نتائج البحث عن (كَالنَّهْرِ)
1-المعجم الجغرافي للسعودية (مغارة شعيب)
مغارة شعيب: ـ على اسم مغارة الجبل وقد يقال (مغار شعيب) و (مغاير شعيب) وهو موضع فيه آثار، شرقي مقنا، جوار البدع، له ذكر كثير في رحلات الحج.وقال الجزيري في «درر الفوائد المنظمة » نقلا عن «مسالك الابصار» لابن فضل الله العمري: ويرد ماء مغارة شعيب عليهالسلام ـ وماؤها ردىء قليل المنبع، وهي منسوبة إلى شعيب عليه الصلاة والسلام ـ ويقال: إنه الذي أسقى عليه موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ غنم بنات شعيب. أقول: وصفه لماء المغارة بأنه ردىء ينافيه ما هو عليه الآن من صدق الحلاوة والخفّة وكثرة مكثه في القرب من غير تغير، حتى إن من الناس من يحاكي به ماء النيل، ولعل الماء الذي كان في زمن ابن فضل الله من البئر والمصنع الذي كان بذلك الوادي أوّلا كما بلغني، وأنه كان مورد الحجاج انتهى.
وقال البكريّ الصديقي في رحلته: المغار المعروف بمغار شعيب، وهو غار تتبرك به الناس، وبه الماء العذب والنخيل، وشجر المقل والاثل والظل والظليل، قال الشاعر:
«قد وصلنا إلى مغار شعيب ***فرأينا المياه كالأنهار»
«فاستقينا من مائه واشتفينا***وظفرنا بغاية الأوطار”
«وذكرنا بغاره غار ثور***من حوى للصدّيق والمختار»
«خير من أنزل الإله عليه: *** (ثاني اثنين إذ هما في الغار) »
وقال الجزيريّ أيضا عن مغارة شعيب ـ: وبها شجر المقل كثير، ومن الأحطاب مالا يقدّر قدره، لكثرة ما بها من أشجار أمّ غيلان، وبها نخل لبني عطيّة، حكي المتقدمون في السن أنه مستجدّ بها، وكان في بعض ولايات مصطفى باشا السابقة اشتد حنقه وغيظه منهم فأطلق النار في هذا النخل ليحرقه، فبعد اطلاق النار أشار عليه من حضر مجلسه بالكفّ عن ذلك ففعل.
والمغارة بالجبل يتحصل بها الماء، وكان موردها في القديم للوفد بئرا بساقية وفسقية مطبقة بقبّة. وسواقيها طائفة من بني عطية تدعى السّواركة، ولها عشرون دينارا من ديوان السلطنة، فلما منح الله تعالى هذا المحلّ كثرة الماء الطيب استغنوا عن ذلك المورد بماء الحفائر الحلوة المقاربة لماء النيل في الحلاوة والخفة، وعدم التغير في القرب بطول المكث. وفي المغارة شجر عظيم من الجانب الغربيّ يسمى الأيكة، ذكر ذلك السروجي الحنفي في مناسكه.
وقال الخياريّ ـ عن مغاير شعيب ـ: منزل متسع الجهات والأنحاء، عذب الهواء والماء، رمل الأرض، تحفر فيه حفائر نحو الذراع أو الذراعين فيظهر الماء العذب الحالي.
وأرضه بها شجر الدوم، وينبت بها البعيثران البرّىّ المسمى بالشّيح، طاب ريحه انتهى ملخصا.
وقال ابن ناصر الدّرعيّ: ونزلنا مغاير شعيب في 15 مارس، وأتانا رجل بقليل عنب أسود، وقلت له: أنت من مدين؟؟ قال: نعم. وذكر أن العنب يطعم بمدين مرتين في العام، وأكلت ذلك العنب ووجدته عنبا جديدا، كأن فيه قليل ملوحة، وهو طيّب حلو، وأكلت العنب الجديد في نصف مارس.
وقال ابن عبد السلام الدّرعيّ ـ بعد ذكر الشّرفة ـ: ثم ارتحلنا ونزلنا مغاير شعيب، والعرب تقول البدع، وهو واد ذو مياه دافقة عذبة إلى الغاية، باردة إلى النهاية، وسوّقنا به أعراب مدين، يدعون العميرات، وعن يسار منزل الركب خارج المضيق (مغارة كبيرة، مرتفعة السمك جدا، معجبة. متسعة من بابها إلى داخلها. مضيئة لأجل اتساعها، وهي في حجر أصّم بأصل حدب غليظ، وفي بابها يسير ارتفاع، فإذا دخلتها انحدرت في درج من حجارة، جعل لأجل الزلق).
وقال العبدريّ: والمغارة نفسها من صنع الله. لا قدرة على مثلها لآدميّ، والماء في قعرها كثير راكد، ظاهر بالباب، كأنه بركة مصر، وبين المغارة وقعرها بالتقدير ستون أو سبعون ذراعا وهى آخر وادي القرّ انتهى.
وقال الشيخ أبو سالم: يقال إن فيها كان شعيب ـ عليه السلام ـ يؤوي غنمه، وبإزائها بئر كبيرة معطلة وبجانبها بركة، يقال: إن هناك كانت البئر التي سقى منها موسى عليهالسلام غنم شعيب وبينها وبين مدين نصف يوم، وهي بلدة على ساحل البحر، كثيرة الفواكه والمياه الغزيرة، وسكانها أعراب أهل بادية، وكانت قبل ذلك مدينة، يذكر أن أثر البنيان باق بها إلى الآن.
وقال النابلسيّ: مغاير شعيب، وتسمية العرب البدع ـ بفتح الباء الموحدة وسكون الدال المهملة وبالعين المهملة ـ وهو المنزل الثاني عشر من منازل الحاج، وفيه عيون ماء جارية على وجه الأرض، تجتمع فتصير كالنهر في أماكن كثيرة، وماؤها حلو لطيف، وإنما سميت مغاير شعيب لأن نبي الله شعيب عليهالسلام ـ على ما يقال ـ كان يتعبد في تلك المغاير التي هناك إلى الآن، وله في مغارة منها بلاطة كبيرة مستوية يصلّي عليها، وذكر لنا أن رجلا كان مرة هناك فشم رائحة طيبة، فتتبع تلك الرائحة، إلى أن وصل إلى تلك المغارة، فوجد داخلها رجلا في تابوت بكفن أبيض، ووجد تلك الرائحة الطيبة تخرج منه، وعليه المهابة والنور والجلال فقال: لعله نبي الله شعيب. عليهالسلام. ثم أورد النابلسيّ من شعره:
«من مصر قد سرنا لطيبة نقتفى ***أثر الدّليل وللوصول بشائر»
«وتشعّبت طرق المسير بركبنا***حتّى بدت لك يا شعيب مغاير»
ومن شعره:
«لشعيب هاتيك المغاير ماؤها***عذب زلال سائغ للشارب »
«نقع الظّما تحت الهواجر والرّبا***مخضّرة العذبات طلق جوانب “
«تجري المياه لطيفة فى سوحها***كسبائك صفو اللجين سواكب »
وقال محمد صادق باشا: مغاير شعيب محل تلال يحدق به نخيل وعبل، ليس به حشائش ولا مساكن مبنية إلا زريبات من جريد لسكني العربان، وتحمل المياه العذبة من مغاير، تحفر بجوار الشجر، وهذه البقعة بعيدة عن المالح أربع ساعات، ويتوصل إلى البحر من وادي مدين، ولا يباع بهذه المحلة شيء سوى حشيش البهائم وبلغت درجة الحرارة عند الزوال 38 درجة. انتهى.
وقال فلبي ـ عن المقابر التي عند مصلى شعيب: ومن الطبيعى أن جميع هذه الأضرحة كانت نبطية، وعلى هذا فقد وجدت بعد مالا يقل عن 1500 سنة من زمن شعيب (جيثرو) والأضرحة تعرف باسم مغاير شعيب. وقد أطلق موزل على خرائب المدينة الواقعة على الضقة اليمني لوادي عفال اسم حوارة، ويبدو أن السكان الان قد نسوا هذا الاسم. انتهى.
المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية-حمد الجاسر-صدر: 1398هـ/1978م
2-معجم البلدان (خوزستان)
خُوزِسْتانُ:بضم أوله، وبعد الواو الساكنة زاي، وسين مهملة، وتاء مثناة من فوق، وآخره نون:
وهو اسم لجميع بلاد الخوز المذكورة قبل هذا،
واستان كالنسبة في كلام الفرس، قال شاعر يهجوهم:
«بخوزستان أقوام *** عطاياهم مواعيد»
«دنانيرهم بيض *** وأعراضهم سود»
وقال المضرّجي بن كلاب السعدي أحد بني الحارث بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم شهدوا وقائع المهلّب بن أبي صفرة للخوارج فقال:
«ألا يا من لقلب مستجنّ *** بخوزستان قد ملّ المزونا»
«لهان على المهلّب ما ألاقي، *** إذا ما راح مسرورا بطينا»
«ألا ليت الرياح مسخّرات *** لحاجتنا، يرحن ويغتدينا»
قال أبو زيد: وليس بخوزستان جبال ولا رمال إلا شيء يسير يتاخم نواحي تستر وجنديسابور وناحية إيذج وأصبهان، وأما أرض خوزستان فأشبه شيء بأرض العراق وهوائها وصحتها، فإن مياهها طيبة جارية ولا أعرف بجميع خوزستان بلدا ماؤهم من الآبار لكثرة المياه الجارية بها، وأما تربتها فإن ما بعد عن دجلة إلى ناحية الشمال أيبس وأصحّ، وما كان قريبا من دجلة فهو من جنس أرض البصرة في السّبخ وكذلك في الصحة، قال: وليس بخوزستان موضع يجمد فيه الماء ويروح فيه الثلج، ولا تخلو ناحية من نواحيها المنسوب إليها من النخل، وهي وخمة والعلل بها كثيرة خصوصا في الغرباء المتردّدين إليها، وأما ثمارهم وزروعهم فإن الغالب على نواحي خوزستان النخل ولهم عامة الحبوب من الحنطة والشعير والأرز فيخبزونه وهو لهم قوت كرستاق كسكر من واسط، وفي جميع نواحيها أيضا قصب السكر إلا أن أكثره بالمسرقان ويرفع جميعه إلى عسكر مكرم، وليس في قصبة عسكر مكرم شيء كثير من قصب السكر وكذلك بتستر والسوس وإنما يحمل إليها القصب من نواح أخر، والذي في هذه الثلاثة بلاد إنما يكون بحسب الأكل لا أن يستعصر منه سكر، وعندهم عامّة الثمار إلّا الجوز وما لا يكون إلا ببلاد الصّرود.
وأما لسانهم فإن عامتهم يتكلمون بالفارسية والعربية، غير أن لهم لسانا آخر خوزيّا ليس بعبراني ولا سرياني ولا عربي ولا فارسي، والغالب على أخلاق أهلها سوء الخلق والبخل المفرط والمنافسة فيما بينهم في النزر الحقير، والغالب على ألوانهم الصّفرة والنّحافة وخفّة اللحى ووفور الشعر، والضخامة فيهم قليل، وهذه صفة لعامّة بلاد الجروم، والغالب عليهم الاعتزال، وفي كورهم جميع الملل، وتتصل زاوية خوزستان هذه بالبحر فيكون له هور، والهور كالنهر يندّ من البحر ضاربا في الأرض تدخله سفن البحر إذا انتهت إليه، فإنه يعرض وتجتمع مياه خوزستان بحصن مهدي وتنفصل منه إلى البحر فتتصل به ويعرض هناك حتى ينتهي في طرفه المدّ والجزر ثم يتسع حتى لا يرى طرفاه، قالوا: وغزا سابور ذو الأكتاف الجزيرة وآمد وغير ذلك من المدن الرومية فنقل خلقا من أهلها فأسكنهم نواحي خوزستان فتناسلوا وقطنوا بتلك الديار، فمن ذلك الوقت صار نقل الديباج التّستري وغيره من أنواع الحرير بتستر والخزّ بالسوس والسّتور والفرش ببلاد بصنا ومتّوث إلى هذه الغاية، والله أعلم.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
3-معجم البلدان (السيب)
السِّيبُ:بكسر أوّله، وسكون ثانيه، وأصله مجرى الماء كالنهر: وهو كورة من سواد الكوفة، وهما سيبان الأعلى والأسفل من طسّوج سورا عند قصر ابن هبيرة، ينسب إليها أحمد بن محمد بن أحمد بن علي السيبي أبو بكر الفقيه الشافعي، ولد بقصر ابن هبيرة سنة 276، ورحل إلى بغداد وتفقّه على أبي إسحاق المروزي ورجع إلى القصر ونشر فيه فقه الشافعي وحدث عن جماعة، ومات بقصر ابن هبيرة سنة 392، روى عن عبد الله بن أحمد الأزدي وجماعة سواه ذكروا في تاريخ بغداد.
والسيب أيضا: نهر بالبصرة فيه قرية كبيرة. والسيب أيضا بخوارزم في ناحيتها السفلى: موضع أو جزيرة، قاله العمراني الخوارزمي.
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
4-معجم البلدان (قناة)
قَنَاةُ:بالفتح، والقناة: القامة، ومنه: فلان صلب القناة، وكل خشبة عند العرب قناة كالعصا والرمح، وجمعها قنا، وقنيّ جمع الجمع، قاله ابن الأنباري، وقال الأزهري: القناة ما كان ذا أنابيب من القصب، وبذلك سميت الكظائم التي تجري تحت الأرض قنى، والقناة: آبار تحفر تحت الأرض ويخرق بعضها إلى بعض حتى تظهر على وجه الأرض كالنهر، وبهذا سميت القناة من نواحي سنجار: وهي كورة واسعة بينها وبين البر وسكانها عرب باقون على عربيتهم في الشكل والكلام وقرى الضيف، وقناة أيضا: واد بالمدينة وهي أحد أوديتها الثلاثة عليه حرث ومال، وقد يقال وادي قناة، قالوا: سمي قناة لأن تبّعا مرّ به فقال هذه قناة الأرض، وقال أحمد بن جابر:
أقطع أبو بكر، رضي الله عنه، الزبير ما بين الجرف إلى قناة، وقال المدائني: وقناة واد يأتي من الطائف ويصب في الأرحضية وقرقرة الكدر ثم يأتي بئر معاوية ثم يمر على طرف القدوم في أصل قبور الشهداء
بأحد، قال أبو صخر الهذلي:
«قضاعيّة أدنى ديار تحلّها *** قناة، وأنّى من قناة المحصّب؟»
وقال النعمان بن بشير، وقد ولي اليمن، يخاطب زوجته:
«أنّى تذكّرها وغمرة دونها، *** هيهات بطن قناة من برهوت! »
«كم دون بطن قناة من متلدّد *** للناظرين وسربخ مروّت»
«لو تسلكين به بغير صحابة *** عصرا طوار سحابة استبكيت»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
5-موسوعة الفقه الكويتية (إحياء الموات 1)
إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ -11- الْإِحْيَاءُ فِي اللُّغَةِ جَعْلُ الشَّيْءِ حَيًّا، وَالْمَوَاتُ: الْأَرْضُ الَّتِي خَلَتْ مِنَ الْعِمَارَةِ وَالسُّكَّانِ.وَهِيَ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ.وَقِيلَ: الْمَوَاتُ الْأَرْضُ الَّتِي لَا مَالِكَ لَهَا، وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا أَحَدٌ.
وَإِحْيَاءُ الْمَوَاتِ فِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ كَمَا قَالَ الْأَتْقَانِيُّ شَارِحُ الْهِدَايَةِ: التَّسَبُّبُ لِلْحَيَاةِ النَّامِيَةِ بِبِنَاءٍ أَوْ غَرْسٍ أَوْ كَرْبٍ (حِرَاثَةٍ) أَوْ سَقْيٍ.وَعَرَّفَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِأَنَّهُ لَقَبٌ لِتَعْمِيرِ دَاثِرِ الْأَرْضِ بِمَا يَقْتَضِي عَدَمَ انْصِرَافِ الْمُعَمِّرِ عَنِ انْتِفَاعِهِ بِهَا.وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ عِمَارَةُ الْأَرْضِ الْخَرِبَةِ الَّتِي لَا مَالِكَ لَهَا، وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا أَحَدٌ.وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ عِمَارَةٌ مَا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ مِلْكٌ لِأَحَدٍ، وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ أَثَرُ عِمَارَةٍ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
2- مِنَ الْأَلْفَاظِ ذَاتِ الصِّلَةِ: التَّحْجِيرُ أَوِ الِاحْتِجَارُ، وَالْحَوْزُ، وَالِارْتِفَاقُ، وَالِاخْتِصَاصُ، وَالْإِقْطَاعُ، وَالْحِمَى.
أ- التَّحْجِيرُ:
3- التَّحْجِيرُ أَوِ الِاحْتِجَارُ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا: مَنْعُ الْغَيْرِ مِنَ الْإِحْيَاءِ بِوَضْعِ عَلَامَةٍ، كَحَجَرٍ أَوْ غَيْرِهِ، عَلَى الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ لَا التَّمْلِيكَ.
ب- الْحَوْزُ وَالْحِيَازَةُ:
4- الْحَوْزُ وَالْحِيَازَةُ لُغَةً الضَّمُّ وَالْجَمْعُ.وَكُلُّ مَنْ ضَمَّ إِلَى نَفْسِهِ شَيْئًا فَقَدْ حَازَهُ.وَالْمُرَادُ مِنَ الْحِيَازَةِ اصْطِلَاحًا وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ الْمَحُوزِ.وَهِيَ لَا تُفِيدُ الْمِلْكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: «حِيَازَةٌ»
ج- الِارْتِفَاقُ:
5- الِارْتِفَاقُ بِالشَّيْءِ لُغَةً الِانْتِفَاعُ بِهِ.وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ لَا يَخْرُجُ- فِي الْجُمْلَةِ- عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، عَلَى خِلَافٍ فِيمَا يُرْتَفَقُ بِهِ.وَمَوْضِعُهُ مُصْطَلَحِ: (ارْتِفَاقٌ).
د- الِاخْتِصَاصُ:
6- الِاخْتِصَاصُ بِالشَّيْءِ فِي اللُّغَةِ: كَوْنُهُ لِشَخْصٍ دُونَ غَيْرِهِ.وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ لَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ.
وَالِاخْتِصَاصُ أَحَدُ الطُّرُقِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ.
هـ- الْإِقْطَاعُ:
7- الْإِقْطَاعُ فِي اللُّغَةِ وَالِاصْطِلَاحِ: جَعْلُ الْإِمَامِ غَلَّةَ أَرْضٍ رِزْقًا لِلْجُنْدِ أَوْ غَيْرِهِمْ.وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ إِقْطَاعَ الْمَوَاتِ لِمَنْ يُحْيِيهِ، فَيَكُونُ أَحَقَّ بِهِ كَالْمُتَحَجِّرِ الشَّارِعِ فِي الْإِحْيَاءِ.وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الِاخْتِصَاصِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (إِقْطَاعٌ).
صِفَةُ الْإِحْيَاءِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):
8- حُكْمُهُ الْجَوَازُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ».عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَلَهُ فِيهَا أَجْرٌ».وَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهِ أَنَّهُ سَبَبٌ لِزِيَادَةِ الْأَقْوَاتِ وَالْخِصْبِ لِلْأَحْيَاءِ.
أَثَرُ الْإِحْيَاءِ (حُكْمُهُ الْوَضْعِيُّ):
9- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْمُحْيِيَ يَمْلِكُ مَا أَحْيَاهُ إِذَا تَوَافَرَتِ الشُّرُوطُ، وَذَلِكَ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، كَالْفَقِيهِ أَبِي الْقَاسِمِ أَحْمَدَ الْبَلْخِيِّ، إِذْ قَالُوا: إِنَّهُ يَثْبُتُ مِلْكُ الِاسْتِغْلَالِ لَا مِلْكُ الرَّقَبَةِ، قِيَاسًا عَلَى السَّبْقِ لِلِانْتِفَاعِ بِالْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ، كَالْمَجَالِسِ، وَخِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَمْلِكُ الْإِحْيَاءَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، إِنَّمَا يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ.
أَقْسَامُ الْمَوَاتِ:
10- الْمَوَاتُ قِسْمَانِ: أَصْلِيٌّ وَهُوَ مَا لَمْ يُعَمَّرْ قَطُّ، وَطَارِئٌ: وَهُوَ مَا خَرِبَ بَعْدَ عِمَارَتِهِ.
الْأَرَاضِي الَّتِي كَانَتْ جَزَائِرَ وَأَنْهَارًا:
11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَنْهَارَ وَالْجَزَائِرَ وَنَحْوَهُمَا إِذَا انْحَسَرَ عَنْهَا الْمَاءُ فَصَارَتْ أَرْضًا يَابِسَةً تَرْجِعُ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ.فَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِأَحَدٍ أَوْ وَقْفًا أَوْ مَسْجِدًا عَادَتْ إِلَى الْمَالِكِ أَوِ الْوَقْفِ أَوِ الْمَسْجِدِ، وَلَا يَجُوزُ إِحْيَاؤُهَا، لَكِنْ قَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ الْمَالِكُ مَلَكَ الْأَرْضَ بِالشِّرَاءِ، فَإِنْ كَانَ مَلَكَهَا بِالْإِحْيَاءِ جَازَ لِلْغَيْرِ إِحْيَاؤُهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً لِأَحَدٍ أَوْ لَمْ يُعْرَفْ لِلْأَرْضِ مَالِكٌ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ النَّهْرَ إِذَا كَانَ بَعِيدًا، بِحَيْثُ لَا يَعُودُ إِلَيْهِ الْمَاءُ، تَكُونُ أَرْضُهُ مَوَاتًا يَجُوزُ إِحْيَاؤُهَا.وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا كَانَ النَّهْرُ قَرِيبًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْمَوَاتَ اسْمٌ لِمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لِأَحَدٍ، وَلَا حَقًّا خَاصًّا لَهُ، لَمْ يَكُنْ مُنْتَفَعًا بِهِ، فَكَانَ مَوَاتًا، بَعِيدًا عَنِ الْبَلَدِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا.وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ- رحمه الله- (- وَهُوَ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ الَّذِي اعْتَمَدَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ- لَا يَكُونُ مَوَاتًا إِذَا كَانَ قَرِيبًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا يَكُونُ قَرِيبًا مِنَ الْقَرْيَةِ لَا يَنْقَطِعُ ارْتِفَاقُ أَهْلِهَا عَنْهُ، فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ.وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ الِانْتِفَاعِ، حَتَّى لَا يَجُوزَ إِحْيَاءُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَهْلُ الْقَرْيَةِ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا، وَيَجُوزُ إِحْيَاءُ مَا لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنَ الْعَامِرِ.
12- وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ.وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهِ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ عَلَى طَرَفِ عُمْرَانِ الْقَرْيَةِ، فَيُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ، فَأَيُّ مَوْضِعٍ يَنْتَهِي إِلَيْهِ صَوْتُهُ يَكُونُ مِنْ فِنَاءِ الْعُمْرَانِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ يَحْتَاجُونَ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِرَعْيِ الْمَوَاشِي أَوْ غَيْرِهِ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَكُونُ مِنَ الْمَوَاتِ.
وَرَأَى سَحْنُونٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُ كَمُطَرِّفٍ وَأَصْبَغَ مِثْلَ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُقَيَّدْ بِجَوَازِ عَوْدِ الْمِيَاهِ، لِأَنَّ الْأَنْهَارَ الَّتِي لَمْ يُنْشِئْهَا النَّاسُ لَيْسَتْ مِلْكًا لِأَحَدٍ، وَإِنَّمَا هِيَ طَرِيقٌ لِلْمُسْلِمِينَ لَا يَسْتَحِقُّهَا مَنْ كَانَ يَلِي النَّهْرَ مِنْ جِهَتَيْهِ.وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ أَنَّ بَاطِنَ النَّهْرِ إِذَا يَبِسَ يَكُونُ مِلْكًا لِصَاحِبَيِ الْأَرْضِ الَّتِي بِجَنْبِ النَّهْرِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يُجَاوِرُ أَرْضَهُ مُنَاصَفَةً.وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ إِذَا مَالَ النَّهْرُ عَنْ مَجْرَاهُ إِلَى الْأَرْضِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُ.
وَيُسْتَخْلَصُ مِنْ نُصُوصِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ النَّهْرِ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ مِنَ الْأَنْهَارِ وَالْجَزَائِرِ لَا يَجُوزُ إِحْيَاؤُهُ بِرَغْمِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا مِنْ قَبْلُ.وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِلسُّلْطَانِ إِعْطَاؤُهُ لِأَحَدٍ.قَالُوا: «وَلَوْ رَكِبَ الْأَرْضَ مَاءٌ أَوْ رَمْلٌ أَوْ طِينٌ فَهِيَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ مِلْكٍ أَوْ وَقْفٍ.فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ مَالِكٌ لِلْأَرْضِ وَانْحَسَرَ مَاءُ النَّهْرِ عَنْ جَانِبٍ مِنْهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ، وَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ إِقْطَاعُهُ- أَيْ إِعْطَاؤُهُ- لِأَحَدٍ، كَالنَّهْرِ وَحَرِيمِهِ.وَلَوْ زَرَعَهُ أَحَدٌ لَزِمَهُ أُجْرَتُهُ لِصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ قَدْرُ حِصَّتِهِ إِنْ كَانَتْ لَهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.نَعَمْ لِلْإِمَامِ دَفْعُهُ لِمَنْ يَرْتَفِقُ بِهِ بِمَا لَا يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ.وَمِثْلُهُ مَا يَنْحَسِرُ عَنْهُ الْمَاءُ مِنَ الْجَزَائِرِ فِي الْبَحْرِ.وَيَجُوزُ زَرْعُهُ وَنَحْوُهُ لِمَنْ لَمْ يَقْصِدْ إِحْيَاءَهُ.وَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْبِنَاءُ وَلَا الْغِرَاسُ وَلَا مَا يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ.وَكُلُّ هَذَا إِذَا رُجِيَ عَوْدُ مَالِكِ الْأَرْضِ، فَإِنْ لَمْ يُرْجَ عَوْدُهُ كَانَتْ لِبَيْتِ الْمَالِ فَلِلْإِمَامِ إِقْطَاعُهَا رَقَبَةً أَوْ مَنْفَعَةً إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي تَصَرُّفِهِ جَوْرٌ، لَكِنَّ الْمُقْطَعَ يَسْتَحِقُّ الِانْتِفَاعَ بِهَا مُدَّةَ الْإِقْطَاعِ خَاصَّةً».
13- وَفِي الْمُغْنِي: وَمَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ مِنَ الْجَزَائِرِ لَمْ يُمْلَكْ بِالْإِحْيَاءِ.قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُوسَى: إِذَا نَضَبَ الْمَاءُ عَنْ جَزِيرَةٍ إِلَى فِنَاءِ رَجُلٍ لَمْ يَبْنِ فِيهَا، لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا، وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ يَرْجِعُ.يَعْنِي أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ.فَإِذَا وَجَدَهُ مَبْنِيًّا رَجَعَ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَأَضَرَّ بِأَهْلِهِ؛ وَلِأَنَّ الْجَزَائِرَ مَنْبَتُ الْكَلأَِ وَالْحَطَبِ فَجَرَتْ مَجْرَى الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ.وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا حِمَى فِي الْأَرَاكِ».وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ: يُرْوَى عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَبَاحَ الْجَزَائِرَ.يَعْنِي أَبَاحَ مَا يَنْبُتُ فِي الْجَزَائِرِ مِنَ النَّبَاتِ.وَقَالَ: «إِذَا نَضَبَ الْفُرَاتُ عَنْ شَيْءٍ، ثُمَّ نَبَتَ عَنْ نَبَاتٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْهُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا إِنْ غَلَبَ الْمَاءُ عَلَى مِلْكِ إِنْسَانٍ ثُمَّ عَادَ فَنَضَبَ عَنْهُ فَلَهُ أَخْذُهُ، فَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ بِغَلَبَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ.وَإِنْ كَانَ مَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَحَدٌ فَعَمَرَهُ رَجُلٌ عِمَارَةً لَا تَرُدُّ الْمَاءَ، مِثْلُ أَنْ يَجْعَلَهُ مَزْرَعَةً، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَحَجِّرٌ لِمَا لَيْسَ لِمُسْلِمٍ فِيهِ حَقٌّ، فَأَشْبَهَ التَّحَجُّرَ فِي الْمَوَاتِ».
إِذْنُ الْإِمَامِ فِي الْإِحْيَاءِ:
14- فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ مُخْتَلِفُونَ فِي أَرْضِ الْمَوَاتِ هَلْ هِيَ مُبَاحَةٌ فَيَمْلِكُ كُلُّ مَنْ يَحِقُّ لَهُ الْإِحْيَاءُ أَنْ يُحْيِيَهَا بِلَا إِذْنٍ مِنَ الْإِمَامِ، أَمْ هِيَ مِلْكٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَحْتَاجُ إِحْيَاؤُهَا إِلَى إِذْنٍ؟
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ الْإِحْيَاءَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ إِذْنُ الْإِمَامِ، فَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا بِلَا إِذْنٍ مِنَ الْإِمَامِ مَلَكَهَا. وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يَشْتَرِطُ إِذْنَ الْإِمَامِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْأَرْضُ الْمَوَاتُ قَرِيبَةً مِنَ الْعُمْرَانِ أَمْ بَعِيدَةً.وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ إِذْنَ الْإِمَامِ فِي الْقَرِيبِ قَوْلًا وَاحِدًا.وَلَهُمْ فِي الْبَعِيدِ طَرِيقَانِ: طَرِيقُ اللَّخْمِيِّ وَابْنِ رُشْدٍ أَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ لِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ أَنَّهُ يَحْتَاجُ لِلْإِذْنِ.وَالْمَفْهُومُ مِنْ نُصُوصِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا يَحْتَاجُهُ النَّاسُ وَمَا لَا يَحْتَاجُونَهُ، فَمَا احْتَاجُوهُ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْإِذْنِ، وَمَا لَا فَلَا.
احْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا فَهِيَ لَهُ»؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ عَيْنٌ مُبَاحَةٌ فَلَا يَفْتَقِرُ مِلْكُهَا إِلَى إِذْنِ الْإِمَامِ كَأَخْذِ الْحَشِيشِ، وَالْحَطَبِ.
وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ لِلْمَرْءِ إِلاَّ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِهِ»،، وَبِأَنَّ هَذِهِ الْأَرَاضِي كَانَتْ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ ثُمَّ صَارَتْ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، فَصَارَتْ فَيْئًا، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْفَيْءِ أَحَدٌ دُونَ رَأْيِ الْإِمَامِ، كَالْغَنَائِمِ؛ وَلِأَنَّ إِذْنَ الْإِمَامِ يَقْطَعُ الْمُشَاحَّةَ.وَالْخِلَافُ بَيْنَ الْإِمَامِ وَصَاحِبَيْهِ فِي حُكْمِ اسْتِئْذَانِ الْإِمَامِ فِي تَرْكِهِ مِنَ الْمُحْيِي الْمُسْلِمِ جَهْلًا.أَمَّا إِنْ تَرَكَهُ مُتَعَمِّدًا تَهَاوُنًا بِالْإِمَامِ، كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْأَرْضَ مِنْهُ زَجْرًا لَهُ.وَكُلُّ هَذَا فِي الْمُحْيِي الْمُسْلِمِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ.
15- أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِإِحْيَاءِ الذِّمِّيِّ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الذِّمِّيُّ كَالْمُسْلِمِ فِي الْإِحْيَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِإِذْنِ الْإِمَامِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الذِّمِّيُّ كَالْمُسْلِمِ فِيهِ إِلاَّ فِي الْإِحْيَاءِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْإِذْنِ.وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي إِحْيَاءِ الذِّمِّيِّ إِذْنَ الْإِمَامِ اتِّفَاقًا بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ حَسْبَمَا وَرَدَ فِي شَرْحِ الدُّرِّ.وَمَنَعُوا الْإِحْيَاءَ لِلْمُسْتَأْمَنِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ.وَلَمْ يُجَوِّزِ الشَّافِعِيَّةُ إِحْيَاءَ الذِّمِّيِّ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ مُطْلَقًا.
مَا يَجُوزُ إِحْيَاؤُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ:
16- أَجْمَعَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ مَمْلُوكًا لِأَحَدٍ أَوْ حَقًّا خَاصًّا لَهُ أَوْ مَا كَانَ دَاخِلَ الْبَلَدِ لَا يَكُونُ مَوَاتًا أَصْلًا فَلَا يَجُوزُ إِحْيَاؤُهُ.وَمِثْلُهُ مَا كَانَ خَارِجَ الْبَلَدِ مِنْ مَرَافِقِهَا مُحْتَطَبًا لِأَهْلِهَا أَوْ مَرْعًى لِمَوَاشِيهِمْ، حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْإِمَامُ إِقْطَاعَهَا.وَكَذَلِكَ أَرْضُ الْمِلْحِ وَالْقَارِ وَنَحْوِهِمَا، مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي الْمُسْلِمُونَ عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ إِحْيَاءُ مَا يَضِيقُ عَلَى وَارِدٍ أَوْ يَضُرُّ بِمَاءِ بِئْرٍ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِحْيَاءٌ فِي عَرَفَةَ وَلَا الْمُزْدَلِفَةِ وَلَا مِنًى، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى بِالْمُسْلِمِينَ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّضْيِيقِ فِي أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ، وَاسْتِوَاءِ النَّاسِ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَذِهِ الْمَحَالِّ.
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَيَنْبَغِي إِلْحَاقُ الْمُحَصَّبِ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُسَنُّ لِلْحَجِيجِ الْمَبِيتُ بِهِ.وَقَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ: لَيْسَ الْمُحَصَّبُ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ.فَمَنْ أَحْيَا شَيْئًا مِنْهُ مَلَكَهُ.
17- وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ الْمُحَجَّرَةَ لَا يَجُوزُ إِحْيَاؤُهَا؛ لِأَنَّ مَنْ حَجَّرَهَا أَوْلَى بِالِانْتِفَاعِ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ.
فَإِنْ أَهْمَلَهَا فَلِفُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ تَفْصِيلَاتٌ: فَالْحَنَفِيَّةُ وَضَعُوا مُدَّةً قُصْوَى لِلِاخْتِصَاصِ الْحَاصِلِ بِالتَّحْجِيرِ هِيَ ثَلَاثُ سَنَوَاتٍ، فَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِإِحْيَائِهَا أَخَذَهَا الْإِمَامُ وَدَفَعَهَا إِلَى غَيْرِهِ.وَالتَّقْدِيرُ بِذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لِمُتَحَجِّرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ حَقٌّ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَهْمَلَ الْأَرْضَ الَّتِي حَجَّرَهَا بِأَنْ لَمْ يَعْمَلْ فِيهَا، مَعَ قُوَّتِهِ عَلَى الْعَمَلِ مِنْ ذَلِكَ الْحِينِ إِلَى ثَلَاثِ سَنَوَاتٍ، فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ، عَمَلًا بِالْأَثَرِ السَّابِقِ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا التَّحَجُّرَ إِحْيَاءً إِلاَّ إِذَا جَرَى الْعُرْفُ بِاعْتِبَارِهِ كَذَلِكَ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ التَّحْجِيرَ بِلَا عَمَلٍ لَا يُفِيدُ، وَأَنَّ الْحَقَّ لِمَنْ أَحْيَا تِلْكَ الْأَرْضَ؛ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ أَقْوَى مِنَ التَّحْجِيرِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَهْمَلَ الْمُتَحَجِّرُ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ مُدَّةً غَيْرَ طَوِيلَةٍ عُرْفًا، وَجَاءَ مَنْ يُحْيِيهَا، فَإِنَّ الْحَقَّ لِلْمُتَحَجِّرِ؛ لِأَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً لَيْسَتْ لِأَحَدٍ»- وَقَوْلُهُ: «فِي غَيْرِ حَقِّ مُسْلِمٍ فَهِيَ لَهُ» أَنَّهَا لَا تَكُونُ لَهُ إِذَا كَانَ فِيهَا حَقٌّ.وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ».وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- قَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ- يَعْنِي مَنْ تَحَجَّرَ أَرْضًا- فَعَطَّلَهَا ثَلَاثَ سِنِينَ، فَجَاءَ قَوْمٌ فَعَمَرُوهَا، فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ عَمَّرَهَا قَبْلَ ثَلَاثِ سِنِينَ لَا يَمْلِكُهَا؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ أَحْيَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ، كَمَا لَوْ أَحْيَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصَالِحُ مِلْكِ غَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُتَحَجِّرِ أَسْبَقُ، فَكَانَ أَوْلَى، كَحَقِّ الشَّفِيعِ، يُقَدَّمُ عَلَى شِرَاءِ الْمُشْتَرِي.فَإِنْ مَضَتْ مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ عَلَى الْإِهْمَالِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ بِلَا عُذْرٍ أَنْذَرَهُ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ ضَيَّقَ عَلَى النَّاسِ فِي حَقٍّ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمْ، فَلَمْ يُمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ وَقَفَ فِي طَرِيقٍ ضَيِّقٍ أَوْ شِرْعَةِ مَاءٍ أَوْ مَعْدِنٍ، لَا يَنْتَفِعُ، وَلَا يَدَعُ غَيْرَهُ يَنْتَفِعُ.فَإِنِ اسْتُمْهِلَ بِعُذْرٍ أَمْهَلَهُ الْإِمَامُ وَالْإِمْهَالُ لِعُذْرٍ يَكُونُ الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ وَنَحْوَ ذَلِكَ.فَإِنْ أَحْيَا غَيْرُهُ فِي مُدَّةِ الْمُهْلَةِ فَلِلْحَنَابِلَةِ فِيهِ الْوَجْهَانِ السَّابِقَانِ.وَإِنِ انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَلَمْ يَعْمُرْ فَلِغَيْرِهِ أَنْ يَعْمُرَهُ وَيَمْلِكَهُ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ ضُرِبَتْ لَهُ لِيَنْقَطِعَ حَقُّهُ بِمُضِيِّهَا.
حَرِيمُ الْعَامِرِ وَالْآبَارُ وَالْأَنْهَارُ وَغَيْرُهَا:
18- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِحْيَاءُ حَرِيمِ الْمَعْمُورِ، وَأَنَّهُ لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ.وَكَذَلِكَ حَرِيمُ الْبِئْرِ الْمَحْفُورَةِ فِي الْمَوَاتِ وَحَرِيمُ النَّهْرِ.وَالْمُرَادُ بِحَرِيمِ الْمَعْمُورِ مَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ لِتَمَامِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَهُوَ مِلْكٌ لِمَالِكِ الْمَعْمُورِ، بِمَعْنَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ غَيْرَهُ مِنْ إِحْيَائِهِ بِجَعْلِهِ دَارًا مَثَلًا، وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ الْمُرُورِ فِيهِ، وَلَا الْمَنْعُ مِنْ رَعْيِ كَلأٍَ فِيهِ، وَالِاسْتِقَاءُ مِنْ مَاءٍ فِيهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.وَالدَّارُ الْمَحْفُوفَةُ بِدُورٍ لَا حَرِيمَ لَهَا.وَحَرِيمُ الْبِئْرِ مَا لَوْ حَفَرَ فِيهِ نَقَصَ مَاؤُهَا، أَوْ خِيفَ انْهِيَارُهَا.وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِصَلَابَةِ الْأَرْضِ وَرَخَاوَتِهَا.
19- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ حَرِيمِ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ وَالنَّهْرِ وَالشَّجَرِ.
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ حَرِيمَ بِئْرِ الْعَطَنِ (وَهِيَ الَّتِي يُسْتَقَى مِنْهَا لِلْمَوَاشِي) أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا.قِيلَ: الْأَرْبَعُونَ مِنَ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ عَشَرَةٌ.وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.وَأَمَّا حَرِيمُ الْبِئْرِ النَّاضِحِ (وَهِيَ أَنْ يَحْمِلَ الْبَعِيرُ الْمَاءَ مِنْ نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ لِسَقْيِ الزَّرْعِ) فَهُوَ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَعْرِفُ إِلاَّ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا.وَبِهِ يُفْتَى.وَمَنْ أَحْيَا نَهْرًا فِي أَرْضِ مَوَاتٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَسْتَحِقُّ لَهُ حَرِيمًا، وَعِنْدَهُمَا يَسْتَحِقُّ.وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ لَهُ حَرِيمًا بِالْإِجْمَاعِ.
وَذَكَرَ فِي النَّوَازِلِ: وَحَرِيمُ النَّهْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ نِصْفُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.وَقَالَ مُحَمَّدٌ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِمِقْدَارِ عَرْضِ النَّهْرِ.وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.وَمَنْ أَخْرَجَ قَنَاةً فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ اسْتَحَقَّ الْحَرِيمَ بِالْإِجْمَاعِ.وَحَرِيمُهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ حَرِيمُ الْبِئْرِ.إِلاَّ أَنَّ الْمَشَايِخَ زَادُوا عَلَى هَذَا فَقَالُوا: الْقَنَاةُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ الْمَاءُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَنْزِلَةُ الْعَيْنِ الْفَوَّارَةِ، حَرِيمُهَا خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ بِالْإِجْمَاعِ.أَمَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَقَعُ الْمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ فَحَرِيمُهَا مِثْلُ النَّهْرِ.وَقَالُوا: إِنَّ حَرِيمَ الشَّجَرَةِ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ.
الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْبِئْرَ لَيْسَ لَهَا حَرِيمٌ مُقَدَّرٌ، فَقَدْ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: «أَمَّا الْبِئْرُ فَلَيْسَ لَهَا حَرِيمٌ مَحْدُودٌ لِاخْتِلَافِ الْأَرْضِ بِالرَّخَاوَةِ وَالصَّلَابَةِ، وَلَكِنْ حَرِيمُهَا مَا لَا ضَرَرَ مَعَهُ عَلَيْهَا.وَهُوَ مِقْدَارُ مَا لَا يَضُرُّ بِمَائِهَا، وَلَا يُضَيِّقُ مُنَاخَ إِبِلِهَا وَلَا مَرَابِضَ مَوَاشِيهَا عِنْدَ الْوُرُودِ.وَلِأَهْلِ الْبِئْرِ مَنْعُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي ذَلِكَ الْحَرِيمِ.وَقَالُوا: إِنَّ لِلنَّخْلَةِ حَرِيمًا، وَهُوَ قَدْرُ مَا يُرَى أَنَّ فِيهِ مَصْلَحَتَهَا، وَيَتْرُكَ مَا أَضَرَّ بِهَا، وَيُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ.وَقَدْ قَالُوا: مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ ذِرَاعًا مِنْ نَوَاحِيهَا كُلِّهَا إِلَى عَشَرَةِ أَذْرُعٍ، وَذَلِكَ حَسَنٌ.وَيُسْأَلُ عَنِ الْكَرَمِ أَيْضًا وَعَنْ كُلِّ شَجَرَةٍ أَهْلُ الْعِلْمِ بِهِ، فَيَكُونُ لِكُلِّ شَجَرَةٍ بِقَدْرِ مَصْلَحَتِهَا».
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ حَرِيمَ الْبِئْرِ الْمَحْفُورَةِ فِي الْمَوَاتِ (هِيَ مَا كَانَتْ مَطْوِيَّةً، وَيَنْبُعُ الْمَاءُ مِنْهَا): مَوْقِفُ النَّازِحِ مِنْهَا، وَالْحَوْضُ الَّذِي يَصُبُّ فِيهِ النَّازِحُ الْمَاءَ، وَمَوْضِعُ الدُّولَابِ (وَهُوَ مَا يَسْتَقِي بِهِ النَّازِحُ، وَمَا يَسْتَقِي بِهِ بِالدَّابَّةِ) وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يُجْتَمَعُ فِيهِ لِسَقْيِ الْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ مِنْ حَوْضٍ وَنَحْوِهِ، وَمُتَرَدَّدُ الدَّابَّةِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يُطْرَحُ فِيهِ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَوْضِ وَنَحْوِهِ، كُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ مُحَدَّدٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ.
وَحَرِيمُ آبَارِ الْقَنَاةِ (وَهِيَ الْمَحْفُورَةُ مِنْ غَيْرِ طَيٍّ لِيَجْتَمِعَ الْمَاءُ فِيهَا وَيُؤْخَذُ لِنَحْوِ الْمَزَارِعِ): مَا لَوْ حَفَرَ فِيهِ نَقَصَ مَاؤُهَا، أَوْ خِيفَ سُقُوطُهَا.وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِصَلَابَةِ الْأَرْضِ وَرَخَاوَتِهَا.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ كَمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِحْيَاءُ حَرِيمِ الْبِئْرِ وَالنَّهْرِ وَالْعَيْنِ، غَيْرَ أَنَّهُمُ انْفَرَدُوا بِأَنَّهُ بِحَفْرِ بِئْرٍ يَمْلِكُ حَرِيمَهَا.أَمَّا تَقْدِيرُ الْحَنَابِلَةِ لِلْحَرِيمِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فِي بِئْرٍ قَدِيمَةٍ فَهُوَ خَمْسُونَ ذِرَاعًا وَفِي غَيْرِهَا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ.وَحَرِيمُ عَيْنٍ وَقَنَاةٍ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَنَهْرٌ مِنْ جَانِبَيْهِ: مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِطَرْحِ كَرَايَتِهِ (أَيْ مَا يُلْقَى مِنَ النَّهْرِ طَلَبًا لِسُرْعَةِ جَرْيِهِ)، وَحَرِيمُ شَجَرَةٍ: قَدْرُ مَدِّ أَغْصَانِهَا، وَحَرِيمُ أَرْضٍ تُزْرَعُ: مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِسَقْيِهَا وَرَبْطِ دَوَابِّهَا وَطَرْحِ سَبَخِهَا وَنَحْوِهِ.
إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ الْمُقَطَّعِ:
20- يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: أَقْطَعَ الْإِمَامُ الْجُنْدَ الْبَلَدَ إِقْطَاعًا أَيْ جَعَلَ لَهُمْ غَلَّتَهَا رِزْقًا وَاصْطِلَاحًا إِعْطَاءُ مَوَاتِ الْأَرْضِ لِمَنْ يُحْيِيهَا، وَذَلِكَ جَائِزٌ لِمَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حَجَرٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَقْطَعَهُ أَرْضًا، فَأَرْسَلَ مَعَهُ مُعَاوِيَةَ: أَنْ أَعْطِهَا إِيَّاهُ، أَوْ أَعْلِمْهَا إِيَّاهُ».وَلَا بُدَّ قَبْلَ بَيَانِ حُكْمِ هَذَا الْإِحْيَاءِ مِنْ بَيَانِ حُكْمِ الْإِقْطَاعِ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِصِيغَتِهِ إِقْطَاعَ تَمْلِيكٍ، أَوْ إِقْطَاعَ إِرْفَاقٍ (انْتِفَاعٌ).فَإِنْ كَانَ إِقْطَاعَ إِرْفَاقٍ فَالْكُلُّ مُجْمِعٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ بِذَاتِهِ تَمْلِيكًا لِلرَّقَبَةِ، إِنْ كَانَ إِقْطَاعَ تَمْلِيكٍ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ بِهِ إِقْدَامُ غَيْرِ الْمُقْطَعِ عَلَى إِحْيَائِهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ رَقَبَتَهُ بِالْإِقْطَاعِ نَفْسِهِ، خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ، فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ إِقْطَاعَ الْمَوَاتِ مُطْلَقًا لَا يُفِيدُ تَمَلُّكًا، لَكِنَّهُ يَصِيرُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْإِقْطَاعُ مُطْلَقًا، أَوْ مَشْكُوكًا فِيهِ، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى إِقْطَاعِ الْإِرْفَاقِ؛ لِأَنَّهُ الْمُحَقَّقُ.
الْحِمَى:
21- الْحِمَى لُغَةً: مَا مُنِعَ النَّاسُ عَنْهُ، وَاصْطِلَاحًا: أَنْ يَمْنَعَ الْإِمَامُ مَوْضِعًا لَا يَقَعُ فِيهِ التَّضْيِيقُ عَلَى النَّاسِ لِلْحَاجَةِ الْعَامَّةِ لِذَلِكَ، لِمَاشِيَةِ الصَّدَقَةِ، وَالْخَيْلِ الَّتِي يُحْمَلُ عَلَيْهَا.
وَقَدْ كَانَ لِلرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَحْمِيَ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، لِقَوْلِهِ فِي الْخَبَرِ: «لَا حِمَى إِلاَّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ»،، لَكِنَّهُ لَمْ يَحْمِ لِنَفْسِهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا حَمَى لِلْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: «حَمَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- النَّقِيعَ لِخَيْلِ الْمُسْلِمِينَ».
وَأَمَّا سَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَحْمُوا لِأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا، وَلَكِنْ لَهُمْ أَنْ يَحْمُوا مَوَاضِعَ لِتَرْعَى فِيهَا خَيْلُ الْمُجَاهِدِينَ، وَنَعَمُ الْجِزْيَةِ، وَإِبِلُ الصَّدَقَةِ، وَضَوَالُّ النَّاسِ، عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ مَنْ سِوَاهُ مِنَ النَّاسِ.وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي صَحِيحِ قَوْلَيْهِ.
وَقَالَ فِي الْآخَرِ: لَيْسَ لِغَيْرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَحْمِيَ، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «لَا حِمَى إِلاَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ».
وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ حَمَيَا وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ، فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِمَا، فَكَانَ إِجْمَاعًا.
وَمَا حَمَاهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَلَيْسَ لِأَحَدٍ نَقْضُهُ وَلَا تَغْيِيرُهُ مَعَ بَقَاءِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَمَنْ أَحْيَا مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَمْلِكْهُ.وَإِنْ زَالَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، وَدَعَتْ حَاجَةٌ لِنَقْضِهِ، فَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ جَوَازُ نَقْضِهِ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ.وَاسْتَظْهَرَ الْحَطَّابُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازَ نَقْضِهِ إِنْ لَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ عَلَى إِرَادَةِ الِاسْتِمْرَارِ.
وَمَا حَمَاهُ غَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ فَغَيْرُهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ جَازَ، وَإِنْ أَحْيَاهُ إِنْسَانٌ مَلَكَهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لِلْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ حِمَى الْأَئِمَّةِ اجْتِهَادٌ، وَمِلْكُ الْأَرْضِ بِالْإِحْيَاءِ نَصٌّ، وَالنَّصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الِاجْتِهَادِ.وَالْوَجْهُ الْآخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ: لَا يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّ اجْتِهَادَ الْإِمَامِ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ، كَمَا لَا يَجُوزُ نَقْضُ حُكْمِهِ.وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، كَذَلِكَ. مَنْ يَحِقُّ لَهُ الْإِحْيَاءُ
أ- فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ:
22- وَالْمُرَادُ بِهَا كَمَا بَيَّنَ الْقَلْيُوبِيُّ: مَا بَنَاهُ الْمُسْلِمُونَ، كَبَغْدَادَ وَالْبَصْرَةِ، أَوْ أَسْلَمَ أَهْلُهُ عَلَيْهِ، كَالْمَدِينَةِ وَالْيَمَنِ، أَوْ فُتِحَ عَنْوَةً، كَخَيْبَرَ وَمِصْرَ وَسَوَادِ الْعِرَاقِ، أَوْ صُلْحًا وَالْأَرْضُ لَنَا وَهُمْ يَدْفَعُونَ الْجِزْيَةَ.وَالْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ أَنَّ عِمَارَتَهَا فَيْءٌ، وَمَوَاتَهَا مُتَحَجِّرٌ لِأَهْلِ الْفَيْءِ.وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ الْبَالِغَ الْعَاقِلَ الْحُرَّ لَهُ الْحَقُّ فِي أَنْ يُحْيِيَ الْأَرْضَ الْمَوَاتَ الَّتِي فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ عَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ كَالْمُسْلِمِ فِي حَقِّ الْإِحْيَاءِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، لَكِنَّ مُطَرِّفًا وَابْنَ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَنَعَا مِنْ إِحْيَائِهِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ (مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْحِجَازِ كُلِّهِ وَالنُّجُودِ وَالْيَمَنِ).وَقَالَ غَيْرُهُمَا: لَوْ قِيلَ إِنَّ حُكْمَ الذِّمِّيِّينَ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَبْعُدْ، كَمَا كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ مِنَ الْعُمْرَانِ.وَجَاءَ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ: «أَنَّ الذِّمِّيَّ يَمْلِكُ بِالْإِحْيَاءِ كَمَا يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُ» مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا يَشْتَرِطَانِ إِذْنَ الْإِمَامِ لِلْمُسْلِمِ.وَعَلَّلَ الشَّارِحُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْإِحْيَاءَ سَبَبُ الْمِلْكِ، فَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ كَمَا فِي سَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ.وَالِاسْتِوَاءُ فِي السَّبَبِ يُوجِبُ الِاسْتِوَاءَ فِي الْحُكْمِ لَكِنَّ الَّذِي فِي شَرْحِ الدُّرِّ كَمَا سَبَقَ أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَصَاحِبَيْهِ فِي اشْتِرَاطِ إِذْنِ الْإِمَامِ فِي الْإِحْيَاءِ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلذِّمِّيِّ فَيُشْتَرَطُ الْإِذْنُ اتِّفَاقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ إِحْيَاءِ الذِّمِّيِّ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي لَمْ تُعَمَّرْ قَطُّ إِنْ كَانَتْ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ فَلِلْمُسْلِمِ تَمَلُّكُهَا بِالْإِحْيَاءِ، أَذِنَ فِيهِ الْإِمَامُ أَمْ لَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِذِمِّيٍّ وَإِنْ أَذِنَ الْإِمَامُ، فَغَيْرُ الذِّمِّيِّ مِنَ الْكُفَّارِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ، فَلَا عِبْرَةَ بِإِحْيَائِهِ، وَلِلْمُسْلِمِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ وَيَمْلِكَهُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عَيْنٌ فِيهِ كَزَرْعٍ رَدَّهُ الْمُسْلِمُ إِلَيْهِ، فَإِنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَهُوَ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ مُدَّةَ إِحْيَائِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِلْكًا لِأَحَدٍ.
وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الصَّبِيَّ الْمُسْلِمَ، وَلَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ يَمْلِكُ مَا أَحْيَاهُ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يُحْيِيَ، لَكِنْ مَا يُحْيِيهِ يَمْلِكُهُ سَيِّدُهُ.وَلَمْ يَذْكُرُوا شَيْئًا عَنْ إِحْيَاءِ الْمَجْنُونِ.وَبَاقِي الْمَذَاهِبِ لَمْ يُسْتَدَلَّ عَلَى أَحْكَامِ إِحْيَاءِ الْمَذْكُورِينَ عِنْدَهُمْ، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ» يَدُلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ وَالْمَجْنُونَ يَمْلِكَانِ مَا يُحْيِيَانِهِ.
ب- فِي بِلَادِ الْكُفَّارِ:
23- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْبَاجِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ مَوَاتَ أَهْلِ الْحَرْبِ يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُونَ بِالْإِحْيَاءِ، سَوَاءٌ أَفُتِحَتْ بِلَادُهُمْ فِيمَا بَعْدُ عَنْوَةً (وَهِيَ الَّتِي غُلِبَ عَلَيْهَا قَهْرًا) أَمْ صُلْحًا.وَقَالَ سَحْنُونٌ: مَا كَانَ مِنْ أَرْضِ الْعَنْوَةِ مِنْ مَوَاتٍ لَمْ يُعْمَلْ فِيهَا وَلَا جَرَى فِيهَا مِلْكٌ لِأَحَدٍ فَهِيَ لِمَنْ أَحْيَاهَا.وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ وَلِلذِّمِّيِّ إِحْيَاءُ مَوَاتِ بِلَادِ الْكُفْرِ، لَكِنَّهُمْ قَيَّدُوا جَوَازَ إِحْيَاءِ الْمُسْلِمِ بِعَدَمِ مَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ مَنَعَهُ الْكُفَّارُ فَلَيْسَ لَهُ الْإِحْيَاءُ.
وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا أَحْيَا مَوَاتًا فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ فَتْحِهَا عَنْوَةً تَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ.وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ الْإِحْيَاءُ قَبْلَ فَتْحِهَا صُلْحًا عَلَى أَنْ تَبْقَى الْأَرْضُ لَهُمْ، وَلِلْمُسْلِمِينَ الْخَرَاجُ، فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُحْتَمَلُ عَدَمُ إِفَادَةِ الْإِحْيَاءِ الْمِلْكَ؛ لِأَنَّهَا بِهَذَا الصُّلْحِ حُرِّمَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَمْلِكَهَا مَنْ أَحْيَاهَا؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ؛ وَلِأَنَّهَا مِنْ مُبَاحَاتِ دَارِهِمْ، فَجَازَ أَنْ يَمْلِكَهَا مَنْ وُجِدَ مِنْهُ سَبَبُ تَمَلُّكِهَا.
مَا يَكُونُ بِهِ الْإِحْيَاءُ:
24- يَكَادُ يَتَّفِقُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِيمَا يَكُونُ بِهِ الْإِحْيَاءُ، فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْإِحْيَاءَ يَكُونُ بِالْبِنَاءِ عَلَى الْأَرْضِ الْمَوَاتِ، أَوِ الْغَرْسِ فِيهَا، أَوْ كَرْيِهَا (حَرْثِهَا)، أَوْ سَقْيِهَا.
وَنَصَّ مَالِكٌ عَلَى أَنَّ إِحْيَاءَ الْأَرْضِ أَنْ يَحْفِرَ فِيهَا بِئْرًا أَوْ يُجْرِيَ عَيْنًا أَوْ يَغْرِسَ شَجَرًا أَوْ يَبْنِيَ أَوْ يَحْرُثَ، مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ إِحْيَاءٌ.وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ.وَقَالَ عِيَاضٌ: اتُّفِقَ عَلَى أَحَدِ سَبْعَةِ أُمُورٍ: تَفْجِيرِ الْمَاءِ، وَإِخْرَاجِهِ عَنْ غَامِرِهَا بِهِ، وَالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَالْحَرْثِ، وَمِثْلُهُ تَحْرِيكُ الْأَرْضِ بِالْحَفْرِ، وَقَطْعِ شَجَرِهَا، وَسَابِعُهَا كَسْرُ حَجَرِهَا وَتَسْوِيَةُ حَفْرِهَا وَتَعْدِيلُ أَرْضِهَا.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ مَا يَكُونُ بِهِ الْإِحْيَاءُ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ، فَإِنْ أَرَادَ مَسْكَنًا اشْتُرِطَ لِحُصُولِهِ تَحْوِيطُ الْبُقْعَةِ بِآجُرٍّ أَوْ لَبِنٍ أَوْ مَحْضِ الطِّينِ أَوْ أَلْوَاحِ الْخَشَبِ وَالْقَصَبِ بِحَسَبِ الْعَادَةِ، وَسَقْفِ بَعْضِهَا لِتَتَهَيَّأَ لِلسُّكْنَى، وَنَصْبِ بَابٍ لِأَنَّهُ الْمُعْتَادُ فِي ذَلِكَ.وَقِيلَ لَا يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى تَتَحَقَّقُ بِدُونِهِ.وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ زَرِيبَةً لِلدَّوَابِّ فَيُشْتَرَطُ التَّحْوِيطُ، وَلَا يَكْفِي نَصْبُ سَعَفٍ أَوْ أَحْجَارٍ مِنْ غَيْرِ بِنَاءٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ السَّقْفُ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي الزَّرِيبَةِ عَدَمُهُ، وَالْخِلَافُ فِي الْبَابِ كَالْخِلَافِ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَسْكَنِ.وَالْإِحْيَاءُ فِي الْمَزْرَعَةِ يَكُونُ بِجَمْعِ التُّرَابِ حَوْلَهَا، لِيَنْفَصِلَ الْمُحْيَا عَنْ غَيْرِهِ.وَفِي مَعْنَى التُّرَابِ قَصَبٌ وَحَجَرٌ وَشَوْكٌ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَحْوِيطِ وَتَسْوِيَةِ الْأَرْضِ بِطَمِّ الْمُنْخَفِضِ وَكَسْحِ الْمُسْتَعْلِي.
فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ ذَلِكَ إِلاَّ بِمَا يُسَاقُ إِلَيْهَا فَلَا بُدَّ مِنْهُ لِتَتَهَيَّأَ لِلزِّرَاعَةِ.وَلَا تُشْتَرَطُ الزِّرَاعَةُ بِالْفِعْلِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهَا اسْتِيفَاءُ مَنْفَعَةٍ، وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْإِحْيَاءِ.وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا بُدَّ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الدَّارَ لَا تَصِيرُ مُحْيَاةً إِلاَّ إِذَا حَصَلَ فِيهَا عَيْنُ مَالِ الْمُحْيِي، فَكَذَا الْأَرْضُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
6-موسوعة الفقه الكويتية (اقتداء 1)
اقْتِدَاءٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الِاقْتِدَاءُ لُغَةً: مَصْدَرُ اقْتَدَى بِهِ، إِذَا فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ تَأَسِّيًا، وَيُقَالُ: فُلَانٌ قُدْوَةٌ: أَيْ يُقْتَدَى بِهِ، وَيُتَأَسَّى بِأَفْعَالِهِ.
وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ إِذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ يُعَرِّفُونَهُ بِأَنَّهُ: اتِّبَاعُ الْمُؤْتَمِّ الْإِمَامَ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ.أَوْ هُوَ رَبْطُ صَلَاةِ الْمُؤْتَمِّ بِالْإِمَامِ بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ جَاءَ بِهَا الشَّرْعُ، وَبَيَّنَهَا الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الِائْتِمَامُ:
2- الِائْتِمَامُ: بِمَعْنَى الِاقْتِدَاءِ.يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا رَبَطَ صَلَاتَهُ بِصَلَاةِ إِمَامِهِ حَصَلَ لَهُ صِفَةُ الِاقْتِدَاءِ وَالِائْتِمَامِ، وَحَصَلَ لِإِمَامِهِ صِفَةُ الْإِمَامَةِ.
وَالِاقْتِدَاءُ فِي اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ أَعَمُّ مِنَ الِائْتِمَامِ، لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا.
ب- الِاتِّبَاعُ:
3- مِنْ مَعَانِي الِاتِّبَاعِ فِي اللُّغَةِ: الْمَشْيُ خَلْفَ الْغَيْرِ، وَمِنْهُ اتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَالْمُطَالَبَةُ بِالْحَقِّ كَمَا فِي الْآيَةِ {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} وَيَأْتِي بِمَعْنَى الِائْتِمَامِ، يُقَالُ: اتَّبَعَ الْقُرْآنَ: ائْتَمَّ بِهِ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ.
وَاسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الْمَعَانِي، كَمَا اسْتَعْمَلُوهُ بِمَعْنَى الرُّجُوعِ إِلَى قَوْلٍ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ، فَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَخَصُّ مِنَ الِاقْتِدَاءِ.
ج- التَّأَسِّي:
4- التَّأَسِّي فِي اللُّغَةِ: مِنَ الْأُسْوَةِ بِمَعْنَى الْقُدْوَةِ، يُقَالُ: تَأَسَّيْتُ بِهِ وَائْتَسَيْتُ: أَيِ اقْتَدَيْتُ.فَالتَّأَسِّي بِمَعْنَى الِاقْتِدَاءِ.
وَمِنْ مَعَانِي التَّأَسِّي: التَّعَزِّي، أَيِ: التَّصَبُّرُ.وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ الِاقْتِدَاءُ فِي الصَّلَاةِ، أَمَّا التَّأَسِّي فَيُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ.
د- التَّقْلِيدُ:
5- التَّقْلِيدُ عِبَارَةٌ عَنْ: قَبُولِ قَوْلِ الْغَيْرِ بِلَا حُجَّةٍ وَلَا دَلِيلٍ.
أَقْسَامُ الِاقْتِدَاءِ:
6- الِاقْتِدَاءُ عَلَى أَقْسَامٍ، مِنْهَا: اقْتِدَاءُ الْمُؤْتَمِّ بِالْإِمَامِ فِي أَفْعَالِهِ مِنَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَغَيْرِهَا.
وَمِنْهَا: الِاقْتِدَاءُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَهُوَ بِمَعْنَى التَّأَسِّي، كَاقْتِدَاءِ الْأُمَّةِ بِالنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي.
الِاقْتِدَاءُ فِي الصَّلَاةِ
7- الِاقْتِدَاءُ فِي الصَّلَاةِ هُوَ: رَبْطُ صَلَاةِ الْمُؤْتَمِّ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ كَمَا سَبَقَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ إِمَامٌ وَمُقْتَدٍ، وَلَوْ وَاحِدًا.وَأَقَلُّ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ الْجَمَاعَةُ- فِي غَيْرِ الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ- اثْنَانِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْإِمَامِ وَاحِدٌ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: « الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ » وَلِفِعْلِهِ- عليه الصلاة والسلام- حِينَ « صَلَّى بِابْنِ عَبَّاسٍ وَحْدَهُ ».
وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا يَعْقِلُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سَمَّى الِاثْنَيْنِ مُطْلَقًا جَمَاعَةً.
وَأَمَّا الْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ فَلَا عِبْرَةَ بِهِمَا، لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ.
هَذَا، وَهُنَاكَ شُرُوطٌ لَا بُدَّ مِنْ تَوَفُّرِهَا فِي الِاقْتِدَاءِ وَالْمُقْتَدَى بِهِ (الْإِمَامِ)، وَحَالَاتٌ تَخُصُّ الْمُقْتَدِيَ أَيْ (الْمَأْمُومَ) نَذْكُرُهَا فِيمَا يَلِي:
شُرُوطُ الْمُقْتَدَى بِهِ (الْإِمَامِ):
8- يُشْتَرَطُ فِي الْإِمَامِ فِي الْجُمْلَةِ: الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ اتِّفَاقًا، وَالْبُلُوغُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَذَلِكَ الذُّكُورَةُ إِذَا كَانَ الْمُقْتَدُونَ ذُكُورًا، وَالسَّلَامَةُ مِنَ الْأَعْذَارِ- كَرُعَافٍ وَسَلَسِ الْبَوْلِ- إِذَا اقْتَدَى بِهِ أَصِحَّاءُ، وَالسَّلَامَةُ مِنْ عَاهَاتِ اللِّسَانِ- كَفَأْفَأَةٍ وَتَمْتَمَةٍ- إِذَا اقْتَدَى بِهِ السَّلِيمُ مِنْهُمَا، وَكَذَا السَّلَامَةُ مِنْ فَقْدِ شَرْطٍ كَطَهَارَةٍ وَسَتْرِ عَوْرَةٍ.عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلَافٍ فِي بَعْضِهَا يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِمَامَة).
شُرُوطُ الِاقْتِدَاءِ:
أ- النِّيَّةُ:
9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الْمُؤْتَمِّ الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ، إِذِ الْمُتَابَعَةُ عَمَلٌ يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ.وَالْمُعْتَبَرُ فِي النِّيَّةِ عَمَلُ الْقَلْبِ اللاَّزِمُ لِلْإِرَادَةِ، وَيُسْتَحَبُّ التَّلَفُّظُ بِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ قِيَاسًا عَلَى الْحَجِّ.وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ التَّلَفُّظَ بِهَا بِدْعَةٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
وَيُشْتَرَطُ فِي النِّيَّةِ أَنْ تَكُونَ مُقَارِنَةً لِلتَّحْرِيمَةِ، أَوْ مُتَقَدِّمَةً عَلَيْهَا بِشَرْطِ أَلاَّ يَفْصِلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ التَّحْرِيمَةِ فَاصِلٌ أَجْنَبِيٌّ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا تَصِحُّ نِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ بَعْدَمَا أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ)
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَجُوزُ لِلَّذِي أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ مَأْمُومًا، بِأَنْ تَحْضُرَ جَمَاعَةٌ فَيَنْوِيَ الدُّخُولَ مَعَهُمْ بِقَلْبِهِ فِي صَلَاتِهِمْ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ أَمْ قَدْ صَلَّى رَكْعَةً فَأَكْثَرَ.
وَلَا فَرْقَ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ لِلْمَأْمُومِ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مُقَابِلُ الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْجُمُعَةِ نِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ وَكَذَلِكَ الْعِيدَانِ، لِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَصِحُّ بِدُونِ الْجَمَاعَةِ، فَكَانَ التَّصْرِيحُ بِنِيَّةِ الْجُمُعَةِ أَوِ الْعِيدِ مُغْنِيًا عَنِ التَّصْرِيحِ بِنِيَّةِ الْجَمَاعَةِ.
وَلَا يَجِبُ تَعْيِينُ الْإِمَامِ بِاسْمِهِ كَزَيْدٍ، أَوْ صِفَتِهِ كَالْحَاضِرِ، أَوِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، بَلْ تَكْفِي نِيَّةُ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ، فَإِنْ عَيَّنَهُ وَأَخْطَأَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، لِرَبْطِ صَلَاتِهِ بِمَنْ لَمْ يَنْوِ الِاقْتِدَاءَ بِهِ.
هَذَا، وَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَدْ نَوَى الْإِمَامَةَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ.وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ نِيَّةَ الرَّجُلِ الْإِمَامَةَ لِصِحَّةِ اقْتِدَاءِ النِّسَاءِ بِهِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (إِمَامَة) ب- عَدَمُ التَّقَدُّمِ عَلَى الْإِمَامِ:
10- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ أَلاَّ يَتَقَدَّمَ الْمُقْتَدِي إِمَامَهُ فِي الْمَوْقِفِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) لِحَدِيثِ: « إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ » وَالِائْتِمَامُ الِاتِّبَاعُ، وَالْمُتَقَدِّمُ غَيْرُ تَابِعٍ، وَلِأَنَّهُ إِذَا تَقَدَّمَ الْإِمَامَ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَالُ الْإِمَامِ، وَمُحْتَاجٌ إِلَى النَّظَرِ وَرَاءَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ لِيُتَابِعَهُ، فَلَا يُمْكِنُهُ الْمُتَابَعَةُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيُجْزِئُهُ التَّقَدُّمُ إِذَا أَمْكَنَهُ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ، لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ يُوجِبُ الْمُتَابَعَةَ فِي الصَّلَاةِ، وَالْمَكَانَ لَيْسَ مِنَ الصَّلَاةِ.لَكِنَّهُ يُنْدَبُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمَأْمُومِ، وَيُكْرَهُ التَّقَدُّمُ عَلَى الْإِمَامِ وَمُحَاذَاتُهُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ.
وَالِاعْتِبَارُ فِي التَّقَدُّمِ وَعَدَمِهِ لِلْقَائِمِ بِالْعَقِبِ، وَهُوَ مُؤَخَّرُ الْقَدَمِ لَا الْكَعْبِ، فَلَوْ تَسَاوَيَا فِي الْعَقِبِ وَتَقَدَّمَتْ أَصَابِعُ الْمَأْمُومِ لِطُولِ قَدَمِهِ لَمْ يَضُرَّ.وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ طَوِيلًا وَسَجَدَ قُدَّامَ الْإِمَامِ، إِذَا لَمْ تَكُنْ عَقِبُهُ مُقَدَّمَةً عَلَى الْإِمَامِ حَالَةَ الْقِيَامِ، صَحَّتِ الصَّلَاةُ، أَمَّا لَوْ تَقَدَّمَتْ عَقِبُهُ وَتَأَخَّرَتْ أَصَابِعُهُ فَيَضُرُّ، لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَقَدُّمَ الْمَنْكِبِ، وَالْعِبْرَةُ فِي التَّقَدُّمِ بِالْأَلْيَةِ لِلْقَاعِدِينَ، وَبِالْجَنْبِ لِلْمُضْطَجِعِينَ.
11- فَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ امْرَأَةً أَوْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ يَقِفُ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَإِذَا كَانَ وَاحِدًا ذَكَرًا- وَلَوْ صَبِيًّا- يَقِفُ عَلَى يَمِينِ الْإِمَامِ مُسَاوِيًا لَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَأَخُّرُهُ عَنِ الْإِمَامِ قَلِيلًا.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ مُحَاذَاةَ الْمَرْأَةِ لِلرِّجَالِ تُفْسِدُ صَلَاتَهُمْ.يَقُولُ الزَّيْلَعِيُّ الْحَنَفِيُّ: فَإِنْ حَاذَتْهُ امْرَأَةٌ مُشْتَهَاةٌ فِي صَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ- وَهِيَ الَّتِي لَهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ- مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا تَحْرِيمَةٌ وَأَدَاءٌ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ بِلَا حَائِلٍ، وَنَوَى الْإِمَامُ إِمَامَتَهَا وَقْتَ الشُّرُوعِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ دُونَ صَلَاتِهَا، لِحَدِيثِ: « أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ » وَهُوَ الْمُخَاطَبُ بِهِ دُونَهَا، فَيَكُونُ هُوَ التَّارِكَ لِفَرْضِ الْقِيَامِ، فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ دُونَ صَلَاتِهَا.
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَاذَاةَ الْمَرْأَةِ لِلرِّجَالِ لَا تُفْسِدُ الصَّلَاةَ، وَلَكِنَّهَا تُكْرَهُ، فَلَوْ وَقَفَتْ فِي صَفِّ الرِّجَالِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاةُ مَنْ يَلِيهَا وَلَا مَنْ خَلْفَهَا وَلَا مَنْ أَمَامَهَا، وَلَا صَلَاتُهَا، كَمَا لَوْ وَقَفَتْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَالْأَمْرُ فِي الْحَدِيثِ بِالتَّأْخِيرِ لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ مَعَ عَدَمِهِ.
هَذَا، وَفِي الصَّلَاةِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَدَمُ تَقَدُّمِ الْمَأْمُومِ عَلَى الْإِمَامِ فِي نَفْسِ الْجِهَةِ، حَتَّى إِذَا تَقَدَّمَهُ فِي غَيْرِ جِهَتِهِمَا لَمْ يَضُرَّ اتِّفَاقًا.وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَكَيْفِيَّةُ الصَّلَاةِ دَاخِلَ الْكَعْبَةِ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحَيْ: (صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ).
ج- أَلاَّ يَكُونَ الْمُقْتَدِي أَقْوَى حَالًا مِنَ الْإِمَامِ:
12- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) أَلاَّ يَكُونَ الْمُقْتَدِي أَقْوَى حَالًا مِنَ الْإِمَامِ، فَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ قَارِئٍ بِأُمِّيٍّ، وَلَا مُفْتَرِضٍ بِمُتَنَفِّلٍ، وَلَا بَالِغٍ بِصَبِيٍّ فِي فَرْضٍ، وَلَا قَادِرٍ عَلَى رُكُوعٍ وَسُجُودٍ بِعَاجِزٍ عَنْهُمَا، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ سَالِمٍ بِمَعْذُورٍ، كَمَنْ بِهِ سَلَسُ بَوْلٍ، وَلَا مَسْتُورِ عَوْرَةٍ بِعَارٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيُكْرَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ قَاعِدَةً فَقَالُوا: الْأَصْلُ أَنَّ حَالَ الْإِمَامِ إِنْ كَانَ مِثْلَ حَالِ الْمُقْتَدِي أَوْ فَوْقَهُ جَازَتْ صَلَاةُ الْكُلِّ، وَإِنْ كَانَ دُونَ حَالِ الْمُقْتَدِي صَحَّتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ.وَلَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي إِلاَّ إِذَا كَانَ الْإِمَامُ أُمِّيًّا وَالْمُقْتَدِي قَارِئًا، أَوْ كَانَ الْإِمَامُ أَخْرَسَ فَلَا يَصِحُّ صَلَاةُ الْإِمَامِ أَيْضًا.وَقَدْ تَوَسَّعَ الْحَنَفِيَّةُ فِي تَطْبِيقِ هَذَا الْأَصْلِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَوَافَقَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَعَ خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ.وَخَالَفَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ فِي أَكْثَرِ الْمَسَائِلِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ عِنْدَ الْكَلَامِ فِي: (اخْتِلَافِ صِفَةِ الْإِمَامِ وَالْمُقْتَدِي).
د- اتِّحَادُ صَلَاتَيِ الْمُقْتَدِي وَالْإِمَامِ:
13- يُشْتَرَطُ فِي الِاقْتِدَاءِ اتِّحَادُ صَلَاتَيِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ سَبَبًا وَفِعْلًا وَوَصْفًا، لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِنَاءُ التَّحْرِيمَةِ عَلَى التَّحْرِيمَةِ، فَالْمُقْتَدِي عَقَدَ تَحْرِيمَتَهُ لَمَّا انْعَقَدَتْ لَهُ تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ، فَكُلُّ مَا تَنْعَقِدُ لَهُ تَحْرِيمَةُ الْإِمَامِ جَازَ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُقْتَدِي، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا تَصِحُّ ظُهْرٌ خَلْفَ عَصْرٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلَا عَكْسُهُ، وَلَا تَصِحُّ صَلَاةُ ظُهْرٍ قَضَاءً خَلْفَ ظُهْرٍ أَدَاءً، وَلَا ظُهْرَيْنِ مِنْ يَوْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، كَظُهْرِ يَوْمِ السَّبْتِ خَلْفَ ظُهْرِ الْأَحَدِ الْمَاضِيَيْنِ، إِذْ لَا بُدَّ مِنَ الِاتِّحَادِ فِي عَيْنِ الصَّلَاةِ وَصِفَتِهَا وَزَمَنِهَا، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ- عليه السلام-: « إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ ».
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْقُدْوَةِ تَوَافُقُ نَظْمِ صَلَاتَيْهِمَا فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ الصَّلَاتَيْنِ.وَعَلَى ذَلِكَ تَصِحُّ قُدْوَةُ مَنْ يُؤَدِّي الصَّلَاةَ بِمَنْ يَقْضِيهَا، وَالْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ، وَمُؤَدِّي الظُّهْرِ بِالْعَصْرِ، وَبِالْمَعْكُوسِ.أَيْ الْقَاضِي بِالْمُؤَدِّي، وَالْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ، وَفِي الْعَصْرِ بِالظُّهْرِ، نَظَرًا لِاتِّفَاقِ الْفِعْلِ فِي الصَّلَاةِ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ النِّيَّةُ. وَكَذَا يَجُوزُ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ بِالصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ، وَتَجُوزُ الصُّبْحُ خَلْفَ الظُّهْرِ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَهُ حِينَئِذٍ الْخُرُوجُ بِنِيَّةِ الْمُفَارَقَةِ أَوِ الِانْتِظَارِ لِيُسَلِّمَ مَعَ الْإِمَامِ وَهُوَ الْأَفْضَلُ.لَكِنَّ الْأَوْلَى فِيهَا الِانْفِرَادُ.
فَإِنِ اخْتَلَفَ فِعْلُهُمَا كَمَكْتُوبَةٍ وَكُسُوفٍ أَوْ جَنَازَةٍ، لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ، لِمُخَالَفَتِهِ النَّظْمَ، وَتَعَذُّرِ الْمُتَابَعَةِ مَعَهَا.
أَمَّا اقْتِدَاءُ الْمُتَنَفِّلِ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ فَجَائِزٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.
هـ- عَدَمُ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُقْتَدِي وَالْإِمَامِ:
14- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ أَلاَّ يَكُونَ بَيْنَ الْمُقْتَدِي وَالْإِمَامِ فَاصِلٌ كَبِيرٌ.
وَهَذَا الشَّرْطُ مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ وَالتَّفَاصِيلِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
بُعْدُ الْمَسَافَةِ:
15- فَرَّقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِ الْمَسْجِدِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسَافَةِ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمُقْتَدِي، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ يَرَى الْإِمَامَ أَوْ مَنْ وَرَاءَهُ، أَوْ يَسْمَعُ التَّكْبِيرَ وَهُمَا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ صَحَّ الِاقْتِدَاءُ، وَإِنْ بَعُدَتِ الْمَسَافَةُ.أَمَّا فِي خَارِجِ الْمَسْجِدِ فَإِذَا كَانَتِ الْمَسَافَةُ قَدْرَ مَا يَسَعُ صَفَّيْنِ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلاَّ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، وَفِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ خِلَافٌ عِنْدَهُمْ.وَلَا يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ بُعْدُ الْمَسَافَةِ فِي خَارِجِ الْمَسْجِدِ إِذَا لَمْ يَزِدْ عَنْ ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ فِي صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ رُؤْيَةَ الْمَأْمُومِ لِلْإِمَامِ أَوْ بَعْضِ مَنْ وَرَاءَهُ.فَلَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ إِنْ لَمْ يَرَ الْمَأْمُومُ أَحَدَهُمَا، وَإِنْ سَمِعَ التَّكْبِيرَ، وَمَهْمَا كَانَتِ الْمَسَافَةُ.
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ وَلَا بَيْنَ قُرْبِ الْمَسَافَةِ وَبُعْدِهَا، فَقَالُوا بِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ إِذَا أَمْكَنَ رُؤْيَةُ الْإِمَامِ أَوِ الْمَأْمُومِ أَوْ سَمَاعُ الْإِمَامِ وَلَوْ بِمُسَمِّعٍ.
وُجُودُ الْحَائِلِ، وَلَهُ عِدَّةُ صُوَرٍ:
16- الْأُولَى: إِنْ كَانَ بَيْنَ الْمُقْتَدِي وَالْإِمَامِ نَهْرٌ كَبِيرٌ تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ (وَلَوْ زَوْرَقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ النَّهْرِ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ.فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: النَّهْرُ الصَّغِيرُ هُوَ مَا لَا تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: هُوَ مَا لَا يَمْنَعُ مِنْ سَمَاعِ الْإِمَامِ، أَوْ بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ، أَوْ رُؤْيَةِ فِعْلِ أَحَدِهِمَا.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: هُوَ النَّهْرُ الَّذِي يُمْكِنُ الْعُبُورُ مِنْ أَحَدِ طَر فَيْهِ إِلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ سِبَاحَةٍ بِالْوُثُوبِ فَوْقَهُ، أَوِ الْمَشْيِ فِيهِ، وَفِي حُكْمِهِ النَّهْرُ الْمُحْوِجُ إِلَى سِبَاحَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ.
17- الثَّانِيَةُ: يَمْنَعُ مِنَ الِاقْتِدَاءِ طَرِيقٌ نَافِذٌ يُمْكِنُ أَنْ تَجْرِيَ فِيهِ عَجَلَةٌ، وَلَيْسَ فِيهِ صُفُوفٌ مُتَّصِلَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ كَانَ عَلَى الطَّرِيقِ مَأْمُومٌ وَاحِدٌ- لَا يَثْبُتُ بِهِ الِاتِّصَالُ، وَبِالثَّلَاثِ يَثْبُتُ، وَفِي الْمُثَنَّى خِلَافٌ.
وَلَا يَضُرُّ الطَّرِيقُ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ سَمَاعِ الْإِمَامِ أَوْ بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ أَوْ رُؤْيَةِ فِعْلِ أَحَدِهِمَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلِهَذَا صَرَّحُوا بِجَوَازِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ لِأَهْلِ الْأَسْوَاقِ وَإِنْ فَرَّقَتِ الطُّرُقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِمَامِهِمْ.وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَضُرُّ، لِأَنَّهُ قَدْ تَكْثُرُ فِيهِ الزَّحْمَةُ فَيَعْسُرُ الِاطِّلَاعُ عَلَى أَحْوَالِ الْإِمَامِ.
هَذَا، وَأَجَازَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ الْفَصْلَ بِطَرِيقٍ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَصَلَاةِ الْخَوْفِ وَنَحْوِهَا، وَالتَّفْصِيلُ فِي مَوَاضِعِهَا.
18- الثَّالِثَةُ: صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْحَنَابِلَةِ، بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ جِدَارٌ كَبِيرٌ أَوْ بَابٌ مُغْلَقٌ يَمْنَعُ الْمُقْتَدِيَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى إِمَامِهِ لَوْ قَصَدَ الْوُصُولَ إِلَيْهِ لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ، وَيَصِحُّ إِذَا كَانَ صَغِيرًا لَا يَمْنَعُ، أَوْ كَبِيرًا وَلَهُ ثُقْبٌ لَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَالُ الْإِمَامِ سَمَاعًا أَوْ رُؤْيَةً، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- « كَانَ يُصَلِّي فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- وَالنَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ ».
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: فَإِنْ حَالَ مَا يَمْنَعُ الْمُرُورَ لَا الرُّؤْيَةَ كَالشُّبَّاكِ أَوْ يَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ لَا الْمُرُورَ كَالْبَابِ الْمَرْدُودِ فَوَجْهَانِ.
وَعَلَى هَذَا الِاقْتِدَاءُ فِي الْمَسَاكِنِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَأَبْوَابِهَا مِنْ خَارِجِهِ- صَحِيحٌ، إِذَا لَمْ يَشْتَبِهْ حَالُ الْإِمَامِ لِسَمَاعٍ أَوْ رُؤْيَةٍ، وَلَمْ يَتَخَلَّلْ إِلاَّ الْجِدَارُ، كَمَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِيمَنْ صَلَّى عَلَى سَطْحِ بَيْتِهِ الْمُتَّصِلِ بِالْمَسْجِدِ أَوْ فِي مَنْزِلِهِ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ حَائِطٌ مُقْتَدِيًا بِإِمَامٍ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ يَسْمَعُ التَّكْبِيرَ مِنَ الْإِمَامِ أَوْ مِنَ الْمُكَبِّرِ تَجُوزُ صَلَاتُهُ.وَيَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْوَاقِفِ عَلَى السَّطْحِ بِمَنْ هُوَ فِي الْبَيْتِ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ حَالُهُ.
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْجِدَارُ كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا، فَقَالُوا بِجَوَازِ الِاقْتِدَاءِ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ سَمَاعِ الْإِمَامِ أَوْ بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ أَوْ رُؤْيَةِ فِعْلِ أَحَدِهِمَا.
و- اتِّحَادُ الْمَكَانِ:
19- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ أَنْ يَجْمَعَ الْمُقْتَدِي وَالْإِمَامَ مَوْقِفٌ وَاحِدٌ، إِذْ مِنْ مَقَاصِدِ الِاقْتِدَاءِ اجْتِمَاعُ جَمْعٍ فِي مَكَانٍ، كَمَا عُهِدَ عَلَيْهِ الْجَمَاعَاتُ فِي الْأَعْصُرِ الْخَالِيَةِ، وَمَبْنَى الْعِبَادَاتِ عَلَى رِعَايَةِ الِاتِّبَاعِ فَيُشْتَرَطُ لِيَظْهَرَ الشِّعَارُ.وَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَطْبِيقِ هَذَا الشَّرْطِ تَفْصِيلٌ، وَفِي بَعْضِ الْفُرُوعِ خِلَافٌ كَالْآتِي:
أَوَّلًا- الْأَبْنِيَةُ الْمُخْتَلِفَةُ:
20- تَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَبْنِيَةِ الْمُنْفَصِلَةِ.
ثَانِيًا- الِاقْتِدَاءُ فِي السُّفُنِ الْمُخْتَلِفَةِ:
21- يُشْتَرَطُ فِي الِاقْتِدَاءِ أَلاَّ يَكُونَ الْمُقْتَدِي فِي سَفِينَةٍ وَالْإِمَامُ فِي سَفِينَةٍ أُخْرَى غَيْرِ مُقْتَرِنَةٍ بِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، لِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ، وَلَوِ اقْتَرَنَتَا صَحَّ اتِّفَاقًا، لِلِاتِّحَادِ الْحُكْمِيِّ.وَالْمُرَادُ بِالِاقْتِرَانِ: مُمَاسَّةُ السَّفِينَتَيْنِ، وَقِيلَ رَبْطُهُمَا.
وَتَوَسَّعَ الْمَالِكِيَّةُ فِي جَوَازِ اقْتِدَاءِ ذَوِي سُفُنٍ مُتَقَارِبَةٍ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا رَبْطَ السَّفِينَتَيْنِ، وَلَا الْمُمَاسَّةَ، وَلَمْ يُحَدِّدُوا الْمَسَافَةَ حَيْثُ قَالُوا: جَازَ اقْتِدَاءُ ذَوِي سُفُنٍ مُتَقَارِبَةٍ فِي الْمَرْسَى بِإِمَامٍ وَاحِدٍ فِي بَعْضِهَا يَسْمَعُونَ أَقْوَالَهُ أَوْ أَقْوَالَ مَنْ مَعَهُ فِي سَفِينَتِهِ مِنْ مَأْمُومِينَ، أَوْ يَرَوْنَ أَفْعَالَهُ أَوْ أَفْعَالَ مَنْ مَعَهُ فِي سَفِينَتِهِ مِنْ مَأْمُومِينَ.وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتِ السُّفُنُ سَائِرَةً عَلَى الْمَشْهُورِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ مِنْ طُرُوءِ مَا يُفَرِّقُهَا مِنْ رِيحٍ أَوْ غَيْرِهِ.
لَكِنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى اسْتِحْبَابِ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ فِي السَّفِينَةِ الَّتِي تَلِي الْقِبْلَةَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ كَانَا فِي سَفِينَتَيْنِ صَحَّ اقْتِدَاءُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَإِنْ لَمْ تَكُونَا مَكْشُوفَتَيْنِ، وَلَمْ تُرْبَطْ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، بِشَرْطِ أَلاَّ تَزِيدَ الْمَسَافَةُ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَعَدَمِ الْحَائِلِ.وَالْمَاءُ بَيْنَهُمَا كَالنَّهْرِ بَيْنَ الْمَكَانَيْنِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يُمْكِنُ اجْتِيَازُهُ سِبَاحَةً وَلَمْ يَشْتَرِطُوا الِالْتِصَاقَ وَلَا الرَّبْطَ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَالْمُخْتَارِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
ثَالِثًا: عُلُوُّ مَوْقِفِ الْمُقْتَدِي عَلَى الْإِمَامِ أَوْ عَكْسُهُ:
22- يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْقِفُ الْمَأْمُومِ عَالِيًا- وَلَوْ بِسَطْحٍ- عَنِ الْإِمَامِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رَأْيُ الْمَالِكِيَّةِ فِي غَيْرِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ.فَصَحَّ اقْتِدَاءُ مَنْ بِسَطْحِ الْمَسْجِدِ بِالْإِمَامِ الَّذِي يُصَلِّي بِالْمَسْجِدِ، لِإِمْكَانِ الْمُتَابَعَةِ.
وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقِفُ الْإِمَامِ عَالِيًا عَنْ مَوْقِفِ الْمَأْمُومِ.
وَلَمْ يُفَرِّقِ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ ارْتِفَاعِ مَوْقِفِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، فَشَرَطُوا فِي هَذِهِ الْحَالِ مُحَاذَاةَ بَعْضِ بَدَنِ الْمَأْمُومِ بَعْضَ بَدَنِ الْإِمَامِ، وَالْعِبْرَةُ فِي ذَلِكَ بِالطُّولِ الْعَادِيِّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ يُكْرَهُ ارْتِفَاعُ الْمَأْمُومِ عَلَى إِمَامِهِ حَيْثُ أَمْكَنَ وُقُوفُهُمَا بِمُسْتَوًى وَاحِدٍ، وَعَكْسُهُ كَذَلِكَ، إِلاَّ لِحَاجَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ، كَتَبْلِيغٍ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إِسْمَاعُ الْمَأْمُومِينَ وَتَعْلِيمُهُمْ صِفَةَ الصَّلَاةِ، فَيُسْتَحَبُّ ارْتِفَاعُهُمَا لِذَلِكَ، تَقْدِيمًا لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ.
وَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْبِنَاءِ وَنَحْوِهِ.
أَمَّا الْجَبَلُ الَّذِي يُمْكِنُ صُعُودُهُ كَالصَّفَا أَوِ الْمَرْوَةِ أَوْ جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ فَالْعِبْرَةُ فِيهِ بِالْمَسَافَةِ الَّتِي سَبَقَ الْقَوْلُ فِيهَا وَهِيَ ثَلَاثُمِائَةِ ذِرَاعٍ.
فَالِاقْتِدَاءُ فِيهِ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُومُ أَعْلَى مِنَ الْإِمَامِ.
ز- عَدَمُ تَوَسُّطِ النِّسَاءِ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ:
23- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَدَمُ تَوَسُّطِ النِّسَاءِ، فَإِنْ وَقَفَتِ الْمَرْأَةُ فِي صَفِّ الرَّجُلِ كُرِهَ، وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهَا، وَلَا صَلَاةُ مَنْ يَلِيهَا، وَلَا مَنْ خَلْفَهَا.لِأَنَّهَا لَوْ وَقَفَتْ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، فَكَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ « عَائِشَةَ- رضي الله عنها- كَانَتْ تَعْتَرِضُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نَائِمَةً وَهُوَ يُصَلِّي ».وَالنَّهْيُ لِلْكَرَاهَةِ، وَلِهَذَا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهَا فَصَلَاةُ مَنْ يَلِيهَا أَوْلَى.وَهَكَذَا إِنْ كَانَ هُنَاكَ صَفٌّ تَامٌّ مِنَ النِّسَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ اقْتِدَاءَ مَنْ خَلْفَهُنَّ مِنَ الرِّجَالِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ أَلاَّ يَكُونَ بَيْنَ الْمُقْتَدِي وَالْإِمَامِ صَفٌّ مِنَ النِّسَاءِ بِلَا حَائِلٍ قَدْرَ ذِرَاعٍ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْمُرَادُ بِالصَّفِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ، وَفِي رِوَايَةٍ الْمُرَادُ بِالصَّفِّ الثَّلَاثُ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا:
(1) الْمَرْأَةُ الْوَاحِدَةُ تُفْسِدُ صَلَاةَ ثَلَاثَةٍ، وَاحِدٍ عَنْ يَمِينِهَا وَآخَرَ عَنْ يَسَارِهَا وَآخَرَ خَلْفَهَا، وَلَا تُفْسِدُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
(2) وَالْمَرْأَتَانِ تُفْسِدَانِ صَلَاةَ أَرْبَعَةٍ مِنَ الرِّجَالِ، وَاحِدٍ عَنْ يَمِينِهِمَا، وَآخَرَ عَنْ يَسَارِهِمَا، وَصَلَاةَ اثْنَيْنِ خَلْفَهُمَا.
(3) وَإِنْ كُنَّ ثَلَاثًا أَفْسَدْنَ صَلَاةَ وَاحِدٍ عَنْ يَمِينِهِنَّ، وَآخَرَ عَنْ يَسَارِهِنَّ وَثَلَاثَةٍ ثَلَاثَةٍ إِلَى آخِرِ الصُّفُوفِ.
وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: الثَّلَاثُ كَالصَّفِّ، تُفْسِدُ صَلَاةَ كُلِّ الصُّفُوفِ خَلْفَهُنَّ إِلَى آخِرِ الصُّفُوفِ، لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ جَمْعٌ كَامِلٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الثِّنْتَيْنِ كَالثَّلَاثِ.وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى جَعَلَ الثَّلَاثَ كَالِاثْنَتَيْنِ.
ح- الْعِلْمُ بِانْتِقَالَاتِ الْإِمَامِ:
24- يُشْتَرَطُ فِي الِاقْتِدَاءِ عِلْمُ الْمَأْمُومِ بِانْتِقَالَاتِ الْإِمَامِ، بِسَمَاعٍ أَوْ رُؤْيَةٍ لِلْإِمَامِ أَوْ لِبَعْضِ الْمُقْتَدِينَ بِهِ، لِئَلاَّ يُشْتَبَهَ عَلَى الْمُقْتَدِي حَالُ الْإِمَامِ فَلَا يَتَمَكَّنَ مِنْ مُتَابَعَتِهِ، فَلَوْ جَهِلَ الْمَأْمُومُ أَفْعَالَ إِمَامِهِ الظَّاهِرَةَ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، أَوِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ مُتَابَعَةٌ، وَمَعَ الْجَهْلِ أَوِ الِاشْتِبَاهِ لَا تُمْكِنُ الْمُتَابَعَةُ، وَهَذَا الشَّرْطُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.
زَادَ الْحَنَفِيَّةُ: وَكَذَا عِلْمُهُ بِحَالِ إِمَامِهِ مِنْ إِقَامَةٍ أَوْ سَفَرٍ قَبْلَ الْفَرَاغِ أَوْ بَعْدَهُ، وَهَذَا فِيمَا لَوْ صَلَّى الرُّبَاعِيَّةَ رَكْعَتَيْنِ فِي مِصْرٍ أَوْ قَرْيَةٍ.
هَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ لَا يُجَوِّزُونَ الِاقْتِدَاءَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ بِالسَّمَاعِ وَحْدَهُ.بَلْ يَشْتَرِطُونَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ رُؤْيَةَ الْمَأْمُومِ لِلْإِمَامِ أَوْ بَعْضِ الْمُقْتَدِينَ بِهِ، لِقَوْلِ عَائِشَةَ لِنِسَاءٍ كُنَّ يُصَلِّينَ فِي حُجْرَتِهَا: لَا تُصَلِّينَ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ فَإِنَّكُنَّ دُونَهُ فِي حِجَابٍ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْمُتَابَعَةُ فِي الْغَالِبِ.
وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَالْحَنَابِلَةُ يَكْتَفُونَ بِالْعِلْمِ بِانْتِقَالَاتِ الْإِمَامِ بِالسَّمَاعِ أَوْ بِالرُّؤْيَةِ.
ط- صِحَّةُ صَلَاةِ الْإِمَامِ:
25- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ صِحَّةُ صَلَاةِ الْإِمَامِ، فَلَوْ تَبَيَّنَ فَسَادُهَا لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ تَبَيَّنَ فَسَادُ صَلَاةِ الْإِمَامِ، فِسْقًا مِنْهُ، أَوْ نِسْيَانًا لِمُضِيِّ مُدَّةِ الْمَسْحِ، أَوْ لِوُجُودِ الْحَدَثِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي لِعَدَمِ صِحَّةِ الْبِنَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً فِي زَعْمِ الْإِمَامِ فَاسِدَةً فِي زَعْمِ الْمُقْتَدِي لِبِنَائِهِ عَلَى الْفَاسِدِ فِي زَعْمِهِ.
وَالْمُرَادُ بِالْفِسْقِ هُنَا: الْفِسْقُ الَّذِي يُخِلُّ بِرَكْنٍ أَوْ شَرْطٍ فِي الصَّلَاةِ، كَأَنْ يُصَلِّيَ وَهُوَ سَكْرَانُ، أَوْ هُوَ مُحْدِثٌ مُتَعَمِّدًا.
أَمَّا الْفِسْقُ فِي الْعَقِيدَةِ، أَوْ بِارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَهِيَ مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ، وَقَدْ شَدَّدَ فِيهَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَقَالَ: إِنَّهُ إِذَا كَانَ دَاعِيًا إِلَى بِدْعَتِهِ، وَعَلِمَ بِذَلِكَ الْمُقْتَدِي، فَعَلَيْهِ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ، حَتَّى لَوْ عَلِمَ بِذَلِكَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الْمُعْتَمَدَةُ فِي الْمَذْهَبِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ لَا يَدْعُو إِلَى بِدْعَتِهِ، وَهُوَ مَسْتُورُ الْحَالِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَى مَنِ اقْتَدَى بِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْفَاسِقِ مَكْرُوهَةٌ، وَلَا إِعَادَةَ فِيهَا.لِحَدِيثِ: « صَلُّوا خَلْفَ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ».وَلِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ الْحَجَّاجِ.وَأَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ كَانَا يُصَلِّيَانِ خَلْفَ مَرْوَانَ وَوَرَاءَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ.
وَمِثْلُهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ حَيْثُ قَالُوا: لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِإِمَامٍ تَبَيَّنَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ بَعْدَهَا أَنَّهُ كَافِرٌ، أَوِ امْرَأَةٌ، أَوْ مَجْنُونٌ، أَوْ فَاسِقٌ (عَلَى خِلَافٍ فِيهِ) أَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ مُحْدِثٌ، إِنْ تَعَمَّدَ الْحَدَثَ أَوْ عَلِمَ الْمُؤْتَمُّ بِحَدَثِهِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ قَبْلَهَا، أَوِ اقْتَدَى بِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ وَلَوْ نَاسِيًا.
وَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِمَنْ يَعْلَمُ بُطْلَانَ صَلَاتِهِ، كَمَنْ عَلِمَ بِكُفْرِهِ أَوْ حَدَثِهِ أَوْ نَجَاسَةِ ثَوْبِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي صَلَاةٍ فَكَيْفَ يَقْتَدِي بِهِ، وَكَذَا لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِإِمَامٍ يَعْتَقِدُ الْمُقْتَدِي بُطْلَانَ صَلَاتِهِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِكَافِرٍ وَلَوْ بِبِدْعَةٍ مُكَفِّرَةٍ وَلَوْ أَسَرَّهُ وَجَهِلَ الْمَأْمُومُ كُفْرَهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ.وَكَذَلِكَ مَنْ ظَنَّ كُفْرَهُ أَوْ حَدَثَهُ، وَلَوْ بَانَ خِلَافُ ذَلِكَ فَيُعِيدُ الْمَأْمُومُ، لِاعْتِقَادِهِ بُطْلَانَ صَلَاتِهِ.
لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةُ قَالُوا: لَوْ عَلِمَ الْمُقْتَدِي بِحَدَثِ إِمَامِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَلَا بُطْلَانَ.كَمَا أَنَّ الْحَنَابِلَةَ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يَعْلَمُهُ مُسْلِمًا، فَقَالَ بَعْدَ الصَّلَاةِ: هُوَ كَافِرٌ، لَمْ يُؤَثِّرْ فِي صَلَاةِ الْمَأْمُومِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَحْكُومًا بِصِحَّتِهَا.
وَأَمَّا الْإِمَامُ فَلَوْ أَخْطَأَ أَوْ نَسِيَ لَمْ يُؤَاخَذْ بِذَلِكَ الْمَأْمُومُ، كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « أَئِمَّتُكُمْ يُصَلُّونَ لَكُمْ وَلَهُمْ، فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ، وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ ».فَجَعَلَ خَطَأَ الْإِمَامِ عَلَى نَفْسِهِ دُونَهُمْ، وَقَدْ صَلَّى عُمَرُ وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- وَهُوَ جُنُبٌ نَاسِيًا لِلْجَنَابَةِ، فَأَعَادَ وَلَمْ يَأْمُرِ الْمَأْمُومِينَ بِالْإِعَادَةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ الْإِمَامُ مَا يَسُوغُ عِنْدَهُ، وَهُوَ عِنْدَ الْمَأْمُومِ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، مِثْلَ أَنْ يَفْتَصِدَ وَيُصَلِّيَ وَلَا يَتَوَضَّأَ، أَوْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ، أَوْ يَتْرُكَ الْبَسْمَلَةَ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ صَلَاتَهُ تَصِحُّ مَعَ ذَلِكَ، وَالْمَأْمُومُ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ مَعَ ذَلِكَ، فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ، بَلْ فِي أَنَصِّهِمَا عَنْهُ.وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، اخْتَارَهُ الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ.
وَاسْتَدَلَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لِهَذَا الِاتِّجَاهِ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ- ( (- كَانَ يُصَلِّي بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْفُرُوعِ.وَأَنَّ الْمَسَائِلَ الْخِلَافِيَّةَ لَا تَخْلُو إِمَّا أَنْ يُصِيبَ الْمُجْتَهِدُ فَيَكُونَ لَهُ أَجْرَانِ: أَجْرُ اجْتِهَادِهِ وَأَجْرُ إِصَابَتِهِ، أَوْ أَنْ يُخْطِئَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَجْرُ اجْتِهَادِهِ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي الْخَطَأِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
7-موسوعة الفقه الكويتية (دفن)
دَفْنٌالتَّعْرِيفُ:
1- الدَّفْنُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الْمُوَارَاةِ وَالسَّتْرِ.يُقَالُ: دَفَنَ الْمَيِّتَ وَارَاهُ، وَدَفَنَ سِرَّهُ: أَيْ كَتَمَهُ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: مُوَارَاةُ الْمَيِّتِ فِي التُّرَابِ
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
2- دَفْنُ الْمُسْلِمِ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِجْمَاعًا إِنْ أَمْكَنَ.وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهِ: تَوَارُثُ النَّاسِ مِنْ لَدُنْ آدَمَ- عليه السلام- إِلَى يَوْمِنَا هَذَا مَعَ النَّكِيرِ عَلَى تَارِكِهِ.
وَأَوَّلُ مَنْ قَامَ بِالدَّفْنِ هُوَ قَابِيلُ الَّذِي أَرْشَدَهُ اللَّهُ إِلَى دَفْنِ أَخِيهِ هَابِيلَ لِمَا جَاءَ فِي (({فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعْجَزْتُ أَنْأَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِفَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِيفَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ}.
وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ: كَمَا لَوْ مَاتَ فِي سَفِينَةٍ، غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي الْبَحْرِ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَرِيبًا مِنَ الْبَرِّ.وَتَقْدِيرُ الْقُرْبِ: بِأَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَرِّ مُدَّةٌ لَا يَتَغَيَّرُ فِيهَا الْمَيِّتُ.
وَصَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُثَقَّلُ بِشَيْءٍ لِيَرْسُبَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُثَقَّلُ إِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، وَإِلاَّ يُرْبَطُ بَيْنَ لَوْحَيْنِ لِيَحْمِلَهُ الْبَحْرُ إِلَى السَّاحِلِ، فَرُبَّمَا وَقَعَ إِلَى قَوْمٍ يَدْفِنُونَهُ.
أَفْضَلُ مَكَانٍ لِلدَّفْنِ:
3- الْمَقْبَرَةُ أَفْضَلُ مَكَانٍ لِلدَّفْنِ، وَذَلِكَ لِلِاتِّبَاعِ، وَلِنَيْلِ دُعَاءِ الطَّارِقِينَ، وَفِي أَفْضَلِ مَقْبَرَةٍ بِالْبَلَدِ أَوْلَى.وَإِنَّمَا دُفِنَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي بَيْتِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ خَوَاصِّ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُمْ يُدْفَنُونَ حَيْثُ يَمُوتُونَ.
وَيُكْرَهُ الدَّفْنُ فِي الدَّارِ وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ صَغِيرًا.وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَكَذَلِكَ الدَّفْنُ فِي مَدْفَنٍ خَاصٍّ كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَبْنِي مَدْرَسَةً وَنَحْوَهَا وَيَبْنِي لَهُ بِقُرْبِهِ مَدْفَنًا.
وَأَمَّا الدَّفْنُ فِي الْمَسَاجِدِ، فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ دَفْنُ الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي بُنِيَ لِلصَّلَاةِ فِيهِ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَحْرُمُ دَفْنُهُ فِي مَسْجِدٍ وَنَحْوِهِ كَمَدْرَسَةٍ وَرِبَاطٍ؛ لِتَعْيِينِ الْوَاقِفِ الْجِهَةَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَيُنْبَشُ عِنْدَهُمْ مَنْ دُفِنَ بِمَسْجِدٍ تَدَارُكًا لِلْعَمَلِ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ.كَمَا يَحْرُمُ دَفْنُهُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِلَا إِذْنِ رَبِّهِ لِلْعُدْوَانِ، وَلِلْمَالِكِ إِلْزَامُ دَافِنِهِ بِإِخْرَاجِهِ وَنَقْلِهِ؛ لِيَفْرُغَ لَهُ مِلْكُهُ عَمَّا شَغَلَهُ بِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ.وَالْأَوْلَى لَهُ تَرْكُهُ حَتَّى يَبْلَى؛ لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَتِهِ.
نَقْلُ الْمَيِّتِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ:
4- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْلُ الْمَيِّتِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ بَعْدَ الدَّفْنِ مُطْلَقًا.وَأَفْتَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِجَوَازِهِ إِلاَّ أَنَّ ابْنَ عَابِدِينَ رَدَّهُ فَقَالَ نَقْلًا عَنِ الْفَتْحِ: اتِّفَاقُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ فِي امْرَأَةٍ دُفِنَ ابْنُهَا وَهِيَ غَائِبَةٌ فِي غَيْرِ بَلَدِهَا فَلَمْ تَصْبِرْ، وَأَرَادَتْ نَقْلَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسَعُهَا ذَلِكَ، فَتَجْوِيزُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا نَقْلُ يَعْقُوبَ وَيُوسُفَ- عليهما السلام- مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ؛ لِيَكُونَا مَعَ آبَائِهِمَا الْكِرَامِ فَهُوَ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَلَمْ يَتَوَفَّرْ فِيهِ شُرُوطُ كَوْنِهِ شَرْعًا لَنَا.
وَأَمَّا قَبْلَ دَفْنِهِ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِنَقْلِهِ مُطْلَقًا، وَقِيلَ إِلَى مَا دُونَ مُدَّةِ السَّفَرِ، وَقَيَّدَهُ مُحَمَّدٌ بِقَدْرِ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْلُ الْمَيِّتِ قَبْلَ الدَّفْنِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى آخَرَ إِلاَّ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ.وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ بِالْحَبَشَةِ، فَحُمِلَ إِلَى مَكَّةَ فَدُفِنَ، فَلَمَّا قَدِمَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- أَتَتْ قَبْرَهُ، ثُمَّ قَالَتْ: «وَاللَّهِ لَوْ حَضَرْتُكَ مَا دُفِنْتَ إِلاَّ حَيْثُ مِتَّ، وَلَوْ شَهِدْتُكَ مَا زُرْتُكَ».
وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَخَفُّ لِمُؤْنَتِهِ، وَأَسْلَمُ لَهُ مِنَ التَّغْيِيرِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ جَازَ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ- رحمه الله-: لَا أُحِبُّهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بِقُرْبِ مَكَّةَ، أَوِ الْمَدِينَةِ، أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.فَيُخْتَارُ أَنْ يُنْقَلَ إِلَيْهَا لِفَضْلِ الدَّفْنِ فِيهَا، وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: يُكْرَهُ نَقْلُهُ، وَقَالَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» وَآخَرُونَ: يَحْرُمُ نَقْلُهُ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ نَقْلُ الْمَيِّتِ قَبْلَ الدَّفْنِ وَكَذَا بَعْدَهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ بِشُرُوطٍ هِيَ:
- أَنْ لَا يَنْفَجِرَ حَالَ نَقْلِهِ
- أَنْ لَا تُنْتَهَكَ حُرْمَتُهُ
- وَأَنْ يَكُونَ لِمَصْلَحَةٍ: كَأَنْ يُخَافَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَهُ الْبَحْرُ، أَوْ تُرْجَى بَرَكَةُ الْمَوْضِعِ الْمَنْقُولِ إِلَيْهِ، أَوْ لِيُدْفَنَ بَيْنَ أَهْلِهِ، أَوْ لِأَجْلِ قُرْبِ زِيَارَةِ أَهْلِهِ، أَوْ دَفْنِ مَنْ أَسْلَمَ بِمَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ، فَيُتَدَارَكُ بِإِخْرَاجِهِ مِنْهَا، وَدَفْنِهِ فِي مَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ.فَإِنْ تَخَلَّفَ شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ الثَّلَاثَةِ كَانَ النَّقْلُ حَرَامًا.
وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ الشَّهِيدَ يُسْتَحَبُّ دَفْنُهُ حَيْثُ قُتِلَ.لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُرَدُّوا إِلَى مَصَارِعِهِمْ».وَأَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ الْحَدِيدُ وَالسِّلَاحُ، وَيُتْرَكُ عَلَيْهِ خُفَّاهُ، وَقَلَنْسُوَتُهُ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «أَمَرَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمُ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ، وَأَنْ يُدْفَنُوا فِي ثِيَابِهِمْ بِدِمَائِهِمْ».وَدَفْنُ الشَّهِيدِ بِثِيَابِهِ حَتْمٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَأَوْلَى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَنْزِعَ عَنْهُ ثِيَابَهُ، وَيُكَفِّنَهُ بِغَيْرِهَا.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهِيد) (وَتَكْفِين).
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْكَافِرَ إِنْ مَاتَ فِي الْحِجَازِ، وَشَقَّ نَقْلُهُ مِنْهُ لِتَقَطُّعِهِ، أَوْ بُعْدِ الْمَسَافَةِ مِنْ غَيْرِ الْحِجَازِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ دُفِنَ ثَمَّ، أَمَّا الْحَرْبِيُّ فَلَا يَجِبُ دَفْنُهُ، وَفِي وَجْهٍ لَا يَجُوزُ، فَإِنْ دُفِنَ فَيُتْرَكُ.
وَأَمَّا فِي حَرَمِ مَكَّةَ فَيُنْقَلُ مِنْهُ وَلَوْ دُفِنَ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ غَيْرُ قَابِلٍ لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ بِإِذْنٍ مِنَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ إِذْنَ الْإِمَامِ لَا يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ.وَلِأَنَّ بَقَاءَ جِيفَتِهِ فِيهِ أَشَدُّ مِنْ دُخُولِهِ حَيًّا إِلاَّ إِذَا تَهَرَّى وَتَقَطَّعَ بَعْدَ دَفْنِهِ تُرِكَ.وَلَيْسَ حَرَمُ الْمَدِينَةِ كَحَرَمِ مَكَّةَ فِيمَا ذُكِرَ؛ لِاخْتِصَاصِ حَرَمِ مَكَّةَ بِالنُّسُكِ.
دَفْنُ الْأَقَارِبِ فِي مَقْبَرَةٍ وَاحِدَةٍ:
5- صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ جَمْعُ الْأَقَارِبِ فِي الدَّفْنِ فِي مَقْبَرَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا دَفَنَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ: «أَدْفِنُ إِلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي».وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَسْهَلُ لِزِيَارَتِهِمْ وَأَكْثَرُ لِلتَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ، وَيُسَنُّ تَقْدِيمُ الْأَبِ، ثُمَّ مَنْ يَلِيهِ فِي السِّنِّ وَالْفَضِيلَةِ إِنْ أَمْكَنَ.
الْأَحَقُّ بِالدَّفْنِ:
6- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْأَوْلَى بِدَفْنِ الْمَرْأَةِ مَحَارِمُهَا الرِّجَالُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ وَهُمُ الَّذِينَ كَانَ يَحِلُّ لَهُمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا فِي حَيَاتِهَا وَلَهَا السَّفَرُ مَعَهُمْ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَامَ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ تُوُفِّيَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ- رضي الله عنها-، فَقَالَ: أَلَا إِنِّي أَرْسَلْتُ إِلَى النِّسْوَةِ مَنْ يُدْخِلُهَا قَبْرَهَا، فَأَرْسَلْنَ: مَنْ كَانَ يَحِلُّ لَهُ الدُّخُولُ عَلَيْهَا فِي حَيَاتِهَا، فَرَأَيْتُ أَنْ قَدْ صَدَقْنَ.
وَلِأَنَّ امْرَأَةَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- لَمَّا تُوُفِّيَتْ قَالَ لِأَهْلِهَا: أَنْتُمْ أَحَقُّ بِهَا.وَلِأَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِوِلَايَتِهَا حَالَ الْحَيَاةِ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ، ثُمَّ زَوْجُهَا؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِمَحْرَمِهَا مِنَ النَّسَبِ مِنَ الْأَجَانِبِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ ذُو رَحِمٍ فَلَا بَأْسَ لِلْأَجَانِبِ وَضْعُهَا فِي قَبْرِهَا، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى إِحْضَارِ النِّسَاءِ لِلدَّفْنِ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ مَاتَتِ ابْنَتُهُ أَمَرَ أَبَا طَلْحَةَ، فَنَزَلَ فِي قَبْرِ ابْنَتِهِ».وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَحَارِمَهَا كُنَّ هُنَاكَ، كَأُخْتِهَا فَاطِمَةَ وَلِأَنَّ تَوَلِّيَ النِّسَاءِ لِذَلِكَ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لَفُعِلَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَعَصْرِ خُلَفَائِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ.ثُمَّ يُقَدَّمُ خَصِيٌّ، ثُمَّ شَيْخٌ، ثُمَّ أَفْضَلُ دِينًا وَمَعْرِفَةً.فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُدْخِلَهَا النِّسَاءُ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُنَّ النَّظَرُ إِلَيْهَا وَهُنَّ أَحَقُّ بِغُسْلِهَا، الْقُرْبَى فَالْقُرْبَى كَالرِّجَالِ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ الزَّوْجَ، فَإِنَّهُ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مَنْظُورَهُ أَكْثَرُ. وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْمَيِّتَ إِنْ كَانَ رَجُلًا فَيَضَعُهُ فِي قَبْرِهِ الرِّجَالُ، وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً فَيَتَوَلَّى ذَلِكَ زَوْجُهَا مِنْ أَسْفَلِهَا وَمَحَارِمُهَا مِنْ أَعْلَاهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَصَالِحُوا الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ وُجِدَ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ فَهُوَ أَوْلَى مِنَ الْأَجَانِبِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْأَوْلَى بِدَفْنِ الرِّجَالِ أَوْلَاهُمْ بِغُسْلِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَلَا يَنْزِلُ الْقَبْرَ إِلاَّ الرِّجَالُ مَتَى وُجِدُوا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَحَدَهُ الْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ وَأُسَامَةُ- رضي الله عنهم-، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا تَوَلَّوْا غُسْلَهُ وَلِأَنَّ الْمُقَدَّمَ بِغُسْلِهِ أَقْرَبُ إِلَى سَتْرِ أَحْوَالِهِ، وَقِلَّةِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْرَبُ الْعَصَبَةِ، ثُمَّ ذَوُو أَرْحَامِهِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، ثُمَّ الرِّجَالُ الْأَجَانِبُ، ثُمَّ مِنْ مَحَارِمِهِ مِنَ النِّسَاءِ، ثُمَّ الْأَجْنَبِيَّاتُ لِلْحَاجَةِ إِلَى دَفْنِهِ وَعَدَمِ غَيْرِهِنَّ.
أَمَّا دَفْنُ الْقَاتِلِ لِلْمَقْتُولِ: فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي دَفْنِهِ لِمُبَالَغَتِهِ فِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ.
دَفْنُ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ
7- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَدْفِنَ كَافِرًا وَلَوْ قَرِيبًا إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، بِأَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يُوَارِيهِ غَيْرَهُ فَيُوَارِيهِ وُجُوبًا.لِأَنَّهُ «- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا أُخْبِرَ بِمَوْتِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ لِعَلِيٍّ- رضي الله عنه-: اذْهَبْ فَوَارِهِ» وَكَذَلِكَ قَتْلَى بَدْرٍ أُلْقُوا فِي الْقَلِيبِ، أَوْ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِتَرْكِهِ وَيَتَغَيَّرُ بِبَقَائِهِ.وَلَا يُسْتَقْبَلُ بِهِ قِبْلَتَنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَلَا قِبْلَتَهُمْ؛ لِعَدَمِ اعْتِبَارِهَا، فَلَا يُقْصَدُ جِهَةٌ مَخْصُوصَةٌ، بَلْ يَكُونُ دَفْنُهُ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ السُّنَّةِ.
وَكَذَلِكَ لَا يُتْرَكُ مَيِّتٌ مُسْلِمٌ لِوَلِيِّهِ الْكَافِرِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَجْهِيزِهِ وَدَفْنِهِ، إِذْ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ مِنْ دَفْنِهِ فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ وَاسْتِقْبَالِهِ قِبْلَتَهُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
كَيْفِيَّةُ الدَّفْنِ:
8- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُدْخَلَ الْمَيِّتُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ بِأَنْ يُوضَعَ مِنْ جِهَتِهَا، ثُمَّ يُحْمَلَ فَيُلْحَدَ، فَيَكُونَ الْآخِذُ لَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَالَ الْأَخْذِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-.وَقَالَ النَّخَعِيُّ: حَدَّثَنِي مَنْ رَأَى أَهْلَ الْمَدِينَةِ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ يُدْخِلُونَ مَوْتَاهُمْ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ، وَأَنَّ السَّلَّ شَيْءٌ أَحْدَثَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُدْخَلَ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ مِنْ أَيِّ نَاحِيَةٍ كَانَ وَالْقِبْلَةُ أَوْلَى.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ السَّلُّ، بِأَنْ يُوضَعَ الْمَيِّتُ عِنْدَ آخِرِ الْقَبْرِ ثُمَّ يُسَلُّ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ مُنْحَدِرًا.وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُلَّ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ سَلًّا»
وَالْخِلَافُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ هُنَا خِلَافٌ فِي الْأَوْلَى، وَعَلَى هَذَا فَإِنْ كَانَ الْأَسْهَلُ عَلَيْهِمْ أَخْذَهُ مِنَ الْقِبْلَةِ أَوْ مِنْ رَأْسِ الْقَبْرِ فَلَا حَرَجَ؛ لِأَنَّ اسْتِحْبَابَ أَخْذِهِ مِنْ أَسْفَلِ الْقَبْرِ إِنَّمَا كَانَ طَلَبًا لِلسُّهُولَةِ عَلَيْهِمْ وَالرِّفْقِ بِهِمْ، فَإِنْ كَانَ الْأَسْهَلُ غَيْرَهُ كَانَ مُسْتَحَبًّا، قَالَ أَحْمَدُ- رحمه الله-: كُلٌّ لَا بَأْسَ بِهِ.
ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْقِبْلَةِ، وَيَقُولُ وَاضِعُهُ: بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ؛ لِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا أَدْخَلَ الْمَيِّتَ فِي الْقَبْرِ، قَالَ مَرَّةً: بِسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ.وَقَالَ مَرَّةً: بِسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَعَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ».
وَمَعْنَى بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ: بِسْمِ اللَّهِ وَضَعْنَاكَ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ سَلَّمْنَاكَ.
وَقَالَ الْمَاتُرِيدِيُّ: هَذَا لَيْسَ دُعَاءً لِلْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ مَاتَ عَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَدَّلَ حَالُهُ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يُبَدَّلْ أَيْضًا، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنِينَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، فَيَشْهَدُونَ بِوَفَاةِ الْمَيِّتِ عَلَى الْمِلَّةِ، وَعَلَى هَذَا جَرَتِ السُّنَّةُ. وَفِيهَا أَقْوَالٌ أُخْرَى ذُكِرَتْ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.
ثُمَّ تُحَلُّ عُقَدُ الْكَفَنِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا، وَيُسَوَّى اللَّبِنُ عَلَى اللَّحْدِ، وَتُسَدُّ الْفُرَجُ بِالْمَدَرِ وَالْقَصَبِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ كَيْ لَا يَنْزِلَ التُّرَابُ مِنْهَا عَلَى الْمَيِّتِ، وَيُكْرَهُ وَضْعُ الْآجُرِّ الْمَطْبُوخِ إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ رَخْوَةً؛ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ لِلزِّينَةِ، وَلَا حَاجَةَ لِلْمَيِّتِ إِلَيْهَا، وَلِأَنَّهُ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ.قَالَ مَشَايِخُ بُخَارَى: لَا يُكْرَهُ الْآجُرُّ فِي بِلَادِنَا لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِضَعْفِ الْأَرَاضِي، وَكَذَلِكَ الْخَشَبُ.
وَيُسْتَحَبُّ حَثْيُهُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ثَلَاثًا: لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ، ثُمَّ أَتَى الْقَبْرَ فَحَثَى عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ثَلَاثًا».وَيَقُولُ فِي الْحَثْيَةِ الْأُولَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ}، وَفِي الثَّانِيَةِ: {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ}، وَفِي الثَّالِثَةِ: {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}.
وَقِيلَ: يَقُولُ فِي الْأُولَى: اللَّهُمَّ جَافِ الْأَرْضَ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَفِي الثَّانِيَةِ: اللَّهُمَّ افْتَحْ أَبْوَابَ السَّمَاءِ لِرُوحِهِ، وَفِي الثَّالِثَةِ: اللَّهُمَّ زَوِّجْهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَلِلْمَرْأَةِ: اللَّهُمَّ أَدْخِلْهَا الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِكَ. ثُمَّ يُهَالُ التُّرَابُ عَلَيْهِ، وَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ.
وَيَحْرُمُ أَنْ يُوضَعَ تَحْتَ الْمَيِّتِ عِنْدَ الدَّفْنِ مِخَدَّةٌ أَوْ حَصِيرٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إِتْلَافُ مَالٍ بِلَا ضَرُورَةٍ، بَلِ الْمَطْلُوبُ كَشْفُ خَدِّهِ، وَالْإِفْضَاءُ إِلَى التُّرَابِ اسْتِكَانَةً وَتَوَاضُعًا، وَرَجَاءً لِرَحْمَةِ اللَّهِ.وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ «جُعِلَ فِي قَبْرِهِ- صلى الله عليه وسلم- قَطِيفَةٌ» قِيلَ: لِأَنَّ الْمَدِينَةَ سَبِخَةٌ، وَقِيلَ: إِنَّ الْعَبَّاسَ وَعَلِيًّا- رضي الله عنهما- تَنَازَعَا فَبَسَطَهَا شَقْرَانُ تَحْتَهُ؛ لِقَطْعِ التَّنَازُعِ.وَقِيلَ: كَانَ- عليه الصلاة والسلام- يَلْبَسُهَا وَيَفْتَرِشُهَا، فَقَالَ شَقْرَانُ: وَاللَّهِ لَا يَلْبَسُكِ أَحَدٌ بَعْدَهُ أَبَدًا فَأَلْقَاهَا فِي الْقَبْرِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشْتَهِرْ لِيَكُونَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ، بَلْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِهِ خِلَافُهُ كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَرِهَ أَنْ يُلْقَى تَحْتَ الْمَيِّتِ شَيْءٌ عِنْدَ الدَّفْنِ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: (لَا تَجْعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَ الْأَرْضِ شَيْئًا). وَلَا تَعْيِينَ فِي عَدَدِ مَنْ يَدْخُلُ الْقَبْرَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَدَدُهُمْ عَلَى حَسَبِ حَالِ الْمَيِّتِ، وَحَاجَتِهِ، وَمَا هُوَ أَسْهَلُ فِي أَمْرِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ وِتْرًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَلْحَدَهُ ثَلَاثَةٌ.
وَلَوْ مَاتَ أَقَارِبُ الشَّخْصِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَأَمْكَنَهُ دَفْنُ كُلِّ وَاحِدٍ فِي قَبْرٍ، بَدَأَ بِمَنْ يُخْشَى تَغَيُّرُهُ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ فِي التَّغْيِيرِ، فَإِنْ لَمْ يُخْشَ تَغَيُّرٌ بَدَأَ بِأَبِيهِ، ثُمَّ أُمِّهِ، ثُمَّ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، فَإِنْ كَانَا أَخَوَيْنِ فَأَكْبَرُهُمَا، وَإِنْ كَانَتَا زَوْجَتَيْنِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا.
أَقَلُّ مَا يُجْزِئُ فِي الدَّفْنِ
9- صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُ فِي الدَّفْنِ حُفْرَةٌ تَكْتُمُ رَائِحَةَ الْمَيِّتِ، وَتَحْرُسُهُ عَنِ السِّبَاعِ؛ لِعُسْرِ نَبْشِ مِثْلِهَا غَالِبًا، وَقُدِّرَ الْأَقَلُّ بِنِصْفِ الْقَامَةِ، وَالْأَكْثَرُ بِالْقَامَةِ، وَيُنْدَبُ عَدَمُ تَعْمِيقِهِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ وَإِنْ كَانَ النَّدْبُ عَدَمَ عُمْقِهِ.
وَيَجُوزُ الدَّفْنُ فِي الشَّقِّ وَاللَّحْدِ، فَاللَّحْدُ: أَنْ يُحْفَرَ حَائِطُ الْقَبْرِ مَائِلًا عَنِ اسْتِوَائِهِ مِنْ أَسْفَلِهِ قَدْرَ مَا يُوضَعُ فِيهِ الْمَيِّتُ مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ.وَالشَّقُّ: أَنْ يُحْفَرَ وَسَطُهُ كَالنَّهْرِ، وَيُسَقَّفَ.فَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ صُلْبَةً فَاللَّحْدُ أَفْضَلُ، وَإِلاَّ فَالشَّقُّ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: «قَبْر».
تَغْطِيَةُ الْقَبْرِ حِينَ الدَّفْنِ:
10- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَغْطِيَةُ قَبْرِ الْمَرْأَةِ حِينَ الدَّفْنِ لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَبْدُوَ مِنْهَا شَيْءٌ فَيَرَاهُ الْحَاضِرُونَ، وَبِنَاءُ أَمْرِهَا عَلَى السِّتْرِ، وَالْخُنْثَى فِي ذَلِكَ كَالْأُنْثَى احْتِيَاطًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَغْطِيَةِ قَبْرِ الرَّجُلِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ تَغْطِيَةُ قَبْرِ الرَّجُلِ إِلاَّ لِعُذْرٍ مِنْ مَطَرٍ وَغَيْرِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-، أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ وَقَدْ دَفَنُوا مَيِّتًا، وَقَدْ بَسَطُوا عَلَى قَبْرِهِ الثَّوْبَ، فَجَذَبَهُ وَقَالَ: إِنَّمَا يُصْنَعُ هَذَا بِالنِّسَاءِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنِ اتِّبَاعِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، وَالْمَرْأَةُ آكَدُ.لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَنْكَشِفُ عِنْدَ الِاضْطِجَاعِ وَحَلِّ الشِّدَادِ، فَيَظْهَرُ مَا يُسْتَحَبُّ إِخْفَاؤُهُ.
اتِّخَاذُ التَّابُوتِ:
11- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ يُكْرَهُ الدَّفْنُ فِي التَّابُوتِ إِلاَّ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَرَخَاوَةِ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَفِيهِ تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ الدُّنْيَا، وَالْأَرْضُ أَنْشَفُ لِفَضَلَاتِهِ.وَلِأَنَّ فِيهِ إِضَاعَةَ الْمَالِ.
وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَقَالُوا: لَا بَأْسَ بِاتِّخَاذِ التَّابُوتِ لَهَا مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى السِّتْرِ، وَالتَّحَرُّزِ عَنْ مَسِّهَا عِنْدَ الْوَضْعِ فِي الْقَبْرِ.
الدَّفْنُ لَيْلًا وَفِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ:
12- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ لَدَى الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الدَّفْنُ لَيْلًا؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ- رضي الله عنه- دُفِنَ لَيْلًا، وَعَلِيٌّ دَفَنَ فَاطِمَةَ- رضي الله عنها- لَيْلًا، وَمِمَّنْ دُفِنَ لَيْلًا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَائِشَةُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنهما-.وَرَخَّصَ فِيهِ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَطَاءٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَلَكِنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ نَهَارًا إِنْ أَمْكَنَ؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ عَلَى مُتَّبِعِي الْجِنَازَةِ، وَأَكْثَرُ لِلْمُصَلِّينَ عَلَيْهَا، وَأَمْكَنُ لِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ فِي دَفْنِهِ.
وَكَرِهَهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَالْحَسَنُ؛ لِمَا وَرَدَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- خَطَبَ يَوْمًا، فَذَكَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ قُبِضَ فَكُفِّنَ فِي كَفَنٍ غَيْرِ طَائِلٍ، وَقُبِرَ لَيْلًا، فَزَجَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِيهِ أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ إِلاَّ أَنْ يُضْطَرَّ إِنْسَانٌ إِلَى ذَلِكَ».
أَمَّا الدَّفْنُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ فَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ الدَّفْنُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَعِنْدَ غُرُوبِهَا، وَعِنْدَ قِيَامِهَا لِقَوْلِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ: «ثَلَاثُ سَاعَاتٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَنْهَانَا أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِنَّ، أَوْ أَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا: حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يَقُومُ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ، وَحِينَ تَضَيَّفُ الشَّمْسُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ» وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الدَّفْنُ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ الدَّفْنُ فِي غَيْرِهَا أَفْضَلَ.
الدَّفْنُ قَبْلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَمِنْ غَيْرِ غُسْلٍ وَبِلَا كَفَنٍ:
13- إِنْ دُفِنَ الْمَيِّتُ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ يُنْبَشُ وَيُغَسَّلُ، إِلاَّ أَنْ يُخَافَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَفَسَّخَ، فَيُتْرَكُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ لَا يُنْبَشُ لِأَنَّ النَّبْشَ مُثْلَةٌ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهَا.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (نَبْش).
أَمَّا إِنْ دُفِنَ قَبْلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْحَنَابِلَةِ اخْتَارَهَا الْقَاضِي أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ وَلَا يُنْبَشُ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى عَلَى قَبْرِ الْمِسْكِينَةِ.وَلَمْ يَنْبُشْهَا»، وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُنْبَشُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ دُفِنَ قَبْلَ وَاجِبٍ فَيُنْبَشُ، كَمَا لَوْ دُفِنَ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، أَمَّا إِنْ تَغَيَّرَ فَلَا يُنْبَشُ بِحَالٍ.
وَإِنْ دُفِنَ بِغَيْرِ كَفَنٍ، فَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ يُتْرَكُ اكْتِفَاءً بِسِتْرِ الْقَبْرِ، وَحِفْظًا؛ لِحُرْمَتِهِ، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ بِالْكَفَنِ السَّتْرُ وَقَدْ حَصَلَ.وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُنْبَشُ، ثُمَّ يُكَفَّنُ، ثُمَّ يُدْفَنُ لِأَنَّ التَّكْفِينَ وَاجِبٌ فَأَشْبَهَ الْغُسْلَ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (كَفَن).
دَفْنُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ:
14- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ لَا يُدْفَنُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ كَضِيقِ مَكَانٍ، أَوْ تَعَذُّرِ حَافِرٍ، أَوْ تُرْبَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَدْفِنُ كُلَّ مَيِّتٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ» وَعَلَى هَذَا فِعْلُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
فَإِذَا دُفِنَ جَمَاعَةٌ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ: قُدِّمَ الْأَفْضَلُ مِنْهُمْ إِلَى الْقِبْلَةِ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ فِي الْفَضِيلَةِ عَلَى حَسَبِ تَقْدِيمِهِمْ إِلَى الْإِمَامَةِ فِي الصَّلَاةِ لِمَا رَوَى هِشَامُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: «شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ أُحُدٍ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: الْحَفْرُ عَلَيْنَا لِكُلِّ إِنْسَانٍ شَدِيدٌ.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: احْفِرُوا وَأَعْمِقُوا، وَأَحْسِنُوا، وَادْفِنُوا الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، قَالُوا: فَمَنْ نُقَدِّمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: قَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا».
ثُمَّ إِنْ شَاءَ سَوَّى بَيْنَ رُءُوسِهِمْ، إِنْ شَاءَ حَفَرَ قَبْرًا طَوِيلًا، وَجَعَلَ رَأْسَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَوْتَى عِنْدَ رِجْلِ الْآخَرِ، وَبِهَذَا صَرَّحَ أَحْمَدُ.
وَيُجْعَلُ بَيْنَ مَيِّتٍ وَآخَرَ حَاجِزٌ مِنْ تُرَابٍ وَيُقَدَّمُ الْأَبُ عَلَى الِابْنِ، إِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ لِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ، وَكَذَا تُقَدَّمُ الْأُمُّ عَلَى الْبِنْتِ.
وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ إِلاَّ عِنْدَ تَأَكُّدِ الضَّرُورَةِ، وَيُقَدَّمُ الرَّجُلُ وَإِنْ كَانَ ابْنًا.
فَإِنِ اجْتَمَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ وَخُنْثَى وَصَبِيٌّ، قُدِّمَ الرَّجُلُ، ثُمَّ الصَّبِيُّ، ثُمَّ الْخُنْثَى، ثُمَّ الْمَرْأَةُ.
وَلِذَلِكَ فَيُكْرَهُ الدَّفْنُ فِي الْفَسَاقِي، وَهِيَ كَبَيْتٍ مَعْقُودٍ بِالْبِنَاءِ يَسَعُ لِجَمَاعَةٍ قِيَامًا لِمُخَالَفَتِهَا السُّنَّةَ، وَالْكَرَاهَةُ فِيهَا مِنْ وُجُوهٍ وَهِيَ:
عَدَمُ اللَّحْدِ، وَدَفْنُ الْجَمَاعَةِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ بِلَا ضَرُورَةٍ، وَاخْتِلَاطُ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ بِلَا حَاجِزٍ، وَتَجْصِيصُهَا وَالْبِنَاءُ عَلَيْهَا، وَخُصُوصًا إِذَا كَانَ فِيهَا مَيِّتٌ لَمْ يُبْلَ، وَمَا يَفْعَلُهُ جَهَلَةُ الْحَفَّارِينَ مِنْ نَبْشِ الْقُبُورِ الَّتِي لَمْ تُبْلَ أَرْبَابُهَا، وَإِدْخَالُ أَجَانِبَ عَلَيْهِمْ، فَهُوَ مِنَ الْمُنْكَرِ الظَّاهِرِ، وَلَيْسَ مِنَ الضَّرُورَةِ الْمُبِيحَةِ لِدَفْنِ مَيِّتَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ.
وَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ حَتَّى إِذَا صَارَ الْمَيِّتُ تُرَابًا؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بَاقِيَةٌ.
دَفْنُ أَجْزَاءِ الْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ:
15- إِذَا وُجِدَتْ أَطْرَافُ مَيِّتٍ، أَوْ بَعْضُ بَدَنِهِ لَمْ يُغَسَّلْ، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، بَلْ يُدْفَنُ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ عُضْوُ مُسْلِمٍ عُلِمَ مَوْتُهُ يَجِبُ مُوَارَاتُهُ بِخِرْقَةٍ وَدَفْنُهُ، وَلَوْ لَمْ يُعْلَمْ مَوْتُ صَاحِبِ الْعُضْوِ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ، لَكِنْ يُنْدَبُ دَفْنُهُ، وَيَجِبُ فِي دَفْنِ الْجُزْءِ مَا يَجِبُ فِي دَفْنِ الْجُمْلَةِ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: إِنْ وُجِدَ جُزْءُ الْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ غُسِّلَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ الْقَبْرِ، أَوْ نُبِشَ بَعْضُ الْقَبْرِ وَدُفِنَ فِيهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى كَشْفِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ نَبْشِ الْمَيِّتِ وَكَشْفِهِ أَعْظَمُ مِنَ الضَّرَرِ بِتَفْرِقَةِ أَجْزَائِهِ.
دَفْنُ الْمُسْلِمِ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ وَعَكْسُهُ:
16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ دَفْنُ مُسْلِمٍ فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ وَعَكْسُهُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ.أَمَّا لَوْ جُعِلَتْ مَقْبَرَةُ الْكُفَّارِ الْمُنْدَرِسَةُ مَقْبَرَةً لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ نَقْلِ عِظَامِهَا إِنْ كَانَتْ جَازَ، كَجَعْلِهَا مَسْجِدًا؛ لِعَدَمِ احْتِرَامِهِمْ.وَالدَّفْنُ فِي غَيْرِ مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ الْمُنْدَرِسَةِ أَوْلَى إِنْ أَمْكَنَ، تَبَاعُدًا عَنْ مَوَاضِعِ الْعَذَابِ.وَلَا يَجُوزُ الْعَكْسُ، بِأَنْ تُجْعَلَ مَقْبَرَةُ الْمُسْلِمِينَ الْمُنْدَرِسَةُ مَقْبَرَةً لِلْكُفَّارِ، وَلَا نَقْلُ عِظَامِ الْمُسْلِمِينَ لِتُدْفَنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لِاحْتِرَامِهَا.
أَمَّا الْمُرْتَدُّ فَقَدْ ذَكَرَ الْإِسْنَوِيُّ نَقْلًا عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّهُ لَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ لِخُرُوجِهِ بِالرِّدَّةِ عَنْهُمْ، وَلَا فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ؛ لِمَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنْ حُرْمَةِ الْإِسْلَامِ. وَأَمَّا مَنْ قُتِلَ حَدًّا فَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ تَارِكُ الصَّلَاةِ.
دَفْنُ كَافِرَةٍ حَامِلٍ مِنْ مُسْلِمٍ:
17- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دَفْنِ كَافِرَةٍ حَامِلٍ مِنْ مُسْلِمٍ عَلَى أَقْوَالٍ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ لَدَى الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْأَحْوَطَ دَفْنُهَا عَلَى حِدَةٍ، وَيُجْعَلُ ظَهْرُهَا إِلَى الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ وَجْهَ الْوَلَدِ لِظَهْرِهَا.وَاسْتَدَلَّ الْحَنَابِلَةُ لِذَلِكَ بِأَنَّهَا كَافِرَةٌ، فَلَا تُدْفَنُ فِي مَقْبَرَةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَتَأَذَّوْا بِعَذَابِهَا، وَلَا فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ؛ لِأَنَّ وَلَدَهَا مُسْلِمٌ، فَيَتَأَذَّى بِعَذَابِهِمْ، وَتُدْفَنُ مُنْفَرِدَةً، وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ.
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهَا تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَتُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ صُنْدُوقِ الْوَلَدِ، وَقِيلَ: فِي مَقَابِرِ الْكُفَّارِ، وَهُنَاكَ وَجْهٌ رَابِعٌ قَطَعَ بِهِ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» بِأَنَّهَا تُدْفَنُ عَلَى طَرَفِ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا تُدْفَعُ إِلَى أَهْلِ دِينِهَا؛ لِيَتَوَلَّوْا غُسْلَهَا وَدَفْنَهَا.
وَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: قَالَ بَعْضُهُمْ: تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِنَا تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْوَلَدِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْهَا مَا دَامَ فِي بَطْنِهَا، وَقَالَ وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ: يُتَّخَذُ لَهَا مَقْبَرَةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَهُوَ مَا أَخَذَ بِهِ الْجُمْهُورُ كَمَا سَبَقَ، وَهُوَ الْأَحْوَطُ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْحِلْيَةِ.وَالظَّاهِرُ كَمَا أَفْصَحَ بِهِ بَعْضُهُمْ: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُصَوَّرَةٌ فِيمَا إِذَا نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ وَإِلاَّ دُفِنَتْ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ.
الْجُلُوسُ بَعْدَ الدَّفْنِ:
18- صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْلِسَ الْمُشَيِّعُونَ لِلْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ لِدُعَاءٍ وَقِرَاءَةٍ بِقَدْرِ مَا يُنْحَرُ الْجَزُورُ، وَيُفَرَّقُ لَحْمُهُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ».وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- يَسْتَحِبُّ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ أَوَّلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتَهَا، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ- رضي الله عنه- لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: اجْلِسُوا عِنْدَ قَبْرِي قَدْرَ مَا يُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقَسَّمُ، فَإِنِّي أَسْتَأْنِسُ بِكُمْ. أُجْرَةُ الدَّفْنِ:
19- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ) إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى الدَّفْنِ، وَلَكِنِ الْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ مَجَّانًا، وَتُدْفَعُ مِنْ مَجْمُوعِ التَّرِكَةِ، وَتُقَدَّمُ عَلَى مَا تَعَلَّقَ بِذِمَّةِ الْمَيِّتِ مِنْ دَيْنٍ.وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى الدَّفْنِ؛ لِأَنَّهُ يَذْهَبُ بِالْأَجْرِ.
دَفْنُ السِّقْطِ:
20- لَا خِلَافَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ السِّقْطَ إِذَا اسْتَبَانَ بَعْضُ خَلْقِهِ يَجِبُ أَنْ يُدْرَجَ فِي خِرْقَةٍ وَيُدْفَنَ.
دَفْنُ الشَّعْرِ وَالْأَظَافِرِ وَالدَّمِ:
21- صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُدْفَنَ مَا يُزِيلُهُ الشَّخْصُ مِنْ ظُفْرٍ وَشَعْرٍ وَدَمٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ مِيلَ بِنْتِ مِشْرَحٍ الْأَشْعَرِيَّةِ، قَالَتْ: «رَأَيْتُ أَبِي يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ، وَيَدْفِنُهُ وَيَقُولُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَفْعَلُ ذَلِكَ» وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «كَانَ يُعْجِبُهُ دَفْنُ الدَّمِ».
وَقَالَ أَحْمَدُ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ.وَكَذَلِكَ تُدْفَنُ الْعَلَقَةُ وَالْمُضْغَةُ الَّتِي تُلْقِيهَا الْمَرْأَةُ.
دَفْنُ الْمُصْحَفِ:
22- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْمُصْحَفَ إِذَا صَارَ بِحَالٍ لَا يُقْرَأُ فِيهِ، يُدْفَنُ كَالْمُسْلِمِ، فَيُجْعَلُ فِي خِرْقَةٍ طَاهِرَةٍ، وَيُدْفَنُ فِي مَحَلٍّ غَيْرِ مُمْتَهَنٍ لَا يُوطَأُ، وَفِي الذَّخِيرَةِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُلْحَدَ لَهُ وَلَا يُشَقَّ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ إِلَى إِهَالَةِ التُّرَابِ عَلَيْهِ، وَفِي ذَلِكَ نَوْعُ تَحْقِيرٍ إِلاَّ إِذَا جُعِلَ فَوْقَهُ سَقْفًا بِحَيْثُ لَا يَصِلُ التُّرَابُ إِلَيْهِ فَهُوَ حَسَنٌ أَيْضًا.ذَكَرَ أَحْمَدُ أَنَّ أَبَا الْجَوْزَاءِ بَلِيَ لَهُ مُصْحَفٌ، فَحَفَرَ لَهُ فِي مَسْجِدِهِ، فَدَفَنَهُ.وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَفَنَ الْمَصَاحِفَ بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ.أَمَّا غَيْرُهُ مِنَ الْكُتُبِ فَالْأَحْسَنُ كَذَلِكَ أَنْ تُدْفَنَ.
الْقَتْلُ بِالدَّفْنِ:
23- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الْمَالِكِيَّةِ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى أَنَّ مَنْ دُفِنَ حَيًّا فَمَاتَ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ.وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ مَا عَدَا مُحَمَّدًا أَنَّ فِيهِ الدِّيَةَ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
8-موسوعة الفقه الكويتية (نهر 2)
نَهْرٌ -2امْتِنَاعُ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ عَنِ الْكَرْيِ وَالْإِصْلَاحِ:
21- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يَحْتَاجُهُ النَّهْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ مِنْ كَرْيٍ وَإِصْلَاحٍ وَعِمَارَةٍ يَكُونُ عَلَى جَمِيعِ الشُّرَكَاءِ فِيهِ.لَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي حُكْمِ مَا إِذَا امْتَنَعَ حَدُّ الشُّرَكَاءِ عَنِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْكَرْيِ وَالْإِصْلَاحِ.
وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَإِنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْآبِيَ يُجْبَرُ عَلَى الْمُشَارَكَةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْجَدِيدِ لَا يُجْبَرُ الْآبِي وَلِكُلِّ مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ خَاصٌّ يَخْتَلِفُ عَنْ غَيْرِهِ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
22- قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ النَّهْرَ الْمَمْلُوكَ إِلَى قِسْمَيْنِ: عَامٍّ، وَخَاصٍّ.
وَالْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَا تُسْتَحَقُّ بِهِ الشُّفْعَةُ خَاصٌّ، وَمَا لَا تُسْتَحَقُّ بِهِ الشُّفْعَةُ عَامٌّ.وَاخْتُلِفَ فِي تَحْدِيدِ ذَلِكَ، فَقِيلَ: الْخَاصُّ مَا كَانَ لِعَشَرَةٍ فَمَا دُونَهَا، أَوْ كَانَ عَلَيْهِ قَرْيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ النَّهْرُ لِمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ فَهُوَ خَاصٌّ، وَإِنْ كَانَ لِأَرْبَعِينَ فَهُوَ نَهْرٌ عَامٌّ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمُ الْحَدَّ الْفَاصِلَ فِي الْمِائَةِ، وَبَعْضُهُمْ فِي الْأَلْفِ وَغَيْرُ ذَلِكَ عَامٌّ، وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهِ: أَنَّهُ يُفَوَّضُ إِلَى رَأْيِ الْمُجْتَهِدِ فَيَخْتَارُ مِنَ الْأَقَاوِيلِ أَيَّ قَوْلٍ شَاءَ، وَقِيلَ: الْخَاصُّ مَا لَا تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ، وَمَا تَجْرِي فِيهِ فَهُوَ عَامٌّ.
قَالَ الْإِتْقَانِيُّ: وَلَكِنَّ أَحْسَنَ مَا قِيلَ فِيهِ: إِنْ كَانَ النَّهْرُ لِدُونِ مِائَةٍ فَالشَّرِكَةُ خَاصَّةٌ وَإِلاَّ فَعَامَّةٌ.
23- وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ النَّهْرُ عَامًّا وَأَبَى بَعْضُ الشُّرَكَاءِ مِنَ الْكَرْيِ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْكَرْيِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ الْعَامِّ وَهُوَ ضَرَرُ بَقِيَّةِ الشُّرَكَاءِ، وَضَرَرُ الْآبِي خَاصٌّ وَيُقَابِلُهُ عِوَضٌ فَلَا يُعَارَضُ بِهِ.
وَإِذَا أَرَادَ الشُّرَكَاءُ فِي النَّهْرِ الْعَامِّ أَنْ يُحَصِّنُوهُ خِيفَةَ الِانْبِثَاقِ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ كَغَرَقِ الْأَرَاضِي وَفَسَادِ الطُّرُقِ يُجْبَرُ الْآبِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ فَلَا يُجْبَرُ الْآبِي لِأَنَّهُ مَوْهُومٌ، بِخِلَافِ الْكَرْيِ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ.
24- أَمَّا النَّهْرُ الْخَاصُّ فَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي إِجْبَارِ الْمُمْتَنِعِ عَنِ الْكِرَى.
فَإِنْ كَانَ الْمُمْتَنِعُ بَعْضَ الشُّرَكَاءِ فَقَدْ جَاءَ فِي الْكِفَايَةِ: قِيلَ: يُجْبَرُ الْآبِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْكَافِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: أُجْبِرَ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا فِي الْخِزَانَةِ، وَقِيلَ: لَا يُجْبَرُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْبَلْخِيِّ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُمْتَنِعُ كُلَّ الشُّرَكَاءِ فِي النَّهْرِ وَاتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِ الْكَرْيِ فَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ لَا يُجْبِرُهُمُ الْإِمَامُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا لَوِ امْتَنَعُوا عَنْ عِمَارَةِ أَرَاضِيهِمْ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: يُجْبِرُهُمُ الْإِمَامُ عَلَى ذَلِكَ لِحَقِّ أَصْحَابِ الشَّفَةِ فِي النَّهْرِ
25- وَعَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ جَبْرِ الْآبِي إِذَا أَبَى بَعْضُ الشُّرَكَاءِ مِنَ الْكَرْيِ وَقَامَ الْبَاقُونَ بِالْكَرْيِ، فَهَلْ يَرْجِعُونَ عَلَى الْآبِي بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ مُؤْنَةِ مَا أَنْفَقُوا؟ قَالُوا: إِنْ كَانَ بِأَمْرِ الْقَاضِي رَجَعُوا عَلَى الْآبِي.
نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الذَّخِيرَةِ: أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا أَمَرَ الْبَاقِينَ بِكَرْيِ نَصِيبِ الْآبِي عَلَى أَنْ يَسْتَوْفُوا مُؤْنَةَ الْكَرْيِ مِنْ نَصِيبِهِ مِنَ الشُّرْبِ مِقْدَارَ مَا يَبْلُغُ قِيْمَةَ مَا أَنْفَقُوا عَلَيْهِ فَإِنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَلَى الْآبِي بِذَلِكَ.
وَإِنْ لَمْ يَرْفَعُوا الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي، هَلْ يَرْجِعُونَ عَلَى الْآبِي بِقِسْطِهِ مِنَ النَّفَقَةِ وَيُمْنَعُ الْآبِي مِنْ شُرْبِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ؟ قِيلَ: نَعَمْ، وَقِيلَ: لَا.
وَذُكِرَ فِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الْأَوَّلَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَمَثَلُهُ فِي التَّتَارَخَانِيَّةِ وَالْبَزَّازِيَّةِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا تَرْجِيحَ لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَكِنَّ مَفْهُومَ كَلَامِ الدُّرِّ كَالْهِدَايَةِ وَالتَّبْيِينِ وَغَيْرِهِمَا تَرْجِيحُ عَدَمِ الرُّجُوعِ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي.
26- وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يُقْضَى عَلَى شَرِيكٍ فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ أَنْ يُعَمِّرَ مَعَ شَرِيكِهِ أَوْ يَبِيعَ مِنْهُ جَمِيعَ حِصَّتِهِ إِنْ أَبَى التَّعْمِيرَ.
لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الشُّرَكَاءَ فِي الْبِئْرِ أَوِ الْعَيْنِ أَوِ النَّهْرِ فَإِنَّ مَنْ أَبَى الْعِمَارَةَ مِنَ الشُّرَكَاءِ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْبِئْرِ أَوِ الْعَيْنِ زَرْعٌ أَوْ شَجَرٌ فِيهِ ثَمَرٌ مُؤَبَّرٌ أَمْ لَا، وَيُقَالُ لِلشَّرِيكِ: عَمِّرْ إِنْ شِئْتَ وَلَكَ مَا حَصَلَ مِنَ الْمَاءِ بِعِمَارَتِكَ، وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: هُوَ إِمَّا كُلُّ الْمَاءِ إِنْ كَانَ التَّخْرِيبُ أَذْهَبَ كُلَّ الْمَاءِ وَحَصَلَ الْمَاءُ بِالتَّعْمِيرِ، أَوْ مَا زَادَ مِنْهُ بِالْعِمَارَةِ، وَذَلِكَ إِلَى أَنْ تَسْتَوْفِيَ قَدْرَ مَا أَنْفَقْتَ، أَوْ إِلَى أَنْ يَأْتِيَكَ صَاحِبُكَ الْآبِي بِمَا يُصِيبُهُ مِنَ النَّفَقَةِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ.
وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ: يُجْبَرُ الشَّرِيكُ عَلَى الْبَيْعِ إِنْ أَبَى الْعِمَارَةَ إِنْ كَانَ عَلَى الْبِئْرِ أَوِ الْعَيْنِ زَرْعٌ أَوْ شَجَرٌ فِيهِ ثَمَرٌ مُؤَبَّرٌ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ ابْنُ رُشْدٍ وَرَجَّحَ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ.
وَجَاءَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيلِ: إِذَا احْتَاجَتْ بِئْرٌ أَوْ قَنَاةٌ بَيْنَ شُرَكَاءَ لِسَقْيِ أَرْضِهِمْ إِلَى الْكَنْسِ لِقِلَّةِ مَائِهَا فَأَرَادَ أَحَدُهُمُ الْكَنْسَ وَأَبَى الْآخَرُونَ.- وَفِي تَرْكِ الْكَنْسِ ضَرَرٌ عَلَى الْمَاءِ وَانْتِقَاصٌ، وَالْمَاءُ يَكْفِي أَوْ لَا يَكْفِي إِلاَّ الَّذِينَ أَرَادُوا الْكَنْسَ خَاصَّةً- فَلِلَّذِينِ أَرَادُوا الْكَنْسَ أَنْ يَكْنِسُوا ثُمَّ يَكُونُوا أَوْلَى بِالَّذِي زَادَ فِي الْمَاءِ لِكَنْسِهِمْ دُونَ مَنْ لَمْ يَكْنِسْ حَتَّى يُؤَدُّوا حِصَّتَهُمْ مِنَ النَّفَقَةِ فَيَرْجِعُوا إِلَى أَخْذِ حِصَّتِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْمَاءِ
27- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا امْتَنَعَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ عَنِ الْعِمَارَةِ فِي النَّهْرِ وَالْقَنَاةِ وَالْبِئْرِ فَفِي الْجَدِيدِ لَا إِجْبَارَ عَلَيْهِ كَمَا لَا يُجْبَرُ عَلَى زَرْعِ الْأَرْضِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَلِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ يَتَضَرَّرُ أَيْضًا بِتَكْلِيفِهِ الْعِمَارَةَ وَالضَّرَرُ لَا يُزَالُ بِالضَّرَرِ.
وَفِي الْقَدِيمِ يُجْبَرُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَصِيَانَةً لِلْأَمْلَاكِ الْمُشْتَرَكَةِ عَنِ التَّعْطِيلِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ هُوَ الْجَدِيدُ.
وَصَحَّحَ صَاحِبُ الشَّامِلِ الْقَدِيمَ وَأَفْتَى بِهِ الشَّاشِيُّ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْفَتَاوَى: الْأَقْيَسُ أَنْ يُجْبَرَ الْمُمْتَنِعُ، وَقَالَ: وَالِاخْتِيَارُ إِنْ ظَهَرَ لِلْقَاضِي أَنَّ امْتِنَاعَهُ مَضَارَّةٌ أَجْبَرَهُ، وَإِنْ كَانَ لِإِعْسَارٍ أَوْ غَرَضٍ صَحِيحٍ أَوْ شَكَّ فِيهِ لَمْ يُجْبَرْ.
وَلَوْ أَنْفَقَ الشَّرِيكُ عَلَى تَعْمِيرِ النَّهْرِ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ الشَّرِيكِ الْمُمْتَنِعِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْمَاءِ لِسَقْيِ الزَّرْعِ وَغَيْرِهِ، لَكِنْ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالدُّولَابِ وَالْبَكَرَةِ وَالْآلَاتِ الَّتِي أَحْدَثَهَا.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَإِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ- وَهُوَ إِجْبَارُ الْمُمْتَنِعِ- فَأَصَرَّ عَلَى الِامْتِنَاعِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اقْتَرَضَ عَلَيْهِ، أَوْ أُذِنَ لِلشَّرِيكِ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ لِيَرْجِعَ عَلَى الْمُمْتَنِعِ، فَلَوِ اسْتَقَلَّ بِهِ الشَّرِيكُ فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: قَوْلَانِ: الْقَدِيمُ: نَعَمْ، وَالْجَدِيدُ: لَا، وَقِيلَ: يَرْجِعُ فِي الْقَدِيمِ، وَفِي الْجَدِيدِ قَوْلَانِ.
28- وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ مِنَ الشُّرَكَاءِ عَنِ الْعِمَارَةِ لِحَقِّ شُرَكَائِهِ أَيْ يُجْبِرُهُ الْحَاكِمُ وَيَأْخُذُ مِنْ مَالِ الْمُمْتَنِعِ النَّقْدَ وَيُنْفِقُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُمْتَنِعِ نَقْدٌ بَاعَ الْحَاكِمُ عَرْضَهُ وَأَنْفَقَ مِنْ ثَمَنِهِ مَعَ شَرِيكِهِ بِالْمُحَاصَّةِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْمُمْتَنِعِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ عَلَى الْحَاكِمِ لِنَحْوِ تَغْيِيبِ مَالِهِ اقْتَرَضَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ لِيُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ كَنَفَقَةٍ نَحْوَ زَوْجَتِهِ، وَإِنْ عَمَّرَ الشَّرِيكُ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ أَوْ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ لِوُجُوبِهِ عَلَى الْمُنْفَقِ عَنْهُ.
وَإِذَا أَرَادَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ أَنْ يُعَمِّرَ فَلَيْسَ لِلشُّرَكَاءِ مَنْعُهُ وَالْمَاءُ بَيْنَهُمْ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِهِ الْمُعَمِّرُ لِأَنَّ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ مِلْكِهِمَا وَإِنَّمَا أَثَّرَ أَحَدُهُمَا فِي نَقْلِ الطِّينِ مِنْهُ وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ عَيْنُ مَالٍ، وَرُجُوعُ الْمُعَمِّرِ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى مَا سَبَقَ.
حُكْمُ مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الْمَاءُ:
29- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْأَرْضِ الَّتِي يَنْكَشِفُ عَنْهَا مَاءُ النَّهْرِ هَلْ تَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ تَكُونُ لِمَنْ يَلِي هَذِهِ الْأَرْضَ؟ فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ تَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ تَكُونُ لِمَنْ يَلِي الْأَرْضَ الَّتِي انْكَشَفَ عَنْهَا النَّهْرُ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلِكُلِّ مَذْهَبٍ تَفْصِيلٌ خَاصٌّ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لَوْ جَزَرَ مَاءُ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ كَسَيْحُونَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ عَنْ أَرْضٍ فَلَيْسَ لِمَنْ يَلِيهَا أَنْ يَضُمَّهَا إِلَى أَرْضِ نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ مَاؤُهَا إِلَى مَكَانِهِ وَلَا يَجِدَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فَيُحْمَلُ عَلَى جَانِبٍ آخَرَ فَيَضُرُّ، حَتَّى لَوْ أَمِنَ الْعَوْدَ، أَوْ كَانَ بِإِزَائِهَا مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ أَرْضٌ مَوَاتٌ لَا يَسْتَضِرُّ أَحَدٌ بِحَمْلِ الْمَاءِ عَلَيْهِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَيُمَلَّكُهُ إِذَا أَحْيَاهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي اشْتِرَاطِ إِذْنِ الْإِمَامِ فِي الْإِحْيَاءِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ.
وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْحُكْمِ، فَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ أَرْضٍ انْكَشَفَ عَنْهَا الْبَحْرُ هَلْ تَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ لِمَنْ تَلِيهِ أَوْ لِمَنْ دَخَلَ الْبَحْرُ أَرْضَهُ؟ أَنَّهَا تَكُونُ لِمَنْ تَلِيهِ ثُمَّ قَالَ: وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ وَعَلَيْهِ حَمْدِيسُ، وَبِهِ الْفَتْوَى وَالْقَضَاءُ، وَقَالَ سَحْنُونٌ وَأَصْبَغُ وَمُطَرِّفٌ: تَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا كَانَ الْبَحْرُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَوِ انْحَسَرَ مَاءُ النَّهْرِ عَنْ جَانِبٍ مِنْهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ، وَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ إِقْطَاعُهُ لِأَحَدٍ كَالنَّهْرِ وَحَرِيمِهِ.
وَلَوْ زَرَعَهُ أَحَدٌ لَزِمَهُ أُجْرَتُهُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ قَدْرُ حِصَّتِهِ إِنْ كَانَ لَهُ حِصَّةٌ فِي مَالِ الْمَصَالِحِ.
نَعَمْ، لِلْإِمَامِ دَفْعُهُ لِمَنْ يَرْتَفِقُ بِهِ بِمَا لَا يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ. وَمِثْلُهُ مَا يَنْحَسِرُ عَنْهُ الْمَاءُ مِنَ الْجَزَائِرِ فِي الْبَحْرِ، وَيَجُوزُ زَرْعُهُ وَنَحْوَهُ لِمَنْ لَمْ يَقْصِدْ إِحْيَاءَهُ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ الْبِنَاءُ وَلَا الْغِرَاسُ وَلَا مَا يَضُرُّ الْمُسْلِمِينَ.
وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ غَلَبَ عَلَيْهَا الْمَاءُ ثُمَّ نَضَبَ عَنْهَا وَبَيْنَ أَرْضٍ نَضَبَ عَنْهَا الْمَاءُ وَلَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً لِأَحَدٍ.
جَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: وَلَا يُمْلَكُ بِإِحْيَاءِ مَا نَضَبَ أَيْ غَارَ عَنْهُ الْمَاءُ مِمَّا كَانَ مَمْلُوكًا وَغَلَبَ الْمَاءُ عَلَيْهِ ثُمَّ نَضَبَ الْمَاءُ عَنْهُ، بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ مُلاَّكِهِ قَبْلَ غَلَبَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ فَلَهُمْ أَخْذُهُ؛ لِأَنَّهَا لَا تُزِيلُ مِلْكَهُمْ عَنْهُ.
أَمَّا مَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ مِنَ الْجَزَائِرِ وَالرَّقَاقِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا فَلِكُلِّ أَحَدٍ إِحْيَاؤُهُ بَعُدَتْ أَوْ قَرُبَتْ كَمَوَاتٍ، قَالَ الْحَارِثِيُّ: مَعَ عَدَمِ الضَّرَرِ وَنَصَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ فِي التَّنْقِيحِ: لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ، وَتَبِعَهُ فِي الْمُنْتَهَى، وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُوسَى: إِذَا نَضَبَ الْمَاءُ مِنْ جَزِيرَةٍ إِلَى فِنَاءِ رَجُلٍ لَمْ يَبْنِ فِيهَا، لِأَنَّ فِيهَا ضَرَرًا، وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ يَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَإِذَا وَجَدَهُ مَبْنِيًّا رَجَعَ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَأَضَرَّ بِأَهْلِهِ، وَلِأَنَّ الْجَزَائِرَ مَنْبَتُ الْكَلأَِ وَالْحَطَبِ فَجَرَتْ مَجْرَى الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ: يُرْوَى عَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه- أَنَّهُ أَبَاحَ الْجَزَائِرَ يَعْنِي أَبَاحَ مَا يَنْبُتُ فِي الْجَزَائِرِ مِنَ النَّبَاتِ، قَالَ: إِذَا نَضَبَ الْفُرَاتُ عَنْ شَيْءٍ، ثُمَّ نَبَتَ فِيهِ نَبَاتٌ فَجَاءَ رَجُلٌ يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْهُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَحَدٌ، فَعَمَرَهُ رَجُلٌ عِمَارَةً لَا تَرُدُّ الْمَاءَ، مِثْلَ أَنْ يَجْعَلَهُ مَزْرَعَةً فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَحَجِّرٌ لِمَا لَيْسَ لِمُسْلِمٍ فِيهِ حَقٌّ.
وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ (إِحْيَاء ف 11).
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
9-المصباح المنير (شفر)
شُفْرُ الْعَيْنِ حَرْفُ الْجَفْنِ الَّذِي يَنْبُتُ عَلَيْهِ الْهُدْبُ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَالْعَامَّةُ تَجْعَلُ أَشْفَارَ الْعَيْنِ الشَّعْرَ وَهُوَ غَلَطٌ وَإِنَّمَا الْأَشْفَارُ حُرُوفُ الْعَيْنِ الَّتِي يَنْبُتُ عَلَيْهَا الشَّعْرُ وَالشَّعْرُ الْهُدْبُ وَالْجَمْعُ أَشْفَارٌ مِثْلُ قُفْلٍ وَأَقْفَالٍ وَشُفْرُ كُلِّ شَيْءٍ حَرْفُهُ وَالْجَمْعُ أَشْفَارٌ وَمِنْهُ شُفْرُ الْفَرْجِ لِحَرْفِهِ وَالْجَمْعُ أَشْفَارٌ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ مَا بِالدَّارِ شَفْرٌ أَيْ أَحَدٌ فَهَذِهِ وَحْدَهَا بِالْفَتْحِ وَالضَّمُّ فِيهَا لُغَةٌ حَكَاهَا ابْنُ السِّكِّيتِ وَشَفِيرُ كُلِّ شَيْءٍ حَرْفُهُ كَالنَّهْرِ وَغَيْرِهِ.وَمِشْفَرُ الْبَعِيرِ بِكَسْرِ الْمِيمِ كَالْجَحْفَلَةِ مِنْ الْفَرَسِ.
وَالشَّفْرَةُ الْمُدْيَةُ وَهِيَ السِّكِّينُ الْعَرِيضُ وَالْجَمْعُ شِفَارٌ مِثْلُ كَلْبَةٍ وَكِلَابٍ وَشَفَرَاتٌ مِثْلُ سَجْدَةٍ وَسَجَدَاتٍ.
المصباح المنير-أبوالعباس الفيومي-توفي: 770هـ/1369م
10-مجمل اللغة (شفر)
شفر: الشفر: منبت الهدب من العين، والجمع أشفار.وشفير كل شيء: حرفة كالنهر وغيره.
وشفر الرحم: حروف أشاعره.
وشفرة السيف: حده.
ومشفر البعير: كالجحفلة من الفرس، ويربوع شفاري: على أذنه شعر.
والشفرة معروفة.
وما بالدار شفر، أي: ما بها أحد.
قال أبو زيد: شفرة القوم: أصغرهم كالخادم.
مجمل اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م