِ، وَالْفُرْقَةُ بَائِنَةٌ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَإِنَّ الْعِوَضَ إِذَا بَطَلَ فِيهِ وَقَعَ رَجْعِيًّا فِي غَيْرِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ كِنَايَةٌ، أَمَّا الطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ فَهُوَ صَرِيحٌ، وَالْبَيْنُونَةُ إِنَّمَا تَثْبُتُ بِتَسْمِيَةِ الْعِوَضِ إِذَا صَحَّتِ التَّسْمِيَةُ، فَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ صَرِيحُ الطَّلَاقِ فَيَكُونُ رَجْعِيًّا.

الثَّالِثُ: الطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ، طَلَاقٌ بَائِنٌ، يَنْقُصُ بِهِ عَدَدُ الطَّلْقَاتِ بِلَا خِلَافٍ، وَأَمَّا الْخُلْعُ فَالْفُقَهَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي كَوْنِهِ طَلَاقًا يَنْقُصُ بِهِ عَدَدُ الطَّلْقَاتِ، أَوْ فَسْخًا لَا يَنْقُصُ بِهِ عَدَدُهَا كَمَا سَيَأْتِي.

ج- الْفِدْيَةُ:

4- الْفِدْيَةُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْمَالِ الَّذِي يُدْفَعُ لِاسْتِنْقَاذِ الْأَسِيرِ، وَجَمْعُهَا فِدًى وَفِدْيَاتٍ، وَفَادِيَتُهُ مُفَادَاةً، وَفِدَاءً أَطْلَقْتَهُ وَأَخَذْتَ فِدْيَتَهُ.وَفَدَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْ زَوْجِهَا تَفْدِي، وَافْتَدَتْ أَعْطَتْهُ مَالًا حَتَّى تَخَلَّصَتْ مِنْهُ بِالطَّلَاقِ، وَالْفُقَهَاءُ لَا يَخْرُجُونَ فِي تَعْرِيفِهِمْ لِلْفِدْيَةِ عَمَّا وَرَدَ فِي اللُّغَةِ.وَالْفِدْيَةُ وَالْخُلْعُ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ بَذْلُ الْمَرْأَةِ الْعِوَضَ عَلَى طَلَاقِهَا، وَلَفْظُ الْمُفَادَاةِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ فِي الْخُلْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِوُرُودِهِ فِي الْقُرْآنِ.

د- الْفَسْخُ:

5- الْفَسْخُ مَصْدَرُ فَسَخَ وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ الْإِزَالَةُ، وَالرَّفْعُ، وَالنَّقْضُ، وَالتَّفْرِيقُ.

وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَقَدْ ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ وَابْنُ نُجَيْمٍ أَنَّ حَقِيقَةَ الْفَسْخِ حَلُّ ارْتِبَاطِ الْعَقْدِ، وَذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الْفَسْخَ قَلْبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعِوَضَيْنِ إِلَى صَاحِبِهِ، وَالِانْفِسَاخُ انْقِلَابُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعِوَضَيْنِ إِلَى دَافِعِهِ، وَصِلَةُ الْفَسْخِ بِالْخُلْعِ هِيَ أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ عَلَى قَوْلٍ.وَالْفَسْخُ مِنَ الْأَلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ فِي الْخُلْعِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ

هـ- الْمُبَارَأَةُ:

6- الْمُبَارَأَةُ صِيغَةُ مُفَاعَلَةٍ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الْبَرَاءَةِ، وَهِيَ فِي الِاصْطِلَاحِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْخُلْعِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهُوَ بَذْلُ الْمَرْأَةِ الْعِوَضَ عَلَى طَلَاقِهَا لَكِنَّهَا تَخْتَصُّ بِإِسْقَاطِ الْمَرْأَةِ عَنِ الزَّوْجِ حَقًّا لَهَا عَلَيْهِ.وَهِيَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَالْخُلْعِ كِلَاهُمَا يُسْقِطَانِ كُلَّ حَقٍّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالنِّكَاحِ كَالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ دُونَ الْمُسْتَقْبَلَةِ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ يُنْبِئُ عَنِ الْفَصْلِ، وَمِنْهُ خَلْعُ النَّعْلِ وَخَلْعُ الْعَمَلِ وَهُوَ مُطْلَقٌ كَالْمُبَارَأَةِ فَيُعْمَلُ بِإِطْلَاقِهِمَا فِي النِّكَاحِ وَأَحْكَامِهِ وَحُقُوقِهِ.وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَسْقُطُ بِهِمَا إِلاَّ مَا سَمَّيَاهُ لِأَنَّ هَذِهِ مُعَاوَضَةٌ، وَفِي الْمُعَاوَضَاتِ يُعْتَبَرُ الْمَشْرُوطُ لَا غَيْرُهُ، وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ وَافَقَ مُحَمَّدًا فِي الْخُلْعِ وَخَالَفَهُ فِي الْمُبَارَأَةِ، وَخَالَفَ أَبَا حَنِيفَةَ فِي الْخُلْعِ، وَوَافَقَهُ فِي الْمُبَارَأَةِ؛ لِأَنَّ الْمُبَارَأَةَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْبَرَاءَةِ فَتَقْتَضِيهَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَأَنَّهُ مُطْلَقٌ قَيَّدْنَاهُ بِحُقُوقِ النِّكَاحِ لِدَلَالَةِ الْغَرَضِ، أَمَّا الْخُلْعُ فَمُقْتَضَاهُ الِانْخِلَاعُ، وَقَدْ حَصَلَ فِي نَقْضِ النِّكَاحِ وَلَا ضَرُورَةَ إِلَى انْقِطَاعِ الْأَحْكَامِ.

حَقِيقَةُ الْخُلْعِ:

7- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْخُلْعَ إِذَا وَقَعَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَوْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي وُقُوعِهِ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ وَلَمْ يَنْوِ بِهِ صَرِيحَ الطَّلَاقِ أَوْ كِنَايَتَهُ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُفْتَى بِهِ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَشْهَرِ مَا يُرْوَى عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ فَسْخٌ.

هَذَا وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَقَعُ بِهِ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَلَكَ الْبَدَلَ عَلَيْهَا فَتَصِيرُ هِيَ بِمُقَابَلَتِهِ أَمْلَكَ لِنَفْسِهَا؛ وَلِأَنَّ غَرَضَهَا مِنَ الْتِزَامِ الْبَدَلِ أَنْ تَتَخَلَّصَ مِنَ الزَّوْجِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلاَّ بِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ.إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ ذَكَرُوا أَنَّ الزَّوْجَ إِنْ نَوَى بِالْخُلْعِ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ فَهِيَ ثَلَاثٌ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ، وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَ غَيْرِ زُفَرَ، وَعِنْدَهُ ثِنْتَانِ، كَمَا فِي لَفْظِ الْحُرْمَةِ وَالْبَيْنُونَةِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ.

وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الْخُلْعِ لَا قَبْلَهُ، وَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي كَوْنِ الْخُلْعِ طَلَاقًا أَوْ فَسْخًا، أَنَّ اقْتِرَانَ الْعِوَضِ فِيهِ هَلْ يُخْرِجُهُ مِنْ نَوْعِ فُرْقَةِ الطَّلَاقِ إِلَى نَوْعِ فُرْقَةِ الْفَسْخِ، أَوْ لَا يُخْرِجُهُ.

احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} ثُمَّ قَالَ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} فَذَكَرَ تَطْلِيقَتَيْنِ، وَالْخُلْعَ، وَتَطْلِيقَةً بَعْدَهَا، فَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ طَلَاقًا لَكَانَ أَرْبَعًا؛ وَلِأَنَّهَا فُرْقَةٌ خَلَتْ عَنْ صَرِيحِ الطَّلَاقِ وَنِيَّتِهِ فَكَانَتْ فَسْخًا كَسَائِرِ الْفُسُوخِ.

وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- « أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ ».

وَبِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ « الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَوْ أُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ ».

وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ الْخُلْعَ لَوْ كَانَ طَلَاقًا لَمْ يَقْتَصِرْ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْأَمْرِ بِحَيْضَةٍ.

وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ بِأَنَّهُ لَفْظٌ لَا يَمْلِكُهُ إِلاَّ الزَّوْجُ فَكَانَ طَلَاقًا، وَلَوْ كَانَ فَسْخًا لَمَا جَازَ عَلَى غَيْرِ الصَّدَاقِ كَالْإِقَالَةِ، لَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى جَوَازِهِ بِمَا قَلَّ وَكَثُرَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ طَلَاقٌ؛ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ إِنَّمَا بَذَلَتِ الْعِوَضَ لِلْفُرْقَةِ، وَالْفُرْقَةُ الَّتِي يَمْلِكُ الزَّوْجُ إِيقَاعَهَا هِيَ الطَّلَاقُ دُونَ الْفَسْخِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا؛ وَلِأَنَّهُ أَتَى بِكِنَايَةِ الطَّلَاقِ قَاصِدًا فِرَاقَهَا، فَكَانَ طَلَاقًا كَغَيْرِ الْخُلْعِ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ.

وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنهم- مَوْقُوفًا عَلَيْهِمُ: الْخُلْعُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ، وَالْمَعْنَى فِيهِ كَمَا فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ تَمَامِهِ.

وَالْخُلْعُ يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ فَيُجْعَلُ لَفْظُ الْخُلْعِ عِبَارَةً عَنْ رَفْعِ الْعَقْدِ فِي الْحَالِ مَجَازًا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالطَّلَاقِ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى التَّطْلِيقَةَ الثَّالِثَةَ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ، وَبِهَذَا لَا يَصِيرُ الطَّلَاقُ أَرْبَعًا، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- مِنْ خِلَافٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَدْ ثَبَتَ رُجُوعُهُ عَنْهُ.

وَيَتَفَرَّعُ عَلَى كَوْنِ الْخُلْعِ طَلَاقًا أَنَّهُ إِنْ نَوَى بِالْخُلْعِ أَكْثَر مِنْ تَطْلِيقَةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ يَقَعُ مَا نَوَاهُ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ نَوَى ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ فَهِيَ ثَلَاثٌ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ، وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَ غَيْرِ زُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ مَعْنَاهُ الْحُرْمَةُ، وَهِيَ لَا تَحْتَمِلُ التَّعَدُّدَ لَكِنَّ نِيَّةَ الثَّلَاثِ تَدُلُّ عَلَى تَغْلِيظِ الْحُرْمَةِ فَتُعْتَبَرُ بَيْنُونَةً كُبْرَى.

وَيَتَفَرَّعُ عَلَى كَوْنِهِ فَسْخًا أَنَّهُ لَوْ خَالَعَهَا مَرَّتَيْنِ ثُمَّ خَالَعَهَا مَرَّةً أُخْرَى، أَوْ خَالَعَهَا بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا حَتَّى وَإِنْ خَالَعَهَا مِائَةَ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يُحْتَسَبُ مِنَ الطَّلْقَاتِ.

وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِيمَا إِذَا نَوَى بِالْخُلْعِ الطَّلَاقَ مَعَ تَفْرِيعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ فَسْخٌ هَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ أَوْ لَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ.

8- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ الْخُلْعِ مُعَاوَضَةً مِنْ جَانِبِ الزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ، أَوْ مِنْهُمَا مَعًا، وَفِي كَوْنِهِ يَمِينًا مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ دُونَ الزَّوْجَةِ أَوْ مِنْهُمَا مَعًا، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجَةِ مُعَاوَضَةٌ، وَمِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ يَمِينٌ، وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّهُ يَمِينٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى كَوْنِ الْخُلْعِ يَمِينًا مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ عَنْهُ قَبْلَ قَبُولِهَا، وَلَا يَصِحُّ شَرْطُ الْخِيَارِ لَهُ، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى مَجْلِسِ الزَّوْجِ، فَلَا يَبْطُلُ بِقِيَامِهِ، وَيَقْتَصِرُ قَبُولُهَا عَلَى مَجْلِسِ عِلْمِهَا، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى كَوْنِهِ مُعَاوَضَةً مِنْ جَانِبِهَا صِحَّةُ رُجُوعِهَا قَبْلَ قَبُولِهِ، وَصَحَّ شَرْطُ الْخِيَارِ لَهَا وَلَوْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ كَالْبَيْعِ، وَيُشْتَرَطُ فِي قَبُولِهَا عِلْمُهَا بِمَعْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْخُلْعَ مُعَاوَضَةٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ ذَكَرُوا أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقُ مُعَاوَضَةٍ فِيهَا شَوْبُ تَعْلِيقٍ لِتَوَقُّفِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِيهِ عَلَى قَبُولِ الْمَالِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ فَسْخٌ فَهِيَ مُعَاوَضَةٌ مَحْضَةٌ لَا مَدْخَلَ لِلتَّعْلِيقِ فِيهَا، فَيَكُونُ الْخُلْعُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَابْتِدَاءِ الْبَيْعِ، وَلِلزَّوْجِ الرُّجُوعُ قَبْلَ قَبُولِ الزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ الْمُعَاوَضَاتِ.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْعِوَضَ فِي الْخُلْعِ كَالْعِوَضِ فِي الصَّدَاقِ، وَالْبَيْعِ إِنْ كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِ الزَّوْجِ، وَلَمْ يَمْلِكِ التَّصَرُّفَ فِيهِ إِلاَّ بِقَبْضِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُمَا دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ بِمُجَرَّدِ الْخُلْعِ وَصَحَّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

9- الْخُلْعُ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ سَوَاءٌ فِي حَالَةِ الْوِفَاقِ وَالشِّقَاقِ خِلَافًا لِابْنِ الْمُنْذِرِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَصِحُّ الْخُلْعُ فِي حَالَتَيِ الشِّقَاقِ وَالْوِفَاقِ، ثُمَّ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ إِنْ جَرَى فِي حَالِ الشِّقَاقِ، أَوْ كَانَتْ تُكْرَهُ صُحْبَتُهُ لِسُوءِ خُلُقِهِ، أَوْ دِينِهِ، أَوْ تَحَرَّجَتْ مِنَ الْإِخْلَالِ بِبَعْضِ حُقُوقِهِ، أَوْ ضَرَبَهَا تَأْدِيبًا فَافْتَدَتْ، وَأَلْحَقَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ بِهِ مَا إِذَا مَنَعَهَا نَفَقَةً أَوْ غَيْرَهَا فَافْتَدَتْ لِتَتَخَلَّصَ مِنْهُ، قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: فَإِنْ مَنَعَهَا النَّفَقَةَ لِكَيْ تَخْتَلِعَ مِنْهُ فَهُوَ مِنَ الْإِكْرَاهِ فَتَبِينُ مِنْهُ بِلَا مَالٍ إِذَا ثَبَتَ الْإِكْرَاهُ، قَالَ الرَّمْلِيُّ: وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ.وَجَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ اسْتِثْنَاءُ حَالَتَيْنِ مِنَ الْكَرَاهَةِ: إِحْدَاهُمَا أَنْ يَخَافَا أَوْ أَحَدُهُمَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ أَيْ مَا افْتَرَضَهُ فِي النِّكَاحِ.

وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَحْلِفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ، فَيَخْلَعَهَا، ثُمَّ يَفْعَلَ الْأَمْرَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا فَلَا يَحْنَثُ لِانْحِلَالِ الْيَمِينِ بِالْفِعْلَةِ الْأُولَى، إِذْ لَا يَتَنَاوَلُ إِلاَّ الْفِعْلَةَ الْأُولَى وَقَدْ حَصَلَتْ، فَإِنْ خَالَعَهَا وَلَمْ يَفْعَلِ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ يَتَخَلَّصُ مِنَ الْحِنْثِ فَإِذَا فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بَعْدَ النِّكَاحِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ سَبَقَ هَذَا النِّكَاحَ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ، كَمَا إِذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ عَلَى صِفَةٍ وُجِدَتْ بَعْدَهُ.

وَالْخِلَافُ فِي كَوْنِ الْخُلْعِ جَائِزًا أَوْ مَكْرُوهًا إِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَى الْعِصْمَةِ، كَمَا فِي حَاشِيَةِ الصَّاوِيِّ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ طَلَاقًا فَهُوَ مَكْرُوهٌ بِالنَّظَرِ لِأَصْلِهِ أَوْ خِلَافُ الْأَوْلَى، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: « أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ ».

وَاسْتَدَلُّوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}.

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لَهُ: « اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً » وَهُوَ أَوَّلُ خُلْعٍ وَقَعَ فِي الْإِسْلَامِ.

وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالْأُمَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ وَجَوَازِهِ.

وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُولِ بِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ حَقُّ الزَّوْجِ فَجَازَ لَهُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ كَالْقِصَاصِ.

10- وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْخُلْعَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:

الْأَوَّلُ: مُبَاحُ الْخُلْعِ وَهُوَ أَنْ تَكْرَهَ الْمَرْأَةُ الْبَقَاءَ مَعَ زَوْجِهَا لِبُغْضِهَا إِيَّاهُ، وَتَخَافُ أَلاَّ تُؤَدِّيَ حَقَّهُ، وَلَا تُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ فِي طَاعَتِهِ، فَلَهَا أَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وَيُسَنُّ لِلزَّوْجِ إِجَابَتُهَا، لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: « جَاءَتِ امْرَأَةُ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا أَنْقِمُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ إِلاَّ أَنِّي أَخَافُ الْكُفْرَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: فَتَرُدِّي عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ فَقَالَتْ: نَعَمْ.فَرَدَّتْ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ فَفَارَقَهَا » وَلِأَنَّ حَاجَتَهَا دَاعِيَةٌ إِلَى فُرْقَتِهِ، وَلَا تَصِلُ إِلَى الْفُرْقَةِ إِلاَّ بِبَذْلِ الْعِوَضِ فَأُبِيحَ لَهَا ذَلِكَ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ لَهُ إِلَيْهَا مَيْلٌ وَمَحَبَّةٌ فَحِينَئِذٍ يُسْتَحَبُّ صَبْرُهَا وَعَدَمُ افْتِدَائِهَا، قَالَ أَحْمَدُ: يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَصْبِرَ.قَالَ الْقَاضِي: أَيْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ، وَلَا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ، لِنَصِّهِمْ عَلَى جَوَازِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.

الثَّانِي: مَكْرُوهٌ: كَمَا إِذَا خَالَعَتْهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مَعَ اسْتِقَامَةِ الْحَالِ لِحَدِيثِ ثَوْبَانَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلَاقًا فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّةِ » وَلِأَنَّهُ عَبَثٌ فَيَكُونُ مَكْرُوهًا، وَيَقَعُ الْخُلْعُ، لقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ أَحْمَدَ تَحْرِيمَهُ وَبُطْلَانَهُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ الْخُلْعُ مِثْلُ حَدِيثِ سَهْلَةَ تَكْرَهُ الرَّجُلَ فَتُعْطِيهِ الْمَهْرَ فَهَذَا الْخُلْعُ وَوَجْهُ ذَلِكَ قوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}.

الثَّالِثُ: مُحَرَّمٌ: كَمَا إِذَا عَضَلَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ بِأَذَاهُ لَهَا وَمَنْعِهَا حَقَّهَا ظُلْمًا لِتَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ لقوله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} فَإِنْ طَلَّقَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ بِعِوَضٍ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ أُكْرِهَتْ عَلَى بَذْلِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا.

وَإِنْ خَالَعَهَا بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ فَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ طَلَاقٌ فَحُكْمُهُ مَا ذُكِرَ، وَإِلاَّ فَالزَّوْجِيَّةُ بِحَالِهَا، فَإِنْ أَدَّبَهَا لِتَرْكِهَا فَرْضًا أَوْ نُشُوزِهَا فَخَالَعَتْهُ لِذَلِكَ لَمْ يَحْرُمْ؛ لِأَنَّهُ ضَرَبَهَا بِحَقٍّ، وَإِنْ زَنَتْ فَعَضَلَهَا لِتَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ جَازَ وَصَحَّ الْخُلْعُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّهْيِ إِبَاحَةٌ.وَإِنْ ضَرَبَهَا ظُلْمًا لِغَيْرِ قَصْدِ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْهَا فَخَالَعَتْهُ لِذَلِكَ صَحَّ الْخُلْعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْضُلْهَا لِيَأْخُذَ مِمَّا آتَاهَا شَيْئًا.

وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا أَنَّ الْخُلْعَ يَحْرُمُ حِيلَةً لِإِسْقَاطِ يَمِينِ طَلَاقٍ، وَلَا يَصِحُّ وَلَا يَقَعُ؛ لِأَنَّ الْحِيَلَ خِدَاعٌ لَا تُحِلُّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ.هَذَا وَاخْتَارَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَدَمَ جَوَازِ الْخُلْعِ حَتَّى يَقَعَ الشِّقَاقُ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَتَمَسَّكَ بِظَاهِرِ قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}.

وَبِذَلِكَ قَالَ طَاوُسٌ وَالشَّعْبِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ.وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الطَّبَرِيُّ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا إِذَا لَمْ تَقُمْ بِحُقُوقِ الزَّوْجِ كَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا لِبُغْضِ الزَّوْجِ لَهَا فَنُسِبَتِ الْمَخَافَةُ إِلَيْهِمَا لِذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ عَدَمَ اعْتِبَارِ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَسْتَفْسِرْ ثَابِتًا عَنْ كَرَاهَتِهِ لَهَا عِنْدَ إِعْلَانِهَا بِالْكَرَاهَةِ لَهُ، عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْخَوْفِ فِي الْآيَةِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ وُقُوعُ الْخُلْعِ فِي حَالَةِ التَّشَاجُرِ؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا جَازَ حَالَةَ الْخَوْفِ وَهِيَ مُضْطَرَّةٌ إِلَى بَذْلِ الْمَالِ فَفِي حَالَةِ الرِّضَا أَوْلَى.

11- وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ- عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ- بِأَنَّهَا إِذَا خَالَعَتْهُ دَرْءًا لِضَرَرِهِ فَإِنَّ الزَّوْجَ يَرُدُّ الْمَالَ الَّذِي خَالَعَهَا بِهِ، وَلَوْ كَانَتْ قَدْ أَسْقَطَتِ الْبَيِّنَةَ الَّتِي أَشْهَدَتْهَا بِأَنَّهَا خَالَعَتْهُ لِدَرْءِ ضَرَرِهِ.

جَوَازُ أَخْذِ الْعِوَضِ مِنَ الْمَرْأَةِ:

12- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ أَخْذِ الزَّوْجِ عِوَضًا مِنَ امْرَأَتِهِ فِي مُقَابِلِ فِرَاقِهِ لَهَا سَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ مُسَاوِيًا لِمَا أَعْطَاهَا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ مَا دَامَ الطَّرَفَانِ قَدْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ نَفْسَ الصَّدَاقِ أَوْ مَالًا آخَرَ غَيْرَهُ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا بَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْأَخْذُ إِنْ عَضَلَهَا لِيَضْطَرَّهَا إِلَى الْفِدَاءِ.

وَفَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: إِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ كُرِهَ لَهُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهَا، لقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا}.وَلِأَنَّهُ أَوْحَشَهَا بِالْفِرَاقِ فَلَا يَزِيدُ إِيحَاشَهَا بِأَخْذِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ لَا يُكْرَهُ لَهُ الْأَخْذُ، وَهَذَا بِإِطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، لقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}.وَقَالَ الْقُدُورِيُّ: إِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْهَا كُرِهَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ (مِنْ كُتُبِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ) لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- « فِي امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ: أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا ».وَقَدْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْهَا، وَلَوْ أَخَذَ الزِّيَادَةَ جَازَ فِي الْقَضَاءِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَخَذَ وَالنُّشُوزُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى مَا ذُكِرَ يَتَنَاوَلُ الْجَوَازَ وَالْإِبَاحَةَ، وَقَدْ تَرَكَ الْعَمَلَ فِي حَقِّ الْإِبَاحَةِ لِمُعَارِضٍ، فَبَقِيَ مَعْمُولًا فِي الْبَاقِي.

جَوَازُهُ بِحَاكِمٍ وَبِلَا حَاكِمٍ:

13- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ الْخُلْعِ بِحَاكِمٍ وَبِلَا حَاكِمٍ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ- رضي الله عنه-، فَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ طَرِيقِ خَيْثَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْصُولًا أَنَّ بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ أُتِيَ فِي خُلْعٍ كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ فَلَمْ يُجِزْهُ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شِهَابٍ الْخَوْلَانِيُّ: قَدْ أَتَى عُمَرُ فِي خُلْعٍ فَأَجَازَهُ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ جَائِزٌ بِلَا حَاكِمٍ فَكَذَلِكَ الْخُلْعُ.

وَذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ كَمَا ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الْخُلْعِ دُونَ السُّلْطَانِ بِدَلِيلِ قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا}.قَالَ: فَجَعَلَ الْخَوْفَ لِغَيْرِ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يَقُلْ فَإِنْ خَافَا.

وَقْتُ الْخُلْعِ:

14- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْخُلْعَ جَائِزٌ فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ لِلضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُهَا بِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ، وَالْخُلْعُ شُرِعَ لِرَفْعِ الضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُهَا بِسُوءِ الْعِشْرَةِ وَالتَّقْصِيرِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ، وَالضَّرَرُ بِذَلِكَ أَعْظَمُ مِنَ الضَّرَرِ بِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ، فَجَازَ دَفْعُ أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ بِأَخَفِّهِمَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَسْأَلِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْمُخْتَلِعَةَ عَنْ حَالِهَا؛ وَلِأَنَّ ضَرَرَ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا وَالْخُلْعُ يَحْصُلُ بِسُؤَالِهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ رِضَاءً مِنْهَا بِهِ وَدَلِيلًا عَلَى رُجْحَانِ مَصْلَحَتِهَا فِيهِ.

أَرْكَانُهُ وَمَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ فِي شُرُوطِهَا:

15- لِلْخُلْعِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ خَمْسَةُ أَرْكَانٍ وَهِيَ: الْمُوجِبُ- الْقَابِلُ- الْمُعَوَّضُ- الْعِوَضُ- الصِّيغَةُ.

فَالْمُوجِبُ: الزَّوْجُ أَوْ وَلِيُّهُ، وَالْقَابِلُ: الْمُلْتَزِمُ لِلْعِوَضِ، وَالْمُعَوَّضُ: الِاسْتِمْتَاعُ بِالزَّوْجَةِ، وَالْعِوَضُ: الشَّيْءُ الْمُخَالَعُ بِهِ، وَالصِّيغَةُ، الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الْخُلْعُ.

وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرُوا لَهُ رُكْنَيْنِ إِنْ كَانَ بِعِوَضٍ وَهُمَا: الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى الطَّلَاقِ بِعِوَضٍ، فَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْعِوَضَ بِدُونِ الْقَبُولِ، بِخِلَافِ الْخُلْعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ خَالَعْتُكِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْعِوَضَ وَنَوَى الطَّلَاقَ فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ قَبِلَتْ أَوْ لَمْ تَقْبَلْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ طَلَاقٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبُولِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لِكُلِّ رُكْنٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ شُرُوطًا وَأَحْكَامًا نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي:

الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: الْمُوجِبُ:

16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُوجِبِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّطْلِيقَ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (طَلَاقٌ).

فَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يُجِيزُونَ خُلْعَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِفَلَسٍ، أَوْ سَفَهٍ، أَوْ رِقٍّ قِيَاسًا عَلَى الطَّلَاقِ، لِأَنَّهُمْ يَمْلِكُونَهُ، وَجَازَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا خُلْعُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فِي وَجْهٍ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ طَلَاقِهِ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمُخْتَلِعَ لَا يَجُوزُ لَهُ تَسْلِيمُ الْمَالِ إِلَى السَّفِيهِ بَلْ يُسَلِّمُهُ إِلَى الْوَلِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الَّذِي يَقْبِضُ حُقُوقَهُ وَأَمْوَالَهُ وَهَذَا مِنْ حُقُوقِهِ خِلَافًا لِلْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ حَيْثُ قَالَ: يَصِحُّ قَبْضُهُ لِعِوَضٍ لِصِحَّةِ خُلْعِهِ فَيَصِحُّ قَبْضُهُ، كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِفَلَسٍ، وَالْأَوْلَى كَمَا فِي الْمُغْنِي عَدَمُ جَوَازِ تَسْلِيمِ الْمَالِ إِلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ أَفَادَ مَنْعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ.

الرُّكْنُ الثَّانِي: الْقَابِلُ:

17- يُشْتَرَطُ فِي قَابِلِ الْخُلْعِ مِنَ الزَّوْجَةِ أَوِ الْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ صَحِيحَ الِالْتِزَامِ.فَلَوْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ الصَّغِيرَةَ عَلَى مَهْرِهَا فَقَبِلَتْ أَوْ قَالَتِ الصَّغِيرَةُ لِزَوْجِهَا اخْلَعْنِي عَلَى مَهْرِي فَفَعَلَ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ بَدَلٍ، كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ، وَإِنْ كَانَ بَاذِلُ الْعِوَضِ غَيْرَ رَشِيدٍ رَدَّ الزَّوْجُ الْمَالَ الْمَبْذُولَ وَبَانَتْ مِنْهُ، مَا لَمْ يُعَلِّقْ بِقَوْلِهِ: إِنْ تَمَّ لِي هَذَا الْمَالُ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ إِنْ صَحَّتْ بَرَاءَتُكِ فَطَالِقٌ كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ، فَإِذَا رَدَّ الْوَلِيُّ أَوِ الْحَاكِمُ الْمَالَ مِنَ الزَّوْجِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قَالَهُ لِرَشِيدَةٍ أَوْ رَشِيدٍ، أَوْ قَالَهُ بَعْدَ صُدُورِ الطَّلَاقِ فَلَا يَنْفَعُهُ.

وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ خُلْعَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهَا لِصِغَرٍ أَوْ سَفَهٍ، أَوْ جُنُونٍ لَا يَصِحُّ حَتَّى لَوْ أَذِنَ فِيهِ الْوَلِيُّ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَالِ وَلَيْسَتْ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَا إِذْنَ لِلْوَلِيِّ فِي التَّبَرُّعَاتِ.

وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهَا لِفَلَسٍ فَيَصِحُّ مِنْهَا الْخُلْعُ عَلَى مَالٍ فِي ذِمَّتِهَا كَمَا ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ؛ لِأَنَّ لَهَا ذِمَّةً يَصِحُّ تَصَرُّفُهَا فِيهَا، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهَا حَالَ حَجْرِهَا، كَمَا لَوِ اسْتَدَانَتْ مِنْ إِنْسَانٍ فِي ذِمَّتِهَا أَوْ بَاعَهَا شَيْئًا بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهَا، وَيَكُونُ مَا خَالَعَتْ عَلَيْهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا، يُؤْخَذُ مِنْهَا إِذَا انْفَكَّ عَنْهَا الْحَجْرُ وَأَيْسَرَتْ.أَمَّا لَوْ خَالَعَتْ بِمُعَيَّنٍ مِنْ مَالِهَا فَلَا يَصِحُّ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ.

الْخُلْعُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ أَوِ الْمَرَضِ الْمَخُوفِ:

أ- مَرَضُ الزَّوْجَةِ:

18- يَجُوزُ لِلزَّوْجَةِ الْمَرِيضَةِ مَرَضًا مَخُوفًا أَنْ تُخَالِعَ زَوْجَهَا فِي مَرَضِهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ كَالْبَيْعِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَأْخُذُهُ الزَّوْجُ فِي مُقَابِلِ ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ رَاغِبَةً فِي مُحَابَاتِهِ عَلَى حِسَابِ الْوَرَثَةِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ خُلْعَ الْمَرِيضَةِ يُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ فَلَهُ الْأَقَلُّ مِنْ إِرْثِهِ، وَبَدَلُ الْخُلْعِ إِنْ خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ وَإِلاَّ فَالْأَقَلُّ مِنْ إِرْثِهِ، وَالثُّلُثُ إِنْ مَاتَتْ فِي الْعِدَّةِ، أَمَّا لَوْ مَاتَتْ بَعْدَهَا أَوْ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهُ الْبَدَلُ إِنْ خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْخُلْعَ إِنْ كَانَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ نَفَذَ دُونَ اعْتِبَارِ الثُّلُثِ، وَإِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ فَالزِّيَادَةُ كَالْوَصِيَّةِ لِلزَّوْجِ، وَتُعْتَبَرُ الزِّيَادَةُ الثُّلُثَ وَلَا تَكُونُ كَالْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ لِخُرُوجِهِ (أَيِ الزَّوْجِ) بِالْخُلْعِ عَنِ الْإِرْثِ، وَلَوِ اخْتَلَعَتْ بِجَمَلٍ قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُونَ (دِرْهَمًا) فَقَدْ حَابَتْ بِنِصْفِ الْجَمَلِ، فَيُنْظَرُ إِنْ خَرَجَتِ الْمُحَابَاةُ مِنَ الثُّلُثِ، فَالْجَمَلُ كُلُّهُ لِلزَّوْجِ عِوَضًا وَوَصِيَّةً.

وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَجْهًا أَنَّهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْجَمَلَ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَيَرْجِعَ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْجَمَلُ عِوَضًا.وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، إِذْ لَا نَقْصَ وَلَا تَشْقِيصَ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الثُّلُثِ بِأَنْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لَمْ تَصِحَّ الْمُحَابَاةُ، وَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُمْسِكَ نِصْفَ الْجَمَلِ وَهُوَ قَدْرُ مَهْرِ الْمِثْلِ وَيَرْضَى بِالتَّشْقِيصِ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْمُسَمَّى وَيُضَارِبَ الْغُرَمَاءَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا وَصَايَا أُخَرُ، فَإِنْ شَاءَ الزَّوْجُ أَخَذَ نِصْفَ الْجَمَلِ وَضَارَبَ أَصْحَابَ الْوَصَايَا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْمُسَمَّى وَتَقَدَّمَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى أَصْحَابِ الْوَصَايَا وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ ضِمْنِ الْمُعَاوَضَةِ وَقَدِ ارْتَفَعَتْ بِالْفَسْخِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَيْنٌ، وَلَا وَصِيَّةٌ، وَلَا شَيْءَ لَهَا سِوَى ذَلِكَ الْجَمَلِ فَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَ ثُلُثَيِ الْجَمَلِ، نِصْفُهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَسُدُسُهُ بِالْوَصِيَّةِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ، وَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ مَهْرُ الْمِثْلِ.

وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّ لِلزَّوْجِ مَا خَالَعَتْهُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ قَدْرَ مِيرَاثِهِ مِنْهَا فَمَا دُونَ، وَإِنْ كَانَ بِزِيَادَةٍ فَلَهُ الْأَقَلُّ مِنَ الْمُسَمَّى فِي الْخُلْعِ أَوْ مِيرَاثُهُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا تُهْمَةَ فِيهِ بِخِلَافِ الْأَكْثَرِ مِنْهَا، فَإِنَّ الْخُلْعَ إِنْ وَقَعَ بِأَكْثَرَ مِنَ الْمِيرَاثِ تَطَرَّقَتْ إِلَيْهِ التُّهْمَةُ مِنْ قَصْدِ إِيصَالِهَا إِلَيْهِ شَيْئًا مِنْ مَالِهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ عَلَى وَجْهٍ لَمْ تَكُنْ قَادِرَةً عَلَيْهِ أَشْبَهَ مَا لَوْ أَوْصَتْ أَوْ أَقَرَّتْ لَهُ، وَإِنْ وَقَعَ بِأَقَلَّ مِنَ الْمِيرَاثِ فَالْبَاقِي هُوَ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْهُ فَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ، فَتَعَيَّنَ اسْتِحْقَاقُهُ الْأَقَلَّ مِنْهُمَا، وَإِنْ شُفِيَتْ مِنْ مَرَضِهَا ذَاكَ الَّذِي خَالَعَتْهُ فِيهِ فَلَهُ جَمِيعُ مَا خَالَعَهَا بِهِ كَمَا لَوْ خَالَعَهَا فِي الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَرَضِ مَوْتِهَا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ خُلْعُ الزَّوْجَةِ الْمَرِيضَةِ مَرَضًا مَخُوفًا إِنْ كَانَ بَدَلُ الْخُلْعِ بِقَدْرِ إِرْثِهِ أَوْ أَقَلَّ لَوْ مَاتَتْ وَلَا يَتَوَارَثَانِ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ.أَمَّا إِنْ زَادَ بِأَنْ كَانَ إِرْثُهُ مِنْهَا عَشَرَةً وَخَالَعَتْهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ وَأَوْلَى لَوْ خَالَعَتْهُ بِجَمِيعِ مَالِهَا فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ لِإِعَانَتِهِ لَهَا عَلَى الْحَرَامِ، وَيَنْفُذُ الطَّلَاقُ وَلَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا إِنْ كَانَ الزَّوْجُ صَحِيحًا وَلَوْ مَاتَتْ فِي عِدَّتِهَا.

وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ فِي مَرَضِهَا وَهُوَ صَحِيحٌ بِجَمِيعِ مَالِهَا لَمْ يَجُزْ وَلَا يَرِثُهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ لَا يُخَالِفُهُ، كَمَا قَالَهُ أَكْثَرُ الْأَشْيَاخِ، وَرَدَّ الزَّائِدَ عَلَى إِرْثِهِ مِنْهَا، وَاعْتُبِرَ الزَّائِدُ عَلَى إِرْثِهِ يَوْمَ مَوْتِهَا لَا يَوْمَ الْخُلْعِ، وَحِينَئِذٍ فَيُوقَفُ جَمِيعُ الْمَالِ الْمُخَالَعِ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْمَوْتِ، فَإِنْ كَانَ قَدْرَ إِرْثِهِ فَأَقَلَّ، اسْتَقَلَّ بِهِ الزَّوْجُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ، رَدَّ مَا زَادَ عَلَى إِرْثِهِ، فَإِنْ صَحَّتْ مِنْ مَرَضِهَا تَمَّ الْخُلْعُ وَأَخَذَ جَمِيعَ مَا خَالَعَتْهُ بِهِ وَلَوْ أَتَى عَلَى جَمِيعِ مَالِهَا، وَلَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


264-موسوعة الفقه الكويتية (خلع 2)

خَلْعٌ -2

ب- مَرَضُ الزَّوْجِ:

19- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ خُلْعَ الزَّوْجِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ جَائِزٌ وَنَافِذٌ بِالْمُسَمَّى، سَوَاءٌ أَكَانَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَمْ أَقَلَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَصَحَّ، فَلأَنْ يَصِحَّ بِعِوَضٍ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الْوَرَثَةَ لَا يَفُوتُهُمْ بِخَلْعِهِ شَيْءٌ، وَمِثْلُ الْمَرِيضِ فِي هَذَا الْحُكْمِ مَنْ حَضَرَ صَفَّ الْقِتَالِ، وَالْمَحْبُوسُ لِقَتْلٍ أَوْ قَطْعٍ كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ، وَذَكَرُوا أَيْضًا أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِخْرَاجِ وَارِثٍ وَلَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ أَمَاتَ فِي الْعِدَّةِ أَمْ بَعْدَهَا خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ زَوْجَتَهُ الْمُطَلَّقَةَ فِي الْمَرَضِ تَرِثُهُ إِنْ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ الْمَخُوفِ الَّذِي خَالَعَهَا فِيهِ، وَلَوْ خَرَجَتْ مِنَ الْعِدَّةِ وَتَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ وَلَوْ أَزْوَاجًا، أَمَّا هُوَ فَلَا يَرِثُهَا إِنْ مَاتَتْ فِي مَرَضِهِ الْمَخُوفِ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ وَلَوْ كَانَتْ هِيَ مَرِيضَةً أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ الَّذِي أَسْقَطَ مَا كَانَ بِيَدِهِ، وَتَرِثُهُ أَيْضًا إِذَا تَبَرَّعَ أَجْنَبِيٌّ بِخُلْعِهَا مِنْهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ مِنْهُ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَرْضَ بِهَذَا الطَّلَاقِ فَيُعْتَبَرَ الزَّوْجُ فَارًّا، فَلَوْ أَوْصَى الزَّوْجُ لَهَا بِمِثْلِ مِيرَاثِهَا أَوْ أَقَلَّ صَحَّ كَمَا ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي أَنَّهُ أَبَانَهَا لِيُعْطِيَهَا ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَبْنِهَا لأَخَذَتْهُ بِمِيرَاثِهَا، وَإِنْ أَوْصَى لَهَا بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ فَلِلْوَرَثَةِ مَنْعُهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ اتُّهِمَ فِي أَنَّهُ قَصَدَ إِيصَالَ ذَلِكَ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ إِلَى إِيصَالِهِ إِلَيْهَا وَهِيَ فِي عِصْمَتِهِ، فَطَلَّقَهَا لِيُوصِلَ ذَلِكَ إِلَيْهَا فَمُنِعَ مِنْهُ كَمَا لَوْ أَوْصَى لِوَارِثٍ.

خُلْعُ الْوَلِيِّ:

20- يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِوَلِيِّ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ مِنْ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهُمَا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَلِيُّ أَبًا لِلزَّوْجِ أَمْ وَصِيًّا أَمْ حَاكِمًا أَمْ مُقَامًا مِنْ جِهَتِهِ، إِذَا كَانَ الْخُلْعُ مِنْهُ لِمَصْلَحَةٍ، وَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ عِنْدَ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَيْهِمَا بِلَا عِوَضٍ، وَنَقَلَ ابْنُ عَرَفَةَ عَنِ اللَّخْمِيِّ جَوَازَهُ لِمَصْلَحَةٍ، إِذْ قَدْ يَكُونُ فِي بَقَاءِ الْعِصْمَةِ فَسَادٌ لِأَمْرٍ ظَهَرَ أَوْ حَدَثَ.

وَأَمَّا وَلِيُّ السَّفِيهِ فَلَا يُخَالِعُ عَنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِيَدِ الزَّوْجِ الْمُكَلَّفِ وَلَوْ سَفِيهًا أَوْ عَبْدًا لَا بِيَدِ الْأَبِ، فَأَوْلَى غَيْرُهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ كَالْوَصِيِّ وَالْحَاكِمِ.

وَالْخُلْعُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَصِحُّ مِمَّنْ يَصِحُّ طَلَاقُهُ بِالْمِلْكِ، أَوِ الْوَكَالَةِ، أَوِ الْوِلَايَةِ كَالْحَاكِمِ فِي الشِّقَاقِ.

وَلَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يَخْلَعَ زَوْجَةَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ أَوْ يُطَلِّقَ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأَشْهَرِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: « الطَّلَاقُ لِمَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ ».

وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أَيَّدَهَا الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ وَرَجَّحَهَا صَاحِبُ الْمُبْدِعِ إِلَى أَنَّ الْأَبَ يَمْلِكُ ذَلِكَ، لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- طَلَّقَ عَلَى ابْنٍ لَهُ مَعْتُوهٍ؛ وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُزَوِّجَهُ، فَصَحَّ أَنْ يُطَلِّقَ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا شَأْنُهُ كَالْحَاكِمِ يَفْسَخُ لِلْإِعْسَارِ وَيُزَوِّجُ الصَّغِيرَ.

وَأَمَّا خُلْعُ الْأَبِ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ مَنْ خَلَعَ ابْنَتَهُ وَهِيَ صَغِيرَةٌ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهَا لَمْ يَجُزْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَا نَظَرَ لَهَا فِيهِ، كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ، إِذِ الْبُضْعُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ، وَالْبَدَلُ مُتَقَوِّمٌ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَ الدُّخُولِ، وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ خُلْعُ الْمَرِيضَةِ مِنَ الثُّلُثِ، وَنِكَاحُ الْمَرِيضِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ.

وَلِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَسْقُطُ حَقُّهَا مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ وَلَا يَسْتَحِقُّ مَالَهَا وَلِلزَّوْجِ مُرَاجَعَتُهَا إِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الدُّخُولِ كَمَا فِي الْمُهَذَّبِ، وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ رِوَايَتَيْنِ مَنْشَؤُهُمَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي الْكِتَابِ لَمْ يَجُزْ، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى الطَّلَاقِ وَأَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى لُزُومِ الْمَالِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ، وَعَدَمُ الْجَوَازِ مُنْصَرِفٌ إِلَى الْمَالِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُنْتَقَى لِأَنَّ لِسَانَ الْأَبِ كَلِسَانِهَا.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ جَوَّزُوا خُلْعَ الْمُجْبِرِ كَأَبٍ عَنِ الْمُجْبَرَةِ مِنْ مَالِهَا وَلَوْ بِجَمِيعِ مَهْرِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُجْبِرِ كَوَصِيٍّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَالِعَ عَمَّنْ تَحْتَ إِيصَائِهِ مِنْ مَالِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا، وَكَذَا بِإِذْنِهَا عَلَى الْأَرْجَحِ.

وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُبْدِعِ بِلَفْظِ قِيلَ: إِنَّهُ لَهُ ذَلِكَ إِذَا رَأَى الْحَظَّ فِيهِ كَتَخْلِيصِهَا مِمَّنْ يُتْلِفُ مَالَهَا وَيُخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهَا وَعَقْلِهَا، وَالْأَبُ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ إِذَا خَالَعُوا فِي حَقِّ الْمَجْنُونَةِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ صِغَرٍ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إِذَا خَالَعَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ، صَرَّحَ بِهِ فِي الشَّرْحِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ، فَمِنَ الْوَلِيِّ أَوْلَى.

خُلْعُ الْفُضُولِيِّ:

21- لِلْفُقَهَاءِ فِي خُلْعِ الْفُضُولِيِّ اتِّجَاهَانِ:

الْأَوَّلُ: جَوَازُهُ وَصِحَّتُهُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ لَكِنْ بِقَيْدٍ وَهُوَ أَنْ يُضِيفَ الْبَدَلَ إِلَى نَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ يُفِيدُ ضَمَانَهُ لَهُ أَوْ مِلْكَهُ إِيَّاهُ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: اخْلَعْهَا بِأَلْفٍ عَلَيَّ أَوْ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ أَوْ عَلَى أَلْفَيْ هَذِهِ، فَإِنْ أَرْسَلَ الْخُلْعَ بِأَنْ قَالَ عَلَى أَلْفٍ أَوْ عَلَى هَذَا الْجَمَلِ، فَإِنْ قَبِلَتْ لَزِمَهَا تَسْلِيمُهُ، أَوْ قِيمَتُهُ إِنْ عَجَزَتْ، وَإِنْ أَضَافَهُ إِلَى غَيْرِهِ كَجَمَلِ فُلَانٍ اعْتُبِرَ قَبُولُ فُلَانٍ.

وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ سَوَاءٌ قَصَدَ الْفُضُولِيُّ بِذَلِكَ جَلْبَ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْءَ مَفْسَدَةِ أَوْ إِسْقَاطَ نَفَقَتِهَا عَنِ الزَّوْجِ كَمَا فِي ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ إِلاَّ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ قَيَّدَ صِحَّتَهُ بِعَدَمِ قَصْدِ الْفُضُولِيِّ إِسْقَاطَ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ عَنِ الزَّوْجِ فَإِنْ قَصَدَ إِسْقَاطَهَا عَنْهُ فَقَدْ حُكِيَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

أ- يُرَدُّ الْعِوَضُ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَتَسْقُطُ نَفَقَةُ الْعِدَّةِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْبُرْزُلِيُّ.

ب- يُرَدُّ الْعِوَضُ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا وَلَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَابْنُ عَرَفَةَ.

ج- يَقَعُ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَلَا تَسْقُطُ النَّفَقَةُ وَيَجْرِي مِثْلُ هَذَا فِيمَنْ قَصَدَ دَفْعَ الْعِوَضِ لِيَتَزَوَّجَهَا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا إِلَى جَوَازِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِلَفْظِ طَلَاقٍ أَمْ خُلْعٍ، فَخُلْعُ الْفُضُولِيِّ عِنْدَهُمْ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَاخْتِلَاعِ الزَّوْجَةِ لَفْظًا وَحُكْمًا، وَذَكَرُوا أَنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ ابْتِدَاءُ مُعَاوَضَةٍ فِيهَا شَوْبُ تَعْلِيقٍ، وَمِنْ جَانِبِ الْأَجْنَبِيِّ ابْتِدَاءُ مُعَاوَضَةٍ فِيهَا شَوْبُ جَعَالَةٍ، فَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ لِلْفُضُولِيِّ طَلَّقْتُ امْرَأَتِي عَلَى أَلْفٍ فِي ذِمَّتِكَ فَقَبِلَ، أَوْ قَالَ الْفُضُولِيُّ لِلزَّوْجِ: طَلِّقِ امْرَأَتَكَ عَلَى أَلْفٍ فِي ذِمَّتِي فَأَجَابَ، وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا بِالْمُسَمَّى، وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ قَبُولِ الْفُضُولِيِّ نَظَرًا لِشَوْبِ التَّعْلِيقِ، وَلِلْفُضُولِيِّ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ إِجَابَةِ الزَّوْجِ نَظَرًا لِشَوْبِ الْجَعَالَةِ.

وَخُلْعُ الْفُضُولِيِّ جَائِزٌ أَيْضًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْحَنَابِلَةِ وَلَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى قَبُولِ الْمَرْأَةِ فَيَكُونَ الْتِزَامُهُ لِلْمَالِ فِدَاءً لَهَا، كَالْتِزَامِ الْمَالِ لِعِتْقِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ فِي ذَلِكَ غَرَضٌ صَحِيحٌ، كَتَخْلِيصِهَا مِمَّنْ يُسِيءُ عِشْرَتَهَا وَيَمْنَعُهَا حُقُوقَهَا.

الثَّانِي: عَدَمُ الصِّحَّةِ وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ أَبُو ثَوْرٍ وَمَنْ قَالَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ، وَاسْتَدَلَّ أَبُو ثَوْرٍ بِأَنَّهُ يَبْذُلُ عِوَضًا فِي مُقَابَلَةِ مَا لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِيهِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْفَسْخَ بِلَا سَبَبٍ لَا يَنْفَرِدُ بِهِ الزَّوْجُ فَلَا يَصِحُّ طَلَبُهُ مِنْهُ.

التَّوْكِيلُ فِي الْخُلْعِ:

22- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ التَّوْكِيلَ فِي الْخُلْعِ جَائِزٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ وَمِنْ أَحَدِهِمَا مُنْفَرِدًا، وَالضَّابِطُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَصِحُّ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِالْخُلْعِ لِنَفْسِهِ جَازَ تَوْكِيلُهُ وَوَكَالَتُهُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْ رَشِيدًا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ الْخُلْعَ، فَصَحَّ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا وَمُوَكِّلًا فِيهِ.وَجَاءَ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّ تَوْكِيلَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ عَنِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ بِالْخُلْعِ صَحِيحٌ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ وَكِيلَ الْمَرْأَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَفِيهًا حَتَّى وَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ إِلاَّ إِذَا أَضَافَ الْمَالَ إِلَيْهَا فَتَبِينُ وَيَلْزَمُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ.

وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا تَوْكِيلُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ فِي قَبْضِ الْعِوَضِ فِي الْخُلْعِ فَإِنْ وَكَّلَهُ وَقَبَضَ، فَفِي التَّتِمَّةِ أَنَّ الْمُخْتَلِعَ يَبْرَأُ وَالْمُوَكِّلُ مُضَيِّعٌ لِمَالِهِ وَأَقَرَّهُ الشَّيْخَانِ.

وَالْأَصَحُّ: عِنْدَهُمْ أَيْضًا صِحَّةُ تَوْكِيلِهِ امْرَأَةً لِخُلْعِ زَوْجَتِهِ أَوْ طَلَاقِهَا لِأَنَّ لِلْمَرْأَةِ تَطْلِيقَ نَفْسِهَا بِقَوْلِهِ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ، وَذَلِكَ تَمْلِيكٌ لِلطَّلَاقِ أَوْ تَوْكِيلٌ بِهِ.

وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَقِلُّ بِالطَّلَاقِ، وَلَوْ وَكَّلَتِ الزَّوْجَةُ امْرَأَةً بِاخْتِلَاعِهَا جَازَ بِلَا خِلَافٍ لِاسْتِقْلَالِ الْمَرْأَةِ بِالِاخْتِلَاعِ.

وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ سِوَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي الْخُلْعِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْوَكِيلَ فِي الْخُلْعِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ يَتَوَلَّى طَرَفًا مِنْهُ مَعَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ وَكِيلِهِ، وَلَا يَتَوَلَّى الطَّرَفَيْنِ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ:

إِنَّهُ يَتَوَلَّى الطَّرَفَيْنِ قِيَاسًا عَلَى النِّكَاحِ؛ وَلِأَنَّ الْخُلْعَ يَكْفِي فِيهِ اللَّفْظُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَعْطَتْهُ ذَلِكَ، يَقَعُ الطَّلَاقُ خُلْعًا.

وَالْوَكِيلُ فِي الْخُلْعِ لَا يَنْعَزِلُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

هَذَا وَيَكُونُ تَوْكِيلُ الْمَرْأَةِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: اسْتِدْعَاءُ الْخُلْعِ- أَوِ الطَّلَاقِ- وَتَقْدِيرُ الْعِوَضِ وَتَسْلِيمُهُ.

وَيَكُونُ تَوْكِيلُ الرَّجُلِ أَيْضًا فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: شَرْطُ الْعِوَضِ- وَقَبْضُهُ- وَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ أَوِ الْخُلْعِ.

وَالتَّوْكِيلُ جَائِزٌ مَعَ تَقْدِيرِ الْعِوَضِ وَمِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَصَحَّ ذَلِكَ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ إِلاَّ أَنَّ التَّقْدِيرَ مُسْتَحَبٌّ لِأَنَّهُ أَسْلَمُ مِنَ الْغَرَرِ، وَأَسْهَلُ عَلَى الْوَكِيلِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنِ الِاجْتِهَادِ.

وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ تَوْكِيلَ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ لَا يَخْلُو مِنْ حَالَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَدِّرَا الْعِوَضَ كَمِائَةٍ مَثَلًا.

وَالثَّانِي أَنْ يُطْلِقَا الْوَكَالَةَ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، كَأَنْ يُوَكِّلَاهُ فِي الْخُلْعِ فَقَطْ، وَيَنْبَغِي لِوَكِيلِ الزَّوْجِ أَوْ وَكِيلِ الزَّوْجَةِ أَنْ يَفْعَلَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَعُودَ بِالنَّفْعِ عَلَى مُوَكِّلِهِ، فَلَا يُنْقِصُ وَكِيلُ الزَّوْجِ عَمَّا قَدَّرَهُ لَهُ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ فَلْيَفْعَلْ وَكَذَا وَكِيلُ الزَّوْجَةِ، فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَزِيدَ عَمَّا قَدَّرَتْهُ لَهُ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَخْلَعَهَا بِأَقَلَّ مِنْهُ فَلْيَفْعَلْ.وَيَنْبَغِي لِوَكِيلِ الزَّوْجِ فِي حَالَةِ الْإِطْلَاقِ أَنْ لَا يُخَالِعَ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ بَلْ بِأَكْثَرَ، وَيَنْبَغِي لِوَكِيلِ الزَّوْجَةِ أَيْضًا أَنْ لَا يَخْلَعَهَا بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فِي حَالَةِ الْإِطْلَاقِ.

عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ:

23- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ) إِلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمُخْتَلِعَةِ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ.

وَفِي قَوْلٍ عَنْ أَحْمَدَ: إِنَّ عِدَّتَهَا حَيْضَةٌ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ.

وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ عِدَّتَهَا حَيْضَةٌ بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- « أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عِدَّتَهَا حَيْضَةً ».

وَبِأَنَّ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- قَضَى بِهِ.

وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ عِدَّتَهَا عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}.وَلِأَنَّ الْخُلْعَ فُرْقَةٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي الْحَيَاةِ بَعْدَ الدُّخُولِ فَكَانَتِ الْعِدَّةُ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ كَغَيْرِ الْخُلْعِ.

الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْمُعَوَّضُ وَهُوَ الْبُضْعُ:

24- يُشْتَرَطُ فِيهِ كَمَا جَاءَ فِي الرَّوْضَةِ مِنْ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلزَّوْجِ، فَأَمَّا الْبَائِنُ بِخُلْعٍ وَغَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ خُلْعُهَا، وَيُشْتَرَطُ فِي الْخُلْعِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا أَنْ يُصَادِفَ مَحَلًّا، فَإِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ بَائِنًا وَقْتَ الْخُلْعِ، فَإِنَّ الْخُلْعَ لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا، وَتَسْتَرِدُّ الزَّوْجَةُ الْمَالَ الَّذِي دَفَعَتْهُ لِلزَّوْجِ، وَيَسْقُطُ عَنْهَا مَا الْتَزَمَتْهُ مِنْ رَضَاعِ وَلَدِهَا، أَوْ نَفَقَةِ حَمْلٍ، أَوْ إِسْقَاطِ حَضَانَتِهَا.

وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَصِحُّ إِلاَّ مَعَ الزَّوْجَةِ الَّتِي فِي عِصْمَةِ زَوْجِهَا، حَقِيقَةً، وَهِيَ الَّتِي لَمْ تُفَارِقْ زَوْجَهَا بِطَلَاقٍ بَائِنٍ وَنَحْوِهِ، كَاللِّعَانِ مَثَلًا، أَوْ حُكْمًا، وَهِيَ الَّتِي طَلَّقَهَا زَوْجُهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا وَلَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا، فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ زَوْجَةٌ وَالنِّكَاحُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا قَائِمٌ، وَتَسْرِي عَلَيْهَا كَافَّةُ الْأَحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِالزَّوْجَاتِ، وَلَوْ مَاتَ زَوْجُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَإِنَّهَا تَرِثُ مِنْهُ، وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ تَدْخُلُ هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ فِيهِ كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَيَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ، إِلاَّ أَنَّ الْخِرَقِيَّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ ذَكَرَ أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ مُحَرَّمَةٌ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْمُغْنِي عَنْهُ (وَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَوَاحِدَةٌ طَلَّقَ أَمْ ثَلَاثًا؟ فَهُوَ مُتَيَقِّنٌ لِلتَّحْرِيمِ شَاكٌّ فِي التَّحْلِيلِ) وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ كَمَا قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهَا مُبَاحَةٌ.

وَأَمَّا مُخَالَعَةُ الزَّوْجِ لَهَا أَيِ الرَّجْعِيَّةِ فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ فَتَصِحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَا تَسْتَرِدُّ الْمَالَ الَّذِي دَفَعَتْهُ لِلزَّوْجِ وَلَزِمَ الزَّوْجَ أَنْ يُوقِعَ عَلَيْهَا طَلْقَةً أُخْرَى بَائِنَةً، وَتَصِحُّ أَيْضًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ أَيْضًا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ سِوَى الْخِرَقِيِّ، لِأَنَّهَا زَوْجَةٌ صَحَّ طَلَاقُهَا فَصَحَّ خُلْعُهَا كَمَا قَبْلَ الطَّلَاقِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ: إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ مُخَالَعَتِهَا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى الِافْتِدَاءِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ بِلَفْظِ، قِيلَ: إِلَى أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ يَصِحُّ خُلْعُهَا بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ دُونَ الثَّانِيَةِ لِتَحْصُلَ الْبَيْنُونَةُ الْكُبْرَى، هَذَا وَيَلْزَمُ مِمَّا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى الرَّجْعِيَّةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا صِحَّةُ مُخَالَعَتِهَا لِأَنَّ الْخُلْعَ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَهُمْ طَلَاقٌ.

الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الْعِوَضُ:

25- الْعِوَضُ مَا يَأْخُذُهُ الزَّوْجُ مِنْ زَوْجَتِهِ فِي مُقَابِلِ خُلْعِهِ لَهَا، وَضَابِطُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ أَنْ يَصْلُحَ جَعْلُهُ صَدَاقًا، فَإِنَّ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا جَازَ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ خُلْعٍ.

وَالْعِوَضُ فِي الْخُلْعِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَالًا مُعَيَّنًا أَوْ مَوْصُوفًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا لِلْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ تَفْتَدِي بِهِ نَفْسَهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْفَعَةً وَذَلِكَ أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى إِرْضَاعِ وَلَدِهِ مِنْهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً مُعَيَّنَةً، كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، أَوْ مُطَلَّقَةً كَمَا ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ، فَإِنْ مَاتَتِ الْمُرْضِعَةُ، أَوِ الصَّبِيُّ، أَوْ جَفَّ لَبَنُهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَعَلَيْهَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ لِمَا بَقِيَ مِنَ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ مُعَيَّنٌ تَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ فَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ، أَوْ مِثْلُهُ، كَمَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى قَفِيزٍ فَهَلَكَ قَبْلَ قَبْضِهِ.

وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ فِي الْخُلْعِ إِخْرَاجُ الْمَرْأَةِ مِنْ مَسْكَنِهَا الَّذِي طَلُقَتْ فِيهِ لِأَنَّ سُكْنَاهَا فِيهِ إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَقٌّ لِلَّهِ، لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ إِسْقَاطُهُ لَا بِعِوَضٍ وَلَا بِغَيْرِهِ، وَبَانَتْ مِنْهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا لِلزَّوْجِ كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَتَحَمَّلَ هِيَ أُجْرَةَ الْمَسْكَنِ مِنْ مَالِهَا زَمَنَ الْعِدَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ.وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ السُّكْنَى وَلِلزَّوْجِ مَهْرُ الْمِثْلِ.

26- وَذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا أَنَّ الْعِوَضَ فِي الْخُلْعِ إِنْ كَانَ مَعْلُومًا وَمُتَمَوَّلًا وَمَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ فَإِنَّ الْخُلْعَ يُعْتَبَرُ صَحِيحًا.

أَمَّا إِذَا فَسَدَ الْعِوَضُ بِاخْتِلَالِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ، كَاخْتِلَالِ شَرْطِ الْعِلْمِ، أَوِ الْمَالِيَّةِ، أَوِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ، فَإِنَّ الْخُلْعَ يُعْتَبَرُ فَاسِدًا، وَفِيهِ خِلَافٌ، سَبَبُهُ تَرَدُّدُ الْعِوَضِ هَاهُنَا بَيْنَ الْعِوَضِ فِي الْبُيُوعِ، أَوِ الْأَشْيَاءِ الْمَوْهُوبَةِ، أَوِ الْمُوصَى بِهَا فَمَنْ شَبَّهَهُ بِالْبُيُوعِ اشْتَرَطَ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْبُيُوعِ وَفِي أَعْوَاضِ الْبُيُوعِ.وَمَنْ شَبَّهَهُ بِالْهِبَاتِ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ ذَلِكَ.

وَتَتَلَخَّصُ أَحْكَامُهُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ:

الْأُولَى: الْخُلْعُ بِالْمَجْهُولِ وَبِالْمَعْدُومِ وَبِالْغَرَرِ أَوْ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ.

الْخُلْعُ بِالْمَجْهُولِ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ عِنْدَهُمْ إِسْقَاطٌ يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ وَخُلُوُّهُ مِنَ الْعِوَضِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهُوَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ التَّسَامُحُ، فَيَجُوزُ بِالْمَجْهُولِ إِلَى الْأَجَلِ الْمَجْهُولِ الْمُسْتَدْرَكِ الْجَهَالَةِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَجُوزُ اخْتِلَاعُهَا عَلَى زِرَاعَةِ أَرْضِهَا، وَرُكُوبِ دَابَّتِهَا، وَخِدْمَتِهَا لَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْزَمُ خَلْوَتُهُ بِهَا، أَوْ خِدْمَةُ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ تَجُوزُ مَهْرًا.

وَيَجُوزُ الْخُلْعُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا بِالْمَجْهُولِ وَالْغَرَرِ، فَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَهُمْ أَنْ تُخَالِعَ زَوْجَهَا بِمَا فِي بَطْنِ نَاقَتِهَا، وَمِثْلُهُ الْآبِقُ، وَالشَّارِدُ، وَالثَّمَرَةُ الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا، وَبِحَيَوَانٍ، وَعَرْضٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ، أَوْ بِأَجَلٍ مَجْهُولٍ، وَلِلزَّوْجِ عَلَيْهَا الْوَسَطُ مِنْ جِنْسِ مَا وَقَعَتِ الْمُخَالَعَةُ بِهِ، لَا مِنْ وَسَطِ مَا يُخَالَعُ بِهِ النَّاسُ وَلَا يُرَاعَى فِي ذَلِكَ حَالُ الْمَرْأَةِ، وَإِذَا انْفَشَّ الْحَمْلُ الَّذِي وَقَعَ الْخُلْعُ عَلَيْهِ فَلَا شَيْءَ لِلزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ مُجَوِّزٌ لِذَلِكَ وَالطَّلَاقُ بَائِنٌ.

وَيَصِحُّ الْخُلْعُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا بِالْمَجْهُولِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَبِالْمَعْدُومِ الَّذِي يُنْتَظَرُ وُجُودُهُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مَعْنًى يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ الْعِوَضَ الْمَجْهُولَ كَالْوَصِيَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْخُلْعَ إِسْقَاطٌ لِحَقِّهِ مِنَ الْبُضْعِ وَلَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكُ شَيْءٍ، وَالْإِسْقَاطُ تَدْخُلُهُ الْمُسَامَحَةُ وَلِذَلِكَ جَازَ بِغَيْرِ عِوَضٍ عَلَى رِوَايَةٍ.

وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْخُلْعُ عَلَى مَا فِيهِ غَرَرٌ كَالْمَجْهُولِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْخُلْعِ بِالْمَجْهُولِ وَبِالْمَعْدُومِ الَّذِي يُنْتَظَرُ وُجُودُهُ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ، وَجَزَمَ بِهِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْزِيُّ، وَمِثْلُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْخُلْعُ عَلَى مُحَرَّمٍ، أَوْ عَلَى مَا لَمْ يَتِمَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَا يَجُوزُ عَلَى مَا ذُكِرَ، كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، فَلَوْ خَالَعَ بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ بَانَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ الْمُرَادُ عِنْدَ فَسَادِ الْعِوَضِ.

الرُّكْنُ الْخَامِسُ: الصِّيغَةُ:

27- صِيغَةُ الْخُلْعِ هِيَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ.

أَمَّا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَهُمَا رُكْنَا الْخُلْعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَ بِعِوَضٍ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِمَا كَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ إِنْ بَدَأَ الزَّوْجُ بِصِيغَةِ مُعَاوَضَةٍ، كَقَوْلِهِ خَالَعْتُكِ عَلَى كَذَا الْقَبُولُ لَفْظًا مِمَّنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ النُّطْقُ، وَبِالْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ مِنَ الْأَخْرَسِ وَبِالْكِتَابَةِ مِنْهُمَا، وَأَنْ لَا يَتَخَلَّلَ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ كَلَامٌ أَجْنَبِيٌّ كَثِيرٌ مِمَّنْ يُطْلَبُ مِنْهُ الْجَوَابُ لِإِشْعَارِهِ بِالْإِعْرَاضِ بِخِلَافِ الْيَسِيرِ مُطْلَقًا، وَالْكَثِيرِ مِمَّنْ لَمْ يُطْلَبْ مِنْهُ الْجَوَابُ، وَأَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ عَلَى وَفْقِ الْإِيجَابِ، فَلَوِ اخْتَلَفَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ كَطَلَّقْتُكِ بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ بِأَلْفَيْنِ، وَعَكْسُهُ كَطَلَّقْتُكِ بِأَلْفَيْنِ فَقَبِلَتْ بِأَلْفٍ، أَوْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ وَاحِدَةً بِثُلُثِ أَلْفٍ، فَلَغْوٌ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ لِلْمُخَالَفَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ.

وَأَمَّا إِذَا ابْتَدَأَ الزَّوْجُ بِصِيغَةِ تَعْلِيقٍ فِي الْإِثْبَاتِ، كَمَتَى أَوْ مَتَى مَا، أَوْ أَيْ حِينٍ، أَوْ زَمَانٍ، أَوْ وَقْتٍ أَعْطَيْتنِي كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبُولُ لَفْظًا؛ لِأَنَّ الصِّيغَةَ لَا تَقْتَضِيهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِعْطَاءُ فَوْرًا فِي الْمَجْلِسِ أَيْ مَجْلِسِ التَّوَاجُبِ.بِخِلَافِ مَا لَوِ ابْتَدَأَ (بِصِيغَةِ تَعْلِيقٍ فِي النَّفْيِ، كَقَوْلِهِ مَتَى لَمْ تُعْطِنِي كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ) وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا لَوْ قَالَتْ لَهُ: مَتَى طَلَّقْتَنِي فَلَكَ

عَلَيَّ أَلْفٌ، فَإِنَّ الْجَوَابَ يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ التَّوَاجُبِ.

تَعْلِيقُ الْخُلْعِ بِالشَّرْطِ:

28- الْخُلْعُ إِنْ كَانَ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجَةِ بِأَنْ كَانَتْ هِيَ الْبَادِئَةُ بِسُؤَالِ الطَّلَاقِ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ وَالْإِضَافَةِ إِلَى الْوَقْتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، لِأَنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِهَا مُعَاوَضَةٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالْإِضَافَةِ إِلَى الْوَقْتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِهِ يَمِينٌ، وَمِثْلُهُ الطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَمْ يُجَوِّزُوا تَعْلِيقَ الْخُلْعِ قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ.

شَرْطُ الْخِيَارِ فِي الْخُلْعِ:

29- يَصِحُّ لِلزَّوْجَةِ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي الْخُلْعِ لَا لِلزَّوْجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَصِحُّ لَهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ إِيجَابَ الزَّوْجِ يَمِينٌ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ وَصَحَّتْ إِضَافَتُهُ وَتَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ لِكَوْنِ الْمَوْجُودِ مِنْ جَانِبِهِ طَلَاقًا وَقَبُولُهَا شَرْطُ الْيَمِينِ فَلَا يَصِحُّ خِيَارُ الشَّرْطِ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ لِلْفَسْخِ بَعْدَ الِانْعِقَادِ لَا لِلْمَنْعِ مِنَ الِانْعِقَادِ، وَالْيَمِينُ وَشَرْطُهَا لَا يَحْتَمِلَانِ الْفَسْخَ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِهَا مُعَاوَضَةٌ لِكَوْنِ الْمَوْجُودِ مِنْ جِهَتِهَا مَالًا، وَلِهَذَا يَصِحُّ رُجُوعُهَا قَبْلَ الْقَبُولِ، وَلَا تَصِحُّ إِضَافَتُهُ وَتَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ فَصَارَ كَالْبَيْعِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لِلْفَسْخِ بَعْدَ الِانْعِقَادِ، بَلْ هُوَ مَانِعٌ مِنَ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَكَوْنُهُ شَرْطًا لِيَمِينِ الزَّوْجِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مُعَاوَضَةً فِي نَفْسِهِ.

أَلْفَاظُ الْخُلْعِ:

30- أَلْفَاظُ الْخُلْعِ سَبْعَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهِيَ: خَالَعْتُكِ- بَايَنْتُكِ- بَارَأْتُكِ- فَارَقْتُكِ- طَلِّقِي نَفْسَكِ عَلَى أَلْفٍ- وَالْبَيْعُ كَبِعْتُ نَفْسَكِ- وَالشِّرَاءُ كَاشْتَرِي نَفْسَكِ.

وَلَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَرْبَعَةُ أَلْفَاظٍ وَهِيَ: الْخُلْعُ وَالْفِدْيَةُ، وَالصُّلْحُ، وَالْمُبَارَأَةُ وَكُلُّهَا تَئُولُ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ بَذْلُ الْمَرْأَةِ الْعِوَضَ عَلَى طَلَاقِهَا.

وَأَلْفَاظُ الْخُلْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ تَنْقَسِمُ إِلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ: فَالصَّرِيحُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ لَفْظَانِ: لَفْظُ خُلْعٍ وَمَا يَشْتَقُّ مِنْهُ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ الْعُرْفُ.وَلَفْظُ الْمُفَادَاةِ وَمَا يَشْتَقُّ مِنْهُ لِوُرُودِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ لَفْظَ فَسْخٍ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ.وَهُوَ مِنْ كِنَايَاتِ الْخُلْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمِنْ كِنَايَاتِهِ عِنْدَهُمْ أَيْضًا بَيْعٌ.

وَلَفْظُ بَارَأْتُكِ، وَأَبْرَأْتُكِ، وَأَبَنْتُكِ، وَصَرِيحُ خُلْعٍ وَكِنَايَتُهُ، كَصَرِيحِ طَلَاقٍ وَكِنَايَتِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَإِذَا طَلَبَتِ الْخُلْعَ وَبَذَلَتِ الْعِوَضَ فَأَجَابَهَا بِصَرِيحِ الْخُلْعِ وَكِنَايَتِهِ، صَحَّ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْحَالِ مِنْ سُؤَالِ الْخُلْعِ، وَبَذْلَ الْعِوَضِ صَارِفَةٌ إِلَيْهِ فَأَغْنَى عَنِ النِّيَّةِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَلَالَةَ حَالٍ فَأَتَى بِصَرِيحِ الْخُلْعِ وَقَعَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، سَوَاءٌ قُلْنَا هُوَ فَسْخٌ أَوْ طَلَاقٌ، وَلَا يَقَعُ بِالْكِنَايَةِ إِلاَّ بِنِيَّةٍ مِمَّنْ تَلَفَّظَ بِهِ مِنْهُمَا، كَكِنَايَاتِ الطَّلَاقِ مَعَ صَرِيحِهِ.

اخْتِلَافُ الزَّوْجَيْنِ فِي الْخُلْعِ أَوْ فِي عِوَضِهِ:

31- إِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ الْخُلْعَ، وَالزَّوْجَةُ تُنْكِرُهُ بَانَتْ بِإِقْرَارِهِ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا دَعْوَى الْمَالِ فَتَبْقَى بِحَالِهَا كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا فِيهَا؛ لِأَنَّهَا تُنْكِرُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهَا بِيَمِينِهَا فِي نَفْيِ الْعِوَضِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

أَمَّا إِذَا ادَّعَتِ الزَّوْجَةُ الْخُلْعَ، وَالزَّوْجُ يُنْكِرُهُ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ كَيْفَمَا كَانَ، كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ، وَيُصَدَّقُ الزَّوْجُ بِيَمِينِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهِ.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَكِنْ يُفْهَمُ مِمَّا ذَكَرُوهُ فِيمَا لَوْ قَالَتِ الزَّوْجَةُ: طَلَّقْتَنِي ثَلَاثًا بِعَشَرَةٍ فَقَالَ الزَّوْجُ: بَلْ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ بِعَشَرَةٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ بِلَا يَمِينٍ، وَوَقَعَتِ الْبَيْنُونَةُ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى مَا قَالَهُ الزَّوْجُ هِيَ مُدَّعِيَةٌ لَهُ، وَكُلُّ دَعْوَى لَا تَثْبُتُ إِلاَّ بِعَدْلَيْنِ فَلَا يَمِينَ بِمُجَرَّدِهَا، وَالْمَنْقُولُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، فَإِنْ نَكَلَ حُبِسَ، وَلَا يُقَالُ تَحْلِفُ وَيَثْبُتُ مَا تَدَّعِيهِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَثْبُتُ بِالنُّكُولِ مَعَ الْحَلِفِ وَتَبِينُ مِنْهُ فِي اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْخُلْعِ، وَتَكُونُ رَجْعِيَّةً فِي غَيْرِهِ.

أَمَّا إِذَا اتَّفَقَا عَلَى الْخُلْعِ، وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْعِوَضِ، أَوْ جِنْسِهِ، أَوْ حُلُولِهِ، أَوْ تَأْجِيلِهِ، أَوْ صِفَتِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي رِوَايَةٍ حَكَاهَا أَبُو بَكْرٍ نَصًّا عَنْ أَحْمَدَ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهَا أَيْضًا بِيَمِينِهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا فِي أَصْلِهِ فَكَذَا فِي صِفَتِهِ؛ وَلِأَنَّهَا مُنْكِرَةٌ لِلزِّيَادَةِ فِي الْقَدْرِ، أَوِ الصِّفَةِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: « الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ » وَعَلَى الْقَوْلِ: إِنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ لَا يُقَالُ يَتَحَالَفَانِ كَالْمُتَبَايِعِينَ؛ لِأَنَّ التَّحَالُفَ فِي الْبَيْعِ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِفَسْخِ الْعَقْدِ، وَالْخُلْعُ فِي نَفْسِهِ فَسْخٌ فَلَا يُفْسَخُ.

وَذَكَرَ الْقَاضِي رِوَايَةً أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ يَخْرُجُ مِنْ مِلْكِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي عِوَضِهِ.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ، أَوْ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ وَتَعَارَضَتَا تَحَالَفَا كَالْمُتَبَايِعِينَ فِي كَيْفِيَّةِ الْحَلِفِ وَمَنْ يَبْدَأُ بِهِ.وَيَجِبُ بِبَيْنُونَتِهَا بِفَوَاتِ الْعِوَضِ مَهْرُ الْمِثْلِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَاهُ، لِأَنَّهُ الْمَرَدُّ، فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ عُمِلَ بِهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


265-موسوعة الفقه الكويتية (خلوة)

خَلْوَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْخَلْوَةُ فِي اللُّغَةِ: مِنْ خَلَا الْمَكَانُ وَالشَّيْءُ يَخْلُو خُلُوًّا وَخَلَاءً، وَأَخْلَى الْمَكَانُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ وَلَا شَيْءَ فِيهِ، وَخَلَا الرَّجُلُ وَأَخْلَى وَقَعَ فِي مَكَانٍ خَالٍ لَا يُزَاحَمُ فِيهِ.

وَخَلَا الرَّجُلُ بِصَاحِبِهِ وَإِلَيْهِ وَمَعَهُ خُلُوًّا وَخَلَاءً وَخَلْوَةً: انْفَرَدَ بِهِ وَاجْتَمَعَ مَعَهُ فِي خَلْوَةٍ، وَكَذَلِكَ خَلَا بِزَوْجَتِهِ خَلْوَةً.

وَالْخَلْوَةُ: الِاسْمُ، وَالْخِلْوُ: الْمُنْفَرِدُ، وَامْرَأَةٌ خَالِيَةٌ، وَنِسَاءٌ خَالِيَاتٌ: لَا أَزْوَاجَ لَهُنَّ وَلَا أَوْلَادَ، وَالتَّخَلِّي: التَّفَرُّغُ، يُقَالُ: تَخَلَّى لِلْعِبَادَةِ، وَهُوَ تَفَعُّلٌ مِنَ الْخُلُوِّ.

وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا الْمُصْطَلَحِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ.

أ- الِانْفِرَادُ:

2- الِانْفِرَادُ مَصْدَرُ انْفَرَدَ، يُقَالُ: انْفَرَدَ الرَّجُلُ بِنَفْسِهِ انْقَطَعَ وَتَنَحَّى، وَتَفَرَّدَ بِالشَّيْءِ انْفَرَدَ بِهِ، وَفَرَّدَ الرَّجُلُ إِذَا تَفَقَّهَ وَاعْتَزَلَ النَّاسَ، وَخَلَا بِمُرَاعَاةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْعِبَادَةِ.وَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ: « طُوبَى لِلْمُفْرِّدِينَ ».وَاسْتَفْرَدَ فُلَانًا انْفَرَدَ بِهِ.

ب- الْعُزْلَةُ:

3- الْعُزْلَةُ اسْمُ مَصْدَرٍ، يُقَالُ عَزَلْتُ الشَّيْءَ عَنْ غَيْرِهِ عَزْلًا نَحَّيْتَهُ عَنْهُ، وَمِنْهُ عَزَلْتُ النَّائِبَ كَالْوَكِيلِ إِذَا أَخْرَجْتَهُ عَمَّا كَانَ لَهُ مِنَ الْحُكْمِ، وَانْعَزَلَ عَنِ النَّاسِ، إِذَا تَنَحَّى عَنْهُمْ جَانِبًا، وَفُلَانٌ عَنِ الْحَقِّ بِمَعْزِلٍ، أَيْ مُجَانِبٌ لَهُ، وَتَعَزَّلْتُ الْبَيْتَ وَاعْتَزَلْتُهُ، وَالِاعْتِزَالُ تَجَنُّبُ الشَّيْءِ عِمَالَةً كَانَتْ أَوْ بَرَاءَةً، أَوْ غَيْرَهُمَا، بِالْبَدَنِ كَانَ ذَلِكَ أَوْ بِالْقَلْبِ.وَتَعَازَلَ الْقَوْمُ انْعَزَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَالْعُزْلَةُ: الِانْعِزَالُ نَفْسُهُ، يُقَالُ: الْعُزْلَةُ عِبَادَةٌ.

ج- السِّتْرُ:

4- السِّتْرُ مَا يُسْتَرُ بِهِ، أَيْ يُغَطَّى بِهِ وَيُخْفَى، وَجَمْعُهُ سُتُورٌ، وَالسُّتْرَةُ مِثْلُهُ، قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: السُّتْرَةُ مَا اسْتَتَرْتَ بِهِ كَائِنًا مَا كَانَ، وَالسِّتَارَةُ بِالْكَسْرِ، وَالسِّتَارُ بِحَذْفِ الْهَاءِ لُغَةً.

وَيُقَالُ لِمَا يَنْصِبُهُ الْمُصَلِّي قُدَّامَهُ عَلَامَةً لِمُصَلاَّهُ مِنْ عَصًا، وَتَسْنِيمِ تُرَابٍ، وَغَيْرِهِ، سُتْرَةً، لِأَنَّهُ يَسْتُرُ الْمَارَّ مِنَ الْمُرُورِ أَيْ يَحْجُبُهُ.وَالِاسْتِتَارُ: الِاخْتِفَاءُ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

5- الْخَلْوَةُ بِمَعْنَى الِانْفِرَادِ بِالنَّفْسِ فِي مَكَانٍ خَالٍ، الْأَصْلُ فِيهَا الْجَوَازُ، بَلْ قَدْ تَكُونُ مُسْتَحَبَّةً، إِذَا كَانَتْ لِلذِّكْرِ وَالْعِبَادَةِ، وَلَقَدْ « حُبِّبَ الْخَلَاءُ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَبْلَ الْبَعْثَةِ، فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنَّثُ فِيهِ »، قَالَ النَّوَوِيُّ: الْخَلْوَةُ شَأْنُ الصَّالِحِينَ وَعِبَادِ اللَّهِ الْعَارِفِينَ.

وَالْخَلْوَةُ بِمَعْنَى الِانْفِرَادِ بِالْغَيْرِ تَكُونُ مُبَاحَةً بَيْنَ الرَّجُلِ وَالرَّجُلِ، وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةِ إِذَا لَمْ يَحْدُثْ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ شَرْعًا، كَالْخَلْوَةِ لِارْتِكَابِ مَعْصِيَةٍ، وَكَذَلِكَ هِيَ مُبَاحَةٌ بَيْنَ الرَّجُلِ وَمَحَارِمِهِ مِنَ النِّسَاءِ، وَبَيْنَ الرَّجُلِ وَزَوْجَتِهِ.

وَمِنَ الْمُبَاحِ أَيْضًا الْخَلْوَةُ بِمَعْنَى انْفِرَادِ رَجُلٍ بِامْرَأَةٍ فِي وُجُودِ النَّاسِ، بِحَيْثُ لَا تَحْتَجِبُ أَشْخَاصُهُمَا عَنْهُمْ، بَلْ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُونَ كَلَامَهُمَا.

فَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: « جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَخَلَا بِهَا » وَعَنْوَنَ ابْنُ حَجَرٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ بِبَابِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ عِنْدَ النَّاسِ، وَعَقَّبَ بِقَوْلِهِ: لَا يَخْلُو بِهَا بِحَيْثُ تَحْتَجِبُ أَشْخَاصُهُمَا عَنْهُمْ، بَلْ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُونَ كَلَامَهُمَا إِذَا كَانَ بِمَا يُخَافِتُ بِهِ كَالشَّيْءِ الَّذِي تَسْتَحِي الْمَرْأَةُ مِنْ ذِكْرِهِ بَيْنَ النَّاسِ.

وَتَكُونُ الْخَلْوَةُ حَرَامًا كَالْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.

وَقَدْ تَكُونُ الْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَاجِبَةً فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، كَمَنْ وَجَدَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً مُنْقَطِعَةً فِي بَرِيَّةٍ، وَيَخَافُ عَلَيْهَا الْهَلَاكَ لَوْ تُرِكَتْ.

الْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ:

6- الْأَجْنَبِيَّةُ: هِيَ مَنْ لَيْسَتْ زَوْجَةً وَلَا مَحْرَمًا، وَالْمَحْرَمُ مَنْ يَحْرُمُ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ، إِمَّا بِالْقَرَابَةِ، أَوِ الرَّضَاعَةِ، أَوِ الْمُصَاهَرَةِ وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ الْخَلْوَةُ بِهَا، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ، قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: « لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ ».

وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخَلْوَةَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ مُحَرَّمَةٌ.

وَقَالُوا: لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لَيْسَتْ مِنْهُ بِمَحْرَمٍ، وَلَا زَوْجَةٍ، بَلْ أَجْنَبِيَّةٌ؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يُوَسْوِسُ لَهُمَا فِي الْخَلْوَةِ بِفِعْلِ مَا لَا يَحِلُّ، قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: « لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ ».

وَقَالُوا: إِنْ أَمَّ بِأَجْنَبِيَّةٍ وَخَلَا بِهَا، حَرُمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ حَرَامٌ إِلاَّ لِمُلَازَمَةِ مَدْيُونَةٍ هَرَبَتْ، وَدَخَلَتْ خَرِبَةً.

الْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهَا مَعَهَا:

7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ خَلْوَةِ الرَّجُلِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ مَعَ وُجُودِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَكَذَا خَلْوَةُ عَدَدٍ مِنَ الرِّجَالِ بِامْرَأَةٍ، فَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَخْلُوَ بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، كَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْلُوَ بِنِسْوَةٍ، وَلَوْ خَلَا رَجُلٌ بِنِسْوَةٍ، وَهُوَ مَحْرَمُ إِحْدَاهُنَّ جَازَ، وَكَذَلِكَ إِذَا خَلَتِ امْرَأَةٌ بِرِجَالٍ، وَأَحَدُهُمْ مَحْرَمٌ لَهَا جَازَ، وَلَوْ خَلَا عِشْرُونَ رَجُلًا بِعِشْرِينَ امْرَأَةً، وَإِحْدَاهُنَّ مَحْرَمٌ لِأَحَدِهِمْ جَازَ، قَالَ: وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصَلِّيَ بِنِسَاءٍ مُنْفَرِدَاتٍ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ إِحْدَاهُنَّ مَحْرَمًا لَهُ.

وَحَكَى صَاحِبُ الْعِدَّةِ عَنِ الْقَفَّالِ مِثْلَ الَّذِي ذَكَرَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَحَكَى فِيهِ نَصَّ الشَّافِعِيِّ فِي تَحْرِيمِ خَلْوَةِ الرَّجُلِ بِنِسْوَةٍ مُنْفَرِدًا بِهِنَّ.

وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْمَجْمُوعِ بَعْدَ إِيرَادِ الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ أَنَّ الْمَشْهُورَ جَوَازُ خَلْوَةِ رَجُلٍ بِنِسْوَةٍ لَا مَحْرَمَ لَهُ فِيهِنَّ؛ لِعَدَمِ الْمَفْسَدَةِ غَالِبًا؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ يَسْتَحْيِينَ مِنْ بَعْضِهِنَّ بَعْضًا فِي ذَلِكَ.

وَفِي حَاشِيَةِ الْجَمَلِ: يَجُوزُ خَلْوَةُ رَجُلٍ بِامْرَأَتَيْنِ ثِقَتَيْنِ يَحْتَشِمُهُمَا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.أَمَّا خَلْوَةُ رِجَالٍ بِامْرَأَةٍ، فَإِنْ حَالَتِ الْعَادَةُ دُونَ تَوَاطُئِهِمْ عَلَى وُقُوعِ فَاحِشَةٍ بِهَا، كَانَتْ خَلْوَةً جَائِزَةً، وَإِلاَّ فَلَا.وَفِي الْمَجْمُوعِ: إِنْ خَلَا رَجُلَانِ أَوْ رِجَالٌ بِامْرَأَةٍ فَالْمَشْهُورُ تَحْرِيمُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقَعُ اتِّفَاقُ رِجَالٍ عَلَى فَاحِشَةٍ بِامْرَأَةٍ، وَقِيلَ: إِنْ كَانُوا مِمَّنْ تَبْعُدُ مُوَاطَأَتُهُمْ عَلَى الْفَاحِشَةِ جَازَ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَتَنْتَفِي عِنْدَهُمْ حُرْمَةُ الْخَلْوَةِ بِوُجُودِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ، وَهَذَا يُفِيدُ جَوَازَ الْخَلْوَةِ بِأَكْثَرَ مِنَ امْرَأَةٍ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ، أَنَّ الْخَلْوَةَ الْمُحَرَّمَةَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ تَنْتَفِي بِالْحَائِلِ، وَبِوُجُودِ مَحْرَمٍ لِلرَّجُلِ مَعَهُمَا، أَوِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ قَادِرَةٍ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تُكْرَهُ صَلَاةُ رَجُلٍ بَيْنَ نِسَاءٍ أَيْ بَيْنَ صُفُوفِ النِّسَاءِ، وَكَذَا مُحَاذَاتُهُ لَهُنَّ بِأَنْ تَكُونَ امْرَأَةٌ عَنْ يَمِينِهِ وَأُخْرَى عَنْ يَسَارِهِ، وَيُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي امْرَأَةٍ بَيْنَ رِجَالٍ، وَظَاهِرُهُ، وَإِنْ كُنَّ مَحَارِمَ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَحْرُمُ خَلْوَةُ الرَّجُلِ مَعَ عَدَدٍ مِنَ النِّسَاءِ أَوِ الْعَكْسِ كَأَنْ يَخْلُوَ عَدَدٌ مِنَ الرِّجَالِ بِامْرَأَةٍ.

الْخَلْوَةُ بِالْمَخْطُوبَةِ:

8- الْمَخْطُوبَةُ تُعْتَبَرُ أَجْنَبِيَّةً مِنْ خَاطِبِهَا، فَتَحْرُمُ الْخَلْوَةُ بِهَا كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَجْنَبِيَّاتِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.

الْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ لِلْعِلَاجِ:

9- تَحْرُمُ الْخَلْوَةُ بِأَجْنَبِيَّةٍ وَلَوْ لِضَرُورَةِ عِلَاجٍ إِلاَّ مَعَ حُضُورِ مَحْرَمٍ لَهَا، أَوْ زَوْجٍ، أَوِ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ عَلَى الرَّاجِحِ؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ بِهَا مَعَ وُجُودِ هَؤُلَاءِ يَمْنَعُ وُقُوعَ الْمَحْظُورِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (ضَرُورَةٌ).

إِجَابَةُ الْوَلِيمَةِ مَعَ الْخَلْوَةِ:

10- تَجِبُ إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ، أَوْ تُسَنُّ، إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى الْإِجَابَةِ خَلْوَةٌ مُحَرَّمَةٌ، وَإِلاَّ حَرُمَتْ، كَمَا جَاءَ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ.

(ر: وَلِيمَةٌ).

الْخَلْوَةُ بِالْأَمْرَدِ:

11- تَحْرُمُ الْخَلْوَةُ بِالْأَمْرَدِ إِنْ كَانَ صَبِيحًا، وَخِيفَتِ الْفِتْنَةُ، حَتَّى رَأَى الشَّافِعِيَّةُ حُرْمَةَ خَلْوَةِ الْأَمْرَدِ بِالْأَمْرَدِ وَإِنْ تَعَدَّدَ، أَوْ خَلْوَةِ الرَّجُلِ بِالْأَمْرَدِ وَإِنْ تَعَدَّدَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ رِيبَةٌ فَلَا تَحْرُمُ، كَشَارِعٍ وَمَسْجِدٍ مَطْرُوقٍ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (أَمْرَدُ).

الْخَلْوَةُ بِالْمَحَارِمِ:

12- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ خَلْوَةُ الرَّجُلِ بِالْمَحَارِمِ مِنَ النِّسَاءِ.وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا، وَيَخْلُوَ بِهَا- يَعْنِي بِمَحَارِمِهِ- إِذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَشْتَهِيهَا أَوْ تَشْتَهِيهِ إِنْ سَافَرَ بِهَا أَوْ خَلَا بِهَا، أَوْ كَانَ أَكْبَرَ رَأْيِهِ ذَلِكَ أَوْ شَكَّ فَلَا يُبَاحُ.

وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي حُكْمِ الْخَلْوَةِ بِالْمَحَارِمِ الْخَلْوَةُ بِالْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا، مَعَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الْخَلْوَةِ رَجْعَةً أَمْ لَا، عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ طَلَاقًا بَائِنًا فَهِيَ كَالْأَجْنَبِيَّةِ فِي الْحُكْمِ.

الْخَلْوَةُ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهَا:

13- لِلْخَلْوَةِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهَا عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَثَرٌ فِي تَقَرُّرِ الْمَهْرِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي تَحْدِيدِ الْخَلْوَةِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا ذَلِكَ الْأَثَرُ.

الْخَلْوَةُ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَثَرٌ:

14- الْخَلْوَةُ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَثَرٌ هِيَ الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ، أَوْ خَلْوَةُ الِاهْتِدَاءِ كَمَا يُطْلِقُ عَلَيْهَا الْمَالِكِيَّةُ.

وَهِيَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الَّتِي لَا يَكُونُ مَعَهَا مَانِعٌ مِنَ الْوَطْءِ، لَا حَقِيقِيٌّ وَلَا شَرْعِيٌّ وَلَا طَبَعِيٌّ.

أَمَّا الْمَانِعُ الْحَقِيقِيُّ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَرِيضًا مَرَضًا يَمْنَعُ الْجِمَاعَ، أَوْ صَغِيرًا لَا يُجَامِعُ مِثْلُهُ، أَوْ صَغِيرَةً لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا، أَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ رَتْقَاءَ أَوْ قَرْنَاءَ، لِأَنَّ الرَّتْقَ وَالْقَرَنَ يَمْنَعَانِ مِنَ الْوَطْءِ.

وَتَصِحُّ خَلْوَةُ الزَّوْجِ الْعِنِّينِ أَوِ الْخَصِيِّ؛ لِأَنَّ الْعُنَّةَ وَالْخِصَاءَ لَا يَمْنَعَانِ مِنَ الْوَطْءِ، فَكَانَتْ خَلْوَتُهُمَا كَخَلْوَةِ غَيْرِهِمَا.

وَتَصِحُّ خَلْوَةُ الْمَجْبُوبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ السَّحْقُ وَالْإِيلَادُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا تَصِحُّ خَلْوَةُ الْمَجْبُوبِ لِأَنَّ الْجَبَّ يَمْنَعُ مِنَ الْوَطْءِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ كَالْقَرَنِ وَالرَّتْقِ.

وَأَمَّا الْمَانِعُ الشَّرْعِيُّ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا صَائِمًا صَوْمَ رَمَضَانَ أَوْ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ بِعُمْرَةٍ، أَوْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُحَرِّمٌ لِلْوَطْءِ، فَكَانَ مَانِعًا مِنَ الْوَطْءِ شَرْعًا، وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ يَمْنَعَانِ مِنْهُ طَبْعًا أَيْضًا لِأَنَّهُمَا أَذًى، وَالطَّبْعُ السَّلِيمُ يَنْفِرُ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْأَذَى.

وَأَمَّا فِي غَيْرِ صَوْمِ رَمَضَانَ فَقَدْ ذَكَرَ بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ صَوْمَ التَّطَوُّعِ وَقَضَاءَ رَمَضَانَ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ.وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ نَفْلَ الصَّوْمِ كَفَرْضِهِ، فَصَارَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ أَنَّ صَوْمَ التَّطَوُّعِ يُحَرِّمُ الْفِطْرَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَصَارَ كَحَجِّ التَّطَوُّعِ وَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ.

وَفِي رِوَايَةِ بِشْرٍ أَنَّ صَوْمَ غَيْرِ رَمَضَانَ مَضْمُونٌ بِالْقَضَاءِ لَا غَيْرُ فَلَمْ يَكُنْ قَوِيًّا فِي مَعْنَى الْمَنْعِ بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ.

وَأَمَّا الْمَانِعُ الطَّبَعِيُّ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُجَامِعَ امْرَأَتَهُ بِحَضْرَةِ ثَالِثٍ، وَيَسْتَحِي فَيَنْقَبِضُ عَنِ الْوَطْءِ بِمَشْهَدٍ مِنْهُ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الثَّالِثُ بَصِيرًا أَمْ أَعْمَى، يَقْظَانَ أَمْ نَائِمًا، بَالِغًا أَمْ صَبِيًّا بَعْدُ، إِنْ كَانَ عَاقِلًا، رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، أَجْنَبِيَّةً أَوْ مَنْكُوحَتَهُ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَى إِنْ كَانَ لَا يُبْصِرُ فَهُوَ يُحِسُّ، وَالنَّائِمُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَسْتَيْقِظَ سَاعَةً فَسَاعَةً، فَيَنْقَبِضُ الْإِنْسَانُ عَنِ الْوَطْءِ، مَعَ حُضُورِهِ.وَالصَّبِيُّ الْعَاقِلُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يَحْتَشِمُ الْإِنْسَانُ مِنْهُ كَمَا يَحْتَشِمُ مِنَ الرَّجُلِ.وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَاقِلًا فَهُوَ مُلْحَقٌ بِالْبَهَائِمِ، لَا يَمْتَنِعُ الْإِنْسَانُ عَنِ الْوَطْءِ لِمَكَانِهِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَالْإِنْسَانُ يَحْتَشِمُ مِنَ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَيَسْتَحْيِي، وَكَذَا لَا يَحِلُّ لَهَا النَّظَرُ إِلَيْهِمَا فَيَنْقَبِضَانِ لِمَكَانِهَا.

وَلَا تَصِحُّ الْخَلْوَةُ فِي الْمَسْجِدِ، وَالطَّرِيقِ، وَالصَّحْرَاءِ، وَعَلَى سَطْحٍ لَا حِجَابَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ يَجْمَعُ النَّاسَ لِلصَّلَاةِ، وَلَا يُؤْمَنُ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِ سَاعَةً فَسَاعَةً، وَكَذَا الْوَطْءُ فِي الْمَسْجِدِ حَرَامٌ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}.

وَالطَّرِيقُ مَمَرُّ النَّاسِ لَا تَخْلُو عَنْهُمْ عَادَةً، وَذَلِكَ يُوجِبُ الِانْقِبَاضَ فَيَمْنَعُ الْوَطْءَ، وَكَذَا الصَّحْرَاءُ وَالسَّطْحُ مِنْ غَيْرِ حِجَابٍ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْقَبِضُ عَنِ الْوَطْءِ فِي مِثْلِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَحْصُلَ هُنَاكَ ثَالِثٌ، أَوْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ أَحَدٌ.

وَلَوْ خَلَا بِهَا فِي حَجَلَةٍ أَوْ قُبَّةٍ فَأَرْخَى السِّتْرَ عَلَيْهِ فَهِيَ خَلْوَةٌ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْبَيْتِ.

وَلَا خَلْوَةَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِيهِ حَرَامٌ فَكَانَ الْمَانِعُ الشَّرْعِيُّ قَائِمًا.

15- وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ، وَهِيَ خَلْوَةُ الِاهْتِدَاءِ، مِنَ الْهُدُوءِ وَالسُّكُونِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ سَكَنٌ لِلْآخَرِ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، وَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَهُمْ بِإِرْخَاءِ السُّتُورِ، كَانَ هُنَاكَ إِرْخَاءُ سُتُورٍ، أَوْ غَلْقُ بَابٍ، أَوْ غَيْرِهِ.وَمِنَ الْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ عِنْدَهُمْ أَيْضًا، خَلْوَةُ الزِّيَارَةِ، أَيْ زِيَارَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ.وَتَكُونُ بِخَلْوَةِ بَالِغٍ- وَلَوْ كَانَ مَرِيضًا- حَيْثُ كَانَ مُطِيقًا، وَلَوْ كَانَتِ- الزَّوْجَةُ الَّتِي يَخْلُو بِهَا- حَائِضًا، أَوْ نُفَسَاءَ، أَوْ صَائِمَةً، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَجْبُوبٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، خِلَافًا لِلْقَرَافِيِّ، وَأَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ يُمْكِنُ شَغْلُهَا بِالْوَطْءِ، فَلَا يَكُونُ مَعَهُمَا فِي الْخَلْوَةِ نِسَاءٌ مُتَّصِفَاتٌ بِالْعِفَّةِ وَالْعَدَالَةِ، أَوْ وَاحِدَةٌ كَذَلِكَ، وَبِحَيْثُ لَا تَقْصُرُ مُدَّةُ الْخَلْوَةِ فَلَا تَتَّسِعُ لِلْوَطْءِ، أَمَّا لَوْ كَانَ مَعَهَا نِسَاءٌ مِنْ شِرَارِ النِّسَاءِ، فَالْخَلْوَةُ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَثَرٌ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تُمَكِّنُ مِنْ نَفْسِهَا بِحَضْرَتِهِنَّ، دُونَ الْمُتَّصِفَاتِ بِالْعِفَّةِ وَالْعَدَالَةِ فَإِنَّهُنَّ يَمْنَعْنَهَا.

وَجَاءَ فِي بُلْغَةُ السَّالِكِ وَالشَّرْحِ الصَّغِيرِ: أَنَّ الْخَلْوَةَ- سَوَاءٌ أَكَانَتْ خَلْوَةَ اهْتِدَاءٍ أَمْ خَلْوَةَ زِيَارَةٍ- هِيَ اخْتِلَاءُ الْبَالِغِ غَيْرِ الْمَجْبُوبِ بِمُطِيقَةٍ، خَلْوَةً يُمْكِنُ فِيهَا الْوَطْءُ عَادَةً، فَلَا تَكُونُ لَحْظَةً تَقْصُرُ عَنْ زَمَنِ الْوَطْءِ وَإِنْ تَصَادَقَا عَلَى نَفْيِهِ.

وَلَا يَمْنَعُ مِنْ خَلْوَةِ الِاهْتِدَاءِ عِنْدَهُمْ وُجُودُ مَانِعٍ شَرْعِيٍّ، كَحَيْضٍ، وَصَوْمٍ، وَإِحْرَامٍ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا خَلَا بِزَوْجَتِهِ أَوَّلَ خَلْوَةٍ لَا يُفَارِقُهَا قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهَا.

16- وَالْخَلْوَةُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْأَثَرُ السَّابِقُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} الْآيَةَ وَالْمُرَادُ بِالْمَسِّ الْجِمَاعُ.

17- وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْخَلْوَةُ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَثَرٌ هِيَ الْخَلْوَةُ الَّتِي تَكُونُ بَعِيدًا عَنْ مُمَيِّزٍ، وَبَالِغٍ مُطْلَقًا، مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، أَعْمَى أَوْ بَصِيرًا، عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهَا عِنْدَهُ، وَلَمْ تَمْنَعْهُ مِنَ الْوَطْءِ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ يَطَأُ مِثْلُهُ كَابْنِ عَشْرٍ فَأَكْثَرَ، وَكَانَتِ الزَّوْجَةُ يُوطَأُ مِثْلُهَا كَبِنْتِ تِسْعٍ فَأَكْثَرَ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا دُونَ ذَلِكَ لَمْ يَتَقَرَّرْ بِالْخَلْوَةِ شَيْءٌ، وَلَمْ يُرَتَّبْ لَهَا أَثَرٌ.

وَلَا يَمْنَعُ أَثَرُ الْخَلْوَةِ نَوْمَ الزَّوْجِ، وَلَا كَوْنُهُ أَعْمَى، وَلَا وُجُودُ مَانِعٍ حِسِّيٍّ بِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ كَجَبٍّ وَرَتْقٍ، وَلَا وُجُودُ مَانِعٍ شَرْعِيٍّ بِهِمَا، أَوْ بِأَحَدِهِمَا كَحَيْضٍ وَإِحْرَامٍ وَصَوْمٍ وَاجِبٍ.

وَمُجَرَّدُ الْخَلْوَةِ عَلَى الْوَجْهِ السَّابِقِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا آثَارُهَا، وَقَدْ قَالَ الْفَرَّاءُ فِي قوله تعالى: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} أَنَّهُ قَالَ: الْإِفْضَاءُ، الْخَلْوَةُ، دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ؛ لِأَنَّ الْإِفْضَاءَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْفَضَاءِ، وَهُوَ الْخَالِي، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَقَدْ خَلَا بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ.

آثَارُ الْخَلْوَةِ:

أَوَّلًا: أَثَرُهَا فِي الْمَهْرِ:

18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مِمَّا يَتَأَكَّدُ بِهِ الْمَهْرُ الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي اسْتَوْفَتْ شَرَائِطَهَا.فَلَوْ خَلَا الزَّوْجُ بِزَوْجَتِهِ خَلْوَةً صَحِيحَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ لِلْمَهْرِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُسَمَّى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي النِّكَاحِ تَسْمِيَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ كَمَالُ مَهْرِ الْمِثْلِ لقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: « مَنْ كَشَفَ خِمَارَ امْرَأَتِهِ وَنَظَرَ إِلَيْهَا وَجَبَ الصَّدَاقُ، دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ » وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ.

وَرُوِيَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهُ قَالَ: قَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ أَنَّهُ إِذَا أَرْخَى السُّتُورَ وَأَغْلَقَ الْبَابَ فَلَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، حَكَى الطَّحَاوِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ إِلَى أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِالْخَلْوَةِ فِي تَقَرُّرِ الْمَهْرِ.لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} وَالْمُرَادُ بِالْمَسِّ الْجِمَاعُ.

ثَانِيًا: أَثَرُهَا فِي الْعِدَّةِ:

19- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ، فَلَا تَجِبُ فِي الْفَاسِدِ إِلاَّ بِالدُّخُولِ، أَمَّا فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ فَتَجِبُ بِالْخَلْوَةِ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} وَلِأَنَّ وُجُوبَهَا بِطَرِيقِ اسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ، وَالْحَاجَةُ إِلَى الِاسْتِبْرَاءِ بَعْدَ الدُّخُولِ لَا قَبْلَهُ، إِلاَّ أَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أُقِيمَتْ مُقَامَ الدُّخُولِ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ الَّتِي فِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى يُحْتَاطُ فِي إِيجَابِهِ؛ وَلِأَنَّ التَّسْلِيمَ بِالْوَاجِبِ بِالنِّكَاحِ قَدْ حَصَلَ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ فَتَجِبُ بِهِ الْعِدَّةُ كَمَا تَجِبُ بِالدُّخُولِ؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ إِنَّمَا أُقِيمَتْ مُقَامَ الدُّخُولِ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِدُخُولٍ حَقِيقَةً لِكَوْنِهَا سَبَبًا مُفْضِيًا إِلَيْهِ، فَأُقِيمَتْ مُقَامَهُ احْتِيَاطًا إِقَامَةً لِلسَّبَبِ مُقَامَ الْمُسَبَّبِ فِيمَا يُحْتَاطُ فِيهِ.وَوُجُوبُ الْعِدَّةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ حَتَّى وَلَوْ نَفَى الزَّوْجَانِ الْوَطْءَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَسْقُطُ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى نَفْيِ الْوَطْءِ.

وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ كَمَا وَرَدَ فِي الْمُغْنِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي وُجُوبِ الْعِدَّةِ بَيْنَ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا مَعَ الْمَانِعِ مِنَ الْوَطْءِ أَوْ مَعَ عَدَمِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَانِعُ حَقِيقِيًّا كَالْجَبِّ، وَالْعُنَّةِ، وَالْفَتْقِ، وَالرَّتْقِ، أَوْ شَرْعِيًّا كَالصَّوْمِ، وَالْإِحْرَامِ، وَالْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ، وَالظِّهَارِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عُلِّقَ هَاهُنَا عَلَى الْخَلْوَةِ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ الْإِصَابَةِ دُونَ حَقِيقَتِهَا.

وَفِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا تَجِبُ الْعِدَّةُ بِالْخَلْوَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الْوَطْءِ لِمَفْهُومِ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} ثَالِثًا: أَثَرُ الْخَلْوَةِ فِي الرَّجْعَةِ:

20- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخَلْوَةَ لَيْسَتْ بِرَجْعَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مَا يَدُلُّ عَلَى الرَّجْعَةِ لَا قَوْلًا وَلَا فِعْلًا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الِارْتِجَاعِ عِلْمُ الدُّخُولِ وَعَدَمُ إِنْكَارِ الْوَطْءِ، فَإِنْ أَنْكَرَتْهُ لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ، وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ اخْتَلَى بِهَا فِي زِيَارَةٍ أَوْ خَلْوَةِ اهْتِدَاءٍ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالٍ.الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ فِي خَلْوَةِ الزِّيَارَةِ، أَمَّا خَلْوَةُ الِاهْتِدَاءِ فَلَا عِبْرَةَ بِإِنْكَارِهَا وَتَصِحُّ الرَّجْعَةُ، وَلَا إِنْ أَقَرَّ بِهِ فَقَطْ فِي زِيَارَةٍ بِخِلَافِ الْبِنَاءِ.وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا إِنْ كَانَتِ الزَّائِرَةُ صُدِّقَ فِي دَعْوَاهُ الْوَطْءَ فَتَصِحُّ الرَّجْعَةُ كَخَلْوَةِ الْبِنَاءِ، وَقَالَ الصَّاوِيُّ تَعْلِيقًا عَلَى قَوْلِهِ (وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالٍ) بِقَوْلِهِ: ذُكِرَ فِي الشَّامِلِ أَنَّ الْقَوْلَ بِعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْخَلْوَتَيْنِ هُوَ الْمَشْهُورُ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: الْخَلْوَةُ كَالْإِصَابَةِ فِي إِثْبَاتِ الرَّجْعَةِ لِلزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي خَلَا بِهَا فِي ظَاهِرِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ لِقَوْلِهِ: حُكْمُهَا حُكْمُ الدُّخُولِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهَا.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا إِلاَّ أَنْ يُصِيبَهَا.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (رَجْعَةٌ).

رَابِعًا: أَثَرُ الْخَلْوَةِ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ:

21- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْخَلْوَةِ وَلَوْ مِنَ الْمَجْبُوبِ، وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ رَاوِيًا عَنِ ابْنِ الشِّحْنَةِ فِي عَقْدِ الْفَرَائِدِ: إِنَّ الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَوْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الطَّلَاقِ ثَبَتَ نَسَبُهُ لِلتَّيَقُّنِ بِأَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَأَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَلَوْ وَلَدَتْهُ لِأَكْثَرَ لَا يَثْبُتُ لِعَدَمِ الْعِدَّةِ، وَلَوِ اخْتَلَى بِهَا فَطَلَّقَهَا يَثْبُتُ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، قَالَ: فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ تَكُونُ الْخُصُوصِيَّةُ لِلْخَلْوَةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ تَكُونُ فِرَاشًا بِمُجَرَّدِ الْخَلْوَةِ بِهَا حَتَّى إِذَا وَلَدَتْ لِلْإِمْكَانِ مِنَ الْخَلْوَةِ بِهَا لَحِقَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِالْوَطْءِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ النِّكَاحِ الِاسْتِمْتَاعُ وَالْوَلَدُ، فَاكْتَفَى فِيهِ بِالْإِمْكَانِ مِنَ الْخَلْوَةِ.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْخَلْوَةَ يَثْبُتُ بِهَا النَّسَبُ.

انْظُرْ: (نَسَبٌ).

خَامِسًا: أَثَرُ الْخَلْوَةِ بِالنِّسْبَةِ لِانْتِشَارِ الْحُرْمَةِ:

22- مِنَ الْآثَارِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَى الْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ انْتِشَارُ الْحُرْمَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ تُفِيدُ حُرْمَةَ نِكَاحِ الْأُخْتِ وَأَرْبَعٍ سِوَى الزَّوْجَةِ فِي عِدَّتِهَا.

أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِتَحْرِيمِ بِنْتِ الزَّوْجَةِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَرَوَى ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ أَنَّ الْخَلْوَةَ بِالزَّوْجِ لَا تَقُومُ مَقَامَ الْوَطْءِ فِي تَحْرِيمِ بِنْتِهَا.وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي نَوَادِرِ أَبِي يُوسُفَ: إِذَا خَلَا بِهَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ، أَوْ حَالَ إِحْرَامِهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَهَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَحِلُّ، فَإِنَّ الزَّوْجَ لَمْ يُجْعَلْ وَاطِئًا، حَتَّى كَانَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ.

ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْخَلْوَةِ الْفَاسِدَةِ، أَمَّا الصَّحِيحَةُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا تُحَرِّمُ الْبِنْتَ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: الدُّخُولُ بِالْأُمِّ يُحَرِّمُ الْبِنْتَ، لقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}.

وَهَذَا نَصٌّ وَالْمُرَادُ بِالدُّخُولِ فِي الْآيَةِ الْوَطْءُ كَنَّى عَنْهُ بِالدُّخُولِ، فَإِنْ خَلَا بِهَا وَلَمْ يَطَأْهَا لَمْ تَحْرُمِ ابْنَتُهَا، لِأَنَّ الْأُمَّ غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا، وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ تَحْرِيمُهَا لِقَوْلِهِ: فَإِنْ خَلَا بِهَا، وَقَالَ لَمْ أَطَأْهَا، وَصَدَّقَتْهُ، لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى قَوْلِهَا، وَكَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الدُّخُولِ.

وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ خِلَافًا فِي تَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ فَقَالَ: وَأَمَّا تَحْرِيمُ الرَّبِيبَةِ فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِالْخَلْوَةِ، وَقَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: لَا تَحْرُمُ، وَحَمَلَ الْقَاضِي كَلَامَ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ مَعَ الْخَلْوَةِ نَظَرٌ أَوْ مُبَاشَرَةٌ، فَيُخَرَّجُ كَلَامُهُ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي أَنَّ ذَلِكَ يَحْرُمُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ، لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} وَالدُّخُولُ كِنَايَةٌ عَنِ الْوَطْءِ وَالنَّصُّ صَرِيحٌ فِي إِبَاحَتِهَا بِدُونِهِ، فَلَا يَجُوزُ خِلَافُهُ.

(ر: نِكَاحٌ- صِهْرٌ- مُحَرَّمَاتٌ).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


266-موسوعة الفقه الكويتية (خيار الشرط 3)

خِيَارُ الشَّرْطِ -3

الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ:

36- إِذَا كَانَتْ زَوَائِدُ مَحَلِّ الْخِيَارِ مِنْ نَوْعِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الْأَصْلِ، فَفِيهَا يَجْرِي الْخِلَافُ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ.وَهَذَا الْخِلَافُ لَا مَجَالَ لَهُ إِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي إِمْضَاءَ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَتَمَلَّكُ الْأَصْلَ وَالزَّوَائِدَ اتِّفَاقًا، لِأَنَّهُ بِالْإِمْضَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّ الزَّوَائِدَ كَسْبُ مِلْكِهِ فَكَانَتْ مِلْكًا لَهُ، أَمَّا إِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي الْفَسْخَ وَإِعَادَةَ مَحَلِّ الْخِيَارِ إِلَى الْبَائِعِ فَهَلْ يُعِيدُ مَعَهَا الزَّوَائِدَ أَمْ لَا؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَرُدُّ الْأَصْلَ مَعَ الزَّوَائِدِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ كَانَ مَوْقُوفًا، فَإِذَا حَصَلَ الْفَسْخُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَالزِّيَادَةُ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَتُرَدُّ إِلَيْهِ مَعَ الْأَصْلِ.وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ: الْمَبِيعُ دَخَلَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَكَانَتِ الزَّوَائِدُ حَاصِلَةً عَلَى مِلْكِهِ، فَيَظْهَرُ أَثَرُ الْفَسْخِ فِي الْأَصْلِ لَا فِي الزَّوَائِدِ لِأَنَّهَا بَقِيَتْ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَيَأْخُذُهَا هُوَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْخِلَافِ الْكَبِيرِ السَّابِقِ.

الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ:

37- ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ الْخِيَارَ يَسْقُطُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ.وَقَدْ عَرَفْنَا أَنَّهُ حَيْثُ يَمْتَنِعُ الرَّدُّ يَتَمَلَّكُ صَاحِبُ الْخِيَارِ الْأَصْلَ وَالزِّيَادَةَ، لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِإِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَنَّهُ الْمَالِكُ لِمَحَلِّ الْخِيَارِ فَيَمْلِكُ زَوَائِدَهُ مَهْمَا كَانَ وَصْفُهَا.وَعِنْدَ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ لَا يَبْطُلُ الْخِيَارُ فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ بَيْنَ الْإِمْضَاءِ وَالْفَسْخِ،.

وَيَكُونُ مَصِيرُ هَذِهِ الصُّورَةِ مُمَاثِلًا لِلصُّورَةِ السَّابِقَةِ (صُورَةِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ) حَيْثُ يَظَلُّ صَاحِبُ الْخِيَارِ مُتَمَكِّنًا مِنَ اسْتِعْمَالِ خِيَارِهِ.

أَحْكَامُ الزَّوَائِدِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ:

لِلْمَالِكِيَّةِ مَنْحًى آخَرُ فِي شَأْنِ الزَّوَائِدِ، فَهُمْ لَمْ يَنْظُرُوا إِلَى الِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ، كَمَا لَمْ يَعْتَبِرُوا التَّوَلُّدَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلْ خَصُّوا مَا يُعْتَبَرُ جُزْءًا بَاقِيًا مِنَ الْمَبِيعِ فَاعْتَبَرُوهُ لَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ فِي الْعَقْدِ، وَمَثَّلُوا لَهُ بِالْوَلَدِ وَالصُّوفِ، فَالْوَلَدُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَلَّةٍ- وَمِثْلُهُ الصُّوفُ- تَمَّ أَمْ لَا «لِأَنَّهُمَا كَجُزْءِ الْمَبِيعِ، أَيْ أَنَّ الْوَلَدَ كَالْجُزْءِ الْبَاقِي، بِخِلَافِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَإِنَّهُ كَجُزْءٍ فَاتَ وَهُوَ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ» يَكُونُ مَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي، وَمَا عَدَاهُ فَهُوَ لِلْبَائِعِ، لِأَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْأَصْلِ- زَمَنَ الْخِيَارِ- يَظَلُّ لِلْبَائِعِ حَتَّى يَسْتَعْمِلَ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ.وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا أَنْ تَكُونَ الزَّوَائِدُ كُلُّهَا- عَدَا الْوَلَدِ وَالصُّوفِ- لِلْبَائِعِ.

وَمِنْ ذَلِكَ:

1- الْغَلَّةُ الْحَادِثَةُ زَمَنَ الْخِيَ

"رِ مِنْ لَبَنٍ وَسَمْنٍ وَبَيْضٍ، لِلْبَائِعِ أَيْضًا.

2- أَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَبِيعِ بِالْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَيْضًا.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَتْ زَوَائِدُ مُنْفَصِلَةٌ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، كَاللَّبَنِ وَالْبَيْضِ وَالثَّمَرِ، فَهِيَ لِمَنْ لَهُ الْمِلْكُ وَهُوَ مَنِ انْفَرَدَ بِالْخِيَارِ، فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ كَحُكْمِ الْبَيْعِ نَفْسِهِ، فَإِنْ فُسِخَ الْبَيْعُ فَهِيَ لِلْبَائِعِ وَإِلاَّ فَلِلْمُشْتَرِي.أَمَّا الزَّوَائِدُ الْمُتَّصِلَةُ فَتَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ.

وَالْحَمْلُ الْمَوْجُودُ عِنْدَ الْبَيْعِ كَالْأَصْلِ فِي أَنَّهُ مَبِيعٌ لِمُقَابَلَتِهِ بِقِسْطٍ مِنَ الثَّمَنِ، كَمَا لَوْ بِيعَ مَعَهُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ لَا كَالزَّوَائِدِ.أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَالزَّوَائِدُ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا، وَيَشْتَمِلُ ذَلِكَ عَلَى الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ كَالْكَسْبِ وَالْأُجْرَةِ بَلْ لَوْ كَانَتْ نَمَاءً مُنْفَصِلًا مُتَوَلِّدًا مِنْ عَيْنِ الْمَبِيعِ كَالثَّمَرَةِ وَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ، وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ (وَفِي هَذِهِ الْحَالِ تُعْتَبَرُ الزَّوَائِدُ أَمَانَةً عِنْدَ الْبَائِعِ فَلَا يَضْمَنُهَا لِلْمُشْتَرِي إِنْ تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَعَدٍّ وَلَا تَفْرِيطٍ خِلَافًا لِحُكْمِ الْمَبِيعِ نَفْسِهِ فَهُوَ مَضْمُونٌ قَبْلَ قَبْضِهِ) وَسَوَاءٌ تَمَخَّضَ الْخِيَارُ عَنْ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَوْ فَسْخِهِ.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ قُدَامَةَ لِلْمَذْهَبِ بِحَدِيثِ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ».وَهَذَا مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، وَاسْتَدَلَّ لَهُ أَيْضًا بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ إِلَى الْمُشْتَرِي، أَيْ فَهِيَ تَتْبَعُهُ فِي الِانْتِقَالِ.

رَابِعًا: أَثَرُ الْخِيَارِ عَلَى تَسْلِيمِ الْبَدَلَيْنِ

38- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُ الْبَدَلَيْنِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فِي حَالِ الْإِطْلَاقِ وَعَدَمِ اشْتِرَاطِ التَّسْلِيمِ، فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ ابْتِدَاءً، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي تَسْلِيمُ الثَّمَنِ ابْتِدَاءً لِاحْتِمَالِ الْفَسْخِ مَا لَمْ تَمْضِ مُدَّةُ الْخِيَارِ، أَوْ يُسْقِطُ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ.

أَمَّا التَّسْلِيمُ لِلثَّمَنِ أَوِ الْمَبِيعِ اخْتِيَارًا وَطَوَاعِيَةً فَلَا مَانِعَ مِنْهُ عِنْدَهُمْ أَيْ لَا يَبْطُلُ الْخِيَارُ فَإِذَا بَادَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا إِلَى تَسْلِيمِ مَا بِيَدِهِ- فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ- فَهُوَ جَائِزٌ، لِأَيٍّ مِنْهُمَا كَانَ الْخِيَارُ، وَلَا أَثَرَ لِلتَّسْلِيمِ عَلَى الْخِيَارِ فَنَقْدُ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ أَوْ دَفْعُ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي لَا يُبْطِلُ الْخِيَارَ شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ تَسْلِيمُ الْبَائِعِ الْمَبِيعَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى وَجْهِ الِاخْتِبَارِ وَالنَّظَرِ فِي صُلُوحِهِ أَوْ عَدَمِهِ، أَمَّا إِنْ سَلَّمَهُ الْمَبِيعَ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ- وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ- فَإِنَّ خِيَارَهُ يَبْطُلُ،.

وَإِذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمَا تَطَوُّعًا فَامْتَنَعَ الْآخَرُ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ، فَأَبُو حَنِيفَةَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ الْآخَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ أَيًّا كَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ وَلَهُ اسْتِرْدَادُهُ.وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ عَدَمُ إِجْبَارِ الْآخَرِ أَيْضًا وَهُمْ يَقُولُونَ: بِأَنَّ لِمَنْ سَلَّمَ مُؤَمِّلًا التَّسْلِيمَ مِنْ صَاحِبِهِ فَلَمْ يَحْدُثْ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ.

سُقُوطُ الْخِيَارِ:

39- يَسْقُطُ الْخِيَارُ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهِ بِعَدَدٍ مِنَ الْأَسْبَابِ هِيَ: الْبُلُوغُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ الَّذِي عَقَدَ عَنْهُ وَلِيُّهُ أَوْ وَصِيُّهُ، وَالْجُنُونُ وَنَحْوُهُ، وَمَوْتُ صَاحِبِ الْخِيَارِ عَلَى خِلَافٍ فِي هَذَا السَّبَبِ الْأَخِيرِ:

أ- بُلُوغُ الصَّبِيِّ مُسْتَحِقِّ الْخِيَارِ:

40- يَرَى الْإِمَامُ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ دُخُولَ الصَّغِيرِ صَاحِبِ الْخِيَارِ فِي طَوْرِ الْبُلُوغِ، فِي مُدَّةِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْخِيَارَاتِ الْمُحَدَّدَةِ بِوَقْتٍ يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ لِلْوَلِيِّ أَوِ الْوَصِيِّ سَعْيًا مِنْهُمَا لِمَصْلَحَةِ الصَّبِيِّ، وَيَلْزَمُ بِهِ الْعَقْدُ.أَمَّا الْإِمَامُ مُحَمَّدٌ، فَقَدْ جَزَمَ بِأَنَّ الْخِيَارَ لَا يَسْقُطُ، ثُمَّ تَعَدَّدَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْهُ فِي مَصِيرِ الْخِيَارِ بَعْدَئِذٍ هَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى الصَّغِيرِ فِي الْمُدَّةِ أَوْ بِدُونِ تَحْدِيدِ مُدَّةٍ، أَوْ يَبْقَى لِلْوَصِيِّ أَوِ الْوَلِيِّ؟

وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ كَلَامًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

ب- طُرُوءُ الْجُنُونِ وَنَحْوِهِ:

41- قَدْ يَطْرَأُ الْجُنُونُ عَلَى الْعَاقِدِ صَاحِبِ الْخِيَارِ، وَمِثْلُهُ (مَا هُوَ فِي حُكْمِهِ مِنْ حَيْثُ ذَهَابُ الْعَقْلِ وَعَجْزُ الْإِنْسَانِ عَنْ إِظْهَارِ مَوْقِفِهِ، كَالْإِغْمَاءِ وَالنَّوْمِ أَوِ السَّكْتَةِ) فَإِذَا بَقِيَ ذَلِكَ حَتَّى اسْتَغْرَقَ وَقْتَ الْخِيَارِ مِنْ حَالَةِ تَوْقِيتِهِ سَقَطَ الْخِيَارُ.لَكِنَّ سُقُوطَهُ لَيْسَ لِكَوْنِ الْجُنُونِ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْخِيَارِ، بَلْ لِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ دُونَ صُدُورِ فَسْخٍ مِنْهُ، فَالْجُنُونُ نَفْسُهُ لَيْسَ مُسْقِطًا بَلِ اسْتِغْرَاقُ الْوَقْتِ كُلِّهِ دُونَ فَسْخٍ، وَلِذَا لَوْ أَفَاقَ خِلَالَ الْمُدَّةِ كَانَ عَلَى خِيَارِهِ فِيمَا بَقِيَ مِنْهَا فِي الْأَصَحِّ لَدَى الْحَنَفِيَّةِ.قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْإِغْمَاءَ وَالْجُنُونَ لَا يُسْقِطَانِ الْخِيَارَ وَإِنَّمَا الْمُسْقِطُ لَهُ مُضِيُّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ.وَاخْتُلِفَ فِي السُّكْرِ هَلْ هُوَ فِي حُكْمِ الْجُنُونِ أَمْ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ بِالْبَنْجِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْوَسَائِلِ الْمُسْتَخْدَمَةِ فِي الطِّبِّ، وَبَيْنَ السُّكْرِ بِالْمُحَرَّمِ.وَيُنْظَرُ فِي الْمُطَوَّلَاتِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ جُنَّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ وَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَفِيقُ أَوْ يَفِيقُ بَعْدَ طُولٍ يَضُرُّ الصَّبْرُ إِلَيْهِ بِالْآخَرِ، نَظَرَ السُّلْطَانُ فِي الْأَصْلَحِ لَهُ، أَيْ لَا يَسْقُطُ الْخِيَارُ.وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي انْتِقَالِ الْخِيَارِ.

ج- تَغَيُّرُ مَحَلِّ الْخِيَارِ:

42- إِذَا كَانَ تَغَيُّرُ مَحَلِّ الْخِيَارِ بِالْهَلَاكِ وَالتَّعَيُّبِ أَوِ النُّقْصَانِ، فَإِنَّ الْخِيَارَ يَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أُسْوَةً بِالْعَقْدِ الْبَاتِّ، فَهَذَا أَوْلَى، لِأَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْهُ لِوُجُودِ شَرْطِ الْخِيَارِ.أَمَّا إِنْ كَانَ الْهَلَاكُ بَعْدَ الْقَبْضِ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْمَذَاهِبُ، فَهُوَ مُسْقِطٌ لِلْخِيَارِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مُطْلَقًا.وَهُوَ بِمَثَابَةِ الْفَسْخِ لِلْعَقْدِ وَسُقُوطِ الْخِيَارِ تَبَعًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَيَرْبِطُونَهُ بِمَسْأَلَةِ انْتِقَالِ الْمِلْكِ، فَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَفْتَرِقُ بَيْنَ كَوْنِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ أَوْ لَهُ وَلِلْمُشْتَرِي- فَالْمِلْكُ لِلْبَائِعِ- فَإِذَا هَلَكَ لَمْ تُمْكِنُ الْمُبَادَلَةُ عَلَيْهِ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَيَبْطُلُ الْخِيَارُ.أَمَّا إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَالْهَلَاكُ فِي عِدَادِ مُسْقِطَاتِ الْخِيَارِ الَّتِي يَلْزَمُ بِهَا الْعَقْدُ لِأَنَّهُ عَجْزٌ عَنِ التَّصَرُّفِ بِحُكْمِ الْخِيَارِ حِينَ أَشْرَفَتِ السِّلْعَةُ عَلَى الْهَلَاكِ.وَالشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ: إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ، لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْبَائِعِ وَتَعَذَّرَ نَقْلُهُ، أَمَّا إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي أَوْ لَهُمَا مَعًا، فَلَا أَثَرَ لِلْهَلَاكِ عَلَى الْعَقْدِ أَوِ الْخِيَارِ إِنَّمَا تَتَأَثَّرُ تَصْفِيَةُ هَذَا الْعَقْدِ، فَإِنِ اخْتَارَ صَاحِبُ الْخِيَارِ الْإِمْضَاءَ فَالْوَاجِبُ هُوَ الثَّمَنُ وَإِنِ اخْتَارَ الْفَسْخَ فَالْوَاجِبُ رَدُّ الْمِثْلِ أَوِ الْقِيمَةِ بَدَلًا مِنَ الْمَبِيعِ. وَمِثْلُ الْهَلَاكِ النُّقْصَانُ بِالتَّعَيُّبِ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ أَوْ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ مَهْمَا كَانَ قَدْرُهُ أَوْ فَاعِلُهُ، لِإِخْلَالِ النُّقْصَانِ بِشَرْطِ رَدِّ الْمَبِيعِ كَمَا قُبِضَ.أَمَّا لَوْ كَانَ يُرْجَى زَوَالُهُ كَالْمَرَضِ فَالْخِيَارُ بَاقٍ وَلَا يُرَدُّ حَتَّى يَبْرَأَ فِي الْمُدَّةِ فَإِنْ مَضَتْ وَلَمْ يَبْرَأْ لَزِمَ الْبَيْعُ.

43- وَإِنْ كَانَ التَّغَيُّرُ بِالزِّيَادَةِ: إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهَا لَا أَثَرَ لَهَا فِي سُقُوطِ الْخِيَارِ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَلَا أَثَرَ لَهَا أَيْضًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَهْمَا كَانَ نَوْعُهَا وَكَذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ، أَوِ الْمُنْفَصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ، أَمَّا الْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنَ الْأَصْلِ فَإِنَّهَا تُسْقِطُ الْخِيَارَ لِتَعَذُّرِ وُرُودِ الْفَسْخِ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا غَيْرُ مَبِيعٍ، فَالرَّدُّ بِدُونِهَا مُؤَدٍّ لِشُبْهَةِ الرِّبَا، وَإِنْ رَدَّهَا مَعَ الْأَصْلِ كَانَ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ.

د- إِمْضَاءُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ

44- إِذَا تَعَاقَدَ شَرِيكَانِ مَعَ آخَرَ عَلَى أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ فَأَجَازَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ سَقَطَ الْخِيَارُ بِالنِّسْبَةِ لَهُمَا جَمِيعًا وَلَزِمَ الْعَقْدُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ الشَّرِيكُ الْآخَرُ الْفَسْخَ، أَمَّا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ فَالْخِيَارُ لَا يَسْقُطُ عَمَّنْ لَمْ يُجِزِ الْعَقْدَ بَلْ يَبْقَى خِيَارُهُ عَلَى حَالِهِ.

وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ كَلَامًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

هـ- مَوْتُ صَاحِبِ الْخِيَارِ

45- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى سُقُوطِ الْخِيَارِ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَمْ لِلْمُشْتَرِي، وَسَوَاءٌ أَكَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ أَصِيلًا أَمْ نَائِبًا (وَكِيلًا، أَوْ وَصِيًّا، أَوْ وَلِيًّا) فَبِمَوْتِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ يَسْقُطُ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى بَقَاءِ الْخِيَارِ لِلْوَرَثَةِ، فَمَوْتُ صَاحِبِ الْخِيَارِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ لَيْسَ مُسْقِطًا، بَلْ هُوَ نَاقِلٌ فَقَطْ.

أَمَّا وَفَاةُ مَنْ عَلَيْهِ الْخِيَارُ فَلَا يَسْقُطُ بِهَا الْخِيَارُ، بَلْ يَبْقَى الْخِيَارُ لِصَاحِبِهِ وَيَكُونُ رَدُّهُ إِنْ شَاءَ الرَّدَّ فِي مُوَاجِهَةِ الْوَرَثَةِ، قَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَأَجْمَعُوا (أَيِ الْحَنَفِيَّةُ) أَنَّهُ إِذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْخِيَارُ فَإِنَّ الْخِيَارَ بَاقٍ.

انْتِهَاءُ الْخِيَارِ:

46- يَنْتَهِي خِيَارُ الشَّرْطِ بِأَحَدِ سَبَبَيْنِ: الْأَوَّلُ: إِمْضَاءُ الْعَقْدِ بِإِجَازَتِهِ أَوْ بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ دُونَ فَسْخٍ،

وَالثَّانِي: فَسْخُ الْعَقْدِ.

السَّبَبُ الْأَوَّلُ: إِمْضَاءُ الْعَقْدِ بِالْإِجَازَةِ أَوْ بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ دُونَ فَسْخٍ:

47- يَنْتَهِي الْخِيَارُ بِإِمْضَاءِ الْعَقْدِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ إِمَّا بِإِجَازَتِهِ، وَإِمَّا بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ.

إِمْضَاءُ الْعَقْدِ بِالْإِجَازَةِ:

48- إِمْضَاءُ الْعَقْدِ بِالْإِجَازَةِ يُنْهِي الْخِيَارَ بِالِاتِّفَاقِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَقْدِ اللُّزُومُ وَالِامْتِنَاعُ يُعَارِضُ الْخِيَارَ وَقَدْ بَطَلَ بِالْإِجَازَةِ فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ.

أَنْوَاعُ الْإِجَازَةِ:

49- قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الْإِجَازَةَ إِلَى نَوْعَيْنِ: صَرِيحٍ أَوْ شِبْهِ الصَّرِيحِ، وَدَلَالَةٍ.

فَالصَّرِيحُ، بِالنِّسْبَةِ لِلْبَائِعِ، أَنْ يَقُولَ: أَجَزْتُ الْعَقْدَ- أَوِ الْبَيْعَ مَثَلًا- أَوْ أَمْضَيْتُهُ أَوْ أَوْجَبْتُهُ، أَوْ أَلْزَمْتُهُ، أَوْ رَضِيتُهُ، أَوْ أَسْقَطْتُ الْخِيَارَ، أَوْ أَبْطَلْتُهُ.وَشِبْهُ الصَّرِيحِ مَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَعَلِمَ الْمُشْتَرِي الْإِجَازَةَ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ.وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ صَاحِبَ الْخِيَارِ لَوْ قَالَ: هَوِيتُ أَخْذَهُ، أَوْ أَحْبَبْتُ، أَوْ أَعْجَبَنِي، أَوْ وَافَقَنِي لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ.

أَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يَتَصَرَّفَ صَاحِبُ الْخِيَارِ فِي مَحَلِّ الْخِيَارِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ، كَالْبَيْعِ، وَالْمُسَاوَمَةِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْهِبَةِ، وَالرَّهْنِ، سَلَّمَ أَوْ لَمْ يُسَلِّمْ.لِأَنَّ جَوَازَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ، فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهَا يَكُونُ دَلِيلَ قَصْدِ التَّمَلُّكِ، أَوْ تَقَرُّرِ الْمِلْكِ- عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ- وَذَلِكَ دَلِيلُ الْإِمْضَاءِ.هَذَا إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَإِذَا كَانَ لِلْبَائِعِ فَالدَّلَالَةُ عَلَى الْإِمْضَاءِ فِي حَقِّهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ قَبْضِهِ بِالْبَيْعِ أَوْ نَحْوِهِ، إِذَا كَانَ الثَّمَنُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ.

هَذَا وَلَا يُشْتَرَطُ بَقَاءُ الْمَحَلِّ لِلْإِجَازَةِ، ذَلِكَ أَنَّهُ فِي الْإِجَازَةِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ الْمَحْضِ، وَلَيْسَ الْإِنْشَاءِ، فَبِالْإِجَازَةِ يَظْهَرُ أَنَّ الْعَقْدَ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ انْعَقَدَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ، وَالْمَحَلُّ كَانَ قَابِلًا وَقْتَ الْعَقْدِ فَهَلَاكُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْإِجَازَةَ.

كَمَا لَا يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْعَاقِدِ الْآخَرِ بِالْإِجَازَةِ.فَلَوْ أَجَازَ الْعَقْدَ فَإِنَّهُ لَازِمٌ مُنْذُ الْإِجَازَةِ سَوَاءٌ أَبْلَغَ الْعَاقِدُ الْآخَرَ ذَلِكَ أَمْ لَا.

وَنَحْوُ هَذَا التَّقْسِيمِ جَاءَ فِي الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى.

إِنْهَاءُ الْخِيَارِ بِعِوَضٍ:

50- جَاءَ فِي فَتَاوَى قَاضِيخَانْ أَنَّهُ لَوْ صَالَحَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ صَاحِبَ الْخِيَارِ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ، أَوْ عَلَى عَرَضٍ بِعَيْنِهِ عَلَى أَنْ يُسْقِطَ الْخِيَارَ وَيُمْضِيَ الْبَيْعَ جَازَ ذَلِكَ وَيَكُونُ زِيَادَةً فِي الثَّمَنِ.وَكَذَا لَوْ كَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ هُوَ الْمُشْتَرِي فَصَالَحَهُ الْبَائِعُ عَلَى أَنْ يُسْقِطَ الْخِيَارَ فَيَحُطَّ عَنْهُ مِنَ الثَّمَنِ كَذَا أَوْ يَزِيدَهُ هَذَا الْعَرَضَ بِعَيْنِهِ فِي الْبَيْعِ جَازَ ذَلِكَ أَيْضًا.

ثَانِيًا- انْتِهَاءُ الْخِيَارِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ:

51- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ- فِي الْجُمْلَةِ- عَلَى أَنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ يَنْتَهِي بِهِ خِيَارُ الشَّرْطِ، ذَلِكَ لِأَنَّهُ خِيَارٌ مُؤَقَّتٌ بِمُدَّةٍ (سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِتَحْدِيدِ الْعَاقِدِ، أَمْ بِتَقْدِيرِ الشَّارِعِ فِي حَالِ الْإِطْلَاقِ)، فَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ الَّتِي وُقِّتَ بِهَا الْخِيَارُ فَمِنَ الْبَدَهِيِّ أَنْ يَنْتَهِيَ بِمُضِيِّهَا «لِأَنَّ الْمُؤَقَّتَ إِلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ».وَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ مَنَعَ مِنْ لُزُومِ الْعَقْدِ تِلْكَ الْمُدَّةَ- وَالْأَصْلُ هُوَ اللُّزُومُ- فَبِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ يَثْبُتُ مُوجِبُ الْعَقْدِ، وَتَرْكُ صَاحِبِ الْخِيَارِ الْفَسْخَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ رِضًا مِنْهُ بِالْعَقْدِ.

عَلَى ذَلِكَ تَوَارَدَتْ نُصُوصُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، خِلَافًا لِلْقَاضِي أَبِي يَعْلَى مِنْهُمْ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ قَائِلُونَ بِأَنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ يُنْهِي الْخِيَارَ، غَيْرَ أَنَّ لَهُمُ اتِّجَاهًا خَاصًّا فِيمَا يُنْتَجُ عَنْ مُضِيِّ الْمُدَّةِ، فَإِذَا كَانَ الْحَالُ عِنْدَ غَيْرِهِمُ اعْتِبَارَهُ إِمْضَاءً لِلْعَقْدِ مِنْ صَاحِبِ الْخِيَارِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ انْتِهَاءٌ لِلْخِيَارِ وَلَيْسَ إِمْضَاءً لِلْعَقْدِ إِلاَّ حَيْثُ تَنْقَضِي الْمُدَّةُ، وَالْمَبِيعُ بِيَدِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، فَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي (مَثَلًا) كَانَ تَرْكُ الْمَبِيعِ فِي يَدِهِ بِمَثَابَةِ الْإِمْضَاءِ وَلُزُومِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَانْقَضَى الْأَمَدُ- وَالْمَبِيعُ فِي يَدِهِ- فَذَلِكَ بِمَثَابَةِ الْفَسْخِ مِنَ الْبَائِعِ.هَذَا مِنْ حَيْثُ أَدَاؤُهُ إِلَى إِمْضَاءِ الْعَقْدِ.أَمَّا اعْتِبَارُ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَسْخًا أَوْ إِجَازَةً فَيُنْظَرُ إِلَى مَنْ يَنْقَضِي زَمَنُ الْخِيَارِ وَالْمَبِيعُ بِيَدِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ صَاحِبَ الْخِيَارِ أَمْ غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ بِيَدِ الْبَائِعِ آنَئِذٍ فَهُوَ فَسْخٌ، وَإِنْ كَانَ بِيَدِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ إِمْضَاءٌ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: يَلْزَمُ الْمَبِيعُ بِالْخِيَارِ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ مِنْهُمَا كَانَ صَاحِبَ الْخِيَارِ أَوْ غَيْرَهُ بِانْقِضَاءِ زَمَنِ الْخِيَارِ وَمَا أُلْحِقَ بِهِ وَهُوَ الْيَوْمُ وَالْيَوْمَانِ.وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلَاتٌ تُنْظَرُ فِي كُتُبِهِمْ.

السَّبَبُ الثَّانِي: انْتِهَاءُ الْخِيَارِ بِفَسْخِ الْعَقْدِ

52- يَنْقَسِمُ الْفَسْخُ إِلَى صَرِيحٍ وَدَلَالَةٍ، أَوْ بِنَظْرَةٍ أُخْرَى إِلَى فَسْخٍ قَوْلِيٍّ، وَفَسْخٍ فِعْلِيٍّ، فَالْفَسْخُ الْقَوْلِيُّ أَوِ الصَّرِيحُ يَقَعُ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: فَسَخْتُ الْبَيْعَ، أَوِ اسْتَرْجَعْتُ الْمَبِيعَ، أَوْ رَدَدْتُهُ، أَوْ رَدَدْتُ الثَّمَنَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَكُلُّ هَذَا فَسْخٌ صَرِيحٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْبَائِعِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ: لَا أَبِيعُ حَتَّى تَزِيدَ فِي الثَّمَنِ، مَعَ قَوْلِ الْمُشْتَرِي لَا أَفْعَلُ، وَكَذَلِكَ مِنْهُ عَكْسُ هَذِهِ الصُّورَةِ بِأَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي: لَا أَشْتَرِي حَتَّى يُنْقِصَ عَنِّي مِنَ الثَّمَنِ، عَلَى قَوْلِ الْبَائِعِ لَا أَفْعَلُ.وَكَذَا مِنْهُ طَلَبُ الْبَائِعِ حُلُولَ الثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ، وَطَلَبُ الْمُشْتَرِي تَأْجِيلَ الثَّمَنِ الْحَالِّ فَكُلُّ هَذَا فَسْخٌ.

وَصُورَةُ الْفَسْخِ دَلَالَةً- وَيُسَمَّى الْفَسْخَ الْفِعْلِيَّ- (أَوِ الْفَسْخَ بِالْفِعْلِ كَمَا سَمَّاهُ ابْنُ الْهُمَامِ): أَنْ يَتَصَرَّفَ صَاحِبُ الْخِيَارِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ فِي الْمَبِيعِ.هَذَا إِذَا كَانَ صَاحِبُ الْخِيَارِ هُوَ الْبَائِعُ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُشْتَرِي فَبِأَنْ يَتَصَرَّفَ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ فِي الثَّمَنِ، شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ عَيْنًا.أَمَّا إِنْ كَانَ دَيْنًا فَلَا يُتَصَوَّرُ الْفَسْخُ دَلَالَةً فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَلِذَلِكَ أَغْفَلَهُ ابْنُ الْهُمَامِ مُقْتَصِرًا عَلَى تَصْوِيرِهِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّهُ لَوْ تَصَرَّفَ الْبَائِعُ فِي الثَّمَنِ- وَهُوَ دَيْنٌ- يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِهِ الْخَاصِّ لَا فِي الثَّمَنِ «لِأَنَّ الْأَثْمَانَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ».

وَالسَّبَبُ فِي الِاعْتِدَادِ بِالتَّصَرُّفِ كَالْمُلاَّكِ فِي إِسْقَاطِ الْخِيَارِ أَنَّ الْخِيَارَ إِذَا كَانَ لِلْبَائِعِ فَتَصَرُّفُهُ فِي الْمَبِيعِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ دَلِيلُ اسْتِبْقَاءِ مِلْكِهِ فِيهِ.إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَتَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ فِي الثَّمَنِ إِذَا كَانَ عَيْنًا دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى اسْتِبْقَاءِ مِلْكِهِ فِيهِ.وَاسْتِبْقَاءُ مِلْكِ كُلٍّ مِنْهُمَا لَا يَكُونُ إِلاَّ بِالْفَسْخِ، فَالْإِقْدَامُ عَلَى التَّصَرُّفِ الْمَذْكُورِ يَكُونُ فَسْخًا لِلْعَقْدِ دَلَالَةً، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ، وَمِنْ قَبْلِهِ الْكَاسَانِيُّ: «وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا وُجِدَ مِنَ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ لَوْ وُجِدَ مِنْهُ فِي الثَّمَنِ لَكَانَ إِجَازَةً لِلْبَيْعِ: يَكُونُ فَسْخًا لِلْبَيْعِ دَلَالَةً». وَالْفَسْخُ دَلَالَةً مُتَّفَقٌ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْآخَرِ بِهِ، أَمَّا فِي الْفَسْخِ الصَّرِيحِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ.

ثُمَّ إِنَّ لِلْفَسْخِ دَلَالَةً بَعْدَ هَذَا الضَّابِطِ تَفَارِيعَ مِنْهَا:

- أَكْلُ الْمَبِيعِ وَشُرْبُهُ وَلُبْسُهُ، يُسْقِطُ الْخِيَارَ.وَفِي فَتَاوَى قَاضِيخَانْ: إِذَا لَبِسَهُ مَرَّةً لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ.

- النَّسْخُ مِنَ الْكِتَابِ، لِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، لَا يُسْقِطُ الْخِيَارَ، وَلَوْ دَرَسَ فِيهِ يَسْقُطُ.

- رُكُوبُ الدَّابَّةِ لِيَسْقِيَهَا، أَوْ يَرُدَّهَا، وَيَعْلِفَهَا، إِجَازَةٌ.وَقِيلَ: إِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ بِدُونِ الرُّكُوبِ لَا يَكُونُ إِجَازَةً.وَأَطْلَقَ قَاضِيخَانْ فِي فَتَاوِيهِ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ فَقَالَ: وَرُكُوبُهَا لِيَسْقِيَهَا أَوْ يَرُدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ لَا يُبْطِلُ خِيَارَهُ اسْتِحْسَانًا، فَجَعَلَهُ مِنَ الِاسْتِحْسَانِ.

- بَيْعُ مَحَلِّ الْخِيَارِ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ هِبَتُهُ أَوْ رَهْنُهُ- مَعَ التَّسْلِيمِ- مُسْقِطٌ لِلْخِيَارِ، أَمَّا لَوْ وَهَبَهُ أَوْ رَهَنَهُ وَلَمْ يُسَلِّمْ لَا يَنْفَسِخُ.

- إِيجَارُ مَحَلِّ الْخِيَارِ فَسْخٌ وَلَوْ لَمْ يُسَلِّمْ، وَقِيلَ: لَيْسَ فَسْخًا مَا لَمْ يُسَلِّمْ.

- تَسْلِيمُ مَحَلِّ الْخِيَارِ إِلَى الْمُشْتَرِي فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَفَرَّقَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْفَضْلِ بَيْنَ التَّسْلِيمِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِيَارِ فَلَا يُبْطِلُ خِيَارَهُ وَلَا يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي، وَالتَّسْلِيمُ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ فَيَبْطُلُ خِيَارُهُ.

قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: وَكَذَا كُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يَحِلُّ إِلاَّ فِي الْمِلْكِ، وَكَذَا كُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يَنْفُذُ إِلاَّ فِي الْمِلْكِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ.

شَرَائِطُ الْفَسْخِ:

53- يُشْتَرَطُ لِاعْتِبَارِ الْفَسْخِ نَافِذًا الشَّرَائِطُ التَّالِيَةُ:

1- قِيَامُ الْخِيَارِ، لِأَنَّ الْخِيَارَ إِذَا زَالَ، بِالسُّقُوطِ مَثَلًا، يَلْزَمُ الْعَقْدُ، فَلَا أَثَرَ لِلْفَسْخِ حِينَئِذٍ.

2- عِلْمُ الْعَاقِدِ الْآخَرِ بِالْفَسْخِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْمَرَاجِعِ الْفِقْهِيَّةِ بِعِبَارَةِ الْفَسْخِ بِحَضْرَةِ الْعَاقِدِ، وَعَكْسُهُ الْفَسْخُ فِي غَيْبَتِهِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْحَضْرَةِ، الْعِلْمُ لَا الْحُضُورُ، وَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، فَإِنْ جَرَى الْفَسْخُ مِنْ صَاحِبِ الْخِيَارِ دُونَ عِلْمِ الْعَاقِدِ الْآخَرِ فَالْفَسْخُ مَوْقُوفٌ: إِنْ عَلِمَ بِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ نَفَذَ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ حَتَّى مَضَتِ الْمُدَّةُ لَزِمَ الْعَقْدُ لِعَدَمِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ الْفَسْخِ.وَفِي هَذِهِ الْفَتْرَةِ- حَيْثُ يُعْتَبَرُ مَوْقُوفًا- لَوْ عَادَ الْعَاقِدُ عَنْ فَسْخِهِ فَأَمْضَى الْعَقْدَ قَبْلَ عِلْمِ الْآخَرِ فَذَلِكَ مِنْهُ مُعْتَبَرٌ فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ وَيَبْطُلُ فَسْخُهُ السَّابِقُ.

أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ نُقِلَتْ عَنْهُ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ مِثْلُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ، وَقَوْلٌ آخَرُ لَهُ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْعَاقِدِ الْآخَرِ، وَقَوْلٌ ثَالِثٌ بِالنَّظَرِ إِلَى صَاحِبِ الْخِيَارِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْبَائِعُ فَلَا يُشْتَرَطُ بَلْ يَقْتَصِرُ اشْتِرَاطُ الْعِلْمِ فِي خِيَارِ الْمُشْتَرِي لَكِنَّ الْقَوْلَ الْمَشْهُورَ عَنْهُ عَدَمُ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْعَاقِدِ الْآخَرِ بِالْفَسْخِ وَرَجَّحَ ابْنُ الْهُمَامِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ هَذَا، وَبَيَّنَ أَنَّ الْفَسْخَ بِالْقَوْلِ هُوَ الَّذِي وَقَعَ الْخِلَافُ فِي جَوَازِهِ بِغَيْرِ عِلْمِ الْآخَرِ، وَأَمَّا الْفَسْخُ بِالْفِعْلِ فَيَجُوزُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ اتِّفَاقًا بَيْنَ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ.

وَعَدَمُ اشْتِرَاطِ عِلْمِ الْعَاقِدِ الْآخَرِ بِالْفَسْخِ هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالرِّوَايَاتُ السَّابِقَةُ لِبَعْضِ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، عَلَى مَا ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْفَاسِخَ مِنْهَا مُسَلَّطٌ عَلَى الْفَسْخِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ الَّذِي لَا خِيَارَ لَهُ فَلَا يَتَوَقَّفُ فَسْخُهُ عَلَى عِلْمِهِ، فَهُوَ كَبَيْعِ الْوَكِيلِ مَعَ عَدَمِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ وَهُوَ جَائِزٌ، فَلَا يُشْتَرَطُ الرِّضَا هُنَا وَلَا هُنَاكَ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ، مِنْهَا: أَنَّ الْفَسْخَ كَالْإِجَازَةِ فِي هَذَا، لِأَنَّهُمَا شَقِيقَانِ كِلَاهُمَا لِاسْتِعْمَالِ الْخِيَارِ فَهُوَ- كَمَا قَالَ الْبَابَرْتِيُّ- قِيَاسٌ لِأَحَدِ شِطْرَيِ الْعَقْدِ عَلَى الْآخَرِ.

3- أَنْ لَا يَنْشَأَ عَنِ الْفَسْخِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ، أَيْ أَنْ يَقَعَ الْفَسْخُ عَلَى جَمِيعِ الصَّفْقَةِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُمْضِيَ الْعَقْدَ فِي بَعْضِ الصَّفْقَةِ وَيَفْسَخَ فِي بَعْضِهَا الْآخَرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ.

وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي الْإِجَازَةِ فِي الْبَعْضِ، فَيَنْشَأُ عَنْهُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فِي اللُّزُومِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا.

وَالْمَالِكِيَّةُ يُجْبِرُونَ الْعَاقِدَ عَلَى رَدِّ الْجَمِيعِ إِنْ أَجَازَ الْعَقْدَ فِي الْبَعْضِ وَرَدَّ الْبَعْضَ حَيْثُ لَمْ يَرْضَ الْعَاقِدُ الشَّرِكَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَرَادَ الْفَسْخَ فِي أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ اللَّذَيْنِ فِيهِمَا الْخِيَارُ فَالْأَصَحُّ لَا يَجُوزُ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، أَمَّا لَوِ اشْتَرَى اثْنَانِ شَيْئًا مِنْ وَاحِدٍ صَفْقَةً وَاحِدَةً بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَلِأَحَدِهِمَا الْفَسْخُ فِي نَصِيبِهِ.

الْأَدِلَّةُ: لِكُلٍّ مِنَ الْقَائِلِينَ بِاشْتِرَاطِ عِلْمِ الْعَاقِدِ الْآخَرِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ أَدِلَّةٌ تَدُورُ بَيْنَ وُجُوهٍ مِنَ الْمَعْقُولِ وَالِاسْتِشْهَادِ بِالنَّظَائِرِ الْفِقْهِيَّةِ. انْتِقَالُ خِيَارِ الشَّرْطِ:

أَوَّلًا- انْتِقَالُ الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ:

54- ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِ الْمَوْرُوثِ، وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَجْهًا بِإِرْثِ خِيَارِ الشَّرْطِ مُطْلَقًا.

وَقَدْ عَلَّلَ الْقَائِلُونَ بِانْتِقَالِ الْخِيَارِ لِلْوَارِثِ بِاعْتِبَارِ الْخِيَارِ مِنْ مُشْتَمِلَاتِ التَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لِإِصْلَاحِ الْمَالِ، كَالرَّهْنِ وَحَبْسِ الْمَبِيعِ عَلَى تَحْصِيلِ الثَّمَنِ.وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ مِنَ السُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ.فَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ تَرَكَ مَالًا أَوْ حَقًّا فَلِوَرَثَتِهِ»،، وَخِيَارُ الشَّرْطِ حَقٌّ لِلْمَوْرُوثِ فَيَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِهِ كَمَا يَقْضِي الْحَدِيثُ.

ثُمَّ قَاسُوا خِيَارَ الشَّرْطِ عَلَى خِيَارَيِ الْعَيْبِ وَالتَّعْيِينِ الْمُتَّفَقِ عَلَى انْتِقَالِهِمَا لِلْوَارِثِ بِالْمَوْتِ، بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْ تِلْكَ الْخِيَارَاتِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ فَيَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ بِمُجَرَّدِ انْتِقَالِهَا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ لَا يُورَثُ، وَمِنْ عِبَارَاتِهِمْ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ قَوْلُ الزَّيْلَعِيِّ: الْخِيَارُ صِفَةٌ لِلْمَيِّتِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إِلاَّ مَشِيئَةً وَإِرَادَةً فَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ كَسَائِرِ أَوْصَافِهِ. وَاسْتَدَلُّوا لِمَذْهَبِهِمْ بِأَنَّ حَقَّ الْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ لَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ فَلَمْ يُورَثْ، نَظِيرُ حَقِّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ إِذَا مَاتَ الْوَاهِبُ لَمْ يُورَثْ عَنْهُ.وَقَالُوا أَيْضًا: خِيَارُ الشَّرْطِ لَيْسَ وَصْفًا بِالْمَبِيعِ حَتَّى يُورَثَ بِإِرْثِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَشِيئَةٌ وَإِرَادَةٌ، فَهُوَ وَصْفٌ قَائِمٌ بِشَخْصِ مَنْ ثَبَتَ لَهُ فَلَا يُورَثُ عَنْهُ، لِأَنَّ الْإِرْثَ يَجْرِي فِيمَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ، وَالْوَصْفُ الشَّخْصِيُّ لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ بِحَالٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَحْدَهُمْ إِلَى التَّفْصِيلِ بَيْنَ مُطَالَبَةِ الْمَيِّتِ بِالْخِيَارِ قَبْلَ مَوْتِهِ أَوْ عَدَمِ الْمُطَالَبَةِ، فَإِنْ مَاتَ صَاحِبُ الْخِيَارِ دُونَ أَنْ يُطَالِبَ بِحَقِّهِ فِي الْخِيَارِ، بَطَلَ الْخِيَارُ وَلَمْ يُورَثْ، أَمَّا إِنْ طَالَبَ بِذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ فَإِنَّهُ يُورَثُ عَنْهُ.فَالْأَصْلُ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ غَيْرُ مَوْرُوثٍ إِلاَّ بِالْمُطَالَبَةِ مِنَ الْمُشْتَرِطِ.

وَقَدْ صَوَّرَهُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ نَقْلٌ، وَتَوْرِيثٌ مِنَ الْمُوَرِّثِ لِوَرَثَتِهِ بِإِرَادَاتِهِ، حَيْثُ جَاءَ فِي الْفَوَاكِهِ الْعَدِيدَةِ قَوْلُ الْفَقِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَهْلَانَ- شَيْخِ الْمُؤَلِّفِ -: «إِذَا مَاتَ وَوَرِثَ خِيَارَهُ وَرَثَتُهُ، لِشَرْطِهِ لَهُمْ فَأَسْقَطَهُ أَحَدُ الْوَرَثَةِ سَقَطَ خِيَارُ الْجَمِيعِ».وَقَدْ جَاءَتْ تِلْكَ الْعِبَارَةُ إِيضَاحًا وَتَقْيِيدًا لِعِبَارَةِ أَحَدِ الْكُتُبِ الَّتِي جَاءَتْ مُوهِمَةً أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يُورَثُ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ يُشْتَرَطُ لِذَلِكَ مُطَالَبَةُ الْمُوَرِّثِ بِحَقِّ الْخِيَارِ.

وَأَمَّا ابْنُ قُدَامَةَ فَقَالَ: الْمَذْهَبُ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَيِّتِ مِنْهُمَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، وَيَبْقَى خِيَارُ الْآخَرِ بِحَالِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ قَدْ طَالَبَ بِالْفَسْخِ قَبْلَ مَوْتِهِ فِيهِ فَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ.

ثَانِيًا: انْتِقَالُ الْخِيَارِ بِالْجُنُونِ وَحَالَاتِ الْغَيْبُوبَةِ:

55- سَبَقَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ الْجُنُونَ يُسْقِطُ الْخِيَارَ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي فِقْرَةِ 41

وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِذَا طَرَأَ الْجُنُونُ- أَوِ الْإِغْمَاءُ- عَلَى صَاحِبِ الْخِيَارِ لَمْ يَنْقَطِعْ خِيَارُهُ، بَلْ يَقُومُ وَلِيُّهُ أَوِ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ فَيَفْعَلُ مَا فِيهِ الْأَحَظُّ مِنَ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ وَكَذَلِكَ إِذَا أَصَابَهُ خَرَسٌ- وَلَمْ تَكُنْ لَهُ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ أَوْ كِتَابَةٌ- نَصَّبَ الْحَاكِمُ نَائِبًا عَنْهُ.

وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَابِلَةِ كَلَامًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ: أ- فَفِي الْجُنُونِ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَفِيقُ، أَوْ يَفِيقُ بَعْدَ وَقْتٍ طَوِيلٍ يَضُرُّ الِانْتِظَارُ إِلَيْهِ بِالْعَاقِدِ الْآخَرِ، يَنْظُرُ السُّلْطَانُ أَوْ نُوَّابُهُ فِي الْأَصْلَحِ لَهُ مِنْ إِمْضَاءٍ أَوْ رَدٍّ، وَلَوْ لَمْ يَنْظُرِ السُّلْطَانُ حَتَّى مَضَى جُزْءٌ مِنَ الْمُدَّةِ فَزَالَ الْجُنُونُ يُحْتَسَبُ مَا مَضَى مِنَ الْمُدَّةِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَلَوْ لَمْ يُنْظَرْ حَتَّى أَفَاقَ بَعْدَ أَمَدِ الْخِيَارِ لَا يُسْتَأْنَفُ لَهُ أَجَلٌ عَلَى الظَّاهِرِ، وَالْمَبِيعُ لَازِمٌ لِمَنْ هُوَ بِيَدِهِ.وَمِثْلُ الْمَجْنُونِ- فِي الْحُكْمِ- الْمَفْقُودُ، عَلَى الرَّاجِحِ، وَقِيلَ: هُوَ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ.

ب- وَفِي الْإِغْمَاءِ يُنْتَظَرُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ لِكَيْ يَفِيقَ وَيَخْتَارَ لِنَفْسِهِ، إِلاَّ إِذَا مَضَى زَمَنُ الْخِيَارِ وَطَالَ إِغْمَاؤُهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ الضَّرَرُ لِلْآخَرِ فَيُفْسَخُ.وَلَا يَنْظُرُ لَهُ السُّلْطَانُ.

فَإِنْ لَمْ يَفْسَخْ حَتَّى أَفَاقَ بَعْدَ أَيَّامِ الْخِيَارِ اسْتُؤْنِفَ لَهُ الْأَجَلُ، وَهَذَا الْحُكْمُ خِلَافُ مَا مَرَّ فِي الْمَجْنُونِ.

هَذَا وَقَدْ يَزُولُ الطَّارِئُ الَّذِي نُقِلَ الْخِيَارُ بِسَبَبِهِ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَى غَيْرِهِ، كَالْجُنُونِ النَّاقِلِ لِلْخِيَارِ إِلَى السُّلْطَانِ، لَوْ أَفَاقَ بَعْدَهُ لَا عِبْرَةَ بِمَا يَخْتَارُهُ بَلِ الْمُعْتَبَرُ بِمَا نَظَرَهُ السُّلْطَانُ.

هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَخَالَفَهُمْ فِيهِ الشَّافِعِيَّةُ، فَفِي هَذِهِ الْحَالِ: لَوْ أَفَاقَ الْعَاقِدُ وَادَّعَى أَنَّ الْغِبْطَةَ خِلَافُ مَا فَعَلَهُ الْقَيِّمُ عَنْهُ يَنْظُرُ الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ وَجَدَ الْأَمْرَ كَمَا يَقُولُ الْمُفِيقُ مَكَّنَهُ مِنَ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ وَنَقَضَ فِعْلَ الْقَيِّمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا ادَّعَاهُ الْمُفِيقُ ظَاهِرًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَيِّمِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا فَعَلَهُ إِلاَّ أَنْ يُقِيمَ الْمُفِيقُ بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


267-موسوعة الفقه الكويتية (خيار العيب 2)

خِيَارُ الْعَيْبِ -2

أَقْسَامُ وَأَحْكَامُ الْبَرَاءَةِ:

23- تَنْقَسِمُ الْبَرَاءَةُ أَوَّلًا إِلَى نَوْعَيْنِ: خَاصَّةٍ، مِنْ عَيْبٍ مُعَيَّنٍ مُسَمًّى، وَعَامَّةٍ مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ- أَوْ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ- وَلَا أَثَرَ لِهَذَا التَّقْسِيمِ فِي الْحُكْمِ غَيْرُ أَثَرِ الشُّمُولِ لِكُلِّ عَيْبٍ أَوِ الِاخْتِصَاصِ بِالْعَيْبِ الْمُسَمَّى.عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ مَنَعَ الْعَامَّةَ لِأَنَّهَا تَشْمَلُ الْعَيْبَ الَّذِي يَحْدُثُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَلَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ، فِي حِينِ أَجَازَهَا الْآخَرُونَ وَحَمَلُوهَا عَلَى مَا يَرَوْنَهُ جَائِزًا: دُخُولُ الْحَادِثِ أَوْ عَدَمُهُ.

24- لَكِنَّ لِلْبَرَاءَةِ تَقْسِيمًا آخَرَ ذَا أَثَرٍ كَبِيرٍ وَهُوَ أَنَّهَا: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً بِالْعَيْبِ الْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَإِمَّا أَنْ تَصْدُرَ مُضَافَةً إِلَى الْعَيْبِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ مَعَ الْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَإِمَّا أَنْ تَرِدَ مُطْلَقَةً لَا مُقَيَّدَةً وَلَا مُضَافَةً.

أ- فَإِذَا كَانَ اشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ فِي صُورَةِ الْقَيْدِ بِالْعَيْبِ- أَوِ الْعُيُوبِ- الْمَوْجُودَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ يُسْتَفَادُ مِنْ عِبَارَةِ: «عَلَى أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ بِهِ»، أَوْ «مِنْ عَيْبِ كَذَا بِهِ»، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْبَرَاءَةَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ وَنَحْوِهَا لَا تَتَنَاوَلُ إِلاَّ مَا كَانَ قَائِمًا وَقْتَ الْعَقْدِ، دُونَ مَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ إِلَى حِينِ التَّسَلُّمِ.وَلَا فَرْقَ بَيْنَ صُدُورِ الْبَرَاءَةِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ أَوِ الْخُصُوصِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُقَيَّدَ بِوَصْفٍ لَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَ الْمَوْصُوفِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ.

ب- إِذَا كَانَ اشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ فِيهِ إِضَافَةٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ، بِأَنْ كَانَتْ صَرِيحَةً بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْعَيْبِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا يَصِحُّ هَذَا الِاشْتِرَاطُ، وَالْعَقْد مَعَهُ فَاسِدٌ، أَمَّا عَدَمُ صِحَّةِ الشَّرْطِ فَلِأَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ (وَلَا التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ) فَهُوَ- وَإِنْ كَانَ إِسْقَاطًا- فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ الِارْتِدَادَ بِالرَّدِّ.وَأَمَّا فَسَادُ الْعَقْدِ، فَلِأَنَّهُ بَيْعٌ أُدْخِلَ فِيهِ شَرْطٌ فَاسِدٌ فَيَفْسُدُ.وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ شَامِلٌ لِمَا لَوْ نَصَّ عَلَى الْعَيْبِ الْكَائِنِ وَالْحَادِثِ، أَوْ أَفْرَدَ الْحَادِثَ بِالذِّكْرِ، وَالْأَخِيرُ أَوْلَى بِالْفَسَادِ.

ج- إِذَا كَانَ اشْتِرَاطُ الْبَرَاءَةِ بِصُورَةِ الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْمُرَادِ أَهُوَ الْبَرَاءَةُ مِنَ الْعَيْبِ الْمَوْجُودِ أَمْ مِنْهُ وَمِنَ الْحَادِثِ (وَيَسْتَوِي فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا أَنْ تَجِيءَ عَامَّةً: عَلَى أَنِّي بَرِيءٌ مِنَ الْعُيُوبِ، أَوْ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، أَوْ خَاصَّةً: مِنْ عَيْبِ كَذَا- وَسَمَّاهُ-) فَلِأَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ رَأْيَانِ فِي الْمُرَادِ بِهَا:

أَحَدُهَا: شُمُولُ الْبَرَاءَةِ لِمَا هُوَ قَائِمٌ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَمَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ إِلَى الْقَبْضِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا.

وَالرَّأْيُ الثَّانِي: اقْتِصَارُ الْبَرَاءَةِ عَلَى الْعُيُوبِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَزُفَرُ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ، وَهُوَ قَوْلٌ لِأَبِي يُوسُفَ أَيْضًا.

الْعُقُودُ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ الْعَيْبِ.

25- ذَكَرَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ يَثْبُتُ فِي الْعُقُودِ التَّالِيَةِ: الْبَيْعِ أَوِ الشِّرَاءِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْقِسْمَةِ، وَالصُّلْحِ عَنِ الْمَالِ، وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَفِي الْمَهْرِ، وَبَدَلِ الْخُلْعِ.

1- أَمَّا ذِكْرُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَعًا فَلِمُرَاعَاةِ ظُهُورِ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ أَوِ الثَّمَنِ، فَيُذْكَرُ ثُبُوتُهُ فِي الشِّرَاءِ إِذَا لُوحِظَ كَوْنُ الْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ، وَإِذَا لُوحِظَ كَوْنُ الْعَيْبِ فِي الثَّمَنِ ذُكِرَ ثُبُوتُهُ فِي الْبَيْعِ، لَكِنَّهُمْ يُصَوِّرُونَهُ غَالِبًا فِي الشِّرَاءِ، وَأَنَّ الْعَيْبَ فِي الْمَبِيعِ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الثَّمَنِ الِانْضِبَاطُ فَيَقِلُّ ظُهُورُ الْعَيْبِ فِيهِ.وَالْمُرَادُ مِنَ الْبَيْعِ (أَوِ الشِّرَاءِ) الصَّحِيحُ لَا الْفَاسِدُ، لِوُجُوبِ فَسْخِهِ بِدُونِ الْخِيَارِ.

وَيَشْمَلُ الْبَيْعُ عَقْدَ الصَّرْفِ، لِأَنَّ السَّلَامَةَ عَنِ الْعَيْبِ مَطْلُوبَةٌ عَادَةً فِيهِ، سَوَاءٌ- أَكَانَ بَدَلَ الصَّرْفِ مِنَ الْأَثْمَانِ كَالتِّبْرِ وَالنُّقْرَةِ، أَمِ الدُّيُونِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ، إِلاَّ أَنَّ بَدَلَ الصَّرْفِ إِذَا كَانَ عَيْنًا فَرَدُّهُ بِالْعَيْبِ يَفْسَخُ الْعَقْدَ سَوَاءٌ رَدَّهُ فِي الْمَجْلِسِ أَمْ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا نَقَدَ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا بِأَنْ وَجَدَ الدَّرَاهِمَ الْمَقْبُوضَةَ زُيُوفًا فَرَدَّهَا فِي الْمَجْلِسِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالرَّدِّ، حَتَّى لَوِ اسْتَبْدَلَ مَكَانَهُ مَضَى الصَّرْفُ، وَإِنْ رَدَّهَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ بَطَلَ الصَّرْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.

2- الْإِجَارَةُ: وَلَوْ حَدَثَ الْعَيْبُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، أَيْ يَثْبُتُ فِيهَا الْخِيَارُ سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَيْبُ قَدِيمًا أَمْ حَادِثًا.كَمَا أَنَّهُ يَنْفَرِدُ صَاحِبُ الْخِيَارِ بِالرَّدِّ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ.وَفِي الْبَيْعِ يَنْفَرِدُ قَبْلَهُ فَقَطْ.

3- الْقِسْمَةُ: فَإِذَا وَجَدَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ فِي نَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ عَيْبًا قَدِيمًا.كَانَ لَهُ الْخِيَارُ.

4- الصُّلْحُ عَنِ الْمَالِ.

5- الْمَهْرُ.

6- بَدَلُ الْخُلْعِ.

7- بَدَلُ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ.

وَهِيَ تُفَارِقُ مَا سَبَقَ مِنْ مَجَالِ خِيَارِ الْعَيْبِ، بِأَنَّ الرَّدَّ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ بِفَاحِشِ الْعَيْبِ لَا بِيَسِيرِهِ.

26- وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ أَنَّ الْعَقْدَ بِالنِّسْبَةِ لِكَوْنِهِ مَجَالًا لِخِيَارِ الْعَيْبِ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ:

1- مَا هُوَ مَجَالٌ لَهُ بِلَا خِلَافٍ، وَهُوَ الْعُقُودُ الْمَقْصُودُ بِهَا الْمُعَاوَضَةُ.

2- مَا لَيْسَ مَجَالًا لَهُ بِلَا خِلَافٍ، وَهُوَ الْعُقُودُ الَّتِي لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهَا الْمُعَاوَضَةَ.وَذَلِكَ مِثْلُ الْهِبَةِ لِغَيْرِ الْعِوَضِ، وَالصَّدَقَةِ.

3- مَا فِيهِ خِلَافٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ مَجَالًا لَهُ، وَهُوَ الْعُقُودُ الَّتِي جَمَعَتْ قَصْدَ الْمُكَارَمَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ مِثْلُ الْهِبَةِ بِقَصْدِ الْعِوَضِ.وَهَذَا الضَّابِطُ لِمَجَالِ خِيَارِ الْعَيْبِ تَشْهَدُ لَهُ تَفْرِيعَاتُ الْمَذَاهِبِ وَلَمْ نَجِدْ تَعْدَادًا لِلْعُقُودِ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ.

تَوْقِيتُ خِيَارِ الْعَيْبِ:

27- فِيهِ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ:

الرَّأْيُ الْأَوَّلُ- أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ:

فَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ لِلْفَسْخِ وَإِلاَّ سَقَطَ.وَمُرَادُهُمْ مِنَ الْفَوْرِيَّةِ: الزَّمَنُ الَّذِي يُمْكِنُ فِيهِ الْفَسْخُ بِحَسَبِ الْعَادَةِ.فَلَوْ عَلِمَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ وَلَمْ يَفْسَخْ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِ وَلَا يَرْجِعُ بِأَرْشِ الْعَيْبِ.وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنْ تَعَدُّدِ الرِّوَايَةِ فِيهِ.وَهُوَ رَأْيٌ لَدَى الْحَنَفِيَّةِ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْحَاوِي وَمُفَادُهُ: أَنَّهُ إِذَا أَمْسَكَ الْمَعِيبَ بَعْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْعَيْبِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الرَّدِّ كَانَ رِضًا.وَقَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ عَنْ هَذَا الرَّأْيِ: إِنَّهُ غَرِيبٌ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي.

وَالْمُرَادُ مِنَ الْمُبَادَرَةِ الَّتِي يَسْقُطُ الْخِيَارُ بِتَرْكِهَا، أَنْ يُبَادِرَ عَلَى الْعَادَةِ.

وَلَوْ قَالَ: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ الرَّدَّ عَلَى الْفَوْرِ يُقْبَلُ قَوْلُهُ إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَخْفَى عَلَيْهِ.

وَحَيْثُ بَطَلَ حَقُّ الرَّدِّ بِالتَّقْصِيرِ يَبْطُلُ حَقُّ الْأَرْشِ أَيْضًا وَلَا بُدَّ مِنْ يَمِينِهِ

قَالَ الْقَاضِي زَكَرِيَّا: هَذَا فِي بَيْعِ الْأَعْيَانِ، بِخِلَافِ مَا فِي الذِّمَّةِ فَهُوَ عَلَى التَّرَاخِي لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا إِلاَّ بِالرِّضَا- وَلَوْ قَبَضَهُ- لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ.

وَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ الْفَوْرُ فِي طَلَبِ الْأَرْشِ.

وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ بِدَلِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ اللُّزُومُ ثُمَّ ثَبَتَ خِيَارُ الْعَيْبِ بِالْإِجْمَاعِ وَغَيْرِهِ، وَالْقَدْرُ الْمُحَقَّقُ مِنَ الْإِجْمَاعِ ثُبُوتُهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَالزَّائِدُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ إِجْمَاعٌ وَلَا نَصٌّ، فَيَكُونُ عَلَى مُقْتَضَى اللُّزُومِ تَقْلِيلًا لِمُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ مَا أَمْكَنَ، وَلِأَنَّ الضَّرَرَ الْمَشْرُوعَ لِأَجْلِ الْخِيَارِ يَنْدَفِعُ بِالْمُبَادَرَةِ، فَالتَّأْخِيرُ تَقْصِيرٌ، فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ اللُّزُومِ.

وَالدَّلِيلُ الثَّانِي: الْقِيَاسُ عَلَى حَقِّ الشُّفْعَةِ لِوُرُودِ النَّصِّ فِيهَا وَكِلَاهُمَا خِيَارٌ ثَبَتَ بِالشَّرْعِ لَا لِلتَّرَوِّي، بَلْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ.

الرَّأْيُ الثَّانِي- أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي:

28- فَلَا يَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ- عَلَى الْمُعْتَمَدِ- مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا.

وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ- عَلَى الْمُعْتَمَدِ- وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمُصَحَّحَةِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَصَنِيعُ أَبِي الْخَطَّابِ مِنْهُمْ أَنَّهُ هُوَ الْمَذْهَبُ دُونَ أَنْ يُشِيرَ إِلَى تَعَدُّدِ الرِّوَايَةِ فِيهِ. وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي بِأَنَّهُ خِيَارٌ لِدَفْعِ ضَرَرٍ مُتَحَقَّقٍ، فَكَانَ عَلَى التَّرَاخِي، كَالْقِصَاصِ.وَلَمْ يُسَلِّمُوا بِدَلَالَةِ الْإِمْسَاكِ عَلَى الرِّضَا بِهِ.

الرَّأْيُ الثَّالِثُ: تَوْقِيتُهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ:

29- وَيَفْتَرِقُ الْحُكْمُ بِالرَّدِّ فَإِنْ حَصَلَ فِي يَوْمٍ فَأَقَلَّ لَمْ يَحْتَجْ لِرَدِّهِ إِلَى الْيَمِينِ، بِعَدَمِ حُصُولِ رِضَاهُ، وَإِنْ تَأَخَّرَ إِلَى يَوْمَيْنِ رَدَّهُ مَعَ الْيَمِينِ بِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ.

وَمُسْتَنَدُهُمْ كَالْمُسْتَنَدِ السَّابِقِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ جَعَلُوا مِنِ انْقِضَاءِ الْيَوْمِ أَوِ الْيَوْمَيْنِ بِلَا رَدٍّ دَلِيلًا عَلَى الرِّضَا.

أَثَرُ خِيَارِ الْعَيْبِ عَلَى حُكْمِ الْعَقْدِ:

30- إِنَّ وُجُودَ خِيَارِ الْعَيْبِ فِي الْعَقْدِ لَا أَثَرَ لَهُ عَلَى حُكْمِ الْعَقْدِ الَّذِي هُوَ انْتِقَالُ الْمِلْكِ، فَمِلْكُ الْمَبِيعِ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي حَالًا، وَمِلْكُ الثَّمَنِ يَنْتَقِلُ إِلَى الْبَائِعِ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ مُطْلَقٌ عَنِ الشَّرْطِ.وَالثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ شَرْطُ السَّلَامَةِ لَا شَرْطُ السَّبَبِ (كَمَا فِي خِيَارِ الشَّرْطِ) وَلَا شَرْطُ الْحُكْمِ (كَمَا فِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ) وَأَثَرُ شَرْطِ السَّلَامَةِ يَقْتَصِرُ عَلَى مَنْعِ لُزُومِ الْعَقْدِ وَلَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَى مَنْعِ أَصْلِ حُكْمِ الْعَقْدِ.

صِفَةُ الْعَقْدِ مَعَ خِيَارِ الْعَيْبِ:

31- الْمِلْكُ مَعَ خِيَارِ الْعَيْبِ غَيْرُ لَازِمٍ، لِأَنَّ السَّلَامَةَ شَرْطٌ فِي الْعَقْدِ دَلَالَةً، فَمَا لَمْ يُسَلَّمِ الْمَبِيعُ، لَا يَلْزَمُ الْبَيْعُ فَلَا يَلْزَمُ حُكْمُهُ.وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْكَاسَانِيُّ لِكَوْنِ السَّلَامَةِ مَشْرُوطَةً فِي الْعَقْدِ دَلَالَةً بِأَنَّهَا فِي الْبَيْعِ مَطْلُوبَةُ الْمُشْتَرِي عَادَةً إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ، لِأَنَّ غَرَضَهُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَبِيعِ، وَلَا يَتَكَامَلُ انْتِفَاعُهُ إِلاَّ بِقَيْدِ السَّلَامَةِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْ جَمِيعَ الثَّمَنِ إِلاَّ لِيُسَلَّمَ لَهُ جَمِيعُ الْمَبِيعِ، فَكَانَتِ السَّلَامَةُ مَشْرُوطَةً فِي الْعَقْدِ دَلَالَةً (فَكَانَتْ كَالْمَشْرُوطَةِ نَصًّا) فَإِذَا فَاتَتِ الْمُسَاوَاةُ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ.

- 32- وَلِلْفُقَهَاءِ اتِّجَاهَاتٌ ثَلَاثَةٌ فِي تَحْدِيدِ مَا يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَ قِيَامِ خِيَارِ الْعَيْبِ:

1- التَّخْيِيرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ هُمَا الرَّدُّ، أَوِ الْإِمْسَاكُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ.وَبِعِبَارَةٍ أَوْضَحَ هِيَ: التَّخْيِيرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ اثْنَيْنِ: أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَيَرُدَّ الْمَبِيعَ الْمَعِيبَ وَيَسْتَرِدَّ الثَّمَنَ، أَوْ أَنْ يُمْضِيَ الْعَقْدَ وَيُمْسِكَ الْمَعِيبَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ دُونَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِالْأَرْشِ (نُقْصَانِ الْمَعِيبِ) فَعَلَى هَذَا الِاتِّجَاهِ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُمْسِكَ الْمَعِيبَ وَيَأْخُذَ الْأَرْشَ وَهُوَ نُقْصَانُ الْمَعِيبِ، إِلاَّ فِي حَالِ تَعَذُّرِ الرَّدِّ بِأَحَدِ الْمَوَانِعِ الَّتِي سَتَأْتِي، فَحِينَئِذٍ لَهُ الْإِمْسَاكُ مَعَ الْأَرْشِ لَكِنَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْخُلْفِ عَنِ الرَّدِّ وَلَا يَثْبُتُ أَصَالَةً.

وَهَذَا الِاتِّجَاهُ هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.قَالَ الشِّيرَازِيُّ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ إِلاَّ بِمَبِيعٍ سَلِيمٍ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى إِمْسَاكِ مَعِيبٍ بِبَعْضِ الثَّمَنِ.وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: لَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي: أَنَا أُمْسِكُ الْمَعِيبَ وَآخُذُ النُّقْصَانَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أُمْسِكُ الْمَعِيبَ دَلَالَةُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ.وَقَالَ بَعْدَئِذٍ: لِأَنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ بِالنُّقْصَانِ كَالْخُلْفِ عَنِ الرَّدِّ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إِلَى الْخُلْفِ.

2- التَّخْيِيرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ اثْنَيْنِ أَيْضًا، لَكِنَّهُمَا هُنَا: الرَّدُّ- كَمَا سَبَقَ- أَوِ الْإِمْسَاكُ مَعَ الْأَرْشِ وَلَوْ لَمْ يَتَعَذَّرِ الرَّدُّ وَسَوَاءٌ رَضِيَ الْبَائِعُ بِدَفْعِ الْأَرْشِ أَوْ سَخِطَ بِهِ.فَفِي هَذَا الِاتِّجَاهِ الْفِقْهِيِّ لَا مَكَانَ لِلْإِمْسَاكِ بِدُونِ أَرْشٍ بَلْ هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ.

وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ- وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ-.

وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مَا إِذَا كَانَ الْإِمْسَاكُ مَعَ الْأَرْشِ يُؤَدِّي إِلَى الرِّبَا، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الرَّدِّ أَوِ الْإِمْسَاكِ مَجَّانًا، وَمِثَالُهُ: شِرَاءُ حُلِيٍّ فِضَّةٍ بِزِنَتِهِ دَرَاهِمَ فِضَّةً، وَشِرَاءُ قَفِيزٍ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا، إِذَا اشْتَرَاهُ بِمِثْلِهِ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَعِيبًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَخْذَ الْأَرْشِ يُؤَدِّي إِلَى رِبَا الْفَضْلِ، أَوْ إِلَى مَسْأَلَةِ (مُدِّ عَجْوَةٍ).

وَسَبَبُ الْخِلَافِ النَّظَرُ إِلَى نَقْصِ الْعَيْبِ، هَلْ هُوَ نَقْصُ أَصْلٍ أَوْ نَقْصُ وَصْفٍ؟ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الْعَيْبِ الْكَثِيرِ) هُوَ نَقْصُ وَصْفٍ وَلِذَا يُخَيَّرُ بَيْنَ الرَّدِّ وَالْإِمْسَاكِ بِدُونِ شَيْءٍ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ هُوَ نَقْصُ أَصْلٍ، وَلِذَا يُخَيَّرُ بَيْنَ الرَّدِّ وَالْإِمْسَاكِ مَعَ الرُّجُوعِ بِالنُّقْصَانِ.

3- التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْعَيْبِ الْكَثِيرِ، وَالْعَيْبِ الْيَسِيرِ- وَيُسَمُّونَهُ غَالِبًا: الْقَلِيلَ الْمُتَوَسِّطَ- (بَعْدَ إِخْرَاجِ الْعَيْبِ الْقَلِيلِ جِدًّا الَّذِي لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ الْمَبِيعُ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ كَمَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْجَدُّ).

فَفِي الْعَيْبِ الْكَثِيرِ- وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ حَدِّهِ، وَأَنَّ الرَّاجِحَ فِي تَقْدِيرِهِ عِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ: عَشَرَةٌ فِي الْمِائَةِ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ: الثُّلُثُ- لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ عَنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (أَصْحَابِ الِاتِّجَاهِ الْأَوَّلِ) يُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الرَّدِّ وَالْإِمْسَاكِ مَجَّانًا، بِلَا أَرْشٍ، وَهَذَا الْحُكْمُ فِي الْعَيْبِ الْكَثِيرِ سَمَّاهُ ابْنُ جُزَيٍّ: (عَيْبَ رَدٍّ). أَمَّا فِي الْعَيْبِ الْمُتَوَسِّطِ فَالْمَشْهُورُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْأُصُولِ (الْعَقَارَاتِ مِنْ دُورٍ وَنَحْوِهَا) وَبَيْنَ الْعُرُوضِ (وَهِيَ مَا عَدَا الْعَقَارِ):

فَفِي الْعَقَارَاتِ لَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي الرَّدُّ بِهَذَا الْعَيْبِ الْمُتَوَسِّطِ بَلْ لَهُ الرُّجُوعُ بِالْأَرْشِ.

أَمَّا فِي الْعُرُوضِ، فَظَاهِرُ الرِّوَايَاتِ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا الرَّدُّ سَوَاءٌ كَانَ الْعَيْبُ مُتَوَسِّطًا أَوْ كَثِيرًا.وَقِيلَ: إِنَّ الْعُرُوضَ كَالْأُصُولِ لَا يَجِبُ الرَّدُّ فِي الْعَيْبِ الْمُتَوَسِّطِ وَإِنَّمَا فِيهِ الرُّجُوعُ بِالْقِيمَةِ.

وَذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ الْجَدُّ أَنَّ شَيْخَهُ الْفَقِيهَ أَبَا بَكْرِ بْنَ رِزْقٍ كَانَ يَحْمِلُ ظَاهِرَ الرِّوَايَاتِ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْعُرُوضِ وَالْأُصُولِ فِي أَنَّ حُكْمَهَا الرُّجُوعُ بِالْقِيمَةِ إِذَا كَانَ الْعَيْبُ مُتَوَسِّطًا، وَأَشَارَ ابْنُ رُشْدٍ إِلَى أَنَّ لِتَأْوِيلِهِ هَذَا مَا يُؤَيِّدُهُ مِنْ رِوَايَةِ زِيَادٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الثِّيَابِ.وَلَعَلَّهُ اسْتِنَادًا لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ كَانَ بَعْضُ شُيُوخِ ابْنِ يُونُسَ يَرَوْنَ أَنَّ الثِّيَابَ فِي ذَلِكَ كَالدُّورِ.

الرَّدُّ وَشَرَائِطُهُ

33- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْفَسْخِ أَوِ الرَّدِّ مَا يَلِي:

1- قِيَامُ الْخِيَارِ، وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ يَقْتَضِيهَا أَنَّ الْفَسْخَ فِي الْخِيَارِ إِنَّمَا هُوَ لِأَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ لَازِمٍ، فَإِذَا سَقَطَ الْخِيَارُ لَزِمَ الْعَقْدُ، وَالْعَقْدُ اللاَّزِمُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ.

2- أَنْ يَكُونَ الْمَرْدُودُ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي كَانَ مَقْبُوضًا:

وَالْمُرَادُ أَنْ لَا يَلْحَقَ بِالْمَبِيعِ عَيْبٌ زَائِدٌ عَنِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ، فَكَمَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ غَيْرَ مَعِيبٍ بِعَيْبٍ زَائِدٍ كَعَيْبِ الشَّرِكَةِ النَّاشِئِ عَنْ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ، أَوِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ.

3- أَنْ لَا يَتَضَمَّنَ الْفَسْخُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ:

وَهُوَ مَا قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ كُلِّهِ، لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّفْرِيقِ مِنْ عُيُوبٍ، أَحَدُهَا عَيْبُ الشَّرِكَةِ كَمَا سَيَأْتِي.قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَهَذَا الْمَنْعُ فِيمَا إِذَا لَمْ يَرْضَ الْبَائِعُ، إِذْ لَوْ رَضِيَ لَجَازَ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ ضَرَرٌ مَرْضِيٌّ مِنْ جِهَتِهِ لَا يَجِبُ دَفْعُهُ عَنْهُ وَفِي هَذَا يَقُولُ ابْنُ حَجَرٍ: إِذَا اتَّحَدَ الْمَبِيعُ صَفْقَةً لَا يَرُدُّ الْمُشْتَرِي بَعْضَهُ بِعَيْبٍ قَهْرًا، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْبَعْضُ الْآخَرُ لِلْبَائِعِ فَحِينَئِذٍ يَرُدُّ عَلَيْهِ الْبَعْضَ قَهْرًا، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ مِنَ الْقَاضِي وَمَنْ تَبِعَهُ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ الصَّحِيحَةَ فِي امْتِنَاعِ رَدِّ الْبَعْضِ إِنَّمَا هِيَ الضَّرَرُ النَّاشِئُ مِنْ تَبْعِيضِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ..وَالتَّعْلِيلُ بِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ وَتَفْرِيقِهَا بِمُجَرَّدِهِ لَا يَصْلُحُ لِلتَّعْلِيلِ، وَإِنَّمَا وَجْهُ الْعِلَّةِ مَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ غَالِبًا فَآلَتِ الْعِلَّتَانِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ انْتِفَاءُ الضَّرَرِ).

34- وَتَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ كُلِّهِ لَا يَجُوزُ مَهْمَا كَانَ الْمَبِيعُ، سَوَاءٌ كَانَ شَيْئًا وَاحِدًا كَالثَّوْبِ، وَالدَّارِ، أَوِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فِي وِعَاءٍ أَوْ أَوْعِيَةٍ، أَوْ كَانَ شَيْئَيْنِ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا كَالثَّوْبَيْنِ وَالدَّارَيْنِ، أَمْ شَيْئَيْنِ حَقِيقَةً شَيْئًا وَاحِدًا تَقْدِيرًا كَمِصْرَاعَيْ بَابٍ.وَدَلِيلُ عَدَمِ جَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ قَبْلَ تَمَامِهَا مَا يَلْحَقُ بِالْبَائِعِ مِنْ ضَرَرٍ يَجِبُ دَفْعُهُ مَا أَمْكَنَ، وَالضَّرَرُ هُوَ إِلْزَامُ الْبَائِعِ بِالشَّرِكَةِ، وَالشَّرِكَةُ فِي الْأَعْيَانِ عَيْبٌ.هَذَا فِي تَفْرِيقِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ أَشْيَاءَ فَفِيهِ ضَرَرٌ آخَرُ وَهُوَ لُزُومُ الْبَيْعِ فِي الْجَيِّدِ بِثَمَنِ الرَّدِيءِ لِأَنَّ ضَمَّ الرَّدِيءِ إِلَى الْجَيِّدِ وَالْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي الصَّفْقَةِ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ تَرْوِيجًا لِلرَّدِيءِ بِوَسَاطَةِ الْجَيِّدِ.

وَأَمَّا اعْتِبَارُ قَبْضِ الْبَعْضِ بِمَثَابَةِ عَدَمِ الْقَبْضِ فَلِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَتِمُّ إِلاَّ بِقَبْضِ جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ- وَسَوَاءٌ وُجِدَ الْعَيْبُ فِي الْمَقْبُوضِ أَوْ فِي غَيْرِهِ- وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْعَيْبُ فِي الْمَقْبُوضِ فَلَهُ رَدُّهُ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ.

وَفِي تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ يَفْصِلُ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ بَقَاءِ السَّالِمِ (غَيْرِ الْمَعِيبِ) وَفَوَاتِهِ، فَإِنْ كَانَ فَائِتًا فَلَهُ رَدُّ الْمَعِيبِ مُطْلَقًا وَأَخْذُ حِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّ الْجَمِيعَ هُنَا رَدَّ قِيمَةَ الْهَالِكِ عَيْنًا وَرَجَعَ فِي عَيْنٍ وَهُوَ الثَّمَنُ لِلْعَيْنِ وَقِيمَةُ الْعَرْضِ الَّذِي قَدْ فَاتَ عِنْدَ الْبَائِعِ، وَرَدُّ الْعَيْنِ وَالرُّجُوعُ فِيهَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ بَاقِيًا فَلَهُ رَدُّ الْبَعْضِ بِحِصَّتِهِ بِشَرِيطَتَيْنِ:

1- أَنْ لَا يَكُونَ الْمَعِيبُ هُوَ الْأَكْثَرُ مِنَ النِّصْفِ وَلَوْ بِيَسِيرٍ، فَلَيْسَ لَهُ رَدُّهُ بِحِصَّتِهِ، بَلْ إِمَّا أَنْ يَتَمَاسَكَ بِالْجَمِيعِ أَوْ يَرُدَّ الْجَمِيعَ، أَوْ يَتَمَاسَكَ بِالْبَعْضِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ.

2- أَنْ لَا يَكُونَ الْمَعِيبُ وَجْهَ الصَّفْقَةِ فَلَيْسَ لِلْمُبْتَاعِ إِلاَّ رَدُّ الْجَمِيعِ أَوِ الرِّضَا بِالْجَمِيعِ.

وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ أَحَدَ مُزْدَوَجَيْنِ. وَلَمْ يُصَوِّرَ الْمَالِكِيَّةُ التَّفَرُّقَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ لِاعْتِبَارِهِمْ ذَلِكَ مِنَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ (الْمُتَوَسِّطِ) وَحُكْمُهُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَأَخْذِ أَرْشِ الْقَدِيمِ، أَوِ الرَّدِّ وَدَفْعِ أَرْشِ الْحَادِثِ مَا لَمْ يَقْبَلْهُ الْبَائِعُ بِالْحَادِثِ.

35- وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ تَفَرُّقَ الصَّفْقَةِ مَانِعٌ مِنَ الرَّدِّ قَطْعًا إِذَا كَانَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَفِي الشَّيْئَيْنِ مِمَّا يُنْقِصُهُمَا التَّفْرِيقُ، أَوْ مِمَّا لَا يَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا، دَفْعًا لِضَرَرِ الْبَائِعِ.أَمَّا إِذَا كَانَا شَيْئَيْنِ مِمَّا لَا يَنْقُصُ بِالتَّفْرِيقِ وَمَا كَانَ فِي وِعَاءَيْنِ فَهُوَ كَشَيْئَيْنِ عِنْدَهُمْ وَوَجَدَهُمَا مَبِيعَيْنِ فَلَيْسَ لَهُ رَدُّ أَحَدِهِمَا عَلَى الصَّحِيحِ.قَالَ الْمِرْدَاوِيُّ: وَهُوَ الصَّوَابُ.فَإِنْ وَجَدَ بِأَحَدِهَا عَيْبًا فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ رَدُّ الْمَعِيبِ فَقَطْ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمُخْتَارَةِ مِنْ ثَلَاثِ رِوَايَاتٍ.

وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ لَا يَرُدُّ الْمُشْتَرِي بَعْضَ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ، وَإِنْ زَالَ الْبَاقِي عَنْ مِلْكِهِ وَانْتَقَلَ لِلْبَائِعِ، عَلَى مَا جَزَمَ بِهِ الْمُتَوَلِّي وَالسُّبْكِيُّ وَالْبَغَوِيُّ، لِأَنَّهُ وَقْتَ الرَّدِّ لَمْ يَرُدَّ كَمَا تَمَلَّكَ.وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنُ: إِنَّ لَهُ الرَّدَّ إِذْ لَيْسَ فِيهِ تَبْعِيضٌ عَلَى الْبَائِعِ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ كَانَا شَيْئَيْنِ تَتَّصِلُ مَنْفَعَةُ أَحَدِهِمَا بِالْآخِرِ.أَمَّا الشَّيْئَانِ مِمَّا لَيْسَ كَذَلِكَ- سَوَاءٌ كَانَا مَعِيبَيْنِ أَوْ ظَهَرَ الْعَيْبُ بِأَحَدِهِمَا- فَلَيْسَ لَهُ رَدُّ أَحَدِهِمَا بَلْ يَرُدُّهُمَا.وَيُفَرِّقُ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ تَعَدُّدِ الصَّفْقَةِ وَتَفَرُّدِهَا.

فَإِنْ تَعَدَّدَتِ الصَّفْقَةُ (وَذَلِكَ بِتَعَدُّدِ الْبَائِعِ أَوْ تَعَدُّدِ الْمُشْتَرِي، أَوْ تَفْصِيلِ الثَّمَنِ) فَلَهُ رَدُّ أَحَدِهِمَا فِي الْأَظْهَرِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ.أَمَّا إِنْ تَفَرَّدَتْ (بِعَدَمِ تَوَافُرِ شَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ تَعَدُّدِهَا) فَلَيْسَ لَهُ رَدُّ الْبَعْضِ.

تَفَرُّقُ الصَّفْقَةِ بِتَعَدُّدِ الْعَاقِدِ:

36- تَفَرُّقُ الصَّفْقَةِ لَا تَنْحَصِرُ صُوَرُهُ فِي مَحَلِّ الْعَقْدِ، بَلْ قَدْ يَنْشَأُ عَنْ تَعَدُّدِ الْعَاقِدِ.كَمَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي رَجُلَيْنِ اشْتَرَيَا شَيْئًا وَاحِدًا وَاطَّلَعَا عَلَى عَيْبٍ بِالْمَبِيعِ، فَإِنَّهُ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالْفَسْخِ دُونَ صَاحِبِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَنْفَرِدُ.

وَحُجَّةُ الصَّاحِبَيْنِ أَنَّهُ رَدَّ الْمُشْتَرِي كَمَا اشْتَرَاهُ، فَالرَّدُّ صَالِحٌ فِي النِّصْفِ لِأَنَّهُ مُشْتَرٍ نِصْفَهُ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الرَّدَّ لَمْ يُوجَدْ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي كَانَ مَقْبُوضًا لِأَنَّهُ قَبَضَهُ غَيْرَ مَعِيبٍ بِعَيْبٍ زَائِدٍ- وَهُوَ هُنَا عَيْبُ الشَّرِكَةِ- فَلَا يَصِحُّ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْبَائِعِ. وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ قُدَامَةَ مَذْهَبَ الْحَنَابِلَةِ وَمُوَافَقَتَهُ لِلشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَوِ اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ شَيْئًا فَوَجَدَهُ مَعِيبًا فَلَهُ رَدُّهُ عَلَيْهِمَا فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَائِبًا رَدَّ عَلَى الْحَاضِرِ حِصَّتَهُ بِقِسْطِهَا مِنَ الثَّمَنِ وَيَبْقَى نَصِيبُ الْغَائِبِ فِي يَدِهِ حَتَّى يَقْدَمَ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا بَاعَ الْعَيْنَ كُلَّهَا بِوَكَالَةِ الْآخَرِ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ سَوَاءٌ أَكَانَ الْحَاضِرُ الْوَكِيلَ أَمِ الْمُوَكِّلَ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى قَرِيبٍ مِنْ هَذَا، فَإِنْ أَرَادَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا وَإِمْسَاكَ نَصِيبِ الْآخَرِ جَازَ لِأَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى الْبَائِعِ جَمِيعَ مَا بَاعَهُ، وَلَا يَحْصُلُ بِرَدِّهِ تَشْقِيصٌ، لِأَنَّ الْمَبِيعَ كَانَ مُشَقَّصًا فِي الْبَيْعِ.

4- عِلْمُ الْعَاقِدِ الْآخَرِ بِالْفَسْخِ:

37- فَلَوْ فَسَخَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ لَمْ يُعْتَبَرْ، وَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْ فَسْخِهِ وَكَانَ ذَلِكَ الْفَسْخُ مَوْقُوفًا.

إِنْ عَلِمَ بِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ نَفَذَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى مَضَتِ الْمُدَّةُ كَانَ ذَلِكَ إِجَازَةً لِلْعَقْدِ.

وَيُعَبِّرُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَنْ شَرِيطَةِ الْعِلْمِ هَذِهِ بِقَوْلِهِمْ: أَنْ يُجِيزَ- أَوْ يَفْسَخَ- فِي حَضْرَةِ صَاحِبِهِ، وَهُمْ مُجْمِعُونَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْحَضْرَةِ الْعِلْمُ وَلَيْسَ الْحُضُورَ.

وَاشْتِرَاطُ الْعِلْمِ لِلْفَسْخِ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ.سَوَاءٌ أَكَانَ الرَّدُّ قَبْلَ الْقَبْضِ أَمْ بَعْدَهُ.

وَلَيْسَ الْعِلْمُ بِمُشْتَرَطٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى رِضَا الْبَائِعِ وَحُضُورِهِ (وَلَا حُكْمِ حَاكِمٍ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَا بَعْدَهُ).وَلَمْ نَجِدْ لِلْمَالِكِيَّةِ كَلَامًا فِي هَذَا، وَالْحَنَفِيَّةُ لَا يَشْتَرِطُونَ لِلرَّدِّ قَبْلَ الْقَبْضِ الْقَضَاءَ أَوِ التَّرَاضِي، أَمَّا إِذَا كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ عِنْدَ رَفْعِ الْعَقْدِ لِحُضُورِ مَنْ لَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ فِيهِ.

وَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَهُوَ رَفْعٌ لِعَقْدٍ مُسْتَحَقٍّ لَهُ بِالْعَيْبِ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ رِضَا الْبَائِعِ نَظِيرَ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ.

كَيْفِيَّةُ الرَّدِّ:

38- الرَّدُّ إِمَّا أَنْ يَتِمَّ بِمَحْضِ إِرَادَةِ صَاحِبِ الْخِيَارِ، وَإِمَّا أَنْ يُشْتَرَطَ لِحُصُولِهِ- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- وُجُودُ التَّرَاضِي بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ أَوِ التَّرَافُعُ لِلْقَضَاءِ.وَذَلِكَ يَتْبَعُ حَالَ الصَّفْقَةِ مِنْ حَيْثُ التَّمَامُ وَعَدَمُهُ.وَتَمَامُهَا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْقَبْضِ، فَإِذَا لَمْ تَتِمَّ الصَّفْقَةُ لَا يُشْتَرَطُ التَّرَاضِي أَوِ التَّقَاضِي.قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لِأَنَّ الصَّفْقَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَيْسَتْ تَامَّةً بَلْ تَمَامُهَا بِالْقَبْضِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ كَأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِهِ.

أَمَّا إِذَا كَانَتِ الصَّفْقَةُ قَدْ تَمَّتْ، فَالرَّدُّ لَا يَكُونُ مُجَرَّدَ نَقْضٍ وَانْفِسَاخٍ تَكْفِي فِيهِ إِرَادَةُ صَاحِبِ الْخِيَارِ، بَلْ هُوَ فَسْخٌ لِصَفْقَةٍ تَمَّتْ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّرَاضِي أَوِ التَّقَاضِي، وَيُعَلِّلُ الْكَاسَانِيُّ ذَلِكَ بِأَنَّ الصَّفْقَةَ قَدْ تَمَّتْ بِالْقَبْضِ فَلَا تَحْتَمِلُ الِانْفِسَاخَ بِنَفْسِ الرَّدِّ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةِ الْقَضَاءِ أَوِ الرِّضَا.وَبِعِبَارَةِ السَّرَخْسِيِّ: «الْفَسْخُ بَعْدَ تَمَامِ الصَّفْقَةِ نَظِيرُ الْإِقَالَةِ، وَهِيَ لَا تَتِمُّ إِلاَّ بِاتِّفَاقِ الْعَاقِدَيْنِ» وَلَا فَرْقَ فِي الرَّدِّ بَيْنَ وُقُوعِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ، عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ فَسْخٍ فَلَا تُفْتَقَرُ صِحَّتُهُ إِلَى الْقَضَاءِ وَلَا لِلرِّضَا، كَالْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ (بِالْإِجْمَاعِ) وَكَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَذَا بَعْدَهُ.وَلِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ عِنْدَهُمْ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ، فَلَمْ يَتَفَاوَتِ الرَّدُّ.

صِيغَةُ الْفَسْخِ وَإِجْرَاءَاتُهُ:

39- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- كَمَا ذَكَرْنَا- إِلَى أَنَّ الْفَسْخَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَحْصُلُ بِالْإِرَادَةِ الْمُنْفَرِدَةِ وَالْمُرَادُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي رَدَدْتُ أَوْ فَسَخْتُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ.أَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَا بُدَّ مِنَ الِاتِّفَاقِ بِأَنْ يَفْسَخَ صَاحِبُ الْخِيَارِ وَيَقْبَلَ الْعَاقِدُ الْآخَرُ أَوْ يَتَقَاضَيَانِ.قَالَ الْكَاسَانِيُّ (لِأَنَّ الْفَسْخَ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ الْعَقْدَ، ثُمَّ الْعَقْدُ لَا يَنْعَقِدُ بِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فَلَا يَنْفَسِخُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ رِضَا الْآخَرِ.أَمَّا قَبْلَ الْقَبْضِ فَالصَّفْقَةُ لَمْ تَتِمَّ، فَكَانَ مِنَ السَّهْلِ الرَّدُّ لِأَنَّهُ كَالِامْتِنَاعِ مِنَ الْقَبْضِ، وَهُوَ تَصَرُّفُ دَفْعٍ وَامْتِنَاعٍ وَذَلِكَ خَالِصُ حَقِّهِ).

أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَالْفَسْخُ يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي مَهْمَا كَانَتِ الْكَيْفِيَّةُ: فِي حُضُورِ الْبَائِعِ أَوْ غَيْبَتِهِ، بِرِضَاهُ أَوْ عَدَمِهِ، وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْحَاكِمِ وَلَكِنْ نَظَرًا لِذَهَابِ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ يَثْبُتُ عَلَى الْفَوْرِ، لَا التَّرَاخِي، وَأَنَّهُ تَجِبُ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الْفَسْخِ وَإِلاَّ سَقَطَ، فَقَدِ احْتِيجَ إِلَى الْقِيَامِ بِبَعْضِ الْإِجْرَاءَاتِ دُونَ أَنْ تَخْتَصَّ صُورَةٌ مِنْهَا بِالْوُجُوبِ، بَلْ يُجْزِئُ عَنْهَا مَا يُؤَدِّي الْمُرَادَ وَهُوَ إِثْبَاتُ مُبَادَرَتِهِ لِلْفَسْخِ.

وَخُلَاصَةُ هَذِهِ الْإِجْرَاءَاتِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنَ الْخَصْمِ وَالْحَاكِمِ بِالْبَلَدِ وَجَبَ الذَّهَابُ إِلَى أَحَدِهِمَا، فَإِنْ أَخَّرَ سَقَطَ حَقُّهُ وَإِنْ فَسَخَ، وَلَكِنْ هُنَاكَ صُورَةٌ بَدِيلَةٌ عَنِ الذَّهَابِ إِلَى الْبَائِعِ أَوِ الْحَاكِمِ، وَهِيَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الْفَسْخِ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الذَّهَابُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلاَّ لِلتَّسْلِيمِ وَفَصْلِ الْخُصُومَةِ، عَلَى مَا حَقَّقَهُ السُّبْكِيُّ خِلَافًا لِمَا تُوهِمُهُ بَعْضُ عِبَارَاتِ الْمُتُونِ.

طَبِيعَةُ الرَّدِّ، وَآثَارُهَا فِي تَعَاقُبِ الْبَيْعِ

40- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الرَّدُّ بِالتَّرَاضِي بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَهُوَ فَسْخٌ فِي حَقِّهِمَا بَيْعٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، وَذَلِكَ فِي الرَّدِّ بَعْدَ الْقَبْضِ (أَمَّا قَبْلَ الْقَبْضِ فَهُوَ رَدٌّ بِإِرَادَةٍ مُنْفَرِدَةٍ) وَإِذَا كَانَ الرَّدُّ بِالْقَضَاءِ كَانَ فَسْخًا فِي حَقِّهِمَا وَفِي حَقِّ غَيْرِهِمَا.أَمَّا عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ فَالْفَسْخُ رَفْعٌ لِلْعَقْدِ مِنْ أَصْلِهِ مُطْلَقًا.

وَيَظْهَرُ أَثَرُ هَذِهِ الطَّبِيعَةِ فِي حَالِ تَعَاقُبِ بَيْعَيْنِ عَلَى الْمَعِيبِ بِعَيْبٍ قَدِيمٍ، حَيْثُ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَبُولُ الرَّدِّ مِنَ الْبَائِعِ الثَّانِي حَصَلَ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِالْقَضَاءِ، فَإِنْ تَمَّ بِالْقَضَاءِ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّ الْعَيْبَ كَانَ عِنْدَهُ بَعْدَمَا أَنْكَرَ الْعَيْبَ.أَوْ بِنُكُولِهِ عَنِ الْيَمِينِ عَلَى الْعَيْبِ، أَوْ بِإِقْرَارِهِ بِالْعَيْبِ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ، وَالْمَقْصُودُ صُدُورُ إِقْرَارٍ مِنْهُ ثُمَّ إِنْكَارُهُ، فَيُقِيمُ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ الْإِقْرَارِ (أَمَّا الْإِقْرَارُ الْمُبْتَدَأُ فَلَا حَاجَةَ مَعَهُ إِلَى الْقَضَاءِ أَصْلًا) فَفِي هَذِهِ الْحَالِ لِلْبَائِعِ الثَّانِي أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ الْأَوَّلِ فَيُخَاصِمَهُ وَيَفْعَلَ الْإِجْرَاءَاتِ الْوَاجِبَةَ لِرَدِّهِ عَلَيْهِ.

وَإِنْ كَانَ قَبُولُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ لِلرَّدِّ بِغَيْرِ الْقَضَاءِ بَلْ بِرِضَاهُ فَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ عَلَى بَائِعِهِ، لِأَنَّ الرَّدَّ بِالتَّرَاضِي بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ- أَوْ كَمَا يُعَبِّرُونَ: فِي حَقِّ الثَّالِثِ- وَالْبَائِعُ الْأَوَّلُ هُنَا غَيْرُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ وَالْمُشْتَرِي الثَّانِي، كَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْأَوَّلَ اشْتَرَاهُ مِنَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، وَفِي هَذِهِ الْحَالِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ.

وَلِأَنَّهُ إِذَا قَبِلَهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَقَدْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ فَلَا يَرُدُّهُ عَلَى بَائِعِهِ الْأَوَّلِ، وَلَا يُقَالُ: إِنَّهُمَا بِالتَّرَاضِي عَلَى الرَّدِّ فَعَلَا عَيْنَ مَا يَفْعَلُهُ الْقَاضِي، لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ فِي هَذَا هُوَ الْمُطَالَبَةُ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْعَيْبِ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَى الرَّدِّ لِلْعَجْزِ، فَإِذَا نَقَلَاهُ إِلَى الرَّدِّ لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا، أَلَا يُرَى أَنَّ الرَّدَّ إِذَا امْتَنَعَ وَجَبَ الرُّجُوعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ.

41- هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا كَانَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ مِنَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بَعْدَ قَبْضِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ قَبْلَ قَبْضِهِ فَلِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ سَوَاءٌ كَانَ بِقَضَاءٍ أَمْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ- كَمَا لَوْ بَاعَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ لِلْمُشْتَرِي الثَّانِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ- أَوْ بَيْعًا فِيهِ خِيَارُ رُؤْيَةٍ فَإِنَّهُ إِذَا فَسَخَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِحُكْمِ الْخِيَارِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنْ يَرُدَّهُ مُطْلَقًا.قَالَ فِي الْإِيضَاحِ: (الْفِقْهُ فِيهِ أَنَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْقَبْضِ عِنْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْعَيْبِ، فَكَانَ هَذَا تَصَرُّفُ دَفْعٍ وَامْتِنَاعٍ مِنَ الْقَبْضِ، وَوِلَايَةُ الدَّفْعِ عَامَّةٌ فَظَهَرَ أَثَرُهُ فِي حَقِّ الْكُلِّ وَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ).

وَتَعَرَّضَ ابْنُ قُدَامَةَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَذَكَرَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْأَوَّلَ إِنْ عَادَ الْمَعِيبُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُشْتَرِي (الثَّانِي) فَأَرَادَ رَدَّهُ بِالْعَيْبِ الْقَدِيمِ يُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ حِينَ بَاعَهُ عَالِمًا بِالْعَيْبِ، أَوْ وُجِدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ فَلَيْسَ لَهُ رَدُّهُ، لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ رِضًا بِالْعَيْبِ.وَإِلاَّ كَانَ لَهُ رَدُّهُ..سَوَاءٌ رَجَعَ إِلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ بِالْعَيْبِ الْقَدِيمِ أَوْ بِإِقَالَةٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ شِرَاءٍ ثَانٍ، أَوْ مِيرَاثٍ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


268-موسوعة الفقه الكويتية (ديات 2)

دِيَاتٌ -2

د- الْقَتْلُ بِالتَّسَبُّبِ:

27- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِالسَّبَبِ مُطْلَقًا، بَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُمُ اشْتَرَطُوا فِي الْقِصَاصِ أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مُبَاشَرَةً، وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ فَيُقْتَصُّ مِنَ الْقَاتِلِ فِي بَعْضِ حَالَاتِ التَّسَبُّبِ عِنْدَهُمْ.

وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ، وَلَمْ يَقُولُوا بِالْقِصَاصِ فِي حَالَاتٍ أُخْرَى بَلْ قَالُوا بِوُجُوبِ الدِّيَةِ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَتْلٌ بِالتَّسَبُّبِ).

مَا تَجِبُ مِنْهُ الدِّيَةُ: (أُصُولُ الدِّيَةِ):

28- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِبِلَ أَصْلٌ فِي الدِّيَةِ، فَتُقْبَلُ إِذَا أُدِّيَتْ مِنْهَا عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.

وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى الْإِبِلِ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ أُصُولَ الدِّيَةِ أَيْ مَا تُقْضَى مِنْهُ الدِّيَةُ مِنَ الْأَمْوَالِ ثَلَاثَةُ أَجْنَاسٍ: الْإِبِلُ وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ فِي النَّفْسِ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ» وَقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ».

فَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ (الْفِضَّةِ) اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ» وَلِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ رَجُلًا قُتِلَ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دِيَتَهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا»

قَالَ النَّفْرَاوِيُّ الْمَالِكِيُّ: صَرْفُ دِينَارِ الدِّيَةِ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا، كَدِينَارِ السَّرِقَةِ وَالنِّكَاحِ، بِخِلَافِ دِينَارِ الْجِزْيَةِ وَالزَّكَاةِ فَصَرْفُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَأَمَّا دِينَارُ الصَّرْفِ فَلَا يَنْضَبِطُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الدِّيَةُ مِنَ الْوَرِقِ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ؛ لِقَوْلِ عُمَرَ- رضي الله عنه-: (الدِّيَةُ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ)، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَيَكُونُ إِجْمَاعًا مَعَ أَنَّ الْمَقَادِيرَ لَا تُعْرَفُ إِلاَّ سَمَاعًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، وَلِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَضَى بِالدِّيَةِ فِي قَتِيلٍ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ»

وَلِأَنَّ الدِّينَارَ مُقَوَّمٌ فِي الشَّرْعِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كَمَا فِي الزَّكَاةِ، فَإِنَّ نِصَابَ الْفِضَّةِ فِي الزَّكَاةِ مُقَدَّرٌ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَنِصَابَ الذَّهَبِ فِيهَا بِعِشْرِينَ دِينَارًا.

قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: يُحْمَلُ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ مَعَهُ عَلَى وَزْنِ خَمْسَةٍ، وَمَا رَوَيْنَاهُ عَلَى وَزْنِ سِتَّةٍ، وَهَكَذَا كَانَتْ دَرَاهِمُهُمْ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى زَمَانِ عُمَرَ- رضي الله عنه- فَاسْتَوَيَا.وَبِهَذَا ظَهَرَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي مِقْدَارِ الدِّيَةِ يَرْجِعُ إِلَى سِعْرِ صَرْفِ الدِّينَارِ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ أُصُولَ الدِّيَةِ خَمْسَةٌ: الْإِبِلُ وَالذَّهَبُ وَالْوَرِقُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَفُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى.وَزَادَ عَلَيْهَا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ- الْحُلَلَ، فَتَكُونُ أُصُولُ الدِّيَةِ سِتَّةَ أَجْنَاسٍ.

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ عُمَرَ قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: أَلَا إِنَّ الْإِبِلَ قَدْ غَلَتْ.فَفَرَضَهَا عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مَائِتَيْ بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ أَلْفَيْ شَاةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةٍ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَأَيُّ شَيْءٍ أَحْضَرَهُ مَنْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ مِنَ الْجَانِي أَوِ الْعَاقِلَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ لَزِمَ الْوَلِيَّ أَوِ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ أَخْذُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِغَيْرِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ النَّوْعِ أَمْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهَا أُصُولٌ فِي قَضَاءِ الْوَاجِبِ يُجْزِئُ وَاحِدٌ مِنْهَا، فَكَانَتِ الْخِيَرَةُ إِلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَوْلُ طَاوُسٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ: إِنَّ الْأَصْلَ فِي الدِّيَةِ الْإِبِلُ لَا غَيْرُ؛ لِقَوْلِهِ: «أَلَا إِنَّ قَتِيلَ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ».

وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَرَّقَ بَيْنَ دِيَةِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ فَغَلَّظَ بَعْضَهَا وَخَفَّفَ بَعْضَهَا، وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا فِي غَيْرِ الْإِبِلِ؛ وَلِأَنَّهُ بَدَلُ مُتْلَفٍ (وَجَبَ) حَقًّا لآِدَمِيٍّ، فَكَانَ مُتَعَيِّنًا كَعِوَضِ الْأَمْوَالِ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ وَلَهُ إِبِلٌ تُؤْخَذُ الدِّيَةُ مِنْهَا سَلِيمَةً مِنَ الْعُيُوبِ، وَأَيُّهُمَا أَرَادَ الْمَعْدُولُ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا فَلِلْآخَرِ مَنْعُهُ، وَلَا يَعْدِلُ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ أَوْ قِيمَتِهِ إِلاَّ بِتَرَاضٍ مِنَ الْمُودِي وَالْمُسْتَحِقِّ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ مُتَعَيِّنٌ فِي الْإِبِلِ فَاسْتُحِقَّتْ كَالْمِثْلِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ الْمُتْلَفَةِ.

وَلَوْ عَدِمَتْ إِبِلُ الدِّيَةِ حِسًّا بِأَنْ لَمْ تُوجَدْ فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ تَحْصِيلُهَا مِنْهُ، أَوْ شَرْعًا بِأَنْ وُجِدَتْ فِيهِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهَا، فَالْوَاجِبُ أَلْفُ دِينَارٍ عَلَى أَهْلِ الدَّنَانِيرِ أَوِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِضَّةً عَلَى أَهْلِ الدَّرَاهِمِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ لِحَدِيثِ: «عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ» وَفِي الْقَوْلِ الْجَدِيدِ لِلشَّافِعِيِّ تَجِبُ قِيمَتُهَا وَقْتَ وُجُوبِ تَسْلِيمِهَا بِنَقْدِ بَلَدِهِ الْغَالِبِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مُتْلَفٍ، فَيَرْجِعُ إِلَى قِيمَتِهَا عِنْدَ إِعْوَازِ الْأَصْلِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: أَهْلُ الْبَوَادِي مِنْ كُلِّ إِقْلِيمٍ مِنْ أَهْلِ الْإِبِلِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُمْ إِلاَّ الْخَيْلُ وَالْبَقَرُ فَلَا نَصَّ، وَالظَّاهِرُ تَكْلِيفُهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَى حَاضِرَتِهِمْ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَقِيلَ: يُكَلَّفُونَ قِيمَةَ الْإِبِلِ.

مِقْدَارُ الدِّيَةِ:

أَوَّلًا: مِقْدَارُ الدِّيَةِ فِي النَّفْسِ:

أ- دِيَةُ الذَّكَرِ الْحُرِّ:

29- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ دِيَةَ الذَّكَرِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ هِيَ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا عَلَى مَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ.كَمَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي مِقْدَارِ الدِّيَةِ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْحُلَلِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهَا.

دِيَةُ الْأُنْثَى

30- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ دِيَةَ الْأُنْثَى الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ هِيَ نِصْفُ دِيَةِ الذَّكَرِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ- رضي الله عنهم-.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ؛ لِمَا رَوَى مُعَاذٌ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «دِيَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ».وَلِأَنَّهَا فِي الشَّهَادَةِ وَالْمِيرَاثِ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ فَكَذَلِكَ فِي الدِّيَةِ.

وَهَذَا فِي دِيَةِ النَّفْسِ، أَمَّا فِي دِيَةِ الْأَطْرَافِ وَالْجُرُوحِ فَاخْتَلَفُوا: فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِنَّهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ أَطْرَافِ وَجِرَاحِ الرَّجُلِ أَيْضًا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: عَقْلُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَهَا.وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لِأَنَّهُمَا شَخْصَانِ تَخْتَلِفُ دِيَتُهُمَا فِي النَّفْسِ فَاخْتَلَفَتْ فِي الْأَطْرَافِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تُسَاوِي الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ فِي دِيَةِ الْأَطْرَافِ إِلَى ثُلُثِ دِيَةِ الرَّجُلِ.فَإِذَا بَلَغَتِ الثُّلُثَ رَجَعَتْ إِلَى عَقْلِهَا، فَإِذَا قَطَعَ لَهَا ثَلَاثَ أَصَابِعَ فَلَهَا ثَلَاثُونَ مِنَ الْإِبِلِ كَالرَّجُلِ، وَإِذَا قَطَعَ لَهَا أَرْبَعَ أَصَابِعَ فَإِنَّهَا تَأْخُذُ نِصْفَ مَا يَأْخُذُهُ الرَّجُلُ: أَيْ تَأْخُذُ عِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ- رضي الله عنهم-، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعُرْوَةُ وَالزُّهْرِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «عَقْلُ الْمَرْأَةِ مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثَ مِنْ دِيَتِهَا».وَهُوَ نَصٌّ يُقَدَّمُ عَلَى مَا سِوَاهُ.

دِيَةُ الْخُنْثَى

31- إِذَا كَانَ الْمَقْتُولُ خُنْثَى مُشْكِلًا فَفِيهِ نِصْفُ دِيَةِ ذَكَرٍ وَنِصْفُ دِيَةِ أُنْثَى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الذُّكُورِيَّةَ وَالْأُنُوثِيَّةَ، وَقَدْ يَئِسْنَا مِنِ انْكِشَافِ حَالِهِ فَيَجِبُ التَّوَسُّطُ بَيْنَهُمَا بِكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قُتِلَ خَطَأً وَجَبَتْ دِيَةُ الْمَرْأَةِ وَيُوقَفُ الْبَاقِي إِلَى التَّبَيُّنِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْخُنْثَى كَالْأُنْثَى فِي الدِّيَةِ فَيَجِبُ فِي قَتْلِهَا نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ زِيَادَتَهُ عَلَيْهَا مَشْكُوكٌ فِيهَا.

دِيَةُ الْكَافِرِ

32- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا دِيَةَ لِلْحَرْبِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا عِصْمَةَ لَهُ.

أَمَّا الذِّمِّيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الدِّيَةِ فِيهِمَا: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعُرْوَةَ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ دِيَةَ الْكِتَابِيِّ الذِّمِّيِّ وَالْمُعَاهَدِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «دِيَةُ الْمُعَاهَدِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ»، وَفِي لَفْظٍ: «دِيَةُ عَقْلِ الْكَافِرِ نِصْفُ دِيَةِ عَقْلِ الْمُؤْمِنِ».

وَوَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: «دِيَةُ الْمُعَاهِدِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ».وَأَهْلُ الْكِتَابِ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَابْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنهم-، وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَهَذَا فِي دِيَةِ النَّفْسِ.قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَدِيَةُ جِرَاحِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَذَلِكَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ جِرَاحِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: جِرَاحَاتُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَاتِهِمْ كَجِرَاحِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دِيَاتِهِمْ.وَتُغَلَّظُ دِيَاتُهُمْ بِاجْتِمَاعِ الْحُرُمَاتِ عِنْدَ مَنْ يَرَى تَغْلِيظَ دِيَاتِ الْمُسْلِمِينَ.

وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الذِّمِّيَّ- كِتَابِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ- وَالْمُسْتَأْمَنَ وَالْمُسْلِمَ فِي الدِّيَةِ سَوَاءٌ وَهَذَا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاوِيَةَ- رضي الله عنهم-.

فَلَا يَخْتَلِفُ قَدْرُ الدِّيَةِ بِالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِتَكَافُؤِ الدِّمَاءِ، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}.أَطْلَقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْقَوْلَ بِالدِّيَةِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ.

وَرُوِيَ «أَنَّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ قَتَلَ مُسْتَأْمَنَيْنِ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِيهِمَا بِدِيَةِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ».وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ- رضي الله عنهما- قَضَيَا فِي دِيَةِ الذِّمِّيِّ بِمِثْلِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ كَمَالِ الدِّيَةِ يَعْتَمِدُ عَلَى كَمَالِ حَالِ الْقَتْلِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَهِيَ الذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْعِصْمَةُ وَقَدْ وُجِدَتْ، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا دِيَةَ فِي الْمُسْتَأْمَنِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: دِيَةُ كُلٍّ مِنَ الْيَهُودِيِّ أَوِ النَّصْرَانِيِّ إِذَا كَانَ لَهُ أَمَانٌ وَتَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُ ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ نَفْسًا وَغَيْرَهَا، وَدِيَةُ الْوَثَنِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ إِذَا كَانَ لَهُمَا أَمَانٌ ثُلُثَا عُشْرِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَمِثْلُ الْمَجُوسِيِّ عَابِدُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالزِّنْدِيقُ مِمَّنْ لَهُ أَمَانٌ؛ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- جَعَلَ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَدِيَةَ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَهَذَا التَّقْدِيرُ لَا يُفْعَلُ بِلَا تَوْقِيفٍ، فَأَمَّا غَيْرُ الْمَعْصُومِ فَدَمُهُ هَدَرٌ.

وَهَذَا كُلُّهُ فِي الذُّكُورِ، أَمَّا الْإِنَاثُ مِنَ الْكُفَّارِ اللَّوَاتِي لَهُمْ أَمَانٌ فَدِيَتُهُنَّ نِصْفُ دِيَةِ الذُّكُورِ مِنْهُمُ اتِّفَاقًا.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ.

دِيَةُ الْجَنِينِ

33- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْجِنَايَةِ الَّتِي تَرَتَّبَ عَلَيْهَا انْفِصَالُ الْجَنِينِ عَنْ أُمِّهِ مَيِّتًا هُوَ غُرَّةٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْجِنَايَةُ بِالضَّرْبِ أَمْ بِالتَّخْوِيفِ أَمِ الصِّيَاحِ أَمْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا أَمْ خَطَأً، وَلَوْ مِنَ الْحَامِلِ نَفْسِهَا أَوْ مِنْ زَوْجِهَا.لِمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-: «أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ رَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى فَطَرَحَتْ جَنِينَهَا، فَقَضَى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ».

وَالْغُرَّةُ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ، وَهِيَ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ أَوْ خَمْسُونَ دِينَارًا، وَلَا تَخْتَلِفُ الْغُرَّةُ بِذُكُورَةِ الْجَنِينِ وَأُنُوثَتِهِ، فَهِيَ فِي كِلَيْهِمَا سَوَاءٌ (ر: غُرَّة).

وَأَمَّا جَنِينُ الْكِتَابِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ مِمَّنْ لَهُنَّ أَمَانٌ إِذَا كَانَ مَحْكُومًا بِكُفْرِهِ فَفِيهِ عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ؛ لِأَنَّ جَنِينَ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ مَضْمُونٌ بِعُشْرِ دِيَةِ أُمِّهِ فَكَذَلِكَ جَنِينُ الْكَافِرَةِ.

وَهَذَا إِذَا أَلْقَتْهُ نَتِيجَةً لِلْجِنَايَةِ مَيِّتًا فِي حَيَاتِهَا.

أَمَّا إِذَا أَلْقَتْهُ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً ثُمَّ مَاتَ نَتِيجَةً لِلْجِنَايَةِ: كَأَنْ مَاتَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مُبَاشَرَةً أَوْ دَامَ أَلَمُهُ ثُمَّ مَاتَ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ قَتْلُ إِنْسَانٍ حَيٍّ.

وَإِذَا أَلْقَتْهُ نَتِيجَةً؛ لِلْجِنَايَةِ عَلَيْهَا مَيِّتًا بَعْدَ مَوْتِهَا فَاخْتَلَفُوا فِيهِ:

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: فِي الْأُمِّ الدِّيَةُ، وَلَا شَيْءَ فِي الْجَنِينِ؛ لِأَنَّ مَوْتَهَا سَبَبٌ لِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَنِقُ بِمَوْتِهَا، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَتَنَفَّسُ بِنَفَسِهَا، وَاحْتُمِلَ مَوْتُهُ بِالضَّرْبَةِ فَلَا تَجِبُ الْغُرَّةُ بِالشَّكِّ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تَجِبُ فِيهِ غُرَّةٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ جَنِينٌ تَلِفَ بِحِنَايَةٍ، وَعُلِمَ ذَلِكَ بِخُرُوجِهِ فَوَجَبَ ضَمَانُهُ، كَمَا لَوْ سَقَطَ فِي حَيَاتِهَا، وَلِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مَوْرُوثٌ فَلَا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِ أُمِّهِ كَمَا لَوْ خَرَجَ حَيًّا.وَإِنْ أَلْقَتْ جَنِينَيْنِ مَيِّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ غُرَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ آدَمِيٍّ فَتَتَعَدَّدُ الْغُرَّةُ بِتَعَدُّدِهِ كَالدِّيَاتِ.

وَإِنْ أَلْقَتْهُمْ أَحْيَاءَ ثُمَّ مَاتُوا فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ حَيًّا فَمَاتَ، وَبَعْضُهُمْ مَيِّتًا، فَفِي الْحَيِّ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَفِي الْمَيِّتِ غُرَّةٌ.

وَإِنْ ظَهَرَ بَعْضُ خَلْقِهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَيِّتًا وَلَمْ يَخْرُجْ بَاقِيهِ فَفِيهِ غُرَّةٌ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَقَالَ مَالِكٌ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا تَجِبُ الْغُرَّةُ حَتَّى تُلْقِيَهُ كَامِلًا.

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ أَلْقَتْ يَدًا أَوْ رِجْلًا وَمَاتَتْ فَتَجِبُ غُرَّةٌ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ قَدْ حَصَلَ بِوُجُودِ الْجَنِينِ، وَالْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْيَدَ بَانَتْ بِالْجِنَايَةِ، وَلَوْ عَاشَتْ وَلَمْ تُلْقِ جَنِينًا فَلَا يَجِبُ إِلاَّ نِصْفُ غُرَّةٍ، كَمَا أَنَّ يَدَ الْحَيِّ لَا يَجِبُ فِيهَا إِلاَّ نِصْفُ دِيَةٍ وَلَا يُضْمَنُ بَاقِيهِ؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَحَقَّقْ تَلَفَهُ.

وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَجِبُ لِلْعُضْوِ الزَّائِدِ حُكُومَةٌ، وَلَوْ أَلْقَتْ يَدًا ثُمَّ جَنِينًا مَيِّتًا بِلَا يَدٍ قَبْلَ الِانْدِمَالِ وَزَالَ الْأَلَمُ مِنَ الْأُمِّ فَغُرَّةٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْيَدَ مُبَانَةٌ مِنْهُ بِالْجِنَايَةِ، أَوْ حَيًّا فَمَاتَ مِنَ الْجِنَايَةِ فَدِيَةٌ وَدَخَلَ فِيهَا أَرْشُ الْيَدِ، فَإِنْ عَاشَ وَشَهِدَ الْقَوَابِلُ أَوْ عُلِمَ أَنَّهَا يَدُ مَنْ خُلِقَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ فَنِصْفُ دِيَةٍ لِلْيَدِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدِ الْقَوَابِلُ بِذَلِكَ وَلَمْ يُعْلَمْ فَنِصْفُ غُرَّةٍ لِلْيَدِ عَمَلًا بِالْيَقِينِ، أَوْ أَلْقَتْهُ بَعْدَ الِانْدِمَالِ وَزَالَ الْأَلَمُ أُهْدِرَ الْجَنِينُ لِزَوَالِ الْأَلَمِ الْحَاصِلِ بِالْجِنَايَةِ، وَوَجَبَ لِلْيَدِ الْمُلْقَاةِ قَبْلَهُ إِنْ خَرَجَ مَيِّتًا نِصْفُ غُرَّةٍ، أَوْ حَيًّا وَمَاتَ أَوْ عَاشَ فَنِصْفُ دِيَةٍ إِنْ شَهِدَ الْقَوَابِلُ أَوْ عُلِمَ أَنَّهَا يَدُ مَنْ خُلِقَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ، وَإِنِ انْفَصَلَ بَعْدَ إِلْقَاءِ الْيَدِ مَيِّتًا كَامِلَ الْأَطْرَافِ بَعْدَ الِانْدِمَالِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ، وَفِي الْيَدِ حُكُومَةٌ، أَوْ قَبْلَ الِانْدِمَالِ مَيِّتًا فَغُرَّةٌ فَقَطْ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْيَدَ الَّتِي أَلْقَتْهَا كَانَتْ زَائِدَةً لِهَذَا الْجَنِينِ وَانْمَحَقَ أَثَرُهَا، أَوْ حَيًّا وَمَاتَ فَدِيَةٌ لَا غُرَّةٌ، وَإِنْ عَاشَ فَحُكُومَةٌ، وَتَأَخُّرُ الْيَدِ عَنِ الْجَنِينِ إِلْقَاءٌ كَتَقَدُّمٍ؛ لِذَلِكَ فِيمَا ذُكِرَ، وَكَذَا لَحْمٌ أَلْقَتْهُ امْرَأَةٌ بِحِنَايَةٍ عَلَيْهَا يَجِبُ فِيهِ غُرَّةٌ إِذَا قَالَ الْقَوَابِلُ وَهُنَّ أَهْلُ الْخِبْرَةِ فِيهِ صُورَةٌ خَفِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِنَّ فَلَا يَعْرِفُهَا سِوَاهُنَّ لِحِذْقِهِنَّ، وَنَحْوُهُ لِلْحَنَابِلَةِ.

ثَانِيًا- الِاعْتِدَاءُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ

مُوجِبَاتُ الدِّيَةِ فِي الِاعْتِدَاءِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ، وَهِيَ إِبَانَةُ الْأَطْرَافِ، وَإِتْلَافُ الْمَعَانِي، وَالشِّجَاجُ وَالْجُرُوحُ.

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: إِبَانَةُ الْأَطْرَافِ: (قَطْعُ الْأَعْضَاءِ):

34- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ فِي قَطْعِ مَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ كَالْأَنْفِ وَاللِّسَانِ وَالذَّكَرِ وَالْحَشَفَةِ وَالصُّلْبِ إِذَا انْقَطَعَ الْمَنِيُّ، وَمَسْلَكِ الْبَوْلِ، وَمَسْلَكِ الْغَائِطِ دِيَةً كَامِلَةً.

وَمَنْ أَتْلَفَ مَا فِي الْبَدَنِ مِنْهُ شَيْئَانِ كَالْعَيْنَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ، وَالشَّفَتَيْنِ وَالْحَاجِيَيْنِ إِذَا ذَهَبَ شَعْرُهُمَا نِهَائِيًّا وَلَمْ يَنْبُتْ، وَالثَّدْيَيْنِ، وَالْحَلَمَتَيْنِ، وَالْأُنْثَيَيْنِ، وَالشُّفْرَيْنِ وَاللَّحْيَيْنِ، وَالْأَلْيَتَيْنِ إِذَا تَلِفَتَا مَعًا فَفِيهِمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ: وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَمَنْ أَتْلَفَ مَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْهُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ، كَأَشْفَارِ الْعَيْنَيْنِ وَالْأَجْفَانِ فَفِيهَا الدِّيَةُ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا رُبْعُ الدِّيَةِ، وَمَا فِيهِ مِنْهُ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ، كَأَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَأَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ فَفِي جَمِيعِهَا الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عُشْرُ الدِّيَةِ، وَمَا فِي الْأَصَابِعِ مِنَ الْمَفَاصِلِ (السَّلَامِيَّاتِ) فَفِي أَحَدِهَا ثُلُثُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ، وَنِصْفُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ فِيمَا فِيهَا مَفْصِلَانِ وَهِيَ الْإِبْهَامُ خَاصَّةً، وَفِي جَمِيعِ الْأَسْنَانِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَفِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.

وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا وَرَدَ فِي «الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ أَنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةَ وَفِي الْأَنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةَ»

فَالنَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْبَعْضِ يَكُونُ وَارِدًا فِي الْبَاقِي دَلَالَةً؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ.

وَالْأَصْلُ فِي الْأَعْضَاءِ أَنَّهُ إِذَا فُوِّتَ جِنْسُ مَنْفَعَةٍ عَلَى الْكَمَالِ أَوْ أَزَالَ جَمَالًا مَقْصُودًا فِي الْآدَمِيِّ عَلَى الْكَمَالِ يَجِبُ كُلُّ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِتْلَافَ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ، إِذِ النَّفْسُ لَا تَبْقَى مُنْتَفَعًا بِهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَإِتْلَافُ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ مُلْحَقٌ بِالْإِتْلَافِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي الْآدَمِيِّ تَعْظِيمًا لَهُ كَمَا قَالَ الزَّيْلَعِيُّ.

وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:

أَوَّلًا- دِيَةُ مَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْبَدَنِ مِنَ الْأَعْضَاءِ.

أ- دِيَةُ الْأَنْفِ:

35- الْأَنْفُ إِذَا قُطِعَ كُلُّهُ أَوْ قُطِعَ الْمَارِنُ مِنْهُ (وَهُوَ مَا لَانَ مِنَ الْأَنْفِ وَخَلَا مِنَ الْعَظْمِ) فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ؛ لِمَا رُوِيَ فِي كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ: «وَإِنَّ فِي الْأَنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةَ».وَلِأَنَّ فِيهِ جَمَالًا وَمَنْفَعَةً زَالَتَا بِالْقَطْعِ فَوَجَبَتِ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ.

ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ قَالُوا: فِي قَطْعِ كُلٍّ مِنْ طَرَفَيِ الْمَارِنِ الْمُسَمَّيَيْنِ بِالْمَنْخِرَيْنِ، وَفِي الْحَاجِزِ بَيْنَهُمَا ثُلُثُ الدِّيَةِ تَوْزِيعًا لِلدِّيَةِ عَلَيْهَا.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْحَاجِزِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَفِيهِمَا دِيَةٌ؛ لِأَنَّ الْجَمَالَ وَكَمَالَ الْمَنْفَعَةِ فِيهِمَا دُونَ الْحَاجِزِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَا نَقَصَ مِنَ الْأَنْفِ فَفِيهِ بِحِسَابِهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَالنَّقْصُ يُقَاسُ مِنَ الْمَارِنِ، لَا مِنَ الْأَصْلِ.

ب- دِيَةُ اللِّسَانِ:

36- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي قَطْعِ اللِّسَانِ الْمُتَكَلَّمِ بِهِ إِذَا اسْتُوعِبَ قَطْعًا، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ- رضي الله عنهم-.وَوَرَدَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ: «وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ» وَلِأَنَّ فِيهِ جَمَالًا وَمَنْفَعَةً.أَمَّا الْجَمَالُ فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنِ الْجَمَالِ فَقَالَ: فِي اللِّسَانِ» وَأَمَّا الْمَنْفَعَةُ فَإِنَّ بِهِ تُبَلَّغُ الْأَغْرَاضُ وَتُسْتَخْلَصُ الْحُقُوقُ وَتُقْضَى الْحَاجَاتُ وَتَتِمُّ الْعِبَادَاتُ، وَالنُّطْقُ يَمْتَازُ بِهِ الْآدَمِيُّ عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَبِهِ مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْإِنْسَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} وَكَذَا تَجِبُ الدِّيَةُ بِقَطْعِ بَعْضِهِ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ لِتَفْوِيتِ الْمَنْفَعَةِ، وَقَدْ حَصَلَ بِالِامْتِنَاعِ عَنِ الْكَلَامِ.

وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الْكَلَامِ بِبَعْضِ الْحُرُوفِ دُونَ بَعْضٍ، تُقَسَّمُ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِ الْحُرُوفِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ، فَمَا نَقَصَ مِنَ الْحُرُوفِ وَجَبَ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِهِ، وَقِيلَ: تُقْسَمُ الدِّيَةُ عَلَى الْحُرُوفِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ دُونَ الشَّفَةِ وَالْحَلْقِ، فَتُسْتَثْنَى مِنْهَا الْحُرُوفُ الشَّفَوِيَّةُ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْبَاءُ، وَالْمِيمُ، وَالْفَاءُ، وَالْوَاوُ، وَحُرُوفُ الْحَلْقِ وَهِيَ سِتَّةٌ هِيَ: الْهَمْزَةُ، وَالْهَاءُ، وَالْعَيْنُ، وَالْحَاءُ، وَالْغَيْنُ، وَالْخَاءُ، فَتَبْقَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَرْفًا تَنْقَسِمُ الدِّيَةُ عَلَيْهَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: فِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، فَإِنْ قُطِعَ بَعْضُهُ فَإِنْ مَنَعَ جُمْلَةَ الْكَلَامِ فَفِيهِ الدِّيَةُ.وَقَالُوا أَيْضًا: الدِّيَةُ فِي الْكَلَامِ لَا فِي اللِّسَانِ، فَإِنْ قُطِعَ مِنْ لِسَانِهِ مَا يَنْقُصُ مِنْ حُرُوفِهِ فَعَلَيْهِ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَلَا يُحْتَسَبُ فِي الْكَلَامِ عَلَى عَدَدِ الْحُرُوفِ، فَرُبَّ حَرْفٍ أَثْقَلُ مِنْ حَرْفٍ فِي النُّطْقِ، وَلَكِنْ بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا نَقَصَ مِنَ الْكَلَامِ. قَطْعُ لِسَانِ الْأَخْرَسِ وَالصَّغِيرِ:

37- لَا دِيَةَ فِي قَطْعِ لِسَانِ الْأَخْرَسِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بَلْ تَجِبُ فِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْكَلَامُ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ فَصَارَ كَالْيَدِ الشَّلاَّءِ.

وَهَذَا إِذَا لَمْ يَذْهَبْ بِقَطْعِهِ الذَّوْقُ، وَإِلاَّ تَجِبُ الدِّيَةُ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ إِزَالَةِ الْمَنَافِعِ، أَمَّا إِذَا قُطِعَ لِسَانَ الصَّغِيرِ الَّذِي لَا يَتَكَلَّمُ لِصِغَرِهِ فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ السَّلَامَةُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَكَلَّمْ لِأَنَّهُ لَا يُحْسِنُ الْكَلَامَ، فَوَجَبَتْ بِهِ الدِّيَةُ كَالْكَبِيرِ وَيُخَالِفُ الْأَخْرَسَ، فَإِنَّهُ عُلِمَ أَنَّهُ أَشَلُّ؛ وَلِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ فِي سَائِرِ أَعْضَاءِ الصَّغِيرِ فَكَذَلِكَ فِي قَطْعِ لِسَانِهِ، وَإِنْ بَلَغَ حَدًّا يَتَكَلَّمُ مِثْلُهُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ فَقُطِعَ لِسَانُهُ لَمْ تَجِبِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ فَيَجِبُ فِيهِ مَا يَجِبُ فِي لِسَانِ الْأَخْرَسِ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الدِّيَةِ فِي لِسَانِ الصَّغِيرِ ظُهُورُ أَثَرِ نُطْقٍ بِتَحْرِيكِهِ لِبُكَاءٍ وَمَصِّ ثَدْيٍ وَنَحْوِهِمَا؛ لِأَنَّهَا أَمَارَاتٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى سَلَامَةِ اللِّسَانِ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فَحُكُومَةٌ؛ لِأَنَّ سَلَامَتَهُ غَيْرُ مُتَيَقَّنَةٍ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ.

وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى نَصٍّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

ج- دِيَةُ الذَّكَرِ وَالْحَشَفَةِ:

38- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي قَطْعِ تَمَامِ الْحَشَفَةِ (رَأْسِ الذَّكَرِ) كَمَا تَجِبُ فِي قَطْعِ الذَّكَرِ مِنْ أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ مَنَافِعِ الذَّكَرِ مِنْ لَذَّةِ الْمُبَاشَرَةِ، وَأَحْكَامِ الْوَطْءِ، وَالْإِيلَادِ، وَاسْتِمْسَاكِ الْبَوْلِ وَنَحْوِهَا تَتَعَلَّقُ بِهَا، وَالْحَشَفَةُ أَصْلٌ فِي مَنْفَعَةِ الْإِيلَاجِ وَالدَّفْقِ، وَالْقَصَبَةُ كَالتَّابِعِ لَهَا.

وَإِذَا قُطِعَ بَعْضُ الْحَشَفَةِ فَفِيهِ بِحِسَابِهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَيُقَاسُ مِنَ الْحَشَفَةِ لَا مِنْ أَصْلِ الذَّكَرِ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجِبُ بِقِسْطِهِ مِنْ كُلِّ الذَّكَرِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِكَمَالِ الدِّيَةِ.قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَهَذَا إِذَا لَمْ يَخْتَلَّ مَجْرَى الْبَوْلِ، فَإِنِ اخْتَلَّ وَلَمْ يَنْقَطِعِ الْبَوْلُ فَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِسْطِ الدِّيَةِ وَحُكُومَةِ فَسَادِ الْمَجْرَى.أَمَّا إِذَا انْقَطَعَ الْبَوْلُ وَفَسَدَ مَسْلَكُهُ فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.

وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي ذَكَرِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالشَّيْخِ وَالشَّابِّ عَلَى السَّوَاءِ، سَوَاءٌ أَقَدَرَ عَلَى الْجِمَاعِ أَمْ لَمْ يَقْدِرْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِعُمُومِ مَا وَرَدَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِأَهْلِ الْيَمَنِ «وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ» وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّغِيرِ: إِنْ عُلِمَتْ صِحَّتُهُ بِحَرَكَةٍ لِلْبَوْلِ وَنَحْوِهِ فَفِيهِ الدِّيَةُ، وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ صِحَّتُهُ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ.

أَمَّا ذَكَرُ الْعِنِّينِ وَالْخَصِيِّ فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّهُ تَجِبُ فِيهِمَا الدِّيَةُ؛ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ وَلِأَنَّ ذَكَرَ الْخَصِيِّ سَلِيمٌ قَادِرٌ عَلَى الْإِيلَاجِ وَإِنَّمَا الْفَائِتُ الْإِيلَادُ، وَالْعُنَّةُ عَيْبٌ فِي غَيْرِ الذَّكَرِ؛ لِأَنَّ الشَّهْوَةَ فِي الْقَلْبِ وَالْمَنِيَّ فِي الصُّلْبِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَا تَكْمُلُ دِيَتُهُمَا لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ الْإِنْزَالُ وَالْإِحْبَالُ وَالْجِمَاعُ وَقَدْ عُدِمَ ذَلِكَ فِيهِمَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، فَلَمْ تَكْمُلْ دِيَتُهُمَا، وَإِذَا لَمْ تَجِبْ فِيهِمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ تَجِبُ فِيهِمَا حُكُومَةُ عَدْلٍ.

وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْعِنِّينِ وَالْخَصِيِّ فَقَالُوا: إِذَا كَانَ مُعْتَرِضًا عَنْ جَمِيعِ النِّسَاءِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: لُزُومُ الدِّيَةِ، وَقِيلَ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَرِضًا عَنْ بَعْضِ النِّسَاءِ فَفِيهِ الدِّيَةُ اتِّفَاقًا عِنْدَهُمْ.

د- دِيَةُ الصُّلْبِ:

39- صُلْبُ الرَّجُلِ إِذَا انْكَسَرَ وَذَهَبَ مَشْيُهُ أَوْ جِمَاعُهُ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.وَكَذَلِكَ إِذَا انْكَسَرَ وَاحْدَوْدَبَ وَانْقَطَعَ الْمَاءُ، فَلَمْ يَنْجَبِرْ وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ جِمَاعُهُ وَلَا مَشْيُهُ؛ لِمَا وَرَدَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ» وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: «مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّهُ فِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ»؛ وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ لَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِثْلُهُ، وَفِيهِ جَمَالٌ وَمَنْفَعَةٌ، فَوَجَبَتْ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ كَالْأَنْفِ.

وَأَطْلَقَ الْحَنَابِلَةُ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ فِي كَسْرِ الصُّلْبِ وَإِنْ لَمْ تَذْهَبْ مَنَافِعُهُ مِنَ الْمَشْيِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْجِمَاعِ، وَلَمْ يَنْقَطِعِ الْمَاءُ.

هـ- دِيَةُ إِتْلَافِ مَسْلَكِ الْبَوْلِ وَمَسْلَكِ الْغَائِطِ:

40- تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي إِتْلَافِ مَسْلَكِ الْبَوْلِ وَمَسْلَكِ الْغَائِطِ، وَفِي إِفْضَاءِ الْمَرْأَةِ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ أَوْ غَيْرِهِ، وَهُوَ رَفْعُ مَا بَيْنَ مَدْخَلِ ذَكَرٍ وَدُبُرٍ، فَيَصِيرُ مَسْلَكُ جِمَاعِهَا وَغَائِطِهَا وَاحِدًا.وَقِيلَ: الْإِفْضَاءُ رَفْعُ مَا بَيْنَ مَدْخَلِ ذَكَرٍ وَمَخْرَجِ بَوْلٍ، فَيَصِيرُ سَبِيلُ جِمَاعِهَا وَبَوْلِهَا وَاحِدًا، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَجِبُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِذْ بِهِ تَفُوتُ الْمَنْفَعَةُ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُهَا مِنَ اللَّذَّةِ، وَلَا تُمْسِكُ الْوَلَدَ وَلَا الْبَوْلَ إِلَى الْخَلَاءِ؛ وَلِأَنَّ مُصِيبَتَهَا أَعْظَمُ مِنَ الْمُصَابَةِ بِالشُّفْرَيْنِ، كَمَا عَلَّلَهُ ابْنُ شَعْبَانَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ فِي الْإِفْضَاءِ حُكُومَةُ عَدْلٍ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: فِي الْإِفْضَاءِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَضَى فِيهِ بِذَلِكَ،

وَقَالُوا: إِنِ اسْتَطْلَقَ بَوْلُهَا مَعَ الْإِفْضَاءِ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ.

ثَانِيًا- الْأَعْضَاءُ الَّتِي فِي الْبَدَنِ مِنْهَا اثْنَانِ:

الْأُذُنَانِ:

41- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ) إِلَى أَنَّ فِي اسْتِيصَالِ الْأُذُنَيْنِ قَلْعًا أَوْ قَطْعًا كَمَالَ الدِّيَةِ، وَفِي قَلْعِ أَوْ قَطْعِ إِحْدَاهُمَا نِصْفَهَا

وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ- رضي الله عنهما-، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَذَلِكَ لِخَبَرِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «فِي الْأُذُنِ خَمْسُونَ مِنَ الْإِبِلِ» وَلِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ فِيهِمَا جَمَالٌ وَمَنْفَعَةٌ، وَفِي قَلْعِهِمَا أَوْ قَطْعِهِمَا تَفْوِيتُ الْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمَا الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ،

وَسَوَاءٌ أَذْهَبَ السَّمْعَ أَمْ لَمْ يُذْهِبْ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ سَمِيعًا أَمْ أَصَمَّ؛ لِأَنَّ الصَّمَمَ نَقْصٌ فِي غَيْرِ الْأُذُنِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي دِيَتِهِمَا.

وَفِي وَجْهٍ أَوْ قَوْلٍ مُخَرَّجٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: تَجِبُ فِي الْأُذُنَيْنِ حُكُومَةُ عَدْلٍ إِلاَّ إِذَا ذَهَبَ السَّمْعُ فَفِيهِ دِيَةٌ اتِّفَاقًا.وَثَالِثُ الْأَقْوَالِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: هُوَ أَنَّ فِي الْأُذُنَيْنِ حُكُومَةً مُطْلَقًا.قَالَ الْمَوَّاقُ: وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


269-موسوعة الفقه الكويتية (ديات 3)

دِيَاتٌ -3

الْعَيْنَانِ:

42- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ فِي قَطْعِ أَوْ فَقْءِ الْعَيْنَيْنِ دِيَةً كَامِلَةً، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعَيْنُ كَبِيرَةً أَمْ صَغِيرَةً، صَحِيحَةً أَمْ مَرِيضَةً، سَلِيمَةً أَمْ حَوْلَاءَ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ.»

وَلِأَنَّ فِي تَفْوِيتِ الِاثْنَيْنِ مِنْهُمَا تَفْوِيتَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ أَوِ الْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ، فَيَجِبُ فِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَفِي تَفْوِيتِ أَحَدِهِمَا تَفْوِيتُ النِّصْفِ، فَيَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ.

هَذَا فِي الْعُيُونِ الْمُبْصِرَةِ، أَمَّا الْعَيْنُ الْعَوْرَاءُ فَلَا دِيَةَ فِي قِلْعِهَا بَلْ تَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ.

وَاخْتَلَفُوا فِي قَلْعِ الْعَيْنِ السَّلِيمَةِ مِنَ الْأَعْوَرِ.

فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: تَجِبُ فِي قَلْعِ عَيْنِ الْأَعْوَرِ السَّلِيمَةِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَقَتَادَةُ وَإِسْحَاقُ؛ لِأَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهم- قَضَوْا فِي عَيْنِ الْأَعْوَرِ بِالدِّيَةِ، وَلَمْ نَعْلَمْ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا، فَيَكُونُ إِجْمَاعًا وَلِأَنَّ قَلْعَ عَيْنِ الْأَعْوَرِ يَتَضَمَّنُ إِذْهَابَ الْبَصَرِ كُلِّهِ، فَوَجَبَتِ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ، كَمَا لَوْ أَذْهَبَهُ مِنَ الْعَيْنَيْنِ؛ لِأَنَّ السَّلِيمَةَ الَّتِي عَطَّلَهَا بِمَنْزِلَةِ عَيْنَيْ غَيْرِهِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلُ مَسْرُوقٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ: إِذَا قَلَعَ عَيْنَ الْأَعْوَرِ الْأُخْرَى فَفِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «وَفِي الْعَيْنِ خَمْسُونَ مِنَ الْإِبِلِ»

وَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ» يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِمَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا قُلِعَتْ عَيْنُ شَخْصٍ وَوَجَبَتْ فِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ ثُمَّ قُلِعَتِ الثَّانِيَةُ، فَقَالِعُ الثَّانِيَةِ قَالِعُ عَيْنِ أَعْوَرَ، فَلَوْ وَجَبَتْ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ لَوَجَبَ فِيهِمَا دِيَةٌ وَنِصْفُ دِيَةٍ.

الْيَدَانِ:

43- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي قَطْعِ الْيَدَيْنِ وَوُجُوبِ نِصْفِهَا فِي قَطْعِ إِحْدَاهُمَا؛ لِمَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْيَدِ خَمْسُونَ مِنَ الْإِبِلِ»؛ وَلِأَنَّ فِيهِمَا جَمَالًا ظَاهِرًا وَمَنْفَعَةً كَامِلَةً، وَلَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِنْ جِنْسِهِمَا غَيْرُهُمَا، فَكَانَ فِيهِمَا الدِّيَةُ كَالْعَيْنَيْنِ.

وَيَجِبُ فِي قَطْعِ الْكَفِّ تَحْتَ الرُّسْغِ مَا يَجِبُ فِي الْأَصَابِعِ عَلَى مَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي الْأَصَابِعِ: «فِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إِذَا قُطِعَتِ الْأَصَابِعُ وَحْدَهَا أَوْ قُطِعَتِ الْكَفُّ الَّتِي فِيهَا الْأَصَابِعُ.وَهَذَا فِي الْيَدِ السَّلِيمَةِ، أَمَّا الْيَدُ الشَّلاَّءُ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا دِيَةَ فِي قَطْعِهَا بَلْ فِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهَا مِنْ قَبْلُ، فَلَمْ تَفُتِ الْمَنْفَعَةُ بِالْقَطْعِ، وَلَا تَقْدِيرَ فِيهَا، فَتَجِبُ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ.

وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ فِي الْيَدِ الشَّلاَّءِ ثُلُثَ دِيَتِهَا؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْيَدِ الشَّلاَّءِ إِذَا قُطِعَتْ بِثُلُثِ دِيَتِهَا» وَحَدُّ الْيَدِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الدِّيَةُ مِنَ الرُّسْغِ أَوِ الْكُوعِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْيَدِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ، بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وَالْوَاجِبُ قَطْعُهُمَا مِنَ الْكُوعِ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا قَطَعَ مَا فَوْقَ الْكُوعِ أَيْ: مِنْ بَعْضِ السَّاعِدِ أَوِ الْمِرْفَقِ أَوِ الْمَنْكِبِ: فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ قَطَعَهَا مَعَ نِصْفِ السَّاعِدِ أَوْ مِنَ الْمِرْفَقِ أَوِ الْمَنْكِبِ فَفِي الْكَفِّ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الزِّيَادَةِ حُكُومَةُ عَدْلٍ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ لِلْكَفِّ.وَهُوَ إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إِنَّ مَا زَادَ عَلَى أَصَابِعِ الْيَدِ فَهُوَ تَبَعٌ لِلْأَصَابِعِ إِلَى الْمَنْكِبِ، فَإِنْ قَطَعَ يَدَهُ مِنْ فَوْقِ الْكُوعِ مِثْلَ أَنْ يَقْطَعَهَا مِنَ الْمِرْفَقِ أَوْ نِصْفِ السَّاعِدِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْيَدَ اسْمٌ لِلْجَمِيعِ إِلَى الْمَنْكِبِ بِدَلِيلِ قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} وَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ مَسَحَ الصَّحَابَةُ إِلَى الْمَنَاكِبِ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الْيَدُ إِلَى الْمَنْكِبِ، وَفِي عُرْفِ النَّاسِ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ يُسَمَّى يَدًا، فَإِذَا قَطَعَهَا مِنْ فَوْقِ الْكُوعِ فَمَا قَطَعَ إِلاَّ يَدًا وَاحِدَةً، وَالشَّرْعُ أَوْجَبَ فِي الْيَدِ الْوَاحِدَةِ نِصْفَ الدِّيَةِ فَلَا يُزَادُ عَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْعِ.

وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: فِي الْيَدَيْنِ سَوَاءٌ مِنَ الْمَنْكِبِ أَوِ الْمِرْفَقِ أَوِ الْكُوعِ دِيَةٌ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَصَابِعِ، وَأَمَّا إِنْ قَطَعَ الْأَصَابِعَ أَوْ مَعَ الْكَفِّ فَأُخِذَتِ الدِّيَةُ ثُمَّ حَصَلَتْ جِنَايَةٌ عَلَيْهَا بَعْدَ إِزَالَةِ الْأَصَابِعِ فَحُكُومَةٌ، سَوَاءٌ أَقْطَعَ الْيَدَ مِنَ الْكُوعِ، أَمِ الْمِرْفَقِ، أَمِ الْمَنْكِبِ.

وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ دِيَةِ الْأَصَابِعِ فِي مَوْضِعِهَا.

الْأُنْثَيَانِ:

44- الْأُنْثَيَانِ وَالْبَيْضَتَانِ فِي قَطْعِهِمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ» وَلِأَنَّ فِيهِمَا الْجَمَالَ وَالْمَنْفَعَةَ، فَإِنَّ النَّسْلَ يَكُونُ بِهِمَا بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَانَتْ فِيهِمَا الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ، وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّ فِي الصُّلْبِ الدِّيَةَ، وَفِي الْأُنْثَيَيْنِ الدِّيَةَ، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ.

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْيُسْرَى وَالْيُمْنَى فَتَجِبُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ.

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ الْأُنْثَيَيْنِ وَالذَّكَرَ مَعًا تَجِبُ دِيَتَانِ.وَكَذَا لَوْ قَطَعَ الذَّكَرَ ثُمَّ قَطَعَ الْأُنْثَيَيْنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ).أَمَّا إِذَا قَطَعَ أُنْثَيَيْهِ ثُمَّ قَطَعَ ذَكَرَهُ فَفِيهِ دِيَةٌ لِلْأُنْثَيَيْنِ، وَحُكُومَةٌ لِلذَّكَرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الذَّكَرِ قَبْلَ قَطْعِهِ، فَهُوَ ذَكَرُ خَصِيٍّ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَجِبُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ دِيَتَانِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ فِي قَطْعِ ذَكَرِ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنْ قُطِعَتِ الْأُنْثَيَانِ مَعَ الذَّكَرِ فَفِي ذَلِكَ دِيَتَانِ، وَإِنْ قُطِعَتَا قَبْلَ الذَّكَرِ أَوْ بَعْدَهُ فَفِيهِمَا الدِّيَةُ، وَإِنْ قُطِعَ الذَّكَرُ قَبْلَهُمَا أَوْ بَعْدَهُمَا فَفِيهِ الدِّيَةُ، وَمَنْ لَا ذَكَرَ لَهُ فَفِي أُنْثَيَيْهِ الدِّيَةُ، وَمَنْ لَا أُنْثَيَيْنِ لَهُ فَفِي ذَكَرِهِ الدِّيَةُ.

اللَّحْيَانِ:

45- اللَّحْيَانِ هُمَا الْعَظْمَانِ اللَّذَانِ تَنْبُتُ عَلَيْهِمَا الْأَسْنَانُ السُّفْلَى، وَمُلْتَقَاهُمَا الذَّقَنُ، وَقَدْ صَرَّحَ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بِأَنَّ فِي اللَّحْيَيْنِ دِيَةً كَامِلَةً، وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ كَالْأُذُنَيْنِ.

وَعَلَّلُوا وُجُوبَ الدِّيَةِ فِيهِمَا بِأَنَّ فِيهِمَا جَمَالًا وَمَنْفَعَةً، وَلَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِثْلُهُمَا فَكَانَتْ فِيهِمَا الدِّيَةُ كَسَائِرِ مَا فِي الْبَدَنِ مِنْهُ شَيْئَانِ، وَإِنْ قَلَعَهُمَا بِمَا عَلَيْهِمَا مِنْ أَسْنَانٍ وَجَبَتْ دِيَتُهُمَا وَدِيَةُ الْأَسْنَانِ، وَلَمْ تَدْخُلْ دِيَةُ الْأَسْنَانِ فِي دِيَتِهِمَا، بِخِلَافِ دِيَةِ الْأَصَابِعِ فَإِنَّهَا تَدْخُلُ فِي دِيَةِ الْيَدِ.

وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ اللَّحْيَيْنِ يُوجَدَانِ قَبْلَ وُجُودِ الْأَسْنَانِ فِي الْخِلْقَةِ وَيَبْقَيَانِ بَعْدَ ذَهَابِهَا فِي حَقِّ الْكَبِيرِ، وَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ اللَّحْيَيْنِ وَالْأَسْنَانِ يَنْفَرِدُ بِاسْمِهِ، وَلَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي اسْمِ الْآخَرِ، بِخِلَافِ الْأَصَابِعِ وَالْكَفِّ، فَإِنَّ اسْمَ الْيَدِ يَشْمَلُهُمَا، وَأَنَّ الْأَسْنَانَ مَغْرُوزَةٌ فِي اللَّحْيَيْنِ وَلَا تُعْتَبَرُ جُزْءًا مِنْهُمَا بِخِلَافِ الْكَفِّ مَعَ الْأَصَابِعِ؛ لِأَنَّهُمَا كَالْعُضْوِ الْوَاحِدِ.

وَاسْتَشْكَلَ الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِيجَابَ الدِّيَةِ فِي اللَّحْيَيْنِ بِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِمَا خَبَرٌ، وَالْقِيَاسُ لَا يَقْتَضِيهِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنَ الْعِظَامِ الدَّاخِلَةِ فَيُشْبِهَانِ التَّرْقُوَةَ وَالضِّلْعَ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا دِيَةَ فِي السَّاعِدِ وَالْعَضُدِ وَالسَّاقِ وَالْفَخِذِ، وَهِيَ عِظَامٌ فِيهَا جَمَالٌ وَمَنْفَعَةٌ.

وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ اللَّحْيَيْنِ مِنَ الْوَجْهِ فَيَتَحَقَّقُ الشِّجَاجُ فِيهِمَا، فَيَجِبُ فِيهِمَا مُوجِبُهَا خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنَ الْوَجْهِ؛ لِأَنَّ الْمُوَاجَهَةَ لَا تَقَعُ بِهِمَا.

وَلَمْ نَعْثُرْ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى نَصٍّ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ.

الثَّدْيَانِ:

46- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ فِي قَطْعِ ثَدْيَيِ الْمَرْأَةِ دِيَةً كَامِلَةً، وَفِي الْوَاحِدِ مِنْهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ فِي ثَدْيِ الْمَرْأَةِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَفِي الثَّدْيَيْنِ الدِّيَةَ، وَلِأَنَّ فِيهِمَا جَمَالًا وَمَنْفَعَةً فَأَشْبَهَا الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ.

كَذَلِكَ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي قَطْعِ حَلَمَتَيِ الثَّدْيَيْنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنِ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْكَامِلَةَ وَجَمَالَ الثَّدْيِ بِهِمَا كَمَنْفَعَةِ الْيَدَيْنِ وَجَمَالِهِمَا بِالْأَصَابِعِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تَجِبُ الدِّيَةُ فِي حَلَمَتَيْهِمَا إِذَا بَطَلَ اللَّبَنُ أَوْ فَسَدَ، وَإِلاَّ وَجَبَتْ حُكُومَةٌ بِقَدْرِ الشَّيْنِ.قَالُوا: وَكَذَا تَلْزَمُ الدِّيَةُ كَامِلَةً إِنْ بَطَلَ اللَّبَنُ أَوْ فَسَدَ مِنْ غَيْرِ قَطْعِ الْحَلَمَتَيْنِ، فَالدِّيَةُ عِنْدَهُمْ لِفَسَادِ اللَّبَنِ لَا لِقَطْعِ الْحَلَمَتَيْنِ، وَمِنْ ثَمَّ اسْتَظْهَرَ ابْنُ عَرَفَةَ أَنَّ فِي قَطْعِ حَلَمَتَيِ الْعَجُوزِ حُكُومَةً كَالْيَدِ الشَّلاَّءِ.

وَهَذَا فِي ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، أَمَّا ثَدْيَا الرَّجُلِ فَفِيهِمَا حُكُومَةُ عَدْلٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِذْ لَيْسَ فِيهِمَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ، بَلْ مُجَرَّدُ جَمَالٍ،

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَجِبُ فِيهِمَا الدِّيَةُ كَثَدْيَيِ الْمَرْأَةِ.

الْأَلْيَتَانِ:

47- الْأَلْيَتَانِ هُمَا مَا عَلَا وَأَشْرَفَ مِنْ أَسْفَلِ الظَّهْرِ عِنْدَ اسْتِوَاءِ الْفَخِذَيْنِ، وَفِيهِمَا الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ إِذَا أُخِذَتَا إِلَى الْعَظْمِ الَّذِي تَحْتَهُمَا، وَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِمَا فِيهِمَا مِنَ الْجَمَالِ وَالْمَنْفَعَةِ فِي الرُّكُوبِ وَالْقُعُودِ.وَهَذَا إِذَا أُخِذَتَا إِلَى الْعَظْمِ وَاسْتُؤْصِلَ لَحْمُهُمَا حَتَّى لَا يَبْقَى عَلَى الْوَرِكِ لَحْمٌ.أَمَّا بَعْضُ اللَّحْمِ فَإِذَا عُرِفَ قَدْرُهُ فَبِقِسْطِهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَإِلاَّ فَالْحُكُومَةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَقَالُوا: لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: فِي أَلْيَتَيِ الرَّجُلِ حُكُومَةٌ، وَكَذَلِكَ فِي أَلْيَتَيِ الْمَرْأَةِ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ.وَقَالَ أَشْهَبُ: فِيهِمَا الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُمَا أَعْظَمُ عَلَيْهَا مِنْ ثَدْيَيْهَا.

الرِّجْلَانِ:

48- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي قَطْعِ الرِّجْلَيْنِ كِلْتَيْهِمَا، وَأَنَّ فِي إِحْدَاهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ وَحَدُّ الْقَطْعِ هُنَا هُوَ مَفْصِلِ الْكَعْبَيْنِ.

وَالْخِلَافُ فِيمَا إِذَا قُطِعَ أَكْثَرُ مِنَ الْكَعْبَيْنِ إِلَى أَصْلِ الْفَخِذِ مِنَ الْوَرِكِ أَوِ الرُّكْبَةِ، كَالْخِلَافِ فِي قَطْعِ الْيَدَيْنِ فَوْقَ الْكُوعَيْنِ فِي وُجُوبِ حُكُومَةِ عَدْلٍ مَعَ الدِّيَةِ أَوْ عَدَمِ وُجُوبِهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ (ر: ف 43)، وَرِجْلُ الْأَعْرَجِ كَرِجْلِ الصَّحِيحِ، كَمَا أَنَّ يَدَ الْأَعْسَمِ كَيَدِ الصَّحِيحِ.

الشَّفَتَانِ:

49- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ فِي قَطْعِ الشَّفَتَيْنِ دِيَةً كَامِلَةً؛ لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ» وَلِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ لَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِثْلُهُمَا، فِيهِمَا جَمَالٌ ظَاهِرٌ وَمَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ، فَإِنَّهُمَا طَبَقٌ عَلَى الْفَمِ تَقِيَانِ مَا يُؤْذِيهِ، وَيَسْتُرَانِ الْأَسْنَانَ، وَيَرُدَّانِ الرِّيقَ، وَيُنْفَخُ بِهِمَا، وَيَتِمُّ بِهِمَا الْكَلَامُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ، فَتَجِبُ فِيهِمَا الدِّيَةُ كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ.

وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ- رضي الله عنهما-.وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، يَجِبُ فِي الشَّفَةِ الْعُلْيَا ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي السُّفْلَى الثُّلُثَانِ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالزُّهْرِيُّ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ بِهَا أَعْظَمُ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَدُورُ وَتَتَحَرَّكُ، وَتَحْفَظُ الرِّيقَ، وَالطَّعَامَ، وَالْعُلْيَا سَاكِنَةٌ.

الْحَاجِبَانِ وَاللِّحْيَةُ وَقَرَعُ الرَّأْسِ:

50- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ فِي إِتْلَافِ شَعْرِ الْحَاجِبَيْنِ إِذَا لَمْ يَنْبُتَا الدِّيَةَ، وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفَ الدِّيَةِ، وَكَذَلِكَ فِي شَعْرِ اللِّحْيَةِ إِذَا لَمْ يَنْبُتِ الدِّيَةُ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَشُرَيْحٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ- رضي الله عنهما-؛ لِأَنَّ فِيهِ إِذْهَابَ الْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ، وَفِيهِ إِذْهَابَ مَنْفَعَةٍ، فَإِنَّ الْحَاجِبَ يَرُدُّ الْعَرَقَ عَنِ الْعَيْنِ وَيُفَرِّقُهُ، وَهُدْبُ الْعَيْنِ يَرُدُّ عَنْهَا وَيَصُونُهَا.

وَأَمَّا اللِّحْيَةُ فَلِأَنَّ فِيهَا جَمَالًا كَامِلًا؛ لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «إِنَّ مَلَائِكَةَ سَمَاءِ الدُّنْيَا تَقُولُ: سُبْحَانَ مَنْ زَيَّنَ الرِّجَالَ بِاللِّحَى وَالنِّسَاءَ بِالذَّوَائِبِ.»

وَعَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ أَوْجَبَ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ إِذَا حُلِقَ فَلَمْ يَنْبُتْ دِيَةً كَامِلَةً.وَنَقَلَ الْمُوصِلِيُّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيِّ قَوْلَهُ: إِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي اللِّحْيَةِ إِذَا كَانَتْ كَامِلَةً يَتَجَمَّلُ بِهَا.أَمَّا إِذَا كَانَتْ طَاقَاتٍ مُتَفَرِّقَةً لَا يَتَجَمَّلُ بِهَا فَلَا شَيْءَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَفَرِّقَةٍ وَلَا يَتَجَمَّلُ بِهَا وَلَيْسَتِ الْجِنَايَةُ عَلَيْهَا مِمَّا تَشِينُهَا فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الشُّعُورِ إِلاَّ بِذَهَابِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُرْجَى عَوْدُهُ مِثْلَ أَنْ يَقْلِبَ عَلَى رَأْسِهِ مَاءً حَارًّا فَيَتْلَفَ مَنْبَتُ الشَّعْرِ، فَيَنْقَلِعَ بِالْكُلِّيَّةِ بِحَيْثُ لَا يَعُودُ، وَإِنْ رُجِيَ عَوْدُهُ إِلَى مُدَّةٍ انْتُظِرَ إِلَيْهَا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: لَا يَجِبُ فِي إِتْلَافِ الشُّعُورِ غَيْرُ الْحُكُومَةِ؛ لِأَنَّهُ إِتْلَافُ جَمَالٍ مِنْ غَيْرِ الْمَنْفَعَةِ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ غَيْرُ الْحُكُومَةِ، كَإِتْلَافِ الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ وَالْيَدِ الشَّلاَّءِ.

الشُّفْرَانِ:

51- الشُّفْرَانِ بِالضَّمِّ هُمَا اللَّحْمَانِ الْمُحِيطَانِ بِفَرْجِ الْمَرْأَةِ الْمُغَطِّيَانِ لَهُ، وَفِي قَطْعِهِمَا أَوْ إِتْلَافِهِمَا إِنْ بَدَا الْعَظْمُ مِنْ فَرْجِهَا الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ، وَفِي إِتْلَافِ أَوْ قَطْعِ أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَضَى فِي شُفْرَيِ الْمَرْأَةِ بِالدِّيَةِ.وَلِأَنَّ فِيهِمَا جَمَالًا وَمَنْفَعَةً مَقْصُودَةً، إِذْ بِهِمَا يَقَعُ الِالْتِذَاذُ بِالْجِمَاعِ.وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنِ الرَّتْقَاءِ وَالْقَرْنَاءِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَا بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ، وَالْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَلَمْ نَجِدْ فِيمَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ كَلَامًا فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ.

الْأَعْضَاءُ الَّتِي فِي الْبَدَنِ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ:

أَشْفَارُ الْعَيْنَيْنِ وَأَهْدَابُهُمَا:

52- الْأَشْفَارُ هِيَ حُرُوفُ الْعَيْنِ الَّتِي يَنْبُتُ عَلَيْهَا الشَّعْرُ، وَالشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَيْهَا هُوَ الْهُدْبُ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ فِي قَطْعِ أَوْ قَلْعِ أَشْفَارِ الْعَيْنَيْنِ الْأَرْبَعَةِ دِيَةً كَامِلَةً، وَفِي أَحَدِهَا رُبْعَ الدِّيَةِ، وَهَذَا إِذَا أُتْلِفَتْ بِالْكُلِّيَّةِ بِحَيْثُ لَا يُرْجَى عَوْدُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهَا الْجَمَالُ عَلَى الْكَمَالِ، وَتَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَنْفَعَةُ وَهِيَ دَفْعُ الْأَذَى وَالْقَذَى عَنِ الْعَيْنِ، وَتَفْوِيتُ ذَلِكَ يُنْقصُ الْبَصَرَ، وَيُورِثُ الْعَمَى، فَإِذَا وَجَبَ فِي الْكُلِّ الدِّيَةُ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ وَجَبَ فِي الْوَاحِدِ مِنْهَا رُبْعُ الدِّيَةِ، وَفِي الِاثْنَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الثَّلَاثَةِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ.

وَلَوْ قَطَعَ أَوْ قَلَعَ الْجُفُونَ مَعَ الْأَهْدَابِ وَالْأَشْفَارِ تَجِبُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَشْفَارَ مَعَ الْجُفُونِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ كَالْمَارِنِ مَعَ الْقَصَبَةِ.

وَلَوْ قَلَعَ أَوْ قَطَعَ الْأَهْدَابَ وَحْدَهَا دُونَ الْأَشْفَارِ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ تَجِبُ فِيهَا دِيَةُ مِثْلِ قَطْعِ الْأَشْفَارِ؛ لِأَنَّ فِيهَا جَمَالًا وَنَفْعًا، فَإِنَّهَا تَقِي الْعَيْنَيْنِ وَتَرُدُّ عَنْهُمَا، وَتُجَمِّلُهُمَا تُحَسِّنُهُمَا، فَوَجَبَتْ فِيهَا الدِّيَةُ كَمَا تَجِبُ فِي حَلَمَتَيِ الثَّدْيِ وَالْأَصَابِعِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: فِي قَطْعِ الْأَهْدَابِ وَحْدَهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ كَسَائِرِ الشُّعُورِ؛ لِأَنَّ الْفَائِتَ بِقَطْعِهَا الزِّينَةُ وَالْجَمَالُ دُونَ الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ وَهَذَا إِذَا فَسَدَ مَنْبَتُهَا، وَإِلاَّ فَالتَّعْزِيرُ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: لَا دِيَةَ فِي قَلْعِ أَشْفَارِ الْعَيْنَيْنِ، وَلَا فِي أَهْدَابِهِمَا، بَلْ تَجِبُ فِيهِمَا حُكُومَةُ عَدْلٍ مُطْلَقًا، قَالَ الْمَوَّاقُ نَقْلًا عَنِ الْمُدَوَّنَةِ: لَيْسَ فِي أَشْفَارِ الْعَيْنِ وَجُفُونِهَا إِلاَّ الِاجْتِهَادُ.أَيْ حُكُومَةُ عَدْلٍ.

مَا فِي الْبَدَنِ مِنْهُ عَشَرَةٌ:

أَصَابِعُ الْيَدَيْنِ وَأَصَابِعُ الرِّجْلَيْنِ:

53- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ فِي قَطْعِ أَوْ قَلْعِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ الْعَشَرَةِ دِيَةً كَامِلَةً، وَكَذَلِكَ فِي قَطْعِ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ، وَفِي قَطْعِ كُلِّ أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ أَوِ الرِّجْلَيْنِ عُشْرُ الدِّيَةِ أَيْ عَشَرَةٌ مِنَ الْإِبِلِ؛ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ».وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «دِيَةُ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ لِكُلِّ أُصْبُعٍ» وَلِأَنَّ فِي قَطْعِ الْكُلِّ تَفْوِيتَ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ أَوِ الْمَشْيِ، فَتَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَأَصَابِعُ كُلٍّ مِنَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ عَشْرٌ، فَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ عُشْرُ الدِّيَةِ، وَدِيَةُ كُلِّ أُصْبُعٍ مَقْسُومَةٌ عَلَى أَنَامِلِهَا (سُلَامِيَّاتِهَا)، وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ ثَلَاثُ أَنَامِلَ إِلاَّ الْإِبْهَامَ فَإِنَّهَا أُنْمُلَتَانِ.وَعَلَى ذَلِكَ فَفِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ مِنَ الْأَصَابِعِ غَيْرِ الْإِبْهَامِ ثُلُثُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَبْعِرَةٍ وَثُلُثٌ، وَفِي الْإِبْهَامِ فِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ وَهُوَ خَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ، وَالْأَصَابِعُ كُلُّهَا سَوَاءٌ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ.

أَمَّا الْأُصْبُعُ الزَّائِدَةُ فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ)؛ لِعَدَمِ وُرُودِ النَّصِّ فِيهَا، وَالتَّقْدِيرُ لَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِلاَّ بِالتَّوْقِيفِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: فِي إِتْلَافِ الْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ فِي يَدٍ أَوْ رِجْلٍ إِذَا كَانَتْ قَوِيَّةً عَلَى التَّصَرُّفِ قُوَّةَ الْأَصَابِعِ الْأَصْلِيَّةِ عُشْرُ الدِّيَةِ إِنْ أُفْرِدَتْ بِالْإِتْلَافِ، وَإِنْ قُطِعَتْ مَعَ الْأَصَابِعِ الْأَصْلِيَّةِ فَلَا شَيْءَ فِيهَا.

وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ- رضي الله عنه- أَنَّ فِيهَا ثُلُثَ دِيَةِ الْأُصْبُعِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى رِوَايَةِ إِيجَابِ الثُّلُثِ فِي الْيَدِ الشَّلاَّءِ.

مَا فِي الْبَدَنِ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةٍ: دِيَةُ الْأَسْنَانِ:

54- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ فِي كُلِّ سِنٍّ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَهُوَ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ أَوْ خَمْسُونَ دِينَارًا؛ لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ».وَالْأَسْنَانُ كُلُّهَا سَوَاءٌ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ: «وَالْأَسْنَانُ كُلُّهَا سَوَاءٌ» وَلِأَنَّ الْكُلَّ فِي أَصْلِ الْمَنْفَعَةِ سَوَاءٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ التَّفَاوُتُ فِيهِ، كَالْأَيْدِي وَالْأَصَابِعِ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا زِيَادَةُ مَنْفَعَةٍ فَفِي الْآخَرِ زِيَادَةُ جَمَالٍ.

وَعَلَى ذَلِكَ تَزِيدُ دِيَةُ الْأَسْنَانِ كُلِّهَا عَلَى دِيَةِ النَّفْسِ بِثَلَاثَةِ أَخْمَاسِ الدِّيَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ سِنًّا، فَإِذَا وَجَبَ فِي الْوَاحِدَةِ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ يَجِبُ فِي الْكُلِّ مِائَةٌ وَسِتُّونَ مِنَ الْإِبِلِ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَزِيدُ عَلَى دِيَةٍ إِنْ اتَّحَدَ الْجَانِي وَاتَّحَدَتِ الْجِنَايَةُ، كَأَنْ أَسْقَطَهَا بِشُرْبِ دَوَاءٍ أَوْ بِضَرْبٍ أَوْ ضَرَبَاتٍ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ انْدِمَالٍ؛ لِأَنَّ الْأَسْنَانَ جِنْسٌ مُتَعَدِّدٌ فَأَشْبَهَ الْأَصَابِعَ، فَإِنْ تَخَلَّلَ الِانْدِمَالُ بَيْنَ كُلِّ سِنٍّ وَأُخْرَى أَوْ تَعَدَّدَ الْجَانِي فَإِنَّهَا تَزِيدُ قَطْعًا.وَهَذَا فِي قَلْعِ الْأَسْنَانِ الْأَصْلِيَّةِ الْمَثْغُورَةِ (الدَّائِمَةِ).وَلَوْ ضَرَبَ أَسْنَانَ رَجُلٍ فَتَحَرَّكَتْ أَوْ تَغَيَّرَتْ إِلَى السَّوَادِ أَوِ الْحُمْرَةِ أَوِ الْخُضْرَةِ أَوْ نَحْوِهَا فَفِيهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ:

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ ضَرَبَ أَسْنَانَ رَجُلٍ وَتَحَرَّكَتْ يَنْتَظِرُ مُضِيَّ حَوْلٍ؛ لِأَنَّهُ مُدَّةٌ يَظْهَرُ فِيهَا حَقِيقَةُ حَالِهَا مِنَ السُّقُوطِ وَالتَّغَيُّرِ وَالثُّبُوتِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَضْرُوبُ صَغِيرًا أَمْ كَبِيرًا، فَإِنْ تَغَيَّرَتْ إِلَى السَّوَادِ أَوْ إِلَى الْحُمْرَةِ أَوْ إِلَى الْخُضْرَةِ فَفِيهَا الْأَرْشُ تَامًّا؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهَا، وَذَهَابُ مَنْفَعَةِ الْعُضْوِ كَذَهَابِ الْعُضْوِ، وَإِنْ كَانَ التَّغَيُّرُ إِلَى الصُّفْرَةِ فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الْأَسْنَانِ بِقَلْعٍ أَوِ اسْوِدَادٍ أَوْ بِهِمَا، أَوْ بِحُمْرَةٍ بَعْدَ بَيَاضٍ، أَوْ بِصُفْرَةٍ إِنْ كَانَا عُرِفَا كَالسَّوَادِ فِي إِذْهَابِ الْجَمَالِ، وَإِلاَّ فَعَلَى حِسَابِ مَا نَقَصَ، كَمَا تَجِبُ الدِّيَةُ بِاضْطِرَابِهَا جِدًّا بِحَيْثُ لَا يُرْجَى ثُبُوتُهَا، وَفِي الِاضْطِرَابِ الْخَفِيفِ الْأَرْشُ بِقَدْرِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تَكْمُلُ دِيَةُ السِّنِّ بِقَلْعِ كُلِّ سِنٍّ أَصْلِيَّةٍ تَامَّةٍ مَثْغُورَةٍ غَيْرِ مُتَقَلْقِلَةٍ.

فَلَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي السِّنِّ الشَّاغِيَةِ وَتَجِبُ فِيهَا حُكُومَةٌ، وَلَوْ سَقَطَتْ سِنُّهُ فَاتَّخَذَ سِنًّا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ عَظْمٍ طَاهِرٍ فَلَا دِيَةَ فِي قَلْعِهَا، وَإِنْ قُلِعَتْ قَبْلَ الِالْتِحَامِ لَمْ تَجِبِ الْحُكُومَةُ لَكِنْ يُعَزَّرُ الْقَالِعُ، وَإِنْ قُلِعَتْ بَعْدَ تَشَبُّثِ اللَّحْمِ بِهَا وَاسْتِعْدَادِهَا لِلْمَضْغِ وَالْقَطْعِ فَلَا حُكُومَةَ أَيْضًا عَلَى الْأَظْهَرِ، وَتَكْمُلُ دِيَةُ السِّنِّ بِكَسْرِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَإِنْ بَقِيَ السِّنْخُ بِحَالِهِ.وَلَوْ قَلَعَ السِّنَّ مِنَ السِّنْخِ وَجَبَ أَرْشُ السِّنِّ فَقَطْ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنْ قَلَعَ سِنَّ صَغِيرٍ لَمْ يُثْغِرْ يُنْتَظَرُ عَوْدُهَا، فَإِنْ عَادَتْ فَلَا دِيَةَ وَتَجِبُ الْحُكُومَةُ إِنْ بَقِيَ شَيْنٌ.وَإِنْ مَضَتِ الْمُدَّةُ الَّتِي يُتَوَقَّعُ فِيهَا الْعَوْدُ وَلَمْ تَعُدْ وَفَسَدَ الْمَنْبَتُ تَجِبُ الدِّيَةُ.وَإِنْ قَلَعَ سِنًّا وَكَانَتْ مُتَقَلْقِلَةً (مُتَحَرِّكَةً) فَإِنْ كَانَ بِهَا اضْطِرَابٌ شَدِيدٌ بِهَرَمٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِمَا وَبَطَلَتْ مَنْفَعَتُهَا فَفِيهَا الْحُكُومَةُ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَحَرِّكَةً حَرَكَةً يَسِيرَةً لَا تُنْقِصُ الْمَنَافِعَ فَلَا أَثَرَ لَهَا وَتَجِبُ الدِّيَةُ.

وَلَوْ تَزَلْزَلَتْ سِنٌّ صَحِيحَةٌ بِجِنَايَةٍ ثُمَّ سَقَطَتْ بَعْدَهَا لَزِمَ الْأَرْشُ، وَإِنْ ثَبَتَتْ وَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: فِي كُلِّ سِنٍّ مِمَّنْ قَدْ أَثْغَرَ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ سَوَاءٌ أُقْلِعَتْ بِسَخَنِهَا أَوْ قَطَعَ الظَّاهِرَ مِنْهَا فَقَطْ، وَسَوَاءٌ أَقَلَعَهَا فِي دَفْعَةٍ أَوْ دَفَعَاتٍ، وَإِنْ قَلَعَ مِنْهَا السِّنْخَ فَقَطْ فَفِيهِ حُكُومَةٌ، وَلَا يَجِبُ بِقَلْعِ سِنِّ الصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يُثْغِرْ شَيْءٌ فِي الْحَالِ، لَكِنْ يُنْتَظَرُ عَوْدُهَا، فَإِنْ مَضَتْ مُدَّةٌ يَحْصُلُ بِهَا الْيَأْسُ مِنْ عَوْدِهَا وَجَبَتْ دِيَتُهَا، وَإِنْ عَادَتْ فَصِيرَةً أَوْ شَوْهَاءَ أَوْ أَطْوَلَ مِنْ أَخَوَاتِهَا أَوْ صَفْرَاءَ أَوْ حَمْرَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ، أَوْ خَضْرَاءَ فَحُكُومَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَذْهَبْ بِمَنْفَعَتِهَا فَلَمْ تَجِبْ دِيَتُهَا، وَوَجَبَتِ الْحُكُومَةُ لِنَقْصِهَا، وَإِنْ جَعَلَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَكَانَ السِّنِّ الْمَقْلُوعَةِ سِنًّا أُخْرَى فَثَبَتَتْ لَمْ يُسْقِطْ دِيَةَ الْمَقْلُوعَةِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَجْعَلْ مَكَانَهَا شَيْئًا.ثُمَّ إِنْ قُلِعَتِ السِّنُّ الْمَجْعُولَةُ فَفِيهَا حُكُومَةٌ لِلنَّقْصِ، وَإِنْ قَلَعَ سِنَّهُ فَرَدَّهُ فَالْتَحَمَ فَلَهُ أَرْشُ نَقْصِهِ فَقَطْ وَهُوَ حُكُومَةٌ، ثُمَّ إِنْ أَبَانَهَا أَجْنَبِيٌّ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَبَتْ دِيَتُهَا كَمَا لَوْ لَمْ تَتَقَدَّمْ جِنَايَةٌ عَلَيْهَا.

دِيَةُ الْمَعَانِي وَالْمَنَافِعِ:

55- الْأَصْلُ فِي دِيَةِ الْمَعَانِي- فَضْلًا عَمَّا وَرَدَ فِي بَعْضِهَا مِنْ نُصُوصٍ- أَنَّهُ إِذَا فَوَّتَ جِنْسَ مَنْفَعَةٍ عَلَى الْكَمَالِ، أَوْ أَزَالَ جَمَالًا مَقْصُودًا فِي الْآدَمِيِّ عَلَى الْكَمَالِ يَجِبُ كُلُّ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِتْلَافَ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ، إِذِ النَّفْسُ لَا تَبْقَى مُنْتَفَعًا بِهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِتْلَافُ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ مُلْحَقٌ بِالْإِتْلَافِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي الْآدَمِيِّ تَعْظِيمًا لَهُ.

وَهَذَا الْأَصْلُ كَمَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَعْضَاءِ مُطَبَّقٌ كَذَلِكَ فِي إِذْهَابِ الْمَعَانِي وَالْمَنَافِعِ مِنَ الْأَعْضَاءِ وَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فِي الظَّاهِرِ.وَمِمَّا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ مِنَ الْمَعَانِي الْعَقْلُ وَالنُّطْقُ وَقُوَّةُ الْجِمَاعِ وَالْإِمْنَاءُ فِي الذَّكَرِ وَالْحَبَلُ فِي الْمَرْأَةِ، وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالشَّمُّ وَالذَّوْقُ وَاللَّمْسُ.

وَهَذَا إِذَا أُتْلِفَتِ الْمَعَانِي دُونَ إِتْلَافِ الْأَعْضَاءِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَيْهَا.فَإِنْ تَلِفَ الْعُضْوُ وَالْمَنْفَعَةُ مَعًا فَفِي ذَلِكَ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ.وَإِنْ أَتْلَفَهُمَا بِجِنَايَتَيْنِ مُنْفَرِدَتَيْنِ تَخَلَّلَهُمَا الْبُرْءُ فَدِيَةُ كُلِّ عُضْوٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ بِحَسَبِ الْحَالَةِ.

وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ- الْعَقْلُ:

56- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ فِي إِذْهَابِ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ الْمَعَانِي قَدْرًا وَأَعْظَمِهَا نَفْعًا، فَإِنَّ بِهِ يَتَمَيَّزُ الْإِنْسَانُ وَيَعْرِفُ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ، وَيَهْتَدِي إِلَى مَصَالِحِهِ، وَيَتَّقِي مَا يَضُرُّهُ، وَيَدْخُلُ فِي التَّكْلِيفِ.وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «وَفِي الْعَقْلِ الدِّيَةُ.»

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ أَذْهَبَ عَقْلَهُ تَمَامًا بِالضَّرْبِ وَغَيْرِهِ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ، وَإِنْ نَقَصَ عَقْلُهُ نَقْصًا مَعْلُومًا بِالزَّمَانِ وَغَيْرِهِ، مِثْلَ إِنْ صَارَ يَجِنُّ يَوْمًا وَيُفِيقُ يَوْمًا فَعَلَيْهِ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مِثْلَ أَنْ صَارَ مَدْهُوشًا، أَوْ يَفْزَعُ مِمَّا لَا يُفْزَعُ مِنْهُ وَيَسْتَوْحِشُ إِذَا خَلَا، فَهَذَا لَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهُ، فَتَجِبُ فِيهِ حُكُومَةٌ.

وَمِثْلُهُ مَا فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.

وَتَقْدِيرُ الْجِنَايَةِ يَكُونُ بِتَقْدِيرِ الْقَاضِي مُسْتَعِينًا بِقَوْلِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ.

ب- قُوَّةُ النُّطْقِ:

57- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ فِي إِذْهَابِ قُوَّةِ النُّطْقِ دِيَةً فَإِذَا فَعَلَ بِلِسَانِهِ مَا يُعْجِزُهُ عَنِ النُّطْقِ بِالْكَمَالِ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ، وَإِنْ عَجَزَ عَجْزًا جُزْئِيًّا بِأَنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى نُطْقِ بَعْضِ الْحُرُوفِ دُونَ بَعْضِهَا فَالدِّيَةُ تُقْسَمُ بِحِسَابِ الْحُرُوفِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَسَمَ الدِّيَةَ عَلَى الْحُرُوفِ، فَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُرُوفِ أُسْقِطَ بِحِسَابِهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَمَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ أَلْزَمَهُ بِحِسَابِهِ مِنْهَا.

وَقِيلَ: تُوَزَّعُ الدِّيَةُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاللِّسَانِ دُونَ حُرُوفِ الْحَلْقِ السِّتَّةِ وَالْحُرُوفِ الشَّفَوِيَّةِ الْخَمْسَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي دِيَةِ اللِّسَانِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ يُقَدَّرُ نَقْصُ النُّطْقِ بِالْكَلَامِ اجْتِهَادًا مِنَ الْعَارِفِينَ، لَا بِقَدْرِ الْحُرُوفِ، لِاخْتِلَافِهَا بِالْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ.

وَتَجِبُ هَذِهِ الدِّيَةُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى النُّطْقِ، وَإِنْ كَانَ اللِّسَانُ بَاقِيًا.

ج- قُوَّةُ الذَّوْقِ:

58- الذَّوْقُ قُوَّةٌ مُثَبَّتَةٌ فِي الْعَصَبِ الْمَفْرُوشِ عَلَى جُرْمِ اللِّسَانِ، تُدْرَكُ بِهِ الطُّعُومُ لِمُخَالَطَةِ الرُّطُوبَةِ اللُّعَابِيَّةِ الَّتِي فِي الْفَمِ، وَوُصُولِهَا إِلَى الْعَصَبِ.

وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي إِتْلَافِ حَاسَّةِ الذَّوْقِ، وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِ فَأَذْهَبَ كَلَامَهُ وَذَوْقَهُ مَعًا فَعَلَيْهِ دِيَتَانِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ فِي الْإِنْسَانِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: يَبْطُلُ الذَّوْقُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى اللِّسَانِ أَوِ الرَّقَبَةِ أَوْ نَحْوِهِمَا.وَالْمُدْرَكُ بِالذَّوْقِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ: الْحَلَاوَةُ وَالْحُمُوضَةُ وَالْمَرَارَةُ وَالْمُلُوحَةُ وَالْعُذُوبَةُ.وَالدِّيَةُ تَتَوَزَّعُ عَلَيْهَا.

فَإِذَا أَبْطَلَ إِدْرَاكَ وَاحِدَةٍ وَجَبَ خُمُسُ الدِّيَةِ، وَإِذَا أَبْطَلَ إِدْرَاكَ اثْنَتَيْنِ وَجَبَ خُمُسَا الدِّيَةِ وَهَكَذَا.وَلَوْ نَقَصَ الْإِحْسَاسَ فَلَمْ يُدْرِكِ الطُّعُومَ عَلَى كَمَالِهَا فَالْوَاجِبُ الْحُكُومَةُ.

د- السَّمْعُ وَالْبَصَرُ:

59- تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي إِذْهَابِ قُوَّةِ السَّمْعِ أَوْ قُوَّةِ الْبَصَرِ إِذَا ذَهَبَتِ الْمَنْفَعَةُ بِتَمَامِهَا، عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.وَلَوْ أَذْهَبَ الْبَصَرَ مِنْ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ أَوِ السَّمْعَ مِنْ إِحْدَى الْأُذُنَيْنِ فَفِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ.أَمَّا لَوْ أَذْهَبَ بَعْضَ الْبَصَرِ أَوْ بَعْضَ السَّمْعِ مِنْ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ أَوِ الْأُذُنَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا، فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ بِحِسَابِ مَا ذَهَبَ إِنْ كَانَ مُنْضَبِطًا، كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: فِي نُقْصَانِ السَّمْعِ أَوِ الْبَصَرِ حُكُومَةٌ مُطْلَقًا.

وَلَوْ أَزَالَ أُذُنَيْهِ وَسَمْعَهُ تَجِبُ دِيَتَانِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ السَّمْعِ غَيْرُ مَحَلِّ الْقَطْعِ، فَالسَّمْعُ قُوَّةٌ أَوْدَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعَصَبِ الْمَفْرُوشِ فِي الصِّمَاخِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ فَقَأَ عَيْنَيْهِ فَأَذْهَبَ بَصَرَهُ فَتَجِبُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْبَصَرَ يَكُونُ بِهِمَا.

هـ- قُوَّةُ الشَّمِّ:

60- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي إِتْلَافِ الشَّمِّ كَامِلًا؛ لِأَنَّهُ حَاسَّةٌ تَخْتَصُّ بِمَنْفَعَةٍ، فَكَانَتْ فِيهِ الدِّيَةُ كَسَائِرِ الْحَوَاسِّ.

وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «وَفِي الْمَشَامِّ الدِّيَةُ».

وَإِنْ نَقَصَ الشَّمُّ بِأَنْ عَلِمَ قَدْرَ الذَّاهِبِ وَجَبَ قِسْطُهُ مِنَ الدِّيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ وَجَبَتْ حُكُومَةٌ يُقَدِّرُهَا الْحَاكِمُ بِالِاجْتِهَادِ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الشَّمِّ بَلْ فِيهِ حُكُومَةٌ.

و- اللَّمْسُ:

61- اللَّمْسُ قُوَّةٌ مُثْبَتَةٌ عَلَى سَطْحِ الْبَدَنِ تُدْرَكُ بِهِ الْحَرَارَةُ وَالْبُرُودَةُ وَالنُّعُومَةُ وَالْخُشُونَةُ وَنَحْوُهَا عِنْدَ الْمُمَاسَّةِ.وَقَدْ ذَكَرَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ فِي إِذْهَابِ هَذِهِ الْقُوَّةِ دِيَةً كَامِلَةً قِيَاسًا عَلَى الشَّمِّ.وَلَمْ نَجِدْ لِبَقِيَّةِ الْفُقَهَاءِ كَلَامًا فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ.

ز- قُوَّةُ الْجِمَاعِ وَالْإِمْنَاءِ:

62- صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى قُوَّةِ الْجِمَاعِ إِذَا عَجَزَ عَنْهُ كَامِلًا بِإِفْسَادِ إِنْعَاظِهِ، وَلَوْ مَعَ بَقَاءِ الْمَنِيِّ وَسَلَامَةِ الصُّلْبِ وَالذَّكَرِ، أَوِ انْقَطَعَ مَاؤُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِالضَّرْبِ عَلَى الصُّلْبِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصَالِحُ جَمَّةٌ، فَإِذَا فَاتَ وَجَبَ بِهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ.وَكَذَلِكَ بِانْقِطَاعِ الْمَاءِ يَفُوتُ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ مِنَ التَّوَالُدِ وَالتَّنَاسُلِ.

وَلَا تَنْدَرِجُ فِي إِتْلَافِ الْجِمَاعِ أَوِ الْإِمْنَاءِ دِيَةُ الصُّلْبِ وَإِنْ كَانَتْ قُوَّةُ الْجِمَاعِ فِيهِ كَمَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ.فَلَوْ ضَرَبَ صُلْبَهُ فَأَبْطَلَهُ وَأَبْطَلَ جِمَاعَهُ فَعَلَيْهِ دِيَتَانِ.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ إِتْلَافَ قُوَّةِ حَبَلِ الْمَرْأَةِ فَيَكْمُلُ فِيهِ دِيَتُهَا لِانْقِطَاعِ النَّسْلِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


270-موسوعة الفقه الكويتية (دين 1)

دَيْنٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- أ- الدَّيْنُ فِي اللُّغَةِ: يُقَالُ دَانَ الرَّجُلُ يَدِينُ دَيْنًا مِنْ الْمُدَايَنَةِ.وَيُقَالُ: دَايَنْتُ فُلَانًا إِذَا عَامَلْتَهُ دَيْنًا، إِمَّا أَخْذًا أَوْ عَطَاءً.مِنْ أَدَنْتُ: أَقْرَضْتُ وَأَعْطَيْتُ دَيْنًا.

ب- مَعْنَى الدَّيْنِ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ:

2- قِيلَ فِي مَعْنَاهُ أَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ أَوْضَحُهَا مَا قَالَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ: «الدَّيْنُ لُزُومُ حَقٍّ فِي الذِّمَّةِ».

فَيَشْمَلُ الْمَالَ وَالْحُقُوقَ غَيْرَ الْمَالِيَّةِ كَصَلَاةٍ فَائِتَةٍ وَزَكَاةٍ وَصِيَامٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا يَشْمَلُ مَا ثَبَتَ بِسَبَبِ قَرْضٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ إِتْلَافٍ أَوْ جِنَايَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْعَيْنُ:

3- يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ فِي اصْطِلَاحِهِمْ كَلِمَةَ «الْعَيْنِ» فِي مُقَابِلِ «الدَّيْنِ» بِاعْتِبَارِ أَنَّ الدَّيْنَ هُوَ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا مُشَخَّصًا، سَوَاءٌ أَكَانَ نَقْدًا أَمْ غَيْرَهُ.أَمَّا الْعَيْنُ «فَهِيَ الشَّيْءُ الْمُعَيَّنُ الْمُشَخَّصُ كَبَيْتٍ».

ب- الْكَالِئُ:

4- الْكَالِئُ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ الْمُؤَخِّرُ.وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ».وَالْمُرَادُ بِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بَيْعُ النَّسِيئَةِ بِالنَّسِيئَةِ، أَوِ الدَّيْنِ الْمُؤَخَّرِ بِالدَّيْنِ الْمُؤَخَّرِ.

ج- الْقَرْضُ:

5- الْقَرْضُ عَقْدٌ مَخْصُوصٌ يَرِدُ عَلَى دَفْعِ مَالٍ مِثْلِيٍّ لآِخَرَ لِيَرُدَّ مِثْلَهُ.وَيُطْلَقُ عَلَيْهِ أَحْيَانًا اسْمُ «دَيْنٍ» فَيُقَالُ: دَانَ فُلَانٌ يَدِينُ دَيْنًا: اسْتَقْرَضَ.وَدِنْتُ الرَّجُلَ: أَقْرَضْتُهُ.وَالْقَرْضُ أَخَصُّ مِنَ الدَّيْنِ.

مَا يَقْبَلُ الثُّبُوتَ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا مِنَ الْأَمْوَالِ:

6- عَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ الدَّيْنَ بِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ «مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ مَالٍ فِي مُعَاوَضَةٍ، أَوْ إِتْلَافٍ، أَوْ قَرْضٍ» وَهُوَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عِبَارَةٌ عَنْ «مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ مَالٍ بِسَبَبٍ يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ».وَهَذَا الْخِلَافُ فِي حَقِيقَةِ الدَّيْنِ- بِالنَّظَرِ إِلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ- لَيْسَ لَهُ أَثَرٌ عَلَى قَضِيَّةِ: أَيُّ الْأَمْوَالِ يَصِحُّ أَنْ تَثْبُتَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، وَأَيُّهَا لَا تَقْبَلُ ذَلِكَ؟ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَالَ يَنْقَسِمُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى قِسْمَيْنِ: أَعْيَانٍ وَمَنَافِعَ.أَوَّلًا: أَمَّا الْأَعْيَانُ فَهِيَ نَوْعَانِ: مِثْلِيٌّ، وَقِيَمِيٌّ.

أ- أَمَّا الْمِثْلِيُّ:

7- فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، وَمِنْ هُنَا جَازَ إِقْرَاضُهُ وَالسَّلَمُ فِيهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.فَإِذَا وَجَبَ شَيْءٌ مِنْهُ فِي الذِّمَّةِ كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ بِهِ مُتَعَلِّقَةً بِعَيْنٍ مَوْصُوفَةٍ غَيْرِ مُشَخَّصَةٍ، وَكُلُّ عَيْنٍ تَتَحَقَّقُ فِيهَا تِلْكَ الصِّفَاتُ الْمُعَيَّنَةُ يَصِحُّ لِلْمَدِينِ أَنْ يَقْضِيَ بِهَا دَيْنَهُ، وَلَيْسَ لِلدَّائِنِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ قَبُولِهَا.

ب- وَأَمَّا الْقِيَمِيُّ: فَلَهُ حَالَتَانِ:

8- الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُضْبَطُ بِالْوَصْفِ.

وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي صِحَّةِ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ.وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الِاسْتِصْنَاعِ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْقَرْضِ وَالسَّلَمِ.وَجَاءَ فِي «الْمُهَذَّبِ» لِلشِّيرَازِيِّ: «يَجُوزُ قَرْضُ كُلِّ مَالٍ يُمْلَكُ بِالْبَيْعِ وَيُضْبَطُ بِالْوَصْفِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ يَثْبُتُ الْعِوَضُ فِيهِ فِي الذِّمَّةِ، فَجَازَ فِيمَا يُمْلَكُ وَيُضْبَطُ بِالْوَصْفِ كَالسَّلَمِ».وَقَالَ: «وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِي كُلِّ مَالٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَتُضْبَطُ صِفَاتُهُ كَالْأَثْمَانِ وَالْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَالثِّيَابِ».

9- وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ لِلْقِيَمِيِّ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُضْبَطُ بِالصِّفَةِ، كَالْجَوَاهِرِ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَعَقِيقٍ وَفَيْرُوزٍ وَنَحْوِهَا مِمَّا تَخْتَلِفُ آحَادُهُ وَتَتَفَاوَتُ أَفْرَادُهُ وَلَا يَقْبَلُ الِانْضِبَاطَ بِالْأَوْصَافِ.

وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ كَوْنِ هَذَا الْمَالِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ جَعْلُهُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ انْشِغَالُ ذِمَّةِ الْمُلْتَزِمِ بِذَلِكَ الْمَالِ لَكَانَ غَيْرَ مُتَعَيِّنٍ، وَلَوَجَبَ عِنْدَئِذٍ أَنْ تَفْرُغَ الذِّمَّةُ وَيُوَفَّى الِالْتِزَامُ بِأَدَاءِ أَيِّ فَرْدٍ كَانَ مِنْ أَمْثَالِهِ، وَلَا مِثْلَ لَهُ.

وَعَلَى هَذَا شَرَطُوا فِي صِحَّةِ الْقَرْضِ وَالسَّلَمِ وَالِاسْتِصْنَاعِ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الثَّابِتُ فِي الذِّمَّةِ مُنْضَبِطًا بِالصِّفَةِ بِالْقُوَّةِ وَالْفِعْلِ؛ لِأَنَّ مَا لَا تَنْضَبِطُ صِفَاتُهُ تَخْتَلِفُ آحَادُهُ كَثِيرًا، وَذَلِكَ يُؤَدِّي فِي الْغَالِبِ إِلَى الْمُنَازَعَةِ وَالْخُصُومَةِ عِنْدَ الْوَفَاءِ، وَعَدَمُهَا مَطْلُوبٌ شَرْعًا.

وَقَدِ اسْتَثْنَى مَالِكٌ وَالْحَنَفِيَّةُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ دَيْنَ الْمَهْرِ، فَأَجَازُوا أَنْ يَكُونَ قِيَمِيًّا مَعْلُومَ الْجِنْسِ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولَ الصِّفَةِ، وَجَعَلَ مَالِكٌ لَهَا الْوَسَطَ مِمَّا سُمِّيَ إِنْ وَقَعَ النِّكَاحُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ.وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لِلزَّوْجِ الْخِيَارُ فِي أَدَاءِ الْوَسَطِ مِنْهُ أَوْ قِيمَتِهِ.وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهِ لَا تَضُرُّ، إِذِ الْمَالُ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي الزَّوَاجِ، فَيُتَسَامَحُ فِيهِ بِمَا لَا يُتَسَامَحُ بِهِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَاتِ تُبْنَى عَلَى الْمُشَاحَّةِ وَالْمُكَايَسَةِ، فَكَانَ الْجَهْلُ بِأَوْصَافِ الْعِوَضِ فِيهَا مُخِلًّا بِالْمَقْصُودِ مِنْهَا، بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُكَارَمَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنَ الصَّدَاقِ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا مُمَاثِلًا، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ الشَّارِعُ نِحْلَةً فَهُوَ كَالْهِبَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ لَا يَضُرُّ الْجَهْلُ بِهِ كَمَا لَا يَضُرُّ بِالْهِبَةِ.

(وَالْقَوْلُ الثَّانِي) لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ غَيْرُ الْأَصَحِّ، أَنَّهُ يَصِحُّ كَوْنُهُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ إِذَا كَانَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ.وَفِيمَا يَكُونُ بِهِ الْوَفَاءُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَجْهَانِ: (أَحَدُهُمَا): أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ الْمَالِيَّةِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ لِشَخْصٍ عَيْنًا مَالِيَّةً قِيَمِيَّةً، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا.قَالَ الشِّيرَازِيُّ: «لِأَنَّ مَا ضُمِنَ بِالْمِثْلِ إِذَا كَانَ لَهُ مِثْلٌ، ضُمِنَ بِالْقِيمَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ كَالْمُتْلَفَاتِ».

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِرَدِّ مِثْلِهِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ وَالْخِلْقَةُ مَعَ التَّغَاضِي عَنِ التَّفَاوُتِ الْيَسِيرِ فِي الْقِيمَةِ.

ثَانِيًا: أَمَّا الْمَنَافِعُ، وَمَدَى قَبُولِهَا لِلثُّبُوتِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ:

10- فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ تُعْتَبَرُ أَمْوَالًا بِحَدِّ ذَاتِهَا، وَأَنَّهَا تُحَازُ بِحِيَازَةِ أُصُولِهَا وَمَصَادِرِهَا، وَهِيَ الْأَعْيَانُ الْمُنْتَفَعُ بِهَا، وَلِهَذَا جَازَتْ الْمُعَاوَضَةُ عَنْهَا بِالْمَالِ فِي الْإِجَارَةِ بِشَتَّى صُوَرِهَا.كَمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ تُعْتَبَرُ صَالِحَةً لأَنْ تَثْبُتَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ إِذَا كَانَتْ مِثْلِيَّةً أَوْ قَابِلَةً لأَنْ تُضْبَطَ بِالْوَصْفِ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الْأَعْيَانِ وَلَا فَرْقَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مَنَافِعَ أَعْيَانٍ أَمْ مَنَافِعَ أَشْخَاصٍ.

وَعَلَى هَذَا نَصُّوا فِي بَابِ الْإِجَارَةِ عَلَى جَوَازِ التَّعَاقُدِ عَلَى مَنْفَعَةٍ مَوْصُوفَةٍ فِي الذِّمَّةِ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ بِالذَّاتِ، وَسَمَّوْهَا «إِجَارَةَ الذِّمَّةِ» نَظَرًا لِتَعَلُّقِ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا بِذِمَّةِ الْمُؤَجِّرِ، لَا بِأَشْيَاءَ مُعَيَّنَةٍ.كَمَا إِذَا اسْتَأْجَرَ شَخْصٌ دَابَّةً مَوْصُوفَةً لِتَحْمِلَهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ بِالْعَقْدِ تَثْبُتُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُؤَجِّرِ أَوِ الْمُكَارِي، وَعَلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَهُ مِنْ مَكَانِهِ إِلَى الْمَكَانِ الْمَطْلُوبِ عَلَى أَيَّةِ دَابَّةٍ يُحْضِرُهَا إِلَيْهِ.وَلِهَذَا لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ إِذَا هَلَكَتِ الدَّابَّةُ الَّتِي عَيَّنَهَا الْمُؤَجِّرُ أَوِ اسْتُحِقَّتْ، بَلْ يَرْجِعُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَيْهِ فَيُطَالِبُهُ بِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، بَلْ مُتَعَلِّقٌ فِي الذِّمَّةِ، وَعَلَى الْمُؤَجِّرِ الْوَفَاءُ بِتِلْكَ الْمَنْفَعَةِ بِأَيَّةِ دَابَّةٍ أُخْرَى يُحْضِرُهَا لَهُ.

وَقَدِ اعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ «إِجَارَةَ الذِّمَّةِ» سَلَمًا فِي الْمَنَافِعِ، وَلِهَذَا اشْتَرَطُوا فِي صِحَّتِهَا تَعْجِيلَ الْأُجْرَةِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي السَّلَمِ، سَوَاءٌ عُقِدَتْ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ أَوِ السَّلَمِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الشَّرْطِ الْحَنَابِلَةُ إِذَا عُقِدَتْ بِلَفْظِ السَّلَمِ، أَمَّا إِذَا عُقِدَتْ بِغَيْرِهِ، فَلَمْ يَشْتَرِطُوا تَعْجِيلَ الْأُجْرَةِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تُعْتَبَرُ أَمْوَالًا؛ لِأَنَّ الْمَالَ عِنْدَهُمْ هُوَ: «مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ طَبْعُ الْإِنْسَانِ، وَيُمْكِنُ ادِّخَارُهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ».وَالْمَنَافِعُ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْإِحْرَازِ وَالِادِّخَارِ، إِذْ هِيَ أَعْرَاضٌ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَآنًا فَآنًا، وَتَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ وَقْتِهَا وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا غَيْرُ مَا يَنْتَهِي.وَبِنَاءً عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِمُ الْمَنَافِعَ أَمْوَالًا، وَقَصْرِهِمُ الدَّيْنَ عَلَى الْمَالِ، فَإِنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَقْبَلُ الثُّبُوتَ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا وَفْقَ قَوَاعِدِ مَذْهَبِهِمْ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يُجِيزُوا فِي بَابِ الْإِجَارَةِ أَنْ يَرِدَ الْعَقْدُ عَلَى مَنْفَعَةٍ مَوْصُوفَةٍ فِي الذِّمَّةِ، وَشَرَطُوا لِصِحَّةِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ كَوْنَ الْمُؤَجَّرِ مُعَيَّنًا.

مَحَلُّ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ وَاسْتِثْنَاءَاتُهُ:

11- تَقَدَّمَ أَنَّ الدَّيْنَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ، هُوَ «مَا وَجَبَ مِنْ مَالٍ فِي الذِّمَّةِ.» وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ تَعَلُّقُهُ بِذِمَّةِ الْمَدِينِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ عِنْدَ ثُبُوتِ الدَّيْنِ أَمْ مَلَكَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَتَكُونُ جَمِيعُ أَمْوَالِهِ صَالِحَةً لِوَفَاءِ أَيِّ دَيْنٍ ثَبَتَ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ الدَّيْنُ مَانِعًا لَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي جَمِيعِ الدُّيُونِ، وَلَكِنْ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ اسْتِثْنَاءَاتٌ، حَيْثُ إِنَّ بَعْضَ الدُّيُونِ تَتَعَلَّقُ بِأَعْيَانِ الْمَدِينِ الْمَالِيَّةِ تَأْكِيدًا لِحَقِّ الدَّائِنِ وَتَوْثِيقًا لَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ:

12- أ- الدَّيْنُ الَّذِي اسْتَوْثَقَ لَهُ صَاحِبُهُ بِرَهْنٍ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ.وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا إِلاَّ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، وَيُقَدَّمُ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فِي اسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ مِنْهَا عَلَى مَنْ عَدَاهُ مِنَ الدَّائِنِينَ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ. (ر: رَهْن، تَرِكَة، إِفْلَاس).

13- ب- الدَّيْنُ الَّذِي حُجِرَ عَلَى الْمَدِينِ بِسَبَبِهِ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِأَمْوَالِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّ حَجْرَ الْمُفْلِسِ يَعْنِي «خَلْعَ الرَّجُلِ مِنْ مَالِهِ لِغُرَمَائِهِ» وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَقُّ الْغُرَمَاءِ مُتَعَلِّقًا بِمَالِهِ لَمَا كَانَ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ «وَلِأَنَّهُ يُبَاعُ مَالُهُ فِي دُيُونِهِمْ، فَكَانَتْ حُقُوقُهُمْ مُتَعَلِّقَةً بِهِ كَالرَّهْنِ».وَلَا يَخْفَى أَنَّ الدَّيْنَ هَاهُنَا إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّةِ الْأَعْيَانِ الْمَمْلُوكَةِ بِذَوَاتِهَا، بِمَعْنَى أَنَّ الْمَدِينَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ تَصَرُّفًا يَنْقُصُ مِنْ قِيمَتِهَا الْمَالِيَّةِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا أَنْ يُعَاوِضَ عَلَيْهَا بِغَبْنٍ يَلْحَقُهُ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِضْرَارِ بِحُقُوقِ الدَّائِنِينَ.وَتَصِحُّ فِيهِ الْمُبَادَلَاتُ الْمَالِيَّةُ الَّتِي لَا غَبْنَ عَلَيْهِ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا إِذَا أَخْرَجَتْ مِنْ مِلْكِهِ شَيْئًا فَقَدْ أَدْخَلَتْ فِيهِ مَا يُعَادِلُهُ، فَبَقِيَتْ قِيمَةُ الْأَمْوَالِ ثَابِتَةً.

14- ج- حُقُوقُ الدَّائِنِينَ وَالْوَرَثَةِ فِي مَالِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ، حَيْثُ إِنَّهَا تَتَعَلَّقُ فِيهِ بِمَالِ الْمَرِيضِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِذِمَّتِهِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ.وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ مَرَضَ الْمَوْتِ مَرْحَلَةٌ تَتَهَيَّأُ فِيهَا شَخْصِيَّةُ الْإِنْسَانِ وَأَهْلِيَّتُهُ لِلزَّوَالِ، كَمَا أَنَّهُ مُقَدَّمَةٌ لِثُبُوتِ الْحُقُوقِ فِي أَمْوَالِ الْمَرِيضِ لِمَنْ سَتَنْتَقِلُ إِلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَمْوَالُ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ دَائِنِينَ وَوَرَثَةٍ.فَيَنْتُجُ عَنْ ذَلِكَ أَنْ تُصْبِحَ الدُّيُونُ مُتَعَلِّقَةً بِمَالِ الْمَرِيضِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِذِمَّتِهِ قَبْلَ الْمَرَضِ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ تَضْعُفُ بِالْمَرَضِ لِعَجْزِ صَاحِبِهَا عَنِ السَّعْيِ وَالِاكْتِسَابِ، فَيَتَحَوَّلُ التَّعَلُّقُ مِنْ ذِمَّتِهِ- مَعَ بَقَائِهَا- إِلَى مَالِهِ تَوْثِيقًا لِلدَّيْنِ، وَتَتَقَيَّدُ تَصَرُّفَاتُهُ بِمَا لَا يَضُرُّ بِحُقُوقِ الدَّائِنِينَ.كَمَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ لِيَخْلُصَ لَهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ تَمَلُّكُ الثُّلُثَيْنِ مِمَّا يَبْقَى بَعْدَ سَدَادِ الدُّيُونِ إِنْ كَانَتْ هُنَاكَ دُيُونٌ، فَتَتَقَيَّدُ تَصَرُّفَاتُهُ أَيْضًا بِمَا لَا يَضُرُّ بِحُقُوقِ الْوَرَثَةِ.

أَمَّا الثُّلُثُ فَقَدْ جَعَلَهُ الشَّارِعُ حَقًّا لِلْمَرِيضِ يُنْفِقُهُ فِيمَا يَرَى مِنْ سُبُلِ الْخَيْرِ وَنَحْوِهَا، سَوَاءٌ بِالتَّبَرُّعِ الْمُنْجَزِ حَالَ الْمَرَضِ، أَوْ بِالْوَصِيَّةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

15- عَلَى أَنَّ هُنَاكَ فَرْقًا بَيْنَ تَعَلُّقِ حَقِّ الدَّائِنِينَ وَتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَالِ الْمَرِيضِ، وَهَذَا الْفَرْقُ يَئُولُ إِلَى أَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَقَّ الدَّائِنِينَ يَتَعَلَّقُ بِمَالِ الْمَرِيضِ مَعْنًى لَا صُورَةً، أَيْ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِذَاتِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَمْلِكُهَا، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمِقْدَارِ مَا فِيهَا مِنْ مَالِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ تَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِمَالِهِ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنِ اسْتِيفَاءِ دُيُونِهِمْ.

أَمَّا تَعَلُّقُ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَالِ الْمَرِيضِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ هَلْ يَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّتِهِ أَمْ بِعَيْنِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: - فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَابْنُ أَبِي يَعْلَى وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ كَحَقِّ الْغُرَمَاءِ يَتَعَلَّقُ بِمَالِ الْمَرِيضِ مَعْنًى لَا صُورَةً، فَيَصِحُّ بَيْعُ الْمَرِيضِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ لِلْأَجْنَبِيِّ وَلِلْوَارِثِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي تَصَرُّفِهِ إِبْطَالٌ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّهُمْ وَهُوَ الْمَالِيَّةُ، فَكَانَ الْوَارِثُ وَالْأَجْنَبِيُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءً.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ تَارَةً بِالصُّورَةِ وَالْمَعْنَى، وَتَارَةً أُخْرَى بِالْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ، فَإِذَا كَانَ تَصَرُّفُ الْمَرِيضِ مَعَ غَيْرِ وَارِثٍ كَانَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِالْمَالِيَّةِ، فَيَصِحُّ بَيْعُهُ لِلْأَجْنَبِيِّ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ لَا بِأَقَلَّ.وَإِذَا كَانَ تَصَرُّفُهُ مَعَ وَارِثٍ كَانَ حَقُّهُمْ مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ وَالْمَالِيَّةِ، فَلَيْسَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يُؤْثِرَ أَحَدًا مِنْ وَرَثَتِهِ بِعَيْنٍ مِنْ مَالِهِ وَلَوْ بِالْبَيْعِ لَهُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، إِذِ الْإِيثَارُ كَمَا يَكُونُ بِالتَّبَرُّعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، يَكُونُ بِأَنْ يَخُصَّهُ بِأَعْيَانٍ يَخْتَارُهَا لَهُ مِنْ مَالِهِ، وَلَوْ كَانَ الْبَدَلُ مِثْلَ قِيمَتِهَا.

وَالْفَرْقُ الثَّانِي بَيْنَ تَعَلُّقِ حَقِّ الدَّائِنِينَ بِمَالِ الْمَرِيضِ وَبَيْنَ تَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ أَنَّ حَقَّ الدَّائِنِينَ فِي التَّعَلُّقِ بِمَالِ الْمَرِيضِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّ وَفَاءَ الدَّيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى تَوْزِيعِ الْمِيرَاثِ، فَيَتَعَلَّقُ حَقُّ الدَّائِنِينَ بِجَمِيعِ مَالِهِ إِنْ كَانَتْ دُيُونُهُمْ مُسْتَغْرَقَةً، فِي حِينِ لَا يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثَيِ التَّرِكَةِ بَعْدَ وَفَاءِ الدُّيُونِ؛ لِأَنَّ لِلْمَرِيضِ حَقَّ التَّصَرُّفِ فِي ثُلُثِ مَالِهِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُنْجَزًا أَمْ مُضَافًا إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَيَأْخُذُ تَبَرُّعُهُ هَذَا حُكْمَ الْوَصِيَّةِ.

16- د- مَا يُنْفَقُ فِي سَبِيلِ تَسْدِيدِ الدُّيُونِ الْمُحِيطَةِ بِأَمْوَالِ الْمَدِينِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عِنْدَ بَيْعِ أَمْوَالِهِ لِلْوَفَاءِ بِدُيُونِهِ كَأُجْرَةِ الْمُنَادِي وَالْكَيَّالِ وَالْحَمَّالِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمُؤَنِ، فَإِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِأَمْوَالِ الْمَدِينِ، وَيُقَدَّمُ الْوَفَاءُ بِهَا عَلَى سَائِرِ الدُّيُونِ الْمُطْلَقَةِ.

17- هـ- دَيْنُ مُشْتَرِي الْمَتَاعِ الَّذِي بَاعَهُ الْحَاكِمُ مِنْ أَمْوَالِ الْمَدِينِ الْمُفْلِسِ إِذَا ظَهَرَ مُسْتَحَقًّا وَتَلِفَ الثَّمَنُ الْمَقْبُوضُ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِمَالِ الْمَدِينِ، وَيُقَدَّمُ بَدَلُ الثَّمَنِ الَّذِي دَفَعَهُ عَلَى بَاقِي الْغُرَمَاءِ، وَلَا يُضَارِبُ بِهِ مَعَهُمْ لِئَلاَّ يَرْغَبَ النَّاسُ عَنْ شِرَاءِ مَالِ الْمُفْلِسِ.

18- و- الدَّيْنُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الصَّانِعُ كَصَائِغٍ وَنَسَّاجٍ وَخَيَّاطٍ أُجْرَةً عَلَى عَمَلِهِ إِذَا أَفْلَسَ صَاحِبُهُ، وَالْعَيْنُ بِيَدِ الصَّانِعِ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِمَا فِي يَدِهِ مِنْ مَتَاعِهِ، وَيُقَدَّمُ بِهِ عَلَى سَائِرِ الْغُرَمَاءِ.

جَاءَ فِي «الْمُدَوَّنَةِ»: «إِذَا أَفْلَسَ الرَّجُلُ وَلَهُ حُلِيٌّ عِنْدَ صَائِغٍ قَدْ صَاغَهُ لَهُ، كَانَ هُوَ أَوْلَى بِأَجْرِهِ، وَلَمْ يُحَاصَّهُ الْغُرَمَاءُ، بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ فِي يَدَيْهِ»، «وَكُلُّ ذِي صَنْعَةٍ مِثْلُ الْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ وَالصَّائِغِ وَمَا أَشْبَهَهُمْ مِنْهُمْ أَحَقُّ بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْغُرَمَاءِ فِي الْمَوْتِ وَالتَّفْلِيسِ جَمِيعًا، وَكُلُّ مَنْ تُكُورِيَ عَلَى حَمْلِ مَتَاعٍ فَحَمَلَهُ إِلَى بَلَدٍ مِنَ الْبُلْدَانِ، فَالْمُكْرَى أَحَقُّ بِمَا فِي يَدَيْهِ مِنَ الْغُرَمَاءِ فِي الْمَوْتِ وَالتَّفْلِيسِ جَمِيعًا».

19- ز- دَيْنُ الْكِرَاءِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ الْمُؤَجَّرَةِ إِذَا أَفْلَسَ الْمُسْتَأْجِرُ بَعْدَمَا زَرَعَهَا، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالزَّرْعِ، وَيُقَدَّمُ بِهِ عَلَى سَائِرِ غُرَمَاءِ الْمُسْتَأْجِرِ.قَالَ التَّسَوُّلِيُّ: «لِأَنَّ الزَّرْعَ كَرَهْنٍ بِيَدِهِ فِي كِرَائِهَا، فَيُبَاعُ وَيُؤْخَذُ الْكِرَاءُ مِنْ ثَمَنِهِ».وَكَذَا «كُلُّ مَنِ اسْتُؤْجِرَ فِي زَرْعٍ أَوْ نَخْلٍ أَوْ أَصْلٍ يَسْقِيهِ، فَسَقَاهُ ثُمَّ فَلَّسَ صَاحِبُهُ، فَسَاقِيهِ أَوْلَى بِهِ مِنَ الْغُرَمَاءِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ».

20- ح- الدَّيْنُ الْوَاجِبُ عَلَى مَنْ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ مَالًا، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ كَتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِالْمَرْهُونِ.

وَقَدْ أَثْبَتَ الشَّارِعُ هَذَا التَّعَلُّقَ لِمَصْلَحَةِ الْمَيِّتِ كَيْ تَبْرَأَ ذِمَّتُهُ «فَاللاَّئِقُ بِهِ أَلاَّ يُسَلَّطَ الْوَارِثُ عَلَيْهِ».

21- ط- الدَّيْنُ الَّذِي يَكُونُ لِلْمُسْتَأْجِرِ الَّذِي عَجَّلَ الْأُجْرَةَ وَتَسَلَّمَ الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ، إِذَا فُسِخَتْ الْإِجَارَةُ قَبْلَ انْتِهَاءِ مُدَّتِهَا لِمَوْتِ الْمُؤَجِّرِ، فَإِنَّ مَا يُقَابِلُ الْمُدَّةَ الْبَاقِيَةَ مِنَ الْأُجْرَةِ يَكُونُ دَيْنًا مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ، فَإِذَا بِيعَتِ الدُّيُونُ عَلَى مَالِكِهَا الْمُتَوَفَّى كَانَ دَيْنُ الْمُسْتَأْجِرِ مُقَدَّمًا عَلَى دُيُونِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِانْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ بِمَوْتِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: «فَإِنَّهُ إِذَا أَعْطَى الْأُجْرَةَ أَوَّلًا ثُمَّ مَاتَ الْآجِرُ صَارَتِ الدَّارُ هُنَا بِالْأُجْرَةِ».

أَسْبَابُ ثُبُوتِ الدَّيْنِ:

22- الْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْإِنْسَانِ مِنْ كُلِّ دَيْنٍ أَوِ الْتِزَامٍ أَوْ مَسْئُولِيَّةٍ مَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبٌ يُنْشِئُ ذَلِكَ وَيُلْزِمُ بِهِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ لَا بُدَّ لِثُبُوتِ أَيِّ دَيْنٍ مِنْ سَبَبٍ مُوجِبٍ يَقْتَضِيهِ.وَالْبَاحِثُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ يَجِدُ أَنَّ أَسْبَابَ وُجُوبِ الدَّيْنِ عَدِيدَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ، غَيْرَ أَنَّهُ يُمْكِنُ حَصْرُهَا فِي تِسْعَةِ أَسْبَابٍ:

23- أَحَدُهَا: الِالْتِزَامُ بِالْمَالِ: سَوَاءٌ أَكَانَ فِي عَقْدٍ يَتِمُّ بَيْنَ طَرَفَيْنِ كَالْبَيْعِ، وَالسَّلَمِ، وَالْقَرْضِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالزَّوَاجِ، وَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ، وَالْحَوَالَةِ، وَالْكَفَالَةِ بِالْمَالِ، وَالِاسْتِصْنَاعِ وَنَحْوِهَا، أَوْ كَانَ فِي الْتِزَامٍ فَرْدِيٍّ يَتِمُّ بِإِرَادَةٍ وَاحِدَةٍ كَنَذْرِ الْمَالِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَالْتِزَامِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

فَفِي الْقَرْضِ مَثَلًا يَلْتَزِمُ الْمُقْتَرِضُ أَنْ يَرُدَّ لِلْمُقْرِضِ مَبْلَغًا مِنَ النُّقُودِ، أَوْ قَدْرًا مِنْ أَمْوَالٍ مِثْلِيَّةٍ يَكُونُ قَدِ اقْتَرَضَهَا مِنْهُ، وَثَبَتَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ.

عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الدُّيُونِ الَّتِي تَثْبُتُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ لَا تَسْتَقِرُّ فِي الذِّمَّةِ بَعْدَ لُزُومِهَا إِلاَّ بِقَبْضِ الْبَدَلِ الْمُقَابِلِ لَهَا، إِذْ بِهِ يَحْصُلُ الْأَمْنُ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ بِسَبَبِ تَعَذُّرِ تَسْلِيمِهِ إِلاَّ دَيْنًا وَاحِدًا وَهُوَ دَيْنُ السَّلَمِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقَرٍّ لِاحْتِمَالِ طُرُوءِ انْقِطَاعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى انْفِسَاخِ الْعَقْدِ وَسُقُوطِ الدَّيْنِ.

وَتَعْلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ اسْتِقْرَارَ الدَّيْنِ فِي أَيِّ عَقْدٍ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ إِنَّمَا يَعْنِي الْأَمْنَ مِنْ فَسْخِ الْعَقْدِ بِسَبَبِ تَعَذُّرِ حُصُولِ الدَّيْنِ الْمَذْكُورِ؛ لِعَدَمِ وُجُودِ جِنْسِهِ وَامْتِنَاعِ الِاعْتِيَاضِ عَنْهُ.وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِدَيْنِ السَّلَمِ دُونَ بَقِيَّةِ الدُّيُونِ؛ لِجَوَازِ الِاعْتِيَاضِ عَنْهَا عِنْدَ انْقِطَاعِ جِنْسِهَا.

24- وَالثَّانِي: الْعَمَلُ غَيْرُ الْمَشْرُوعِ الْمُقْتَضِي لِثُبُوتِ دَيْنٍ عَلَى الْفَاعِلِ: كَالْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِلدِّيَةِ وَالْجِنَايَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْأَرْشِ، وَإِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ، وَكَتَعَدِّي يَدِ الْأَمَانَةِ أَوْ تَفْرِيطِهَا فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى مَا بِحَوْزَتِهِ مِنْ أَمْوَالٍ، كَتَعَمُّدِ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ إِتْلَافَ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ تَحْتَ يَدِهِ أَوْ إِهْمَالِهِ فِي حِفْظِهَا.

وَيُعَدُّ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا لَوْ «أَتْلَفَ عَلَى شَخْصٍ وَثِيقَةً تَتَضَمَّنُ دَيْنًا لَهُ عَلَى إِنْسَانٍ، وَلَزِمَ مِنْ إِتْلَافِهَا ضَيَاعُ ذَلِكَ الدَّيْنِ، فَيَلْزَمُهُ الدَّيْنُ».

25- وَالثَّالِثُ: هَلَاكُ الْمَالِ فِي يَدِ الْحَائِزِ إِذَا كَانَتْ يَدَ ضَمَانٍ، مَهْمَا كَانَ سَبَبُ الْهَلَاكِ، كَتَلَفِ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَهَلَاكِ الْمَتَاعِ فِي يَدِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ أَوِ الْقَابِضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

26- وَالرَّابِعُ: تَحَقُّقُ مَا جَعَلَهُ الشَّارِعُ مَنَاطًا لِثُبُوتِ حَقٍّ مَالِيٍّ: كَحَوَلَانِ الْحَوْلِ عَلَى النِّصَابِ فِي الزَّكَاةِ، وَاحْتِبَاسِ الْمَرْأَةِ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَحَاجَةِ الْقَرِيبِ فِي نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.فَإِذَا وُجِدَ سَبَبٌ مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ مَنْ قَضَى الشَّارِعُ بِإِلْزَامِهِ بِهِ.

27- وَالْخَامِسُ: إِيجَابُ الْإِمَامِ لِبَعْضِ التَّكَالِيفِ الْمَالِيَّةِ عَلَى الْقَادِرِينَ عَلَيْهَا لِلْوَفَاءِ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لِلْأُمَّةِ إِذَا عَجَزَ بَيْتُ الْمَالِ عَنِ الْوَفَاءِ بِهَا، أَوْ لِلْمُسَاهَمَةِ فِي إِغَاثَةِ الْمَنْكُوبِينَ وَإِعَانَةِ الْمُتَضَرِّرِينَ بِزِلْزَالٍ مُدَمِّرٍ أَوْ حَرِيقٍ شَامِلٍ أَوْ حَرْبٍ مُهْلِكَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْجَأُ النَّاسَ وَلَا يَتَّسِعُ بَيْتُ الْمَالِ لِتَحَمُّلِهِ أَوِ التَّعْوِيضِ عَنْهُ.

لَكِنْ لَا يَجُوزُ هَذَا إِلاَّ بِشُرُوطٍ:

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ تَتَعَيَّنَ الْحَاجَةُ.فَلَوْ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَا يَقُومُ بِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ.الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِالْعَدْلِ.وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِهِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا أَنْ يُنْفِقَهُ فِي سَرَفٍ، وَلَا أَنْ يُعْطِيَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ، وَلَا يُعْطِيَ أَحَدًا أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَصْرِفَ مَصْرِفَهُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ وَالْحَاجَةِ لَا بِحَسَبِ الْغَرَضِ.

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْغُرْمُ عَلَى مَنْ كَانَ قَادِرًا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ وَلَا إِجْحَافٍ، وَمَنْ لَا شَيْءَ لَهُ، أَوْ لَهُ شَيْءٌ قَلِيلٌ فَلَا يَغْرَمُ شَيْئًا.

الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَتَفَقَّدَ هَذَا فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَرُبَّمَا جَاءَ وَقْتٌ لَا يَفْتَقِرُ فِيهِ لِزِيَادَةٍ عَلَى مَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَلَا يُوَزَّعُ.وَكَمَا يَتَعَيَّنُ الْمَالُ فِي التَّوْزِيعِ، فَكَذَلِكَ إِذَا تَعَيَّنَتِ الضَّرُورَةُ لِلْمَعُونَةِ بِالْأَبْدَانِ وَلَمْ يَكْفِ الْمَالُ، فَإِنَّ النَّاسَ يُجْبَرُونَ عَلَى التَّعَاوُنِ عَلَى الْأَمْرِ الدَّاعِي لِلْمَعُونَةِ بِشَرْطِ الْقُدْرَةِ وَتَعَيُّنِ الْمَصْلَحَةِ وَالِافْتِقَارِ إِلَى ذَلِكَ.

28- السَّبَبُ السَّادِسُ مِنْ أَسْبَابِ ثُبُوتِ الدَّيْنِ: أَدَاءُ مَا يَظُنُّ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْهُ: كَمَنْ دَفَعَ إِلَى شَخْصٍ مَالًا يَظُنُّهُ دَيْنًا وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْقَابِضِ بِمَا أَخَذَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ أَخَذَ مِنْ غَيْرِهِ مَا لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ إِلَيْهِ.وَقَدْ نَصَّتْ م 207 مِنْ مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ «مَنْ دَفَعَ شَيْئًا ظَانًّا أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَتَبَيَّنَ عَدَمُ وُجُوبِهِ، فَلَهُ الرُّجُوعُ بِهِ عَلَى مَنْ قَبَضَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ».

29- وَالسَّابِعُ: أَدَاءُ وَاجِبٍ مَالِيٍّ يَلْزَمُ الْغَيْرَ عَنْهُ بِنَاءً عَلَى طَلَبِهِ: كَمَا إِذَا أَمَرَ شَخْصٌ غَيْرَهُ بِأَدَاءِ دَيْنِهِ، فَأَدَّاهُ الْمَأْمُورُ مِنْ مَالِهِ عَنْهُ، فَإِنَّ مَا دَفَعَهُ يَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْآمِرِ لِلْمَأْمُورِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِهِ، سَوَاءٌ شَرَطَ الْآمِرُ رُجُوعَهُ- بِأَنْ قَالَ لَهُ: أَدِّ دَيْنِي عَلَى أَنْ أُؤَدِّيَهُ لَكَ بَعْدُ- أَوْ لَمْ يَشْرِطْ ذَلِكَ، بِأَنْ قَالَ لَهُ: أَدِّ دَيْنِي- فَقَطْ- فَأَدَّاهُ.

وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا لَوْ أَمَرَ شَخْصٌ آخَرَ بِشِرَاءِ شَيْءٍ لَهُ، أَوْ بِبِنَاءِ دَارٍ أَوْ دُكَّانٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَفَعَلَ الْمَأْمُورُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ بِمَا دَفَعَهُ، سَوَاءٌ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ الرُّجُوعَ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ.وَكَذَا لَوْ أَمَرَ شَخْصٌ آخَرَ بِأَنْ يَكْفُلَهُ بِالْمَالِ فَكَفَلَهُ، ثُمَّ أَدَّى الْكَفِيلُ مَا كَفَلَ بِهِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمَكْفُولِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ.وَكَذَا إِذَا أَحَالَ مَدِينٌ دَائِنَهُ عَلَى شَخْصٍ غَيْرِ مَدِينٍ لِلْمُحِيلِ، فَرَضِيَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ، وَأَدَّى عَنْهُ الدَّيْنَ الْمُحَالَ بِهِ بِنَاءً عَلَى طَلَبِهِ، فَإِنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ يَرْجِعُ عَلَى الْمُحِيلِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ.

30- وَالثَّامِنُ: الْفِعْلُ الْمَشْرُوعُ حَالَةَ الضَّرُورَةِ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ إِتْلَافُ مَالِ الْغَيْرِ: كَمَنْ أَكَلَ طَعَامَ غَيْرِهِ بِدُونِ إِذْنِهِ مُضْطَرًّا لِدَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّ تَرْخِيصَ الشَّارِعِ وَإِبَاحَتَهُ اسْتِهْلَاكَ مَالِ الْغَيْرِ بِدُونِ إِذْنِهِ لِدَاعِي الضَّرُورَةِ لَا يُسْقِطُ عَنِ الْفَاعِلِ الْمَسْئُولِيَّةَ الْمَالِيَّةَ، وَلَا يُعْفِيهِ مِنْ ثُبُوتِ مِثْلِ مَا أَتْلَفَهُ أَوْ قِيمَتِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لِمَالِكِهِ، فَالْأَعْذَارُ الشَّرْعِيَّةُ لَا تُنَافِي عِصْمَةَ الْمَحَلِّ، وَالْإِبَاحَةُ لِلِاضْطِرَارِ لَا تُنَافِي الضَّمَانَ؛ وَلِأَنَّ إِذْنَ الشَّارِعِ الْعَامَّ بِالتَّصَرُّفِ إِنَّمَا يَنْفِي الْإِثْمَ وَالْمُؤَاخَذَةَ بِالْعِقَابِ، وَلَا يُعْفِي مِنْ تَحَمُّلِ تَبَعَةِ الْإِتْلَافِ، بِخِلَافِ إِذْنِ الْمَالِكِ وَلِلْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ «الِاضْطِرَارُ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الْغَيْرِ» (م 33) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ، وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَغَيْرِهِمْ.

وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فَقَالُوا: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْهَلَاكِ عَنْهُ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْمَالِكِ، وَالْوَاجِبُ لَا يُؤْخَذُ لَهُ عِوَضٌ.

وَهُنَاكَ رَأْيٌ ثَالِثٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُضْطَرَّ إِلَى طَعَامِ الْغَيْرِ لِدَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ إِنَّمَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِصَاحِبِهِ إِنْ كَانَتْ مَعَهُ- أَيْ بِأَنْ كَانَ مَعَهُ مَالٌ حَاضِرٌ- وَإِلاَّ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِوُجُوبِ بَذْلِ رَبِّهِ لَهُ.

31- وَالتَّاسِعُ: الْقِيَامُ بِعَمَلٍ نَافِعٍ لِلْغَيْرِ بِدُونِ إِذْنِهِ: وَهُوَ نَوْعَانِ:

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَأْتِيَ بِعَمَلٍ يَلْزَمُ الْغَيْرَ أَوْ يَحْتَاجُهُ بِدُونِ إِذْنِهِ، كَمَنْ أَنْفَقَ عَنْ غَيْرِهِ نَفَقَةً وَاجِبَةً عَلَيْهِ، أَوْ قَضَى عَنْهُ دَيْنًا ثَابِتًا فِي ذِمَّتِهِ، وَلَمْ يَنْوِ الْمُنْفِقُ بِذَلِكَ التَّبَرُّعَ، فَإِنَّ مَا دَفَعَهُ يَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُنْفِقِ عَنْهُ.وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ.فَقَدْ جَاءَ فِي مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ (م 205): «إِذَا قَضَى أَحَدٌ دَيْنَ غَيْرِهِ بِلَا أَمْرِهِ سَقَطَ الدَّيْنُ عَنِ الْمَدْيُونِ، سَوَاءٌ أَقَبِلَ أَمْ لَمْ يَقْبَلْ، وَيَكُونُ الدَّافِعُ مُتَبَرِّعًا لَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْمَدْيُونِ بِشَيْءٍ مِمَّا دَفَعَهُ بِلَا أَمْرِهِ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ الْقَابِضِ لِاسْتِرْدَادِ مَا دَفَعَهُ إِلَيْهِ».

وَحُجَّتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ مَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ وَاجِبًا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ نَفَقَةٍ عَلَى قَرِيبٍ أَوْ زَوْجَةٍ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ، فَهُوَ إِمَّا فُضُولِيٌّ، وَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَفُوتَ عَلَيْهِ مَا فَوَّتَهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ مُتَفَضِّلٌ فَعِوَضُهُ عَلَى اللَّهِ دُونَ مَنْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ مُطَالَبَتَهُ.

32- وَقَدْ ذَكَرَ عَلِيّ حَيْدَر فِي كِتَابِهِ: «دُرَرُ الْحُكَّامِ شَرْحُ مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ» قَاعِدَةَ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذَا النَّوْعِ وَهِيَ: «أَنَّ مَنْ أَدَّى مَصْرُوفًا عَائِدًا عَلَى غَيْرِهِ بِدُونِ أَمْرِهِ أَوْ إِذْنِ الْحَاكِمِ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا».

وَحَكَى لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فُرُوعًا كَثِيرَةً مِنْهَا:

أ- إِذَا وَفَّى شَخْصٌ دَيْنَ آخَرَ بِدُونِ أَمْرِهِ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا.

ب- إِذَا دَفَعَ الرَّاهِنُ أَوِ الْمُرْتَهِنُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مَصْرُوفًا عَلَى الرَّهْنِ يَلْزَمُ الْآخَرَ بِدُونِ أَمْرِهِ أَوْ إِذْنِ الْحَاكِمِ يُعْتَبَرُ مُتَبَرِّعًا، وَلَا يَحِقُّ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُضْطَرًّا لِهَذَا الْإِنْفَاقِ طَالَمَا أَنَّهُ مُقْتَدِرٌ عَلَى اسْتِحْصَالِ أَمْرٍ مِنَ الْحَاكِمِ بِهِ لِتَأْمِينِ حَقِّهِ بِالرُّجُوعِ عَلَى الْمُسْتَفِيدِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ.وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّتْ الْمَجَلَّةُ الْعَدْلِيَّةُ فِي (م 725).

ج- إِذَا أَدَّى الْمُسْتَأْجِرُ الْمَصَارِيفَ اللاَّزِمَةَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ بِلَا أَمْرِهِ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا (م 529) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ.

وَإِذَا أَعْطَى الْمُسْتَأْجِرُ الْحَيَوَانَ الْمَأْجُورَ عَلَفًا بِدُونِ أَمْرِ الْمُؤَجِّرِ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا.

د- إِذَا كَفَلَ شَخْصٌ دَيْنَ آخَرَ بِدُونِ أَمْرِهِ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا.

هـ- إِذَا صَرَفَ الْمُودَعُ عَلَى الْوَدِيعَةِ بِلَا أَمْرِ صَاحِبِهَا أَوْ إِذْنِ الْحَاكِمِ يُعَدُّ مُتَبَرِّعًا.

و- إِذَا عَمَّرَ الشَّرِيكُ الْمِلْكَ الْمُشْتَرَكَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بِدُونِ إِذْنِ الشَّرِيكِ أَوِ الْحَاكِمِ يُعَدُّ مُتَبَرِّعًا.

ز- لَوْ أَنْشَأَ أَحَدٌ دَارًا أَوْ عَمَّرَهَا لِصَاحِبِهَا بِدُونِ أَمْرِهِ كَانَ الْبِنَاءُ أَوِ الْعِمَارَةُ لِصَاحِبِ الْعَرْصَةِ أَوِ الدَّارِ، وَيَكُونُ الْمُنْشِئُ مُتَبَرِّعًا فِيمَا أَنْفَقَهُ.

ح- لَوْ أَنْفَقَ شَخْصٌ عَلَى عُرْسِ آخَرَ بِلَا إِذْنِهِ كَانَ مُتَبَرِّعًا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


271-موسوعة الفقه الكويتية (رجعة)

رَجْعَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الرَّجْعَةُ اسْمُ مَصْدَرِ رَجَعَ، يُقَالُ: رَجَعَ عَنْ سَفَرِهِ، وَعَنِ الْأَمْرِ يَرْجِعُ رَجْعًا وَرُجُوعًا وَرُجْعَى وَمَرْجِعًا، قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: هُوَ نَقِيضُ الذَّهَابِ، وَيَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ فِي اللُّغَةِ الْفُصْحَى فَيُقَالُ: رَجَعْتُهُ عَنِ الشَّيْءِ وَإِلَيْهِ، وَرَجَعْتُ الْكَلَامَ وَغَيْرَهُ أَيْ رَدَدْتُهُ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَىطَائِفَةٍ مِنْهُمْ}

وَرَجَعَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى أَهْلِهَا بِمَوْتِ زَوْجِهَا أَوْ بِطَلَاقٍ، فَهِيَ رَاجِعَةٌ، وَالرَّجْعَةُ بِالْفَتْحِ بِمَعْنَى الرُّجُوعِ، وَالرَّجْعَةُ بَعْدَ الطَّلَاقِ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ.

وَالرَّجْعِيُّ نِسْبَةٌ إِلَى الرَّجْعَةِ، وَالطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ: مَا يَجُوزُ مَعَهُ لِلزَّوْجِ رَدُّ زَوْجَتِهِ فِي عِدَّتِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: تَعَدَّدَتْ تَعْرِيفَاتُ الْفُقَهَاءِ لِلرَّجْعَةِ عَلَى النَّحْوِ الْآتِي: عَرَّفَهَا الْعَيْنِيُّ بِأَنَّهَا اسْتِدَامَةُ مِلْكِ النِّكَاحِ.

وَعَرَّفَهَا صَاحِبُ الْبَدَائِعِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهَا «اسْتِدَامَةُ مِلْكِ النِّكَاحِ الْقَائِمِ وَمَنْعُهُ مِنَ الزَّوَالِ».

وَعَرَّفَهَا الدَّرْدِيرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّهَا «عَوْدُ الزَّوْجَةِ الْمُطَلَّقَةِ لِلْعِصْمَةِ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ عَقْدٍ».

وَعَرَّفَهَا الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِقَوْلِهِ: رَدُّ الْمَرْأَةِ إِلَى النِّكَاحِ مِنْ طَلَاقٍ غَيْرِ بَائِنٍ فِي الْعِدَّةِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.

وَعَرَّفَهَا الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهَا «إِعَادَةُ مُطَلَّقَةٍ غَيْرِ بَائِنٍ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عَقْدٍ».

دَلِيلُ مَشْرُوعِيَّةِ الرَّجْعَةِ وَحِكْمَتُهَا:

2- إِنَّ ارْتِجَاعَ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْإِصْلَاحِ، لِذَلِكَ نَجِدُ الشَّرِيعَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ قَدْ نَظَّمَتْ أَحْكَامَهَا..وَقَدْ أَشَارَ الْكَاسَانِيُّ إِلَى حِكْمَةِ الرَّجْعَةِ بِقَوْلِهِ: «إِنَّ الْحَاجَةَ تَمَسُّ إِلَى الرَّجْعَةِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يَنْدَمُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى مَا أَشَارَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ بِقَوْلِهِ: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّدَارُكِ، فَلَوْ لَمْ تَثْبُتِ الرَّجْعَةُ لَا يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ، لِمَا عَسَى أَنْ لَا تُوَافِقَهُ الْمَرْأَةُ فِي تَجْدِيدِ النِّكَاحِ وَلَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهَا فَيَقَعُ فِي الزِّنَا» لِذَا شُرِعَتِ الرَّجْعَةُ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَهَذِهِ حِكْمَةٌ جَلِيلَةٌ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ.

3- وَقَدْ ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الرَّجْعَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ ذَلِكَ:

- أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} وقوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا}.

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ وَرَدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- طَلَّقَ حَفْصَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا»،، فَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- طَلَّقَ حَفْصَةَ تَطْلِيقَةً، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ- عليه الصلاة والسلام- فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، طَلَّقْتَ حَفْصَةَ وَهِيَ صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ، وَهِيَ زَوْجَتُكَ فِي الْجَنَّةِ؟ فَرَاجِعْهَا».

وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ النَّاسُ وَالرَّجُلُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ مَا شَاءَ أَنْ يُطَلِّقَهَا، وَهِيَ امْرَأَتُهُ إِذَا ارْتَجَعَهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ طَلَّقَهَا مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ، حَتَّى قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ: وَاللَّهِ لَا أُطَلِّقُكِ فَتَبِينِي مِنِّي وَلَا آوِيكِ أَبَدًا، قَالَتْ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: أُطَلِّقُكِ فَكُلَّمَا هَمَّتْ عِدَّتُكِ أَنْ تَنْقَضِيَ رَاجَعْتُكِ، فَذَهَبَتِ الْمَرْأَةُ حَتَّى دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ فَأَخْبَرَتْهَا فَسَكَتَتْ عَائِشَةُ حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَتْهُ فَسَكَتَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}

قَالَتْ عَائِشَةُ: فَاسْتَأْنَفَ النَّاسُ الطَّلَاقَ مُسْتَقْبَلًا، مَنْ كَانَ طَلَّقَ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ طَلَّقَ».

وَالْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ الرَّجْعَةُ فِي الْعِدَّةِ بِقَصْدِ الْإِصْلَاحِ لَا الْإِضْرَارِ.

وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الرَّجْعَةِ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ شُرُوطِهَا، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَقَدْ جَاءَ فِي الرَّوْضِ الْمُرْبِعِ مَا نَصُّهُ «قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ إِذَا طَلَّقَ دُونَ الثَّلَاثِ، وَالْعَبْدَ دُونَ اثْنَتَيْنِ، أَنَّ لَهُمَا الرَّجْعَةَ فِي الْعِدَّةِ»

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

4- الْأَصْلُ فِي الرَّجْعَةِ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ وَهِيَ حَقٌّ لِلزَّوْجِ لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْأَرَادُوا إِصْلَاحًا}.وَتَكُونُ الرَّجْعَةُ وَاجِبَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ طَلْقَةً وَاحِدَةً فِي حَالَةِ حَيْضٍ فَهَذَا طَلَاقٌ بِدْعِيٌّ يَسْتَوْجِبُ التَّصْحِيحَ، وَالتَّصْحِيحُ لَا يَتِمُّ إِلاَّ بِالرَّجْعَةِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ «ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ».

وَتُسَنُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.

وَتَكُونُ الرَّجْعَةُ مَنْدُوبَةً، وَذَلِكَ فِي حَالَةِ نَدَمِ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ هُنَاكَ أَوْلَادٌ تَقْتَضِي الْمَصْلَحَةُ نَشْأَتَهُمْ فِي ظِلِّ الْأَبَوَيْنِ لِيُدَبِّرَا شُؤُونَهُمْ، فَتَكُونُ الرَّجْعَةُ مَنْدُوبَةً تَحْصِيلًا لِلْمَصْلَحَةِ الَّتِي نَدَبَ إِلَيْهَا الشَّارِعُ الْحَكِيمُ، فَقَدْ حَضَّ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى الصُّلْحِ وَالتَّوْفِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، قَالَ تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}.

وَتَكُونُ الرَّجْعَةُ مُحَرَّمَةً إِذَا قَصَدَ الزَّوْجُ الْإِضْرَارَ بِالْمَرْأَةِ فَيُرَاجِعُهَا لِيُلْحِقَ بِهَا الْأَذَى وَالضَّرَرَ، وَقَدْ نَهَى الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَنْهَى اللَّهُ تَعَالَى الْأَزْوَاجَ أَنْ يُمْسِكُوا زَوْجَاتِهِمْ بِقَصْدِ إِضْرَارِهِنَّ وَأَذَاهُنَّ، وَالنَّهْيُ يُفِيدُ التَّحْرِيمَ، فَتَكُونُ الرَّجْعَةُ مُحَرَّمَةً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.

وَمَعَ هَذَا تَكُونُ الرَّجْعَةُ صَحِيحَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالرَّجْعَةُ صَحِيحَةٌ، وَلَوْ عَلِمْنَا نَحْنُ ذَلِكَ الْمَقْصِدَ طَلَّقْنَا عَلَيْهِ.

وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: لَا يُمَكَّنُ مِنَ الرَّجْعَةِ إِلاَّ مَنْ أَرَادَ إِصْلَاحًا وَأَمْسَكَ بِمَعْرُوفٍ.وَتَكُونُ الرَّجْعَةُ مَكْرُوهَةً إِذَا ظَنَّ الزَّوْجُ أَنَّهُ لَنْ يُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ الْإِحْسَانُ إِلَى زَوْجَتِهِ، فَتَكُونُ الرَّجْعَةُ فِي حَقِّهِ مَكْرُوهَةً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.

شُرُوطُ الرَّجْعَةِ:

وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ مَا يَلِي:

5- الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ الرَّجْعَةُ بَعْدَ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ سَوَاءٌ صَدَرَ مِنَ الزَّوْجِ أَوْ مِنَ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهَا اسْتِئْنَافٌ لِلْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي قُطِعَتْ بِالطَّلَاقِ، فَلَوْلَا وُقُوعُهُ لَمَا كَانَ لِلرَّجْعَةِ فَائِدَةٌ، فَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ فَلَيْسَ لَهُ حَقُّ مُرَاجَعَتِهَا، إِذْ بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ تَبِينُ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا بَيْنُونَةً كُبْرَى وَلَا يَحِلُّ لَهُ مُرَاجَعَتُهَا حَتَّى تَتَزَوَّجَ آخَرَ.قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}.

وَالْفُقَهَاءُ جَمِيعًا مُتَّفِقُونَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ.

6- الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَحْصُلَ الرَّجْعَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ بِالزَّوْجَةِ الْمُطَلَّقَةِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَأَرَادَ مُرَاجَعَتَهَا فَلَيْسَ لَهُ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا}.إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ اعْتَبَرُوا الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ فِي حُكْمِ الدُّخُولِ مِنْ حَيْثُ صِحَّةُ الرَّجْعَةِ؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ تُرَتِّبُ أَحْكَامًا مِثْلَ أَحْكَامِ الدُّخُولِ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ فَلَا بُدَّ عِنْدَهُمْ مِنَ الدُّخُولِ لِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ، وَلَا تَكْفِي الْخَلْوَةُ.

7- الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْمُطَلَّقَةُ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَا يَصِحُّ ارْتِجَاعُهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لقوله تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} أَيْ فِي الْقُرُوءِ الثَّلَاثَةِ؛

وَلِأَنَّ فِي ارْتِجَاعِ الْمُطَلَّقَةِ فِي فَتْرَةِ الْعِدَّةِ اسْتِدَامَةً وَاسْتِمْرَارًا لِعَقْدِ النِّكَاحِ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْعِدَّةُ انْقَطَعَتْ هَذِهِ الِاسْتِدَامَةُ فَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: مِنْ شُرُوطِ جَوَازِ الرَّجْعَةِ قِيَامُ الْعِدَّةِ فَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ، وَالْمِلْكُ يَزُولُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَلَا تُتَصَوَّرُ الِاسْتِدَامَةُ، إِذْ الِاسْتِدَامَةُ لِلْقَائِمِ لِصِيَانَتِهِ عَنِ الزَّوَالِ وَأَمَّا مَا تَنْتَهِي بِهِ الْعِدَّةُ فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عِدَّة).

8- الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَلاَّ تَكُونَ الْفُرْقَةُ قَبْلَ الرَّجْعَةِ نَاشِئَةً عَنْ فَسْخِ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (فَسْخ).

9- الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَلاَّ يَكُونَ الطَّلَاقُ بِعِوَضٍ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بِعِوَضٍ فَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ حِينَئِذٍ بَائِنٌ لِافْتِدَاءِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا مِنَ الزَّوْجِ بِمَا قَدَّمَتْهُ لَهُ مِنْ عِوَضٍ مَالِيٍّ يُنْهِي هَذِهِ الْعَلَاقَةَ مِثْلَ الْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ.

10- الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ تَكُونَ الرَّجْعَةُ مُنَجَّزَةً فَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا عَلَى شَرْطٍ أَوْ إِضَافَتُهَا إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَصُورَةُ التَّعْلِيقِ عَلَى الشَّرْطِ أَنْ يَقُولَ: إِنْ جَاءَ زَيْدٌ فَقَدْ رَاجَعْتُكِ، أَوْ إِنْ فَعَلْتِ كَذَا فَقَدْ رَاجَعْتُكِ، وَصُورَةُ الْإِضَافَةِ لِلزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ كَأَنْ يَقُولَ: أَنْتِ رَاجِعَةٌ غَدًا أَوْ بَعْدَ شَهْرٍ وَهَكَذَا، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَعْلِيق ف 46) الْمَوْسُوعَة ج 12 ص 31.

اسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِدَامَةٌ لِعَقْدِ النِّكَاحِ أَوْ إِعَادَةٌ لَهُ، وَالنِّكَاحُ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ وَالْإِضَافَةَ، وَالرَّجْعَةُ تَأْخُذُ حُكْمَ النِّكَاحِ.

11- الشَّرْطُ السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرْتَجِعُ أَهْلًا لِإِنْشَاءِ عَقْدِ النِّكَاحِ.

وَهَذَا الشَّرْطُ وَرَدَ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي إِنْشَاءِ عَقْدِ الزَّوَاجِ يَكُونُ لَهُ الْحَقُّ فِي ارْتِجَاعِ مُطَلَّقَتِهِ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ شُرُوطِ الرَّجْعَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ مِنَ الْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِمَا لِإِنْشَاءِ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ رَجْعَةَ نَاقِصِي الْأَهْلِيَّةِ، وَهُمْ: الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ، وَالسَّفِيهُ، وَالْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ، وَالْمُفْلِسُ، وَقَدْ بَنَوْا إِجَازَةَ الرَّجْعَةِ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى أَسَاسِ عَدَمِ إِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِهِمْ، وَعَلَى حَسَبِ حَالَةِ كُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى حِدَةٍ، فَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ فَيَصِحُّ عَقْدُ نِكَاحِهِ إِلاَّ أَنَّهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى إِجَازَةِ وَلِيِّهِ، فَكَمَا صَحَّ عَقْدُهُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ، وَأَمَّا السَّفِيهُ فَيَصِحُّ عَقْدُ نِكَاحِهِ فِي حُدُودِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَصَحَّتْ رَجْعَتُهُ لِاسْتِمْرَارِ عَقْدِ النِّكَاحِ مِنْ جِهَةٍ؛ وَكَذَا لِعَدَمِ وُجُودِ الْإِسْرَافِ مِنْهُ، وَأَمَّا الْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ فَقَدْ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَيْسَ فِيهَا إِدْخَالُ غَيْرِ وَارِثٍ مَعَ الْوَرَثَةِ، وَأَمَّا الْمُفْلِسُ فَصَحَّتِ الرَّجْعَةُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَطَلَّبُ مَهْرًا جَدِيدًا فَلَا تَشْغَلُ ذِمَّتَهُ بِالْتِزَامَاتٍ مَالِيَّةٍ وَلَا يَحْتَاجُ لِإِذْنِ الدَّائِنِينَ، كَمَا أَجَازُوا الرَّجْعَةَ مِنَ الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ مَعَ عَدَمِ جَوَازِ عَقْدِ نِكَاحِهِ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِمْرَارٌ لِعَقْدِ النِّكَاحِ وَلَيْسَتْ إِنْشَاءً جَدِيدًا لَهُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ شَرْطَ الْمُرْتَجِعِ أَهْلِيَّةُ النِّكَاحِ بِنَفْسِهِ بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا مُخْتَارًا غَيْرَ مُرْتَدٍّ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ كَإِنْشَاءِ النِّكَاحِ فَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ فِي الرِّدَّةِ وَالصِّبَا وَالْجُنُونِ وَلَا مِنْ مُكْرَهٍ، كَمَا لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ فِيهَا.

فَالرَّجْعَةُ لَا تَصِحُّ إِلاَّ مِنْ بَالِغٍ عَاقِلٍ مُخْتَارٍ.

وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ السَّفِيهَ فَكَمَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ...وَالسَّكْرَانُ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ تَصِحُّ رَجْعَتُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ أَهْلٌ لِإِبْرَامِ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَلَا تَصِحُّ رَجْعَتُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، كَمَا لَا تَصِحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ رَجْعَةُ السَّكْرَانِ غَيْرِ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ، لِأَنَّ أَقْوَالَهُ كُلَّهَا لَاغِيَةٌ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ الرَّجْعَةِ مِنَ الْمُحْرِمِ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يُؤَثِّرُ فِي أَهْلِيَّةِ الْمُحْرِمِ لِإِنْشَاءِ عَقْدِ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ عَارِضٌ.هَذَا وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الرَّجْعَةِ رِضَا الْمَرْأَةِ.وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}.

يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.

كَيْفِيَّةُ الرَّجْعَةِ:

لِلرَّجْعَةِ كَيْفِيَّتَانِ: رَجْعَةٌ بِالْقَوْلِ، وَرَجْعَةٌ بِالْفِعْلِ.

أَوَّلًا: الرَّجْعَةُ بِالْقَوْلِ:

12- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ تَصِحُّ بِالْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَى ذَلِكَ، كَأَنْ يَقُولَ لِمُطَلَّقَتِهِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ رَاجَعْتُكِ، أَوِ ارْتَجَعْتُكِ، أَوْ رَدَدْتُكِ لِعِصْمَتِي وَهَكَذَا كُلُّ لَفْظٍ يُؤَدِّي هَذَا الْمَعْنَى.

قَالَ الْعَيْنِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ مَا نَصُّهُ: «وَالرَّجْعَةُ أَنْ يَقُولَ لِلَّتِي طَلَّقَهَا طَلْقَةً، أَوْ طَلْقَتَيْنِ: رَاجَعْتُكِ بِالْخِطَابِ لَهَا، أَوْ رَاجَعْتُ امْرَأَتِي بِالْغَيْبَةِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الرَّجْعَةِ، وَكَذَا إِذَا قَالَ: رَدَدْتُكِ أَوْ أَمْسَكْتُكِ».

وَقَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْأَلْفَاظَ الَّتِي تَصِحُّ بِهَا الرَّجْعَةُ إِلَى قِسْمَيْنِ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: اللَّفْظُ الصَّرِيحُ مِثْلَ رَاجَعْتُكِ وَارْتَجَعْتُكِ إِلَى نِكَاحِي، وَهَذَا الْقِسْمُ تَصِحُّ بِهِ الرَّجْعَةُ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: الْكِنَايَةُ: وَهِيَ الْأَلْفَاظُ الَّتِي تَحْتَمِلُ مَعْنَى الرَّجْعَةِ وَمَعْنًى آخَرَ غَيْرَهَا، كَأَنْ يَقُولَ: أَنْتِ عِنْدِي كَمَا كُنْتِ، أَوْ أَنْتِ امْرَأَتِي وَنَوَى بِهِ الرَّجْعَةَ.

فَأَلْفَاظُ الْكِنَايَةِ تَحْتَمِلُ الرَّجْعَةَ وَغَيْرَهَا مِثْلَ أَنْتِ عِنْدِي كَمَا كُنْتِ، فَإِنَّهَا تَحْتَمِلُ كَمَا كُنْتِ زَوْجَةً، وَكَمَا كُنْتِ مَكْرُوهَةً، وَلِذَلِكَ قَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ وَيُسْأَلُ عَنْهَا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ مِثْلَ رَدَدْتُكِ وَأَمْسَكْتُكِ هَلْ هِيَ مِنَ الصَّرِيحِ أَوِ الْكِنَايَةِ، فَذَهَبَ فَرِيقٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ وَتَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ.

وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ «رَدَدْتُكِ» يَحْتَمِلُ الرَّدَّ إِلَى الزَّوْجِيَّةِ أَوْ إِلَى بَيْتِ أَبِيهَا، «وَأَمْسَكْتُكِ» يَحْتَمِلُ الْإِمْسَاكَ بِالزَّوْجِيَّةِ أَوِ الْإِمْسَاكَ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهَا فِي عِدَّتِهَا.

وَذَهَبَ فَرِيقٌ آخَرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَمَعَهُمْ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ مِنْ صَرِيحِ الرَّجْعَةِ فَلَا يَحْتَاجَانِ إِلَى نِيَّةٍ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهَا أَحْكَامُ الرَّجْعَةِ دَلَّتْ عَلَيْهَا بِلَفْظَيِ الرَّدِّ وَالْإِمْسَاكِ.قَالَ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}.

ثَانِيًا: الرَّجْعَةُ بِالْفِعْلِ:

13- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْجِمَاعَ وَمُقَدِّمَاتِهِ تَصِحُّ بِهِمَا الرَّجْعَةُ، جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ «قَالَ: أَوْ يَطَؤُهَا، أَوْ يَلْمَسُهَا بِشَهْوَةٍ، أَوْ يَنْظُرُ إِلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ، وَهَذَا عِنْدَنَا»، وَقَوْلُهُمْ هَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَهُمْ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَطَاوُسٌ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّعْبِيُّ، وَسُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ النَّظَرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ جَسَدِ الزَّوْجَةِ سِوَى الْفَرْجِ رَجْعَةً.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الرَّجْعَةَ تُعْتَبَرُ اسْتِدَامَةً لِلنِّكَاحِ وَاسْتِمْرَارًا لِجَمِيعِ آثَارِهِ، وَمِنْ آثَارِ النِّكَاحِ حِلُّ الْجِمَاعِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، لِذَلِكَ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ بِالْجِمَاعِ وَمُقَدِّمَاتِهِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ مَا زَالَ مَوْجُودًا إِلَى أَنْ تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ.

كَمَا أَنَّ الْأَفْعَالَ صَرِيحَهَا وَدَلَالَتَهَا تَدُلُّ عَلَى نِيَّةِ الْفَاعِلِ، فَإِذَا وَطِئَ الزَّوْجُ مُطَلَّقَتَهُ الرَّجْعِيَّةَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، أَوْ قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ، أَوْ لَامَسَهَا بِشَهْوَةٍ، اعْتُبِرَ هَذَا الْفِعْلُ رَجْعَةً بِالدَّلَالَةِ، فَكَأَنَّهُ بِوَطْئِهَا قَدْ رَضِيَ أَنْ تَعُودَ إِلَى عِصْمَتِهِ.

وَقَدْ قَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ الْقُبْلَةَ وَالنَّظَرَ إِلَى الْفَرْجِ وَاللَّمْسِ بِالشَّهْوَةِ.أَمَّا إِذَا حَصَلَ لَمْسٌ أَوْ نَظَرٌ إِلَى الْفَرْجِ، أَوْ تَقْبِيلٌ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، فَلَا تَتَحَقَّقُ الرَّجْعَةُ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ، إِذَا كَانَتْ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَإِنَّهَا تَحْصُلُ مِنَ الزَّوْجِ وَغَيْرِهِ كَالْمُسَاكِنِينَ لَهَا، أَوِ الْمُتَحَدِّثِينَ مَعَهَا، أَوِ الطَّبِيبِ وَالْقَابِلَةِ (الْمُوَلِّدَةِ) أَمَّا وُجُودُ الشَّهْوَةِ مَعَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ فَإِنَّهَا لَا تَحْصُلُ إِلاَّ مِنَ الزَّوْجِ فَقَطْ.

فَإِذَا صَحَّتِ الرَّجْعَةُ مَعَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ احْتَاجَ الزَّوْجُ إِلَى طَلَاقِهَا، فَتَطُولُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَتَقَعُ الْمَرْأَةُ فِي حَرَجٍ شَدِيدٍ.

وَإِذَا حَدَثَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنَ الْمَرْأَةِ كَأَنْ قَبَّلَتْ زَوْجَهَا، أَوْ نَظَرَتْ إِلَيْهِ، أَوْ لَمَسَتْهُ بِشَهْوَةٍ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ تَصِحُّ الرَّجْعَةُ.وَاسْتَدَلاَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ حِلَّ الْمُعَاشَرَةِ الزَّوْجِيَّةِ قَدْ ثَبَتَ لَهُمَا مَعًا، فَتَصِحُّ الرَّجْعَةُ مِنْهَا إِذَا نَظَرَتْ إِلَيْهِ بِشَهْوَةٍ، كَمَا يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَإِنَّ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ تَثْبُتُ مِنْ جِهَتِهَا، كَأَنْ عَاشَرَتِ ابْنَ زَوْجِهَا أَوْ أَبَاهُ، كَمَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ أَيْضًا، لِذَلِكَ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ مِنْ جِهَتِهَا إِذَا لَمَسَتْهُ أَوْ قَبَّلَتْهُ بِشَهْوَةٍ، أَوْ رَأَتْ فَرْجَهُ بِشَهْوَةٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ مِنْ جِهَتِهَا إِذَا لَمَسَتْهُ أَوْ قَبَّلَتْهُ بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَتْ إِلَى فَرْجِهِ بِشَهْوَةٍ، وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الرَّجْعَةَ حَقٌّ لِلزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ حَتَّى إِنَّهُ يُرَاجِعُهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا، وَلَيْسَ لَهَا حَقُّ مُرَاجَعَةِ زَوْجِهَا لَا بِالْقَوْلِ وَلَا بِالْفِعْلِ، فَسَوَاءٌ نَظَرَتْ إِلَيْهِ بِشَهْوَةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا لَا تَثْبُتُ لَهَا الرَّجْعَةُ.

14- وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ صِحَّةَ الرَّجْعَةِ بِالْفِعْلِ كَالْوَطْءِ وَمُقَدِّمَاتِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَنْوِيَ الزَّوْجُ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ الرَّجْعَةَ، فَإِذَا قَبَّلَهَا أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ، أَوْ نَظَرَ إِلَى مَوْضِعِ الْجِمَاعِ بِشَهْوَةٍ، أَوْ وَطِئَهَا وَلَمْ يَنْوِ الرَّجْعَةَ فَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بِفِعْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، جَاءَ فِي الْخَرَشِيِّ مَا نَصُّهُ: أَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَحْصُلُ بِفِعْلٍ مُجَرَّدٍ عَنْ نِيَّةِ الرَّجْعَةِ وَلَوْ بِأَقْوَى الْأَفْعَالِ كَوَطْءٍ وَقُبْلَةٍ وَلَمْسٍ، وَالدُّخُولُ عَلَيْهَا مِنَ الْفِعْلِ فَإِذَا نَوَى بِهِ الرَّجْعَةَ كَفَى.

15- وَالرَّجْعَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا تَصِحُّ بِالْفِعْلِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ بِوَطْءٍ أَوْ مُقَدِّمَاتِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْفِعْلُ مَصْحُوبًا بِنِيَّةِ الزَّوْجِ فِي الرَّجْعَةِ أَوْ لَا، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ تُعْتَبَرُ أَجْنَبِيَّةً عَنِ الزَّوْجِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَالرَّجْعَةُ فِي الْعِدَّةِ تُعْتَبَرُ إِعَادَةً لِعَقْدِ الزَّوَاجِ، وَكَمَا أَنَّ عَقْدَ الزَّوَاجِ لَا يَصِحُّ إِلاَّ بِالْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ، فَكَذَا الرَّجْعَةُ لَا تَصِحُّ إِلاَّ بِالْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَيْهَا أَيْضًا، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَطِئَ امْرَأَةً قَبْلَ عَقْدِ النِّكَاحِ فَوَطْؤُهُ حَرَامٌ، فَكَذَا الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ لَوْ وَطِئَهَا الزَّوْجُ فِي الْعِدَّةِ فَوَطْؤُهُ هَذَا حَرَامٌ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ فِي الْأُمِّ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ أَنَّ الرَّجْعَةَ حَقٌّ لِلْأَزْوَاجِ، وَأَنَّ الرَّدَّ ثَابِتٌ لَهُمْ دُونَ رِضَى الْمَرْأَةِ قَالَ: وَالرَّدُّ يَكُونُ بِالْكَلَامِ دُونَ الْفِعْلِ مِنْ جِمَاعٍ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ رَدٌّ بِلَا كَلَامٍ، فَلَا تَثْبُتُ رَجْعَةٌ لِرَجُلٍ عَلَى امْرَأَتِهِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِالرَّجْعَةِ، كَمَا لَا يَكُونُ نِكَاحٌ وَلَا طَلَاقٌ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِهِمَا، فَإِذَا تَكَلَّمَ بِهَا فِي الْعِدَّةِ ثَبَتَتْ لَهُ الرَّجْعَةُ.

16- وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ فِي صِحَّةِ الرَّجْعَةِ بَيْنَ الْوَطْءِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، فَإِنَّ الرَّجْعَةَ عِنْدَهُمْ تَصِحُّ بِالْوَطْءِ وَلَا تَصِحُّ بِمُقَدِّمَاتِهِ وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ ذَلِكَ:

أَوَّلًا: صِحَّةُ الرَّجْعَةِ بِالْوَطْءِ:

17- تَصِحُّ الرَّجْعَةُ عِنْدَهُمْ بِالْوَطْءِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ نَوَى الزَّوْجُ الرَّجْعَةَ أَوْ لَمْ يَنْوِهَا وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ عَلَى ذَلِكَ.

وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّ فَتْرَةَ الْعِدَّةِ تُؤَدِّي إِلَى بَيْنُونَةِ الْمُطَلَّقَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الرَّجْعَةِ، فَإِذَا لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ وَوَطِئَهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فَقَدْ عَادَتْ إِلَيْهِ، وَيَكُونُ هَذَا مِثْلَ حُكْمِ الْإِيلَاءِ، فَإِذَا آلَى الزَّوْجُ مِنْ زَوْجَتِهِ ثُمَّ وَطِئَهَا فَقَدِ ارْتَفَعَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ، فَكَذَا الْحَالُ فِي الرَّجْعَةِ إِذَا وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ فَقَدْ عَادَتْ إِلَيْهِ..

ثُمَّ ذَكَرُوا دَلِيلًا آخَرَ يُؤَكِّدُ صِحَّةَ الرَّجْعَةِ بِالْوَطْءِ، جَاءَ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ عَلَى الْمُقْنِعِ «أَنَّ الطَّلَاقَ سَبَبٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ وَمَعَهُ خِيَارٌ، فَتَصَرُّفُ الْمَالِكِ بِالْوَطْءِ يَمْنَعُ عَمَلَهُ كَمَا يَنْقَطِعُ بِهِ التَّوْكِيلُ فِي طَلَاقِهَا»، هَذَا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْحَنَابِلَةُ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ.

ثَانِيًا: مُقَدِّمَاتُ الْوَطْءِ:

18- اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ فِي صِحَّةِ الرَّجْعَةِ بِمُقَدِّمَاتِ الْوَطْءِ، فَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَحْمَدَ عَدَمُ صِحَّةِ الرَّجْعَةِ بِالنَّظَرِ إِلَى مَوْضِعِ الْجِمَاعِ وَاللَّمْسِ وَالتَّقْبِيلِ بِشَهْوَةٍ، وَحُجَّةُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا يَأْتِي:

1- أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ إِذَا حَدَثَتْ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا عِدَّةٌ وَلَا يَجِبُ بِهَا مَهْرٌ فَلَا تَصِحُّ بِهَا الرَّجْعَةُ.

2- أَنَّ النَّظَرَ إِلَى مَوْضِعِ الْجِمَاعِ أَوِ اللَّمْسَ قَدْ يَحْدُثُ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ لِلْحَاجَةِ، فَلَا تَكُونُ رَجْعَةً مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ.

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى هِيَ: تَصِحُّ الرَّجْعَةُ بِفِعْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنَ اسْتِمْتَاعٍ يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ.وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى: هِيَ الْمُعْتَمَدَةُ فِي الْمَذْهَبِ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهَا أَحْمَدُ- رضي الله عنه-.

وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي الْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ هَلْ تَصِحُّ مَعَهَا الرَّجْعَةُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: تَصِحُّ الرَّجْعَةُ مَعَ الْخَلْوَةِ لِأَنَّ أَحْكَامَ النِّكَاحِ تَتَقَرَّرُ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى إِمْكَانِ الِاسْتِمْتَاعِ فِي الْخَلْوَةِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: لَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ مَعَ الْخَلْوَةِ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ فِي حَالَةِ الطَّلَاقِ لَا يَتَأَتَّى فِيهَا الِاسْتِمْتَاعُ فَلَا تَصِحُّ مَعَهَا الرَّجْعَةُ.

أَحْكَامُ الرَّجْعَةِ:

الْإِشْهَادُ عَلَى الرَّجْعَةِ:

19- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالْجَدِيدُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى الرَّجْعَةِ مُسْتَحَبٌّ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ- رضي الله عنهما-، فَمَنْ رَاجَعَ امْرَأَتَهُ وَلَمْ يُشْهِدْ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ؛ لِأَنَّ الْإِشْهَادَ مُسْتَحَبٌّ.

وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ مَا يَأْتِي:

1- الرَّجْعَةُ مِثْلُ النِّكَاحِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا امْتِدَادًا لَهُ، وَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ اسْتِدَامَةَ النِّكَاحِ لَا تَلْزَمُهَا شَهَادَةٌ، فَكَذَا الرَّجْعَةُ لَا تَجِبُ فِيهَا الشَّهَادَةُ.

2- الرَّجْعَةُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجِ وَهِيَ لَا تَحْتَاجُ لِقَبُولِ الْمَرْأَةِ، لِذَلِكَ لَا تُشْتَرَطُ الشَّهَادَةُ لِصِحَّتِهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ قَدِ اسْتَعْمَلَ خَالِصَ حَقِّهِ، وَالْحَقُّ إِذَا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى قَبُولٍ أَوْ وَلِيٍّ فَلَا تَكُونُ الشَّهَادَةُ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ.

قَالُوا: وَأَمَّا قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} هَذَا أَمْرٌ، وَالْأَمْرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ، مِثْلَ قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} وَاتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ بِلَا إِشْهَادٍ، فَكَذَا اسْتُحِبَّ الْإِشْهَادُ عَلَى الرَّجْعَةِ لِلْأَمْنِ مِنَ الْجُحُودِ، وَقَطْعِ النِّزَاعِ، وَسَدِّ بَابِ الْخِلَافِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ.وَيُلَاحَظُ أَنَّ تَأْكِيدَ الْحَقِّ فِي الْبَيْعِ فِي حَاجَةٍ إِلَى إِشْهَادٍ أَكْثَرَ مِنَ الرَّجْعَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ إِنْشَاءٌ لِتَصَرُّفٍ شَرْعِيٍّ، أَمَّا الرَّجْعَةُ فَهِيَ اسْتِدَامَةُ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ أَوْ إِعَادَتُهَا، فَلَمَّا صَحَّ الْبَيْعُ بِلَا إِشْهَادٍ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ بِلَا إِشْهَادٍ مِنْ بَابِ أَوْلَى.

وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الزَّوْجَةَ لَوْ مَنَعَتْ زَوْجَهَا مِنْ وَطْئِهَا حَتَّى يُشْهِدَ عَلَى الرَّجْعَةِ كَانَ فِعْلُهَا هَذَا حَسَنًا وَتُؤْجَرُ عَلَيْهِ، وَلَا تَكُونُ عَاصِيَةً لِزَوْجِهَا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ بِأَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى الرَّجْعَةِ وَاجِبٌ لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}.وَبِالْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فَقَدْ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَمَّنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا ثُمَّ وَقَعَ بِهَا وَلَمْ يُشْهِدْ، فَقَالَ: طَلَّقْتَ لِغَيْرِ سُنَّةٍ وَرَاجَعْتَ لِغَيْرِ سُنَّةٍ، أَشْهِدْ عَلَى ذَلِكَ وَلَا تَعُدْ؛ وَلِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِبَاحَةُ بُضْعٍ مُحَرَّمٍ فَيَلْزَمُهُ الْإِشْهَادُ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى الرَّجْعَةِ لَيْسَ شَرْطًا وَلَا وَاجِبًا فِي الْأَظْهَرِ. إعْلَامُ الزَّوْجَةِ بِالرَّجْعَةِ:

20- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ إِعْلَامَ الزَّوْجَةِ بِالرَّجْعَةِ مُسْتَحَبٌّ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ الَّتِي قَدْ تَنْشَأُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ.

قَالَ الْعَيْنِيُّ مَا نَصُّهُ: «وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعْلِمَهَا» أَيْ يُعْلِمَ الْمَرْأَةَ بِالرَّجْعَةِ، فَرُبَّمَا تَتَزَوَّجُ عَلَى زَعْمِهَا أَنَّ زَوْجَهَا لَمْ يُرَاجِعْهَا وَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَيَطَؤُهَا الزَّوْجُ، فَكَانَتْ عَاصِيَةً بِتَرْكِ سُؤَالِ زَوْجِهَا وَهُوَ يَكُونُ مُسِيئًا بِتَرْكِ الْإِعْلَامِ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَوْ لَمْ يُعْلِمْهَا صَحَّتِ الرَّجْعَةُ؛ لِأَنَّهَا اسْتِدَامَةُ النِّكَاحِ الْقَائِمِ وَلَيْسَتْ بِإِنْشَاءٍ، فَكَانَ الزَّوْجُ مُتَصَرِّفًا فِي خَالِصِ حَقِّهِ، وَتَصَرُّفُ الْإِنْسَانِ فِي خَالِصِ حَقِّهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ الْغَيْرِ.

سَفَرُ الزَّوْجِ بِالْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ:

21- ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ السَّفَرَ بِمُطَلَّقَتِهِ الرَّجْعِيَّةِ، أَمَّا الْجُمْهُورُ فَلَا يُجِيزُونَ السَّفَرَ بِهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ وَلِأَنَّ الزَّوْجَ مَأْمُورٌ بِعَدَمِ إِخْرَاجِهَا مِنَ الْبَيْتِ فِي الْعِدَّةِ لقوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ}.

وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ قَدْ تَنْقَضِي وَهِيَ فِي السَّفَرِ مَعَهُ فَتَكُونُ مَعَ أَجْنَبِيٍّ عَنْهَا وَهَذَا مُحَرَّمٌ، كُلُّ هَذَا إِذَا لَمْ يُرَاجِعْهَا فِي الْعِدَّةِ، أَمَّا إِذَا رَاجَعَهَا فَتُسَافِرُ مَعَهُ لِأَنَّهَا زَوْجَةٌ لَهُ.

تَزَيُّنُ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ وَتَشَوُّفُهَا لِزَوْجِهَا:

22- الْمُطَلَّقَةُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا لَهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ لِزَوْجِهَا بِمَا تَفْعَلُهُ النِّسَاءُ لِأَزْوَاجِهِنَّ مِنْ أَوْجُهِ الزِّينَةِ مِنَ اللُّبْسِ وَغَيْرِهِ.قَالَ الْحَنَابِلَةُ: تَتَزَيَّنُ وَتُسْرِفُ فِي ذَلِكَ.وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ وَتَتَشَوَّفَ لَهُ.وَالتَّشَوُّفُ وَضْعُ الزِّينَةِ فِي الْوَجْهِ، وَالتَّزَيُّنُ أَعَمُّ مِنَ التَّشَوُّفِ؛ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْوَجْهَ وَغَيْرَهُ.

وَقَدْ أُجِيزَ لِلْمَرْأَةِ فِعْلُ ذَلِكَ لِتَرْغِيبِ الزَّوْجِ فِي الْمُرَاجَعَةِ، فَالتَّزَيُّنُ وَسِيلَةٌ لِلرَّجْعَةِ فَلَعَلَّهُ يَرَاهَا فِي زِينَتِهَا فَتَرُوقُ فِي عَيْنِهِ وَيَنْدَمُ عَلَى طَلَاقِهَا فَيُرَاجِعُهَا.

وَاسْتَدَلُّوا لِجَوَازِ التَّزَيُّنِ بِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ رَجْعِيًّا فِي حُكْمِ الزَّوْجَاتِ وَالنِّكَاحُ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ كَوْنُهَا فِي الْعِدَّةِ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ تَزَيُّنِ الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ لِزَوْجِهَا لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ عَنْهُ وَالرَّجْعَةُ إِعَادَةٌ لِلنِّكَاحِ عِنْدَهُمْ.

وَيَتْبَعُ هَذَا الْحُكْمَ أَمْرٌ آخَرُ وَهُوَ دُخُولُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا فِي حُجْرَتِهَا، فَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا إِلاَّ بِإِذْنِهَا إِذَا كَانَ لَا يَنْوِي الرَّجْعَةَ.وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ مُتَجَرِّدَةً مِنَ الثِّيَابِ فَيَقَعُ نَظَرُهُ عَلَى مَوْضِعِ الْجِمَاعِ فَيَكُونُ مُرَاجِعًا عِنْدَ مَنِ اعْتَبَرَ ذَلِكَ رَجْعَةً، أَمَّا إِذَا كَانَ يَنْوِي الْمُرَاجَعَةَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ فِي نِيَّتِهِ مُرَاجَعَتَهَا فَكَانَتْ زَوْجَةً لَهُ، وَخُصُوصًا أَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَحْتَاجُ إِلَى مُوَافَقَةِ الْمَرْأَةِ.اخْتِلَافُ الزَّوْجَيْنِ فِي الرَّجْعَةِ:

23- إِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ عَلَى مُطَلَّقَتِهِ الرَّجْعِيَّةِ أَنَّهُ رَاجَعَهَا أَمْسِ أَوْ قَبْلَ شَهْرٍ صُدِّقَ إِنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ فَلَا يَكُونُ مُتَّهَمًا فِي الْإِخْبَارِ، وَلَا يُصَدَّقُ إِذَا قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ، فَإِنِ ادَّعَى بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا أَنَّهُ كَانَ رَاجَعَهَا فِي عِدَّتِهَا فَأَنْكَرَتْ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى مُرَاجَعَتَهَا فِي زَمَنٍ لَا يَمْلِكُ مُرَاجَعَتَهَا فِيهِ.

وَإِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَنَّهُ قَدْ رَاجَعَ مُطَلَّقَتَهُ فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ وَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ.

قَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَإِذَا قَالَ زَوْجُ الْمُعْتَدَّةِ لَهَا: قَدْ رَاجَعْتُكِ، فَقَالَتْ مُجِيبَةً لَهُ: قَدِ انْقَضَتْ عِدَّتِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ.وَعِنْدَهُمَا الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ وَالرَّجْعَةُ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّهَا صَادَفَتِ الْعِدَّةَ، فَإِنَّ عِدَّتَهَا بَاقِيَةٌ مَا لَمْ تُخْبِرْ بِالِانْقِضَاءِ، وَقَدْ سَبَقَتِ الرَّجْعَةُ خَبَرَهَا بِالِانْقِضَاءِ فَصَحَّتِ الرَّجْعَةُ وَسَقَطَتِ الْعِدَّةُ، فَإِنَّهَا أَخْبَرَتْ بِالِانْقِضَاءِ بَعْدَ سُقُوطِ الْعِدَّةِ، وَلَيْسَ لَهَا وِلَايَةُ الْإِخْبَارِ بَعْدَ سُقُوطِ الْعِدَّةِ وَلَوْ سَكَتَتْ سَاعَةً ثُمَّ أَخْبَرَتْ؛ وَلِأَنَّهَا صَارَتْ مُتَّهَمَةً فِي الْإِخْبَارِ بِالِانْقِضَاءِ بَعْدَ رَجْعَةِ الزَّوْجِ فَلَا يُقْبَلُ خَبَرُهَا، كَمَا لَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ لِلْوَكِيلِ عَزَلْتُكَ، فَقَالَ الْوَكِيلُ كُنْتُ بِعْتُهُ.وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الرَّجْعَةُ صَادَفَتْ حَالَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ لَيْسَ بِعِدَّةٍ مُطْلَقًا وَشَرْطُ الرَّجْعَةِ أَنْ تَكُونَ فِي عِدَّةٍ مُطْلَقَةٍ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


272-موسوعة الفقه الكويتية (رجل)

رِجْلٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الرِّجْلُ لُغَةً: قَدَمُ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ وَجَمْعُهَا أَرْجُلٌ، وَرِجْلُ الْإِنْسَانِ هِيَ مِنْ أَصْلِ الْفَخِذِ إِلَى الْقَدَمِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} وَرَجُلٌ أَرْجَلُ أَيْ: عَظِيمُ الرِّجْلِ، وَالرَّاجِلُ خِلَافُ الْفَارِسِ وَمِنْهُ قوله تعالى: {فَإِنْخِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}.

وَمَعْنَاهُ الِاصْطِلَاحِيُّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْحَالِ فَيُرَادُ بِهِ الْقَدَمُ مَعَ الْكَعْبَيْنِ كَمَا هُوَ فِي قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} وَيُرَادُ بِهِ دُونَ الْمَفْصِلِ بَيْنَ السَّاقِ وَالْقَدَمِ، كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي قَطْعِ رِجْلِ السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ.

وَيُطْلَقُ تَارَةً فَيُرَادُ بِهِ مِنْ أَصْلِ الْفَخِذِ إِلَى الْقَدَمِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

وَرَدَتِ الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرِّجْلِ فِي عَدَدٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ مِنْهَا مَا يَلِي:

أ- الْوُضُوءُ:

2- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ مَعَ الْكَعْبَيْنِ- وَهُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ عِنْدَ مَفْصِلِ السَّاقِ وَالْقَدَمِ- مِنْ فُرُوضِ الْوُضُوءِ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْوَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} وَلِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَمِنْهَا مَا رُوِيَ فِي وُضُوءِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ غَسَلَ كُلَّ رِجْلٍ ثَلَاثًا.وَفِي لَفْظٍ: «ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ».وَمِنْهَا قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» وَذَلِكَ عِنْدَمَا رَأَى قَوْمًا يَتَوَضَّئُونَ وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ.

وَعَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- «أَنَّ رَجُلًا تَوَضَّأَ، فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفُرٍ عَلَى قَدَمِهِ فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ، فَرَجَعَ ثُمَّ صَلَّى».

وَذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ فِي الرِّجْلَيْنِ هُوَ الْمَسْحُ لَا الْغَسْلُ، وَذَلِكَ أَخْذًا بِقِرَاءَةِ مُهَاجِرٍ «أَرْجُلِكُمْ» فِي قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْوَأَرْجُلَكُمْ} فَإِنَّهَا تَقْتَضِي كَوْنَ الْأَرْجُلِ مَمْسُوحَةً لَا مَغْسُولَةً.

وَذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ إِلَى أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَبَيْنَ مَسْحِهِمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْقِرَاءَتَيْنِ قَدْ ثَبَتَ كَوْنُهَا قِرَاءَةً وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ مُقْتَضَيْهِمَا وَهُوَ وُجُوبُ الْغَسْلِ بِقِرَاءَةِ النَّصْبِ وَوُجُوبُ الْمَسْحِ بِقِرَاءَةِ الْجَرِّ، فَيُخَيَّرُ الْمُكَلَّفُ إِنْ شَاءَ عَمِلَ بِقِرَاءَةِ النَّصْبِ فَغَسَلَ، وَإِنْ شَاءَ عَمِلَ بِقِرَاءَةِ الْخَفْضِ فَمَسَحَ، وَأَيُّهُمَا فَعَلَ يَكُونُ آتِيًا بِالْمَفْرُوضِ، كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي الْأَمْرِ بِأَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (وُضُوء، مَسْح).

ب- حَدُّ السَّرِقَةِ:

3- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَدَّ السَّارِقِ قَطْعُ يَدِهِ لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وَأَوَّلُ مَا يُقْطَعُ مِنَ السَّارِقِ يَدُهُ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّ الْبَطْشَ بِهَا أَقْوَى فَكَانَتِ الْبِدَايَةُ بِهَا أَرْدَعَ؛ وَلِأَنَّهَا آلَةُ السَّرِقَةِ، فَكَانَتِ الْعُقُوبَةُ بِقَطْعِهَا أَوْلَى.

4- وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِنْ سَرَقَ ثَانِيًا قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ فِي السَّارِقِ: «إِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ» وَلِأَنَّهُ فِي الْمُحَارَبَةِ الْمُوجِبَةِ قَطْعَ عُضْوَيْنِ إِنَّمَا تُقْطَعُ يَدُهُ وَرِجْلُهُ، وَلَا تُقْطَعُ يَدَاهُ، وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَرَبِيعَةَ أَنَّهُ إِنْ سَرَقَ ثَانِيًا تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وَلِأَنَّ الْيَدَ آلَةُ السَّرِقَةِ وَالْبَطْشِ فَكَانَتِ الْعُقُوبَةُ بِقَطْعِهَا أَوْلَى، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ- بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ- وَهَذَا شُذُوذٌ يُخَالِفُ قَوْلَ جَمَاعَةِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْأَثَرِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.

5- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا سَرَقَ ثَالِثًا بَعْدَ قَطْعِ يَدِهِ الْيُمْنَى وَرِجْلِهِ الْيُسْرَى.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ مِنْهُ شَيْءٌ بَلْ يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- أُتِيَ بِسَارِقٍ أَقْطَعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ قَدْ سَرَقَ يُقَالُ لَهُ: سَدُومُ، وَأَرَادَ أَنْ يَقْطَعَهُ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ- رضي الله عنه-: إِنَّمَا عَلَيْهِ قَطْعُ يَدٍ وَرِجْلٍ، فَحَبَسَهُ عُمَرُ، وَلَمْ يَقْطَعْهُ.

وَلِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَطَعَ يَدَهُ- الْيُمْنَى- ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الثَّانِيَةَ وَقَدْ سَرَقَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ- الْيُسْرَى- ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الثَّالِثَةَ وَقَدْ سَرَقَ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَا تَرَوْنَ فِي هَذَا؟ قَالُوا: اقْطَعْهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: قَتَلْتُهُ إِذَنْ وَمَا عَلَيْهِ الْقَتْلُ، لَا أَقْطَعُهُ، إِنْ قَطَعْتُ يَدَهُ فَبِأَيِّ شَيْءٍ يَأْكُلُ الطَّعَامَ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ يَغْتَسِلُ مِنْ جَنَابَتِهِ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ يَتَمَسَّحُ، وَإِنْ قَطَعْتُ رِجْلَهُ بِأَيِّ شَيْءٍ يَمْشِي، بِأَيِّ شَيْءٍ يَقُومُ عَلَى حَاجَتِهِ، إِنِّي لأَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ أَنْ لَا أَدَعَ لَهُ يَدًا يَبْطِشُ بِهَا، وَلَا رِجْلًا يَمْشِي عَلَيْهَا، ثُمَّ ضَرَبَهُ بِخَشَبَةٍ وَحَبَسَهُ.

وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَحَمَّادٌ وَالثَّوْرِيُّ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ إِنْ سَرَقَ ثَالِثًا قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى.فَإِنْ سَرَقَ رَابِعًا قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي السَّارِقِ: إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ».وَلِأَنَّهُ فِعْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ- رضي الله عنهما-، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ قَتَادَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَتُقْطَعُ رِجْلُ السَّارِقِ مِنَ الْمَفْصِلِ بَيْنَ السَّاقِ وَالْقَدَمِ.

ج- قَاطِعُ الطَّرِيقِ:

6- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ إِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ، وَكَانَ الْمَالُ الَّذِي أَخَذَهُ بِمِقْدَارِ مَا تُقْطَعُ بِهِ يَدُ السَّارِقِ، فَإِنَّهُ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِفَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْوَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ}.وَبِهَذَا تَتَحَقَّقُ الْمُخَالَفَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ، وَهِيَ أَرْفَقُ بِهِ فِي إِمْكَانِ مَشْيِهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ، فَيَحْكُمُ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ وَالْقَطْعِ وَالنَّفْيِ، سَوَاءٌ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ، أَمْ قَتَلَ فَقَطْ، أَوْ أَخَذَ الْمَالَ فَقَطْ، أَمْ خَوَّفَ دُونَ أَنْ يَقْتُلَ أَوْ يَأْخُذَ الْمَالَ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (حِرَابَة).

د- دِيَةُ الرِّجْلِ:

7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ فِي قَطْعِ الرِّجْلَيْنِ دِيَةً كَامِلَةً، وَفِي قَطْعِ إِحْدَاهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ، وَفِي قَطْعِ أُصْبُعِ الرِّجْلِ عُشْرَ الدِّيَةِ، وَفِي أُنْمُلَتِهَا ثُلُثَ الْعُشْرِ إِلاَّ الْإِبْهَامَ فَفِي أُنْمُلَتِهَا نِصْفُ الْعُشْرِ إِذْ لَيْسَ فِيهِ إِلاَّ أُنْمُلَتَانِ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَتَبَ لَهُ فِي كِتَابِهِ: وَفِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ».قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كِتَابُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَمَا فِيهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ إِلاَّ قَلِيلًا.

وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّ قَطْعَ الرِّجْلِ يُوجِبُ نِصْفَ الدِّيَةِ إِذَا كَانَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ أَوْ مِنْ أُصُولِ الْأَصَابِعِ الْخَمْسَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا قُطِعَتْ مِنَ السَّاقِ أَوْ مِنَ الرُّكْبَةِ أَوْ مِنَ الْفَخِذِ أَوْ مِنَ الْوَرِكِ.

فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ) إِلَى أَنَّ قَطْعَ الرِّجْلِ مِنْ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ لَا تَزِيدُ بِهِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الرِّجْلَ اسْمٌ لِهَذِهِ الْجَارِحَةِ إِلَى أَصْلِ الْفَخِذِ، فَلَا يُزَادُ عَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْعِ، وَلِأَنَّ السَّاقَ أَوِ الْفَخِذَ لَيْسَ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ شَرْعًا، فَيَكُونُ تَبَعًا لِمَا لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ وَهِيَ الْقَدَمُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ حُكُومَةِ عَدْلٍ فِي ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى نِصْفِ الدِّيَةِ الْوَاجِبِ فِي الْقَدَمِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (دِيَة، وَحُكُومَةُ عَدْلٍ)

هـ- هَلِ الرِّجْلُ مِنَ الْعَوْرَةِ؟

8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ رِجْلَ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ عَوْرَةٌ مَا عَدَا قَدَمَيْهَا.

وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ مِنَ الرِّجْلِ عَوْرَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلرِّجَالِ.ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِ الرُّكْبَتَيْنِ وَالسُّرَّةِ مِنَ الرِّجْلِ عَوْرَةٌ.

وَيُنْظَرُ: (عَوْرَة).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


273-موسوعة الفقه الكويتية (رجوع 2)

رُجُوعٌ -2

6- الرُّجُوعُ بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ:

19- الِاسْتِحْقَاقُ- بِمَعْنَاهُ الْأَعَمِّ- ظُهُورُ كَوْنِ الشَّيْءِ حَقًّا وَاجِبًا لِلْغَيْرِ، وَالِاسْتِحْقَاقُ يَرِدُ فِي الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ، فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ وَالْمَسْرُوقُ مِنْهُ يَثْبُتُ لَهُمَا حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ وَيَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ رَدُّ الْمَغْصُوبِ وَالْمَسْرُوقِ لِرَبِّهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ».

وَيَشْمَلُ كَذَلِكَ اسْتِحْقَاقَ الْمَبِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي، أَوِ الْمَوْهُوبِ عَلَى الْمُتَّهَبِ، فَيَتَبَيَّنُ فَسَادُ الْعَقْدِ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيَتَوَقَّفُ نَفَاذُ الْعَقْدِ عَلَى الْإِجَازَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَيَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي فِي الْجُمْلَةِ حَقُّ الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ ثُبُوتُ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِحْقَاق).

7- الرُّجُوعُ بِسَبَبِ الْأَدَاءِ وَوُجُودِ الْإِذْنِ:

20- أَدَاءُ الدَّيْنِ بِإِذْنِ الْمَدِينِ فِي الْأَدَاءِ أَوْ فِي الضَّمَانِ مِنْ أَسْبَابِ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَدِينِ، فَمَنْ أَذِنَ لِغَيْرِهِ بِضَمَانِ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ أَذِنَ لَهُ بِأَدَائِهِ فَأَدَّاهُ قَاصِدًا الرُّجُوعَ بِهِ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمَدِينِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، مَعَ مُرَاعَاةِ تَوَافُرِ شُرُوطِ صِحَّةِ الضَّمَانِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ، كَكَوْنِ الضَّامِنِ أَهْلًا لِلتَّبَرُّعِ، وَكَكَوْنِ الدَّيْنِ ثَابِتًا عِنْدَ الضَّمَانِ، وَكَوْنِهِ مَعْلُومًا عِنْدَ مَنْ لَا يُجِيزُ ضَمَانَ الْمَجْهُولِ، وَكَأَنْ يُضِيفَ الْمَضْمُونُ الضَّمَانَ إِلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يَقُولَ: اضْمَنْ عَنِّي.كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ وَالِاسْتِثْنَاءَاتِ.

لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الرُّجُوعِ وَعَدَمِهِ عِنْدَ ضَمَانِ الدَّيْنِ وَأَدَائِهِ دُونَ إِذْنِ الْمَدِينِ فِي الضَّمَانِ أَوْ فِي الْأَدَاءِ.فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَنْ أَدَّى دَيْنَ غَيْرِهِ دُونَ إِذْنِهِ فَلَا يَحِقُّ لَهُ الرُّجُوعُ بِمَا أَدَّى؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَدِينِ تَبَرُّعٌ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْغَيْرِ فَلَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ.

أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ لِصِحَّةِ الضَّمَانِ وَالْأَدَاءِ دُونَ إِذْنِ الْمَدِينِ، وَهَذَا إِذَا ضَمِنَ أَوْ أَدَّى عَلَى سَبِيلِ الرِّفْقِ بِالْمَدِينِ، أَمَّا إِنْ كَانَ الْغَرَضُ إِضْرَارَهُ بِسُوءِ طَلَبِهِ وَحَبْسِهِ لِعَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْمَدِينِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الدَّيْنِ الَّذِي أَدَّاهُ لَهُ.

وَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: إِنِ انْتَفَى الْإِذْنُ فِي الْأَدَاءِ وَالضَّمَانِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ رُجُوعٌ لَمَا صَلَّى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْمَيِّتِ بِضَمَانِ أَبِي قَتَادَةَ.

وَإِنْ أَذِنَ الْمَدِينُ فِي الضَّمَانِ فَقَطْ وَسَكَتَ عَنِ الْأَدَاءِ رَجَعَ فِي الْأَصَحِّ لِأَنَّهُ أَذِنَ فِي سَبَبِ الْأَدَاءِ، وَالثَّانِي: لَا يَرْجِعُ لِانْتِفَاءِ الْإِذْنِ فِي الْأَدَاءِ.

21- وَيُسْتَثْنَى مِنْ أَحَقِّيَّةِ الرُّجُوعِ- إِذَا وُجِدَ الْإِذْنُ فِي الضَّمَانِ- مَا إِذَا ثَبَتَ الضَّمَانُ بِبَيِّنَةٍ وَهُوَ مُنْكِرٌ، كَأَنِ ادَّعَى عَلَى زَيْدٍ وَغَائِبٍ أَلْفًا، وَأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ضَمِنَ مَا عَلَى الْآخَرِ بِإِذْنِهِ، فَأَنْكَرَ زَيْدٌ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً وَغَرَّمَهُ، لَمْ يَرْجِعْ زَيْدٌ عَلَى الْغَائِبِ بِالنِّصْفِ؛ لِكَوْنِهِ مُكَذِّبًا بِالْبَيِّنَةِ، فَهُوَ مَظْلُومٌ بِزَعْمِهِ، فَلَا يَرْجِعُ عَلَى غَيْرِ ظَالِمِهِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ الضَّامِنُ بِالْإِذْنِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُؤَدِّيَ دَيْنَ فُلَانٍ وَلَا أَرْجِعَ بِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا أَدَّى لَا يَرْجِعُ.

وَإِنْ أَذِنَ الْمَدِينُ فِي الْأَدَاءِ وَانْتَفَى الْإِذْنُ فِي الضَّمَانِ فَضَمِنَ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَأَدَّى بِالْإِذْنِ، فَلَا رُجُوعَ لَهُ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَلَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ: يَرْجِعُ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ الدَّيْنَ عَنِ الْأَصِيلِ بِإِذْنِهِ،

وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ أَدَّى وَشَرَطَ الرُّجُوعَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ بَنَوْا ثُبُوتَ الْحَقِّ فِي الرُّجُوعِ وَعَدَمِهِ عَلَى النِّيَّةِ.قَالُوا: إِنْ قَضَى الضَّامِنُ الدَّيْنَ وَلَمْ يَنْوِ رُجُوعًا عَلَى مَضْمُونٍ عَنْهُ بِمَا قَضَاهُ لَمْ يَرْجِعْ؛ لِأَنَّهُ مُتَطَوِّعٌ سَوَاءٌ ضَمِنَ بِإِذْنِهِ أَمْ لَا، وَإِنْ نَوَى الرُّجُوعَ رَجَعَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الضَّمَانُ أَوِ الْقَضَاءُ بِإِذْنِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ أَمْ بِدُونِ إِذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ مُبَرِّئٌ مِنْ دَيْنٍ وَاجِبٍ فَكَانَ مِنْ ضَمَانِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، كَالْحَاكِمِ إِذَا قَضَاهُ عَنْهُ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ، وَلَوْ لَمْ يَأْذَنْ فِي قَضَاءٍ وَلَا ضَمَانٍ، وَأَمَّا قَضَاءُ عَلِيٍّ وَأَبِي قَتَادَةَ فَكَانَ تَبَرُّعًا؛ لِقَصْدِ بَرَاءَةِ ذِمَّةِ الْمَدِينِ الْمُتَوَفَّى لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-.

وَالْكَلَامُ فِيمَنْ نَوَى الرُّجُوعَ لَا فِيمَنْ تَبَرَّعَ،

هَكَذَا جَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ وَشَرْحِ مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ، لَكِنَّ ابْنَ قُدَامَةَ ذَكَرَ رِوَايَةً فِي أَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَقَضَى بِغَيْرِ إِذْنٍ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ وَلَوْ نَوَى الرُّجُوعَ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَأَبِي قَتَادَةَ فَإِنَّهُمَا لَوْ كَانَا يَسْتَحِقَّانِ الرُّجُوعَ عَلَى الْمَيِّتِ صَارَ الدَّيْنُ لَهُمَا فَكَانَتْ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ مَشْغُولَةً بِدَيْنِهِمَا كَاشْتِغَالِهَا بِدَيْنِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-؛ لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِذَلِكَ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَلَفَ دَوَابَّهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا: إِنْ قَضَى الدَّيْنَ وَلَمْ يَنْوِ رُجُوعًا وَلَا تَبَرُّعًا بَلْ ذَهِلَ عَنْ قَصْدِهِ الرُّجُوعَ وَعَدَمَهُ لَمْ يَرْجِعْ كَالْمُتَبَرِّعِ لِعَدَمِ قَصْدِهِ الرُّجُوعَ.

22- هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِدَيْنِ الْآدَمِيِّ، أَمَّا دَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ فَإِنَّ مَنْ أَدَّى زَكَاةَ غَيْرِهِ دُونَ إِذْنِهِ فَلَا يُجْزِئُ مَا أَدَّاهُ عَنِ الزَّكَاةِ لِاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهَا وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِمَا أَدَّى، إِلاَّ أَنَّ الزَّكَاةَ إِنْ أَخْرَجَهَا أَحَدٌ بِغَيْرِ عِلْمِ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ الْإِمَامِ فَمُقْتَضَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا فِي الْأُضْحِيَّةِ يَذْبَحُهَا غَيْرُ رَبِّهَا بِغَيْرِ عِلْمِهِ وَإِذْنِهِ إِنْ كَانَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ صَدِيقَهُ وَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ عِنْدَهُ لِتَمَكُّنِ الصَّدَاقَةِ بَيْنَهُمَا، أَجْزَأَتْهُ الْأُضْحِيَّةُ إِنْ كَانَ مُخْرِجَ الزَّكَاةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَمُقْتَضَى قَوْلِهِمْ فِي الْأُضْحِيَّةِ أَنَّ الزَّكَاةَ تُجْزِئُهُ، لِأَنَّ كِلَيْهِمَا عِبَادَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا مُفْتَقِرَةٌ لِلنِّيَّةِ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لَا تُجْزِئُ عَنْ رَبِّهَا لِافْتِقَارِهَا لِلنِّيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ لِأَجْلِ شَائِبَةِ الْعِبَادَةِ.

وَإِنْ أَمَرَ شَخْصٌ غَيْرَهُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ عَنْهُ أَجْزَأَتْ، وَكَانَ لِلْمُؤَدِّي حَقُّ الرُّجُوعِ بِاتِّفَاقٍ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اشْتَرَطُوا ضَمَانَ الْآمِرِ بِأَنْ يَقُولَ: عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ فِي بَابِ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ يَثْبُتُ لِلْقَابِضِ مِلْكٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْمِثْلِ، حَتَّى لَوْ ظَهَرَ أَنْ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ لَا يَسْتَرِدُّ مِنَ الْفَقِيرِ مَا قَبَضَ، فَيَثْبُتُ لِلْآمِرِ مِلْكُ مِثْلِ ذَلِكَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِلاَّ بِالشَّرْطِ.قَالَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ:

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْكَفَالَةِ تَضَمَّنَ طَلَبَ الْقَرْضِ إِذَا ذَكَرَ لَفْظَةَ «عَنِّي»، وَفِي قَضَاءِ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ طَلَبُ اتِّهَابٍ، وَلَوْ ذَكَرَ لَفْظَةَ «عَنِّي».

ثَانِيًا: الرُّجُوعُ مِنَ الْمَكَانِ وَإِلَيْهِ:

23- مِنْ أَسْبَابِ الرُّجُوعِ مِنَ الْمَكَانِ أَوْ إِلَيْهِ النُّزُولُ عَلَى حُكْمِ الشَّرْعِ، وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ فِي أَمَاكِنَ مُتَفَرِّقَةٍ وَمِنْ ذَلِكَ.

أ- رُجُوعُ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ الْمَكَانِيَّ لِلْحَجِّ دُونَ إِحْرَامٍ:

24- لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مِيقَاتٌ مَكَانِيٌّ حَدَّدَهُ الشَّرْعُ، وَالْإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ الْمُحَدَّدِ لِمُرِيدِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ مَرَّ بِهِ، وَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ لِيُحْرِمَ مِنْهُ إِنْ أَمْكَنَهُ، فَإِنْ رَجَعَ إِلَيْهِ فَأَحْرَمَ مِنْهُ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَتَجَاوَزْهُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ مِنَ الْمِيقَاتِ الَّذِي أُمِرَ بِالْإِحْرَامِ مِنْهُ.

وَإِنْ تَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ وَأَحْرَمَ فَعَلَيْهِ دَمٌ، سَوَاءٌ رَجَعَ إِلَى الْمِيقَاتِ أَوْ لَمْ يَرْجِعْ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ يَتَلَبَّسَ بِنُسُكٍ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ عَادَ فَلَبَّى سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ، وَإِنْ لَمْ يُلَبِّ لَمْ يَسْقُطْ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ لِلَّذِي أَحْرَمَ بَعْدَ الْمِيقَاتِ: ارْجِعْ إِلَى الْمِيقَاتِ فَلَبِّ وَإِلاَّ فَلَا حَجَّ لَكَ، فَأَوْجَبَ التَّلْبِيَةَ مِنَ الْمِيقَاتِ فَلَزِمَ اعْتِبَارُهَا، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَسْقُطُ الدَّمُ، لَبَّى أَوْ لَمْ يُلَبِّ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الدَّمِ فِي هَذِهِ الْجِنَايَةِ بِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ مِنْ غَيْرِ إِحْرَامٍ فَلَا تَنْعَدِمُ الْجِنَايَةُ بِعَوْدِهِ فَلَا يَسْقُطُ الدَّمُ، وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ مَا تَلَبَّسَ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ مِنْ طَوَافٍ وَغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ بِاتِّفَاقٍ.

ب- رُجُوعُ الْمُعْتَدَّةِ إِلَى مَنْزِلِ الْعِدَّةِ:

25- يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ خَرَجَتْ لِحَجٍّ أَوْ زِيَارَةٍ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهَا مُوجِبُ الْعِدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ مَوْتِ زَوْجِهَا هَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ إِلَى مَنْزِلِهَا لِتَعْتَدَّ فِيهِ لِوُجُوبِ ذَلِكَ شَرْعًا عَلَيْهَا حَيْثُ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُعْتَدَّاتِ عَنِ الْخُرُوجِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} أَمْ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ؟ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ لَزِمَتْهَا عِدَّةُ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ عِدَّةُ وَفَاةٍ بَعْدَمَا خَرَجَتْ لِلْحَجِّ فَإِنْ كَانَ إِلَى مَنْزِلِهَا أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ سَفَرٍ وَإِلَى مَكَّةَ مُدَّةُ سَفَرٍ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى مَنْزِلِهَا لِتَعْتَدَّ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِنْشَاءُ سَفَرٍ فَصَارَ كَأَنَّهَا فِي بَلَدِهَا.

وَإِنْ كَانَ إِلَى مَكَّةَ أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ سَفَرٍ وَإِلَى مَنْزِلِهَا مُدَّةُ سَفَرٍ مَضَتْ إِلَى مَكَّةَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى الْمَحْرَمِ فِي أَقَلَّ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ سَفَرٍ فَهِيَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَتْ مَضَتْ وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ إِلَى مَنْزِلِهَا، وَالرُّجُوعُ أَوْلَى لِيَكُونَ الِاعْتِدَادُ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِيَّةِ، وَهُوَ أَوْجَهُ.نَقَلَ هَذَا ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ، وَفِي الْعِنَايَةِ وَالنِّهَايَةِ يَتَعَيَّنُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهَا إِذَا رَجَعَتْ صَارَتْ مُقِيمَةً، وَإِذَا مَضَتْ كَانَتْ مُسَافِرَةً.

وَإِنْ كَانَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مُدَّةُ سَفَرٍ، فَإِنْ كَانَتْ فِي مِصْرَ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ وَجَدَتْ مَحْرَمًا.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إِذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِلَا مَحْرَمٍ بِلَا خِلَافٍ.وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَفَازَةِ أَوْ فِي بَعْضِ الْقُرَى بِحَيْثُ لَا تَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا فَلَهَا أَنْ تَمْضِيَ فَتَدْخُلَ مَوْضِعَ الْأَمْنِ، ثُمَّ لَا تَخْرُجُ مِنْهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، سَوَاءٌ وَجَدَتْ مَحْرَمًا أَمْ لَمْ تَجِدْ.

وَعِنْدَهُمَا تَخْرُجُ إِذَا وَجَدَتْ مَحْرَمًا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: عَلَى الْمُعْتَدَّةِ أَنْ تُمْضِيَ مُدَّةَ الْعِدَّةِ فِي بَيْتِهَا الَّذِي كَانَتْ فِيهِ قَبْلَ طُرُوءِ الْعِدَّةِ، وَلَوْ كَانَتْ قَدْ نَقَلَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الْمَوْتِ أَوِ الطَّلَاقِ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ، وَاتُّهِمَ أَنَّهُ نَقَلَهَا لِيُسْقِطَ سُكْنَاهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ مُقِيمَةً بِغَيْرِ مَسْكَنِهَا وَقْتَ الْمَوْتِ أَوِ الطَّلَاقِ فَيَجِبُ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ لِمَنْزِلِهَا لِتَعْتَدَّ فِيهِ. وَلَوْ خَرَجَتْ لِحَجِّ الصَّرُورَةِ مَعَ زَوْجِهَا وَمَاتَ الزَّوْجُ أَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ سَيْرِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تَرْجِعَ لِتَعْتَدَّ بِمَنْزِلِهَا إِنْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنَ الْعِدَّةِ بَعْدَ رُجُوعِهَا وَلَوْ يَوْمًا وَاحِدًا.لَكِنَّ الرُّجُوعَ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا كَانَتْ لَمْ تُحْرِمِ بِالْحَجِّ، فَإِنْ كَانَتْ دَخَلَتْ فِي الْإِحْرَامِ وَلَوْ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ سَفَرِهَا فَلَا تَرْجِعُ.

وَلَوْ خَرَجَتْ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ أَوْ لِزِيَارَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقُرَبِ فَيَجِبُ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ وَلَوْ وَصَلَتْ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي تُرِيدُهُ وَلَوْ بَعْدَ إِقَامَتِهَا نَحْوَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ.

وَلَوْ خَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا لِلْإِقَامَةِ فِي مَكَانٍ آخَرَ بَعْدَ رَفْضِ السُّكْنَى فِي الْمَسْكَنِ الْأَوَّلِ فَطُلِّقَتْ أَوْ مَاتَ زَوْجُهَا فَهِيَ بِالْخِيَارِ فِي الِاعْتِدَادِ بِأَيِّ مَكَانٍ شَاءَتْ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوِ انْتَقَلَتِ الزَّوْجَةُ بِإِذْنِ الزَّوْجِ إِلَى مَسْكَنٍ آخَرَ فِي الْبَلَدِ فَوَجَبَتِ الْعِدَّةُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ قَبْلَ وُصُولِهَا إِلَى الْمَسْكَنِ الْآخَرِ فَلَا تَرْجِعُ إِلَى مَسْكَنِهَا الْأَوَّلِ، بَلْ تَعْتَدُّ فِي الثَّانِي عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِالْقِيَامِ فِيهِ، وَقِيلَ: تَعْتَدُّ فِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعِدَّةِ لَمْ يَحْصُلْ وَقْتَ الْفِرَاقِ فِي الثَّانِي، وَقِيلَ: تَتَخَيَّرُ لِتَعَلُّقِهَا بِكُلٍّ مِنْهُمَا.

أَمَّا إِذَا وَجَبَتِ الْعِدَّةُ بَعْدَ وُصُولِهَا لِلثَّانِي اعْتَدَّتْ فِيهِ جَزْمًا.وَإِنْ كَانَ الِانْتِقَالُ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ وَوَجَبَتِ الْعِدَّةُ رَجَعَتْ إِلَى الْأَوَّلِ وَلَوْ بَعْدَ وُصُولِهَا لِلثَّانِي لِعِصْيَانِهَا بِذَلِكَ، إِلاَّ إِذَا أَذِنَ لَهَا بَعْدَ الْوُصُولِ.

وَإِنْ أَذِنَ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ فِي سَفَرِ حَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ تِجَارَةٍ، أَوِ اسْتِحْلَالِ مَظْلِمَةٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ كَسَفَرٍ لِحَاجَتِهَا، ثُمَّ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، فَإِنْ كَانَتْ لَمْ تُفَارِقْ عُمْرَانَ الْبَلَدِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَشْرَعْ فِي السَّفَرِ.

وَإِنْ فَارَقَتْ عُمْرَانَ الْبَلَدِ وَوَجَبَتِ الْعِدَّةُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فَلَهَا الرُّجُوعُ وَلَهَا الْمُضِيُّ فِي السَّفَرِ؛ لِأَنَّ فِي قَطْعِهَا عَنِ السَّفَرِ مَشَقَّةً، لَا سِيَّمَا إِذَا بَعُدَتْ عَنِ الْبَلَدِ، أَوْ خَافَتْ الِانْقِطَاعَ عَنِ الرُّفْقَةِ، وَالْأَفْضَلُ الرُّجُوعُ.وَإِذَا اخْتَارَتِ الْمُضِيَّ وَمَضَتْ لِمَقْصِدِهَا أَوْ بَلَغَتْهُ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ بَعْدَ قَضَاءِ حَاجَتِهَا دُونَ تَقَيُّدٍ بِمُدَّةِ السَّفَرِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ.وَيَجِبُ الرُّجُوعُ بَعْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ لِتَعْتَدَّ مَا بَقِيَ مِنَ الْعِدَّةِ فِي مَسْكَنِهَا.

وَإِذَا سَافَرَتْ لِنُزْهَةٍ أَوْ زِيَارَةٍ أَوْ سَافَرَ بِهَا الزَّوْجُ لِحَاجَتِهِ وَوَجَبَتِ الْعِدَّةُ فَلَا تَزِيدُ عَلَى مُدَّةِ إِقَامَةِ الْمُسَافِرِينَ ثُمَّ تَعُودُ.

وَإِنْ قَدَّرَ لَهَا الزَّوْجُ مُدَّةً فِي نُقْلَةٍ أَوْ سَفَرِ حَاجَةٍ أَوْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ كَاعْتِكَافٍ، اسْتَوْفَتْهَا وَعَادَتْ لِتَمَامِ الْعِدَّةِ. وَلَوْ أَحْرَمَتْ بِحَجٍّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ، فَإِنْ خَافَتْ فَوَاتَ الْحَجِّ لِضِيقِ الْوَقْتِ وَجَبَ عَلَيْهَا الْخُرُوجُ مُعْتَدَّةً لِتَقَدُّمِ الْإِحْرَامِ، وَإِنْ لَمْ تَخَفْ فَوَاتَ الْحَجِّ لِسَعَةِ الْوَقْتِ جَازَ لَهَا الْخُرُوجُ إِلَى ذَلِكَ لِمَا فِي تَعْيِينِ الصَّبْرِ مِنْ مَشَقَّةِ الْمُصَابَرَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ سَافَرَتْ بِإِذْنِ زَوْجِهَا أَوْ مَعَهُ لِنُقْلَةٍ مِنْ بَلَدٍ إِلَى آخَرَ فَمَاتَ قَبْلَ مُفَارَقَةِ الْبُنْيَانِ رَجَعَتْ وَاعْتَدَّتْ بِمَنْزِلِهَا؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْمُقِيمَةِ، وَلَوْ سَافَرَتْ لِغَيْرِ نُقْلَةٍ كَتِجَارَةٍ وَزِيَارَةٍ وَلَوْ لِحَجٍّ وَلَمْ تُحْرِمْ وَمَاتَ زَوْجُهَا قَبْلَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ رَجَعَتْ وَاعْتَدَّتْ بِمَنْزِلِهَا، لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: تُوُفِّيَ أَزْوَاجُ نِسَاءٍ وَهُنَّ حَاجَّاتٌ أَوْ مُعْتَمِرَاتٌ فَرَدَّهُنَّ عُمَرُ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ حَتَّى يَعْتَدِدْنَ فِي بُيُوتِهِنَّ وَلِأَنَّهَا أَمْكَنَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي مَنْزِلِهَا قَبْلَ أَنْ تَبْعُدَ فَلَزِمَهَا كَمَا لَوْ لَمْ تُفَارِقِ الْبُنْيَانَ.

وَإِنْ مَاتَ زَوْجُهَا بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبُنْيَانِ، فَإِنْ كَانَ سَفَرُهَا لِنُقْلَةٍ، أَوْ بَعْدَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ إِنْ كَانَ لِغَيْرِ نُقْلَةٍ، فَإِنَّهَا تُخَيَّرُ بَيْنَ الرُّجُوعِ فَتَعْتَدُّ فِي مَنْزِلِهَا وَبَيْنَ الْمُضِيِّ إِلَى مَقْصِدِهَا؛ لِأَنَّ كِلَا الْبَلَدَيْنِ سَوَاءٌ.وَحَيْثُ مَضَتْ أَقَامَتْ لِقَضَاءِ حَاجَتِهَا، فَإِنْ كَانَ لِنُزْهَةٍ أَوْ زِيَارَةٍ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَدَّرَ لَهَا مُدَّةَ إِقَامَتِهَا أَقَامَتْهَا، وَإِلاَّ أَقَامَتْ ثَلَاثًا، فَإِذَا مَضَتِ الْمُدَّةُ أَوْ قَضَتْ حَاجَتَهَا، فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ وَنَحْوُهُ أَتَمَّتِ الْعِدَّةَ بِمَكَانِهَا، وَكَذَا إِنْ كَانَتْ لَا تَصِلُ إِلَى مَنْزِلِهَا إِلاَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَإِلاَّ لَزِمَهَا الْعَوْدُ لِتُتِمَّ الْعِدَّةَ بِمَنْزِلِهَا.

وَمَنْ أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ بِإِذْنِ الزَّوْجِ ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ، فَإِنْ كَانَتْ سَارَتْ مَسَافَةً أَقَلَّ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ اعْتِدَادِهَا بِمَنْزِلِهَا وَبَيْنَ الْحَجِّ بِأَنِ اتَّسَعَ الْوَقْتُ لَهُمَا، عَادَتْ لِمَنْزِلِهَا فَاعْتَدَّتْ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهَا الْجَمْعُ، بِأَنْ كَانَ الْوَقْتُ لَا يَتَّسِعُ لَهُمَا، قَدَّمَتِ الْحَجَّ إِنْ كَانَتْ بَعُدَتْ عَنْ بَلَدِهَا بِأَنْ كَانَتْ سَافَرَتْ مَسَافَةَ قَصْرٍ، وَإِنْ لَمْ تَبْعُدْ مَسَافَةَ قَصْرٍ وَقَدْ أَحْرَمَتْ قَدَّمَتِ الْعِدَّةَ وَرَجَعَتْ وَتَتَحَلَّلُ بِعُمْرَةٍ.ج- الرُّجُوعُ عِنْدَ عَدَمِ الْإِذْنِ:

26- لَا يَجُوزُ لِإِنْسَانٍ دُخُولُ بَيْتِ غَيْرِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، مَالِكًا كَانَ مَنْ بِالْمَنْزِلِ، أَوْ مُسْتَأْجِرًا، أَوْ مُسْتَعِيرًا، إِذَا كَانَ الدَّاخِلُ أَجْنَبِيًّا أَوْ قَرِيبًا غَيْرَ مَحْرَمٍ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْبَابُ مُغْلَقًا أَوْ مَفْتُوحًا.

وَالْوَاجِبُ الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثًا، فَإِنْ أُذِنَ لَهُ بِالدُّخُولِ دَخَلَ، وَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ أَوْ قِيلَ لَهُ: ارْجِعْ، رَجَعَ وُجُوبًا دُونَ إِلْحَاحٍ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَأَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}

أَيْ إِذَا رَدُّوكُمْ مِنَ الْبَابِ قَبْلَ الْإِذْنِ أَوْ بَعْدَهُ فَرُجُوعُكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ.

د- الرُّجُوعُ مِنَ السَّفَرِ لِحَقِّ الزَّوْجَةِ:

27- لِلزَّوْجَةِ حَقٌّ فِي الْوَطْءِ فِي الْجُمْلَةِ، وَفِي مُؤَانَسَةِ زَوْجِهَا لَهَا، وَلِذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ كَانَ مُسَافِرًا التَّعْجِيلُ بِالرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِهِ بَعْدَ قَضَاءِ حَاجَتِهِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ، فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَلْيُعَجِّلِ الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِ».

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي الْحَدِيثِ: كَرَاهَةُ التَّغَرُّبِ عَنِ الْأَهْلِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَاسْتِحْبَابُ اسْتِعْجَالِ الرُّجُوعِ، وَلَا سِيَّمَا مَنْ يَخْشَى عَلَيْهِمُ الضَّيْعَةَ بِالْغَيْبَةِ، وَلِذَلِكَ يُكْرَهُ أَنْ يَغِيبَ الرَّجُلُ فِي سَفَرِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ (أَيْ أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ) وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- سَأَلَ حَفْصَةَ: كَمْ تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ عَنِ الرَّجُلِ؟ فَقَالَتْ: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَأَمَرَ أُمَرَاءَ الْأَجْنَادِ أَنْ لَا يَتَخَلَّفَ الْمُتَزَوِّجُ عَنْ أَهْلِهِ أَكْثَرَ مِنْهَا عَنْهَا، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ زِيَادَةُ مُضَارَّةٍ بِهَا لَمَا شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْفِرَاقَ بِالْإِيلَاءِ مِنْهَا، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ: خَمْسَةَ أَشْهُرٍ أَوْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَأَنَّ عُمَرَ وَقَّتَ لِلنَّاسِ فِي مَغَازِيهِمْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَرْجِعُونَ بَعْدَهَا.

هـ- الرُّجُوعُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُنْكَرِ:

28- وُجُودُ الْمُنْكَرِ فِي أَيِّ مَكَانٍ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الرُّجُوعِ عَنْهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِزَالَتِهِ.

فَمَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ فَعَلَيْهِ الْإِجَابَةُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُنْكَرٌ كَخَمْرٍ وَنَحْوِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي، فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ الْإِنْكَارُ وَإِزَالَةُ الْمُنْكَرِ لَزِمَهُ الْحُضُورُ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِنْكَارِ لَا يَلْزَمْهُ الْحُضُورُ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِوُجُودِ الْمُنْكَرِ حَتَّى حَضَرَ أَزَالَهُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ رَجَعَ، وَقِيلَ: يَصْبِرُ مَعَ الْإِنْكَارِ بِقَلْبِهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ.

وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (مُنْكَر، دَعْوَة).

ثَالِثًا: امْتِنَاعُ الرُّجُوعِ:

29- يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ لِأَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْهَا:

أ- حُكْمُ الشَّرْعِ:

30- بَعْضُ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَتِمُّ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا نُزُولًا عَلَى حُكْمِ الشَّرْعِ، وَذَلِكَ كَالصَّدَقَةِ، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ لِإِرَادَةِ الثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.وَقَدْ قَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: مَنْ وَهَبَ هِبَةً عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهَا وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، إِذِ الرَّأْيُ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ عَلَى الْوَلَدِ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا.وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ لِغَيْرِ الْوَلَدِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ- الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً ثُمَّ يَرْجِعَ فِيهَا إِلاَّ الْوَالِدُ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ».وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَلَا فِي هِبَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الرَّجُلُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا» أَيْ لَمْ يُعَوَّضْ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ عِوَضٌ مَعْنًى؛ لِأَنَّ التَّوَاصُلَ سَبَبُ التَّنَاصُرِ وَالتَّعَاوُنِ فِي الدُّنْيَا، فَيَكُونُ وَسِيلَةً إِلَى اسْتِيفَاءِ النُّصْرَةِ، وَسَبَبِ الثَّوَابِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَكَانَ أَقْوَى مِنَ الْمَالِ، وَأَمَّا امْتِنَاعُ الرُّجُوعِ بِالنِّسْبَةِ لِهِبَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ؛ فَلِأَنَّ صِلَةَ الزَّوْجِيَّةِ تَجْرِي مَجْرَى صِلَةِ الْقَرَابَةِ الْكَامِلَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ التَّوَارُثِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ.

وَكَذَلِكَ يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ إِلَى الْفَقِيرِ بَعْدَ قَبْضِهَا؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ إِلَى الْفَقِيرِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَطْلُبُ بِهَا الثَّوَابَ كَالصَّدَقَةِ وَلَا رُجُوعَ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى الْفَقِيرِ بَعْدَ قَبْضِهَا لِحُصُولِ الثَّوَابِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْعِوَضِ بِوَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَالْوَقْفُ إِذَا تَمَّ وَلَزِمَ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ لِأَنَّهُ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: «أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ فَمَا تَأْمُرُ بِهِ؟ فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا

قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ».

انْظُرْ: مُصْطَلَحَاتِ: (صَدَقَة، وَقْف، هِبَة)

ب- الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ:

31- الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ إِذَا تَمَّتْ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَخَلَتْ مِنَ الْخِيَارَاتِ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ- إِلاَّ بِرِضَاهُمَا مَعًا كَمَا فِي الْإِقَالَةِ- وَذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ إِذَا لَزِمَ وَتَمَّ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ بِلَا مُوجِبٍ؛ لِأَنَّهَا أَوْجَبَتْ حَقًّا لَازِمًا أَوْ مِلْكًا لَازِمًا لِلْغَيْرِ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أَوْ خِيَارٌ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ (بَيْع، إِجَارَة).

ج- تَعَذُّرُ الرُّجُوعِ:

32- تَعَذُّرُ الرُّجُوعِ فِيمَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ قَدْ يَمْنَعُ حَقَّ الرُّجُوعِ وَيُسْقِطُهُ.وَمِنْ ذَلِكَ تَعَذُّرُ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ الَّتِي يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا، وَذَلِكَ كَخُرُوجِ الْمَوْهُوبِ مِنْ مِلْكِ الْوَاهِبِ، وَمَوْتِ الْوَاهِبِ أَوِ الْمَوْهُوبِ لَهُ.وَالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ، عَلَى مَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، أَوِ الْمُنْفَصِلَةِ كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ.أَوْ كَانَ الِابْنُ تَزَوَّجَ لِأَجْلِ الْهِبَةِ كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (هِبَة).

د- الْإِسْقَاطُ:

33- مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ السَّاقِطَ يُصْبِحُ كَالْمَعْدُومِ لَا سَبِيلَ إِلَى إِعَادَتِهِ إِلاَّ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ يَصِيرُ مِثْلَهُ لَا عَيْنَهُ.

وَمِنَ الْحُقُوقِ مَا يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ فِيهَا بَعْدَ إِسْقَاطِهَا. وَمِنْ ذَلِكَ: إِذَا أَبْرَأَ الدَّائِنُ الْمَدِينَ فَقَدْ سَقَطَ الدَّيْنُ وَلَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ إِلَى مُطَالَبَةِ الْمَدِينِ إِلاَّ إِذَا وُجِدَ سَبَبٌ جَدِيدٌ، وَمِنْ ذَلِكَ حَقُّ الْقِصَاصِ لَوْ عُفِيَ عَنْهُ فَقَدْ سَقَطَ وَسَلِمَتْ نَفْسُ الْقَاتِلِ وَلَا تُسْتَبَاحُ إِلاَّ بِجِنَايَةٍ أُخْرَى وَكَمَنْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الشُّفْعَةِ فَلَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ إِلَى الْمُطَالَبَةِ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ بَطَلَ فَلَا يَعُودُ إِلاَّ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ؛

وَكَذَلِكَ الرِّضَا بِالْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ وَالتَّصَرُّفُ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُسْقِطُ حَقَّ الْمُشْتَرِي وَلَا يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ بِالْعَيْبِ أَوْ بِفَسْخِ الْبَيْعِ.

وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي: (إِسْقَاط، شُفْعَة، قِصَاص، خِيَار).

رَابِعًا: مَا يَكُونُ بِهِ الرُّجُوعُ:

34- الرُّجُوعُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْلِ كَقَوْلِ الْمُوصِي: رَجَعْتُ فِي الْوَصِيَّةِ أَوْ فَسَخْتُهَا، أَوْ رَدَدْتُهَا، أَوْ أَبْطَلْتُهَا، أَوْ نَقَضْتُهَا.

وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْهِبَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُقُودِ الَّتِي يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا.

وَكَقَوْلِ الرَّاجِعِ عَنِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَى: كَذَبْتُ، أَوْ رَجَعْتُ عَمَّا أَقْرَرْتُ بِهِ، أَوْ مَا زَنَيْتُ.

وَقَدْ يَكُونُ الرُّجُوعُ بِالتَّصَرُّفِ كَأَنْ يَفْعَلَ فِي الْمُوصَى بِهِ فِعْلًا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الرُّجُوعِ، فَلَوْ أَنَّ الْمُوصِيَ فَعَلَ فِي الْمُوصَى بِهِ فِعْلًا لَوْ فَعَلَهُ فِي الْمَغْصُوبِ لَانْقَطَعَ بِهِ مِلْكُ الْمَالِكِ كَانَ رُجُوعًا كَمَا لَوْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ، وَكَمَا إِذَا أَوْصَى بِثَوْبٍ ثُمَّ قَطَعَهُ وَخَاطَهُ قَمِيصًا، أَوْ بِقُطْنٍ ثُمَّ غَزَلَهُ، أَوْ بِحَدِيدَةٍ ثُمَّ صَنَعَ مِنْهَا إِنَاءً؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَمَّا أَوْجَبَتْ حُكْمَ الثَّابِتِ فِي الْمَحَلِّ وَهُوَ الْمِلْكُ فَلأَنْ تُوجِبَ بُطْلَانَ مُجَرَّدِ كَلَامٍ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ أَصْلًا أَوْلَى؛ وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ تُبَدِّلُ الْعَيْنَ وَتُصَيِّرُهَا شَيْئًا آخَرَ اسْمًا وَمَعْنًى فَكَانَ اسْتِهْلَاكًا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، فَكَانَ دَلِيلَ الرُّجُوعِ.

لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْجُحُودِ أَوِ الْإِنْكَارِ هَلْ يَكُونُ رُجُوعًا؟.

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجَحْدَ لَا يَكُونُ رُجُوعًا.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ رِوَايَتَانِ، جَاءَ فِي بَدَائِعِ الصَّنَائِعِ: لَوْ أَوْصَى ثُمَّ جَحَدَ الْوَصِيَّةَ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَكُونُ رُجُوعًا وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى الرُّجُوعِ عَنِ الْوَصِيَّةِ هُوَ فَسْخُهَا وَإِبْطَالُهَا، وَفَسْخُ الْعَقْدِ كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرِّضَا بِالْعَقْدِ السَّابِقِ وَبِثُبُوتِ حُكْمِهِ، وَالْجُحُودُ فِي مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْجَاحِدَ لِتَصَرُّفٍ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ غَيْرُ رَاضٍ بِهِ وَبِثُبُوتِ حُكْمِهِ، فَيَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْفَسْخِ، فَحَصَلَ مَعْنَى الرُّجُوعِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ ثُمَّ عُرِضَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ فَقَالَ: لَا أَعْرِفُ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ، قَالَ: هَذَا رُجُوعٌ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَمْ أُوصِ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَكُونُ الْجَحْدُ رُجُوعًا، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ: إِذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: اشْهَدُوا أَنِّي لَمْ أُوصِ لِفُلَانٍ بِقَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا رُجُوعًا مِنْهُ عَنْ وَصِيَّةِ فُلَانٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنِ الْوَصِيَّةِ يَسْتَدْعِي سَابِقِيَّةَ وُجُودِ الْوَصِيَّةِ، وَالْجُحُودُ إِنْكَارُ وُجُودِهَا أَصْلًا، فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الرُّجُوعِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ رُجُوعًا.قَالَ الْكَاسَانِيُّ: فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ وَمَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ قَوْلَ مُحَمَّدٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ.

وَمِمَّا يُعْتَبَرُ رُجُوعًا عَنِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَى هُرُوبُ الزَّانِي وَلَوْ فِي أَثْنَاءِ إِقَامَةِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ الْهَرَبَ دَلِيلُ الرُّجُوعِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ «لَمَّا هَرَبَ مَاعِزٌ ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: هَلاَّ تَرَكْتُمُوهُ وَجِئْتُمُونِي بِهِ» وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَلَا يُعْتَبَرُ الْهَرَبُ رُجُوعًا، إِلاَّ أَنْ يُصَرِّحَ بِالرُّجُوعِ، وَالْهَرَبُ فَقَطْ لَا يُعْتَبَرُ رُجُوعًا، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِالْإِقْرَارِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالرُّجُوعِ، وَلَكِنْ يُكَفُّ عَنْهُ فَإِنْ رَجَعَ فَذَاكَ، وَإِلاَّ حُدَّ.

خَامِسًا: ارْتِجَاعُ الزَّوْجَةِ:

35- ارْتِجَاعُ الزَّوْجَةِ الْمُطَلَّقَةِ يُسَمَّى رَجْعَةً، وَهِيَ لُغَةً- بِفَتْحِ الرَّاءِ- الْمَرَّةُ مِنَ الرُّجُوعِ، وَشَرْعًا: رَدُّ الْمَرْأَةِ إِلَى النِّكَاحِ مِنْ طَلَاقٍ غَيْرِ بَائِنٍ فِي الْعِدَّةِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} أَيْ رَجْعَتِهِنَّ، وَلَمَّا «طَلَّقَ النَّبِيُّ حَفْصَةَ- رضي الله عنها- جَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ: رَاجِعْ حَفْصَةَ فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ فَرَاجَعَهَا».وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَمَسُّ إِلَى الرَّجْعَةِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُطَلِّقُ ثُمَّ يَنْدَمُ فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّدَارُكِ، وَالرَّجْعَةُ تَكُونُ بِالْقَوْلِ بِاتِّفَاقٍ كَقَوْلِ الزَّوْجِ: رَاجَعْتُ زَوْجَتِي، أَوِ ارْتَجَعْتُهَا، أَوْ رَدَدْتُهَا.

وَتَكُونُ بِالْوَطْءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ)، وَتَكُونُ بِالْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ بِشَهْوَةٍ، وَالنَّظَرِ إِلَى الْفَرْجِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} سَمَّى الرَّجْعَةَ رَدًّا، وَالرَّدُّ لَا يَخْتَصُّ بِالْقَوْلِ كَرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَرَدِّ الْوَدِيعَةِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى- لَا تَحْصُلُ الرَّجْعَةُ بِالْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِبَاحَةُ بُضْعٍ مَقْصُودٍ أُمِرَ بِالْإِشْهَادِ فِيهِ فَلَمْ يَحْصُلْ مِنَ الْقَادِرِ بِغَيْرِ قَوْلٍ كَالنِّكَاحِ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.

وَفِي بَيَانِ أَرْكَانِ الرَّجْعَةِ وَشُرُوطِهَا يُنْظَرُ: (رَجْعَة).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


274-موسوعة الفقه الكويتية (رخصة)

رُخْصَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- تُطْلَقُ كَلِمَةُ رُخْصَةٍ- فِي لِسَانِ الْعَرَبِ- عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ نُجْمِلُ أَهَمَّهَا فِيمَا يَلِي:

أ- نُعُومَةُ الْمَلْمَسِ، يُقَالُ: رَخُصَ الْبَدَنُ رَخَاصَةً إِذَا نَعُمَ مَلْمَسُهُ وَلَانَ، فَهُوَ رَخْصٌ- بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ- وَرَخِيصٌ، وَهِيَ رَخْصَةٌ وَرَخِيصَةٌ.

ب- انْخِفَاضُ الْأَسْعَارِ، يُقَالُ: رَخُصَ الشَّيْءُ رُخْصًا- بِضَمٍّ فَسُكُونٍ- فَهُوَ رَخِيصٌ ضِدُّ الْغَلَاءِ.

ج- الْإِذْنُ فِي الْأَمْرِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ: يُقَالُ: رَخَّصَ لَهُ فِي الْأَمْرِ إِذَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ، وَالِاسْمُ رُخْصَةٌ عَلَى وَزْنِ فُعْلَةٌ مِثْلُ غُرْفَةٍ، وَهِيَ ضِدُّ التَّشْدِيدِ، أَيْ أَنَّهَا تَعْنِي التَّيْسِيرَ فِي الْأُمُورِ، يُقَالُ: رَخَّصَ الشَّرْعُ فِي كَذَا تَرْخِيصًا، وَأَرْخَصَ إِرْخَاصًا إِذَا يَسَّرَهُ وَسَهَّلَهُ.قَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ».

وَفِي الِاصْطِلَاحِ عَرَّفَهَا الْغَزَالِيُّ بِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَمَّا وُسِّعَ لِلْمُكَلَّفِ فِي فِعْلِهِ لِعُذْرٍ عَجَزَ عَنْهُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْعَزِيمَةُ:

2- الْعَزِيمَةُ لُغَةً: الْقَصْدُ الْمُؤَكَّدُ.

وَاصْطِلَاحًا عِبَارَةٌ عَمَّا لَزِمَ الْعِبَادَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى.

فَلَا يُقَالُ رُخْصَةٌ بِدُونِ عَزِيمَةٍ تُقَابِلُهَا، فَهُمَا يَنْتَمِيَانِ مَعًا إِلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الذِّكْرِ، وَهُمَا عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْوَضْعِيَّةِ، وَعَلَى الْمَرْجُوحِ مِنَ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ التَّكْلِيفَ (أَوْ الِاقْتِضَاءَ) مَوْجُودٌ فِي الْعَزِيمَةِ كَمَا أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الرُّخْصَةِ إِلاَّ أَنَّهُ فِي الْأُولَى أَصْلِيٌّ كُلِّيٌّ مُطَّرِدٌ وَاضِحٌ، وَفِي الثَّانِيَةِ طَارِئٌ جُزْئِيٌّ غَيْرُ مُطَّرِدٍ مَعَ خَفَائِهِ وَدِقَّتِهِ.وَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًا أَنَّ الْأُولَى تُمَثِّلُ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ وَأَنَّ الثَّانِيَةَ تُمَثِّلُ حَظَّ الْعِبَادِ مِنْ لُطْفِهِ.

انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (عَزِيمَة).

ب- الْإِبَاحَةُ:

3- الْإِبَاحَةُ هِيَ: تَخْيِيرُ الْمُكَلَّفِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ.فَالْإِبَاحَةُ تُشْعِرُ بِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا أَصْلِيٌّ.وَتَتَلَاقَى فِي بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ مَعَ الرُّخَصِ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِبَاحَة).

ج- رَفْعُ الْحَرَجِ:

4- رَفْعُ الْحَرَجِ فِي الِاصْطِلَاحِ يَتَمَثَّلُ فِي إِزَالَةِ كُلِّ مَا يُؤَدِّي إِلَى مَشَقَّةٍ زَائِدَةٍ فِي الْبَدَنِ أَوِ النَّفْسِ أَوِ الْمَالِ فِي الْبَدْءِ وَالْخِتَامِ، وَالْحَالِ وَالْمَآلِ.وَهُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ ثَبَتَ بِأَدِلَّةٍ قَطْعِيَّةٍ لَا تَقْبَلُ الشَّكَّ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الرُّخْصَةِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ مِنْ وُجُوهٍ:

1- أَنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ أَصْلٌ كُلِّيٌّ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَمَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِهَا- كَمَا سَبَقَ- أَمَّا الرُّخَصُ فَهِيَ فَرْعٌ يَنْدَرِجُ ضِمْنَ هَذَا الْأَصْلِ الْعَامِّ وَجُزْءٌ أُخِذَ مِنْ هَذَا الْكُلِّ، فَرَفْعُ الْحَرَجِ مُؤَدَّاهُ يُسْرُ التَّكَالِيفِ فِي جَمِيعِ أَطْوَارِهَا، وَالرُّخَصُ مُؤَدَّاهَا تَيْسِيرُ مَا شَقَّ عَلَى بَعْضِ النُّفُوسِ عِنْدَ التَّطْبِيقِ مِنْ تِلْكَ الْأَحْكَامِ الْمُيَسَّرَةِ ابْتِدَاءً.

2- أَنَّ الْحَرَجَ مَرْفُوعٌ عَنِ الْأَحْكَامِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ، بَيْنَمَا الرُّخَصُ تَشْمَلُ- عَادَةً- أَحْكَامًا مَشْرُوعَةً بِنَاءً عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ تَنْتَهِي بِانْتِهَائِهَا، وَأُخْرَى تُرَاعَى فِيهَا أَسْبَابٌ مُعَيَّنَةٌ تَتْبَعُهَا وُجُودًا وَعَدَمًا.

وَلَيْسَتِ الرُّخَصُ مُرَادِفَةً لِرَفْعِ الْحَرَجِ وَإِلاَّ لَكَانَتْ أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ كُلُّهَا رُخَصًا بِدُونِ عَزَائِمَ.وَلِتَفْصِيلِ ذَلِكَ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (رَفْعُ الْحَرَجِ).

3- إِذَا رَفَعَ الْمُشَرِّعُ الْحَرَجَ عَنْ فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ فَالَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ الْفِعْلَ إِنْ وَقَعَ مِنَ الْمُكَلَّفِ لَا إِثْمَ وَلَا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِ، وَيَبْقَى الْإِذْنُ فِي الْفِعْلِ مَسْكُوتًا عَنْهُ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَقْصُودٍ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ يُؤْذَنُ فِيهِ، بِخِلَافِ التَّرْخِيصِ فِي الْفِعْلِ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ- إِلَى جَانِبِ ذَلِكَ- الْإِذْنَ فِيهِ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (رَفْعُ الْحَرَجِ).

د- النَّسْخُ:

5- النَّسْخُ اصْطِلَاحًا بَيَانُ انْتِهَاءِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ مُتَرَاخٍ عَنْهُ.فَإِذَا كَانَ النَّسْخُ مِنَ الْأَشَدِّ لِلْأَخَفِّ فَإِنَّهُ يَشْتَرِكُ مَعَ الرُّخْصَةِ فِي الْتِمَاسِ التَّخْفِيفِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُعَدُّ مِنْهَا عَلَى النَّحْوِ الَّذِي سَبَقَ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْأَصْلِيَّ لَمْ يَعُدْ قَائِمًا.انْظُرْ: (نَسْخ).

الْحِكْمَةُ مِنْ تَشْرِيعِ الرُّخَصِ:

6- تَحْقِيقُ مَبْدَأِ الْيُسْرِ وَالسَّمَاحَةِ فِي الْإِسْلَامِ تَحْقِيقًا عَمَلِيًّا تَطْبِيقِيًّا.قَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.وَقَالَ- جَلَّ ذِكْرُهُ-: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}.وَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ» وَقَالَ أَيْضًا: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا، وَلَا مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا»

الصِّيَغُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الرُّخْصَةِ:

7- الرُّخْصَةُ تَكُونُ غَالِبًا بِمَا يَلِي:

أ- مَادَّتُهَا: مِثْلَ رَخَّصَ وَأَرْخَصَ وَرُخْصَةٍ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْغَبُونَ عَمَّا رُخِّصَ لِي فِيهِ» «وَنَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، وَرَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ..» وَفِيهِ- أَيْضًا- أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام-: «رَخَّصَ فِي الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ».

«وَرَخَّصَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْجَرِّ غَيْرِ الْمُزَفَّتِ مِنَ الْأَوْعِيَةِ».«وَرَخَّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ قَبْلَ طَوَافِ الْوَدَاعِ».«وَرَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لِحِكَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا».

«وَرَخَّصَ فِي الرُّقْيَةِ مِنَ الْعَيْنِ..» وَفِي حَدِيثِ جَزَاءِ الصَّيْدِ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ».يَعْنِي عَلَيْكُمْ بِالصَّوْمِ إِذَا كَانَ فِي تَعْوِيضِهِ بِالْأَنْعَامِ عُسْرٌ مَهْمَا كَانَ مَأْتَاهُ.

ب- نَفْيُ الْجُنَاحِ:

وَرَدَ الْجُنَاحُ مَنْفِيًّا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ آيَةً يُسْتَفَادُ مِنْ أَغْلَبِهَا التَّرْخِيصُ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}.

ج- نَفْيُ الْإِثْمِ:

مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَاأُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَاعَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

د- الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ حُكْمٍ عَامٍّ:

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: - فِي شَأْنِ الْإِكْرَاهِ-: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِإِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْأُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}

رَخَّصَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْمُكْرَهِ إِظْهَارَ الْكُفْرِ- إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ التَّلَفَ- فَلَهُ أَنْ يُظْهِرَ الْكُفْرَ بِشَيْءٍ مِنْ مَظَاهِرِهِ الَّتِي يُطْلَقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا كُفْرٌ فِي عُرْفِ النَّاسِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ رِفْقًا بِعِبَادِهِ، وَاعْتِبَارًا لِلْأَشْيَاءِ بِغَايَاتِهَا وَمَقَاصِدِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ «أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ- رضي الله عنهما- قَالَ- بَعْدَ أَنْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ، وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟» قَالَ: مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ.فَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: إِنْ عَادُوا فَعُدْ».

أَقْسَامُ الرُّخْصَةِ:

8- تَنْقَسِمُ الرُّخْصَةُ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ أَهَمُّهَا:

أ- بِاعْتِبَارِ حُكْمِهَا:

الَّذِينَ قَسَّمُوا الرُّخَصَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ هُمُ الشَّافِعِيَّةُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا حَيْثُ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّهَا تَنْقَسِمُ- بِالِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ- إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ:

9- رُخَصٌ وَاجِبَةٌ: مِثْلُ أَكْلِ الْمُضْطَرِّ مِمَّا حُرِّمَ مِنَ الْمَأْكُولَاتِ، وَشُرْبِهِ مِمَّا حُرِّمَ مِنَ الْمَشْرُوبَاتِ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: إِنَّ أَكْلَ الْمُضْطَرِّ أَوْ شُرْبَهُ مِمَّا ذُكِرَ جَائِزٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ يَتَنَافَى مَعَ التَّرْخِيصِ، وَلِذَلِكَ نَقَلُوا عَنْ إِلْكِيَا الْهِرَّاسِيِّ الشَّافِعِيِّ الْقَوْلَ بِأَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ عَزِيمَةٌ لَا رُخْصَةٌ، كَالْفِطْرِ لِلْمَرِيضِ فِي رَمَضَانَ وَنَحْوِهِ هُرُوبًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي التَّنَاقُضِ.

وَقَدْ أَشَارَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ إِلَى خِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي حُرْمَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَنَحْوِهَا فِي حَالِ الضَّرُورَةِ- بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ الْأَكْلِ وَاجِبًا أَوْ جَائِزًا-: هَلْ تُرْفَعُ تِلْكَ الْحُرْمَةُ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَيَصِيرُ أَكْلُهَا مُبَاحًا، أَوْ تَبْقَى وَيَرْتَفِعُ الْإِثْمُ فَقَطْ؟.

بَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّهَا لَا تَحِلُّ، وَلَكِنْ يُرَخَّصُ فِي الْفِعْلِ إِبْقَاءً عَلَى حَيَاةِ الشَّخْصِ- كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ تَرْتَفِعُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ اسْتَنَدَ إِلَى أَدِلَّةٍ مَبْسُوطَةٍ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ.

وَهَذَا الْخِلَافُ تَظْهَرُ لَهُ فَائِدَتَانِ:

الْأُولَى: إِذَا صَبَرَ الْمُضْطَرُّ حَتَّى مَاتَ لَا يَكُونُ آثِمًا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَيَكُونُ آثِمًا عَلَى الثَّانِي.

الثَّانِيَةُ: إِذَا حَلَفَ الْمُكَلَّفُ بِأَنْ لَا يَأْكُلَ حَرَامًا أَبَدًا، فَتَنَاوَلَ مِنْهُ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ يَحْنَثُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَلَا يَحْنَثُ عَلَى الثَّانِي.

الْقِسْمُ الثَّانِي:

10- رُخَصٌ مَنْدُوبَةٌ: مِثْلُ الْقَصْرِ لِلْمُسَافِرِ سَفَرًا يَبْلُغُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْضًا الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسَافِرِ الَّذِي يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، وَالْإِبْرَادُ بِالظُّهْرِ، وَالنَّظَرُ إِلَى الْمَخْطُوبَةِ، وَمُخَالَطَةُ الْيَتَامَى فِي أَمْوَالِهِمْ وَسَائِرِ أَحْوَالِهِمْ مِمَّا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ اعْتِمَادًا عَلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}.حَيْثُ نَصَّ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ تَتَضَمَّنُ تَرْخِيصًا فِي خَلْطِ طَعَامِ الْيَتِيمِ بِطَعَامِ كَافِلِهِ، وَشَرَابِهِ بِشَرَابِهِ، وَمَاشِيَتِهِ بِمَاشِيَتِهِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، كَمَا أَكَّدُوا بِأَنَّهَا أَفَادَتْ حَثًّا عَلَى هَذِهِ الْمُخَالَطَةِ وَتَعْرِيضًا بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ احْتِقَارِ الْيَتِيمِ وَالتَّرَفُّعِ عَنْهُ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ:

11- رُخَصٌ مُبَاحَةٌ: وَقَدْ مَثَّلُوا لَهَا بِالْعُقُودِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، كَالسَّلَمِ، وَالْعَرِيَّةِ، وَالْقِرَاضِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْجُعْلِ، وَنَحْوِهَا مِمَّا أُبِيحَ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ.

الْقِسْمُ الرَّابِعُ:

12- رُخَصٌ جَاءَتْ عَلَى خِلَافِ الْأَوْلَى: مِثْلُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسَافِرِ الَّذِي لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ مَشَقَّةً قَوِيَّةً، وَالتَّيَمُّمِ لِمَنْ وَجَدَ الْمَاءَ يُبَاعُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَالْجَمْعِ الَّذِي لَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَةُ الْمُسَافِرِ.

وَالسُّؤَالِ عَنِ الْأَشْيَاءِ فِي وَقْتِهَا، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَنَسْخِهِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ.

ب- بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ:

تَقْسِيمُ الرُّخَصِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ يُمَثِّلُ وِجْهَةَ نَظَرِ الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ تَوَاطَأَتْ كَلِمَتُهُمْ سَلَفًا وَخَلَفًا عَلَى تَقْسِيمِهَا- بِالِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ- إِلَى قِسْمَيْنِ رَئِيسِيَّيْنِ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: رُخَصٌ حَقِيقِيَّةٌ:

13- وَهِيَ الَّتِي تَقَعُ فِي مُقَابَلَةِ عَزَائِمَ مَا يَزَالُ الْعَمَلُ بِهَا جَارِيًا لِقِيَامِ دَلِيلِهَا، وَهَذَا الْقِسْمُ يَنْقَسِمُ- بِدَوْرِهِ- إِلَى قِسْمَيْنِ:

1- مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ، وَالْحُرْمَةِ مَعًا، وَهُوَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الرُّخَصِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لَمَّا كَانَتْ قَائِمَةً مَعَ سَبَبِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ شَرَعَ لِلْمُكَلَّفِ الْإِقْدَامَ عَلَى الْفِعْلِ دُونَ مُؤَاخَذَةٍ بِنَاءً عَلَى عُذْرِهِ، كَانَ ذَلِكَ الْإِقْدَامُ فِي أَكْمَلِ دَرَجَاتِهِ فَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعَفْوِ عَنِ الْجِنَايَةِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ.وَلَيْسَ فِي الْأَمْرِ أَيُّ غَرَابَةٍ؛ لِأَنَّ كَمَالَ الرُّخَصِ بِكَمَالِ الْعَزَائِمِ، فَكُلَّمَا كَانَتْ هَذِهِ حَقِيقِيَّةً كَامِلَةً ثَابِتَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، كَانَتِ الرُّخْصَةُ فِي مُقَابَلَتِهَا كَذَلِكَ.وَقَدْ ذَكَرُوا- لِهَذَا الْقِسْمِ- أَمْثِلَةً مِنْهَا:

التَّرْخِيصُ فِي إِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ مَعَ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ بِالْقَتْلِ أَوْ بِالْقَطْعِ؛ لِأَنَّ فِي امْتِنَاعِهِ عَنِ الْفِعْلِ إِتْلَافَ ذَاتِهِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَفِي إِقْدَامِهِ عَلَيْهِ إِتْلَافَ حَقِّ الشَّرْعِ صُورَةً دُونَ مَعْنًى حَيْثُ إِنَّ الرُّكْنَ الْأَصْلِيَّ فِي الْإِيمَانِ- وَهُوَ التَّصْدِيقُ- بَاقٍ عَلَى حَالِهِ.وَمَعَ ذَلِكَ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَخْيِيرِهِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، بَلْ رَجَّحَ الْحَنَفِيَّةُ مِنْهُمُ الْأَخْذَ بِالْعَزِيمَةِ فِي هَذَا الْمِثَالِ بِالْخُصُوصِ؛ لِأَنَّ إِحْيَاءَ النُّفُوسِ- هُنَا- يُقَابِلُهُ مَوْقِفٌ عَظِيمٌ مِنْ مَوَاقِفِ السُّمُوِّ وَالْإِبَاءِ وَالتَّمَسُّكِ بِالْحَقِّ مَهْمَا اشْتَدَّتِ الْفِتْنَةُ وَعَظُمَ الْبَلَاءُ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا التَّرْجِيحِ بِمَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ «أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ أَكْرَهَ رَجُلَيْنِ- مِنَ الْمُسْلِمِينَ- عَلَى الْكُفْرِ فَنَطَقَ أَحَدُهُمَا بِكَلِمَتِهِ فَنَجَا، وَأَصَرَّ الْآخَرُ عَلَى الْجَهْرِ بِالْحَقِّ فَهَلَكَ، فَقَالَ فِيهِمَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ أَنْ بَلَغَهُ خَبَرُهُمَا: أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ أَخَذَ بِرُخْصَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ صَدَعَ بِالْحَقِّ فَهَنِيئًا لَهُ».

2- مَا أَبَاحَهُ الشَّرْعُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ وَتَرَاخِي الْحُرْمَةِ: مِثْلُ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسَافِرِ، فَإِنَّ السَّبَبَ الْمُحَرِّمَ لِلْإِفْطَارِ- وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ- قَائِمٌ، لَكِنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ أَوْ حُرْمَةَ الْإِفْطَارِ غَيْرُ قَائِمَةٍ عَلَى الْفَوْرِ بَلْ ثَابِتَةٌ عَلَى التَّرَاخِي بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.

وَالْعَمَلُ بِالْعَزِيمَةِ فِي هَذَا الْقِسْمِ أَيْضًا أَوْلَى مِنَ الْعَمَلِ بِالرُّخْصَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أَيِ الصَّوْمُ أَوْلَى مِنَ الْإِفْطَارِ عِنْدَهُمْ.

أَوَّلًا: لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ- وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ- كَانَ قَائِمًا، وَتَرَاخِي الْحُكْمِ بِالْأَجَلِ غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ التَّعْجِيلِ، مِثْلَمَا هُوَ الْأَمْرُ فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، فَكَانَ الْمُؤَدِّي لِلصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَامِلًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي أَدَاءِ الْفَرْضِ، وَالْمُتَرَخِّصُ بِالْفِطْرِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى التَّرْفِيهِ، فَقَدَّمَ حَقَّ اللَّهِ وَهُوَ أَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ.

ثَانِيًا: لِأَنَّ فِي الْأَخْذِ بِالْعَزِيمَةِ نَوْعَ يُسْرٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي شَهْرِ الصِّيَامِ أَيْسَرُ مِنَ التَّفَرُّدِ بِهِ بَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ.هَذَا إِذَا لَمْ يُضْعِفْهُ الصَّوْمُ، فَإِذَا أَضْعَفَهُ كَانَ الْفِطْرُ أَوْلَى، فَإِنْ صَبَرَ حَتَّى مَاتَ كَانَ آثِمًا بِلَا خِلَافٍ.وَقَدْ رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ الْأَخْذَ بِالرُّخْصَةِ فِي هَذَا الْمِثَالِ، وَالْجَمِيعُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ إِدْرَاكِ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ رَمَضَانَ.وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ أَخَذَ بِالْعَزِيمَةِ فَصَامَ فِي السَّفَرِ وَقَعَ صِيَامُهُ فِي الْفَرْضِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: رُخَصٌ مَجَازِيَّةٌ:

14- وَتُسَمَّى أَيْضًا- فِي اصْطِلَاحِهِمْ-: رُخَصُ الْإِسْقَاطِ، وَقَدْ قَسَّمُوهَا- كَذَلِكَ- إِلَى قِسْمَيْنِ فَرْعِيَّيْنِ:

1- مَا وُضِعَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ- رَحْمَةً بِهَا وَإِكْرَامًا لِنَبِيِّهَا- صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّاقَّةِ الَّتِي كَانَتْ مَفْرُوضَةً عَلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ مِثْلُ:

- قَتْلِ النَّفْسِ لِصِحَّةِ التَّوْبَةِ

- قَرْضِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مِنَ الْجِلْدِ وَالثَّوْبِ.

2- مَا سَقَطَ عَنِ الْعِبَادِ مَعَ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ: فَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ سَقَطَ كَانَ مَجَازًا، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ كَانَ شَبِيهًا بِالرُّخَصِ الْحَقِيقِيَّةِ، مِثْلَ السَّلَمِ وَمَا قَارَبَهُ مِنَ الْعُقُودِ الَّتِي أُبِيحَتْ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ أُصُولٍ مَمْنُوعَةٍ، فَمِنْ حَيْثُ اسْتِثْنَاؤُهَا مِمَّا ذُكِرَ سَقَطَ الْمَنْعُ مِنْهَا فَشَابَهَتْ مَا وُضِعَ عَنَّا مِنَ الْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، فَكَانَتْ رُخَصًا مَجَازِيَّةً مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ إِذْ لَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهَا عَزَائِمُ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ أُصُولَهَا مَشْرُوعَةٌ وَأَنَّ بَعْضَ الشُّرُوطِ الَّتِي تَجَاوَزَ عَنْهَا الشَّرْعُ مِنْ أَجْلِ التَّخْفِيفِ وَالْمَصْلَحَةِ مَا زَالَتْ قَائِمَةً فِي تِلْكَ الْأُصُولِ أَشْبَهَتِ الرُّخَصَ الْحَقِيقِيَّةَ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ اعْتُبِرَ هَذَا الْقِسْمُ أَقْرَبَ إِلَى الرُّخَصِ الْحَقِيقِيَّةِ مِنْ سَابِقِهِ، وَاعْتُبِرَ السَّابِقُ أَتَمَّ فِي الْمَجَازِيَّةِ مِنْ هَذَا.وَهَذَا الْقِسْمُ يُرَادِفُ الرُّخَصَ الْمُبَاحَةَ فِي تَقْسِيمِ الشَّافِعِيَّةِ.وَالْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ- الْحَاصِلَةُ بَعْدَ تَقْسِيمِ كُلٍّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ الرَّئِيسِيَّيْنِ إِلَى قِسْمَيْنِ فَرْعِيَّيْنِ- لَا تَبْعُدُ كَثِيرًا عَنِ الْإِطْلَاقَاتِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّاطِبِيُّ.

ج- تَقْسِيمُ الرُّخَصِ حَسَبِ التَّخْفِيفِ:

تَنْقَسِمُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ- الَّذِي يَخُصُّ الْأَحْكَامَ الطَّارِئَةَ- إِلَى سِتَّةِ أَنْوَاعٍ:

15- الْأَوَّلُ: تَخْفِيفُ إِسْقَاطٍ، وَيَكُونُ حَيْثُ يُوجَدُ الْعُذْرُ أَوِ الْمُوجِبُ مِنْ ذَلِكَ.

1- إِسْقَاطُ الْخُرُوجِ إِلَى الْجَمَاعَةِ لِلْمَرَضِ أَوْ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ، أَوْ لِلرِّيحِ وَالْمَطَرِ، فَقَدْ «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ وَفِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ أَنْ يُصَلُّوا فِي رِحَالِهِمْ». 2- إِسْقَاطُ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ لِلْأَعْذَارِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ وَلِغَيْرِهَا مِمَّا وَقَعَ بَسْطُهُ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ وَالْأَحْكَامِ.

3- إِسْقَاطُ شَرْطِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ.

4- إِسْقَاطُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَنْ غَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}.

5- إِسْقَاطُ الْجِهَادِ عَنْ ذَوِي الْأَعْذَارِ، قَالَ الْمَوْلَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ}.

6- إِسْقَاطُ الصَّلَاةِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ وَالصَّعِيدِ الطَّيِّبِ، فِي الْمَشْهُورِ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، إِلاَّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ وَوَافَقَهُمُ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ.وَقَالَ مَالِكٌ- فِي رِوَايَةِ الْمَدَنِيِّينَ عَنْهُ-: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ. وَبَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ الَّذِي يَجِبُ إِسْقَاطُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ هُوَ حُكْمُ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ فَيُوجِبُونَ الصَّلَاةَ عِنْدَ فِقْدَانِهِمَا.

7- إِسْقَاطُ الْقَضَاءِ عَمَّنْ أَفْطَرَ نَاسِيًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ».وَخَالَفَ مَالِكٌ فَقَالَ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ قِيَاسًا عَلَى مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَإِنَّهُ يَقْضِيهَا مَتَى تَذَكَّرَهَا.

8- إِسْقَاطُ الْكَفَّارَةِ بِالْإِعْسَارِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى خِلَافِ الْأَظْهَرِ وَفِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ لِلْحَنَابِلَةِ وَتَبِعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ اسْتِنَادًا إِلَى مَا جَاءَ فِي آخِرِ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي وَقَعَ عَلَى أَهْلِهِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ..«أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ». 9- إِسْقَاطُ الْحَدِّ بِالشُّبْهَةِ لِمَا تَقَرَّرَ- عَمَلًا بِمَجْمُوعَةٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ يُدَعِّمُ بَعْضُهَا الْبَعْضَ- مِنْ أَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.

النَّوْعُ الثَّانِي: تَخْفِيفُ تَنْقِيصٍ: مِثَالُهُ:

16- 1- قَصْرُ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ فِي السَّفَرِ إِلَى رَكْعَتَيْنِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ الْقَصْرِ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا.

2- تَنْقِيصُ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْمَرِيضُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ: كَتَنْقِيصِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَغَيْرِهِمَا إِلَى الْقَدْرِ الْمَيْسُورِ مِنْ ذَلِكَ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ: تَخْفِيفُ إِبْدَالٍ: مِثْلُ:

17- إِبْدَالِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ بِالتَّيَمُّمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْوَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَالْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءًفَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}

الرَّابِعُ: تَخْفِيفُ تَقْدِيمٍ: مِثْلُ:

18- 1- تَقْدِيمُ الْعَصْرِ إِلَى الظُّهْرِ وَالْعِشَاءِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِجَمْعِ التَّقْدِيمِ، وَنَصُّوا عَلَى جَوَازِهِ جُمْلَةً فِي عِدَّةِ حَالَاتٍ مِنْهَا: السَّفَرُ وَالْمَرَضُ وَالْخَوْفُ.

2- تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ عَلَى الْحَوْلِ مُسَارَعَةً إِلَى الْخَيْرِ لِمَا رَوَاهُ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- مِنْ «أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ- رضي الله عنه- سَأَلَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فِي تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ». الْخَامِسُ: تَخْفِيفُ تَأْخِيرٍ: مِثْلُ:

19- تَأْخِيرُ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ إِلَى الْعِشَاءِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ بِجَمْعِ التَّأْخِيرِ، وَيَكُونُ فِي السَّفَرِ، وَفِي مُزْدَلِفَةَ، وَمِنْ أَجْلِ الْمَرَضِ وَالْمَطَرِ وَمَا إِلَيْهَا مِنَ الْأَعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِلتَّأْخِيرِ.

السَّادِسُ: تَخْفِيفُ إِبَاحَةٍ مَعَ قِيَامِ الْمَانِعِ: مِثْلُ:

20- 1- صَلَاةُ الْمُسْتَجْمِرِ مَعَ بَقِيَّةِ أَثَرِ النَّجَسِ الَّذِي لَا يَزُولُ تَمَامًا إِلاَّ بِالْمَاءِ.

2- الْعَفْوُ عَنْ بَعْضِ النَّجَاسَاتِ لِقِلَّتِهَا، أَوْ لِعُسْرِ الِاحْتِرَازِ مِنْهَا، أَوْ لِعُسْرِ إِزَالَتِهَا.

د- تَقْسِيمُ الرُّخَصِ بِاعْتِبَارِ أَسْبَابِهَا:

هَذَا التَّقْسِيمُ يُعَدُّ أَكْثَرَ ضَبْطًا لأُِصُولِ الرُّخَصِ، وَأَكْثَرَ جَمْعًا لِفُرُوعِهَا، وَهِيَ- بِحَسَبِهِ- تَنْقَسِمُ إِلَى عِدَّةِ أَقْسَامٍ مِنْهَا:

21- رُخَصٌ سَبَبُهَا الضَّرُورَةُ:

قَدْ تَطْرَأُ عَلَى الْمُكَلَّفِ حَالَةٌ مِنَ الْخَطَرِ أَوِ الْمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ تَجْعَلُهُ يَخَافُ مِنْ حُدُوثِ أَذًى بِالنَّفْسِ، أَوْ بِالْعِرْضِ، أَوْ بِالْعَقْلِ، أَوْ بِالْمَالِ، أَوْ بِتَوَابِعِهَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ- عِنْدَئِذٍ- أَوْ يُبَاحُ لَهُ ارْتِكَابُ الْحَرَامِ، أَوْ تَرْكُ الْوَاجِبِ، أَوْ تَأْخِيرُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ فِي غَالِبِ الظَّنِّ ضِمْنَ قُيُودِ الشَّرْعِ. (انْظُرْ مُصْطَلَحَ: ضَرُورَة).

وَعَلَى هَذَا الْأَسَاسِ قَعَّدَ الْفُقَهَاءُ قَاعِدَةً هَامَّةً مِنْ قَوَاعِدِ الْأُصُولِ الْقَرِيبَةِ نَصُّهَا: الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ.وَهِيَ تُعَدُّ مِنْ فُرُوعِ الْقَاعِدَتَيْنِ الْكُلِّيَّتَيْنِ: إِذَا ضَاقَ الْأَمْرُ اتَّسَعَ.وَالضَّرَرُ يُزَالُ.وَقَدْ فَرَّعُوا عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا فُرُوعًا كَثِيرَةً تُنْظَرُ فِي أَبْوَابِهَا.

22- 2- رُخَصٌ سَبَبُهَا الْحَاجَةُ:

الْحَاجَةُ نَوْعَانِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ (انْظُرِ التَّفَاصِيلَ فِي مُصْطَلَحِ: حَاجَة).

وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُرَخَّصُ مِنْ أَجْلِهِ: فَالْعُقُودُ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ أَوْ وَقَعَ اسْتِثْنَاؤُهَا مِنْ أُصُولٍ مَمْنُوعَةٍ كَالسَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ وَالْجُعْلِ وَالْمُغَارَسَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْقَرْضِ وَالْقِرَاضِ وَالِاسْتِصْنَاعِ وَدُخُولِ الْحَمَّامِ وَالْوَصِيَّةِ وَمَا شَابَهَهَا إِنَّمَا وَقَعَ التَّرْخِيصُ فِيهَا لِحَاجَةِ النَّاسِ عُمُومًا إِلَيْهَا، وَالتَّرْخِيصُ فِي التَّأْدِيبِ لِمَنْ جُعِلَ لَهُ، وَفِي التَّضْيِيقِ عَلَى بَعْضِ الْمُتَّهَمِينَ لِإِظْهَارِ الْحَقِّ وَفِي التَّلَفُّظِ بِالْفُحْشِ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَاضِي أَوِ الرَّاوِي أَوِ الشَّاهِدِ لِلدِّقَّةِ وَفِي لُبْسِ الْحَرِيرِ وَاسْتِعْمَالِ الذَّهَبِ وَالنَّظَرِ إِلَى الْعَوْرَةِ لِلْعِلَاجِ وَفِي التَّبَخْتُرِ بَيْنَ الصُّفُوفِ لِإِغَاظَةِ الْكُفَّارِ وَالنَّيْلِ مِنْهُمْ، وَفِي الْكَذِبِ لِلْإِصْلَاحِ، وَفِي الْغِيبَةِ عِنْدَ التَّظَلُّمِ أَوِ الِاسْتِفْتَاءِ وَنَحْوِهِمَا، وَفِي خُرُوجِ الْمَرْأَةِ لِقَضَاءِ شَأْنٍ مِنْ شُؤُونِهَا، أَوْ لِلتَّعَلُّمِ وَالْفَتْوَى وَالتَّقَاضِي وَسَفَرِهَا لِلْعِلَاجِ وَمَا إِلَى هَذِهِ الْحَالَاتِ إِنَّمَا وَقَعَ التَّرْخِيصُ فِيهَا مِنْ أَجْلِ حَاجَاتٍ تَمَسُّ طَوَائِفَ خَاصَّةً مِنَ الْمُجْتَمَعِ.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يُبَاحُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ يُبَاحُ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ، أَيْ أَنَّ هَذِهِ تُثْبِتُ حُكْمًا مِثْلَ الْأُولَى إِلاَّ أَنَّ حُكْمَ الْحَاجَةِ مُسْتَمِرٌّ وَخَاصَّةً إِذَا كَانَتْ عَامَّةً وَحُكْمَ الضَّرُورَةِ مَوْقُوتٌ بِمُدَّةِ قِيَامِهَا إِذْ «الضَّرُورَةُ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا» كَمَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ نَوْعَانِ: مُحَرَّمَاتٌ لِذَاتِهَا، وَمُحَرَّمَاتٌ لِغَيْرِهَا، فَالْأُولَى لَا يُرَخَّصُ فِيهَا عَادَةً إِلاَّ مِنْ أَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى مَصْلَحَةٍ ضَرُورِيَّةٍ، وَالثَّانِيَةُ يُرَخَّصُ فِيهَا حَتَّى مِنْ أَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى مَصْلَحَةٍ حَاجِيَّةٍ.عَلَى أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ تُعَامَلَ هَذِهِ مُعَامَلَةَ الْأُولَى وَلَوْ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ، وَعَلَى هَذَا الْأَسَاسِ وَمَا قَبْلَهُ جَاءَتِ الْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ: الْحَاجَةُ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ.وَقَدْ خَرَّجَ الْفُقَهَاءُ اعْتِمَادًا عَلَيْهَا جُزْئِيَّاتٍ مُتَفَرِّقَةً يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ أُصُولًا يَلْحَقُ بِهَا مَا يُمَاثِلُهَا مِنْ نَظَائِرِهَا.

وَهُنَاكَ رُخَصٌ سَبَبُهَا السَّفَرُ أَوِ الْمَرَضُ أَوِ النِّسْيَانُ أَوِ الْجَهْلُ أَوِ الْخَطَأُ أَوِ النَّقْصُ أَوِ الْوَسْوَسَةُ أَوِ التَّرْغِيبُ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَحَدَاثَةُ الدُّخُولِ فِيهِ أَوِ الْعُسْرُ وَعُمُومُ الْبَلْوَى وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (تَيْسِير).

عَلَاقَةُ الرُّخْصَةِ بِبَعْضِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ:

23- الْمُتَتَبِّعُ لِلِاسْتِحْسَانِ وَالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَمُرَاعَاةِ الْخِلَافِ وَالتَّقَادِيرِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْجَوَابِرِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْحِيَلِ الشَّرْعِيَّةِ يَظْفَرُ بِعَلَاقَةٍ وَطِيدَةٍ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ وَبَيْنَ الرُّخَصِ تَتَمَثَّلُ إِجْمَالًا فِي جَلْبِ الْيُسْرِ وَدَفْعِ الْعُسْرِ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ، فَلْتُرَاجَعْ تِلْكَ الْأَدِلَّةُ فِي مَحَالِّهَا مِنَ الْمَوْسُوعَةِ.

الْقِيَاسُ عَلَى الرُّخَصِ:

24- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الرُّخَصَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا إِذَا كَانَتْ مِمَّا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهَا غَيْرُهَا مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ الَّتِي تُشَارِكُهَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ.فَقَدْ قَاسَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ صِحَّةَ بَيْعِ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ عَلَى بَيْعِ الْعَرَايَا الْمُرَخَّصِ فِيهِ بِالنَّصِّ لِاتِّحَادِهِمَا فِي الْعِلَّةِ.كَمَا حَكَمُوا بِصِحَّةِ صَوْمِ مَنْ أَفْطَرَ مُخْطِئًا أَوْ مُكْرَهًا قِيَاسًا عَلَى مَنْ أَفْطَرَ نَاسِيًا الَّذِي ثَبَتَتْ صِحَّةُ صَوْمِهِ بِالنَّصِّ النَّبَوِيِّ.وَزَادَ الشَّافِعِيُّ فَقَاسَ عَلَيْهِ كَلَامَ النَّاسِي فِي صَلَاتِهِ.

وَقَاسُوا الْإِقْطَارَ فِي الْعَيْنِ فِي رَمَضَانَ عَلَى الِاكْتِحَالِ الْمُرَخَّصِ فِيهِ نَصًّا.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ- بِاسْتِثْنَاءِ أَبِي يُوسُفَ- إِلَى مَنْعِ الْقِيَاسِ عَلَى الرُّخَصِ لِأَدِلَّةٍ مَبْسُوطَةٍ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ.

الْأَخْذُ بِالرُّخَصِ أَوِ الْعَزَائِمِ:

25- قَدْ يَرْفَعُ الشَّرْعُ عَنِ الْمُكَلَّفِ الْحَرَجَ فِي الْأَخْذِ بِالْعَزِيمَةِ أَوْ فِي الْأَخْذِ بِالرُّخْصَةِ، أَيْ أَنَّهُ يَكُونُ مُخَيَّرًا فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ بَيْنَ الْإِتْيَانِ بِهَذِهِ أَوْ بِتِلْكَ؛ لِأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا صَارَ بِمَثَابَةِ مَا بَيْنَ أَجْزَاءِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ الَّذِي يُكْتَفَى فِيهِ بِالْإِتْيَانِ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ، وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ كَانَ لِلتَّرْجِيحِ بَيْنَهُمَا مَجَالٌ رَحْبٌ غَزِيرُ الْمَادَّةِ تَبَايَنَتْ فِيهِ أَنْظَارُ الْمُجْتَهِدِينَ حَيْثُ اخْتَلَفُوا بَيْنَ مُرَجِّحٍ لِلْأَخْذِ بِالْعَزِيمَةِ- فِي هَذِهِ الْحَالَةِ- وَبَيْنَ مُرَجِّحٍ لِلْأَخْذِ بِالرُّخْصَةِ فِيهَا، وَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ قَدْ عَلَّلَ رَأْيَهُ بِمَجْمُوعَةٍ مِنَ الْمُبَرِّرَاتِ الْمَعْقُولَةِ تَكَفَّلَ الشَّاطِبِيُّ بِعَدِّهَا عَدًّا وَاضِحًا مُرَتَّبًا.

آرَاءُ الْعُلَمَاءِ فِي تَتَبُّعِ الرُّخَصِ:

26- الرُّخَصُ الشَّرْعِيَّةُ الثَّابِتَةُ بِالْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ لَا بَأْسَ فِي تَتَبُّعِهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ».

أَمَّا تَتَبُّعُ رُخَصِ الْمَذَاهِبِ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَالْجَرْيُ وَرَاءَهَا دُونَ سَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا وَنَحْوُهَا مِمَّا يُمَاثِلُهَا يُعْتَبَرُ هُرُوبًا مِنَ التَّكَالِيفِ، وَتَخَلُّصًا مِنَ الْمَسْئُولِيَّةِ، وَهَدْمًا لِعَزَائِمِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَجُحُودًا لِحَقِّ اللَّهِ فِي الْعِبَادَةِ، وَهَضْمًا لِحُقُوقِ عِبَادِهِ، وَهُوَ يَتَعَارَضُ مَعَ مَقْصِدِ الشَّرْعِ الْحَكِيمِ مِنَ الْحَثِّ عَلَى التَّخْفِيفِ عُمُومًا وَعَلَى التَّرَخُّصِ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.«إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ» وَقَدِ اعْتَبَرَ الْعُلَمَاءُ هَذَا الْعَمَلَ فِسْقًا لَا يَحِلُّ.وَحَكَى ابْنُ حَزْمٍ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ.وَقَالَ نَقْلًا عَنْ غَيْرِهِ: لَوْ أَخَذْتَ بِرُخْصَةِ كُلِّ عَالِمٍ اجْتَمَعَ فِيكَ الشَّرُّ كُلُّهُ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَمِلَ بِقَوْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي النَّبِيذِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي السَّمَاعِ وَأَهْلِ مَكَّةَ فِي الْمُتْعَةِ كَانَ فَاسِقًا.

وَقَدْ دَخَلَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ- يَوْمًا- عَلَى الْمُعْتَضِدِ الْعَبَّاسِيِّ فَرَفَعَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ كِتَابًا وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ وَقَدْ جَمَعَ فِيهِ صَاحِبُهُ الرُّخَصَ مِنْ زَلَلِ الْعُلَمَاءِ فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي الْمَذْكُورُ- بَعْدَ أَنْ تَأَمَّلَهُ-: مُصَنِّفُ هَذَا زِنْدِيقٌ، فَقَالَ: أَلَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ مَنْ أَبَاحَ الْمُسْكِرَ لَمْ يُبِحِ الْمُتْعَةَ، وَمَنْ أَبَاحَ الْمُتْعَةَ لَمْ يُبِحِ الْغِنَاءَ وَالْمُسْكِرَ، وَمَا مِنْ عَالِمٍ إِلاَّ وَلَهُ زَلَّةٌ، وَمَنْ جَمَعَ زَلَلَ الْعُلَمَاءِ ثُمَّ أَخَذَ بِهَا ذَهَبَ دِينُهُ، فَأَمَرَ الْمُعْتَضِدُ بِإِحْرَاقِ ذَلِكَ الْكِتَابِ.

فَالْأَخْذُ بِالرُّخَصِ لَا يَعْنِي تَتَبُّعَهَا وَالْبَحْثَ عَنْهَا لِلتَّحَلُّلِ مِنَ التَّكْلِيفِ وَإِنَّمَا يَعْنِي الِانْتِقَالَ مِنْ تَكْلِيفٍ أَشَدَّ إِلَى تَكْلِيفٍ أَخَفَّ لِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ.

الرُّخَصُ إِضَافِيَّةٌ:

27- إِنَّ الرُّخَصَ عَلَى كَثْرَةِ أَدِلَّتِهَا أَوْ صِيَغِهَا، وَعَلَى مَا صَحَّ مِنْ حَثِّ الشَّرْعِ عَلَيْهَا وَتَرْغِيبِهِ فِي الْأَخْذِ بِهَا- تَبْقَى فِي النِّهَايَةِ إِضَافِيَّةً: أَيْ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ فَقِيهُ نَفْسِهِ فِي الْأَخْذِ بِهَا أَوْ فِي عَدَمِهِ.وَيَكْفِي أَنْ نَعْلَمَ لِتَوْضِيحِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمَشَقَّةَ مَثَلًا الَّتِي تُعْتَبَرُ سَبَبًا هَامًّا مِنْ أَسْبَابِ الرُّخَصِ تَخْتَلِفُ قُوَّةً وَضَعْفًا بِحَسَبِ أَحْوَالِ النَّاسِ، فَفِي التَّنَقُّلِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسَافِرِينَ، وَأَزْمِنَةِ السَّفَرِ، وَمُدَّتِهِ وَوَسَائِلِهِ، وَمَا إِلَى هَذَا مِمَّا يَتَعَذَّرُ ضَبْطُهُ وَاطِّرَادُهُ فِي جَمِيعِ الْخَلْقِ، فَلَمْ يُنَطِ الْحُكْمُ بِذَاتِ الْمَشَقَّةِ بَلْ أُسْنِدَ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ مِمَّا يَدُلُّ غَالِبًا عَلَيْهَا وَهُوَ السَّفَرُ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ حُصُولِهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


275-موسوعة الفقه الكويتية (رشوة)

رِشْوَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الرِّشْوَةُ فِي اللُّغَةِ: مُثَلَّثَةُ الرَّاءِ: الْجُعْلُ، وَمَا يُعْطَى لِقَضَاءِ مَصْلَحَةٍ، وَجَمْعُهَا رُشًا وَرِشًا.

قَالَ الْفَيُّومِيُّ: الرِّشْوَةُ- بِالْكَسْرِ-: مَا يُعْطِيهِ الشَّخْصُ لِلْحَاكِمِ أَوْ غَيْرِهِ لِيَحْكُمَ لَهُ، أَوْ يَحْمِلَهُ عَلَى مَا يُرِيدُ.

وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: الرِّشْوَةُ: الْوُصْلَةُ إِلَى الْحَاجَةِ بِالْمُصَانَعَةِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الرِّشَاءِ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْمَاءِ.

وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: الرِّشْوَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ رَشَا الْفَرْخُ إِذَا مَدَّ رَأْسَهُ إِلَى أُمِّهِ لِتَزُقَّهُ

- وَرَاشَاهُ: حَابَاهُ، وَصَانَعَهُ، وَظَاهَرَهُ

- وَارْتَشَى: أَخَذَ رِشْوَةً، وَيُقَالُ: ارْتَشَى مِنْهُ رِشْوَةً: أَيْ أَخَذَهَا- وَتَرَشَّاهُ: لَايَنَهُ، كَمَا يُصَانَعُ الْحَاكِمُ بِالرِّشْوَةِ

- وَاسْتَرْشَى: طَلَبَ رِشْوَةً

- وَالرَّاشِي: مَنْ يُعْطِي الَّذِي يُعِينُهُ عَلَى الْبَاطِلِ.

- وَالْمُرْتَشِي: الْآخِذُ

- وَالرَّائِشُ: الَّذِي يَسْعَى بَيْنَهُمَا يَسْتَزِيدُ لِهَذَا، وَيَسْتَنْقِصُ لِهَذَا.

وَقَدْ تُسَمَّى الرِّشْوَةُ الْبِرْطِيلَ وَجَمْعُهُ بَرَاطِيلُ.

قَالَ الْمُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ: وَاخْتَلَفُوا فِي الْبِرْطِيلِ بِمَعْنَى الرِّشْوَةِ، هَلْ هُوَ عَرَبِيٌّ أَوْ لَا؟.

وَفِي الْمَثَلِ: الْبَرَاطِيلُ تَنْصُرُ الْأَبَاطِيلَ.

وَالرِّشْوَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ: مَا يُعْطَى لِإِبْطَالِ حَقٍّ، أَوْ لِإِحْقَاقِ بَاطِلٍ.

وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ التَّعْرِيفِ اللُّغَوِيِّ، حَيْثُ قُيِّدَ بِمَا أُعْطِيَ لِإِحْقَاقِ الْبَاطِلِ، أَوْ إِبْطَالِ الْحَقِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْمُصَانَعَةُ:

2- الْمُصَانَعَةُ: أَنْ تَصْنَعَ لِغَيْرِكَ شَيْئًا لِيَصْنَعَ لَكَ آخَرَ مُقَابِلَهُ، وَكِنَايَةٌ عَنِ الرِّشْوَةِ، وَفِي الْمَثَلِ: مَنْ صَانَعَ بِالْمَالِ لَمْ يَحْتَشِمْ مِنْ طَلَبِ الْحَاجَةِ.

ب- السُّحْتُ- بِضَمِّ السِّينِ:

3- أَصْلُهُ مِنَ السَّحْتِ- بِفَتْحِ السِّينِ- وَهُوَ الْإِهْلَاكُ وَالِاسْتِئْصَالُ، وَالسُّحْتُ: الْحَرَامُ الَّذِي لَا يَحِلُّ كَسْبُهُ؛ لِأَنَّهُ يَسْحَتُ الْبَرَكَةَ أَيْ: يُذْهِبُهَا.

وَسُمِّيَتِ الرِّشْوَةُ سُحْتًا.وَقَدْ سَارَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى ذَلِكَ.

لَكِنَّ السُّحْتَ أَعَمُّ مِنَ الرِّشْوَةِ، لِأَنَّ السُّحْتَ كُلُّ حَرَامٍ لَا يَحِلُّ كَسْبُهُ.

ج- الْهَدِيَّةُ:

4- مَا أَتْحَفْتَ بِهِ غَيْرَكَ، أَوْ مَا بَعَثْتَ بِهِ لِلرَّجُلِ عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَامِ، وَالْجَمْعُ هَدَايَا وَهَدَاوَى- وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ-

يُقَالُ: أَهْدَيْتُ لَهُ وَإِلَيْهِ، وَفِي التَّنْزِيلِ {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ}.

قَالَ الرَّاغِبُ: وَالْهَدِيَّةُ مُخْتَصَّةٌ بِاللُّطْفِ، الَّذِي يُهْدِي بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ، وَالْمِهْدَى: الطَّبَقُ الَّذِي يُهْدَى عَلَيْهِ.

وَالْمِهْدَاءُ: مَنْ يُكْثِرُ إِهْدَاءَ الْهَدِيَّةِ.

وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ الرِّشْوَةُ هِيَ: مَا يُعْطَى بَعْدَ الطَّلَبِ، وَالْهَدِيَّةُ قَبْلَهُ.

د- الْهِبَةُ:

5- الْهِبَةُ فِي اللُّغَةِ الْعَطِيَّةُ بِلَا عِوَضٍ.

قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: الْهِبَةُ: الْعَطِيَّةُ الْخَالِيَةُ عَنِ الْأَعْوَاضِ وَالْأَغْرَاضِ، فَإِذَا كَثُرَتْ سُمِّيَ صَاحِبُهَا وَهَّابًا.

وَاتَّهَبْتُ الْهِبَةَ: قَبِلْتُهَا، وَاسْتَوْهَبْتُهَا: سَأَلْتُهَا، وَتَوَاهَبُوا: وَهَبَ بَعْضُهُمُ الْبَعْضَ.

وَاصْطِلَاحًا: إِذَا أُطْلِقَتْ هِيَ التَّبَرُّعُ بِمَالِهِ حَالَ الْحَيَاةِ بِلَا عِوَضٍ.وَقَدْ تَكُونُ بِعِوَضٍ فَتُسَمَّى هِبَةَ الثَّوَابِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الرِّشْوَةِ وَالْهِبَةِ، أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إِيصَالًا لِلنَّفْعِ إِلَى الْغَيْرِ، وَإِنْ كَانَ عَدَمُ الْعِوَضِ ظَاهِرًا فِي الْهِبَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ فِي الرِّشْوَةِ يَنْتَظِرُ النَّفْعَ، وَهُوَ عِوَضٌ.

و- الصَّدَقَةُ:

6- مَا يُخْرِجُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ كَالزَّكَاةِ، لَكِنِ الصَّدَقَةُ فِي الْأَصْلِ تُقَالُ لِلْمُتَطَوَّعِ بِهِ، وَالزَّكَاةُ لِلْوَاجِبِ، وَقَدْ يُسَمَّى الْوَاجِبُ صَدَقَةً، إِذَا تَحَرَّى صَاحِبُهَا الصِّدْقَ فِي فِعْلِهِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْهَدِيَّةُ وَالْعَطِيَّةُ مَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَكُلُّهَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَاسْمُ الْعَطِيَّةِ شَامِلٌ لِجَمِيعِهَا.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّشْوَةِ وَالصَّدَقَةِ: أَنَّ الصَّدَقَةَ تُدْفَعُ طَلَبًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، فِي حِينِ أَنَّ الرِّشْوَةَ تُدْفَعُ لِنَيْلِ غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ عَاجِلٍ.

أَحْكَامُ الرِّشْوَةِ:

7- الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ، وَرِشْوَةُ الْمَسْئُولِ عَنْ عَمَلٍ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ، وَهِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} قَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الرِّشْوَةُ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.

وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ» وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ «وَالرَّائِشَ».

وَيَحْرُمُ طَلَبُ الرِّشْوَةِ، وَبَذْلُهَا، وَقَبُولُهَا، كَمَا يَحْرُمُ عَمَلُ الْوَسِيطِ بَيْنَ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي.

غَيْرَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ- عِنْدَ الْجُمْهُورِ- أَنْ يَدْفَعَ رِشْوَةً لِلْحُصُولِ عَلَى حَقٍّ، أَوْ لِدَفْعِ ظُلْمٍ أَوْ ضَرَرٍ، وَيَكُونُ الْإِثْمُ عَلَى الْمُرْتَشِي دُونَ الرَّاشِي.

قَالَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ: لَا بَأْسَ أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ بِالرِّشْوَةِ.

وَفِي حَاشِيَةِ الرَّهُونِيِّ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ: إِذَا عَجَزْتَ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَاسْتَعَنْتَ عَلَى ذَلِكَ بِوَالٍ يَحْكُمُ بِغَيْرِ الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أَثِمَ دُونَكَ إِنْ كَانَ ذَلِكَ زَوْجَةً يُسْتَبَاحُ فَرْجُهَا، بَلْ يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْكَ؛ لِأَنَّ مَفْسَدَةَ الْوَالِي أَخَفُّ مِنْ مَفْسَدَةِ الزِّنَا وَالْغَصْبِ، وَكَذَلِكَ اسْتِعَانَتُكَ بِالْأَجْنَادِ يَأْثَمُونَ وَلَا تَأْثَمُ، وَكَذَلِكَ فِي غَصْبِ الدَّابَّةِ وَغَيْرِهَا، وَحُجَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّادِرَ مِنَ الْمُعِينِ عِصْيَانٌ لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ، وَالْجَحْدَ وَالْغَصْبَ عِصْيَانٌ وَمَفْسَدَةٌ، وَقَدْ جَوَّزَ الشَّارِعُ الِاسْتِعَانَةَ بِالْمَفْسَدَةِ- لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مَفْسَدَةٌ- عَلَى دَرْءِ مَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ مِنْهَا، كَفِدَاءِ الْأَسِيرِ، فَإِنَّ أَخْذَ الْكُفَّارِ لِمَالِنَا حَرَامٌ عَلَيْهِمْ، وَفِيهِ مَفْسَدَةُ إِضَاعَةِ الْمَالِ، فَمَا لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ أَوْلَى أَنْ يُجَوَّزَ.

فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ يَسِيرًا نَحْوَ كِسْرَةٍ وَتَمْرَةٍ، حُرِّمَتْ الِاسْتِعَانَةُ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِغَيْرِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا يُبَاحُ بِالْيَسِيرِ.

وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْأَثَرِ بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ كَانَ بِالْحَبَشَةِ فَرَشَا بِدِينَارَيْنِ، حَتَّى خُلِّيَ سَبِيلُهُ.وَقَالَ: إِنَّ الْإِثْمَ عَلَى الْقَابِضِ دُونَ الدَّافِعِ.

وَعَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ: لَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَانِعَ الرَّجُلُ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ إِذَا خَافَ الظُّلْمَ.

أَقْسَامُ الرِّشْوَةِ:

8- قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الرِّشْوَةَ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ مِنْهَا:

أ- الرِّشْوَةُ عَلَى تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ وَالْإِمَارَةِ وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى الْآخِذِ وَالْمُعْطِي.

ب- ارْتِشَاءُ الْقَاضِي لِيَحْكُمَ، وَهُوَ كَذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى الْآخِذِ وَالْمُعْطِي، وَلَوْ كَانَ الْقَضَاءُ بِحَقٍّ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ.

ج- أَخْذُ الْمَالِ لِيُسَوِّيَ أَمْرَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ، دَفْعًا لِلضَّرَرِ أَوْ جَلْبًا لِلنَّفْعِ، وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْآخِذِ فَقَطْ.

د- إِعْطَاءُ إِنْسَانٍ غَيْرِ مُوَظَّفٍ عِنْدَ الْقَاضِي أَوِ الْحَاكِمِ مَالًا لِيَقُومَ بِتَحْصِيلِ حَقِّهِ لَهُ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ دَفْعُ ذَلِكَ وَأَخْذُهُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَتْ مُعَاوَنَةُ الْإِنْسَانِ لِلْآخَرِ بِدُونِ مَالٍ وَاجِبَةً، فَأَخْذُ الْمَالِ مُقَابِلَ الْمُعَاوَنَةِ لَمْ يَكُنْ إِلاَّ بِمَثَابَةِ أُجْرَةٍ.

حُكْمُ الرِّشْوَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُرْتَشِي:

أ- الْإِمَامُ وَالْوُلَاةُ:

9- قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي كَرَاهِيَةِ الْهَدِيَّةِ إِلَى السُّلْطَانِ الْأَكْبَرِ، وَإِلَى الْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ وَجُبَاةِ الْأَمْوَالِ- وَيُقْصَدُ بِالْكَرَاهِيَةِ الْحُرْمَةُ-.

وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ.

«وَكَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ» وَهَذَا مِنْ خَوَاصِّهِ، وَالنَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مَعْصُومٌ مِمَّا يُتَّقَى عَلَى غَيْرِهِ مِنْهَا، وَلَمَّا رَدَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْهَدِيَّةَ، قِيلَ لَهُ: كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَقْبَلُهَا، فَقَالَ: كَانَتْ لَهُ هَدِيَّةً، وَهِيَ لَنَا رِشْوَةٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ لِنُبُوَّتِهِ لَا لِوِلَايَتِهِ، وَنَحْنُ يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَيْنَا لِوِلَايَتِنَا.

يُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي (إِمَامَة فِقْرَة 28، 29).

ب- الْعُمَّالُ:

10- وَحُكْمُ الرِّشْوَةِ إِلَى الْعُمَّالِ (الْوُلَاةِ) كَحُكْمِ الرِّشْوَةِ إِلَى الْإِمَامِ- كَمَا مَرَّ فِي كَلَامِ ابْنِ حَبِيبٍ لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولٌ».وَلِحَدِيثِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ.

قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَعَزُّزَ الْأَمِيرِ وَمَنَعَتَهُ بِالْجُنْدِ وَبِالْمُسْلِمِينَ لَا بِنَفْسِهِ، فَكَانَتِ الْهَدِيَّةُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْزِلَةِ الْغَنِيمَةِ، فَإِذَا اسْتَبَدَّ بِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ خِيَانَةً، بِخِلَافِ هَدَايَا رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-؛ لِأَنَّ تَعَزُّزَهُ وَمَنَعَتَهُ كَانَتْ بِنَفْسِهِ لَا بِالْمُسْلِمِينَ، فَصَارَتِ الْهَدِيَّةُ لَهُ لَا لِلْمُسْلِمِينَ.

ج- الْقَاضِي:

11- وَالرِّشْوَةُ إِلَى الْقَاضِي حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ.

قَالَ الْجَصَّاصُ: وَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِ الرِّشَا عَلَى الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ السُّحْتِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَاتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي.

قَالَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ وَيَحْرُمُ قَبُولُهُ هَدِيَّةً، وَاسْتِعَارَتُهُ مِنْ غَيْرِهِ كَالْهَدِيَّةِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ كَالْأَعْيَانِ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ خَتَنَ وَلَدَهُ وَنَحْوُهُ فَأُهْدِيَ لَهُ، وَلَوْ قُلْنَا إِنَّهَا لِلْوَلَدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إِلَى الرِّشْوَةِ، فَإِنْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَالْأَوْلَى أَنَّهُ كَالْهَدِيَّةِ، وَفِي الْفُنُونِ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ.

وَهَدِيَّةُ الْقَاضِي فِيهَا تَفْصِيلٌ تُنْظَرُ فِي (هَدِيَّة، قَضَاء).

د- الْمُفْتِي:

12- يَحْرُمُ عَلَى الْمُفْتِي قَبُولُ رِشْوَةٍ مِنْ أَحَدٍ لِيُفْتِيَهُ بِمَا يُرِيدُ، وَلَهُ قَبُولُ هَدِيَّةٍ.

قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: مَا أُهْدِيَ لِلْمُفْتِي، إِنْ كَانَ يَنْشَطُ لِلْفُتْيَا أُهْدِيَ لَهُ أَمْ لَا، فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا يَنْشَطُ إِذَا أُهْدِيَ لَهُ فَلَا يَأْخُذُهَا، وَهَذَا مَا لَمْ تَكُنْ خُصُومَةٌ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ لَا يَقْبَلَ الْهَدِيَّةَ مِنْ صَاحِبِ الْفُتْيَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَيْشُونٍ وَكَانَ يَجْعَلُ ذَلِكَ رِشْوَةً.

هـ- الْمُدَرِّسُ:

13- إِنْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ تَحَبُّبًا وَتَوَدُّدًا لِعِلْمِهِ وَصَلَاحِهِ فَلَا بَأْسَ بِقَبُولِهِ، وَإِنْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ لِيَقُومَ بِوَاجِبِهِ فَالْأَوْلَى عَدَمُ الْأَخْذِ.

و- الشَّاهِدُ:

14- وَيَحْرُمُ عَلَى الشَّاهِدِ أَخْذُ الرِّشْوَةِ.وَإِذَا أَخَذَهَا سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ.

وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي (شَهَادَة).

حُكْمُ الرِّشْوَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّاشِي:

أ- الْحَاجُّ:

15- لَا يَلْزَمُ الْحَجُّ مَعَ الْخَفَارَةِ وَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً؛ لِأَنَّهَا رِشْوَةٌ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَجُمْهُورِ الْحَنَابِلَةِ، وَقَالَ مَجْدُ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ وَحَفِيدُهُ تَقِيُّ الدِّينِ وَابْنُ قُدَامَةَ: يَلْزَمُهُ الْحَجُّ وَلَوْ كَانَ يَدْفَعُ خَفَارَةً إِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَهُمْ تَفْصِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيُكْرَهُ بَذْلُ الْمَالِ لِلرَّصْدِيِّينَ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْرِصُونَ عَلَى التَّعَرُّضِ لِلنَّاسِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَلَوْ وَجَدُوا مَنْ يَخْفِرُهُمْ بِأُجْرَةٍ، وَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَمْنُهُمْ بِهِ، فَفِي لُزُومِ اسْتِئْجَارِهِ وَجْهَانِ.قَالَ الْإِمَامُ: أَصَحُّهُمَا لُزُومُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُهَبِ الطَّرِيقِ كَالرَّاحِلَةِ.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.

ب- صَاحِبُ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ:

16- يَجُوزُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ أَنْ يَرْشُوَ الْعَامِلَ الْقَابِضَ لِخَرَاجِهِ، وَيُهْدِيَ لَهُ لِدَفْعِ ظُلْمٍ فِي خَرَاجِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَوَصَّلُ بِذَلِكَ إِلَى كَفِّ الْيَدِ الْعَادِيَةِ عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْشُوَهُ أَوْ يُهْدِيَهُ لِيَدَعَ عَنْهُ خَرَاجًا؛ لِأَنَّهُ يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى إِبْطَالِ حَقٍّ.

ج- الْقَاضِي:

17- مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَرْشُوَ لِتَحْصِيلِ الْقَضَاءِ، وَمَنْ تَقَبَّلَ الْقَضَاءَ بِقِبَالَةٍ (عِوَضٍ)، وَأَعْطَى عَلَيْهِ الرِّشْوَةَ فَوِلَايَتُهُ بَاطِلَةٌ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ- رحمه الله-: لَوْ بَذَلَ مَالًا لِيَتَوَلَّى الْقَضَاءَ، فَقَدْ أَطْلَقَ ابْنُ الْقَاصِّ وَآخَرُونَ أَنَّهُ حَرَامٌ وَقَضَاؤُهُ مَرْدُودٌ.

وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ ابْنِ نُجَيْمٍ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ: وَلَمْ أَرَ حُكْمَ مَا إِذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَمْ يُوَلَّ إِلاَّ بِمَالٍ هَلْ يَحِلُّ بَذْلُهُ؟ وَيَنْبَغِي أَنْ يَحِلَّ بَذْلُهُ لِلْمَالِ كَمَا يَحِلُّ طَلَبُ الْقَضَاءِ.

ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا تَعَيَّنَ عَلَى شَخْصٍ تَوَلِّي الْقَضَاءِ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوُجُوبِ بِسُؤَالِهِمْ أَنْ يُوَلُّوهُ، فَإِذَا مَنَعَهُ السُّلْطَانُ أَثِمَ بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ الْأَوْلَى وَوَلَّى غَيْرَهُ، فَيَكُونُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا مَنَعَهُ لَمْ يَبْقَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ دَفْعُ الرِّشْوَةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ بَذْلُ الْمَالِ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي نَصْبِهِ قَاضِيًا، وَيَحْرُمُ أَخْذُ الْمَالِ عَلَى تَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ.

حُكْمُ الْقَاضِي:

18- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّةِ حُكْمِ الْقَاضِي الْمُرْتَشِي، فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، وَكَذَلِكَ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ إِذَا تَوَلَّى الْقَضَاءَ بِرِشْوَةٍ.

وَلَكِنْ لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي حُكْمِ الْقَاضِي الْمُرْتَشِي.

قَالَ مُنْلَا خُسْرَوْ فِي بَيَانِ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ: إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِالرِّشْوَةِ سَوَاءٌ كَانَ حُكْمُهُ قَبْلَ أَخْذِهِ الرِّشْوَةَ أَوْ بَعْدَ أَخْذِ الرِّشْوَةِ فَفِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

1- فَعَلَى قَوْلٍ: أَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي صَحِيحٌ إِذَا كَانَ مُوَافِقًا لِلْمَسْأَلَةِ الشَّرْعِيَّةِ، سَوَاءٌ فِي الدَّعْوَى الَّتِي ارْتَشَى فِيهَا أَوِ الَّتِي لَمْ يَرْتَشِ فِيهَا، وَبِأَخْذِ الرِّشْوَةِ لَا يَبْطُلُ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ أَخْذِ الرِّشْوَةِ هُوَ فِسْقُ الْقَاضِي، وَبِمَا أَنَّ فِسْقَ الْقَاضِي لَا يُوجِبُ انْعِزَالَهُ فَوِلَايَةُ الْقَاضِي بَاقِيَةٌ، وَإِذَا كَانَ قَضَاؤُهُ بِحَقٍّ يَلْزَمُ نَفَاذُ قَضَائِهِ.

2- وَعَلَى قَوْلٍ آخَرَ: لَا يَنْفُذُ حُكْمُ الْقَاضِي فِي الدَّعْوَى الَّتِي ارْتَشَى فِيهَا، قَالَ قَاضِيخَانْ: إِنَّ الْقَاضِيَ لَوْ أَخَذَ رِشْوَةً وَحَكَمَ فَحُكْمُهُ غَيْرُ نَافِذٍ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُهُ بِحَقٍّ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَكُونُ قَدِ اسْتُؤْجِرَ لِلْحُكْمِ، وَالِاسْتِئْجَارُ لِلْحُكْمِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَاجِبٌ عَلَى الْقَاضِي.

3- وَعَلَى قَوْلٍ ثَالِثٍ: أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ حُكْمُ الْقَاضِي الْمُرْتَشِي فِي جَمِيعِ الدَّعَاوَى الَّتِي حَكَمَ فِيهَا.وَهَذَا قَوْلُ الْخَصَّافِ وَالطَّحَاوِيِّ.

انْعِزَالُ الْقَاضِي:

19- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ- فِي الْمُعْتَمَدِ- وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْخَصَّافُ، وَالطَّحَاوِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنُ الْقَصَّارِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْحَاكِمَ يَنْعَزِلُ بِفِسْقِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَبُولُهُ الرِّشْوَةَ.

قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا ارْتَشَى الْحَاكِمُ انْعَزَلَ فِي الْوَقْتِ وَإِنْ لَمْ يُعْزَلْ، وَبَطَلَ كُلُّ حُكْمٍ حَكَمَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَمَذْهَبُ الْآخَرِينَ أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ بِذَلِكَ، بَلْ يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ الَّذِي وَلاَّهُ.

أَثَرُ الرِّشْوَةِ:

أ- فِي التَّعْزِيرِ:

20- هَذِهِ الْجَرِيمَةُ لَيْسَ فِيهَا عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ فَيَكُونُ فِيهَا التَّعْزِيرُ.

انْظُرْ: تَعْزِير.

ب- دَعْوَى الرِّشْوَةِ عَلَى الْقَاضِي:

21- لِلْقَاضِي أَنْ يُؤَدِّبَ خَصْمًا افْتَاتَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ حَكَمْتَ عَلَيَّ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوِ ارْتَشَيْتَ وَنَحْوِهِ بِضَرْبٍ لَا يَزِيدُ عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ وَحَبْسٍ، وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، وَلَوْ لَمْ يَثْبُتِ افْتِيَاتُهُ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ.

ج- فِي الْحُكْمِ بِالرُّشْدِ:

22- صَرْفُ الْمَالِ فِي مُحَرَّمٍ كَرِشْوَةٍ عَدَمُ صَلَاحٍ لِلدِّينِ وَلِلْمَالِ، مِمَّا يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ بِرُشْدِ الصَّبِيِّ.

د- الْمَالُ الْمَأْخُوذُ:

23- إِنْ قَبِلَ الرِّشْوَةَ أَوِ الْهَدِيَّةَ حَيْثُ حَرُمَ الْقَبُولُ وَجَبَ رَدُّهَا إِلَى صَاحِبِهَا، كَمَقْبُوضٍ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَقِيلَ تُؤْخَذُ لِبَيْتِ الْمَالِ لِخَبَرِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ.

وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِيمَنْ تَابَ عَنْ أَخْذِ مَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ: إِنْ عَلِمَ صَاحِبَهُ دَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَإِلاَّ دَفَعَهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


276-موسوعة الفقه الكويتية (ركاز)

رِكَاز

التَّعْرِيفُ:

1- الرِّكَازُ لُغَةً بِمَعْنَى الْمَرْكُوزِ وَهُوَ مِنَ الرَّكْزِ أَيِ: الْإِثْبَاتِ، وَهُوَ الْمَدْفُونُ فِي الْأَرْضِ إِذَا خَفِيَ.

يُقَالُ: رَكَزَ الرُّمْحَ إِذَا غَرَزَ أَسْفَلَهُ فِي الْأَرْضِ، وَشَيْءٌ رَاكِزٌ أَيْ: ثَابِتٌ.

وَالرِّكْزُ هُوَ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا}.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الرِّكَازَ هُوَ مَا دَفَنَهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ.

وَيُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَا كَانَ مَالًا عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ.إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ خَصُّوا إِطْلَاقَهُ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَمْوَالِ.

وَأَمَّا الرِّكَازُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَيُطْلَقُ عَلَى أَعَمَّ مِنْ كَوْنِ رَاكِزِهِ الْخَالِقَ أَوِ الْمَخْلُوقَ فَيَشْمَلُ عَلَى هَذَا الْمَعَادِنَ وَالْكُنُوزَ.عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْمَعْدِنُ:

2- الْمَعْدِنُ لُغَةً: هُوَ بِفَتْحِ الدَّالِ وَكَسْرِهَا اسْمٌ لِلْمَحَلِّ وَلِمَا يَخْرُجُ، مُشْتَقٌّ مِنْ عَدَنَ بِالْمَكَانِ يَعْدِنُ إِذَا أَقَامَ بِهِ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ جَنَّةُ عَدْنٍ لِأَنَّهَا دَارُ إِقَامَةٍ وَخُلُودٍ.وَمِنْهُ الْمَعْدِنُ لِمُسْتَقَرِّ الْجَوَاهِرِ.

وَأَصْلُ الْمَعْدِنِ الْمَكَانُ بِقَيْدِ الِاسْتِقْرَارِ فِيهِ، ثُمَّ اشْتُهِرَ فِي نَفْسِ الْأَجْزَاءِ الْمُسْتَقِرَّةِ الَّتِي رَكَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَ الْأَرْضَ، حَتَّى صَارَ الِانْتِقَالُ مِنَ اللَّفْظِ إِلَيْهِ ابْتِدَاءً بِلَا قَرِينَةٍ.

وَاصْطِلَاحًا: هُوَ كُلُّ مَا خَرَجَ مِنَ الْأَرْضِ مِمَّا يُخْلَقُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا مِمَّا لَهُ قِيمَةٌ وَيُحْتَاجُ فِي إِخْرَاجِهِ إِلَى اسْتِنْبَاطٍ.

قَالَ أَحْمَدُ: الْمَعَادِنُ هِيَ الَّتِي تُسْتَنْبَطُ، لَيْسَ هُوَ شَيْءٌ دُفِنَ.

وَالْمَعَادِنُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:

1- جَامِدٌ يَذُوبُ وَيَنْطَبِعُ بِالنَّارِ كَالنَّقْدَيْنِ (الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ)، وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالصُّفْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

2- جَامِدٌ لَا يَنْطَبِعُ بِالنَّارِ كَالْجِصِّ وَالنُّورَةِ وَالزِّرْنِيخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

3- مَا لَيْسَ بِجَامِدٍ كَالْمَاءِ وَالْقِيرِ وَالنَّفْطِ وَالزِّئْبَقِ.

وَقَدْ تَبَيَّنَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الرِّكَازَ مُبَايِنٌ لِلْمَعْدِنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّ الرِّكَازَ أَعَمُّ مِنَ الْمَعْدِنِ، حَيْثُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْكَنْزِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (مَعْدِن)

ب- الْكَنْزُ:

3- الْكَنْزُ لُغَةً: الْمَالُ الْمَجْمُوعُ الْمُدَّخَرُ، يُقَالُ: كَنَزْتُ الْمَالَ كَنْزًا إِذَا جَمَعْتَهُ وَادَّخَرْتَهُ، وَالْكَنْزُ فِي بَابِ الزَّكَاةِ: الْمَالُ الْمَدْفُونُ تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ، وَالْجَمْعُ كُنُوزٌ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الْكَنْزُ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْمُثْبَتِ فِي الْأَرْضِ بِفِعْلِ إِنْسَانٍ، وَالْإِنْسَانُ يَشْمَلُ الْمُؤْمِنَ أَيْضًا لَكِنْ خَصَّهُ الشَّارِعُ بِالْكَافِرِ لِأَنَّ كَنْزَهُ هُوَ الَّذِي يُخَمَّسُ، وَأَمَّا كَنْزُ الْمُسْلِمِ فَلُقَطَةٌ، وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ وَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ (كَنْز).

وَالْكَنْزُ أَعَمُّ مِنَ الرِّكَازِ؛ لِأَنَّ الرِّكَازَ دَفِينُ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَطْ، وَالْكَنْزُ دَفِينُ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْأَحْكَامِ.

ج- الدَّفِينُ:

4- الدَّفِينُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ مَا أُخْفِيَ تَحْتَ أَطْبَاقِ التُّرَابِ، وَنَحْوِهِ مَدْفُونٌ وَدَفِينٌ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فَالدَّفِينُ أَعَمُّ مِنَ الرِّكَازِ.

أَحْكَامُ الرِّكَازِ:

5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الرِّكَازَ فِي قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» يَتَنَاوَلُ دَفِينَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سَوَاءٌ كَانَ مَضْرُوبًا أَوْ غَيْرَهُ.

وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ النَّقْدَيْنِ مِنْ دَفِينِ الْجَاهِلِيَّةِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ الرِّكَازَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا كَانَ مَالًا مَدْفُونًا عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، كَالْحَدِيدِ، وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ، وَالصُّفْرِ، وَالرُّخَامِ وَالْأَعْمِدَةِ، وَالْآنِيَةِ وَالْعُرُوضِ وَالْمِسْكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ حَدِيثِ «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» إِذِ الْحَدِيثُ لَا يَخُصُّ مَدْفُونًا دُونَ غَيْرِهِ، بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَا دَفَنَهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ.

إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ خَالَفُوا جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ فَعَمَّمُوا إِطْلَاقَ الرِّكَازِ عَلَى الْمَعَادِنِ الْخِلْقِيَّةِ أَيْضًا لَكِنْ لَيْسَ جَمِيعَهَا، بَلْ قَصَرُوا ذَلِكَ عَلَى كُلِّ مَعْدِنٍ جَامِدٍ يَنْطَبِعُ- أَيْ يَلِينُ- بِالنَّارِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَأَلْحَقُوا بِمَا تَقَدَّمَ الْمَعَادِنَ السَّائِلَةَ الزِّئْبَقَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِالْعِلَاجِ مِنْ عَيْنِهِ وَطُبِعَ مَعَ غَيْرِهِ فَكَانَ كَالْفِضَّةِ، فَإِنَّ الْفِضَّةَ لَا تَنْطَبِعُ مَا لَمْ يُخَالِطْهَا شَيْءٌ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ النَّهْرِ: وَالْخِلَافُ- أَيْ: فِي الزِّئْبَقِ- فِي الْمُصَابِ فِي مَعْدِنِهِ، أَمَّا الْمَوْجُودُ فِي خَزَائِنِ الْكُفَّارِ فَفِيهِ الْخُمُسُ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ مَالٌ.

وَبِنَاءً عَلَى هَذَا فَإِنَّ الرِّكَازَ أَعَمُّ مِنَ الْمَعْدِنِ وَمِنَ الْكَنْزِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَيْ: يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا.

وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ حَدِيثِ: «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَعْدِنِ وَالْكَنْزِ مَرْكُوزٌ فِي الْأَرْضِ إِنِ اخْتَلَفَ الرَّاكِزُ.

وَظَاهِرُهُ أَنَّ الرِّكَازَ حَقِيقَةً فِيهِمَا مُشْتَرَكٌ اشْتِرَاكًا مَعْنَوِيًّا وَلَيْسَ خَاصًّا بِالدَّفِينِ.

وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ قَصَرُوا إِطْلَاقَ الرِّكَازِ عَلَى مَا وُجِدَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَقَطْ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْمَعَادِنِ؛ لِأَنَّ الرِّكَازَ مَالٌ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْأَرْضِ فَاخْتُصَّ بِمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ قَدْرًا وَنَوْعًا.

دَفِينُ الْجَاهِلِيَّةِ:

6- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ دَفِينَ الْجَاهِلِيَّةِ رِكَازٌ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ دَفِينِ الْجَاهِلِيَّةِ بِوُجُودِهِ فِي قُبُورِهِمْ أَوْ خَزَائِنِهِمْ أَوْ قِلَاعِهِمْ.فَإِنْ وُجِدَ فِي مَوَاتٍ فَيُعْرَفُ بِأَنْ تُرَى عَلَيْهِ عَلَامَاتُهُمْ كَأَسْمَاءِ مُلُوكِهِمْ وَصُوَرِهِمْ وَصُلُبِهِمْ وَصُوَرِ أَصْنَامِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

فَإِنْ كَانَ عَلَى بَعْضِهِ عَلَامَةُ كُفْرٍ وَبَعْضُهُ لَا عَلَامَةَ فِيهِ فَرِكَازٌ.أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ بِالْكَنْزِ عَلَامَةٌ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى كَوْنِهِ مِنْ دَفِينِ الْجَاهِلِيَّةِ أَوِ الْإِسْلَامِ أَوِ اشْتَبَهَ، فَالْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ) عَلَى أَنَّهُ رِكَازٌ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الدَّفْنِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ- فِي الْأَصَحِّ- إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِرِكَازٍ بَلْ هُوَ لُقَطَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ فَلَا يُسْتَبَاحُ إِلاَّ بِيَقِينٍ.

وَفِي الْمَجْمُوعِ: قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُكْمَ مُدَارٌ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ دَفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا أَنَّهُ مِنْ ضَرْبِهِمْ، فَقَدْ يَكُونُ مِنْ ضَرْبِهِمْ وَيَدْفِنُهُ مُسْلِمٌ بَعْدَ أَنْ وَجَدَهُ وَأَخَذَهُ وَمَلَكَهُ.وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الرَّافِعِيُّ تَفْرِيعٌ عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ: أَنَّ الْكَنْزَ الَّذِي لَا عَلَامَةَ فِيهِ يَكُونُ لُقَطَةً.فَأَمَّا إِذَا قُلْنَا بِالْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّهُ رِكَازٌ، فَالْحُكْمُ مُدَارٌ عَلَى ضَرْبِ الْجَاهِلِيَّةِ الْمُرَادُ بِالْجَاهِلِيَّةِ:

7- الْمُرَادُ بِالْجَاهِلِيَّةِ: مَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، أَيْ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- سُمُّوا بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ جَهَالَاتِهِمْ، أَوْ مَنْ كَانَ بَعْدَ مَبْعَثِهِ وَلَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ.

وَعَلَى هَذَا فَلَفْظُ الْجَاهِلِيَّةِ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ لَا دِينَ لَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَوْ كَانَ لَهُ دِينٌ كَأَهْلِ الْكِتَابِ.

قَالَ الشِّرْبِينِيُّ: وَيُعْتَبَرُ فِي كَوْنِ الدَّفِينِ الْجَاهِلِيِّ رِكَازًا كَمَا قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ أَنْ لَا يُعْلَمَ أَنَّ مَالِكَهُ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ، فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ بَلَغَتْهُ وَعَانَدَ وَوُجِدَ فِي بِنَائِهِ أَوْ بَلَدِهِ الَّتِي أَنْشَأَهَا كَنْزٌ فَلَيْسَ بِرِكَازٍ بَلْ فَيْءٌ، حَكَاهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ جَمَاعَةٍ وَأَقَرَّهُ.

وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَنْ كَانَ لَهُ كِتَابٌ هَلْ يُقَالُ: إِنَّهُ جَاهِلِيٌّ؟

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: الْجَاهِلِيَّةُ كَمَا فِي التَّوْضِيحِ مَا عَدَا الْإِسْلَامَ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ أَمْ لَا.

وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ: اصْطِلَاحُهُمْ أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ أَهْلُ الْفَتْرَةِ الَّذِينَ لَا كِتَابَ لَهُمْ.وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَلَا يُقَالُ لَهُمْ: جَاهِلِيَّةٌ.وَعَلَى كُلِّ حَالٍ دَفْنُهُمْ جَمِيعِهِمْ رِكَازٌ.

هَذَا وَأَخْرَجَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الرِّكَازِ دَفِينَ أَهْلِ الذِّمَّةِ.

فَفِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: إِنَّمَا كَانَ مَالُ الذِّمِّيِّ كَالْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ مُحْتَرَمٌ بِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ.

اشْتِرَاطُ الدَّفْنِ فِي الرِّكَازِ:

8- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ كُلَّ مَا دَفَنَهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْتَبَرُ رِكَازًا.وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الدَّفْنِ فِي الرِّكَازِ.

فَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ مَا وُجِدَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مِنْ أَمْوَالِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْتَبَرُ رِكَازًا أَيْضًا، جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: مَا وُجِدَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ مَالٍ جَاهِلِيٍّ، أَوْ بِسَاحِلِ الْبَحْرِ مِنْ تَصَاوِيرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلِوَاجِدِهِ مُخَمَّسًا.قَالَ الصَّاوِيُّ: وَاقْتَصَرَ عَلَى الدَّفْنِ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ، هَذَا إِذَا تَحَقَّقَ أَنَّهُ مَالٌ جَاهِلِيٌّ.وَفِي مُنْتَهَى الْإِرَادَاتِ: وَيَلْحَقُ بِالدَّفْنِ مَا وُجِدَ عَلَى وَجْهِ أَرْضٍ.

وَقَدْ فَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ هُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ مَتَى يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ رِكَازًا؟ فَقِيلَ: بِدَفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقِيلَ: بِضَرْبِهِمْ.

قَالَ السُّبْكِيُّ: وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مِنْ دَفْنِهِمْ فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُكْتَفَى بِعَلَامَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ ضَرْبٍ أَوْ غَيْرِهِ.ا هـ.وَهَذَا أَوْلَى، وَالتَّقْيِيدُ بِدَفْنِ الْجَاهِلِيِّ يَقْتَضِي أَنَّ مَا وُجِدَ فِي الصَّحَارَى مِنْ دَفِينِ الْحَرْبِيِّينَ الَّذِينَ عَاصَرُوا الْإِسْلَامَ لَا يَكُونُ رِكَازًا بَلْ فَيْئًا، وَيُشْتَرَطُ فِي كَوْنِهِ رِكَازًا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَدْفُونًا، فَإِنْ وَجَدَهُ ظَاهِرًا فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ السَّيْلَ أَظْهَرَهُ فَرِكَازٌ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ ظَاهِرًا فَلُقَطَةٌ، وَإِنْ شَكَّ فَكَمَا لَوْ شَكَّ فِي أَنَّهُ ضَرْبُ الْجَاهِلِيَّةِ أَوِ الْإِسْلَامِ.قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.

وَلَمْ نَرَ لِلْحَنَفِيَّةِ تَصْرِيحًا فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ.

دَفِينُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ:

9- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ دَفِينَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لُقَطَةٌ.

وَيُعْرَفُ بِأَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ أَوِ اسْمُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَوْ أَحَدُ خُلَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ وَالٍ لَهُمْ، أَوْ آيَةٌ مِنْ قُرْآنٍ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.

وَتَفْصِيلُ حُكْمِ اللُّقَطَةِ فِي مُصْطَلَحِ (لُقَطَة).

قَالَ فِي الْمُغْنِي: وَإِنْ كَانَ عَلَى بَعْضِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى بَعْضِهِ عَلَامَةُ الْكُفْرِ فَكَذَلِكَ (أَيْ: لُقَطَةٌ)، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ صَارَ إِلَى مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُعْلَمْ زَوَالُهُ عَنْ مِلْكِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ عَلَى جَمِيعِهِ عَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ.

وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ قَوْلَ الْحَنَابِلَةِ وَحْدَهُمْ بَلْ هُوَ قَوْلُ بَقِيَّةِ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا كَمَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ دَفِينِ الْجَاهِلِيَّةِ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنْ عَلِيٍّ الْقَارِيِّ: وَأَمَّا مَعَ اخْتِلَاطِ دَرَاهِمِ الْكُفَّارِ مَعَ دَرَاهِمِ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُشَخَّصِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي زَمَانِنَا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خِلَافٌ فِي كَوْنِهِ إِسْلَامِيًّا.

الْوَاجِبُ فِي الرِّكَازِ:

10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ».

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِلاَّ الْحَسَنَ فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ مَا يُوجَدُ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ وَأَرْضِ الْعَرَبِ، فَقَالَ: فِيمَا يُوجَدُ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ الْخُمُسُ، وَفِيمَا يُوجَدُ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ الزَّكَاةُ.

قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَحَلُّ تَخْمِيسِهِ مَا لَمْ يَحْتَجْ لِنَفَقَةٍ كَبِيرَةٍ وَإِلاَّ فَيُزَكَّى.

قَالَ مَالِكٌ: الْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا، وَاَلَّذِي سَمِعْتُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: إِنَّ الرِّكَازَ إِنَّمَا هُوَ دَفْنٌ يُوجَدُ مِنْ دَفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ مَا لَمْ يُطْلَبْ بِمَالٍ.وَأَمَّا مَا طُلِبَ بِمَالٍ كَثِيرٍ فَلَيْسَ بِرِكَازٍ، إِنَّمَا فِيهِ الزَّكَاةُ بَعْدَ وُجُودِ شُرُوطِ الزَّكَاةِ حَيْثُ اسْتَأْجَرَ عَلَى الْعَمَلِ، لَا إِنْ عَمِلَ بِنَفْسِهِ أَوْ عَبِيدِهِ فَلَا يَخْرُجُ عَنِ الرِّكَازِ.

وَأَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ فَلِوَاجِدِهِ.وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَصْرِفِ الْخُمُسِ الْوَاجِبِ إِخْرَاجُهُ ف 22

مَا يَلْحَقُ بِمَا يُخَمَّسُ:

11- أَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ بِالرِّكَازِ النَّدْرَةَ: وَهِيَ قِطْعَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ إِلَى تَصْفِيَةٍ، وَاَلَّتِي تُوجَدُ فِي الْأَرْضِ مِنْ أَصْلِ خِلْقَتِهَا لَا بِوَضْعِ وَاضِعٍ لَهَا فِي الْأَرْضِ.وَفِيهَا الْخُمُسُ عَلَى الْمَشْهُورِ.وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلاَّ الزَّكَاةُ وَإِنَّمَا الْخُمُسُ فِي الرِّكَازِ.

نَبْشُ الْقَبْرِ لِاسْتِخْرَاجِ الْمَالِ:

12- صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ مَا يُوجَدُ فِي قَبْرِ الْجَاهِلِيِّ رِكَازٌ.وَأَمَّا مَا يُوجَدُ فِي قَبْرِ الْمُسْلِمِ فَفِي حُكْمِ اللُّقَطَةِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قَبْر، وَلُقَطَة).

النِّصَابُ فِي الرِّكَازِ:

13- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ) إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ النِّصَابُ فِي الرِّكَازِ، بَلْ يَجِبُ الْخُمُسُ فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ.

وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ إِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَقَالَ: وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ أَوْلَى بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ- عَلَى الْمَذْهَبِ- إِلَى اشْتِرَاطِ النِّصَابِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ الْمَأْخُوذَ مِنَ الرِّكَازِ زَكَاةٌ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: اتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ مِنَ الرِّكَازِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ وَجَدَ مِائَةً أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْخُمُسُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، بَلْ يَنْعَقِدُ الْحَوْلُ عَلَيْهِمَا مِنْ حِينِ كَمُلَ النِّصَابُ، فَإِذَا تَمَّ لَزِمَهُ رُبُعُ الْعُشْرِ كَسَائِرِ النُّقُودِ الَّتِي يَمْلِكُهَا، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَهُوَ اشْتِرَاطُ النِّصَابِ فِي الرِّكَازِ.

ثُمَّ قَالَ: إِذَا وَجَدَ مِنَ الرِّكَازِ دُونَ النِّصَابِ، وَلَهُ دَيْنٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ يَبْلُغُ بِهِ نِصَابًا، وَجَبَ خُمُسُ الرِّكَازِ فِي الْحَالِ.فَإِنْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا أَوْ مَدْفُونًا أَوْ وَدِيعَةً أَوْ دَيْنًا- وَالرِّكَازُ نَاقِصٌ- لَمْ يُخَمِّسْ حَتَّى يَعْلَمَ سَلَامَةَ مَالِهِ، وَحِينَئِذٍ يُخَمِّسُ الرِّكَازَ النَّاقِصَ عَنِ النِّصَابِ سَوَاءٌ أَبَقِيَ الْمَالُ أَمْ تَلِفَ إِذَا عَلِمَ وُجُودَهُ يَوْمَ حُصُولِ الرِّكَازِ.

الْحَوْلُ فِي الرِّكَازِ:

14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْحَوْلُ فِي الرِّكَازِ؛ لِأَنَّ الْحَوْلَ يُعْتَبَرُ لِتَكَامُلِ النَّمَاءِ وَهَذَا لَا يَتَوَجَّهُ فِي الرِّكَازِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ فِيهِ الْإِجْمَاعَ

مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُمُسُ:

15- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُمُسُ هُوَ كُلُّ مَنْ وَجَدَ الرِّكَازَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، عَاقِلٍ أَوْ مَجْنُونٍ.فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا فَهُوَ لَهُمَا، وَيُخْرِجُ الْخُمُسَ عَنْهُمَا وَلِيُّهُمَا.وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ عَلَى الذِّمِّيِّ فِي الرِّكَازِ يَجِدُهُ: الْخُمُسَ، قَالَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَغَيْرُهُمْ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْخُمُسُ إِلاَّ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، رَشِيدًا أَوْ سَفِيهًا، أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا.

وَيُمْنَعُ الذِّمِّيُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ أَخْذِ الْمَعْدِنِ وَالرِّكَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، كَمَا يُمْنَعُ مِنَ الْإِحْيَاءِ بِهَا؛ لِأَنَّ الدَّارَ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُوَ دَخِيلٌ فِيهَا.

وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ فَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الدُّرِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُسْتَرَدُّ مِنْهُ مَا أَخَذَ إِلاَّ إِذَا عَمِلَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ عَلَى شَرْطٍ فَلَهُ الْمَشْرُوطُ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ عَمِلَ رَجُلَانِ فِي طَلَبِ الرِّكَازِ فَهُوَ لِلْوَاجِدِ، وَإِنْ كَانَا مُسْتَأْجَرَيْنِ لِطَلَبِهِ فَهُوَ لِلْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِدَ نَائِبُهُ فِيهِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (حَرْبِيّ، شَرِكَة، إِجَارَة، خُمُس).

مَوْضِعُ الرِّكَازِ:

أَوَّلًا: فِي دَارِ الْإِسْلَامِ:

16- أ- أَنْ يَجِدَهُ فِي مَوَاتٍ أَوْ مَا لَا يُعْلَمُ لَهُ مَالِكٌ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِي عَهْدٍ، كَالْأَبْنِيَةِ الْقَدِيمَةِ، وَالتُّلُولِ، وَجُدْرَانِ الْجَاهِلِيَّةِ وَقُبُورِهِمْ، فَهَذَا فِيهِ الْخُمُسُ بِلَا خِلَافٍ سِوَى مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ.

وَعِبَارَةُ الْحَنَفِيَّةِ: فِي أَرْضٍ خَرَاجِيَّةٍ أَوْ عُشْرِيَّةٍ، وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً لِأَحَدٍ أَوْ لَا، صَالِحَةٍ لِلزِّرَاعَةِ أَوْ لَا.فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَفَاوِزُ وَأَرْضُ الْمَوَاتِ، فَإِنَّهَا إِذَا جُعِلَتْ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ كَانَتْ عُشْرِيَّةً أَوْ خَرَاجِيَّةً.

وَقَالَ فِي الْمُغْنِي: لَوْ وَجَدَهُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ فِي طَرِيقٍ غَيْرِ مَسْلُوكٍ، أَوْ قَرْيَةٍ خَرَابٍ فَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ، لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ اللُّقَطَةِ؟ فَقَالَ: مَا كَانَ فِي طَرِيقٍ مَأْتِيٍّ أَوْ قَرْيَةٍ عَامِرَةٍ فَعَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلاَّ فَلَكَ، وَمَا لَمْ يَكُنْ فِي طَرِيقٍ مَأْتِيٍّ وَلَا فِي قَرْيَةٍ عَامِرَةٍ فَفِيهِ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ».

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَخْرُجُ خُمُسُ الرِّكَازِ وَالْبَاقِي لِوَاجِدِهِ حَيْثُ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ لَا مَالِكَ لَهَا، كَمَوَاتِ أَرْضِ الْإِسْلَامِ، أَوْ فَيَافِي الْعَرَبِ الَّتِي لَمْ تُفْتَحْ عَنْوَةً وَلَا أَسْلَمَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا، وَأَمَّا لَوْ وُجِدَ الرِّكَازُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَيَكُونُ مَا فِيهِ لِمَالِكِ الْأَرْضِ.

وَشَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَجِدَهُ فِي أَرْضٍ لَمْ تَبْلُغْهَا الدَّعْوَةُ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: إِذَا بَنَى كَافِرٌ بِنَاءً وَكَنَزَ فِيهِ كَنْزًا وَبَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ وَعَانَدَ فَلَمْ يُسْلِمْ ثُمَّ هَلَكَ وَبَادَ أَهْلُهُ فَوُجِدَ ذَلِكَ الْكَنْزُ كَانَ فَيْئًا لَا رِكَازًا، لِأَنَّ الرِّكَازَ إِنَّمَا هُوَ أَمْوَالُ الْجَاهِلِيَّةِ الْعَادِيَّةُ الَّذِينَ لَا يُعْرَفُ هَلْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةٌ أَمْ لَا؟ فَأَمَّا مَنْ بَلَغَتْهُمْ فَمَا لَهُمْ فَيْءٌ، فَخُمُسُهُ لِأَهْلِ الْخُمُسِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ

فَإِنْ وُجِدَ الرِّكَازُ فِي شَارِعٍ أَوْ طَرِيقٍ مَسْلُوكٍ فَلُقَطَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ رِكَازٌ.

ب- أَنْ يَجِدَ الرِّكَازَ فِي مِلْكِهِ:

17- الْمِلْكُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَحْيَاهُ أَوِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ.

1- أَنْ يَكُونَ مَالِكُهُ هُوَ الَّذِي أَحْيَاهُ، فَإِذَا وَجَدَ فِيهِ رِكَازًا فَهُوَ لَهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُخَمِّسَهُ، وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْإِحْيَاءِ الْإِرْثَ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ إِقْطَاعَ السُّلْطَانِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَعْنُونَ بِمَالِك الْأَرْضِ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَلَكَهَا أَوَّلَ الْفَتْحِ، وَهُوَ مَنْ خَصَّهُ الْإِمَامُ بِتَمْلِيكِ الْأَرْضِ حِينَ فَتْحِ الْبَلَدِ.

2- أَنْ يَجِدَ الرِّكَازَ فِي مِلْكِهِ الْمُنْتَقِلِ إِلَيْهِ:

18- إِذَا انْتَقَلَ الْمِلْكُ عَنْ طَرِيقِ الْإِرْثِ وَوَجَدَ فِيهِ رِكَازًا فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لِوَرَثَتِهِ.

أَمَّا لَوِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ وَوَجَدَ فِيهِ رِكَازًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَنْ يَكُونُ لَهُ الرِّكَازُ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ) إِلَى أَنَّهُ لِلْمَالِكِ الْأَوَّلِ أَوْ لِوَارِثِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا؛ لِأَنَّهُ كَانَتْ يَدُهُ عَلَى الدَّارِ فَكَانَتْ عَلَى مَا فِيهَا.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْبَحْرِ: إِنَّ الْكَنْزَ مُودَعٌ فِي الْأَرْضِ فَلَمَّا مَلَكَهَا الْأَوَّلُ مَلَكَ مَا فِيهَا، وَلَا يَخْرُجُ مَا فِيهَا عَنْ مِلْكِهِ بِبَيْعِهَا كَالسَّمَكَةِ فِي جَوْفِهَا دُرَّةٌ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُعْرَفِ الْمَالِكُ الْأَوَّلُ وَلَا وَرَثَتُهُ فَيُوضَعُ الرِّكَازُ فِي بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الْأَوْجَهِ.وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ.

قَالَ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ: وَهُوَ الظَّاهِرُ بَلِ الْمُتَعَيِّنُ.وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لُقَطَةٌ.وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ- وَأَبُو يُوسُفَ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الرِّكَازَ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْخُمُسِ لِلْمَالِكِ الْأَخِيرِ، لِأَنَّهُ مَالُ كَافِرٍ مَظْهُورٌ عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَانَ لِمَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ كَالْغَنَائِمِ؛ وَلِأَنَّ الرِّكَازَ لَا يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا، وَإِنَّمَا يُمْلَكُ بِالظُّهُورِ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَدْ ظَهَرَ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكَهُ.

وَقَدْ صَحَّحَ فِي الْمُغْنِي هَذِهِ الرِّوَايَةَ، ثُمَّ قَالَ: لِأَنَّ الرِّكَازَ لَا يُمْلَكُ بِمِلْكِ الدَّارِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَجْزَائِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ مُودَعٌ فِيهَا، فَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْمُبَاحَاتِ مِنَ الْحَشِيشِ وَالْحَطَبِ وَالصَّيْدِ يَجِدُهُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ فَيَأْخُذُهُ فَيَكُونُ أَحَقَّ بِهِ.

وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: قَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْبَاقِي لِلْوَاجِدِ كَمَا فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ الْوَرَثَةُ فَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ لِمُورِثِهِمْ وَلَمْ يُنْكِرْهُ الْبَاقُونَ، فَحُكْمُ مَنْ أَنْكَرَ فِي نَصِيبِهِ حُكْمُ الْمَالِكِ الَّذِي لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ، وَحُكْمُ الْمُعْتَرِفِينَ حُكْمُ الْمَالِكِ الْمُعْتَرِفِ.

ج- أَنْ يَجِدَ الرِّكَازَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ:

19- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الرِّكَازَ الْمَوْجُودَ فِي دَارٍ أَوْ أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ يَكُونُ لِصَاحِبِ الدَّارِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لِوَاجِدِهِ.

وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ أَنَّهُ لِوَاجِدِهِ.لِأَنَّهُ قَالَ فِي مَسْأَلَةِ مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَحْفِرَ لَهُ فِي دَارِهِ فَأَصَابَ فِي الدَّارِ كَنْزًا: فَهُوَ لِلْأَجِيرِ.نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكَحَّالُ، قَالَ الْقَاضِي: هُوَ الصَّحِيحُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرِّكَازَ لِوَاجِدِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَاسْتَحْسَنَهُ أَبُو يُوسُفَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَنْزَ لَا يُمْلَكُ بِمِلْكِ الدَّارِ، فَيَكُونُ لِمَنْ وَجَدَهُ، لَكِنْ إِنِ ادَّعَاهُ الْمَالِكُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ فَهُوَ لِوَاجِدِهِ.

ثَانِيًا: أَنْ يُوجَدُ الرِّكَازُ فِي دَارِ الصُّلْحِ:

20- صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ دَفِينَ الْمُصَالَحِينَ لَهُمْ وَلَوْ كَانَ الدَّافِنُ غَيْرَهُمْ، فَمَا وُجِدَ مِنَ الرِّكَازِ مَدْفُونًا فِي أَرْضِ الصُّلْحِ، سَوَاءٌ كَانُوا هُمُ الَّذِينَ دَفَنُوهُ أَوْ دَفَنَهُ غَيْرُهُمْ فَهُوَ لِلَّذِينَ صَالَحُوا عَلَى تِلْكَ الْأَرْضِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يُخَمَّسُ، فَإِنْ وَجَدَهُ أَحَدُ الْمُصَالَحِينَ فِي دَارِهِ فَهُوَ لَهُ بِمُفْرَدِهِ سَوَاءٌ وَجَدَهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرِّكَازَ الْمَوْجُودَ فِي مَوَاتِ دَارِ أَهْلِ الْعَهْدِ يَمْلِكُهُ وَاجِدُهُ كَمَوَاتِ دَارِ الْإِسْلَامِ.

ثَالِثًا: أَنْ يُوجَدَ الرِّكَازُ فِي دَارِ الْحَرْبِ:

21- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الرِّكَازِ الْمَوْجُودِ فِي دَارِ الْحَرْبِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرِّكَازَ الْمَوْجُودَ فِي دَارِ الْحَرْبِ إِنْ كَانَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِغَيْرِ مُسْتَأْمَنٍ فَالْكُلُّ لِلْوَاجِدِ وَإِلاَّ وَجَبَ رَدُّهُ لِلْمَالِكِ، وَأَمَّا الْمَوْجُودُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ أَصْلًا فَالْكُلُّ لِلْوَاجِدِ بِلَا فَرْقٍ بَيْنَ الْمُسْتَأْمَنِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مَا فِي صَحْرَائِهِمْ لَيْسَ فِي يَدِ أَحَدٍ عَلَى الْخُصُوصِ فَلَا يُعَدُّ غَدْرًا.

وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَرْضِ الْمَمْلُوكَةِ بَيْنَ أَنْ يُؤْخَذَ الرِّكَازُ بِقَهْرٍ وَقِتَالٍ فَهُوَ غَنِيمَةٌ، كَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ وَنُقُودِهِمْ مِنْ بُيُوتِهِمْ فَيَكُونُ خُمُسُهُ لِأَهْلِ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِوَاجِدِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يُؤْخَذَ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا قَهْرٍ فَهُوَ فَيْءٌ وَمُسْتَحِقُّهُ أَهْلُ الْفَيْءِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَذُبُّوا عَنْهُ فَهُوَ كَمَوَاتِ دَارِ الْإِسْلَامِ- بِلَا خِلَافٍ عِنْدَهُمْ- وَهُوَ رِكَازٌ.

وَهَذَا مَحْمُولٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى مَا إِذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِغَيْرِ أَمَانٍ.أَمَّا إِذَا دَخَلَ بِأَمَانٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْكَنْزِ لَا بِقِتَالٍ وَلَا بِغَيْرِهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَهُوَ لِوَاجِدِهِ، حُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ وَجَدَهُ فِي مَوَاتِ أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَوَاتِ بَيْنَ مَا يُذَبُّ عَنْهُ وَبَيْنَ مَا لَا يُذَبُّ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِمَوْضِعِهِ مَالِكٌ مُحْتَرَمٌ أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يُعْرَفْ مَالِكُهُ.

مَصْرِفُ خُمُسِ الرِّكَازِ:

22- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَبِهِ قَالَ الْمُزَنِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّ خُمُسَ الرِّكَازِ يُصْرَفُ مَصَارِفَ الْغَنِيمَةِ وَلَيْسَ زَكَاةً.

وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّهُ حَلَالٌ لِلْأَغْنِيَاءِ وَلَا يَخْتَصُّ بِالْفُقَرَاءِ، وَهُوَ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: مَصْرِفُهُ مَصْرِفُ الْفَيْءِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ أَصَحُّ مِمَّا سَيَأْتِي وَأَقْيَسُ عَلَى مَذْهَبِهِ، لِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ أَلْفَ دِينَارٍ مَدْفُونَةً خَارِجًا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَأَتَى بِهَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَأَخَذَ مِنْهَا الْخُمُسَ مِائَتَيْ دِينَارٍ، وَدَفَعَ إِلَى الرَّجُلِ بَقِيَّتَهَا، وَجَعَلَ عُمَرُ يَقْسِمُ الْمِائَتَيْنِ بَيْنَ مَنْ حَضَرَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلَى أَنْ أَفْضَلَ مِنْهَا فَضْلَةً، فَقَالَ: أَيْنَ صَاحِبُ الدَّنَانِيرِ؟ فَقَامَ إِلَيْهِ، فَقَالَ عُمَرُ: خُذْ هَذِهِ الدَّنَانِيرَ فَهِيَ لَكَ.

وَلَوْ كَانَ الْمَأْخُوذُ زَكَاةً لَخَصَّ بِهِ أَهْلَهَا وَلَمْ يَرُدَّهُ عَلَى وَاجِدِهِ؛ وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَخْمُوسٌ زَالَتْ عَنْهُ يَدُ الْكَافِرِ، أَشْبَهَ خُمُسَ الْغَنِيمَةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ صَرْفُ خُمُسِ الرِّكَازِ مَصْرِفَ الزَّكَاةِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ.

وَلِتَفْصِيلِ تَوْزِيعِ الْخُمُسِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (خَمَس، غَنِيمَة، فَيْء).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


277-موسوعة الفقه الكويتية (روث)

رَوْث

التَّعْرِيفُ:

1- الرَّوْثُ لُغَةً: رَجِيعُ (فَضْلَةُ) ذِي الْحَافِرِ، وَاحِدُهُ رَوْثَةٌ وَالْجَمْعُ أَرْوَاثٌ.

وَيَسْتَعْمِلُ الْفُقَهَاءُ هَذَا اللَّفْظَ بِأَوْسَعَ مِنْ ذَلِكَ فَيُطْلَقُ عِنْدَهُمْ عَلَى رَجِيعِ ذِي الْحَافِرِ وَغَيْرِهِ كَالْإِبِلِ وَالْغَنَمِ.

وَقَرِيبٌ مِنْهُ الْخِثْيُ، وَالْخِثْيُ لِلْبَقَرِ، وَالْبَعْرُ لِلْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، وَالذَّرْقُ لِلطُّيُورِ.وَالْعَذِرَةُ لِلْآدَمِيِّ وَالْخُرْءُ لِلطَّيْرِ وَالْكَلْبِ وَالْجُرَذِ وَالْإِنْسَانِ.

وَالسِّرْجِينُ أَوِ السِّرْقِينُ هُوَ رَجِيعُ مَا سِوَى الْإِنْسَانِ.

حُكْمُ الرَّوْثِ مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ:

2- يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ أَنَّ رَوْثَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ.

وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ.وَقَالَ: صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ».وَصَلَّى أَبُو مُوسَى فِي مَوْضِعٍ فِيهِ أَبْعَارُ الْغَنَمِ فَقِيلَ لَهُ: لَوْ تَقَدَّمْتَ إِلَى هَاهُنَا.قَالَ: هَذَا وَذَاكَ وَاحِدٌ.

وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابِهِ مَا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَوْطِئَةِ وَالْمُصَلَّيَاتِ وَإِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ عَلَى الْأَرْضِ، وَمَرَابِضُ الْغَنَمِ لَا تَخْلُو مِنْ أَبْعَارِهَا وَأَبْوَالِهَا؛ وَلِأَنَّهُ مُتَحَلِّلٌ مُعْتَادٌ مِنْ حَيَوَانٍ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَكَانَ طَاهِرًا.

أَمَّا رَوْثُ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَنَجِسٌ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِنَجَاسَةِ رَوْثِ مَكْرُوهِ الْأَكْلِ كَمُحَرَّمِهِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَعْمِلِ النَّجَاسَةَ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- عَلَى الْمَذْهَبِ- بِنَجَاسَةِ الرَّوْثِ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ الْمَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيْرِهَا.

ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِفَةِ نَجَاسَةِ الْأَرْوَاثِ: فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هِيَ نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ نَجَاسَةً خَفِيفَةً.

وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ النَّجَاسَةَ الْغَلِيظَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَا وَرَدَ نَصٌّ يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ مُعَارِضٌ لَهُ يَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ.وَالْخَفِيفَةُ مَا تَعَارَضَ نَصَّانِ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْغَلِيظَةُ مَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى نَجَاسَتِهِ.وَالْخَفِيفَةُ مَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نَجَاسَتِهِ وَطَهَارَتِهِ.

3- بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَالْأَرْوَاثُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ وَرَدَ نَصٌّ يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَتِهَا وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «إِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- طَلَبَ مِنْهُ أَحْجَارَ الِاسْتِنْجَاءِ فَأَتَى بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَرَمَى بِالرَّوْثَةِ وَقَالَ: هَذَا رِكْسٌ» أَيْ: نَجِسٌ.وَلَيْسَ لَهُ نَصٌّ مُعَارِضٌ، وَإِنَّمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِطَهَارَتِهَا بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ، وَالِاجْتِهَادُ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ فَكَانَتْ نَجَاسَتُهَا غَلِيظَةً.

وَعَلَى قَوْلِ الصَّاحِبَيْنِ نَجَاسَةُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ خَفِيفَةٌ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهَا.

كَمَا أَنَّ فِي الْأَرْوَاثِ ضَرُورَةً، وَعُمُومُ الْبَلِيَّةِ لِكَثْرَتِهَا فِي الطَّرَقَاتِ فَتَتَعَذَّرُ صِيَانَةُ الْخِفَافِ وَالنِّعَالِ عَنْهَا، وَمَا عَمَّتْ بَلِيَّتُهُ خَفَّتْ قَضِيَّتُهُ.

وَيَتَفَرَّعُ عَنِ اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ أَنَّهُ إِذَا أَصَابَ الثَّوْبَ مِنَ الرَّوْثِ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ دِرْهَمٍ لَمْ تَجُزِ الصَّلَاةُ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَقَالَ الصَّاحِبَانِ: يُجْزِئُهُ حَتَّى يَفْحُشَ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُمَا بَيْنَ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِ الْمَأْكُولِ.

وَفِي كُلِّ مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْفَاحِشُ فَهُوَ مُقَدَّرٌ بِالرُّبُعِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: شِبْرٌ فِي شِبْرٍ.وَفِي رِوَايَةٍ ذِرَاعٌ فِي ذِرَاعٍ.

وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الرَّوْثِ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَاحِشًا.وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا آخِرُ أَقَاوِيلِهِ حِينَ كَانَ بِالرَّيِّ وَكَانَ الْخَلِيفَةُ بِهَا، فَرَأَى الطُّرُقَ وَالْخَانَاتِ مَمْلُوءَةً مِنَ الْأَرْوَاثِ وَلِلنَّاسِ فِيهَا بَلْوًى عَظِيمَةٌ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُعْفَى عَمَّا أَصَابَ الْخُفَّ وَالنَّعْلَ مِنْ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا فِي الطُّرُقِ وَالْأَمَاكِنِ الَّتِي تَطْرُقُهَا الدَّوَابُّ كَثِيرًا؛ لِعُسْرِ الِاحْتِرَازِ مِنْ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا أَصَابَ غَيْرَ الْخُفِّ وَالنَّعْلِ كَالثَّوْبِ وَالْبَدَنِ فَلَا عَفْوَ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَنَجَاسَةُ الرَّوْثِ عِنْدَهُمْ لَا يُعْفَى عَنْهَا إِلاَّ إِذَا كَانَتْ مِمَّا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرَفُ فَيُعْفَى عَنْهَا فِي قَوْلٍ.

وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ فَضَلَاتِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ وَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ.

وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ الْيَسِيرَ مَا لَا يَفْحُشُ فِي الْقَلْبِ.وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: السِّرْقِينُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ لَا يَمْنَعُ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّهُ وُقُودُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا اسْتَعْمَلُوهُ، كَمَا لَمْ يَسْتَعْمِلُوا الْعَذِرَةَ.

وَلِتَفْصِيلِ ذَلِكَ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (نَجَاسَة).

الِاسْتِنْجَاءُ بِالرَّوْثِ:

4- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالرَّوْثِ طَاهِرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ.

وَاسْتَدَلَّ هَذَا الْفَرِيقُ مِنَ الْفُقَهَاءِ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِمَا يَأْتِي:

1- حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «اتَّبَعْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ فَقَالَ: أَبْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ بِهَا أَوْ نَحْوَهُ وَلَا تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلَا رَوْثٍ».

2- حَدِيثُ سَلْمَانَ- رضي الله عنه- قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الرَّوْثِ وَالْعِظَامِ».

وَلِأَنَّ الرَّوْثَ نَجِسٌ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِنَجَاسَتِهِ وَالنَّجِسُ لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِالرَّوْثِ النَّجِسِ وَيَجُوزُ بِالطَّاهِرِ مِنْهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّ الرَّوْثَ طَعَامُ دَوَابِّ الْجِنِّ يَرْجِعُ عَلَفًا كَمَا كَانَ عَلَيْهِ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ كَرَاهَةَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالرَّوْثِ لِأَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِي الِاسْتِنْجَاءِ بِالْأَحْجَارِ مَعْلُولٌ بِمَعْنَى الطَّهَارَةِ، وَقَدْ حَصَلَتْ بِالرَّوْثِ كَمَا تَحْصُلُ بِالْأَحْجَارِ، إِلاَّ أَنَّهُ كَرِهَهُ بِالرَّوْثِ لِمَا فِيهِ مِنِ اسْتِعْمَالِ النَّجِسِ وَإِفْسَادِ عَلَفِ دَوَابِّ الْجِنِّ.

5- ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الِاعْتِدَادِ بِالِاسْتِنْجَاءِ بِالرَّوْثِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى أَنَّ مَنْ خَالَفَ وَاسْتَنْجَى بِالرَّوْثِ يَعْتَدُّ بِهِ إِنْ حَصَلَ بِهِ الْإِنْقَاءُ.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ (اسْتَنْجَى بِالرَّوْثِ) يَعْتَدُّ بِهِ عِنْدَنَا، فَيَكُونُ مُقِيمًا سُنَّةً (سُنَّةَ الِاسْتِنْجَاءِ) وَمُرْتَكِبًا كَرَاهَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِفِعْلٍ وَاحِدٍ جِهَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ فَيَكُونُ بِجِهَةٍ كَذَا وَبِجِهَةٍ كَذَا.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَجُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَنْ خَالَفَ وَاسْتَنْجَى بِالرَّوْثِ لَمْ يَصِحَّ.وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- «فِي سُؤَالِ الْجِنِّ الزَّادَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ، أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا، وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا، فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ».

وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ وَعَدَمَ الْإِجْزَاءِ.

6- أَمَّا مَنِ اسْتَنْجَى بِالرَّوْثِ ثُمَّ اسْتَنْجَى بَعْدَهُ بِمُبَاحٍ كَحَجَرٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ مَنْ يَرَى عَدَمَ الصِّحَّةِ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِيهِ عَلَى الِاتِّجَاهَاتِ التَّالِيَةِ:

1- عَدَمُ الْإِجْزَاءِ مُطْلَقًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَبِنَاءً عَلَى هَذَا الِاتِّجَاهِ يَتَعَيَّنُ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ بَعْدَهُ.

2- الْإِجْزَاءُ مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

3- الْإِجْزَاءُ إِنْ أَزَالَ شَيْئًا، وَهُوَ قَوْلٌ ذَكَرَهُ ابْنُ حَمْدَانَ الْحَنْبَلِيُّ فِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى وَاخْتَارَهُ.

وَأَجَازَ ابْنُ جَرِيرٍ الِاسْتِنْجَاءَ بِكُلِّ طَاهِرٍ وَنَجِسٍ مِنَ الْجَمَادَاتِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: اسْتِجْمَار، اسْتِنْجَاء).

بَيْعُ الرَّوْثِ:

7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ بَيْعِ الرَّوْثِ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي بَحْثِ (زِبْل).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


278-موسوعة الفقه الكويتية (زكاة 5)

زَكَاة -5

ثَالِثًا: زَكَاةُ عُرُوضِ التِّجَارَةِ:

77- التِّجَارَةُ تَقْلِيبُ الْمَالِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِغَرَضِ تَحْصِيلِ الرِّبْحِ.

وَالْعَرْضُ بِسُكُونِ الرَّاءِ، هُوَ كُلُّ مَالٍ سِوَى النَّقْدَيْنِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْعَرْضُ الْمَتَاعُ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَهُوَ عَرْضٌ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَإِنَّهُمَا عَيْنٌ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْعُرُوض الْأَمْتِعَةُ الَّتِي لَا يَدْخُلُهَا كَيْلٌ وَلَا وَزْنٌ وَلَا يَكُونُ حَيَوَانًا وَلَا عَقَارًا.

أَمَّا الْعَرَضُ بِفَتْحَتَيْنِ فَهُوَ شَامِلٌ لِكُلِّ أَنْوَاعِ الْمَالِ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جَمِيعُ مَتَاعِ الدُّنْيَا عَرَضٌ.وَفِي الْحَدِيثِ: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ».

وَعُرُوضُ التِّجَارَةِ جَمْعُ الْعَرْضِ بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَهِيَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ كُلُّ مَا أُعِدَّ لِلتِّجَارَةِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ سَوَاءٌ مِنْ جِنْسٍ تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ الْعَيْنِ كَالْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ، أَوْ لَا، كَالثِّيَابِ وَالْحَمِيرِ وَالْبِغَالِ.

حُكْمُ الزَّكَاةِ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ:

78- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُفْتَى بِهِ هُوَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}

وَبِحَدِيثِ سَمُرَةَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنَ الَّذِي نَعُدُّ لِلْبَيْعِ».

وَحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: «فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا، وَفِي الْغَنَمِ صَدَقَتُهَا، وَفِي الْبَزِّ صَدَقَتُهَا» وَقَالَ حَمَاسٌ: مَرَّ بِي عُمَرُ فَقَالَ: أَدِّ زَكَاةَ مَالِكَ.فَقُلْتُ: مَا لِي إِلاَّ جِعَابُ أُدْمٍ.فَقَالَ: قَوِّمْهَا ثُمَّ أَدِّ زَكَاتَهَا.وَلِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلنَّمَاءِ بِإِعْدَادِ صَاحِبِهَا فَأَشْبَهَتِ الْمُعَدَّ لِذَلِكَ خِلْقَةً كَالسَّوَائِمِ وَالنَّقْدَيْنِ.

شُرُوطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعُرُوضِ:

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يَكُونَ لِزَكَاتِهَا سَبَبٌ آخَرُ غَيْرُ كَوْنِهَا عُرُوضَ تِجَارَةٍ:

أ- السَّوَائِمُ الَّتِي لِلتِّجَارَةِ:

79- فَلَوْ كَانَ لَدَيْهِ سَوَائِمُ لِلتِّجَارَةِ بَلَغَتْ نِصَابًا، فَلَا تَجْتَمِعُ زَكَاتَانِ إِجْمَاعًا، لِحَدِيثِ: «لَا ثَنْيَ فِي الصَّدَقَةِ» بَلْ يَكُونُ فِيهَا زَكَاةُ الْعَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ، كَأَنْ كَانَ عِنْدَهُ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ لِلتِّجَارَةِ فَفِيهَا شَاةٌ، وَلَا تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ، فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ خَمْسٍ فَإِنَّهَا تُقَوَّمُ فَإِنْ بَلَغَتْ نِصَابًا مِنَ الْأَثْمَانِ وَجَبَتْ فِيهَا زَكَاةُ الْقِيمَةِ.

وَإِنَّمَا قَدَّمُوا زَكَاةَ الْعَيْنِ عَلَى زَكَاةِ التِّجَارَةِ لِأَنَّ زَكَاةَ الْعَيْنِ أَقْوَى ثُبُوتًا لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهَا، وَاخْتِصَاصِ الْعَيْنِ بِهَا، فَكَانَتْ أَوْلَى.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا تُزَكَّى زَكَاةَ التِّجَارَةِ لِأَنَّهَا أَحَظُّ لِلْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ فِيمَا زَادَ بِالْحِسَابِ، لَكِنْ قَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ نِصَابَ سَائِمَةٍ وَلَمْ تَبْلُغْ قِيمَتُهُ نِصَابًا مِنَ الْأَثْمَانِ فَلَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ، بَلْ تَجِبُ زَكَاةُ السَّائِمَةِ، كَمَنْ عِنْدَهُ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ لِلتِّجَارَةِ لَمْ تَبْلُغْ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَفِيهَا شَاةٌ.

وَنَظِيرُ هَذَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ غَلَّةُ مَالِ التِّجَارَةِ، كَأَنْ يَكُونَ ثَمَرًا مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ إِنْ كَانَ الشَّجَرُ لِلتِّجَارَةِ.

ب- الْحُلِيُّ وَالْمَصْنُوعَاتُ الذَّهَبِيَّةُ وَالْفِضِّيَّةُ الَّتِي لِلتِّجَارَةِ:

80- أَمَّا الْمَصُوغَاتُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِنْ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا زَكَاةٌ إِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ بِالْوَزْنِ، وَلَوْ زَادَتْ قِيمَتُهَا عَنْ نِصَابٍ بِسَبَبِ الْجَوْدَةِ أَوِ الصَّنْعَةِ، وَيُزَكَّى عَلَى أَسَاسِ الْقِيمَةِ الشَّامِلَةِ أَيْضًا لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُرَصَّعَةِ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الصِّنَاعَةَ الْمُحَرَّمَةَ لَا تُقَوَّمُ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِهَا شَرْعًا، أَمَّا الصَّنْعَةُ الْمُبَاحَةُ فَتَدْخُلُ فِي التَّقْوِيمِ إِنْ كَانَ الْحُلِيُّ لِلتِّجَارَةِ، وَيُعْتَبَرُ النِّصَابُ بِالْقِيمَةِ كَسَائِرِ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ، وَيُقَوَّمُ بِنَقْدٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ قُوِّمَ بِفِضَّةٍ، وَبِالْعَكْسِ، إِنْ كَانَ تَقْوِيمُهُ بِنَقْدٍ آخَرَ أَحَظَّ لِلْفُقَرَاءِ، أَوْ نَقَصَ عَنْ نِصَابِهِ، كَخَوَاتِمَ فِضَّةٍ لِتِجَارَةٍ زِنَتُهَا (مِائَةٌ وَتِسْعُونَ دِرْهَمًا) وَقِيمَتُهَا (عِشْرُونَ) مِثْقَالًا ذَهَبًا، فَيُزَكِّيهَا بِرُبُعِ عُشْرِ قِيمَتِهَا، فَإِنْ كَانَ وَزْنُهَا (مِائَتَيْ) دِرْهَمٍ، وَقِيمَتُهَا تِسْعَةَ عَشَرَ مِثْقَالًا وَجَبَ أَنْ لَا تُقَوَّمَ، وَأَخْرَجَ رُبُعَ عُشْرِهَا.

وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَابِدِينَ أَنَّ مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْحُلِيِّ وَالْمَصْنُوعِ مِنَ النَّقْدَيْنِ بِالْوَزْنِ مِنْ حَيْثُ النِّصَابُ وَمِنْ حَيْثُ قَدْرُ الْمُخْرَجِ، وَعِنْدَ زُفَرَ الْمُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْأَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي مَصُوغِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الَّذِي لِلتِّجَارَةِ هَلْ يُزَكَّى زَكَاةَ الْعَيْنِ أَوْ زَكَاةَ الْقِيمَةِ قَوْلَانِ.

ج- الْأَرَاضِي الزِّرَاعِيَّةُ الَّتِي لِلتِّجَارَةِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا:

81- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ الزِّرَاعِيَّةِ مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ، وَلَا يَجِبُ الزَّكَاةُ فِي قِيمَةِ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ وَلَوْ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ، وَهَذَا إِنْ كَانَ قَدْ زَرَعَ الْأَرْضَ الْعُشْرِيَّةَ فِعْلًا وَوَجَبَ فِيهَا الْعُشْرُ؛ لِئَلاَّ يَجْتَمِعَ حَقَّانِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي مَالٍ وَاحِدٍ.فَإِنْ لَمْ يَزْرَعْهَا تَجِبُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ فِيهَا لِعَدَمِ وُجُوبِ الْعُشْرِ، فَلَمْ يُوجَدِ الْمَانِعُ، بِخِلَافِ الْخَرَاجِ الْمُوَظَّفِ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهَا وَلَوْ عُطِّلَتْ أَيْ لِأَنَّهُ كَالْأُجْرَةِ.

أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَيَجِبُ زَكَاةُ رَقَبَةِ الْأَرْضِ كَسَائِرِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ بِكُلِّ حَالٍ.

ثُمَّ اخْتَلَفَ الْجُمْهُورُ فِي كَيْفِيَّةِ تَزْكِيَةِ الْغَلَّةِ.

فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ النَّاتِجَ مِنَ الْأَرْضِ الزِّرَاعِيَّةِ الَّتِي لِلتِّجَارَةِ لَا زَكَاةَ فِي قِيمَتِهِ فِي عَامِهِ اتِّفَاقًا إِنْ كَانَتْ قَدْ وَجَبَتْ فِيهِ زَكَاةُ النَّبَاتِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ لِنَقْصِهِ عَنْ نِصَابِ الزَّرْعِ أَوِ الثَّمَرِ، تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ، وَكَذَا فِي عَامِهِ الثَّانِي وَمَا بَعْدَهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يُزَكَّى الْجَمِيعُ زَكَاةَ الْقِيمَةِ، لِأَنَّهُ كُلَّهُ مَالُ تِجَارَةٍ، فَتَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ، كَالسَّائِمَةِ الْمُعَدَّةِ لِلتِّجَارَةِ.قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَيُزَكَّى التِّبْنُ أَيْضًا وَالْأَغْصَانُ وَالْأَوْرَاقُ وَغَيْرُهَا إِنْ كَانَ لَهَا قِيمَةٌ، كَسَائِرِ مَالِ التِّجَارَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى أَنَّهُ يَجْتَمِعُ فِي الْعُشْرِيَّةِ الْعُشْرُ وَزَكَاةُ التِّجَارَةِ، لِأَنَّ زَكَاةَ التِّجَارَةِ فِي الْقِيمَةِ، وَالْعُشْرَ فِي الْخَارِجِ، فَلَمْ يَجْتَمِعَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ؛ وَلِأَنَّ زَكَاةَ الْعُشْرِ فِي الْغَلَّةِ أَحَظُّ لِلْفُقَرَاءِ مِنْ زَكَاةِ التِّجَارَةِ فَإِنَّهَا رُبُعُ الْعُشْرِ، وَمِنْ هُنَا فَارَقَتْ عِنْدَهُمْ زَكَاةَ السَّائِمَةِ الْمُتَّجَرِ بِهَا، فَإِنَّ زَكَاةَ السَّوْمِ أَقَلُّ مِنْ زَكَاةِ التِّجَارَةِ.

الشَّرْطُ الثَّانِي: تَمَلُّكُ الْعَرْضِ بِمُعَاوَضَةٍ:

82- يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَمَلَّكَ الْعَرْضَ بِمُعَاوَضَةٍ كَشِرَاءٍ بِنَقْدٍ أَوْ عَرْضٍ أَوْ بِدَيْنٍ حَالٍّ أَوْ مُؤَجَّلٍ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مَهْرًا أَوْ عِوَضَ خُلْعٍ.

وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَمُحَمَّدٍ، فَلَوْ مَلَكَهُ بِإِرْثٍ أَوْ بِهِبَةٍ أَوِ احْتِطَابٍ أَوِ اسْتِرْدَادٍ بِعَيْبٍ وَاسْتِغْلَالِ أَرْضِهِ بِالزِّرَاعَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ.

قَالُوا: لِأَنَّ التِّجَارَةَ كَسْبُ الْمَالِ بِبَدَلٍ هُوَ مَالٌ، وَقَبُولُ الْهِبَةِ مَثَلًا اكْتِسَابٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ أَصْلًا.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ أَنَّ الْمَهْرَ وَعِوَضَ الْخُلْعِ لَا يُزَكَّيَانِ زَكَاةَ التِّجَارَةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ: الشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَلَكَهُ بِفِعْلِهِ، سَوَاءٌ كَانَ بِمُعَاوَضَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ أَفْعَالِهِ، كَالِاحْتِطَابِ وَقَبُولِ الْهِبَةِ، فَإِنْ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، كَالْمَوْرُوثِ، أَوْ مُضِيِّ حَوْلِ التَّعْرِيفِ فِي اللُّقَطَةِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: لَا يُعْتَبَرُ أَنْ يَمْلِكَ الْعَرْضَ بِفِعْلِهِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ، بَلْ أَيُّ عَرْضٍ نَوَاهُ لِلتِّجَارَةِ كَانَ لَهَا لِحَدِيثِ سَمُرَةَ: «أَمَرَنَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنَ الَّذِي نَعُدُّ لِلْبَيْعِ».

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: نِيَّةُ التِّجَارَةِ:

83- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي زَكَاةِ مَالِ التِّجَارَةِ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَوَى عِنْدَ شِرَائِهِ أَوْ تَمَلُّكِهِ أَنَّهُ لِلتِّجَارَةِ، وَالنِّيَّةُ الْمُعْتَبَرَةُ هِيَ مَا كَانَتْ مُقَارِنَةً لِدُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ التِّجَارَةَ عَمَلٌ فَيَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ مَعَ الْعَمَلِ، فَلَوْ مَلَكَهُ لِلْقُنْيَةِ ثُمَّ نَوَاهُ لِلتِّجَارَةِ لَمْ يَصِرْ لَهَا، وَلَوْ مَلَكَ لِلتِّجَارَةِ ثُمَّ نَوَاهُ لِلْقُنْيَةِ وَأَنْ لَا يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ صَارَ لِلْقُنْيَةِ، وَخَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلزَّكَاةِ وَلَوْ عَادَ فَنَوَاهُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّ تَرْكَ التِّجَارَةِ، مِنْ قَبِيلِ التُّرُوكِ، وَالتَّرْكُ يُكْتَفَى فِيهِ بِالنِّيَّةِ كَالصَّوْمِ.قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَلِأَنَّ النِّيَّةَ سَبَبٌ ضَعِيفٌ تَنْقُلُ إِلَى الْأَصْلِ وَلَا تَنْقُلُ عَنْهُ، وَالْأَصْلُ فِي الْعُرُوضِ الْقُنْيَةُ.وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لَمَّا لَمْ تَكُنِ الْعُرُوض لِلتِّجَارَةِ خِلْقَةً فَلَا تَصِيرُ لَهَا إِلاَّ بِقَصْدِهَا فِيهِ.

وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِمَّا يَحْتَاجُ لِلنِّيَّةِ مَا يَشْتَرِيهِ الْمُضَارِبُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ غَيْرَ الْمُتَاجَرَةِ بِهِ.

وَلَوْ أَنَّهُ آجَرَ دَارَهُ الْمُشْتَرَاةَ لِلتِّجَارَةِ بِعَرْضٍ، فَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَكُونُ الْعَرْضُ لِلتِّجَارَةِ إِلاَّ بِنِيَّتِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ لِلتِّجَارَةِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ.

قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَلَوْ قَرَنَ بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ نِيَّةَ اسْتِغْلَالِ الْعَرْضِ، بِأَنْ يَنْوِيَ عِنْدَ شِرَائِهِ أَنْ يُكْرِيَهُ وَإِنْ وَجَدَ رِبْحًا بَاعَهُ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ عَلَى الْمُرَجَّحِ عِنْدَهُمْ، وَكَذَا لَوْ نَوَى مَعَ التِّجَارَةِ الْقُنْيَةَ بِأَنْ يَنْوِيَ الِانْتِفَاعَ بِالشَّيْءِ كَرُكُوبِ الدَّابَّةِ أَوْ سُكْنَى الْمَنْزِلِ ثُمَّ إِنْ وَجَدَ رِبْحًا بَاعَهُ.

قَالُوا: فَإِنْ مَلَكَهُ لِلْقُنْيَةِ فَقَطْ، أَوْ لِلْغَلَّةِ فَقَطْ أَوْ لَهُمَا، أَوْ بِلَا نِيَّةٍ أَصْلًا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ.

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: بُلُوغُ النِّصَابِ:

84- وَنِصَابُ الْعُرُوضِ بِالْقِيمَةِ، وَيُقَوَّمُ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَلَا زَكَاةَ فِي مَا يَمْلِكُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْعُرُوضِ إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَقَلَّ مِنْ نِصَابِ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ، مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ نِصَابٌ أَوْ تَكْمِلَةُ نِصَابٍ.

وَتُضَمُّ الْعُرُوضُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهَا.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا تُقَوَّمُ بِهِ عُرُوضُ التِّجَارَةِ: بِالذَّهَبِ أَمْ بِالْفِضَّةِ.

فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ عَلَيْهَا الْمَذْهَبُ، إِلَى أَنَّهَا تُقَوَّمُ بِالْأَحَظِّ لِلْفُقَرَاءِ، فَإِنْ كَانَ إِذَا قَوَّمَهَا بِأَحَدِهِمَا لَا تَبْلُغُ نِصَابًا وَبِالْآخَرِ تَبْلُغُ نِصَابًا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّقْوِيمُ بِمَا يَبْلُغُ نِصَابًا.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: يُخَيَّرُ الْمَالِكُ فِيمَا يُقَوِّمُ بِهِ لِأَنَّ الثَّمَنَيْنِ فِي تَقْدِيرِ قِيَمِ الْأَشْيَاءِ بِهِمَا سَوَاءٌ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ: يُقَوِّمُهَا بِمَا اشْتَرَى بِهِ مِنَ النَّقْدَيْنِ، وَإِنِ اشْتَرَاهَا بِعَرْضٍ قَوَّمَهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ فِي الْبَلَدِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَوِّمُهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ عَلَى كُلِّ حَالٍ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ.

وَلَمْ نَجِدْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَعَرُّضًا لِمَا تُقَوَّمُ بِهِ السِّلَعُ، مَعَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّهَا لَا زَكَاةَ فِيهَا مَا لَمْ تَبْلُغْ نِصَابًا

نَقْصُ قِيمَةِ التِّجَارَةِ فِي الْحَوْلِ عَنِ النِّصَابِ:

85- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْقَوْلِ الْمَنْصُوصِ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ الْقِيمَةُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ، فَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعُرُوضِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ ثُمَّ بَلَغَتْ فِي آخِرِ الْحَوْلِ نِصَابًا وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَهَذَا خِلَافًا لِزَكَاةِ الْعَيْنِ فَلَا بُدَّ فِيهَا عِنْدَهُمْ مِنْ وُجُودِ النِّصَابِ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ.قَالُوا: لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعُرُوضِ بِالْقِيمَةِ، وَيَعْسُرُ مُرَاعَاتُهَا كُلَّ وَقْتٍ لِاضْطِرَابِ الْأَسْعَارِ ارْتِفَاعًا وَانْخِفَاضًا فَاكْتُفِيَ بِاعْتِبَارِهَا فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: فَلَوْ تَمَّ الْحَوْلُ وَقِيمَةُ الْعَرْضِ أَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ الْحَوْلُ الْأَوَّلُ وَيَبْتَدِئُ حَوْلٌ جَدِيدٌ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: الْمُعْتَبَرُ طَرَفَا الْحَوْلِ، لِأَنَّ التَّقْوِيمَ يَشُقُّ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ فَاعْتُبِرَ أَوَّلُهُ لِلِانْعِقَادِ وَتَحَقُّقِ الْغِنَى، وَآخِرُهُ لِلْوُجُوبِ، وَلَوِ انْعَدَمَ بِهَلَاكِ الْكُلِّ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ بَطَلَ حُكْمُ الْحَوْلِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ ثَالِثٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: الْمُعْتَبَرُ كُلُّ الْحَوْلِ كَمَا فِي النَّقْدَيْنِ، فَلَوْ نَقَصَتِ الْقِيمَةُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ لَمْ تَجِبِ الزَّكَاةُ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَرْضِ مِنْ حِينَ مَلَكَهُ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَلَا يَنْعَقِدُ الْحَوْلُ عَلَيْهِ حَتَّى تَتِمَّ قِيمَتُهُ نِصَابًا، وَالزِّيَادَةُ مُعْتَبَرَةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ بِارْتِفَاعِ الْأَسْعَارِ، أَوْ بِنَمَاءِ الْعَرْضِ، أَوْ بِأَنْ بَاعَهَا بِنِصَابٍ، أَوْ مَلَكَ عَرْضًا آخَرَ أَوْ أَثْمَانًا كَمَّلَ بِهَا النِّصَابَ.

الشَّرْطُ الْخَامِسُ: الْحَوْلُ:

86- وَالْمُرَادُ أَنْ يَحُولَ الْحَوْلُ عَلَى عُرُوضِ التِّجَارَةِ، فَمَا لَمْ يَحُلْ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، وَهَذَا إِنْ مَلَكَهَا بِغَيْرِ مُعَاوَضَةٍ، أَوْ بِمُعَاوَضَةٍ غَيْرِ مَالِيَّةٍ كَالْخُلْعِ، عِنْدَ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ، أَوِ اشْتَرَاهَا بِعَرْضِ قُنْيَةٌ، أَمَّا إِنِ اشْتَرَاهَا بِمَالٍ مِنَ الْأَثْمَانِ أَوْ بِعَرْضِ تِجَارَةٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ يَبْنِي حَوْلَ الثَّانِي عَلَى حَوْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ مَالَ التِّجَارَةِ تَتَعَلَّقُ الزَّكَاةُ بِقِيمَتِهِ، وَقِيمَتُهُ هِيَ الْأَثْمَانُ نَفْسُهَا؛ وَلِأَنَّ النَّمَاءَ فِي التِّجَارَةِ يَكُونُ بِالتَّقْلِيبِ.

فَإِنْ أَبْدَلَ عَرْضَ التِّجَارَةِ بِعَرْضِ قُنْيَةٍ أَوْ بِسَائِمَةٍ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا التِّجَارَةَ فَإِنَّ حَوْلَ زَكَاةِ التِّجَارَةِ يَنْقَطِعُ.

وَرِبْحَ التِّجَارَةِ فِي الْحَوْلِ يُضَمُّ إِلَى الْأَصْلِ فَيُزَكِّي الْأَصْلَ وَالرِّبْحَ عِنْدَ آخِرِ الْحَوْلِ.فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ وَجَبَ عَلَى الْمَالِكِ تَقْوِيمُ عُرُوضِهِ وَإِخْرَاجُ زَكَاتِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلِمَالِكٍ تَفْصِيلٌ بَيْنَ الْمُحْتَكِرِ لِتِجَارَتِهِ وَالْمُدِيرِ لَهَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي الشَّرْطِ التَّالِي.

الشَّرْطُ السَّادِسُ: تَقْوِيمُ السِّلَعِ:

87- يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ التَّاجِرَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْتَكِرًا أَوْ مُدِيرًا، وَالْمُحْتَكِرُ هُوَ الَّذِي يَرْصُدُ بِسِلَعِهِ الْأَسْوَاقَ وَارْتِفَاعَ الْأَسْعَارِ، وَالْمُدِيرُ هُوَ مَنْ يَبِيعُ بِالسِّعْرِ الْحَاضِرِ ثُمَّ يُخْلِفُهُ بِغَيْرِهِ وَهَكَذَا، كَالْبَقَّالِ وَنَحْوِهِ.

فَالْمُحْتَكِرُ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يَبْلُغُ نِصَابًا، وَلَوْ فِي مَرَّاتٍ، وَبَعْدَ أَنْ يَكْمُلَ مَا بَاعَ بِهِ نِصَابًا يُزَكِّيهِ وَيُزَكِّي مَا بَاعَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ قَلَّ، فَلَوْ أَقَامَ الْعَرْضُ عِنْدَهُ سِنِينَ فَلَمْ يَبِعْ ثُمَّ بَاعَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيهِ إِلاَّ زَكَاةُ عَامٍ وَاحِدٍ يُزَكِّي ذَلِكَ الْمَالَ الَّذِي يَقْبِضُهُ.أَمَّا الْمُدِيرُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى يَبِيعَ بِشَيْءٍ وَلَوْ قَلَّ، كَدِرْهَمٍ، وَعَلَى الْمُدِيرِ الَّذِي بَاعَ وَلَوْ بِدِرْهَمٍ أَنْ يُقَوِّمَ عُرُوضَ تِجَارَتِهِ آخِرَ كُلِّ حَوْلٍ وَيُزَكِّيَ الْقِيمَةَ، كَمَا يُزَكِّي النَّقْدَ.وَإِنَّمَا فَرَّقَ مَالِكٌ بَيْنَ الْمُدِيرِ وَالْمُحْتَكِرِ لِأَنَّ الزَّكَاةَ شُرِعَتْ فِي الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ، فَلَوْ زَكَّى السِّلْعَةَ كُلَّ عَامٍ- وَقَدْ تَكُونُ كَاسِدَةً- نَقَصَتْ عَنْ شِرَائِهَا، فَيَتَضَرَّرُ، فَإِذَا زُكِّيَتْ عِنْدَ الْبَيْعِ فَإِنْ كَانَتْ رَبِحَتْ فَالرِّبْحُ كَانَ كَامِنًا فِيهَا فَيُخْرِجُ زَكَاتَهُ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمَالِكِ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ مَالٍ مِنْ مَالٍ آخَرَ.

وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ تَقْوِيمَ السِّلَعِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ هُوَ لِلتَّاجِرِ الْمُدِيرِ خَاصَّةً دُونَ التَّاجِرِ الْمُحْتَكِرِ، وَأَنَّ الْمُحْتَكِرَ لَيْسَ عَلَيْهِ لِكُلِّ حَوْلٍ زَكَاةٌ فِيمَا احْتَكَرَهُ بَلْ يُزَكِّيهِ لِعَامٍ وَاحِدٍ عِنْدَ بَيْعِهِ وَقَبْضِ ثَمَنِهِ.

أَمَّا عِنْدَ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ الْمُحْتَكِرَ كَغَيْرِهِ، عَلَيْهِ لِكُلِّ حَوْلٍ زَكَاةٌ.

كَيْفِيَّةُ التَّقْوِيمِ وَالْحِسَابِ فِي زَكَاةِ التِّجَارَةِ:

أ- مَا يُقَوَّمُ مِنَ السِّلَعِ وَمَا لَا يُقَوَّمُ:

88- الَّذِي يُقَوَّمُ مِنَ الْعُرُوضِ هُوَ مَا يُرَادُ بَيْعُهُ دُونَ مَا لَا يُعَدُّ لِلْبَيْعِ، فَالرُّفُوفُ الَّتِي يَضَعُ عَلَيْهَا السِّلَعَ لَا زَكَاةَ فِيهَا.

وَمِمَّا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ تَاجِرَ الدَّوَابِّ إِنِ اشْتَرَى لَهَا مَقَاوِدَ أَوْ بَرَاذِعَ، فَإِنْ كَانَ يَبِيعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَعَهَا فَفِيهَا الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَتْ لِحِفْظِ الدَّوَابِّ بِهَا فَلَا زَكَاةَ فِيهَا.وَكَذَلِكَ الْعَطَّارُ لَوِ اشْتَرَى قَوَارِيرَ، فَمَا كَانَ مِنَ الْقَوَارِيرِ لِحِفْظِ الْعِطْرِ عِنْدَ التَّاجِرِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، وَمَا كَانَ يُوضَعُ فِيهَا الْعِطْرُ لِلْمُشْتَرِي فَفِيهَا الزَّكَاةُ.

وَمَوَادُّ الْوَقُودِ كَالْحَطَبِ، وَنَحْوِهِ، وَمَوَادُّ التَّنْظِيفِ كَالصَّابُونِ وَنَحْوِهِ الَّتِي أَعَدَّهَا الصَّانِعُ لِيَسْتَهْلِكَهَا فِي صِنَاعَتِهِ لَا لِيَبِيعَهَا فَلَا زَكَاةَ فِيمَا لَدَيْهِ مِنْهَا، وَالْمَوَادُّ الَّتِي لِتَغْذِيَةِ دَوَابِّ التِّجَارَةِ لَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ.

وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي الْأَوَانِي الَّتِي تُدَارُ فِيهَا الْبَضَائِعُ، وَلَا الْآلَاتِ الَّتِي تُصْنَعُ بِهَا السِّلَعُ، وَالْإِبِلِ الَّتِي تَحْمِلُهَا، إِلاَّ أَنْ تَجِبَ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهَا.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْمَوَادَّ الَّتِي لِلصِّبَاغَةِ أَوِ الدِّبَاغَةِ، وَالدُّهْنِ لِلْجُلُودِ، فِيهَا الزَّكَاةُ، بِخِلَافِ الْمِلْحِ لِلْعَجِينِ أَوِ الصَّابُونِ لِلْغَسْلِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِمَا لِهَلَاكِ الْعَيْنِ، وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ نَحْوَ ذَلِكَ.

ب- تَقْوِيمُ الصَّنْعَةِ فِي الْمَوَادِّ الَّتِي يُقَوِّمُ صَاحِبُهَا بِتَصْنِيعِهَا:

89- الْمَوَادُّ الْخَامُ الَّتِي اشْتَرَاهَا الْمَالِكُ وَقَامَ بِتَصْنِيعِهَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا تُقَوَّمُ عَلَى الْحَالِ الَّتِي اشْتَرَاهَا عَلَيْهَا صَاحِبُهَا، أَيْ قَبْلَ تَصْنِيعِهَا، وَذَلِكَ بَيِّنٌ، عَلَى قَوْلِ مَنْ يَشْتَرِطُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعُرُوضِ أَنْ يَمْلِكَهَا بِمُعَاوَضَةٍ؛ لِأَنَّ هَذَا قَدْ مَلَكَهَا بِغَيْرِ مُعَاوَضَةٍ بَلْ بِفِعْلِهِ.وَنَصُّ الْبُنَانِيِّ «الْحُكْمُ أَنَّ الصُّنَّاعَ يُزَكُّونَ مَا حَالَ عَلَى أَصْلِهِ الْحَوْلُ مِنْ مَصْنُوعَاتِهِمْ إِذَا كَانَ نِصَابًا وَلَا يُقَوِّمُونَ صِنَاعَتَهُمْ» قَالَ ابْنُ لُبٍّ: لِأَنَّهَا فَوَائِدُ كَسْبِهِمْ اسْتَفَادُوهَا وَقْتَ بَيْعِهِمْ.

السِّعْرُ الَّذِي تُقَوَّمُ بِهِ السِّلَعُ:

90- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ عُرُوضَ التِّجَارَةِ يُقَوِّمُهَا الْمَالِكُ عَلَى أَسَاسِ سِعْرِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمَالُ، وَلَيْسَ الَّذِي فِيهِ الْمَالِكُ، أَوْ غَيْرُهُ مِمَّنْ لَهُ بِالْمَالِ عِلَاقَةٌ، وَلَوْ كَانَ فِي مَفَازَةٍ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ فِي أَقْرَبِ الْأَمْصَارِ.

وَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْوُجُوبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْإِخْرَاجِ مِنَ الْعَيْنِ وَأَدَاءِ الْقِيمَةِ، وَيُجْبَرُ الْمُصَدِّقُ عَلَى قَبُولِهَا، فَيَسْتَنِدُ إِلَى وَقْتِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ وَهُوَ وَقْتُ الْوُجُوبِ.

وَقَالَ الصَّاحِبَانِ: الْمُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عِنْدَهُمَا جُزْءٌ مِنَ الْعَيْنِ، وَلَهُ وِلَايَةُ مَنْعِهَا إِلَى الْقِيمَةِ، فَتُعْتَبَرُ يَوْمَ الْمَنْعِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ.

زِيَادَةُ سِعْرِ الْبَيْعِ عَنِ السِّعْرِ الْمُقَدَّرِ:

91- إِنْ قَوَّمَ سِلْعَةً لِأَجْلِ الزَّكَاةِ وَأَخْرَجَهَا عَلَى أَسَاسِ ذَلِكَ، فَلَمَّا بَاعَهَا زَادَ ثَمَنُهَا عَلَى الْقِيمَةِ، فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ بَلْ هِيَ مُلْغَاةٌ؛ لِاحْتِمَالِ ارْتِفَاعِ سِعْرِ السُّوقِ، أَوْ لِرَغْبَةِ الْمُشْتَرِي، أَمَّا لَوْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ غَلِطَ فِي التَّقْوِيمِ فَإِنَّهَا لَا تُلْغَى لِظُهُورِ الْخَطَأِ قَطْعًا.

وَكَذَا صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَنِ التَّقْوِيمِ لَا زَكَاةَ فِيهَا عَنِ الْحَوْلِ السَّابِقِ.

التَّقْوِيمُ لِلسِّلَعِ الْبَائِرَةِ:

92- مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي التَّقْوِيمِ، بَيْنَ السِّلَعِ الْبَائِرَةِ وَغَيْرِهَا.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ السِّلَعَ الَّتِي لَدَى التَّاجِرِ الْمُدِيرِ إِذَا بَارَتْ فَإِنَّهُ يُدْخِلُهَا فِي التَّقْوِيمِ وَيُؤَدِّي زَكَاتَهَا كُلَّ عَامٍ إِذَا تَمَّتِ الشُّرُوطُ؛ لِأَنَّ بَوَارَهَا لَا يَنْقُلُهَا لِلْقُنْيَةِ وَلَا لِلِاحْتِكَارِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ.وَذَهَبَ ابْنُ نَافِعٍ وَسَحْنُونٌ إِلَى أَنَّ السِّلَعَ إِذَا بَارَتْ تَنْتَقِلُ لِلِاحْتِكَارِ، وَخَصَّ اللَّخْمِيُّ وَابْنُ يُونُسَ الْخِلَافَ بِمَا إِذَا بَارَ الْأَقَلُّ، أَمَّا إِذَا بَارَ النِّصْفُ أَوِ الْأَكْثَرُ فَلَا يُقَوَّمُ اتِّفَاقًا عِنْدَهُمْ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لَا زَكَاةَ فِيهَا إِلاَّ إِذَا بَاعَ قَدْرَ نِصَابٍ فَيُزَكِّيهِ، ثُمَّ كُلَّمَا بَاعَ شَيْئًا زَكَّاهُ كَمَا تَقَدَّمَ.

التَّقْوِيمُ لِلسِّلَعِ الْمُشْتَرَاةِ الَّتِي لَمْ يَدْفَعِ التَّاجِرُ ثَمَنَهَا:

93- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّاجِرَ الْمُدِيرَ لَا يُقَوِّمُ- لِأَجْلِ الزَّكَاةِ- مِنْ سِلَعِهِ إِلاَّ مَا دَفَعَ ثَمَنَهُ، أَوْ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ عِنْدَهُ وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ ثَمَنَهُ، وَحُكْمُهُ فِي مَا لَمْ يَدْفَعْ ثَمَنَهُ حُكْمُ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَبِيَدِهِ مَالٌ.وَأَمَّا مَا لَمْ يَدْفَعْ ثَمَنَهُ وَلَمْ يَحُلْ عَلَيْهِ الْحَوْلُ عِنْدَهُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ مِنْ زَكَاةِ مَا حَالَ حَوْلُهُ عِنْدَهُ شَيْءٌ بِسَبَبِ دَيْنِ ثَمَنِ هَذَا الْعَرْضِ الَّذِي لَمْ يَحُلْ حَوْلُهُ عِنْدَهُ، إِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَجْعَلُهُ فِي مُقَابَلَتِهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


279-موسوعة الفقه الكويتية (زكاة 6)

زَكَاة -6

تَقْوِيمُ دَيْنِ التَّاجِرِ النَّاشِئِ عَنِ التِّجَارَةِ:

94- مَا كَانَ لِلتَّاجِرِ مِنَ الدَّيْنِ الْمَرْجُوِّ إِنْ كَانَ سِلَعًا عَيْنِيَّةً- أَيْ مِنْ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ- فَإِنَّهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ كَانَ مُدِيرًا- لَا مُحْتَكِرًا- يُقَوِّمُهُ بِنَقْدٍ حَالٍّ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ طَعَامَ سَلَمٍ، وَلَا يَضُرُّ تَقْوِيمُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْعًا لَهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ إِلَى بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ.

وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ الْمَرْجُوُّ مِنْ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ وَكَانَ مُؤَجَّلًا، فَإِنَّهُ يُقَوِّمُهُ بِعَرْضٍ، ثُمَّ يُقَوِّمُ الْعَرْضَ بِنَقْدٍ حَالٍّ، فَيُزَكِّي تِلْكَ الْقِيمَةَ لِأَنَّهَا الَّتِي تُمْلَكُ لَوْ قَامَ عَلَى الْمَدِينِ غُرَمَاؤُهُ.

أَمَّا الدَّيْنُ غَيْرُ الْمَرْجُوِّ فَلَا يُقَوِّمْهُ لِيُزَكِّيَهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ، فَإِنْ قَبَضَهُ زَكَّاهُ لِعَامٍ وَاحِدٍ.

وَأَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فَلَمْ يَذْكُرُوا هَذِهِ الطَّرِيقَةَ، فَالظَّاهِرُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ يُحْسَبُ لِلزَّكَاةِ بِكَمَالِهِ إِذَا كَانَ عَلَى مَلِيءٍ مُقِرٍّ.

إِخْرَاجُ زَكَاةِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ نَقْدًا أَوْ مِنْ أَعْيَانِ الْمَالِ:

95- الْأَصْلُ فِي زَكَاةِ التِّجَارَةِ أَنْ يُخْرِجَهَا نَقْدًا بِنِسْبَةِ رُبُعِ الْعُشْرِ مِنْ قِيمَتِهَا، كَمَا تَقَدَّمَ، لِقَوْلِ عُمَرَ- رضي الله عنه- لِحَمَاسٍ: قَوِّمْهَا ثُمَّ أَدِّ زَكَاتَهَا.

فَإِنْ أَخْرَجَ زَكَاةَ الْقِيمَةِ مِنْ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ أَجْزَأَ اتِّفَاقًا.

وَإِنْ أَخْرَجَ عُرُوضًا عَنِ الْعُرُوضِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ.

فَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى: لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النِّصَابَ مُعْتَبَرٌ بِالْقِيمَةِ، فَكَانَتِ الزَّكَاةُ مِنَ الْقِيمَةِ، كَمَا إِنَّ الْبَقَرَ لَمَّا كَانَ نِصَابُهَا مُعْتَبَرًا بِأَعْيَانِهَا، وَجَبَتِ الزَّكَاةُ مِنْ أَعْيَانِهَا، وَكَذَا سَائِرُ الْأَمْوَالِ غَيْرِ التِّجَارَةِ.

وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيَّةِ قَدِيمٌ: يَتَخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ الْإِخْرَاجِ مِنَ الْعَرْضِ أَوْ مِنَ الْقِيمَةِ فَيُجْزِئُ إِخْرَاجُ عَرْضٍ بِقِيمَةِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ زَكَاةِ الْعُرُوضِ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَكَذَلِكَ زَكَاةُ غَيْرِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ حَتَّى النَّقْدَيْنِ وَالْمَاشِيَةِ وَلَوْ كَانَتْ لِلسَّوْمِ لَا لِلتِّجَارَةِ، وَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لِلشَّافِعِيَّةِ قَدِيمٍ: أَنَّ زَكَاةَ الْعُرُوضِ تُخْرَجُ مِنْهَا لَا مِنْ ثَمَنِهَا، فَلَوْ أُخْرِجَ مِنَ الثَّمَنِ لَمْ يُجْزِئْ.

زَكَاةُ مَالِ التِّجَارَةِ الَّذِي بِيَدِ الْمُضَارِبِ:

96- مَنْ أَعْطَى مَالَهُ مُضَارَبَةً لِإِنْسَانٍ فَرَبِحَ فَزَكَاةُ رَأْسِ الْمَالِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ اتِّفَاقًا، أَمَّا الرِّبْحُ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ فَظَاهِرُ كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ عَلَى الْمُضَارِبِ زَكَاةَ حِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ إِنْ ظَهَرَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ وَتَمَّ نَصِيبُهُ نِصَابًا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَالَ الْقِرَاضِ يُزَكِّي مِنْهُ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ وَحِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ كُلَّ عَامٍ، وَهَذَا إِنْ كَانَ تَاجِرًا مُدِيرًا، وَكَذَا إِنْ كَانَ مُحْتَكِرًا وَكَانَ عَامِلُ الْقِرَاضِ مُدِيرًا، وَكَانَ مَا بِيَدِهِ مِنْ مَالِ رَبِّ الْمَالِ الْأَكْثَرَ، وَمَا بِيَدِ رَبِّهِ الْمُحْتَكِرِ الْأَقَلَّ.

وَأَمَّا الْعَامِلُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ حِصَّتِهِ إِلاَّ بَعْدَ الْمُفَاصَلَةِ فَيُزَكِّيهَا إِذَا قَبَضَهَا لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْأَظْهَرِ إِلَى أَنَّ زَكَاةَ الْمَالِ وَرِبْحَهُ كُلَّهَا عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ حُسِبَتْ مِنَ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ مَئُونَةِ الْمَالِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَالَ مِلْكُهُ، وَلَا يَمْلِكُ الْعَامِلُ شَيْئًا وَلَوْ ظَهَرَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ حَتَّى تَتِمَّ الْقِسْمَةُ.

هَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَامِلَ لَا يَمْلِكُ بِالظُّهُورِ، أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يَمْلِكُ بِالظُّهُورِ فَالْمَذْهَبُ أَنَّ عَلَى الْعَامِلِ زَكَاةَ حِصَّتِهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ زَكَاةَ الْمَالِ كُلِّهِ مَا عَدَا نَصِيبَ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْعَامِلِ لَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ وَلَا تَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ زَكَاةُ مَالِ غَيْرِهِ.وَيُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنَ الْمَالِ لِأَنَّهُ مِنْ مَئُونَتِهِ، وَتُحْسَبُ مِنَ الرِّبْحِ؛ لِأَنَّهُ وِقَايَةٌ لِرَأْسِ الْمَالِ.وَأَمَّا الْعَامِلُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةٌ فِي نَصِيبِهِ مَا لَمْ يَقْتَسِمَا، فَإِذَا اقْتَسَمَا اسْتَأْنَفَ الْعَامِلُ حَوْلًا مِنْ حِينَئِذٍ.وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَحْتَسِبُ مِنْ حِينِ ظُهُورِ الرِّبْحِ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ حَتَّى يَقْبِضَهُ.

رَابِعًا: زَكَاةُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ:

مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْ أَجْنَاسِ النَّبَاتِ:

97- أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ فِي التَّمْرِ (ثَمَرِ النَّخْلِ) وَالْعِنَبِ (ثَمَرِ الْكَرْمِ) مِنَ الثِّمَارِ، وَالْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ مِنَ الزُّرُوعِ الزَّكَاةَ إِذَا تَمَّتْ شُرُوطُهَا.وَإِنَّمَا أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ لِمَا وَرَدَ فِيهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، مِنْهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو- رضي الله عنهما- مَرْفُوعًا: «الزَّكَاةُ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ» وَفِي لَفْظٍ «الْعُشْرُ فِي التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ» وَمِنْهَا حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- قَالَ: «إِنَّمَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الزَّكَاةَ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ» وَعَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى وَمُعَاذٍ (((«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَعَثَهُمَا إِلَى الْيَمَنِ يُعَلِّمَانِ النَّاسَ أَمْرَ دِينِهِمْ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَأْخُذُوا الصَّدَقَةَ إِلاَّ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ: الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ».

98- ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَا عَدَا هَذِهِ الْأَصْنَافَ الْأَرْبَعَةَ:

فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي كُلِّ مَا يُقْصَدُ بِزِرَاعَتِهِ اسْتِنْمَاءُ الْأَرْضِ، مِنَ الثِّمَارِ وَالْحُبُوبِ وَالْخَضْرَاوَاتِ وَالْأَبَازِيرِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ اسْتِغْلَالُ الْأَرْضِ، دُونَ مَا لَا يُقْصَدُ بِهِ ذَلِكَ

عَادَةً كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالْقَصَبِ (أَيِ الْقَصَبِ الْفَارِسِيِّ بِخِلَافِ قَصَبِ السُّكَّرِ) وَالتِّبْنِ وَشَجَرِ الْقُطْنِ وَالْبَاذِنْجَانِ وَبَذْرِ الْبِطِّيخِ وَالْبُذُورِ الَّتِي لِلْأَدْوِيَةِ كَالْحُلْبَةِ وَالشُّونِيزِ، لَكِنْ لَوْ قَصَدَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا أَنْ يَشْغَلَ أَرْضَهُ بِهَا لِأَجْلِ الِاسْتِنْمَاءِ وَجَبَتِ الزَّكَاةُ، فَالْمَدَارُ عَلَى الْقَصْدِ.

وَاحْتُجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ».فَإِنَّهُ عَامٌّ فَيُؤْخَذُ عَلَى عُمُومِهِ، وَلِأَنَّهُ يُقْصَدُ بِزِرَاعَتِهِ نَمَاءُ الْأَرْضِ وَاسْتِغْلَالُهَا فَأَشْبَهَ الْحَبَّ.

وَذَهَبَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ إِلاَّ فِيمَا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ حَوْلًا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الثِّمَارِ وَالْحُبُوبِ، فَأَمَّا الثِّمَارُ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ أَيِّ جِنْسٍ مِنْهَا زَكَاةٌ غَيْرُ التَّمْرِ وَالْعِنَبِ، وَأَمَّا الْحُبُوبُ، فَيُؤْخَذُ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالسُّلْتِ وَالذُّرَةِ وَالدُّخْنِ وَالْأُرْزِ وَالْعَلَسِ، وَمِنَ الْقَطَانِيِّ السَّبْعَةِ الْحِمَّصِ وَالْفُولِ وَالْعَدَسِ وَاللُّوبِيَا وَالتُّرْمُسِ وَالْجُلُبَّانِ وَالْبَسِيلَةِ، وَذَوَاتِ الزُّيُوتِ الْأَرْبَعِ الزَّيْتُونِ وَالسِّمْسِمِ وَالْقُرْطُمِ وَحَبِّ الْفُجْلِ.فَهِيَ كُلُّهَا عِشْرُونَ جِنْسًا، لَا يُؤْخَذُ مِنْ شَيْءٍ سِوَاهَا زَكَاةٌ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ فِي شَيْءٍ مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ إِلاَّ مَا كَانَ قُوتًا.

وَالْقُوتُ هُوَ مَا بِهِ يَعِيشُ الْبَدَنُ غَالِبًا دُونَ مَا يُؤْكَلُ تَنَعُّمًا أَوْ تَدَاوِيًا، فَتَجِبُ الزَّكَاةُ مِنَ الثِّمَارِ فِي الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ خَاصَّةً، وَمِنَ الْحُبُوبِ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْأُرْزِ وَالْعَدَسِ وَسَائِرِ مَا يُقْتَاتُ اخْتِيَارًا كَالذُّرَةِ وَالْحِمَّصِ وَالْبَاقِلَاءِ، وَلَا تَجِبُ فِي السِّمْسِمِ وَالتِّينِ وَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالرُّمَّانِ وَالتُّفَّاحِ وَنَحْوِهَا وَالزَّعْفَرَانِ وَالْوَرْسِ وَالْقُرْطُمِ.

وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَلَيْهَا الْمَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي كُلِّ مَا اسْتَنْبَتَهُ الْآدَمِيُّونَ مِنَ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ، وَكَانَ مِمَّا يَجْمَعُ وَصْفَيْنِ: الْكَيْلُ، وَالْيُبْسُ مَعَ الْبَقَاءِ (أَيْ إِمْكَانِيَّةِ الِادِّخَارِ) وَهَذَا يَشْمَلُ أَنْوَاعًا سَبْعَةً:

الْأَوَّلُ: مَا كَانَ قُوتًا كَالْأُرْزِ وَالذُّرَةِ وَالدُّخْنِ.

الثَّانِي: الْقُطْنِيَّاتُ كَالْفُولِ وَالْعَدَسِ وَالْحِمَّصِ وَالْمَاشِّ وَاللُّوبِيَا.

الثَّالِثُ: الْأَبَازِيرُ، كَالْكُسْفَرَةِ وَالْكَمُّونِ وَالْكَرَاوْيَا.

الرَّابِعُ: الْبُذُورُ، وَبَذْرُ الْخِيَارِ، وَبَذْرُ الْبِطِّيخِ، وَبَذْرُ الْقِثَّاءِ، وَغَيْرِهَا مِمَّا يُؤْكَلُ، أَوْ لَا يُؤْكَلُ كَبُذُورِ الْكَتَّانِ وَبُذُورِ الْقُطْنِ وَبُذُورِ الرَّيَاحِينِ.

الْخَامِسُ: حَبُّ الْبُقُولِ كَالرَّشَادِ وَحَبِّ الْفُجْلِ وَالْقُرْطُمِ وَالْحُلْبَةِ وَالْخَرْدَلِ.

السَّادِسُ: الثِّمَارُ الَّتِي تُجَفَّفُ، وَتُدَّخَرُ كَاللَّوْزِ وَالْفُسْتُقِ وَالْبُنْدُقِ.

السَّابِعُ: مَا لَمْ يَكُنْ حَبًّا وَلَا ثَمَرًا لَكِنَّهُ يُكَالُ وَيُدَّخَرُ كَسَعْتَرٍ وَسُمَّاقٍ، أَوْ وَرَقِ شَجَرٍ يُقْصَدُ كَالسِّدْرِ وَالْخِطْمِيِّ وَالْآسِ.

قَالُوا: وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ كَالْخُضَارِ كُلِّهَا، وَكَثِمَارِ التُّفَّاحِ وَالْمِشْمِشِ وَالتِّينِ وَالتُّوتِ وَالْمَوْزِ وَالرُّمَّانِ وَالْبُرْتُقَالِ وَبَقِيَّةِ الْفَوَاكِهِ، وَلَا فِي الْجَوْزِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ مَعْدُودٌ، وَلَا تَجِبُ فِي الْقَصَبِ وَلَا فِي الْبُقُولِ كَالْفُجْلِ وَالْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ، وَلَا فِي نَحْوِ الْقُطْنِ وَالْقُنَّبِ وَالْكَتَّانِ وَالْعُصْفُرِ وَالزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِ جَرِيدِ النَّخْلِ وَخُوصِهِ وَلِيفِهِ.وَفِي الزَّيْتُونِ عِنْدَهُمُ اخْتِلَافٌ يَأْتِي بَيَانُهُ.

وَاحْتَجَّ الْحَنَابِلَةُ لِذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ مِنْ تَمْرٍ وَلَا حَبٍّ صَدَقَةٌ» فَدَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ الْكَيْلِ، وَأَمَّا الِادِّخَارُ فَلِأَنَّ غَيْرَ الْمُدَّخَرِ لَا تَكْمُلُ فِيهِ النِّعْمَةُ لِعَدَمِ النَّفْعِ بِهِ مَآلًا.

وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- إِلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ غَيْرِ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الْأَرْبَعَةِ، لِأَنَّ النَّصَّ بِهَا وَرَدَ؛ وَلِأَنَّهَا غَالِبُ الْأَقْوَاتِ وَلَا يُسَاوِيهَا فِي هَذَا الْمَعْنَى وَفِي كَثْرَةِ نَفْعِهَا شَيْءٌ غَيْرُهَا، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا شَيْءٌ.

وَاحْتَجَّ مَنْ عَدَا أَبَا حَنِيفَةَ عَلَى انْتِفَاءِ الزَّكَاةِ فِي الْخُضَرِ وَالْفَوَاكِهِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ» وَعَلَى انْتِفَائِهَا فِي نَحْوِ الرُّمَّانِ وَالتُّفَّاحِ مِنَ الثِّمَارِ بِمَا وَرَدَ أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيَّ وَكَانَ عَامِلًا لِعُمَرَ عَلَى الطَّائِفِ: أَنَّ قِبَلَهُ حِيطَانًا فِيهَا مِنَ الفرسك (الْخَوْخِ) وَالرُّمَّانِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ غَلَّةِ الْكُرُومِ أَضْعَافًا فَكَتَبَ يَسْتَأْمِرُ فِي الْعُشْرِ.فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنْ لَيْسَ عَلَيْهَا عُشْرٌ، وَقَالَ: هِيَ مِنَ الْعُفَاةِ كُلِّهَا وَلَيْسَ فِيهَا عُشْرٌ.

الزَّكَاةُ فِي الزَّيْتُونِ:

99- تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الزَّيْتُونِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمَالِكٍ وَاللَّيْثِ وَالثَّوْرِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الزَّيْتُونَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ.وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ ادِّخَارُ غَلَّتِهِ فَأَشْبَهَ التَّمْرَ وَالزَّبِيبَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ وَأَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى إِلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي الزَّيْتُونِ لِأَنَّهُ لَا يُدَّخَرُ يَابِسًا، فَهُوَ كَالْخَضْرَاوَاتِ.

شُرُوطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ:

100- لَا يُشْتَرَطُ الْحَوْلُ فِي زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ اتِّفَاقًا، لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وَلِأَنَّ الْخَارِجَ نَمَاءٌ فِي ذَاتِهِ فَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ فَوْرًا كَالْمَعْدِنِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ فَإِنَّمَا اشْتُرِطَ فِيهَا الْحَوْلُ لِيُمْكِنَ فِيهِ الِاسْتِثْمَارُ.

وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ مَا يَلِي:

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ النِّصَابُ: وَنِصَابُهَا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَبِهِ قَالَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَا يُوسَقُ، لِمَا فِي حَدِيثِ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ مِنْ تَمْرٍ وَلَا حَبٍّ صَدَقَةٌ» وَالْوَسْقُ لُغَةً: حِمْلُ الْبَعِيرِ، وَهُوَ فِي الْحِنْطَةِ وَالْعَدَسِ وَنَحْوِهِمَا سِتُّونَ صَاعًا بِصَاعِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- (وَيُنْظَرُ تَحْرِيرُ مِقْدَارِ الصَّاعِ فِي مُصْطَلَحِ: مَقَادِيرُ) فَالنِّصَابُ ثَلَاثُمِائَةِ صَاعٍ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُشْتَرَطُ نِصَابٌ لِزَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مَا لَمْ يَكُنْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ صَاعٍ.

النِّصَابُ فِيمَا لَا يُكَالُ:

101- ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ مَا لَا يُوسَقُ فَنِصَابُهُ بِالْقِيمَةِ، فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ قِيمَةَ أَدْنَى نِصَابٍ مِمَّا يُوسَقُ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِلاَّ فَلَا.

وَذَهَبَ مُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ نِصَابَهُ خَمْسَةُ أَمْثَالِ مَا يُقَدَّرُ بِهِ، فَفِي الْقُطْنِ خَمْسَةُ أَحْمَالٍ، وَفِي الْعَسَلِ خَمْسَةُ أَفْرَاقٍ، وَفِي السُّكَّرِ خَمْسَةُ أَمْنَاءٍ.

وَفِي النِّصَابِ مَسَائِلُ:

أ- مَا يُضَمُّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ لِتَكْمِيلِ النِّصَابِ:

102- تُضَمُّ أَنْوَاعُ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لِتَكْمِيلِ النِّصَابِ، كَأَنْوَاعِ التَّمْرِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهَا لِأَنَّهَا كُلَّهَا تَمْرٌ، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِقِسْطِهِ، فَإِنْ شَقَّ أُخْرِجَ مِنَ الْوَسَطِ..وَيُضَمُّ الْجَيِّدُ مِنَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ إِلَى الرَّدِيءِ مِنْهُ وَلَا يُكَمَّلُ جِنْسٌ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ فَلَا يُضَمُّ التَّمْرُ إِلَى الزَّبِيبِ وَلَا أَيٌّ مِنْهُمَا إِلَى الْحِنْطَةِ أَوِ الشَّعِيرِ.

إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ أَنَّهَا أَجْنَاسٌ أَوْ أَنْوَاعٌ، كَالْعَلَسِ وَكَانَ قُوتُ صَنْعَاءَ الْيَمَنِ، فَقَدْ قِيلَ: هُوَ جِنْسٌ مُسْتَقِلٌّ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُكَمَّلَ نِصَابًا وَحْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَصْبَغَ وَابْنِ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقِيلَ: هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْحِنْطَةِ، فَيُضَمُّ إِلَيْهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَقَوْلُ مَالِكٍ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ، وَالْقَمْحُ وَالشَّعِيرُ وَالسُّلْتُ أَجْنَاسٌ ثَلَاثَةٌ لَا يُضَمُّ أَحَدُهَا إِلَى الْآخَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْقَمْحَ جِنْسٌ وَأَنَّ الشَّعِيرَ وَالسُّلْتَ نَوْعَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ.

وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الثَّلَاثَةَ جِنْسٌ وَاحِدٌ يُكَمَّلُ النِّصَابُ مِنْهَا جَمِيعًا.بِخِلَافِ الْأُرْزِ وَالذُّرَةِ وَالدُّخْنِ فَهِيَ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَكَذَلِكَ الْقَطَانِيُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهِيَ سَبْعَةُ أَصْنَافٍ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ يُضَمُّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ تُضَمُّ الْقَطَانِيُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

ضَمُّ غَلَّةِ الْعَامِ الْوَاحِدِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ:

103- لَا تُضَمُّ ثَمَرَةُ عَامٍ إِلَى ثَمَرَةِ عَامٍ آخَرَ وَلَا الْحَاصِلُ مِنَ الْحَبِّ كَذَلِكَ.

وَأَمَّا فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ، فَقَدْ فَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ بَيْنَ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ، فَأَمَّا الزَّرْعُ فَيُضَمُّ مَا زُرِعَ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، كَالذُّرَةِ تُزْرَعُ فِي الرَّبِيعِ وَفِي الْخَرِيفِ، وَأَمَّا الثَّمَرُ إِذَا اخْتَلَفَ إِدْرَاكُهُ فَلَا يُضَمُّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوِ اخْتَلَفَ إِدْرَاكُهُ لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ وَاخْتِلَافِ بِلَادِهِ حَرَارَةً وَبُرُودَةً، وَكَمَا لَوْ أَطْلَعَ النَّخْلُ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ مَرَّتَيْنِ فَلَا يُضَمُّ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: إِنْ أَطْلَعَ الثَّانِي بَعْدَ جِدَادِ الْأَوَّلِ فَلَا يُضَمُّ وَإِلاَّ فَيُضَمُّ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِلضَّمِّ أَنْ يُزْرَعَ أَحَدُهَا قَبْلَ اسْتِحْقَاقِ حَصَادِ الْآخَرِ وَهُوَ وَقْتُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ، وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَبْقَى مِنْ حَبِّ الْأَوَّلِ إِلَى اسْتِحْقَاقِ حَصَادِ الثَّانِي وَإِنْ لَمْ يُحْصَدْ مَا يَكْمُلُ بِهِ النِّصَابُ، أَمَّا لَوْ أُكِلَ الْأَوَّلُ قَبْلَ وَقْتِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الثَّانِي، فَلَا يُضَمُّ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ بَلْ إِنْ كَانَ الثَّانِي نِصَابًا زُكِّيَ، وَإِلاَّ فَلَا.وَكَذَا يُضَمُّ زَرْعٌ ثَانٍ إِلَى أَوَّلٍ، وَثَانٍ إِلَى ثَالِثٍ، إِنْ كَانَ فِيهِ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، وَهَذَا إِنْ لَمْ يُخْرِجْ زَكَاةَ الْأَوَّلَيْنِ حَتَّى يَحْصُدَ الثَّالِثَ.وَحَيْثُ ضَمَّ أَصْنَافًا بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ فَإِنَّهُ يُخْرِجُ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ بِحَسَبِهِ.

وَأَطْلَقَ الْحَنَابِلَةُ الْقَوْلَ أَنَّ زَرْعَ الْعَامِ الْوَاحِدِ يُضَمُّ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ إِذَا اتَّفَقَ الْجِنْسُ، وَكَذَا ثَمَرَةُ الْعَامِ، سَوَاءٌ كَانَ الْأَصْلُ مِمَّا يَحْمِلُ مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ كَالذُّرَةِ، أَوْ لَا.

104- وَالْمُعْتَبَرُ فِي قَدْرِ النِّصَابِ اتِّحَادُ الْمَالِكِ، فَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ مُشْتَرَكًا، أَوْ مُخْتَلِطًا فَلَا زَكَاةَ فِيهِ مَا لَمْ يَبْلُغْ مَا يَمْلِكُهُ الْمُزَكِّي مِنْهُ وَحْدَهُ نِصَابًا، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَالَ الْمُشْتَرَكَ وَالْمُخْتَلِطَ يُزَكَّى زَكَاةَ مَالٍ وَاحِدٍ فَإِنْ بَلَغَ مَجْمُوعُهُ نِصَابًا زُكِّيَ، وَإِلاَّ فَلَا.وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (خُلْطَة).

وَلَا تَرِدُ هَذِهِ التَّفْرِيعَاتُ كُلُّهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِأَنَّ النِّصَابَ هُنَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بَلْ تَجِبُ الزَّكَاةُ عِنْدَهُمْ فِي قَلِيلِ الزُّرُوعِ وَكَثِيرِهَا كَمَا تَقَدَّمَ.

ب- نِصَابُ مَا لَهُ قِشْرٌ، وَمَا يَنْقُصُ كَيْلُهُ بِالْيُبْسِ:

105- يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ تُعْتَبَرُ الْأَوْسُقُ الْخَمْسَةُ بَعْدَ التَّصْفِيَةِ فِي الْحُبُوبِ، وَبَعْدَ الْجَفَافِ فِي الثِّمَارِ فَلَوْ كَانَ لَهُ عَشَرَةُ أَوْسُقٍ مِنَ الْعِنَبِ لَا يَجِيءُ مِنْهَا بَعْدَ الْجَفَافِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ مِنَ الزَّبِيبِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيهَا زَكَاةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجَفَافَ هُوَ وَقْتُ وُجُوبِ الْإِخْرَاجِ، فَاعْتُبِرَ النِّصَابُ بِحَالِ الثِّمَارِ وَقْتَ الْوُجُوبِ.

وَالْمُرَادُ بِتَصْفِيَةِ الْحَبِّ فَصْلُهُ مِنَ التِّبْنِ وَمِنَ الْقِشْرِ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ مَعَهُ.

وَهَذَا إِنْ كَانَ الْحَبُّ يَيْبَسُ وَيُدَّخَرُ.أَمَّا إِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَصْلُحُ ادِّخَارُهُ إِلاَّ فِي قِشْرِهِ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ مَعَهُ كَالْعَلَسِ، وَهُوَ حَبٌّ شَبِيهٌ بِالْحِنْطَةِ، وَالْأُرْزِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ إِذْ يُخَزِّنُونَهُ بِقِشْرِهِ، فَقَدْ أَطْلَقَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ الْقَوْلَ بِأَنَّ نِصَابَهُ عَشَرَةُ أَوْسُقٍ اعْتِبَارًا لِقِشْرِهِ الَّذِي ادِّخَارُهُ فِيهِ أَصْلَحُ لَهُ.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يُعْتَبَرُ مَا يَكُونُ صَافِيهِ نِصَابًا، وَيُؤْخَذُ الْوَاجِبُ مِنْهُ بِالْقِشْرِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: بَلْ يُحْسَبُ فِي النِّصَابِ قِشْرُ الْأُرْزِ وَالْعَلَسِ الَّذِي يُخَزَّنَانِ بِهِ كَقِشْرِ الشَّعِيرِ فَلَوْ كَانَ الْأُرْزُ مَقْشُورًا أَرْبَعَةَ أَوْسُقٍ فَإِنْ كَانَ بِقِشْرِهِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ زُكِّيَ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ فَلَا زَكَاةَ، وَلَهُ أَنْ يُخْرِجَ الْوَاجِبَ مَقْشُورًا أَوْ غَيْرَ مَقْشُورٍ، وَأَمَّا الْقِشْرُ الَّذِي لَا يُخَزَّنُ الْحَبُّ بِهِ كَقِشْرِ الْفُولِ الْأَعْلَى فَيَحْتَسِبُ فِيهِ الزَّكَاةَ مُقَدَّرَ الْجَفَافِ.

وَقْتُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحَبِّ وَالثَّمَرِ:

106- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ مَا عَدَا ابْنَ عَرَفَةَ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهَا تَجِبُ بِإِفْرَاكِ الْحَبِّ، وَطِيبِ الثَّمَرِ وَالْأَمْنِ عَلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ، وَالْمُرَادُ بِإِفْرَاكِ الْحَبِّ طِيبُهُ وَاسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ السَّقْيِ، وَإِنْ بَقِيَ فِي الْأَرْضِ لِتَمَامِ طِيبِهِ، وَطِيبُ الثَّمَرِ نَحْوُ أَنْ يُزْهِيَ الْبُسْرُ، أَوْ تَظْهَرَ الْحَلَاوَةُ فِي الْعِنَبِ.قَالُوا: لِأَنَّ الْحَبَّ بِاشْتِدَادِهِ يَكُونُ طَعَامًا حَقِيقَةً وَهُوَ قَبْلَ ذَلِكَ بَقْلٌ، وَالثَّمَرَ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ بَلَحٌ وَحِصْرِمٌ، وَبَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ ثَمَرَةٌ كَامِلَةٌ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتُ الْخَرْصِ، وَالْمُرَادُ بِالْوُجُوبِ هُنَا انْعِقَادُ سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَلَا يَكُونُ الْإِخْرَاجُ إِلاَّ بَعْدَ الْيُبْسِ وَالْجَفَافِ.

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي مُوسَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلُ ابْنِ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِالْيُبْسِ وَاسْتِحْقَاقِ الْحَصَادِ.

وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّ الْوُجُوبَ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِحَصَادِ الثَّمَرَةِ وَجَعْلِهَا فِي الْجَرِينِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَثْبُتُ الْوُجُوبُ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ فِي الثَّمَرِ، وَاشْتِدَادِ الْحَبِّ فِي الزَّرْعِ، وَيَسْتَقِرُّ الْوُجُوبُ بِجَعْلِ الثَّمَرَةِ أَوِ الزَّرْعِ فِي الْجَرِينِ أَوِ الْبَيْدَرِ، فَلَوْ تَلِفَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْحُبُوبِ بِجَائِحَةٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِجْمَاعًا عَلَى مَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَنَقَلَهُ فِي شَرْحِ الْمُنْتَهَى عَنْهُ، أَمَّا قَبْلَ ثُبُوتِ الْوُجُوبِ فَلَوْ بِيعَ النَّخْلُ أَوِ الْأَرْضُ فَلَا زَكَاةَ عَلَى الْبَائِعِ فِي الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ، وَلَوْ مَاتَ الْمَالِكُ قَبْلَ الْوُجُوبِ فَالزَّكَاةُ عَلَى الْوَرَثَةِ إِنْ بَقِيَ إِلَى وَقْتِ الْوُجُوبِ وَبَلَغَ نَصِيبُ الْوَارِثِ نِصَابًا، وَكَذَا إِنْ أَوْصَى بِهَا وَمَاتَ قَبْلَ الْوُجُوبِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا، وَلَوْ أَكَلَ مِنَ الثَّمَرَةِ قَبْلَ الْوُجُوبِ لَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ مَا أَكَلَ، وَلَوْ نَقَصَتْ عَنِ النِّصَابِ بِمَا أَكَلَ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا بَعْدَ الْوُجُوبِ فَتَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ وَإِنْ بَاعَ أَوْ أَوْصَى بِهَا، وَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ مَلَكَهَا بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ الْوُجُوبُ.

وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ مِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَى مَنْ حَصَلَ عَلَى نِصَابٍ مِنْ لِقَاطِ السُّنْبُلِ أَوْ أُجْرَةِ الْحَصَادِ، أَوْ مَا يَأْخُذُهُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ مِنَ الْحَبِّ أَوِ الْعَفْصِ وَالْأُشْنَانِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا وَقْتَ الْوُجُوبِ.

مَنْ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ فِي حَالِ اخْتِلَافِ مَالِكِ الْغَلَّةِ عَنْ مَالِكِ الْأَرْضِ:

107- إِنْ كَانَ مَالِكُ الزَّرْعِ عِنْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ هُوَ مَالِكُ الْأَرْضِ، فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ، فَتَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ.أَمَّا إِنْ كَانَ مَالِكُ الزَّرْعِ غَيْرَ مَالِكِ الْأَرْضِ فَلِذَلِكَ صُوَرٌ:

أ- الْأَرْضُ الْخَرَاجِيَّةُ:

108- أَرْضُ الصُّلْحِ الَّتِي أُقِرَّتْ بِأَيْدِي أَصْحَابِهَا عَلَى أَنَّهَا لَهُمْ وَلَنَا عَلَيْهَا الْخَرَاجُ، مَتَى أَسْلَمُوا سَقَطَ خَرَاجُهَا، وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ فِي غَلَّتِهَا الزَّكَاةُ، فَإِنِ اشْتَرَاهَا مِنَ الذِّمِّيِّ مُسْلِمٌ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِيهَا، وَأَرْضُ الْعَنْوَةِ الَّتِي مَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ وَحِيزَتْ لِبَيْتِ الْمَالِ فَهَذِهِ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ اتِّفَاقًا، سَوَاءٌ بَقِيَ مَنْ هِيَ بِيَدِهِ عَلَى دِينِهِ أَوْ أَسْلَمَ أَوْ بَاعَهَا لِمُسْلِمٍ؛ لِأَنَّهُ خَرَاجٌ بِمَعْنَى الْأُجْرَةِ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ يَجِبُ فِي غَلَّتِهَا إِنْ كَانَ صَاحِبُهَا مُسْلِمًا الزَّكَاةُ أَيْضًا، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْخَرَاجَ يُؤَدَّى أَوَّلًا، ثُمَّ يُزَكَّى مَا بَقِيَ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي غَلَّةِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَرَاجَ مَئُونَةُ الْأَرْضِ، وَالْعُشْرُ فِيهِ مَعْنَى الْمَئُونَةِ، فَلَا يَجْتَمِعُ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (خَرَاج).

ب- الْأَرْضُ الْمُسْتَعَارَةُ وَالْمُسْتَأْجَرَةُ:

109- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ) إِلَى أَنَّ مَنِ اسْتَعَارَ أَرْضًا أَوِ اسْتَأْجَرَهَا فَزَرَعَهَا، فَالزَّكَاةُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ الْغَلَّةَ مِلْكُهُ، وَالْعِبْرَةُ فِي الزَّكَاةِ بِمِلْكِيَّةِ الثَّمَرَةِ لَا بِمِلْكِيَّةِ الْأَرْضِ أَوِ الشَّجَرِ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْعُشْرَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ لِأَنَّ الْأَرْضَ كَمَا تُسْتَنْمَى بِالزِّرَاعَةِ تُسْتَنْمَى بِالْإِجَارَةِ.

ج- الْأَرْضُ الَّتِي تُسْتَغَلُّ بِالْمُزَارَعَةِ أَوِ الْمُسَاقَاةِ:

110- ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْعُشْرَ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِ وَالْعَامِلِ كُلٌّ بِحَسَبِ نَصِيبِهِ مِنَ الْغَلَّةِ إِنْ بَلَغَ نَصِيبُهُ نِصَابًا، وَمَنْ كَانَ نَصِيبُهُ مِنْهُمَا أَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ فَلَا عُشْرَ عَلَيْهِ، مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ أَرْضٍ غَيْرِهَا مَا يُكَمِّلُ بِهِ النِّصَابَ.وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي لَا تَجْعَلُ الْخُلْطَةَ مُؤَثِّرَةً فِي زَكَاةِ الزُّرُوعِ.

أَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَجْعَلُ الْخُلْطَةَ مُؤَثِّرَةً فِيهَا، فَإِذَا بَلَغَتْ غَلَّةُ الْأَرْضِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ يَكُونُ فِيهَا الزَّكَاةُ فَيُؤْخَذُ مِنْ كُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ عُشْرُ نَصِيبِهِ، مَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مِمَّنْ لَا عُشْرَ عَلَيْهِ، كَالذِّمِّيِّ.

وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْعُشْرُ فِي الْمُزَارَعَةِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ عِنْدَهُ فَاسِدَةٌ، فَالْخَارِجُ مِنْهَا لَهُ، تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجِبُ إِخْرَاجُ زَكَاةِ الْحَائِطِ (الْبُسْتَانِ) الْمُسَاقَى عَلَيْهِ مِنْ جُمْلَةِ الثَّمَرَةِ إِنْ بَلَغَتْ نِصَابًا، أَوْ كَانَ لِرَبِّ الْحَائِطِ مَا إِنْ ضَمَّهُ إِلَيْهَا بَلَغَتْ نِصَابًا، ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ مَا بَقِيَ، وَلَا بَأْسَ أَنْ تُشْتَرَطَ الزَّكَاةُ فِي حَظِّ رَبِّ الْحَائِطِ أَوِ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى جُزْءٍ مَعْلُومٍ سَاقَاهُ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطَا شَيْئًا فَشَأْنُ الزَّكَاةِ أَنْ يُبْدَأَ بِهَا ثُمَّ يَقْتَسِمَانِ مَا بَقِيَ.

وَقَالَ اللَّخْمِيُّ نَقْلًا عَنْ مَالِكٍ: إِنَّ الْمُسَاقَاةَ تُزَكَّى عَلَى مِلْكِ رَبِّ الْحَائِطِ فَيَجِبُ ضَمُّهَا إِلَى مَالِهِ مِنْ ثَمَرٍ غَيْرِهَا، وَيُزَكِّي جَمِيعَهَا وَلَوْ كَانَ الْعَامِلُ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ، وَتَسْقُطُ إِنْ كَانَ رَبُّ الْحَائِطِ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ وَالْعَامِلُ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ.

د- الْأَرْضُ الْمَغْصُوبَةُ:

111- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ غَصَبَ أَرْضًا عُشْرِيَّةً فَزَرَعَهَا إِنْ لَمْ تَنْقُصْهَا الزِّرَاعَةُ فَلَا عُشْرَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ، وَإِنْ نَقَصَتْهَا الزِّرَاعَةُ كَانَ الْعُشْرُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ.

وَقَالَ قَاضِيخَانْ: أَرْضٌ خَرَاجُهَا وَظِيفَةٌ اغْتَصَبَهَا غَاصِبٌ فَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ جَاحِدًا وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمَالِكِ إِنْ لَمْ يَزْرَعْهَا الْغَاصِبُ فَلَا خَرَاجَ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ زَرَعَهَا الْغَاصِبُ وَلَمْ تَنْقُصْهَا الزِّرَاعَةُ، فَالْخَرَاجُ عَلَى الْغَاصِبِ، وَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ مُقِرًّا بِالْغَصْبِ أَوْ كَانَ لِلْمَالِكِ بَيِّنَةٌ وَلَمْ تَنْقُصْهَا الزِّرَاعَةُ فَالْخَرَاجُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ، وَإِنْ نَقَصَتْهَا الزِّرَاعَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْخَرَاجُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ قَلَّ النُّقْصَانُ أَوْ كَثُرَ، كَأَنَّهُ آجَرَهَا مِنَ الْغَاصِبِ بِضَمَانِ النُّقْصَانِ.وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُنْظَرُ إِلَى الْخَرَاجِ وَالنُّقْصَانِ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَكْثَرَ كَانَ ذَلِكَ عَلَى الْغَاصِبِ إِنْ كَانَ النُّقْصَانُ أَكْثَرَ مِنَ الْخَرَاجِ، فَمِقْدَارُ الْخَرَاجِ يُؤَدِّيهِ الْغَاصِبُ إِلَى السُّلْطَانِ وَيَدْفَعُ الْفَضْلَ إِلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَ الْخَرَاجُ أَكْثَرَ يَدْفَعُ الْكُلَّ إِلَى السُّلْطَانِ، وَمِنْ نَصِّهِمْ هَذَا فِي الْخَرَاجِ يُفْهَمُ مُرَادُهُمْ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي الْعُشْرِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ النَّخْلَ إِذَا غُصِبَتْ ثُمَّ رُدَّتْ بَعْدَ أَعْوَامٍ مَعَ ثَمَرَتِهَا، فَإِنَّهَا تُزَكَّى لِكُلِّ عَامٍ بِلَا خِلَافٍ إِذَا لَمْ تَكُنْ زُكِّيَتْ أَيْ يُزَكَّى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا إِذَا رَدَّ الْغَاصِبُ جَمِيعَهَا.فَإِنْ رَدَّ بَعْضَ ثِمَارِهَا وَكَانَ حَصَلَ فِي كُلِّ سَنَةٍ نِصَابٌ وَلَمْ يَرُدَّ جَمِيعَهُ بَلْ رَدَّ مِنْهُ قَدْرَ نِصَابٍ فَأَكْثَرَ وَكَانَ بِحَيْثُ لَوْ قُسِمَ عَلَى سِنِينَ الْغَصْبِ لَمْ يَبْلُغْ كُلَّ سَنَةٍ نِصَابًا فَفِي زَكَاتِهِ قَوْلَانِ.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ زَكَاةَ الزَّرْعِ عَلَى مَالِكِ الْأَرْضِ إِنْ تَمَلَّكَ الزَّرْعَ قَبْلَ وَقْتِ الْحَصَادِ وَبَعْدَ اشْتِدَادِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُهُ بِمِثْلِ بَذْرِهِ وَعِوَضِ لَوَاحِقِهِ، فَيَسْتَنِدُ مِلْكُهُ إِلَى أَوَّلِ زَرْعِهِ.أَمَّا إِنْ حَصَدَ الْغَاصِبُ الزَّرْعَ بِأَنْ لَمْ يَتَمَلَّكْهُ رَبُّهَا قَبْلَ حَصَادِهِ، فَزَكَاةُ الزَّرْعِ عَلَى الْغَاصِبِ لِاسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ.

وَلَمْ نَجِدْ لِلشَّافِعِيَّةِ نَصًّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

زَكَاةُ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ الْمَأْخُوذَيْنِ مِنَ الْأَرْضِ الْمُبَاحَةِ:

112- مَنْ أَخَذَ مِنَ الْأَرْضِ الْمُبَاحَةِ مَا فِي جِنْسِهِ الزَّكَاةُ، وَبَلَغَ نِصَابًا.فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ.قَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَكِنْ لَوْ زَرَعَ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ ثَمَرَ الْجِبَالِ وَالْمَفَاوِزِ فِيهِ الْعُشْرُ، إِنْ حَمَاهُ الْإِمَامُ أَيْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَالْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَلَوْ كَانَ الشَّجَرُ غَيْرَ مَمْلُوكٍ وَلَمْ يُعَالِجْهُ أَحَدٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ النَّمَاءُ، وَقَدْ حَصَلَ بِأَخْذِهِ.

خَرْصُ الثِّمَارِ إِذَا بَدَا صَلَاحُهَا:

113- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ- إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إِذَا بَدَا صَلَاحُ الثِّمَارِ أَنْ يُرْسِلَ سَاعِيًا يَخْرُصُهَا- أَيْ يُقَدِّرُ كَمْ سَيَكُونُ مِقْدَارُهَا بَعْدَ الْجَفَافِ- لِيَعْرِفَ قَدْرَ الزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى أَصْحَابِهَا، وَذَلِكَ لِمَعْرِفَةِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ وَأَهْلِ اسْتِحْقَاقِ الزَّكَاةِ، وَلِلتَّوْسِعَةِ عَلَى أَهْلِ الثِّمَارِ لِيُخَلِّيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا فَيَأْكُلُوا مِنْهَا رُطَبًا ثُمَّ يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ بِحِسَابِ الْخَرْصِ الْمُتَقَدِّمِ، وَذَلِكَ عِنْدَ جَفَافِ الثَّمَرِ.

وَلِمَعْرِفَةِ مُؤَهِّلَاتِ الْخَارِصِ، وَمَا يُرَاعِيهِ عِنْدَ الْخَرْصِ، وَمَعْرِفَةِ مَا يُخْرَصُ مِنَ الْغِلَالِ وَمَا لَا يُخْرَصُ، وَسَائِرِ أَحْكَامِ الْخَرْصِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (خَرْص).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


280-موسوعة الفقه الكويتية (زنى 1)

زِنَى -1

التَّعْرِيفُ:

1- الزِّنَى: الْفُجُورُ.

وَهَذِهِ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَبَنُو تَمِيمٍ يَقُولُونَ: زَنَى زِنَاءً: وَيُقَالُ: زَانَى مُزَانَاةً، وَزِنَاءً بِمَعْنَاهُ.

وَشَرْعًا: عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِتَعْرِيفَيْنِ: أَعَمُّ، وَأَخَصُّ.فَالْأَعَمُّ: يَشْمَلُ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَمَا لَا يُوجِبُهُ، وَهُوَ وَطْءُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ.

قَالَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ تَعْرِيفٌ لِلزِّنَى فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ.

فَإِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَخُصَّ اسْمَ الزِّنَى بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ مِنْهُ بَلْ هُوَ أَعَمُّ.وَالْمُوجِبُ لِلْحَدِّ مِنْهُ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ.وَلِذَا قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ...» الْحَدِيثُ.وَلَوْ وَطِئَ رَجُلٌ جَارِيَةَ ابْنِهِ لَا يُحَدُّ لِلزِّنَا، وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ بِالزِّنَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ زِنًا وَإِنْ كَانَ لَا يُحَدُّ بِهِ.

وَالْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ الْأَخَصُّ لِلزِّنَى: هُوَ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَهُوَ «وَطْءُ مُكَلَّفٍ طَائِعٍ مُشْتَهَاةً حَالًا أَوْ مَاضِيًا فِي قُبُلٍ خَالٍ مِنْ مِلْكِهِ وَشُبْهَتِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ تَمْكِينُهُ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ تَمْكِينُهَا».وَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّهُ وَطْءُ مُكَلَّفٍ مُسْلِمٍ فَرْجَ آدَمِيٍّ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ بِلَا شُبْهَةٍ تَعَمُّدًا.

وَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِيلَاجُ حَشَفَةٍ أَوْ قَدْرِهَا فِي فَرْجٍ مُحَرَّمٍ لِعَيْنِهِ مُشْتَهًى طَبْعًا بِلَا شُبْهَةٍ.

وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهُ فِعْلُ الْفَاحِشَةِ فِي قُبُلٍ أَوْ فِي دُبُرٍ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْوَطْءُ، وَالْجِمَاعُ:

2- أَصْلُ الْوَطْءِ فِي اللُّغَةِ: الدَّوْسُ بِالْقَدَمِ، وَمِنْ مَعَانِيهِ النِّكَاحُ، يُقَالُ: وَطِئَ الْمَرْأَةَ يَطَؤُهَا أَيْ نَكَحَهَا وَجَامَعَهَا.وَمَعْنَاهُ اصْطِلَاحًا: الْجِمَاعُ.

فَكُلٌّ مِنَ الْوَطْءِ وَالْجِمَاعِ أَعَمُّ مِنَ الزِّنَى، إِذْ قَدْ يَكُونُ مَعَ امْرَأَتِهِ فَيَكُونُ نِكَاحًا حَلَالًا، وَمَعَ أَجْنَبِيَّةٍ فَيَكُونُ زِنًى حَرَامًا.

ب- اللِّوَاطُ:

3- اللِّوَاطُ لُغَةً: إِتْيَانُ الذُّكُورِ فِي الدُّبُرِ، وَهُوَ عَمَلُ قَوْمِ نَبِيِّ اللَّهِ لُوطٍ- عليه السلام-.يُقَالُ: لَاطَ الرَّجُلُ لِوَاطًا وَلَاوَطَ، أَيْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ.

وَاصْطِلَاحًا: إِدْخَالُ الْحَشَفَةِ فِي دُبُرِ ذَكَرٍ.وَحُكْمُهُ حُكْمُ الزِّنَى عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.

ج- السِّحَاقُ:

4- السِّحَاقُ وَالْمُسَاحَقَةُ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا: فِعْلُ النِّسَاءِ بَعْضِهِنَّ بِبَعْضٍ، وَكَذَلِكَ فِعْلُ الْمَجْبُوبِ بِالْمَرْأَةِ يُسَمَّى سِحَاقًا.

فَالْفَرْقُ بَيْنَ الزِّنَى وَالسِّحَاقِ، أَنَّ السِّحَاقَ لَا إِيلَاجَ فِيهِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

5- الزِّنَى حَرَامٌ.وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الشِّرْكِ وَالْقَتْلِ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَنْ تَابَوَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}.وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى} أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يَقُولَ: وَلَا تَزْنُوا.فَإِنَّ مَعْنَاهُ لَا تَدْنُوا مِنَ الزِّنَى.

وَرَوَى «عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللَّهِ أَكْبَرُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ.قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ.قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ».

وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْمِلَلِ عَلَى تَحْرِيمِهِ.فَلَمْ يَحِلَّ فِي مِلَّةٍ قَطُّ.وَلِذَا كَانَ حَدُّهُ أَشَدَّ الْحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى الْأَعْرَاضِ وَالْأَنْسَابِ.وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ، وَهِيَ حِفْظُ النَّفْسِ وَالدِّينِ وَالنَّسَبِ وَالْعَقْلِ وَالْمَالِ.

تَفَاوُتُ إِثْمِ الزِّنَى:

6- يَتَفَاوَتُ إِثْمُ الزِّنَى وَيَعْظُمُ جُرْمُهُ بِحَسَبِ مَوَارِدِهِ.فَالزِّنَى بِذَاتِ الْمَحْرَمِ أَوْ بِذَاتِ الزَّوْجِ أَعْظَمُ مِنَ الزِّنَى بِأَجْنَبِيَّةٍ أَوْ مَنْ لَا زَوْجَ لَهَا، إِذْ فِيهِ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ الزَّوْجِ، وَإِفْسَادُ فِرَاشِهِ، وَتَعْلِيقُ نَسَبٍ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ أَذَاهُ.فَهُوَ أَعْظَمُ إِثْمًا وَجُرْمًا مِنَ الزِّنَى بِغَيْرِ ذَاتِ الْبَعْلِ وَالْأَجْنَبِيَّةِ.فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا جَارًا انْضَمَّ لَهُ سُوءُ الْجِوَارِ.وَإِيذَاءُ الْجَارِ بِأَعْلَى أَنْوَاعِ الْأَذَى، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْبَوَائِقِ، فَلَوْ كَانَ الْجَارُ أَخًا أَوْ قَرِيبًا مِنْ أَقَارِبِهِ انْضَمَّ لَهُ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ فَيَتَضَاعَفُ الْإِثْمُ.وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَدْخُلِ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنْ جَارُهُ بَوَائِقَهُ».وَلَا بَائِقَةَ أَعْظَمُ مِنَ الزِّنَى بِامْرَأَةِ الْجَارِ.فَإِنْ كَانَ الْجَارُ غَائِبًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ كَالْعِبَادَةِ، وَطَلَبِ الْعِلْمِ، وَالْجِهَادِ، تَضَاعَفَ الْإِثْمُ حَتَّى إِنَّ الزَّانِيَ بِامْرَأَةِ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوقَفُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَأْخُذُ مِنْ عَمَلِهِ مَا شَاءَ.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «حُرْمَةُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْقَاعِدِينَ يَخْلُفُ رَجُلًا مِنَ الْمُجَاهِدِينَ فِي أَهْلِهِ فَيَخُونُهُ فِيهِمْ، إِلاَّ وَقَفَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَأْخُذُ مِنْ عَمَلِهِ مَا شَاءَ فَمَا ظَنُّكُمْ؟» أَيْ مَا ظَنُّكُمْ أَنْ يَتْرُكَ لَهُ مِنْ حَسَنَاتِهِ؟ قَدْ حَكَمَ فِي أَنَّهُ يَأْخُذُ مَا شَاءَ عَلَى شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى حَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ رَحِمًا لَهُ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ قَطِيعَةُ رَحِمِهَا، فَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ يَكُونَ الزَّانِي مُحْصَنًا كَانَ الْإِثْمُ أَعْظَمَ، فَإِنْ كَانَ شَيْخًا كَانَ أَعْظَمَ إِثْمًا وَعُقُوبَةً، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، أَوْ بَلَدٍ حَرَامٍ، أَوْ وَقْتٍ مُعَظَّمٍ عِنْدَ اللَّهِ كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَأَوْقَاتِ الْإِجَابَةِ تَضَاعَفَ الْإِثْمُ.

أَرْكَانُ الزِّنَى:

7- صَرَّحَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ رُكْنَ الزِّنَى الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ هُوَ الْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ.فَقَدْ جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَرُكْنُهُ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ وَمُوَارَاةُ الْحَشَفَةِ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ الْإِيلَاجُ وَالْوَطْءُ.وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى، حَيْثُ إِنَّهُمْ يُعَلِّقُونَ حَدَّ الزِّنَى عَلَى تَغْيِيبِ الْحَشَفَةِ أَوْ قَدْرِهَا عِنْدَ عَدَمِهَا، حَتَّى إِذَا لَمْ يَكُنْ تَغْيِيبٌ انْتَفَى الْحَدُّ.وَالْوَطْءُ الْمُحَرَّمُ هُوَ الَّذِي يَحْدُثُ فِي غَيْرِ مِلْكِ الْوَاطِئِ- مِلْكِ يَمِينِهِ وَمِلْكِ نِكَاحِهِ- فَكُلُّ وَطْءٍ حَدَثَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَهُوَ زِنًى يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ.أَمَّا إِذَا حَدَثَ الْوَطْءُ فِي مِلْكِ الْوَاطِئِ فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ زِنًى وَلَوْ كَانَ الْوَطْءُ مُحَرَّمًا، حَيْثُ إِنَّ التَّحْرِيمَ هُنَا لَيْسَ لِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا هُوَ لِعَارِضٍ.كَوَطْءِ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ الْحَائِضَ أَوِ النُّفَسَاءَ.

وَيُشْتَرَطُ تَعَمُّدُ الْوَطْءِ، وَهُوَ أَنْ يَرْتَكِبَ الزَّانِي الْفِعْلَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَطَأُ امْرَأَةً مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، أَوْ أَنْ تُمَكِّنَ الزَّانِيَةُ مِنْ نَفْسِهَا وَهِيَ تَعْلَمُ أَنَّ مَنْ يَطَؤُهَا مُحَرَّمٌ عَلَيْهَا.وَمِنْ ثَمَّ فَلَا حَدَّ عَلَى الْغَالِطِ وَالْجَاهِلِ وَالنَّاسِي.

حَدُّ الزِّنَى:

8- كَانَ الْحَبْسُ وَالْإِمْسَاكُ فِي الْبُيُوتِ أَوَّلَ عُقُوبَاتِ الزِّنَى فِي الْإِسْلَامِ لقوله تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}.

ثُمَّ إِنَّ الْإِجْمَاعَ قَدِ انْعَقَدَ عَلَى أَنَّ الْحَبْسَ مَنْسُوخٌ.

وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَذَى هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، فَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا} كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَنَسَخَتْهُمَا الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النُّورِ.وَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ فَالْأَذَى وَالتَّعْبِيرُ بَاقٍ مَعَ الْجَلْدِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَعَارَضَانِ بَلْ يُحْمَلَانِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ.وَالْوَاجِبُ أَنْ يُؤَدَّبَا بِالتَّوْبِيخِ فَيُقَالُ لَهُمَا: فَجَرْتُمَا وَفَسَقْتُمَا، وَخَالَفْتُمَا أَمْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

وَالنَّاسِخُ هُوَ قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَاطَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.وَبِمَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا.الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ».

9- وَمِنْ ثَمَّ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَدَّ الزَّانِي الْمُحْصَنِ الرَّجْمُ حَتَّى الْمَوْتِ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.

قَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَجَمَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ فِي أَخْبَارٍ تُشْبِهُ التَّوَاتُرَ.وَقَدْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ، ثُمَّ نُسِخَ رَسْمُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا- صلى الله عليه وسلم- بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ.فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا، رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: وَاللَّهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ، وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أَحْصَنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوِ الِاعْتِرَافُ.وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: زَادَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُهَا: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يُجْلَدُ وَيُرْجَمُ.لِمَا وَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- » أَنَّهُ جَلَدَ شُرَاحَةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَالَ: أَجْلِدُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَأَرْجُمُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَرِوَايَةُ الرَّجْمِ فَقَطْ هِيَ الْمَذْهَبُ.

10- كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَدَّ الزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً مِائَةُ جَلْدَةٍ إِنْ كَانَ حُرًّا.وَأَمَّا الْعَبْدُ أَوِ الْأَمَةُ فَحَدُّهُمَا خَمْسُونَ جَلْدَةً سَوَاءٌ كَانَا بِكْرَيْنِ أَوْ ثَيِّبَيْنِ لقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}.

وَزَادَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) التَّغْرِيبَ عَامًا لِلْبِكْرِ الْحُرِّ الذَّكَرِ.

وَعَدَّى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ التَّغْرِيبَ لِلْمَرْأَةِ أَيْضًا.كَمَا زَادَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمُ التَّغْرِيبَ نِصْفَ عَامٍ لِلْعَبْدِ.

وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى تَعْرِيفِ الْإِحْصَانِ وَشُرُوطِهِ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْصَانٍ 2/ 200).

كَمَا سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى التَّغْرِيبِ وَأَحْكَامِهِ فِي مُصْطَلَحِ: (تَغْرِيبٍ 13).

شُرُوطُ حَدِّ الزِّنَى:

أَوَّلًا: الشُّرُوطُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا:

1- إِدْخَالُ الْحَشَفَةِ أَوْ قَدْرِهَا مِنْ مَقْطُوعِهَا:

11- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي حَدِّ الزِّنَى إِدْخَالُ الْحَشَفَةِ أَوْ قَدْرِهَا مِنْ مَقْطُوعِهَا فِي الْفَرَجِ.فَلَوْ لَمْ يُدْخِلْهَا أَصْلًا أَوْ أَدْخَلَ بَعْضَهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ وَطْئًا.وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِنْزَالُ وَلَا الِانْتِشَارُ عِنْدَ الْإِدْخَالِ.فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ سَوَاءٌ أَنْزَلَ أَمْ لَا.انْتَشَرَ ذَكَرُهُ أَمْ لَا. 2- أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُكَلَّفًا:

(11 م) - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُكَلَّفًا أَيْ عَاقِلًا بَالِغًا.فَالْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا إِذَا زَنَيَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيقَ».

وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى النَّائِمِ وَالنَّائِمَةِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ.كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى حَدِّ السَّكْرَانِ الْمُتَعَدِّي بِسُكْرِهِ إِذَا زَنَى.

12- وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ مَسْأَلَةٌ مَا لَوْ وَطِئَ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ- الْمُكَلَّفُ- مَجْنُونَةً أَوْ صَغِيرَةً يُوطَأُ مِثْلُهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّ الْوَاطِئَ مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْحَدِّ؛ وَلِأَنَّ وُجُودَ الْعُذْرِ مِنْ جَانِبِهَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَدِّ مِنْ جَانِبِهِ.وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الصَّغِيرَةَ الَّتِي لَا يُوطَأُ مِثْلُهَا لَا حَدَّ عَلَى وَاطِئَهَا.

3- أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ:

13- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّحْرِيمِ شَرْطٌ فِي حَدِّ الزِّنَى.فَإِنْ كَانَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ غَيْرَ عَالِمٍ بِتَحْرِيمِ الزِّنَى لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بُعْدِهِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا لَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ.وَلِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَجُلًا زَنَى بِالْيَمَنِ، فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ- رضي الله عنه- إِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الزِّنَى فَاجْلِدُوهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ فَعَلِّمُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا أَنَّهُ عَذَرَ رَجُلًا زَنَى بِالشَّامِ وَادَّعَى الْجَهْلَ بِتَحْرِيمِ الزِّنَى.وَكَذَا رُوِيَ عَنْهُ وَعَنْ عُثْمَانَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُمَا عَذَرَا جَارِيَةً زَنَتْ وَهِيَ أَعْجَمِيَّةً وَادَّعَتْ أَنَّهَا لَا تَعْلَمُ التَّحْرِيمَ.وَلِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الشَّرْعِيَّاتِ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بَعْدَ الْعِلْمِ.

وَقَدْ أَوْضَحَ ابْنُ عَابِدِينَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْجَهْلِ بِالتَّحْرِيمِ إِلاَّ مِمَّنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ أَمَارَةُ ذَلِكَ، بِأَنْ نَشَأَ وَحْدَهُ فِي شَاهِقٍ، أَوْ بَيْنَ قَوْمٍ جُهَّالٍ مِثْلِهِ لَا يَعْلَمُونَ تَحْرِيمَهُ، أَوْ يَعْتَقِدُونَ إِبَاحَتَهُ، إِذْ لَا يُنْكَرُ وُجُودُ ذَلِكَ.فَمَنْ زَنَى وَهُوَ كَذَلِكَ فِي فَوْرِ دُخُولِهِ دَارَنَا لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ لَا يُحَدُّ، إِذِ التَّكْلِيفُ بِالْأَحْكَامِ فَرْعُ الْعِلْمِ بِهَا، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ مَنِ اشْتَرَطَ الْعِلْمَ بِالتَّحْرِيمِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ نَقْلِ الْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ مَنْ نَشَأَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ فِي دَارِ أَهْلِ الْحَرْبِ الْمُعْتَقِدِينَ حُرْمَتَهُ، ثُمَّ دَخَلَ دَارَنَا فَإِنَّهُ إِذَا زَنَى يُحَدُّ وَلَا يُقْبَلُ اعْتِذَارُهُ بِالْجَهْلِ.

وَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ بِجَهْلِ الْعُقُوبَةِ إِذَا عُلِمَ التَّحْرِيمُ، لِحَدِيثِ «مَاعِزٍ فَإِنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِرَجْمِهِ وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ فِي أَثْنَاءِ رَجْمِهِ رُدُّونِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَإِنَّ قَوْمِي قَتَلُونِي غَرُّونِي مِنْ نَفْسِي وَأَخْبَرُونِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- غَيْرُ قَاتِلِي».

انْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ:

14- مِنَ الشُّرُوطِ الْمُوجِبَةِ لِحَدِّ الزِّنَى وَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا انْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ».

وَقَدْ نَازَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالْإِرْسَالِ تَارَةً وَبِالْوَقْفِ تَارَةً أُخْرَى.قَالَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْإِرْسَالَ لَا يَقْدَحُ، وَإِنَّ الْمَوْقُوفَ فِي هَذَا لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ؛ لِأَنَّ إِسْقَاطَ الْوَاجِبِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِشُبْهَةٍ خِلَافُ مُقْتَضَى الْعَقْلِ، بَلْ مُقْتَضَاهُ أَنَّ بَعْدَ تَحَقُّقِ الثُّبُوتِ لَا يَرْتَفِعُ بِشُبْهَةٍ فَحَيْثُ ذَكَرَهُ صَحَابِيٌّ حُمِلَ عَلَى الرَّفْعِ.وَأَيْضًا فِي إِجْمَاعِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ كِفَايَةٌ.وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: هَذَا الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ.وَأَيْضًا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ.وَفِي تَتَبُّعِ الْمَرْوِيِّ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَالصَّحَابَةِ مَا يَقْطَعُ فِي الْمَسْأَلَةِ.فَقَدْ عَلِمْنَا «أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- قَالَ لِمَاعِزٍ: لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ أَوْ غَمَزْتَ أَوْ نَظَرْتَ».كُلُّ ذَلِكَ يُلَقِّنُهُ أَنْ يَقُولَ: نَعَمْ بَعْدَ إِقْرَارِهِ بِالزِّنَى، وَلَيْسَ لِذَلِكَ فَائِدَةٌ إِلاَّ كَوْنَهُ إِذَا قَالَهَا تُرِكَ، وَإِلاَّ فَلَا فَائِدَةَ.وَلَمْ يَقُلْ لِمَنِ اعْتَرَفَ عِنْدَهُ بِدَيْنٍ، لَعَلَّهُ كَانَ وَدِيعَةً عِنْدَكَ فَضَاعَتْ، وَنَحْوِهِ.

وَكَذَا قَالَ لِلْغَامِدِيَّةِ نَحْوَ ذَلِكَ.وَكَذَا قَالَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- لِشُرَاحَةَ: لَعَلَّهُ وَقَعَ عَلَيْكِ وَأَنْتِ نَائِمَةٌ، لَعَلَّهُ اسْتَكْرَهَكِ، لَعَلَّ مَوْلَاكِ زَوَّجَكِ مِنْهُ وَأَنْتِ تَكْتُمِينَهُ.

فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ كَوْنُ الْحَدِّ يُحْتَالُ فِي دَرْئِهِ بِلَا شَكٍّ.وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِفْسَارَاتِ الْمُفِيدَةَ لِقَصْدِ الِاحْتِيَالِ لِلدَّرْءِ كُلَّهَا كَانَتْ بَعْدَ الثُّبُوتِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بَعْدَ صَرِيحِ الْإِقْرَارِ وَبِهِ الثُّبُوتُ.وَهَذَا هُوَ الْحَاصِلُ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ وَمِنْ قَوْلِهِ: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ».فَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَقْطُوعًا بِثُبُوتِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، فَكَانَ الشَّكُّ فِيهِ شَكًّا فِي ضَرُورِيٍّ فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَائِلِهِ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الِاخْتِلَافُ أَحْيَانًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ الشُّبُهَاتِ أَهِيَ شُبْهَةٌ صَالِحَةٌ لِلدَّرْءِ بِهَا أَمْ لَا.

وَعَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ الشُّبْهَةَ بِأَنَّهَا مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ.

وَقَدْ قَسَّمَ كُلٌّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ الشُّبْهَةَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ.تَفْصِيلُهَا فِيمَا يَلِي:

أ- أَنْوَاعُ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:

15- الشُّبْهَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: شُبْهَةٌ فِي الْفِعْلِ، وَشُبْهَةٌ فِي الْمَحَلِّ، وَشُبْهَةُ الْعَقْدِ.

وَقَدِ اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الثَّالِثِ.

1- الشُّبْهَةُ فِي الْفِعْلِ:

16- وَتُسَمَّى أَيْضًا: شُبْهَةُ الْمُشَابَهَةِ، وَشُبْهَةُ الِاشْتِبَاهِ.

وَهِيَ: أَنْ يُظَنَّ غَيْرُ الدَّلِيلِ دَلِيلًا.فَتَتَحَقَّقَ فِي حَقِّ مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ فَقَطْ، أَيْ مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ، وَلَا دَلِيلَ فِي السَّمْعِ يُفِيدُ الْحِلَّ بَلْ ظَنُّ غَيْرِ الدَّلِيلِ دَلِيلًا، فَلَا بُدَّ مِنَ الظَّنِّ، وَإِلاَّ فَلَا شُبْهَةَ أَصْلًا، لِفَرْضِ أَنْ لَا دَلِيلَ أَصْلًا لِتَثْبُتَ الشُّبْهَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ظَنُّهُ ثَابِتًا لَمْ تَكُنْ شُبْهَةٌ أَصْلًا، وَلَيْسَتْ بِشُبْهَةٍ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ قَالَ: إِنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ حُدَّ.

ثُمَّ إِنَّ شُبْهَةَ الْفِعْلِ تَكُونُ فِي ثَمَانِيَةِ مَوَاضِعَ: ثَلَاثَةٍ مِنْهَا فِي الزَّوْجَاتِ، وَخَمْسَةٍ فِي الْجَوَارِي.

فَمَوَاضِعُ الزَّوْجَاتِ: مَا لَوْ وَطِئَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا فِي الْعِدَّةِ، أَوْ وَطِئَ مُطَلَّقَتَهُ الْبَائِنَ فِي الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، أَوِ الْمُخْتَلِعَةَ.

وَمَوَاضِعُ الْجَوَارِي: هِيَ وَطْءُ جَارِيَةِ الْأَبِ أَوِ الْأُمِّ أَوِ الْجَدِّ أَوِ الْجَدَّةِ وَإِنْ عَلَوْا، وَوَطْءُ جَارِيَةِ الزَّوْجَةِ، وَوَطْءُ أُمِّ وَلَدِهِ الَّتِي أَعْتَقَهَا وَهِيَ فِي الِاسْتِبْرَاءِ، وَالْعَبْدُ يَطَأُ جَارِيَةَ مَوْلَاهُ، وَالْمُرْتَهِنُ يَطَأُ الْجَارِيَةَ الْمَرْهُونَةَ عِنْدَهُ، وَكَذَا الْمُسْتَعِيرُ لِلرَّهْنِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَهِنِ.

فَالْوَاطِئُ فِي هَذِهِ الْحَالَاتِ إِذَا ظَنَّ الْحِلَّ يُعْذَرُ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ حَصَلَ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَطِئَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً وَقَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِلُّ لِي، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى دَعْوَاهُ وَيُحَدُّ.وَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ فِي شُبْهَةِ الْفِعْلِ وَإِنِ ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ تَمَحَّضَ زِنًى لِفَرْضِ أَنْ لَا شُبْهَةَ مِلْكٍ هُنَا، إِلاَّ أَنَّ الْحَدَّ سَقَطَ لِظَنِّهِ الْمَحَلَّ، فَضْلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَمْرٌ رَاجِعٌ إِلَى الْوَاطِئِ لَا إِلَى الْمَحَلِّ، فَكَأَنَّ الْمَحَلَّ لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ حِلٍّ، فَلَا يَثْبُتُ نَسَبٌ بِهَذَا الْوَطْءِ، وَكَذَا لَا تَثْبُتُ بِهِ عِدَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ مِنَ الزَّانِي.

وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا غَيْرُ مُجْرًى عَلَى عُمُومِهِ، فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي شُبْهَةِ الْعَقْدِ، فَيَكْفِي ذَلِكَ لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ.وَأُلْحِقَتْ بِهَا الْمُطَلَّقَةُ بِعِوَضٍ، وَالْمُخْتَلِعَةُ.

وَثُبُوتُ النَّسَبِ هُنَا لَيْسَ بِاعْتِبَارِ الْوَطْءِ فِي الْعِدَّةِ، بَلْ بِاعْتِبَارِ الْعُلُوقِ السَّابِقِ عَلَى الطَّلَاقِ.وَلِذَا ذَكَرُوا أَنَّ نَسَبَ وَلَدِهَا يَثْبُتُ إِلَى أَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ، وَلَا يَثْبُتُ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ.وَيَجِبُ فِي شُبْهَةِ الْفِعْلِ مَهْرُ الْمِثْلِ.

2- الشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ: وَتُسَمَّى أَيْضًا الشُّبْهَةُ الْحُكْمِيَّةُ وَشُبْهَةُ الْمِلْكِ:

17- وَتَنْشَأُ عَنْ دَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلْحِلِّ فِي الْمَحَلِّ، فَتُصْبِحُ الْحُرْمَةُ الْقَائِمَةُ فِيهَا شُبْهَةً أَنَّهَا لَيْسَتْ ثَابِتَةً، نَظَرًا إِلَى دَلِيلِ الْحِلِّ، كَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ».فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ لِأَجْلِ شُبْهَةٍ وُجِدَتْ فِي الْمَحَلِّ وَإِنْ عَلِمَ حُرْمَتَهُ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ إِذَا كَانَتْ فِي الْمَوْطُوءَةِ يَثْبُتُ فِيهَا الْمِلْكُ مِنْ وَجْهٍ فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ اسْمُ الزِّنَى فَامْتَنَعَ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْمُثْبِتَ لِلْحِلِّ قَائِمٌ، وَإِنْ تَخَلَّفَ عَنْ إِثْبَاتِهِ لِمَانِعٍ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً.

وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ تَكُونُ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ: وَاحِدٌ مِنْهَا فِي الزَّوْجَاتِ، وَالْبَاقِي فِي الْجَوَارِي.

فَمَوْضِعُ الزَّوْجَاتِ: وَطْءُ الْمُعْتَدَّةِ بِالطَّلَاقِ الْبَائِنِ بِالْكِنَايَاتِ، فَلَا يُحَدُّ، لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- فِي كَوْنِهَا رَجْعِيَّةً أَوْ بَائِنَةً.

وَمَوَاضِعُ الْجَوَارِي: هِيَ وَطْءُ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ، وَوَطْءُ الْبَائِعِ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ قَبْلَ تَسْلِيمِهَا لِلْمُشْتَرِي، وَوَطْءُ الزَّوْجِ الْجَارِيَةَ الْمَجْعُولَةَ مَهْرًا قَبْلَ تَسْلِيمِهَا لِلزَّوْجَةِ حَيْثُ إِنَّ الْمِلْكَ فِيهِمَا لَمْ يَسْتَقِرَّ لِلْمُشْتَرِي وَالزَّوْجَةِ، وَوَطْءُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَغَيْرِهِ، وَوَطْءُ الْمُرْتَهِنِ لِلْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ فِي رِوَايَةٍ لَيْسَتْ بِالْمُخْتَارَةِ.وَزَادَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: وَطْءَ جَارِيَةِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ، وَوَطْءَ جَارِيَةِ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ، وَوَطْءَ جَارِيَةِ عَبْدِهِ الْمُكَاتَبِ، وَوَطْءَ الْبَائِعِ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالَّتِي فِيهَا الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي.وَكَذَا وَطْءُ جَارِيَتِهِ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ مِنَ الرَّضَاعِ، وَجَارِيَتُهُ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَوَطْءُ الزَّوْجَةِ الَّتِي حُرِّمَتْ بِرِدَّتِهَا، أَوْ بِمُطَاوَعَتِهَا لِابْنِهِ أَوْ جِمَاعِهِ أُمَّهَا ثُمَّ جَامَعَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا عَلَيْهِ حَرَامٌ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ لَمْ يُحَرِّمْ بِهِ، فَاسْتُحْسِنَ أَنْ يَدْرَأَ بِذَلِكَ الْحَدِّ.قَالَ: وَالِاسْتِقْرَاءُ يُفِيدُ غَيْرَ ذَلِكَ أَيْضًا، فَالِاقْتِصَارُ عَلَى السِّتَّةِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ.فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ وَإِنْ قَالَ: عَلِمْتُ أَنَّهَا حَرَامٌ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الشُّبْهَةُ، وَهِيَ هَاهُنَا قَائِمَةٌ فِي نَفْسِ الْحُكْمِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَعْرِفَتِهِ بِالْحُرْمَةِ وَعَدَمِهَا.وَيَثْبُتُ النَّسَبُ فِي شُبْهَةِ الْمَحَلِّ إِذَا ادَّعَى الْوَلَدَ.

3- شُبْهَةُ الْعَقْدِ:

18- قَالَ بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَزُفَرُ.

وَهِيَ عِنْدَهُ تَثْبُتُ بِالْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ النَّسَبِيَّةِ، أَوْ بِالرَّضَاعِ، أَوْ بِالْمُصَاهَرَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ بِهِمَا، فَإِذَا وَطِئَ الشَّخْصُ إِحْدَى مَحَارِمِهِ بَعْدَ أَنْ عَقَدَ عَلَيْهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَكِنْ يَجِبُ الْمَهْرُ وَيُعَاقَبُ عُقُوبَةً هِيَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ التَّعْزِيرِ سِيَاسَةً لَا حَدًّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا تَعْزِيرَ.فَوُجُودُ الْعَقْدِ يَنْفِي الْحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَلَالًا كَانَ الْعَقْدُ أَوْ حَرَامًا، مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ، عَلِمَ الْوَاطِئُ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ.

وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ بِأَنَّ الْأُنْثَى مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ مَحَلٌّ لِهَذَا الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْعَقْدِ مَا يَكُونُ قَابِلًا لِمَقْصُودِهِ الْأَصْلِيِّ، وَكُلُّ أُنْثَى مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ قَابِلَةٌ لِمَقْصُودِ النِّكَاحِ وَهُوَ التَّوَالُدُ وَالتَّنَاسُلُ.وَإِذَا كَانَتْ قَابِلَةً لِمَقْصُودِهِ كَانَتْ قَابِلَةً لِحُكْمِهِ، إِذِ الْحُكْمُ يَثْبُتُ ذَرِيعَةً إِلَى الْمَقْصُودِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، إِلاَّ أَنَّهُ تَقَاعَدَ عَنْ إِفَادَةِ الْحِلِّ حَقِيقَةً لِمَكَانِ الْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ فِيهِنَّ بِالنَّصِّ فَيُورِثُ شُبْهَةً، إِذِ الشُّبْهَةُ مَا يُشْبِهُ الْحَقِيقَةَ لَا الْحَقِيقَةَ نَفْسَهَا.

وَالْأُنْثَى مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ مَحَلٌّ لِلْعَقْدِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ أَوْلَى بِإِيرَاثِ الشُّبْهَةِ، وَكَوْنُهَا مُحَرَّمَةً عَلَى التَّأْبِيدِ لَا يُنَافِي الشُّبْهَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَطِئَ أَمَتَهُ وَهِيَ أُخْتُهُ مِنَ الرَّضَاعِ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.وَالنِّكَاحُ فِي إِفَادَةِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ أَقْوَى مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ، لِأَنَّهُ شَرَعَ لَهُ بِخِلَافِ مِلْكِ الْيَمِينِ، فَكَانَ أَوْلَى فِي إِفَادَةِ الشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ تُشْبِهُ الْحَقِيقَةَ فَمَا كَانَ أَقْوَى فِي إِثْبَاتِ الْحَقِيقَةِ كَانَ أَقْوَى فِي إِثْبَاتِ الشُّبْهَةِ.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّا لِذَلِكَ بِأَنَّ حُرْمَتَهُنَّ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَإِضَافَةُ الْعَقْدِ إِلَيْهِنَّ كَإِضَافَتِهِ إِلَى الذُّكُورِ، لِكَوْنِهِ صَادَفَ غَيْرَ الْمَحَلِّ فَيَلْغُو؛ لِأَنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ مَا يَكُونُ مَحَلًّا لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْحِلُّ هُنَا، وَهِيَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ فَيَكُونُ وَطْؤُهَا زِنًى حَقِيقَةً لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَالْحَقِّ فِيهَا.وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَآبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} وَالْفَاحِشَةُ هِيَ الزِّنَى لقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} وَمُجَرَّدُ إِضَافَةِ الْعَقْدِ إِلَى غَيْرِ الْمَحَلِّ لَا عِبْرَةَ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ الْوَارِدَ عَلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا حَتَّى لَا يُفِيدَ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الْبَيْعِ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا يُعْذَرُ بِالِاشْتِبَاهِ.وَمَحَلُّ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ فِي النِّكَاحِ الْمُجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى التَّأْبِيدِ.أَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، كَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَبِلَا شُهُودٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الْكُلِّ.فَالشُّبْهَةُ إِنَّمَا تَنْتَفِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إِذَا كَانَ النِّكَاحُ مُجْمَعًا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى التَّأْبِيدِ.وَالْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


281-موسوعة الفقه الكويتية (زنى 2)

زِنَى -2

ب- أَنْوَاعُ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:

19- قَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ الشُّبْهَةَ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ فِي إِفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: شُبْهَةٍ فِي الْوَاطِئِ، وَشُبْهَةٍ فِي الْمَوْطُوءَةِ، وَشُبْهَةٍ فِي الطَّرِيقِ.

فَالشُّبْهَةُ فِي الْوَاطِئِ: كَاعْتِقَادِ أَنَّ هَذِهِ الْأَجْنَبِيَّةَ امْرَأَتُهُ، فَالِاعْتِقَادُ الَّذِي هُوَ جَهْلٌ مُرَكَّبٌ وَغَيْرُ مُطَابِقٍ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُعْتَقِدٌ الْإِبَاحَةَ، وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ فِي اعْتِقَادِهِ يَقْتَضِي الْحَدَّ، فَحَصَلَ الِاشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ.

وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَوْطُوءَةِ: كَالْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ إِذَا وَطِئَهَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ.فَمَا فِيهَا مِنْ نَصِيبِهِ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ، وَمَا فِيهَا مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ يَقْتَضِي الْحَدَّ، فَحَصَلَ الِاشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ.وَالشُّبْهَةُ فِي الطَّرِيقِ: كَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي إِبَاحَةِ الْمَوْطُوءَةِ كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَنَحْوِهِ.فَإِنَّ قَوْلَ الْمُحَرِّمِ يَقْتَضِي الْحَدَّ، وَقَوْلَ الْمُبِيحِ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحَدِّ، فَحَصَلَ الِاشْتِبَاهُ وَهِيَ عَيْنُ الشُّبْهَةِ.

فَهَذِهِ الثَّلَاثُ هِيَ ضَابِطُ الشُّبْهَةِ الْمُعْتَبَرَةِ عِنْدَهُمْ فِي إِسْقَاطِ الْحَدِّ.غَيْرَ أَنَّ لَهَا شَرْطًا وَهُوَ اعْتِقَادُ الْمُقْدِمِ عَلَى الْفِعْلِ مُقَارَنَةَ السَّبَبِ الْمُبِيحِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فِي حُصُولِ السَّبَبِ كَأَنْ يَطَأَ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً يَعْتَقِدُ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ.وَضَابِطُ الشُّبْهَةِ الَّتِي لَا تُعْتَبَرُ فِي إِسْقَاطِ الْحَدِّ تَتَحَقَّقُ بِأَمْرَيْنِ: إِمَّا بِالْخُرُوجِ عَنِ الشُّبُهَاتِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ كَمَنْ تَزَوَّجَ خَامِسَةً أَوْ مَبْتُوتَةً ثَلَاثًا قَبْلَ زَوْجٍ، أَوْ أُخْتَهُ مِنَ الرَّضَاعِ أَوِ النَّسَبِ أَوْ ذَاتَ مَحْرَمٍ عَامِدًا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، أَوْ بِعَدَمِ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ كَأَنْ يَطَأَ امْرَأَةً يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سَيَتَزَوَّجُهَا فَإِنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ لِعَدَمِ اعْتِقَادِ مُقَارَنَةِ الْعِلْمِ لِسَبَبِهِ.

ج- أَنْوَاعُ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:

20- الشُّبْهَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: شُبْهَةٍ فِي الْمَحَلِّ، وَشُبْهَةٍ فِي الْفَاعِلِ، وَشُبْهَةٍ فِي الْجِهَةِ.

فَالشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ، كَوَطْءِ زَوْجَتِهِ الْحَائِضِ وَالصَّائِمَةِ، وَالْمُحْرِمَةِ، وَأَمَتِهِ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَجَارِيَةِ وَلَدِهِ.فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ.وَكَذَا لَوْ وَطِئَ مَمْلُوكَتَهُ الْمُحَرَّمَةَ عَلَيْهِ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، كَأُخْتِهِ مِنْهُمَا، أَوْ بِمُصَاهَرَةٍ كَمَوْطُوءَةِ أَبِيهِ أَوِ ابْنِهِ، فَلَا حَدَّ بِوَطْئِهَا فِي الْأَظْهَرِ؛ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ.قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: وَمَحَلُّ ذَلِكَ فِيمَنْ يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا كَأُخْتِهِ.أَمَّا مَنْ لَا يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا كَالْأُمِّ وَالْجَدَّةِ فَهُوَ زَانٍ قَطْعًا.وَكَذَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ، أَوْ أَمَتَهُ الْمُزَوَّجَةَ، أَوِ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ غَيْرِهِ، أَوِ الْمَجُوسِيَّةَ وَالْوَثَنِيَّةَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ أَسْلَمَتْ أَمَةُ ذِمِّيٍّ فَوَطِئَهَا قَبْلَ أَنْ تُبَاعَ.وَأَمَّا الشُّبْهَةُ فِي الْفَاعِلِ، فَمِثْلُ أَنْ يَجِدَ امْرَأَةً فِي فِرَاشِهِ فَيَطَؤُهَا ظَانًّا أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ ظَنَّ ذَلِكَ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ.وَلَوْ ظَنَّهَا جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ فَكَانَتْ غَيْرَهَا فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ لِأَنَّهُ عَلِمَ التَّحْرِيمَ فَكَانَ عَلَيْهِ الِامْتِنَاعُ.وَهَذَا مَا رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ مِنَ احْتِمَالَيْنِ.وَجَزَمَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِسُقُوطِهِ.وَيَدْخُلُ فِي شُبْهَةِ الْفَاعِلِ الْمُكْرَهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ.وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.

وَأَمَّا الشُّبْهَةُ فِي الْجِهَةِ: فَهِيَ كُلُّ طَرِيقٍ صَحَّحَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَأَبَاحَ الْوَطْءَ بِهَا فَلَا حَدَّ فِيهَا عَلَى الْمَذْهَبِ وَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ يَعْتَقِدُ التَّحْرِيمَ نَظَرًا لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ.فَلَا حَدَّ فِي الْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ.وَبِلَا شُهُودٍ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ.وَلَا فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ كَمَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِشُبْهَةِ الْخِلَافِ.

ثُمَّ إِنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي النِّكَاحِ الْمَذْكُورِ أَنْ لَا يُقَارِنَهُ حُكْمٌ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.فَإِنْ قَارَنَهُ حُكْمٌ قَاضٍ بِبُطْلَانِهِ حُدَّ قَطْعًا، أَوْ حُكْمٌ قَاضٍ بِصِحَّتِهِ لَمْ يُحَدَّ قَطْعًا.

وَقَدْ صَرَّحَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الضَّابِطَ فِي الشُّبْهَةِ قُوَّةُ الْمُدْرِكِ لَا عَيْنُ الْخِلَافِ.فَلَوْ وَطِئَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ حُدَّ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنْ حُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ حِلُّ ذَلِكَ.

وَصَرَّحَ الرَّمْلِيُّ بِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ مِنْ عَالِمٍ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَإِنْ لَمْ يُقَلِّدْهُ الْفَاعِلُ.

د- الشُّبْهَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:

21- لَمْ يُقَسِّمِ الْحَنَابِلَةُ الشُّبْهَةَ إِلَى أَنْوَاعٍ كَالْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا لَهَا أَمْثِلَةً فَقَالُوا: لَا حَدَّ عَلَى الْأَبِ إِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِهِ سَوَاءٌ وَطِئَهَا الِابْنُ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ تَمَكَّنَتِ الشُّبْهَةُ فِيهِ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِي مِلْكِ وَلَدِهِ لِحَدِيثِ «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ».وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ فِيهَا شِرْكٌ، أَوْ لِوَلَدِهِ فِيهَا شِرْكٌ، أَوْ لِمُكَاتَبِهِ فِيهَا شِرْكٌ؛ لِلْمِلْكِ أَوْ شُبْهَتِهِ، وَلَا حَدَّ إِنْ وَطِئَ أَمَةً كُلَّهَا لِبَيْتِ الْمَالِ أَوْ بَعْضَهَا لِبَيْتِ الْمَالِ وَهُوَ حُرٌّ مُسْلِمٌ، لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي بَيْتِ الْمَالِ.وَلَا حَدَّ إِنْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ فِي حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ دُبُرٍ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ قَدْ صَادَفَ مِلْكًا، وَإِنْ وَطِئَ امْرَأَةً عَلَى فِرَاشِهِ أَوْ فِي مَنْزِلِهِ ظَنَّهَا امْرَأَتَهُ أَوْ زُفَّتْ إِلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يُقَلْ لَهُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ.وَلَوْ دَعَا ضَرِيرٌ امْرَأَتَهُ فَأَجَابَتْهُ امْرَأَةٌ غَيْرُهَا فَوَطِئَهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ.بِخِلَافِ مَا لَوْ دَعَا مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ فَأَجَابَهُ غَيْرُهَا فَوَطِئَهَا يَظُنُّهَا الْمَدْعُوَّةَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْمَدْعُوَّةُ مِمَّنْ لَهُ فِيهَا شُبْهَةٌ كَالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ أَمْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْذَرُ بِهَذَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَ رَجُلًا يَظُنُّهُ ابْنَهُ فَبَانَ أَجْنَبِيًّا.وَإِنْ وَطِئَ أَمَتَهُ الْمَجُوسِيَّةَ أَوِ الْوَثَنِيَّةَ أَوِ الْمُرْتَدَّةَ أَوِ الْمُعْتَدَّةَ، أَوِ الْمُزَوَّجَةَ، أَوْ فِي مُدَّةِ اسْتِبْرَائِهَا فَلَا حَدَّ، لِأَنَّهَا مِلْكُهُ.وَإِنْ وَطِئَ فِي نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ أَوْ فِي مِلْكٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ، أَوْ بِلَا شُهُودٍ، وَنِكَاحِ الشِّغَارِ، وَنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ، وَنِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا، وَنَحْوِهَا، وَنِكَاحِ الْبَائِنِ مِنْهُ، وَنِكَاحِ خَامِسَةٍ فِي عِدَّةِ رَابِعَةٍ لَمْ تَبِنْ، وَنِكَاحِ الْمَجُوسِيَّةِ، وَعَقْدِ الْفُضُولِيِّ وَلَوْ قَبْلَ الْإِجَازَةِ، سَوَاءٌ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ أَمْ لَا.

هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ.وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ، أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ إِذَا اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ.

وَإِنْ جَهِلَ نِكَاحًا بَاطِلًا إِجْمَاعًا كَخَامِسَةٍ فَلَا حَدَّ لِلْعُذْرِ، وَيُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا.أَمَّا إِذَا عَلِمَ بِبُطْلَانِهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ.وَلَا حَدَّ فِي الْوَطْءِ فِي شِرَاءٍ فَاسِدٍ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَوِ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ لِلشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ بِإِقْبَاضِهِ الْأَمَةَ كَأَنَّهُ أَذِنَهُ فِي فِعْلِ مَا يَمْلِكُهُ بِالْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَمِنْهُ الْوَطْءُ، أَمَّا قَبْلَ الْقَبْضِ فَيُحَدُّ عَلَى الصَّحِيحِ.كَمَا يَجِبُ الْحَدُّ فِي وَطْءِ الْبَائِعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ إِذَا كَانَ يَعْتَقِدُ التَّحْرِيمَ وَيَعْلَمُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ عَلَى الصَّحِيحِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ.

5- مِنْ شُرُوطِ حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُخْتَارًا:

22- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُكْرَهَةِ عَلَى الزِّنَى لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».وَعَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ امْرَأَةً اسْتُكْرِهَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ».وَلِأَنَّ هَذَا شُبْهَةٌ، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِهَا.

وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الرَّجُلِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَى.فَذَهَبَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ وَالَّذِي بِهِ الْفَتْوَى وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ إِلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الرَّجُلِ الْمُكْرَهِ عَلَى الزِّنَى لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ وَلِشُبْهَةِ الْإِكْرَاهِ.

وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ- وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ- وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِالِانْتِشَارِ الْحَادِثِ بِالِاخْتِيَارِ.

وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ إِكْرَاهِ السُّلْطَانِ وَإِكْرَاهِ غَيْرِهِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي إِكْرَاهِ السُّلْطَانِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ الْمُلْجِئَ قَائِمٌ ظَاهِرًا، وَالِانْتِشَارُ دَلِيلٌ مُتَرَدِّدٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ؛ لِأَنَّ الِانْتِشَارَ قَدْ يَكُونُ طَبْعًا لَا طَوْعًا، كَمَا فِي النَّائِمِ، فَأَوْرَثَ شُبْهَةً، وَعَلَيْهِ الْحَدُّ إِنْ أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ، لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ لَا يَدُومُ إِلاَّ نَادِرًا لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ بِالسُّلْطَانِ أَوْ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَيُمْكِنُهُ دَفْعُهُ بِنَفْسِهِ بِالسِّلَاحِ.وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ، بِخِلَافِ السُّلْطَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِعَانَةُ بِغَيْرِهِ وَلَا الْخُرُوجُ بِالسِّلَاحِ عَلَيْهِ فَافْتَرَقَا.وَالْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْلِ الصَّاحِبَيْنِ.قَالَ مَشَايِخُ الْحَنَفِيَّةِ: وَهَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ، فَفِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لِغَيْرِ السُّلْطَانِ مِنَ الْقُوَّةِ مَا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالسُّلْطَانِ، وَفِي زَمَنِهِمَا ظَهَرَتِ الْقُوَّةُ لِكُلِّ مُتَغَلِّبٍ فَيُفْتَى بِقَوْلِهِمَا.

ثَانِيًا: الشُّرُوطُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا:

1- اشْتِرَاطُ كَوْنِ الْمَوْطُوءَةِ حَيَّةً:

23- اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) فِي وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَى أَنْ تَكُونَ الْمَوْطُوءَةُ حَيَّةً، فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عِنْدَهُمْ بِوَطْءِ الْمَيْتَةِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ إِنَّمَا وَجَبَ لِلزَّجْرِ، وَهَذَا مِمَّا يَنْفِرُ الطَّبْعُ عَنْهُ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الزَّجْرِ عَنْهُ بِحَدٍّ لِزَجْرِ الطَّبْعِ عَنْهُ.وَفِيهِ التَّعْزِيرُ عِنْدَهُمْ.

وَيُعَبِّرُ الشَّافِعِيَّةُ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ بِالْفَرْجِ الْمُشْتَهَى طَبْعًا، وَهُوَ فَرْجُ الْآدَمِيِّ الْحَيِّ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ فَيَجِبُ عِنْدَهُمُ الْحَدُّ بِوَطْءِ الْمَيْتَةِ سَوَاءٌ كَانَ فِي قُبُلِهَا أَوْ دُبُرِهَا.وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الزَّوْجَ فَلَا يُحَدُّ بِوَطْءِ زَوْجَتِهِ الْمَيْتَةِ.وَاسْتَثْنَوْا كَذَلِكَ الْمَرْأَةَ إِذَا أَدْخَلَتْ ذَكَرَ مَيْتٍ غَيْرَ زَوْجٍ فِي فَرْجِهَا فَلَا تُحَدُّ لِعَدَمِ اللَّذَّةِ.

كَوْنُ الْمَوْطُوءَةِ امْرَأَةً:

24- اشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ تَكُونَ الْمَوْطُوءَةُ امْرَأَةً.فَلَا حَدَّ عِنْدَهُ فِيمَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ وَيُسْجَنُ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَتُوبَ، وَلَوِ اعْتَادَ اللِّوَاطَةَ قَتَلَهُ الْإِمَامُ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مِحْصَنٍ سِيَاسَةً.أَمَّا الْحَدُّ الْمُقَدَّرُ شَرْعًا فَلَيْسَ حُكْمًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًى وَلَا فِي مَعْنَاهُ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حَدٌّ.

وَلَمْ يَشْتَرِطْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ هَذَا الشَّرْطَ، فَذَهَبَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ حَدَّ الزِّنَى عَلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ جَلْدًا إِنْ لَمْ يَكُنْ أُحْصِنَ، وَرَجْمًا إِنْ أُحْصِنَ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمَا يُرْجَمَانِ حَدًّا أُحْصِنَا أَمْ لَا.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْفَاعِلِ.أَمَّا الْمَفْعُولُ بِهِ فَإِنَّهُ يُجْلَدُ وَيُغَرَّبُ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ إِحْصَانٌ. وَطْءُ الْبَهِيمَةِ:

25- ذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى مَنْ أَتَى بَهِيمَةً لَكِنَّهُ يُعَزَّرُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ.وَمِثْلُ هَذَا لَا يَقُولُهُ إِلاَّ عَنْ تَوْقِيفٍ، وَلِأَنَّ الطَّبْعَ السَّلِيمَ يَأْبَاهُ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى زَجْرٍ بِحَدٍّ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ: إِنَّهُ يُحَدُّ حَدَّ الزِّنَى وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ: بِأَنَّهُ يُقْتَلُ مُطْلَقًا مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ.

وَمِثْلُ وَطْءِ الْبَهِيمَةِ مَا لَوْ مَكَّنَتِ امْرَأَةٌ حَيَوَانًا مِنْ نَفْسِهَا حَتَّى وَطِئَهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا بَلْ تُعَزَّرُ.

وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ) أَنَّهُ لَا تُقْتَلُ الْبَهِيمَةُ، وَإِذَا قُتِلَتْ فَإِنَّهَا يَجُوزُ أَكْلُهَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ إِنْ كَانَتْ مِمَّا يُؤْكَلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَمَنَعَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ أَكْلَهَا.وَقَالَا: تُذْبَحُ وَتُحْرَقُ.وَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ الِانْتِفَاعِ بِهَا حَيَّةً وَمَيِّتَةً.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْبَهِيمَةَ تُقْتَلُ سَوَاءٌ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ.وَسَوَاءٌ كَانَتْ مَأْكُولَةً أَوْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ.وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا قَالَ: «مَنْ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ».وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ آخَرُ: إِنَّهَا تُذْبَحُ إِنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً، وَصَرَّحُوا بِحُرْمَةِ أَكْلِهَا إِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ مَا يُؤْكَلُ.

3- كَوْنُ الْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ:

26- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَى عَلَى مَنْ أَتَى امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً فِي دُبُرِهَا، لِأَنَّهُ فَرْجٌ أَصْلِيٌّ كَالْقُبُلِ.

وَخَصَّ الشَّافِعِيَّةُ الْحَدَّ بِالْفَاعِلِ فَقَطْ.أَمَّا الْمَفْعُولُ بِهَا فَإِنَّهَا تُجْلَدُ وَتُغَرَّبُ، مُحْصَنَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ إِحْصَانٌ.

وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ فِي الْقُبُلِ فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عِنْدَهُ عَلَى مَنْ أَتَى امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً فِي دُبُرِهَا، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ.

ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ.أَمَّا إِتْيَانُ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ أَوْ مَمْلُوكَتَهُ فِي دُبُرِهَا فَلَا حَدَّ فِيهِ اتِّفَاقًا، وَيُعَزَّرُ فَاعِلُهُ لِارْتِكَابِهِ مَعْصِيَةً.وَقَصَرَ الشَّافِعِيَّةُ التَّعْزِيرَ عَلَى مَا إِذَا تَكَرَّرَ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَكَرَّرْ فَلَا تَعْزِيرَ فِيهِ.

4- كَوْنُ الْوَطْءِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ:

27- اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي وُجُوبِ حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ الزِّنَى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوِ الْبَغْيِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي بِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ زَنَى أَوْ سَرَقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَصَابَ بِهَا حَدًّا ثُمَّ هَرَبَ فَخَرَجَ إِلَيْنَا فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ».

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُقَامَ عَلَى أَحَدٍ حَدٌّ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ.

وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ، وَلَا قُدْرَةَ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِ حَالَ كَوْنِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا وُجُوبَ وَإِلاَّ عَرَى عَنِ الْفَائِدَةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الِاسْتِيفَاءُ لِيَحْصُلَ الزَّجْرُ، وَالْفَرْضُ أَنْ لَا قُدْرَةَ عَلَيْهِ، وَإِذَا خَرَجَ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا لِلْإِيجَابِ حَالَ وُجُودِهِ لَمْ يَنْقَلِبْ مُوجِبًا لَهُ حَالَ عَدَمِهِ.

وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ إِذَا زَنَى فِي عَسْكَرٍ لِأَمِيرِهِ وِلَايَةُ إِقَامَةِ الْحَدِّ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُقِيمُ عَلَيْهِ حَدَّ الزِّنَى؛ لِأَنَّهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَالْقُدْرَةُ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ خَرَجَ مِنَ الْعَسْكَرِ فَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَزَنَى ثُمَّ عَادَ إِلَى الْعَسْكَرِ فَإِنَّهُ لَا يُقِيمُهُ، وَكَذَا لَوْ زَنَى فِي الْعَسْكَرِ وَالْعَسْكَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي أَيَّامِ الْمُحَارَبَةِ قَبْلَ الْفَتْحِ فَإِنَّهُ يُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ.وَهَذَا الْحُكْمُ خَاصٌّ بِمَا إِذَا كَانَ فِي الْعَسْكَرِ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ إِقَامَةِ الْحُدُودِ، بِخِلَافِ أَمِيرِ الْعَسْكَرِ أَوِ السَّرِيَّةِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا فَوَّضَ لَهُمَا تَدْبِيرَ الْحَرْبِ لَا إِقَامَةَ الْحُدُودِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلْإِمَامِ، وَوِلَايَةُ الْإِمَامِ مُنْقَطِعَةٌ ثَمَّةَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ إِنْ لَمْ يَخَفْ فِتْنَةً مِنْ نَحْوِ رِدَّةِ الْمَحْدُودِ وَالْتِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مَنْ أَتَى حَدًّا فِي الْغَزْوِ لَمْ يُسْتَوْفَ مِنْهُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، لِمَا رَوَى جُنَادَةُ بْنُ أُمَيَّةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ بُسْرِ بْنِ أَرْطَاةَ فِي الْبَحْرِ، فَأُتِيَ بِسَارِقٍ يُقَالُ لَهُ: مَصْدَرٌ، قَدْ سَرَقَ بُخْتِيَّةً، فَقَالَ: قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي السَّفَرِ» وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَطَعْتُهُ.

وَنَقَلُوا إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ مَتَى رَجَعَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعُمُومِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ، وَإِنَّمَا أُخِّرَ لِعَارِضٍ، وَقَدْ زَالَ.

وَإِذَا أَتَى حَدًّا فِي الثُّغُورِ أُقِيمَ عَلَيْهِ فِيهَا بِغَيْرِ خِلَافٍ، لِأَنَّهَا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إِلَى زَجْرِ أَهْلِهَا كَالْحَاجَةِ إِلَى زَجْرِ غَيْرِهِمْ.

5- أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُسْلِمًا:

28- اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ مُسْلِمًا، فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْكَافِرِ إِذَا زَنَى بِمُسْلِمَةٍ طَائِعَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ.وَيُرَدُّ إِلَى أَهْلِ مِلَّتِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ الْعُقُوبَةَ الشَّدِيدَةَ، وَتُحَدُّ الْمُسْلِمَةُ.وَإِنِ اسْتَكْرَهَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَةَ عَلَى الزِّنَى قُتِلَ.

وَقَدْ وَافَقَتِ الْمَذَاهِبُ الْأُخْرَى مَذْهَبَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمُسْتَأْمَنِ فَقَطْ.

وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ فِي الْمَذَاهِبِ نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي: فَفِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يُحَدُّ الْمُسْتَأْمَنُ سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، وَيُحَدُّ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ: يُحَدُّ الْجَمِيعُ.وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ: لَا يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ.فَإِذَا زَنَى الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ بِالْمُسْلِمَةِ أَوِ الذِّمِّيَّةِ فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ دُونَ الْحَرْبِيِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ جَمِيعًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَلَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَتَقْيِيدُ الْمَسْأَلَةِ بِالْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ زَنَى بِحَرْبِيَّةٍ مُسْتَأْمَنَةٍ لَا يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُحَدَّانِ، وَإِنْ زَنَى الْمُسْلِمُ أَوِ الذِّمِّيُّ بِالْحَرْبِيَّةِ الْمُسْتَأْمَنَةِ حُدَّ الرَّجُلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُحَدَّانِ جَمِيعًا.

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُقَامُ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْمُعَاهَدِ وَالْمُسْتَأْمَنِ لِعَدَمِ الْتِزَامِهِمَا بِالْأَحْكَامِ، وَيُقَامُ عَلَى الذِّمِّيِّ لِالْتِزَامِهِ بِالْأَحْكَامِ، وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَجَمَ رَجُلًا وَامْرَأَةً مِنَ الْيَهُودِ زَنَيَا».وَكَانَا قَدْ أُحْصِنَا.قَالَ الرَّمْلِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ الْيَوْمَ لَا يُحَدُّونَ عَلَى الْمَذْهَبِ كَالْمُسْتَأْمَنِ، لِأَنَّهُمْ لَا يُجَدَّدُ لَهُمْ عَهْدٌ، بَلْ يَجْرُونَ عَلَى ذِمَّةِ آبَائِهِمْ.وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يُحَدُّونَ حَدَّ الزِّنَى، «لِأَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِامْرَأَةٍ وَرَجُلٍ مِنْهُمْ قَدْ زَنَيَا فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَرُجِمَا» وَيَلْزَمُ الْإِمَامَ إِقَامَةُ الْحَدِّ فِي زِنَى بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ؛ لِالْتِزَامِهِمْ حُكْمَنَا.وَلَا يُقَامُ حَدُّ الزِّنَى عَلَى مُسْتَأْمَنٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ حُكْمَنَا.

وَلِأَنَّ زِنَى الْمُسْتَأْمَنِ يَجِبُ بِهِ الْقَتْلُ لِنَقْضِ الْعَهْدِ، وَلَا يَجِبُ مَعَ الْقَتْلِ حَدٌّ سِوَاهُ.وَهَذَا إِذَا زَنَى بِمُسْلِمَةٍ.أَمَّا إِذَا زَنَى الْمُسْتَأْمَنُ بِغَيْرِ مُسْلِمَةٍ فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.

6- أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ نَاطِقًا:

29- اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ يَكُونَ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْفِعْلُ نَاطِقًا.فَلَا يُقَامُ حَدُّ الزِّنَى عِنْدَهُمْ عَلَى الْأَخْرَسِ مُطْلَقًا، حَتَّى وَلَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَى أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي كِتَابٍ كَتَبَهُ أَوْ إِشَارَةٍ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِالزِّنَى لَا تُقْبَلُ لِلشُّبْهَةِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ هَذَا الشَّرْطَ فَيَجِبُ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْأَخْرَسِ إِذَا زَنَى.

ثُبُوتُ الزِّنَى:

يَثْبُتُ الزِّنَى بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: بِالشَّهَادَةِ، وَالْإِقْرَارِ، وَالْقَرَائِنِ.

أ- الشَّهَادَةُ:

30- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ الزِّنَى بِالشَّهَادَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْيَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وقوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْيَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}

وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أَأُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: نَعَمْ».

وَيُشْتَرَطُ فِي الشُّهُودِ عَلَى الزِّنَى بِالْإِضَافَةِ إِلَى الشُّرُوطِ الْعَامَّةِ لِلشَّهَادَةِ (الْمَذْكُورَةِ فِي مُصْطَلَحِ شَهَادَةٍ) أَنْ تَتَوَافَرَ فِيهِمْ شُرُوطٌ مُعَيَّنَةٌ حَتَّى يَثْبُتَ الزِّنَى، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ هِيَ:

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: الذُّكُورَةُ:

31- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى اشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِي شُهُودِ الزِّنَى، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا رِجَالًا كُلَّهُمْ، لِلنُّصُوصِ السَّابِقَةِ.

وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الزِّنَى بِحَالٍ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْأَرْبَعَةِ اسْمٌ لِعَدَدِ الْمَذْكُورِينَ، وَيَقْتَضِي أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ بِأَرْبَعَةٍ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأَرْبَعَةَ إِذَا كَانَ بَعْضُهُمْ نِسَاءً لَا يُكْتَفَى بِهِمْ، وَأَنَّ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُ خَمْسَةٌ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.

وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَا مَدْخَلَ لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ.

الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا أَرْبَعَةً:

32- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الزِّنَى لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ، لِلنُّصُوصِ السَّابِقَةِ؛ وَلِأَنَّ الزِّنَى مِنْ أَغْلَظِ الْفَوَاحِشِ فَغُلِّظَتِ الشَّهَادَةُ فِيهِ لِيَكُونَ أَسْتَرَ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَمُلُوا أَرْبَعَةً حُدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكْمُلُوا فَهُمْ قَذَفَةٌ، وَعَلَيْهِمْ حَدُّ الْقَذْفِ، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْيَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وَلِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- حَدَّ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالزِّنَى.وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ، وَلِئَلاَّ يَتَّخِذَ صُورَةَ الشَّهَادَةِ ذَرِيعَةً إِلَى الْوَقِيعَةِ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ.

وَعِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي الْمَذْهَبِ، أَنَّهُ لَا يُجْلَدُ الشُّهُودُ إِذَا نَقَصَ عَدَدُهُمْ عَنْ أَرْبَعَةٍ؛ لِأَنَّهُمْ جَاءُوا شَاهِدِينَ لَا هَاتِكِينَ.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ:

33- اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَى أَنْ تَكُونَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ شَهِدَ بَعْضُ الْأَرْبَعَةِ فِي مَجْلِسٍ، وَبَعْضُهُمْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ.كَمَا اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنْ يَأْتِيَ الشُّهُودُ مُجْتَمِعِينَ إِلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي

وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعُوا خَارِجَ مَجْلِسِ الْقَاضِي وَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَهُمْ مُتَفَرِّقُونَ وَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ، أَمَّا لَوْ كَانُوا قُعُودًا فِي مَوْضِعِ الشُّهُودِ فَقَامَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ وَشَهِدَ، فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ.

وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ بَعْدَ إِتْيَانِهِمْ مَحَلَّ الْحَاكِمِ جَمِيعًا فَإِنَّهُمْ يُفَرَّقُونَ وُجُوبًا لِيَسْأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَتِهِ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا أَوْ بَعْضُهُمْ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَحُدُّوا.

وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَابِلَةُ إِتْيَانَهُمْ مُجْتَمِعِينَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَأْتُوا مُتَفَرِّقِينَ لِقِصَّةِ الْمُغِيرَةِ، فَإِنَّهُمْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ، وَسُمِعَتْ شَهَادَتُهُمْ، وَإِنَّمَا حُدُّوا لِعَدَمِ كَمَالِهَا.عَلَى أَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُمْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ جَاءَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ أَنْ قَامَ الْحَاكِمُ مِنْ مَجْلِسِهِ فَهُمْ قَذَفَةٌ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَلَا صَحِيحَةٌ، وَعَلَيْهِمُ الْحَدُّ.

وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ هَذَا الشَّرْطَ فَيَسْتَوِي عِنْدَهُمْ أَنْ يَأْتِيَ الشُّهُودُ مُتَفَرِّقِينَ أَوْ مُجْتَمِعِينَ، وَأَنْ تُؤَدَّى الشَّهَادَةُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مَجْلِسٍ، لقوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}.وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَجْلِسَ.وَقَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ}.وَلِأَنَّ كُلَّ شَهَادَةٍ مَقْبُولَةٌ إِنِ اتَّفَقَتْ، تُقْبَلُ إِذَا افْتَرَقَتْ فِي مَجَالِسَ، كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ.

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: تَفْصِيلُ الشَّهَادَةِ:

34- يُشْتَرَطُ فِي شَهَادَةِ الزِّنَى التَّفْصِيلُ، فَيَصِفُ الشُّهُودُ كَيْفِيَّةَ الزِّنَى، فَيَقُولُونَ: رَأَيْنَاهُ مُغَيِّبًا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا، أَوْ غَيَّبَ حَشَفَتَهُ أَوْ قَدْرَهَا- إِنْ كَانَ مَقْطُوعَهَا- فِي فَرْجِهَا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، أَوِ الرِّشَاءِ فِي الْبِئْرِ، لِأَنَّهُ إِذَا اعْتَبَرَ التَّصْرِيحَ فِي الْإِقْرَارِ كَانَ اعْتِبَارُهُ فِي الشَّهَادَةِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَعْتَقِدُ الشَّاهِدُ مَا لَيْسَ بِزِنًى زِنًى، فَاعْتُبِرَ ذِكْرُ صِفَتِهِ.كَمَا يُبَيِّنُ الشُّهُودُ كَيْفِيَّتَهُمَا مِنَ اضْطِجَاعٍ أَوْ جُلُوسٍ أَوْ قِيَامٍ، أَوْ هُوَ فَوْقَهَا أَوْ تَحْتَهَا.

وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا سَأَلَهُمُ الْقَاضِي فَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّهُمَا زَنَيَا، فَإِنَّهُ لَا يَحُدُّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ وَلَا الشُّهُودَ.وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الْمَرْأَةِ، فَلَوْ شَهِدُوا بِأَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُونَهَا لَمْ يُحَدَّ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ، بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ.

كَمَا لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الْبَلَدِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَكَذَا تَعْيِينُ الْمَكَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، كَكَوْنِهَا فِي رُكْنِ الْبَيْتِ الشَّرْقِيِّ أَوِ الْغَرْبِيِّ، أَوْ وَسَطِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الْمَكَانِ فِي الْبَيْتِ الْوَاحِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الشُّهُودُ فِيهِ حُدَّ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ لِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ حَقِيقَةً وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ فِي زَاوِيَةٍ وَالِانْتِهَاءُ فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى بِالِاضْطِرَابِ، أَوْ لِأَنَّ الْوَاقِعَ فِي وَسَطِ الْبَيْتِ فَيَحْسِبُهُ مَنْ فِي الْمُقَدَّمِ فِي الْمُقَدَّمِ، وَمَنْ فِي الْمُؤَخَّرِ فِي الْمُؤَخَّرِ فَيَشْهَدُ بِحَسَبِ مَا عِنْدَهُ، وَهَذَا فِي الْبَيْتِ الصَّغِيرِ، أَمَّا فِي الْبَيْتِ الْكَبِيرِ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّعْيِينِ.

وَلَا بُدَّ أَيْضًا مِنْ تَعْيِينِ الزَّمَانِ عِنْدَ الْجَمِيعِ، لِتَكُونَ الشَّهَادَةُ مِنْهُمْ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَا شَهِدَ بِهِ أَحَدُهُمْ غَيْرَ مَا شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ.فَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَى فَشَهِدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ أَنَّهُ زَنَى بِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا يَوْمَ السَّبْتِ فَإِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.وَكَذَا لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِيمَا لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ، وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي سَاعَةٍ أُخْرَى.

الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَصَالَةُ الشَّهَادَةِ:

35- اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- فِي شُهُودِ الزِّنَى الْأَصَالَةَ، فَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَى؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السِّتْرِ وَالدَّرْءِ بِالشُّبُهَاتِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيهَا شُبْهَةٌ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا اجْتِمَاعُ الْغَلَطِ وَالسَّهْوِ وَالْكَذِبِ فِي شُهُودِ الْفَرْعِ مَعَ احْتِمَالِ ذَلِكَ فِي شُهُودِ الْأَصْلِ، وَهَذَا احْتِمَالٌ زَائِدٌ لَا يُوجَدُ فِي شُهُودِ الْأَصْلِ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ إِنَّمَا تُقْبَلُ لِلْحَاجَةِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهَا فِي الْحَدِّ، لِأَنَّ سِتْرَ صَاحِبِهِ أَوْلَى مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ.

وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا الشَّرْطَ فَتَجُوزُ عِنْدَهُمُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَى بِشَرْطِ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ كُلِّ شَاهِدٍ أَصِيلٍ شَاهِدَانِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْقُلَ الشَّاهِدَانِ عَنْ شَاهِدٍ وَاحِدٍ أَوْ عَنْ شَاهِدَيْنِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الشَّاهِدَيْنِ النَّاقِلَيْنِ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُهُمَا شَاهِدًا أَصِيلًا، فَيَجُوزُ فِي الزِّنَى أَنْ يَشْهَدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ، أَوْ يَشْهَدَ كُلُّ اثْنَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ، أَوْ شَهَادَةِ اثْنَيْنِ، أَوْ يَشْهَدَ ثَلَاثَةٌ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَيَشْهَدَ اثْنَانِ عَلَى شَهَادَةِ الرَّابِعِ، وَإِذَا نَقَلَ اثْنَانِ عَنْ ثَلَاثَةٍ وَعَنِ الرَّابِعِ اثْنَانِ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَشْهُورِ خِلَافًا لِابْنِ الْمَاجِشُونِ؛ وَوَجْهُ عَدَمِ صِحَّتِهَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْفَرْعُ إِلاَّ حَيْثُ تَصِحُّ شَهَادَةُ الْأَصْلِ لَوْ حَضَرَ، وَالرَّابِعُ الَّذِي نَقَلَ عَنْهُ الِاثْنَانِ الْآخَرَانِ لَوْ حَضَرَ مَا صَحَّتْ شَهَادَتُهُ مَعَ الِاثْنَيْنِ النَّاقِلَيْنِ عَنِ الثَّلَاثَةِ لِنَقْصِ الْعَدَدِ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ عَدَمَ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ عَدَدَ الْفَرْعِ فِيهَا نَاقِصٌ عَنْ عَدَدِ الْأَصْلِ حَيْثُ نَقَلَ عَنِ الثَّلَاثَةِ اثْنَانِ فَقَطْ، وَالْفَرْعُ لَا يَنْقُصُ عَنِ الْأَصْلِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ وَنِيَابَتِهِ مَنَابَهُ.كَمَا يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ التَّلْفِيقُ بَيْنَ شُهُودِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، كَأَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ عَلَى رُؤْيَةِ الزِّنَى، وَيَنْقُلَ اثْنَانِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الِاثْنَيْنِ الْآخَرَيْنِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


282-موسوعة الفقه الكويتية (زيادة)

زِيَادَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الزِّيَادَةُ فِي اللُّغَةِ النُّمُوُّ، تَقُولُ: زَادَ الشَّيْءُ يَزِيدُ زَيْدًا وَزِيَادَةً، وَزَائِدَةُ الْكَبِدِ هُنَيَّةٌ مِنَ الْكَبِدِ صَغِيرَةٌ إِلَى جَنْبِهَا مُتَنَحِّيَةٌ عَنْهَا، وَجَمْعُهَا زَوَائِدُ.

وَزَوَائِدُ الْأَسَدِ: أَظْفَارُهُ وَأَنْيَابُهُ، وَزَئِيرُهُ وَصَوْلَتُهُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الرِّيعُ:

2- الرِّيعُ هُوَ الزِّيَادَةُ وَالنَّمَاءُ، وَالرِّيعُ فِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ الْغَلَّةُ كَالْأُجْرَةِ وَالثَّمَرِ وَالدَّخْلِ.

ب- غَلَّةٌ:

3- الْغَلَّةُ هِيَ كُلُّ شَيْءٍ مُحَصَّلٌ مِنْ رِيعِ الْأَرْضِ أَوْ أُجْرَتِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْجَمْعُ غَلاَّتٌ وَغِلَالٌ، وَالْغَلَّةُ أَخَصُّ مِنَ الزِّيَادَةِ.

ج- نَقْصٌ:

4- النَّقْصُ وَالنُّقْصَانُ مَصْدَرَا (نَقَصَ) يُقَالُ: نَقَصَ يَنْقُصُ نَقْصًا مِنْ بَابِ قَتَلَ، وَانْتَقَصَ إِذَا ذَهَبَ مِنْهُ شَيْءٌ بَعْدَ تَمَامِهِ، وَدِرْهَمٌ نَاقِصٌ غَيْرُ تَامِّ الْوَزْنِ.

أَقْسَامُ الزِّيَادَةِ:

أ- أَقْسَامُهَا مِنْ حَيْثُ الِاتِّصَالُ وَالِانْفِصَالُ:

5- تَنْقَسِمُ الزِّيَادَةُ مِنْ حَيْثُ الِاتِّصَالُ وَالِانْفِصَالُ إِلَى قِسْمَيْنِ:

1- زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ بِالْأَصْلِ، وَهِيَ إِمَّا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْهُ كَالسِّمَنِ وَالْجَمَالِ، أَوْ غَيْرُ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْهُ كَالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ.

2- زِيَادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ عَنِ الْأَصْلِ كَالْوَلَدِ وَالْغَلَّةِ.وَهِيَ إِمَّا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْهُ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ، أَوْ غَيْرُ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْهُ كَالْكَسْبِ وَالْغَلَّةِ.

ب- أَقْسَامُهَا مِنْ حَيْثُ التَّمْيِيزُ وَعَدَمُهُ:

6- تَنْقَسِمُ الزِّيَادَةُ مِنْ حَيْثُ التَّمْيِيزُ وَعَدَمُهُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

زِيَادَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ كَالْوَلَدِ وَالْغِرَاسِ.

وَزِيَادَةٌ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ كَخَلْطِ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ، أَوِ السَّمْنِ بِالسَّمْنِ.

وَزِيَادَةُ صِفَةٍ كَالطَّحْنِ.

ج- أَقْسَامُهَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ:

7- 1- زِيَادَةٌ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ كَزِيَادَةِ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ فِي الصَّلَاةِ وَتُسَمَّى أَيْضًا زِيَادَةً فِعْلِيَّةً، وَكَزِيَادَةِ سُورَةٍ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ أَيْ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَتُسَمَّى زِيَادَةً قَوْلِيَّةً.

2- زِيَادَةٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَصْلِ كَالْكَلَامِ الْأَجْنَبِيِّ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِيهَا.

الْقَوَاعِدُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالزِّيَادَةِ:

ذَكَرَ الزَّرْكَشِيُّ ثَلَاثَ قَوَاعِدَ تَتَعَلَّقُ بِالزِّيَادَةِ:

الْقَاعِدَةُ الْأُولَى:

8- الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ تَتْبَعُ الْأَصْلَ فِي سَائِرِ الْأَبْوَابِ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالتَّفْلِيسِ وَغَيْرِهِمَا، إِلاَّ فِي الصَّدَاقِ فَإِنَّ الزَّوْجَ إِذَا طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَسْتَرْجِعُ مَعَ نِصْفِ الْمَهْرِ زِيَادَتَهُ إِلاَّ بِرِضَا الْمَرْأَةِ.وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ لَا تَتْبَعُ الْأَصْلَ فِي الْكُلِّ.

الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ:

9- الزِّيَادَةُ الْيَسِيرَةُ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ لَا أَثَرَ لَهَا وَإِنْ كَانَ فِيهَا غَبْنٌ مَا، كَمَا فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَعَدْلِ الرَّهْنِ وَنَحْوِهِ إِلاَّ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مَا كَانَ شَرْعِيًّا عَامًّا، كَمَا فِي الْمُتَيَمِّمِ إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ يُبَاعُ بِزِيَادَةٍ يَسِيرَةٍ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ لَا تَلْزَمُهُ فِي الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَتْ مِمَّا يَتَغَابَنُ بِمِثْلِهَا وَجَبَ، وَالْمَذْهَبُ- أَيْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- الْأَوَّلُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَنَّ مَا وَضَعَهُ الشَّارِعُ وَهُوَ حَقٌّ لَهُ بُنِيَ عَلَى الْمُسَامَحَةِ.

أَمَّا وُجْدَانُ الْوَاجِبِ بِأَكْثَرَ مِنَ الْمُعْتَادِ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْعُدْمِ، كَمَا لَوْ وَجَدَ الْغَاصِبُ الْمِثْلَ يُبَاعُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ لَا يُكَلَّفُ تَحْصِيلَهُ فِي الْأَصَحِّ.

الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ:

10- الزِّيَادَةُ عَلَى الْعَدَدِ إِذَا لَمْ تَكُنْ شَرْطًا فِي الْوُجُوبِ شَرْعًا لَا يَتَأَثَّرُ بِفَقْدِهَا، وَلِهَذَا لَوْ شَهِدَ ثَمَانِيَةٌ عَلَى شَخْصٍ بِالزِّنَى، فَرُجِمَ ثُمَّ رَجَعَ أَرْبَعَةٌ عَنِ الشَّهَادَةِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ، فَلَوْ رَجَعَ مِنْهُمْ خَمْسَةٌ ضَمِنُوا؛ لِنُقْصَانِ مَا بَقِيَ مِنَ الْعَدَدِ الْمَشْرُوطِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالزِّيَادَةِ:

الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثِ فِي الْوُضُوءِ:

11- مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ التَّثْلِيثُ أَيْ غُسْلُ الْأَعْضَاءِ الَّتِي فَرَضَهَا الْغُسْلُ ثَلَاثًا، وَفِي تَثْلِيثِ مَسْحِ الرَّأْسِ، وَفِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ فِي غُسْلِ الرِّجْلَيْنِ بِقَصْدِ الْإِنْقَاءِ خِلَافٌ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثِ فِي غُسْلِ الْأَعْضَاءِ فَلَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَ الْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ لَا الْوَسْوَسَةَ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَرَاهَةُ الْغَسْلَةِ الرَّابِعَةِ فِي غَيْرِ الرِّجْلَيْنِ، وَأَمَّا فِي الرِّجْلَيْنِ فَالْمَطْلُوبُ فِيهِمَا الْإِنْقَاءُ حَتَّى لَوْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ أَوِ الِاقْتِصَارُ عَلَى الثَّلَاثِ عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ.وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَرَاهَةُ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ، وَقِيلَ: تَحْرُمُ، وَقِيلَ: هِيَ خِلَافُ الْأَوْلَى.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى الْكَرَاهَةِ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْأَلُهُ عَنِ الْوُضُوءِ، فَأَرَاهُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَقَالَ: هَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ».

الزِّيَادَةُ فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ:

12- الزِّيَادَةُ الْمَشْرُوعَةُ فِي الْأَذَانِ هِيَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّثْوِيبِ فِي أَذَانِ الْفَجْرِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّثْوِيبِ هُوَ أَنْ يَزِيدَ الْمُؤَذِّنُ عِبَارَةَ «الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ» مَرَّتَيْنِ بَعْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ فِي أَذَانِ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَ أَذَانِهِ كَمَا يَقُولُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: مِنَ السُّنَّةِ إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ فِي أَذَانِ الْفَجْرِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ قَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ.

وَأَصْلُ التَّثْوِيبِ «أَنَّ بِلَالًا- رضي الله عنه- أَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يُؤْذِنُهُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ فَقِيلَ: هُوَ نَائِمٌ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ»، فَأُقِرَّتْ فِي تَأْذِينِ الْفَجْرِ، فَثَبَتَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ.

وَخُصَّ التَّثْوِيبُ بِالصُّبْحِ لِمَا يَعْرِضُ لِلنَّائِمِ مِنَ التَّكَاسُلِ بِسَبَبِ النَّوْمِ، وَاعْتِبَارُ التَّثْوِيبِ زِيَادَةً إِنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى أَذَانِ بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ، وَلَا يَجُوزُ زِيَادَةُ شَيْءٍ فِي أَلْفَاظِ الْأَذَانِ؛ لِأَنَّهَا تَوْقِيفِيَّةٌ بِنَصِّ الشَّارِعِ، وَقَدْ تَوَاتَرَ النَّقْلُ عَلَى عَدَمِ زِيَادَةِ شَيْءٍ فِيهَا، وَالْإِقَامَةُ كَالْأَذَانِ، إِلاَّ أَنَّهُ يَزِيدُ بَعْدَ قَوْلِهِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ مَرَّتَيْنِ.

الزِّيَادَةُ فِي الْأَذْكَارِ الْمَسْنُونَةِ:

13- سَبَقَ فِي بَحْثِ (ذِكْرٍ) حُكْمُ الزِّيَادَةِ فِي الْأَذْكَارِ الْمَسْنُونَةِ فَيُنْظَرُ هُنَاكَ.

الزِّيَادَةُ عَلَى الضَّرْبَتَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ:

14- التَّيَمُّمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، وَالْأَكْمَلُ عِنْدَهُمْ ضَرْبَتَانِ كَالْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى الضَّرْبَتَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِهَا مَا دَامَ الْقَصْدُ اسْتِيعَابَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِالْمَسْحِ، سَوَاءٌ أَحَصَلَ ذَلِكَ بِضَرْبَتَيْنِ أَمْ أَكْثَرَ، وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَيَمُّمٍ).

الزِّيَادَةُ فِي الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ فِي الصَّلَاةِ:

15- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الصَّلَاةِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ زِيَادَةَ أَفْعَالٍ، أَوْ أَقْوَالٍ.

فَزِيَادَةُ الْأَفْعَالِ قِسْمَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ، فَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِعَمْدِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ سَهْوًا فَلَا بُطْلَانَ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ.

وَالْآخَرُ: إِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الصَّلَاةِ، فَيُبْطِلُ الصَّلَاةَ عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ وَجَهْلُهُ، إِنْ كَانَ كَثِيرًا وَلَمْ تَكُنْ ضَرُورَةٌ.

أَمَّا إِنْ كَانَ لِحَاجَةٍ، أَوْ كَانَ يَسِيرًا، فَلَا يَبْطُلُ.

وَالزِّيَادَةُ الْقَوْلِيَّةُ قِسْمَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا يُبْطِلُ عَمْدُهُ الصَّلَاةَ، كَكَلَامِ الْآدَمِيِّينَ.

وَالْآخَرُ، مَا لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ كَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، إِلاَّ أَنْ يُخَاطِبَ بِهِ كَقَوْلِهِ لِعَاطِسٍ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ.

وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الصَّلَاةَ تَبْطُلُ بِتَعَمُّدِ النُّطْقِ بِحَرْفَيْنِ، أَفْهَمَا أَمْ لَمْ يُفْهِمَا، وَبِحَرْفٍ مُفْهِمٍ كَذَلِكَ.وَقَالُوا: يُعْذَرُ مَنْ تَكَلَّمَ بِيَسِيرِ الْكَلَامِ إِنْ سَبَقَ لِسَانُهُ أَوْ نَسِيَ الصَّلَاةَ، أَوْ جَهِلَ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ فِيهَا، وَقَرُبَ عَهْدُهُ بِالْإِسْلَامِ، وَلَا يُعْذَرُ بِالْكَثِيرِ مِنْ ذَلِكَ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُفْسِدَاتِ الصَّلَاةِ، وَسُجُودِ السَّهْوِ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْفِعْلِ، أَنَّ الْكَثِيرَ مِنْهُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ.

وَفِي حَدِّهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، الْمُخْتَارُ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُصَلِّي بِحَالٍ لَوْ رَآهُ إِنْسَانٌ مِنْ بَعِيدٍ، فَتَيَقَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ فَهُوَ كَثِيرٌ، إِنْ كَانَ يَشُكُّ أَنَّهُ فِيهَا أَوْ لَمْ يَشُكَّ أَنَّهُ فِيهَا، فَهُوَ قَلِيلٌ.

وَأَمَّا الْقَوْلُ أَوِ الْكَلَامُ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ عَامِدًا أَوْ سَاهِيًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، لِحَدِيثِ: «إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ».

وَمِنْهُ أَيْضًا: الْأَنِينُ وَالتَّأَوُّهُ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَكُلُّ مَا هُوَ مِنَ الْقُرْآنِ إِذَا قَصَدَ بِهِ الْجَوَابَ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْجَوَابَ بَلِ الْإِعْلَامَ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ، فَلَا تَفْسُدُ بِالِاتِّفَاقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

فَلَوْ كَانَ الذِّكْرُ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ، كَمَا لَوْ ذَكَرَ الشَّهَادَتَيْنِ عِنْدَ ذِكْرِ الْمُؤَذِّنِ لَهُمَا، أَوْ سَمِعَ ذِكْرَ اللَّهِ، فَقَالَ: جَلَّ جَلَالُهُ، أَوْ ذِكْرَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّى عَلَيْهِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ.

الزِّيَادَةُ عَلَى التَّكْبِيرَاتِ الْأَرْبَعِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَأَثَرُهَا:

16- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ لَا يَجُوزُ النَّقْصُ مِنْهَا، وَالْأَوْلَى عَدَمُ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمُقَابِلُهُ الْبُطْلَانُ لِزِيَادَةِ رُكْنٍ، فَإِنْ زَادَ الْإِمَامُ عَلَيْهَا تَكْبِيرَةً خَامِسَةً، فَفِي مُتَابَعَةِ الْمَأْمُومِ لَهُ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ أَوْ عَدَمِ مُتَابَعَتِهِ لَهُ فِيهَا خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

فَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ سِوَى زُفَرَ أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُتَابِعْهُ الْمُؤْتَمُّ فِي تِلْكَ التَّكْبِيرَةِ، لِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- «كَبَّرَ أَرْبَعًا فِي آخِرِ صَلَاةِ جِنَازَةٍ صَلاَّهَا».وَقَالَ زُفَرُ: يُتَابِعُهُ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- كَبَّرَ خَمْسًا.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُسَلِّمُ الْمَأْمُومُ وَلَا يَنْتَظِرُ إِمَامَهُ فِي التَّكْبِيرَةِ الْخَامِسَةِ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَيُفَارِقُ الْمَأْمُومُ إِمَامَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي التَّكْبِيرَةِ الْخَامِسَةِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِهَا، وَعَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْبُطْلَانِ لَا يُفَارِقُهُ، وَلَكِنْ لَا يُتَابِعُهُ فِيهَا عَلَى الْأَظْهَرِ، وَفِي تَسْلِيمِهِ فِي الْحَالِ أَوِ انْتِظَارِهِ حَتَّى يُسَلِّمَ إِمَامُهُ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الثَّانِي.

وَالْأَوْلَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَلَا خِلَافَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى سَبْعِ تَكْبِيرَاتٍ، وَلَا يَجُوزُ النَّقْصُ عَنْ أَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ، وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عِنْدَهُمْ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ إِلَى السَّبْعِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا كَبَّرَ خَمْسًا تَابَعَهُ الْمَأْمُومُ، وَلَا يُتَابِعُهُ فِي زِيَادَةٍ عَلَيْهَا رَوَاهُ الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ «زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنَّهُ كَبَّرَ عَلَى جِنَازَةٍ خَمْسًا وَقَالَ: كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يُكَبِّرُهَا».

وَرَوَى حَرْبٌ عَنْ أَحْمَدَ إِذَا كَبَّرَ خَمْسًا لَا يُكَبِّرُ مَعَهُ، وَلَا يُسَلِّمُ إِلاَّ مَعَ الْإِمَامِ، لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ غَيْرُ مَسْنُونَةٍ لِلْإِمَامِ فَلَا يُتَابِعُهُ الْمَأْمُومُ فِيهَا، كَالْقُنُوتِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى.

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْمَأْمُومَ يُكَبِّرُ مَعَ الْإِمَامِ إِلَى سَبْعٍ، قَالَ الْخَلاَّلُ: ثَبَتَ الْقَوْلُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ يُكَبِّرُ مَعَ الْإِمَامِ إِلَى سَبْعٍ ثُمَّ لَا يُزَادُ عَلَى سَبْعٍ، وَلَا يُسَلِّمُ إِلاَّ مَعَ الْإِمَامِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ.

الزِّيَادَةُ فِي الزَّكَاةِ عَلَى الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ إِخْرَاجُهُ:

17- الْأَصْلُ أَنْ يُخْرِجَ الْمُزَكِّي الْقَدْرَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ لِإِبْرَاءِ ذِمَّتِهِ، فَإِنْ زَادَ فَذَلِكَ خَيْرٌ، لقوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} وَالزِّيَادَةُ قَدْ تَكُونُ فِي الْمِقْدَارِ أَوْ فِي الصِّفَةِ.فَمِنْ أَمْثِلَةِ الزِّيَادَةِ فِي صِفَةِ الْوَاجِبِ إِخْرَاجُ بِنْتِ اللَّبُونِ عَنْ بِنْتِ الْمَخَاضِ، فَإِنَّ بِنْتَ اللَّبُونِ تَخْرُجُ عَنْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ مِنَ الْإِبِلِ وَبِنْتَ الْمَخَاضِ تَخْرُجُ عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَالْحِقَّةُ عَنْ بِنْتِ اللَّبُونِ فَإِنَّ الْحِقَّةَ تَخْرُجُ عَنْ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ، وَإِخْرَاجُ الْجَذَعَةِ عَنِ الْحِقَّةِ فَإِنَّ الْجَذَعَةَ تَجِبُ فِي إِحْدَى وَسِتِّينَ.وَمِنْ أَمْثِلَةِ الزِّيَادَةِ فِي الْمِقْدَارِ إِخْرَاجُ أَكْثَرَ مِنْ صَاعٍ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا صَاعٌ عَنْ كُلِّ فَرْدٍ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (زَكَاةٍ).

زِيَادَةُ الْوَكِيلِ عَمَّا حَدَّدَهُ لَهُ الْمُوَكِّلُ:

18- الْوَكِيلُ لَا يَمْلِكُ مِنَ التَّصَرُّفِ إِلاَّ مَا يَقْتَضِيهِ إِذْنُ مُوَكِّلِهِ مِنْ جِهَةِ النُّطْقِ أَوْ جِهَةِ الْعُرْفِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ بِالْإِذْنِ فَاخْتَصَّ بِمَا أَذِنَ فِيهِ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْغِبْطَةِ، فَلَوْ وَكَّلَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي زَمَنٍ مُقَيَّدٍ لَمْ يَمْلِكِ التَّصَرُّفَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ إِذْنُهُ مُطْلَقًا، وَلَا عُرْفًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُؤَثِّرُ التَّصَرُّفُ فِي زَمَنِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَكَالَةِ.

زِيَادَةُ الْمَبِيعِ وَأَثَرُهَا فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ:

19- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ زِيَادَةَ الْمَبِيعِ الْمُتَّصِلَةَ الْمُتَوَلِّدَةَ كَسِمَنٍ وَجَمَالٍ لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَكَذَا بَعْدَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ قَبُولُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَهُ ذَلِكَ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ كَغَرْسٍ وَبِنَاءٍ فَتَمْنَعُ الرَّدَّ مُطْلَقًا.وَأَمَّا زِيَادَةُ الْمَبِيعِ الْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ وَالْأَرْشِ فَلَا تَمْنَعُ الرَّدَّ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَإِنْ شَاءَ رَدَّهُمَا أَوْ رَضِيَ بِهِمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَبَعْدَ الْقَبْضِ يُمْتَنَعُ الرَّدُّ وَيَرْجِعُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّدَةِ كَكَسْبٍ، وَغَلَّةٍ، وَهِبَةٍ، فَقَبْلَ الْقَبْضِ لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ، فَإِذَا رَدَّ فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي بِلَا ثَمَنٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَلَا تَطِيبُ لَهُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِلْبَائِعِ وَلَا تَطِيبُ لَهُ، وَبَعْدَ الْقَبْضِ لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ أَيْضًا، وَتَطِيبُ لَهُ الزِّيَادَةُ.

وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ فِي حَالَةِ رَدِّهِ الْمَبِيعَ بِعَيْبٍ قَدِيمٍ لِبَائِعِهِ، يَشْتَرِكُ مَعَ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ بِمِثْلِ نِسْبَةِ مَا زَادَ مِنْ قِيمَتِهِ، بِصَبْغِهِ أَوْ خِيَاطَتِهِ عَلَى قِيمَتِهِ خَالِيًا عَنْ ذَلِكَ مَعِيبًا، فَإِنْ قُوِّمَ مَصْبُوغًا بِخَمْسَةَ عَشَرَ وَغَيْرَ مَصْبُوغٍ بِعَشَرَةٍ شَارَكَهُ بِثُلُثِهِ، دَلَّسَ بَائِعُهُ أَمْ لَا، أَوْ يَتَمَسَّكُ بِالْمَبِيعِ وَيَأْخُذُ أَرْشَ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ، وَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْبَيْعِ عَلَى الْأَرْجَحِ.

هَذَا فِي الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ، وَذَكَرُوا فِي الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَشْتَرِكُ مَعَ الْبَائِعِ فِيهَا عِنْدَ الرَّدِّ.

وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ فِي الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ تَتْبَعُ الْأَصْلَ فِي الرَّدِّ،

وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ فِي نَمَاءِ الْمَبِيعِ الْمُتَّصِلِ كَالسِّمَنِ وَكِبَرِ الشَّجَرَةِ لِعَدَمِ إِمْكَانِ إِفْرَادِ الزِّيَادَةِ، وَلِتَعَذُّرِ الرَّدِّ بِدُونِهَا، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ تَجَدَّدَ بِالْفَسْخِ فَكَانَتِ الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ فِيهِ تَابِعَةً لِلْأَصْلِ كَالْعَقْدِ.

وَأَمَّا الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ فِي الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ عَيْنًا كَالْوَلَدِ، أَوْ مَنْفَعَةً كَالْأُجْرَةِ، فَهِيَ مِنَ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، وَمِنَ الثَّمَنِ لِلْبَائِعِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ فِي نَمَاءِ الْمَبِيعِ الْمُنْفَصِلِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- : «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ».وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ فِي الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِالْعَيْبِ عَمَلًا بِمُقْتَضَى الْعَيْبِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي خِيَارِ الْعَيْبِ.

الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّمَنِ وَأَثَرُهَا:

20- تَتَّضِحُ آثَارُ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّمَنِ أَوِ النَّقْصِ مِنْهُ فِي الْإِقَالَةِ.يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (إِقَالَةٍ) ف 5 327

زِيَادَةُ الْمَشْفُوعِ فِيهِ هَلْ تَكُونُ لِلْمُشْتَرِي أَوْ لِلشَّفِيعِ؟:

21- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زِيَادَةِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ هَلْ تَكُونُ لِلْمُشْتَرِي أَوْ لِلشَّفِيعِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْمَبِيعِ الَّتِي حَدَثَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي قِبَلَ الْآخِذِ مِنْهُ بِالشُّفْعَةِ، إِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ كَالشَّجَرِ إِذَا كَبُرَ فَهِيَ لِلشَّفِيعِ، لِعَدَمِ تَمَيُّزِهَا فَتَبِعَتِ الْأَصْلَ، كَمَا لَوْ رَدَّ بِعَيْبٍ أَوْ خِيَارٍ أَوْ إِقَالَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً مُتَمَيِّزَةً كَالْغَلَّةِ وَالْأُجْرَةِ وَالطَّلْعِ الْمُؤَبَّرِ وَالثَّمَرَةِ الظَّاهِرَةِ، فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي لَا حَقَّ لِلشَّفِيعِ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا حَدَثَتْ فِي مِلْكِهِ، وَتَكُونُ لِلْمُشْتَرِي مُبْقَاةً فِي رُءُوسِ النَّخْلِ إِلَى الْجُذَاذِ.

وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي الزِّيَادَةِ الْمُتَمَيِّزَةِ غَيْرِ الظَّاهِرَةِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا- وَهُوَ الْقَدِيمُ- : تَتْبَعُ الْأَصْلَ كَمَا فِي الْبَيْعِ.

وَالثَّانِي- وَهُوَ الْجَدِيدُ- : لَا تَتْبَعُ الْأَصْلَ لِأَنَّهُ اسْتِحْقَاقٌ بِغَيْرِ تَرَاضٍ فَلَا يُؤْخَذُ بِهِ إِلاَّ مَا دَخَلَ بِالْعَقْدِ وَيُخَالِفُ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّهُ اسْتِحْقَاقٌ عَنْ تَرَاضٍ يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَثْنِ تَبِعَ الْأَصْلَ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْمَشْفُوعِ فِيهِ كَالثَّمَرِ الَّذِي عَلَى النَّخْلِ لِلشَّفِيعِ إِذَا شَرَطَهُ فِي الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ بِدُونِ الشَّرْطِ، فَإِذَا شَرَطَهُ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ وَاسْتُحِقَّ بِالشُّفْعَةِ، لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ الِاتِّصَالِ صَارَ كَالنَّخْلِ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا شُفْعَةَ فِيهِ لِعَدَمِ التَّبَعِيَّةِ، حَتَّى لَا يَدْخُلَ فِي الْبَيْعِ بِدُونِ الشَّرْطِ، وَإِذَا دَخَلَ فِي الشُّفْعَةِ فَإِذَا جَذَّهُ الْمُشْتَرِي نَقَصَ حِصَّتُهُ مِنَ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْصُودًا بِالذِّكْرِ، فَقَابَلَهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الثَّمَرَةَ لِأَنَّهَا نَفْلِيَّةٌ أَيْ زِيَادَةٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى النَّخْلِ ثَمَرٌ وَقْتَ الْبَيْعِ فَأَثْمَرَ فَلِلشَّفِيعِ أَخْذُهُ بِالثَّمَرَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ سَرَى إِلَيْهَا فَكَانَتْ تَبَعًا، فَإِذَا جَذَّهَا الْمُشْتَرِي فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ النَّخْلَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، لِأَنَّ الثَّمَرَةَ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً وَقْتَ الْعَقْدِ، فَلَمْ تَكُنْ مَقْصُودَةً فَلَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ لِلْمُشْتَرِي الْمَأْخُوذِ مِنْهُ بِالشُّفْعَةِ غَلَّتَهُ، أَيْ غَلَّةَ الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ الَّتِي اسْتَغَلَّهَا قَبْلَ أَخْذِهِ مِنْهُ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ ضَامِنًا لَهُ، وَفِي الْحَدِيثِ «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ».

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (شُفْعَةٍ).

زِيَادَةُ الْمَرْهُونِ:

22- نَصَّ الْكَاسَانِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْمَرْهُونِ إِنْ لَمْ تَكُنْ مُتَوَلِّدَةً مِنَ الْأَصْلِ وَلَا فِي حُكْمِ الْمُتَوَلَّدِ مِنْهُ كَالْكَسْبِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، فَإِنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ لَا يَثْبُتُ فِيهَا حُكْمُ الرَّهْنِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَرْهُونَةً بِنَفْسِهَا، وَلَا هِيَ بَدَلُ الْمَرْهُونِ، وَلَا جُزْءٌ مِنْهُ، وَلَا بَدَلُ جُزْءٍ مِنْهُ.

وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ مُتَوَلِّدَةً مِنَ الْأَصْلِ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ وَاللَّبَنِ وَالصُّوفِ، أَوْ فِي حُكْمِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْهُ كَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ فَهِيَ مَرْهُونَةٌ تَبَعًا لِلْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ حَقٌّ لَازِمٌ فَيَسْرِي إِلَى التَّبَعِ.

وَزِيَادَةُ الْمَرْهُونِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهِيَ الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِالْغَلَّةِ، كَاللَّبَنِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ، وَعَسَلُ النَّحْلِ، لَا تَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ إِذَا لَمْ يَشْتَرِطِ الْمُرْتَهِنُ دُخُولَهَا، بِخِلَافِ الْجَنِينِ فِي بَطْنِ الْأُمِّ، فَإِنَّهُ يَنْدَرِجُ فِي الرَّهْنِ، سَوَاءٌ أَحَمَلَتْ بِهِ قَبْلَ الرَّهْنِ أَمْ بَعْدَهُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْمَرْهُونِ إِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً كَسِمَنِ الدَّابَّةِ وَكِبَرِ الشَّجَرَةِ تَبِعَتِ الْأَصْلَ فِي الرَّهْنِ، وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ لَمْ تُتْبَعْ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ نَمَاءَ الرَّهْنِ جَمِيعَهُ وَغَلاَّتِهِ تَكُونُ رَهْنًا فِي يَدِ مَنِ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ كَالْأَصْلِ، وَإِذَا احْتِيجَ إِلَى بَيْعِهِ فِي وَفَاءِ الدَّيْنِ بِيعَ مَعَ الْأَصْلِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُتَّصِلُ كَالسِّمَنِ وَالتَّعَلُّمِ، وَالْمُنْفَصِلُ كَالْكَسْبِ وَالْأُجْرَةِ وَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ وَالصُّوفِ وَالشَّعْرِ.لِأَنَّهُ حُكْمٌ يَثْبُتُ فِي الْعَيْنِ بِعَقْدِ الْمَالِكِ فَيَدْخُلُ فِيهِ النَّمَاءُ وَالْمَنَافِعُ كَالْمِلْكِ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رَهْنٍ).

زِيَادَةُ الْمَوْهُوبِ وَأَثَرُهَا فِي الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ:

23- الزِّيَادَةُ فِي الْمَوْهُوبِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُنْفَصِلَةً.فَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً كَالثَّمَرَةِ وَالْوَلَدِ فَإِنَّهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي الرُّجُوعِ فِيهَا اتِّفَاقًا.

وَإِنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةً مَنَعَتْ مِنَ الرُّجُوعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ فِيهَا دُونَ تِلْكَ الزِّيَادَةِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الرُّجُوعِ بِالْهِبَةِ مَعَ تِلْكَ الزِّيَادَةِ لِعَدَمِ وُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا تَمْنَعُ مِنَ الرُّجُوعِ وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ لِعَدَمِ تَمْيِيزِهَا فَتَتْبَعُ الْأَصْلَ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (هِبَةٍ).

زِيَادَةُ الصَّدَاقِ وَحُكْمُهَا فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ:

24- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، إِلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ تَشَطَّرَ الصَّدَاقُ سَوَاءٌ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ أَوْ حَدَثَتْ فِيهِ زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ أَوْ مُنْفَصِلَةٌ، أَيْ أَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ تَأْخُذُ حُكْمَ الْأَصْلِ، فَيَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ مَا دَفَعَهُ لَهَا بِزِيَادَتِهِ الْمُتَّصِلَةِ أَوِ الْمُنْفَصِلَةِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنَ الْعَيْنِ، وَالْحَادِثُ مِنْهَا بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْمَوْجُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ زِيَادَةَ الصَّدَاقِ الْمُنْفَصِلَةَ تَكُونُ لِلْمَرْأَةِ، وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ بِنِصْفِ الْأَصْلِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ نَمَاءُ مِلْكِهَا، وَالرُّجُوعُ بِنِصْفِ الْأَصْلِ لَا يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا.

وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً، فَإِنَّ الزَّوْجَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَسْتَقِلُّ بِالرُّجُوعِ إِلَى النِّصْفِ ذَاتِهِ، بَلْ يُخَيِّرُ الزَّوْجَةَ بَيْنَ رَدِّ نِصْفِهِ زَائِدًا، وَبَيْنَ إِعْطَاءِ نِصْفِ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْعَقْدِ.

وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (صَدَاقٍ).

زِيَادَةُ التَّرِكَةِ الْحَاصِلَةُ بَعْدَ الْوَفَاةِ قَبْلَ أَدَاءِ الدَّيْنِ:

25- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي زِيَادَةِ التَّرِكَةِ وَنَمَائِهَا الَّذِي حَدَثَ بَعْدَ وَفَاةِ الْمَدِينِ وَقَبْلَ أَدَاءِ الدَّيْنِ، كَأُجْرَةِ دَارٍ لِلسُّكْنَى، وَكَدَابَّةٍ وَلَدَتْ أَوْ سَمِنَتْ، وَكَشَجَرٍ صَارَ لَهُ ثَمَرٌ، هَلْ يُضَمُّ إِلَى التَّرِكَةِ لِمَصْلَحَةِ الدَّائِنِينَ أَوْ هُوَ مِلْكٌ لِلْوَارِثِ.

وَهَذَا الْخِلَافُ مُتَرَتِّبٌ عَلَى خِلَافٍ سَابِقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي انْتِقَالِ تَرِكَةِ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ إِلَى وَارِثِهِ، وَحَاصِلُ مَا قَالُوهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ التَّرِكَةَ تَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ إِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا دُيُونٌ مِنْ حِينِ وَفَاةِ الْمَيِّتِ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِالتَّرِكَةِ دَيْنٌ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي انْتِقَالِهَا إِلَى الْوَارِثِ بَعْدَ الْوَفَاةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ، أَنَّ أَمْوَالَ التَّرِكَةِ تَنْتَقِلُ إِلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ بِمُجَرَّدِ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ مَعَ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ مُسْتَغْرِقًا لِلتَّرِكَةِ أَمْ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ لَهَا.

وَالثَّانِي: وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُمَيِّزُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ مُسْتَغْرِقَةً بِالدَّيْنِ أَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُسْتَغْرِقَةٍ بِهِ، فَإِنِ اسْتَغْرَقَ الدَّيْنُ أَمْوَالَ التَّرِكَةِ تَبْقَى أَمْوَالُ التَّرِكَةِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ وَلَا تَنْتَقِلُ إِلَى مِلْكِ الْوَرَثَةِ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ فَالرَّأْيُ الرَّاجِحُ أَنَّ أَمْوَالَ التَّرِكَةِ تَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ بِمُجَرَّدِ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ، مَعَ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِهَذِهِ الْأَمْوَالِ.

وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ أَمْوَالَ التَّرِكَةِ تَبْقَى عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى أَنْ يُسَدَّدَ الدَّيْنُ سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ مُسْتَغْرِقًا لَهَا أَمْ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ.

وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ التَّرِكَةَ تَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ بَعْدَ الْوَفَاةِ وَقَبْلَ أَدَاءِ الدَّيْنِ قَالَ: إِنَّ الزِّيَادَةَ لِلْوَارِثِ وَلَيْسَتْ لِلدَّائِنِ، وَمَنْ قَالَ بِعَدَمِ انْتِقَالِهَا قَالَ: تُضَمُّ الزِّيَادَةُ إِلَى التَّرِكَةِ لِوَفَاءِ الدَّيْنِ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ انْتَقَلَ إِلَى الْوَرَثَةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَرِكَةٍ).

زِيَادَةُ التَّعْزِيرِ عَنْ أَدْنَى الْحُدُودِ:

26- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّعْزِيرَ لَا يَبْلُغُ الْحَدَّ.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الْحَدِّ مَعَ مُرَاعَاةِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي لَا يَشُوبُهَا الْهَوَى.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ بِالْجَلْدِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُنْقِصَ عَنْ أَقَلِّ حُدُودِ مَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ، وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي قَدْرِ جَلْدِ التَّعْزِيرِ، فَرُوِيَ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ بِهِ الْحَدَّ، وَنَصُّ مَذْهَبِهِ أَنْ لَا يُزَادَ عَلَى عَشْرِ جَلَدَاتٍ فِي التَّعْزِيرِ،

انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (تَعْزِيرٍ).

الزِّيَادَةُ عَلَى الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ الرَّاتِبَةِ (النَّفَلُ الْمُطْلَقُ) :

27- قَسَّمَ الْمَاوَرْدِيُّ الزِّيَادَةَ عَلَى فِعْلِ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ الرَّاتِبَةِ وَهُوَ مَا يُسَمَّى النَّفَلُ الْمُطْلَقُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ رِيَاءً لِلنَّاظِرِينَ وَتَصَنُّعًا لِلْمَخْلُوقِينَ، حَتَّى يَسْتَعْطِفَ بِهَا الْقُلُوبَ النَّافِرَةَ وَيَخْدُمَ بِهَا الْعُقُولَ الْوَاهِيَةَ، فَيَتَبَهْرَجَ بِالصُّلَحَاءِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَيَتَدَلَّسَ فِي الْأَخْيَارِ وَهُوَ ضِدُّهُمْ، وَقَدْ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِلْمُرَائِي بِعَمَلِهِ مَثَلًا فَقَالَ: «الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ».

يُرِيدُ بِالْمُتَشَبِّعِ بِمَا لَا يَمْلِكُ: الْمُتَزَيِّنُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ: هُوَ الَّذِي يَلْبَسُ ثِيَابَ الصُّلَحَاءِ، فَهُوَ بِرِيَائِهِ مَحْرُومُ الْأَجْرِ، مَذْمُومُ الذِّكْرِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَفْعَلَ الزِّيَادَةَ اقْتِدَاءً بِغَيْرِهِ، وَهَذَا قَدْ تُثْمِرُهُ مُجَالَسَةُ الْأَخْيَارِ الْأَفَاضِلِ، وَتُحْدِثُهُ مُكَاثَرَةُ الْأَتْقِيَاءِ الْأَمَاثِلِ.وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- : «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ».

فَإِذَا كَاثَرَهُمُ الْمَجَالِسَ وَطَاوَلَهُمُ الْمُؤَانِسَ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ فِي أَفْعَالِهِمْ، وَيَتَأَسَّى بِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَلَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يُقَصِّرَ عَنْهُمْ، وَلَا أَنْ يَكُونَ فِي الْخَيْرِ دُونَهُمْ، فَتَبْعَثُهُ الْمُنَافَسَةُ عَلَى مُسَاوَاتِهِمْ، وَرُبَّمَا دَعَتْهُ الْحَمِيَّةُ إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمْ، وَالْمُكَاثَرَةِ لَهُمْ، فَيَصِيرُونَ سَبَبًا لِسَعَادَتِهِ، وَبَاعِثًا عَلَى اسْتِزَادَتِهِ.

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَفْعَلَ الزِّيَادَةَ ابْتِدَاءً مِنْ نَفْسِهِ الْتِمَاسًا لِثَوَابِهَا وَرَغْبَةً فِي الزُّلْفَةِ بِهَا، فَهَذَا مِنْ نَتَائِجِ النَّفْسِ الزَّاكِيَةِ، وَدَوَاعِي الرَّغْبَةِ الْوَاقِيَةِ الدَّالَّيْنِ عَلَى خُلُوصِ الدِّينِ وَصِحَّةِ الْيَقِينِ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ أَحْوَالِ الْعَامِلِينَ، وَأَعْلَى مَنَازِلِ الْعَابِدِينَ.

28- ثُمَّ لِمَا يَفْعَلُهُ مِنَ الزِّيَادَةِ حَالَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُقْتَصِدًا فِيهَا وَقَادِرًا عَلَى الدَّوَامِ عَلَيْهَا، فَهِيَ أَفْضَلُ الْحَالَتَيْنِ، وَأَعْلَى الْمَنْزِلَتَيْنِ، عَلَيْهَا انْقَرَضَ أَخْيَارُ السَّلَفِ، وَتَتَبَّعَهُمْ فِيهَا فُضَلَاءُ الْخَلَفِ، وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ فَوَاللَّهِ لَا يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا، وَكَانَ أَحَبُّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ».

وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْهَا اسْتِكْثَارَ مَنْ لَا يَنْهَضُ بِدَوَامِهَا، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى اتِّصَالِهَا، فَهَذَا رُبَّمَا كَانَ بِالْمُقَصِّرِ أَشْبَهَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِكْثَارَ مِنَ الزِّيَادَةِ إِمَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْ أَدَاءِ اللاَّزِمِ فَلَا يَكُونُ إِلاَّ تَقْصِيرًا؛ لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِزِيَادَةٍ أَحْدَثَتْ نَقْصًا، وَبِنَفْلٍ مَنَعَ فَرْضًا، وَإِمَّا أَنْ يَعْجَزَ عَنِ اسْتِدَامَةِ الزِّيَادَةِ وَيُمْنَعَ مِنْ مُلَازَمَةِ الِاسْتِكْثَارِ، مِنْ غَيْرِ إِخْلَالٍ بِلَازِمٍ وَلَا تَقْصِيرٍ فِي فَرْضٍ، فَهِيَ إِذَنْ قَصِيرَةُ الْمَدَى قَلِيلَةُ اللُّبْثِ، وَقَلِيلُ الْعَمَلِ فِي طَوِيلِ الزَّمَانِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ كَثِيرِ الْعَمَلِ فِي قَلِيلِ الزَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَكْثِرَ مِنَ الْعَمَلِ فِي الزَّمَانِ الْقَصِيرِ قَدْ يَعْمَلُ زَمَانًا وَيَتْرُكُ زَمَانًا، فَرُبَّمَا صَارَ فِي زَمَانِ تَرْكِهِ لَاهِيًا أَوْ سَاهِيًا، وَالْمُقَلِّلُ فِي الزَّمَانِ الطَّوِيلِ مُسْتَيْقِظَ الْأَفْكَارِ مُسْتَدِيمَ التَّذْكَارِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً، فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فَارْجُوهُ، وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فَلَا تَعُدُّوهُ».فَجَعَلَ لِلْإِسْلَامِ شِرَّةً وَهِيَ الْإِيغَالُ فِي الْإِكْثَارِ، وَجَعَلَ لِلشِّرَّةِ فَتْرَةً وَهِيَ الْإِهْمَالُ بَعْدَ الِاسْتِكْثَارِ، فَلَمْ يَخْلُ بِمَا أَثْبَتَ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الزِّيَادَةُ تَقْصِيرًا أَوْ إِخْلَالًا، وَلَا خَيْرَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

الزِّيَادَةُ عَلَى الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ:

29- الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ كَلَامُ اللَّهِ الْمُعْجِزُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَحَفِظَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فَالذِّكْرُ هُوَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، كَمَا

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ، وَمَعْنَى قوله تعالى {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} أَيْ مِنْ أَنْ يُزَادَ فِيهِ أَوْ يُنْقَصَ مِنْهُ.قَالَ قَتَادَةَ وَثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: حَفِظَهُ اللَّهُ مِنْ أَنْ تَزِيدَ فِيهِ الشَّيَاطِينُ بَاطِلًا، أَوْ يَنْقُصَ مِنْهُ حَقًّا، فَتَوَلَّى سُبْحَانَهُ حِفْظَهُ فَلَمْ يَزَلْ مَحْفُوظًا، وَقَالَ فِي غَيْرِهِ {بِمَا اسْتُحْفِظُوا} فَوَكَّلَ حِفْظَهُ إِلَيْهِمْ فَبَدَّلُوا وَغَيَّرُوا.ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَصَفَ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ عَزِيزٌ، أَيْ مُمْتَنِعٌ عَنِ النَّاسِ أَنْ يَقُولُوا مِثْلَهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-.قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}

وَمَعْنَى قوله تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ نَقْلًا عَنِ السُّدِّيِّ وَقَتَادَةَ: أَيْ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُغَيِّرَ فِيهِ وَلَا يَزِيدَ وَلَا يُنْقِصَ.وَذَكَرَ صَاحِبُ رَوْحِ الْمَعَانِي أَنَّ فِي قوله تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} تَمْثِيلًا لِتَشْبِيهِهِ بِشَخْصٍ حُمِيَ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، فَلَا يُمْكِنُ أَعْدَاؤُهُ الْوُصُولَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ مِنْ حِمَايَةِ الْحَقِّ الْمُبِينِ.

مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:

30- يُبْحَثُ عَنِ الْأَحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِمُصْطَلَحِ زِيَادَةٍ فِي الْوُضُوءِ، وَالتَّيَمُّمِ، وَالصَّلَاةِ، وَالْمَبِيعِ، وَالثَّمَنِ، وَالْغَصْبِ، وَالشُّفْعَةِ، وَالرَّهْنِ، وَالْهِبَةِ، وَالصَّدَاقِ، وَالتَّرِكَةِ، وَالتَّعْزِيرِ، وَالْحَدِّ، وَالتَّكْلِيفِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


283-موسوعة الفقه الكويتية (سرقة 1)

سَرِقَةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- فِي اللُّغَةِ: السَّرِقَةُ أَخْذُ الشَّيْءِ مِنَ الْغَيْرِ خُفْيَةً.يُقَالُ: سَرَقَ مِنْهُ مَالًا، وَسَرَقَهُ مَالًا يَسْرِقُهُ سَرَقًا وَسَرِقَةً: أَخَذَ مَالَهُ خُفْيَةً، فَهُوَ سَارِقٌ.وَيُقَالُ: سَرَقَ أَوِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ وَالنَّظَرَ: سَمِعَ أَوْ نَظَرَ مُسْتَخْفِيًا.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هِيَ أَخْذُ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ نِصَابًا مُحْرَزًا، أَوْ مَا قِيمَتُهُ نِصَابٌ، مِلْكًا لِلْغَيْرِ، لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ، عَلَى وَجْهِ الْخُفْيَةِ.

وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: أَخْذُ مُكَلَّفٍ طِفْلًا حُرًّا لَا يَعْقِلُ لِصِغَرِهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الِاخْتِلَاسُ:

2- يُقَالُ خَلَسَ الشَّيْءَ أَوِ اخْتَلَسَهُ، أَيْ: اسْتَلَبَهُ فِي نُهْزَةٍ وَمُخَاتَلَةٍ.

وَالْمُخْتَلِسُ: هُوَ الَّذِي يَأْخُذُ الْمَالَ جَهْرَةً مُعْتَمِدًا عَلَى السُّرْعَةِ فِي الْهَرَبِ.

فَالْفَرْقُ بَيْنَ السَّرِقَةِ وَالِاخْتِلَاسِ: أَنَّ الْأُولَى عِمَادُهَا الْخُفْيَةُ، وَالِاخْتِلَاسُ يَعْتَمِدُ الْمُجَاهَرَةَ.

وَلِذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ».

انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (اخْتِلَاسٍ).

ب- جَحْدُ الْأَمَانَةِ، أَوْ خِيَانَتُهَا:

3- الْجَحْدُ أَوِ الْجُحُودُ: الْإِنْكَارُ، وَلَا يَكُونُ إِلاَّ عَلَى عِلْمٍ مِنَ الْجَاحِدِ بِهِ.وَالْجَاحِدُ أَوِ الْخَائِنُ: هُوَ الَّذِي يُؤْتَمَنُ عَلَى شَيْءٍ بِطَرِيقِ الْعَارِيَّةِ أَوِ الْوَدِيعَةِ فَيَأْخُذُهُ وَيَدَّعِي ضَيَاعَهُ، أَوْ يُنْكِرُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ أَوْ عَارِيَّةٌ.

فَالْفَرْقُ بَيْنَ السَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ يَرْجِعُ إِلَى قُصُورٍ فِي الْحِرْزِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِنْكَارٍ).

ج- الْحِرَابَةُ:

4- الْحِرَابَةُ: الْبُرُوزُ لِأَخْذِ مَالٍ أَوْ لِقَتْلٍ أَوْ لِإِرْعَابٍ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَاهَرَةِ مُكَابَرَةً اعْتِمَادًا عَلَى الْقُوَّةِ مَعَ الْبُعْدِ عَنِ الْغَوْثِ، وَتُسَمَّى قَطْعَ الطَّرِيقِ، وَالسَّرِقَةَ الْكُبْرَى.

وَيُفَرَّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّرِقَةِ بِأَنَّ الْحِرَابَةَ هِيَ الْبُرُوزُ لِأَخْذِ مَالٍ أَوْ لِقَتْلٍ أَوْ إِرْعَابٍ مُكَابَرَةً اعْتِمَادًا عَلَى الشَّوْكَةِ مَعَ الْبُعْدِ عَنِ الْغَوْثِ، أَمَّا السَّرِقَةُ فَهِيَ أَخْذُ الْمَالِ خُفْيَةً.فَالْحِرَابَةُ تَكْتَمِلُ بِالْخُرُوجِ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ وَإِنْ لَمْ يُؤْخَذْ مَالٌ، أَمَّا السَّرِقَةُ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ أَخْذِ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ الْخُفْيَةِ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (حِرَابَةٍ).

د- الْغَصْبُ:

5- الْغَصْبُ فِي اللُّغَةِ: أَخْذُ الشَّيْءِ ظُلْمًا مُجَاهَرَةً.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ عُدْوَانًا.فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ: أَنَّ الْأَوَّلَ يَتَحَقَّقُ بِالْمُجَاهَرَةِ، فِي حِينِ يُشْتَرَطُ فِي السَّرِقَةِ أَنْ يَكُونَ الْأَخْذُ سِرًّا مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (غَصْبٍ).

هـ- النَّبْشُ:

6- يُقَالُ: نَبَشْتُهُ نَبْشًا، أَيِ اسْتَخْرَجْتُهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَنَبَشْتُ الْأَرْضَ: كَشَفْتُهَا.وَمِنْهُ: نَبَشَ الرَّجُلُ الْقَبْرَ.

وَالنَّبَّاشُ: هُوَ الَّذِي يَسْرِقُ أَكْفَانَ الْمَوْتَى بَعْدَ دَفْنِهِمْ فِي قُبُورِهِمْ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ وَفِي اعْتِبَارِهِ سَارِقًا، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ) مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى اعْتِبَارِ النَّبَّاشِ سَارِقًا؛ لِانْطِبَاقِ حَدِّ السَّرِقَةِ عَلَيْهِ، وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ حَرَّقَ حَرَّقْنَاهُ، وَمَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ، وَمَنْ نَبَشَ قَطَّعْنَاهُ».

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ النَّبَّاشِ سَارِقًا لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مَا لَا مَالِكَ لَهُ وَلَيْسَ مَرْغُوبًا فِيهِ، وَاشْتِرَاطُ الْخُفْيَةِ وَالْحِرْزِ لَا يَجْعَلُ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْأَخْذِ سَرِقَةً.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (نَبْشٍ).

- وَالنَّشْلُ:

7- نَشَلَ الشَّيْءَ نَشْلًا: أَسْرَعَ نَزْعَهُ.يُقَالُ: نَشَلَ اللَّحْمَ مِنَ الْقِدْرِ، وَنَشَلَ الْخَاتَمَ مِنَ الْيَدِ.وَالنَّشَّالُ: الْمُخْتَلِسُ الْخَفِيفُ الْيَدِ مِنَ اللُّصُوصِ، يَشُقُّ ثَوْبَ الرَّجُلِ وَيَسُلُّ مَا فِيهِ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْ صَاحِبِهِ.وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالطَّرَّارِ، مِنْ طَرَرْتُهُ طَرًّا: إِذَا شَقَقْتُهُ.

وَلَا يَخْتَلِفُ اصْطِلَاحُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَالطَّرَّارُ أَوِ النَّشَّالُ هُوَ الَّذِي يَسْرِقُ النَّاسَ فِي يَقَظَتِهِمْ بِنَوْعٍ مِنَ الْمَهَارَةِ وَخِفَّةِ الْيَدِ.

فَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّشْلِ أَوِ الطَّرِّ بَيْنَ السَّرِقَةِ يَتَمَثَّلُ فِي تَمَامِ الْحِرْزِ.وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَطْبِيقِ حَدِّ السَّرِقَةِ عَلَى النَّشَّالِ فَجُمْهُورُهُمْ يُسَوِّي بَيْنَ السَّارِقِ وَالطَّرَّارِ سَوَاءٌ شَقَّ الْكُمَّ أَوِ الْقَمِيصَ

وَأَخَذَ مِنْهَا مَا يَبْلُغُ النِّصَابَ، أَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ فَأَخَذَ دُونَ شَقٍّ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُعْتَبَرُ حِرْزًا لِكُلِّ مَا يَلْبَسُهُ أَوْ يَحْمِلُهُ مِنْ نُقُودٍ وَغَيْرِهَا.وَبَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّهُ إِذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْكُمِّ أَوْ فِي الْجَيْبِ فَأَخَذَ مِنْ غَيْرِ شَقٍّ، أَوْ شَقَّ غَيْرَهُمَا مِثْلَ الصُّرَّةِ، فَلَا يُطَبَّقُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ؛ لِعَدَمِ اكْتِمَالِ الْأَخْذِ مِنَ الْحِرْزِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (نَشْلٍ).

ز- النَّهْبُ:

8- نَهَبَ الشَّيْءَ نَهْبًا: أَخَذَهُ قَهْرًا.وَالنَّهْبُ: الْغَارَةُ وَالْغَنِيمَةُ وَالشَّيْءُ الْمَنْهُوبُ وَهُوَ الْغَلَبَةُ عَلَى الْمَالِ وَالْقَهْرُ.قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَالنَّهْبُ مَا انْتُهِبَ مِنَ الْمَالِ بِلَا عِوَضٍ، يُقَالُ: أَنْهَبَ فُلَانٌ مَالَهُ: إِذَا أَبَاحَهُ لِمَنْ أَخَذَهُ، وَلَا يَكُونُ نَهْبًا حَتَّى تَنْتَهِبَهُ الْجَمَاعَةُ، فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ شَيْئًا، وَهِيَ النُّهْبَةُ.

وَمِنْ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ النَّهْبِ وَالسَّرِقَةِ يَعُودُ إِلَى شِبْهِ الْخُفْيَةِ، وَهُوَ لَا يَتَوَافَرُ فِي النَّهْبِ وَلِهَذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ».

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (نَهْبٍ).

أَرْكَانُ السَّرِقَةِ:

9- لِلسَّرِقَةِ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ: السَّارِقُ، وَالْمَسْرُوقُ مِنْهُ، وَالْمَالُ الْمَسْرُوقُ، وَالْأَخْذُ خُفْيَةً.

الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: السَّارِقُ:

10- يَجِبُ- لِإِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ- أَنْ تَتَوَافَرَ فِي السَّارِقِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا، وَأَنْ يَقْصِدَ فِعْلَ السَّرِقَةِ، وَأَلاَّ يَكُونَ مُضْطَرًّا إِلَى الْأَخْذِ، وَأَنْ تَنْتَفِيَ الْجُزْئِيَّةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَأَلاَّ تَكُونَ عِنْدَهُ شُبْهَةٌ فِي اسْتِحْقَاقِهِ مَا أَخَذَ.

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: التَّكْلِيفُ:

11- لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى إِلاَّ إِذَا كَانَ مُكَلَّفًا، أَوْ بَالِغًا عَاقِلًا.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (تَكْلِيفٍ).

أ- وَيُعْتَبَرُ الشَّخْصُ بَالِغًا إِذَا تَوَافَرَتْ فِيهِ إِحْدَى عَلَامَاتِ الْبُلُوغِ.

يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (بُلُوغٍ).

أَمَّا مَنْ كَانَ دُونَ الْبُلُوغِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَبْرَأَ وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُرَ».وَلِذَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الِاحْتِلَامَ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ يَلْزَمُ بِهِ الْعِبَادَاتُ وَالْحُدُودُ وَسَائِرُ الْأَحْكَامِ.

ب- وَاتَّفَقُوا كَذَلِكَ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَقْلِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ، إِذْ أَنَّهُ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: «وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ».هَذَا إِنْ كَانَ الْمَجْنُونُ مُطْبَقًا، فَأَمَّا إِنْ كَانَ غَيْرَ مُطْبَقٍ وَجَبَ الْحَدُّ إِنْ سَرَقَ فِي حَالِ الْإِفَاقَةِ، وَلَا يَجِبُ إِنْ سَرَقَ فِي حَالِ الْجُنُونِ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (جُنُونٍ).

ج- وَقَدْ أَلْحَقَ الْفُقَهَاءُ الْمَعْتُوهَ بِالْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّ الْعَتَهَ نَوْعُ جُنُونٍ فَيَمْنَعُ أَدَاءَ الْحُقُوقِ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (عَتَهٍ).

د- وَلَا يَجِبُ إِقَامَةُ الْحَدِّ إِذَا صَدَرَتِ السَّرِقَةُ مِنَ النَّائِمِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ: «وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ».انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (نَوْمٍ).

هـ- كَذَلِكَ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ إِذَا سَرَقَ حَالَ إِغْمَائِهِ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِغْمَاءٍ).

و- أَمَّا مَنْ يَسْرِقُ وَهُوَ سَكْرَانُ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِي حُكْمِهِ أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ:

فَبَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّ عَقْلَهُ غَيْرُ حَاضِرٍ، فَلَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ مُطْلَقًا إِلاَّ حَدَّ السُّكْرِ.سَوَاءٌ أَكَانَ مُتَعَدِّيًا بِسُكْرِهِ أَمْ كَانَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ بِهِ.غَيْرَ أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ يُفَرِّقُ بَيْنَ حَالَتَيْنِ: إِذَا كَانَ السَّكْرَانُ قَدْ تَعَدَّى بِسُكْرِهِ، فَإِنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ يُقَامُ عَلَيْهِ، سَدًّا لِلذَّرَائِعِ، حَتَّى لَا يَقْصِدَ مَنْ يُرِيدُ ارْتِكَابَ جَرِيمَةٍ إِلَى الشُّرْبِ دَرْءًا لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ.أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا بِالسُّكْرِ فَيَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ؛ لِقِيَامِ عُذْرِهِ وَانْتِفَاءِ قَصْدِهِ.

انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (سُكْرٍ).

ز- وَمِمَّا يَلْتَحِقُ بِمَسْأَلَةِ التَّكْلِيفِ: اشْتِرَاطُ كَوْنِ السَّارِقِ مُلْتَزِمًا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ حَتَّى تَثْبُتَ وِلَايَةُ الْإِمَامِ عَلَيْهِ.وَلِذَا لَا يُقَامُ حَدُّ السَّرِقَةِ عَلَى الْحَرْبِيِّ غَيْرِ الْمُسْتَأْمَنِ لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، وَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ يَلْتَزِمُ بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ وَتَثْبُتُ وِلَايَةُ الْإِمَامِ عَلَيْهِ.انْظُرْ مُصْطَلَحَيْ: (أَهْلِ الْحَرْبِ، وَأَهْلِ الذِّمَّةِ).

12- أَمَّا الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ: فَإِنْ سَرَقَ مِنْ مُسْتَأْمَنٍ آخَرَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعَدَمِ الْتِزَامِ أَيٍّ مِنْهُمَا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ.وَإِنْ سَرَقَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَفِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ:

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ) إِلَى وُجُوبِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ لِأَنَّ دُخُولَهُ فِي الْأَمَانِ يَجْعَلُهُ مُلْتَزِمًا الْأَحْكَامَ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ}.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَظْهَرُهَا: أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ كَالْحَرْبِيِّ.

وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ كَالذِّمِّيِّ.وَالثَّالِثُ: يُفَصَّلُ بِالنَّظَرِ إِلَى عَقْدِ الْأَمَانِ: فَإِنْ شَرَطَ فِيهِ إِقَامَةَ الْحُدُودِ عَلَيْهِ وَجَبَ الْقَطْعُ، وَإِلاَّ فَلَا حَدَّ وَلَا قَطْعَ.

الشَّرْطُ الثَّانِي: الْقَصْدُ:

13- لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ إِلاَّ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ بِتَحْرِيمِ السَّرِقَةِ، وَأَنَّهُ يَأْخُذُ مَالًا مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ دُونَ عِلْمِ مَالِكِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَأَنْ تَنْصَرِفَ نِيَّتُهُ إِلَى تَمَلُّكِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا فِيمَا فَعَلَ، وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ.

أ- أَنْ يَعْلَمَ السَّارِقُ بِتَحْرِيمِ الْفِعْلِ الَّذِي اقْتَرَفَهُ، فَالْجَهَالَةُ بِالتَّحْرِيمِ مِمَّنْ يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ.وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ- رضي الله عنهما-: لَا حَدَّ إِلاَّ عَلَى مَنْ عَلِمَهُ.أَمَّا عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْعُقُوبَةِ فَلَا يُعَدُّ مِنَ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تَدْرَأُ الْحَدَّ.

ب- أَنْ يَعْلَمَ السَّارِقُ أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ مَمْلُوكٌ لِغَيْرِهِ، وَأَنَّهُ قَدْ أَخَذَهُ دُونَ عِلْمِ مَالِكِهِ وَدُونَ رِضَاهُ.وَعَلَى ذَلِكَ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ أَخَذَ مَالًا وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَالٌ مُبَاحٌ أَوْ مَتْرُوكٌ.وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمُؤَجِّرِ الَّذِي يَأْخُذُ الْعَيْنَ الَّتِي آجَرَهَا، وَلَا عَلَى الْمُودِعِ الَّذِي يَأْخُذُ الْوَدِيعَةَ دُونَ رِضَا الْوَدِيعِ.

ج- أَنْ تَنْصَرِفَ نِيَّةُ الْآخِذِ إِلَى تَمَلُّكِ مَا أَخَذَهُ، وَلِهَذَا لَا يُقَامُ حَدُّ السَّرِقَةِ عَلَى مَنْ أَخَذَ مَالًا مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ دُونَ أَنْ يَقْصِدَ تَمَلُّكَهُ، كَأَنْ أَخَذَهُ لِيَسْتَعْمِلَهُ ثُمَّ يَرُدَّهُ، أَوْ أَخَذَهُ عَلَى سَبِيلِ الدُّعَابَةِ، أَوْ أَخَذَهُ لِمُجَرَّدِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، أَوْ أَخَذَهُ مُعْتَقِدًا أَنَّ مَالِكَهُ يَرْضَى بِأَخْذِهِ، مَا دَامَتِ الْقَرَائِنُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنَ الْقَرَائِنِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى نِيَّةِ التَّمَلُّكِ، إِخْرَاجُ الْمَالِ مِنَ الْحِرْزِ لِغَيْرِ مَا سَبَقَ، بِحَيْثُ يُعْتَبَرُ سَارِقًا لِتَوَافُرِ قَصْدِ التَّمَلُّكِ حِينَئِذٍ وَلَوْ أَتْلَفَهُ بِمُجَرَّدِ إِخْرَاجِهِ- أَمَّا لَوْ أُتْلِفَ دَاخِلَ الْحِرْزِ فَلَا تَظْهَرُ نِيَّةُ التَّمَلُّكِ، وَلِهَذَا لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.

د- لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ إِلاَّ إِذَا كَانَ مُخْتَارًا فِيمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا انْعَدَمَ الْقَصْدُ وَسَقَطَ الْحَدُّ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ السَّرِقَةَ تُبَاحُ بِالْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ الَّذِي يَرْفَعُ الْإِثْمَ وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرٌ هُوَ مَا يَكُونُ فِي جَانِبِ الْأَقْوَالِ وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ عَلَى الْأَفْعَالِ فَفِي حُكْمِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِكْرَاهٍ) مِنَ الْمَوْسُوعَةِ 6 98- 112

الشَّرْطُ الثَّالِثُ: عَدَمُ الِاضْطِرَارِ أَوِ الْحَاجَةِ:

14- أ- الِاضْطِرَارُ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ، وَالضَّرُورَةُ تُبِيحُ لِلْآدَمِيِّ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ لِيَدْفَعَ الْهَلَاكَ عَنْ نَفْسِهِ فَمَنْ سَرَقَ لِيَرُدَّ جُوعًا أَوْ عَطَشًا مُهْلِكًا فَلَا عِقَابَ عَلَيْهِ، لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَاعَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا قَطْعَ فِي زَمَنِ الْمَجَاعِ».

ب- وَالْحَاجَةُ أَقَلُّ مِنَ الضَّرُورَةِ، فَهِيَ كُلُّ حَالَةٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حَرَجٌ شَدِيدٌ وَضِيقٌ بَيِّنٌ، وَلِذَا فَإِنَّهَا تَصْلُحُ شُبْهَةً لِدَرْءِ الْحَدِّ، وَلَكِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الضَّمَانَ وَالتَّعْزِيرَ.

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا قَطْعَ بِالسَّرِقَةِ عَامَ الْمَجَاعَةِ وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: «وَهَذِهِ شُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ عَنِ الْمُحْتَاجِ، وَهِيَ أَقْوَى مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الشُّبَهِ الَّتِي يَذْكُرُهَا كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، لَا سِيَّمَا وَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي مُغَالَبَةِ صَاحِبِ الْمَالِ عَلَى أَخْذِ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ.وَعَامُ الْمَجَاعَةِ يَكْثُرُ فِيهِ الْمَحَاوِيجُ وَالْمُضْطَرُّونَ، وَلَا يَتَمَيَّزُ الْمُسْتَغْنِي مِنْهُمْ وَالسَّارِقُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ مِنْ غَيْرِهِ، فَاشْتَبَهَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِمَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فَدُرِئَ».

وَقَدْ حَدَّدَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْمِقْدَارَ الَّذِي يَكْفِي حَاجَةَ الْمُضْطَرِّ بِقَوْلِهِ: «كُلْ وَلَا تَحْمِلْ، وَاشْرَبْ وَلَا تَحْمِلْ»، وَذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الرَّدِّ عَلَى مَنْ سَأَلَ أَرَأَيْتَ إِنِ احْتَجَّنَا إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؟

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: انْتِفَاءُ الْقَرَابَةِ بَيْنَ السَّارِقِ وَالْمَسْرُوقِ مِنْهُ:

15- قَدْ يَكُونُ السَّارِقُ أَصْلًا لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ، كَمَا قَدْ يَكُونُ فَرْعًا لَهُ، وَقَدْ تَقُومُ بَيْنَهُمَا صِلَةُ قَرَابَةٍ أُخْرَى، وَقَدْ تَرْبِطُ بَيْنَهُمَا رَابِطَةُ الزَّوْجِيَّةِ، وَحُكْمُ إِقَامَةِ الْحَدِّ يَخْتَلِفُ فِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْحَالَاتِ:

أ- سَرِقَةُ الْأَصْلِ مِنَ الْفَرْعِ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الْوَالِدِ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ؛ لِأَنَّ لِلسَّارِقِ شُبْهَةَ حَقٍّ فِي مَالِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَدُرِئَ الْحَدُّ.وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِمَنْ جَاءَ يَشْتَكِي أَبَاهُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَجْتَاحَ مَالَهُ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ»، وَاللاَّمُ هُنَا لِلْإِبَاحَةِ لَا لِلتَّمْلِيكِ.فَإِنَّ مَالَ الْوَلَدِ لَهُ، وَزَكَاتَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَوْرُوثٌ عَنْهُ.

ب- سَرِقَةُ الْفَرْعِ مِنَ الْأَصْلِ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ لَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الْوَلَدِ مِنْ مَالِ أَبِيهِ وَإِنْ عَلَا، لِوُجُوبِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ فِي مَالِ وَالِدِهِ؛ وَلِأَنَّهُ يَرِثُ مَالَهُ، وَلَهُ حَقُّ دُخُولِ بَيْتِهِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا شُبُهَاتٌ تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ.أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ فِي عَلَاقَةِ الِابْنِ بِأَبِيهِ شُبْهَةً تَدْرَأُ عَنْهُ حَدَّ السَّرِقَةِ، وَلِذَلِكَ يُوجِبُونَ إِقَامَةَ الْحَدِّ فِي سَرِقَةِ الْفُرُوعِ مِنَ الْأُصُولِ.

ج- سَرِقَةُ الْأَقَارِبِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ:

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ سَرِقَةَ الْأَقَارِبِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ لَيْسَتْ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ عَنِ السَّارِقِ، وَلِهَذَا أَوْجَبُوا الْقَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ مَالِ أَخِيهِ أَوْ أُخْتِهِ أَوْ عَمِّهِ أَوْ عَمَّتِهِ أَوْ خَالِهِ أَوْ خَالَتِهِ، أَوِ ابْنِ أَوْ بِنْتِ أَحَدِهِمْ، أَوْ أُمِّهِ أَوْ أُخْتِهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَوِ امْرَأَةِ أَبِيهِ أَوْ زَوْجِ أُمِّهِ، أَوِ ابْنِ امْرَأَتِهِ أَوْ بِنْتِهَا أَوْ أُمِّهَا، حَيْثُ لَا يُبَاحُ الِاطِّلَاعُ عَلَى الْحِرْزِ، وَلَا تُرَدُّ شَهَادَةُ بَعْضِ هَؤُلَاءِ لِلْبَعْضِ الْآخَرِ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، كَالْأَخِ وَالْأُخْتِ وَالْعَمِّ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالِ وَالْخَالَةِ؛ لِأَنَّ دُخُولَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ دُونَ إِذْنٍ عَادَةً يُعْتَبَرُ شُبْهَةً تُسْقِطُ الْحَدَّ؛ وَلِأَنَّ قَطْعَ أَحَدِهِمْ بِسَبَبِ سَرِقَتِهِ مِنَ الْآخَرِ يُفْضِي إِلَى قَطْعِ الرَّحِمِ وَهُوَ حَرَامٌ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ: مَا أَفْضَى إِلَى الْحَرَامِ فَهُوَ حَرَامٌ.أَمَّا مَنْ سَرَقَ مِنْ ذِي رَحِمٍ غَيْرِ مَحْرَمٍ كَابْنِ الْعَمِّ أَوْ بِنْتِ الْعَمِّ، وَابْنِ الْعَمَّةِ أَوْ بِنْتِ الْعَمَّةِ، وَابْنِ الْخَالِ أَوْ بِنْتِ الْخَالِ، وَابْنِ الْخَالَةِ أَوْ بِنْتِ الْخَالَةِ، فَيُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ لِأَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ عَادَةً، فَالْحِرْزُ كَامِلٌ فِي حَقِّهِمْ.وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي سَرِقَةِ الْمَحَارِمِ غَيْرِ ذَوِي الرَّحِمِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ كَالْأُمِّ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَالْأُخْتِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ، أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَلَا يَرَى أَنْ يُقَامَ الْحَدُّ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ مَالِ أُمِّهِ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ بَيْتَهَا دُونَ إِذْنٍ عَادَةً، فَلَمْ يَكْتَمِلِ الْحِرْزُ.

د- السَّرِقَةُ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ: اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ إِذَا سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ مَالِ الْآخَرِ وَكَانَتِ السَّرِقَةُ مِنْ حِرْزٍ قَدِ اشْتَرَكَا فِي سُكْنَاهُ، لِاخْتِلَالِ شَرْطِ الْحِرْزِ، وَلِلِانْبِسَاطِ بَيْنَهُمَا فِي الْأَمْوَالِ عَادَةً؛ وَلِأَنَّ بَيْنَهُمَا سَبَبًا يُوجِبُ التَّوَارُثَ بِغَيْرِ حَجْبٍ.

16- أَمَّا إِذَا كَانَتِ السَّرِقَةُ مِنْ حِرْزٍ لَمْ يَشْتَرِكَا فِي سُكْنَاهُ، أَوِ اشْتَرَكَا فِي سُكْنَاهُ وَلَكِنَّ أَحَدَهُمَا مَنَعَ مِنَ الْآخَرِ مَالًا أَوْ حَجَبَهُ عَنْهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ السَّرِقَةِ مِنْهُ: فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الرَّاجِحَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِمَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الِانْبِسَاطِ فِي الْأَمْوَالِ عَادَةً وَدَلَالَةً، وَقِيَاسًا عَلَى الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا سَبَبًا يُوجِبُ التَّوَارُثَ مِنْ غَيْرِ حَجْبٍ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَإِنَّهُمْ يُوجِبُونَ الْحَدَّ عَلَى السَّارِقِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، لِعُمُومِ آيَةِ السَّرِقَةِ؛ لِأَنَّ الْحِرْزَ هُنَا تَامٌّ، وَرُبَّمَا لَا يَبْسُطُ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ فِي مَالِهِ، فَأَشْبَهَ سَرِقَةَ الْأَجْنَبِيِّ.

وَهُنَاكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ: وُجُوبُ قَطْعِ الزَّوْجِ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِ زَوْجَتِهِ مَا هُوَ مُحْرَزٌ عَنْهُ وَلَا تُقْطَعُ الزَّوْجَةُ إِذَا سَرَقَتْ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا وَلَوْ كَانَ مُحْرَزًا عَنْهَا، لِأَنَّ الزَّوْجَةَ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ عَلَى زَوْجِهَا، فَصَارَ لَهَا شُبْهَةٌ تَدْرَأُ عَنْهَا الْحَدَّ، بِخِلَافِ الزَّوْجِ فَلَا تَقُومُ بِهِ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِهَا الْمُحْرَزِ عَنْهُ.

17- هَذَا هُوَ حُكْمُ السَّرِقَةِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ مَا دَامَتِ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةً.فَلَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَانْقَضَتِ الْعِدَّةُ صَارَا أَجْنَبِيَّيْنِ وَوَجَبَ قَطْعُ السَّارِقِ.أَمَّا السَّرِقَةُ أَثْنَاءَ الْعِدَّةِ مِنَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فَتَأْخُذُ حُكْمَ السَّرِقَةِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ؛ لِبَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ الْعِدَّةُ.فَإِنْ وَقَعَتِ السَّرِقَةُ أَثْنَاءَ الْعِدَّةِ مِنَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ أُقِيمَ الْحَدُّ، عَلَى رَأْيِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِانْتِهَاءِ الزَّوْجِيَّةِ.وَلَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَذْهَبُ إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى أَيٍّ مِنْهُمَا بِسَرِقَةِ مَالِ الْآخَرِ؛ لِبَقَاءِ الْحَبْسِ فِي الْعِدَّةِ وَوُجُوبِ السُّكْنَى، فَبَقِيَ أَثَرُ النِّكَاحِ، فَأَوْرَثَ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ.

وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ قِيَامَ الزَّوْجِيَّةِ بَعْدَ السَّرِقَةِ لَا أَثَرَ لَهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَدِّ؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ تَمَّتْ بَيْنَ أَجْنَبِيَّيْنِ.وَلَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ إِلاَّ الْحَنَفِيَّةُ، فَعِنْدَهُمْ: لَوْ سَرَقَ مِنْ أَجْنَبِيَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الزَّوَاجَ مَانِعٌ طَرَأَ عَلَى الْحَدِّ، وَالْمَانِعُ الطَّارِئُ لَهُ حُكْمُ الْمَانِعِ الْمُقَارِنِ.وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا سَرَقَ مِنْ مَالِهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْحَدِّ وَقَبْلَ تَنْفِيذِهِ؛ لِأَنَّ الْإِمْضَاءَ فِي الْحُدُودِ مِنْ تَمَامِ الْقَضَاءِ، فَكَانَتِ الشُّبْهَةُ مَانِعَةً مِنَ الْإِمْضَاءِ.

الشَّرْطُ الْخَامِسُ: انْتِفَاءُ شُبْهَةِ اسْتِحْقَاقِهِ الْمَالَ:

18- إِذَا كَانَ لِلسَّارِقِ شُبْهَةُ مِلْكٍ أَوِ اسْتِحْقَاقٍ فِي الْمَالِ الْمَسْرُوقِ، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ كَانَ شَرِيكًا فِي الْمَالِ الْمَسْرُوقِ، أَوْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ مِنْ مَالٍ مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، أَوْ سَرَقَ مِنْ مَالِ مَدِينِهِ، أَوْ مَا شَابَهَ ذَلِكَ.

19- أ- سَرِقَةُ الشَّرِيكِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ سَرِقَةِ الشَّرِيكِ مِنَ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ لِلسَّارِقِ حَقًّا فِي هَذَا الْمَالِ، فَكَانَ هَذَا الْحَقُّ شُبْهَةً تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى إِيجَابِ الْقَطْعِ إِنْ تَحَقَّقَ شَرْطَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَالُ فِي غَيْرِ الْحِرْزِ الْمُشْتَرَكِ، كَأَنْ يَكُونَ الشَّرِيكَانِ قَدْ أَوْدَعَاهُ عِنْدَ غَيْرِهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَالُ مَحْجُوبًا عَنْهُمَا وَسَرَقَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ الْقَطْعُ.

وَالشَّرْطُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ فِيمَا سَرَقَ مِنْ حِصَّةِ صَاحِبِهِ فَضْلٌ عَنْ جَمِيعِ حِصَّتِهِ رُبُعُ دِينَارٍ فَصَاعِدًا.

وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي سَرِقَةِ الشَّرِيكِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ قَوْلَانِ: الرَّاجِحُ مِنْهُمَا أَنْ لَا قَطْعَ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ إِيجَابُ الْقَطْعِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلشَّرِيكِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ، فَإِذَا سَرَقَ نِصْفَ دِينَارٍ مِنَ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ كَانَ سَارِقًا لِنِصَابٍ مِنْ مَالِ شَرِيكِهِ فَيُقْطَعُ بِهِ.

20- ب- السَّرِقَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، إِذَا كَانَ السَّارِقُ مُسْلِمًا، غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا؛ لِأَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ حَقًّا فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَيَكُونُ هَذَا الْحَقُّ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ عَنْهُ، كَمَا لَوْ سَرَقَ مِنْ مَالٍ لَهُ فِيهِ شَرِكَةٌ.وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَسْأَلُهُ عَمَّنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَقَالَ: أَرْسِلْهُ، فَمَا مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ.

وَيُوجِبُ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الرَّأْيُ الْمَرْجُوحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِعُمُومِ نَصِّ الْآيَةِ، وَضَعْفِ الشُّبْهَةِ، لِأَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ فِي عَيْنِهِ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ قَبْلَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ.

وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ لِلسَّرِقَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بَيْنَ أَنْوَاعٍ ثَلَاثَةٍ 1- إِنْ كَانَ الْمَالُ مُحْرَزًا لِطَائِفَةٍ هُوَ مِنْهَا أَوْ أَحَدُ أُصُولِهِ أَوْ فُرُوعِهِ مِنْهَا، فَلَا قَطْعَ لِوُجُودِ الشُّبْهَةِ، حَتَّى وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سَهْمٌ مُقَدَّرٌ.

2- وَإِنْ كَانَ الْمَالُ مُحْرَزًا لِطَائِفَةٍ لَيْسَ هُوَ وَلَا أَحَدُ أُصُولِهِ أَوْ فُرُوعِهِ مِنْهَا، وَجَبَ قَطْعُهُ لِعَدَمِ الشُّبْهَةِ الدَّارِئَةِ لِلْحَدِّ.

3- وَإِنْ كَانَ الْمَالُ غَيْرَ مُحْرَزٍ لِطَائِفَةٍ بِعَيْنِهَا، فَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ فِي الْمَسْرُوقِ، كَمَالِ الْمُصَالِحِ وَمَالِ الصَّدَقَةِ وَهُوَ فَقِيرٌ أَوْ فِي حُكْمِهِ كَالْغَارِمِ وَالْغَازِي وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، فَلَا قَطْعَ لِلشُّبْهَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ حَقٌّ قُطِعَ؛ لِانْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ.

21- ج- السَّرِقَةُ مِنَ الْمَالِ الْمَوْقُوفِ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ سَرِقَةِ الْمَالِ الْمَوْقُوفِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنَ الْمَالِ الْمَوْقُوفِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ وَقْفًا عَامًّا فَإِنَّهُ يَأْخُذُ حُكْمَ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ وَقْفًا خَاصًّا عَلَى قَوْمٍ مَحْصُورِينَ فَلِعَدَمِ الْمَالِكِ حَقِيقَةً، سَوَاءٌ كَانَ السَّارِقُ مِنْهُمْ أَوْ لَا.وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ السَّارِقَ إِذَا لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِيمَنْ وُقِفَ الْمَالُ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ بِطَلَبِ مُتَوَلِّي الْوَقْفِ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ الْوَقْفَ يَبْقَى عِنْدَهُمْ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ حَقِيقَةً.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنَ الْمَالِ الْمَوْقُوفِ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَقْفُ عَامًّا أَوْ خَاصًّا، سَوَاءٌ أَكَانَ السَّارِقُ مِمَّنْ وُقِفَ الْمَالُ عَلَيْهِمْ أَمْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ بَيْعِ مَالِ الْوَقْفِ يُقَوِّي جَانِبَ الْمِلْكِ فِيهِ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْوَقْفِ الْعَامِّ فَلَا يُقْطَعُ سَارِقُهُ، وَبَيْنَ الْوَقْفِ الْخَاصِّ، فَلَا يُقْطَعُ سَارِقُهُ إِنْ كَانَ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِهِ.

وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ فَعِنْدَهُمْ آرَاءٌ ثَلَاثَةٌ

1- ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ بَيْعِهِ يُقَوِّي جَانِبَ الْمِلْكِ فِيهِ.

2- لَا يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ هَذَا الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالِكَ لَهُ.

3- إِنْ قِيلَ: إِنَّ الْمَوْقُوفَ مَمْلُوكُ الرَّقَبَةِ، قُطِعَ سَارِقُهُ.وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا لَا تُمْلَكُ، فَلَا قَطْعَ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُمْلَكُ فِي حُكْمِ الْمُبَاحِ وَإِنْ لَمْ يُسْتَبَحْ.

وَيَذْهَبُ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ يَسْرِقُ مِنَ الْوَقْفِ الْعَامِّ، أَوْ مَنْ يَسْرِقُ مِنَ الْوَقْفِ الْخَاصِّ إِذَا كَانَ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِهِ، لِوُجُودِ شُبْهَةٍ تَدْرَأُ الْحَدَّ عَنْهُ.أَمَّا مَنْ يَسْرِقُ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ الْخَاصِّ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ، فَفِي حُكْمِهِ رِوَايَتَانِ: أَشْهَرُهُمَا: إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ لِبَقَاءِ الْوَقْفِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ.وَالْأُخْرَى: لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْمٍ مَحْصُورِينَ لَيْسَ لَهُ مَالِكٌ حَقِيقَةً.

22- د- السَّرِقَةُ مِنْ مَالِ الْمَدِينِ: إِذَا سَرَقَ الدَّائِنُ مِنْ مَالِ مَدِينِهِ فَفِي وُجُوبِ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.

يُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ حَالَتَيْنِ: أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ.

1- فَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى السَّارِقِ؛ لِأَنَّ لِلدَّائِنِ أَنْ يَأْخُذَ جِنْسَ دَيْنِهِ مِنْ مَالِ الْمَدِينِ، سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا أَمْ مُؤَجَّلًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَدِينُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ بَاذِلًا لَهُ، أَمْ كَانَ جَاحِدًا لَهُ مُمَاطِلًا فِيهِ.وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، إِذْ أَطْلَقَ الْقَطْعَ بِسَرِقَةِ مَالِ الْغَرِيمِ؛ لِأَنَّ السَّارِقَ يَأْخُذُ مَالًا لَا يَمْلِكُهُ، وَالْغَرِيمُ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ.

2- وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسْرُوقُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، بِأَنْ كَانَ الدَّيْنُ دَنَانِيرَ فَسَرَقَ عُرُوضًا، وَجَبَ إِقَامَةُ الْحَدِّ؛ لِضَرُورَةِ التَّرَاضِي فِي الْمُعَاوَضَاتِ؛ وَلِاخْتِلَافِ الْقِيَمِ بِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ.إِلاَّ إِذَا ادَّعَى السَّارِقُ أَنَّهُ أَخَذَهُ رَهْنًا بِحَقِّهِ، فَلَا يُقْطَعُ، لِوُجُودِ شُبْهَةٍ تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ، حَيْثُ إِنَّهُ اعْتَبَرَ الْمَعْنَى- وَهِيَ الْمَالِيَّةُ لَا الصُّورَةُ- وَالْأَمْوَالُ كُلُّهَا فِي مَعْنَى الْمَالِيَّةِ مُتَجَانِسَةً، فَكَانَ أَخْذًا عَنْ تَأْوِيلٍ فَلَا يُقْطَعُ.

وَيُفَرِّقُ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ حَالَتَيْنِ:

1- أَنْ يَكُونَ الْمَدِينُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ عَنْ أَدَائِهِ مَتَى حَلَّ أَجَلُهُ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الدَّائِنِ إِذَا سَرَقَ مِقْدَارَ دَيْنِهِ أَوْ أَكْثَرَ لِعَدَمِ وُجُودِ شُبْهَةٍ، إِذْ إِنَّهُ يَسْتَطِيعُ الْحُصُولَ عَلَى حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْرِقَ.

2- أَنْ يَكُونَ الْمَدِينُ جَاحِدًا لِلدَّيْنِ أَوْ مُمَاطِلًا فِيهِ: فَلَا قَطْعَ عَلَى الدَّائِنِ إِنْ سَرَقَ قَدْرَ دَيْنِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ جِنْسِهِ أَمْ لَا.فَإِنْ أَخَذَ أَكْثَرَ مِنْ دَيْنِهِ بِمَا يَبْلُغُ نِصَابًا، قُطِعَ لِتَعَدِّيهِ بِأَخْذِ مَا لَيْسَ مِنْ حَقِّهِ.

وَيَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ حَالَتَيْنِ:

1- إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى السَّارِقِ إِذَا كَانَ الْمَدِينُ مَلِيئًا غَيْرَ جَاحِدٍ لِلدَّيْنِ، أَوْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا وَلَمْ يَحِلَّ أَجَلُهُ، إِذْ لَا شُبْهَةَ لَهُ حِينَئِذٍ.

2- عَدَمُ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الدَّائِنِ إِذَا كَانَ الْمَدِينُ جَاحِدًا أَوْ مُمَاطِلًا وَالدَّيْنُ حَالٌّ، سَوَاءٌ أَخَذَ الدَّائِنُ مِقْدَارَ دَيْنِهِ أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ إِنْ أَخَذَ مِقْدَارَ دَيْنِهِ فَهُوَ مَأْذُونٌ فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، وَإِنْ أَخَذَ أَكْثَرَ لَا يَقْطَعُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَمْ يَبْقَ مُحْرَزًا عَنْهُ مَا دَامَ قَدْ أُبِيحَ لَهُ الدُّخُولُ لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ.

وَيُفَرِّقُ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ ثَلَاثِ حَالَاتٍ:

1- إِنْ كَانَ الْمَدِينُ بَاذِلًا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ عَنْ أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ، ثُمَّ تَرَكَ الدَّائِنُ مُطَالَبَتَهُ، وَعَمَدَ إِلَى سَرِقَةِ حَقِّهِ، وَجَبَ قَطْعُهُ إِنْ بَلَغَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ نِصَابًا، إِذْ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِي الْأَخْذِ مَا دَامَ الْوُصُولُ إِلَى حَقِّهِ مَيْسُورًا.

2- وَإِنْ عَجَزَ الدَّائِنُ عَنِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ فَسَرَقَ قَدْرَ دَيْنِهِ فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ فِي إِبَاحَةِ أَخْذِهِ حَقَّهُ يُورِثُ شُبْهَةً تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ، كَالْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ.

3- وَإِنْ عَجَزَ رَبُّ الدَّيْنِ عَنِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ فَأَخَذَ مِنْ مَالِ مَدِينِهِ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ، وَبَلَغَتِ الزِّيَادَةُ نِصَابًا: فَإِنْ أَخَذَ الزَّائِدَ مِنْ نَفْسِ الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ مَالُهُ، فَلَا قَطْعَ؛ لِأَنَّ هَتْكَ الْحِرْزِ لِأَخْذِ مَالِهِ جَعَلَ الْمَكَانَ غَيْرَ مُحْرَزٍ بِالنِّسْبَةِ لِكُلِّ مَا فِيهِ.وَإِنْ أَخَذَ الزَّائِدَ مِنْ غَيْرِ الْحِرْزِ الَّذِي فِيهِ مَالُهُ وَجَبَ الْقَطْعُ؛ لِعَدَمِ الشُّبْهَةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


284-موسوعة الفقه الكويتية (سرقة 4)

سَرِقَةٌ -4

الِاشْتِرَاكُ فِي الْأَخْذِ:

50- يُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ فِي مَسَائِلِ الِاشْتِرَاكِ فِي السَّرِقَةِ بَيْنَ الشَّرِيكِ الْمُبَاشِرِ وَالشَّرِيكِ بِالتَّسَبُّبِ فَأَمَّا الشَّرِيكُ الْمُبَاشِرُ فَهُوَ الَّذِي يُبَاشِرُ أَحَدَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تُكَوِّنُ الْأَخْذَ التَّامَّ، وَهِيَ: إِخْرَاجُ الْمَسْرُوقِ مِنْ حِرْزِهِ وَمِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَإِدْخَالُهُ فِي حِيَازَةِ السَّارِقِ.

وَأَمَّا الشَّرِيكُ بِالتَّسَبُّبِ فَهُوَ الَّذِي لَا يُبَاشِرُ أَحَدَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمُكَوِّنَةِ لِلْأَخْذِ الْمُتَكَامِلِ، وَإِنَّمَا تَقْتَصِرُ فِعْلُهُ عَلَى مَدِّ يَدِ الْعَوْنِ لِلسَّارِقِ، بِأَنْ يُرْشِدَهُ إِلَى مَكَانِ الْمَسْرُوقَاتِ، أَوْ بِأَنْ يَقِفَ خَارِجَ الْحِرْزِ لِيَمْنَعَ اسْتِغَاثَةَ الْجِيرَانِ، أَوْ لِيَنْقُلَ الْمَسْرُوقَاتِ بَعْدَ أَنْ يُخْرِجَهَا السَّارِقُ مِنَ الْحِرْزِ.

وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ إِلاَّ عَلَى الْمُبَاشِرِ، أَمَّا الْمُتَسَبِّبُ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ.

وَيَبْدُو مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ فِي الِاشْتِرَاكِ: أَنَّهُمْ يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الشَّرِيكِ وَالْمُعَيَّنِ فَيَعْتَبِرُونَ الشَّرِيكَ هُوَ الَّذِي يَقُومُ مَعَ غَيْرِهِ بِعَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُكَوِّنَةِ لِلسَّرِقَةِ، وَخَاصَّةً: هَتْكُ الْحِرْزِ، وَإِخْرَاجُ الْمَسْرُوقِ مِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَإِدْخَالُهُ فِي حِيَازَةِ السَّارِقِ، أَمَّا الْمُعَيَّنُ فَهُوَ مَنْ يُسَاعِدُ السَّارِقَ، فِي دَاخِلِ الْحِرْزِ أَوْ فِي خَارِجِهِ، وَلَكِنْ عَمَلُهُ لَا يَصِلُ إِلَى دَرَجَةٍ يُمْكِنُ مَعَهَا نِسْبَةُ السَّرِقَةِ إِلَيْهِ

وَكَانَ هَذَا أَسَاسَ اخْتِلَافِهِمْ فِي تَطْبِيقِ الْحَدِّ عَلَى بَعْضِ الشُّرَكَاءِ دُونَ الْبَعْضِ، وَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي:

1- الْحَنَفِيَّةُ:

51- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ كُلَّ مَنْ دَخَلَ الْحِرْزَ يُعْتَبَرُ شَرِيكًا فِي السَّرِقَةِ سَوَاءٌ قَامَ بِعَمَلٍ مَادِّيٍّ، كَأَنْ وَضَعَ الْمَسْرُوقَ عَلَى ظَهْرِ زَمِيلِهِ فَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحِرْزِ، أَوْ قَامَ بِعَمَلٍ مَعْنَوِيٍّ، كَأَنْ وَقَفَ لِلْمُرَاقَبَةِ أَوْ لِلْإِشْرَافِ عَلَى نَقْلِ الْمَسْرُوقِ مِنَ الْحِرْزِ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْجَمِيعِ إِذَا بَلَغَ نَصِيبُ كُلٍّ مِنْهُمْ نِصَابًا، أَمَّا إِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ لَا تَكْفِي لِيُصِيبَ كُلُّ وَاحِدٍ نِصَابًا، فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ، بَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى التَّعْزِيرِ.وَيَنْطَبِقُ نَفْسُ الْحُكْمِ عَلَى الشُّرَكَاءِ إِذَا أَخْرَجَ بَعْضُهُمْ مَا قِيمَتُهُ نِصَابًا فَأَكْثَرَ، وَأَخْرَجَ الْبَعْضُ الْآخَرُ مَا قِيمَتُهُ دُونَ النِّصَابِ، فَإِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ مَا يَكْفِي لأَنْ يَخُصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابٌ، قُطِعُوا جَمِيعًا، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ حَظُّ كُلِّ وَاحِدٍ نِصَابًا، قُطِعَ مَنْ أَخْرَجَ نِصَابًا، وَعُزِّرَ الْآخَرُونَ.

أَمَّا إِذَا دَخَلَ الْحِرْزَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ، وَبَقِيَ الْآخَرُ خَارِجَهُ، ثُمَّ أَخْرَجَ مَنْ بِالدَّاخِلِ يَدَهُ بِالْمَسْرُوقِ إِلَى خَارِجِ الْحِرْزِ فَتَنَاوَلَهَا شَرِيكُهُ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَرَى أَنَّ الْأَخْذَ غَيْرُ تَامٍّ بِالنِّسْبَةِ لِلدَّاخِلِ، لِأَنَّهُ أَخْرَجَ الْمَسْرُوقَ مِنَ الْحِرْزِ وَمِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُدْخِلْهُ فِي حِيَازَةِ نَفْسِهِ، بَلْ فِي حِيَازَةِ الْخَارِجِ، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.وَيَرَى كَذَلِكَ أَنَّ الْأَخْذَ غَيْرُ تَامٍّ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ دَخَلَ فِي حِيَازَتِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ لَا مِنْ حِرْزِهِ وَلَا مِنْ حِيَازَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَيْضًا.

وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ الْأَخْذَ تَامٌّ بِالنِّسْبَةِ لِلدَّاخِلِ دُونَ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ دَخَلَ فِي حِيَازَتِهِ، حَيْثُ أَقَامَ شَرِيكَهُ الْخَارِجَ مَقَامَهُ عِنْدَمَا سَلَّمَهُ الْمَسْرُوقَ.وَتَفْصِيلُ الْحُكْمِ فِي الصُّوَرِ الَّتِي يُمْكِنُ حُدُوثُهَا يُبْنَى عَلَى مَسْأَلَةِ الْهَتْكِ الْمُتَكَامِلِ وَمَسْأَلَةِ «الْيَدِ الْمُعْتَرِضَةِ» الَّتِي سَبَقَ بَيَانُهُمَا.فِي ف 43، 47.

2- الْمَالِكِيَّةُ:

52- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ صِفَةَ الشَّرِيكِ تُطْلَقُ عَلَى مَنْ يُعِينُ السَّارِقَ إِذَا قَامَ بِعَمَلٍ مَادِّيٍّ لَا بُدَّ مِنْهُ لِإِخْرَاجِ الْمَسْرُوقِ مِنَ الْحِرْزِ، سَوَاءٌ حَدَثَتِ الْإِعَانَةُ وَهُوَ فِي دَاخِلِ الْحِرْزِ، بِأَنْ وَضَعَ الْمَسْرُوقَ عَلَى ظَهْرِ زَمِيلِهِ، فَأَخْرَجَهُ مِنَ الْحِرْزِ، أَوْ حَدَثَتْ وَهُوَ فِي خَارِجِ الْحِرْزِ، بِأَنْ مَدَّ يَدَهُ دَاخِلَ الْحِرْزِ وَأَخَذَ الْمَسْرُوقَ مِنْ يَدِ زَمِيلِهِ الَّذِي فِي الدَّاخِلِ، بِحَيْثُ تُصَاحِبُ فِعْلَاهُمَا فِي حَالِ الْإِخْرَاجِ، أَوْ بِأَنْ يَرْبِطَ الدَّاخِلُ الْمَسْرُوقَ بِحَبْلٍ وَنَحْوِهِ فَيَجُرُّهُ الْخَارِجُ، بِحَيْثُ لَا يُعْتَبَرُ الدَّاخِلُ مُسْتَقِلًّا بِالْإِخْرَاجِ.أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْإِعَانَةُ بِأَمْرٍ مَعْنَوِيٍّ كَأَنْ يَدْخُلَ الْحِرْزَ أَوْ يَبْقَى خَارِجَهُ لِيَحْمِيَ السَّارِقَ أَوْ يُرْشِدَهُ إِلَى مَكَانِ الْمَسْرُوقِ، فَلَا يُعْتَبَرُ شَرِيكًا فِي السَّرِقَةِ، وَمِنْ ثَمَّ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، بَلْ يُعَزَّرُ.

فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَسْرُوقَ لَمْ يَخْرُجْ إِلاَّ بِعَمَلٍ جَمَاعِيٍّ، وَجَبَ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى كُلِّ مَنْ شَارَكَ فِي هَذَا الْعَمَلِ، إِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ نِصَابًا وَاحِدًا، سَوَاءٌ بَاشَرَ السَّرِقَةَ، بِأَنْ تَعَاوَنَ مَعَ زَمِيلِهِ فِي حَمْلِ الْمَسْرُوقِ حَتَّى خَرَجَا بِهِ مِنَ الْحِرْزِ، أَوْ لَمْ يُبَاشِرِ السَّرِقَةَ، بِأَنْ وَضَعَ الْمَسْرُوقَ عَلَى ظَهْرِ صَاحِبِهِ فَخَرَجَ بِهِ وَحْدَهُ، مَا دَامَ كُلُّ وَاحِدٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِإِخْرَاجِ الْمَسْرُوقِ.أَمَّا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ تَعَاوُنٌ بِأَنِ اسْتَقَلَّ كُلُّ وَاحِدٍ بِإِخْرَاجِ بَعْضِ الْمَسْرُوقِ، فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ إِلاَّ عَلَى مَنْ أَخْرَجَ نِصَابًا كَامِلاً، وَذَلِكَ لِعَدَمِ ظُهُورِ التَّعَاوُنِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ لِإِثْبَاتِ الِاشْتِرَاكِ فِي السَّرِقَةِ.

3- الشَّافِعِيَّةُ:

53- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ صِفَةَ الشَّرِيكِ لَا تُطْلَقُ إِلاَّ عَلَى مَنْ قَامَ بِفِعْلٍ مُبَاشِرٍ مَعَ غَيْرِهِ، تَرَتَّبَ عَلَيْهِ إِخْرَاجُ الْمَسْرُوقِ مِنَ الْحِرْزِ، كَأَنْ يَتَعَاوَنَ السَّارِقُونَ فِي حَمْلِ شَيْءٍ ثَقِيلٍ وَيُخْرِجُونَهُ مِنَ الْحِرْزِ، أَوْ يَحْمِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئًا وَيَخْرُجَ بِهِ.وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَنْطَبِقُ وَصْفُ السَّارِقِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ يَظْهَرُ أَثَرُ الِاشْتِرَاكِ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا إِذَا خَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابٌ مِنْ قِيمَةِ مَا أَخْرَجُوهُ، دُونَ نَظَرٍ إِلَى قِيمَةِ مَا أَخْرَجَهُ كُلٌّ مِنْهُمْ.أَمَّا إِذَا كَانَ كُلُّ سَارِقٍ يَسْتَقِلُّ بِفِعْلِهِ وَقَصْدِهِ عَنِ الْآخَرِينَ، فَلَا اشْتَرَاكَ بَيْنَهُمْ، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ إِلاَّ عَلَى مَنْ يَخْرُجُ نِصَابًا كَامِلاً، وَيُعَزَّرُ الْآخَرُونَ.

وَلَا يُعْتَبَرُ شَرِيكًا- عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- مَنْ يُعِينُ السَّارِقَ، سَوَاءٌ قَامَ بِعَمَلٍ مَادِّيٍّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ، وَسَوَاءٌ حَدَثَتِ الْإِعَانَةُ مِنْ دَاخِلِ الْحِرْزِ أَوْ مِنْ خَارِجِهِ، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ، بَلْ يُعَزَّرُ.

4- الْحَنَابِلَةُ:

54- يَرَى الْحَنَابِلَةُ إِطْلَاقَ صِفَةِ الشَّرِيكِ عَلَى مَنْ يُعِينُ السَّارِقَ بِفِعْلٍ مَادِّيٍّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ، قَامَ بِهِ وَهُوَ دَاخِلُ الْحِرْزِ أَوْ كَانَ خَارِجَهُ، فَإِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ نِصَابًا وَاحِدًا، أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى كُلِّ مَنِ اشْتَرَكَ فِي السَّرِقَةِ، سَوَاءٌ كَانَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْإِخْرَاجِ، أَوْ كَانَ بِإِخْرَاجِ الْبَعْضِ وَإِعَانَةِ الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَسَوَاءٌ حَدَثَتِ الْإِعَانَةُ مِنَ الدَّاخِلِ أَوْ مِنَ الْخَارِجِ، بِفِعْلٍ مَادِّيٍّ كَالْإِعَانَةِ عَلَى حَمْلِ الْمَسْرُوقِ، أَوْ بِفِعْلٍ مَعْنَوِيٍّ كَالْإِرْشَادِ إِلَى مَكَانِ الْمَسْرُوقِ، أَوْ لَمْ يَأْتِ بِعَمَلٍ مَا، كَمَنْ دَخَلَ الْحِرْزَ مَعَ السَّارِقِ لِتَنْبِيهِهِ إِذَا انْكَشَفَ أَمْرُهُ.لِأَنَّ فِعْلَ السَّرِقَةِ يُضَافُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ.

إِثْبَاتُ السَّرِقَةِ:

55- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ السَّرِقَةَ تَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ.وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ أَنَّ السَّرِقَةَ تَثْبُتُ بِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ يَجُوزُ إِثْبَاتُهَا بِالْقَرَائِنِ.

أَوَّلاً- الْإِقْرَارُ:

56- تَثْبُتُ السَّرِقَةُ بِإِقْرَارِ السَّارِقِ إِذَا كَانَ مُكَلَّفًا بِأَنْ كَانَ بَالِغًا عَاقِلاً، عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي سَبَقَ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ السَّارِقَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا فِي إِقْرَارِهِ، فَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِحَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، فَلَا يُعْتَدُّ بِهَذَا الْإِقْرَارِ.وَقَدْ أَفْتَى بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ بِصِحَّةِ إِقْرَارِ السَّارِقِ مَعَ الْإِكْرَاهِ لِأَنَّ السُّرَّاقَ قَدْ غَدَوْا لَا يُقِرُّونَ طَائِعِينَ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُعْمَلُ بِإِقْرَارِ الْمُتَّهَمِ مَعَ الْإِكْرَاهِ إِنْ ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التُّهَمِ.

وَيَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ بِالسَّرِقَةِ نَاطِقًا، وَلِهَذَا فَإِنَّهُمْ لَا يَعْتَدُّونَ بِإِشَارَةِ الْأَخْرَسِ، وَلَوْ كَانَتْ مُفْهِمَةً؛ لِاحْتِمَالِ إِشَارَتِهِ الْإِقْرَارَ وَغَيْرَهُ، وَهَذَا يُورِثُ شُبْهَةً تَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ.وَيَرَى الْجُمْهُورُ صِحَّةَ إِقْرَارِهِ، إِنْ كَانَتْ إِشَارَتُهُ مُفْهِمَةً قَبْلَ هَذَا الْإِقْرَارِ.

وَلَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ كَافِيًا لِإِقَامَةِ الْحَدِّ، إِلاَّ إِذَا كَانَ صَرِيحًا وَتَبَيَّنَ الْقَاضِي مِنْهُ تَوَافُرَ أَرْكَانِ السَّرِقَةِ، بِحَيْثُ لَا تَبْقَى مَعَهُ أَيُّ شُبْهَةٍ.

وَاشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَصْدُرَ الْإِقْرَارُ عِنْدَ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ إِقَامَةِ الْحَدِّ، فَلَا يُعْتَدُّ بِالْإِقْرَارِ الصَّادِرِ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَلَا بِالْإِقْرَارِ قَبْلَ الدَّعْوَى. 57- وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَدَدِ مَرَّاتِ الْإِقْرَارِ الَّتِي تُوجِبُ إِقَامَةَ حَدِّ السَّرِقَةِ: فَالْحَنَفِيَّةُ- مَا عَدَا أَبَا يُوسُفَ- وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَعَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، يَكْتَفُونَ بِإِقْرَارِ السَّارِقِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- «قَطَعَ سَارِقَ خَمِيصَةِ صَفْوَانَ وَسَارِقَ الْمِجَنِّ»، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدَهُمَا تَكَرَّرَ مِنْهُ الْإِقْرَارُ؛ وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْحُقُوقِ يَكْتَفِي بِإِيرَادِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ إِخْبَارٌ تَرَجَّحَ فِيهِ جَانِبُ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ، فَلَنْ يَزِيدَهُ التَّكْرَارُ رُجْحَانًا.أَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ، وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَالْحَنَابِلَةُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، فَإِنَّهُمْ يُوجِبُونَ صُدُورَ الْإِقْرَارِ مَرَّتَيْنِ، فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَإِنْ أَقَرَّ السَّارِقُ مَرَّةً وَاحِدَةً، لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنَّمَا يُعَزَّرُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ.لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِلِصٍّ قَدِ اعْتَرَفَ، وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- : مَا أَخَالُكَ سَرَقْتَ فَقَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم- مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَلَمْ يَقْطَعْهُ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ تَكَرَّرَ إِقْرَارُهُ»، فَلَوْ كَانَ الْقَطْعُ يَجِبُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً لَمَا أَخَّرَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- .

58- وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْخُصُومَةِ مَعَ الْإِقْرَارِ: فَالْحَنَفِيَّةُ- مَا عَدَا أَبَا يُوسُفَ- وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، يَشْتَرِطُونَ لِقَبُولِ الْإِقْرَارِ مُطَالَبَةَ مَنْ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالْمَسْرُوقِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ مُطَالَبَتِهِ يُورِثُ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مَالٍ مِنْ مَجْهُولٍ أَوْ مِنْ غَائِبٍ.

وَيَرَى أَبُو يُوسُفَ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى عَدَمَ تَوَقُّفِ إِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ عَلَى دَعْوَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ، لِعُمُومِ آيَةِ السَّرِقَةِ، وَعَدَمِ وُجُودِ مَا يَصْلُحُ مُخَصِّصًا لِهَذَا الْعُمُومِ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مَنْ يُقِرُّ بِسَرِقَةِ نِصَابٍ مِنْ مَجْهُولٍ أَوْ غَائِبٍ إِذَا ثَبَتَتِ السَّرِقَةُ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ لَا يُتَّهَمُ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ.

ثَانِيًا- الْبَيِّنَةُ:

59- تَثْبُتُ السَّرِقَةُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ تَتَوَافَرُ فِيهِمَا شُرُوطُ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَشُرُوطُ أَدَائِهَا. وَعَلَى ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ وَقْتَ الْأَدَاءِ ذَكَرًا، مُسْلِمًا، بَالِغًا، عَاقِلاً، حُرًّا بَصِيرًا، عَدْلاً، مُخْتَارًا.

فَلَا يُقَامُ حَدُّ السَّرِقَةِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ أَوْ مَعَ رِجَالٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَلَوْ مَعَ يَمِينِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَة).

إِذَا تَوَافَرَتِ الشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ، أَدَّى الشَّاهِدُ شَهَادَتَهُ عَلَى السَّرِقَةِ بِدُونِ يَمِينٍ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الشَّهَادَةِ يَتَضَمَّنُ الْيَمِينَ؛ وَلِأَنَّ تَحْلِيفَ الشَّاهِدِ يَتَنَافَى مَعَ إِكْرَامِهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- فِي قَوْلِهِ: «أَكْرِمُوا الشُّهُودَ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِي بِهِمُ الْحُقُوقَ».وَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ضَرُورَةَ تَحْلِيفِ الشَّاهِدِ الْيَمِينَ لِلتَّأَكُّدِ مِنْ صِدْقِهِ؛ وَلِمَا فِيهِ مِنْ عُمُومِ الْمَصْلَحَةِ، وَتَحْلِيفُ الشَّاهِدِ لَا يَتَعَارَضُ مَعَ أَمْرِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم- بِإِكْرَامِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْطَوِي عَلَى إِهَانَةٍ لَهُ.

ثَالِثًا: الْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ:

60- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ لَا يُقَامُ بِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ، فَإِنِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ سَرِقَةً يَجِبُ فِيهَا الْقَطْعُ، فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ السَّرِقَةَ، فَطَلَبَ الْمُدَّعِي مِنْهُ أَنْ يَحْلِفَ لِإِثْبَاتِ بَرَاءَتِهِ، فَنَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ، رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَإِنْ حَلَفَ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سَرَقَ مَا ادَّعَاهُ، ثَبَتَ الْمَالُ الْمَسْرُوقُ بِهَذِهِ الْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ إِلاَّ بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّ السَّرِقَةَ تَثْبُتُ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي الْمَرْدُودَةِ، فَيَثْبُتُ الْمَالُ وَيُقَامُ الْحَدُّ، لِأَنَّ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ كَالْبَيِّنَةِ أَوْ كَإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِلَا خِلَافٍ.وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ: أَنَّ الْيَمِينَ الْمَرْدُودَةَ يَثْبُتُ بِهَا الْمَالُ، وَلَا يُقَامُ بِهَا الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِالْإِقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ.وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ، كَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ وَالرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ وَصَاحِبُ الْحَاوِي الصَّغِيرِ، وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ: إِنَّهُ الْمَذْهَبُ وَالصَّوَابُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ.وَقَالَ الْبُلْقِينِيُّ: إِنَّهُ الْمُعْتَمَدُ، لِنَصِّ الْأُمِّ، وَفِي الْمُخْتَصَرِ: لَا يَثْبُتُ الْقَطْعُ إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ أَوْ إِقْرَارِ السَّارِقِ.

رَابِعًا- الْقَرَائِنُ:

61- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِالْإِقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ.وَيَرَى بَعْضُهُمْ جَوَازَ ثُبُوتِ السَّرِقَةِ، وَمِنْ ثَمَّ إِقَامَةُ الْحَدِّ وَضَمَانُ الْمَالِ، بِالْقَرَائِنِ وَالْأَمَارَاتِ إِذَا كَانَتْ ظَاهِرَةَ الدَّلَالَةِ بِاعْتِبَارِهَا مِنَ السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ، الَّتِي تُخْرِجُ الْحَقَّ مِنَ الظَّالِمِ الْفَاجِرِ.قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ «لَمْ يَزَلِ الْأَئِمَّةُ وَالْخُلَفَاءُ يَحْكُمُونَ بِالْقَطْعِ إِذَا وُجِدَ الْمَالُ الْمَسْرُوقُ مَعَ الْمُتَّهَمِ، وَهَذِهِ الْقَرِينَةُ أَقْوَى مِنَ الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ فَإِنَّهُمَا خَبَرَانِ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِمَا الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ وَوُجُودُ الْمَالِ مَعَهُ نَصٌّ صَرِيحٌ لَا تَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ شُبْهَةٌ».

حَدُّ السَّرِقَةِ:

62- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ السَّارِقِ قَطْعُ يَدِهِ لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.وَهُوَ الْحَدُّ الَّذِي أَقَامَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- عَلَى مَنْ سَرَقَ فِي عَهْدِهِ، كَمَا تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ.وَجَرَى عَلَيْهِ عَمَلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ دُونَ اعْتِرَاضٍ عَلَيْهِمْ.وَأَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أُمُورٍ تَتَعَلَّقُ بِمَحَلِّ الْقَطْعِ، وَمِقْدَارِهِ، وَكَيْفِيَّتِهِ، وَتَكَرُّرِهِ، مَعَ تَكَرُّرِ السَّرِقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

1- مَحَلُّ الْقَطْعِ:

63- مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ- عِنْدَ الْفُقَهَاءِ- وُجُوبُ قَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى، إِذَا ثَبَتَتِ السَّرِقَةُ الْأُولَى.لِمَا رُوِيَ مِنْ «أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- قَطَعَ الْيَدَ الْيُمْنَى»، وَكَذَلِكَ فَعَلَ الْأَئِمَّةُ مِنْ بَعْدِهِ، وَلِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا.وَهِيَ قِرَاءَةٌ مَشْهُورَةٌ عَنْهُ، وَلَمْ يُجْمَعْ عَلَى أَنَّهَا قُرْآنٌ لِمُخَالَفَتِهَا لِلْمُصْحَفِ الْإِمَامِ، فَكَانَتْ خَبَرًا مَشْهُورًا، فَيُقَيِّدُ إِطْلَاقَ النَّصِّ.وَلَوْ كَانَ الْإِطْلَاقُ مُرَادًا، وَالِامْتِثَالُ لِلْأَمْرِ فِي الْآيَةِ يَحْصُلُ بِقَطْعِ الْيَمِينِ أَوِ الشِّمَالِ، لَمَا قَطَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- إِلاَّ الْيَسَارَ عَلَى عَادَتِهِ مِنْ طَلَبِ الْأَيْسَرِ لَهُمْ مَا أَمْكَنَ جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِ - صلى الله عليه وسلم- فِي: «أَنَّهُ مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا».

فَإِذَا كَانَتْ يَدُ السَّارِقِ الْيُمْنَى غَيْرَ صَحِيحَةٍ، بِأَنْ كَانَتْ شَلاَّءَ أَوْ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَصَابِعِهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَحَلِّ الْقَطْعِ.

فَالْحَنَفِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّ الْقَطْعَ يَتَعَلَّقُ أَوَّلاً بِالْيَدِ الْيُمْنَى، لِعُمُومِ آيَةِ السَّرِقَةِ فَإِنَّهَا لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ الصَّحِيحَةِ وَغَيْرِهَا.لِأَنَّهُ إِذَا تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالسَّلِيمَةِ فَإِنَّهَا تُقْطَعُ، فَلأَنْ تُقْطَعَ الْمَعِيبَةُ مِنْ بَابِ أَوْلَى.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ قَطْعَ الْمَعِيبَةِ لَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْحَدِّ إِزَالَةُ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى السَّرِقَةِ، وَالشَّلاَّءُ وَمَا فِي حُكْمِهَا لَا نَفْعَ فِيهَا فَلَا يَتَحَقَّقُ مَقْصُودُ الشَّرْعِ بِقَطْعِهَا؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهَا الَّتِي يُرَادُ إِبْطَالُهَا بَاطِلَةٌ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ.وَلِذَلِكَ يَنْتَقِلُ الْقَطْعُ إِلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يُفَصِّلُونَ الْقَوْلَ فِي قَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى إِذَا كَانَتْ مَعِيبَةً عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

يُجْزِئُ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ قَطْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى إِذَا كَانَتْ شَلاَّءَ إِلاَّ إِذَا خِيفَ مِنْ قَطْعِهَا أَلاَّ يَكُفَّ الدَّمُ، فَلَوْ قَرَّرَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَنَّ عُرُوقَهَا لَنْ تَنْسَدَّ وَأَنَّ دَمَهَا لَنْ يَجِفَّ فَلَا تُقْطَعُ، وَيُنْتَقَلُ بِالْقَطْعِ إِلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْيَدُ الْيُمْنَى قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَصَابِعِهَا، فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ قَطْعُهَا، وَلَوْ كَانَ بِهَا أُصْبُعٌ وَاحِدٌ.فَإِذَا نَقَصَتِ الْأَصَابِعُ كُلُّهَا، فَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ: الِاكْتِفَاءُ بِقَطْعِهَا؛ لِأَنَّ اسْمَ الْيَدِ يُطْلَقُ عَلَيْهَا مَعَ نُقْصَانِ الْأَصَابِعِ كُلِّهَا.وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي نَاقِصَةِ الْخَمْسِ: أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ فِي تَمَامِ الْحَدِّ، فَلَا تُقْطَعُ، وَيُنْتَقَلُ إِلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ رِوَايَتَانِ: تَكْتَفِي أُولَاهُمَا بِقَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى وَلَوْ كَانَتْ شَلاَّءَ، إِذَا رَأَى أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَنَّهَا لَوْ قُطِعَتْ رَقَأَ دَمُهَا وَانْحَسَمَتْ عُرُوقُهَا.وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: يُمْنَعُ قَطْعُ الْيَدِ الشَّلاَّءِ؛ لِأَنَّهَا لَا نَفْعَ فِيهَا وَلَا جَمَالَ لَهَا، وَيَنْتَقِلُ الْقَطْعُ إِلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى.وَإِذَا كَانَتِ الْيَدُ الْيُمْنَى مَقْطُوعَةَ الْأَصَابِعِ فَفِي الْمَذْهَبِ رَأْيَانِ

أُوَلُهُمَا: الِاكْتِفَاءُ بِقَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى وَلَوْ ذَهَبَتْ كُلُّ أَصَابِعِهَا.

وَالثَّانِي: عَدَمُ الِاكْتِفَاءِ بِقَطْعِ الْيُمْنَى إِذَا ذَهَبَ مُعْظَمُ نَفْعِهَا، لِأَنَّهَا تَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومَةِ وَيَنْتَقِلُ الْقَطْعُ إِلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى.

64- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا لَوْ تَعَلَّقَ الْقَطْعُ بِالْيَدِ الْيُمْنَى، وَكَانَتِ الْيَدُ الْيُسْرَى قَدْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهَا، أَوْ كَانَتْ مَقْطُوعَةً فِي قِصَاصٍ أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا تُقْطَعُ الْيَدُ الْيُمْنَى؛ لِأَنَّ قَطْعَهَا يُؤَدِّي إِلَى تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ كُلِّيَّةً، وَالْحَدُّ إِنَّمَا شُرِعَ زَاجِرًا لَا مُهْلِكًا.وَبِهَذَا قَالَ أَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى تَتَّفِقُ مَعَ مَا قَالَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ مِنْ وُجُوبِ الْقَطْعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّ الْيَدَ الْيُسْرَى مَحَلٌّ لِلْقَطْعِ أَيْضًا إِذَا تَكَرَّرَتِ السَّرِقَةُ.وَلَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ إِذَا تَعَلَّقَ الْقَطْعُ بِالرِّجْلِ الْيُسْرَى، وَكَانَتِ الرِّجْلُ الْيُمْنَى قَدْ قُطِعَتْ أَوْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهَا.

65- وَاخْتَلَفُوا كَذَلِكَ فِيمَا لَوْ تَعَلَّقَ الْقَطْعُ بِالْيَدِ الْيُمْنَى، وَكَانَتْ مَقْطُوعَةً: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى انْتِقَالِ الْقَطْعِ إِلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى إِذَا كَانَ ذَهَابُ الْيَدِ الْيُمْنَى قَدْ حَدَثَ قَبْلَ السَّرِقَةِ، أَوْ بَعْدَهَا وَقَبْلَ الْمُخَاصَمَةِ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْعُضْوِ الذَّاهِبِ، فَلَا يَسْقُطُ بِذَهَابِهِ.بِخِلَافِ مَا لَوْ ذَهَبَتِ الْيَدُ الْيُمْنَى بَعْدَ الْمُخَاصَمَةِ وَقَبْلَ الْقَضَاءِ، أَوْ بَعْدَ الْمُخَاصَمَةِ وَالْقَضَاءِ، فَلَا يَنْتَقِلُ الْحَدُّ إِلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى، بَلْ يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْمُخَاصَمَةَ تُؤَدِّي إِلَى تَعَلُّقِ الْقَطْعِ بِالْيَدِ الْيُمْنَى، فَإِذَا ذَهَبَتْ سَقَطَ الْحَدُّ لِذَهَابِ مَحَلِّهِ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى انْتِقَالِ الْقَطْعِ إِلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى إِذَا ذَهَبَتِ الْيَدُ الْيُمْنَى قَبْلَ السَّرِقَةِ.وَإِلَى سُقُوطِ الْحَدِّ إِذَا ذَهَبَتْ بَعْدَ السَّرِقَةِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَهَابُهَا قَبْلَ الْخُصُومَةِ أَوْ بَعْدَهَا، وَقَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ، بِآفَةٍ أَوْ جِنَايَةٍ، أَوْ قِصَاصٍ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ السَّرِقَةِ تَعَلَّقَ الْقَطْعُ بِالْيَدِ الْيُمْنَى، فَإِذَا ذَهَبَتْ زَالَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْقَطْعُ فَسَقَطَ.

2- مَوْضِعُ الْقَطْعِ وَمِقْدَارُهُ:

66- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَنَّ قَطْعَ الْيَدِ يَكُونُ مِنَ الْكُوعِ، وَهُوَ مَفْصِلُ الْكَفِّ، لِأَنَّ {النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ مِنَ الْكُوعِ».وَلِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رضي الله عنهما- : إِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَمِينَهُ مِنَ الْكُوعِ.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعِ مِنَ الْيَدِ: الْمَنْكِبُ؛ لِأَنَّ الْيَدَ اسْمٌ لِلْعُضْوِ مِنْ أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ إِلَى الْمَنْكِبِ.وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعِ: مَفَاصِلُ الْأَصَابِعِ الَّتِي تَلِي الْكَفَّ.

وَمَوْضِعُ قَطْعِ الرِّجْلِ هُوَ مَفْصِلُ الْكَعْبِ مِنَ السَّاقِ، فَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ - رضي الله عنه- ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهُ أَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعِ: أُصُولُ أَصَابِعِ الرِّجْلِ وَبِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، لِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ عَلِيًّا - رضي الله عنه- كَانَ يَقْطَعُ مِنْ شَطْرِ الْقَدَمِ، وَيَتْرُكُ لِلسَّارِقِ عَقِبَهُ يَمْشِي عَلَيْهَا.

كَيْفِيَّةُ الْقَطْعِ.

67- مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ مُرَاعَاةُ الْإِحْسَانِ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ، لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم- : «لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ» وَعَلَى ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَخَيَّرَ الْحَاكِمُ الْوَقْتَ الْمُلَائِمَ لِلْقَطْعِ، بِحَيْثُ يَجْتَنِبُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ الشَّدِيدَيْنِ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْإِضْرَارِ بِالسَّارِقِ، وَلَا يُقِيمُ الْحَدَّ أَثْنَاءَ مَرَضٍ يُرْجَى زَوَالُهُ، وَلَا يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى الْحَامِلِ أَوِ النُّفَسَاءِ، وَلَا عَلَى الْعَائِدِ فِي السَّرِقَةِ قَبْلَ أَنْ يَنْدَمِلَ الْجُرْحُ السَّابِقُ.كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَاقَ السَّارِقُ إِلَى مَكَانِ الْقَطْعِ سُوقًا رَفِيقًا، فَلَا يُعَنَّفُ بِهِ، وَلَا يُعَيَّرُ، وَلَا يُسَبُّ.فَإِذَا وَصَلَ إِلَى مَكَانِ الْقَطْعِ (يَجْلِسُ، وَيُضْبَطُ لِئَلاَّ يَتَحَرَّكَ فَيَجْنِي عَلَى نَفْسِهِ، وَتُشَدُّ يَدُهُ بِحَبْلٍ وَيُجَرُّ حَتَّى يَبِينَ مَفْصِلُ الذِّرَاعِ، ثُمَّ تُوضَعُ بَيْنَهُمَا سِكِّينٌ حَادَّةٌ، وَيُدَقُّ فَوْقَهَا بِقُوَّةٍ لِيَقْطَعَ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ تُوضَعُ عَلَى الْمَفْصِلِ وَتُمَدُّ مَدَّةً وَاحِدَةً، وَإِنْ عَلِمَ قَطْعَ أَوْحَى مِنْ ذَلِكَ- أَيْ أَسْرَعَ- قَطَعَ بِهِ).

وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ عَلَى حَسْمِ مَوْضِعِ الْقَطْعِ، وَذَلِكَ بِاسْتِعْمَالِ مَا يَسُدُّ الْعُرُوقَ وَيُوقِفُ نَزْفَ الدَّمِ، لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم- فِيمَنْ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ السَّرِقَةُ: {اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوهُ، ثُمَّ احْسِمُوهُ».وَلَكِنَّ الْخِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي حُكْمِ الْحَسْمِ: فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَيْنِيٌّ عَلَى مَنْ قَامَ بِالْقَطْعِ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ فِي الْحَدِيثِ تُفِيدُ الْوُجُوبَ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ- فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُمْ- إِلَى أَنَّ الْحَسْمَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَلَا يَلْزَمُ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ، فَإِذَا قَامَ بِهِ الْقَاطِعُ أَوِ الْمَقْطُوعُ أَوْ غَيْرُهُمَا فَقَدْ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ.وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَسْمِ يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ، لَا الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلْمَقْطُوعِ، لَا لِتَمَامِ الْحَدِّ، فَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَتْرُكَهُ.وَحِينَئِذٍ يُنْدَبُ لِلْإِمَامِ وَلِغَيْرِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةِ السَّارِقِ وَحِفْظُهُ مِنَ الْهَلَاكِ.وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوبِهِ عَلَى السَّارِقِ إِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ أَحَدٌ، فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَى الْمَقْطُوعِ فِعْلُ الْحَسْمِ، لِإِغْمَاءٍ وَنَحْوِهِ وَتَرَتَّبَ عَلَى تَرْكِهِ تَلَفٌ مُحَقَّقٌ، فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ إِهْمَالُهُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ، كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ وَغَيْرُهُ.وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الْحَسْمَ تَتِمَّةٌ لِلْحَدِّ، فَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ فِعْلُهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُهْمِلَهُ.

68- وَيُسَنُّ- عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- تَعْلِيقُ الْيَدِ الْمَقْطُوعَةِ فِي عُنُقِ السَّارِقِ، رَدْعًا لِلنَّاسِ، اسْتِنَادًا إِلَى مَا رُوِيَ مِنْ «أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقُطِعَتْ يَدُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَعُلِّقَتْ فِي عُنُقِهِ».وَقَدْ حَدَّدَ الشَّافِعِيَّةُ مُدَّةَ التَّعْلِيقِ بِسَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلَمْ يُحَدِّدُوا مُدَّةَ التَّعْلِيقِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَعْلِيقَ الْيَدِ لَا يُسَنُّ، بَلْ يُتْرَكُ الْأَمْرُ لِلْإِمَامِ، إِنْ رَأَى فِيهِ مَصْلَحَةً فَعَلَهُ، وَإِلاَّ فَلَا.وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَالِكِيَّةُ شَيْئًا عَنْ تَعْلِيقِ الْيَدِ.

4- تَكَرُّرُ الْقَطْعِ بِتَكَرُّرِ السَّرِقَةِ:

تَدَاخُلُ الْحَدِّ:

69- مِنَ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ الَّتِي اسْتَقَرَّتْ فِي الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِ: أَنَّ مَبْنَى الْحُدُودِ عَلَى التَّدَاخُلِ، إِذَا اتَّحَدَ مُوجِبُهَا وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْحَدِّ حَقٌّ لآِدَمِيٍّ.وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: إِذَا تَكَرَّرَتِ السَّرِقَةُ، قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، وَكَانَتْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ تُوجِبُ الْقَطْعَ، قُطِعَ السَّارِقُ لِجَمِيعِهَا قَطْعًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ فَيَتَدَاخَلُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الرَّدْعُ وَالزَّجْرُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ الْوَاحِدِ.

السَّرِقَةُ بَعْدَ الْقَطْعِ:

70- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ السَّارِقِ، إِذَا قُطِعَتْ يَمِينُهُ ثُمَّ عَادَ لِلسَّرِقَةِ، عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

ذَهَبَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ إِلَى أَنَّ: مَنْ قُطِعَتْ يَمِينُهُ فِي السَّرِقَةِ الْأُولَى، ثُمَّ سَرَقَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُضْرَبُ وَيُحْبَسُ، إِذْ لَا قَطْعَ إِلاَّ فِي السَّرِقَةِ الْأُولَى.لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} أَيِ الْيَدَ الْيُمْنَى، كَمَا جَاءَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَمَرَ بِقَطْعِ الرِّجْلِ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}

وَذَهَبَ رَبِيعَةُ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ: مَنْ قُطِعَتْ يَمِينُهُ فِي السَّرِقَةِ الْأُولَى، ثُمَّ سَرَقَ مَرَّةً ثَانِيَةً، تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ عَادَ إِلَى السَّرِقَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَطْعٌ، بَلْ يُعَزَّرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِقَطْعِ الْأَيْدِي، وَهِيَ تَشْمَلُ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى، وَإِدْخَالُ الْأَرْجُلِ فِي الْقَطْعِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهِيَ الْمَذْهَبُ إِلَى أَنَّ مَنْ سَرَقَ بَعْدَ أَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى، تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى.فَإِنْ عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَطْعٌ، بَلْ يُحْبَسُ وَيُضْرَبُ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ أَوْ يَمُوتَ.وَنُقِلَ هَذَا عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رضي الله عنهما- وَالشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَحَمَّادٍ لِمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: إِذَا سَرَقَ الرَّجُلُ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى، فَإِنْ عَادَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ عَادَ ضَمَّنْتُهُ السِّجْنَ حَتَّى يُحْدِثَ خَيْرًا.إِنِّي لأَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ أَنْ أَدَعَهُ لَيْسَ لَهُ يَدٌ يَأْكُلُ بِهَا وَيَسْتَنْجِيَ بِهَا، وَرِجْلٌ يَمْشِي عَلَيْهَا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: إِلَى أَنَّ مَنْ سَرَقَ، بَعْدَ أَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى فِي السَّرِقَةِ الْأُولَى، تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ عَادَ لِلْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ سَرَقَ مَرَّةً رَابِعَةً قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى، فَإِنْ عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ حُبِسَ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ أَوْ يَمُوتَ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ».

وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رضي الله عنهما- ، وَقَالَ بِهِ إِسْحَاقُ وَقَتَادَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ.

رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضي الله عنهما- وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ: أَنَّ مَنْ سَرَقَ- بَعْدَ قَطْعِ أَطْرَافِهِ الْأَرْبَعَةِ- يُقْتَلُ حَدًّا، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ.وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- «أَمَرَ بِقَتْلِ سَارِقٍ- فِي الْمَرَّةِ الْخَامِسَةِ- قَالَ جَابِرٌ: فَانْطَلَقْنَا بِهِ، ثُمَّ اجْتَرَرْنَاهُ، فَأَلْقَيْنَاهُ فِي بِئْرٍ، وَرَمَيْنَا عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ».

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ وَقَدْ عَارَضَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ وَزِنًى بَعْدَ إِحْصَانٍ أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ».قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْفُقَهَاءِ يُبِيحُ دَمَ السَّارِقِ.

سُقُوطُ الْحَدِّ.

71- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ مَا يُسْقِطُ الْحَدَّ، سَوَاءٌ مَا يَتَّصِلُ بِالْمَسْرُوقِ مِنْهُ أَمْ بِغَيْرِهِ: كَالْعَفْوِ وَالشَّفَاعَةِ.وَمِنْهَا مَا يَتَّصِلُ بِالسَّارِقِ: كَالتَّوْبَةِ، وَالرُّجُوعِ عَنِ الْإِقْرَارِ، وَاشْتِرَاكِهِ مَعَ مَنْ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسْرُوقِ: كَطُرُوءِ مِلْكِ السَّارِقِ عَلَى مَا سَرَقَ.وَقَدْ يَسْقُطُ الْحَدُّ نَتِيجَةً لِلتَّقَادُمِ.

1- الشَّفَاعَةُ وَالْعَفْوُ:

72- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى إِجَازَةِ الشَّفَاعَةِ بَعْدَ السَّرِقَةِ وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْأَمْرُ إِلَى الْحَاكِمِ، إِذَا كَانَ السَّارِقُ لَمْ يُعْرَفْ بِشَرٍّ، سِتْرًا لَهُ وَإِعَانَةً عَلَى التَّوْبَةِ.فَأَمَّا إِذَا وَصَلَ الْأَمْرُ إِلَى الْحَاكِمِ، فَالشَّفَاعَةُ فِيهِ حَرَامٌ، «لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم- لأُِسَامَةَ- حِينَمَا شَفَعَ فِي الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ - : أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ - رضي الله عنه- لَقِيَ رَجُلاً قَدْ أَخَذَ سَارِقًا، فَشَفَعَ فِيهِ، فَقَالَ: لَا، حَتَّى أَبْلُغَ بِهِ الْإِمَامُ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: إِذَا بَلَغَ الْإِمَامَ فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفِّعَ.

وَيَنْطَبِقُ نَفْسُ الْحُكْمِ عَلَى الْعَفْوِ عَنِ السَّارِقِ: فَإِنَّهُ يَجُوزُ إِذَا لَمْ يُرْفَعِ الْأَمْرُ إِلَى الْحَاكِمِ، فَإِنْ رُفِعَ إِلَيْهِ، لَا يُقْبَلُ فِيهِ الْعَفْوُ.وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم- : «تَعَافُوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ».

«وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم- لِصَفْوَانَ- لَمَّا تَصَدَّقَ بِرِدَائِهِ عَلَى سَارِقِهِ - : فَهَلاَّ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ».

2- التَّوْبَةُ:

73- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ، أَيِ النَّدَمَ الَّذِي يُورِثُ عَزْمًا عَلَى إِرَادَةِ التَّرْكِ تُسْقِطُ عَذَابَ الْآخِرَةِ عَنِ السَّارِقِ وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي أَثَرِ التَّوْبَةِ عَلَى إِقَامَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَعَطَاءٌ، وَجَمَاعَةٌ: إِلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تُسْقِطُ حَدَّ السَّرِقَةِ، لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} مِنْ غَيْرِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ تَائِبٍ وَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى عَمْرِو بْنِ سَمُرَةَ، حِينَ أَتَاهُ تَائِبًا يَطْلُبُ التَّطْهِيرَ مِنْ سَرِقَتِهِ جَمَلاً».

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ- فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ- وَالْحَنَابِلَةُ- فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى- إِلَى أَنَّ التَّوْبَةَ تُسْقِطُ حَدَّ السَّرِقَةِ، لقوله تعالى- بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ جَزَاءَ السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ - : {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِوَأَصْلَحَ فَإِنَّا للَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّائِبَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، إِذْ لَوْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بَعْدَ التَّوْبَةِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِهَا

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


285-موسوعة الفقه الكويتية (السكنى 1)

السُّكْنَى -1

التَّعْرِيفُ:

1- السُّكْنَى اسْمُ مَصْدَرٍ مِنَ السَّكَنِ، وَهُوَ الْقَرَارُ فِي الْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِذَلِكَ، وَالْمَسْكَنُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِهَا، الْمَنْزِلُ أَوِ الْبَيْتُ، وَالْجَمْعُ مَسَاكِنُ.وَالسُّكُونُ ضِدُّ الْحَرَكَةِ، يُقَالُ: سَكَنَ بِمَعْنَى هَدَأَ وَسَكَتَ.

وَاصْطِلَاحًا هِيَ الْمُكْثُ فِي مَكَانٍ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْرَارِ وَالدَّوَامِ.

طَبِيعَةُ حَقِّ السُّكْنَى:

2- مِنَ الْمُسَلَّمِ بِهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ السُّكْنَى مَنْفَعَةٌ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ عَرَضِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِالْعَيْنِ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَا، وَأَنَّ السُّكْنَى لَهَا وُجُودٌ وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَمِرُّ زَمَنًا طَوِيلًا.

وَعَلَى ذَلِكَ فَحَقُّ السُّكْنَى- لِكَوْنِهِ حَقَّ مَنْفَعَةٍ- أَعَمُّ وَأَشْمَلُ مِنْ حَقِّ الِانْتِفَاعِ، وَأَنَّ الْمِلْكَ فِي حَقِّ السُّكْنَى يَنْشَأُ عَنْ عَقْدٍ مُمَلِّكٍ، كَالْوَقْفِ وَالْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَنَافِعِ، فَهُوَ حَقٌّ يُمَكِّنُ صَاحِبَهُ مِنْ مُبَاشَرَتِهِ وَالِانْتِفَاعِ، بِنَفْسِهِ أَوْ تَمْكِينِ غَيْرِهِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِعِوَضٍ.بِخِلَافِ حَقِّ الِانْتِفَاعِ، فَإِنَّهُ يَنْشَأُ عَنْ عَقْدٍ، كَهِبَةِ الدَّارِ لِلسُّكْنَى، أَوْ إِذْنٍ وَإِبَاحَةٍ فَقَطْ مِنَ الْمَالِكِ، فَلَا يَصِحُّ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُمَكِّنَ أَحَدًا غَيْرَهُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ.

حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ فِي السُّكْنَى:

3- يَتَمَثَّلُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي السُّكْنَى فِي كُلِّ مَا لَا يَكُونُ لِلْعَبْدِ إِسْقَاطُهُ.وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:

(1) حَقُّ السُّكْنَى لِلْمُطَلَّقَةِ رَجْعِيًّا، لَا يَجُوزُ إِسْقَاطُهُ، فَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ إِسْكَانُهَا فِي مَكَانٍ تَقْضِي فِيهِ عِدَّتَهَا، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي وَجَبَتِ الْعِدَّةُ فِيهِ.

وَفِي الْمُطَلَّقَاتِ الْبَائِنَاتِ، وَالْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ يَكُونُ حَقُّ السُّكْنَى حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، أَوْ حَقًّا لِلْعَبْدِ عِنْدَ فَرِيقٍ آخَرَ مِنْهُمْ، لَكِنِ الْجَمِيعُ يَتَّفِقُونَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْكَنِ الَّذِي أَلْزَمَتْ نَفْسَهَا بِالْقَرَارِ فِيهِ.

(2) وَفِي الْمُخْتَلِعَاتِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِّ السُّكْنَى، فَيَرَى الْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ الْمُخَالِعُ الْبَرَاءَةَ مِنَ السُّكْنَى لَمْ يَجُزِ الشَّرْطُ؛ إِذِ السُّكْنَى فِي بَيْتِ الزَّوْجِ فِي الْعِدَّةِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ إِسْقَاطُهُ، لَا بِعِوَضٍ وَلَا غَيْرِهِ

وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ وَقَالُوا بِجَوَازِ أَنْ يُخَالِعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ الْحَامِلَ عَلَى سُكْنَاهَا وَنَفَقَتِهَا، وَيَبْرَأَ مِنْهَا.

وَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فِي السُّكْنَى فَيَتَمَثَّلُ فِي كُلِّ تَصَرُّفٍ يَكُونُ الْقَصْدُ مِنْهُ مَصْلَحَةَ الْعَبْدِ، كَهِبَةِ السُّكْنَى أَوْ بَيْعِهَا أَوْ إجَارَتِهَا، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَرَيَانُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مُتَّفِقًا مَعَ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُنَظِّمَةِ لَهَا؛ لِأَنَّ تَنْظِيمَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسُّكْنَى:

أَوَّلًا: السُّكْنَى كَحَقٍّ عَلَى الْغَيْرِ:

سُكْنَى الزَّوْجَةِ:

4- السُّكْنَى لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا وَاجِبَةٌ، وَهَذَا الْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ السُّكْنَى عَلَى زَوْجِهَا.قَالَ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} فَوُجُوبُ السُّكْنَى لِلَّتِي هِيَ فِي صُلْبِ النِّكَاحِ أَوْلَى.وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْمُعَاشَرَةَ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ بِالْمَعْرُوفِ، قَالَ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَمِنَ الْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَنْ يُسْكِنَهَا فِي مَسْكَنٍ تَأْمَنُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا، كَمَا أَنَّ الزَّوْجَةَ لَا تَسْتَغْنِي عَنِ الْمَسْكَنِ؛ لِلِاسْتِتَارِ عَنِ الْعُيُونِ وَالِاسْتِمْتَاعِ وَحِفْظِ الْمَتَاعِ.فَلِذَلِكَ كَانَتِ السُّكْنَى حَقًّا لَهَا عَلَى زَوْجِهَا، وَهُوَ حَقٌّ ثَابِتٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

الْجَمْعُ بَيْنَ زَوْجَتَيْنِ فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي دَارٍ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ بَيْتٌ فِيهِ:

5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الْخُصُومَةِ الَّتِي نَهَى الشَّارِعُ عَنْهَا، وَمَنْعُ الْجَمْعِ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ حَقٌّ خَالِصٌ لَهُمَا فَيَسْقُطُ بِرِضَاهُمَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

وَذَهَبَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحَقَّ لَا يَسْقُطُ وَلَوْ رَضِيَتِ الزَّوْجَةُ بِهِ، وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي دَارٍ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الزَّوْجَتَيْنِ بَيْتٌ فِيهَا فَذَهَبَ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.وَاشْتَرَطَ الْجُمْهُورُ لِصِحَّةِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ بَيْتٍ مَرَافِقُهُ الْخَاصَّةُ بِهِ، وَغَلْقٌ يُغْلَقُ بِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ رِضَاهُمَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا.

وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ (وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فِي مَذْهَبِهِمْ) إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ الدَّارِ إِلاَّ بِرِضَاهُمَا.فَإِنْ أَبَيْنَ مِنْهُ أَوْ كَرِهَتْهُ إِحْدَاهُمَا فَلَا يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.

الْجَمْعُ بَيْنَ الزَّوْجَةِ وَأَقَارِبِ الزَّوْجِ فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ:

6- الْمُرَادُ بِأَقَارِبِ الزَّوْجِ هُنَا الْوَالِدَانِ وَوَلَدُ الزَّوْجِ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجَةِ.

فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ وَالزَّوْجَةِ فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ لَا يَجُوزُ (وَكَذَا غَيْرُهُمَا مِنَ الْأَقَارِبِ) وَلِذَلِكَ يَكُونُ لِلزَّوْجَةِ الِامْتِنَاعُ عَنِ السُّكْنَى مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الِانْفِرَادَ بِمَسْكَنٍ تَأْمَنُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا حَقُّهَا، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ جَبْرُهَا عَلَى ذَلِكَ.وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَةِ الشَّرِيفَةِ وَالْوَضِيعَةِ، وَقَالُوا بِعَدَمِ جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الزَّوْجَةِ الشَّرِيفَةِ وَالْوَالِدَيْنِ، وَبِجَوَازِ ذَلِكَ مَعَ الزَّوْجَةِ الْوَضِيعَةِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْوَضِيعَةِ وَالْوَالِدَيْنِ ضَرَرٌ عَلَيْهَا.

وَإِذَا اشْتَرَطَ الزَّوْجُ عَلَى زَوْجَتِهِ السُّكْنَى مَعَ الْأَبَوَيْنِ فَسَكَنَتْ، ثُمَّ طَلَبَتْ الِانْفِرَادَ بِمَسْكَنٍ، فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ إِذَا أَثْبَتَتِ الضَّرَرَ مِنَ السَّكَنِ مَعَ الْوَالِدَيْنِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ عَاجِزًا لَا يَلْزَمُهُ إِجَابَةُ طَلَبِهَا، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا يَلْزَمُهُ.وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ غَيْرُ مَا شَرَطَتْهُ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الزَّوْجَةِ وَوَلَدِ الزَّوْجِ مِنْ غَيْرِهَا فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ، فَلَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ إِذَا كَانَ وَلَدُ الزَّوْجِ مِنْ غَيْرِهَا كَبِيرًا يَفْهَمُ الْجِمَاعَ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى مَعَهُ فِيهَا إِضْرَارٌ بِالزَّوْجَةِ، وَهَذَا حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ فَيَسْقُطُ بِرِضَاهَا.

وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ صَغِيرًا لَا يَفْهَمُ الْجِمَاعَ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ إِسْكَانَهُ مَعَهَا جَائِزٌ، وَلَيْسَ لَهَا الْحَقُّ فِي الِامْتِنَاعِ مِنَ السُّكْنَى مَعَهُ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الزَّوْجَةَ لَا يَجُوزُ لَهَا الِامْتِنَاعُ مِنَ السُّكْنَى مَعَ وَلَدِ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِهَا إِذَا كَانَتْ تَعْلَمُ بِهِ حَالَ الْبِنَاءِ.فَإِنْ كَانَتْ لَا تَعْلَمُ بِهِ عِنْدَ الْبِنَاءِ بِهَا وَكَانَ لَهُ حَاضِنَةٌ، فَلِلزَّوْجَةِ الْحَقُّ فِي الِامْتِنَاعِ مِنَ السُّكْنَى مَعَهُ.

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِهَا حَاضِنَةٌ غَيْرُ أَبِيهِ فَلَيْسَ لَهَا الِامْتِنَاعُ عَنِ السُّكْنَى مَعَهُ.

خُلُوُّ الْمَسْكَنِ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجَةِ:

7- الْمُرَادُ بِالْأَهْلِ هُنَا الْأَبَوَانِ أَوْ غَيْرُهُمَا مِنْ مَحَارِمِهَا وَوَلَدِهَا مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ.فَإِذَا أَرَادَتِ الزَّوْجَةُ أَنْ تُسْكِنَ أَحَدًا مِنَ الْأَهْلِ غَيْرِ وَلَدِهَا مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ.وَلِلزَّوْجِ مَنْعُ الزَّوْجَةِ مِنْ إِسْكَانِهَا أَحَدًا مِنْ أَهْلِهَا مَعَهَا؛ لِأَنَّ الْمَنْزِلَ إِمَّا مِلْكُهُ أَوْ لَهُ حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَحَقُّ الزَّوْجِ فِي زَوْجَتِهِ مِنْ إِسْكَانِ أَقَارِبِهَا مَعَهَا يَسْقُطُ بِرِضَاهُ، فَإِذَا رَضِيَ الزَّوْجُ بِسُكْنَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِهَا مَعَهَا فَلَا شَيْءَ فِي ذَلِكَ.

يَقُولُ الزَّيْلَعِيُّ: «وَهَذَا لِأَنَّهُمَا يَتَضَرَّرَانِ بِالسُّكْنَى مَعَ النَّاسِ، فَإِنَّهُمَا لَا يَأْمَنَانِ عَلَى مَتَاعِهِمَا، وَيَمْنَعُهُمَا ذَلِكَ مِنْ كَمَالِ الِاسْتِمْتَاعِ وَالْمُعَاشَرَةِ، إِلاَّ أَنْ يَخْتَارَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، فَلَهُمَا أَنْ يَتَّفِقَا عَلَيْهِ».

وَإِذَا كَانَ الْمَسْكَنُ مِلْكًا لَهُمَا فَلَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ مَنْعُ أَهْلِهَا مِنَ السُّكْنَى مَعَهَا إِذَا أَرَادَتْ ذَلِكَ.

وَإِنْ كَانَتْ تُرِيدُ إِسْكَانَ وَلَدِهَا مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا إِسْكَانُهُ إِلاَّ بِرِضَا الزَّوْجِ، فَإِنْ لَمْ يَرْضَ فَلَا يَجُوزُ لَهَا إِسْكَانُهُ مَعَهُمَا.وَلَمْ يُفَرِّقِ الْجُمْهُورُ بَيْنَ عِلْمِ الزَّوْجِ بِوُجُودِ وَلَدٍ لَهَا وَقْتَ الْبِنَاءِ وَعَدَمِ عِلْمِهِ، أَوْ بَيْنَ وُجُودِ حَاضِنَةٍ لِلْوَلَدِ أَمْ لَا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ إِسْكَانِ وَلَدِهَا مِنْ غَيْرِهِ إِنْ كَانَ يَعْلَمُ بِهِ وَقْتَ الْبِنَاءِ، أَوْ كَانَ لَا يَعْلَمُ بِهِ وَلَا حَاضِنَ لَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ بِهِ وَلَهُ حَاضِنٌ فَلَيْسَ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تُسْكِنَهُ مَعَهَا عِنْدَهُمْ.

زِيَارَةُ الْأَبَوَيْنِ أَوِ الْمَحَارِمِ لِلزَّوْجَةِ فِي مَسْكَنِهَا:

8- يَجُوزُ لِأَبَوَيِ الزَّوْجَةِ وَوَلَدِهَا الْكَبِيرِ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ زِيَارَتُهَا فِي مَسْكَنِهَا الَّذِي يُسْكِنُهَا فِيهِ الزَّوْجُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّةً.وَأَمَّا وَلَدُهَا الصَّغِيرُ فَلَهُ حَقُّ الدُّخُولِ فِي كُلِّ يَوْمٍ لِتَتَفَقَّدَ حَالَهُ، وَأَمَّا غَيْرُ الْأَبَوَيْنِ مِنَ الْمَحَارِمِ فَلَهُمْ حَقُّ زِيَارَتِهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً.وَقِيلَ: فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً، وَهَذَا قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: لِلزَّوْجِ مَنْعُ أَقَارِبِ الْمَرْأَةِ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهَا مَعَ الْكَرَاهَةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَيْسَ لِلزَّوْجِ مَنْعُ أَبَوَيْهَا مِنْ زِيَارَتِهَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، لَكِنْ إِنْ عَرَفَ بِقَرَائِنِ الْحَالِ حُدُوثَ ضَرَرٍ بِزِيَارَتِهِمَا، أَوْ زِيَارَةِ أَحَدِهِمَا فَلَهُ الْمَنْعُ.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (زِيَارَة).

الْمَسْكَنُ الشَّرْعِيُّ لِلزَّوْجَةِ:

9- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْمَسْكَنِ الشَّرْعِيِّ لِلزَّوْجَةِ هُوَ سَعَةُ الزَّوْجِ وَحَالُ الزَّوْجَةِ، قِيَاسًا عَلَى النَّفَقَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا حَقٌّ مُتَرَتِّبٌ عَلَى عَقْدِ الزَّوَاجِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي النَّفَقَةِ هُوَ حَالَ الزَّوْجَيْنِ فَكَذَلِكَ السُّكْنَى وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (نَفَقَة).

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ- غَيْرَ الشِّيرَازِيِّ- إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْمَسْكَنِ الشَّرْعِيِّ هُوَ حَالُ الزَّوْجَةِ فَقَطْ.عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِمْ فِي النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَةَ مُلْزَمَةٌ بِمُلَازَمَةِ الْمَسْكَنِ، فَلَا يُمْكِنُهَا إِبْدَالُهُ، فَإِذَا لَمْ يُعْتَبَرْ حَالُهَا فَذَلِكَ إِضْرَارٌ بِهَا، وَالضَّرَرُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا.أَمَّا النَّفَقَةُ فَيُمْكِنُهَا إِبْدَالُهَا.

وَذَهَبَ الشِّيرَازِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي تَقْدِيرِ الْمَسْكَنِ هُوَ سَعَةُ الزَّوْجِ فَقَطْ.لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} وقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّاآتَاهُ اللَّهُ} وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي الْمُطَلَّقَةِ، فَالزَّوْجَةُ أَوْلَى.

قَالَ: إِنَّ النَّفَقَةَ يُفَرَّقُ فِيهَا بَيْنَ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ، وَالْوَاجِبُ يَكُونُ بِقَدْرِ حَالِ الْمُنْفِقِ يُسْرًا وَعُسْرًا وَتَوَسُّطًا، كَمَا جَاءَ فِي الْآيَةِ، كَذَلِكَ السُّكْنَى تَكُونُ عَلَى قَدْرِ يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ وَتَوَسُّطِهِ.

اخْتِيَارُ مَكَانِ السُّكْنَى:

10- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ السُّكْنَى بِزَوْجَتِهِ حَيْثُ شَاءَ، غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَنُصُّونَ عَلَى أَنْ تَكُونَ السُّكْنَى بَيْنَ جِيرَانٍ.

وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: وَإِذَا اشْتَكَتِ الزَّوْجَةُ مِنْ إِضْرَارِ الزَّوْجِ بِهَا يُسْكِنُهَا الْحَاكِمُ بَيْنَ قَوْمٍ صَالِحِينَ؛ لِيَعْلَمُوا صِحَّةَ دَعْوَاهَا.

سُكْنَى الْمُؤْنِسَةِ:

11- الْمُؤْنِسَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: هِيَ الَّتِي تُؤْنِسُ الزَّوْجَةَ إِذَا خَرَجَ الزَّوْجُ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا أَحَدٌ.وَالْمُؤْنِسَةُ وَاجِبَةٌ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا عِنْدَمَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ، كَخَوْفِ مَكَانِهَا أَوْ خَوْفِهَا عَلَى نَفْسِهَا مِنْ عَدُوٍّ يَتَرَبَّصُ بِهَا.

هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ.وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ إِلْزَامَ الزَّوْجَةِ بِالْإِقَامَةِ بِمَكَانٍ لَا تَأْمَنُ فِيهِ عَلَى نَفْسِهَا، وَلَا يُوجَدُ مَعَهَا فِيهِ مُؤْنِسٌ مِنَ الْمُضَارَّةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، لقوله تعالى: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ الْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورُ بِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}.

وَحَمَلَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلَ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ اللُّزُومِ عَلَى مَا إِذَا أَسْكَنَهَا بَيْنَ جِيرَانٍ صَالِحِينَ، وَعَلَى عَدَمِ الِاسْتِيحَاشِ.

قَالَ الشُّرُنْبُلَالِيُّ: قَالَ فِي النَّهْرِ: لَمْ نَجِدْ مِنْ كَلَامِهِمْ ذِكْرَ الْمُؤْنِسَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُسْكِنُهَا بَيْنَ قَوْمٍ صَالِحِينَ بِحَيْثُ لَا تَسْتَوْحِشُ.وَهَذَا ظَاهِرٌ مِنْ وُجُوبِهَا فِيمَا إِذَا كَانَ الْبَيْتُ خَالِيًا مِنَ الْجِيرَانِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ تَخْشَى عَلَى عَقْلِهَا مِنْ سَعَتِهِ.

وَالْمُقَرَّرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، أَنَّ الْمُؤْنِسَةَ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ عَلَى الزَّوْجِ.

سُكْنَى الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ:

12- الْمُعْتَدَّةُ عَنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ تُعْتَبَرُ زَوْجَةً؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ قَائِمٌ، فَكَانَ الْحَالُ بَعْدَ الطَّلَاقِ كَالْحَالِ قَبْلَهُ، وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ جَمِيعًا عَلَى وُجُوبِ السُّكْنَى فِيهَا لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ}.

سُكْنَى الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ:

13- إِنْ كَانَتِ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ حَامِلًا فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ السُّكْنَى لَهَا.وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ وَغَيْرُهُ أَنَّ هُنَاكَ إِجْمَاعًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ السُّكْنَى لَهَا، لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ}

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَطْلَقَ اللَّهُ تَعَالَى السُّكْنَى لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، فَكَانَتْ حَقًّا لَهُنَّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ غَيْرَ ذَلِكَ لَقَيَّدَ كَمَا فَعَلَ فِي النَّفَقَةِ إِذْ قَيَّدَهَا بِالْحَمْلِ فِي قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفَقُوا عَلَيْهِنَّ} وَإِذَا كَانَتِ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ غَيْرَ حَامِلٍ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وُجُوبَ السُّكْنَى لَهَا، وَهُوَ رَأْيُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، - رضي الله عنهم- وَعَائِشَةَ - رضي الله عنها- وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْقَاسِمِ، وَسَالِمٍ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ.

وَالْآيَةُ السَّابِقَةُ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْمُطَلَّقَاتِ، لِأَنَّهَا ذُكِرَتْ بَعْدَ قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وَهَذِهِ انْتَظَمَتِ الرَّجْعِيَّةَ وَالْبَائِنَ.بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ بَقِيَ مِنْ طَلَاقِهَا وَاحِدَةٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِلْعِدَّةِ إِذَا أَرَادَ طَلَاقَهَا بِالْآيَةِ.

وَكَذَلِكَ «قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم- لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ- لَمَّا أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ طَلَّقَ زَوْجَهُ وَهِيَ حَائِضٌ: لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا» وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ التَّطْلِيقَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، فَإِذَنْ يَكُونُ قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قَدْ تَضَمَّنَ الْبَائِنَ وَالرَّجْعِيَّ.

وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، وَفِيهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ.وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ»، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ إِسْقَاطَ السُّكْنَى، فَبَقِيَ عَلَى عُمُومِهِ فِي قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ}.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِلَى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ عَنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ غَيْرَ حَامِلٍ، لَا سُكْنَى لَهَا.وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٌ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوسٌ، وَالْحَسَنُ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ، لَكِنْ إِنْ أَرَادَ الْمُطَلِّقُ إِسْكَانَ الْبَائِنِ فِي مَنْزِلِهِ، أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يَصْلُحُ لَهَا تَحْصِينًا لِفِرَاشِهِ وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ، لَزِمَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ فِيهِ.وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ «فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّهُ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- وَكَانَ أَنْفَقَ عَلَيْهَا نَفَقَةَ دُونٍ، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ قَالَتْ: وَاَللَّهِ لأَُعْلِمَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- فَإِنْ كَانَ لِي نَفَقَةٌ أَخَذْتُ الَّذِي يُصْلِحُنِي، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِي نَفَقَةٌ لَمْ آخُذْ مِنْهُ شَيْئًا.قَالَتْ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: لَا نَفَقَةَ لَكِ وَلَا سُكْنَى».

سُكْنَى الْمُعْتَدَّةِ عَنْ وَفَاةٍ:

14- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ السُّكْنَى فِي مَالِ الْمُتَوَفَّى أَيَّامَ عِدَّتِهَا.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ خِلَافُ الْأَظْهَرِ- إِلَى أَنَّهُ لَا سُكْنَى لَهَا عَلَى الْمُتَوَفَّى مِنْ مَالِهِ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأُمِّ سَلَمَةَ.وَاسْتَدَلُّوا بِمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّمَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى لِلْمَرْأَةِ إِذَا كَانَ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ».وَيَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما- فِي قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ الْمِيرَاثِ، بِمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُنَّ مِنَ الرُّبُعِ وَالثُّمُنِ، وَنُسِخَ أَجَلُ الْحَوْلِ بِأَنْ جَعَلَ أَجَلَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.وَقَالُوا: إِنَّ الْمَنْزِلَ الَّذِي تَرَكَهُ الْمَيِّتُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِلْمَيِّتِ، أَوْ مِلْكًا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِغَيْرِهِ لِكَوْنِهِ مُسْتَأْجَرًا أَوْ مُعَارًا فَقَدْ بَطَلَ الْعَقْدُ بِمَوْتِهِ فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ سُكْنَاهُ، إِلاَّ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ وَطِيبِ نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ».وَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِلْمَيِّتِ فَقَدْ صَارَ لِلْغُرَمَاءِ، أَوْ لِلْوَرَثَةِ، أَوْ لِلْوَصِيَّةِ، وَلَا يَحِلُّ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مَالُ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُمْ، لِلْحَدِيثِ الَّذِي تَقَدَّمَ.وَعَلَى ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهَا إِلاَّ مِقْدَارُ مِيرَاثِهَا إِنْ كَانَتْ وَارِثَةً فَقَطْ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْأَظْهَرِ أَنَّ لَهَا السُّكْنَى وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ بِشَرْطَيْنِ: الشَّرْطُ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ قَدْ دَخَلَ بِهَا، الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَسْكَنُ لِلْمَيِّتِ إِمَّا بِمِلْكٍ أَوْ بِمَنْفَعَةٍ مُؤَقَّتَةٍ، أَوْ بِإِجَارَةٍ وَقَدْ نَقَدَ كِرَاءَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ.فَإِنْ كَانَ نَقَدَ الْبَعْضَ فَلَهَا السُّكْنَى بِقَدْرِ مَا نَقَدَ فَقَطْ.

وَقَالَ عَبْدُ الْحَقِّ مِنْهُمْ: إِنْ كَانَ أَكْرَاهَا سَنَةً مُعَيَّنَةً فَهِيَ أَحَقُّ بِالسُّكْنَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَقَدَ.

وَقَدْ حَكَى هَذَا الْقَوْلَ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ لقوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.وَلِحَدِيثِ «الْفُرَيْعَةِ بِنْتِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- وَأَرَادَتِ التَّحَوُّلَ إِلَى أَهْلِهَا وَإِخْوَتِهَا قَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم-: امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ».

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا سُكْنَى لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إِنْ كَانَتْ حَائِلًا رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ.

سُكْنَى الْمُعْتَدَّةِ عَنْ فَسْخٍ:

15- وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- عَلَى الرَّاجِحِ فِي مَذْهَبِهِمْ- إِلَى أَنَّ لِلْمُعْتَدَّةِ عَنْ فَسْخٍ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ السُّكْنَى.وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْفَسْخُ بِسَبَبِهَا أَوْ بِسَبَبِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ السَّبَبُ الَّذِي تَرَتَّبَ الْفَسْخُ عَلَيْهِ مَعْصِيَةً مِنْهَا أَمْ غَيْرَ مَعْصِيَةٍ؛ لِأَنَّ الْقَرَارَ مِنَ الْبَيْتِ مُسْتَحَقٌّ لَهَا، وَلِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ عَنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ بِفُرْقَةٍ فِي الْحَيَاةِ، فَأَشْبَهَتِ الْمُطَلَّقَةَ تَحْصِينًا لِلْمَاءِ.

أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ فَسْخٍ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَطْءِ شُبْهَةٍ فَلَا سُكْنَى لَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا سُكْنَى فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، فَحَالُ الْعَقْدِ كَحَالِ النِّكَاحِ، فَلَا سُكْنَى لَهَا عَلَى الْوَاطِئِ أَوِ الزَّوْجِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ عَنْ فَسْخٍ لَهَا السُّكْنَى فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَسَوَاءٌ اطَّلَعَ عَلَى مُوجِبِ الْفَسْخِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَمَاتِهِ، فَمَتَى كَانَتِ الْمَرْأَةُ مَحْبُوسَةً عَنِ النِّكَاحِ بِسَبَبِهِ فَلَهَا السُّكْنَى.

وَقَالُوا: إِنَّ الْمَوْطُوءَةَ بِشُبْهَةٍ لَهَا السُّكْنَى فِي صُورَتَيْنِ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ، أَوْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا.وَلَهَا السُّكْنَى عَلَى الزَّوْجِ إِذَا دَخَلَ بِهَا، سَوَاءٌ حَمَلَتْ مِنَ الْغَالِطِ أَمْ لَمْ تَحْمِلْ، إِلاَّ إِذَا نَفَى الزَّوْجُ حَمْلَهَا بِلِعَانٍ وَالْتَحَقَ الْحَمْلُ بِالْغَالِطِ، فَإِنَّ السُّكْنَى تَكُونُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ لِلْمُعْتَدَّةِ عَنْ فَسْخٍ السُّكْنَى إِذَا كَانَتْ حَامِلًا.أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا فَلَا سُكْنَى لَهَا.وَلَوْ وُطِئَتِ الرَّجْعِيَّةُ بِشُبْهَةٍ، أَوْ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ، ثُمَّ بَانَ بِهَا حَمْلٌ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الزَّوْجِ أَوْ مِنَ الْوَاطِئِ فَعَلَيْهِمَا الْأُجْرَةُ حَتَّى تَضَعَ، وَالنَّفَقَةُ بَعْدَ الْوَضْعِ حَتَّى يَنْكَشِفَ الْأَبُ مِنْهُمَا، فَيَرْجِعَ مَنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ عَلَى الْآخَرِ بِمَا أَنْفَعَهُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى عَنْهُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ.

السُّكْنَى مَعَ الْمُعْتَدَّةِ:

16- يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ الْمُطَلِّقِ مُسَاكَنَةُ الْمُعْتَدَّةِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرَّجْعِيَّةِ وَالْبَائِنِ، إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الدَّارُ لَهُمَا وَمَعَهُمَا مَحْرَمٌ، يُشْتَرَطُ فِيهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا بَصِيرًا، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى.

فَإِنْ كَانَ الَّذِي مَعَهُمَا مَحْرَمًا لَهُ، فَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ أُنْثَى، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمَا مَحْرَمٌ لَهُ إِنْ كَانَ ذَكَرًا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ الدُّخُولُ عَلَى مُطَلَّقَتِهِ الرَّجْعِيَّةِ وَلَوْ كَانَ مَعَهَا مَنْ يَحْفَظُهَا، وَلَا يُبَاحُ لَهُ السَّكَنُ مَعَهَا فِي دَارٍ جَامِعَةٍ لَهَا وَلِلنَّاسِ.وَحُجَّتُهُمْ فِي تَحْرِيمِ الِاخْتِلَاءِ بِهَا أَنَّ الطَّلَاقَ مُضَادٌّ لِلنِّكَاحِ الَّذِي قَدْ سَبَّبَ الْإِبَاحَةَ وَالْإِبْقَاءَ لِلضِّدِّ مَعَ وُجُودِ ضِدِّهِ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا وَجَبَ الِاعْتِدَادُ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْكُنَا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ إِذَا كَانَ الْمُطَلِّقُ عَدْلًا، سَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا أَوْ ثَلَاثًا.وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُحَالَ بَيْنَهُمَا فِي الْبَيْنُونَةِ بِسِتْرٍ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ فَاسِقًا فَيُحَالُ بَيْنَهُمَا بِامْرَأَةٍ ثِقَةٍ تَقْدِرُ عَلَى الْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُمَا.وَإِنْ تَعَذَّرَ فَلْتَخْرُجْ هِيَ وَتَعْتَدَّ فِي مَنْزِلٍ آخَرَ.وَكَذَا لَوْ ضَاقَ الْبَيْتُ.وَإِنْ خَرَجَ هُوَ كَانَ أَوْلَى، وَلَهُمَا أَنْ يَسْكُنَا بَعْدَ الثَّلَاثِ، إِذَا لَمْ يَلْتَقِيَا الْتِقَاءَ الْأَزْوَاجِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ خَوْفُ فِتْنَةٍ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَمَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنَّ لِلْمُطَلِّقِ السُّكْنَى مَعَ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ، كَمَا أَنَّ لَهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ لَهُ، وَلَا تَحْصُلُ الرَّجْعَةُ بِمُبَاشَرَتِهَا مِنَ الْقُبْلَةِ وَنَحْوِهَا، لَكِنْ تَحْصُلُ بِالْوَطْءِ، وَأَمَّا الْبَائِنُ فَلَا سُكْنَى لَهَا، وَتَعْتَدُّ حَيْثُ شَاءَتْ.فَلَوْ كَانَتْ دَارُ الْمُطَلِّقِ مُتَّسَعَةً لَهُمَا، وَأَمْكَنَهَا السُّكْنَى فِي غُرْفَةٍ مُنْفَرِدَةٍ، وَبَيْنَهُمَا بَابٌ مُغْلَقٌ (أَيْ بِمَرَافِقِهَا) وَسَكَنَ الزَّوْجُ فِي الْبَاقِي جَازَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا بَابٌ مُغْلَقٌ وَوُجِدَ مَعَهَا مَحْرَمٌ تَتَحَفَّظُ بِهِ جَازَ، وَإِلاَّ لَمْ يَجُزْ.

سَكَنُ الْحَاضِنَةِ:

17- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سُكْنَى الْحَاضِنَةِ، إِذَا لَمْ تَكُنْ هِيَ الْأُمَّ فِي حَالِ كَوْنِهَا فِي عِصْمَةِ الْأَبِ.

فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ لَهَا السُّكْنَى فِي مَالِ الْمَحْضُونِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَإِلاَّ فَعَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ.وَقَالَ آخَرُونَ: لَا سُكْنَى لَهَا عَلَى مَنْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ، وَلَيْسَ لَهَا إِلاَّ أُجْرَةُ الْحَضَانَةِ.

وَانْظُرِ التَّفْصِيلَ فِي مُصْطَلَحِ: (حَضَانَة).

سُكْنَى الْقَرِيبِ:

18- تَجِبُ سُكْنَى الْقَرِيبِ الْمُعْسِرِ الْعَاجِزِ عَنِ الْكَسْبِ حَيْثُ تَجِبُ نَفَقَتُهُ بِشُرُوطٍ.

وَتَفْصِيلُهُ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَفَقَة).

السُّكْنَى بِاعْتِبَارِهَا مُتَرَتِّبَةً عَلَى تَصَرُّفٍ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ:

19- (1) إجَارَةُ السُّكْنَى.

(2) بَيَانُ مَحِلِّ السُّكْنَى.

السُّكْنَى مَنْفَعَةٌ مِنَ الْمَنَافِعِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَحَلٍّ تُسْتَوْفَى مِنْهُ.وَهَذَا الْمَحَلُّ هُوَ الدُّورُ، وَبَيَانُ الْمَحَلِّ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْإِجَارَةِ.

وَيَتَحَقَّقُ بَيَانُهُ بِبَيَانِ الْعَيْنِ الَّتِي وَقَعَتِ الْإِجَارَةُ عَلَى مَنْفَعَتِهَا، كَمَا إِذَا قَالَ: اسْتَأْجَرْتُ هَذِهِ الدَّارَ لِلسُّكْنَى، أَوْ يَقُولُ الْمُؤَجِّرُ: أَجَّرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ.فَلَوْ قَالَ: أَجَّرْتُكَ إِحْدَى هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ لِلسُّكْنَى، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ؛ لِجَهَالَةِ مَحَلِّ الْعَقْدِ جَهَالَةً مُفْضِيَةً لِلنِّزَاعِ.

وَلَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَنْ يَسْكُنُهَا، وَلَا مَا سَيَعْمَلُ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ كَافٍ فِي ذَلِكَ.وَلِأَنَّ مَنَافِعَ السُّكْنَى غَيْرُ مُتَفَاوِتَةٍ، وَالتَّفَاوُتُ فِيهَا مُتَسَامَحٌ فِيهِ عُرْفًا.

يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: وَلَمْ يُشْتَرَطْ بَيَانُ مَا يُعْمَلُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ شُرِعَتْ لِلِانْتِفَاعِ، وَالدُّورُ وَالْمَنَازِلُ وَالْبُيُوتُ وَنَحْوُهَا مُعَدَّةٌ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا لِلسُّكْنَى، وَمَنَافِعُ الْعَقَارِ الْمُعَدِّ لِلسُّكْنَى مُتَقَارِبَةٌ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَتَفَاوَتُونَ فِي السُّكْنَى، فَكَانَتْ مَعْلُومَةً مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ، وَكَذَا الْمَنْفَعَةُ لَا تَتَفَاوَتُ بِكَثْرَةِ السُّكَّانِ وَقِلَّتِهِمْ إِلاَّ تَفَاوُتًا يَسِيرًا، وَإِنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ، وَكَذَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُسْكِنَ نَفْسَهُ وَأَنْ يُسْكِنَ غَيْرَهُ.

وَتُرَاعَى فِي ذَلِكَ أَحْكَامُ الْإِجَارَةِ، انْظُرْ (إِجَارَة).

الْوَصِيَّةُ بِالسُّكْنَى:

20- الْوَصِيَّةُ بِالسُّكْنَى نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْوَصِيَّةِ، وَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً عَنِ الْوَقْتِ أَوْ مُقَيَّدَةً بِوَقْتٍ، وَفِي كُلٍّ إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِمُعَيَّنٍ كَزَيْدٍ، أَوْ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ كَفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ.فَإِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالسُّكْنَى مُطْلَقَةً وَهِيَ لِمُعَيَّنٍ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ لِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِسُكْنَى الدَّارِ مَا عَاشَ، فَإِذَا مَاتَ انْتَقَلَتِ السُّكْنَى إِلَى مِلْكِ صَاحِبِ الْعَيْنِ- وَهُمْ وَرَثَةُ الْمُوصِي- لِبُطْلَانِهَا بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ.

وَيُشْتَرَطُ لِانْتِفَاعِ الْمُوصَى لَهُ بِالسُّكْنَى أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الْمُوصَى بِسُكْنَاهَا تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمُوصِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَى هَذِهِ الدَّارِ الْمُوصَى بِسُكْنَاهَا، فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ يَسْكُنُ ثُلُثَهَا وَوَرَثَةُ الْمُوصِي يَسْكُنُونَ ثُلُثَيْهَا، مَا دَامَ الْمُوصَى لَهُ حَيًّا، فَإِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ تُرَدُّ إِلَيْهِمِ الْمَنْفَعَةُ كَامِلَةً.وَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالسُّكْنَى مُطْلَقَةً وَلِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَفِي جَوَازِهَا خِلَافٌ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ، فَأَبُو حَنِيفَةَ يَرَى عَدَمَ جَوَازِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ، وَيَرَى صَاحِبَاهُ جَوَازَهَا.

أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِالسُّكْنَى مُؤَقَّتَةً بِمُدَّةٍ مُحَدَّدَةٍ كَسَنَةٍ مَثَلًا، فَيُنْظَرُ: هَلْ لِلْمُوصِي مَالٌ آخَرُ غَيْرُ هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي أَوْصَى بِسُكْنَاهَا سَنَةً مُعَيَّنَةً؟ فَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ سُلِّمَتِ الدَّارُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ لِيَسْكُنَهَا السَّنَةَ الْمَذْكُورَةَ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهَا الْوَرَثَةُ قُسِمَتْ سُكْنَى الدَّارِ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَالْوَرَثَةِ أَثْلَاثًا، ثُلُثُهَا لِلْمُوصَى لَهُ، وَثُلُثَاهَا لِوَرَثَةِ الْمُوصَى.وَإِنْ أَوْصَى بِسُكْنَاهَا سَنَةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ فَإِنَّ الدَّارَ تُسَلَّمُ لِلْمُوصَى لَهُ لِيَسْكُنَهَا إِذَا أَجَازَ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ، فَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهَا قُسِمَتِ الدَّارُ أَثْلَاثًا يَسْكُنُ الْمُوصَى لَهُ ثُلُثَهَا لِمُدَّةِ ثَلَاثِ سَنَوَاتٍ.

فَإِذَا انْتَهَتِ الْمُدَّةُ الْمَذْكُورَةُ رَدَّ الثَّلَاثَ إِلَى الْوَرَثَةِ، وَتَكُونُ بِذَلِكَ الدَّارُ جَمِيعُهَا لِلْوَرَثَةِ.

أَمَّا إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهَا، فَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ يَسَعُ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ سُلِّمَتِ الدَّارُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ لِيَسْكُنَهَا السَّنَةَ الْمُحَدَّدَةَ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ لَا يَسَعُ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ فَإِنْ أَجَازَهَا الْوَرَثَةُ سُلِّمَتِ الدَّارُ لِلْمُوصَى لَهُ لِيَسْكُنَهَا السَّنَةَ الْمُحَدَّدَةَ وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوهَا فَإِنَّهُ يَسْكُنُ بِمِقْدَارِ الثُّلُثِ حَسَبَ التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ.

وَإِنْ عَيَّنَ الْمُوصِي السَّنَةَ الَّتِي أَوْصَى بِسُكْنَاهَا فَمَضَتْ تِلْكَ السَّنَةُ قَبْلَ وَفَاةِ الْمُوصِي، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَبْطُلُ بِفَوَاتِهَا؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تُنْتِجُ أَثَرَهَا إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي.وَإِذَا مَاتَ فِي أَثْنَاءِ تِلْكَ السَّنَةِ الْمُعَيَّنَةِ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَبْطُلُ فِيمَا مَضَى قَبْلَ وَفَاتِهِ.أَمَّا مَا يَبْقَى مِنَ السَّنَةِ بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوصِي فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ الْحَقُّ فِي سُكْنَى هَذِهِ الْعَيْنِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالسُّكْنَى لِدَارٍ مُعَيَّنَةٍ إِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ يَسْتَحِقُّ الثُّلُثَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُؤَقَّتَةً فَيُنْظَرُ إِنْ كَانَ يَحْمِلُ الثُّلُثُ قِيمَتَهَا فَيَتَعَيَّنُ تَسْلِيمُ الْمُوصَى بِهِ إِلَى الْمُوصَى لَهُ لِيَسْكُنَهُ.وَإِنْ لَمْ يَحْمِلِ الثُّلُثُ قِيمَةَ الْعَيْنِ الْمُوصَى بِسُكْنَاهَا خُيِّرَ الْوَارِثُ بَيْنَ أَنْ يُجِيزَ الْوَصِيَّةَ أَوْ يَخْلَعَ ثُلُثَ جَمِيعِ التَّرِكَةِ مِنَ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ عِوَضًا أَوْ عَيْنًا أَوْ غَيْرَهُمَا، وَيُعْطِيَهُ لِلْمُوصَى لَهُ، وَبِهَذَا يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ جَمِيعِ مَا تَرَكَهُ الْمُوصِي.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلسُّكْنَى مُطْلَقَةً عَنِ التَّأْقِيتِ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ، فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ يَمْلِكُ سَكَنَ الدَّارِ، وَلَهُ حَقُّ تَأْجِيرِهَا وَإِعَارَتِهَا لِغَيْرِهِ وَالْإِيصَاءِ بِمَنْفَعَتِهَا وَتُورَثُ عَنْهُ مَنْفَعَتُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ.وَإِذَا كَانَتْ مُؤَقَّتَةً بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، كَسَنَةٍ أَوْ كَحَيَاةِ الْمُوصَى لَهُ، فَإِنَّ الْمُوصَى لَهُ يَنْتَفِعُ بِالسُّكْنَى بِنَفْسِهِ الْمُدَّةَ الْمُعَيَّنَةَ أَوْ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ أَوْ أَنْ يُعِيرَ، وَلَا تُورَثُ عَنْهُ إِذَا مَاتَ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالسُّكْنَى هُنَا مِنْ قَبِيلِ الْإِبَاحَةِ وَلَيْسَتْ تَمْلِيكًا.

وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُوصَى لَهُ تَأْجِيرُ الْمُوصَى بِهِ إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُقَيَّدَةً بِالِاسْتِعْمَالِ كَالسُّكْنَى؛ هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا؛ وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمِلْكَ هُنَا بِالْمَجَّانِ وَالتَّمْلِيكُ بِالْإِجَارَةِ تَمْلِيكٌ بِعِوَضٍ، وَهَذَا أَقْوَى مِنَ التَّمْلِيكِ مَجَّانًا، وَمَنْ مَلَكَ الْأَضْعَفَ لَا يَمْلِكُ الْأَقْوَى.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَقُولُونَ: إِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِسُكْنَى الدَّارِ تُسَلَّمُ لَهُ الدَّارُ لِيَسْكُنَهَا، وَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ يَسَعُهَا الثُّلُثُ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ مُطْلَقَةً أَمْ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً بِمُدَّةٍ مُحَدَّدَةٍ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لَا يَسَعُهَا الثُّلُثُ فَإِنَّ الَّذِي يَجُوزُ مِنْهَا هُوَ مَا يَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ فَقَطْ.

وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ لِلْمُوصَى لَهُ بِسُكْنَى الدَّارِ أَنْ يُؤَجِّرَ مَا لَهُ حَقُّ السُّكْنَى فِيهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


286-موسوعة الفقه الكويتية (سن)

سِنّ

التَّعْرِيفُ:

1- السِّنُّ لُغَةً: وَاحِدَةُ الْأَسْنَانِ، وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَظْمِ تَنْبُتُ فِي الْفَكِّ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، يُقَالُ: هَذِهِ سِنٌّ، وَجَمْعُهَا: أَسْنَانٌ.

وَلِلْإِنْسَانِ اثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ سِنًّا أَرْبَعُ ثَنَايَا، وَأَرْبَعُ رَبَاعِيَاتٍ، وَأَرْبَعَةُ أَنْيَابٍ، وَأَرْبَعَةُ نَوَاجِذَ، وَسِتَّةَ عَشَرَ ضِرْسًا.

وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: أَرْبَعُ ثَنَايَا، وَأَرْبَعُ رَبَاعِيَاتٍ، وَأَرْبَعُ أَنْيَابٍ، وَأَرْبَعَةُ نَوَاجِذَ، وَأَرْبَعُ ضَوَاحِكَ وَاثْنَتَا عَشْرَةَ رَحًى.

وَبَعْضُهُمْ يُقَسِّمُ الْأَسْنَانَ إِلَى قَوَاطِعَ وَضَوَاحِكَ وَطَوَاحِنَ.

وَالسِّنُّ مِنَ الشَّيْءِ: كُلُّ جُزْءٍ مُسَنَّنٌ مُحَدَّدٌ عَلَى هَيْئَتِهَا مِثْلُ سِنِّ الْمُشْطِ، أَوِ الْمِنْجَلِ، أَوِ الْمِنْشَارِ، أَوِ الْمِفْتَاحِ، أَوِ الْقَلَمِ، وَأَسَنَّ فُلَانٌ: إِذَا نَبَتَ سِنُّهُ أَوْ كَبِرَتْ سِنُّهُ؛ أَيْ عُمْرُهُ، وَسَنَّنَ الرَّجُلَ؛ أَيْ قَدَّرَ لَهُ عُمْرًا بِالتَّخْمِينِ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ سِنُّ فُلَانٍ: إِذَا كَانَ مِثْلَهُ فِي السِّنِّ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسِّنِّ:

أ- الْقِصَاصُ فِي قَلْعِ السِّنِّ:

2- أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ إِذَا كَانَ مُتَعَمَّدًا لقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} الْآيَةَ، وَلِحَدِيثِ أَنَسٍ- رضي الله عنه-: إِنَّ عَمَّتَهُ «الرُّبَيِّعَ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَضَى نَبِيُّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالْقِصَاصِ، فَقَالَ أَخُوهَا أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ لَا وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا.قَالَ: وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ سَأَلُوا أَهْلَهَا الْعَفْوَ وَالْأَرْشَ، فَلَمَّا حَلَفَ أَخُوهَا وَهُوَ عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ الْقَوْمُ بِالْعَفْوِ فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ».

وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَ فِي السِّنِّ اسْتِيفَاءُ الْمُمَاثَلَةِ، لِكَوْنِهَا مَحْدُودَةً فِي نَفْسِهَا، فَوَجَبَ فِيهَا الْقِصَاصُ.

فَتُؤْخَذُ السِّنُّ الصَّحِيحَةُ بِالسِّنِّ الصَّحِيحَةِ، وَالْمَكْسُورَةُ أَوِ السَّوْدَاءُ أَوِ الصَّفْرَاءُ أَوِ الْحَمْرَاءُ أَوِ الْخَضْرَاءُ بِالصَّحِيحَةِ، إِنْ شَاءَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَيْبُ فِي سِنِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَلَا قِصَاصَ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ، وَيَنْتَقِلُ إِلَى الْأَرْشِ كَمَا يَأْتِي.

وَتُؤْخَذُ الْعُلْيَا بِالْعُلْيَا وَالسُّفْلَى بِالسُّفْلَى وَالثَّنِيَّةُ بِالثَّنِيَّةِ وَالنَّابُ بِالنَّابِ وَالضَّاحِكُ بِالضَّاحِكِ، وَالضِّرْسُ بِالضِّرْسِ؛ لِتَحَقُّقِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْمَكَانِ، وَلَا يُؤْخَذُ الْأَعْلَى بِالْأَسْفَلِ، وَلَا الْأَسْفَلُ بِالْأَعْلَى؛ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْمَكَانِ.

وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يَرَى قَلْعَ سِنِّ الْجَانِي الَّذِي قَلَعَ سِنَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِإِمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ بِلَا حَيْفٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْلَعُ سِنُّ الْجَانِي، وَإِنَّمَا تُبْرَدُ إِلَى اللَّحْمِ، وَيُكْسَرُ مَا ظَهَرَ مِنَ السِّنِّ وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنِ الْجُزْءِ الدَّاخِلِ فِي اللِّثَةِ؛ لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ إِذْ رُبَّمَا تَفْسُدُ اللِّثَةُ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ فِيهِ أَنْ يَفْعَلَ الْمَقْلُوعُ أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلَ الْقَالِعُ.

وَنُقِلَ عَنِ الْمَقْدِسِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلُهُ: يَنْبَغِي اخْتِيَارُ الْبَرْدِ خُصُوصًا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْقَلْعِ كَمَا لَوْ كَانَتْ أَسْنَانُهُ غَيْرَ مُفَلَّجَةٍ، بِحَيْثُ يَخَافُ مِنْ قَلْعِ وَاحِدٍ أَنْ يَتْبَعَهُ غَيْرُهُ، أَوْ أَنْ تَفْسُدَ اللِّثَةُ.وَقَالَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ هَذَا الرَّأْيَ هُوَ الْمُفْتَى بِهِ.

وَمِثْلُ الْقَلْعِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، إِذَا اضْطَرَبَتِ السِّنُّ اضْطِرَابًا شَدِيدًا جِدًّا، حَتَّى وَإِنْ ثَبَتَتْ أَوْ نَبَتَتْ مِنْ مَكَانِهَا أُخْرَى أَوْ رَدَّ الْمَقْلُوعَةَ فَنَبَتَتْ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ يَوْمُ الْجِنَايَةِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقِصَاصِ إيلَامُ الْجَانِي لِرَدْعِهِ وَرَدْعِ أَمْثَالِهِ.

ب- الْقِصَاصُ بِكَسْرِ السِّنِّ:

3- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِ وَتُسْتَوْفَى بِالتَّبْرِيدِ فَيُؤْخَذُ النِّصْفُ بِالنِّصْفِ، وَالثُّلُثُ بِالثُّلُثِ، وَكُلُّ جُزْءٍ بِمِثْلِهِ.وَلَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ بِالْمِسَاحَةِ كَيْ لَا يُفْضِيَ إِلَى أَخْذِ جَمِيعِ سِنِّ الْجَانِي بِبَعْضِ سِنِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ.وَيَكُونُ الْقِصَاصُ بِالْمِبْرَدِ لِيُؤْمَنَ أَخْذُ الزِّيَادَةِ، وَلَا يُقْتَصُّ حَتَّى يَقُولَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ: إِنَّهُ تُؤْمَنُ انْقِلَاعُهَا أَوِ السَّوَادُ فِيهَا؛ لِأَنَّ تَوَهُّمَ الزِّيَادَةِ يَمْنَعُ الْقِصَاصَ، وَدَلِيلُهُمْ حَدِيثُ «الرُّبَيِّعِ فَإِنَّهَا كَسَرَتْ سِنَّ جَارِيَةٍ فَأَمَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِالْقِصَاصِ»؛ وَلِأَنَّ مَا جَرَى الْقِصَاصُ فِي جُمْلَتِهِ جَرَى فِي بَعْضِهِ إِذَا أَمْكَنَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي كَسْرِ السِّنِّ؛ لِعَدَمِ الْوُثُوقِ بِالْمُمَاثَلَةِ؛ لِأَنَّ الْكَسْرَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الضَّبْطِ، فَإِنْ أَمْكَنَ دُخُولُهُ تَحْتَ الضَّبْطِ وَجَبَ الْقِصَاصُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ- رحمه الله- (-: وَإِذَا كَسَرَ رَجُلٌ سِنَّ رَجُلٍ مِنْ نِصْفِهَا سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَإِنْ قَالُوا: نَقْدِرُ عَلَى كَسْرِهَا مِنْ نِصْفِهَا بِلَا إِتْلَافٍ لِبَقِيَّتِهَا وَلَا صَدْعٍ، أَقْرَرْتُهُ، وَإِنْ قَالُوا: لَا نَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، لَمْ نُقِرُّهُ لِتَفَتُّتِهَا.

ج- قَلْعُ سِنِّ مَنْ لَمْ يُثْغِرْ:

4- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ إِلاَّ مِنْ سِنِّ مَنْ أَثْغَرَ؛ أَيْ: سَقَطَتْ رَوَاضِعُهُ ثُمَّ نَبَتَتْ.

أَمَّا إِذَا قَلَعَ سِنَّ مَنْ لَمْ يُثْغِرْ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْجَانِي فِي الْحَالِ بِقِصَاصٍ أَوْ دِيَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ إِتْلَافُهَا حَيْثُ إِنَّهَا قَدْ تَعُودُ غَالِبًا بِحُكْمِ الْعَادَةِ.

فَإِنْ جَاءَ وَقْتُ نَبَاتِهَا ثُمَّ نَبَتَتْ سَلِيمَةً فِي مَحَلِّهَا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْجَانِي؛ أَيْ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ كَمَا لَوْ قَلَعَ شَعْرَةً ثُمَّ نَبَتَتْ.إِلاَّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يَرَى وُجُوبَ حُكُومَةٍ لِلْأَلَمِ وَأُجْرَةِ الطَّبِيبِ وَإِنْ عَادَتْ بَدَلُ السِّنِّ نَاقِصَةً ضَمِنَ مَا نَقَصَ مِنْهَا بِالْحِسَابِ، فَفِي ثُلُثِهَا ثُلُثُ دِيَتِهَا، وَفِي رُبُعِهَا رُبُعُ دِيَتِهَا، وَفِي نِصْفِهَا نِصْفُ دِيَتِهَا وَهَكَذَا.فَإِنْ نَبَتَتْ سَوْدَاءَ أَوْ حَمْرَاءَ، أَوْ صَفْرَاءَ، أَوْ خَضْرَاءَ، أَوْ مَائِلَةً عَنْ مَحَلِّهَا، أَوْ مُعْوَجَّةً، أَوْ بَقِيَ شَيْءٌ مَعَهَا بَعْدَ النَّبَاتِ، أَوْ نَبَتَتْ أَطْوَلَ مِمَّا كَانَتْ، أَوْ نَبَتَتْ مَعَهَا سِنٌّ شَاغِبَةٌ، وَهِيَ الزَّائِدَةُ الْمُخَالِفَةُ لِنَبْتَةِ غَيْرِهَا مِنَ الْأَسْنَانِ وَجَبَتْ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ لِأَنَّهُ نَقْصٌ حَصَلَ بِفِعْلِهِ، وَكَذَا إِنْ عَادَتْ وَالدَّمُ يَسِيلُ لِأَنَّهُ نَقْصٌ حَصَلَ بِفِعْلِهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ، وَإِنْ جَاءَ وَقْتُ نَبَاتِهَا وَلَمْ تَنْبُتْ بِأَنْ سَقَطَتِ الْبَوَاقِي وَنَبَتْنَ دُونَ الْمَقْلُوعَةِ سُئِلَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ وَالطِّبِّ، فَإِنْ قَالُوا: قَدْ يُئِسَ مِنْ عَوْدِهَا لِفَسَادِ مَنْبَتِهَا، فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْقِصَاصِ، أَوْ دِيَةِ السِّنِّ، وَإِنْ قَالُوا: يُتَوَقَّعُ نَبَاتُهَا إِلَى وَقْتِ كَذَا، انْتُظِرَ، فَإِنْ مَضَى الْوَقْتُ وَلَمْ تَنْبُتْ وَجَبَ الْقِصَاصُ أَيْضًا، وَلَا يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ لِلصَّغِيرِ فِي صِغَرِهِ بَلْ يُنْتَظَرُ بُلُوغُهُ لِيَسْتَوْفِيَ هُوَ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لِلتَّشَفِّي.

فَإِنْ مَاتَ الصَّبِيُّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ قَبْلَ حُصُولِ الْيَأْسِ وَقَبْلَ تَبَيُّنِ الْحَالِ فَلَا قِصَاصَ لِوَارِثِهِ وَكَذَا لَا دِيَةَ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْبَرَاءَةُ وَنَبَاتُ السِّنِّ لَوْ عَاشَ.فَعَلَى هَذَا: تَجِبُ الْحُكُومَةُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ أَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ لِوَرَثَةِ الصَّبِيِّ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ لِأَنَّ الْقَلْعَ مَوْجُودٌ وَالْعَوْدَ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَلَا يَتَأَتَّى النَّبَاتُ بَعْدَ الْمَوْتِ، أَمَّا إِذَا مَاتَ بَعْدَ الْيَأْسِ فَيَقْتَصُّ وَارِثُهُ فِي الْحَالِ أَوْ يَأْخُذُ الْأَرْشَ.

وَقْتُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي قَلْعِ السِّنِّ:

5- إِنْ قَلَعَ سِنَّ مَنْ قَدْ أَثْغَرَ فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْحَالِ، دُونَ انْتِظَارِ نَبَاتِهَا مِنْ جَدِيدٍ لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ عَوْدِهَا.وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُنْظَرُ وَيُسْأَلُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ فَإِنْ قَالُوا: لَا تَعُودُ، فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْحَالِ.وَإِنْ قَالُوا: يُرْجَى عَوْدُهَا إِلَى وَقْتٍ يَذْكُرُونَهُ، لَمْ يُقْتَصَّ حَتَّى يَأْتِيَ ذَلِكَ الْوَقْتُ.فَإِنْ لَمْ تَنْبُتْ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ عَادَتْ لَمْ يَجِبْ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ لِأَنَّ مَا عَادَ قَامَ مَقَامَ الْأَوَّلِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْقُطْ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ النَّابِتَ لَا يَكُونُ عِوَضًا عَنِ الْفَائِتِ بَلْ هُوَ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الضَّمَانُ إِذَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ، كَمَنْ أَتْلَفَ مَالَ إِنْسَانٍ.ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَزَقَ الْمُتْلَفَ عَلَيْهِ مِثْلَ الْمُتْلَفِ، وَكَالْتِحَامِ الْجَائِفَةِ أَوِ انْدِمَالِ الْمُوضِحَةِ أَوْ نَبْتِ اللِّسَانِ.

فَإِنْ قَلَعَ رَجُلٌ سِنَّ رَجُلٍ فَرَدَّهَا صَاحِبُهَا إِلَى مَكَانِهَا فَاشْتَدَّتْ وَالْتَحَمَتْ، فَعَلَى الْجَانِي الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَتَأَلَّمَ بِمِثْلِ مَا فَعَلَ وَعَلَيْهِ دِيَةُ السِّنِّ فِي الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ الْمُعَادَةَ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا كَمَا كَانَتْ لِانْقِطَاعِ الْعُرُوقِ، بَلْ تَبْطُلُ بِأَدْنَى شَيْءٍ، فَكَانَتْ إِعَادَتُهَا وَعَدَمُ إِعَادَتِهَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا رَأْيُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ) إِلاَّ أَنَّ ابْنَ عَابِدِينَ حَكَى عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ قَوْلَهُ: إِنْ عَادَتِ السِّنُّ إِلَى حَالَتِهَا الْأُولَى فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْجَمَالِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

الْحُكْمُ إِنْ نَبَتَتِ السِّنُّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ:

6- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ نَبَتَتِ السِّنُّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ أَوْ أَخْذِ الْأَرْشِ فَلَيْسَ لِلْجَانِي قَلْعُهَا ثَانِيَةً وَلَا اسْتِرْدَادُ الْأَرْشِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ لِلْجَانِي أَنْ يَسْتَرِدَّ الْأَرْشَ الَّذِي دَفَعَهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ إِذَا كَانَ لَمْ يَدْفَعْ وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ لَهُ قَلْعُ السِّنِّ مَرَّةً أُخْرَى إِذَا كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ قَدِ اسْتُوْفِيَ الْقِصَاصُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِفِعْلِهِ الْعُدْوَانَ.

وَمَجْرَى الْخِلَافِ الْمُتَعَلِّقِ بِاسْتِرْدَادِ الْأَرْشِ أَوْ عَدَمِهِ فِي السِّنِّ النَّابِتَةِ لِمَنْ قَدْ أَثْغَرَ، إِلاَّ أَنَّ رَأْيَ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِثْلُ رَأْيِ الْحَنَابِلَةِ وَمَنْ مَعَهُمْ فِي وُجُوبِ اسْتِرْدَادِ الْأَرْشِ لِلْجَانِي بَعْدَ أَخْذِهِ مِنْهُ وَعَدَمِ لُزُومِهِ عَلَيْهِ قَبْلَ دَفْعِهِ، وَيَرَوْنَ كَذَلِكَ وُجُوبَ الْأَرْشِ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الَّذِي اقْتُصَّ مِنَ الْجَانِي ثُمَّ نَبَتَتْ سِنُّهُ لِتَبَنِّي الْخَطَأِ فِي الْقِصَاصِ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لَهُ فَسَادُ الْمَنْبَتِ وَلَمْ يَفْسُدْ حَيْثُ نَبَتَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى فَانْعَدَمَتِ الْجِنَايَةُ.

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ إِذَا كَانَ مِمَّنْ أَثْغَرَ وَأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ مِنَ الْجَانِي أَوْ يَأْخُذَ الْأَرْشَ.

وَقْتُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ:

7- اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي وَقْتِ الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى وُجُوبِ تَأْجِيلِهِ لِمُدَّةِ حَوْلٍ كَامِلٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَقْلُوعَةً أَوْ مُتَحَرِّكَةً أَوْ مَكْسُورَةً، وَسَوَاءٌ كَانَتْ سِنَّ كَبِيرٍ أَوْ صَغِيرٍ، وَذَلِكَ لِاحْتِمَالِ نَبَاتِهَا فِي حَالَةِ الْقَلْعِ وَسُقُوطِ أَوْ ثُبُوتِ الْمُتَحَرِّكَةِ وَلِتَغَيُّرِ الْمَكْسُورَةِ أَوْ عَدَمِ تَغَيُّرِهَا، وَأَصْلُ هَذَا الرَّأْيِ مَنْسُوبٌ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ.

وَقِيلَ: يُفَرَّقُ بَيْنَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، فَلَا يَنْتَظِرُ الْبَالِغُ لِأَنَّ نَبَاتَ سِنِّ الْكَبِيرِ نَادِرٌ، وَيَنْتَظِرُ الصَّبِيُّ لِأَنَّ سِنَّهُ تَنْبُتُ غَالِبًا، وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.وَقِيلَ: يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمَقْلُوعَةِ، وَالْمُتَحَرِّكَةِ، وَالْمَكْسُورَةِ، فَلَا يُنْتَظَرُ نَبَاتُ الْمَقْلُوعَةِ بَلْ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يَأْخُذَ الْأَرْشَ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ السِّنَّ إِذَا سَقَطَتْ فَلَا تَنْبُتُ غَالِبًا مِنْ جَدِيدٍ.وَيُنْتَظَرُ إِذَا تَحَرَّكَتْ مِنَ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَسْقُطُ أَوْ تَثْبُتُ، وَكَذَا الْمَكْسُورَةُ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَتَغَيَّرُ بِاسْوِدَادٍ أَوِ احْمِرَارٍ أَوِ اصْفِرَارٍ أَوِ اخْضِرَارٍ، أَوْ لَا تَتَغَيَّرُ فَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ، وَأَصْلُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَنْسُوبَةٌ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ.

عَوْدُ سِنِّ الْجَانِي بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ:

8- إِنْ عَادَتْ سِنُّ الْجَانِي بَعْدَ أَنِ اقْتُصَّ مِنْهُ دُونَ سِنِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْلَعَهَا ثَانِيَةً وَثَالِثَةً؛ لِأَنَّ الْجَانِيَ أَفْسَدَ مَنْبَتَهُ فَيُكَرَّرُ عَلَيْهِ الْقَلْعُ حَتَّى يَفْسُدَ مَنْبَتُهُ.

وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْلَعَهُ لِأَنَّهُ قَابَلَ قَلْعًا بِقَلْعٍ فَلَا تُثَنَّى عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ؛ وَلِئَلاَّ يَأْخُذَ سِنِينَ بِسِنٍّ وَاحِدَةٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} لَكِنْ لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْأَرْشُ لِخُرُوجِ الْقَلْعِ الْأَوَّلِ عَلَى كَوْنِهِ قِصَاصًا، وَكَأَنَّهُ تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ بِسَبَبٍ.

وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا شَيْءَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عَوْدَةَ السِّنِّ لِلْجَانِي هِبَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ بِمَا سَبَقَ.

الْقِصَاصُ فِي قَطْعِ غَيْرِ الْمَثْغُورِ سِنَّ مَثْغُورٍ:

9- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَلَعَ غَيْرُ مَثْغُورٍ سِنَّ مَثْغُورٍ، فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ إِنْ كَانَ بَالِغًا، أَوْ يَأْخُذَ الْأَرْشَ.

وَإِذَا اقْتَصَّ فَلَيْسَ لَهُ مَعَ الْقِصَاصِ شَيْءٌ آخَرُ.

أَمَّا إِنْ كَانَ الْجَانِي غَيْرَ بَالِغٍ فَلَا قِصَاصَ، وَإِنْ قَلَعَ سِنًّا زَائِدَةً قَلَعَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ لَهُ سِنًّا مِثْلَهَا.إِنْ كَانَتْ لِلْمُسَاوَاةِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ سِنٌّ زَائِدَةٌ فَعَلَى الْجَانِي حُكُومَةٌ لِتَعَذُّرِ الْقِصَاصِ بِسَبَبِ فِقْدَانِ الْمُمَاثَلَةِ.

وَإِنْ قَلَعَ غَيْرُ مَثْغُورٍ سِنَّ غَيْرِ مَثْغُورٍ آخَرَ فَلَا قِصَاصَ فِي الْحَالِ، فَإِنْ نَبَتَتْ فَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ، وَإِنْ لَمْ تَنْبُتْ وَقَدْ دَخَلَ وَقْتُهُ فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ.

الدِّيَةُ:

10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ دِيَةَ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَسْنَانِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمُقَدَّمُ وَالْمُؤَخَّرُ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ».

وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «فِي الْأَسْنَانِ خَمْسٌ خَمْسٌ».وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَة).

حُكْمُ السِّنِّ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:

11- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَّخِذَ سِنًّا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ، وَيَجُوزُ لَهُ كَذَلِكَ أَنْ يَشُدَّ سِنَّهُ الْمُتَحَرِّكَةَ بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ كُلَّمَا دَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى ذَلِكَ.

وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّافِعِيَّةُ قَيْدَ الضَّرُورَةِ، وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الذَّهَبِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالْفِضَّةِ لِمَا رَوَاهُ الْأَثْرَمُ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشُدُّونَ أَسْنَانَهُمْ بِالذَّهَبِ.أَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ مِنْ بَابِ أَوْلَى وَلَكِنْ يَحْرُمُ عَلَيْهَا تَخْلِيلُ أَسْنَانِهَا بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ لِلزِّينَةِ. حُكْمُ تَفْلِيجِ الْأَسْنَانِ:

12- قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَحْرُمُ التَّفَلُّجُ: وَهُوَ بَرْدُ مَا بَيْنَ الثَّنَايَا وَالرَّبَاعِيَاتِ مِنَ الْأَسْنَانِ، لِيَتَبَاعَدَ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ لِلْحُسْنِ وَالزِّينَةِ.

وَيُسَمَّى الْوَشْرَ، وَهُوَ تَحْدِيدُ الْأَسْنَانِ وَتَفْرِيجُ مَا بَيْنَهَا إِيهَامًا لِلْفَلَجِ الْمَحْمُودِ وَهُوَ مِمَّا قَدْ تَفْعَلُهُ الْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ، لِتُوهِمَ النَّاظِرَ أَنَّهَا شَابَّةٌ صَغِيرَةٌ.

وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْوَاشِرَةِ وَالْمُسْتَوْشِرَةِ؛ لِأَنَّهُ تَبْدِيلٌ لِلْهَيْئَةِ وَتَغْيِيرٌ لِخَلْقِ اللَّهِ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّشَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَلأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلأَُضِلَّنَّهُمْ وَلأُِمَنِّيَنَّهُمْ وَلآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} الْآيَةَ.

وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّدْلِيسِ وَالْغِشِّ، وَلِهَذَا لَعَنَ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- مَنْ يَفْعَلْنَهُ وَوَصَفَهُنَّ بِالْمُغَيِّرَاتِ لِخَلْقِ اللَّهِ، فِيمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- » وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَاآتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}.

وَمَحَلُّ هَذَا إِنْ فَعَلَتْهُ لِلْحُسْنِ وَالزِّينَةِ، أَمَّا لَوِ احْتَاجَتْ إِلَيْهِ لِعِلَاجٍ أَوْ عَيْبٍ أَوْ نَحْوِهِمَا فَلَا بَأْسَ بِهِ.أَمَّا تَنْظِيفُ الْأَسْنَانِ فَرَاجِعْ مُصْطَلَحَ: (سِوَاك، وَسُنَن الْفِطْرَةِ، وَسُنَن الْوُضُوءِ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


287-موسوعة الفقه الكويتية (شركة العقد 1)

شَرِكَةُ الْعَقْدِ -1

تَعْرِيفُهَا

1- عَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ شَرِكَةَ الْعَقْدِ بِأَنَّهَا: «عَقْدٌ بَيْنَ الْمُتَشَارِكِينَ فِي الْأَصْلِ وَالرِّبْحِ» كَذَا نَقَلُوهُ عَنْ صَاحِبِ الْجَوْهَرَةِ.

وَقَيْدُ «الْمُتَشَارِكِينَ فِي الْأَصْلِ» يُخْرِجُ الْمُضَارَبَةَ؛ لِأَنَّ التَّشَارُكَ فِيهَا بَيْنَ الْعَامِلِ وَرَبِّ الْمَالِ إِنَّمَا هُوَ فِي الرِّبْحِ، دُونَ الْأَصْلِ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ.

وَعَرَّفَ الْحَنَابِلَةُ شَرِكَةَ الْعَقْدِ بِأَنَّهَا.«اجْتِمَاعٌ فِي تَصَرُّفٍ»، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَشْمَلُ الْمُضَارَبَةَ، الَّتِي هِيَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَقْسَامِ الشَّرِكَةِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ تَعْرِيفُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهَا: «عَقْدٌ يَثْبُتُ بِهِ حَقٌّ شَائِعٌ فِي شَيْءٍ لِمُتَعَدِّدٍ».

وَعَرَّفَهَا ابْنُ عَرَفَةَ بِقَوْلِهِ: بَيْعُ مَالِكِ كُلٍّ بَعْضَهُ بِبَعْضِ كُلِّ الْآخَرِ، مُوجِبُ صِحَّةِ تَصَرُّفِهِمَا فِي الْجَمِيعِ.

وَشَرِكَةُ الْعَقْدِ بِأَنْوَاعِهَا الثَّلَاثَةِ (أَمْوَالٌ وَأَعْمَالٌ وَوُجُوهٌ) جَائِزَةٌ سَوَاءٌ أَكَانَتْ عَنَانًا أَمْ مُفَاوَضَةً.

دَلِيلُ مَشْرُوعِيَّةِ الشَّرِكَةِ:

2- ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ شَرِكَةِ الْعَنَانِ: بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالْمَعْقُولِ:

أ- الْكِتَابُ: قوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}.

وَالْخُلَطَاءُ هُمُ الشُّرَكَاءُ.وَلَكِنَّ هَذَا إِلَى شَرِكَةِ الْمِلْكِ أَدْنَى.ثُمَّ هُوَ قَوْلُ دَاوُدَ لِبَيَانِ شَرِيعَتِهِ، وَلَا يَلْزَمُ اسْتِمْرَارُهَا.كَذَا قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ- عَلَى خِلَافِ قَاعِدَةِ الْحَنَفِيَّةِ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا: فَلَعَلَّهُ تَسَاهَلَ فِيهِ لِأَنَّهُ عِلَاوَةٌ فِي الرَّدِّ.

ب- (السُّنَّةُ):

1- الْحَدِيثُ الْقُدْسِيُّ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ، مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذَا خَانَهُ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا».

(2) حَدِيثُ «السَّائِبِ بْنِ أَبِي السَّائِبِ الْمَخْزُومِيِّ، أَنَّهُ كَانَ شَرِيكَ النَّبِيِّ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فِي التِّجَارَةِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ، قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: مَرْحَبًا بِأَخِي وَشَرِيكِي، لَا يُدَارِي وَلَا يُمَارِي».

(3) حَدِيثُ أَبِي الْمِنْهَالِ عِنْدَ أَحْمَدَ: «أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، وَالْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، كَانَا شَرِيكَيْنِ، فَاشْتَرَيَا فِضَّةً بِنَقْدٍ وَنَسِيئَةٍ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَمَرَهُمَا أَنَّ مَا كَانَ بِنَقْدٍ فَأَجِيزُوهُ، وَمَا كَانَ بِنَسِيئَةٍ فَرُدُّوهُ» وَهُوَ بِمَعْنَاهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَفِي لَفْظِهِ: «مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَخُذُوهُ وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فَرُدُّوهُ».

وَفِيهِ تَقْرِيرٌ صَرِيحٌ.وَهَذَا مِثْلُ وَاحِدٍ مِنْ تَقْرِيرَاتٍ كَثِيرَةٍ لَا مِرْيَةَ فِيهَا عَلَى الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ عَمَلِ الْقَوْمِ، فِي صَدْرِ الدَّعْوَةِ، كَانَ التِّجَارَةَ وَالْمُشَارَكَةَ فِيهَا، وَلِذَا يَقُولُ الْكَمَالُ: إِنَّ التَّعَامُلَ بِالشَّرِكَةِ مِنْ لَدُنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَهَلُمَّ جَرَّا، مُتَّصِلٌ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى إِثْبَاتِ حَدِيثٍ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ قَوْلُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ: أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- بُعِثَ وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهَا فَقَرَّرَهُمْ عَلَيْهَا.

ج- الْإِجْمَاعُ: فَقَدْ كَانَ النَّاسُ وَمَا زَالُوا، يَتَعَامَلُونَ بِهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ شُهُودٌ، فَلَا يَرْتَفِعُ صَوْتٌ بِنَكِيرٍ.

د- الْمَعْقُولُ: فَإِنَّ شَرِكَةَ الْعَنَانِ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ اسْتِثْمَارِ الْمَالِ وَتَنْمِيَتِهِ، تَمَسُّ إِلَيْهِ حَاجَةُ النَّاسِ، قَلَّتْ أَمْوَالُهُمْ أَوْ كَثُرَتْ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَلْمُوسٌ، حَتَّى لَقَدْ كَادَتِ الشَّرِكَاتُ التِّجَارِيَّةُ الْكُبْرَى، الَّتِي يَسْتَحِيلُ عَادَةً عَلَى تَاجِرٍ وَاحِدٍ تَكْوِينُهَا، أَنْ تَكُونَ طَابِعَ هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي نَعِيشُ فِيهِ.هَذَا مِنْ جَانِبٍ، وَمِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، لَيْسَ فِي تَطْبِيقِ شَرِكَةِ الْعَنَانِ شَيْءٌ يَنْبُو بِشَرْعِيَّتِهَا: فَمَا هِيَ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ سِوَى ضَرْبٍ مِنَ الْوَكَالَةِ إِذْ حَلَّ شَرِيكٌ وَكِيلٌ عَنْ شَرِيكِهِ.وَالْوَكَالَةُ لَا نِزَاعَ فِي شَرْعِيَّتِهَا إِذَا انْفَرَدَتْ، فَكَانَتْ مِنْ وَاحِدٍ لآِخَرَ، فَكَذَا إِذَا تَعَدَّدَتْ، فَكَانَتْ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ: أَعْنِي أَنَّهُ وُجِدَ الْمُقْتَضِي وَانْتَفَى الْمَانِعُ- كَمَا يَقُولُونَ، وَإِذَا كَانَتْ تَتَضَمَّنُ وَكَالَةً فِي مَجْهُولٍ، فَهَذَا شَيْءٌ يُغْتَفَرُ فِي ضِمْنِ الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَا مَقْصُودٌ، وَالشَّيْءُ يُغْتَفَرُ فِيهِ تَبَعًا مَا لَا يُغْتَفَرُ اسْتِقْلَالًا.

وَأَمَّا الْمُفَاوَضَةُ مِنْ شَرِكَةِ الْأَمْوَالِ فَلَيْسَ فِي جَوَازِهَا نَصٌّ ثَابِتٌ وَإِنَّمَا أَجَازَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «فَاوِضُوا، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ» وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ.وَقَدْ يُحْتَجُّ فِي جَوَازِهَا بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ: فَالْأَصْلُ الْجَوَازُ، حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْمَنْعِ- وَلَا دَلِيلَ.

3- وَمَنَعَهَا الشَّافِعِيَّةُ لِتَضَمُّنِهَا الْوَكَالَةَ فِي مَجْهُولٍ، وَالْكَفَالَةَ بِمَجْهُولٍ لِمَجْهُولٍ، وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ عَلَى انْفِرَادٍ، فَمَا تَضَمَّنَهُمَا مَعًا أَشَدُّ بُطْلَانًا.

4- وَأَمَّا شَرِكَتَا الْأَعْمَالِ وَالْوُجُوهِ فَتَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ، وَكَذَا الْمَالِكِيَّةُ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ خَاصَّةً.

وَيُسْتَدَلُّ لِلْجَوَازِ بِمَا يَلِي:

أَوَّلًا- بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ: فَالْأَصْلُ فِي الْعُقُودِ كُلِّهَا الصِّحَّةُ، حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْفَسَادِ، وَلَا دَلِيلَ.

ثَانِيًا- أَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهِمَا، وَتَصْحِيحُهُمَا مُمْكِنٌ بِطَرِيقِ التَّوْكِيلِ الضِّمْنِيِّ مِنْ كُلِّ شَرِيكٍ لِشَرِيكِهِ، لِيَقَعَ تَصَرُّفُ كُلِّ وَاحِدٍ وَالرِّبْحُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ لِلْجَمِيعِ، فَلَا مَعْنَى لِلْحُكْمِ بِبُطْلَانِهِمَا.

وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَإِنَّ شَرِكَةَ الْأَعْمَالِ: وَشَرِكَةَ الْوُجُوهِ؛ بَاطِلَتَانِ لِعَدَمِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِيهِمَا وَلِلْغَرَرِ فِي شَرِكَةِ الْأَعْمَالِ وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى بُطْلَانِ شَرِكَةِ الْوُجُوهِ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الضَّمَانِ بِجُعْلٍ وَمِنْ بَابِ السَّلَفِ الَّذِي يَجُرُّ نَفْعًا وَسَمَّوْهَا شَرِكَةَ الذِّمَمِ.

تَقْسِيمُ شَرِكَةِ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهَا:

5- تَنْقَسِمُ الشَّرِكَةُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

(1) - شَرِكَةُ أَمْوَالٍ.

(2) - شَرِكَةُ أَعْمَالٍ.

(3) - شَرِكَةُ وُجُوهٍ.

ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ رَأْسُ مَالِ الشَّرِكَةِ نُقُودًا، كَانَتْ شَرِكَةَ أَمْوَالٍ، وَإِنْ كَانَ الْعَمَلَ لِلْغَيْرِ كَانَتْ شَرِكَةَ أَعْمَالٍ، (شَرِكَةَ صَنَائِعَ)، وَتُسَمَّى أَيْضًا شَرِكَةَ أَبْدَانٍ.

وَتُسَمَّى كَذَلِكَ شَرِكَةَ التَّقَبُّلِ: لِأَنَّ التَّقَبُّلَ قَدْ يَكُونُ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِأَيِّ عَمَلٍ لِلْغَيْرِ سِوَى التَّقَبُّلِ نَفْسِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ تَحْصُلُ بِهِ هَذِهِ الشَّرِكَةُ؛ لِأَنَّهُ مُلْزِمٌ لِشَرِيكِهِ الْقَادِرِ، فَهُمَا شَرِيكَانِ بِالتَّقَبُّلِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ مَا تَقُومُ الشَّرِكَةُ عَلَيْهِ مَا لِلشَّرِيكَيْنِ أَوْ لِلشُّرَكَاءِ مِنْ وَجَاهَةٍ عِنْدَ النَّاسِ وَمَنْزِلَةٍ تَصْلُحُ لِلِاسْتِغْلَالِ، فَالشَّرِكَةُ شَرِكَةُ وُجُوهٍ.وَلِعَدَمِ رَأْسِ الْمَالِ فِيهَا، وَغَلَبَةِ وُقُوعِهَا بَيْنَ الْمُعْدِمِينَ- تُسَمَّى: شَرِكَةَ الْمَفَالِيسِ.

هَذَا عَلَى الْإِجْمَالِ.أَمَّا التَّفْصِيلُ:

6- فَشَرِكَةُ الْأَمْوَالِ: عَقْدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ، عَلَى أَنْ يَتَّجِرُوا فِي رَأْسِ مَالٍ لَهُمْ، وَيَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمْ بِنِسْبَةٍ مَعْلُومَةٍ.سَوَاءٌ عُلِمَ مِقْدَارُ رَأْسِ الْمَالِ عِنْدَ الْعَقْدِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ يُعْلَمُ عِنْدَ الشِّرَاءِ، وَسَوَاءٌ شَرَطُوا أَنْ يُشْرَكُوا جَمِيعًا فِي كُلِّ شِرَاءٍ وَبَيْعٍ، أَمْ شَرَطُوا أَنْ يَنْفَرِدَ كُلُّ وَاحِدٍ بِصَفَقَاتِهِ، أَمْ أَطْلَقُوا.وَلَيْسَ حَتْمًا أَنْ يَقَعَ الْعَقْدُ بِلَفْظِ التِّجَارَةِ، بَلْ يَكْفِي مَعْنَاهَا: كَأَنْ يَقُولَ الشَّرِيكَانِ: اشْتَرَكْنَا فِي مَالِنَا هَذَا، عَلَى أَنْ نَشْتَرِيَ وَنَبِيعَ، وَنَقْسِمَ الرِّبْحَ مُنَاصَفَةً.

7- وَأَمَّا شَرِكَةُ الْأَعْمَالِ: فَهِيَ: أَنْ يَتَعَاقَدَ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ عَلَى أَنْ يَتَقَبَّلُوا نَوْعًا مُعَيَّنًا مِنَ الْعَمَلِ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ لَكِنَّهُ عَامٌّ، وَأَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ بَيْنَهُمْ بِنِسْبَةٍ مَعْلُومَةٍ، وَذَلِكَ كَالْخِيَاطَةِ، وَالصِّبَاغَةِ، وَالْبِنَاءِ، وَتَرْكِيبِ الْأَدَوَاتِ الصِّحِّيَّةِ أَوْ كُلِّ مَا يُتَقَبَّلُ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّعَاقُدِ قَبْلَ التَّقَبُّلِ فَلَوْ تَقَبَّلَ ثَلَاثَةُ أَشْخَاصٍ عَمَلًا، دُونَ تَعَاقُدٍ سَابِقٍ عَلَى الشَّرِكَةِ، لَمْ يَكُونُوا شُرَكَاءَ: وَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ ثُلُثُ الْعَمَلِ، فَإِنْ قَامَ بِالْعَمَلِ كُلِّهِ أَحَدُهُمْ كَانَ مُتَبَرِّعًا بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، فَلَا يَسْتَحِقُّ- قَضَاءً- سِوَى ثُلُثِ الْأُجْرَةِ.

وَلَا بُدَّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ التَّقَبُّلُ حَقًّا لِكُلِّ شَرِيكٍ وَإِنْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنْ يُبَاشِرَهُ مِنْهُمْ وَاحِدٌ بِعَيْنِهِ، وَيَعْمَلَ الْآخَرُ.وَلِذَا يَقُولُ السَّرَخْسِيُّ فِي الْمُحِيطِ: «لَوْ قَالَ صَاحِبُ الدُّكَّانِ أَنَا أَتَقَبَّلُ، وَلَا تَتَقَبَّلْ أَنْتَ، وَأَطْرَحُ عَلَيْكَ تَعْمَلُ بِالنِّصْفِ، لَا يَجُوزُ» وَمِنْ هُنَا يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: الشَّرْطُ عَدَمُ نَفْيِ التَّقَبُّلِ عَنْ أَحَدِهِمَا، لَا التَّنْصِيصُ عَلَى تَقَبُّلِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَلَا عَلَى عَمَلِهِمَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا اشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَتَقَبَّلَ أَحَدُهُمَا وَيَعْمَلَ الْآخَرُ، بِلَا نَفْيٍ، كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا التَّقَبُّلُ وَالْعَمَلُ، لِتَضَمُّنِ الشَّرِكَةِ الْوَكَالَةَ.هَذَا قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَمِثْلُهُ فِي الْجُمْلَةِ لِلْحَنَابِلَةِ، لَكِنَّهُمْ أَضَافُوا الِاشْتِرَاكَ فِي تَمَلُّكِ الْمُبَاحَاتِ. وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ نَوْعَانِ:

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: شَرِكَةٌ مُقَيَّدَةٌ بِبَعْضِ الْأَعْمَالِ، دُونَ بَعْضٍ، كَنِجَارَةٍ، أَوْ حِدَادَةٍ، اتَّفَقَ الْعَمَلَانِ أَمِ اخْتَلَفَا.

وَالنَّوْعُ الثَّانِي: شَرِكَةٌ مُطْلَقَةٌ، لَمْ تُقَيَّدْ بِذَلِكَ: كَأَنْ يَتَّفِقَا عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي أُجْرَةِ مَا يَعْمَلَانِهِ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ.

8- وَأَمَّا شَرِكَةُ الْوُجُوهِ: فَهِيَ أَنْ يَتَعَاقَدَ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ، بِدُونِ ذِكْرِ رَأْسِ مَالٍ، عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا نَسِيئَةً وَيَبِيعَا نَقْدًا، وَيَقْتَسِمَا الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةِ ضَمَانِهِمَا لِلثَّمَنِ.

وَكَذَلِكَ هِيَ عِنْدَ الْقَاضِي، وَابْنِ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، إِذْ جَعَلَا الرِّبْحَ فِيهَا عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ، لِئَلاَّ يَلْزَمَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ.وَلَكِنَّ جَمَاهِيرَهُمْ جَعَلُوا الرِّبْحَ فِيهَا عَلَى مَا تَشَارَطَ الشَّرِيكَانِ، كَشَرِكَةِ الْعَنَانِ: لِأَنَّ فِيهَا مِثْلَهَا عَمَلًا وَغَيْرَهُ، سِيَّمَا مَعَ مُلَاحَظَةِ تَفَاوُتِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْمَهَارَةِ التِّجَارِيَّةِ، وَالْوَجَاهَةِ عِنْدَ النَّاسِ.بَلْ نَظَرَ ابْنُ قُدَامَةَ إِلَى مَآلِ أَمْرِهَا، فَأَنْكَرَ خُلُوَّهَا مِنَ الْمَالِ.

9- وَأَمَّا الْمُضَارَبَةُ: فَسَيَأْتِي تَعْرِيفُهَا وَأَحْكَامُهَا فِي بَحْثِهَا الْخَاصِّ بِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. (انْظُرْ: مُضَارَبَةٌ).

تَقْسِيمُ شَرِكَةِ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ التَّسَاوِي وَالتَّفَاوُتِ

10- وَالْمُرَادُ التَّسَاوِي وَالتَّفَاوُتُ فِي أُمُورٍ خَمْسَةٍ:

(1) رَأْسُ مَالِ الشَّرِكَةِ: الشَّامِلُ لِكُلِّ مَالٍ لِلشَّرِيكَيْنِ صَالِحٌ لِلشَّرِكَةِ (نُقُودٌ).

(2) كُلُّ تَصَرُّفٍ تِجَارِيٍّ فِي رَأْسِ مَالِ الشَّرِكَةِ.

(3) الرِّبْحُ. (4) كَفَالَةُ مَا يَلْزَمُ كُلًّا مِنَ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ دَيْنِ التِّجَارَةِ.

(5) أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ.

وَتَنْقَسِمُ شَرِكَةُ الْعَقْدِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ إِلَى قِسْمَيْنِ: (1) شَرِكَةُ مُفَاوَضَةٍ. (2) شَرِكَةُ عَنَانٍ.

(27) - وَشَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ: الَّتِي يَتَوَافَرُ فِيهَا تَسَاوِي الشُّرَكَاءِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ، مِنْ ابْتِدَاءِ الشَّرِكَةِ إِلَى انْتِهَائِهَا؛ لِأَنَّ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، لِكُلٍّ مِنْهُمَا فَسْخُهَا مَتَى شَاءَ، فَأُعْطِيَ دَوَامُهَا حُكْمَ ابْتِدَائِهَا، وَشُرِطَتْ فِيهِ الْمُسَاوَاةُ أَيْضًا.

وَسَيَأْتِي فِي الشَّرَائِطِ شَرْحُ هَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ فِي بَيَانٍ وَافٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.وَشَرِكَةُ الْعَنَانِ (بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا) هِيَ الَّتِي لَا يُوجَدُ فِيهَا هَذَا التَّسَاوِي: بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ أَصْلًا، أَوْ وُجِدَ عِنْدَ الْعَقْدِ وَزَالَ بَعْدَهُ: كَأَنْ كَانَ الْمَالَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ عِنْدَ الْعَقْدِ ثُمَّ ارْتَفَعَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الشِّرَاءِ، فَإِنَّ الشَّرِكَةَ تَنْقَلِبُ عَنَانًا بِمُجَرَّدِ (هَذَا الِارْتِفَاعِ) وَهَلْ تَبْطُلُ الْكَفَالَةُ؟..الظَّاهِرُ نَعَمْ؛ لِأَنَّهَا كَفَالَةٌ لِمَجْهُولٍ، فَلَا تَصِحُّ إِلاَّ ضِمْنًا، وَالْعَنَانُ لَا تَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ، فَتَكُونُ فِيهَا مَقْصُودَةً وَهِيَ مَقْصُودَةٌ لَا تَصِحُّ لِمَجْهُولٍ، لَكِنَّ الَّذِي فِي الْخَانِيَّةِ هُوَ الصِّحَّةُ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّهَا فِي الشَّرِكَةِ تَبَعٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَوْ صَرَّحَ بِهَا.

وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمَالِكِيَّةُ الْمُسَاوَاةَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ لِصِحَّةِ الْمُفَاوَضَةِ.بَلْ كُلُّ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ طَبِيعَتَيْ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ وَشَرِكَةِ الْعَنَانِ، أَنَّ كُلًّا مِنَ الشَّرِيكَيْنِ فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ يُطْلِقُ التَّصَرُّفَ لِشَرِيكِهِ وَلَا يُحْوِجُهُ إِلَى مُرَاجَعَتِهِ وَأَخْذِ مُوَافَقَتِهِ فِي كُلِّ تَصَرُّفٍ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ لِلشَّرِكَةِ، بِخِلَافِ الْعَنَانِ، فَإِنَّهَا لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ ذَلِكَ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلِلْمُفَاوَضَةِ عِنْدَهُمْ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا: الشَّرِكَاتُ الْأَرْبَعُ مُجْتَمِعَةً: الْعَنَانُ، وَالْمُضَارَبَةُ، وَالْأَبْدَانُ، وَالْوُجُوهُ: فَإِذَا فَوَّضَ كُلٌّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ لِصَاحِبِهِ الْمُضَارَبَةَ وَتَصَرُّفَاتِ سَائِرِ هَذِهِ الشَّرِكَاتِ صَحَّتِ الشَّرِكَةُ؛ لِأَنَّهَا مَجْمُوعُ شَرِكَاتٍ صَحِيحَةٍ، وَيَكُونُ الرِّبْحُ عَلَى مَا شَرَطَاهُ، وَالْخَسَارَةُ بِقَدْرِ الْمَالَيْنِ.

ثَانِيهُمَا: أَنْ يَشْتَرِكَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا فِي كُلِّ مَا يَثْبُتُ لَهُمَا وَعَلَيْهِمَا.وَهَذَا صَحِيحٌ أَيْضًا لَكِنْ بِشَرِيطَةِ أَنْ لَا يُدْخِلَا فِيهِ كَسْبًا نَادِرًا وَلَا غَرَامَةً- وَإِلاَّ اخْتُصَّ كُلُّ شَرِيكٍ بِمَا يَسْتَفِيدُهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ أَوْ عَمَلِهِ، وَبِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ ضَمَانَاتٍ فَكُلُّ نَفْسٍ {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}.

مِثَالُ الْكَسْبِ النَّادِرِ.اللُّقَطَةُ وَالرِّكَازُ وَالْمِيرَاثُ.

وَمِثَالُ الْغَرَامَاتِ: مَا يَلْزَمُ بِكَفَالَةٍ، أَوْ غَصْبٍ، أَوْ جِنَايَةٍ، أَوْ تَلَفِ عَارِيَّةً.

وَهَذَا النَّوْعُ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ الْحَنَابِلَةُ تَسَاوِيَ الْمَالَيْنِ، وَلَا تَسَاوِيَ الشَّرِيكَيْنِ فِي أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ.

تَقْسِيمُ شَرِكَةِ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ

الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ

11- يَقْسِمُ الْحَنَفِيَّةُ الشَّرِكَةَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ إِلَى:

(1) مُطْلَقَةٌ.

(2) مُقَيَّدَةٌ.

فَالْمُطْلَقَةُ: هِيَ الَّتِي لَمْ تُقَيَّدْ بِشَرْطٍ جَعْلِيٍّ أَمْلَتْهُ إِرَادَةُ شَرِيكٍ أَوْ أَكْثَرَ: بِأَنْ تُقَيَّدَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَتَاجِرِ دُونَ شَيْءٍ، وَلَا زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَلَا مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، وَلَا بِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ دُونَ بَعْضٍ إِلَخْ..كَأَنِ اشْتَرَكَ الشَّرِيكَانِ فِي كُلِّ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ وَأَطْلَقَا فَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا الْإِطْلَاقِ بِشِقَّيْهِ: الزَّمَانِيِّ وَغَيْرِهِ يَكُونُ فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ.أَمَّا فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِطْلَاقِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ، كَمَا هُوَ صَرِيحُ الْهِدَايَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ مُقَيَّدَةً بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ.وَالْإِطْلَاقُ الزَّمَانِيُّ احْتِمَالٌ مِنَ احْتِمَالَاتِهَا، وَلَيْسَ بِحَتْمٍ.

وَالْمُقَيَّدَةُ: هِيَ الَّتِي قُيِّدَتْ بِذَلِكَ: كَالَّتِي تُقَيَّدُ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ أَوِ الْأَزْمَانِ أَوِ الْأَمْكِنَةِ، كَأَنْ تُقَيَّدَ بِالْحُبُوبِ أَوِ الْمَنْسُوجَاتِ أَوِ السَّيَّارَاتِ أَوِ الْبِقَالَاتِ، أَوْ تُقَيَّدَ بِمَوْسِمِ قُطْنِ هَذَا الْعَامِ، أَوْ بِبِلَادِ هَذِهِ الْمُحَافَظَةِ.وَالتَّقْيِيدُ بِبَعْضِ الْمَتَاجِرِ دُونَ بَعْضٍ، لَا يَتَأَتَّى فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ، أَمَّا التَّقْيِيدُ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ فَيَكُونُ فِيهَا وَفِي الْعَنَانِ.

وَتَنَوُّعُ الشَّرِكَةِ إِلَى مُطْلَقَةٍ وَمُقَيَّدَةٍ، بِمَا فِيهَا الْمُقَيَّدَةُ بِالزَّمَانِ، يُوجَدُ فِي سَائِرِ الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ، وَمِمَّا يَنُصُّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْيِيدُ تَصَرُّفِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ، وَإِطْلَاقُ تَصَرُّفِ الْآخَرِ.إِلاَّ أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْفِقْهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُعَيَّنَ لِكُلِّ شَرِيكٍ نِطَاقُ تَصَرُّفِهِ، وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ إِبْطَالَ الشَّرِكَةِ بِالتَّأْقِيتِ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُمْ أَيْضًا صِحَّةُ الشَّرِكَةِ مَعَ عَدَمِ لُزُومِ الْأَجَلِ.

شَرِكَةُ الْجَبْرِ:

12- هَذَا نَوْعٌ انْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ بِإِثْبَاتِهِ، وَتَمَسَّكُوا فِيهِ بِقَضَاءِ عُمَرَ.وَحَدَّهَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا: «اسْتِحْقَاقُ شَخْصٍ الدُّخُولَ مَعَ مُشْتَرِي سِلْعَةٍ لِنَفْسِهِ مِنْ سُوقِهَا الْمُعَدِّ لَهَا، عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ» وَسَيَتَّضِحُ بِاسْتِعْرَاضِ شَرَائِطِهَا: فَقَدْ ذَكَرُوا لَهَا سَبْعَ شَرَائِطَ:

ثَلَاثَةً خَاصَّةً بِالسِّلْعَةِ وَهِيَ:

(1) أَنْ تُشْتَرَى بِسُوقِهَا الْمُعَدِّ لِبَيْعِهَا- لَا بِدَارٍ اتِّفَاقًا، وَلَا بِزُقَاقٍ، نَافِذٍ أَوْ غَيْرِ نَافِذٍ، عَلَى الْمُعْتَمَدِ.

(2) أَنْ يَكُونَ شِرَاؤُهَا لِلتِّجَارَةِ، وَيُصَدَّقُ الْمُشْتَرِي فِي نَفْيِ ذَلِكَ بِيَمِينِهِ- إِلاَّ أَنْ تُكَذِّبَهُ قَرَائِنُ الْأَحْوَالِ: كَكَثْرَةِ مَا يَدَّعِي شِرَاءَهُ لِلْقِنْيَةِ أَوِ الْعُرْسِ مَثَلًا.

(3) أَنْ تَكُونَ التِّجَارَةُ الْمَقْصُودَةُ بِالشِّرَاءِ فِي نَفْسِ بَلَدِ الشِّرَاءِ، لَا فِي مَكَانٍ آخَرَ، وَلَوْ جِدُّ قَرِيبٍ.

وَثَلَاثَةً خَاصَّةً بِالشَّرِيكِ الْمُقْحَمِ:

(1) أَنْ يَحْضُرَ الشِّرَاءَ.

(2) أَنْ لَا يُزَايِدَ عَلَى الْمُشْتَرِي.

(3) أَنْ يَكُونَ مِنْ تُجَّارِ السِّلْعَةِ الْمُشْتَرَاةِ.

وَاعْتَمَدُوا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تُجَّارِ هَذَا السُّوقِ.

وَشَرِيطَةً وَاحِدَةً فِي الشَّارِيَ: أَنْ لَا يُبَيِّنَ لِمَنْ حَضَرَ مِنَ التُّجَّارِ أَنَّهُ يُرِيدُ الِاسْتِئْثَارَ بِالسِّلْعَةِ، وَلَا يَقْبَلَ الشَّرِكَةَ فِيهَا، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يُزَايِدَ فَلْيَفْعَلْ.

فَإِذَا تَوَافَرَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ جَمِيعُهَا ثَبَتَ حَقُّ الْإِجْبَارِ عَلَى الشَّرِكَةِ لِمَنْ حَضَرَ مِنَ التُّجَّارِ، مَهْمَا طَالَ الْأَمَدُ- مَا دَامَتِ السِّلْعَةُ الْمُشْتَرَاةُ بَاقِيَةً.وَيُسْجَنُ الشَّارِي حَتَّى يَقْبَلَ الشَّرِكَةَ إِذَا امْتَنَعَ مِنْهَا.وَهُنَاكَ احْتِمَالٌ آخَرُ بِسُقُوطِ هَذَا الْحَقِّ بِمُضِيِّ سَنَةٍ كَالشُّفْعَةِ.

أَمَّا الشَّارِي، فَلَيْسَ لَهُ مَعَ تَوَافُرِ الشَّرَائِطِ إِجْبَارُ مَنْ حَضَرَ مِنَ التُّجَّارِ عَلَى مُشَارَكَتِهِ فِي السِّلْعَةِ لِسَبَبٍ مَا- كَتَحَقُّقِ الْخَسَارَةِ أَوْ تَوَقُّعِهَا- إِلاَّ إِذَا قَالُوا لَهُ أَثْنَاءَ السَّوْمِ: أَشْرِكْنَا، فَأَجَابَ: بِنَعَمْ أَوْ سَكَتَ.

وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ تَنْزِيلُ قَوْلِ التُّجَّارِ: أَشْرِكْنَا- مَعَ إِجَابَةٍ بِنَعَمْ- مَنْزِلَةَ حُضُورِهِمُ الشِّرَاءَ: فَلَا يَضِيرُ إِذَنِ انْصِرَافُهُمْ قَبْلَ إِتْمَامِ الصَّفْقَةِ.بِخِلَافِ مَا إِذَا خَرَجَ بِالصَّمْتِ عَنْ «لَا وَنَعَمْ» إِلاَّ أَنَّ مِنْ حَقِّهِمْ حِينَئِذٍ أَنْ يُحَلِّفُوهُ: مَا اشْتَرَى عَلَيْهِمْ.

صِيغَةُ عَقْدِ الشَّرِكَةِ:

13- تَنْعَقِدُ الشَّرِكَةُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ: مِثَالُ ذَلِكَ فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ فِي الْأَمْوَالِ: أَنْ يَقُولَ شَخْصٌ لآِخَرَ: شَارَكْتُكَ فِي أَلْفِ دِينَارٍ مُنَاصَفَةً، عَلَى أَنْ نَتَّجِرَ بِهَا وَيَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَنَا مُنَاصَفَةً كَذَلِكَ: وَيُطْلِقُ، أَوْ يُقَيِّدُ الِاتِّجَارَ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ- كَتِجَارَةِ الْمَنْسُوجَاتِ الصُّوفِيَّةِ، أَوِ الْمَنْسُوجَاتِ مُطْلَقًا، فَيَقْبَلُ الْآخَرُ.

وَمِثَالُهُ فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ فِي الْأَمْوَالِ: أَنْ يَقُولَ شَخْصٌ لآِخَرَ- وَهُمَا حُرَّانِ بَالِغَانِ مُسْلِمَانِ أَوْ ذِمِّيَّانِ- شَارَكْتُكَ فِي كُلِّ نُقُودِي وَنَقْدِكَ (وَنَقُودُ هَذَا تُسَاوِي نُقُودَ ذَاكَ) عَلَى أَنْ نَتَّجِرَ بِهَا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا كَفِيلٌ عَنِ الْآخَرِ بِدُيُونِ التِّجَارَةِ، فَيَقْبَلُ الْآخَرُ.

14- وَتَقُومُ دَلَالَةُ الْفِعْلِ مَقَامَ دَلَالَةِ اللَّفْظِ.فَلَوْ أَنَّ شَخْصًا مَا أَخْرَجَ جَمِيعَ مَا يَمْلِكُ مِنْ نَقْدٍ، وَقَالَ لآِخَرَ: أَخْرِجْ مِثْلَ هَذَا وَاشْتَرِ، وَمَا رَزَقَ اللَّهُ مِنْ رِبْحٍ فَهُوَ بَيْنَنَا عَلَى التَّسَاوِي أَوْ لَكَ فِيهِ الثُّلُثَانِ وَلِيَ الثُّلُثُ، فَلَمْ يَتَكَلَّمِ الْآخَرُ، وَلَكِنَّهُ أَخَذَ وَأَعْطَى وَفَعَلَ كَمَا أَشَارَ صَاحِبُهُ- فَهَذِهِ شَرِكَةُ عَنَانٍ صَحِيحَةٌ.وَمِثْلُ ذَلِكَ يَجِيءُ أَيْضًا فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ: كَأَنْ يُخْرِجَ هَذَا كُلَّ مَا يَمْلِكُ مِنَ النُّقُودِ، وَيَقُولَ لِصَاحِبِهِ الَّذِي لَا يَمْلِكُ مِنَ النُّقُودِ إِلاَّ مِثْلَ هَذَا الْقَدْرِ: أَخْرِجْ مِثْلَ هَذَا، عَلَى أَنْ نَتَّجِرَ بِمَجْمُوعِ الْمَالَيْنِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ، وَالرِّبْحُ بَيْنَنَا عَلَى سَوَاءٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا كَفِيلٌ عَنِ الْآخَرِ بِدُيُونِ التِّجَارَةِ، فَلَا يَتَكَلَّمُ صَاحِبُهُ هَذَا، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ مِثْلَ مَا أَشَارَ.هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.

15- وَالِاكْتِفَاءُ بِدَلَالَةِ الْفِعْلِ، هُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.إِذْ هُمْ لَا يَعْتَبِرُونَ فِي الصِّيغَةِ هُنَا إِلاَّ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِذْنِ عُرْفًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبِيلِ الْأَلْفَاظِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهَا- كَالْكِتَابَةِ وَإِشَارَةِ الْأَخْرَسِ الْمُفْهِمَةِ. وَلِذَا يَنُصُّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَحَدُ اثْنَيْنِ لِلْآخَرِ: شَارِكْنِي، فَرَضِيَ بِالسُّكُوتِ، كَفَى، وَأَنَّهُ يَكْفِي خَلْطُ الْمَالَيْنِ، أَوِ الشُّرُوعُ فِي أَعْمَالِ التِّجَارَةِ لِلشَّرِكَةِ.كَمَا يَنُصُّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يَكْفِي أَنْ يَتَكَلَّمَا فِي الشَّرِكَةِ، ثُمَّ يُحْضِرَا الْمَالَ عَنْ قُرْبٍ، وَيَشْرَعَا فِي الْعَمَلِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا تُغْنِي دَلَالَةُ الْفِعْلِ عَنِ اللَّفْظِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ حِفْظُ الْأَمْوَالِ عَلَى أَرْبَابِهَا، فَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلاَّ بِدَلَالَةٍ لَهَا فَضْلُ قُوَّةٍ- حَتَّى لَقَدْ ضَعَّفَ الشَّافِعِيَّةُ وَجْهًا عِنْدَهُمْ بِانْعِقَادِ الشَّرِكَةِ بِلَفْظِ: اشْتَرَكْنَا- لِدَلَالَتِهِ عُرْفًا عَلَى الْإِذْنِ فِي التَّصَرُّفِ، وَرَأَوْا أَنْ لَا كِفَايَةَ فِيهِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِالْإِذْنِ فِي التَّصَرُّفِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ- لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا عَنْ شَرِكَةٍ مَاضِيَةٍ، أَوْ عَنْ شَرِكَةِ مِلْكٍ قَائِمَةٍ لَا تَصَرُّفَ فِيهَا.وَهُمْ يُصَحِّحُونَ انْعِقَادَهَا شَرِكَةَ عَنَانٍ بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ، إِذَا اقْتَرَنَ بِنِيَّةِ الْعَنَانِ، وَإِلاَّ فَلَغْوٌ، إِذْ لَا مُفَاوَضَةَ عِنْدَهُمْ: وَغَايَةُ مَا يَصْلُحُ لَهُ لَفْظُهَا عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةَ عَنَانٍ- بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْعُقُودِ بِالْكِنَايَاتِ.

وَمِثَالُ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ فِي التَّقَبُّلِ: أَنْ يَقُولَ شَخْصٌ لآِخَرَ وَكِلَاهُمَا مِنْ أَهْلِ الْكَفَالَةِ- شَارَكْتُكَ فِي تَقَبُّلِ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، أَوْ فِي هَذِهِ الْحِرْفَةِ (خِيَاطَةً، أَوْ نِجَارَةً، أَوْ حِدَادَةً، مَثَلًا) عَلَى أَنْ يَتَقَبَّلَ كُلٌّ مِنَّا الْأَعْمَالَ، وَأَنْ أَكُونَ أَنَا وَأَنْتَ سَوَاءً فِي ضَمَانِ الْعَمَلِ وَفِي الرِّبْحِ وَالْخُسْرَانِ، وَفِي أَنَّ كُلًّا كَفِيلٌ عَنِ الْآخَرِ فِيمَا يَلْزَمُهُ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ، فَيَقْبَلُ الْآخَرُ.فَإِذَا وَقَعَ التَّعَاقُدُ مَعَ اخْتِلَالِ قَيْدٍ مِمَّا وَرَدَ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ، فَالشَّرِكَةُ شَرِكَةُ عَنَانٍ- إِلاَّ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الشَّرِيكَانِ مِنْ أَهْلِ الْوَكَالَةِ كَمَا لَا يَخْفَى.

16- وَمِثَالُ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ فِي الْوُجُوهِ: أَنْ يَقُولَ شَخْصٌ لآِخَرَ- وَكِلَاهُمَا مِنْ أَهْلِ الْكَفَالَةِ- شَارَكْتُكَ عَلَى أَنْ نَتَّجِرَ أَنَا وَأَنْتَ بِالشِّرَاءِ نَسِيئَةً وَالْبَيْعِ نَقْدًا، مَعَ التَّسَاوِي فِي كُلِّ شَيْءٍ نَشْتَرِيهِ وَفِي ثَمَنِهِ وَرِبْحِهِ، وَكَفَالَةِ كُلِّ مَا يَلْزَمُ الْآخَرَ مِنْ دُيُونِ التِّجَارَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا، فَيَقْبَلُ الْآخَرُ.

وَإِذَا اخْتَلَّ شَيْءٌ مِمَّا وَرَدَ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ مِنْ قُيُودٍ، فَالشَّرِكَةُ شَرِكَةُ عَنَانٍ- إِلاَّ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ الشَّرِيكَانِ مِنْ أَهْلِ الْوَكَالَةِ، وَأَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا بِنِسْبَةِ ضَمَانِهِمَا الثَّمَنَ، كَمَا سَيَجِيءُ فِي الشَّرَائِطِ بَيَانُهُ.

وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ فَاوَضْتُكَ فَقَبِلَ كَفَى؛ لِأَنَّ لَفْظَهَا عَلَمٌ عَلَى تَمَامِ الْمُسَاوَاةِ فِي أَمْرِ الشَّرِكَةِ، فَإِذَا ذَكَرَاهُ تَثْبُتُ أَحْكَامُهَا إِقَامَةً لِلَّفْظِ مَقَامَ الْمَعْنَى.

شُرُوطُ شَرِكَةِ الْعَقْدِ:

الشُّرُوطُ الْعَامَّةُ:

17- وَهِيَ تِلْكَ الَّتِي لَا تَخُصُّ نَوْعًا دُونَ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّرِكَةِ الرَّئِيسِيَّةِ الثَّلَاثَةِ (شَرِكَةِ الْأَمْوَالِ، وَشَرِكَةِ الْأَعْمَالِ، وَشَرِكَةِ الْوُجُوهِ).

وَهَذِهِ الشُّرُوطُ الْعَامَّةُ تَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا:

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فِي كُلٍّ مِنْ شَرِكَتَيِ الْمُفَاوَضَةِ وَالْعَنَانِ.

أَوَّلًا- قَابِلِيَّةُ الْوَكَالَةِ:

18- وَيُمْكِنُ تَفْسِيرُهَا بِأَمْرَيْنِ:

(1) قَابِلِيَّةُ التَّصَرُّفِ الْمُتَعَاقَدِ عَلَيْهِ لِلْوَكَالَةِ، لِيَتَحَقَّقَ مَقْصُودُ الشَّرِكَةِ، وَهُوَ الِاشْتِرَاكُ فِي الرِّبْحِ؛ لِأَنَّ سَبِيلَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ وَكِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ فِي نِصْفِ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ، وَأَصِيلًا فِي نِصْفِهِ الْآخَرِ- وَإِلاَّ فَالْأَصِيلُ فِي الْكُلِّ يَخْتَصُّ بِكُلِّ رِبْحِهِ، وَالْمُتَصَرِّفُ عَنِ الْغَيْرِ لَا يَتَصَرَّفُ إِلاَّ بِوِلَايَةٍ أَوْ وَكَالَةٍ، وَالْفَرْضُ أَنْ لَا وِلَايَةَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ الْوَكَالَةُ.فَالِاحْتِشَاشُ وَالِاحْتِطَابُ وَالِاصْطِيَادُ وَالتَّكَدِّي، أَعْمَالٌ لَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ فِيهَا، لِعَدَمِ قَبُولِهَا الْوَكَالَةَ، إِذِ الْمِلْكُ فِيهَا يَقَعُ لِمَنْ بَاشَرَ السَّبَبَ- وَهُوَ الْآخِذُ: شَأْنَ الْمُبَاحَاتِ كُلِّهَا، فَقَدْ جَعَلَ الشَّارِعُ سَبَبَ الْمِلْكِ فِيهَا هُوَ سَبْقَ الْيَدِ.

(2) أَهْلِيَّةُ كُلِّ شَرِيكٍ لِلتَّوْكِيلِ وَالتَّوَكُّلِ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ فِي أَحَدِ النِّصْفَيْنِ، أَصِيلٌ فِي الْآخَرِ، فَلَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ مِنَ الصَّبِيِّ غَيْرِ الْمَأْذُونِ فِي التِّجَارَةِ، وَالْمَعْتُوهِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ.

19- وَهَذَا الشَّرْطُ بِشِقَّيْهِ مَوْضِعُ وِفَاقٍ.لِأَنَّ الْجَمِيعَ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ الشَّرِكَةَ تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ.وَلَكِنَّ الْخِلَافَ يَقَعُ فِي طَرِيقِ التَّطْبِيقِ: فَمَثَلًا:

أ- الْمُبَاحَاتُ: لَا يَرَاهَا الْحَنَفِيَّةُ مِمَّا يَقْبَلُ الْوَكَالَةَ، بَيْنَمَا هِيَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ مِمَّا يَقْبَلُهَا.وَلِذَا مَثَّلَ الْمَالِكِيَّةُ لِشَرِكَةِ الْأَبْدَانِ بِشَرِكَةِ الصَّيَّادِينَ فِي الصَّيْدِ، وَالْحَفَّارِينَ فِي الْبَحْثِ عَنِ الْمَعَادِنِ- كَشَرِكَاتِ النَّفْطِ الْقَائِمَةِ الْآنَ، وَأَبْرَزَ الْحَنَابِلَةُ الشَّرِكَةَ فِي تَحْصِيلِ الْمُبَاحَاتِ، حَتَّى جَعَلُوهَا نَوْعًا مُتَمَيِّزًا مِنْ شَرِكَةِ الْأَعْمَالِ.

ب- شَرِكَةُ وَلِيِّ الْمَحْجُورِ: وَيَنُصُّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ لِوَلِيِّ الْمَحْجُورِ الشَّرِكَةَ فِي مَالِ مَحْجُورِهِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُضَارِبَ بِهَذَا الْمَالِ، مَعَ أَنَّ الْمُضَارِبَ يَذْهَبُ بِجُزْءٍ مِنْ نَمَائِهِ، فَأَوْلَى أَنْ تَجُوزَ الشَّرِكَةُ حَيْثُ يَكُونُ رِبْحُهُ كُلُّهُ مُوَفَّرًا عَلَيْهِ.وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ تَقْرِيرُهُمْ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ، وَوَرِثَهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّهِ أَنْ يَسْتَمِرَّ فِي الشَّرِكَةِ إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ- وَمِنْ شَرِيطَتِهَا أَنْ يَكُونَ الشَّرِيكُ الْمُتَصَرِّفُ أَمِينًا: فَلَوْ تَبَيَّنَ عَدَمُ هَذِهِ الْأَمَانَةِ، وَضَاعَ الْمَالُ، كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْوَلِيِّ، لِتَقْصِيرِهِ بِعَدَمِ الْبَحْثِ.

ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ اعْتِبَارَ الْأَهْلِيَّتَيْنِ: أَهْلِيَّةِ التَّوْكِيلِ، وَأَهْلِيَّةِ التَّوَكُّلِ، إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ يَكُونُ الْعَمَلُ لِكِلَا الشَّرِيكَيْنِ.أَمَّا إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا فَحَسْبُ- وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَكُونُ إِلاَّ فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ- فَالشَّرِيطَةُ هِيَ أَهْلِيَّةُ الْآذِنِ لِلتَّوْكِيلِ، وَأَهْلِيَّةُ الْمَأْذُونِ لِلتَّوَكُّلِ: وَلِذَا يَنُصُّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْآذِنُ أَعْمَى، وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ أَنْ يُوَكِّلَ فِي خَلْطِ الْمَالَيْنِ، أَمَّا الْمَأْذُونُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا.

ثَانِيًا- أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مَعْلُومًا بِالنِّسْبَةِ:

20- أَيْ أَنْ تَكُونَ حِصَّةُ كُلِّ شَرِيكٍ مِنَ الرِّبْحِ مُحَدَّدَةً بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنْهُ مَعْلُومِ النِّسْبَةِ إِلَى جُمْلَتِهِ: كَنِصْفِهِ.فَإِذَا تَمَّ الْعَقْدُ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلشَّرِيكِ حِصَّةٌ فِي الرِّبْحِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ مِقْدَارٍ، كَانَ عَقْدًا فَاسِدًا، لِأَنَّ الرِّبْحَ هُوَ مَقْصُودُ الشَّرِكَةِ فَتَفْسُدُ بِجَهَالَتِهِ، كَالْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ.وَكَذَلِكَ إِذَا عُلِمَ مِقْدَارُ حِصَّةِ الشَّرِيكِ فِي الرِّبْحِ، وَلَكِنْ جُهِلَتْ نِسْبَتُهَا إِلَى جُمْلَتِهِ: كَمِائَةٍ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ؛ لِأَنَّ هَذَا قَدْ يُؤَدِّي إِلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ- أَعْنِي الِاشْتِرَاكَ فِي الرِّبْحِ، فَقَدْ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ إِلاَّ مَا جُعِلَ لِأَحَدِ الشُّرَكَاءِ، فَيَقَعُ مِلْكًا خَاصًّا لِوَاحِدٍ، لَا شَرِكَةَ فِيهِ لِسِوَاهُ.بَلْ قَالُوا إِنَّ هَذَا يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ إِذَا كَانَ هُوَ كُلَّ الْمُتَحَصِّلِ مِنَ الرِّبْحِ، تَحَوَّلَتِ الشَّرِكَةُ إِلَى قَرْضٍ مِمَّنْ لَمْ يُصِبْ شَيْئًا مِنَ الرِّبْحِ، أَوْ إِبْضَاعٍ مِنَ الْآخَرِ. فَإِذَا جُعِلَ لِلشَّرِيكِ أَجْرٌ مَعْلُومُ الْمِقْدَارِ مِنْ خَارِجِ مَالِ الشَّرِكَةِ: كَخَمْسِينَ أَوْ مِائَةِ دِينَارٍ كُلَّ شَهْرٍ، فَقَدْ نَقَلُوا فِي الْهِنْدِيَّةِ عَنِ الْمُحِيطِ أَنَّ الشَّرِكَةَ صَحِيحَةٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ.

21- وَهَذَا الشَّرْطُ مَوْضِعُ وِفَاقٍ.وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنْ لَا شَرِكَةَ مَعَ اشْتِرَاطِ مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الرِّبْحِ- كَمِائَةٍ- لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ سَوَاءٌ اقْتَصَرَ عَلَى اشْتِرَاطِ هَذَا الْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ لِأَحَدِهِمَا، أَمْ جُعِلَ زِيَادَةً عَلَى النِّسْبَةِ الْمَشْرُوطَةِ لَهُ مِنَ الرِّبْحِ، أَمِ انْتَقَصَ مِنْ هَذِهِ النِّسْبَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا قَدْ يُفْضِي إِلَى اخْتِصَاصِ أَحَدِهِمَا بِالرِّبْحِ، وَهُوَ خِلَافُ مَوْضُوعِ الشَّرِكَةِ، أَوْ- كَمَا عَبَّرَ الْحَنَفِيَّةُ- قَاطِعٌ لَهَا.

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، مَا لَوْ شُرِطَ لِأَحَدِهِمَا رِبْحُ عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ مُبْهَمَةٍ مِنْ أَعْيَانِ الشَّرِكَةِ- كَهَذَا الثَّوْبِ أَوْ أَحَدِ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ- أَوْ رِبْحُ سَفْرَةٍ كَذَلِكَ- كَهَذِهِ السَّفْرَةِ إِلَى بَارِيسَ، أَوْ هِيَ أَوِ الَّتِي تَلِيهَا إِلَى لَنْدَنَ- أَوْ رِبْحُ هَذَا الشَّهْرِ أَوْ هَذِهِ السَّنَةِ.

وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَيْضًا، أَنْ يَقُولَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِلْآخَرِ: لَكَ رِبْحُ النِّصْفِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يَسْتَأْثِرَ وَاحِدٌ بِشَيْءٍ مِنَ الرِّبْحِ، زَاعِمًا أَنَّهُ مِنْ عَمَلِهِ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ.خِلَافًا لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ رِبْحَ النِّصْفِ هُوَ نِصْفُ الرِّبْحِ

النَّوْعُ الثَّانِي: فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ خَاصَّةً:

فَتَنْعَقِدُ عَنَانًا إِذَا اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْهُ:

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


288-موسوعة الفقه الكويتية (شفعة 1)

شُفْعَةٌ -1

التَّعْرِيفُ

1- الشُّفْعَةُ بِضَمِّ الشِّينِ وَسُكُونِ الْفَاءِ اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى التَّمَلُّكِ، وَتَأْتِي أَيْضًا اسْمًا لِلْمِلْكِ الْمَشْفُوعِ كَمَا قَالَ الْفَيُّومِيُّ.وَهِيَ مِنَ الشَّفْعِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْوَتْرِ، لِمَا فِيهِ مِنْ ضَمِّ عَدَدٍ إِلَى عَدَدٍ أَوْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، يُقَالُ: شَفَعَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ شَفْعًا إِذَا كَانَ فَرْدًا فَصَارَ لَهُ ثَانِيًا وَشَفَعَ الشَّيْءَ شَفْعًا ضَمَّ مِثْلَهُ إِلَيْهِ وَجَعَلَهُ زَوْجًا.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ عَرَّفَهَا الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهَا: «تَمْلِيكُ الْبُقْعَةِ جَبْرًا عَلَى الْمُشْتَرِي بِمَا قَامَ عَلَيْهِ.أَوْ هِيَ حَقُّ تَمَلُّكٍ قَهْرِيٍّ يَثْبُتُ لِلشَّرِيكِ الْقَدِيمِ عَلَى الْحَادِثِ فِيمَا مُلِكَ بِعِوَضٍ» الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْبَيْعُ الْجَبْرِيُّ:

2- الْبَيْعُ الْجَبْرِيُّ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: الْبَيْعُ الْحَاصِلُ مِنْ مُكْرَهٍ بِحَقٍّ، أَوِ الْبَيْعُ عَلَيْهِ نِيَابَةً عَنْهُ، لِإِيفَاءِ حَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ، أَوْ لِدَفْعِ ضَرَرٍ، أَوْ لِتَحْقِيقِ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ.فَالْبَيْعُ الْجَبْرِيُّ أَعَمُّ مِنَ الشُّفْعَةِ.

ب- التَّوْلِيَةُ:

3- التَّوْلِيَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ هِيَ: بَيْعُ مَا مَلَكَهُ بِمِثْلِ مَا قَامَ عَلَيْهِ، وَكُلٌّ مِنْ بَيْعِ التَّوْلِيَةِ وَالشُّفْعَةِ بَيْعٌ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَى وَيَخْتَلِفَانِ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

4- الشُّفْعَةُ حَقٌّ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَلِصَاحِبِهِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ أَوْ تَرْكُهُ لَكِنْ قَالَ الشَّبْرَامَلِّسِيُّ- مِنَ الشَّافِعِيَّةِ- إِنْ تَرَتَّبَ عَلَى تَرْكِ الشُّفْعَةِ مَعْصِيَةٌ- كَأَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي مَشْهُورًا بِالْفِسْقِ وَالْفُجُورِ- فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَخْذُ بِهَا مُسْتَحَبًّا بَلْ وَاجِبًا إِنْ تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِدَفْعِ مَا يُرِيدُهُ الْمُشْتَرِي مِنَ الْفُجُورِ.

وَاسْتَدَلُّوا مِنَ السُّنَّةِ بِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ، وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ، فَلَا شُفْعَةَ»

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ جَابِرٌ- رضي الله عنه-: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَرِكَةٍ لَمْ تُقْسَمْ رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ، لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، فَإِذَا بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ».وَعَنْ سَمُرَةَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ».

وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى إِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يُقَاسِمْ فِيمَا بِيعَ مِنْ أَرْضٍ أَوْ دَارٍ أَوْ حَائِطٍ.حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الشُّفْعَةِ:

5- لَمَّا كَانَتِ الشَّرِكَةُ مَنْشَأَ الضَّرَرِ فِي الْغَالِبِ وَكَانَ الْخُلَطَاءُ كَثِيرًا مَا يَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ شَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَفْعَ هَذَا الضَّرَرِ بِأَحَدِ طَرِيقَيْنِ:

(1) بِالْقِسْمَةِ تَارَةً وَانْفِرَادِ كُلٍّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ بِنَصِيبِهِ

(2) وَبِالشُّفْعَةِ تَارَةً أُخْرَى وَانْفِرَادِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ بِالْجُمْلَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْآخَرِ ضَرَرٌ فِي ذَلِكَ.

فَإِذَا أَرَادَ بَيْعَ نَصِيبِهِ وَأَخْذَ عِوَضِهِ كَانَ شَرِيكُهُ أَحَقَّ بِهِ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ وَهُوَ يَصِلُ إِلَى غَرَضِهِ مِنَ الْعِوَضِ مِنْ أَيِّهِمَا كَانَ فَكَانَ الشَّرِيكُ أَحَقَّ بِدَفْعِ الْعِوَضِ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ وَيَزُولُ عَنْهُ ضَرَرُ الشَّرِكَةِ وَلَا يَتَضَرَّرُ الْبَائِعُ لِأَنَّهُ يَصِلُ إِلَى حَقِّهِ مِنَ الثَّمَنِ وَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْعَدْلِ وَأَحْسَنِ الْأَحْكَامِ الْمُطَابِقَةِ لِلْعُقُولِ وَالْفِطَرِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ.كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ.

وَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الشُّفْعَةِ كَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ، دَفْعُ ضَرَرِ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ وَاسْتِحْدَاثِ الْمَرَافِقِ وَغَيْرِهَا كَمِنْوَرٍ وَمِصْعَدٍ وَبَالُوعَةٍ فِي الْحِصَّةِ الصَّائِرَةِ إِلَيْهِ، وَقِيلَ ضَرَرِ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ.

أَسْبَابُ الشُّفْعَةِ:

6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ الَّذِي لَهُ حِصَّةٌ شَائِعَةٌ فِي نَفْسِ الْعَقَارِ الْمَبِيعِ مَا لَمْ يُقْسَمْ.

وَاخْتَلَفُوا فِي الِاتِّصَالِ بِالْجِوَارِ وَحُقُوقِ الْمَبِيعِ فَاعْتَبَرَهُمَا الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَسْبَابِ الشُّفْعَةِ خِلَافًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

الشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ عَلَى الشُّيُوعِ:

7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ الَّذِي لَهُ حِصَّةٌ شَائِعَةٌ فِي ذَاتِ الْعَقَارِ الْمَبِيعِ مَا دَامَ لَمْ يُقَاسِمْ.وَقَدِ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ- رضي الله عنه- السَّابِقِ ف 4

الشَّرِكَةُ الَّتِي تَكُونُ مَحَلًّا لِلشُّفْعَةِ:

8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الشَّرِكَةِ الَّتِي تَكُونُ مَحَلًّا لِلشُّفْعَةِ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:

الْأَوَّلُ: ذَهَبَ مَالِكٌ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَنْقَسِمُ- كَالْبِئْرِ، وَالْحَمَّامِ الصَّغِيرِ، وَالطَّرِيقِ- لَا شُفْعَةَ فِيهِ.

لِأَنَّ إِثْبَاتَ الشُّفْعَةِ فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ يَضُرُّ بِالْبَائِعِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ إِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ فِي نَصِيبِهِ بِالْقِسْمَةِ وَقَدْ يَمْتَنِعُ الْمُشْتَرِي لِأَجْلِ الشَّفِيعِ فَيَتَضَرَّرُ الْبَائِعُ وَقَدْ يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ فَتَسْقُطُ الشُّفْعَةُ فَيُؤَدِّي إِثْبَاتُهَا إِلَى نَفْيِهَا.

الِاتِّجَاهُ الثَّانِي:

9- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَمَالِكٌ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ تَجِبُ فِي الْعَقَارِ سَوَاءٌ قَبِلَ الْقِسْمَةَ أَمْ لَمْ يَقْبَلْهَا.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِعُمُومِ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ».

وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ اللاَّحِقِ بِالشَّرِكَةِ فَتَجُوزُ فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ، فَإِذَا كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي عَيْنٍ مِنَ الْأَعْيَانِ، لَمْ يَكُنْ دَفْعُ ضَرَرِ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ دَفْعِ ضَرَرِ الْآخَرِ فَإِذَا بَاعَ نَصِيبَهُ كَانَ شَرِيكُهُ أَحَقَّ بِهِ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ، إِذْ فِي ذَلِكَ إِزَالَةُ ضَرَرِهِ مَعَ عَدَمِ تَضَرُّرِ صَاحِبِهِ، فَإِنَّهُ يَصِلُ إِلَى حَقِّهِ مِنَ الثَّمَنِ وَيَصِلُ هَذَا إِلَى اسْتِبْدَادِهِ بِالْمَبِيعِ فَيَزُولُ الضَّرَرُ عَنْهُمَا جَمِيعًا.

وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّ الضَّرَرَ بِالشَّرِكَةِ فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ أَبْلَغُ مِنَ الضَّرَرِ بِالْعَقَارِ الَّذِي يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ، فَإِذَا كَانَ الشَّارِعُ مُرِيدًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْأَدْنَى فَالْأَعْلَى أَوْلَى بِالدَّفْعِ، وَلَوْ كَانَتِ الْأَحَادِيثُ مُخْتَصَّةً بِالْعَقَارَاتِ الْمَقْسُومَةِ فَإِثْبَاتُ الشُّفْعَةِ فِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى ثُبُوتِهَا فِيمَا لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ.

الشَّفْعَةُ فِي الْمَنْفَعَةِ:

10- الشَّرِكَةُ الْمُجِيزَةُ لِلشُّفْعَةِ هِيَ الشَّرِكَةُ فِي الْمِلْكِ فَقَطْ، فَتَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ فِي رَقَبَةِ الْعَقَارِ.

أَمَّا الشَّرِكَةُ فِي مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ فَلَا تَثْبُتُ فِيهَا الشُّفْعَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفِي قَوْلٍ لِمَالِكٍ لِلشَّرِيكِ فِي الْمَنْفَعَةِ الْمُطَالَبَةُ بِالشُّفْعَةِ أَيْضًا.قَالَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ: (لَا شُفْعَةَ لِشَرِيكٍ فِي كِرَاءٍ، فَإِنِ اكْتَرَى شَخْصَانِ دَارًا مَثَلًا ثُمَّ أَكْرَى أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ مَنْفَعَتِهَا فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ لِشَرِيكِهِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ مَالِكٍ، وَلَهُ الشُّفْعَةُ فِيهِ عَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ).

وَاشْتَرَطَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لِلشُّفْعَةِ فِي الْكِرَاءِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَنْقَسِمُ وَأَنْ يَشْفَعَ لِيَسْكُنَ.

شُفْعَةُ الْجَارِ الْمَالِكِ وَالشَّرِيكِ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْمَبِيعِ:

11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ كَمَا سَبَقَ عَلَى ثُبُوتِ شُفْعَةٍ لِلشَّرِيكِ الَّذِي لَهُ حِصَّةٌ شَائِعَةٌ فِي ذَاتِ الْمَبِيعِ مَا دَامَ لَمْ يُقَاسِمْ.

وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِهَا لِلْجَارِ الْمُلَاصِقِ وَالشَّرِيكِ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْمَبِيعِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ اتِّجَاهَانِ.

الْأَوَّلُ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ وَلَا لِلشَّرِيكِ فِي حُقُوقِ الْبَيْعِ، وَبِهِ قَالَ: أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَالزُّهْرِيُّ وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ وَأَبُو الزِّنَادِ وَرَبِيعَةُ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ وَفِيهِ: «فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ».

وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ فِي صَدْرِهِ إِثْبَاتَ الشُّفْعَةِ فِي غَيْرِ الْمَقْسُومِ وَنَفْيَهَا فِي الْمَقْسُومِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ إِنَّمَا لِإِثْبَاتِ الْمَذْكُورِ وَنَفْيِ مَا عَدَاهُ، وَآخِرُهُ نَفْيُ الشُّفْعَةِ عِنْدَ وُقُوعِ الْحُدُودِ وَصَرْفِ الطُّرُقِ، وَالْحُدُودُ بَيْنَ الْجَارَيْنِ وَاقِعَةٌ وَالطُّرُقُ مَصْرُوفَةٌ فَكَانَتِ الشُّفْعَةُ مَنْفِيَّةً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.

وَقَالُوا: إِذَا كَانَ الشَّارِعُ يَقْصِدُ رَفْعَ الضَّرَرِ عَنِ الْجَارِ فَهُوَ أَيْضًا يَقْصِدُ رَفْعَهُ عَنِ الْمُشْتَرِي.وَلَا يُدْفَعُ ضَرَرُ الْجَارِ بِإِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ فِي حَاجَةٍ إِلَى دَارٍ يَسْكُنُهَا هُوَ وَعِيَالُهُ، فَإِذَا سُلِّطَ الْجَارُ عَلَى انْتِزَاعِ دَارِهِ مِنْهُ أَضَرَّ بِهِ ضَرَرًا بَيِّنًا، وَأَيُّ دَارٍ اشْتَرَاهَا وَلَهُ جَارٌ فَحَالُهُ مَعَهُ هَكَذَا.وَتَطَلُّبُهُ دَارًا لَا جَارَ لَهَا كَالْمُتَعَذَّرِ عَلَيْهِ، فَكَانَ مِنْ تَمَامِ حِكْمَةِ الشَّارِعِ أَنْ أَسْقَطَ الشُّفْعَةَ بِوُقُوعِ الْحُدُودِ وَتَصْرِيفِ الطُّرُقِ لِئَلاَّ يَضُرَّ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَتَعَذَّرُ عَلَى مَنْ أَرَادَ شِرَاءَ دَارٍ لَهَا جَارٌ أَنْ يَتِمَّ لَهُ مَقْصُودُهُ.

الِاتِّجَاهُ الثَّانِي:

12- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى إِلَى إِثْبَاتِ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ الْمُلَاصِقِ وَالشَّرِيكِ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْمَبِيعِ، فَسَبَبُ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ عِنْدَهُمْ أَحَدُ شَيْئَيْنِ: الشَّرِكَةُ أَوِ الْجِوَارُ.ثُمَّ الشَّرِكَةُ نَوْعَانِ:

أ- شَرِكَةٌ فِي مِلْكِ الْمَبِيعِ.

ب- شَرِكَةٌ فِي حُقُوقِهِ، كَالشِّرْبِ وَالطَّرِيقِ.

قَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ: «الشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ لِلْخَلِيطِ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ، ثُمَّ لِلْخَلِيطِ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ كَالشِّرْبِ وَالطَّرِيقِ، ثُمَّ لِلْجَارِ».

وَاسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ قَالَ: «وَقَفْتُ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَجَاءَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى إِحْدَى مَنْكِبَيَّ إِذْ جَاءَ أَبُو رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا سَعْدُ، ابْتَعْ مِنِّي بَيْتِي فِي دَارِكَ.فَقَالَ سَعْدٌ: وَاللَّهِ مَا أَبْتَاعُهُمَا فَقَالَ الْمِسْوَرُ: وَاللَّهِ لَتَبْتَاعَنَّهُمَا، فَقَالَ سَعْدٌ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُكَ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافٍ مُنَجَّمَةً أَوْ مُقَطَّعَةً، قَالَ أَبُو رَافِعٍ: لَقَدْ أُعْطِيتُ بِهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ وَلَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ» مَا أَعْطَيْتُكَهَا بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ وَأَنَا أُعْطَى بِهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ فَأَعْطَاهَا إِيَّاهُ».

فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ تُسْتَحَقُّ بِسَبَبِ الْجِوَارِ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ يُنْتَظَرُ بِهِ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا، إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا».

عَنِ «الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٌ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرْضِي لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا شَرِكَةٌ وَلَا قِسْمَةٌ إِلاَّ الْجِوَارُ، فَقَالَ: الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ».

اسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُولِ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْحُكْمُ بِالشُّفْعَةِ ثَبَتَ فِي الشَّرِكَةِ لِإِفْضَائِهَا إِلَى ضَرَرِ الْمُجَاوَرَةِ فَحَقِيقَةُ الْمُجَاوَرَةِ أَوْلَى بِالثُّبُوتِ فِيهَا، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ ضَرَرِ الْمُتَأَذِّي بِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ وَضَرَرُ التَّأَذِّي بِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ بِاتِّصَالِ أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ بِالْآخَرِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَأَتَّى الْفَصْلُ فِيهِ.

وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْمُجَاوَرَةِ حَتَّى يُرْغَبُ فِي مُجَاوَرَةِ بَعْضِ النَّاسِ لِحُسْنِ خُلُقِهِ وَيُرْغَبُ عَنْ جِوَارِ الْبَعْضِ لِسُوءِ خُلُقِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْجَارُ الْقَدِيمُ يَتَأَذَّى بِالْجَارِ الْحَادِثِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْمِلْكِ بِالشُّفْعَةِ دَفْعًا لِهَذَا الضَّرَرِ.

شُرُوطُ الشُّفْعَةِ بِالْجِوَارِ:

13- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْجِوَارَ سَبَبٌ لِلشُّفْعَةِ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوا بِالْجِوَارِ عَلَى عُمُومِهِ، بَلِ اشْتَرَطُوا لِذَلِكَ أَنْ تَتَحَقَّقَ الْمُلَاصَقَةُ فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَيِّ حَدٍّ مِنَ الْحُدُودِ، سَوَاءٌ امْتَدَّ مَكَانُ الْمُلَاصَقَةِ حَتَّى عَمَّ الْحَدَّ أَمْ قَصُرَ حَتَّى لَوْ لَمْ يَتَجَاوَزْ.

فَالْمُلَاصِقُ لِلْمَنْزِلِ وَالْمُلَاصِقُ لِأَقْصَى الدَّارِ سَوَاءٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ لِأَنَّ مِلْكَ كُلِّ حَدٍّ مِنْهُمْ مُتَّصِلٌ بِالْبَيْعِ.

أَمَّا الْجَارُ الْمُحَاذِي فَلَا شُفْعَةَ لَهُ بِالْمُجَاوَرَةِ سَوَاءٌ أَكَانَ أَقْرَبَ بَابًا أَمْ أَبْعَدَ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الشُّفْعَةِ هُوَ الْقُرْبُ وَاتِّصَالُ أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ بِالْآخَرِ وَذَلِكَ فِي الْجَارِ الْمُلَاصِقِ دُونَ الْجَارِ الْمُحَاذِي فَإِنَّ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ طَرِيقًا نَافِذًا

وَقَالَ شُرَيْحٌ الشُّفْعَةُ بِالْأَبْوَابِ، فَأَقْرَبُ الْأَبْوَابِ إِلَى الدَّارِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ.لِمَا وَرَدَ أَنَّ «عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكَ بَابًا».

وَلَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِلْجَارِ الْمُقَابِلِ.لِأَنَّ سُوءَ الْمُجَاوَرَةِ لَا يَتَحَقَّقُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِلْكُ أَحَدِهِمَا مُتَّصِلًا بِمِلْكِ الْآخَرِ وَلَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِي حُقُوقِ الْمِلْكِ.

وَحَقُّ الشُّفْعَةِ يَثْبُتُ لِلْجَارِ الْمُلَاصِقِ لِيُتَرَفَّقَ بِهِ مِنْ حَيْثُ تَوَسُّعُ الْمِلْكِ وَالْمَرَافِقِ، وَهَذَا فِي الْجَارِ الْمُلَاصِقِ يَتَحَقَّقُ لَامِكَانِ جَعْلِ إِحْدَى الدَّارَيْنِ مِنْ مَرَافِقِ الدَّارِ الْأُخْرَى.

وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْجَارِ الْمُقَابِلِ لِعَدَمِ إِمْكَانِ جَعْلِ إِحْدَى الدَّارَيْنِ مِنْ مَرَافِقِ الدَّارِ الْأُخْرَى بِطَرِيقٍ نَافِذٍ بَيْنَهُمَا.

وَلَكِنْ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لِلْجَارِ الْمُقَابِلِ إِذَا كَانَتِ الدُّورُ كُلُّهَا فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ، لِإِمْكَانِ جَعْلِ بَعْضِهَا مِنْ مَرَافِقِ الْبَعْضِ بِأَنْ تُجْعَلَ الدُّورُ كُلُّهَا دَارًا وَاحِدَةً.

وَلَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ إِلاَّ لِلْجَارِ الْمَالِكِ، فَلَا تَثْبُتُ لِجَارِ السُّكْنَى، كَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ ضَرَرِ التَّأَذِّي بِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ وَجِوَارُ السُّكْنَى لَيْسَ بِمُسْتَدَامٍ، وَضَرَرُ التَّأَذِّي بِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ، بِاتِّصَالِ أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ بِالْآخَرِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَأَتَّى الْفَصْلُ فِيهِ.

الشُّفْعَةُ بَيْنَ مُلاَّكِ الطَّبَقَاتِ:

13 م- مُلاَّكُ الطَّبَقَاتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُتَجَاوِرُونَ فَيَحِقُّ لَهُمُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ بِسَبَبِ الْجِوَارِ.

وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ صَاحِبُ الْعُلُوِّ السُّفْلَ بِالشُّفْعَةِ حَتَّى انْهَدَمَ الْعُلُوُّ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ بَطَلَتِ الشُّفْعَةُ- لِأَنَّ الِاتِّصَالَ بِالْجِوَارِ قَدْ زَالَ، كَمَا لَوْ بَاعَ الَّتِي يَشْفَعُ بِهَا قَبْلَ الْأَخْذِ.

وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ تَجِبُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِسَبَبِ الْبِنَاءِ بَلْ بِالْقَرَارِ وَحَقُّ الْقَرَارِ بَاقٍ.

وَإِنْ كَانَتْ ثَلَاثَةَ أَبْيَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَبَابُ كُلٍّ إِلَى السِّكَّةِ فَبِيعَ الْأَوْسَطُ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لِلْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ وَإِنْ بِيعَ الْأَسْفَلُ أَوِ الْأَعْلَى، فَالْأَوْسَطُ أَوْلَى، بِمَا لَهُ مِنْ حَقِّ الْقَرَارِ؛ لِأَنَّ حَقَّ التَّعَلِّي يَبْقَى عَلَى الدَّوَامِ، وَهُوَ غَيْرُ مَنْقُولٍ فَتُسْتَحَقُّ بِهِ الشُّفْعَةُ كَالْعَقَارِ.

وَلَوْ كَانَ سُفْلٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِ عُلُوٌّ لِأَحَدِهِمَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَبَاعَ هُوَ السُّفْلَ وَالْعُلُوَّ كَانَ الْعُلُوُّ لِشَرِيكِهِ فِي الْعُلُوِّ وَالسُّفْلُ لِشَرِيكِهِ فِي السُّفْلِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرِيكٌ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ فِي حَقِّهِ وَجَارٌ فِي حَقِّ الْآخَرِ أَوْ شَرِيكٌ فِي الْحَقِّ إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا.

وَلَوْ كَانَ السُّفْلُ لِرَجُلٍ وَالْعُلُوُّ لآِخَرَ فَبِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِهَا فَالشُّفْعَةُ لَهُمَا.

أَرْكَانُ الشُّفْعَةِ:

14- أَرْكَانُ الشُّفْعَةِ ثَلَاثَةٌ

(1) الشَّفِيعُ: وَهُوَ الْآخِذُ.

(2) وَالْمَأْخُوذُ مِنْهُ: وَهُوَ الْمُشْتَرِي الَّذِي يَكُونُ الْعَقَارُ فِي حِيَازَتِهِ.

(3) الْمَشْفُوعُ فِيهِ: وَهُوَ الْعَقَارُ الْمَأْخُوذُ أَيْ مَحَلُّ الشُّفْعَةِ.

وَلِكُلِّ رُكْنٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ شُرُوطٌ وَأَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِهَا كَمَا سَيَأْتِي.

الشُّرُوطُ الْوَاجِبُ تَوَافُرُهَا فِي الشَّفِيعِ:

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: مِلْكِيَّةُ الشَّفِيعِ لِمَا يَشْفَعُ بِهِ:

15- اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِلْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّفِيعُ مَالِكًا لِلْعَقَارِ الْمَشْفُوعِ بِهِ وَقْتَ شِرَاءِ الْعَقَارِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ.لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ جَوَازُ الْمِلْكِ، وَالسَّبَبُ إِنَّمَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَالِانْعِقَادُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْوُجُودِ.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لَا شُفْعَةَ لَهُ بِدَارٍ يَسْكُنُهَا بِالْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَلَا بِدَارٍ بَاعَهَا قَبْلَ الشِّرَاءِ وَلَا بِدَارٍ جَعَلَهَا مَسْجِدًا وَلَا بِدَارٍ جَعَلَهَا وَقْفًا.وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ جَوَازُ الشُّفْعَةِ فِي الْكِرَاءِ كَمَا سَبَقَ.

الشَّرْطُ الثَّانِي: بَقَاءُ الْمِلْكِيَّةِ لِحِينِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ:

16- يَجِبُ أَنْ يَبْقَى الشَّفِيعُ مَالِكًا لِلْعَقَارِ الْمَشْفُوعِ بِهِ حَتَّى يَمْتَلِكَ الْعَقَارَ الْمَشْفُوعَ فِيهِ بِالرِّضَاءِ أَوْ بِحُكْمِ الْقَضَاءِ لِيَتَحَقَّقَ الِاتِّصَالُ وَقْتَ الْبَيْعِ.

الشُّفْعَةُ لِلْوَقْفِ:

17- لَا شُفْعَةَ لِلْوَقْفِ لَا بِشَرِكَةٍ وَلَا بِجِوَارٍ.

فَإِذَا بِيعَ عَقَارٌ مُجَاوِرٌ لِوَقْفٍ، أَوْ كَانَ الْمَبِيعُ بَعْضُهُ مِلْكٌ وَبَعْضُهُ وَقْفٌ وَبِيعَ الْمِلْكُ فَلَا شُفْعَةَ لِلْوَقْفِ، لَا لِقَيِّمِهِ وَلَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ.

وَاشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ جَمِيعًا أَلاَّ يَتَضَمَّنَ التَّمَلُّكُ بِالشُّفْعَةِ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ.وَيَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ قِطْعَةً وَاحِدَةً وَالْمُشْتَرِي وَاحِدًا فَلَا يَجُوزُ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَطْلُبَ بَعْضَ الْمَبِيعِ وَيَتْرُكَ الْبَعْضَ الْآخَرَ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْقِطْعَةُ وَاحِدَةً، وَكَانَ الْمُشْتَرِي مُتَعَدِّدًا فَيَجُوزُ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَطْلُبَ نَصِيبَ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ يَطْلُبَ الْكُلَّ، وَلَا يُعْتَبَرُ هَذَا تَجْزِئَةً لِلشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ مُسْتَقِلٌّ بِمِلْكِيَّةِ نَصِيبِهِ تَمَامَ الِاسْتِقْلَالِ.وَإِذَا كَانَتِ الْقِطَعُ مُتَعَدِّدَةً وَالْمُشْتَرِي وَاحِدًا أَخَذَ كُلُّ شَفِيعٍ الْقِطْعَةَ الَّتِي يَشْفَعُ فِيهَا، فَإِنْ تَعَدَّدَ الْمُشْتَرُونَ أَيْضًا فَلِكُلِّ شَفِيعٍ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ بَعْضِهِمْ أَوْ يَأْخُذَ الْكُلَّ وَيُقَدِّرَ لِكُلِّ قِطْعَةٍ مَا يُنَاسِبُهَا مِنَ الثَّمَنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُقَدَّرًا فِي الْعَقْدِ.

الْمَشْفُوعُ مِنْهُ:

18- وَتَجُوزُ الشُّفْعَةُ عَلَى أَيِّ مُشْتَرٍ لِلْعَقَارِ الْمَبِيعِ سَوَاءٌ أَكَانَ قَرِيبًا لِلْبَائِعِ أَمْ كَانَ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ.لِعُمُومِ النُّصُوصِ الْمُثَبِّتَةِ لِلشُّفْعَةِ.

التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَجُوزُ فِيهَا الشُّفْعَةُ:

19- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّصَرُّفَ الْمُجِيزَ لِلشُّفْعَةِ هُوَ عَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ، وَهُوَ الْبَيْعُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ.فَلَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ يَكُونُ بِمِثْلِ مَا مَلَكَ فَإِذَا انْعَدَمَتِ الْمُعَاوَضَةُ تَعَذَّرَ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ.

وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ أَنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ فِي كُلِّ مِلْكٍ انْتَقَلَ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْهِبَةِ لِغَيْرِ الثَّوَابِ، وَالصَّدَقَةِ، مَا عَدَا الْمِيرَاثَ فَإِنَّهُ لَا شُفْعَةَ فِيهِ بِاتِّفَاقٍ.وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهَا اعْتَبَرَتِ الضَّرَرَ فَقَطْ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَهْرِ وَأَرْشِ الْجِنَايَاتِ وَالصُّلْحِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ صَحَّحَهَا الْمِرْدَاوِيُّ إِلَى عَدَمِ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الْبَيْعِ فَقَطْ وَلَيْسَتْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ بِمَعْنَى الْبَيْعِ؛ وَلِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الشَّفِيعُ بِمِثْلِ مَا تَمَلَّكَ بِهِ هَؤُلَاءِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ بِجَامِعِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمُعَاوَضَةِ مَعَ لُحُوقِ الضَّرَرِ ثُمَّ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَتِ الشُّفْعَةُ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِقِيمَتِهِ وَفِي قَوْلٍ: بِقِيمَةِ مُقَابِلِهِ.

الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ

20- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ، فَإِنْ تَقَابَضَا وَجَبَتِ الشُّفْعَةُ؛ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ عِنْدَ التَّقَابُضِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَرَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَإِنْ قَبَضَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَلَا شُفْعَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ زُفَرَ تَجِبُ الشُّفْعَةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

الشُّفْعَةُ مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ:

21- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ أَوْ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي مَعًا فَلَا شُفْعَةَ حَتَّى يَجِبَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُمْ اشْتَرَطُوا لِجَوَازِ الشُّفْعَةِ زَوَالَ مِلْكِ الْبَائِعِ عَنِ الْمَبِيعِ.

وَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: تَجِبُ الشُّفْعَةُ لِأَنَّ خِيَارَهُ لَا يَمْنَعُ زَوَالَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ يَقِفُ عَلَيْهِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ- لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ.لِأَنَّ بَيْعَ الْخِيَارِ مُنْحَلٌّ عَلَى الْمَشْهُورِ، إِلاَّ بَعْدَ مُضِيِّهِ وَلُزُومِهِ فَتَكُونُ الشُّفْعَةُ.

وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: إِنْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ فَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ فَفِي أَخْذِهِ بِالشُّفْعَةِ قَوْلَانِ:

الْأَوَّلُ: الْمَنْعُ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَرْضَ بِلُزُومِ الْعَقْدِ وَفِي الْأَخْذِ إِلْزَامٌ وَإِثْبَاتٌ لِلْعُهْدَةِ عَلَيْهِ.

وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَظْهَرُ- يُؤْخَذُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ فِيهِ إِلاَّ لِلْمُشْتَرِي وَالشَّفِيعُ سُلِّطَ عَلَيْهِ بَعْدَ لُزُومِ الْمِلْكِ وَاسْتِقْرَارِهِ فَقَبْلَهُ أَوْلَى.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ كَمَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ شَرَطَ الْبَائِعُ الْخِيَارَ لِلشَّفِيعِ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ، لِأَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ لِلشَّفِيعِ شَرْطٌ لِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ، فَإِنْ أَجَازَ الشَّفِيعُ الْبَيْعَ جَازَ وَلَا شُفْعَةَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَ ابْتِدَاءً.وَإِنْ فُسِخَ الْبَيْعُ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ لِأَنَّ مِلْكَ الْبَائِعِ لَمْ يَزُلْ، وَالْحِيلَةُ لِلشَّفِيعِ فِي ذَلِكَ أَلاَّ يَفْسَخَ وَلَا يُجِيزَ حَتَّى يُجِيزَ الْبَائِعُ أَوْ يُجَوِّزَ الْبَيْعَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ فَتَكُونُ لَهُ الشُّفْعَةُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


289-موسوعة الفقه الكويتية (شفعة 4)

شُفْعَةٌ -4

الْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ فِي الْمَالِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ:

48- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي فِي الْأَرْضِ الْمَشْفُوعِ فِيهَا أَوْ غَرَسَ فِيهَا، ثُمَّ قُضِيَ لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ، وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ هُوَ تَرَدُّدُ تَصَرُّفِ الْمَشْفُوعِ عَلَيْهِ الْعَالِمِ بِوُجُوبِ الشُّفْعَةِ عَلَيْهِ بَيْنَ شُبْهَةِ تَصَرُّفِ الْغَاصِبِ وَتَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي الَّذِي يَطْرَأُ عَلَيْهِ الِاسْتِحْقَاقُ وَقَدْ بَنَى فِي الْأَرْضِ وَغَرَسَ وَذَلِكَ أَنَّهُ وَسَطٌ بَيْنَهُمَا.

فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ شَبَهُ الِاسْتِحْقَاقِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْقِيمَةَ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ شَبَهُ التَّعَدِّي كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِنَقْضِهِ أَوْ يُعْطِيَهُ قِيمَتَهُ مَنْقُوضًا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي فِي الْأَرْضِ الْمَشْفُوعِ فِيهَا أَوْ غَرَسَ، ثُمَّ قُضِيَ لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِالثَّمَنِ وَالْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ بِقِيمَتِهِ مَقْلُوعًا، وَإِنْ شَاءَ أَجْبَرَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى قَلْعِهِمَا، فَيَأْخُذُ الْأَرْضَ فَارِغَةً.وَهَذَا هُوَ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.

وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.أَنَّهُ بَنَى فِي مَحَلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ مُتَأَكِّدٌ لِلْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فَيُنْقَضُ كَالرَّاهِنِ إِذَا بَنَى فِي الْمَرْهُونِ، وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّهُ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا يُنْقَضُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَتَصَرُّفَاتُهُ.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْقَلْعِ وَيُخَيَّرُ الشَّفِيعُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَهُ أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الدَّارَ مِلْكُهُ، وَالتَّكْلِيفُ بِالْقَلْعِ مِنْ أَحْكَامِ الْعُدْوَانِ وَصَارَ كَالْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا، وَكَمَا إِذَا زَرَعَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ لَا يُكَلَّفُ الْقَلْعَ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي إِيجَابِ الْقِيمَةِ دَفْعَ أَعْلَى الضَّرَرَيْنِ بِتَحَمُّلِ الْأَدْنَى فَيُصَارُ إِلَيْهِ.

أَمَّا الزَّرْعُ فَالْقِيَاسُ قَلْعُهُ وَلَكِنَّ الِاسْتِحْسَانَ عَدَمُ قَلْعِهِ، لِأَنَّ لَهُ نِهَايَةً مَعْلُومَةً وَيَبْقَى بِالْأَجْرِ وَلَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ ضَرَرٍ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَحْدَثَ الْمُشْتَرِي بِنَاءً أَوْ غَرْسًا أَوْ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ فِي الشِّقْصِ قَبْلَ قِيَامِ الشَّفِيعِ، ثُمَّ قَامَ الشَّفِيعُ بِطَلَبِ شُفْعَتِهِ فَلَا شُفْعَةَ إِلاَّ أَنْ يُعْطَى الْمُشْتَرِي قِيمَةَ مَا بَنَى وَمَا غَرَسَ.

وَلِلْمُشْتَرِي الْغَلَّةُ إِلَى وَقْتِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّهُ فِي ضَمَانِهِ قَبْلَ الْأَخْذِ بِهَا وَالْغَلَّةُ بِالضَّمَانِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي أَوْ غَرَسَ أَوْ زَرَعَ فِي الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ ثُمَّ عَلِمَ الشَّفِيعُ فَلَهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ وَقَلْعُ بِنَائِهِ وَغَرْسِهِ وَزَرْعِهِ مَجَّانًا لَا بِحَقِّ الشُّفْعَةِ، وَلَكِنْ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إِذَا انْفَرَدَ بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فِي الْأَرْضِ الْمُشْتَرَكَةِ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَقْلَعَ مَجَّانًا.

وَإِنْ بَنَى الْمُشْتَرِي وَغَرَسَ فِي نَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَالتَّمْيِيزِ ثُمَّ عَلِمَ الشَّفِيعُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَلْعُهُ مَجَّانًا، لِأَنَّهُ بَنَى فِي مِلْكِهِ الَّذِي يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ فَلَا يُقْلَعُ مَجَّانًا.

فَإِنِ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي قَلْعَ الْبِنَاءِ أَوِ الْغِرَاسِ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَا يُكَلَّفُ تَسْوِيَةَ الْأَرْضِ.لِأَنَّهُ كَانَ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِهِ، فَإِنْ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ نَقْصٌ فَالشَّفِيعُ إِمَّا أَنْ يَأْخُذَهُ عَلَى صِفَتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَرِ الْمُشْتَرِي الْقَلْعَ، فَلِلشَّفِيعِ الْخِيَارُ بَيْنَ إِبْقَاءِ مِلْكِهِ فِي الْأَرْضِ بِأُجْرَةٍ وَبَيْنَ تَمَلُّكِهِ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ الْأَخْذِ، وَبَيْنَ أَنْ يَنْقُضَهُ وَيَغْرَمَ أَرْشَ النَّقْصِ.

وَلَوْ كَانَ قَدْ زَرَعَ فَيَبْقَى زَرْعُهُ إِلَى أَنْ يُدْرِكَ فَيَحْصُدَهُ، وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْأُجْرَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي أَوْ غَرَسَ أَعْطَاهُ الشَّفِيعُ قِيمَةَ بِنَائِهِ أَوْ غَرْسِهِ، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ بِنَاءَهُ وَغِرَاسَهُ، فَلَهُ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي أَخْذِهِ ضَرَرٌ.لِأَنَّهُ مَلَكَهُ، فَإِذَا قَلَعَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الْحُفَرِ وَلَا نَقْصُ الْأَرْضِ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ غَرَسَ وَبَنَى فِي مِلْكِهِ، وَمَا حَدَثَ مِنَ النَّقْصِ إِنَّمَا حَدَثَ فِي مِلْكِهِ، وَذَلِكَ لَا يُقَابِلُهُ ثَمَنٌ.

وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ عَلَيْهِ ضَمَانَ النَّقْصِ الْحَاصِلِ بِالْقَلْعِ؛ لِأَنَّهُ اشْتُرِطَ فِي قَلْعِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ عَدَمُ الضَّرَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ نَقْصٌ دَخَلَ عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ لِأَجْلِ تَخْلِيصِ مِلْكِهِ فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ الْحَاصِلَ بِالْقَلْعِ إِنَّمَا هُوَ فِي مِلْكِ الشَّفِيعِ.فَأَمَّا نَقْصُ الْأَرْضِ الْحَاصِلُ بِالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ فَلَا يَضْمَنُهُ.

فَإِنْ لَمْ يَخْتَرِ الْمُشْتَرِي الْقَلْعَ فَالشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:

أ- تَرْكِ الشُّفْعَةِ.

ب- دَفْعِ قِيمَةِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ فَيَمْلِكُهُ مَعَ الْأَرْضِ.

ج- قَلْعِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ وَيَضْمَنُ لَهُ مَا نَقَصَ بِالْقَلْعِ.

وَإِنْ زَرَعَ فِي الْأَرْضِ فَلِلشَّفِيعِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ وَيَبْقَى زَرْعُ الْمُشْتَرِي إِلَى أَوَانِ الْحَصَادِ، لِأَنَّ ضَرَرَهُ لَا يَبْقَى وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ زَرَعَهُ فِي مِلْكِهِ؛ وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ اشْتَرَى الْأَرْضَ وَفِيهَا زَرْعٌ لِلْبَائِعِ مُبْقًى إِلَى الْحَصَادِ بِلَا أُجْرَةٍ كَغَيْرِ الْمَشْفُوعِ، وَإِنْ كَانَ فِي الشَّجَرِ ثَمَرٌ ظَاهِرٌ أَثْمَرَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ لَهُ مُبْقًى إِلَى الْجُذَاذِ كَالزَّرْعِ.

اسْتِحْقَاقُ الْمَشْفُوعِ فِيهِ لِلْغَيْرِ:

49- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عُهْدَةِ الشَّفِيعِ أَهِيَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَمْ عَلَى الْبَائِعِ.يَعْنِي إِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ فَظَهَرَ مُسْتَحَقًّا، فَعَلَى مَنْ يَرْجِعُ الثَّمَنُ؟

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ فَظَهَرَ مُسْتَحَقًّا فَرُجُوعُهُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِهِ.

وَإِنْ وَجَدَهُ مَعِيبًا فَلَهُ رَدُّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَوْ أَخْذُ أَرْشِهِ مِنْهُ، وَالْمُشْتَرِي يَرُدُّ عَلَى الْبَائِعِ أَوْ يَأْخُذُ الْأَرْشَ مِنْهُ سَوَاءٌ قَبَضَ الشِّقْصَ مِنَ الْمُشْتَرِي أَوْ مِنَ الْبَائِعِ فَالْعُهْدَةُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْمُشْتَرِي.

وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، أَنَّ الشُّفْعَةَ مُسْتَحَقَّةٌ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَحُصُولِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ يَزُولُ الْمِلْكُ مِنَ الْمُشْتَرِي إِلَى الشَّفِيعِ بِالثَّمَنِ فَكَانَتِ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ مَلَكَهُ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ فَمَلَكَ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ كَالْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ الْأَوَّلِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا قُضِيَ لِلشَّفِيعِ بِالْعَقَارِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ فَأَدَّى ثَمَنَهُ ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ، فَإِنْ أَدَّاهُ لِلْمُشْتَرِي فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ سَوَاءٌ اسْتُحِقَّ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ إِلَيْهِ أَوْ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ أَدَّاهُ لِلْبَائِعِ وَاسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ وَهُوَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الثَّمَنِ لِلشَّفِيعِ.

وَيَرْجِعُ الشَّفِيعُ بِالثَّمَنِ فَقَطْ إِنْ بَنَى أَوْ غَرَسَ ثُمَّ اسْتُحِقَّتِ الْعَيْنُ، وَلَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ عَلَى أَحَدٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُقَرَّرًا بِهِ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: الْعُهْدَةُ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ لَهُ بِإِيجَابِ الْبَائِعِ فَكَانَ رُجُوعُهُ عَلَيْهِ كَالْمُشْتَرِي.

تَبِعَةُ الْهَلَاكِ:

50- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا هَدَمَ الْمُشْتَرِي بِنَاءَ الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ أَوْ هَدَمَهُ غَيْرُهُ أَوْ قَلَعَ الْأَشْجَارَ الَّتِي كَانَتْ مَغْرُوسَةً فِي الْأَرْضِ الْمَشْفُوعَةِ فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الْعَرْصَةَ أَوِ الْأَرْضَ بِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ بِأَنْ يُقْسَمَ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْعَرْصَةِ أَوِ الْأَرْضِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ أَوِ الشَّجَرِ وَمَا خَصَّ الْعَرْصَةَ أَوِ الْأَرْضَ مِنْهُ يَدْفَعُهُ الشَّفِيعُ وَتَكُونُ الْأَنْقَاضُ وَالْأَخْشَابُ لِلْمُشْتَرِي.وَإِذَا تَخَرَّبَتِ الدَّارُ الْمَشْفُوعَةُ أَوْ جَفَّتْ أَشْجَارُ الْبُسْتَانِ الْمَشْفُوعِ بِلَا تَعَدِّي أَحَدٍ عَلَيْهَا يَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى، فَإِنْ كَانَ بِهَا أَنْقَاضٌ أَوْ خَشَبٌ وَأَخَذَهُ الْمُشْتَرِي تَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنَ الثَّمَنِ بِأَنْ يُقْسَمَ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الدَّارِ أَوِ الْبُسْتَانِ يَوْمَ الْعَقْدِ وَقِيمَةِ الْأَنْقَاضِ وَالْخَشَبِ يَوْمَ الْأَخْذِ، وَإِذَا تَلِفَ بَعْضُ الْأَرْضِ الْمَشْفُوعَةِ بِغَرَقٍ أَوْ نَحْوِهِ سَقَطَتْ حِصَّةُ التَّالِفِ مِنْ أَصْلِ الثَّمَنِ، وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْضَ مَعَ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ إِذَا كَانَ مُتَّصِلًا، فَأَمَّا إِذَا زَالَ الِاتِّصَالُ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَلَا سَبِيلَ لِلشَّفِيعِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُهُ قَائِمَةً سَوَاءٌ أَكَانَ الزَّوَالُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَمْ بِصُنْعِ الْمُشْتَرِي أَوِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عَنِ الْقِيَاسِ مَعْلُولًا بِالتَّبَعِيَّةِ وَقَدْ زَالَتِ التَّبَعِيَّةُ بِزَوَالِ الِاتِّصَالِ فَيُرَدُّ الْحُكْمُ فِيهِ إِلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْمُشْتَرِي نَقْصَ الشِّقْصِ إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِلَا سَبَبٍ مِنْهُ وَإِنَّمَا بِسَبَبٍ سَمَاوِيٍّ أَوْ تَغَيُّرِ سُوقٍ أَوْ كَانَ بِسَبَبٍ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ فَعَلَهُ لِمَصْلَحَةٍ كَهَدْمٍ لِمَصْلَحَةٍ مِنْ غَيْرِ بِنَاءٍ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّ لَهُ شَفِيعًا أَمْ لَا.فَإِنْ هَدَمَ لَا لِمَصْلَحَةٍ ضَمِنَ، فَإِنْ هَدَمَ وَبَنَى فَلَهُ قِيمَتُهُ عَلَى الشَّفِيعِ قَائِمًا لِعَدَمِ تَعَدِّيهِ وَتُعْتَبَرُ يَوْمَ الْمُطَالَبَةِ وَلَهُ قِيمَةُ النَّقْصِ الْأَوَّلِ مَنْقُوضًا يَوْمَ الشِّرَاءِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَعَيَّبَتِ الدَّارُ الْمُشْتَرَى بَعْضُهَا أَخَذَ الشَّفِيعُ بِكُلِّ الثَّمَنِ أَوْ تَرَكَ كَتَعَيُّبِهَا بِيَدِ الْبَائِعِ، وَكَذَا لَوِ انْهَدَمَتْ بِلَا تَلَفٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا، فَإِنْ وَقَعَ تَلَفٌ لِبَعْضِهَا فَبِالْحِصَّةِ مِنَ الثَّمَنِ يَأْخُذُ الْبَاقِيَ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَلِفَ الشِّقْصُ أَوْ بَعْضُهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِ.لِأَنَّهُ مِلْكُهُ تَلِفَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ إِنْ أَرَادَ الشَّفِيعُ الْأَخْذَ بَعْدَ تَلَفِ بَعْضِهِ أَخَذَ الْمَوْجُودَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ سَوَاءٌ أَكَانَ التَّلَفُ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ، وَسَوَاءٌ أَتَلِفَ بِاخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي كَنَقْضِهِ لِلْبِنَاءِ أَمْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ مِثْلَ أَنِ انْهَدَمَ.

ثُمَّ إِنْ كَانَتِ الْأَنْقَاضُ مَوْجُودَةً أَخَذَهَا مَعَ الْعَرْصَةِ بِالْحِصَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً أَخَذَ الْعَرْصَةَ وَمَا بَقِيَ مِنَ الْبِنَاءِ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْعَنْبَرِيِّ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَى الشَّفِيعِ أَخْذُ الْجَمِيعِ وَقَدَرَ عَلَى أَخْذِ الْبَعْضِ فَكَانَ لَهُ بِالْحِصَّةِ مِنَ الثَّمَنِ كَمَا لَوْ تَلِفَ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ سِوَاهُ أَوْ لَوْ كَانَ لَهُ شَفِيعٌ آخَرُ.أَوْ نَقُولُ: أَخَذَ بَعْضَ مَا دَخَلَ مَعَهُ فِي الْعَقْدِ، فَأَخَذَهُ بِالْحِصَّةِ كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ سَيْفٌ.

وَأَمَّا الضَّرَرُ فَإِنَّمَا حَصَلَ بِالتَّلَفِ وَلَا صُنْعَ لِلشَّفِيعِ فِيهِ وَالَّذِي يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ يُؤَدِّي ثَمَنَهُ فَلَا يَتَضَرَّرُ الْمُشْتَرِي بِأَخْذِهِ.

وَإِنَّمَا قَالُوا بِأَخْذِ الْأَنْقَاضِ وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ لِلشُّفْعَةِ كَانَ حَالَ عَقْدِ الْبَيْعِ وَفِي تِلْكَ الْحَالِ كَانَ مُتَّصِلًا اتِّصَالًا لَيْسَ مَآلُهُ إِلَى الِانْفِصَالِ وَانْفِصَالُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ حَقَّ الشُّفْعَةِ.وَإِنْ نُقِضَتِ الْقِيمَةُ مَعَ بَقَاءِ صُورَةِ الْمَبِيعِ مِثْلَ انْشِقَاقِ الْحَائِطِ وَانْهِدَامِ الْبِنَاءِ، وَشُعْثِ الشَّجَرِ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ الْأَخْذُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوِ التَّرْكُ.لِأَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ لَا يُقَابِلُهَا الثَّمَنُ بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ.

مِيرَاثُ الشُّفْعَةِ:

51- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِيرَاثِ حَقِّ الشُّفْعَةِ.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ يُورَثُ، فَإِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ يَنْتَقِلُ حَقُّ الشُّفْعَةِ إِلَى وَرَثَتِهِ.

وَقَيَّدَهُ الْحَنَابِلَةُ بِمَا إِذَا كَانَ الشَّفِيعُ قَدْ طَالَبَ بِالشُّفْعَةِ قَبْلَ مَوْتِهِ.

وَوَجْهُ الِانْتِقَالِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ خِيَارٌ ثَابِتٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْمَالِ فَوُرِثَ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ الْبَيْعِ وَقَبْلَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ حَقُّ الْأَخْذِ بِهَا، فَتَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِمَوْتِ الشَّفِيعِ وَلَا تَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَيْسَ بِمَالٍ وَإِنَّمَا مُجَرَّدُ الرَّأْيِ وَالْمَشِيئَةِ وَهُمَا لَا يَبْقَيَانِ بَعْدَ مَوْتِ الشَّفِيعِ وَلِأَنَّ مِلْكَ الشَّفِيعِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ قَدْ زَالَ بِمَوْتِهِ.أَمَّا إِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ بِالشُّفْعَةِ أَوْ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْمُشْتَرِي لَهُ بِهَا فَلِوَرَثَتِهِ أَخْذُهَا بِالشُّفْعَةِ.

وَإِذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي وَالشَّفِيعُ حَيٌّ فَلَهُ الشُّفْعَةُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ بَاقٍ، وَبِمَوْتِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ لَمْ يَتَغَيَّرِ الِاسْتِحْقَاقُ.

مُسْقِطَاتُ الشُّفْعَةِ:

52- تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِمَا يَلِي:

أَوَّلًا: تَرْكُ أَحَدِ الطَّلَبَاتِ الثَّلَاثَةِ فِي وَقْتِهِ وَهِيَ طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ، وَطَلَبُ التَّقْرِيرِ وَالْإِشْهَادِ، وَطَلَبُ الْخُصُومَةِ وَالتَّمَلُّكِ إِذَا تُرِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ.

ثَانِيًا: إِذَا طَلَبَ الشَّفِيعُ بَعْضَ الْعَقَارِ الْمَبِيعِ وَكَانَ قِطْعَةً وَاحِدَةً وَالْمُشْتَرِي وَاحِدًا، لِأَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ.

ثَالِثًا: مَوْتُ الشَّفِيعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَبْلَ الْأَخْذِ بِهَا رِضَاءً أَوْ قَضَاءً سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوَفَاةُ قَبْلَ الطَّلَبِ أَمْ بَعْدَهُ.وَلَا تُورَثُ عَنْهُ عِنْدَهُمْ.

رَابِعًا: الْإِبْرَاءُ وَالتَّنَازُلُ عَنِ الشُّفْعَةِ: فَالْإِبْرَاءُ الْعَامُّ مِنَ الشَّفِيعِ يُبْطِلُهَا قَضَاءً مُطْلَقًا لَا دِيَانَةً إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا.

وَقَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّنَازُلِ عَنِ الشُّفْعَةِ بِالتَّفْصِيلِ كَالتَّالِي:

53- إِذَا تَنَازَلَ الشَّفِيعُ عَنْ حَقِّهِ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ سَقَطَ حَقُّهُ فِي طَلَبِهَا، وَالتَّنَازُلُ هَذَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ ضِمْنِيًّا.

فَالتَّنَازُلُ الصَّرِيحُ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ الشَّفِيعُ: أَبْطَلْتُ الشُّفْعَةَ أَوْ أَسْقَطْتُهَا أَوْ أَبْرَأْتُكَ عَنْهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ خَالِصُ حَقِّهِ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهَا اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا كَالْإِبْرَاءِ عَنِ الدَّيْنِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ سَوَاءٌ عَلِمَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْبَيْعِ.

أَمَّا التَّنَازُلُ الضِّمْنِيُّ فَهُوَ أَنْ يُوجَدَ مِنَ الشَّفِيعِ مَا يَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ بِالْبَيْعِ وَثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ إِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمُشْتَرِي فَإِذَا رَضِيَ بِالشِّرَاءِ أَوْ بِحُكْمِهِ فَقَدْ رَضِيَ بِضَرَرِ جِوَارِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الدَّفْعَ بِالشُّفْعَةِ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِسْقَاطٌ).

التَّنَازُلُ عَنِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ:

54- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَازَلَ الشَّفِيعُ عَنْ حَقِّهِ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ بَيْعِ الْعَقَارِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ فِي طَلَبِهَا بَعْدَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّنَازُلَ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ، وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ قَبْلَ وُجُوبِهِ وَوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ مُحَالٌ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ تَسْقُطُ بِالتَّنَازُلِ عَنْهَا قَبْلَ الْبَيْعِ- فَإِنَّ إِسْمَاعِيلَ بْنَ سَعِيدٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: مَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ رَبْعَةٌ فَأَرَادَ بَيْعَهَا فَلْيَعْرِضْهَا عَلَيْهِ».

وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَلَا يَحِلُّ لَهُ إِلاَّ أَنْ يَعْرِضَهَا عَلَيْهِ» إِذَا كَانَتِ الشُّفْعَةُ ثَابِتَةً لَهُ؟ فَقَالَ.مَا هُوَ بِبَعِيدٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى ذَلِكَ وَأَلاَّ تَكُونَ لَهُ الشُّفْعَةُ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَكَمِ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي خَيْثَمَةَ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ.

وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي رَبْعَةٍ أَوْ نَخْلٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَإِنْ رَضِيَ أَخَذَ وَإِنْ كَرِهَ تَرَكَ» وَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم-: «فَإِذَا بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ»،، فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِذَا بَاعَهُ بِإِذْنِهِ لَا حَقَّ لَهُ.

وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ فِي مَوْضِعِ الْوِفَاقِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِكَوْنِهِ يَأْخُذُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ رِضَائِهِ، وَيُجْبِرُهُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ بِهِ لِدُخُولِهِ مَعَ الْبَائِعِ فِي الْعَقْدِ الَّذِي أَسَاءَ فِيهِ بِإِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى شَرِيكِهِ، وَتَرْكِهِ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِ فِي عَرْضِهِ عَلَيْهِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ هَاهُنَا فَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَهُ عَلَيْهِ، وَامْتِنَاعُهُ مِنْ أَخْذِهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الضَّرَرِ فِي حَقِّهِ بِبَيْعِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ فَهُوَ أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ كَمَا لَوْ أَخَّرَ الْمُطَالَبَةَ بَعْدَ الْبَيْعِ.

التَّنَازُلُ عَنِ الشُّفْعَةِ مُقَابِلَ تَعْوِيضٍ أَوْ صُلْحٍ عَنْهَا:

55- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ التَّنَازُلِ عَنِ الشُّفْعَةِ مُقَابِلَ تَعْوِيضٍ يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ.

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَنِ الشُّفْعَةِ عَلَى مَالٍ، فَلَوْ صَالَحَ الْمُشْتَرِي الشَّفِيعَ عَنِ الشُّفْعَةِ عَلَى مَالٍ لَمْ يَجُزِ الصُّلْحُ وَلَمْ يَثْبُتِ الْعِوَضُ وَيَبْطُلُ حَقُّ الشُّفْعَةِ.قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ إِنْ عَلِمَ بِفَسَادِهِ.

أَمَّا بُطْلَانُ الصُّلْحِ فَلِانْعِدَامِ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي الْمَحَلِّ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ التَّمَلُّكِ، وَأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ وِلَايَةِ التَّمَلُّكِ وَأَنَّهَا مَعْنًى قَائِمٌ بِالشَّفِيعِ فَلَمْ يَصِحَّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ فَبَطَلَ الصُّلْحُ وَلَمْ يَجِبِ الْعِوَضُ.

وَأَمَّا بُطْلَانُ حَقِّ الشَّفِيعِ فِي الشُّفْعَةِ؛ فَلِأَنَّهُ أَسْقَطَهُ بِالصُّلْحِ فَالصُّلْحُ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَإِسْقَاطُ حَقِّ الشُّفْعَةِ صَحِيحٌ، لِأَنَّ صِحَّتَهُ لَا تَقِفُ عَلَى الْعِوَضِ بَلْ هُوَ شَيْءٌ مِنَ الْأَمْوَالِ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا عَنْهُ فَالْتُحِقَ ذِكْرُ الْعِوَضِ بِالْعَدَمِ فَصَارَ كَأَنَّهُ سَلَّمَ بِلَا عِوَضٍ.

وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى جَوَازِ الصُّلْحِ عَنِ الشُّفْعَةِ بِعِوَضٍ، لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ إِزَالَةِ الْمِلْكِ فَجَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ.

وَقَالَ الْقَاضِي: مِنَ الْحَنَابِلَةِ.لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ وَلَكِنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَسْقُطُ.لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِإِسْقَاطِهَا وَإِنَّمَا رَضِيَ بِالْمُعَاوَضَةِ عَنْهَا وَلَمْ تَثْبُتِ الْمُعَاوَضَةُ فَبَقِيَتِ الشُّفْعَةُ.

التَّنَازُلُ عَنِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ طَلَبِهَا:

56- يَجُوزُ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَتَنَازَلَ عَنْ حَقِّهِ فِي طَلَبِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ أَنْ طَلَبَهَا وَقَبْلَ رِضَى الْمُشْتَرِي أَوْ حُكْمِ الْحَاكِمِ لَهُ بِهَا، فَإِنْ تَرَكَ الشَّفِيعُ طَلَبَ الشُّفْعَةِ أَوْ بَاعَ حِصَّتَهُ الَّتِي يَشْفَعُ بِهَا بَعْدَ طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَقَبْلَ تَمَلُّكِهِ الْمَشْفُوعَ فِيهِ بِالْقَضَاءِ أَوِ الرِّضَا يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الشُّفْعَةِ لِأَنَّهُ يُعَدُّ تَنَازُلًا مِنْهُ عَنْ حَقِّهِ فِي طَلَبِهَا قَبْلَ الْحُكْمِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ التَّنَازُلُ بَعْدَ الْحُكْمِ لَهُ بِهَا أَوْ بَعْدَ رِضَاءِ الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ فَلَيْسَ لَهُ التَّنَازُلُ؛ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَكُونُ مِلْكَ الْمَشْفُوعِ فِيهِ وَالْمِلْكُ لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ.

مُسَاوَمَةُ الشَّفِيعِ لِلْمُشْتَرِي:

57- الْمُسَاوَمَةُ تُعْتَبَرُ تَنَازُلًا عَنِ الشُّفْعَةِ فَإِذَا سَامَ الشَّفِيعُ الدَّارَ مِنَ الْمُشْتَرِي سَقَطَ حَقُّهُ فِي الشُّفْعَةِ لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ طَلَبُ تَمْلِيكٍ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ وَهُوَ دَلِيلُ الرِّضَا بِمِلْكِ الْمُتَمَلِّكِ.

وَلِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مِمَّا يَبْطُلُ بِصَرِيحِ الرِّضَا فَيَبْطُلُ بِدَلَالَةِ الرِّضَا أَيْضًا، وَالْمُسَاوَمَةُ تُعْتَبَرُ تَنَازُلًا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


290-موسوعة الفقه الكويتية (شهادة الزور)

شَهَادَةُ الزُّورِ

التَّعْرِيفُ:

1- شَهَادَةُ الزُّورِ: مُرَكَّبٌ إِضَافِيٌّ يَتَكَوَّنُ مِنْ كَلِمَتَيْنِ هُمَا: الشَّهَادَةُ، وَالزُّورُ.

أَمَّا الشَّهَادَةُ فِي اللُّغَةِ، فَمِنْ مَعَانِيهَا: الْبَيَانُ، وَالْإِظْهَارُ، وَالْحُضُورُ، وَمُسْتَنَدُهَا الْمُشَاهَدَةُ إِمَّا بِالْبَصَرِ أَوْ بِالْبَصِيرَةِ.

وَأَمَّا الزُّورُ فَهُوَ الْكَذِبُ وَالْبَاطِلُ، وَقِيلَ: هُوَ شَهَادَةُ الْبَاطِلِ، يُقَالُ: رَجُلٌ زُورٌ وَقَوْمٌ زُورٌ: أَيْ مُمَوِّهٌ بِكَذِبٍ.

وَشَهَادَةُ الزُّورِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: هِيَ الشَّهَادَةُ بِالْكَذِبِ لِيُتَوَصَّلَ بِهَا إِلَى الْبَاطِلِ مِنْ إِتْلَافِ نَفْسٍ، أَوْ أَخْذِ مَالٍ، أَوْ تَحْلِيلِ حَرَامٍ أَوْ تَحْرِيمِ حَلَالٍ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

2- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ شَرْعًا، قَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فِي كِتَابِهِ مَعَ نَهْيِهِ عَنِ الْأَوْثَانِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ الْأَسَدِيِّ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَامَ قَائِمًا، فَقَالَ: عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} ».

وَرَوَى أَبُو بَكْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ ثَلَاثًا: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ- وَكَانَ مُتَّكِئًا- فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ: لَا يَسْكُتُ».

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَنْ تَزُولَ قَدَمَا شَاهِدِ الزُّورِ حَتَّى يُوجِبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ».

فَمَتَى ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي أَوِ الْحَاكِمِ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ عَمْدًا عَزَّرَهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي كَيْفِيَّةِ التَّعْزِيرِ، وَسَيَأْتِي آرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِيهَا.

بِمَ تَثْبُتُ شَهَادَةُ الزُّورِ؟

3- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ لَا تَثْبُتُ إِلاَّ بِالْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْكَذِبِ فِي إِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ بِأَنْ يَشْهَدَ بِمَا يُقْطَعُ بِكَذِبِهِ: بِأَنْ يَشْهَدَ عَلَى رَجُلٍ بِفِعْلٍ فِي الشَّامِ فِي وَقْتٍ، وَيَعْلَمَ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي الْعِرَاقِ، أَوْ يَشْهَدَ بِقَتْلِ رَجُلٍ وَهُوَ حَيٌّ، أَوْ أَنَّ هَذِهِ الْبَهِيمَةَ فِي يَدِ هَذَا مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ وَسِنُّهَا أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ يَشْهَدَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ فَعَلَ شَيْئًا فِي وَقْتٍ وَقَدْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ لَمْ يُولَدْ إِلاَّ بَعْدَهُ وَأَشْبَاهِ هَذَا مِمَّا يُتَيَقَّنُ بِكَذِبِهِ وَيُعْلَمُ تَعَمُّدُهُ لِذَلِكَ.

4- وَلَا تَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهَا نَفْيٌ لِشَهَادَتِهِ، وَالْبَيِّنَةُ حُجَّةٌ لِلْإِثْبَاتِ دُونَ النَّفْيِ، وَقَدْ تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ فَلَا يُعَزَّرُ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ، أَوْ ظُهُورِ فِسْقِهِ أَوْ غَلَطِهِ فِي الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ الْفِسْقَ لَا يَمْنَعُ الصِّدْقَ، وَالتَّعَارُضُ لَا يُعْلَمُ بِهِ كَذِبُ إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ بِعَيْنِهَا، وَالْغَلَطُ قَدْ يَعْرِضُ لِلصَّادِقِ الْعَدْلِ وَلَا يَتَعَمَّدُهُ فَيُعْفَى عَنْهُ.وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}.

قَالَ الشِّيرَازِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ فَرْحُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: تَثْبُتُ شَهَادَةُ الزُّورِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يُقِرَّ أَنَّهُ شَاهِدُ زُورٍ.

وَالثَّانِي: أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ شَاهِدُ زُورٍ.

وَالثَّالِثُ: أَنْ يَشْهَدَ مَا يَقْطَعُ بِكَذِبِهِ.

وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ فَعَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْحُكْمِ أَمْ بَعْدَهُ.

كَيْفِيَّةُ عُقُوبَةِ شَاهِدِ الزُّورِ:

5- لَمَّا كَانَتِ الشَّرِيعَةُ لَمْ تُقَدِّرْ عُقُوبَةً مُحَدَّدَةً لِشَاهِدِ الزُّورِ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ هِيَ التَّعْزِيرُ، قَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عُقُوبَةِ شَاهِدِ الزُّورِ مِنْ حَيْثُ تَفْصِيلَاتُ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ لَا مِنْ حَيْثُ مَبْدَأُ عِقَابِ شَاهِدِ الزُّورِ بِالتَّعْزِيرِ، إِذْ أَنَّهُ لَا خِلَافَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْزِيرِهِ.إِذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ عَمْدًا عَزَّرَهُ وُجُوبًا وَشَهَّرَ بِهِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى.وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ التَّعْزِيرِ، فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: تَأْدِيبُ شَاهِدِ الزُّورِ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الْحَاكِمِ إِنْ رَأَى تَعْزِيرَهُ بِالْجَلْدِ جَلَدَهُ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَحْبِسَهُ، أَوْ كَشْفَ رَأْسِهِ وَإِهَانَتَهُ وَتَوْبِيخَهُ فَعَلَ ذَلِكَ، وَلَا يَزِيدُ فِي جَلْدِهِ عَلَى عَشْرِ جَلَدَاتٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا.وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ التَّشْهِيرِ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ: فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُوقِفُهُ فِي السُّوقِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السُّوقِ، أَوْ مَحَلَّةِ قَبِيلَتِهِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقَبَائِلِ، أَوْ فِي مَسْجِدِهِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَسَاجِدِ، وَيَقُولُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: إِنَّ الْحَاكِمَ يَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلَامَ وَيَقُولُ: هَذَا شَاهِدُ زُورٍ فَاعْرِفُوهُ.

6- وَلَا يُسَخَّمُ وَجْهٌ (أَيْ يُسَوِّدُهُ) لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْمُثْلَةِ، وَلَا يُرْكِبُهُ مَقْلُوبًا، وَلَا يُكَلِّفُ الشَّاهِدَ أَنْ يُنَادِيَ عَلَى نَفْسِهِ، وَفِي الْجُمْلَةِ لَيْسَ فِي هَذَا تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ فَلِلْحَاكِمِ أَنْ يَفْعَلَ مِمَّا يَرَاهُ- مَا لَمْ يَخْرُجْ إِلَى مُخَالَفَةِ نَصٍّ أَوْ مَعْنَى نَصٍّ.

7- وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إِذَا ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي أَوِ الْحَاكِمِ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ شَهِدَ بِالزُّورِ عُوقِبَ بِالسِّجْنِ وَالضَّرْبِ، وَيُطَافُ بِهِ فِي الْمَجَالِسِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ ضَرَبَ شَاهِدَ زُورٍ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَسَخَّمَ وَجْهَهُ.وَعَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي مَالِكٍ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- كَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ بِالشَّامِ: إِذَا أَخَذْتُمْ شَاهِدَ الزُّورِ فَاجْلِدُوهُ بِضَرْبِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا، وَسَخِّمُوا وَجْهَهُ وَطَوِّفُوا بِهِ حَتَّى يَعْرِفَهُ النَّاسُ، وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ وَيُطَالُ حَبْسُهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى كَبِيرَةً مِنَ الْكَبَائِرِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ.

وَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ شَهَادَةِ الزُّورِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ، فَقَالَ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} وَلِأَنَّ هَذِهِ الْكَبِيرَةَ يَتَعَدَّى ضَرَرُهَا إِلَى الْعِبَادِ بِإِتْلَافِ أَنْفُسِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ.

7 م- وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا أَقَرَّ الشَّاهِدُ أَنَّهُ شَهِدَ زُورًا: يُشَهَّرُ بِهِ فِي الْأَسْوَاقِ إِنْ كَانَ سُوقِيًّا، أَوْ بَيْنَ قَوْمِهِ إِنْ كَانَ غَيْرَ سُوقِيٍّ، وَذَلِكَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي مَكَانِ تَجَمُّعِ النَّاسِ، وَيَقُولُ الْمُرْسَلُ مَعَهُ: إِنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ فَاحْذَرُوهُ، وَحَذِّرُوهُ النَّاسَ، وَلَا يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ أَوِ الْحَبْسِ؛ لِأَنَّ شُرَيْحًا كَانَ يُشَهِّرُ شَاهِدَ الزُّورِ وَلَا يُعَزِّرُهُ، وَكَانَ قَضَايَاهُ لَا تَخْفَى عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّوَصُّلُ إِلَى الِانْزِجَارِ؛ وَهُوَ يَحْصُلُ بِالتَّشْهِيرِ، بَلْ رُبَّمَا يَكُونُ أَعْظَمَ عِنْدَ النَّاسِ مِنَ الضَّرْبِ، فَيُكْتَفَى بِهِ، وَالضَّرْبُ وَإِنْ كَانَ مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ لَكِنَّهُ يَقَعُ مَانِعًا عَنِ الرُّجُوعِ فَوَجَبَ التَّخْفِيفُ نَظَرًا إِلَى هَذَا الْوَجْهِ.

وَذَكَرَ الزَّيْلَعِيُّ نَقْلًا عَنِ الْحَاكِمِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْكَاتِبِ: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَرْجِعَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبَةِ وَالنَّدَامَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُعَزَّرُ بِإِجْمَاعِ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ.وَالثَّانِي: أَنْ يَرْجِعَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ، وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ بِإِجْمَاعِهِمْ.وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يُعْلَمَ رُجُوعُهُ بِأَيِّ سَبَبٍ فَإِنَّهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا.

الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ:

8- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ: إِلَى أَنَّ قَضَاءَ الْحَاكِمِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ حُجَّةٌ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا فَيَنْفُذُ الْقَضَاءُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَنْفُذُ بِقَدْرِ الْحُجَّةِ، وَلَا يُزِيلُ شَيْئًا عَنْ صِفَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ، سَوَاءٌ الْعُقُودُ مِنَ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ وَالْفُسُوخُ، فَلَا يَحِلُّ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ مَا حُكِمَ لَهُ بِهِ مِنْ مَالٍ أَوْ بُضْعٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ».

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: يَنْفُذُ قَضَاءٌ بِشَهَادَةِ الزُّورِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ حَيْثُ كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا، وَالْقَاضِي غَيْرَ عَالِمٍ بِزُورِهِمْ، لِقَوْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- لِامْرَأَةٍ أَقَامَ عَلَيْهَا رَجُلٌ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا، فَأَنْكَرَتْ فَقَضَى لَهُ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- فَقَالَتْ لَهُ: لِمَ تُزَوِّجُنِي؟ أَمَا وَقَدْ قَضَيْتَ عَلَيَّ فَجَدِّدْ نِكَاحِي، فَقَالَ: لَا أُجَدِّدُ نِكَاحَكَ، الشَّاهِدَانِ زَوَّجَاكَ؛ فَلَوْ لَمْ يَنْعَقِدِ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا بَاطِنًا بِالْقَضَاءِ لَمَا امْتَنَعَ مِنْ تَجْدِيدِ الْعَقْدِ عِنْدَ طَلَبِهَا.

9- وَأَمَّا فِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ (أَيِ الَّتِي لَمْ يُذْكَرْ لَهَا سَبَبٌ مُعَيَّنٌ) فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَنْفُذُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ وَلَيْسَ بَعْضُ الْأَسْبَابِ بِأَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ لِتَزَاحُمِهَا فَلَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ السَّبَبِ سَابِقًا عَلَى الْقَضَاءِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ.

تَضْمِينُ شُهُودِ الزُّورِ:

10- مَتَى عُلِمَ أَنَّ الشُّهُودَ شَهِدُوا بِالزُّورِ: تَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ كَانَ بَاطِلًا، وَلَزِمَ نَقْضُهُ وَبُطْلَانُ مَا حُكِمَ بِهِ، وَيَضْمَنُ شُهُودُ الزُّورِ مَا تَرَتَّبَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ مِنْ ضَمَانٍ.فَإِنْ كَانَ الْمَحْكُومُ بِهِ مَالًا: رُدَّ إِلَى صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَ إِتْلَافًا: فَعَلَى الشُّهُودِ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّهُمْ سَبَبُ إِتْلَافِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى شُهُودِ الزُّورِ إِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُ، كَأَنْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِقَتْلٍ عَمْدٍ عُدْوَانٍ أَوْ بِرِدَّةٍ أَوْ بِزِنًى وَهُوَ مُحْصَنٌ، فَقُتِلَ الرَّجُلُ بِشَهَادَتِهِمَا، ثُمَّ رَجَعَا وَأَقَرَّا بِتَعَمُّدِ قَتْلِهِ، وَقَالَا: تَعَمَّدْنَا الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ بِالزُّورِ لِيُقْتَلَ أَوْ يُقْطَعَ: فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا، لِتَعَمُّدِ الْقَتْلِ بِتَزْوِيرِ الشَّهَادَةِ، لِمَا رَوَى الشَّعْبِيُّ: أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَقَطَعَهُ ثُمَّ عَادَا فَقَالَا: أَخْطَأْنَا، لَيْسَ هَذَا هُوَ السَّارِقَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعَتْكُمَا، وَلَا مُخَالِفَ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا، وَإِنَّهُمَا تَسَبَّبَا إِلَى قَتْلِهِ أَوْ قَطْعِهِ بِمَا يُفْضِي إِلَيْهِ غَالِبًا فَلَزِمَهُمَا كَالْمُكْرَهِ.وَبِهِ قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ.

11- وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا شَهِدُوا زُورًا بِمَا يُوجِبُ الْقَطْعَ قِصَاصًا، فَقُطِعَ أَوْ فِي سَرِقَةٍ لَزِمَهُمَا الْقَطْعُ، وَإِذَا سَرَى أَثَرُ الْقَطْعِ إِلَى النَّفْسِ فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، كَمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاضِي إِذَا قَضَى زُورًا بِالْقِصَاصِ، وَكَانَ يَعْلَمُ بِكَذِبِ الشُّهُودِ.

وَتَجِبُ عَلَيْهِمَا الدِّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ إِذَا قَالَا: تَعَمَّدْنَا الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ، وَلَمْ نَعْلَمْ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهَذَا، وَكَانَا مِمَّا يَحْتَمِلُ أَنْ يَجْهَلَا ذَلِكَ.وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي أَمْوَالِهِمَا لِأَنَّهُ شِبْهُ عَمْدٍ وَلَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِاعْتِرَافِهِمَا وَالْعَاقِلَةُ لَا تَحْمِلُ الِاعْتِرَافَ.

12- وَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ الْقِصَاصِ أَوْ شُهُودُ الْحَدِّ بَعْدَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ وَقَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ، لَمْ يُسْتَوْفَ الْقَوَدُ وَلَا الْحَدُّ؛ لِأَنَّ الْمَحْكُومَ بِهِ عُقُوبَةٌ لَا سَبِيلَ إِلَى جَبْرِهَا إِذَا اسْتُوْفِيَتْ بِخِلَافِ الْمَالِ، وَلِأَنَّ رُجُوعَ الشُّهُودِ شُبْهَةٌ لِاحْتِمَالِ صِدْقِهِمْ، وَالْقَوَدُ وَالْحَدُّ يُدْرَآنِ بِالشُّبْهَةِ، فَيُنْقَضُ الْحُكْمُ، وَلَا غُرْمَ عَلَى الشُّهُودِ بَلْ يُعَزَّرُونَ.

وَوَجَبَتْ دِيَةُ قَوَدٍ لِلْمَشْهُودِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالْعَمْدِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ وَقَدْ سَقَطَ أَحَدُهُمَا فَتَعَيَّنَ الْآخَرُ، وَيَرْجِعُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِمَا غَرِمَهُ مِنَ الدِّيَةِ عَلَى الشُّهُودِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَدَا أَشْهَبَ: إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الدِّيَةُ لَا الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ بِشَهَادَةِ الزُّورِ قَتْلٌ بِالسَّبَبِ، وَالْقَتْلُ تَسَبُّبًا لَا يُسَاوِي الْقَتْلَ مُبَاشَرَةً، وَلِذَا قَصُرَ أَثَرُهُ، فَوَجَبَتْ بِهِ الدِّيَةُ لَا الْقِصَاصُ.

12 م- وَيَجِبُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى شُهُودِ الزُّورِ إِذَا شَهِدُوا بِالزِّنَى وَيُقَامُ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ سَوَاءٌ تَبَيَّنَ كَذِبُهُمْ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ أَوْ بَعْدَهُ.وَيُحَدُّونَ فِي الشَّهَادَةِ بِالزِّنَى حَدَّ الْقَذْفِ أَوَّلًا.ثُمَّ يُقْتَلُونَ إِذَا تَبَيَّنَ كَذِبُهُمْ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ بِالرَّجْمِ.

وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا بِالتَّدَاخُلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ: فَإِنْ كَانَ فِي الْحُدُودِ قَتْلٌ فَإِنَّهُ يُكْتَفَى بِهِ، لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-: مَا كَانَتْ حُدُودٌ فِيهَا قَتْلٌ إِلاَّ أَحَاطَ الْقَتْلُ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَلِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ مَعَهُ إِلَى الزَّجْرِ بِغَيْرِهِ، وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ حَدَّ الْقَذْفِ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْقَتْلِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ اسْتِيفَائِهِ قَبْلَهُ.

تَوْبَةُ شَاهِدِ الزُّورِ:

13- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ: إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَابَ شَاهِدُ الزُّورِ وَأَتَتْ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةٌ تَظْهَرُ فِيهَا تَوْبَتُهُ، وَتَبَيَّنَ صِدْقُهُ فِيهَا وَعَدَالَتُهُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ.لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا}.

وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ».

وَلِأَنَّهُ تَائِبٌ مِنْ ذَنْبِهِ؛ فَقُبِلَتْ تَوْبَتُهُ كَسَائِرِ التَّائِبِينَ.

وَمُدَّةُ ظُهُورِ التَّوْبَةِ عِنْدَهُمْ سَنَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا تَظْهَرُ صِحَّةُ التَّوْبَةِ فِي مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ، فَكَانَتْ أَوْلَى الْمُدَدِ بِالتَّقْدِيرِ سَنَةً؛ لِأَنَّهُ تَمُرُّ فِيهَا الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي تَهِيجُ فِيهَا الطَّبَائِعُ وَتَتَغَيَّرُ فِيهَا الْأَحْوَالُ.

وَقَالَ الْبَابَرْتِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: مُدَّةُ ظُهُورِ التَّوْبَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ ظَاهِرَ الصَّلَاحِ حِينَ شَهِدَ بِالزُّورِ لَا تُقْبَلُ لَهُ شَهَادَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ بَقَائِهِ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُظْهِرٍ لِلصَّلَاحِ حِينَ الشَّهَادَةِ فَفِي قَبُولِهَا بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا ظَهَرَتْ تَوْبَتُهُ قَوْلَانِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


291-موسوعة الفقه الكويتية (صرف 2)

صَرْفٌ -2

النَّوْعُ الرَّابِعُ- بَيْعُ جُمْلَةٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ بِجُمْلَةٍ مِنْهَا:

33- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ جُمْلَةً مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ بِدَرَاهِمَ أَوْ بِدَنَانِيرَ، أَوْ بِجُمْلَةٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ بَطَلَ الْعَقْدُ.

وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَرْعَ مَسْأَلَةِ: (مُدِّ عَجْوَةٍ)، وَقَالُوا فِي عِلَّةِ بُطْلَانِهِ إِنَّ اشْتِمَالَ أَحَدِ طَرَفَيِ الْعَقْدِ أَوْ كِلَيْهِمَا عَلَى مَالَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ تَوْزِيعُ مَا فِي الْآخَرِ عَلَيْهِمَا اعْتِبَارًا بِالْقِيمَةِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى الْمُفَاضَلَةِ أَوِ الْجَهْلِ بِالْمُمَاثَلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.وَالْجَهْلُ بِالْمُمَاثَلَةِ حَقِيقَةُ الْمُفَاضَلَةِ فِي بَابِ الرِّبَا قَالُوا: إِنَّ التَّوْزِيعَ هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، كَمَا فِي بَيْعِ شِقْصٍ مَشْفُوعٍ وَسَيْفٍ بِأَلْفٍ.وَقِيمَةُ الشِّقْصِ مِائَةٌ وَالسَّيْفِ خَمْسُونَ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الشِّقْصَ بِثُلُثَيِ الْقِيمَةِ، وَلَوْلَا التَّوْزِيعُ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ.

قَالَ السُّبْكِيُّ: وَلَا يُتْرَكُ التَّوْزِيعُ وَإِنْ أَدَّى إِلَى بُطْلَانِ الْبَيْعِ، فَإِنَّ الْعَقْدَ إِذَا كَانَ لَهُ مُقْتَضًى حُمِلَ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَدَّى إِلَى فَسَادِ الْعَقْدِ أَوْ إِلَى صَلَاحِهِ، كَمَا إِذَا بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ، وَلَمَّا كَانَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ مُقَابَلَةَ جَمِيعِ الثَّمَنِ لِلثَّمَنِ حُمِلَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَدَّى إِلَى فَسَادِهِ، وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الدِّرْهَمَيْنِ هِبَةٌ وَالْآخَرَ ثَمَنٌ لِيَصِحَّ الْعَقْدُ.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِعَدَمِ جَوَازِ صَرْفِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ مِنْ جَانِبٍ بِمِثْلِهِمَا مِنْ جَانِبٍ آخَرَ.فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ دِينَارٌ وَدِرْهَمٌ بِدِينَارٍ وَدِرْهَمٍ، لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْمُمَاثَلَةِ بِاحْتِمَالِ رَغْبَةِ أَحَدِهِمَا فِي دِينَارِ الْآخَرِ، فَيُقَابِلُهُ بِدِينَارِهِ وَبَعْضِ دِرْهَمِهِ، وَيَصِيرُ بَاقِي دِرْهَمِهِ فِي مُقَابَلَةِ دِرْهَمِ الْآخَرِ.قَالُوا: إِنَّ قَاعِدَةَ الْمَذْهَبِ سَدُّ الذَّرَائِعِ فَالْفَضْلُ الْمُتَوَهَّمُ كَالْمُحَقَّقِ، وَتَوَهُّمُ الرِّبَا كَتَحَقُّقِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ أَوْ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا غَيْرُ نَوْعِهِ.

34- وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ عَدَا زُفَرَ، صَحَّ بَيْعُ دِرْهَمَيْنِ وَدِينَارٍ بِدِرْهَمٍ وَدِينَارَيْنِ، وَيُجْعَلُ كُلُّ جِنْسٍ مُقَابَلًا بِخِلَافِ جِنْسِهِ، فَيَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ بَيْعُ دِرْهَمَيْنِ بِدِينَارَيْنِ، وَبَيْعُ دِرْهَمٍ بِدِينَارٍ، وَهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّسَاوِي فِيهِمَا، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ.

وَقَالُوا فِي تَوْجِيهِ صِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ إِنَّ فِي صَرْفِ الْجِنْسِ إِلَى خِلَافِهِ تَصْحِيحَ الْعَقْدِ، وَإِلَى جِنْسِهِ فَسَادَهُ، وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالصَّحِيحِ، فَحَمْلُ الْعَقْدِ عَلَى الصِّحَّةِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي مُطْلَقَ الْمُقَابَلَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِمُقَيَّدٍ، لَا مُقَابَلَةُ الْكُلِّ بِالْكُلِّ بِطَرِيقِ الشُّيُوعِ، وَلَا مُقَابَلَةُ الْفَرْدِ مِنْ جِنْسِهِ وَلَا مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ الْمُصَحِّحِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْإِطْلَاقِ.

قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: إِنَّ الْمُقَابَلَةَ الْمُطْلَقَةَ تَحْمِلُ الْفَرْدَ بِالْفَرْدِ، كَمَا فِي مُقَابَلَةِ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ وَإِنَّهُ طَرِيقٌ مُتَعَيَّنٌ لِتَصْحِيحِهِ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ.

وَقَالَ الْمَوْصِلِيُّ فِي تَوْجِيهِهِ: إِنَّهُمَا قَصَدَا الصِّلَةَ ظَاهِرًا، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَحْقِيقًا لِقَصْدِهِمَا وَدَفْعًا لِحَاجَتِهِمَا.

35- وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا إِذَا بَاعَ أَحَدَ عَشَرَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَدِينَارٍ فَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَتَكُونُ الْعَشَرَةُ بِمِثْلِهَا، وَالدِّينَارُ بِالدِّرْهَمِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْبَيْعِ فِي الدَّرَاهِمِ التَّمَاثُلُ وَهُوَ مَوْجُودٌ ظَاهِرًا، إِذِ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْبَائِعِ إِرَادَةُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمُقَابَلَةِ حَمْلًا عَلَى الصَّلَاحِ، وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْعَقْدِ الْجَائِزِ دُونَ الْفَاسِدِ، فَبَقِيَ الدِّرْهَمُ بِالدِّينَارِ، وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ، وَلَا يُعْتَبَرُ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا.

النَّوْعُ الْخَامِسُ- الصَّرْفُ عَلَى الذِّمَّةِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ:

لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الصَّرْفِ عِدَّةُ صُوَرٍ:

36- الْأُولَى: أَنْ تَشْتَرِيَ مِنْ رَجُلٍ دَرَاهِمَ بِدِينَارٍ فِي مَجْلِسٍ، ثُمَّ اسْتَقْرَضْتَ أَنْتَ دِينَارًا مِنْ رَجُلٍ آخَرَ إِلَى جَانِبِكَ، وَاسْتَقْرَضَ هُوَ الدَّرَاهِمَ مِنْ رَجُلٍ إِلَى جَانِبِهِ، فَدَفَعْتَ إِلَيْهِ الدِّينَارَ وَقَبَضْتَ الدَّرَاهِمَ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّهُ: صَحَّ الصَّرْفُ إِذَا تَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْمَجْلِسِ يَجْرِي مَجْرَى الْقَبْضِ عِنْدَ الْعَقْدِ.

وَكَذَلِكَ يَصِحُّ الصَّرْفُ عِنْدَهُمْ إِذَا كَانَ نَقْدُ أَحَدِهِمَا حَاضِرًا وَاسْتَقْرَضَ الْآخَرُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ تَسَلَّفَا فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ تَسَلُّفَهُمَا مَظِنَّةُ الطُّولِ الْمُخِلِّ بِالتَّقَابُضِ، وَإِنْ تَسَلَّفَ أَحَدُهُمَا وَطَالَ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَطُلْ جَازَ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَلَمْ يُجِزْهُ أَشْهَبُ.قَالَ الْحَطَّابُ: وَلُقِّبَتِ الْمَسْأَلَةُ بِالصَّرْفِ عَلَى الذِّمَّةِ.

37- الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ فِي ذِمَّةِ رَجُلٍ ذَهَبٌ وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ مَثَلًا، فَاصْطَرَفَا بِمَا فِي ذِمَّتَيْهِمَا.وَلُقِّبَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِالصَّرْفِ فِي الذِّمَّةِ.

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الصَّرْفِ، وَعَلَّلُوا عَدَمَ الْجَوَازِ بِأَنَّهُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ.وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ» وَفُسِّرَ بِبَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ.

38- وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: صَحَّ بَيْعُ مَنْ عَلَيْهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ دَيْنٌ بِدِينَارٍ مِمَّنْ لَهُ عَلَيْهِ، أَيْ مِنْ دَائِنِهِ، فَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ دَيْنٌ، فَبَاعَهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَشَرَةُ دِينَارًا بِالْعَشَرَةِ الَّتِي عَلَيْهِ، وَدَفَعَ الدِّينَارَ إِلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ.وَتَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بَيْنَ الْعَشْرَتَيْنِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى مُوَافَقَةٍ أُخْرَى.

وَوَجْهُ الْجَوَازِ أَنَّهُ جَعَلَ ثَمَنَهُ دَرَاهِمَ لَا يَجِبُ قَبْضُهَا، وَلَا تَعَيُّنُهَا بِالْقَبْضِ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ لِلِاحْتِرَازِ عَنِ الرِّبَا، أَيْ: رِبَا النَّسِيئَةِ، وَلَا رِبَا فِي دَيْنٍ سَقَطَ، وَإِنَّمَا الرِّبَا فِي دَيْنٍ يَقَعُ الْخَطَرُ فِي عَاقِبَتِهِ.

أَمَّا إِذَا بَاعَ الْمَدِينُ الدِّينَارَ بِعَشَرَةٍ مُطْلَقَةٍ أَيْ: بِغَيْرِ ذِكْرِ: (دَيْنٍ عَلَيْهِ) وَدَفَعَ الْبَائِعُ الدِّينَارَ لِلْمُشْتَرِي فَيَصِحُّ ذَلِكَ إِذَا تَوَافَقَا عَلَى مُقَاصَّةِ الْعَشَرَةِ بِالْعَشَرَةِ اسْتِحْسَانًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، لِكَوْنِهِ تَصَرُّفًا فِي بَدَلِ الصَّرْفِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ بِالتَّقَابُضِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ وَانْعَقَدَ صَرْفٌ آخَرُ مُضَافٌ إِلَى الدَّيْنِ.

هَذَا، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الدَّيْنَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ أَوْ مُتَفَاوِتَيْنِ فِي الْوَصْفِ أَوْ مُؤَجَّلَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا حَالًّا وَالْآخَرُ مُؤَجَّلًا أَوْ أَحَدُهُمَا غَلَّةً وَالْآخَرُ صَحِيحًا فَلَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ إِلاَّ إِذَا تَقَاصَّا أَيِ: اتَّفَقَا عَلَى الْمُقَاصَّةِ، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الذَّخِيرَةِ.وَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ وَتَقَاصَّا، كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمَ وَلِلْمَدْيُونِ مِائَةُ دِينَارٍ عَلَيْهِ تَصِيرُ الدَّرَاهِمُ قِصَاصًا بِمِائَةٍ مِنْ قِيمَةِ الدَّنَانِيرِ، وَيَبْقَى لِصَاحِبِ الدَّنَانِيرِ عَلَى صَاحِبِ الدَّرَاهِمِ مَا بَقِيَ مِنْهَا.

39- أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَصَّلُوا فِي الْمَوْضُوعِ وَقَالُوا: إِنْ وَقَعَ صَرْفُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ فَإِنْ تَأَجَّلَ الدَّيْنَانِ عَلَيْهِمَا، بِأَنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ دَنَانِيرُ مُؤَجَّلَةٌ وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ كَذَلِكَ، سَوَاءٌ اتَّفَقَ الْأَجَلَانِ أَمِ اخْتَلَفَا، وَتَصَارَفَا قَبْلَ حُلُولِهِمَا بِأَنْ أَسْقَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَهُ عَلَى الْآخَرِ فِي نَظِيرِ إِسْقَاطِ الْآخَرِ مَا لَهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ كَمَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ.كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِنْ تَأَجَّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَحَلَّ الْآخَرُ.قَالَ الْأَبِيُّ فِي وَجْهِ عَدَمِ الْجَوَازِ: إِنَّ الْحَقَّ فِي أَجَلِ دَيْنِ النَّقْدِ لِلْمَدِينِ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ لِلدَّائِنِ أَخْذُهُ قَبْلَ أَجَلِهِ بِغَيْرِ رِضَا الْمَدِينِ.فَإِنْ تَأَجَّلَا فَقَدِ اشْتَرَى كُلٌّ مِنْهُمَا مَا عَلَيْهِ عَلَى أَنْ لَا يَسْتَحِقَّهُ حَتَّى يَحِلَّ أَجَلُهُ، فَيَقْضِيَهُ مِنْ نَفْسِهِ فَقَدْ تَأَخَّرَ قَبْضُ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا اشْتَرَاهُ بِالصَّرْفِ عَنْ عَقْدِهِ بِمُدَّةِ الْأَجَلِ، وَإِنْ تَأَجَّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا فَقَدِ اشْتَرَى الْمَدِينُ الْمُؤَجِّلُ مَا هُوَ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ قَبْضَهُ إِلاَّ بَعْدَ مُضِيِّ أَجَلِهِ، فَيَقْضِيهِ مِنْ نَفْسِهِ، فَقَدْ تَأَخَّرَ قَبْضُهُ عَنْ صَرْفِهِ بِمُدَّةِ الْأَجَلِ.

هَذَا فِي الصَّرْفِ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَهُمْ بَيْنَ دَيْنَيْنِ مِنْ نَوْعَيْنِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ.وَنَظِيرُهُ مَا قَالُوهُ فِي الْمُقَاصَّةِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ دَيْنَيْنِ مُتَّحِدَيِ النَّوْعِ وَالصِّنْفِ

وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِ الْمُقَاصَّةِ فِي مُصْطَلَحِهَا.

40- الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: اقْتِضَاءُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ مِنَ الْآخَرِ، بِأَنْ كَانَ لَكَ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمُ فَتَأْخُذَ مِنْهُ دَنَانِيرَ، أَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ دَنَانِيرُ فَتَأْخُذَ مِنْهُ دَرَاهِمَ بِسِعْرِ يَوْمِهَا.

وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ، بِشَرْطِ قَبْضِ الْبَدَلِ فِي الْمَجْلِسِ.وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فِي بَيْتِ حَفْصَةَ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ رُوَيْدَكَ أَسْأَلُكَ، إِنِّي أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالْبَقِيعِ، فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، وَآخُذُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، وَأُعْطِي هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: لَا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا مَا لَمْ تَفْتَرِقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ».

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِبْدَالِ عَنِ الثَّمَنِ الثَّابِتِ فِي الذِّمَّةِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَتَوَقَّفَ أَحْمَدُ فِيمَا إِنْ كَانَ الْمَقْضِيُّ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلًا.

وَقَالَ الْقَاضِي وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَمَشْهُورُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ لَا يُسْتَحَقُّ قَبْضُهُ، فَكَانَ الْقَبْضُ نَاجِزًا فِي أَحَدِهِمَا، وَالنَّاجِزُ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ.وَالْآخَرُ الْجَوَازُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ، فَكَأَنَّهُ رَضِيَ بِتَعْجِيلِ الْمُؤَجَّلِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ إِذَا قَضَاهُ بِسِعْرِ يَوْمِهَا، وَلَمْ يَجْعَلْ لِلْمَقْضِيِّ فَضْلًا لِأَجْلِ تَأْجِيلِ مَا فِي الذِّمَّةِ.

النَّوْعُ السَّادِسُ: صَرْفُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَغْشُوشَةِ:

41- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى جَوَازِ الْمُعَامَلَةِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَغْشُوشَةِ إِنْ رَاجَتْ نَظَرًا لِلْعُرْفِ: أَمَّا إِذَا بِيعَتْ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ مُصَارَفَةً فَقَدْ فَصَّلُوا صُوَرَهَا وَأَحْكَامَهَا عَلَى النَّحْوِ التَّالِي: قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مَا غَلَبَ ذَهَبُهُ أَوْ فِضَّتُهُ حُكْمُهُمَا حُكْمُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْخَالِصَيْنِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النُّقُودَ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ غِشٍّ لِلِانْطِبَاعِ، فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْخَالِصِ بِهِ، وَلَا بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ إِلاَّ مُتَسَاوِيًا وَزْنًا.

وَمَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْغِشُّ مِنْهُمَا فَفِي حُكْمِ الْعُرُوضِ اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ؛ فَصَحَّ بَيْعُهُ بِالْخَالِصِ إِنْ كَانَ الْخَالِصُ أَكْثَرَ مِمَّا فِي الْمَغْشُوشِ؛ لِيَكُونَ قَدْرُهُ بِمِثْلِهِ وَالزَّائِدِ بِالْغِشِّ.وَيَجُوزُ كَذَلِكَ صَرْفُهُ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا وَزْنًا وَعَدَدًا بِصَرْفِ الْجِنْسِ لِخِلَافِهِ، أَيْ: بِأَنْ يَصْرِفَ فِضَّةً كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى غِشِّ الْآخَرِ، وَذَلِكَ بِشَرْطِ التَّقَابُضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ فِي الْبَعْضِ لِوُجُودِ الْفِضَّةِ أَوِ الذَّهَبِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَيُشْتَرَطُ فِي- الْغِشِّ أَيْضًا-؛ لِأَنَّهُ لَا تَمْيِيزَ إِلاَّ بِضَرَرٍ.

وَإِنْ كَانَ الْخَالِصُ مِثْلَ الْمَغْشُوشِ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ، أَوْ لَا يُدْرَى فَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ لِلرِّبَا فِي الْأَوَّلَيْنِ، وَلِاحْتِمَالِهِ فِي الثَّالِثِ، وَلِلشُّبْهَةِ فِي الرِّبَا حُكْمُ الْحَقِيقَةِ.

وَهَذَا النَّوْعُ، أَيِ: الْغَالِبُ الْغِشِّ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ إِنْ رَاجَ، لِثَمَنِيَّتِهِ حِينَئِذٍ، لِأَنَّهُ بِالِاصْطِلَاحِ صَارَ أَثْمَانًا، فَمَا دَامَ ذَلِكَ الِاصْطِلَاحُ مَوْجُودًا لَا تَبْطُلُ الثَّمَنِيَّةُ.وَإِنْ لَمْ يَرُجْ تَعَيَّنَ بِالتَّعْيِينِ كَالسِّلْعَةِ، لِأَنَّهَا فِي الْأَصْلِ سِلْعَةٌ وَإِنَّمَا صَارَتْ أَثْمَانًا بِالِاصْطِلَاحِ، فَإِذَا تَرَكُوا الْمُعَامَلَةَ بِهَا رَجَعَتْ إِلَى أَصْلِهَا.

قَالُوا: وَصَحَّ الْمُبَايَعَةُ وَالِاسْتِقْرَاضُ بِمَا يَرُوجُ مِنَ الْغَالِبِ الْغِشُّ وَزْنًا وَعَدَدًا، أَوْ بِهِمَا عَمَلًا بِالْعُرْفِ.أَمَّا الْمُتَسَاوِي غِشُّهُ وَفِضَّتُهُ، أَوْ ذَهَبُهُ فَكَغَالِبِ الْفِضَّةِ أَوِ الذَّهَبِ فِي التَّبَايُعِ وَالِاسْتِقْرَاضِ، فَلَمْ يَجُزْ إِلاَّ الْوَزْنُ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ الرَّدِيئَةِ إِلاَّ إِذَا أَشَارَ إِلَيْهِمَا، فَيَكُونُ بَيَانًا لِقَدْرِهَا وَوَصْفِهَا.

أَمَّا فِي الصَّرْفِ فَحُكْمُ مُتَسَاوِي الْغِشِّ وَالْفِضَّةِ أَوِ الذَّهَبِ حُكْمُ مَا غَلَبَ غِشُّهُ فَيَصِحُّ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ بِصَرْفِ الْجِنْسِ إِلَى خِلَافِ جِنْسِهِ، أَيْ: بِأَنْ يَصْرِفَ مَا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْغِشِّ إِلَى مَا فِي الْآخَرِ مِنَ الْفِضَّةِ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَظَاهِرُهُ جَوَازُ التَّفَاضُلِ- هُنَا أَيْضًا- لَكِنْ قَالَ الزَّيْلَعِيُّ نَقْلًا عَنِ الْخَانِيَّةِ: إِنْ كَانَ نِصْفُهَا صُفْرًا وَنِصْفُهَا فِضَّةً لَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ فِيمَا إِذَا بِيعَتْ بِجِنْسِهَا.وَوَجْهُهُ أَنَّ فِضَّتَهَا لَمَّا لَمْ تَصِرْ مَغْلُوبَةً جُعِلَتْ كَأَنَّ كُلَّهَا فِضَّةٌ فِي حَقِّ الصَّرْفِ احْتِيَاطًا.

42- وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى جَوَازِ بَيْعِ نَقْدٍ مَغْشُوشٍ، كَدَنَانِيرَ فِيهَا فِضَّةٌ أَوْ نُحَاسٌ، أَوْ دَرَاهِمَ فِيهَا نُحَاسٌ بِمَغْشُوشٍ مِثْلِهِ مُرَاطَلَةً أَوْ مُبَادَلَةً.قَالَ الْحَطَّابُ: ظَاهِرُهُ وَلَوْ لَمْ يَتَسَاوَ غِشُّهُمَا، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ.وَجَازَ بَيْعُ نَقْدٍ مَغْشُوشٍ بِخَالِصٍ مِنَ الْغِشِّ عَلَى الْقَوْلِ الرَّاجِحِ مِنْ كَلَامِ الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا.

وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ خِلَافُهُ، أَيْ: مَنْعُ بَيْعِ النَّقْدِ الْمَغْشُوشِ بِالنَّقْدِ الْخَالِصِ مِنَ الْغِشِّ، وَنَقَلَ الْأَبِيُّ عَنِ التَّوْضِيحِ بَعْدَ ذِكْرِ الْخِلَافِ: أَنَّهُمْ إِنَّمَا تَكَلَّمُوا فِي الْمَغْشُوشِ الَّذِي لَا يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ.وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِمْ جَوَازُ بَيْعِ الْمَغْشُوشِ بِصِنْفِهِ الْخَالِصِ إِذَا كَانَ يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ.

وَيُشْتَرَطُ لِجَوَازِ بَيْعِ الْمَغْشُوشِ: أَنْ يُبَاعَ لِمَنْ يَكْسِرُهُ لِيُصَيِّغَهُ حُلِيًّا، أَوْ لَا يَغُشَّ بِهِ بِأَنْ يَدَّخِرَهُ لِعَاقِبَةٍ مَثَلًا.

وَيُكْرَهُ بَيْعُهُ لِمَنْ لَا يُؤْمَنُ غِشُّهُ بِهِ: كَالصَّيَارِفَةِ، وَفَسْخُ بَيْعِهِ مِمَّنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ يَغُشُّ بِهِ إِنْ كَانَ قَائِمًا وَقُدِّرَ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَفُوتَ الْمَغْشُوشُ.

43- أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: الْغِشُّ الْمُخَالِطُ فِي الْمَوْزُونِ مَمْنُوعٌ مُطْلَقًا، قَلِيلًا كَانَ أَمْ كَثِيرًا؛ لِأَنَّهُ يَظْهَرُ فِي الْوَزْنِ وَيَمْنَعُ التَّمَاثُلَ.فَلَا تُبَاعُ فِضَّةٌ خَالِصَةٌ بِمَغْشُوشَةٍ، وَلَا فِضَّةٌ مَغْشُوشَةٌ بِفِضَّةٍ مَغْشُوشَةٍ قَالَ السُّبْكِيُّ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخَالِصَةِ بِالْمَغْشُوشَةِ، وَإِنْ قَلَّ الْغِشُّ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْغِشُّ مِمَّا قِيمَتُهُ بَاقِيَةٌ أَمْ لَا، لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأَصْحَابِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْغِشُّ مِمَّا قِيمَتُهُ بَاقِيَةٌ فَبَيْعُ الْخَالِصَةِ بِالْمَغْشُوشَةِ هُوَ بَيْعُ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ وَشَيْءٍ، فَصَارَ كَمَسْأَلَةِ (مُدِّ عَجْوَةٍ).

وَلِأَنَّ الْفِضَّةَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ، وَهِيَ مَجْهُولَةٌ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ؛ فَأَشْبَهَ بَيْعَ تُرَابِ الصَّاغَةِ وَاللَّبَنِ الْمَشُوبِ بِالْمَاءِ.

وَأَمَّا الْمَغْشُوشَةُ بِغِشٍّ لَا قِيمَةَ لَهُ بَاقِيَةٌ فَلِلْجَهْلِ بِالْمُمَاثَلَةِ، أَوْ تَحَقُّقِ الْمُفَاضَلَةِ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالْخَالِصَةِ، وَلَا بِالْمَغْشُوشَةِ مِثْلِهَا.

وَنَقَلَ السُّبْكِيُّ عَنْ صَاحِبِ التُّحْفَةِ فِي الْمَغْشُوشَةِ: أَنَّهُ يُكْرَهُ أَخْذُهَا وَإِمْسَاكُهَا إِذَا كَانَ النَّقْدُ الَّذِي فِي أَيْدِي النَّاسِ خَالِصًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَغْرِيرَ النَّاسِ فَلَوْ كَانَ جِنْسُ النَّقْدِ مَغْشُوشًا فَلَا كَرَاهَةَ.

قَالَ السُّبْكِيُّ: وَأَفَادَ الرُّويَانِيُّ- أَيْضًا- أَنَّ الْغِشَّ لَوْ كَانَ قَلِيلًا مُسْتَهْلَكًا بِحَيْثُ لَا يَأْخُذُ حَظًّا مِنَ الْوَرِقِ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي إِبْطَالِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ كَعَدَمِهِ.وَقَدْ قِيلَ: يَتَعَذَّرُ طَبْعُ الْفِضَّةِ إِذَا لَمْ يُخَالِطْهَا خَلْطٌ مِنْ جَوْهَرٍ آخَرَ..قُلْتُ: وَذَلِكَ صَحِيحٌ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الْبِلَادِ فِي هَذَا الزَّمَانِ (زَمَانِ السُّبْكِيِّ) ضُرِبَتِ الْفِضَّةُ خَالِصَةً فَتَشَقَّقَتْ، فَجُعِلَ فِيهَا فِي كُلِّ أَلْفِ دِرْهَمٍ مِثْقَالًا مِنْ ذَهَبٍ فَانْصَلَحَتْ، لَكِنَّ مِثْلَ هَذَا إِذَا بِيعَ لَا يَظْهَرُ فِي الْمِيزَانِ مَا مَعَهُ مِنَ الْغِشِّ.

وَكُلُّ مَا ذُكِرَ فِي الْفِضَّةِ يَأْتِي فِي الذَّهَبِ حَرْفًا بِحَرْفٍ.

44- وَفَصَّلَ الْحَنَابِلَةُ فِي بَيْعِ الْأَثْمَانِ الْمَغْشُوشَةِ بِمِثْلِهَا بَيْنَ مَا يَكُونُ الْغِشُّ فِيهِ مُتَسَاوِيًا وَمَعْلُومَ الْمِقْدَارِ وَمَا يَكُونُ الْغِشُّ فِيهِ غَيْرَ مُتَسَاوٍ أَوْ غَيْرَ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ فَقَالُوا بِجَوَازِ بَيْعِ الْمَغْشُوشِ بِمِثْلِهِ فِي الْأَوَّلِ وَعَدَمِ جَوَازِهِ فِي الثَّانِي.

قَالَ الْبُهُوتِيُّ: الْأَثْمَانُ الْمَغْشُوشَةُ إِذَا بِيعَتْ بِغَيْرِهَا، أَيْ: بِأَثْمَانٍ خَالِصَةٍ مِنْ جِنْسِهَا لَمْ يَجُزْ، لِلْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ، وَإِنْ بَاعَ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا مَغْشُوشًا بِمِثْلِهِ، وَالْغِشُّ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ مُتَفَاوِتٌ، أَوْ غَيْرُ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالتَّسَاوِي كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ.

وَإِنْ عُلِمَ التَّسَاوِي فِي الذَّهَبِ الَّذِي فِي الدِّينَارِ، وَعُلِمَ تَسَاوِي الْغِشِّ الَّذِي فِيهِمَا جَازَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، لِتَمَاثُلِهِمَا فِي الْمَقْصُودِ وَهُوَ الذَّهَبُ، وَفِي غَيْرِهِ، أَيِ: الْغِشِّ وَلَيْسَتْ مِنْ مَسْأَلَةِ (مُدِّ عَجْوَةٍ)، لِكَوْنِ الْغِشِّ غَيْرَ مَقْصُودٍ، فَكَأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ كَالْمِلْحِ فِي الْخُبْزِ.

وَالْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ النُّقُودَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعُقُودِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي أَعْيَانِهَا، فَعَلَى هَذَا إِذَا تَبَايَعَا ذَهَبًا بِفِضَّةٍ فَوَجَدَ أَحَدُهُمَا بِمَا قَبَضَهُ غِشًّا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمَبِيعِ مِثْلَ: أَنْ يَجِدَ الدَّرَاهِمَ رَصَاصًا، أَوْ نُحَاسًا، أَوْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَالصَّرْفُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ غَيْرَ مَا سَمَّى لَهُ.

وَإِذَا كَانَ الْعَيْبُ مِنْ جِنْسِهِ مِثْلَ: كَوْنِ الْفِضَّةِ سَوْدَاءَ، أَوْ خَشِنَةً، أَوْ سِكَّتِهَا غَيْرَ سِكَّةِ السُّلْطَانِ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَالْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَبَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ.

النَّوْعُ السَّابِعُ- الصَّرْفُ بِالْفُلُوسِ:

45- الْفُلُوسُ هِيَ النُّحَاسُ، أَوِ الْحَدِيدُ الْمَضْرُوبُ الَّذِي يُتَعَامَلُ بِهَا.فَهِيَ الْمَسْكُوكُ مِنْ غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.

وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ بِالْفُلُوسِ، لِأَنَّهَا أَمْوَالٌ مُتَقَوَّمَةٌ مَعْلُومَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ كَاسِدَةً يَجِبُ تَعْيِينُهَا، لِأَنَّهَا عُرُوضٌ، وَإِنْ كَانَتْ نَافِقَةً لَمْ يَجِبْ لِأَنَّهَا مِنَ الْأَثْمَانِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا صُرِفَتِ الْفُلُوسُ النَّافِقَةُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ نَسَاءً، أَوْ صُرِفَتِ الْفُلُوسُ بِالْفُلُوسِ تَفَاضُلًا.وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ اتِّجَاهَانِ.

الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ:

46- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ- عَدَا مُحَمَّدٍ- وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَشْهُورِ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَالشِّيرَازِيِّ وَصَاحِبِ الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى: أَنَّهُ لَا رِبَا فِي فُلُوسٍ يُتَعَامَلُ بِهَا عَدَدًا وَلَوْ كَانَتْ نَافِقَةً؛ لِخُرُوجِهَا عَنِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَعَدَمُ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ الْبُهُوتِيُّ؛ وَلِأَنَّ عِلَّةَ حُرْمَةِ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الثَّمَنِيَّةُ الْغَالِبَةُ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا- أَيْضًا- بِجَوْهَرِيَّةِ الْأَثْمَانِ، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ عَنِ الْفُلُوسِ وَإِنْ رَاجَتْ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ.

وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ الْفُلُوسَ مِنَ الْعُرُوضِ وَإِنْ كَانَتْ نَافِقَةً.وَوَجَّهَهُ الْحَنَفِيَّةُ: بِأَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا هِيَ الْقَدْرُ مَعَ الْجِنْسِ، وَهُوَ الْكَيْلُ أَوِ الْوَزْنُ الْمُتَّفِقُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَالْمُجَانَسَةُ وَإِنْ وُجِدَتْ هَاهُنَا فَلَمْ يُوجَدِ الْقَدْرُ لِأَنَّ الْفُلُوسَ تُبَاعُ بِالْعَدَدِ وَهَذَا إِذَا وَقَعَ الْبَيْعُ بِأَعْيَانِهَا.

وَعَلَى ذَلِكَ فَيَجُوزُ بَيْعُ الْفُلُوسِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ بَيْضَةٍ بِبَيْضَتَيْنِ، وَجَوْزَةٍ بِجَوْزَتَيْنِ، وَسِكِّينٍ بِسِكِّينَيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ.

هَذَا، وَقَدْ فَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَوْضُوعِ فَقَالُوا: يَجُوزُ بَيْعُ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ كِلَاهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا دَيْنًا؛ لِأَنَّ الثَّمَنِيَّةَ فِي حَقِّهِمَا تَثْبُتُ بِاصْطِلَاحِهِمَا، إِذْ لَا وِلَايَةَ لِلْغَيْرِ عَلَيْهَا، فَتَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمَا، وَإِذَا بَطَلَتِ الثَّمَنِيَّةُ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَلَا يَعُودُ وَزْنِيًّا لِبَقَاءِ الِاصْطِلَاحِ عَلَى الْعَدِّ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الثَّمَنِيَّةَ تَثْبُتُ بِاصْطِلَاحِ الْكُلِّ فَلَا تَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمَا، وَإِذَا بَقِيَتْ أَثْمَانًا لَا تَتَعَيَّنُ؛ فَصَارَ كَمَا إِذَا كَانَا بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا كَبَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ.

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: صُوَرُ بَيْعِ الْفَلْسِ بِجِنْسِهِ أَرْبَعٌ:

الْأُولَى: أَنْ يَبِيعَ فَلْسًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْفُلُوسَ الرَّائِجَةَ أَمْثَالٌ مُتَسَاوِيَةٌ- قَطْعًا- لِاصْطِلَاحِ النَّاسِ عَلَى سُقُوطِ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ مِنْهَا، فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا فَضْلًا خَالِيًا مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ وَهُوَ الرِّبَا.

الثَّانِيَةُ: أَنْ يَبِيعَ فَلْسًا بِعَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِغَيْرِ عَيْنِهِمَا فَلَا يَجُوزُ- أَيْضًا- وَإِلاَّ أَمْسَكَ الْبَائِعُ الْفَلْسَ الْمُعَيَّنَ وَقَبَضَهُ بِعَيْنِهِ مِنْهُ مَعَ فَلْسٍ آخَرَ، لِاسْتِحْقَاقِهِ فَلْسَيْنِ فِي ذِمَّتِهِ، فَيَرْجِعُ إِلَيْهِ عَيْنُ مَالِهِ، وَيَبْقَى الْفَلْسُ الْآخَرُ خَالِيًا عَنِ الْعِوَضِ.

الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبِيعَ فَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا بِفَلْسٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَلَا يَجُوزُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَقَبَضَ الْمُشْتَرِي الْفَلْسَيْنِ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ أَحَدَهُمَا مَكَانَ مَا اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ؛ فَيَبْقَى الْآخَرُ فَضْلًا بِلَا عِوَضٍ اسْتُحِقَّ بِعَقْدِ الْبَيْعِ، وَهَذَا إِذَا رَضِيَ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ.

الرَّابِعَةُ: أَنْ يَبِيعَ فَلْسًا بِعَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِعَيْنِهِمَا، فَيَجُوزُ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ.

الِاتِّجَاهُ الثَّانِي:

47- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، جَزَمَ بِهَا أَبُو الْخَطَّابِ فِي خِلَافِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- إِلَى: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْفُلُوسِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا وَلَا نَسَاءً، وَلَا بَيْعُهَا بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ نَسَاءً.

فَفِي الْمُدَوَّنَةِ: أَرَأَيْتَ إِنِ اشْتَرَيْتَ خَاتَمَ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ تِبْرِ ذَهَبٍ بِفُلُوسٍ فَافْتَرَقْنَا قَبْلَ أَنْ نَتَقَابَضَ؟ قَالَ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ مَالِكًا قَالَ: لَا يَجُوزُ فَلْسٌ بِفَلْسَيْنِ وَلَا تَجُوزُ الْفُلُوسُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا بِالدَّنَانِيرِ نَظِرَةً.

وَنَقَلَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَرَبِيعَةَ أَنَّهُمَا كَرِهَا الْفُلُوسَ بِالْفُلُوسِ بَيْنَهُمَا فَضْلٌ أَوْ نَظِرَةٌ، وَقَالَا: إِنَّهَا صَارَتْ سِكَّةً مِثْلَ سِكَّةِ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَحَمَلَ بَعْضُهُمُ الْكَرَاهَةَ عَلَى التَّحْرِيمِ.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ لِقَوْلِ مُحَمَّدٍ بِعَدَمِ الْجَوَازِ- أَيْضًا- بِأَنَّ الْفُلُوسَ أَثْمَانٌ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلًا، كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ عِبَارَةٌ عَمَّا تُقَدَّرُ بِهِ مَالِيَّةُ الْأَعْيَانِ، وَمَالِيَّةُ الْأَعْيَانِ كَمَا تُقَدَّرُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ تُقَدَّرُ بِالْفُلُوسِ- أَيْضًا- فَكَانَتْ أَثْمَانًا، وَالثَّمَنُ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ (عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) فَالْتُحِقَ التَّعْيِينُ فِيهِمَا بِالْعَدَمِ.فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ فَلْسٍ بِفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا، كَمَا لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا.وَلِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ أَثْمَانًا فَالْوَاحِدُ يُقَابِلُ الْوَاحِدَ، فَبَقِيَ الْآخَرُ فَضْلَ مَالٍ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ، وَهَذَا تَفْسِيرُ الرِّبَا، كَمَا حَرَّرَهُ الْكَاسَانِيُّ.

وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الْأَظْهَرُ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْفُلُوسَ النَّافِقَةَ يَغْلِبُ عَلَيْهَا حُكْمُ الْأَثْمَانِ، وَتُجْعَلُ مِعْيَارًا لِأَمْوَالِ النَّاسِ.وَلِهَذَا يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَضْرِبَ لَهُمْ فُلُوسًا تَكُونُ بِقِيمَةِ الْعَدْلِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ ظُلْمٍ لَهُمْ.

هَذَا، وَتَفْصِيلُ التَّعَامُلِ بِالْفُلُوسِ وَأَحْكَامِهَا فِي مُصْطَلَحِ (فُلُوسٌ).

ظُهُورُ عَيْبٍ أَوْ نَقْصٍ فِي بَدَلِ الصَّرْفِ:

48- لَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ: بِأَنَّ الصَّرْفَ لَا يَقْبَلُ خِيَارَ الشَّرْطِ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ أَوْ تَمَامَهُ، وَذَلِكَ مُخِلٌّ بِالْقَبْضِ الْمَشْرُوطِ.

أَمَّا خِيَارُ الْعَيْبِ فَلَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْعَقْدِ فَيَثْبُتُ فِي الصَّرْفِ؛ لِأَنَّ السَّلَامَةَ عَنِ الْعَيْبِ مَطْلُوبَةٌ عَادَةً فَفِقْدَانُهَا يُوجِبُ الْخِيَارَ كَسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ.

هَذَا، وَلِلْفُقَهَاءِ فِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ فِيمَا يَلِي:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ بَدَلَ الصَّرْفِ إِذَا كَانَ عَيْنًا فَرَدُّهُ بِالْعَيْبِ يَفْسَخُ الْعَقْدَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الرَّدُّ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا نَقَدَ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا بِأَنْ وَجَدَ الدَّرَاهِمَ الْمَقْبُوضَةَ زُيُوفًا أَوْ كَاسِدَةً، أَوْ وَجَدَهَا رَائِجَةً فِي بَعْضِ التِّجَارَاتِ دُونَ الْبَعْضِ- وَذَلِكَ عَيْبٌ عِنْدَ التِّجَارَةِ- فَرَدَّهَا فِي الْمَجْلِسِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالرَّدِّ، حَتَّى لَوِ اسْتَبْدَلَ مَكَانَهُ مُضِيَّ الصَّرْفِ.

وَإِنْ رَدَّهَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ بَطَلَ الصَّرْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ، لِحُصُولِ الِافْتِرَاقِ لَا عَنْ قَبْضٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ لَا يَبْطُلُ إِذَا اسْتَبْدَلَ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ.

وَإِذَا ظَهَرَ الْعَيْبُ فِي بَعْضِهِ فَرَدَّ الْمَعِيبَ فِي الْمَرْدُودِ انْتُقِضَ الصَّرْفُ فِي الْمَرْدُودِ، وَبَقِيَ فِي غَيْرِهِ؛ لِارْتِفَاعِ الْقَبْضِ فِيهِ فَقَطْ.

وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِعِبَارَةٍ مُخْتَلِفَةٍ وَتَفْصِيلٍ حَيْثُ قَالُوا:

إِنْ وَجَدَ أَحَدُهُمَا عَيْبًا فِي دَرَاهِمِهِ، أَوْ دَنَانِيرِهِ مِنْ نَقْصٍ أَوْ غِشٍّ، أَوْ غَيْرِ فِضَّةٍ وَلَا ذَهَبٍ كَرَصَاصٍ وَنُحَاسٍ، فَإِنْ كَانَ بِالْحَضْرَةِ مِنْ غَيْرِ مُفَارَقَةٍ وَلَا طُولٍ جَازَ لَهُ الرِّضَا وَصَحَّ الصَّرْفُ وَطَلَبَ الْإِتْمَامَ فِي النَّاقِصِ أَوِ الْبَدَلَ فِي الْغِشِّ وَالرَّصَاصِ فَيُجْبَرُ عَلَيْهِ مَنْ أَبَاهُ إِنْ لَمْ تُعَيَّنِ الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ.

وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مُفَارَقَةٍ، أَوْ طُولٍ فِي الْمَجْلِسِ فَإِنْ رَضِيَ بِغَيْرِ النَّقْصِ صَحَّ الصَّرْفُ، وَإِلاَّ نُقِضَ، وَأَخَذَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا خَرَجَ مِنْ يَدِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ وَقَعَ الصَّرْفُ عَلَى الْعَيْنِ عَلَى أَنَّهَا فِضَّةٌ أَوْ ذَهَبٌ، وَخَرَجَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا نُحَاسًا بَطَلَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ بَانَ أَنَّهُ غَيْرُ مَا عُقِدَ عَلَيْهِ، وَإِنْ خَرَجَ بَعْضُهُ نُحَاسًا، أَوْ نَحْوَهُ صَحَّ الْعَقْدُ فِي الْبَاقِي دُونَهُ بِالْقِسْطِ، وَلِصَاحِبِ الْبَاقِي الْخِيَارُ بَيْنَ الْإِجَازَةِ وَالْفَسْخِ.وَإِنْ خَرَجَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ مَعِيبًا تَخَيَّرَ وَلَمْ يَسْتَبْدِلْ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى عَيْنِهِ فَلَا يَتَجَاوَزُهُ الْحَقُّ إِلَى غَيْرِهِ.

وَإِنْ وَقَعَ الصَّرْفُ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ فَخَرَجَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا نُحَاسًا قَبْلَ التَّفَرُّقِ اسْتَبْدَلَ بِهِ.وَإِنْ خَرَجَ نُحَاسًا بَعْدَ التَّفَرُّقِ بَطَلَ الْعَقْدُ لِعَدَمِ التَّقَابُضِ.وَإِنْ خَرَجَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ مَعِيبًا اسْتَبْدَلَ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ، وَإِنْ فَارَقَ مَجْلِسَ الْعَقْدِ.وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَثْمَانَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ عِنْدَهُمْ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي الْفِقْرَةِ التَّالِيَةِ.

وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ حَيْثُ قَالُوا: إِنْ ظَهَرَ عَيْبٌ فِي جَمِيعِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ وَلَوْ يَسِيرًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَنُحَاسٍ فِي الدَّرَاهِمِ وَالْمَسِّ فِي الذَّهَبِ بَطَلَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ غَيْرَ مَا سَمَّى لَهُ.وَإِنْ ظَهَرَ فِي بَعْضِهِ بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِ فَقَطْ وَهَذَا إِذَا كَانَ الصَّرْفُ عَيْنًا بِعَيْنٍ، بِأَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ بِهَذِهِ الدَّنَانِيرِ وَيُشِيرُ إِلَيْهِمَا وَهُمَا حَاضِرَانِ.وَالْعَيْبُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمَبِيعِ كَمَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ.

أَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَبِيعِ مِثْلَ: كَوْنِ الْفِضَّةِ سَوْدَاءَ، أَوْ خَشِنَةً، فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ، وَالْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ وَبَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ وَالرَّدِّ، وَلَيْسَ لَهُ الْبَدَلُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَاقِعٌ عَلَى عَيْنِهِ، فَإِذَا أَخَذَ غَيْرَهُ أَخَذَ مَا لَمْ يَشْتَرِ.

وَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدُ بِغَيْرِ عَيْنِهِ كَأَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ دِينَارًا مِصْرِيًّا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ يَصِحُّ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِمَا بِالتَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ، وَإِذَا تَقَابَضَا فَوَجَدَ أَحَدُهُمَا بِمَا قَبَضَهُ عَيْبًا قَبْلَ التَّفَرُّقِ فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْبَدَلِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْعَيْبُ مِنْ جِنْسِهِ أَمْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى مُطْلَقٍ لَا عَيْبَ فِيهِ فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، وَإِنْ رَضِيَهُ بِعَيْبِهِ وَالْعَيْبُ مِنْ جِنْسِهِ جَازَ، وَإِنْ أَخَذَ الْأَرْشَ فَإِنْ كَانَ الْعِوَضَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لَمْ يَجُزْ لِإِفْضَائِهِ إِلَى التَّفَاضُلِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّمَاثُلُ.وَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسَيْنِ جَازَ.

تَعَيُّنُ النُّقُودِ بِالتَّعْيِينِ فِي الصَّرْفِ:

49- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ) إِلَى: أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالْعَقْدِ فِيمَا عَيَّنَاهُ، وَيَتَعَيَّنُ عِوَضًا فِيهِ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِبْدَالُهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَعْوَاضِ، وَإِنْ خَرَجَ مَغْصُوبًا بَطَلَ الْعَقْدُ، وَهَذَا لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ عِوَضٌ فِي عَقْدٍ فَيَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَسَائِرِ الْأَعْوَاضِ؛ وَلِأَنَّ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ غَرَضًا فِي التَّعْيِينِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَثَرٌ، وَلِهَذَا لَوِ اشْتَرَى ذَهَبًا بِوَرِقٍ بِعَيْنِهِمَا فَوَجَدَ أَحَدُهُمَا فِيمَا اشْتَرَاهُ عَيْبًا مِنْ جِنْسِهِ فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ أَوْ يَقْبَلَ، وَلَيْسَ لَهُ الْبَدَلُ كَمَا سَبَقَ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ: إِنَّ الْأَثْمَانَ النَّقْدِيَّةَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ أَيْ: إِنَّ الْبَدَلَيْنِ فِي الصَّرْفِ لَا يَتَعَيَّنَانِ بِالتَّعْيِينِ، فَلَوْ تَبَايَعَا دَرَاهِمَ بِدِينَارٍ جَازَ أَنْ يُمْسِكَا مَا أَشَارَا إِلَيْهِ فِي الْعَقْدِ وَيُؤَدِّيَا بَدَلَهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ.

وَذَلِكَ لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا فِي الذِّمَّةِ كَمَا نُقِلَ عَنِ الْفَرَّاءِ، فَلَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلتَّعْيِينِ بِالْإِشَارَةِ، وَلِهَذَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي الصَّرْفِ بِغَيْرِ الْإِشَارَةِ.

وَعَلَى ذَلِكَ يَجُوزُ إِبْدَالُهَا، وَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِخُرُوجِهَا مَغْصُوبَةً.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


292-موسوعة الفقه الكويتية (صلاة الجمعة 1)

صَلَاةُ الْجُمُعَةِ-1

زَمَنَ مَشْرُوعِيَّتِهَا:

1- شُرِعَتْ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ عِنْدَ قُدُومِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: الْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهَا فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ.وَهُوَ مُقْتَضَى أَنَّ فَرْضِيَّتَهَا ثَبَتَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: فُرِضَتْ بِمَكَّةَ، وَهُوَ غَرِيبٌ.

وَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: أَنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جَمَّعَهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِأَصْحَابِهِ، كَانَتْ فِي قَبِيلَةِ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ فِي بَطْنِ وَادٍ لَهُمْ قَدِ اتَّخَذَ الْقَوْمُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَسْجِدًا، وَذَلِكَ عِنْدَمَا قَدِمَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرًا.

غَيْرَ أَنَّهُ ثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ «أَسْعَد بْنَ زُرَارَةَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ النَّاسَ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لَهُ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ مِنْ مَكَّةَ»، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ «كَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ تَرَحَّمَ لِأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ جَمَّعَ بِنَا فِي هَزْمِ النَّبِيتِ مِنْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ فِي نَقِيعٍ يُقَالُ لَهُ: نَقِيعُ الْخَضِمَاتِ».

فَمَنْ رَجَّحَ أَنَّهَا فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، اسْتَدَلَّ بِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يُقِمْ أَيَّ جُمُعَةٍ فِي مَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا فُرِضَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ صَلَّوْهَا فِي الْمَدِينَةِ قَبْلَ هِجْرَتِهِ- عليه الصلاة والسلام- فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً إِذْ ذَاكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ سَوَاءٌ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي مَكَّةَ وَفِي الْمَدِينَةِ، إِلاَّ أَنَّ الَّذِي مَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا فِي مَكَّةَ عَدَمُ تَوَافُرِ كَثِيرٍ مِنْ شَرَائِطِهَا.قَالَ الْبَكْرِيُّ: فُرِضَتْ بِمَكَّةَ وَلَمْ تُقَمْ بِهَا؛ لِفَقْدِ الْعَدَدِ، أَوْ لِأَنَّ شِعَارَهَا الْإِظْهَارُ، وَكَانَ- صلى الله عليه وسلم- مُسْتَخْفِيًا فِيهَا.وَأَوَّلُ مَنْ أَقَامَهَا بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ بِقَرْيَةٍ عَلَى مِيلٍ مِنَ الْمَدِينَةِ.

الْحِكْمَةُ مِنْ مَشْرُوعِيَّتِهَا:

2- قَالَ الدَّهْلَوِيُّ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَتْ إِشَاعَةُ الصَّلَاةِ فِي الْبَلَدِ بِحَيْثُ يَجْتَمِعُ لَهَا أَهْلُهَا مُتَعَذِّرَةً كُلَّ يَوْمٍ، وَجَبَ أَنْ يُعَيَّنَ لَهَا مِيقَاتٌ لَا يَتَكَرَّرُ دَوَرَانُهُ بِسُرْعَةٍ حَتَّى لَا تَعْسُرَ عَلَيْهِمُ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى الِاجْتِمَاعِ لَهَا، وَلَا يَبْطُؤ دَوَرَانُهُ بِأَنْ يَطُولَ الزَّمَنُ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْمَرَّةِ وَالْأُخْرَى، كَيْ لَا يَفُوتَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ تَلَاقِي الْمُسْلِمِينَ وَاجْتِمَاعُهُمْ بَيْنَ الْحِينِ وَالْآخَرِ.وَلَمَّا كَانَ الْأُسْبُوعُ قَدْرًا زَمَنِيًّا مُسْتَعْمَلًا لَدَى الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَأَكْثَرِ الْمِلَلِ، وَهُوَ قَدْرٌ مُتَوَسِّطُ الدَّوَرَانِ وَالتَّكْرَارِ بَيْنَ السُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ- وَجَبَ جَعْلُ الْأُسْبُوعِ مِيقَاتًا لِهَذَا الْوَاجِبِ.

فَرْضِيَّتُهَا:

دَلِيلُ الْفَرْضِيَّةِ:

3- صَلَاةُ الْجُمُعَةِ مِنَ الْفَرَائِضِ الْمَعْلُومِ فَرْضِيَّتُهَا بِالضَّرُورَةِ، وَبِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَيَكْفُرُ جَاحِدُهَا.قَالَ الْكَاسَانِيُّ:

الْجُمُعَةُ فَرْضٌ لَا يَسَعُ تَرْكُهَا، وَيَكْفُرُ جَاحِدُهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ.

أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} قِيلَ: «ذِكْرُ اللَّهِ» هُوَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَقِيلَ هُوَ الْخُطْبَةُ وَكُلُّ ذَلِكَ حُجَّةٌ لِأَنَّ السَّعْيَ إِلَى الْخُطْبَةِ إِنَّمَا يَجِبُ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ سَقَطَتْ عَنْهُ الصَّلَاةُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ السَّعْيُ إِلَى الْخُطْبَةِ فَكَانَ فَرْضُ السَّعْيِ إِلَى الْخُطْبَةِ فَرْضًا لِلصَّلَاةِ وَلِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ يَتَنَاوَلُ الصَّلَاةَ وَيَتَنَاوَلُ الْخُطْبَةَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَ

وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ أَيْضًا بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ

الْوَجْهِ السَّابِقِ وَوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ

اعْلَمْ أَنَّ الْجُمُعَةَ فَرِيضَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} وَالْأَمْرُ بِالسَّعْيِ إِلَى الشَّيْءِ لَا يَكُونُ إِلاَّ لِوُجُوبِهِ، وَالْأَمْرُ بِتَرْكِ الْبَيْعِ الْمُبَاحِ لِأَجْلِهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ أَيْضًا.

وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: هُوَ وَجْهٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيَّةِ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْجُمُعَةَ فِي مَقَامِي هَذَا، فِي يَوْمِي هَذَا، فِي شَهْرِي هَذَا، مِنْ عَامِي هَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ تَرَكَهَا فِي حَيَاتِي، أَوْ بَعْدِي وَلَهُ إِمَامٌ عَادِلٌ أَوْ جَائِرٌ اسْتِخْفَافًا بِهَا أَوْ جُحُودًا لَهَا بِحَقِّهَا فَلَا جَمَعَ اللَّهُ لَهُ شَمْلَهُ وَلَا بَارَكَ لَهُ فِي أَمْرِهِ، أَلَا وَلَا صَلَاةَ لَهُ، وَلَا زَكَاةَ لَهُ، وَلَا حَجَّ لَهُ، وَلَا صَوْمَ لَهُ، وَلَا بِرَّ لَهُ حَتَّى يَتُوبَ فَمَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» وَحَدِيثُ: «الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ إِلاَّ أَرْبَعَةً: عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، أَوِ امْرَأَةٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ مَرِيضٌ» وَحَدِيثُ: «رَوَاحُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ».

فَرْضُ وَقْتِ الْجُمُعَةِ:

4- ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ- مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي مَذْهَبِهِ الْجَدِيدِ وَأَحْمَدُ- إِلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ فَرْضٌ مُسْتَقِلٌّ، فَلَيْسَتْ بَدَلًا مِنَ الظُّهْرِ، وَلَيْسَتْ ظُهْرًا مَقْصُورًا.وَاسْتَدَلَّ الرَّمْلِيُّ لِكَوْنِهَا صَلَاةً مُسْتَقِلَّةً: بِأَنَّهُ لَا يُغْنِي الظُّهْرُ عَنْهَا وَلِقَوْلِ عُمَرَ- رضي الله عنه-: «الْجُمُعَةُ رَكْعَتَانِ، تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ- صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى».

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: إِنَّ فَرْضَ وَقْتِ الْجُمُعَةِ فِي الْأَصْلِ إِنَّمَا هُوَ الظُّهْرُ، إِلاَّ أَنَّ مَنْ تَكَامَلَتْ فِيهِ شَرَائِطُ الْجُمُعَةِ الْآتِي ذِكْرُهَا فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِسْقَاطِهِ وَإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي مَكَانِهِ عَلَى سَبِيلِ الْحَتْمِ، أَمَّا مَنْ لَمْ تَتَكَامَلْ فِيهِ شَرَائِطُهَا، فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الظُّهْرِ إِلاَّ أَنَّهُ يُخَاطَبُ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ فِي مَكَانِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّرْخِيصِ، أَيْ فَإِذَا أَدَّى الْجُمُعَةَ رَغْمَ عَدَمِ تَكَامُلِ شُرُوطِ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ سَقَطَ عَنْهُ الظُّهْرُ بِذَلِكَ.عَلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَقْوَالًا أُخْرَى فِي كَيْفِيَّةِ فَرْضِيَّةِ الْجُمُعَةِ.

5- وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي بَيْتِهِ وَحْدَهُ قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ- وَهُوَ غَيْرُ مَعْذُورٍ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَصِحُّ ظُهْرُهُ وَيَقَعُ فَرْضًا؛ لِأَنَّهُ أَدَّى فَرْضَ الْوَقْتِ الْأَصْلِيِّ فَيُجْزِئُهُ.

قَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ: مَنْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي بَيْتِهِ وَحْدَهُ- وَهُوَ غَيْرُ مَعْذُورٍ- فَإِنَّهُ يَقَعُ فَرْضًا فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ- أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ- خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ الظُّهْرُ.

وَفِي الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى لَا تُجْزِئُهُ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَيَلْزَمُهُ حُضُورُ الْجُمُعَةِ، فَإِنْ حَضَرَهَا فَذَاكَ وَإِلاَّ بِأَنْ فَاتَتْهُ لَزِمَهُ قَضَاءُ الظُّهْرِ حِينَئِذٍ.قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي الْمُهَذَّبِ: وَأَمَّا مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالسَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَإِنْ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: قَالَ فِي الْقَدِيمِ: يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ هُوَ الظُّهْرُ.وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَا تُجْزِئُهُ، وَيَلْزَمُهُ إِعَادَتُهَا وَهُوَ الصَّحِيحُ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي: مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ إِذَا صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ الْجُمُعَةَ لَمْ يَصِحَّ، وَيَلْزَمُهُ السَّعْيُ إِلَى الْجُمُعَةِ إِنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُدْرِكُهَا؛ لِأَنَّهَا الْمَفْرُوضَةُ عَلَيْهِ.

شُرُوطُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ:

6- لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الشُّرُوطِ.

النَّوْعُ الْأَوَّلُ: شُرُوطٌ لِلصِّحَّةِ وَالْوُجُوبِ مَعًا، وَالثَّانِي: لِلْوُجُوبِ فَقَطْ، وَالثَّالِثُ: لِلصِّحَّةِ فَقَطْ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الشُّرُوطِ، أَنَّ مَا يُعْتَبَرُ شَرْطًا لِصِحَّةِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَوُجُوبِهَا مَعًا، يَلْزَمُ مِنْ فَقْدِهِ أَمْرَانِ اثْنَانِ: بُطْلَانُهَا، وَعَدَمُ تَعَلُّقِ الطَّلَبِ بِهَا.

وَمَا يُعْتَبَرُ شَرْطًا لِلْوُجُوبِ- فَقَطْ- يَلْزَمُ مِنْ فَقْدِهِ عَدَمُ تَعَلُّقِ الطَّلَبِ وَحْدَهُ، مَعَ ثُبُوتِ صِحَّةِ الْفِعْلِ، وَمَا يُعْتَبَرُ شَرْطًا لِلصِّحَّةِ فَقَطْ يَلْزَمُ مِنْ فَقْدِهِ الْبُطْلَانُ مَعَ اسْتِمْرَارِ الْمُطَالَبَةِ بِهِ.

النَّوْعُ الْأَوَّلُ شُرُوطُ الصِّحَّةِ وَالْوُجُوبِ مَعًا وَتَنْحَصِرُ فِي ثَلَاثَةٍ: 7- الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: اشْتَرَطَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَكَانُ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ (مِصْرًا) وَالْمَقْصُودُ بِالْمِصْرِ كُلُّ بَلْدَةٍ نُصِبَ فِيهَا قَاضٍ تُرْفَعُ إِلَيْهِ الدَّعَاوَى وَالْخُصُومَاتُ.

قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ فِي بَيَانِ حَدِّ الْمِصْرِ الْجَامِعِ: أَنْ يَكُونَ فِيهِ سُلْطَانٌ، أَوْ قَاضٍ لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَتَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ.

وَيَلْحَقُ بِالْمِصْرِ ضَاحِيَتُهُ أَوْ فِنَاؤُهُ، وَضَوَاحِي الْمِصْرِ هِيَ الْقُرَى الْمُنْتَشِرَةُ مِنْ حَوْلِهِ وَالْمُتَّصِلَةُ بِهِ وَالْمَعْدُودَةُ مِنْ مَصَالِحِهِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ مِنَ الْقُرْبِ مَا يُمَكِّنُ أَهْلَهَا مِنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ الرُّجُوعِ إِلَى مَنَازِلِهِمْ فِي نَفْسِ الْيَوْمِ بِدُونِ تَكَلُّفٍ.

وَعَلَى هَذَا، فَمَنْ كَانُوا يُقِيمُونَ فِي قَرْيَةٍ نَائِيَةٍ، لَا يُكَلَّفُونَ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ، وَإِذَا أَقَامُوهَا لَمْ تَصِحَّ مِنْهُمْ.قَالَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ: الْمِصْرُ الْجَامِعُ شَرْطُ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ، وَشَرْطُ صِحَّةِ أَدَائِهَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا، حَتَّى لَا تَجِبَ الْجُمُعَةُ إِلاَّ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ وَمَنْ كَانَ سَاكِنًا فِي تَوَابِعِهِ، وَكَذَا لَا يَصِحُّ أَدَاءُ الْجُمُعَةِ إِلاَّ فِي الْمِصْرِ وَتَوَابِعِهِ.

فَلَا تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ تَوَابِعِ الْمِصْرِ، وَلَا يَصِحُّ أَدَاءُ الْجُمُعَةِ فِيهَا.

وَلَمْ تَشْتَرِطِ الْمَذَاهِبُ الْأُخْرَى هَذَا الشَّرْطَ.فَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَاكْتَفَوْا بِاشْتِرَاطِ إِقَامَتِهَا فِي خُطَّةِ أَبْنِيَةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ بَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ، قَالَ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ: لَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ إِلاَّ فِي أَبْنِيَةٍ يَسْتَوْطِنُهَا مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمُعَةُ مِنْ بَلَدٍ أَوْ قَرْيَةٍ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَلَمْ يَشْتَرِطُوا ذَلِكَ أَيْضًا، وَصَحَّحُوا إِقَامَتَهَا فِي الصَّحَارِي، وَبَيْنَ مَضَارِبِ الْخِيَامِ.قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي:

وَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ إِقَامَتُهَا فِي الْبُنْيَانِ وَيَجُوزُ إِقَامَتُهَا فِيمَا قَارَبَهُ مِنَ الصَّحْرَاءِ.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَإِنَّمَا شَرَطُوا أَنْ تُقَامَ فِي مَكَانٍ صَالِحٍ لِلِاسْتِيطَانِ.فَتَصِحُّ إِقَامَتُهَا فِي الْأَبْنِيَةِ، أَوِ الْأَخْصَاصِ؛ لِصَلَاحِهَا لِلِاسْتِيطَانِ فِيهَا مُدَّةً طَوِيلَةً.وَلَا تَصِحُّ فِي الْخِيَمِ لِعَدَمِ صَلَاحِيَّتِهَا لِذَلِكَ فِي الْغَالِبِ.

قَالَ فِي الْجَوَاهِرِ الزَّكِيَّةِ فِي تَعْدَادِ شُرُوطِهَا: مَوْضِعُ الِاسْتِيطَانِ، وَلَوْ كَانَ بِأَخْصَاصٍ لَا خِيَمٍ، فَلَا تُقَامُ الْجُمُعَةُ إِلاَّ فِي مَوْضِعٍ يُسْتَوْطَنُ فِيهِ بِأَنْ يُقِيمَ فِيهِ صَيْفًا وَشِتَاءً.

8- وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ: أَنَّ أَصْحَابَ الْقُرَى الَّتِي لَا تُعْتَبَرُ تَابِعَةً لِمِصْرٍ إِلَى جَانِبِهَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ- عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ- إِقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي أَمَاكِنِهِمْ، وَلَا يُكَلَّفُونَ بِالِانْتِقَالِ لَهَا إِلَى أَيِّ بَلْدَةٍ كَبِيرَةٍ أُخْرَى مِنْ حَوْلِهِمْ.

أَمَّا فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ: فَلَا يُكَلَّفُونَ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ، وَإِذَا أَقَامُوهَا لَمْ تَصِحَّ مِنْهُمْ.وَيَجِبُ عَلَيْهِمُ الِانْتِقَالُ إِلَى الْبَلْدَةِ الْمُجَاوِرَةِ إِذَا سُمِعَ مِنْهَا الْأَذَانُ.

9- الشَّرْطُ الثَّانِي: وَاشْتَرَطَهُ الْحَنَفِيَّةُ، إِذْنُ السُّلْطَانِ بِذَلِكَ، أَوْ حُضُورُهُ، أَوْ حُضُورُ نَائِبٍ رَسْمِيٍّ عَنْهُ، إِذْ هَكَذَا كَانَ شَأْنُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَفِي عُهُودِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ.

هَذَا إِذَا كَانَ ثَمَّةَ إِمَامٌ أَوْ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الْبَلْدَةِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الْجُمُعَةُ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ أَحَدُهُمَا، لِمَوْتٍ أَوْ فِتْنَةٍ أَوْ مَا شَابَهَ ذَلِكَ، وَحَضَرَ وَقْتُ الْجُمُعَةِ كَانَ لِلنَّاسِ حِينَئِذٍ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ لِيَتَقَدَّمَهُمْ فَيُصَلِّيَ بِهِمُ الْجُمُعَةَ.

أَمَّا أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى فَلَمْ يَشْتَرِطُوا لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ أَوْ وُجُوبِهَا شَيْئًا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالسُّلْطَانِ، إِذْنًا أَوْ حُضُورًا أَوْ إِنَابَةً. 10- الشَّرْطُ الثَّالِثُ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْجُمُعَةِ وَوُجُوبِهَا مَعًا: دُخُولُ الْوَقْتِ، وَوَقْتُهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ- الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ- هُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ، فَلَا يَثْبُتُ وُجُوبُهَا، وَلَا يَصِحُّ أَدَاؤُهَا إِلاَّ بِدُخُولِ وَقْتِ الظُّهْرِ، وَيَسْتَمِرُّ وَقْتُهَا إِلَى دُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ، فَإِذَا خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ سَقَطَتِ الْجُمُعَةُ وَاسْتُبْدِلَ بِهَا الظُّهْرُ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ صَلَاةٌ لَا تُقْضَى بِالتَّفْوِيتِ.وَيُشْتَرَطُ دُخُولُ وَقْتِ الظُّهْرِ مِنِ ابْتِدَاءِ الْخُطْبَةِ، فَلَوِ ابْتَدَأَ الْخَطِيبُ الْخُطْبَةَ قَبْلَهُ لَمْ تَصِحَّ الْجُمُعَةُ، وَإِنْ وَقَعَتِ الصَّلَاةُ دَاخِلَ الْوَقْتِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ هُوَ أَوَّلُ وَقْتِ صَلَاةِ الْعِيدِ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِيدَانٍ: «شَهِدْتُ الْجُمُعَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَكَانَتْ خُطْبَتُهُ وَصَلَاتُهُ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ»، وَلِحَدِيثِ جَابِرٍ: «كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ ثُمَّ نَذْهَبُ إِلَى جِمَالِنَا فَنُرِيحُهَا حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ» وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ وَسَعْدٍ وَمُعَاوِيَةَ- رضي الله عنهم- أَنَّهُمْ صَلَّوْا قَبْلَ الزَّوَالِ وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِمْ، وَفِعْلُهَا بَعْدَ الزَّوَالِ أَفْضَلُ.

النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الشُّرُوطِ وَهِيَ:

شُرُوطُ الْوُجُوبِ فَقَطْ:

تَتَلَخَّصُ جُمْلَةُ هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي خَمْسَةِ أُمُورٍ، وَذَلِكَ بَعْدَ اعْتِبَارِ الشُّرُوطِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا أَهْلِيَّةُ التَّكْلِيفِ بِصُورَةٍ عَامَّةٍ، مِنْ عَقْلٍ وَبُلُوغٍ:

11- الْأَوَّلُ: (الْإِقَامَةُ بِمِصْرٍ): فَلَا تَجِبُ عَلَى مُسَافِرٍ.ثُمَّ لَا فَرْقَ فِي الْإِقَامَةِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِيطَانِ أَوْ دُونَ ذَلِكَ، فَمَنْ تَجَاوَزَتْ أَيَّامُ إِقَامَتِهِ فِي بَلْدَةٍ مَا الْفَتْرَةَ الَّتِي يُشْرَعُ لَهُ فِيهَا قَصْرُ الصَّلَاةِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَإِلاَّ فَلَا عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُبَيَّنِ فِي (صَلَاةُ الْمُسَافِرِ).

وَدَلِيلُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ جَابِرٌ- رضي الله عنه-: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ إِلاَّ مَرِيضٌ، أَوْ مُسَافِرٌ، أَوِ امْرَأَةٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ مَمْلُوكٌ، فَمَنِ اسْتَغْنَى بِلَهْوٍ أَوْ تِجَارَةٍ اسْتَغْنَى اللَّهُ عَنْهُ وَاَللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ».قَالَ السَّرَخْسِيُّ:

وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُسَافِرَ تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ بِدُخُولِ الْمِصْرِ وَحُضُورِ الْجُمُعَةِ، وَرُبَّمَا لَا يَجِدُ أَحَدًا يَحْفَظُ رَحْلَهُ، وَرُبَّمَا يَنْقَطِعُ عَنْ أَصْحَابِهِ، فَلِدَفْعِ الْحَرَجِ أَسْقَطَهَا الشَّرْعُ عَنْهُ.

أَمَّا مَنْ كَانَ مُقِيمًا فِي غَيْرِ مِصْرٍ، كَالْقُرَى وَالْبَوَادِي، فَإِنْ كَانَ مَكَانُهُ قَرِيبًا مِنْ بَلْدَةٍ هُنَاكَ وَجَبَ عَلَيْهِ الذَّهَابُ إِلَيْهَا وَإِقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِيهَا، وَإِلاَّ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ.

وَالْمُفْتَى بِهِ فِي ضَابِطِ الْقُرْبِ: أَنْ تَصِلَ أَصْوَاتُ الْمُؤَذِّنِينَ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ عِنْدَمَا يُؤَذِّنُونَ فِي أَمَاكِنَ مُرْتَفِعَةٍ وَبِأَصْوَاتٍ عَالِيَةٍ مَعَ تَوَسُّطِ حَالَةِ الْجَوِّ مِنْ حَيْثُ الْهُدُوءُ وَالضَّجِيجُ.

وَهَذَا عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي الْفِقْرَةِ (7) مِنِ اشْتِرَاطِ الْحَنَفِيَّةِ الْمِصْرَ خِلَافًا لِغَيْرِهِمْ.

12- الشَّرْطُ الثَّانِي (الذُّكُورَةُ): فَلَا تَجِبُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ عَلَى النِّسَاءِ.وَذَكَرَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حِكْمَةَ ذَلِكَ فَقَالَ: وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِخِدْمَةِ الزَّوْجِ، مَمْنُوعَةٌ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى مَحَافِلِ الرِّجَالِ، لِكَوْنِ الْخُرُوجِ سَبَبًا لِلْفِتْنَةِ وَلِهَذَا لَا جَمَاعَةَ عَلَيْهِنَّ أَيْضًا.

13- الشَّرْطُ الثَّالِثُ (الصِّحَّةُ): وَيُقْصَدُ بِهَا خُلُوُّ الْبَدَنِ عَمَّا يَتَعَسَّرُ مَعَهُ- عُرْفًا- الْخُرُوجُ لِشُهُودِ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، كَمَرَضٍ وَأَلَمٍ شَدِيدٍ؛ فَلَا تَجِبُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ عَلَى مَنِ اتَّصَفَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.

وَأُلْحِقَ بِالْمَرِيضِ مُمَرِّضُهُ الَّذِي يَقُومُ بِأَمْرِ تَمْرِيضِهِ وَخِدْمَتِهِ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يُوجَدَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ لَوْ تَرَكَهُ.

14- الشَّرْطُ الرَّابِعُ (الْحُرِّيَّةُ): فَلَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ، لِانْشِغَالِهِ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى.

غَيْرَ أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَالْمُبَعَّضِ وَتَجِبُ عَلَى الْأَجِيرِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْتَأْجِرِ مَنْعُهُ مِنْهَا، فَإِذَا تَرَكَ الْعَمَلَ لِصَلَاتِهَا، وَكَانَ الْمَسْجِدُ بَعِيدًا عَنْ مَكَانِ عَمَلِهِ فِي- الْعُرْفِ- سَقَطَ مِنْ أُجْرَتِهِ مَا يُقَابِلُ الزَّمَنَ الَّذِي تَرَكَ فِيهِ الْعَمَلَ مِنْ أَجْلِهَا بِمَا فِي ذَلِكَ مُدَّةُ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا، وَإِلاَّ لَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ.

وَهَذِهِ الشَّرِيطَةُ- أَيْضًا- مَحَلُّ اتِّفَاقٍ لَدَى مُخْتَلَفِ الْمَذَاهِبِ، ثُمَّ إِنَّ السَّيِّدَ إِذَا أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي الْخُرُوجِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ.

15- الشَّرْطُ الْخَامِسُ (السَّلَامَةُ): وَالْمَقْصُودُ بِهَا سَلَامَةُ الْمُصَلِّي مِنَ الْعَاهَاتِ الْمُقْعِدَةِ، أَوِ الْمُتْعِبَةِ لَهُ فِي الْخُرُوجِ إِلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، كَالشَّيْخُوخَةِ الْمُقْعِدَةِ وَالْعَمَى، فَإِنْ وَجَدَ الْأَعْمَى قَائِدًا مُتَبَرِّعًا أَوْ بِأُجْرَةٍ مُعْتَدِلَةٍ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ- أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ-؛ لِأَنَّ الْأَعْمَى بِوَاسِطَةِ الْقَائِدِ يُعْتَبَرُ قَادِرًا عَلَى السَّعْيِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ.

وَهُنَاكَ صُورَتَانِ أُخْرَيَانِ تَجِبُ فِيهِمَا عَلَى الْأَعْمَى صَلَاةُ الْجُمُعَةِ:

الصُّورَةُ الْأُولَى: أَنْ تُقَامَ الصَّلَاةُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ مُتَطَهِّرٌ مُتَهَيِّئٌ لِلصَّلَاةِ.

الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ أُوتُوا مَهَارَةً فِي الْمَشْيِ فِي الْأَسْوَاقِ دُونَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى أَيِّ كُلْفَةٍ أَوْ قِيَادَةٍ أَوْ سُؤَالِ أَحَدٍ.إِذْ لَا حَرَجَ حِينَئِذٍ عَلَيْهِ فِي حُضُورِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ.

وَلَا تَجِبُ- أَيْضًا- فِي حَالَةِ خَوْفٍ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ سَبُعٍ أَوْ لِصٍّ، أَوْ سُلْطَانٍ، وَلَا فِي حَالَةِ مَطَرٍ شَدِيدٍ، أَوْ وَحْلٍ، أَوْ ثَلْجٍ، يَتَعَسَّرُ مَعَهَا الْخُرُوجُ إِلَيْهَا.إِذْ لَا تُعْتَبَرُ السَّلَامَةُ مُتَوَفِّرَةً فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَاتِ.

16- ثُمَّ إِنَّ مَنْ حَضَرَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ مِمَّنْ لَمْ تَتَوَفَّرْ فِيهِ هَذِهِ الشُّرُوطُ الْخَمْسَةُ يُنْظَرُ فِي أَمْرِهِ: فَإِنْ كَانَ فَاقِدًا أَهْلِيَّةَ التَّكْلِيفِ نَفْسَهَا، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، صَحَّتْ صَلَاةُ الصَّبِيِّ وَاعْتُبِرَتْ لَهُ تَطَوُّعًا، وَبَطَلَتْ صَلَاةُ الْمَجْنُونِ؛ لِعَدَمِ تَوَفُّرِ الْإِدْرَاكِ الْمُصَحِّحِ لِأَصْلِ الْعِبَادَةِ.

أَمَّا إِنْ تَكَامَلَتْ لَدَيْهِ أَهْلِيَّةُ التَّكْلِيفِ، كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ، فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ إِنْ حَضَرُوا الْجُمُعَةَ وَصَلَّوْهَا أَجْزَأَتْهُمْ عَنْ فَرْضِ الظُّهْرِ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِمْ إِنَّمَا كَانَ لِلْعُذْرِ، وَقَدْ زَالَ بِحُضُورِهِمْ لَكِنْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ لَهُمُ الِانْصِرَافَ؛ إِذِ الْمَانِعُ مِنْ وُجُوبِهَا عَلَيْهِمْ لَا يَرْتَفِعُ بِحُضُورِهِمْ إِلاَّ الْمَرِيضَ وَنَحْوَهُ كَالْأَعْمَى فَيَحْرُمُ انْصِرَافُهُمَا إِنْ دَخَلَ الْوَقْتُ قَبْلَ انْصِرَافِهِمَا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ فِي حَقِّهِمَا مَشَقَّةُ الْحُضُورِ وَقَدْ زَالَتْ.

17- وَيَصِحُّ أَنْ يَؤُمَّ الْقَوْمَ مِنْ هَؤُلَاءِ كُلُّ مَنْ صَحَّتْ إِمَامَتُهُ الْمُطْلَقَةُ فِي بَابِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فَتَصِحُّ إِمَامَةُ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَالْعَبْدِ، دُونَ الْمَرْأَةِ قَالَ فِي تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ: وَيَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ فِيهَا مَنْ صَلَحَ لِغَيْرِهَا؛ فَجَازَتْ لِمُسَافِرٍ وَعَبْدٍ وَمَرِيضٍ.

وَأَمَّا صِفَةُ الَّذِينَ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمُعَةُ فَهِيَ: أَنَّ كُلَّ مَنْ يَصْلُحُ إِمَامًا لِلرِّجَالِ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ تَنْعَقِدُ بِهِمُ الْجُمُعَةُ، فَيُشْتَرَطُ صِفَةُ الذُّكُورَةِ وَالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ لَا غَيْرُ، فَتَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ بِعَبِيدٍ وَمُسَافِرِينَ.وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ بِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَلَا تَصِحُّ إِمَامَتُهُ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَصَحَّحُوا الْإِمَامَةَ مِنْ هَؤُلَاءِ دُونَ الِانْعِقَادِ بِهِ.فَلَوْ أَمَّ الْمُصَلِّينَ مُسَافِرٌ وَكَانَ عَدَدُهُمْ لَا يَتَجَاوَزُ مَعَ إِمَامِهِمُ الْمُسَافِرِ أَرْبَعِينَ رَجُلًا، لَمْ تَنْعَقِدْ صَلَاتُهُمْ.

18- فَمَنْ تَوَفَّرَتْ فِيهِ هَذِهِ الشُّرُوطُ، حُرِّمَ عَلَيْهِ صَلَاةُ الظُّهْرِ قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ بِإِسْقَاطِ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَأَدَاءِ الْجُمُعَةِ فِي مَكَانِهَا.أَمَّا بَعْدَ فَوَاتِهَا عَلَيْهِ فَلَا مَنَاصَ حِينَئِذٍ مِنْ أَدَاءِ الظُّهْرِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ آثِمًا بِسَبَبِ تَفْوِيتِ الْجُمُعَةِ بِدُونِ عُذْرٍ.

فَإِنْ سَعَى إِلَيْهَا بَعْدَ أَدَائِهِ الظُّهْرَ وَالْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ الَّتِي كَانَ قَدْ أَدَّاهَا بِمُجَرَّدِ انْفِصَالِهِ عَنْ دَارِهِ وَاتِّجَاهِهِ إِلَيْهَا سَوَاءٌ أَدْرَكَهَا أَمْ لَا.وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّعْيَ إِلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ مَعْدُودٌ مِنْ مُقَدِّمَاتِهَا وَخَصَائِصِهَا الْمَأْمُورِ بِهَا بِنَصِّ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالِاشْتِغَالُ بِفَرَائِضِ الْجُمُعَةِ الْخَاصَّةِ بِهَا يُبْطِلُ الظُّهْرَ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَمَّا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ فَلَا يَبْطُلُ ظُهْرُهُ بِمُجَرَّدِ السَّعْيِ، بَلْ لَا بُدَّ لِذَلِكَ مِنْ إِدْرَاكِهِ الْجُمُعَةَ وَشُرُوعِهِ فِيهَا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ إِذَا صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ الْجُمُعَةَ لَمْ يَصِحَّ وَيَلْزَمُهُ السَّعْيُ إِلَى الْجُمُعَةِ إِنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُدْرِكُهَا. النَّوْعُ الثَّالِثُ: شُرُوطُ الصِّحَّةِ فَقَطْ:

وَهِيَ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ:

19- الْأَوَّلُ الْخُطْبَةُ: وَيُشْتَرَطُ تَقَدُّمُهَا عَلَى الصَّلَاةِ، وَهِيَ كُلُّ ذِكْرٍ يُسَمَّى فِي عُرْفِ النَّاسِ خُطْبَةً، فَمَتَى جَاءَ الْإِمَامُ بِذَلِكَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، فَقَدْ تَأَدَّى الشَّرْطُ وَصَحَّتِ الْخُطْبَةُ، سَوَاءٌ كَانَ قَائِمًا، أَوْ قَاعِدًا أَتَى بِخُطْبَتَيْنِ أَوْ خُطْبَةٍ وَاحِدَةٍ، تَلَا فِيهَا قُرْآنًا أَمْ لَا، عَرَبِيَّةً كَانَتْ أَوْ عَجَمِيَّةً، إِلاَّ أَنَّهَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، إِذْ هِيَ شَرْطٌ، وَشَرْطُ الشَّيْءِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَيْهِ وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَاشْتَرَطَ لَهَا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ خُطْبَتَيْنِ مُسْتَدِلِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِمُوَاظَبَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.

وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ لِلْخُطْبَةِ أَرْكَانًا خَمْسَةً لَا بُدَّ مِنْ تَوَافُرِهَا وَهِيَ: حَمْدُ اللَّهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِهِ، وَالْوَصِيَّةُ بِالتَّقْوَى.وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ أَرْكَانٌ فِي كُلٍّ مِنَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَالرَّابِعُ: قِرَاءَةُ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فِي إِحْدَاهُمَا، وَالْخَامِسُ: مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الدُّعَاءِ لِلْمُؤَمِّنِينَ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ.

وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ قِرَاءَةَ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ.قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يَكْفِي فِي الْقِرَاءَةِ أَقَلُّ مِنْ آيَةٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَمَا عَدَا ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (خُطْبَة).

20- الثَّانِي: الْجَمَاعَةُ: قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: وَدَلِيلُ شَرْطِيَّتِهَا، أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ تُسَمَّى جُمُعَةً، فَلَا بُدَّ مِنْ لُزُومِ مَعْنَى الْجُمُعَةِ فِيهَا، اعْتِبَارًا لِلْمَعْنَى الَّذِي أُخِذَ اللَّفْظُ مِنْهُ.وَلِهَذَا لَمْ يُؤَدِّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْجُمُعَةَ إِلاَّ جَمَاعَةً، وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ.

وَيَتَعَلَّقُ بِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ هَذَا الشَّرْطِ ثَلَاثَةُ أَبْحَاثٍ:

21- أَوَّلُهَا: حُضُورُ وَاحِدٍ سِوَى الْإِمَامِ- عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ- وَقِيلَ: ثَلَاثَةٌ سِوَى الْإِمَامِ، قَالَ فِي مَجْمَعِ الْأَنْهُرِ: لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ، وَقَدْ وَرَدَ الْخِطَابُ لِلْجَمْعِ، وَهُوَ قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّه} فَإِنَّهُ يَقْتَضِي ثَلَاثَةً سِوَى الْخَطِيبِ، هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.

وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنْ لَا يَقِلَّ الْمُجْمِعُونَ عَنْ أَرْبَعِينَ رَجُلًا تَجِبُ فِي حَقِّهِمُ الْجُمُعَةُ.قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: أَمَّا الْأَرْبَعُونَ فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَصِحَّتِهَا.وَيُشْتَرَطُ حُضُورُهُمُ الْخُطْبَتَيْنِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ حُضُورُ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ أَهْلِ الْجُمُعَةِ.

22- ثَانِيهَا: يَجِبُ حُضُورُ مَا لَا يَقِلُّ عَنْ هَذَا الْعَدَدِ مِنْ أَوَّلِ الْخُطْبَةِ.قَالَ فِي الْبَدَائِعِ:

لَوْ نَفَرُوا قَبْلَ أَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ فَخَطَبَ وَحْدَهُ، ثُمَّ حَضَرُوا فَصَلَّى بِهِمُ الْجُمُعَةَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ كَمَا هِيَ شَرْطُ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ حَالَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ، فَهِيَ شَرْطٌ حَالَ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ بِمَنْزِلَةِ شَفْعٍ مِنَ الصَّلَاةِ، قَالَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: إِنَّمَا قُصِرَتِ الْجُمُعَةُ لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ، وَجَاءَ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ فَتُشْتَرَطُ الْجَمَاعَةُ حَالَ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ، كَمَا تُشْتَرَطُ حَالَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ.

23- ثَالِثُهَا: الْجَمَاعَةُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ شَرْطُ أَدَاءٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْأَدَاءُ إِلاَّ بِوُجُودِ تَمَامِ الْأَرْكَانِ، وَهِيَ: الْقِيَامُ، وَالْقِرَاءَةُ، وَالرُّكُوعُ، وَالسُّجُودُ.وَعَلَى هَذَا فَلَوْ تَفَرَّقَتِ الْجَمَاعَةُ قَبْلَ سُجُودِ الْإِمَامِ بَطَلَتِ الْجُمُعَةُ وَيَسْتَأْنِفُ الظُّهْرَ، وَالْجَمَاعَةُ شَرْطُ انْعِقَادٍ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ، وَالِانْعِقَادُ يَتِمُّ بِدُخُولٍ صَحِيحٍ فِي الصَّلَاةِ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ تَفَرَّقَتِ الْجَمَاعَةُ عَنِ الْإِمَامِ قَبْلَ السُّجُودِ وَبَعْدَ الِانْعِقَادِ صَحَّتْ جُمُعَةُ كُلٍّ مِنْهُمْ وَقَدْ صَحَّحَ صَاحِبُ (تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ) مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُمْ إِنِ انْفَضُّوا قَبْلَ كَمَالِهَا لَمْ يَجُزْ إِتْمَامُهَا جُمُعَةً، وَقِيَاسُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُمْ إِنِ انْفَضُّوا بَعْدَ رَكْعَةٍ أَتَمُّوهَا جُمُعَةً.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجُمُعَةِ وَيُصَلِّيهَا ظُهْرًا.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: صَلَاةُ الْمُقْتَدِي صَحِيحَةٌ عَلَى أَنَّهَا جُمُعَةٌ إِذَا أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْهَا مَعَ الْإِمَامِ، وَإِنْ قَلَّ.قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: وَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ فِي الْجُمُعَةِ أَوْ فِي سَجْدَتَيِ السَّهْوِ فَاقْتَدَى بِهِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا وَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ.

24- الثَّالِثُ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ: وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ تُؤَدَّى بِإِذْنٍ عَامٍّ يَسْتَلْزِمُ الِاشْتِهَارَ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي مَكَانٍ بَارِزٍ مَعْلُومٍ لِمُخْتَلَفِ فِئَاتِ النَّاسِ، مَعَ فَتْحِ الْأَبْوَابِ لِلْقَادِمِينَ إِلَيْهِ، قَالَ فِي تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ: فَلَوْ دَخَلَ أَمِيرٌ حِصْنًا أَوْ قَصْرَهُ وَأَغْلَقَ بَابَهُ، وَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ لَمْ تَنْعَقِدْ.

وَالْحِكْمَةُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ: وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا شَرْطًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ النِّدَاءَ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}.

وَالنِّدَاءُ لِلِاشْتِهَارِ؛ وَلِذَا يُسَمَّى جُمُعَةً، لِاجْتِمَاعِ الْجَمَاعَاتِ فِيهَا فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ الْجَمَاعَاتُ كُلُّهَا مَأْذُونِينَ بِالْحُضُورِ إِذْنًا عَامًّا تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الِاسْمِ.

25- الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا تَتَعَدَّدَ الْجُمُعَةُ فِي الْمِصْرِ الْوَاحِدِ مُطْلَقًا.

ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى مَنْعِ التَّعَدُّدِ فِي أَعَمِّ الْأَحْوَالِ عَلَى اخْتِلَافٍ يَسِيرٍ بَيْنَهُمْ فِي ضَابِطِ الْمَكَانِ الَّذِي لَا يَجُوزُ التَّعَدُّدُ فِيهِ.

فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ هُوَ مَنْعُ التَّعَدُّدِ فِي الْبَلْدَةِ الْوَاحِدَةِ كَبِيرَةً كَانَتْ أَوْ صَغِيرَةً إِلاَّ لِحَاجَةٍ.

وَهَذَا- أَيْضًا- مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ عَابِدِينَ وَذَكَرَ أَنَّهُ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ وَالتُّمُرْتَاشِيِّ، وَنُقِلَ عَنْ شَرْحِ الْمُنْيَةِ أَنَّهُ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الْإِمَامِ، وَنُقِلَ عَنِ النَّهْرِ وَالتَّكْمِلَةِ: أَنَّ الْفَتْوَى عَلَيْهِ.قَالُوا: لِأَنَّ الْحِكْمَةَ مِنْ مَشْرُوعِيَّتِهَا هِيَ الِاجْتِمَاعُ وَالتَّلَاقِي، وَيُنَافِيهِ التَّفَرُّقُ بِدُونِ حَاجَةٍ فِي عِدَّةِ مَسَاجِدَ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُحْفَظْ عَنْ صَحَابِيٍّ وَلَا تَابِعِيٍّ تَجْوِيزُ تَعَدُّدِهَا.

وَمُقَابِلُهُ مَا رَوَاهُ فِي الْبَدَائِعِ عَنِ الْكَرْخِيِّ: أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُجْمَعُوا فِي مَوْضِعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: لَا يَجُوزُ إِلاَّ إِذَا كَانَ بَيْنَ مَوْضِعَيِ الْإِقَامَةِ نَهْرٌ عَظِيمٌ كَدِجْلَةَ وَنَحْوِهَا فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مِصْرَيْنِ. وَالثَّانِيَةُ: يَجُوزُ فِي مَوْضِعَيْنِ إِذَا كَانَ الْمِصْرُ عَظِيمًا.

26- فَهَذِهِ الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ إِذَا فُقِدَ وَاحِدٌ مِنْهَا، بَطَلَتِ الصَّلَاةُ، مَعَ اسْتِمْرَارِ تَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِهَا، حَتَّى إِنَّهُ يَجِبُ إِعَادَتُهَا إِذَا بَقِيَ وَقْتٌ وَأَمْكَنَ تَدَارُكُ الشَّرْطِ الْفَائِتِ.وَهَذَا مَعْنَى أَنَّهَا شُرُوطٌ لِلصِّحَّةِ فَقَطْ، إِلاَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِفَقْدِ الشَّرْطِ الْأَخِيرِ، فَسَنَذْكُرُ حُكْمَ ذَلِكَ عِنْدَ الْبَحْثِ عَنْ مُفْسِدَاتِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى فَسَادِهَا.

الْإِنْصَاتُ لِلْخُطْبَةِ:

27- إِذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ لِلْخُطْبَةِ، يَجِبُ عَلَى الْحَاضِرِينَ أَنْ لَا يَشْتَغِلُوا عِنْدَئِذٍ بِصَلَاةٍ وَلَا كَلَامٍ إِلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنَ الْخُطْبَةِ.فَإِذَا بَدَأَ الْخَطِيبُ بِالْخُطْبَةِ تَأَكَّدَ وُجُوبُ ذَلِكَ أَكْثَرَ.

قَالَ فِي تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ: كُلُّ مَا حُرِّمَ فِي الصَّلَاةِ حُرِّمَ فِي الْخُطْبَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْجَالِسُ فِي الْمَسْجِدِ يَسْمَعُ الْخُطْبَةَ أَمْ لَا، اللَّهُمَّ إِلاَّ أَنْ يَشْتَغِلَ بِقَضَاءِ فَائِتَةٍ لَمْ يَسْقُطِ التَّرْتِيبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ الْوَقْتِيَّةِ فَلَا تُكْرَهُ، بَلْ يَجِبُ فِعْلُهَا.

فَلَوْ خَرَجَ الْخَطِيبُ، وَقَدْ بَدَأَ الْمُصَلِّي بِصَلَاةٍ نَافِلَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُخَفِّفَهَا وَيُسَلِّمَ عَلَى رَأْسِ رَكْعَتَيْنِ، وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ.

غَيْرَ أَنَّهُ جَرَى الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ وَالْخَطِيبُ يَخْطُبُ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، إِلَى أَنَّهُ يَجْلِسُ وَلَا يُصَلِّي، شَأْنُهُ فِي ذَلِكَ كَالْجَالِسِينَ دُونَ أَيِّ فَرْقٍ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ مَا لَمْ يَجْلِسْ، تَحِيَّةً لِلْمَسْجِدِ وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إِنْ صَلاَّهَا فَاتَتْهُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ مَعَ الْإِمَامِ لَمْ يُصَلِّهَا.

الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ:

28- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْإِمَامِ الْجَهْرُ فِي قِرَاءَةِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجِبُ الْجَهْرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، قَالَ فِي الْبَدَائِعِ:

وَذَلِكَ لِوُرُودِ الْأَثَرِ فِيهَا بِالْجَهْرِ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ:

«سَمِعْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى سُورَةَ الْجُمُعَةِ وَفِي الثَّانِيَةِ سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ» وَلَوْ لَمْ يَجْهَرْ لَمَا سَمِعَ وَلِأَنَّ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَرَّغُوا قُلُوبَهُمْ، عَنْ الِاهْتِمَامِ بِأُمُورِ التِّجَارَةِ لِعِظَمِ ذَلِكَ الْجَمْعِ فَيَتَأَمَّلُونَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ فَتَحْصُلُ لَهُمْ ثَمَرَاتُ الْقِرَاءَةِ، فَيَجْهَرُ بِهَا كَمَا فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَخَالَفَ بَقِيَّةُ الْأَئِمَّةِ فِي وُجُوبِ الْجَهْرِ فَذَهَبُوا إِلَى اسْتِحْبَابِهِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


293-موسوعة الفقه الكويتية (صلاة المسافر 2)

صَلَاةُ الْمُسَافِرِ -2

الرَّابِعَةُ: اشْتِرَاطُ نِيَّةِ الْقَصْرِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ:

21- يُشْتَرَطُ لِلْقَصْرِ نِيَّتُهُ فِي التَّحْرِيمَةِ، وَمِثْلُ نِيَّةِ الْقَصْرِ مَا لَوْ نَوَى الظُّهْرَ مَثَلًا رَكْعَتَيْنِ، وَلَمْ يَنْوِ تَرَخُّصًا، كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَمِثْلُ النِّيَّةِ- أَيْضًا- مَا لَوْ قَالَ: أُؤَدِّي صَلَاةَ السَّفَرِ، كَمَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، فَلَوْ لَمْ يَنْوِ مَا ذُكِرَ، بِأَنْ نَوَى الْإِتْمَامَ أَوْ أَطْلَقَ أَتَمَّ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَإِنَّ نِيَّةَ السَّفَرِ تَجْعَلُ فَرْضَ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَيْنِ، وَهَذَا يَكْفِي.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: تَكْفِي نِيَّةُ الْقَصْرِ فِي أَوَّلِ صَلَاةٍ يَقْصُرُهَا فِي السَّفَرِ، وَلَا يَلْزَمُ تَجْدِيدُهَا فِيمَا بَعْدَهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ الْقَصْرِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَلَوْ حُكْمًا.

وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ التَّحَرُّزَ عَمَّا يُنَافِي نِيَّةَ الْقَصْرِ فِي دَوَامِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ مِثْلُ نِيَّةِ الْإِتْمَامِ، فَلَوْ نَوَى الْإِتْمَامَ بَعْدَ نِيَّةِ الْقَصْرِ أَتَمَّ، وَلَوْ أَحْرَمَ قَاصِرًا ثُمَّ تَرَدَّدَ فِي أَنَّهُ يَقْصُرُ أَمْ يُتِمُّ؟ أَتَمَّ.أَوْ شَكَّ فِي أَنَّهُ نَوَى الْقَصْرَ أَمْ لَا؟ أَتَمَّ.وَإِنْ تَذَكَّرَ فِي الْحَالِ أَنَّهُ نَوَاهُ، لِأَنَّهُ أَدَّى جُزْءًا مِنْ صَلَاتِهِ حَالَ التَّرَدُّدِ عَلَى التَّمَامِ، وَلَوْ قَامَ الْقَاصِرُ لِثَالِثَةٍ عَمْدًا بِلَا مُوجِبٍ لِإِتْمَامٍ، كَنِيَّتِهِ أَوْ نِيَّةِ إِقَامَةٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.

وَنَحْوُهُمُ الْحَنَابِلَةُ: فَعِنْدَهُمْ: إِنْ عَزَمَ الْمُسَافِرُ فِي صَلَاتِهِ عَلَى مَا يَلْزَمُهُ بِهِ الْإِتْمَامُ مِنَ الْإِقَامَةِ وَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ تَغْلِيبًا لِكَوْنِهِ الْأَصْلَ، أَوْ تَابَ مِنْ سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي أَحْرَمَ بِهَا سَفَرِيَّةً لَزِمَهُ أَنْ يُتِمَّ، وَلَا تَنْفَعُهُ نِيَّةُ الْقَصْرِ، وَكَمَنْ نَوَى خَلْفَ مُقِيمٍ عَالِمًا بِأَنَّ إِمَامَهُ مُقِيمٌ، وَأَنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُ الْقَصْرُ، فَلَمْ تَنْعَقِدْ.

وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ- أَيْضًا-: الْعِلْمَ بِجَوَازِ الْقَصْرِ، فَلَوْ قَصَرَ جَاهِلًا بِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ؛ لِتَلَاعُبِهِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لَوِ اخْتَارَ الْأَرْبَعَ لَا يَقَعُ الْكُلُّ فَرْضًا، بَلِ الْمَفْرُوضُ رَكْعَتَانِ، وَالشَّطْرُ الثَّانِي: يَقَعُ تَطَوُّعًا، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْعُدْ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهَا الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ فِي حَقِّهِ، وَإِذَا أَتَمَّ سَاهِيًا صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا وَجَلَسَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَأَسَاءَ لِتَأْخِيرِهِ السَّلَامَ عَنْ مَكَانِهِ.

وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ الْقَاطِعَةَ لِحُكْمِ السَّفَرِ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي أَحْرَمَ بِهَا سَفَرِيَّةً شَفَعَ بِأُخْرَى نَدْبًا إِنْ عَقَدَ رَكْعَةً وَجَعَلَهَا نَافِلَةً، وَلَا تُجْزِئُ حَضَرِيَّةٌ إِنْ أَتَمَّهَا أَرْبَعًا؛ لِعَدَمِ دُخُولِهِ عَلَيْهَا وَلَا تُجْزِئُ سَفَرِيَّةٌ؛ لِتَغَيُّرِ نِيَّتِهِ فِي أَثْنَائِهَا.

الْمَكَانُ الَّذِي يَبْدَأُ مِنْهُ الْقَصْرُ:

22- قَالَ الْفُقَهَاءُ: يَبْدَأُ الْمُسَافِرُ الْقَصْرَ إِذَا فَارَقَ بُيُوتَ الْمِصْرِ، فَحِينَئِذٍ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ.وَأَصْلُهُ مَا رَوَى أَنَسٌ- رضي الله عنه- قَالَ: «صَلَّيْتُ الظُّهْرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَصَلَّيْتُ مَعَهُ الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ» وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ مِنَ الْبَصْرَةِ يُرِيدُ الْكُوفَةَ صَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعًا ثُمَّ نَظَرَ إِلَى خُصٍّ أَمَامَهُ وَقَالَ: لَوْ جَاوَزْنَا هَذَا الْخُصَّ صَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ.

وَالْمُعْتَبَرُ مُفَارَقَةُ الْبُيُوتِ مِنَ الْجَانِبِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْجَوَانِبِ بُيُوتٌ.وَيَدْخُلُ فِي بُيُوتِ الْمِصْرِ الْمَبَانِي الْمُحِيطَةُ بِهِ، وَالنَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَقْصُرْ فِي سَفَرِهِ إِلاَّ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ.

وَالْقَرْيَتَانِ الْمُتَدَانِيَتَانِ الْمُتَّصِلُ بِنَاءُ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، أَوِ الَّتِي يَرْتَفِقُ أَهْلُ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى فَهُمَا كَالْقَرْيَةِ الْوَاحِدَةِ، وَإِلاَّ فَلِكُلِّ قَرْيَةٍ حُكْمُ نَفْسِهَا يَقْصُرُ إِذَا جَاوَزَ بُيُوتَهَا وَالْأَبْنِيَةَ الَّتِي فِي طَرَفِهَا.

وَسَاكِنُ الْخِيَامِ يَقْصُرُ إِذَا فَارَقَ خِيَامَ قَوْمِهِ وَمَرَافِقَهَا، كَمَلْعَبِ الصِّبْيَانِ، وَالْبَسَاتِينِ الْمَسْكُونَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْبَلَدِ، وَلَوْ حُكْمًا لَا يَقْصُرُ إِلاَّ إِذَا فَارَقَهَا إِنْ سَافَرَ مِنْ نَاحِيَتِهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِ نَاحِيَتِهَا، وَكَانَ مُحَاذِيًا لَهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَيَقْصُرُ سُكَّانُ الْقُصُورِ وَالْبَسَاتِينِ وَأَهْلُ الْعِزَبِ إِذَا فَارَقُوا مَا نُسِبُوا إِلَيْهِ بِمَا يُعَدُّ مُفَارَقَةً عُرْفًا.

وَالْبَلْدَةُ الَّتِي لَهَا سُوَرٌ، لَا يَقْصُرُ إِلاَّ إِذَا جَاوَزَهُ وَإِنْ تَعَدَّدَ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ.

وَقَالُوا أَيْضًا: يُعْتَبَرُ مُجَاوَزَةُ عَرْضِ الْوَادِي إِنْ سَافَرَ فِي عَرْضِهِ، وَالْهُبُوطُ إِنْ كَانَ فِي رَبْوَةٍ، وَالصُّعُودُ إِنْ كَانَ فِي وَهْدَةٍ.وَهَذَا إِنْ سَافَرَ فِي الْبَرِّ، وَيُعْتَبَرُ فِي سَفَرِ الْبَحْرِ الْمُتَّصِلِ سَاحِلُهُ بِالْبَلَدِ جَرْيُ السَّفِينَةِ أَوِ الزَّوْرَقِ، فَيَقْصُرُ بِمُجَرَّدِ تَحَرُّكِهَا، أَمَّا إِذَا كَانَ الْبَحْرُ بَعِيدًا عَنِ الْمَدِينَةِ فَالْعِبْرَةُ بِمُجَاوَزَةِ سُوَرِ الْمَدِينَةِ.

الصَّلَوَاتُ الَّتِي تُقْصَرُ، وَمِقْدَارُ الْقَصْرِ:

23- الصَّلَوَاتُ الَّتِي تُقْصَرُ هِيَ: الصَّلَاةُ الرُّبَاعِيَّةُ، وَهِيَ: الظُّهْرُ، وَالْعَصْرُ، وَالْعِشَاءُ إِجْمَاعًا، وَلَا قَصْرَ فِي الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «فَرَضَ صَلَاةَ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ.فَلَمَّا أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالْمَدِينَةِ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ وَتُرِكَتْ صَلَاةُ الْفَجْرِ لِطُولِ الْقِرَاءَةِ وَصَلَاةُ الْمَغْرِبِ لِأَنَّهَا وِتْرُ النَّهَارِ» وَلِأَنَّ الْقَصْرَ هُوَ: سُقُوطُ شَطْرِ الصَّلَاةِ، وَبَعْدَ سُقُوطِ الشَّطْرِ مِنَ الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ لَا يَبْقَى نِصْفٌ مَشْرُوعٌ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ الرُّبَاعِيَّةِ فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي تُقْصَرُ، وَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ.

وَمِقْدَارُ الْقَصْرِ: أَنْ تَصِيرَ الرُّبَاعِيَّةُ رَكْعَتَيْنِ لَا غَيْرُ.

وَلَا قَصْرَ فِي السُّنَنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَلَا قَصْرَ فِي الْمَنْذُورَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ، وَعَكْسُهُ:

24- يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ فِي الْوَقْتِ، وَيَنْقَلِبُ فَرْضُ الْمُسَافِرِ أَرْبَعًا عِنْدَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لِأَنَّهُ لَمَّا اقْتَدَى بِهِ صَارَ تَبَعًا لَهُ؛ لِأَنَّ مُتَابَعَتَهُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ» وَأَدَاءُ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ، وَهُوَ التَّبَعِيَّةُ، فَيَتَغَيَّرُ فَرْضُهُ أَرْبَعًا، فَصَارَ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي مِثْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ، فَصَحَّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ.

وَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ خَارِجَ الْوَقْتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ خَارِجَ الْوَقْتِ مِنْ بَابِ الْقَضَاءِ، وَهُوَ خَلَفٌ عَنِ الْأَدَاءِ، وَالْأَدَاءُ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَلَا يَتَغَيَّرُ الْقَضَاءُ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْمُقِيمِ، فَبَقِيَتْ صَلَاتُهُ رَكْعَتَيْنِ وَصَارَتِ الْقَعْدَةُ الْأُولَى لِلتَّشَهُّدِ فَرْضًا فِي حَقِّهِ، وَهِيَ نَفْلٌ فِي حَقِّ الْإِمَامِ فَيَكُونُ هَذَا اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي حَقِّ الْقَعْدَةِ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ، فَلَا يَجُوزُ فِي رُكْنٍ مِنْهَا.

وَلَوْ أَنَّ مُقِيمًا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِقِرَاءَةٍ، فَلَمَّا قَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ جَاءَ مُسَافِرٌ وَاقْتَدَى بِهِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ لَا يَصِحُّ؛ لِمَا سَبَقَ بَيَانُهُ مِنْ أَنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ تَقَرَّرَ رَكْعَتَيْنِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ، وَالْقِرَاءَةُ فَرْضٌ عَلَيْهِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، وَهِيَ نَفْلٌ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ، فَيَكُونُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ فِي حَقِّ الْقِرَاءَةِ.

وَأَمَّا اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ فَيَصِحُّ فِي الْوَقْتِ وَخَارِجَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ فِي الْحَالَتَيْنِ وَاحِدَةٌ، وَالْقَعْدَةُ فَرْضٌ فِي حَقِّهِ نَفْلٌ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي، وَاقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ جَائِزٌ فِي كُلِّ الصَّلَاةِ فَكَذَا فِي بَعْضِهَا، وَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ لَا يُسَلِّمُ الْمُقِيمُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَطْرُ الصَّلَاةِ، فَلَوْ سَلَّمَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَلَكِنَّهُ يَقُومُ وَيُتِمُّهَا أَرْبَعًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَتِمُّوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ صَلَاتَكُمْ، فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» وَيَقُولُ الْإِمَامُ الْمُسَافِرُ ذَلِكَ لِلْمُقِيمِينَ اقْتِدَاءً بِالرَّسُولِ- عليه السلام-.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَيَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ وَلَوْ نَوَى الْقَصْرَ؛ لِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ، وَهَذَا إِذَا أَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَةً، وَاخْتُلِفَ فِي الْإِعَادَةِ، لِمُخَالَفَةِ سُنَّةِ الْقَصْرِ.

وَيَجُوزُ- أَيْضًا- اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَيُسَلِّمُ الْمُسَافِرُ، وَيُتِمُّ الْمُقِيمُ.

وَيَجُوزُ كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ، وَيَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ.كَمَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُقِيمِ بِالْمُسَافِرِ، وَفَرَضَا الْإِتْمَامَ.

وَذَهَبَ طَاوُسٍ وَالشَّعْبِيُّ وَتَمِيمٌ بْنُ حَذْلَمٍ: إِلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إِنْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ الْمُقِيمِ رَكْعَتَيْنِ أَجْزَأَتَا عَنْهُ.

وَذَهَبَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةَ: إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَةً فَأَكْثَرَ أَتَمَّ، وَإِنْ أَدْرَكَ مَعَهُ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ قَصَرَ.

قَضَاءُ فَائِتَةِ السَّفَرِ فِي الْحَضَرِ وَعَكْسِهِ:

25- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ: مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ فِي السَّفَرِ قَضَاهَا فِي الْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ فِي الْحَضَرِ قَضَاهَا فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِحَسَبِ الْأَدَاءِ.

وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ آخِرُ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ الْمُعْتَبَرُ فِي السَّبَبِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَدَاءِ فِي الْوَقْتِ.

وَقَالَ زُفَرُ: إِذَا سَافَرَ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ قَدْرُ مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ صَلَاةَ السَّفَرِ يَقْضِيَ صَلَاةَ السَّفَرِ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي دُونَهُ صَلَّى صَلَاةَ الْمُقِيمِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ- وَهُوَ الْأَصَحُّ- إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ؛ لِأَنَّهُ تَخْفِيفٌ تَعَلَّقَ بِعُذْرٍ فَزَالَ بِزَوَالِ الْعُذْرِ.وَإِنْ فَاتَتْهُ فِي السَّفَرِ فَقَضَاهَا فِي السَّفَرِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَقْصُرُ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ رُدَّتْ مِنْ أَرْبَعٍ إِلَى رَكْعَتَيْنِ، فَكَانَ مِنْ شَرْطِهَا الْوَقْتُ.وَالثَّانِي: لَهُ أَنْ يَقْصُرَ- وَهُوَ الْأَصَحُّ- لِأَنَّهُ تَخْفِيفٌ تَعَلَّقَ بِعُذْرٍ، وَالْعُذْرُ بَاقٍ، فَكَانَ التَّخْفِيفُ بَاقِيًا.وَإِنْ فَاتَتْهُ فِي الْحَضَرِ صَلَاةٌ، فَأَرَادَ قَضَاءَهَا فِي السَّفَرِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ صَلَاةٌ تَامَّةٌ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْقَصْرُ، وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: لَهُ أَنْ يَقْصُرَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا نَسِيَ صَلَاةَ حَضَرٍ فَذَكَرَهَا فِي السَّفَرِ، أَوْ نَسِيَ صَلَاةَ سَفَرٍ فَذَكَرَهَا فِي الْحَضَرِ صَلَّى فِي الْحَالَتَيْنِ صَلَاةَ حَضَرٍ.نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالْأَثْرَمِ؛ لِأَنَّ الْقَصْرَ رُخْصَةٌ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ فَيَبْطُلُ بِزَوَالِهِ.

زَوَالُ حَالَةِ السَّفَرِ:

26- الْمُسَافِرُ إِذَا صَحَّ سَفَرُهُ يَظَلُّ عَلَى حُكْمِ السَّفَرِ، وَلَا يَتَغَيَّرُ هَذَا الْحُكْمُ إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ، أَوْ يَدْخُلَ وَطَنَهُ، وَحِينَئِذٍ تَزُولُ حَالَةُ السَّفَرِ، وَيُصْبِحُ مُقِيمًا تَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُقِيمِ.وَلِلْإِقَامَةِ شَرَائِطُ هِيَ:

الْأُولَى: نِيَّةُ الْإِقَامَةِ وَمُدَّتُهَا الْمُعْتَبَرَةُ:

27- نِيَّةُ الْإِقَامَةِ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، حَتَّى لَوْ دَخَلَ مِصْرًا وَمَكَثَ فِيهِ شَهْرًا أَوْ أَكْثَر لِانْتِظَارِ قَافِلَةٍ، أَوْ لِحَاجَةٍ أُخْرَى يَقُولُ: أَخْرُجُ الْيَوْمَ أَوْ غَدًا، وَلَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ، فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا، وَذَلِكَ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ: أَقَامَ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى نَيْسَابُورَ شَهْرَيْنِ وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: أَنَّهُ أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ شَهْرًا وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ.

وَعَنْ عَلْقَمَةَ: أَنَّهُ أَقَامَ بِخَوَارِزْمَ سَنَتَيْنِ وَكَانَ يَقْصُرُ.

وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: «غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَشَهِدْتُ مَعَهُ الْفَتْحَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، لَا يُصَلِّي إِلاَّ رَكْعَتَيْنِ، وَيَقُولُ: يَا أَهْلَ الْبَلَدِ: صَلُّوا أَرْبَعًا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ».

أَمَّا مُدَّةُ الْإِقَامَةِ الْمُعْتَبَرَةِ: فَأَقَلُّهَا خَمْسَةَ عَشْرَةَ يَوْمًا؛ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ- - رضي الله عنهم- أَنَّهُمَا قَالَا: إِذَا دَخَلْتَ بَلْدَةً وَأَنْتَ مُسَافِرٌ وَفِي عَزْمِكَ أَنْ تُقِيمَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْمِلِ الصَّلَاةَ، وَإِنْ كُنْتَ لَا تَدْرِي مَتَى تَظْعَنُ فَاقْصُرْ.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَهَذَا بَابٌ لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ بِالِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقَادِيرِ، وَلَا يُظَنُّ بِهِمَا التَّكَلُّمُ جُزَافًا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا قَالَاهُ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ، وَأَقَلُّ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ صِحَاحٍ مَعَ وُجُوبِ عِشْرِينَ صَلَاةً فِي مُدَّةِ الْإِقَامَةِ، وَلَا يُحْتَسَبُ مِنَ الْأَيَّامِ يَوْمُ الدُّخُولِ إِنْ دَخَلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلَا يَوْمُ الْخُرُوجِ إِنْ خَرَجَ فِي أَثْنَائِهِ.

وَلَا بُدَّ مِنَ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ: الْأَرْبَعَةِ الْأَيَّامِ وَالْعِشْرِينَ صَلَاةً.

وَاعْتَبَرَ سَحْنُونٌ: الْعِشْرِينَ صَلَاةً فَقَطْ، ثُمَّ إِنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي ابْتِدَاءِ السَّيْرِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي أَثْنَائِهِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي ابْتِدَاءِ السَّيْرِ، وَكَانَتِ الْمَسَافَةُ بَيْنَ النِّيَّةِ وَبَيْنَ مَحَلِّ الْإِقَامَةِ مَسَافَةَ قَصْرٍ، قَصَرَ الصَّلَاةَ حَتَّى يَدْخُلَ مَحَلَّ الْإِقَامَةِ بِالْفِعْلِ، وَإِلاَّ أَتَمَّ مِنْ حِينِ النِّيَّةِ، أَمَّا إِنْ كَانَتِ النِّيَّةُ فِي أَثْنَاءِ السَّفَرِ فَإِنَّهُ يَقْصُرُ حَتَّى يَدْخُلَ مَحَلَّ الْإِقَامَةِ بِالْفِعْلِ، وَلَوْ كَانَتِ الْمَسَافَةُ بَيْنَهُمَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ نِيَّةُ الْعَسْكَرِ بِمَحَلِّ خَوْفٍ، فَإِنَّهَا لَا تَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ.

وَإِذَا أَقَامَ بِمَحَلٍّ فِي أَثْنَاءِ سَفَرِهِ دُونَ أَنْ يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ بِهِ، فَإِنَّ إِقَامَتَهُ بِهِ لَا تَمْنَعُ الْقَصْرَ وَلَوْ أَقَامَ مُدَّةً طَوِيلَةً إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ سَيُقِيمُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فِي مَكَانٍ عَادَةً، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ وَلَوْ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْإِقَامَةِ كَالنِّيَّةِ، بِخِلَافِ الشَّكِّ فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ.

وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ الْمُسْتَقِلُّ، وَلَوْ مُحَارِبًا إِقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ تَامَّةً بِلَيَالِيِهَا، أَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ وَأَطْلَقَ بِمَوْضِعِ عَيْنِهِ، انْقَطَعَ سَفَرُهُ بِوُصُولِهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ سَوَاءٌ أَكَانَ مَقْصِدَهُ أَمْ فِي طَرِيقِهِ، أَوْ نَوَى بِمَوْضِعٍ وَصَلَ إِلَيْهِ إِقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ انْقَطَعَ سَفَرُهُ بِالنِّيَّةِ مَعَ مُكْثِهِ.

وَلَوْ أَقَامَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ بِلَا نِيَّةٍ انْقَطَعَ سَفَرُهُ بِتَمَامِهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الْقَصْرَ بِشَرْطِ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ، وَالْمُقِيمُ وَالْعَازِمُ عَلَى الْإِقَامَةِ غَيْرُ ضَارِبٍ فِي الْأَرْضِ.وَالسُّنَّةُ بَيَّنَتْ أَنَّ مَا دُونَ الْأَرْبَعِ لَا يَقْطَعُ السَّفَرَ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا» وَكَانَ يَحْرُمُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ وَمُسَاكَنَةُ الْكُفَّارِ، فَالتَّرَخُّصُ فِي الثَّلَاثِ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ حُكْمِ السَّفَرِ، بِخِلَافِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَلْحَقَ بِإِقَامَةِ الْأَرْبَعَةِ: نِيَّةَ إِقَامَتِهَا.

وَلَا يُحْسَبُ مِنَ الْأَرْبَعَةِ يَوْمَا دُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ إِذَا دَخَلَ نَهَارًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَالثَّانِي يُحْسَبَانِ بِالتَّلْفِيقِ، فَلَوْ دَخَلَ زَوَالَ السَّبْتِ لِيَخْرُجَ زَوَالَ الْأَرْبِعَاءِ أَتَمَّ، وَقَبْلَهُ قَصَرَ، فَإِنْ دَخَلَ لَيْلًا لَمْ تُحْسَبْ بَقِيَّةُ اللَّيْلَةِ وَيُحْسَبُ الْغَدُ.

وَاخْتَارَ السُّبْكِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الرُّخْصَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِعَدَدِ الْأَيَّامِ بَلْ بِعَدَدِ الصَّلَوَاتِ، فَيَتَرَخَّصُ بِإِقَامَةِ مُدَّةٍ يُصَلِّي فِيهَا إِحْدَى وَعِشْرِينَ صَلَاةً مَكْتُوبَةً؛ لِأَنَّهُ الْمُحَقَّقُ مِنْ فِعْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ نَزَلَ بِالْأَبْطُحِ.

وَلَوْ أَقَامَ بِبَلَدٍ بِنِيَّةِ أَنْ يَرْحَلَ إِذَا حَصَلَتْ حَاجَةٌ يَتَوَقَّعُهَا كُلَّ وَقْتٍ، أَوْ حَبَسَهُ الرِّيحُ بِمَوْضِعٍ فِي الْبَحْرِ قَصَرَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا غَيْرَ يَوْمَيِ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَقَامَهَا بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ لِحَرْبِ هَوَازِنَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ.

وَقِيلَ: يَقْصُرُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ غَيْرَ يَوْمَيِ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ، وَفِي قَوْلٍ: يَقْصُرُ أَبَدًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ زَادَتْ حَاجَةُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى الثَّمَانِيَةِ عَشَرَ لَقَصَرَ فِي الزَّائِدِ.

وَلَوْ عَلِمَ الْمُسَافِرُ بَقَاءَ حَاجَتِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً فَلَا قَصْرَ لَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّهُ سَاكِنٌ مُطْمَئِنٌّ بَعِيدٌ عَنْ هَيْئَةِ الْمُسَافِرِينَ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَوْ نَوَى إِقَامَةَ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ صَلَاةً أَتَمَّ لِحَدِيثِ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَدِمَ مَكَّةَ صَبِيحَةَ رَابِعَةِ ذِي الْحِجَّةِ فَأَقَامَ بِهَا الرَّابِعَ وَالْخَامِسَ وَالسَّادِسَ وَالسَّابِعَ، وَصَلَّى الصُّبْحَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مِنًى، وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَقَدْ عَزَمَ عَلَى إِقَامَتِهَا».وَلَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ إِقَامَةً مُطْلَقَةً بِأَنْ لَمْ يَحُدَّهَا بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ فِي بَلْدَةٍ أَتَمَّ؛ لِزَوَالِ السَّفَرِ الْمُبِيحِ لِلْقَصْرِ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ، وَلَوْ شَكَّ فِي نِيَّتِهِ، هَلْ نَوَى إِقَامَةَ مَا يَمْنَعُ الْقَصْرَ أَوْ لَا؟ أَتَمَّ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ.

وَإِنْ أَقَامَ الْمُسَافِرُ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ يَرْجُو نَجَاحَهَا أَوْ جِهَادِ عَدُوٍّ بِلَا نِيَّةِ إِقَامَةٍ تَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ، وَلَا يَعْلَمُ قَضَاءَ الْحَاجَةِ قَبْلَ الْمُدَّةِ وَلَوْ ظَنًّا، أَوْ حُبِسَ ظُلْمًا، أَوْ حَبَسَهُ مَطَرٌ قَصَرَ أَبَدًا؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ».

فَإِنْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَنَّهَا لَا تَنْقَضِي فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، كَمَا لَوْ نَوَى إِقَامَةَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ.وَإِنْ نَوَى إِقَامَةً بِشَرْطٍ، كَأَنْ يَقُولَ: إِنْ لَقِيتُ فُلَانًا فِي هَذَا الْبَلَدِ أَقَمْتُ فِيهِ وَإِلاَّ فَلَا، فَإِنْ لَمْ يَلْقَهُ فِي الْبَلَدِ فَلَهُ حُكْمُ السَّفَرِ؛ لِعَدَمِ الشَّرْطِ الَّذِي عَلَّقَ الْإِقَامَةَ عَلَيْهِ؛ وَإِنْ لَقِيَهُ بِهِ صَارَ مُقِيمًا؛ لِاسْتِصْحَابِهِ حُكْمَ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فَسَخَ نِيَّتَهُ الْأُولَى لِلْإِقَامَةِ قَبْلَ لِقَائِهِ أَوْ حَالَ لِقَائِهِ، وَإِنْ فَسَخَ النِّيَّةَ بَعْدَ لِقَائِهِ فَهُوَ كَمُسَافِرٍ نَوَى الْإِقَامَةَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ فِي مَوْضِعِ إِقَامَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ ثَبَتَ لَهُ فِيهِ حُكْمُ الْإِقَامَةِ، فَأَشْبَهَ وَطَنَهُ.

الشَّرِيطَةُ الثَّانِيَةُ- اتِّحَادُ مَكَانِ الْمُدَّةِ الْمُشْتَرَطَةِ لِلْإِقَامَةِ:

28- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْمُدَّةَ الَّتِي يُقِيمُهَا الْمُسَافِرُ وَيَصِيرُ بِهَا مُقِيمًا، يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ تُقْضَى فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ أَوْ مَا يُشْبِهُ الْمَكَانَ الْوَاحِدَ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ قَرَارٌ وَالِانْتِقَالَ يُضَادُّهُ.

فَإِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ الْمُدَّةَ الْقَاطِعَةَ لِلسَّفَرِ فِي مَوْضِعَيْنِ، فَإِنْ كَانَا مِصْرًا وَاحِدًا أَوْ قَرْيَةً وَاحِدَةً صَارَ مُقِيمًا؛ لِأَنَّهُمَا مُتَّحِدَانِ حُكْمًا، وَإِنْ كَانَا مِصْرَيْنِ نَحْوَ مَكَّةَ وَمِنًى، أَوِ الْكُوفَةِ وَالْحِيرَةِ، أَوْ إِنْ كَانَا قَرْيَتَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا مِصْرًا وَالْآخَرُ قَرْيَةً فَلَا يَصِيرُ مُقِيمًا، وَلَا تَزُولُ حَالَةُ السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُمَا مَكَانَانِ مُتَبَايِنَانِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا.فَإِنْ نَوَى الْمُسَافِرُ أَنْ يُقِيمَ بِاللَّيَالِيِ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ وَيَخْرُجُ بِالنَّهَارِ إِلَى الْمَوْضِعِ الْآخَرِ، فَإِنْ دَخَلَ أَوَّلًا الْمَوْضِعَ الَّذِي نَوَى الْمَقَامَ فِيهِ بِاللَّيْلِ يَصِيرُ مُقِيمًا، ثُمَّ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَوْضِعِ الْآخَرِ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ إِقَامَةِ الرَّجُلِ حَيْثُ يَبِيتُ فِيهِ.

الشَّرِيطَةُ الثَّالِثَةُ- صَلَاحِيَةُ الْمَكَانِ لِلْإِقَامَةِ:

29- يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَكَانُ الَّذِي يُقِيمُ فِيهِ الْمُسَافِرُ صَالِحًا لِلْإِقَامَةِ، وَالْمَكَانُ الصَّالِحُ لِلْإِقَامَةِ: هُوَ مَوْضِعُ اللُّبْثِ وَالْقَرَارِ فِي الْعَادَةِ، نَحْوَ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى، وَأَمَّا الْمَفَازَةُ وَالْجَزِيرَةُ وَالسَّفِينَةُ فَلَيْسَتْ مَوْضِعَ الْإِقَامَةِ، حَتَّى لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَا يَصِيرُ مُقِيمًا، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَعْرَابِ وَالْأَكْرَادِ وَالتُّرْكُمَانِ إِذَا نَزَلُوا بِخِيَامِهِمْ فِي مَوْضِعٍ، وَنَوَوْا الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا صَارُوا مُقِيمِينَ، وَعَلَى هَذَا: إِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَصِيرُ مُقِيمًا كَمَا فِي الْقَرْيَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُمْ لَا يَصِيرُونَ بِذَلِكَ مُقِيمِينَ.وَالْحَاصِلُ أَنَّ هُنَاكَ قَوْلًا وَاحِدًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ: لَا يَصِيرُ مُقِيمًا فِي الْمَفَازَةِ وَلَوْ كَانَ ثَمَّةَ قَوْمٌ وَطَنُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ بِالْخِيَامِ وَالْفَسَاطِيطِ.وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ.وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْإِقَامَةِ مَوْضِعُ الْقَرَارِ، وَالْمَفَازَةُ لَيْسَتْ مَوْضِعَ الْقَرَارِ فِي الْأَصْلِ فَكَانَتِ النِّيَّةُ لَغْوًا.

وَلَوْ حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ مَدِينَةً مِنْ مَدَائِنِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَوَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى إِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَمْ تَصِحَّ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ وَيَقْصُرُونَ، وَكَذَا إِذَا نَزَلُوا الْمَدِينَةَ وَحَاصَرُوا أَهْلَهَا فِي الْحِصْنِ.وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ كَانُوا فِي الْأَخْبِيَةِ وَالْفَسَاطِيطِ خَارِجَ الْبَلْدَةِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانُوا فِي الْأَبْنِيَةِ صَحَّتْ نِيَّتُهُمْ.وَقَالَ زُفَرُ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا: إِنْ كَانَتِ الشَّوْكَةُ وَالْغَلَبَةُ لِلْمُسْلِمِينَ صَحَّتْ نِيَّتُهُمْ، وَإِنْ كَانَ لِلْعَدُوِّ لَمْ تَصِحَّ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَلَا يَشْتَرِطُونَ أَنْ يَكُونَ الْمَكَانُ صَالِحًا لِلْإِقَامَةِ، فَلَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ فِي مَكَانٍ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ صَالِحٍ لِلْإِقَامَةِ صَحَّتْ نِيَّتُهُ، وَامْتَنَعَ الْقَصْرُ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَوْلَانِ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمَكَانِ صَالِحًا لِلْإِقَامَةِ.

حُكْمُ التَّبَعِيَّةِ فِي الْإِقَامَةِ وَالْعِبْرَةُ لِنِيَّةِ الْمَتْبُوعِ فِيهَا:

30- يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: الْعِبْرَةُ بِنِيَّةِ الْأَصْلِ فِي الْإِقَامَةِ، وَيَصِيرُ التَّبَعُ مُقِيمًا بِإِقَامَةِ الْأَصْلِ كَالْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ وَالْجَيْشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَإِنَّمَا يَصِيرُ التَّبَعُ مُقِيمًا بِإِقَامَةِ الْأَصْلِ، وَتَنْقَلِبُ صَلَاتُهُ أَرْبَعًا إِذَا عَلِمَ التَّبَعُ بِنِيَّةِ إِقَامَةِ الْأَصْلِ.فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ فَلَا، حَتَّى إِذَا صَلَّى التَّبَعُ صَلَاةَ الْمُسَافِرِينَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِنِيَّةِ إِقَامَةِ الْأَصْلِ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ جَائِزَةٌ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَتُهَا.وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ حُكْمِ التَّبَعِيَّةِ فِي حَالَةِ السَّفَرِ، وَتَفْصِيلُ الْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ.

وَالْإِقَامَةُ كَالسَّفَرِ فِي التَّبَعِيَّةِ.

دُخُولُ الْوَطَنِ:

31- إِذَا دَخَلَ الْمُسَافِرُ وَطَنَهُ زَالَ حُكْمُ السَّفَرِ، وَتَغَيَّرَ فَرْضُهُ بِصَيْرُورَتِهِ مُقِيمًا، وَسَوَاءٌ دَخَلَ وَطَنَهُ لِلْإِقَامَةِ، أَوْ لِلِاجْتِيَازِ، أَوْ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ، أَوْ أَلْجَأَتْهُ الرِّيحُ إِلَى دُخُولِهِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَخْرُجُ مُسَافِرًا إِلَى الْغَزَوَاتِ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَا يُجَدِّدُ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّ وَطَنَهُ مُتَعَيِّنٌ لِلْإِقَامَةِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ.

وَدُخُولُ الْوَطَنِ الَّذِي يَنْتَهِي بِهِ حُكْمُ السَّفَرِ هُوَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ الْقَصْرَ، فَإِذَا قَرُبَ مِنْ بَلَدِهِ فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَهُوَ مُسَافِرٌ مَا لَمْ يَدْخُلْ، وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- حِينَ قَدِمَ الْكُوفَةَ مِنَ الْبَصْرَةِ صَلَّى صَلَاةَ السَّفَرِ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى أَبْيَاتِ الْكُوفَةِ.

وَرُوِيَ- أَيْضًا- أَنَّ ابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ لِمُسَافِرٍ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ مَا لَمْ تَدْخُلْ مَنْزِلَكَ.وَإِذَا دَخَلَ وَطَنَهُ فِي الْوَقْتِ وَجَبَ الْإِتْمَامُ.

الْعَزْمُ عَلَى الْعَوْدَةِ إِلَى الْوَطَنِ:

32- إِذَا عَزَمَ الْمُسَافِرُ عَلَى الْعَوْدَةِ إِلَى وَطَنِهِ قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مُقِيمًا مِنْ حِينِ عَزَمَ عَلَى الْعَوْدَةِ وَيُصَلِّي تَمَامًا؛ لِأَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْعَوْدَةِ إِلَى الْوَطَنِ قَصْدُ تَرْكِ السَّفَرِ بِمَنْزِلَةِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ، وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ مَعَ ذَلِكَ: أَنْ يَنْوِيَ وَهُوَ مُسْتَقِلٌّ مَاكِثٌ، أَمَّا لَوْ نَوَى وَهُوَ سَائِرٌ فَلَا يَقْصُرُ حَتَّى يَدْخُلَ وَطَنَهُ.

وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْمَكَانِ الَّذِي عَزَمَ فِيهِ عَلَى الْعَوْدَةِ وَبَيْنَ الْوَطَنِ مُدَّةُ سَفَرِ قَصْرٍ، فَلَا يَصِيرُ مُقِيمًا؛ لِأَنَّهُ بِالْعَزْمِ عَلَى الْعَوْدِ قَصَدَ تَرْكَ السَّفَرِ إِلَى جِهَةٍ، وَقَصْدُ السَّفَرِ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى، فَلَمْ يُكْمِلِ الْعَزْمَ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى السَّفَرِ لِوُقُوعِ التَّعَارُضِ، فَبَقِيَ مُسَافِرًا كَمَا كَانَ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ وَطَنَهُ.

جَمْعُ الصَّلَاةِ:

33- الْمُرَادُ بِالْجَمْعِ: هُوَ أَنْ يَجْمَعَ الْمُصَلِّي بَيْنَ فَرِيضَتَيْنِ فِي وَقْتِ إِحْدَاهُمَا، جَمْعُ تَقْدِيمٍ أَوْ جَمْعُ تَأْخِيرٍ.وَالصَّلَاةُ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الْجَمْعُ هِيَ: الظُّهْرُ مَعَ الْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبُ مَعَ الْعِشَاءِ.

وَالْجَمْعُ بَيْنَ فَرِيضَتَيْنِ جَائِزٌ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ.إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مُسَوِّغَاتِ الْجَمْعِ: فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِعَرَفَةَ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ، فَمُسَوِّغُ الْجَمْعِ عِنْدَهُمْ هُوَ الْحَجُّ فَقَطْ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمُ الْجَمْعُ لِأَيِّ عُذْرٍ آخَرَ، كَالسَّفَرِ وَالْمَطَرِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِلْجَمْعِ سِتَّةُ أَسْبَابٍ: السَّفَرُ، وَالْمَطَرُ، وَالْوَحْلُ مَعَ الظُّلْمَةِ، وَالْمَرَضُ، وَبِعَرَفَةَ، وَمُزْدَلِفَةَ.

وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ: عَدَمَ إِدْرَاكِ الْعَدُوِّ.

وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ كَذَلِكَ: الرِّيحَ الشَّدِيدَةَ.

عَلَى أَنَّ هُنَاكَ بَعْدَ ذَلِكَ شَرَائِطَ بِالنِّسْبَةِ لِهَذِهِ الْمُسَوِّغَاتِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ مَعَ تَفْصِيلٍ كَثِيرٍ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَنِ اشْتَرَطَ فِي السَّفَرِ ضَرْبًا مُعَيَّنًا، كَقَوْلِ مَالِكٍ: لَا يَجْمَعُ الْمُسَافِرُ إِلاَّ أَنْ يَجِدَّ بِهِ السَّيْرُ، وَمِنْهُمْ مَنَ اشْتَرَطَ سَفَرَ الْقُرْبَةِ كَالْحَجِّ وَالْغَزْوِ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ الْجَمْعَ بِسَبَبِ الْمَطَرِ نَهَارًا وَأَجَازَهُ لَيْلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ بِسَبَبِ الْمَطَرِ لَيْلًا وَنَهَارًا.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (جَمْعُ الصَّلَوَاتِ).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


294-موسوعة الفقه الكويتية (الصلوات الخمس المفروضة)

الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الْمَفْرُوضَةُ

التَّعْرِيفُ:

1- الصَّلَوَاتُ مُفْرَدُهَا صَلَاةٌ، وَلِتَعْرِيفِهَا: يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (صَلَاةٌ).

وَالْمُرَادُ بِالْمَفْرُوضَةِ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الَّتِي تُؤَدَّى كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَهِيَ: الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَالْفَجْرُ ثَبَتَتْ فَرْضِيَّتُهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، يَكْفُرُ جَاحِدُهَا.

وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ: هِيَ آكَدُ الْفُرُوضِ وَأَفْضَلُهَا بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ، وَهِيَ الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْخَمْسِ. (ر: صَلَاةٌ).

وَقَدْ ثَبَتَ عَدَدُ رَكَعَاتِ كُلِّ صَلَاةٍ مِنْ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَوْلًا وَفِعْلًا وَبِالْإِجْمَاعِ.قَالَ الْكَاسَانِيُّ: عَرَفْنَا ذَلِكَ بِفِعْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَقَوْلُهُ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»،، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَدَدُ رَكَعَاتِ الصَّلَوَاتِ فَكَانَتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مُجْمَلَةً فِي الْمِقْدَارِ، ثُمَّ زَالَ الْإِجْمَالُ بِبَيَانِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَوْلًا وَفِعْلًا.

وَأَدَاؤُهَا بِالْجَمَاعَةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا بِوُجُوبِهَا. (ر: صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ).

وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ حَسْب التَّرْتِيبِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، حَيْثُ بَدَءُوا بِصَلَاةِ الصُّبْحِ.

أَوَّلًا- صَلَاةُ الظُّهْرِ:

2- الظُّهْرُ: سَاعَةُ الزَّوَالِ وَوَقْتُهُ، وَلِهَذَا يَجُوزُ فِيهِ التَّأْنِيثُ وَالتَّذْكِيرُ، فَيُقَالُ: حَانَ الظُّهْرُ أَيْ وَقْتُ الزَّوَالِ، وَحَانَتِ الظُّهْرُ أَيْ سَاعَتُهُ.

وَالْمُرَادُ بِالزَّوَالِ: مَيْلُ الشَّمْسِ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ إِلَى الْمَغْرِبِ

فَصَلَاةُ الظُّهْرِ هِيَ الَّتِي تَجِبُ بِدُخُولِ وَقْتِ الظُّهْرِ، وَتُفْعَلُ فِي وَقْتِ الظَّهِيرَةِ.وَتُسَمَّى صَلَاةُ الظُّهْرِ- أَيْضًا- بِالْأُولَى؛ لِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاةٍ صَلاَّهَا جِبْرِيلُ- عليه السلام- بِالنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَمَّنِي جِبْرِيلُ- عليه السلام- عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ، فَصَلَّى الظُّهْرَ فِي الْأُولَى مِنْهُمَا حِينَ كَانَ الْفَيْءُ مِثْلَ الشِّرَاكِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ مِثْلَ ظِلِّهِ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ حِينَ وَجَبَتِ الشَّمْسُ وَأَفْطَرَ الصَّائِمُ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ بَرَقَ الْفَجْرُ وَحَرُمَ الطَّعَامُ عَلَى الصَّائِمِ، وَصَلَّى الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ لِوَقْتِهِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، ثُمَّ صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ أَسْفَرَتِ الْأَرْضُ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، هَذَا وَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ، وَالْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ».

وَهِيَ أَوَّلُ صَلَاةٍ ظَهَرَتْ فِي الْإِسْلَامِ.

كَمَا تُسَمَّى بِالْهَجِيرَةِ قَالَ أَبُو بَرْزَةَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي الْهَجِيرَةَ الَّتِي يَدْعُونَهَا الْأُولَى حِينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ، أَوْ تَزُولُ».

أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ وَآخِرُهُ:

3- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ صَلَاةِ الظُّهْرِ هُوَ زَوَالُ الشَّمْسِ، أَيْ مَيْلُهَا عَنْ وَسَطِ السَّمَاءِ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لَنَا؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي الْوَاقِعِ كَذَلِكَ.

وَأَمَّا آخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ آخِرَهُ هُوَ بُلُوغُ الظِّلِّ مِثْلَهُ غَيْرَ فَيْءِ الزَّوَالِ.

وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ إِذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ سِوَى فَيْءِ الزَّوَالِ.وَلِمَعْرِفَةِ الزَّوَالِ وَتَفْصِيلِ الْخِلَافِ فِي آخِرِ الظُّهْرِ، وَأَدِلَّةِ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ ف 8).

الْإِبْرَادُ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ:

4- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى: أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْحَرُّ شَدِيدًا يُسَنُّ تَأْخِيرُ صَلَاةِ الظُّهْرِ إِلَى الْإِبْرَادِ.قَالَ النَّوَوِيُّ: حَقِيقَةُ الْإِبْرَادِ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا بِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ لِلْحِيطَانِ فَيْءٌ يَمْشِي فِيهِ طَالِبُ الْجَمَاعَةِ، وَلَا يُؤَخَّرُ عَنْ نِصْفِ الْقَامَةِ.

وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيُسْتَحَبُّ عِنْدَهُمْ تَأْخِيرُ الظُّهْرِ فِي الصَّيْفِ مُطْلَقًا أَيْ بِلَا اشْتِرَاطِ شِدَّةِ الْحَرِّ وَحَرَارَةِ الْبَلَدِ.

وَلِتَفْصِيلِ الْمَوْضُوعِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ ف 16).

قَصْرُ الظُّهْرِ وَجَمْعُهَا مَعَ الْعَصْرِ:

5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ قَصْرِ صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي السَّفَرِ (ر: صَلَاةُ الْمُسَافِرِ).

كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَ صَلَاتَيِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي عَرَفَةَ جَمْعَ تَقْدِيمٍ، بِأَنْ يُصَلِّيَهُمَا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ.وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا يَوْمَ عَرَفَةَ:

فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِعُذْرِ السَّفَرِ جَمْعَ تَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ، بِأَنْ تُصَلَّى الْعَصْرُ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ أَوْ بِالْعَكْسِ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ.

وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (جَمْعُ الصَّلَوَاتِ).

مَا يُسْتَحَبُّ قِرَاءَتُهُ فِي الظُّهْرِ:

6- يُسْتَحَبُّ فِي الظُّهْرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: أَنْ يَقْرَأَ الْإِمَامُ أَوِ الْمُنْفَرِدُ إِذَا كَانَ مُقِيمًا طِوَالَ الْمُفَصَّلِ كَصَلَاةِ الْفَجْرِ وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الظُّهْرَ كَالْعَصْرِ، فَيُسَنُّ فِيهِ أَوْسَاطُ الْمُفَصَّلِ.وَوَرَدَ فِي عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الظُّهْرَ كَالصُّبْحِ فِي الْقِرَاءَةِ مِنَ الطِّوَالِ أَوْ دُونَ ذَلِكَ قَلِيلًا.

وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّهُ يُسِرُّ بِالْقِرَاءَةِ فِي جَمِيعِ رَكَعَاتِ الظُّهْرِ، سَوَاءٌ أَصَلاَّهَا جَمَاعَةً أَمِ انْفِرَادًا، وَتَفْصِيلُ الْمَسْأَلَةِ فِي مُصْطَلَحِ: (إِسْرَار، صَلَاة، قِرَاءَة).

ثَانِيًا- صَلَاةُ الْعَصْرِ:

7- الْعَصْرُ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ مِنْهَا: الْعَشِيُّ إِلَى احْمِرَارِ الشَّمْسِ، وَهُوَ آخِرُ سَاعَاتِ النَّهَارِ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الصَّلَاةِ الَّتِي تُؤَدَّى فِي آخِرِ النَّهَارِ، قَالَ الْفَيُّومِيُّ: الْعَصْرُ اسْمُ الصَّلَاةِ «مُؤَنَّثَةٌ» مَعَ الصَّلَاةِ، وَبِدُونِهَا تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ.

وَيُقَالُ: أُذِّنَ لِلْعَصْرِ.أَيْ لِصَلَاةِ الْعَصْرِ.وَتُسَمَّى صَلَاةُ الْعَصْرِ بِ (الْعَشِيِّ) لِأَنَّهَا تُصَلَّى عَشِيَّةً.

أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ وَآخِرُهُ:

8- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ) إِلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْعَصْرِ إِذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ غَيْرَ فَيْءِ الزَّوَالِ، وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا.وَيَسْتَدِلُّونَ «بِحَدِيثِ إِمَامَةِ جِبْرِيلَ- عليه الصلاة والسلام- وَفِيهِ: ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ حِينَ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ مِثْلَ ظِلِّهِ».

وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْعَصْرِ إِذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ غَيْرَ فَيْءِ الزَّوَالِ (ر: أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ).

9- وَهَلْ يُوجَدُ وَقْتٌ مُهْمَلٌ بَيْنَ آخِرِ الظُّهْرِ وَأَوَّلِ الْعَصْرِ؟ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنِ الْفُقَهَاءِ:

فَيَشْتَرِطُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِدُخُولِ أَوَّلِ الْعَصْرِ أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، وَزَادَ أَدْنَى زِيَادَةً.قَالَ الْخِرَقِيُّ: وَإِذَا زَادَ شَيْئًا وَجَبَتِ الْعَصْرُ وَمِثْلُهُ مَا نَقَلَهُ الشِّرْبِينِيُّ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَجُمْلَتُهُ: أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ مِنْ حِينِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمِثْلِ أَدْنَى زِيَادَةً مُتَّصِلٌ بِوَقْتِ الظُّهْرِ لَا نُصَلِّي بَيْنَهُمَا.كَمَا حَرَّرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي.

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ- أَيْضًا- قَوْلُهُ: إِذَا بَلَغَ الظِّلُّ طُولَهُ سِوَى فَيْءِ الزَّوَالِ خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ، وَلَا يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ إِلَى الطُّولَيْنِ.

وَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَقْتٌ مُهْمَلٌ، كَمَا بَيْنَ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ،

وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ حُدُوثُ زِيَادَةٍ فَاصِلَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَقْتِ الظُّهْرِ، كَمَا قَالَ الشِّرْبِينِيُّ وَمِثْلُهُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ الْحَنَابِلَةِ عَدَا الْخِرَقِيَّ.قَالَ الْبُهُوتِيُّ: مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَهُمَا، وَلَا اشْتِرَاكٍ.

وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ أَوَّلَ الْعَصْرِ وَآخِرَ الظُّهْرِ يَشْتَرِكَانِ بِقَدْرِ إِحْدَاهُمَا، أَيْ: بِقَدْرِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فِي الْحَضَرِ، وَرَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ، فَآخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ: أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ بَعْدَ طَرْحِ ظِلِّ الزَّوَالِ، وَهُوَ بِعَيْنِهِ أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ فَيَكُونُ وَقْتًا لَهُمَا مُمْتَزِجًا بَيْنَهُمَا.

وَيُؤَيِّدُهُ ظَاهِرُ «حَدِيثِ إِمَامَةِ جِبْرِيلَ حَيْثُ جَاءَ فِيهِ: صَلَّى الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ الظُّهْرَ حِينَ كَانَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالْأَمْسِ».

10- أَمَّا آخِرُ وَقْتِ الْعَصْرِ فَهُوَ مَا لَمْ تَغْرُبِ الشَّمْسُ.أَيْ قُبَيْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ.

(ر: أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ).

مَا يُسْتَحَبُّ قِرَاءَتُهُ فِي الْعَصْرِ:

11- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَقْرَأُ فِيهَا بِالْقِصَارِ مِنَ السُّوَرِ مِثْلَ: {وَالضُّحَى} وَ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ}، وَنَحْوِهِمَا.وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ فِي الْعَصْرِ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الظُّهْرِ.

وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَارَ فِي الْقِرَاءَةِ سُنَّةٌ فِي الْعَصْرِ وَالظُّهْرِ، بَيْنَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: بِأَنَّهُ وَاجِبٌ.وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (إِسْرَار، وَقِرَاءَة).

التَّنَفُّلُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ:

12- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّنَفُّلِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ».

وَتَشْمَلُ ذَلِكَ مَا لَوْ صُلِّيَتِ الْعَصْرُ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ جَمْعَ تَقْدِيمٍ كَذَلِكَ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ لِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (صَلَاةُ التَّطَوُّعِ).

ثَالِثًا- صَلَاةُ الْمَغْرِبِ:

13- الْمَغْرِبُ فِي الْأَصْلِ: مِنْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ إِذَا غَابَتْ وَتَوَارَتْ.وَيُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى وَقْتِ الْغُرُوبِ وَمَكَانِهِ، وَعَلَى الصَّلَاةِ الَّتِي تُؤَدَّى فِي هَذَا الْوَقْتِ.

أَوَّلُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ وَآخِرُهُ:

14- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ يَدْخُلُ إِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ وَتَكَامَلَ غُرُوبُهَا.وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الصَّحَارِي.وَيُعْرَفُ فِي الْعُمْرَانِ بِزَوَالِ الشُّعَاعِ مِنْ رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَإِقْبَالُ الظَّلَامِ مِنَ الْمَشْرِقِ وَآخِرُ وَقْتِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَا لَمْ يَغِبِ الشَّفَقُ.

وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ- وَهُوَ الْجَدِيدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- أَنَّ لِلْمَغْرِبِ وَقْتًا وَاحِدًا وَهُوَ بِقَدْرِ مَا يَتَطَهَّرُ الْمُصَلِّي وَيَسْتُرُ عَوْرَتَهُ وَيُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ لِلصَّلَاةِ.لِلتَّفْصِيلِ (ر: أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ).

تَسْمِيَةُ الْمَغْرِبِ بِالْعِشَاءِ:

15- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ تَسْمِيَةِ الْمَغْرِبِ عِشَاءً لِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تَغْلِبَنَّكُمُ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمُ الْمَغْرِبِ.قَالَ: وَتَقُولُ الْأَعْرَابُ هِيَ الْعِشَاءُ» وَلَا يُكْرَهُ تَسْمِيَتُهَا بِالْعِشَاءِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَلَكِنْ تَسْمِيَتُهَا بِالْمَغْرِبِ أَوْلَى.

رَابِعًا- صَلَاةُ الْعِشَاءِ:

16- الْعِشَاءُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَالْمَدِّ: اسْمٌ لِأَوَّلِ الظَّلَامِ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْعَتَمَةِ، وَسُمِّيَتِ الصَّلَاةُ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُفْعَلُ فِي هَذَا الْوَقْتِ.

وَالْعَشَاءُ بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ: طَعَامُ هَذَا الْوَقْتِ وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَهَا: الْعِشَاءُ الْآخِرَةُ، وَالْعِشَاءُ- فَقَطْ- مِنْ غَيْرِ وَصْفٍ بِالْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ}.وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا فَلَا تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ».

تَسْمِيَةُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ بِالْعَتَمَةِ:

17- أَجَازَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ تَسْمِيَةَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ بِالْعَتَمَةِ لِوُرُودِهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا» وَمِنْهَا قَوْلُ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «كَانُوا يُصَلُّونَ الْعَتَمَةَ فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ» وَالْعَتَمَةُ هِيَ شِدَّةُ الظُّلْمَةِ كَمَا يَقُولُ الْبُهُوتِيُّ.

18- وَكَرِهَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ تَسْمِيَتَهَا بِالْعَتَمَةِ لِمَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تَغْلِبَنَّكُمُ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ، أَلَا إِنَّهَا الْعِشَاءُ وَهُمْ يُعْتِمُونَ بِالْإِبِلِ» مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يُسَمُّونَهَا الْعَتَمَةَ لِكَوْنِهِمْ يُعْتِمُونَ بِحِلَابِ الْإِبِلِ أَيْ يُؤَخِّرُونَهُ إِلَى شِدَّةِ الظَّلاَّمِ وَصَرَّحَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ وَرَدَ فِي نَادِرِ الْأَحْوَالِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ، أَوْ أَنَّهُ خُوطِبَ بِهِ مَنْ قَدْ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ الْعِشَاءُ بِالْمَغْرِبِ، فَلَوْ قِيلَ: الْعِشَاءُ لَتَوَهَّمَ إِرَادَةَ الْمَغْرِبِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَهُمْ بِالْعِشَاءِ، وَأَمَّا الْعَتَمَةُ فَصَرِيحَةٌ فِي الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ.

وَلِلْمَالِكِيَّةِ فِي تَسْمِيَتِهَا قَوْلَانِ آخَرَانِ: أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَثَانِيهِمَا: الْحُرْمَةُ

أَوَّلُ وَقْتِ الْعِشَاءِ وَآخِرُهُ:

19- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ يَدْخُلُ مِنْ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الشَّفَقِ.فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ: الْحُمْرَةُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ يَقُولَانِ: هُوَ الْبَيَاضُ بَعْدَ الْحُمْرَةِ.

وَآخِرُ وَقْتِ الْعِشَاءِ إِلَى الْفَجْرِ الصَّادِقِ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «آخِرُ وَقْتِ الْعِشَاءِ مَا لَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرُ».

هَذَا، وَقَدْ قَسَّمَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْوَقْتَ إِلَى اخْتِيَارِيٍّ، وَضَرُورِيٍّ، وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ).

صَلَاةُ فَاقِدِ الْعِشَاءِ:

20- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ هُوَ الْوَقْتُ، وَذَكَرُوا حُكْمَ مَنْ لَا يَأْتِيَ عَلَيْهِمُ الْعِشَاءُ فِي بَعْضِ أَيَّامِ السَّنَةِ أَوْ كُلِّهَا، هَلْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ صَلَاةُ الْعِشَاءِ أَمْ لَا؟ وَإِذَا وَجَبَتْ فَكَيْفَ يُؤَدُّونَهَا؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِمْ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَيُقَدِّرُونَ وَقْتَهَا قَدْرَ مَا يَغِيبُ الشَّفَقُ بِأَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِمْ.وَفِي رَأْيٍ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ مَنْ لَا يَأْتِي عَلَيْهِ الْعِشَاءُ لَا يُكَلَّفُ بِصَلَاتِهَا لِعَدَمِ سَبَبِ وُجُوبِهَا.وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحَ: (أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ).

تَأْخِيرُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ:

21- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- إِلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الْعِشَاءِ مُسْتَحَبٌّ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: قَدْ وَرَدَ فِي تَأْخِيرِ الْعِشَاءِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ صِحَاحٌ.وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى اسْتِحْبَابِ تَأْخِيرِ الْعِشَاءِ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ أَنْ يُؤَخِّرُوا الْعِشَاءَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِهِ».

وَقَيَّدَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ اسْتِحْبَابَ تَأْخِيرِ الْعِشَاءِ بِالشِّتَاءِ، أَمَّا الصَّيْفُ فَيُنْدَبُ تَعْجِيلُهَا عِنْدَهُمْ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ لِلْفَذِّ وَالْجَمَاعَةِ الَّتِي لَا تُنْتَظَرُ غَيْرُهَا تَقْدِيمُ الصَّلَوَاتِ، وَلَوْ عِشَاءً فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ بَعْدَ تَحَقُّقِ دُخُولِهِ وَلَا يَنْبَغِي تَأْخِيرُ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ إِلاَّ لِمَنْ يُرِيدُ تَأْخِيرَهَا لِشُغْلٍ مُهِمٍّ، كَعَمَلِهِ فِي حِرْفَتِهِ، أَوْ لِأَجْلِ عُذْرٍ، كَمَرَضٍ وَنَحْوِهِ.لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخِّرَهَا أَهْلُ الْمَسَاجِدِ قَلِيلًا لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ وَأَفْضَلِيَّةُ تَقْدِيمِ الصَّلَوَاتِ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا وَلَوْ عِشَاءً هُوَ- أَيْضًا- قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ.قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْأَصَحُّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّ تَقْدِيمَهَا أَفْضَلُ، ثُمَّ قَالَ: وَتَفْضِيلُ التَّأْخِيرِ أَقْوَى دَلِيلًا.

كَرَاهَةُ النَّوْمِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَالْحَدِيثِ بَعْدَهَا:

22- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ النَّوْمُ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَالْحَدِيثُ بَعْدَهَا لِمَا رَوَاهُ أَبُو بَرْزَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا» قَالَ النَّفْرَاوِيُّ: الْحَدِيثُ بَعْدَهَا أَشَدُّ كَرَاهَةً مِنَ النَّوْمِ قَبْلَهَا.

وَالدَّلِيلُ عَلَى كَرَاهَةِ النَّوْمِ قَبْلَهَا: هُوَ خَشْيَةُ فَوْتِ وَقْتِهَا، أَوْ فَوْتِ الْجَمَاعَةِ فِيهَا.

لَكِنِ الْحَنَفِيَّةُ قَالُوا: إِذَا وَكَّلَ لِنَفْسِهِ مَنْ يُوقِظُهُ فِي وَقْتِهَا فَمُبَاحٌ لَهُ النَّوْمُ، كَمَا نَقَلَهُ الزَّيْلَعِيُّ عَنِ الطَّحَاوِيِّ.

وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ النَّوْمَ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَلَوْ وَكَّلَ مَنْ يُوقِظُهُ؛ لِاحْتِمَالِ نَوْمِ الْوَكِيلِ أَوْ نِسْيَانِهِ فَيَفُوتُ وَقْتُ الِاخْتِيَارِ.أَمَّا كَرَاهَةُ الْحَدِيثِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ:

فَلِأَنَّهُ رُبَّمَا يُؤَدِّي إِلَى سَهَرٍ يَفُوتُ بِهِ الصُّبْحُ، أَوْ لِئَلاَّ يَقَعَ فِي كَلَامِهِ لَغْوٌ، فَلَا يَنْبَغِي خَتْمُ الْيَقَظَةِ بِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ يَفُوتُ بِهِ قِيَامُ اللَّيْلِ لِمَنْ لَهُ بِهِ عَادَةٌ؛ وَلِتَقَعَ الصَّلَاةُ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ خَاتِمَةُ عَمَلِهِ وَالنَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ، وَرُبَّمَا مَاتَ فِي نَوْمِهِ.

وَهَذَا إِذَا كَانَ الْحَدِيثُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، أَمَّا إِذَا كَانَ لِحَاجَةٍ مُهِمَّةٍ فَلَا بَأْسَ.وَكَذَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَحَدِيثِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- وَمُذَاكَرَةُ الْفِقْهِ وَحِكَايَاتِ الصَّالِحِينَ، وَالْحَدِيثُ مَعَ الضَّيْفِ، أَوِ الْقَادِمِ مِنَ السَّفَرِ وَنَحْوِهَا فَلَا كَرَاهَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ خَيْرٌ نَاجِزٌ فَلَا يُتْرَكُ لِمَفْسَدَةٍ مُتَوَهَّمَةٍ، كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ وَعَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْمُرُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَا مَعَهُمَا».

خَامِسًا- صَلَاةُ الْفَجْرِ:

23- الْفَجْرُ فِي الْأَصْلِ هُوَ الشَّفَقُ، وَالْمُرَادُ بِهِ ضَوْءُ الصَّبَاحِ، سُمِّيَ بِهِ لِانْفِجَارِ الظُّلْمَةِ بِهِ بِسَبَبِ حُمْرَةِ الشَّمْسِ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ.وَالْفَجْرُ فِي آخِرِ اللَّيْلِ كَالشَّفَقِ فِي أَوَّلِهِ.

وَالْفَجْرُ اثْنَانِ:

1- الْفَجْرُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْفَجْرُ الْكَاذِبُ، وَهُوَ الْبَيَاضُ الْمُسْتَطِيلُ يَبْدُو فِي نَاحِيَةٍ مِنَ السَّمَاءِ وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْعَرَبِ بِذَنَبِ السِّرْحَانِ (الذِّئْبِ)، ثُمَّ يَنْكَتِمُ.وَلِهَذَا يُسَمَّى فَجْرًا كَاذِبًا، لِأَنَّهُ يَبْدُو نُورُهُ، ثُمَّ يَعْقُبُهُ الظَّلَامُ 2- الْفَجْرُ الثَّانِي أَوِ الْفَجْرُ الصَّادِقُ: وَهُوَ الْبَيَاضُ الْمُسْتَطِيرُ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأُفُقِ، لَا يَزَالُ يَزْدَادُ نُورُهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَيُسَمَّى هَذَا فَجْرًا صَادِقًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا بَدَا نُورُهُ يَنْتَشِرُ فِي الْأُفُقِ وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يَمْنَعَنَّكُمْ مِنْ سَحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَا الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ، وَلَكِنِ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ فِي الْأُفُقِ».

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْأَحْكَامُ كُلُّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفَجْرِ الثَّانِي، فَبِهِ يَدْخُلُ وَقْتُ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَيَخْرُجُ وَقْتُ الْعِشَاءِ، وَيُحَرَّمُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ، وَبِهِ يَنْقَضِي اللَّيْلُ وَيَدْخُلُ النَّهَارُ.

وَيُطْلَقُ الْفَجْرُ عَلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّهَا تُؤَدَّى فِي هَذَا الْوَقْتِ وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} كَمَا وَرَدَتْ تَسْمِيَتُهَا بِالصُّبْحِ وَالْفَجْرِ فِي الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ، كَقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ».

تَسْمِيَةُ صَلَاةِ الْفَجْرِ بِالْغَدَاةِ:

24- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا تُكْرَهُ تَسْمِيَةُ صَلَاةِ الْفَجْرِ بِالْغَدَاةِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَقِّقُو الشَّافِعِيَّةِ.

وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلَهُ فِي الْأُمِّ: أُحِبُّ أَنْ لَا تُسَمَّى إِلاَّ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ (أَيِ الْفَجْرِ وَالصُّبْحِ)، وَلَا أُحِبُّ أَنْ تُسَمَّى الْغَدَاةَ.قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ، فَإِنَّ الْمَكْرُوهَ مَا ثَبَتَ فِيهِ نَهْيٌ غَيْرُ جَازِمٍ، وَلَمْ يَرِدْ بَلِ اشْتُهِرَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْغَدَاةِ فِيهَا فِي الْحَدِيثِ وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- لَكِنِ الْأَفْضَلُ الْفَجْرُ وَالصُّبْحُ.

وَذُكِرَ فِي بَعْضِ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ كَالْمُهَذَّبِ وَغَيْرِهِ كَرَاهَةُ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ.

تَسْمِيَتُهَا بِالصَّلَاةِ الْوُسْطَى:

25- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ الْوُسْطَى فِي قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} صَلَاةُ الْعَصْرِ كَمَا وَرَدَتْ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ.

وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ- وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ- أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى هِيَ الْفَجْرُ، حَتَّى إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُسَمُّونَهَا الْوُسْطَى، قَالَ النَّفْرَاوِيُّ: لَهَا أَرْبَعَةُ أَسْمَاءٍ: الصُّبْحُ، وَالْفَجْرُ، وَالْوُسْطَى، وَالْغَدَاةُ.وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (الصَّلَاةُ الْوُسْطَى).

أَوَّلُ وَقْتِ الْفَجْرِ وَآخِرُهُ:

26- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ صَلَاةِ الْفَجْرِ هُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ الثَّانِي أَيِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ، وَآخِرُ وَقْتِهَا إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ لِقَوْلِهِ: «إِنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَإِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْفَجْرِ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ، وَإِنَّ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ».

وَقَدْ قَسَّمَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَقْتَ الْفَجْرِ إِلَى: وَقْتِ اخْتِيَارٍ، وَضَرُورَةٍ، وَغَيْرِهِمَا يُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ).

الْقِرَاءَةُ فِي الْفَجْرِ:

27- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ تَطْوِيلُ قِرَاءَتِهَا، بِأَنْ يَقْرَأَ فِيهَا طِوَالَ الْمُفَصَّلِ قَالَ أَبُو بَرْزَةَ- رضي الله عنه-: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ آيَةً» قَالَ الشِّرْبِينِيُّ: وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ وَقْتَ الصُّبْحِ طَوِيلٌ وَالصَّلَاةُ رَكْعَتَانِ فَحَسُنَ تَطْوِيلُهُمَا.

وَهَذَا فِي الْحَضَرِ.أَمَّا فِي السَّفَرِ فَيَقْرَأُ مَعَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَيَّ سُورَةٍ شَاءَ، وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَرَأَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي سَفَرِهِ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ».

وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (قِرَاءَة).

مَنْعُ النَّافِلَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَقَبْلَهَا:

28- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَمِ جَوَازِ صَلَاةِ النَّافِلَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ إِلَى أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، كَمَا أَنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ لَا يُجِيزُونَ التَّنَفُّلَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ- أَيْضًا- إِلاَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ فَلَا صَلَاةَ إِلاَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ».

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (تَطَوُّع، وَأَوْقَاتُ الصَّلَاةِ).

التَّغْلِيسُ أَوِ الْإِسْفَارُ بِالْفَجْرِ:

29- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ التَّغْلِيسَ: أَيْ أَدَاءُ صَلَاةِ الْفَجْرِ بِغَلَسٍ أَفْضَلُ مِنَ الْإِسْفَارِ بِهَا؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا».

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: نُدِبَ تَأْخِيرُ الْفَجْرِ إِلَى الْإِسْفَارِ لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ» قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: وَلَا يُؤَخِّرُهَا بِحَيْثُ يَقَعُ الشَّكُّ فِي طُلُوعِ الشَّمْسِ، بَلْ يُسْفِرُ بِهَا بِحَيْثُ لَوْ ظَهَرَ فَسَادُ صَلَاتِهِ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعِيدَهَا فِي الْوَقْتِ بِقِرَاءَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ.وَيُسْتَثْنَى مِنَ الْإِسْفَارِ صَلَاةُ الْفَجْرِ بِمُزْدَلِفَةَ يَوْمَ النَّحْرِ، حَيْثُ يُسْتَحَبُّ فِيهَا التَّغْلِيسُ عِنْدَ الْجَمِيعِ.

وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ ف 15).

الْقُنُوتُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ:

30- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقُنُوتِ فِي الصُّبْحِ.قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَنُدِبَ قُنُوتٌ سِرًّا بِصُبْحٍ فَقَطْ دُونَ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ قَبْلَ الرُّكُوعِ، عَقِبَ الْقِرَاءَةِ بِلَا تَكْبِيرٍ قَبْلَهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ الْقُنُوتُ فِي اعْتِدَالِ ثَانِيَةِ الصُّبْحِ، يَعْنِي بَعْدَ مَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَمْ يُقَيِّدُوهُ بِالنَّازِلَةِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: لَا قُنُوتَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ إِلاَّ فِي النَّوَازِلِ وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنهما-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ ثُمَّ تَرَكَهُ»،، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-: - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ لَا يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ إِلاَّ أَنْ يَدْعُو لِقَوْمٍ أَوْ عَلَى قَوْمٍ» وَمَعْنَاهُ أَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الْقُنُوتِ فِي الْفَجْرِ مَنْسُوخَةٌ فِي غَيْرِ النَّازِلَةِ.هَذَا وَفِي أَلْفَاظِ الْقُنُوتِ وَكَيْفِيَّتِهِ خِلَافٌ

وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قُنُوت).

- رحمه الله-

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


295-موسوعة الفقه الكويتية (ضمان 1)

ضَمَانٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- يُطْلَقُ الضَّمَانُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ:

أ- مِنْهَا الِالْتِزَامُ، تَقُولُ: ضَمِنْتُ الْمَالَ، إِذَا الْتَزَمْتَهُ، وَيَتَعَدَّى بِالتَّضْعِيفِ، فَتَقُولُ: ضَمَّنْتُهُ الْمَالَ، إِذَا أَلْزَمْتَهُ إِيَّاهُ.

ب- وَمِنْهَا: الْكَفَالَةُ، تَقُولُ: ضَمَّنْتُهُ الشَّيْءَ ضَمَانًا، فَهُوَ ضَامِنٌ وَضَمِينٌ، إِذَا كَفَلَهُ.

ج- وَمِنْهَا التَّغْرِيمُ، تَقُولُ: ضَمَّنْتُهُ الشَّيْءَ تَضْمِينًا، إِذَا غَرَّمْتَهُ، فَالْتَزَمَهُ

أَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ فَيُطْلَقُ عَلَى الْمَعَانِي التَّالِيَةِ:

أ- يُطْلَقُ عَلَى كَفَالَةِ النَّفْسِ وَكَفَالَةِ الْمَالِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنْ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَنْوَنُوا لِلْكَفَالَةِ بِالضَّمَانِ.

ب- وَيُطْلَقُ عَلَى غَرَامَةِ الْمُتْلَفَاتِ وَالْغُصُوبِ وَالتَّعْيِيبَاتِ وَالتَّغْيِيرَاتِ الطَّارِئَةِ.

ج- كَمَا يُطْلَقُ عَلَى ضَمَانِ الْمَالِ، وَالْتِزَامِهِ بِعَقْدٍ وَبِغَيْرِ عَقْدٍ.

د- كَمَا يُطْلَقُ عَلَى وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الْمَالِ، بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ بِحَقٍّ عَلَى الْعُمُومِ.

هـ- كَمَا يُطْلَقُ عَلَى مَا يَجِبُ بِإِلْزَامِ الشَّارِعِ، بِسَبَبِ الِاعْتِدَاءَاتِ: كَالدِّيَاتِ ضَمَانًا لِلْأَنْفُسِ، وَالْأُرُوشِ ضَمَانًا لِمَا دُونَهَا، وَكَضَمَانِ قِيمَةِ صَيْدِ الْحَرَمِ، وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَكَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ عَمْدًا فِي رَمَضَانَ.

وَقَدْ وُضِعَتْ لَهُ تَعَارِيفُ شَتَّى، تَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْإِطْلَاقَاتِ فِي الْجُمْلَةِ، أَوْ تَتَنَاوَلُ بَعْضَهَا، مِنْهَا:

أ- أَنَّهُ (عِبَارَةٌ عَنْ رَدِّ مِثْلِ الْهَالِكِ، إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، أَوْ قِيمَتِهِ إِنْ كَانَ قِيمِيًّا).

ب- وَأَنَّهُ (عِبَارَةٌ عَنْ غَرَامَةِ التَّالِفِ).

ج- وَبِالْمَعْنَى الشَّامِلِ لِلْكَفَالَةِ- كَمَا يَقُولُ الْقَلْيُوبِيُّ-: إِنَّهُ الْتِزَامُ دَيْنٍ أَوْ إِحْضَارُ عَيْنٍ أَوْ بَدَنٍ.

د- وَفِي مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ أَنَّهُ إِعْطَاءُ مِثْلِ الشَّيْءِ إِنْ كَانَ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ وَقِيمَتِهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْقِيمِيَّاتِ.

هـ- وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: (شَغْلُ ذِمَّةٍ أُخْرَى بِالْحَقِّ).

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الِالْتِزَامُ:

2- الِالْتِزَامُ فِي اللُّغَةِ.الثُّبُوتُ وَالدَّوَامُ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ الْفِقْهِيِّ: إِلْزَامُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لَازِمًا لَهَا.

ب- الْعَقْدُ:

3- الْعَقْدُ: ارْتِبَاطُ أَجْزَاءِ التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيِّ، بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَفِي الْمَجَلَّةِ ارْتِبَاطُ الْإِيجَابِ بِالْقَبُولِ عَلَى وَجْهٍ مَشْرُوعٍ يَثْبُتُ أَثَرُهُ فِي مَحَلِّهِ، فَإِذَا قُلْتَ: زَوَّجْتُ، وَقَالَ: قَبِلْتُ، وُجِدَ مَعْنًى شَرْعِيٌّ، وَهُوَ النِّكَاحُ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ: مِلْكُ الْمُتْعَةِ.

ج- الْعُهْدَةُ:

4- الْعُهْدَةُ فِي اللُّغَةِ: وَثِيقَةُ الْمُتَبَايِعَيْنِ، لِأَنَّهُ يُرْجَعُ إِلَيْهَا عِنْدَ الِالْتِبَاسِ.وَهِيَ كِتَابُ الشِّرَاءِ، أَوْ هِيَ الدَّرَكُ أَيْ ضَمَانُ الثَّمَنِ لِلْمُشْتَرِي إِنِ اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ أَوْ وُجِدَ فِيهِ عَيْبٌ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ تُطْلَقُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ عَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ: الْوَثِيقَةِ وَالدَّرَكِ.

وَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا: تَعَلُّقُ ضَمَانِ الْمَبِيعِ بِالْبَائِعِ أَيْ كَوْنُ الْمَبِيعِ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ بَعْدَ الْعَقْدِ، مِمَّا يُصِيبُهُ فِي مُدَّةٍ خَاصَّةٍ.

وَالضَّمَانُ أَعَمُّ، وَالْعُهْدَةُ أَخَصُّ.

د- التَّصَرُّفُ:

5- التَّصَرُّفُ هُوَ التَّقْلِيبُ، تَقُولُ: صَرَّفْتُهُ فِي الْأَمْرِ تَصْرِيفًا فَتَصَرَّفَ، أَيْ قَلَّبْتُهُ فَتَقَلَّبَ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهُ مَا يَصْدُرُ مِنَ الشَّخْصِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَيُرَتِّبُ عَلَيْهِ الشَّارِعُ حُكْمًا، كَالْعَقْدِ وَالطَّلَاقِ وَالْإِبْرَاءِ وَالْإِتْلَافِ.

(ر: تَصَرُّفٌ ف 1) وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنَ الضَّمَانِ.

مَشْرُوعِيَّةُ الضَّمَانِ:

6- شُرِعَ الضَّمَانُ، حِفْظًا لِلْحُقُوقِ، وَرِعَايَةً لِلْعُهُودِ، وَجَبْرًا لِلْأَضْرَارِ، وَزَجْرًا لِلْجُنَاةِ، وَحَدًّا لِلِاعْتِدَاءِ، فِي نُصُوصٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أ- فِيمَا يَتَّصِلُ بِمَعْنَى الْكَفَالَةِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} أَيْ كَفِيلٌ ضَامِنٌ، فَقَدْ ضَمِنَ يُوسُفُ- عليه السلام- لِمَنْ جَاءَ بِصُوَاعِ الْمَلِكِ- وَهُوَ إِنَاؤُهُ الَّذِي كَانَ يَشْرَبُ بِهِ- قَدْرَ مَا يَحْمِلُهُ الْبَعِيرُ مِنَ الطَّعَامِ.

ب- وَفِيمَا يَتَّصِلُ بِالْإِتْلَافَاتِ الْمَالِيَّةِ وَنَحْوِهَا، بِحَدِيثِ: أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «أَهْدَتْ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- طَعَامًا فِي قَصْعَةٍ، فَضَرَبَتْ عَائِشَةُ الْقَصْعَةَ بِيَدِهَا فَأَلْقَتْ مَا فِيهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: طَعَامٌ بِطَعَامٍ، وَإِنَاءٌ بِإِنَاءٍ».

ج- وَفِيمَا يَتَّصِلُ بِضَمَانِ وَضْعِ الْيَدِ: حَدِيثُ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ» أَيْ ضَمَانَهُ.

د- وَفِيمَا يَتَّصِلُ بِالْجِنَايَاتِ- بِوَجْهٍ عَامٍّ وَنَحْوِهَا قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}.

هـ- وَفِيمَا يَتَّصِلُ بِجِنَايَاتِ الْبَهَائِمِ: حَدِيثُ «الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ ضَارِيَةٌ فَدَخَلَتْ حَائِطًا فَأَفْسَدَتْ فِيهِ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّ حِفْظَ الْحَوَائِطِ بِالنَّهَارِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ حِفْظَ الْمَاشِيَةِ بِاللَّيْلِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَنَّ مَا أَصَابَتِ الْمَاشِيَةُ بِاللَّيْلِ فَهُوَ عَلَى أَهْلِهَا».

وَحَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَوْقَفَ دَابَّةً فِي سَبِيلٍ مِنْ سُبُلِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ فِي سُوقٍ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ، فَأَوْطَأَتْ بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ فَهُوَ ضَامِنٌ».

وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ مَصُونَةٌ فِي الشَّرْعِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الْحَظْرُ، وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ دَمُ الْمُسْلِمِ وَلَا يَحِلُّ مَالُهُ إِلاَّ بِحَقٍّ.

مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الضَّمَانُ:

7- لَا يَتَحَقَّقُ الضَّمَانُ إِلاَّ إِذَا تَحَقَّقَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ: التَّعَدِّي، وَالضَّرَرُ، وَالْإِفْضَاءُ.

أَوَّلًا: التَّعَدِّي:

8- التَّعَدِّي فِي اللُّغَةِ، التَّجَاوُزُ.وَفِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ: مُجَاوَزَةُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَصَرَ عَلَيْهِ شَرْعًا أَوْ عُرْفًا أَوْ عَادَةً.وَضَابِطُ التَّعَدِّي هُوَ: مُخَالَفَةُ مَا حَدَّهُ الشَّرْعُ أَوِ الْعُرْفُ.

وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ (أَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ مُطْلَقًا، وَلَا ضَابِطَ لَهُ فِيهِ، وَلَا فِي اللُّغَةِ، يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْعُرْفِ).

وَذَلِكَ مِثْلُ: الْحِرْزِ فِي السَّرِقَةِ، وَالْإِحْيَاءِ فِي الْمَوَاتِ، وَالِاسْتِيلَاءِ فِي الْغَصْبِ، وَكَذَلِكَ التَّعَدِّي فِي الضَّمَانِ، فَإِذَا كَانَ التَّعَدِّي مُجَاوَزَةَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَيْهِ، رَجَعَ فِي ضَابِطِهِ إِلَى عُرْفِ النَّاسِ فِيمَا يَعُدُّونَهُ مُجَاوَزَةً وَتَعَدِّيًا، سَوَاءٌ أَكَانَ عُرْفًا عَامًّا أَمْ خَاصًّا.

وَيَشْمَلُ التَّعَدِّي: الْمُجَاوَزَةَ وَالتَّقْصِيرَ، وَالْإِهْمَالَ، وَقِلَّةَ الِاحْتِرَازِ، كَمَا يَشْتَمِلُ الْعَمْدَ وَالْخَطَأَ.

ثَانِيًا: الضَّرَرُ:

9- الضَّرَرُ فِي اللُّغَةِ: نَقْصٌ يَدْخُلُ عَلَى الْأَعْيَانِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: إِلْحَاقُ مَفْسَدَةٍ بِالْغَيْرِ وَهَذَا يَشْمَلُ الْإِتْلَافَ وَالْإِفْسَادَ وَغَيْرَهُمَا.

وَالضَّرَرُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْلِ، كَرُجُوعِ الشَّاهِدَيْنِ عَنْ شَهَادَتِهِمَا، بَعْدَ الْقَضَاءِ وَقَبْضِ الْمُدَّعِي الْمَالَ، فَلَا يُفْسَخُ الْحُكْمُ، وَيَضْمَنَانِ مَا أَتْلَفَاهُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ دَيْنًا أَمْ عَيْنًا.

وَقَدْ يَنْشَأُ الضَّرَرُ عَنِ الْفِعْلِ كَتَمْزِيقِ الثِّيَابِ، وَقَطْعِ الْأَشْجَارِ، وَحَرْقِ الْحَصَائِدِ.

وَالضَّرَرُ قَدْ يَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ كَمَا سَبَقَ، وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّرْكِ، وَمِثَالُهُ: امْرَأَةٌ تُصْرَعُ أَحْيَانًا فَتَحْتَاجُ إِلَى حِفْظِهَا، فَإِنْ لَمْ يَحْفَظْهَا الزَّوْجُ حَتَّى أَلْقَتْ نَفْسَهَا فِي النَّارِ عِنْدَ الصَّرْعِ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا.

وَدَابَّةٌ غُصِبَتْ فَتَبِعَهَا وَلَدُهَا، فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ يَضْمَنُهُ الْغَاصِبُ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ فِيهِ فِعْلًا.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (ضَرَر).

ثَالِثًا: الْإِفْضَاءُ:

10- مِنْ مَعَانِي الْإِفْضَاءِ فِي اللُّغَةِ: الْوُصُولُ يُقَالُ: أَفْضَيْتُ إِلَى الشَّيْءِ: وَصَلْتُ إِلَيْهِ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَيُشْتَرَطُ لِاعْتِبَارِ الْإِفْضَاءِ فِي الضَّمَانِ مَا يَلِي:

أَنْ لَا يُوجَدَ لِلضَّرَرِ أَوِ الْإِتْلَافِ سَبَبٌ آخَرُ غَيْرُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ هُوَ مُبَاشَرَةً أَمْ تَسْبِيبًا.

وَأَنْ لَا يَتَخَلَّلَ بَيْنَ السَّبَبِ وَبَيْنَ الضَّرَرِ، فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَإِلاَّ أُضِيفَ الضَّمَانُ إِلَيْهِ، لَا إِلَى السَّبَبِ، وَذَلِكَ لِمُبَاشَرَتِهِ.

تَعَدُّدُ مُحْدِثِي الضَّرَرِ:

إِذَا اعْتَدَى جَمْعٌ مِنَ الْأَشْخَاصِ، وَأَحْدَثُوا ضَرَرًا: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اعْتِدَاؤُهُمْ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، بِأَنْ يَكُونُوا جَمِيعًا مُتَسَبِّبِينَ أَوْ مُبَاشِرِينَ، وَإِمَّا أَنْ يَخْتَلِفَ بِأَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ مُبَاشِرًا، وَالْآخَرُ مُتَسَبِّبًا، فَهَاتَانِ حَالَانِ:

الْحَالُ الْأُولَى:

11- أَنْ يَكُونُوا جَمِيعًا مُبَاشِرِينَ أَوْ مُتَسَبِّبِينَ: فَإِمَّا أَنْ يَتَّحِدَ عَمَلُهُمْ فِي النَّوْعِ، أَوْ يَخْتَلِفَ.

أ- فَفِي الصُّورَةِ الْأُولَى، أَيْ إِذَا كَانُوا جَمِيعًا مُبَاشِرِينَ أَوْ مُتَسَبِّبِينَ وَاتَّحَدَ عَمَلُهُمْ نَوْعًا، كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ بِالسَّوِيَّةِ، كَمَا لَوْ تَعَمَّدَ جَمَاعَةٌ إِطْلَاقَ النَّارِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ تُعْلَمْ إِصَابَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، يُقْتَصُّ مِنْهُمْ جَمِيعًا، وَهَذَا مَحْمَلُ قَوْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ- رضي الله عنه- لَوِ اشْتَرَكَ فِي قَتْلِهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ، لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعًا.

ب- وَإِذَا كَانُوا جَمِيعًا مُبَاشِرِينَ أَوْ مُتَسَبِّبِينَ، وَاتَّحَدَ عَمَلُهُمْ نَوْعًا، لَكِنِ اخْتَلَفَ عَمَلُهُمْ قُوَّةً وَضَعْفًا، كَمَا لَوْ حَفَرَ شَخْصٌ حُفْرَةً فِي الطَّرِيقِ، وَجَاءَ آخَرُ فَوَسَّعَ رَأْسَهَا، أَوْ حَفَرَ الْأَوَّلُ حُفْرَةً وَعَمَّقَ الْآخَرُ أَسْفَلَهَا، فَتَرَدَّى فِي الْحُفْرَةِ حَيَوَانٌ أَوْ إِنْسَانٌ، فَالْقِيَاسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الِاعْتِدَادُ بِالسَّبَبِ الْقَوِيِّ، لِأَنَّهُ كَالْعِلَّةِ، عِنْدَ اجْتِمَاعِهَا مَعَ السَّبَبِ، وَهَذَا رَأْيُ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ مِنْهُمْ.

وَالِاسْتِحْسَانُ عِنْدَهُمْ، هُوَ الِاعْتِدَادُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي أَدَّتْ إِلَى الضَّرَرِ جَمِيعًا، قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ، وَتَوْزِيعُ الضَّمَانِ عَلَيْهَا بِحَسَبِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، فَيَجِبُ الضَّمَانُ أَثْلَاثًا، وَهُوَ رَأْيُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَآخَرِينَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَإِنْ لَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَاعْتَبَرُوا الِاشْتِرَاكَ وَرُبَّمَا رَجَّحَ بَعْضُهُمُ السَّبَبَ الْأَوَّلَ.كَحَافِرِ الْحُفْرَةِ وَنَاصِبِ السِّكِّينِ فِيهَا.

الْحَالُ الثَّانِيَةُ:

12- أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَدُونَ مُخْتَلِفِينَ، بَعْضُهُمْ مُبَاشِرٌ، وَبَعْضُهُمْ مُتَسَبِّبٌ:

وَالْأَصْلُ- عِنْدَئِذٍ- تَقْدِيمُ الْمُبَاشِرِ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ فِي التَّضْمِينِ وَذَلِكَ لِلْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ: (إِذَا اجْتَمَعَ الْمُبَاشِرُ وَالْمُتَسَبِّبُ، يُضَافُ الْحُكْمُ إِلَى الْمُبَاشِرِ).

وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا يَلِي:

أ- لَوْ حَفَرَ شَخْصٌ حُفْرَةً فِي الطَّرِيقِ، فَأَلْقَى آخَرُ نَفْسَهُ، أَوْ أَلْقَى غَيْرَهُ فِيهَا عَمْدًا، لَا يَضْمَنُ الْحَافِرُ، بَلِ الْمُلْقِي وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ.

ب- لَوْ دَلَّ سَارِقًا عَلَى مَالِ إِنْسَانٍ، فَسَرَقَهُ، لَا ضَمَانَ عَلَى الدَّالِّ.

13- وَيُسْتَثْنَى مِنْ قَاعِدَةِ تَقْدِيمِ الْمُبَاشَرَةِ عَلَى التَّسْبِيبِ صُوَرٌ، يُقَدَّمُ فِيهَا السَّبَبُ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُبَاشِرَةِ، وَذَلِكَ إِذَا تَعَذَّرَتْ إِضَافَةُ الْحُكْمِ إِلَى الْمُبَاشِرِ بِالْكُلِّيَّةِ فَيُضَافُ الْحُكْمُ- وَهُوَ الضَّمَانُ هُنَا- إِلَى الْمُتَسَبِّبِ وَحْدَهُ، كَمَا إِذَا دَفَعَ رَجُلٌ إِلَى صَبِيٍّ سِكِّينًا لِيُمْسِكَهُ لَهُ، فَسَقَطَ مِنْ يَدِهِ، فَجَرَحَهُ، ضَمِنَ الدَّافِعُ، لِأَنَّ السَّبَبَ هُنَا فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ.

تَتَابُعُ الْأَضْرَارِ:

14- إِذَا تَرَتَّبَتْ عَلَى السَّبَبِ الْوَاحِدِ أَضْرَارٌ مُتَعَدِّدَةٌ، فَالْحُكْمُ أَنَّ الْمُتَعَدِّيَ الْمُتَسَبِّبَ يَضْمَنُ جَمِيعَ الْأَضْرَارِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى تَسَبُّبِهِ، مَا دَامَ أَثَرُ تَسَبُّبِهِ بَاقِيًا لَمْ يَنْقَطِعْ، فَإِنِ انْقَطَعَ بِتَسَبُّبٍ آخَرَ لَمْ يَضْمَنْ.

فَمِنْ صُوَرِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:

أ- سَقَطَ حَائِطُ إِنْسَانٍ عَلَى حَائِطِ إِنْسَانٍ آخَرَ، وَسَقَطَ الْحَائِطُ الثَّانِي عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ: كَانَ ضَمَانُ الْحَائِطِ الثَّانِيَ وَالْقَتِيلِ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ تَسَبُّبَ حَائِطِهِ لَمْ يَنْقَطِعْ.

فَإِنْ عَثَرَ إِنْسَانٌ بِأَنْقَاضِ الْحَائِطِ الثَّانِي، فَانْكَسَرَ، لَمْ يَضْمَنِ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ التَّفْرِيغَ لَيْسَ عَلَيْهِ، وَلَا يَضْمَنُ صَاحِبُ الْحَائِطِ الثَّانِي إِلاَّ إِذَا عَلِمَ بِسُقُوطِ حَائِطِهِ، وَلَمْ يَنْقُلْ تُرَابَهُ فِي مُدَّةٍ تَسَعُ النَّقْلَ.

ب- لَوْ أُشْهِدَ عَلَى حَائِطِهِ بِالْمَيْلِ، فَلَمْ يَنْقُضْهُ صَاحِبُهُ حَتَّى سَقَطَ، فَقَتَلَ إِنْسَانًا، وَعَثَرَ بِالْأَنْقَاضِ شَخْصٌ فَعَطِبَ، وَعَطِبَ آخَرُ بِالْقَتِيلِ، كَانَ ضَمَانُ الْقَتِيلِ الْأَوَّلِ وَعَطَبُ الثَّانِي عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْحَائِطَ وَأَنْقَاضَهُ مَطْلُوبَانِ مِنْهُ، أَمَّا التَّلَفُ الْحَاصِلُ بِالْقَتِيلِ الْأَوَّلِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ نَقْلَهُ لَيْسَ مَطْلُوبًا مِنْهُ، بَلْ هُوَ لِأَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ.

إِثْبَاتُ السَّبَبِيَّةِ:

15- الْأَصْلُ فِي الشَّرِيعَةِ، هُوَ أَنَّ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الضَّرَرُ، أَوْ وَلِيُّهُ إِنْ قُتِلَ، هُوَ الْمُكَلَّفُ بِإِثْبَاتِ الضَّرَرِ، وَإِثْبَاتِ تَعَدِّي مَنْ أُلْحَقَ بِهِ الضَّرَرُ، وَأَنَّ تَعَدِّيَهُ كَانَ هُوَ السَّبَبَ فِي الضَّرَرِ.

وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ وَدِمَاءَهُمْ، لَكِنِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ».

وَتَثْبُتُ السَّبَبِيَّةُ بِإِقْرَارِ الْمُعْتَدِي، كَمَا تَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ إِذَا أَنْكَرَ وَتَثْبُتُ بِالْقَرَائِنِ، وَبِيَمِينِ الْمُدَّعِي وَشَاهِدٍ- عَلَى الْجُمْلَةِ- وَنَحْوِهَا مِنْ طُرُقِ الْإِثْبَاتِ.

(ر: إِثْبَات).

شُرُوطُ الضَّمَانِ:

16- يُمْكِنُ تَقْسِيمُ شُرُوطِ الضَّمَانِ إِلَى قِسْمَيْنِ: شُرُوطِ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ، وَشُرُوطِ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ.

أَوَّلًا: شُرُوطُ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ:

الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ إِنْ كَانَتْ عَمْدًا وَكَانَ الْجَانِي مُكَلَّفًا يَجِبُ فِيهَا الْقِصَاصُ، فَإِنْ كَانَ الْجَانِي غَيْرَ مُكَلَّفٍ، أَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً وَجَبَتْ فِيهَا الدِّيَةُ.

وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي: (دِيَات).

ثَانِيًا: شُرُوطُ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ:

تَتَلَخَّصُ هَذِهِ الشُّرُوطُ فِي أَنْ يَكُونَ الِاعْتِدَاءُ، وَاقِعًا عَلَى مَالٍ مُتَقَوِّمٍ، مَمْلُوكٍ، مُحْتَرَمٍ، كَمَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الضَّرَرُ الْحَادِثُ دَائِمًا (فَلَوْ نَبَتَتْ سِنُّ الْحَيَوَانِ لَمْ تُضْمَنِ الْمَكْسُورَةُ)، وَأَنْ يَكُونَ الْمُعْتَدِي مِنْ أَهْلِ الْوُجُوبِ، فَلَا تَضْمَنُ الْبَهِيمَةُ، وَلَا مَالِكُهَا إِذَا أَتْلَفَتْ مَالَ إِنْسَانٍ وَهِيَ مُسَيَّبَةٌ، لِأَنَّهُ جُبَارٌ.

وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْجَانِي عَلَى الْمَالِ مُكَلَّفًا، فَيَضْمَنُ الصَّبِيُّ مَا أَتْلَفَهُ مِنْ مَالٍ عَلَى الْآخَرِينَ، وَلَا عَدَمُ اضْطِرَارِهِ، وَالْمُضْطَرُّ فِي الْمَخْمَصَةِ ضَامِنٌ، لِأَنَّ الِاضْطِرَارَ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الْغَيْرِ.

أَسْبَابُ الضَّمَانِ:

17- مِنْ أَسْبَابِ الضَّمَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مَا يَلِي:

1- الْعَقْدُ، كَالْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالسَّلَمِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ.

2- الْيَدُ، مُؤْتَمَنَةٌ كَانَتْ كَالْوَدِيعَةِ وَالشَّرِكَةِ إِذَا حَصَلَ التَّعَدِّي، أَوْ غَيْرَ مُؤْتَمَنَةٍ كَالْغَصْبِ وَالشِّرَاءِ فَاسِدًا.

ج- الْإِتْلَافُ، نَفْسًا أَوْ مَالًا.

وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: الْحَيْلُولَةَ، كَمَا لَوْ نَقَلَ الْمَغْصُوبَ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ وَأَبْعَدَهُ، فَلِلْمَالِكِ الْمُطَالَبَةُ بِالْقِيمَةِ فِي الْحَالِ، لِلْحَيْلُولَةِ قَطْعًا، فَإِذَا رَدَّهُ رَدَّهَا.

وَجَعَلَ الْمَالِكِيَّةُ أَسْبَابَ الضَّمَانِ ثَلَاثَةً: أَحَدُهَا: الْإِتْلَافُ مُبَاشَرَةً، كَإِحْرَاقِ الثَّوْبِ.

وَثَانِيَهَا: التَّسَبُّبُ لِلْإِتْلَافِ، كَحَفْرِ بِئْرٍ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ مِمَّا شَأْنُهُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يُفْضِيَ غَالِبًا لِلْإِتْلَافِ.

وَثَالِثُهَا: وَضْعُ الْيَدِ غَيْرِ الْمُؤْتَمَنَةِ، فَيَنْدَرِجُ فِيهَا يَدُ الْغَاصِبِ، وَالْبَائِعُ يَضْمَنُ الْمَبِيعَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ قَبْلَ الْقَبْضِ.

الْفَرْقُ بَيْنَ ضَمَانِ الْعَقْدِ وَضَمَانِ الْإِتْلَافِ:

18- ضَمَانُ الْعَقْدِ: هُوَ تَعْوِيضُ مَفْسَدَةٍ مَالِيَّةٍ مُقْتَرِنَةٍ بِعَقْدٍ.

وَضَمَانُ الْإِتْلَافِ: هُوَ تَعْوِيضُ مَفْسَدَةٍ مَالِيَّةٍ لَمْ تَقْتَرِنْ بِعَقْدٍ.

وَبَيْنَهُمَا فُرُوقٌ تَبْدُو فِيمَا يَلِي:

أ- مِنْ حَيْثُ الْأَهْلِيَّةُ، فَفِي الْعُقُودِ: الْأَهْلِيَّةُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ (وَالْأَهْلِيَّةُ- هُنَا- هِيَ: أَهْلِيَّةُ أَدَاءً، وَهِيَ: صَلَاحِيَةُ الشَّخْصِ لِمُمَارَسَةِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ اعْتِبَارُهَا عَلَى الْعَقْلِ) لِأَنَّهَا مَنُوطَةٌ بِالْإِدْرَاكِ وَالْعَقْلِ، فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقَا لَا يُعْتَدُّ بِهَا.

أَمَّا الْإِتْلَافَاتُ الْمَالِيَّةُ، وَالْغَرَامَاتُ وَالْمُؤَنُ وَالصِّلَاتُ الَّتِي تُشْبِهُ الْمُؤَنَ، فَالْأَهْلِيَّةُ الْمُجْتَزَأُ بِهَا هِيَ أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ فَقَطْ، وَهِيَ صَلَاحِيَتُهُ لِثُبُوتِ الْحُقُوقِ لَهُ وَعَلَيْهِ، فَحُكْمُ الصَّغِيرِ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ فِيهَا كَحُكْمِ الْكَبِيرِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْوُجُوبِ- وَهُوَ الضَّمَانُ وَنَحْوُهُ- لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ حَيٌّ عَنْ آخَرَ، وَأَدَاءُ الصَّغِيرِ يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ.

ب- مِنْ حَيْثُ التَّعْوِيضُ، فَفِي ضَمَانِ الْعَقْدِ، لَا يَقُومُ التَّعْوِيضُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ وَيَكُونُ التَّعْوِيضُ بِنَاءً عَلَى مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ.

أَمَّا الْإِتْلَافَاتُ الْمَالِيَّةُ فَإِنَّ التَّعْوِيضَ فِيهَا يَقُومُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ، إِذِ الْمَقْصُودُ فِيهَا دَفْعُ الضَّرَرِ، وَإِزَالَةُ الْمَفْسَدَةِ، وَالضَّرَرُ مَحْظُورٌ، فَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ وَذَلِكَ بِعُمُومِ النَّصِّ الْكَرِيمِ، وَهُوَ قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}.

ج- مِنْ حَيْثُ الْأَوْصَافُ وَالْعَوَارِضُ الذَّاتِيَّةُ، فَقَدْ فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمَانِهَا فِي الْعُقُودِ وَفِي الْإِتْلَافَاتِ، وَقَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْأَوْصَافَ لَا تُضْمَنُ بِالْعَقْدِ، وَتُضْمَنُ بِالْغَصْبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَصْبَ قَبْضٌ، وَالْأَوْصَافُ تُضْمَنُ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ الْقَبْضُ، أَمَّا الْعَقْدُ فَيَرِدُ عَلَى الْأَعْيَانِ، لَا عَلَى الْأَوْصَافِ، وَالْغَصْبِ (وَكَذَا الْإِتْلَافُ) فِعْلٌ يَحُلُّ بِالذَّاتِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، فَكَانَتْ مَضْمُونَةً.

مَحَلُّ الضَّمَانِ:

19- مَحَلُّ الضَّمَانِ هُوَ: مَا يَجِبُ فِيهِ الضَّمَانُ سَوَاءٌ أَكَانَ الضَّمَانُ نَاشِئًا عَنْ عَقْدٍ، أَمْ كَانَ نَاشِئًا عَنْ إِتْلَافٍ وَيَدٍ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: فَهُوَ كُلُّ مَالٍ أُتْلِفَتْ عَيْنُهُ، أَوْ تَلِفَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ عَيْنُهُ، بِأَمْرٍ مِنَ السَّمَاءِ، أَوْ سُلِّطَتِ الْيَدُ عَلَيْهِ وَتُمَلِّكَ.وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: مَحَلُّ الضَّمَانِ هُوَ مَا كَانَ يَقْبَلُ الْمُعَاوَضَةَ.

وَيُمْكِنُ التَّوَسُّعُ فِي مَحَلِّ الضَّمَانِ، بِحَيْثُ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْمَضْمُونَاتِ، بِأَنْ يُقَسَّمَ الْفِعْلُ الضَّارُّ، بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهِ، إِلَى قِسْمَيْنِ: فِعْلٍ ضَارٍّ وَاقِعٍ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَفِعْلٍ ضَارٍّ وَاقِعٍ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، كَالْحَيَوَانِ وَالْأَشْيَاءِ.

وَقَدِ اعْتَبَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الِاعْتِدَاءَ عَلَى الْمَالِ وَالْحَيَوَانِ ضَرْبًا مِنَ الْجِنَايَاتِ، فَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: الْجِنَايَةُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: جِنَايَةٌ عَلَى الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ وَجِنَايَةٌ عَلَى الْآدَمِيِّ فَهَذِهِ مَحَالُّ الضَّمَانِ، فَالْآدَمِيُّ مَضْمُونٌ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، فِي النَّفْسِ، أَوِ الْأَطْرَافِ.

وَأَمَّا الْأَمْوَالُ فَتُقْسَمُ إِلَى: أَعْيَانٍ، وَمَنَافِعَ، وَزَوَائِدَ، وَنَوَاقِصَ، وَأَوْصَافٍ.وَنَبْحَثُهَا فِيمَا يَلِي:

أَوَّلًا: الْأَعْيَانُ:

20- وَهِيَ نَوْعَانِ: أَمَانَاتٌ، وَمَضْمُونَاتٌ.

فَالْأَمَانَاتُ: يَجِبُ تَسْلِيمُهَا بِذَاتِهَا، وَأَدَاؤُهَا فَوْرَ طَلَبِهَا، بِالنَّصِّ، وَهُوَ قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وَتُضْمَنُ حَالَ التَّعَدِّي، وَإِلاَّ فَلَا ضَمَانَ فِيهَا، وَمِنَ التَّعَدِّي الْمَوْتُ عَنْ تَجْهِيلٍ لَهَا، إِلاَّ مَا اسْتُثْنِيَ.

وَالْمَضْمُونَاتُ، تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ، وَبِالتَّلَفِ وَلَوْ كَانَ سَمَاوِيًّا.

وَالْأَعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ نَوْعَانِ:

الْأَوَّلُ: الْأَعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ بِنَفْسِهَا، وَهِيَ الَّتِي يَجِبُ بِهَلَاكِهَا ضَمَانُ الْمِثْلِ أَوِ الْقِيمَةِ، كَالْمَغْصُوبِ، وَالْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا، وَالْمَهْرِ فِي يَدِ الزَّوْجِ، وَبَدَلِ الْخُلْعِ- إِذَا كَانَ عَيْنًا مُعَيَّنَةً- وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، إِذَا كَانَ عَيْنًا.

الثَّانِي: الْأَعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ بِغَيْرِهَا، وَهِيَ الَّتِي يَجِبُ بِهَلَاكِهَا الثَّمَنُ أَوِ الدَّيْنُ، كَالْمَبِيعِ إِذَا هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ، سَقَطَ الثَّمَنُ، وَالرَّهْنِ إِذَا هَلَكَ سَقَطَ الدَّيْنُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الْأَعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً بِسَبَبِ الْعُدْوَانِ، كَالْمَغْصُوبَاتِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً بِسَبَبِ قَبْضٍ بِغَيْرِ عُدْوَانٍ، بَلْ بِإِذْنِ الْمَالِكِ عَلَى وَجْهِ انْتِقَالِ تَمَلُّكِهِ إِلَيْهِ، بِشِرَاءٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ وَصِيَّةٍ، أَوْ قَرْضٍ، فَهُوَ ضَامِنٌ- أَيْضًا- سَوَاءٌ أَكَانَ الْبَيْعُ صَحِيحًا، أَمْ كَانَ فَاسِدًا.

وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَقَدْ عَرَّفُوا الْأَعْيَانَ الْمَضْمُونَةَ، بِأَنَّهَا الَّتِي يَجِبُ ضَمَانُهَا بِالتَّلَفِ وَالْإِتْلَافِ، سَوَاءٌ أَكَانَ حُصُولُهَا بِيَدِ الضَّامِنِ بِفِعْلٍ مُبَاحٍ، كَالْعَارِيَّةِ، أَوْ مَحْظُورٍ كَالْمَغْصُوبِ، وَالْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَنَحْوِهِمَا.

وَعَدَّ السُّيُوطِيُّ الْمَضْمُونَاتِ، وَأَوْصَلَهَا إِلَى سِتَّةَ عَشَرَ، وَبَيَّنَ حُكْمَ كُلٍّ، وَمِنْهَا: الْغَصْبُ، وَالْإِتْلَافُ، وَاللُّقَطَةُ، وَالْقَرْضُ، وَالْعَارِيَّةُ، وَالْمَقْبُوضُ بِسَوْمٍ....

21- وَهَلْ تَشْمَلُ الْأَعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ الْعَقَارَاتِ؟

مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، أَنَّ الْعَقَارَ يُضْمَنُ بِالتَّعَدِّي، وَذَلِكَ بِغَصْبِهِ، وَغَصْبُهُ مُتَصَوَّرٌ، لِأَنَّ الْغَصْبَ هُوَ: إِثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ، أَوْ هُوَ: الِاسْتِيلَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ عُدْوَانًا، أَوْ إِزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ مَالِهِ- كَمَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- وَالْفِعْلُ فِي الْمَالِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ.

وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَنِ اسْتَوْلَى عَلَى أَرْضِ غَيْرِهِ «مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الْأَرْضِ، طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ».

وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّ الْغَصْبَ إِزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ مَالِهِ بِفِعْلٍ فِي الْمَالِ، وَلِهَذَا عَرَّفَهُ فِي الْكَنْزِ بِأَنَّهُ إِزَالَةُ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ، بِإِثْبَاتِ الْيَدِ الْمُبْطِلَةِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْعَقَارِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ وَالتَّحْوِيلَ، فَلَمْ يُوجَدِ الْإِتْلَافُ حَقِيقَةً وَلَا تَقْدِيرًا.

فَلَوْ غَصَبَ دَارًا فَانْهَدَمَ الْبِنَاءُ، أَوْ جَاءَ سَيْلٌ فَذَهَبَ بِالْبِنَاءِ وَالْأَشْجَارِ، أَوْ غَلَبَ الْمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ فَبَقِيَتْ تَحْتَ الْمَاءِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.

وَلَوْ غَصَبَ عَقَارًا، فَجَاءَ آخَرُ فَأَتْلَفَهُ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُتْلِفِ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ تَضْمِينِ الْغَاصِبِ أَوِ الْمُتْلِفِ.

وَقَالُوا: لَوْ أَتْلَفَهُ بِفِعْلِهِ أَوْ بِسُكْنَاهُ، يَضْمَنُهُ، لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ، وَالْعَقَارُ يُضْمَنُ بِهِ، كَمَا إِذَا نَقَلَ تُرَابَهُ.

ثَانِيًا: الْمَنَافِعُ:

22- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ مُتَقَوَّمَةٌ فِي ذَاتِهَا فَتُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ، كَمَا تُضْمَنُ الْأَعْيَانُ، وَذَلِكَ: أ- لِأَنَّهَا الْغَرَضُ الْأَظْهَرُ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْوَالِ.

ب- وَلِأَنَّ الشَّارِعَ أَجَازَ أَنْ تَكُونَ مَهْرًا فِي النِّكَاحِ، فِي قِصَّةِ مُوسَى وَشُعَيْبٍ- عليهما السلام- مَعَ اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمَهْرِ فِيهِ مَالًا بِالنَّصِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ}.

ج- وَلِأَنَّ الْمَالَ اسْمٌ لِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لِإِقَامَةِ مَصَالِحِنَا بِهِ، أَوْ هُوَ- كَمَا يَقُولُ الشَّاطِبِيُّ- مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْمِلْكُ، وَيَسْتَبِدُّ بِهِ الْمَالِكُ، وَالْمَنَافِعُ مِنَّا أَوْ مِنْ غَيْرِنَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ مَالِيَّةُ الشَّيْءِ بِالتَّمَوُّلِ وَالنَّاسُ يَعْتَادُونَ تَمَوُّلَ الْمَنَافِعِ بِالتِّجَارَةِ فِيهَا، فَإِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ تِجَارَةً الْبَاعَةُ، وَرَأْسُ مَالِهِمُ الْمَنْفَعَةُ.

د- وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ- كَمَا قَالَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ- مُبَاحَةٌ مُتَقَوَّمَةٌ، فَتُجْبَرُ فِي الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَالصَّحِيحَةِ، وَبِالْفَوَاتِ تَحْتَ الْأَيْدِي الْمُبْطِلَةِ، وَالتَّفْوِيتِ بِالِانْتِفَاعِ، لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ قَوَّمَهَا، وَنَزَّلَهَا مَنْزِلَةَ الْأَمْوَالِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ جَبْرِهَا بِالْعُقُودِ وَبَيْنَ جَبْرِهَا بِالتَّفْوِيتِ وَالْإِتْلَافِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ، سَوَاءٌ اسْتَوْفَاهَا أَمْ عَطَّلَهَا أَمِ اسْتَغَلَّهَا، وَلَا تُضْمَنُ إِلاَّ بِالْعَقْدِ، وَذَلِكَ:

أ- لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوَّمٍ، وَلَا يُمْكِنُ ادِّخَارُهَا لِوَقْتِ الْحَاجَةِ، لِأَنَّهَا لَا تَبْقَى وَقْتَيْنِ، وَلَكِنَّهَا أَعْرَاضٌ كُلَّمَا تَخْرُجُ مِنْ حَيِّزِ الْعَدَمِ إِلَى حَيِّزِ الْوُجُودِ تَتَلَاشَى فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا التَّمَوُّلُ.وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ السَّرَخْسِيُّ: الْمَنَافِعُ لَا تُضْمَنُ بِإِتْلَافٍ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا شُبْهَةٍ.

ب- وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ إِنَّمَا وَرَدَ تَقْوِيمُهَا فِي الشَّرْعِ- مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ ذَاتَ قِيمَةٍ فِي نَفْسِهَا- بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، اسْتِثْنَاءً عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، لِلْحَاجَةِ لِوُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَمَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ.

وَالْمَالِكِيَّةُ يُضَمِّنُونَ الْغَاصِبَ إِذَا غَصَبَ لِغَرَضِ الْمَنْفَعَةِ بِالتَّعَدِّي، كَمَا لَوْ غَصَبَ دَابَّةً أَوْ دَارًا لِلرُّكُوبِ وَالسُّكْنَى فَقَطْ، فَيَضْمَنُهَا بِالِاسْتِعْمَالِ، وَلَوْ كَانَ اسْتِعْمَالُهُ يَسِيرًا.

وَلَا يَضْمَنُ الذَّاتَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَوْ تَلِفَتْ بِسَمَاوِيٍّ.

ثَالِثًا: الزَّوَائِدُ:

23- وَتَتَمَثَّلُ فِي زَوَائِدِ الْمَغْصُوبِ وَنَمَائِهِ.

أ- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ ضَمَانَ الْغَصْبِ، لِأَنَّهَا مَالُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَقَدْ حَصَلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِالْغَصْبِ، فَيَضْمَنُهَا بِالتَّلَفِ كَالْأَصْلِ الَّذِي تَوَلَّدَتْ مِنْهُ.

ب- وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ زَوَائِدَ الْمَغْصُوبِ- سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُتَّصِلَةً كَالسَّمْنِ، أَمْ مُنْفَصِلَةً كَاللَّبَنِ وَالْوَلَدِ، وَثَمَرَةِ الْبُسْتَانِ، وَصُوفِ الْغَنَمِ- أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، لَا تُضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي عَلَيْهَا، بِالْأَكْلِ أَوِ الْإِتْلَافِ، أَوْ بِالْمَنْعِ بَعْدَ طَلَبِ الْمَالِكِ.

وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَصْبَ إِزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ، بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الزَّوَائِدِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي يَدِ الْمَالِكِ.

ج- وَلِلْمَالِكِيَّةِ هَذَا التَّفْصِيلُ:

أَوَّلًا:

مَا كَانَ مُتَوَلِّدًا مِنَ الْأَصْلِ وَعَلَى خِلْقَتِهِ، كَالْوَلَدِ، فَهُوَ مَرْدُودٌ مَعَ الْأَصْلِ.

ثَانِيًا:

وَمَا كَانَ مُتَوَلِّدًا مِنَ الْأَصْلِ، عَلَى غَيْرِ خِلْقَتِهِ مِثْلَ الثَّمَرِ وَلَبَنِ الْمَاشِيَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لِلْغَاصِبِ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ رَدُّهُ قَائِمًا، وَقِيمَتُهُ تَالِفًا.

ثَالِثًا

وَمَا كَانَ غَيْرَ مُتَوَلِّدٍ، فَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ:

1- قِيلَ: يَرُدُّ الزَّوَائِدَ مُطْلَقًا، لِتَعَدِّيهِ، مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ.

2- وَقِيلَ: لَا يَرُدُّهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ الضَّمَانِ الَّذِي عَلَيْهِ.

3- وَقِيلَ: يَرُدُّ قِيمَةَ مَنَافِعِ الْأُصُولِ وَالْعَقَارِ، لِأَنَّهُ مَأْمُونٌ وَلَا يَتَحَقَّقُ الضَّمَانُ فِيهِ، وَلَا يَرُدُّ قِيمَةَ مَنَافِعِ الْحَيَوَانِ وَشَبَهُهُ مِمَّا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الضَّمَانُ.

4- وَقِيلَ: يَرُدُّهَا إِنِ انْتَفَعَ بِهَا، وَلَا يَرُدُّهَا إِنْ عَطَّلَهَا.

5- وَقِيلَ: يَرُدُّهَا إِنْ غَصَبَ الْمَنَافِعَ خَاصَّةً، وَلَا يَرُدُّهَا إِنْ غَصَبَ الْمَنَافِعَ وَالرِّقَابَ.

رَابِعًا: النَّوَاقِصُ:

24- لَا يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمَانِ نَقْصِ الْأَمْوَالِ بِسَبَبِ الْغَصْبِ، أَوِ الْفِعْلِ الضَّارِّ، أَوِ الْإِتْلَافِ أَوْ نَحْوِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ النَّقْصُ عَمْدًا أَمْ خَطَأً أَمْ تَقْصِيرًا، لِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ- كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ- ضَمَانُ جَبْرِ الْفَائِتِ، فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْفَوَاتِ.

فَمَنْ نَقَصَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ فِي الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ:

أ- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ النَّقْصَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَاحِشًا.

وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ- كَمَا قَالَ الزَّيْلَعِيُّ أَنَّ الْيَسِيرَ مَا لَا يَفُوتُ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَنْفَعَةِ، بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ نُقْصَانٌ فِي الْمَنْفَعَةِ، كَالْخَرْقِ فِي الثَّوْبِ.

وَالْفَاحِشُ: مَا يَفُوتُ بِهِ بَعْضُ الْعَيْنِ وَبَعْضُ الْمَنْفَعَةِ، وَيَبْقَى بَعْضُ الْعَيْنِ وَبَعْضُ الْمَنْفَعَةِ.

وَقِيلَ الْيَسِيرُ: مَا لَمْ يَبْلُغْ رُبُعَ الْقِيمَةِ، وَالْفَاحِشُ مَا يُسَاوِي رُبُعَ الْقِيمَةِ فَصَاعِدًا، وَبِهَذَا أَخَذَتْ الْمَجَلَّةُ فِي الْمَادَّةِ (900).

فَفِي النُّقْصَانِ الْيَسِيرِ لَيْسَ لِلْمَالِكِ إِلاَّ أَخْذُ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ، لِأَنَّ الْعَيْنَ قَائِمَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَيَضْمَنُ الْغَاصِبُ النُّقْصَانَ.

وَفِي النَّقْصِ الْفَاحِشِ، يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ أَخْذِ الْعَيْنِ، وَتَضْمِينِ الْغَاصِبِ النُّقْصَانَ، وَبَيْنَ تَرْكِ الْعَيْنِ لِلْغَاصِبِ وَتَضْمِينِهِ قِيمَةَ الْعَيْنِ.

فَلَوْ ذَبَحَ حَيَوَانًا لِغَيْرِهِ مَأْكُولَ اللَّحْمِ، أَوْ قَطَعَ يَدَهُ، كَانَ ذَلِكَ إِتْلَافًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَنَقْصًا فَاحِشًا، فَيُخَيَّرُ فِيهِ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ، ضَمِنَ الْغَاصِبُ الْجَمِيعَ، لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ مُطْلَقٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِتْلَافٌ لِجَمِيعِ الْمَنْفَعَةِ.

وَلَوْ غَصَبَ الْعَقَارَ، فَانْهَدَمَ أَوْ نَقَصَ بِسُكْنَاهُ، ضَمِنَهُ، لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ بِفِعْلِهِ، وَالْعَقَارُ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ، وَلَا يُشْتَرَطُ لِضَمَانِ الْإِتْلَافِ أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ.

وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ هَلَكَ الْعَقَارُ، بَعْدَ أَنْ غَصَبَهُ وَهُوَ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ بِشَيْءٍ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ، لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لِلْمَنْفَعَةِ، وَلَيْسَتْ مَالًا، وَلِأَنَّهُ مَنَعَ الْمَالِكَ عَنِ الِانْتِفَاعِ وَلَا يَضْمَنُ عَيْنَهُ.

ب- وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِي النَّقْصِ، أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قِبَلِ الْخَالِقِ، أَوْ مِنْ قِبَلِ الْمَخْلُوقِ.

فَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْخَالِقِ، فَلَيْسَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ إِلاَّ أَنْ يَأْخُذَهُ نَاقِصًا- كَمَا يَقُولُ ابْنُ جِنِّيٍّ- أَوْ يَضْمَنَ الْغَاصِبُ قِيمَةَ الْمَغْصُوبِ يَوْمَ الْغَصْبِ.

وَقِيلَ: إِنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَضْمَنَ الْغَاصِبُ قِيمَةَ الْعَيْبِ.

وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْمَخْلُوقِ وَبِجِنَايَتِهِ فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ مُخَيَّرٌ:

1- بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْقِيمَةَ يَوْمَ الْغَصْبِ، وَيَتْرُكَهُ لِلْغَاصِبِ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَأْخُذَ قِيمَةَ النَّقْصِ، يَوْمَ الْجِنَايَةِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، أَوْ يَوْمَ الْغَصْبِ، عِنْدَ سَحْنُونٍ.

2- وَعِنْدَ أَشْهَبَ وَابْنِ الْمَوَّازِ: هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْقِيمَةَ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهُ نَاقِصًا، وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الْجِنَايَةِ، كَالَّذِي يُصَابُ بِأَمْرٍ مِنَ السَّمَاءِ.

وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ فِي ضَمَانِ الْبِنَاءِ أَوِ الْغَرْسِ فِي الْعَقَارِ، نَذْكُرُهُ فِي أَحْكَامِ الضَّمَانِ الْخَاصَّةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ج- وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّ كُلَّ عَيْنٍ مَغْصُوبَةٍ، عَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ نَقْصِهَا، إِذَا كَانَ نَقْصًا مُسْتَقِرًّا تَنْقُصُ بِهِ الْقِيمَةُ، سَوَاءٌ كَانَ بِاسْتِعْمَالِهِ، أَمْ كَانَ بِغَيْرِ اسْتِعْمَالِهِ، كَمَرَضِ الْحَيَوَانِ، وَكَثَوْبٍ تَخَرَّقَ، وَإِنَاءٍ تَكَسَّرَ، وَطَعَامٍ سَوَّسَ، وَبِنَاءٍ تَخَرَّبَ، وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ يَرُدُّهَا، وَلِلْمَالِكِ عَلَى الْغَاصِبِ أَرْشُ النَّقْصِ- مَعَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ، كَمَا قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ- لِأَنَّهُ نَقْصٌ حَصَلَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


296-موسوعة الفقه الكويتية (ضمان 3)

ضَمَانٌ -3

الضَّمَانُ فِي الشَّرِكَةِ:

51- الشَّرِكَةُ قِسْمَانِ- كَمَا يَقُولُ الْحَنَابِلَةُ- شَرِكَةُ أَمْلَاكٍ وَشَرِكَةُ عَقْدٍ.

فَالْأُولَى يُعْتَبَرُ فِيهَا كُلٌّ مِنَ الشُّرَكَاءِ، كَأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ.

وَالثَّانِيَةُ شَرِكَةُ أَمْوَالٍ، وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ يَدَ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ، يَدُ أَمَانَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ، لَا عَلَى وَجْهِ الْمُبَادَلَةِ، كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، وَلَا عَلَى وَجْهِ الْوَثِيقَةِ كَالرَّهْنِ.

فَإِنْ قَصَّرَ فِي شَيْءٍ أَوْ تَعَدَّى، فَهُوَ ضَامِنٌ.

وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ إِتْلَافًا لِلْمَالِ، أَوْ كَانَ تَمْلِيكًا لِلْمَالِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، لِأَنَّ الشَّرِكَةَ- كَمَا يَقُولُ الْحَصْكَفِيُّ- وُضِعَتْ لِلِاسْتِرْبَاحِ وَتَوَابِعِهِ، وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ لَا يَنْتَظِمُهُ عَقْدُهَا، فَيَكُونُ مَضْمُونًا.

وَكَذَا إِذَا مَاتَ مُجْهِلًا نَصِيبَ صَاحِبِهِ، إِذَا كَانَ مَالُ الشَّرِكَةِ دُيُونًا عَلَى النَّاسِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ، كَمَا يَضْمَنُ لَوْ مَاتَ مُجْهِلًا عَيْنَ مَالِ الشَّرِكَةِ الَّذِي فِي يَدِهِ، وَكَذَا بَقِيَّةُ الْأَمَانَاتِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ وَارِثَهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ، فَلَا يَضْمَنُ.

وَلَوْ هَلَكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِ الشَّرِكَةِ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ وَلَا تَفْرِيطٍ، لَا يَضْمَنُهُ لِأَنَّهُ أَمِينٌ.

أَمَّا لَوْ هَلَكَ مَالُ الشَّرِيكَيْنِ، أَوْ مَالُ أَحَدِهِمَا قَبْلَ التَّصَرُّفِ فَتَبْطُلُ الشَّرِكَةُ، لِأَنَّ الْمَالَ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِيهَا.

الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ:

52- يُعْتَبَرُ الْمُضَارِبُ أَمِينًا فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَأَعْيَانِهَا، لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ بِإِذْنِ مَالِكِهِ، عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْتَصُّ بِنَفْعِهِ، فَكَانَ أَمِينًا، كَالْوَكِيلِ، وَفَارَقَ الْمُسْتَعِيرَ، لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِنَفْعِ الْعَارِيَّةِ.

وَهَذَا مَا لَمْ يُخَالِفْ مَا قَيَّدَهُ بِهِ رَبُّ الْمَالِ، فَيُصْبِحُ عِنْدَئِذٍ غَاصِبًا.

وَمَعَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ تَقْيِيدِ الْمُضَارِبِ بِبَعْضِ الْقُيُودِ، لِأَنَّهُ مُفِيدٌ، كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ، وَفِي عَدَمِ الْجَوَازِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّحْجِيرِ الْخَارِجِ عَنْ سُنَّةِ الْقِرَاضِ كَمَا يَقُولُ الدَّرْدِيرُ، كَالِاتِّجَارِ بِالدَّيْنِ، وَالْإِيدَاعِ، لَكِنْ هُنَاكَ قُيُودًا، لَا تَجُوزُ لَهُ مُخَالَفَتُهَا، مِنْهَا: أ- السَّفَرُ إِذَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ رَبُّ الْمَالِ، وَهَذَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْخَطَرِ، وَالتَّعْرِيضِ لِلتَّلَفِ، فَلَوْ سَافَرَ بِالْمَالِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، ضَمِنَهُ.

ب- إِذَا قَيَّدَهُ بِأَنْ لَا يُسَافِرَ بِبَحْرٍ، أَوْ يَبْتَاعَ سِلْعَةً عَيَّنَهَا لَهُ، فَخَالَفَهُ، ضَمِنَ.

ج- وَإِذَا دَفَعَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ قِرَاضًا (أَيْ ضَارَبَ فِيهِ) بِغَيْرِ إِذْنٍ، ضَمِنَ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَضَمَّنُ مِثْلَهُ إِلاَّ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ، أَوِ التَّفْوِيضِ إِلَيْهِ.

ضَمَانُ الْمُضَارِبِ فِي غَيْرِ الْمُخَالَفَاتِ الْعَقَدِيَّةِ:

53- الْمُضَارِبُ وَإِنْ كَانَ أَمِينًا، لَكِنَّهُ يَضْمَنُ- فِي غَيْرِ الْمُخَالَفَاتِ الْعَقَدِيَّةِ- فِيمَا يَلِي:

أ- إِذَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، أَوِ اشْتَرَى بِأَكْثَرَ مِنْهُ، مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ فِيهِ النَّاسُ ضَمِنَ.

ب- إِذَا تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ، أَوْ أَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فِي الْحَضَرِ، عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى مَنْ يُمَوِّلُهُ، ضَمِنَ، لِأَنَّ النَّفَقَةَ جَزَاءُ الِاحْتِبَاسِ، فَإِذَا كَانَ فِي مِصْرِهِ لَا يَكُونُ مُحْتَبِسًا.أَمَّا لَوْ أَنْفَقَ فِي السَّفَرِ، فَفِيهِ خِلَافٌ وَأَوْجُهٌ وَشُرُوطٌ فِي انْتِفَاءِ ضَمَانِهِ.تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (مُضَارَبَة).

ج- إِذَا هَلَكَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ فِي يَدِهِ، بِسَبَبِ تَعَدِّيهِ أَوْ تَقْصِيرِهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ، وَإِلاَّ فَالْخُسْرَانُ وَالضَّيَاعُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، دُونَ الْعَامِلِ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ، كَالْوَدِيعِ.وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، لَا يَضْمَنُهُ، لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ بِإِذْنِ مَالِكِهِ، عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْتَصُّ بِنَفْعِهِ.

د- إِذَا أَتْلَفَ الْعَامِلُ مَالَ الْقِرَاضِ (الْمُضَارَبَةِ) ضَمِنَهُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ بَدَلُهُ، لَكِنْ يَرْتَفِعُ الْقِرَاضُ، لِأَنَّهُ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ بَدَلُهُ، لَكِنْ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمَالِكِ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى اسْتِئْنَافِ الْقِرَاضِ.

الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ:

54- الْوَكِيلُ أَمِينٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنِ الْمُوَكِّلِ، فِي الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ، فَكَانَتْ يَدُهُ كَيَدِهِ، وَالْهَلَاكُ فِي يَدِهِ كَالْهَلَاكِ فِي يَدِ الْمَالِكِ، كَالْوَدِيعِ.

وَلِأَنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدُ إِنْفَاقٍ وَمَعُونَةٍ، وَالضَّمَانُ مُنَافٍ لِذَلِكَ.

وَعَلَى هَذَا لَا يَضْمَنُ الْوَكِيلُ مَا تَلِفَ فِي يَدِهِ بِلَا تَعَدٍّ، وَإِنْ تَعَدَّى ضَمِنَ، وَكُلُّ مَا يَتَعَدَّى فِيهِ الْوَكِيلُ مَضْمُونٌ، عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ تَعَدَّى- كَمَا يَذْكُرُ ابْنُ رُشْدٍ-.

55- الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ يَتَقَيَّدُ شِرَاؤُهُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ وَغَبْنٍ يَسِيرٍ- وَهُوَ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ- إِذَا لَمْ يَكُنْ سِعْرُهُ مَعْرُوفًا، فَإِنْ كَانَ سِعْرُهُ مَعْرُوفًا، لَا يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَإِنْ قَلَّتِ الزِّيَادَةُ، (فَيَضْمَنُهَا الْوَكِيلُ) وَهَذَا لِأَنَّ التُّهْمَةَ فِي الْأَكْثَرِ مُتَحَقِّقَةٌ، فَلَعَلَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ فَإِذَا لَمْ يُوَافِقْهُ أَلْحَقَهُ بِغَيْرِهِ.

وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ، إِذَا كَانَتِ الْوَكَالَةُ مُطْلَقَةً، لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، إِلاَّ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِنُقْصَانٍ لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، وَلَا بِأَقَلَّ مِمَّا قَدَّرَهُ لَهُ الْمُوَكِّلُ، فَلَوْ بَاعَ كَذَلِكَ كَانَ ضَامِنًا، وَيَتَقَيَّدُ مُطْلَقُ الْوَكَالَةِ بِالْمُتَعَارَفِ.

وَمِمَّا يَضْمَنُهُ الْوَكِيلُ قَبْضُ الدَّيْنِ، وَهُوَ وَكِيلٌ بِالْخُصُومَةِ.

وَالْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ لَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ، لِأَنَّ الْخُصُومَةَ غَيْرُ الْقَبْضِ حَقِيقَةً، وَهِيَ لِإِظْهَارِ الْحَقِّ.

وَيُعْتَبَرُ قَبْضُ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ لِلدَّيْنِ تَعَدِّيًا، فَيَضْمَنُهُ إِنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا يَعْتَدِي فِيهِ الْوَكِيلُ، يَضْمَنُهُ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ تَعَدَّى، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

56- وَهُنَاكَ أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِالضَّمَانِ فِي عَقْدِ الْوَكَالَةِ مِنْهَا:

1- إِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ شَيْئًا، وَأَخَّرَ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَهَلَكَ فِي يَدِهِ، فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ، لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ فِي إِمْسَاكِهِ.

2- إِذَا قَبَضَ ثَمَنَ الْمَبِيعِ، فَهُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ، فَإِنْ طَلَبَهُ الْمُوَكِّلُ، فَأَخَّرَ رَدَّهُ مَعَ إِمْكَانِهِ فَتَلِفَ، ضَمِنَهُ.

3- إِذَا دَفَعَ الْوَكِيلُ دَيْنًا عَنِ الْمُوَكِّلِ، وَلَمْ يُشْهِدْ، فَأَنْكَرَ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ الْقَبْضَ، ضَمِنَ الْوَكِيلُ لِتَفْرِيطِهِ بِعَدَمِ الْإِشْهَادِ وَقَيَّدَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ قَالَ لَهُ: لَا تَدْفَعْ إِلاَّ بِشُهُودٍ، فَدَفَعَ بِغَيْرِ شُهُودٍ.

4- إِذَا سَلَّمَ الْوَكِيلُ الْمَبِيعَ قَبْلَ قَبْضِ ثَمَنِهِ، ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِلْمُوَكِّلِ.

وَكَذَا إِذَا وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ، أَوْ قَبْضِ مَبِيعٍ، فَإِنَّهُ لَا يُسَلِّمُ الثَّمَنَ حَتَّى يَتَسَلَّمَ الْمَبِيعَ.فَلَوْ سَلَّمَ الثَّمَنَ قَبْلَ تَسَلُّمِ الْمَبِيعِ، وَهَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ تَسَلُّمِهِ ضَمِنَهُ لِلْمُوَكِّلِ، إِلاَّ بِعُذْرٍ.

57- لِلْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ نَسِيئَةً أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ ثُمَّ:

أ- إِنْ هَلَكَ قَبْلَ الْحَبْسِ، يَهْلَكُ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَلَا يَضْمَنُ الْوَكِيلُ.

ب- وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ الْحَبْسِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ:

1- يَهْلِكُ بِالثَّمَنِ، هَلَاكَ الْمَبِيعِ، وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنِ الْمُوَكِّلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.

2- وَيَهْلِكُ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنَ الثَّمَنِ، عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، حَتَّى لَوْ كَانَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ رَجَعَ الْوَكِيلُ بِذَلِكَ الْفَضْلِ عَلَى مُوَكِّلِهِ.

3- وَقَالَ: زُفَرُ يَهْلِكُ عَلَى الْوَكِيلِ هَلَاكَ الْمَغْصُوبِ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ عِنْدَهُ لَا يَمْلِكُ الْحَبْسَ مِنْ الْمُوَكِّلِ، فَيَصِيرُ غَاصِبًا بِالْحَبْسِ.

وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْوَكِيلِ إِذَا بَاعَ إِلَى أَجَلٍ، أَنْ يُشْهِدَ، وَإِلاَّ ضَمِنَ.وَتَرَدَّدَتِ النُّقُولُ، فِي أَنَّ عَدَمَ الْإِشْهَادِ، شَرْطُ صِحَّةٍ أَوْ شَرْطٌ لِلضَّمَانِ.

وَنَقَلَ الْجَمَلُ أَنَّهُ إِنْ سَكَتَ الْمُوَكِّلُ عَنِ الْإِشْهَادِ، أَوْ قَالَ: بِعْ وَأَشْهِدْ، فَفِي الصُّورَتَيْنِ يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَى الْوَكِيلِ الضَّمَانُ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ (وَكَالَة).

ضَمَانُ الْوَصِيِّ فِي عَقْدِ الْوِصَايَةِ (أَوِ الْإِيصَاءِ):

58- الْإِيصَاءُ: تَفْوِيضُ الشَّخْصِ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ، وَمَصَالِحِ أَطْفَالِهِ، إِلَى غَيْرِهِ، بَعْدَ مَوْتِهِ.

وَيُعْتَبَرُ الْوَصِيُّ نَائِبًا عَنِ الْمُوصِي، وَتَصَرُّفَاتُهُ نَافِذَةٌ، وَيَدُهُ عَلَى مَالِ الْمُتَوَفَّى يَدُ أَمَانَةٍ، فَلَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ مِنَ الْمَالِ بِدُونِ تَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ، وَيَضْمَنُ فِي الْأَحْوَالِ التَّالِيَةِ:

أ- إِذَا بَاعَ أَوِ اشْتَرَى بِغَبْنٍ فَاحِشٍ، وَهُوَ: الَّذِي لَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُتَقَوِّمِينَ، لِأَنَّ وِلَايَتَهُ لِلنَّظَرِ، وَلَا نَظَرَ فِي الْغَبْنِ الْفَاحِشِ.

ب- كَمَا يَضْمَنُ الْوَصِيُّ إِذَا دَفَعَ الْمَالَ إِلَى الْيَتِيمِ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ، قَبْلَ ظُهُورِ رُشْدِهِ، لِأَنَّهُ دَفَعَهُ إِلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ دَفْعُهُ إِلَيْهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الصَّاحِبَيْنِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ: بِعَدَمِ الضَّمَانِ، إِذَا دَفَعَهُ إِلَيْهِ بَعْدَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الدَّفْعِ إِلَيْهِ حِينَئِذٍ.

ج- لَيْسَ لِلْوَلِيِّ الِاتِّجَارُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ فَعَلَ:

فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يَضْمَنُ رَأْسَ الْمَالِ، وَيَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُسَلِّمُ لَهُ الرِّبْحَ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ.

الضَّمَانُ فِي عَقْدِ الْهِبَةِ:

59- لَمَّا كَانَتِ الْهِبَةُ عَقْدَ تَبَرُّعٍ، فَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ هُوَ قَبْضُ أَمَانَةٍ، فَإِذَا هَلَكَتْ أَوِ اسْتُهْلِكَتْ لَمْ تُضْمَنْ، لِأَنَّهُ- كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ- لَا سَبِيلَ إِلَى الرُّجُوعِ فِي الْهَالِكِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الرُّجُوعِ فِي قِيمَتِهِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَوْهُوبَةٍ لِانْعِدَامِ وُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا.

وَتُضْمَنُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَيْنِ فَقَطْ:

أ- حَالِ مَا إِذَا طَلَبَ الْوَاهِبُ رَدَّهَا- لِأَمْرٍ مَا- وَحَكَمَ الْقَاضِي بِوُجُوبِ الرَّدِّ، وَامْتَنَعَ الْمَوْهُوبُ لَهُ مِنَ الرَّدِّ، ثُمَّ هَلَكَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا حِينَئِذٍ، لِأَنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ قَبْضُ أَمَانَةٍ، وَالْأَمَانَةُ تُضْمَنُ بِالْمَنْعِ وَالْجَحْدِ بِالطَّلَبِ، لِوُجُودِ التَّعَدِّي مِنْهُ.

ب- حَالِ مَا إِذَا وَهَبَهُ مُشَاعًا قَابِلًا لِلْقِسْمَةِ كَالْأَرْضِ الْكَبِيرَةِ، وَالدَّارِ الْكَبِيرَةِ، فَإِنَّهَا هِبَةٌ صَحِيحَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِأَنَّهَا عَقْدُ تَمْلِيكٍ، وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لَهُ، فَأَشْبَهَتِ الْبَيْعَ لَكِنَّهَا فَاسِدَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي الْهِبَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي الْمُشَاعِ، وَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِيهَا، وَتَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ، وَيَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْوَاهِبِ فِيهَا.

رَابِعًا: الْعُقُودُ الْمُزْدَوَجَةُ الْأَثَرِ:

ضَمَانُ الْإِجَارَةِ:

60- إِذَا كَانَتِ الْإِجَارَةُ: تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ، فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ ضَرْبَانِ:

أ- فَقَدْ تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ بِمُجَرَّدِهَا هِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا، وَتَتَحَدَّدُ بِالْمُدَّةِ، كَإِجَارَةِ الدُّورِ لِلسُّكْنَى، وَالْحَوَانِيتِ لِلتِّجَارَةِ، وَالسَّيَّارَاتِ لِلنَّقْلِ، وَالْأَوَانِي لِلِاسْتِعْمَالِ.

ب- وَقَدْ تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا عَمَلًا مَعْلُومًا يُؤَدِّيهِ الْعَامِلُ، كَبِنَاءِ الدَّارِ، وَخِيَاطَةِ الثَّوْبِ، وَإِصْلَاحِ الْأَجْهِزَةِ الْآلِيَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

ج- فَإِذَا كَانَتِ الْمَنْفَعَةُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا، وَهِيَ مُجَرَّدُ السُّكْنَى أَوِ الرُّكُوبِ، أَوْ نَحْوِهِمَا، يُفَرَّقُ فِي الضَّمَانِ، بَيْنَ الْعَيْنِ الْمَأْجُورَةِ، وَبَيْنَ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا:

أ- فَتُعْتَبَرُ الدَّارُ الْمَأْجُورَةُ، وَالسَّيَّارَةُ الْمُسْتَأْجَرَةُ- مَثَلًا- أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ، حَتَّى لَوْ خَرِبَتِ الدَّارُ، أَوْ عَطِبَتِ السَّيَّارَةُ، وَهِيَ فِي يَدِهِ، بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ وَلَا تَقْصِيرٍ، لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ قَبْضَ الْإِجَارَةِ- كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ- قَبْضٌ مَأْذُونٌ فِيهِ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا، كَقَبْضِ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْإِجَارَةُ صَحِيحَةً أَمْ فَاسِدَةً.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى الْعَيْنِ الْمَأْجُورَةِ يَدُ أَمَانَةٍ كَذَلِكَ، بَعْدَ انْتِهَاءِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ، إِذَا لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا، فِي الْأَصَحِّ، اسْتِصْحَابًا لِمَا كَانَ، كَالْمُودَعِ، وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ: يَدُ ضَمَانٍ.

قَالَ السُّبْكِيُّ: فَإِنْ تَلِفَتْ عَقِبَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ، أَوْ إِعْلَامِهِ، فَلَا ضَمَانَ جَزْمًا، أَمَّا إِذَا اسْتَعْمَلَهَا فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا قَطْعًا.

فَلَوْ شَرَطَ الْمُؤَجِّرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ضَمَانَ الْعَيْنِ الْمَأْجُورَةِ، فَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَفِي فَسَادِ الْإِجَارَةِ فِيهِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ.

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ اشْتِرَاطَ الضَّمَانِ عَلَى الْأَمِينِ بَاطِلٌ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: «مَا لَا يَجِبُ ضَمَانُهُ، لَا يُصَيِّرُهُ الشَّرْطُ مَضْمُونًا، وَمَا يَجِبُ ضَمَانُهُ، لَا يَنْتَفِي ضَمَانُهُ بِشَرْطِ نَفْيِهِ».

وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الضَّمَانِ بِشَرْطِهِ، وَوُجُوبِهِ بِشَرْطِهِ اسْتَدَلاَّ بِحَدِيثِ: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ».

ب- أَمَّا الْمَنْفَعَةُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا، وَهِيَ: السُّكْنَى أَوِ الرُّكُوبُ، فَهِيَ مَضْمُونَةٌ، بِضَمَانِ بَدَلِهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، بِمُجَرَّدِ تَمَكُّنِهِ مِنِ اسْتِيفَائِهَا، إِذَا كَانَتِ الْإِجَارَةُ صَحِيحَةً، بِلَا خِلَافٍ، سَوَاءٌ انْتَفَعَ بِهَا الْمُسْتَأْجِرُ أَمْ لَمْ يَنْتَفِعْ، وَهَذَا مَا نَصَّتْ عَلَيْهِ الْمَادَّةُ (470) مِنَ الْمَجَلَّةِ، وَفِيهَا: تَلْزَمُ الْأُجْرَةُ فِي الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ- أَيْضًا- بِالِاقْتِدَارِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، مَثَلًا: لَوِ اسْتَأْجَرَ أَحَدٌ دَارًا بِإِجَارَةٍ صَحِيحَةٍ، فَبَعْدَ قَبْضِهَا يَلْزَمُهُ إِعْطَاءُ الْأُجْرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَسْكُنْهَا.

أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْإِجَارَةُ فَاسِدَةً فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الضَّمَانِ الْوَاجِبِ فِيهَا:

فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ- أَشَارَ إِلَيْهَا ابْنُ رَجَبٍ- أَنَّهَا كَالصَّحِيحَةِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ فِي الضَّمَانِ أَجْرُ الْمِثْلِ، بَالِغًا مَا بَلَغَ، لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مُتَقَوَّمَةٌ، فَتَجِبُ الْقِيمَةُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَالْإِجَارَةُ بَيْعُ الْمَنَافِعِ، فَتُعْتَبَرُ بِبَيْعِ الْأَعْيَانِ، وَفِي بَيْعِ الْأَعْيَانِ إِذَا فَسَدَ الْبَيْعُ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ، بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، فَكَذَا بَيْعُ الْمَنَافِعِ.

وَالْحَنَفِيَّةُ عَدَا زُفَرَ، وَهُوَ الرَّاوِيَةُ الثَّانِيَةُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، يَرَوْنَ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ: فَفِي الصَّحِيحَةِ: يَضْمَنُ الْأُجْرَةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا، مَهْمَا بَلَغَتْ.

أَمَّا فِي الْفَاسِدَةِ، فَضَمَانُ الْأُجْرَةِ مَنُوطٌ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَلَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ إِلاَّ بِالِانْتِفَاعِ، وَيَقُولُ ابْنُ رَجَبٍ فِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: وَلَعَلَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تُضْمَنُ فِي الْغَصْبِ وَنَحْوِهِ، إِلاَّ بِالِانْتِفَاعِ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ.

61- أَمَّا إِذَا كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا هِيَ إِنْجَازُ عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، كَالْبِنَاءِ وَالْخِيَاطَةِ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّ الضَّمَانَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ صِفَةِ الْعَامِلِ، وَهُوَ الْأَجِيرُ فِي اصْطِلَاحِهِمْ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَجِيرًا خَاصًّا، أَوْ مُشْتَرَكًا أَيْ عَامًّا.

وَالْأَجِيرُ الْخَاصُّ هُوَ الَّذِي يَتَقَبَّلُ الْعَمَلَ مِنْ وَاحِدٍ، أَوْ يَعْمَلُ لِوَاحِدٍ مُدَّةً مَعْلُومَةً، وَيَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِالْوَقْتِ دُونَ الْعَمَلِ.

وَالْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ، هُوَ الَّذِي يَتَقَبَّلُ الْعَمَلَ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ حَتَّى يَعْمَلَ، وَالضَّابِطُ: أَنَّ: كُلَّ مَنْ يَنْتَهِي عَمَلُهُ بِانْتِهَاءِ مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ فَهُوَ أَجِيرٌ وَاحِدٌ (أَيْ خَاصٌّ) وَكُلُّ مَنْ لَا يَنْتَهِي عَمَلُهُ بِانْتِهَاءِ مُدَّةٍ مُقَدَّرَةٍ، فَهُوَ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ.

وَفِي ضَمَانِ كُلٍّ مِنْهُمَا تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَارَة)..

ضَمَانُ الرَّهْنِ:

62- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمَانِ الرَّهْنِ، إِذَا هَلَكَتِ الْعَيْنُ الْمَرْهُونَةُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ، بَعْدَ قَبْضِهَا وَبَعْدَ تَحَقُّقِ شُرُوطِ الرَّهْنِ:

فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الرَّهْنَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ، إِلاَّ إِذَا تَعَدَّى فِيهِ، أَوِ امْتَنَعَ مِنْ رَدِّهِ بَعْدَ طَلَبِهِ مِنْهُ أَوْ بَعْدَ الْبَرَاءَةِ مِنَ الدَّيْنِ، وَلَا يَسْقُطُ بِشَيْءٍ مِنَ الدَّيْنِ بِهَلَاكِهِ (أَيِ الرَّهْنِ) مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ وَذَلِكَ:

لِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذِي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ».

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرَّهْنَ إِذَا قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ، كَانَتْ مَالِيَّتُهُ مَضْمُونَةً، أَمَّا عَيْنُهُ فَأَمَانَةٌ، وَذَلِكَ: لِمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ حَدَّثَ: «أَنَّ رَجُلًا رَهَنَ فَرَسًا، فَنَفَقَ فِي يَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- لِلْمُرْتَهِنِ: ذَهَبَ حَقُّكَ».

وَلِحَدِيثِ عَطَاءٍ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ» (وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ الَّذِي وُضِعَ فِي مُقَابِلِهِ).

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى ضَمَانِ الرَّهْنِ بِشُرُوطٍ:

أ- أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، لَا فِي يَدِ غَيْرِهِ، كَالْعَدْلِ.

ب- أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ، أَيْ يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ، كَالْحُلِيِّ وَالسِّلَاحِ وَالْكُتُبِ وَالثِّيَابِ.

ج- أَنْ لَا تَقُومَ بَيِّنَةٌ عَلَى هَلَاكِهِ أَوْ تَلَفِهِ بِغَيْرِ سَبَبِهِ، كَالْحَرِيقِ الْغَالِبِ، وَغَارَاتِ الْأَعْدَاءِ، وَمُصَادَرَةِ الْبُغَاةِ، فَإِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ، ضَمِنَ الْمُرْتَهِنُ، وَلَوْ شَرَطَ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ الْبَرَاءَةَ وَعَدَمَ ضَمَانِهِ، لِأَنَّ هَذَا إِسْقَاطٌ لِلشَّيْءِ قَبْلَ وُجُوبِهِ، وَالتُّهْمَةُ مَوْجُودَةٌ، خِلَافًا لِأَشْهَبَ، الْقَائِلِ بِعَدَمِ الضَّمَانِ عِنْدَ الشَّرْطِ.

63- وَفِي اعْتِبَارِ قِيمَةِ الرَّهْنِ الْمَضْمُونِ، بَعْضُ الْخِلَافِ وَالتَّفْصِيلِ:

فَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ، عَلَى أَنَّ قِيمَةَ الْمَرْهُونِ إِذَا هَلَكَ، تُعْتَبَرُ يَوْمَ الْقَبْضِ، لِأَنَّهُ يَوْمئِذٍ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ، وَفِيهِ يَثْبُتُ الِاسْتِيفَاءُ يَدًا، ثُمَّ يَتَقَرَّرُ بِالْهَلَاكِ.

أَمَّا إِذَا اسْتَهْلَكَهُ الْمُرْتَهِنُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الِاسْتِهْلَاكِ، لِوُرُودِهِ عَلَى الْعَيْنِ الْمُودَعَةِ، وَتَكُونُ الْقِيمَةُ رَهْنًا عِنْدَهُ.

وَلِلْمَالِكِيَّةِ- فِي اعْتِبَارِ قِيمَةِ الرَّهْنِ التَّالِفِ- ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، كُلُّهَا مَرْوِيَّةٌ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ:

الْأَوَّلُ: يَوْمُ التَّلَفِ، لِأَنَّ عَيْنَ الرَّهْنِ كَانَتْ قَائِمَةً، فَلَمَّا تَلِفَتْ قَامَتْ قِيمَتُهَا مَقَامَهَا.

الثَّانِي: يَوْمُ الْقَبْضِ، لِأَنَّهُ كَشَاهِدٍ، وَضَعَ خَطَّهُ وَمَاتَ، فَيُعْتَبَرُ خَطُّهُ، وَتُعْتَبَرُ عَدَالَتُهُ يَوْمَ كَتْبِهِ.

الثَّالِثُ: يَوْمُ عَقْدِ الرَّهْنِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: وَهُوَ أَقْرَبُ، لِأَنَّ النَّاسَ إِنَّمَا يَرْهَنُونَ مَا يُسَاوِي الدَّيْنَ الْمَرْهُونَ فِيهِ غَالِبًا.

ضَمَانُ الرَّهْنِ الْمَوْضُوعِ عَلَى يَدِ الْعَدْلِ:

64- يَصِحُّ وَضْعُ الرَّهْنِ عِنْدَ عَدْلٍ ثَالِثٍ، غَيْرِ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ، وَيَتِمُّ وَيَلْزَمُ بِقَبْضِ الْعَدْلِ، لِأَنَّ يَدَهُ كَيَدِ الْمُرْتَهِنِ.

وَلَا يَأْخُذُهُ أَحَدُهُمَا مِنْهُ، لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُّ الرَّاهِنِ فِي الْحِفْظِ بِيَدِهِ، وَتَعَلَّقَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ بِهِ اسْتِيفَاءً، فَلَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا إِبْطَالَ حَقِّ الْآخَرِ.

وَلَوْ دَفَعَ الرَّهْنَ إِلَى أَحَدِهِمَا ضَمِنَ، لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمَا بِهِ، لِأَنَّهُ مُودَعُ الرَّاهِنِ فِي حَقِّ الْعَيْنِ، وَمُودَعُ الْمُرْتَهِنِ فِي حَقِّ الْمَالِيَّةِ، وَكِلَاهُمَا أَجْنَبِيٌّ عَنْ صَاحِبِهِ، وَالْمُودَعُ يُضْمَنُ بِالدَّفْعِ إِلَى الْأَجْنَبِيِّ.

وَلَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْعَدْلِ: فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَهْلَكُ مِنْ ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّ يَدَهُ فِي حَقِّ الْمَالِيَّةِ يَدُ الْمُرْتَهِنِ، وَهِيَ الْمَضْمُونَةُ، فَإِذَا هَلَكَ، هَلَكَ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ.

وَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّهُ إِذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْأَمِينِ، هَلَكَ مِنْ ضَمَانِ الرَّاهِنِ.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ: عَلَى أَنَّ الْأَمِينَ إِذَا دَفَعَ الرَّهْنَ إِلَى الرَّاهِنِ أَوِ الْمُرْتَهِنِ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَتَلِفَ:

فَإِنْ سَلَّمَهُ إِلَى الرَّاهِنِ، ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِلْمُرْتَهِنِ، أَوْ ضَمِنَ لَهُ الدَّيْنَ الْمَرْهُونَ هُوَ فِيهِ، فَيَضْمَنُ أَقَلَّهُمَا.

وَإِنْ سَلَّمَهُ إِلَى الْمُرْتَهِنِ، ضَمِنَ قِيمَةَ الرَّهْنِ لِلرَّاهِنِ.

الضَّمَانُ فِي الصُّلْحِ عَنْ مَالٍ بِمَنْفَعَةٍ:

65- إِذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْ مَالٍ بِمَنْفَعَةٍ، كَسُكْنَى دَارٍ، وَرُكُوبِ سَيَّارَةٍ، مُدَّةً مَعْلُومَةً، اعْتُبِرَ هَذَا الصُّلْحُ بِمَثَابَةِ عَقْدِ إِجَارَةٍ، وَعِبَارَةِ التَّنْوِيرِ: وَكَإِجَارَةٍ إِنْ وَقَعَ عَنْ مَالٍ بِمَنْفَعَةٍ.

كَمَا لَوْ كَانَ لِشَخْصٍ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِينَارٍ، فَصَالَحَهُ الْمَدِينُ عَلَى سُكْنَى دَارِهِ، أَوْ عَلَى زِرَاعَةِ أَرْضِهِ، أَوْ رُكُوبِ سَيَّارَتِهِ، مُدَّةً مَعْلُومَةً، جَازَ هَذَا الصُّلْحُ.

وَتَثْبُتُ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الصُّلْحِ شُرُوطُ الْإِجَارَةِ، مِنْهَا التَّوْقِيتُ- إِنِ احْتِيجَ إِلَيْهِ- وَتَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُهَا- كَمَا يَقُولُ النَّوَوِيُّ- وَمِنْ أَهَمُّهَا: اعْتِبَارُ الْعَيْنِ الْمُتَصَالَحِ عَلَى مَنْفَعَتِهَا، كَالدَّارِ وَالسَّيَّارَةِ، أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُصَالِحِ، أَمَّا الْمَنْفَعَةُ ذَاتُهَا فَإِنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُصَالِحِ، بِمُجَرَّدِ تَسَلُّمِ الْعَيْنِ، فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الصُّلْحِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا، اعْتُبِرَ الْمُصَالِحُ مُسْتَوْفِيًا لِبَدَلِ الصُّلْحِ حُكْمًا، سَوَاءٌ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ فِعْلًا أَوْ عَطَّلَهَا، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْإِجَارَةِ.

يَدُ الْأَمَانَةِ وَيَدُ الضَّمَانِ:

66- الْمَشْهُورُ تَقْسِيمُ الْيَدِ إِلَى قِسْمَيْنِ: يَدِ أَمَانَةٍ، وَيَدِ ضَمَانٍ.

وَيَدُ الْأَمَانَةِ، حِيَازَةُ الشَّيْءِ أَوِ الْمَالِ، نِيَابَةً لَا تَمَلُّكًا، كَيَدِ الْوَدِيعِ، وَالْمُسْتَعِيرِ، وَالْمُسْتَأْجِرِ، وَالشَّرِيكِ، وَالْمُضَارِبِ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ، وَالْوَصِيِّ.

وَيَدُ الضَّمَانِ، حِيَازَةُ الْمَالِ لِلتَّمَلُّكِ أَوْ لِمَصْلَحَةِ الْحَائِزِ، كَيَدِ الْمُشْتَرِي وَالْقَابِضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، وَالْمُرْتَهِنِ، وَالْغَاصِبِ وَالْمَالِكِ، وَالْمُقْتَرِضِ.

وَحُكْمُ يَدِ الْأَمَانَةِ، أَنَّ وَاضِعَ الْيَدِ أَمَانَةً، لَا يَضْمَنُ مَا هُوَ تَحْتَ يَدِهِ، إِلاَّ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّقْصِيرِ، كَالْوَدِيعِ فَإِنَّهُ إِذَا أَوْدَعَ الْوَدِيعَةَ عِنْدَ مَنْ لَا يُودَعُ مِثْلُهَا عِنْدَ مِثْلِهِ يَضْمَنُهَا.

وَحُكْمُ يَدِ الضَّمَانِ، أَنَّ وَاضِعَ الْيَدِ عَلَى الْمَالِ، عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ أَوِ الِانْتِفَاعِ بِهِ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، يَضْمَنُهُ فِي كُلِّ حَالٍ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ، أَوْ عَجَزَ عَنْ رَدِّهِ إِلَى صَاحِبِهِ، كَمَا يَضْمَنُهُ بِالتَّلَفِ وَالْإِتْلَافِ.

فَالْمَالِكُ ضَامِنٌ لِمَا يَمْلِكُهُ وَهُوَ تَحْتَ يَدِهِ، فَإِذَا انْتَقَلَتِ الْيَدُ إِلَى غَيْرِهِ بِعَقْدِ الْبَيْعِ، أَوْ بِإِذْنِهِ، كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ، أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ كَالْمَغْصُوبِ، فَالضَّمَانُ فِي ذَلِكَ عَلَى ذِي الْيَدِ.

وَلَوِ انْتَقَلَتِ الْيَدُ إِلَى غَيْرِهِ، بِعَقْدِ وَدِيعَةٍ أَوْ عَارِيَّةً، فَالضَّمَانُ- أَيْضًا- عَلَى الْمَالِكِ.

أَهَمُّ الْأَحْكَامِ وَالْفَوَارِقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ:

أ- تَأْثِيرُ السَّبَبِ السَّمَاوِيِّ:

67- إِذَا هَلَكَ الشَّيْءُ بِسَبَبٍ لَا دَخْلَ لِلْحَائِزِ فِيهِ وَلَا لِغَيْرِهِ، انْتَفَى الضَّمَانُ فِي يَدِ الْأَمَانَةِ، لَا فِي يَدِ الضَّمَانِ، فَلَوْ هَلَكَتِ الْعَارِيَّةُ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ بِسَبَبِ الْحَرِّ أَوِ الْبَرْدِ، لَا يَضْمَنُ الْمُسْتَعِيرُ، لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ أَمَانَةٍ.

بِخِلَافِ يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي، فَإِنَّهُ لَا يَنْتَفِي الضَّمَانُ بِهَلَاكِهِ بِذَلِكَ، بَلْ يُفْسَخُ الْعَقْدُ، وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ، لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ مِنْ بَقَائِهِ، لِعَجْزِ الْبَائِعِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ كُلَّمَا طَالَبَ بِالثَّمَنِ، فَامْتَنَعَتِ الْمُطَالَبَةُ، وَارْتَفَعَ الْعَقْدُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ مَالِكٍ، انْتِقَالُ الضَّمَانِ إِلَى الْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ.

ب- تَغَيُّرُ صِفَةِ وَضْعِ الْيَدِ:

68- تَتَغَيَّرُ صِفَةُ يَدِ الْأَمِينِ وَتُصْبِحُ يَدَ ضَمَانٍ بِالتَّعَدِّي، فَإِذَا تَلِفَ الشَّيْءُ بَعْدَ ذَلِكَ ضَمِنَهُ، مَهْمَا كَانَ سَبَبُ التَّلَفِ، وَلَوْ سَمَاوِيًّا.

أ- فَفِي الْإِجَارَةِ، يُعْتَبَرُ الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ أَمِينًا- عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- وَالْمَتَاعُ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ، لَا يُضْمَنُ إِنْ هَلَكَ بِغَيْرِ عَمَلِهِ، إِلاَّ إِنْ قَصَّرَ فِي حِفْظِهِ، كَالْوَدِيعِ إِذَا قَصَّرَ فِي حِفْظِ الْوَدِيعَةِ أَوْ تَعَمَّدَ الْإِتْلَافَ، أَوْ تَلِفَ الْمَتَاعُ بِفِعْلِهِ، كَتَمَزُّقِ الثَّوْبِ مِنْ دَقِّهِ.

ب- وَفِي الْوَدِيعَةِ، يَضْمَنُ إِذَا تَرَكَ الْحِفْظَ الْمُلْتَزَمَ، كَأَنْ رَأَى إِنْسَانًا يَسْرِقُ الْوَدِيعَةَ، فَتَرَكَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْمَنْعِ، أَوْ خَالَفَ فِي كَيْفِيَّةِ الْحِفْظِ، أَوْ أَوْدَعَهَا مَنْ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ، أَوْ عِنْدَ مَنْ لَا تُودَعُ عِنْدَ مِثْلِهِ، أَوْ سَافَرَ بِهَا، أَوْ جَحَدَهَا كَمَا تَقَدَّمَ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (وَدِيعَة).

ج- وَفِي الْعَارِيَّةِ، وَهِيَ أَمَانَةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، مَا عَدَا الْحَنَابِلَةَ، لَا تُضْمَنُ إِنْ هَلَكَتْ بِالِانْتِفَاعِ الْمُعْتَادِ، وَتُضْمَنُ بِالتَّعَدِّي، كَأَنْ يَدُلَّ عَلَيْهَا سَارِقًا أَوْ يُتْلِفَهَا أَوْ يَمْنَعَهَا مِنَ الْمُعِيرِ بَعْدَ الطَّلَبِ، عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ مَا يُغَابُ وَمَا لَا يُغَابُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

ج- الْمَوْتُ عَنْ تَجْهِيلٍ:

69- مَعْنَى التَّجْهِيلِ: أَنْ لَا يُبَيِّنَ حَالَ الْأَمَانَةِ الَّتِي عِنْدَهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ وَارِثَهُ لَا يَعْلَمُ حَالَهَا، كَذَلِكَ فَسَّرَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ فَالْوَدِيعُ إِذَا مَاتَ مُجْهِلًا حَالَ الْوَدِيعَةِ الَّتِي عِنْدَهُ، وَوَارِثَهُ لَا يَعْلَمُ حَالَهَا، يَضْمَنُهَا بِذَلِكَ.

وَمَعْنَى ضَمَانِهَا- كَمَا يَقُولُ ابْنُ نُجَيْمٍ- صَيْرُورَتُهَا دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ.

وَكَذَلِكَ نَاظِرُ الْوَقْفِ، إِذَا مَاتَ مُجْهِلًا لِحَالِ بَدَلِ الْوَقْفِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ.

وَكَذَا كُلُّ شَيْءٍ أَصْلُهُ أَمَانَةٌ يَصِيرُ دَيْنًا فِي التَّرِكَةِ بِالْمَوْتِ عَنْ تَجْهِيلٍ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْإِيصَاءِ فِي الْوَدِيعَةِ يَسْتَوْجِبُ الضَّمَانَ، وَقَالُوا: إِذَا مَرِضَ الْمُودَعُ مَرَضًا مَخُوفًا، أَوْ حُبِسَ لِيُقْتَلَ لَزِمَهُ أَنْ يُوصِيَ، فَإِنْ سَكَتَ عَنْ ذَلِكَ لَزِمَهُ الضَّمَانُ، لِأَنَّهُ عَرَّضَهَا لِلْفَوَاتِ، لِأَنَّ الْوَارِثَ يَعْتَمِدُ ظَاهِرَ الْعَيْنِ، وَلَا بُدَّ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ بَيَانِ الْوَدِيعَةِ، حَتَّى لَوْ قَالَ: عِنْدِي لِفُلَانٍ ثَوْبٌ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي تَرِكَتِهِ، ضَمِنَ لِعَدَمِ بَيَانِهِ. (ر: تَجْهِيل).

د- الشَّرْطُ:

70- لَا أَثَرَ لِلشَّرْطِ فِي صِفَةِ الْيَدِ الْمُؤْتَمَنَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ.

قَالَ الْبَغْدَادِيُّ: اشْتِرَاطُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ بَاطِلٌ، وَقِيلَ: تَصِيرُ مَضْمُونَةً.

وَقَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ: وَاشْتِرَاطُ الضَّمَانِ عَلَى الْأَمِينِ بَاطِلٌ، بِهِ يُفْتَى فَلَوْ شَرَطَ الْمُؤَجِّرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ضَمَانَ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ، فَالشَّرْطُ فَاسِدٌ.

وَلَوْ شَرَطَ الْمُودَعُ عَلَى الْوَدِيعِ ضَمَانَ الْوَدِيعَةِ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَلَا ضَمَانَ لَوْ تَلِفَتْ وَكَذَا الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْأَمَانَاتِ.

وَعَلَّلَهُ الْمَالِكِيَّةُ، بِأَنَّهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِخْرَاجِهَا عَنْ حَقِيقَتِهَا الشَّرْعِيَّةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَلَوْ قَالَ الْوَدِيعُ: أَنَا ضَامِنٌ لَهَا لَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِغَيْرِ تَعَدٍّ وَلَا تَقْصِيرٍ، لِأَنَّ ضَمَانَ الْأَمَانَاتِ غَيْرُ صَحِيحٍ.

وَنَصَّ الْقَلْيُوبِيُّ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْأَمَانَةِ فِي الْعَارِيَّةِ- وَهِيَ مَضْمُونَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا هَلَكَتْ بِغَيْرِ الِاسْتِعْمَالِ- هُوَ شَرْطٌ مُفْسِدٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَشَرْطُ أَنْ لَا ضَمَانَ فِيهَا فَاسِدٌ لَا مُفْسِدٌ.

وَجَاءَ فِي نُصُوصِ الْحَنَابِلَةِ: كُلُّ مَا كَانَ أَمَانَةً لَا يَصِيرُ مَضْمُونًا بِشَرْطِهِ، لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ كَوْنُهُ أَمَانَةً، فَإِذَا شَرَطَ ضَمَانَهُ، فَقَدِ الْتَزَمَ ضَمَانَ مَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ ضَمَانِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ، كَمَا لَوِ اشْتَرَطَ ضَمَانَ الْوَدِيعَةِ، أَوْ ضَمَانَ مَالٍ فِي يَدِ مَالِكِهِ.وَمَا كَانَ مَضْمُونًا لَا يَنْتَفِي ضَمَانُهُ بِشَرْطِهِ، لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الضَّمَانُ، فَإِذَا شَرَطَ نَفْيَ ضَمَانِهِ لَا يَنْتَفِي مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَطَ نَفْيَ ضَمَانِ مَا يَتَعَدَّى فِيهِ.

وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: «الْمُؤْمِنُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ»، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الضَّمَانِ بِشَرْطِهِ، وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ.

الْقَوَاعِدُ الْفِقْهِيَّةُ فِي الضَّمَانِ:

الْقَوَاعِدُ فِي الضَّمَانِ كَثِيرَةٌ، نُشِيرُ إِلَى أَهَمِّهَا، بِاخْتِصَارٍ فِي التَّعْرِيفِ بِهَا، وَالتَّمْثِيلِ لَهَا، كُلَّمَا دَعَتِ الْحَاجَةُ، مُرَتَّبَةً بِحَسَبِ أَوَائِلِ حُرُوفِهَا:

الْقَاعِدَةُ الْأُولَى: «الْأَجْرُ وَالضَّمَانُ لَا يَجْتَمِعَانِ»:

71- الْأَجْرُ هُوَ: بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ.وَالضَّمَانُ- هُنَا- هُوَ: الِالْتِزَامُ بِقِيمَةِ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا، هَلَكَتْ أَوْ لَمْ تَهْلَكْ، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مِنْ قَوَاعِدِ الْحَنَفِيَّةِ، الْمُتَّصِلَةِ بِرَأْيِهِمْ فِي عَدَمِ ضَمَانِ مَنَافِعِ الْمَغْصُوبِ، خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ.

فَلَوِ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً أَوْ سَيَّارَةً، لِحَمْلِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ، فَحَمَّلَهَا شَيْئًا آخَرَ أَوْ أَثْقَلَ مِنْهُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ، كَأَنْ حَمَلَ مَكَانَ الْقُطْنِ حَدِيدًا فَتَلِفَتْ، ضَمِنَ قِيمَتَهَا، وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا هَلَكَتْ بِغَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ.

وَكَذَا لَوِ اسْتَأْجَرَهَا، لِيَرْكَبَهَا إِلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ، فَذَهَبَ بِهَا إِلَى مَكَانٍ آخَرَ فَهَلَكَتْ، ضَمِنَ قِيمَتَهَا، وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْأَجْرَ وَالضَّمَانَ لَا يَجْتَمِعَانِ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

لَكِنِ الْقَاعِدَةُ مَشْرُوطَةٌ عِنْدَهُمْ، بِعَدَمِ اسْتِقْرَارِ الْأَجْرِ فِي ذِمَّةِ الضَّامِنِ، كَمَا لَوِ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةَ الدَّابَّةِ- مَثَلًا- فِعْلًا، ثُمَّ تَجَاوَزَ فَصَارَ غَاصِبًا، وَضَمِنَ، يَلْزَمُهُ أَجْرُ مَا سَمَّى عِنْدَهُمْ، إِذَا سَلِمَتِ الدَّابَّةُ وَلَمْ تَهْلَكْ.

وَالْجُمْهُورُ يُوجِبُونَ الْأَجْرَ كُلَّمَا كَانَ لِلْمَغْصُوبِ أَجْرٌ، لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مُتَقَوِّمَةٌ كَالْأَعْيَانِ، فَإِذَا تَلِفَتْ أَوْ أَتْلَفَهَا فَقَدْ أَتْلَفَ مُتَقَوِّمًا، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ كَالْأَعْيَانِ وَإِذَا ذَهَبَ بَعْضُ أَجْزَاءِ الْمَغْصُوبِ فِي مُدَّةِ الْغَصْبِ، وَجَبَ مَعَ الْأُجْرَةِ أَرْشُ نَقْصِهِ لِانْفِرَادِ كُلٍّ بِإِيجَابٍ.

وَلِلْمَالِكِيَّةِ أَقْوَالٌ: وَافَقُوا فِي بَعْضِهَا الْحَنَفِيَّةَ، وَفِي بَعْضِهَا الْجُمْهُورَ وَانْفَرَدُوا بِتَفْصِيلٍ فِي بَعْضِهَا.

الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا اجْتَمَعَ الْمُبَاشِرُ وَالْمُتَسَبِّبُ يُضَافُ الْحُكْمُ إِلَى الْمُبَاشِرِ.

72- الْمُبَاشِرُ لِلْفِعْلِ: هُوَ الْفَاعِلُ لَهُ بِالذَّاتِ، وَالْمُتَسَبِّبُ هُوَ الْمُفْضِي وَالْمُوَصِّلُ إِلَى وُقُوعِهِ، وَيَتَخَلَّلُ بَيْنَ فِعْلِهِ وَبَيْنَ الْأَثَرِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَالْمُبَاشِرُ يَحْصُلُ الْأَثَرُ بِفِعْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ فِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ.

وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْمُبَاشِرُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَيْهِ مِنَ الْمُتَسَبِّبِ، قَالَ خَلِيلٌ: وَقُدِّمَ عَلَيْهِ الْمُرْدِي فَلَوْ حَفَرَ رَجُلٌ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ، بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْ وَلِيِّ الْأَمْرِ، فَأَلْقَى شَخْصٌ حَيَوَانَ غَيْرِهِ فِي تِلْكَ الْبِئْرِ، ضَمِنَ الَّذِي أَلْقَى الْحَيَوَانَ، لِأَنَّهُ الْعِلَّةُ الْمُؤَثِّرَةُ، دُونَ حَافِرِ الْبِئْرِ، لِأَنَّ التَّلَفَ لَمْ يَحْصُلْ بِفِعْلِهِ.

وَلَوْ وَقَعَ الْحَيَوَانُ فِيهِ بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ، ضَمِنَ الْحَافِرُ، لِتَسَبُّبِهِ بِتَعَدِّيهِ بِالْحَفْرِ بِغَيْرِ إِذْنٍ.

وَكَذَلِكَ لَوْ دَلَّ سَارِقًا عَلَى مَتَاعٍ، فَسَرَقَهُ الْمَدْلُولُ، ضَمِنَ السَّارِقُ لَا الدَّالُّ.

وَلِذَا لَوْ دَفَعَ إِلَى صَبِيٍّ سِكِّينًا، فَوَجَأَ بِهِ نَفْسَهُ، لَا يَضْمَنُ الدَّافِعُ، لِتَخَلُّلِ فِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ.وَلَوْ وَقَعَ السِّكِّينُ عَلَى رِجْلِ الصَّبِيِّ فَجَرَحَهَا ضَمِنَ الدَّافِعُ.

الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ: «الِاضْطِرَارُ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الْغَيْرِ».

73- تَطَّرِدُ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ سَوَاءٌ أَكَانَ الِاضْطِرَارُ فِطْرِيًّا كَالْجُوعِ، أَمْ غَيْرَ فِطْرِيٍّ كَالْإِكْرَاهِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الْإِثْمُ، وَعُقُوبَةُ التَّجَاوُزِ، أَمَّا حَقُّ الْآخَرِينَ فَلَا يَتَأَثَّرُ بِالِاضْطِرَارِ، وَيَبْقَى الْمَالُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَالْقِيمَةِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا.فَلَوِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ إِلَى أَكْلِ طَعَامِ غَيْرِهِ، جَازَ لَهُ أَكْلُهُ، وَضَمِنَ قِيمَتَهُ، لِعَدَمِ إِذْنِ الْمَالِكِ، وَإِنَّمَا الَّذِي وُجِدَ هُوَ إِذْنُ الشَّرْعِ الَّذِي أَسْقَطَ الْعُقُوبَةَ فَقَطْ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


297-موسوعة الفقه الكويتية (طلاق 3)

طَلَاقٌ -3

39- فَإِذَا طَلَّقَهَا بَائِنًا وَاحِدَةً، أَوِ اثْنَتَيْنِ مَعًا، ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَانِيَةً وَثَالِثَةً فِي عِدَّتِهَا، لَمْ تَقَعِ الثَّانِيَةُ أَوِ الثَّالِثَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِخُرُوجِهَا عَنِ الزَّوْجِيَّةِ بِالْأُولَى، فَلَمْ تَعُدْ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةَ إِذَا كَانَتَا بِلَفْظٍ صَرِيحِ، لَحِقَتْهَا الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ، بِلَفْظٍ صَرِيحٍ كَانَتْ أَوْ كِنَائِيٍّ، فَإِذَا كَانَتِ الْأُولَى أَوِ الثَّانِيَةُ بَائِنًا لَحِقَتْهَا الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ إِذَا كَانَتْ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ فَقَطْ، فَإِذَا كَانَتْ بَائِنًا لَمْ تَلْحَقْهَا إِذَا أَمْكَنَ جَعْلُهَا إِخْبَارًا عَنْهَا لِاحْتِمَالِ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ لَهَا: أَنْتِ بَائِنٌ بَائِنٌ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهَا إِخْبَارًا عَنْهَا لَحِقَتْهَا أَيْضًا، كَقَوْلِهِ لَهَا: أَنْتِ بَائِنٌ ثُمَّ قَوْلُهُ: أَنْتِ بَائِنٌ بِأُخْرَى، فَإِنَّهَا تَلْحَقُهَا لِتَعَذُّرِ جَعْلِهَا إِخْبَارًا عَنْهَا.فَإِذَا طَلَّقَهَا وَذَكَرَ أَنَّهُ ثَلَاثٌ لَفْظًا وَقَعَ ثَلَاثًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: اثْنَتَيْنِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهِ اثْنَتَانِ، كَأَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ.فَإِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَالَ لَهَا: (هَكَذَا) مَعَ الْإِشَارَةِ وَقَعَ الثَّلَاثُ، وَإِنْ قَالَ: مِثْلُ هَذِهِ، مَعَ الْإِشَارَةِ بِالثَّلَاثِ وَقَعَ ثَلَاثٌ إِنْ نَوَاهَا، وَإِلاَّ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا مَعَ الْإِشَارَةِ بِالْأَصَابِعِ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ وَلَغَتِ الْإِشَارَةُ.

فَإِنْ كَتَبَ لَهَا ثَلَاثًا بَدَلَ الْإِشَارَةِ بِالْأَصَابِعِ، فَمِثْلُ الْإِشَارَةِ.

فَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَكْبَرَ الطَّلَاقِ أَوْ أَغْلَظَهُ..فَإِنْ نَوَى بِهِ ثَلَاثًا، فَثَلَاثٌ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ ذَلِكَ، وَإِلاَّ وَقَعَ بِهِ وَاحِدَةٌ بَائِنٌ.إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، وَنَوَى عَدَدًا وَقَعَ مَا نَوَاهُ، فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَنَوَى عَدَدًا، وَقَعَ مَا نَوَاهُ وَاحِدَةً بِهِ عَلَى الرَّاجِحِ؛ لِأَنَّ الْمَلْفُوظَ يُنَاقِضُ الْمَنْوِيَّ، وَاللَّفْظُ أَقْوَى، فَالْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى.وَقِيلَ: يَقَعُ الْمَنْوِيُّ عَمَلًا بِالنِّيَّةِ.وَالْحَنَابِلَةُ مَعَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِيمَا تَقَدَّمَ، إِلاَّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ قَوْلُهُ: وَإِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ بَرِيَّةٌ، أَوْ أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ، أَوِ الْحَقِي بِأَهْلِكِ، فَهُوَ عِنْدِي ثَلَاثٌ، وَلَكِنْ أَكْرَهُ أَنْ أُفْتِيَ بِهِ، سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَمْ لَمْ يَدْخُلْ.أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَيُوقِعُونَ بِذَلِكَ ثَلَاثًا إِنْ نَوَاهَا، لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهَا، فَإِذَا لَمْ يَنْوِ الثَّلَاثَ لَمْ يَقَعْ بِهِ ثَلَاثٌ.

وَالْمَالِكِيَّةُ مَعَ الْجُمْهُورِ فِي كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، إِلاَّ أَنَّهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَخِيرَةِ يَقُولُونَ: يَقَعُ ثَلَاثٌ مُطْلَقًا، إِلاَّ فِي الْخُلْعِ أَوْ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَيَكُونُ وَاحِدَةً.فَإِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَنَوَى بِهِ ثَلَاثًا، وَقَعَ وَاحِدَةٌ، وَبَطَلَتِ النِّيَّةُ، لِعَدَمِ احْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهَا، فَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَنَوَى بِهِ وَاحِدَةً، وَقَعَ عَلَيْهِ ثَلَاثٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ، لِصَرَاحَةِ اللَّفْظِ، فَلَا تَعْمَلُ النِّيَّةُ بِخِلَافِهِ.

فَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَنَوَى بِهِ ثَلَاثًا، وَقَعَ بِهِ وَاحِدَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ يَقَعُ ثَلَاثٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ.

ثَالِثًا- السُّنِّيُّ وَالْبِدْعِيُّ:

40- قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الطَّلَاقَ مِنْ حَيْثُ وَصْفُهُ الشَّرْعِيُّ إِلَى سُنِّيٍّ وَبِدْعِيٍّ يُرِيدُونَ بِالسُّنِّيِّ: مَا وَافَقَ السُّنَّةَ فِي طَرِيقَةِ إِيقَاعِهِ، وَالْبِدْعِيُّ: مَا خَالَفَ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَعْنُونَ بِالسُّنِّيِّ أَنَّهُ سُنَّةٌ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ النُّصُوصِ الْمُنَفِّرَةِ مِنَ الطَّلَاقِ، وَأَنَّهُ أَبْغَضُ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ أَحْوَالِ كُلٍّ مِنَ السُّنِّيِّ وَالْبِدْعِيِّ، وَاتَّفَقُوا فِي بَعْضِهَا الْآخَرِ، كَمَا يَلِي: قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الطَّلَاقَ إِلَى سُنِّيٍّ وَبِدْعِيٍّ، وَقَسَّمُوا السُّنِّيَّ إِلَى قِسْمَيْنِ: حَسَنٌ وَأَحْسَنُ فَالْأَحْسَنُ عِنْدَهُمْ: أَنْ يُوقِعَ الْمُطَلِّقُ عَلَى زَوْجَتِهِ طَلْقَةً وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً فِي طُهْرٍ لَمْ يَطَأْهَا فِيهِ، وَلَا فِي حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ قَبْلَهُ، وَلَمْ يَطَأْهَا غَيْرُهُ فِيهِ بِشُبْهَةٍ أَيْضًا، فَإِنْ زَنَتْ فِي حَيْضِهَا ثُمَّ طَهُرَتْ، فَطَلَّقَهَا لَمْ يَكُنْ بِدْعِيًّا.وَأَمَّا الْحَسَنُ: فَأَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً فِي طُهْرٍ لَمْ يَطَأْهَا فِيهِ وَلَا فِي حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ قَبْلَهُ، ثُمَّ يُطَلِّقَهَا طَلْقَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ فِي طُهْرَيْنِ آخَرَيْنِ دُونَ وَطْءٍ، هَذَا إِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْحَيْضِ، وَإِلاَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثَ طَلَقَاتٍ فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، كَمَنْ بَلَغَتْ بِالسِّنِّ وَلَمْ تَرَ الْحَيْضَ.

وَهَذَا فِي الْمَدْخُولِ أَوِ الْمُخْتَلَى بِهَا، أَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ أَوِ الْمُخْتَلَى بِهَا، فَالْحَسَنُ: أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً فَقَطْ، وَلَا يُهِمُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي حَيْضٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَا يَضُرُّ أَنَّ طَلَاقَهَا يَكُونُ بَائِنًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلاَّ كَذَلِكَ.

وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَبِدْعِيٌّ عِنْدَهُمْ، كَأَنْ يُطَلِّقَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ مَعًا أَوْ مُتَفَرِّقَاتٍ، أَوْ يُطَلِّقَهَا فِي الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ، أَوْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ مَسَّهَا فِيهِ، أَوْ فِي طُهْرٍ مَسَّهَا فِي الْحَيْضِ قَبْلَهُ.

فَإِنْ طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي بَعْدَهُ، كَانَ الثَّانِي بِدْعِيًّا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمَا بِمَثَابَةِ طُهْرٍ وَاحِدٍ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْتَظِرَ حَيْضَهَا الثَّانِيَ، فَإِذَا طَهُرَتْ مِنْهُ طَلَّقَهَا إِنْ شَاءَ، وَيَكُونُ سُنِّيًّا عِنْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ، ثُمَّ ارْتَجَعَتْ، ثُمَّ طَلَّقَهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي بَعْدَهُ كَانَ بِدْعِيًّا فِي الْأَرْجَحِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَقَالَ الْقُدُورِيُّ: يَكُونُ سُنِّيًّا.

وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا، أَوْ صَغِيرَةً دُونَ سِنِّ الْحَيْضِ، أَوْ آيِسَةً، فَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ كَانَ طَلَاقُهَا سُنِّيًّا، سَوَاءٌ مَسَّهَا أَمْ لَمْ يَمَسَّهَا؛ لِأَنَّهَا فِي طُهْرٍ مُسْتَمِرٍّ، وَلَكِنْ لَا يَزِيدُ عَلَى وَاحِدَةٍ، فَإِنْ زَادَ كَانَ بِدْعِيًّا.

وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الْبِدْعِيِّ عَامَّةً: الْخُلْعَ، وَالطَّلَاقَ عَلَى مَالٍ، وَالتَّفْرِيقَ لِلْعِلَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ بِدْعِيًّا وَلَوْ كَانَ فِي الْحَيْضِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرُورَةِ، وَكَذَلِكَ تَخْيِيرُهَا فِي الْحَيْضِ سَوَاءٌ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي الْحَيْضِ أَمْ بَعْدَهُ وَكَذَلِكَ اخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا فِي الْحَيْضِ، سَوَاءٌ أَخَيَّرَهَا فِي الْحَيْضِ أَمْ قَبْلَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ بِدْعِيًّا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ الْمَحْضِ.وَقَسَّمَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الطَّلَاقَ مِنْ حَيْثُ وَصْفُهُ الشَّرْعِيُّ إِلَى سُنِّيٍّ وَبِدْعِيٍّ، وَلَمْ يَذْكُرُوا لِلسُّنِّيِّ تَقْسِيمًا، فَهُوَ عِنْدَهُمْ قِسْمٌ وَاحِدٌ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ قَسَّمُوا الطَّلَاقَ إِلَى سُنِّيٍّ وَبِدْعِيٍّ، وَمَا لَيْسَ سُنِّيًّا وَلَا بِدْعِيًّا وَهُوَ الْمُرَجَّحُ عِنْدَهُمْ، وَاَلَّذِي لَيْسَ سُنِّيًّا وَلَا بِدْعِيًّا هُوَ مَا اسْتَثْنَاهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنَ الْبِدْعِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ وَالسُّنِّيُّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: هُوَ مَا يَشْمَلُ الْحَسَنَ وَالْأَحْسَنَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَعًا.وَالْبِدْعِيُّ عِنْدَهُمْ: مَا يُقَابِلُ الْبِدْعِيَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ خَالَفُوهُمْ فِي أُمُورٍ، أَهَمُّهَا: أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ فِي ثَلَاثِ حَيْضَاتٍ سُنِّيٌّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ بِدْعِيٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ، فَإِنَّهُ سُنِّيٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، اخْتَارَهَا الْخِرَقِيُّ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مُحَرَّمٌ كَمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

هَذَا، وَالْمَدَارُ عَلَى مَعْرِفَةِ السُّنِّيِّ وَالْبِدْعِيِّ مِنَ الطَّلَاقِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وَقَدْ فَسَّرَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه- ذَلِكَ بِأَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ، وَمِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما-.وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَاهُ «ابْنُ عُمَرَ - رضي الله عنهما- أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَسَأَلَ عُمَرُ - رضي الله عنه- رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ».وَمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه- قَالَ: طَلَاقُ السُّنَّةِ تَطْلِيقَةٌ وَهِيَ طَاهِرٌ فِي غَيْرِ جِمَاعٍ، فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ طَلَّقَهَا أُخْرَى، فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ طَلَّقَهَا أُخْرَى، ثُمَّ تَعْتَدُّ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَيْضَةٍ.

وَالْمَعْنَى الْعَامُّ فِي السُّنِّيِّ وَالْبِدْعِيِّ، أَنَّ السُّنِّيَّ يَمْنَعُ النَّدَمَ، وَيُقَصِّرُ الْعِدَّةَ عَلَى الْمَرْأَةِ فَيَقِلُّ تَضَرُّرُهَا مِنْ الطَّلَاقِ.

حُكْمُ الطَّلَاقِ الْبِدْعِيِّ مِنْ حَيْثُ وُقُوعُهُ وَوُجُوبُ الْعِدَّةِ بَعْدَهُ:

41- اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ الْبِدْعِيِّ، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى وُقُوعِ الْإِثْمِ فِيهِ عَلَى الْمُطَلِّقِ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ الْمُتَقَدِّمَةَ.فَإِذَا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فِي الْحَيْضِ وَجَبَ عَلَيْهِ مُرَاجَعَتُهَا، رَفْعًا لِلْإِثْمِ لَدَى الْحَنَفِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَقَالَ الْقُدُورِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الرَّجْعَةَ مُسْتَحَبَّةٌ لَا وَاجِبَةٌ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ مُرَاجَعَةَ مَنْ طَلَّقَهَا بِدْعِيًّا سُنَّةٌ، وَعَبَّرَ الْحَنَابِلَةُ عَنْ ذَلِكَ بِالِاسْتِحْبَابِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى تَقْسِيمِ الْبِدْعِيِّ إِلَى: حَرَامٍ وَمَكْرُوهٍ، فَالْحَرَامُ: مَا وَقَعَ فِي الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ مِنَ الطَّلَاقِ مُطْلَقًا، وَالْمَكْرُوهُ: مَا وَقَعَ فِي غَيْرِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، كَمَا لَوْ أَوْقَعَهُ فِي طُهْرِهَا الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ، وَعَلَى هَذَا يُجْبَرُ الْمُطَلِّقُ فِي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ عَلَى الرَّجْعَةِ رَفْعًا لِلْحُرْمَةِ، وَلَا يُجْبَرُ غَيْرُهُ عَلَى الرَّجْعَةِ وَإِنْ كَانَ بِدْعِيًّا.

وَهَذَا كُلُّهُ مَا دَامَتِ الرَّجْعَةُ مُمْكِنَةً، بِأَنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، فَإِذَا كَانَ بَائِنًا بَيْنُونَةً صُغْرَى أَوْ كُبْرَى تَعَذَّرَ الرُّجُوعُ وَاسْتَقَرَّ الْإِثْمُ.

دَلِيلُ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رضي الله عنهما- بِاسْتِرْجَاعِ زَوْجَتِهِ مَا دَامَ ذَلِكَ مُمْكِنًا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا لِلْبَيْنُونَةِ امْتَنَعَ الرُّجُوعُ، فَقَدْ وَرَدَ عَنِ «ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما- أَنَّهُ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ يَقُولُ: أَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَهَا وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- أَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَهَا.ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً أُخْرَى، ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ يُطَلِّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا، وَأَمَّا أَنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا، فَقَدْ عَصَيْتَ رَبَّكَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكِ، وَبَانَتْ مِنْكَ».

رَابِعًا- الطَّلَاقُ الْمُنَجَّزُ وَالْمُضَافُ وَالْمُعَلَّقُ:

الْأَصْلُ فِي الطَّلَاقِ التَّنْجِيزُ، إِلاَّ أَنَّهُ يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ وَالْإِضَافَةَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَلَهُ تَفْصِيلَاتٌ وَأَحْكَامٌ كَمَا يَلِي:

أ- الطَّلَاقُ الْمُنَجَّزُ:

42- تَعْرِيفُهُ: هُوَ الطَّلَاقُ الْخَالِي فِي صِيغَتِهِ عَنِ التَّعْلِيقِ وَالْإِضَافَةِ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَوِ اذْهَبِي إِلَى بَيْتِ أَهْلِكَ، يَنْوِي طَلَاقَهَا.

حُكْمُهُ: أَنَّهُ يَنْعَقِدُ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ فِي الْحَالِ، وَيَعْقُبُهُ أَثَرُهُ بِدُونِ تَرَاخٍ مَا دَامَ مُسْتَوْفِيًا لِشُرُوطِهِ، فَإِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، طَلُقَتْ لِلْحَالِ وَبَدَأَتْ عِدَّتُهَا، هَذَا مَعَ مُلَاحَظَةِ الْفَارِقِ بَيْنَ الْبَائِنِ وَالرَّجْعِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ.

ب- الطَّلَاقُ الْمُضَافُ:

43- تَعْرِيفُهُ: هُوَ الطَّلَاقُ الَّذِي قُرِنَتْ صِيغَتُهُ بِوَقْتٍ بِقَصْدِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عِنْدَ حُلُولِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَوَّلَ الشَّهْرِ الْقَادِمِ، أَوْ آخِرَ النَّهَارِ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ.

حُكْمُهُ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُضَافَ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ يَنْعَقِدُ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ فِي الْحَالِ، وَلَكِنْ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ إِلاَّ عِنْدَ حُلُولِ أَجَلِهِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ بَعْدَ اسْتِيفَائِهِ لِشُرُوطِهِ الْأُخْرَى، فَإِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ آخِرَ هَذَا الشَّهْرِ، لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَنْقَضِيَ الشَّهْرُ، وَلَوْ قَالَ: فِي أَوَّلِهِ طَلُقَتْ أَوَّلَهُ، وَلَوْ قَالَ: فِي شَهْرِ كَذَا، طَلُقَتْ فِي أَوَّلِهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَخَالَفَ الْبَعْضُ وَقَالُوا يَقَعُ فِي آخِرِهِ.فَإِذَا أَضَافَ الطَّلَاقَ إِلَى زَمَنٍ سَابِقٍ، فَإِنْ قَصَدَ وُقُوعَهُ لِلْحَالِ مُسْتَنِدًا إِلَى ذَلِكَ الزَّمَنِ السَّابِقِ، وَقَعَ لِلْحَالِ كَالْمُنَجَّزِ مُقْتَصِرًا عَلَى وَقْتِ إِيقَاعِهِ، وَقِيلَ: يَلْغُو، وَإِنْ قَصَدَ الْإِخْبَارَ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ السَّابِقِ، صُدِّقَ فِي ذَلِكَ بِيَمِينِهِ إِنْ كَانَ التَّصْدِيقُ مُمْكِنًا، فَإِنْ كَانَ مُسْتَحِيلًا، كَأَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً وَعُمْرُهَا أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ كَانَ لَغْوًا.هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَضَافَ طَلَاقَهُ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ كَأَنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ بَعْدَ سَنَةٍ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ مَوْتِي طَلُقَتْ لِلْحَالِ مُنَجَّزًا، وَكَذَلِكَ إِذَا أَضَافَهُ إِلَى زَمَنٍ مَاضٍ قَاصِدًا بِهِ الْإِنْشَاءَ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ، فَإِنَّهَا، تَطْلُقُ لِلْحَالِ، فَإِنْ قَصَدَ بِهِ الْإِخْبَارَ دُيِّنَ عِنْدَ الْمُفْتِي.وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ، وَقَالَ الْقَاضِي فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَإِنْ قَصَدَ الْإِخْبَارَ صُدِّقَ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ.وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ كَالْحَنَفِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ خَالَفُوهُمْ فِيمَا لَوْ أَضَافَهُ إِلَى زَمَنٍ سَابِقٍ مُحَالٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، فَإِنَّهُ يَقَعُ عِنْدَهُمْ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ تُخْلَقِي، فَإِنَّهُ يَقَعُ لِلْحَالِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ.

ج- الطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطٍ:

44- التَّعْلِيقُ عَلَى شَرْطٍ هُنَا هُوَ رَبْطُ حُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةٍ بِحُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةٍ أُخْرَى سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ الْمَضْمُونُ مِنْ قِبَلِ الْمُطَلِّقِ أَوِ الْمُطَلَّقَةِ أَوْ غَيْرِهَا، أَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ أَحَدٍ.

فَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِ الْمُطَلِّقِ أَوِ الْمُطَلَّقَةِ أَوْ غَيْرِهِمَا سُمِّيَ يَمِينًا لَدَى الْجُمْهُورِ مَجَازًا، وَذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْقَسَمِ، وَهُوَ: تَقْوِيَةُ عَزْمِ الْحَالِفِ أَوْ عَزْمِ غَيْرِهِ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ، كَمَا إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلَانٍ، أَوْ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ ذَهَبْتُ أَنَا إِلَى فُلَانٍ، أَوْ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ زَارَكِ فُلَانٌ...فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ مُعَلَّقًا لَا عَلَى فِعْلِ أَحَدٍ، كَمَا إِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ مَثَلًا، كَانَ تَعْلِيقًا، وَلَمْ يُسَمَّ يَمِينًا، لِانْتِفَاءِ مَعْنَى الْيَمِينِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحُكْمِ مِثْلَ الْيَمِينِ، وَهُنَالِكَ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ أَيْضًا.

وَأَدَوَاتُ الرَّبْطِ وَالتَّعْلِيقِ هِيَ: إِنْ، وَإِذَا وَإِذْ مَا وَكُلُّ، وَكُلَّمَا، وَمَتَى، وَمَتَى مَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ، كُلُّهَا تُفِيدُ التَّعْلِيقَ بِدُونِ تَكْرَارٍ إِلاَّ: كُلَّمَا، فَإِنَّهَا تُفِيدُ التَّعْلِيقَ مَعَ التَّكْرَارِ.وَقَدْ يَكُونُ التَّعْلِيقُ بِدُونِ أَدَاةٍ، كَمَا إِذَا قَالَ- لَهَا: عَلَيَّ الطَّلَاقُ سَأَفْعَلُ كَذَا، فَهُوَ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ: عَلَيَّ الطَّلَاقُ إِنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا، وَهُوَ- التَّعْلِيقُ الْمَعْنَوِيُّ، وَقَدْ جَاءَ بِهِ الْعُرْفُ.

حُكْمُهُ: اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى صِحَّةِ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ أَوْ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ عَلَى شَرْطٍ مُطْلَقًا، إِذَا اسْتَوْفَى شُرُوطَ التَّعْلِيقِ الْآتِيَةِ: فَإِذَا حَصَلَ الشَّرْطُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ وَقَعَ الطَّلَاقُ، دُونَ اشْتِرَاطِ الْفَوْرِ إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَهُ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَمْ يَقَعْ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلِ الْحَالِفِ أَوِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا، أَوْ غَيْرِهِمَا، أَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ أَحَدٍ، هَذَا إِذَا حَصَلَ الْفِعْلُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ طَائِعًا ذَاكِرًا التَّعْلِيقَ، فَإِنْ حَصَلَ مِنْهُ الْفِعْلُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا وَقَعَ الطَّلَاقُ بِهِ أَيْضًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيهِ قَوْلَانِ أَظْهَرُهُمَا: أَنَّهَا لَمْ تَطْلُقْ.

ثُمَّ مَا دَامَ لَمْ يَحْصُلِ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ قُرْبَانِ زَوْجَتِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُضْرَبُ لَهُ أَجَلُ الْمُولِي.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ عُلِّقَ طَلَاقُهُ بِأَمْرٍ فِي زَمَنٍ مَاضٍ مُمْتَنِعٍ عَقْلًا أَوْ عَادَةً أَوْ شَرْعًا حَنِثَ لِلْحَالِ، وَإِنْ عَلَّقَهُ بِأَمْرٍ مَاضٍ وَاجِبٍ فِعْلُهُ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا أَوْ عَادَةً فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ.وَإِنْ عَلَّقَهُ بِأَمْرٍ فِي زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، فَإِنْ كَانَ مُحَقَّقَ الْوُجُودِ أَوْ مَظْنُونَ الْوُجُودِ عَقْلًا أَوْ عَادَةً أَوْ شَرْعًا لِوُجُوبِهِ نُجِّزَ لِلْحَالِ، كَمَا إِذَا قَالَ: هِيَ طَالِقٌ إِنْ لَمْ أَمَسَّ السَّمَاءَ، أَوْ هِيَ طَالِقٌ إِنْ قُمْتُ، أَوْ إِنْ صَلَّيْتُ.

وَإِنْ كَانَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ مُسْتَحِيلًا، أَوْ نَادِرًا، أَوْ مُسْتَبْعَدًا عَقْلًا أَوْ عَادَةً أَوْ شَرْعًا لِحُرْمَتِهِ، لَمْ يَحْنَثْ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَوْ جَمَعْتِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، أَوْ إِنْ لَمَسْتِ السَّمَاءَ، أَوْ إِنْ زَنَيْتِ.

شُرُوطُ صِحَّةِ التَّعْلِيقِ:

يُشْتَرَطُ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَرْطٍ مَا يَلِي:

45- 1- أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ مَعْدُومًا عِنْدَ الطَّلَاقِ وَعَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ مَوْجُودًا عِنْدَ التَّعْلِيقِ، كَمَا إِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ كَانَ أَبُوكِ مَعَنَا الْآنَ، وَهُوَ مَعَهُمَا، فَإِنَّهُ طَلَاقٌ صَحِيحٌ مُنَجَّزٌ يَقَعُ لِلْحَالِ، وَلَيْسَ مُعَلَّقًا، أَمَّا أَنَّهُ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ، فَمَعْنَاهُ: أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ مُمْكِنَ الْحُصُولِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِذَا كَانَ مُسْتَحِيلَ الْحُصُولِ لَغَا التَّعْلِيقُ، وَلَمْ يَقَعْ بِهِ شَيْءٌ، لَا فِي الْحَالِ وَلَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا إِذَا قَالَ لَهَا: إِنْ عَادَ أَبُوكِ حَيًّا- وَهُوَ مَيِّتٌ- فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّهُ لَغْوٌ.وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُقُوعِهِ مُنَجَّزًا، وَلِلْحَنَابِلَةِ فِيهِ قَوْلَانِ.

46- 2- أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيقُ مُتَّصِلًا بِالْكَلَامِ، فَإِذَا فُصِلَ عَنْهُ بِسُكُوتٍ، أَوْ بِكَلَامٍ أَجْنَبِيٍّ، أَوْ كَلَامٍ غَيْرِ مُفِيدٍ، لَغَا التَّعْلِيقُ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ مُنَجَّزًا، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، وَسَكَتَ بُرْهَةً، ثُمَّ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلَانٍ، أَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: أَعْطِنِي مَاءً، ثُمَّ قَالَ: إِنْ لَمْ تَدْخُلِي دَارَ فُلَانٍ.إِلاَّ أَنَّهُ يُغْتَفَرُ الْفَاصِلُ الضَّرُورِيُّ، كَمَا إِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ تَنَفَّسَ لِضَرُورَةٍ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلَانٍ، فَإِنَّهُ مُعَلَّقٌ، وَلَا يَقَعُ إِلاَّ بِدُخُولِهَا الدَّارَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ: إِسَاغَةُ اللُّقْمَةِ، أَوْ كَلِمَةٌ مُفِيدَةٌ، كَأَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنًا إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلَانٍ، فَإِنَّهُ مُعَلَّقٌ وَيَقَعُ بِهِ بَائِنًا عِنْدَ الدُّخُولِ، فَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ رَجْعِيًّا إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلَانٍ، لَغَا التَّعْلِيقُ وَوَقَعَ الرَّجْعِيُّ مُنَجَّزًا؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ «رَجْعِيًّا» لَمْ تُفِدْ شَيْئًا، فَكَانَتْ قَاطِعًا لِلتَّعْلِيقِ، بِخِلَافِ كَلِمَةِ «بَائِنٌ» فَإِنَّهَا أَفَادَتْ، فَلَمْ تَكُنْ قَاطِعًا، وَهَذَا الْمِثَالُ وَفْقَ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ يُوقِعُونَ بِكَلِمَةِ «بَائِنٌ» طَلَاقًا بَائِنًا.

47- 3- أَنْ لَا يَقْصِدَ بِهِ الْمُجَازَاةَ، فَإِذَا قَصَدَ بِهِ الْمُجَازَاةَ، وَقَعَ مُنَجَّزًا وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالشَّرْطِ، كَمَا إِذَا قَالَتْ لَهُ: يَا خَسِيسُ، فَقَالَ لَهَا: إِنْ كُنْتُ كَذَلِكَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، يُرِيدُ مُعَاقَبَتَهَا، لَا تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ عَلَى تَحَقُّقِ الْخَسَاسَةِ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ هُنَا مُنَجَّزًا، سَوَاءٌ أَكَانَ خَسِيسًا أَمْ لَا، فَإِنْ أَرَادَ التَّعْلِيقَ لَا الْمُجَازَاةَ تَعَلَّقَ الطَّلَاقُ، وَيُدَيَّنُ.

48- 4- أَنْ يَذْكُرَ الْمَشْرُوطَ فِي التَّعْلِيقِ، وَهُوَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ، فَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا، كَمَا إِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ، فَإِنَّهُ لَغْوٌ فِي الرَّاجِحِ لَدَى الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: تَطْلُقُ لِلْحَالِ.

49- 5- وُجُودُ رَابِطٍ، وَهُوَ أَدَاةٌ مِنْ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ، إِلاَّ أَنْ يُفْهَمَ الشَّرْطُ مِنَ الْمَعْنَى، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِدُونِ رَابِطٍ، كَمَا إِذَا قَالَ لَهَا: عَلَيَّ الطَّلَاقُ سَأَذْهَبُ إِلَى فُلَانٍ، فَإِنَّهُ تَعْلِيقٌ صَحِيحٌ مَعَ عَدَمِ الرَّابِطِ.

50- 6- قِيَامُ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَ الْحَالِفِ وَالْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا عِنْدَ التَّعْلِيقِ، حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، بِأَنْ تَكُونَ زَوْجَتُهُ أَوْ مُعْتَدَّتُهُ مِنْ رَجْعِيٍّ أَوْ بَائِنٍ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ زَوْجَتَهُ عِنْدَ التَّعْلِيقِ، وَلَا مُعْتَدَّتَهُ، لَغَا التَّعْلِيقُ وَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا بِهِ شَيْءٌ، كَمَا إِذَا قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ عَنْهُ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلَانٍ، فَإِنَّهُ لَغْوٌ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لِغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ التَّعْلِيقُ عِنْدَهَا عَلَى إِجَازَةِ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّهُ فُضُولِيٌّ، فَإِنْ أَجَازَهُ الزَّوْجُ صَحَّ التَّعْلِيقُ، ثُمَّ إِنْ دَخَلَتْ بَعْدَ الْإِجَازَةِ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، وَإِلاَّ فَلَا.

هَذَا مَا لَمْ يُعَلَّقِ الطَّلَاقُ عَلَى نِكَاحِهَا، فَإِنْ عَلَّقَهُ عَلَيْهِ صَحَّ التَّعْلِيقُ أَيْضًا وَلَوْ لَمْ تَكُنْ زَوْجَتَهُ أَوْ مُعْتَدَّتَهُ عِنْدَ التَّعْلِيقِ، كَأَنْ يَقُولَ لِأَجْنَبِيَّةٍ عَنْهُ: إِنْ تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ يَتَزَوَّجُهَا، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ، ثُمَّ يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ بِذَلِكَ لِصِحَّةِ التَّعْلِيقِ هُنَا، فَإِذَا عَلَّقَ بِغَيْرِ نِكَاحِهَا لَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيقُ، وَيَلْغُو الطَّلَاقُ، كَمَا إِذَا قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ عَنْهُ: إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلَانٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ دَخَلَتْهَا قَبْلَ زَوَاجِهَا مِنْهُ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنَّهَا لَا تَطْلُقُ.وَهَذَا كُلُّهُ لَدَى الْمَالِكِيَّةِ، وَفِي الْقَوْلِ الرَّاجِحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ، وَيَلْغُو الطَّلَاقُ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَا يَنْعَقِدُ الطَّلَاقُ هُنَا، كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ عَلَى غَيْرِ الزَّوَاجِ.فَإِذَا عَلَّقَهُ بِمُقَارَنَةِ النِّكَاحِ لَا عَلَيْهِ، لَغَا بِالِاتِّفَاقِ، كَأَنْ يَقُولَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ نِكَاحِكِ، فَإِنَّهُ لَغْوٌ، وَكَذَلِكَ إِذَا عَلَّقَهُ عَلَى انْتِهَاءِ النِّكَاحِ، كَأَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ مَوْتِي، أَوْ مَعَ مَوْتِك، فَإِنَّهُ لَغْوٌ أَيْضًا لِعَدَمِ الْمِلْكِ.

51- 7- قِيَامُ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَ الْحَالِفِ وَالْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا عِنْدَ حُصُولِ الشَّرْطِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، بِأَنْ تَكُونَ زَوْجَةً لَهُ أَوْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ أَوْ بَائِنٍ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ بِهِ عَلَيْهَا، فَإِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلَانٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَدَخَلَتْهَا وَهِيَ زَوْجَتُهُ أَوْ مُعْتَدَّتُهُ طَلُقَتْ، وَإِنْ دَخَلَتْهَا بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، لَمْ تَقَعْ عَلَيْهَا الطَّلْقَةُ الْمُعَلَّقَةُ، لِعَدَمِ صَلَاحِيَّتِهَا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا عِنْدَئِذٍ.

52- 8- كَوْنُ الزَّوْجِ أَهْلًا لِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ عِنْدَ التَّعْلِيقِ، بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ كَمَا سَبَقَ، وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ كَذَلِكَ عِنْدَ حُصُولِ الشَّرْطِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، فَلَوْ قَالَ لَهَا الزَّوْجُ عَاقِلًا: إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلَانٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ جُنَّ، ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ، وَكَذَلِكَ إِذَا دَخَلَتْهَا قَبْلَ جُنُونِهِ، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ أَيْضًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا وَهُوَ مَجْنُونٌ، فَإِنَّهُ لَغْوٌ.

انْحِلَالُ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَرْطٍ:

53- إِذَا عَلَّقَ الزَّوْجُ الطَّلَاقَ عَلَى شَرْطٍ، فَإِنَّهُ يَنْحَلُّ بِحُصُولِ الشَّرْطِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، مَعَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِهِ عَلَى الزَّوْجَةِ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ، فَإِذَا عَادَتْ إِلَيْهِ ثَانِيَةً فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا، لَمْ تَقَعْ عَلَيْهَا بِهِ طَلْقَةٌ أُخْرَى لِانْحِلَالِهِ، هَذَا مَا لَمْ يَكُنِ التَّعْلِيقُ بِلَفْظِ (كُلَّمَا)، وَإِلاَّ وَقَعَ عَلَيْهَا بِهِ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً؛ لِأَنَّ كُلَّمَا تُفِيدُ التَّكْرَارَ دُونَ غَيْرِهَا.

وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلَانٍ، ثُمَّ طَلَّقَهَا مُنَجَّزًا وَاحِدَةً قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ، ثُمَّ مَضَتْ عِدَّتُهَا، ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا، ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ بِزَوْجِيَّةٍ أُخْرَى، جَازَ، فَإِذَا دَخَلَتِ الدَّارَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهَا، وَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا بِذَلِكَ شَيْءٌ، لِانْحِلَالِ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِالدُّخُولِ الْأَوَّلِ بَعْدَ الْعِدَّةِ، فَإِذَا عَلَّقَ طَلَاقَهَا الثَّلَاثَ عَلَى دُخُولِ الدَّارِ، ثُمَّ نَجَّزَ طَلَاقَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا دُونَ أَنْ تَدْخُلَ الدَّارَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا، ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ، ثُمَّ دَخَلَتْهَا، وَقَعَ الثَّلَاثُ عَلَيْهَا، لِعَدَمِ انْحِلَالِ الْيَمِينِ الْمُعَلَّقَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ دَخَلَتْهَا بَعْدَ عِدَّتِهَا، فَإِنَّهَا تَنْحَلُّ بِذَلِكَ.وَكَذَلِكَ تَنْحَلُّ الْيَمِينُ الْمُعَلَّقَةُ عَلَى شَرْطٍ بِزَوَالِ الْحِلِّ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا إِذَا عَلَّقَ طَلَاقَهَا الثَّلَاثَ عَلَى دُخُولِ الدَّارِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا مُنَجَّزَةً، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ التَّحْلِيلِ، ثُمَّ دَخَلَتِ الدَّارَ وَلَمْ تَكُنْ دَخَلَتْهَا مِنْ قَبْلُ، فَإِنَّهَا لَا تَطْلُقُ هُنَا لِانْحِلَالِ الْيَمِينِ الْمُعَلَّقَةِ بِزَوَالِ الْحِلِّ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ بِوُقُوعِ الثَّلَاثِ عَلَيْهَا، عَلَى خِلَافِ وُقُوعِ مَا دُونَ الثَّلَاثِ، فَإِنَّهُ لَا يُزِيلُ الْحِلَّ، فَلَا تَنْحَلُّ بِهِ الْيَمِينُ الْمُعَلَّقَةُ إِلاَّ بِحُصُولِ الشَّرْطِ فِعْلًا مَرَّةً.

وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِيهِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: يَقَعُ مُطْلَقًا، وَالثَّانِي: لَا يَقَعُ مُطْلَقًا، وَالثَّالِثُ: يَقَعُ بِمَا دُونَ الثَّلَاثِ، وَلَا يَقَعُ بَعْدَ الثَّلَاثِ، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُقُوعِهِ فِي الْكُلِّ.

كَمَا تَنْحَلُّ الْيَمِينُ الْمُعَلَّقَةُ عَلَى شَرْطٍ بِرِدَّةِ الْحَالِفِ مَعَ لَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَلَوْ طَلَّقَهَا مُعَلَّقًا، ثُمَّ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَعَادَ إِلَيْهَا، ثُمَّ فَعَلَتِ الْمُعَلَّقَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهَا لَا تَطْلُقُ بِذَلِكَ، لِانْحِلَالِ الْيَمِينِ الْمُعَلَّقَةِ بِرِدَّتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَخَالَفَهُ الصَّاحِبَانِ: أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَقَالَا: لَا يَنْحَلُّ التَّعْلِيقُ بِالرِّدَّةِ مُطْلَقًا.

وَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ الْمُعَلَّقَةُ عَلَى شَرْطٍ أَيْضًا بِفَوْتِ مَحَلِّ الْبِرِّ، فَإِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ دَارَ فُلَانٍ، ثُمَّ خَرِبَتِ الدَّارُ، أَوْ إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا فَمَاتَ زَيْدٌ، انْحَلَّتِ الْيَمِينُ الْمُعَلَّقَةُ، حَتَّى لَوْ أَنَّ الدَّارَ الْخَرِبَةَ بُنِيَتْ ثَانِيَةً فَإِنَّ الْيَمِينَ الْمُعَلَّقَةَ لَا تَعُودُ، لِأَنَّهَا غَيْرُ الدَّارِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا.

تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ عَلَى شَرْطَيْنِ:

54- إِذَا عَلَّقَ طَلَاقَهَا عَلَى شَرْطَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا بِحُصُولِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ كُلِّهِ فِي النِّكَاحِ، وَكَذَلِكَ بِوُقُوعِ الثَّانِي أَوِ الْأَخِيرِ فَقَطْ فِي النِّكَاحِ، وَعَلَى هَذَا فَإِنْ حَصَلَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ فِي النِّكَاحِ، وَالشَّرْطُ الثَّانِي بَعْدَهُ، كَمَا إِذَا قَالَ لَهَا: إِنْ جَاءَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَجَاءَ زَيْدٌ، ثُمَّ طَلَّقَهَا مُنَجَّزًا وَاحِدَةً، ثُمَّ جَاءَ عَمْرٌو بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، لَمْ تَطْلُقْ ثَانِيَةً بِمَجِيئِهِ.فَإِنْ طَلَّقَهَا مُنَجَّزًا وَاحِدَةً إِثْرَ تَعْلِيقِهِ، ثُمَّ جَاءَ الْأَوَّلُ زَيْدٌ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَجَاءَ عَمْرٌو وَهِيَ زَوْجَتُهُ، وَقَعَ عَلَيْهَا الْمُعَلَّقُ، فَكَانَتَا اثْنَتَيْنِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ.

الِاسْتِثْنَاءُ فِي الطَّلَاقِ:

تَعْرِيفُهُ وَحُكْمُهُ:

55- الِاسْتِثْنَاءُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الْإِخْرَاجُ بِإِلاَّ أَوْ بِإِحْدَى أَخَوَاتِهَا، بَعْضًا مِمَّا يُوجِبُهُ عُمُومٌ سَابِقٌ، تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُتَّصِلُ، وَالثَّانِي هُوَ الْمُنْقَطِعُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا دُونَ الثَّانِي لَدَى الْفُقَهَاءِ، وَيُضَافُ إِلَى الْأَوَّلِ الِاسْتِثْنَاءُ الشَّرْعِيُّ، وَهُوَ التَّعْلِيقُ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ}.وَالِاسْتِثْنَاءُ الشَّرْعِيُّ- وَهُوَ التَّعْلِيقُ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى- مُبْطِلٌ لِلطَّلَاقِ، (أَيْ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ) لَدَى الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِذَا اسْتَوْفَى شُرُوطَهُ لِلشَّكِّ فِيمَا يَشَاؤُهُ سُبْحَانَهُ، وَخَالَفَ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَقَالُوا: لَا يَبْطُلُ الطَّلَاقُ بِهِ- أَيْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ.أَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ اللُّغَوِيُّ بِإِلاَّ وَأَخَوَاتِهَا فَمُؤَثِّرٌ وَمُلْغٍ لِلطَّلَاقِ بِحَسَبِهِ إِذَا اسْتَوْفَى شُرُوطَهُ، وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلاَّ وَاحِدَةً، طَلُقَتِ اثْنَتَيْنِ فَقَطْ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلاَّ اثْنَتَيْنِ طَلُقَتْ وَاحِدَةً فَقَطْ، فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلاَّ ثَلَاثًا، وَقَعَ الثَّلَاثُ؛ لِأَنَّهُ إِلْغَاءٌ، وَلَيْسَ اسْتِثْنَاءٌ، وَالْإِلْغَاءُ بَاطِلٌ هُنَا.

شُرُوطُهُ:

يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الطَّلَاقِ، سَوَاءٌ أَكَانَ اسْتِثْنَاءً لُغَوِيًّا أَمْ تَعْلِيقًا عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، شُرُوطٌ هِيَ: 56- 1- اتِّصَالُهُ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ عَلَيْهِ، أَيِ اتِّصَالُ الْمُسْتَثْنَى بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، بِحَيْثُ يُعَدَّانِ كَلَامًا وَاحِدًا عُرْفًا، فَإِنْ فَصَلَ بَيْنَهُمَا بِكَلَامٍ أَوْ سُكُوتٍ لَغَا الِاسْتِثْنَاءُ، وَثَبَتَ حُكْمُ الطَّلَاقِ، فَإِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مُنْفَصِلًا، طَلُقَتْ، أَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ، ثُمَّ سَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: إِلاَّ وَاحِدَةً وَقَعَ اثْنَتَانِ، وَلَغَا الِاسْتِثْنَاءُ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ أَمْرٍ، ثُمَّ قَالَ: إِلاَّ اثْنَتَيْنِ، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا، لِإِلْغَاءِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْكَلَامِ الْفَاصِلِ.

إِلاَّ أَنَّهُ يُعْفَى هُنَا عَنِ الْفَاصِلِ الْقَصِيرِ الضَّرُورِيِّ، كَالسُّكُوتِ لِلتَّنَفُّسِ أَوْ إِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ، كَمَا يُعْفَى عَنِ الْكَلَامِ الْمُفِيدِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، كَأَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَا زَانِيَةُ إِلاَّ اثْنَتَيْنِ، فَإِنَّهَا تَطْلُقُ بِوَاحِدَةٍ، لِأَنَّ لَفْظَةَ (زَانِيَةُ) بَيَانٌ لِسَبَبِ الطَّلَاقِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بَائِنًا إِلاَّ اثْنَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ بِهِ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَهُمْ، بِخِلَافِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ رَجْعِيَّتَيْنِ إِلاَّ وَاحِدَةً، فَإِنَّهُ يَقَعُ بِهِ اثْنَتَانِ رَجْعِيَّتَانِ، وَيَلْغُو الِاسْتِثْنَاءُ لِعَدَمِ إِفَادَةِ هَذَا الْفَاصِلِ.

57- 2- نِيَّةُ الْحَالِفِ الِاسْتِثْنَاءَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنَ التَّلَفُّظِ فِي الطَّلَاقِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ، فَإِنْ نَوَاهُ بَعْدَهُ لَمْ يَصِحَّ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِدُونِهِ، وَفِي قَوْلٍ ثَانٍ لِلشَّافِعِيَّةِ إِنْ نَوَاهُ بَعْدَهُ جَازَ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَصِحُّ بِغَيْرِ نِيَّةٍ مُطْلَقًا، وَلَمْ أَرَ مَنْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَلَعَلَّهُمْ مَعَ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ.

58- 3- أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ بِصَوْتٍ مَسْمُوعٍ لِنَفْسِهِ عَلَى الْأَقَلِّ، فَلَوْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ نِيَّةٍ، وَهِيَ غَيْرُ كَافِيَةٍ لِصِحَّتِهِ بِالِاتِّفَاقِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


298-موسوعة الفقه الكويتية (عامل)

عَامِلٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْعَامِلُ فِي اللُّغَةِ بِوَزْنِ فَاعِلٍ مِنْ عَمِلَ، يُقَالُ: عَمِلْتُ عَلَى الصَّدَقَةِ: سَعَيْتُ فِي جَمْعِهَا.

وَيُطْلَقُ الْعَامِلُ وَيُرَادُ بِهِ: الْوَالِي، وَالْجَمْعُ عُمَّالٌ وَعَامِلُونَ، وَيَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِالْهَمْزَةِ، فَيُقَالُ: أَعْمَلْتُهُ كَذَا، وَاسْتَعْمَلْتُهُ أَيْ: جَعَلْتُهُ عَامِلًا، أَوْ سَأَلْتُهُ أَنْ يَعْمَلَ، وَعَمَّلْتُهُ عَلَى الْبَلَدِ بِالتَّشْدِيدِ: وَلَّيْتُهُ عَمَلَهُ.

وَالْعُمَالَةُ- بِضَمِّ الْعَيْنِ-: أُجْرَةُ الْعَامِلِ، وَالْكَسْرُ لُغَةٌ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْعَامِلُ عَلَى الزَّكَاةِ هُوَ: الْمُتَوَلِّي عَلَى الصَّدَقَةِ وَالسَّاعِي لِجَمْعِهَا مِنْ أَرْبَابِ الْمَالِ، وَالْمُفَرِّقُ عَلَى أَصْنَافِهَا إِذَا فَوَّضَهُ الْإِمَامُ بِذَلِكَ.

وَالْعَامِلُ بِمَعْنَى الْوَالِي: هُوَ مَنْ يُقَلِّدُهُ الْخَلِيفَةُ أَمِيرًا عَلَى إِقْلِيمٍ أَوْ بَلَدٍ، أَوْ يَسْتَعْمِلُهُ فِي عَمَلٍ مُعَيَّنٍ.

وَأَحْكَامُ هَذَا الْمُصْطَلَحِ خَاصَّةً بِعَامِلِ الزَّكَاةِ، أَمَّا الْعَامِلُ بِمَعْنَى الْوَالِي فَتُنْظَرُ أَحْكَامُهُ فِي: (إِمَارَة، وَوِلَايَة).

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْعَاشِرُ:

2- الْعَاشِرُ: هُوَ مَنْ نَصَّبَهُ الْإِمَامُ عَلَى الطَّرِيقِ لِيَأْخُذَ الصَّدَقَاتِ مِنَ التُّجَّارِ مِمَّا يَمُرُّونَ بِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ: عَشَرْتُ الْمَالَ عَشْرًا- مِنْ بَابِ قَتَلَ- وَعُشُورًا: أَخَذْتُ عُشْرَهُ وَاسْمُ الْفَاعِلِ عَاشِرٌ وَعَشَّارٌ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

3- تَعْيِينُ الْعُمَّالِ لِقَبْضِ الزَّكَاةِ وَتَفْرِيقِهَا عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا وَاجِبٌ عَلَى الْإِمَامِ، لِأَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُوَلِّي الْعُمَّالَ ذَلِكَ، وَيَبْعَثُهُمْ إِلَى أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ» وَقَدِ اسْتَعْمَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ كَانُوا يُرْسِلُونَ عُمَّالَهُمْ لِقَبْضِهَا، وَلِأَنَّ فِي النَّاسِ مَنْ يَمْلِكُ الْمَالَ وَلَا يَعْرِفُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْخَلُ بِالزَّكَاةِ.

مَنْ يَشْمَلُهُ لَفْظُ الْعَامِلِ:

4- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ عَلَى الزَّكَاةِ مَصْرِفٌ مِنْ مَصَارِفِهَا الثَّمَانِيَةِ لقوله تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا}

وَقَالُوا: إِنَّهُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْعَامِلِ:

السَّاعِي: وَهُوَ الَّذِي يَجْبِي الزَّكَاةَ وَيَسْعَى فِي الْقَبَائِلِ لِجَمْعِهَا.

وَالْحَاشِرُ: وَهُوَ اثْنَانِ، أَحَدُهُمَا: مَنْ يَجْمَعُ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ.وَثَانِيهُمَا: مَنْ يَجْمَعُ ذَوِي السِّهَامِ مِنَ الْأَصْنَافِ.

وَالْعَرِيفُ: وَهُوَ كَالنَّقِيبِ لِلْقَبِيلَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُعَرِّفُ السَّاعِيَ أَهْلَ الصَّدَقَاتِ إِذَا لَمْ يَعْرِفْهُمْ.

وَالْكَاتِبُ: وَهُوَ الَّذِي يَكْتُبُ مَا أَعْطَاهُ أَرْبَابُ الصَّدَقَاتِ مِنَ الْمَالِ، وَيَكْتُبُ لَهُمْ بَرَاءَةً بِالْأَدَاءِ، وَيَكْتُبُ كَذَلِكَ مَا يُدْفَعُ لِلْمُسْتَحِقِّينَ.

وَالْقَاسِمُ: وَهُوَ الَّذِي يَقْسِمُ أَمْوَالَ الزَّكَاةِ بَيْنَ مُسْتَحِقِّيهَا.

وَيَدْخُلُ فِي اسْمِ الْعَامِلِ كَذَلِكَ: الْحَاسِبُ، وَالْخَازِنُ، وَحَافِظُ الْمَالِ، وَالْعَدَّادُ، وَالْكَيَّالُ، وَالْوَزَّانُ، وَالرَّاعِي لِمَوَاشِي الصَّدَقَةِ، وَالْحَمَّالُ، وَكُلُّ مَنْ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي شَأْنِ الصَّدَقَةِ، حَتَّى إِذَا لَمْ تَقَعِ الْكِفَايَةُ بِسَاعٍ وَاحِدٍ، أَوْ كَاتِبٍ وَاحِدٍ، أَوْ حَاسِبٍ وَاحِدٍ، أَوْ حَاشِرٍ أَوْ نَحْوِهِ زِيدَ فِي الْعَدَدِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ.

مُؤْنَةُ جَمْعِ الزَّكَاةِ:

5- أُجْرَةُ كَيْلِ أَمْوَالِ الصَّدَقَةِ وَوَزْنِهَا، وَمُؤْنَةُ دَفْعِهَا مِنَ الْمَالِكِ إِلَى السَّاعِي عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَكَذَا أُجْرَةُ الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ وَالْعَادِّ الَّذِي يُمَيِّزُ الزَّكَاةَ مِنَ الْمَالِ، لِأَنَّهَا لِتَوْفِيَةِ الْوَاجِبِ، كَالْبَائِعِ عَلَيْهِ مُؤْنَةُ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ عِنْدَ الْبَيْعِ.

أَمَّا أُجْرَةُ الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ وَالْعَادِّ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ مُسْتَحِقَّاتِ الْأَصْنَافِ فَعَلَى سَهْمِ الْعَامِلِ بِلَا خِلَافٍ.إِذْ لَوِ أَلْزَمْنَاهَا الْمَالِكَ لَزِدْنَا فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ شُرُوطُ الْعَامِلِ:

6- يُشْتَرَطُ فِي الْعَامِلِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا عَاقِلًا بَالِغًا عَدْلًا سَمِيعًا ذَكَرًا، وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَبْوَابِ الزَّكَاةِ، لِيَعْلَمَ مَا يَأْخُذُهُ، وَمَنْ يَأْخُذُ مِنْهُ، وَلِئَلاَّ يَأْخُذَ غَيْرَ الْوَاجِبِ، أَوْ يُسْقِطَ الْوَاجِبَ، وَلِئَلاَّ يَدْفَعَ لِغَيْرِ مُسْتَحِقٍّ، أَوْ يَمْنَعَ عَنْ مُسْتَحِقٍّ، وَهَذَا إِذَا كَانَ مُفَوَّضًا مِنَ الْإِمَامِ لِعُمُومِ أَمْرِ الزَّكَاةِ، أَيْ: أَخْذِهَا مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَتَوْزِيعِهَا عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ فِي جَمْعِ الزَّكَاةِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُفَوَّضًا تَفْوِيضًا عَامًّا، كَأَنْ يَكُونَ مُنَفِّذًا فَقَطْ، عَيَّنَ لَهُ الْإِمَامُ مَا يَأْخُذُهُ وَمَنْ يُعْطِيهِ، فَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَبْوَابِ الزَّكَاةِ، لِأَنَّ «النَّبِيَّ كَانَ يَبْعَثُ الْعُمَّالَ وَيَكْتُبُ لَهُمْ مَا يَأْخُذُونَ» وَكَذَلِكَ فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنه- لِعُمَّالِهِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ رِسَالَةٌ لَا وِلَايَةٌ.

وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي شَرْطَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: الْحُرِّيَّةُ، فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ، فَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ عَبْدًا، لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ» الْحَدِيثَ.

ثَانِيهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ هَاشِمِيًّا، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاة ف 144، وَجِبَايَة ف 13).

مَا يَأْخُذُهُ الْعَامِلُ:

7- إِذَا تَوَلَّى الْمُزَكِّي إِخْرَاجَ زَكَاةِ مَالِهِ بِنَفْسِهِ سَقَطَ حَقُّ الْعَامِلِ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ بِعَمَلِهِ، فَإِذَا لَمْ يَعْمَلْ فِيهَا شَيْئًا فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهَا، وَتُوَزَّعُ الزَّكَاةُ حِينَئِذٍ عَلَى الْأَصْنَافِ السَّبْعَةِ الْأُخْرَى.

وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي الْعَامِلِ، إِنْ شَاءَ أَرْسَلَهُ لِأَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَلَا تَسْمِيَةِ شَيْءٍ، بَلْ يَدْفَعُ إِلَيْهِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ، لِمَا رَوَاهُ «ابْنُ السَّاعِدِيِّ قَالَ: اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْهَا وَأَدَّيْتُهَا إِلَيْهِ أَمَرَ لِي بِعُمَالَةٍ، فَقُلْتُ: إِنَّمَا عَمِلْتُ لِلَّهِ وَأَجْرِي عَلَى اللَّهِ، قَالَ: خُذْ مَا أُعْطِيتَ، فَإِنِّي عَمِلْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- فَعَمَّلَنِي، فَقُلْتُ مِثْلَ قَوْلِكَ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِذَا أُعْطِيتَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَ فَكُلْ وَتَصَدَّقْ».

وَإِنْ شَاءَ عَقَدَ لَهُ عَقْدًا وَاسْتَأْجَرَهُ إِجَارَةً صَحِيحَةً سَمَّى لَهُ فِيهَا قَدْرَ أُجْرَتِهِ، ثُمَّ دَفَعَ إِلَيْهِ مَا سَمَّى لَهُ مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ.

8- وَإِذَا زَادَ سَهْمُ الْعَامِلِينَ عَلَى أُجْرَتِهِ رَدَّ الْفَاضِلَ عَلَى سَائِرِ الْأَصْنَافِ، وَقَسَمَ عَلَى سِهَامِهِمْ.

أَمَّا إِنْ كَانَ سَهْمُ الْعَامِلِينَ أَقَلَّ مِنْ أُجْرَتِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكَمَّلُ لَهُ مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ الَّتِي بِيَدِهِ، بِشَرْطِ أَلاَّ يَزِيدَ عَلَى نِصْفِ مَا قَبَضَهُ؛ لِأَنَّ التَّنْصِيفَ هُوَ عَيْنُ الْإِنْصَافِ، وَلَا يُعْطَى مِنْ بَيْتِ الْمَالِ شَيْئًا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُتَمَّمُ لَهُ مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ وَإِنِ اسْتَغْرَقَ جَمِيعَ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ الَّتِي بِيَدِهِ لِأَنَّهَا أُجْرَةُ عَمَلِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُتَمَّمُ لَهُ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا مِنْ أَيْنَ يُتَمَّمُ لَهُ؟ فَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ يُتَمَّمُ مِنْ حَقِّ سَائِرِ الْأَصْنَافِ، لِأَنَّهُ يَعْمَلُ لَهُمْ، فَكَانَتْ أُجْرَتُهُ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: يُتَمَّمُ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِكُلِّ صِنْفٍ سَهْمًا، فَلَوْ قَسَمْنَا ذَلِكَ عَلَى الْأَصْنَافِ وَنَقَصْنَا حَقَّهُمْ فَضَّلْنَا الْعَامِلَ عَلَيْهِمْ.

وَقِيلَ: الْإِمَامُ بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَ تَمَّمَهُ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ وَإِنْ شَاءَ تَمَّمَهُ مِنْ سِهَامِ الْأَصْنَافِ الْأُخْرَى، لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْحَاكِمَ حَيْثُ يَسْتَوْفِي بِهِ حَقَّ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ، وَيُشْبِهُ الْأَجِيرَ، فَخُيِّرَ بَيْنَ حَقَّيْهِمَا.

وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الْإِمَامُ بَدَأَ بِنَصِيبِ الْعَامِلِ، فَوَجَدَهُ يَنْقُصُ تَمَّمَ مِنْ سِهَامِ الْأَصْنَافِ الْأُخْرَى، وَإِنْ كَانَ بَدَأَ بِسِهَامِ الْأَصْنَافِ الْأُخْرَى فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ وَجَدَ سَهْمَ الْعَامِلِ يَنْقُصُ تَمَّمَهُ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ اسْتِرْجَاعُ مَا دَفَعَ إِلَيْهِمْ.

وَقِيلَ: إِنْ فَضَلَ عَنْ قَدْرِ حَاجَةِ الْأَصْنَافِ شَيْءٌ تَمَّمَ مِنَ الْفَضْلِ، فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْهُمْ شَيْءٌ تَمَّمَ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْخِلَافُ فِي جَوَازِ التَّكْمِيلِ مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ، وَلَكِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ التَّكْمِيلِ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ مُطْلَقًا، بَلْ لَوْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَجْعَلَ أُجْرَةَ الْعَامِلِ كُلَّهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَيَقْسِمُ الزَّكَاةَ عَلَى سَائِرِ الْأَصْنَافِ جَازَ، لِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مِنَ الْمَصَالِحِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُتَمَّمُ لَهُ مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانَتْ أُجْرَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْعَامِلُ أُجْرَةٌ، إِلاَّ أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا رَأَى إِعْطَاءَ الْعَامِلِ أُجْرَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَيُوَفِّرُ الزَّكَاةَ عَلَى بَاقِي الْأَصْنَافِ جَازَ لَهُ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُ رِزْقًا ثَابِتًا فِي بَيْتِ الْمَالِ نَظِيرَ عِمَالَتِهِ، وَلَا يُعْطِيهِ مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ شَيْئًا جَازَ كَذَلِكَ.

تَلَفُ مَالِ الزَّكَاةِ فِي يَدِ الْعَامِلِ:

9- لَوْ تَلِفَ مَالُ الزَّكَاةِ فِي يَدِ الْعَامِلِ بِلَا تَفْرِيطٍ أَوْ تَقْصِيرٍ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ كَالْوَكِيلِ: وَنَاظِرُ مَالِ الْيَتِيمِ إِذَا تَلِفَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ بِلَا تَفْرِيطٍ لَمْ يَضْمَنْ.

أَمَّا إِذَا تَلِفَ الْمَالُ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ، بِأَنْ قَصَّرَ فِي حِفْظِهِ أَوْ عَرَفَ الْمُسْتَحِقِّينَ وَأَمْكَنَهُ التَّفْرِيقُ عَلَيْهِمْ فَأَخَّرَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِذَلِكَ.

وَاخْتَلَفُوا فِي دَفْعِ أُجْرَتِهِ إِذَا تَلِفَ الْمَالُ بِدُونِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أُجْرَتَهُ، وَتُعْطَى مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ أَجِيرٌ، وَلِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مِنْهَا.

وَعِنْدَهُمْ أَيْضًا: يَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ الزَّكَاةَ بِعَمَلِهِ عَلَى سَبِيلِ الْأُجْرَةِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ كُلٌّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ حَقَّهُ يَسْقُطُ، كَنَفَقَةِ الْمُضَارِبِ تَكُونُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، فَإِذَا هَلَكَ سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ عِنْدَهُمْ يَسْتَحِقُّ الزَّكَاةَ بِعَمَلِهِ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ لِاشْتِغَالِهِ بِهَا، لَا عَلَى سَبِيلِ الْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ مَجْهُولَةٌ.

بَيْعُ الْعَامِلِ مَالَ الزَّكَاةِ:

10- قَالَ الْفُقَهَاءُ: لَا يَجُوزُ لِلسَّاعِي بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، بَلْ يُوصِلُهَا إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ بِأَعْيَانِهَا إِذَا كَانَ مُفَوَّضًا لِلتَّفْرِيقِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الزَّكَاةِ أَهْلُ رُشْدٍ لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُ مَالِهِمْ بِدُونِ إِذْنِهِمْ، أَوْ يُوصِلُهَا إِلَى الْإِمَامِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُفَوَّضًا لِلتَّفْرِيقِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ بَاعَ بِلَا ضَرُورَةٍ ضَمِنَ. فَإِنْ وَقَعَتْ ضَرُورَةُ الْبَيْعِ، كَأَنْ خَافَ هَلَاكَ بَعْضِ الْمَاشِيَةِ، أَوْ كَانَ فِي الطَّرِيقِ خَطَرٌ، أَوِ احْتَاجَ إِلَى رَدِّ جُبْرَانٍ، أَوْ إِلَى مُؤْنَةِ النَّقْلِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ جَازَ الْبَيْعُ لِلضَّرُورَةِ.

مَا يُسْتَحَبُّ فِي جَمْعِ الزَّكَاةِ وَتَفْرِيقِهَا:

11- يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَوِ الْعَامِلِ أَنْ يُعَيِّنَ لِلنَّاسِ شَهْرًا يَأْتِيهِمْ فِيهِ لِأَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا حَوَلَانُ الْحَوْلِ عَلَيْهَا، كَالْمَوَاشِي وَالنُّقُودِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا.

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّهْرُ مِنَ السَّنَةِ هُوَ شَهْرُ الْمُحَرَّمِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ» وَلِأَنَّهُ أَوَّلُ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ، وَلِيَتَهَيَّأَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ لِدَفْعِ زَكَاةِ أَمْوَالِهِمْ، وَيَتَهَيَّأَ الْمُسْتَحِقُّونَ لِأَخْذِ الزَّكَاةِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِمْ قَبْلَ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ، لِيَصِلَ إِلَيْهِمْ فِي أَوَّلِهِ.

أَمَّا فِيمَا لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ كَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، فَيَبْعَثُ الْإِمَامُ الْعُمَّالَ لِأَخْذِ زَكَوَاتِهَا وَقْتَ وُجُوبِهَا، وَهُوَ وَقْتُ الْجُذَاذِ وَالْحَصَادِ.

وَيُسْتَحَبُّ لِلسَّاعِي كَذَلِكَ: أَنْ يَعُدَّ الْمَاشِيَةَ عَلَى الْمَاءِ إِنْ كَانَتْ تَرِدُ الْمَاءَ، وَفِي أَفْنِيَتِهِمْ إِنْ لَمْ تَكُنْ تَرِدُ الْمَاءَ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «تُؤْخَذُ صَدَقَاتُ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ مِيَاهِهِمْ أَوْ عِنْدَ أَفْنِيَتِهِمْ».

فَإِنْ أَخْبَرَهُ صَاحِبُ الْمَالِ بِعَدَدِهَا- وَهُوَ ثِقَةٌ- فَلَهُ أَنْ يُصَدِّقَهُ وَيَعْمَلَ بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ، أَوْ أَرَادَ الِاحْتِيَاطَ بَعْدَهَا عَدَّهَا.

فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْعَدِّ بَعْدَ الْعَدِّ، وَكَانَ الْفَرْضُ يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ، أَعَادَ الْعَدَّ ثَانِيَةً.

وَإِنِ اخْتَلَفَ السَّاعِي وَرَبُّ الْمَالِ فِي حَوَلَانِ الْحَوْلِ كَأَنْ يَقُولَ الْمَالِكُ: لَمْ يَحِلَّ الْحَوْلُ بَعْدُ، وَيَقُولُ السَّاعِي: بَلْ حَالَ الْحَوْلُ، أَوْ قَالَ الْمَالِكُ: هَذِهِ السِّخَالُ تَوَلَّدَتْ بَعْدَ الْحَوْلِ، وَقَالَ السَّاعِي: بَلْ تَوَلَّدَتْ قَبْلَهُ، أَوْ قَالَ السَّاعِي: كَانَتْ مَاشِيَتُكَ نِصَابًا ثُمَّ تَوَالَدَتْ، وَقَالَ الْمَالِكُ: بَلْ مَاشِيَتِي تَمَّتْ نِصَابًا بِالتَّوْلِيدِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ وَنَظَائِرُهَا مِمَّا لَا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَتُهُ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الرِّفْقِ.

وَإِنْ رَأَى السَّاعِي- الْمُفَوَّضُ فِي قَبْضِ الزَّكَاةِ وَتَفْرِيقِهَا- الْمَصْلَحَةَ فِي أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَأْخُذُهَا مِنَ الْمُزَكِّي عِنْدَ حُلُولِهَا وَيُفَرِّقَهَا عَلَى أَهْلِهَا فَعَلَ.

وَإِنْ وَثِقَ بِصَاحِبِ الْمَالِ، وَرَأَى أَنْ يُفَوِّضَ إِلَيْهِ تَفْرِيقَهَا عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ فَعَلَ أَيْضًا، لِأَنَّ الْمَالِكَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ زَكَاتَهُ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْعَامِلِ، فَمَعَ إِذْنِهِ أَوْلَى.

وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْرُجَ مَعَ السَّاعِي- لِأَخْذِ زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ- مَنْ يَخْرُصُ مَا يَحْتَاجُ إِلَى خَرْصِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعَهُ خَارِصَانِ ذَكَرَانِ حُرَّانِ.

كَمَا يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ- أَوِ الْعَامِلِ إِنْ كَانَ مُفَوَّضًا لِلْقِسْمَةِ- أَنْ يَكُونَ عَارِفًا عَدَدَ الْمُسْتَحِقِّينَ وَقَدْرَ حَاجَتِهِمْ، لِيَتَعَجَّلَ حُقُوقَهُمْ، وَلِيَأْمَنَ هَلَاكَ الْمَالِ عِنْدَهُ.

وَيَبْدَأُ فِي الْقِسْمَةِ بِالْعَامِلِينَ، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمْ أَقْوَى، لِكَوْنِهِمْ يَأْخُذُونَ عَلَى وَجْهِ الْعِوَضِ، وَغَيْرُهُمْ يَأْخُذُ عَلَى وَجْهِ الْمُوَاسَاةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


299-موسوعة الفقه الكويتية (عبارة)

عِبَارَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْعِبَارَةُ.فِي اللُّغَةِ: الْبَيَانُ وَالْإِيضَاحُ، يُقَالُ: عَبَّرَ عَمَّا فِي نَفْسِهِ: أَعْرَبَ وَبَيَّنَ، وَعَبَّرَ عَنْ فُلَانٍ: تَكَلَّمَ عَنْهُ، وَاللِّسَانُ يُعَبِّرُ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ: أَيْ يُبَيِّنُ، وَتَعْبِيرُ الرُّؤْيَا تَفْسِيرُهَا: يُقَالُ: عَبَرْتُ الرُّؤْيَا عَبْرًا وَعِبَارَةً: فَسَّرْتُهَا وَفِي التَّنْزِيلِ: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْعِبَارَةُ هِيَ الْأَلْفَاظُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَعَانِي، لِأَنَّهَا تَفْسِيرُ مَا فِي الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ مَسْتُورٌ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْقَوْلُ:

2- الْقَوْلُ لُغَةً: الْكَلَامُ أَوْ كُلُّ لَفْظٍ يَنْطِقُ بِهِ اللِّسَانُ تَامًّا أَوْ نَاقِصًا، وَقَدْ يُطْلَقُ الْقَوْلُ عَلَى الْآرَاءِ وَالِاعْتِقَادَاتِ، فَيُقَالُ: هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ، يُرَادُ بِهِ رَأْيُهُمَا وَمَا ذَهَبَا إِلَيْهِ.

وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْعِبَارَةِ هِيَ أَنَّ الْقَوْلَ أَعَمُّ مِنَ الْعِبَارَةِ لِأَنَّ الْعِبَارَةَ تَكُونُ دَالَّةً عَلَى مَعْنًى.

ب- الصِّيغَةُ:

3- الصِّيغَةُ لُغَةً: الْعَمَلُ وَالتَّقْدِيرُ، يُقَالُ: هَذَا صَوْغُ هَذَا إِذَا كَانَ عَلَى قَدْرِهِ، وَصِيغَةُ الْقَوْلِ كَذَا، أَيْ مِثَالُهُ وَصُورَتُهُ عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْعَمَلِ وَالتَّقْدِيرِ.

وَالصِّيغَةُ اصْطِلَاحًا: الْأَلْفَاظُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ وَنَوْعِ التَّصَرُّفِ.

وَالْعِبَارَةُ أَعَمُّ مِنَ الصِّيغَةِ فِي اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

أَوَّلًا: عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ:

4- قَسَّمَ الْأُصُولِيُّونَ مِنَ الْحَنِيفَةِ الْأَلْفَاظَ مِنْ حَيْثُ دَلَالَتِهَا عَلَى الْمَعْنَى إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: عِبَارَةُ النَّصِّ، وَإِشَارَةُ النَّصِّ، وَدَلَالَةُ النَّصِّ، وَاقْتِضَاءُ النَّصِّ.

وَوَجْهُ ضَبْطِهِ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُسْتَفَادَ مِنَ النَّظْمِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِنَفْسِ النَّظْمِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا بِنَفْسِ النَّظْمِ وَكَانَ النَّظْمُ مَسُوقًا لَهُ فَهُوَ الْعِبَارَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسُوقًا لَهُ فَهُوَ الْإِشَارَةُ.

أَمَّا إِنْ كَانَ الْحُكْمُ الْمُسْتَفَادُ مِنَ النَّظْمِ غَيْرَ ثَابِتٍ بِنَفْسِ النَّظْمِ فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ مَفْهُومًا مِنْهُ لُغَةً فَهُوَ الدَّلَالَةُ، أَوْ شَرْعًا فَهُوَ الِاقْتِضَاءُ.

فَعِبَارَةُ النَّصِّ هِيَ دَلَالَةُ الْكَلَامِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنْهُ أَصَالَةً أَوْ تَبَعًا، كَمَا فِي قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} فَإِنَّهُ يَدُلُّ بِلَفْظِهِ وَعِبَارَتِهِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرِّبَا، وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ، لِأَنَّهَا نَزَلَتْ لِلرَّدِّ عَلَى الَّذِينَ قَالُوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} وَثَانِيهُمَا: إِبَاحَةُ الْبَيْعِ وَمَنْعُ الرِّبَا، وَهُوَ مَقْصُودٌ تَبَعًا لِيُتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى إِفَادَةِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ أَصَالَةً، فَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْعِبَارَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِالنَّظْمِ، وَيَكُونُ سَوْقُ الْكَلَامِ لَهُ.

وَفِي هَذَا الْقِسْمِ وَسَائِرِ الْأَقْسَامِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

ثَانِيًا: عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:

5- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْإِنْسَانَ الْمُكَلَّفَ مُؤَاخَذٌ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنْ أَلْفَاظٍ وَعِبَارَاتٍ، لِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ «مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ عَلَى مَنْخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ»؟

وَأَمَّا غَيْرُ الْمُكَلَّفِ كَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ وَالْمَجْنُونِ فَعِبَارَتُهُمَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ. (ر: أَهْلِيَّة ف 17، 27)

وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمَعْتُوهِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَهْلِيَّة ف 19، 20، 21).

6- وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَتِ الْإِشَارَةُ وَالْعِبَارَةُ وَاخْتَلَفَ مُوجِبُهُمَا غُلِّبَتِ الْإِشَارَةُ.

قَالَ السُّيُوطِيُّ: لَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ فُلَانَةَ: هَذِهِ، وَسَمَّاهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا صَحَّ قَطْعًا، وَلَوْ قَالَ: زَوَّجْتُكَ هَذِهِ الْعَرَبِيَّةَ فَكَانَتْ عَجَمِيَّةً، أَوْ هَذِهِ الْعَجُوزَ فَكَانَتْ شَابَّةً أَوْ هَذِهِ الْبَيْضَاءَ فَكَانَتْ سَوْدَاءَ أَوْ عَكْسَهُ، وَكَذَا الْمُخَالَفَةُ فِي جَمِيعِ وُجُوهِ النَّسَبِ وَالصِّفَاتِ وَالْعُلُوِّ وَالنُّزُولِ فَفِي صِحَّةِ النِّكَاحِ قَوْلَانِ وَالْأَصَحُّ الصِّحَّةُ، وَقَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: بِالصِّحَّةِ تَعْوِيلًا عَلَى الْإِشَارَةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


300-موسوعة الفقه الكويتية (عدة 3)

عِدَّةٌ -3

الْحَمْلُ الَّذِي تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ:

22- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْحَمْلَ الَّذِي تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ هُوَ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَلَوْ كَانَ مَيِّتًا أَوْ مُضْغَةً تُصُوِّرَتْ، وَلَوْ صُورَةً خَفِيَّةً تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الثِّقَاتِ مِنَ الْقَوَابِلِ.

أَمَّا إِذَا كَانَ مُضْغَةً لَمْ تُتَصَوَّرْ لَكِنْ شَهِدَتِ الثِّقَاتُ مِنَ الْقَوَابِلِ أَنَّهَا مَبْدَأُ خِلْقَةِ آدَمِيٍّ لَوْ بَقِيَتْ لَتُصُوِّرَتْ فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَنْقَضِي بِهَا الْعِدَّةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ وَرِوَايَةً عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِحُصُولِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ بِهِ.

خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالْوَضْعِ لِأَنَّ الْحَمْلَ اسْمٌ لِنُطْفَةٍ مُتَغَيِّرَةٍ، فَإِذَا كَانَ مُضْغَةً أَوْ عَلَقَةً لَمْ تَتَغَيَّرْ وَلَمْ تُتَصَوَّرْ فَلَا يُعْرَفُ كَوْنُهَا مُتَغَيِّرَةً إِلاَّ بِاسْتِبَانَةِ بَعْضِ الْخَلْقِ، أَمَّا إِذَا أَلْقَتِ الْمَرْأَةُ نُطْفَةً أَوْ عَلَقَةً أَوْ دَمًا أَوْ وَضَعَتْ مُضْغَةً لَا صُورَةَ فِيهَا فَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِالْوَضْعِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْحَمْلُ دَمًا اجْتَمَعَ تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَعَلَامَةُ كَوْنِهِ حَمْلًا أَنَّهُ إِذَا صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ الْحَارُّ لَمْ يَذُبْ.

وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ فِي الْحَمْلِ الَّذِي تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مَنْسُوبًا لِصَاحِبِ الْعِدَّةِ إِمَّا ظَاهِرًا وَإِمَّا احْتِمَالًا كَالْمَنْفِيِّ بِاللِّعَانِ، فَإِذَا لَاعَنَ حَامِلًا وَنَفَى الْحَمْلَ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ لِإِمْكَانِ كَوْنِهِ مِنْهُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِي الْعِدَّةِ إِذَا تَحَقَّقَ الْإِمْكَانُ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ فَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، كَمَا إِذَا مَاتَ صَبِيٌّ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْإِنْزَالُ أَوْ مَمْسُوحٌ عَنْ زَوْجَةٍ حَامِلٍ، وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ أَتَتْ زَوْجَتُهُ الْحَامِلُ بِوَلَدٍ لَا يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنْهُ.

23- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْحَامِلِ تَنْقَضِي بِانْفِصَالِ جَمِيعِ الْوَلَدِ إِذَا كَانَ الْحَمْلُ وَاحِدًا لقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَاخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَتَيْنِ.

24- الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِيمَا لَوْ خَرَجَ أَكْثَرُ الْوَلَدِ هَلْ تَنْقَضِي الْعِدَّةُ أَمْ لَا؟

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ أَكْثَرُ الْوَلَدِ لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ مُرَاجَعَتُهَا وَلَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ إِلاَّ بِانْفِصَالِهِ كُلِّهِ عَنْ أُمِّهِ خِلَافًا لِابْنِ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ الْقَائِلِ إِنَّهَا تَحِلُّ بِوَضْعِ ثُلُثَيِ الْحَمْلِ بِنَاءً عَلَى تَبَعِيَّةِ الْأَقَلِّ لِلْأَكْثَرِ.

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ أَكْثَرُ الْوَلَدِ تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ وَلَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي انْقِطَاعِ الرَّجْعَةِ احْتِيَاطًا، وَلَا يَقُومُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَتَّى لَا تَحِلَّ لِلْأَزْوَاجِ احْتِيَاطًا.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَنْقَضِي بِخُرُوجِ بَعْضِ الْوَلَدِ، وَلَوْ خَرَجَ بَعْضُهُ مُنْفَصِلًا أَوْ غَيْرَ مُنْفَصِلٍ وَلَمْ يَخْرُجِ الْبَاقِي بَقِيَتِ الرَّجْعَةُ، وَلَوْ طَلَّقَهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَرِثَهُ الْآخَرُ.

25- الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ الْحَمْلُ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ:

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ الْحَمْلَ إِذَا كَانَ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ إِلاَّ بِوَضْعِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ اسْمٌ لِجَمِيعِ مَا فِي الرَّحِمِ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ شُرِعَتْ لِمَعْرِفَةِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْحَمْلِ، فَإِذَا عُلِمَ وُجُودُ الْوَلَدِ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ فَقَدْ تُيُقِّنَ وُجُودُ الْمُوجِبِ لِلْعِدَّةِ وَانْتَفَتِ الْبَرَاءَةُ الْمُوجِبَةُ لِانْقِضَائِهَا، وَلِأَنَّهَا لَوِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْأَوَّلِ لأُبِيحَ لَهَا النِّكَاحُ كَمَا لَوْ وَضَعَتِ الْآخَرَ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَضَعَتْ وَلَدًا وَشَكَّتْ فِي وُجُودِ ثَانٍ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى تَزُولَ الرِّيبَةُ وَتَتَيَقَّنَ أَنَّهَا لَمْ يَبْقَ مَعَهَا حَمْلٌ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَوْ وَضَعَتْ أَحَدَهُمَا وَكَانَتْ رَجْعِيَّةً فَلِزَوْجِهَا الرَّجْعَةُ قَبْلَ أَنْ تَضَعَ الثَّانِيَ أَوِ الْآخَرَ لِبَقَاءِ الْعِدَّةِ، وَإِنَّمَا يَكُونَانِ تَوْأَمَيْنِ إِذَا وَضَعَتْهُمَا مَعًا أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا دُونَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَالثَّانِي حَمْلٌ آخَرُ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: ذَهَبَ عِكْرِمَةُ وَأَبُو قِلَابَةَ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْأَوَّلِ وَلَكِنْ لَا تَتَزَوَّجُ حَتَّى تَضَعَ الْوَلَدَ الْآخَرَ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَلَمْ يَقُلْ أَحْمَالَهُنَّ فَإِذَا وَضَعَتْ أَحَدَهُمَا فَقَدْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا.

وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَجُوزُ مُرَاجَعَتُهَا بَعْدَ وَضْعِ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ لِعَدَمِ بَقَاءِ الْعِدَّةِ إِلاَّ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ تَضَعَ الْأَخِيرَ مِنَ التَّوَائِمِ، خِلَافًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّ انْقِضَاءَ مُرَاجَعَةِ الْحَامِلِ يَتَوَقَّفُ عَلَى وَضْعِ كُلِّ الْحَمْلِ وَهَذَا هُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.

مَتَى يَجُوزُ لِلْمُعْتَدَّةِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ الزَّوَاجُ: بِالْوَضْعِ أَمْ بِالطُّهْرِ؟

26- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةُ الْفَتْوَى إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَتَزَوَّجُ بَعْدَ وَضْعِ الْحَمْلِ حَتَّى وَإِنْ كَانَتْ فِي دَمِهَا؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْلِ كُلِّهِ فَتَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ إِلاَّ أَنَّ زَوْجَهَا لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى تَطْهُرَ لقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}.

الْقَوْلُ الثَّانِي: ذَهَبَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَحَمَّادٌ إِلَى أَنَّهُ لَا تُنْكَحُ النُّفَسَاءُ مَا دَامَتْ فِي دَمِ نِفَاسِهَا لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ» وَمَعْنَى تَعَلَّتْ يَعْنِي طَهُرَتْ.

ارْتِيَابُ الْمُعْتَدَّةِ فِي وُجُودِ حَمْلٍ:

27- مَعْنَاهُ أَنْ تَرَى الْمَرْأَةُ أَمَارَاتِ الْحَمْلِ وَهِيَ فِي عِدَّةِ الْأَقْرَاءِ أَوِ الْأَشْهُرِ مِنْ حَرَكَةٍ أَوْ نَفْخَةٍ وَنَحْوِهِمَا وَشَكَّتْ هَلْ هُوَ حَمْلٌ أَمْ لَا.

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْمَالِكِيَّةُ إِنِ ارْتَابَتِ الْمُعْتَدَّةُ أَيْ شَكَّتْ وَتَحَيَّرَتْ بِالْحَمْلِ إِلَى أَقْصَى أَمَدِ الْحَمْلِ هَلْ تَتَرَبَّصُ خَمْسًا مِنَ السِّنِينَ أَوْ أَرْبَعًا؟ فِيهِ خِلَافٌ: إِنْ مَضَتِ الْمُدَّةُ وَلَمْ تَزِدِ الرِّيبَةُ حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، أَمَّا إِنْ مَضَتْ وَزَادَتِ الرِّيبَةُ لِكِبَرِ بَطْنِهَا مَكَثَتْ حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَفِي رِوَايَةٍ إِذَا مَضَتِ الْخَمْسَةُ أَوِ الْأَرْبَعَةُ حَلَّتْ وَلَوْ بَقِيَتِ الرِّيبَةُ، وَلَوْ تَزَوَّجَتِ الْمُرْتَابَةُ بِالْحَمْلِ قَبْلَ تَمَامِ الْخَمْسِ سِنِينَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَوَلَدَتْ لِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ مِنْ نِكَاحِ الثَّانِي لَمْ يُلْحَقِ الْوَلَدُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيُفْسَخُ نِكَاحُ الثَّانِي لِأَنَّهُ نَكَحَ حَامِلًا، أَمَّا عَدَمُ لُحُوقِهِ بِالْأَوَّلِ فَلِزِيَادَتِهِ عَلَى الْخَمْسِ سِنِينَ بِشَهْرٍ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِوِلَادَتِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: - قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوِ ارْتَابَتْ فِي الْعِدَّةِ فِي وُجُودِ حَمْلٍ أَمْ لَا بِثِقَلٍ وَحَرَكَةٍ تَجِدُهُمَا لَمْ تَنْكِحْ آخَرَ حَتَّى تَزُولَ الرِّيبَةُ بِمُرُورِ زَمَنٍ تَزْعُمُ النِّسَاءُ أَنَّهَا لَا تَلِدُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ قَدْ لَزِمَتْهَا بِيَقِينٍ فَلَا تَخْرُجُ عَنْهَا إِلاَّ بِيَقِينٍ، فَإِنْ نَكَحَتْ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ لِلتَّرَدُّدِ فِي انْقِضَائِهَا وَالِاحْتِيَاطِ فِي الْأَبْضَاعِ، وَلِأَنَّ الشَّكَّ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يُبْطِلُ الْعَقْدَ، فَإِنِ ارْتَابَتْ بَعْدَ الْعِدَّةِ وَنِكَاحِ الْآخَرِ اسْتَمَرَّ نِكَاحُهَا إِلَى أَنْ تَلِدَ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ عَقْدِهِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِبُطْلَانِ عَقْدِ النِّكَاحِ لِتَحَقُّقِ كَوْنِهَا حَامِلًا يَوْمَ الْعَقْدِ وَالْوَلَدُ لِلْأَوَّلِ إِنْ أَمْكَنَ كَوْنُهُ مِنْهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ فَالْوَلَدُ لِلثَّانِي، وَإِنِ ارْتَابَتْ بَعْدَ الْعِدَّةِ قَبْلَ نِكَاحٍ بِآخَرَ تَصْبِرُ عَلَى النِّكَاحِ لِتَزُولَ الرِّيبَةُ لِلِاحْتِيَاطِ لِخَبَرِ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ».

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ الْحَنَابِلَةُ إِنَّ الْمُرْتَابَةَ فِي الْعِدَّةِ فِي وُجُودِ حَمْلٍ أَمْ لَا لَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: أَنْ تَحْدُثَ بِهَا الرِّيبَةُ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَإِنَّهَا تَبْقَى فِي حُكْمِ الِاعْتِدَادِ حَتَّى تَزُولَ الرِّيبَةُ، فَإِنْ بَانَ حَمْلٌ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ، وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَمْلٍ تَبَيَّنَّا أَنَّ عِدَّتَهَا انْقَضَتْ بِالْقُرُوءِ، أَوْ بِالشُّهُورِ، فَإِنْ زُوِّجَتْ قَبْلَ زَوَالِ الرِّيبَةِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهَا تَزَوَّجَتْ وَهِيَ فِي حُكْمِ الْمُعْتَدَّاتِ فِي الظَّاهِرِ، وَيُحْتَمَلُ إِذَا تَبَيَّنَ عَدَمُ الْحَمْلِ أَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ، لِبَيَانِ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا.

الثَّانِي: إِنْ ظَهَرَتِ الرِّيبَةُ بَعْدَ قَضَاءِ عِدَّتِهَا وَالتَّزَوُّجِ فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ وُجِدَ بَعْدَ قَضَاءِ عِدَّتِهَا فِي الظَّاهِرِ وَالْحَمْلُ مَعَ الرِّيبَةِ مَشْكُوكٌ فِيهِ وَلَا يَزُولُ بِهِ مَا حُكِمَ بِصِحَّتِهِ لَكِنْ لَا يَحِلُّ لِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا لِلشَّكِّ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ، ثُمَّ نَنْظُرُ فَإِنْ وَضَعَتِ الْوَلَدَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي وَوَطِئَهَا فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ نَكَحَهَا وَهِيَ حَامِلٌ، وَإِنْ أَتَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِهِ وَنِكَاحُهُ صَحِيحٌ.

الثَّالِثُ: أَنْ تَظْهَرَ الرِّيبَةُ بَعْدَ قَضَاءِ الْعِدَّةِ وَقَبْلَ النِّكَاحِ فَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ، وَإِنْ تَزَوَّجَتْ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَفِي وَجْهٍ آخَرَ يَحِلُّ لَهَا النِّكَاحُ وَيَصِحُّ.

تَحَوُّلُ الْعِدَّةِ أَوِ انْتِقَالُهَا:

أَنْوَاعُ الْعِدَّةِ ثَلَاثَةٌ: عِدَّةٌ بِالْأَقْرَاءِ أَوْ بِالْأَشْهُرِ أَوْ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَقَدْ تَنْتَقِلُ مِنْ حَالَةٍ إِلَى أُخْرَى كَمَا يَلِي:

الْحَالَةُ الْأُولَى:

انْتِقَالُ الْعِدَّةِ أَوْ تَحَوُّلُهَا مِنَ الْأَشْهُرِ إِلَى الْأَقْرَاءِ، كَالصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَحِضْ، وَكَذَلِكَ الْآيِسَةُ.

28- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَةَ أَوِ الْبَالِغَةَ الَّتِي لَمْ تَحِضْ إِذَا اعْتَدَّتْ بِالْأَشْهُرِ فَحَاضَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَلَوْ بِسَاعَةٍ لَزِمَهَا اسْتِئْنَافُ الْعِدَّةِ، فَتَنْتَقِلُ عِدَّتُهَا مِنَ الْأَشْهُرِ إِلَى الْأَقْرَاءِ، لِأَنَّ الْأَشْهُرَ بَدَلٌ عَنِ الْأَقْرَاءِ فَإِذَا وُجِدَ الْمُبْدَلُ بَطَلَ حُكْمُ الْبَدَلِ كَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْمَاءِ.

أَمَّا إِنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَشْهُرِ ثُمَّ حَاضَتْ بَعْدَهَا وَلَوْ بِلَحْظَةٍ لَمْ يَلْزَمْهَا اسْتِئْنَافُ الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ مَعْنًى حَدَثَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، كَاَلَّتِي حَاضَتْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا بِزَمَنٍ طَوِيلٍ، وَلَا يُمْكِنُ مَنْعُ هَذَا الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ مَنْعُهُ لَمْ يَحْصُلْ لِمَنْ لَمْ تَحِضْ الِاعْتِدَادُ بِالْأَشْهُرِ بِحَالٍ.

وَالْآيِسَةُ إِذَا اعْتَدَّتْ بِبَعْضِ الْأَشْهُرِ، ثُمَّ رَأَتِ الدَّمَ، فَتَتَحَوَّلُ عِدَّتُهَا إِلَى الْأَقْرَاءِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهَا لَمَّا رَأَتِ الدَّمَ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ آيِسَةً وَأَنَّهَا أَخْطَأَتْ فِي الظَّنِّ فَلَا يُعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ فِي حَقِّهَا لِأَنَّهَا بَدَلٌ فَلَا يُعْتَبَرُ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي وَقَّتُوا لِلْإِيَاسِ فِيهَا وَقْتًا- إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَلَغَتْ ذَلِكَ الْوَقْتَ ثُمَّ رَأَتْ بَعْدَهُ الدَّمَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الدَّمُ حَيْضًا كَالدَّمِ الَّذِي تَرَاهُ الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَا يَحِيضُ مِثْلُهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ دَمًا خَالِصًا فَحَيْضٌ حَتَّى يَبْطُلَ بِهِ الِاعْتِدَادُ بِالْأَشْهُرِ.

وَنَقَلَ الْكَاسَانِيُّ عَنِ الْجَصَّاصِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ فِي الَّتِي ظَنَّتْ أَنَّهَا آيِسَةٌ، فَأَمَّا الْآيِسَةُ فَمَا تَرَى مِنَ الدَّمِ لَا يَكُونُ حَيْضًا، أَلَا تَرَى أَنَّ وُجُودَ الْحَيْضِ مِنْهَا كَانَ مُعْجِزَةَ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ( (؟ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ إِلاَّ عَلَى وَجْهِ الْمُعْجِزَةِ، كَذَا عَلَّلَ الْجَصَّاصُ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْآيِسَةَ إِذَا رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ وَقَبْلَ السَّبْعِينَ، وَالْحَنَابِلَةِ الْقَائِلِينَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ وَقَبْلَ السِّتِّينَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ دَمًا مَشْكُوكًا فِيهِ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى النِّسَاءِ لِمَعْرِفَةِ هَلْ هُوَ حَيْضٌ أَمْ لَا؟ إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ عَلَى الْعَادَةِ الَّتِي كَانَتْ تَرَاهُ فِيهَا فَهُوَ حَيْضٌ فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْحَيْضِ الْوُجُودُ فِي زَمَنِ الْإِمْكَانِ، وَهَذَا يُمْكِنُ وُجُودُ الْحَيْضِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ نَادِرًا، وَإِنْ رَأَتْهُ بَعْدَ السِّتِّينَ فَقَدْ تُيُقِّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا تَعْتَدُّ بِهِ، وَتَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ، كَاَلَّتِي لَا تَرَى دَمًا.

(ر: مُصْطَلَحَ إِيَاس ف 6).

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْآيِسَةَ إِذَا رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ تَمَامِ الْأَشْهُرِ فَثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: - لَا يَلْزَمُهَا الْعَوْدُ إِلَى الْأَقْرَاءِ، بَلِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، كَمَا لَوْ حَاضَتِ الصَّغِيرَةُ بَعْدَ الْأَشْهُرِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.

الثَّانِي: - يَلْزَمُهَا، لِأَنَّهُ بَانَ أَنَّهَا لَيْسَتْ آيِسَةً بِخِلَافِ الصَّغِيرَةِ فَإِنَّهَا بِرُؤْيَةِ الْحَيْضِ لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا وَقْتَ الِاعْتِدَادِ مِنَ اللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ.

الثَّالِثُ: - وَهُوَ الْأَظْهَرُ إِنْ كَانَ نَكَحَتْ بَعْدَ الْأَشْهُرِ فَقَدْ تَمَّتِ الْعِدَّةُ وَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ، وَإِلاَّ لَزِمَهَا الْأَقْرَاءُ.

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: - انْتِقَالُ الْعِدَّةِ مِنَ الْأَقْرَاءِ إِلَى الْأَشْهُرِ:

29- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْتَقِلُ مِنَ الْأَقْرَاءِ إِلَى الْأَشْهُرِ فِي حَقِّ مَنْ حَاضَتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ يَئِسَتْ مِنَ الْمَحِيضِ فَتَسْتَقْبِلُ الْعِدَّةَ بِالْأَشْهُرِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَاَللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ}.

وَالْأَشْهُرُ بَدَلٌ عَنِ الْحَيْضِ فَلَوْ لَمْ تَسْتَقْبِلْ وَثَبَتَتْ عَلَى الْأَوَّلِ لَصَارَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ أَصْلًا وَبَدَلًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ، كَمَا أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تُلَفَّقُ مِنْ جِنْسَيْنِ وَقَدْ تَعَذَّرَ إِتْمَامُهَا بِالْحَيْضِ فَوَجَبَتْ بِالْأَشْهُرِ.

وَإِيَاسُ الْمَرْأَةِ أَنْ تَبْلُغَ مِنَ السِّنِّ مَا لَا يَحِيضُ فِيهِ مِثْلُهَا عَادَةً، فَإِذَا بَلَغَتْ هَذِهِ السِّنَّ مَعَ انْقِطَاعِ الدَّمِ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهَا آيِسَةٌ مِنَ الْحَيْضَةِ حَتَّى يَتَّضِحَ لَنَا خِلَافُهُ.وَسِنُّ الْيَأْسِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَقْوَالٍ.

أَمَّا إِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ قَبْلَ سِنِّ الْيَأْسِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحُكْمِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.

(ر: مُصْطَلَحَ إِيَاس).

الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: تَحَوُّلُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ:

30- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا، ثُمَّ تُوُفِّيَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، سَقَطَتْ عَنْهَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ، وَاسْتَأْنَفَتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا مِنْ وَقْتِ الْوَفَاةِ؛ لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ وَيَسْرِي عَلَيْهَا قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}.

وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ وَيَنَالُهَا مِيرَاثُهُ، فَاعْتَدَّتْ لِلْوَفَاةِ كَغَيْرِ الْمُطَلَّقَةِ.

وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا فِي حَالِ صِحَّتِهِ، أَوْ بِنَاءً عَلَى طَلَبِهَا، ثُمَّ تُوُفِّيَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنَّهَا تُكْمِلُ عِدَّةَ الطَّلَاقِ وَلَا تَنْتَقِلُ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ، لِانْقِطَاعِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ بِالْإِبَانَةِ، فَلَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ وُجُودِ سَبَبِهِ، فَتَعَذَّرَ إِيجَابُ عِدَّةِ الْوَفَاةِ فَبَقِيَتْ عِدَّةُ الطَّلَاقِ عَلَى حَالِهَا.

وَأَمَّا لَوْ طَلَّقَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ دُونَ طَلَبٍ مِنْهَا، ثُمَّ تُوُفِّيَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ- مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَعِدَّةِ الْوَفَاةِ- احْتِيَاطًا، لِشُبْهَةِ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ لِأَنَّهَا تَرِثُهُ، فَلَوْ فَرَضْنَا بِأَنَّهَا حَاضَتْ قَبْلَ الْمَوْتِ حَيْضَتَيْنِ، وَلَمْ تَحِضِ الثَّالِثَةَ بَعْدَ الْمَوْتِ حَتَّى انْتَهَتْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ، فَإِنَّهَا تُكْمِلُ عِدَّةَ الطَّلَاقِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَاضَتِ الثَّالِثَةَ بَعْدَ الْوَفَاةِ وَقَبْلَ انْتِهَاءِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ فَإِنَّهَا تُكْمِلُ هَذِهِ الْعِدَّةَ.

وَيَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا بَقِيَ فِي حَقِّ الْإِرْثِ خَاصَّةً لِتُهْمَةِ الْفِرَارِ فَلأَنْ يَبْقَى فِي حَقِّ وُجُوبِ الْعِدَّةِ أَوْلَى، لِأَنَّ الْعِدَّةَ يُحْتَاطُ فِي إِيجَابِهَا فَكَانَ قِيَامُ النِّكَاحِ مِنْ وَجْهٍ كَافِيًا لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ احْتِيَاطًا فَيَجِبُ عَلَيْهَا الِاعْتِدَادُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فِيهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ.

وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو يُوسُفَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ لِانْقِطَاعِ الزَّوْجِيَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِأَنَّهَا بَائِنٌ مِنَ النِّكَاحِ فَلَا تَكُونُ مَنْكُوحَةً، وَلِأَنَّ الْإِرْثَ الَّذِي ثَبَتَ مُعَامَلَةً بِنَقِيضِ الْقَصْدِ لَا يَقْتَضِي بَقَاءَ زَوْجِيَّةٍ مُوجِبَةٍ لِلْأَسَفِ وَالْحُزْنِ وَالْحِدَادِ عَلَى الْمُتَوَفَّى.

الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: تَحَوُّلُ الْعِدَّةِ مِنَ الْقُرُوءِ أَوِ الْأَشْهُرِ إِلَى وَضْعِ الْحَمْلِ.

31- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ بِالْقُرُوءِ أَوِ الْأَشْهُرِ أَوْ بَعْدَهَا أَنَّ الْمَرْأَةَ حَامِلٌ مِنَ الزَّوْجِ، فَإِنَّ الْعِدَّةَ تَتَحَوَّلُ إِلَى وَضْعِ الْحَمْلِ، وَسَقَطَ حُكْمُ مَا مَضَى مِنَ الْقُرُوءِ أَوِ الْأَشْهُرِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا رَأَتْهُ مِنَ الدَّمِ لَمْ يَكُنْ حَيْضًا، لِأَنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ وَلِأَنَّ وَضْعَ الْحَمْلِ أَقْوَى دَلَالَةً عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْ آثَارِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي انْقَضَتْ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.

ابْتِدَاءُ الْعِدَّةِ وَانْقِضَاؤُهَا:

32- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَبْدَأُ فِي الطَّلَاقِ عَقِيبَ الطَّلَاقِ، وَفِي الْوَفَاةِ عَقِيبَ الْوَفَاةِ، لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ الطَّلَاقُ أَوِ الْوَفَاةُ، فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِالطَّلَاقِ أَوِ الْوَفَاةِ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةُ الْعِدَّةِ فَقَدِ انْقَضَتْ مُدَّتُهَا، لَكِنْ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: وَمَشَايِخُنَا يُفْتُونَ فِي الطَّلَاقِ أَنَّ ابْتِدَاءَهَا مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ نَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمُوَاضَعَةِ، قَالَ الْبَابَرْتِيُّ: لِجَوَازِ أَنْ يَتَوَاضَعَا عَلَى الطَّلَاقِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِيَصِحَّ إِقْرَارُ الْمَرِيضِ لَهَا بِالدَّيْنِ وَوَصِيَّتِهِ لَهَا بِشَيْءٍ، وَيَتَوَاضَعَا عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِيَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا أَوْ أَرْبَعًا سِوَاهَا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَبْدَأُ مِنْ وَقْتِ الْعِلْمِ بِالطَّلَاقِ، فَلَوْ أَقَرَّ فِي صِحَّتِهِ بِطَلَاقٍ مُتَقَدِّمٍ، وَقَدْ مَضَى مِقْدَارُ الْعِدَّةِ قَبْلَ إِقْرَارِهِ، اسْتَأْنَفَتْ عِدَّتَهَا مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ، وَتَرِثُهُ لِأَنَّهَا فِي عِدَّتِهَا، وَلَا يَرِثُهَا لِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِإِقْرَارِهِ، إِلاَّ إِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ فَتَعْتَدُّ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرَتْهُ الْبَيِّنَةُ، وَهَذَا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، أَمَّا الْبَائِنُ فَلَا يَتَوَارَثَانِ، أَمَّا عِدَّةُ الْوَفَاةِ فَتَبْدَأُ مِنْ وَقْتِ الْوَفَاةِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تَبْدَأُ عِدَّةُ الْوَفَاةِ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ، وَتَبْدَأُ عِدَّةُ الْأَقْرَاءِ مِنْ حِينِ الطَّلَاقِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَقْتُ الْوُجُوبِ، وَلَوْ بَلَغَتْهَا وَفَاةُ زَوْجِهَا أَوْ طَلَاقُهَا بَعْدَ مُدَّةِ الْعِدَّةِ كَانَتْ مُنْقَضِيَةً، فَلَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ مِنْهَا، لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ تَعْتَدُّ مَعَ عَدَمِ قَصْدِهَا.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْهَا، فَعِدَّتُهَا مِنْ يَوْمِ الْمَوْتِ أَوِ الطَّلَاقِ لَا مِنْ يَوْمِ الْعِلْمِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إِنْ قَامَتْ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ فَعِدَّتُهَا مِنْ يَوْمِ يَأْتِيهَا الْخَبَرُ.

33- وَانْقِضَاءُ الْعِدَّةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ نَوْعِهَا فَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ حَامِلًا فَإِنَّ عِدَّتَهَا تَنْتَهِي بِوَضْعِ الْحَمْلِ كُلِّهِ، وَإِذَا كَانَتِ الْعِدَّةُ بِالْقُرُوءِ فَإِنَّهَا تَنْتَهِي بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، وَإِذَا كَانَتِ الْعِدَّةُ بِالْأَشْهُرِ فَإِنَّهَا تُحْسَبُ مِنْ وَقْتِ الْفُرْقَةِ أَوِ الْوَفَاةِ حَتَّى تَنْتَهِيَ بِمُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ.

وَبَيَّنَ الْكَاسَانِيُّ مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ فَقَالَ: انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ نَوْعَانِ: الْأَوَّلُ بِالْقَوْلِ، وَالثَّانِي بِالْفِعْلِ.

أَمَّا الْقَوْلُ فَهُوَ: إِخْبَارُ الْمُعْتَدَّةِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي مُدَّةٍ يُحْتَمَلُ الِانْقِضَاءُ فِي مِثْلِهَا، فَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً مِنْ ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ فَإِنَّهَا لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ أَوْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ وَمُعْتَدَّةً مِنْ وَفَاةٍ، فَإِنَّهَا لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، أَوْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ فَإِنْ أَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فِي مُدَّةٍ تَنْقَضِي فِي مِثْلِهَا الْعِدَّةُ يُقْبَلُ قَوْلُهَا، وَإِنْ أَخْبَرَتْ فِي مُدَّةٍ لَا تَنْقَضِي فِي مِثْلِهَا الْعِدَّةُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْأَمِينِ إِنَّمَا يُقْبَلُ فِيمَا لَا يُكَذِّبُهُ الظَّاهِرُ، وَالظَّاهِرُ هُنَا يُكَذِّبُهَا، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا إِلاَّ إِذَا فَسَّرَتْ مَعَ يَمِينِهَا، فَيُقْبَلُ قَوْلُهَا مَعَ هَذَا التَّفْسِيرِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يُكَذِّبُهَا مَعَ التَّفْسِيرِ، وَأَقَلُّ مَا تُصَدَّقُ فِيهِ الْمُعْتَدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سِتُّونَ يَوْمًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا.

وَأَمَّا الْفِعْلُ: فَيَتَمَثَّلُ فِي أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ تَنْقَضِي فِي مِثْلِهَا الْعِدَّةُ، حَتَّى لَوْ قَالَتْ: لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتِي لَمْ تُصَدَّقْ، لَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَلَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ الثَّانِي، وَنِكَاحُ الزَّوْجِ الثَّانِي جَائِزٌ؛ لِأَنَّ إِقْدَامَهَا عَلَى التَّزَوُّجِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ يُحْتَمَلُ الِانْقِضَاءُ فِي مِثْلِهَا دَلِيلٌ عَلَى الِانْقِضَاءِ.

عِدَّةُ الْمُسْتَحَاضَةِ:

34- الِاسْتِحَاضَةُ فِي الشَّرْعِ هِيَ: سَيَلَانُ الدَّمِ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِهِ الْمُعْتَادَةِ مِنْ مَرَضٍ وَفَسَادٍ مِنْ عِرْقٍ فِي أَدْنَى الرَّحِمِ يُسَمَّى الْعَاذِلَ.

فَإِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ الْمُطَلَّقَةُ الْمُعْتَدَّةُ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ، وَاسْتَمَرَّ نُزُولُ الدَّمِ عَلَيْهَا بِدُونِ انْقِطَاعٍ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ، وَالْحَالُ لَا يَخْلُو مِنْ أَمْرَيْنِ:

35- الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: إِنِ اسْتَطَاعَتْ أَنْ تُمَيِّزَ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ بِرَائِحَةٍ أَوْ لَوْنٍ أَوْ كَثْرَةٍ أَوْ قِلَّةٍ أَوْ عَادَةٍ- وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا غَيْرَ الْمُتَحَيِّرَةِ- فَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} وَلِأَنَّهَا تُرَدُّ إِلَى أَيَّامِ عَادَتِهَا الْمَعْرُوفَةِ لَهَا وَلِأَنَّ الدَّمَ الْمُمَيَّزَ بَعْدَ طُهْرٍ تَامٍّ يُعَدُّ حَيْضًا، فَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ لَا بِالْأَشْهُرِ.

36- الْأَمْرُ الثَّانِي الْمُسْتَحَاضَةُ الْمُتَحَيِّرَةُ الَّتِي لَمْ تَسْتَطِعِ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ وَنَسِيَتْ قَدْرَ عَادَتِهَا، أَوْ تَرَى يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا نَقَاءً، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مُبْتَدَأَةً أَمْ غَيْرَهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عِدَّتِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَأَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمُسْتَحَاضَةِ هُنَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْغَالِبَ نُزُولُ الْحَيْضِ مَرَّةً فِي كُلِّ شَهْرٍ، أَوْ لِاشْتِمَالِ كُلِّ شَهْرٍ عَلَى طُهْرٍ وَحَيْضٍ غَالِبًا، وَلِعِظَمِ مَشَقَّةِ الِانْتِظَارِ إِلَى سِنِّ الْيَأْسِ، وَلِأَنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُرْتَابَةٌ، فَدَخَلَتْ فِي قوله تعالى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ تَلَجَّمِي وَتَحَيَّضِي فِي كُلِّ شَهْرٍ فِي عِلْمِ اللَّهِ سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ» فَجَعَلَ لَهَا حَيْضَةً فِي كُلِّ شَهْرٍ تَتْرُكُ فِيهَا الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ، وَيَثْبُتُ فِيهَا سَائِرُ أَحْكَامِ الْحَيْضِ، فَيَجِبُ أَنْ تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْحَيْضِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَإِسْحَاقُ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمُسْتَحَاضَةِ الْمُتَحَيِّرَةِ سَنَةٌ كَامِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ رُفِعَتْ حَيْضَتُهَا وَلَا تَدْرِي مَا رَفَعَهَا، وَلِأَنَّهَا لَمْ تَتَيَقَّنْ لَهَا حَيْضًا مَعَ أَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْقُرُوءِ، فَكَانَتْ عِدَّتُهَا سَنَةً، كَاَلَّتِي ارْتَفَعَ حَيْضُهَا.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا تَتَرَبَّصُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ اسْتِبْرَاءً لِزَوَالِ الرِّيبَةِ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةُ الْحَمْلِ غَالِبًا، ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَتَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ بَعْدَ السَّنَةِ، وَقِيلَ: بِأَنَّ السَّنَةَ كُلَّهَا عِدَّةٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ عِنْدَهُمْ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: بِأَنَّ الْمُعْتَدَّةَ الْمُتَحَيِّرَةَ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ سِنِّ الْيَأْسِ، أَوْ تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ أَوْ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ لِلِاحْتِيَاطِ، قِيَاسًا عَلَى مَنْ تَبَاعَدَ حَيْضُهَا وَطَالَ طُهْرُهَا، أَوْ لِأَنَّهَا قَبْلَ الْيَأْسِ مُتَوَقِّعَةٌ لِلْحَيْضِ الْمُسْتَقِيمِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


هناك نتائج أكثر من هذه واكتفينا بالسابقة

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com