نتائج البحث عن (لَخَبَرِ)
1-العربية المعاصرة (لحق)
لحِقَ/لحِقَ ب يَلحَق، لَحْقًا ولَحَاقًا، فهو لاحق، والمفعول مَلْحوق.* لحِقه/لحِق به: أدركه في زمان أو مكان (لحِق الشُّرطيُّ اللِّصَّ- لحِق بالقطار- لَحِق ما فاته- لحِق بالخدمة العسكريّة: دخل الجيشَ- {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [قرآن]) (*) عاد يَلْحق باللّطيف الخبير: كناية عن الشيخوخة- لا يُلْحق غُبارُه: سابق، متقدِّم على غيره- لحِق بالرَّفيق الأعلى: مات، تُوُفِّي.
ألحقَ/ألحقَ ب يُلحق، إلحاقًا، فهو مُلْحِق، والمفعول مُلْحَقٌ.
* ألحقه به:
1 - أتبعه إيّاه وضمّه (ألحقه بالحرس الجمهوريّ/بإدارة المعجمات/بقائمة المرشّحين- إِنَّ عَذَابَكَ الْجِدَّ بِالكُفّارِ مُلْحِقٌ [حديث] - {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [قرآن]: جعلناهم معهم وحكمنا عليهم بالحكم نفسه- {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [قرآن]: أَتْبعني واجمعني بهم).
2 - سلَّطه عليه (ألحق به ضررًا- ألحق خسائرَ بالعدُوّ).
* ألحق به: أدركه (ألحق بزميله).
التحقَ ب يلتحق، التحاقًا، فهو مُلْتَحِق، والمفعول مُلتحَقٌ به.
* التحق به:
1 - أدركه، لحقه ولصق به.
2 - انضمَّ إليه، انتمى إليه (التحق بجامعة القاهرة/بالجيش/بالحكومة- فرص الالتحاق بالتعليم).
3 - لصِق به (التحقت به المصائبُ).
تلاحقَ يتلاحق، تلاحُقًا، فهو مُتلاحِق.
* تلاحقتِ الأخبارُ: تتابعت وأدرك بعضُها بعضًا، تواصلت واستمرّت (تلاحقت أحداثُ العنف في المنطقة- تلاحقت أفواجُ الحُجَّاج إلى البيت الحرام- أمواجٌ متلاحقة الحركة).
لاحقَ يلاحق، مُلاحَقةً ولِحاقًا، فهو مُلاحِق، والمفعول مُلاحَق.
* لاحق الضابطُ اللِّصَّ: تابعه وطارده بقصد القبض عليه (لاحَقتِ الشُّرطةُ الهاربين- لاحَق الكلبُ الأرنبَ- لاحَق المجرمُ ضحيَّتَه).
لاحق [مفرد]:
1 - اسم فاعل من لحِقَ/لحِقَ ب.
2 - وقت آتٍ في المستقبل (السَّابق واللاّحق- شرط لاحق- سأعاوِدُ الاتِّصال بك في وقت لاحق- سآتيك لاحقًا).
لاحِقة [مفرد]: جمعه لاحقات ولواحِقُ (لغير العاقل):
1 - صيغة المؤنَّث لفاعل لحِقَ/لحِقَ ب.
2 - ثَمَرٌ بعد الثَّمر الأوَّل.
3 - جزءٌ ثانويٌّ يُلْحَق بالأصل (لواحِقُ الوثيقة الرَّسميّة/المستندات الأصليّة).
4 - [في العلوم اللغوية] ما يضاف من الحروف إلى آخر الكلمة لاشتقاق كلمة أخرى (السَّوابق واللَّواحق- لاحقة لفظيّة مجرّدة).
لَحاق [مفرد]: مصدر لحِقَ/لحِقَ ب.
لَحْق [مفرد]: مصدر لحِقَ/لحِقَ ب.
لَحَق [مفرد]:
1 - [في الأحياء] عمليَّة عكسيّة يعود فيها الجين المتغيِّر أو المتحوِّل إلى حالته السابقة.
2 - [في القانون] أحكام تفصيليّة ملحقة بالمعاهدة أو بأحد نصوصها.
مُلاحقة [مفرد]:
1 - مصدر لاحقَ.
2 - [في القانون] متابعة تنفيذ القوانين (ملاحقة قضائيّة).
3 - [في القانون] مقاضاة شخص خرق القانون.
* مُلاحقة تدقيقيَّة: [في الحاسبات والمعلومات] وسيلة لتتبُّع جميع الأنشطة التي تؤثِّر في معلومة مثل تسجيل المعطيات من لحظة دخولها النظام حتى لحظة خروجها منه.
مُلْحَق [مفرد]: جمعه مُلحَقون:
1 - اسم مفعول من ألحقَ/ألحقَ ب.
2 - موظَّف يُعَيَّن في سفارة الدَّولة للقيام بعمل خاصّ، كالملحق العسكريّ، والملحق الثقافيّ (مُلْحَق/صُحُفيّ/تجاريّ/حربيّ).
3 - مُوظَّف بإدارةٍ يُعارُ لإدارةٍ أخرى مُدّة من الزَّمن (أستاذ مُلْحَق بالمركز الثَّقافيّ).
مُلْحَق [مفرد]: جمعه مُلحقات ومَلاحِقُ:
1 - ما يُلحق بالكتاب ونحوه بعد الانتهاء منه كالجداول المتضمّنة بعض البيانات (مُلْحَق بالمعجم).
2 - [في القانون] أحكام تفصيليّة ملحقة بالمعاهدة أو بأحد نصوصها (ملحقات المعاهدة- مُلْحَق الاتّفاقيّة).
3 - صفحة أو صفحات تُصدرها الجريدة اليوميّة بعد صدور عددها المعتاد لخبر مهمّ يقتضيه (مُلْحَق جريدة الأهرام- مُلْحَق علميّ- المُلْحَق الثَّقافيّ الأسبوعيّ).
* مُلْحَقُ الشَّيء: الزَّائد (لأنّ الرُّوح عندك وهي أصل.. وحيث الأصل تسعى المُلحقاتُ).
* المُلحق بجمع المذكَّر: [في النحو والصرف] ما دلّ على أكثر من اثنين وعُومل معاملة جمع المذكَّر السَّالم في الرَّفع بالواو وفي النَّصب والجرّ بالياء.
* الملحق بجمع المؤنث: [في النحو والصرف] ما دل على أكثر من اثنتين وعومل معاملة جمع المؤنّث السَّالم في الرفع بالضّمة وفي النَّصب والجرّ بالكسرة.
* الملحق بالمثنى: [في النحو والصرف] ما دلّ على اثنين أو اثنتين وعومل معاملة المثنى في الرفع بالألف وفي النَّصب والجرّ بالياء.
مُلْحَق [مفرد]: جمعه مَلاحِقُ: امتحان ثانٍ يؤدّيه من رَسَب في امتحان الدَّور الأوَّل (عنده مُلْحَق في مادّة الكيمياء- امتحن الملاحق الثَّلاثة ونجح فيها).
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
2-المعجم الوسيط (المُلْحَقُ)
[المُلْحَقُ] - (في القانون الدولي العام): اللَّحَق.(والجمع): ملحقات.
و- موظف يعيَّن في سفارة الدولة للقيام بعمل خاصٌ، كالملحق العسكري، والملحَق الثقافي، والصحافي.
و- صَفحَة أَو صفحَات تصدرها الجريدة اليومية بعد صدور عددها المعتاد لخبر مهم يقتضيه.
(مما أقره مجمع اللغة العربية بالقاهرة).
المعجم الوسيط-مجمع اللغة العربية بالقاهرة-صدر: 1379هـ/1960م
3-شمس العلوم (المُخَابرَة)
الكلمة: المُخَابرَة. الجذر: خبر. الوزن: الْمُفَاعَلَة.[المُخَابرَة]: المُزَارعة ببعض ما يحصل من زرع، بالنصف أو الثلث، أو الربع، ونحو ذلك.
وفي حديث جابر بن عبد الله: «نهى النبي عليه السلام عن المخابرة».
قال ابن الأعرابي: اشتقاقها من خيبر، لأن النبي عليه السلام أقرها في أيدي أهلها على النصف، فقيل: خابروهم: أي عاملوهم في خيبر، قال: ثم تنازعوا فنهى عن ذلك، ثم جازت بعد.
واختلف الفقهاء في جواز هذه المزارعة.
فقال أبو حنيفة: لا تصح لخبر جابر، ولما فيها من الجهالة، وتُروى كراهتُها عن ابن المسيب، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وإِبراهيم، وهو قول الشافعي في الأرض البيضاء.
فأما في النخيل فهي جائزة عنده، كالمساقاة.
وقال أبو يوسف ومحمد وابن أبي ليلى والثوري: [هي جائزة]، وهو مروي عن ابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وعمر بن عبد العزيز، وهو قول زيد بن علي رضي الله تعالى عنهم جميعًا.
قال زيد: نهى النبي عليهالسلام عن قبالة الأرض بالنصف أو الثلث أو الربع وقال: «إِذا كان لأحدكم أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه»، فتعطَّلَ كثير من الأرضين، فسألوا النبي عليهالسلام أن يرخص لهم في ذلك، فدفع خيبر إِلى أهلها يزرعونها ويسقون نخلها ويلقحونه على النصف، وكان يبعث عبد الله بن رواحة الأنصاري يأخذ منهم النصف.
قال محمد بن الحسن: المخابرة على أربعة: ثلاثة تجوز، وواحد لا يجوز.
فالتي تجوز: أن يكون البذر من قبل الزرَّاع والعمل والآلة أيضًا، أو يكون البذر من قبل ربّ الأرض والآلة كلها من قبل الزَّرَّاع.
وأما الذي لا يجوز أن يكون البذر من قِبَل الزَّرَّاع والآلة من قبل صاحب الأرض.
شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
4-شمس العلوم (الخيل)
الكلمة: الخيل. الجذر: خيل. الوزن: فَعْل.[الخيل]: جماعة الفَرَس من غير لفظها، وسميت خيلًا لاختيالها.
قال الله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها} قال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي وكثير من العلماء: لا يجوز أكل لحوم الخيل لأن الله تعالى أخبر أن منفعتها ركوبها ولو كان الأكل من منافعها لذكره، كما ليس الأكل من منافع البغال والحمير فلم يذكره.
وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي: يجوز أكل لحوم الخيل لخبر جابر: «ذبحنا يوم خيبر البغال والخيول والحمير فنهى النبي عليه السلام عن البغال والحمير ولم ينه عن الفرس».
وهو قول زيد بن علي رضي الله تعالى عنهم.
وفي قراءة ابن مسعود: {إني أحببت حب الخيل عن ذكر ربي}.
شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
5-شمس العلوم (الشِّرْك)
الكلمة: الشِّرْك. الجذر: شرك. الوزن: فِعْل.[الشِّرْك]: الاسم من الإِشراك، قال الله تعالى: {إِنَ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.
والشِّرْك: الشِّرْكة.
وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم جعلا له شركا فيما آتاهما، وأنكر الأخفش سعيد هذه القراءة لأنهما مُقِرّان أن الأصل لله تعالى، وإِنما جعلا الشِّرْكَ لغيره، وقيل: التقدير فيهما «جعلا له ذا شرك» كقوله: (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)، والباقون شركاء، جمع: شريك.
وفي الحديث عن النبي عليه السلام: «من أعتق شِرْكًا مملوكًا له في مملوك فعليه خلاصه كله من ماله، فإِن لم يكن له مالٌ استسعى العبدُ غير مشقوقٍ عليه»، ويروى: «شِقْصًا له في مملوك»؛ وبهذا الحديث قال أبو يوسف ومحمد وزُفَر وابن أبي ليلى، وهو قول الشافعي إِن كان موسرًا، وإِن كان معسرًا عتق نصيبه، وكان نصيب شريكه موقوفًا يتصرف فيه كيف شاء، لخبر ابن عمر: «وإِلا فقد عَتَقَ منه ما عَتَقَ، ورقَّ منه ما رَقَّ».
وقال أبو حنيفة: إِن كان معسرًا استسعى العبدُ، وإِن كان موسرًا فشريكه مخير بين ثلاث: إِن شاء ضمَّنه، وإِذا ضَمَّنه رجع على العبد، وإِن شاء أعتق، وإِن شاء اسْتُسْعي العبدُ.
شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
6-جمهرة اللغة (رزو روز زرو زور رزا راز زرا زار رزي ريز زري زير رزأ رأز زرأ زأر أرز أزر)
رُزِئتُ الشيءَ أُرْزَؤه رُزْءًا.وما رزأتُ فلانًا شيئًا، أي ما أصبت من قِبَله شيئًا، وهي المَرْزِئة والرَّزيئة.
وما رُزئت به، أي ما أُصبت به.
قال لبيد:
«إنّ الرَّزيئةَ لا رَزيئةَ مثلُـهـا*** فِقدانُ كلِّ أخٍ كضوء الكوكبِ»
وأزريتُ بالرجل إزراءً، إذا استصغرته.
وزرَيتُ عليه، إذا عِبته.
وزرَيتُ عليه، إذا رددت عليه قوله.
وفلان أَزْري، أي عَوني.
وأرِزَ الشيءُ يأرَز أَرْزًا، وإن شئت قلت أَرزَ، إذا ثبت في الأرض.
وشجرة أرِزة وآرِزة، أي ثابتة.
وفي الحديث: (ومثل المنافق مثل الأَرَزَة المُجْذِية على الأرض حتى يكون انجعافُها مَرَّةً).
وزأر الأسدُ يزئر ويزأر، بالفتح والكسر، زَأْرًا وزئيرًا.
والزّارة: الأجَمَة، والجمع زار.
والزِّيار: الخشبة التي في طرفها خيط يضعها البَيطار في فم الدابّة.
والزَّوْر: الصدر.
وزَوْر القوم وزُوَيْرهم: رئيسهم الذي يُطيفون به.
وأنشد:
«جاءوا بزوْرَيهم وجئنا بالأصَمّْ *** شيخٍ لنا معوَّدٍ ضَرْب البُهَمْ»
وزوّر فلان كلامًا، إذا أصلحه وقام عليه، ومنه شهادة الزُّور كأنه يزوِّرها.
والزِّير: الذي يحبّ حديث النساء، وأصله من الزيارة.
وأنشد لمهلهِل بن ربيعة التغلبي:
«ولو نُبش المقابرُ عن كُليبٍ*** لخُبِّرَ بالذَّنـائب أيُّ زِيرِ»
والوِزْر: الإثم.
وزعم بعض أهل اللغة أن اشتقاق الوزير من هذا كأنه يحمل الوِزْر عن صاحبه.
والوَزَر: كلّ ما لجأت إليه.
جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م
7-التوقيف على مهمات التعاريف (التواجد)
التواجد: استدعاء الوجد تكلفا بضرب اختيار وليس لصاحبه كمال الوجد لأن باب التفاعل أكثره لإظهار صفة غير موجودة، وقد أنكره قوم لما فيه من التكلف، وأجازه آخرون لخبر "فإن لم تبكوا فتباكوا". وأراد به التباكي ممن هو مستعد للبكاء لا تباكي المتغافل اللاهي.التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م
8-المعجم الجغرافي للسعودية (عريجاء)
عريجاء ـ قال البكريّ: تصغير العرجاء ـ ماءة معروفة بحمى ضرية، وقد أقطعها ابن ميّادة المريّ من بني ذبيان، فدلّ على أنها متصلة ببلادهم.وكذلك قول ربيع بن قعنب الفزارىّ، وكان أرطاة بن سهيّة قال له:
«لقد رأيتك عريانا ومؤتزرا***فلست أدري أأنثى أنت أم ذكر؟! ”
فأجابه ربيع ـ وأرطاة من بني مرّة ـ:
«لكن سهيّة تدري أنّني رجل ***على عريجاء، لمّا حلّت الأرز»
وأقول: أوضح ابن ميّادة في شعره موطنه فقال يخاطب الوليد بن يزيد، وكان مبتديّا بأباير:
«لعمرك إنّي نازل بأباير***لصوأر مشتاق وإن كنت مكوما»
«أبيت كأنّي أرمد العين ساهر***إذا بات أصحابي من اللّيل نوّما»
فقال الوليد: كأنك عرضت من قربنا؟ فقال: ما مثلك يا أمير المؤمنين يعرض من قربه ولكن:
«ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة***بحرّة ليلى حيث ربّتني أهلى »
«وهل أسمعنّ الدّهر أصوات هجمة***تطالع من هجل خصيب إلى هجل »
«بلاد بها نيطت علىّ تمائمى ***وقطّعن عنى حين أدركنى عقلى »
«فإن كنت عن تلك المواطن حابسى ***فأيسر علىّ الرّزق، واجمع إذن شملى »
فأمر له الوليد بمائة من الإبل، وأراد أن يقطعه عينيّن في الحجاز فقال: لسنا بأصحاب عيون، يأكلنا فيها البعوض وتأخذنا بها الحميّات. وعلى هذا فابن ميادة كان يعيش في بلاد بني مرّة قومه، ومنازلهم في جهات خيبر وفدك، بعيدة عن ضريّة، وإن كان لفزارة أمواه في غرب حماها كما ذكر الهجريّ وغيره.
: أكثر المواضع التي أوردها ابن ميادة في شعره تقع شمال خيبر مثل: ذو العش، والغمر، ونيّان وجبار والجناب، ومع ذلك كان يتردد على بلاد قومه، فقد ذكر صاحب «الأغاني». أن الحكم الخضري الذي كان يهاجيه خرج يريد لقاءه في الرقم من غير موعد فلم يلقه، إما لأنه تغيّب عنه أو أنه لم يصادفه فقال الحكم:
«فرّ ابن ميّادة الرّقطاء من حكم ***بالصّعر مثل فرار الأعقد الدّهم »
«أصبحت في أقر تعلو أطاوله ***تفرّ مني وقد أصبحت في الرّقم »
يظهر أن البكرىّ ـ رحمهالله ـ نسب العريجاء إلى ضريّة لخبر يتعلق بابن ميّادة ذكره الأصفهانيّ، وفيه ذكر عريجاء، وذكر حمى ضرية، وملخصه: (تواعد حكم وابن ميّادة عريجاء ـ وهي ماءة يتوافقان عليها ـ فخرج حكم فورد عريجاء ولم يلق رمّاحا فرجع، فبلغ الخبر رمّاحا فأصبح على الماء.. ثم إنهما بعد توافيا بحمى ضرية وكان ذلك العام عام جدب وسنة إلا بقية كلإ بضرية. فلما سأله عامل ضريّة عن حاجته قال: ترعيني عريجاء لا يعرض لي فيها أحد، فأرعاه إياها. وقال: جزاك الله خيرا يا أبا منيع ـ يقصد الحكم الخضريّ ـ فو الله لقد كان ورائي من قومي من يتمنى أن يرعى عريجاء بنصف ماله، ثم انصرفا راضيين. فالخبر ـ كما ترى ـ ليس صريحا في أن عريجاء في حمى ضرية، بل انصرافهما من ضرية يدل على أن عريجاء ليست هناك. أما كون عامل ضرية هو الذي أرعاه الماء، فإن العامل يمتد نفوذه إلى خارج موضعه، وخاصة في ذلك العهد وفي ضرية التي يمتدّ حماها حتى يشمل غربا مياها لبني فزارة قوم الرمّاح، وقد يتجاوزها إلى أبعد من ذلك.
فالقول بأن الرماح أقطع مكانا خارج بلاد قومه لا يتفق مع ما هو معروف من أنهم فى ذلك العهد لا يقطعون المرء خارج بلاد قومه، إذ كل قبيلة تختص بأرضها وبما فيها من مياه وأودية ومراعي، ولا تمكّن أحدا من الاستقرار في جزء من أجزائها، ولم يكن الحكم قويّا غالبا في تلك العصور، يستطيع السيطرة على القبائل وإخضاعها.
المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية-حمد الجاسر-صدر: 1398هـ/1978م
9-المعجم المفصل في النحو العربي (أجل)
أجلاصطلاحا: بمعنى «نعم» ولفظ «أجل» هو جواب، مثل: «نعم»، وقال الأخفش إلّا أنّه أحسن من «نعم» في التّصديق، و «نعم» أحسن منه في الاستفهام فإذا سئلت: «أنت سوف تذهب» فتجيب: أجل، وهو جواب أحسن من «نعم». وإذا سئلت: «أتذهب» فتجيب: نعم، وهذا الجواب أحسن من أجل؛ وكلمة «أجل» هي تصديق لخبر يخبرك به صاحبك، فتقول: «فعل ذلك»، فأصدّق بالإجابة «أجل».
أما «نعم» فهو جواب المستفهم بكلام لا جحد فيه، فتسأل: هل صلّيت؟ والجواب: «نعم» فهو جواب المستفهم، وبعضهم يرى أن «أجل» لتصديق الخبر ماضيا كان أو غير ذلك، موجبا أو غير ذلك، ولا تأتي جوابا للاستفهام، وقال بعضهم: إنها تختصّ بالخبر. و «الأجل» هو غاية الوقت في الموت وحلول الدّين، والأجل: المدّة، كقوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ} وكقوله تعالى: {وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} أي: لكان القتل الذي نالهم لازما لهم أبدا وكان العذاب دائما بهم. ويعنى بالأجل المسمّى: «القيامة»؛ كقوله تعالى: و {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} والآجلة: الآخرة، والعاجلة «الدّنيا».
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
10-المعجم المفصل في النحو العربي (الرفع بالتبعية)
الرفع بالتّبعيّةيراد به تتابع كلمتين تكون الثانية منهما مرفوعة تبعا للأولى في حالة الرّفع لأنها نعت للأولى، أو توكيد لها، أو عطف عليها، أو بدل منها، كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} «عظيم»: الكلمة الثانية مرفوعة لأنها نعت للكلمة الأولى «نبأ» الواقعة خبرا للمبتدأ، ومثل: «الله ربّ العالمين قادر على إنصاف المظلومين»؛ «ربّ»: الكلمة الثانية مرفوعة لأنها تدل على الكلمة الأولى اسم الجلالة الواقعة مبتدأ مرفوعا، وكقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} «شهيق» مرفوعة لأنها معطوفة على «زفير» الواقعة مبتدأ مرفوع وكقول الشاعر:
«فداك حيّ خولان ***جميعهم وهمدان»
فكلمة «جميعهم» توكيد مرفوع لخبر المبتدأ المرفوع «حيّ».
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
11-المعجم المفصل في النحو العربي (الملحق بالمبني على الفتح)
الملحق بالمبنيّ على الفتح:1 ـ ويلحق بالمبنيّ على الفتح اسم «لا» النافية للجنس المفرد أي: غير المضاف وغير المشبّه بالمضاف، مثل: «لا رجل في الدار». «ولا رجال في الحديقة». أما إذا كان اسم «لا» النافية للجنس مثنّى، مثل: «لا رجلين في الحديقة» أو جمعا، مثل: «لا قائمين على الحسنات» فإنه يبنى على ما كان ينصب به قبل دخول «لا» أي: على «الياء». كقول الشاعر:
«تعزّ فلا إلفين بالعيش متّعا***ولكن لورّاد المنون تتابع»
حيث بني اسم «لا» النافية للجنس «إلفين» على الياء لأنه مثنى وكقول الشاعر:
«يحشر الناس لا بنين ولا آ***باء إلّا وقد عنتهم شؤون»
حيث بني اسم «لا» النافية للجنس «بنين» على «الياء» لأنه ملحق بجمع المذكّر السالم وبني اسمها «آباء» على الفتح لأنه جمع تكسير. أمّا إذا كان اسم «لا» النافية للجنس جمع مؤنّث سالما فإنه أيضا يبنى على ما كان ينصب به قبل دخول «لا» عليه أي: على الكسرة بدلا من الفتحة، كقول الشاعر:
«إن الشباب الذي مجد عواقبه ***فيه نلذّ ولا لذّات للشّيب»
حيث بني اسم «لا» النافية للجنس «لذات» على الكسر لأنه جمع مؤنث سالم.
2 ـ ممّا يلحق بالبناء على الفتح أيضا، نعت اسم «لا» المبني. والحقيقة أنه يجوز في هذا النعت البناء على الفتح فيكون مع اسم «لا» المفرد مركبا تركيبا مزجيا أي: ببنائهما على الفتح، مثل: «لا رجل ظريف في الدّار». كما يجوز فيه النّصب على محل اسم «لا»، مثل: «لا رجل ظريفا في الدار». كما يجوز فيه الرّفع على محل «لا» مع اسمها وهو الرّفع على الابتداء، مثل: لا رجل ظريف في الدار.
3 ـ ويلحق بالبناء على الفتح أيضا اسم «لا» المكررة، مثل: لا حول ولا قوة إلا بالله والحقيقة أنه يجوز بناء الأول «حول»، ورفع الثاني «قوّة» على أنه مبتدأ، إذا أهملت «لا» أو يكون اسم «لا» المشبهة «بليس» كقول الشاعر:
«لا نسب اليوم ولا خلّة***اتّسع الخرق على الرّاقع»
«نسب»: اسم «لا» الأولى مبنيّ على الفتح.
«خلة»: عطف بالنصب على محل اسم «لا» الأولى «نسب». ويجوز أن يرفع الاسم الأول ويبنى الثاني، كقول الشاعر:
«فلا لغو ولا تأثيم فيها***وما فاهوا به أبدا مقيم»
ويجوز فيهما الرّفع، كقوله تعالى: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ} حيث يعربان إذا اهملت «لا»: مبتدأ مرفوع أو اسم «لا» المشبهة بـ «ليس».
ثالثا المبني على الكسر: ويبنى على الكسر.
1 ـ العلم المختوم بـ «ويه»، مثل: «سييبويه»، «وعمرويه»، «ونفطويه»، «وراهويه». وبعضهم بعرب هذا العلم فيمنعه من الصرف. واسم الفعل على وزن «فعال»، مثل: «نزال» بمعنى: انزل و «دراك» بمعنى: أدرك، و «تراك» بمعنى: اترك، و «حذار» بمعنى: احذر، ومثل:
«هي الدّنيا تقول بملء فيها***حذار حذار من بطشي وفتكي»
وكقول الشاعر:
نظار كي أركبها نظار
وكقول الشاعر:
تراكها من إبل تراكها
وتعرب: «نظار»، و «حذار»، و «تراك»: اسم فعل أمر مبني على الكسر لا محل له من الإعراب. والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت. وكقول الشاعر:
«نعاء أبا ليلى لكلّ طمرّة***وجرداء مثل القوس سمح حجولها»
وكقول الشاعر:
«مناعها من أبل مناعها***أما ترى الموت لدى أرباعها»
وبعض القبائل تفتح اسم الفعل على وزن «فعال» لمناسبة الألف والفتحة قبلها.
2 ـ ومنه ما كان على وزن «فعال» لسب الأنثى ولا يكون إلا في النداء، مثل: «يا خباث» بمعنى: يا خبيثة، «يا لكاع» بمعنى يا لئيمة، «يا دفار» بمعنى: يا منتنة، ومثل قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبعض الجواري: «أتتشبّهين بالحرائر يا لكاع» وهذه الصيغة مما تلازم النداء. وأمّا قول الشاعر:
«أطوّف ما أطوّف، ثمّ آوي ***إلى بيت قعيدته لكاع»
ففيه «لكاع»: خبر المبتدأ «قعيدته» مبني على الكسر. ومنهم من يعتبر «لكاع» منادى مبني على الكسر في محل نصب مفعول به لفعل النداء المحذوف. وحرف النداء محذوف أيضا،
تقديره: يا لكاع. وجملة المنادى في محل نصب مفعول به لخبر المبتدأ المحذوف والتقدير: قعيدته مقول لها يا لكاع، تمشّيا مع القاعدة. ويطّرد صوغ «فعال» في المعنيين السابقين من كل فعل ثلاثيّ تامّ، مثل: «ذهب ذهاب»، «نزل نزال»، «فسق فساق»، «فجر فجار»، «سرق سراق» بمعنى: اذهب، انزل، فاسقة، فاجرة، سارقة، فتقول: يا فاجرة، يا سارقة، يا فاسقة، ويا زناء أي: يا زانية.
3 ـ ومنه ما كان على وزن فعال علما لمؤنث، مثل: «حذام»، «قطام»، «رقاش» و «سجاح»، اسم للكذابة التي ادعت النبوّة، و «كساب»، اسم للكلبة، و «سكاب» اسم للفرس. وهذه الصيغة منهم من يبنيها على الكسر، كقول الشاعر:
«إذا قالت حذام فصدّقوها***فإنّ القول ما قالت حذام»
ومنهم من يعربها ويمنعها من الصرف، ومنهم من يبنيها على الكسر إذا كانت مختومة بالرّاء، مثل: «ظفار»، و «وبار»، و «سفار»، ويعربها ويمنعها من الصّرف إذا كانت غير مختومة بالرّاء، كقول الشاعر:
«متى تردن يوما سفار تجد بها***أديهم يرمي المستجيز المعوّرا»
«سفار»: مفعول به مبني على الكسر في محل نصب. وجمع البناء والإعراب في مثل:
«ومرّ دهر على وبار***جهرة فهلكت وبار»
«وبار» الأول مبني على الكسر، والثاني فاعل مرفوع أي: معرب.
4 ـ ويبنى على الكسر أيضا كلمة «أمس» إذا أريد بها اليوم الذي قبل يومنا فبعض القبائل تبنيها على الكسر مطلقا، مثل: «راح أمس بما فيه من السعادة» أمس: فاعل مبنيّ على الكسر في محل رفع ومثل: «صمت أمس»، ومثل: «عجبت من ذهاب أمس». وكقول الشاعر:
«منع البقاء تقلّب الشّمس ***وطلوعها من حيث لا تمسي»
«اليوم أعلم ما يجيء به ***ومضى بفضل قضائه أمس»
«أمس» فاعل مبني على الكسر في محل رفع.
وبعض القبائل تعربها وتمنعها من الصّرف، كقول الشاعر:
«لقد رأيت عجبا أمسا***عجائزا مثل السّعالي خمسا»
فكلمة «أمسا»: مضاف إليه مجرور بالفتحة نيابة عن الكسرة لأنه ممنوع من الصرف. ومنهم من يقول: إنها مبنيّة على الفتح، وهذا الوجه ضعيف. ومنهم من يبنيها على الكسر في حالتي النّصب والجرّ، ويعربها إعراب ما لا ينصرف في حالة الرفع أي: بدون تنوين، مثل: «ذهب أمس» و «اعتكفت أمس»، و «عجبت من أمس». أمّا إذا أريد بـ «أمس» يوم من الأيام الماضية أو دخلته «أل» أو جمع جمع تكسير، أو أضيف، فإنه يعرب مطلقا، مثل: «كتبت ذلك أمسا»، وكقول الشاعر:
«مرّت بنا أوّل من أموس ***تميس فينا ميسة العروس»
فكلمة «أموس» هي جمع تكسير، معرب مجرور بالكسرة الظاهرة، ومثل: «ما كان أحسن أمسنا». فكلمة «أمسنا»: مفعول به منصوب بالفتحة الظاهرة وهو مضاف و «نا» في محل جر بالإضافة. وقول الشاعر:
«فإني وقفت اليوم والأمس قبله ***ببابك حتى كادت الشّمس تغرب»
فكلمة «الأمس» معطوفة على «اليوم» ويجب أن تكون منصوبة بالفتحة لأنها معربة إذ دخلتها «أل». أما وقد ظهرت عليها الكسرة فإما أن تكون مبنيّة على الكسر في محل نصب أو أن يكون منصوبا بفتحة مقدرة على آخره منع من ظهورها تقدير «في» محذوفة والتقدير: في اليوم وفي الأمس. كقوله تعالى: {فَجَعَلْناها حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} «بالأمس»: مجرور بالكسرة الظاهرة وهي كسرة إعراب لا كسرة بناء بسبب اقترانها بـ «أل».
رابعا ـ المبني على الضم: ويبنى على الضّم:
1 ـ ما قطع عن الإضافة لفظا من الظروف المبهمة مثل: «قبل»، «وبعد»، وأسماء الجهات «قدّام» و «أمام»... كقوله تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} أي: من قبل الأمر ومن بعده.
فحذف المضاف إليه في اللفظ فقط ونوى معناه.
وكقول الشاعر:
«لعمرك ما أدري وإنّي لأوجل ***على أيّنا تأتي المنيّة أوّل»
بني الظرف المبهم «أوّل» على الضم لأنّه قطع عن الإضافة لفظا لا معنى. وكقول الشاعر:
«إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن ***لقاؤك إلّا من وراء وراء»
«وراء» ظرف مبهم مبني على الضّم لأنه قطع عن الإضافة لفظا لا معنى، وكقول الشاعر:
«ثمّ تفري اللّجم من تعدائها***فهي من تحت مشيحات الحزم»
«تحت» ظرف مبهم مبني على الضم لأنه قطع عن الإضافة لفظا لا معنى ومثله:
«لعن الإله تعلّة بن مسافر***لعنا يشنّ عليه من قدّام»
حيث بني الظرف المبهم «قدّام» على الضم لأنه قطع عن الإضافة لفظا لا معنى. أما إذا قطع الظرف المبهم عن الإضافة لفظا ومعنى فيعرب مطلقا، مثل:
«فساغ لي الشراب وكنت قبلا***أكاد أغصّ بالماء الزّلال»
وكقول الشاعر:
«ونحن قتلنا الأسد أسد خفيّة***فما شربوا بعدا على لذّة خمرا»
فالظرفان المبهمان «قبلا» و «بعدا» قطع كل منهما عن الإضافة لفظا ومعنى فنوّنا. وأعربا وليسا مبنيّين.
2 ـ ويلحق بـ «قبل» و «بعد» كلمة «غير» إذا قطعت عن الإضافة لفظا لا معنى، مسبوقة بـ «ليس»، مثل: «قبضت عشرة ليس غير» حيث حذف ما أضيف إليه «غير» لفظا لا معنى، والتقدير: ليس غير ذلك ما قبضت، وبنيت «غير» على الضّم. ويلحق بالظرف المبهم أيضا كلمة «عل» إذا أريد بها علوّ معيّن كقول الشاعر:
«ولقد سددت عليك كلّ ثنيّة***وأتيت نحو بني كليب من عل»
حيث بنيت كلمة «عل» على الضم لأنه حذف المضاف إليه لفظا لا معنى. والتقدير من فوقهم.
أما إذا دلّت «عل» على علوّ مجهول فيجب الإعراب كقول الشاعر: «مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا***كجلمود صخر حطّه السّيل من عل»
حيث جر الظّرف المبهم بالكسرة «عل» لأنه قطع عن الإضافة ولم ينو معناه والتقدير: من مكان عال. ويلحق بالبناء على الضم أيضا «أيّ» الموصولة فهي معربة إلا إذا أضيفت وكان صدر صلتها ضميرا محذوفا، كقوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا}.
3 ـ ويبنى على الضم أيضا، المنادى المعرفة والعلم مثل: يا زيد و «يا جبال» و «يا خلدون».
أو المنادى غير المثنى والجمع المعرفة، مثل: يا رجل. وكقوله تعالى: {يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} وكقوله: {يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ} وكقوله: {يا هُودُ ما جِئْتَنا} لأن المثنى يبنى على ما كان يرفع به قبل النداء، أي: على الألف والجمع يبنى على الواو مثل: «يا معلّمون» وهذا ما يتعلق بالمنادى المفرد أي: غير المضاف ولا المشبّه بالمضاف لأن المضاف يكون منصوبا معربا، مثل: «يا رسول الله» وكقوله تعالى: {قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي: يا الله يا فاطر السموات والأرض. والمشبّه بالمضاف، وهو ما اتصل به شيء من تمام معناه، يكون منصوبا معربا أيضا مثل: «يا حسنا وجهه» «وجهه»: فاعل «حسنا» و «الهاء» في محل جر بالإضافة ومثل: «يا قائدا سيّارة»، «سيّارة»: مفعول به لـ «قائدا». ومثل: «يا راغبا في الخير» «في الخير»: جار ومجرور متعلق بـ «راغبا». وكذلك تنصب النكرة، كقول الشاعر:
«أيا راكبا إمّا عرضت فبلّغن ***نداماي من نجران أن لا تلاقيا»
«راكبا» نكرة غير مقصودة منصوبة بالفتحتين.
ويجوز في المنادى المبني على الضّم أن ينصب إذا اضطرّ الشاعر إلى تنوينه، كقول الشاعر:
«ضربت صدرها إليّ وقالت ***يا عديّا لقد وقتك الأواقي»
«عديّا» منادى منصوب وكان حقّه أن يكون مبنيا على الضم وقد يبقى مبنيا على الضم، مثل:
«سلام الله يا مطر عليها***وليس عليك يا مطر السّلام»
«مطر»: منادى مبني على الضم ونوّن للضرورة الشعرية. ويجوز أن يبنى على الفتح إذا كان علما موصوفا بـ «ابن» متصل به ومضافا إلى علم، كقول الشاعر:
«يا طلحة بن عبيد الله قد وجبت ***لك الجنان وبوّئت المها العينا»
«طلحة» يجب أن يكون مبنيا على الضم في الأصل، لكنه قدّر الضّم بحركة الفتح للإتباع.
ملاحظة: هناك كلمات مبنيّة وليس لها قاعدة معيّنة كالحروف، مثل: «هل»، «ثمّ»، «جير».
وأسماء الأفعال، مثل: «صه»، «آمين»، و «إيه»، و «هيت»، والمضمرات «كالياء» في «اكتبي» و «التاء» في «قمت» و «قمت» وأسماء الإشارة، مثل: «ذي»، «هذا»، وأسماء الموصول، مثل: «التي»، و «الذي»، و «اللذين» وأسماء الشرط، مثل: «إن»، و «من» و «ما»... وأسماء الاستفهام، مثل: «من» و «ما» والظروف، مثل: «إذ» و «الآن» و «حيث» و «إذا». ومن الأمثلة على ذلك قول الشاعر:
«تباعد منّي فطحل إذ سألته ***فآمين زاد الله ما بيننا بعدا»
وفيه: «آمين»: اسم فعل أمر بمعنى:
«استجب» مبني على الفتح لا محل له من الإعراب. و «إذ»: ظرف زمان مبني على السكون في محل نصب على الظرفية. وقول الشاعر:
«إيه أحاديث نعمان وساكنه ***إنّ الحديث عن الأحباب أسمار»
وفيه: «إيه»: اسم فعل أمر بمعنى: امض في الحديث مبنيّ على الكسر لا محل له من الإعراب وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا تقديره أنت. وفيه أيضا «إنّ» حرف مشبّه بالفعل مبني على الفتح لا محل له من الإعراب. وقول الشاعر:
«أبى الله للشّمّ الألاء كأنّهم ***سيوف أجاد القين يوما صقالها»
وفيه: «الألاء»: اسم موصول بمعنى «الذين» مبنيّ على الكسر في محل جر نعت «للشّمّ» وكقوله تعالى: {الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ}. الآن: ظرف مبني على الفتح وكقوله تعالى: {إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها}. «إذا»: ظرف لما يستقبل من الزمان متضمن معنى الشرط مبني على السكون. وكقوله تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ} وفيها: «لن»: حرف نصب مبني على السكون لا محل له من الإعراب. و «إذ» ظرف للزمان الماضي مبني على السكون. وكقول الشاعر:
«أما ترى حيث سهيل طالعا***نجما يضيء كالشّهاب لامعا»
وفيه: «حيث»: ظرف مبني على الضم. وقد يفتح وقد يكسر. ومنهم من يعربه كقراءة بعضهم: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} «حيث»: ظرف مجرور بـ «من».
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
12-المعجم المفصل في النحو العربي (اختلافها عن كان وأخواتها)
اختلافها عن «كان» وأخواتها1 ـ يجب أن يكون خبر «كاد» وأخواتها فعلا مضارعا، مقرونا بـ «أن» أو غير مقرون بها، وفاعله ضمير مستتر، في الأغلب، يعود على اسمها، ولا يكون هذا في خبر «كان» مثل: «أوشك المطر أن ينزل»، «أوشك المطر ينزل».
2 ـ خبر «كاد» وأخواتها لا يتقدّم عليها بخلاف «كان»، مثل، «نائما كان الولد».
3 ـ يجوز أن يتقدم خبر «كاد» وأخواتها على اسمها، وكذلك بالنسبة لخبر «كان»، بشرط أن يكون غير مقترن بـ «أن» مثل «كاد المطر ينزل» أو «كاد ينزل المطر».
4 ـ يجوز حذف خبر «كاد» وأخواتها، إذا دلّت عليه قرينة، مثل: «من تأنّى نال ما تمنّى أو كاد».
أمّا «كان» فإما أن تحذف وحدها ويعوض منها بـ «ما» الزائدة، مثل: «أمّا أنت محسنا فتبرّع» التقدير لأن كنت محسنا فتبرّع. أو أن تحذف مع اسمها، كقول الشاعر:
«لا يأمن الدّهر ذو بغي ولو ملكا***جنوده ضاق عنها السّهل والجبل»
والتقدير ولو كان ملكا، أو أن تحذف مع خبرها، مثل: «التلميذ محاسب على اجتهاده إن جدّ فنجاح وإن كسل ففشل» والتقدير: «إن كان في عمله جد فجزاؤه نجاح، وإن كان في اجتهاده كسل فجزاؤه فشل». أو أن تحذف مع معموليها، مثل: «أتقن عملك إتقانا حسنا إمّا لا» أي: إن كنت لا تتقنه فلا تعمله.
5 ـ لا تقع أفعال المقاربة زائدة أبدا بعكس «كان»، فإنها تزاد بلفظ الماضي بين شيئين متلازمين ليسا جارا ومجرورا، مثل: «ما كان أحسن منظر الرياض». فقد زيدت «كان» بين «ما» وفعل التعجب «أحسن» وهما شيئان متلازمان.
وقد تزاد بين الجار والمجرور شذوذا، كقول الشاعر:
«جياد بني بكر تسامى ***على كان المسوّمة العراب»
فقد زيدت «كان» بين حرف الجرّ «على» والاسم المجرور «المسوّمة» شذوذا. وقد تزاد بلفظ المضارع بين شيئين متلازمين، وهذا نادر، كقول الشاعر:
«أنت تكون ماجد نبيل ***إذا تهبّ شمال بليل»
أقسامها: تقسم أفعال المقاربة إلى ثلاثة أقسام، ولكل قسم أحكام خاصة به وهي:
1 ـ قسم يدل على قرب وقوع الشيء وهو: «كاد»، «كرب»، «أوشك».
2 ـ قسم يدل على ترقّب الخبر والأمل في تحقّق وقوعه وهو: «عسى»، «حرى»، «اخلولق».
3 ـ قسم يدل على الدخول في العمل ومباشرته، وتسمّى أفعال الشروع وهو: «بدأ»، «شرع»، «طفق»، «أنشأ»، «أخذ»، «علق»، «هبّ»، «قام»، «هلهل»، «جعل»، «ابتدأ»، «انبرى».
أحكامها: لأفعال المقاربة أحكام خاصة منها:
1 ـ أن يكون خبرها فعلا مضارعا، وقد يكون مضارعا في اللّفظ والإعراب، ماضيا في الزّمن، ويكون فاعله ضميرا مستترا يعود إلى اسمها،
مثل: «كاد الطفل يقع» وقد يأتي غير مضارع، ولكنّه نادر، كقول الشاعر:
«فأبت إلى فهم وما كدت آيبا***وكم مثلها فارقتها وهي تصفر»
حيث أتي خبر «كاد» «آيبا» وهو اسم فاعل من «آب» بمعنى: رجع.
2 ـ يجوز أن يقترن خبرها بـ «أن»، أو لا يقترن بها، مثل: «أوشك الثلج أن يذوب» و «أوشك الثلج يذوب» «وكاد الماء يغلي»، «وكرب القطار يصل»، ومثل:
«كرب القلب من جواه يذوب ***حين قال الوشاة هند غضوب»
3 ـ معنى «كاد» النّفي إذا سبقها النّفي، ويكون معناها مثبتا إذا لم يسبقها النّفي، ولكنها تتضمّن معنى النّفي بدون أن يسبقها، مثل: «كاد السّبّاح يغرق» فإن الغرق لم يحصل بل كاد، وكقول الشاعر:
«إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد***إليه بوجه آخر الدّهر تقبل»
والتقدير: لم تكد تقبل عليه مرّة أخرى، وتبقى منصرفة عنه.
4 ـ تتصرّف أفعال المقاربة تصرفا غير كامل، أي: يؤخذ منها مضارع واسم فاعل فقط، كقول الشاعر:
«ولو سئل النّاس التّراب لأوشكوا***إذا قيل هاتوا أن يملّوا ويمنعوا»
حيث أتت «أوشكوا» بلفظ الماضي، وكقول الشاعر:
«يوشك من فرّ من منيّته ***في بعض غرّاته يوافقها»
حيث أتت «يوشك» بلفظ المضارع، وكقول الشاعر:
«أبنيّ، إنّ أباك كارب يومه ***فإذا دعيت إلى المكارم فاعجل»
حيث أتت «كارب» بلفظ اسم الفاعل من «كرب»، وكقول الشاعر:
«أموت أسى يوم الرّجام وإنّني ***يقينا لرهن بالذي أنا كائد»
حيث أتت «كائد» بلفظ اسم الفاعل من «كاد»، وكقول الشاعر:
«وتعدو دون غاضرة العوادي ***فإنّك موشك أن لا تراها»
حيث وردت «موشك» بلفظ اسم الفاعل من «أوشك»، وكقول الشاعر:
«بنا من جوى الأحزان والوجد لوعة***تكاد لها نفس الشفيق تذوب»
حيث وردت «تكاد» بلفظ المضارع من «كاد» وكقوله تعالى: {يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ}.
5 ـ «كاد» و «كرب» لا تستعملان إلا كأفعال ناسخة، أمّا «أوشك» فيجوز أن تكون تامّة أي ترفع فاعلا وتكتفي بمرفوعها، وذلك إذا تبعها المضارع المسبوق بـ «أن»، مثل: «أوشك أن يقع الطفل»، وكقول الشاعر:
«إذا المجد الرّفيع تواكلته ***بناة السّوء أوشك أن يضيعا»
فقد وردت «أوشك» تامّة لأنه تلاها المضارع المسبوق بـ «أن». ويكون المصدر المؤوّل من «أن» وما دخلت عليها في محل رفع فاعل «أوشك». وفي هذه الحالة تلزم «أوشك» صورة واحدة، أي: لا يتصل بها ضمير رفع مستتر أو بارز، مثل: «الامتحان أوشك أن يأتي» و «العطلة أوشك أن تبدأ» و «التلميذتان أوشك أن تنجحا» فالاسم المتقدّم على «أوشك» مؤنّث ومثنى هو «التلميذتان»، ورغم ذلك فلم يتصل بـ «أوشك» ضمير يطابقه والمصدر المؤوّل من «أن تنجحا» في محل رفع فاعل «أوشك». ومثل: «الأصدقاء أوشك أن يصلوا» ومثل: «الجماعات أوشك أن يتفرقن». أما إذا كانت أوشك ناقصة فمن الواجب أن تتصل بضمير يطابق الاسم السابق فنقول: «الغائبة أوشكت أن تصل» و «التلميذتان أوشكتا أن تحضرا» وتعرب التلميذتان: مبتدأ مرفوع بالألف لأنه مثنى. «أوشكتا»: فعل ماض ناقص و «التاء» للتأنيث. و «الألف»: ضمير متصل في محل رفع اسم «أوشك»؛ والمصدر المؤول من «أن» مع ما دخلت عليه في محل نصب خبر «أوشك». ومثل: «الأصدقاء أوشكوا أن يصلوا».
أما إذا وقع بعد المضارع المنصوب اسم مرفوع ظاهر فتكون «أوشك» إما تامّة، أو ناقصة، مثل: «أوشك أن يأتي الطبيب» فإذا كانت «أوشك» تامّة يكون المصدر المؤوّل من «أن» وما دخلت عليه فاعل «أوشك» و «الطبيب»: فاعل يأتي. وإذا كانت ناقصة فإنها تحتمل ضميرا يعود على الاسم المتقدم عليها، مثل: «الطبيبان أوشكا أن يصلا».
فيكون اسمها الضمير المتصل بها وهو «الألف» المطابق للاسم السابق. وخبرها المصدر المؤوّل من «أن» وما دخلت عليه في محل نصب.
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
13-المعجم المفصل في النحو العربي (فائدتها)
فائدتها:1 ـ لام الابتداء تكون دائما مبنيّة على الفتح، وتؤكّد مضمون الجملة المثبتة وتزيل الشكّ عنها، ولا تدخل على حرف نفي، ولا على فعل منفيّ، ولا على المنفيّ بأحدهما، ولكنّها تدخل على الاسم الذي يفيد معنى النفي، مثل: «إنّ الكاذب لغير متّبع في نصائحه». فكلمة «غير» هي من الأسماء التي تفيد النّفي لذلك اقترنت باللّام.
2 ـ لام الابتداء لها حقّ الصّدارة غالبا، وإذا دخلت على المضارع فتخلص زمنه للحال، مثل: «إنّ الكاذب ليظلم نفسه» فالكاذب يظلم نفسه الآن في وقت كذبه. أمّا إذا وجدت قرينة تدل على الاستقبال، فيفيد المضارع المقرون بلام الابتداء الاستقبال، مثل قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} فالقرينة اللفظيّة «يوم القيامة» تخلص زمن المضارع للاستقبال لأن ذلك اليوم لم يأت بعد.
دخولها: تدخل لام الابتداء في مواضع كثيرة منها:
1 ـ على المبتدأ، فتجعله واجب التقديم على الخبر، كقول الشاعر:
«وللبين خير من مقام على أذى ***وللموت خير من حياة على ذلّ»
فقد دخلت «لام الابتداء» على المبتدأ «للبين» و «للموت».
2 ـ على الخبر المتقدّم على المبتدأ، مثل: «لمجتهد الطّالب ولمطاع رأيه». «لمجتهد»: خبر مقدّم مقرون بلام الابتداء، والمبتدأ «الطالب»، ومثله «لمطاع».
3 ـ على خبر «إنّ» دون سائر أخواتها، كقوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} شبه الجملة «في نعيم» و «في جحيم» خبر «إنّ» مقترن باللّام، ومثل:
«إنّا على البعاد والتّفرّق ***لنلتقي بالفكر إن لم نلتق»
حيث دخلت لام الابتداء على خبر «إنّ» وهو «لنلتقي». ويشترط في دخول لام الابتداء على خبر «إنّ» المشدّدة النّون والمكسورة الهمزة أربعة شروط:
أ ـ أن يكون متأخرا عن الاسم، فلا تقول: «إن لفيك عدالة» لأن الخبر «لفيك» متقدّم على الاسم، بل تقول: «إنّ فيك عدالة، وإن عندك ميلا للإنصاف».
ب ـ أن يكون مثبتا، فلا تدخل على الخبر المنفي ولا على حرف النفي ولا على الفعل المنفي، مثل: «إن الاجتهاد لما يضرّ صاحبه» إذ لا يجوز دخول لام الابتداء في هذا المثل على الفعل المنفي بـ «ما»، بل يجب حذفها فتقول: «إن الاجتهاد ما يضرّ صاحبه» بل يجوز أن تدخل على الاسم الذي يفيد النّفي، فتقول: «إنّ الاجتهاد لغير ضارّ بصاحبه».
ج ـ على الجملة التي فعلها ماص غير متصرّف ما عدا «ليس» لأنها تفيد النّفي، فتقول: «إنّ الكهرباء لنعم الاختراع» و «إنّ الإهمال لبئست نتيجته». فقد دخلت لام الابتداء على الفعل الجامد «نعم» الواقع خبرا لـ «إنّ»، وعلى الفعل الجامد «لبئست». ولا يجوز دخولها على الماضي المتصرّف إلا إذا كان مقرونا بـ «قد»، مثل: «إنّ الكهرباء لقد أفادت الناس» فقد دخلت لام الابتداء على الماضي المقرون بـ «قد» «لقد أفادت» وذلك لأنّ «قد» تقرب أحيانا الماضي من الحال كما تقرب المستقبل من الحال أحيانا أيضا.
د ـ على الجملة الفعليّة التي فعلها مضارع مثبت، ويقع خبرا، سواء أكان المضارع المثبت متصرّفا أم غير متصرّف تصرّفا كاملا، مثل: «يدع ويذر» فيقال: لا ماض لهما، أمّا المضارع الذي لا يتصرف مطلقا فلا وجود له، كقوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} وكقوله عليه السّلام: «إنّ العجب ليأكل الحسنات كما تأكل النّار الحطب». فقد دخلت «اللام» على المضارع «ليأكل» المثبت الواقع خبرا لـ «إنّ» وكقول الشاعر:
«إنّ الكريم ليخفي عنك عسرته ***حتى تراه غنيّا وهو مجهود»
وإن كان الخبر جملة اسميّة جاز دخول اللام على مبتدئها أو على خبره، فتقول: «إنّ الكهرباء لنفعها عميم»، أو «إن الكهرباء نفعها لعميم» ولا يجوز دخولها على الجملة الفعليّة الشرطيّة، لأن لام الابتداء لا تدخل على أداة الشرط ولا على فعله، ولا على جوابه، كذلك لا تدخل على المضارع المثبت المقرون بالسّين، أو بسوف.
وتدخل على الخبر إذا كان شبه جملة والنّاسخ هو «إنّ»، مثل قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}.
5 ـ على معمول خبر «إنّ» إذا كان متوسّطا بين الاسم والخبر، بشرط أن يكون الخبر خاليا من لام الابتداء وصالحا لقبولها ففي مثل: «إنّ الحروب مخرّبة البلاد» تقول: «إنّ الحروب للبلاد مخرّبة» فقد اقترنت لام الابتداء بـ «للبلاد» الواقعة مفعولا به لخبر «إنّ» «مخرّبة» ولا يجوز دخول لام الابتداء على خبر «إنّ» المقترن بها، مثل: «إن الكهرباء لتنير البلاد» فخبر «إنّ» هو مضارع مثبت مقرون «باللام» لذلك لا يجوز اقترانه بها ثانية، كذلك لا تدخل «اللام» على معمول الخبر غير الصالح لقبولها، مثل: إن الكهرباء أنارت البلاد، فلا نقول «إن الكهرباء للبلاد أنارت» لأن الخبر جملة فعلية ماضويّة غير مقترنة بـ «قد» وفعلها متصرّف، لذلك وجب عدم اقتران معمول الخبر بلام الابتداء.
5 ـ على ضمير الفصل، مثل: «إن الله لهو واحد أحد لا شريك له» حيث دخلت «اللّام» على ضمير الفصل «لهو» الواقع بين اسم «إنّ» وخبرها. وإن دخلت «اللّام» على ضمير الفصل لا تدخل على الخبر.
6 ـ على اسم «إنّ» بشرط أن يتقدّم عليه الخبر شبه الجملة الواقعة خبرا، مثل: «إنّ فيك لخصالا حميدة» و «إنّ أمامك لمستقبلا زاهرا»، وكقول الشاعر:
«إنّ من شيمتي لبذل تلادي ***دون عرضي فإن رضيت فكوني»
فقد دخلت «اللّام» على اسم «إنّ» «لبذل» المتقدّم عليه الخبر شبه الجملة «من شيمتي». وإذا دخلت على الاسم المتأخّر لا تدخل على الخبر المتقدّم.
المعجم المفصل في النحو العربي-عزيزة فوّال بابستي-صدر: 1413هـ/1992م
14-المعجم المفصّل في الإعراب (الشرط)
الشّرط ـأدوات الشّرط باعتبار عملها تقسم إلى قسمين: جازمة وغير جازمة.
1 ـ أدوات الشّرط الجازمة وتشمل الحروف والأسماء.
أ ـ الحروف هي: إن وإذما.
ب ـ الأسماء هي: متى، أيّان، أنّى، أينما، حيثما، من، ما، مهما، أيّ، كيفما.
2 ـ أدوات الشرط غير الجازمة وتشمل:
أ ـ الحروف وهي: لو، لو لا، لو ما، أمّا.
ب ـ الأسماء وهي: كيف، إذا.
وجملة الشرط تكون اعتراضيّة بين جملتين متلازمتين وهي ظرف لفعل الشرط إذا كان فعل الشرط غير ناسخ، نحو: «متى يحلّ فصل الصيف تشتدّ الحرارة». أمّا إذا كان فعل الشرط ناسخا فهي ظرف لخبر الفعل النّاسخ.
المعجم المفصّل في الإعراب-طاهر يوسف الخطيب-صدر: 1412هـ/1991م
15-موسوعة الفقه الكويتية (آبار 1)
آبَارٌ -1الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ
تَعْرِيفُ الْآبَارِ وَبَيَانُ أَحْكَامِهَا الْعَامَّةِ
1- الْآبَارُ جَمْعُ بِئْرٍ، مَأْخُوذٌ مِنْ «بَأَرَ» أَيْ حَفَرَ. وَيُجْمَعُ أَيْضًا جَمْعَ قِلَّةٍ عَلَى أَبُورٍ وَآبُرٍ. وَجَمْعُ الْكَثْرَةِ مِنْهُ بِئَارٌ.
وَيَنْقُلُ ابْنُ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ عَنْ «النُّتَفِ»: الْبِئْرُ هِيَ الَّتِي لَهَا مَوَادُّ مِنْ أَسْفَلِهَا، أَيْ لَهَا مِيَاهٌ تَمُدُّهَا وَتَنْبُعُ مِنْ أَسْفَلِهَا. وَقَالَ: وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ يَخْرُجُ الصِّهْرِيجُ وَالْجُبُّ وَالْآبَارُ الَّتِي تُمْلأُ مِنَ الْمَطَرِ، أَوْ مِنَ الْأَنْهَارِ، وَالَّتِي يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الرَّكِيَّةِ (عَلَى وَزْنِ عَطِيَّةٍ) كَمَا هُوَ الْعُرْفُ، إِذِ الرَّكِيَّةُ هِيَ الْبِئْرُ، كَمَا فِي الْقَامُوسِ. لَكِنْ فِي الْعُرْفِ هِيَ بِئْرٌ يَجْتَمِعُ مَاؤُهَا مِنَ الْمَطَرِ، فَهِيَ بِمَعْنَى الصِّهْرِيجِ. وَفِي حَاشِيَةِ الْبُجَيْرِمِيِّ عَلَى شَرْحِ الْخَطِيبِ أَنَّ «الْبِئْرَ» قَدْ تُطْلَقُ عَلَى الْمَكَانِ الَّذِي يَنْزِلُ فِيهِ الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ، وَهِيَ الْحَاصِلُ الَّذِي تَحْتَ بَيْتِ الرَّاحَةِ. وَيُسَمَّى الْآنَ بِالْخَزَّانِ. وَيُقَالُ عَنْ هَذِهِ الْبِئْرِ: بِئْرُ الْحُشِّ، وَالْحُشُّ هُوَ بَيْتُ الْخَلَاءِ.
2- وَالْأَصْلُ فِي مَاءِ الْآبَارِ الطَّهُورِيَّةُ (أَيْ كَوْنُهُ طَاهِرًا فِي نَفْسِهِ مُطَهِّرًا لِغَيْرِهِ)، فَيَصِحُّ التَّطْهِيرُ بِهِ اتِّفَاقًا، إِلاَّ إِذَا تَنَجَّسَ الْمَاءُ أَوْ تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي التَّغَيُّرِ يُعْرَفُ فِي أَحْكَامِ الْمِيَاهِ. غَيْرَ أَنَّ هُنَاكَ آبَارًا تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ عَنْ كَرَاهَةِ التَّطْهِيرِ بِمَائِهَا لِأَنَّهَا فِي أَرْضٍ مَغْضُوبٍ عَلَيْهَا. وَهُنَاكَ مِنَ الْآبَارِ مَا نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِالْفَضْلِ، وَرَتَّبُوا عَلَى ذَلِكَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ.
الْمَبْحَثُ الثَّانِي
حَفْرُ الْآبَارِ لِإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَتَعَلُّقُ حَقِّ النَّاسِ بِمَائِهَا
أَوَّلًا: حَفْرُ الْبِئْرِ لِإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ:
3- حَفْرُ الْبِئْرِ وَخُرُوجُ الْمَاءِ مِنْهَا طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْإِحْيَاءِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَمَّ تَفْجِيرُ الْمَاءِ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ فِي الْإِنْبَاتِ، مَعَ نِيَّةِ التَّمَلُّكِ، يَتِمُّ بِهِ الْإِحْيَاءُ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّ تَفْجِيرَ الْمَاءِ يَتِمُّ بِهِ الْإِحْيَاءُ فِي الْجُمْلَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَشْتَرِطُونَ إِعْلَانَ النِّيَّةِ إِذَا كَانَتِ الْبِئْرُ بِئْرَ مَاشِيَةٍ. وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ يَشْتَرِطُونَ الْغَرْسَ إِذَا كَانَتِ الْبِئْرُ لِبُسْتَانٍ، كَمَا يَشْتَرِطُونَ نِيَّةَ التَّمَلُّكِ. وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ طَيَّهَا (أَيْ بِنَاءَ جُدْرَانِهَا) إِذَا كَانَتْ فِي أَرْضٍ رَخْوَةٍ أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ الْإِحْيَاءَ لَا يَتِمُّ بِتَفْجِيرِ الْمَاءِ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا بِالْحَفْرِ وَسَقْيِ الْأَرْضِ.
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ لِلْبِئْرِ فِي الْأَرْضِ الْمَوَاتِ حَرِيمًا، لِحَاجَةِ الْحَفْرِ وَالِانْتِفَاعِ، حَتَّى لَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي حَرِيمِهِ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- جَعَلَ لِلْبِئْرِ حَرِيمًا. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي يُعْتَبَرُ حَرِيمًا، فَحَدَّدَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِالْأَذْرُعِ حَسَبَ نَوْعِ الْبِئْرِ. وَيَسْتَنِدُ الْمَذْهَبَانِ فِي ذَلِكَ إِلَى مَا وَرَدَ مِنْ أَخْبَارٍ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَقَدَّرُوهُ بِمَا لَا يَضِيقُ عَلَى الْوَارِدِ، وَلَا عَلَى مُنَاخِ إِبِلِهَا، وَلَا مَرَابِضِ مَوَاشِيهَا عِنْدَ الْوُرُودِ، وَلَا يَضُرُّ بِمَاءِ الْبِئْرِ. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ «إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ».
ثَانِيًا: تَعَلُّقُ حَقِّ النَّاسِ بِمَاءِ الْآبَارِ:
4- الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا رَوَاهُ الْخَلاَّلُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَنَّهُ قَالَ: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءِ وَالْكَلَإِ وَالنَّارِ». كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ إِلاَّ مَا حُمِلَ مِنْهُ». وَالِاسْتِثْنَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَاءِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ غَيْرُ الْمُحْرَزِ.
وَعَلَى هَذَا فَمِيَاهُ الْآبَارِ الْعَامَّةِ مُبَاحَةٌ وَلَا مِلْكَ فِيهَا لِأَحَدٍ إِلاَّ بِالِاغْتِرَافِ. وَأَمَّا مِيَاهُ الْآبَارِ الْخَاصَّةِ فَإِنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ الْإِبَاحَةِ الْعَامَّةِ. وَلَمَّا كَانَتْ حَاجَةُ الْإِنْسَانِ إِلَى الْمَاءِ لِشُرْبِهِ وَشُرْبِ حَيَوَانِهِ مِمَّا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ بِحَقِّ الشَّفَةِ مَاسَّةً وَمُتَكَرِّرَةً، كَمَا أَنَّ أَصْلَ الْمَاءِ قَبْلَ جَرَيَانِهِ فِي الْمِلْكِ الْخَاصِّ مُبَاحٌ، وَأَنَّ مِيَاهَ الْآبَارِ فِي الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ مُتَّصِلَةٌ بِالْمَجْرَى الْعَامِّ، أَوْجَدَ ذَلِكَ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ فِي مَاءِ الْآبَارِ الْخَاصَّةِ، لَكِنَّهَا إِبَاحَةٌ قَاصِرَةٌ عَلَى حَقِّ الشَّفَةِ دُونَ حَقِّ الشُّرْبِ.
5- وَاتِّجَاهَاتُ الْفُقَهَاءِ مُخْتَلِفَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِمِلْكِيَّةِ مَاءِ آبَارِ الدُّورِ وَالْأَرَاضِي الْمَمْلُوكَةِ، وَتَعَلُّقِ حَقِّ النَّاسِ بِهَا. فَقِيلَ بِأَنَّ لِلنَّاسِ حَقًّا فِيهَا. وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَاءٌ قَرِيبٌ فِي غَيْرِ مِلْكِ أَحَدٍ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَفِضْ عَنْ حَاجَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَيَّدَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ يَفِيضُ عَنْ حَاجَتِهِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ الْبِئْرَ مَا وُضِعَ لِلْإِحْرَازِ، وَلِأَنَّ فِي بَقَاءِ حَقِّ الشَّفَةِ ضَرُورَةً، وَلِأَنَّ الْبِئْرَ تَتْبَعُ الْأَرْضَ دُونَ الْمَاءِ، وَلِخَبَرِ: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءِ وَالْكَلَإِ وَالنَّارِ». وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا كَانَ حَفْرُ الْبِئْرِ بِقَصْدِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَاءِ، أَوْ حُفِرَ بِقَصْدِ التَّمَلُّكِ، وَهُوَ غَيْرُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي غَيْرِ آبَارِ الدُّورِ وَالْحَوَائِطِ الْمُسَوَّرَةِ. وَقَيَّدَ ذَلِكَ ابْنُ رُشْدٍ بِمَا إِذَا كَانَتِ الْبِئْرُ فِي أَرْضٍ لَا يَضُرُّهَا الدُّخُولُ فِيهَا.
الِاتِّجَاهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ أَحَدٍ، وَمِلْكِيَّتُهُ خَالِصَةٌ لِصَاحِبِهِ. وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لآِبَارِ الدُّورِ وَالْحَوَائِطِ الْمُسَوَّرَةِ، وَالْقَوْلُ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِهَا مِنَ الْآبَارِ الْخَاصَّةِ فِي الْأَرَاضِيِ الْمَمْلُوكَةِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا كَانَ يَمْلِكُ الْمَنْبَعَ، أَوْ كَانَ حَفَرَهَا بِقَصْدِ التَّمَلُّكِ. فَلِصَاحِبِ الْبِئْرِ عَلَى هَذَا أَنْ يَمْنَعَ الْغَيْرَ مِنْ حَقِّ الشَّفَةِ أَيْضًا، وَأَنْ يَبِيعَ الْمَاءَ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُحْرَزِ. وَيُقَيَّدُ الْمَنْعُ بِغَيْرِ مَنْ خِيفَ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ؛ لِأَنَّهَا حَالَةُ ضَرُورَةٍ. وَفِي مَعْنَى الْمَاءِ الْمَعَادِنُ الْجَارِيَةُ فِي الْأَمْلَاكِ، كَالْقَارِ وَالنَّفْطِ.
الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ
حَدُّ الْكَثْرَةِ فِي مَاءِ الْبِئْرِ وَأَثَرُ اخْتِلَاطِهِ بِطَاهِرٍ وَانْغِمَاسُ آدَمِيٍّ فِيهِ طَاهِرٍ أَوْ بِهِ نَجَاسَةٌ
6- اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ. وَيَخْتَلِفُونَ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ، فَيُقَدِّرُهَا الْحَنَفِيَّةُ بِمَا يُوَازِي عَشْرَ أَذْرُعٍ فِي عَشْرٍ دُونَ اعْتِبَارٍ لِلْعُمْقِ مَا دَامَ الْقَاعُ لَا يَظْهَرُ بِالِاغْتِرَافِ. وَالذِّرَاعُ سَبْعُ قَبَضَاتٍ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَشْرًا فِي عَشْرٍ فَإِنَّ الْمَاءَ لَا يَتَنَجَّسُ بِشَيْءٍ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ، اعْتِبَارًا بِالْمَاءِ الْجَارِي. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَطْهُرَ، لَكِنْ تُرِكَ الْقِيَاسُ لِلْآثَارِ، وَمَسَائِلُ الْآبَارِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْآثَارِ. وَالْمُفْتَى بِهِ الْقَوْلُ بِالْعَشْرِ وَلَوْ حُكْمًا لِيَعُمَّ مَا لَهُ طُولٌ بِلَا عَرْضٍ فِي الْأَصَحِّ. وَقِيلَ: الْمُعْتَبَرُ فِي الْقَدْرِ الْكَثِيرِ رَأْيُ الْمُبْتَلَى بِهِ، بِنَاءً عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ثُبُوتِ تَقْدِيرٍ شَرْعًا.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْكَثِيرَ مَا زَادَ قَدْرُهُ عَنْ آنِيَةِ الْغُسْلِ، وَكَذَا مَا زَادَ عَنْ قَدْرِ آنِيَةِ الْوُضُوءِ، عَلَى الرَّاجِحِ. وَيَتَّفِقُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، عَلَى أَنَّ الْكَثِيرَ مَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ، لِحَدِيثِ «إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ» وَفِي رِوَايَةٍ: «لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ». وَإِنْ نَقَصَ عَنْ الْقُلَّتَيْنِ بِرِطْلٍ أَوْ رِطْلَيْنِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْقُلَّتَيْنِ.
7- إِذَا اخْتَلَطَ بِمَاءِ الْبِئْرِ طَاهِرٌ، مَائِعًا كَانَ أَوْ جَامِدًا، وَكَانَتْ الْبِئْرُ مِمَّا يُعْتَبَرُ مَاؤُهَا قَلِيلًا، تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمَاءِ الْقَلِيلِ الْمُخْتَلِطِ بِطَاهِرٍ، وَيُرْجَعُ فِي تَحْدِيدِ الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ إِلَى تَفْصِيلَاتِ الْمَذَاهِبِ فِي مُصْطَلَحِ (مِيَاه).
انْغِمَاسُ الْآدَمِيِّ فِي مَاءِ الْبِئْرِ:
8- اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ الْآدَمِيَّ إِذَا انْغَمَسَ فِي الْبِئْرِ، وَكَانَ طَاهِرًا مِنَ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ، وَكَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا، فَإِنَّ الْمَاءَ لَا يُعْتَبَرُ مُسْتَعْمَلًا، وَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ طَهُورِيَّتِهِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُنْزَحُ مِنْهُ عِشْرُونَ دَلْوًا.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْآدَمِيَّ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَأَنَّ مَوْتَ الْآدَمِيِّ فِي الْمَاءِ لَا يُنَجِّسُهُ إِلاَّ إِنْ تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِ الْمَاءِ تَغَيُّرًا فَاحِشًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ». وَلِأَنَّهُ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ، كَالشَّهِيدِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَجُسَ بِالْمَوْتِ لَمْ يَطْهُرْ بِالْغُسْلِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْآدَمِيَّةِ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ نَزْحَ كُلِّ مَاءِ الْبِئْرِ بِمَوْتِ الْآدَمِيِّ فِيهِ، إِذْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ بِمَوْتِ سِنَّوْرَيْنِ أَوْ كَلْبٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ آدَمِيٍّ. وَمَوْتُ الْكَلْبِ لَيْسَ بِشَرْطٍ حَتَّى لَوْ انْغَمَسَ وَأُخْرِجَ حَيًّا يُنْزَحُ جَمِيعُ الْمَاءِ.
9- وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ الْحَنْبَلِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُنَجِّسَ الْكَافِرُ الْمَاءَ بِانْغِمَاسِهِ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ وَرَدَ فِي الْمُسْلِمِ.
وَإِذَا انْغَمَسَ فِي الْبِئْرِ مَنْ بِهِ نَجَاسَةٌ حُكْمِيَّةٌ، بِأَنْ كَانَ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثًا، فَإِنَّهُ يُنْظَرُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَاءُ الْبِئْرِ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ نَوَى بِالِانْغِمَاسِ رَفْعَ الْحَدَثِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِقَصْدِ التَّبَرُّدِ أَوْ إِحْضَارِ الدَّلْوِ.
فَإِنْ كَانَ الْبِئْرُ مَعِينًا- أَيْ مَاؤُهُ جَارٍ- فَإِنَّ انْغِمَاسَ الْجُنُبِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ لَا يُنَجِّسُهُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ إِنْ لَمْ يَنْوِ رَفْعَ الْحَدَثِ. وَهُوَ اتِّجَاهُ مَنْ قَالَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَاهِرٌ لِغَلَبَةِ غَيْرِ الْمُسْتَعْمَلِ، أَوْ لِأَنَّ الِانْغِمَاسَ لَا يُصَيِّرُهُ مُسْتَعْمَلًا، وَعَلَى هَذَا فَلَا يُنْزَحُ مِنْهُ شَيْءٌ.
10- وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ كَرَاهَةَ انْغِمَاسِ الْجُنُبِ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ فِي الْبِئْرِ، وَإِنْ كَانَ مَعِينًا، لِخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ». وَهُوَ رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ إِنْ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ. وَإِلَى هَذَا يَتَّجِهُ مَنْ يَرَى مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمَاءَ بِالِانْغِمَاسِ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا، وَيَرَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ نَجِسٌ يُنْزَحُ كُلُّهُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ دَلْوًا لَوْ كَانَ مُحْدِثًا، وَيُنْزَحُ جَمِيعُهُ لَوْ كَانَ جُنُبًا أَوْ كَافِرًا؛ لِأَنَّ بَدَنَ الْكَافِرِ لَا يَخْلُو مِنْ نَجَاسَةٍ حَقِيقِيَّةٍ أَوْ حُكْمِيَّةٍ، إِلاَّ إِذَا تَثَبَّتْنَا مِنْ طَهَارَتِهِ وَقْتَ انْغِمَاسِهِ.
11- وَإِذَا كَانَ مَاءُ الْبِئْرِ قَلِيلًا وَانْغَمَسَ فِيهِ بِغَيْرِ نِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ، فَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُجَاوِرَ فَقَطْ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الْمَاءُ عَلَى طَهُورِيَّتِهِ. وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ تَرْمِزُ لَهَا كُتُبُهُمْ «مَسْأَلَةُ الْبِئْرِ جحط» وَيَرْمِزُونَ بِالْجِيمِ إِلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ مِنْ أَنَّ الْمَاءَ نَجِسٌ بِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْ الْبَعْضِ بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ، وَالرَّجُلُ نَجِسٌ لِبَقَاءِ الْحَدَثِ فِي بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ، أَوْ لِنَجَاسَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَيَرْمِزُونَ بِالْحَاءِ لِرَأْيِ أَبِي يُوسُفَ مِنْ أَنَّ الرَّجُلَ عَلَى حَالِهِ مِنَ الْحَدَثِ، لِعَدَمِ الصَّبِّ، وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَهُ، وَالْمَاءُ عَلَى حَالِهِ لِعَدَمِ نِيَّةِ الْقُرْبَةِ، وَعَدَمِ إِزَالَةِ الْحَدَثِ. وَيَرْمِزُونَ بِالطَّاءِ لِرَأْيِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنْ أَنَّ الرَّجُلَ طَاهِرٌ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الصَّبِّ، وَكَذَا الْمَاءُ، لِعَدَمِ نِيَّةِ الْقُرْبَةِ.
12- أَمَّا إِذَا انْغَمَسَ فِي الْمَاءِ الْقَلِيلِ بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ، كَانَ الْمَاءُ كُلُّهُ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، لَكِنْ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَبْقَى الْمَاءُ عَلَى طَهُورِيَّتِهِ وَلَا يُرْفَعُ الْحَدَثُ. وَكَذَلِكَ يَكُونُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَوْ تَدَلَّكَ وَلَوْ لَمْ يَنْوِ رَفْعَ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّ التَّدَلُّكَ فِعْلٌ مِنْهُ يَقُومُ مَقَامَ نِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ. 13- أَمَّا إِذَا انْغَمَسَ إِنْسَانٌ فِي مَاءِ الْبِئْرِ وَعَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، أَوْ أُلْقِيَ فِيهِ شَيْءٌ نَجِسٌ، فَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ لَا يَتَنَجَّسُ بِشَيْءٍ، مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ، عَلَى مَا سَبَقَ.
غَيْرَ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ فِي أَشْهَرِ رِوَايَتَيْنِ عِنْدَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ مَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ، إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَلَا يَتَنَجَّسُ بِشَيْءٍ مِنَ النَّجَاسَاتِ، إِلاَّ بِبَوْلِ الْآدَمِيِّينَ أَوْ عَذِرَتِهِمُ الْمَائِعَةِ. وَجْهُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ». وَكَذَلِكَ إِذَا مَا سَقَطَ فِيهِ شَيْءٌ نَجِسٌ، وَفِي مُقَابِلِ الْمَشْهُورِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ إِلاَّ بِالتَّغَيُّرِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ.
14- وَقَدْ فَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا بِمَا لَمْ يُفَصِّلْهُ غَيْرُهُمْ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ بِخُرْءِ الْحَمَامِ وَالْعُصْفُورِ، وَلَوْ كَانَ كَثِيرًا؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ اسْتِحْسَانًا، بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ الصَّدْرَ الْأَوَّلَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ اقْتِنَاءِ الْحَمَامِ فِي الْمَسَاجِدِ، حَتَّى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، مَعَ وُرُودِ الْأَمْرِ بِتَطْهِيرِهَا. وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى عَدَمِ نَجَاسَتِهِ. وَخُرْءُ الْعُصْفُورِ كَخُرْءِ الْحَمَامَةِ، فَمَا يَدُلُّ عَلَى طَهَارَةِ هَذَا يَدُلُّ عَلَى طَهَارَةِ ذَاكَ. وَكَذَلِكَ خُرْءُ جَمِيعِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ عَلَى الْأَرْجَحِ.
الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ
أَثَرُ وُقُوعِ حَيَوَانٍ فِي الْبِئْرِ
15- الْأَصْلُ أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ لَا يَنْجُسُ إِلاَّ بِتَغَيُّرِ أَحَدِ أَوْصَافِهِ كَمَا سَبَقَ. وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى أَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ، إِذَا مَا وَقَعَ فِي مَاءِ الْبِئْرِ لَا يُؤَثِّرُ فِي طَهَارَتِهِ، كَالنَّحْلِ، لِحَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَقَعَتْ فِيهِ دَابَّةٌ لَيْسَ لَهَا دَمٌ فَمَاتَتْ فَهُوَ حَلَالٌ». وَمِمَّا قِيلَ فِي تَوْجِيهِهِ أَنَّ الْمُنَجِّسَ لَهُ الدِّمَاءُ السَّائِلَةُ، فَمَا لَا دَمَ لَهُ سَائِلًا لَا يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ مَا مَاتَ فِيهِ مِنَ الْمَائِعَاتِ. وَكَذَا مَا كَانَ مَأْكُولَ اللَّحْمِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ يُعْلَمُ أَنَّ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ مَخْرَجِهِ نَجَاسَةً، وَخَرَجَ حَيًّا، مَا دَامَ لَمْ يَتَسَبَّبْ فِي تَغَيُّرِ أَحَدِ أَوْصَافِ الْمَاءِ، عَدَا مَا كَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ كَالْخِنْزِيرِ. وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ السُّؤْرُ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَصِلْ فَمُهُ إِلَى الْمَاءِ لَا يُنْزَحُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنْ وَصَلَ وَكَانَ سُؤْرُهُ طَاهِرًا فَإِنَّهُ طَاهِرٌ. يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: وَقَالَ الْبَعْضُ: الْمُعْتَبَرُ السُّؤْرُ. وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: وَكُلُّ حَيَوَانٍ حُكْمُ جِلْدِهِ وَشَعْرِهِ وَعَرَقِهِ وَدَمْعِهِ وَلُعَابِهِ حُكْمُ سُؤْرِهِ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ. وَيُنْظَرُ حُكْمُ السُّؤْرِ فِي مُصْطَلَحِ «سُؤْر».
16- وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَغَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ يَتَّجِهُونَ إِلَى عَدَمِ التَّوَسُّعِ فِي الْحُكْمِ بِالتَّنَجُّسِ بِوُقُوعِ الْحَيَوَانِ ذِي النَّفْسِ السَّائِلَةِ (الدَّمِ السَّائِلِ) عُمُومًا، وَإِنْ وُجِدَ بَعْضُ اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ.
فَالْمَالِكِيَّةُ يَنُصُّونَ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الرَّاكِدَ، أَوِ الَّذِي لَهُ مَادَّةٌ، أَوْ كَانَ الْمَاءُ جَارِيًا، إِذَا مَاتَ فِيهِ حَيَوَانٌ بَرِّيٌّ ذُو نَفْسٍ سَائِلَةٍ، أَوْ حَيَوَانٌ بَحْرِيٌّ، لَا يَنْجُسُ، وَإِنْ كَانَ يُنْدَبُ نَزْحُ قَدْرٍ مُعَيَّنٍ، لِاحْتِمَالِ نُزُولِ فَضَلَاتٍ مِنَ الْمَيِّتِ، وَلِأَنَّهُ تَعَافُهُ النَّفْسُ. وَإِذَا وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَأُخْرِجَ حَيًّا، أَوْ وَقَعَ بَعْدَ أَنْ مَاتَ بِالْخَارِجِ، فَإِنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ وَلَا يُنْزَحُ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ لَا يُطْلَبُ بِسَبَبِهِ النَّزْحُ. وَإِنَّمَا يُوجِبُ الْخِلَافَ فِيهِ إِذَا كَانَ يَسِيرًا. وَمَوْتُ الدَّابَّةِ بِخِلَافِ ذَلِكَ فِيهَا. وَلِأَنَّ سُقُوطَ الدَّابَّةِ بَعْدَ مَوْتِهَا فِي الْمَاءِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ سُقُوطِ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ مِنْ بَوْلٍ وَغَائِطٍ، وَذَاتُهَا صَارَتْ نَجِسَةً بِالْمَوْتِ. فَلَوْ طُلِبَ النَّزْحُ فِي سُقُوطِهَا مَيِّتَةً لَطُلِبَ فِي سَائِرِ النَّجَاسَاتِ، وَلَا قَائِلَ بِذَلِكَ فِي الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ النَّزْحُ بِحَسَبِ كِبَرِ الدَّابَّةِ وَصِغَرِهَا، وَكَثْرَةِ مَاءِ الْبِئْرِ وَقِلَّتِهِ.
وَعَنِ ابْنِ الْمَاجِشُونَ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَأَصْبَغَ: أَنَّ الْآبَارَ الصِّغَارَ مِثْلَ آبَارِ الدُّورِ، تَفْسُدُ بِمَا وَقَعَ فِيهَا حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فِيهَا، مِنْ شَاةٍ أَوْ دَجَاجَةٍ، وَإِنْ لَمْ تَتَغَيَّرْ، وَلَا تَفْسُدُ بِمَا وَقَعَ فِيهَا مَيِّتًا حَتَّى تَتَغَيَّرَ. وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِيهَا مَيِّتًا فَقِيلَ: إِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا مَاتَ فِيهِ، وَقِيلَ: لَا تَفْسُدُ حَتَّى تَتَغَيَّرَ. وَقَالُوا: إِذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا أَوْ رِيحًا بِتَفَسُّخِ الْحَيَوَانِ فِيهِ تَنَجَّسَ.
17- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا كَانَ مَاءُ الْبِئْرِ كَثِيرًا طَاهِرًا، وَتَفَتَّتَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ، كَفَأْرَةٍ تَمَعَّطَ شَعْرُهَا بِحَيْثُ لَا يَخْلُو دَلْوٌ مِنْ شَعْرَةٍ، فَهُوَ طَهُورٌ كَمَا كَانَ إِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الشَّعْرَ نَجِسٌ يُنْزَحُ الْمَاءُ كُلُّهُ لِيَذْهَبَ الشَّعْرُ، مَعَ مُلَاحَظَةِ أَنَّ الْيَسِيرَ عُرْفًا مِنَ الشَّعْرِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ مَا عَدَا شَعْرَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ.
وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ إِذَا كَانَ قَلِيلًا فَإِنَّهُ يَتَنَجَّسُ وَلَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ الْمَاجِشُونَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْآبَارِ الصِّغَارِ إِذَا مَاتَ فِيهَا حَيَوَانٌ ذُو نَفْسٍ سَائِلَةٍ.
18- وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا وَقَعَتِ الْفَأْرَةُ أَوِ الْهِرَّةُ فِي مَاءٍ يَسِيرٍ، ثُمَّ خَرَجَتْ حَيَّةً، فَهُوَ طَاهِرٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ. وَإِصَابَةُ الْمَاءِ لِمَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مَشْكُوكٌ فِيهِ. وَكُلُّ حَيَوَانٍ حُكْمُ جِلْدِهِ وَشَعْرِهِ وَعَرَقِهِ وَدَمْعِهِ وَلُعَابِهِ حُكْمُ سُؤْرِهِ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ. وَيُفْهَمُ مِنْ قَيْدِ «ثُمَّ خَرَجَتْ حَيَّةً» أَنَّهَا لَوْ مَاتَتْ فِيهِ يَتَنَجَّسُ الْمَاءُ، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ تَقْيِيدِ الْمَاءِ «بِالْيَسِيرِ» أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ لَا يَنْجُسُ إِلاَّ إِذَا تَغَيَّرَ وَصْفُهُ.
19- أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ أَكْثَرُوا مِنَ التَّفْصِيلَاتِ، فَنَصُّوا عَلَى أَنَّ الْفَأْرَةَ إِذَا وَقَعَتْ هَارِبَةً مِنَ الْقِطِّ يُنْزَحُ كُلُّ الْمَاءِ؛ لِأَنَّهَا تَبُولُ. وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مَجْرُوحَةً أَوْ مُتَنَجِّسَةً. وَقَالُوا: إِنْ كَانَتِ الْبِئْرُ مَعِينًا، أَوِ الْمَاءُ عَشْرًا فِي عَشْرٍ، لَكِنْ تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ، وَلَمْ يُمْكِنْ نَزْحُهَا، نُزِحَ قَدْرُ مَا كَانَ فِيهَا.
20- وَإِذَا كَانَتِ الْبِئْرُ غَيْرَ مَعِينٍ، وَلَا عَشْرًا فِي عَشْرٍ، نُزِحَ مِنْهَا عِشْرُونَ دَلْوًا بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ، إِلَى ثَلَاثِينَ نَدْبًا، بِمَوْتِ فَأْرَةٍ أَوْ عُصْفُورٍ أَوْ سَامٍّ أَبْرَصَ. وَلَوْ وَقَعَ أَكْثَرُ مِنْ فَأْرَةٍ إِلَى الْأَرْبَعِ فَكَالْوَاحِدَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَلَوْ خَمْسًا إِلَى التِّسْعِ كَالدَّجَاجَةِ، وَعَشْرًا كَالشَّاةِ، وَلَوْ فَأْرَتَيْنِ كَهَيْئَةِ الدَّجَاجَةِ يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ. وَإِذَا مَاتَ فِيهَا حَمَامَةٌ أَوْ دَجَاجَةٌ أَوْ سِنَّوْرٌ يُنْزَحُ أَرْبَعُونَ وُجُوبًا إِلَى سِتِّينَ اسْتِحْبَابًا. وَفِي رِوَايَةٍ إِلَى خَمْسِينَ.
وَيُنْزَحُ كُلُّهُ لِسِنَّوْرَيْنِ وَشَاةٍ، أَوِ انْتِفَاخِ الْحَيَوَانِ الدَّمَوِيِّ، أَوْ تَفَسُّخِهِ وَلَوْ صَغِيرًا. وَبِانْغِمَاسِ كَلْبٍ حَتَّى لَوْ خَرَجَ حَيًّا. وَكَذَا كُلُّ مَا سُؤْرُهُ نَجِسٌ أَوْ مَشْكُوكٌ فِيهِ. وَقَالُوا فِي الشَّاةِ: إِنْ خَرَجَتْ حَيَّةً فَإِنْ كَانَتْ هَارِبَةً مِنَ السَّبُعِ نُزِحَ كُلُّهُ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ أَنَّهُ يُنَجِّسُ الْمَاءَ؛ لِأَنَّهَا تَبُولُ بَيْنَ أَفْخَاذِهَا فَلَا تَخْلُو مِنَ الْبَوْلِ. وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ نَزْحَ عِشْرِينَ دَلْوًا، لِأَنَّ بَوْلَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً خَفِيفَةً، وَقَدِ ازْدَادَ خِفَّةً بِسَبَبِ الْبِئْرِ فَيَكْفِي نَزْحُ أَدْنَى مَا يُنْزَحُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: يُنْزَحُ مَاءُ الْبِئْرِ كُلُّهُ، لِاسْتِوَاءِ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ وَالْغَلِيظَةِ فِي حُكْمِ تَنَجُّسِ الْمَاءِ.
الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ
تَطْهِيرُ الْآبَارِ وَحُكْمُ تَغْوِيرِهَا
21- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَجَّسَ مَاءُ الْبِئْرِ فَإِنَّ التَّكْثِيرَ طَرِيقُ تَطْهِيرِهِ عِنْدَ تَنَجُّسِهَا إِذَا زَالَ التَّغَيُّرُ. وَيَكُونُ التَّكْثِيرُ بِالتَّرْكِ حَتَّى يَزِيدَ الْمَاءُ وَيَصِلَ حَدَّ الْكَثْرَةِ، أَوْ بِصَبِّ مَاءٍ طَاهِرٍ فِيهِ حَتَّى يَصِلَ هَذَا الْحَدَّ.
وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ طُرُقًا أُخْرَى، إِذْ يَقُولُونَ: إِذَا تَغَيَّرَ مَاءُ الْبِئْرِ بِتَفَسُّخِ الْحَيَوَانِ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا أَوْ رِيحًا يَطْهُرُ بِالنَّزْحِ أَوْ بِزَوَالِ أَثَرِ النَّجَاسَةِ بِأَيِّ شَيْءٍ. بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا زَالَتِ النَّجَاسَةُ مِنْ نَفْسِهَا طَهُرَ. وَقَالُوا فِي بِئْرِ الدَّارِ الْمُنْتِنَةِ: طَهُورُ مَائِهَا بِنَزْحِ مَا يُذْهِبُ نَتْنَهُ.
22- وَيَقْصُرُ الشَّافِعِيَّةُ التَّطْهِيرَ عَلَى التَّكْثِيرِ فَقَطْ إِذَا كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا (دُونَ الْقُلَّتَيْنِ) إِمَّا بِالتَّرْكِ حَتَّى يَزِيدَ الْمَاءُ، أَوْ بِصَبِّ مَاءٍ عَلَيْهِ لِيَكْثُرَ، وَلَا يَعْتَبِرُونَ النَّزْحَ لِيَنْبُعَ الْمَاءُ الطَّهُورُ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ نُزِحَ فَقَعْرُ الْبِئْرِ يَبْقَى نَجِسًا كَمَا تَتَنَجَّسُ جُدْرَانُ الْبِئْرِ بِالنَّزْحِ. وَقَالُوا فِيمَا إِذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ شَيْءٌ نَجِسٌ، كَفَأْرَةٍ تَمَعَّطَ شَعْرُهَا، فَإِنَّ الْمَاءَ يُنْزَحُ لَا لِتَطْهِيرِ الْمَاءِ، وَإِنَّمَا بِقَصْدِ التَّخَلُّصِ مِنَ الشَّعْرِ.
23- وَيُفَصِّلُ الْحَنَابِلَةُ فِي التَّطْهِيرِ بِالتَّكْثِيرِ إِذَا كَانَ الْمَاءُ الْمُتَنَجِّسُ قَلِيلًا، أَوْ كَثِيرًا لَا يَشُقُّ نَزْحُهُ، وَيَخُصُّونَ ذَلِكَ بِمَا إِذَا كَانَ تَنَجَّسَ الْمَاءُ بِغَيْرِ بَوْلِ الْآدَمِيِّ أَوْ عَذِرَتِهِ. وَيَكُونُ التَّكْثِيرُ بِإِضَافَةِ مَاءٍ طَهُورٍ كَثِيرٍ، حَتَّى يَعُودَ الْكُلُّ طَهُورًا بِزَوَالِ التَّغَيُّرِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ تَنَجُّسُ الْمَاءِ بِبَوْلِ الْآدَمِيِّ أَوْ عَذِرَتِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ نَزْحُ مَائِهَا، فَإِنْ شَقَّ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَطْهُرُ بِزَوَالِ تَغَيُّرِهِ، سَوَاءٌ بِنَزْحِ مَا لَا يَشُقُّ نَزْحُهُ، أَوْ بِإِضَافَةِ مَاءٍ إِلَيْهِ، أَوْ بِطُولِ الْمُكْثِ. عَلَى أَنَّ النَّزْحَ إِذَا زَالَ بِهِ التَّغَيُّرُ وَكَانَ الْبَاقِي مِنَ الْمَاءِ كَثِيرًا (قُلَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ) يُعْتَبَرُ مُطَهِّرًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
24- أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَقْصُرُونَ التَّطْهِيرَ عَلَى النَّزْحِ فَقَطْ، لِكُلِّ مَاءِ الْبِئْرِ، أَوْ عَدَدٍ مُحَدَّدٍ مِنَ الدِّلَاءِ عَلَى مَا سَبَقَ. وَإِذَا كَانَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ اعْتَبَرُوا النَّزْحَ طَرِيقًا لِلتَّطْهِيرِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ عِنْدَهُمْ كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يُحَدِّدُوا مِقْدَارًا مِنَ الدِّلَاءِ وَإِنَّمَا يَتْرُكُونَ ذَلِكَ لِتَقْدِيرِ النَّازِحِ. وَمِنْ أَجْلِ هَذَا نَجِدُ الْحَنَفِيَّةَ هُمُ الَّذِينَ فَصَّلُوا الْكَلَامَ فِي النَّزْحِ، وَهُمُ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا عَلَى آلَةِ النَّزْحِ، وَمَا يَكُونُ عَلَيْهِ حَجْمُهَا.
25- فَإِذَا وَقَعَتْ فِي الْبِئْرِ نَجَاسَةٌ نُزِحَتْ، وَكَانَ نَزْحُ مَا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ طَهَارَةً لَهَا. لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبِئْرِ أَنَّهُ وُجِدَ فِيهَا قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَا تَطْهُرُ أَصْلًا، لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ، لِاخْتِلَاطِ النَّجَاسَةِ بِالْأَوْحَالِ وَالْجُدْرَانِ.
الثَّانِي: لَا تَنْجَسُ، إِذْ يَسْقُطُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ، لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ أَوِ التَّطْهِيرِ. وَقَدْ تَرَكُوا الْقِيَاسَيْنِ الظَّاهِرَيْنِ بِالْخَبَرِ وَالْأَثَرِ، وَضَرْبٍ مِنَ الْفِقْهِ الْخَفِيِّ وَقَالُوا: إِنَّ مَسَائِلَ الْآبَارِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اتِّبَاعِ الْآثَارِ. أَمَّا الْخَبَرُ فَمَا رُوِيَ مِنْ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي الْبِئْرِ: يُنْزَحُ مِنْهَا عِشْرُونَ» وَفِي رِوَايَةٍ: «يُنْزَحُ مِنْهَا ثَلَاثُونَ دَلْوًا».
وَأَمَّا الْأَثَرُ فَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: يُنْزَحُ عِشْرُونَ. وَفِي رِوَايَةٍ: ثَلَاثُونَ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي دَجَاجَةٍ مَاتَتْ فِي الْبِئْرِ: يُنْزَحُ مِنْهَا أَرْبَعُونَ دَلْوًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا أَمَرَا بِنَزْحِ مَاءِ زَمْزَمَ حِينَ مَاتَ فِيهَا زِنْجِيٌّ. وَكَانَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا أَحَدٌ.
وَأَمَّا الْفِقْهُ الْخَفِيُّ فَهُوَ أَنَّ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَمًا سَائِلًا وَقَدْ تَشَرَّبَ فِي أَجْزَائِهَا عِنْدَ الْمَوْتِ فَنَجَّسَهَا. وَقَدْ جَاوَرَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْمَاءَ، وَهُوَ يَنْجُسُ أَوْ يَفْسُدُ بِمُجَاوَرَةِ النَّجَسِ، حَتَّى قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إِذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ ذَنَبُ فَأْرَةٍ، يُنْزَحُ جَمِيعُ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْقَطْعِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ بِلَّةٍ، فَيُجَاوِرُ أَجْزَاءَ الْمَاءِ فَيُفْسِدُهَا.
26- وَقَالُوا: لَوْ نُزِحَ مَاءُ الْبِئْرِ، وَبَقِيَ الدَّلْوُ الْأَخِيرُ فَإِنْ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ لَا يُحْكَمُ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ، وَإِنْ انْفَصَلَ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ، وَنُحِّيَ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ، طَهُرَ. وَأَمَّا إِذَا انْفَصَلَ عَنْ وَجْهِ الْمَاءِ، وَلَمْ يُنَحَّ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ، وَالْمَاءُ يَتَقَاطَرُ فِيهِ، لَا يَطْهُرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ أَنَّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَطْهُرُ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ النَّجِسَ انْفَصَلَ مِنَ الطَّاهِرِ، فَإِنَّ الدَّلْوَ الْأَخِيرَ تَعَيَّنَ لِلنَّجَاسَةِ شَرْعًا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ إِذَا نُحِّيَ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ يَبْقَى الْمَاءُ طَاهِرًا، وَمَا يَتَقَاطَرُ فِيهَا مِنَ الدَّلْوِ سَقَطَ اعْتِبَارُ نَجَاسَتِهِ شَرْعًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ.
وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ بِالطَّهَارَةِ إِلاَّ بَعْدَ انْفِصَالِ النَّجِسِ عَنْهَا، وَهُوَ مَاءُ الدَّلْوِ الْأَخِيرِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الِانْفِصَالُ إِلاَّ بَعْدَ تَنْحِيَةِ الدَّلْوِ عَنْ الْبِئْرِ؛ لِأَنَّ مَاءَهُ مُتَّصِلٌ بِمَاءِ الْبِئْرِ. وَاعْتِبَارُ نَجَاسَةِ الْقَطَرَاتِ لَا يَجُوزُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِأَنْ يُعْطَى لِهَذَا الدَّلْوِ حُكْمُ الِانْفِصَالِ بَعْدَ انْعِدَامِ التَّقَاطُرِ، بِالتَّنْحِيَةِ عَنْ رَأْسِ الْبِئْرِ.
27- وَإِذَا وَجَبَ نَزْحُ جَمِيعِ الْمَاءِ مِنَ الْبِئْرِ يَنْبَغِي أَنْ تُسَدَّ جَمِيعُ مَنَابِعِ الْمَاءِ إِنْ أَمْكَنَ، ثُمَّ يُنْزَحَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ النَّجِسِ. وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ سَدُّ مَنَابِعِهِ لِغَلَبَةِ الْمَاءِ، رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُنْزَحُ مِائَةُ دَلْوٍ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُنْزَحُ مِائَتَا دَلْوٍ، أَوْ ثَلَاثُمِائَةِ دَلْوٍ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ، فِي رِوَايَةٍ: يُحْفَرُ بِجَانِبِهَا حُفْرَةٌ مِقْدَارُ عَرْضِ الْمَاءِ وَطُولِهِ وَعُمْقِهِ، ثُمَّ يُنْزَحُ مَاؤُهَا وَيُصَبُّ فِي الْحُفْرَةِ حَتَّى تَمْتَلِئَ، فَإِذَا امْتَلأَتْ حُكِمَ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ. وَفِي رِوَايَةٍ: يُرْسَلُ فِيهَا قَصَبَةٌ، وَيُجْعَلُ لِمَبْلَغِ الْمَاءِ عَلَامَةٌ، ثُمَّ يُنْزَحُ مِنْهَا عَشْرُ دِلَاءٍ مَثَلًا، ثُمَّ يُنْظَرُ كَمْ انْتَقَصَ، فَيُنْزَحُ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ إِلاَّ إِذَا كَانَ دَوْرُ الْبِئْرِ مِنْ أَوَّلِ حَدِّ الْمَاءِ إِلَى مَقَرِّ الْبِئْرِ مُتَسَاوِيًا، وَإِلاَّ لَا يَلْزَمُ إِذَا نَقَصَ شِبْرٌ بِنَزْحِ عَشْرِ دِلَاءٍ مِنْ أَعْلَى الْمَاءِ أَنْ يَنْقُصَ شِبْرٌ بِنَزْحِ مِثْلِهِ مِنْ أَسْفَلِهِ.
وَالْأَوْفَقُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي نَصْرٍ أَنَّهُ يُؤْتَى بِرَجُلَيْنِ لَهُمَا بَصَرٌ فِي أَمْرِ الْمَاءِ فَيُنْزَحُ بِقَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ مَا يُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ يُرْجَعُ فِيهِ لِأَهْلِ الْخِبْرَةِ.
28- وَالْمَالِكِيَّةُ كَمَا بَيَّنَّا يَرَوْنَ أَنَّ النَّزْحَ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ التَّطْهِيرِ. وَلَمْ يُحَدِّدُوا قَدْرًا لِلنَّزْحِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يُتْرَكُ مِقْدَارُ النَّزْحِ لِظَنِّ النَّازِحِ. قَالُوا: وَيَنْبَغِي لِلتَّطْهِيرِ أَنْ تُرْفَعَ الدِّلَاءُ نَاقِصَةً؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ مِنَ الْحَيَوَانِ عِنْدَ الْمَوْتِ مَوَادُّ دُهْنِيَّةٌ، وَشَأْنُ الدُّهْنِ أَنْ يَطْفُوَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، فَإِذَا امْتَلأَ الدَّلْوُ خُشِيَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْبِئْرِ.
وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا: لَا يَجِبُ غَسْلُ جَوَانِبِ بِئْرٍ نُزِحَتْ، ضَيِّقَةً كَانَتْ أَوْ وَاسِعَةً، وَلَا غَسْلُ أَرْضِهَا، بِخِلَافِ رَأْسِهَا. وَقِيلَ: يَجِبُ غَسْلُ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْبِئْرِ الْوَاسِعَةِ. أَمَّا الضَّيِّقَةُ فَيَجِبُ غَسْلُهَا رِوَايَةً وَاحِدَةً. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ لَا يَرَوْنَ التَّطْهِيرَ بِمُجَرَّدِ النَّزْحِ.
آلَةُ النَّزْحِ:
29- مَنْهَجُ الْحَنَفِيَّةِ- الْقَائِلُ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الدِّلَاءِ لِلتَّطْهِيرِ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ- يَتَطَلَّبُ بَيَانَ حَجْمِ الدَّلْوِ الَّذِي يُنْزَحُ بِهِ الْمَاءُ النَّجِسُ. فَقَالَ الْبَعْضُ: الْمُعْتَبَرُ فِي كُلِّ بِئْرٍ دَلْوُهَا، صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ دَلْوٌ يَسَعُ قَدْرَ صَاعٍ. وَقِيلَ: الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ. وَلَوْ نُزِحَ بِدَلْوٍ عَظِيمٍ مَرَّةً مِقْدَارُ عِشْرِينَ دَلْوًا جَازَ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بِتَوَاتُرِ الدَّلْوِ يَصِيرُ كَالْمَاءِ الْجَارِي.
وَبِطَهَارَةِ الْبِئْرِ يَطْهُرُ الدَّلْوُ وَالرِّشَاءُ وَالْبَكَرَةُ وَنَوَاحِي الْبِئْرِ وَيَدُ الْمُسْتَقِي. رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ نَجَاسَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِنَجَاسَةِ الْبِئْرِ، فَتَكُونُ طَهَارَتُهَا بِطَهَارَتِهَا، نَفْيًا لِلْحَرَجِ. وَقِيلَ: لَا تَطْهُرُ الدَّلْوُ فِي حَقِّ بِئْرٍ أُخْرَى، كَدَمِ الشَّهِيدِ طَاهِرٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ.
30- وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى- عَلَى مَا نَعْلَمُ- لِمِقْدَارِ آلَةِ النَّزْحِ. وَكُلُّ مَا قَالُوهُ أَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ إِذَا كَانَ قَلِيلًا، وَتَنَجَّسَ، فَإِنَّ الدَّلْوَ إِذَا مَا غُرِفَ بِهِ مِنَ الْمَاءِ النَّجِسِ الْقَلِيلِ تَنَجَّسَ مِنَ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ مِقْدَارَ قُلَّتَيْنِ فَقَطْ، وَفِيهِ نَجَاسَةٌ جَامِدَةٌ، وَغُرِفَ بِالدَّلْوِ مِنْ هَذَا الْمَاءِ، وَلَمْ تُغْرَفْ الْعَيْنُ النَّجِسَةُ فِي الدَّلْوِ مَعَ الْمَاءِ، فَبَاطِنُ الدَّلْوِ طَاهِرٌ، وَظَاهِرُهُ نَجِسٌ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ غَرْفِ الدَّلْوِ يَكُونُ الْمَاءُ الْبَاقِي فِي الْبِئْرِ وَالَّذِي احْتَكَّ بِهِ ظَاهِرُ الدَّلْوِ قَلِيلًا نَجِسًا. وَاسْتَظْهَرَ الْبُهُوتِيُّ مِنْ قَوْلِ الْحَنَابِلَةِ بِعَدَمِ غَسْلِ جَوَانِبِ الْبِئْرِ لِلْمَشَقَّةِ وَوُجُوبِ غَسْلِ رَأْسِهَا لِعَدَمِ الْمَشَقَّةِ، وُجُوبَ غَسْلِ آلَةِ النَّضْحِ إِلْحَاقًا لَهَا بِرَأْسِ الْبِئْرِ فِي عَدَمِ مَشَقَّةِ الْغَسْلِ. وَقَالَ: إِنَّ مُقْتَضَى قَوْلِهِمْ: الْمَنْزُوحُ طَهُورٌ، أَنَّ الْآلَةَ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا ذَلِكَ لِلْحَرَجِ.
تَغْوِيرُ الْآبَارِ:
31- كُتُبُ الْمَذَاهِبِ تَذْكُرُ اتِّفَاقَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إِلَى تَخْرِيبٍ وَإِتْلَافِ بَعْضِ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ وَتَغْوِيرِ الْآبَارِ لِقَطْعِ الْمَاءِ عَنْهُمْ جَازَ ذَلِكَ.
بِدَلِيلِ «فِعْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ أَمَرَ بِالْقُلُبِ فَغُوِّرَتْ».
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
16-موسوعة الفقه الكويتية (آمين)
آمِينَمَعْنَاهُ، وَاللُّغَاتُ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهِ:
1- جُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ آمِينَ فِي الدُّعَاءِ يُمَدُّ وَيُقْصَرُ، وَتَقُولُ: أَمَّنْتُ عَلَى الدُّعَاءِ تَأْمِينًا، إِذَا قُلْتَ آمِينَ. وَيُعَبَّرُ غَالِبًا بِالتَّأْمِينِ بَدَلًا مِنْ عِبَارَةِ: قَوْلِ آمِينَ، لِسُهُولَةِ اللَّفْظِ. وَلَمْ يُعْتَبَرْ التَّأْمِينُ عُنْوَانًا لِلْبَحْثِ؛ لِئَلاَّ يُشْتَبَهَ بِالتَّأْمِينِ التِّجَارِيِّ.
وَنَقَلَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ لُغَاتٍ عَدِيدَةً، نَكْتَفِي مِنْهَا بِأَرْبَعٍ: الْمَدِّ، وَالْقَصْرِ، وَالْمَدِّ مَعَ الْإِمَالَةِ وَالتَّخْفِيفِ، وَالْمَدِّ مَعَ التَّشْدِيدِ. وَالْأَخِيرَتَانِ حَكَاهُمَا الْوَاحِدِيُّ وَزَيَّفَ الْأَخِيرَةَ مِنْهُمَا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهَا مُنْكَرَةٌ. وَحَكَى ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ الْقَصْرَ مَعَ التَّشْدِيدِ. وَهِيَ شَاذَّةٌ أَيْضًا.
وَكُلُّهَا إِلاَّ الرَّابِعَةَ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى اسْتَجِبْ. وَمَعْنَى آمِّينَ (بِالْمَدِّ مَعَ التَّشْدِيدِ) قَاصِدِينَ إِلَيْكَ. «قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ مَعْنَى آمِينَ، فَقَالَ: افْعَلْ». وَقَالَ قَتَادَةُ: كَذَلِكَ يَكُونُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «آمِينَ خَاتَمُ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ». وَقَالَ عَطَاءٌ: آمِينَ دُعَاءٌ. وَإِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَا حَسَدَكُمُ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدُوكُمْ عَلَى آمِينَ وَتَسْلِيمِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ». قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ لَمْ تَكُنْ لِمَنْ قَبْلَنَا، خَصَّنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهَا.
حَقِيقَةُ التَّأْمِينِ:
2- التَّأْمِينُ دُعَاءٌ؛ لِأَنَّ الْمُؤَمِّنَ يَطْلُبُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَسْتَجِيبَ الدُّعَاءَ.
صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):
3- الْأَصْلُ فِي قَوْلِ آمِينَ أَنَّهُ سُنَّةٌ، لَكِنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ عَنِ النَّدْبِ إِلَى غَيْرِهِ، كَالتَّأْمِينِ عَلَى دُعَاءٍ مُحَرَّمٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ حَرَامًا.
نَفْيُ الْقُرْآنِيَّةِ عَنْ «آمِينَ»:
4- لَا خِلَافَ فِي أَنَّ «آمِينَ» لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، لَكِنَّهَا مَأْثُورَةٌ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-. وَقَدْ وَاظَبَ عَلَيْهَا وَأَمَرَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا، كَمَا يُعْرَفُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي سَتَرِدُ فِي خِلَالِ الْبَحْثِ.
مَوَاطِنُ التَّأْمِينِ:
5- التَّأْمِينُ دُعَاءٌ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ بَلْ مُرْتَبِطٌ بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَدْعِيَةِ، لِذَلِكَ يَحْسُنُ بَيَانُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُؤَمَّنُ عَلَى الدُّعَاءِ فِيهَا، فَمِنْ أَهَمِّهَا:
أ- التَّأْمِينُ فِي الصَّلَاةِ: التَّأْمِينُ عَقِبَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَعَلَى الدُّعَاءِ فِي قُنُوتِ الصُّبْحِ وَالْوِتْرِ وَالنَّازِلَةِ.
ب- وَالتَّأْمِينُ خَارِجَ الصَّلَاةِ: عَقِبَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَالتَّأْمِينُ عَلَى الدُّعَاءِ فِي الْخُطْبَةِ، وَفِي الِاسْتِسْقَاءِ.
أَوَّلًا: التَّأْمِينُ فِي الصَّلَاةِ
التَّأْمِينُ عَقِبَ الْفَاتِحَةِ:
5 م- التَّأْمِينُ لِلْمُنْفَرِدِ سُنَّةٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الصَّلَاةُ سِرِّيَّةً أَمْ جَهْرِيَّةً. وَمِثْلُهُ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ فِي السِّرِّيَّةِ، وَالْمُقْتَدِي فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ.
أَمَّا الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ:
أَوَّلًا- نَدْبُ التَّأْمِينِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْحَنَفِيَّةِ، عَدَا رِوَايَةَ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ رِوَايَةُ الْمَدَنِيِّينَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ لِحَدِيثِ: «إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
ثَانِيًا- عَدَمُ النَّدْبِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْمِصْرِيِّينَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَدَلِيلُ عَدَمِ اسْتِحْسَانِهِ مِنَ الْإِمَامِ مَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، فَقُولُوا: آمِينَ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ». وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقُولُهُ؛ لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَسَمَ ذَلِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْمِ، وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي الشَّرِكَةَ.
ثَالِثًا- وُجُوبُ التَّأْمِينِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، قَالَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: آمِينَ أَمْرٌ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.
ارْتِبَاطُ التَّأْمِينِ بِالسَّمَاعِ:
6- اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ التَّأْمِينُ عِنْدَ سَمَاعِ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ، أَمَّا إِنْ سَمِعَ الْمَأْمُومُ التَّأْمِينَ مِنْ مُقْتَدٍ آخَرَ فَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ رَأْيَانِ:
الْأَوَّلُ: نَدْبُ التَّأْمِينِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَقَوْلٌ مُضَعَّفٌ لِلشَّافِعِيَّةِ.
الثَّانِي: لَا يُطْلَبُ التَّأْمِينُ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَلَمْ نَقِفْ عَلَى نَصٍّ لِلْحَنَابِلَةِ فِي هَذَا.
تَحَرِّي الِاسْتِمَاعِ:
7- لَا يَتَحَرَّى الْمُقْتَدِي عَلَى الْأَظْهَرِ الِاسْتِمَاعَ لِلْإِمَامِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُقَابِلُهُ: يَتَحَرَّى، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ.
الْإِسْرَارُ بِالتَّأْمِينِ وَالْجَهْرُ بِهِ:
8- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِي أَنَّ الصَّلَاةَ إِنْ كَانَتْ سِرِّيَّةً فَالْإِسْرَارُ بِالتَّأْمِينِ سُنَّةٌ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ جَهْرِيَّةً فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْإِسْرَارِ بِهِ وَعَدَمِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
الْأَوَّلُ: نَدْبُ الْإِسْرَارِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اسْتَحَبُّوهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ فَقَطْ، وَالْحَنَفِيَّةُ وَمَعَهُمُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَابْنُ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ اسْتَحَبُّوهُ لِلْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ وَالْأَصْلُ فِيهِ الْإِخْفَاءُ. لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} وَلِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-: أَرْبَعٌ يُخْفِيهِنَّ الْإِمَامُ، وَذَكَرَ مِنْهَا آمِينَ.
وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَخْصِيصُ الْإِسْرَارِ بِالْمَأْمُومِ فَقَطْ إِنْ أَمَّنَ الْإِمَامُ، كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ، وَقِيلَ: يُسِرُّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِنْ قَلَّ الْجَمْعُ.
الثَّانِي: نَدْبُ الْجَهْرِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ عَمَّمُوا النَّدْبَ فِي كُلِّ مُصَلٍّ.
وَوَافَقَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ اتِّفَاقًا بِالنِّسْبَةِ لِلْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ. وَأَمَّا فِي الْمَأْمُومِ فَقَدْ وَافَقُوهُمْ أَيْضًا بِشَرْطِ عَدَمِ تَأْمِينِ الْإِمَامِ. فَإِنْ أَمَّنَ فَالْأَظْهَرُ نَدْبُ الْجَهْرِ كَذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا يَجْهَرُ فِي حَالَةِ تَأْمِينِ الْإِمَامِ بِشَرْطِ كَثْرَةِ الْجَمْعِ. فَإِنْ لَمْ يَكْثُرْ فَلَا يُنْدَبُ الْجَهْرُ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِنَدْبِ الْجَهْرِ بِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «آمِينَ» وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ.
الثَّالِثُ: التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّ ابْنَ بُكَيْرٍ خَصَّهُ بِالْإِمَامِ فَقَطْ، وَخَيَّرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْجَمِيعَ، وَصَحَّحَ فِي كِتَابِهِ «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» الْجَهْرَ.
وَلَوْ أَسَرَّ بِهِ الْإِمَامُ جَهَرَ بِهِ الْمَأْمُومُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ جَهْرَ الْمَأْمُومِ بِالتَّأْمِينِ سُنَّةٌ، فَلَا يَسْقُطُ بِتَرْكِ الْإِمَامِ لَهُ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا نَسِيَهُ الْإِمَامُ، فَيَجْهَرُ بِهِ الْمَأْمُومُ لِيُذَكِّرَهُ.
الْمُقَارَنَةُ وَالتَّبَعِيَّةُ فِي التَّأْمِينِ:
9- مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مُقَارَنَةَ تَأْمِينِ الْإِمَامِ لِتَأْمِينِ الْمَأْمُومِ سُنَّةٌ، لِخَبَرِ «إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» وَخَبَرِ «إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ: آمِينَ، وَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ: آمِينَ، فَوَافَقَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمُقْتَدِيَ يُؤَمِّنُ بَعْدَ تَأْمِينِ الْإِمَامِ.
وَلَمْ أَقِفْ عَلَى نَصٍّ صَرِيحٍ فِي ذَلِكَ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، لَكِنَّهُمْ ذَكَرُوا مَا يُفِيدُ مُقَارَنَةَ التَّأْمِينِ لِتَأْمِينِ الْمَلَائِكَةِ، مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقِ «إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ: آمِينَ، وَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ: آمِينَ..» إِلَخْ. وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، فَقُولُوا: آمِينَ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
فَإِنْ فَاتَتْهُ مُقَارَنَةُ تَأْمِينِهِ لِتَأْمِينِ إِمَامِهِ أَتَى بِهِ عَقِبَهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْمَأْمُومُ بِتَأْمِينِ إِمَامِهِ، أَوْ أَخَّرَهُ عَنْ وَقْتِهِ الْمَنْدُوبِ أَمَّنَ. نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ، كَمَا نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَرَأَ مَعَهُ وَفَرَغَا مَعًا كَفَى تَأْمِينٌ وَاحِدٌ، أَوْ فَرَغَ قَبْلَهُ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: يَنْتَظِرُهُ، وَالْمُخْتَارُ أَوِ الصَّوَابُ أَنَّهُ يُؤَمِّنُ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ يُؤَمِّنُ لِلْمُتَابَعَةِ.
الْفَصْلُ بَيْنَ «آمِينَ» وَبَيْنَ {وَلَا الضَّالِّينَ}:
10- الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى نَدْبِ السُّكُوتِ لَحْظَةً لَطِيفَةً بَيْنَ {وَلَا الضَّالِّينَ} وَبَيْنَ «آمِينَ» لِيُعْلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، وَعَلَى أَلاَّ يَتَخَلَّلَ فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ لَفْظٌ. نَعَمْ، يَسْتَثْنِي الشَّافِعِيَّةُ «رَبِّ اغْفِرْ لِي» قَالُوا: وَيَنْبَغِي أَنَّهُ لَوْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ «وَلِوَالِدَيَّ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ» لَمْ يَضُرَّ أَيْضًا.
وَلَمْ أَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ مَنْ تَعَرَّضَ لِهَذِهِ النُّقْطَةِ، فِيمَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ.
تَكْرَارُ آمِينَ وَالزِّيَادَةُ بَعْدَهَا:
11- يَحْسُنُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلُ «آمِينَ رَبَّ الْعَالَمِينَ»، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الذِّكْرِ. وَلَا يُسْتَحَبُّ عِنْدَ أَحْمَدَ، لَكِنْ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، وَلَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ عَنْهَا. وَلَمْ نَجِدْ لِغَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ نَصًّا فِي التَّكْرَارِ.
وَذَكَرَ الْكُرْدِيُّ عَنِ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّهُ يُنْدَبُ تَكْرَارُ «آمِينَ» فِي الصَّلَاةِ، مُسْتَدِلًّا بِمَا رَوَاهُ وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ أَنَّهُ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ الصَّلَاةَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، قَالَ: آمِينَ، ثَلَاثًا» وَيُؤْخَذُ مِنْهُ تَكْرَارُ «آمِينَ» ثَلَاثًا، حَتَّى فِي الصَّلَاةِ.
تَرْكُ التَّأْمِينِ
12- الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَوْ تَرَكَ «آمِينَ» وَاشْتَغَلَ بِغَيْرِهَا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ فَاتَ مَحَلُّهَا.
عَدَمُ انْقِطَاعِ الْقِرَاءَةِ بِالتَّأْمِينِ عَلَى قِرَاءَةِ الْإِمَامِ:
13- إِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أَثْنَاءَ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ، قَالَ الْمَأْمُومُ: «آمِينَ» ثُمَّ يُتِمُّ قِرَاءَتَهُ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَلَا قِرَاءَةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَأْمُومِ.
التَّأْمِينُ عَقِبَ الْفَاتِحَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ:
14- التَّأْمِينُ عَقِبَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «لَقَّنَنِي جِبْرِيلُ- عليه السلام- عِنْدَ فَرَاغِي مِنَ الْفَاتِحَةِ: آمِينَ».
التَّأْمِينُ عَلَى الْقُنُوتِ:
15- الْقُنُوتُ قَدْ يَكُونُ فِي النَّازِلَةِ وَقَدْ يَكُونُ فِي غَيْرِهَا. وَلِلْفُقَهَاءِ فِي التَّأْمِينِ عَلَى قُنُوتِ غَيْرِ النَّازِلَةِ ثَلَاثَةُ اتِّجَاهَاتٍ:
الْأَوَّلُ: التَّأْمِينُ جَهْرًا، إِنْ سَمِعَ الْإِمَامَ، وَإِلاَّ قَنَتَ لِنَفْسِهِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي الْقُنُوتِ وَفِي الدُّعَاءِ بَعْدَهُ. وَمِنْهُ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- كَمَا نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ. وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ لِغَيْرِهِمْ لِدُخُولِهِ فِي الشُّمُولِ.
الثَّانِي: تَرْكُ التَّأْمِينِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ، وَقَوْلٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
الثَّالِثُ: التَّخْيِيرُ بَيْنَ التَّأْمِينِ وَتَرْكِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَقَوْلٌ ضَعِيفٌ لِلشَّافِعِيَّةِ.
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قُنُوتِ النَّازِلَةِ وَقُنُوتِ غَيْرِهَا، عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَلَا تَأْمِينَ فِي النَّازِلَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِإِسْرَارِهِمْ بِالْقُنُوتِ فِيهَا. فَإِنْ جَهَرَ الْإِمَامُ أَمَّنَ الْمَأْمُومُ. قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْمُقْتَدِيَ يُتَابِعُ إِمَامَهُ إِلاَّ إِذَا جَهَرَ فَيُؤَمِّنُ.
وَلَا قُنُوتَ فِي النَّازِلَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ.
وَلَوِ اقْتَدَى الْمَأْمُومُ بِمَنْ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ أَجَازَ لَهُ الْحَنَابِلَةُ التَّأْمِينَ. وَمَعَهُمْ فِي ذَلِكَ ابْنُ فَرْحُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَيَسْكُتُ مَنْ صَلَّى وَرَاءَ مَنْ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَيُرَاعِي الْمَأْمُومُ الْمُقْتَدِي بِمَنْ لَا يَقْنُتُ حَالَ نَفْسِهِ، عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، بِشَرْطِ عَدَمِ الْإِخْلَالِ بِالْمُتَابَعَةِ.
ثَانِيًا: التَّأْمِينُ خَارِجَ الصَّلَاةِ
التَّأْمِينُ عَلَى دُعَاءِ الْخَطِيبِ:
16- يُسَنُّ التَّأْمِينُ عَلَى دُعَاءِ الْخَطِيبِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ يَكُونُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ سِرًّا، وَبِلَا رَفْعِ صَوْتٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَلَا تَأْمِينَ بِاللِّسَانِ جَهْرًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بَلْ يُؤَمِّنُ فِي نَفْسِهِ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ مَا يَقَعُ عَلَى دَكَّةِ الْمُبَلِّغِينَ بَعْدَ قَوْلِ الْإِمَامِ: «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ» مِنْ رَفْعِ أَصْوَاتِ جَمَاعَةٍ بِقَوْلِهِمْ: «آمِينَ. آمِينَ. آمِينَ» وَاعْتَبَرُوهُ بِدْعَةً مُحَرَّمَةً.
التَّأْمِينُ عَلَى دُعَاءِ الِاسْتِسْقَاءِ:
17- اسْتَحَبَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، التَّأْمِينَ عَلَى دُعَاءِ الِاسْتِسْقَاءِ عِنْدَ جَهْرِ الْإِمَامِ بِهِ. وَلَا يُخَالِفُ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ.
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَدْعُوَ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُونَ. وَقِيلَ بَعْدَ دُعَائِهِمْ مَعًا: يَسْتَقْبِلُهُمُ الْإِمَامُ، فَيَدْعُو وَيُؤَمِّنُونَ.
التَّأْمِينُ عَلَى الدُّعَاءِ دُبُرَ الصَّلَاةِ.
18- لَمْ أَجِدْ مَنْ يَقُولُ بِالتَّأْمِينِ عَلَى دُعَاءِ الْإِمَامِ بَعْدَ الصَّلَاةِ إِلاَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِجَوَازِهِ ابْنُ عَرَفَةَ، وَأَنْكَرَ الْخِلَافَ فِي كَرَاهِيَتِهِ. وَفِي جَوَابِ الْفَقِيهِ الْعَلاَّمَةِ أَبِي مَهْدِيٍّ الْغُبْرِينِيُّ مَا نَصُّهُ: «وَنُقَرِّرُ أَوَّلًا أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْمِلَّةِ نَهْيٌ عَنِ الدُّعَاءِ دُبُرَ الصَّلَاةِ، عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ الْيَوْمَ مِنَ الِاجْتِمَاعِ، بَلْ جَاءَ التَّرْغِيبُ فِيهِ عَلَى الْجُمْلَةِ.» فَذَكَرَ أَدِلَّةً كَثِيرَةً ثُمَّ قَالَ: «فَتَحَصَّلَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنَ الْمَجْمُوعِ أَنَّ عَمَلَ الْأَئِمَّةِ مُنْذُ الْأَزْمِنَةِ الْمُتَقَادِمَةِ مُسْتَمِرٌّ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ، وَهُيَ مَسَاجِدُ الْجَوَامِعِ، وَفِي مَسَاجِدِ الْقَبَائِلِ، وَهِيَ مَسَاجِدُ الْأَرْبَاضِ وَالرَّوَابِطِ، عَلَى الْجَهْرِ بِالدُّعَاءِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَوَاتِ، عَلَى الْهَيْئَةِ الْمُتَعَارَفَةِ الْآنَ، مِنْ تَشْرِيكِ الْحَاضِرِينَ، وَتَأْمِينِ السَّامِعِينَ، وَبَسْطِ الْأَيْدِي وَمَدِّهَا عِنْدَ السُّؤَالِ وَالتَّضَرُّعِ وَالِابْتِهَالِ مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ.»
وَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ غَيْرُهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، لِمَا يَقَعُ فِي نَفْسِ الْإِمَامِ مِنَ التَّعَاظُمِ. وَبَقِيَّةُ الْقَائِلِينَ بِالدُّعَاءِ عَقِبَ الصَّلَاةِ يُسِرُّونَ بِهِ نَدْبًا، عَلَى تَفْصِيلٍ. (ر: دُعَاءٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
17-موسوعة الفقه الكويتية (إبانة)
إِبَانَةالتَّعْرِيفُ
1- الْإِبَانَةُ مَصْدَرُ أَبَانَ، وَمِنْ مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّةِ الْإِظْهَارُ وَالْفَصْلُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ: الْقَطْعُ إِبَانَةُ أَجْزَاءِ الْجِرْمِ. وَالْإِبَانَةُ بِمَعْنَى الْفَصْلِ، مُرَادِفَةٌ لِلتَّفْرِيقِ. وَأَغْلَبُ تَنَاوُلِ الْفُقَهَاءِ لَهَا بِمَعْنَى الْفَصْلِ وَالْقَطْعِ. وَإِبَانَةُ الزَّوْجَةِ تَكُونُ بِالطَّلَاقِ الْبَائِنِ أَوِ الْخُلْعِ، وَحِينَئِذٍ تَمْلِكُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا، وَلَا يَحِقُّ لِلزَّوْجِ مُرَاجَعَتُهَا إِلاَّ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
2- مِنْ أَحْكَامِ الْإِبَانَةِ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ أَنَّ مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ- غَيْرَ الصُّوفِ وَالشَّعْرِ مِنَ الْمَأْكُولِ- فَهُوَ كَمَيْتَتِهِ، لِخَبَرِ: «مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ».
وَمَا قُطِعَ بَعْدَ التَّذْكِيَةِ وَقَبْلَ الْمَوْتِ يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا فِي الْجُمْلَةِ.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
3- الْكَلَامُ فِي الْإِبَانَةِ ذُكِرَ فِي مَبْحَثِ النَّجَاسَةِ، وَفِي الْعَوْرَةِ (لَمْسُ الْعُضْوِ الْمُبَانِ وَالنَّظَرُ إِلَيْهِ) وَفِي الدَّفْنِ وَفِي الطَّلَاقِ، وَالْخُلْعِ وَفِي الْجِنَايَاتِ (الْجِنَايَةُ عَلَى الْأَطْرَافِ)، وَفِي اللِّعَانِ، وَفِي الذَّبَائِحِ (كَيْفِيَّةُ الذَّبْحِ)، وَفِي الصَّيْدِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
18-موسوعة الفقه الكويتية (أجل 1)
أَجَلٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- أَجَلُ الشَّيْءِ لُغَةً: مُدَّتُهُ وَوَقْتُهُ الَّذِي يَحُلُّ فِيهِ، وَهُوَ مَصْدَرُ أَجِلَ الشَّيْءُ أَجَلًا مِنْ بَابِ تَعِبَ، وَأَجَّلْتُهُ تَأْجِيلًا جَعَلْتُ لَهُ أَجَلًا، وَالْآجِلُ- عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ- خِلَافُ الْعَاجِلِ.
إِطْلَاقَاتُ الْأَجَلِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى:
2- وَرَدَ إِطْلَاقُ الْأَجَلِ عَلَى أُمُورٍ:
أ- عَلَى نِهَايَةِ الْحَيَاةِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}.
ب- وَعَلَى نِهَايَةِ الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ أَجَلًا لِانْتِهَاءِ الْتِزَامٍ أَوْ لِأَدَائِهِ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}
ج- وَعَلَى الْمُدَّةِ أَوِ الزَّمَنِ.قَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}.
الْأَجَلُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ:
3- الْأَجَلُ هُوَ الْمُدَّةُ الْمُسْتَقْبَلَةُ الَّتِي يُضَافُ إِلَيْهَا أَمْرٌ مِنَ الْأُمُورِ، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ أَجَلًا لِلْوَفَاءِ بِالْتِزَامٍ، أَوْ أَجَلًا لِإِنْهَاءِ الْتِزَامٍ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ مُقَرَّرَةً بِالشَّرْعِ، أَوْ بِالْقَضَاءِ، أَوْ بِإِرَادَةِ الْمُلْتَزِمِ فَرْدًا أَوْ أَكْثَرَ.
وَهَذَا التَّعْرِيفُ يَشْمَلُ:
أَوَّلًا: الْأَجَلَ الشَّرْعِيَّ، وَهُوَ الْمُدَّةُ الْمُسْتَقْبَلَةُ الَّتِي حَدَّدَهَا الْمُشَرِّعُ الْحَكِيمُ سَبَبًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، كَالْعِدَّةِ.
ثَانِيًا: الْأَجَلَ الْقَضَائِيَّ: وَهُوَ الْمُدَّةُ الْمُسْتَقْبَلَةُ الَّتِي يُحَدِّدُهَا الْقَضَاءُ أَجَلًا لِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ كَإِحْضَارِ الْخَصْمِ، أَوِ الْبَيِّنَةِ.
ثَالِثًا: الْأَجَلَ الِاتِّفَاقِيَّ، وَهُوَ الْمُدَّةُ الْمُسْتَقْبَلَةُ الَّتِي يُحَدِّدُهَا الْمُلْتَزِمُ مَوْعِدًا لِلْوَفَاءِ بِالْتِزَامِهِ (أَجَلُ الْإِضَافَةِ)، أَوْ لِإِنْهَاءِ تَنْفِيذِ هَذَا الِالْتِزَامِ (أَجَلُ التَّوْقِيتِ) سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِيمَا يَتِمُّ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ بِإِرَادَةٍ مُنْفَرِدَةٍ أَوْ بِإِرَادَتَيْنِ.
خَصَائِصُ الْأَجَلِ:
4- أ- (الْأَجَلُ هُوَ زَمَنٌ مُسْتَقْبَلٌ)
ب- الْأَجَلُ هُوَ أَمْرٌ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ.وَتِلْكَ خَاصِّيَّةُ الزَّمَنِ، وَفِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ يَقُولُ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: «إِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِضَافَةِ تَأْخِيرُ الْحُكْمِ الْمُسَبَّبِ إِلَى وُجُودِ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي هُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، إِذِ الزَّمَانُ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ، فَالْإِضَافَةُ إِلَيْهِ إِضَافَةٌ إِلَى مَا قُطِعَ بِوُجُودِهِ».
ج- الْأَجَلُ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَصْلِ التَّصَرُّفِ.وَذَلِكَ يُحَقِّقُهُ أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ قَدْ تَتِمُّ مُنَجَّزَةً، وَتَتَرَتَّبُ أَحْكَامُهَا عَلَيْهَا فَوْرَ صُدُورِ التَّصَرُّفِ، وَلَا يَلْحَقُهَا تَأْجِيلٌ، وَقَدْ يَلْحَقُهَا الْأَجَلُ، كَتَأْجِيلِ الدَّيْنِ، أَوِ الْعَيْنِ أَوْ تَأْجِيلِ تَنْفِيذِ آثَارِ الْعَقْدِ (فِيمَا يَصِحُّ فِيهِ ذَلِكَ) قَالَ السَّرَخْسِيُّ وَالْكَاسَانِيُّ مَا حَاصِلُهُ: إِنَّ الْأَجَلَ يُعْتَبَرُ أَمْرًا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَإِنَّمَا شُرِعَ رِعَايَةً لِلْمَدِينِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّعْلِيقُ:
5- هُوَ لُغَةً: رَبْطُ أَمْرٍ بِآخَرَ.وَاصْطِلَاحًا: أَنْ يُرْبَطَ أَثَرُ تَصَرُّفٍ بِوُجُودِ أَمْرٍ مَعْدُومٍ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّعْلِيقِ وَالْأَجَلِ أَنَّ التَّعْلِيقَ يَمْنَعُ الْمُعَلَّقَ عَنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْحُكْمِ فِي الْحَالِ، أَمَّا الْأَجَلُ فَلَا صِلَةَ لَهُ بِالسَّبَبِ وَإِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ زَمَنِ فِعْلِ التَّصَرُّفِ.
الْإِضَافَةُ:
6- هِيَ لُغَةً: نِسْبَةُ الشَّيْءِ إِلَى الشَّيْءِ مُطْلَقًا.وَاصْطِلَاحًا: تَأْخِيرُ أَمْرِ التَّصَرُّفِ عَنْ وَقْتِ التَّكَلُّمِ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ يُحَدِّدُهُ الْمُتَصَرِّفُ بِغَيْرِ أَدَاةِ شَرْطٍ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِضَافَةِ وَالْأَجَلِ أَنَّ الْإِضَافَةَ فِيهَا تَصَرُّفٌ وَأَجَلٌ، فِي حِينِ أَنَّ الْأَجَلَ قَدْ يَخْلُو مِنْ إِيقَاعِ تَصَرُّفٍ.فَفِي كُلِّ إِضَافَةٍ أَجَلٌ.
التَّوْقِيتُ:
7- هُوَ لُغَةً: تَقْدِيرُ زَمَنِ الشَّيْءِ.وَاصْطِلَاحًا ثُبُوتُ الشَّيْءِ فِي الْحَالِ وَانْتِهَاؤُهُ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ.
فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَجَلِ أَنَّ الْأَجَلَ وَقْتٌ مَضْرُوبٌ مَحْدُودٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
الْمُدَّةُ:
8- بِاسْتِقْصَاءِ مَا يُوجَدُ فِي الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ نَجِدُ أَنَّ لِلْمُدَّةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ اسْتِعْمَالَاتٍ أَرْبَعَةً: هِيَ مُدَّةُ الْإِضَافَةِ، وَمُدَّةُ التَّوْقِيتِ، وَمُدَّةُ التَّنْجِيمِ، وَمُدَّةُ الِاسْتِعْجَالِ.
وَبَيَانُهَا فِيمَا يَلِي:
مُدَّةُ الْإِضَافَةِ:
9- وَهِيَ الْمُدَّةُ الْمُسْتَقْبَلَةُ الَّتِي يُضَافُ إِلَيْهَا ابْتِدَاءً تَنْفِيذُ آثَارِ الْعَقْدِ، أَوْ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ، أَوْ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ (لِلدَّيْنِ).
فَمِثَالُ الْأَوَّلِ مَا إِذَا قَالَ: «إِذَا جَاءَ عِيدُ الْأَضْحَى فَقَدْ وَكَّلْتُكَ فِي شِرَاءِ أُضْحِيَةٍ لِي» فَقَدْ أَضَافَ عَقْدَ الْوَكَالَةِ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَقَدْ صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِصِحَّةِ ذَلِكَ.
وَمِثَالُ الثَّانِي: مَا جَاءَ فِي السَّلَمِ، مِنْ إِضَافَةِ الْعَيْنِ الْمُسْلَمِ فِيهَا إِلَى زَمَنٍ مَعْلُومٍ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ أَوْ وَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ».
وَمِثَالُ الثَّالِثِ: مَا إِذَا بَاعَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}.
مُدَّةُ التَّوْقِيتِ:
10- وَهِيَ الْمُدَّةُ الْمُسْتَقْبَلَةُ الَّتِي يَسْتَمِرُّ فِيهَا تَنْفِيذُ الِالْتِزَامِ حَتَّى انْقِضَائِهَا، وَذَلِكَ كَمَا فِي الْعُقُودِ الْمُؤَقَّتَةِ، كَمَا فِي الْإِجَارَةِ، فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ إِلاَّ عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، أَوْ عَلَى عَمَلٍ مُعَيَّنٍ يَتِمُّ فِي زَمَنٍ، وَبِانْتِهَائِهَا يَنْتَهِي عَقْدُ الْإِجَارَةِ وَمُدَّةُ عَقْدِ الْإِجَارَةِ تُعْتَبَرُ أَجَلًا.مِصْدَاقَ ذَلِكَ قوله تعالى {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيُّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} كَمَا أَنَّ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ تَجْعَلُ «التَّأْجِيلَ تَحْدِيدَ الْوَقْتِ» «وَالتَّوْقِيتَ تَحْدِيدَ الْأَوْقَاتِ، يُقَالُ: وَقَّتَهُ لِيَوْمِ كَذَا تَوْقِيتًا مِثْلَ أَجَّلَ».
مُدَّةُ التَّنْجِيمِ:
11- جَاءَ فِي مُخْتَارِ الصِّحَاحِ: النَّجْمُ لُغَةً الْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمُنَجَّمُ، وَيُقَالُ: نَجَّمَ الْمَالَ تَنْجِيمًا إِذَا أَدَّاهُ نُجُومًا (أَقْسَاطًا)، وَالتَّنْجِيمُ اصْطِلَاحًا هُوَ «التَّأْخِيرُ لِأَجَلٍ مَعْلُومٍ، نَجْمًا أَوْ نَجْمَيْنِ» أَوْ هُوَ «الْمَالُ الْمُؤَجَّلُ بِأَجَلَيْنِ فَصَاعِدًا، يَعْلَمُ قِسْطَ كُلِّ نَجْمٍ وَمُدَّتَهُ مِنْ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا» فَالتَّنْجِيمُ نَوْعٌ مِنَ الْأَجَلِ يَرِدُ عَلَى الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ فَيُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ بَعْضِهِ عِنْدَ زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ يَلِيهِ الْبَعْضُ الْآخَرُ لِزَمَنٍ آخَرَ مَعْلُومٍ يَلِي الزَّمَنَ الْأَوَّلَ وَهَكَذَا.
وَمِنْ بَيْنِ مَا بَرَزَ فِيهِ التَّنْجِيمُ:
أ- دَيْنُ الْكِتَابَةِ: فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ تَنْجِيمِ مَالِ الْكِتَابَةِ. (وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابَةِ اتِّفَاقُ السَّيِّدِ وَعَبْدِهِ عَلَى مَالٍ يَنَالُ الْعَبْدُ نَظِيرَهُ حُرِّيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي الْحَالِ، وَالرَّقَبَةِ فِي الْمَآلِ، بَعْدَ أَدَاءِ الْمَالِ)، وَاخْتَلَفُوا فِي لُزُومِ ذَلِكَ، فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الرَّاجِحِ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَكُونُ إِلاَّ بِمَالٍ مُؤَجَّلٍ مُنَجَّمٍ، وَسَيَأْتِي التَّعَرُّضُ لِذَلِكَ فِي الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ.وَالْفِقْهُ الْإِسْلَامِيُّ يَجْعَلُ التَّنْجِيمَ نَوْعًا مِنَ الْأَجَلِ.
ب- الدِّيَةُ فِي الْقَتْلِ شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ: تَجِبُ الدِّيَةُ فِي الْقَتْلِ شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُؤَجَّلَةً مُنَجَّمَةً عَلَى ثَلَاثِ سَنَوَاتٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَهَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
ج- الْأُجْرَةُ: جَاءَ فِي الْمُغْنِي أَنَّهُ «إِذَا شَرَطَ تَأْجِيلَ الْأَجْرِ فَهُوَ إِلَى أَجَلِهِ، وَإِنْ شَرَطَهُ مُنَجَّمًا يَوْمًا يَوْمًا، أَوْ شَهْرًا شَهْرًا، أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ، فَهُوَ عَلَى مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إِجَارَةَ الْعَيْنِ كَبَيْعِهَا، وَبَيْعُهَا يَصِحُّ بِثَمَنٍ حَالٍّ أَوْ مُؤَجَّلٍ، فَكَذَلِكَ إِجَارَتُهَا».
مُدَّةُ الِاسْتِعْجَالِ:
12- الْمُرَادُ بِهَا: الْوَقْتُ الَّذِي يُقْصَدُ بِذِكْرِهِ فِي الْعَقْدِ اسْتِعْجَالُ آثَارِ الْعَقْدِ، وَذِكْرُ الْوَقْتِ لِلِاسْتِعْجَالِ تَعَرَّضَ لَهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِجَارَةِ، فَقَالُوا إِنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى ضَرْبَيْنِ.أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْقِدَهَا عَلَى مُدَّةٍ.وَالثَّانِي: أَنْ يَعْقِدَهَا عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ، وَمَتَى تَقَدَّرَتِ الْمُدَّةُ لَمْ يَجُزْ تَقْدِيرُ الْعَمَلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا يُزِيدُ الْإِجَارَةَ غَرَرًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَفْرُغُ مِنَ الْعَمَلِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ.فَإِنِ اسْتُعْمِلَ فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ فَقَدْ زَادَ عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ كَانَ تَارِكًا لِلْعَمَلِ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ، وَقَدْ لَا يَفْرُغُ مِنَ الْعَمَلِ فِي الْمُدَّةِ، فَإِنْ أَتَمَّهُ عَمِلَ فِي غَيْرِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْهُ لَمْ يَأْتِ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، وَهَذَا غَرَرٌ، أَمْكَنَ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ، فَلَمْ يَجُزِ الْعَقْدُ مَعَهُ.
وَيَرَى أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ تَجُوزُ الْإِجَارَةُ هُنَا؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ مَعْقُودَةٌ عَلَى الْعَمَلِ، وَالْمُدَّةُ مَذْكُورَةٌ لِلتَّعْجِيلِ فَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ.فَعَلَى هَذَا إِذَا فَرَغَ مِنَ الْعَمَلِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ، كَمَا لَوْ قَضَى الدَّيْنَ قَبْلَ أَجَلِهِ، وَإِنْ مَضَتِ الْمُدَّةُ قَبْلَ الْعَمَلِ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ فَسْخُ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ لَمْ يَفِ لَهُ بِشَرْطِهِ، وَإِنْ رَضِيَ بِالْبَقَاءِ عَلَيْهِ لَمْ يَمْلِكِ الْأَجِيرُ الْفَسْخَ؛ لِأَنَّ الْإِخْلَالَ بِالشَّرْطِ مِنْهُ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ وَسِيلَةً إِلَى الْفَسْخِ، كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ أَدَاءُ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي وَقْتِهِ فَيَمْلِكُ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ الْفَسْخَ.وَيَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُ، فَإِنِ اخْتَارَ إِمْضَاءَ الْعَقْدِ طَالَبَهُ بِالْعَمَلِ لَا غَيْرَ، كَالْمُسْلِمِ إِذَا صَبَرَ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ إِلَى حِينِ وُجُودِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَكْثَرُ مِنَ الْمُسْلَمِ فِيهِ، وَإِنْ فَسَخَ الْعَقْدَ قَبْلَ عَمَلِ شَيْءٍ مِنَ الْعَمَلِ سَقَطَ الْأَجْرُ وَالْعَمَلُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ عَمَلِ شَيْءٍ مِنْهُ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدِ انْفَسَخَ فَسَقَطَ الْمُسَمَّى، وَرَجَعَ إِلَى أَجَلِ الْمِثْلِ. تَقْسِيمَاتُ الْأَجَلِ
بِاعْتِبَارِ مَصْدَرِهِ
يَنْقَسِمُ الْأَجَلُ بِاعْتِبَارِ مَصْدَرِهِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَجَلٍ شَرْعِيٍّ، وَأَجَلٍ قَضَائِيٍّ، وَأَجَلٍ اتِّفَاقِيٍّ.وَنَتَنَاوَلُ فِيمَا يَلِي التَّعْرِيفَ بِكُلِّ قِسْمٍ، وَذِكْرَ مَا يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ مِنْ أَنْوَاعٍ.جَاعِلِينَ لِكُلِّ قِسْمٍ فَصْلًا مُسْتَقِلًّا.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
الْأَجَلُ الشَّرْعِيُّ
الْأَجَلُ الشَّرْعِيُّ: هُوَ الْمُدَّةُ الَّتِي حَدَّدَهَا الشَّرْعُ الْحَكِيمُ سَبَبًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ.وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذَا النَّوْعِ الْآجَالُ الْآتِيَةُ:
مُدَّةُ الْحَمْلِ:
13- مُدَّةُ الْحَمْلِ هِيَ الزَّمَنُ الَّذِي يَمْكُثُهُ الْجَنِينُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَقَدْ بَيَّنَ الْفِقْهُ الْإِسْلَامِيُّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَأَكْثَرَهُ، وَقَدِ اسْتُنْبِطَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ مِمَّا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ أَنَّهُ: «رُفِعَ إِلَى عُمَرَ أَنَّ امْرَأَةً وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَهَمَّ عُمَرُ بِرَجْمِهَا، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: لَيْسَ لَكَ ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} فَحَوْلَانِ وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ ثَلَاثُونَ شَهْرًا، لَا رَجْمَ عَلَيْهَا.فَخَلَّى عُمَرُ سَبِيلَهَا، وَوَلَدَتْ مَرَّةً أُخْرَى لِذَلِكَ الْحَدِّ».كَمَا بَيَّنَ الْفِقْهُ الْإِسْلَامِيُّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ، فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ) أَنَّهَا أَرْبَعُ سَنَوَاتٍ.وَفِي رَأْيٍ لِلْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا خَمْسُ سَنَوَاتٍ، وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ فِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، أَنَّهَا سَنَتَانِ.وَقَدْ جَاءَ فِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ دَلِيلُهُ الِاسْتِقْرَاءُ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: «جَارَتُنَا امْرَأَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، امْرَأَةُ صِدْقٍ، وَزَوْجُهَا رَجُلُ صِدْقٍ، حَمَلَتْ ثَلَاثَةَ أَبْطُنٍ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، تَحْمِلُ كُلَّ بَطْنٍ أَرْبَعَ سِنِينَ».وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ غَيْرِ الْمَرْأَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقِيلَ إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ حَمَلَتْ أُمُّهُ بِهِ ثَلَاثَ سِنِينَ وَفِي صِحَّتِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ شَيْبَةَ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ سَنَتَانِ، فَكَيْفَ يُخَالِفُ مَا وَقَعَ فِي نَفْسِهِ؟ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: «وَهَذَا مُشْكِلٌ مَعَ كَثْرَةِ الْفَسَادِ فِي هَذَا الزَّمَانِ».
مُدَّةُ الْهُدْنَةِ:
14- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ مُوَادَعَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ، كَمَا «وَادَعَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَهْلَ مَكَّةَ». وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ دُونَ تَحْدِيدٍ، مَا دَامَتْ مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ.أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ، لقوله تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ}.وَيَرَى الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ مُهَادَنَةُ الْمُشْرِكِينَ أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، اسْتِنَادًا إِلَى مَا يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ.فَإِنْ هُودِنَ الْمُشْرِكُونَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَالْهُدْنَةُ مُنْتَقَضَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فَرْضُ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ.وَالتَّفْصِيلَاتُ فِي مُصْطَلَحِ (هُدْنَةٌ).
مُدَّةُ تَعْرِيفِ اللُّقَطَةِ:
15- مُدَّةُ تَعْرِيفِهَا ثَبَتَتْ بِالشَّرْعِ، وَالْأَصْلُ فِيهَا مَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ زَيْدٍ الْجُهَنِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ اللُّقَطَةِ الذَّهَبِ أَوِ الْوَرِقِ فَقَالَ: اعْرَفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً.فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ فَأَدِّهَا إِلَيْهِ.
وَسَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ، فَقَالَ: مَالَكَ وَلَهَا؟ دَعْهَا، فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا.وَسَأَلَهُ عَنِ الشَّاةِ فَقَالَ: خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ، أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ».رَوَاهُ مُسْلِمٌ.وَلِلْفُقَهَاءِ فِي الزِّيَادَةِ عَنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ أَوِ النَّقْصِ مِنْهَا حَسَبَ أَهَمِّيَّةِ الْمَالِ أَقْوَالٌ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ (لُقَطَةٌ).
مُدَّةُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ:
16- رَوَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَاجَهْ فِي السُّنَنِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» وَقَدِ اعْتُبِرَ الْحَوْلُ فِي زَكَاةِ السَّوَائِمِ، وَالْأَثْمَانِ (الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) وَقِيَمِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ.وَأَمَّا الزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ وَالْمَعْدِنُ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الْحَوْلُ.
مُدَّةُ تَأْجِيلِ الْعِنِّينِ:
17- إِذَا ثَبَتَتْ عُنَّةُ الزَّوْجِ ضَرَبَ الْقَاضِي لَهُ سَنَةً كَمَا فَعَلَ عُمَرُ- رضي الله عنه-، رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعُثْمَانَ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اتِّبَاعِ قَضَاءِ عُمَرَ- رضي الله عنه- فِي قَاعِدَةِ الْبَابِ.وَالْمَعْنَى فِيهِ مُضِيُّ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ الْجِمَاعِ قَدْ يَكُونُ لِعَارِضِ حَرَارَةٍ فَتَزُولُ فِي الشِّتَاءِ.أَوْ بُرُودَةٍ فَتَزُولُ فِي الصَّيْفِ، أَوْ يُبُوسَةٍ فَتَزُولُ فِي الرَّبِيعِ، أَوْ رُطُوبَةٍ فَتَزُولُ فِي الْخَرِيفِ.فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ، وَلَا إِصَابَةَ، عَلِمْنَا أَنَّهُ عَجْزٌ خِلْقِيٌّ.
مُدَّةُ الْإِمْهَالِ فِي الْإِيلَاءِ:
18- إِذَا آلَى الرَّجُلُ مِنْ زَوْجَتِهِ أُمْهِلَ وُجُوبًا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، لقوله تعالى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.فَإِنْ وَطِئَهَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَسَقَطَ الْإِيلَاءُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى مَضَتِ الْأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَانَتْ مِنْهُ بِتَطْلِيقَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ أَنَّهُ إِذَا انْقَضَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ يُخَيَّرُ الْمَوْلَى بَيْنَ الْفَيْئَةِ وَالتَّكْفِيرِ، وَبَيْنَ الطَّلَاقِ لِلْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ.
مُدَّةُ الرَّضَاعِ:
19- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، أَنَّ مُدَّةَ الرَّضَاعِ الَّتِي إِذَا وَقَعَ الرَّضَاعُ فِيهَا تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ سَنَتَانِ، لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} وَمُدَّةُ الْحَمْلِ أَدْنَاهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَبَقِيَ لِلْفِصَالِ حَوْلَانِ.وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا رَضَاعَ إِلاَّ مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَظَاهِرٌ «أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْأَحْكَامِ، وَقَالَ: لَمْ يُسْنِدْهُ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ إِلاَّ الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ حَافِظٌ» وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ مُدَّةَ الرَّضَاعِ ثَلَاثُونَ شَهْرًا؛ لقوله تعالى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} وَوَجْهُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ شَيْئَيْنِ وَضَرَبَ لَهُمَا مُدَّةً، فَكَانَتْ تِلْكَ الْمُدَّةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهَا، كَالْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ لِلدَّيْنَيْنِ عَلَى شَخْصَيْنِ، بِأَنْ قَالَ أَجَّلْتُ الدَّيْنَ الَّذِي لِي عَلَى فُلَانٍ، وَالدَّيْنَ الَّذِي لِي عَلَى فُلَانٍ سَنَةً، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ السَّنَةَ بِكَمَالِهَا لِكُلٍّ، وَكَالْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ لِلدَّيْنَيْنِ عَلَى شَخْصٍ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةُ أَقْفِزَةٍ إِلَى سَنَةٍ، فَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْأَجَلِ، فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ يَتِمُّ أَجَلُهُمَا جَمِيعًا، إِلاَّ أَنَّهُ قَامَ الْمُنَقِّصُ فِي أَحَدِهِمَا، يَعْنِي فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ، وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- الْوَلَدُ لَا يَبْقَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَلَوْ بِقَدْرِ فَلْكَةِ مِغْزَلٍ «وَفِي رِوَايَةٍ» وَلَوْ بِقَدْرِ ظِلِّ مِغْزَلٍ وَمِثْلُهُ مِمَّا لَا يُقَالُ إِلاَّ سَمَاعًا؛ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا الْعَقْلُ.وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «الْوَلَدُ لَا يَبْقَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ» فَتَبْقَى مُدَّةُ الْفِصَالِ عَلَى ظَاهِرِهَا.
وَيَرَى زُفَرُ أَنَّ مُدَّةَ الرَّضَاعِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلصَّبِيِّ مِنْ مُدَّةٍ يَتَعَوَّدُ فِيهَا غِذَاءً آخَرَ غَيْرَ اللَّبَنِ، لِيَنْقَطِعَ الْإِنْبَاتُ بِاللَّبَنِ، وَذَلِكَ بِزِيَادَةِ مُدَّةٍ يَتَعَوَّدُ فِيهَا الصَّبِيُّ تَغَيُّرَ الْغِذَاءِ، وَالْحَوْلُ حَسَنٌ لِلتَّحَوُّلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، فَقُدِّرَ بِثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ.
أَجَلُ الْعِدَّةِ:
20- الْعِدَّةُ أَجَلٌ ضَرَبَهُ الشَّرْعُ لِلْمُطَلَّقَةِ أَوِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَوْ مَنْ فُسِخَ نِكَاحُهَا.فَالْحَامِلُ فِي كُلِّ مَا ذُكِرَ عِدَّتُهَا وَضْعُ الْحَمْلِ.وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا- مَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا- عِدَّتُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أَمْ لَا.وَالْمُطَلَّقَةُ الْمَدْخُولُ بِهَا غَيْرُ الْحَامِلِ وَالْآيِسَةُ وَالصَّغِيرَةُ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ، عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْءِ أَهُوَ الطُّهْرُ أَمِ الْحَيْضُ، وَعِدَّةُ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَحِضْ وَالْآيِسَةُ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (عِدَّةٌ). مُدَّةُ خِيَارِ الشَّرْطِ:
21- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ خِيَارِ الشَّرْطِ وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ هَذِهِ الْمُدَّةِ، فَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ خِيَارُ الشَّرْطِ فِي الْبَيْعِ لِلْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي، أَوْ لَهُمَا، ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَهَا، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ حِبَّانَ بْنَ مُنْقِذِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ- رضي الله عنه- كَانَ يُغْبَنُ فِي الْبِيَاعَاتِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ، وَلِيَ الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» وَيَرَى أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَجُوزُ إِذَا سَمَّى مُدَّةً مَعْلُومَةً وَإِنْ طَالَتْ.وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ.وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ أَجَازَ الْبَيْعَ إِلَى شَهْرَيْنِ، وَأَنَّ الْخِيَارَ حَقٌّ يَعْتَمِدُ عَلَى الشَّرْطِ، فَرَجَعَ فِي تَقْدِيرِهِ إِلَى مُشْتَرِطِهِ، كَالْأَجَلِ، وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ».وَلِأَنَّ الْخِيَارَ إِنَّمَا شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إِلَى التَّرَوِّي لِيَنْدَفِعَ الْغَبْنُ، وَقَدْ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، كَالتَّأْجِيلِ فِي الثَّمَنِ، فَإِنَّ الْأَجَلَ شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إِلَى التَّأْخِيرِ، مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، ثُمَّ جَازَ أَيُّ مِقْدَارٍ تَرَاضَيَا عَلَيْهِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مُدَّةَ الْخِيَارِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السِّلَعِ، فَإِنَّ الْقَصْدَ مَا تُخْتَبَرُ فِيهِ تِلْكَ السِّلْعَةُ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السِّلَعِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَيَضْرِبُ مِنَ الْأَجَلِ أَقَلَّ مَا يُمْكِنُ؛ تَقْلِيلًا لِلْغَرَرِ، كَشَهْرٍ فِي دَارٍ، وَكَثَلَاثٍ فِي دَابَّةٍ.وَإِذَا كَانَتِ الْمُدَّةُ الْمُشْتَرَطَةُ مَجْهُولَةً، كَمَا إِذَا شَرَطَ الْخِيَارَ أَبَدًا، أَوْ مَتَى شَاءَ، أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: وَلِيَ الْخِيَارُ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُدَّتَهُ، أَوْ شَرَطَاهُ إِلَى مُدَّةٍ مَجْهُولَةٍ كَقُدُومِ زَيْدٍ، أَوْ نُزُولِ الْمَطَرِ، أَوْ مُشَاوَرَةِ إِنْسَانٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَمْ يَصِحَّ فِي الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَصِحُّ، وَهُمَا عَلَى خِيَارِهِمَا أَبَدًا أَوْ يَقْطَعَاهُ، أَوْ تَنْتَهِي مُدَّتُهُ إِنْ كَانَ مَشْرُوطًا إِلَى مُدَّةٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ».
وَقَالَ مَالِكٌ: «يَصِحُّ، وَيُضْرَبُ لَهُمَا مُدَّةٌ يُخْتَبَرُ الْمَبِيعُ فِي مِثْلِهَا فِي الْعَادَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي الْعَادَةِ»، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَسْقَطَا الشَّرْطَ قَبْلَ مُضِيِّ الثَّلَاثِ، أَوْ حَذْفِ الزَّائِدِ عَلَيْهَا وَبَيَّنَا مُدَّتَهُ، صَحَّ؛ لِأَنَّهُمَا حَذَفَا الْمُفْسِدَ قَبْلَ اتِّصَالِهِ بِالْعَقْدِ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ لَمْ يَشْتَرِطَاهُ. مُدَّةُ الْحَيْضِ:
22- أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَيْضِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَكْثَرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِلَيَالِيِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الشَّرْعِ مُطْلَقًا دُونَ تَحْدِيدٍ، وَلَا حَدَّ لَهُ فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الشَّرِيعَةِ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، كَمَا فِي الْقَبْضِ وَالْإِحْرَازِ وَالتَّفَرُّقِ وَأَشْبَاهِهَا.وَقَدْ وُجِدَ حَيْضٌ مُعْتَادٌ يَوْمًا.قَالَ عَطَاءٌ: رَأَيْتُ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ تَحِيضُ يَوْمًا وَتَحِيضُ خَمْسَةَ عَشَرَ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا، وَمَا نَقَصَ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «أَقَلُّ حَيْضِ الْجَارِيَةِ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، فَإِذَا زَادَ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ»، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَوْمَانِ وَالْأَكْثَرُ مِنَ الثَّالِثِ، إِقَامَةً لِلْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ، وَأَكْثَرُ الْحَيْضِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا، وَالزَّائِدُ اسْتِحَاضَةٌ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَقَلِّ الْحَيْضِ بِالزَّمَانِ، وَأَكْثَرُهُ لِمُبْتَدَأَةٍ غَيْرِ حَامِلٍ تَمَادَى بِهَا نِصْفُ شَهْرٍ، وَأَكْثَرُهُ لِمُعْتَادَةٍ غَيْرِ حَامِلٍ سَبَقَ لَهَا حَيْضٌ وَلَوْ مَرَّةً ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ زِيَادَةً عَلَى أَكْثَرِ عَادَتِهَا أَيَّامًا لَا وُقُوعًا.وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ (حَيْضٌ).
مُدَّةُ الطُّهْرِ:
23- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالثَّوْرِيُّ أَنَّ أَقَلَّ الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةٌ، وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَأَقَلُّ مَا بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا» مَنْقُولٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَقَدْ قِيلَ: أَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ مُدَّةُ اللُّزُومِ، فَكَانَ كَمُدَّةِ الْإِقَامَةِ.وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الشَّهْرَ غَالِبًا لَا يَخْلُو عَنْ حَيْضٍ وَطُهْرٍ، وَإِذَا كَانَ أَكْثَرُ الْحَيْضِ- عَلَى رَأْيِهِمْ- خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَقَلُّ الطُّهْرِ كَذَلِكَ، وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِ الطُّهْرِ بِالْإِجْمَاعِ، فَقَدْ لَا تَحِيضُ الْمَرْأَةُ فِي عُمُرِهَا إِلاَّ مَرَّةً، وَقَدْ لَا تَحِيضُ أَصْلًا.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ أَقَلَّ الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: «أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْهُ، وَقَدْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا، فَزَعَمَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ فِي شَهْرٍ ثَلَاثَ حِيَضٍ، طَهُرَتْ عِنْدَ كُلِّ قُرْءٍ وَصَلَّتْ.فَقَالَ عَلِيٌّ لِشُرَيْحٍ: قُلْ فِيهَا.فَقَالَ شُرَيْحٌ: إِنْ جَاءَتْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ بِطَانَةِ أَهْلِهَا، مِمَّنْ يُرْضَى دِينُهُ وَأَمَانَتُهُ، فَشَهِدَتْ بِذَلِكَ، وَإِلاَّ فَهِيَ كَاذِبَةٌ.فَقَالَ عَلِيٌّ: قَالُونُ» أَيْ جَيِّدٌ، بِالرُّومِيَّةِ.رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ.وَهَذَا لَا يَقُولُهُ إِلاَّ تَوْقِيفًا، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ انْتَشَرَ، وَلَمْ يُعْلَمْ خِلَافُهُ.
سِنُّ الْإِيَاسِ:
24- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْدِيرِ سِنِّ الْإِيَاسِ اخْتِلَافًا كَبِيرًا:
فَيَرَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ لِسِنِّ الْإِيَاسِ، وَإِيَاسُ الْمَرْأَةِ عَلَى هَذَا أَنْ تَبْلُغَ مِنَ السِّنِّ مَا لَا يَحِيضُ فِيهِ مِثْلُهَا.فَإِذَا بَلَغَتْ هَذَا الْمَبْلَغَ، وَانْقَطَعَ الدَّمُ، حُكِمَ بِإِيَاسِهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِمِثْلِهَا فِيمَا ذُكِرَ الْمُمَاثَلَةُ فِي تَرْكِيبِ الْبَدَنِ، وَالسِّمَنِ، وَالْهُزَالِ، وَهُوَ رَأْيٌ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ.
وَيَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ تَقْدِيرَهُ بِخَمْسِينَ سَنَةً، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: لَا يَكُونُ حَيْضٌ بَعْدَ الْخَمْسِينَ، وَيَكُونُ حُكْمُهَا فِيمَا تَرَاهُ مِنَ الدَّمِ حُكْمَ الْمُسْتَحَاضَةِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: إِذَا بَلَغَتِ الْمَرْأَةُ خَمْسِينَ سَنَةً خَرَجَتْ مِنْ حَدِّ الْحَيْضِ وَرُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: «لَنْ تَرَى الْمَرْأَةُ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا بَعْدَ الْخَمْسِينَ».
وَيَرَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، أَنَّهَا لَا تَيْأَسُ مِنَ الْمَحِيضِ يَقِينًا إِلَى سِتِّينَ سَنَةً.وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ- عَلَى أَشْهَرِ الْأَقْوَالِ- أَنَّ سِنَّ الْإِيَاسِ اثْنَتَانِ وَسِتُّونَ سَنَةً.وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ فِي سِنِّ السَّبْعِينَ، وَمِثْلُهُ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَنَّهَا بَعْدَ الْخَامِسَةِ وَالْخَمْسِينَ مَشْكُوكٌ فِي يَأْسِهَا، فَيَرْجِعُ فِيمَا تَرَاهُ إِلَى النِّسَاءِ لِمَعْرِفَةِ هَلْ هُوَ حَيْضٌ، أَوْ لَيْسَ بِحَيْضٍ، أَمَّا مَنْ بَلَغَتْ سِنَّ السَّبْعِينَ فَلَا يُسْأَلُ عَنْهَا.
مُدَّةُ النِّفَاسِ:
25- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَقَلِّ النِّفَاسِ، فَأَيُّ وَقْتٍ رَأَتِ الْمَرْأَةُ الطُّهْرَ اغْتَسَلَتْ، وَهِيَ طَاهِرٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَكْثَرِهِ: فَيَرَى جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ أَكْثَرَ النِّفَاسِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا.قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى أَنَّ النُّفَسَاءَ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، إِلاَّ أَنْ تَرَى الطُّهْرَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَتَغْتَسِلَ وَتُصَلِّيَ.وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَعَلَى هَذَا جَمَاعَةُ النَّاسِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَأُمِّ سَلَمَةَ- رضي الله عنهم-، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى أَبُو سَهْلٍ كَثِيرُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ مُسَّةَ الْأَزْدِيَّةِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «كَانَتِ النُّفَسَاءُ تَجْلِسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً»
وَرَوَى الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ عَنْ مُسَّةَ الْأَزْدِيَّةِ عَنْ «أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا سَأَلَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: كَمْ تَجْلِسُ الْمَرْأَةُ إِذَا وَلَدَتْ؟ قَالَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا، إِلاَّ أَنْ تَرَى الطُّهْرَ قَبْلَ ذَلِكَ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمْ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَقَدْ حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ إِجْمَاعًا، وَنَحْوَهُ حَكَى أَبُو عُبَيْدٍ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ أَكْثَرَهُ سِتُّونَ يَوْمًا، وَحَكَى ابْنُ عُقَيْلٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رِوَايَةً مِثْلَ قَوْلِهِمَا، لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: عِنْدَنَا امْرَأَةٌ تَرَى النِّفَاسَ شَهْرَيْنِ، وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ وَجَدَهُ، وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْوُجُودِ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ غَالِبَهُ أَرْبَعُونَ يَوْمًا.
سِنُّ الْبُلُوغِ:
26- لَقَدْ جَعَلَ الشَّارِعُ الْبُلُوغَ أَمَارَةً عَلَى تَكَامُلِ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى تَكَامُلِ الْعَقْلِ مُتَعَذِّرٌ، فَأُقِيمَ الْبُلُوغُ مَقَامَهُ.وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سِنِّ الْبُلُوغِ: فَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِرَأْيِهِمَا يُفْتَى فِي الْمَذْهَبِ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، أَنَّ الْبُلُوغَ بِالسِّنِّ يَكُونُ بِتَمَامِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً قَمَرِيَّةً لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى (تَحْدِيدِيَّةٌ كَمَا صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ)، لِخَبَرِ «ابْنِ عُمَرَ.عُرِضْتُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يُجِزْنِي وَلَمْ يَرَنِي بَلَغْتُ، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَجَازَنِي، وَرَآنِي بَلَغْتُ».رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: «رَدَّ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- سَبْعَةَ عَشَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، لِأَنَّهُ لَمْ يَرَهُمْ بَلَغُوا، ثُمَّ عُرِضُوا عَلَيْهِ وَهُمْ أَبْنَاءُ خَمْسَ عَشْرَةَ، فَأَجَازَهُمْ، مِنْهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، وَابْنُ عُمَرَ».وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا اسْتَكْمَلَ الْمَوْلُودُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً كُتِبَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ الْحُدُودُ».
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْبُلُوغَ يَكُونُ بِتَمَامِ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ بِالدُّخُولِ فِيهَا، أَوِ الْحُلُمِ أَيِ الْإِنْزَالِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ..»، أَوِ الْحَيْضِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ» أَوِ الْحَبَلِ لِلْأُنْثَى، أَوِ الْإِنْبَاتِ الْخَشِنِ لِلْعَانَةِ.وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَطَّابُ خَمْسَةَ أَقْوَالٍ فِي الْمَذْهَبِ، فَفِي رِوَايَةٍ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَقِيلَ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَزَادَ بَعْضُ شُرَّاحِ الرِّسَالَةِ سِتَّةَ عَشَرَ، وَتِسْعَةَ عَشَرَ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ خَمْسَةَ عَشَرَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ.
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ بُلُوغَ الْغُلَامِ بِالسِّنِّ هُوَ بُلُوغُهُ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً، وَالْجَارِيَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً.وَذَلِكَ لقوله تعالى {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه-: ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً وَهِيَ أَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ، فَأُخِذَ بِهِ احْتِيَاطًا.هَذَا أَشُدُّ الصَّبِيِّ، وَالْأُنْثَى أَسْرَعُ بُلُوغًا مِنَ الْغُلَامِ فَنَقَصْنَاهَا سَنَةً وَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِ الْأَحْكَامِ إِلَى مُصْطَلَحَيِ (احْتِلَامٌ) (وَبُلُوغٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
19-موسوعة الفقه الكويتية (اختصاص 1)
اخْتِصَاصٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الِاخْتِصَاصُ فِي اللُّغَةِ: الِانْفِرَادُ بِالشَّيْءِ دُونَ الْغَيْرِ، أَوْ إِفْرَادُ الشَّخْصِ دُونَ غَيْرِهِ بِشَيْءٍ مَا.
وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ كَذَلِكَ، فَهُمْ يَقُولُونَ: هَذَا مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- أَوْ مِمَّا اخْتَصَّهُ اللَّهُ بِهِ، وَيَقُولُونَ فِيمَنْ وَضَعَ سِلْعَتَهُ فِي مَقْعَدٍ مِنْ مَقَاعِدِ السُّوقِ الْمُبَاحَةِ: إِنَّهُ اخْتَصَّ بِهَا دُونَ غَيْرِهِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مُزَاحَمَتُهُ حَتَّى يَدَعَ.
مَنْ لَهُ حَقُّ الِاخْتِصَاصِ
2- الِاخْتِصَاصُ إِمَّا لِلْمُشَرِّعِ أَوْ لِأَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ بِمَا لَهُ مِنْ وِلَايَةٍ أَوْ مِلْكٍ.
الِاخْتِصَاصُ مِنَ الْمُشَرِّعِ
3- الِاخْتِصَاصُ مِنَ الْمُشَرِّعِ لَا تُشْتَرَطُ لَهُ شُرُوطٌ؛ لِأَنَّهُ هُوَ وَاضِعُ الشُّرُوطِ وَالْأَحْكَامِ، وَهُوَ وَاجِبُ الطَّاعَةِ، كَاخْتِصَاصِهِ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِإِبَاحَةِ الزَّوَاجِ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسَاءٍ، وَاخْتِصَاصِهِ الْكَعْبَةَ بِوُجُوبِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ.وَمَحَلُّ الِاخْتِصَاصِ- فِي هَذَا الْبَحْثِ- قَدْ يَكُونُ شَخْصًا، أَوْ زَمَانًا، أَوْ مَكَانًا.
اخْتِصَاصَاتُ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-
4- الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ فِي بَحْثِ اخْتِصَاصَاتِ الرَّسُولِ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْبَحْثِ فِي خَصَائِصِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-، فَأَجَازَهُ الْجُمْهُورُ وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ، وَقَالَ: الصَّوَابُ الْجَزْمُ بِجَوَازِ ذَلِكَ، بَلْ بِاسْتِحْبَابِهِ، بَلْ لَوْ قِيلَ بِوُجُوبِهِ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا؛ لِأَنَّ فِي الْبَحْثِ فِي الْخَصَائِصِ زِيَادَةَ الْعِلْمِ؛ وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا رَأَى جَاهِلٌ بَعْضَ الْخَصَائِصِ ثَابِتَةً فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، فَعَمِلَ بِهِ أَخْذًا بِأَصْلِ التَّأَسِّي بِالرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام-، فَوَجَبَ بَيَانُهَا لِتُعْرَفَ فَلَا يُعْمَلُ بِهَا.
وَأَمَّا مَا يَقَعُ فِي ضِمْنِ الْخَصَائِصِ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ الْيَوْمَ فَقَلِيلٌ، لَا تَخْلُو أَبْوَابُ الْفِقْهِ عَنْ مِثْلِهِ لِلتَّدَرُّبِ، وَمَعْرِفَةِ الْأَدِلَّةِ وَتَحْقِيقِ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ.وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيِّ.وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْخَصَائِصِ حُكْمٌ نَاجِزٌ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ.
أَنْوَاعُ اخْتِصَاصَاتِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-:
5- أ- الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الَّتِي لَا تَتَعَدَّاهُ إِلَى أُمَّتِهِ كَكَوْنِهِ لَا يُورَثُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
ب- الْمَزَايَا الْأُخْرَوِيَّةُ، كَإِعْطَائِهِ الشَّفَاعَةَ، وَكَوْنِهِ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
ج- الْفَضَائِلُ الدُّنْيَوِيَّةُ، كَكَوْنِهِ أَصْدَقَ النَّاسِ حَدِيثًا.
د- الْمُعْجِزَاتُ كَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَغَيْرِهِ.
هـ- الْأُمُورُ الْخُلُقِيَّةُ، كَكَوْنِهِ يَرَى مِنْ خَلْفِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَسَيَقْتَصِرُ الْبَحْثُ عَلَى النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ الِاخْتِصَاصَاتِ- اخْتِصَاصُهُ- صلى الله عليه وسلم- بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ.أَمَّا مَوْطِنُ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْخَصَائِصِ الْأُخْرَى فَهُوَ كُتُبُ الْعَقَائِدِ، وَكُتُبُ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَالْكُتُبُ الْمُؤَلَّفَةُ فِي خَصَائِصِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَفَضَائِلِهِ.
مَا اخْتُصَّ بِهِ- صلى الله عليه وسلم-
مِنَ الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ:
6- هَذِهِ الِاخْتِصَاصَاتُ لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا وَاجِبَةً أَوْ مُحَرَّمَةً أَوْ مُبَاحَةً.
الِاخْتِصَاصَاتُ الْوَاجِبَةُ:
7- فَرَضَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- بَعْضَ مَا هُوَ مُبَاحٌ أَوْ مَنْدُوبٌ عَلَى أُمَّتِهِ، إِعْلَاءً لِمَقَامِهِ عِنْدَهُ وَإِجْزَالًا لِثَوَابِهِ؛ لِأَنَّ ثَوَابَ الْفَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ ثَوَابِ النَّفْلِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ» وَمِنْ ذَلِكَ.
أ- قِيَامُ اللَّيْلِ:
8- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، هَلْ كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَرْضًا، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى عَدَمِ فَرْضِيَّتِهِ عَلَى الْأُمَّةِ.فَذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَدِ اخْتُصَّ بِافْتِرَاضِ قِيَامِ اللَّيْلِ عَلَيْهِ، وَتَابَعَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ.وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} أَيْ نَفْلًا لَكَ، أَيْ فَضْلًا: (زِيَادَةً) عَنْ فَرَائِضِكَ الَّتِي فَرَضْتُهَا عَلَيْكَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ}.قَالَ الطَّبَرِيُّ: «خَيَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى حِينَ فَرَضَ عَلَيْهِ قِيَامَ اللَّيْلِ بَيْنَ هَذِهِ الْمَنَازِلِ».وَيُعَضِّدُ هَذَا وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «ثَلَاثٌ هُنَّ عَلَيَّ فَرَائِضُ وَلَكُمْ سُنَّةٌ، الْوِتْرُ وَالسِّوَاكُ وَقِيَامُ اللَّيْلِ».وَذَهَبَ مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ إِلَى أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَى، رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَلْ هُوَ نَافِلَةٌ، وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {نَافِلَةً لَكَ} مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَمَا عَمِلَ مَنْ عَمَلٍ سِوَى الْمَكْتُوبَةِ فَهُوَ نَافِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْمَلُ ذَلِكَ فِي كَفَّارَةِ الذُّنُوبِ، فَهِيَ نَافِلَةٌ وَزِيَادَةٌ، وَالنَّاسُ يَعْمَلُونَ مَا سِوَى الْمَكْتُوبَةِ لِتَكْفِيرِ ذُنُوبِهِمْ فَلَيْسَ لِلنَّاسِ- فِي الْحَقِيقَةِ- نَوَافِلُ.
وَتَبِعَ مُجَاهِدًا جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ، فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ قِيَامِ اللَّيْلِ قَدْ نُسِخَ فِي حَقِّ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَمَا نُسِخَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فَرَضَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ»،، خَاصَّةً أَنَّ الْآيَةَ مُحْتَمِلَةٌ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ بِفَرْضِيَّةِ قِيَامِ اللَّيْلِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حَدِيثٌ ضَعِيفٌ.
ب- صَلَاةُ الْوِتْرِ:
9- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اخْتِصَاصِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِافْتِرَاضِ صَلَاةِ الْوِتْرِ عَلَيْهِ، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَى أُمَّتِهِ.فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوِتْرَ كَانَ وَاجِبًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ وَالْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْغَزَالِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ هَذَا الْوُجُوبَ خَاصٌّ بِالْحَضَرِ دُونَ السَّفَرِ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي الْوِتْرَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَلَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ».وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَذْهَبُ أَنَّ صَلَاةَ الْوِتْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَلَكِنْ جَوَازُ صَلَاتِهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ خَاصٌّ بِهِ- عليه الصلاة والسلام-.
وَيَرَى الْعَيْنِيُّ الْحَنَفِيُّ فِي عُمْدَةِ الْقَارِي وَالْحَنَفِيَّةُ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ الْوِتْرِ- إِنَّ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْوِتْرَ عَلَى الرَّاحِلَةِ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُفْتَرَضَ عَلَيْهِ الْوِتْرُ.
ج- صَلَاةُ الضُّحَى:
10- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ صَلَاةِ الضُّحَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ.فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ الضُّحَى مَفْرُوضَةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «ثَلَاثٌ هُنَّ عَلَيَّ فَرَائِضُ، وَلَكُمْ تَطَوُّعٌ: النَّحْرُ وَالْوِتْرُ وَرَكْعَتَا الضُّحَى».
وَأَقَلُّ الْوَاجِبِ مِنْهَا عَلَيْهِ رَكْعَتَانِ لِحَدِيثِ: «أُمِرْتُ بِرَكْعَتَيِ الضُّحَى وَلَمْ تُؤْمَرُوا بِهَا».وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ الضُّحَى لَيْسَتْ مَفْرُوضَةً عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أُمِرْتُ بِالْوِتْرِ وَالْأَضْحَى وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيَّ».
د- سُنَّةُ الْفَجْرِ:
11- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي فَرْضِيَّةِ سُنَّةِ الْفَجْرِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَى غَيْرِهِ.فَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ السَّلَفِ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا عَلَيْهِ- صلى الله عليه وسلم- وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «ثَلَاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَهُنَّ لَكُمْ تَطَوُّعٌ: الْوِتْرُ وَالنَّحْرُ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ».
هـ- السِّوَاكُ:
12- الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ السِّوَاكَ لِكُلِّ صَلَاةٍ مُفْتَرَضٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أُمِرَ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، طَاهِرًا وَغَيْرَ طَاهِرٍ، فَلَمَّا شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ أُمِرَ بِالسِّوَاكِ لِكُلِّ صَلَاةٍ».وَفِي لَفْظٍ: «وُضِعَ عَنْهُ الْوُضُوءُ إِلاَّ مِنْ حَدَثٍ».
و- الْأُضْحِيَةُ:
13- الْأُضْحِيَةُ فَرْضٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دُونَ أُمَّتِهِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ: «ثَلَاثٌ هُنَّ عَلَيَّ فَرَائِضُ وَلَكُمْ تَطَوُّعٌ: النَّحْرُ وَالْوِتْرُ وَرَكْعَتَا الضُّحَى».
ز- الْمُشَاوَرَةُ:
14- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي فَرْضِيَّةِ الْمُشَاوَرَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى سُنِّيَّتِهَا عَلَى غَيْرِهِ.فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِفَرْضِيَّتِهَا عَلَيْهِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}.وَقَالَ هَؤُلَاءِ: إِنَّمَا وَجَبَ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَطْيِيبًا لِلْقُلُوبِ، وَتَعْلِيمًا لِلنَّاسِ لِيَسْتَنُّوا بِهِ- عليه الصلاة والسلام-.وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُشَاوَرَةَ لَمْ تَكُنْ فَرْضًا عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ لِفِقْدَانِ دَلِيلٍ يَصْلُحُ لِإِثْبَاتِ الْفَرْضِيَّةِ.وَحَمَلُوا الْأَمْرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ عَلَى النَّدْبِ أَوِ الْإِرْشَادِ.ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا يُشَاوِرُ فِيهِ: بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشَاوِرُ فِيمَا نَزَلَ عَلَيْهِ فِيهِ وَحْيٌ.
فَقَالَ فَرِيقٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: يُشَاوِرُ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، كَالْحُرُوبِ وَمُكَايَدَةِ الْعَدُوِّ؛ لِأَنَّ اسْتِقْرَاءَ مَا شَاوَرَ فِيهِ الرَّسُولُ (ص) أَصْحَابَهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ فَرِيقٌ آخَرُ: يُشَاوِرُ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا.أَمَّا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي أُمُورِ الدِّينِ فَإِنَّ اسْتِشَارَتَهُ لَهُمْ تَكُونُ تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى عِلَلِ الْأَحْكَامِ وَطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ.
ح- مُصَابَرَةُ الْعَدُوِّ الزَّائِدِ عَلَى الضِّعْفِ:
15- مِمَّا فُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دُونَ أُمَّتِهِ مُصَابَرَةُ الْعَدُوِّ وَإِنْ كَثُرَ وَزَادَ عَلَى الضِّعْفِ، لِأَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- مَحْفُوظٌ بِحِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى.قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.
ط- تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ:
16- مِمَّا فُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَغْيِيرُ الْمُنْكَرِ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ هَذَا لِلْخَوْفِ، بِخِلَافِ أُمَّتِهِ الَّتِي يَسْقُطُ عَنْهَا بِالْخَوْفِ.وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ تَكَفَّلَ بِحِفْظِ رَسُولِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، كَمَا لَا يَسْقُطُ عَنْهُ إِذَا كَانَ الْمُرْتَكِبُ يَزِيدُهُ الْإِنْكَارُ إِغْرَاءً، لِئَلاَّ يَتَوَهَّمَ إِبَاحَتَهُ بِخِلَافِ أُمَّتِهِ.وَإِذَا كَانَ إِنْكَارُ الْمُنْكَرِ فَرْضَ كِفَايَةٍ عَلَى أُمَّتِهِ فَإِنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَيْهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِعِدَّةِ أَحَادِيثَ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى.
ي- قَضَاءُ دَيْنِ مَنْ مَاتَ مُعْسِرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ:
17- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دَيْنَ الْمَيِّتِ الْمُعْسِرِ.فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَرْضًا عَلَيْهِ، بَلْ كَانَ مِنْهُ- عليه الصلاة والسلام- تَطَوُّعًا.ثُمَّ اخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلِ الْقَضَاءُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ أَمْ مِنْ مَالِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَإِنْ كَانَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَهِيَ خُصُوصِيَّةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَتْ بِخُصُوصِيَّةٍ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَلْ يُشَارِكُهُ فِيهَا جَمِيعُ وُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ.وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يُتَوَفَّى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَيَسْأَلُ: هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ فَضْلًا، فَإِنْ حُدِّثَ أَنَّهُ تَرَكَ لَهُ وَفَاءً صَلَّى عَلَيْهِ، وَإِلاَّ قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْفُتُوحَ قَالَ- عليه الصلاة والسلام-: أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ».
ك- وُجُوبُ تَخْيِيرِهِ نِسَاءَهُ وَإِمْسَاكُ مَنِ اخْتَارَتْهُ:
18- طَالَبَهُ أَزْوَاجُهُ- صلى الله عليه وسلم- بِالتَّوَسُّعِ فِي النَّفَقَةِ- كَمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ- حَتَّى تَأَذَّى مِنْ ذَلِكَ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ- عليه الصلاة والسلام- أَنْ يُخَيِّرَهُنَّ فَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْن َأُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}.
فَخَيَّرَهُنَّ، فَاخْتَرْنَهُ كُلُّهُنَّ إِلاَّ الْعَامِرِيَّةَ اخْتَارَتْ قَوْمَهَا، فَأُمِرَ- صلى الله عليه وسلم- بِإِمْسَاكِ مَنِ اخْتَارَتْهُ مِنْهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} وَذَلِكَ مُكَافَأَةٌ لَهُنَّ عَلَى إِيثَارِهِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.
الِاخْتِصَاصَاتُ الْمُحَرَّمَةُ- صلى الله عليه وسلم-
19- قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- بَعْضَ مَا أَحَلَّهُ لأُِمَّتِهِ، تَنْزِيهًا لَهُ- عليه الصلاة والسلام- عَنْ سَفَاسِفِ الْأُمُورِ، وَإِعْلَاءً لِشَأْنِهِ، وَلِأَنَّ أَجْرَ تَرْكِ الْمُحَرَّمِ أَكْبَرُ مِنْ أَجْرِ تَرْكِ الْمَكْرُوهِ، وَبِذَلِكَ يَزْدَادُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عُلُوًّا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.وَمِنْ ذَلِكَ:
أ- الصَّدَقَاتُ:
20- اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ عَلَى رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- أَخْذَ شَيْءٍ مِنْ صَدَقَاتِ النَّاسِ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مَفْرُوضَةً أَوْ تَطَوُّعًا، كَالزَّكَاةِ، وَالْكَفَّارَةِ، وَالنَّذْرِ وَالتَّطَوُّعِ، صِيَانَةً لِمَنْصِبِهِ الشَّرِيفِ، وَلِأَنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ ذُلِّ الْآخِذِ وَعِزِّ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ، وَقَدْ أَبْدَلَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِهَا الْفَيْءَ الَّذِي يُؤْخَذُ عَلَى سَبِيلِ الْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ، الْمُنْبِئِ عَنْ عِزِّ الْآخِذِ وَذُلِّ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ.
رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لآِلِ مُحَمَّدٍ».هَذَا، وَإِنَّ تَحْرِيمَ الصَّدَقَاتِ عَلَى آلِ الْبَيْتِ إِنَّمَا هُوَ لِقَرَابَتِهِمْ مِنْهُ- صلى الله عليه وسلم-.
ب- الْإِهْدَاءُ لِيَنَالَ أَكْثَرَ مِمَّا أَهْدَى:
21- حُرِّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُهْدِيَ لِيُعْطَى أَكْثَرَ مِمَّا أَهْدَى لقوله تعالى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرْ}؛ لِأَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- مَأْمُورٌ بِأَشْرَفِ الْآدَابِ وَأَجَلِّ الْأَخْلَاقِ، نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ.
ج- أَكْلُ مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ:
22- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْرِيمِ نَحْوِ الثُّومِ وَالْبَصَلِ وَمَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ، فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا.مِنَ الْبُقُولِ، فَقَالَ: قَرِّبُوهَا أَيْ إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا قَالَ: كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي».
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَكْرَهُ أَكْلَهُ لِتَعَرُّضِهِ لِنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَتَأَذَّى بِالرِّيحِ الْخَبِيثَةِ.وَقَدِ اسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ «أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ صَنَعَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- طَعَامًا فِيهِ ثُومٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَرْسَلَ إِلَيْهِ بِطَعَامٍ مِنْ خَضِرَةٍ فِيهِ بَصَلٌ وَكُرَّاثٌ، فَرَدَّهُ- عليه الصلاة والسلام- وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا فَقَالَ: أَحَرَامٌ هُوَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ».
د- نَظْمُ الشِّعْرِ:
23- هُوَ مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالِاتِّفَاقِ، لَكِنْ فَرَّقَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ بَيْنَ الرَّجَزِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْبُحُورِ، فَقَالَ: الرَّجَزُ جَائِزٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشِعْرٍ، وَغَيْرُهُ لَا يَجُوزُ.وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا أَنْشَدَهُ- عليه الصلاة والسلام- مِنَ الرَّجَزِ وَهُوَ يُشَارِكُ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ، وَمَنْ قَالَ إِنَّ الرَّجَزَ مِنَ الشِّعْرِ قَالَ: إِنَّ هَذَا خَاصَّةٌ لَيْسَ بِشِعْرٍ؛ لِأَنَّ الشِّعْرَ لَا يَكُونُ شِعْرًا إِلاَّ إِنْ صَدَرَ عَنْ قَائِلِهِ بِقَصْدِ الْإِشْعَارِ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ فِي ذِكْرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِهَذَا الرَّجَزِ الَّذِي قَالَهُ
هـ- نَزْعُ لَامَتِهِ إِذَا لَبِسَهَا لِلْقِتَالِ حَتَّى يُقَاتِلَ:
24- مِمَّا حُرِّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دُونَ أُمَّتِهِ أَنَّهُ إِذَا لَبِسَ لأَْمَةَ الْحَرْبِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْزِعَهَا حَتَّى يَلْقَى الْعَدُوَّ؛ لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا أَخَذَ لأَْمَةَ الْحَرْبِ وَأَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْعَدُوِّ أَنْ يَرْجِعَ حَتَّى يُقَاتِلَ».وَوَاضِحٌ أَنَّهُ يَشْتَرِكُ مَعَهُ فِي هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ.
و- خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ:
25- الْمُرَادُ بِهَا الْإِيمَاءُ بِمَا يَظْهَرُ خِلَافُهُ، وَهُوَ مِمَّا حُرِّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دُونَ أُمَّتِهِ إِلاَّ فِي مَحْظُورٍ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا التَّحْرِيمِ عَلَيْهِ هُوَ تَنَزُّهُ مَقَامِ النُّبُوَّةِ عَنْهُ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الْفَتْحِ أَمَّنَ النَّاسَ إِلاَّ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَرْحٍ، فَاخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ، فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْبَيْعَةِ، جَاءَ بِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايِعْ عَبْدَ اللَّهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى، فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَمَا فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدَيَّ عَنْ بَيْعَتِهِ لِيَقْتُلَهُ؟ قَالُوا: مَا يُدْرِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فِي نَفْسِكَ، هَلاَّ أَوْمَأْتَ بِعَيْنِكَ.قَالَ: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لِنَبِيٍّ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ».وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِمَّا اخْتَصَّ بِهِ هُوَ وَالْأَنْبِيَاءُ دُونَ الْأُمَمِ.
ز- نِكَاحُ الْكَافِرَةِ وَالْأَمَةِ، وَالْمُمْتَنِعَةِ عَنِ الْهِجْرَةِ:
26- مِمَّا حُرِّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نِكَاحُ الْكِتَابِيَّةِ، لِخَبَرِ: «سَأَلْتُ رَبِّي أَلاَّ أُزَوَّجَ إِلاَّ مَنْ كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ فَأَعْطَانِي»،، - أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ- وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَشْرَفُ مِنْ أَنْ يَضَعَ مَاءَهُ فِي رَحِمِ كَافِرَةٍ؛ وَلِأَنَّ الْكَافِرَةَ تَكْرَهُ صُحْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.
كَمَا حُرِّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نِكَاحُ الْأَمَةِ، وَلَوْ كَانَتْ مُسْلِمَةً؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا مُعْتَبَرٌ لِخَوْفِ الْعَنَتِ (أَيِ الزِّنَا) وَهُوَ مَعْصُومٌ عَنْهُ، أَوْ لِفِقْدَانِ مَهْرِ الْحُرَّةِ، وَنِكَاحُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- غَنِيٌّ عَنِ الْمَهْرِ ابْتِدَاءً، إِذْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ بِغَيْرِ مَهْرٍ؛ وَلِأَنَّ نِكَاحَهَا يُؤَدِّي إِلَى رِقِّ الْوَلَدِ وَمَقَامُ النُّبُوَّةِ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذَا.
وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ نِكَاحُ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْهِجْرَةُ وَلَمْ تُهَاجِرْ، لقوله تعالى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: (وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ وَاللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ)، وَلِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «نُهِيَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ أَصْنَافِ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ»،، وَلِحَدِيثِ «أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: خَطَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ فَاعْتَذَرْتُ إِلَيْهِ، فَعَذَرَنِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} الْآيَةَ إِلَى قوله تعالى: {اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ}.قَالَتْ: فَلَمْ أَكُنْ أَحِلُّ لَهُ؛ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ مِمَّنْ هَاجَرَ مَعَهُ، كُنْتُ مِنَ الطُّلَقَاءِ».وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو يُوسُفَ: لَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ اللاَّتِي لَمْ يُهَاجِرْنَ كُنَّ مُحَرَّمَاتٍ عَلَيْهِ، لِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَنْفِي مَا عَدَاهُ.
ح- إِمْسَاكُ مَنْ كَرِهَتْهُ:
27- مِمَّا حُرِّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِمْسَاكُ كَارِهَتِهِ وَلَمْ يَحْرُمْ ذَلِكَ عَلَى أُمَّتِهِ، حِفْظًا لِمَقَامِ النُّبُوَّةِ، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ ابْنَةَ الْجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَدَنَا مِنْهَا قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ».وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ وُجُوبُ تَخْيِيرِهِ نِسَاءَهُ الَّذِي تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ عَنْهُ.
الِاخْتِصَاصَاتُ الْمُبَاحَةُ
أ- الصَّلَاةُ بَعْدَ الْعَصْرِ:
28- ذَهَبَ مَنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَى أَنَّهُ أُبِيحَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَكَرِهَ ذَلِكَ لأُِمَّتِهِ، فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْعَصْرِ وَيَنْهَى عَنْهَا». ب- الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ الْغَائِبِ:
29- مَنْ مَنَعَ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ الْغَائِبِ كَالْحَنَفِيَّةِ قَالَ: أُبِيحَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ الْغَائِبِ دُونَ أُمَّتِهِ لِأَمْرٍ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ.
ج- صِيَامُ الْوِصَالِ:
30- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى اخْتِصَاصِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِإِبَاحَةِ صِيَامِ الْوِصَالِ (لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَهُ دُونَ أُمَّتِهِ، لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنِ الْوِصَالِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، فَقَالَ: إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى».
د- الْقِتَالُ فِي الْحَرَمِ:
31- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى إِبَاحَةِ الْقِتَالِ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي مَكَّةَ دُونَ أُمَّتِهِ، لِمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ».
هـ- دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ:
32- مَنْ قَالَ مِنَ الْفُقَهَاءِ لَا يَجُوزُ لِمُكَلَّفٍ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ قَالَ: إِنَّ دُخُولَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَكَّةَ يَوْمَ فَتْحِهَا بِغَيْرِ إِحْرَامٍ كَانَ خَاصًّا بِهِ- عليه الصلاة والسلام-.
و- الْقَضَاءُ بِعِلْمِهِ:
33- مَنْ مَنَعَ الْقَاضِيَ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ جَعَلَ مَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِعِلْمِهِ لِهِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ وَقَوْلَهُ لَهَا: «خُذِي مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيكِ» مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ- عليه الصلاة والسلام-.
ز- الْقَضَاءُ لِنَفْسِهِ:
34- خُصَّ- عليه الصلاة والسلام- بِإِبَاحَةِ الْقَضَاءِ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ لِلرِّيبَةِ وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ عَنْهُ قَطْعًا وَمِثْلُ ذَلِكَ الْقَضَاءُ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ.
ح- أَخْذُ الْهَدِيَّةِ:
35- مِنْ خَصَائِصِهِ- عليه الصلاة والسلام- أَنَّ الْهَدِيَّةَ حَلَالٌ لَهُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْحُكَّامِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ مِنْ رَعَايَاهُمْ.
ط- فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ:
36- أُبِيحَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- خُمُسُ الْغَنِيمَةِ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرِ الْوَقْعَةَ، لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}.وَأُبِيحَ لَهُ الصَّفِيُّ مِنَ الْمَغْنَمِ- صلى الله عليه وسلم-، وَهُوَ مَا يَخْتَارُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مِنَ الْغَنِيمَةِ، كَسَيْفٍ وَدِرْعٍ وَنَحْوِهِمَا، وَمِنْهُ صَفِيَّةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي اصْطَفَاهَا مِنَ الْمَغْنَمِ لِنَفْسِهِ.
ي- فِي النِّكَاحِ:
37- مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأُبِيحَ لَهُ دُونَ أُمَّتِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسَاءٍ، وَأَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ مَهْرٍ، وَأَنْ يَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا.وَيُبَاحُ لَهُ أَلاَّ يَقْسِمَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ عِنْدَ الْبَعْضِ، مَعَ أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- كَانَ حَرِيصًا عَلَى الْقَسْمِ، حَتَّى فِي السَّفَرِ، حَيْثُ كَانَ يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ، وَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْمَرَضُ اسْتَأْذَنَ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ.
الْخَصَائِصُ مِنَ الْفَضَائِلِ
38- هُنَاكَ أُمُورٌ اخْتَصَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِمَزِيدِ فَضْلٍ وَمِنْهَا: أ- اخْتِصَاصُ مَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ مِنَ الْأَحْكَامِ:
39- لَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مُشَرِّعًا لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَخُصَّ مَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ مِنَ الْأَحْكَامِ، كَجَعْلِهِ شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، وَإِجَازَتِهِ الْأُضْحِيَةَ بِالْعَنَاقِ (الْجِذْعِ) لِأَبِي بُرْدَةَ وَلِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَتَزْوِيجِهِ رَجُلًا عَلَى سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَتَزْوِيجِهِ أُمَّ سُلَيْمٍ أَبَا طَلْحَةَ عَلَى إِسْلَامِهِ.
ب- الرَّسُولُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ:
40- خُصَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دُونَ أَحَدٍ مِنْ أُمَّتِهِ بِأَنَّهُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؛ لقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ}.وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحْكَامِ: مِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ مَحَبَّتِهِ أَكْثَرَ مِنَ النَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ- صلى الله عليه وسلم-، لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ «عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ نَفْسِي الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ، فَقَالَ لَهُ- صلى الله عليه وسلم-: لَنْ يُؤْمِنَ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: وَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: الْآنَ يَا عُمَرُ».
وَمِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ فِدَائِهِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ- صلى الله عليه وسلم-.وَمِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ طَاعَتِهِ وَإِنْ خَالَفَتْ هَوَى النَّفْسِ- صلى الله عليه وسلم-، وَغَيْرُ ذَلِكَ.
ج- الْجَمْعُ بَيْنَ اسْمِ الرَّسُولِ وَكُنْيَتِهِ لِمَوْلُودٍ:
41- ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ وَابْنِ سِيرِينَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ التَّكَنِّي بِكُنْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي عَصْرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ اسْمُهُ مُحَمَّدًا، أَوْ لَا، لِمَا رَوَاهُ جَابِرٌ قَالَ: «وُلِدَ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ غُلَامٌ فَسَمَّاهُ مُحَمَّدًا فَغَضِبَ الْأَنْصَارُ وَقَالُوا: حَتَّى نَسْتَأْمِرَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: قَدْ أَحْسَنَتِ الْأَنْصَارُ، ثُمَّ قَالَ: تَسَمَّوْا بِاسْمِي وَلَا تَكَنَّوْا بِكُنْيَتِي، فَإِنِّي أَبُو الْقَاسِمِ أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ»- أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَذَهَبَ الْبَعْضُ- مِنْهُمُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ- إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ اسْمِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَكُنْيَتِهِ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ تَسَمَّى بِاسْمِي فَلَا يَتَكَنَّى بِكُنْيَتِي، وَمَنْ تَكَنَّى بِكُنْيَتِي فَلَا يَتَسَمَّى بِاسْمِي».وَهَؤُلَاءِ الْمَانِعُونَ: مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْمَنْعَ مَنْعَ تَحْرِيمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْمَنْعَ مَنْعَ كَرَاهَةٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ اسْمِ رَسُولِ اللَّهِ وَكُنْيَتِهِ كَانَ مَمْنُوعًا ثُمَّ نُسِخَ الْمَنْعُ وَثَبَتَ الْحِلُّ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ وَلَدْتُ غُلَامًا فَسَمَّيْتُهُ مُحَمَّدًا وَكَنَّيْتُهُ أَبَا الْقَاسِمِ، فَذُكِرَ لِي أَنَّكَ تَكْرَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: مَا الَّذِي أَحَلَّ اسْمِي وَحَرَّمَ كُنْيَتِي، أَوْ مَا الَّذِي حَرَّمَ كُنْيَتِي وَأَحَلَّ اسْمِي»، وَلِذَلِكَ كَانَ الصَّحَابَةُ لَا يَرَوْنَ بَأْسًا فِي تَسْمِيَةِ أَوْلَادِهِمْ بِاسْمِ «مُحَمَّدٍ» وَتَكْنِيَتِهِمْ بِ «أَبِي الْقَاسِمِ» حَتَّى قَالَ رَاشِدُ بْنُ حَفْصٍ الزُّهْرِيُّ: أَدْرَكْتُ أَرْبَعَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كُلُّهُمْ يُسَمَّى مُحَمَّدًا وَيُكَنَّى أَبَا الْقَاسِمِ: مُحَمَّدَ بْنَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَمُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَمُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَمُحَمَّدَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ كَانَ مَخْصُوصًا بِحَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَتُبَاحُ التَّسْمِيَةُ بِاسْمِهِ وَالتَّكَنِّي بِكُنْيَتِهِ.يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ سَبَبُ الْمَنْعِ، وَهُوَ أَنَّ الْيَهُودَ تَكَنَّوْا بِكُنْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَكَانُوا يُنَادُونَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَإِذَا الْتَفَتَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- قَالُوا: لَمْ نَعْنِكَ، إِظْهَارًا لِلْإِيذَاءِ، وَقَدْ زَالَ هَذَا الْمَنْعُ بِوَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ «أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ وُلِدَ لِي بَعْدَكَ وَلَدٌ أُسَمِّيهِ مُحَمَّدًا وَأُكَنِّيهِ بِكُنْيَتِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ». د- التَّقَدُّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِحَضْرَتِهِ:
42- خُصَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دُونَ أُمَّتِهِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّقَدُّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ- أَيْ سَبْقُهُ بِالِاقْتِرَاحِ عَلَيْهِ- لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مُسَدَّدٌ بِالْوَحْيِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} كَمَا لَا يَجُوزُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِحَضْرَتِهِ- عليه الصلاة والسلام- حَتَّى يَعْلُوَ صَوْتُ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى صَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ، لقوله تعالى فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}.
هـ- قَتْلُ مَنْ سَبَّهُ:
43- مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّ مَنْ سَبَّهُ أَوْ قَذَفَهُ فَعُقُوبَتُهُ الْقَتْلُ.
و- إِجَابَةُ مَنْ دَعَاهُ:
44- مِنْ خَصَائِصِهِ- عليه الصلاة والسلام- أَنَّهُ إِذَا دَعَا أَحَدًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُ وَلَوْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ أَجَابَهُ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى الْأَنْصَارِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- دَعَاهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَصَلَّى ثُمَّ أَتَاهُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجِيبَنِي؟ قَالَ: إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} ».
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
20-موسوعة الفقه الكويتية (اختضاب)
اخْتِضَابٌالتَّعْرِيفُ:
1- الِاخْتِضَابُ لُغَةً: اسْتِعْمَالُ الْخِضَابِ.وَالْخِضَابُ هُوَ مَا يُغَيَّرُ بِهِ لَوْنُ الشَّيْءِ مِنْ حِنَّاءَ وَكَتَمٍ وَنَحْوِهِمَا.وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الصَّبْغُ وَالصِّبَاغُ:
2- الصَّبْغُ مَا يُصْطَبَغُ بِهِ مِنَ الْإِدَامِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ}.قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمُرَادُ بِالصِّبْغِ فِي الْآيَةِ الزَّيْتُ؛ لِأَنَّهُ يُلَوِّنُ الْحَبَّ إِذَا غُمِسَ فِيهِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ إِدَامٌ يُصْبَغُ بِهِ.
ب- التَّطْرِيفُ:
3- التَّطْرِيفُ لُغَةً: خَضْبُ أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ، يُقَالُ: طَرَفَتِ الْجَارِيَةُ بَنَانَهَا إِذَا خَضَّبَتْ أَطْرَافَ أَصَابِعِهَا بِالْحِنَّاءِ، وَهِيَ مُطَرِّفَةٌ.
ج- النَّقْشُ:
4- النَّقْشُ لُغَةً.النَّمْنَمَةُ، يُقَالُ: نَقَشَهُ يَنْقُشُهُ نَقْشًا وَانْتَقَشَهُ: نَمْنَمَهُ فَهُوَ مَنْقُوشٌ.
صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):
5- يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْخِضَابِ تَبَعًا لِلَوْنِهِ، وَلِلْمُخْتَضِبِ، رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً.وَسَيَأْتِي.
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الِاخْتِضَابِ وَعَدَمِهِ:
6- نَقَلَ الشَّوْكَانِيُّ عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ قَوْلَهُ اخْتَلَفَ السَّلَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي الِاخْتِضَابِ، وَفِي جِنْسِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَرْكُ الِاخْتِضَابِ أَفْضَلُ، اسْتِبْقَاءً لِلشَّيْبِ، وَرَوَى حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي النَّهْيِ عَنْ تَغْيِيرِ الشَّيْبِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الِاخْتِضَابُ أَفْضَلُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «غَيِّرُوا الشَّيْبَ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ».وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ «وَالنَّصَارَى»، وَلِقَوْلِهِ: «إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَخَالِفُوهُمْ» فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الصِّبَاغِ وَتَغْيِيرِ الشَّيْبِ هِيَ مُخَالَفَةُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.وَبِهَذَا يَتَأَكَّدُ اسْتِحْبَابُ الِاخْتِضَابِ.وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُبَالِغُ فِي مُخَالَفَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَيَأْمُرُ بِهَا.
وَاخْتَضَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ.ثُمَّ قَدْ كَانَ أَكْثَرُهُمْ يَخْتَضِبُ بِالصُّفْرَةِ، مِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَاخْتَضَبَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَبَعْضُهُمْ بِالزَّعْفَرَانِ، وَاخْتَضَبَ جَمَاعَةٌ بِالسَّوَادِ، مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَغَيْرُهُمْ.
وَنَقَلَ الشَّوْكَانِيُّ عَنِ الطَّبَرِيِّ قَوْلَهُ الصَّوَابُ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِتَغْيِيرِ الشَّيْبِ وَبِالنَّهْيِ عَنْهُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ، وَلَيْسَ فِيهَا تَنَاقُضٌ.بَلِ الْأَمْرُ بِالتَّغْيِيرِ لِمَنْ شَيْبُهُ كَشَيْبِ أَبِي قُحَافَةَ، وَالنَّهْيُ لِمَنْ لَهُ شَمَطٌ فَقَطْ، وَاخْتِلَافُ السَّلَفِ فِي فِعْلِ الْأَمْرَيْنِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ، مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.
7- وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ تَدُلُّ عَلَى اخْتِضَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَجَاءَتْ أَحَادِيثُ تَنْفِي اخْتِضَابَهُ فَمِنَ الْأُولَى: مَا وَرَدَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ: «دَخَلْنَا عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَأَخْرَجَتْ إِلَيْنَا مِنْ شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ فَإِذَا هُوَ مَخْضُوبٌ».
وَمِنْهَا مَا وَرَدَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَصْبُغُ لِحْيَتَهُ بِالصُّفْرَةِ حَتَّى تَمْلأَ ثِيَابَهُ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَصْبُغُ بِهَا، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهَا، وَكَانَ يَصْبُغُ بِهَا ثِيَابَهُ حَتَّى عِمَامَتَهُ.
وَمِنَ الثَّانِيَةِ قَوْلُ أَنَسٍ- رضي الله عنه-: «مَا خَضَّبَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهُ الشَّيْبُ إِلاَّ قَلِيلًا، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَعُدَّ شَمَطَاتٍ كُنَّ فِي رَأْسِهِ لَفَعَلْتُ».
وَمِنْهَا قَوْلُ أَبِي جُحَيْفَةَ- رضي الله عنه-: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- هَذِهِ مِنْهُ بَيْضَاءُ» يَعْنِي عَنْفَقَتَهُ.
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: «لَوْ فُرِضَ عَدَمُ ثُبُوتِ اخْتِضَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَا كَانَ قَادِحًا فِي سُنِّيَّةِ الِاخْتِضَابِ، لِوُرُودِ الْإِرْشَادِ إِلَيْهَا قَوْلًا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ».
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الْمُثْبِتَةِ لِاخْتِضَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَالْأَحَادِيثِ النَّافِيَةِ لِاخْتِضَابِهِ: «مَنْ جَزَمَ بِأَنَّهُ خَضَّبَ فَقَدْ حَكَى مَا شَاهَدَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَمَنْ نَفَى ذَلِكَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَكْثَرِ الْغَالِبِ مِنْ حَالِهِ»- صلى الله عليه وسلم-.
بِمَ يَكُونُ الِاخْتِضَابُ؟
8- كَوْنُ الِاخْتِضَابِ بِالْحِنَّاءِ، وَبِالْحِنَّاءِ مَعَ الْكَتَمِ، وَبِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ، وَالسَّوَادِ، بِغَيْرِ ذَلِكَ.
أَوَّلًا- الِاخْتِضَابُ بِغَيْرِ السَّوَادِ
الِاخْتِضَابُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ:
9- يُسْتَحَبُّ الِاخْتِضَابُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، لِحَدِيثِ: «غَيِّرُوا الشَّيْبَ»، فَهُوَ أَمْرٌ، وَهُوَ لِلِاسْتِحْبَابِ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ أَحْسَنَ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ الشَّيْبَ الْحِنَّاءُ وَالْكَتَمُ» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحِنَّاءَ وَالْكَتَمَ مِنْ أَحْسَنِ الصِّبَاغَاتِ الَّتِي يُغَيَّرُ بِهَا الشَّيْبُ.وَأَنَّ الصَّبْغَ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَيْهِمَا، بَلْ يُشَارِكُهُمَا غَيْرُهُمَا مِنَ الصِّبَاغَاتِ فِي أَصْلِ الْحُسْنِ لِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: اخْتَضَبَ أَبُو بَكْرٍ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَاخْتَضَبَ عُمَرُ بِالْحِنَّاءِ بَحْتًا.
الِاخْتِضَابُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ:
10- الِاخْتِضَابُ بِالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ يُشَارِكُ الِاخْتِضَابَ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ فِي أَصْلِ الِاسْتِحْبَابِ.وَقَدِ اخْتَضَبَ بِهِمَا جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ.رَوَى أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «كَانَ خِضَابُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْوَرْسَ وَالزَّعْفَرَانَ»، وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَخِي رَافِعٌ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ، وَأَنَا مَخْضُوبٌ بِالْحِنَّاءِ، وَأَخِي مَخْضُوبٌ بِالصُّفْرَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا خِضَابُ الْإِسْلَامِ.وَقَالَ لِأَخِي رَافِعٍ: هَذَا خِضَابُ الْإِيمَانِ.
الِاخْتِضَابُ بِالسَّوَادِ:
11- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الِاخْتِضَابِ بِالسَّوَادِ: فَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ- مَا عَدَا أَبَا يُوسُفَ- يَقُولُونَ: بِكَرَاهَةِ الِاخْتِضَابِ بِالسَّوَادِ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ.أَمَّا فِي الْحَرْبِ فَهُوَ جَائِزٌ إِجْمَاعًا، بَلْ هُوَ مُرَغَّبٌ فِيهِ، «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي شَأْنُ أَبِي قُحَافَةَ وَالِدِ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه- لَمَّا جِيءَ إِلَيْهِ عَامَ الْفَتْحِ، وَرَأْسُهُ يَشْتَعِلُ شَيْبًا: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ فَلْتُغَيِّرْهُ، وَجَنِّبُوهُ السَّوَادَ».
وَقَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ: إِنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَخَّصَ فِي الِاخْتِضَابِ بِالسَّوَادِ لِلْمُجَاهِدِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْمُجَوِّزُونَ لِلِاخْتِضَابِ بِالسَّوَادِ بِأَدِلَّةٍ: مِنْهَا: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ أَحْسَنَ مَا اخْتَضَبْتُمْ بِهِ لِهَذَا السَّوَادُ، أَرْغَبُ لِنِسَائِكُمْ فِيكُمْ، وَأَهْيَبُ لَكُمْ فِي صُدُورِ أَعْدَائِكُمْ».
وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِالْخِضَابِ بِالسَّوَادِ، وَيَقُولُ: هُوَ تَسْكِينٌ لِلزَّوْجَةِ، وَأَهْيَبُ لِلْعَدُوِّ.
وَمِنْهَا أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ اخْتَضَبُوا بِالسَّوَادِ، وَلَمْ يُنْقَلِ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ عُثْمَانُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ.وَكَانَ مِمَّنْ يَخْتَضِبُ بِالسَّوَادِ وَيَقُولُ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ صَاحِبُ الْمَغَازِي، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ.وَمِنْهَا مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: «كُنَّا نَخْتَضِبُ بِالسَّوَادِ إِذْ كَانَ الْوَجْهُ جَدِيدًا (شَبَابًا) فَلَمَّا نَفَضَ الْوَجْهُ وَالْأَسْنَانُ (كَبِرْنَا) تَرَكْنَاهُ».
وَلِلْحَنَفِيَّةِ رَأْيٌ آخَرُ بِالْجَوَازِ، وَلَوْ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ بِتَحْرِيمِ الِاخْتِضَابِ بِالسَّوَادِ لِغَيْرِ الْمُجَاهِدِينَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «يَكُونُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَخْضِبُونَ بِالسَّوَادِ، لَا يَرِيحُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ»وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «فِي شَأْنِ أَبِي قُحَافَةَ: وَجَنِّبُوهُ لسَّوَادَ»، فَالْأَمْرُ عِنْدَهُمْ لِلتَّحْرِيمِ، وَسَوَاءٌ فِيهِ عِنْدَهُمُ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ.
اخْتِضَابُ الْأُنْثَى:
12- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَغْيِيرَ الشَّيْبِ بِالْحِنَّاءِ أَوْ نَحْوِهِ مُسْتَحَبٌّ لِلْمَرْأَةِ كَمَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ لِلرَّجُلِ، لِلْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ فِي ذَلِكَ.وَتَخْتَصُّ الْمَرْأَةُ الْمُزَوَّجَةُ، وَالْمَمْلُوكَةُ بِاسْتِحْبَابِ خَضْبِ كَفَّيْهَا وَقَدَمَيْهَا بِالْحِنَّاءِ أَوْ نَحْوِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ عَدَا وَقْتَ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِضَابَ زِينَةٌ، وَالزِّينَةُ مَطْلُوبَةٌ مِنَ الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا وَمِنَ الْمَمْلُوكَةِ لِسَيِّدِهَا، عَلَى أَنْ يَكُونَ الِاخْتِضَابُ تَعْمِيمًا، لَا تَطْرِيفًا وَلَا نَقْشًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ.وَيَجُوزُ لَهَا- بِإِذْنِ زَوْجِهَا أَوْ سَيِّدِهَا تَحْمِيرُ الْوَجْنَةِ، وَتَطْرِيفُ الْأَصَابِعِ بِالْحِنَّاءِ مَعَ السَّوَادِ.
وَفِي اسْتِحْبَابِ خَضْبِ الْمَرْأَةِ الْمُزَوَّجَةِ لِكَفَّيْهَا مَا وَرَدَ عَنِ «ابْنِ ضَمْرَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ جَدَّتِهِ عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ قَالَ: وَقَدْ كَانَتْ صَلَّتِ الْقِبْلَتَيْنِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لِيَ: اخْتَضِبِي، تَتْرُكُ إِحْدَاكُنَّ الْخِضَابَ حَتَّى تَكُونَ يَدُهَا كَيَدِ الرَّجُلِ؟» قَالَ: فَمَا تَرَكَتِ الْخِضَابَ حَتَّى لَقِيتِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ كَانَتْ لِتَخْتَضِبَ وَإِنَّهَا لَابْنَةُ ثَمَانِينَ.
أَمَّا الْمَرْأَةُ غَيْرُ الْمُزَوَّجَةِ وَغَيْرُ الْمَمْلُوكَةِ فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: كَرَاهَةَ اخْتِضَابِهَا فِي كَفَّيْهَا وَقَدَمَيْهَا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ مَعَ خَوْفِ الْفِتْنَةِ، وَحُرْمَةِ تَحْمِيرِ وَجْنَتَيْهَا وَحُرْمَةِ تَطْرِيفِ أَصَابِعِهَا بِالْحِنَّاءِ مَعَ السَّوَادِ.وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ جَوَازَ الِاخْتِضَابِ لِلْأَيِّمِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ اخْتَضِبْنَ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَخْتَضِبُ لِزَوْجِهَا، وَإِنَّ الْأَيِّمَ تَخْتَضِبُ تَعَرَّضُ لِلرِّزْقِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» أَيْ لِتُخْطَبَ وَتَتَزَوَّجَ.
وُضُوءُ الْمُخْتَضِبِ وَغُسْلُهُ:
13- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ وُجُودَ مَادَّةٍ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ تَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ- حَائِلٌ بَيْنَ صِحَّةِ الْوُضُوءِ وَصِحَّةِ الْغُسْلِ.وَالْمُخْتَضِبُ وُضُوءُهُ وَغُسْلُهُ صَحِيحَانِ؛ لِأَنَّ الْخِضَابَ بَعْدَ إِزَالَةِ مَادَّتِهِ بِالْغُسْلِ يَكُونُ مُجَرَّدَ لَوْنٍ، وَاللَّوْنُ وَحْدَهُ لَا يَحُولُ بَيْنَ الْبَشَرَةِ وَوُصُولِ الْمَاءِ إِلَيْهَا، وَمِنْ ثَمَّ فَهُوَ لَا يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ.
الِاخْتِضَابُ لِلتَّدَاوِي:
14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ الِاخْتِضَابِ لِلتَّدَاوِي، لِخَبَرِ «سَلْمَى- مَوْلَاةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ إِذَا اشْتَكَى أَحَدٌ رَأْسَهُ قَالَ: اذْهَبْ فَاحْتَجِمْ، وَإِذَا اشْتَكَى رِجْلَهُ قَالَ: اذْهَبْ فَاخْضِبْهَا بِالْحِنَّاءِ» وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ: قَالَتْ: «كُنْتُ أَخْدُمُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَمَا كَانَتْ تُصِيبُهُ قُرْحَةٌ وَلَا نُكْتَةٌ إِلاَّ أَمَرَنِي أَنْ أَضَعَ عَلَيْهَا الْحِنَّاءَ».
الِاخْتِضَابُ بِالْمُتَنَجِّسِ وَبِعَيْنِ النَّجَاسَةِ:
15- يَرَى الْأَحْنَافُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ مَا خُضِّبَ أَوْ صُبِغَ بِمُتَنَجِّسٍ يَطْهُرُ بِغَسْلِهِ ثَلَاثًا فَلَوِ اخْتَضَبَ الرَّجُلُ أَوِ اخْتَضَبَتِ الْمَرْأَةُ بِالْحِنَّاءِ الْمُتَنَجِّسِ وَغَسَلَ كُلٌّ ثَلَاثًا طَهُرَ.أَمَّا إِذَا كَانَ الِاخْتِضَابُ بِعَيْنِ النَّجَاسَةِ فَلَا يَطْهُرُ إِلاَّ بِزَوَالِ عَيْنِهِ وَطَعْمِهِ وَرِيحِهِ وَخُرُوجِ الْمَاءِ صَافِيًا، وَيُعْفَى عَنْ بَقَاءِ اللَّوْنِ؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ الَّذِي يَشُقُّ زَوَالُهُ لَا يَضُرُّ بَقَاؤُهُ.وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الْمَصْبُوغُ بِالدَّمِ (فَهُوَ نَجَسٌ)، وَالْمَصْبُوغُ بِالدُّودَةِ غَيْرِ الْمَائِيَّةِ الَّتِي لَهَا دَمٌ سَائِلٌ فَإِنَّهَا مَيْتَةٌ يَتَجَمَّدُ الدَّمُ فِيهَا وَهُوَ نَجَسٌ.
الِاخْتِضَابُ بِالْوَشْمِ:
16- الْوَشْمُ هُوَ غَرْزُ الْجِلْدِ بِالْإِبْرَةِ حَتَّى يَخْرُجَ الدَّمُ ثُمَّ يُذَرُّ عَلَيْهِ كُحْلٌ أَوْ نِيلَةٌ لِيَخْضَرَّ أَوْ يَزْرَقَّ وَهُوَ حَرَامٌ مُطْلَقًا لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ وَالنَّامِصَةَ وَالْمُتَنَمِّصَةَ»؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا غُرِزَ مَحَلُّ الْوَشْمِ بِإِبْرَةٍ ثُمَّ حُشِيَ بِكُحْلٍ أَوْ نِيلَةٍ لِيَخْضَرَّ تَنَجَّسَ الْكُحْلُ بِالدَّمِ فَإِذَا جَمُدَ الدَّمُ وَالْتَأَمَ الْجُرْحُ بَقِيَ مَحَلُّهُ أَخْضَرَ، فَإِذَا غُسِلَ ثَلَاثًا طَهُرَ.
وَيَرَى الْأَحْنَافُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْوَشْمَ كَالِاخْتِضَابِ أَوِ الصَّبْغِ بِالْمُتَنَجِّسِ، فَإِذَا غُسِلَ ثَلَاثًا طَهُرَ؛ لِأَنَّهُ أَثَرٌ يَشُقُّ زَوَالُهُ إِذْ لَا يَزُولُ إِلاَّ بِسَلْخِ الْجِلْدِ أَوْ جَرْحِهِ.
الِاخْتِضَابُ بِالْبَيَاضِ:
17- يُكْرَهُ خَضْبُ اللِّحْيَةِ السَّوْدَاءِ بِالْبَيَاضِ كَالْكِبْرِيتِ وَنَحْوِهِ إِظْهَارًا لِكِبَرِ السِّنِّ تَرَفُّعًا عَلَى الشَّبَابِ مِنْ أَقْرَانِهِ، وَتَوَصُّلًا إِلَى التَّوْقِيرِ وَالِاحْتِرَامِ مِنْ إِخْوَانِهِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ الْفَاسِدَةِ.وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ فَهُوَ جَائِزٌ.
اخْتِضَابُ الْحَائِضِ:
18- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى جَوَازِ اخْتِضَابِ الْحَائِضِ لِمَا وَرَدَ «أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: تَخْتَضِبُ الْحَائِضُ؟ فَقَالَتْ: قَدْ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَنَحْنُ نَخْتَضِبُ فَلَمْ يَكُنْ يَنْهَانَا عَنْهُ»، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ نِسَاءَ ابْنِ عُمَرَ كُنَّ يَخْتَضِبْنَ وَهُنَّ حُيَّضٌ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: لَا إِشْكَالَ فِي جَوَازِ اخْتِضَابِ الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ لِأَنَّ صَبْغَ الْخِضَابِ الَّذِي يَحْصُلُ فِي يَدَيْهَا لَا يَمْنَعُ مِنْ رَفْعِ حَدَثِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ عَنْهَا بِالْغُسْلِ إِذَا اغْتَسَلَتْ.وَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِالْكَرَاهَةِ.
اخْتِضَابُ الْمَرْأَةِ الْمُحِدَّةِ:
19- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُحِدَّةَ عَلَى زَوْجِهَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا أَنْ تَخْتَضِبَ مُدَّةَ عِدَّتِهَا؛ لِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثٍ لأُِمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ فَقَالَ لِي: لَا تَمْتَشِطِي بِالطِّيبِ وَلَا بِالْحِنَّاءِ فَإِنَّهُ خِضَابٌ.قَالَتْ: قُلْتُ: بِأَيٍّ شَيْءٍ أَمْتَشِطُ؟ قَالَ: بِالسِّدْرِ تُغَلِّفِينَ بِهِ رَأْسَكِ».
خِضَابُ رَأْسِ الْمَوْلُودِ:
20- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ- مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ- وَأَحْمَدُ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَلَى كَرَاهَةِ تَلْطِيخِ رَأْسِ الصَّبِيِّ بِدَمِ الْعَقِيقَةِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَةٌ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا، وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى» فَهَذَا يَقْتَضِي أَلاَّ يُمَسَّ بِدَمٍ لِأَنَّهُ أَذًى، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدٍ الْمُزَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «يُعَقُّ عَنِ الْغُلَامِ وَلَا يُمَسُّ رَأْسُهُ بِدَمٍ» وَلِأَنَّ هَذَا تَنْجِيسٌ لَهُ فَلَا يُشْرَعُ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ خَضْبِ رَأْسِ الصَّبِيِّ بِالزَّعْفَرَانِ وَبِالْخَلُوقِ (أَيِ الطِّيبِ)، لِقَوْلِ بُرَيْدَةَ: كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا وُلِدَ لِأَحَدِنَا غُلَامٌ ذَبَحَ شَاةً وَلَطَّخَ رَأْسَهُ بِدَمِهَا، فَلَمَّا جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ كُنَّا نَذْبَحُ شَاةً وَنَحْلِقُ رَأْسَهُ وَنُلَطِّخُهُ بِزَعْفَرَانٍ وَلِقَوْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا عَقُّوا عَنِ الصَّبِيِّ خَضَّبُوا قُطْنَةً بِدَمِ الْعَقِيقَةِ، فَإِذَا حَلَقُوا رَأْسَ الْمَوْلُودِ وَضَعُوهَا عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: اجْعَلُوا مَكَانَ الدَّمِ خَلُوقًا» زَادَ أَبُو الشَّيْخِ: «وَنَهَى أَنْ يُمَسَّ رَأْسُ الْمَوْلُودِ بِدَمٍ».
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّ الْعَقِيقَةَ عِنْدَهُمْ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ.
اخْتِضَابُ الرَّجُلِ وَالْخُنْثَى:
21- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْتَضِبَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ لِتَغْيِيرِ الشَّيْبِ بِالْحِنَّاءِ وَنَحْوِهِ لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَجَوَّزُوا لَهُ أَنْ يَخْتَضِبَ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ بَدَنِهِ مَا عَدَا الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْتَضِبَ فِيهِمَا إِلاَّ لِعُذْرٍ؛ لِأَنَّ فِي اخْتِضَابِهِ فِيهِمَا تَشَبُّهًا بِالنِّسَاءِ وَالتَّشَبُّهُ بِالنِّسَاءِ مَحْظُورٌ شَرْعًا.
وَقَالَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ بِحُرْمَتِهِ.وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ وَصَاحِبُ الْمُحِيطِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِكَرَاهَتِهِ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «لَعَنَ اللَّهُ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ وَالْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ».وَحُكْمُ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ كَحُكْمِ الرَّجُلِ فِي هَذَا.
اخْتِضَابُ الْمُحْرِمِ:
22- ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ الِاخْتِضَابُ بِالْحِنَّاءِ فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنَ الْبَدَنِ مَا عَدَا الرَّأْسَ؛ لِأَنَّ سَتْرَ الرَّأْسِ فِي الْإِحْرَامِ بِأَيِّ سَاتِرٍ مَمْنُوعٌ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ، وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا».
وَلَا بَأْسَ بِاخْتِضَابِ الْمَرْأَةِ بِالْحِنَّاءِ وَنَحْوِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَتْ عَائِشَةُ وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يَخْتَضِبْنَ بِالْحِنَّاءِ وَهُنَّ حُرُمٌ».
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ لِلرَّجُلِ الِاخْتِضَابُ بِالْحِنَّاءِ وَنَحْوِهِ حَالَ الْإِحْرَامِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ جَسَدِهِ، مَا عَدَا الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَيَحْرُمُ خَضْبُهُمَا بِغَيْرِ حَاجَةٍ.
وَكَرِهُوا لِلْمَرْأَةِ الِاخْتِضَابَ بِالْحِنَّاءِ وَنَحْوِهِ حَالَ الْإِحْرَامِ، إِلاَّ إِذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ وَفَاةٍ فَيَحْرُمُ عَلَيْهَا ذَلِكَ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا الِاخْتِضَابُ إِذَا كَانَ نَقْشًا، وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُعْتَدَّةٍ.
وَقَالَ الْأَحْنَافُ وَالْمَالِكِيَّةُ: لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَخْتَضِبَ بِالْحِنَّاءِ وَنَحْوِهِ فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنَ الْبَدَنِ سَوَاءٌ أَكَانَ رَجُلًا أَمِ امْرَأَةً؛ لِأَنَّهُ طِيبٌ وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنَ الطِّيبِ، وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لأُِمِّ سَلَمَةَ: لَا تَطَيَّبِي وَأَنْتِ مُحْرِمَةٌ وَلَا تَمَسِّي الْحِنَّاءَ فَإِنَّهُ طِيبٌ».
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
21-موسوعة الفقه الكويتية (أداء 1)
أَدَاءٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الْأَدَاءُ: الْإِيصَالُ يُقَالُ: أَدَّى الشَّيْءَ أَوْصَلَهُ، وَأَدَّى دَيْنَهُ تَأْدِيَةً أَيْ قَضَاهُ.وَالِاسْمُ: الْأَدَاءُ.كَذَلِكَ الْأَدَاءُ وَالْقَضَاءُ يُطْلَقَانِ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالْمُؤَقَّتَاتِ، كَأَدَاءِ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ وَقَضَائِهَا، وَبِغَيْرِ الْمُؤَقَّتَاتِ، كَأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالْأَمَانَةِ، وَقَضَاءِ الْحُقُوقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَفِي اصْطِلَاحِ الْجُمْهُورِ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ: الْأَدَاءُ فِعْلُ بَعْضِ (وَقِيلَ كُلِّ) مَا دَخَلَ وَقْتُهُ قَبْلَ خُرُوجِهِ وَاجِبًا كَانَ أَوْ مَنْدُوبًا، أَمَّا مَا لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ زَمَانٌ فِي الشَّرْعِ، كَالنَّفْلِ وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ وَالزَّكَاةِ، فَلَا يُسَمَّى فِعْلُهُ أَدَاءً وَلَا قَضَاءً.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الْأَدَاءُ تَسْلِيمُ عَيْنِ مَا ثَبَتَ بِالْأَمْرِ.وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي التَّعْرِيفِ التَّقْيِيدُ بِالْوَقْتِ لِيَشْمَلَ أَدَاءَ الزَّكَاةِ وَالْأَمَانَاتِ وَالْمَنْذُورَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ، كَمَا أَنَّهُ يَعُمُّ فِعْلَ الْوَاجِبِ وَالنَّفَلِ.وَقَدْ يُطْلَقُ كُلٌّ مِنَ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ عَلَى الْآخَرِ مَجَازًا شَرْعِيًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} أَيْ أَدَّيْتُمْ، وَكَقَوْلِكَ: نَوَيْتُ أَدَاءَ ظُهْرِ الْأَمْسِ.
2- وَالْأَدَاءُ إِمَّا مَحْضٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ كَامِلًا كَصَلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ فِي جَمَاعَةٍ، أَمْ قَاصِرًا كَصَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ؛ وَإِمَّا غَيْرُ مَحْضٍ، وَهُوَ الشَّبِيهُ بِالْقَضَاءِ، كَفِعْلِ اللاَّحِقِ الَّذِي أَدْرَكَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ، وَفَاتَهُ الْبَاقِي فَأَتَمَّ صَلَاتَهُ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ، فَفِعْلُهُ أَدَاءٌ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ فِي الْوَقْتِ، قَضَاءٌ بِاعْتِبَارِ فَوَاتِ مَا الْتَزَمَهُ مِنَ الْأَدَاءِ مَعَ الْإِمَامِ، فَهُوَ يَقْضِي مَا انْعَقَدَ لَهُ إِحْرَامُ الْإِمَامِ، مِنَ الْمُتَابَعَةِ وَالْمُشَارَكَةِ مَعَهُ بِمِثْلِهِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْقَضَاءُ:
3- الْقَضَاءُ لُغَةً: مَعْنَاهُ الْأَدَاءُ.وَاسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ الْآتِي، خِلَافًا لِلْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَدَاءِ.وَاصْطِلَاحًا: مَا فُعِلَ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ أَدَائِهِ اسْتِدْرَاكًا لِمَا سَبَقَ لِفِعْلِهِ مُقْتَضٍ، أَوْ تَسْلِيمِ مِثْلِ مَا وَجَبَ بِالْأَمْرِ، كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ.فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَدَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مُرَاعَاةُ قَيْدِ الْوَقْتِ فِي الْأَدَاءِ دُونَ الْقَضَاءِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُرَاعَاةُ الْعَيْنِ فِي الْأَدَاءِ وَالْمِثْلِ فِي الْقَضَاءِ، إِذِ الْأَدَاءُ كَمَا سَبَقَ هُوَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي وَقْتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا لَهُ وَقْتٌ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ بِالنِّسْبَةِ لِمَا لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُحَدَّدٌ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
ب- الْإِعَادَةُ:
4- الْإِعَادَةُ لُغَةً: رَدُّ الشَّيْءِ ثَانِيًا، وَاصْطِلَاحًا: مَا فُعِلَ فِي وَقْتِ الْأَدَاءِ ثَانِيًا لِخَلَلٍ فِي الْأَوَّلِ وَقِيلَ لِعُذْرٍ.فَالصَّلَاةُ بِالْجَمَاعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ مُنْفَرِدًا تَكُونُ إِعَادَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّ طَلَبَ الْفَضِيلَةِ عُذْرٌ فَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَدَاءِ السَّبْقُ وَعَدَمُهُ.
الْأَدَاءُ فِي الْعِبَادَاتِ:
5- الْعِبَادَاتُ الَّتِي لَمْ تُحَدَّدْ بِوَقْتٍ لَا تُوصَفُ بِالْأَدَاءِ بِالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ، أَيِ الَّذِي يُقَابِلُ الْقَضَاءَ، وَذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ عَلَيْهَا لَفْظَ الْأَدَاءِ إِطْلَاقًا لُغَوِيًّا بِمَعْنَى الْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ الْأَعَمِّ مِنَ الْأَدَاءِ الَّذِي يُقَابِلُ الْقَضَاءَ.وَلِذَلِكَ يَقُولُ الشَّبْرَامُلْسِيُّ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى أَدَاءِ الزَّكَاةِ- أَيْ دَفْعِهَا: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَدَاءِ الْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا وَقْتَ لَهَا مُحَدَّدًا حَتَّى تَصِيرَ قَضَاءً بِخُرُوجِهِ.أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَغَيْرُ الْوَقْتِ عِنْدَهُمْ يُسَمَّى أَدَاءً شَرْعًا وَعُرْفًا، وَالْقَضَاءُ يَخْتَصُّ بِالْوَاجِبِ الْمُوَقَّتِ.
أَقْسَامُ الْعِبَادَاتِ بِاعْتِبَارِ وَقْتِ الْأَدَاءِ:
6- الْعِبَادَاتُ بِاعْتِبَارِ وَقْتِ الْأَدَاءِ نَوْعَانِ: مُطْلَقَةٌ وَمُؤَقَّتَةٌ.
فَالْمُطْلَقَةُ: هِيَ الَّتِي لَمْ يُقَيَّدْ أَدَاؤُهَا بِوَقْتٍ مُحَدَّدٍ لَهُ طَرَفَانِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْعُمْرِ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَقْتِ فِيمَا هُوَ مُوَقَّتٌ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعِبَادَةُ وَاجِبَةً كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ، أَمْ مَنْدُوبَةً كَالنَّفْلِ الْمُطْلَقِ.
وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ الْمُوَقَّتَةُ: فَهِيَ مَا حَدَّدَ الشَّارِعُ وَقْتًا مُعَيَّنًا لِأَدَائِهَا، لَا يَجِبُ الْأَدَاءُ قَبْلَهُ، وَيَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ وَاجِبًا، وَذَلِكَ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ.وَوَقْتُ الْأَدَاءِ إِمَّا مُوَسَّعٌ وَأَمَّا مُضَيَّقٌ.
فَالْمُضَيَّقُ: هُوَ مَا كَانَ الْوَقْتُ فِيهِ يَسَعُ الْفِعْلَ وَحْدَهُ، وَلَا يَسَعُ غَيْرَهُ مَعَهُ، وَذَلِكَ كَرَمَضَانَ فَإِنَّ وَقْتَهُ لَا يَتَّسِعُ لِأَدَاءِ صَوْمٍ آخَرَ فِيهِ، وَيُسَمَّى مِعْيَارًا أَوْ مُسَاوِيًا.
وَالْمُوَسَّعُ: هُوَ مَا كَانَ الْوَقْتُ فِيهِ يَفْضُلُ عَنْ أَدَائِهِ، أَيْ أَنَّهُ يَتَّسِعُ لِأَدَاءِ الْفِعْلِ وَأَدَاءِ غَيْرِهِ مِنْ جِنْسِهِ، وَذَلِكَ كَوَقْتِ الظُّهْرِ مَثَلًا، فَإِنَّهُ يَسَعُ أَدَاءَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَأَدَاءَ صَلَوَاتٍ أُخْرَى، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى ظَرْفًا.وَالْحَجُّ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُشْتَبَهُ وَقْتُ أَدَائِهِ بِالْمُوَسَّعِ وَالْمُضَيَّقِ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُؤَدِّيَ حَجَّتَيْنِ فِي عَامٍ وَاحِدٍ، فَهُوَ بِهَذَا يُشْبِهُ الْمُضَيَّقَ، وَلَكِنْ أَعْمَالُ الْحَجِّ لَا تَسْتَوْعِبُ وَقْتَهُ، فَهُوَ بِهَذَا يُشْبِهُ الْمُوَسَّعَ، هَذَا عَلَى اعْتِبَارِهِ مِنَ الْوَقْتِ، وَقِيلَ إِنَّهُ مِنَ الْمُطْلَقِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعُمْرَ وَقْتٌ لِلْأَدَاءِ كَالزَّكَاةِ.
صِفَةُ الْأَدَاءِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):
7- الْعِبَادَاتُ إِمَّا فَرْضٌ أَوْ مَنْدُوبٌ، فَإِنْ كَانَتْ فَرْضًا كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْأَهْلِ أَدَاؤُهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، إِذَا تَحَقَّقَ سَبَبُهَا، وَتَوَفَّرَتْ شُرُوطُهَا.فَإِنْ كَانَتِ الْعِبَادَةُ مُحَدَّدَةً بِوَقْتٍ لَهُ طَرَفَانِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَقْتُ مُوَسَّعًا، كَوَقْتِ الصَّلَاةِ، أَمْ كَانَ مُضَيَّقًا كَرَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ وَلَا أَنْ تَتَأَخَّرَ عَنْهُ إِلاَّ لِعُذْرٍ؛ لِأَنَّهَا تَفُوتُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ دُونَ أَدَاءٍ، وَتَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ إِلَى أَنْ تَقْتَضِيَ.وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَحْدِيدِ الْوَقْتِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْأَدَاءُ فِيمَا كَانَ وَقْتُهُ مُضَيَّقًا؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ كُلَّهُ مَشْغُولٌ بِالْعِبَادَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ زَمَنٌ فَارِغٌ مِنْهَا، إِلاَّ أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي تَعْيِينِ النِّيَّةِ لِصِحَّةِ الْأَدَاءِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَكْفِي مُطْلَقُ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَمَّا كَانَ مِعْيَارًا فَلَا يَصْلُحُ لِعَمَلٍ آخَرَ مِنْ جِنْسِهِ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا بُدَّ مِنَ التَّعْيِينِ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ لَمْ يُجْزِهِ.
أَمَّا مَا كَانَ وَقْتُهُ مُوَسَّعًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ الْجُزْءِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ الْكُلُّ لَا جُزْءٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي إِيقَاعَ الْفِعْلِ فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ» وَهُوَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ، وَلَيْسَ تَعْيِينُ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ بِأَوْلَى مِنْ تَعْيِينِ الْبَعْضِ الْآخَرِ، إِلاَّ أَنَّ الْأَدَاءَ يَجِبُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مَعَ الْإِمْكَانِ، وَقِيلَ يُسْتَحَبُّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ».وَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ جَوَازِ التَّأْخِيرِ فِيهِ ضِيقٌ عَلَى النَّاسِ، فَسُمِحَ لَهُمْ بِالتَّأْخِيرِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ التَّأْخِيرُ لَكِنْ مَعَ الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ، فَإِنْ لَمْ يَعْزِمْ أَثِمَ.وَإِنْ ظَنَّ الْمُكَلَّفُ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ، الْمُوَسَّعِ تَضَيَّقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ وَحَرُمَ عَلَيْهِ التَّأْخِيرُ اعْتِبَارًا بِظَنِّهِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ وَمَاتَ عَصَى اتِّفَاقًا، فَإِنْ لَمْ يَمُتْ بَلْ عَاشَ وَفَعَلَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَهُوَ قَضَاءٌ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيِّ أَدَاءٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِصِدْقِ تَعْرِيفِ الْأَدَاءِ عَلَيْهِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالظَّنِّ الْبَيِّنِ خَطَؤُهُ.
وَعِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَقْتُ الْأَدَاءِ هُوَ الْجُزْءُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْفِعْلُ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَجِبُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنَ الْوَقْتِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا التَّعْيِينُ إِلَى الْمُصَلِّي مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ حَتَّى إِنَّهُ إِذَا شَرَعَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ يَجِبُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَذَا إِذَا شَرَعَ فِي وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ، وَمَتَى لَمْ يُعَيِّنْ حَتَّى بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُصَلِّي فِيهِ أَرْبَعًا- وَهُوَ مُقِيمٌ- يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْيِينُ ذَلِكَ الْوَقْتِ لِلْأَدَاءِ فِعْلًا وَيَأْثَمُ بِتَرْكِ التَّعْيِينِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ الْعِرَاقِيِّينَ: إِنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ، فَعَلَى هَذَا، فَإِنْ قَدَّمَهُ ثُمَّ زَالَتْ أَهْلِيَّتُهُ قَبْلَ آخِرِ الْوَقْتِ فَالْمُؤَدَّى نَفْلٌ.وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ فَإِنْ أَخَّرَهُ فَهُوَ قَضَاءٌ.وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ مِمَّنْ يُنْكِرُونَ التَّوَسُّعَ فِي الْوُجُوبِ.
بِمَ يَتَحَقَّقُ الْأَدَاءُ إِذَا تَضَيَّقَ الْوَقْتُ؟
8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُمْكِنُ بِهِ إِدْرَاكُ الْفَرْضِ إِذَا تَضَيَّقَ الْوَقْتُ، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يُمْكِنُ إِدْرَاكُهُ بِرَكْعَةٍ بِسَجْدَتَيْهَا فِي الْوَقْتِ، فَمَنْ صَلَّى رَكْعَةً فِي الْوَقْتِ ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْتُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِلْجَمِيعِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.
قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ» وَذَهَبَ أَشْهَبُ إِلَى أَنَّهَا تُدْرَكُ بِالرُّكُوعِ وَحْدَهُ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ يُمْكِنُ إِدْرَاكُ الصَّلَاةِ بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ أَوَّلَ سَجْدَةٍ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ، وَإِذَا أَدْرَكَ أَوَّلَ سَجْدَةٍ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَقَدْ أَدْرَكَ»؛ وَلِأَنَّ الْإِدْرَاكَ إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ فِي الصَّلَاةِ اسْتَوَى فِيهِ الرَّكْعَةُ وَمَا دُونَهَا.وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِمَا صَلَّى فِي الْوَقْتِ قَاضِيًا لِمَا صَلَّى بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، اعْتِبَارًا لِكُلِّ جُزْءٍ بِزَمَانِهِ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ صَلَاةَ الصُّبْحِ وَحْدَهَا، فَإِنَّهَا لَا تُدْرَكُ إِلاَّ بِأَدَائِهَا كُلِّهَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِطُرُوءِ الْوَقْتِ النَّاقِصِ عَلَى الْوَقْتِ الْكَامِلِ، وَلِذَا عَدُّوا ذَلِكَ مِنْ مُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ وَأَمَّا مَا كَانَ وَقْتُهُ مُطْلَقًا كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْأَمْرِ بِهِ، هَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي؟ وَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى مِثَالِ مَا قِيلَ فِيمَا كَانَ وَقْتُهُ مُوَسَّعًا فِي أَنَّهُ يَجِبُ تَعْجِيلُ الْأَدَاءِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ، وَيَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ بِدُونِ عَزْمٍ عَلَى الْفِعْلِ، أَوْ أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي وَلَا يَجِبُ التَّعْجِيلُ وَلَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ، لَكِنَّ الْجَمِيعَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ يَتَضَيَّقُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ فِي زَمَانٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنَ الْأَدَاءِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِغَالِبِ ظَنِّهِ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُؤَدِّ حَتَّى مَاتَ أَثِمَ بِتَرْكِهِ.هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَةِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُوَقَّتَةً أَمْ مُطْلَقَةً.
9- أَمَّا الْمَنْدُوبُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ الْمَنْدُوبَ حُكْمُهُ الثَّوَابُ عَلَى الْفِعْلِ وَعَدَمُ اللَّوْمِ عَلَى التَّرْكِ، لَكِنَّ فِعْلَهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ.وَمِنَ الْمَنْدُوبِ مَا هُوَ مُوَقَّتٌ كَالرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَهُ، وَمَا بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُسَبَّبٌ كَصَلَاةِ الْخُسُوفِ وَالْكُسُوفِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُطْلَقٌ كَالتَّهَجُّدِ.وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الصَّوْمِ أَيْضًا، فَمِنْهُ مَا هُوَ مُوَقَّتٌ، كَصِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَاجِّ، وَصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَمِنْهُ مَا يَتَطَوَّعُ بِهِ الْإِنْسَانُ فِي أَيِّ يَوْمٍ.وَقَدْ وَرَدَتْ آثَارٌ كَثِيرَةٌ فِي فَضْلِ مَا زَادَ عَلَى الْفَرْضِ مِنَ الْعِبَادَاتِ مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَحَجٍّ وَزَكَاةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ».
وَقَوْلُهُ: «صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ».وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ ثَابَرَ عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ».وَهَذِهِ الْعِبَادَاتُ الْمَنْدُوبَةُ يُطْلَبُ أَدَاؤُهَا طَلَبًا لِلثَّوَابِ وَلَا يَجِبُ الْأَدَاءُ إِلاَّ مَا شُرِعَ فِيهِ، فَيَجِبُ إِتْمَامُهُ، وَإِذَا فَسَدَ قَضَاهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَيُسْتَحَبُّ الْإِتْمَامُ إِلاَّ فِي تَطَوُّعِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا شَرَعَ فِيهِمَا فَيَجِبُ إِتْمَامُهُمَا بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ.
أَدَاءُ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ:
10- يُشْتَرَطُ لِأَدَاءِ الْعِبَادَةِ أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ مَعَ الْإِمْكَانِ وَالْقُدْرَةِ.وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْأَدَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْأَدَاءِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ عُذْرٌ فِي آخِرِهِ، كَمَنْ كَانَ أَهْلًا لِلصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى طَرَأَ عَلَيْهِ آخِرَ الْوَقْتِ عُذْرٌ يَمْنَعُ مِنَ الْأَدَاءِ، كَمَا إِذَا حَاضَتِ الطَّاهِرَةُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ أَوْ نَفِسَتْ أَوْ جُنَّ الْعَاقِلُ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، أَوِ ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ الْفَرْضَ.فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يَلْزَمُهُمُ الْفَرْضُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ وَالْأَهْلِيَّةَ ثَابِتَةٌ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَيَلْزَمُهُمُ الْقَضَاءُ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَلَا يَلْزَمُهُمُ الْفَرْضُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَيَّنُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ إِذَا لَمْ يُوجَدِ الْأَدَاءُ قَبْلَهُ، فَيَسْتَدْعِي الْأَهْلِيَّةَ فِيهِ؛ لِاسْتِحَالَةِ الْإِيجَابِ عَلَى غَيْرِ الْأَهْلِ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَضَاءٌ.وَهُوَ أَيْضًا رَأْيُ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَابْنِ عَرَفَةَ، خِلَافًا لِبَعْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ حَيْثُ الْقَضَاءُ عِنْدَهُمْ أَحْوَطُ.
أَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، ثُمَّ زَالَ الْعُذْرُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، كَمَا إِذَا طَهُرَتِ الْحَائِضُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَأَقَامَ الْمُسَافِرُ أَوْ سَافَرَ الْمُقِيمُ فَلِلْحَنَفِيَّةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْفَرْضُ وَلَا يَتَغَيَّرُ الْأَدَاءُ إِلاَّ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُ فِيهِ أَدَاءُ الْفَرْضِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلْكَرْخِيِّ وَأَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ: أَنَّهُ يَجِبُ الْفَرْضُ وَيَتَغَيَّرُ الْأَدَاءُ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يَسَعُ التَّحْرِيمَةَ فَقَطْ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجِبُ الْفَرْضُ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ رَكْعَةٍ مَعَ زَمَنٍ يَسَعُ الطُّهْرَ، وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ إِذَا بَقِيَ مِقْدَارُ رَكْعَةٍ فَقَطْ.
هَذَا مِثَالٌ لِاعْتِبَارِ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ.وَلِمَعْرِفَةِ التَّفَاصِيلِ (ر: أَهْلِيَّةٌ.حَجٌّ.صَلَاةٌ.صَوْمٌ).
11- أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الشَّرْعُ، فَفِي الصَّلَاةِ مَثَلًا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَدَاؤُهَا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَرَدَتْ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَذَلِكَ لِمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» فَمَنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوعَةِ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالصِّفَةِ الَّتِي يَسْتَطِيعُ بِهَا أَدَاءَ الصَّلَاةِ، فَمَنْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ صَلَّى جَالِسًا، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ.وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» وَهَكَذَا وَكَذَلِكَ الْعَاجِزُ عَنِ الصَّوْمِ لِشَيْخُوخَةٍ أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ وَعَدَمِهَا، فَقِيلَ: تَجِبُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ، وَقِيلَ: لَا تَجِبُ.وَالْحَجُّ أَيْضًا لَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ إِلاَّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ بِالْمَالِ وَالْبَدَنِ وَالْمَحْرَمِ أَوِ الرُّفْقَةِ الْمَأْمُونَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ.فَمَنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}.
12- وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ فَنَظَرًا لِلْأَهْلِيَّةِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ، وَيُؤَدِّي عَنْهُمَا وَلِيُّهُمَا، وَتُعْتَبَرُ نِيَّةُ الْوَلِيِّ فِي الْإِخْرَاجِ.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِهَا.
وَكَذَلِكَ مَنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ وَقْتَ الْوُجُوبِ، ثُمَّ تَغَيَّرَ حَالُهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: الْعِبْرَةُ بِوَقْتِ الْأَدَاءِ لَا بِوَقْتِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَلَوْ كَانَ مُوسِرًا وَقْتَ الْوُجُوبِ جَازَ لَهُ الصَّوْمُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِوَقْتِ الْوُجُوبِ لَا بِوَقْتِ الْأَدَاءِ.وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَغْلَظُ الْأَحْوَالِ مِنْ حِينِ الْوُجُوبِ إِلَى حِينِ التَّكْفِيرِ.
تَعْجِيلُ الْأَدَاءِ عَنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ أَوْ سَبَبِهِ:
13- الْعِبَادَاتُ الْمُوَقَّتَةُ بِوَقْتٍ، وَالَّتِي يُعْتَبَرُ الْوَقْتُ سَبَبًا لِوُجُوبِهَا، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فَإِنَّ الْوَقْتَ فِيهِمَا سَبَبُ الْوُجُوبِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.هَذِهِ الْعِبَادَاتُ لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الْأَدَاءِ فِيهَا عَنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.أَمَّا الْعِبَادَاتُ الَّتِي لَا يُعْتَبَرُ الْوَقْتُ سَبَبًا لِوُجُوبِهَا، وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فِيهَا، كَالزَّكَاةِ، أَوِ الْمُطْلَقَةِ الْوَقْتِ كَالْكَفَّارَاتِ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ تَعْجِيلِ الْأَدَاءِ عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهَا أَوْ عَنْ أَسْبَابِهَا: فَفِي الزَّكَاةِ مَثَلًا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الْأَدَاءِ قَبْلَ الْحَوْلِ مَتَى تَمَّ النِّصَابُ، وَذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- تَسَلَّفَ مِنَ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زَكَاةَ عَامَيْنِ؛ وَلِأَنَّهُ حَقُّ مَالٍ أُجِّلَ لِلرِّفْقِ، فَجَازَ تَعْجِيلُهُ قَبْلَ مَحِلِّهِ، كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ إِخْرَاجُ الْوَاجِبِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ إِلاَّ بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ كَالشَّهْرِ.وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا عَنْ وَقْتِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا قَبْلَ وَقْتِهَا إِلاَّ بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ، كَالْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ.
وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا قَبْلَ الْحِنْثِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، مَعَ تَخْصِيصِ الشَّافِعِيَّةِ التَّقْدِيمَ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ الصَّوْمِ، وَلَا يَجُوزُ التَّقْدِيمُ عَلَى الْحِنْثِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلَاتٌ كَثِيرَةٌ تُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا.
النِّيَابَةُ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ:
14- الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ الْمَحْضَةُ كَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ تَجُوزُ فِيهَا النِّيَابَةُ، سَوَاءٌ كَانَ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ قَادِرًا عَلَى الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا إِخْرَاجُ الْمَالِ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِفِعْلِ النَّائِبِ.
15- أَمَّا الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَلَا تَجُوزُ فِيهَا النِّيَابَةُ حَالَ الْحَيَاةِ بِاتِّفَاقٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}، وَقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ» أَيْ فِي حَقِّ الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ، لَا فِي حَقِّ الثَّوَابِ.أَمَّا بَعْدَ الْمَمَاتِ فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَنِ الْمَيِّتِ مَنْ يُصَلِّي عَنْهُ مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي الصَّلَاةِ.أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلصَّوْمِ فَعِنْدَهُمْ أَنَّ مَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنْ رَمَضَانَ، وَمَاتَ قَبْلَ إِمْكَانِ الْقَضَاءِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، أَيْ لَا يُفْدَى عَنْهُ وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا تَمَكَّنَ مِنَ الْقَضَاءِ، وَلَمْ يَصُمْ حَتَّى مَاتَ، فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الصَّوْمُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فَلَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ وَلِيُّهُ عَنْهُ، بَلْ يُنْدَبُ، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» وَهَذَا الرَّأْيُ هُوَ الْأَظْهَرُ.قَالَ السُّبْكِيُّ: وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُخْتَارُ وَالْمُفْتَى بِهِ، وَالْقَوْلَانِ يَجْرِيَانِ فِي الصِّيَامِ الْمَنْذُورِ إِذَا لَمْ يُؤَدَّ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي الصَّلَاةِ أَوِ الصِّيَامِ الْوَاجِبِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ- أَيِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ- لِأَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ حَالَ الْحَيَاةِ، فَبَعْدَ الْمَوْتِ كَذَلِكَ.أَمَّا مَا أَوْجَبَهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ، مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ فِعْلِ الْمَنْذُورِ، كَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ مُعَيَّنٍ وَمَاتَ قَبْلَ حُلُولِهِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنَ الْأَدَاءِ وَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ سُنَّ لِوَلِيِّهِ فِعْلُ النَّذْرِ عَنْهُ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ».وَلِأَنَّ النِّيَابَةَ تَدْخُلُ فِي الْعِبَادَةِ بِحَسَبِ خِفَّتِهَا، وَالنَّذْرُ أَخَفُّ حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ بِأَصْلِ الشَّرْعِ.وَيَجُوزُ لِغَيْرِ الْوَلِيِّ فِعْلُ مَا عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ نَذْرٍ بِإِذْنِهِ وَبِدُونِ إِذْنِهِ.
16- وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَجِّ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ جَانِبٍ مَالِيٍّ وَجَانِبٍ بَدَنِيٍّ.وَالْمَالِكِيَّةُ- فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ- هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِعَدَمِ جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي الْحَجِّ.أَمَّا بَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ فَتَصِحُّ عِنْدَهُمُ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ، لَكِنَّهُمْ يُقَيِّدُونَ ذَلِكَ بِالْعُذْرِ، وَهُوَ الْعَجْزُ عَنِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ؛ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ».
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ لِرَجُلٍ: «أَرَأَيْتُكَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ، فَقَضَيْتَهُ عَنْهُ قُبِلَ مِنْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: فَاللَّهُ أَرْحَمُ.حُجَّ عَنْ أَبِيكَ».
وَضَابِطُ الْعُذْرِ الَّذِي تَصِحُّ مَعَهُ النِّيَابَةُ هُوَ الْعَجْزُ الدَّائِمُ إِلَى الْمَوْتِ، وَذَلِكَ كَالشَّيْخِ الْفَانِي وَالزَّمِنِ وَالْمَرِيضِ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ.فَهَؤُلَاءِ إِذَا وَجَدُوا مَالًا يَلْزَمُهُمُ الِاسْتِنَابَةُ فِي الْحَجِّ عَنْهُمْ.
وَمَنْ أَحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ لِلْعُذْرِ الدَّائِمِ، ثُمَّ زَالَ الْعُذْرُ قَبْلَ الْمَوْتِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَمْ يَجُزْ حَجُّ غَيْرِهِ عَنْهُ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، لِضَرُورَةِ الْعَجْزِ الَّذِي لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، فَيَتَقَيَّدُ الْجَوَازُ بِهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُجْزِئُ حَجُّ الْغَيْرِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ فَخَرَجَ مِنَ الْعُهْدَةِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَبْرَأْ.لَكِنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا عُوفِيَ بَعْدَ فَرَاغِ النَّائِبِ مِنَ الْحَجِّ، فَإِذَا عُوفِيَ قَبْلَ فَرَاغِ النَّائِبِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُجْزِئَهُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ تَمَامِ الْبَدَلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْزِئَهُ، وَإِنْ بَرَأَ قَبْلَ إِحْرَامِ النَّائِبِ لَمْ يُجْزِئْهُ بِحَالٍ.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ بِالْإِجْزَاءِ وَعَدَمِهِ وَالْمَرِيضُ الَّذِي يُرْجَى زَوَالُ مَرَضِهِ وَالْمَحْبُوسُ وَنَحْوُهُ إِذَا أَحَجَّ عَنْهُ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هَذَا الْحَجُّ مَوْقُوفٌ.إِنْ مَاتَ الْمَحْجُوجُ عَنْهُ وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ مَحْبُوسٌ جَازَ الْحَجُّ، وَإِنْ زَالَ الْمَرَضُ أَوِ الْحَبْسُ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يَجُزْ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، فَلَا تَجُوزُ فِيهِ النِّيَابَةُ كَالصَّحِيحِ، فَإِنْ خَالَفَ وَأَحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، لَمْ يُجْزِئْهُ وَلَوْ لَمْ يَبْرَأْ؛ لِأَنَّهُ يَرْجُو الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ بِهِ الِاسْتِنَابَةُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ مَرَّةً أُخْرَى، وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ إِذَا مَاتَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مَأْيُوسًا مِنْهُ.
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ مُطْلَقًا.وَقِيلَ تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ لِغَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: تَجُوزُ النِّيَابَةُ لِلْمَعْضُوبِ كَالزَّمِنِ وَالْهَرِمِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ آجَرَ صَحِيحٌ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ لَزِمَهُ لِلْخِلَافِ.وَسَوَاءٌ فِيمَا مَرَّ فِي الْمَذَاهِبِ حَجُّ الْفَرِيضَةِ وَحَجُّ النَّذْرِ.وَالْعُمْرَةُ فِي ذَلِكَ كَالْحَجِّ.
17- أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِحَجِّ التَّطَوُّعِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَجُوزُ فِيهِ الِاسْتِنَابَةُ بِعُذْرٍ وَبِدُونِ عُذْرٍ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ لِعُذْرٍ جَازَ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا حَجَّةٌ لَا تَلْزَمُهُ بِنَفْسِهِ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهَا كَالْمَعْضُوبِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ كَالْفَرْضِ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ فِيمَا إِذَا كَانَ بِعُذْرٍ: أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَى الِاسْتِنَابَةِ فِيهِ، فَلَمْ تَجُزِ الِاسْتِنَابَةُ فِيهِ كَالصَّحِيحِ، وَالثَّانِي يَجُوزُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ جَازَتِ النِّيَابَةُ فِي فَرْضِهَا جَازَتِ النِّيَابَةُ فِي نَفْلِهَا.وَتُكْرَهُ الِاسْتِنَابَةُ فِي التَّطَوُّعِ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ.
18- وَمَا مَرَّ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيِّ.أَمَّا الْمَيِّتُ فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: مَنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَاءِ الْحَجِّ سَقَطَ فَرْضُهُ، وَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ عَنْهُ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَدَاءِ وَلَمْ يُؤَدِّ لَمْ يَسْقُطِ الْفَرْضُ، وَيَجِبُ الْقَضَاءُ مِنْ تَرِكَتِهِ، لِمَا رَوَى بُرَيْدَةُ قَالَ: «أَتَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ، وَلَمْ تَحُجَّ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: حُجِّي عَنْ أُمِّكِ» وَلِأَنَّهُ حَقٌّ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ حَالَ الْحَيَاةِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ، كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْحَجُّ الْمَنْذُورُ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، وَإِنَّهَا مَاتَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.قَالَ: فَاقْضِ اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ».
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا يَجِبُ الْحَجُّ عَنْهُ، إِلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ، فَإِذَا أَوْصَى حُجَّ مِنْ تَرِكَتِهِ.وَإِذَا لَمْ يُوصِ بِالْحَجِّ عَنْهُ، فَتَبَرَّعَ الْوَارِثُ بِالْحَجِّ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِالْإِحْجَاجِ عَنْهُ رَجُلًا جَازَ، وَلَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. تَأْخِيرُ الْأَدَاءِ عَنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ:
19- تَأْخِيرُ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ عَنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ دُونَ عُذْرٍ يُوجِبُ الْإِثْمَ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ بِوَقْتٍ مُحَدَّدٍ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَجَبَ قَضَاؤُهَا، وَكَذَلِكَ النَّذْرُ الْمُعَيَّنُ إِذَا لَمْ يُؤَدَّ.وَإِنْ كَانَتِ الْعِبَادَاتُ وَقْتُهَا الْعُمْرُ، كَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ فَإِنَّهُ مَتَى تَوَفَّرَتْ شُرُوطُ الْأَدَاءِ، كَحَوَلَانِ الْحَوْلِ وَكَمَالِ النِّصَابِ فِي الزَّكَاةِ مَعَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ، وَلَمْ يَتِمَّ الْأَدَاءُ تَرَتَّبَ الْمَالُ فِي الذِّمَّةِ، وَكَذَلِكَ الْحَجُّ إِذَا وُجِدَتِ الِاسْتِطَاعَةُ الْمَالِيَّةُ وَالْبَدَنِيَّةُ، وَلَمْ يُؤَدِّ الْحَجَّ فَهُوَ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ الْوَاجِبَاتُ الْمُطْلَقَةُ كَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ مَعَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِيمَنْ مَاتَ، وَلَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ أَوِ الْحَجَّ أَوِ النَّذْرَ أَوِ الْكَفَّارَةَ، وَكُلُّ مَا كَانَ وَاجِبًا مَالِيًّا، وَأَمْكَنَ أَدَاؤُهُ، وَلَمْ يُؤَدَّ حَتَّى مَاتَ الْمُكَلَّفُ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لَا تُؤَدَّى مِنْ تَرِكَتِهِ، إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِهَا، فَإِذَا لَمْ يُوصِ فَقَدْ سَقَطَتْ بِالنِّسْبَةِ لِأَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ تُؤَدَّى مِنْ تَرِكَتِهِ وَإِنْ لَمْ يُوصِ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: قَضَاءٌ.حَجٌّ.زَكَاةٌ.نَذْرٌ).هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً أَوْ غَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
22-موسوعة الفقه الكويتية (استتابة)
اسْتِتَابَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الِاسْتِتَابَةُ فِي اللُّغَةِ: طَلَبُ التَّوْبَةِ، يُقَالُ: اسْتَتَبْتُ فُلَانًا: عَرَضْتُ عَلَيْهِ التَّوْبَةَ مِمَّا اقْتَرَفَ.
وَالتَّوْبَةُ هِيَ: الرُّجُوعُ وَالنَّدَمُ عَلَى مَا فَرَّطَ مِنْهُ، وَاسْتَتَابَهُ: سَأَلَهُ أَنْ يَتُوبَ.وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
صِفَتُهَا (الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ):
2- اسْتِتَابَةُ الْمُرْتَدِّ وَاجِبَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ عِنْدَهُ شُبْهَةٌ فَتُزَالُ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهَا: مُسْتَحَبَّةٌ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ بَلَغَتْهُ.
اسْتِتَابَةُ الزَّنَادِقَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ:
3- فِي اسْتِتَابَةِ الزَّنَادِقَةِ وَفِرَقِ الْبَاطِنِيَّةِ رَأْيَانِ.
الْأَوَّلُ: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَفِي الظَّاهِرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، لَا يُسْتَتَابُونَ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ، وَيُقْتَلُونَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} وَالزِّنْدِيقُ لَا تَظْهَرُ مِنْهُ عَلَامَةٌ تُبَيِّنُ رُجُوعَهُ وَتَوْبَتَهُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُظْهِرًا لِلْإِسْلَامِ، مُسِرًّا لِلْكُفْرِ، فَإِذَا وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ، فَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ، لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ قَبْلَهَا، وَهُوَ إِظْهَارُ الْإِسْلَامِ؛ وَلِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ فِي الْبَاطِنِ خِلَافَ مَا يُظْهِرُونَ.
الثَّانِي: وَهُوَ لِلْحَنَفِيَّةِ فِي غَيْرِ الظَّاهِرِ، وَرَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، يُسْتَتَابُ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُرْتَدِّ، فَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ. (ر: زَنْدَقَة).
اسْتِتَابَةُ السَّاحِرِ:
4- اسْتِتَابَةُ السَّاحِرِ فِيهَا رِوَايَتَانِ.
الْأُولَى: لِلْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ لَا يُسْتَتَابُ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نُقِلَ عَنِ الصَّحَابَةِ.فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ اسْتَتَابَ سَاحِرًا، لِخَبَرِ عَائِشَة: إِنَّ السَّاحِرَةَ سَأَلَتْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ: هَلْ لَهَا مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَمَا أَفْتَاهَا أَحَدٌ وَلِأَنَّ السِّحْرَ مَعْنًى فِي نَفْسِهِ، وَلِسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ.
الثَّانِيَةُ: لِلشَّافِعِيَّةِ وَرَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَنَّهُ يُسْتَتَابُ.فَإِنْ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَعْظَمَ مِنَ الشِّرْكِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ قَبِلَ تَوْبَةَ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ؛ وَلِأَنَّ السَّاحِرَ لَوْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ صَحَّ إِسْلَامُهُ وَتَوْبَتُهُ، فَإِذَا صَحَّتِ التَّوْبَةُ مِنْهُمَا (أَيِ السَّاحِرِ وَالْكَافِرِ) صَحَّتْ مِنْ أَحَدِهِمَا (السَّاحِرِ الْمُسْلِمِ)، (ر: سِحْر) وَيَأْخُذُ حُكْمَ الْمُرْتَدِّ، فَيُحْبَسُ حَتَّى يَتُوبَ.
اسْتِتَابَةُ تَارِكِ الْفَرْضِ:
5- اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى اسْتِتَابَةِ تَارِكِ الْفَرْضِ مِنْ غَيْرِ جُحُودٍ أَوِ اسْتِخْفَافٍ، حَيْثُ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ.فَإِنْ أَبَى أَنْ يَتُوبَ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رَأْيٍ عِنْدَهُمْ: يُحْبَسُ حَتَّى يَتُوبَ أَوْ يَمُوتَ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ: إِنْ أَبَى يُقْتَلُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْجُمْهُورِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
23-موسوعة الفقه الكويتية (استغفار)
اسْتِغْفَارالتَّعْرِيفُ:
1- الِاسْتِغْفَارُ فِي اللُّغَةِ: طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ بِالْمَقَالِ وَالْفِعَالِ.
وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ: سُؤَالُ الْمَغْفِرَةِ كَذَلِكَ، وَالْمَغْفِرَةُ فِي الْأَصْلِ: السَّتْرُ، وَيُرَادُ بِهَا التَّجَاوُزُ عَنِ الذَّنْبِ وَعَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ، وَأَضَافَ بَعْضُهُمْ: إِمَّا بِتَرْكِ التَّوْبِيخِ وَالْعِقَابِ رَأْسًا، أَوْ بَعْدَ التَّقْرِيرِ بِهِ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ.
وَيَأْتِي الِاسْتِغْفَارُ بِمَعْنَى الْإِسْلَامِ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أَيْ يُسْلِمُونَ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ.كَذَلِكَ يَأْتِي الِاسْتِغْفَارُ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ وَالتَّوْبَةِ، وَسَتَأْتِي صِلَتُهُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- التَّوْبَةُ:
2- الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ يَشْتَرِكَانِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا رُجُوعٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، كَذَلِكَ يَشْتَرِكَانِ فِي طَلَبِ إِزَالَةِ مَا لَا يَنْبَغِي، إِلاَّ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ طَلَبٌ مِنَ اللَّهِ لِإِزَالَتِهِ.وَالتَّوْبَةُ سَعْيٌ مِنَ الْإِنْسَانِ فِي إِزَالَتِهِ.
وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَدْخُلُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي مُسَمَّى الْآخَرِ، وَعِنْدَ اقْتِرَانِهِمَا يَكُونُ الِاسْتِغْفَارُ طَلَبُ وِقَايَةِ شَرِّ مَا مَضَى وَالتَّوْبَةُ الرُّجُوعُ وَطَلَبُ وِقَايَةِ شَرِّ مَا يَخَافُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِ، فَفِي التَّوْبَةِ أَمْرَانِ لَا بُدَّ مِنْهُمَا: مُفَارَقَةُ شَيْءٍ، وَالرُّجُوعُ إِلَى غَيْرِهِ، فَخُصَّتِ التَّوْبَةُ بِالرُّجُوعِ وَالِاسْتِغْفَارُ بِالْمُفَارَقَةِ، وَعِنْدَ إِفْرَادِ أَحَدِهِمَا يَتَنَاوَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ.
وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ يَكُونُ الِاسْتِغْفَارُ الْمَقْرُونُ بِالتَّوْبَةِ عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ بِاللِّسَانِ، وَالتَّوْبَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِقْلَاعِ عَنِ الذَّنْبِ بِالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ.
ب- الدُّعَاءُ:
3- كُلُّ دُعَاءٍ فِيهِ سُؤَالُ الْغُفْرَانِ فَهُوَ اسْتِغْفَارٌ.إِلاَّ أَنَّ بَيْنَ الِاسْتِغْفَارِ وَالدُّعَاءِ عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ، يَجْتَمِعَانِ فِي طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ، وَيَنْفَرِدُ الِاسْتِغْفَارُ إِنْ كَانَ بِالْفِعْلِ لَا بِالْقَوْلِ، كَمَا يَنْفَرِدُ الدُّعَاءُ إِنْ كَانَ بِطَلَبِ غَيْرِ الْمَغْفِرَةِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلِاسْتِغْفَارِ:
4- الْأَصْلُ فِي الِاسْتِغْفَارِ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يُحْمَلُ عَلَى النَّدْبِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، لَكِنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ عَنِ النَّدْبِ إِلَى الْوُجُوبِ كَاسْتِغْفَارِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَكَالِاسْتِغْفَارِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ.
وَقَدْ يَخْرُجُ إِلَى الْكَرَاهَةِ كَالِاسْتِغْفَارِ لِلْمَيِّتِ خَلْفَ الْجِنَازَةِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ.
وَقَدْ يَخْرُجُ إِلَى الْحُرْمَةِ، كَالِاسْتِغْفَارِ لِلْكُفَّارِ.
الِاسْتِغْفَارُ الْمَطْلُوبُ:
5- الِاسْتِغْفَارُ الْمَطْلُوبُ هُوَ الَّذِي يُحِلُّ عُقْدَةَ الْإِصْرَارِ، وَيَثْبُتُ مَعْنَاهُ فِي الْجَنَانِ، لَا التَّلَفُّظُ بِاللِّسَانِ، فَإِنْ كَانَ بِاللِّسَانِ- وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ- فَإِنَّهُ ذَنْبٌ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِغْفَارٍ.كَمَا رُوِيَ: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ، كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَالْمُسْتَغْفِرُ مِنَ الذَّنْبِ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ»
وَيُطْلَبُ لِلْمُسْتَغْفِرِ بِلِسَانِهِ أَنْ يَكُونَ مُلَاحِظًا لِهَذِهِ الْمَعَانِي بِجِنَانِهِ، لِيَفُوزَ بِنَتَائِجِ الِاسْتِغْفَارِ، فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ ذَلِكَ فَيَسْتَغْفِرُ بِلِسَانِهِ، وَيُجَاهِدُ نَفْسَهُ عَلَى مَا هُنَالِكَ، فَالْمَيْسُورُ لَا يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ.فَإِنِ انْتَفَى الْإِصْرَارُ، وَكَانَ الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ مَعَ غَفْلَةِ الْقَلْبِ، فَفِيهِ رَأْيَانِ:
الْأَوَّلُ: وَصْفُهُ بِأَنَّهُ تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَوْلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ جَعَلُوهُ مَعْصِيَةً لَاحِقَةً بِالْكَبَائِرِ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: بِأَنَّهُ لَا جَدْوَى مِنْهُ فَقَطْ.
الثَّانِي: اعْتِبَارُهُ حَسَنَةً وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ، وَقَوْلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، لِأَنَّ الِاسْتِغْفَارَ عَنْ غَفْلَةٍ خَيْرٌ مِنَ الصَّمْتِ وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى اسْتِغْفَارٍ، لِأَنَّ اللِّسَانَ إِذَا أَلِفَ ذِكْرًا يُوشِكُ أَنْ يَأْلَفَهُ الْقَلْبُ فَيُوَافِقُهُ عَلَيْهِ، وَتَرْكُ الْعَمَلِ لِلْخَوْفِ مِنْهُ مِنْ مَكَايِدِ الشَّيْطَانِ.
صِيَغُ الِاسْتِغْفَارِ:
6- وَرَدَ الِاسْتِغْفَارُ بِصِيَغٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَالْمُخْتَارُ مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ».
7- وَمِنْ أَفْضَلِ أَنْوَاعِ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: «أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ».وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ وَلَيْسَ الْحَصْرِ كَمَا أَنَّ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ وَبَعْضَ الْعِبَادَاتِ تَخْتَصُّ بِصِيَغٍ مَأْثُورَةٍ تَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهَا وَيَنْبَغِي التَّقَيُّدُ بِأَلْفَاظِهَا، وَمَوْطِنُ بَيَانِهَا غَالِبًا كُتُبُ السُّنَّةِ وَالْأَذْكَارِ وَالْآدَابِ، فِي أَبْوَابِ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ.
وَإِذَا كَانَتْ صِيَغُ الِاسْتِغْفَارِ السَّابِقَةِ مَطْلُوبَةً فَإِنَّ بَعْضَ صِيَغِهِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا مُسْتَكْرِهَ لَهُ»
اسْتِغْفَارُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-:
8- اسْتِغْفَارُ النَّبِيِّ- عليه الصلاة والسلام- وَاجِبٌ عَلَيْهِ، لقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ وَالْمُفَسِّرُونَ وُجُوهًا عَدِيدَةً فِي اسْتِغْفَارِهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْهَا: أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ مَا كَانَ مِنْ سَهْوٍ أَوْ غَفْلَةٍ، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ ذَنْبٍ، وَإِنَّمَا كَانَ لِتَعْلِيمِ أُمَّتِهِ، وَرَأْيُ السُّبْكِيِّ: أَنَّ اسْتِغْفَارَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لَا يَحْتَمِلُ إِلاَّ وَجْهًا وَاحِدًا، وَهُوَ: تَشْرِيفُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَنْبٌ، لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَسْتَغْفِرُ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ سَبْعِينَ مَرَّةً، وَمِائَةَ مَرَّةٍ، بَلْ كَانَ أَصْحَابُهُ يَعُدُّونَ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ مِائَةَ مَرَّةٍ».
الِاسْتِغْفَارُ فِي الطَّهَارَةِ:
أَوَّلًا: الِاسْتِغْفَارُ عَقِبَ الْخُرُوجِ مِنَ الْخَلَاءِ:
9- يُنْدَبُ الِاسْتِغْفَارُ بَعْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَعِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْخَلَاءِ.رَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا خَرَجَ مِنَ الْخَلَاءِ قَالَ: غُفْرَانَكَ».وَوَجْهُ سُؤَالِ الْمَغْفِرَةِ هُنَا كَمَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ- هُوَ الْعَجْزُ عَنْ شُكْرِ النِّعْمَةِ فِي تَيْسِيرِ الْغِذَاءِ، وَإِيصَالِ مَنْفَعَتِهِ، وَإِخْرَاجِ فَضْلَتِهِ.
ثَانِيًا: الِاسْتِغْفَارُ بَعْدَ الْوُضُوءِ: Tab
10- يُسَنُّ الِاسْتِغْفَارُ ضِمْنَ الذِّكْرِ الْوَارِدِ عِنْدَ إِتْمَامِ الْوُضُوءِ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَقَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ، وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، كُتِبَ فِي رَقٍّ، ثُمَّ جُعِلَ فِي طَابَعٍ، فَلَمْ يُكْسَرْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
وَقَدْ وَرَدَتْ صِيَغٌ أُخْرَى تَتَضَمَّنُ الِاسْتِغْفَارَ عَقِبَ الِانْتِهَاءِ مِنَ الْوُضُوءِ وَأَثْنَاءَهُ يَذْكُرُهَا الْفُقَهَاءُ فِي سُنَنِ الْوُضُوءِ.
الِاسْتِغْفَارُ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ:
11- يُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، الِاسْتِغْفَارُ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَعِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْهُ.لِمَا وَرَدَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ»
وَالْوَارِدُ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَقُولُ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ: «اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ» وَعِنْدَ خُرُوجِهِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ»
الِاسْتِغْفَارُ فِي الصَّلَاةِ:
أَوَّلًا- الِاسْتِغْفَارُ فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ:
12- جَاءَ الِاسْتِغْفَارُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي دُعَاءِ الِافْتِتَاحِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَخَذَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ مُطْلَقًا، وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- عليه الصلاة والسلام-: «اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ».
وَيُكْرَهُ الِافْتِتَاحُ فِي الْمَكْتُوبَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ
وَمَحَلُّ الِاسْتِغْفَارِ فِي دُعَاءِ الِافْتِتَاحِ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي سُنَنِ الصَّلَاةِ، أَوْ فِي كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ.
ثَانِيًا: الِاسْتِغْفَارُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ:
13 يُسَنُّ الدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ فِي الرُّكُوعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ.رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ، أَيْ يُحَقِّقُ قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} » مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ لِلْمُنْفَرِدِ، وَلِإِمَامِ قَوْمٍ مَحْصُورِينَ رَضُوا بِالتَّطْوِيلِ.وَلَا يَأْتِي بِغَيْرِ التَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُجِيزُونَ الِاسْتِغْفَارَ عِنْدَ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ. 14- وَفِي السُّجُودِ يُنْدَبُ الدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ كَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ السَّابِقِ.
15- وَفِي الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ يُسَنُّ الِاسْتِغْفَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَى حُذَيْفَةُ «أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَكَانَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي».
وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ الِاسْتِغْفَارُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يُعَلِّمْهُ الْمُسِيءَ صَلَاتَهُ.وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ وَدَاوُدَ، وَأَقَلُّهُ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَقَلُّ الْكَمَالِ ثَلَاثٌ، وَالْكَمَالُ لِلْمُنْفَرِدِ مَا لَا يُخْرِجُهُ إِلَى السَّهْوِ، وَبِالنِّسْبَةِ لِلْإِمَامِ: مَا لَا يَشُقُّ عَلَى الْمُصَلِّينَ.
الِاسْتِغْفَارُ فِي الْقُنُوتِ:
16- جَاءَ الِاسْتِغْفَارُ فِي أَلْفَاظِ الْقُنُوتِ، قُنُوتِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَقُنُوتِ عُمَرَ، وَأَلْفَاظُهُ كَبَقِيَّةِ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ، وَلَمْ نَقِفْ عَلَى أَمْرٍ يَخُصُّهُ، إِلاَّ مَا ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الدُّعَاءَ بِالْمَغْفِرَةِ يَقُومُ مَقَامَ الْقُنُوتِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ.
الِاسْتِغْفَارُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ:
17- يُنْدَبُ الِاسْتِغْفَارُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ «اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.كَذَلِكَ وَرَدَ «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ»
الِاسْتِغْفَارُ عَقِبَ الصَّلَاةِ:
18- يُسَنُّ الِاسْتِغْفَارُ عَقِبَ الصَّلَاةِ ثَلَاثًا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ: مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، غَفَرَ اللَّهُ ذُنُوبَهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ وَوَرَدَتْ رِوَايَاتٌ أُخْرَى يَذْكُرُهَا الْفُقَهَاءُ فِي الذِّكْرِ الْوَارِدِ عَقِبَ الصَّلَاةِ وَمِنْهَا قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ غَفَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذُنُوبَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ»
الِاسْتِغْفَارُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ:
19- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ يَحْصُلُ الِاسْتِسْقَاءُ بِالِاسْتِغْفَارِ وَحْدَهُ.غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُقْصِرُهُ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ وَسِيلَةٌ لِلسُّقْيَا.بِدَلِيلِ {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} وَلَمْ تَزِدِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى الِاسْتِسْقَاءِ وَلَمْ يُصَلِّ بِجَمَاعَةٍ، بَلْ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ، فَقَالُوا: مَا اسْتَسْقَيْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: لَقَدِ اسْتَسْقَيْتُ بِمَجَادِيحِ السَّمَاءِ الَّتِي بِهَا يُسْتَنْزَلُ الْغَيْثُ.
20- وَبَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ وَالْقَائِلُونَ بِنَدْبِ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ وَالْخُطْبَتَيْنِ، أَوِ الْخُطْبَةِ الْوَاحِدَةِ، يُسَنُّ عِنْدَهُمْ الْإِكْثَارُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ فِي الْخُطْبَةِ، وَتُبَدَّلُ تَكْبِيرَاتُ الِافْتِتَاحِ الَّتِي فِي خُطْبَتَيِ الْعِيدَيْنِ بِالِاسْتِغْفَارِ فِي خُطْبَتَيْ الِاسْتِسْقَاءِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَصِيغَتُهُ كَمَا أَوْرَدَهَا النَّوَوِيُّ فِي مَجْمُوعِهِ «أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ».
وَيُكَبَّرُ كَخُطْبَتَيِ الْعِيدَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَنَفَى الْحَنَفِيَّةُ التَّكْبِيرَ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلِاسْتِغْفَارِ فِي الْخُطْبَةِ.
الِاسْتِغْفَارُ لِلْأَمْوَاتِ:
21- الِاسْتِغْفَارُ عِبَادَةٌ قَوْلِيَّةٌ يَصِحُّ فِعْلُهَا لِلْمَيِّتِ.وَقَدْ ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ الِاسْتِغْفَارُ لِلْأَمْوَاتِ، فَفِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَرَدَ الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ بِالْمَغْفِرَةِ، لَكِنْ لَا يُسْتَغْفَرُ لِصَبِيٍّ وَنَحْوِهِ.
وَتَفْصِيلُ أَحْكَامِهِ يَذْكُرُهَا الْفُقَهَاءُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ.
وَعَقِبَ الدَّفْنِ يُنْدَبُ أَنْ يَقِفَ جَمَاعَةٌ يَسْتَغْفِرُونَ لِلْمَيِّتِ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ فِي سُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ، رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُثْمَانَ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا دَفَنَ الرَّجُلَ وَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثَبُّتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ» وَصَرَّحَ بِذَلِكَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
22- وَمِنْ آدَابِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، الدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ لِأَهْلِهَا عَقِبَ التَّسْلِيمِ عَلَيْهِمْ، وَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ.
23- وَهَذَا كُلُّهُ يَخُصُّ الْمُؤْمِنَ، أَمَّا الْكَافِرُ الْمَيِّتُ فَيَحْرُمُ الِاسْتِغْفَارُ لَهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالْإِجْمَاعِ.
الِاسْتِغْفَارُ عَنِ الْغِيبَةِ:
24- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَقِّ الَّذِي اغْتَابَ، هَلْ يَلْزَمُهُ اسْتِحْلَالُ مَنِ اُغْتِيبَ، مَعَ الِاسْتِغْفَارِ لَهُ، أَمْ يَكْفِيهِ الِاسْتِغْفَارُ؟.
الْأَوَّلُ: إِذَا لَمْ يَعْلَمْ مَنِ اُغْتِيبَ فَيَكْفِي الِاسْتِغْفَارُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَوْلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَلِأَنَّ إِعْلَامَهُ رُبَّمَا يَجُرُّ فِتْنَةً، وَفِي إِعْلَامِهِ إِدْخَالُ غَمٍّ عَلَيْهِ.لِمَا رَوَى الْخَلاَّلُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا «كَفَّارَةُ مَنِ اُغْتِيبَ أَنْ يُسْتَغْفَرَ لَهُ».فَإِنْ عَلِمَ فَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِحْلَالِهِ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ لَهُ.
الثَّانِي: يَكْفِي الِاسْتِغْفَارُ سَوَاءٌ عَلِمَ الَّذِي اُغْتِيبَ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ، وَلَا يَجِبُ اسْتِحْلَالُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنِ اسْتِحْلَالِ الْمُغْتَابِ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ، أَوْ أَحَدًا مِنْ وَرَثَتِهِ اسْتَغْفَرَ لَهُ.وَفِي اسْتِحْلَالِ الْوَرَثَةِ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ يُذْكَرُ فِي التَّوْبَةِ.
الِاسْتِغْفَارُ لِلْمُؤْمِنِينَ:
25- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ التَّعْمِيمُ فِي الدُّعَاءِ بِالْمَغْفِرَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ لِخَبَرِ «مَا مِنْ دُعَاءٍ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأُِمَّةِ مُحَمَّدٍ مَغْفِرَةً عَامَّةً» وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ «قَامَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي صَلَاةٍ، وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا، فَلَمَّا سَلَّمَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا».
وَلَا بَأْسَ أَنْ يَخُصَّ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ بِالدُّعَاءِ، لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ، وَأَسْأَلُكَ...» إِلَخْ وَهَذَا يَخُصُّ نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ، ذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الْقُنُوتِ، وَخَلْفَهُ مَنْ يُؤَمِّنُ، لِخَبَرِ ثَوْبَانَ «لَا يَؤُمُّ رَجُلٌ قَوْمًا فَيَخُصُّ نَفْسَهُ بِدَعْوَةٍ دُونَهُمْ، فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ خَانَهُمْ»
الِاسْتِغْفَارُ لِلْكَافِرِ:
26- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِلْكَافِرِ مَحْظُورٌ، بَلْ بَالَغَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: إِنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِلْكَافِرِ يَقْتَضِي كُفْرَ مَنْ فَعَلَهُ، لِأَنَّ فِيهِ تَكْذِيبًا لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَأَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ.
27- وَأَمَّا مَنِ اسْتَغْفَرَ لِلْكَافِرِ الْحَيِّ رَجَاءَ أَنْ يُؤْمِنَ فَيُغْفَرَ لَهُ، فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِإِجَازَةِ ذَلِكَ، وَجَوَّزَ الْحَنَابِلَةُ الدُّعَاءَ بِالْهِدَايَةِ، وَلَا يُسْتَبْعَدُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ، كَذَلِكَ اسْتَظْهَرَ بَعْضُهُمْ جَوَازَ الدُّعَاءِ لِأَطْفَالِ الْكُفَّارِ بِالْمَغْفِرَةِ، لِأَنَّ هَذَا مِنْ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ.
تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ بِالِاسْتِغْفَارِ:
28- الِاسْتِغْفَارُ إِنْ كَانَ بِمَعْنَى التَّوْبَةِ فَإِنَّهُ يُرْجَى أَنْ يُكَفَّرَ بِهِ الذُّنُوبُ إِنْ تَوَافَرَتْ فِيهِ شُرُوطُ التَّوْبَةِ، يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} وَيَقُولُ- صلى الله عليه وسلم- رَسُولُ اللَّهِ: «مَنِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ» وَقَدْ قِيلَ: لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ فَالْمُرَادُ بِالِاسْتِغْفَارِ هُنَا التَّوْبَةُ.
29- فَإِنْ كَانَ الِاسْتِغْفَارُ عَلَى وَجْهِ الِافْتِقَارِ وَالِانْكِسَارِ دُونَ تَحَقُّقِ التَّوْبَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، فَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا: إِنَّهُ يُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ دُونَ الْكَبَائِرِ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ تُغْفَرُ بِهِ الذُّنُوبُ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، وَهُوَ مَا صَرَّحَتْ بِهِ بَعْضُ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ.لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الِاسْتِغْفَارُ مِمْحَاةٌ لِلذُّنُوبِ». الِاسْتِغْفَارُ عِنْدَ النَّوْمِ:
30- يُسْتَحَبُّ الِاسْتِغْفَارُ عِنْدَ النَّوْمِ مَعَ بَعْضِ الْأَدْعِيَةِ الْأُخْرَى، لِيَكُونَ الِاسْتِغْفَارُ خَاتِمَةَ عَمَلِهِ إِذَا رُفِعَتْ رُوحُهُ، رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: «مَنْ قَالَ حِينَ يَأْوِي إِلَى فِرَاشِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ».
الدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ لِلْمُشَمِّتِ:
31- يُسَنُّ لِلْعَاطِسِ أَنْ يَدْعُوَ بِالْمَغْفِرَةِ لِمَنْ شَمَّتَهُ بِقَوْلِهِ: «يَرْحَمُكَ اللَّهُ» فَيَقُولُ لَهُ الْعَاطِسُ: «يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ» أَوْ يَقُولُ لَهُ: «يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ» أَوْ يَقُولُ: «يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ وَيَغْفِرُ لَنَا وَلَكُمْ»، لِمَا فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا عَطَسَ فَقِيلَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، قَالَ: يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ وَيَغْفِرُ لَنَا وَلَكُمْ. اخْتِتَامُ الْأَعْمَالِ بِالِاسْتِغْفَارِ:
32- الْمُتَتَبِّعُ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالْأَذْكَارِ النَّبَوِيَّةِ يَجِدُ اخْتِتَامَ كَثِيرٍ مِنَ الْأَعْمَالِ بِالِاسْتِغْفَارِ، فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي آخِرِ حَيَاتِهِ بِالِاسْتِغْفَارِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}.
33- وَفِي اخْتِتَامِ الصَّلَاةِ، وَتَمَامِ الْوُضُوءِ يُنْدَبُ الِاسْتِغْفَارُ كَمَا تَقَدَّمَ.
34- وَالِاسْتِغْفَارُ فِي نِهَايَةِ الْمَجْلِسِ كَفَّارَةٌ لِمَا يَقَعُ فِي الْمَجْلِسِ مِنْ لَغَطٍ، رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ».
35- وَمِنْ آكِدِ أَوْقَاتِ الِاسْتِغْفَارِ: السَّحَرُ (آخَرُ اللَّيْلِ) لقوله تعالى: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وَلِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟».
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
24-موسوعة الفقه الكويتية (استيفاء)
اسْتِيفَاءالتَّعْرِيفُ:
1- الِاسْتِيفَاءُ: مَصْدَرُ اسْتَوْفَى، وَهُوَ أَخْذُ صَاحِبِ الْحَقِّ حَقَّهُ كَامِلًا، دُونَ أَنْ يَتْرُكَ مِنْهُ شَيْئًا.
وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقَبْضُ:
2- قَبَضَ الدَّيْنَ أَخَذَهُ، وَهُوَ كَمَا يَكُونُ فِي الدُّيُونِ يَكُونُ كَذَلِكَ فِي الْأَعْيَانِ، فَالْقَبْضُ أَعَمُّ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ.
عَلَاقَةُ الِاسْتِيفَاءِ بِالْإِبْرَاءِ وَالْحَوَالَةِ:
3- مِنْ تَقْسِيمَاتِ الْإِبْرَاءِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ: إِمَّا إِبْرَاءُ إِسْقَاطٍ، أَوْ إِبْرَاءُ اسْتِيفَاءٍ، فَفِي الْكَفَالَةِ لَوْ قَالَ الدَّائِنُ لِلْكَفِيلِ: بَرِئْتَ إِلَيَّ مِنَ الْمَالِ، كَانَ إِبْرَاءَ اسْتِيفَاءٍ لِكُلٍّ مِنَ الْكَفِيلِ وَالدَّائِنِ، أَمَّا لَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُكَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ إِبْرَاءَ إِسْقَاطٍ، يُبَرَّأُ بِهِ الْكَفِيلُ فَقَطْ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (إِبْرَاءٌ).
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَرْجِيحِ حَقِيقَةِ الْحَوَالَةِ، هَلْ هِيَ بَيْعٌ أَوِ اسْتِيفَاءٌ؟ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالتَّرْجِيحُ مُخْتَلِفٌ فِي الْفُرُوعِ بِحَسَبِ الْمَسَائِلِ، لِقُوَّةِ الدَّلِيلِ وَضَعْفِهِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: لَوْ خَرَجَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا، وَقَدْ شَرَطَ يَسَارَهُ، فَالْأَصَحُّ لَا رُجُوعَ لِلْمُحَالِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا اسْتِيفَاءٌ، وَمُقَابِلُهُ: لَهُ الرُّجُوعُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا بَيْعٌ.
مَنْ لَهُ حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ:
4- يَخْتَلِفُ مَنْ لَهُ حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ بِاخْتِلَافِ الْحَقِّ الْمُرَادِ اسْتِيفَاؤُهُ، إِذْ هُوَ إِمَّا حَقٌّ خَالِصٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَوْ حَقٌّ خَالِصٌ لِلْعَبْدِ، كَالدُّيُونِ، أَوْ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ.
وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يُقَسِّمُ هَذَا الْحَقَّ الْمُشْتَرَكَ إِلَى قِسْمَيْنِ: مَا غَلَبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ كَحَدِّ السَّرِقَةِ، وَمَا غَلَبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ كَالْقِصَاصِ.
وَالْمُرَادُ بِحَقِّ الْعَبْدِ الْمَحْضِ: مَا يَمْلِكُ إِسْقَاطَهُ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَوْ أَسْقَطَهُ لَسَقَطَ، وَإِلاَّ فَمَا مِنْ حَقٍّ لِلْعَبْدِ إِلاَّ وَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَمَرَهُ بِإِيصَالِ ذَلِكَ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، فَيُوجَدُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى دُونَ حَقٍّ لِلْعَبْدِ، وَلَا يُوجَدُ حَقٌّ لِعَبْدٍ إِلاَّ وَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى.
اسْتِيفَاءُ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى
أَوَّلًا: اسْتِيفَاءُ الْحُدُودِ:
5- يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ إِنْفَاذُ الْحُدُودِ، وَلَا يَمْلِكُ وَلِيُّ الْأَمْرِ وَلَا غَيْرُهُ إِسْقَاطَهَا بَعْدَ ثُبُوتِهَا لَدَيْهِ، وَاَلَّذِي يَتَوَلَّى اسْتِيفَاءَهَا هُوَ وَلِيُّ الْأَمْرِ أَوْ مَنْ يُنِيبُهُ، فَإِنِ اسْتَوْفَاهَا غَيْرُهُ دُونَ إِذْنِهِ يُعَزَّرُ لِافْتِيَاتِهِ عَلَيْهِ.
أ- كَيْفِيَّةُ اسْتِيفَاءِ حَدِّ الزِّنَا:
6- حَدُّ الزِّنَا إِمَّا الرَّجْمُ، وَإِمَّا الْجَلْدُ:
وَعَلَى كُلٍّ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الزِّنَا قَدْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، فَالْحَنَفِيَّةُ يَشْتَرِطُونَ أَنْ يَحْضُرَ الشُّهُودُ، وَأَنْ يَبْدَءُوا بِالرَّجْمِ، فَإِنْ امْتَنَعُوا سَقَطَ الْحَدُّ.
وَغَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَشْتَرِطُونَ حُضُورَ الشُّهُودِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ يَرَوْنَ حُضُورَهُمْ مُسْتَحَبًّا، أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَا يَرَوْنَ حُضُورَهُمْ وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا.
وَالْكُلُّ مُجْمِعٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى أَنَّهُ إِنْ حَاوَلَ الْهَرَبَ لَا يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ إِنْ خِيفَ هَرَبُهُ يُقَيَّدُ أَوْ يُحْفَرُ لَهُ.
وَإِنْ كَانَتِ امْرَأَةً يُحْفَرُ لَهَا، أَوْ تُرْبَطُ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا حَتَّى لَا تَتَكَشَّفَ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ قَدْ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ، فَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ إِنْ حَاوَلَ الْهَرَبَ لَمْ يُتَّبَعْ، وَيُوقَفُ التَّنْفِيذُ، جَلْدًا كَانَ أَوْ رَجْمًا، وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ رُجُوعًا عَنْ إِقْرَارِهِ.
وَهُنَاكَ تَفْصِيلَاتٌ وَخِلَافٌ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ (حَدِّ الزِّنَا).
وَإِذَا كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا فَالْكُلُّ مُجْمِعٌ عَلَى نَزْعِ مَا يَلْبَسُهُ مِنْ حَشْوٍ أَوْ فَرْوٍ.
فَإِنْ كَانَ رَجُلًا يُنْزَعُ عَنْهُ ثِيَابُهُ إِلاَّ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمَحْدُودُ بِالْجَلْدِ مَرِيضًا مَرَضًا يُرْجَى شِفَاؤُهُ أُرْجِئَ التَّنْفِيذُ إِلَى أَنْ يَبْرَأَ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً حَامِلًا أُرْجِئَ الْحَدُّ مُطْلَقًا- رَجْمًا أَوْ جَلْدًا- إِلَى أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا، وَيَسْتَغْنِيَ وَلَدُهَا عَنْ الرَّضَاعِ مِنْهَا.
ب- كَيْفِيَّةُ اسْتِيفَاءِ حَدِّ الْقَذْفِ وَحَدِّ شُرْبِ الْخَمْرِ:
7- سَبَقَ مَا يَتَّصِلُ بِالْجَلْدِ وَحَدِّ الزِّنَا، عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي فِي الْجَلْدِ فِي حَدِّ الزِّنَا أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ مِنْهُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ أَشَدَّ مِنْهُ فِي حَدِّ شُرْبِ الْخَمْرِ.
وَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ إِلَى (حَدِّ الْقَذْفِ) (وَحَدِّ الْخَمْرِ).
هَذَا، وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلَاتٌ فِي آلَةِ الِاسْتِيفَاءِ فِي الْجَلْدِ وَمُلَابَسَاتِهِ، تَرْجِعُ إِلَى تَحْقِيقِ عَدَمِ تَعْرِيضِ الْمُسْتَوْفَى مِنْهُ الْحَدُّ إِلَى التَّلَفِ جُزْئِيًّا أَوْ كُلِّيًّا، وَتَفْصِيلَاتُ ذَلِكَ فِي الْحُدُودِ.وَانْظُرْ أَيْضًا مُصْطَلَحَ (جَلْد) وَمُصْطَلَحَ (رَجْم).
هَذَا، وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ مَبْنَى إِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْعَلَانِيَةِ، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وَلِكَيْ يَحْصُلَ الرَّدْعُ وَالزَّجْرُ، فَيَأْمُرُ الْإِمَامُ قَوْمًا غَيْرَ مَنْ يُقِيمُونَ الْحَدَّ بِالْحُضُورِ.
ج- كَيْفِيَّةُ اسْتِيفَاءِ حَدِّ السَّرِقَةِ:
8- حَدُّ السَّرِقَةِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ كَحَدِّ الْقَذْفِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الَّذِي يُقِيمُ حَدَّ الْقَذْفِ وَحَدَّ السَّرِقَةِ هُوَ الْإِمَامُ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي شُرُوطِ ثُبُوتِ الْحُدُودِ، وَحَالَاتِ سُقُوطِهَا يُذْكَرُ فِي أَبْوَابِ الْحُدُودِ.أَمَّا كَيْفِيَّةُ الِاسْتِيفَاءِ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ، فَالْفُقَهَاءُ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ إِذَا وَجَبَ الْقَطْعُ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ بِشُرُوطِهِ الْمُبَيَّنَةِ فِي بَابِهِ، فَإِنَّهُ يُسْتَوْفَى بِقَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى مِنْ مِفْصَلِ الْكَفِّ، بِطَرِيقَةٍ تُؤْمَنُ مَعَهَا السِّرَايَةُ، كَالْحَسْمِ بِالزَّيْتِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْوَسَائِلِ.لِحَدِيثِ: «اقْطَعُوهُ ثُمَّ احْسِمُوهُ».
د- مَكَانُ اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ:
9- لَا يُسْتَوْفَى حَدٌّ وَلَا قِصَاصٌ فِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى لَوْ وَقَعَتِ الْجِنَايَةُ فِيهِ، لِئَلاَّ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى تَلْوِيثِهِ، أَمَّا إِذَا وَقَعَتِ الْجِنَايَةُ فِي الْحَرَمِ دُونَ الْمَسْجِدِ فَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ فِيهِ.
أَمَّا إِذَا وَقَعَتْ فِي الْحِلِّ وَلَجَأَ الْجَانِي إِلَى الْحَرَمِ، فَقَدِ اُخْتُلِفَ فِيهِ: فَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُخْرَجُ، بَلْ يُضْطَرُّ لِلْخُرُوجِ بِمَنْعِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عَنْهُ.وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُبَاحُ إِخْرَاجُهُ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُؤَخَّرُ بَلْ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَوِ الْقِصَاصُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ.قَالَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ «إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ فَارًّا بِدَمٍ».
ثَانِيًا: اسْتِيفَاءُ التَّعْزِيرَاتِ:
10- التَّعْزِيرَاتُ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا، فَقَالَ مَالِكٌ: وَجَبَ التَّعْزِيرُ لِحَقِّ اللَّهِ كَالْحُدُودِ، إِلاَّ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّ الْإِمَامِ أَنَّ غَيْرَ الضَّرْبِ مَصْلَحَةٌ مِنَ الْمَلَامَةِ وَالْكَلَامِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَنْصُوصًا مِنَ الشَّارِعِ عَلَى التَّعْزِيرِ وَجَبَ، وَإِلاَّ فَلِلْإِمَامِ إِقَامَتُهُ أَوِ الْعَفْوُ عَنْهُ، حَسَبَ الْمَصْلَحَةِ وَحُصُولِ الِانْزِجَارِ بِهِ أَوْ بِدُونِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: هُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْإِمَامِ، إِنْ شَاءَ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ هَذَا وَأَدِلَّتُهُ فِي مُصْطَلَحِ (تَعْزِير).
ثَالِثًا: اسْتِيفَاءُ حُقُوقِ اللَّهِ الْمَالِيَّةِ:
أ- اسْتِيفَاءُ الزَّكَوَاتِ:
11- مَالُ الزَّكَاةِ نَوْعَانِ: ظَاهِرٌ، وَهُوَ الْمَوَاشِي وَالزُّرُوعُ وَالْمَالُ الَّذِي يَمُرُّ بِهِ التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ، وَبَاطِنٌ: وَهُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَأَمْوَالُ التِّجَارَةِ فِي مَوَاضِعِهَا.
وَوِلَايَةُ أَخْذِ الزَّكَاةِ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ لِلْإِمَامِ فِي مَذَاهِبِ: الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَأَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وَاَلَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّدَقَةِ الزَّكَاةُ، وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْعَامِلِينَ عَلَيْهَا حَقًّا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ أَنْ يُطَالِبَ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ بِصَدَقَاتِ الْأَنْعَامِ وَالزُّرُوعِ فِي أَمَاكِنِهَا، وَكَانَ أَدَاؤُهَا إِلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ الْعَامِلِينَ وَجْهٌ.
وَكَانَ الرَّسُولُ - عليه الصلاة والسلام- وَالْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ يَبْعَثُونَ الْمُصَدِّقِينَ إِلَى أَحْيَاءِ الْعَرَبِ وَالْبُلْدَانِ وَالْآفَاقِ، لِأَخْذِ الصَّدَقَاتِ مِنَ الْأَنْعَامِ وَالْمَوَاشِي فِي أَمَاكِنِهَا.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ يَلْحَقُ بِالْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ الْمَالُ الْبَاطِنُ إِذَا مَرَّ بِهِ التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الزَّكَاةَ فِي الْجُمْلَةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا سَافَرَ بِهِ وَأَخْرَجَهُ مِنَ الْعُمْرَانِ صَارَ ظَاهِرًا وَالْتَحَقَ بِالسَّوَائِمِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِمَامَ إِنَّمَا كَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِزَكَاةِ الْمَوَاشِي فِي أَمَاكِنِهَا لِمَكَانِ الْحِمَايَةِ، لِأَنَّ الْمَوَاشِيَ فِي الْبَرَارِيِّ لَا تَصِيرُ مَحْفُوظَةً إِلاَّ بِحِفْظِ السُّلْطَانِ وَحِمَايَتِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي مَالٍ يَمُرُّ بِهِ التَّاجِرُ عَلَى الْعَاشِرِ فَكَانَ كَالسَّوَائِمِ.وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رضي الله عنهم-.
وَهَذَا الْحُكْمُ (دَفْعُ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ إِلَى الْأَئِمَّةِ) إِذَا كَانَ الْأَئِمَّةُ عُدُولًا فِي أَخْذِهَا وَصَرْفِهَا.
وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ عُدُولٍ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، فَإِنْ طَلَبَهَا الْإِمَامُ الْعَدْلُ فَادَّعَى الْمُزَكِّي إِخْرَاجَهَا لَمْ يُصَدَّقْ، وَاَلَّذِي فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ السَّلَاطِينَ الَّذِينَ لَا يَضَعُونَ الزَّكَاةَ مَوَاضِعَهَا إِذَا أَخَذُوا الزَّكَاةَ أَجْزَأَتْ عَنِ الْمُزَكِّينَ، لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَخْذِ لَهُمْ، فَلَا تُعَادُ.وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَسْقُطُ الْخَرَاجُ وَلَا تَسْقُطُ الزَّكَوَاتُ.وَمُؤَدَّى هَذَا أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْإِمَامُ غَيْرَ عَادِلٍ فَلِلْمُزَكِّي إِخْرَاجُ زَكَاتِهِ.
وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْإِمَامُ عَدْلًا فَفِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِيجَابِ، وَلَيْسَ لَهُمْ التَّفَرُّدُ بِإِخْرَاجِهَا، وَلَا تُجْزِئُهُمْ إِنْ أَخْرَجُوهَا.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ لَا يَخْتَلِفُ عَنِ الْجُمْهُورِ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ، أَمَّا فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ فَقَدْ صَرَّحَ أَبُو يَعْلَى بِأَنَّهُ لَيْسَ لِوَالِي الصَّدَقَاتِ نَظَرٌ فِي زَكَاتِهَا، وَأَرْبَابُهَا أَحَقُّ مِنْهُ بِإِخْرَاجِهَا إِلاَّ أَنْ يَبْذُلَ رَبُّ الْمَالِ زَكَاتَهَا طَوْعًا، وَالْمَذْهَبُ أَنَّ لِلْإِمَامِ طَلَبَ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ أَيْضًا.
وَإِذَا تَأَكَّدَ الْإِمَامُ أَنَّ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ لَا يُؤَدُّونَ زَكَاتَهَا أَجْبَرَهُمْ عَلَى إِيتَائِهَا وَلَوْ بِالْقِتَالِ، كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه- بِمَا يَفِي الزَّكَاةَ، وَهَذَا إِنْ كَانَ الْإِمَامُ يَضَعُهَا مَوْضِعَهَا، وَإِلاَّ فَلَا يُقَاتِلُهُمْ.
ب- اسْتِيفَاءُ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ:
12- لَيْسَ لِلْإِمَامِ وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ، وَإِنَّمَا يُؤَدِّيهَا مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ طَلَبُ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْكَفَّارَةِ.
اسْتِيفَاءُ حُقُوقِ الْعِبَادِ:
أَوَّلًا: اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ:
13- اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إِذْنِ الْإِمَامِ، فَإِنِ اسْتَوْفَاهُ صَاحِبُ الْحَقِّ بِدُونِ إِذْنِهِ وَقَعَ مَوْقِعَهُ، وَعُزِّرَ لِافْتِيَاتِهِ عَلَى الْإِمَامِ. ثُمَّ إِنَّ الَّذِي يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ هُوَ الْإِمَامُ، وَلَيْسَ لِلْأَوْلِيَاءِ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْهُمْ التَّجَاوُزُ أَوِ التَّعْذِيبُ.
أَمَّا إِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الَّذِي يَتَوَلاَّهُ، لقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}.
وَلِلْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ: «أَنَّ الرَّسُولَ - صلى الله عليه وسلم- دَفَعَ الْقَاتِلَ إِلَى أَخِ الْمَقْتُولِ وَقَالَ لَهُ: دُونَكَ صَاحِبُكَ».رَوَاهُ مُسْلِمٌ.وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ وَكَّلُوا أَحَدَهُمْ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ تَوَلِّي الْإِمَامِ أَوْ مَنْ يُنِيبُهُ ذَلِكَ، فَإِنْ طَلَبَ الْمُسْتَحِقُّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ بِنَفْسِهِ، وَرَآهُ الْإِمَامُ أَهْلًا أَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَإِلاَّ لَمْ يُجِبْهُ.
وَتَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاص).
هَذَا، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِوُجُوبِ حُضُورِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، لِيُؤْمَنَ التَّجَاوُزُ أَوِ التَّعْذِيبُ، وَحُضُورُ الْقَاضِي الَّذِي حَكَمَ بِالْقِصَاصِ مَسْنُونٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِوُجُوبِ حُضُورِ صَاحِبِ الْحَقِّ رَجَاءَ أَنْ يَعْفُوَ.
أ- كَيْفِيَّةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ.
14- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ الْقِصَاصَ لَا يُسْتَوْفَى إِلاَّ بِالسَّيْفِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ - عليه الصلاة والسلام-: «لَا قَوَدَ إِلاَّ بِالسَّيْفِ».
وَالْقَوَدُ هُوَ الْقِصَاصُ، فَكَانَ هَذَا نَفْيُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بِغَيْرِ السَّيْفِ.
وَإِنْ أَرَادَ الْوَلِيُّ أَنْ يَقْتُلَ بِغَيْرِ السَّيْفِ لَا يُمَكَّنُ لِلْحَدِيثِ، وَلَوْ فَعَلَ يُعَزَّرُ، لَكِنْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْقَتْلَ حَقُّهُ، فَإِذَا قَتَلَهُ فَقَدِ اسْتَوْفَى حَقَّهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ، إِلاَّ أَنَّهُ يَأْثَمُ بِالِاسْتِيفَاءِ بِطَرِيقٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، لِمُجَاوَزَتِهِ حَدَّ الشَّرْعِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ- وَهُوَ إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ لِلْحَنَابِلَةِ- أَنَّ الْقَاتِلَ يُقْتَلُ بِمِثْلِ مَا قَتَلَ بِهِ، وَدَلِيلُهُ: حَدِيثُ «الْيَهُودِيِّ الَّذِي رَضَّ رَأْسَ مُسْلِمَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُرَضَّ رَأْسُهُ كَذَلِكَ».وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ بِبَيِّنَةٍ أَوِ اعْتِرَافٍ. فَإِنْ ثَبَتَ بِقَسَامَةٍ قُتِلَ بِالسَّيْفِ، إِلاَّ أَنْ يَقَعَ الْقَتْلُ بِمَا هُوَ مُحَرَّمٌ.
ب- تَأْخِيرُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ:
15- إِذَا كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ، وَكَانُوا جَمِيعًا عُقَلَاءَ بَالِغِينَ حَاضِرِينَ، وَطَلَبُوا الِاسْتِيفَاءَ أُجِيبُوا.
أَمَّا إِذَا كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ وَاحِدًا صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ- إِلَى أَنَّهُ يُنْتَظَرُ الْبُلُوغُ أَوِ الْإِفَاقَةُ، لِاحْتِمَالِ الْعَفْوِ آنَئِذٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُنْتَظَرُ، بَلْ الِاسْتِيفَاءُ لِوَلِيِّ الصَّغِيرِ، وَالْقَيِّمِ عَلَى الْمَجْنُونِ.
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الَّذِي يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ فِي هَذِهِ الْحَالِ هُوَ الْقَاضِي.
وَلِلْحَنَفِيَّةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ بِأَنَّ الْوَلِيَّ إِذَا كَانَ أَبًا أَوْ جَدًّا يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ عَنِ الصَّغِيرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْوَصِيِّ.
أَمَّا إِذَا تَعَدَّدَ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ وَكَانَ فِيهِمْ كِبَارٌ وَصِغَارٌ، فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ- إِلَى أَنَّهُ يُنْتَظَرُ بُلُوغُ الصَّغِيرِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ- وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ- إِلَى أَنَّهُ يَسْتَوْفِيهِ الْكِبَارُ.
أَمَّا إِنْ كَانَ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ غَائِبِينَ فَإِنَّ انْتِظَارَهُمْ وَاجِبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: يُنْتَظَرُ الْغَائِبُ إِنْ كَانَتْ غَيْبَتُهُ قَرِيبَةً دُونَ الْغَائِبِ غَيْبَةً بَعِيدَةً، وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ جُنُونًا غَيْرَ مُطْبِقٍ فَإِنَّهُ يُنْتَظَرُ.
ج- وَقْتُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ:
16- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقَامُ الْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ قَبْلَ بُرْءِ الْمَجْرُوحِ، لِحَدِيثِ: «لَا يُسْتَقَادُ مِنَ الْجِرَاحَةِ حَتَّى يَبْرَأَ».
وَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا: إِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنَ الْجَانِي عَلَى الْفَوْرِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاصٌ). ثَانِيًا: اسْتِيفَاءُ حُقُوقِ الْعِبَادِ الْمَالِيَّةِ:
أ- اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ:
17- قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى غَيْرِهِ حَقٌّ، وَهُوَ مُقِرٌّ بِهِ بَاذِلٌ لَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ إِلاَّ مَا يُدْلِيهِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَزِمَهُ رَدُّهُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْرَ حَقِّهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْلِكَ عَلَيْهِ عَيْنًا مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلْإِنْسَانِ غَرَضٌ فِي الْعَيْنِ، فَإِنْ أَتْلَفَهُ أَوْ تَلِفَتْ فَصَارَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، وَكَانَ الثَّابِتُ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ تَقَاصَّا فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ.وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَإِنْ كَانَ الْمَدِينُ مَانِعًا لِأَدَاءِ الدَّيْنِ لِأَمْرٍ يُبِيحُ الْمَنْعَ كَالتَّأْجِيلِ وَالْإِعْسَارِ لَمْ يَجُزْ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَإِنْ أَخَذَ شَيْئًا لَزِمَهُ رَدُّهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا، أَوْ عَوَّضَهُ إِنْ كَانَ تَالِفًا، وَلَا يَحْصُلُ التَّقَاصُّ هَاهُنَا، لِأَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي لَهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَخْذَهُ فِي الْحَالِ بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ قَبْلُ.
وَإِنْ كَانَ مَانِعًا لَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَدَرَ عَلَى اسْتِخْلَاصِهِ بِالْحَاكِمِ أَوِ السُّلْطَانِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْأَخْذُ أَيْضًا بِغَيْرِ السُّلْطَانِ أَوِ الْحَاكِمِ، لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ بِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَدَرَ عَلَى اسْتِيفَائِهِ مِنْ وَكِيلِهِ.
وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ لِكَوْنِهِ جَاحِدًا لَهُ، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ بِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ لَا يُجِيبُهُ إِلَى الْمُحَاكَمَةِ وَلَا يُمْكِنُهُ إِجْبَارُهُ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ نَحْوُ هَذَا، فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَخْذُ قَدْرِ حَقِّهِ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ.
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَقَدْ جَعَلَ أَصْحَابُنَا الْمُحَدِّثُونَ لِجَوَازِ الْأَخْذِ وَجْهًا فِي الْمَذْهَبِ، أَخْذًا مِنْ حَدِيثِ هِنْدٍ حِينَ قَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم-: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ».
قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَيَتَخَرَّجُ لَنَا جَوَازُ الْأَخْذِ، فَإِنْ كَانَ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ أَخَذَ بِقَدْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ تَحَرَّى وَاجْتَهَدَ فِي تَقْوِيمِهِ، مَأْخُوذٌ مِنْ حَدِيثِ هِنْدٍ، وَمِنْ قَوْلِ أَحْمَدَ فِي الْمُرْتَهِنِ «يَرْكَبُ وَيَحْلُبُ بِقَدْرِ مَا يُنْفِقُ».وَالْمَرْأَةُ تَأْخُذُ مَئُونَتَهَا وَبَائِعُ السِّلْعَةِ يَأْخُذُهَا مِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ بِغَيْرِ رِضًا.
وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ الْأَخْذَ بِحَدِيثِ هِنْدٍ السَّابِقِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِخْلَاصِ حَقِّهِ بِعَيْنِهِ فَلَهُ أَخْذُ قَدْرِ حَقِّهِ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، إِنْ لَمْ يَخَفِ الْفِتْنَةَ.
وَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَقَدَرَ عَلَى اسْتِخْلَاصِ حَقِّهِ فَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ لَهُ أَخْذَ جِنْسِ حَقِّهِ مِنْ مَالِهِ، وَكَذَا غَيْرُ جِنْسِهِ لِلضَّرُورَةِ.وَفِي قَوْلٍ آخَرَ: الْمَنْعُ، لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَمَلُّكِهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّرَاضِي.
18- هَذَا، وَانْفَرَدَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ أَيْضًا بِأَنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ أَخْذَ حَقِّهِ اسْتِقْلَالًا، وَلَوْ كَانَ عَلَى مُقِرٍّ مُمْتَنِعٍ، أَوْ عَلَى مُنْكِرٍ وَلِصَاحِبِ الْحَقِّ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، لِأَنَّ فِي الرَّفْعِ إِلَى الْقَضَاءِ مَئُونَةً وَمَشَقَّةً وَتَضْيِيعَ زَمَانٍ.وَالْقَوْلُ الْآخَرُ عِنْدَهُمْ: يَجِبُ الرَّفْعُ إِلَى الْقَاضِي، لِإِمْكَانِ حُصُولِهِ عَلَى حَقِّهِ مَعَ وُجُودِ الْإِقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ.
وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ: أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُمَا يَتَحَاصَّانِ فِي مَالِهِ إِذَا أَفْلَسَ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ حَقِّهِ إِنْ كَانَ نَقْدًا أَوْ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ عَرْضًا لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ أَخْذَ الْعِوَضِ عَنْ حَقِّهِ اعْتِيَاضٌ، وَلَا تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ إِلاَّ بِالتَّرَاضِي، لَكِنَّ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ جَوَازُ الْأَخْذِ مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ.
وَاحْتَجَّ الْمَانِعُونَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ»، وَمَنْ أَخَذَ مِنْهُ قَدْرَ حَقِّهِ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ فَقَدْ خَانَهُ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْخَبَرِ.وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ».وَلِأَنَّهُ إِنْ أَخَذَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ، كَانَ مُعَاوَضَةً بِغَيْرِ تَرَاضٍ، وَإِنْ أَخَذَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، فَلَيْسَ لَهُ تَعْيِينُ الْحَقِّ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ فَإِنَّ التَّعْيِينَ إِلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقُولَ: اقْضِ حَقِّي مِنْ هَذَا الْكِيسِ دُونَ هَذَا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَجُوزُ لَهُ تَمَلُّكُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ دَيْنٌ لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ إِذَا كَانَ لَهُ دَيْنٌ، كَمَا لَوْ كَانَ بَاذِلًا لَهُ.
لَكِنَّ الْمَانِعِينَ اسْتَثْنَوُا النَّفَقَةَ، لِأَنَّهَا تُرَادُ لِإِحْيَاءِ النَّفْسِ وَإِبْقَاءِ الْمُهْجَةِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُصْبَرُ عَنْهُ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَرْكِهِ، فَجَازَ أَخْذُ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الْحَاجَةُ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ، وَلِذَلِكَ لَوْ صَارَتِ النَّفَقَةُ مَاضِيَةً لَمْ يَكُنْ لَهَا أَخْذُهَا، وَلَوْ وَجَبَ لَهَا عَلَيْهِ دَيْنٌ آخَرُ غَيْرُ النَّفَقَةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَخْذُهُ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (نَفَقَة).
ب- اسْتِيفَاءُ الْمُرْتَهِنِ قِيمَةَ الرَّهْنِ مِنَ الْمَرْهُونِ:
19- حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ أَنْ يُمْسِكَهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ الرَّاهِنُ مَا عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْفَعَهُ إِلَى الْقَاضِي فَيَبِيعَ عَلَيْهِ الرَّهْنَ، وَيُنْصِفَهُ مِنْهُ، إِنْ لَمْ يُجِبْهُ الرَّاهِنُ إِلَى الْبَيْعِ.
وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ غَائِبًا، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ.
وَإِنْ وَكَّلَ الرَّاهِنُ الْمُرْتَهِنَ عَلَى بَيْعِ الرَّهْنِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ جَازَ، وَكَرِهَهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ، إِلاَّ أَنْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي.
وَالرَّهْنُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ يَتَعَلَّقُ بِجُمْلَةِ الْحَقِّ الْمَرْهُونِ فِيهِ وَبِبَعْضِهِ.عَلَى مَعْنَى أَنَّ الرَّاهِنَ لَوْ أَدَّى بَعْضَ الدَّيْنِ وَبَقِيَ بَعْضُهُ، فَإِنَّ الرَّهْنَ جَمِيعَهُ يَبْقَى بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ كُلَّ حَقِّهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: بَلْ يَبْقَى مِنَ الرَّهْنِ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ بِقَدْرِ مَا يَبْقَى مِنَ الْحَقِّ.
وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ مَحْبُوسٌ بِحَقٍّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ، أَصْلُهُ حَبْسُ التَّرِكَةِ عَنِ الْوَرَثَةِ حَتَّى يُؤَدُّوا الدَّيْنَ الَّذِي عَلَى الْمَيِّتِ.
وَحُجَّةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي أَنَّ جَمِيعَهُ مَحْبُوسٌ بِجَمِيعِهِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَبْعَاضُهُ مَحْبُوسَةً بِأَبْعَاضِهِ، أَصْلُهُ الْكَفَالَةُ.
وَالْمُرْتَهِنُ أَحَقُّ بِثَمَنِ الرَّهْنِ مِنْ جَمِيعِ الْغُرَمَاءِ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ، حَيًّا كَانَ الرَّاهِنُ أَوْ مَيِّتًا، فَإِذَا ضَاقَ مَالُ الرَّاهِنِ عَنْ دُيُونِهِ وَطَالَبَ الْغُرَمَاءُ بِدُيُونِهِمْ، أَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ لِفَلَسِهِ، وَأُرِيدَ قِسْمَةُ مَالِهِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ، فَإِنَّ مَنْ لَهُ رَهْنٌ يَخْتَصُّ بِثَمَنِهِ عَنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، لِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِ الرَّهْنِ وَذِمَّةِ الرَّاهِنِ مَعًا، وَبَاقِي الْغُرَمَاءِ يَتَعَلَّقُ حَقُّهُمْ بِذِمَّةِ الرَّاهِنِ دُونَ عَيْنِ الرَّهْنِ، فَكَانَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ أَقْوَى، وَهَذَا مِنْ أَكْثَرِ فَوَائِدِ الرَّهْنِ، وَهُوَ تَقْدِيمُهُ بِحَقِّهِ عِنْدَ تَزَاحُمِ الْغُرَمَاءِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا خِلَافٌ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، فَيُبَاعُ الرَّهْنُ، فَإِنْ كَانَ ثَمَنُهُ قَدْرَ الدَّيْنِ أَخَذَهُ الْمُرْتَهِنُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ زِيَادَةٌ عَنْ دَيْنِهِ رَدَّ الْبَاقِيَ عَلَى الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ فَضَلَ مِنْ دَيْنِهِ شَيْءٌ أَخَذَ ثَمَنَهُ وَشَارَكَ الْغُرَمَاءَ بِبَقِيَّةِ دَيْنِهِ.وَلِلتَّفْصِيلِ يُرْجَعُ إِلَى بَابِ الرَّهْنِ.
ج- حَبْسُ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ:
20- الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ- وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ اخْتَارَهُ ابْنُ قُدَامَةَ- أَنَّهُ إِنْ كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي حَتَّى يَقْضِيَ الثَّمَنَ، وَيُجْبَرُ الْمُشْتَرِي عَلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ كَالْمُرْتَهِنِ.وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَجَبَ دَفْعُهُ أَوَّلًا لِيَتَعَيَّنَ.وَفِي رَأْيٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إِنْ قَالَ الْبَائِعُ: لَا أُسَلِّمُ الْمَبِيعَ حَتَّى أَقْبِضَ الثَّمَنَ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: لَا أُسَلِّمُهُ حَتَّى أَقْبِضَ الْمَبِيعَ، وَكَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا أَوْ عَرْضًا، جُعِلَ بَيْنَهُمَا عَدْلٌ يَقْبِضُ مِنْهُمَا، وَيُسَلِّمُ إِلَيْهِمَا.مُسْتَدِلِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ قَدْ تَعَلَّقَ بِعَيْنِ الثَّمَنِ، كَمَا تَعَلَّقَ حَقُّ الْمُشْتَرِي بِعَيْنِ الْمَبِيعِ فَاسْتَوَيَا، وَقَدْ وَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ حَقٌّ قَدِ اسْتَحَقَّ قَبْضَهُ، فَأُجْبِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى إِيفَاءِ صَاحِبِهِ حَقَّهُ، وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ.
وَفِي قَوْلٍ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلٌ ثَانٍ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يَجِبُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ أَوَّلًا، وَيُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ الْبَائِعُ، لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِقْرَارُ الْبَيْعِ وَتَمَامُهُ، فَكَانَ تَقْدِيمُهُ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا أُجْبِرَ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، ثُمَّ أُجْبِرَ الْمُشْتَرِي عَلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ، لِأَنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي تَعَلَّقَ بِعَيْنِ الْمَبِيعِ، وَحَقَّ الْبَائِعِ تَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ، وَتَقْدِيمُ مَا تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ أَوْلَى لِتَأَكُّدِهِ، وَهَذَا إِنْ كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ مُؤَجَّلٍ.
د- الِاسْتِيفَاءُ فِي الْإِجَارَةِ:
(1) اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ:
21- الْمَنْفَعَةُ تَخْتَلِفُ فِي كُلِّ عَقْدٍ بِحَسَبِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَاسْتِيفَاؤُهَا يَكُونُ بِتَمْكِينِ الْمُؤَجِّرِ لِلْمُسْتَأْجِرِ مِنْ مَحَلِّ الْعَقْدِ.وَيَكُونُ الِاسْتِيفَاءُ فِي الْأَجِيرِ الْخَاصِّ (وَيُسَمَّى أَجِيرُ الْوَحْدِ) بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ مَعَ اسْتِعْدَادِهِ لِلْعَمَلِ.وَاسْتِيفَاءُ الْإِجَارَةِ عَلَى عَمَلٍ فِي عَيْنٍ- كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ مَثَلًا- يَكُونُ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ مَصْنُوعَةً حَسَبَ الِاتِّفَاقِ.
(2) اسْتِيفَاءُ الْأُجْرَةِ:
22- اسْتِيفَاءُ الْأُجْرَةِ يَكُونُ بِأَحَدِ أُمُورٍ: إِمَّا بِتَعْجِيلِ الْأُجْرَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَإِمَّا بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ فِعْلًا، أَوِ التَّمَكُّنِ مِنْهَا، وَإِمَّا بِاشْتِرَاطِ تَعْجِيلِهَا، أَوِ التَّعَارُفِ عَلَى التَّعْجِيلِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (إِجَارَةٌ).
هـ- اسْتِيفَاءُ الْمُسْتَعِيرِ مَنْفَعَةَ مَا اسْتَعَارَهُ:
23- أَوْرَدَ صَاحِبُ الْمُغْنِي أَحْكَامَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْإِعَارَةِ فَقَالَ: وَإِنْ اسْتَعَارَ شَيْئًا فَلَهُ اسْتِيفَاءُ مَنْفَعَتِهِ بِنَفْسِهِ وَبِوَكِيلِهِ، لِأَنَّ وَكِيلَهُ نَائِبٌ عَنْهُ، وَيَدُهُ كَيَدِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكِ الْمَنَافِعَ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَهَا، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَا يَمْلِكُ الْعَيْنَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ اسْتِعْمَالَ الْمُعَارِ فِيمَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ، أَمَّا إِعَارَتُهُ لِغَيْرِهِ فَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ (إِعَارَةٌ).
و- النِّيَابَةُ فِي الِاسْتِيفَاءِ:
(1) اسْتِخْلَافُ الْإِمَامِ غَيْرَهُ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ:
24- أَجْمَعَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ غَيْرَهُ عَلَى إِقَامَةِ الْحُدُودِ، لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْجَمِيعِ بِنَفْسِهِ، لِأَنَّ أَسْبَابَ وُجُوبِهَا تُوجَدُ فِي أَقْطَارِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الذَّهَابُ إِلَيْهَا، وَفِي الْإِحْضَارِ إِلَى مَكَانِ الْإِمَامِ حَرَجٌ عَظِيمٌ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الِاسْتِخْلَافُ لَتَعَطَّلَتِ الْحُدُودُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَلِهَذَا «كَانَ - عليه الصلاة والسلام- يَجْعَلُ إِلَى أُمَرَائِهِ تَنْفِيذَ الْأَحْكَامِ، وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ».
وَالِاسْتِخْلَافُ نَوْعَانِ: تَنْصِيصٌ، وَتَوْلِيَةٌ.
أَمَّا التَّنْصِيصُ: فَهُوَ أَنْ يَنُصَّ عَلَى إِقَامَةِ الْحُدُودِ، فَيَجُوزُ لِلنَّائِبِ إِقَامَتُهَا بِلَا شَكٍّ.
وَالتَّوْلِيَةُ عَلَى نَوْعَيْنِ: خَاصَّةٌ، وَعَامَّةٌ.
فَالْعَامَّةُ: هِيَ أَنْ يُوَلِّيَ الْإِمَامُ رَجُلًا وِلَايَةً عَامَّةً، مِثْلُ إِمَارَةِ إِقْلِيمٍ أَوْ بَلَدٍ عَظِيمٍ، فَيَمْلِكُ الْمُوَلَّى إِقَامَةَ الْحُدُودِ وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا قَلَّدَهُ إِمَارَةَ ذَلِكَ الْبَلَدِ فَقَدْ فَوَّضَ إِلَيْهِ الْقِيَامَ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ مِنْ أَعْظَمِ مَصَالِحِهِمْ، فَيَمْلِكُهَا.
وَالْخَاصَّةُ: هِيَ أَنْ يُوَلِّيَ رَجُلًا وِلَايَةً خَاصَّةً، مِثْلُ جِبَايَةِ الْخَرَاجِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَلَا يَمْلِكُ إِقَامَةَ الْحُدُودِ، لِأَنَّ هَذِهِ التَّوْلِيَةَ لَمْ تَتَنَاوَلْ إِقَامَةَ الْحُدُودِ، وَلَوِ اسْتَعْمَلَ أَمِيرًا عَلَى الْجَيْشِ الْكَبِيرِ، فَإِنْ كَانَ أَمِيرَ مِصْرٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَغَزَا بِجُنْدِهِ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُ إِقَامَةَ الْحُدُودِ فِي مُعَسْكَرِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ يَمْلِكُ الْإِقَامَةَ فِي بَلَدِهِ، فَإِذَا خَرَجَ بِأَهْلِهِ أَوْ بِبَعْضِهِمْ مَلَكَ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ يَمْلِكُ فِيهِمْ قَبْلَ الْخُرُوجِ، وَأَمَّا مَنْ أَخْرَجَهُ أَمِيرُ الْبَلَدِ غَازِيًا فَمَنْ كَانَ يَمْلِكُ إِقَامَةَ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ قَبْلَ خُرُوجِهِ وَبَعْدَهُ لَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْهِ الْإِقَامَةَ، فَلَا يَمْلِكُ الْإِقَامَةَ.
(2) الْوَكَالَةُ بِالِاسْتِيفَاءِ:
25- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ فَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْقَوَدُ وَالْحُدُودُ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: كُلُّ مَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ مِنَ الْحُقُوقِ بِنَفْسِهِ، يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ إِلاَّ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا الْوَكِيلُ فِي غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ عَنْ مَجْلِسِ الِاسْتِيفَاءِ، لِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَاسْتَدَلَّ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ فِي الْقَوَدِ وَالْحُدُودِ، بِأَنَّ النَّبِيَّ - عليه الصلاة والسلام- قَالَ: «اُغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا.فَاعْتَرَفَتْ فَرُجِمَتْ» وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يُمْكِنُهُ تَوَلِّي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ.
وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي إِثْبَاتِهَا.وَوَافَقَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ الْحَنَفِيَّةَ عَلَى مَا قَالُوهُ مِنْ عَدَم جَوَازِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ فِي غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ.
- رحمه الله-
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
25-موسوعة الفقه الكويتية (استيلاء)
اسْتِيلَاءالتَّعْرِيفُ
1- مِنْ مَعَانِي الِاسْتِيلَاءِ لُغَةً: وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ، وَالْغَلَبَةُ عَلَيْهِ، وَالتَّمَكُّنُ مِنْهُ.
وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: إِثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى الْمَحَلِّ أَوْ الِاقْتِدَارُ عَلَى الْمَحَلِّ حَالًا وَمَآلًا أَوِ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ وَلَوْ حُكْمًا.
وَأَمَّا الْفِعْلُ الْمَادِّيُّ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ الِاسْتِيلَاءُ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ تَبَعًا لِلْأَشْيَاءِ وَالْأَشْخَاصِ، أَيْ أَنَّ مَدَارَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْعُرْفِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْحِيَازَةُ:
2- الْحِيَازَةُ وَالْحَوْزُ لُغَةً: الْجَمْعُ وَالضَّمُّ.
وَشَرْعًا: وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ الدَّرْدِيرُ.
ب- الْغَصْبُ:
3- الْغَصْبُ لُغَةً: أَخْذُ الشَّيْءِ قَهْرًا وَظُلْمًا.
وَشَرْعًا: الِاسْتِيلَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ بِلَا حَقٍّ.
فَالْغَصْبُ أَخَصُّ مِنْ الِاسْتِيلَاءِ، لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ يَكُونُ بِحَقٍّ وَبِغَيْرِ حَقٍّ.
ج- وَضْعُ الْيَدِ:
4- يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ وَضْعَ الْيَدِ هُوَ: الِاسْتِيلَاءُ عَلَى الشَّيْءِ بِالْحِيَازَةِ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ وَضْعَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفَ مِنْ أَقْوَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْمِلْكِ، وَلِذَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ بِأَنَّهُ مِلْكُهُ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُخْرِجَ شَيْئًا مِنْ يَدِ أَحَدٍ إِلاَّ بِحَقٍّ ثَابِتٍ مَعْرُوفٍ وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ.
د- الْغَنِيمَةُ:
5- الِاغْتِنَامُ: أَخْذُ الْغَنِيمَةِ، وَهِيَ كَمَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَا أُخِذَ مِنْ أَهْلِ الْعَدُوِّ عَنْوَةً فَالِاغْتِنَامُ أَخَصُّ مِنْ الِاسْتِيلَاءِ.
هـ- الْإِحْرَازُ:
6- الْإِحْرَازُ لُغَةً: جَعْلُ الشَّيْءِ فِي الْحِرْزِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الْحَصِينُ الَّذِي يُحْفَظُ فِيهِ الشَّيْءُ.وَفِي الشَّرْعِ: حِفْظُ الْمَالِ فِيمَا يُحْفَظُ فِيهِ عَادَةً، كَالدَّارِ وَالْخَيْمَةِ، أَوْ بِالشَّخْصِ نَفْسِهِ.
وَبَيْنَ الْإِحْرَازِ وَالِاسْتِيلَاءِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ.وَلِذَا كَانَ الْإِحْرَازُ شَرْطًا لِتَرَتُّبِ الْمِلْكِ عَلَى الِاسْتِيلَاءِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، فَيَنْفَرِدُ الِاسْتِيلَاءُ فِي مِثْلِ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ إِحْرَازًا.
صِفَةُ الِاسْتِيلَاءِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):
7- يَخْتَلِفُ حُكْمُ الِاسْتِيلَاءِ بِحَسَبِ الشَّيْءِ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ، وَتَبَعًا لِكَيْفِيَّةِ الِاسْتِيلَاءِ، فَالْأَصْلُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَالِ الْمَعْصُومِ الْمَمْلُوكِ لِلْغَيْرِ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ عَلَيْهِ مُحَرَّمٌ، إِلاَّ إِذَا كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى طَرِيقٍ مَشْرُوعٍ.
أَمَّا الْمَالُ غَيْرُ الْمَعْصُومِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا، وَكَذَا الْمَالُ الْمُبَاحُ فَإِنَّهُ يُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
أَثَرُ الِاسْتِيلَاءِ فِي الْمِلْكِ وَالتَّمَلُّكِ:
8- الِاسْتِيلَاءُ يُفِيدُ الْمِلْكَ إِذَا وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ، عَلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي بَيَانُهُ، أَوْ كَانَ فِي حُكْمِ الْمُبَاحِ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ، بِأَنْ كَانَ مَالًا لَلْحَرْبِيِّينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ.وَهَذَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا، أَوْ عَقَارًا، وَلِكُلٍّ حُكْمُهُ الْخَاصُّ.
9- فَإِنْ كَانَ الْمَالُ الَّذِي تَمَّ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَرْبِيِّينَ مَنْقُولًا أُخِذَ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ إِلاَّ بِالْقِسْمَةِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَالْمِلْكُ مَوْقُوفٌ عَلَيْهَا.وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الِاسْتِيلَاءِ بِدَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْقِتَالِ، لِزَوَالِ مِلْكِ الْكُفَّارِ بِالِاسْتِيلَاءِ، وَوُجُودِ مُقْتَضَى التَّمْلِيكِ، وَهُوَ انْقِضَاءُ الْقِتَالِ، وَفِي قَوْلٍ أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ سُلِّمَتِ الْغَنِيمَةُ إِلَى الْقِسْمَةِ بَانَ مِلْكُهُمْ عَلَى الشُّيُوعِ.
وَبِالْقِسْمَةِ- وَلَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ- ثَبَتَ الْمِلْكُ، وَيَسْتَقِرُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ.وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو ثَوْرٍ، لِمَا رَوَى أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ قَالَ: قُلْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ: هَلْ قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا مِنَ الْغَنَائِمِ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: لَا أَعْلَمُهُ، إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يَتَّبِعُونَ غَنَائِمَهُمْ وَيَقْسِمُونَهَا فِي أَرْضِ عَدُوِّهِمْ، وَلَمْ يَقْفُلْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ غَزَاةٍ قَطُّ، أَصَابَ فِيهَا غَنِيمَةً إِلاَّ خَمَّسَهُ وَقَسَّمَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقْفُلَ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ فِيهَا بِالْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ، فَصَحَّتْ قِسْمَتُهَا كَمَا لَوْ أُحْرِزَتْ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ الِاسْتِيلَاءُ التَّامُّ وَقَدْ وُجِدَ، فَإِنَّنَا أَثْبَتْنَا أَيْدِيَنَا عَلَيْهَا حَقِيقَةً، وَقَهَرْنَاهُمْ وَنَفَيْنَاهُمْ عَنْهَا، وَالِاسْتِيلَاءُ يَدُلُّ عَلَى حَاجَةِ الْمُسْتَوْلِي فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ كَالْمُبَاحَاتِ.
10- لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ لِلْغُزَاةِ بِدَارِ الْحَرْبِ بِالِاسْتِيلَاءِ، وَلَكِنْ يَنْعَقِدُ سَبَبُ الْمِلْكِ فِيهَا، عَلَى أَنْ يَصِيرَ عِلَّةً عِنْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى هَذَا فَلَمْ يَعْتَبِرُوا قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ قِسْمَةَ تَمْلِيكٍ، وَإِنَّمَا هِيَ قِسْمَةُ حَمْلٍ، لِأَنَّ مِلْكَ الْكُفَّارِ قَائِمٌ، إِذْ الْمِلْكُ لَا يَتِمُّ عَلَيْهَا إِلاَّ بِالِاسْتِيلَاءِ التَّامِّ، وَلَا يَحْصُلُ إِلاَّ بِإِحْرَازِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَمَا دَامَ الْغُزَاةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَاسْتِرْدَادُ الْكُفَّارِ لَيْسَ بِنَادِرٍ بَلْ هُوَ مُحْتَمَلٌ.
11- وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَالُ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ مِنَ الْكُفَّارِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ أَرْضًا، فَإِنَّ لِلْفُقَهَاءِ ثَلَاثَةَ اتِّجَاهَاتٍ: فَالْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ- عَلَيْهَا الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ- صَرَّحُوا بِأَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَقْسِمَهَا أَوْ يَتْرُكَهَا فِي يَدِ أَهْلِهَا بِالْخَرَاجِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ: إِنَّهَا لَا تُقْسَمُ، وَيُرْصَدُ خَرَاجُهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ أَنْ يَرَى الْإِمَامُ فِي وَقْتٍ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَقْتَضِي الْقِسْمَةَ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا تَصِيرُ وَقْفًا بِالِاسْتِيلَاءِ، وَيُرْصَدُ خَرَاجُهَا لِصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهَا تُمَلَّكُ لِلْفَاتِحِينَ كَالْمَنْقُولِ.
وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ الْمَالِكِيُّ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُقَابِلُ الْمَشْهُورَ، وَقَالُوا: إِنَّ الِاسْتِيلَاءَ الْحُكْمِيَّ كَالْحَقِيقِيِّ فِي تَرَتُّبِ الْمِلْكِ عَلَى الِاسْتِيلَاءِ.
12- أَمَّا الْأَرْضُ الَّتِي اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ جَلَاءِ الْكُفَّارِ عَنْهَا خَوْفًا، فَإِنَّهَا تَصِيرُ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا وَقْفًا لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا الْأَرْضُ الَّتِي اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ صُلْحًا فَإِنَّهَا تَبْقَى فِي أَيْدِي أَصْحَابِهَا، إِذَا كَانَ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ تَبْقَى فِي مِلْكِيَّتِهِمْ، وَيُوضَعُ عَلَيْهَا الْخَرَاجُ.أَمَّا إِذَا كَانَ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ يَتَمَلَّكَهَا الْمُسْلِمُونَ فَإِنَّهَا تَكُونُ وَقْفًا لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
13- وَأَمَّا إِذَا كَانَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى مَالٍ مَعْصُومٍ مَمْلُوكٍ لِلْغَيْرِ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ التَّمَلُّكِ، فَإِنَّ الِاسْتِيلَاءَ وَحْدَهُ لَا يُكْسِبُ مِلْكِيَّةً، وَإِنَّمَا حُدُوثُ التَّمَلُّكِ يَكُونُ بِالسَّبَبِ الْمَشْرُوعِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ، وَحَقُّ الِاسْتِيلَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ أَثَرًا وَنَتِيجَةً لِلتَّمَلُّكِ وَلَيْسَ سَبَبًا لَهُ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الِاسْتِيلَاءُ عُدْوَانًا، فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ مِلْكًا.وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِ (غَصْب) (وَسَرِقَة).
14- وَاسْتِيلَاءُ الْحَاكِمِ عَلَى مَا يَحْتَكِرُهُ التُّجَّارُ لَهُ أَثَرٌ فِي إِزَالَةِ مِلْكِيَّتِهِمْ، إِذْ لِلْحَاكِمِ رَفْعُ يَدِ الْمُحْتَكِرِينَ عَمَّا احْتَكَرُوهُ وَبَيْعُهُ لِلنَّاسِ جَبْرًا، وَالثَّمَنُ لِمَالِكِيهِ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ مُبَيَّنٍ فِي مُصْطَلَحِ (احْتِكَارٌ).
وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالُوهُ مِنِ اسْتِيلَاءِ الْحَاكِمِ عَلَى الْفَائِضِ مِنَ الْأَقْوَاتِ بِالْقِيمَةِ لِإِمْدَادِ جِهَةٍ انْقَطَعَ عَنْهَا الْقُوتُ أَوْ إِمْدَادِ جُنُودِهِ، لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُخْرِجَ ذَلِكَ إِذَا كَانَ بِحَقٍّ ثَابِتٍ مَعْرُوفٍ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى عَمَلِ الصَّانِعِ إِذَا احْتَاجَ النَّاسُ إِلَى صِنَاعَةِ طَائِفَةٍ كَالْفِلَاحَةِ وَالنِّسَاجَةِ، وَمَدَارُ الِاسْتِيلَاءِ فِي الصُّورَتَيْنِ عَلَى الْعُرْفِ.
اسْتِيلَاءُ الْكُفَّارِ الْحَرْبِيِّينَ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ:
15- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ مَشْهُورَةٍ:
(1) إِنَّ مَا اسْتَرَدَّهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَيْدِي الْحَرْبِيِّينَ فَهُوَ لِأَرْبَابِهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا أَصْلًا، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الشَّافِعِيَّةُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ أَنَّهُ «أُسِرَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَأُصِيبَتِ الْعَضْبَاءُ، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْوَثَاقِ، وَكَانَ الْقَوْمُ يُرِيحُونَ نَعَمَهُمْ بَيْنَ يَدَيْ بُيُوتِهِمْ، فَانْفَلَتَتْ مَعَ نَعَمِهَا ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنَ الْوَثَاقِ، فَأَتَتِ الْإِبِلَ، فَجَعَلَتْ إِذَا دَنَتْ مِنَ الْبَعِيرِ رَغَا فَتَتْرُكُهُ، حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى الْعَضْبَاءِ، فَلَمْ تَرْغُ.قَالَ: وَنَاقَةٌ مُنَوَّقَةٌ.فَقَعَدَتْ فِي عَجُزِهَا ثُمَّ زَجَرَتْهَا فَانْطَلَقَتْ، وَنَذَرُوا بِهَا، فَطَلَبُوهَا فَأَعْجَزَتْهُمْ.قَالَ: وَنَذَرَتْ لِلَّهِ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَلَمَّا قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ رَآهَا النَّاسُ، فَقَالُوا: الْعَضْبَاءُ نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَتْ: إِنَّهَا نَذَرَتْ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا.فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، بِئْسَمَا جَزَتْهَا، نَذَرَتْ لِلَّهِ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ» وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حَجَرٍ «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ».
(2) إِنَّ مَا غَنِمَهُ الْكُفَّارُ يَمْلِكُونَهُ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ أَحْرَزُوهُ بِدَارِهِمْ أَوْ لَمْ يُحْرِزُوهُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقَهْرَ سَبَبٌ يَمْلِكُ بِهِ الْمُسْلِمُ مَالَ الْكَافِرِ، فَمَلَكَ بِهِ الْكَافِرُ مَالَ الْمُسْلِمِ، وَعَلَى هَذَا إِذَا اسْتَرَدَّ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ كَانَ غَنِيمَةً سَوَاءٌ بَعْدَ الْإِحْرَازِ أَوْ قَبْلَهُ.
(3) إِنَّ الْكُفَّارَ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا شَرْطَ إحْرَازِهَا بِدَارِهِمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَدَلِيلُهُ «قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رَبَاعٍ» وَلِأَنَّ الْعِصْمَةَ تَزُولُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ، إِذِ الْمَالِكُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إِلاَّ بَعْدَ الدُّخُولِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَاطَرَةٍ، إِذْ الدَّارُ دَارُهُمْ، فَإِذَا زَالَ مَعْنَى الْمِلْكِ أَوْ مَا شُرِعَ لَهُ الْمِلْكُ يَزُولُ الْمِلْكُ ضَرُورَةً، فَبِاسْتِرْدَادِ الْمُسْلِمِينَ لِذَلِكَ يَكُونُ غَنِيمَةً.
اسْتِيلَاءُ الْكُفَّارِ عَلَى بَلَدٍ إِسْلَامِيٍّ:
16- إِذَا اسْتَوْلَى الْكُفَّارُ عَلَى بَلَدٍ إِسْلَامِيٍّ فَهَلْ تَصِيرُ دَارَ حَرْبٍ أَمْ تَبْقَى كَمَا هِيَ دَارَ إِسْلَامٍ؟
فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ، فَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ تَصِيرُ دَارَ كُفْرٍ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ إِظْهَارُ أَحْكَامِ الْكُفْرِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دَارُ الْإِسْلَامِ وَدَارُ الْحَرْبِ).
إِسْلَامُ الْحَرْبِيِّ بَعْدَ اسْتِيلَائِهِ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ:
17- إِذَا اسْتَوْلَى الْحَرْبِيُّ عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَحُكِمَ بِمِلْكِيَّتِهِ لَهُ شَرْعًا، ثُمَّ دَخَلَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا وَهُوَ فِي يَدِهِ، فَهُوَ لَهُ، لِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ» وَلِأَنَّ إِسْلَامَهُ يَعْصِمُ دَمَهُ وَمَالَهُ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ».وَاسْتَثْنَى الْجُمْهُورُ مِنْ ذَلِكَ اسْتِيلَاءَهُ عَلَى الْحُرِّ الْمُسْلِمِ فَلَا يُقَرُّ عَلَيْهِ.قَالَ أَبُو يُوسُفَ: كُلُّ مِلْكٍ لَا يَجُوزُ فِيهِ الْبَيْعُ فَإِنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ لَا يَمْلِكُونَهُ إِذَا أَصَابُوهُ وَأَسْلَمُوا عَلَيْهِ، وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ مِثْلَهُ: الْوَقْفُ الْمُحَقَّقُ، وَالْمَسْرُوقُ فِي فَتْرَةِ عَهْدِهِ، وَاللُّقَطَةُ، وَالدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ، الْوَدِيعَةُ، وَمَا اسْتَأْجَرَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَالَ كُفْرِهِ فَلَا يُقَرُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى لَا تَأْبَى ذَلِكَ.
18- وَإِذَا اسْتَوْلَى الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ بِطَرِيقِ السَّرِقَةِ، أَوِ الِاغْتِصَابِ مِنْ حَرْبِيٍّ آخَرَ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَدَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ وَهُوَ فِي يَدِهِ، فَهُوَ لَهُ أَيْضًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ حَالَ كُفْرِهِ فَأَشْبَهَ مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ بِقَهْرِهِ لِلْمُسْلِمِينَ.وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ صَاحِبَهُ أَحَقُّ بِهِ بِالْقِيمَةِ.
الِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْمَالِ الْمُبَاحِ:
19- الْمَالُ الْمُبَاحُ كُلُّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ لِيَنْتَفِعَ بِهِ النَّاسُ عَلَى وَجْهٍ مُعْتَادٍ، وَلَيْسَ فِي حِيَازَةِ أَحَدٍ مَعَ إِمْكَانِ حِيَازَتِهِ، وَيَكُونُ حَيَوَانًا: بَرِّيًّا أَوْ بَحْرِيًّا، وَيَكُونُ نَبَاتًا: حَشَائِشَ وَأَعْشَابًا وَحَطَبًا، وَيَكُونُ جَمَادًا: أَرْضًا مَوَاتًا وَرِكَازًا، كَمَا يَكُونُ مَاءً وَهَوَاءً، وَمِنْ حَقِّ أَيِّ إِنْسَانٍ أَنْ يَتَمَلَّكَ مِنْهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ، وَيَتَحَقَّقُ الِاسْتِيلَاءُ وَتَسْتَقِرُّ الْمِلْكِيَّةُ إِذَا كَانَ الِاسْتِيلَاءُ بِفِعْلٍ يُؤَدِّي إِلَى التَّمَكُّنِ مِنْ وَضْعِ الْيَدِ.
رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أُمِّ جُنْدَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ» وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَحَاطَ حَائِطًا عَلَى أَرْضٍ فَهِيَ لَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ» وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْعَقَارِ الْمُبَاحِ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَنْقُولِ مِنَ الْمُبَاحَاتِ أَوْلَى، لِظُهُورِ الِاسْتِئْثَارِ بِهِ ظُهُورًا لَا يَكُونُ فِي الْعَقَارِ.
وَلَا يَحُدُّ مِنْ سُلْطَانِ النَّاسِ فِي الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْمَالِ الْمُبَاحِ إِلاَّ الْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ لِتَنْظِيمِ الِانْتِفَاعِ وَمَنْعِ الضَّرَرِ.
20- وَلِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْأَمْوَالِ الْمُبَاحَةِ طَرِيقٌ لِلِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ، فَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْمَاءِ الْمُبَاحِ وَالرِّكَازِ يَكُونُ بِالْحَوْزِ وَالْكَشْفِ، وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْكَلأَِ وَالْعُشْبِ يَكُونُ بِالْحَشِّ، وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى حَيَوَانِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يَكُونُ بِالِاصْطِيَادِ، وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْأَرْضِ الْمَوَاتِ يَكُونُ بِالْإِحْيَاءِ، وَبِإِقْطَاعِ التَّمْلِيكِ.
تَنَوُّعُ الِاسْتِيلَاءِ:
21- الِاسْتِيلَاءُ يَكُونُ حَقِيقِيًّا بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ الْمُبَاحِ فِعْلًا، وَهَذَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ وَقَصْدٍ، صَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ، قَالَ الرَّمْلِيُّ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: يُمْلَكُ الصَّيْدُ بِضَبْطِهِ بِالْيَدِ، لِأَنَّهُ مُبَاحٌ، فَمُلِكَ بِوَضْعِ الْيَدِ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ، سَوَاءٌ أَقَصَدَ بِذَلِكَ مِلْكَهُ أَمْ لَا، حَتَّى لَوْ أَخَذَهُ لِيَنْظُرَ إِلَيْهِ مَلَكَهُ.وَيُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِالِاسْتِيلَاءِ الْحَقِيقِيِّ الْمِلْكِيَّةُ مُسْتَقِرَّةً، وَكَذَلِكَ يَكُونُ الِاسْتِيلَاءُ حَقِيقِيًّا إِذَا كَانَ بِآلَةٍ أُعِدَّتْ لِذَلِكَ، وَكَانَ وَاضِعُهَا قَرِيبًا مِنْهَا، بِحَيْثُ لَوْ مَدَّ يَدَهُ إِلَيْهَا لأَمْسَكَ الصَّيْدَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ عَلَيْهِ.وَمِنْ هَذَا لَوْ نَصَبَ شَبَكَةً لِلصَّيْدِ فَوَقَعَ فِيهَا طَائِرٌ وَامْتَنَعَ عَلَيْهِ الطَّيَرَانُ، أَوْ أَغْرَى كَلْبًا مُعَلَّمًا فَاصْطَادَ حَيَوَانًا، فَإِنَّ مَنْ نَصَبَ الشَّبَكَةَ وَمَنْ أَغْرَى الْكَلْبَ يَتَمَلَّكُ الصَّيْدَ، سَوَاءٌ أَكَانَ هُوَ مَالِكُ الشَّبَكَةِ وَالْكَلْبِ أَمْ كَانَ الْمَالِكُ غَيْرَهُ.
22- وَيَكُونُ الِاسْتِيلَاءُ حُكْمِيًّا، وَهُوَ مَا كَانَ بِوَاسِطَةِ الْآلَةِ وَحْدَهَا الَّتِي تُهَيِّئُ الْمُبَاحَ لِوَضْعِ الْيَدِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ وَاضِعُهَا قَرِيبًا مِنْهَا.كَحُفْرَةٍ فِي جَوَرَةِ الْمُنْتَفِعِ بِالْأَرْضِ أَوْ مَالِكِهَا تَجَمَّعَ فِيهَا مَاءُ الْمَطَرِ، فَلَا بُدَّ لِتَمَلُّكِ مَا تَجَمَّعَ فِيهَا مِنْ مَاءٍ مِنْ وُجُودِ الْقَصْدِ، أَمَّا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَإِنَّ الْمِلْكِيَّةَ تَثْبُتُ غَيْرَ مُسْتَقِرَّةٍ، وَلَا تَسْتَقِرُّ إِلاَّ بِصَيْرُورَةِ الِاسْتِيلَاءِ حَقِيقِيًّا، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ.
23- وَقَدْ سُئِلَ الْحَلْوَانِيُّ الْحَنَفِيُّ عَمَّنْ عَلَّقَ كُوزَهُ، أَوْ وَضَعَهُ فِي سَطْحِهِ، فَأَمْطَرَ السَّحَابُ وَامْتَلأَ الْكُوزُ مِنَ الْمَطَرِ، فَجَاءَ إِنْسَانٌ وَأَخَذَ ذَلِكَ الْكُوزَ مَعَ الْمَاءِ، هَلْ لِصَاحِبِ الْكُوزِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مَعَ الْمَاءِ؟ فَقَالَ: لَا إِشْكَالَ فِي اسْتِرْدَادِ الْكُوزِ، وَأَمَّا الْمَاءُ فَإِنْ كَانَ قَدْ أُعِدَّ الْكُوزُ لِذَلِكَ حُقَّ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ، وَإِنْ لَمْ يُعِدَّهُ لِذَلِكَ لَمْ يَسْتَرِدَّهُ.
وَلَوْ الْتَجَأَ صَيْدٌ إِلَى أَرْضِ رَجُلٍ أَوْ إِلَى دَارِهِ، فَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ اسْتِيلَاءً مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ أَوِ الدَّارِ، لِأَنَّهُمَا لَمْ يُعَدَّا لِلِاصْطِيَادِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ مِنْهُ فِعْلُ الِاسْتِيلَاءِ، أَمَّا إِذَا رَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الدَّارِ الْبَابَ بِنِيَّةِ أَخْذِهِ مَلَكَهُ، لِتَحَقُّقِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ بِفِعْلِهِ مَعَ إِمْكَانِ أَخْذِهِ.
وَمَنْ نَصَبَ فُسْطَاطًا فَالْتَجَأَ إِلَيْهِ صَيْدٌ لَمْ يَمْلِكْ، لِأَنَّ الْفُسْطَاطَ لَمْ يَكُنْ آلَةَ صَيْدٍ، وَمَا كَانَ نَصَبَهُ بِقَصْدِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الصَّيْدِ، وَكَذَا لَوْ نَصَبَ شَبَكَةً لِلتَّجْفِيفِ فَتَعَلَّقَ بِهَا صَيْدٌ وَلَمْ يَكُنْ مَنْ عَلَّقَ الشَّبَكَةَ حَاضِرًا بِالْقُرْبِ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ، إِذْ الْقَصْدُ مَرْعِيٌّ فِي التَّمَلُّكِ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ إِنْ حَضَرَ وَهُوَ مُعَلَّقٌ بِالشَّبَكَةِ.
وَتَفْصِيلُ كُلِّ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (اصْطِيَادٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
26-موسوعة الفقه الكويتية (اشتباه 2)
اشْتِبَاه -2طُرُقُ إِزَالَةِ الِاشْتِبَاهِ:
19- مَنِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَمْرٌ مَا فَإِنَّ إِزَالَةَ الِاشْتِبَاهِ تَكُونُ عَنْ طَرِيقِ التَّحَرِّي، أَوِ الْأَخْذِ بِالْقَرَائِنِ، أَوِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ، أَوِ الْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ، أَوْ بِإِجْرَاءِ الْقُرْعَةِ وَنَحْوِهَا.وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ مَا تَقَدَّمَ.
أ- التَّحَرِّي:
20- وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ الشَّيْءِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَقَدْ جُعِلَ التَّحَرِّي حُجَّةً حَالَ الِاشْتِبَاهِ وَفَقْدِ الْأَدِلَّةِ، لِضَرُورَةِ الْعَجْزِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْمُتَحَرَّى عَنْهُ.وَحُكْمُهُ وُقُوعُ الْعَمَلِ صَوَابًا فِي الشَّرْعِ.
فَمَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ مَثَلًا، وَلَمْ يَجِدْ سَبِيلًا لِمَعْرِفَتِهَا تَحَرَّى.لِمَا رُوِيَ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَةُ، فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا عَلَى حِيَالِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَنَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ».وَقَالَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه-: قِبْلَةُ الْمُتَحَرِّي جِهَةُ قَصْدِهِ، وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِالدَّلِيلِ الظَّاهِرِ وَاجِبٌ وَإِقَامَةٌ لِلْوَاجِبِ بِقَدْرِ الْوُسْعِ.وَالْفُرُوضُ إِصَابَةُ عَيْنِ الْكَعْبَةِ أَوْ جِهَتِهَا بِالِاجْتِهَادِ وَالتَّحَرِّي، عَلَى تَفْصِيلٍ وَاخْتِلَافٍ بَيَانُهُ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِقْبَال).
ب- الْأَخْذُ بِالْقَرَائِنِ:
21- الْقَرِينَةُ: هِيَ الْأَمَارَةُ الَّتِي تُرَجِّحُ أَحَدَ الْجَوَانِبِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ.جَاءَ فِي فَوَاتِحِ الرَّحَمُوتِ: أَنَّ الْقَرِينَةَ مَا يَتَرَجَّحُ بِهِ الْمَرْجُوحُ.وَقَدْ تَكُونُ الْقَرِينَةُ قَطْعِيَّةً، وَقَدْ عَرَّفَتْ مَجَلَّةُ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ الْقَرِينَةَ الْقَاطِعَةَ بِأَنَّهَا: الْأَمَارَةُ الْبَالِغَةُ حَدَّ الْيَقِينِ.وَلَا خِلَافَ فِي أَصْلِ اعْتِبَارِ الْقَرِينَةِ عَلَى مَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مُصْطَلَحِ (إِثْبَاتٌ) (ف 31).
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَخُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ بِالْقِيَافَةِ (اتِّبَاعِ الْأَثَرِ وَتَعَرُّفِ الشَّبَهِ) وَجَعْلُهَا دَلِيلًا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ.
وَإِذَا تَدَاعَى رَجُلَانِ شَيْئًا، وَقَدَّمَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةَ قَبُولِهِ، وَتَسَاوَيَا فِي الْعَدَالَةِ، وَاشْتَبَهَ الْأَمْرُ عَلَى الْقَاضِي، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا كَانَ ذَلِكَ قَرِينَةً تُرَجِّحُ جَانِبَهُ.وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ عِنْدَ التَّكَافُؤِ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ.
ج- اسْتِصْحَابُ الْحَالِ:
22- الْمُرَادُ بِهِ اسْتِبْقَاءُ حُكْمٍ ثَبَتَ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي عَلَى مَا كَانَ، وَاعْتِبَارُهُ مَوْجُودًا مُسْتَمِرًّا إِلَى أَنْ يُوجَدَ دَلِيلٌ يُغَيِّرُهُ.وَقَدْ عَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِالْمُتَحَقِّقِ فِي الْمَاضِي عَلَى الْوُقُوعِ فِي الْحَالِ.وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: الْمُرَادُ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ لِأَمْرٍ وُجُودِيٍّ أَوْ عَدَمِيٍّ،
عَقْلِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ.فَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مُتَوَضِّئٌ، ثُمَّ شَكَّ فِي طُرُوءِ الْحَدَثِ، فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ وَبَقَاءِ وُضُوئِهِ مَا لَمْ يَثْبُتْ خِلَافُ ذَلِكَ، لِأَنَّ الطَّهَارَةَ الثَّابِتَةَ بِيَقِينٍ لَا يُحْكَمُ بِزَوَالِهَا بِالشَّكِّ.وَتَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِي حُجِّيَّةِ الِاسْتِصْحَابِ وَالتَّرْجِيحِ بِهِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَانْعِدَامِ الدَّلِيلِ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِصْحَاب).
د- الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ:
23- جَاءَ فِي اللُّغَةِ: الِاحْتِيَاطُ طَلَبُ الْأَحَظِّ وَالْأَخْذُ بِأَوْثَقِ الْوُجُوهِ.وَمِنْهُ قَوْلُهُمُ: افْعَلِ الْأَحْوَطَ.
وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ مَثَلًا، فِيمَا إِذَا وَجَدَ الزَّوْجَانِ فِي فِرَاشِهِمَا الْمُشْتَرَكِ مَنِيًّا، وَلَمْ يَذْكُرْ كُلٌّ مِنْهُمَا مَصْدَرَهُ، وَقَالَ الزَّوْجُ: إِنَّهُ مِنَ الْمَرْأَةِ وَلَعَلَّهَا احْتَلَمَتْ، وَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: إِنَّهُ مِنَ الرَّجُلِ وَلَعَلَّهُ احْتَلَمَ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجِبُ الْغُسْلُ عَلَيْهِمَا احْتِيَاطًا.كَمَا نَصُّوا فِي بَابِ الْعِدَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا، وَاخْتَلَى بِهَا زَوْجُهَا ثُمَّ فَارَقَهَا، فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ احْتِيَاطًا، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، لِأَنَّ الْخَلْوَةَ مَثَارُ الشُّبْهَةِ، وَهَذَا لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأَعْرَاضِ وَالْأَنْسَابِ.
هـ- الِانْتِظَارُ لِمُضِيِّ الْمُدَّةِ:
24- وَهَذَا يَكُونُ فِيمَا لَهُ مُدَّةٌ مُحَدَّدَةٌ، كَدُخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.فَإِنِ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ وَغُمَّ الْهِلَالُ وَجَبَ إِكْمَالُ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، لِخَبَرِ «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا».
و- إِجْرَاءُ الْقُرْعَةِ:
25- يَقُولُ الْقَرَافِيُّ: مَتَى تَعَيَّنَتِ الْمَصْلَحَةُ أَوِ الْحَقُّ فِي جِهَةٍ فَلَا يَجُوزُ الْإِقْرَاعُ، لِأَنَّ فِي الْقُرْعَةِ ضَيَاعَ ذَلِكَ الْحَقِّ الْمُعَيَّنِ وَالْمَصْلَحَةِ الْمُتَعَيِّنَةِ، وَمَتَى تَسَاوَتِ الْحُقُوقُ وَالْمَصَالِحُ، وَاشْتُبِهَ فِي الْمُسْتَحِقِّ فَهَذَا هُوَ مَوْضِعُ الْقُرْعَةِ عِنْدَ التَّنَازُعِ، مَنْعًا لِلضَّغَائِنِ.وَتَفْصِيلَةُ فِي (إِثْبَاتٌ) (ف 36) وَفِي (قُرْعَة).
الْأَثَرُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الِاشْتِبَاهِ:
26- دَرْءُ الْحَدِّ: مِنْ أَظْهَرْ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِاشْتِبَاهِ مِنْ آثَارٍ: دَرْءُ الْحَدِّ عَنِ الْجَانِي.فَقَدْ رَوَتِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ».وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ.إِلَخْ.وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: لأَنْ أُعَطِّلَ الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُقِيمَهَا بِالشُّبُهَاتِ.
وَيَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: إِنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ مُتَكَامِلَةٌ فَيَسْتَدْعِي جِنَايَةً مُتَكَامِلَةً، فَإِذَا كَانَتْ هُنَاكَ شُبْهَةٌ كَانَتِ الْجِنَايَةُ غَيْرَ مُتَكَامِلَةٍ.
27- وَمِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِاشْتِبَاهِ مِنْ آثَارٍ عَمَلِيَّةٍ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْمُصَلِّي: وُجُوبُ سُجُودِ السَّهْوِ جَبْرًا، لِتَرْكِ الْوَاجِبِ الْأَصْلِيِّ فِي الصَّلَاةِ أَوْ تَغْيِيرِهِ، أَوْ تَغْيِيرِ فَرْضٍ مِنْهَا عَنْ مَحَلِّهِ الْأَصْلِيِّ سَاهِيًا، فَيَجِبُ جَبْرُهُ بِالسُّجُودِ.
فَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى.ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا؟ فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ، وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ.فَإِنْ كَانَ صَلَّى خَمْسًا شَفَعْنَ لَهُ صَلَاتَهُ وَإِنْ كَانَ صَلَّى إِتْمَامًا لِأَرْبَعٍ كَانَتَا تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ».وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِتْيَانِ بِمَا شَكَّ فِيهِ، فَلَزِمَهُ الْإِتْيَانُ بِهِ.كَمَا لَوْ شَكَّ هَلْ صَلَّى أَوْ لَا.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (سُجُود السَّهْوِ).
28- وَمِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى اشْتِبَاهِ الْقَاضِي فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْكُمَ بِهِ فِي الدَّعْوَى الَّتِي يَنْظُرُهَا: مُشَاوَرَةُ الْفُقَهَاءِ لِلِاسْتِئْنَاسِ بِرَأْيِهِمْ، وَذَلِكَ نَدْبًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَوُجُوبًا فِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ عُثْمَانُ- رضي الله عنه- إِذَا جَلَسَ أَحْضَرَ أَرْبَعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ ثُمَّ اسْتَثَارَهُمْ، فَإِنْ رَأَوْا مَا رَآهُ أَمْضَاهُ.يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: إِذَا نَزَلَ بِالْقَاضِي الْأَمْرُ الْمُشْكِلُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ شَاوَرَ فِيهِ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْأَمَانَةِ.ثُمَّ قَالَ: لِأَنَّهُ قَدْ يَنْتَبِهُ بِالْمُشَاوَرَةِ، وَيَذْكُرُ مَا نَسِيَهُ بِالْمُذَاكَرَةِ.وَالْمُشَاوَرَةُ هُنَا لِاسْتِخْرَاجِ الْأَدِلَّةِ، وَيَعْرِفُ الْقَاضِي الْحَقَّ بِالِاجْتِهَادِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ مَا دَامَ مُجْتَهِدًا.وَمِنْ أَجْلِ تَيْسِيرِ أَمْرِ الْمَشُورَةِ عَلَى الْقَاضِي، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَ الْمَاضِي أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ، حَتَّى إِذَا حَدَثَتْ حَادِثَةٌ يَفْتَقِرُ إِلَى أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنْهَا، سَأَلَهُمْ لِيَذْكُرُوا أَدِلَّتَهُمْ فِيهَا وَجَوَابَهُمْ فِيهَا.
29- كَمَا قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَى الِاشْتِبَاهِ وَقْفُ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ، أَوْ الِاحْتِفَاظُ بِقَدْرٍ مِنْهَا، كَمَا إِذَا كَانَ ضِمْنَ الْوَرَثَةِ حَمْلٌ عِنْدَ وَفَاةِ الْمُوَرِّثِ، وَلَا يُدْرَى أَذَكَرٌ هُوَ أَمْ أُنْثَى، حَتَّى يُعْلَمَ نَصِيبُهُ، أَوْ أَصْلُ اسْتِحْقَاقِهِ فِي الْإِرْثِ، وَكَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَفْقُودِ وَالْأَسِيرِ، فَإِنَّهُ يُجْعَلُ حَيًّا بِالنِّسْبَةِ لِمَالِهِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى وَفَاتِهِ، وَيُجْعَلُ مَيِّتًا فِي مَالِ غَيْرِهِ، لَكِنْ يُوقَفُ لَهُ نَصِيبُهُ كَمَا يُوقَفُ نَصِيبُ الْحَمْلِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَالُهُ أَوْ يُقْضَى بِاعْتِبَارِهِ مَيِّتًا.
وَتَفْصِيلُ كُلِّ ذَلِكَ وَبَيَانُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِرْثٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
27-موسوعة الفقه الكويتية (إعارة 2)
إِعَارَةٌ -2الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْمُعِيرِ وَالْمُسْتَعِيرِ:
18- تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْعَارِيَّةَ مِنَ الْأَمَانَاتِ فَلَا تُضْمَنُ.وَكَذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَا لَا يَخْفَى.وَفَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا لَا تُضْمَنُ، إِلاَّ بِالتَّعَدِّي، وَأَنَّ الْأَمِينَ يُصَدَّقُ فِيمَا يَدَّعِيهِ بِيَمِينِهِ.وَاعْتِبَارُ الْمَقْبُوضِ عَارِيَّةً أَوْ غَيْرَ عَارِيَّةً، وَأَنَّ هُنَاكَ تَعَدِّيًا أَمْ لَا، يُرْجَعُ فِيهِ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ.
فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الدَّابَّةِ وَالْمُسْتَعِيرُ فِيمَا أَعَارَهَا لَهُ، وَقَدْ عَقَرَهَا الرُّكُوبُ أَوِ الْحُمُولَةُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّابَّةِ.وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَعِيرِ.وَحُجَّتُهُ أَنَّ رَبَّ الدَّابَّةِ يَدَّعِي عَلَى الْمُسْتَعِيرِ سَبَبَ الضَّمَانِ، وَهُوَ الْمُخَالَفَةُ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ.
وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْإِذْنَ فِي الِاسْتِعْمَالِ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ، وَلَوْ أَنْكَرَ أَصْلَ الْإِذْنِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَنْكَرَ الْإِذْنَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي انْتَفَعَ بِهِ الْمُسْتَعِيرُ.
وَفِي الولوالجية: إِذَا جَهَّزَ الْأَبُ ابْنَتَهُ ثُمَّ مَاتَ فَجَاءَ وَرَثَتُهُ يَطْلُبُونَ قِسْمَةَ الْجِهَازِ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ اشْتَرَى لَهَا الْجِهَازَ فِي صِغَرِهَا أَوْ بَعْدَمَا كَبِرَتْ، وَسَلَّمَهُ إِلَيْهَا فِي حَالِ صِحَّتِهِ، فَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ حَقٌّ فِيهِ بَلْ هُوَ لِلْبِنْتِ خَاصَّةً.
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَبُولَ قَوْلِ الْمَالِكِ أَنَّهَا عَارِيَّةً بِيَمِينِهِ لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلْ ذَلِكَ إِذَا صَدَّقَهُ الْعُرْفُ.
وَقَالُوا: كُلُّ أَمِينٍ ادَّعَى إِيصَالَ الْأَمَانَةِ إِلَى مُسْتَحِقِّهَا قُبِلَ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، كَالْمُودَعِ إِذَا ادَّعَى الرَّدَّ وَالْوَكِيلِ وَالنَّاظِرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي حَيَاةِ مُسْتَحِقِّهَا أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، إِلاَّ فِي الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ، إِذَا ادَّعَى بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَكِّلِ أَنَّهُ قَبَضَهُ وَدَفَعَهُ لَهُ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ.
وَلَوْ جَهَّزَ ابْنَتَهُ بِمَا يُجَهَّزُ بِهِ مِثْلُهَا، ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ أَعَرْتُهَا الْأَمْتِعَةَ.إِنْ كَانَ الْعُرْفُ مُسْتَمِرًّا بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ الْأَبَ يَدْفَعُ الْجِهَازَ مِلْكًا لَا إِعَارَةً، لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إِنَّهُ إِعَارَةٌ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُ.وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْعُرْفُ كَذَلِكَ أَوْ تَارَةً وَتَارَةً فَالْقَوْلُ لَهُ فِي جَمِيعِ الْجِهَازِ، لَا فِي الزَّائِدِ عَلَى جِهَازِ مِثْلِهَا، وَالْفَتْوَى عَلَى ذَلِكَ.وَإِنْ كَانَ الْجِهَازُ أَكْثَرَ مِمَّا يُجَهَّزُ بِهِ مِثْلُهَا فَالْقَوْلُ لَهُ اتِّفَاقًا.
وَالْمَالِكِيَّةُ كَالْحَنَفِيَّةِ فِي أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ، إِذْ قَالُوا: إِذَا هَلَكَتِ الْعَيْنُ الْمُعَارَةُ وَاخْتَلَفَ الْمُعِيرُ وَالْمُسْتَعِيرُ فِي سَبَبِ هَلَاكِهَا أَوْ تَعَيُّبِهَا، فَقَالَ الْمُعِيرُ: هَلَكَتْ أَوْ تَعَيَّبَتْ بِسَبَبِ تَفْرِيطِكَ، وَقَالَ الْمُسْتَعِيرُ: مَا فَرَّطْتُ، فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ أَنَّهَا مَا هَلَكَتْ أَوْ تَعَيَّبَتْ بِسَبَبِ تَفْرِيطِهِ.فَإِنْ نَكَلَ غَرِمَ بِنُكُولِهِ.وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي لِأَنَّهَا يَمِينُ تُهْمَةٍ.
وَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ فَعَلَيْهِ جَمِيعُ قِيمَتِهِ فِي حَالَةِ الْهَلَاكِ، أَوْ عَلَيْهِ الْفَرْقُ بَيْنَ قِيمَتِهِ سَلِيمًا وَمُتَعَيَّبًا.
وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَعَارُ غَيْرَ آلَةِ حَرْبٍ كَفَأْسٍ وَنَحْوِهِ، وَأَتَى بِهِ إِلَى الْمُعِيرِ مَكْسُورًا فَلَا يُخْرِجُهُ مِنَ الضَّمَانِ، إِلاَّ أَنْ تَشْهَدَ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ اسْتِعْمَالًا مَعْهُودًا فِي مِثْلِهِ، فَإِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ بِعَكْسِهِ فَكُسِرَ لَزِمَهُ الضَّمَانُ.
وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمَالِكُ وَالْمُنْتَفِعُ فِي كَوْنِ الْعَيْنِ عَارِيَّةً أَوْ مُسْتَأْجَرَةً يُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لِمِثْلِهَا أَجْرٌ، رُدَّتِ الْعَيْنُ إِلَى مَالِكِهَا، وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ هُنَا بِتَحْلِيفِ مُدَّعِي الْإِعَارَةِ.
وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لِمِثْلِهَا أَجْرٌ، فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ الْمُنْتَفِعَ يَسْتَفِيدُ مِنَ الْمَالِكِ مِلْكَ الِانْتِفَاعِ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لَهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَالِكِ فِي التَّعْيِينِ، لَكِنْ مَعَ الْيَمِينِ، دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ.
19- وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي كَوْنِهَا عَارِيَّةً أَوْ مُسْتَأْجَرَةً بَعْدَ تَلَفِ الْعَيْنِ: فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنِ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لِمِثْلِهَا أَجْرٌ وَتَلِفَتِ الْبَهِيمَةُ، وَكَانَ الْأَجْرُ بِقَدْرِ قِيمَتِهَا، أَوْ كَانَ مَا يَدَّعِيهِ الْمَالِكُ مِنْهُمَا أَقَلَّ مِمَّا يَعْتَرِفُ بِهِ الرَّاكِبُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ بِغَيْرِ يَمِينٍ.سَوَاءٌ ادَّعَى الْإِجَارَةَ أَوِ الْإِعَارَةَ، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي الْيَمِينِ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَرِفُ لَهُ بِهِ.وَيُحْتَمَلُ أَلاَّ يَأْخُذَهُ إِلاَّ بِيَمِينٍ، لِأَنَّهُ يَدَّعِي شَيْئًا لَا يُصَدَّقُ فِيهِ، وَيَعْتَرِفُ لَهُ الرَّاكِبُ بِمَا يَدَّعِيهِ فَيَحْلِفُ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ، وَإِنْ كَانَ مَا يَدَّعِيهِ الْمَالِكُ أَكْثَرَ، مِثْلُ إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْبَهِيمَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِهَا فَادَّعَى الْمَالِكُ أَنَّهَا عَارِيَّةً لِتَجِبَ لَهُ الْقِيمَةُ، وَأَنْكَرَ اسْتِحْقَاقَ الْأُجْرَةِ، وَادَّعَى الرَّاكِبُ أَنَّهَا مُكْتَرَاةٌ، أَوْ كَانَ الْكِرَاءُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا، فَادَّعَى الْمَالِكُ أَنَّهُ أَجَّرَهَا لِيَجِبَ لَهُ الْكِرَاءُ، وَادَّعَى الرَّاكِبُ أَنَّهَا عَارِيَّةً، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ فِي الصُّورَتَيْنِ، فَإِذَا حَلَفَ اسْتَحَقَّ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ.
وَقَوَاعِدُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ تَقْتَضِي أَنَّ الْقَوْلَ حِينَئِذٍ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْإِعَارَةَ، لِأَنَّهُ يَنْفِي الْأُجْرَةَ.وَأَمَّا الضَّمَانُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى كُلِّ حَالٍ فِي الْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ.
فَإِنْ تَلِفَتِ الْعَيْنُ قَبْلَ رَدِّهَا تَلَفًا تُضْمَنُ بِهِ الْعَارِيَّةُ فَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى الضَّمَانِ لَهَا، لِضَمَانِ كُلٍّ مِنَ الْعَارِيَّةِ وَالْمَغْصُوبِ.
وَإِذَا اخْتَلَفَا، فَادَّعَى الْمَالِكُ الْغَصْبَ، وَادَّعَى الْمُنْتَفِعُ الْإِعَارَةَ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ وَالدَّابَّةُ تَالِفَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْتَفِعِ، لِأَنَّهُ يَنْفِي الضَّمَانَ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الِاسْتِعْمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ مَعَ يَمِينِهِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْهَلَاكَ جَاءَ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ عَقِيبَ الْعَقْدِ، وَالدَّابَّةُ قَائِمَةٌ لَمْ يَتْلَفْ مِنْهَا شَيْءٌ، فَلَا مَعْنَى لِلِاخْتِلَافِ، وَيَأْخُذُ الْمَالِكُ بَهِيمَتَهُ.
وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتِ الدَّابَّةُ تَالِفَةً، لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَجِبُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ كَوُجُوبِهَا عَلَى الْغَاصِبِ.
وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ لِمِثْلِهَا أَجْرٌ فَالِاخْتِلَافُ فِي وُجُوبِهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ، لِأَنَّهُ يُنْكِرُ انْتِقَالَ الْمِلْكِ إِلَى الرَّاكِبِ، وَالرَّاكِبُ يَدَّعِيهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِانْتِقَالِ، فَيَحْلِفُ وَيَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ.
نَفَقَةُ الْعَارِيَّةِ:
20- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ- مَا عَدَا الْقَاضِي حُسَيْنٍ- وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْعَارِيَّةِ الَّتِي بِهَا بَقَاؤُهَا كَالطَّعَامِ مُدَّةَ الْإِعَارَةِ عَلَى مَالِكِهَا، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ لَكَانَ كِرَاءً، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنَ الْكِرَاءِ فَتَخْرُجُ الْعَارِيَّةُ عَنِ الْمَعْرُوفِ إِلَى الْكِرَاءِ، وَلِأَنَّ تِلْكَ النَّفَقَةَ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَغَيْرُ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، لِأَنَّ مَالِكَ الدَّابَّةِ فَعَلَ مَعْرُوفًا فَلَا يَلِيقُ أَنْ يُشَدَّدَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ فِي اللَّيْلَةِ وَاللَّيْلَتَيْنِ، وَعَلَى الْمُعِيرِ فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ كَمَا فِي الْمَوَّاقِ، وَقَدْ عَكَسَ عَبْدُ الْبَاقِي الزَّرْقَانِيُّ.
مَئُونَةُ رَدِّ الْعَارِيَّةِ:
21- فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ مَئُونَةَ رَدِّ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، لِخَبَرِ «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ»، وَلِأَنَّ الْإِعَارَةَ مَكْرُمَةٌ فَلَوْ لَمْ تُجْعَلِ الْمَئُونَةُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْهَا.وَهَذَا تَطْبِيقٌ لِقَاعِدَةِ «كُلُّ مَا كَانَ مَضْمُونَ الْعَيْنِ فَهُوَ مَضْمُونُ الرَّدِّ».
وَعَلَى الْمُسْتَعِيرِ رَدُّهَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُ، إِلاَّ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى رَدِّهَا إِلَى مَكَانِ غَيْرِهِ، لِأَنَّ مَا لَزِمَ رَدُّهُ وَجَبَ رَدُّهُ إِلَى مَوْضِعِهِ كَالْمَغْصُوبِ.
مَا يَبْرَأُ بِهِ الْمُسْتَعِيرُ:
22- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَوْ رَدَّ الدَّابَّةَ إِلَى مَالِكِهَا أَوْ وَكِيلِهِ فِي قَبْضِهَا فَإِنَّهُ يَبْرَأُ مِنْهَا.أَمَّا إِنْ رَدَّهَا بِوَاسِطَةِ آخَرِينَ وَإِلَى غَيْرِ الْمَالِكِ وَالْوَكِيلِ فَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ: قَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الِاسْتِحْسَانِ وَالْمَالِكِيَّةِ: إِنْ رَدَّ الْمُسْتَعِيرُ الدَّابَّةَ مَعَ خَادِمِهِ أَوْ بَعْضِ مَنْ هُوَ فِي عِيَالِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إِنْ عَطِبَتْ، لِأَنَّ يَدَ مَنْ هُوَ فِي عِيَالِهِ فِي الرَّدِّ كَيَدِهِ، كَمَا أَنَّ يَدَ مَنْ فِي عِيَالِهِ فِي الْحِفْظِ كَيَدِهِ.وَالْعُرْفُ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَرُدُّ الْمُسْتَعَارَ بِيَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ وَلِهَذَا يَعُولُهُمْ، فَكَانَ مَأْذُونًا فِيهِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهَا دَلَالَةً.وَكَذَلِكَ إِنْ رَدَّهَا إِلَى خَادِمِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ، وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهَا، فَهُوَ بَرِيءٌ اسْتِحْسَانًا.وَالْقِيَاسُ أَلاَّ يَبْرَأَ مَا لَمْ تَصِلْ إِلَى صَاحِبِهَا، كَالْمُودَعِ إِذَا رَدَّ الْوَدِيعَةَ لَا يَبْرَأُ عَنِ الضَّمَانِ مَا لَمْ تَصِلْ إِلَى يَدِ صَاحِبِهَا.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ صَاحِبَهَا إِنَّمَا يَحْفَظُ الدَّابَّةَ بِسَائِسِهَا.وَلَوْ دَفَعَ الْمُسْتَعِيرُ الدَّابَّةَ إِلَى مَالِكِهَا فَهَذَا يَدْفَعُهَا إِلَى السَّائِسِ، فَكَذَلِكَ إِذَا رَدَّهَا عَلَى السَّائِسِ.وَالْعُرْفُ الظَّاهِرُ أَنَّ صَاحِبَ الدَّابَّةِ يَأْمُرُ السَّائِسَ بِدَفْعِهَا إِلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَبِاسْتِرْدَادِهَا مِنْهُ إِذَا فَرَغَتْ، فَيَصِيرُ مَأْذُونًا فِي دَفْعِهَا إِلَيْهِ دَلَالَةً.وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمُعَارِ النَّفِيسِ، إِذْ فِيهِ لَا بُدَّ مِنَ التَّسْلِيمِ لِلْمَالِكِ، وَإِلاَّ لَمْ يَبْرَأْ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ الرَّدُّ إِلَى الْحَاكِمِ عِنْدَ غَيْبَةِ الْمُعِيرِ أَوِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ، فَلَوْ رَدَّ الدَّابَّةَ إِلَى الْإِسْطَبْلِ، وَالثَّوْبَ وَنَحْوَهُ لِلْبَيْتِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ لَمْ يَبْرَأْ، إِلاَّ أَنْ يَعْلَمَ بِهِ الْمَالِكُ أَوْ يُخْبِرَهُ بِهِ ثِقَةٌ.
وَكَذَلِكَ لَا يَبْرَأُ عِنْدَهُمْ بِالرَّدِّ إِلَى وَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ، حَتَّى وَلَوْ لَمْ يَجِدِ الْمَالِكَ أَوْ وَكِيلَهُ، بَلْ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا بِالرَّدِّ إِلَيْهَا، فَإِنْ أَرْسَلَاهَا إِلَى الْمَرْعَى وَتَلِفَتْ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا، لِحُصُولِ التَّلَفِ فِي يَدِهِمَا، حَتَّى لَوْ غَرِمَا لَمْ يَرْجِعَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَلَوْ غَرِمَ الْمُسْتَعِيرُ رَجَعَ عَلَيْهِمَا. وَالْحَنَابِلَةُ كَالشَّافِعِيَّةِ فِي أَنَّهُ إِذَا رَدَّهَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَخَذَهَا مِنْهُ، أَوْ إِلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا لَمْ يَبْرَأْ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّهَا إِلَى مَالِكِهَا وَلَا نَائِبِهِ فِيهَا، كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إِلَى أَجْنَبِيٍّ.
وَإِنْ رَدَّهَا إِلَى مَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِحُصُولِ ذَلِكَ عَلَى يَدَيْهِ، كَزَوْجَتِهِ الْمُتَصَرِّفَةِ فِي مَالِهِ، أَوْ رَدِّ الدَّابَّةِ إِلَى سَائِسِهَا، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَبْرَأُ، قَالَهُ الْقَاضِي.وَقَاسَ ذَلِكَ عَلَى الْوَدِيعَةِ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيهَا: إِذَا سَلَّمَهَا الْمُودَعُ إِلَى امْرَأَتِهِ لَمْ يَضْمَنْهَا، لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي ذَلِكَ عُرْفًا أَشْبَهَ مَا لَوْ أَذِنَ فِيهِ نُطْقًا.
مَا تَنْتَهِي بِهِ الْإِعَارَةُ:
23- تَنْتَهِي الْإِعَارَةُ بِأَحَدِ الْأَسْبَابِ الْآتِيَةِ:
(1) انْتِهَاءُ الْمُدَّةِ فِي الْإِعَارَةِ الْمُؤَقَّتَةِ.
(2) رُجُوعُ الْمُعِيرِ فِي الْحَالَاتِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الرُّجُوعُ.
(3) جُنُونُ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.
(4) الْحَجْرُ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ.
(5) مَوْتُ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.
(6) هَلَاكُ الْعَيْنِ الْمُعَارَةِ.
(7) اسْتِحْقَاقُهَا لِلْغَيْرِ. اسْتِحْقَاقُ الْعَارِيَّةِ، وَتَلَفُ الْمُسْتَعَارِ الْمُسْتَحَقِّ، وَنُقْصَانُهُ:
24- يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي رُجُوعِ الْمُسْتَحِقِّ عَلَى الْمُعِيرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ عِنْدَ تَلَفِ الْمُسْتَعَارِ الْمُسْتَحَقِّ أَوْ نُقْصَانِهِ، وَفِيمَنْ يَكُونُ عَلَيْهِ قَرَارُ الضَّمَانِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ رَأْيَانِ:
الْأَوَّلُ: يَرْجِعُ الْمُسْتَحِقُّ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُعِيرِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
وَقَدْ عَلَّلَ الْحَنَفِيَّةُ لِذَلِكَ بِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَأْخُذُ لِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّهَا عَقْدُ تَبَرُّعٍ، وَالْمُعِيرُ غَيْرُ عَامِلٍ لَهُ، فَلَا يَسْتَحِقُّ السَّلَامَةَ، وَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْغُرُورُ.
الثَّانِي: الرُّجُوعُ عَلَى الْمُعِيرِ أَوِ الْمُسْتَعِيرِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَالرُّجُوعُ عَلَى الْمُعِيرِ لِتَعَدِّيهِ بِالدَّفْعِ لِلْغَيْرِ، وَأَمَّا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ فَلِقَبْضِهِ مَالَ غَيْرِهِ- وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ- بِغَيْرِ إِذْنِهِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ قَرَارُ الضَّمَانِ، فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ رَجَعَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى مَنْ أَعَارَهُ، لِأَنَّ التَّلَفَ أَوِ النَّقْصَ كَانَ مِنْ فِعْلِهِ، وَلَمْ يَغُرَّ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ فَيَرْجِعُ بِهِ، وَإِنْ ضَمِنَهُ الْمُعِيرُ فَمَنِ اعْتَبَرَ الْعَارِيَّةَ مَضْمُونَةً قَالَ: لِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، لِأَنَّهُ كَانَ ضَامِنًا، وَمَنِ اعْتَبَرَ الْعَارِيَّةَ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَعِيرُ رَجَعَ عَلَى الْمُعِيرِ بِمَا غَرِمَ، لِأَنَّهُ غَرَّهُ وَغَرِمَهُ، مَا لَمْ يَكُنِ الْمُسْتَعِيرُ عَالِمًا بِالْحَالِ فَيَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمَالِكُ الْمُعِيرَ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا عَلَى أَحَدٍ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُسْتَعِيرُ عَالِمًا، وَإِلاَّ رَجَعَ عَلَيْهِ.
أَثَرُ اسْتِحْقَاقِ الْعَارِيَّةِ عَلَى الِانْتِفَاعِ:
25- صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِذَا اسْتَعَارَ شَخْصٌ شَيْئًا فَانْتَفَعَ بِهِ ثُمَّ ظَهَرَ مُسْتَحَقًّا، فَلِمَالِكِهِ أَجْرُ مِثْلِهِ، يُطَالِبُ بِهِ الْمُعِيرَ أَوِ الْمُسْتَعِيرَ.فَإِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَعِيرُ رَجَعَ عَلَى الْمُعِيرِ بِمَا غَرِمَ، لِأَنَّهُ غَرَّهُ وَغَرِمَهُ، لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ اسْتَعَارَ عَلَى أَلاَّ أَجْرَ عَلَيْهِ.وَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْمُعِيرِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ.وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى لَا تَأْبَى ذَلِكَ.
الْوَصِيَّةُ بِالْإِعَارَةِ:
26- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ بِالْإِعَارَةِ إِذَا خَرَجَ مُقَابِلُ الْمَنْفَعَةِ مِنَ الثُّلُثِ بِاعْتِبَارِهَا وَصِيَّةً بِالْمَنْفَعَةِ.وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
28-موسوعة الفقه الكويتية (إقامة)
إقَامَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْإِقَامَةُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ: أَقَامَ، وَأَقَامَ بِالْمَكَانِ: ثَبَتَ بِهِ، وَأَقَامَ الشَّيْءَ: ثَبَّتَهُ أَوْ عَدَّلَهُ، وَأَقَامَ الرَّجُلُ الشَّرْعَ: أَظْهَرَهُ، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ: أَدَامَ فِعْلَهَا، وَأَقَامَ لِلصَّلَاةِ إقَامَةً: نَادَى لَهَا.
وَتُطْلَقُ الْإِقَامَةُ فِي الشَّرْعِ بِمَعْنَيَيْنِ:
الْأَوَّلُ: الثُّبُوتُ فِي الْمَكَانِ، فَيَكُونُ ضِدَّ السَّفَرِ.
الثَّانِي: إعْلَامُ الْحَاضِرِينَ الْمُتَأَهِّبِينَ لِلصَّلَاةِ بِالْقِيَامِ إلَيْهَا، بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ وَصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ.
أَوَّلًا: أَحْكَامُ الْإِقَامَةِ الَّتِي بِمَعْنَى الثُّبُوتِ فِي الْمَكَانِ
أ- إقَامَةُ الْمُسَافِرِ:
2- يُصْبِحُ الْمُسَافِرُ مُقِيمًا إذَا دَخَلَ وَطَنَهُ، أَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ فِي مَكَانٍ مَا بِالشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ، وَيَنْقَطِعُ بِذَلِكَ عَنْهُ حُكْمُ السَّفَرِ، وَتَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُقِيمِ، كَامْتِنَاعِ الْقَصْرِ فِي الصَّلَاةِ، وَعَدَمِ جَوَازِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ.وَإِقَامَةُ الْآفَاقِيِّ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ الْمَكَانِيَّةِ، أَوْ فِي الْحَرَمِ- تُعْطِيهِ حُكْمَ الْمُقِيمِ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ أَوْ دَاخِلَ الْحَرَمِ مِنْ حَيْثُ الْإِحْرَامُ، وَطَوَافُ الْوَدَاعِ، وَالْقُدُومُ، وَالْقِرَانُ، وَالتَّمَتُّعُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلَاتُ ذَلِكَ فِي (قِرَان- تَمَتُّع- حَجّ- إحْرَام).
ب- إقَامَةُ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
3- إقَامَةُ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَقْدَحُ فِي إسْلَامِهِ، إلاَّ أَنَّهُ إذَا كَانَ يَخْشَى عَلَى دِينِهِ، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ إظْهَارَهُ، تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} وَهَذَا إذَا كَانَ يُمْكِنُهُ الْهِجْرَةُ وَلَمْ يَكُنْ بِهِ عَجْزٌ، لِمَرَضٍ أَوْ إِكْرَاهٍ عَلَى الْإِقَامَةِ.
أَمَّا إذَا كَانَ لَا يَخْشَى الْفِتْنَةَ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ مَعَ إِقَامَتِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، لِتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ وَمَعُونَتِهِمْ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ.وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ عَمُّ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مُقِيمًا بِمَكَّةَ مَعَ إسْلَامِهِ.
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي ذَلِكَ: (ر: جِهَاد- دَارُ الْحَرْبِ- دَارُ الْإِسْلَامِ- هِجْرَة).
ثَانِيًا: الْإِقَامَةُ لِلصَّلَاةِ
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ:
4- هُنَاكَ أَلْفَاظٌ لَهَا صِلَةٌ بِالْإِقَامَةِ لِلصَّلَاةِ، مِنْهَا:
أ- الْأَذَانُ: يُعَرَّفُ الْأَذَانُ بِأَنَّهُ: إعْلَامٌ بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ بِأَلْفَاظٍ مَعْلُومَةٍ مَأْثُورَةٍ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ يَحْصُلُ بِهَا الْإِعْلَامُ،.
فَالْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ يَشْتَرِكَانِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إِعْلَامٌ، وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْإِعْلَامَ فِي الْإِقَامَةِ هُوَ لِلْحَاضِرِينَ الْمُتَأَهِّبِينَ لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَالْأَذَانُ لِلْغَائِبِينَ لِيَتَأَهَّبُوا لِلصَّلَاةِ، كَمَا أَنَّ صِيغَةَ الْأَذَانِ قَدْ تَنْقُصُ أَوْ تَزِيدُ عَنِ الْإِقَامَةِ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ.
ب- التَّثْوِيبُ:
التَّثْوِيبُ عَوْدٌ إِلَى الْإِعْلَامِ بَعْدَ الْإِعْلَامِ.وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، زِيَادَةُ « الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ ».
حُكْمُ الْإِقَامَةِ التَّكْلِيفِيُّ:
5- فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ التَّكْلِيفِيِّ رَأْيَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِقَامَةَ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْآخَرِينَ، وَإِذَا تُرِكَ أَثِمُوا جَمِيعًا.
قَالَ بِهَذَا الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَلِبَعْضٍ آخَرَ لِلْجُمُعَةِ فَقَطْ.وَهُوَ رَأْيُ عَطَاءٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ، حَتَّى رُوِيَ عَنْهُمَا أَنَّهُ إِنْ نَسِيَ الْإِقَامَةَ أَعَادَ الصَّلَاةَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنْ نَسِيَ الْإِقَامَةَ فِي السَّفَرِ أَعَادَ، وَلَعَلَّهُ لِمَا فِي السَّفَرِ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى إِظْهَارِ الشَّعَائِرِ.
وَاسْتُدِلَّ لِلْقَوْلِ بِأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ بِكَوْنِهَا مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ، وَفِي تَرْكِهَا تَهَاوُنٌ، فَكَانَتْ فَرْضَ كِفَايَةٍ مِثْلَ الْجِهَادِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْإِقَامَةَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ بِالْوُجُوبِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِالسُّنَّةِ هُنَا السُّنَنُ الَّتِي هِيَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ، فَلَا يَسَعُ الْمُسْلِمِينَ تَرْكُهَا، وَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ أَسَاءَ، لِأَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ يُوجِبُ الْإِسَاءَةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، فَهَذَا أَوْلَى، وَفَسَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ السُّنِّيَّةَ بِالْوُجُوبِ، حَيْثُ قَالَ فِي التَّارِكِينَ: أَخْطَئُوا السُّنَّةَ وَخَالَفُوا وَأَثِمُوا، وَالْإِثْمُ إِنَّمَا يَلْزَمُ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ.وَاحْتَجُّوا لِلسُّنِّيَّةِ « بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِلْأَعْرَابِيِّ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ: افْعَلْ كَذَا وَكَذَا ».وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَذَانَ وَلَا الْإِقَامَةَ مَعَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ الْوُضُوءَ وَاسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ وَأَرْكَانَ الصَّلَاةِ، وَلَوْ كَانَتِ الْإِقَامَةُ وَاجِبَةً لَذَكَرَهَا.
تَارِيخُ تَشْرِيعِ الْإِقَامَةِ وَحِكْمَتُهَا:
6- تَارِيخُ تَشْرِيعِ الْإِقَامَةِ هُوَ تَارِيخُ تَشْرِيعِ الْأَذَانِ (ر: أَذَان).
أَمَّا حِكْمَتُهَا: فَهِيَ إِعْلَاءُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْمِ رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَإِقْرَارٌ لِلْفَلَاحِ وَالْفَوْزِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، لِتَرْكِيزِ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْمُسْلِمِ، وَإِظْهَارٌ لِشَعِيرَةٍ مِنْ أَفْضَلِ الشَّعَائِرِ.
كَيْفِيَّةُ الْإِقَامَةِ:
7- اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى أَنَّ أَلْفَاظَ الْإِقَامَةِ هِيَ نَفْسُ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ فِي الْجُمْلَةِ بِزِيَادَةِ: « قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ » بَعْدَ « حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ».
وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ أَلْفَاظِهَا هُوَ نَفْسُ تَرْتِيبِ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَكْرَارِ وَإِفْرَادِ أَلْفَاظِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي:
اللَّهُ أَكْبَرُ.
تُقَالُ فِي بَدْءِ الْإِقَامَةِ « مَرَّتَيْنِ » عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ، وَأَرْبَعَ مَرَّاتٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.
تُقَالُ « مَرَّةً وَاحِدَةً » عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ « وَمَرَّتَيْنِ » عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.
تُقَالُ « مَرَّةً وَاحِدَةً » عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ « وَمَرَّتَيْنِ » عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ.
تُقَالُ: « مَرَّةً وَاحِدَةً » عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ « وَمَرَّتَيْنِ » عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ.
تُقَالُ: « مَرَّةً وَاحِدَةً » عِنْدَ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ « وَمَرَّتَيْنِ » عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ.
تُقَالُ « مَرَّتَيْنِ » عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ « وَمَرَّةً وَاحِدَةً » عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ.
اللَّهُ أَكْبَرُ.
تُقَالُ « مَرَّتَيْنِ » عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ.
لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.
تُقَالُ « مَرَّةً وَاحِدَةً » عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ.
وَيُسْتَخْلَصُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَذَاهِبَ الثَّلَاثَةَ تَخْتَلِفُ عَنِ الْحَنَفِيَّةِ بِإِفْرَادِ أَكْثَرِ أَلْفَاظِ الْإِقَامَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: « أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ ».وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: « إِنَّمَا كَانَ الْأَذَانُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَالْإِقَامَةُ مَرَّةً مَرَّةً ».
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَجْعَلُونَ الْإِقَامَةَ مِثْلَ الْأَذَانِ بِزِيَادَةِ « قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ » مَرَّتَيْنِ بَعْدَ « حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ».
وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ « عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ رَجُلًا قَامَ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ، فَقَامَ عَلَى حَائِطٍ فَأَذَّنَ مَثْنَى مَثْنَى، وَأَقَامَ مَثْنَى مَثْنَى » وَلِمَا رُوِيَ كَذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ « فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، يَعْنِي الْمَلَكَ، وَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ.اللَّهُ أَكْبَرُ..إِلَى آخِرِ الْأَذَانِ.قَالَ: ثُمَّ أَمْهَلَ هُنَيْهَةً، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ مِثْلَهَا، إِلَا أَنَّهُ قَالَ: زَادَ بَعْدَمَا قَالَ « حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ »: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ ».
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَخْتَلِفُونَ عَنْ غَيْرِهِمْ فِي تَثْنِيَةِ « قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ »، فَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا تُقَالُ مَرَّةً
وَاحِدَةً.لِمَا رَوَى أَنَسٌ قَالَ: « أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ ».
حَدْرُ الْإِقَامَةِ:
8- الْحَدْرُ هُوَ الْإِسْرَاعُ وَقَطْعُ التَّطْوِيلِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْحَدْرِ فِي الْإِقَامَةِ وَالتَّرَسُّلِ فِي الْأَذَانِ، لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: « إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْدُرْ »، وَلِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ: إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْذِمْ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَأَصْلُ الْحَذْمِ- بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ- فِي الْمَشْيِ إِنَّمَا هُوَ الْإِسْرَاعُ.
وَقْتُ الْإِقَامَةِ:
9- شُرِعَتِ الْإِقَامَةُ أُهْبَةً لِلصَّلَاةِ بَيْنَ يَدَيْهَا، تَفْخِيمًا لَهَا كَغُسْلِ الْإِحْرَامِ، وَغُسْلِ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ لِإِعْلَامِ النَّفْسِ بِالتَّأَهُّبِ وَالْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ، وَإِعْلَامِ الِافْتِتَاحِ.وَلَا يَصِحُّ تَقْدِيمُهَا عَلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ، بَلْ يَدْخُلُ وَقْتُهَا بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَيُشْتَرَطُ لَهَا شَرْطَانِ، الْأَوَّلُ: دُخُولُ الْوَقْتِ، وَالثَّانِي: إِرَادَةُ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ.
فَإِنْ أَقَامَ قُبَيْلَ الْوَقْتِ بِجُزْءٍ يَسِيرٍ بِحَيْثُ دَخَلَ الْوَقْتُ عَقِبَ الْإِقَامَةِ، ثُمَّ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ عَقِبَ ذَلِكَ لَمْ تَحْصُلِ الْإِقَامَةُ، وَإِنْ أَقَامَ فِي الْوَقْتِ وَأَخَّرَ الدُّخُولَ فِي الصَّلَاةِ بَطَلَتْ إِقَامَتُهُ إِنْ طَالَ الْفَصْلُ، لِأَنَّهَا تُرَادُ لِلدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ، فَلَا يَجُوزُ إِطَالَةُ الْفَصْلِ.
مَا يُشْتَرَطُ لِإِجْزَاءِ الْإِقَامَةِ:
10- يُشْتَرَطُ فِي الْإِقَامَةِ مَا يَأْتِي:
دُخُولُ الْوَقْتِ، وَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ، وَالْأَدَاءُ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْخُلُوُّ مِنَ اللَّحْنِ الْمُغَيِّرِ لِلْمَعْنَى، وَرَفْعُ الصَّوْتِ.وَلَكِنْ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْإِقَامَةِ يَكُونُ أَخَفَّ مِنْ رَفْعِهِ بِالْأَذَانِ، لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا.فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَذَانِ: إِعْلَامُ الْغَائِبِينَ بِالصَّلَاةِ، أَمَّا الْإِقَامَةُ فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا طَلَبُ قِيَامِ الْحَاضِرِينَ فِعْلًا لِلصَّلَاةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ الْإِقَامَةِ.وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْكَلِمَاتِ، وَالْمُوَالَاةُ بَيْنَ أَلْفَاظِ الْإِقَامَةِ.
وَفِي هَذِهِ الشُّرُوطِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ « أَذَان ». شَرَائِطُ الْمُقِيمِ:
11- تَشْتَرِكُ الْإِقَامَةُ مَعَ الْأَذَانِ فِي هَذِهِ الشَّرَائِطِ وَنَذْكُرُهَا إِجْمَالًا، وَمَنْ أَرَادَ زِيَادَةَ تَفْصِيلٍ فَلْيَرْجِعْ إِلَى مُصْطَلَحِ (أَذَان)، وَأَوَّلُ هَذِهِ الشُّرُوطِ.
أ- الْإِسْلَامُ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ فِي الْمُقِيمِ، فَلَا تَصِحُّ الْإِقَامَةُ مِنَ الْكَافِرِ وَلَا الْمُرْتَدِّ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِهَا.
ب- الذُّكُورَةُ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ أَذَانِ الْمَرْأَةِ وَإِقَامَتِهَا لِجَمَاعَةِ الرِّجَالِ، لِأَنَّ الْأَذَانَ فِي الْأَصْلِ لِلْإِعْلَامِ، وَلَا يُشْرَعُ لَهَا ذَلِكَ، وَالْأَذَانُ يُشْرَعُ لَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ، وَلَا يُشْرَعُ لَهَا رَفْعُ الصَّوْتِ، وَمَنْ لَا يُشْرَعُ فِي حَقِّهِ الْأَذَانُ لَا يُشْرَعُ فِي حَقِّهِ الْإِقَامَةُ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مُنْفَرِدَةً أَوْ فِي جَمَاعَةِ النِّسَاءِ فَفِيهِ اتِّجَاهَاتٌ.
الْأَوَّلُ: الِاسْتِحْبَابُ.وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
الثَّانِي: الْإِبَاحَةُ.وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
الثَّالِثُ: الْكَرَاهَةُ.وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ.
ج- الْعَقْلُ:
نَصَّ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ عَلَى بُطْلَانِ أَذَانِ وَإِقَامَةِ الْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ وَالسَّكْرَانِ، وَقَالُوا: يَجِبُ إِعَادَةُ أَذَانِهِمْ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي هَذَا إِلاَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ فِي السَّكْرَانِ، حَيْثُ قَالُوا بِكَرَاهَةِ أَذَانِهِ وَإِقَامَتِهِ وَاسْتِحْبَابِ إِعَادَتِهِمَا.
د- الْبُلُوغُ: لِلْعُلَمَاءِ فِي إِقَامَةِ الصَّبِيِّ ثَلَاثَةُ آرَاءَ:
الْأَوَّلُ: لَا تَصِحُّ إِقَامَةُ الصَّبِيِّ سَوَاءٌ أَكَانَ مُمَيِّزًا أَمْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ، وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
الثَّانِي: تَصِحُّ إِقَامَتُهُ إِنْ كَانَ مُمَيِّزًا عَاقِلًا، وَهُوَ رَأْيٌ آخَرُ فِي تِلْكَ الْمَذَاهِبِ.
الثَّالِثُ: الْكَرَاهَةُ إِذَا كَانَ مُمَيِّزًا، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ.
هـ- الْعَدَالَةُ:
فِي إِقَامَةِ الْفَاسِقِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ
الْأَوَّلُ: لَا يُعْتَدُّ بِهَا، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْحَنَابِلَةِ.
الثَّانِي: الْكَرَاهَةُ: وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ.
الثَّالِثُ: يَصِحُّ وَيُسْتَحَبُّ إِعَادَتُهُ.وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ فِي (الْأَذَان).
و- الطَّهَارَةُ:
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ الْإِقَامَةِ مَعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، لِأَنَّ السُّنَّةَ وَصْلُ الْإِقَامَةِ بِالشُّرُوعِ بِالصَّلَاةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى سُنِّيَّةِ الْإِعَادَةِ مَا عَدَا الْحَنَفِيَّةَ.وَفِي رَأْيٍ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنَّ إِقَامَةَ الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَرَ جَائِزَةٌ بِغَيْرِ كَرَاهَةٍ.
أَمَّا مِنَ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ فَفِيهِ رَأْيَانِ:
الْأَوَّلُ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى كَرَاهَةِ إِقَامَةِ الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَكْبَرَ.
الثَّانِي: الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: بُطْلَانُ الْأَذَانِ مَعَ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ.
مَا يُسْتَحَبُّ فِي الْإِقَامَةِ:
12- اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْحَدْرِ فِي الْإِقَامَةِ وَالتَّرَسُّلِ فِي الْأَذَانِ كَمَا مَرَّ (ف).وَفِي الْوَقْفِ عَلَى آخِرِ كُلِّ جُمْلَةٍ فِي الْإِقَامَةِ رَأْيَانِ:
الْأَوَّلُ: قَالَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، الْإِقَامَةُ مُعْرَبَةٌ إِنْ وَصَلَ كَلِمَةً بِكَلِمَةٍ.فَإِنْ وَقَفَ الْمُقِيمُ وَقَفَ عَلَيْهَا بِالسُّكُونِ.
الثَّانِي: قَالَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رَأْيٌ آخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ: الْإِقَامَةُ عَلَى الْجَزْمِ مِثْلُ الْأَذَانِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّخَعِيِّ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.أَنَّهُ قَالَ: « الْأَذَانُ جَزْمٌ، وَالْإِقَامَةُ جَزْمٌ، وَالتَّكْبِيرُ جَزْمٌ ».
وَفِي التَّكْبِيرَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ أَقْوَالٌ، فَالتَّكْبِيرَةُ الْأُولَى فِيهَا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ، لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: فِيهَا الْوَقْفُ بِالسُّكُونِ، وَالْفَتْحُ، وَالضَّمُّ.
الثَّانِي، رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ: فِيهَا السُّكُونُ، أَوِ الضَّمُّ.
أَمَّا التَّكْبِيرَةُ الثَّانِيَةُ فَفِيهَا أَيْضًا قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ، رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ: الْجَزْمُ لَا غَيْرُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ « الْإِقَامَةَ جَزْمٌ ».
الثَّانِي: الْإِعْرَابُ وَهُوَ: الضَّمُّ، وَهُوَ رَأْيٌ آخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَالْجَمِيعُ جَائِزٌ، وَلَكِنَّ الْخِلَافَ فِي الْأَفْضَلِ وَالْمُسْتَحَبِّ.
13- وَمِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ عِنْدَ الْمَذَاهِبِ: اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، غَيْرَ أَنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الِالْتِفَاتَ عِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ « حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ».وَفِي الِالْتِفَاتِ عِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ فِي الْإِقَامَةِ ثَلَاثَةُ آرَاءَ.
الْأَوَّلُ: يُسْتَحَبُّ الِالْتِفَاتُ عِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ
الثَّانِي: يُسْتَحَبُّ إِذَا كَانَ الْمَكَانُ مُتَّسَعًا، وَلَا يُسْتَحَبُّ إِذَا كَانَ الْمَكَانُ ضَيِّقًا، أَوِ الْجَمَاعَةُ قَلِيلَةً.
وَهَذَانِ الرَّأْيَانِ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
الثَّالِثُ: لَا يُسْتَحَبُّ أَصْلًا لِأَنَّ الِاسْتِحْبَابَ فِي الْأَذَانِ كَانَ لِإِعْلَامِ الْغَائِبِينَ، وَالْإِقَامَةُ لِإِعْلَامِ الْحَاضِرِينَ الْمُنْتَظِرِينَ لِلصَّلَاةِ، فَلَا يُسْتَحَبُّ تَحْوِيلُ الْوَجْهِ، وَهَذَا الرَّأْيُ لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ.وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازُ الِالْتِفَاتِ فِي الْحَيْعَلَتَيْنِ.وَفِي رَأْيٍ آخَرَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ هُوَ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي الِابْتِدَاءِ.
14- وَيُسْتَحَبُّ فِيمَنْ يُقِيمُ الصَّلَاةَ: أَنْ يَكُونَ تَقِيًّا، عَالِمًا بِالسُّنَّةِ، وَعَالِمًا بِأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، وَحَسَنَ الصَّوْتِ، مُرْتَفِعَهُ مِنْ غَيْرِ تَطْرِيبٍ وَلَا غِنَاءٍ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْأَذَانِ.
15- وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمُقِيمِ الصَّلَاةِ أَنْ يُقِيمَ وَاقِفًا.وَتُكْرَهُ الْإِقَامَةُ قَاعِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.فَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ فَلَا بَأْسَ.قَالَ الْحَسَنُ الْعَبْدِيُّ: « رَأَيْتُ أَبَا زَيْدٍ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَكَانَتْ رِجْلُهُ أُصِيبَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يُؤَذِّنُ قَاعِدًا وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ « الصَّحَابَةَ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي مَسِيرٍ فَانْتَهَوْا إِلَى مَضِيقٍ، وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَمَطَرَتِ السَّمَاءُ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَالْبِلَّةُ مِنْ أَسْفَل فِيهِمْ، فَأَذَّنَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَأَقَامَ، فَتَقَدَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَصَلَّى بِهِمْ يُومِئُ إِيمَاءً، يَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ ».كَمَا تُكْرَهُ إِقَامَةُ الْمَاشِي وَالرَّاكِبِ فِي السَّفَرِ وَغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.لِمَا رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا- رضي الله عنه- » أَذَّنَ وَهُوَ رَاكِبٌ، ثُمَّ نَزَلَ وَأَقَامَ عَلَى الْأَرْضِ.
وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْزِلْ لَوَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ بِالنُّزُولِ، وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَلِأَنَّهُ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَهَيِّئٍ لَهَا.وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ إِقَامَةَ الرَّاكِبِ فِي السَّفَرِ بِدُونِ عُذْرٍ جَائِزَةٌ بِدُونِ كَرَاهَةٍ.
مَا يُكْرَهُ فِي الْإِقَامَةِ
16- يُكْرَهُ فِي الْإِقَامَةِ: تَرْكُ شَيْءٍ مِنْ مُسْتَحَبَّاتِهَا الَّتِي سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا، وَمِمَّا يُكْرَهُ أَيْضًا: الْكَلَامُ فِي الْإِقَامَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ إِذَا كَانَ كَثِيرًا، أَمَّا إِنْ كَانَ الْكَلَامُ فِي الْإِقَامَةِ لِضَرُورَةٍ مِثْلَ مَا لَوْ رَأَى أَعْمَى يَخَافُ وُقُوعَهُ فِي بِئْرٍ، أَوْ حَيَّةً تَدِبُّ إِلَى غَافِلٍ، أَوْ سَيَّارَةً تُوشِكُ أَنْ تَدْهَمَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ إِنْذَارَهُ وَيَبْنِي عَلَى إِقَامَتِهِ.
أَمَّا الْكَلَامُ الْقَلِيلُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَفِيهِ رَأْيَانِ:
الْأَوَّلُ: لَا يُكْرَهُ بَلْ يُؤَدِّي إِلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ.قَالَ بِهَذَا الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ « أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَكَلَّمَ فِي الْخُطْبَةِ، » فَالْأَذَانُ أَوْلَى أَلاَّ يَبْطُلَ، وَكَذَلِكَ الْإِقَامَةُ، وَلِأَنَّهُمَا يَصِحَّانِ مَعَ الْحَدَثِ، وَقَاعِدًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّخْفِيفِ.
الثَّانِي: يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، وَيَبْنِي عَلَى إِقَامَتِهِ، وَبِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، لِأَنَّ الْإِقَامَةَ حَدْرٌ، وَهَذَا يُخَالِفُ الْوَارِدَ، وَيَقْطَعُ بَيْنَ كَلِمَاتِهَا.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّمْطِيطَ وَالتَّغَنِّيَ وَالتَّطْرِيبَ بِزِيَادَةِ حَرَكَةٍ أَوْ حَرْفٍ أَوْ مَدٍّ أَوْ غَيْرِهَا فِي الْأَوَائِلِ وَالْأَوَاخِرِ مَكْرُوهٌ، لِمُنَافَاةِ الْخُشُوعِ وَالْوَقَارِ.
أَمَّا إِذَا تَفَاحَشَ التَّغَنِّي وَالتَّطْرِيبُ بِحَيْثُ يُخِلُّ بِالْمَعْنَى فَإِنَّهُ يَحْرُمُ بِدُونِ خِلَافٍ فِي ذَلِكَ.لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عُمَرَ: إِنِّي لأَُحِبُّكَ فِي اللَّهِ.قَالَ: وَأَنَا أَبْغَضُكَ فِي اللَّهِ، إِنَّكَ تَتَغَنَّى فِي أَذَانِكَ.قَالَ حَمَّادٌ: يَعْنِي التَّطْرِيبَ.
إِقَامَةُ غَيْرِ الْمُؤَذِّنِ:
17- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَلَّى الْإِقَامَةَ مَنْ تَوَلَّى الْأَذَانَ.وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ أَنَّهُ قَالَ: « بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِلَالًا إِلَى حَاجَةٍ لَهُ فَأَمَرَنِي أَنْ أُؤَذِّنَ فَأَذَّنْتُ، فَجَاءَ بِلَالٌ وَأَرَادَ أَنْ يُقِيمَ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّ أَخَا صِدَاءٍ هُوَ الَّذِي أَذَّنَ، وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ الَّذِي يُقِيمُ » وَلِأَنَّهُمَا فِعْلَانِ مِنَ الذِّكْرِ يَتَقَدَّمَانِ الصَّلَاةَ، فَيُسَنُّ أَنْ يَتَوَلاَّهُمَا وَاحِدٌ كَالْخُطْبَتَيْنِ، وَوَافَقَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ إِذَا كَانَ الْمُؤَذِّنُ يَتَأَذَّى مِنْ إِقَامَةِ غَيْرِهِ، لِأَنَّ أَذَى الْمُسْلِمِ مَكْرُوهٌ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ رَجُلٌ وَيُقِيمَ غَيْرُهُ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ رَأَى الْأَذَانَ فِي الْمَنَامِ فَأَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: « أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ، فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ، فَأَذَّنَ بِلَالٌ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَنَا رَأَيْتُهُ وَأَنَا كُنْتُ أُرِيدُهُ قَالَ: أَقِمْ أَنْتَ »
وَلِأَنَّهُ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَوَلاَّهُمَا مَعًا، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ إِذَا كَانَ الْمُؤَذِّنُ لَا يَتَأَذَّى مِنْ إِقَامَةِ غَيْرِهِ.
إِعَادَةُ الْإِقَامَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ:
18- لَوْ صُلِّيَ فِي مَسْجِدٍ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، هَلْ يُكْرَهُ أَنْ يُؤَذَّنَ وَيُقَامَ فِيهِ ثَانِيًا؟ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ آرَاءَ:
الْأَوَّلُ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَرَأْيٌ ضَعِيفٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِذَا صُلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ كُرِهَ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ، وَشَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ أَنْ يَكُونَ مَنْ أَذَّنَ وَصَلَّى أَوَّلًا هُمْ أَهْلَ الْمَسْجِدِ « أَيْ أَهْلَ حَيِّهِ » فَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ فَأَذَانُ الْجَمَاعَةِ وَإِقَامَتُهُمْ لَهُمْ أَذَانٌ وَإِقَامَةٌ.
الثَّانِي فِي الرَّأْيِ الرَّاجِحِ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ لِلْجَمَاعَةِ الثَّانِيَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ مَا يَسْمَعُونَ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ إِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَلَيْسَ لَهُ أَهْلٌ مَعْلُومُونَ، أَوْ صَلَّى فِيهِ غَيْرُ أَهْلِهِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِأَهْلِهِ أَنْ يُؤَذِّنُوا وَيُقِيمُوا.
الثَّالِثُ لِلْحَنَابِلَةِ: الْخِيَارُ، إِنْ شَاءَ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَيُخْفِيَ أَذَانَهُ وَإِقَامَتَهُ، وَإِنْ شَاءَ صَلَّى مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ.
مَا يُقَامُ لَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ:
19- يُقَامُ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الْمَفْرُوضَةِ فِي حَالِ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ وَالِانْفِرَادِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَلَبِ الْإِقَامَةِ لِكُلٍّ مِنَ الصَّلَاتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ، لِأَنَّ « الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- جَمَعَ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِمُزْدَلِفَةَ وَأَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ »..وَلِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ جَمَعَهُمَا وَقْتٌ وَاحِدٌ، وَتُصَلَّى كُلُّ صَلَاةٍ وَحْدَهَا، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ لِكُلِّ صَلَاةٍ إِقَامَةٌ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَلَبِ الْإِقَامَةِ لِلصَّلَوَاتِ الْفَوَائِتِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- « أَنَّهُ حِينَ شَغَلَهُمُ الْكُفَّارُ يَوْمَ الْأَحْزَابِ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ أَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، حَتَّى قَالُوا: أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى الْعِشَاءَ ».وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْإِقَامَةِ لِلْمُنْفَرِدِ، سَوَاءٌ صَلَّى فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي مَكَانٍ آخَرَ غَيْرِ الْمَسْجِدِ، لِخَبَرِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: « سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: يَعْجَبُ رَبُّكَ مِنْ رَاعِي غَنَمٍ فِي رَأْسِ الشَّظِيَّةِ لِلْجَبَلِ يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ لِلصَّلَاةِ وَيُصَلِّي، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ يَخَافُ مِنِّي، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ »
وَلَكِنَّهُ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى أَذَانِ الْحَيِّ وَإِقَامَتِهِ أَجْزَأَهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ صَلَّى بِعَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ وَقَالَ: يَكْفِينَا أَذَانُ الْحَيِّ وَإِقَامَتُهُمْ.
الْإِقَامَةُ لِصَلَاةِ الْمُسَافِرِ:
20- الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ لِلْفَرْدِ وَالْجَمَاعَةِ مَشْرُوعَانِ فِي السَّفَرِ كَمَا فِي الْحَضَرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ السَّفَرُ سَفَرَ قَصْرٍ أَوْ دُونَهُ. الْأَذَانُ لِلصَّلَاةِ الْمُعَادَةِ:
21- فِي الْإِقَامَةِ لِلصَّلَاةِ الْمُعَادَةِ فِي وَقْتِهَا لِلْفَسَادِ رَأْيَانِ:
الْأَوَّلُ: لِلْحَنَفِيَّةِ: تُعَادُ الصَّلَاةُ الْفَاسِدَةُ فِي الْوَقْتِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، وَأَمَّا إِنْ قَضَوْهَا بَعْدَ الْوَقْتِ قَضَوْهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ.
الثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ: يُقَامُ لِلصَّلَاةِ الْمُعَادَةِ لِلْبُطْلَانِ أَوِ الْفَسَادِ، وَلَمْ يُعْثَرْ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى تَصْرِيحٍ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّ قَوَاعِدَهُمْ لَا تَأْبَاهُ.
مَا لَا يُقَامُ لَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ:
22- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَنُّ الْإِقَامَةُ لِغَيْرِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ.فَلَا أَذَانَ وَلَا إِقَامَةَ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَلَا لِلْوَتْرِ وَلَا لِلنَّوَافِلِ وَلَا لِصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ.لِمَا رُوِيَ عَنْ « جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- الْعِيدَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ ».
وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: « خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَبَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ ».
إِجَابَةُ السَّامِعِ لِلْمُؤَذِّنِ وَالْمُقِيمِ:
23- نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِيغَةِ الْإِجَابَةِ بِاللِّسَانِ فَقَالُوا: يَقُولُ السَّامِعُ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُقِيمُ، إِلاَّ فِي الْحَيْعَلَتَيْنِ « حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ وَحَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ » فَإِنَّهُ يُحَوْقِلُ « لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاَللَّهِ ».
وَيَزِيدُ عِنْدَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ « أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا »، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: « أَنَّ بِلَالًا أَخَذَ فِي الْإِقَامَةِ، فَلَمَّا أَنْ قَالَ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا ».وَقَالَ فِي سَائِرِ الْإِقَامَةِ كَنَحْوِ حَدِيثِ عُمَرَ فِي الْأَذَانِ الَّذِي رَوَاهُ جَعْفَرُ بْنُ عَاصِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ أَحَدُكُمْ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ » وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ أَذَانٍ.
وَحُكْمُ الْإِجَابَةِ بِاللِّسَانِ أَنَّهَا سُنَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَإِنَّ الْإِجَابَةَ عِنْدَهُمْ تَكُونُ فِي الْأَذَانِ دُونَ الْإِقَامَةِ. الْفَصْلُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ:
24- صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِاسْتِحْبَابِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ بِصَلَاةٍ أَوْ جُلُوسٍ أَوْ وَقْتٍ يَسَعُ حُضُورَ الْمُصَلِّينَ فِيمَا سِوَى الْمَغْرِبِ، مَعَ مُلَاحَظَةِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ لِلصَّلَاةِ.
وَتُكْرَهُ عِنْدَهُمُ الْإِقَامَةُ لِلصَّلَاةِ بَعْدَ الْأَذَانِ مُبَاشَرَةً بِدُونِ هَذَا الْفَصْلِ، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- « أَنَّهُ قَالَ لِبِلَالٍ: اجْعَلْ بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ نَفَسًا حَتَّى يَقْضِيَ الْمُتَوَضِّئُ حَاجَتَهُ فِي مَهْلٍ، وَحَتَّى يَفْرُغَ الْآكِلُ مِنْ أَكْلِ طَعَامِهِ فِي مَهْلٍ »
وَفِي رِوَايَةٍ: « لِيَكُنْ بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ مِقْدَارُ مَا يَفْرُغُ الْآكِلُ مِنْ أَكْلِهِ، وَالشَّارِبُ مِنْ شُرْبِهِ، وَالْمُعْتَصِرُ إِذَا دَخَلَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ ».
وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْأَذَانِ إِعْلَامُ النَّاسِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ لِيَتَهَيَّئُوا لِلصَّلَاةِ بِالطَّهَارَةِ فَيَحْضُرُوا الْمَسْجِدَ، وَبِالْوَصْلِ يَنْتَفِي هَذَا الْمَقْصُودُ، وَتَفُوتُ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَدْ وَرَدَ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ تَحْدِيدُ مِقْدَارِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مِقْدَارَ الْفَصْلِ فِي الْفَجْرِ قَدْرُ مَا يَقْرَأُ عِشْرِينَ آيَةً، وَفِي الظُّهْرِ قَدْرُ مَا يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ آيَاتٍ، وَفِي الْعَصْرِ مِقْدَارُ مَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ آيَاتٍ.
أَمَّا فِي الْمَغْرِبِ: فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى تَعْجِيلِ الْإِقَامَةِ فِيهَا لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: « بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ لِمَنْ شَاءَ إِلاَّ الْمَغْرِبَ » لِأَنَّ مَبْنَى الْمَغْرِبِ عَلَى التَّعْجِيلِ، وَلِمَا رَوَى أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ- رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: « لَنْ تَزَالَ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إِلَى اشْتِبَاكِ النُّجُومِ » وَعَلَى هَذَا يُسَنُّ أَنْ يَكُونَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِيهَا يَسِيرًا.
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي مِقْدَارِ هَذَا الْفَصْلِ الْيَسِيرِ أَقْوَالٌ:
أ- قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ: يَفْصِلُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الْمَغْرِبِ قَائِمًا بِمِقْدَارِ ثَلَاثِ آيَاتٍ، وَلَا يَفْصِلُ بِالصَّلَاةِ، لِأَنَّ الْفَصْلَ بِالصَّلَاةِ تَأْخِيرٌ، كَمَا لَا يَفْصِلُ الْمُقِيمُ بِالْجُلُوسِ، لِأَنَّهُ تَأْخِيرٌ لِلْمَغْرِبِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَفْصِلْ بِالصَّلَاةِ فَبِغَيْرِهَا أَوْلَى.
ب- وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَفْصِلُ بِجَلْسَةٍ خَفِيفَةٍ كَالْجَلْسَةِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَوَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْفَصْلَ مَسْنُونٌ وَلَا يُمْكِنُ بِالصَّلَاةِ، فَيَفْصِلُ بِالْجَلْسَةِ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ.
ج- وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ الْفَصْلَ بِرَكْعَتَيْنِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الْمَغْرِبِ، أَيْ أَنَّهُمَا لَا يُكْرَهَانِ وَلَا يُسْتَحَبَّانِ.
الْأُجْرَةُ عَلَى الْإِقَامَةِ مَعَ الْأَذَانِ:
25- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ مَنْ يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ مُحْتَسِبًا- مِمَّنْ تَتَحَقَّقُ فِيهِ شَرَائِطُ الْمُؤَذِّنِ- فَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ أَحَدٍ لِلْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُوجَدِ الْمُتَطَوِّعُ أَوْ وُجِدَ وَلَمْ تَتَحَقَّقْ فِيهِ الشُّرُوطُ فَهَلْ يُسْتَأْجَرُ عَلَى الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ؟
فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ آرَاءَ:
الْأَوَّلُ: الْمَنْعُ لِأَنَّهُ طَاعَةٌ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ أَحَدٍ عَلَى الطَّاعَةِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ « آخِرَ مَا عَهِدَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعُثْمَانَ بْنِ الْعَاصِ- رضي الله عنه- أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ، وَأَنْ يَتَّخِذَ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَيْهِ أَجْرًا »
وَهَذَا الرَّأْيُ لِمُتَقَدِّمِي الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
الثَّانِي: الْجَوَازُ لِأَنَّهُ كَسَائِرِ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِمُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ، وَرَأْيٌ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةً إِلَيْهِ، وَقَدْ لَا يُوجَدُ مُتَطَوِّعٌ.وَلِأَنَّهُ إِذَا انْقَطَعَ لَهُ قَدْ لَا يَجِدُ مَا يُقِيتُ بِهِ عِيَالَهُ.
الثَّالِثُ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ دُونَ آحَادِ النَّاسِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى مَصَالِحَ الْمُسْلِمِينَ.وَيَجُوزُ لَهُ الْإِعْطَاءُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
هَذَا، وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْإِقَامَةِ فَقَطْ بِدُونِ الْأَذَانِ لِأَنَّهُ عَمَلٌ قَلِيلٌ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (أَذَان، وَإِجَارَة).
الْإِقَامَةُ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ:
26- يُسْتَحَبُّ الْأَذَانُ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ الْيُمْنَى وَالْإِقَامَةُ فِي الْيُسْرَى، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: « رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَذَّنَ فِي أُذُنِ الْحَسَنِ حِينَ وَلَدَتْهُ فَاطِمَةُ بِالصَّلَاةِ ».
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (أَذَان) فِقْرَةُ 51 (ج 2 ص 372).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
29-موسوعة الفقه الكويتية (أكل 1)
أَكْلٌ -1حُكْمُ الطَّعَامِ الْمَأْكُولِ ذَاتُهُ:
1- إِنَّ بَيَانَ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَمَعْرِفَتَهُمَا مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ.فَقَدْ وَرَدَ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى أَكْلِ الْحَرَامِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: « كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ حَرَامٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ ».
وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ أَشْيَاءَ كَمَا فِي قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ}.وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ.
وَحُرِّمَتْ أَشْيَاءُ بِالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: « كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ فَأَكْلُهُ حَرَامٌ »
وَسَكَتَ الشَّرْعُ عَنْ أَشْيَاءَ.وَيُرْجَعُ إِلَى إِيضَاحِ ذَلِكَ كُلِّهِ تَحْتَ عِنْوَانِ (أَطْعِمَة).
صِفَةُ الْأَكْلِ بِالنِّسْبَةِ لِلْآكِلِ:
2- إِنَّ الْأَكْلَ قَدْ يَكُونُ فَرْضًا، يُثَابُ الْإِنْسَانُ عَلَى فِعْلِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ لِلْغِذَاءِ بِقَدْرِ مَا يَدْفَعُ عَنْهُ الْهَلَاكَ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَأْمُورٌ بِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ وَعَدَمِ إِلْقَائِهَا إِلَى التَّهْلُكَةِ.
وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، وَذَلِكَ بِقَدْرِ مَا يَسْتَطِيعُ مَعَهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ عَلَيْهِ قَائِمًا، وَأَدَاءُ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ، لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ.
وَمِنْهُ مَنْدُوبٌ، وَهُوَ مَا يُعِينُهُ عَلَى تَحْصِيلِ رِزْقِهِ وَتَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَتَعَلُّمِهِ وَتَحْصِيلِ النَّوَافِلِ.
وَقَدْ يَكُونُ الْأَكْلُ مُبَاحًا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ، وَذَلِكَ إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَهُ الِامْتِلَاءُ.
وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا، وَهُوَ مَا فَوْقَ الشِّبَعِ، وَكُلُّ طَعَامٍ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يُفْسِدُ مَعِدَتَهُ، لِأَنَّهُ إِسْرَافٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لقوله تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا} إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ عَلَى الشِّبَعِ لَا تَضُرُّهُ، وَقَصَدَ بِالْأَكْلِ الْقُوَّةَ عَلَى صَوْمِ الْغَدِ، أَوِ الزِّيَادَةَ فِي الطَّاعَاتِ، أَوْ لِئَلاَّ يَسْتَحْيِيَ الْحَاضِرُ مَعَهُ بَعْدَ إِتْمَامِ طَعَامِهِ.وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: « مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أَكَلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ ».
وَمِنْ الْأَكْلِ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ قَلِيلًا، فَإِنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ، وَقَدْ قَالَ الْبَعْضُ: إِنَّ الْآكِلَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ التَّلَذُّذَ وَالتَّنَعُّمَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ الْكَافِرِينَ بِأَكْلِهِمْ لِلتَّمَتُّعِ وَالتَّنَعُّمِ وَقَالَ: {وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}.وَقَالَ النَّبِيُّ- عليه الصلاة والسلام- « الْمُسْلِمُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ ».
هَذَا، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ الْأَكْلُ بِقَصْدِ التَّمَتُّعِ وَالتَّلَذُّذِ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْنَا بِهِ، لِقَصْدِ التَّقَوِّي عَلَى أَعْمَالِ الْخَيْرِ لقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا هَذَا الْقَائِلُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْعِي عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَتَمَتَّعُونَ بِالْأَطْعِمَةِ الَّتِي رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُفَكِّرُوا فِي الْمُنْعِمِ، وَأَنْ يَشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا احْتَجُّوا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ النَّعْيُ عَلَى مَنْ أَكْثَرَ مِنَ الطَّعَامِ.
حُكْمُ الْأَكْلِ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ وَالْعَقِيقَةِ:
3- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُضَحِّي أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ، لقوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} وَهَذَا وَإِنْ كَانَ وَارِدًا فِي الْهَدْيِ إِلاَّ أَنَّ الْهَدْيَ وَالْأُضْحِيَّةَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ.وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: « إِذَا ضَحَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ وَيُطْعِمْ مِنْهَا غَيْرَهُ » وَلِأَنَّهُ ضَيْفُ اللَّهِ عَزَّ شَأْنُهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَيَتَّفِقُونَ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُطْعِمَ غَيْرَهُ مِنْهَا.
وَهَذَا الِاتِّفَاقُ فِي الْأُضْحِيَّةِ الَّتِي لَمْ تَجِبْ.أَمَّا إِذَا وَجَبَتِ الْأُضْحِيَّةُ فَفِي حُكْمِ الْأَكْلِ مِنْهَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءِ.
وَوُجُوبُهَا يَكُونُ بِالنَّذْرِ أَوْ بِالتَّعْيِينِ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ بِشَرْطِ الْغِنَى، وَلَوِ اشْتَرَاهَا الْفَقِيرُ مِنْ أَجْلِ التَّضْحِيَةِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ.
فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا وَيُطْعِمَ غَيْرَهُ، لِأَنَّ النَّذْرَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْهُودِ، وَالْمَعْهُودُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ذَبْحُهَا وَالْأَكْلُ مِنْهَا، وَالنَّذْرُ لَا يُغَيِّرُ مِنْ صِفَةِ الْمَنْذُورِ إِلاَّ الْإِيجَابَ.
وَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ الْمَنْذُورَةِ، بِنَاءً عَلَى الْهَدْيِ الْمَنْذُورِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنْ وَجَبَتِ الْأُضْحِيَّةُ بِنَذْرٍ مُطْلَقٍ جَازَ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهَا.
وَالْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- كَمَا فَصَّلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ- أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْغَنِيِّ الْأَكْلُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ الَّتِي نَذَرَهَا إِنْ قَصَدَ بِنَذْرِهِ الْإِخْبَارَ عَنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ النَّذْرُ ابْتِدَاءً فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهَا.وَبِالنِّسْبَةِ لِلْفَقِيرِ إِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِالشِّرَاءِ، فَفِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ: لَهُ الْأَكْلُ مِنْهَا، وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهَا.
هَذَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ تَوْضِيحًا لِمَا ذَكَرَهُ الزَّيْلَعِيُّ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ الْمَنْذُورَةِ دُونَ تَفْصِيلٍ.
غَيْرَ أَنَّ الْكَاسَانِيَّ ذَكَرَ فِي الْبَدَائِعِ أَنَّهُ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ- أَيْ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ- الْأَكْلُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ نَفْلًا أَمْ وَاجِبَةً، مَنْذُورَةً كَانَتْ أَوْ وَاجِبَةً ابْتِدَاءً.
4- وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ أُضْحِيَّةٌ فَمَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَهَا، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يَذْبَحُهَا قَضَاءً، وَيَصْنَعُ بِهَا مَا يَصْنَعُ بِالْمَذْبُوحِ فِي وَقْتِهِ، لِأَنَّ الذَّبْحَ أَحَدُ مَقْصُودَيِ الْأُضْحِيَّةِ فَلَا يَسْقُطُ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا حَيَّةً، وَلَا يَأْكُلُ مِنْ لَحْمِهَا، لِأَنَّهُ انْتَقَلَ الْوَاجِبُ مِنْ إِرَاقَةِ الدَّمِ إِلَى التَّصَدُّقِ.
وَإِذَا وَلَدَتِ الْأُضْحِيَّةُ قَبْلَ التَّضْحِيَةِ، فَحُكْمُ وَلَدِهَا فِي الْأَكْلِ مِنْهُ حُكْمُ الْأُمِّ، وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهُ.
وَمَنْ أَوْجَبَ أُضْحِيَّةً ثُمَّ مَاتَ قَامَ وَرَثَتُهُ مَقَامَهُ، فَيَجُوزُ لَهُمُ الْأَكْلُ مِنْهَا وَإِطْعَامُ غَيْرِهِمْ.وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يَجُوزُ لَهُمُ الْأَكْلُ مِنْهَا، بَلْ سَبِيلُهَا التَّصَدُّقُ.
5- وَالْعَقِيقَةُ (وَهِيَ مَا يُذْبَحُ عَنِ الْمَوْلُودِ) حُكْمُهَا فِي اسْتِحْبَابِ الْأَكْلِ مِنْهَا، وَإِطْعَامِ الْغَيْرِ مِنْهَا حُكْمُ الْأُضْحِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ لَا يَرَوْنَهَا وَاجِبَةً.
وَقَدْ وَرَدَ فِي مَرَاسِيلِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ « النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي الْعَقِيقَةِ الَّتِي عَقَّتْهَا، فَاطِمَةُ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ: أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى الْقَابِلَةِ بِرِجْلٍ، وَكُلُوا وَأَطْعِمُوا وَلَا تَكْسِرُوا مِنْهَا عَظْمًا ».
حُكْمُ الْأَكْلِ مِنَ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ:
6- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ إِطْعَامٌ فِي كَفَّارَةِ يَمِينٍ أَوْ ظِهَارٍ أَوْ إِفْطَارٍ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ أَوْ فِدْيَةِ الْأَذَى فِي الْحَجِّ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَكْفِيرٌ لِلذَّنْبِ.هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُكَفِّرِ.
أَمَّا الْمُعْطَى- وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ- فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَا يَكْفِي إِبَاحَةُ الْإِطْعَامِ، وَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَمْلِيكِ الْمُسْتَحِقِّ، لِأَنَّ تَدَارُكَ الْجِنَايَةِ بِالْإِطْعَامِ أَشْبَهَ الْبَدَلَ، وَالْبَدَلِيَّةُ تَسْتَدْعِي تَمْلِيكَ الْبَدَلِ، وَلِأَنَّ الْمَنْقُولَ عَنِ الصَّحَابَةِ إِعْطَاؤُهُمْ، فَفِي قَوْلِ زَيْدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ مُدًّا لِكُلِّ مِسْكِينٍ « وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِكَعْبٍ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى: أَطْعِمْ ثَلَاثَةَ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ » وَلِأَنَّهُ مَالٌ وَجَبَ لِلْفُقَرَاءِ شَرْعًا فَوَجَبَ تَمْلِيكُهُمْ إِيَّاهُ كَالزَّكَاةِ.وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا يُجْزِئُ أَنْ يُغَدِّيَهُمْ وَيُعَشِّيَهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ إِبَاحَةً لَا تَمْلِيكًا.
وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ هُوَ التَّمْلِيكُ، وَخَاصَّةً فِي كَفَّارَتَيِ الظِّهَارِ وَفِدْيَةِ الْأَذَى، لِقَوْلِ الْإِمَامِ مَالِكٍ: لَا أُحِبُّ الْغَدَاءَ وَالْعَشَاءَ لِلْمَسَاكِينِ، حَتَّى حَمَلَ أَبُو الْحَسَنِ كَلَامَ الْإِمَامِ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَحَمَلَهُ ابْنُ نَاجِي عَلَى التَّحْرِيمِ.
وَالْعِلَّةُ فِي التَّمْلِيكِ هُوَ خَشْيَةُ أَلاَّ يَبْلُغَ مَا يَأْكُلُهُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ إِخْرَاجُهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: لَا أَظُنُّهُ (الْغَدَاءَ وَالْعَشَاءَ) يَبْلُغُ ذَلِكَ (الْمِقْدَارَ الْوَاجِبَ إِخْرَاجُهُ) وَمِنْ هُنَا قَالَ الدَّرْدِيرُ: فَلَوْ تَحَقَّقَ بُلُوغُهُ أَجْزَأَ.
وَفِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ يُجْزِئُ شِبَعُهُمْ مَرَّتَيْنِ.
وَإِجْزَاءُ الْإِطْعَامِ بِغَدَاءٍ وَعَشَاءٍ إِنْ بَلَغَ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ لَهُمْ هُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، لِأَنَّهُ أَطْعَمَ الْمَسَاكِينَ، فَأَجْزَأَهُ كَمَا لَوْ مَلَّكَهُمْ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ التَّمْلِيكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْإِطْعَامِ بَلْ الشَّرْطُ هُوَ التَّمْكِينُ.وَإِنَّمَا يَجُوزُ التَّمْلِيكُ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَمْكِينٌ، لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ تَمْلِيكٌ، لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِلَفْظِ الْإِطْعَامِ {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} وَالْإِطْعَامُ فِي مُتَعَارَفِ اللُّغَةِ اسْمٌ لِلتَّمْكِينِ مِنَ الْمَطْعَمِ لَا التَّمْلِيكِ، وَإِنَّمَا يُطْعِمُونَ عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ دُونَ التَّمْلِيكِ.
وَفِي النَّذْرِ لَا يَجُوزُ لِلنَّاذِرِ الْأَكْلُ مِنْ نَذْرِهِ، لِأَنَّهُ صَدَقَةٌ، وَلَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ الْمَنْذُورَةَ فِيهَا خِلَافٌ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ.وَكَذَلِكَ النَّذْرُ الْمُطْلَقُ الَّذِي لَمْ يُعَيَّنْ لِلْمَسَاكِينِ- لَا بِلَفْظٍ وَلَا بِنِيَّةٍ- يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهُ، عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَبِالنِّسْبَةِ لِلْمَنْذُورِ لَهُ فَذَلِكَ يَكُونُ بِحَسَبِ كَيْفِيَّةِ النَّذْرِ، فَمَنْ نَذَرَ إِطْعَامَ الْمَسَاكِينِ أَطْعَمَهُمْ، وَمَنْ نَذَرَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْلِيكِ مَلَّكَهُ لَهُمْ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (كَفَّارَة) (وَنَذْر).
الْأَكْلُ مِنَ الْوَلِيمَةِ وَالْأَكْلُ مَعَ الضَّيْفِ:
7- مَنْ دُعِيَ إِلَى طَعَامِ الْوَلِيمَةِ- وَهِيَ طَعَامُ الْعُرْسِ- فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْأَكْلُ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ، لِخَبَرِ مُسْلِمٍ: « إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ.وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ » أَيْ فَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ.
وَوَقَعَ لِلنَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ تَصْحِيحُ وُجُوبِ الْأَكْلِ.وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ.
وَإِنْ كَانَ صَائِمًا تَطَوُّعًا، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْأَكْلُ، وَإِفْطَارُهُ لِجَبْرِ خَاطِرِ الدَّاعِي أَفْضَلُ مِنْ إِمْسَاكِهِ وَلَوْ آخِرَ النَّهَارِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ « صَنَعَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ طَعَامًا فَدَعَا النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابَهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- صَنَعَ لَكَ أَخُوكَ وَتَكَلَّفَ لَكَ أَخُوكَ أَفْطِرْ وَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ ».وَلِأَنَّ فِي الْأَكْلِ إِجَابَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَإِدْخَالَ السُّرُورِ عَلَى قَلْبِهِ.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَكْتَفِي الصَّائِمُ بِالدُّعَاءِ لِصَاحِبِ الْوَلِيمَةِ وَمَنْ أَضَافَ أَحَدًا وَقَدَّمَ لَهُ الطَّعَامَ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْكُلَ صَاحِبُ الطَّعَامِ مَعَ ضَيْفِهِ، وَأَلاَّ يَقُومَ عَنِ الطَّعَامِ وَغَيْرُهُ يَأْكُلُ، مَا دَامَ يَظُنُّ بِهِ حَاجَةً إِلَى الْأَكْلِ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَأْكُلُ بِالسُّرُورِ مَعَ الْإِخْوَانِ، وَبِالْإِيثَارِ مَعَ الْفُقَرَاءِ، وَبِالْمُرُوءَةِ مَعَ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا.
آدَابُ الْأَكْلِ:
أ- آدَابُ مَا قَبْلَ الْأَكْلِ:
8- أَوَّلًا: مِنْ آدَابِ الْأَكْلِ السُّؤَالُ عَنِ الطَّعَامِ إِذَا كَانَ ضَيْفًا عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَعْرِفُهُ، وَلَا يَطْمَئِنُّ إِلَى مَا قَدْ يُقَدِّمُهُ إِلَيْهِ.فَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- لَا يَأْكُلُ طَعَامًا حَتَّى يُحَدَّثَ أَوْ يُسَمَّى لَهُ فَيَعْرِفَ مَا هُوَ، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ « خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى مَيْمُونَةَ، وَهِيَ خَالَتُهُ وَخَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَوَجَدَ عِنْدَهَا ضَبًّا مَحْنُوذًا قَدِمَتْ بِهِ أُخْتُهَا حَفِيدَةُ ابْنِ الْحَارِثِ مِنْ نَجْدٍ فَقَدَّمَتِ الضَّبَّ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَكَانَ قَلَّمَا يُقَدِّمُ يَدَهُ لِطَعَامٍ حَتَّى يُحَدَّثَ بِهِ وَيُسَمَّى لَهُ، وَأَهْوَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَدَهُ إِلَى الضَّبِّ فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ النِّسْوَةِ الْحُضُورِ: أَخْبِرْنَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: أَنَّ مَا قَدَّمْتُنَّ لَهُ هُوَ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ يَدَهُ عَنِ الضَّبِّ، قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: أَحَرَامٌ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ، قَالَ خَالِدٌ: فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَنْظُرُ إِلَيَّ ».وَشَرَحَهُ الزَّرْكَشِيُّ فَقَالَ: قَالَ ابْنُ التِّينِ: إِنَّمَا كَانَ يَسْأَلُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تَعَافُ شَيْئًا مِنَ الْمَآكِلِ لِقِلَّتِهَا عِنْدَهُمْ، وَكَانَ هُوَ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ يَعَافُ بَعْضَ الشَّيْءِ، فَلِذَلِكَ كَانَ يَسْأَلُ.وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ يَسْأَلُ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِتَحْرِيمِ بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ وَإِبَاحَةِ بَعْضِهَا، وَكَانُوا لَا يُحَرِّمُونَ مِنْهَا شَيْئًا، وَرُبَّمَا أَتَوْا بِهِ مَشْوِيًّا أَوْ مَطْبُوخًا فَلَا يَتَمَيَّزُ مِنْ غَيْرِهِ إِلاَّ بِالسُّؤَالِ عَنْهُ.
ثَانِيًا: الْمُبَادَرَةُ إِلَى الْأَكْلِ إِذَا قُدِّمَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ مِنْ مُضِيفِهِ:
9- فَإِنَّ مِنْ كَرَامَةِ الضَّيْفِ تَعْجِيلَ التَّقْدِيمِ لَهُ، وَمِنْ كَرَامَةِ صَاحِبِ الْمَنْزِلِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى قَبُولِ طَعَامِهِ وَالْأَكْلُ مِنْهُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا رَأَوُا الضَّيْفَ لَا يَأْكُلُ ظَنُّوا بِهِ شَرًّا، فَعَلَى الضَّيْفِ أَنْ يُهَدِّئَ خَاطِرَ مُضِيفِهِ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى طَعَامِهِ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ اطْمِئْنَانًا لِقَلْبِهِ.
ثَالِثًا: غَسْلُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ:
10- يُسْتَحَبُّ غَسْلُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ الطَّعَامِ، لِيَأْكُلَ بِهَا وَهُمَا نَظِيفَتَانِ، لِئَلاَّ يَضُرَّ نَفْسَهُ بِمَا قَدْ يَكُونُ عَلَيْهِمَا مِنَ الْوَسَخِ.وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ لِنَفْيِ الْفَقْرِ، لِمَا فِي الْحَدِيثِ: « الْوُضُوءُ قَبْلَ الطَّعَامِ يَنْفِي الْفَقْرَ ».
رَابِعًا: التَّسْمِيَةُ قَبْلَ الْأَكْلِ:
11- يُسْتَحَبُّ التَّسْمِيَةُ قَبْلَ الْأَكْلِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّسْمِيَةِ عَلَى الطَّعَامِ قَوْلُ « بِاسْمِ اللَّهِ » فِي ابْتِدَاءِ الْأَكْلِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: « إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ، فَإِنْ نَسِيَ فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ » وَيَرَى النَّوَوِيُّ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَقُولَ الْمَرْءُ: ( (، فَإِنْ قَالَ:
بِاسْمِ اللَّهِ كَفَاهُ وَحَصَلَتِ السُّنَّةُ، لِمَا رَوَى « عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: كُنْتُ غُلَامًا فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَكَانَتْ يَدَيَّ تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: يَا غُلَامُ، سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ ».
خَامِسًا: آدَابُ الْأَكْلِ أَثْنَاءَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ:
أ- الْأَكْلُ بِالْيَمِينِ:
12- يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَأْكُلَ بِيَمِينِهِ وَلَا يَأْكُلَ بِشِمَالِهِ، فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: أَنَّ « النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ ».
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « لَا يَأْكُلَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِشِمَالِهِ، وَلَا يَشْرَبَنَّ بِهَا، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِهَا ».
وَهَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ، فَإِنْ كَانَ عُذْرٌ يَمْنَعُ الْأَكْلَ أَوِ الشُّرْبَ بِالْيَمِينِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ جِرَاحَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا كَرَاهَةَ فِي الشِّمَالِ.
وَالْحَدِيثُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَجَنَّبَ الْأَفْعَالَ الَّتِي تُشْبِهُ أَفْعَالَ الشَّيْطَانِ.
ب- الْأَكْلُ مِمَّا يَلِيهِ:
13- يُسَنُّ أَنْ يَأْكُلَ الْإِنْسَانُ مِمَّا يَلِيهِ فِي الطَّعَامِ مُبَاشَرَةً، وَلَا تَمْتَدُّ يَدُهُ إِلَى مَا يَلِي الْآخَرِينَ، وَلَا إِلَى وَسَطِ الطَّعَامِ، لِأَنَّ أَكْلَ الْمَرْءِ مِنْ مَوْضِعِ صَاحِبِهِ سُوءُ عِشْرَةٍ وَتَرْكُ مُرُوءَةٍ، وَقَدْ يَتَقَذَّرُهُ صَاحِبُهُ لَا سِيَّمَا فِي الْأَمْرَاقِ وَمَا شَابَهَهَا، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « إِنَّ الْبَرَكَةَ تَنْزِلُ وَسَطَ الطَّعَامِ، فَكُلُوا مِنْ حَافَّتَيْهِ وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهِ ».وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ « عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: كُنْتُ غُلَامًا فِي حِجْرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَكَانَتْ يَدَيَّ تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي: يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ، قَالَ: فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طُعْمَتِي بَعْدُ ».
إِلاَّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الطَّعَامُ تَمْرًا أَوْ أَجْنَاسًا فَقَدْ نَقَلُوا إِبَاحَةَ اخْتِلَافِ الْأَيْدِي فِي الطَّبَقِ وَنَحْوِهِ.
ج- غَسْلُ الْيَدِ بَعْدَ الطَّعَامِ:
14- تَحْصُلُ السُّنَّةُ بِمُجَرَّدِ الْغَسْلِ بِالْمَاءِ، قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ: وَالْأَوْلَى غَسْلُ الْيَدِ بِالْأُشْنَانِ أَوِ الصَّابُونِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُمَا.فَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: « إِنَّ الشَّيْطَانَ حَسَّاسٌ لَحَّاسٌ، فَاحْذَرُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ غُمَرٌ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلَا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ »
هَذَا وَالْغَسْلُ مُسْتَحَبٌّ قَبْلَ الْأَكْلِ وَبَعْدَهُ، وَلَوْ كَانَ الشَّخْصُ عَلَى وُضُوءٍ.وَرَوَى سَلْمَانُ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: « بَرَكَةُ الطَّعَامِ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ، وَالْوُضُوءُ بَعْدَهُ »، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمُرَادُ بِالْوُضُوءِ تَنْظِيفُ الْيَدِ بِغَسْلِهَا، وَلَيْسَ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ.
د- الْمَضْمَضَةُ بَعْدَ الطَّعَامِ:
15- الْمَضْمَضَةُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الطَّعَامِ مُسْتَحَبَّةٌ لِمَا رَوَى بَشِيرُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ « سُوَيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِالصَّهْبَاءِ- وَهِيَ عَلَى رَوْحَةٍ مِنْ خَيْبَرَ- فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَدَعَا بِطَعَامٍ فَلَمْ يَجِدْهُ إِلاَّ سَوِيقًا فَلَاكَ مِنْهُ، فَلُكْنَا مَعَهُ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَمَضْمَضَ، ثُمَّ صَلَّى وَصَلَّيْنَا وَلَمْ يَتَوَضَّأْ ».
هـ- الدُّعَاءُ لِلْمُضِيفِ:
16- فَقَدْ رَوَى أَنَسٌ أَنَّ « النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- جَاءَ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَجَاءَ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ فَأَكَلَ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ، وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ ».وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ « صَنَعَ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ النَّبْهَانِ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- طَعَامًا فَدَعَا النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابَهُ، فَلَمَّا فَرَغُوا قَالَ: أَثِيبُوا أَخَاكُمْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا إِثَابَتُهُ؟ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ فَأَكَلَ طَعَامَهُ وَشَرِبَ شَرَابَهُ فَدَعَوْا لَهُ، فَذَلِكَ إِثَابَتُهُ »
و- الْأَكْلُ بِثَلَاثَةِ أَصَابِعَ:
17- السُّنَّةُ الْأَكْلُ بِثَلَاثَةِ أَصَابِعَ، قَالَ عِيَاضٌ: وَالْأَكْلُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا مِنَ الشَّرَهِ وَسُوءِ الْأَدَبِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ لِذَلِكَ لِجَمْعِهِ اللُّقْمَةَ وَإِمْسَاكِهَا مِنْ جِهَاتِهَا الثَّلَاثِ: وَإِنِ اضْطُرَّ إِلَى الْأَكْلِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ، لِخِفَّةِ الطَّعَامِ وَعَدَمِ تَلْفِيقِهِ بِالثَّلَاثِ يَدْعَمُهُ بِالرَّابِعَةِ أَوِ الْخَامِسَةِ.هَذَا إِنْ أَكَلَ بِيَدِهِ، وَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِ الْمِلْعَقَةِ وَنَحْوِهَا كَمَا يَأْتِي.
ز- أَكْلُ اللُّقْمَةِ السَّاقِطَةِ:
18- إِذَا وَقَعَتِ اللُّقْمَةُ فَلْيُمِطِ الْآكِلُ عَنْهَا الْأَذَى وَلْيَأْكُلْهَا وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ، لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَوْضِعَ الْبَرَكَةِ فِي طَعَامِهِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي هَذِهِ اللُّقْمَةِ السَّاقِطَةِ، فَتَرْكُهَا يُفَوِّتُ عَلَى الْمَرْءِ بَرَكَةَ الطَّعَامِ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- « كَانَ إِذَا طَعِمَ طَعَامًا لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ، وَقَالَ: وَإِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيُمِطْ عَنْهَا الْأَذَى وَلْيَأْكُلْهَا، وَلَا يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ ».
ح- عَدَمُ الِاتِّكَاءِ أَثْنَاءَ الْأَكْلِ:
19- وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- « أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا » قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُتَّكِئُ هُنَا الْجَالِسُ مُعْتَمِدًا عَلَى وِطَاءٍ تَحْتَهُ، كَقُعُودِ مَنْ يُرِيدُ الْإِكْثَارَ مِنَ الطَّعَامِ.وَسَبَبُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ قِصَّةُ الْأَعْرَابِيِّ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ: « أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- شَاةٌ، فَجَثَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى رُكْبَتَيْهِ يَأْكُلُ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: مَا هَذِهِ الْجِلْسَةُ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَعَلَنِي عَبْدًا كَرِيمًا، وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا عَنِيدًا...»
وَاخْتُلِفَ فِي صِفَةِ الِاتِّكَاءِ، لَكِنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ الْإِكْثَارَ مِنَ الطَّعَامِ مَذْمُومٌ، وَمُرَادُهُ- صلى الله عليه وسلم- ذَمُّ فِعْلِ مَنْ يَسْتَكْثِرُ الطَّعَامَ، وَمَدْحُ مَنْ لَا يَأْكُلُ إِلاَّ الْبُلْغَةَ مِنَ الزَّادِ، وَلِذَلِكَ قَعَدَ مُسْتَوْفِزًا.
ط- التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْحَاضِرِينَ عَلَى الطَّعَامِ:
20- فَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ « رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَتَى بَعْضَ حُجَرِ نِسَائِهِ، فَدَخَلَ، ثُمَّ أَذِنَ لِي فَدَخَلْتُ الْحِجَابَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: هَلْ مِنْ غَدَاءٍ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ.فَأُتِيَ بِثَلَاثَةِ أَقْرِصَةٍ فَوُضِعْنَ عَلَى نَبِيٍّ (مَائِدَةٍ مِنْ خُوصٍ) فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قُرْصًا فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَخَذَ قُرْصًا آخَرَ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيَّ، ثُمَّ أَخَذَ الثَّالِثَ فَكَسَرَهُ اثْنَيْنِ، فَحَمَلَ نِصْفَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَنِصْفَهُ بَيْنَ يَدَيَّ، ثُمَّ قَالَ: هَلْ مِنْ أُدْمٍ؟ قَالُوا: لَا، إِلاَّ شَيْءٌ مِنْ خَلٍّ، قَالَ: هَاتُوهُ، فَنِعْمَ الْأُدْمُ هُوَ ».وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْحَاضِرِينَ عَلَى الطَّعَامِ مُسْتَحَبَّةٌ، حَتَّى لَوْ كَانَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ.
هَذَا وَمِنْ آدَابِ الْأَكْلِ أَثْنَاءَ الطَّعَامِ إِكْرَامُ الْخُبْزِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: « أَكْرِمُوا الْخُبْزَ »، وَعَدَمُ الْبُصَاقِ وَالْمُخَاطِ حَالَ الْأَكْلِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ.وَمِنْ آدَابِهِ كَذَلِكَ الْأَكْلُ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَالْحَدِيثُ غَيْرُ الْمُحَرَّمِ عَلَى الطَّعَامِ، وَمُؤَاكَلَةُ صِغَارِهِ وَزَوْجَاتِهِ، وَأَلاَّ يَخُصَّ نَفْسَهُ بِطَعَامٍ إِلاَّ لِعُذْرٍ كَدَوَاءٍ، بَلْ يُؤْثِرُهُمْ عَلَى نَفْسِهِ فَاخِرَ الطَّعَامِ، كَقِطْعَةِ لَحْمٍ وَخُبْزٍ لَيِّنٍ أَوْ طَيِّبٍ.
وَإِذَا فَرَغَ ضَيْفُهُ مِنَ الطَّعَامِ وَرَفَعَ يَدَهُ قَالَ صَاحِبُ الطَّعَامِ: كُلْ، وَيُكَرِّرُهَا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّهُ اكْتَفَى مِنْهُ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثِ مَرَّاتٍ، وَأَنْ يَتَخَلَّلَ، وَلَا يَبْتَلِعَ مَا يَخْرُجُ مِنْ أَسْنَانِهِ بِالْخِلَالِ بَلْ يَرْمِيهِ.
آدَابُ الْأَكْلِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ:
22- يُسَنُّ أَنْ يَقُولَ الْآكِلُ مَا وَرَدَ مِنْ حَمْدِ اللَّهِ وَالدُّعَاءِ بَعْدَ تَمَامِ الْأَكْلِ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مُوَدَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبَّنَا وَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَكَلَ طَعَامًا غَيْرَ اللَّبَنِ قَالَ: « اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ، وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ » وَإِذَا شَرِبَ لَبَنًا قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ، وَزِدْنَا مِنْهُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: مَنْ أَطْعَمَهُ اللَّهُ طَعَامًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ، وَمَنْ سَقَاهُ اللَّهُ لَبَنًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ.
آدَابٌ عَامَّةٌ فِي الْأَكْلِ:
أ- عَدَمُ ذَمِّ الطَّعَامِ:
23- رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: « مَا عَابَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- طَعَامًا قَطُّ، إِنِ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ، وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ » وَالْمُرَادُ الطَّعَامُ الْمُبَاحُ، أَمَّا الْحَرَامُ فَكَانَ يَعِيبُهُ وَيَذُمُّهُ وَيَنْهَى عَنْهُ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْعَيْبُ مِنْ جِهَةِ الْخِلْقَةِ كُرِهَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الصَّنْعَةِ لَمْ يُكْرَهْ، لِأَنَّ صَنْعَةَ اللَّهِ لَا تُعَابُ وَصَنْعَةَ الْآدَمِيِّينَ تُعَابُ.وَاَلَّذِي يَظْهَرُ التَّعْمِيمُ، فَإِنَّ فِيهِ كَسْرَ قَلْبِ الصَّانِعِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: مِنْ آدَابِ الطَّعَامِ الْمُتَأَكِّدَةِ أَلاَّ يُعَابَ كَقَوْلِهِ: مَالِحٌ، حَامِضٌ، قَلِيلُ الْمِلْحِ، غَلِيظٌ، رَقِيقٌ، غَيْرُ نَاضِجٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ- قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: هَذَا مِنْ حَسَنِ الْآدَابِ، لِأَنَّ الْمَرْءَ قَدْ لَا يَشْتَهِي الشَّيْءَ وَيَشْتَهِيهِ غَيْرُهُ، وَكُلُّ مَأْذُونٍ فِي أَكْلِهِ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ لَيْسَ فِيهِ عَيْبٌ.
ب- اسْتِعْمَالُ الْمَلَاعِقِ وَالسَّكَاكِينِ وَأَدَوَاتِ الطَّعَامِ:
24- يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ السِّكِّينِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ « عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ فِي يَدِهِ، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَأَلْقَاهَا وَالسِّكِّينَ الَّتِي يَحْتَزُّ بِهَا، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ ».
وَأَمَّا خَبَرُ « لَا تَقْطَعُوا اللَّحْمَ بِالسِّكِّينِ » فَقَدْ سُئِلَ عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَقَالَ: لَيْسَ بِصَحِيحٍ.وَقَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: أَمَّا تَقْطِيعُ الْخُبْزِ بِالسِّكِّينِ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ كَلَامًا.
ج- تَحَرِّي الْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ:
25- قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}.
وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: « لَا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ امْرِئٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرَبَتُهُ فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ، فَيَنْتَقِلَ طَعَامُهُ، فَإِنَّمَا تُخَزِّنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَاشِيَتِهِمْ أَطْعِمَاتِهِمْ، فَلَا يَحْلُبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِ »
قَالَ الشَّافِعِيُّ- رحمه الله-: أَصْلُ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِمَالِكٍ مِنَ الْآدَمِيِّينَ، أَوْ أَحَلَّهُ مَالِكُهُ، أَنَّهُ حَلَالٌ إِلاَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَزِمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُحَرَّمَ.وَيَحْرُمُ مَا لَمْ يَخْتَلِفِ الْمُسْلِمُونَ فِي تَحْرِيمِهِ، وَكَانَ فِي مَعْنَى كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا الْحُجَّةُ فِي أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُبَاحَ الْأَصْلِ يَحْرُمُ بِمَالِكِهِ، حَتَّى يَأْذَنَ فِيهِ مَالِكُهُ فَالْحُجَّةُ فِيهِ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}.وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} وَقَالَ: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} مَعَ آيٍ كَثِيرَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَظَرَ فِيهَا أَمْوَالَ النَّاسِ إِلاَّ بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ.
وَمِمَّا رُوِيَ فِي تَحْرِيمِ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ مَا وَرَدَ عَنْ « عُمَيْرٍ مَوْلَى أَبِي اللَّحْمِ قَالَ: أَقْبَلْتُ مَعَ سَادَتِي نُرِيدُ الْهِجْرَةَ، حَتَّى أَنْ دَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، قَالَ: فَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ، وَخَلَّفُونِي فِي ظَهْرِهِمْ، قَالَ: فَأَصَابَنِي مَجَاعَةٌ شَدِيدَةٌ، قَالَ: فَمَرَّ بِي بَعْضُ مَنْ يَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ فَقَالُوا لِي: لَوْ دَخَلْتَ الْمَدِينَةَ فَأَصَبْتَ مِنْ تَمْرِ حَوَائِطِهَا، فَدَخَلْتُ حَائِطًا، فَقَطَعْتُ مِنْهُ قِنْوَيْنِ، فَأَتَانِي صَاحِبُ الْحَائِطِ، فَأَتَى بِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَخْبَرَهُ خَبَرِي، وَعَلَيَّ ثَوْبَانِ، فَقَالَ لِي: أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا، فَقَالَ: خُذْهُ، وَأَعْطَى صَاحِبَ الْحَائِطِ الْآخَرَ، وَأَخْلَى سَبِيلِي » وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَاجَةَ لَا تُبِيحُ الْإِقْدَامَ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ مَعَ وُجُودِ مَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ، وَلَوْ كَانَ مِمَّا تَدْعُو حَاجَةُ الْإِنْسَانِ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ هُنَا أَخَذَ أَحَدَ ثَوْبَيْهِ، وَدَفَعَهُ إِلَى صَاحِبِ النَّخْلِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
30-موسوعة الفقه الكويتية (الإمامة الكبرى 1)
الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى -1التَّعْرِيفُ:
1- (الْإِمَامَةُ): مَصْدَرُ أَمَّ الْقَوْمَ وَأَمَّ بِهِمْ.إِذَا تَقَدَّمَهُمْ وَصَارَ لَهُمْ إِمَامًا.وَالْإِمَامُ- وَجَمْعُهُ أَئِمَّةٌ-: كُلُّ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ قَوْمٌ سَوَاءٌ أَكَانُوا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ: كَمَا فِي قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} أَمْ كَانُوا ضَالِّينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ}.
ثُمَّ تَوَسَّعُوا فِي اسْتِعْمَالِهِ، حَتَّى شَمَلَ كُلَّ مَنْ صَارَ قُدْوَةً فِي فَنٍّ مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ.فَالْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ قُدْوَةٌ فِي الْفِقْهِ، وَالْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ قُدْوَةٌ فِي الْحَدِيثِ...إِلَخْ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا أُطْلِقَ لَا يَنْصَرِفُ إِلاَّ إِلَى صَاحِبِ الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى، وَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْبَاقِي إِلاَّ بِالْإِضَافَةِ، لِذَلِكَ عَرَّفَ الرَّازِيَّ الْإِمَامَ بِأَنَّهُ: كُلُّ شَخْصٍ يُقْتَدَى بِهِ فِي الدِّينِ.
وَالْإِمَامَةُ الْكُبْرَى فِي الِاصْطِلَاحِ: رِئَاسَةٌ عَامَّةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا خِلَافَةً عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَسُمِّيَتْ كُبْرَى تَمْيِيزًا لَهَا عَنِ الْإِمَامَةِ الصُّغْرَى، وَهِيَ إِمَامَةُ الصَّلَاةِ وَتُنْظَرُ فِي مَوْضِعِهَا.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْخِلَافَةُ:
2- الْخِلَافَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ خَلَفَ يَخْلُفُ خِلَافَةً: أَيْ: بَقِيَ بَعْدَهُ أَوْ قَامَ مَقَامَهُ، وَكُلُّ مَنْ يَخْلُفُ شَخْصًا آخَرَ يُسَمَّى خَلِيفَةً، لِذَلِكَ سُمِّيَ مَنْ يَخْلُفُ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- فِي إِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَرِئَاسَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا خَلِيفَةً، وَيُسَمَّى الْمَنْصِبُ خِلَافَةً وَإِمَامَةً.
أَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ: فَهِيَ تُرَادِفُ الْإِمَامَةَ، وَقَدْ عَرَّفَهَا ابْنُ خَلْدُونٍ بِقَوْلِهِ: هِيَ حَمْلُ الْكَافَّةِ عَلَى مُقْتَضَى النَّظَرِ الشَّرْعِيِّ، فِي مَصَالِحِهِمُ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَالدُّنْيَوِيَّةِ الرَّاجِعَةِ إِلَيْهَا، ثُمَّ فَسَّرَ هَذَا التَّعْرِيفَ بِقَوْلِهِ: فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ خِلَافَةٌ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا.
ب- الْإِمَارَةُ:
3- الْإِمَارَةُ لُغَةً: الْوِلَايَةُ، وَالْوِلَايَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَامَّةً، فَهِيَ الْخِلَافَةُ أَوِ الْإِمَامَةُ الْعُظْمَى، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ خَاصَّةً عَلَى نَاحِيَةٍ كَأَنْ يَنَالَ أَمْرَ مِصْرٍ وَنَحْوِهِ، أَوْ عَلَى عَمَلٍ خَاصٍّ مِنْ شُئُونِ الدَّوْلَةِ كَإِمَارَةِ الْجَيْشِ وَإِمَارَةِ الصَّدَقَاتِ، وَتُطْلَقُ عَلَى مَنْصِبِ أَمِيرٍ.
ج- السُّلْطَةُ:
4- السُّلْطَةُ هِيَ: السَّيْطَرَةُ وَالتَّمَكُّنُ وَالْقَهْرُ وَالتَّحَكُّمُ وَمِنْهُ السُّلْطَانُ وَهُوَ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ التَّحَكُّمِ وَالسَّيْطَرَةِ فِي الدَّوْلَةِ، فَإِنْ كَانَتْ سُلْطَتُهُ قَاصِرَةً عَلَى نَاحِيَةٍ خَاصَّةٍ فَلَيْسَ بِخَلِيفَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً فَهُوَ الْخَلِيفَةُ، وَقَدْ وُجِدَتْ فِي الْعُصُورِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ خِلَافَةٌ بِلَا سُلْطَةٍ، كَمَا وَقَعَ فِي أَوَاخِرِ الْعَبَّاسِيِّينَ، وَسُلْطَةٌ بِلَا خِلَافَةٍ كَمَا كَانَ الْحَالُ فِي عَهْدِ الْمَمَالِيكِ د- الْحُكْمُ:
5- الْحُكْمُ هُوَ فِي اللُّغَةِ: الْقَضَاءُ، يُقَالُ: حَكَمَ لَهُ وَعَلَيْهِ وَحَكَمَ بَيْنَهُمَا، فَالْحَاكِمُ هُوَ الْقَاضِي فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ.
وَقَدْ تَعَارَفَ النَّاسُ فِي الْعَصْرِ الْحَاضِرِ عَلَى إِطْلَاقِهِ عَلَى مَنْ يَتَوَلَّى السُّلْطَةَ الْعَامَّةَ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6- أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِ عَقْدِ الْإِمَامَةِ، وَعَلَى أَنَّ الْأُمَّةَ يَجِبُ عَلَيْهَا الِانْقِيَادُ لِإِمَامٍ عَادِلٍ، يُقِيمُ فِيهِمْ أَحْكَامَ اللَّهِ، وَيَسُوسُهُمْ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي أَتَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ هَذَا الْإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ، بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الصَّحَابَةَ- رضي الله عنهم-، بِمُجَرَّدِ أَنْ بَلَغَهُمْ نَبَأُ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَادَرُوا إِلَى عَقْدِ اجْتِمَاعٍ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، وَاشْتَرَكَ فِي الِاجْتِمَاعِ كِبَارُ الصَّحَابَةِ، وَتَرَكُوا أَهَمَّ الْأُمُورِ لَدَيْهِمْ فِي تَجْهِيزِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَتَشْيِيعِ جُثْمَانِهِ الشَّرِيفِ، وَتَدَاوَلُوا فِي أَمْرِ خِلَافَتِهِ.
وَهُمْ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَادِئِ الْأَمْرِ حَوْلَ الشَّخْصِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُبَايَعَ، أَوْ عَلَى الصِّفَاتِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَتَوَفَّرَ فِيمَنْ يَخْتَارُونَهُ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي وُجُوبِ نَصْبِ إِمَامٍ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مُطْلَقًا إِنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ، وَبَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ- رضي الله عنه-، وَوَافَقَ بَقِيَّةُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا حَاضِرِينَ فِي السَّقِيفَةِ، وَبَقِيَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ فِي كُلِّ الْعُصُورِ، فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا عَلَى وُجُوبِ نَصْبِ الْإِمَامِ.
وَهَذَا الْوُجُوبُ وُجُوبُ كِفَايَةٍ، كَالْجِهَادِ وَنَحْوِهِ، فَإِذَا قَامَ بِهَا مَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهَا سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْكَافَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهَا أَحَدٌ، أَثِمَ مِنَ الْأُمَّةِ فَرِيقَانِ:
أ- أَهْلُ الِاخْتِيَارِ وَهُمْ: أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَوُجُوهِ النَّاسِ، حَتَّى يَخْتَارُوا إِمَامًا لِلْأُمَّةِ.
ب- أَهْلُ الْإِمَامَةِ وَهُمْ: مَنْ تَتَوَفَّرُ فِيهِمْ شُرُوطُ الْإِمَامَةِ، إِلَى أَنْ يُنْصَبَ أَحَدُهُمْ إِمَامًا.
مَا يَجُوزُ تَسْمِيَةُ الْإِمَامِ بِهِ:
7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ تَسْمِيَةِ الْإِمَامِ: خَلِيفَةً، وَإِمَامًا، وَأَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
فَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ إِمَامًا فَتَشْبِيهًا بِإِمَامِ الصَّلَاةِ فِي وُجُوبِ الِاتِّبَاعِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِيمَا وَافَقَ الشَّرْعَ، وَلِهَذَا سُمِّيَ مَنْصِبُهُ بِالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى.
وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ خَلِيفَةً فَلِكَوْنِهِ يَخْلُفُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا فِي الْأُمَّةِ، فَيُقَالُ خَلِيفَةٌ بِإِطْلَاقٍ، وَخَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَسْمِيَتِهِ خَلِيفَةَ اللَّهِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ تَسْمِيَتِهِ بِخَلِيفَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ- رضي الله عنه- نَهَى عَنْ ذَلِكَ لَمَّا دُعِيَ بِهِ، وَقَالَ: لَسْتُ خَلِيفَةَ اللَّهِ، وَلَكِنِّي خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَلِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْغَائِبِ، وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ.وَأَجَازَهُ بَعْضُهُمُ اقْتِبَاسًا مِنَ الْخِلَافَةِ الْعَامَّةِ لِلْآدَمِيِّينَ فِي قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} وَقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ}.
مَعْرِفَةُ الْإِمَامِ بِاسْمِهِ وَعَيْنِهِ:
8- لَا تَجِبُ مَعْرِفَةُ الْإِمَامِ بِاسْمِهِ وَعَيْنِهِ عَلَى كَافَّةِ الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَعْرِفُوا أَنَّ الْخِلَافَةَ أَفْضَتْ إِلَى أَهْلِهَا، لِمَا فِي إِيجَابِ مَعْرِفَتِهِ عَلَيْهِمْ بِاسْمِهِ وَعَيْنِهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الِاخْتِيَارِ الَّذِينَ تَنْعَقِدُ بِبَيْعَتِهِمُ الْخِلَافَةُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
حُكْمُ طَلَبِ الْإِمَامَةِ:
9- يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الطَّالِبِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ لَهَا إِلاَّ شَخْصٌ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَهَا، وَوَجَبَ عَلَى أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ أَنْ يُبَايِعُوهُ.
وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ لَهَا جَمَاعَةٌ صَحَّ أَنْ يَطْلُبَهَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَوَجَبَ اخْتِيَارُ أَحَدِهِمْ، وَإِلاَّ أُجْبِرَ أَحَدُهُمْ عَلَى قَبُولِهَا جَمْعًا لِكَلِمَةِ الْأُمَّةِ.وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ كُرِهَ لَهُ طَلَبُهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ صَالِحٍ لَهَا حَرُمَ عَلَيْهِ طَلَبُهَا.
شُرُوطُ الْإِمَامَةِ:
10- يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِلْإِمَامِ شُرُوطًا، مِنْهَا مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمِنْهَا مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِنْ شُرُوطِ الْإِمَامَةِ:
أ- الْإِسْلَامُ، لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ.وَصِحَّةُ الْوِلَايَةِ عَلَى مَا هُوَ دُونَ الْإِمَامَةِ فِي الْأَهَمِّيَّةِ.قَالَ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} وَالْإِمَامَةُ كَمَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: أَعْظَمُ (السَّبِيلِ)، وَلِيُرَاعَى مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ.
ب- التَّكْلِيفُ: وَيَشْمَلُ الْعَقْلَ، وَالْبُلُوغَ، فَلَا تَصِحُّ إِمَامَةُ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ، لِأَنَّهُمَا فِي وِلَايَةِ غَيْرِهِمَا، فَلَا يَلِيَانِ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ، وَجَاءَ فِي الْأَثَرِ « تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ رَأْسِ السَّبْعِينَ، وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ »
ج- الذُّكُورَةُ: فَلَا تَصِحُّ إِمَارَةُ النِّسَاءِ، لِخَبَرِ: « لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً » وَلِأَنَّ هَذَا الْمَنْصِبَ تُنَاطُ بِهِ أَعْمَالٌ خَطِيرَةٌ وَأَعْبَاءٌ جَسِيمَةٌ تَتَنَافَى مَعَ طَبِيعَةِ الْمَرْأَةِ، وَفَوْقَ طَاقَتِهَا.فَيَتَوَلَّى الْإِمَامُ قِيَادَةَ الْجُيُوشِ وَيَشْتَرِكُ فِي الْقِتَالِ بِنَفْسِهِ أَحْيَانًا. د- الْكِفَايَةُ وَلَوْ بِغَيْرِهِ، وَالْكِفَايَةُ هِيَ الْجُرْأَةُ وَالشَّجَاعَةُ وَالنَّجْدَةُ، بِحَيْثُ يَكُونُ قَيِّمًا بِأَمْرِ الْحَرْبِ وَالسِّيَاسَةِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالذَّبِّ عَنِ الْأُمَّةِ.
هـ- الْحُرِّيَّةُ: فَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الْإِمَامَةِ لِمَنْ فِيهِ رِقٌّ، لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ فِي خِدْمَةِ سَيِّدِهِ.
و- سَلَامَةُ الْحَوَاسِّ وَالْأَعْضَاءِ مِمَّا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْحَرَكَةِ لِلنُّهُوضِ بِمَهَامِّ الْإِمَامَةِ.وَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ الشُّرُوطِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
11- أَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ مِنَ الشُّرُوطِ فَهُوَ:
أ- الْعَدَالَةُ وَالِاجْتِهَادُ.ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْعَدَالَةَ وَالِاجْتِهَادَ شَرْطَا صِحَّةٍ، فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْفَاسِقِ أَوِ الْمُقَلِّدِ إِلاَّ عِنْدَ فَقْدِ الْعَدْلِ وَالْمُجْتَهِدِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمَا شَرْطَا أَوْلَوِيَّةٍ، فَيَصِحُّ تَقْلِيدُ الْفَاسِقِ وَالْعَامِّيِّ، وَلَوْ عِنْدَ وُجُودِ الْعَدْلِ وَالْمُجْتَهِدِ.
ب- السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَسَلَامَةُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ.ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهَا شُرُوطُ انْعِقَادٍ، فَلَا تَصِحُّ إِمَامَةُ الْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَمَقْطُوعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ ابْتِدَاءً، وَيَنْعَزِلُ إِذَا طَرَأَتْ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَخْرُجُ بِهَا عَنْ أَهْلِيَّةِ الْإِمَامَةِ إِذَا طَرَأَتْ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، فَلَا يَضُرُّ الْإِمَامَ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ فِي خَلْقِهِ عَيْبٌ جَسَدِيٌّ أَوْ مَرَضٌ مُنَفِّرٌ، كَالْعَمَى وَالصَّمَمِ وَقَطْعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْجَدْعِ وَالْجُذَامِ، إِذْ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ قُرْآنٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا إِجْمَاعٌ.
ج- النَّسَبُ:
وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قُرَشِيًّا لِحَدِيثِ: « الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ » وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ عُمَرَ: لَوْ كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ حَيًّا لَوَلَّيْتُهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ هَاشِمِيًّا وَلَا عَلَوِيًّا بِاتِّفَاقِ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ الْأُوَلَ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ لَمْ يَكُونُوا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَلَمْ يَطْعَنْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي خِلَافَتِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ.
دَوَامُ الْإِمَامَةِ:
12- يُشْتَرَطُ لِدَوَامِ الْإِمَامَةِ دَوَامُ شُرُوطِهَا، وَتَزُولُ بِزَوَالِهَا إِلاَّ الْعَدَالَةَ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَثَرِ زَوَالِهَا عَلَى مَنْصِبِ الْإِمَامَةِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي: عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَيْسَتِ الْعَدَالَةُ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْوِلَايَةِ، فَيَصِحُّ تَقْلِيدُ الْفَاسِقِ الْإِمَامَةَ عِنْدَهُمْ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَإِذَا قُلِّدَ إِنْسَانٌ الْإِمَامَةَ حَالَ كَوْنِهِ عَدْلًا، ثُمَّ جَارَ فِي الْحُكْمِ، وَفَسَقَ بِذَلِكَ أَوْ غَيْرِهِ لَا يَنْعَزِلُ، وَلَكِنْ يَسْتَحِقُّ الْعَزْلَ إِنْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ عَزْلُهُ فِتْنَةً، وَيَجِبُ أَنْ يُدْعَى لَهُ بِالصَّلَاحِ وَنَحْوِهِ، وَلَا يَجِبُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ، كَذَا نَقَلَ الْحَنَفِيَّةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَلِمَتُهُمْ قَاطِبَةً مُتَّفِقَةٌ فِي تَوْجِيهِهِ عَلَى أَنَّ وَجْهَهُ: هُوَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- صَلَّوْا خَلْفَ أَئِمَّةِ الْجَوْرِ وَقَبِلُوا الْوِلَايَةَ عَنْهُمْ.وَهَذَا عِنْدَهُمْ لِلضَّرُورَةِ وَخَشْيَةَ الْفِتْنَةِ.
وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: يَحْرُمُ الْخُرُوجُ عَلَى الْإِمَامِ الْجَائِرِ لِأَنَّهُ لَا يُعْزَلُ السُّلْطَانُ بِالظُّلْمِ وَالْفِسْقِ وَتَعْطِيلِ الْحُقُوقِ بَعْدَ انْعِقَادِ إِمَامَتِهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ وَعْظُهُ وَعَدَمُ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ، إِنَّمَا هُوَ لِتَقْدِيمِ أَخَفِّ الْمَفْسَدَتَيْنِ، إِلاَّ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ إِمَامٌ عَدْلٌ، فَيَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ وَإِعَانَةُ ذَلِكَ الْقَائِمِ.
وَقَالَ الْخَرَشِيُّ: رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: إِنْ كَانَ الْإِمَامُ مِثْلَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَجَبَ عَلَى النَّاسِ الذَّبُّ عَنْهُ وَالْقِتَالُ مَعَهُ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا، دَعْهُ وَمَا يُرَادُ مِنْهُ، يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنَ الظَّالِمِ بِظَالِمٍ، ثُمَّ يَنْتَقِمُ مِنْ كِلَيْهِمَا.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّ الْجَرْحَ فِي عَدَالَةِ الْإِمَامِ، وَهُوَ الْفِسْقُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا تَبِعَ فِيهِ الشَّهْوَةَ، وَالثَّانِي مَا تَعَلَّقَ فِيهِ بِشُبْهَةٍ.فَأَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا فَمُتَعَلِّقٌ بِأَفْعَالِ الْجَوَارِحِ، وَهُوَ ارْتِكَابُهُ لِلْمَحْظُورَاتِ وَإِقْدَامُهُ عَلَى الْمُنْكَرَاتِ تَحْكِيمًا لِلشَّهْوَةِ وَانْقِيَادًا لِلْهَوَى، فَهَذَا فِسْقٌ يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الْإِمَامَةِ وَمِنِ اسْتِدَامَتِهَا، فَإِذَا طَرَأَ عَلَى مَنِ انْعَقَدَتْ إِمَامَتُهُ خَرَجَ مِنْهَا، فَلَوْ عَادَ إِلَى الْعَدَالَةِ لَمْ يَعُدْ إِلَى الْإِمَامَةِ إِلاَّ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ.وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: يَعُودُ إِلَى الْإِمَامَةِ بِعَوْدَةِ الْعَدَالَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْتَأْنَفَ لَهُ عَقْدٌ وَلَا بَيْعَةٌ، لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ وَلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ فِي اسْتِئْنَافِ بَيْعَتِهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهُمَا فَمُتَعَلِّقٌ بِالِاعْتِقَادِ الْمُتَأَوَّلِ بِشُبْهَةٍ تَعْتَرِضُ، فَيُتَأَوَّلُ لَهَا خِلَافُ الْحَقِّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا: فَذَهَبَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهَا تَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الْإِمَامَةِ وَمِنِ اسْتِدَامَتِهَا، وَيَخْرُجُ مِنْهَا بِحُدُوثِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ الْكُفْرِ بِتَأْوِيلٍ وَغَيْرِ تَأْوِيلٍ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حَالُ الْفِسْقِ بِتَأْوِيلٍ وَغَيْرِ تَأْوِيلٍ.وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْبَصْرَةِ: إِنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الْإِمَامَةِ، وَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْهَا، كَمَا لَا يَمْنَعُ مِنْ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ وَجَوَازِ الشَّهَادَةِ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: إِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ حَالَةَ الْعَقْدِ، ثُمَّ عُدِمَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ نَظَرْتَ، فَإِنْ كَانَ جَرْحًا فِي عَدَالَتِهِ، وَهُوَ الْفِسْقُ، فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِدَامَةِ الْإِمَامَةِ.سَوَاءٌ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِأَفْعَالِ الْجَوَارِحِ.وَهُوَ ارْتِكَابُ الْمَحْظُورَاتِ، وَإِقْدَامُهُ عَلَى الْمُنْكَرَاتِ اتِّبَاعًا لِشَهْوَتِهِ، أَوْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالِاعْتِقَادِ، وَهُوَ الْمُتَأَوِّلُ لِشُبْهَةٍ تَعْرِضُ يَذْهَبُ فِيهَا إِلَى خِلَافِ الْحَقِّ.وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِهِ (أَحْمَدَ) فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ فِي الْأَمِيرِ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ وَيَغُلُّ، يُغْزَى مَعَهُ، وَقَدْ كَانَ يَدْعُو الْمُعْتَصِمَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ دَعَاهُ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ حَنْبَلٌ: فِي وِلَايَةِ الْوَاثِقِ اجْتَمَعَ فُقَهَاءُ بَغْدَادَ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالُوا: هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَفَاقَمَ وَفَشَا- يَعْنُونَ إِظْهَارَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ- نُشَاوِرُكَ فِي أَنَّا لَسْنَا نَرْضَى بِإِمْرَتِهِ وَلَا سُلْطَانِهِ.فَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِالنَّكِيرِ بِقُلُوبِكُمْ، وَلَا تَخْلَعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، وَلَا تَشُقُّوا عَصَا الْمُسْلِمِينَ.وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ، وَذَكَرَ الْحَسَنَ بْنَ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ الزَّيْدِيَّ فَقَالَ: كَانَ يَرَى السَّيْفَ، وَلَا نَرْضَى بِمَذْهَبِهِ.
مَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْإِمَامَةُ:
تَنْعَقِدُ الْإِمَامَةُ بِطُرُقٍ ثَلَاثَةٍ، بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ:
أَوَّلًا- الْبَيْعَةُ:
13- وَالْمُرَادُ بِالْبَيْعَةِ بَيْعَةُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَهُمْ: عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَرُؤَسَاؤُهُمْ وَوُجُوهُ النَّاسِ، الَّذِينَ يَتَيَسَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ حَالَةَ الْبَيْعَةِ بِلَا كُلْفَةٍ عُرْفًا، وَلَكِنْ هَلْ يُشْتَرَطُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ؟
اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ، فَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ جَمَاعَةٌ دُونَ تَحْدِيدِ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا لَا تَنْعَقِدُ إِلاَّ بِجُمْهُورِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، بِالْحُضُورِ وَالْمُبَاشَرَةِ بِصَفْقَةِ الْيَدِ، وَإِشْهَادِ الْغَائِبِ مِنْهُمْ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ، لِيَكُونَ الرِّضَا بِهِ عَامًّا، وَالتَّسْلِيمُ بِإِمَامَتِهِ إِجْمَاعًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ، لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَذَكَرُوا أَقْوَالًا خَمْسَةً فِي ذَلِكَ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: أَقَلُّ مَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْإِمَامَةُ خَمْسَةٌ، يَجْتَمِعُونَ عَلَى عَقْدِهَا أَوْ يَعْقِدُ أَحَدُهُمْ بِرِضَا الْبَاقِينَ، وَاسْتَدَلُّوا بِخِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ لِأَنَّهَا انْعَقَدَتْ بِخَمْسَةٍ اجْتَمَعُوا عَلَيْهَا، ثُمَّ تَابَعَهُمُ النَّاسُ فِيهَا.وَجَعَلَ عُمَرُ الشُّورَى فِي سِتَّةٍ لِيَعْقِدُوا لِأَحَدِهِمْ بِرِضَا الْخَمْسَةِ.
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَةَ لَا تَنْعَقِدُ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ، لِأَنَّهَا أَشَدُّ خَطَرًا مِنَ الْجُمُعَةِ، وَهِيَ لَا تَنْعَقِدُ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ، بَلْ لَا يُشْتَرَطُ عَدَدٌ، حَتَّى لَوِ انْحَصَرَتْ أَهْلِيَّةُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ بِوَاحِدٍ مُطَاعٍ كَفَتْ بَيْعَتُهُ لِانْعِقَادِ الْإِمَامَةِ، وَلَزِمَ عَلَى النَّاسِ الْمُوَافَقَةُ وَالْمُتَابَعَةُ. شُرُوطُ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ
14- يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِأَهْلِ الِاخْتِيَارِ أُمُورًا، هِيَ: الْعَدَالَةُ بِشُرُوطِهَا، وَالْعِلْمُ بِشُرُوطِ الْإِمَامَةِ، وَالرَّأْيُ وَالْحِكْمَةُ وَالتَّدْبِيرُ.
وَيَزِيدُ الشَّافِعِيَّةُ شَرْطًا آخَرَ وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِي أَحْكَامِ الْإِمَامَةِ إِنْ كَانَ الِاخْتِيَارُ مِنْ وَاحِدٍ، وَأَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مُجْتَهِدٌ إِنْ كَانَ أَهْلُ الِاخْتِيَارِ جَمَاعَةً.
15- ثَانِيًا: وِلَايَةُ الْعَهْدِ (الِاسْتِخْلَافُ):
وَهِيَ: عَهْدُ الْإِمَامِ بِالْخِلَافَةِ إِلَى مَنْ يَصِحُّ إِلَيْهِ الْعَهْدُ لِيَكُونَ إِمَامًا بَعْدَهُ.قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: انْعِقَادُ الْإِمَامَةِ بِعَهْدِ مَنْ قَبْلَهُ مِمَّا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِهِ، وَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى صِحَّتِهِ، لِأَمْرَيْنِ عَمِلَ الْمُسْلِمُونَ بِهِمَا وَلَمْ يَتَنَاكَرُوهُمَا.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ- رضي الله عنه- عَهِدَ بِهَا إِلَى عُمَرَ- رضي الله عنه-، فَأَثْبَتَ الْمُسْلِمُونَ إِمَامَتَهُ بِعَهْدِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- عَهِدَ بِهَا إِلَى أَهْلِ الشُّورَى، فَقَبِلَتِ الْجَمَاعَةُ دُخُولَهُمْ فِيهَا، وَهُمْ أَعْيَانُ الْعَصْرِ اعْتِقَادًا لِصِحَّةِ الْعَهْدِ بِهَا وَخَرَجَ بَاقِي الصَّحَابَةِ مِنْهَا، وَقَالَ عَلِيٌّ لِلْعَبَّاسِ ( (حِينَ عَاتَبَهُ عَلَى الدُّخُولِ فِي الشُّورَى: كَانَ أَمْرًا عَظِيمًا فِي أُمُورِ الْإِسْلَامِ لَمْ أَرَ لِنَفْسِي الْخُرُوجَ مِنْهُ فَصَارَ الْعَهْدُ بِهَا إِجْمَاعًا فِي انْعِقَادِ الْإِمَامَةِ، فَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَعْهَدَ بِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِي الْأَحَقِّ بِهَا وَالْأَقْوَمِ بِشُرُوطِهَا، فَإِذَا تَعَيَّنَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِي وَاحِدٍ نَظَرَ فِيهِ:
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدًا وَلَا وَالِدًا جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لَهُ وَبِتَفْوِيضِ الْعَهْدِ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَشِرْ فِيهِ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الِاخْتِيَارِ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا هَلْ يَكُونُ ظُهُورُ الرِّضَا مِنْهُمْ شَرْطًا فِي انْعِقَادِ بَيْعَتِهِ أَوْ لَا؟ فَذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ إِلَى أَنَّ رِضَا أَهْلِ الِاخْتِيَارِ لِبَيْعَتِهِ شَرْطٌ فِي لُزُومِهَا لِلْأُمَّةِ، لِأَنَّهَا حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِهِمْ، فَلَمْ تَلْزَمْهُمْ إِلاَّ بِرِضَا أَهْلِ الِاخْتِيَارِ مِنْهُمْ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ بَيْعَتَهُ مُنْعَقِدَةٌ وَأَنَّ الرِّضَا بِهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، لِأَنَّ بَيْعَةَ عُمَرَ- رضي الله عنه- لَمْ تَتَوَقَّفْ عَلَى رِضَا الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ أَحَقُّ بِهَا فَكَانَ اخْتِيَارُهُ فِيهَا أَمْضَى، وَقَوْلُهُ فِيهَا أَنْفَذَ.
وَإِنْ كَانَ وَلِيُّ الْعَهْدِ وَلَدًا أَوْ وَالِدًا فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ انْفِرَادِهِ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ.
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لِوَلَدٍ وَلَا لِوَالِدٍ، حَتَّى يُشَاوِرَ فِيهِ أَهْلَ الِاخْتِيَارِ فَيَرَوْنَهُ أَهْلًا لَهَا، فَيَصِحُّ مِنْهُ حِينَئِذٍ عَقْدُ الْبَيْعَةِ لَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ تَزْكِيَةٌ لَهُ تَجْرِي مَجْرَى الشَّهَادَةِ، وَتَقْلِيدُهُ عَلَى الْأُمَّةِ يَجْرِي مَجْرَى الْحُكْمِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لِوَالِدٍ وَلَا لِوَلَدٍ، وَلَا يَحْكُمَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلتُّهْمَةِ الْعَائِدَةِ إِلَيْهِ بِمَا جُبِلَ مِنَ الْمَيْلِ إِلَيْهِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُفْرَدَ بِعَقْدِهَا لِوَلَدٍ، وَوَالِدٍ، لِأَنَّهُ أَمِيرُ الْأُمَّةِ نَافِذُ الْأَمْرِ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ.فَغَلَبَ حُكْمُ الْمَنْصِبِ عَلَى حُكْمِ النَّسَبِ، وَلَمْ يُجْعَلْ لِلتُّهْمَةِ طَرِيقًا عَلَى أَمَانَتِهِ وَلَا سَبِيلًا إِلَى مُعَارَضَتِهِ، وَصَارَ فِيهَا كَعَهْدِهِ بِهَا إِلَى غَيْرِ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ، وَهَلْ يَكُونُ رِضَا أَهْلِ الِاخْتِيَارِ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَهْدِ مُعْتَبَرًا فِي لُزُومِهِ لِلْأُمَّةِ أَوْ لَا؟ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لِوَالِدِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهَا لِوَلَدِهِ، لِأَنَّ الطَّبْعَ يَبْعَثُ عَلَى مُمَايَلَةِ الْوَلَدِ أَكْثَرَ مِمَّا يَبْعَثُ عَلَى مُمَايَلَةِ الْوَالِدِ، وَلِذَلِكَ كَانَ كُلُّ مَا يَقْتَنِيهِ فِي الْأَغْلَبِ مَذْخُورًا لِوَلَدِهِ دُونَ وَالِدِهِ.
فَأَمَّا عَقْدُهَا لِأَخِيهِ وَمَنْ قَارَبَهُ مِنْ عَصَبَتِهِ وَمُنَاسِبِيهِ فَكَعَقْدِهَا لِلْبُعَدَاءِ الْأَجَانِبِ فِي جَوَازِ تَفَرُّدِهِ بِهَا.
وَقَالَ ابْنُ خَلْدُونٍ، بَعْدَ أَنْ قَدَّمَ الْكَلَامَ فِي الْإِمَامَةِ وَمَشْرُوعِيَّتِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَأَنَّ حَقِيقَتَهَا لِلنَّظَرِ فِي مَصَالِحِ الْأُمَّةِ لِدِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.
قَالَ: فَالْإِمَامُ هُوَ وَلِيُّهُمْ وَالْأَمِينُ عَلَيْهِمْ، يَنْظُرُ لَهُمْ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ لَهُمْ بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَيُقِيمَ لَهُمْ مَنْ يَتَوَلَّى أُمُورَهُمْ كَمَا كَانَ هُوَ يَتَوَلاَّهَا، وَيَثِقُونَ بِنَظَرِهِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، كَمَا وَثِقُوا بِهِ فِيمَا قَبْلُ، وَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ مِنَ الشَّرْعِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى جَوَازِهِ وَانْعِقَادِهِ، إِذْ وَقَعَ بِعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه- لِعُمَرِ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَجَازُوهُ، وَأَوْجَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِهِ طَاعَةَ عُمَرَ- رضي الله عنه- وَعَنْهُمْ، وَكَذَلِكَ عَهِدَ عُمَرُ فِي الشُّورَى إِلَى السِّتَّةِ بَقِيَّةِ الْعَشَرَةِ، وَجَعَلَ لَهُمْ أَنْ يَخْتَارُوا لِلْمُسْلِمِينَ، فَفَوَّضَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، حَتَّى أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَاجْتَهَدَ وَنَاظَرَ الْمُسْلِمِينَ فَوَجَدَهُمْ مُتَّفِقِينَ عَلَى عُثْمَانَ وَعَلَى عَلِيٍّ، فَآثَرَ عُثْمَانَ بِالْبَيْعَةِ عَلَى ذَلِكَ لِمُوَافَقَتِهِ إِيَّاهُ عَلَى لُزُومِ الِاقْتِدَاءِ بِالشَّيْخَيْنِ فِي كُلِّ مَا يَعْرِضُ لَهُ دُونَ اجْتِهَادِهِ، فَانْعَقَدَ أَمْرُ عُثْمَانَ لِذَلِكَ، وَأَوْجَبُوا طَاعَتَهُ، وَالْمَلأَُ مِنَ الصَّحَابَةِ حَاضِرُونَ لِلْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْعَهْدِ، عَارِفُونَ بِمَشْرُوعِيَّتِهِ، وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ كَمَا عُرِفَ، وَلَا يُتَّهَمُ الْإِمَامُ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَإِنْ عَهِدَ إِلَى أَبِيهِ أَوِ ابْنِهِ، لِأَنَّهُ مَأْمُونٌ عَلَى النَّظَرِ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَحْتَمِلَ فِيهَا تَبِعَةً بَعْدَ مَمَاتِهِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِاتِّهَامِهِ فِي الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، أَوْ لِمَنْ خَصَّصَ التُّهْمَةَ بِالْوَلَدِ دُونَ الْوَالِدِ، فَإِنَّهُ بَعِيدٌ عَنِ الظِّنَّةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ دَاعِيَةٌ تَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ إِيثَارِ مَصْلَحَةٍ أَوْ تَوَقُّعِ مَفْسَدَةٍ فَتَنْتَفِي الظِّنَّةُ فِي ذَلِكَ رَأْسًا.
هَذَا، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَهَا شُورَى بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ مِنْ أَهْلِ الْإِمَامَةِ، فَيَتَعَيَّنُ مَنْ عَيَّنُوهُ بَعْدَ مَوْتِ الْإِمَامِ، لِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- جَعَلَ الْأَمْرَ شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ، فَاتَّفَقُوا عَلَى عُثْمَانَ- رضي الله عنه-، فَلَمْ يُخَالِفْ مِنَ الصَّحَابَةِ أَحَدٌ، فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا.
اسْتِخْلَافُ الْغَائِبِ:
16- صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِخْلَافُ غَائِبٍ عَنِ الْبَلَدِ، إِنْ عُلِمَ حَيَاتُهُ، وَيُسْتَقْدَمُ بَعْدَ مَوْتِ الْإِمَامِ، فَإِنْ طَالَ غِيَابُهُ وَتَضَرَّرَ الْمُسْلِمُونَ بِغِيَابِهِ يَجُوزُ لِأَهْلِ الِاخْتِيَارِ نَصْبُ نَائِبٍ عَنْهُ، وَيَنْعَزِلُ النَّائِبُ بِقُدُومِهِ. شُرُوطُ صِحَّةِ وِلَايَةِ الْعَهْدِ:
17- يَشْتَرِطُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لِصِحَّةِ وِلَايَةِ الْعَهْدِ شُرُوطًا مِنْهَا:
أ- أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَخْلِفُ جَامِعًا لِشُرُوطِ الْإِمَامَةِ، فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِخْلَافُ مِنَ الْإِمَامِ الْفَاسِقِ أَوِ الْجَاهِلِ.
ب- أَنْ يَقْبَلَ وَلِيُّ الْعَهْدِ فِي حَيَاةِ الْإِمَامِ، فَإِنْ تَأَخَّرَ قَبُولُهُ عَنْ حَيَاةِ الْإِمَامِ تَكُونُ وَصِيَّةً بِالْخِلَافَةِ، فَيَجْرِي فِيهَا أَحْكَامُ الْوَصِيَّةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ بِبُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ فِي الِاسْتِخْلَافِ، لِأَنَّ الْإِمَامَ يَخْرُجُ عَنِ الْوِلَايَةِ بِالْمَوْتِ.
ج- أَنْ يَكُونَ وَلِيُّ الْعَهْدِ مُسْتَجْمِعًا لِشُرُوطِ الْإِمَامَةِ، وَقْتَ عَهْدِ الْوِلَايَةِ إِلَيْهِ، مَعَ اسْتِدَامَتِهَا إِلَى مَا بَعْدَ مَوْتِ الْإِمَامِ، فَلَا يَصِحُّ- عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- عَهْدُ الْوِلَايَةِ إِلَى صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ فَاسِقٍ وَإِنْ كَمُلُوا بَعْدَ وَفَاةِ الْإِمَامِ، وَتَبْطُلُ بِزَوَالِ أَحَدِ الشُّرُوطِ مِنْ وَلِيِّ الْعَهْدِ فِي حَيَاةِ الْإِمَامِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الْعَهْدِ إِلَى صَبِيٍّ وَقْتَ الْعَهْدِ، وَيُفَوَّضُ الْأَمْرُ إِلَى وَالٍ يَقُومُ بِهِ، حَتَّى يَبْلُغَ وَلِيُّ الْعَهْدِ.وَصَرَّحُوا أَيْضًا بِأَنَّهُ إِذَا بَلَغَ جُدِّدَتْ بَيْعَتُهُ وَانْعَزَلَ الْوَالِي الْمُفَوَّضُ عَنْهُ بِبُلُوغِهِ.
ثَالِثًا: الِاسْتِيلَاءُ بِالْقُوَّةِ:
18- قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ثُبُوتِ إِمَامَةِ الْمُتَغَلِّبِ وَانْعِقَادِ وِلَايَتِهِ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا اخْتِيَارٍ، فَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ إِلَى ثُبُوتِ وِلَايَتِهِ، وَانْعِقَادِ إِمَامَتِهِ، وَحَمْلِ الْأُمَّةِ عَلَى طَاعَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْقِدْهَا أَهْلُ الِاخْتِيَارِ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الِاخْتِيَارِ تَمْيِيزُ الْمُوَلَّى، وَقَدْ تَمَيَّزَ هَذَا بِصِفَتِهِ.وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ إِمَامَتَهُ لَا تَنْعَقِدُ إِلاَّ بِالرِّضَا وَالِاخْتِيَارِ، لَكِنْ يَلْزَمُ أَهْلَ الِاخْتِيَارِ عَقْدُ الْإِمَامَةِ لَهُ، فَإِنْ تَوَقَّفُوا أَثِمُوا لِأَنَّ الْإِمَامَةَ عَقْدٌ لَا يَتِمُّ إِلاَّ بِعَاقِدٍ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: الْإِمَامَةُ تَنْعَقِدُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بِاخْتِيَارِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ.
وَالثَّانِي: بِعَهْدِ الْإِمَامِ مِنْ قَبْلُ.
فَأَمَّا انْعِقَادُهَا بِاخْتِيَارِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، فَلَا تَنْعَقِدُ إِلاَّ بِجُمْهُورِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ.قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: الْإِمَامُ: الَّذِي يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ، كُلُّهُمْ يَقُولُ: هَذَا إِمَامٌ.
وَظَاهِرُ هَذَا: أَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِجَمَاعَتِهِمْ.
وَرُوِيَ عَنْهُ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّهَا تَثْبُتُ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَلَا تَفْتَقِرُ إِلَى الْعَقْدِ.فَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدُوسِ بْنِ مَالِكٍ الْعَطَّارِ: وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ بِالسَّيْفِ حَتَّى صَارَ خَلِيفَةً وَسُمِّيَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَبِيتَ وَلَا يَرَاهُ إِمَامًا، بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا.وَقَالَ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ- فِي الْإِمَامِ يَخْرُجُ عَلَيْهِ مَنْ يَطْلُبُ الْمُلْكَ، فَيَكُونُ مَعَ هَذَا قَوْمٌ وَمَعَ هَذَا قَوْمٌ-: تَكُونُ الْجُمُعَةُ مَعَ مَنْ غَلَبَ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ صَلَّى بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي زَمَنِ الْحَرَّةِ.وَقَالَ: نَحْنُ مَعَ مَنْ غَلَبَ.
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى: أَنَّهُ لَمَّا اخْتَلَفَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ »
حَاجَّهُمْ عُمَرُ، وَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنهما-.مُدَّ يَدَكَ أُبَايِعْكَ فَلَمْ يَعْتَبِرِ الْغَلَبَةَ وَاعْتَبَرَ الْعَقْدَ مَعَ وُجُودِ الِاخْتِلَافِ.
وَوَجْهُ الثَّانِيَةِ: مَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَقَوْلُهُ: نَحْنُ مَعَ مَنْ غَلَبَ وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ تَقِفُ عَلَى عَقْدٍ لَصَحَّ رَفْعُهُ وَفَسْخُهُ بِقَوْلِهِمْ وَقَوْلِهِ، كَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُقُودِ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ (أَيِ الْمُتَغَلِّبَ) لَوْ عَزَلَ نَفْسَهُ أَوْ عَزَلُوهُ لَمْ يَنْعَزِلْ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى عَقْدِهِ.
وَلِأَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ خَرَجَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَاسْتَوْلَى عَلَى الْبِلَادِ وَأَهْلِهَا، حَتَّى بَايَعُوهُ طَوْعًا وَكَرْهًا، فَصَارَ إِمَامًا يَحْرُمُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ، وَلِمَا فِي الْخُرُوجِ عَلَيْهِ مِنْ شَقِّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ، وَإِرَاقَةِ دِمَائِهِمْ، وَذَهَابِ أَمْوَالِهِمْ.وَلِخَبَرِ: « اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ أَجْدَعُ ».
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ قَوْلًا: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ إِمَامَةِ الْمُتَغَلِّبِ اسْتِجْمَاعُ شُرُوطِ الْإِمَامَةِ.كَمَا يَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا: أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى الْأَمْرِ بَعْدَ مَوْتِ الْإِمَامِ الْمُبَايَعِ لَهُ، وَقَبْلَ نَصْبِ إِمَامٍ جَدِيدٍ بِالْبَيْعَةِ، أَوْ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى حَيٍّ مُتَغَلِّبٍ مِثْلِهِ.أَمَّا إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْأَمْرِ وَقَهَرَ إِمَامًا مُوَلًّى بِالْبَيْعَةِ أَوْ بِالْعَهْدِ فَلَا تَثْبُتُ إِمَامَتُهُ، وَيَبْقَى الْإِمَامُ الْمَقْهُورُ عَلَى إِمَامَتِهِ شَرْعًا.
اخْتِيَارُ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ:
19- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَيَّنَ لِأَهْلِ الِاخْتِيَارِ وَاحِدٌ هُوَ أَفْضَلُ الْجَمَاعَةِ، فَبَايَعُوهُ عَلَى الْإِمَامَةِ، فَظَهَرَ بَعْدَ الْبَيْعَةِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ، انْعَقَدَتْ بِبَيْعَتِهِمْ إِمَامَةُ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ.كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوِ ابْتَدَءُوا بَيْعَةَ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ لِعُذْرٍ، كَكَوْنِ الْأَفْضَلِ غَائِبًا أَوْ مَرِيضًا، أَوْ كَوْنِ الْمَفْضُولِ أَطْوَعَ فِي النَّاسِ، وَأَقْرَبَ إِلَى قُلُوبِهِمُ، انْعَقَدَتْ بَيْعَةُ الْمَفْضُولِ وَصَحَّتْ إِمَامَتُهُ، وَلَوْ عَدَلُوا عَنِ الْأَفْضَلِ فِي الِابْتِدَاءِ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَجُزْ.
أَمَّا الِانْعِقَادُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ بَيْعَةِ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ بِغَيْرِ عُذْرٍ، فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ بَيْعَتَهُ لَا تَنْعَقِدُ، لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ إِذَا دَعَا إِلَى أَوْلَى الْأَمْرَيْنِ لَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ.
وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَةَ جَائِزَةٌ لِلْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ، وَصَحَّتْ إِمَامَتُهُ إِذَا تَوَفَّرَتْ فِيهِ شُرُوطُ الْإِمَامَةِ.كَمَا يَجُوزُ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ تَقْلِيدُ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْفَضْلِ مُبَالَغَةٌ فِي الِاخْتِيَارِ، وَلَيْسَتْ شَرْطًا فِيهِ.وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَوْمَ السَّقِيفَةِ: قَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ: أَبِي عُبَيْدَة بْنِ الْجَرَّاحِ، وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.وَهُمَا عَلَى فَضْلِهِمَا دُونَ أَبِي بَكْرٍ فِي الْفَضْلِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ.
وَدَعَتِ الْأَنْصَارُ إِلَى بَيْعَةِ سَعْدٍ، وَلَمْ يَكُنْ أَفْضَلَ الصَّحَابَةِ بِالِاتِّفَاقِ، ثُمَّ عَهِدَ عُمَرُ- رضي الله عنه- إِلَى سِتَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ.
وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ حِينَئِذٍ عَلَى أَنَّهُ لَوْ بُويِعَ أَحَدُهُمْ فَهُوَ الْإِمَامُ الْوَاجِبُ طَاعَتُهُ.فَصَحَّ بِذَلِكَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- عَلَى جَوَازِ إِمَامَةِ الْمَفْضُولِ.
عَقْدُ الْبَيْعَةِ لِإِمَامَيْنِ:
20- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَوْنُ إِمَامَيْنِ فِي الْعَالَمِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَجُوزُ إِلاَّ إِمَامٌ وَاحِدٌ.وَاسْتَدَلُّوا بِخَبَرِ: « إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخِرَ مِنْهُمَا ».وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا}
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَرَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ التَّفَرُّقَ وَالتَّنَازُعَ، وَإِذَا كَانَ إِمَامَانِ فَقَدْ حَصَلَ التَّفَرُّقُ الْمُحَرَّمُ، فَوُجِدَ التَّنَازُعُ وَوَقَعَتِ الْمَعْصِيَةُ لِلَّهِ تَعَالَى.
فَإِنْ عُقِدَتْ لِاثْنَيْنِ مَعًا بَطَلَتْ فِيهِمَا، أَوْ مُرَتَّبًا فَهِيَ لِلسَّابِقِ مِنْهُمَا.وَيُعَزَّرُ الثَّانِي وَمُبَايِعُوهُ؛ لِخَبَرِ: « إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخِرَ مِنْهُمَا ».وَإِنْ جُهِلَ السَّابِقُ مِنْهُمَا بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لِامْتِنَاعِ تَعَدُّدِ الْأَئِمَّةِ، وَعَدَمِ الْمُرَجِّحِ لِأَحَدِهِمَا.
وَعِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: بُطْلَانُ الْعَقْدِ، وَالثَّانِيَةُ: اسْتِعْمَالُ الْقُرْعَةِ.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَبَاعَدَتِ الْبِلَادُ، وَتَعَذَّرَتِ الِاسْتِنَابَةُ، جَازَ تَعَدُّدُ الْأَئِمَّةِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
31-موسوعة الفقه الكويتية (أمهات المؤمنين)
أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَالتَّعْرِيفُ:
1- يُؤْخَذُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِـ «أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ» كُلَّ امْرَأَةٍ عَقَدَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَدَخَلَ بِهَا، وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الرَّاجِحِ.
وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ مَنْ عَقَدَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَإِنَّهَا لَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا لَفْظُ «أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ».
وَمَنْ دَخَلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى وَجْهِ التَّسَرِّي، لَا عَلَى وَجْهِ النِّكَاحِ، لَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا «أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ» كَمَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ.
وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ قوله تعالى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}.
عَدَدُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ:
2- النِّسَاءُ اللاَّتِي عَقَدَ عَلَيْهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَدَخَلَ بِهِنَّ- وَهُنَّ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ- اثْنَتَا عَشْرَةَ امْرَأَةً، هُنَّ عَلَى تَرْتِيبِ دُخُولِهِ بِهِنَّ كَمَا يَلِي:
(1) خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ.
(2) سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ دَخَلَ بِهَا بَعْدَ عَائِشَةَ.
(3) عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ التَّيْمِيَّةُ.
(4) حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْعَدَوِيَّةُ.
(5) زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ الْهِلَالِيَّةُ.
(6) أُمُّ سَلَمَةَ، وَاسْمُهَا: هِنْدُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّةُ.
(7) زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الأَسَدِيَّةُ.
(8) جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْخُزَاعِيَّةُ.
(9) رَيْحَانَةُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو الْقُرَظِيَّةُ.
(10) أُمُّ حَبِيبَةَ، وَاسْمُهَا: رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ الْأُمَوِيَّةُ.
(11) صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ النَّضِيرِيَّةُ.
(12) مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ حَزْنٍ الْهِلَالِيَّةُ.
وَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ تِسْعٍ مِنْهُنَّ، وَهُنَّ: سَوْدَةُ- وَعَائِشَةُ- وَحَفْصَةُ- وَأُمُّ سَلَمَةَ- وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ- وَأُمُّ حَبِيبَةَ- وَجُوَيْرِيَةُ- وَصْفِيَّةُ- وَمَيْمُونَةُ.
وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي (رَيْحَانَةَ) فَقِيلَ: كَانَ دُخُولُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِهَا دُخُولَ نِكَاحٍ، وَقِيلَ: كَانَ دُخُولُهُ بِهَا دُخُولَ تَسَرٍّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.
مَا يَجِبُ أَنْ تَتَّصِفَ بِهِ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ:
يَجِبُ أَنْ تَتَّصِفَ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصِّفَاتِ التَّالِيَةِ:
أ- الْإِسْلَامُ:
3- لَمْ تَكُنْ وَاحِدَةٌ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ كِتَابِيَّةً، بَلْ كُنَّ كُلُّهُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ، وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِكِتَابِيَّةٍ، لِأَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- أَشْرَفُ مِنْ أَنْ يَضَعَ نُطْفَتَهُ فِي رَحِمٍ كَافِرَةٍ، بَلْ لَوْ نَكَحَ كِتَابِيَّةً لَهُدِيَتْ إِلَى الْإِسْلَامِ كَرَامَةً لَهُ، لِخَبَرِ «سَأَلْتُ رَبِّي أَلاَّ أُزَوَّجَ إِلاَّ مَنْ كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ فَأَعْطَانِي» ب- الْحُرِّيَّةُ:
4- وَلَمْ تَكُنْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ رَقِيقَةً، بَلْ كُنَّ كُلُّهُنَّ حَرَائِرَ، بَلْ ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَمَةٍ وَلَوْ كَانَتْ مُسْلِمَةً؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا لِعَدَمِ الطَّوْلِ (الْقُدْرَةِ عَلَى زَوَاجِ الْحُرَّةِ) وَخَوْفِ الْعَنَتِ (الزِّنَا)، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنِ الْأَوَّلِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ مَهْرٍ- كَمَا سَيَأْتِي- وَعَنِ الثَّانِي لِلْعِصْمَةِ الَّتِي عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا.
ج- عَدَمُ الِامْتِنَاعِ عَنِ الْهِجْرَةِ:
5- لَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَتَزَوَّجَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْهِجْرَةُ فَلَمْ تُهَاجِرْ، وَلَوْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً مُسْلِمَةً لقوله تعالى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ}.وَلِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «نُهِيَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ أَصْنَافِ النِّسَاءِ، إِلاَّ مَا كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ» وَلِحَدِيثِ «أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: خَطَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَاعْتَذَرْتُ إِلَيْهِ بِعُذْرٍ فَعَذَرَنِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} الْآيَةَ إِلَى قوله تعالى {اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} قَالَتْ: فَلَمْ أَكُنْ أُحِلُّ لَهُ، لِأَنِّي لَمْ أُهَاجِرْ مَعَهُ، كُنْتُ مِنَ الطُّلَقَاءِ».
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو يُوسُفَ- مِنَ الْحَنَفِيَّةِ-: لَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَنَّ اللاَّتِي لَمْ يُهَاجِرْنَ كُنَّ مُحَرَّمَاتٍ عَلَى الرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام-؛ لِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَنْفِي مَا عَدَاهُ.
وَيَجُوزُ لِلرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ، قَدْ تَزَوَّجَ- عليه الصلاة والسلام- مِنْ غَيْرِ الْمُهَاجِرَاتِ صَفِيَّةَ وَجُوَيْرِيَةَ، وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَتِ الْأَنْصَارُ إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ أَيِّمٌ- لَمْ يُزَوِّجْهَا حَتَّى يَعْلَمَ هَلْ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِيهَا حَاجَةٌ أَمْ لَا» فَلَوْلَا عِلْمُهُمْ بِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ التَّزَوُّجُ مِنْ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ لَمَا كَانَ هُنَاكَ دَاعٍ لِلتَّرَبُّصِ وَالِانْتِظَارِ.
د- التَّنَزُّهُ عَنِ الزِّنَا:
6- أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ بِحُكْمِ كَوْنِهِنَّ زَوْجَاتِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مُنَزَّهَاتٌ عَنِ الزِّنَا، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَنْفِيرِ النَّاسِ عَنِ الرَّسُولِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ}.قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَغَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ وَمَا رُمِيَتْ بِهِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ مِنَ الْإِفْكِ فِرْيَةٌ كَاذِبَةٌ خَاطِئَةٌ بَرَّأَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِقَوْلِهِ جَلَّ شَأْنُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَاَلَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.الْآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
أَحْكَامُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-:
الْعَدْلُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ:
7- لَا حَقَّ لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْقَسْمِ فِي الْمَبِيتِ وَلَا فِي الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ، وَلَا يُطَالَبُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِذَلِكَ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفَضِّلَ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ عَلَى غَيْرِهَا فِي الْمَبِيتِ وَالْكِسْوَةِ وَالنَّفَقَةِ لقوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ}.
وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ فِي قَسْمِ أَزْوَاجِهِ يَقْسِمُ بَيْنَهُنَّ كَيْفَ شَاءَ».وَعَلَّلَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ فِي وُجُوبِ الْقَسْمِ عَلَيْهِ شُغْلًا عَنْ لَوَازِمِ الرِّسَالَةِ
وَقَدْ صَرَّحَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْقَسْمَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ لَكِنَّهُ كَانَ يَقْسِمُ مِنْ نَفْسِهِ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ
تَحْرِيمُ نِكَاحِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى التَّأْبِيدِ:
8- ثَبَتَ ذَلِكَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، فَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا}.
وَأَمَّا اللاَّتِي فَارَقَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَبْلَ الدُّخُولِ كَالْمُسْتَعِيذَةِ- وَهِيَ أَسْمَاءُ بِنْتُ النُّعْمَانِ، وَكَالَتِي رَأَى فِي كَشْحِهَا بَيَاضًا- وَهِيَ عَمْرَةُ بِنْتُ يَزِيدَ عِنْدَمَا دَخَلَ عَلَيْهَا، فَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَأْبِيدِ التَّحْرِيمِ رَأْيَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُنَّ يَحْرُمْنَ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَصَحَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ لِعُمُومِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قوله تعالى: {وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ} أَيْ مِنْ بَعْدِ نِكَاحِهِ.
وَالثَّانِي: لَا يَحْرُمْنَ.لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ نَكَحَ الْمُسْتَعِيذَةَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَامَ عُمَرُ بِرَجْمِهِ وَرَجْمِهَا، فَقَالَتْ لَهُ: كَيْفَ تَرْجُمُنِي وَلَمْ يُضْرَبْ عَلَيَّ حِجَابٌ، وَلَمْ أُسَمَّ لِلْمُؤْمِنِينَ أُمًّا؟ فَكَفَّ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ.
وَفِي وُجُوبِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ عَلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِمْرَارِ حَقِّهِنَّ فِي النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى خِلَافٌ
عُلُوُّ مَنْزِلَتِهِنَّ:
9- إِذَا عَقَدَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى امْرَأَةٍ وَدَخَلَ بِهَا صَارَتْ أُمًّا لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَرَجَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِدَلَالَةِ صَدْرِ الْآيَةِ {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}.
وَعِنْدَ الْبَعْضِ الْآخَرِ: تُصْبِحُ أُمًّا لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْمُؤْمِنَاتِ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مُسْتَدِلًّا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ لَهَا امْرَأَةٌ: يَا أُمَّهُ، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: لَسْتُ لَكِ بِأُمٍّ، إِنَّمَا أَنَا أُمُّ رِجَالِكُمْ.
دُخُولُهُنَّ فِي آلِ بَيْتِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-:
10- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي دُخُولِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَدْخُلُ نِسَاءُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي أَهْلِ الْبَيْتِ، وَبِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَعُرْوَةُ وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَابْنُ تَيْمِيَّةَ وَغَيْرُهُمْ، وَيَسْتَدِلُّ هَؤُلَاءِ بِمَا رَوَاهُ الْخَلاَّلُ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بَعَثَ إِلَى عَائِشَةَ سُفْرَةً مِنَ الصَّدَقَةِ فَرَدَّتْهَا وَقَالَتْ: إِنَّا آلُ مُحَمَّدٍ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ، وَكَانَ عِكْرِمَةُ يُنَادِي فِي السُّوقِ {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} نَزَلَتْ فِي نِسَاءِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- خَاصَّةً.
وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا خِطَابٌ لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَرْن فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا}
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَدْخُلُ نِسَاءُ النَّبِيِّ فِي آلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ، وَيَسْتَدِلُّ هَؤُلَاءِ بِمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ «عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ رَبِيبِ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، فَدَعَا النَّبِيُّ فَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَجَلَّلَهُمْ بِكِسَاءٍ وَعَلِيٌّ خَلْفَ ظَهْرِهِ، فَجَلَّلَهُمْ بِكِسَاءٍ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي، فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَأَنَا مَعَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْتِ عَلَى مَكَانِكِ، وَأَنْتِ إِلَى خَيْرٍ»
حُقُوقُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ:
11- مِنْ حَقِّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُحْتَرَمْنَ وَيُعَظَّمْنَ، وَيُصَنَّ عَنِ الْأَعْيَنِ وَالْأَلْسُنِ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نَحْوَهُنَّ.
فَإِنْ تَطَاوَلَ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ عَلَى تَنَاوُلِهِنَّ بِالْقَذْفِ أَوِ السَّبِّ، فَفِي الْقَذْفِ يُفَرِّقُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ قَذْفِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-، وَقَذْفِ غَيْرِهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ.
فَمَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- بِمَا بَرَّأَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ- مِنَ الزِّنَا- فَقَدْ كَفَرَ، وَجَزَاؤُهُ الْقَتْلُ وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ أَتَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْآنَ، وَمَنْ كَذَّبَ الْقُرْآنَ قُتِلَ، لقوله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.أَمَّا مَنْ قَذَفَ وَاحِدَةً مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَ عَائِشَةَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي عُقُوبَتِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ وَمِنْهُمُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ حُكْمَ قَذْفِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كَحُكْمِ قَذْفِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَيْ يُقْتَلُ- لِأَنَّ فِيهِ عَارًا وَغَضَاضَةً وَأَذًى لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَلْ فِي ذَلِكَ قَدْحٌ بِدِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهُ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ قَذْفَ وَاحِدَةٍ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرِ عَائِشَة كَقَذْفِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنه-، أَوْ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ يُحَدُّ الْقَاذِفُ حَدًّا وَاحِدًا لِعُمُومِ قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي شَرَفُهُنَّ زِيَادَةً فِي حَدِّ مَنْ قَذَفَهُنَّ؛ لِأَنَّ شَرَفَ الْمَنْزِلَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُدُودِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَمِنْهُمْ مَسْرُوقُ بْنُ الْأَجْدَعِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَنْ قَذَفَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَ عَائِشَةَ يُحَدُّ حَدَّيْنِ لِلْقَذْفِ- أَيْ يُجْلَدُ مِائَةً وَسِتِّينَ جَلْدَةً –
أَمَّا سَبُّ وَاحِدَةٍ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ- بِغَيْرِ الزِّنَا- مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَالٍ لِهَذَا السَّبِّ، فَهُوَ فِسْقٌ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ سَبِّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ( (، يُعَزَّرُ فَاعِلُهُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
32-موسوعة الفقه الكويتية (بطالة)
بَطَالَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْبَطَالَةُ لُغَةً: التَّعَطُّلُ عَنِ الْعَمَلِ.يُقَالُ: بَطَلَ الْعَامِلُ، أَوِ الْأَجِيرُ عَنِ الْعَمَلِ فَهُوَ بَطَّالٌ بَيِّنُ الْبَطَالَةِ (بِفَتْحِ الْبَاءِ) وَحَكَى بَعْضُ شَارِحِي الْمُعَلَّقَاتِ الْبِطَالَةَ (بِالْكَسْرِ) وَقَالَ: هُوَ أَفْصَحُ، وَيُقَالُ: بَطَلَ الْأَجِيرُ مِنَ الْعَمَلِ، يَبْطُلُ بَطَالَةً وَبِطَالَةً: تَعَطَّلَ فَهُوَ بَطَّالٌ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
حُكْمُهَا التَّكْلِيفِيُّ:
2- يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْبَطَالَةِ تَبَعًا لِلْأَحْوَالِ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا كَالْآتِي:
الْبَطَالَةُ حَتَّى لَوْ كَانَتْ لِلتَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعَمَلِ، وَالْحَاجَةِ إِلَى الْكَسْبِ لَقُوتِهِ وَقُوتِ مَنْ يَعُولُهُ تَكُونُ حَرَامًا، لِخَبَرِ «إِنَّ اللَّهَ يَكْرَهُ الرَّجُلَ الْبَطَّالَ» وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ الْمُحْتَرِفَ» وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي لأَمْقُتُ الرَّجُلَ فَارِغًا لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ عَمَلِ دُنْيَا وَلَا آخِرَةٍ وَفِي الشُّعَبِ لِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سُئِلَ: مَا شَرُّ شَيْءٍ فِي الْعَالَمِ؟ فَقَالَ: الْبَطَالَةُ.
وَالْبَطَالَةُ تَهَاوُنًا وَكَسَلًا مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ لِلْكَسْبِ مَكْرُوهَةٌ أَيْضًا، وَتُزْرِي بِصَاحِبِهَا.أَمَّا الْبَطَالَةُ لِعُذْرٍ- كَزَمَانَةٍ وَعَجْزٍ لِعَاهَةٍ- فَلَا إِثْمَ فِيهَا وَلَا كَرَاهَةَ، لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}.
التَّوَكُّلُ لَا يَدْعُو إِلَى الْبَطَالَةِ:
3- التَّوَكُّلُ لَا يَدْعُو إِلَى الْبَطَالَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَاجِبٌ، وَلَكِنْ يَجِبُ مَعَهُ الْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ.وَوَرَدَ أَنَّ «أَعْرَابِيًّا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أُرْسِلُ نَاقَتِي وَأَتَوَكَّلُ؟ فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ» وَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُؤْمِنَ الْمُحْتَرِفَ».
وَمَرَّ عُمَرُ- رضي الله عنه- بِقَوْمٍ فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ؟ قَالُوا مُتَوَكِّلُونَ قَالَ: لَا بَلْ أَنْتُمْ مُتَأَكِّلُونَ، إِنَّمَا الْمُتَوَكِّلُ مَنْ أَلْقَى حَبَّةً فِي الْأَرْضِ، وَتَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ.فَلَيْسَ فِي طَلَبِ الْمَعَاشِ وَالْمُضِيِّ فِي الْأَسْبَابِ عَلَى تَدْبِيرِ اللَّهِ تَرْكُ التَّفْوِيضِ، وَالتَّوَكُّلُ إِنَّمَا هُوَ بِالْقَلْبِ، وَتَرْكُ التَّوَكُّلِ يَكُونُ إِذَا غَفَلَ عَنِ اللَّهِ، وَاعْتَمَدَ عَلَى الْأَسْبَابِ وَنَسِيَ مُسَبِّبَهَا، وَكَانَ عُمَرُ- رضي الله عنه- إِذَا نَظَرَ إِلَى ذِي سِيمَا سَأَلَ: أَلَهُ حِرْفَةٌ؟ فَإِنْ قِيلَ: لَا، سَقَطَ مِنْ عَيْنِهِ.
الْعِبَادَةُ لَيْسَتْ مُسَوِّغًا لِلْبَطَالَةِ:
4- يَرَى الْفُقَهَاءُ: أَنَّ الْعِبَادَةَ لَيْسَتْ مُسَوِّغًا لِلْبَطَالَةِ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُقِرُّ الْبَطَالَةَ مِنْ أَجْلِ الِانْقِطَاعِ لِلْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا تَعْطِيلًا لِلدُّنْيَا الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِالسَّعْيِ فِيهَا، قَالَ تَعَالَى {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} وَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} وَأَعْقَبَهَا بِقَوْلِهِ {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}
وَوَرَدَ أَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- مَرَّ عَلَى شَخْصٍ، قَالُوا لَهُ عَنْهُ إِنَّهُ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ وَيَصُومُ النَّهَارَ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ لِلْعِبَادَةِ انْقِطَاعًا كُلِّيًّا، فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَمَّنْ يَعُولُهُ؟ فَقَالُوا: كُلُّنَا.فَقَالَ: - عليه الصلاة والسلام- كُلُّكُمْ أَفْضَلُ مِنْهُ».
أَثَرُ الْبَطَالَةِ فِي طَلَبِ الْمُتَعَطِّلِ نَفَقَةً لَهُ:
5- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الِابْنِ الْمُتَعَطِّلِ عَنِ الْعَمَلِ- مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْكَسْبِ- لَا تَجِبُ عَلَى أَبِيهِ؛ لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِهَا: أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنِ الْكَسْبِ، وَالْعَاجِزُ عَنِ الْكَسْبِ هُوَ مَنْ لَا يُمْكِنُهُ اكْتِسَابُ مَعِيشَتِهِ بِالْوَسَائِلِ الْمَشْرُوعَةِ الْمُعْتَادَةِ، وَالْقَادِرُ غَنِيٌّ بِقُدْرَتِهِ، وَيَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَكَسَّبَ بِهَا وَيُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَكُونُ فِي حَالَةِ ضَرُورَةٍ يَتَعَرَّضُ فِيهَا لِلْهَلَاكِ.
أَثَرُ الْبَطَالَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الزَّكَاةِ:
6- إِنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْكَسْبِ مُكَلَّفٌ بِالْعَمَلِ لِيَكْفِيَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ، أَمَّا الْعَاجِزُ عَنِ الْكَسْبِ لِضَعْفٍ ذَاتِيٍّ، كَالصِّغَرِ وَالْأُنُوثَةِ وَالْعَتَهِ وَالشَّيْخُوخَةِ وَالْمَرَضِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَالٌ مَوْرُوثٌ يَسُدُّ حَاجَتَهُ، كَانَ فِي كَفَالَةِ أَقَارِبِهِ الْمُوسِرِينَ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ شَخْصٌ يَكْفُلُهُ بِمَا يَحْتَاجُهُ فَقَدْ حَلَّ لَهُ الْأَخْذُ مِنَ الزَّكَاةِ، وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي دِينِ اللَّهِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاة).
رِعَايَةُ الدَّوْلَةِ وَالْمُجْتَمَعِ لِلْمُتَعَطِّلِينَ بِعَدَمِ وُجُودِ عَمَلٍ:
7- صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ عَلَى الدَّوْلَةِ الْقِيَامَ بِشُئُونِ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَجَزَةِ وَاللُّقَطَاءِ وَالْمَسَاجِينِ الْفُقَرَاءِ، الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مَا يُنْفَقُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ وَلَا أَقَارِبُ تَلْزَمُهُمْ نَفَقَتُهُمْ، فَيَتَحَمَّلُ بَيْتُ الْمَالِ نَفَقَاتِهِمْ وَكِسْوَتَهُمْ، وَمَا يُصْلِحُهُمْ مِنْ دَوَاءٍ وَأُجْرَةِ عِلَاجٍ وَتَجْهِيزِ مَيِّتٍ وَنَحْوِهَا.وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: بَيْتُ الْمَالِ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
33-موسوعة الفقه الكويتية (بلوغ 1)
بُلُوغٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الْبُلُوغُ لُغَةً: الْوُصُولُ، يُقَالُ بَلَغَ الشَّيْءُ يَبْلُغُ بُلُوغًا وَبَلَاغًا: وَصَلَ وَانْتَهَى،
وَبَلَغَ الصَّبِيُّ: احْتَلَمَ وَأَدْرَكَ وَقْتَ التَّكْلِيفِ، وَكَذَلِكَ بَلَغَتِ الْفَتَاةُ.
وَاصْطِلَاحًا: انْتِهَاءُ حَدِّ الصِّغَرِ فِي الْإِنْسَانِ، لِيَكُونَ أَهْلًا لِلتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ.أَوْ هُوَ: قُوَّةٌ تَحْدُثُ فِي الصَّبِيِّ، يَخْرُجُ بِهَا عَنْ حَالَةِ الطُّفُولِيَّةِ إِلَى غَيْرِهَا.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْكِبَرُ:
2- الْكِبَرُ وَالصِّغَرُ مَعْنَيَانِ إِضَافِيَّانِ، فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ كَبِيرًا بِالنِّسْبَةِ لآِخَرَ، صَغِيرًا لِغَيْرِهِ، وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يُطْلِقُونَ الْكِبَرَ فِي السِّنِّ عَلَى مَعْنَيَيْنِ.
الْأَوَّلُ: أَنْ يَبْلُغَ الْإِنْسَانُ مَبْلَغَ الشَّيْخُوخَةِ وَالضَّعْفِ بَعْدَ تَجَاوُزِهِ مَرْحَلَةَ الْكُهُولَةِ.
الثَّانِي: أَنْ يُرَادَ بِهِ الْخُرُوجُ عَنْ حَدِّ الصِّغَرِ بِدُخُولِ مَرْحَلَةِ الشَّبَابِ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْبُلُوغِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ.
ب- الْإِدْرَاكُ:
3- الْإِدْرَاكُ: لُغَةً مَصْدَرُ أَدْرَكَ، وَأَدْرَكَ الصَّبِيُّ وَالْفَتَاةُ: إِذَا بَلَغَا.وَيُطْلَقُ الْإِدْرَاكُ فِي اللُّغَةِ وَيُرَادُ بِهِ: اللَّحَاقُ، يُقَالُ: مَشَيْتُ حَتَّى أَدْرَكْتُهُ.وَيُرَادُ بِهِ أَيْضًا: الْبُلُوغُ فِي الْحَيَوَانِ وَالثَّمَرِ.كَمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الرُّؤْيَةِ فَيُقَالُ: أَدْرَكْتُهُ بِبَصَرِي: أَيْ رَأَيْتُهُ.
وَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْفُقَهَاءُ الْإِدْرَاكَ بِمَعْنَى: بُلُوغِ الْحُلُمِ، فَيَكُونُ مُسَاوِيًا لِلَفْظِ الْبُلُوغِ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ،
وَيُطْلِقُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْإِدْرَاكَ وَيُرِيدُونَ بِهِ أَوَانَ النُّضْجِ.
ج- الْحُلْمُ وَالِاحْتِلَامُ:
4- الِاحْتِلَامُ: مَصْدَرُ احْتَلَمَ، وَالْحُلْمُ: اسْمُ الْمَصْدَرِ.وَهُوَ لُغَةً: رُؤْيَا النَّائِمِ مُطْلَقًا، خَيْرًا كَانَ الْمَرْئِيُّ أَوْ شَرًّا.وَفَرَّقَ الشَّارِعُ بَيْنَهُمَا، فَخَصَّ الرُّؤْيَا بِالْخَيْرِ، وَخَصَّ الْحُلْمَ بِضِدِّهِ.
ثُمَّ اسْتَعْمَلَ الِاحْتِلَامَ وَالْحُلْمَ بِمَعْنًى أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ: أَنْ يَرَى النَّائِمُ أَنَّهُ يُجَامِعُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَعَ ذَلِكَ إِنْزَالٌ أَمْ لَا ثُمَّ اسْتَعْمَلَ هَذَا اللَّفْظَ بِمَعْنَى الْبُلُوغِ،
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُلْمُ وَالِاحْتِلَامُ وَالْبُلُوغُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَلْفَاظًا مُتَرَادِفَةً.
د- الْمُرَاهَقَةُ:
5- الْمُرَاهَقَةُ: مُقَارَبَةُ الْبُلُوغِ، وَرَاهَقَ الْغُلَامُ وَالْفَتَاةُ مُرَاهَقَةً: قَارَبَا الْبُلُوغَ، وَلَمْ يَبْلُغَا،
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَبِهَذَا تَكُونُ الْمُرَاهَقَةُ وَالْبُلُوغُ لَفْظَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ.
هـ- الْأَشُدُّ:
6- الْأَشُدُّ لُغَةً: بُلُوغُ الرَّجُلِ الْحُنْكَةَ وَالْمَعْرِفَةَ.وَالْأَشُدُّ: طَوْرٌ يَبْتَدِئُ بَعْدَ انْتِهَاءِ حَدِّ الصِّغَرِ، أَيْ مِنْ وَقْتِ بُلُوغِ الْإِنْسَانِ مَبْلَغَ الرِّجَالِ إِلَى سِنِّ الْأَرْبَعِينَ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْأَشُدُّ عَلَى الْإِدْرَاكِ وَالْبُلُوغِ.وَقِيلَ: أَنْ يُؤْنَسَ مِنْهُ الرُّشْدُ مَعَ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا.فَالْأَشُدُّ مُسَاوٍ لِلْبُلُوغِ فِي بَعْضِ إِطْلَاقَاتِهِ.
الرُّشْدُ:
7- الرُّشْدُ لُغَةً: خِلَافُ الضَّلَالِ.وَالرُّشْدُ، وَالرَّشَدُ، وَالرَّشَادُ: نَقِيضُ الضَّلَالِ، وَهُوَ: إِصَابَةُ وَجْهِ الْأَمْرِ وَالِاهْتِدَاءُ إِلَى الطَّرِيقِ.
وَالرُّشْدُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: الصَّلَاحُ فِي الْمَالِ لَا غَيْرُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ: أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ.وَقَالَ الْحَسَنُ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَالْمَالِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (رُشْد) (وَالْوِلَايَةُ عَلَى الْمَالِ).
وَلَيْسَ لِلرُّشْدِ سِنٌّ مُعَيَّنَةٌ، وَقَدْ يَحْصُلُ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَهَذَا نَادِرٌ لَا حُكْمَ لَهُ، وَقَدْ يَحْصُلُ مَعَ الْبُلُوغِ أَوْ بَعْدَهُ، وَفِي اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ: كُلُّ رَشِيدٍ بَالِغٌ، وَلَيْسَ كُلُّ بَالِغٍ رَشِيدًا.
عَلَامَاتُ الْبُلُوغِ الطَّبِيعِيَّةِ فِي الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى، وَالْخُنْثَى:
8- لِلْبُلُوغِ عَلَامَاتٌ طَبِيعِيَّةٌ ظَاهِرَةٌ، مِنْهَا مَا هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَمِنْهَا مَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِهِمَا.وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ الْعَلَامَاتِ الْمُشْتَرَكَةِ:
الِاحْتِلَامُ:
9- الِاحْتِلَامُ: خُرُوجُ الْمَنِيِّ مِنَ الرَّجُلِ أَوِ الْمَرْأَةِ فِي يَقَظَةٍ أَوْ مَنَامٍ لِوَقْتِ إِمْكَانِهِ.لقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} وَلِحَدِيثِ: «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا».
الْإِنْبَاتُ:
10- الْإِنْبَاتُ: ظُهُورُ شَعْرِ الْعَانَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ فِي إِزَالَتِهِ إِلَى نَحْوِ حَلْقٍ، دُونَ الزَّغَبِ الضَّعِيفِ الَّذِي يَنْبُتُ لِلصَّغِيرِ.وَنَجِدُ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْإِنْبَاتَ إِذَا جُلِبَ وَاسْتُعْمِلَ بِوَسَائِلَ صِنَاعِيَّةٍ مِنَ الْأَدْوِيَةِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُثْبِتًا لِلْبُلُوغِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَعْجَلُ الْإِنْبَاتُ بِالدَّوَاءِ وَنَحْوِهِ لِتَحْصِيلِ الْوِلَايَاتِ وَالْحُقُوقِ الَّتِي لِلْبَالِغِينَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ الْإِنْبَاتِ عَلَامَةً عَلَى الْبُلُوغِ، عَلَى أَقْوَالٍ ثَلَاثَةٍ:
11- الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِنْبَاتَ لَيْسَ بِعَلَامَةٍ عَلَى الْبُلُوغِ مُطْلَقًا.أَيْ لَا فِي حَقِّ اللَّهِ وَلَا فِي حَقِّ الْعِبَادِ.وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ عَلَى مَا فِي بَابِ الْقَذْفِ مِنَ الْمُدَوَّنَةِ، وَنَحْوُهُ لِابْنِ الْقَاسِمِ فِي بَابِ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَظَاهِرُهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْآدَمِيِّينَ.
12- الثَّانِي: أَنَّ الْإِنْبَاتَ عَلَامَةُ الْبُلُوغِ مُطْلَقًا.وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ذَكَرَهَا ابْنُ عَابِدِينَ وَصَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ، إِلاَّ أَنَّ ابْنَ حَجَرٍ نَقَلَ أَنَّ مَالِكًا لَا يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى مَنْ لَمْ يَثْبُتْ بُلُوغُهُ بِغَيْرِ الْإِنْبَاتِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِيهِ تَمْنَعُ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ،
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِحَدِيثٍ نَبَوِيٍّ، وَآثَارٍ عَنِ الصَّحَابَةِ.فَأَمَّا الْحَدِيثُ: فَمَا وَرَدَ أَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا حَكَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَحَكَمَ بِقَتْلِ مُقَاتِلَتِهِمْ وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ، وَأَمَرَ أَنْ يُكْشَفَ عَنْ مُؤْتَزِرِهِمْ، فَمَنْ أَنْبَتَ فَهُوَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ فَهُوَ مِنَ الذُّرِّيَّةِ.بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ»
وَمِنْ هُنَا قَالَ عَطِيَّةُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: كُنْتُ مَعَهُمْ يَوْمَ قُرَيْظَةَ.فَأَمَرَ أَنْ يُنْظَرَ إِلَيَّ هَلْ أَنْبَتُّ، فَكَشَفُوا عَانَتِي، فَوَجَدُوهَا لَمْ تَنْبُتْ، فَجَعَلُونِي فِي السَّبْيِ.
وَأَمَّا مَا وَرَدَ عَنِ الصَّحَابَةِ، فَمِنْهُ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ أَنْ لَا يَقْتُلَ إِلاَّ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي، وَلَا يَأْخُذَ الْجِزْيَةَ إِلاَّ مِمَّنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي وَأَنَّ غُلَامًا مِنَ الْأَنْصَارِ شَبَّبَ بِامْرَأَةٍ فِي شِعْرِهِ، فَرُفِعَ إِلَى عُمَرَ فَلَمْ يَجِدْهُ أَنْبَتَ فَقَالَ: لَوْ أَنْبَتَّ الشَّعْرَ لَحَدَدْتُكَ.
13- الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ الْإِنْبَاتَ بُلُوغٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ دُونَ بَعْضٍ.وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ.
فَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْإِنْبَاتَ يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِبُلُوغِ وَلَدِ الْكَافِرِ، وَمَنْ جُهِلَ إِسْلَامُهُ، دُونَ الْمُسْلِمِ وَالْمُسْلِمَةِ.وَهُوَ عِنْدَهُمْ أَمَارَةٌ عَلَى الْبُلُوغِ بِالسِّنِّ أَوْ بِالْإِنْزَالِ، وَلَيْسَ بُلُوغًا حَقِيقَةً.قَالُوا: وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَحْتَلِمْ، وَشَهِدَ عَدْلَانِ بِأَنَّ عُمُرَهُ دُونَ خَمْسَةَ عَشْرَةَ سَنَةً، لَمْ يُحْكَمْ بِبُلُوغِهِ بِالْإِنْبَاتِ.
وَإِنَّمَا فَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ فِي ذَلِكَ لِسُهُولَةِ مُرَاجَعَةِ آبَاءِ الْمُسْلِمِ وَأَقَارِبِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ الْمُسْلِمَ مُتَّهَمٌ فِي الْإِنْبَاتِ، فَرُبَّمَا تَعَجَّلَهُ بِدَوَاءٍ دَفْعًا لِلْحَجْرِ عَنْ نَفْسِهِ وَتَشَوُّفًا لِلْوِلَايَاتِ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَعْجِلُهُ.
14- وَيَرَى بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْإِنْبَاتَ يُقْبَلُ عَلَامَةً فِي أَعَمِّ مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: إِنَّ الْإِنْبَاتَ عَلَامَةٌ فِيمَا بَيْنَ الشَّخْصِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ مِنْ قَذْفٍ وَقَطْعٍ وَقَتْلٍ.
وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَ الشَّخْصِ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا خِلَافَ- يَعْنِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ- أَنَّهُ لَيْسَ بِعَلَامَةٍ.
وَبَنَى بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى مَنْ أَنْبَتَ، وَلَمْ يَحْتَلِمْ إِثْمٌ فِي تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَلَا يَلْزَمُهُ فِي الْبَاطِنِ عِتْقٌ وَلَا حَدٌّ، وَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ يُلْزِمُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَنْظُرُ فِيهِ وَيَحْكُمُ بِمَا ظَهَرَ لَهُ
وَالْحُجَّةُ لِلطَّرَفَيْنِ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ الْوَارِدُ فِي شَأْنِ بَنِي قُرَيْظَةَ.أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدْ قَصَرُوا حُكْمَهُ عَلَى مَخْرَجِهِ، فَإِنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ كَانُوا كُفَّارًا، وَابْنُ رُشْدٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ جَعَلُوهُ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، أَيْ فِي الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ، بِنَوْعٍ مِنَ الْقِيَاسِ.
مَا تَخْتَصُّ بِهِ الْأُنْثَى مِنْ عَلَامَاتِ الْبُلُوغِ:
15- تَزِيدُ الْأُنْثَى وَتَخْتَصُّ بِعَلَامَتَيْنِ: هُمَا الْحَيْضُ؛ إِذْ هُوَ عَلَمٌ عَلَى بُلُوغِهَا لِحَدِيثِ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ».
وَخَصَّ الْمَالِكِيَّةُ الْحَيْضَ بِالَّذِي لَمْ يَتَسَبَّبْ فِي جَلْبِهِ، وَإِلاَّ فَلَا يَكُونُ عَلَامَةً.
وَالْحَمْلُ عَلَامَةٌ عَلَى بُلُوغِ الْأُنْثَى؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ أَنَّ الْوَلَدَ يُخْلَقُ مِنْ مَاءِ الرِّجَالِ وَمَاءِ الْمَرْأَةِ.قَالَ تَعَالَى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}
فَإِذَا وُجِدَ وَاحِدٌ مِنَ الْعَلَامَاتِ السَّابِقَةِ حُكِمَ بِالْبُلُوغِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ كَانَ الْبُلُوغُ بِالسِّنِّ عَلَى النَّحْوِ الْمُبَيَّنِ فِي مَوَاطِنِهِ مِنَ الْبَحْثِ.
16- وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ عَلَامَاتِ الْبُلُوغِ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى- زِيَادَةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ- نَتْنَ الْإِبْطِ، وَفَرْقَ الْأَرْنَبَةِ، وَغِلَظَ الصَّوْتِ.
وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا مِنْ عَلَامَاتِ الْبُلُوغِ فِي الذَّكَرِ- زِيَادَةً عَلَى مَا سَبَقَ- نَبَاتَ الشَّعْرِ الْخَشِنِ لِلشَّارِبِ، وَثِقَلَ الصَّوْتِ، وَنُتُوءَ طَرَفِ الْحُلْقُومِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.وَفِي الْأُنْثَى نُهُودُ الثَّدْيِ.
عَلَامَاتُ الْبُلُوغِ الطَّبِيعِيَّةِ لَدَى الْخُنْثَى:
17- الْخُنْثَى إِنْ كَانَ غَيْرَ مُشْكِلٍ، وَأُلْحِقَ بِالذُّكُورِ أَوِ الْإِنَاثِ، فَعَلَامَةُ بُلُوغِهِ بِحَسَبِ النَّوْعِ الَّذِي أُلْحِقَ بِهِ.
أَمَّا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ فَعَلَامَاتُ الْبُلُوغِ الطَّبِيعِيَّةُ لَدَيْهِ كَعَلَامَاتِ الْبُلُوغِ لَدَى الذُّكُورِ أَوِ الْإِنَاثِ، فَيُحْكَمُ بِبُلُوغِهِ بِالْإِنْزَالِ أَوِ الْإِنْبَاتِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنَ الْعَلَامَاتِ الْمُشْتَرَكَةِ أَوِ الْخَاصَّةِ، عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهَذَا قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
أَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْعَلَامَةِ فِي الْفَرْجَيْنِ جَمِيعًا، فَلَوْ أَمْنَى الْخُنْثَى مِنْ ذَكَرِهِ، وَحَاضَتْ مِنْ فَرْجِهَا، أَوْ أَمْنَى مِنْهُمَا جَمِيعًا حُكِمَ بِبُلُوغِهِ، أَمَّا لَوْ أَمْنَى مِنْ ذَكَرِهِ فَقَطْ، أَوْ حَاضَتْ مِنْ فَرْجِهَا فَقَطْ فَلَا يُحْكَمُ بِالْبُلُوغِ.
18- وَاسْتَدَلَّ ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِأَيِّ الْعَلَامَتَيْنِ تَظْهَرُ أَوَّلًا، بِأَنَّ خُرُوجَ مَنِيِّ الرَّجُلِ مِنَ الْمَرْأَةِ مُسْتَحِيلٌ، وَخُرُوجَ الْحَيْضِ مِنَ الرَّجُلِ مُسْتَحِيلٌ، فَكَانَ خُرُوجُ أَيٍّ مِنْهُمَا دَلِيلًا عَلَى تَعْيِينِ كَوْنِ الْخُنْثَى أُنْثَى أَوْ ذَكَرًا، فَإِذَا ثَبَتَ التَّعْيِينُ لَزِمَ كَوْنُهُ دَلِيلًا عَلَى الْبُلُوغِ، كَمَا لَوْ تَعَيَّنَ قَبْلَ خُرُوجِهِ؛ وَلِأَنَّهُ مَنِيٌّ خَارِجٌ مِنْ ذَكَرٍ، أَوْ حَيْضٌ خَارِجٌ مِنْ فَرْجٍ، فَكَانَ عَلَمًا عَلَى الْبُلُوغِ، كَالْمَنِيِّ الْخَارِجِ مِنَ الْغُلَامِ، وَالْحَيْضِ الْخَارِجِ مِنَ الْجَارِيَةِ.قَالَ: وَلِأَنَّهُمْ سَلَّمُوا أَنَّ خُرُوجَهُمَا مَعًا دَلِيلُ الْبُلُوغِ، فَخُرُوجُ أَحَدِهِمَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُمَا مَعًا يَقْتَضِي تَعَارُضَهُمَا وَإِسْقَاطَ دَلَالَتِهِمَا؛ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ حَيْضٌ صَحِيحٌ وَمَنِيُّ رَجُلٍ.فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا فَضْلَةً خَارِجَةً مِنْ غَيْرِ مَحَلِّهَا، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِذَلِكَ مِنَ الْآخَرِ، فَتَبْطُلُ دَلَالَتُهُمَا، كَالْبَيِّنَتَيْنِ إِذَا تَعَارَضَتَا، أَمَّا إِنْ وُجِدَ الْخُرُوجُ مِنْ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ، وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُهُ، وَيُقْضَى بِثُبُوتِ دَلَالَتِهِ.
19- وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَمْ نَجِدْ- فِي مَا اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ- مِنْ كَلَامِهِمْ تَعَرُّضًا صَرِيحًا لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَكِنْ يَبْدُو أَنَّ قَوْلَ الْحَنَفِيَّةِ كَقَوْلِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِظَاهِرِ مَا فِي شَرْحِ الْأَشْبَاهِ مِنْ قَوْلِهِ فِي بَابِ أَحْكَامِ الْخُنْثَى: إِذَا كَانَ الْخُنْثَى بَالِغًا، بِأَنْ بَلَغَ بِالسِّنِّ، وَلَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ مِنْ عَلَامَاتِ الرِّجَالِ أَوِ النِّسَاءِ، لَا تُجْزِيهِ الصَّلَاةُ بِغَيْرِ قِنَاعٍ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ مِنَ الْحُرَّةِ عَوْرَةٌ.
الْبُلُوغُ بِالسِّنِّ:
20- جَعَلَ الشَّارِعُ الْبُلُوغَ أَمَارَةً عَلَى أَوَّلِ كَمَالِ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى أَوَّلِ كَمَالِ الْعَقْلِ مُتَعَذِّرٌ، فَأُقِيمَ الْبُلُوغُ مَقَامَهُ.
وَالْبُلُوغُ بِالسِّنِّ: يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ عَلَامَةٍ مِنْ عَلَامَاتِ الْبُلُوغِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سِنِّ الْبُلُوغِ.
فَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْبُلُوغَ بِالسِّنِّ يَكُونُ بِتَمَامِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً قَمَرِيَّةً لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، كَمَا صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا تَحْدِيدِيَّةٌ؛ لِخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ «عُرِضْتُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ أُحُدٍ، وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي، وَلَمْ يَرَنِي بَلَغْتُ، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي، وَرَآنِي بَلَغْتُ».
قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَدَّ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- سَبْعَةَ عَشَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهُمْ أَبْنَاءُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، لِأَنَّهُ لَمْ يَرَهُمْ بَلَغُوا، ثُمَّ عُرِضُوا عَلَيْهِ وَهُمْ مِنْ أَبْنَاءِ خَمْسَ عَشْرَةَ فَأَجَازَهُمْ، مِنْهُمْ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ وَابْنُ عُمَرَ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْبُلُوغَ يَكُونُ بِتَمَامِ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ بِالدُّخُولِ فِيهَا، وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَطَّابُ خَمْسَةَ أَقْوَالٍ فِي الْمَذْهَبِ، فَفِي رِوَايَةٍ: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَقِيلَ: سَبْعَةَ عَشَرَ، وَزَادَ بَعْضُ شُرَّاحِ الرِّسَالَةِ: سِتَّةَ عَشَرَ، وَتِسْعَةَ عَشَرَ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ خَمْسَةَ عَشَرَ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ السَّابِقِ.
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَّ الْبُلُوغَ بِالسِّنِّ لِلْغُلَامِ هُوَ بُلُوغُهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَالْجَارِيَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً لقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه-: الْأَشُدُّ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً.وَهِيَ أَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ، فَأَخَذَ بِهِ احْتِيَاطًا، هَذَا أَشُدُّ الصَّبِيِّ، وَالْأُنْثَى أَسْرَعُ بُلُوغًا فَنَقَصَتْ سَنَةً.
السِّنُّ الْأَدْنَى لِلْبُلُوغِ الَّذِي لَا تَصِحُّ دَعْوَى الْبُلُوغِ قَبْلَهُ:
21- السِّنُّ الْأَدْنَى لِلْبُلُوغِ فِي الذَّكَرِ: عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بِاسْتِكْمَالِ تِسْعِ سِنِينَ قَمَرِيَّةٍ بِالتَّمَامِ، وَفِي وَجْهٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ: مُضِيُّ نِصْفِ التَّاسِعَةِ، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: عَشْرُ سِنِينَ.وَيُقْبَلُ إِقْرَارُ الْوَلِيِّ بِأَنَّ الصَّبِيَّ بَلَغَ بِالِاحْتِلَامِ، إِذَا بَلَغَ عَشْرَ سِنِينَ.
وَالسِّنُّ الْأَدْنَى لِلْبُلُوغِ فِي الْأُنْثَى: تِسْعُ سِنِينَ قَمَرِيَّةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ، وَكَذَا الْحَنَابِلَةُ لِأَنَّهُ أَقَلُّ سِنٍّ تَحِيضُ لَهُ الْمَرْأَةُ، وَلِحَدِيثِ: «إِذَا بَلَغَتِ الْجَارِيَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَهِيَ امْرَأَةٌ» وَالْمُرَادُ حُكْمُهَا حُكْمُ الْمَرْأَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: نِصْفُ التَّاسِعَةِ، وَقِيلَ: الدُّخُولُ فِي التَّاسِعَةِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا أَقَلُّ سِنٍّ لِحَيْضِ الْفَتَاةِ.
وَالسِّنُّ الْأَدْنَى لِلْبُلُوغِ فِي الْخُنْثَى: تِسْعُ سِنِينَ قَمَرِيَّةٍ بِالتَّمَامِ، وَقِيلَ نِصْفُ التَّاسِعَةِ، وَقِيلَ: الدُّخُولُ فِيهَا.
إِثْبَاتُ الْبُلُوغِ:
يَثْبُتُ الْبُلُوغُ بِالطُّرُقِ الْآتِيَةِ:
الطَّرِيقُ الْأُولَى: الْإِقْرَارُ:
22- تَتَّفِقُ كَلِمَةُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ إِذَا كَانَ مُرَاهِقًا، وَأَقَرَّ بِالْبُلُوغِ بِشَيْءٍ مِنَ الْعَلَامَاتِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي تَخْفَى عَادَةً، كَالْإِنْزَالِ وَالِاحْتِلَامِ وَالْحَيْضِ، يَصِحُّ إِقْرَارُهُ، وَتَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الْبَالِغِ فِيمَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ.قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْبُلُوغِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، طَالِبًا أَوْ مَطْلُوبًا.فَالطَّالِبُ كَمَنِ ادَّعَى الْبُلُوغَ لِيَأْخُذَ سَهْمَهُ فِي الْغَنِيمَةِ، أَوْ لِيَؤُمَّ النَّاسَ، أَوْ لِيُكْمِلَ الْعَدَدَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ.وَالْمَطْلُوبُ كَجَانٍ ادَّعَى عَدَمَ الْبُلُوغِ لِيَدْرَأَ عَنْ نَفْسِهِ الْحَدَّ أَوِ الْقِصَاصَ أَوِ الْغَرَامَةَ فِي إِتْلَافِ الْوَدِيعَةِ، وَكَمُطَلِّقٍ ادَّعَى عَدَمَ الْبُلُوغِ عِنْدَ الطَّلَاقِ؛ لِئَلاَّ يَقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ.
وَيُشْتَرَطُ لِقَبُولِ قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ جَاوَزَ السِّنَّ الْأَدْنَى لِلْبُلُوغِ، بَلْ لَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ بِبُلُوغِهِ قَبْلَ ذَلِكَ.فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُ الصَّبِيِّ قَبْلَ تَمَامِ اثْنَيْ عَشَرَ عَامًا، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ بِذَلِكَ قَبْلَ تَمَامِ الْعَاشِرَةِ، وَعِنْدَ كِلَيْهِمَا: لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُ الصَّبِيَّةِ بِهِ قَبْلَ تَمَامِ التَّاسِعَةِ؛ وَوَجْهُ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِالْبُلُوغِ: أَنَّهُ مَعْنًى لَا يُعْرَفُ إِلاَّ مِنْ قِبَلِ الشَّخْصِ نَفْسِهِ، وَفِي تَكْلِيفِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ عُسْرٌ شَدِيدٌ،
وَلَا يُكَلَّفُ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ.
وَلَا يَحْلِفُ أَيْضًا حَتَّى عِنْدَ الْخُصُومَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَقِيقَةِ بَالِغًا فَلَا قِيمَةَ لِيَمِينِهِ؛ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِيَمِينِ الصَّغِيرِ، وَإِنْ كَانَ بَالِغًا فَيَمِينُهُ تَحْصِيلُ حَاصِلٍ،
وَقَدِ اسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ بَعْضَ الصُّوَرِ يَحْلِفُ فِيهَا احْتِيَاطًا، لَكِنَّهُ يُزَاحِمُ غَيْرَهُ فِي الْحُقُوقِ، كَمَا لَوْ طَلَبَ فِي الْغَنِيمَةِ سَهْمَ مُقَاتِلٍ
23- وَاشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ لِصِحَّةِ إِقْرَارِهِ بِذَلِكَ: أَنْ لَا يَكُونَ بِحَالٍ مُرِيبَةٍ، أَوْ كَمَا عَبَّرَ الشَّافِعِيُّ- رحمه الله-: يُقْبَلُ إِنْ أَشْبَهَ، فَإِنْ لَمْ يُشْبِهْ لَمْ يُقْبَلْ، وَلَوْ صَدَّقَهُ أَبُوهُ.وَعَبَّرَ الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِمْ إِنْ لَمْ يُكَذِّبْهُ الظَّاهِرُ، بَلْ يَكُونُ بِحَالٍ يَحْتَلِمُ مِثْلُهُ.وَالْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ حَالُ جِسْمِهِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ حَالَ الْبَالِغِينَ، وَلَايُشَكُّ فِي صِدْقِهِ.
هَكَذَا أَطْلَقَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ- مَا عَدَا الْمَالِكِيَّةَ- قَبُولَ قَوْلِهِ، وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنِ ارْتِيبَ فِيهِ يُصَدَّقُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِنَايَةِ وَالطَّلَاقِ، فَلَا يُحَدُّ لِلشُّبْهَةِ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ اسْتِصْحَابًا لِأَصْلِ الصِّغَرِ، وَلَا يُصَدَّقُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ، فَلَوْ أَقَرَّ بِإِتْلَافِ الْوَدِيعَةِ، وَأَنَّهُ بَالِغٌ، فَقَالَ أَبُوهُ: إِنَّهُ غَيْرُ بَالِغٍ، فَلَا ضَمَانَ.
وَقَدْ تَعَرَّضَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لِقَبُولِ قَوْلِ الْمُرَاهِقَيْنِ فِي الْبُلُوغِ إِنِ ادَّعَيَاهُ بِالْإِنْبَاتِ.وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِنْبَاتِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْعَلَامَاتِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي ذُكِرَتْ سَابِقًا: أَنَّهُ يَسْهُلُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ.وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِالْكَشْفِ عَمَّنْ شُكَّ فِي بُلُوغِهِ مِنْ غِلْمَانِ بَنِي قُرَيْظَةَ.إِلاَّ أَنَّ كَوْنَ الْعَوْرَةِ فِي الْأَصْلِ يَحْرُمُ كَشْفُهَا، دَعَا إِلَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ إِنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُ الشَّخْصِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ فِي نَبَاتِهَا وَعَدَمِهِ، إِلاَّ أَنَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيَّ خَالَفَ فِي ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ إِلَيْهَا، وَلَكِنْ لَا يُنْظَرُ مُبَاشَرَةً بَلْ مِنْ خِلَالِ الْمِرْآةِ.وَرَدَّ كَلَامَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَقَالَ: لَا يُنْظَرُ إِلَيْهَا مُبَاشَرَةً، وَلَا مِنْ خِلَالِ الْمِرْآةِ، وَيُقْبَلُ كَلَامُهُ إِنِ ادَّعَى الْبُلُوغَ بِالْإِنْبَاتِ.
الْبُلُوغُ شَرْطٌ لِلُزُومِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
24- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الشَّارِعَ رَبَطَ التَّكْلِيفَ بِالْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ وَلُزُومِ آثَارِ الْأَحْكَامِ فِي الْجُمْلَةِ بِشَرْطِ الْبُلُوغِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا:
أ- قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} جَعَلَ الْبُلُوغَ مُوجِبًا لِلِاسْتِئْذَانِ.
ب- وَمِنْهَا قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} جَعَلَ بُلُوغَ النِّكَاحِ مُوجِبًا لِارْتِفَاعِ الْوِلَايَةِ الْمَالِيَّةِ عَنِ الْيَتِيمِ، بِشَرْطِ كَوْنِهِ رَاشِدًا.
ج- وَمِنْهَا قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِمُعَاذٍ لَمَّا أَرْسَلَهُ إِلَى الْيَمَنِ: «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عِدْلَهُ مَعَافِرِيًّا» جَعَلَ الِاحْتِلَامَ مُوجِبًا لِلْجِزْيَةِ.
د- وَمِنْهَا مَا حَصَلَ يَوْمَ قُرَيْظَةَ، مِنْ أَنَّ مَنِ اشْتَبَهُوا فِي بُلُوغِهِ مِنَ الْأَسْرَى كَانَ إِذَا أَنْبَتَ قُتِلَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَنْبَتَ لَمْ يُقْتَلْ.فَجُعِلَ الْإِنْبَاتُ عَلَامَةً لِجَوَازِ قَتْلِ الْأَسِيرِ.
هـ- وَمِنْهَا قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ» فَجَعَلَ الْحَيْضَ مِنَ الْمَرْأَةِ مُوجِبًا لِفَسَادِ صَلَاتِهَا، إِنْ صَلَّتْ بِغَيْرِ خِمَارٍ.
و- وَمِنْهَا حَدِيثُ: «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» بَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ «بَابَ بُلُوغِ الصِّبْيَانِ وَشَهَادَتِهِمْ» قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُسْتَفَادُ مَقْصُودُ التَّرْجَمَةِ- يَعْنِي شَهَادَةَ الصِّبْيَانِ- بِالْقِيَاسِ عَلَى بَقِيَّةِ الْأَحْكَامِ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ الْوُجُوبِ بِالِاحْتِلَامِ.
ز- وَمِنْهَا حَدِيثُ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ...» جَعَلَ الْخُرُوجَ عَنْ حَدِّ الصَّغِيرِ مُوجِبًا لِكِتَابَةِ الْإِثْمِ، عَلَى مَنْ فَعَلَ مَا يُوجِبُهُ.
فَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ وَأَمْثَالُهَا- مِمَّا يَأْتِي فِي شَأْنِ عَلَامَاتِ الْبُلُوغِ- تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ رَبَطَ التَّكْلِيفَ وَلُزُومَ الْأَحْكَامِ عَامَّةً بِشَرْطِ الْبُلُوغِ، فَمَنِ اعْتُبِرَ بَالِغًا بِأَيِّ عَلَامَةٍ مِنْ عَلَامَاتِ الْبُلُوغِ فَهُوَ رَجُلٌ تَامٌّ أَوِ امْرَأَةٌ تَامَّةٌ، مُكَلَّفٌ- إِنْ كَانَ عَاقِلًا- كَغَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، يَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُهُمْ، وَحُقَّ لَهُ مَا يَحِقُّ لَهُمْ.وَقَدْ نَقَلَ بَعْضُهُمُ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْفَرَائِضَ وَالْأَحْكَامَ تَجِبُ عَلَى الْمُحْتَلِمِ الْعَاقِلِ.وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الِاحْتِلَامَ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ يَلْزَمُ بِهِ الْعِبَادَاتُ وَالْحُدُودُ وَسَائِرُ الْأَحْكَامِ.
مَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْبُلُوغُ مِنَ الْأَحْكَامِ:
أ- مَا يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهِ الْبُلُوغُ:
25- التَّكْلِيفُ بِالْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ يُشْتَرَطُ لَهُ الْبُلُوغُ، وَلَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِ الْبَالِغِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبُرَ...» الْحَدِيثَ، وَذَلِكَ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ عَلَى أَنَّ فِي الزَّكَاةِ خِلَافًا.
وَمَعَ هَذَا يَنْبَغِي لِوَلِيِّ الصَّغِيرِ أَنْ يُجَنِّبَهُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَأَنْ يَأْمُرَهُ بِالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا لِيَعْتَادَهَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ».
وَمَعَ هَذَا إِذَا أَدَّاهَا الصَّغِيرُ، أَوْ فَعَلَ الْمُسْتَحَبَّاتِ تَصِحُّ مِنْهُ، وَيُؤْجَرُ عَلَيْهَا.
وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ وَالْحُدُودُ، كَحَدِّ السَّرِقَةِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُؤَدَّبَ.
ب- مَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ الْبُلُوغُ:
26- الْبُلُوغُ شَرْطُ صِحَّةٍ فِي كُلِّ مَا يُشْتَرَطُ لَهُ تَمَامُ الْأَهْلِيَّةِ، وَمِنْ ذَلِكَ: الْوِلَايَاتُ كُلُّهَا، كَالْإِمَارَةِ وَالْقَضَاءِ وَالْوِلَايَةِ عَلَى النَّفْسِ وَالشَّهَادَةِ فِي الْجُمْلَةِ.وَمِنْ ذَلِكَ التَّصَرُّفَاتُ الْمُتَمَحِّضَةُ لِلضَّرَرِ كَالْهِبَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْوَقْفِ وَالْكَفَالَةِ.وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا: الطَّلَاقُ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَالْخُلْعِ وَالْعِتْقِ، وَكَذَلِكَ النَّذْرُ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ كُلِّ ذَلِكَ فِي مَوْطِنِهِ، وَفِي مُصْطَلَحِ (صِغَر).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
34-موسوعة الفقه الكويتية (تأديب)
تَأْدِيبٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّأْدِيبُ لُغَةً: مَصْدَرُ أَدَّبَهُ تَأْدِيبًا، أَيْ عَلَّمَهُ الْأَدَبَ، وَعَاقَبَهُ عَلَى إِسَاءَتِهِ، وَهُوَ رِيَاضَةُ النَّفْسِ وَمَحَاسِنُ الْأَخْلَاقِ.
وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- التَّعْزِيرُ:
2- التَّعْزِيرُ لُغَةً: التَّأْدِيبُ وَالْمَنْعُ وَالنُّصْرَةُ.وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى: قَوْلُ الْحَقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَاَلَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ}.
وَشَرْعًا: تَأْدِيبٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ.قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ: وَتَسْمِيَةُ ضَرْبِ الْوَلِيِّ وَالزَّوْجِ وَالْمُعَلِّمِ تَعْزِيرًا هُوَ أَشْهَرُ الِاصْطِلَاحَيْنِ، كَمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ.قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَخُصُّ لَفْظَ التَّعْزِيرِ بِالْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، وَضَرْبَ الْبَاقِي بِتَسْمِيَتِهِ تَأْدِيبًا لَا تَعْزِيرًا.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَقَدْ جَرَوْا عَلَى أَنَّ التَّعْزِيرَ يَصْدُقُ عَلَى الْعُقُوبَةِ الصَّادِرَةِ مِنَ الزَّوْجِ أَوِ الْأَبِ أَوْ غَيْرِهِمَا-، كَمَا يَصْدُقُ عَلَى فِعْلِ الْإِمَامِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: التَّعْزِيرُ يَفْعَلُهُ الزَّوْجُ وَالسَّيِّدُ، وَكُلُّ مَنْ رَأَى أَحَدًا يُبَاشِرُ الْمَعْصِيَةَ.
هَذَا، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ مَا يَتَّصِلُ بِالْعُقُوبَةِ الصَّادِرَةِ مِنَ الْإِمَامِ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ فِي مُصْطَلَحِ (تَعْزِيرٌ)
فَالتَّأْدِيبُ أَعَمُّ مِنَ التَّعْزِيرِ فِي أَحَدِ إِطْلَاقَيْهِ.
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
3- قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ تَأْدِيبِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِهِ الزَّوْجِيَّةِ، وَفِي أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَأْدِيبِهِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَتَرْكِ الصَّلَاةِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْمَنْعِ، وَجَوَّزَهُ آخَرُونَ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ تَأْدِيبُ الصَّبِيِّ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالطَّهَارَةِ، وَلِتَعْلِيمِ الْفَرَائِضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ بِالْقَوْلِ إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ، وَبِالضَّرْبِ إِنْ لَزِمَ لِإِصْلَاحِهِ إِذَا بَلَغَ عَشْرًا؛ لِحَدِيثِ: «عَلِّمُوا الصَّبِيَّ الصَّلَاةَ لِسَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ».
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ تَأْدِيبِ الْإِمَامِ وَنُوَّابِهِ لِمَنْ رُفِعَ إِلَيْهِمْ:
فَذَهَبَ الْأَئِمَّةُ: أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ، إِلَى وُجُوبِ إِقَامَةِ التَّأْدِيبِ عَلَيْهِمْ فِيمَا شُرِعَ التَّأْدِيبُ فِيهِ، إِلاَّ إِذَا رَأَى الْإِمَامُ أَنَّ فِي تَرْكِ التَّأْدِيبِ مَصْلَحَةً، وَقَالُوا: إِنَّهُ إِنْ كَانَ التَّأْدِيبُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، كَوَطْءِ جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ وَجَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ، يَجِبُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ وَرَأَى الْإِمَامُ مَصْلَحَةً فِي إِقَامَةِ التَّأْدِيبِ، أَوْ عَلِمَ أَنَّ الْمُذْنِبَ لَا يَنْزَجِرُ إِلاَّ بِالضَّرْبِ وَجَبَ؛ لِأَنَّهُ زَاجِرٌ مَشْرُوعٌ لِوَجْهِ اللَّهِ فَوَجَبَ كَالْحَدِّ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إِقَامَةُ التَّأْدِيبِ، وَلَهُ تَرْكُهُ.
وَحُجَّتُهُمْ: أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَعْرَضَ عَنْ جَمَاعَةٍ اسْتَحَقُّوهُ، وَلَمْ يُقِمْ عَلَيْهِمُ التَّأْدِيبَ كَالْغَالِّ فِي الْغَنِيمَةِ، فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا أَعْرَضَ عَنْهُمْ، وَلأَقَامَهُ عَلَيْهِمْ.
هَذَا إِذَا كَانَ التَّأْدِيبُ حَقًّا لِلَّهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ حَقًّا لآِدَمِيٍّ، وَطَالَبَ بِهِ مُسْتَحِقُّهُ، وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ إِقَامَتُهُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَلَكِنْ إِذَا عَفَا عَنْهُ صَاحِبُ الْحَقِّ فَهَلْ لِلْإِمَامِ إِقَامَةُ التَّأْدِيبِ؟
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ- فِي الْأَصَحِّ مِنْ قَوْلَيْنِ عِنْدَهُمْ- إِلَى: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ إِقَامَةُ التَّأْدِيبِ.لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ حَقِّ اللَّهِ، وَلِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِنَظَرِ الْإِمَامِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ إِسْقَاطُ غَيْرِهِ.وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَعْزِيرٌ).
وِلَايَةُ التَّأْدِيبِ:
4- تَثْبُتُ وِلَايَةُ التَّأْدِيبِ:
أ- لِلْإِمَامِ وَنُوَّابِهِ كَالْقَاضِي بِالْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ، فَلَهُمُ الْحَقُّ فِي تَأْدِيبِ مَنِ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا لَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مَعَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْوُجُوبِ عَلَيْهِمْ وَعَدَمِهِ كَمَا مَرَّتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ. (ر: تَعْزِيرٌ).
ب- لِلْوَلِيِّ بِالْوِلَايَةِ الْخَاصَّةِ، أَبًا كَانَ أَوْ جَدًّا أَوْ وَصِيًّا، أَوْ قَيِّمًا مِنْ قِبَلِ الْقَاضِي لِحَدِيثِ: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ...» إِلَخْ
ج- لِلْمُعَلِّمِ عَلَى التِّلْمِيذِ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ.
د- لِلزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، لقوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَأْدِيبِ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، كَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْفَرَائِضِ.فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْدِيبُهَا عَلَى ذَلِكَ.وَقَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِمَا قَبْلَ الرَّفْعِ لِلْإِمَامِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لَيْسَ لَهُ التَّأْدِيبُ لِحَقِّ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَلَا تَرْجِعُ الْمَنْفَعَةُ إِلَيْهِ.هَذَا وَلَمْ نَقِفْ عَلَى قَوْلٍ لِلْفُقَهَاءِ بِوُجُوبِ التَّأْدِيبِ عَلَى الزَّوْجِ، بَلْ يُفْهَمُ مِنْ عِبَارَاتِهِمْ أَنَّ التَّرْكَ أَوْلَى.
جَاءَ فِي الْأُمِّ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ: فِي نَهْيِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ، ثُمَّ إِذْنِهِ فِي ضَرْبِهِنَّ، وَقَوْلُهُ: «لَنْ يَضْرِبَ خِيَارُكُمْ» يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ- عليه الصلاة والسلام- نَهَى عَنْهُ عَلَى اخْتِيَارِ النَّهْيِ، وَأَذِنَ فِيهِ بِأَنْ أَبَاحَ لَهُمُ الضَّرْبَ فِي الْحَقِّ، وَاخْتَارَ لَهُمْ أَلاَّ يَضْرِبُوا؛ لِقَوْلِهِ: «لَنْ يَضْرِبَ خِيَارُكُمْ».وَلَيْسَ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ وِلَايَةُ التَّأْدِيبِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: يُقِيمُ التَّأْدِيبَ- إِذَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ- كُلُّ مُسْلِمٍ فِي حَالِ مُبَاشَرَةِ الْمَعْصِيَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ، وَالشَّارِعُ وَلَّى كُلَّ مُسْلِمٍ ذَلِكَ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ...»
أَمَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ فَلَيْسَ بِنَهْيٍ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَمَّا مَضَى لَا يُتَصَوَّرُ، فَيَتَمَحَّضُ تَعْزِيرًا، وَذَلِكَ إِلَى الْإِمَامِ.
مَا يَجُوزُ فِيهِ التَّأْدِيبُ لِغَيْرِ الْحَاكِمِ.
5- أ- نُشُوزُ الزَّوْجَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنَ الْحُقُوقِ، كَتَرْكِهَا الزِّينَةَ لَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَتَرْكِ الْغُسْلِ عِنْدَ الْجَنَابَةِ، وَالْخُرُوجِ مِنَ الْمَنْزِلِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَتَرْكِ الْإِجَابَةِ إِلَى الْفِرَاشِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَهُ صِلَةٌ بِالْعَلَاقَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَأْدِيبِهِ إِيَّاهَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، فَجَوَّزَهُ الْبَعْضُ، وَمَنَعَهُ آخَرُونَ.: مُصْطَلَحُ (نُشُوزٌ).
ب- وَتَثْبُتُ عَلَى الصَّبِيِّ لِوَلِيِّهِ، أَبًا كَانَ، أَوْ جَدًّا، أَوْ وَصِيًّا، أَوْ قَيِّمًا مِنْ قِبَلِ الْقَاضِي لِخَبَرِ: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ...» وَيُؤَدَّبُ عَلَى تَرْكِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَكَذَا الصَّوْمُ، وَيُنْهَى عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ لِيَأْلَفَ الْخَيْرَ وَيَتْرُكَ الشَّرَّ، وَيُؤْمَرُ بِالْغُسْلِ إِذَا جَامَعَ، وَيُؤْمَرُ بِجَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ، وَيُنْهَى عَنْ جَمِيعِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَيَكُونُ التَّأْدِيبُ بِالضَّرْبِ وَالْوَعِيدِ، وَالتَّعْنِيفِ بِالْقَوْلِ، وَهَذَا التَّأْدِيبُ وَاجِبٌ عَلَى الْوَلِيِّ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ.وَهُوَ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ لِتَمْرِينِهِ عَلَى الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا لِيَأْلَفَهَا وَيَعْتَادَهَا وَلَا يَتْرُكَهَا عِنْدَ الْبُلُوغِ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِخَبَرِ «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ...» ذَكَرَ مِنْهُمُ الصَّبِيَّ حَتَّى يَبْلُغَ.
ج- عَلَى التِّلْمِيذِ: وَيُؤَدِّبُ الْمُعَلِّمُ مَنْ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ، وَلَيْسَ لَهُ التَّأْدِيبُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْوَلِيِّ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلُهُمُ: الْإِجْمَاعُ الْفِعْلِيُّ مُطَّرِدٌ بِجَوَازِ ذَلِكَ بِدُونِ إِذْنِ الْوَلِيِّ.
نَفَقَةُ التَّأْدِيبِ:
6- تَجِبُ أُجْرَةُ التَّعْلِيمِ فِي مَالِ الطِّفْلِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ.فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَعَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، وَالْإِنْفَاقُ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ لِتَعْلِيمِهِ الْفَرَائِضَ وَاجِبٌ بِالِاتِّفَاقِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ مِنْ مَالِهِ أُجْرَةُ تَعْلِيمِ مَا سِوَى الْفَرَائِضِ مِنَ: الْقُرْآنِ، وَالصَّلَاةِ، وَالطَّهَارَةِ، كَالْأَدَبِ، وَالْخَطِّ، إِنْ تَأَهَّلَ لَدَيْهِ لِأَنَّهُ مُسْتَمِرٌّ مَعَهُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ، وَنَقَلَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ عَنِ النَّوَوِيِّ قَوْلَهُ فِي الرَّوْضَةِ: يَجِبُ عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ تَعْلِيمُ أَوْلَادِهِمُ الطَّهَارَةَ وَالصَّلَاةَ وَالشَّرَائِعَ، وَأُجْرَةُ تَعْلِيمِ الْفَرَائِضِ فِي مَالِ الطِّفْلِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ.
طُرُقُ التَّأْدِيبِ:
7- تَخْتَلِفُ طُرُقُ التَّأْدِيبِ بِاخْتِلَافِ مَنْ لَهُ التَّأْدِيبُ وَمَنْ عَلَيْهِ التَّأْدِيبُ:
فَطُرُقُ تَأْدِيبِ الْإِمَامِ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ مِنَ الرَّعِيَّةِ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ وَلَا مُقَدَّرَةٍ شَرْعًا، فَيُتْرَكُ لِاجْتِهَادِهِ فِي سُلُوكِ الْأَصْلَحِ لِتَحْصِيلِ الْغَرَضِ مِنَ التَّأْدِيبِ، لِاخْتِلَافِ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْجَانِي وَالْجِنَايَةِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُرَاعِيَ التَّدَرُّجَ اللاَّئِقَ بِالْحَالِ وَالْقَدْرِ كَمَا يُرَاعِي دَفْعَ الصَّائِلِ، فَلَا يَرْقَى إِلَى مَرْتَبَةٍ وَهُوَ يَرَى مَا دُونَهَا كَافِيًا وَمُوَثِّرًا.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَعْزِيرٌ).
طُرُقُ تَأْدِيبِ الزَّوْجَةِ:
8- أ- الْوَعْظُ
ب- الْهَجْرُ فِي الْمَضْجَعِ ج- الضَّرْبُ غَيْرُ الْمُبَرِّحِ.
وَهَذَا التَّرْتِيبُ وَاجِبٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، فَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْهَجْرِ إِلاَّ إِذَا لَمْ يُجْدِ الْوَعْظُ، هَذَا لقوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}.
جَاءَ فِي الْمُغْنِي لِابْنِ قُدَامَةَ: فِي الْآيَةِ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ: وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ فَإِنْ نَشَزْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ، فَإِنْ أَصْرَرْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ- فِي الْأَظْهَرِ مِنْ قَوْلَيْنِ عِنْدَهُمْ- إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُؤَدِّبَهَا بِالضَّرْبِ بَعْدَ ظُهُورِ النُّشُوزِ مِنْهَا بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَلَا تَرْتِيبَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بَيْنَ الْهَجْرِ وَالضَّرْبِ بَعْدَ ظُهُورِ النُّشُوزِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ يُوَافِقُ رَأْيَ الْجُمْهُورِ.
وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَغَيْرَ مُدْمٍ، وَأَنْ يُتَوَقَّى فِيهِ الْوَجْهُ وَالْأَمَاكِنُ الْمَخُوفَةُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّأْدِيبُ لَا الْإِتْلَافُ.لِخَبَرِ: «إِنَّ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلاَّ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ».
وَيَشْتَرِطُ الْحَنَابِلَةُ أَلاَّ يُجَاوِزَ بِهِ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ لِحَدِيثِ: «لَا يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إِلاَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» ر: مُصْطَلَحَ (نُشُوزٌ).
طُرُقُ تَأْدِيبِ الصَّبِيِّ:
9- يُؤَدَّبُ الصَّبِيُّ بِالْأَمْرِ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرَاتِ بِالْقَوْلِ، ثُمَّ الْوَعِيدِ، ثُمَّ التَّعْنِيفِ، ثُمَّ الضَّرْبِ، إِنْ لَمْ تُجْدِ الطُّرُقُ الْمَذْكُورَةُ قَبْلَهُ، وَلَا يُضْرَبُ الصَّبِيُّ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ إِلاَّ إِذَا بَلَغَ عَشْرَ سِنِينَ.لِحَدِيثِ: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ».
وَلَا يُجَاوِزُ ثَلَاثًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَهِيَ أَيْضًا عَلَى التَّرْتِيبِ، فَلَا يَرْقَى إِلَى مَرْتَبَةٍ إِذَا كَانَ مَا قَبْلَهَا يَفِي بِالْغَرَضِ وَهُوَ الْإِصْلَاحُ.
تَجَاوُزُ الْقَدْرِ الْمُعْتَادِ فِي التَّأْدِيبِ:
10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَنْعِ التَّأْدِيبِ بِقَصْدِ الْإِتْلَافِ، وَعَلَى تَرَتُّبِ الْمَسْئُولِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْبُلُوغِ بِالتَّأْدِيبِ أَوِ التَّعْزِيرِ مَبْلَغَ الْحَدِّ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (تَعْزِيرٌ).
الْهَلَاكُ مِنَ التَّأْدِيبِ الْمُعْتَادِ:
11- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِي حُكْمِ الْهَلَاكِ مِنَ التَّأْدِيبِ الْمُعْتَادِ:
فَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَضْمَنُ الْهَلَاكَ مِنَ التَّأْدِيبِ الْمُعْتَادِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ مَأْمُورٌ بِالْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ، وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ لَا يَتَقَيَّدُ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَضْمِينِ الزَّوْجِ وَالْوَلِيِّ، إِذَا حَصَلَ التَّلَفُ مِنْ تَأْدِيبِهِمَا وَلَمْ يَتَجَاوَزَا الْقَدْرَ الْمَشْرُوعَ.
فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الزَّوْجِ وَالْوَلِيِّ مِنَ التَّلَفِ الَّذِي يَنْشَأُ مِنَ التَّأْدِيبِ الْمُعْتَادِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَضْمَنُ الزَّوْجُ إِذَا أَفْضَى تَأْدِيبُهُ الْمُعْتَادُ إِلَى الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ تَأْدِيبَ الزَّوْجَةِ إِذَا تَعَيَّنَ سَبِيلًا لِمَنْعِ نُشُوزِهَا مَشْرُوطٌ بِأَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَدْ جَاوَزَ الْفِعْلَ الْمَأْذُونَ فِيهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَشُرِطَ فِيهِ سَلَامَةُ الْعَاقِبَةِ.
وَاخْتَلَفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ فِي تَضْمِينِ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْوَصِيِّ وَنَحْوِهِمْ: فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يَضْمَنُ الْجَمِيعُ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى تَأْدِيبِهِمُ التَّلَفُ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ مَأْذُونٌ لَهُ بِالتَّأْدِيبِ لَا بِالْإِتْلَافِ، فَإِذَا أَدَّى إِلَى التَّلَفِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ جَاوَزَ الْحَدَّ، وَلِأَنَّ التَّأْدِيبَ قَدْ يَحْصُلُ بِغَيْرِ الضَّرْبِ كَالزَّجْرِ وَفَرْكِ الْأُذُنِ، وَخُلَاصَةُ رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ:
أَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَتَقَيَّدُ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ، وَالْمُبَاحُ يَتَقَيَّدُ بِهَا، وَمِنَ الْمُبَاحِ ضَرْبُ الْأَبِ أَوِ الْأُمِّ وَلَدَهُمَا تَأْدِيبًا، وَمِثْلُهُمَا الْوَصِيُّ، فَإِذَا أَفْضَى إِلَى الْمَوْتِ وَجَبَ الضَّمَانُ، وَإِنْ كَانَ الضَّرْبُ لِلتَّعْلِيمِ فَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ، وَالْوَاجِبُ لَا يَتَقَيَّدُ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ.
وَذَهَبَ الصَّاحِبَانِ إِلَى أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ التَّأْدِيبَ مِنْهُمْ فِعْلٌ مَأْذُونٌ فِيهِ لِإِصْلَاحِ الصَّغِيرِ، كَضَرْبِ الْمُعَلِّمِ، بَلْ أَوْلَى مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمُعَلِّمَ يَسْتَمِدُّ وِلَايَةَ التَّأْدِيبِ مِنَ الْوَلِيِّ، وَالْمَوْتُ نَتَجَ مِنْ فِعْلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ، وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْ فِعْلٍ مَأْذُونٍ لَا يُعَدُّ اعْتِدَاءً، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ.
وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْإِمَامَ رَجَعَ إِلَى قَوْلِ الصَّاحِبَيْنِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي التَّأْدِيبِ وَإِنْ لَمْ يَتَجَاوَزِ الْقَدْرَ الْمُعْتَادَ فِي مِثْلِهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَقْتُلُ غَالِبًا فَفِيهِ الْقِصَاصُ عَلَى غَيْرِ الْأَصْلِ (الْأَبِ وَالْجَدِّ) وَإِلاَّ فَدِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَشْرُوطٌ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ، إِذِ الْمَقْصُودُ التَّأْدِيبُ لَا الْهَلَاكُ، فَإِذَا حَصَلَ بِهِ هَلَاكٌ تَبَيَّنَ أَنَّهُ جَاوَزَ الْقَدْرَ الْمَشْرُوعَ فِيهِ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ أُوتُوا سُلْطَةَ التَّأْدِيبِ، كَالزَّوْجِ وَالْوَلِيِّ.
تَأْدِيبُ الدَّابَّةِ:
12- لِلْمُسْتَأْجِرِ وَرَائِضِ الدَّابَّةِ تَأْدِيبُهَا بِالضَّرْبِ وَالْكَبْحِ بِقَدْرِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَلَا يَضْمَنُ إِنْ تَلِفَتْ بِذَلِكَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ (مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ) وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ صَحَّ «عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ نَخَسَ بَعِيرَ جَابِرٍ وَضَرَبَهُ».
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ يَضْمَنُ لِأَنَّهُ تَلَفٌ حَصَلَ بِجِنَايَتِهِ فَضَمِنَهُ كَغَيْرِهِ، وَلِأَنَّ الْمُعْتَادَ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ، وَلِأَنَّ السَّوْقَ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الضَّرْبِ، وَإِنَّمَا يُضْرَبُ لِلْمُبَالَغَةِ فَيَضْمَنُ.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
13- يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ التَّأْدِيبَ أَسَاسًا فِي أَبْوَابٍ كَثِيرَةٍ مِثْلِ: الصَّلَاةِ، النُّشُوزِ، التَّعْزِيرِ، دَفْعِ الصَّائِلِ، ضَمَانِ الْوُلَاةِ، وَالْحِسْبَةِ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
35-موسوعة الفقه الكويتية (تثاؤب)
تَثَاؤُبٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّثَاؤُبُ: (بِالْمَدِّ): فَتْرَةٌ تَعْتَرِي الشَّخْصَ فَيَفْتَحُ عِنْدَهَا فَمَهُ.
وَالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ فِي هَذَا لَا يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
2- صَرَّحَ الْعُلَمَاءُ بِكَرَاهَةِ التَّثَاؤُبِ.فَمَنِ اعْتَرَاهُ ذَلِكَ، فَلْيَكْظِمْهُ، وَلْيَرُدَّهُ قَدْرَ الطَّاقَةِ.لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ» كَأَنْ يُطْبِقَ شَفَتَيْهِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيُمْسِكْ بِيَدِهِ عَلَى فَمِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ» وَيَقُومُ مَقَامَ الْيَدِ كُلُّ مَا يَسْتُرُ الْفَمَ كَخِرْقَةٍ أَوْ ثَوْبٍ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ.
ثُمَّ يَخْفِضُ صَوْتَهُ وَلَا يَعْوِي، لِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فِيهِ، وَلَا يَعْوِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَضْحَكُ مِنْهُ» ثُمَّ يُمْسِكُ عَنِ التَّمَطِّي وَالتَّلَوِّي الَّذِي يُصَاحِبُ بَعْضَ النَّاسِ، لِأَنَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ.وَقَدْ رُوِيَ: «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ لَا يَتَمَطَّى، لِأَنَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ»..
التَّثَاؤُبُ فِي الصَّلَاةِ:
3- التَّثَاؤُبُ فِي الصَّلَاةِ مَكْرُوهٌ، لِخَبَرِ مُسْلِمٍ: «إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَكْظِمْهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ مِنْهُ»، وَهَذَا إِذَا أَمْكَنَ دَفْعُهُ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهُ فَلَا كَرَاهَةَ، وَيُغَطِّي فَمَه بِيَدِهِ الْيُسْرَى، وَقِيلَ: بِإِحْدَى يَدَيْهِ.وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.وَلَا شَيْءَ فِيهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَيُنْدَبُ كَظْمُ التَّثَاؤُبِ فِي الصَّلَاةِ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ لِلْحَدِيثِ.
التَّثَاؤُبُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ:
4- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ مِنْ آدَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَلاَّ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ فِي حَالِ شُغْلِ قَلْبِهِ وَعَطَشِهِ وَنُعَاسِهِ، وَأَنْ يَغْتَنِمَ أَوْقَاتَ نَشَاطِهِ، وَإِذَا تَثَاءَبَ يَنْبَغِي أَنْ يُمْسِكَ عَنِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى يَنْقَضِيَ التَّثَاؤُبُ، ثُمَّ يَقْرَأُ، لِئَلاَّ يَتَغَيَّرَ نَظْمُ قِرَاءَتِهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهُوَ حَسَنٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ثَبَتَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيُمْسِكْ بِيَدِهِ عَلَى فَمِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ».
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
36-موسوعة الفقه الكويتية (تثنية)
تَثْنِيَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّثْنِيَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ: ثَنَّى، يُقَالُ: ثَنَّيْتُ الشَّيْءَ: إِذَا جَعَلْتَهُ اثْنَيْنِ، وَيَأْتِي أَيْضًا بِمَعْنَى الضَّمِّ، فَإِذَا فَعَلَ الرَّجُلُ أَمْرًا ثُمَّ ضَمَّ إِلَيْهِ آخَرَ قِيلَ: ثَنَّى بِالْأَمْرِ الثَّانِي.وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ لِلَفْظِ تَثْنِيَةٍ عَمَّا وَرَدَ فِي اللُّغَةِ.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
2- وَرَدَتِ التَّثْنِيَةُ فِي الْأَذَانِ، وَالْإِقَامَةِ، وَفِي صَلَاةِ النَّفْلِ، وَمِنْهَا الرَّوَاتِبُ مَعَ الْفَرَائِضِ، وَفِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، لِخَبَرِ: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى».وَفِي الْعَقِيقَةِ لِلذَّكَرِ، وَالشَّهَادَةِ فِي أَغْلَبِ الْأُمُورِ كَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْإِسْلَامِ، وَالْمَوْتِ، وَتَفْصِيلُ كُلٍّ فِي مَوْطِنِهِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
37-موسوعة الفقه الكويتية (تجربة)
تَجْرِبَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّجْرِبَةُ: مَصْدَرُ جَرَّبْتُ، وَمَعْنَاهُ: الِاخْتِبَارُ.يُقَالُ: جَرَّبْتُ الشَّيْءَ تَجْرِيبًا وَتَجْرِبَةً، أَيِ: اخْتَبَرْتَهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى.وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
2- أَثَرُ الْمَرَضِ فِي إِبَاحَةِ الْفِطْرِ عِنْدَ خَوْفِ زِيَادَتِهِ بِالتَّجْرِبَةِ:
يَجُوزُ الْفِطْرُ لِمَرِيضٍ خَافَ زِيَادَةَ مَرَضِهِ بِالتَّجْرِبَةِ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ الْمَرِيضِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَرَضِ.
أَمَّا حُكْمُ الصَّحِيحِ الَّذِي يَخَافُ الْمَرَضَ لَوْ صَامَ، وَضَابِطُ الْمَرَضِ الْمُبِيحِ لِلْفِطْرِ، فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَوْمٌ).
تَجْرِبَةُ الْمَبِيعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ:
3- يَجُوزُ تَجْرِبَةُ الْمَبِيعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السِّلْعَةِ، وَإِلَيْكَ بَعْضُ أَنْوَاعِهَا:
أ- تَجْرِبَةُ الثَّوْبِ:
4- يَجُوزُ تَجْرِبَةُ الثَّوْبِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لِمَعْرِفَةِ طُولِهِ وَعَرْضِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ إِجَازَةً عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا لَبِسَ الثَّوْبَ مَرَّةً، ثُمَّ لَبِسَهُ ثَانِيًا لِمَعْرِفَةِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ يَسْقُطُ خِيَارُهُ، لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى تَكْرَارِ اللُّبْسِ فِي الثَّوْبِ، لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِاللُّبْسِ مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: فَتَجْرِي فِي لُبْسِ الثَّوْبِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ سِتَّ عَشْرَةَ صُورَةً، حَاصِلُهَا جَوَازُ لُبْسِ الثَّوْبِ بُغْيَةَ التَّجْرِبَةِ وَالِاخْتِيَارِ فِي بَعْضِ تِلْكَ الصُّوَرِ بِشُرُوطٍ ذَكَرُوهَا.
وَلِتَفْصِيلِ الْمَوْضُوعِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ (خِيَارُ الشَّرْطِ).
ب- تَجْرِبَةُ الدَّارِ:
5- إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ دَارًا فَسَكَنَهَا الْمُشْتَرِي فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، أَوْ أَسْكَنَهَا غَيْرَهُ، بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ، يَسْقُطُ خِيَارُهُ، لِأَنَّهُ دَلِيلُ اخْتِيَارِ الْمِلْكِ أَوْ تَقْرِيرِهِ، فَكَانَ إِجَازَةَ دَلَالَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ أَنْ يَسْكُنَ الدَّارَ الْمُشْتَرَاةَ تَيْسِيرًا لِتَجْرِبَتِهَا وَاخْتِبَارِهَا، حَسَبَ تَفْصِيلٍ يَأْتِي فِي مُصْطَلَحِ (خِيَارُ الشَّرْطِ).
وَيُؤْخَذُ مِمَّا أَوْرَدَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّ لِلْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ التَّصَرُّفَ بِمَا تَحْصُلُ بِهِ تَجْرِبَةُ الْمَبِيعِ، فَلَهُ تَجْرِبَةُ الثَّوْبِ أَوِ الدَّارِ وَلَا يُعْتَبَرُ بِذَلِكَ إِجَازَةً.
ج- (تَجْرِبَةُ الدَّابَّةِ):
6- يَرَى الْفُقَهَاءُ جَوَازَ تَجْرِبَةِ الدَّابَّةِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لِلنَّظَرِ فِي سَيْرِهَا وَقُوَّتِهَا، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فِي كَيْفِيَّةِ التَّجْرِبَةِ وَالْمُدَّةِ الَّتِي يُمْكِنُ تَجْرِيبُ الدَّابَّةِ فِيهَا يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مَوْطِنِهِ، وَفِي مُصْطَلَحِ (خِيَارُ الشَّرْطِ).
تَجْرِبَةُ الصَّبِيِّ لِمَعْرِفَةِ رُشْدِهِ:
7- يُجَرَّبُ الصَّبِيُّ لِمَعْرِفَةِ رُشْدِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِتَفْوِيضِهِ فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا أَمْثَالُهُ.
فَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ التُّجَّارِ فُوِّضَ إِلَيْهِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ، فَإِذَا تَكَرَّرَ مِنْهُ فَلَمْ يُغْبَنْ، وَلَمْ يُضَيِّعْ مَا فِي يَدَيْهِ، فَهُوَ رَشِيدٌ.
وَيُجَرَّبُ وَلَدُ الزَّارِعِ بِالزِّرَاعَةِ وَالنَّفَقَةِ عَلَى الْقَائِمِينَ بِمَصَالِحِ الزَّرْعِ مِنْ حَرْثٍ وَحَصْدٍ وَحِفْظٍ، كَمَا يُجَرَّبُ وَلَدُ الْمُحْتَرِفِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِحِرْفَةِ أَبِيهِ وَأَقَارِبِهِ.
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَالنَّخَعِيُّ عَدَمَ تَجْرِبَةِ الشَّخْصِ الَّذِي بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ، إِذَا أَكْمَلَ الْخَامِسَةَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ عُمْرِهِ، فَيَجِبُ عِنْدَهُمْ إِعْطَاؤُهُ مَالَهُ وَلَوْ لَمْ يَصِرْ رَشِيدًا؛ لِأَنَّ مَنْعَهُ مِنْ مَالِهِ هُوَ لِلتَّأْدِيبِ، فَإِذَا لَمْ يَتَأَدَّبْ- وَقَدْ بَلَغَ سِنًّا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ جَدًّا- فَلَا يَبْقَى أَمَلٌ فِي تَأْدِيبِهِ.
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي مَعْنَى الرُّشْدِ وَوَقْتِ تَجْرِبَةِ الصَّبِيِّ لِمَعْرِفَةِ رُشْدِهِ آرَاءٌ وَخِلَافَاتٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (حَجْرٌ، رُشْدٌ، وَسَفَهٌ).
تَجْرِبَةُ الْقَائِفِ لِمَعْرِفَةِ كَفَاءَتِهِ:
8- يُشْتَرَطُ فِي الْقَائِفِ- عِنْدَ مَنْ يَرَى الْعَمَلَ بِقَوْلِهِ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ- أَنْ يَكُونَ مُجَرَّبًا فِي الْإِصَابَةِ، لِخَبَرِ: «لَا حَكِيمَ إِلاَّ ذُو تَجْرِبَةٍ» وَلِأَنَّ الْقِيَافَةَ أَمْرٌ عِلْمِيٌّ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْعِلْمِ بِمَعْرِفَةِ الْقَائِفِ لَهُ، وَذَلِكَ لَا يُعْرَفُ بِغَيْرِ التَّجْرِبَةِ.
وَمِنْ طُرُقِ تَجْرِبَةِ الْقَائِفِ لِمَعْرِفَةِ كَفَاءَتِهِ: أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ وَلَدٌ فِي نِسْوَةٍ، لَيْسَ فِيهِنَّ أُمُّهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ فِي نِسْوَةٍ هِيَ فِيهِنَّ، فَإِذَا أَصَابَ فِي الْكُلِّ فَهُوَ مُجَرِّبٌ.
وَتَجْدُرُ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ لَا يُجِيزُونَ الْعَمَلَ بِقَوْلِ الْقَائِفِ مُطْلَقًا، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَشْتَرِطُوا شُرُوطًا لِاعْتِبَارِ قَوْلِ الْقَافَةِ دَلِيلًا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ.
وَتُنْظَرُ التَّفَاصِيلُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (قِيَافَةٌ).
تَجْرِبَةُ أَهْلِ الْخِبْرَةِ:
9- يُشْتَرَطُ فِي أَهْلِ الْخِبْرَةِ الَّذِينَ يُعْمَلُ بِقَوْلِهِمْ فِي الْمُنَازَعَاتِ: أَنْ تَثْبُتَ خِبْرَتُهُمْ بِتَجَارِبَ مُنَاسَبَةٍ كَالطَّبِيبِ وَالْمُهَنْدِسِ وَنَحْوِهِمَا.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
38-موسوعة الفقه الكويتية (تذكر)
تَذَكُّرٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّذْكِيرُ وَالتَّذَكُّرُ: مِنْ مَادَّةِ ذَكَرَ، ضِدُّ نَسِيَ، يُقَالُ: ذَكَرْتُ الشَّيْءَ بَعْدَ نِسْيَانٍ، وَذَكَرْتُهُ بِلِسَانِي، وَقَلْبِي، وَتَذَكَّرْتُهُ، وَأَذْكَرْتُهُ غَيْرِي، وَذَكَّرْتُهُ تَذْكِيرًا.
وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- السَّهْوُ:
2- السَّهْوُ فِي اللُّغَةِ: نِسْيَانُ الشَّيْءِ وَالْغَفْلَةُ عَنْهُ وَذَهَابُ الْقَلْبِ إِلَى غَيْرِهِ، فَالسَّهْوُ عَنِ الصَّلَاةِ: الْغَفْلَةُ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: السَّهْوُ مِنَ الشَّيْءِ: تَرْكُهُ عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ، وَالسَّهْوُ عَنْهُ: تَرْكُهُ مَعَ الْعِلْمِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}.
وَاصْطِلَاحًا، قَالَ صَاحِبُ الْمَوَاقِفِ: السَّهْوُ زَوَالُ الصُّورَةِ عَنِ الْمُدْرِكَةِ مَعَ بَقَائِهَا فِي الْحَافِظَةِ، وَقِيلَ: هُوَ الذُّهُولُ عَنِ الشَّيْءِ، بِحَيْثُ لَوْ نُبِّهَ لَهُ أَدْنَى تَنْبِيهٍ لَتَنَبَّهَ
وَفِي الْمِصْبَاحِ: إِنَّ السَّهْوَ لَوْ نُبِّهَ صَاحِبُهُ لَمْ يَتَنَبَّهْ
ب- النِّسْيَانُ:
3- النِّسْيَانُ: ضِدُّ الذِّكْرِ وَالْحِفْظِ، يُقَالُ: نَسِيَهُ نَسْيًا، وَنِسْيَانًا، وَهُوَ تَرْكُ الشَّيْءِ عَنْ ذُهُولٍ وَغَفْلَةٍ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى التَّرْكِ عَنْ عَمْدٍ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} أَيْ تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ فَحَرَمَهُمْ رَحْمَتَهُ.وَيُقَالُ: رَجُلٌ نِسْيَانٌ أَيْ: كَثِيرُ النِّسْيَانِ وَالْغَفْلَةِ.
وَاصْطِلَاحًا: هُوَ الذُّهُولُ عَنِ الشَّيْءِ، لَكِنْ لَا يَتَنَبَّهُ لَهُ بِأَدْنَى تَنْبِيهٍ، لِكَوْنِ الشَّيْءِ قَدْ زَالَ مِنَ الْمُدْرِكَةِ وَالْحَافِظَةِ مَعًا، فَيَحْتَاجُ إِلَى سَبَبٍ جَدِيدٍ الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
تَذَكُّرُ الْمُصَلِّي لِصَلَاتِهِ بَعْدَ الْأَكْلِ فِيهَا:
4- قَالَ الْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: لَا تَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا وَإِنْ كَثُرَ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَكَلَ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ قَلَّ.
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَإِنْ كَانَ نَاسِيًا فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ إِذَا كَانَ قَلِيلًا.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (صَلَاةٍ) (وَنِسْيَانٍ).
سَهْوُ الْإِمَامِ:
5- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَخْبَرَهُ عَدْلَانِ بِعَدَمِ الْإِتْمَامِ لَا يُعْتَبَرُ شَكُّهُ، وَعَلَيْهِ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِمْ.أَمَّا إِذَا أَخْبَرَهُ عَدْلٌ فِي صَلَاةٍ رُبَاعِيَّةٍ مَثَلًا أَنَّهُ مَا صَلَّى أَرْبَعًا، وَشَكَّ فِي صِدْقِهِ وَكَذِبِهِ أَعَادَ احْتِيَاطًا.أَمَّا إِذَا كَذَّبَهُ، فَلَا يُعِيدُ.وَإِنِ اخْتَلَفَ الْإِمَامُ وَالْقَوْمُ فَإِنْ كَانَ عَلَى يَقِينٍ لَمْ يُعِدْ، وَإِلاَّ أَعَادَ بِقَوْلِهِمْ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَخْبَرَتْهُ جَمَاعَةٌ مُسْتَفِيضَةٌ، يُفِيدُ خَبَرُهُمُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِتَمَامِ صَلَاتِهِ أَوْ نَقْصِهَا، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ لِخَبَرِهِمْ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ مَأْمُومِيهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَإِنْ تَيَقَّنَ كَذِبَهُمْ.وَإِنْ أَخْبَرَهُ عَدْلَانِ فَأَكْثَرُ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ بِالْخَبَرِ إِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ خِلَافَ ذَلِكَ، وَكَانَا مِنْ مَأْمُومِيهِ.فَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ مَأْمُومِيهِ فَلَا يَرْجِعُ لِخَبَرِهِمَا، بَلْ يَعْمَلُ عَلَى يَقِينِهِ.
أَمَّا الْمُنْفَرِدُ وَالْمَأْمُومُ فَلَا يَرْجِعَانِ لِخَبَرِ الْعَدْلَيْنِ، وَإِنْ أَخْبَرَ الْإِمَامَ وَاحِدٌ، فَإِنْ أَخْبَرَ بِالتَّمَامِ فَلَا يَرْجِعُ لِخَبَرِهِ، بَلْ يَبْنِي عَلَى يَقِينِ نَفْسِهِ، أَمَّا إِذَا أَخْبَرَهُ بِالنَّقْصِ رَجَعَ لِخَبَرِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْإِمَامَ إِذَا شَكَّ هَلْ صَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا؟ أَخَذَ بِالْأَقَلِّ، وَلَا يُعْمَلُ بِتَذْكِيرِ غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانُوا جَمْعًا غَفِيرًا كَانُوا يَرْقُبُونَ صَلَاتَهُ.وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّذْكِيرُ مِنَ الْمَأْمُومِينَ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ.
وَاسْتَدَلُّوا بِخَبَرِ: «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَصَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا؟ فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ، وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ».
وَقَدْ أَجَابُوا عَنِ الْمُرَاجَعَةِ بَيْنَ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- وَالصَّحَابَةِ، وَعَوْدِهِ لِلصَّلَاةِ فِي خَبَرِ ذِي الْيَدَيْنِ، بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ الرُّجُوعِ إِلَى قَوْلِ الْغَيْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى تَذَكُّرِهِ بَعْدَ مُرَاجَعَتِهِ لَهُمْ، أَوْ لِأَنَّهُمْ بَلَغُوا حَدَّ التَّوَاتُرِ الَّذِي يُفِيدُ الْيَقِينَ، أَيِ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ: إِذَا سَبَّحَ اثْنَانِ يَثِقُ بِقَوْلِهِمَا لِتَذْكِيرِهِ، لَزِمَهُ الْقَبُولُ وَالرُّجُوعُ لِخَبَرِهِمَا، سَوَاءٌ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صَوَابُهُمَا أَوْ خِلَافُهُ.وَقَالُوا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: رَجَعَ إِلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ- رضي الله عنهما- فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ لَمَّا سَأَلَهُمَا: أَحَقٌّ مَا قَالَ ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالَا: نَعَمْ مَعَ أَنَّهُ كَانَ شَاكًّا فِيمَا قَالَهُ ذُو الْيَدَيْنِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَنْكَرَهُ، وَسَأَلَهُمَا عَنْ صِحَّةِ قَوْلِهِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِالتَّسْبِيحِ لِيُذَكِّرُوا الْإِمَامَ، وَيَعْمَلَ بِقَوْلِهِمْ.وَلِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: صَلَّى فَزَادَ أَوْ نَقَصَ...» الْحَدِيثَ، وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي».وَإِنْ سَبَّحَ وَاحِدٌ لِتَذْكِيرِهِ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى قَوْلِهِ، إِلاَّ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهُ، فَيَعْمَلَ بِغَالِبِ ظَنِّهِ، لَا بِتَسْبِيحِ الْغَيْرِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَ ذِي الْيَدَيْنِ وَحْدَهُ.وَإِنْ ذَكَّرَهُ فَسَقَةٌ بِالتَّسْبِيحِ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى قَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ.
تَذَكُّرُ الصَّائِمِ لِصَوْمِهِ وَهُوَ يَأْكُلُ:
6- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ تَذَكَّرَ وَأَمْسَكَ لَمْ يُفْطِرْ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا وَهُوَ صَائِمٌ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ».وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا فَلَا يُفْطِرُ، فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ رَزَقَهُ اللَّهُ».
وَقَالَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه-: لَا شَيْءَ عَلَى مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا وَهُوَ صَائِمٌ.
وَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ ذَاتُ تَحْرِيمٍ وَتَحْلِيلٍ، فَكَانَ مِنْ مَحْظُورَاتِهِ مَا يُخَالِفُ عَمْدُهُ سَهْوَهُ كَالصَّلَاةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ، وطَاوُسٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْأَكْلُ أَوِ الشُّرْبُ قَلِيلًا، فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا أَفْطَرَ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا فَقَدْ أَفْطَرَ وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَوْمٌ).
تَذَكُّرُ الْقَاضِي لِحُكْمٍ قَضَاهُ:
7- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا رَأَى خـَطًّا فِيهِ حُكْمِهِ، لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَيْهِ فِي إِمْضَاءِ الْحُكْمِ حَتَّى يَتَذَكَّرَ؛ لِأَنَّهُ حُكْمُ حَاكِمٍ لَمْ يَعْلَمْهُ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ التَّزْوِيرُ عَلَيْهِ وَعَلَى خَتْمِهِ، فَلَمْ يَجُزْ إِنْفَاذُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ كَحُكْمِ غَيْرِهِ.وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْإِمَامُ: أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: إِذَا كَانَ الْحُكْمُ عِنْدَهُ، وَتَحْتَ يَدِهِ جَازَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ فِيهِ، وَأَجَازَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْعَمَلَ بِالْخَطِّ إِذَا عَرَفَ أَنَّهُ خَطُّهُ، وَلَوْ لَمْ يَتَذَكَّرِ الْحَادِثَةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْخَطُّ بِيَدِهِ؛ لِأَنَّ الْغَلَطَ نَادِرٌ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَأَثَرُ التَّغْيِيرِ يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ، وَقَلَّمَا يَتَشَابَهُ الْخَطُّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَإِذَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ خَطُّهُ جَازَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ، تَوْسِعَةً عَلَى النَّاسِ.
أَمَّا إِذَا شَهِدَ عَدْلَانِ عِنْدَ الْقَاضِي: بِأَنَّ هَذَا حُكْمُهُ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْعَمَلِ بِقَوْلِهِمَا:
فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَحْمَدُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِذَلِكَ وَإِمْضَاءُ الْحُكْمِ.وَقَالُوا: إِنَّهُ لَوْ شَهِدَا عِنْدَهُ بِحُكْمِ غَيْرِهِ قُبِلَ، فَكَذَلِكَ يُقْبَلُ إِذَا شَهِدَا عِنْدَهُ بِحُكْمِ نَفْسِهِ.وَلِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِحُكْمِ حَاكِمٍ، فَيَجِبُ قَبُولُ شَهَادَتِهِمَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ لَا يَعْمَلُ بِقَوْلِهِمَا حَتَّى يَتَذَكَّرَ.
تَذَكُّرُ الشَّاهِدِ الشَّهَادَةَ وَعَدَمُهُ:
8- إِذَا رَأَى الشَّاهِدُ بِخَطِّهِ شَهَادَةً أَدَّاهَا عِنْدَ حَاكِمٍ، وَلَمْ يَتَذَكَّرِ الْحَادِثَةَ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهِيَ إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ: لَمْ يَشْهَدْ عَلَى مَضْمُونِهَا حَتَّى يَتَذَكَّرَ، وَإِنْ كَانَ الْكِتَابُ مَحْفُوظًا عِنْدَهُ لِإِمْكَانِ التَّزْوِيرِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ إِذَا عَرَفَ خَطَّهُ شَهِدَ بِهِ، وَهُوَ رَأْيُ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
تَذَكُّرُ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ وَعَدَمُهُ:
9- أَمَّا رِوَايَةُ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلشَّخْصِ أَنْ يَرْوِيَ مَضْمُونَ خَطِّهِ اعْتِمَادًا عَلَى الْخَطِّ الْمَحْفُوظِ عِنْدَهُ، لِعَمَلِ الْعُلَمَاءِ بِهِ سَلَفًا وَخَلَفًا.وَقَدْ يَتَسَاهَلُ فِي الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهَا تُقْبَلُ مِنَ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ.هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُعْمَلُ بِهَا لِمُشَابَهَةِ الْخَطِّ بِالْخَطِّ، وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
39-موسوعة الفقه الكويتية (تسليم)
تَسْلِيمٌالتَّعْرِيفُ:
1- مِنْ مَعَانِي التَّسْلِيمِ فِي اللُّغَةِ: التَّوْصِيلُ، يُقَالُ سَلَّمَ الْوَدِيعَةَ لِصَاحِبِهَا: إِذَا أَوْصَلَهَا فَتَسَلَّمَ ذَلِكَ، وَأَسْلَمَ إِلَيْهِ الشَّيْءَ: دَفَعَهُ.وَمِنْهُ السَّلَمُ، وَتَسَلَّمَ الشَّيْءَ: قَبَضَهُ وَتَنَاوَلَهُ.وَسَلَّمْتُ إِلَيْهِ الشَّيْءَ فَتَسَلَّمَهُ: أَيْ أَخَذَهُ.وَسَلَّمَ الشَّيْءَ لِفُلَانٍ: أَيْ خَلَّصَهُ.وَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ: أَعْطَاهُ إِيَّاهُ.وَسَلَّمَ الْأَجِيرُ نَفْسَهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ: مَكَّنَهُ مِنْ مَنْفَعَةِ نَفْسِهِ حَيْثُ لَا مَانِعَ.وَالتَّسْلِيمُ بَذْلُ الرِّضَى بِالْحُكْمِ.
وَالتَّسْلِيمُ: السَّلَامُ، وَسَلَّمَ الْمُصَلِّي: خَرَجَ مِنَ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ.وَسَلَّمَ عَلَى الْقَوْمِ: حَيَّاهُمْ بِالسَّلَامِ، وَسَلَّمَ: أَلْقَى التَّحِيَّةَ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ: قَالَ لَهُ: سَلَامٌ عَلَيْكَ.
وَلَا يَخْرُجُ مَعْنَى التَّسْلِيمِ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ.
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّسْلِيمِ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ.
أ- التَّسْلِيمُ بِمَعْنَى التَّحِيَّةِ:
2- ابْتِدَاءُ السَّلَامِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» وَيُسْتَحَبُّ مُرَاعَاةُ صِيغَةِ الْجَمْعِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَاحِدًا، أَخْذًا بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ يَقْصِدُ مَعَ الْوَاحِدِ الْمَلَائِكَةَ.
وَيَجِبُ الرَّدُّ إِنْ كَانَ السَّلَامُ عَلَى وَاحِدٍ.وَإِنْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ فَالرَّدُّ فِي حَقِّهِمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِنْ رَدَّ أَحَدُهُمْ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنْ رَدَّ الْجَمِيعُ كَانُوا مُؤَدِّينَ لِلْفَرْضِ، سَوَاءٌ رَدُّوا مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبِينَ، فَإِنِ امْتَنَعُوا كُلُّهُمْ أَثِمُوا لِخَبَرِ؛ «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلَامِ...»
وَيُشْتَرَطُ فِي ابْتِدَاءِ السَّلَامِ رَفْعُ الصَّوْتِ بِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِسْمَاعُ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الرَّدُّ مُتَّصِلًا بِالسَّلَامِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى صِيغَةِ ابْتِدَاءِ السَّلَامِ فِي الرَّدِّ أَفْضَلُ، وَيُسَنُّ ابْتِدَاءُ السَّلَامِ عِنْدَ الْإِقْبَالِ وَالِانْصِرَافِ، لِخَبَرِ: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاللَّهِ مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ» وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا لَقِيَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ أَوْ جِدَارٌ أَوْ حَجَرٌ، ثُمَّ لَقِيَهُ، فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ» (ر: سَلَامٌ وَتَحِيَّةٌ).
ب- التَّسْلِيمُ لِلْخُرُوجِ مِنَ الصَّلَاةِ:
3- التَّسْلِيمَةُ الْأُولَى لِلْخُرُوجِ مِنَ الصَّلَاةِ حَالَ الْقُعُودِ فَرْضٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ فَرْضِيَّةَ الثَّانِيَةِ أَيْضًا إِلاَّ فِي صَلَاةِ جِنَازَةٍ وَنَافِلَةٍ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الْأَخِيرَ مِنَ الْجُلُوسِ الَّذِي يُوقَعُ فِيهِ السَّلَامُ فَرْضٌ.
وَلَا بُدَّ مِنْ نُطْقِ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ» بِالْعَرَبِيَّةِ بِتَقْدِيمِ «السَّلَامِ» وَتَأْخِيرِ «عَلَيْكُمْ» وَهَذَا لِلْقَادِرِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ، وَلَا يَكْفِي الْخُرُوجُ بِالنِّيَّةِ وَلَا بِمُرَادِفِهَا مِنْ لُغَةٍ أُخْرَى، وَأَمَّا الْعَاجِزُ عَنِ الْعَرَبِيَّةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ بِالنِّيَّةِ قَطْعًا، وَإِنْ أَتَى بِمُرَادِفِهَا بِالْعَجَمِيَّةِ صَحَّ عَلَى الْأَظْهَرِ، قِيَاسًا عَلَى الدُّعَاءِ بِالْعَجَمِيَّةِ لِلْقَادِرِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ.وَالْأَفْضَلُ كَوْنُ السَّلَامِ مُعَرَّفًا بِأَلْ.لِخَبَرِ «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» فَقَوْلُهُ: «تَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» أَيْ لَا يَخْرُجُ مِنَ الصَّلَاةِ إِلاَّ بِهِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «كَانَ يُسَلِّمُ مِنْ صَلَاتِهِ عَنْ يَمِينِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ، وَعَنْ يَسَارِهِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْسَرِ».
وَلِحَدِيثِ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كُنْتُ أَرَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى أَرَى بَيَاضَ خَدِّهِ» وَلِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُدِيمُ ذَلِكَ وَلَا يُخِلُّ بِهِ وَقَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي».
وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ فِي التَّسْلِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ قَوْلُهُ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ» مَرَّةً عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمَرَّتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَمَا سَبَقَ، وَأَكْمَلُهُ «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» يَمِينًا وَشِمَالًا مُلْتَفِتًا فِي الْأُولَى حَتَّى يُرَى خَدُّهُ الْأَيْمَنُ، وَفِي الثَّانِيَةِ حَتَّى يُرَى خَدُّهُ الْأَيْسَرُ، نَاوِيًا السَّلَامَ عَمَّنْ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ مِنْ مَلَائِكَةٍ وَإِنْسٍ وَصَالِحِ الْجِنِّ.
وَيَنْوِي الْإِمَامُ أَيْضًا- زِيَادَةً عَلَى مَا سَبَقَ- السَّلَامُ عَلَى الْمُقْتَدِينَ، وَهُمْ يَنْوُونَ الرَّدَّ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَنْوِيهِ الْمُقْتَدُونَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِالتَّسْلِيمَةِ الثَّانِيَةِ، وَعَنْ يَسَارِهِ بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى.وَلِحَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ نَرُدَّ عَلَى الْإِمَامِ، وَأَنْ نَتَحَابَّ، وَأَنْ يُسَلِّمَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ»
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْخُرُوجُ مِنَ الصَّلَاةِ بِلَفْظِ السَّلَامِ لَيْسَ فَرْضًا، بَلْ هُوَ وَاجِبٌ.لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا عَلَّمَ ابْنَ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- التَّشَهُّدَ قَالَ لَهُ: إِذَا قُلْتَ هَذَا فَقَدْ قَضَيْتَ صَلَاتَكَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُومَ فَقُمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ» فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الصَّلَاةِ بِالسَّلَامِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفَرْضَ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ هُوَ الْقُعُودُ بِمِقْدَارِ التَّشَهُّدِ عِنْدَهُمْ.لِخَبَرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا أَحْدَثَ- يَعْنِي الرَّجُلَ- وَقَدْ جَلَسَ فِي آخِرِ صَلَاتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَقَدْ جَازَتْ صَلَاتُهُ».وَالْوَاجِبُ عِنْدَهُمْ تَسْلِيمَتَانِ: الْأُولَى عَنْ يَمِينِهِ، فَيَقُولُ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» وَيُسَلِّمُ عَنْ يَسَارِهِ كَذَلِكَ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ خَدِّهِ وَعَنْ يَسَارِهِ حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ خَدِّهِ».وَيَنْوِي فِي التَّسْلِيمَةِ الْأُولَى التَّسْلِيمَ عَلَى مَنْ عَلَى يَمِينِهِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْحَفَظَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ.
وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ فِي لَفْظِ السَّلَامِ مَرَّتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ «السَّلَامُ» دُونَ قَوْلِهِ «عَلَيْكُمْ».وَأَكْمَلُهُ وَهُوَ السُّنَّةُ أَنْ يَقُولَ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ» مَرَّتَيْنِ.وَتَنْقَضِي الصَّلَاةُ بِالسَّلَامِ الْأَوَّلِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلَاةٌ).
ج- التَّسْلِيمُ بِمَعْنَى التَّمْكِينِ مِنَ الْقَبْضِ:
4- التَّسْلِيمُ، أَوِ الْقَبْضُ مَعْنَاهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: التَّخْلِيَةُ أَوِ التَّخَلِّي، وَهُوَ أَنْ يُخَلِّيَ الْبَائِعُ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَالْمُشْتَرِي بِرَفْعِ الْحَائِلِ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ الْمُشْتَرِي مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، بِحَيْثُ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِالتَّخْلِيَةِ، فَيُجْعَلُ الْبَائِعُ مُسَلِّمًا لِلْمَبِيعِ وَالْمُشْتَرِي قَابِضًا لَهُ، فَكَانَتِ التَّخْلِيَةُ تَسْلِيمًا مِنَ الْبَائِعِ، وَالتَّخَلِّي قَبْضًا مِنَ الْمُشْتَرِي.وَكَذَا هَذَا فِي تَسْلِيمِ الثَّمَنِ إِلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ وَاجِبٌ، وَمَنْ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَبِيلُ الْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَالَّذِي فِي وُسْعِهِ هُوَ التَّخْلِيَةُ وَرَفْعُ الْمَوَانِعِ.
وَالْقَبْضُ يَتِمُّ بِطَرِيقِ التَّخْلِيَةِ، وَهِيَ أَنْ يَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنَ الْمَبِيعِ بِلَا مَانِعٍ- أَيْ بِأَنْ يَكُونَ مُفْرَزًا وَلَا حَائِلَ- فِي حَضْرَةِ الْبَائِعِ مَعَ الْإِذْنِ لَهُ بِالْقَبْضِ.
فَقَبْضُ الْعَقَارِ عِنْدَ الْجَمِيعِ- كَالْأَرْضِ وَمَا فِيهَا مِنْ بِنَاءٍ وَنَخْلٍ وَنَحْوِهِمَا- يَكُونُ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي وَتَمْكِينِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَذَلِكَ بِتَسْلِيمِ الْمَفَاتِيحِ إِنْ وُجِدَتْ بِشَرْطِ الْفَرَاغِ مِنَ الْأَمْتِعَةِ، إِنْ كَانَ شِرَاءُ الْعَقَارِ لِلسَّكَنِ- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ- وَقَبْضُ الْمَنْقُولِ كَالْأَمْتِعَةِ، وَالْأَنْعَامُ وَالدَّوَابُّ بِحَسَبِ الْعُرْفِ الْجَارِي بَيْنَ النَّاسِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، فَالثَّوْبُ قَبْضُهُ بِاحْتِيَازِهِ، وَالْحَيَوَانُ بِتَمْشِيَتِهِ مِنْ مَكَانِهِ، وَقَبْضُ الْمَوْزُونِ بِوَزْنِهِ، وَقَبْضُ الْمَكِيلِ بِكَيْلِهِ، إِذَا بِيعَا كَيْلًا وَوَزْنًا.وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: تَفْرِيغُهُ فِي أَوْعِيَةِ الْمُشْتَرِي، حَتَّى لَوْ هَلَكَ قَبْلَ التَّفْرِيغِ فِي أَوْعِيَةِ الْمُشْتَرِي كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْبَائِعِ عِنْدَهُمْ.
وَهَذَا: لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا بِعْتَ فَكِلْ، وَإِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَلْ» وَعَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يُجْرَى فِيهِ الصَّاعَانِ: صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي».وَإِنْ بِيعَ جُزَافًا فَقَبْضُهُ نَقْلُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَبْضُهُ بِالتَّخْلِيَةِ. (ر: قَبْضٌ).
التَّسْلِيمُ فِي الْعُقُودِ يَشْمَلُ مَا يَلِي:
أ- التَّسْلِيمُ فِي الْبَيْعِ:
5- التَّسْلِيمُ فِي الْبَيْعِ يَكُونُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَيْعِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِذَلِكَ.
وَمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ أَوَّلًا، يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ نَوْعِ الْبَدَلَيْنِ، وَهُوَ كَالْآتِي: إِنْ كَانَ الْبَيْعُ بَيْعَ عَيْنٍ بِعَيْنٍ، وَاخْتَلَفَا فِيمَنْ يُسَلِّمُ أَوَّلًا، يَجِبُ عَلَى الْعَاقِدَيْنِ التَّسْلِيمُ مَعًا تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ فِي الْمُعَاوَضَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْمُسَاوَاةِ عَادَةً الْمَطْلُوبَةِ بَيْنَ الْعَاقِدَيْنِ؛ إِذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالتَّقْدِيمِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، فَيُجْعَلُ بَيْنَهُمَا عَدْلٌ يَقْبِضُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَيُسَلِّمُ الْآخَرَ.
وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ إِنْ تَبَايَعَا دَيْنًا بِدَيْنٍ، كَمَا فِي عَقْدِ الصَّرْفِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَأَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَإِنْ كَانَ بَيْعَ عَيْنٍ بِدَيْنٍ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ- أَيِ الدَّيْنِ أَوَّلًا- وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وُجُوبُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ أَوَّلًا، وَاسْتَثْنَى الْجَمِيعُ مِنْ ذَلِكَ أَمْرَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: الْمُسْلَمُ فِيهِ لِأَنَّهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ.وَالثَّانِي: الثَّمَنُ الْمُؤَجَّلُ، فَإِنْ كَانَ عَيْنًا أَوْ عَرَضًا بِعَرَضٍ جُعِلَ بَيْنَهُمَا عَدْلٌ- عِنْدَ الْجُمْهُورِ-، فَيَقْبِضُ مِنْهُمَا، ثُمَّ يُسَلِّمُ إِلَيْهِمَا، وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِقْرَارُ الْبَيْعِ وَتَمَامُهُ، فَكَانَ تَقْدِيمُهُ أَوْلَى، سِيَّمَا مَعَ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ، وَتَعَلُّقِ حَقِّ الْبَائِعِ بِالذِّمَّةِ، وَتَقْدِيمُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ أَوْلَى لِتَأَكُّدِهِ.وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُمَا يُسَلَّمَانِ مَعًا.
ب- تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ
6- تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الرِّبَا حَرَامٌ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (رِبًا).
ج- التَّسْلِيمُ فِي السَّلَمِ:
7- اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ فِي السَّلَمِ إِنْ كَانَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ- سَوَاءٌ أَكَانَ عَيْنًا (سِلْعَةً مُعَيَّنَةً) أَمْ نُقُودًا- فَلَا بُدَّ مِنْ تَسْلِيمِهِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، وَلَوْ طَالَ الْمَجْلِسُ.وَإِذَا قَامَا مِنَ الْمَجْلِسِ يَمْشِيَانِ، ثُمَّ قَبَضَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ رَأْسَ السَّلَمِ بَعْدَ مَسَافَةٍ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ إِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا.وَكَذَا إِذَا تَعَاقَدَا ثُمَّ قَامَ رَبُّ السَّلَمِ- الْمُشْتَرِي- لِيُحْضِرَ الثَّمَنَ مِنْ دَارِهِ، فَإِنْ لَمْ يَغِبْ شَخْصُهُ عَنِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ- الْبَائِعِ- يَصِحُّ وَإِلاَّ فَلَا؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ، فَلَوْ أُخِّرَ تَسْلِيمُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ لَكَانَ التَّسْلِيمُ فِي مَعْنَى مُبَادَلَةِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ» وَلِأَنَّ تَسْمِيَةَ هَذَا الْعَقْدِ دَلِيلٌ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَإِنَّهُ يُسَمَّى سَلَمًا وَسَلَفًا، وَالسَّلَمُ يُنْبِئُ عَنِ التَّسْلِيمِ، وَالسَّلَفُ يُنْبِئُ عَنِ التَّقَدُّمِ، فَيَقْتَضِي لُزُومَ تَقْدِيمِ رَأْسِ الْمَالِ، وَيُقَدَّمُ قَبْضُهُ عَلَى قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ فِي السَّلَمِ غَرَرًا- أَيْ تَعْرِيضًا لِلْهَلَاكِ أَوْ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ- فَلَا يُضَمُّ إِلَيْهِ غَرَرُ تَأْخِيرِ رَأْسِ الْمَالِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَقُومُ مَقَامَ الْقَبْضِ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، كَمَا إِذَا كَانَ عِنْدَ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ أَمَانَةٌ أَوْ عَيْنٌ مَغْصُوبَةٌ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَجْعَلَهَا صَاحِبُ السَّلَمِ رَأْسَ مَالٍ مَا دَامَتْ مِلْكًا لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْقَبْضِ. وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَكُونَ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ قَبْضًا حَقِيقِيًّا، فَلَا تَنْفَعُ فِيهِ الْحَوَالَةُ، وَلَوْ قَبَضَهُ مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ، لِأَنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ مَا دَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ إِلاَّ إِذَا قَبَضَهُ رَبُّ السَّلَمِ وَسَلَّمَهُ بِنَفْسِهِ لِلْمُسْلَمِ إِلَيْهِ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ اشْتِرَاطُ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ كُلِّهِ، وَيَجُوزُ تَأْخِيرُ قَبْضِهِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَأَقَلَّ، وَلَوْ بِشَرْطٍ فِي الْعَقْدِ سَوَاءٌ أَكَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا؛ لِأَنَّ السَّلَمَ مُعَاوَضَةٌ لَا يَخْرُجُ بِتَأْخِيرِ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ عَنْ أَنْ يَكُونَ سَلَمًا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَأَخَّرَ إِلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ، وَكُلُّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ، وَلَا يَكُونُ لَهُ بِذَلِكَ حُكْمُ الْكَالِئِ، فَإِنْ أَخَّرَ رَأْسَ الْمَالِ عَنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ: فَإِنْ كَانَ التَّأْخِيرُ بِشَرْطٍ فَسَدَ السَّلَمُ اتِّفَاقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ التَّأْخِيرُ كَثِيرًا جِدًّا، بِأَنْ حَلَّ أَجَلُ الْمُسْلَمِ فِيهِ، أَوْ لَمْ يَكْثُرْ جِدًّا بِأَنْ لَمْ يَحِلَّ أَجَلُهُ.وَإِنْ كَانَ التَّأْخِيرُ بِلَا شَرْطٍ فَقَوْلَانِ فِي الْمُدَوَّنَةِ الْكُبْرَى لِمَالِكٍ بِفَسَادِ السَّلَمِ وَعَدَمِ فَسَادِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ التَّأْخِيرُ كَثِيرًا جِدًّا أَمْ لَا.وَالْمُعْتَمَدُ الْفَسَادُ بِالزِّيَادَةِ عَنِ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ وَلَوْ قَلَّتْ مُدَّةُ الزِّيَادَةِ بِغَيْرِ شَرْطٍ. (ر: سَلَمٌ)
.د- قَبْضُ الْمَرْهُونِ:
8- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي الرَّهْنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ نَوْعِ الشَّرْطِ.هَلْ هُوَ شَرْطُ لُزُومٍ أَوْ شَرْطُ تَمَامٍ؟ فَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْقَبْضُ لَيْسَ شَرْطَ صِحَّةٍ، وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطُ لُزُومِ الرَّهْنِ، فَلَا يَتِمُّ الرَّهْنُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ لقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فَقَدْ عَلَّقَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْقَبْضِ، فَلَا يَتِمُّ إِلاَّ بِهِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَتِمُّ الرَّهْنُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، أَوِ الْحَوْزِ، وَهُوَ شَرْطُ تَمَامٍ وَلَيْسَ شَرْطَ صِحَّةٍ أَوْ لُزُومٍ، فَإِذَا عُقِدَ الرَّهْنُ بِالْقَوْلِ (الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ) لَزِمَ الْعَقْدُ، وَأُجْبِرَ الرَّاهِنُ عَلَى إِقْبَاضِهِ لِلْمُرْتَهِنِ بِالْمُطَالَبَةِ بِهِ، فَإِنْ تَرَاضَى الْمُرْتَهِنُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِهِ، أَوْ رَضِيَ بِتَرْكِهِ فِي يَدِ الرَّاهِنِ بَطَلَ الرَّهْنُ.وَدَلِيلُهُمْ قِيَاسُ الرَّهْنِ عَلَى سَائِرِ الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ اللاَّزِمَةِ بِالْقَوْلِ.لقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}، وَالرَّهْنُ عَقْدٌ فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ.
(ر: رَهْنٌ).
هـ- تَسْلِيمُ الْمَرْهُونِ:
9- لِلْمُرْتَهِنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- مَا عَدَا الشَّافِعِيَّةَ- حَقُّ الْحَبْسِ الدَّائِمِ لِلْمَرْهُونِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ؛ لِيَضْطَرَّ الْمَدِينُ إِلَى تَسْلِيمِ دَيْنِهِ، لِيَتَمَكَّنَ مِنَ اسْتِرْدَادِ الْمَرْهُونِ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ، وَلِلْمُرْتَهِنِ أَيْضًا عِنْدَ حُلُولِ أَجَلِ الدَّيْنِ الْمُطَالَبَةُ بِدَيْنِهِ مَعَ بَقَاءِ الرَّهْنِ تَحْتَ يَدِهِ، وَعَلَى الْمُرْتَهِنِ تَسْلِيمُ الْمَرْهُونِ لِصَاحِبِهِ، إِمَّا بِانْتِهَاءِ أَجَلِ الدَّيْنِ، أَوْ بِانْتِهَاءِ عَقْدِ الرَّهْنِ.وَانْتِهَاءُ الدَّيْنِ يَكُونُ بِأَسْبَابٍ كَالْإِبْرَاءِ مِنَ الدَّيْنِ أَوْ هِبَتِهِ، أَوْ وَفَاءِ الدَّيْنِ، أَوْ شِرَاءِ سِلْعَةٍ مِنَ الرَّاهِنِ بِالدَّيْنِ، أَوْ إِحَالَةِ الرَّاهِنِ الْمُرْتَهِنَ عَلَى غَيْرِهِ.
وَانْقِضَاءُ عَقْدِ الرَّهْنِ أَوِ انْتِهَاؤُهُ يَكُونُ بِأَسْبَابٍ كَالْإِبْرَاءِ وَالْهِبَةِ وَوَفَاءِ الدَّيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَالْبَيْعِ الْجَبْرِيِّ الصَّادِرِ مِنَ الرَّاهِنِ بِأَمْرِ الْقَاضِي، أَوْ مِنَ الْقَاضِي إِذَا أَبَى الرَّاهِنُ الْبَيْعَ.وَالتَّفْصِيلُ فِي (رَهْنٌ).
وَالشَّافِعِيَّةُ مَعَ الْجُمْهُورِ فِي اشْتِرَاطِ اسْتِدَامَةِ الْقَبْضِ، لَكِنَّهُمْ قَالُوا: قَدْ يَتَخَلَّفُ هَذَا الشَّرْطُ لِمَانِعٍ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَرْهُونُ مُصْحَفًا وَالْمُرْتَهِنُ كَافِرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
مَا يَتِمُّ بِهِ تَسْلِيمُ الْمَرْهُونِ:
10- يُسَلِّمُ الرَّاهِنُ الدَّيْنَ أَوَّلًا، ثُمَّ يُسَلِّمُ الْمُرْتَهِنُ الْمَرْهُونَ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ يَتَعَيَّنُ بِتَسْلِيمِ الدَّيْنِ، وَحَقُّ الرَّاهِنِ مُتَعَيِّنٌ فِي تَسَلُّمِ الْمَرْهُونِ، فَيَتِمُّ التَّسْلِيمُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ تَحْقِيقًا لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ.وَإِذَا سَلَّمَ الرَّاهِنُ بَعْضَ الدَّيْنِ يَظَلُّ الْمَرْهُونُ كُلُّهُ رَهْنًا بِحَالِهِ عَلَى مَا بَقِيَ مِنَ الدَّيْنِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ كُلَّهُ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ كُلِّهِ، وَهُوَ مَحْبُوسٌ بِكُلِّ الْحَقِّ، وَالْحَبْسُ بِالدَّيْنِ الَّذِي هُوَ مُوجِبُ الرَّهْنِ لَا يَتَجَزَّأُ، فَيَكُونُ مَحْبُوسًا بِكُلِّ جُزْءٍ مِنَ الدَّيْنِ لَا يَنْفَكُّ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى يَقْضِيَ جَمِيعَ الدَّيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الرَّهْنُ مِمَّا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ أَمْ لَا يُمْكِنُ.ر: (رَهْنٌ).
و- تَسْلِيمُ ثَمَنِ الْمَرْهُونِ عِنْدَ الْبَيْعِ:
11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرْهُونَ يَظَلُّ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ لِلْمُرْتَهِنِ، كَمَا دَلَّتِ السُّنَّةُ «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ» وَلَكِنْ تَعَلَّقَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ بِعَيْنِ الرَّهْنِ، فَاسْتَحَقَّ الْمُرْتَهِنُ حَبْسَهُ وَثِيقَةً بِالدَّيْنِ إِلَى أَنْ يُوَفِّيَ الدَّيْنَ، وَلَا يَجُوزُ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الرَّهْنِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهِ إِلاَّ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، فَيُعْتَبَرُ مُتَنَازِلًا عَنْ حَقِّهِ فِي حَبْسِ الرَّهْنِ.
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ، وَهَذَا يُسَمَّى الْبَيْعُ الِاخْتِيَارِيُّ بَعْدَ الْإِذْنِ، وَحِينَئِذٍ فَالْمُرْتَهِنُ أَوْلَى وَأَحَقُّ بِثَمَنِ الْمَرْهُونِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ الدَّائِنِينَ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ، حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا.وَيَثْبُتُ هَذَا الْحَقُّ لِلْمُرْتَهِنِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَإِذَا لَمْ يَتِمَّ الْبَيْعُ لِلْمَرْهُونِ اخْتِيَارِيًّا، وَحَلَّ أَجَلُ الدَّيْنِ طَالَبَ الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ بِوَفَاءِ الدَّيْنِ، فَإِنِ اسْتَجَابَ وَوَفَّى سُلِّمَ الْمَرْهُونُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَجِبْ لِمَطْلٍ أَوْ إِعْسَارٍ، رُفِعَ أَمْرُهُ إِلَى الْقَاضِي.وَيَطْلُبُ الْقَاضِي أَوَّلًا مِنَ الرَّاهِنِ الْحَاضِرِ بَيْعَ الْمَرْهُونِ، فَإِنِ امْتَثَلَ تَمَّ الْمَقْصُودُ، وَإِنِ امْتَنَعَ بَاعَهُ الْقَاضِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ، بِدُونِ حَاجَةٍ إِلَى إِجْبَارِهِ بِحَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ تَهْدِيدٍ، وَيُسَلَّمُ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ دَيْنِهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الرَّاهِنِ، لَكِنَّهُ يَحْبِسُ الرَّاهِنَ حَتَّى يَبِيعَهُ بِنَفْسِهِ.وَإِذَا وُجِدَ فِي مَالِ الْمَدِينِ الرَّاهِنِ مَالٌ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، وَفَّى الدَّيْنَ مِنْهُ، وَلَا حَاجَةَ حِينَئِذٍ إِلَى الْبَيْعِ جَبْرًا.
وَالتَّفْصِيلُ مَوْطِنُهُ مُصْطَلَحُ: (رَهْنٌ).
ز- تَسْلِيمُ الْمَالِ لِلْمَحْجُورِ عَلَيْهِ:
12- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ لَا يُسَلَّمُ إِلَيْهِ مَالُهُ إِلاَّ بَعْدَ مَعْرِفَةِ رُشْدِهِ، وَذَلِكَ بِاخْتِبَارِ الصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ فِي التَّصَرُّفَاتِ؛ لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} أَيِ اخْتَبِرُوهُمْ، وَاخْتِبَارُ الصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ يَحْصُلُ بِتَفْوِيضِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا أَمْثَالُهُ إِلَيْهِ؛ لِيُتَبَيَّنَ مَدَى إِدْرَاكِهِ وَحُسْنُ تَصَرُّفِهِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (حَجْرٌ). وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَمْوَالَ الصَّغِيرِ لَا تُسَلَّمُ إِلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ رَاشِدًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ دَفْعَ الْمَالِ إِلَيْهِ عَلَى شَرْطَيْنِ هُمَا الْبُلُوغُ وَالرُّشْدُ فِي قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}، وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطَيْنِ لَا يَثْبُتُ بِدُونِهِمَا، فَإِذَا بَلَغَ الصَّغِيرُ رَشِيدًا مُصْلِحًا لِلْمَالِ، وَجَبَ دَفْعُ مَالِهِ إِلَيْهِ وَفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ.وَإِذَا دَفَعَ إِلَيْهِ مَالَهُ أَشْهَدَ عِنْدَ الدَّفْعِ.لقوله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}
وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ تَفْصِيلَاتٌ مَوْطِنُهَا بَابُ الْحَجْرِ.
ح- التَّسْلِيمُ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ:
13- الْكَفَالَةُ تَكُونُ بِالنَّفْسِ، وَتَكُونُ بِالْفِعْلِ، وَالْمُرَادُ بِالْفِعْلِ الْمَكْفُولِ بِهِ فِعْلُ التَّسْلِيمِ، وَعَلَى هَذَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِنَفْسِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، وَتُسَمَّى الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ كَمَا تُسَمَّى الْكَفَالَةَ بِالْوَجْهِ: وَهِيَ الْتِزَامُ إِحْضَارِ الْمَكْفُولِ إِلَى الْمَكْفُولِ لَهُ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهَا؛ ذَلِكَ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ كَفَالَةٌ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ تَسْلِيمُ النَّفْسِ، وَفِعْلُ التَّسْلِيمِ مَضْمُونٌ عَلَى الْأَصِيلِ فَجَازَتِ الْكَفَالَةُ بِهِ.
وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إِذَا كَانَتْ بِسَبَبِ الْمَالِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» وَهَذَا يَشْمَلُ الْكَفَالَةَ بِنَوْعَيْهَا؛ وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ تَسْلِيمُهُ بِعَقْدٍ وَجَبَ تَسْلِيمُهُ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ كَالْمَالِ؛ وَلِأَنَّ الْكَفِيلَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِ الْأَصِيلِ، بِأَنْ يُعْلِمَ مَنْ يَطْلُبُهُ مَكَانَهُ فَيُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، أَوْ يَسْتَعِينُ بِأَعْوَانِ الْقَاضِي فِي التَّسْلِيمِ.
وَإِذَا اشْتَرَطَ الْأَصِيلُ فِي الْكَفَالَةِ تَسْلِيمَ الْمَكْفُولِ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ لَزِمَ الْكَفِيلُ إِحْضَارَ الْمَكْفُولِ بِهِ إِذَا طَالَبَهُ بِهِ فِي الْوَقْتِ، وَفَاءً بِمَا الْتَزَمَهُ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، فَإِنْ أَحْضَرَهُ فَبِهَا، وَإِنْ لَمْ يُحْضِرْهُ حَبَسَهُ الْحَاكِمُ لِامْتِنَاعِهِ عَنْ إِيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ.وَإِنْ أَحْضَرَهُ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْمُطَالِبِ بِهِ فِي مَوْضِعٍ يَقْدِرُ عَلَى إِحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ بَرِئَ مِنَ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ يَتَحَقَّقُ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ وَالْمَكْفُولِ لَهُ؛ وَلِأَنَّهُ أَتَى بِمَا الْتَزَمَهُ وَحَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ، وَهُوَ إِمْكَانُ الْمُحَاكَمَةِ عِنْدَ الْقَاضِي.
وَيَتَعَيَّنُ مَحَلُّ التَّسْلِيمِ بِالتَّعْيِينِ، وَإِنْ أُطْلِقَ وَلَمْ يُعَيَّنْ، وَجَبَ التَّسْلِيمُ فِي مَكَانِ الْكَفَالَةِ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ يَقْتَضِي ذَلِكَ.
ط- التَّسْلِيمُ فِي الْوَكَالَةِ:
14- الْوَكَالَةُ بِأَجْرٍ (بِجُعْلٍ) حُكْمُهَا حُكْمُ الْإِجَارَاتِ، فَيَسْتَحِقُّ الْوَكِيلُ الْجُعْلَ بِتَسْلِيمِ مَا وُكِّلَ فِيهِ إِلَى الْمُوَكِّلِ- إِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ- كَثَوْبٍ يَخِيطُهُ فَمَتَى سَلَّمَهُ مَخِيطًا فَلَهُ الْأَجْرُ.وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعٍ، وَقَالَ: إِذَا بِعْتَ الثَّوْبَ وَقَبَضْتَ ثَمَنَهُ وَسَلَّمْتَهُ إِلَيَّ فَلَكَ الْأَجْرُ، لَمْ يَسْتَحِقَّ مِنَ الْأُجْرَةِ شَيْئًا حَتَّى يُسَلِّمَهُ إِلَيْهِ.فَإِنْ فَاتَ التَّسْلِيمُ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا لِفَوَاتِ الشَّرْطِ.
وَالْوَكِيلُ فِي بَيْعِ شَيْءٍ يَمْلِكُ تَسْلِيمَهُ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْوَكَالَةِ فِي الْبَيْعِ يَقْتَضِي التَّسْلِيمَ، وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ طَلَبُ الثَّمَنِ مِنَ الْمُشْتَرِي وَقَبْضُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الْبَيْعِ، وَكَذَا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ، لَهُ قَبْضُ الْمَبِيعِ مِنَ الْبَائِعِ وَتَسْلِيمُهُ لِمَنْ وَكَّلَهُ بِالشِّرَاءِ، وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الْمَقْبُوضَ فِي يَدِ الْوَكِيلِ يُعْتَبَرُ أَمَانَةً؛ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ نِيَابَةٍ عَنِ الْمُوَكِّلِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ الْمَقْبُوضِ عِنْدَ طَلَبِ الْمُوَكِّلِ مَعَ الْإِمْكَانِ، وَيَضْمَنُ بِالتَّعَدِّي أَوِ التَّقْصِيرِ كَمَا يَضْمَنُ فِي الْوَدَائِعِ، وَيَبْرَأُ بِمَا يَبْرَأُ فِيهَا. (ر: وَكَالَةٌ).
ي- التَّسْلِيمُ فِي الْإِجَارَةِ:
15- إِذَا كَانَ الْعَمَلُ يَجْرِي فِي عَيْنٍ تُسَلَّمُ لِلْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ، كَانَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ بَعْدَ قِيَامِهِ بِالْعَمَلِ فِيهَا.وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ لَا يَجْرِي فِي عَيْنٍ تُسَلَّمُ لِلْأَجِيرِ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ قِيَامِهِ بِالْعَمَلِ الْمَطْلُوبِ يُعْتَبَرُ تَسْلِيمًا كَالطَّبِيبِ أَوِ السِّمْسَارِ.وَإِنْ كَانَ الْأَجِيرُ خَاصًّا كَانَ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ لِلْعَمَلِ فِي مَحَلِّ الْعَمَلِ تَسْلِيمًا مُعْتَبَرًا، وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِجَارَةٌ).
ك- تَسْلِيمُ اللُّقَطَةِ:
16- لِلْإِمَامِ، أَوْ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ، أَنْ يَتَسَلَّمَ اللُّقَطَةَ مِنَ الْمُلْتَقِطِ إِنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُبَاحُ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَدْفَعَ اللُّقَطَةَ لِلْإِمَامِ إِنْ كَانَ عَدْلًا، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي ذَلِكَ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ: أَنَّ الْمُلْتَقِطَ إِنْ دَفَعَ اللُّقَطَةَ إِلَى الْقَاضِي لَزِمَ الْقَاضِيَ الْقَبُولُ حِفْظًا لَهَا عَلَى صَاحِبِهَا.وَالتَّفْصِيلُ فِي (لُقَطَةٌ).
ل- تَسْلِيمُ اللَّقِيطِ لِلْقَاضِي:
17- يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَتَسَلَّمَ اللَّقِيطَ مِنْ مُلْتَقِطِهِ إِذَا عَلِمَ عَجْزَهُ عَنْ حِفْظِهِ بِنَفْسِهِ وَأَتَى بِهِ إِلَيْهِ، وَالْأَوْلَى لِلْقَاضِي أَنْ يَقْبَلَهُ.وَتَفْصِيلُهُ فِي بَحْثِ (لَقِيطٌ).
م- تَسْلِيمُ الصَّدَاقِ لِلزَّوْجَةِ:
18- إِذَا طَالَبَتِ الزَّوْجَةُ بِالْمَهْرِ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ تَسْلِيمُهُ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ فِي الْمَرْأَةِ مُتَعَيِّنٌ، وَحَقَّ الْمَرْأَةِ فِي الْمَهْرِ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ، فَوَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ التَّسْلِيمُ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَالْبَعْضُ الْآخَرُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ تَسْلِيمُ الصَّدَاقِ لِزَوْجَتِهِ، أَوْ لِوَلِيِّهَا الْمُجْبِرِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ إِجْبَارُهَا عَلَى النِّكَاحِ كَانَ لَهُ تَسَلُّمُ صَدَاقِهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا كَالصَّغِيرَةِ.
ن- تَسْلِيمُ الزَّوْجَةِ نَفْسَهَا:
19- يَجُوزُ لِلزَّوْجَةِ قَبْلَ دُخُولِ الزَّوْجِ بِهَا أَنْ لَا تُسَلِّمَ نَفْسَهَا إِلَى زَوْجِهَا، حَتَّى تَقْبِضَ جَمِيعَ مَهْرِهَا الْمُعَيَّنِ الْحَالِّ، سَوَاءٌ أَكَانَ بَعْضَهُ أَمْ كُلَّهُ.وَإِنِ انْتَقَلَتْ إِلَى بَيْتِ زَوْجِهَا فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ لِتَعَيُّنِ حَقِّهَا فِي الْبَدَلِ، كَمَا يَتَعَيَّنُ حَقُّهُ فِي الْمُبْدَلِ.
وَلَا يَتَعَيَّنُ حَقُّهَا إِلاَّ بِالتَّسْلِيمِ وَالِانْتِقَالِ إِلَى حَيْثُ يُرِيدُ زَوْجُهَا إِنْ أَرَادَ، وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ.
فَإِنْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا بِالدُّخُولِ، أَوْ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ، فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا؛ لِأَنَّهَا بِالدُّخُولِ أَوْ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ سَلَّمَتْ جَمِيعَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِرِضَاهَا، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ التَّسْلِيمِ، فَبَطَلَ حَقُّهَا فِي الْمَنْعِ.
وَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ زَوْجِهَا حَتَّى تَأْخُذَ الْمُعَجَّلَ لَهَا مِنَ الْمَهْرِ، وَلَوْ دَخَلَ بِهَا بِرِضَاهَا وَهِيَ مُكَلَّفَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ مُقَابَلٌ بِجَمِيعِ مَا يُسْتَوْفَى مِنْ مَنَافِعِ الْبُضْعِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الِاسْتِمْتَاعِ الَّتِي تُوجَدُ فِي هَذَا الْمِلْكِ، وَيَكُونُ رِضَاهَا بِالدُّخُولِ أَوِ الْخَلْوَةِ قَبْلَ قَبْضِ مُعَجَّلِ مَهْرِهَا إِسْقَاطًا لِحَقِّهَا فِي مَنْعِ نَفْسِهَا فِي الْمَاضِي، وَلَيْسَ لِحَقِّهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ أَنَّ لَهَا الِامْتِنَاعَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ مَهْرَهَا، كَمَا لَوْ كَانَ حَالًّا ابْتِدَاءً.
20- وَالتَّسْلِيمُ الْوَاجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ يَحْصُلُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ فِيهِ زَوْجُهَا مِنَ اسْتِمْتَاعِهِ بِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَكَانُ بَيْتَ أَبِيهَا إِنْ رَضِيَا مَعًا بِالْإِقَامَةِ فِيهِ، أَمْ كَانَ مَسْكَنًا شَرْعِيًّا أَعَدَّهُ لَهَا زَوْجُهَا.وَيَتَرَتَّبُ عَلَى تَسْلِيمِ نَفْسِهَا لِزَوْجِهَا وُجُوبُ نَفَقَتِهَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ لِحَقِّهِ، وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ.
تَسْلِيمُ النَّفَقَةِ:
21- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ حَقٌّ أَصِيلٌ مِنْ حُقُوقِهَا الْوَاجِبَةِ عَلَى زَوْجِهَا، وَأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ الْحَاضِرِ، إِذَا سَلَّمَتِ الزَّوْجَةُ نَفْسَهَا إِلَى الزَّوْجِ وَقْتَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ.
وَإِذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ عَنِ الْإِنْفَاقِ عَلَى زَوْجَتِهِ بَعْدَمَا فَرَضَهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ بَعْدَ فَرْضِ الْقَاضِي بَاعَ الْقَاضِي مِنْ مَالِهِ، إِنْ كَانَ مُوسِرًا وَلَهُ مَالٌ ظَاهِرٌ، وَأَعْطَى لِزَوْجَتِهِ مَا يَكْفِي النَّفَقَةَ.
وَلِلتَّفْصِيلِ: (ر: نَفَقَةٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
40-موسوعة الفقه الكويتية (تسوية)
تَسْوِيَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّسْوِيَةُ لُغَةً: الْعَدْلُ وَالنَّصَفَةُ، وَالْجَوْرُ أَوِ الظُّلْمُ ضِدُّ الْعَدْلِ، وَاسْتَوَى الْقَوْمُ فِي الْمَالِ مَثَلًا: إِذَا لَمْ يَفْضُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ غَيْرَهُ فِي الْمَالِ.
وَسَوَاءُ الشَّيْءِ: غَيْرُهُ وَمِثْلُهُ- مِنَ الْأَضْدَادِ- وَتَسَاوَتِ الْأُمُورُ: تَمَاثَلَتْ، وَاسْتَوَى الشَّيْئَانِ وَتَسَاوَيَا: تَمَاثَلَا.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْقَسْمُ:
2- وَهُوَ مَصْدَرُ قَسَمَ الشَّيْءَ يَقْسِمُهُ قَسْمًا: جَزَّأَهُ، وَالْقَسْمُ: نَصِيبُ الْإِنْسَانِ مِنَ الشَّيْءِ وَيُقَالُ: قَسَمْتُ الشَّيْءَ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ، وَأَعْطَيْتُ كُلَّ شَرِيكٍ قَسْمَهُ.
وَمِنْهُ التَّقْسِيمُ
وَالْقِسْمَةُ قَدْ تَكُونُ بِالتَّسَاوِي، وَقَدْ تَكُونُ بِالتَّفَاضُلِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّسْوِيَةِ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي:
تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ:
3- اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مِنَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، بِحَيْثُ لَا يَتَقَدَّمُ بَعْضُ الْمُصَلِّينَ عَلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَالتَّرَاصُّ فِي الصُّفُوفِ، بِحَيْثُ لَا يَكُونُ فِيهَا فُرْجَةٌ، لِلْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْحَثِّ عَلَيْهَا: مِنْهَا قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ» وَفِي رِوَايَةٍ «فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ».
وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ وَتَرَاصُّوا، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي» وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ».
وَبَيَانُ مَا تَتَحَقَّقُ بِهِ التَّسْوِيَةُ فِي الصُّفُوفِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ).
تَسْوِيَةُ الظَّهْرِ فِي الرُّكُوعِ:
4- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَكْمَلَ الرُّكُوعِ هُوَ أَنْ يَنْحَنِيَ الْمُصَلِّي، بِحَيْثُ يَسْتَوِي ظَهْرُهُ وَعُنُقُهُ، بِأَنْ يَمُدَّهُمَا حَتَّى يَصِيرَا كَالصَّحِيفَةِ الْوَاحِدَةِ، وَيَنْصِبَ سَاقَيْهِ وَفَخِذَيْهِ إِلَى الْحِقْوِ، وَلَا يَثْنِيَ رُكْبَتَيْهِ حَتَّى لَا يَفُوتَ اسْتِوَاءُ الظَّهْرِ بِهِ.لِأَنَّ ذَلِكَ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، فَعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا كَبَّرَ جَعَلَ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ هَصَرَ ظَهْرَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ «ثُمَّ حَنَى غَيْرَ مُقَنِّعٍ رَأْسَهُ وَلَا مُصَوِّبِهِ» وَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ إِلَى أَنْ قَالَتْ: وَكَانَ إِذَا رَكَعَ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُصَوِّبْهُ، وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ».
وَفِي حَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لَهُ: «فَإِذَا رَكَعْتَ فَاجْعَلْ رَاحَتَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ، وَامْدُدْ ظَهْرَكَ، وَمَكِّنْ رُكُوعَكَ».
قَالَ الْإِمَامُ الْبَغَوِيُّ- رحمه الله-: السُّنَّةُ فِي الرُّكُوعِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ: أَنْ يَضَعَ رَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَيُفَرِّجَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَيُجَافِيَ مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَيُسَوِّيَ ظَهْرَهُ وَعُنُقَهُ وَرَأْسَهُ
التَّسْوِيَةُ فِي إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ بَيْنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ
5- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ فِي الزَّكَاةِ بَيْنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَإِلَى جَوَازِ أَنْ يُعْطِيَهَا شَخْصًا وَاحِدًا مِنَ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ- إِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي يُوَزِّعُ- وَلَا عَلَى الْمَالِكِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ جَمِيعَ الْأَصْنَافِ، وَلَا آحَادَ كُلِّ صِنْفٍ.وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا:
«قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- لِمُعَاذٍ- رضي الله عنه-: أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» فَفِيهِ الْأَمْرُ بِرَدِّ جُمْلَتِهَا فِي الْفُقَرَاءِ، وَهُمْ صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَاهُمْ.ثُمَّ أَتَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَالٌ فَجَعَلَهُ فِي صِنْفٍ ثَانٍ غَيْرِ الْفُقَرَاءِ، وَهُمُ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ: الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ عِلَاقَةَ، وَزَيْدُ الْخَيْرِ.حَيْثُ قَسَمَ فِيهِمُ الذُّهَيْبَةَ الَّتِي بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- مِنَ الْيَمَنِ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ الصَّدَقَةُ.وَفِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ- رضي الله عنه- «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ لَهُ بِصَدَقَةِ قَوْمِهِ بِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: فَانْطَلِقْ إِلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ فَلْيَدْفَعْهَا إِلَيْكَ».لَكِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنَ الْأَفْضَلِ فِي الْقِسْمَةِ أَنْ يُقَدَّمَ الْأَكْثَرُ حَاجَةً، فَالَّذِي يَلِيهِ.
فَعَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ كَانَ إِذَا جَمَعَ صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، نَظَرَ مِنْهَا مَا كَانَ مَنِيحَةَ اللَّبَنِ، فَيُعْطِيهَا لِأَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ مَا يَكْفِيهِمْ، وَكَانَ يُعْطِي الْعَشَرَةَ لِلْبَيْتِ الْوَاحِدِ ثُمَّ يَقُولُ: عَطِيَّةٌ تَكْفِي خَيْرٌ مِنْ عَطِيَّةٍ لَا تَكْفِي.
وَذَهَبَ الْإِمَامُ النَّخَعِيُّ- رحمه الله- إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا يَحْتَمِلُ الْأَصْنَافَ قَسَمَهُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا جَازَ وَضْعُهُ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ إِلَى وُجُوبِ اسْتِيعَابِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ إِنْ كَانَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ هُوَ الَّذِي يَقْسِمُ، فَإِنْ فُقِدَ بَعْضُ الْأَصْنَافِ فَعَلَى الْمَوْجُودِينَ.وَكَذَا يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ إِنْ تَوَلَّى بِنَفْسِهِ الْقِسْمَةَ أَنْ يَسْتَوْعِبَ الْأَصْنَافَ السَّبْعَةَ غَيْرَ الْعَامِلِ إِنِ انْحَصَرَ الْمُسْتَحِقُّونَ فِي الْبَلَدِ، بِأَنْ سَهُلَ عَادَةً ضَبْطُهُمْ وَمَعْرِفَةُ عَدَدِهِمْ.وَإِنْ لَمْ يَنْحَصِرُوا فَيَجِبُ إِعْطَاءُ ثَلَاثَةٍ فَأَكْثَرَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ إِلَيْهِمُ الزَّكَوَاتِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ.
6- وَتَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ سَوَاءٌ قَسَّمَ الْإِمَامُ أَوِ الْمَالِكُ، وَإِنْ كَانَتْ حَاجَةُ بَعْضِهِمْ أَشَدَّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَمَعَ بَيْنَهُمْ بِوَاوِ التَّشْرِيكِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونُوا سَوَاءً.
«وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِرَجُلٍ سَأَلَهُ مِنَ الزَّكَاةِ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ، حَتَّى حَكَمَ هُوَ فِيهَا، فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ».
7- كَمَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ آحَادِ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ، إِذَا كَانَتْ حَاجَاتُهُمْ مُتَسَاوِيَةً، لِأَنَّ عَلَيْهِ التَّعْمِيمَ فَتَلْزَمُهُ التَّسْوِيَةُ؛ وَلِأَنَّهُ نَائِبُهُمْ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّفْضِيلُ.أَمَّا إِذَا اخْتَلَفَتْ حَاجَاتُهُمْ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرَاعِيَهَا.
وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ آحَادِ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ لِعَدَمِ انْضِبَاطِ الْحَاجَاتِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا التَّفَاوُتُ، لَكِنْ يُسَنُّ لَهُ التَّسْوِيَةُ إِنْ تَسَاوَتْ حَاجَاتُهُمْ، فَإِنْ تَفَاوَتَتِ اسْتُحِبَّ التَّفَاوُتُ بِقَدْرِهَا.
التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي الْقَسْمِ:
8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَسْمَ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَاجِبٌ عَلَى الرَّجُلِ وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ مَجْبُوبًا أَوْ عِنِّينًا، لِأَنَّ مِنْ مَقَاصِدِ الْقَسْمِ الْأُنْسَ، وَهُوَ حَاصِلٌ مِمَّنْ لَا يَطَأُ.فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا كَانَ فِي مَرَضِهِ جَعَلَ يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ، وَيَقُولُ: أَيْنَ أَنَا غَدًا؟ أَيْنَ أَنَا غَدًا؟».
وَيَقْسِمُ لِلْمَرِيضَةِ، وَالْحَائِضِ، وَالنُّفَسَاءِ، وَالرَّتْقَاءِ، وَالْقَرْنَاءِ، وَالْمُحْرِمَةِ، وَمَنْ آلَى مِنْهَا أَوْ ظَاهَرَ، وَالشَّابَّةِ، وَالْعَجُوزِ، وَالْقَدِيمَةِ، وَالْحَدِيثَةِ.
لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} الْآيَةَ.
وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَعْدِلُ بَيْنَ نِسَائِهِ فِي الْقَسْمِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تُؤَاخِذُنِي فِيمَا تَمْلِكُ أَنْتَ وَلَا أَمْلِكُ».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ، فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ».
وَيُسَوِّي فِي الْقَسْمِ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ مِنْ غَيْرِ فَضْلٍ، وَلِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْقَسْمِ وَهُوَ النِّكَاحُ، فَيَسْتَوِيَانِ فِي الْقَسْمِ.
وَتَفْصِيلُ الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَفِي بَدْءِ الْقَسْمِ، وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ الْعَرُوسُ عِنْدَ الدُّخُولِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (الْقَسْمُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ).
التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ فِي التَّقَاضِي:
9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ عَلَى الْقَاضِي الْعَدْلَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْمَجْلِسِ، وَالْخِطَابِ، وَاللَّحْظِ، وَاللَّفْظِ، وَالْإِشَارَةِ، وَالْإِقْبَالِ، وَالدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَالْإِنْصَاتِ إِلَيْهِمَا، وَالِاسْتِمَاعِ مِنْهُمَا، وَالْقِيَامِ لَهُمَا، وَرَدِّ التَّحِيَّةِ عَلَيْهِمَا، وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ لَهُمَا؛ لِلْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي ثَبَتَتْ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي ذَلِكَ مِنْهَا: قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ ابْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلْيَعْدِلْ بَيْنَهُمْ فِي لَفْظِهِ وَإِشَارَتِهِ وَمَقْعَدِهِ، وَلَا يَرْفَعْ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مَا لَا يَرْفَعُهُ عَلَى الْآخَرِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمْ فِي النَّظَرِ وَالْمَجْلِسِ وَالْإِشَارَةِ»
وَكَتَبَ عُمَرُ- رضي الله عنه- إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ- رضي الله عنه- أَنْ آسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي وَجْهِكَ وَعَدْلِكَ وَمَجْلِسِكَ، حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِكَ، وَلَا يَيْأَسَ ضَعِيفٌ مِنْ عَدْلِكَ.
وَلِأَنَّ مُخَالَفَةَ ذَلِكَ يُوهِمُ الْخَصْمَ الْآخَرَ مَيْلَ الْقَاضِي إِلَى خَصْمِهِ، فَيُضْعِفُهُ ذَلِكَ عَنِ الْقِيَامِ بِحُجَّتِهِ، وَلَا يُسَارُّ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ، وَلَا يُلَقِّنُهُ حُجَّتَهُ، وَلَا يَضْحَكُ فِي وَجْهِهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُخَالَفَةً لِلْمُسَاوَاةِ الْمَطْلُوبَةِ.
وَيَشْمَلُ هَذَا الشَّرِيفَ وَالْوَضِيعَ وَالْأَبَ وَالِابْنَ، وَالصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَالرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ. كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى تَقْدِيمِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، إِذَا حَضَرَ الْقَاضِي خُصُومٌ وَازْدَحَمُوا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلسَّابِقِ، فَإِنْ جَهِلَ الْأَسْبَقَ مِنْهُمْ، أَوْ جَاءُوا مَعًا أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، وَقَدَّمَ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ؛ إِذْ لَا مُرَجِّحَ إِلاَّ بِهَا.فَإِنْ حَضَرَ مُسَافِرُونَ وَمُقِيمُونَ: فَإِنْ كَانَ الْمُسَافِرُونَ قَلِيلًا، بِحَيْثُ لَا يَضُرُّ تَقْدِيمُهُمْ عَلَى الْمُقِيمِينَ قَدَّمَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ عَلَى جَنَاحِ السَّفَرِ؛ وَلِئَلاَّ يَتَضَرَّرُوا بِالتَّخَلُّفِ.وَكَذَلِكَ النِّسْوَةُ يُقَدَّمْنَ عَلَى الرِّجَالِ طَلَبًا لِسَتْرِهِنَّ مَا لَمْ يَكْثُرْ عَدَدُهُنَّ أَيْضًا.
10- وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ تَسْوِيَةِ الْمُسْلِمِ مَعَ خَصْمِهِ الْكَافِرِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى وُجُوبِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا؛ لِأَنَّ تَفْضِيلَ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ وَرَفْعَهُ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ كَسْرٌ لِقَلْبِهِ، وَتَرْكٌ لِلْعَدْلِ الْوَاجِبِ التَّطْبِيقِ بَيْنَ النَّاسِ جَمِيعًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى جَوَازِ رَفْعِ الْمُسْلِمِ عَلَى خَصْمِهِ الْكَافِرِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- مِنْ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى السُّوقِ، فَوَجَدَ دِرْعَهُ مَعَ يَهُودِيٍّ، فَعَرَفَهَا فَقَالَ: دِرْعِي سَقَطَتْ وَقْتَ كَذَا فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: دِرْعِي وَفِي يَدَيَّ بَيْنِي وَبَيْنَكَ قَاضِي الْمُسْلِمِينَ.فَارْتَفَعَا إِلَى شُرَيْحٍ- رضي الله عنه-، فَلَمَّا رَآهُ شُرَيْحٌ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَأَجْلَسَهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَجَلَسَ مَعَ الْيَهُودِيِّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّ خَصْمِيَ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا لَجَلَسْتُ مَعَهُ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «لَا تُسَاوُوهُمْ فِي الْمَجَالِسِ» اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ يَا شُرَيْحٌ.
وَلِحَدِيثِ: «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى»
التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْعَطِيَّةِ
11- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْعَطِيَّةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ فِي الْعَطَايَا مُسْتَحَبَّةٌ، وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً.
لِأَنَّ الصِّدِّيقَ- رضي الله عنه- فَضَّلَ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- عَلَى غَيْرِهَا مِنْ أَوْلَادِهِ فِي هِبَةٍ، وَفَضَّلَ عُمَرُ- رضي الله عنه- ابْنَهُ عَاصِمًا بِشَيْءٍ مِنَ الْعَطِيَّةِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَوْلَادِهِ.
وَلِأَنَّ فِي قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ- رضي الله عنهما-: «فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَطَاوُسٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ- رحمه الله-: إِلَى وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْهِبَةِ.فَإِنْ خَصَّ بَعْضَهُمْ بِعَطِيَّةٍ، أَوْ فَاضَلَ بَيْنَهُمْ فِيهَا أَثِمَ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا رَدُّ مَا فَضَّلَ بِهِ الْبَعْضَ، وَإِمَّا إِتْمَامُ نَصِيبِ الْآخَرِ، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «وَهَبَنِي أَبِي هِبَةً.فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ- رضي الله عنها-: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ أُمَّ هَذَا أَعْجَبَهَا أَنْ أُشْهِدَكَ عَلَى الَّذِي وَهَبْتُ لِابْنِهَا، فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم- يَا بَشِيرُ أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ.قَالَ: كُلُّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لَا.قَالَ: فَأَرْجِعْهُ».وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «اتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ.إِنَّ لِبَنِيكَ مِنَ الْحَقِّ أَنْ تَعْدِلَ بَيْنَهُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي».
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «سَوُّوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ فِي الْعَطِيَّةِ، وَلَوْ كُنْتُ مُؤْثِرًا أَحَدًا لآَثَرْتُ النِّسَاءَ عَلَى الرِّجَالِ».
12- وَاخْتَلَفُوا كَذَلِكَ فِي مَعْنَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنَ الْأَوْلَادِ.فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَعْنَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنَ الْأَوْلَادِ: الْعَدْلُ بَيْنَهُمْ فِي الْعَطِيَّةِ بِدُونِ تَفْضِيلٍ؛ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ، وَالْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي عَطِيَّةِ الْأَوْلَادِ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمْ: أَيْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَسَمَ لَهُمْ فِي الْإِرْثِ هَكَذَا، وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ، وَهُوَ الْعَدْلُ الْمَطْلُوبُ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْهِبَاتِ وَالْعَطَايَا. وَإِنْ سَوَّى بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، أَوْ فَضَّلَهَا عَلَيْهِ، أَوْ فَضَّلَ بَعْضَ الْبَنِينَ أَوْ بَعْضَ الْبَنَاتِ عَلَى بَعْضٍ، أَوْ خَصَّ بَعْضَهُمْ بِالْوَقْفِ دُونَ بَعْضٍ، فَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ: إِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْأَثَرَةِ فَأَكْرَهُهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ لَهُ عِيَالٌ وَبِهِ حَاجَةٌ يَعْنِي فَلَا بَأْسَ بِهِ.
وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: لَوْ خَصَّ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ مِنْ أَوْلَادِهِ بِوَقْفِهِ تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ، أَوْ ذَا الدِّينِ دُونَ الْفُسَّاقِ، أَوِ الْمَرِيضِ، أَوْ مَنْ لَهُ فَضْلٌ مِنْ أَجْلِ فَضِيلَتِهِ فَلَا بَأْسَ.
التَّسْوِيَةُ فِي الشُّفْعَةِ بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّينَ
13- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي التَّسْوِيَةِ فِي الشُّفْعَةِ بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ بِالشُّفْعَةِ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ مِنَ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ بِالْمِلْكِ عَلَى قَدْرِهِ، فَلَوْ كَانَتْ أَرْضٌ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ مَثَلًا: لِوَاحِدٍ نِصْفُهَا، وَلآِخَرَ ثُلُثُهَا، وَلِثَالِثٍ سُدُسُهَا، فَبَاعَ الْأَوَّلُ- وَهُوَ صَاحِبُ النِّصْفِ- حِصَّتَهُ أَخَذَ الثَّانِي سَهْمَيْنِ، وَالثَّالِثُ سَهْمًا وَاحِدًا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَاخْتَارَهُ جَمْعٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِلَى أَنَّ الشُّرَكَاءَ يَقْتَسِمُونَ الشِّقْصَ عَلَى قَدْرِ رُءُوسِهِمْ، وَعَلَى هَذَا يُقْسَمُ النِّصْفُ فِي الْمِثَالِ السَّابِقِ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الشُّفْعَةِ هُوَ أَصْلُ الشَّرِكَةِ، وَهُمْ مُسْتَوُونَ فِيهَا، فَيَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ فِي اقْتِسَامِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ.
التَّسْوِيَةُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ:
14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرَافِقَ الْعَامَّةَ- مِنَ الشَّوَارِعِ وَالطُّرُقِ، وَأَفْنِيَةِ الْأَمْلَاكِ، وَالرِّحَابِ بَيْنَ الْعُمْرَانِ، وَحَرِيمِ الْأَمْصَارِ، وَمَنَازِلِ الْأَسْفَارِ، وَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ، وَالْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ، وَالْأَنْهَارِ الَّتِي أَجْرَاهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْعُيُونِ الَّتِي أَنْبَعَ اللَّهُ مَاءَهَا، وَالْمَعَادِنَ الظَّاهِرَةَ وَهِيَ الَّتِي خَرَجَتْ بِدُونِ عَمَلِ النَّاسِ كَالْمِلْحِ وَالْمَاءِ وَالْكِبْرِيتِ وَالْكُحْلِ وَغَيْرِهَا وَالْكَلأَِ- اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنَ الْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ النَّاسِ، فَهُمْ فِيهَا سَوَاسِيَةٌ، فَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا لِلْمُرُورِ وَالِاسْتِرَاحَةِ وَالْجُلُوسِ وَالْمُعَامَلَةِ وَالْقِرَاءَةِ وَالدِّرَاسَةِ وَالشُّرْبِ وَالسِّقَايَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ.
وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ اقْتِطَاعُهَا لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَلَا احْتِجَازُهَا دُونَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِالْمُسْلِمِينَ وَتَضْيِيقًا عَلَيْهِمْ.
وَيَكُونُ الْحَقُّ فِيهَا لِلسَّابِقِ حَتَّى يَرْتَحِلَ عَنْهَا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ إِلَيْهَا».
وَيُشْتَرَطُ عَدَمُ الْإِضْرَارِ، فَإِذَا تَضَرَّرَ بِهِ النَّاسُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ بِأَيِّ حَالٍ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ».
تَسْوِيَةُ الْقَبْرِ:
15- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الْقَبْرِ مِقْدَارَ شِبْرٍ مِنَ الْأَرْضِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ بِقَلِيلٍ إِنْ لَمْ يُخْشَ نَبْشُهُ مِنْ كَافِرٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَذَلِكَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ قَبْرٌ فَيُزَارَ، وَيُتَرَحَّمَ عَلَى صَاحِبِهِ، وَيُحْتَرَمَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا صَحَّ مِنْ أَنَّ قَبْرَ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- رُفِعَ نَحْوَ شِبْرٍ فَعَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رُفِعَ قَبْرُهُ عَنِ الْأَرْضِ قَدْرَ شِبْرٍ».وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنهم- قَالَ: «قُلْتُ لِعَائِشَةَ- رضي الله عنها-: يَا أُمَّهُ اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَصَاحِبَيْهِ، فَكَشَفَتْ لِي عَنْ ثَلَاثَةِ قُبُورٍ، لَا مُشْرِفَةً وَلَا لَاطِئَةً مَبْطُوحَةً بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ».وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ- رحمه الله- أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَقَبْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهَا مُسَنَّمَةٌ.
وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- لَمَّا مَاتَ بِالطَّائِفِ، صَلَّى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ- رحمه الله-، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا، وَجَعَلَ لَهُ لَحْدًا، وَأَدْخَلَهُ الْقَبْرَ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ، وَجَعَلَ قَبْرَهُ مُسَنَّمًا، وَضَرَبَ عَلَيْهِ فُسْطَاطًا. وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ تَسْطِيحَ الْقَبْرِ وَتَسْوِيَتَهُ بِالْأَرْضِ أَوْلَى مِنْ تَسْنِيمِهِ، لِمَا صَحَّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ مِنْ «أَنَّ عَمَّتَهُ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- كَشَفَتْ لَهُ عَنْ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَقَبْرِ صَاحِبَيْهِ فَإِذَا هِيَ مُسَطَّحَةٌ مَبْطُوحَةٌ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ».
16- وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَا زَادَ عَنْ مِقْدَارِ الشِّبْرِ زِيَادَةً كَبِيرَةً، إِنْ لَمْ يَكُنْ لِحَاجَةٍ كَخَوْفِ نَبْشِ قَبْرِ الْمُؤْمِنِ مِنْ نَحْوِ كَافِرٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِعَلِيٍّ- رضي الله عنه- «لَا تَدَعْ تِمْثَالًا إِلاَّ طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيْتَهُ».
وَالْمُشْرِفُ مَا رُفِعَ كَثِيرًا بِدَلِيلِ «قَوْلِ الْقَاسِمِ فِي صِفَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَصَاحِبَيْهِ: لَا مُشْرِفَةً وَلَا لَاطِئَةً».
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
41-موسوعة الفقه الكويتية (تشوف)
تَشَوُّفٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّشَوُّفُ لُغَةً: مَصْدَرُ تَشَوَّفَ.يُقَالُ: تَشَوَّفَتِ الْأَوْعَالُ: إِذَا عَلَتْ رُءُوسَ الْجِبَالِ تَنْظُرُ السَّهْلَ وَخُلُوَّهُ مِمَّا تَخَافُهُ لِتَرِدَ الْمَاءَ.وَمِنْهُ قِيلَ تَشَوَّفَ فُلَانٌ لِكَذَا: إِذَا طَمَحَ بَصَرُهُ إِلَيْهِ.ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي تَعَلُّقِ الْآمَالِ، وَالتَّطَلُّبِ.
وَالْمُشَوِّفَةُ مِنَ النِّسَاءِ: الَّتِي تُظْهِرُ نَفْسَهَا لِيَرَاهَا النَّاسُ.
وَتَشَوَّفَتِ الْمَرْأَةُ: تَزَيَّنَتْ وَتَطَلَّعَتْ لِلْخِطَابِ- مِنْ شفتُ الدِّرْهَمَ: إِذَا جَلَوْتَهُ.
وَدِينَارٌ مُشَوَّفٌ: أَيْ مَجْلُوٌّ- وَهُوَ أَنْ تَجْلُوَ الْمَرْأَةُ وَجْهَهَا وَتَصْقُلَ خَدَّيْهَا.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ لِلَفْظِ تَشَوُّفٍ عَنْ مَعَانِيهِ الْوَارِدَةِ فِي اللُّغَةِ.
وَقِيلَ: التَّشَوُّفُ بِمَعْنَى التَّزَيُّنِ خَاصٌّ بِالْوَجْهِ، وَالتَّزَيُّنُ عَامٌّ يُسْتَعْمَلُ فِي الْوَجْهِ وَغَيْرِهِ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
أ- تَشَوُّفُ الشَّارِعِ لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ:
2- مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ: أَنَّ الشَّارِعَ مُتَشَوِّفٌ لِلَحَاقِ النَّسَبِ، لِأَنَّ النَّسَبَ أَقْوَى الدَّعَائِمِ الَّتِي تَقُومُ عَلَيْهَا الْأُسْرَةُ، وَيَرْتَبِطُ بِهِ أَفْرَادُهَا، قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا}.
وَلِاعْتِنَاءِ الشَّرِيعَةِ بِحِفْظِ النَّسَبِ وَتَشَوُّفِهَا لِإِثْبَاتِهِ تَكَرَّرَ فِيهَا الْأَمْرُ بِحِفْظِهِ عَنْ تَطَرُّقِ الشَّكِّ إِلَيْهِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ ذَرَائِعِ التَّهَاوُنِ بِهِ.
وَلِمُرَاعَاةِ هَذَا الْمَقْصِدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ النَّادِرَةِ فِي إِلْحَاقِ النَّسَبِ، لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ لِإِثْبَاتِهِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: نَسَبٌ).
ب- التَّشَوُّفُ إِلَى الْعِتْقِ:
3- مِنْ مَحَاسِنِ الْإِعْتَاقِ أَنَّهُ إِحْيَاءٌ حُكْمِيٌّ، يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنْ كَوْنِهِ مُلْحَقًا بِالْجَمَادَاتِ إِلَى كَوْنِهِ أَهْلًا لِلْكَرَامَاتِ الْبَشَرِيَّةِ، مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالْوِلَايَةِ وَالْقَضَاءِ.وَيَقَعُ الْعِتْقُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنْ كُلِّ: مُكَلَّفٍ مُسْلِمٍ- وَلَوْ سَكْرَانَ أَوْ هَازِلًا وَلَوْ دُونَ نِيَّةٍ- لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ إِلَى الْحُرِّيَّةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ تَصَرُّفٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَيَجِبُ لِعَارِضٍ، وَيَحْصُلُ بِهِ الْقُرْبَةُ لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وَقَوْلُه عز وجلُ {فَكُّ رَقَبَةٍ}.
وَلِخَبَرِ «أَيُّمَا مُسْلِمٍ أَعْتَقَ مُؤْمِنًا أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ» (ر: عِتْقٌ، إِعْتَاقٌ).
ج- التَّشَوُّفُ فِي الْعِدَّةِ:
4- الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ لَهَا أَنْ تَتَزَيَّنَ؛ لِأَنَّهَا حَلَالٌ لِلزَّوْجِ، لِقِيَامِ نِكَاحِهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَالرَّجْعَةُ مُسْتَحَبَّةٌ، وَالتَّزَيُّنُ حَامِلٌ عَلَيْهَا فَيَكُونُ مَشْرُوعًا.وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَيَرَوْنَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهَا الْإِحْدَادُ.فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهَا التَّزَيُّنُ.وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْأَوْلَى أَنْ تَتَزَيَّنَ بِمَا يَدْعُو الزَّوْجَ إِلَى رَجْعَتِهَا. (ر: عِدَّةٌ)
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَحْرِيمِ الزِّينَةِ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مُدَّةَ عِدَّتِهَا؛ لِوُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا الْمُبَانَةُ فِي الْحَيَاةِ بَيْنُونَةً كُبْرَى، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى أَقْوَالٍ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهَا الزِّينَةُ، حِدَادًا وَأَسَفًا عَلَى زَوْجِهَا، وَإِظْهَارًا لِلتَّأَسُّفِ عَلَى فَوْتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ، الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِصَوْنِهَا وَكِفَايَةِ مَئُونَتِهَا، وَلِحُرْمَةِ النَّظَرِ إِلَيْهَا، وَعَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الرَّجْعَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ لَهَا الْإِحْدَادُ.وَفِي قَوْلٍ: الْإِحْدَادُ وَاجِبٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: لَا إِحْدَادَ إِلاَّ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَقَطْ.وَمُفَادُهُ: لَا إِحْدَادَ عَلَى الْمُبَانَةِ وَإِنِ اسْتُحِبَّ لَهَا فِي عِدَّتِهَا.
وَلَا يُسَنُّ لَهَا الْإِحْدَادُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهَا أَنْ تَتَجَنَّبَ مَا يُرَغِّبُ فِي النَّظَرِ إِلَيْهَا مِنَ الزِّينَةِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: عِدَّةٌ).
د- التَّشَوُّفُ لِلْخِطَابِ:
5- يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلَّتِي تَكُونُ صَالِحَةً لِلْخُطْبَةِ وَالزَّوَاجِ أَنْ تَتَزَيَّنَ اسْتِعْدَادًا لِرُؤْيَةِ مَنْ يَرْغَبُ فِي خِطْبَتِهَا وَالزَّوَاجِ بِهَا.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْخَاطِبِ أَنْ يَرَى بِنَفْسِهِ مَنْ يَرْغَبُ فِي زَوَاجِهَا لِكَيْ يَقْدَمَ عَلَى الْعَقْدِ إِنْ أَعْجَبَتْهُ، وَيَحْجُمَ عَنْهُ إِنْ لَمْ تُعْجِبْهُ، لِخَبَرِ «إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ» وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الْأُلْفَةِ وَالْوِئَامِ.
«وَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ خَطَبَ امْرَأَةً، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: أَنَظَرْتَ إِلَيْهَا؟ قَالَ: لَا.فَقَالَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا».
وَيَرَى أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ لِلْخَاطِبِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ فَقَطْ، لِأَنَّ رُؤْيَتَهُمَا تُحَقِّقُ الْمَطْلُوبَ مِنَ الْجَمَالِ وَخُصُوبَةِ الْجَسَدِ وَعَدَمِهَا.فَيَدُلُّ الْوَجْهُ عَلَى الْجَمَالِ أَوْ ضِدُّهُ لِأَنَّهُ مَجْمَعُ الْمَحَاسِنِ، وَالْكَفَّانِ عَلَى خُصُوبَةِ الْبَدَنِ.
وَأَجَازَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ النَّظَرَ إِلَى الرَّقَبَةِ وَالْقَدَمَيْنِ.وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ النَّظَرَ إِلَى مَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْقِيَامِ بِالْأَعْمَالِ، وَهِيَ سِتَّةُ أَعْضَاءٍ: الْوَجْهُ، وَالرَّأْسُ، وَالرَّقَبَةُ، وَالْيَدُ، وَالْقَدَمُ، وَالسَّاقُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى ذَلِكَ، وَلِإِطْلَاقِ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: نِكَاحٌ، خِطْبَةٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
42-موسوعة الفقه الكويتية (تطيب)
تَطَيُّبٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّطَيُّبُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ تَطَيَّبَ، وَهُوَ التَّعَطُّرُ.وَالطِّيبُ هُوَ: الْعِطْرُ، وَهُوَ مَا لَهُ رَائِحَةٌ مُسْتَلَذَّةٌ، كَالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ وَالْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ وَالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ.وَلَا يَخْرُجُ مَعْنَاهُ فِي الِاصْطِلَاحِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
2- وَالطِّيبُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: مُذَكَّرٌ، وَمُؤَنَّثٌ.
فَالْمُذَكَّرُ: مَا يَخْفَى أَثَرُهُ، أَيْ تَعَلُّقُهُ بِمَا مَسَّهُ مِنْ ثَوْبٍ أَوْ جَسَدٍ، وَيَظْهَرُ رِيحُهُ.وَالْمُرَادُ بِهِ أَنْوَاعُ الرَّيَاحِينِ، وَالْوَرْدِ، وَالْيَاسَمِينِ.وَأَمَّا الْمِيَاهُ الَّتِي تُعْصَرُ مِمَّا ذُكِرَ فَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمُؤَنَّثِ.
وَالْمُؤَنَّثُ: هُوَ مَا يَظْهَرُ لَوْنُهُ وَأَثَرُهُ، أَيْ تَعَلُّقُهُ بِمَا مَسَّهُ تَعَلُّقًا شَدِيدًا كَالْمِسْكِ، وَالْكَافُورِ، وَالزَّعْفَرَانِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّزَيُّنُ:
3- التَّزَيُّنُ: هُوَ اتِّخَاذُ الزِّينَةِ، وَهِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ شَيْءٍ يُتَزَيَّنُ بِهِ، فَالتَّزَيُّنُ مَا يَحْسُنُ بِهِ مَنْظَرُ الْإِنْسَانِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4- الْأَصْلُ سُنِّيَّةُ التَّطَيُّبِ، وَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي.
تَطَيُّبُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ:
5- يُسَنُّ التَّطَيُّبُ، لِخَبَرِ أَبِي أَيُّوبَ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا «أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ: الْحِنَّاءُ، وَالتَّعَطُّرُ، وَالسِّوَاكُ، وَالنِّكَاحُ» وَلِقَوْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ: النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» وَالطِّيبُ يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ دَاخِلَ بَيْتِهِ وَخَارِجَهُ، بِمَا يَظْهَرُ رِيحُهُ وَيَخْفَى لَوْنُهُ، كَبَخُورِ الْعَنْبَرِ وَالْعُودِ.
وَيُسَنُّ لِلْمَرْأَةِ فِي غَيْرِ بَيْتِهَا بِمَا يَظْهَرُ لَوْنُهُ وَيَخْفَى رِيحُهُ، لِخَبَرٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- «طِيبُ الرِّجَالِ مَا ظَهَرَ رِيحُهُ وَخَفِيَ لَوْنُهُ، وَطِيبُ النِّسَاءِ مَا خَفِيَ رِيحُهُ وَظَهَرَ لَوْنُهُ» وَلِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ فِي غَيْرِ بَيْتِهَا مِمَّا يَنِمُّ عَلَيْهَا، لِحَدِيثِ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ، فَمَرَّتْ بِقَوْمٍ لِيَجِدُوا رِيحَهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ» وَفِي بَيْتِهَا تَتَطَيَّبُ بِمَا شَاءَتْ، مِمَّا يَخْفَى أَوْ يَظْهَرُ، لِعَدَمِ الْمَانِعِ.
التَّطَيُّبُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ:
6- يُنْدَبُ التَّطَيُّبُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِلَا خِلَافٍ.لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِنَّ هَذَا يَوْمُ عِيدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ جَاءَ مِنْكُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ، وَإِنْ كَانَ طِيبٌ فَلْيَمَسَّ مِنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ» وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، وَيَدْهُنُ مِنْ دُهْنِهِ أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الْإِمَامُ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى».
التَّطَيُّبُ لِصَلَاةِ الْعِيدِ:
7- يُنْدَبُ لِلرَّجُلِ قَبْلَ خُرُوجِهِ لِصَلَاةِ الْعِيدِ أَنْ يَتَطَيَّبَ بِمَا لَهُ رِيحٌ لَا لَوْنَ لَهُ، وَبِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ.
أَمَّا النِّسَاءُ فَلَا بَأْسَ بِخُرُوجِهِنَّ غَيْرِ مُتَطَيِّبَاتٍ وَلَا لَابِسَاتٍ ثِيَابَ زِينَةٍ أَوْ شُهْرَةٍ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ» وَالْمُرَادُ بِالتَّفِلَاتِ: غَيْرُ الْمُتَطَيِّبَاتِ.
تَطَيُّبُ الصَّائِمِ:
8- يُبَاحُ لِلصَّائِمِ أَنْ يَتَطَيَّبَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ التَّطَيُّبُ لِلصَّائِمِ الْمُعْتَكِفِ، وَيُكْرَهُ لِلصَّائِمِ غَيْرِ الْمُعْتَكِفِ.قَالَ الدَّرْدِيرُ: لِأَنَّ الْمُعْتَكِفَ مَعَهُ مَانِعٌ يَمْنَعُهُ مِمَّا يُفْسِدُ اعْتِكَافَهُ، وَهُوَ لُزُومُهُ الْمَسْجِدَ وَبُعْدُهُ عَنِ النِّسَاءِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ لِلصَّائِمِ تَرْكُ شَمِّ الرَّيَاحِينِ وَلَمْسِهَا.وَالْمُرَادُ أَنْوَاعُ الطِّيبِ، كَالْمِسْكِ وَالْوَرْدِ وَالنَّرْجِسِ، إِذَا اسْتَعْمَلَهُ نَهَارًا لِمَا فِيهَا مِنَ التَّرَفُّهِ، وَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ لَيْلًا، وَلَوْ دَامَتْ رَائِحَتُهُ فِي النَّهَارِ، كَمَا فِي الْمُحْرِمِ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ، فَقَالُوا: يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ شَمُّ مَا لَا يَأْمَنُ أَنْ يَجْذِبَهُ نَفَسُهُ إِلَى حَلْقِهِ كَسَحِيقِ مِسْكٍ، وَكَافُورٍ، وَدُهْنٍ وَنَحْوِهَا، كَبَخُورِ عُودٍ وَعَنْبَرٍ.
تَطَيُّبُ الْمُعْتَكِفِ:
9- يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَتَطَيَّبَ نَهَارًا أَوْ لَيْلًا بِأَنْوَاعِ الطِّيبِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، إِلاَّ فِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَتَطَيَّبَ.وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ مَكَانًا، فَكَانَ تَرْكُ الطِّيبِ فِيهِ مَشْرُوعًا كَالْحَجِّ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ التَّطَيُّبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}.
التَّطَيُّبُ فِي الْحَجِّ:
10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّطَيُّبَ أَثْنَاءَ الْإِحْرَامِ فِي الْبَدَنِ أَوِ الثَّوْبِ مَحْظُورٌ.أَمَّا التَّطَيُّبُ لِلْإِحْرَامِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهِ فَهُوَ مَسْنُونٌ اسْتِعْدَادًا لِلْإِحْرَامِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ لِمَا رُوِيَ مِنْ كَرَاهَتِهِ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهم-، وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ.
وَدَلِيلُ سُنِّيَّةِ التَّطَيُّبِ فِي الْبَدَنِ لِلْإِحْرَامِ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كُنْت أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ» وَعَنْهَا- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ مُحْرِمٌ».وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ جَوَازُ التَّطَيُّبِ بِمَا يَبْقَى جُرْمُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، لِصَرِيحِ حَدِيثِ عَائِشَةَ الثَّانِي.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَحَظَرُوا بَقَاءَ جِرْمِ الطِّيبِ وَإِنْ ذَهَبَتْ رَائِحَتُهُ.
11- أَمَّا التَّطَيُّبُ فِي الثَّوْبِ لِلْإِحْرَامِ: فَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الْمُعْتَمَدِ.فَلَا يَضُرُّ بَقَاءُ الرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ فِي الثَّوْبِ اتِّفَاقًا قِيَاسًا لِلثَّوْبِ عَلَى الْبَدَنِ.لَكِنْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَزَعَ ثَوْبَ الْإِحْرَامِ أَوْ سَقَطَ عَنْهُ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعُودَ إِلَى لُبْسِهِ مَا دَامَتِ الرَّائِحَةُ فِيهِ، بَلْ يُزِيلُ مِنْهُ الرَّائِحَةَ ثُمَّ يَلْبَسُهُ، وَهَذَا قَوْلُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَائِشَةَ، وَأُمِّ حَبِيبَةَ- رضي الله عنهم-، وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ.
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيَّةُ بِحَدِيثَيْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- السَّابِقَيْنِ، وَهُمَا صَحِيحَانِ رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَقَالُوا: إِنَّ الطِّيبَ مَعْنًى يُرَادُ لِلِاسْتِدَامَةِ فَلَمْ يَمْنَعِ الْإِحْرَامَ مِنِ اسْتِدَامَتِهِ كَالنِّكَاحِ وَسَوَاءٌ فِيمَا ذُكِرَ الطِّيبُ الَّذِي يَبْقَى لَهُ جِرْمٌ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَالَّذِي لَا يَبْقَى، وَسَوَاءٌ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ الشَّابَّةُ وَالْعَجُوزُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- فِي الْأَصَحِّ- إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّطَيُّبِ لِلْإِحْرَامِ فِي الثَّوْبِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبَ إِحْرَامٍ مُطَيَّبًا؛ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَكُونُ مُسْتَعْمِلًا لِلطِّيبِ فِي إِحْرَامِهِ بِاسْتِعْمَالِ الثَّوْبِ، وَهُوَ مَحْظُورٌ عَلَى الْمُحْرِمِ، وَالْفَرْقُ: أَنَّ الطِّيبَ فِي الثَّوْبِ مُنْفَصِلٌ، أَمَّا فِي الْبَدَنِ فَهُوَ تَابِعٌ لَهُ، وَسُنِّيَّةُ التَّطَيُّبِ تَحْصُلُ بِتَطْيِيبِ الْبَدَنِ، فَأَغْنَى عَنْ تَجْوِيزِهِ فِي الثَّوْبِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَطَيَّبَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ يَجِبُ عَلَيْهِ إِزَالَتُهُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي بَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ، فَإِنْ بَقِيَ فِي الْبَدَنِ أَوِ الثَّوْبِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ شَيْءٌ مِنْ جِرْمِ الطِّيبِ- الَّذِي تَطَيَّبَ بِهِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ- وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ فِي الثَّوْبِ رَائِحَتُهُ، فَلَا يَجِبُ نَزْعُ الثَّوْبِ لَكِنْ يُكْرَهُ اسْتِدَامَتُهُ وَلَا فِدْيَةَ.
وَأَمَّا اللَّوْنُ: فَفِيهِ قَوْلَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْيَسِيرِ، وَأَمَّا الْأَثَرُ الْكَثِيرُ فَفِيهِ الْفِدْيَةُ، وَاسْتَدَلَّ الْمَالِكِيَّةُ بِحَدِيثِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «أَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَجُلٌ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي جُبَّةٍ، بَعْدَمَا تَضَمَّخَ بِطِيبٍ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا، ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ».فَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى حَظْرِ الطِّيبِ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ.
وَيَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ طَيَّبَ ثَوْبَهُ فَلَهُ اسْتِدَامَةُ لُبْسِهِ مَا لَمْ يَنْزِعْهُ، فَإِنْ نَزَعَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَلْبَسَهُ، فَإِنْ لَبِسَهُ افْتَدَى؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الطِّيبِ وَلُبْسَ الْمُطَيَّبِ دُونَ الِاسْتِدَامَةِ.وَكَذَلِكَ إِنْ نَقَلَ الطِّيبَ مِنْ مَوْضِعِ بَدَنِهِ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ افْتَدَى؛ لِأَنَّهُ تَطَيَّبَ فِي إِحْرَامِهِ، وَكَذَا إِنْ تَعَمَّدَ مَسَّهُ أَوْ نَحَّاهُ مِنْ مَوْضِعِهِ ثُمَّ رَدَّهُ إِلَيْهِ، فَأَمَّا إِنْ عَرِقَ الطِّيبُ أَوْ ذَابَ بِالشَّمْسِ فَسَالَ مِنْ مَوْضِعِهِ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ
قَالَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: «كُنَّا نَخْرُجُ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى مَكَّةَ فَنُضَمِّدُ جِبَاهَنَا بِالْمِسْكِ الْمُطَيِّبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، فَإِذَا عَرِقَتْ إِحْدَانَا سَالَ عَلَى وَجْهِهَا، فَيَرَاهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَلَا يَنْهَانَا».
12- وَأَمَّا التَّطَيُّبُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، فَإِنَّهُ يَحْظُرُ عَلَى الْمُحْرِمِ اسْتِعْمَالُهُ فِي ثِيَابِهِ وَبَدَنِهِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ وَلَا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ مَا مَسَّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ» وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «قَالَ فِي شَأْنِ الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ لَا تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ»، وَفِي لَفْظٍ «لَا تُحَنِّطُوهُ» وَوَجْهُهُ: أَنَّهُ لَمَّا مُنِعَ الْمَيِّتُ مِنَ الطِّيبِ لِإِحْرَامِهِ، فَالْحَيُّ أَوْلَى.وَمَتَى تَطَيَّبَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ مَا حَرَّمَهُ الْإِحْرَامُ وَلَوْ لِلتَّدَاوِي، وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمُحْرِمُ: الْأَشْعَثُ الْأَغْبَرُ».وَالطِّيبُ يُنَافِي الشَّعَثَ.
وَيَجِبُ الْفِدَاءُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِأَيِّ تَطَيُّبٍ مِمَّا هُوَ مَحْظُورٌ، دُونَ تَقْيِيدٍ بِأَنْ يُطَيِّبَ عُضْوًا كَامِلًا أَوْ مِقْدَارًا مِنَ الثَّوْبِ مُعَيَّنًا.وَإِنَّمَا وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ قِيَاسًا عَلَى الْحَلْقِ، لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ فِي قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}.
وَلِمَا وَرَدَ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ- رضي الله عنه- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهُ، حِينَ رَأَى هَوَامَّ رَأْسِهِ: أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: نِعْمَ قَالَ: فَاحْلِقْ، وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِين، أَوِ انْسُكْ نَسِيكَةً»
وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ تَطَيُّبٍ وَتَطَيُّبٍ، فَقَالُوا: تَجِبُ شَاةٌ إِنْ طَيَّبَ الْمُحْرِمُ عُضْوًا كَامِلًا، مِثْلُ الرَّأْسِ وَالْيَدِ وَالسَّاقِ، أَوْ مَا بَلَغَ عُضْوًا كَامِلًا لَوْ جُمِعَ.وَالْبَدَنُ كُلُّهُ كَعُضْوٍ وَاحِدٍ إِنِ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ، وَإِنْ تَفَرَّقَ الْمَجْلِسُ فَلِكُلِّ طِيبٍ كَفَّارَةٌ إِنْ شَمِلَ عُضْوًا وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ، سَوَاءٌ كَفَّرَ لِلْأَوَّلِ أَمْ لَا، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.وَقَالَ مُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ فَدَى وَلَمْ يَزَلِ الطِّيبُ لَزِمَهُ فِدْيَةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَهُ كَانَ مَحْظُورًا، فَيَكُونُ لِبَقَائِهِ حُكْمُ ابْتِدَائِهِ.
وَوَجْهُ وُجُوبِ الشَّاةِ: أَنَّ الْجِنَايَةَ تَتَكَامَلُ بِتَكَامُلِ الِارْتِفَاقِ، وَذَلِكَ فِي الْعُضْوِ الْكَامِلِ فَيَتَرَتَّبُ كَمَالُ الْمُوجِبِ.
وَإِنْ طَيَّبَ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ: فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِنِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، لِقُصُورِ الْجِنَايَةِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الطِّيبُ كَثِيرًا، فَعَلَيْهِ دَمٌ.وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَقُومُ مَا يَجِبُ فِيهِ الدَّمُ فَيَتَصَدَّقُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ، حَتَّى لَوْ طَيَّبَ رُبْعَ عُضْوٍ فَعَلَيْهِ مِنَ الصَّدَقَةِ قَدْرُ رُبُعِ شَاةٍ، وَهَكَذَا؛ لِأَنَّ تَطْيِيبَ عُضْوٍ كَامِلٍ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ، فَكَانَ جِنَايَةً كَامِلَةً، فَيُوجِبُ كَفَّارَةً كَامِلَةً، وَتَطْيِيبُ مَا دُونَ الْعُضْوِ الْكَامِلِ ارْتِفَاقٌ قَاصِرٌ، فَيُوجِبُ كَفَّارَةً قَاصِرَةً، إِذِ الْحُكْمُ يَثْبُتُ عَلَى قَدْرِ السَّبَبِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الطِّيبُ كَثِيرًا فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَفِيَّةُ اسْتِمْرَارَ الطِّيبِ لِوُجُوبِ الْجَزَاءِ، بَلْ يَجِبُ بِمُجَرَّدِ التَّطَيُّبِ.
وَأَمَّا تَطْيِيبُ الثَّوْبِ فَتَجِبُ فِيهِ الْفِدْيَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِشَرْطَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا: أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا، وَهُوَ مَا يَصْلُحُ أَنْ يُغَطِّيَ مِسَاحَةً تَزِيدُ عَلَى شِبْرٍ فِي شِبْرٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَسْتَمِرَّ نَهَارًا، أَوْ لَيْلَةً.
فَإِنِ اخْتَلَّ أَحَدُ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ وَجَبَتِ الصَّدَقَةُ، وَإِنِ اخْتَلَّ الشَّرْطَانِ وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِقَبْضَةٍ مِنْ قَمْحٍ.
وَالْأَصْلُ فِي حَظْرِ تَطْيِيبِ الثَّوْبِ وَلُبْسِهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مِنَ الثِّيَابِ مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلَا الْوَرْسُ».
وَالْمُحْرِمُ- ذَكَرًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ- مَمْنُوعٌ مِنِ اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ فِي إِزَارِهِ أَوْ رِدَائِهِ وَجَمِيعِ ثِيَابِهِ، وَفِرَاشِهِ وَنَعْلِهِ، حَتَّى لَوْ عَلَقَ بِنَعْلِهِ طِيبٌ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَادِرَ لِنَزْعِهِ، وَلَا يَضَعُ عَلَيْهِ ثَوْبًا مَسَّهُ الْوَرْسُ أَوِ الزَّعْفَرَانُ أَوْ نَحْوُهُمَا مِنْ صِبْغٍ لَهُ طِيبٌ.
وَاسْتِعْمَالُ الطِّيبِ هُوَ: أَنْ يُلْصِقَ الطِّيبَ بِبَدَنِهِ أَوْ مَلْبُوسِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ فِي ذَلِكَ الطِّيبِ، مِمَّا يُقْصَدُ مِنْهُ رِيحُهُ غَالِبًا وَلَوْ مَعَ غَيْرِهِ، كَمِسْكٍ أَوْ عُودٍ، وَكَافُورٍ، وَوَرْسٍ، وَزَعْفَرَانٍ، وَرَيْحَانٍ، وَوَرْدٍ، وَيَاسَمِينَ، وَنَرْجِسٍ، وَآسٍ، وَسَوْسَنٍ، وَمَنْثُورٍ، وَنَمَّامٍ، وَغَيْرِ مَا ذُكِرَ، مِمَّا يُتَطَيَّبُ بِهِ، وَيُتَّخَذُ مِنْهُ الطِّيبُ، أَوْ يَظْهَرُ فِيهِ هَذَا الْغَرَضُ
13- وَيُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ شَمُّ الطِّيبِ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ شَمُّ الطِّيبِ مُذَكَّرُهُ وَمُؤَنَّثُهُ دُونَ مَسٍّ.وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَقَالُوا: يَحْرُمُ تَعَمُّدُ شَمِّ الطِّيبِ كَالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ وَنَحْوِهِمَا، مِمَّا يُتَطَيَّبُ بِشَمِّهِ كَالْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينَ.فَإِنْ فَعَلَ الْمُحْرِمُ ذَلِكَ وَجَبَ الْفِدَاءُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْفِدْيَةَ تَجِبُ فِيمَا يُتَّخَذُ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ فِي أَصْلِهِ، وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى فِي الْوَرْدِ: لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِي شَمِّهِ، لِأَنَّهُ زَهْرٌ شَمُّهُ عَلَى جِهَتِهِ، أَشْبَهَ زَهْرَ سَائِرِ الشَّجَرِ، وَالْأَوْلَى تَحْرِيمُهُ؛ لِأَنَّهُ يَنْبُتُ لِلطِّيبِ وَيُتَّخَذُ مِنْهُ، أَشْبَهَ الزَّعْفَرَانَ، وَالْعَنْبَرَ.
مَا يُبَاحُ مِنَ الطِّيبِ وَمَا لَا يُبَاحُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُحْرِمِ:
14- قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: النَّبَاتُ الَّذِي تُسْتَطَابُ رَائِحَتُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: مَا لَا يَنْبُتُ لِلطِّيبِ وَلَا يُتَّخَذُ مِنْهُ كَنَبَاتِ الصَّحْرَاءِ مِنَ الشِّيحِ وَالْقَيْصُومِ، وَالْخُزَامَى، وَالْفَوَاكِهِ كُلِّهَا، مِنَ الْأُتْرُجِّ، وَالتُّفَّاحِ وَالسَّفَرْجَلِ، وَغَيْرِهِ، وَمَا يُنْبِتُهُ الْآدَمِيُّونَ لِغَيْرِ قَصْدِ الطِّيبِ، كَالْحِنَّاءِ، وَالْعُصْفُرِ، وَهَذَانِ يُبَاحُ شَمُّهُمَا وَلَا فِدْيَةَ فِيهِمَا بِلَا خِلَافٍ، غَيْرَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشُمَّ شَيْئًا مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، مِنَ الشِّيحِ وَالْقَيْصُومِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ «رُوِيَ أَنَّ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كُنَّ يُحْرِمْنَ فِي الْمُعَصْفَرَاتِ».
الثَّانِي: مَا يُنْبِتُهُ الْآدَمِيُّونَ لِلطِّيبِ وَلَا يُتَّخَذُ مِنْهُ طِيبٌ، كَالرَّيْحَانِ الْفَارِسِيِّ وَالنَّرْجِسِ، وَالْبَرَمِ وَفِيهِ وَجْهَانِ،
أَحَدُهُمَا: يُبَاحُ بِغَيْرِ فِدْيَةٍ، قَالَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم-، وَالْحَسَنُ، وَمُجَاهِدٌ، وَإِسْحَاقُ.وَالْآخَرُ: يَحْرُمُ شَمُّهُ، فَإِنْ فَعَلَ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَهُوَ قَوْلُ جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ يُتَّخَذُ لِلطِّيبِ، فَأَشْبَهَ الْوَرْدَ.
الثَّالِثُ: مَا يَنْبُتُ لِلطِّيبِ، وَيُتَّخَذُ مِنْهُ طِيبٌ، كَالْوَرْدِ، وَالْبَنَفْسَجِ، وَالْخَيْرِيِّ وَهَذَا إِذَا اسْتَعْمَلَهُ الْمُحْرِمُ وَشَمَّهُ فَفِيهِ الْفِدْيَةُ، لِأَنَّ الْفِدْيَةَ تَجِبُ فِيمَا يُتَّخَذُ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ فِي أَصْلِهِ.وَإِنْ مَسَّ الْمُحْرِمُ مِنَ الطِّيبِ مَا يَعْلَقُ بِبَدَنِهِ، كَالْغَالِيَةِ وَمَاءِ الْوَرْدِ، وَالْمِسْكِ الْمَسْحُوقِ الَّذِي يَعْلَقُ بِأَصَابِعِهِ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لِلطِّيبِ.وَإِنْ مَسَّ مَا لَا يَعْلَقُ بِيَدِهِ، كَالْمِسْكِ غَيْرِ الْمَسْحُوقِ، وَقِطَعِ الْكَافُورِ، وَالْعَنْبَرِ، فَلَا فِدْيَةَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ لِلطِّيبِ.فَإِنْ شَمَّهُ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ هَكَذَا، وَإِنْ شَمَّ الْعُودَ (أَيْ خَشَبَ الْعُودِ) فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَطَيَّبُ بِهِ
تَطَيُّبُ الْمُحْرِمِ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا:
15- إِنْ تَطَيَّبَ الْمُحْرِمُ نَاسِيًا فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»
وَإِنْ أَخَّرَ ذَلِكَ عَنْ زَمَنِ الْإِمْكَانِ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَى النَّاسِي أَيْضًا: بِخَبَرِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ- رضي الله عنه- «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ، وَعَلَيْهِ أَثَرُ خَلُوقٍ، أَوْ قَالَ: أَثَرُ صُفْرَةٍ.فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ فِي عُمْرَتِي؟ قَالَ: اخْلَعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، وَاغْسِلْ أَثَرَ الْخَلُوقِ عَنْكَ.أَوْ قَالَ: الصُّفْرَةِ، وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ» فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عَذَرَهُ لِجَهْلِهِ، وَالنَّاسِي فِي مَعْنَاهُ، وَلَهُ غَسْلُ الطِّيبِ بِيَدِهِ بِلَا حَائِلٍ، لِعُمُومِ أَمْرِهِ- صلى الله عليه وسلم- بِغَسْلِهِ.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ فَقَالُوا: يَجِبُ دَمٌ عَلَى الْمُحْرِمِ الْبَالِغِ وَلَوْ نَاسِيًا إِنْ طَيَّبَ عُضْوًا كَامِلًا، أَوْ مَا يَبْلُغُ عُضْوًا لَوْ جُمِعَ.
تَطَيُّبُ الْمَبْتُوتَةِ:
16- يَحْرُمُ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا التَّطَيُّبُ لِوُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةُ بَائِنٍ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَهِيَ كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنَّ التَّطَيُّبَ لَا يَحْرُمُ إِلاَّ عَلَى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَمَنْ فِي حُكْمِهَا وَهِيَ: زَوْجَةُ الْمَفْقُودِ الْمَحْكُومِ بِفَقْدِهِ.لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لَا يَحْرُمُ التَّطَيُّبُ؛ لِأَنَّ الْإِحْدَادَ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» وَهَذِهِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِحْدَادَ يَجِبُ فِيهَا فَقَطْ.وَالْمُطَلَّقَةُ بَائِنًا مُعْتَدَّةٌ عَنْ غَيْرِ وَفَاةٍ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا الْإِحْدَادُ كَالرَّجْعِيَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ بَائِنًا فَارَقَهَا زَوْجُهَا بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ وَقَطَعَ نِكَاحَهَا، فَلَا مَعْنَى لِتَكْلِيفِهَا الْحُزْنَ عَلَيْهِ، فَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتَطَيَّبَ.
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ الْمُطَلَّقَةَ طَلْقَةً وَاحِدَةً بَائِنَةً، وَقَالُوا: يَلْزَمُهَا تَرْكُ التَّطَيُّبِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهَا الْحِدَادُ، وَلَوْ أَمَرَهَا الْمُطَلِّقُ بِتَرْكِهِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الشَّرْعِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
43-موسوعة الفقه الكويتية (تطير)
تَطَيُّرٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّطَيُّرُ فِي اللُّغَةِ: التَّشَاؤُمُ.يُقَالُ: تَطَيَّرَ بِالشَّيْءِ، وَمِنَ الشَّيْءِ: تَشَاءَمَ بِهِ.وَالِاسْمُ الطِّيَرَةُ.جَاءَ فِي فَتْحِ الْبَارِي: التَّطَيُّرُ، وَالتَّشَاؤُمُ شَيْءٌ وَاحِدٌ.
وَالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ لَا يَخْتَلِفُ عَنِ اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْفَأْلُ:
2- الْفَأْلُ ضِدُّ الطِّيَرَةِ، يُقَالُ: تَفَاءَلَ الرَّجُلُ: إِذَا تَيَمَّنَ بِسَمَاعِ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنِ الطِّيَرَةِ: أَنَّ الْفَأْلَ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُسْتَحَبُّ، وَالتَّطَيُّرُ فِيمَا يُكْرَهُ غَالِبًا.
ب- الْكِهَانَةُ:
3- الْكِهَانَةُ: ادِّعَاءُ عِلْمِ الْغَيْبِ، وَالْإِخْبَارُ بِمَا سَيَحْدُثُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَعَ الْإِسْنَادِ إِلَى سَبَبٍ.
أَصْلُ التَّطَيُّرِ:
4- أَصْلُ التَّطَيُّرِ: أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا خَرَجَ أَحَدُهُمْ لِأَمْرٍ قَصَدَ إِلَى عُشِّ طَائِرٍ، فَيُهَيِّجُهُ، فَإِذَا طَارَ الطَّيْرُ يَمْنَةً تَيَمَّنَ بِهِ، وَمَضَى فِي الْأَمْرِ، وَيُسَمُّونَهُ «السَّانِحَ».أَمَّا إِذَا طَارَ يَسْرَةً تَشَاءَمَ بِهِ، وَرَجَعَ عَمَّا عَزَمَ عَلَيْهِ، وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ «الْبَارِحَ».فَأَبْطَلَ الْإِسْلَامُ ذَلِكَ وَنَهَى عَنْهُ، وَأَرْجَعَ الْأَمْرَ إِلَى سُنَنِ اللَّهِ الثَّابِتَةِ، وَإِلَى قَدَرِهِ الْمُحِيطِ، وَمَشِيئَتِهِ الْمُطْلَقَةِ جَاءَ فِي الْأَثَرِ الصَّحِيحِ: «مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ مِنْ حَاجَةٍ فَقَدْ أَشْرَكَ» وَنَحْوُهُ كَثِيرٌ.
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
5- إِنِ اعْتَقَدَ الْمُكَلَّفُ أَنَّ الَّذِي شَاهَدَهُ مِنْ حَالِ الطَّيْرِ مُوجِبٌ لِمَا ظَنَّهُ، مُؤَثِّرٌ فِيهِ، فَقَدْ كَفَرَ.لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّشْرِيكِ فِي تَدْبِيرِ الْأُمُورِ.أَمَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُتَصَرِّفُ وَالْمُدَبِّرُ وَحْدَهُ، وَلَكِنَّهُ فِي نَفْسِهِ يَجِدُ شَيْئًا مِنَ الْخَوْفِ مِنَ الشَّرِّ؛ لِأَنَّ التَّجَارِبَ عِنْدَهُ قَضَتْ أَنَّ صَوْتًا مِنْ أَصْوَاتِ الطَّيْرِ، أَوْ حَالًا مِنْ حَالَاتِهِ يُرَادِفُهُ مَكْرُوهٌ، فَإِنْ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَسَاءَ، وَإِنِ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ مِنَ الشَّرِّ، وَسَأَلَهُ الْخَيْرَ وَمَضَى مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّهِ، فَلَا يَضُرُّهُ مَا وَجَدَ فِي نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَإِلاَّ فَيُؤَاخَذُ.لِحَدِيثِ «مُعَاوِيَةَ بْنِ حَكِيمٍ.قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ.قَالَ: ذَلِكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ فَلَا يَصُدَّنَّهُمْ».
هَذَا وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ التَّوْحِيدِ عَلَى تَحْرِيمِ التَّطَيُّرِ، وَنَفْيِ تَأْثِيرِهِ فِي حُدُوثِ الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ فِي تَدْبِيرِ الْأُمُورِ.وَالنُّصُوصُ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: حَدِيثُ: «لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَّةَ، وَلَا صَفَرَ»
أَمَّا الْفَأْلُ الْحَسَنُ فَهُوَ جَائِزٌ وَجَاءَ فِي الْأَثَرِ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَتَفَاءَلُ وَلَا يَتَطَيَّرُ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَسْمَعَ يَا رَاشِدُ يَا رَجِيحُ».وَرُوِيَ عَنْهُ: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الصَّالِحُ: الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ».
وَالْفَأْلُ أَمَلٌ وَرَجَاءٌ لِلْخَيْرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ كُلِّ سَبَبٍ ضَعِيفٍ أَوْ قَوِيٍّ، بِخِلَافِ الطِّيَرَةِ، فَهِيَ سُوءُ ظَنٍّ بِاللَّهِ، وَالْمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ لِخَبَرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ».وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (شُؤْمٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
44-موسوعة الفقه الكويتية (تعريض)
تَعْرِيضٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّعْرِيضُ: لُغَةً ضِدُّ التَّصْرِيحِ، يُقَالُ: عَرَّضَ لِفُلَانٍ وَبِفُلَانٍ: إِذَا قَالَ قَوْلًا عَامًّا، وَهُوَ يَعْنِي فُلَانًا، وَمِنْهُ: الْمَعَارِيضُ فِي الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِمْ: إِنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةٌ عَنِ الْكَذِبِ.
وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: مَا يَفْهَمُ بِهِ السَّامِعُ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْكِنَايَةُ
2- الْكِنَايَةُ: وَهِيَ ذِكْرُ اللاَّزِمِ، وَإِرَادَةُ الْمَلْزُومِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ: أَنَّ التَّعْرِيضَ هُوَ تَضْمِينُ الْكَلَامِ دَلَالَةً لَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ، كَقَوْلِ الْمُحْتَاجِ: جِئْتُكَ لِأُسَلِّمَ عَلَيْكَ، فَيَقْصِدَ مِنَ اللَّفْظِ السَّلَامَ، وَمِنَ السِّيَاقِ طَلَبَ الْحَاجَةِ.
ب- التَّوْرِيَةُ:
3- التَّوْرِيَةُ: وَهِيَ أَنْ تُطْلِقَ لَفْظًا ظَاهِرًا (قَرِيبًا) فِي مَعْنًى، تُرِيدُ بِهِ مَعْنًى آخَرَ (بَعِيدًا) يَتَنَاوَلُهُ ذَلِكَ اللَّفْظُ، لَكِنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِهِ.وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ التَّعْرِيضِ: أَنَّ فَائِدَةَ التَّوْرِيَةِ تُرَادُ مِنَ اللَّفْظِ، فَهِيَ أَخَصُّ مِنَ التَّعْرِيضِ، الَّذِي قَدْ يُفْهَمُ الْمُرَادُ مِنْهُ مِنَ السِّيَاقِ وَالْقَرَائِنِ، أَوِ اللَّفْظِ، فَهُوَ أَعَمُّ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّعْرِيضِ بِحَسَبِ مَوْضُوعِهِ كَمَا يَلِي:
أَوَّلًا: التَّعْرِيضُ فِي الْخِطْبَةِ:
4- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي حُرْمَةِ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ لِمَنْكُوحَةِ الْغَيْرِ، وَالْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ، لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْمَنْكُوحَةِ، كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ التَّعْرِيضِ لِمَخْطُوبَةِ مَنْ صُرِّحَ بِإِجَابَتِهِ وَعُلِمَتْ خِطْبَتُهُ، وَلَمْ يَأْذَنِ الْخَاطِبُ وَلَمْ يُعْرِضْ عَنْهَا.لِخَبَرِ: «لَا يَخْطِبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ» ر: مُصْطَلَحَ: (خِطْبَةٌ).
ثَانِيًا: التَّعْرِيضُ بِخُطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ غَيْرِ الرَّجْعِيَّةِ:
5- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى جَوَازِ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ لِلْمُعْتَدَّةِ عَنْ وَفَاةٍ، وَلَمْ نَقِفْ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِيهَا، إِلاَّ قَوْلًا لِلشَّافِعِيَّةِ، مُؤَدَّاهُ: إِنْ كَانَتْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ بِالْحَمْلِ لَمْ يُعَرِّضْ لَهَا، خَوْفًا مِنْ تَكَلُّفِ إِلْقَاءِ الْجَنِينِ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ.وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ}.لِأَنَّهَا وَرَدَتْ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، كَمَا قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ التَّعْرِيضِ لِلْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ فَسْخٍ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ: إِلَى أَنَّهُ يَحِلُّ التَّعْرِيضُ لِبَائِنٍ مُعْتَدَّةٍ بِالْأَقْرَاءِ أَوِ الْأَشْهُرِ، وَذَلِكَ لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَلِانْقِطَاعِ سُلْطَةِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ بَائِنًا بَيْنُونَةً صُغْرَى أَوْ كُبْرَى، أَوْ بِفَسْخٍ، أَوْ فُرْقَةٍ بِلِعَانٍ، أَوْ رَضَاعٍ، فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ.وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ.
وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ أَحْمَدَ: لَا يَحِلُّ التَّعْرِيضُ لِلْبَائِنِ بِطَلَاقٍ رَجْعِيٍّ، لِأَنَّ لِصَاحِبِ الْعِدَّةِ الْمُنْتَهِيَةِ أَنْ يَنْكِحَهَا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ، فَأَشْبَهَتِ الرَّجْعِيَّةَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ التَّعْرِيضُ لِمُعْتَدَّةٍ مِنْ طَلَاقٍ بِنَوْعَيْهِ، لِإِفْضَائِهِ إِلَى عَدَاوَةِ الْمُطَلِّقِ.وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْفَتْحِ «الْإِجْمَاعَ» بَيْنَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى حُرْمَةِ التَّعْرِيضِ لِلْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ مُطْلَقًا، وَيَجُوزُ التَّعْرِيضُ عِنْدَهُمْ لِلْمُعْتَدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ، وَوَطْءِ شُبْهَةٍ.
وَجَوَازُ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ لِلْمُعْتَدَّةِ مُرْتَبِطٌ بِجَوَازِ خُرُوجِ الْمُعْتَدَّةِ، فَمَنْ يُجَوِّزُ لَهَا الْخُرُوجَ مِنْ بَيْتِ الْعِدَّةِ، يُجَوِّزُ التَّعْرِيضَ بِالْخِطْبَةِ لَهَا، وَمَنْ لَا يُجَوِّزُ لَهَا الْخُرُوجَ لَا يُجَوِّزُ التَّعْرِيضَ لَهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
أَلْفَاظُ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ:
6- التَّعْرِيضُ: هُوَ كُلُّ لَفْظٍ يَحْتَمِلُ الْخِطْبَةَ وَغَيْرَهَا، وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يَذْكُرُونَ أَلْفَاظًا لِلتَّمْثِيلِ لَهُ: كَأَنْتِ جَمِيلَةٌ، وَمَنْ يَجِدُ مِثْلَكَ؟ وَأَنَّ اللَّهَ سَاقَ لَكَ خَيْرًا، رُبَّ رَاغِبٍ فِيكِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
ثَالِثًا: التَّعْرِيضُ بِالْقَذْفِ:
7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِالتَّعْرِيضِ بِالْقَذْفِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ: إِلَى أَنَّهُ إِذَا عَرَّضَ بِالْقَذْفِ غَيْرُ أَبٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ- إِنْ فُهِمَ الْقَذْفُ بِتَعْرِيضِهِ بِالْقَرَائِنِ، كَخِصَامٍ بَيْنَهُمْ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّظْمِ وَالنَّثْرِ، أَمَّا الْأَبُ إِذَا عَرَّضَ لِوَلَدِهِ فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ لِبُعْدِهِ عَنِ التُّهْمَةِ.
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ، لِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- اسْتَشَارَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ فِي رَجُلٍ قَالَ لآِخَرَ: مَا أَنَا بِزَانٍ وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ؟ فَقَالُوا: إِنَّهُ قَدْ مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَّضَ لِصَاحِبِهِ، فَجَلَدَهُ الْحَدَّ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ، قَذْفٌ.كَقَوْلِهِ: مَا أَنَا بِزَانٍ، وَأُمِّي لَيْسَتْ بِزَانِيَةٍ، وَلَكِنَّهُ لَا يُحَدُّ، لِأَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ لِلشُّبْهَةِ، وَيُعَاقَبُ بِالتَّعْزِيرِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: بَلْ أَنْتَ زَانٍ.
وَالتَّعْرِيضُ بِالْقَذْفِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: يَا ابْنَ الْحَلَالِ، وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ بِزَانٍ، وَأُمِّي لَيْسَتْ بِزَانِيَةٍ، فَهَذَا كُلُّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ وَإِنْ نَوَاهُ، لِأَنَّ النِّيَّةَ إِنَّمَا تُؤَثِّرُ، إِذَا احْتَمَلَ اللَّفْظَ الْمَنْوِيَّ، وَلَا دَلَالَةَ هُنَا فِي اللَّفْظِ وَلَا احْتِمَالَ، وَمَا يُفْهَمُ مِنْهُ مُسْتَنَدُهُ قَرَائِنُ الْأَحْوَالِ.هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ.وَقِيلَ: هُوَ كِنَايَةٌ، أَيْ عَنِ الْقَذْفِ، لِحُصُولِ الْفَهْمِ وَالْإِيذَاءِ.فَإِنْ أَرَادَ النِّسْبَةَ إِلَى الزِّنَى فَقَذْفٌ، وَإِلاَّ فَلَا.
وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ حَالَةُ الْغَضَبِ وَغَيْرِهَا.
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
رَابِعًا: التَّعْرِيضُ لِلْمُسْلِمِ بِقَتْلِ طَالِبِهِ مِنَ الْكُفَّارِ:
8- يَجُوزُ التَّعْرِيضُ لِلْمُسْلِمِ لِقَتْلِ مَنْ جَاءَ يَطْلُبُهُ لِيَرُدَّهُ إِلَى دَارِ الْكُفْرِ، لِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- قَالَ لِأَبِي جَنْدَلٍ- رضي الله عنه- حِينَ رُدَّ لِأَبِيهِ: اصْبِرْ أَبَا جَنْدَلٍ فَإِنَّمَا هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَإِنَّمَا دَمُ أَحَدِهِمْ دَمُ كَلْبٍ يُعَرِّضُ لَهُ بِقَتْلِ أَبِيهِ.
خَامِسًا- التَّعْرِيضُ لِلْمُقِرِّ بِحَدٍّ خَالِصٍ بِالرُّجُوعِ:
9- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ: إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يُعَرِّضَ لَهُ بِالرُّجُوعِ، كَأَنْ يَقُولَ لَهُ فِي السَّرِقَةِ: لَعَلَّكَ أَخَذْتَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ، وَفِي الزِّنَى: لَعَلَّكَ فَاخَذْتَ أَوْ لَمَسْتَ، وَفِي الشُّرْبِ: لَعَلَّك لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ مَا شَرِبْتَ مُسْكِرٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «قَالَ لِمَنْ أَقَرَّ عِنْدَهُ بِالسَّرِقَةِ مَا أَخَالُكَ سَرَقْتَ» فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَقَالَ لِمَاعِزٍ: «لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ غَمَزْتَ، أَوْ نَظَرْتَ».
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: لَا يُعَرَّضُ لَهُ بِالرُّجُوعِ، كَمَا لَا يُصَرَّحُ.
وَفِي قَوْلٍ: يُعَرَّضُ لَهُ، إِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ، فَإِنْ عُلِمَ فَلَا يُعَرَّضُ لَهُ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ: إِلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ مَنْدُوبٌ، لِحَدِيثِ مَاعِزٍ وَتَفْصِيلُهُ فِي الْحُدُودِ.
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
10- يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ التَّعْرِيضَ فِي الْأَبْوَابِ الْآتِيَةِ: فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَالْعِدَّةِ، وَفِي الْحُدُودِ: فِي الْقَذْفِ، وَالرُّجُوعِ عَنِ الْإِقْرَارِ.وَفِي الْهُدْنَةِ: وَفِي الْأَيْمَانِ فِي الْقَضَاءِ فَقَطْ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
45-موسوعة الفقه الكويتية (تعزية)
تَعْزِيَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّعْزِيَةُ لُغَةً: مَصْدَرُ عَزَّى: إِذَا صَبَّرَ الْمُصَابَ وَوَاسَاهُ وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَقَالَ الشِّرْبِينِيُّ: هِيَ الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ وَالْحَمْلُ عَلَيْهِ بِوَعْدِ الْأَجْرِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْوِزْرِ، وَالدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ بِالْمَغْفِرَةِ، وَلِلْمُصَابِ بِجَبْرِ الْمُصِيبَةِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اسْتِحْبَابِ التَّعْزِيَةِ لِمَنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ.وَالْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّتِهَا: خَبَرُ: «مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ».
وَخَبَرِ «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَزِّي أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ إِلاَّ كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ حُلَلِ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
كَيْفِيَّةُ التَّعْزِيَةِ وَلِمَنْ تَكُونُ:
3- يُعَزَّى أَهْلُ الْمُصِيبَةِ، كِبَارُهُمْ وَصِغَارُهُمْ، ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ، إِلاَّ الصَّبِيُّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ، وَالشَّابَّةُ مِنَ النِّسَاءِ، فَلَا يُعَزِّيهَا إِلاَّ النِّسَاءُ وَمَحَارِمُهَا، خَوْفًا مِنَ الْفِتْنَةِ.وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ شَرْحِ الْمُنْيَةِ: تُسْتَحَبُّ التَّعْزِيَةُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ اللاَّتِي لَا يُفْتِنَّ.وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: وَنُدِبَ تَعْزِيَةٌ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ إِلاَّ مَخْشِيَّةَ الْفِتْنَةِ.
مُدَّةُ التَّعْزِيَةِ:
4- جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: عَلَى أَنَّ مُدَّةَ التَّعْزِيَةِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ.وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِإِذْنِ الشَّارِعِ فِي الْإِحْدَادِ فِي الثَّلَاثِ فَقَطْ، بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» وَتُكْرَهُ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا سُكُونُ قَلْبِ الْمُصَابِ، وَالْغَالِبُ سُكُونُهُ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ، فَلَا يُجَدَّدُ لَهُ الْحُزْنُ بِالتَّعْزِيَةِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا (الْمُعَزَّى أَوِ الْمُعَزِّي) غَائِبًا، فَلَمْ يَحْضُرْ إِلاَّ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ، فَإِنَّهُ يُعَزِّيهِ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ.
وَحَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَجْهًا وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَا أَمَدَ لِلتَّعْزِيَةِ، بَلْ تَبْقَى بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ الدُّعَاءُ، وَالْحَمْلُ عَلَى الصَّبْرِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْجَزَعِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ.
وَقْتُ التَّعْزِيَةِ:
5- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي التَّعْزِيَةِ أَنْ تَكُونَ بَعْدَ الدَّفْنِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْمَيِّتِ قَبْلَ الدَّفْنِ مَشْغُولُونَ بِتَجْهِيزِهِ؛ وَلِأَنَّ وَحْشَتَهُمْ بَعْدَ دَفْنِهِ لِفِرَاقِهِ أَكْثَرُ، فَكَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ أَوْلَى بِالتَّعْزِيَةِ.
وَقَالَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ: إِلاَّ أَنْ يَظْهَرَ مِنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ شِدَّةُ جَزَعٍ قَبْلَ الدَّفْنِ، فَتُعَجَّلُ التَّعْزِيَةُ، لِيَذْهَبَ جَزَعُهُمْ أَوْ يَخِفَّ.
وَحُكِيَ عَنِ الثَّوْرِيِّ: أَنَّهُ تُكْرَهُ التَّعْزِيَةُ بَعْدَ الدَّفْنِ.
مَكَانُ التَّعْزِيَةِ:
6- كَرِهَ الْفُقَهَاءُ الْجُلُوسَ لِلتَّعْزِيَةِ فِي الْمَسْجِدِ.
وَكَرِهَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْجُلُوسَ لِلتَّعْزِيَةِ، بِأَنْ يَجْتَمِعَ أَهْلُ الْمَيِّتِ فِي مَكَانٍ لِيَأْتِيَ إِلَيْهِمُ النَّاسُ لِلتَّعْزِيَةِ؛ لِأَنَّهُ مُحْدَثٌ وَهُوَ بِدْعَةٌ؛ وَلِأَنَّهُ يُجَدِّدُ الْحُزْنَ.وَوَافَقَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى كَرَاهَةِ الْجُلُوسِ لِلتَّعْزِيَةِ عَلَى بَابِ الدَّارِ، إِذَا اشْتَمَلَ عَلَى ارْتِكَابِ مَحْظُورٍ، كَفَرْشِ الْبُسُطِ وَالْأَطْعِمَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ.
وَنَقَلَ الطَّحْطَاوِيُّ عَنْ شَرْحِ السَّيِّدِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْجُلُوسِ لَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ غَيْرِ ارْتِكَابِ مَحْظُورٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ كَوْنُ التَّعْزِيَةِ فِي بَيْتِ الْمُصَابِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّمَا الْمَكْرُوهُ الْبَيْتُوتَةُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَيِّتِ، وَأَنْ يَجْلِسَ إِلَيْهِمْ مَنْ عَزَّى مَرَّةً، أَوْ يَسْتَدِيمَ الْمُعَزِّي الْجُلُوسَ زِيَادَةً كَثِيرَةً عَلَى قَدْرِ التَّعْزِيَةِ.
صِيغَةُ التَّعْزِيَةِ:
7- قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ فِي التَّعْزِيَةِ شَيْئًا مَحْدُودًا، إِلاَّ مَا رُوِيَ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ قَالَ: يُرْوَى «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَزَّى رَجُلًا فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ وَآجَرَكَ».وَعَزَّى أَحْمَدُ أَبَا طَالِبٍ (أَحَدَ أَصْحَابِهِ) فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكُمْ وَأَحْسَنَ عَزَاءَكُمْ.وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِذَا عَزَّى مُسْلِمًا بِمُسْلِمٍ قَالَ: أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَك، وَأَحْسَن عَزَاك، وَرَحِمَ اللَّهُ مَيِّتَكَ.
وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنْ يَقُولَ مَا رَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: «لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَجَاءَتِ التَّعْزِيَةُ، سَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ: إِنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَخَلَفًا مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَدَرْكًا مِنْ كُلِّ مَا فَاتَ، فَبِاللَّهِ فَثِقُوا، وَإِيَّاهُ فَارْجُوا، فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ».
وَهَلْ يُعَزَّى الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ أَوِ الْعَكْسُ؟
8- ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ: الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: إِلَى أَنَّهُ يُعَزَّى الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ، وَبِالْعَكْسِ، وَالْكَافِرُ غَيْرُ الْحَرْبِيِّ.
وَذَهَبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: إِلَى أَنَّهُ لَا يُعَزَّى الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ عَزَّى مُسْلِمًا بِكَافِرٍ قَالَ: أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ وَأَحْسَنَ عَزَاءَكَ.
صُنْعُ الطَّعَامِ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ:
9- يُسَنُّ لِجِيرَانِ أَهْلِ الْمَيِّتِ أَنْ يَصْنَعُوا طَعَامًا لَهُمْ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «اصْنَعُوا لِأَهْلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ».
وَيُكْرَهُ أَنْ يَصْنَعَ أَهْلُ الْمَيِّتِ طَعَامًا لِلنَّاسِ، لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةً عَلَى مُصِيبَتِهِمْ، وَشُغْلًا عَلَى شُغْلِهِمْ، وَتَشَبُّهًا بِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، لِخَبَرِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ- رضي الله عنه-: كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ إِلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ، وَصَنِيعَةَ الطَّعَامِ بَعْدَ دَفْنِهِ مِنَ النِّيَاحَةِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
46-موسوعة الفقه الكويتية (تعليم وتعلم)
تَعْلِيمٌ وَتَعَلُّمٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّعَلُّمُ لُغَةً: مَصْدَرُ تَعَلَّمَ.وَالتَّعَلُّمُ مُطَاوِعُ التَّعْلِيمِ، يُقَالُ: عَلَّمْتُهُ الْعِلْمَ فَتَعَلَّمَهُ.وَالتَّعْلِيمُ مَصْدَرُ عَلَّمَ: يُقَالُ: عَلَّمَهُ إِذَا عَرَّفَهُ، وَعَلَّمَهُ وَأَعْلَمَهُ إِيَّاهُ فَتَعَلَّمَهُ، وَعَلِمَ الْأَمْرَ وَتَعَلَّمَهُ: أَتْقَنَهُ.وَالْعِلْمُ نَقِيضُ الْجَهْلِ.
وَالْعِلْمُ أَيْضًا: هُوَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الثِّقَةِ.وَجَاءَ بِمَعْنَى: الْمَعْرِفَةِ أَيْضًا.
قَالَ الرَّاغِبُ: التَّعْلِيمُ وَالْإِعْلَامُ فِي الْأَصْلِ وَاحِدٌ، إِلاَّ أَنَّ الْإِعْلَامَ اخْتَصَّ بِمَا كَانَ بِإِخْبَارٍ سَرِيعٍ، وَالتَّعْلِيمُ اخْتَصَّ بِمَا يَكُونُ بِتَكْرِيرٍ وَتَكْثِيرٍ، حَتَّى يَحْصُلَ مِنْهُ أَثَرٌ فِي نَفْسِ الْمُتَعَلِّمِ.رُبَّمَا اسْتُعْمِلَ التَّعْلِيمُ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ إِذَا كَانَ فِيهِ تَكْرِيرٌ نَحْوُ {أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ}.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ لِلتَّعْلِيمِ عَمَّا ذُكِرَ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- التَّثْقِيفُ:
2- التَّثْقِيفُ: مَصْدَرُ ثَقَّفَ.يُقَالُ: ثَقَّفْتُ الرُّمْحَ: أَيْ سَوَّيْتُهُ وَأَزَلْتُ عِوَجَهُ وَيُقَالُ: رَجُلٌ ثَقِفٌ: إِذَا كَانَ حَاذِقًا فَطِنًا سَرِيعَ الْفَهْمِ، وَثَقَّفَ الْإِنْسَانَ: أَدَّبَهُ وَعَلَّمَهُ وَهَذَّبَهُ.فَالتَّثْقِيفُ أَعَمُّ مِنَ التَّعْلِيمِ.
ب- التَّدْرِيبُ:
3- التَّدْرِيبُ: مِنَ الدُّرْبَةِ، وَهِيَ: التَّجْرِبَةُ وَالتَّعَوُّدُ وَالْجُرْأَةُ عَلَى الْأَمْرِ.وَقَدْ دَرَّبْتُهُ تَدْرِيبًا، وَمِنْهُ مَا فِي حَدِيثِ الثَّقَفِيِّ «وَكَانَتْ نَاقَةً مُدَرَّبَةً»: أَيْ مُخَرَّجَةً مُؤَدَّبَةً «قَدْ أَلِفَتِ الرُّكُوبَ وَالسَّيْرَ»: أَيْ عُوِّدَتِ الْمَشْيَ فِي الدُّرُوبِ، فَصَارَتْ تَأْلَفُهَا وَتَعْرِفُهَا وَلَا تَنْفِرُ
فَالتَّدْرِيبُ مِنْ وَسَائِلِ التَّعْلِيمِ.
ج- التَّأْدِيبُ:
4- التَّأْدِيبُ: مَصْدَرُ أَدَّبَ.يُقَالُ: أَدَّبْتُهُ أَدَبًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ، وَيُضَاعَفُ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّكْثِيرِ، فَيُقَالُ: أَدَّبْتُهُ- بِالتَّشْدِيدِ- إِذَا عَلَّمْتُهُ رِيَاضَةَ النَّفْسِ وَمَحَاسِنَ الْأَخْلَاقِ.وَالِاسْمُ: الْأَدَبُ.قَالَ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ: الْأَدَبُ يَقَعُ عَلَى كُلِّ رِيَاضَةٍ مَحْمُودَةٍ يَتَخَرَّجُ بِهَا الْإِنْسَانُ فِي فَضِيلَةٍ مِنَ الْفَضَائِلِ.وَيَأْتِي التَّأْدِيبُ أَيْضًا بِمَعْنَى: الْعُقُوبَةِ.يُقَالُ.أَدَّبْتُهُ تَأْدِيبًا: إِذَا عَاقَبْتُهُ عَلَى إِسَاءَتِهِ، لِأَنَّهُ سَبَبٌ يَدْعُو إِلَى حَقِيقَةِ الْأَدَبِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ
أ- التَّعَلُّمُ:
5- تَعَلُّمُ الْعِلْمِ تَعْتَرِيهِ الْأَحْكَامُ الْآتِيَةُ: قَدْ يَكُونُ التَّعَلُّمُ فَرْضَ عَيْنٍ وَهُوَ تَعَلُّمُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِلْمُسْلِمِ، لِإِقَامَةِ دِينِهِ وَإِخْلَاصِ عَمَلِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ مُعَاشَرَةِ عِبَادِهِ.فَقَدْ فُرِضَ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ وَمُكَلَّفَةٍ- بَعْدَ تَعَلُّمِهِ مَا تَصِحُّ بِهِ عَقِيدَتُهُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ- تَعَلُّمُ مَا تَصِحُّ بِهِ الْعِبَادَاتُ وَالْمُعَامَلَاتُ مِنَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَأَحْكَامِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ، وَإِخْلَاصُ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ لِلَّهِ.وَيَجِبُ تَعَلُّمُ أَحْكَامِ الْبُيُوعِ عَلَى التُّجَّارِ لِيَحْتَرِزُوا عَنِ الشُّبُهَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ فِي سَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ، وَكَذَا أَهْلُ الْحِرَفِ، وَكُلُّ مَنِ اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ يُفْرَضُ عَلَيْهِ تَعَلُّمُ حُكْمِهِ لِيَمْتَنِعَ عَنِ الْحَرَامِ فِيهِ.
وَقَدْ يَكُونُ التَّعَلُّمُ فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَهُوَ تَعَلُّمُ كُلِّ عِلْمٍ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فِي قِيَامِ أُمُورِ الدُّنْيَا كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالْكَلَامِ وَالْقِرَاءَاتِ وَأَسَانِيدِ الْحَدِيثِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَمِنَ التَّعَلُّمِ مَا هُوَ مَنْدُوبٌ، وَمِنْهُ التَّبَحُّرُ فِي الْفِقْهِ بِالتَّوَسُّعِ فِيهِ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى غَوَامِضِهِ، وَكَذَا غَيْرُهُ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَقَدْ يَكُونُ التَّعَلُّمُ حَرَامًا: وَمِنْهُ تَعَلُّمُ الشَّعْوَذَةِ.وَضَرْبِ الرَّمْلِ وَالسِّحْرِ وَكَذَا الْكِهَانَةُ، وَالْعِرَافَةُ.
وَقَدْ يَكُونُ التَّعَلُّمُ مَكْرُوهًا، وَمِنْهُ تَعَلُّمُ أَشْعَارِ الْغَزَلِ مِمَّا فِيهِ وَصْفُ النِّسَاءِ الْمُعَيَّنَاتِ، وَتَفْصِيلُ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ فِي مُصْطَلَحِهِ الْخَاصِّ.
وَقَدْ يَكُونُ التَّعَلُّمُ مُبَاحًا، وَمِنْهُ الْأَشْعَارُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَا يُنْكَرُ مِنَ اسْتِخْفَافٍ بِأَحَدِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ ذِكْرِ عَوْرَاتِهِمْ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
ب- التَّعْلِيمُ:
6- قَالَ النَّوَوِيُّ: تَعْلِيمُ الطَّالِبِينَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ يَصْلُحُ إِلاَّ وَاحِدٌ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ جَمَاعَةٌ يَصْلُحُونَ، فَطُلِبَ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِهِمْ فَامْتَنَعَ فَهَلْ يَأْثَمُ؟ يَجْرِي فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ.وَالْأَصَحُّ: لَا يَأْثَمُ.
هَذَا وَيَلْزَمُ تَعْلِيمُ الْعِلْمِ اللاَّزِمِ تَعْلِيمُهُ، كَاسْتِعْلَامِ كَافِرٍ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ عَنِ الْإِسْلَامِ، أَوِ اسْتِعْلَامِ حَدِيثِ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ عَنْ صَلَاةٍ حَضَرَ وَقْتُهَا، وَكَالْمُسْتَفْتِي فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الْإِجَابَةُ، وَمَنِ امْتَنَعَ كَانَ آثِمًا.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي نَوَافِلِ الْعِلْمِ الَّتِي لَا ضَرُورَةَ بِالنَّاسِ إِلَى مَعْرِفَتِهَا.
قَالَ ابْنُ الْحَاجِّ: يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ، أَوْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ: إِذَا رَأَى النَّاسَ قَدْ أَعْرَضُوا عَنِ الْعِلْمِ أَنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ، لِتَعْلِيمِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ وَإِنْ كَانُوا مُعْرِضِينَ.
7- وَقَدْ حَثَّ الشَّرْعُ عَلَى تَعْلِيمِ الْعُلُومِ الَّتِي تَحْتَاجُهَا الْأُمَّةُ فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا، وَجَاءَتِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ وَالْأَخْبَارُ بِذَلِكَ.وَمِنَ الْآيَاتِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وَالْمُرَادُ هُوَ التَّعْلِيمُ.
وَقَوْلُهُ جَلَّ شَأْنُهُ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} وَهُوَ إِيجَابٌ لِلتَّعْلِيمِ.
وقوله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وَهُوَ تَحْرِيمٌ لِلْكِتْمَانِ.
وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ».وَقَوْلُهُ- عليه السلام-: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ».
وَالتَّحْقِيقُ حَمْلُ الْعِلْمِ فِي الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ عَلَى الْمَعْنَى الْعَامِّ، فَيَشْمَلُ عُلُومَ الشَّرْعِ: عِلْمَ الْكَلَامِ، وَالْفِقْهِ، وَالتَّفْسِيرِ، وَالْحَدِيثِ، وَعُلُومَ الدُّنْيَا.وَمِنْهَا الزِّرَاعَةُ، وَالصِّنَاعَةُ، وَالسِّيَاسَةُ، وَالْحِرَفُ، وَالطِّبُّ، وَالتِّكْنُولُوجْيَا، وَالْحِسَابُ، وَالْهَنْدَسَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ، وَمَا يَرْتَبِطُ بِهِ مَصَالِحُ أُمُورِ الدُّنْيَا.
فَضْلُ التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ:
8- وَرَدَتِ الْآيَاتُ وَالْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ، وَتَطَابَقَتِ الدَّلَائِلُ الصَّرِيحَةُ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ، وَالْحَثِّ عَلَى تَحْصِيلِهِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي اقْتِبَاسِهِ وَتَعْلِيمِهِ.
فَمِنَ الْآيَاتِ قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَاَلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} وقوله تعالى. {وَقُلْ رَبِّي زِدْنِي عِلْمًا} وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وَقَالَ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}
وَمِنَ الْأَخْبَارِ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- لِعَلِيٍّ- رضي الله عنه-: «لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ».
وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلَا مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا».
وَمِنَ الْآثَارِ قَوْلُ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: كَفَى بِالْعِلْمِ شَرَفًا أَنْ يَدَّعِيَهُ مَنْ لَا يُحْسِنُهُ، وَيَفْرَحُ بِهِ إِذَا نُسِبَ إِلَيْهِ، وَكَفَى بِالْجَهْلِ ذَمًّا أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْهُ مَنْ هُوَ فِيهِ.وَقَوْلُهُ: الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ، وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ.وَالْمَالُ تُنْقِصُهُ النَّفَقَةُ، وَالْعِلْمُ يَزْكُو بِالْإِنْفَاقِ.
آدَابُ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ
أ- آدَابُ الْمُعَلِّمِ:
9- فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ الْقَوْلَ فِي آدَابِ الْمُعَلِّمِ وَوَظَائِفِهِ وَأَهَمُّهَا مَا يَلِي:
- أَنْ يَقْصِدَ بِتَعْلِيمِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَقْصِدَ تَوَصُّلًا إِلَى غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ.
- وَأَنْ يَتَخَلَّقَ بِالْمَحَاسِنِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا وَحَثَّ عَلَيْهَا، وَالْخِلَالِ الْحَمِيدَةِ وَالشِّيَمِ الْمَرْضِيَّةِ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا.
- وَأَنْ يَحْذَرَ مِنَ الْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ وَالْإِعْجَابِ وَاحْتِقَارِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ بِدَرَجَاتٍ.
- وَأَنْ لَا يُذِلَّ الْعِلْمَ وَلَا يَذْهَبَ بِهِ إِلَى مَكَانٍ يُنْتَسَبُ إِلَى مَنْ يَتَعَلَّمُهُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَعَلِّمُ كَبِيرَ الْقَدْرِ.
- وَأَنْ يُشْفِقَ عَلَى الْمُتَعَلِّمِينَ، وَأَنْ يُجْرِيَهُمْ مُجْرَى بَنِيهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ» بِأَنْ يَقْصِدَ إِنْقَاذَهُمْ مِنْ نَارِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ أَهَمُّ مِنْ إِنْقَاذِ الْوَالِدَيْنِ وَلَدَهُمَا مِنْ نَارِ الدُّنْيَا.
- وَأَنْ لَا يَتَعَظَّمَ عَلَى الْمُتَعَلِّمِينَ، بَلْ يَلِينُ لَهُمْ وَيَتَوَاضَعُ.قَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: تَوَاضَعُوا لِمَنْ عَلَّمَكُمْ، وَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تُعَلِّمُونَ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ جَبَّارِي الْعُلَمَاءِ.
- وَأَنْ يَتَفَقَّدَ الْمُتَعَلِّمِينَ، وَيَسْأَلَ عَمَّنْ غَابَ مِنْهُمْ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَاذِلًا وُسْعَهُ فِي تَفْهِيمِهِمْ وَتَقْرِيبِ الْفَائِدَةِ إِلَى أَذْهَانِهِمْ.
- وَأَنْ يَزْجُرَ الْمُتَعَلِّمَ عَنْ سُوءِ الْأَخْلَاقِ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ مَا أَمْكَنَ وَلَا يُصَرِّحُ، وَبِطَرِيقِ الرَّحْمَةِ لَا بِطَرِيقِ التَّوْبِيخِ.
- وَأَنْ يَقْتَصِرَ بِالْمُتَعَلِّمِ عَلَى قَدْرِ فَهْمِهِ، فَلَا يُلْقِي إِلَيْهِ مَا لَا يَبْلُغُهُ عَقْلُهُ، فَيُنَفِّرُهُ أَوْ يَخْبِطُ عَلَيْهِ عَقْلَهُ، اقْتِدَاءً فِي ذَلِكَ بِالنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- حَيْثُ قَالَ: «أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ».
- وَأَنْ يُحَرِّضَهُمْ عَلَى الِاشْتِغَالِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَيُطَالِبَهُمْ فِي أَوْقَاتٍ بِإِعَادَةِ مَحْفُوظَاتِهِمْ، وَيَسْأَلَهُمْ عَمَّا ذَكَرَ لَهُمْ مِنَ الْمُهِمَّاتِ.
- وَأَنْ يُقَدِّمَ فِي تَعْلِيمِهِمْ إِذَا ازْدَحَمُوا الْأَسْبَقَ فَالْأَسْبَقَ.
- وَأَنْ يَكُونَ عَامِلًا بِعِلْمِهِ فَلَا يُكَذِّبُ قَوْلَهُ فِعْلُهُ، لِأَنَّ الْعِلْمَ يُدْرَكُ بِالْبَصَائِرِ وَالْعَمَلَ يُدْرَكُ بِالْأَبْصَارِ، وَأَرْبَابُ الْأَبْصَارِ أَكْثَرُ.
ب- آدَابُ الْمُتَعَلِّمِ:
10- يَنْبَغِي أَنْ يُطَهِّرَ قَلْبَهُ مِنَ الْأَدْنَاسِ لِيَصْلُحَ لِقَبُولِ الْعِلْمِ وَحِفْظِهِ وَاسْتِثْمَارِهِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»
وَقَالُوا: تَطْبِيبُ الْقَلْبِ لِلْعِلْمِ كَتَطْبِيبِ الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْطَعَ الْعَلَائِقَ الشَّاغِلَةَ عَنْ كَمَالِ الِاجْتِهَادِ فِي التَّحْصِيلِ، وَيَرْضَى بِمَا يَتَيَسَّرُ مِنَ الْقُوتِ، وَيَصْبِرُ إِنْ ضَاقَ بِهِ الْعَيْشُ.
وَيَنْبَغِي لِلْمُتَعَلِّمِ أَنْ يَتَوَاضَعَ لِمُعَلِّمِهِ وَيَنْظُرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الِاحْتِرَامِ، وَيَرَى كَمَالَ أَهْلِيَّتِهِ وَرُجْحَانَهُ عَلَى أَكْثَرِ طَبَقَتِهِ، فَذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى انْتِفَاعِهِ بِهِ وَرُسُوخِ مَا سَمِعَهُ مِنْهُ فِي ذِهْنِهِ.
- وَلْيَحْذَرِ الْمُتَعَلِّمُ الْبَسْطَ عَلَى مَنْ يُعَلِّمُهُ وَإِنْ آنَسَهُ، وَالْإِدْلَالَ عَلَيْهِ وَإِنْ تَقَدَّمَتْ صُحْبَتُهُ، وَلَا يُظْهِرُ لَهُ الِاسْتِكْفَاءَ مِنْهُ وَالِاسْتِغْنَاءَ عَنْهُ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ كُفْرًا لِنِعْمَتِهِ وَاسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِ.
- وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَبْعَثَهُ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ لِلْمُعَلِّمِ عَلَى قَبُولِ الشُّبْهَةِ مِنْهُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَنِّتَ مُعَلِّمَهُ بِالسُّؤَالِ، وَلَا يَدْعُوهُ تَرْكُ الْإِعْنَاتِ لِلْمُعَلِّمِ إِلَى التَّقْلِيدِ فِيمَا أَخَذَ عَنْهُ.وَلَيْسَتْ كَثْرَةُ السُّؤَالِ فِيمَا الْتَبَسَ إِعْنَاتًا، وَلَا قَبُولُ مَا صَحَّ فِي النَّفْسِ تَقْلِيدًا.
إِلاَّ أَنَّهُ لَا يُلِحُّ فِي السُّؤَالِ إِلْحَاحًا مُضْجِرًا، وَيَغْتَنِمُ سُؤَالَهُ عِنْدَ طِيبِ نَفْسِهِ وَفَرَاغِهِ، وَيَتَلَطَّفُ فِي سُؤَالِهِ وَيُحْسِنُ خِطَابَهُ.
- وَلْيَأْخُذِ الْمُتَعَلِّمُ حَظَّهُ مِمَّنْ وَجَدَ طَلَبَتَهُ عِنْدَهُ مِنْ نَبِيهٍ وَخَامِلٍ، وَلَا يَطْلُبُ الصِّيتَ وَحُسْنَ الذِّكْرِ بِاتِّبَاعِ أَهْلِ الْمَنَازِلِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، إِذَا كَانَ النَّفْعُ بِغَيْرِهِمْ أَعَمَّ، إِلاَّ أَنْ يَسْتَوِيَ النَّفْعَانِ فَيَكُونُ الْأَخْذُ عَمَّنِ اشْتَهَرَ ذِكْرُهُ وَارْتَفَعَ قَدْرُهُ أَوْلَى، لِأَنَّ الِانْتِسَابَ إِلَيْهِ أَجْمَلُ وَالْأَخْذَ عَنْهُ أَشْهَرُ.
- وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَرِيصًا عَلَى التَّعَلُّمِ مُوَاظِبًا عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِهِ، لَيْلًا وَنَهَارًا حَضَرًا وَسَفَرًا، وَلَا يُذْهِبُ مِنْ أَوْقَاتِهِ شَيْئًا فِي غَيْرِ الْعِلْمِ إِلاَّ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ لِأَكْلٍ وَنَوْمٍ قَدْرًا- لَا بُدَّ مِنْهُ- وَنَحْوِهِمَا مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ.
- وَمِنْ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ: الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ، وَأَنْ تَكُونَ هِمَّتُهُ عَالِيَةً، فَلَا يَرْضَى بِالْيَسِيرِ مَعَ إِمْكَانِ كَثِيرٍ، وَأَنْ لَا يُسَوِّفَ فِي اشْتِغَالِهِ وَلَا يُؤَخِّرَ تَحْصِيلَ فَائِدَةٍ، وَإِنْ قَلَّتْ: إِذَا تَمَكَّنَ مِنْهَا، وَإِنْ أَمَلَ حُصُولَهَا بَعْدَ سَاعَةٍ، لِأَنَّ لِلتَّأْخِيرِ آفَاتٍ، وَلِأَنَّ فِي الزَّمَنِ الثَّانِي يَحْصُلُ غَيْرُهَا.
تَعْلِيمُ الصِّغَارِ:
11- عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَسَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ تَعْلِيمُ الصِّغَارِ مَا يَلْزَمُهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَيُعَلَّمُ الصَّغِيرُ مَا تَصِحُّ بِهِ عَقِيدَتُهُ مِنْ إِيمَانٍ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَا تَصِحُّ بِهِ عِبَادَتُهُ، وَيُعَرِّفُهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَطَهَارَتِهِ وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ».وَيُعَرِّفُهُ تَحْرِيمَ الزِّنَا وَاللِّوَاطِ وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْمُسْكِرِ وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَشَبَهِهَا، كَمَا يُعَلَّمُ أَنَّهُ بِالْبُلُوغِ يَدْخُلُ فِي التَّكْلِيفِ، وَيُعَرَّفُ مَا يَبْلُغُ بِهِ.
وَقِيلَ هَذَا التَّعْلِيمُ مُسْتَحَبٌّ، وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ عَنِ الْأَئِمَّةِ وُجُوبَهُ عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَهَذَا مَا صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ.
وَدَلِيلُ وُجُوبِ تَعْلِيمِ الصَّغِيرِ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةَ: مَعْنَاهُ عَلِّمُوهُمْ مَا يَنْجُونَ بِهِ مِنَ النَّارِ «وَهَذَا ظَاهِرٌ» وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ الصَّبِيَّ أَمَانَةٌ عِنْدَ وَالِدَيْهِ، وَقَلْبُهُ الطَّاهِرُ جَوْهَرَةٌ نَفِيسَةٌ سَاذَجَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ كُلِّ نَقْشٍ وَصُورَةٍ، وَهُوَ قَابِلٌ لِكُلِّ نَقْشٍ، وَقَابِلٌ لِكُلِّ مَا يُمَالُ بِهِ إِلَيْهِ، فَإِنْ عُوِّدَ الْخَيْرَ وَعُلِّمَهُ نَشَأَ عَلَيْهِ وَسَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، يُشَارِكُهُ فِي ثَوَابِهِ أَبَوَاهُ وَكُلُّ مُعَلِّمٍ لَهُ وَمُؤَدِّبٍ، وَإِنْ عُوِّدَ الشَّرَّ وَأُهْمِلَ شَقِيَ وَهَلَكَ، وَكَانَ الْوِزْرُ فِي رَقَبَةِ الْقَيِّمِ بِهِ وَالْوَلِيِّ عَلَيْهِ.وَمَهْمَا كَانَ الْأَبُ يَصُونُ وَلَدَهُ مِنْ نَارِ الدُّنْيَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَصُونَهُ مِنْ نَارِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ أَوْلَى، وَصِيَانَتُهُ بِأَنْ يُؤَدِّبَهُ وَيَهْدِيَهُ وَيُعَلِّمَهُ مَحَاسِنَ الْأَخْلَاقِ، وَيَحْفَظَهُ مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ، وَلَا يُعَوِّدَهُ التَّنَعُّمَ، وَلَا يُحَبِّبَ إِلَيْهِ الزِّينَةَ وَأَسْبَابَ الرَّفَاهِيَةِ فَيُضَيِّعُ عُمْرَهُ فِي طَلَبِهَا إِذَا كَبِرَ وَيَهْلَكُ هَلَاكَ الْأَبَدِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَلِّمَهُ أَيْضًا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ: السِّبَاحَةِ وَالرَّمْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَنْفَعُهُ فِي كُلِّ زَمَانٍ بِحَسَبِهِ.قَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: عَلِّمُوا أَوْلَادَكُمُ السِّبَاحَةَ وَالرِّمَايَةَ، وَمُرُوهُمْ فَلْيَثِبُوا عَلَى الْخَيْلِ وَثْبًا.
هَذَا وَلِلتَّفْصِيلِ فِي الْعِلْمِ الْمَحْمُودِ وَالْعِلْمِ الْمَذْمُومِ، وَأَقْسَامِهِمَا وَأَحْكَامِهِمَا، وَمَا هُوَ يَتَعَيَّنُ طَلَبُهُ وَتَعَلُّمُهُ وَمَا هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ (ر: عِلْمٌ)
تَعْلِيمُ النِّسَاءِ:
12- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ تَعْلِيمِ النِّسَاءِ الْقُرْآنَ وَالْعُلُومَ وَالْآدَابَ.وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ قِيَامِ الْمُتَأَهِّلَةِ مِنَ النِّسَاءِ بِتَعْلِيمِ عُلُومِ الشَّرْعِ، كَمَا كَانَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- وَنِسَاءٌ تَابِعَاتٌ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنِسَاءِ نَبِيِّهِ- عليه الصلاة والسلام-: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيمُ النِّسَاءِ مَعَ مُرَاعَاةِ آدَابِ أَمْرِ الشَّارِعِ الْمَرْأَةَ بِالْتِزَامِهَا لِلْحِفَاظِ عَلَى عِرْضِهَا وَشَرَفِهَا وَعِفَّتِهَا، مِنْ عَدَمِ الِاخْتِلَاطِ بِالرِّجَالِ، وَعَدَمِ التَّبَرُّجِ، وَعَدَمِ الْخُضُوعِ بِالْقَوْلِ إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ حَاجَةٌ لِلْكَلَامِ مَعَ الْأَجَانِبِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: اخْتِلَاطٌ، أُنُوثَةٌ، تَبَرُّجٌ، حِجَابٌ، عَوْرَةٌ).وَيَجِبُ تَعْلِيمُ النِّسَاءِ الْعُلُومَ الَّتِي تُعْتَبَرُ ضَرُورِيَّةً بِالنِّسْبَةِ لِلْأُنْثَى كَطِبِّ النِّسَاءِ.قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ: إِذَا كَانَ الْمَرَضُ فِي سَائِرِ بَدَنِ الْمَرْأَةِ يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهِ عِنْدَ الدَّوَاءِ، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعِ الْفَرْجِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَلِّمَ امْرَأَةً تُدَاوِيهَا..قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ «يَنْبَغِي» هُنَا لِلْوُجُوبِ.وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: تَطْبِيبٌ، وَتَدَاوِي).هَذَا وَيَرَى أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَدَمَ الْكَرَاهَةِ فِي تَعْلِيمِ النِّسَاءِ الْكِتَابَةَ كَالرَّجُلِ.فَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الشِّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنها-.قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا عِنْدَ حَفْصَةَ فَقَالَ: أَلَا تُعَلِّمِينَ هَذِهِ رُقْيَةَ النَّمْلَةِ كَمَا عَلَّمْتِهَا الْكِتَابَةَ».
قَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الْمُنْتَقَى: وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعَلُّمِ النِّسَاءِ الْكِتَابَةَ.
وَقَدْ سَرَدَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ الْأَحَادِيثَ الَّتِي يُؤْخَذُ مِنْ ظَاهِرِهَا النَّهْيُ عَنْ تَعْلِيمِ النِّسَاءِ الْكِتَابَةَ، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ ضَعَّفَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ، أَوْ أَعَلَّهَا بِالْوَضْعِ.
الضَّرْبُ لِلتَّعْلِيمِ:
13- لِلْمُعَلِّمِ ضَرْبُ الصَّبِيِّ الَّذِي يَتَعَلَّمُ عِنْدَهُ لِلتَّأْدِيبِ.وَبِتَتَبُّعِ عِبَارَاتِ الْفُقَهَاءِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمْ يُقَيِّدُونَ حَقَّ الْمُعَلِّمِ فِي ضَرْبِ الصَّبِيِّ الْمُتَعَلِّمِ بِقُيُودٍ مِنْهَا:
أ- أَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ مُعْتَادًا لِلتَّعْلِيمِ كَمًّا وَكَيْفًا وَمَحَلًّا، يَعْلَمُ الْمُعَلَّمُ الْأَمْنَ مِنْهُ، وَيَكُونُ ضَرْبُهُ بِالْيَدِ لَا بِالْعَصَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَ الثَّلَاثَ، رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- عليه الصلاة والسلام- قَالَ لِمِرْدَاسٍ الْمُعَلِّمِ- رضي الله عنه-: إِيَّاكَ أَنْ تَضْرِبَ فَوْقَ الثَّلَاثِ، فَإِنَّكَ إِذَا ضَرَبْتَ فَوْقَ الثَّلَاثِ اقْتَصَّ اللَّهُ مِنْكَ»
ب- أَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ، لِأَنَّ الضَّرْبَ عِنْدَ التَّعْلِيمِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ، وَإِنَّمَا الضَّرْبُ عِنْدَ سُوءِ الْأَدَبِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ التَّعْلِيمِ فِي شَيْءٍ، وَتَسْلِيمُ الْوَلِيِّ صَبِيَّهُ إِلَى الْمُعَلِّمِ لِتَعْلِيمِهِ لَا يُثْبِتُ الْإِذْنَ فِي الضَّرْبِ، فَلِهَذَا لَيْسَ لَهُ الضَّرْبُ، إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِيهِ نَصًّا.
وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلُهُمْ: الْإِجْمَاعُ الْفِعْلِيُّ مُطَّرِدٌ بِجَوَازِ ذَلِكَ بِدُونِ إِذْنِ الْوَلِيِّ.
ج- أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ يَعْقِلُ التَّأْدِيبَ، فَلَيْسَ لِلْمُعَلِّمِ ضَرْبُ مَنْ لَا يَعْقِلُ التَّأْدِيبَ مِنَ الصِّبْيَانِ
قَالَ الْأَثْرَمُ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ ضَرْبِ الْمُعَلِّمِ الصِّبْيَانَ، قَالَ: عَلَى قَدْرِ ذُنُوبِهِمْ، وَيَتَوَقَّى بِجَهْدِهِ الضَّرْبَ وَإِذَا كَانَ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ فَلَا يَضْرِبُهُ.
ضَمَانُ ضَرْبِ التَّعْلِيمِ:
14- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُعَلِّمَ إِذَا أَدَّبَ صَبِيَّهُ الْأَدَبَ الْمَشْرُوعَ فَمَاتَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.وَبِهَذَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ.إِلاَّ أَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ لِنَفْيِ الضَّمَانِ أَنْ يَكُونَ الضَّرْبُ قَدْ حَصَلَ بِإِذْنِ الْأَبِ أَوِ الْوَصِيِّ، فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الضَّرْبِ الْمُعْتَادِ كَمًّا وَكَيْفًا وَمَحَلًّا، فَإِذَا ضَرَبَ الْمُعَلِّمُ صَبِيًّا يَتَعَلَّمُ مِنْهُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْأَبِ أَوِ الْوَصِيِّ ضَمِنَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الضَّرْبِ، وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْهُ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ مَاتَ الْمُتَعَلِّمُ مِنْ ضَرْبِ الْمُعَلِّمِ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ وَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ وَكَانَ مِثْلُهُ مُعْتَادًا لِلتَّعْلِيمِ، لِأَنَّهُ مَشْرُوطٌ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ؛ إِذِ الْمَقْصُودُ التَّأْدِيبُ لَا الْهَلَاكُ، فَإِذَا حَصَلَ بِهِ هَلَاكٌ تَبَيَّنَ أَنَّهُ جَاوَزَ الْحَدَّ الْمَشْرُوعَ.وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: تَأْدِيبٌ.ضَمَانٌ.قَتْلٌ).
الِاسْتِئْجَارُ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ:
15- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي جَوَازِ أَخْذِ الرِّزْقِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَتَدْرِيسِ عِلْمٍ نَافِعٍ مِنْ حَدِيثٍ وَفِقْهٍ وَنَحْوِهِمَا؛ لِأَنَّ هَذَا الرِّزْقَ لَيْسَ أُجْرَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ هُوَ كَالْأُجْرَةِ.
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الِاسْتِئْجَارِ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ: فَيَرَى مُتَقَدِّمُو الْحَنَفِيَّةِ- وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- عَدَمَ صِحَّةِ الِاسْتِئْجَارِ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ، كَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ.لِحَدِيثِ «عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ- رضي الله عنه- قَالَ: عَلَّمْتُ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الْقُرْآنَ وَالْكِتَابَةَ، فَأَهْدَى إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَوْسًا.قَالَ: قُلْتُ: قَوْسٌ، وَلَيْسَ بِمَالٍ.قَالَ: قُلْتُ: أَتَقَلَّدُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَجُلٌ أَهْدَى إِلَيَّ قَوْسًا مِمَّنْ كُنْتُ أُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْقُرْآنَ، وَلَيْسَتْ بِمَالٍ، وَأَرْمِي عَنْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ: إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُطَوَّقَ طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا».
وَحَدِيثُ «أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ- رضي الله عنه-، أَنَّهُ عَلَّمَ رَجُلًا سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ، فَأَهْدَى لَهُ خَمِيصَةً أَوْ ثَوْبًا، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنَّكَ لَوْ لَبِسْتَهَا لأَلْبَسَكَ اللَّهُ مَكَانَهَا ثَوْبًا مِنْ نَارٍ» وَلِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ لِعَمَلٍ مَفْرُوضٍ، فَلَا يَجُوزُ، كَالِاسْتِئْجَارِ لِلصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ الِاسْتِيفَاءِ فِي حَقِّ الْأَجِيرِ، لِتَعَلُّقِهِ بِالْمُتَعَلِّمِ، فَأَشْبَهَ الِاسْتِئْجَارَ لِحَمْلِ خَشَبَةٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِهَا بِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّ الِاسْتِئْجَارَ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ سَبَبٌ لِتَنْفِيرِ النَّاسِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ، لِأَنَّ ثِقَلَ الْأَجْرِ يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ اللَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} فَيُؤَدِّي إِلَى الرَّغْبَةِ عَنْ هَذِهِ الطَّاعَةِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ.
وَذَهَبَ مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ- وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى عِنْدَهُمْ- وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- يُؤْخَذُ مِمَّا نَقَلَهُ أَبُو طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ- إِلَى جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ، لِخَبَرِ: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَنْ سَأَلْتُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يَرَى بِتَعْلِيمِ الْغِلْمَانِ بِالْأَجْرِ بَأْسًا.
وَلِأَنَّ الْحُفَّاظَ وَالْمُعَلِّمِينَ- نَظَرًا لِعَدَمِ وُجُودِ عَطِيَّاتٍ لَهُمْ فِي بَيْتِ الْمَالِ- رُبَّمَا اشْتَغَلُوا بِمَعَاشِهِمْ، فَلَا يَتَفَرَّغُونَ لِلتَّعْلِيمِ حِسْبَةً، إِذْ حَاجَتُهُمْ تَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ يُفْتَحْ لَهُمْ بَابُ التَّعْلِيمِ بِالْأَجْرِ لَذَهَبَ الْعِلْمُ وَقَلَّ حُفَّاظُ الْقُرْآنِ.
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: التَّعْلِيمُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِهَؤُلَاءِ السَّلَاطِينِ، وَمِنْ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِرَجُلٍ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ فِي ضَيْعَةٍ، وَمِنْ أَنْ يَسْتَدِينَ وَيَتَّجِرَ، لَعَلَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ فَيَلْقَى اللَّهَ بِأَمَانَاتِ النَّاسِ.وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: جَوَازُ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، أَمَّا الْإِجَارَةُ عَلَى تَعْلِيمِ الْفِقْهِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلُومِ، كَالنَّحْوِ وَالْأُصُولِ وَالْفَرَائِضِ فَإِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ عِنْدَهُمْ.وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ جَوَازِ الْإِجَارَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَكَرَاهَتِهَا عَلَى تَعْلِيمِ غَيْرِهِ: بِأَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا عَدَاهُ مِمَّا هُوَ ثَابِتٌ بِالِاجْتِهَادِ، فَإِنَّ فِيهِ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ.وَأَيْضًا فَإِنَّ تَعْلِيمَ الْفِقْهِ بِأُجْرَةٍ لَيْسَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ، كَمَا أَنَّ أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِهِ يُؤَدِّي إِلَى تَقْلِيلِ طَالِبِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ- عَلَى الْأَصَحِّ- إِلَى جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ بِشَرْطِ تَعْيِينِ السُّورَةِ وَالْآيَاتِ الَّتِي يَعْلَمُهَا، فَإِنْ أَخَلَّ بِأَحَدِهِمَا لَمْ يَصِحَّ.وَقِيلَ: لَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.أَمَّا الِاسْتِئْجَارُ لِتَدْرِيسِ الْعِلْمِ فَقَالُوا: بِعَدَمِ جَوَازِهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِئْجَارُ لِتَعْلِيمِ مَسْأَلَةٍ أَوْ مَسَائِلَ مَضْبُوطَةٍ، فَيَجُوزُ.
وَقَدْ فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ الْقَوْلَ فِي شُرُوطِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ، عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الطَّاعَاتِ، يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي أَبْوَابِ (الْإِجَارَةِ) مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ
الِاسْتِئْجَارُ عَلَى تَعْلِيمِ الْحِرَفِ وَالْعُلُومِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ:
16- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى تَعْلِيمِ الْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ الْمُبَاحَةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَصَالِحُ الدُّنْيَوِيَّةُ، كَخِيَاطَةٍ وَحِدَادَةٍ وَبِنَاءٍ وَزَرْعٍ وَنَسِيجٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْعُلُومِ سِوَى الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ الْبَحْتَةِ، كَاللُّغَةِ وَالْآدَابِ، لِأَنَّهَا تَارَةً تَقَعُ قُرْبَةً وَتَارَةً تَقَعُ غَيْرَ قُرْبَةٍ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنَ الِاسْتِئْجَارِ عَلَيْهِ لِفِعْلِهِ، كَغَرْسِ الْأَشْجَارِ وَبِنَاءِ الْبُيُوتِ، لِكَوْنِ فَاعِلِهَا لَا يَخْتَصُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ الْإِجَارَةِ عَلَى تَعْلِيمِ مِثْلِ هَذِهِ الْعُلُومِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ فِي شُرُوطِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى تَعْلِيمِ الْحِرَفِ وَالْعُلُومِ (ر: مُصْطَلَحَ إِجَارَةٍ ف 151 ج 1)
تَعْلِيمُ عُلُومٍ مُحَرَّمَةٍ:
17- لَا يَجُوزُ تَعْلِيمُ عُلُومٍ مُحَرَّمَةٍ، كَالْكِهَانَةِ وَالتَّنْجِيمِ وَالضَّرْبِ بِالرَّمْلِ وَبِالشَّعِيرِ وَبِالْحِمَّصِ، وَالشَّعْبَذَةِ، وَعُلُومِ طَبَائِعَ وَسِحْرٍ وَطَلْسَمَاتٍ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِمَنْ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهَا وَتَلْبِيسَاتٍ.فَتَعْلِيمُ كُلِّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَأَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهَا حَرَامٌ بِنَصِّ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي النَّهْيِ عَنْ «حُلْوَانِ الْكَاهِنِ» وَالْبَاقِي فِي مَعْنَاهُ. هَذَا، وَلَيْسَ مِنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ تَعْلِيمُ وَتَعَلُّمُ عِلْمِ النُّجُومِ لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ وَالْقِبْلَةِ وَاخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: عِلْمٌ).
تَعْلِيمُ الْجَوَارِحِ:
18- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِحِلِّ مَا قَتَلَتْهُ الْجَوَارِحُ مِنَ الصَّيْدِ: كَوْنُ الْجَارِحِ مُعَلَّمًا، لقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} حَيْثُ إِنَّ النَّصَّ يَنْطِقُ بِاشْتِرَاطِ التَّعْلِيمِ، وَقَوْلُهُ- عليه الصلاة والسلام-: «إِذَا أَرْسَلْتَ كِلَابَكَ الْمُعَلَّمَةَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ، وَإِنْ قَتَلْنَ، إِلاَّ أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ خَالَطَهَا كَلْبٌ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا تَأْكُلْ».وَلِأَنَّ الْجَارِحَ إِنَّمَا يَصِيرُ آلَةً بِالتَّعْلِيمِ، لِيَكُونَ عَامِلًا لِلصَّائِدِ بِمَا يُرِيدُ مِنَ الصَّيْدِ، فَيَسْتَرْسِلُ بِإِرْسَالِهِ، وَيُمْسِكُ الصَّيْدَ عَلَى صَاحِبِهِ، لَا لِنَفْسِهِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ فِي صِفَةِ الْجَارِحِ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يُصَادَ بِهِ وَشُرُوطِ تَعْلِيمِهِ وَضَبْطِ تَعْلِيمِهِ يُنْظَرُ: مُصْطَلَحُ: (صَيْدٌ)
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
47-موسوعة الفقه الكويتية (تغيير)
تَغْيِيرٌالتَّعْرِيفُ:
1- مِنْ مَعَانِي التَّغْيِيرِ فِي اللُّغَةِ: التَّحْوِيلُ.يُقَالُ: غَيَّرْتُ الشَّيْءَ عَنْ حَالِهِ أَيْ حَوَّلْتُهُ وَأَزَلْتُهُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ.وَيُقَالُ: غَيَّرْتُ الشَّيْءَ فَتَغَيَّرَ، وَغَيَّرَهُ إِذَا بَدَّلَهُ، كَأَنَّهُ جَعَلَهُ غَيْرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ.وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.قَالَ ثَعْلَبٌ: مَعْنَاهُ حَتَّى يُبَدِّلُوا مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ.وَغَيَّرَ عَلَيْهِ الْأَمْرَ حَوَّلَهُ، وَتَغَايَرَتِ الْأَشْيَاءُ اخْتَلَفَتْ.
وَمَعْنَاهُ الِاصْطِلَاحِيُّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لَا يَخْرُجُ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
(الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ):
أ- التَّبْدِيلُ:
2- التَّبْدِيلُ مِنْ بَدَّلْتُ الشَّيْءَ تَبْدِيلًا بِمَعْنَى غَيَّرْتُ صُورَتَهُ تَغْيِيرًا، وَأَبْدَلْتُهُ بِكَذَا إِبْدَالًا نَحَّيْتُ الْأَوَّلَ، وَجَعَلْتُ الثَّانِيَ مَكَانَهُ.
وَفَرَّقَ الْأُصُولِيُّونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بَيْنَ بَيَانِ التَّغْيِيرِ وَبَيَانِ التَّبْدِيلِ.فَقَالُوا: بَيَانُ التَّغْيِيرِ هُوَ الْبَيَانُ الَّذِي فِيهِ تَغْيِيرٌ لِمُوجِبِ اللَّفْظِ مِنَ الْمَعْنَى الظَّاهِرِ إِلَى غَيْرِهِ.وَذَلِكَ كَالتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ الْمُؤَخَّرِ فِي الذِّكْرِ، كَمَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ.وَبَيَانُ التَّبْدِيلِ بَيَانُ انْتِهَاءِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَرَاخٍ، وَهُوَ النَّسْخُ
(الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ):
يَخْتَلِفُ حُكْمُ التَّغْيِيرِ بِاخْتِلَافِ مَوْضِعِهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
تَغَيُّرُ أَوْصَافِ الْمَاءِ فِي الطَّهَارَةِ:
3- أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي غَيَّرَتِ النَّجَاسَةُ طَعْمَهُ أَوْ لَوْنَهُ أَوْ رِيحَهُ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ وَلَا التَّطَهُّرُ بِهِ، كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ الْمُسْتَبْحَرَ لَا تَضُرُّهُ النَّجَاسَةُ الَّتِي لَمْ تُغَيِّرْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ الثَّلَاثَةِ.
كَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُغَيِّرُ الْمَاءَ- مِمَّا لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا كَالطِّينِ- أَنَّهُ لَا يَسْلُبُهُ صِفَةَ الطَّهَارَةِ أَوِ التَّطْهِيرِ، إِلاَّ خِلَافًا شَاذًّا رُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ فِي الْمَاءِ الْآسِنِ.
وَأَمَّا الْمَاءُ الَّذِي خَالَطَهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ الَّتِي تَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا مَتَى غَيَّرَتْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنَّهُ طَاهِرٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ.وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي طَهُورِيَّتِهِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُطَهِّرٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، بَلْ يُضَافُ إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي خَالَطَهُ، فَيُقَالُ مَثَلًا: مَاءُ زَعْفَرَانٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مُطَهِّرٌ مَا لَمْ يَكُنِ التَّغَيُّرُ عَنْ طَبْخٍ.أَمَّا الْمُتَغَيِّرُ بِالطَّبْخِ مَعَ شَيْءٍ طَاهِرٍ فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ وَلَا التَّطَهُّرُ بِهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَاءِ غَيْرِ الْمُسْتَبْحَرِ إِذَا خَالَطَتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَاءِ الْقَلِيلِ وَالْمَاءِ الْكَثِيرِ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَ قَلِيلًا أَصْبَحَ نَجِسًا، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَمْ يَكُنْ نَجِسًا.وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فِي الْحَدِّ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، فَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ مِنَ الْكَثْرَةِ بِحَيْثُ إِذَا حَرَّكَهُ آدَمِيٌّ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيْهِ لَمْ تَسْرِ الْحَرَكَةُ إِلَى الطَّرَفِ الثَّانِي مِنْهُ، أَمَّا إِذَا سَرَتِ الْحَرَكَةُ فِيهِ فَهُوَ قَلِيلٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ فِي ذَلِكَ هُوَ قُلَّتَانِ مِنْ قِلَالِ هَجَرَ، مُسْتَدِلِّينَ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ» وَفِي لَفْظٍ «لَمْ يَنْجُسْ».
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَمْ يَحُدَّ فِي ذَلِكَ حَدًّا وَقَالَ: إِنَّ النَّجَاسَةَ تُفْسِدُ قَلِيلَ الْمَاءِ وَإِنْ لَمْ تُغَيِّرْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ هَذَا الْمَاءَ مَكْرُوهٌ.وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ- وَمِنْهُمُ الْمَالِكِيَّةُ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ- إِلَى أَنَّهُ طَاهِرٌ سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا.
وَانْظُرْ لِتَفْصِيلِ ذَلِكَ الْخِلَافِ فِي بَحْثِ (مِيَاهٌ).
تَغْيِيرُ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ:
4- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَغْيِيرَ النِّيَّةِ فِي الصَّلَاةِ، وَنَقْلَهَا مِنْ فَرْضٍ إِلَى آخَرَ، أَوْ مِنْ فَرْضٍ إِلَى نَفْلٍ عَالِمًا عَامِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ.
وَتُنْظَرُ تَفَاصِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مُصْطَلَحِ (تَحْوِيلٌ، وَنِيَّةٌ).
تَغَيُّرُ حَالَةِ الْإِنْسَانِ التَّكْلِيفِيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ:
5- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَغَيَّرَتْ حَالَةُ الْإِنْسَانِ التَّكْلِيفِيَّةِ، كَأَنْ طَهُرَتِ الْحَائِضُ أَوِ النُّفَسَاءُ، أَوْ بَلَغَ الطِّفْلُ، أَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ، أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ أَوِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، أَوْ أَقَامَ الْمُسَافِرُ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُ فِيهِ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ.وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا حَصَلَ هَذَا التَّغَيُّرُ فِي الْعَصْرِ أَوِ الْعِشَاءِ، هَلْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ صَلَاةُ الظُّهْرِ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى، وَصَلَاةُ الْمَغْرِبِ فِي الثَّانِيَةِ؟
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى وُجُوبِ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الثَّانِيَةِ وَقْتُ الْأُولَى حَالَ الْعُذْرِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ إِلاَّ الصَّلَاةُ الَّتِي زَالَتْ فِي وَقْتِهَا الْأَسْبَابُ الْمَانِعَةُ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْأُولَى خَرَجَ فِي حَالِ عُذْرِهِمْ.
وَاخْتَلَفُوا كَذَلِكَ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ بِمِقْدَارِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْ آخِرِ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ التَّحْرِيمَةَ فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ، وَإِلاَّ فَلَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ بِمِقْدَارِ رَكْعَةٍ فَأَكْثَرَ، وَهُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْ آخِرِ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ رَكْعَةً فَأَكْثَرَ فَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ، وَإِلاَّ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
وَتَجِبُ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، إِذَا أَدْرَكَ مِنْ آخِرِ الْعَصْرِ أَوِ الْعِشَاءِ مَا يَتَّسِعُ لِخَمْسِ رَكَعَاتٍ فِي الْحَضَرِ وَثَلَاثَ رَكَعَاتٍ فِي السَّفَرِ.
وَاخْتَلَفُوا كَذَلِكَ فِيمَا إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ أَوْ نَفِسَتْ أَوْ جُنَّ الْعَاقِلُ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ- وَقَدْ مَضَى مِنَ الْوَقْتِ قَدْرٌ يَتَّسِعُ لِلْفَرْضِ- فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ الَّتِي أَدْرَكَ بَعْضَ وَقْتِهَا، وَكَذَلِكَ الَّتِي قَبْلَهَا إِنْ كَانَتْ تَجْمَعُ مَعَهَا وَأَدْرَكَ قَدْرَ مَا يَتَّسِعُ لَهَا أَيْضًا، لِأَنَّ وَقْتَ الثَّانِيَةِ وَقْتُ الْأُولَى فِي حَالِ الْجَمْعِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ حُدُوثَ هَذِهِ الْأَعْذَارِ يُسْقِطُ الْفَرْضَ، وَإِنْ طَرَأَتْ فِي آخِرِ الْوَقْتِ.
وَيُتَصَوَّرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حُدُوثُ الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، بِخِلَافِ الْكُفْرِ وَالصِّبَا فَلَا يُتَصَوَّرُ حُدُوثُ الصِّبَا، لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ، أَمَّا حُدُوثُ الْكُفْرِ- وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ- فَهُوَ رِدَّةٌ لَا تُسْقِطُ لُزُومَ الْقَضَاءِ إِلاَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةِ بُلُوغِ الطِّفْلِ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ- وَقَدْ صَلاَّهَا وَفَرَغَ مِنْهَا- أَوْ بَلَغَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ فِي صَوْمِهِ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ (بُلُوغٌ، صَلَاةٌ، صَوْمٌ) تَغَيُّرُ الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ:
6- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْمُصَلِّي فِي الْقِبْلَةِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى- وَكَانَ فِي الصَّلَاةِ- اسْتَدَارَ إِلَى الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ وَأَتَمَّ الصَّلَاةَ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ لَمَّا بَلَغَهُمْ تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ اسْتَدَارُوا كَهَيْئَتِهِمْ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَأَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالْإِعَادَةِ»،، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ الْمُؤَدَّاةَ إِلَى جِهَةِ التَّحَرِّي مُؤَدَّاةٌ إِلَى الْقِبْلَةِ لِأَنَّهَا هِيَ الْقِبْلَةُ، حَالَ الِاشْتِبَاهِ، وَلِأَنَّ تَبَدُّلَ الرَّأْيِ فِي مَعْنَى انْتِسَاخِ النَّصِّ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْعَمَلِ بِالْمَنْسُوخِ فِي زَمَانِ مَا قَبْلَ النَّسْخِ.
وَيَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ لِهَذَا شَرْطَيْنِ أَوَّلُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي أَعْمَى، وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ انْحِرَافُهُ عَنِ الْقِبْلَةِ قَبْلَ تَغَيُّرِ الِاجْتِهَادِ يَسِيرًا، أَمَّا إِذَا كَانَ بَصِيرًا أَوْ كَانَ انْحِرَافُهُ عَنِ الْقِبْلَةِ كَثِيرًا، فَيَقْطَعُ صَلَاتَهُ وُجُوبًا، وَيُصَلِّي إِلَى الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ.
وَيَرَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَمِنْهُمُ الْآمِدِيُّ أَنَّهُ لَا يَنْقُلُ مِنْ جِهَتِهِ الْأُولَى، وَيَمْضِي عَلَى اجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ، لِئَلاَّ يُنْقِضَ الِاجْتِهَادَ بِالِاجْتِهَادِ.وَإِنْ كَانَ تَغَيُّرُ الِاجْتِهَادِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنِ الْخَطَأُ يَقِينًا، فَلَا يُعِيدُ Bمَا صَلَّى بِالْأَوَّلِ بِلَا خِلَافٍ.أَمَّا إِذَا ثَبَتَ الْخَطَأُ يَقِينًا فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُعِيدُهَا إِنْ فَرَغَ مِنْهَا وَلَمْ يَزَلْ فِي وَقْتِهَا، وَيَقْضِيهَا بَعْدَ الْوَقْتِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ مَرْجُوحٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: لَا يُعِيدُهَا إِنْ فَرَغَ مِنْهَا سَوَاءٌ كَانَ فِي الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ.
تَغْيِيرُ نِصَابِ الزَّكَاةِ فِي الْحَوْلِ:
7- أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ بَيْعَ النِّصَابِ مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ بِمِثْلِهِ أَثْنَاءَ الْحَوْلِ لَا يَقْطَعُ الْحَوْلَ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي قِيمَةِ الْعُرُوضِ لَا فِي نَفْسِهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَاعَ نِصَابًا لِلزَّكَاةِ مِمَّا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ بِجِنْسِهِ كَالْإِبِلِ بِالْإِبِلِ، أَوِ الْبَقَرِ بِالْبَقَرِ، أَوِ الْغَنَمِ بِالْغَنَمِ، أَوِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، أَوِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، لَمْ يَنْقَطِعِ الْحَوْلُ وَبَنَى حَوْلَ الْبَدَلِ عَلَى حَوْلِ النِّصَابِ الْأَوَّلِ (الْمُبْدَلِ مِنْهُ) لِأَنَّهُ نِصَابٌ يُضَمُّ نَمَاؤُهُ فِي الْحَوْلِ، فَبَنَى حَوْلَ بَدَلِهِ مِنْ جِنْسِهِ عَلَى حَوْلِهِ كَالْعُرُوضِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَوْلَ يَنْقَطِعُ بِهَذِهِ الْمُبَادَلَةِ مَا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ، فَلَا يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ إِلاَّ فِي الصَّرْفِ فَيَنْقَطِعُ، وَيُسْتَأْنَفُ حَوْلٌ جَدِيدٌ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ».
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَقَدْ وَافَقُوا الْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ فِي الْأَثْمَانِ، وَوَافَقُوا الشَّافِعِيَّةَ فِيمَا سِوَاهَا، لِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ فِي الْأَثْمَانِ عِنْدَهُمْ، لِكَوْنِهَا ثَمَنًا، بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ الْأُخْرَى.
أَمَّا إِذَا بَاعَ نِصَابًا لِلزَّكَاةِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، كَإِبِلٍ بِبَقَرٍ، فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى انْقِطَاعِ الْحَوْلِ وَاسْتِئْنَافِ حَوْلٍ جَدِيدٍ، إِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا فِرَارًا مِنَ الزَّكَاةِ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (زَكَاةٌ).
تَغْيِيرُ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ فِي النِّكَاحِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ وَالدِّينِ:
8- إِذَا خَطَبَ الرَّجُلُ امْرَأَةً بِعَيْنِهَا، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ أُوجِبَ لَهُ النِّكَاحُ فِي غَيْرِهَا، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا الَّتِي خَطَبَهَا فَقَبِلَ، فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ.
لِأَنَّ الْقَبُولَ انْصَرَفَ إِلَى غَيْرِ مَنْ وَجَدَ الْإِيجَابَ فِيهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
وَلَوْ نَكَحَ، وَشَرَطَ فِيهَا إِسْلَامًا، أَوْ فِي أَحَدِهِمَا نَسَبًا أَوْ حُرِّيَّةً أَوْ بَكَارَةً أَوْ شَبَابًا أَوْ تَدَيُّنًا فَأُخْلِفَ، فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ صِحَّةُ النِّكَاحِ.قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لِأَنَّ الْخُلْفَ فِي الشَّرْطِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ مَعَ تَأَثُّرِهِ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، فَالنِّكَاحُ أَوْلَى.
قَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ أَوِ الْوَصْفِ الْمَرْغُوبِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ مَرْجُوحٍ عِنْدَهُمْ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ النِّكَاحِ، لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ الصِّفَاتِ فَتَبَدُّلُهَا كَتَبَدُّلِ الْعَيْنِ.
وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا عَتَقَتِ الْأَمَةُ- وَزَوْجُهَا عَبْدٌ- فَلَهَا الْخِيَارُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ لِخَبَرِ بَرِيرَةَ- رضي الله عنها-.قَالَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- «كَاتَبَتْ بَرِيرَةَ فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي زَوْجِهَا، وَكَانَ عَبْدًا فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا».وَلِأَنَّ عَلَيْهَا ضَرَرًا فِي كَوْنِهَا حُرَّةً تَحْتَ عَبْدٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا عَتَقَتْ وَزَوْجُهَا حُرٌّ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهَا، لِأَنَّهَا كَافَأَتْ زَوْجَهَا فِي الْكَمَالِ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهَا الْخِيَارُ.
وَذَهَبَ طَاوُسٍ وَابْنُ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ.وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ حُرًّا، كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ.
وَأَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى بَقَاءِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ الَّتِي أَسْلَمَ زَوْجُهَا، سَوَاءٌ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، لِأَنَّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبْتَدِئَ نِكَاحَ كِتَابِيَّةٍ، فَاسْتِدَامَتُهُ أَوْلَى.كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَتِ الْكِتَابِيَّةُ قَبْلَ زَوْجِهَا، وَقَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا تَعَجَّلَتِ الْفُرْقَةَ، سَوَاءٌ كَانَ زَوْجُهَا كِتَابِيًّا أَمْ مَجُوسِيًّا أَوْ غَيْرَهُمَا، إِذْ لَا يَجُوزُ لِكَافِرٍ نِكَاحُ مُسْلِمَةٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْوَثَنِيَّيْنِ أَوِ الْمَجُوسِيَّيْنِ، أَوْ كِتَابِيٌّ مُتَزَوِّجٌ بِوَثَنِيَّةٍ.
وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِسْلَامٌ، وَنِكَاحٌ).
تَغْيِيرُ الْمَغْصُوبِ:
9- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَغْيِيرِ الْمَغْصُوبِ.
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: إِنْ غَيَّرَ الْمَغْصُوبَ فَزَالَ اسْمُهُ وَأَعْظَمُ مَنَافِعِهِ، كَطَحْنِ حِنْطَةٍ، ضَمِنَهُ الْغَاصِبُ وَمَلَكَهُ، بِلَا حِلِّ انْتِفَاعٍ قَبْلَ أَدَاءِ ضَمَانِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ التَّغْيِيرُ قَدْ زَادَ مِنْ قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ، فَهُوَ لِلْمَالِكِ وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ بِسَبَبِهَا، إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ أَثَرًا مَحْضًا، وَإِنْ نَقَصَ مِنَ الْمَغْصُوبِ فَعَلَى الْغَاصِبِ رَدُّهُ وَأَرْشُ النَّقْصِ.وَالتَّفَاصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (غَصْبٌ):
تَغَيُّرُ حَالَةِ الْجَانِي أَوِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ:
10- إِذَا تَغَيَّرَ حَالُ الْجَانِي أَوِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ أَوِ الْعَكْسِ، فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ أَوْ عَدَمِهِ، وَمِقْدَارِ الدِّيَةِ مَذَاهِبُ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مَبَاحِثِ (الدِّيَةِ، وَالْقِصَاصِ).
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
48-موسوعة الفقه الكويتية (تفاؤل)
تَفَاؤُلٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّفَاؤُلُ: أَنْ تَسْمَعَ كَلَامًا حَسَنًا فَتَتَيَمَّنَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا فَهُوَ الطِّيَرَةُ، يُقَالُ: فَأَلَ بِهِ تَفْئِيلًا جَعَلَهُ يَتَفَاءَلُ بِهِ، وَتَفَأَّلَ بِهِ بِالتَّشْدِيدِ تَفَؤُّلًا.وَتَفَاءَلَ تَفَاؤُلًا، وَيُسْتَعْمَلُ غَالِبًا فِي الْخَيْرِ، وَفِي الْأَثَرِ: «لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الصَّالِحُ».وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرِّ أَيْضًا، يُقَالُ: لَا فَأْلَ عَلَيْكَ أَيْ لَا ضَيْرَ عَلَيْكَ، وَجَاءَ فِي الْأَثَرِ: «ذُكِرَتِ الطِّيَرَةُ عِنْدَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: خَيْرُهَا الْفَأْلُ».وَصَحَّ عَنْهُ- عليه الصلاة والسلام-: «لَا طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ».
وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.وَقَدْ عَرَّفَهُ الْقَرَافِيُّ بِأَنَّهُ: مَا يُظَنُّ عِنْدَهُ الْخَيْرُ.عَكْسُ الطِّيَرَةِ وَالتَّطَيُّرِ.غَيْرَ أَنَّهُ تَارَةً يَتَعَيَّنُ لِلْخَيْرِ، وَتَارَةً لِلشَّرِّ، وَتَارَةً يَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا، فَالْمُتَعَيَّنُ لِلْخَيْرِ مِثْلُ الْكَلِمَةِ الْحَسَنَةِ يَسْمَعُهَا الرَّجُلُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ.نَحْوُ: يَا فَلَاحُ، يَا مَسْعُودُ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّبَرُّكُ:
2- التَّبَرُّكُ: طَلَبُ ثُبُوتِ الْخَيْرِ الْإِلَهِيِّ فِي الشَّيْءِ.سُمِّيَتْ بَرَكَةً لِثُبُوتِ الْخَيْرِ فِيهِ، كَمَا يَثْبُتُ الْمَاءُ فِي الْبِرْكَةِ.
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
3- التَّفَاؤُلُ مُبَاحٌ بَلْ حَسَنٌ إِذَا كَانَ مُتَعَيِّنًا لِلْخَيْرِ، كَأَنْ يَسْمَعَ الْمَرِيضُ يَا سَالِمُ، فَيَنْشَرِحُ لِذَلِكَ صَدْرُهُ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ التَّفَاؤُلِ بِالْكَلِمَةِ الْحَسَنَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، كَأَنْ يَسْمَعَ الْمَرِيضُ يَا سَالِمُ، أَوْ يَسْمَعُ طَالِبُ الضَّالَّةِ يَا وَاجِدُ فَتَسْتَرِيحُ نَفْسُهُ لِذَلِكَ.لِخَبَرِ «لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الصَّالِحُ وَالْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ».
وَكَانَ النَّبِيُّ- عليه الصلاة والسلام- يُعْجِبُهُ: أَنْ يَسْمَعَ يَا رَاشِدُ يَا نَجِيحُ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ
وَكَانَ لَا يَتَطَيَّرُ مِنْ شَيْءٍ، وَكَانَ إِذَا بَعَثَ عَامِلًا سَأَلَ عَنِ اسْمِهِ فَإِذَا أَعْجَبَهُ اسْمُهُ فَرِحَ بِهِ وَرُئِيَ بِشْرُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهُ رُئِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَإِذَا دَخَلَ قَرْيَةً سَأَلَ عَنِ اسْمِهَا فَإِنْ أَعْجَبَهُ اسْمُهَا فَرِحَ وَرُئِيَ بِشْرُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهَا رُئِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ.
وَإِنَّمَا كَانَ يُعْجِبُهُ الْفَأْلُ؛ لِأَنَّهُ تَنْشَرِحُ لَهُ النَّفْسُ وَتَسْتَبْشِرُ بِقَضَاءِ الْحَاجَةِ فَيُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ.وَقَالَ عَزَّ مَنْ قَائِلٌ فِي حَدِيثٍ قُدْسِيٍّ: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلَا يَظُنَّنَّ بِي إِلاَّ خَيْرًا».
بِخِلَافِ الطِّيَرَةِ فَإِنَّهَا مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ حَيْثُ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ حُصُولَ الضَّرَرِ بِمَا يُتَطَي َّرُ بِهِ.
التَّفَاؤُلُ الْمُبَاحُ:
4- التَّفَاؤُلُ الْمُبَاحُ: أَنْ يَسْمَعَ الرَّجُلُ الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، أَوْ يُسَمِّي وَلَدَهُ اسْمًا حَسَنًا فَيَفْرَحُ عِنْدَ سَمَاعِهِ.
أَمَّا أَخْذُ الْفَأْلِ مِنَ الْمُصْحَفِ، كَأَنْ يَفْتَحَهُ فَيَتَفَاءَلَ بِبَعْضِ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ الصَّفْحَةِ، أَوْ يَتَفَاءَلَ بِضَرْبِ الرَّمْلِ، فَيَتَفَاءَلَ بِبَعْضِ رُمُوزِهِ فَحَرَامٌ.
وَانْظُرْ أَيْضًا مُصْطَلَحَ: (تَطَيُّرٌ، وَتَسْمِيَةٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
49-موسوعة الفقه الكويتية (تفرق)
تَفَرُّقٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّفَرُّقُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ: تَفَرَّقَ ضِدُّ تَجَمَّعَ، يُقَالُ: تَفَرَّقَ الْقَوْمُ تَفَرُّقًا، وَمِثْلُهُ افْتَرَقَ الْقَوْمُ افْتِرَاقًا وَالتَّفْرِيقُ: خِلَافُ التَّجْمِيعِ، يُقَالُ: فَرَّقَ الشَّيْءَ تَفْرِيقًا وَتَفْرِقَةً: بَدَّدَهُ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ، أَمَّا التَّفَرُّقُ فَلَازِمٌ.وَالتَّفْرِيقُ أَبْلَغُ مِنَ الْفَرْقِ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّكْثِيرِ.وَالتَّفَرُّقُ فِي الِاصْطِلَاحِ لَا يَخْرُجُ مَعْنَاهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
(الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ):
التَّجَزُّؤُ:
2- التَّجَزُّؤُ: مِنْ تَجَزَّأَ الشَّيْءُ تَجَزُّؤًا، وَجَزَّأَ الشَّيْءَ تَجْزِئَةً: حَمَلَهُ أَجْزَاءً.وَالتَّفَرُّقُ يَكُونُ بَيْنَ الْأَبْدَانِ، وَالتَّجَزُّؤُ فِي الْأُمُورِ.
حُكْمُهُ:
3- تَخْتَلِفُ أَحْكَامُ التَّفَرُّقِ بِاخْتِلَافِ مَوْضُوعِهِ: فَيَسْقُطُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ بِتَفَرُّقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُ خِيَارَ الْمَجْلِسِ مِنَ الْفُقَهَاءِ.
وَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِالتَّفَرُّقِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهِ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ.كَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ، وَبَيْعِ الرِّبَوِيِّ بِمِثْلِهِ، أَوْ بِمُتَّحِدٍّ مَعَهُ فِي الْعِلَّةِ، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ التَّفَاصِيلِ.
التَّفَرُّقُ الْمُؤَثِّرُ وَحُكْمُهُ:
4- التَّفَرُّقُ الْمُؤَثِّرُ هُوَ: أَنْ يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْمَرْجِعُ فِيهِ عُرْفُ النَّاسِ، وَعَادَتُهُمْ فِيمَا يَعُدُّونَهُ تَفَرُّقًا، لِأَنَّ الشَّارِعَ نَاطَ عَلَيْهِ حُكْمًا وَلَمْ يُبَيِّنْهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ، كَكُلِّ مَا أَطْلَقَهُ الشَّارِعُ فِي الْمُعَامَلَاتِ كَالْقَبْضِ، وَالْإِحْرَازِ.
هَذَا وَيَسْقُطُ بِالتَّفَرُّقِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، وَيَلْزَمُ الْعَقْدُ فِي غَيْرِ الصَّرْفِ وَالرِّبَوِيِّ، وَيَبْطُلُ بِالتَّفَرُّقِ بَيْعُ الرِّبَوِيِّ قَبْلَ الْقَبْضِ.
أَمَّا هَلْ يَقُومُ التَّخَايُرُ مَقَامَ التَّفَرُّقِ فِي إِسْقَاطِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ؟ وَهَلْ يَجُوزُ التَّخَايُرُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي بَيْعِ الرِّبَوِيِّ، وَآرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ؟ فَيُرْجَعُ فِيهَا إِلَى مُصْطَلَحِ (خِيَارُ الْمَجْلِسِ).
تَفَرُّقُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْبَيْعِ:
5- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّفَرُّقَ بَعْدَ انْعِقَادِ الْبَيْعِ يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ لِخَبَرِ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا».
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَأَقَامَا مُدَّةً طَوِيلَةً، فَالْخِيَارُ بِحَالِهِ، وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ لِعَدَمِ التَّفَرُّقِ.لِمَا رَوَى أَبُو الْوَضِيءِ- عَبَّادُ بْنُ نُسَيْبٍ-: «غَزَوْنَا غَزْوَةً، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَبَاعَ صَاحِبٌ لَنَا فَرَسًا بِغُلَامٍ، ثُمَّ أَقَامَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا، فَلَمَّا أَصْبَحَا مِنَ الْغَدِ حَضَرَ الرَّحِيلُ، فَقَامَ إِلَى فَرَسِهِ يُسَرِّجُهُ فَنَدِمَ، فَأَتَى الرَّجُلُ وَأَخَذَهُ بِالْبَيْعِ، فَأَبَى الرَّجُلُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَبُو بَرْزَةَ صَاحِبُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَتَيَا أَبَا بَرْزَةَ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ فَقَالَا لَهُ هَذِهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ: أَتَرْضَيَانِ أَنْ أَحْكُمَ بَيْنَكُمَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-؟ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَمَا أَرَاكُمَا افْتَرَقْتُمَا».
الْإِكْرَاهُ عَلَى التَّفَرُّقِ:
6- إِنْ أُكْرِهَ الشَّخْصُ عَلَى التَّفَرُّقِ فَفِيهِ وَجْهَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ- وَهُمَا رِوَايَتَانِ لِلْحَنَابِلَةِ-
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَبْطُلُ الْخِيَارُ، لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ الْفَسْخُ بِالتَّخَايُرِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِصَاحِبِهِ: اخْتَرْ فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ، فَحَيْثُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ رَضِيَ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ.
الثَّانِي: لَا يَبْطُلُ الْخِيَارُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنَ السُّكُوتِ، وَالسُّكُوتُ لَا يُسْقِطُ الْخِيَارَ.وَلَمْ يَأْخُذْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ أَصْلًا.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (خِيَارُ الْمَجْلِسِ).
التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي بَيْعِ الرِّبَوِيِّ:
7- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا بِيعَ أَحَدُ النَّقْدَيْنِ بِمِثْلِهِ، أَوْ بِالْآخَرِ يَجِبُ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ.
وَإِلاَّ يَبْطُلِ الْعَقْدُ لِخَبَرِ: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ إِلاَّ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشْفُوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلاَّ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشْفُوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ».
أَمَّا غَيْرُ النَّقْدَيْنِ مِنَ الرِّبَوِيَّاتِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُرْمَةِ التَّفَرُّقِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ وَيَحْرُمُ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ، إِنِ اتَّحَدَ الْجِنْسُ، أَوِ اتَّحَدَتْ عِلَّةُ الرِّبَا فِيهِمَا، وَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِالتَّفَرُّقِ قَبْلَ الْقَبْضِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ فِي الْمَوْزُونِ وَالْمَكِيلِ الْمُعَيَّنِ، وَيَجُوزُ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِهِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي (رِبًا، قَبْضٌ).
التَّفَرُّقُ قَبْلَ قَبْضِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ:
8- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ عَقْدِ السَّلَمِ قَبْضُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ.وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُشْتَرَطُ قَبْضُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَا يَبْطُلُ بِالتَّفَرُّقِ، فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ تَأْخِيرُ الْقَبْضِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِخِفَّةِ الْأَمْرِ وَلِأَنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ.
التَّفَرُّقُ قَبْلَ التَّقَابُضِ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا:
9- الْعَرَايَا: جَمْعُ عَرِيَّةٍ، وَهِيَ بَيْعُ مَا عَلَى النَّخْلَةِ مِنْ رُطَبٍ بِتَمْرٍ عَلَى الْأَرْضِ، أَوِ الْعِنَبِ فِي الشَّجَرِ بِزَبِيبٍ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ.
وَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ بَيْعِ الْعَرَايَا عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ التَّقَابُضُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ.وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا.
تَفَرُّقُ الْمُتَنَاضِلَيْنِ قَبْلَ انْتِهَاءِ الْمَشْرُوطِ:
10- لَا يَجُوزُ أَنْ يَفْتَرِقَ الْمُتَنَاضِلَانِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَا الْمِقْدَارَ الْمَشْرُوطَ التَّنَاضُلُ بِهِ فِي الزَّمَنِ الْمُحَدَّدِ إِلاَّ لِعُذْرٍ كَمَرَضٍ، أَوْ رِيحٍ عَاصِفَةٍ أَوْ بِالتَّرَاضِي.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُنَاضَلَةٍ.
تَفَرُّقُ الصَّفْقَةِ:
11- تَتَفَرَّقُ الصَّفْقَةُ بِتَفْصِيلِ الثَّمَنِ كَأَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هَذَا بِكَذَا، وَهَذَا بِكَذَا، فَيَقْبَلُ الْآخَرُ، وَبِتَعَدُّدِ الْمُشْتَرِي، أَوِ الْبَائِعِ، وَبِالْجَمْعِ فِي صَفْقَةٍ بَيْنَ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَخَلٍّ، وَخَمْرٍ.وَمَعْنَى تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ تَفْرِيقُهَا فِي الْحُكْمِ.فَفِي حَالَةِ تَفْصِيلِ الثَّمَنِ مَثَلًا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي قَبُولُ أَحَدِ الْمَبِيعَيْنِ وَرَدُّ الْآخَرِ، وَفِي حَالَةِ تَعَدُّدِ الْعَاقِدَيْنِ، لَهُ رَدُّ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِالْعَيْبِ وَإِبْقَاءُ الْآخَرِ، وَفِي حَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فِي صَفْقَةٍ، يَصِحُّ الْعَقْدُ فِي الْحَلَالِ، وَيَبْطُلُ فِي الْحَرَامِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ.
تَفَرُّقُ الْمُجْتَمِعِينَ فِي أَثْنَاءِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ:
12- إِذَا تَفَرَّقَ الْمُجْتَمِعُونَ أَثْنَاءَ الْخُطْبَةِ، أَوْ نَقَصَ عَدَدُهُمْ لَمْ يُحْسَبِ الْجُزْءُ الْمُؤَدَّى مِنْ أَرْكَانِ الْخُطْبَةِ فِي غَيْبَتِهِمْ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ.
تَفَرُّقُ الْعُرَاةِ عِنْدَ الصَّلَاةِ:
13- إِذَا اجْتَمَعَ عُرَاةٌ لِلصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي ظَلَامٍ صَلَّوْا جَمَاعَةً، وَإِلاَّ تَفَرَّقُوا وُجُوبًا، وَصَلَّوْا أَفْذَاذًا وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (عَوْرَةٌ).
تَفَرُّقُ جَمْعٍ وَظُهُورُ قَتِيلٍ:
14- إِذَا تَفَرَّقَ جَمْعٌ وَظَهَرَ فِي الْمَكَانِ قَتِيلٌ، يَكُونُ ذَلِكَ قَرِينَةً عَلَى أَنَّهُمُ الْجُنَاةُ، وَيَثْبُتُ لِوَلِيِّ الدَّمِ أَنْ يُحَلِّفَهُمْ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ.وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي: (الْقَسَامَةِ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
50-موسوعة الفقه الكويتية (تكفين)
تَكْفِينٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّكْفِينُ: مَصْدَرُ كَفَّنَ، وَمِثْلُهُ الْكَفَنُ، وَمَعْنَاهُمَا فِي اللُّغَةِ: التَّغْطِيَةُ وَالسَّتْرُ.
وَمِنْهُ: سُمِّيَ كَفَنُ الْمَيِّتِ، لِأَنَّهُ يَسْتُرُهُ
وَمِنْهُ: تَكْفِينُ الْمَيِّتِ أَيْ لَفُّهُ بِالْكَفَنِ
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنْ ذَلِكَ
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَكْفِينَ الْمَيِّتِ بِمَا يَسْتُرُهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ».وَلِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ خَبَّابٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نَلْتَمِسُ وَجْهَ اللَّهِ، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَاتَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ: مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يُهْدِيهَا قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ نَجِدْ مَا نُكَفِّنُهُ إِلاَّ بُرْدَةً، إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَأَمَرَنَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ، وَأَنْ نَجْعَلَ عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الْإِذْخِرِ»
صِفَةُ الْكَفَنِ:
3- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَيِّتَ يُكَفَّنُ- بَعْدَ طُهْرِهِ- بِشَيْءٍ مِنْ جِنْسِ مَا يَجُوزُ لَهُ لُبْسُهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ، فَيُكَفَّنُ فِي الْجَائِزِ مِنَ اللِّبَاسِ.
وَلَا يَجُوزُ تَكْفِينُ الرَّجُلِ بِالْحَرِيرِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَجُوزُ تَكْفِينُهَا فِيهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا لُبْسُهُ فِي الْحَيَاةِ، لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ، لِأَنَّ فِيهِ سَرَفًا وَيُشْبِهُ إِضَاعَةَ الْمَالِ، بِخِلَافِ لُبْسِهَا إِيَّاهُ فِي الْحَيَاةِ، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ شَرْعًا.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَحْرُمُ التَّكْفِينُ فِيهِ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ ذَكَرًا كَانَ الْمَيِّتُ أَوْ أُنْثَى؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أُبِيحَ الْحَرِيرُ لِلْمَرْأَةِ حَالَ الْحَيَاةِ، لِأَنَّهَا مَحَلُّ زِينَةٍ وَقَدْ زَالَ بِمَوْتِهَا.
وَيُسْتَحَبُّ تَحْسِينُ الْكَفَنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بِأَنْ يُكَفَّنَ فِي مَلْبُوسِ مِثْلِهِ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ مَا لَمْ يُوصِ بِأَدْنَى مِنْهُ، فَتُتَّبَعُ وَصِيَّتُهُ، لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ».
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَيَجِبُ أَنْ يُكَفَّنَ الْمَيِّتُ فِي مَلْبُوسِ مِثْلِهِ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ إِذَا لَمْ يُوصِ بِدُونِهِ، لِأَمْرِ الشَّارِعِ بِتَحْسِينِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الْأَكْفَانِ الْمُبَاحَةِ حَالَ الْمَيِّتِ، فَإِنْ كَانَ مُكْثِرًا فَمِنْ جِيَادِ الثِّيَابِ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَسِّطًا فَأَوْسَطُهَا، وَإِنْ كَانَ مُقِلًّا فَخَشِنُهَا.
وَتُجْزِئُ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْقُمَاشِ، وَالْخَلِقُ إِذَا غُسِلَ وَالْجَدِيدُ سَوَاءٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: اغْسِلُوا ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ وَكَفِّنُونِي فِيهِمَا فَإِنَّهُمَا لِلْمُهْلِ وَالصَّدِيدِ.
وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ التَّكْفِينُ بِالثِّيَابِ الْبِيضِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ».
وَيُشْتَرَطُ فِي الْكَفَنِ أَلاَّ يَصِفَ الْبَشَرَةَ، لِأَنَّ مَا يَصِفُهَا غَيْرُ سَاتِرٍ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَيُكْرَهُ إِذَا كَانَ يَحْكِي هَيْئَةَ الْبَدَنِ، وَإِنْ لَمْ يَصِفِ الْبَشَرَةَ.
وَتُكْرَهُ الْمُغَالَاةُ فِي الْكَفَنِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تُغَالُوا فِي الْكَفَنِ فَإِنَّهُ يُسْلَبُ سَلَبًا سَرِيعًا».
كَمَا يُكْرَهُ التَّكْفِينُ بِمُزَعْفَرٍ، وَمُعَصْفَرٍ، وَشَعْرٍ، وَصُوفٍ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ خِلَافُ فِعْلِ السَّلَفِ.
وَيَحْرُمُ التَّكْفِينُ بِالْجُلُودِ لِأَمْرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِنَزْعِ الْجُلُودِ عَنِ الشُّهَدَاءِ، وَأَنْ يُدْفَنُوا فِي ثِيَابِهِمْ.
وَلَا يُكَفَّنُ الْمَيِّتُ فِي مُتَنَجِّسٍ نَجَاسَةً لَا يُعْفَى عَنْهَا وَإِنْ جَازَ لَهُ لُبْسُهُ خَارِجَ الصَّلَاةِ مَعَ وُجُودِ طَاهِرٍ، وَلَوْ كَانَ الطَّاهِرُ حَرِيرًا.أَنْوَاعُ الْكَفَنِ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَفَنَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:
1- كَفَنُ السُّنَّةِ.
2- كَفَنُ الْكِفَايَةِ.
3- كَفَنُ الضَّرُورَةِ.
4- أ- كَفَنُ السُّنَّةِ: هُوَ أَكْمَلُ الْأَكْفَانِ، وَهُوَ لِلرَّجُلِ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ: إِزَارٌ وَقَمِيصٌ وَلِفَافَةُ، وَالْقَمِيصُ مِنْ أَصْلِ الْعُنُقِ إِلَى الْقَدَمَيْنِ بِلَا دِخْرِيصٍ وَلَا أَكْمَامٍ.وَالْإِزَارُ لِلْمَيِّتِ مِنْ أَعْلَى الرَّأْسِ إِلَى الْقَدَمِ بِخِلَافِ إِزَارِ الْحَيِّ وَاللِّفَافَةُ كَذَلِكَ.لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، فَإِنَّهُ قَالَ: كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ: قَمِيصٌ وَإِزَارٌ وَلِفَافَةٌ.
وَلِلْمَرْأَةِ خَمْسَةُ أَثْوَابٍ: قَمِيصٌ وَإِزَارٌ وَخِمَارٌ وَلِفَافَةٌ وَخِرْقَةٌ تُرْبَطُ فَوْقَ ثَدْيَيْهَا، لِحَدِيثِ أُمِّ لَيْلَى بِنْتِ قَانِفٍ الثَّقَفِيَّةِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَاوَلَ اللَّوَاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ فِي كَفَنِهَا ثَوْبًا ثَوْبًا حَتَّى نَاوَلَهُنَّ خَمْسَةَ أَثْوَابٍ» وَلِأَنَّهَا تَخْرُجُ فِيهَا حَالَةَ الْحَيَاةِ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ.
5- ب- كَفَنُ الْكِفَايَةِ: هُوَ أَدْنَى مَا يُلْبَسُ حَالَ الْحَيَاةِ، وَهُوَ ثَوْبَانِ لِلرَّجُلِ فِي الْأَصَحِّ، لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ- رضي الله عنه- حِينَ حَضَرَهُ الْمَوْتُ: كَفِّنُونِي فِي ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ اللَّذَيْنِ كُنْتُ أُصَلِّي فِيهِمَا، وَاغْسِلُوهُمَا، فَإِنَّهُمَا لِلْمُهْلِ وَالتُّرَابِ
وَلِأَنَّ أَدْنَى مَا يَلْبَسُهُ الرَّجُلُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ ثَوْبَانِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ فِيهِمَا، وَيُصَلِّيَ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، فَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يُكَفَّنَ فِيهِمَا أَيْضًا.
وَيُكْرَهُ أَنْ يُكَفَّنَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ تَجُوزُ صَلَاتُهُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مَعَ الْكَرَاهَةِ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَالْمُرَاهِقُ كَالرَّجُلِ يُكَفَّنُ فِيمَا يُكَفَّنُ فِيهِ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّ الْمُرَاهِقَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ يَخْرُجُ فِيمَا يَخْرُجُ فِيهِ الْبَالِغُ عَادَةً، فَكَذَا يُكَفَّنُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا لَمْ يُرَاهِقْ، فَإِنْ كُفِّنَ فِي خِرْقَتَيْنِ إِزَارٍ وَرِدَاءٍ فَحَسَنٌ، وَإِنْ كُفِّنَ فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ جَازَ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ كَانَ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ فِي حَقِّهِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَأَقَلُّ مَا تُكَفَّنُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ: إِزَارٌ وَرِدَاءٌ وَخِمَارٌ، لِأَنَّ مَعْنَى السَّتْرِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ يَحْصُلُ بِثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ، حَتَّى يَجُوزَ لَهَا أَنْ تُصَلِّيَ فِيهَا وَتَخْرُجَ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ.وَيُكْرَهُ أَنْ تُكَفَّنَ الْمَرْأَةُ فِي ثَوْبَيْنِ.
وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تُكَفَّنَ فِي ثَوْبَيْنِ، وَالْمُرَاهِقَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَالِغَةِ فِي الْكَفَنِ، وَالسِّقْطُ يُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حُرْمَةٌ كَامِلَةٌ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا وَرَدَ بِتَكْفِينِ الْمَيِّتِ، وَاسْمُ الْمَيِّتِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ، كَمَا لَا يَنْطَلِقُ عَلَى بَعْضِ الْمَيِّتِ.
6- ج- الْكَفَنُ الضَّرُورِيُّ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ: هُوَ مِقْدَارُ مَا يُوجَدُ حَالَ الضَّرُورَةِ أَوِ الْعَجْزِ بِأَنْ كَانَ لَا يُوجَدُ غَيْرُهُ، وَأَقَلُّهُ مَا يَعُمُّ الْبَدَنَ، لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ فِي تَكْفِينِ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ- رضي الله عنه-، وَكَذَا رُوِيَ «أَنَّ حَمْزَةَ- رضي الله عنه- لَمَّا اسْتَشْهَدَ كُفِّنَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَمْ يُوجَدْ لَهُ غَيْرُهُ» فَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ.
7- وَأَقَلُّ الْكَفَنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ثَوْبٌ وَاحِدٌ، وَأَكْثَرُهُ سَبْعَةٌ.وَيُسْتَحَبُّ الْوِتْرُ فِي الْكَفَنِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُلُ بِخَمْسَةِ أَثْوَابٍ، وَهِيَ: الْقَمِيصُ وَالْعِمَامَةُ وَالْإِزَارُ وَلِفَافَتَانِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُزَادَ لِلرَّجُلِ عَلَيْهَا.وَالْأَفْضَلُ أَنْ تُكَفَّنَ الْمَرْأَةُ فِي سَبْعَةِ أَثْوَابٍ.دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَإِزَارٌ وَأَرْبَعُ لَفَائِفَ، وَنُدِبَ خِمَارٌ يُلَفُّ عَلَى رَأْسِ الْمَرْأَةِ وَوَجْهِهَا بَدَلَ الْعِمَامَةِ لِلرَّجُلِ، وَنُدِبَ عَذَبَةٌ قَدْرُ ذِرَاعٍ تُجْعَلُ عَلَى وَجْهِ الرَّجُلِ.
8- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: أَقَلُّ الْكَفَنِ ثَوْبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ.وَفِي قَدْرِ الثَّوْبِ الْوَاجِبِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ، وَهِيَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ فِي الرَّجُلِ، وَمَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ فِي الْمَرْأَةِ.
وَالثَّانِي: مَا يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِهِ إِلاَّ رَأْسَ الْمُحْرِمِ وَوَجْهَ الْمُحْرِمَةِ.
وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُلُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ: إِزَارٍ وَلِفَافَتَيْنِ بِيضٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-، قَالَتْ: «كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ سُحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ».
وَالْبَالِغُ وَالصَّبِيُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَإِنْ كُفِّنَ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ لَمْ يُكْرَهْ، لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- كَانَ يُكَفِّنُ أَهْلَهُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ فِيهَا قَمِيصٌ وَعِمَامَةٌ، وَلِأَنَّ أَكْمَلَ ثِيَابِ الْحَيِّ خَمْسَةٌ، وَيُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ سَرَفٌ.
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تُكَفَّنُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ: إِزَارٍ وَدِرْعٍ (قَمِيصٍ) وَخِمَارٍ وَلِفَافَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- كَفَّنَ فِيهَا ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ.لِمَا رَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: نَاوَلَهَا إِزَارًا وَدِرْعًا وَخِمَارًا وَثَوْبَيْنِ» وَيُكْرَهُ مُجَاوَزَةُ الْخَمْسَةِ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَالْخُنْثَى كَالْمَرْأَةِ.9
- وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْكَفَنُ الْوَاجِبُ ثَوْبٌ يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِ الْمَيِّتِ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُلُ فِي ثَلَاثِ لَفَائِفَ، وَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ فِي الْكَفَنِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْهُ.
وَيَجُوزُ التَّكْفِينُ فِي ثَوْبَيْنِ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ» وَكَانَ سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ يَقُولُ: يُكَفَّنُ فِي ثَوْبَيْنِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: يُكَفَّنُ الصَّبِيُّ فِي خِرْقَةٍ (أَيْ ثَوْبٍ وَاحِدٍ) وَإِنْ كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةٍ فَلَا بَأْسَ.
تَعْمِيمُ الْمَيِّتِ:
10- الْأَفْضَلُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُلُ فِي ثَلَاثِ لَفَائِفَ بِيضٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْكَفَنِ عِمَامَةٌ لَمْ يُكْرَهْ، لَكِنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْأَفْضَلُ أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُلُ بِخَمْسَةِ أَثْوَابٍ وَهِيَ: قَمِيصٌ، وَعِمَامَةٌ، وَإِزَارٌ، وَلِفَافَتَانِ.وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَتُكْرَهُ الْعِمَامَةُ فِي الْأَصَحِّ، لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي كَفَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَلِأَنَّهَا لَوْ وُجِدَتِ الْعِمَامَةُ لَصَارَ الْكَفَنُ شَفْعًا، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ وِتْرًا، وَاسْتَحْسَنَهَا الْمُتَأَخِّرُونَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- كَانَ يُعَمِّمُ الْمَيِّتَ مِنْ أَهْلِهِ وَيَجْعَلُ الْعَذَبَةَ عَلَى وَجْهِهِ.
عَلَى مَنْ يَجِبُ الْكَفَنُ:
11- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ كَفَنَ الْمَيِّتِ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَيُكَفَّنُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ إِلاَّ حَقًّا تَعَلَّقَ بِعَيْنٍ كَالرَّهْنِ وَيُقَدَّمُ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ فَصَارَ كَنَفَقَتِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَهِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ.وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَكَفَنُهُ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ- وَإِذَا تَعَدَّدَ مَنْ وَجَبَتِ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ كَفَنُهُ عَلَيْهِمْ، عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي بَابِ النَّفَقَاتِ- كَمَا تَلْزَمُ كِسْوَتُهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ.وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَلَا مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ فَكَفَنُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، كَنَفَقَتِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ لِأَنَّهُ أُعِدَّ لِحَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ تَكْفِينُهُ، فَإِنْ عَجَزُوا سَأَلُوا النَّاسَ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ غُسِّلَ وَجُعِلَ عَلَيْهِ الْإِذْخِرُ (أَوْ نَحْوُهُ مِنَ النَّبَاتِ) وَدُفِنَ وَيُصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ.
وَعَلَى الزَّوْجِ تَكْفِينُ زَوْجَتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْلٍ مُفْتَى بِهِ، وَالْمَالِكِيَّةِ فِي قَوْلٍ، وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ، لِأَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى زَوْجِهَا فِي حَالِ حَيَاتِهَا، فَكَذَلِكَ التَّكْفِينُ وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ التَّفْرِيقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ غَيْرُ مَعْقُولٍ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ كَفَنُ امْرَأَتِهِ وَلَا مُؤْنَةُ تَجْهِيزِهَا؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ وَجَبَا فِي حَالَةِ الزَّوَاجِ وَقَدِ انْقَطَعَ بِالْمَوْتِ فَأَشْبَهَتِ الْأَجْنَبِيَّةَ.وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ كَفَنُ زَوْجِهَا بِالْإِجْمَاعِ، كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهَا كِسْوَتُهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ.
كَيْفِيَّةُ تَكْفِينِ الرَّجُلِ:
12- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْأَكْفَانَ تُجَمَّرُ أَيْ تُطَيَّبُ أَوَّلًا وِتْرًا قَبْلَ التَّكْفِينِ بِهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا أَجْمَرْتُمُ الْمَيِّتَ فَأَجْمِرُوا وِتْرًا» وَلِأَنَّ الثَّوْبَ الْجَدِيدَ أَوِ الْغَسِيلَ مِمَّا يُطَيَّبُ وَيُجَمَّرُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ، ثُمَّ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ تُؤْخَذَ أَحْسَنُ اللَّفَائِفِ وَأَوْسَعُهَا فَتُبْسَطُ أَوَّلًا لِيَكُونَ الظَّاهِرُ لِلنَّاسِ حُسْنُهَا، فَإِنَّ هَذَا عَادَةُ الْحَيِّ يُجْعَلُ الظَّاهِرُ أَفْخَرَ ثِيَابِهِ.وَيُجْعَلُ عَلَيْهَا حَنُوطٌ، ثُمَّ تُبْسَطُ الثَّانِيَةُ الَّتِي تَلِيهَا فِي الْحُسْنِ وَالسَّعَةِ عَلَيْهَا، وَيُجْعَلُ فَوْقَهَا حَنُوطٌ وَكَافُورٌ ثُمَّ تُبْسَطُ فَوْقَهُمَا الثَّالِثَةُ وَيُجْعَلُ فَوْقَهَا حَنُوطٌ وَكَافُورٌ، وَلَا يُجْعَلُ عَلَى وَجْهِ الْعُلْيَا وَلَا عَلَى النَّعْشِ شَيْءٌ مِنَ الْحَنُوطِ، لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ- رضي الله عنه- قَالَ: لَا تَجْعَلُوا عَلَى أَكْفَانِي حَنُوطًا ثُمَّ يُحْمَلُ الْمَيِّتُ مَسْتُورًا بِثَوْبٍ وَيُتْرَكُ عَلَى الْكَفَنِ مُسْتَلْقِيًا عَلَى ظَهْرِهِ بَعْدَ مَا يُجَفَّفُ، وَيُؤْخَذُ قُطْنٌ فَيُجْعَلُ فِيهِ الْحَنُوطُ وَالْكَافُورُ وَيُجْعَلُ بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ وَيُشَدُّ عَلَيْهِ كَمَا يُشَدُّ التُّبَّانُ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤْخَذَ الْقُطْنُ وَيُجْعَلُ عَلَيْهِ الْحَنُوطُ وَالْكَافُورُ وَيُتْرَكُ عَلَى الْفَمِ وَالْمَنْخِرَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ وَعَلَى جِرَاحٍ نَافِذَةٍ إِنْ وُجِدَتْ عَلَيْهِ لِيَخْفَى مَا يَظْهَرُ مِنْ رَائِحَتِهِ، وَيُجْعَلُ الْحَنُوطُ وَالْكَافُورُ عَلَى قُطْنٍ وَيُتْرَكُ عَلَى مَوَاضِعِ السُّجُودِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: تُتْبَعُ مَسَاجِدُهُ بِالطِّيبِ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ شُرِّفَتْ بِالسُّجُودِ فَخُصَّتْ بِالطِّيبِ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحَنَّطَ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ بِالْكَافُورِ كَمَا يَفْعَلُ الْحَيُّ إِذَا تَطَيَّبَ، ثُمَّ يُلَفُّ الْكَفَنُ عَلَيْهِ بِأَنْ يُثْنَى مِنَ الثَّوْبِ الَّذِي يَلِي الْمَيِّتَ طَرَفُهُ الَّذِي يَلِي شِقَّهُ الْأَيْسَرَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، وَاَلَّذِي يَلِي الْأَيْمَنَ عَلَى الْأَيْسَرِ، كَمَا يَفْعَلُ الْحَيُّ بِالْقَبَاءِ، ثُمَّ يُلَفُّ الثَّانِي وَالثَّالِثُ كَذَلِكَ، وَإِذَا لُفَّ الْكَفَنُ عَلَيْهِ جُمِعَ الْفَاضِلُ عِنْدَ رَأْسِهِ جَمْعَ الْعِمَامَةِ، وَرُدَّ عَلَى وَجْهِهِ وَصَدْرِهِ إِلَى حَيْثُ بَلَغَ، وَمَا فَضَلَ عِنْدَ رِجْلَيْهِ يُجْعَلُ عَلَى الْقَدَمَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ، ثُمَّ تُشَدُّ الْأَكْفَانُ عَلَيْهِ بِشِدَادٍ خِيفَةَ انْتِشَارِهَا عِنْدَ الْحَمْلِ، فَإِذَا وُضِعَ فِي الْقَبْرِ حُلَّ الشِّدَادُ، هَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَكَذَلِكَ إِلاَّ أَنَّهُ يُلْبَسُ الْقَمِيصَ أَوَّلًا إِنْ كَانَ لَهُ قَمِيصٌ ثُمَّ يُعْطَفُ الْإِزَارُ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا سَبَقَ ثُمَّ تُعْطَفُ اللِّفَافَةُ وَهِيَ الرِّدَاءُ كَذَلِكَ.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَيَكُونُ الْإِزَارُ مِنْ فَوْقِ السُّرَّةِ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ تَحْتَ الْقَمِيصِ وَاللَّفَائِفِ فَوْقَ ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَيُزَادُ عَلَيْهَا الْحِفَاظُ وَهِيَ خِرْقَةٌ تُشَدُّ عَلَى قُطْنٍ بَيْنَ فَخِذَيْهِ خِيفَةَ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْمَخْرَجَيْنِ، وَاللِّثَامُ وَهُوَ خِرْقَةٌ تُوضَعُ عَلَى قُطْنٍ يُجْعَلُ عَلَى فَمِهِ وَأَنْفِهِ خِيفَةَ مَا يَخْرُجُ مِنْهُمَا.
كَيْفِيَّةُ تَكْفِينِ الْمَرْأَةِ:
12 م- وَأَمَّا تَكْفِينُ الْمَرْأَةِ فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: تُبْسَطُ لَهَا اللِّفَافَةُ وَالْإِزَارُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الرَّجُلِ، ثُمَّ تُوضَعُ عَلَى الْإِزَارِ وَتُلْبَسُ الدِّرْعَ، وَيُجْعَلُ شَعْرُهَا ضَفِيرَتَيْنِ عَلَى صَدْرِهَا فَوْقَ الدِّرْعِ، وَيُسْدَلُ شَعْرُهَا مَا بَيْنَ ثَدْيَيْهَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا تَحْتَ الْخِمَارِ، وَلَا يُسْدَلُ شَعْرُهَا خَلْفَ ظَهْرِهَا، ثُمَّ يُجْعَلُ الْخِمَارُ فَوْقَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُعْطَفُ الْإِزَارُ وَاللِّفَافَةُ كَمَا قَالُوا فِي الرَّجُلِ: ثُمَّ الْخِرْقَةُ فَوْقَ ذَلِكَ تُرْبَطُ فَوْقَ الْأَكْفَانِ فَوْقَ الثَّدْيَيْنِ وَالْبَطْنِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا تُلْبَسُ الْإِزَارَ مِنْ تَحْتِ إِبِطَيْهَا إِلَى كَعْبَيْهَا، ثُمَّ تُلْبَسُ الْقَمِيصَ، ثُمَّ تُخَمَّرُ بِخِمَارٍ يُخَمَّرُ بِهِ رَأْسُهَا وَرَقَبَتُهَا، ثُمَّ تُلَفُّ بِأَرْبَعِ لَفَائِفَ، وَيُزَادُ عَلَيْهَا الْحِفَاظُ وَاللِّثَامُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمُفْتَى بِهِ تُؤَزَّرُ بِإِزَارٍ، ثُمَّ تُلْبَسُ الدِّرْعَ، ثُمَّ تُخَمَّرُ بِخِمَارٍ، ثُمَّ تُدَرَّجُ فِي ثَوْبَيْنِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ- رحمه الله-: وَيُشَدُّ عَلَى صَدْرِهَا ثَوْبٌ لِيَضُمَّ ثِيَابَهَا فَلَا تَنْتَشِرُ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَتُشَدُّ الْخِرْقَةُ عَلَى فَخِذَيْهَا أَوَّلًا، ثُمَّ تُؤَزَّرُ بِالْمِئْزَرِ، ثُمَّ تُلْبَسُ الْقَمِيصَ، ثُمَّ تُخَمَّرُ بِالْمِقْنَعَةِ ثُمَّ تُلَفُّ بِلِفَافَتَيْنِ عَلَى الْأَصَحِّ.
كَيْفِيَّةُ تَكْفِينِ الْمُحْرِمِ وَالْمُحْرِمَةِ:
13- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِذَا مَاتَ الْمُحْرِمُ وَالْمُحْرِمَةُ حَرُمَ تَطْيِيبُهُمَا وَأَخْذُ شَيْءٍ مِنْ شَعْرِهِمَا أَوْ ظُفْرِهِمَا، وَحَرُمَ سَتْرُ رَأْسِ الرَّجُلِ وَإِلْبَاسُهُ مَخِيطًا.وَحَرُمَ سَتْرُ وَجْهِ الْمُحْرِمَةِ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ فَمَاتَ: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ اللَّذَيْنِ مَاتَ فِيهِمَا، وَلَا تُمِسُّوهُ بِطِيبٍ، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا».
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يُكَفَّنُ الْمُحْرِمُ وَالْمُحْرِمَةُ، كَمَا يُكَفَّنُ غَيْرُ الْمُحْرِمِ أَيْ يُغَطَّى رَأْسُهُ وَوَجْهُهُ وَيُطَيَّبُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ يَمُوتُ: خَمِّرُوهُمْ وَلَا تُشَبِّهُوهُمْ بِالْيَهُودِ» وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ: إِذَا مَاتَ انْقَطَعَ إِحْرَامُهُ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلَاثٍ: وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ، أَوْ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ».
وَالْإِحْرَامُ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ.
تَكْفِينُ الشَّهِيدِ:
14- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ شَهِيدَ الْمَعْرَكَةِ- الَّذِي قَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، أَوْ وُجِدَ بِالْمَعْرَكَةِ جَرِيحًا، أَوْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ ظُلْمًا وَلَمْ يَجِبْ فِيهِ مَالٌ- يُكَفَّنُ فِي ثِيَابِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ» وَقَدْ رُوِيَ فِي ثِيَابِهِمْ، وَعَنْ عَمَّارٍ وَزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ أَنَّهُمَا قَالَا: لَا تَنْزِعُوا عَنِّي ثَوْبًا..الْحَدِيثَ، غَيْرَ أَنَّهُ يُنْزَعُ عَنْهُ الْجُلُودُ وَالسِّلَاحُ وَالْفَرْوُ وَالْحَشْوُ وَالْخُفُّ وَالْمِنْطَقَةُ وَالْقَلَنْسُوَةُ.لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: تُنْزَعُ عَنْهُ الْعِمَامَةُ وَالْخُفَّانِ وَالْقَلَنْسُوَةُ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمُ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ، وَأَنْ يُدْفَنُوا بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِمْ.» وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي أُمِرَ بِنَزْعِهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْكَفَنِ، وَلِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «زَمِّلُوهُمْ بِثِيَابِهِمُ» الثِّيَابُ الَّتِي يُكَفَّنُ بِهَا وَتُلْبَسُ لِلسَّتْرِ، وَلِأَنَّ الدَّفْنَ بِالسِّلَاحِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ كَانَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدْفِنُونَ أَبْطَالَهُمْ بِمَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَسْلِحَةِ وَقَدْ نُهِينَا عَنِ التَّشَبُّهِ بِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُزَادَ فِي أَكْفَانِهِمْ أَوْ يُنْقَصُ عَلَى أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْ كَفَنِ السُّنَّةِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ خَبَّابٍ أَنَّ «حَمْزَةَ- رضي الله عنه- لَمْ يُوجَدْ لَهُ كَفَنٌ إِلاَّ بُرْدَةٌ مَلْحَاءُ إِذَا جُعِلَتْ عَلَى قَدَمَيْهِ قَلَصَتْ عَنْ رَأْسِهِ حَتَّى مُدَّتْ عَلَى رَأْسِهِ وَجُعِلَ عَلَى قَدَمَيْهِ الْإِذْخِرُ».
وَذَاكَ زِيَادَةٌ، وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى مَا عَلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ عَدَدَ السُّنَّةِ مِنْ بَابِ الْكَمَالِ وَأَمَّا النُّقْصَانُ فَهُوَ مِنْ بَابِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْوَرَثَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ مِنَ الثِّيَابِ مَا يَضُرُّ بِالْوَرَثَةِ تَرْكُهُ عَلَيْهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.أَنَّ شَهِيدَ الْمَعْرَكَةِ يُدْفَنُ بِثِيَابِهِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا وُجُوبًا إِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً وَإِلاَّ فَلَا يُدْفَنُ بِهَا، وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَسْتُرَهُ كُلَّهُ فَتُمْنَعُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، فَإِنْ لَمْ تَسْتُرْهُ زِيدَ عَلَيْهَا مَا يَسْتُرُهُ، فَإِنْ وُجِدَ عُرْيَانًا سُتِرَ جَمِيعُ جَسَدِهِ.قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: مَنْ عَرَّاهُ الْعَدُوُّ فَلَا رُخْصَةَ فِي تَرْكِ تَكْفِينِهِ بَلْ ذَلِكَ لَازِمٌ.وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى ثِيَابِهِ إِذَا كَانَ فِيهَا مَا يُجْزِيهِ فَلَا بَأْسَ بِهَا، وَلَيْسَ لِوَلِيِّهِ نَزْعُ ثِيَابِهِ وَتَكْفِينُهُ بِغَيْرِهَا.
وَيُنْدَبُ دَفْنُهُ بِخُفٍّ وَقَلَنْسُوَةٍ وَمِنْطَقَةٍ (مَا يُحْتَزَمُ بِهِ فِي وَسَطِهِ) إِنْ قَلَّ ثَمَنُهَا وَخَاتَمٌ قَلَّ ثَمَنُهُ، وَلَا يُدْفَنُ الشَّهِيدُ بِآلَةِ حَرْبٍ قُتِلَ وَهِيَ مَعَهُ كَدِرْعٍ وَسِلَاحٍ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ إِنَّ شَهِيدَ الْمَعْرَكَةِ يَجِبُ دَفْنُهُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا وَلَوْ كَانَتْ حَرِيرًا عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ.وَيُنْزَعُ السِّلَاحُ وَالْجُلُودُ وَالْفَرْوُ وَالْخُفُّ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه- السَّابِقِ، وَلَا يُزَادُ فِي ثِيَابِ الشَّهِيدِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهَا، وَلَوْ لَمْ يَحْصُلِ الْمَسْنُونُ بِهَا لِنَقْصِهَا أَوْ زِيَادَتِهَا.
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي تَخْرِيجِهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِمَا، وَجَاءَ فِي الْمُبْدِعِ: فَإِنْ سُلِبَ مَا عَلَى الشَّهِيدِ مِنَ الثِّيَابِ، كُفِّنَ بِغَيْرِهَا وُجُوبًا كَغَيْرِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُكَفَّنُ شَهِيدُ الْمَعْرَكَةِ نَدْبًا فِي ثِيَابِهِ لِخَبَرِ أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «رُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمِ فِي صَدْرِهِ أَوْ فِي حَلْقِهِ فَمَاتَ فَأُدْرِجَ فِي ثِيَابِهِ كَمَا هُوَ قَالَ: وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- » وَالْمُرَادُ ثِيَابُهُ الَّتِي مَاتَ فِيهَا وَاعْتَادَ لُبْسَهَا غَالِبًا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُلَطَّخَةً بِالدَّمِ، وَيُفْهَمُ مِنْ عِبَارَتِهِمْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَكْفِينُهُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ وَقْتَ اسْتِشْهَادِهِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُكَفَّنَ كَسَائِرِ الْمَوْتَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا عَلَيْهِ سَابِغًا أَيْ سَاتِرًا لِجَمِيعِ بَدَنِهِ تَمَّمَ وُجُوبًا، لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلْمَيِّتِ، وَيُنْدَبُ نَزْعُ آلَةِ الْحَرْبِ عَنْهُ كَدِرْعٍ وَخُفٍّ، وَكُلُّ مَا لَا يُعْتَادُ لُبْسُهُ غَالِبًا كَجِلْدٍ وَفَرْوٍ وَجُبَّةٍ مَحْشُوَّةٍ.
وَأَمَّا شُهَدَاءُ غَيْرِ الْمَعْرَكَةِ كَالْغَرِيقِ وَالْحَرِيقِ وَالْمَبْطُونِ وَالْغَرِيبِ فَيُكَفَّنُ كَسَائِرِ الْمَوْتَى وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.
إِعْدَادُ الْكَفَنِ مُقَدَّمًا:
15- فِي الْبُخَارِيِّ: عَنِ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ- رضي الله عنه-: «أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ فِيهَا حَاشِيَتُهَا...فَحَسَّنَهَا فُلَانٌ فَقَالَ: أَكْسِنِيهَا مَا أَحْسَنَهَا.قَالَ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ، لَبِسَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ، وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ، قَالَ: إِنِّي وَاَللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ لِأَلْبَسَهَا، إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي، قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ».وَهَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى الْجَوَازِ، لِعَدَمِ إِنْكَارِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِذَلِكَ.وَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ.وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُكْرَهَ تَهْيِئَةُ الْكَفَنِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهِ مُتَحَقِّقَةٌ غَالِبًا.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يُنْدَبُ أَنْ يَعُدَّ لِنَفْسِهِ كَفَنًا لِئَلاَّ يُحَاسَبَ عَلَى اتِّخَاذِهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ حَلٍّ أَوْ أَثَرٍ مِنْ ذِي صَلَاحٍ فَحَسُنَ إِعْدَادُهُ، لَكِنْ لَا يَجِبُ تَكْفِينُهُ فِيهِ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِ، بَلْ لِلْوَارِثِ إِبْدَالُهُ.وَلِهَذَا لَوْ نُزِعَتِ الثِّيَابُ الْمُلَطَّخَةُ بِالدَّمِ عَنِ الشَّهِيدِ وَكُفِّنَ فِي غَيْرِهَا جَازَ مَعَ أَنَّ فِيهَا أَثَرَ الْعِبَادَةِ الشَّاهِدَةِ لَهُ بِالشَّهَادَةِ، فَهَذَا أَوْلَى.
إِعَادَةُ تَكْفِينِ الْمَيِّتِ:
16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كُفِّنَ الْمَيِّتُ فَسُرِقَ الْكَفَنُ قَبْلَ الدَّفْنِ أَوْ بَعْدَهُ كُفِّنَ كَفَنًا ثَانِيًا مِنْ مَالِهِ أَوْ مِنْ مَالِ مَنْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى الْحَاجَةُ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ.
الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ الْكَفَنِ:
17- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى قَطْعِ النَّبَّاشِ إِذَا تَحَقَّقَتْ شُرُوطُ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، لِمَا رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ حَرَّقَ حَرَّقْنَاهُ، وَمَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ، وَمَنْ نَبَشَ قَطَعْنَاهُ».وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: سَارِقُ أَمْوَاتِنَا كَسَارِقِ أَحْيَائِنَا لِأَنَّ الْقَبْرَ حِرْزٌ لِلْكَفَنِ، وَإِنْ كَانَ الْكَفَنُ زَائِدًا عَلَى كَفَنِ السُّنَّةِ أَوْ دُفِنَ فِي تَابُوتٍ فَسُرِقَ التَّابُوتُ لَمْ يُقْطَعْ، لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْمَشْرُوعِ فِي الْكَفَنِ لَمْ يُجْعَلِ الْقَبْرُ حِرْزًا لَهُ وَكَذَلِكَ التَّابُوتُ
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيَّةُ: لَا قَطْعَ عَلَى النَّبَّاشِ مُطْلَقًا.لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «لَا قَطْعَ عَلَى الْمُخْتَفِي» وَهُوَ النَّبَّاشُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) وَلِأَنَّ الشُّبْهَةَ تَمَكَّنَتْ فِي الْمِلْكِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَيِّتِ حَقِيقَةً وَلَا لِلْوَارِثِ لِتَقَدُّمِ حَاجَةِ الْمَيِّتِ، فَتَمَكَّنَتِ الشُّبْهَةُ الْمُسْقِطَةُ لِلْقَطْعِ، وَوَافَقَهُمَا الشَّافِعِيَّةُ إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ مَدْفُونًا فِي بَرِيَّةٍ لِعَدَمِ الْحِرْزِ.
الْكِتَابَةُ عَلَى الْكَفَنِ:
18- جَاءَ فِي الْجَمَلِ عَلَى شَرْحِ الْمَنْهَجِ، لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ الْأَسْمَاءِ الْمُعَظَّمَةِ صِيَانَةً لَهَا مِنَ الصَّدِيدِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
51-موسوعة الفقه الكويتية (تمليك)
تَمْلِيكٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّمْلِيكُ مَصْدَرُ مَلَّكَهُ الشَّيْءَ إِذَا جَعَلَهُ مِلْكًا لَهُ، وَفِعْلُهُ الثُّلَاثِيُّ (مَلَكَ).وَمَلَكَ الشَّيْءَ:
احْتَوَاهُ، قَادِرًا عَلَى الِاسْتِبْدَادِ بِهِ.
وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.وَيُنْظَرُ مَا سَبَقَ فِي (تَمَلُّكٌ)
وَالْإِمْلَاكُ وَالتَّمْلِيكُ: التَّزْوِيجُ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْإِبْرَاءُ:
2- الْإِبْرَاءُ لُغَةً التَّنْزِيهُ وَالتَّخْلِيصُ وَالْمُبَاعَدَةُ عَنِ الشَّيْءِ.
وَاصْطِلَاحًا إِسْقَاطُ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ، وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَعْتَبِرُ الْإِبْرَاءَ مِنَ الدَّيْنِ إِسْقَاطًا مَحْضًا، وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَعْتَبِرُ الْإِبْرَاءَ تَمْلِيكًا، وَيُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْإِسْقَاطِ وَالتَّمْلِيكِ مَعًا، لَكِنْ قَدْ تَكُونُ الْغَلَبَةُ لِأَحَدِهِمَا فِي مَسْأَلَةٍ دُونَ أُخْرَى فَالْإِبْرَاءُ أَعَمُّ مِنَ التَّمْلِيكِ.
ب- الْإِسْقَاطُ:
3- الْإِسْقَاطُ لُغَةً: الْإِيقَاعُ وَالْإِلْقَاءُ.
وَاصْطِلَاحًا هُوَ إِزَالَةُ الْمِلْكِ أَوِ الْحَقِّ لَا إِلَى مَالِكٍ وَلَا إِلَى مُسْتَحِقٍّ وَتَسْقُطُ بِذَلِكَ الْمُطَالَبَةُ بِهِ؛ لِأَنَّ السَّاقِطَ يَنْتَهِي وَيَتَلَاشَى وَلَا يَنْتَقِلُ.
وَذَلِكَ كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ.
وَيَخْتَلِفُ التَّمْلِيكُ عَنِ الْإِسْقَاطِ فِي أَنَّ التَّمْلِيكَ إِزَالَةٌ وَنَقْلٌ إِلَى مَالِكٍ فِي حِينِ أَنَّ الْإِسْقَاطَ إِزَالَةٌ وَلَيْسَ نَقْلًا كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ إِلَى مَالِكٍ.
فَالْإِسْقَاطُ أَعَمُّ مِنَ التَّمْلِيكِ.
مَحَلُّ التَّمْلِيكِ:
4- قَدْ يَتَعَلَّقُ التَّمْلِيكُ بِمَحَلٍّ مُحَقَّقٍ كَتَمْلِيكِ الْأَعْيَانِ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِمَحَلٍّ مُقَدَّرٍ كَتَمْلِيكِ مَنَافِعِ الْأَبْضَاعِ، أَوْ مَنَافِعِ الْأَعْيَانِ فِي الْإِجَارَةِ أَوِ الْإِعَارَةِ فَإِنَّ مَنَافِعَهَا مُقَدَّرَةٌ تَعَلَّقَ بِهَا تَمْلِيكٌ مُقَدَّرٌ.
وَتَمْلِيكُ الْأَعْيَانِ قَدْ يَكُونُ بِعِوَضٍ وَقَدْ يَكُونُ بِلَا عِوَضٍ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، كَمَا أَنَّ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ قَدْ يَكُونُ بِعِوَضٍ كَالْإِجَارَةِ وَقَدْ يَكُونُ بِلَا عِوَضٍ كَالْعَارِيَّةِ.
وَيُرْجَعُ فِي التَّفْصِيلِ فِي كُلٍّ مِنْهَا إِلَى مَوْضِعِهِ.
وَأَمَّا تَمْلِيكُ الدَّيْنِ فَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: وَإِنْ وَهَبَ الدَّيْنَ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ أَوْ بَاعَهُ إِيَّاهُ لَمْ يَصِحَّ، وَبِهِ قَالَ فِي الْبَيْعِ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ.قَالَ أَحْمَدُ: إِذَا كَانَ لَك عَلَى رَجُلٍ طَعَامٌ قَرْضًا فَبِعْهُ مِنَ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ بِنَقْدٍ وَلَا تَبِعْهُ مِنْ غَيْرِهِ بِنَقْدٍ وَلَا نَسِيئَةٍ، وَإِذَا أَقْرَضْت رَجُلًا دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَلَا تَأْخُذْ مِنْ غَيْرِهِ عَرَضًا بِمَا لَك عَلَيْهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى مُعْسِرٍ أَوْ مُمَاطِلٍ أَوْ جَاحِدٍ لَهُ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّهُ مَعْجُوزٌ عَنْ تَسْلِيمِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى مَلِيءٍ بَاذِلٍ لَهُ فَفِيهِ قَوْلَانِ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَيَجُوزُ بَيْعُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ بِشُرُوطٍ مُعَيَّنَةٍ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ وَالْخِلَافُ فِيهِ فِي مُصْطَلَحِ: (دَيْنٌ).
تَمْلِيكُ الْأَعْيَانِ الْمُشْتَرَاةِ قَبْلَ الْقَبْضِ:
5- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ التَّصَرُّفِ بِالتَّمْلِيكِ فِي الْمَمْلُوكَاتِ بَعْدَ قَبْضِهَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِالتَّمْلِيكِ قَبْلَ قَبْضِهَا.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي: تَمْلِيكُ الْأَعْيَانِ الْمُشْتَرَاةِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِالْبَيْعِ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ- وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ تَمْلِيكِ الْمَبِيعِ بِالْبَيْعِ قَبْلَ قَبْضِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ طَعَامًا أَمْ غَيْرَهُ.
وَاسْتَدَلُّوا «بِنَهْيِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ».وَبِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا بَعَثَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ إِلَى مَكَّةَ قَالَ: انْهَهُمْ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يَقْبِضُوهُ، وَعَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنُوهُ».وَلِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ الْمِلْكُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَغَيْرِ الْمُتَعَيَّنِ.
وَالْحَنَفِيَّةُ يَسْتَثْنُونَ الْعَقَارَ الْمَبِيعَ وَيُجِيزُونَ تَمْلِيكَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لِانْتِفَاءِ غَرَرِ الِانْفِسَاخِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ جَوَازَ تَمْلِيكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ بِالْبَيْعِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَطْعُومًا وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَمْلِيكِ طَعَامِ الْمُعَاوَضَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ».
وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّ هَذَا النَّهْيَ تَعَبُّدِيٌّ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُ الطَّعَامِ عِنْدَهُمْ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ مَعْقُولُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ لَهُ غَرَضٌ فِي ظُهُورِهِ، فَلَوْ أُجِيزَ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ لَبَاعَ أَهْلُ الْأَمْوَالِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ مِنْ غَيْرِ ظُهُورٍ بِخِلَافِ مَا إِذَا مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ الْكَيَّالُ وَالْحَمَّالُ، وَيَظْهَرُ لِلْفُقَرَاءِ فَتَقْوَى بِهِ قُلُوبُ النَّاسِ لَا سِيَّمَا فِي زَمَنِ الْمَسْغَبَةِ وَالشِّدَّةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ تَحْتَ عُنْوَانِ (بَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ).
تَمْلِيكُ الْأَعْيَانِ الْمُشْتَرَاةِ بِغَيْرِ الْبَيْعِ:
6- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ- وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ- أَنَّ الْأَعْيَانَ الْمُشْتَرَاةَ يَجُوزُ تَمْلِيكُهَا بِغَيْرِ الْبَيْعِ قَبْلَ قَبْضِهَا، وَالْحَنَفِيَّةُ يَسْتَثْنُونَ مِنْ ذَلِكَ تَمْلِيكَ مَنَافِعِ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ بِالْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْقُولِ فَيُمْنَعُ جَوَازُ تَمْلِيكِهَا قَبْلَ الْقَبْضِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ تَمْلِيكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ بِالْهِبَةِ وَالْإِجَارَةِ.وَقَدْ فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ الْقَوْلَ فِيمَا يَصِحُّ مِنْ تَصَرُّفَاتٍ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ.يُنْظَرُ فِي مَوَاطِنِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ وَفِي مُصْطَلَحِ: (قَبْضٌ).
تَمْلِيكُ الِانْتِفَاعِ:
7- تَمْلِيكُ الِانْتِفَاعِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِذْنِ لِلشَّخْصِ فِي أَنْ يُبَاشِرَ الِانْتِفَاعَ هُوَ بِنَفْسِهِ فَقَطْ كَالْإِذْنِ فِي سُكْنَى الْمَدَارِسِ، وَالرُّبُطِ، وَالْمَجَالِسِ، وَالْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ، وَالْأَسْوَاقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.فَلِمَنْ أُذِنَ لَهُ ذَلِكَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِنَفْسِهِ فَقَطْ، وَيَمْتَنِعَ فِي حَقِّهِ أَنْ يُؤَاجِرَ أَوْ يَمْلِكَ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمُعَاوَضَاتِ أَوْ يُسْكِنَ غَيْرَهُ الْبَيْتَ الْمَوْقُوفَ، أَوْ غَيْرَهُ مِنْ بَقِيَّةِ النَّظَائِرِ الْمَذْكُورَةِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ ر: انْتِفَاعٌ.
تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ:
8- تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِذْنِ لِلشَّخْصِ فِي أَنْ يُبَاشِرَ اسْتِيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ بِنَفْسِهِ أَوْ يُمَكِّنَ غَيْرَهُ مِنَ الِانْتِفَاعِ كَالْإِجَارَةِ.فَمَنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا كَانَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهَا مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ يَسْكُنَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَأَنْ يَتَصَرَّفَ فِي هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ تَصَرُّفَ الْمُلاَّكِ فِي أَمْلَاكِهِمْ عَلَى جَرْيِ الْعَادَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي مَلَكَهُ، فَهُوَ تَمْلِيكٌ مُطْلَقٌ فِي زَمَنٍ خَاصٍّ حَسْبَمَا تَنَاوَلَهُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ.فَمَنِ اسْتَأْجَرَ شَيْئًا مُدَّةً مُعَيَّنَةً، كَانَتْ لَهُ الْمَنْفَعَةُ فِي تَمَلُّكِ الْمُدَّةِ مِلْكًا عَلَى الْإِطْلَاقِ يَتَصَرَّفُ كَمَا يَشَاءُ بِجَمِيعِ الْأَنْوَاعِ السَّائِغَةِ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْمَنْفَعَةِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ مَا دَامَتِ الْعَيْنُ لَا تَتَأَثَّرُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ، وَيَكُونُ تَمْلِيكُ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ كَتَمْلِيكِ الْأَعْيَانِ.
وَلِلتَّوَسُّعِ فِي ذَلِكَ (ر: مَنْفَعَةٌ).
انْعِقَادُ النِّكَاحِ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ:
9- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَمُجَاهِدٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ إِلَى انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ وَبِكُلِّ لَفْظٍ وُضِعَ لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ فِي الْحَالِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ» حَيْثُ وَرَدَ فِي النِّكَاحِ؛ وَلِأَنَّ التَّمْلِيكَ سَبَبٌ لِمِلْكِ الِاسْتِمْتَاعِ فَأُطْلِقَ عَلَى النِّكَاحِ، وَالسَّبَبِيَّةُ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْمَجَازِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَجُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ عَدَمَ انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ «اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ» قَالُوا: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ التَّزْوِيجُ أَوِ الْإِنْكَاحُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ سِوَاهُمَا فَوَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَهُمَا تَعَبُّدًا وَاحْتِيَاطًا، لِأَنَّ النِّكَاحَ يَنْزِعُ إِلَى الْعِبَادَاتِ لِوُرُودِ النَّدْبِ فِيهِ، وَالْأَذْكَارُ فِي الْعِبَادَاتِ تُتَلَقَّى مِنَ الشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ إِنَّمَا وَرَدَ بِلَفْظَيِ التَّزْوِيجِ وَالْإِنْكَاحِ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
52-موسوعة الفقه الكويتية (تنازع بالأيدي)
تَنَازُعٌ بِالْأَيْدِيالتَّعْرِيفُ:
1- التَّنَازُعُ فِي اللُّغَةِ: التَّخَاصُمُ يُقَالُ: تَنَازَعَ الْقَوْمُ تَخَاصَمُوا.فَفِي الْحَدِيثِ: «مَالِي أُنَازَعُ فِي الْقُرْآنِ» وَالْأَيْدِي جَمْعُ يَدٍ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ هُوَ تَنَازُعُ شَخْصَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي وَضْعِ الْيَدِ عَلَى عَيْنٍ.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
2- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ وَضْعَ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ الْمُتَنَازَعِ عَلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ الرُّجْحَانِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِيَّةِ إِذَا لَمْ تُوجَدْ حُجَّةٌ أَقْوَى مِنْهَا كَالْبَيِّنَةِ، فَإِذَا تَنَازَعَ اثْنَانِ عَلَى مِلْكِيَّةِ شَيْءٍ، وَهُوَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، وَلَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ لِأَحَدِهِمَا قُضِيَ لِصَاحِبِ الْيَدِ بِيَمِينِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لِخَبَرِ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ»
وَكَذَلِكَ إِذَا تَنَازَعَا فِي وَضْعِ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ الْمُتَنَازَعِ عَلَيْهِ يَدَّعِي كُلٌّ مِنْهُمَا أَنَّهُ بِيَدِهِ، فَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةُ.لِأَنَّ دَعْوَى الْيَدِ مَقْصُودَةٌ كَمَا أَنَّ دَعْوَى الْمِلْكِ مَقْصُودَةٌ؛ لِأَنَّ الْيَدَ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الِانْتِفَاعِ بِالْمِلْكِ، وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ.فَإِنْ كَانَ أَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ فِي يَدِهِ جُعِلَ فِي يَدِ كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُهُ لِتَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ، وَتَسَاوِيهِمَا، فَإِنَّ التَّسَاوِيَ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ يُوجِبُ التَّسَاوِيَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ فِي يَدِهِ قُضِيَ أَنَّهُ ذُو الْيَدِ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ، وَطَلَبَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَمِينَ خَصْمِهِ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ لَيْسَ بِيَدِهِ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ لَيْسَ فِي يَدِ خَصْمِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لِخَصْمِهِ بِمَا ادَّعَى لَزِمَهُ حَقُّهُ، فَإِذَا أَنْكَرَ حَلَفَ لَهُ.
فَإِنْ حَلَفَا مَعًا فَلَا يُحْكَمُ بِوَضْعِ الْيَدِ لِأَحَدٍ مِنْهُمَا.
لِأَنَّ حُجَّةَ الْقَضَاءِ بِالْيَدِ لَمْ تَقُمْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيُوقَفُ الْعَقَارُ الْمُتَنَازَعُ عَلَيْهِ إِلَى ظُهُورِ حَقِيقَةِ الْحَالِ.وَإِنْ نَكَلَ أَحَدُهُمَا وَحَلَفَ الْآخَرُ يُحْكَمُ بِكَوْنِ الْحَالِفِ وَاضِعَ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ.وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: لَا يَجْعَلُ الْقَاضِي الْعَيْنَ الْمُتَنَازَعَ عَلَيْهَا فِي يَدِ الْحَالِفِ بِنُكُولِ الْآخَرِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ فِي يَدِ ثَالِثٍ، وَأَنَّهُمَا تَوَاضَعَا لِلتَّلْبِيسِ عَلَى الْقَاضِي.هَذَا وَلَا تَكُونُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْيَدِ شَهَادَةً عَلَى الْمِلْكِ.كَمَا لَا يَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْمِلْكِ اعْتِمَادًا عَلَى الْيَدِ.وَأَغْلَبُ هَذِهِ التَّفَاصِيلِ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَا تَأْبَى ذَلِكَ قَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى.
3- أَمَّا إِذَا كَانَ الشَّيْءُ فِي يَدَيْهِمَا وَلَكِنْ يَدُ أَحَدِهِمَا أَقْوَى مِنْ يَدِ الْآخَرِ كَأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا رَاكِبًا عَلَى الدَّابَّةِ وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقًا بِزِمَامِهَا فَالرَّاكِبُ أَوْلَى لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ أَظْهَرُ، لِأَنَّ الرُّكُوبَ يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ.
وَكَذَا إِذَا تَنَازَعَا فِي قَمِيصٍ أَحَدُهُمَا لَابِسُهُ وَالْآخَرُ يُمْسِكُ بِكُمِّهِ فَلَابِسُهُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَظْهَرُهُمَا تَصَرُّفًا.
.التَّنَازُعُ فِي جِدَارٍ حَائِلٍ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا:
4- إِذَا تَدَاعَيَا جِدَارًا حَائِلًا بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا فَإِنْ كَانَ بِنَاءُ أَحَدِهِمَا مُتَّصِلًا بِالْجِدَارِ دُونَ الْآخَرِ اتِّصَالًا لَا يُمْكِنُ إِحْدَاثُهُ بَعْدَ بِنَائِهِ فَهُوَ صَاحِبُ الْيَدِ، وَإِنْ كَانَ الْجِدَارُ مُتَّصِلًا بِبِنَائِهِمَا جَمِيعًا أَوْ مُنْفَصِلًا عَنْهُمَا، فَهُوَ فِي أَيْدِيهِمَا، فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً قُضِيَ لَهُ، وَإِلاَّ فَيَحْلِفُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ، فَإِذَا حَلَفَا أَوْ نَكَلَا جُعِلَ الْجِدَارُ بَيْنَهُمَا بِظَاهِرِ الْيَدِ، وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ قُضِيَ لِلْحَالِفِ بِالْجَمِيعِ.
وَإِنْ تَنَازَعَا فِي السَّقْفِ الْمُتَوَسِّطِ بَيْنَ سُفْلِ أَحَدِهِمَا وَعُلُوِّ الْآخَرِ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ إِحْدَاثُهُ بَعْدَ بِنَاءِ الْعُلُوِّ جُعِلَ فِي يَدِ صَاحِبِ السُّفْلِ، وَإِنْ أَمْكَنَ، فَهُمَا صَاحِبَا يَدٍ؛ لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا يَدًا وَتَصَرُّفًا؛ وَلِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الِانْتِفَاعِ.
وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عُلُوُّ الدَّارِ، وَالسُّفْلُ لِلْآخَرِ وَتَنَازَعَا فِي الْعَرْصَةِ أَوِ الدِّهْلِيزِ فَإِنْ كَانَ الْمَرْقَى فِي الْمَدْخَلِ الْمُشْتَرَكِ، جُعِلَتِ الْعَرْصَةُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدًا وَتَصَرُّفًا بِالِاسْتِطْرَاقِ وَوَضْعِ الْأَمْتِعَةِ وَغَيْرِهِمَا.وَإِنْ كَانَ الْمَرْقَى إِلَى الْعُلُوِّ فِي الدِّهْلِيزِ أَوِ الْوَسَطِ، فَمِنْ أَوَّلِ الْبَابِ إِلَى الْمَرْقَى بَيْنَهُمَا، وَفِيمَا وَرَاءَهُ لِصَاحِبِ السُّفْلِ لِانْقِطَاعِ صَاحِبِ الْعُلُوِّ عَنْهُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
53-موسوعة الفقه الكويتية (تنجيم)
تَنْجِيمٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّنْجِيمُ مَصْدَرُ نَجَّمَ يُقَالُ: نَجَّمْتُ الْمَالَ عَلَيْهِ إِذَا وَزَّعْته، كَأَنَّك فَرَضْتَ أَنْ يَدْفَعَ عِنْدَ طُلُوعِ كُلِّ نَجْمٍ نَصِيبًا، ثُمَّ صَارَ مُتَعَارَفًا فِي تَقْدِيرِ دَفْعِهِ، بِأَيِّ شَيْءٍ قَدَّرْتَ ذَلِكَ.وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُؤَقِّتُ بِطُلُوعِ النُّجُومِ؛ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ الْحِسَابَ.وَإِنَّمَا يَحْفَظُونَ أَوْقَاتَ السَّنَةِ بِالْأَنْوَاءِ، وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْوَقْتَ الَّذِي يَحِلُّ فِيهِ الْأَدَاءُ نَجْمًا لِوُقُوعِهِ فِي الْأَصْلِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَطْلُعُ فِيهِ النَّجْمُ، وَاشْتَقُّوا مِنْهُ فَقَالُوا: نَجَّمْت الدَّيْنَ بِالتَّثْقِيلِ إِذَا جَعَلْته نُجُومًا.
وَيُطْلَقُ التَّنْجِيمُ أَيْضًا عَلَى النَّظَرِ فِي النُّجُومِ.
وَاصْطِلَاحًا هُوَ عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ الِاسْتِدْلَال بِالتَّشَكُّلَاتِ الْفَلَكِيَّةِ عَلَى الْحَوَادِثِ السُّفْلِيَّةِ.
وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- السِّحْرُ:
2- السِّحْرُ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الْأَخْذَةُ، وَكُلُّ مَا لَطُفَ وَدَقَّ فَهُوَ سِحْرٌ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ عِلْمٌ يُسْتَفَادُ بِهِ حُصُولُ مَلَكَةٍ نَفْسَانِيَّةٍ يُقْتَدَرُ بِهَا عَلَى أَفْعَالٍ غَرِيبَةٍ.
ب- الْكَهَانَةُ:
3- الْكَهَانَةُ وَهِيَ تَعَاطِي الْخَبَرِ عَنِ الْكَائِنَاتِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَادِّعَاءُ مَعْرِفَةِ الْأَسْرَارِ.
ج- الشَّعْوَذَةُ:
4- الشَّعْوَذَةُ وَهِيَ خِفَّةٌ فِي الْيَدِ كَالسِّحْرِ.
د- الرَّمَلُ:
5- الرَّمَلُ وَهُوَ مَعْرِفَةُ أَشْكَالٍ مِنَ الْخُطُوطِ، وَالنُّقَطِ بِقَوَاعِدَ مَعْلُومَةٍ تَخْرُجُ حُرُوفًا تُجْمَعُ وَيُسْتَخْرَجُ جُمْلَةٌ دَالَّةٌ بِادِّعَاءِ أَصْحَابِهِ عَلَى عَوَاقِبِ الْأُمُورِ.
هـ- الْعَرَافَةُ:
6- الْعَرَافَةُ هِيَ ادِّعَاءُ مَعْرِفَةِ الْأُمُورِ بِمُقَدِّمَاتٍ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَوَاقِعِهَا فِي كَلَامِ مَنْ يَسْأَلُهُ أَوْ حَالِهِ، أَوْ فِعْلِهِ، وَكُلُّهَا حَرَامٌ، تَعَلُّمُهَا، وَفِعْلُهَا وَأَخْذُ الْأُجْرَةِ بِهَا، بِالنَّصِّ فِي حُلْوَانِ الْكَاهِنِ.
وَخَبَرِ «مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» وَالْبَاقِي بِمَعْنَاهُ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي كُلَّ مَنْ يَتَعَاطَى عِلْمًا دَقِيقًا كَاهِنًا.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
أَوَّلًا: التَّنْجِيمُ بِمَعْنَى النَّظَرِ فِي سَيْرِ النُّجُومِ:
7- قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ عِلْمَ النُّجُومِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الْأَوَّلُ: حِسَابِيٌّ: وَهُوَ تَحْدِيدُ أَوَائِلِ الشُّهُورِ بِحِسَابِ سَيْرِ النُّجُومِ.
وَيُسَمَّى مَنْ يُمَارِسُ ذَلِكَ الْمُنَجِّمَ بِالْحِسَابِ.وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ مُمَارَسَةِ التَّنْجِيمِ
بِهَذَا الْمَعْنَى، وَتَعَلُّمِ مَا يُعْرَفُ بِمَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ وَالْقِبْلَةِ، بَلْ ذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ.وَجَاءَ فِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ وَالْحِسَابِيُّ حَقٌّ، وَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ فِي قَوْلِ الْحَقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}.
وَأَجَازَ الْفُقَهَاءُ الِاعْتِمَادَ عَلَيْهِ فِي دُخُولِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ وَتَحْدِيدِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ
وَقَالُوا: إِنَّ حِسَابَ الْأَهِلَّةِ، وَالْخُسُوفِ وَالْكُسُوفِ قَطْعِيٌّ، فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَجْرَى حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ وَانْتِقَالَاتِ الْكَوَاكِبِ عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ دَائِمٍ، وَكَذَلِكَ الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ.وَالْعَوَائِدُ إِذَا اسْتَمَرَّتْ أَفَادَتِ الْقَطْعَ، فَيَنْبَغِي الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، وَفِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ.
وَفَرَّقُوا بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ مِنْ عَدَمِ اعْتِبَارِ حِسَابِ الْمُنَجِّمِينَ فِي ثُبُوتِ هِلَالِ رَمَضَانَ بِأَنَّ الشَّارِعَ نَصَبَ زَوَالَ الشَّمْسِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الظُّهْرِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْأَوْقَاتِ، فَمَنْ عَلِمَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَزِمَهُ حُكْمُهُ.أَمَّا ثُبُوتُ هِلَالِ رَمَضَانَ فَقَدْ عَلَّقَ الشَّارِعُ وُجُوبَهُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَلَمْ يُجِزِ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْفَلَكِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً فِي نَفْسِهَا.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ إِثْبَاتِ دُخُولِ رَمَضَانَ وَخُرُوجِهِ بِالْحِسَابِ.
الثَّانِي: اسْتِدْلَالِيٌّ:
وَقَدْ عَرَّفَ ابْنُ عَابِدِينَ هَذَا الْقِسْمَ بِأَنَّهُ عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ بِالتَّشَكُّلَاتِ الْفَلَكِيَّةِ عَلَى الْحَوَادِثِ السُّفْلِيَّةِ.وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ إِذَا ادَّعَى أَصْحَابُهُ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْهُ، أَوْ أَنَّ لَهَا تَأْثِيرًا عَلَى الْحَوَادِثِ بِذَاتِهَا؛ لِخَبَرِ: «مَنِ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنَ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ» وَخَبَرِ: «مَنْ صَدَّقَ كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا، أَوْ مُنَجِّمًا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ».
أَمَّا إِذَا أَسْنَدَ الْحَوَادِثَ لِعَادَةٍ أَجْرَاهَا اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ فَلَا يَأْثَمُ بِذَلِكَ لِخَبَرِ: «إِذَا أَنْشَأَتْ بَحْرِيَّةً ثُمَّ تَشَاءَمَتْ فَتِلْكَ غُدِيقَةٌ» أَيْ: كَثِيرَةُ الْمَطَرِ.وَهِيَ كَاسْتِدْلَالِ الطَّبِيبِ بِالنَّبْضِ عَلَى الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ.
وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّمَا زُجِرَ عَنْ ذَلِكَ لِأَسْبَابٍ ثَلَاثَةٍ:
أ- أَنَّهُ مُضِرٌّ بِأَكْثَرِ الْخَلْقِ فَإِنَّهُ إِذَا أُلْقِيَ إِلَيْهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْآثَارَ تَحْدُثُ عَقِيبَ سَيْرِ الْكَوَاكِبِ وَقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ أَنَّهَا الْمُؤَثِّرَةُ.
ب- أَنَّ أَحْكَامَ النُّجُومِ تَخْمِينٌ مَحْضٌ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَقَدْ كَانَتْ مُعْجِزَةً لِإِدْرِيسَ- عليه السلام- فِيمَا يُحْكَى وَقَدِ انْدَرَسَ.
ج- أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَإِنَّ مَا قُدِّرَ كَائِنٌ، وَالِاحْتِرَازُ عَنْهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ.
ثَانِيًا: التَّنْجِيمُ بِمَعْنَى: تَوْزِيعِ الدَّيْنِ
تَنْجِيمُ دِيَةِ الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ:
8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ مُنَجَّمَةٌ عَلَى ثَلَاثِ سِنِينَ تَخْفِيفًا عَلَى الْعَاقِلَةِ وَكَذَلِكَ دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ (ر: دِيَةٌ).
تَنْجِيمُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ:
9- تَصِحُّ الْكِتَابَةُ عَلَى مُؤَجَّلٍ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَوَازِ عَلَى بَدَلٍ حَالٍّ فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلاَّ مُؤَجَّلَةً مُنَجَّمَةً بِنَجْمَيْنِ فَأَكْثَر، فَقَالُوا: إِنَّ الْعَبْدَ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِ الْبَدَلِ عِنْدَ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ مُعْسِرٌ لَا مَالَ لَهُ، وَالْعَجْزُ عَنِ التَّسْلِيمِ يَمْنَعُ انْعِقَادَهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ طَرَأَ عَلَى الْعَقْدِ يَرْفَعُهُ، فَإِذَا قَارَنَهُ يَمْنَعُهُ فِي الِانْعِقَادِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
وَمَأْخَذُ الِاسْمِ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا، فَإِنَّ الْكِتَابَةَ يُحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي الْمُؤَجَّلِ، وَأَيْضًا الْكِتَابَةُ عَقْدُ إِرْفَاقٍ، وَمِنْ تَتِمَّةِ الْإِرْفَاقِ التَّنْجِيمُ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالَّةً، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَقَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ قَدْ أَطْلَقَتْ: وَهِيَ قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}
وَلِأَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ دَيْنٌ يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْجِيلُ كَسَائِرِ الدُّيُونِ (ر: كِتَابَةٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
54-موسوعة الفقه الكويتية (تهجد)
تَهَجُّدٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّهَجُّدُ فِي اللُّغَةِ: مِنَ الْهُجُودِ وَيُطْلَقُ عَلَى النَّوْمِ وَالسَّهَرِ.يُقَالُ هَجَدَ: نَامَ بِاللَّيْلِ فَهُوَ هَاجِدٌ وَالْجَمْعُ هُجُودٌ مِثْلَ: رَاقِدٍ وَرُقُودٌ وَقَاعِدٌ وَقُعُودٌ.وَهَجَدَ.صَلَّى بِاللَّيْلِ، وَيُقَالُ: تَهَجَّدَ: إذَا نَامَ.وَتَهَجَّدَ: إذَا صَلَّى فَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ.
وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنَّ الْهَاجِدَ هُوَ النَّائِمُ.هَجَدَ هُجُودًا إذَا نَامَ.وَأَمَّا الْمُتَهَجِّدُ فَهُوَ الْقَائِمُ إلَى الصَّلَاةِ مِنَ النَّوْمِ.وَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ مُتَهَجِّدٌ لِإِلْقَائِهِ الْهُجُودَ عَنْ نَفْسِهِ.
وَقَدْ فَسَّرَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- وَابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- وَمُجَاهِدٌ {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} بِالْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ بَعْدَ النَّوْمِ، فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِلتَّهَجُّدِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ صَلَاةُ التَّطَوُّعِ فِي اللَّيْلِ بَعْدَ النَّوْمِ وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: فِي مَعْنَى التَّهَجُّدِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ (الْأَوَّلُ) أَنَّهُ النَّوْمُ ثُمَّ الصَّلَاةُ ثُمَّ النَّوْمُ ثُمَّ الصَّلَاةُ، (الثَّانِي) أَنَّهُ الصَّلَاةُ بَعْدَ النَّوْمِ، (وَالثَّالِثُ) أَنَّهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ.ثُمَّ قَالَ عَنِ الْأَوَّلِ: إنَّهُ مِنْ فَهْمِ التَّابِعِينَ الَّذِينَ عَوَّلُوا عَلَى «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَنَامُ وَيُصَلِّي، وَيَنَامُ وَيُصَلِّي».وَالْأَرْجَحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الرَّأْيُ الثَّانِي.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- قِيَامُ اللَّيْلِ:
2- الْأَصْلُ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الِاشْتِغَالِ فِيهِ بِالصَّلَاةِ دُونَ غَيْرِهَا.وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِمُطْلَقِ الطَّاعَةِ مِنْ تِلَاوَةٍ وَتَسْبِيحٍ وَنَحْوِهِمَا.
وَقِيَامُ اللَّيْلِ قَدْ يَسْبِقُهُ نَوْمٌ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَقَدْ لَا يَسْبِقُهُ أَمَّا التَّهَجُّدُ فَلَا يَكُونُ إلاَّ بَعْدَ نَوْمٍ ب- إحْيَاءُ اللَّيْلِ:
3- الْمُرَادُ بِإِحْيَاءِ اللَّيْلِ قَضَاؤُهُ أَوْ أَكْثَرَهُ بِالْعِبَادَةِ كَالصَّلَاةِ، وَالذِّكْرِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ، فَالْإِحْيَاءُ أَخَصُّ لِشُمُولِهِ اللَّيْلَ كُلَّهُ أَوْ أَكْثَرَهُ، وَالتَّهَجُّدُ أَخَصُّ لِكَوْنِهِ بِالصَّلَاةِ دُونَ غَيْرِهَا.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (إحْيَاءُ اللَّيْلِ).
حُكْمُهُ:
4- التَّهَجُّدُ مَسْنُونٌ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ لقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك}.
أَيْ فَرِيضَةً زَائِدَةً عَلَى الْفَرِيضَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَلِمُوَاظَبَتِهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى التَّهَجُّدِ؛ وَلِمَا وَرَدَ فِي شَأْنِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى سُنِّيَّتِهِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَيْكُمْ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَقُرْبَةٌ إلَى رَبِّكُمْ، وَمُكَفِّرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الْإِثْمِ».
وَقَوْلُهُ- عليه الصلاة والسلام-: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ» وَالْمُرَادُ بِهَا التَّهَجُّدُ.
وَأَمَّا فِي حَقِّ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِهِ أَوْ نَفْلِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (اخْتِصَاصٌ).
وَقْتُهُ:
5- أَفْضَلُ أَوْقَاتِ التَّهَجُّدِ جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخَرِ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ قَالَ: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ اللَّيْلِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخَرِ فَصَلِّ مَا شِئْت»
فَلَوْ جَعَلَ اللَّيْلَ نِصْفَيْنِ أَحَدَهُمَا لِلنَّوْمِ وَالْآخَرَ لِلْقِيَامِ فَالْأَخِيرُ أَفْضَلُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: لَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ أَثْلَاثًا فَيَقُومَ ثُلُثَهُ وَيَنَامَ ثُلُثَيْهِ، فَالثُّلُثُ الْأَوْسَطُ أَفْضَلُ مِنْ طَرَفَيْهِ، لِأَنَّ الْغَفْلَةَ فِيهِ أَتَمُّ، وَالْعِبَادَةُ فِيهِ أَفْضَلُ وَالْمُصَلِّينَ فِيهِ أَقَلُّ؛ وَلِهَذَا «قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- ذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ مِثْلُ الشَّجَرَةِ الْخَضْرَاءِ فِي وَسَطِ الشَّجَرِ» وَالْأَفْضَلُ مُطْلَقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ السُّدُسُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ مِنَ اللَّيْلِ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَحَبُّ الصَّلَاةِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ صَلَاةُ دَاوُد- عليه السلام- كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ».
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَأَفْضَلُهُ عِنْدَهُمْ ثُلُثُهُ الْأَخِيرُ لِمَنْ تَكُونُ عَادَتُهُ الِانْتِبَاهَ آخِرَ اللَّيْلِ، أَمَّا مَنْ كَانَ غَالِبُ حَالِهِ أَنْ لَا يَنْتَبِهَ آخِرَهُ بِأَنْ كَانَ غَالِبُ أَحْوَالِهِ النَّوْمَ إلَى الصُّبْحِ، فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَجْعَلَهُ أَوَّلَ اللَّيْلِ احْتِيَاطًا.
عَدَدُ رَكَعَاتِهِ:
6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَقَلَّهَا رَكْعَتَانِ خَفِيفَتَانِ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ فَلْيَفْتَتِحْ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ».
وَاخْتَلَفُوا فِي أَكْثَرِهَا فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: مُنْتَهَى رَكَعَاتِهِ ثَمَانِي رَكَعَاتٍ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الظَّاهِرُ «أَنَّ أَقَلّ تَهَجُّدِهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ رَكْعَتَيْنِ، وَأَنَّ مُنْتَهَاهُ كَانَ ثَمَانِي رَكَعَاتٍ» وَسَتَأْتِي الرِّوَايَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: أَكْثَرُهُ عَشْرُ رَكَعَاتٍ أَوِ اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ مِنْهَا بِوَاحِدَةٍ» وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِيهِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ.يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (اخْتِصَاصٌ).
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا حَصْرَ لِعَدَدِ رَكَعَاتِهِ وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ.لِخَبَرِ: «الصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ مَنْ شَاءَ أَقَلّ وَمَنْ شَاءَ أَكْثَر».
رَكَعَاتُ تَهَجُّدِهِ- صلى الله عليه وسلم-:
7- قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: اُخْتُلِفَ فِي عَدَدِ رَكَعَاتِ تَهَجُّدِهِ- صلى الله عليه وسلم- فَرُوِيَ أَنَّهُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً».أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا».وَفِي لَفْظٍ قَالَتْ: «كَانَتْ صَلَاتُهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ بِاللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْهَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ» وَفِي لَفْظٍ: «مِنْهَا الْوِتْرُ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ».وَفِي لَفْظٍ «كَانَ يُصَلِّي ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً بِرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ».وَفِي لَفْظٍ «كَانَ يُصَلِّي فِيمَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إلَى الْفَجْرِ إحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ».
تَرْكُ التَّهَجُّدِ لِمُعْتَادِهِ:
8- يُكْرَهُ لِمَنِ اعْتَادَ التَّهَجُّدَ أَنْ يَتْرُكَهُ بِلَا عُذْرٍ «لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِابْنِ عَمْرٍو يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم- «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ» وَقَوْلُ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا صَلَّى صَلَاةً دَاوَمَ عَلَيْهَا» هَذَا وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ وَمَا عَدَاهُ مِمَّا هُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ مِنْ صِفَةِ صَلَاتِهِ وَمَا يَقُولُهُ الْمُتَهَجِّدُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ وَمَا يَقْرَأُ فِي تَهَجُّدِهِ، وَإِسْرَارِهِ بِالْقِرَاءَةِ وَجَهْرِهِ بِهَا، وَهَلْ تَهَجُّدُهُ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي الْمَسْجِدِ أَوِ الْعَكْسُ، وَإِيقَاظِهِ مَنْ يُطْمَعُ فِي تَهَجُّدِهِ إذَا لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا، وَهَلْ إطَالَةُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ مِنْ تَكْثِيرِ الرَّكَعَاتِ أَوِ الْعَكْسُ
تَفْصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي بَحْثَيْ: (قِيَامِ اللَّيْلِ، وَإِحْيَاءِ اللَّيْلِ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
55-موسوعة الفقه الكويتية (توثيق)
تَوْثِيقٌالتَّعْرِيفُ:
1- التَّوْثِيقُ لُغَةً: مَصْدَرُ وَثَّقَ الشَّيْءَ إِذَا أَحْكَمَهُ وَثَبَّتَهُ، وَثُلَاثِيُّهُ وَثُقَ.يُقَالُ وَثُقَ الشَّيْءُ وَثَاقَةً: قَوِيَ وَثَبَتَ وَصَارَ مُحْكَمًا.
وَالْوَثِيقَةُ مَا يُحْكَمُ بِهِ الْأَمْرُ، وَالْوَثِيقَةُ: الصَّكُّ بِالدَّيْنِ أَوِ الْبَرَاءَةُ مِنْهُ، وَالْمُسْتَنَدُ، وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى وَالْجَمْعُ وَثَائِقُ.وَالْمُوَثِّقُ مَنْ يُوَثِّقُ الْعُقُودَ، وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّزْكِيَةُ وَالتَّعْدِيلُ:
التَّزْكِيَةُ:
2- التَّزْكِيَةُ: الْمَدْحُ وَالثَّنَاءُ، يُقَالُ: زَكَّى فُلَانٌ بَيِّنَتَهُ أَيْ مَدَحَهَا، وَتَزْكِيَةُ الرَّجُلِ نِسْبَتُهُ إِلَى الزَّكَاءِ وَهُوَ الصَّلَاحُ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْإِخْبَارُ بِعَدَالَةِ الشَّاهِدِ.
وَالتَّعْدِيلُ مِثْلُهُ وَهُوَ نِسْبَةُ الشَّاهِدِ إِلَى الْعَدَالَةِ
فَالتَّزْكِيَةُ وَالتَّعْدِيلُ تَوْثِيقٌ لِلْأَشْخَاصِ لِيُؤْخَذَ بِأَقْوَالِهِمْ، وَعَلَى هَذَا فَالتَّوْثِيقُ أَعَمُّ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ التَّزْكِيَةَ وَغَيْرَهَا مِنَ الرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ وَغَيْرِهِمَا.
الْبَيِّنَةُ:
3- الْبَيِّنَةُ مِنْ بَانَ الشَّيْءُ إِذَا ظَهَرَ، وَأَبَنْتُهُ: أَظْهَرْتُهُ، وَالْبَيِّنَةُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَيُظْهِرُهُ، وَسَمَّى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الشُّهُودَ بَيِّنَةً لِوُقُوعِ الْبَيَانِ بِقَوْلِهِمْ وَارْتِفَاعِ الْإِشْكَالِ بِشَهَادَتِهِمْ وَعَلَى ذَلِكَ فَالتَّوْثِيقُ أَعَمُّ مِنَ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْبَيِّنَةَ وَالرَّهْنَ وَالْكَفَالَةَ.
التَّسْجِيلُ:
4- هُوَ الْإِثْبَاتُ فِي السِّجِلِّ وَهُوَ كِتَابُ الْقَاضِي وَنَحْوِهِ.
وَفِي الدُّرَرِ: الْمَحْضَرُ: مَا كُتِبَ فِيهِ مَا جَرَى بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ مِنْ إِقْرَارٍ أَوْ إِنْكَارٍ وَالْحُكْمِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ نُكُولٍ عَلَى وَجْهٍ يَرْفَعُ الِاشْتِبَاهَ، وَالصَّكُّ: مَا كُتِبَ فِيهِ الْبَيْعُ وَالرَّهْنُ وَالْإِقْرَارُ وَغَيْرُهَا.وَالْحُجَّةُ وَالْوَثِيقَةُ يَتَنَاوَلَانِ الثَّلَاثَةَ.
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْمَحَاضِرُ: مَا يُكْتَبُ فِيهَا قِصَّةُ الْمُتَحَاكِمَيْنِ عِنْدَ حُضُورِهِمَا مَجْلِسَ الْحُكْمِ وَمَا جَرَى بَيْنَهُمَا وَمَا أَظْهَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ حُجَّةٍ مِنْ غَيْرِ تَنْفِيذٍ وَلَا حُكْمٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَالسِّجِلاَّتُ: الْكُتُبُ الَّتِي تَجْمَعُ الْمَحَاضِرَ وَتَزِيدُ عَلَيْهَا بِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ وَإِمْضَائِهِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَالتَّسْجِيلُ هُوَ إِثْبَاتُ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَص ْدُرُهَا الْقَاضِي وَتَخْتَلِفُ مَرَاتِبُهَا فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ.فَهُوَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّوْثِيقِ.
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ التَّوْثِيقِ:
5- فِي التَّوْثِيقِ مَنْفَعَةٌ مِنْ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: صِيَانَةُ الْأَمْوَالِ وَقَدْ أُمِرْنَا بِصِيَانَتِهَا وَنُهِينَا عَنْ إِضَاعَتِهَا.
وَالثَّانِي: قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ فَإِنَّ الْوَثِيقَةَ تَصِيرُ حُكْمًا بَيْنَ الْمُتَعَامِلَيْنِ وَيَرْجِعَانِ إِلَيْهَا عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ فَتَكُونُ سَبَبًا لِتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ وَلَا يَجْحَدُ أَحَدُهُمَا حَقَّ صَاحِبِهِ مَخَافَةَ أَنْ تَخْرُجَ الْوَثِيقَةُ وَتَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَيَنْفَضِحَ أَمْرُهُ بَيْنَ النَّاسِ.
وَالثَّالِثُ: التَّحَرُّزُ عَنِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ لِأَنَّ الْمُتَعَامِلَيْنِ رُبَّمَا لَا يَهْتَدِيَانِ إِلَى الْأَسْبَابِ الْمُفْسِدَةِ لِلْعَقْدِ لِيَتَحَرَّزَا عَنْهَا فَيَحْمِلُهُمَا الْكَاتِبُ عَلَى ذَلِكَ إِذَا رَجَعَا إِلَيْهِ لِيَكْتُبَ.
وَالرَّابِعُ: رَفْعُ الِارْتِيَابِ فَقَدْ يُشْتَبَهُ عَلَى الْمُتَعَامِلَيْنِ إِذَا تَطَاوَلَ الزَّمَانُ مِقْدَارُ الْبَدَلِ وَمِقْدَارُ الْأَجَلِ فَإِذَا رَجَعَا إِلَى الْوَثِيقَةِ لَا يَبْقَى لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا رِيبَةٌ.
وَهَذِهِ فَوَائِدُ التَّوْثِيقِ بِالتَّسْجِيلِ، وَهُنَاكَ تَوْثِيقٌ بِالرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ لِحِفْظِ الْحَقِّ.
حُكْمُ التَّوْثِيقِ:
6- تَوْثِيقُ التَّصَرُّفَاتِ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ لِاحْتِيَاجِ النَّاسِ إِلَيْهِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ خَشْيَةَ جَحْدِ الْحُقُوقِ أَوْ ضَيَاعِهَا.
وَالْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ التَّوْثِيقِ مَا وَرَدَ مِنْ نُصُوصٍ، فَفِي مَسَائِلِ الدَّيْنِ جَاءَ قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهَ وَاَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}.
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْأَمْرِ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
7- الْأَوَّلِ: أَنَّ الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ فِي الْمُبَايَعَاتِ وَالْمُدَايَنَاتِ لَمْ يَرِدْ إِلاَّ مَقْرُونًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ}.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَمْنَ لَا يَقَعُ إِلاَّ بِحَسَبِ الظَّنِّ وَالتَّوَهُّمِ لَا عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ إِنَّمَا أُمِرَ بِهَا لِطُمَأْنِينَةِ قَلْبِهِ لَا لِحَقِّ الشَّرْعِ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِحَقِّ الشَّرْعِ مَا قَالَ: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}، وَلَا ثِقَةَ بِأَمْنِ الْعِبَادِ، إِنَّمَا الِاعْتِمَادُ عَلَى مَا يَرَاهُ الشَّرْعُ مَصْلَحَةً، فَالشَّهَادَةُ مَتَى شُرِعَتْ فِي النِّكَاحِ لَمْ تَسْقُطْ بِتَرَاضِيهِمَا وَأَمْنِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ مَنْدُوبٌ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ شُرِعَ لِلطُّمَأْنِينَةِ.
كَذَلِكَ جَاءَ قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} عَقِبَ قَوْلِهِ: {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَتْرُكَ الرَّهْنَ الَّذِي هُوَ بَدَلُ الشَّهَادَةِ جَازَ تَرْكُ الْإِشْهَادِ.
وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ».«وَاشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ سَرَاوِيلَ وَمِنْ أَعْرَابِيٍّ فَرَسًا فَجَحَدَهُ الْأَعْرَابِيُّ حَتَّى شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ» وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَشْهَدَ فِي ذَلِكَ، «وَأَمَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عُرْوَةَ بْنَ الْجَعْدِ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِشْهَادِ، وَأَخْبَرَهُ عُرْوَةُ أَنَّهُ اشْتَرَى شَاتَيْنِ فَبَاعَ إِحْدَاهُمَا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ تَرْكَ الْإِشْهَادِ»، «وَكَانَ الصَّحَابَةُ ((يَتَبَايَعُونَ فِي عَصْرِهِ فِي الْأَسْوَاقِ، فَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِشْهَادِ، وَلَا نُقِلَ عَنْهُمْ فِعْلُهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- ».
وَقَدْ نَقَلَتِ الْأُمَّةُ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ عُقُودَ الْمُدَايَنَاتِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْبِيَاعَاتِ فِي أَمْصَارِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِشْهَادٍ مَعَ عِلْمِ فُقَهَائِهِمْ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْهُمْ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ كَانَ الْإِشْهَادُ وَاجِبًا لَمَا تَرَكُوا النَّكِيرَ عَلَى تَارِكِهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِهِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْهُ نَدْبًا.
ثُمَّ إِنَّ الْمُبَايَعَةَ تَكْثُرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي أَسْوَاقِهِمْ وَغَيْرِهَا، فَلَوْ وَجَبَ الْإِشْهَادُ فِي كُلِّ مَا يَتَبَايَعُونَهُ أَمْضَى إِلَى الْحَرَجِ الْمَحْطُوطِ عَنَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}
فَآيَةُ الْمُدَايَنَاتِ الْأَمْرُ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ لِلْإِرْشَادِ إِلَى حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَالتَّعْلِيمِ، كَمَا أَمَرَ بِالرَّهْنِ وَالْكِتَابَةِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَهَذَا ظَاهِرٌ صَرَّحَ بِذَلِكَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ أَيْضًا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَأَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَإِسْحَاقُ، وَجُمْهُورُ الْأُمَّةِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ فَالْإِشْهَادُ فَرْضٌ لَازِمٌ يَعْصِي بِتَرْكِهِ لِظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ آيَةَ الدَّيْنِ مُحْكَمَةٌ وَمَا فِيهَا نَسْخٌ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- إِذَا بَاعَ بِنَقْدٍ أَشْهَدَ وَلَمْ يَكْتُبْ، وَإِذَا بَاعَ بِنَسِيئَةٍ كَتَبَ وَأَشْهَدَ.
قَالَ بِذَلِكَ الضَّحَّاكُ، وَعَطَاءٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ.
8- وَقَدْ يَكُونُ التَّوْثِيقُ وَاجِبًا بِالِاتِّفَاقِ كَتَوْثِيقِ النِّكَاحِ فَإِنَّ الْإِشْهَادَ فِيهِ وَاجِبٌ سَوَاءٌ أَكَانَ عِنْدَ الْعَقْدِ كَمَا يَقُولُ الْجُمْهُورُ أَمْ عِنْدَ الدُّخُولِ كَمَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ- وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ».فَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةً إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْوَطْءِ.
9- وَقَدْ يَكُونُ التَّوْثِيقُ مَكْرُوهًا أَوْ حَرَامًا، وَذَلِكَ كَالْإِشْهَادِ عَلَى الْعَطِيَّةِ لِلْأَوْلَادِ إِنْ حَصَلَ فِيهَا تَفَاوُتٌ.إِذِ اعْتَبَرَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مَكْرُوهًا وَاعْتَبَرَهُ بَعْضُهُمُ الْآخَرُ حَرَامًا.وَذَلِكَ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ «عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَانْطَلَقَ أَبِي إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ، فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ، وَفِي لَفْظٍ قَالَ: فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا فَإِنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ»، وَفِي لَفْظٍ «فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي».
10- وَمَعَ الِاخْتِلَافِ فِي حُكْمِ تَوْثِيقِ الْمُعَامَلَاتِ فَإِنَّهُ حَقٌّ لِكُلِّ مَنْ طَلَبَهُ.يَقُولُ ابْنُ فَرْحُونَ: إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْإِشْهَادَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الدَّيْنِ وَالْبَيْعِ فَإِنَّهُ حَقٌّ لِكُلِّ مَنْ دَعَى إِلَيْهِ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ أَوِ الْمُتَدَايِنَيْنِ عَلَى صَاحِبِهِ يُقْضَى لَهُ بِهِ عَلَيْهِ إِنْ أَبَاهُ؛ لِأَنَّ مِنْ حَقِّهِ أَنْ لَا يَأْتَمِنَهُ؛ وَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى مَنْ بَاعَ سِلْعَةً لِغَيْرِهِ الْإِشْهَادُ عَلَى الْبَيْعِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَ؛ لِأَنَّ رَبَّ السِّلْعَةِ لَمْ يَرْضَ بِائْتِمَانِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا فِيهِ حَقٌّ لِغَائِبٍ الْإِشْهَادُ فِيهِ وَاجِبٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الزَّانِيَيْنِ: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فَأَمَرَ بِالْإِشْهَادِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ حَقِّ غَيْرِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ اللِّعَانُ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِمَحْضَرِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِانْقِطَاعِ نَسَبِ الْوَلَدِ.
طُرُقُ التَّوْثِيقِ:
11- لِلتَّوْثِيقِ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَهِيَ قَدْ تَكُونُ بِعَقْدٍ- وَهُوَ مَا يُسَمَّى عُقُودُ التَّوْثِيقَاتِ- كَالرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ، وَقَدْ تَكُونُ بِغَيْرِ عَقْدٍ كَالْكِتَابَةِ وَالْإِشْهَادِ وَحَقِّ الْحَبْسِ وَالِاحْتِبَاسِ.
وَمِنَ التَّوْثِيقَاتِ مَا هُوَ وَثِيقَةٌ بِمَالٍ كَالرَّهْنِ وَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ وَثِيقَةٌ بِذِمَّةٍ كَالْكَفَالَةِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أ- الْكِتَابَةُ:
12- كِتَابَةُ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ وَسِيلَةٌ لِتَوْثِيقِهَا، أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَا فِي قَوْلِهِ: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} وَقَدْ وَثَّقَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِالْكِتَابَةِ فِي مُعَامَلَاتِهِ، فَبَاعَ وَكَتَبَ، وَمِنْ ذَلِكَ الْوَثِيقَةُ التَّالِيَةُ:
«هَذَا مَا اشْتَرَى الْعَدَاءُ بْنُ خَالِدٍ بْنِ هَوْذَةَ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- اشْتَرَى مِنْهُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً، لَا دَاءَ، وَلَا غَائِلَةَ، وَلَا خِبْثَةَ، بَيْعُ الْمُسْلِمِ مِنَ الْمُسْلِمِ».
كَذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِالْكِتَابِ فِيمَا قَلَّدَ فِيهِ عُمَّالَهُ مِنَ الْأَمَانَةِ وَأَمَرَ بِالْكِتَابِ فِي الصُّلْحِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ.وَالنَّاسُ تَعَامَلُوهُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى يَوْمِنَا هَذَا.
وَالْمَقْصُودُ بِكِتَابَةِ التَّصَرُّفَاتِ هُوَ إِحْكَامُهَا بِاسْتِيفَاءِ شُرُوطِهَا، وَالْفِقْهُ هُوَ الَّذِي رَسَمَ هَذِهِ الشُّرُوطَ، وَعَنْ طَرِيقِهِ يُعْرَفُ مَا يَصِحُّ مِنَ الْوَثَائِقِ وَمَا يَبْطُلُ؛ إِذْ لَيْسَ لِلتَّوْثِيقِ أَرْكَانٌ وَشُرُوطٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْفِقْهِ، وَمَا يُكْتَبُ يُسَمَّى وَثِيقَةً.
لَكِنْ لَيْسَتْ كُلُّ وَثِيقَةٍ تُكْتَبُ بِتَصَرُّفٍ مِنْ بَيْعٍ، أَوْ رَهْنٍ، أَوْ إِجَارَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ تُسَمَّى وَثِيقَةً شَرْعًا، إِنَّمَا تُسَمَّى كَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْكِتَابَةُ حَسَبَ الشُّرُوطِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ- فِيمَا يُسَمَّى بِعِلْمِ الشُّرُوطِ- وَمَا لِذَلِكَ مِنْ شُرُوطِ انْعِقَادٍ، وَصِحَّةٍ وَنَفَاذٍ، وَلُزُومٍ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعِبَارَاتِ فِي الدَّعَاوَى وَالْإِقْرَارَاتِ وَالشَّهَادَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.فَاتِّبَاعُ الشُّرُوطِ الَّتِي وَضَعَهَا الْفُقَهَاءُ هُوَ الَّذِي يَتَضَمَّنُ حُقُوقَ الْمَحْكُومِ لَهُ وَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ.وَالشَّهَادَةُ لَا تُسْمَعُ إِلاَّ بِمَا فِيهِ.وَلِذَلِكَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا}.
ب- الْإِشْهَادُ:
13- إِشْهَادُ الشُّهُودِ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ وَسِيلَةٌ لِتَوْثِيقِهَا، وَاحْتِيَاطٌ لِلْمُتَعَامِلِينَ عِنْدَ التَّجَاحُدِ؛ إِذْ هِيَ إِخْبَارٌ لِإِثْبَاتِ حَقٍّ- وَالْقِيَاسُ يَأْبَى كَوْنَ الشَّهَادَةِ حُجَّةً فِي الْأَحْكَامِ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً مُلْزِمَةً؛ وَلِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْقَضَاءُ مُلْزِمٌ، فَيَسْتَدْعِي سَبَبًا مُوجِبًا لِلْعِلْمِ وَهُوَ الْمُعَايَنَةُ، فَالْقَضَاءُ أَوْلَى.لَكِنْ تُرِكَ ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ الَّتِي فِيهَا أَمْرٌ لِلْأَحْكَامِ بِالْعَمَلِ بِالشَّهَادَةِ.مِنْ ذَلِكَ قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}.
وَلَقَدْ سَمَّى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الشُّهُودَ بَيِّنَةً لِوُقُوعِ الْبَيَانِ بِقَوْلِهِمْ وَارْتِفَاعِ الْإِشْكَالِ بِشَهَادَتِهِمْ فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» قَالَ السَّرَخْسِيُّ: فِي ذَلِكَ مَعْنَيَانِ:
أَحَدُهُمَا: حَاجَةُ النَّاسِ إِلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُنَازَعَاتِ وَالْخُصُومَاتِ تَكْثُرُ بَيْنَ النَّاسِ وَتَتَعَذَّرُ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ فِي كُلِّ خُصُومَةٍ وَالتَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ.
وَالثَّانِي: مَعْنَى إِلْزَامِ الشُّهُودِ حَيْثُ جَعَلَ الشَّرْعُ شَهَادَتَهُمْ حُجَّةً لِإِيجَابِ الْقَضَاءِ مَعَ احْتِمَالِ الْكَذِبِ إِذَا ظَهَرَ رُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ.
وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَغَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى الشَّهَادَةِ لِحُصُولِ التَّجَاحُدِ بَيْنَ النَّاسِ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إِلَيْهَا.
وَالْبَيِّنَاتُ مُرَتَّبَةٌ بِحَسَبِ الْحُقُوقِ الْمَشْهُودِ فِيهَا، وَلَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِشَيْءٍ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ بِهِ الْعِلْمُ؛ إِذْ لَا يَجُوزُ الشَّهَادَةُ إِلاَّ بِمَا عَلِمَ وَقَطَعَ بِمَعْرِفَتِهِ لَا بِمَا يَشُكُّ فِيهِ، وَلَا بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مَعْرِفَتُهُ.
وَلِبَيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّهَادَةِ يُنْظَرُ فِي (إِشْهَادٌ- شَهَادَةٌ).
ج- الرَّهْنُ:
14- الرَّهْنُ وَسِيلَةٌ مِنْ وَسَائِلِ التَّوْثِيقِ، إِذْ هُوَ الْمَالُ الَّذِي يُجْعَلُ وَثِيقَةً بِالدَّيْنِ لِيَسْتَوْفِيَ الدَّائِنُ مِنْ ثَمَنِهِ إِنْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}.
قَالَ الْجَصَّاصُ: يَعْنِي- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- إِذَا عَدِمْتُمِ التَّوَثُّقَ بِالْكِتَابِ وَالْإِشْهَادِ، فَالْوَثِيقَةُ بِرِهَانٍ مَقْبُوضَةٍ، فَأَقَامَ الرَّهْنَ فِي بَابِ التَّوَثُّقِ فِي الْحَالِ الَّتِي لَا يَصِلُ (الدَّائِنُ) فِيهَا إِلَى التَّوَثُّقِ بِالْكِتَابِ وَالْإِشْهَادِ مَقَامَهَا»؛
وَلِأَنَّ الرَّهْنَ شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إِلَى تَوْثِيقِ الدَّيْنِ عَنْ تَوَاءِ الْحَقِّ (أَيْ هَلَاكِهِ) بِالْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ فَكَانَ مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ حَبْسُ الْعَيْنِ الَّتِي وَرَدَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا رَهْنًا.إِذِ التَّوْثِيقُ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا كَانَ يَمْلِكُ حَبْسَ الْعَيْنِ، فَيَحْمِلُ ذَلِكَ الْمَدِينَ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ فِي أَسْرَعِ الْأَوْقَاتِ.وَبِالرَّهْنِ يُؤْمَنُ الْجُحُودُ وَالْإِنْكَارُ.وَلِذَلِكَ إِذَا حَلَّ أَجَلُ الدَّيْنِ كَانَ لِلدَّائِنِ أَنْ يَرْفَعَهُ إِلَى الْقَاضِي، فَيَبِيعَ عَلَيْهِ الرَّهْنَ وَيُنْصِفَهُ مِنْهُ إِنْ لَمْ يُجِبْهُ الرَّاهِنُ إِلَى ذَلِكَ.وَمِنْ ثَمَّ يَخْتَصُّ الرَّهْنُ بِأَنْ يَكُونَ مَحَلًّا قَابِلًا لِلْبَيْعِ، فَلَا يَجُوزُ التَّوْثِيقُ بِرَهْنِ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي الْجُمْلَةِ.
وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِجُمْلَةِ الْحَقِّ الْمَرْهُونِ فِيهِ وَبِبَعْضِهِ، فَإِذَا أَدَّى بَعْضَ الدَّيْنِ بَقِيَ الرَّهْنُ جَمِيعُهُ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ؛ لِأَنَّهُ مَحْبُوسٌ بِحَقٍّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ.
وَقِيلَ: يَبْقَى مِنَ الرَّهْنِ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ بِقَدْرِ مَا يَبْقَى مِنَ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهُ مَحْبُوسٌ بِجَمِيعِهِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَبْعَاضُهُ مَحْبُوسَةً بِأَبْعَاضِهِ.
هَذَا وَلِلرَّهْنِ شُرُوطٌ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مَقْبُوضًا وَكَوْنُهُ بِدَيْنٍ لَازِمٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي (رَهْنٌ). د- الضَّمَانُ وَالْكَفَالَةُ:
15- الضَّمَانُ وَالْكَفَالَةُ قَدْ يُسْتَعْمَلَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الضَّمَانُ لِلدَّيْنِ وَالْكَفَالَةُ لِلنَّفْسِ، وَهُمَا مَشْرُوعَانِ لِلتَّوْثِيقِ.إِذْ فِيهِ ضَمُّ ذِمَّةِ الْكَفِيلِ إِلَى ذِمَّةِ الْأَصِيلِ عَلَى وَجْهِ التَّوْثِيقِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِرَجُلٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ دِينَارَانِ، قَالَ: هَلْ تَرَكَ لَهُمَا وَفَاءً؟ قَالُوا: لَا، فَتَأَخَّرَ فَقِيلَ: لِمَ لَا تُصَلِّي عَلَيْهِ؟ فَقَالَ: مَا تَنْفَعُهُ صَلَاتِي وَذِمَّتُهُ مَرْهُونَةٌ إِلاَّ إِنْ قَامَ أَحَدُكُمْ فَضَمِنَهُ.فَقَامَ أَبُو قَتَادَةَ فَقَالَ: هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- »؛
وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ تُؤَمِّنُ الدَّائِنَ عَنِ التَّوَى بِإِفْلَاسِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَعْدَمَ الْمَضْمُونُ أَوْ غَابَ أَنَّ الضَّامِنَ يَغْرَمُ الْمَالَ.وَإِذَا حَضَرَ الضَّامِنُ وَالْمَضْمُونُ وَهُمَا مُوسِرَانِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: لِلطَّالِبِ أَنْ يُطَالِبَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ فِي ذِمَّةِ الضَّامِنِ فَمَلَكَ مُطَالَبَتَهُ كَالْأَصِيلِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِمَالِكٍ. وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْكَفِيلَ مَعَ وُجُودِ الْأَصِيلِ إِلاَّ إِذَا تَعَذَّرَتْ مُطَالَبَةُ الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لِلتَّوَثُّقِ فَلَا يُسْتَوْفَى الْحَقُّ مِنَ الْكَفِيلِ إِلاَّ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ مِنَ الْأَصِيلِ كَالرَّهْنِ.
هَذَا وَشُرُوطُ الضَّمَانِ وَمَنْ يَصِحُّ مِنْهُ وَمَا يَصِحُّ بِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ: (كَفَالَةٌ وَضَمَانٌ).
هـ- حَقُّ الْحَبْسِ وَالِاحْتِبَاسِ:
16- لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّوْثِيقِ صِيَانَةَ الْحُقُوقِ وَالِاحْتِيَاطَ؛ لِذَلِكَ كَانَ مِنْ حَقِّ الدَّائِنِ أَنْ يَتَوَثَّقَ لِحَقِّهِ بِحَبْسِ مَا تَحْتَ يَدِهِ لِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ يَتَعَلَّقُ بِهِ؛ وَلِذَلِكَ صُوَرٌ مُخْتَلِفَةٌ:
مِنْهَا: حَقُّ احْتِبَاسِ الْمَبِيعِ إِلَى قَبْضِ الثَّمَنِ- يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: لِلْبَائِعِ حَبْسُ الْمَبِيعِ إِلَى قَبْضِ الثَّمَنِ، وَلَوْ بَقِيَ مِنْهُ دِرْهَمٌ، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ شَيْئَيْنِ بِصَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَسَمَّى لِكُلٍّ ثَمَنًا فَلَهُ حَبْسُهُمَا إِلَى اسْتِيفَاءِ الْكُلِّ، وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْحَبْسِ بِالرَّهْنِ، وَلَا بِالْكَفِيلِ، وَلَا بِإِبْرَائِهِ عَنْ بَعْضِ الثَّمَنِ حَتَّى يَسْتَوفِيَ الْبَاقِي.
وَيَنْظُرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (بَيْعٌ وَحَبْسٌ).
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُؤَجِّرَ لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْمَنَافِعِ إِلَى أَنْ يَتَسَلَّمَ الْأُجْرَةَ الْمُعَجَّلَةَ، وَكَذَلِكَ لِلصَّانِعِ حَقُّ حَبْسِ الْعَيْنِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعَمَلِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ إِذَا كَانَ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ كَالْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (إِجَارَةٌ وَاسْتِصْنَاعٌ).
وَمِنْ ذَلِكَ حَبْسُ الْمَدِينِ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى أَدَاءِ دَيْنِهِ، وَمَاطَلَ فِي الْأَدَاءِ، وَطَلَبَ صَاحِبُ الدَّيْنِ مِنَ الْقَاضِي حَبْسَهُ؛ وَلِلدَّائِنِ كَذَلِكَ مَنْعُهُ مِنَ السَّفَرِ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ حَبْسِهِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (دَيْنٌ، أَدَاءٌ، وَفَاءٌ).
17- هَذِهِ هِيَ أَشْهَرُ أَنْوَاعِ التَّوْثِيقِ، وَهُنَاكَ أُمُورٌ أُخْرَى يَكُونُ الْقِيَامُ بِهَا تَوْثِيقًا لِلْحَقِّ وَصِيَانَةً لَهُ.فَكِتَابَةُ الْأَحْكَامِ فِي السِّجِلاَّتِ تُعْتَبَرُ تَوْثِيقًا لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ، وَالْحَجْرُ عَلَى الْمُفْلِسِ تَوْثِيقٌ لِحُقُوقِ الدَّائِنِينَ.وَهَكَذَا، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (إِفْلَاسٌ، حَجْرٌ، كِتَابَةٌ).
مَا يَدْخُلُهُ التَّوْثِيقُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ:
18- كُلُّ تَصَرُّفٍ صَحِيحٍ مُسْتَوْفٍ لِشُرُوطِهِ يَدْخُلُهُ التَّوْثِيقُ إِذْ التَّوْثِيقُ يُؤَكِّدُ الْحُقُوقَ لِأَصْحَابِهَا وَيُسَهِّلُ لَهُمُ الْوُصُولُ إِلَيْهَا عِنْدَ التَّنَازُعِ، وَالتَّجَاحُدِ يَقُولُ الْجَصَّاصُ فِي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوه}.فِي الْآيَةِ الْأَمْرُ بِالْإِشْهَادِ إِذَا صَحَّتِ الْمُدَايَنَةُ.
وقوله تعالى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ}: فِيهِ أَمْرٌ لِمَنْ تَوَلَّى كِتَابَةَ الْوَثَائِقِ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَكْتُبَهَا بِالْعَدْلِ بَيْنَهُمْ.
وقوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ} قَالَ الْجَصَّاصُ: يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- مَا بَيَّنَهُ مِنْ أَحْكَامِ الْعُقُودِ الصَّحِيحَةِ وَالْمُدَايَنَاتِ الثَّابِتَةِ الْجَائِزَةِ لِكَيْ يَحْصُلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَدَايِنَيْنِ مَا قَصَدَ مِنْ تَصْحِيحِ عَقْدِ الْمُدَايَنَةِ.
أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الْبَاطِلَةُ فَالْأَصْلُ فِيهَا أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَيْهَا حَرَامٌ، وَيَأْثَمُ فَاعِلُهَا لِارْتِكَابِهِ الْمَعْصِيَةَ بِمُخَالَفَتِهِ الْمَشْرُوعَ، وَبِالتَّالِي يَكُونُ تَوْثِيقُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ حَرَامًا؛ إِذْ وَسِيلَةُ الشَّيْءِ تَأْخُذُ حُكْمَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا فَائِدَةَ مِنْ تَوْثِيقِ التَّصَرُّفَاتِ الْبَاطِلَةِ لِأَنَّهَا مَفْسُوخَةٌ شَرْعًا، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا آثَارُهَا كَمَا تَتَرَتَّبُ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ الصَّحِيحَةِ.
كَذَلِكَ «أَبَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَشْهَدَ عَلَى- تَصَرُّفٍ جَائِرٍ فَامْتَنَعَ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى هِبَةِ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ ابْنَهُ النُّعْمَانَ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْدِلْ بَيْنَ أَوْلَادِهِ فِي الْعَطِيَّةِ.وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ بَشِيرًا رَدَّ عَطِيَّتَهُ».
وَيَقُولُ الدُّسُوقِيُّ: الْبَيْعُ الْفَاسِدُ وَالْقَرْضُ الْفَاسِدُ إِذَا شُرِطَ فِيهِ رَهْنٌ فَدَفَعَهُ الْمُشْتَرِي أَوِ الْمُقْتَرِضُ فَإِنَّ الرَّهْنَ يَكُونُ فَاسِدًا، وَيَجِبُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرُدَّهُ لِلرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، وَالْمَبْنِيُّ عَلَى الْفَاسِدِ فَاسِدٌ.
وَإِذَا كَانَ التَّوْثِيقُ لَا يَرِدُ إِلاَّ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ الصَّحِيحَةِ، فَإِنَّ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا يَجُوزُ أَنْ تَجْمَعَ أَكْثَرُ مِنْ تَوْثِيقٍ، وَمِنْهَا مَا يُوَثَّقُ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ فَقَطْ.
يَقُولُ الزَّرْكَشِيُّ: مِنَ الْعُقُودِ مَا يَدْخُلُهُ الرَّهْنُ وَالْكَفِيلُ وَالشَّهَادَةُ، كَالْبَيْعِ وَالسَّلَمِ وَالْقَرْضِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ.
وَمِنْهُ مَا يَسْتَوْثِقُ مِنْهُ بِالشَّهَادَةِ لَا بِالرَّهْنِ وَهُوَ الْمُسَاقَاةُ، جَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِهَا، قَالَ: لِأَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ- وَكَذَلِكَ الْجَعَالَةُ، وَمِنْهُ الْمُسَابَقَةُ إِذَا اسْتَحَقَّ رَهْنَهَا جَازَ الرَّهْنُ وَالضَّمِينُ، وَقِيلَ: وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ أَوْ لَازِمٌ. وَمِنْهُ مَا يَدْخُلُهُ الضَّمِينُ دُونَ الرَّهْنِ وَهُوَ ضَمَانُ الدَّرْكِ قَالَهُ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ.
بُطْلَانُ التَّوْثِيقِ:
19- يَبْطُلُ التَّوْثِيقُ بِعِدَّةِ أُمُورٍ مِنْهَا:
أ- إِذَا كَانَ التَّوْثِيقُ ضِمْنَ تَصَرُّفٍ فَاسِدٍ، إِذْ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا فَسَدَ الْمُتَضَمِّنُ فَسَدَ الْمُتَضَمَّنُ.
وَلِذَلِكَ قَالَ الْفُقَهَاءُ: إِذَا كَانَ الرَّهْنُ فِي بَيْعٍ فَاسِدٍ بَطَلَ الرَّهْنُ لِفَسَادِ الْبَيْعِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ لِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ الْحَبْسِ وَلِلرَّاهِنِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ.
ب- إِذَا فُقِدَتْ شُرُوطُ الْوَثَائِقِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.فَفِي الشَّهَادَةِ مَثَلًا تَبْطُلُ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ وَشَهَادَةُ مَنْ يَجُرُّ بِشَهَادَتِهِ مَنْفَعَةً لِنَفْسِهِ أَوْ يَدْفَعُ عَنْهَا مَضَرَّةً، وَمِنْ ذَلِكَ شَهَادَةُ الْمِدْيَانِ الْمُعْسِرِ لِرَبِّ الدَّيْنِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (شَهَادَةٌ).
وَفِي الرَّهْنِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَرْهُونُ مَحَلًّا قَابِلًا لِلْبَيْعِ وَهُوَ- كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ- أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ، وَأَنْ يَكُونَ مَالًا مُطْلَقًا مُتَقَوِّمًا مَعْلُومًا مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، فَلَا يَجُوزُ رَهْنُ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَلَا مَا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ، وَلَا رَهْنُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَلَا رَهْنُ صَيْدِ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (رَهْنٌ).
وَفِي الْكَفَالَةِ يُشْتَرَطُ فِي الْكَفِيلِ أَوِ الضَّامِنِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ، فَيَبْطُلُ ضَمَانُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ- وَأَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ لَهُ مَعْلُومًا لِأَنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ إِذَا كَانَ مَجْهُولًا لَا يَحْصُلُ مَا شُرِعَتْ لَهُ الْكَفَالَةُ وَهُوَ التَّوَثُّقُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (كَفَالَةٌ- ضَمَانٌ).
ج- إِذَا كَانَ التَّوْثِيقُ مُخَالِفًا لِأَمْرِ الشَّرْعِ فَإِذَا كَانَ الْمَدِينُ مُعْسِرًا غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ لَا يَجُوزُ حَبْسُهُ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}.
كَذَلِكَ لَا يُحْبَسُ الْوَالِدُ بِدَيْنِ الْوَلَدِ لقوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} وَقَوْلُهُ: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} وَيَقُولُ الدُّسُوقِيُّ: يَبْطُلُ الضَّمَانُ إِذَا كَانَ الْمُتَحَمَّلُ بِهِ فَاسِدًا كَمَا لَوْ كَانَ رِبًا كَمَا لَوْ قَالَ شَخْصٌ لآِخَرَ: ادْفَعْ لِهَذَا دِينَارًا فِي دِينَارَيْنِ لِشَهْرٍ، أَوِ ادْفَعْ لَهُ دَرَاهِمَ فِي دَنَانِيرَ إِلَى شَهْرٍ، وَأَنَا حَمِيلٌ بِذَلِكَ (أَيْ كَفِيلٌ) فَالْحَمَالَةُ بَاطِلَةٌ وَلَا يَلْزَمُ الضَّامِنَ شَيْءٌ مُطْلَقًا.
وَكَبَيْعِ السِّلْعَةِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ لِأَجَلٍ مَجْهُولٍ أَوْ مَعْلُومٍ، أَوْ كَانَ الْبَيْعُ وَقْتَ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ- عِنْدَ مَنْ يَرَى بُطْلَانَهُ- فَإِذَا ضَمِنَ ذَلِكَ الثَّمَنَ إِنْسَانٌ فَالضَّمَانُ بَاطِلٌ، وَلَا يَلْزَمُ الضَّامِنَ شَيْءٌ.
وَكَمَا إِذَا كَانَتْ الْحَمَالَةُ بِجُعْلٍ فَهِيَ فَاسِدَةٌ.لِأَنَّ شَرْطَ الْحَمَالَةِ أَنْ تَكُونَ لِلَّهِ، فَإِذَا كَانَتْ بِمُقَابِلٍ لَا يُعْتَدُّ بِهَا.
د- إِذَا ضَاعَتْ وَثِيقَةُ الْحَقِّ فَصَالَحَ صَاحِبُهَا ثُمَّ وَجَدَ الْوَثِيقَةَ بَعْدَ الصُّلْحِ فَلَا قِيَامَ (مُطَالَبَةَ) لَهُ بِهَا جَاءَ فِي الدُّسُوقِيِّ: مَنِ ادَّعَى عَلَى شَخْصٍ بِحَقٍّ فَقَالَ لَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقُّك ثَابِتٌ إِنْ أَتَيْت بِالْوَثِيقَةِ الَّتِي فِيهَا الْحَقُّ، فَقَالَ الْمُدَّعِي: ضَاعَتْ مِنِّي فَصَالَحَهُ ثُمَّ وَجَدَ الْوَثِيقَةَ بَعْدُ فَلَا قِيَامَ لَهُ بِهَا، وَلَا يُنْقَضُ الصُّلْحُ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا صَالَحَ عَلَى إِسْقَاطِ حَقِّهِ.
انْتِهَاءُ التَّوْثِيقِ:
20- يَنْتَهِي التَّوْثِيقُ بِانْتِهَاءِ مَا كَانَ سَبَبًا لَهُ وَمِنْ ذَلِكَ:
أ- احْتِبَاسُ الْمَبِيعِ لِأَجْلِ قَبْضِ الثَّمَنِ يَنْتَهِي بِأَدَاءِ الثَّمَنِ وَيَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ.
وَاحْتِبَاسُ الْمَرْهُونِ يَنْقَضِي بِأَدَاءِ الدَّيْنِ وَيَجِبُ فِكَاكُ الرَّهْنِ وَتَسْلِيمُهُ لِلرَّاهِنِ.
وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ حَقُّ الِاحْتِبَاسِ فَإِنَّهُ يَنْتَهِي بِأَدَاءِ مَا كَانَ الِاحْتِبَاسُ لِأَجْلِهِ.
ب- كَذَلِكَ يَنْتَهِي التَّوْثِيقُ بِإِبْرَاءِ الدَّائِنِ لِلْمَدِينِ وَبِحَوَالَةِ الْمَدِينِ لِلدَّائِنِ فِي الْجُمْلَةِ.
ج- بِالْفَسْخِ أَوْ بِالْعَزْلِ كَمَا فِي الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ كَالْوَكَالَةِ وَالْقِرَاضِ الْوَدِيعَةِ إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي التَّوْثِيقِ.
د- بِبَيْعِ الْوَثِيقَةِ كَالْمَرْهُونِ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ.
هـ- بِالْمُقَاصَّةِ فِي الدُّيُونِ.
و- بِهَلَاكِ الْمَعْقُود عَلَيْهِ كَالْمَبِيعِ إِذَا هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ.
ز- مَوْتُ الْمَكْفُولِ بِهِ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ كُلِّ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ. أَثَرُ التَّوْثِيقِ:
21- أَهَمُّ أَثَرٍ لِلتَّوْثِيقِ صِيَانَةُ الْحُقُوقِ لِأَرْبَابِهَا وَإِثْبَاتُهَا عِنْدَ التَّجَاحُدِ.وَقَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْآثَارِ التَّبَعِيَّةِ، وَمِنْ ذَلِكَ:
أ- مَنْعُ تَصَرُّفِ الرَّاهِنِ فِي الْمَرْهُونِ بِبَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ هِبَةٍ، وَيُعْتَبَرُ تَصَرُّفًا بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ- كَمَا يَقُولُ ابْنُ قُدَامَةَ- تَصَرُّفٌ يُبْطِلُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مِنَ الْوَثِيقَةِ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ فَلَمْ يَصِحَّ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ.
ب- ثُبُوتُ وِلَايَةِ مُطَالَبَةِ الْكَفِيلِ بِمَا عَلَى الْأَصِيلِ، فَيُطَالَبُ الْكَفِيلُ بِالدَّيْنِ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ عَلَى الْأَصِيلِ، وَيُطَالَبُ الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ بِإِحْضَارِ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ غَائِبًا، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا يُؤَخِّرُ الْكَفِيلُ إِلَى مُدَّةٍ يُمْكِنُهُ إِحْضَارُهُ فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فِي الْمُدَّةِ وَلَمْ يَظْهَرْ عَجْزُهُ لِلْقَاضِي حَبَسَهُ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ عَجْزُهُ لَهُ.
ج- ثُبُوتُ وِلَايَةِ مُطَالَبَةِ الْكَفِيلِ الْأَصِيلَ إِذَا كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ وَأَدَّى الْكَفِيلُ مَا عَلَى الْأَصِيلِ.
د- بَيْعُ الْمَرْهُونِ فِي الرَّهْنِ إِذَا عَجَزَ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ عَنْ وَفَائِهِ. التَّوْثِيقُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ:
22- يَقُولُ الْغَزَالِيُّ: الْمَقْبُولُ رِوَايَتُهُ: كُلُّ مُكَلَّفٍ عَدْلٍ مُسْلِمٍ ضَابِطٍ فَلَا تَحْصُلُ الثِّقَةُ بِمَا يُخَالِفُ هَذِهِ الشُّرُوطَ.
وَيَثْبُتُ ذَلِكَ إِمَّا بِالِاخْتِبَارِ أَوْ بِالتَّزْكِيَةِ.
وَالتَّزْكِيَةُ هِيَ إِخْبَارُ الْعَدْلِ بِالْعَدَالَةِ.وَالْأَصْلُ فِي مَرَاتِبِهَا اصْطِلَاحُ الْمُزَكِّي فِي أَلْفَاظِ التَّزْكِيَةِ، وَالْأَشْهَرُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ أَرْفَعَهَا فِي التَّعْدِيلِ: حُجَّةٌ وَثِقَةٌ، وَحَافِظٌ وَضَابِطٌ، وَهِيَ تَوْثِيقٌ لِلْعَدْلِ، ثُمَّ بَعْدَهَا ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ.مَأْمُونٌ، صَدُوقٌ، لَا بَأْسَ بِهِ، ثُمَّ بَعْدَهَا..إِلَخْ.
وَمِمَّا يُعْتَبَرُ تَوْثِيقًا: حُكْمُ الْحَاكِمِ وَعَمَلُ الْمُجْتَهِدِ بِرِوَايَتِهِ.
وَيُرْجَعُ إِلَى هَذَا فِي عِلْمِ مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ، وَالْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
56-موسوعة الفقه الكويتية (ثمار 2)
ثِمَارٌ -2وَضْعُ الْجَوَائِحِ فِي الثِّمَارِ الْمَبِيعَةِ:
17- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وَضْعِ الْجَوَائِحِ فِي الثِّمَارِ الْمَبِيعَةِ، فَإِذَا تَلِفَتِ الثِّمَارُ بِجَائِحَةٍ سَمَاوِيَّةٍ كَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ، سَوَاءٌ أَتَتِ الْجَائِحَةُ عَلَى كُلِّ الثِّمَارِ أَمْ بَعْضِهَا لِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ» وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ».
ثُمَّ إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا لِوَضْعِ الْجَوَائِحِ أَنْ تُصِيبَ الْجَائِحَةُ ثُلُثَ الثِّمَارِ فَأَكْثَرَ، فَإِنْ أَصَابَتْ أَقَلَّ مِنَ الثُّلُثِ لَمْ يُوضَعْ عَنِ الْمُشْتَرِي شَيْءٌ، وَإِذَا أَصَابَتْهُ الثُّلُثَ فَأَكْثَرَ لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ قِيمَتُهَا بَعْدَ حَطِّ مَا أَصَابَتْهُ الْجَائِحَةُ، وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الْجَائِحَةَ مِنَ الْعَطَشِ فَيُوضَعُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا سَوَاءٌ بَلَغَتِ الثُّلُثَ أَمْ لَا.
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَضْعِ الْجَوَائِحِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْجَائِحَةُ قَبْلَ التَّخْلِيَةِ أَوْ بَعْدَهَا.فَقَالُوا: إِنْ تَلِفَتِ الثِّمَارُ بِجَائِحَةٍ قَبْلَ التَّخْلِيَةِ فَهِيَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ وَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ، وَهَذَا فِيمَا إِذَا أَتَتِ الْجَائِحَةُ عَلَى كُلِّ الثِّمَارِ، أَمَّا إِذَا أَتَتْ عَلَى بَعْضِهَا فَإِنَّهُ يَنْفَسِخُ مِنَ الْعَقْدِ بِقَدْرِ التَّالِفِ، وَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي فِي الْبَاقِي.
وَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ التَّخْلِيَةِ، فَهِيَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي لِقَبْضِهِ بِالتَّخْلِيَةِ.
قَالُوا: وَالْأَمْرُ فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ، أَوْ عَلَى مَا قَبْلَ التَّخْلِيَةِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.
ثَالِثًا: رَهْنُ الثِّمَارِ:
18- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ رَهْنِ الثِّمَارِ سَوَاءٌ مَا كَانَتْ عَلَى الشَّجَرِ أَمْ لَا، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ أَوْ قَبْلَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْبَيْعِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ إِنَّمَا كَانَ لِعَدَمِ الْأَمْنِ مِنَ الْعَاهَةِ وَهَذَا مَفْقُودٌ هُنَا، وَبِتَقْدِيرِ تَلَفِهَا لَا يَفُوتُ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ مِنَ الدَّيْنِ لِتَعَلُّقِهِ بِذِمَّةِ الرَّاهِنِ.
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ رَهْنَ الثِّمَارِ الَّتِي لَمْ تُخْلَقْ بَعْدُ.
ثُمَّ إِنَّ الْحَنَفِيَّةَ لَمْ يُجَوِّزُوا رَهْنَ الثَّمَرِ بِدُونِ الشَّجَرِ، أَوِ الشَّجَرِ بِدُونِ الثَّمَرِ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ عِنْدَهُمْ وَهُوَ أَنَّ الْمَرْهُونَ مَتَى اتَّصَلَ بِغَيْرِ الْمَرْهُونِ خِلْقَةً لَا يَجُوزُ لِامْتِنَاعِ قَبْضِ الرَّهْنِ وَحْدَهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ رَهَنَ شَجَرًا وَفِيهِ ثَمَرٌ لَمْ يُسَمِّهِ فِي الرَّهْنِ دَخَلَ فِي الرَّهْنِ تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ، وَقَدْ فَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ فِي رَهْنِ الثِّمَارِ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الثِّمَارُ مَعَ الشَّجَرِ أَوْ وَحْدَهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَرُ مِمَّا يَتَسَارَعُ فَسَادُهُ أَوْ لَا، فَقَرَّرُوا أَنَّ رَهْنَ الثِّمَارِ عَلَى الشَّجَرِ لَهُ حَالَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرْهَنَ الثَّمَرَ مَعَ الشَّجَرِ، وَحِينَئِذٍ فَإِنْ كَانَ الثَّمَرُ مِمَّا يُمْكِنُ تَجْفِيفُهُ صَحَّ الرَّهْنُ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ أَبَدَا فِيهِ الصَّلَاحُ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا.
وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ تَجْفِيفُهُ فَسَدَ الرَّهْنُ إِلاَّ فِي ثَلَاثِ مَسَائِلَ هِيَ: أَنْ يَرْهَنَهُ بِدَيْنٍ حَالٍّ، أَوْ مُؤَجَّلٍ يَحِلُّ قَبْلَ فَسَادِهِ، أَوْ يَحِلُّ بَعْدَ فَسَادِهِ، أَوْ مَعَهُ، لَكِنْ بِشَرْطِ بَيْعِهِ عِنْدَ إِشْرَافِهِ عَلَى الْفَسَادِ وَجَعْلِ الثَّمَنِ رَهْنًا مَكَانَهُ.
الثَّانِي: رَهْنُ الثَّمَرِ وَحْدَهُ.فَإِنْ كَانَ لَا يُحْفَظُ بِالْجَفَافِ فَهُوَ كَالَّذِي يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهُ، وَإِنْ كَانَ يَتَجَفَّفُ فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَرْهَنَ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، فَإِنْ رَهَنَ بِدَيْنٍ حَالٍّ وَشَرَطَ قَطْعَهُ وَبَيْعَهُ جَازَ، وَإِنْ أَطْلَقَ جَازَ أَيْضًا، وَإِنْ رَهَنَ بِمُؤَجَّلٍ نَظَرَ، إِنْ كَانَ يَحِلُّ قَبْلَ بُلُوغِ الثَّمَرِ وَقْتَ الْإِدْرَاكِ أَوْ بَعْدَهُ جَازَ الرَّهْنُ، إِلاَّ أَنَّ الْجَوَازَ فِي حَالَةِ مَا قَبْلَ بُلُوغِهِ وَقْتَ الْإِدْرَاكِ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ الْقَطْعِ، أَمَّا إِذَا رَهَنَهَا مُطْلَقًا لَمْ يَصِحَّ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَرْهَنَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ.فَيَجُوزُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ مُطْلَقًا إِنْ رَهَنَ بِحَالٍّ أَوْ مُؤَجَّلٍ هُوَ فِي مَعْنَاهُ.وَإِنْ رَهَنَهُ بِمُؤَجَّلٍ يَحِلُّ قَبْلَ بُلُوغِ الثَّمَرِ وَقْتَ الْإِدْرَاكِ، فَعَلَى مَا سَبَقَ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ.
رَابِعًا: الشُّفْعَةُ فِي الثِّمَارِ:
19- الشُّفْعَةُ فِي الْعَقَارِ ثَابِتَةٌ، لِخَبَرِ جَابِرٍ- رضي الله عنه- «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ» وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ «فِي أَرْضٍ أَوْ رَيْعٍ أَوْ حَائِطٍ» وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَرَيَانِ الشُّفْعَةِ فِي الثَّمَرِ، سَوَاءٌ بِيعَ مَعَ الْأَصْلِ أَمْ مُفْرَدًا.
أَوَّلًا: إِذَا بِيعَ مَعَ الْأَصْلِ:
20- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِي الثَّمَرِ إِذَا بِيعَ مَعَ الْأَصْلِ، لِتَبَعِيَّتِهِ لَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَأْخُذُ الشَّفِيعُ الْأَرْضَ مَعَ ثَمَرِهَا إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَى الْأَرْضَ مَعَ ثَمَرِهَا بِأَنْ شَرَطَهُ فِي الْبَيْعِ أَوْ أَثْمَرَ الشَّجَرُ عِنْدَ الشِّرَاءِ، قَالُوا: لِأَنَّ الثَّمَرَ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ إِلاَّ بِالشَّرْطِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَبَعٍ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ أَخْذُ الثَّمَرِ لِعَدَمِ التَّبَعِيَّةِ كَالْمَتَاعِ الْمَوْضُوعِ فِيهَا، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ بِالِاتِّصَالِ خِلْقَةً صَارَ تَبَعًا مِنْ وَجْهٍ؛ وَلِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنَ الْمَبِيعِ فَيَسْرِي إِلَيْهِ الْحَقُّ الثَّابِتُ فِي الْأَصْلِ الْحَادِثِ قَبْلَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الثَّمَرَ الْمُؤَبَّرَ (عَلَى خِلَافٍ تَقَدَّمَ فِي مَعْنَى التَّأْبِيرِ) لَا يُؤْخَذُ بِالشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ، فَلَا يَدْخُلُ فِي الشُّفْعَةِ، كَأَثَاثِ الدَّارِ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ بَيْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ لَكِنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ لِلشَّفِيعِ سُلْطَانَ الْأَخْذِ بِغَيْرِ رِضَا الْمُشْتَرِي، وَأَمَّا الثَّمَرُ غَيْرُ الْمُؤَبَّرِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ فِي الْبَيْعِ، فَتَبِعَ فِي الشُّفْعَةِ؛ لِأَنَّهَا بَيْعٌ فِي الْمَعْنَى.
ثَانِيًا: إِذَا بِيعَ مُفْرَدًا:
21- مَنَعَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) الشُّفْعَةَ فِي الثَّمَرِ إِذَا بِيعَ مُفْرَدًا؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَثْبُتُ فِي الْمَنْقُولَاتِ عِنْدَهُمْ، لِعَدَمِ دَوَامِ الْمِلْكِ فِيهَا، وَالشُّفْعَةُ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِدَفْعِ ضَرَرِ سُوءِ الْجِوَارِ عَلَى الدَّوَامِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الشُّفْعَةِ فِي الثِّمَارِ الَّتِي لَهَا أَصْلٌ أَيْ بِحَيْثُ تُجْنَى ثَمَرَتُهُ وَيَبْقَى أَصْلُهُ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً حِينَ الشِّرَاءِ وَمُؤَبَّرَةً.
نَمَاءُ ثَمَرِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي:
22- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثَمَرِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ، هَلْ يَكُونُ لِلشَّفِيعِ أَمْ لِلْمُشْتَرِي فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الثِّمَارَ لِلشَّفِيعِ اسْتِحْسَانًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَى الْأَرْضَ مَعَ ثَمَرِهَا بِأَنْ شَرَطَهُ فِي الْبَيْعِ، أَمْ أَثْمَرَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الشِّرَاءِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ أَخْذُ الثَّمَرِ لِعَدَمِ التَّبَعِيَّةِ كَالْمَتَاعِ الْمَوْضُوعِ فِيهَا، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ خِلْقَةً صَارَ تَبَعًا مِنْ وَجْهٍ؛ وَلِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنَ الْمَبِيعِ فَيَسْرِي إِلَيْهِ الْحَقُّ الثَّابِتُ فِي الْأَرْضِ الْحَادِثُ قَبْلَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، كَالْمَبِيعَةِ إِذَا وَلَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ الْوَلَدَ تَبَعًا لِلْأُمِّ كَذَا هَذَا.
وَلِلْمَالِكِيَّةِ قَوْلَانِ فِي الْمَسْأَلَةِ- حَيْثُ نَقَلُوا قَوْلَيْنِ لِلْإِمَامِ مَالِكٍ وَذَلِكَ فِيمَا إِذَا بِيعَتِ الثَّمَرَةُ مُفْرَدَةً أَوْ مَعَ أَصْلِهَا- وَنَصُّهُمَا فِي الْمُدَوَّنَةِ- حَيْثُ قَالَ مَرَّةً بِسُقُوطِ الشُّفْعَةِ فِيهَا إِذَا لَمْ يَأْخُذْ بِالشُّفْعَةِ حَتَّى يَبِسَتِ الثِّمَارُ، وَحِينَئِذٍ فَإِنْ أَخَذَ أَصْلَهَا بِالشُّفْعَةِ حَطَّ عَنْهُ مَا يَنُوبُهَا مِنَ الثَّمَنِ إِنْ أَزْهَتْ أَوْ أُبِّرَتْ وَقْتَ الْبَيْعِ لِأَنَّ لَهَا حِصَّةً حِينَئِذٍ مِنَ الثَّمَنِ، وَمَرَّةً قَالَ: لَهُ أَخْذُهَا بِالشُّفْعَةِ مَا لَمْ تَيْبَسْ أَوْ تُجَذَّ.
وَوَفَّقَ الدَّرْدِيرُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِحَمْلِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا إِذَا اشْتَرَاهَا مُفْرَدَةً عَنِ الْأَصْلِ فَالشُّفْعَةُ تَابِعَةٌ فِيهَا مَا لَمْ تَيْبَسْ، فَإِنْ جُذَّتْ قَبْلَ الْيُبْسِ فَلَهُ أَخْذُهَا، وَبِحَمْلِ الثَّانِي عَلَى مَا إِذَا اشْتَرَاهَا مَعَ الْأَصْلِ، فَالشُّفْعَةُ ثَابِتَةٌ فِيهَا مَا لَمْ تَيْبَسْ أَوْ تُجَذَّ وَلَوْ قَبْلَ الْيُبْسِ.
أَمَّا إِذَا اشْتَرَى أَصْلَهَا فَقَطْ وَلَيْسَ فِيهِ ثَمَرَةٌ أَوْ كَانَ فِيهِ ثَمَرَةٌ وَلَمْ تُؤَبَّرْ بَعْدُ فَهِيَ لِلشَّفِيعِ، سَوَاءٌ أُبِّرَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي أَمْ لَمْ تُؤَبَّرْ عِنْدَهُ، إِلاَّ أَنْ تَيْبَسَ أَوْ تُجَذَّ فَتَكُونَ لِلْمُشْتَرِي.وَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ الْأُصُولَ بِالثَّمَنِ، وَلَا يَحُطُّ عَنْهُ حِصَّتَهَا مِنْهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الشَّجَرَ بِثَمَرَةٍ حَدَثَتْ بَعْدَ الْبَيْعِ، وَلَمْ تُؤَبَّرْ عِنْدَ الْأَخْذِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَبِعَتِ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ، فَتَبِعَتْهُ فِي الْأَخْذِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أُبِّرَتْ عِنْدَهُ فَلَا يَأْخُذُهَا؛ لِانْتِفَاءِ التَّبَعِيَّةِ، أَمَّا الْمُؤَبَّرَةُ عِنْدَ الْبَيْعِ إِذَا دَخَلَتْ بِالشَّرْطِ فَلَا تُؤْخَذُ؛ لِانْتِفَاءِ التَّبَعِيَّةِ كَمَا سَبَقَ، فَتَخْرُجُ بِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الثَّمَرَةِ الظَّاهِرَةِ وَغَيْرِ الظَّاهِرَةِ.
فَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ ظَاهِرَةً فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ فِيهَا حَقٌّ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ، يَبْقَى إِلَى أَوَانِ أَخْذِهِ بِحَصَادٍ أَوْ جِذَاذٍ أَوْ غَيْرِهِمَا. وَإِنْ كَانَتِ الثَّمَرَةُ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ فَهِيَ لِلشَّفِيعِ، وَمِثْلُ الثَّمَرَةِ الظَّاهِرَةِ وَغَيْرِ الظَّاهِرَةِ، الْمُؤَبَّرَةُ وَغَيْرُ الْمُؤَبَّرَةِ.فَلَوْ كَانَ الطَّلْعُ مَوْجُودًا حَالَ الشِّرَاءِ غَيْرَ مُؤَبَّرٍ، ثُمَّ أُبِّرَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَهُوَ لَهُ مُبْقًى إِلَى أَوَانِ جِذَاذِهِ، لَكِنْ يَأْخُذُ الشَّفِيعُ الْأَرْضَ وَالنَّخْلَ بِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَا شَمَلَهُ عَقْدُ الشِّرَاءِ، وَهُوَ الطَّلْعُ الَّذِي لَمْ يُؤَبَّرْ حَالَ الْعَقْدِ فَهُوَ كَمَا لَوْ شَمَلَ الشِّرَاءُ الشِّقْصَ وَعَرْضًا مَعَهُ.
خَامِسًا: الْعَمَلُ فِي الْأَرْضِ عَلَى جُزْءٍ مِنَ الثَّمَرِ:
23- أَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ وَهُمَا الْعَمَلُ فِي الْأَرْضِ أَوِ الشَّجَرِ مُقَابِلَ جُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنَ الثَّمَرَةِ الْخَارِجَةِ مِنْهُمَا، لِمَا ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ».قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ «عَامَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَهْلَ خَيْبَرَ بِالشَّطْرِ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ ثُمَّ أَهْلُوهُمْ إِلَى الْيَوْمِ يُعْطُونَ الثُّلُثَ أَوِ الرُّبُعَ» فَهَذَا عَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ فَكَانَ كَالْإِجْمَاعِ؛ وَلِأَنَّهُمَا مِنْ عَقْدِ الشَّرِكَةِ بِمَالٍ مِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وَعَمَلٍ مِنَ الْآخَرِ فَيَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالْمُضَارَبَةِ، وَالْجَامِعُ دَفْعُ الْحَاجَةِ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْمَالِ قَدْ لَا يَهْتَدِي إِلَى الْعَمَلِ، وَالْمُهْتَدِي إِلَيْهِ قَدْ لَا يَجِدُ الْمَالَ؛ فَمَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى انْعِقَادِ هَذَا الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا.
قَالَ ابْنُ جُزَيٍّ فِي حُكْمِ الْمُسَاقَاةِ: وَهِيَ جَائِزَةٌ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ أَصْلَيْنِ مَمْنُوعَيْنِ: وَهُمَا الْإِجَارَةُ الْمَجْهُولَةُ، وَبَيْعُ مَا لَمْ يُخْلَقْ (بَيْعُ الْمَعْدُومِ).
وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ وَذَهَبَ إِلَى عَدَمِ الْجَوَازِ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- «نَهَى عَنِ الْمُخَابَرَةِ، فَقِيلَ: مَا الْمُخَابَرَةُ؟ قَالَ: الْمُزَارَعَةُ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ».
وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ فَلْيَزْرَعْهَا أَخَاهُ، وَلَا يُكَارِيهَا بِثُلُثٍ، وَلَا بِرُبُعٍ، وَلَا بِطَعَامٍ مُسَمًّى» وَلِأَنَّ الْأَجْرَ مَجْهُولٌ أَوْ مَعْدُومٌ وَكُلُّ ذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ.
غَيْرَ أَنَّ الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ بِالْجَوَازِ لِلْحَاجَةِ، وَقِيَاسًا عَلَى الْمُضَارَبَةِ.
وَمَنَعَ الشَّافِعِيَّةُ كَذَلِكَ الْمُزَارَعَةَ بِعَقْدٍ مُنْفَرِدٍ.أَمَّا إِذَا أُدْخِلَتْ مَعَ عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ بَيْنَ النَّخْلِ بَيَاضٌ، فَتَصِحُّ الْمُزَارَعَةُ عِنْدَهُمْ، وَلَكِنْ بِشُرُوطٍ.
وَهُنَاكَ شُرُوطٌ لِعَقْدَيِ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَتَفْصِيلَاتٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (مُزَارَعَةٌ، مُسَاقَاةٌ، مُعَامَلَةٌ، مُخَابَرَةٌ).
سَادِسًا: سَرِقَةُ الثِّمَارِ:
24- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ لَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ عَلَى الشَّجَرِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ». وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: فِيمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ «رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَرَى فِي حَرِيسَةِ الْجَبَلِ؟ فَقَالَ: هِيَ مِثْلُهَا وَالنَّكَالُ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَاشِيَةِ قَطْعٌ إِلاَّ فِيمَا آوَاهُ الْمُرَاحُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ، فَفِيهِ قَطْعُ الْيَدِ، وَمَا لَمْ يَبْلُغْ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ.قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَرَى فِي الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ؟ قَالَ: هُوَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ وَالنَّكَالُ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ قَطْعٌ، إِلاَّ فِيمَا آوَاهُ الْجَرِينُ، فَمَا أُخِذَ مِنَ الْجَرِينِ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ الْقَطْعُ، وَمَا لَمْ يَبْلُغْ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ».وَلِأَنَّهُ لَا إِحْرَازَ فِيمَا عَلَى الشَّجَرِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إِلَى الْقَطْعِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مُخَرَّجٌ لِلَّخْمِيِّ عَلَى السَّرِقَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي فِي الدَّارِ، وَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ فَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ.ثُمَّ إِنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَحَلُّهُمَا ثِمَارُ الشَّجَرِ الْمُعَلَّقِ خِلْقَةً إِنْ كَانَ عَلَيْهِ غَلْقٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غَلْقٌ فَلَا قَطْعَ فِي سَرِقَتِهِ اتِّفَاقًا، وَكَذَلِكَ لَا قَطْعَ اتِّفَاقًا إِنْ قُطِعَ ثُمَّ عُلِّقَ وَلَوْ بِغَلْقٍ. وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ الْأَشْجَارَ الَّتِي عَلَيْهَا حَارِسٌ يُرَاقِبُهَا مُحْرَزَةً، وَكَذَا الْأَشْجَارُ إِنْ اتَّصَلَتْ بِجِيرَانٍ يُرَاقِبُونَهَا عَادَةً، وَمِنْ ثَمَّ يَجِبُ الْقَطْعُ عَلَى سَارِقِ ثِمَارِهَا عِنْدَهُمْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَشْجَارَ أَفْنِيَةِ الدُّورِ مُحْرَزَةٌ وَإِنْ كَانَتْ بِلَا حَارِسٍ.
ثُمَّ إِنَّ الْفُقَهَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَحْرَزَ الثِّمَارَ وَجَبَ فِيهِ الْقَطْعُ، فَلَوْ وُضِعَ الثَّمَرُ فِي جَرِينٍ وَنَحْوِهِ عَلَيْهِ بَابٌ أَوْ حَافِظٌ فَهِيَ مُحْرَزَةٌ عَلَى سَارِقِهَا الْقَطْعُ.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْمَالِكِيَّةُ الْبَابَ أَوْ الْحَافِظَ، فَيُقْطَعُ عِنْدَهُمْ إِنْ سَرَقَهُ مِنَ الْجَرِينِ مُطْلَقًا.كَمَا أَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا جُذَّ الثَّمَرُ وَوُضِعَ فِي مَحَلٍّ اعْتُبِرَ وَضْعُهُ فِيهِ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى الْجَرِينِ ثُمَّ سَرَقَ مِنْهُ سَارِقٌ فَفِيهِ أَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ:
الْأَوَّلُ: يُقْطَعُ مُطْلَقًا: وَالثَّانِي: لَا يُقْطَعُ مُطْلَقًا، وَالثَّالِثُ: يُقْطَعُ إِنْ كُدِّسَ أَيْ يُجْمَعُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى يَصِيرَ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِتَكْدِيسِهِ أَشْبَهَ مَا فِي الْجَرِينِ، ثُمَّ إِنَّ مَحَلَّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَارِسٌ، وَإِلاَّ قُطِعَ قَوْلًا وَاحِدًا، وَأَوْجَبَهُ الْحَنَابِلَةُ عَلَى سَارِقِ الثِّمَارِ الْمُعَلَّقِ أَنْ يَضْمَنَ عِوَضَهُ مَرَّتَيْنِ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ.فَقَالَ: مَنْ أَصَابَ مِنْهُ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ، وَمَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ، وَمَنْ سَرَقَ دُونَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ» وَلِأَنَّ الثِّمَارَ فِي الْعَادَةِ تَسْبِقُ الْيَدُ إِلَيْهَا، فَجَازَ أَنْ تُغَلَّظَ قِيمَتُهَا عَلَى سَارِقِهَا رَدْعًا لَهُ وَزَجْرًا بِخِلَافِ غَيْرِهَا
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
57-موسوعة الفقه الكويتية (ثمن 1)
ثَمَنٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الثَّمَنُ لُغَةً: مَا يُسْتَحَقُّ بِهِ الشَّيْءُ.وَفِي الصِّحَاحِ: الثَّمَنُ ثَمَنُ الْمَبِيعِ، وَفِي التَّهْذِيبِ: ثَمَنُ كُلِّ شَيْءٍ قِيمَتُهُ.
قَالَ الزَّبِيدِيُّ: قَالَ شَيْخُنَا: اشْتُهِرَ أَنَّ الثَّمَنَ مَا يَقَعُ بِهِ التَّرَاضِي وَلَوْ زَادَ أَوْ نَقَصَ عَنْ الْوَاقِعِ، وَالْقِيمَةُ مَا يُقَاوِمُ الشَّيْءَ، أَيْ: يُوَافِقُ مِقْدَارَهُ فِي الْوَاقِعِ وَيُعَادِلُهُ.
وَقَالَ الرَّاغِبُ: الثَّمَنُ اسْمٌ لِمَا يَأْخُذُهُ الْبَائِعُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَبِيعِ، عَيْنًا كَانَ أَوْ سِلْعَةً، وَكُلُّ مَا يُحَصَّلُ عِوَضًا عَنْ شَيْءٍ فَهُوَ ثَمَنُهُ.
وَالثَّمَنُ هُوَ: مَبِيعٌ بِثَمَنٍ.
وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَالثَّمَنُ، مَا يَكُونُ بَدَلًا لِلْمَبِيعِ وَيَتَعَيَّنُ فِي الذِّمَّةِ، وَتُطْلَقُ الْأَثْمَانُ أَيْضًا عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْقِيمَةُ:
2- الْقِيمَةُ مَا قُوِّمَ بِهِ الشَّيْءُ بِمَنْزِلَةِ الْمِعْيَارِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ.
وَالثَّمَنُ مَا تَرَاضَى عَلَيْهِ الْمُتَعَاقِدَانِ سَوَاءٌ زَادَ عَلَى الْقِيمَةِ أَوْ نَقَصَ.
فَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الثَّمَنِ أَنَّ الْقِيمَةَ عِبَارَةٌ عَنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، وَالثَّمَنُ الْمُتَرَاضَى عَلَيْهِ قَدْ يُسَاوِي الْقِيمَةَ أَوْ يَزِيدُ عَنْهَا أَوْ يَنْقُصُ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ أَحْكَامِ ثَمَنِ الْمِثْلِ فِي (الْقِيمَةُ).
ب- السِّعْرُ:
3- السِّعْرُ هُوَ الثَّمَنُ الْمُقَدَّرُ لِلسِّلْعَةِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّمَنِ أَنَّ الثَّمَنَ هُوَ مَا يَتَرَاضَى عَلَيْهِ الْعَاقِدَانِ أَمَّا السِّعْرُ فَهُوَ مَا يَطْلُبُهُ الْبَائِعُ.
الثَّمَنُ مِنْ أَرْكَانِ عَقْدِ الْبَيْعِ:
4- اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ (وَهُوَ الثَّمَنُ وَالْمَبِيعُ) مِنْ أَرْكَانِ عَقْدِ الْبَيْعِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ (الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ) أَمَّا الثَّمَنُ فَهُوَ أَحَدُ جُزْأَيْ مَحَلِّ عَقْدِ الْبَيْعِ الَّذِي هُوَ (الْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ) وَلَيْسَ الْمَحَلُّ رُكْنًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا تَفَاسَخَ الْمُتَبَايِعَانِ بَعْدَ قَبْضِ الْعِوَضَيْنِ، كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ حَتَّى يَرُدَّ الْبَائِعُ الَّذِي قَبَضَهُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَبِيعِ، عَرَضًا كَانَ أَوْ نَقْدًا، ثَمَنًا كَانَ أَوْ قِيمَةً؛
لِأَنَّ الْمَبِيعَ مُقَابَلٌ بِهِ فَيَصِيرُ مَحْبُوسًا بِهِ كَالرَّهْنِ.فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ أَنْ لَا يَدْفَعَ الْمَبِيعَ إِلَى أَنْ يَأْخُذَ الثَّمَنَ مِنَ الْبَائِعِ.
وَإِنْ مَاتَ الْبَائِعُ فِي حَالَةِ التَّفَاسُخِ فَالْمُشْتَرِي أَحَقُّ بِحَبْسِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ حَالَ حَيَاتِهِ، فَكَذَا يُقَدَّمُ عَلَى تَجْهِيزِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
شُرُوطُ الثَّمَنِ:
5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، وَأَنْ يَكُونَ مَالًا، وَمَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي، وَمَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، وَمَعْلُومَ الْقَدْرِ وَالْوَصْفِ، وَإِيضَاحُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي: الشَّرْطُ الْأَوَّلُ- تَسْمِيَةُ الثَّمَنِ:
6- تَسْمِيَةُ الثَّمَنِ حِينَ الْبَيْعِ لَازِمَةٌ، فَلَوْ بَاعَ بِدُونِ تَسْمِيَةِ ثَمَنٍ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَعَ نَفْيِ الثَّمَنِ بَاطِلٌ، إِذْ لَا مُبَادَلَةَ حِينَئِذٍ، وَمَعَ السُّكُوتِ عَنْهُ فَاسِدٌ، كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ.
فَإِذَا بِيعَ الْمَالُ وَلَمْ يُذْكَرِ الثَّمَنُ حَقِيقَةً، كَأَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: بِعْتُكَ هَذَا الْمَالَ مَجَّانًا أَوْ بِلَا بَدَلٍ فَيَقُولَ الْمُشْتَرِي: قَبِلْتُ، فَهَذَا الْبَيْعُ بَاطِلٌ.
وَإِذَا لَمْ يُذْكَرِ الثَّمَنُ حُكْمًا، كَأَنْ يَقُولَ إِنْسَانٌ لآِخَرَ: بِعْتُكَ هَذَا الْمَالَ بِالْأَلْفِ الَّتِي لَكَ فِي ذِمَّتِي، فَيَقْبَلُ الْمُشْتَرِي، مَعَ كَوْنِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَعْلَمَانِ أَنْ لَا دَيْنَ، فَالْبَيْعُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ بَاطِلٌ أَيْضًا، وَيَكُونُ الشَّيْءُ هِبَةً فِي الصُّورَتَيْنِ.
وَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ مَسْكُوتًا عَنْهُ حِينَ الْبَيْعِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ وَلَيْسَ بِبَاطِلٍ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي الْمُعَاوَضَةَ، فَإِذَا سَكَتَ الْبَائِعُ عَنِ الثَّمَنِ كَانَ مَقْصِدُهُ أَخْذَ قِيمَةِ الْمَبِيعِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: بِعْتُ مَا لِي بِقِيمَتِهِ، وَذِكْرُ الْقِيمَةِ مُجْمَلَةً يَجْعَلُ الثَّمَنَ مَجْهُولًا فَيَكُونُ الْبَيْعُ فَاسِدًا.
وَبَيْعُ التَّعَاطِي صَحِيحٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِأَنَّ الثَّمَنَ وَالْمُثَمَّنَ مَعْلُومَانِ فِيهِ، وَالتَّرَاضِي قَائِمٌ بَيْنَهُمَا وَلَوْ لَمْ تُوجَدْ فِيهِ صِفَةٌ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ إِلاَّ بِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ.قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الصَّدَاقِ: الصَّدَاقُ نِحْلَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَرَضَهَا لِلزَّوْجَاتِ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، لَا عَنْ عِوَضٍ، وَلِهَذَا لَمْ يَفْتَقِرْ عَقْدُ النِّكَاحِ إِلَى تَسْمِيَةٍ، وَلَوْ كَانَ الصَّدَاقُ ثَمَنًا لِلْبُضْعِ حَقِيقَةً لَمَا صَحَّ النِّكَاحُ دُونَ تَسْمِيَةٍ، كَالْبَيْعِ الَّذِي لَا يَنْعَقِدُ إِلاَّ بِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ.وَفِي الْمَجْمُوعِ قَالَ النَّوَوِيُّ: يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ أَنْ يَذْكُرَ الثَّمَنَ فِي حَالِ الْعَقْدِ، فَيَقُولَ: بِعْتُكَ كَذَا بِكَذَا، فَإِنْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا، وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا، فَقَالَ الْمُخَاطَبُ: اشْتَرَيْتُ أَوْ قَبِلْتُ لَمْ يَكُنْ هَذَا بَيْعًا بِلَا خِلَافٍ، وَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْمِلْكُ لِلْقَابِلِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَقِيلَ: فِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا هَذَا، وَالثَّانِي: يَكُونُ هِبَةً.
وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: إِذَا قَالَ: بِعْتُكَ بِلَا ثَمَنٍ، أَوْ لَا ثَمَنَ لِي عَلَيْكَ، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ وَقَبَضَهُ فَلَيْسَ بَيْعًا، وَفِي انْعِقَادِهِ هِبَةً قَوْلَا تَعَارُضِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَإِذَا قَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُكَ وَلَمْ يَذْكُرْ ثَمَنًا، فَإِنْ رَاعَيْنَا الْمَعْنَى انْعَقَدَ هِبَةً، أَوْ اللَّفْظَ فَهُوَ بَيْعٌ فَاسِدٌ.
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَقَدْ جَاءَ فِي الْإِنْصَافِ: يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الثَّمَنِ حَالَ الْعَقْدِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، وَاخْتَارَ الشَّيْخُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ صِحَّةَ الْبَيْعِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الثَّمَنَ، وَلَهُ ثَمَنُ الْمِثْلِ كَالنِّكَاحِ.
الشَّرْطُ الثَّانِي- كَوْنُ الثَّمَنِ مَالًا:
7- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الثَّمَنِ لِانْعِقَادِ الْبَيْعِ: أَنْ يَكُونَ مَالًا مُتَقَوِّمًا.
لِأَنَّ الْبَيْعَ هُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ بِالتَّرَاضِي.
وَالْمَالُ هُوَ مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ الطَّبْعُ وَيُمْكِنُ ادِّخَارُهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ، وَالْمَالِيَّةُ إِنَّمَا تَثْبُتُ بِتَمَوُّلِ النَّاسِ كَافَّةً أَوْ بَعْضِهِمْ.
وَالتَّقَوُّمُ يَثْبُتُ بِهَا وَبِإِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ شَرْعًا.فَمَا يَكُونُ مُبَاحَ الِانْتِفَاعِ بِدُونِ تَمَوُّلِ النَّاسِ لَا يَكُونُ مَالًا، كَحَبَّةِ حِنْطَةٍ.وَمَا يَكُونُ مَالًا بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا يَكُونُ مُبَاحَ الِانْتِفَاعِ لَا يَكُونُ مُتَقَوِّمًا، كَالْخَمْرِ.وَإِذَا عُدِمَ الْأَمْرَانِ لَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا كَالدَّمِ.
فَالْمَالُ أَعَمُّ مِنَ الْمُتَقَوِّمِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مَا يُمْكِنُ ادِّخَارُهُ وَلَوْ غَيْرَ مُبَاحٍ كَالْخَمْرِ، وَالْمُتَقَوِّمُ مَا يُمْكِنُ ادِّخَارُهُ مَعَ الْإِبَاحَةِ.فَالْخَمْرُ مَالٌ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ، فَلِذَا فَسَدَ الْبَيْعُ بِجَعْلِهَا ثَمَنًا، وَإِنَّمَا لَمْ يَنْعَقِدْ أَصْلًا بِجَعْلِهَا مَبِيعًا؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بَلْ وَسِيلَةٌ إِلَى الْمَقْصُودِ، إِذْ الِانْتِفَاعُ بِالْأَعْيَانِ لَا بِالْأَثْمَانِ، وَلِهَذَا اشْتُرِطَ وُجُودُ الْمَبِيعِ دُونَ الثَّمَنِ فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ صَارَ الثَّمَنُ مِنْ جُمْلَةِ الشُّرُوطِ بِمَنْزِلَةِ آلَاتِ الصُّنَّاعِ.
وَمِنْ هَذَا قَالَ فِي الْبَحْرِ: الْبَيْعُ وَإِنْ كَانَ مَبْنَاهُ عَلَى الْبَدَلَيْنِ، لَكِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْمَبِيعُ دُونَ الثَّمَنِ، وَلِذَا تُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمَبِيعِ دُونَ الثَّمَنِ، وَيَنْفَسِخُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ دُونَ الثَّمَنِ.
وَالتَّقَوُّمُ فِي الثَّمَنِ شَرْطُ صِحَّةٍ، وَفِي الْمَبِيعِ شَرْطُ انْعِقَادٍ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ الثَّمَنِ:
أَنْ يَكُونَ مَالًا طَاهِرًا، فَلَا يَصِحُّ مَا نَجَاسَتُهُ أَصْلِيَّةٌ كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ».وَقِيسَ عَلَيْهَا مَا فِي مَعْنَاهَا.وَلَا يَصِحُّ مَا هُوَ مُتَنَجِّسٌ لَا يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ كَسَمْنٍ وَلَبَنٍ تَنَجَّسَ.وَأَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ انْتِفَاعًا شَرْعِيًّا وَلَوْ فِي الْمَالِ كَالْبَهِيمَةِ الصَّغِيرَةِ.فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ مَا لَا نَفْعَ فِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ مَالًا، كَالْحَشَرَاتِ الَّتِي لَا نَفْعَ فِيهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مَالًا.
وَالْمَالُ شَرْعًا: (مَا يُبَاحُ نَفْعُهُ مُطْلَقًا، وَيُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ بِلَا حَاجَةٍ) فَخَرَجَ: مَا لَا نَفْعَ فِيهِ أَصْلًا كَبَعْضِ الْحَشَرَاتِ، وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُحَرَّمَةٌ كَالْخَمْرِ، وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ لِلْحَاجَةِ كَالْكَلْبِ، وَمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ تُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ كَالْمَيْتَةِ فِي حَالِ الْمَخْمَصَةِ، وَخَمْرٍ لِدَفْعِ لُقْمَةٍ غَصَّ بِهَا.
أَنْوَاعُ الْأَمْوَالِ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةِ:
8- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْأَمْوَالَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:
أ- ثَمَنٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَهُوَ النَّقْدَانِ، صَحِبَهُ الْبَاءُ أَوْ لَا، قُوبِلَ بِجِنْسِهِ أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ عِنْدَ الْعَرَبِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ، وَالنُّقُودُ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ إِلاَّ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، فَكَانَتْ ثَمَنًا بِكُلِّ حَالٍ.
ب- مَبِيعٌ بِكُلِّ حَالٍ، كَالدَّوَابِّ وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَعْيَانِ غَيْرِ الْمِثْلِيَّةِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ؛ لِأَنَّ الْعُرُوضَ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ إِلاَّ عَيْنًا فَكَانَتْ مَبِيعَةً.
ج- ثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا مِثْلِيَّةٌ فَثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ فَأَشْبَهَتِ النَّقْدَ، وَمَبِيعٌ مِنْ وَجْهٍ، نَظَرًا إِلَى الِانْتِفَاعِ بِأَعْيَانِهَا فَأَشْبَهَتِ الْعُرُوضَ.وَذَلِكَ كَالْمِثْلِيَّاتِ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ مِنَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ كَالْبَيْضِ.فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ مُعَيَّنًا فِي الْعَقْدِ كَانَ مَبِيعًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا وَصَحِبَهُ الْبَاءُ، وَقُوبِلَ بِالْمَبِيعِ فَهُوَ ثَمَنٌ.وَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ حَرْفُ الْبَاءِ وَلَمْ يُقَابِلْهُ ثَمَنٌ فَهُوَ مَبِيعٌ؛
لِأَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ غَيْرَ النَّقْدَيْنِ يُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ عَيْنًا تَارَةً، وَدَيْنًا أُخْرَى، فَكَانَ ثَمَنًا فِي حَالٍ، مَبِيعًا فِي حَالٍ.
د- ثَمَنٌ بِالِاصْطِلَاحِ، وَهُوَ سِلْعَةٌ فِي الْأَصْلِ كَالْفُلُوسِ.
فَإِنْ كَانَ رَائِجًا كَانَ ثَمَنًا، وَإِنْ كَانَ كَاسِدًا فَهُوَ سِلْعَةٌ مُثَمَّنٌ.وَالْحَاصِلُ- كَمَا قَالَ الْحَصْكَفِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ- إِنَّ الْمِثْلِيَّاتِ تَكُونُ ثَمَنًا إِذَا دَخَلَتْهَا الْبَاءُ وَلَمْ تُقَابَلْ بِثَمَنٍ، أَيْ: بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ، سَوَاءٌ تَعَيَّنَتْ أَوْ لَا.وَكَذَا إِذَا لَمْ تَدْخُلْهَا الْبَاءُ، وَلَمْ تُقَابَلْ بِثَمَنٍ وَتَعَيَّنَتْ.وَتَكُونُ مَبِيعًا إِذَا قُوبِلَتْ بِثَمَنٍ مُطْلَقًا، أَيْ: سَوَاءٌ دَخَلَتْهَا الْبَاءُ أَوْ لَا، تَعَيَّنَتْ أَوْ لَا.وَكَذَا إِذَا لَمْ تُقَابَلْ بِثَمَنٍ وَلَمْ يَصْحَبْهَا الْبَاءُ وَلَمْ تُعَيَّنْ، كَبِعْتُكَ كُرَّ حِنْطَةٍ بِهَذَا الْعَبْدِ.
وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: الْفُلُوسُ الرَّائِجَةُ إِنْ قُوبِلَتْ بِخِلَافِ جِنْسِهَا فَهِيَ أَثْمَانٌ، وَكَذَا إِنْ قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا مُتَسَاوِيَةً فِي الْعَدَدِ.وَإِنْ قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلَةً فِي الْعَدَدِ فَهِيَ مَبِيعَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هِيَ أَثْمَانٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَقَرِيبٌ مِنْهُ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ الثَّمَنَ النَّقْدُ إِنْ قُوبِلَ بِغَيْرِهِ لِلْعُرْفِ، فَإِنْ كَانَ الْعِوَضَانِ نَقْدَيْنِ أَوْ عَرَضَيْنِ فَالثَّمَنُ مَا الْتَصَقَتْ بِهِ بَاءُ الثَّمَنِيَّةِ وَالْمُثَمَّنُ مَا يُقَابِلُهُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ كُلًّا مِنَ الْعِوَضَيْنِ ثَمَنٌ لِلْآخَرِ وَمُثَمَّنٌ، وَلَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِ النُّقُودِ مَبِيعَةً؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْعِوَضَيْنِ مَبِيعٌ بِالْآخَرِ، لَكِنْ جَرَى الْعُرْفُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ وَالْعِوَضُ الثَّانِي شَيْئًا مِنَ الْمُثَمَّنَاتِ، عَرَضًا أَوْ نَحْوَهُ، أَنَّ الثَّمَنَ هُوَ الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ وَمَا عَدَاهُمَا مُثَمَّنَاتٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الثَّمَنَ يَتَمَيَّزُ عَنِ الْمُثَمَّنِ بِبَاءِ الْبَدَلِيَّةِ، وَلَوْ أَنَّ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ نَقْدٌ.
فَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْبَاءُ فَهُوَ ثَمَنٌ، فَدِينَارٌ بِثَوْبٍ: الثَّمَنُ الثَّوْبُ، لِدُخُولِ الْبَاءِ عَلَيْهِ.
تَعَيُّنُ الثَّمَنِ بِالتَّعْيِينِ:
9- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعَيُّنِ الْأَثْمَانِ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعَقْدِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّ النُّقُودَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، فَإِذَا اشْتَرَى بِهَذَا الدِّرْهَمِ فَلَهُ دَفْعُ دِرْهَمٍ غَيْرِهِ.
وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ- إِلاَّ زُفَرَ- وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ إِلاَّ إِنْ كَانَ الْعَاقِدُ مِنْ ذَوِي الشُّبُهَاتِ.
وَلِلْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي تَعَيُّنِ الْأَثْمَانِ.
فَالْأَثْمَانُ النَّقْدِيَّةُ الرَّائِجَةُ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ.
أَمَّا فِي غَيْرِ الْمُعَاوَضَاتِ كَالْأَمَانَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْغَصْبِ فَإِنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَسَائِلَ لِغَيْرِهَا بَلْ تَكُونُ مَقْصُودَةً بِالذَّاتِ، فَإِذَا هَلَكَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ قَبْلَ الشِّرَاءِ وَقَبْلَ الْخَلْطِ تَنْفَسِخُ الشَّرِكَةُ.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْأَثْمَانُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ غَيْرِ النُّقُودِ، فَإِنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ؛ لِأَنَّهَا إِذَا عُيِّنَتْ تَكُونُ مَبِيعَةً مِنْ وَجْهٍ وَمَقْصُودَةً بِالذَّاتِ.
أَمَّا الْفُلُوسُ وَالدَّرَاهِمُ الَّتِي غَالِبُهَا الْغِشُّ:
فَإِنْ كَانَتْ رَائِجَةً فَلَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، لِكَوْنِهَا أَثْمَانًا بِالِاصْطِلَاحِ، فَمَا دَامَ ذَلِكَ الِاصْطِلَاحُ مَوْجُودًا لَا تَبْطُلُ الثَّمَنِيَّةُ، لِقِيَامِ الْمُقْتَضِي.وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ رَائِجَةٍ فَتَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ؛ لِزَوَالِ الْمُقْتَضِي لِلثَّمَنِيَّةِ وَهُوَ الِاصْطِلَاحُ، وَهَذَا لِأَنَّهَا فِي الْأَصْلِ سِلْعَةٌ، وَإِنَّمَا صَارَتْ أَثْمَانًا بِالِاصْطِلَاحِ، فَإِذَا تَرَكُوا الْمُعَامَلَةَ بِهَا رَجَعَتْ إِلَى أَصْلِهَا.
كَمَا أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اسْتَثْنَوُا الصَّرْفَ وَالْكِرَاءَ فَفِيهِمَا تَتَعَيَّنُ النُّقُودُ بِالتَّعْيِينِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَثْمَانَ النَّقْدِيَّةَ وَهِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، أَنَّ الْمَبِيعَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِمَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَالثَّمَنَ فِي الْأَصْلِ مَا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ.فَالْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُتَبَايِنَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ.
فَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَثْمَانٌ لَا تَتَعَيَّنُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فِي حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ وَإِنْ عُيِّنَتْ، حَتَّى لَوْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكَ هَذَا الثَّوْبَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ أَوْ بِهَذِهِ الدَّنَانِيرِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُمْسِكَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ وَيَرُدَّ مِثْلَهُ.
وَلَكِنَّهَا تَتَعَيَّنُ فِي حَقِّ ضَمَانِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ، حَتَّى يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ جِنْسًا وَنَوْعًا وَقَدْرًا وَصِفَةً، وَلَوْ هَلَكَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ.
10- وَالثَّمَنُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا فِي الذِّمَّةِ، هَكَذَا نُقِلَ عَنِ الْفَرَّاءِ، وَهُوَ إِمَامٌ فِي اللُّغَةِ، وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُسَمَّى ثَمَنًا، وَالْآخَرَ مَبِيعًا فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ، وَاخْتِلَافُ الْأَسَامِي دَلِيلُ اخْتِلَافِ الْمَعَانِي فِي الْأَصْلِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ أَحَدُهُمَا مَكَانَ صَاحِبِهِ تَوَسُّعًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُقَابِلُ صَاحِبَهُ، فَيُطْلَقُ اسْمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ، كَمَا يُسَمَّى جَزَاءُ السَّيِّئَةِ سَيِّئَةً، وَجَزَاءُ الِاعْتِدَاءِ اعْتِدَاءً.
وَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ اسْمًا لِمَا فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلتَّعْيِينِ بِالْإِشَارَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ التَّعْيِينُ حَقِيقَةً فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الْعَيْنِ، فَجُعِلَ كِنَايَةً عَنْ بَيَانِ الْجِنْسِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ وَنَوْعِهِ وَصِفَتِهِ وَقَدْرِهِ، تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِ الْعَاقِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.وَلِأَنَّ التَّعْيِينَ غَيْرُ مُفِيدٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ عِوَضٍ يُطْلَبُ مِنَ الْمُعَيَّنِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ مِثْلِهِ، فَلَمْ يَكُنِ التَّعْيِينُ فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الْعَيْنِ مُفِيدًا فَيَلْغُو فِي حَقِّهِ، وَيُعْتَبَرُ فِي بَيَانِ حَقِّ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ، وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ فِي حَقِّهِ مُفِيدٌ.
وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ إِطْلَاقُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي الْعَقْدِ، فَلَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِيهِ، كَالْمِكْيَالِ وَالصَّنْجَةِ.
وَيَسْتَثْنِي الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ الصَّرْفَ فَتَتَعَيَّنُ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ بِالتَّعْيِينِ فِيهِ لِاشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِيهِ فِي الْمَجْلِسِ وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ أَيْضًا الْكِرَاءَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: الْأَثْمَانُ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ:
11- فَيَتَعَيَّنُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ، حَتَّى يَسْتَحِقَّ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي الدَّرَاهِمَ الْمُشَارَ إِلَيْهَا، كَمَا فِي سَائِرِ الْأَعْيَانِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا، وَلَوْ هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ، كَمَا لَوْ هَلَكَ سَائِرُ الْأَعْيَانِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِبْدَالُهُ.
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ:
أَنَّ الْمَبِيعَ وَالثَّمَنَ يُسْتَعْمَلَانِ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا- فَهُمَا مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ فِي الْأَحْكَامِ بِحَرْفِ الْبَاءِ- قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} سَمَّى تَعَالَى الْمُشْتَرَى وَهُوَ الْمَبِيعُ ثَمَنًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ مَبِيعٌ، وَالْمَبِيعَ ثَمَنٌ.
وَلِهَذَا جَازَ أَنْ يُذَكَّرَ الشِّرَاءُ بِمَعْنَى الْبَيْعِ، يُقَالُ: شَرَيْتُ الشَّيْءَ بِمَعْنَى بِعْتُهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ} أَيْ: وَبَاعُوهُ؛
وَلِأَنَّ ثَمَنَ الشَّيْءِ قِيمَتُهُ، وَقِيمَةَ الشَّيْءِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ.وَلِهَذَا سُمِّيَ قِيمَةً لِقِيَامِهِ مَقَامَ غَيْرِهِ.وَالثَّمَنُ وَالْمُثَمَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُومُ مَقَامَ صَاحِبِهِ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا وَمَبِيعًا.دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ فِي اللُّغَةِ.
وَالْمَبِيعُ يَحْتَمِلُ التَّعَيُّنَ بِالتَّعْيِينِ فَكَذَا الثَّمَنُ، إِذْ هُوَ مَبِيعٌ.
وَلِأَنَّ الثَّمَنَ عِوَضٌ فِي عَقْدٍ، فَيَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَسَائِرِ الْأَعْوَاضِ.
مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّعْيِينُ:
12- يَحْصُلُ التَّعْيِينُ بِالْإِشَارَةِ، سَوَاءٌ أَضَمَّ إِلَيْهَا الِاسْمَ أَمْ لَا، كَقَوْلِهِ: بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ، أَوْ بِهَذِهِ فَقَطْ، مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الدَّرَاهِمِ.
أَوْ بِعْتُكَ هَذَا بِهَذَا مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْعِوَضَيْنِ.
وَيَحْصُلُ التَّعْيِينُ أَيْضًا بِالِاسْمِ كَبِعْتُكَ دَارِي بِمَوْضِعِ كَذَا، أَوْ بِمَا فِي يَدِي أَوْ كِيسِي مِنَ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ، وَهُمَا يَعْلَمَانِ ذَلِكَ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ مَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي:
13- يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ مَمْلُوكًا لِلْمُشْتَرِي.وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَمِلْكُ الْمُشْتَرِي يَكُونُ وَقْتَ الْعَقْدِ مِلْكًا تَامًّا، لَا حَقَّ لِغَيْرِهِ فِيهِ.لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ»، وَهُوَ يُفِيدُ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَمْلُوكًا لِبَائِعِهِ.وَالثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ مِثْلُ الْمَبِيعِ فِي هَذَا الْحُكْمِ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ:
14- يُشْتَرَطُ فِي الثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ شَبِيهٌ بِالْمَعْدُومِ، وَالْمَعْدُومُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا.فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الطَّيْرُ فِي الْهَوَاءِ ثَمَنًا، وَكَذَا الْجَمَلُ الشَّارِدُ الَّذِي لَا يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ.لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْغَرَرُ مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ مُتَضَادَّيْنِ أَغْلَبُهُمَا أَخْوَفُهُمَا.وَقِيلَ: مَا انْطَوَتْ عَنَّا عَاقِبَتُهُ...وَالْمَبِيعُ وَمِثْلُهُ الثَّمَنُ الْمُعَيَّنُ إِذَا لَمْ يُقْدَرْ عَلَى تَسْلِيمِهِ دَاخِلٌ فِي الْغَرَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: مَعْرِفَةُ الْقَدْرِ وَالْوَصْفِ فِي الثَّمَنِ:
15- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الثَّمَنُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُشَارًا إِلَيْهِ أَوْ غَيْرَ مُشَارٍ إِلَيْهِ.
فَإِنْ كَانَ مُشَارًا إِلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِهِ وَصِفَتِهِ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ.
(وَالْقَدْرُ: كَخَمْسَةِ أَوْ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ أَكْرَارُ حِنْطَةٍ.وَالصِّفَةُ: كَعَشْرَةِ دَنَانِيرَ كُوَيْتِيَّةٍ أَوْ أُرْدُنِيَّةٍ، وَكَذَا حِنْطَةٌ بُحَيْرِيَّةٌ أَوْ صَعِيدِيَّةٌ).
فَإِذَا قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ الصُّبْرَةَ مِنَ الْحِنْطَةِ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ الَّتِي فِي يَدِكَ وَهِيَ مَرْئِيَّةٌ لَهُ فَقَبِلَ جَازَ وَلَزِمَ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ أَبْلَغُ طُرُقِ التَّعْرِيفِ، وَجَهَالَةُ وَصْفِهِ وَقَدْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ مِنَ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ اللَّذَيْنِ أَوْجَبَهُمَا عَقْدُ الْبَيْعِ فَلَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَيْنِ حَاضِرَانِ.
وَهَذَا بِخِلَافِ الرِّبَوِيِّ إِذَا بِيعَ بِجِنْسِهِ، حَيْثُ لَا يَجُوزُ جُزَافًا؛ لِاحْتِمَالِ الرِّبَا لِأَنَّ عَدَمَ تَحَقُّقِ التَّمَاثُلِ يُعْتَبَرُ بِمَثَابَةِ الْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ، وَبِخِلَافِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ، حَيْثُ لَا يَجُوزُ إِذَا كَانَ مِنَ الْمُقَدَّرَاتِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفَ الْقَدْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَوَافَقَ الْحَنَابِلَةُ الْحَنَفِيَّةَ فِي ذَلِكَ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَثْمَانِ وَالْمُثَمَّنَاتِ فِي صِحَّةِ بَيْعِهَا جُزَافًا). فَذَهَبُوا إِلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ إِذَا عُقِدَ عَلَى ثَمَنٍ بِوَزْنِ صَنْجَةٍ وَمِلْءِ كَيْلٍ مَجْهُولَيْنِ عُرْفًا، وَعَرَفَهُمَا الْمُتَعَاقِدَانِ بِالْمُشَاهَدَةِ، كَبِعْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ بِوَزْنِ هَذَا الْحَجَرِ فِضَّةً، أَوْ بِمِلْءِ هَذَا الْوِعَاءِ أَوْ الْكِيسِ دَرَاهِمَ.
وَذَهَبُوا أَيْضًا إِلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ بِصُبْرَةٍ مُشَاهَدَةٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ دَرَاهِمَ وَنَحْوِهَا، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمَا كَيْلَهَا وَلَا وَزْنَهَا وَلَا عَدَّهَا.
وَنَحْوُ هَذَا الْقَوْلِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، قَالَ الشِّيرَازِيُّ: إِنْ بَاعَهُ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ جُزَافًا جَازَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَيُكْرَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُجْهَلُ قَدْرُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ النَّقْدِ أَيِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ جُزَافًا إِذَا كَانَ مَسْكُوكًا، وَكَانَ التَّعَامُلُ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدَدِ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ الْوَزْنِ، لِقَصْدِ أَفْرَادِهِ.
أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ النَّقْدُ مَسْكُوكًا سَوَاءٌ تَعَامَلُوا بِهِ وَزْنًا أَوْ عَدَدًا جَازَ بَيْعُهُ جُزَافًا، لِعَدَمِ قَصْدِ آحَادِهِ.
16- أَمَّا إِنْ كَانَ الثَّمَنُ غَيْرَ مُشَارٍ إِلَيْهِ فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِهِ الْعَقْدُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ؛ لِأَنَّ جَهَالَتَهُ تُفْضِي إِلَى النِّزَاعِ الْمَانِعِ مِنَ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ، فَيَخْلُو الْعَقْدُ عَنِ الْفَائِدَةِ، وَكُلُّ جَهَالَةٍ تُفْضِي إِلَيْهِ يَكُونُ مُفْسِدًا.
وَالصِّفَةُ إِذَا كَانَتْ مَجْهُولَةً تَتَحَقَّقُ الْمُنَازَعَةُ فِي وَصْفِهَا، فَالْمُشْتَرِي يُرِيدُ دَفْعَ الْأَدْوَنِ، وَالْبَائِعُ يَطْلُبُ الْأَرْفَعَ.فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ شَرْعِيَّةِ الْعَقْدِ، وَهُوَ دَفْعُ الْحَاجَةِ بِلَا مُنَازَعَةٍ.
فَالْعِلْمُ بِالثَّمَنِ عِلْمًا مَانِعًا مِنَ الْمُنَازَعَةِ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ عِنْدَهُمْ.
17- وَبِنَاءً عَلَى هَذَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ.
أ- لَا يَجُوزُ بَيْعُ الشَّيْءِ بِقِيمَتِهِ.فَإِذَا بَاعَهُ بِقِيمَتِهِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ ثَمَنَهُ قِيمَتَهُ، وَالْقِيمَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ، فَكَانَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا.
ب- وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الشَّيْءِ بِمَا حَلَّ بِهِ، أَوْ بِمَا تُرِيدُ، أَوْ تُحِبُّ، أَوْ بِرَأْسِ مَالِهِ، أَوْ بِمَا اشْتَرَاهُ، أَوْ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَى فُلَانٌ.فَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِالْقَدْرِ فِي الْمَجْلِسِ فَرَضِيَهُ انْقَلَبَ جَائِزًا.
- وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إِلاَّ دِينَارًا، أَوْ بِمِائَةِ دِينَارٍ إِلاَّ دِرْهَمًا.
- وَكَذَا لَا يَجُوزُ بِمِثْلِ مَا يَبِيعُ النَّاسُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا لَا يَتَفَاوَتُ كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ.
- وَكَذَا إِذَا بَاعَ بِحُكْمِ الْمُشْتَرِي، أَوْ بِحُكْمِ فُلَانٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي بِمَاذَا يَحْكُمُ فُلَانٌ فَكَانَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا.
18- ج- وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا بِأَنَّهُ وَإِنْ بَاعَهُ بِمَا يَنْقَطِعُ السِّعْرُ بِهِ، أَوْ بِمِثْلِ مَا بَاعَ بِهِ فُلَانٌ، وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِهِ أَوْ أَحَدُهُمَا، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ.
د- وَإِنْ بَاعَهُ سِلْعَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ذَهَبًا وَفِضَّةً لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ، لِأَنَّ مِقْدَارَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْأَلْفِ مَجْهُولٌ، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ بِمِائَةٍ بَعْضُهَا ذَهَبٌ؛ وَلِأَنَّهُ بَيْعُ غَرَرٍ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ.
هـ- وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الشَّيْءِ بِرَقْمِهِ، وَالْمُرَادُ الثَّمَنُ لَا يَعْلَمُ بِهِ الْمُشْتَرِي حَتَّى يَنْظُرَهُ بَعْدَ الْعَقْدِ.
وَهَذَا قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَالرَّقْمُ: عَلَامَةٌ يُعْلَمُ بِهَا مِقْدَارُ مَا وَقَعَ الْبَيْعُ بِهِ مِنَ الثَّمَنِ.
وَالْبَيْعُ بِالرَّقْمِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ جَهَالَةٍ تَمَكَّنَتْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، وَهِيَ جَهَالَةُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهَا بِرَقْمٍ لَا يَعْلَمُهُ الْمُشْتَرِي، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْقِمَارِ، لِلْخَطَرِ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُ سَيَظْهَرُ كَذَا وَكَذَا.
وَإِنْ عَلِمَ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ الْعَقْدُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْعِلْمِ بَطَلَ.
وَكَانَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ يَقُولُ: وَإِنْ عَلِمَ بِالرَّقْمِ فِي الْمَجْلِسِ لَا يَنْقَلِبُ ذَلِكَ الْعَقْدُ جَائِزًا، وَلَكِنْ إِنْ كَانَ الْبَائِعُ دَائِمًا عَلَى ذَلِكَ الرِّضَا وَرَضِيَ بِهِ الْمُشْتَرِي فِي الْمَجْلِسِ يَنْعَقِدُ بَيْنَهُمَا عَقْدَ ابْتِدَاءٍ بِالتَّرَاضِي.
وَوَرَدَ فِي الْمُغْنِي لِابْنِ قُدَامَةَ: (قَالَ أَحْمَدُ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَبِيعَ بِالرَّقْمِ.وَمَعْنَاهُ: أَنْ يَقُولَ: بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِرَقْمِهِ، وَهُوَ الثَّمَنُ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مَعْلُومًا لَهُمَا حَالَ الْعَقْدِ.وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَكَرِهَهُ طَاوُسٌ
وَلَنَا أَنَّهُ بَيْعٌ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ذَكَرَ مِقْدَارَهُ، أَوْ مَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ هَذَا بِمَا اشْتَرَيْتُهُ بِهِ وَقَدْ عَلِمَا قَدْرَهُ.فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ).
إِذَنْ فَالْحُكْمُ بِجَوَازِهِ هُنَا بِنَاءٌ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ الَّذِي يُفِيدُ أَنَّ الثَّمَنَ مَعْلُومٌ.أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا حَسَبَ التَّفْسِيرِ الْمُتَقَدِّمِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَلَا خِلَافَ عِنْدَئِذٍ.
و- بَيْعُ صُبْرَةِ طَعَامٍ، كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ:
19- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ.وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ؛ بِحُجَّةِ: أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَبْلَغَ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ حَالَ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُ بَعْدَ الْكَيْلِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ، إِلاَّ أَنْ يُسَمِّيَ جُمْلَةَ قُفْزَانِهَا.وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، بِحُجَّةِ: أَنَّ صَرْفَ اللَّفْظِ إِلَى الْكُلِّ مُتَعَذِّرٌ؛ لِجَهَالَةِ الْبَيْعِ وَالثَّمَنِ جَهَالَةً تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَطْلُبُ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ أَوَّلًا، وَالثَّمَنُ غَيْرُ مَعْلُومٍ، فَيَقَعُ النِّزَاعُ.وَإِذَا تَعَذَّرَ الصَّرْفُ إِلَى الْكُلِّ صُرِفَ إِلَى الْأَقَلِّ، وَهُوَ مَعْلُومٌ، إِلاَّ أَنْ تَزُولَ الْجَهَالَةُ فِي الْمَجْلِسِ بِتَسْمِيَةِ جَمِيعِ الْقُفْزَانِ أَوْ بِالْكَيْلِ فِي الْمَجْلِسِ فَيَجُوزُ، لِأَنَّ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ بِمَنْزِلَةِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا قَدْرَ قُفْزَانِهَا حَالَ الْعَقْدِ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَجُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا يَلِي:
1- أَنَّ الْمَبِيعَ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَالثَّمَنَ مَعْلُومٌ لِإِشَارَتِهِ إِلَى مَا يُعْرَفُ مَبْلَغُهُ بِجِهَةٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَهُوَ كَيْلُ الصُّبْرَةِ، فَجَازَ كَمَا لَوْ بَاعَ مَا رَأْسُ مَالِهِ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ، لِكُلِّ ثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمٌ، فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِالْحِسَابِ، كَذَا هَاهُنَا. 2- أَنَّ الْمَبِيعَ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ، وَالثَّمَنَ مَعْلُومٌ قَدْرَ مَا يُقَابِلُ كُلَّ جُزْءٍ مِنَ الْمَبِيعِ فَصَحَّ كَالْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، وَالْغَرَرَ مُنْتَفٍ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُ كُلَّ صَاعٍ مَعْلُومُ الْقَدْرِ حِينَئِذٍ.فَغَرَرُ الْجَهَالَةِ يَنْتَفِي بِالْعِلْمِ بِالتَّفْصِيلِ.كَمَا يَنْتَفِي بِالْعِلْمِ بِالْجُمْلَةِ، فَإِذَا جَازَ بِالْعِلْمِ بِالْجُمْلَةِ جَازَ بِالْعِلْمِ بِالتَّفْصِيلِ أَيْ: لَا يَضُرُّ الْجَهْلُ بِحَمَلَةِ الثَّمَنَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالتَّفْصِيلِ، وَالْغَرَرُ مُرْتَفِعٌ بِهِ، كَمَا إِذَا بَاعَ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ جُزَافًا.
3- لِأَنَّ إِزَالَةَ الْجَهَالَةِ بِيَدِهِمَا، فَتَرْتَفِعُ بِكَيْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مَانِعٍ.
وَانْظُرْ أَيْضًا (بَيْعُ الْجُزَافِ).
ز- لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إِلاَّ بِثَمَنٍ مَعْلُومِ الصِّفَةِ:
20- لِذَلِكَ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ:
مَنْ أَطْلَقَ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ عَنْ ذِكْرِ الصِّفَةِ دُونَ الْقَدْرِ، كَأَنْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ، وَلَمْ يَقُلْ بُخَارِيَّةً أَوْ سَمَرْقَنْدِيَّةً، وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ، أَيْ يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُتَعَامَلِ بِهِ فِي بَلَدِهِ.
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ:
أَنَّ الْمَعْلُومَ بِالْعُرْفِ كَالْمَعْلُومِ بِالنَّصِّ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ فِيهِ تَصْحِيحُ تَصَرُّفِهِ.
وَيَبْنِي الْحَنَفِيَّةُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ النُّقُودُ مُخْتَلِفَةً فِي الْمَالِيَّةِ كَالذَّهَبِ الْمِصْرِيِّ وَالْمَغْرِبِيِّ، فَإِنَّ الْمِصْرِيَّ أَفْضَلُ فِي الْمَالِيَّةِ مِنَ الْمَغْرِبِيِّ، وَكَانَتْ مُتَسَاوِيَةً فِي الرَّوَاجِ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْجَهَالَةِ مُفْضِيَةٌ إِلَى الْمُنَازَعَةِ، فَالْمُشْتَرِي يُرِيدُ دَفْعَ الْأَنْقَصِ مَالِيَّةً، وَالْبَائِعُ يُرِيدُ أَخْذَ الْأَعْلَى، فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ إِلاَّ أَنْ تُرْفَعَ الْجَهَالَةُ بِبَيَانِ أَحَدِهِمَا فِي الْمَجْلِسِ وَيَرْضَى الْآخَرُ؛ لِارْتِفَاعِ الْمُفْسِدِ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ.
- وَإِذَا كَانَتِ النُّقُودُ مُخْتَلِفَةً فِي الرَّوَاجِ وَالْمَالِيَّةِ صَحَّ الْبَيْعُ وَانْصَرَفَ إِلَى الْأَرْوَجِ.
- وَإِذَا كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فِي الرَّوَاجِ مُسْتَوِيَةً فِي الْمَالِيَّةِ صَحَّ الْبَيْعُ وَانْصَرَفَ إِلَى الْأَرْوَجِ أَيْضًا تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ.
- أَمَّا إِذَا اسْتَوَتْ فِي الرَّوَاجِ وَالْمَالِيَّةِ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي الِاسْمِ كَالْمِصْرِيِّ وَالدِّمَشْقِيِّ، فَيَصِحُّ الْبَيْعُ وَيَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي فِي أَنْ يُؤَدِّيَ أَيَّهُمَا شَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَازَعَةَ فِيهَا. فَالْحَاصِلُ:
أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ لِأَنَّ النُّقُودَ إِمَّا أَنْ تَسْتَوِيَ فِي الرَّوَاجِ وَالْمَالِيَّةِ مَعًا، أَوْ تَخْتَلِفَ فِيهِمَا، أَوْ يَسْتَوِيَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ.
وَالْفَسَادُ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ: وَهِيَ: الِاسْتِوَاءُ فِي الرَّوَاجِ وَالِاخْتِلَافُ فِي الْمَالِيَّةِ، وَالصِّحَّةُ فِي الثَّلَاثِ الْبَاقِيَةِ.
وَهَذِهِ الصُّورَةُ الْفَاسِدَةُ ذَكَرَهَا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ تَعَدَّدَتِ السِّكَكُ فِي الْبَلَدِ وَلَمْ يُبَيِّنْ، فَإِنْ اتَّحَدَتْ رَوَاجًا قَضَاهُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ قَضَاهُ مِنَ الْغَالِبِ إِنْ كَانَ، وَإِلاَّ فَسَدَ الْبَيْعُ لِعَدَمِ الْبَيَانِ.
وَعِبَارَةُ الشِّرْبِينِيِّ الشَّافِعِيِّ: إِذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدَانِ وَلَمْ يَغْلِبْ أَحَدُهُمَا أَوْ غَلَبَ أَحَدُهُمَا وَاخْتَلَفَتِ الْقِيمَةُ اشْتُرِطَ التَّعْيِينُ لَفْظًا لِاخْتِلَافِ الْغَرَضِ بِاخْتِلَافِهِمَا.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ بَاعَ بِدِينَارٍ مُطْلَقٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَلَا مَوْصُوفٍ وَفِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنَ الدَّنَانِيرِ كُلُّهَا رَائِجَةٌ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
58-موسوعة الفقه الكويتية (جارية)
جَارِيَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- مِنْ مَعَانِي الْجَارِيَةِ لُغَةً: السَّفِينَةُ، وَفِتْيَةُ النِّسَاءِ، وَقِيلَ لِلْأَمَةِ جَارِيَةٌ عَلَى التَّشْبِيهِ لِجَرْيِهَا مُسْتَسْخَرَةً فِي أَشْغَالِ مَوَالِيهَا.
وَالِاصْطِلَاحُ الشَّرْعِيُّ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَالْفُقَهَاءُ إِنَّمَا عَنَوْا بِمُصْطَلَحِ جَارِيَةٍ بِمَعْنَى الْفَتَاةِ الصَّغِيرَةِ، وَالشَّابَّةِ، وَالْأَمَةِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْفَتَاةُ، وَالْأَمَةُ
2- الْفَتَاةُ: الشَّابَّةُ مُطْلَقًا حُرَّةً أَوْ أَمَةً.أَمَّا الْجَارِيَةُ فَتُطْلَقُ عَلَى الشَّابَّةِ، وَعَلَى الصَّغِيرَةِ، وَعَلَى الْأَمَةِ شَابَّةً أَوْ عَجُوزًا
وَالْأَمَةُ: لَا تُطْلَقُ إِلاَّ عَلَى الرَّقِيقَةِ مِنَ النِّسَاءِ.
أَحْكَامُ الْجَارِيَةِ فِي الْإِطْلَاقَاتِ الْفِقْهِيَّةِ:
3- الْأَصْلُ أَنْ تَخْتَلِفَ الْجَارِيَةُ عَنِ الْغُلَامِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ مِنْهَا: أ- حُكْمُ التَّطَهُّرِ مِنْ بَوْلِ الصَّبِيِّ وَالْجَارِيَةِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الصَّبِيَّ الرَّضِيعَ يُطَهَّرُ الثَّوْبُ مِنْ بَوْلِهِ بِالنَّضْحِ بِالْمَاءِ، أَمَّا الْجَارِيَةُ فَلَا يُطَهَّرُ مِنْ بَوْلِهَا إِلاَّ بِالْغَسْلِ بِالْمَاءِ لِخَبَرِ التِّرْمِذِيِّ «يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ وَيُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ».
وَلِلتَّفْصِيلِ فِي بَابِ النَّجَاسَةِ.
ب- حُكْمُ الْعَقِّ عَنِ الْمَوْلُودِ، يُعَقُّ عَنِ الْغُلَامِ بِشَاتَيْنِ وَعَنِ الْجَارِيَةِ بِشَاةٍ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُبَيَّنُ فِي مُصْطَلَحِ: «عَقِيقَةٌ».
ج- الْإِجْبَارُ فِي النِّكَاحِ، فَالْجَارِيَةُ، لِوَلِيِّهَا أَنْ يَجْبُرَهَا عَلَى الزَّوَاجِ فِي أَحْوَالٍ مَحْدُودَةٍ، يُنْظَرُ بَيَانُهَا وَبَيَانُ مَنْ لَهُ حَقُّ الْإِجْبَارِ فِي مُصْطَلَحِ «نِكَاحٌ» «وَإِجْبَارٌ».
د- وَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ أَيْضًا فِي بَقَاءِ الْجَارِيَةِ وَالْغُلَامِ فِي حَضَانَةِ الْحَاضِنَةِ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَضَانَةٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
59-موسوعة الفقه الكويتية (جراح)
جِرَاحٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْجِرَاحُ لُغَةً، جَمْعُ جُرْحٍ وَهُوَ مِنَ الْجَرْحِ- بِفَتْحِ الْجِيمِ- وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ نَفَعَ.يُقَالُ: جَرَحَهُ يَجْرَحُهُ جَرْحًا إِذَا أَثَّرَ فِيهِ بِالسِّلَاحِ
وَالْجُرْحُ- بِضَمِّ الْجِيمِ- الِاسْمُ، وَالْجَمْعُ جُرُوحٌ، وَجِرَاحٌ، وَجَاءَ جَمْعُهُ عَلَى أَجْرَاحٍ، وَالْجِرَاحَةُ اسْمُ الضَّرْبَةِ أَوِ الطَّعْنَةِ.وَيُقَالُ امْرَأَةٌ جَرِيحٌ وَرَجُلٌ جَرِيحٌ، وَالِاسْتِجْرَاحُ: النُّقْصَانُ وَالْعَيْبُ وَالْفَسَادُ.يُقَالُ اسْتَجْرَحَتِ الْأَحَادِيثُ أَيْ فَسَدَتْ وَجُرِّحَ رُوَاتُهَا، وَيُقَالُ جَرَحَهُ بِلِسَانٍ جَرْحًا عَابَهُ وَتَنَقَّصَهُ، وَمِنْهُ جَرَحَ الشَّاهِدَ إِذَا طَعَنَ فِيهِ وَرَدَّ قَوْلَهُ وَأَظْهَرَ فِيهِ مَا تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ.
وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِلْجِرَاحِ عَنْ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ.
وَيُطْلِقُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لَفْظَ الْجِرَاحِ عَلَى أَبْوَابِ الْجِنَايَاتِ تَغْلِيبًا لِأَنَّهَا أَكْثَرُ طُرُقِ الزُّهُوقِ، وَاسْتَعْمَلَ بَعْضُهُمْ لَفْظَ «الْجِنَايَاتِ» لِأَنَّهَا أَعَمُّ مِنَ الْجِرَاحِ، فَهِيَ تَشْمَلُ الْقَتْلَ بِالسَّمِّ، أَوْ بِالْمُثَقَّلِ، أَوْ بِالْخَنْقِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ الْقَتْلِ غَيْرِ الْجِرَاحِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الشِّجَاجُ:
2- الشِّجَاجُ جَمْعُ شَجَّةٍ، وَهِيَ الْجُرْحُ يَكُونُ فِي الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ فِي الْأَصْلِ، وَلَا يَكُونُ فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الْجِسْمِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ.
وَاصْطِلَاحًا: يَسْتَعْمِلُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لَفْظَ «الشِّجَاجَ» فِي جِرَاحِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ، وَأُطْلِقَ لَفْظُ «جِرَاحٍ» عَلَى مَا كَانَ فِي غَيْرِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ.
وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَعْمَلَ الشِّجَاجَ وَالْجِرَاحَ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا، فِي الْجِرَاحِ فِي جَمِيعِ الْجِسْمِ.
وَمَنْ فَرَّقَ فِي اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ اعْتَمَدَ عَلَى اللُّغَةِ لِمَا ثَبَتَ مِنْ مُغَايَرَةِ الْعَرَبِ فِي الِاسْتِعْمَالِ بَيْنَهُمَا، كَمَا اعْتَمَدَ عَلَى الْمَعْنَى، فَإِنَّ الْأَثَرَ الْمُتَرَتِّبَ عَلَى شِجَاجِ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ يَخْتَلِفُ عَنْ أَثَرِ الْجِرَاحِ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ.
وَذَلِكَ لِبَقَاءِ أَثَرِ الشِّجَاجِ غَالِبًا فَيَلْحَقُ الْمَشْجُوجَ الشَّيْنُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْبَدَنِ؛ لِأَنَّ الشَّيْنَ لَا يَلْحَقُ غَالِبًا إِلاَّ فِيمَا يَظْهَرُ كَالْوَجْهِ وَالرَّأْسِ، أَمَّا سَائِرُ الْبَدَنِ فَالْغَالِبُ فِيهِ أَنْ يُغَطَّى فَلَا يَظْهَرُ فِيهِ الشَّيْنُ.
وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ- مِنَ الْمَالِكِيَّةِ- فِي بَيَانِ مُتَعَلَّقِ الْجِنَايَةِ فِي غَيْرِ النَّفْسِ: «إِنْ أَفَاتَتْ بَعْضَ الْجِسْمِ فَقَطْعٌ، وَإِلاَّ فَإِنْ أَزَالَتْ اتِّصَالَ عَظْمٍ لَمْ يَبِنْ فَكَسْرٌ، وَإِلاَّ فَإِنْ أَثَّرَتْ فِي الْجِسْمِ فَجَرْحٌ، وَإِلاَّ فَإِتْلَافُ مَنْفَعَةٍ».
ب- الْفَصْدُ:
3- الْفَصْدُ شَقُّ الْعِرْقِ وَقَطْعُهُ، يُقَالُ فَصَدَهُ يَفْصِدُهُ فَصْدًا وَفِصَادًا فَهُوَ مَفْصُودٌ وَفَصِيدٌ.وَفَصْدُ النَّاقَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ شَقُّ عِرْقِهَا لِيَسْتَخْرِجَ دَمَ الْعِرْقِ فَيَشْرَبَهُ، وَسُمِّيَ «الْفَصِيدَ»
وَالْفَصْدُ أَخَصُّ مِنَ الْجِرَاحِ؛ لِأَنَّ الْفَصْدَ يَكُونُ فِي الْعِرْقِ فَقَطْ، أَمَّا الْجِرَاحُ فَتَكُونُ فِي الْعِرْقِ وَغَيْرِهِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4- يَحْرُمُ إِحْدَاثُ جَرْحٍ فِي مَعْصُومِ الدَّمِ أَوْ مَالِهِ، وَصَيْدِ الْحَرَمِ وَصَيْدِ الْبَرِّ عُمُومًا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُحْرِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَالدِّفَاعِ عَنِ النَّفْسِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْجِرَاحِ أَحْكَامٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَوَاضِعِهَا.
تَطَهُّرُ الْجُرْحِ:
5- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي حَقِّ الْجَرِيحِ الَّذِي يَتَضَرَّرُ مِنْ غَسْلِ جِرَاحَتِهِ، أَنْ يَمْسَحَ عَلَى عَيْنِ الْجِرَاحَةِ إِذَا كَانَ الْمَسْحُ عَلَيْهَا لَا يَضُرُّهُ، وَإِلاَّ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْجَبِيرَةِ.وَخَوْفُ الضَّرَرِ الْمُجِيزُ لِلْمَسْحِ هُوَ الْخَوْفُ الْمُجِيزُ لِلتَّيَمُّمِ.عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي: (جَبِيرَةٌ).
وَفِي الطَّهَارَةِ مِنَ الْجَنَابَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَوْ كَانَ أَكْثَرُ الْبَدَنِ أَوْ نِصْفُهُ جَرِيحًا فَالْوَاجِبُ فِي حَقِّهِ التَّيَمُّمُ، وَالْكَثْرَةُ تُعْتَبَرُ بِعَدَدِ الْأَعْضَاءِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُهُ صَحِيحًا غَسَلَ الصَّحِيحَ وَمَسَحَ الْجَرِيحَ، وَإِنْ ضَرَّهُ الْمَسْحُ تَرَكَهُ.وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالتَّيَمُّمِ إِذْ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ.
وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فِي حَالِ الْجُرْحِ، فَلَهُ عِنْدَهُمْ حَالَتَانِ:
الْأُولَى: أَنْ لَا يَتَضَرَّرُ مِنْ غَسْلِ الْجُزْءِ الصَّحِيحِ الْمُحِيطِ بِالْجُرْحِ، فَالْوَاجِبُ فِي حَقِّهِ مَسْحُ الْجُرْحِ وُجُوبًا إِذَا خَافَ الْهَلَاكَ أَوْ شِدَّةَ الضَّرَرِ، وَجَوَازًا إِنْ خَافَ شِدَّةَ الْأَلَمِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَضَرَّرَ مِنْ غَسْلِ الصَّحِيحِ الْمُحِيطِ بِالْجُرْحِ، فَفَرْضُهُ التَّيَمُّمُ سَوَاءٌ أَكَانَ الصَّحِيحُ هُوَ الْأَكْثَرَ أَوِ الْأَقَلَّ.كَمَا لَوْ عَمَّتِ الْجِرَاحَةُ جَمِيعَ جَسَدِهِ وَتَعَذَّرَ الْغَسْلُ فَفَرْضُهُ التَّيَمُّمُ.
وَإِنْ تَكَلَّفَ الْجَرِيحُ وَغَسَلَ الْجُرْحَ أَوْ غَسَلَهُ مَعَ الصَّحِيحِ الضَّارِّ غَسْلُهُ أَجْزَأَ؛ لِإِتْيَانِهِ بِالْأَصْلِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ وَشَقَّ مَسُّ الْجُرْحِ بِالْمَاءِ، وَالْجِرَاحَةُ وَاقِعَةٌ فِي أَعْضَاءِ تَيَمُّمِهِ تَرَكَهَا بِلَا غَسْلٍ وَلَا مَسْحٍ؛ لِتَعَذُّرِ مَسِّهَا وَتَوَضَّأَ وُضُوءًا نَاقِصًا، بِأَنْ يَغْسِلَ أَوْ يَمْسَحَ مَا عَدَاهَا مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَإِنْ كَانَتِ الْجِرَاحُ فِي غَيْرِ أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ فَفِي الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ:
أَوَّلُهَا: يَتَيَمَّمُ لِيَأْتِيَ بِطَهَارَةٍ تُرَابِيَّةٍ كَامِلَةٍ.بِخِلَافِ مَا لَوْ تَوَضَّأَ كَانَتْ طَهَارَتُهُ نَاقِصَةً لِعَدَمِ إِمْكَانِهِ غَسْلَ الْجُرْحِ.
ثَانِيهَا: يَغْسِلُ مَا صَحَّ وَيَسْقُطُ مَحَلُّ الْجِرَاحِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ أَوْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ.
ثَالِثُهَا: يَتَيَمَّمُ إِنْ كَانَتِ الْجِرَاحَةُ أَكْثَرَ مِنَ الصَّحِيحِ لِأَنَّ الْأَقَلَّ تَابِعٌ لِلْأَكْثَرِ.
رَابِعُهَا: يَجْمَعُ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالتَّيَمُّمِ فَيَغْسِلُ الصَّحِيحَ وَيَتَيَمَّمُ لِلْجَرِيحِ، وَيُقَدِّمُ الْغَسْلَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِلَى أَنَّ الْجَرِيحَ الْمُحْدِثَ إِذَا أَرَادَ الْوُضُوءَ أَوِ الْغُسْلَ، وَخَافَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْخَوْفَ الْمُجَوِّزَ لِلتَّيَمُّمِ، بِأَنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ مِنْ غَسْلِ الْجِرَاحَةِ أَوْ مَسْحِهَا، لَزِمَهُ غَسْلُ الصَّحِيحِ وَالتَّيَمُّمُ عَنِ الْجَرِيحِ.وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ، فَإِنْ شَاءَ غَسَلَ الصَّحِيحَ ثُمَّ تَيَمَّمَ عَنِ الْجَرِيحِ، وَإِنْ شَاءَ تَيَمَّمَ ثُمَّ غَسَلَ إِذْ لَا تَرْتِيبَ فِي طَهَارَتِهِ.
أَمَّا فِي الْوُضُوءِ فَالتَّرْتِيبُ وَاجِبٌ، فَلَا يَنْتَقِلُ مِنْ عُضْوٍ إِلَى آخَرَ حَتَّى يُكْمِلَ طَهَارَتَهُ، فَإِذَا كَانَتِ الْجِرَاحَةُ فِي الْوَجْهِ مَثَلًا، وَجَبَ تَكْمِيلُ طَهَارَةِ الْوَجْهِ أَوَّلًا، فَإِنْ شَاءَ غَسَلَ صَحِيحَهُ ثُمَّ تَيَمَّمَ عَنْ جَرِيحِهِ، وَإِنْ شَاءَ تَيَمَّمَ ثُمَّ غَسَلَ، فَيُخَيَّرُ بِلَا أَوْلَوِيَّةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِأَنَّهُ عُضْوٌ وَاحِدٌ لَا يُرَاعَى فِيهِ التَّرْتِيبُ.وَالْأَوْلَى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَقْدِيمُ التَّيَمُّمِ.
أَمَّا لَوْ غَسَلَ صَحِيحَ وَجْهِهِ ثُمَّ تَيَمَّمَ لِجَرِيحِهِ وَجَرِيحِ يَدَيْهِ تَيَمُّمًا وَاحِدًا لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى سُقُوطِ الْفَرْضِ عَنْ جُزْءٍ مِنَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَفُوتُ التَّرْتِيبُ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَهُ الْمَسْحُ بِالْمَاءِ عَلَى الْجُرْحِ وَجَبَ مَسْحُهُ لِأَنَّ الْغَسْلَ مَأْمُورٌ بِهِ وَالْمَسْحُ بَعْضُهُ، فَوَجَبَ كَمَنْ عَجَزَ عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَقَدَرَ عَلَى الْإِيمَاءِ.فَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ نَجِسًا تَيَمَّمَ وَلَمْ يَمْسَحْ، فَإِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مَعْفُوًّا عَنْهَا أُلْغِيَتْ وَكَفَتْ نِيَّةُ رَفْعِ الْحَدَثِ، وَإِلاَّ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ وَالنَّجَاسَةِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (طَهَارَةٌ، وَتَيَمُّمٌ، وَجَبِيرَةٌ، وَوُضُوءٌ).
غَسْلُ الْمَيِّتِ الْجَرِيحِ:
6- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَيِّتَ الْمَجْرُوحَ، وَالْمَجْدُورَ، وَذَا الْقُرُوحِ، وَمَنْ تَهَشَّمَ تَحْتَ الْهَدْمِ وَشِبْهَهُمْ، إِنْ أَمْكَنَ تَغْسِيلُهُ غُسِّلَ، وَإِلاَّ صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ.فَإِنْ زَادَ أَمْرُهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ خُشِيَ مِنْ صَبِّ الْمَاءِ تَزَلُّعُهُ أَوْ تَقَطُّعُهُ فَإِنَّهُ يُيَمَّمُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْتَقَلُ إِلَى التَّيَمُّمِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْغُسْلِ لِخَوْفِ تَهَرِّيهِ؛ لِأَنَّ التَّطْهِيرَ لَا يَتَعَلَّقُ بِإِزَالَةِ نَجَاسَةٍ فَوَجَبَ الِانْتِقَالُ فِيهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْمَاءِ إِلَى التَّيَمُّمِ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ.
أَمَّا لَوْ كَانَ بِهِ قُرُوحٌ وَخِيفَ مِنْ غَسْلِهِ إِسْرَاعُ الْبِلَى إِلَيْهِ بَعْدَ الدَّفْنِ وَجَبَ غُسْلُهُ لِأَنَّ الْجَمِيعَ صَائِرُونَ إِلَى الْبِلَى.
وَلَمْ يُوقَفْ عَلَى قَوْلٍ لِلْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (غُسْلٌ، وَمَوْتٌ). حُكْمُ جَرِيحِ الْمَعْرَكَةِ:
7- الْأَصْلُ أَنَّ الشَّهِيدَ- وَهُوَ مَنْ مَاتَ فِي الْمَعْرَكَةِ بِقِتَالِ الْكُفَّارِ- لَا يُغَسَّلُ، أَمَّا إِذَا جُرِحَ فِي الْمَعْرَكَةِ وَرُفِعَ مِنَ الْمُعْتَرَكِ حَيًّا، فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ نَامَ أَوْ تَكَلَّمَ أَوْ طَالَ بَقَاؤُهُ عُرْفًا أَوْ تَدَاوَى، أَوْ ارْتَفَقَ بِمَرَافِقِ الْحَيَاةِ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الشَّهَادَةُ بَلْ هُوَ شَهِيدٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.وَدَلِيلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ «تَغْسِيلُهُ - صلى الله عليه وسلم- سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ» وَلِأَنَّ الِارْتِفَاقَ لَا يَكُونُ إِلاَّ مِنْ ذِي حَيَاةٍ مُسْتَقِرَّةٍ، وَالْأَصْلُ وُجُوبُ الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ؛ وَلِأَنَّ بِالِارْتِفَاقِ خَفَّ أَثَرُ الظُّلْمِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ الَّذِي يَمُوتُ فِي أَرْضِهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقِتَالِ بِجِرَاحَةٍ يُقْطَعُ بِمَوْتِهِ مِنْهَا، وَفِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَغَيْرُ شَهِيدٍ فِي الْأَظْهَرِ وَلَهُمْ فِي غَيْرِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ شَهِيدٍ.
وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (شَهِيدٌ، جَنَائِزُ، غُسْلٌ، ارْتِثَاثٌ).
حُكْمُ الْجُرُوحِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَسَائِرِ الْبَدَنِ:
8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْجِرَاحِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَعَلَى خِلَافٍ فِي التَّفْصِيلِ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثِ «أَنَسٍ فِي قِصَّةِ عَمَّتِهِ الرُّبَيِّعِ لَمَّا كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ وَطَلَبُوا الْعَفْوَ فَأَبَوْا، وَعَرَضُوا الْأَرْشَ فَأَبَوْا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم-: كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ».
وَقَسَّمَ الْفُقَهَاءُ أَنْوَاعَ الْجُرُوحِ حَسَبَ مَوْقِعِهَا وَدَرَجَتِهَا وَأَثَرِهَا إِلَى أَقْسَامٍ، فَالَّذِي يَقَعُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ فَيُسَمَّى شِجَاجًا وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (شِجَاجٌ).
9- وَأَمَّا الْجِرَاحُ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ، فَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهَا إِذَا أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهَا، بِأَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى حَدٍّ كَأَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى عَظْمٍ بِشَرْطِ أَلَا تَكْسِرَهُ، أَوْ تَنْتَهِيَ إِلَى مَفْصِلٍ كَالْكُوعِ وَالْمِرْفَقِ وَالْكَعْبِ.
وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَا لَا قِصَاصَ فِيهِ مِنَ الْجِرَاحِ إِذَا كَانَ عَلَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ لَا قِصَاصَ فِيهِ إِذَا كَانَ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي جِرَاحِ سَائِرِ الْبَدَنِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فِيهَا عَلَى وَجْهِ الْمُمَاثَلَةِ.بَلْ تَجِبُ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ بِشَرْطِ أَنْ تَبْرَأَ وَيَبْقَى لَهَا أَثَرٌ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ فَلَا شَيْءَ فِيهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رضي الله عنه-.
10- فَإِذَا صَارَ الْأَمْرُ إِلَى الدِّيَةِ لِعَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ، أَوْ لِلْعَفْوِ إِلَى الدِّيَةِ، وَكَانَتِ الْجُرُوحُ مِمَّا فِيهِ أَرْشٌ، مُقَدَّرٌ شَرْعًا، فَدِيَةُ الْمُوضِحَةِ خَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ، وَالْهَاشِمَةِ عَشَرَةُ، وَالْمُنَقِّلَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ. جَرْحُ حَيَوَانٍ تَعَذَّرَ ذَبْحُهُ:
11- إِذَا جَرَحَ الصَّائِدُ حَيَوَانًا مَأْكُولًا، تَعَذَّرَ ذَبْحُهُ بِآلَةٍ مُحَدَّدَةٍ، أَوْ بِإِرْسَالِ جَارِحَةٍ، كَالْكَلْبِ، وَنَحْوِهِ، فَمَاتَ فِي الْحَالِ، قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَبْحِهِ حَلَّ أَكْلُهُ، لِخَبَرِ: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ، لَيْسَ الظُّفْرَ، وَالسِّنَّ» وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَيْدٌ) أَوْ مُصْطَلَحِ: (جَارِحَةٌ).
جَرْحُ الصَّيْدِ:
12- لَا يَجُوزُ التَّعَرُّضُ لِصَيْدِ الْحَرَمِ الْبَرِّيِّ لِمُحْرِمٍ، وَلَا حَلَالٍ، لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ» كَمَا لَا يَجُوزُ لِمُحْرِمٍ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِصَيْدٍ بَرِّيٍّ وَحْشِيٍّ مُطْلَقًا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فَإِذَا جُرِحَ صَيْدُ الْحَرَمِ، أَوْ جَرَحَ مُحْرِمٌ صَيْدًا بَرِّيًّا، فَإِنْ أَزْمَنَهُ لَزِمَهُ جَمِيعُ قِيمَتِهِ، لِأَنَّ الْإِزْمَانَ كَالْإِتْلَافِ.وَإِلاَّ لَزِمَهُ قِيمَةُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ مِثْلِهِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَيْدٌ، وَإِحْرَامٌ).
تَمَلُّكُ الصَّيْدِ بِالْجَرْحِ:
13- يُمْلَكُ الصَّيْدُ بِالْجَرْحِ إِذَا أَبْطَلَ بِهِ عَدْوَهُ وَطَيَرَانَهُ إِنْ كَانَ الصَّيْدُ مِمَّا يَمْتَنِعُ بِهِمَا، وَيَكْفِي فِي الْجَرْحِ إِبْطَالُ شِدَّةِ عَدْوِهِ بِحَيْثُ يَسْهُلُ لَحَاقُهُ.
وَإِنْ جَرَحَهُ اثْنَانِ فَإِنْ تَعَاقَبَ جَرْحُهُمَا فَهُوَ لِمَنْ أَزْمَنَهُ أَوْ ذَفَّفَهُ (أَجْهَزَ عَلَيْهِ) وَإِنْ أَثْخَنَهُ الْأَوَّلُ، وَقَتَلَهُ الثَّانِي فَهُوَ لِلْأَوَّلِ، وَيَضْمَنُ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ بِالرَّمْيِ أَتْلَفَ صَيْدًا مَمْلُوكًا.
وَإِنْ جَرَحَا مَعًا فَقَتَلَاهُ كَانَ الصَّيْدُ حَلَالًا، وَمَلَكَاهُ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَيْدٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
60-موسوعة الفقه الكويتية (جلد)
جَلْدٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْجَلْدُ بِفَتْحِ الْجِيمِ فِي اللُّغَةِ: الضَّرْبُ بِالسَّوْطِ وَهُوَ مَصْدَرُ جَلَدَهُ يَجْلِدُهُ
يُقَالُ: رَجُلٌ مَجْلُودٌ وَجَلِيدٌ فِي حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَامْرَأَةٌ مَجْلُودَةٌ وَجَلِيدٌ وَجَلِيدَةٌ (وَيُطْلَقُ الْجَلْدُ مَجَازًا عَلَى الْإِكْرَاهِ عَلَى الشَّيْءِ فَيُقَالُ: جَلَدَهُ عَلَى الْأَمْرِ: أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ)
وَالْجَلْدُ فِي الِاصْطِلَاحِ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الضَّرْبُ:
2- الضَّرْبُ أَعَمُّ مِنَ الْجَلْدِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِالسَّوْطِ وَبِغَيْرِهِ.
ب- الرَّجْمُ:
3- الرَّجْمُ هُوَ الضَّرْبُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى الْمَوْتِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4- يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْجَلْدِ بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ، فَيَحْرُمُ جَلْدُ إِنْسَانٍ ظُلْمًا، أَيْ فِي غَيْرِ حَقٍّ عَلَى التَّفْصِيلِ الْآتِي.
جَلْدُ مَنِ ارْتَكَبَ مَا يُوجِبُ الْعِقَابَ بِالْجَلْدِ، وَاجِبٌ عَلَى الْإِمَامِ، إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ عِنْدَهُ: كَالزَّانِي الْبِكْرِ، وَالتَّأْدِيبُ بِالْجَلْدِ جَائِزٌ لِلْإِمَامِ وَنَائِبِهِ إِذَا رَأَى فِيهِ مَصْلَحَةً.
ثُبُوتُ الْجَلْدِ:
5- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْجَلْدَ حَدًّا يَجِبُ عَلَى مَنِ ارْتَكَبَ إِحْدَى جَرَائِمَ ثَلَاثٍ وَهِيَ: الزِّنَا وَالْقَذْفُ وَشُرْبُ الْمُسْكِرِ.
وَقَدْ ثَبَتَ الْجَلْدُ فِي الْأُولَيَيْنِ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، قَالَ تَعَالَى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}.
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْشُدُكَ اللَّهَ إِلاَّ قَضَيْتَ لِي بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: فَقَالَ الْخَصْمُ الْآخَرُ- وَهُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ- نَعَمْ فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَائْذَنْ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: قُلْ، قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، وَإِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ، فَسَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي: أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ: الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ..إِلَخْ» وَعَنْ «عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَ عُذْرِي قَامَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ ذَلِكَ وَتَلَا الْقُرْآنَ فَلَمَّا نَزَلَ، أَمَرَ بِرَجُلَيْنِ وَامْرَأَةٍ فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ».
أَمَّا حَدُّ شُرْبِ الْمُسْكِرِ فَقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ: فَعَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَجَلَدَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ قَالَ: وَفَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ.فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ».
الْجَلْدُ فِي حَدِّ الزِّنَا:
6- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ حَدَّ الْحُرِّ الْمُكَلَّفِ الزَّانِي الْبِكْرِ- وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُجَامِعْ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ- مِائَةُ جَلْدَةٍ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، سَوَاءٌ أَزَنَى- بِبِكْرٍ أَمْ ثَيِّبٍ.لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ.
وَحَدَّ غَيْرِ الْحُرِّ: نِصْفُ ذَلِكَ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُحْصَنًا أَمْ غَيْرَ مُحْصَنٍ.لقوله تعالى {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}.
وَالْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ: الْحَرَائِرُ، وَحَدُّ الْحُرَّةِ إِمَّا الرَّجْمُ أَوِ الْجَلْدُ، وَالرَّجْمُ لَا يَتَنَصَّفُ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ حَدَّ غَيْرِ الْحُرَّةِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرَّةِ الْبِكْرِ: وَهُوَ خَمْسُونَ جَلْدَةً، وَقِيسَ عَلَيْهَا الذَّكَرُ غَيْرُ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ الْأُنُوثَةَ وَصْفٌ أَلْغَاهُ الشَّارِعُ فِي الْحُدُودِ، وَنَحْوِهَا، فَيَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَلْدِ الْمُحْصَنِ مَعَ الرَّجْمِ- وَهُوَ الْبَالِغُ الْحُرُّ الَّذِي جَامَعَ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ- فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ فِي حَدِّهِ.
وَقَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} عَامَّةٌ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللاَّمَ فِيهَا لِلْجِنْسِ، فَتَشْمَلُ الْمُحْصَنَ، وَغَيْرَ الْمُحْصَنِ، إِلاَّ أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ أَخْرَجَتِ الْمُحْصَنَ.
قَالَ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: حَدُّ الزَّانِيَةِ وَالزَّانِي الْبَالِغِ الْحُرِّ الْبِكْرِ: مِائَةُ جَلْدَةٍ.
«وَرَجَمَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْغَامِدِيَّةَ، وَمَاعِزًا، وَالْيَهُودِيَّيْنِ وَلَمْ يَجْلِدْهُمْ»، وَلَوْ جَلَدَهُمْ مَعَ الرَّجْمِ مَعَ كَثْرَةِ مَنْ حَضَرَ عَذَابَهُمَا مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ لَنُقِلَ إِلَيْنَا، وَيَبْعُدُ أَلاَّ يَرْوِيَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ حَضَرَ.فَعَدَمُ إِثْبَاتِهِ فِي رِوَايَةٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ مَعَ تَنَوُّعِهَا وَاخْتِلَافِ أَلْفَاظِهَا: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعِ الْجَلْدُ.
وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ: «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ» بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ، بِأَحَادِيثِ الْغَامِدِيَّةِ، وَمَاعِزٍ، وَالْيَهُودِيَّيْنِ.
وَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ: دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ الْجَلْدَ ثَابِتٌ عَلَى الْبِكْرِ، سَاقِطٌ عَنِ الثَّيِّبِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا اجْتَمَعَ حَدَّانِ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِمَا الْقَتْلُ، أَحَاطَ الْقَتْلُ بِذَلِكَ.
7- وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَاعِدَةٌ فِقْهِيَّةٌ تَقُولُ: إِنَّ مَا أَوْجَبَ أَعْظَمَ الْأَمْرَيْنِ بِخُصُوصِهِ لَا يُوجِبُ أَهْوَنَهُمَا بِعُمُومِهِ.فَزِنَا الْمُحْصَنِ أَوْجَبَ أَعْظَمَ الْأَمْرَيْنِ- وَهُوَ الرَّجْمُ- بِخُصُوصِ كَوْنِهِ «زِنَا مُحْصَنٍ» فَلَا يُوجِبُ أَهْوَنَهُمَا- وَهُوَ الْجَلْدُ- بِعُمُومِ كَوْنِهِ زِنًا.
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْهُ إِلَى أَنَّ الزَّانِيَ الْمُحْصَنَ يُجْلَدُ قَبْلَ الرَّجْمِ، ثُمَّ يُرْجَمُ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَبِهِ قَالَ: الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وَهَذَا عَامٌّ: يَشْمَلُ الْمُحْصَنَ وَغَيْرَ الْمُحْصَنِ، ثُمَّ جَاءَتِ السُّنَّةُ بِالرَّجْمِ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ، وَالتَّغْرِيبِ فِي حَقِّ الْبِكْرِ، فَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- بِقَوْلِهِ جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.
وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ، جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ».وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّرِيحُ الثَّابِتُ لَا يُتْرَكُ إِلاَّ بِمِثْلِهِ.وَالْأَحَادِيثُ الْبَاقِيَةُ لَيْسَتْ صَرِيحَةً، فَإِنَّهُ ذُكِرَ فِيهَا الرَّجْمُ وَلَمْ يُذْكَرِ الْجَلْدُ، فَلَا يُعَارَضُ بِهِ الصَّرِيحُ بِدَلِيلِ أَنَّ التَّغْرِيبَ يَجِبُ لِذِكْرِهِ فِي الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ بِمَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ؛ وَلِأَنَّهُ زَانٍ فَيُجْلَدُ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ شُرِعَ فِي حَقِّ الْبِكْرِ عُقُوبَتَانِ: الْجَلْدُ وَالتَّغْرِيبُ، فَيُشْرَعُ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ أَيْضًا عُقُوبَتَانِ: الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ فَيَكُونُ الْجَلْدُ مَكَانَ التَّغْرِيبِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (زِنًا).
الْجَلْدُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ:
8- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُكَلَّفَ الْحُرَّ إِذَا قَذَفَ مُحْصَنًا أَوْ مُحْصَنَةً، فَحَدُّهُ ثَمَانُونَ جَلْدَةً، وَأَنَّ حَدَّ الْعَبْدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ.لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}.وقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: «قَذْفٌ».
الْجَلْدُ فِي حَدِّ شُرْبِ الْخَمْرِ:
9- حَدُّ شَارِبِ الْخَمْرِ الْجَلْدُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.لِخَبَرِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: «جَلَدَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ».
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ الْجَلَدَاتِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا ثَمَانُونَ جَلْدَةً فِي الْحُرِّ، وَفِي غَيْرِهِ أَرْبَعُونَ.قَالُوا: وَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ وَبَرَةَ الْكَلْبِيِّ قَالَ: أَرْسَلَنِي خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إِلَى عُمَرَ- رضي الله عنه- فَأَتَيْتُهُ وَمَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ- رضي الله عنهما-، وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ- رضي الله عنهم-، وَهُمْ مَعَهُ مُتَّكِئُونَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقُلْتُ: إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ وَهُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ انْهَمَكُوا فِي الْخَمْرِ وَتَحَاقَرُوا الْعُقُوبَةَ فِيهِ فَقَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-، هُمْ هَؤُلَاءِ عِنْدَكَ، فَسَأَلَهُمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه-: نَرَاهُ إِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، وَعَلَى الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ، قَالَ.فَقَالَ: عُمَرُ- رضي الله عنه- أَبْلِغْ صَاحِبَكَ مَا قَالَ، قَالَ: فَجَلَدَ خَالِدٌ- رضي الله عنه- ثَمَانِينَ، وَجَلَدَ عُمَرُ- رضي الله عنه- ثَمَانِينَ.قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ- رضي الله عنه- إِذَا أُتِيَ بِالرَّجُلِ الضَّعِيفِ الَّذِي كَانَتْ مِنْهُ الزَّلَّةُ ضَرَبَهُ أَرْبَعِينَ قَالَ: وَجَلَدَ عُثْمَانُ- رضي الله عنه- أَيْضًا ثَمَانِينَ وَأَرْبَعِينَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ أَرْبَعُونَ جَلْدَةً فِي الْحُرِّ، وَعِشْرُونَ فِي غَيْرِهِ.لِمَا جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ.«كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: يَضْرِبُ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ أَرْبَعِينَ».وَلَوْ رَأَى الْإِمَامُ بُلُوغَهُ فِي الْحُرِّ ثَمَانِينَ جَازَ فِي الْأَصَحِّ، وَالزِّيَادَةُ تَعْزِيرَاتٌ، وَقِيلَ: حَدٌّ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: «جَلَدَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَيْ جَلْدُ أَرْبَعِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ».وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
الْجَلْدُ فِي التَّعْزِيرِ:
10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ، وَنَائِبِهِ التَّعْزِيرَ بِالْجَلْدِ إِذَا رَأَى فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً.
وَالتَّعْزِيرُ: كُلُّ عُقُوبَةٍ لَيْسَ لَهَا فِي الشَّرْعِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ، فَيُتْرَكُ لِلْإِمَامِ تَحْدِيدُ نَوْعِهَا وَتَقْدِيرُ عَدَدِهَا.فَلِلْإِمَامِ أَنْ يُعَزِّرَ بِالْحَبْسِ، أَوْ بِالْجَلْدِ أَوْ غَيْرِهِمَا، لِخَبَرِ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي سَرِقَةِ تَمْرٍ دُونَ نِصَابٍ: غُرْمُ مِثْلِهِ وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ».
ثُمَّ اخْتَلَفُوا: هَلْ لِجَلَدَاتِ التَّعْزِيرِ حَدٌّ أَدْنَى لَا يَنْزِلُ عَنْهُ الْإِمَامُ فِي اجْتِهَادِهِ، وَحَدٌّ أَعْلَى لَا يَتَجَاوَزُهُ؟
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ أَدْنَى.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ أَقَلُّ التَّعْزِيرِ بِالْجَلْدِ: ثَلَاثُ جَلَدَاتٍ.نَقَلَ ذَلِكَ صَاحِبُ رَدِّ الْمُحْتَارِ عَنِ الْقُدُورِيِّ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ عَابِدِينَ: وَاخْتَارَ أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِعَدَدٍ.
وَأَمَّا الْحَدُّ الْأَعْلَى: فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ بِهِ أَقَلَّ حَدٍّ مَشْرُوعٍ، مَعَ اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ التَّفَاصِيلِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ: لَا يَزِيدُ جَلْدُ التَّعْزِيرِ عَنْ عَشْرِ جَلَدَاتٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَزِيدُ عَنْ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ فِي تَعْزِيرِ الْعَبْدِ، وَخَمْسٍ وَسَبْعِينَ فِي الْحُرِّ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ أَنْ تَزِيدَ عَنْ مِائَةِ جَلْدَةٍ.
وَالتَّفْصِيلُ وَالْأَدِلَّةُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَعْزِيرٌ).
كَيْفِيَّةُ الْجَلْدِ:
11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُجْلَدُ الصَّحِيحُ الْقَوِيُّ فِي الْحُدُودِ، بِسَوْطٍ مُعْتَدِلٍ، لَيْسَ رَطْبًا، وَلَا شَدِيدَ الْيُبُوسَةِ، وَلَا خَفِيفًا لَا يُؤْلِمُ، وَلَا غَلِيظًا يَجْرَحُ.وَلَا يَرْفَعُ الضَّارِبُ يَدَهُ فَوْقَ رَأْسِهِ بِحَيْثُ يَبْدُو بَيَاضُ إِبِطِهِ، وَيَتَّقِي الْمَقَاتِلَ، وَيُفَرِّقُ الْجَلَدَاتِ عَلَى بَدَنِهِ.
الْأَعْضَاءُ الَّتِي لَا تُجْلَدُ:
12- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُضْرَبُ عَلَى الْوَجْهِ وَالْمَذَاكِيرِ وَالْمَقَاتِلِ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ».وَعَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ لِلْجَلاَّدِ: «أَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ وَاتَّقِ الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ.
ثُمَّ إِنَّ الْوَجْهَ أَشْرَفُ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ وَمَعْدِنُ جَمَالِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَجَنُّبِهِ خَوْفًا مِنْ تَجْرِيحِهِ وَتَقْبِيحِهِ.
وَأَمَّا عَدَمُ ضَرْبِ الْمَقَاتِلِ فَلِأَنَّ فِي ضَرْبِهَا خَطَرًا؛ وَلِأَنَّهَا مَوَاضِعُ يُسْرِعُ الْقَتْلُ إِلَى صَاحِبِهَا بِالضَّرْبِ عَلَيْهَا، وَالْقَصْدُ مِنَ الْحَدِّ الرَّدْعُ وَالزَّجْرُ لَا الْقَتْلُ.
وَقَدْ أَلْحَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الرَّأْسَ بِالْوَجْهِ بِالْمَعْنَى، وَاعْتَبَرُوهُ مِنَ الْمُسْتَثْنَيَاتِ فِي الضَّرْبِ، لِأَنَّهُ مَجْمَعُ الْحَوَاسِّ الْبَاطِنَةِ، وَبِعَدَمِ ضَرْبِهِ جَزَمَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ كَالْبُوطِيِّ وَالْمَاوَرْدِيِّ.
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّ الرَّأْسَ لَا يُسْتَثْنَى مِنَ الضَّرْبِ؛ لِأَنَّهُ مُعَظَّمٌ (أَيْ يُحْوَى بِالْعَظْمِ) وَمَسْتُورٌ بِالشَّعْرِ فَلَا يُخَافُ تَشْوِيهُهُ، بِخِلَافِ الْوَجْهِ، لِمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أُتِيَ بِرَجُلٍ انْتَفَى مِنْ أَبِيهِ فَقَالَ لِلْجَلاَّدِ: اضْرِبِ الرَّأْسَ فَإِنَّ فِيهِ شَيْطَانًا. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا (أَيْ مَنْعَ ضَرْبِ الْوَجْهِ) لَيْسَ مُرَادًا عَلَى الْإِطْلَاقِ لِأَنَّا نَقْطَعُ أَنَّهُ فِي حَالِ قِيَامِ الْحَرْبِ مَعَ الْكُفَّارِ لَوْ تَوَجَّهَ لِأَحَدٍ ضَرْبُ وَجْهِ مَنْ يُبَارِزُهُ وَهُوَ فِي مُقَابَلَتِهِ حَالَ الْحَمَلَةِ لَا يَكُفُّ عَنْهُ، إِذْ قَدْ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَقْتُلُهُ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ إِلاَّ مَنْ يُضْرَبُ صَبْرًا فِي حَدٍّ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِاتِّقَاءِ الْبَطْنِ وَالصَّدْرِ أَيْضًا.
وَلَا يُلْقَى الْمَجْلُودُ عَلَى وَجْهِهِ، وَلَا يُمَدُّ، وَلَا يُجَرَّدُ عَنِ الثِّيَابِ، وَلَا يُتْرَكُ عَلَيْهِ مَا يَمْنَعُ الْأَلَمَ مِنْ جُبَّةٍ مَحْشُوَّةٍ وَفَرْوَةٍ، وَيُجْلَدُ الرَّجُلُ قَائِمًا، وَالْمَرْأَةُ جَالِسَةً عِنْدَ الْأَئِمَّةِ: أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُجَرَّدُ مِنَ الثِّيَابِ، وَيُجْلَدُ قَاعِدًا.
تَأْخِيرُ الْجَلْدِ لِعُذْرٍ:
13- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُؤَخَّرُ الْجَلْدُ، لِلْبَرْدِ وَالْحَرِّ الشَّدِيدَيْنِ وَلِلْحَمْلِ، وَالْمَرَضِ الَّذِي يُرْجَى بُرْؤُهُ، حَتَّى يَعْتَدِلَ الْجَوُّ، وَيَبْرَأَ الْمَرِيضُ، وَتَضَعَ الْحَامِلُ وَيَنْقَطِعَ نِفَاسُهَا.أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَرَضُ مِمَّا لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ أَوْ كَانَ الْمَجْلُودُ ضَعِيفًا بِالْخِلْقَةِ لَا يَحْتَمِلُ السِّيَاطَ فَإِنَّهُ يُضْرَبُ بِعِثْكَالٍ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَانْظُرْ بَحْثَ: (حَامِلٌ).
الْقِصَاصُ جَلْدًا:
14- اخْتُلِفَ فِي الْقِصَاصِ فِي اللَّطْمَةِ إِنْ لَمْ تُحْدِثْ جُرْحًا أَوْ شَقًّا، أَوْ لَمْ تُذْهِبْ مَنْفَعَةَ عُضْوٍ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ الِانْضِبَاطِ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (قِصَاصٌ).
أَمَّا إِنْ أَحْدَثَتْ جُرْحًا أَوْ شَقًّا أَوْ ذَهَبَ بِهَا مَنْفَعَةُ عُضْوٍ فَفِيهَا قِصَاصٌ.
أَمَّا الضَّرْبُ بِالسَّوْطِ فَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ فِيهِ الْقِصَاصَ.
وَيُفْهَمُ مِنْ عِبَارَاتِ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ عَدَمُ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِ إِلاَّ إِنْ أَحْدَثَ جِرَاحَةً، وَنَحْوَهَا.
فَقَدْ جَاءَ فِي رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ الْجِنَايَاتُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: جُرْحٌ يَشُقُّ، وَقَطْعٌ يُبِينُ، وَإِزَالَةُ مَنْفَعَةٍ.وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا فِي الْبَدَائِعِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي «قِصَاصٌ».
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
61-موسوعة الفقه الكويتية (جلوس)
جُلُوسٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْجُلُوسُ فِي اللُّغَةِ مِنْ جَلَسَ، يَجْلِسُ بِالْكَسْرِ جُلُوسًا، وَالْمَجْلِسُ بِكَسْرِ اللاَّمِ مَوْضِعُ الْجُلُوسِ، وَبِفَتْحِهَا الْمَصْدَرُ.وَالْجَلْسَةُ بِالْفَتْحِ لِلْمَرَّةِ، وَبِالْكَسْرِ لِلْهَيْئَةِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الْجَالِسُ كَجِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ وَالتَّشَهُّدِ، وَجِلْسَةِ الْفَصْلِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ؛ لِأَنَّهَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْجُلُوسِ.
وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِكَلِمَةِ (جُلُوسٌ) عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْقُعُودُ:
2- الْقُعُودُ مَصْدَرُ قَعَدَ يَقْعُدُ، وَالْقَعْدَةُ بِالْفَتْحِ لِلْمَرَّةِ، وَبِالْكَسْرِ لِلْهَيْئَةِ نَحْوُ: قَعَدَ قِعْدَةَ الْمُصَلِّي.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجُلُوسِ وَالْقُعُودِ: أَنَّ الْجُلُوسَ قَدْ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْقُعُودُ، كَمَا يُقَالُ: جَلَسَ مُتَرَبِّعًا وَقَعَدَ مُتَرَبِّعًا، وَقَدْ يُفَارِقُ الْجُلُوسُ الْقُعُودَ، وَمِنْهُ: جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا، أَيْ: حَصَلَ وَتَمَكَّنَ، إِذْ لَا يُسَمَّى هَذَا قُعُودًا.
وَيُقَالُ أَيْضًا: جَلَسَ مُتَّكِئًا، وَلَا يُقَالُ: قَعَدَ مُتَّكِئًا بِمَعْنَى الِاعْتِمَادِ عَلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ.
وَعَلَى هَذَا فَالْجُلُوسُ أَعَمُّ مِنَ الْقُعُودِ.
وَقِيلَ: الْجُلُوسُ هُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ سُفْلٍ إِلَى عُلْوٍ، وَالْقُعُودُ عَكْسُهُ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يُقَالُ لِمَنْ هُوَ نَائِمٌ أَوْ سَاجِدٌ: اجْلِسْ».
وَعَلَى الثَّانِي يُقَالُ لِمَنْ هُوَ قَائِمٌ «اقْعُدْ».
ب- الِاحْتِبَاءُ:
3- الِاحْتِبَاءُ فِي اللُّغَةِ، قُعُودُ الشَّخْصِ عَلَى مَقْعَدَتِهِ، وَضَمُّ فَخِذَيْهِ إِلَى بَطْنِهِ، وَاشْتِمَالُهُمَا مَعَ ظَهْرِهِ بِثَوْبٍ أَوْ نَحْوِهِ أَوْ بِالْيَدَيْنِ.وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى فَالِاحْتِبَاءُ نَوْعٌ مِنَ الْجُلُوسِ.
ج- الِافْتِرَاشُ:
4- لِلِافْتِرَاشِ فِي اللُّغَةِ مَعْنَيَانِ:
الْمَعْنَى الْأَوَّلُ: الْبَسْطُ، كَمَا يُقَالُ: افْتَرَشَ ذِرَاعَيْهِ إِذَا بَسَطَهُمَا عَلَى الْأَرْضِ، كَالْفِرَاشِ لَهُ.
وَالثَّانِي: الْجُلُوسُ عَلَى مَا فَرَشَهُ، وَمِنْهُ: افْتِرَاشُ الْبِسَاطِ.وَافْتِرَاشُ الْمَرْأَةِ: اتِّخَاذُهَا زَوْجَةً.
وَالْفُقَهَاءُ يُطْلِقُونَ الِافْتِرَاشَ عَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ وَهُوَ أَيْضًا عِنْدَهُمْ هَيْئَةٌ مِنَ الْجُلُوسِ فِي التَّشَهُّدِ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّتِهِ.وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ.
د- التَّوَرُّكُ:
5- التَّوَرُّكُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْوَرِكِ، وَهُوَ مَا فَوْقَ الْفَخِذِ، يُقَالُ: نَامَ مُتَوَرِّكًا أَيْ مُعْتَمِدًا عَلَى أَحَدِ وَرِكَيْهِ
وَاخْتُلِفَ فِي التَّوَرُّكِ فِي التَّشَهُّدِ فَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ وَضْعُ الْوَرِكِ عَلَى الرِّجْلِ الْيُمْنَى وَفَسَّرَهُ آخَرُونَ بِأَنَّهُ نَصْبُ الرِّجْلِ الْيُمْنَى وَوَرِكُهُ بِالْأَرْضِ وَإِخْرَاجُ رِجْلِهِ الْيُسْرَى مِنْ جِهَةِ يَمِينِهِ.
فَالتَّوَرُّكُ عَلَى هَذَا هَيْئَةٌ مِنْ هَيْئَاتِ الْجُلُوسِ فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْجُلُوسِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ «تَوَرُّكٌ».
أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِالْجُلُوسِ:
أَدَاءُ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ جَالِسًا:
6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ الْمُؤَذِّنُ جَالِسًا إِلاَّ لِعُذْرٍ، أَوْ إِذَا كَانَ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، «لِأَمْرِهِ- صلى الله عليه وسلم- بِلَالًا بِالْقِيَامِ بِقَوْلِهِ: قُمْ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ».
وَكَانَ مُؤَذِّنُو رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُؤَذِّنُونَ قِيَامًا، وَلِأَنَّ الْقِيَامَ أَبْلَغُ فِي الْإِعْلَامِ، كَمَا أَنَّ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ قَاعِدًا خِلَافُ الْمُتَوَارَثِ.
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ أَذَّنَ قَاعِدًا بَطَلَ، وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ إِلَى عَدَمِ إِجْزَاءِ أَذَانِ الْقَاعِدِ، وَحَكَى أَبُو الْبَقَاءِ: أَنَّهُ يُعِيدُ إِنْ أَذَّنَ قَاعِدًا.
وَأَمَّا صَاحِبُ الْعُذْرِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ جَالِسًا، قَالَ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَبْدِيُّ: رَأَيْتُ أَبَا زَيْدٍ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَكَانَتْ رِجْلُهُ أُصِيبَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُؤَذِّنُ قَاعِدًا.
جُلُوسُ الْمُؤَذِّنِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ:
7- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلْمُؤَذِّنِ الْفَصْلُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالصَّلَاةِ الْمَنْدُوبَةِ، فَإِنْ لَمْ يُصَلِّ، أَوْ لَمْ يَكُنِ الْوَقْتُ وَقْتَ جَوَازٍ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجَلْسَةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِيمَا سِوَى الْمَغْرِبِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
الْفَصْلُ فِي الْمَغْرِبِ لَا يَكُونُ بِجَلْسَةٍ بَلْ بِسَكْتَةٍ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُفْصَلُ بَيْنَ أَذَانِ الْمَغْرِبِ وَإِقَامَتِهِ لِصَلَاةٍ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجْلِسُ جَلْسَةً خَفِيفَةً مِقْدَارَ الْجَلْسَةِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «جُلُوسُ الْمُؤَذِّنِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الْمَغْرِبِ مِنَ السُّنَّةِ».
وَالْخِلَافُ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ، فَلَوْ جَلَسَ لَا يُكْرَهُ عِنْدَهُ أَيْضًا.
وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يُفْصَلَ فِي الْمَغْرِبِ بِرَكْعَتَيْنِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَفِي قَوْلٍ: يُفْصَلُ بَيْنَهُمَا بِسَكْتَةٍ لَطِيفَةٍ أَوْ نَحْوِهَا كَقُعُودٍ لَطِيفٍ؛ لِضِيقِ وَقْتِهَا.
الْجُلُوسُ قَبْلَ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ:
8- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُكْرَهُ الْجُلُوسُ قَبْلَ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، لِمَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ»، وَاخْتَلَفُوا فِي فَوَاتِهَا بِالْجُلُوسِ، فَإِذَا جَلَسَ قَبْلَ الصَّلَاةِ يُسَنُّ لَهُ أَنْ يَقُومَ فَيُصَلِّيَ، لِحَدِيثِ سُلَيْكٍ الْغَطَفَانِيِّ وَنَصُّهُ: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «جَاءَ سُلَيْكٌ الْغَطَفَانِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ، فَجَلَسَ فَقَالَ لَهُ: يَا سُلَيْكُ، قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا.ثُمَّ قَالَ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا».
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا تَفُوتُ بِهِ فَلَا يَفْعَلُهَا بَعْدَهُ.وَتَمَامُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ).
الْجُلُوسُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ:
9- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْجُلُوسَ بَدَلٌ عَنِ الْقِيَامِ فِي صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ، فَمَنْ لَا يُطِيقُ الْقِيَامَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ جَالِسًا «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ».
وَفِي بَيَانِ الْعَجْزِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلَاةُ الْمَرِيضِ).
10- وَأَمَّا أَدَاءُ صَلَاةِ النَّفْلِ جَالِسًا فَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي إِبَاحَةِ التَّطَوُّعِ جَالِسًا، وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ».وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ «صَلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا نِصْفُ الصَّلَاةِ».
وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ طُولُ الْقِيَامِ، فَلَوْ وَجَبَ فِي التَّطَوُّعِ لَتُرِكَ أَكْثَرُهُ، فَسَامَحَ الشَّارِعُ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ فِيهِ تَرْغِيبًا فِي تَكْثِيرِهِ، كَمَا سَامَحَ فِي فِعْلِهِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ.
وَأَمَّا السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ فَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْجُلُوسَ فِيهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ مَكْرُوهٌ.
الْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ:
11- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ رُكْنٌ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ جَالِسًا».
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِفَرْضِيَّتِهِ.
وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَرُوِيَ وُجُوبُهُ.يَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْأَدِلَّةِ، وَعَلَيْهِ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ.وَصِفَةُ الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ الِافْتِرَاشُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ التَّوَرُّكُ كَجُلُوسِ التَّشَهُّدِ، وَلَا خِلَافَ فِي وَضْعِ الْيَدَيْنِ عَلَى الْفَخِذَيْنِ عِنْدَ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ صِفَةِ الْجُلُوسِ.
وَفِي التَّعْدِيلِ فِي الْجِلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ فِي الذِّكْرِ الْمَسْنُونِ فِيهَا وَقَدْرِهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحِ: (تَعْدِيلٌ) (وَدُعَاءٌ).
جِلْسَةُ الِاسْتِرَاحَةِ:
12- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَصَحِّ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ، وَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ لَدَى الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا قَامَ مِنَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ لَا يَجْلِسُ جِلْسَةَ الِاسْتِرَاحَةِ، وَيُكْرَهُ فِعْلُهَا تَنْزِيهًا لِمَنْ لَيْسَ بِهِ عُذْرٌ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم-، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: تِلْكَ السُّنَّةُ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَهُوَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا الْخَلاَّلُ أَنَّهُ يُسَنُّ بَعْدَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ جِلْسَةٌ لِلِاسْتِرَاحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ تَقُومُ عَنْهَا، لِمَا رَوَى مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَجْلِسُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ قَبْلَ أَنْ يَنْهَضَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى».
وَصِفَةُ الْجُلُوسِ هُنَا كَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ قَدْرًا وَهَيْئَةً، وَيُكْرَهُ تَطْوِيلُهُ، وَهَذَا يُخَالِفُ قَوْلَ الرَّافِعِيِّ: «أَنَّهَا خَفِيفَةٌ» وَقَوْلَ النَّوَوِيِّ فِي مَجْمُوعِهِ «أَنَّهَا خَفِيفَةٌ جِدًّا».
ثُمَّ قَطَعَ الرَّافِعِيُّ: بِأَنَّهَا لِلْفَصْلِ بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَحَكَى النَّوَوِيُّ وَجْهًا أَنَّهَا: مِنَ الثَّانِيَةِ، وَهُنَاكَ وَجْهٌ ثَالِثٌ أَبْدَاهُ صَاحِبُ الذَّخَائِرِ وَهُوَ: أَنَّهَا مِنَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى.
وَمِنْ خَصَائِصِ جِلْسَةِ الِاسْتِرَاحَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهَا- أَنَّهَا لَا يَدْعُو فِيهَا بِشَيْءٍ.
الْجُلُوسُ فِي التَّشَهُّدِ:
13- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالطَّحَاوِيُّ وَالْكَرْخِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْجُلُوسَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ سُنَّةٌ، لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِالسَّهْوِ فَأَشْبَهَ السُّنَنَ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ وَاجِبٌ حَتَّى يَجِبَ بِتَرْكِهِ سَاهِيًا سُجُودُ السَّهْوِ، وَلَا يَجِبُ إِلاَّ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ.
وَأَمَّا فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْجُلُوسَ فِيهِ فَرْضٌ، وَقَدْرُهُ بِقَدْرِ قِرَاءَةِ التَّشَهُّدِ إِلَى «عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ»، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ، أَوْ قَضَيْتَ هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ» عَلَّقَ التَّمَامَ بِالْقَعْدَةِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْجُلُوسَ لِلتَّشَهُّدَيْنِ سُنَّةٌ، قَالَ ابْنُ جُزَيٍّ: وَفِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْجُلُوسَ الْأَخِيرَ وَاجِبٌ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْهُ مِقْدَارُ السَّلَامِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجُلُوسَ فِي الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ رُكْنٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عُمَرُ وَابْنُهُ وَأَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ- رضي الله عنهم-، وَالْحَسَنُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُنَّةٌ.
وَأَمَّا هَيْئَةُ الْجُلُوسِ فِي التَّشَهُّدِ فَالِافْتِرَاشُ لِلرَّجُلِ، وَالتَّوَرُّكُ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى أَمِ الْأَخِيرَةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ هَيْئَةُ الْجُلُوسِ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ التَّوَرُّكُ.وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ لِلْقُعُودِ هَيْئَةٌ لِلْإِجْزَاءِ، فَكَيْفَمَا قَعَدَ فِي جَلَسَاتِهِ أَجْزَأَهُ، لَكِنَّ السُّنَّةَ فِي جُلُوسِ آخِرِ الصَّلَاةِ التَّوَرُّكُ وَفِي أَثْنَائِهَا الِافْتِرَاشُ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ هَيْئَةَ الْجُلُوسِ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُلِ هِيَ الِافْتِرَاشُ، وَفِي الثَّانِي التَّوَرُّكُ.وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَهَا الْخِيَارُ فِي أَنْ تَجْلِسَ مُتَرَبِّعَةً، لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنه- كَانَ يَأْمُرُ النِّسَاءَ أَنْ يَتَرَبَّعْنَ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ أَنْ تَسْدُلَ رِجْلَيْهَا فَتَجْعَلَهُمَا فِي جَانِبِ يَمِينِهَا، وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ السَّدْلَ أَفْضَلُ، لِأَنَّهُ غَالِبُ فِعْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-، وَلِأَنَّهُ أَشْبَهَ بِجِلْسَةِ الرَّجُلِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ يُسَنُّ التَّوَرُّكُ فِي كُلِّ تَشَهُّدٍ يُسَلَّمُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَانِيًا، كَتَشَهُّدِ الصُّبْحِ وَالْجُمُعَةِ، لِأَنَّهُ تَشَهُّدٌ يُسَنُّ تَطْوِيلُهُ فَسُنَّ فِيهِ التَّوَرُّكُ كَالثَّانِي.
وَلَا يَتَوَرَّكُ الرَّجُلُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلاَّ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ مِنْ صَلَاةٍ فِيهَا تَشَهُّدَانِ.وَاسْتَدَلَّ الْحَنَابِلَةُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ، وَكَانَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى»، وَلِأَنَّ التَّشَهُّدَ الثَّانِيَ إِنَّمَا تَوَرَّكَ فِيهِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ التَّشَهُّدَيْنِ، وَمَا لَيْسَ فِيهِ إِلاَّ تَشَهُّدٌ وَاحِدٌ لَا اشْتِبَاهَ فِيهِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْفَرْقِ.
الْجُلُوسُ بَيْنَ كُلِّ تَرْوِيحَتَيْنِ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ:
14- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يُخَيَّرُ بَيْنَ كُلِّ تَرْوِيحَتَيْنِ بَيْنَ الْجُلُوسِ ذَاكِرًا أَوْ سَاكِتًا، وَبَيْنَ صَلَاتِهِ نَافِلَةً مُنْفَرِدًا، وَهَذَا الْجُلُوسُ سُنَّةٌ كَمَا يُفِيدُهُ كَلَامُ الْكَنْزِ، وَمُسْتَحَبٌّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْهِدَايَةِ وَالزَّيْلَعِيُّ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَرِيحَ بَعْدَ كُلِّ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ بِجَلْسَةٍ يَسِيرَةٍ، قَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَهُوَ فِعْلُ السَّلَفِ، وَلَا بَأْسَ بِتَرْكِهِ، وَلَا يَدْعُو الْإِمَامُ فِي الْجُلُوسِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
الْجُلُوسُ قَبْلَ الْخُطْبَتَيْنِ وَبَعْدَ الصُّعُودِ إِلَى الْمِنْبَرِ:
15- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْخَطِيبَ يَجْلِسُ إِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ فِي الْجُمُعَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي خُطْبَةِ الْعِيدَيْنِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجْلِسُ؛ لِأَنَّ الْجُلُوسَ لِانْتِظَارِ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ مِنَ الْأَذَانِ فِي الْجُمُعَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي الْعِيدَيْنِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْجُلُوسِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجْلِسُ إِذَا صَعِدَ الْمِنْبَرَ لِيَسْتَرِيحَ؛ وَلِأَنَّهُ أَهْدَى لِمَا يُرِيدُ أَنْ يَفْتَتِحَهُ، وَفِيهِ زِيَادَةُ وَقَارٍ.
حُكْمُ الْجُلُوسِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ وَمِقْدَارُهُ:
16- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَجُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْجُلُوسَ بَيْنَ خُطْبَتَيِ الْجُمُعَةِ، وَالْعِيدَيْنِ سُنَّةٌ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى فَرَغَ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْجُلُوسَ بَيْنَهُمَا بِطُمَأْنِينَةٍ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الْخُطْبَةِ، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ خُطْبَتَيْنِ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا».
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ صِفَةَ هَذِهِ الْجِلْسَةِ أَنْ تَكُونَ خَفِيفَةً، وَأَمَّا مِقْدَارُهَا فَقَدْ قِيلَ: مِقْدَارُ قِرَاءَةِ ثَلَاثِ آيَاتٍ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ: بِقَدْرِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ، وَقِيلَ: مِقْدَارُ الْجَلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ لِأَنَّهُ فَصْلٌ بَيْنَ مُشْتَبِهَتَيْنِ.
الْخُطْبَةُ جَالِسًا:
17- مَنْ خَطَبَ جَالِسًا: فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَصِحُّ مِنَ الْقَاعِدِ الْعَاجِزِ عَنِ الْقِيَامِ فَالْخُطْبَةُ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِنْ كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ فِي خُطْبَتَيِ الْعِيدِ دُونَ الْجُمُعَةِ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِأَنَّ خُطْبَةَ الْعِيدِ لَيْسَتْ وَاجِبَةً فَأَشْبَهَتْ صَلَاةَ النَّافِلَةِ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- لَمَّا أَسَنَّ كَانَ يَخْطُبُ جَالِسًا، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَيُفْصَلُ بَيْنَهُمَا بِسَكْتَةٍ.
الْجُلُوسُ عَلَى الْحَرِيرِ:
18- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْجُلُوسِ عَلَى الْحَرِيرِ: فَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- وَقِيلَ: أَبُو يُوسُفَ أَيْضًا مَعَ مُحَمَّدٍ- أَنَّهُ حَرَامٌ لِمَا رَوَاهُ حُذَيْفَةُ قَالَ: «نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَأَنْ يُجْلَسَ عَلَيْهِ».
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى جَوَازِهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «جَلَسَ عَلَى مِرْفَقَةِ حَرِيرٍ»، وَكَانَ عَلَى بِسَاطِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- مِرْفَقَةُ حَرِيرٍ.وَأَيْضًا رُوِيَ أَنَّ أَنَسًا- رضي الله عنه- حَضَرَ وَلِيمَةً فَجَلَسَ عَلَى وِسَادَةِ حَرِيرٍ؛ وَلِأَنَّ الْجُلُوسَ عَلَى الْحَرِيرِ اسْتِخْفَافٌ وَلَيْسَ بِتَعْظِيمٍ، فَجَرَى مَجْرَى الْجُلُوسِ عَلَى بِسَاطٍ فِيهِ تَصَاوِيرُ.
وَهَذَا فِي الْخَالِصِ مِنْهُ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَرِيرٌ).
الْجُلُوسُ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ:
19- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُنْدَبُ الْجُلُوسُ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَأَنَّ الشُّرْبَ قَائِمًا بِلَا عُذْرٍ خِلَافُ الْأَوْلَى عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَأَمَّا هَيْئَةُ الْجُلُوسِ لِلْأَكْلِ فَقَدْ صَرَّحَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ أَحْسَنَ الْجَلَسَاتِ لِلْأَكْلِ الْإِقْعَاءُ عَلَى الْوَرِكَيْنِ وَنَصْبُ الرُّكْبَتَيْنِ، ثُمَّ الْجِثِيُّ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ وَظُهُورِ الْقَدَمَيْنِ، ثُمَّ نَصْبُ الرِّجْلِ الْيُمْنَى، وَالْجُلُوسُ عَلَى الْيُسْرَى.
وَالْمَنْدُوبُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ يُقِيمَ رُكْبَتَهُ الْيُمْنَى أَوْ مَعَ الْيُسْرَى، أَوْ أَنْ يَجْلِسَ كَالصَّلَاةِ، «وَجَثَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَرَّةً عَلَى رُكْبَتِهِ».
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَاسْتَحْسَنُوا أَثْنَاءَ الْأَكْلِ الْجُلُوسَ عَلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى، وَنَصْبَ الْيُمْنَى أَوِ التَّرَبُّعَ.وَيُسْتَحَبُّ لِلضَّيْفِ أَنْ لَا يُطِيلَ الْجُلُوسَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْأَكْلِ، بَلْ يَسْتَأْذِنُ رَبَّ الْمَنْزِلِ وَيَنْصَرِفَ لقوله تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (أَكْلٌ).
جُلُوسُ مَنْ يَتْبَعُ الْجِنَازَةَ قَبْلَ وَضْعِهَا:
20- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمُتَّبِعِ الْجِنَازَةِ الْجُلُوسُ قَبْلَ وَضْعِهَا، وَلَا بَأْسَ بِالْجُلُوسِ بَعْدَ الْوَضْعِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ لَا يَجْلِسُ حَتَّى يُوضَعَ الْمَيِّتُ فِي اللَّحْدِ، فَكَانَ قَائِمًا مَعَ أَصْحَابِهِ عَلَى رَأْسِ قَبْرٍ، فَقَالَ يَهُودِيٌّ: هَكَذَا نَصْنَعُ بِمَوْتَانَا، فَجَلَسَ- صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: خَالِفُوهُمْ».أَيْ فِي الْقِيَامِ.
ثُمَّ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْكَرَاهَةَ هُنَا تَحْرِيمِيَّةٌ لِلنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: «إِذَا اتَّبَعْتُمُ الْجِنَازَةَ فَلَا تَجْلِسُوا حَتَّى تُوضَعَ» وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «حَتَّى تُوضَعَ بِالْأَرْضِ».
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا بَأْسَ بِالْجُلُوسِ عِنْدَ الْقَبْرِ قَبْلَ أَنْ تُوضَعَ الْجِنَازَةُ عَنِ الْأَعْنَاقِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ قَامَ مُنْتَظِرًا، وَإِنْ شَاءَ جَلَسَ.
الْجُلُوسُ لِلتَّعْزِيَةِ:
21- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُرَخَّصُ الْجُلُوسُ فِي الْمُصِيبَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِلرِّجَالِ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ، أَمَّا فِيهِ فَيُكْرَهُ، وَلَا تَجْلِسُ النِّسَاءُ قَطْعًا.
وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ: لَا بَأْسَ بِهِ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ فِي الْبَيْتِ أَوِ الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ يَأْتُونَهُمْ وَيُعَزُّونَهُمْ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ يَجُوزُ أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ لِلتَّعْزِيَةِ.لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: «لَمَّا قُتِلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ- رضي الله عنهما-، جَلَسَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ».
وَقَالَ مُتَأَخِّرُو فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: يُكْرَهُ لَهُ الْجُلُوسُ فِي بَيْتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ إِلَيْهِ مَنْ يُعَزِّي، بَلْ إِذَا فَرَغَ، وَرَجَعَ النَّاسُ مِنَ الدَّفْنِ فَلْيَتَفَرَّقُوا، وَيَشْتَغِلُ النَّاسُ بِأُمُورِهِمْ، وَصَاحِبُ الْبَيْتِ بِأَمْرِهِ.
وَإِلَى الْكَرَاهَةِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَالْكَرَاهَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَنْزِيهِيَّةٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مُحْدَثٌ آخَرُ.
وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ: الرُّخْصَةُ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ.
أَمَّا الْجُلُوسُ عَلَى بَابِ دَارِ الْمَيِّتِ: فَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ عَمَلُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِجَوَازِهِ حَيْثُ قَالُوا: لَا بَأْسَ بِالْجُلُوسِ بِقُرْبِ دَارِ الْمَيِّتِ لِيَتَّبِعَ الْجِنَازَةَ، أَوْ يَخْرُجُ وَلِيُّهُ فَيُعَزِّيهُ، لِأَنَّهُ فَعَلَهُ السَّلَفُ.وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (تَعْزِيَةٌ).
الْجُلُوسُ عَلَى الْقُبُورِ:
22- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْجُلُوسَ عَلَى الْقُبُورِ إِذَا كَانَ لِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ فَلَا يَجُوزُ قَوْلًا وَاحِدًا.وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ لِغَيْرِ ذَلِكَ.
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ الْجُلُوسُ عَلَى الْقُبُورِ، لِمَا رَوَى أَبُو مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ، وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «لأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ».
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: وَإِنْ أَرَادَ الْجُلُوسَ أَثْنَاءَ زِيَارَةِ الْقُبُورِ يَجْلِسُ بَعِيدًا أَوْ قَرِيبًا بِحَسَبِ مَرْتَبَتِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ.وَعِبَارَةُ الشَّافِعِيَّةِ: يَنْبَغِي لِلزَّائِرِ أَنْ يَدْنُوَ مِنَ الْقَبْرِ بِقَدْرِ مَا كَانَ يَدْنُو مِنْ صَاحِبِهِ فِي الْحَيَاةِ لَوْ زَارَهُ.
وَيَرَى الطَّحَاوِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَنَسَبَ الْقَوْلَ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ جَوَازَ الْجُلُوسِ عَلَى الْقَبْرِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- كَانَ يَتَوَسَّدُ الْقَبْرَ، وَيَجْلِسُ عَلَيْهِ.
قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَتَنْتَفِي الْكَرَاهَةُ مُطْلَقًا إِذَا كَانَ الْجُلُوسُ لِلْقِرَاءَةِ.
الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ لِلْقَضَاءِ:
23- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ جُلُوسِ الْقَاضِي فِي الْمَسْجِدِ لِلْحُكْمِ، وَالْجَامِعُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَشْهَرُ، وَيَخْتَارُ مَسْجِدًا فِي وَسَطِ الْبَلَدِ؛ لِئَلاَّ يَبْعُدَ عَلَى قَاصِدِيهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «كَانَ يَفْصِلُ بَيْنَ الْخُصُومِ فِي الْمَسْجِدِ»، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- قَالَ: «إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ وَلِلْحُكْمِ» وَلِئَلاَّ يَشْتَبِهَ عَلَى الْغُرَبَاءِ مَكَانُهُ.وَكَذَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ، وَكَانَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- لَهُ دَكَّةٌ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ إِذَا جَلَسَ لِلْقَضَاءِ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهُ يَجْلِسُ بِغَيْرِ يَوْمِ عِيدِ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى، وَيُكْرَهُ جُلُوسُهُ يَوْمَ عِيدٍ؛ لِأَنَّهُ يَوْمُ فَرَحٍ وَسُرُورٍ، وَمُصَافَاةٍ لَا يَوْمُ مُخَاصَمَةٍ.وَبِغَيْرِ يَوْمِ قُدُومِ الْحَاجِّ وَخُرُوجِهِ؛ لِاشْتِغَالِ النَّاسِ فِيهِ بِتَهْنِئَةِ الْقَادِمِينَ، أَوْ وَدَاعِ الْخَارِجِينَ، وَبِغَيْرِ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَيَوْمِ عَرَفَةَ.وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَجْلِسُ بِرِحَابِ الْمَسْجِدِ الْخَارِجَةِ عَنْهُ وَاسْتَحْسَنَ صَاحِبُ جَوَاهِرِ الْإِكْلِيلِ هَذَا، مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ رَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ».
وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَجْلِسَ الْقَاضِي فِي دَارٍ لَا فِي مَسْجِدٍ، فَيُكْرَهُ عِنْدَهُمُ اتِّخَاذُهُ مَجْلِسًا لِلْحُكْمِ فِي الْأَصَحِّ، صَوْنًا لَهُ عَنِ ارْتِفَاعِ الْأَصْوَاتِ، وَاللَّغَطِ الْوَاقِعَيْنِ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ عَادَةً؛ وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ قَدْ يَحْضُرُهُ مُشْرِكٌ وَهُوَ نَجِسٌ بِالنَّصِّ.
وَذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لِجُلُوسِ الْقَاضِي آدَابًا كَثِيرَةً مِنْهَا:
- أَنْ يَكُونَ مَجْلِسُهُ فَسِيحًا، وَاسِعًا لِئَلاَّ يَتَأَذَّى بِضِيقِهِ الْحَاضِرُونَ.
- وَأَنْ يَكُونَ بَارِزًا، ظَاهِرًا، لِيَعْرِفَ الْقَاضِي مَنْ يَرَاهُ.
- وَأَنْ يَكُونَ مَصُونًا مِنْ أَذَى حَرٍّ وَبَرْدٍ وَرِيحٍ وَغُبَارٍ وَدُخَانٍ، لَائِقًا بِالْوَقْتِ مِنْ صَيْفٍ وَشِتَاءٍ.
- وَأَنْ يُبْسَطَ لَهُ شَيْءٌ، وَلَا يَجْلِسَ عَلَى التُّرَابِ وَلَا عَلَى الْحَصِيرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُ بِهَيْبَتِهِ مِنْ أَعْيَنِ الْخُصُومِ.
وَفِي الْجُلُوسِ بَيْنَ يَدَيِ الْقَاضِي، وَالْعَدْلِ بَيْنَ الْخَصْمِ فِي مَجْلِسِهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (قَضَاءٌ).
حَدُّ الْمَرْأَةِ وَهِيَ جَالِسَةٌ:
24- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- مَا عَدَا أَبَا يُوسُفَ- وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تُضْرَبُ فِي جَمِيعِ الْحُدُودِ الَّتِي فِيهَا الضَّرْبُ جَالِسَةً، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: تُضْرَبُ الْمَرْأَةُ جَالِسَةً، وَالرَّجُلُ قَائِمًا؛ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ عَوْرَةٌ، وَجُلُوسُهَا أَسْتَرُ لَهَا.
وَيَرَى أَبُو يُوسُفَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى أَنَّهَا تُحَدُّ قَائِمَةً، كَمَا تُلَاعِنُ.
وَأَمَّا الرَّجُلُ فَلَمْ يَقُلْ بِضَرْبِهِ جَالِسًا فِي الْحُدُودِ إِلاَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ بِالْقِيَامِ، وَلِأَنَّهُ مَجْلُودٌ فِي حَدٍّ، فَأَشْبَهَ الْمَرْأَةَ.
الْجُلُوسُ لِلتَّبَوُّلِ:
25- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْجُلُوسُ أَثْنَاءَ التَّبَوُّلِ لِئَلاَّ يَتَرَشَّشَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-: مِنَ الْجَفَاءِ أَنْ تَبُولَ وَأَنْتَ قَائِمٌ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: «مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَبُولُ قَائِمًا فَلَا تُصَدِّقُوهُ، مَا كَانَ يَبُولُ إِلاَّ قَاعِدًا».
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا أَصَحُّ شَيْءٍ فِي الْبَابِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَقَدْ رُوِيَ فِي النَّهْيِ أَحَادِيثُ لَا تَثْبُتُ، وَلَكِنْ حَدِيثُ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- ثَابِتٌ، فَلِذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ يُكْرَهُ إِلاَّ لِعُذْرٍ.وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ.
وَقَدْ رُوِيَتِ الرُّخْصَةُ فِي ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَأَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعُرْوَةَ.
وَرَوَى حُذَيْفَةُ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا»، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاءُ الْحَاجَةِ).
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
62-موسوعة الفقه الكويتية (حائط)
حَائِطٌالتَّعْرِيفُ
1- الْحَائِطُ فِي اللُّغَةِ الْجِدَارُ، وَالْبُسْتَانُ، وَجَمْعُهُ حِيطَانٌ وَحَوَائِطُ.وَالْفُقَهَاءُ أَيْضًا يُطْلِقُونَ: «الْحَائِطَ» بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْحَائِطِ:
أَوَّلًا- الْحَائِطُ بِمَعْنَى الْجِدَارِ:
2- الْجِدَارُ قِسْمَانِ: خَاصٌّ وَمُشْتَرَكٌ.
أَمَّا الْجِدَارُ الْخَاصُّ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ (وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَهُمْ) وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْجَارِ وَضْعُ الْجُذُوعِ عَلَى جِدَارِ جَارِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ، وَلَا يُجْبَرُ الْمَالِكُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ يُنْدَبُ لَهُ لِخَبَرِ «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ».وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ ((: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسِهِ».
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ.وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: «لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ».
وَإِذَا انْهَدَمَ الْجِدَارُ الْخَاصُّ فَإِنَّهُ لَا يُجْبَرُ مَالِكُهُ عَلَى بِنَائِهِ، وَيُقَالُ لِلْآخَرِ: اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ إِنْ شِئْتَ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ فِي بَابِ الصُّلْحِ وَالْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ.
وَأَمَّا الْحَائِطُ الْمُشْتَرَكُ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ:
الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ: الِانْتِفَاعُ بِهِ:
3- يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ يُمْنَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ مِمَّا يُغَيِّرُ الْجِدَارَ الْمُشْتَرَكَ كَغَرْزِ وَتَدٍ، وَفَتْحِ كَوَّةٍ، أَوْ وَضْعِ خَشَبَةٍ لَا يَتَحَمَّلُهَا إِلاَّ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الْمُشْتَرَكَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ انْتِفَاعٌ بِمِلْكِ غَيْرِهِ، وَتَصَرُّفٌ فِيهِ بِمَا يَضُرُّ بِهِ، فَلَا يَسْتَقِلُّ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِالِانْتِفَاعِ.
وَأَمَّا الِاسْتِنَادُ إِلَيْهِ وَإِسْنَادُ شَيْءٍ إِلَيْهِ لَا يَضُرُّهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ.وَيُرْجَعُ لِتَفْصِيلِ ذَلِكَ إِلَى مَوَاطِنِهِ فِي أَبْوَابِ الصُّلْحِ وَالْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ.
الْمَوْضِعُ الثَّانِي: قِسْمَةُ الْجِدَارِ:
4- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْجِدَارَ الْمُشْتَرَكَ إِذَا كَانَ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بِلَا ضَرَرٍ فَأَرَادَ الشُّرَكَاءُ قِسْمَتَهُ جَازَ.وَأَمَّا إِذَا أَرَادَ الْقِسْمَةَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ وَأَبَاهَا الْآخَرُ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ وَآرَاءٍ يُرْجَعُ لِتَفْصِيلِهَا إِلَى مُصْطَلَحِ: (قِسْمَةٌ).
الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ: الْعِمَارَة:
5- إِذَا تَهَدَّمَ الْحَائِطُ الْمُشْتَرَكُ فَطَلَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ تَعْمِيرَهُ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ يُجْبَرُ الشَّرِيكُ الْآخَرُ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي عِمَارَتِهِ إِذَا تَعَذَّرَ قِسْمَةُ أَسَاسِهِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَائِطُ الْمُشْتَرَكُ يَحْتَمِلُ أَسَاسُهُ الْقِسْمَةَ بِأَنْ كَانَ عَرِيضًا جَازَ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْقَدِيمُ لَدَى الشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِ بِنَائِهِ إِضْرَارًا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءُ حَائِطٍ فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ كَالِابْتِدَاءِ.
التَّلَفُ بِسُقُوطِ الْحَائِطِ:
6- إِذَا مَالَ الْحَائِطُ إِلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَطُولِبَ صَاحِبُهُ بِنَقْضِهِ وَأُشْهِدَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْقُضْهُ فِي مُدَّةٍ يَقْدِرُ عَلَى نَقْضِهِ فِيهَا حَتَّى سَقَطَ ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَمَّا مَالَ إِلَى الطَّرِيقِ فَقَدِ اشْتَغَلَ هَوَاءُ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ بِمِلْكِهِ، وَدَفْعُهُ فِي يَدِهِ، فَإِذَا تُقُدِّمَ إِلَيْهِ وَطُولِبَ بِتَفْرِيغِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ صَارَ مُتَعَدِّيًا.بِهَذَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَشُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ مَنْ بَنَى حَائِطًا ثُمَّ مَالَ إِلَى غَيْرِ مِلْكِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُخْتَصًّا كَهَوَاءِ جَارِهِ، أَوْ مُشْتَرَكًا كَالطَّرِيقِ فَلَمْ يَهْدِمْهُ حَتَّى أَتْلَفَ شَيْئًا لَمْ يَضْمَنْهُ، وَلَوْ أَمْكَنَهُ وَطُولِبَ بِهِ؛ لِعَدَمِ تَعَدِّيهِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بَنَاهُ فِي مِلْكِهِ وَلَمْ يَسْقُطْ بِفِعْلِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ سَقَطَ مِنْ غَيْرِ مَيَلَانٍ.وَتُنْظَرُ التَّفَاصِيلُ فِي أَبْوَابِ الضَّمَانِ وَالدِّيَاتِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ أَحْكَامِ الْحَائِطِ الْمَائِلِ.
تَنْقِيشُ حَائِطِ الْقِبْلَةِ:
7- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ كَرَاهَةَ النُّقُوشِ عَلَى الْمِحْرَابِ وَحَائِطِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُ قَلْبَ الْمُصَلِّي، كَمَا أَنَّهُ إِخْرَاجٌ لِلْمَالِ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ.
وَقِيلَ: لَا بَأْسَ بِتَنْقِيشِ الْمَسْجِدِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ.هَذَا إِذَا فَعَلَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، أَمَّا تَنْقِيشُ الْمَسْجِدِ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ فَغَيْرُ جَائِزٍ، وَيَغْرَمُ الَّذِي يُخْرِجُهُ سَوَاءٌ أَكَانَ نَاظِرًا أَمْ غَيْرَهُ.وَلِلتَّفْصِيلِ: (ر: مَسْجِدٌ).
كِتَابَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْحَائِطِ:
8- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى كَرَاهَةِ نَقْشِ الْحِيطَانِ بِالْقُرْآنِ مَخَافَةَ السُّقُوطِ تَحْتَ أَقْدَامِ النَّاسِ، وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ حُرْمَةَ نَقْشِ الْقُرْآنِ وَاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْحِيطَانِ لِتَأْدِيَتِهِ إِلَى الِامْتِهَانِ.وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ.وَلِلتَّفْصِيلِ: (ر: قُرْآنٌ).
إِجَارَةُ الْحَائِطِ:
9- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) جَوَازَ إِجَارَةِ حَائِطٍ لِحَمْلِ خَشَبٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ نَفْعًا مُبَاحًا، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ وَالشَّافِعِيَّةَ فِي قَوْلٍ يَشْتَرِطُونَ لِصِحَّةِ إِجَارَةِ الْحَائِطِ أَنْ تَكُونَ لِحَمْلِ خَشَبٍ مَعْلُومٍ وَلِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ فَلَا يَشْتَرِطُونَ فِيهَا بَيَانَ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَرِدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَتَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَى دَوَامِهِ فَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ التَّأْقِيتُ كَالنِّكَاحِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ إِجَارَةِ الْحَائِطِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ الْمُسْتَأْجِرُ بِنَاءً أَوْ يَضَعَ عَلَيْهِ خَشَبًا؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْجِذْعِ وَبِنَاءَ السُّتْرَةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ، وَالثَّقِيلُ مِنْهُ يَضُرُّ بِالْحَائِطِ وَالضَّرَرُ مُسْتَثْنًى مِنَ الْعَقْدِ دَلَالَةً.وَلَيْسَ لِذَلِكَ الْمُضِرِّ حَدٌّ مَعْلُومٌ فَيَصِيرُ مَحَلُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَجْهُولًا.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَوْ كَانَ لَهُ وَضْعُ خَشَبَةٍ عَلَى جِدَارِ غَيْرِهِ لَمْ يَمْلِكْ إِعَارَتَهُ وَلَا إِجَارَتَهُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِحَاجَتِهِ الْمَاسَّةِ إِلَى وَضْعِ خَشَبِهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى وَضْعِ خَشَبِ غَيْرِهِ فَلَمْ يَمْلِكْهُ، وَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ حَقِّهِ مِنْ وَضْعِ خَشَبِهِ، وَلَا الْمُصَالَحَةَ عَنْهُ لِلْمَالِكِ وَلَا لِغَيْرِهِ.
وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْحَائِطِ إِعَارَةَ الْحَائِطِ أَوْ إِجَارَتَهُ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ هَذَا الْمُسْتَحِقَّ مِنْ وَضْعِ خَشَبِهِ لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى مَنْعِ ذِي الْحَقِّ مِنْ حَقِّهِ فَلَمْ يَمْلِكْهُ كَمَنْعِهِ.
وَمَنْ مَلَكَ وَضْعَ خَشَبِهِ عَلَى حَائِطٍ فَزَالَ بِسُقُوطِهِ أَوْ قَلْعِهِ أَوْ سُقُوطِ الْحَائِطِ، ثُمَّ أُعِيدَ فَلَهُ إِعَادَةُ خَشَبِهِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُجَوِّزَ لِوَضْعِهِ مُسْتَمِرٌّ فَاسْتَمَرَّ اسْتِحْقَاقُ ذَلِكَ.وَإِنْ زَالَ السَّبَبُ مِثْلُ أَنْ يَخْشَى عَلَى الْحَائِطِ مِنْ وَضْعِهِ عَلَيْهِ، أَوِ اسْتَغْنَى عَنْ وَضْعِهِ لَمْ تَجُزْ إِعَادَتُهُ لِزَوَالِ السَّبَبِ الْمُبِيحِ.
الدَّعْوَى فِي الْحَائِطِ:
10- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الرَّجُلَيْنِ إِذَا تَدَاعَيَا حَائِطًا بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا وَتَسَاوَيَا فِي كَوْنِهِ مُتَّصِلًا بِبِنَائِهِمَا اتِّصَالًا لَا يُمْكِنُ إِحْدَاثُهُ بَعْدَ بِنَاءِ الْحَائِطِ، مِثْلُ اتِّصَالِ الْبِنَاءِ بِالطِّينِ، أَوْ تَسَاوَيَا فِي كَوْنِهِ مَحْلُولًا مِنْ بِنَائِهِمَا، فَهُمَا سَوَاءٌ فِي الدَّعْوَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ تَحَالَفَا وَيُجْعَلُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا.وَإِنْ كَانَ الْحَائِطُ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَهُوَ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا خَشَبٌ مَوْضُوعٌ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا تُرَجَّحُ دَعْوَاهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَسْمَحُ بِهِ الْجَارُ، وَقَدْ وَرَدَ الْخَبَرُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْمَنْعِ مِنْهُ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ مَا عَدَا مُحَمَّدًا أَنَّهُ لَا تُرَجَّحُ الدَّعْوَى بِالْجِذْعِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَا يُبْنَى لَهُ، وَيُرَجَّحُ بِالْجِذْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ يُبْنَى بِهِمَا.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تُرَجَّحُ بِهِ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهُ مُنْتَفِعٌ بِهِ بِوَضْعِ مَالِهِ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ الْبَانِيَ عَلَيْهِ، وَالزَّارِعَ فِي الْأَرْضِ.
وَكَذَا لَا تُرَجَّحُ الدَّعْوَى بِكَوْنِ الدَّوَاخِلِ إِلَى أَحَدِهِمَا، وَلَا بِكَوْنِ الْآجُرِّ الصَّحِيحِ مِمَّا يَلِي مِلْكَ أَحَدِهِمَا، وَإِقْطَاعُ الْآجُرِّ إِلَى مِلْكِ الْآخَرِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ».
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُحْكَمُ بِهِ لِمَنْ إِلَيْهِ وَجْهُ الْحَائِطِ وَمَعَاقِدُ الْقُمُطِ؛ لِمَا رَوَى نِمْرَانُ بْنُ جَارِيَةَ التَّمِيمِيُّ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ «قَوْمًا اخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي خُصٍّ فَبَعَثَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فَحَكَمَ بِهِ لِمَنْ تَلِيهِ مَعَاقِدُ الْقُمُطِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ» وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-.وَلِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِأَنَّ مَنْ بَنَى حَائِطًا جَعَلَ وَجْهَ الْحَائِطِ إِلَيْهِ.
هَدْمُ الْحَائِطِ:
11- مَتَى هَدَمَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْحَائِطَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا: فَإِنْ خِيفَ سُقُوطُهُ وَوَجَبَ هَدْمُهُ فَلَا شَيْءَ عَلَى هَادِمِهِ، وَيَكُونُ كَمَا لَوِ انْهَدَمَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ الْوَاجِبَ وَأَزَالَ الضَّرَرَ الَّذِي قَدْ يَحْصُلُ بِسُقُوطِهِ.وَإِنْ هَدَمَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ إِعَادَتُهُ سَوَاءٌ هَدَمَهُ لِحَاجَةٍ أَوْ غَيْرِهَا.وَسَوَاءٌ الْتَزَمَ إِعَادَتَهُ أَوْ لَمْ يَلْتَزِمْ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ حَصَلَ بِفِعْلِهِ فَلَزِمَ إِعَادَتُهُ.وَمَنْ هَدَمَ حَائِطَ غَيْرِهِ ضَمِنَ نُقْصَانَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى الْبِنَاءِ كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ.وَاسْتَثْنَى بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ حَائِطَ الْمَسْجِدِ.
بِنَاءُ الْحَائِطِ الْجَدِيدِ:
12- إِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ مِلْكَيِ الشَّرِيكَيْنِ حَائِطٌ قَدِيمٌ فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ مُبَانَاتَهُ حَائِطًا يَحْجِزُ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا فَامْتَنَعَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادَ الْبِنَاءَ وَحْدَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْبِنَاءُ إِلاَّ فِي مِلْكِهِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ جَارِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ، وَلَا فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ مَا لَهُ فِيهِ رَسْمٌ، وَهَذَا لَا رَسْمَ لَهُ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا.
وَضْعُ الْخَشَبِ عَلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ:
13- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَضْعُ الْجُذُوعِ عَلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْقَافِهِ وَلَوْ دَفَعَ الْأُجْرَةَ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ فِي حَقِّ الْكُلِّ، لَكِنَّهُ تُرِكَ فِي حَقِّ الْجَارِ لِلْخَبَرِ الْوَارِدِ فِيهِ، فَوَجَبَ الْبَقَاءُ فِي غَيْرِهِ عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ فِي مِلْكِ الْجَارِ مَعَ أَنَّ حَقَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الشُّحِّ وَالضِّيقِ، فَفِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ أَوْلَى.
الْإِحْيَاءُ بِتَحْوِيطِ الْأَرْضِ:
14- يُعْتَبَرُ تَحْوِيطُ الْحَائِطِ عَلَى الْأَرْضِ، مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ، وَيُمْلَكُ بِذَلِكَ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ ف 24 ص 248 ج 2)
ثَانِيًا- الْحَائِطُ (الْبُسْتَانُ):
مَعْلُومِيَّةُ الْحَائِطِ فِي الْمُسَاقَاةِ:
15- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ فِي الْحَائِطِ- عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِهَا- أَنْ يَكُونَ شَجَرُ الْحَائِطِ مَعْلُومًا إِمَّا بِالرُّؤْيَةِ أَوْ بِالْوَصْفِ، فَإِنْ سَاقَاهُ عَلَى بُسْتَانٍ لَمْ يَرَهُ وَلَمْ يُوصَفْ لَهُ، أَوْ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْحَائِطَيْنِ لَمْ تَصِحَّ الْمُسَاقَاةُ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ يَخْتَلِفُ الْغَرَضُ فِيهَا بِاخْتِلَافِ الْأَعْيَانِ فَلَمْ تَجُزْ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالْبَيْعِ.بِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ مَنْ يَرَى جَوَازَ الْمُسَاقَاةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُسَاقَاةِ وُرُودُهَا عَلَى مُعَيَّنٍ مَرْئِيٍّ لِلْمَالِكِ وَالْعَامِلِ، فَإِنْ سَاقَاهُ عَلَى مُبْهَمٍ لَمْ يَصِحَّ أَوْ عَلَى غَيْرِ الْمَرْئِيِّ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَذْهَبِ.وَالْمُسَاقَاةُ بِجُزْءٍ مِنَ الثَّمَرِ بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.وَلِلتَّفْصِيلِ: (ر: مُسَاقَاةٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
63-موسوعة الفقه الكويتية (حبس 3)
حَبْسٌ -3الْحَبْسُ لِحَالَاتٍ تَتَّصِلُ بِالْقَضَاءِ وَالْأَحْكَامِ:
أ- حَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ تَوَلِّي الْقَضَاءِ:
89- نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ حَبْسَ الْمُمْتَنِعِ مِنْ تَوَلِّي الْقَضَاءِ إِذَا تَعَيَّنَ لَهُ حَتَّى يَقْبَلَهُ لِتَخَلُّفِهِ عَنِ الْوَاجِبِ الشَّرْعِيِّ، وَصِيَانَةً لِحُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، وَبِهِ أَفْتَى الْإِمَامُ مَالِكٌ.
ب- حَبْسُ الْمُسِيءِ إِلَى هَيْئَةِ الْقَضَاءِ:
89 م- لِلْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَ بِحَبْسِ وَضَرْبِ مَنْ قَالَ: لَا أُخَاصِمُ الْمُدَّعِيَ عِنْدَكَ، أَوِ اسْتَهْزَأَ بِهِ وَرَمَاهُ بِمَا لَا يُنَاسِبُهُ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ.وَلَهُ حَبْسُ الْمُتَخَاصِمَيْنِ وَضَرْبُهُمَا إِذَا تَشَاتَمَا أَمَامَهُ.
وَقَالَ سُحْنُونٌ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَشْهَبَ: لِلْقَاضِي حَبْسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَتَأْدِيبُهُ إِذَا قَالَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ: لَا أُقِرُّ وَلَا أُنْكِرُ وَاسْتَمَرَّ عَلَى لَدَدِهِ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي، وَبِنَحْوِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
ج- حَبْسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْحَدَّ وَالْقِصَاصَ حَتَّى يُعَدَّلَ الشُّهُود:
90- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لِلْقَاضِي حَبْسَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَتَّى يَتَثَبَّتَ مِنَ الدَّعْوَى بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ فِيمَا كَانَ أَقْصَى عُقُوبَةٍ فِيهِ غَيْرَ الْحَبْسِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، حَيْثُ أَقْصَى الْعُقُوبَةِ فِيهَا الْقَتْلُ وَالْقَطْعُ وَالْجَلْدُ، فَيَحْبِسُ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَبِخَاصَّةٍ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ حَتَّى يَكْشِفَ الْقَاضِي عَنْ عَدَالَةِ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ وَظِيفَتِهِ بَعْدَ أَنْ أَتَى الْمُدَّعِي بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الْبَيِّنَةِ.
فَمَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ بِسَرِقَةٍ يُحْبَسُ حَتَّى تَظْهَرَ عَدَالَةُ الشُّهُودِ فِي ذَلِكَ.وَمَنِ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ قَذَفَهُ وَبَيِّنَتُهُ فِي الْمِصْرِ حُبِسَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لِيُحْضِرَ الْمُدَّعِي بَيِّنَتَهُ حَتَّى يَقُومَ الْحَاكِمُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَإِلاَّ خَلَّى سَبِيلَهُ بِدُونِ كَفِيلٍ.فَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَتُهُ غَائِبَةً أَوْ خَارِجَ الْمِصْرِ فَلَا يُحْبَسُ، فَإِذَا أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا حَبَسَهُ.
د- حَبْسُ صَاحِبِ الدَّعْوَى الْكَيْدِيَّةِ:
91- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مَنْ قَامَ بِشَكْوَى بِغَيْرِ حَقٍّ وَانْكَشَفَ لِلْحَاكِمِ أَنَّهُ مُبْطِلٌ فِي دَعْوَاهُ فَإِنَّهُ يُؤَدِّبُهُ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ الْحَبْسُ لِيَنْدَفِعَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْبَاطِلِ.
هـ- حَبْسُ شَاهِدِ الزُّورِ:
92- نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ شَاهِدَ الزُّورِ يُضْرَبُ وَيُحْبَسُ طَوِيلاً بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ.وَزَادَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ مَنْ يُلَقِّنُ شَهَادَةَ الزُّورِ لِغَيْرِهِ يُحْبَسُ وَيُضْرَبُ.وَالْمَنْقُولُ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ وَحَلَقَ رَأْسَهُ وَسَخَّمَ وَجْهَهُ وَأَمَرَ أَنْ يُطَافَ بِهِ فِي الْأَسْوَاقِ ثُمَّ أَطَالَ حَبْسَهُ.وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-.
و- حَبْسُ الْمُقِرِّ لآِخَرَ بِمَجْهُولٍ لِامْتِنَاعِهِ مِنْ تَفْسِيرِهِ:
93- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ لآِخَرَ بِمَجْهُولٍ وَامْتَنَعَ مِنْ تَفْسِيرِهِ حُبِسَ حَتَّى يُفَسِّرَهُ، سَوَاءٌ أَقَرَّ بِهِ مِنْ نَفْسِهِ ابْتِدَاءً أَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ بِهِ.
وَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُ الرُّجُوعُ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ لِلُزُومِهِ، وَلِأَنَّ كَلَامَ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَدِّ لَا الْهَزْلِ.لَكِنْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي تَوْضِيحِ مَا أَبْهَمَهُ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ.وَيَحْلِفُ يَمِينًا أَنَّهُ مَا نَوَى إِلاَّ ذَلِكَ صِيَانَةً لِحُقُوقِ النَّاسِ.وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ مُضَعَّفٍ إِلَى أَنَّ الْمُقِرَّ بِمَجْهُولٍ لَا يُحْبَسُ إِذَا امْتَنَعَ مِنْ تَفْسِيرِهِ؛ لِإِمْكَانِ حُصُولِ الْغَرَضِ بِغَيْرِ الْحَبْسِ.
حَالَاتُ الْحَبْسِ بِسَبَبِ الِاعْتِدَاءِ عَلَى نِظَامِ الدَّوْلَةِ:
أ- حَبْسُ الْجَاسُوسِ الْمُسْلِمِ:
94- الْمَنْقُولُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَقْتُلُ الْجَاسُوسَ الْمُسْلِمَ بَلْ يُعَزِّرُهُ بِمَا يَرَاهُ.وَنَصَّ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى حَبْسِهِ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ.وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: يُطَالُ سَجْنُهُ وَيُنْفَى مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَسُحْنُونٌ: لِلْحَاكِمِ قَتْلُ الْجَاسُوسِ الْمُسْلِمِ إِنْ رَأَى فِي ذَلِكَ الْمَصْلَحَةَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ فِي عُقُوبَةِ الْجَاسُوسِ الْمُسْلِمِ تَعَدُّدُ الْأَقْوَالِ فِي حَادِثَةِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ قُبَيْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، حِينَ كَتَبَ لِبَعْضِ قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ بِمَسِيرِ النَّبِيِّ إِلَيْهِمْ.
ب- حَبْسُ الْبُغَاةِ:
95- يُحْبَسُ الْبُغَاةُ، وَهُمُ الْخَارِجُونَ عَلَى الْحَاكِمِ فِي الْحَالَاتِ التَّالِيَةِ:
الْحَالَةُ الْأُولَى: إِذَا تَأَهَّبُوا لِلْقِتَالِ:
إِذَا قَامَ الْبُغَاةُ بِأَعْمَالٍ تَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ الْخُرُوجِ عَلَى الْإِمَامِ كَشِرَاءِ السِّلَاحِ وَالِاجْتِمَاعِ لِلثَّوْرَةِ وَالتَّأَهُّبِ لِلْقِتَالِ جَازَ لِلْحَاكِمِ أَخْذُهُمْ وَحَبْسُهُمْ وَلَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْخُرُوجِ مَعْصِيَةٌ يَنْبَغِي زَجْرُهُمْ عَنْهَا؛ فَضْلاً عَنْ أَنَّهُمْ لَوْ تُرِكُوا لأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ وَفَاتَ دَفْعُ شَرِّهِمْ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَخْذُهُمْ أَثْنَاءَ الْقِتَالِ:
إِذَا أُمْسِكَ الْبُغَاةُ أَثْنَاءَ الْقِتَالِ حُبِسُوا، وَلَا يُطْلَقُ سَرَاحُهُمْ إِنْ خِيفَ انْحِيَازُهُمْ إِلَى فِئَةٍ أُخْرَى أَوْ عَوْدَتُهُمْ لِلْقِتَالِ.وَسَبَبُ حَبْسِهِمْ كَسْرُ قُلُوبِ الْآخَرِينَ وَتَفْرِيقُ جَمْعِهِمْ.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: تَتَبُّعُهُمْ بَعْدَ الْقِتَالِ وَحَبْسُهُمْ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَتَبُّعِ الْبُغَاةِ الْهَارِبِينَ وَحَبْسِهِمْ، وَلَهُمْ فِي هَذَا قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: يَجُوزُ لِلْإِمَامِ تَتَبُّعُهُمْ وَحَبْسُهُمْ إِنْ كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ يَنْحَازُونَ إِلَيْهَا، وَهَذَا قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ.وَنُسِبَ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِمَامَ يَتَتَبَّعُهُمْ وَيَحْبِسُهُمْ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ.وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ تَتَبُّعُهُمْ وَحَبْسُهُمْ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ يَنْحَازُونَ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُهُمْ وَقَدْ حَصَلَ.وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَالْمَنْقُولُ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-.
وَقْتُ الْإِفْرَاجِ عَنِ الْبُغَاةِ الْمَحْبُوسِينَ:
96- لِلْفُقَهَاءِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ فِي وَقْتِ الْإِفْرَاجِ عَنِ الْبُغَاةِ الْمَحْبُوسِينَ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: يَجِبُ الْإِفْرَاجُ عَنْهُمْ بَعْدَ تَوَقُّفِ الْقِتَالِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِمْرَارُ حَبْسِهِمْ.لَكِنْ يُشْتَرَطُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَعُودُوا إِلَى الْقِتَالِ.وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْحَنَابِلَةِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ حَبْسُهُمْ بَعْدَ الْقِتَالِ وَلَا يُخَلَّى عَنْهُمْ إِلاَّ بِظُهُورِ تَوْبَتِهِمْ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ عَوْدَتُهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ.وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَقَوْلُ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: يَجُوزُ حَبْسُهُمْ بَعْدَ الْقِتَالِ، وَيَجِبُ إِطْلَاقُ سَرَاحِهِمْ إِذَا أُمِنَ عَدَمُ عَوْدَتِهِمْ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: يَجُوزُ اسْتِمْرَارُ حَبْسِهِمْ بَعْدَ الْقِتَالِ مُعَامَلَةً لَهُمْ بِالْمِثْلِ حَتَّى يُتَوَصَّلَ إِلَى اسْتِخْلَاصِ أَسْرَى أَهْلِ الْعَدْلِ، وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ.
مَشْرُوعِيَّةُ اتِّخَاذِ مَوْضِعٍ لِلْحَبْسِ:
97- لِلْفُقَهَاءِ قَوْلَانِ فِي جَوَازِ اتِّخَاذِ الْحَاكِمِ مَوْضِعًا لِلْحَبْسِ فِيهِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ إِفْرَادُ مَوْضِعٍ لِيَحْبِسَ فِيهِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، بَلْ إِنَّ بَعْضَهُمْ اعْتَبَرَ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ.وَاسْتَدَلُّوا لِهَذَا بِفِعْلِ عُمَرَ- رضي الله عنه- حِينَ اشْتَرَى لَهُ نَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْحَارِثِ عَامِلُهُ عَلَى مَكَّةَ دَارًا لِلسَّجْنِ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ.كَمَا أَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- أَوَّلُ مَنْ أَحْدَث سِجْنًا فِي الْإِسْلَامِ وَجَعَلَهُ فِي الْكُوفَةِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَتَّخِذُ الْحَاكِمُ مَوْضِعًا يُخَصِّصُهُ لِلْحَبْسِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَلَا لِخَلِيفَتِهِ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه- سِجْنٌ.وَلَكِنْ إِذَا لَزِمَ الْأَمْرُ يُعَوِّقُ بِمَكَانٍ مِنَ الْأَمْكِنَةِ أَوْ يَأْمُرُ الْغَرِيمَ بِمُلَازَمَةِ غَرِيمِهِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-.وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَآخَرِينَ غَيْرِهِمْ.
اتِّخَاذُ السِّجْنِ فِي الْحَرَمِ:
98- لِلْفُقَهَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي اتِّخَاذِ السِّجْنِ فِي الْحَرَمِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: يَجُوزُ اتِّخَاذُ السِّجْنِ فِي الْحَرَمِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ لِخَبَرِ شِرَاءِ عُمَرَ- رضي الله عنه- السِّجْنَ بِمَكَّةَ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَحِلُّ أَنْ يُسْجَنَ أَحَدٌ فِي حَرَمِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ تَطْهِيرَ الْحَرَمِ مِنَ الْعُصَاةِ وَاجِبٌ لِلْآيَةِ: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} وَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ اتِّخَاذِ السِّجْنِ فِي حَرَمِ مَكَّةَ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: يُكْرَهُ اتِّخَاذُ السِّجْنِ فِي الْحَرَمِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ طَاوُسٍ وَكَانَ يَقُولُ: لَا يَنْبَغِي لِبَيْتِ عَذَابٍ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِ رَحْمَةٍ.وَيَقْصِدُ حَرَمَ مَكَّةَ.
تَصْنِيفُ السُّجُونِ بِحَسَبِ الْمَحْبُوسِينَ:
أ- إِفْرَادُ النِّسَاءِ بِسِجْنٍ مُنْعَزِلٍ عَنْ سِجْنِ الرِّجَالِ:
99- نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلنِّسَاءِ مَحْبِسٌ عَلَى حِدَةٍ إِجْمَاعًا، وَلَا يَكُونُ مَعَهُنَّ رَجُلٌ لِوُجُوبِ سَتْرِهِنَّ وَتَحَرُّزًا مِنَ الْفِتْنَةِ.وَالْأَوْلَى أَنْ تَقُومَ النِّسَاءُ عَلَى سِجْنِ مَثِيلَاتِهِنَّ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ جَازَ اسْتِعْمَالُ الرَّجُلِ الْمَعْرُوفِ بِالصَّلَاحِ عَلَى مَحْبِسِهِنَّ لِيَحْفَظَهُنَّ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سِجْنٌ مُعَدٌّ لِلنِّسَاءِ حُبِسَتِ الْمَرْأَةُ عِنْدَ أَمِينَةٍ خَالِيَةٍ عَنِ الرِّجَالِ أَوْ ذَاتِ رَجُلٍ أَمِينٍ كَزَوْجٍ أَوْ أَبٍ أَوِ ابْنٍ مَعْرُوفٍ بِالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ.
ب- إِفْرَادُ الْخُنْثَى بِحَبْسٍ خَاصٍّ:
100- إِذَا حُبِسَ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ فَلَا يَكُونُ مَعَ الرِّجَالِ وَلَا النِّسَاءِ، بَلْ يُحْبَسُ وَحْدَهُ أَوْ عِنْدَ مَحْرَمٍ، وَلَا يَنْبَغِي حَبْسُهُ مَعَ الرِّجَالِ وَلَا النِّسَاءِ.
ج- حَبْسُ غَيْرِ الْبَالِغِينَ (الْأَحْدَاثِ):
حَبْسُ غَيْرِ الْبَالِغِينَ فِي قَضَايَا الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ:
101- مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ إِذَا مَارَسَ التِّجَارَةَ أَوِ اسْتَهْلَكَ مَالَ غَيْرِهِ فَلَا يُحْبَسُ بِدَيْنٍ فِي مُعَامَلَتِهِ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ.وَلَا يَمْنَعُ هَذَا مِنْ تَأْدِيبِهِ بِغَيْرِ الْحَبْسِ.وَصَحَّحَ السَّرَخْسِيُّ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ حَبْسَ الْوَلِيِّ لِتَقْصِيرِهِ فِي حِفْظِ وَلَدِهِ، وَلِأَنَّهُ الْمُخَاطَبُ بِأَدَاءِ الْمَالِ عَنْهُ.
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ يُحْبَسُ بِالدَّيْنِ وَنَحْوِهِ تَأْدِيبًا لَا عُقُوبَةً؛ لِأَنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَيَتَحَقَّقُ ظُلْمُهُ، وَلِئَلاَّ يَعُودَ إِلَى مِثْلِ الْفِعْلِ وَيَتَعَدَّى عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ.وَعَلَّقَ بَعْضُ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ الْحَبْسَ عَلَى وُجُودِ أَبٍ أَوْ وَصِيٍّ لِلْحَدَثِ، لِيَضْجَرَ فَيُسَارِعَ إِلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ عَنْهُ.
حَبْسُ غَيْرِ الْبَالِغِينَ فِي الْجَرَائِمِ:
102- نَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْبَالِغِ لَا يُحْبَسُ بِارْتِكَابِهِ الْجَرَائِمَ وَنَحْوَهَا.وَقَالَ آخَرُونَ بِجَوَازِ حَبْسِ الْفَاجِرِ غَيْرِ الْبَالِغِ عَلَى وَجْهِ التَّأْدِيبِ لَا الْعُقُوبَةِ، وَبِخَاصَّةٍ إِذَا كَانَ الْحَبْسُ أَصْلَحَ لَهُ مِنْ إِرْسَالِهِ، وَكَانَ فِيهِ تَأْدِيبُهُ وَاسْتِصْلَاحُهُ، وَمِنَ الْجَرَائِمِ الَّتِي نَصُّوا عَلَى الْحَبْسِ فِيهَا الرِّدَّةُ، فَيُحْبَسُ الصَّبِيُّ الْمُرْتَدُّ حَتَّى يَتُوبَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَكَذَا الْبَغْيُ، فَيُحْبَسُ صِبْيَانُ الْبُغَاةِ الْمُقَاتِلُونَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَرْبُ.
مَكَانُ حَبْسِ غَيْرِ الْبَالِغِينَ:
103- تَدُلُّ أَكْثَرُ النُّصُوصِ عَلَى أَنْ يَكُونَ حَبْسُ الْحَدَثِ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ وَلِيِّهِ.عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ حَبْسُهُ فِي السِّجْنِ إِلاَّ إِذَا خَشِيَ عَلَيْهِ مَا يُفْسِدُهُ فَيَتَوَجَّبُ حَبْسُهُ عِنْدَ أَبِيهِ لَا فِي السِّجْنِ.
د- تَمْيِيزُ حَبْسِ الْمَوْقُوفِينَ عَنْ حَبْسِ الْمَحْكُومِينَ:
104- حَبْسُ الْمَوْقُوفِينَ هُوَ حَبْسُ أَهْلِ الرِّيبَةِ وَالتُّهَمَةِ، وَهُوَ مِنْ سُلْطَةِ الْوَالِي؛ لِأَنَّهُ مِنِ اخْتِصَاصِهِ كَمَا فِي قَوْلِ الزُّبَيْرِيِّ وَالْمَاوَرْدِيِّ وَالْقَرَافِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ.وَحَبْسُ الْمَحْكُومِينَ هُوَ حَبْسُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ وَقَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ وَهُوَ مِنْ سُلْطَةِ الْقَاضِي.وَالْمَعْمُولُ بِهِ فِي الْقَدِيمِ تَمَيُّزُ حَبْسِ الْوَالِي الَّذِي يَضُمُّ أَهْلَ الرِّيبَةِ وَالْفَسَادِ (الْمَوْقُوفِينَ) عَنْ حَبْسِ الْقَاضِي الَّذِي يَضُمُّ الْمَحْكُومِينَ.وَيَخْتَلِفُ سِجْنُ الْوَالِي عَنْ سِجْنِ الْقَاضِي، فَلِلْمَحْبُوسِ فِي سِجْنِ الْوَالِي تَوْكِيلُ غَيْرِهِ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عَنْهُ أَمَامَ الْقَاضِي إِذَا مُنِعَ مِنَ الْخُرُوجِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ فِي سِجْنِ الْقَاضِي لِإِمْكَانِ خُرُوجِهِ بِإِذْنِهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ التَّوْكِيلُ فِي سَمَاعِ الدَّعْوَى عَلَى الْمَحْبُوسِ.
- تَمْيِيزُ الْحَبْسِ فِي قَضَايَا الْمُعَامَلَاتِ عَنِ الْحَبْسِ فِي الْجَرَائِمِ:
105- مَيَّزَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحَبْسِ بَيْنَ الْمَحْبُوسِ فِي الْمُعَامَلَاتِ كَالدَّيْنِ، وَبَيْنَ الْمَحْبُوسِ فِي الْجَرَائِمِ، كَالسَّرِقَةِ، وَالتَّلَصُّصِ، وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى الْأَبْدَانِ، وَكَانُوا يَحْرِصُونَ عَلَى أَنْ لَا يَجْتَمِعَ هَؤُلَاءِ بِأُولَئِكَ فِي حَبْسِ وَاحِدٍ خَوْفًا مِنَ الْعَدْوَى، فَضْلاً عَنْ أَنَّ لِأَصْحَابِ كُلِّ حَبْسٍ مُعَامَلَةً تُنَاسِبُ جَرِيمَةَ كُلٍّ مِنْهُمْ.
و- التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَحْبُوسِينَ بِحَسَبِ تَجَانُسِ جَرَائِمِهِمْ:
106- صَنَّفَ الْفُقَهَاءُ نُزَلَاءَ سُجُونِ الْجَرَائِمِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: أَهْلِ الْفُجُورِ (الْمَفَاسِدِ الْخُلُقِيَّةِ) وَأَهْلِ التَّلَصُّصِ (السَّرِقَاتِ وَنَحْوِهَا)، وَأَهْلِ الْجِنَايَاتِ (الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْأَبْدَانِ)، وَجَعَلَ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي هَذَا التَّقْسِيمَ عُنْوَانَ فَصْلٍ أَفْرَدَهُ فِي كِتَابِهِ.
ز- تَصْنِيفُ الْحَبْسِ إِلَى جَمَاعِيٍّ وَفَرْدِيٍّ:
107- الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْحَبْسِ كَوْنُهُ جَمَاعِيًّا، وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُجْمَعَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ فِي مَوْضِعٍ تَضِيقُ عَنْهُمْ غَيْرَ مُتَمَكِّنِينَ مِنَ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ، وَقَدْ يَرَى بَعْضُهُمْ عَوْرَةَ بَعْضٍ وَيُؤْذَوْنَ فِي الْحَرِّ وَالصَّيْفِ.
وَيَجُوزُ لِلْحَاكِمِ عَزْلُ السَّجِينِ وَحَبْسُهُ مُنْفَرِدًا فِي غُرْفَةٍ يُقْفَلُ عَلَيْهِ بَابُهَا إِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ.
ح- الْحَبْسُ بِالْإِقَامَةِ الْجَبْرِيَّةِ فِي الْبَيْتِ وَنَحْوِهِ:
108- يَجُوزُ الْحَبْسُ بِالْإِقَامَةِ الْجَبْرِيَّةِ فِي الْبَيْتِ وَنَحْوِهِ، فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ مَنْ ضَرَبَ غَيْرَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ عُزِّرَ، وَصَحَّ حَبْسُهُ وَلَوْ فِي بَيْتِهِ بِأَنْ يُمْنَعَ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْهُ.وَلِلْإِمَامِ حَبْسُ الْعَائِنِ فِي مَنْزِلِ نَفْسِهِ سِيَاسَةً وَيُمْنَعُ مِنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ.
حَبْسُ الْمَرِيضِ:
109- بَحَثَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسْأَلَةِ حَبْسِ الْمَدِينِ الْمَرِيضِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْجُمْهُورِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمَرَضَ لَا يُعْتَبَرُ مِنْ مَوَانِعِ الْحَبْسِ.وَالْقَوْلُ الْآخَرُ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمَرِيضَ الْمَدِينَ لَا يُحْبَسُ، بَلْ يُوَكَّلُ بِهِ وَيُسْتَوْثَقُ عَلَيْهِ.أَمَّا الْجَانِي الْمَرِيضُ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَا يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حَبْسِهِ.
إِخْرَاجُ الْمَرِيضِ مِنْ سِجْنِهِ إِذَا خِيفَ عَلَيْهِ:
110- إِذَا مَرِضَ الْمَحْبُوسُ فِي سِجْنِهِ وَأَمْكَنَ عِلَاجُهُ فِيهِ فَلَا يَخْرُجُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ.وَلَا يُمْنَعُ الطَّبِيبُ وَالْخَادِمُ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِ لِمُعَالَجَتِهِ وَخِدْمَتِهِ؛ لِأَنَّ مَنْعَهُ مِمَّا تَدْعُو الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ يُفْضِي إِلَى هَلَاكِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَلِلْفُقَهَاءِ أَقْوَالٌ فِي إِخْرَاجِهِ مِنَ الْحَبْسِ إِذَا لَمْ تُمْكِنْ مُعَالَجَتُهُ وَرِعَايَتُهُ فِيهِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: يُخْرَجُ مِنْ حَبْسِهِ لِلْعِلَاجِ وَالْمُدَاوَاةِ صِيَانَةً لِنَفْسِهِ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ كَالْخَصَّافِ وَابْنِ الْهُمَامِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُخْرَجُ إِلاَّ بِكَفِيلٍ وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: يُعَالَجُ فِي الْحَبْسِ وَلَا يُخْرَجُ، وَالْهَلَاكُ فِي الْحَبْسِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ- رحمه الله-.
وَقَدِ اهْتَمَّ الْمُسْلِمُونَ مُنْذُ الْقَدِيمِ بِرِعَايَةِ الْمَرْضَى فِي السُّجُونِ فَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عُمَّالِهِ: انْظُرُوا مَنْ فِي السُّجُونِ وَتَعَهَّدُوا الْمَرْضَى.
وَفِي زَمَنِ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِرِ خُصِّصَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ لِلدُّخُولِ عَلَى الْمَرْضَى فِي السُّجُونِ كُلَّ يَوْمٍ، وَحَمْلِ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَشْرِبَةِ لَهُمْ وَرِعَايَتِهِمْ وَإِزَاحَةِ عِلَلِهِمْ.
111- لِلْفُقَهَاءِ قَوْلَانِ فِي تَمْكِينِ الْمَحْبُوسِ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: يُمْنَعُ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ لِيَضْجَرَ قَلْبُهُ وَيَنْزَجِرَ إِنْ رَأَى الْحَاكِمُ الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقَوْلِ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-.
الْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يُمْنَعُ الْمَحْبُوسُ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ لِأَهَمِّيَّتِهَا، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، وَبِهِ قَالَ الْبَغَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ السَّرَخْسِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْبُوَيْطِيِّ صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ.
112- وَإِذَا تَوَفَّرَتْ شُرُوطُ الْجُمُعَةِ فِي السِّجْنِ وَأَمْكَنَ أَدَاؤُهَا فِيهِ لَزِمَتِ السُّجَنَاءَ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ حَزْمٍ، وَقَالُوا: يُقِيمُهَا لَهُمْ مَنْ يَصْلُحُ لَهَا مِنْهُمْ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، وَيُتَّجَهُ وُجُوبُ نَصْبِهِ عَلَى الْحَاكِمِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِالْجُمُعَةِ عَلَى أَهْلِ السُّجُونِ، وَخَالَفَهُ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ فَقَالَ: لَيْسَ عَلَى أَهْلِ السُّجُونِ جُمُعَةٌ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ جَوَازُ فِعْلِ الْمَحْبُوسِينَ لَهَا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا صَلَّوُا الظُّهْرَ فُرَادَى.
تَشْغِيلُ الْمَحْبُوسِ:
113- لِلْفُقَهَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي تَمْكِينِ الْمَحْبُوسِ مِنَ الْعَمَلِ فِي الْحَبْسِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لَا يُمْنَعُ الْمَحْبُوسُ مِنَ الْعَمَلِ فِي حَبْسِهِ وَيُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ أَسْبَابِ النَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ وَوَفَاءِ الدَّيْنِ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَبِهِ أَفْتَى بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: يُمْنَعُ الْمَحْبُوسُ مِنَ الْعَمَلِ فِي حَبْسِهِ وَلَا يُمَكَّنُ مِنْهُ؛ لِئَلاَّ يَهُونَ عَلَيْهِ الْحَبْسُ وَلِيَضْجَرَ قَلْبُهُ فَيَنْزَجِرَ، وَإِلاَّ صَارَ الْحَبْسُ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَانُوتِ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ غَيْرُهُمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: يُتْرَكُ تَمْكِينُ الْمَحْبُوسِ مِنَ الْعَمَلِ فِي حَبْسِهِ لِتَقْدِيرِ الْحَاكِمِ وَاجْتِهَادِهِ، وَبِهِ قَالَ الْمُرْتَضَى.
أَحْكَامُ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَحْبُوسِ:
114- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ الْعَدِيدَ مِنْ أَحْكَامِ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْمَحْبُوسِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمُورِ الْمَالِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالْجِنَائِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ الشَّخْصِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَهَذَا بَيَانُهَا عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
التَّصَرُّفَاتُ الْمَالِيَّةُ الْمُتَّصِلَةُ بِالْمَحْبُوسِ:
بَيْعُ الْمَحْبُوسِ مَالَهُ مُكْرَهًا:
115- لِلْمَحْبُوسِ التَّصَرُّفُ بِمَالِهِ بَيْعًا أَوْ شِرَاءً وَنَحْوَهُ بِحَسَبِ مَا يَرَى؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ.فَإِنْ أُكْرِهَ بِالْحَبْسِ عَلَى الْبَيْعِ أَوِ الشِّرَاءِ أَوِ التَّأْجِيرِ فَلَهُ الْفَسْخُ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ لِانْعِدَامِ الرِّضَا.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ إِكْرَاهٌ.
الرُّجُوعُ عَلَى الْمَحْبُوسِ بِالْمَالِ الْمَدْفُوعِ عَنْهُ لِتَخْلِيصِهِ:
116- ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مَنْ حَبَسَهُ السُّلْطَانُ فَدَفَعَ عَنْهُ قَرِيبُهُ مَا خَلَّصَهُ بِهِ مِنَ الْحَبْسِ ثُمَّ سَكَتَ وَلَمْ يُطَالِبْهُ بِالْمَدْفُوعِ حَتَّى مَاتَ، فَقَامَ وَلَدُهُ يُطَالِبُ بِالْمَدْفُوعِ وَأَنَّهُ سَلَفٌ، وَالْمَحْبُوسُ الْمُفْتَدَى يَدَّعِي أَنَّهُ هِبَةٌ، فَالْحُكْمُ أَنَّ عَلَى مُدَّعِي الْهِبَةِ الْبَيِّنَةَ، وَلَا حُجَّةَ بِسُكُوتِ الدَّافِعِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَيْنٌ لَزِمَ فِي ذِمَّتِهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّهُ إِذَا أُكْرِهَ قَرِيبٌ أَوْ صَدِيقٌ وَنَحْوُهُ عَلَى أَدَاءِ مَالٍ عَنْ مَحْبُوسٍ فَدَفَعَهُ مِنْ مَالِهِ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمَحْبُوسِ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ وَالدَّفْعَ بِسَبَبِهِ، فَلَا يَذْهَبُ الْمَالُ هَدْرًا، وَلِأَنَّ النُّفُوسَ وَالْأَمْوَالَ يَعْتَرِيهَا مِنَ الضَّرَرِ وَالْفَسَادِ مَا لَا يَنْدَفِعُ إِلاَّ بِأَدَاءِ مَالٍ عَنْهَا.وَلَوْ عَلِمَ الْمُؤَدِّي أَنَّهُ لَا يَسْتَرِدُّ مَا دَفَعَهُ مِنَ الْمَحْبُوسِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ لَمْ يَفْعَلْ، وَإِذَا لَمْ يُقَابِلِ الْمَحْبُوسُ الْإِحْسَانَ بِمِثْلِهِ فَهُوَ ظَالِمٌ، وَالظُّلْمُ حَرَامٌ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا اعْتِبَارُ الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ فِي التَّصَرُّفَاتِ.
رَهْنُ الْمُفْلِسِ الْمَحْبُوسِ مَالَه:
117- الْأَصْلُ عَدَمُ تَمْكِينِ الْمُفْلِسِ الْمَحْبُوسِ مِنَ التَّصَرُّفِ بِمَالِهِ أَوْ رَهْنِهِ، فَإِنْ وَقَعَ تَصَرُّفُهُ لَمْ يَبْطُلْ بَلْ يُوقَفُ عَلَى نَظَرِ الْحَاكِمِ وَالْغُرَمَاءِ.وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَصَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ.وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُمْنَعُ مِنَ الرَّهْنِ وَغَيْرِهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِنَّمَا لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْتَمِرَّ فِي حَبْسِهِ لِيُضْجِرَهُ فَيُسَارِعَ إِلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ.
مَا يَجِبُ عَلَى الْمُودَعِ إِذَا عَجَزَ عَنْ رَدِّ الْوَدِيعَةِ إِلَى مَالِكِهَا الْمَحْبُوسِ:
118- إِذَا طَرَأَ عُذْرٌ لِلْمُودَعِ كَسَفَرٍ أَوْ خَوْفِ حَرِيقٍ وَهَدْمٍ رَدَّ الْوَدِيعَةَ إِلَى مَالِكِهَا، فَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ مَحْبُوسًا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ سَلَّمَهَا إِلَى مَنْ يَحْفَظُ مَالَهُ عَادَةً كَزَوْجَتِهِ وَأَجِيرِهِ، وَإِلاَّ دَفَعَهَا إِلَى الْحَاكِمِ.فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ أَوْدَعَهَا ثِقَةً وَأَشْهَدَ بَيِّنَةً عَلَى عُذْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي ضَرُورَةً مُسْقِطَةً لِلضَّمَانِ بَعْدَ تَحَقُّقِ السَّبَبِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالصَّاحِبَيْنِ، وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا مَا لَمْ يَنْهَهُ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَدِيعَةٌ).
هِبَةُ الْمَحْبُوسِ الْمَحْكُومِ بِقَتْلِهِ مَالَهُ لِغَيْرِهِ:
119- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَسِيرَ أَوِ الْمَحْبُوسَ عِنْدَ مَنْ عَادَتُهُ الْقَتْلُ إِذَا وَهَبَ مَالَهُ لِغَيْرِهِ لَا تَصِحُّ عَطِيَّتُهُ إِلاَّ مِنَ الثُّلُثِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي أَحْكَامِ مَرَضِ الْمَوْتِ.
تَمْكِينُ الْمَحْبُوسِ مِنْ وَطْءِ زَوْجَتِهِ:
120- لِلْفُقَهَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي تَمْكِينِ الْمَحْبُوسِ مِنْ وَطْءِ زَوْجَتِهِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: لَا يُمْنَعُ الْمَحْبُوسُ مِنْ وَطْءِ زَوْجَتِهِ فِي الْحَبْسِ إِذَا كَانَ فِيهِ مَوْضِعٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَإِلاَّ مُنِعَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَاسْتَظْهَرَهُ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ قَضَاءِ شَهْوَةِ الْبَطْنِ فَكَذَا شَهْوَةُ الْفَرْجِ؛ إِذْ لَا مُوجِبَ لِسُقُوطِ حَقِّهِ فِي الْوَطْءِ، وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَصْلُحَ الْمَوْضِعُ سَكَنًا لِمِثْلِ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: يُمْنَعُ الْمَحْبُوسُ مِنْ وَطْءِ زَوْجَتِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ غَايَاتِ الْحَبْسِ إِدْخَالَ الضِّيقِ وَالضَّجَرِ عَلَى قَلْبِهِ لِرَدْعِهِ وَزَجْرِهِ، وَلَا تَضْيِيقَ مَعَ تَمْكِينِهِ مِنَ اللَّذَّةِ وَالتَّنَعُّمِ وَالتَّرَفُّهِ، وَالْوَطْءُ إِنَّمَا هُوَ لِذَلِكَ، وَلَيْسَ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ كَالطَّعَامِ.وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَقَوْلُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ: أَنَّ الْمَحْبُوسَ لَا يُمْنَعُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِزَوْجَتِهِ فِي مَكَانٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِذَا حُبِسَ بِحَقِّهَا؛ لِأَنَّهَا إِذَا شَاءَتْ لَمْ تَحْبِسْهُ، فَلَا تُفَوِّتُ عَلَيْهِ حَقَّهُ فِي الْوَطْءِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: الْأَصْلُ فِي وَطْءِ الْمَحْبُوسِ زَوْجَتَهُ أَنَّهُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهِ الْمَشْرُوعَةِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ إِلاَّ إِذَا اقْتَضَتْ ذَلِكَ الْمَصْلَحَةُ وَرَآهُ الْقَاضِي كَمَا لَوْ رَأَى مَنْعَهُ مِنْ مُحَادَثَةِ الْأَصْدِقَاءِ أَوْ قَفْلِ بَابِ الْحَبْسِ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
إِنْفَاقُ الْمَحْبُوسِ عَلَى زَوْجَتِهِ:
121- لَا يَمْنَعُ الْحَبْسُ مِنْ إِنْفَاقِ الْمَحْبُوسِ عَلَى زَوْجَتِهِ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ الِاحْتِبَاسُ وَالتَّمْكِينُ مِنْ جِهَتِهَا، وَمَا تَعَذَّرَ فَهُوَ مِنْ جِهَتِهِ.وَقَدْ فَوَّتَ حَقَّ نَفْسِهِ فَلَا يَمْنَعُ الْحَبْسُ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا.
وَنَصَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لِلزَّوْجَةِ إِذَا حُبِسَ الزَّوْجُ بِحَقِّهَا لِفَوَاتِ التَّمْكِينِ مِنْ قِبَلِهَا.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ: لَا تَسْقُطُ النَّفَقَةُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مَالٌ وَأَخْفَاهُ عَنْهَا.
إِنْفَاقُ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ الْمَحْبُوسَةِ:
122- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ لَا تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ الْمَحْبُوسَةِ فِي دَيْنٍ وَلَوْ ظُلْمًا بِأَنْ كَانَتْ مُعْسِرَةً لِفَوَاتِ الِاحْتِبَاسِ وَكَوْنِ الِامْتِنَاعِ لَيْسَ مِنْ جِهَتِهِ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ إِنْ لَمْ تَكُنْ مُمَاطِلَةً، سَوَاءٌ كَانَ الْحَبْسُ فِي دَيْنِ الزَّوْجِ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لَيْسَ مِنْ جِهَتِهَا، وَبِنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ.
وَفَرَّقَ النَّوَوِيُّ بَيْنَ حَبْسِ الزَّوْجَةِ الْمُقِرَّةِ بِدَيْنٍ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَى زَوْجِهَا وَبَيْنَ حَبْسِ مَنْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى اسْتِدَانَتِهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَلْزَمُ الزَّوْجَ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ الْمَحْبُوسَةِ بِسَبَبِ رِدَّتِهَا.
احْتِسَابُ مُدَّةِ حَبْسِ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ فِي الْإِيلَاءِ:
123- إِذَا آلَى الزَّوْجُ مِنْ زَوْجَتِهِ وَكَانَ مَحْبُوسًا بِحَقٍّ يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهِ حُسِبَتْ عَلَيْهِ الْمُدَّةُ مِنْ حِينِ إِيلَائِهِ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ جِهَتِهِ وَلَيْسَتْ مِنْ جِهَتِهَا.وَإِنْ طَرَأَ الْحَبْسُ بَعْدَ الْإِيلَاءِ لَمْ تَنْقَطِعِ الْمُدَّةُ بَلْ تُحْسَبُ أَيْضًا، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
أَمَّا إِذَا كَانَتْ زَوْجَةُ الْمُولِي مَحْبُوسَةً أَوْ طَرَأَ الْحَبْسُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْإِيلَاءِ فَلَيْسَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْفَيْئَةِ، وَلَا تُحْسَبُ مُدَّةُ الْحَبْسِ مِنْ مُهْلَةِ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ لِتَعَذُّرِ الْوَطْءِ مِنْ جِهَتِهَا كَالْمَرِيضَةِ، وَتَسْتَأْنِفُ الْمُدَّةَ عِنْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ.وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْقَوْلُ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لَهُمْ: إِنَّ الْحَبْسَ يُحْتَسَبُ كَالْحَيْضِ.
فَيْئَةُ الْمَحْبُوسِ مِنَ الْإِيلَاءِ إِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوَطْء:
124- الْأَصْلُ أَنْ تَحْصُلَ الْفَيْئَةُ مِنَ الْإِيلَاءِ بِالْوَطْءِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.فَإِنْ كَانَ الْمُولِي مَحْبُوسًا وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوَطْءُ فَفَيْئَتُهُ بِلِسَانِهِ كَأَنْ يَقُولَ: فِئْتُ إِلَيْهَا أَوْ مَتَى قَدَرْتُ فَعَلْتُهُ.يَعْنِي الْوَطْءَ.
وَإِذَا كَانَتِ الْمَحْبُوسَةُ زَوْجَتَهُ يَكُونُ الْفَيْءُ بِالْوَعْدِ بِلِسَانِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ إِذَا زَالَ الْمَانِعُ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَعِكْرِمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.وَاشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الْمَحْبُوسُ مَظْلُومًا غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى الْخَلَاصِ وَإِلاَّ فَفَيْئَتُهُ بِالْوَطْءِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَا يَكُونُ الْفَيْءُ إِلاَّ بِالْجِمَاعِ فِي حَالِ الْعُذْرِ وَغَيْرِهِ.
تَأْخِيرُ الْمَحْبُوسِ مُلَاعَنَةَ زَوْجَتِهِ وَنَفْيَهُ الْوَلَدَ:
125- يُشْتَرَطُ فِي اللِّعَانِ الْفَوْرِيَّةُ وَعَدَمُ تَأْخِيرِ الزَّوْجِ نَفْيَ الْوَلَدِ حَالَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ.وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ غَيْرِهِمْ أَنَّ الْحَبْسَ مِنْ أَعْذَارِ تَأْخِيرِ اللِّعَانِ.فَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الْحَبْسِ قَصِيرَةً كَيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَأَخَّرَ الْمَحْبُوسُ نَفْيَهُ لَيْلاً عَنْ أَمَامِ الْحَاكِمِ لَمْ يَسْقُطْ نَفْيُهُ بِالتَّأْخِيرِ.وَإِنْ كَانَتِ الْمُدَّةُ طَوِيلَةً أَرْسَلَ إِلَى الْحَاكِمِ لِيَبْعَثَ إِلَيْهِ نَائِبًا يُلَاعِنُ عِنْدَهُ.
فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ أَشْهَدَ عَلَى نَفْيِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ سَقَطَ نَفْيُهُ وَبَطَلَ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّ عَدَمَ تَصَرُّفِهِ يَتَضَمَّنُ إِقْرَارَهُ بِالنَّسَبِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ مُصْطَلَحُ: (لِعَانٌ).
التَّصَرُّفَاتُ الْقَضَائِيَّةُ وَالْحُكْمِيَّةُ الْمُتَّصِلَةُ بِالْمَحْبُوسِ:
خُرُوجُ الْمَحْبُوسِ لِسَمَاعِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَاضِي أَوْ تَعَذُّرُ ذَلِكَ:
126- إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى مَحْبُوسٍ حَقًّا يُخْرِجُهُ الْقَاضِي لِسَمَاعِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ وَالْإِجَابَةِ عَنْهَا ثُمَّ يَرُدُّهُ إِلَى الْحَبْسِ وَلَا يُوَكِّلُ عَنْهُ أَحَدًا فِي الْخُصُومَةِ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَى الْمَحْبُوسِ الْخُرُوجُ جَازَ لَهُ اسْتِحْسَانًا تَوْكِيلُ مَنْ يُجِيبُ عَنْهُ.
خُرُوجُ الْمَحْبُوسِ لِلشَّهَادَةِ عِنْدَ الْقَاضِي أَوْ تَعَذُّرُ ذَلِكَ:
127- إِذَا مُنِعَ الْمَحْبُوسُ مِنَ الْخُرُوجِ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْقَاضِي جَازَ لَهُ اسْتِحْسَانًا تَوْكِيلُ مَنْ يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِهِ.
127 م- إِجَابَةُ دَعْوَةِ الْمَحْبُوسِ لِلْإِشْهَادِ عَلَى تَصَرُّفِهِ:
نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَحْبُوسَ إِذَا دَعَا رَجُلاً لِيُشْهِدَهُ عَلَى تَصَرُّفِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ لِأَجْلِ عُذْرِ الْمَحْبُوسِ وَحَتَّى لَا تَضِيعَ الْحُقُوقُ.
مَا لَا يَجُوزُ تَأْدِيبُ الْمَحْبُوسِ بِهِ:
128- شُرِعَ التَّأْدِيبُ لِلتَّقْوِيمِ وَالْإِصْلَاحِ لَا الْإِهَانَةِ وَالْإِتْلَافِ وَاحْتِقَارِ مَعَانِي الْآدَمِيَّةِ، وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ الْمُعَاقَبَةِ لِلْمَحْبُوسِ أَوْ غَيْرِهِ بِعِدَّةِ أُمُورٍ، مِنْهَا:
أ- التَّمْثِيلُ بِالْجِسْمِ:
129- لَا تَجُوزُ الْمُعَاقَبَةُ بِجَدْعِ أَنْفٍ، أَوْ أُذُنٍ، أَوْ اصْطِلَامِ شَفَةٍ، وَقَطْعِ أَنَامِلَ، وَكَسْرِ عَظْمٍ، وَلَمْ يُعْهَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدِ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ التَّأْدِيبُ، وَهُوَ لَا يَكُونُ بِالْإِتْلَافِ.
وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ التَّمْثِيلِ بِالْأَسْرَى فَقَالَ فِي وَصِيَّتِهِ لأُِمَرَاءِ السَّرَايَا: وَلَا تُمَثِّلُوا».
ب- ضَرْبُ الْوَجْهِ وَنَحْوِهِ:
130- لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ التَّأْدِيبُ بِمَا فِيهِ الْإِهَانَةُ وَالْخَطَرُ، كَضَرْبِ الْوَجْهِ وَمَوْضِعِ الْمَقَاتِلِ، وَكَذَا جَعْلُ الْأَغْلَالِ فِي أَعْنَاقِ الْمَحْبُوسِينَ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَمُدَّ الْمَحْبُوسَ عَلَى الْأَرْضِ عِنْدَ ضَرْبِهِ، سَوَاءٌ كَانَ لِلْحَدِّ أَوِ التَّعْزِيرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
ج- التَّعْذِيبُ بِالنَّارِ وَنَحْوِهَا:
131- يَحْرُمُ التَّأْدِيبُ بِإِحْرَاقِ الْجِسْمِ أَوْ بَعْضِهِ بِقَصْدِ الْإِيلَامِ وَالتَّوْجِيعِ إِلاَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْعُقُوبَةِ فَتَجُوزُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ.وَلَا يَجُوزُ خَنْقُ الْمَحْبُوسِ وَعَصْرُهُ وَغَطُّهُ فِي الْمَاءِ.
د- التَّجْوِيعُ وَالتَّعْرِيضُ لِلْبَرْدِ وَنَحْوِهِ:
132- لَا يَجُوزُ الْحَبْسُ فِي مَكَانٍ يُمْنَعُ فِيهِ الْمَحْبُوسُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، أَوْ فِي مَكَانٍ حَارٍّ أَوْ تَحْتَ الشَّمْسِ أَوْ فِي مَكَانٍ بَارِدٍ، أَوْ فِي بَيْتٍ تُسَدُّ نَوَافِذُهُ وَفِيهِ دُخَانٌ، أَوْ يُمْنَعُ مِنَ الْمَلَابِسِ فِي الْبَرْدِ.فَإِنْ مَاتَ الْمَحْبُوسُ فَالدِّيَةُ عَلَى الْحَابِسِ وَقِيلَ: الْقَوَدُ.
هـ- التَّجْرِيدُ مِنَ الْمَلَابِسِ:
133- تَحْرُمُ الْمُعَاقَبَةُ بِالتَّجْرِيدِ مِنَ الثِّيَابِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ.
و- الْمَنْعُ مِنَ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا:
134- يَنْبَغِي تَمْكِينُ الْمَحْبُوسِ مِنَ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ، وَلَا تَجُوزُ مُعَاقَبَتُهُ بِالْمَنْعِ مِنْهُمَا.
وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَنْعُ الْمَحْبُوسِ مِنْ قَضَاءِ حَاجَتِهِ.
ز- السَّبُّ وَالشَّتْمُ:
135- لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ التَّأْدِيبُ بِاللَّعْنِ وَالسَّبِّ الْفَاحِشِ وَسَبِّ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.وَيَجُوزُ التَّأْدِيبُ بِقَوْلِهِ: يَا ظَالِمُ يَا مُعْتَدِي وَنَحْوَهُ.
ح- أُمُورٌ أُخْرَى تَحْرُمُ الْمُعَاقَبَةُ بِهَا:
136- تَحْرُمُ الْمُعَاقَبَةُ بِالْإِقَامَةِ فِي الشَّمْسِ أَوْ صَبِّ الزَّيْتِ عَلَى الرُّءُوسِ أَوْ حَلْقِ اللِّحْيَةِ وَكَذَا إِغْرَاءُ الْحَيَوَانِ كَالسَّبُعِ وَالْعَقْرَبِ بِالْمَحْبُوسِ لِيُؤْذِيَهُ.
وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ تَعْذِيبِ الْمَحْبُوسِ بِالدُّهْنِ وَالْخَنَافِسِ (حَشَرَاتٌ سَوْدَاءُ كَالْجُعْلِ) فَقَالَ: لَا يَحِلُّ هَذَا، إِنَّمَا هُوَ السَّوْطُ أَوِ السِّجْنُ.
وَفِي الْجُمْلَةِ لَا تَجُوزُ مُعَاقَبَةُ الْمَحْبُوسِ بِقَصْدِ إِتْلَافِهِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ؛ لِأَنَّ التَّأْدِيبَ لَا يَكُونُ بِذَلِكَ.
إِخْرَاجُ الْمَحْبُوسِ لِإِصَابَتِهِ بِالْجُنُونِ:
137- نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَحْبُوسَ إِذَا ذَهَبَ عَقْلُهُ وَجُنَّ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الْحَبْسِ لِعَدَمِ إِدْرَاكِهِ الضِّيقَ الْمَقْصُودَ مِنْ حَبْسِهِ، وَيَسْتَمِرُّ خُرُوجُهُ إِلَى أَنْ يَعُودَ لَهُ عَقْلُهُ.فَإِنْ عَادَ لَهُ عَقْلُهُ عَادَ لِلْحَبْسِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْجُنُونَ لَا يَمْنَعُ التَّعْزِيرَ- وَالْحَبْسُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِ؛ لِأَنَّ الْغَايَةَ مِنْهُ التَّأْدِيبُ وَالزَّجْرُ، فَإِنْ تَعَطَّلَ جَانِبُ التَّأْدِيبِ بِالْجُنُونِ فَلَا يَنْبَغِي تَعَطُّلُ جَانِبِ الزَّجْرِ مَنْعًا لِلْغَيْرِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
64-موسوعة الفقه الكويتية (حرابة)
حِرَابَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْحِرَابَةُ مِنَ الْحَرْبِ الَّتِي هِيَ نَقِيضُ السِّلْمِ: يُقَالُ: حَارَبَهُ مُحَارَبَةً، وَحِرَابًا، أَوْ مِنَ الْحَرَبِ.
بِفَتْحِ الرَّاءِ: وَهُوَ السَّلْبُ.
يُقَالُ: حَرَبَ فُلَانًا مَالَهُ أَيْ سَلَبَهُ فَهُوَ مَحْرُوبٌ وَحَرِيبٌ.
وَالْحِرَابَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ وَتُسَمَّى قَطْعَ الطَّرِيقِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ هِيَ الْبُرُوزُ لِأَخْذِ مَالٍ، أَوْ لِقَتْلٍ، أَوْ لِإِرْعَابٍ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَاهَرَةِ مُكَابَرَةً، اعْتِمَادًا عَلَى الْقُوَّةِ مَعَ الْبُعْدِ عَنِ الْغَوْثِ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ مُحَاوَلَةَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْعِرْضِ مُغَالَبَةً.
وَجَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ مَنْ كَابَرَ رَجُلًا عَلَى مَالِهِ بِسِلَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ فِي زُقَاقٍ أَوْ دَخَلَ عَلَى حَرِيمِهِ فِي الْمِصْرِ حُكِمَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْحِرَابَةِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْبَغْيُ:
2- الْبَغْيُ فِي اللُّغَةِ: الْجَوْرُ، وَالظُّلْمُ، وَالْعُدُولُ عَنِ الْحَقِّ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ: هُوَ الْخُرُوجُ عَنْ طَاعَةِ إِمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ بِتَأْوِيلٍ غَيْرِ مَقْطُوعِ الْفَسَادِ.
وَفَرَّقَ الْإِمَامُ مَالِكٌ بَيْنَ الْحِرَابَةِ وَالْبَغْيِ بِقَوْلِهِ: الْبَغْيُ يَكُونُ بِالْخُرُوجِ عَلَى تَأْوِيلٍ- غَيْرِ قَطْعِيِّ الْفَسَادِ- وَالْمُحَارِبُونَ خَرَجُوا فِسْقًا وَخُلُوعًا عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلٍ
ب- السَّرِقَةُ:
3- السَّرِقَةُ فِي اللُّغَةِ: أَخْذُ الشَّيْءِ خُفْيَةً.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: أَخْذُهُ خُفْيَةً ظُلْمًا فِي حِرْزِ مِثْلِهِ، بِشُرُوطٍ تُذْكَرُ فِي بَابِهَا.
فَالْفَرْقُ أَنَّ الْحِرَابَةَ فِيهَا مُجَاهَرَةٌ وَمُكَابَرَةٌ وَسِلَاحٌ.
ج- النَّهْبُ، وَالِاخْتِلَاسُ:
4- النَّهْبُ لُغَةً: الْغَلَبَةُ عَلَى الْمَالِ.وَاصْطِلَاحًا: أَخْذُ الشَّيْءِ عَلَانِيَةً دُونَ رِضًا.
وَالِاخْتِلَاسُ: خَطْفُ الشَّيْءِ بِسُرْعَةٍ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْ صَاحِبِهِ، مَعَ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْهَرَبِ.
فَالنَّهْبُ وَالِاخْتِلَاسُ كِلَاهُمَا أَخْذُ الشَّيْءِ عَلَانِيَةً، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا هُوَ: سُرْعَةُ الْأَخْذِ فِي الِاخْتِلَاسِ بِخِلَافِ النَّهْبِ فَإِنْ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيهِ.
أَمَّا الْحِرَابَةُ فَهِيَ الْأَخْذُ عَلَى سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ.
د- الْغَصْبُ:
5- الْغَصْبُ أَخْذُ الشَّيْءِ ظُلْمًا مَعَ الْمُجَاهَرَةِ.
وَشَرْعًا: الِاسْتِيلَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَقِيلَ: هُوَ إِزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ مَالِهِ الْمُتَقَوِّمِ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَاهَرَةِ.فَالْغَصْبُ قَدْ يَكُونُ بِسِلَاحٍ أَوْ بِغَيْرِ سِلَاحٍ مَعَ إِمْكَانِ الْغَوْثِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6- الْحِرَابَةُ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَهِيَ مِنَ الْحُدُودِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَسَمَّى الْقُرْآنُ مُرْتَكِبِيهَا: مُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَسَاعِينَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَغَلَّظَ عُقُوبَتَهَا أَشَدَّ التَّغْلِيظِ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِفَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} إِلَخْ.
وَنَفَى الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- انْتِسَابَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا».
الْأَصْلُ فِي جَزَاءِ الْحِرَابَةِ:
7- الْأَصْلُ فِي بَيَانِ جَزَاءِ الْحِرَابَةِ قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْض} إِلَخْ.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حَدِّ قَاطِعِ الطَّرِيقِ كَمَا سَيَأْتِي.وَحَدِيثُ الْعُرَنِيِّينَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ عُكْلٍ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- كَانُوا فِي الصُّفَّةِ، فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْغِنَا رِسْلًا، فَقَالَ مَا أَجِدُ لَكُمْ إِلاَّ أَنْ تَلْحَقُوا بِإِبِلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَأَتَوْهَا فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا حَتَّى صَحُّوا وَسَمِنُوا وَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، فَأَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- الصَّرِيخُ، فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ، فَمَا تَرَجَّلَ النَّهَارُ حَتَّى أُتِيَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِمَسَامِيرَ فَأُحْمِيَتْ فَكَحَّلَهُمْ وَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَمَا حَسَمَهُمْ، ثُمَّ أُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ، فَمَا سُقُوا حَتَّى مَاتُوا.وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ: سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ».
مَنْ يُعْتَبَرُ مُحَارِبًا:
8- الْمُحَارِبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: هُوَ كُلُّ مُلْتَزِمٍ مُكَلَّفٍ أَخَذَ الْمَالَ بِقُوَّةٍ فِي الْبُعْدِ عَنِ الْغَوْثِ.
وَلِلْفُقَهَاءِ تَعْرِيفَاتٌ أُخْرَى لَا تَخْرُجُ فِي مَفْهُومِهَا عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
وَلَا بُدَّ مِنْ تَوَافُرِ شُرُوطٍ فِي الْمُحَارِبِينَ حَتَّى يُحَدُّوا حَدَّ الْحِرَابَةِ.وَهَذِهِ الشُّرُوطُ فِي الْجُمْلَةِ هِيَ:
أ- الِالْتِزَامُ.
ب- التَّكْلِيفُ.
ج- وُجُودُ السِّلَاحِ مَعَهُمُ.
د- الْبُعْدُ عَنِ الْعُمْرَانِ.
هـ- الذُّكُورَةُ.
و- الْمُجَاهَرَةُ.
وَلَمْ يَتَّفِقِ الْفُقَهَاءُ عَلَى هَذِهِ الشُّرُوطِ كُلِّهَا، بَلْ بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِهَا اخْتِلَافٌ بَيَانُهُ كَمَا يَلِي:
أ- الِالْتِزَامُ:
9- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُحَارِبِ: أَنْ يَكُونَ مُلْتَزِمًا بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، بِأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، أَوْ ذِمِّيًّا، أَوْ مُرْتَدًّا، فَلَا يُحَدُّ الْحَرْبِيُّ، وَلَا الْمُعَاهَدُ، وَلَا الْمُسْتَأْمَنُ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وَهَؤُلَاءِ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ قَبْلَ الْقُدْرَةِ، وَبَعْدَهَا، لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وَلِخَبَرِ: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ».وَلَمْ يَلْتَزِمُوا أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ، أَمَّا الذِّمِّيُّ فَقَدِ الْتَزَمَ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ فَلَهُ مَا لَنَا، وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا.
وَظَاهِرُ عِبَارَةِ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الذِّمِّيَّ حُكْمُهُ كَحُكْمِ الْمُسْلِمِ فِي أَحْكَامِ الْحِرَابَةِ.وَأَمَّا الْمُسْتَأْمَنُ فَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّهُ يَكُونُ مُحَارِبًا أَوْ لَا.
ب- التَّكْلِيفُ:
10- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْبُلُوغَ وَالْعَقْلَ شَرْطَانِ فِي عُقُوبَةِ الْحِرَابَةِ لِأَنَّهُمَا شَرْطَا التَّكْلِيفِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ مَنْ اشْتَرَكَ مَعَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ لَا يَسْقُطُ عَنْهُمْ وَعَلَيْهِمُ الْحَدُّ.وَقَالُوا: لِأَنَّهَا شُبْهَةٌ اخْتُصَّ بِهَا وَاحِدٌ فَلَمْ يَسْقُطِ الْحَدُّ عَنِ الْبَاقِينَ.كَمَا لَوِ اشْتَرَكُوا فِي الزِّنَى بِامْرَأَةٍ.
نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ شَرِيكَ الصَّبِيِّ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَحَصَرُوا مُسْقِطَاتِ الْحَدِّ عَلَى قَاطِعِ الطَّرِيقِ فِي تَوْبَتِهِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرُوا مُسْقِطًا آخَرَ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَمْسَكَ رَجُلٌ هَارِبًا وَقَتَلَهُ صَبِيٌّ يُقْتَلُ الْمُمْسِكُ عِنْدَهُمْ.وَمُقْتَضَى ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ شَرِيكَ الصَّبِيِّ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ يُحَدُّ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَ فِي الْقُطَّاعِ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ أَحَدِ الْمَارَّةِ فَلَا حَدَّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، بَاشَرَ الْعُقَلَاءُ الْفِعْلَ أَمْ لَمْ يُبَاشِرُوا، وَقَالُوا: لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ قَامَتْ بِالْكُلِّ، فَإِنْ لَمْ يَقَعْ فِعْلُ بَعْضِهِمْ مُوجِبًا لِلْحَدِّ، كَانَ فِعْلُ الْبَاقِينَ بَعْضُ الْعِلَّةِ فَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ الْحُكْمُ.وَقَالَ وَأَبُو يُوسُفَ: إِذَا بَاشَرَ الْعُقَلَاءُ الْفِعْلَ يُحَدُّونَ.
ج- الذُّكُورَةُ:
11- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُحَارِبِ الذُّكُورَةُ.
فَلَوِ اجْتَمَعَ نِسْوَةٌ لَهُنَّ قُوَّةٌ وَمَنَعَةٌ فَهُنَّ قَاطِعَاتُ طَرِيقٍ وَلَا تَأْثِيرَ لِلْأُنُوثَةِ عَلَى الْحِرَابَةِ، فَقَدْ يَكُونُ لِلْمَرْأَةِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالتَّدْبِيرِ مَا لِلرَّجُلِ فَيَجْرِي عَلَيْهَا مَا يَجْرِي عَلَى الرَّجُلِ مِنْ أَحْكَامِ الْحِرَابَةِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِي الْمُحَارِبِ الذُّكُورَةُ: فَلَا تُحَدُّ الْمَرْأَةُ وَإِنْ وَلِيَتِ الْقِتَالَ وَأَخْذَ الْمَالِ، لِأَنَّ رُكْنَ الْحِرَابَةِ هُوَ: الْخُرُوجُ عَلَى وَجْهِ الْمُحَارَبَةِ وَالْمُغَالَبَةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ عَادَةً لِرِقَّةِ قُلُوبِهِنَّ وَضَعْفِ بِنْيَتِهِنَّ، فَلَا يَكُنَّ مِنْ أَهْلِ الْحِرَابَةِ.
وَلِهَذَا لَا يُقْتَلْنَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَا يُحَدُّ كَذَلِكَ مَنْ يُشَارِكُهُنَّ فِي الْقَطْعِ مِنَ الرِّجَالِ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.سَوَاءٌ بَاشَرُوا الْجَرِيمَةَ أَمْ لَمْ يُبَاشِرُوا.وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِذَا بَاشَرَتْ الْمَرْأَةُ الْقِتَالَ وَأَخْذَ الْمَالِ، يُحَدُّ الرِّجَالُ الَّذِينَ يُشَارِكُونَهَا، لِأَنَّ امْتِنَاعَ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْمَرْأَةِ لَيْسَ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ، لِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ، بَلْ لِعَدَمِ الْمُحَارَبَةِ عَادَةً، وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الرِّجَالِ الَّذِينَ يُشَارِكُونَهَا، فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ.
د- السِّلَاحُ:
12- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ السِّلَاحِ فِي الْمُحَارِبِ.
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْمُحَارِبِ سِلَاحٌ، وَالْحِجَارَةُ وَالْعِصِيُّ سِلَاحٌ «هُنَا» فَإِنْ تَعَرَّضُوا لِلنَّاسِ بِالْعِصِيِّ وَالْأَحْجَارِ فَهُمْ مُحَارِبُونَ.أَمَّا إِذَا لَمْ يَحْمِلُوا شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ فَلَيْسُوا بِمُحَارِبِينَ.
وَلَا يَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ حَمْلَ السِّلَاحِ بَلْ يَكْفِي عِنْدَهُمُ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ وَأَخْذُ الْمَالِ وَلَوْ بِاللَّكْزِ وَالضَّرْبِ بِجَمْعِ الْكَفِّ.
هـ- الْبُعْدُ عَنِ الْعُمْرَانِ:
13- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رَأْيُ أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْبُعْدُ عَنِ الْعُمْرَانِ وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ فَقْدُ الْغَوْثِ.
وَلِفَقْدِ الْغَوْثِ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ، وَلَا يَنْحَصِرُ فِي الْبُعْدِ عَنِ الْعُمْرَانِ.
فَقَدْ يَكُونُ لِلْبُعْدِ عَنِ الْعُمْرَانِ أَوِ السُّلْطَانِ.
وَقَدْ يَكُونُ لِضَعْفِ أَهْلِ الْعُمْرَانِ، أَوْ لِضَعْفِ السُّلْطَانِ.
فَإِنْ دَخَلَ قَوْمٌ بَيْتًا وَشَهَرُوا السِّلَاحَ وَمَنَعُوا أَهْلَ الْبَيْتِ مِنَ الِاسْتِغَاثَةِ فَهُمْ قُطَّاعُ طُرُقٍ فِي حَقِّهِمْ.
وَاسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِعُمُومِ آيَةِ الْمُحَارَبَةِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ إِذَا وُجِدَ فِي الْعُمْرَانِ وَالْأَمْصَارِ وَالْقُرَى كَانَ أَعْظَمَ خَوْفًا وَأَكْثَرَ ضَرَرًا، فَكَانَ أَوْلَى بِحَدِّ الْحِرَابَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى اشْتِرَاطِ الْبُعْدِ عَنِ الْعُمْرَانِ.فَإِنْ حَصَلَ مِنْهُمُ الْإِرْعَابُ وَأَخْذُ الْمَالِ فِي الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ فَلَيْسُوا بِمُحَارِبِينَ، وَقَالُوا: لِأَنَّ الْوَاجِبَ يُسَمَّى حَدَّ قُطَّاعِ الطُّرُقِ، وَقَطْعُ الطَّرِيقِ إِنَّمَا هُوَ فِي الصَّحْرَاءِ، وَلِأَنَّ مَنْ فِي الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ غَالِبًا فَتَذْهَبُ شَوْكَةُ الْمُعْتَدِينَ، وَيَكُونُونَ مُخْتَلِسِينَ وَهُوَ لَيْسَ بِقَاطِعٍ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ.
و- الْمُجَاهَرَةُ:
14- الْمُجَاهَرَةُ أَنْ يَأْخُذَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ الْمَالَ جَهْرًا فَإِنْ أَخَذُوهُ مُخْتَفِينَ فَهُمْ سُرَّاقٌ، وَإِنِ اخْتَطَفُوا وَهَرَبُوا فَهُمْ مُنْتَهِبُونَ وَلَا قَطْعَ عَلَيْهِمْ.
وَكَذَلِكَ إِنْ خَرَجَ الْوَاحِدُ، وَالِاثْنَانِ عَلَى آخِرِ قَافِلَةٍ، فَاسْتَلَبُوا مِنْهَا شَيْئًا، فَلَيْسُوا بِمُحَارِبِينَ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَمِدُونَ عَلَى قُوَّةٍ وَمَنَعَةٍ.وَإِنْ تَعَرَّضُوا لِعَدَدٍ يَسِيرٍ فَقَهَرُوهُمْ، فَهُمْ قُطَّاعُ طُرُقٍ.
حُكْمُ الرِّدْءِ:
15- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الرِّدْءِ أَيْ الْمُعِينِ لِلْقَاطِعِ بِجَاهِهِ أَوْ بِتَكْثِيرِ السَّوَادِ أَوْ بِتَقْدِيمِ أَيِّ عَوْنٍ لَهُمْ وَلَمْ يُبَاشِرْ الْقَطْعَ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمُبَاشِرِ، لِأَنَّهُمْ مُتَمَالِئُونَ وَقَطْعُ الطَّرِيقِ يَحْصُلُ بِالْكُلِّ، وَلِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْقُطَّاعِ أَنْ يُبَاشِرَ الْبَعْضُ، وَيَدْفَعَ عَنْهُمُ الْبَعْضُ الْآخَرُ، فَلَوْ لَمْ يُلْحَقِ الرِّدْءُ بِالْمُبَاشِرِ فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْحَدِّ لأَدَّى ذَلِكَ إِلَى انْفِتَاحِ بَابِ قَطْعِ الطَّرِيقِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يُحَدُّ الرِّدْءُ، وَإِنَّمَا يُعَزَّرُ كَسَائِرِ الْجَرَائِمِ الَّتِي لَا حَدَّ فِيهَا.
عُقُوبَةُ الْمُحَارِبِينَ:
16- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ عُقُوبَةَ الْمُحَارِبِ حَدٌّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ لَا تَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ وَلَا الْعَفْوَ مَا لَمْ يَتُوبُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
17- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ: أَهِيَ عَلَى التَّخْيِيرِ أَمْ عَلَى التَّنْوِيعِ.فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ «أَوْ» فِي الْآيَةِ عَلَى تَرْتِيبِ الْأَحْكَامِ، وَتَوْزِيعِهَا عَلَى مَا يَلِيقُ بِهَا فِي الْجِنَايَاتِ: فَمَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ، قُتِلَ وَصُلِبَ.وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى.
وَمَنْ أَخَافَ الطَّرِيقَ، وَلَمْ يَقْتُلْ، وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا نُفِيَ مِنَ الْأَرْضِ.
وَالنَّفْيُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَعْزِيرٌ وَلَيْسَ حَدًّا، فَيَجُوزُ التَّعْزِيرُ بِغَيْرِهِ وَيَجُوزُ تَرْكُهُ إِنْ رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ.
وَقَالُوا: بِهَذَا فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْآيَةَ فَقَالَ: الْمَعْنَى: أَنْ يُقَتَّلُوا إِنْ قَتَلُوا.أَوْ يُصَلَّبُوا مَعَ الْقَتْلِ إِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ.أَوْ تُقَطَّعُ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ، إِنِ اقْتَصَرُوا عَلَى أَخْذِ الْمَالِ، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ، إِنْ أَرْعَبُوا، وَلَمْ يَأْخُذُوا شَيْئًا وَلَمْ يَقْتُلُوا، وَحَمَلُوا كَلِمَةَ «أَوْ» عَلَى التَّنْوِيعِ لَا التَّخْيِيرِ، كَمَا فِي قوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} أَيْ قَالَتْ الْيَهُودُ: كُونُوا هُودًا وَقَالَتِ النَّصَارَى: كُونُوا نَصَارَى وَلَمْ يَقَعْ تَخْيِيرُهُمْ بَيْنَ الْيَهُودِيَّةِ، وَالنَّصْرَانِيَّة.
وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِ التَّخْيِيرِ فِي مُطْلَقِ الْمُحَارِبِ لِأَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى قَدْرِ الْجِنَايَةِ، يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ الْجِنَايَةِ، وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهَا بِمُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ أَيْضًا قَالَ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} فَالتَّخْيِيرُ فِي جَزَاءِ الْجِنَايَةِ الْقَاصِرَةِ بِمَا يَشْمَلُ جَزَاءَ الْجِنَايَةِ الْكَامِلَةِ، وَفِي الْجِنَايَةِ الْكَامِلَةِ بِمَا يَشْمَلُ جَزَاءَ الْجِنَايَةِ الْقَاصِرَةِ خِلَافُ الْمَعْهُودِ فِي الشَّرْعِ.
يَزِيدُ هَذَا إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ قُطَّاعَ الطُّرُقِ إِذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ، لَا يَكُونُ جَزَاؤُهُمُ الْمَعْقُولُ النَّفْيَ وَحْدَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ التَّخْيِيرِ.
الثَّانِي: أَنَّ التَّخْيِيرَ الْوَارِدَ فِي الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ بِحَرْفِ التَّخْيِيرِ إِنَّمَا يَجْرِي عَلَى ظَاهِرِهِ إِذَا كَانَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَاحِدًا كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَكَفَّارَةِ جَزَاءِ الصَّيْدِ، أَمَّا إِذَا كَانَ السَّبَبُ مُخْتَلِفًا، فَإِنَّهُ يُخْرِجُ التَّخْيِيرَ عَنْ ظَاهِرِهِ وَيَكُونُ الْغَرَضُ بَيَانَ الْحُكْمِ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِي نَفْسِهِ.
وَقَطْعُ الطَّرِيقِ مُتَنَوِّعٌ، وَبَيْنَ أَنْوَاعِهِ تَفَاوُتٌ فِي الْجَرِيمَةِ، فَقَدْ يَكُونُ بِأَخْذِ الْمَالِ فَقَطْ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْقَتْلِ لَا غَيْرُ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّخْوِيفِ فَحَسْبُ، فَكَانَ سَبَبُ الْعِقَابِ مُخْتَلِفًا.فَتُحْمَلُ الْآيَةُ عَلَى بَيَانِ حُكْمِ كُلِّ نَوْعٍ فَيُقَتَّلُونَ وَيُصَلَّبُونَ إِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ، وَتُقَطَّعُ أَيْدِيهمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ إِنْ أَخَذُوا الْمَالَ لَا غَيْرُ، وَيُنْفَوْنَ مِنَ الْأَرْضِ، إِنْ أَخَافُوا الطَّرِيقَ، وَلَمْ يَقْتُلُوا نَفْسًا وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا.وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: بَدَأَ بِالْأَغْلَظِ فَالْأَغْلَظِ وَالْمَعْهُودُ مِنَ الْقُرْآنِ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ التَّخْيِيرُ، الْبُدَاءَةُ بِالْأَخَفِّ كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَمَا أُرِيدَ بِهِ التَّرْتِيبُ يَبْدَأُ فِيهِ بِالْأَغْلَظِ فَالْأَغْلَظِ كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَالْقَتْلِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ أَخَذَ قَبْلَ قَتْلِ نَفْسٍ أَوْ أَخْذِ شَيْءٍ حُبِسَ بَعْدَ التَّعْزِيرِ حَتَّى يَتُوبَ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالنَّفْيِ فِي الْآيَةِ، وَإِنْ أَخَذَ مَالًا مَعْصُومًا بِمِقْدَارِ النِّصَابِ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَإِنْ قَتَلَ مَعْصُومًا وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا قُتِلَ.أَمَّا إِنْ قَتَلَ النَّفْسَ وَأَخَذَ الْمَالَ، وَهُوَ الْمُحَارِبُ الْخَاصُّ فَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: إِنْ شَاءَ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ قَتَلَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ فَقَطْ، وَإِنْ شَاءَ صَلَبَهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالصَّلْبِ هُنَا طَعْنُهُ وَتَرْكُهُ حَتَّى يَمُوتَ وَلَا يُتْرَكُ أَكْثَر مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ إِفْرَادُ الْقَطْعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنِ انْضِمَامِ الْقَتْلِ أَوِ الصَّلْبِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْجِنَايَةَ قَتْلٌ وَأَخْذُ مَالٍ، وَالْقَتْلُ وَحْدَهُ فِيهِ الْقَتْلُ، وَأَخْذُ الْمَالِ وَحْدَهُ فِيهِ الْقَطْعُ، فَفِيهِمَا مَعَ الْإِخَافَةِ لَا يُعْقَلُ الْقَطْعُ وَحْدَهُ.وَقَالَ: صَاحِبَاهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ: يُصْلَبُونَ وَيُقْتَلُونَ وَلَا يُقْطَعُونَ.
وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْجَزَاءَاتِ الْأَرْبَعَةِ.
فَإِذَا خَرَجُوا لِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَقَدَرَ عَلَيْهِمُ الْإِمَامُ، خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يُجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَيْ هَذِهِ الْأَحْكَامَ إِنْ رَأَى فِيهِ الْمَصْلَحَةَ وَإِنْ لَمْ يَقْتُلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا.وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي:
وَهُوَ إِنْ قَتَلَ فَلَا بُدَّ مِنْ قَتْلِهِ، إِلاَّ إِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنَّ فِي إِبْقَائِهِ مَصْلَحَةً أَعْظَمَ مِنْ قَتْلِهِ.
وَلَيْسَ لَهُ تَخْيِيرٌ فِي قَطْعِهِ، وَلَا نَفْيِهِ، وَإِنَّمَا التَّخْيِيرُ فِي قَتْلِهِ أَوْ صَلْبِهِ.وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ لَا تَخْيِيرَ فِي نَفْيِهِ، وَإِنَّمَا التَّخْيِيرُ فِي قَتْلِهِ، أَوْ صَلْبِهِ، أَوْ قَطْعِهِ مِنْ خِلَافٍ، وَإِنْ أَخَافَ السَّبِيلَ فَقَطْ فَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قَتْلِهِ، أَوْ صَلْبِهِ، أَوْ قَطْعِهِ، بِاعْتِبَارِ الْمَصْلَحَةِ.هَذَا فِي حَقِّ الرِّجَالِ.
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا تُصْلَبُ، وَلَا تُنْفَى، وَإِنَّمَا حَدُّهَا: الْقَطْعُ مِنْ خِلَافٍ، أَوِ الْقَتْلُ الْمُجَرَّدُ وَاسْتَدَلُّوا بِظَاهِرِ الْآيَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ بِكَلِمَةِ «أَوْ» وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّخْيِيرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ «أَوْ» فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ.
كَيْفِيَّةُ تَنْفِيذِ الْعُقُوبَةِ:
أ- (النَّفْيُ):
18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَخَافَ الطَّرِيقَ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا وَلَمْ يَقْتُلْ نَفْسًا فَعُقُوبَتُهُ النَّفْيُ مِنَ الْأَرْضِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى النَّفْيِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: نَفْيُهُ حَبْسُهُ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ أَوْ يَمُوتَ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ: إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ إِبْعَادُهُ عَنْ بَلَدِهِ إِلَى مَسَافَةِ الْبُعْدِ وَحَبْسُهُ فِيهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمُرَادُ بِالنَّفْيِ الْحَبْسُ أَوْ غَيْرُهُ كَالتَّغْرِيبِ كَمَا فِي الزِّنَى.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: نَفْيُهُمْ: أَنْ يُشَرَّدُوا فَلَا يُتْرَكُوا يَسْتَقِرُّونَ فِي بَلَدٍ.
وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ، وَعَطَاءٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ يُنْفَى مِنْ بَلَدِهِ إِلَى بَلَدٍ غَيْرِهِ كَنَفْيِ الزَّانِي.
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا تُغَرَّبُ وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِعُمُومِ النَّصِّ {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}.
وَاشْتَرَطُوا لِتَغْرِيبِ الْمَرْأَةِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا مَحْرَمُهَا فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مَعَهَا مَحْرَمُهَا فَعِنْدَ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّهَا تُغَرَّبُ إِلَى دُونِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ لِتَقْرَبَ مِنْ أَهْلِهَا فَيَحْفَظُوهَا.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُؤَخَّرُ التَّغْرِيبُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَغْرِيبَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَلَا صَلْبَ.
ب- الْقَتْلُ:
19- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُغَلَّبُ فِي قَتْلِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ، إِذَا قَتَلَ فَقَطْ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّهُ يُغَلَّبُ الْحَدُّ، فَيُقْتَلُ وَإِنْ قَتَلَ بِمُثَقَّلٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ، فَيَقْتُلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ، وَالْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ، كَمَا لَا عِبْرَةَ بِعَفْوِ مُسْتَحِقِّ الْقَوَدِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ لِأَحْمَدَ: يُغَلَّبُ جَانِبُ الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُضَايَقَةِ فَيُقْتَلُ قِصَاصًا أَوَّلًا، فَإِذَا عَفَا مُسْتَحِقُّ الْقِصَاصِ عَنْهُ يُقْتَلُ حَدًّا، وَيُشْتَرَطُ التَّكَافُؤُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ، لِخَبَرِ: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» وَعَلَى هَذَا إِذَا قَتَلَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا، أَوِ الْحُرُّ غَيْرَ حُرٍّ، وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا، لَمْ يَقْتُلْ قِصَاصًا، وَيَغْرَمُ دِيَةَ الذِّمِّيِّ، وَقِيمَةَ الرَّقِيقِ.
ج- الْقَطْعُ مِنْ خِلَافٍ:
20- يُرَاعَى فِي كَيْفِيَّةِ الْقَطْعِ مَا يُرَاعَى فِي قَطْعِ السَّارِقِ.وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (سَرِقَةٌ).
د- الصَّلْبُ:
21- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ الصَّلْبِ، وَمُدَّتِهِ: فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: يُصْلَبُ حَيًّا، وَيُقْتَلُ مَصْلُوبًا.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُتْرَكُ مَصْلُوبًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تُحَدَّدُ مُدَّةُ الصُّلْبِ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ يُصْلَبُ حَيًّا لِلتَّشْهِيرِ بِهِ ثُمَّ يُنْزَلُ فَيُقْتَلُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالْحَنَابِلَةُ: يُصْلَبُ بَعْدَ الْقَتْلِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ الْقَتْلَ عَلَى الصَّلْبِ لَفْظًا.فَيَجِبُ تَقْدِيمُ مَا ذُكِرَ أَوَّلًا فِي الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}.وَلِأَنَّ فِي صَلْبِهِ حَيًّا تَعْذِيبًا لَهُ.وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ».
وَعَلَى هَذَا الرَّأْيِ: يُقْتَلُ، ثُمَّ يُغَسَّلُ، وَيُكَفَّنُ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصْلَبُ، وَيُتْرَكُ مَصْلُوبًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا وَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ مَا يَتَّصِلُ بِالصَّلْبِ فِي مُصْطَلَحِ: (تَصْلِيبٌ).
ضَمَانُ الْمَالِ وَالْجِرَاحَاتِ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحَدِّ:
22- إِذَا أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَى الْمُحَارِبِ، فَهَلْ يُضْمَنُ مَا أَخَذَهُ مِنَ الْمَالِ، وَيُقْتَصُّ مِنْهُ لِلْجِرَاحَاتِ؟ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي ذَلِكَ:
فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا أَخَذَ الْمُحَارِبُونَ مَالًا وَأُقِيمَ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ ضَمِنُوا الْمَالَ مُطْلَقًا.
ثُمَّ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْآخِذِ فَقَطْ، لَا عَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ وَلَمْ يُبَاشِرِ الْأَخْذَ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَقَالُوا: لِأَنَّ وُجُودَ الضَّمَانِ لَيْسَ بِحَدٍّ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ الْمُبَاشِرِ لَهُ كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ضَامِنًا لِلْمَالِ الْمَأْخُوذِ بِفِعْلِهِ أَوْ بِفِعْلِ صَاحِبِهِ لِأَنَّهُمْ كَالْحُمَلَاءِ (الْكُفَلَاءِ) فَكُلُّ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ أُخِذَ بِجَمِيعِ مَا أَخَذَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ لِتَقَوِّي بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَمَنْ دَفَعَ أَكْثَر مِمَّا أَخَذَ يَرْجِعُ عَلَى أَصْحَابِهِ.
أَمَّا الْجِرَاحَاتُ فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: إِذَا جَرَحَ جَرْحًا فِيهِ قَوَدٌ فَانْدَمَلَ لَمْ يَتَحَتَّمْ بِهِ قِصَاصٌ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بَلْ يُتَخَيَّرُ الْمَجْرُوحُ بَيْنَ الْقَوَدِ وَالْعَفْوِ عَلَى مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ لِأَنَّ التَّحَتُّمَ تَغْلِيظٌ لِحَقِّ اللَّهِ، فَاخْتُصَّ بِالنَّفْسِ كَالْكَفَّارَةِ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِشَرْعِ الْحَدِّ فِي حَقِّ الْمُحَارِبِ بِالْجِرَاحِ، فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِهِ فِي غَيْرِ الْحِرَابَةِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَإِحْدَى رِوَايَتَيْنِ لِأَحْمَدَ: يَتَحَتَّمُ فِيهِ الْقِصَاصُ كَالنَّفْسِ لِأَنَّ الْجِرَاحَ تَابِعَةٌ لِلْقَتْلِ فَيَثْبُتُ فِيهَا مِثْلُ حُكْمِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ لِلشَّافِعِيَّةِ: يَتَحَتَّمُ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لِأَنَّهُمَا مِمَّا يَسْتَحِقَّانِ فِي الْمُحَارَبَةِ دُونَ غَيْرِهِمَا.
أَمَّا إِذَا سَرَى الْجُرْحُ إِلَى النَّفْسِ فَمَاتَ الْمَجْرُوحُ يَتَحَتَّمُ الْقَتْلُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَخَذَ الْمُحَارِبُونَ مَالًا وَأُقِيمَ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ فَإِنْ كَانَ الْمَالُ قَائِمًا رَدُّوهُ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا أَوْ مُسْتَهْلَكًا لَا يَضْمَنُونَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُجْمَعُ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْحَدِّ وَالضَّمَانِ، وَكَذَلِكَ الْجِرَاحَاتُ سَوَاءٌ كَانَتْ خَطَأً أَمْ عَمْدًا، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتْ خَطَأً، فَإِنَّهَا تُوجِبُ الضَّمَانَ، وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا، فَإِنَّ الْجِنَايَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ، وَلَا يَجِبُ ضَمَانُ الْمَالِ مَعَ إِقَامَةِ الْحَدِّ فَكَذَلِكَ الْجِرَاحَاتُ.
مَا تَثْبُتُ بِهِ الْحِرَابَةُ:
23- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ جَرِيمَةَ الْحِرَابَةِ تَثْبُتُ قَضَاءً بِالْإِقْرَارِ، أَوْ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ.وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الرُّفْقَةِ فِي الْحِرَابَةِ، فَإِذَا شَهِدَ عَلَى الْمُحَارِبِ اثْنَانِ مِنَ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ لِغَيْرِهِمَا وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِأَنْفُسِهِمَا فِي الشَّهَادَةِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَلَيْسَ عَلَى الْقَاضِي الْبَحْثُ عَنْ كَوْنِهِمَا مِنَ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ بَحَثَ لَمْ يَلْزَمْهُمُ الْإِجَابَةُ، أَمَّا إِذَا تَعَرَّضُوا لِأَنْفُسِهِمَا بِأَنْ يَقُولَا: قَطَعُوا عَلَيْنَا الطَّرِيقَ، وَنَهَبُوا أَمْوَالَنَا لَمْ يُقْبَلَا، لَا فِي حَقِّهِمَا وَلَا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا لِلْعَدَاوَةِ.وَقَالَ مَالِكٌ: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَتُقْبَلُ عِنْدَهُ فِي الْحِرَابَةِ شَهَادَةُ السَّمَاعِ.حَتَّى لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ عِنْدَ الْحَاكِمِ عَلَى رَجُلٍ اشْتُهِرَ بِالْحِرَابَةِ أَنَّهُ هُوَ الْمُشْتَهِرُ بِالْحِرَابَةِ تَثْبُتُ الْحِرَابَةُ بِشَهَادَتِهِمَا وَإِنْ لَمْ يُعَايِنَاهُ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (شَهَادَةٌ وَإِقْرَارٌ).
سُقُوطُ عُقُوبَةِ الْحِرَابَةِ:
24- يَسْقُطُ حَدُّ الْحِرَابَةِ عَنِ الْمُحَارِبِينَ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ فِي شَأْنِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ حَقًّا لِلَّهِ، وَهُوَ تَحَتُّمُ الْقَتْلِ، وَالصَّلْبِ، وَالْقَطْعِ مِنْ خِلَافٍ، وَالنَّفْيِ، وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْحَدَّ، ثُمَّ اسْتَثْنَى التَّائِبِينَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ.
أَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَلَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ.فَيَغْرَمُونَ مَا أَخَذُوهُ مِنَ الْمَالِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَ الْمَالُ قَائِمًا، وَيُقْتَصُّ مِنْهُمْ إِذَا قَتَلُوا عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ، وَلَا يَسْقُطُ إِلاَّ بِعَفْوِ مُسْتَحِقِّ الْحَقِّ فِي مَالٍ أَوْ قِصَاصٍ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
65-موسوعة الفقه الكويتية (حنث)
حِنْثٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْحِنْثُ بِالْكَسْرِ فِي اللُّغَةِ: الذَّنْبُ الْعَظِيمُ، وَالْإِثْمُ.
يُقَالُ: بَلَغَ الْغُلَامُ الْحِنْثَ أَيْ جَرَى عَلَيْهِ الْقَلَمُ بِالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، بِالْبُلُوغِ.
وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ}.
وَالْحِنْثُ وَالْخُلْفُ فِي الْيَمِينِ، فَفِي الْأَثَرِ: «فِي الْيَمِينِ حِنْثٌ أَوْ مَنْدَمَةٌ».
وَالْمَعْنَى أَنْ يَنْدَمَ الْحَالِفُ عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، أَوْ يَحْنَثَ فِي يَمِينِهِ فَتَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ.وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنْ ذَلِكَ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- النَّقْضُ:
2- النَّقْضُ ضِدُّ الْإِبْرَامِ، يُقَالُ: نَقَضَ الْعَهْدَ، وَالْيَمِينَ، وَالْبِنَاءَ وَالْحَبْلَ: أَبْطَلَهُ، وَفِي الْمُحْكَمِ: النَّقْضُ هُوَ: إِفْسَادُ مَا أُبْرِمَ مِنْ عَهْدٍ أَوْ يَمِينٍ أَوْ عَقْدٍ أَوْ بِنَاءٍ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}
وَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا}.
ب- النَّكْثُ:
3- هُوَ مِنْ نَكَثَ الْيَمِينَ، وَالْعَهْدَ نَكْثًا: إِذَا نَقَضَهُ، وَنَبَذَهُ، وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ}
ج- الْبِرُّ:
4- هُوَ فِي اللُّغَةِ: الْخَيْرُ وَالْفَضْلُ، يُقَالُ: بَرَّ الرَّجُلُ يَبَرُّ بِرًّا فَهُوَ بَرٌّ وَبَارٌّ: أَيْ صَادِقٌ، وَتَقِيٌّ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْمُوَافَقَةُ لِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَبَرَّ فِي الْقَوْلِ وَالْيَمِينِ صَدَقَ فِيهِمَا.
د- الْخُلْفُ:
5- هُوَ مِنْ أَخْلَفَ الرَّجُلُ وَعْدَهُ: لَمْ يُعْرَفْ بِهِ، وَفِي الْأَثَرِ «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ».
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6- لَا يُغَيِّرُ الْيَمِينُ حَالَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْيَمِينِ: وُجُوبًا، وَتَحْرِيمًا، وَنَدْبًا، وَكَرَاهَةً، وَإِبَاحَةً، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: إِنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ وَاجِبٍ، أَوْ تَرْكِ حَرَامٍ فَيَمِينُهُ طَاعَةٌ، وَالْإِقَامَةُ عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ، وَالْحِنْثُ مَعْصِيَةٌ، وَتَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ.
وَإِنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ، أَوْ فِعْلِ حَرَامٍ، فَيَمِينُهُ مَعْصِيَةٌ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْنَثَ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَتَفْصِيلُهُ فِي (أَيْمَانٌ ف 122) وَإِنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ نَفْلٍ، فَالْإِقَامَةُ عَلَى ذَلِكَ طَاعَةٌ، وَالْمُخَالَفَةُ مَكْرُوهَةٌ، وَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ بِالْحِنْثِ لِخَبَرِ: «إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ».وَإِنْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ نَفْلٍ، فَالْيَمِينُ مَكْرُوهَةٌ وَالْإِقَامَةُ عَلَيْهَا مَكْرُوهَةٌ.وَإِنْ حَلَفَ عَلَى مُبَاحٍ كَدُخُولِ دَارٍ، وَلُبْسِ ثَوْبٍ أَوْ تَرْكِهِمَا فَلَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْيَمِينِ وَلَهُ أَنْ يَحْنَثَ، وَالْأَفْضَلُ- عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَفِي الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- الْإِقَامَةُ عَلَى الْيَمِينِ لقوله تعالى: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}.
وَفِي الْجُمْلَةِ إِذَا حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا اسْتُحِبَّ لَهُ الْحِنْثُ وَالتَّكْفِيرُ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَفْعَلْ» وَلِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى.
مَا يَقَعُ فِيهِ الْحِنْثُ مِنَ الْأَيْمَانِ.
7- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحِنْثَ لَا يَقَعُ إِلاَّ فِي الْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا تَنْعَقِدُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ، فَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ تَنْعَقِدُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ كَوَاللَّهِ: لَا أَفْعَلُ كَذَا، أَوْ لأَفْعَلَنَّ كَذَا وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَحْنَثُ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ بِمُخَالَفَتِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، أَمَّا عَلَى الْمَاضِي، كَأَنْ يَقُولَ كَاذِبًا، وَهُوَ عَالِمٌ: وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى عَدَمِ انْعِقَادِهَا، لِأَنَّ الْيَمِينَ الْمُنْعَقِدَةَ هِيَ الَّتِي يُمْكِنُ فِيهَا الْبِرُّ، وَالْحِنْثُ وَلَا يُتَصَوَّرُ الْبِرُّ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْمَاضِي، لِأَنَّ الْيَمِينَ لِلْحَثِّ وَالْمَنْعِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ حَثٌّ، وَلَا مَنْعٌ عَلَى مَاضٍ.
فَلَا يَكُونُ الْحِنْثُ إِلاَّ فِي الْيَمِينِ الَّتِي قُصِدَ عَقْدُهَا عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ.أَمَّا يَمِينُ الْمَاضِي، وَهِيَ مَا يُسَمَّى الْيَمِينَ الْغَمُوسَ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تَنْعَقِدُ عَلَى الْمَاضِي وَيَحْنَثُ فِي الْحَالِ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ حَلَفَ بِاللَّهِ وَهُوَ مُخْتَارٌ كَاذِبٌ، فَصَارَ كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ.
أَمَّا يَمِينُ اللَّغْوِ: فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لَا حِنْثَ فِيهَا: وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي صُورَتِهَا: فَقِيلَ هِيَ: مَا يَسْبِقُ عَلَى لِسَانِ الرَّجُلِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، كَأَنْ يَقُولَ: لَا، وَاللَّهِ، بَلَى، وَاللَّهِ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (أَيْمَانٌ).
سَبَبُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ:
8- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ عَلَى مَنْ حَنِثَ فِي الْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ هُوَ الْيَمِينُ، وَأَمَّا الْحِنْثُ فِيهَا فَلَيْسَ سَبَبًا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ إِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ فِيهِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ هُوَ الْيَمِينُ، وَالْحِنْثُ جَمِيعًا.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَيْمَانٌ- كَفَّارَةٌ).
الْكَفَّارَةُ قَبْلَ الْحِنْثِ:
9- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ، فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ التَّكْفِيرِ عَنِ الْحِنْثِ، وَيَجُوزُ التَّكْفِيرُ قَبْلَ الْحِنْثِ، وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِمَا لَوْ كَفَّرَ بِغَيْرِ الصَّوْمِ وَلَمْ يَكُنِ الْحِنْثُ مَعْصِيَةً.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ التَّقْدِيمُ، وَإِنْ كَانَتِ الْكَفَّارَةُ صَوْمًا، وَيَسْتَوِي التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فِي الْفَضِيلَةِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: التَّأْخِيرُ أَفْضَلُ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ غَيْرُ الْمُعْتَمَدِ لِلْمَالِكِيَّةِ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحَيْ (أَيْمَانٌ، وَكَفَّارَةٌ).
مَا يَقَعُ فِيهِ الْحِنْثُ:
10- الْأَصْلُ الْمَرْجُوعُ إِلَيْهِ، فِي الْبِرِّ وَالْحِنْثِ هُوَ اتِّبَاعُ مُقْتَضَى اللَّفْظِ الَّذِي تَعَلَّمَتْ بِهِ الْيَمِينُ، وَقَدْ يُقَيَّدُ بِنِيَّةٍ تَقْتَرِنُ بِهِ، أَوْ بِاصْطِلَاحٍ خَاصٍّ أَوْ قَرِينَةٍ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (أَيْمَانٌ).
وَقْتُ وُقُوعِ الْحِنْثِ:
11- لَا يَقَعُ الْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ إِذَا كَانَتْ عَلَى الْإِثْبَاتِ، إِلاَّ بَعْدَ الْيَأْسِ مِنَ الْبِرِّ بِهَا، وَأَمَّا الَّتِي عَلَى النَّفْيِ فَيَحْنَثُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَيَحْنَثُ بِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ عَلَى الضِّدِّ.
أَمَّا الْمُؤَقَّتَةُ، فَيَقَعُ الْحِنْثُ بِآخِرِ وَقْتِهَا، وَالتَّفْصِيلُ فِي (أَيْمَانٌ).
حِنْثُ النَّاسِي، وَالْمُكْرَهِ، وَالْجَاهِلِ
12- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْحَالِفَ إِنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ نَاسِيًا فَلَا حِنْثَ، إِذَا كَانَتِ الْيَمِينُ بِغَيْرِ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَالْجَاهِلُ عِنْدَهُمْ كَالنَّاسِي فَلَا يَحْنَثُ بِفِعْلِهِ، أَمَّا الْمُكْرَهُ فَيَحْنَثُ فِي الْإِكْرَاهِ غَيْرِ الْمُلْجِئِ وَلَا يَحْنَثُ فِي الْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ الْقَوْلُ، أَوِ الْفِعْلُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ أَوِ النِّسْيَانِ، أَوِ الْجَهْلِ فَلَا يَحْنَثُ سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْيَمِينُ بِاللَّهِ، أَمْ بِالطَّلَاقِ لِخَبَرِ «تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ بِالْمُخَالَفَةِ مَعَ النِّسْيَانِ وَلَوْ مَعَ الْإِكْرَاهِ، أَوِ الْإِغْمَاءِ، أَوِ الْجُنُونِ وَنَحْوِهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ بِالْمُخَالَفَةِ مَعَ النِّسْيَانِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي (إِكْرَاهٌ) (وَأَيْمَانٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
66-موسوعة الفقه الكويتية (حول)
حَوْلٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْحَوْلُ فِي اللُّغَةِ: السَّنَةُ، وَيَأْتِي بِمَعْنَى الْقُوَّةِ وَالتَّغَيُّرِ، وَالِانْقِلَابِ، وَبِمَعْنَى الْإِقَامَةِ، وَالْحَوْلُ مِنْ حَالَ الشَّيْءُ حَوْلًا: إِذَا دَارَ.
وَسُمِّيَتِ السَّنَةُ حَوْلًا لِانْقِلَابِهَا وَدَوَرَانِ الشَّمْسِ فِي مَطَالِعِهَا، وَمَغَارِبِهَا، وَهُوَ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ، وَالْجَمْعُ: أَحْوَالٌ، وَحُؤُولٌ، وَحُوُولٌ، بِالْهَمْزَةِ، وَبِغَيْرِ الْهَمْزَةِ، وَالْحَوْلِيُّ: كُلُّ مَا أَتَى عَلَيْهِ حَوْلٌ مِنْ ذِي حَافِرٍ وَغَيْرِهِ.
يُقَالُ جَمَلٌ حَوْلِيٌّ، وَنَبْتٌ حَوْلِيٌّ.وَأَحْوَلَ الصَّبِيُّ، فَهُوَ مُحْوِلٌ: أَتَى عَلَيْهِ حَوْلٌ مِنْ مَوْلِدِهِ.
وَالِاصْطِلَاحُ الشَّرْعِيُّ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى.
الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْحَوْلِ:
أ- الْحَوْلُ فِي الزَّكَاةِ:
2- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَوْلَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي نِصَابِ السَّائِمَةِ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَفِي الْأَثْمَانِ، وَهِيَ الذَّهَبُ، وَالْفِضَّةُ، وَفِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ لِحَدِيثِ: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ».
قَالُوا: لِأَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ مُرْصَدَةٌ لِلنَّمَاءِ، فَالْمَاشِيَةُ مُرْصَدَةٌ لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ، وَعُرُوضُ التِّجَارَةِ مُرْصَدَةٌ لِلرِّبْحِ وَكَذَا الْأَثْمَانُ، فَاعْتُبِرَ فِي الْكُلِّ الْحَوْلُ، لِأَنَّ النَّمَاءَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْمَالِ، وَهُوَ لَا يَحْصُلُ إِلاَّ بِالِاسْتِنْمَاءِ، وَلَا بُدَّ لِذَلِكَ مِنْ مُدَّةٍ، وَأَقَلُّ مُدَّةٍ يُسْتَنْمَى الْمَالُ فِيهَا بِالتِّجَارَةِ وَالْإِسَامَةِ عَادَةً: الْحَوْلُ، فَصَارَ مَظِنَّةَ النَّمَاءِ فَاعْتُبِرَ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرْ حَقِيقَةُ النَّمَاءِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ، وَلِكَثْرَةِ اخْتِلَافِهِ، وَكُلُّ مَا اعْتُبِرَ مَظِنَّتُهُ، لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى حَقِيقَتِهِ كَالْحُكْمِ مَعَ الْأَسْبَابِ.
وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ تَتَكَرَّرُ فَلَا بُدَّ مِنْ ضَابِطٍ كَيْ لَا يُفْضِيَ إِلَى تَعَاقُبِ الْوُجُوبِ فِي الزَّمَنِ الْوَاحِدِ مَرَّاتٍ فَيَنْفَدُ مَالُ الْمَالِكِ.
أَمَّا الزَّرْعُ وَالثِّمَارُ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا حَوْلٌ لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}.وَلِأَنَّهَا نَمَاءٌ بِنَفْسِهَا مُتَكَامِلَةٌ عِنْدَ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْهَا، فَتُؤْخَذُ زَكَاتُهَا حِينَئِذٍ، ثُمَّ تَأْخُذُ فِي النَّقْصِ لَا فِي النَّمَاءِ، فَلَا تَجِبُ فِيهَا زَكَاةٌ ثَانِيَةٌ، لِعَدَمِ إِرْصَادِهَا لِلنَّمَاءِ.
وَالْمَعْدِنُ الْمُسْتَخْرَجُ مِنَ الْأَرْضِ كَالزَّرْعِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ حَوْلٌ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ مِنْ زَكَاةٍ أَوْ خُمُسٍ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
فَيُؤْخَذُ زَكَاتُهُ عِنْدَ حُصُولِهِ، قَالُوا: إِلاَّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ كُلِّ حَوْلٍ، لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ النَّمَاءِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْأَثْمَانَ قِيَمُ الْأَمْوَالِ، وَرَأْسُ مَالِ التِّجَارَةِ، وَبِهَا تَحْصُلُ الْمُضَارَبَةُ وَالشَّرِكَةُ.
وَالتَّفْصِيلُ، فِي مُصْطَلَحَاتِ (زَكَاةٌ، رِكَازٌ، مَعْدِنٌ).
ابْتِدَاءُ الْحَوْلِ:
3- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ إِنْ مَلَكَ نِصَابًا مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ مِمَّا يُعْتَبَرُ لَهُ الْحَوْلُ، وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ: انْعَقَدَ حَوْلُهُ مِنْ حِينِ حُصُولِ الْمِلْكِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَا يَبْلُغُ نِصَابًا، فَمَلَكَ مَالًا آخَرَ بَلَغَ بِهِ نِصَابًا، ابْتَدَأَ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ بُلُوغِ النِّصَابِ.
وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ نِصَابٌ فَاسْتَفَادَ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ مَالًا مِنْ جِنْسِ مَا عِنْدَهُ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ نَمَاءِ مَا عِنْدَهُ كَرِبْحِ التِّجَارَةِ، وَنِتَاجِ السَّائِمَةِ فَإِنَّهُ يُضَمُّ فِي الْحَوْلِ إِلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ أَصْلِهِ، فَيُزَكَّى بِحَوْلِ الْأَصْلِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ مَالِهِ فَيَتْبَعُهُ فِي الْحَوْلِ، وَلِأَنَّهُ مُلِكَ بِمِلْكِ الْأَصْلِ وَتَوَلَّدَ مِنْهُ فَيَتْبَعُهُ فِي الْحَوْلِ.أَمَّا إِذَا اسْتَفَادَ بَعْدَ الْحَوْلِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ مِنَ الْأَصْلِ لَمْ يَضُمَّ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ وَيَضُمَّ فِي الْحَوْلِ الثَّانِي.
وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ جِنْسِ مَا عِنْدَهُ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ نَمَائِهِ كَالْمُشْتَرَى، وَالْمُتَّهَبِ وَالْمُوصَى بِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ضَمِّهِ إِلَى الْأَصْلِ فِي الْحَوْلِ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُضَمُّ إِلَى مَا عِنْدَهُ فِي الْحَوْلِ فَيُزَكِّي بِحَوْلِ الْأَصْلِ عَيْنًا كَانَ أَوْ مَاشِيَةً.
وَقَالُوا: إِنَّ عُمُومَاتِ الزَّكَاةِ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطِ الْحَوْلِ إِلاَّ مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ تَبَعٌ لَهُ، لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ، إِذِ الْأَصْلُ يَزْدَادُ بِهِ.
وَالزِّيَادَةُ تَبَعٌ لِلْمَزِيدِ عَلَيْهِ، وَالتَّبَعُ لَا يَنْفَرِدُ بِالشَّرْطِ كَمَا لَا يَنْفَرِدُ بِالسَّبَبِ لِئَلاَّ يَنْقَلِبَ التَّبَعُ أَصْلًا، فَتَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ بِحَوْلِ الْأَصْلِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُضَمُّ إِلَى الْأَصْلِ فِي الْحَوْلِ إِنْ كَانَ الْمَالُ عَيْنًا، أَمَّا إِنْ كَانَ مَاشِيَةً فَيُضَمُّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: لَا يَضُمُّ الثَّانِيَةَ إِلَى الْأُولَى، بَلْ يَنْعَقِدُ لَهَا حَوْلٌ بِسَبَبٍ مُسْتَقِلٍّ.
لِخَبَرِ: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ».وَالْمُسْتَفَادُ مَالٌ لَمْ يَحُلْ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ.
وَلِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ مُلِكَ بِمِلْكٍ جَدِيدٍ فَلَيْسَ مَمْلُوكًا بِمَا مَلَكَ بِهِ مَا عِنْدَهُ، وَلَا تَفَرَّعَ عَنْهُ، فَلَمْ يُضَمَّ إِلَيْهِ فِي الْحَوْلِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَا عِنْدَهُ، كَأَنْ تَكُونَ عِنْدَهُ أَرْبَعُونَ مِنَ الْغَنَمِ، فَاسْتَفَادَ فِي الْحَوْلِ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ، فَلِلْمُسْتَفَادِ حُكْمُ نَفْسِهِ، وَلَا يُضَمُّ إِلَى مَا عِنْدَهُ فِي الْحَوْلِ، بَلْ إِنْ كَانَ نِصَابًا اسْتَقْبَلَ بِهِ حَوْلًا، وَإِلاَّ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
مَا يَقْطَعُ حُكْمَ الْحَوْلِ:
4- مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَزُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- مِنْ غَيْرِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ- أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ وُجُودُ النِّصَابِ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ، فَإِنْ نَقَصَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ انْقَطَعَ الْحَوْلُ.
أَمَّا فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ فَإِنْ نَقَصَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ انْقَطَعَ الْحَوْلُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَلَا يَنْقَطِعُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ، وَقَوْلُ زُفَرَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بَلِ الشَّرْطُ وُجُودُ النِّصَابِ فِي آخِرِ الْحَوْلِ فَقَطْ، إِذْ هُوَ حَالُ الْوُجُوبِ فَلَا يُعْتَبَرُ غَيْرُهُ لِكَثْرَةِ اضْطِرَابِ الْقِيَمِ.
وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ: إِنَّ الْمُعْتَبَرَ طَرَفَا الْحَوْلِ، كَغَيْرِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ.وَلَا يُعْتَبَرُ مَا بَيْنَهُمَا إِذْ تَقْوِيمُ الْعُرُوضِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ يَشُقُّ وَيَحُوجُ إِلَى مُلَازَمَةِ السُّوقِ وَمُرَاقَبَةٍ دَائِمَةٍ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُشْتَرَطُ وُجُودُ النِّصَابِ، فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَفِي آخِرِهِ، حَتَّى لَوِ انْتَقَصَ النِّصَابُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ ثُمَّ كَمُلَ فِي آخِرِهِ تَجِبُ الزَّكَاةُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ السَّوَائِمِ أَوْ مِنَ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، أَوْ مَالِ التِّجَارَةِ.أَمَّا إِذَا هَلَكَ كُلُّهُ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ عِنْدَ الْجَمِيعِ.
اسْتِبْدَالُ مَالِ الزَّكَاةِ فِي الْحَوْلِ بِمِثْلِهِ:
5- إِذَا بَاعَ نِصَابًا لِلزَّكَاةِ مِمَّا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ بِجِنْسِهِ كَالْإِبِلِ بِالْإِبِلِ، أَوِ الْبَقَرِ بِالْبَقَرِ، أَوِ الْغَنَمِ بِالْغَنَمِ، أَوِ الثَّمَنِ بِالثَّمَنِ لَمْ يَنْقَطِعِ الْحَوْلُ، وَبَنَى حَوْلَ الثَّانِي عَلَى حَوْلِ الْأَوَّلِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَقَالُوا: إِنَّهُ نِصَابٌ يُضَمُّ إِلَيْهِ نَمَاؤُهُ فِي الْحَوْلِ، فَيُبْنَى حَوْلُ بَدَلِهِ مِنْ جِنْسِهِ عَلَى حَوْلِهِ كَالْعُرُوضِ، وَحَدِيثُ: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ»: مَخْصُوصٌ بِالنَّمَاءِ وَالرِّبْحِ، وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ، فَتَقِيسُ عَلَيْهِ مَحَلَّ النِّزَاعِ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، إِلَى أَنَّ الْحَوْلَ الْأَوَّلَ يَنْقَطِعُ فَيَسْتَأْنِفُ كُلٌّ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ الْحَوْلَ عَلَى مَا أَخَذَهُ مِنْ حِينِ الْمُبَادَلَةِ فِي السَّائِمَةِ.
أَمَّا الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُسْتَأْنَفُ الْحَوْلُ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَيْرَفِيًّا يُبَدِّلُهَا لِلتِّجَارَةِ، وَكَذَا إِنْ كَانَ صَيْرَفِيًّا عَلَى الْأَصَحِّ.وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ اسْتِبْدَالَ الدَّنَانِيرِ بِالدَّنَانِيرِ، أَوْ بِالدَّرَاهِمِ، لَا يَقْطَعُ الْحَوْلَ.
قَالُوا: لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْنَى لَا بِالْعَيْنِ، وَالْمَعْنَى قَائِمٌ بَعْدَ الِاسْتِبْدَالِ فَلَا يَبْطُلُ حُكْمُ الْحَوْلِ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ، بِخِلَافِ السَّائِمَةِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْعَيْنِ، وَقَدْ تَبَدَّلَتِ الْعَيْنُ، فَبَطَلَ الْحَوْلُ عَلَى الْأَوَّلِ، فَيَسْتَأْنِفُ لِلثَّانِي حَوْلًا.وَالتَّفْصِيلُ فِي بَابِ «الزَّكَاةُ».
أَمَّا إِذَا اسْتَبْدَلَ نِصَابَ الزَّكَاةِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ، بِأَنْ يَبِيعَ نِصَابَ السَّائِمَةِ بِدَنَانِيرَ أَوْ بِدَرَاهِمَ، أَوْ بَادَلَ الْإِبِلَ بِبَقَرٍ، أَوْ غَنَمٍ، فِي خِلَالِ الْحَوْلِ، فَإِنَّ حُكْمَ الْحَوْلِ يَنْقَطِعُ وَيَسْتَأْنِفُ حَوْلًا آخَرَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
هَذَا إِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فِرَارًا مِنَ الزَّكَاةِ، أَمَّا إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِرَارًا مِنْهَا، لَمْ تَسْقُطِ الزَّكَاةُ، وَتُؤْخَذُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ إِذَا كَانَ الْإِبْدَالُ عِنْدَ قُرْبِ الْوُجُوبِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَقَالُوا: إِنَّهُ قَصَدَ إِسْقَاطَ نَصِيبِ مَنِ انْعَقَدَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ كَمَا لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَلِأَنَّهُ قَصَدَ قَصْدًا فَاسِدًا فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ مُعَاقَبَتَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: لَا فَرْقَ فِي انْقِطَاعِ الْحَوْلِ بِالْمُبَادَلَةِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ بَيْنَ مَنْ يَفْعَلُهُ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ، وَبَيْنَ مَنْ قَصَدَ الْفِرَارَ مِنَ الزَّكَاةِ، وَفِي الصُّورَتَيْنِ يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ.هَذَا فِي الْمُبَادَلَةِ الصَّحِيحَةِ.
أَمَّا الْمُبَادَلَةُ الْفَاسِدَةُ فَلَا تَقْطَعُ الْحَوْلَ، وَإِنِ اتَّصَلَتْ بِالْقَبْضِ وَيُبْنَى عَلَى الْحَوْلِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهَا لَا تُزِيلُ الْمِلْكَ.
وَإِنْ بَاعَ النِّصَابَ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ، وَرُدَّتْ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ أَوْ إِقَالَةٍ، اسْتَأْنَفَ الْحَوْلَ مِنْ حِينِ الرَّدِّ لِانْقِطَاعِ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ بِالْبَيْعِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَبْنِي عَلَى الْحَوْلِ الْأَوَّلِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةٌ).
عَلَفُ السَّائِمَةِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ:
6- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ إِذَا أَعْلَفَ السَّائِمَةَ فِي مُعْظَمِ الْحَوْلِ يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ لَا يَقْطَعُ الْحَوْلَ، بِنَاءً عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ السَّوْمِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي بَابِ «زَكَاةٌ».
الْحَوْلُ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ:
7- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مُدَّةَ الرَّضَاعِ حَوْلَانِ كَامِلَانِ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ فِطَامَ الصَّبِيِّ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ حَقٌّ لِلْأَبَوَيْنِ مَعًا، بِشَرْطِ عَدَمِ الْإِضْرَارِ بِالرَّضِيعِ وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا الِاسْتِقْلَالُ بِالْفِطَامِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}.
وَالتَّفَاصِيلُ فِي مُصْطَلَحَيْ (رَضَاعٌ، وَحَضَانَةٌ).
اشْتِرَاطُ الْحَوْلَيْنِ فِي الرَّضَاعِ الْمُؤَثِّرِ فِي التَّحْرِيمِ:
8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ مُدَّةِ الرَّضَاعِ الْمُؤَثِّرِ فِي تَحْرِيمِ النِّكَاحِ وَثُبُوتِ الْمَحْرَمِيَّةِ الْمُفِيدَةِ لِجَوَازِ النَّظَرِ وَالْخَلْوَةِ فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالصَّاحِبَانِ: أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَبْلُغَ الْمُرْتَضِعُ حَوْلَيْنِ، فَمَتَى بَلَغَ حَوْلَيْنِ فَلَا أَثَرَ لِارْتِضَاعِهِ.لِخَبَرِ: «لَا رَضَاعَ إِلاَّ مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ، وَكَانَ قَبْلَ حَوْلَيْنِ».
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَضُرُّ زِيَادَةُ شَهْرَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ حَوْلَانِ، وَنِصْفٌ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (رَضَاعٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
67-موسوعة الفقه الكويتية (حيض 2)
حَيْضٌ -2انْقِطَاعُ الدَّمِ دُونَ الْعَادَةِ:
18- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا انْقَطَعَ دَمُ الْمُعْتَادَةِ دُونَ عَادَتِهَا، فَإِنَّهَا تَطْهُرُ بِذَلِكَ وَلَا تُتَمِّمُ عَادَتَهَا، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ انْقِطَاعُ الدَّمِ دُونَ أَقَلِّ الْحَيْضِ.وَمَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ وَطْأَهَا حِينَئِذٍ حَتَّى تَمْضِيَ عَادَتُهَا وَإِنِ اغْتَسَلَتْ.قَالُوا: لِأَنَّ الْعَوْدَ فِي الْعَادَةِ غَالِبٌ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الِاجْتِنَابِ.
وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ يَجُوزُ وَطْؤُهَا.وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِعَدَمِ كَرَاهَتِهِ كَسَائِرِ الطَّاهِرَاتِ
وَمَتَى كَانَ انْقِطَاعُ الدَّمِ دُونَ أَقَلِّ الْحَيْضِ- عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ فِيهِ- فَلَيْسَ ذَلِكَ الدَّمُ بِحَيْضٍ فِي حَقِّهَا لِتَبَيُّنِ أَنَّهُ دَمُ فَسَادٍ لَا حَيْضٍ وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّهَا تَقْضِي الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهَا تُصَلِّي كُلَّمَا انْقَطَعَ الدَّمُ، لَكِنْ تَنْتَظِرُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ وُجُوبًا فَإِنْ لَمْ يَعُدْ فِي الْوَقْتِ تَتَوَضَّأُ فَتُصَلِّي وَكَذَا تَصُومُ إِنِ انْقَطَعَ لَيْلًا، فَإِنْ عَادَ فِي الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ فِي الْعَشَرَةِ الْأَيَّامِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِطَهَارَتِهَا فَتَقْعُدُ عَنِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ.وَالْفَرْقُ عِنْدَهُمْ بَيْنَ انْقِطَاعِ الدَّمِ قَبْلَ الْعَادَةِ وَبَعْدَ الثَّلَاثِ- وَهُوَ أَقَلُّ الْحَيْضِ عِنْدَهُمْ- وَانْقِطَاعُهُ قَبْلَ الثَّلَاثِ أَنَّهَا تُصَلِّي، بِالْغُسْلِ كُلَّمَا انْقَطَعَ قَبْلَ الْعَادَةِ وَبَعْدَ الثَّلَاثِ لَا بِالْوُضُوءِ.لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ كَوْنُهَا حَائِضًا بِرُؤْيَةِ الدَّمِ ثَلَاثَةً فَأَكْثَر، بِخِلَافِ انْقِطَاعِهِ قَبْلَ الثَّلَاثِ، فَإِنَّهَا تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الدَّمَ دَمُ فَسَادٍ لَا دَمُ حَيْضٍ.
وَإِنْ عَادَ الدَّمُ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ، فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُبْطِلُ الْحُكْمَ بِطَهَارَتِهَا بِشَرْطِ أَنْ يَعُودَ فِي مُدَّةِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ- عَشَرَةِ أَيَّامٍ- وَلَمْ يَتَجَاوَزْهَا.وَأَنْ تَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ طَاهِرًا أَقَلّ الطُّهْرِ- خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا- فَلَوْ تَجَاوَزَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ أَوْ نَقَصَ الطُّهْرُ عَنْ ذَلِكَ فَحَيْضُهَا أَيَّامُ عَادَتِهَا فَقَطْ.وَلَوِ اعْتَادَتْ فِي الْحَيْضِ يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا طُهْرًا هَكَذَا إِلَى الْعَشَرَةِ، فَإِذَا رَأَتِ الدَّمَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ تَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ.وَإِذَا طَهُرَتْ فِي الثَّانِي تَوَضَّأَتْ وَصَلَّتْ وَفِي الثَّالِثِ تَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ.وَفِي الرَّابِعِ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي وَهَكَذَا إِلَى الْعَشَرَةِ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ فِيمَا لَوْ عَادَ الدَّمُ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ، فَإِنْ كَانَ مِقْدَارُ الِانْقِطَاعِ لَا يَبْلُغُ أَقَلّ الطُّهْرِ أُلْغِيَ وَلَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ، وَأُضِيفَ الدَّمُ الْأَوَّلُ إِلَى الثَّانِي، وَجُعِلَ حَيْضَةً مُنْقَطِعَةً تَغْتَسِلُ مِنْهَا الْمَرْأَةُ عِنْدَ إِدْبَارِ الدَّمِ وَإِقْبَالِ الطُّهْرِ، يَوْمًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ، وَتُصَلِّي فَإِذَا عَادَ الدَّمُ إِلَيْهَا كَفَّتْ عَنِ الصَّلَاةِ وَضَمَّتْهُ إِلَى أَيَّامِ دَمِهَا، وَعَدَّتْهُ مِنْ حَيْضَتِهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا عَادَ الدَّمُ بَعْدَ النَّقَاءِ، فَالْكُلُّ حَيْضٌ- الدَّمُ وَالنَّقَاءُ- بِشُرُوطٍ: وَهِيَ أَنْ لَا يُجَاوِزَ ذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَمْ تَنْقُصِ الدِّمَاءُ مِنْ أَقَلِّ الْحَيْضِ، وَأَنْ يَكُونَ النَّقَاءُ مُحْتَوَشًا بَيْنَ دَمَيِ الْحَيْضِ.وَهَذَا الْقَوْلُ يُسَمَّى عِنْدَهُمْ قَوْلَ السَّحْبِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَهُمْ هُوَ أَنَّ النَّقَاءَ طُهْرٌ، لِأَنَّ الدَّمَ إِذَا دَلَّ عَلَى الْحَيْضِ وَجَبَ أَنْ يَدُلَّ النَّقَاءُ عَلَى الطُّهْرِ وَيُسَمَّى هَذَا الْقَوْلُ قَوْلَ اللَّقْطِ وَقَوْلَ التَّلْفِيقِ.وَمَحَلُّ التَّلْفِيقِ عِنْدَهُمْ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا بِخِلَافِ الْعِدَّةِ، فَلَا يُجْعَلُ النَّقَاءُ طُهْرًا فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِإِجْمَاعِهِمْ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا إِنْ طَهُرَتْ فِي أَثْنَاءِ عَادَتِهَا طُهْرًا خَالِصًا وَلَوْ أَقَلّ مُدَّةٍ فَهِيَ طَاهِرٌ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي وَتَفْعَلُ مَا تَفْعَلُهُ الطَّاهِرَاتُ، وَلَا يُكْرَهُ وَطْءُ الزَّوْجِ لَهَا بَعْدَ الِاغْتِسَالِ، فَإِنْ عَاوَدَهَا الدَّمُ فِي أَثْنَاءِ الْعَادَةِ وَلَمْ يُجَاوِزْهَا، فَإِنَّهَا تَجْلِسُ زَمَنَ الدَّمِ مِنَ الْعَادَةِ كَمَا لَوْ لَمْ يَنْقَطِعْ، لِأَنَّهُ صَادَفَ زَمَنَ الْعَادَةِ.
مُجَاوَزَةُ الدَّمِ لِلْعَادَةِ:
19- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا جَاوَزَ دَمُ الْمُعْتَادَةِ عَادَتَهَا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا رَأَتِ الْمُعْتَادَةُ مَا يُخَالِفُ عَادَتَهَا، فَإِمَّا أَنْ تَنْتَقِلَ عَادَتُهَا أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ تَنْتَقِلْ رُدَّتْ إِلَى عَادَتِهَا، فَيُجْعَلُ الْمَرْئِيُّ فِيهَا حَيْضًا وَمَا جَاوَزَ الْعَادَةَ اسْتِحَاضَةً، وَإِنِ انْتَقَلَتْ فَالْكُلُّ حَيْضٌ- وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ قَاعِدَةِ انْتِقَالِ الْعَادَةِ- فَإِذَا اسْتَمَرَّ دَمُ الْمُعْتَادَةِ وَزَادَ عَلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ فَطُهْرُهَا وَحَيْضُهَا مَا اعْتَادَتْ فَتُرَدُّ إِلَيْهَا فِيهِمَا فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إِنْ كَانَ طُهْرُهَا أَقَلّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ كَانَ طُهْرُهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ فَإِنَّهُ لَا يُقَدَّرُ حِينَئِذٍ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الطُّهْرَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ أَقَلُّ مِنْ أَدْنَى مُدَّةِ الْحَمْلِ عَادَةً فَيُرَدُّ إِلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ إِلاَّ سَاعَةً تَحْقِيقًا لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ طُهْرِ الْحَيْضِ وَطُهْرِ الْحَمْلِ وَحَيْضُهَا بِحَالِهِ.وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَيْدَانِيِّ.قَالَ فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا: وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ.وَفِي التَّتَارَخَانِيّةِ: (وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ، وَهُنَاكَ قَوْلٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِشَهْرَيْنِ وَاخْتَارَهُ الْحَاكِمُ).قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: قِيلَ وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ الْحَاكِمِ وَاخْتَرْنَا قَوْلَ الْمَيْدَانِيِّ لِقُوَّةِ قَوْلِهِ رِوَايَةً وَدِرَايَةً.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ مَا اخْتَارَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ عَلَيْهِ الْفَتْوَى، لِأَنَّهُ أَيْسَرُ عَلَى الْمُفْتِي وَالنِّسَاءِ وَمَشَى عَلَيْهِ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَمَادَى دَمُ الْحَيْضِ عَلَى الْمُعْتَادَةِ، فَإِنَّهَا تَسْتَظْهِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَيَّامِ الدَّمِ الزَّائِدِ عَلَى أَكْثَرِ عَادَتِهَا، ثُمَّ هِيَ طَاهِرٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا تُجَاوِزَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَإِذَا اعْتَادَتْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ أَوَّلًا، ثُمَّ تَمَادَى، مَكَثَتْ ثَمَانِيَةً، فَإِنْ تَمَادَى فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ مَكَثَتْ أَحَدَ عَشَرَ، فَإِنْ تَمَادَى فِي الرَّابِعَةِ مَكَثَتْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ.فَإِنْ تَمَادَى فِي مُرَّةٍ أُخْرَى فَلَا تَزِيدُ عَلَى الْخَمْسَةَ عَشَرَ.وَمَنْ كَانَتْ عَادَتُهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَتَسْتَظْهِرُ يَوْمَيْنِ.وَمَنْ عَادَتُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ فَلَا اسْتِظْهَارَ عَلَيْهَا، وَقَاعِدَةُ ذَلِكَ أَنَّ الَّتِي أَيَّامُ عَادَتِهَا اثْنَا عَشَرَ يَوْمًا فَدُونَ ذَلِكَ تَسْتَظْهِرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ بِيَوْمَيْنِ، وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ بِيَوْمٍ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ لَا تَسْتَظْهِرُ بِشَيْءٍ.وَأَمَّا الَّتِي عَادَتُهَا غَيْرُ ثَابِتَةٍ تَحِيضُ فِي شَهْرٍ خَمْسَةَ أَيَّامٍ وَفِي آخَرَ أَقَلّ أَوْ أَكْثَر إِذَا تَمَادَى بِهَا الدَّمُ فَإِنَّهَا تَسْتَظْهِرُ عَلَى أَكْثَرِ أَيَّامِهَا عَلَى الْمَشْهُورِ.وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ تَسْتَظْهِرُ عَلَى أَقَلِّ الْعَادَةِ.وَأَيَّامُ الِاسْتِظْهَارِ كَأَيَّامِ الْحَيْضِ، وَالدَّمُ بَعْدَ الِاسْتِظْهَارِ فِيمَا بَيْنَ عَادَتِهَا وَنِصْفِ شَهْرٍ اسْتِحَاضَةٌ.
وَتَغْتَسِلُ بَعْدَ الِاسْتِظْهَارِ وَتُصَلِّي وَتَصُومُ وَتُوطَأُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ جَاوَزَ الدَّمُ عَادَتَهَا وَلَمْ يَعْبُرْ أَكْثَرَ الْحَيْضِ فَالْجَمِيعُ حَيْضٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَ اسْتِمْرَارُ الْحَيْضِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهَا لَا تَلْتَفِتُ إِلَى مَا خَرَجَ عَنْ عَادَتِهَا قَبْلَ تَكَرُّرِهِ، فَمَا تَكَرَّرَ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثًا أَوْ مَرَّتَيْنِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي ذَلِكَ فَهُوَ حَيْضٌ، وَإِلاَّ فَلَا، فَتَصُومُ وَتُصَلِّي قَبْلَ التَّكْرَارِ.
وَتَغْتَسِلُ عِنْدَ انْقِطَاعِهِ ثَانِيًا.فَإِذَا تَكَرَّرَ ثَلَاثًا أَوْ مَرَّتَيْنِ صَارَ عَادَةً فَتُعِيدُ مَا صَامَتْهُ وَنَحْوَهُ مِنْ فَرْضٍ.وَيَرَى ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهَا تَصِيرُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَكْرَارٍ لِقَوْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- لِلنِّسَاءِ: لَا تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ وَلِأَنَّ الشَّارِعَ رَدَّ النَّاسَ إِلَى الْعُرْفِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ وَالْعُرْفُ بَيْنَ النِّسَاءِ أَنَّ الْمَرْأَةَ مَتَى رَأَتْ دَمًا يَصْلُحُ لأَنْ يَكُونَ حَيْضًا اعْتَقَدَتْهُ حَيْضًا، وَإِنْ عَبَرَ الدَّمُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ.وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ أَحْكَامِهَا فِي مُصْطَلَحِ اسْتِحَاضَةٌ. انْتِقَالُ الْعَادَةِ:
مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ فِي انْتِقَالِ الْعَادَةِ:
20- إِذَا رَأَتِ الْمُعْتَادَةُ مَا يُخَالِفُ عَادَتَهَا فِي الْحَيْضِ.فَإِذَا لَمْ يُجَاوِزِ الدَّمُ الْعَشَرَةَ الْأَيَّامَ، فَالْكُلُّ حَيْضٌ، وَانْتَقَلَتِ الْعَادَةُ عَدَدًا فَقَطْ إِنْ طَهُرَتْ بَعْدَهُ طُهْرًا صَحِيحًا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَإِنْ جَاوَزَ الْعَشَرَةَ الْأَيَّامَ رُدَّتْ إِلَى عَادَتِهَا، لِأَنَّهُ صَارَ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي.وَهَذَا فِيمَا إِذَا لَمْ تَتَسَاوَ الْعَادَةُ وَالْمُخَالَفَةُ حَيْثُ يَصِيرُ الثَّانِي عَادَةً لَهَا.فَإِنْ تَسَاوَتِ الْعَادَةُ وَالْمُخَالَفَةُ فَالْعَدَدُ بِحَالِهِ، سَوَاءٌ رَأَتْ نِصَابًا (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) فِي أَيَّامِ عَادَتِهَا، أَوْ قَبْلَهَا، أَوْ بَعْدَهَا، أَوْ بَعْضُهُ فِي أَيَّامِهَا، وَبَعْضُهُ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا، لَكِنْ إِنْ وَافَقَ زَمَانًا وَعَدَدًا فَلَا انْتِقَالَ أَصْلًا.وَإِلاَّ فَالِانْتِقَالُ ثَابِتٌ عَلَى حَسَبِ الْمُخَالِفِ.
فَإِذَا جَاوَزَ الدَّمُ الْعَشَرَةَ وَوَقَعَ نِصَابٌ فِي زَمَانِ الْعَادَةِ.فَالْوَاقِعُ فِي زَمَانِ الْعَادَةِ فَقَطْ حَيْضٌ وَالْبَاقِي اسْتِحَاضَةٌ.ثُمَّ إِنَّهُ مَتَى كَانَ الْوَاقِعُ فِي زَمَانِ الْعَادَةِ مُسَاوِيًا لِعَادَتِهَا عَدَدًا، فَالْعَادَةُ بَاقِيَةٌ فِي حَقِّ الْعَدَدِ وَالزَّمَانِ مَعًا.فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسَاوِيًا لِعَادَتِهَا انْتَقَلَتِ الْعَادَةُ عَدَدًا إِلَى مَا رَأَتْهُ نَاقِصًا.وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالنَّاقِصِ لِأَنَّهُ لَا احْتِمَالَ لِكَوْنِ الْوَاقِعِ فِي الْعَادَةِ زَائِدًا عَلَيْهَا.
وَإِذَا جَاوَزَ الدَّمُ الْعَشَرَةَ وَلَمْ يَقَعْ فِي زَمَانِ الْعَادَةِ نِصَابٌ بِأَنْ لَمْ تَرَ شَيْئًا، أَوْ رَأَتْ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ انْتَقَلَتِ الْعَادَةُ زَمَانًا، وَالْعَدَدُ بِحَالِهِ يُعْتَبَرُ مِنْ أَوَّلِ مَا رَأَتْ.
انْتِقَالُ الْعَادَةِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ:
21- صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْعَادَةَ قَدْ تَنْتَقِلُ، فَتَتَقَدَّمُ أَوْ تَتَأَخَّرُ، أَوْ يَزِيدُ قَدْرُ الْحَيْضِ أَوْ يَنْقُصُ.وَمِنْ أَمْثِلَةِ انْتِقَالِ الْعَادَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا إِذَا تَمَادَى دَمُ الْمُعْتَادَةِ وَزَادَ عَلَى عَادَتِهَا فَإِنَّهَا تَسْتَظْهِرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَلَى عَادَتِهَا، وَيَصِيرُ الِاسْتِظْهَارُ عَادَةً لَهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَمْثِلَةً كَثِيرَةً عَلَى انْتِقَالِ الْعَادَةِ، نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَلِي: إِذَا كَانَتْ عَادَتُهَا الْأَيَّامَ الْخَمْسَةَ الثَّانِيَةَ مِنَ الشَّهْرِ، فَرَأَتْ فِي بَعْضِ الشُّهُورِ، الْأَيَّامَ الْخَمْسَةَ الْأُولَى دَمًا وَانْقَطَعَ، فَقَدْ تَقَدَّمَتْ عَادَتُهَا، وَلَمْ يَزِدْ حَيْضُهَا، وَلَمْ يَنْقُصْ وَلَكِنْ نَقَصَ طُهْرُهَا فَصَارَ عِشْرِينَ بَعْدَ أَنْ كَانَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ.وَإِنْ رَأَتْهُ فِي الْخَمْسَةِ الثَّالِثَةِ، أَوِ الرَّابِعَةِ، أَوِ الْخَامِسَةِ أَوِ السَّادِسَةِ، فَقَدْ تَأَخَّرَتْ عَادَتُهَا، وَلَمْ يَزِدْ حَيْضُهَا، وَلَمْ يَنْقُصْ، وَلَكِنْ زَادَ طُهْرُهَا.وَإِنْ رَأَتْهُ فِي الْخَمْسَةِ الثَّانِيَةِ مَعَ الثَّالِثَةِ فَقَدْ زَادَ حَيْضُهَا، وَتَأَخَّرَتْ عَادَتُهَا.وَإِنْ رَأَتْهُ فِي الْخَمْسَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، فَقَدْ زَادَ حَيْضُهَا وَتَقَدَّمَتْ عَادَتُهَا.وَإِنْ رَأَتْهُ فِي الْخَمْسَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فَقَدْ زَادَ حَيْضُهَا، فَصَارَ خَمْسَةَ عَشَرَ وَتَقَدَّمَتْ عَادَتُهَا وَتَأَخَّرَتْ.وَإِنْ رَأَتْهُ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَوْ ثَلَاثَةٍ، أَوْ يَوْمَيْنِ، أَوْ يَوْمٍ مِنَ الْخَمْسَةِ الْمُعْتَادَةِ، فَقَدْ نَقَصَ حَيْضُهَا وَلَمْ تَنْتَقِلْ عَادَتُهَا.
وَإِنْ رَأَتْهُ فِي يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةٍ، أَوْ أَرْبَعَةٍ مِنَ الْخَمْسَةِ الْأُولَى فَقَدْ نَقَصَ حَيْضُهَا وَتَقَدَّمَتْ عَادَتُهَا.وَإِنْ رَأَتْ ذَلِكَ فِي الْخَمْسَةِ الثَّالِثَةِ، أَوِ الرَّابِعَةِ، أَوْ مَا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ نَقَصَ حَيْضُهَا وَتَأَخَّرَتْ عَادَتُهَا.
وَالْأَمْثِلَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْحَنَابِلَةُ فِي انْتِقَالِ الْعَادَةِ لَا تَخْرُجُ عَنِ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّافِعِيَّةُ.
وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْعَادَةِ الْمُنْتَقِلَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَهُمْ، وَانْتِقَالُ الْعَادَةِ يَثْبُتُ بِمَرَّةٍ فِي الْأَصَحِّ.وَهَذَا إِنْ كَانَتْ مُتَّفِقَةً غَيْرَ مُخْتَلِفَةٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فِي الْحَيْضِ، فَرَأَتِ الدَّمَ فِي غَيْرِ عَادَتِهَا لَمْ تَعْتَبِرْ مَا خَرَجَ عَنِ الْعَادَةِ حَيْضًا حَتَّى يَتَكَرَّرَ ثَلَاثًا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ، أَوْ مَرَّتَيْنِ فِي رِوَايَةٍ.وَسَوَاءٌ رَأَتِ الدَّمَ قَبْلِ عَادَتِهَا أَوْ بَعْدَهَا، مَعَ بَقَاءِ الْعَادَةِ، أَوِ انْقِطَاعِ الدَّمِ فِيهَا، أَوْ فِي بَعْضِهَا، فَإِنَّهَا لَا تَجْلِسُ فِي غَيْرِ أَيَّامِهَا حَتَّى يَتَكَرَّرَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَإِذَا تَكَرَّرَ عَلِمْنَا أَنَّهُ حَيْضٌ مُتَنَقِّلٌ فَتَصِيرُ إِلَيْهِ، أَيْ تَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ فِيهِ، وَيَصِيرُ عَادَةً لَهَا، وَتَتْرُكُ الْعَادَةَ الْأُولَى.وَيَجِبُ عَلَيْهَا قَضَاءُ مَا صَامَتْهُ مِنَ الْفَرْضِ فِي هَذِهِ الْمَرَّاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي أَمَرْنَاهَا بِالصِّيَامِ فِيهَا، لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهَا صَامَتْهُ فِي حَيْضٍ، وَالصَّوْمُ فِي الْحَيْضِ غَيْرُ صَحِيحٍ.وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ.وَقِيلَ: لَا حَاجَةَ إِلَى التَّكْرَارِ، وَتَنْتَقِلُ بِمُجَرَّدِ رُؤْيَتِهَا دَمًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَيْضًا.فَعَلَيْهِ: تَجْلِسُ مَا تَرَاهُ مِنَ الدَّمِ قَبْلَ عَادَتِهَا وَبَعْدَهَا مَا لَمْ يَزِدْ عَنْ أَكْثَرِ الْحَيْضِ، وَرَجَّحَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي.وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَإِنْ تَجَاوَزَتِ الزِّيَادَةُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ فَهِيَ اسْتِحَاضَةٌ وَنَرُدُّهَا إِلَى عَادَتِهَا، وَيَلْزَمُهَا قَضَاءُ مَا تَرَكَتْهُ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فِيمَا زَادَ عَنْ عَادَتِهَا.
وَإِنْ كَانَتْ لَهَا عَادَةٌ فَرَأَتِ الدَّمَ أَكْثَر مِنْهَا وَجَاوَزَ أَكْثَر الْحَيْضِ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ، وَحَيْضُهَا مِنْهُ قَدْرُ الْعَادَةِ لَا غَيْرُ.وَلَا تَجْلِسُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الشُّهُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ إِلاَّ قَدْرَ الْعَادَةِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَ مَنِ اعْتَبَرَ الْعَادَةَ. أَنْوَاعُ الْعَادَةِ:
22- الْعَادَةُ ضَرْبَانِ: مُتَّفِقَةٌ، وَمُخْتَلِفَةٌ.
فَالْمُتَّفِقَةُ مَا كَانَتْ أَيَّامًا مُتَسَاوِيَةً، كَسَبْعَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، فَهَذِهِ تَجْلِسُ أَيَّامَ عَادَتِهَا وَلَا تَلْتَفِتُ إِلَى مَا زَادَ عَلَيْهَا.وَالْمُخْتَلِفَةُ هِيَ مَا كَانَتْ أَيَّامًا مُخْتَلِفَةً، وَهِيَ قِسْمَانِ مُرَتَّبَةٌ، بِأَنْ تَرَى فِي شَهْرٍ ثَلَاثَةً، وَفِي الثَّانِي أَرْبَعَةٍ، وَفِي الثَّالِثِ خَمْسَةً، ثُمَّ تَعُودُ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ.فَهَذِهِ، إِذَا اسْتُحِيضَتْ فِي شَهْرٍ وَعَرَفَتْ نَوْبَتَهُ عَمِلَتْ عَلَيْهِ.وَإِنْ نَسِيَتْ نَوْبَتَهُ جَلَسَتِ الْأَقَلَّ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ.
وَغَيْرُ مُرَتَّبَةٍ: بِأَنْ تَتَقَدَّمَ هَذِهِ مَرَّةً، وَهَذِهِ أُخْرَى كَأَنْ تَحِيضَ فِي شَهْرٍ ثَلَاثَةً، وَفِي الثَّانِي خَمْسَةً، وَفِي الثَّالِثِ أَرْبَعَةً.فَإِنْ أَمْكَنَ ضَبْطُهُ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِفُ هُوَ، فَالَّتِي قَبْلَهَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ضَبْطُهُ رُدَّتْ إِلَى مَا قَبْلَ شَهْرِ الِاسْتِحَاضَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ الْعَادَةِ بِمَرَّةٍ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَجْلِسُ الْأَقَلَّ فِي كُلِّ شَهْرٍ.
وَتَلْفِيقُ الْحَيْضِ:
23- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا رَأَتِ الْمَرْأَةُ الدَّمَ يَوْمًا أَوْ أَيَّامًا، وَالطُّهْرَ يَوْمًا أَوْ أَيَّامًا، بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ لَهَا طُهْرٌ كَامِلٌ، اخْتِلَافًا يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى قَوْلَيْنِ الْأَوَّلُ: وَيُسَمَّى قَوْلَ التَّلْفِيقِ أَوِ اللَّقْطَ، وَهُوَ أَنْ تُلَفِّقَ حَيْضَهَا مِنْ أَيَّامِ الدَّمِ فَقَطْ، وَتُلْغِيَ أَيَّامَ الطُّهْرِ فَتَكُونَ فِيهَا طَاهِرًا، تُصَلِّيَ وَتَصُومَ.وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَيُسَمِّيهِ الشَّافِعِيَّةُ قَوْلَ السَّحْبِ، وَهُوَ أَنْ تَجْعَلَ أَيَّامَ الدَّمِ، وَأَيَّامَ الطُّهْرِ كُلَّهَا أَيَّامَ حَيْضٍ.وَذَلِكَ بِشُرُوطٍ ذَكَرُوهَا، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَلْفِيقٌ).
الطُّهْرُ مِنَ الْحَيْضِ:
(1) أَقَلُّ الطُّهْرِ وَأَكْثَرُهُ:
24- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَكْثَرِ الطُّهْرِ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ لَا تَحِيضُ أَصْلًا.
وَقَدْ تَحِيضُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً.حَكَى أَبُو الطَّيِّبِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، أَنَّ امْرَأَةً فِي زَمَنِهِ كَانَتْ تَحِيضُ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَقَلِّ الطُّهْرِ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَقَلّ طُهْرٍ بَيْنَ حَيْضَتَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِلَيَالِيِهَا، لِأَنَّ الشَّهْرَ غَالِبًا لَا يَخْلُو مِنْ حَيْضٍ وَطُهْرٍ، وَإِذَا كَانَ أَكْثَرُ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَقَلُّ الطُّهْرِ كَذَلِكَ.وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَقَلَّ الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا.لِمَا رَوَى أَحْمَدُ وَاحْتَجَّ بِهِ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْهُ- قَدْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا- فَزَعَمَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ فِي شَهْرٍ ثَلَاثَ حِيَضٍ.فَقَالَ عَلِيٌّ لِشُرَيْحٍ.قُلْ فِيهَا.فَقَالَ شُرَيْحٌ: إِنْ جَاءَتْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ بِطَانَةِ أَهْلِهَا مِمَّنْ يُرْجَى دِينُهُ وَأَمَانَتُهُ فَشَهِدَتْ بِذَلِكَ.وَإِلاَّ فَهِيَ كَاذِبَةٌ.فَقَالَ عَلِيٌّ: قَالُونُ- أَيْ جَيِّدٌ بِالرُّومِيَّةِ- قَالُوا: وَهَذَا لَا يَقُولُهُ إِلاَّ تَوْقِيفًا، وَهُوَ قَوْلُ صَحَابِيٍّ اشْتُهِرَ، وَلَمْ يُعْلَمْ خِلَافُهُ.وَوُجُودُ ثَلَاثِ حِيَضٍ فِي شَهْرٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَةَ عَشَرَ طُهْرٌ صَحِيحٌ يَقِينًا.قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَخْتَلِفُ أَنَّ الْعِدَّةَ يَصِحُّ أَنْ تَنْقَضِيَ فِي شَهْرٍ إِذَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ.وَغَالِبُ الطُّهْرِ بَاقِي الشَّهْرِ الْهِلَالِيِّ بَعْدَ غَالِبِ الْحَيْضِ، وَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ، أَوْ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ.
(2) عَلَامَةُ الطُّهْرِ:
25- الطُّهْرُ مِنَ الْحَيْضِ يَتَحَقَّقُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا انْقِطَاعِ الدَّمِ، أَوْ رُؤْيَةِ الْقَصَّةِ.
وَالْمَقْصُودُ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ الْجَفَافُ بِحَيْثُ تَخْرُجُ الْخِرْقَةُ غَيْرَ مُلَوَّثَةٍ بِدَمٍ، أَوْ كُدْرَةٍ، أَوْ صُفْرَةٍ.فَتَكُونُ جَافَّةً مِنْ كُلِّ ذَلِكَ، وَلَا يَضُرُّ بَلَلُهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ رُطُوبَةِ الْفَرْجِ.
وَالْقَصَّةُ مَاءٌ أَبْيَضُ يَخْرُجُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ يَأْتِي فِي آخِرِ الْحَيْضِ.قَالَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- عَنْهَا: لَمَّا كَانَتِ النِّسَاءُ يَبْعَثْنَ إِلَيْهَا بِالدُّرْجَةِ (اللِّفَافَةِ) فِيهَا الْكُرْسُفُ (الْقُطْنُ) فِيهِ الصُّفْرَةُ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ.لَا تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْغَايَةَ الِانْقِطَاعُ، فَإِذَا انْقَطَعَ طَهُرَتْ، سَوَاءٌ خَرَجَتْ بَعْدَهُ رُطُوبَةٌ بَيْضَاءُ أَمْ لَا.
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مُعْتَادَةِ الْجُفُوفِ، وَمُعْتَادَةِ الْقَصَّةِ، وَمُعْتَادَةِ الْقَصَّةِ مَعَ الْجُفُوفِ.فَمُعْتَادَةُ الْجُفُوفِ إِذَا رَأَتِ الْقَصَّةَ أَوَّلًا، لَا تَنْتَظِرُ الْجُفُوفَ وَإِذَا رَأَتِ الْجُفُوفَ أَوَّلًا، لَا تَنْتَظِرُ الْقَصَّةَ.
وَأَمَّا مُعْتَادَةُ الْقَصَّةِ فَقَطْ، أَوْ مَعَ الْجُفُوفِ إِذَا رَأَتِ الْجُفُوفَ أَوَّلًا، نُدِبَ لَهَا انْتِظَارُ الْقَصَّةِ لآِخِرِ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ.وَإِنْ رَأَتِ الْقَصَّةَ أَوَّلًا فَلَا تَنْتَظِرُ شَيْئًا بَعْدَ ذَلِكَ.فَالْقَصَّةُ أَبْلَغُ لِمُعْتَادَتِهَا، وَلِمُعْتَادَتِهَا مَعَ الْجُفُوفِ أَيْضًا. حُكْمُ الطُّهْرِ الْمُتَخَلِّلِ بَيْنَ أَيَّامِ الْحَيْضِ:
26- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي النَّقَاءِ الْمُتَخَلِّلِ بَيْنَ أَيَّامِ الْحَيْضِ، هَلْ هُوَ حَيْضٌ أَوْ طُهْرٌ؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ حَيْضٌ.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ طُهْرٌ.وَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ فِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ بَيَانُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَلْفِيقٌ).
(4) دَمُ الْحَامِلِ:
27- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي دَمِ الْحَامِلِ هَلْ هُوَ دَمُ حَيْضٍ، أَوْ عِلَّةٍ وَفَسَادٍ؟.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دَمَ الْحَامِلِ دَمُ عِلَّةٍ وَفَسَادٍ، وَلَيْسَ بِحَيْضٍ، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي سَبْيِ أَوْطَاسٍ: لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ» فَجَعَلَ الْحَيْضَ عَلَمًا عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ مَعَهُ.«وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَقِّ ابْنِ عُمَرَ- لَمَّا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ- مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا».فَجَعَلَ الْحَمْلَ عَلَمًا عَلَى عَدَمِ الْحَيْضِ كَالطُّهْرِ.
وَقَدِ اسْتَحَبَّ الْحَنَابِلَةُ لِلْحَامِلِ أَنْ تَغْتَسِلَ عِنْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ عَنْهَا احْتِيَاطًا، وَخُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ دَمَ الْحَامِلِ حَيْضٌ، إِنْ تَوَافَرَتْ شُرُوطُهُ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ لِخَبَرِ: «دَمُ الْحَيْضِ أَسْوَدُ يُعْرَفُ» وَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ فِي الْحَامِلِ تَرَى الدَّمَ: أَنَّهَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ، مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَكَانَ إِجْمَاعًا.وَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ دَمٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ دَمَيِ الْجِبِلَّةِ وَالْعِلَّةِ، وَالْأَصْلُ السَّلَامَةُ مِنَ الْعِلَّةِ، وَلِأَنَّهُ دَمٌ لَا يَمْنَعُهُ الرَّضَاعُ بَلْ إِذَا وُجِدَ مَعَهُ حُكِمَ بِكَوْنِهِ حَيْضًا، وَإِنْ نَدَرَ فَكَذَا لَا يَمْنَعُهُ الْحَيْضُ. وَأَكْثَرُ الْحَيْضِ لِلْحَامِلِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَخْتَلِفُ عَنْ غَيْرِهَا، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي فَتْرَةِ الْحَيْضِ.
(5) أَنْوَاعُ الطُّهْرِ:
28- قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الطُّهْرَ إِلَى صَحِيحٍ، وَفَاسِدٍ، وَإِلَى تَامٍّ، وَنَاقِصٍ.
فَالطُّهْرُ الصَّحِيحُ: هُوَ النَّقَاءُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْثَر لَا يَشُوبُهُ خِلَالَهَا دَمٌ مُطْلَقًا لَا فِي أَوَّلِهِ، وَلَا فِي وَسَطِهِ، وَلَا فِي آخِرِهِ، وَيَكُونُ بَيْنَ دَمَيْنِ صَحِيحَيْنِ، وَالطُّهْرُ الْفَاسِدُ مَا خَالَفَ الصَّحِيحَ فِي أَحَدِ أَوْصَافِهِ، بِأَنْ كَانَ أَقَلّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ، أَوْ خَالَطَهُ دَمٌ أَوْ لَمْ يَقَعْ بَيْنَ دَمَيْنِ صَحِيحَيْنِ.
فَإِذَا كَانَ الطُّهْرُ أَقَلّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَإِنَّهُ طُهْرٌ فَاسِدٌ، وَيُجْعَلُ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي.وَلَوْ كَانَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، لَكِنْ خَالَطَهُ دَمٌ صَارَ طُهْرًا فَاسِدًا، كَمَا لَوْ رَأَتِ الْمُبْتَدَأَةُ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا دَمًا، وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرًا، ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ، فَالطُّهْرُ هُنَا صَحِيحٌ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ اسْتَكْمَلَ خَمْسَةَ عَشَرَ، لَكِنَّهُ فَاسِدٌ مَعْنًى، لِأَنَّ الْيَوْمَ الْحَادِيَ عَشَرَ تُصَلِّي فِيهِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الطُّهْرِ.فَقَدْ خَالَطَ هَذَا الطُّهْرَ دَمٌ فِي أَوَّلِهِ فَفَسَدَ.
وَإِذَا كَانَ الطُّهْرُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَكِنْ كَانَ بَيْنَ اسْتِحَاضَتَيْنِ، أَوْ بَيْنَ حَيْضَيْنِ وَنِفَاسٍ، أَوْ بَيْنَ نِفَاسٍ وَاسْتِحَاضَةٍ، أَوْ بَيْنَ طَرَفَيْ نِفَاسٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ طُهْرًا فَاسِدًا.
وَالطُّهْرُ التَّامُّ مَا كَانَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْثَر سَوَاءٌ أَكَانَ صَحِيحًا، أَمْ فَاسِدًا.
وَالطُّهْرُ النَّاقِصُ: مَا نَقَصَ عَنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الطُّهْرِ الْفَاسِدِ.
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَيْضِ:
(1) الْبُلُوغُ:
29- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَيْضَ عَلَامَةٌ مِنْ عَلَامَاتِ الْبُلُوغِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا التَّكْلِيفُ، فَإِذَا رَأَتِ الْمَرْأَةُ الدَّمَ فِي زَمَنِ الْإِمْكَانِ، أَصْبَحَتْ بَالِغَةً مُكَلَّفَةً يَجِبُ عَلَيْهَا مَا يَجِبُ عَلَى الْبَالِغَاتِ الْمُكَلَّفَاتِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إِلاَّ بِخِمَارٍ».فَأَوْجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تَسْتَتِرَ لِبُلُوغِهَا بِالْحَيْضِ.فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّكْلِيفَ حَصَلَ بِهِ.وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ بِالْحَيْضِ الَّذِي يَنْزِلُ بِنَفْسِهِ، أَمَّا إِذَا تَسَبَّبَ فِي جَلْبِهِ، فَلَا يَكُونُ عَلَامَةً.
(2) التَّطَهُّرُ:
30- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا تَصِحُّ طَهَارَةُ الْحَائِضِ، فَإِذَا اغْتَسَلَتِ الْحَائِضُ لِرَفْعِ حَدَثِ الْجَنَابَةِ، فَلَا يَصِحُّ غُسْلُهَا، وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْحَائِضَ، إِنِ اغْتَسَلَتْ لِلْجَنَابَةِ زَمَنَ حَيْضِهَا صَحَّ غُسْلُهَا، وَاسْتُحِبَّ تَخْفِيفًا لِلْحَدَثِ، وَيَزُولُ حُكْمُ الْجَنَابَةِ.لِأَنَّ بَقَاءَ أَحَدِ الْحَدَثَيْنِ لَا يَمْنَعُ ارْتِفَاعَ الْآخَرِ.كَمَا لَوِ اغْتَسَلَ الْمُحْدِثُ حَدَثًا أَصْغَر.وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَغْتَسِلَ لِلْجَنَابَةِ حَتَّى يَنْقَطِعَ حَيْضُهَا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ.
(أ) غُسْلُ الْحَائِضِ:
31- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَيْضَ مُوجِبٌ مِنْ مُوجِبَاتِ الْغُسْلِ، فَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ وَجَبَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَغْتَسِلَ لِاسْتِبَاحَةِ مَا كَانَتْ مَمْنُوعَةً مِنْهُ بِالْحَيْضِ، «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْت تَحِيضِينَ فِيهَا ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي» وَأَمَرَ بِهِ أُمَّ حَبِيبَةَ وَسَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ وَغَيْرَهُنَّ.وَيُؤَيِّدُهُ قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} أَيْ إِذَا اغْتَسَلْنَ، فَمَنَعَ الزَّوْجَ مِنْ وَطْئِهَا قَبْلَ غُسْلِهَا فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهِ عَلَيْهَا لِإِبَاحَةِ الْوَطْءِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الِانْقِطَاعَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْغُسْلِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ، إِمَّا حَقِيقَةً، بِأَنْ أَرَادَتْ صَلَاةَ مَا قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْت مِنْ نَافِلَةٍ أَوْ مَقْضِيَّةٍ، أَوْ حُكْمًا بِأَنْ دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، إِذْ بِدُخُولِهِ تَجِبُ الصَّلَاةُ وَيَجِبُ تَحْصِيلُ شُرُوطِهَا وَإِنْ لَمْ تُرِدِ الْفِعْلَ فَهِيَ مُرِيدَةٌ حُكْمًا لِكَوْنِ الشَّارِعِ أَلْجَأَهَا إِلَى الْفِعْلِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْإِرَادَةِ فَهِيَ مُرِيدَةٌ بِالْقُوَّةِ.
وَغُسْلُ الْحَيْضِ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُغْتَسِلَةِ مِنَ الْحَيْضِ، غَيْرِ الْمُحْرِمَةِ وَالْمُحِدَّةِ تَطْيِيبُ مَوْضِعِ الدَّمِ.لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَة- رضي الله عنها- «أَنَّ أَسْمَاءَ- رضي الله عنها-، سَأَلْتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ غُسْلِ الْمَحِيضِ؟ فَقَالَ: تَأْخُذُ إِحْدَاكُنَّ مَاءَهَا وَسِدْرَتَهَا فَتَطَهَّرُ فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ.ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا فَتَدْلُكُهُ دَلْكًا شَدِيدًا، حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا، ثُمَّ تَصُبُّ عَلَيْهَا الْمَاءَ.ثُمَّ تَأْخُذُ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَطَهَّرُ بِهَا فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: وَكَيْفَ تَطَهَّرُ بِهَا.فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ.تَطَهَّرِينَ بِهَا.فَقَالَتْ عَائِشَةُ.كَأَنَّهَا تُخْفِي ذَلِكَ تَتَبَّعِينَ أَثَرَ الدَّمِ.وَسَأَلَتْهُ عَنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ؟ فَقَالَ: تَأْخُذُ مَاءً فَتَطَهَّرُ، فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ، أَوْ تُبْلِغُ الطُّهُورَ.ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا فَتَدْلُكُهُ.حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا.ثُمَّ تُفِيضُ عَلَيْهَا الْمَاءَ.فَقَالَتْ عَائِشَةُ: نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ، لَمْ يَكُنْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ».
(ب) طَهَارَةُ الْحَائِضِ:
32- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي طَهَارَةِ جَسَدِ الْحَائِضِ، وَعَرَقِهَا، وَسُؤْرِهَا، وَجَوَازِ أَكْلِ طَبْخِهَا وَعَجْنِهَا، وَمَا مَسَّتْهُ مِنَ الْمَائِعَاتِ، وَالْأَكْلُ مَعَهَا وَمُسَاكَنَتُهَا، مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِيهِمْ لَمْ يُؤَاكِلُوهَا، وَلَا يُجَامِعُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ، فَسَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} الْآيَةَ.فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: » اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ النِّكَاحَ «فَأَنْكَرَتِ الْيَهُودُ ذَلِكَ.فَجَاءَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ فَقَالَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ الْيَهُودَ تَقُولُ: كَذَا كَذَا، فَلَا نُجَامِعُهُنَّ؟ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ قَدْ وَجَدَ عَلَيْهِمَا».
وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِعَائِشَةَ: نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنَ الْمَسْجِدِ فَقَالَتْ: إِنِّي حَائِضٌ.قَالَ: إِنَّ حَيْضَتَك لَيْسَتْ فِي يَدِك».«وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَشْرَبُ مِنْ سُؤْرِ عَائِشَةَ وَهِيَ حَائِضٌ، وَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيهَا».وَكَانَتْ تَغْسِلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَهِيَ حَائِضٌ.
وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.
(3) الصَّلَاةُ:
33- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ مِنَ الْحَائِضِ إِذِ الْحَيْضُ مَانِعٌ لِصِحَّتِهَا.كَمَا أَنَّهُ يَمْنَعُ وُجُوبَهَا، وَيَحْرُمُ عَلَيْهَا أَدَاؤُهَا.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى إِسْقَاطِ فَرْضِ الصَّلَاةِ عَنْهَا فِي أَيَّامِ حَيْضِهَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: «إِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلَاةَ» كَمَا نَقَلَ النَّوَوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى سُقُوطِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَنْهَا.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ سُجُودَ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ فِي مَعْنَى الصَّلَاةِ فَيَحْرُمَانِ عَلَى الْحَائِضِ.
كَمَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قَضَاءَ مَا فَاتَ الْحَائِضَ فِي أَيَّامِ حَيْضِهَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لِمَا رَوَتْ مُعَاذَةُ قَالَتْ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ، وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ فَقُلْتُ: لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ.وَلَكِنْ أَسْأَلُ.فَقَالَتْ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ.ثُمَّ إِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ قَضَائِهَا لِلصَّلَاةِ إِذَا أَرَادَتْ قَضَاءَهَا.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ قَضَائِهَا، وَتَنْعَقِدُ نَفْلًا مُطْلَقًا لَا ثَوَابَ فِيهِ، لِأَنَّهَا مَنْهِيَّةٌ عَنِ الصَّلَاةِ، لِذَاتِ الصَّلَاةِ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ لِذَاتِهِ لَا ثَوَابَ فِيهِ.وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْضَاوِيُّ بِحُرْمَتِهَا.وَخَالَفَ الرَّمْلِيُّ فَقَالَ بِصِحَّتِهَا وَانْعِقَادِهَا عَلَى قَوْلِ الْكَرَاهَةِ الْمُعْتَمَدِ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ طَلَبِ الْعِبَادَةِ عَدَمُ انْعِقَادِهَا.وَقِيلَ لِأَحْمَد فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: فَإِنْ أَحَبَّتْ أَنْ تَقْضِيَهَا؟ قَالَ: لَا، هَذَا خِلَافُ السُّنَّةِ، قَالَ فِي الْفُرُوعِ: فَظَاهِرُ النَّهْيِ التَّحْرِيمُ.وَيَتَوَجَّهُ احْتِمَالٌ أَنَّهُ يُكْرَهُ لَكِنَّهُ بِدْعَةٌ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ إِلاَّ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، لِأَنَّهَا نُسُكٌ لَا آخِرَ لِوَقْتِهِ.
إِدْرَاكُ وَقْتِ الصَّلَاةِ:
الْحَائِضُ إِمَّا أَنْ تُدْرِكَ أَوَّلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ بِأَنْ تَكُونَ طَاهِرًا ثُمَّ يَطْرَأَ الْحَيْضُ، أَوْ تُدْرِكَ آخِرَ الْوَقْتِ بِأَنْ تَكُونَ حَائِضًا ثُمَّ تَطْهُرَ.
(أ) إِدْرَاكُ أَوَّلِ الْوَقْتِ:
34- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا أَدْرَكَتِ الْحَائِضُ أَوَّلَ الْوَقْتِ، بِأَنْ كَانَتْ طَاهِرًا ثُمَّ حَاضَتْ هَلْ تَجِبُ عَلَيْهَا تِلْكَ الصَّلَاةُ أَوْ لَا؟ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ طَرَأَ الْحَيْضُ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ سَقَطَتْ تِلْكَ الصَّلَاةُ، وَلَوْ بَعْدَ مَا افْتَتَحَتِ الْفَرْضَ.
أَمَّا لَوْ طَرَأَ وَهِيَ فِي التَّطَوُّعِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ حَدَثَ الْحَيْضُ فِي وَقْتٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ سَقَطَتِ الصَّلَاتَانِ، وَإِنْ حَدَثَ فِي وَقْتٍ مُخْتَصٍّ بِإِحْدَاهُمَا، سَقَطَتِ الْمُخْتَصَّةُ بِالْوَقْتِ وَقُضِيَتِ الْأُخْرَى.فَمِثْلًا إِنَّ أَوَّلَ الزَّوَالِ مُخْتَصٌّ بِالظُّهْرِ إِلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فِي الْحَضَرِ، وَرَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ، ثُمَّ تَشْتَرِكُ الصَّلَاتَانِ إِلَى أَنْ تَخْتَصَّ الْعَصْرُ بِأَرْبَعٍ قَبْلَ الْغُرُوبِ فِي الْحَضَرِ، وَرَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ.فَلَوْ حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِي وَقْتِ الِاشْتِرَاكِ سَقَطَتِ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ، وَلَوْ حَاضَتْ فِي وَقْتِ الِاخْتِصَاصِ بِالْعَصْرِ وَكَانَتْ لَمْ تُصَلِّ الظُّهْرَ وَلَا الْعَصْرَ سَقَطَ عَنْهَا قَضَاءُ الْعَصْرِ وَحْدَهَا، وَلَوْ حَاضَتْ فِي وَقْتِ الِاخْتِصَاصِ بِالظُّهْرِ سَقَطَتْ، وَإِنْ تَمَادَى الْحَيْضُ إِلَى وَقْتِ الِاشْتِرَاكِ سَقَطَتِ الْعَصْرُ، فَإِنِ ارْتَفَعَ قَبْلَهُ وَجَبَتْ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ طَرَأَ الْحَيْضُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، فَإِنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهَا تِلْكَ الصَّلَاةُ فَقَطْ إِنْ أَدْرَكَتْ قَدْرَ الْفَرْضِ، وَلَا تَجِبُ مَعَهَا الصَّلَاةُ الَّتِي تَجْمَعُ مَعَهَا بَعْدَهَا، وَيَجِبُ الْفَرْضُ الَّذِي قَبْلَهَا أَيْضًا، إِنْ كَانَتْ تَجْمَعُ مَعَهَا وَأَدْرَكَتْ قَدْرَهُ وَلَمْ تَكُنْ قَدْ صَلَّتْهُ لِتَمَكُّنِهَا مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَدْرَكَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ قَدْرَ تَكْبِيرَةٍ، ثُمَّ طَرَأَ الْحَيْضُ لَزِمَهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ الَّتِي أَدْرَكَتِ التَّكْبِيرَةَ مِنْ وَقْتِهَا فَقَطْ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ بِدُخُولِ أَوَّلِ الْوَقْتِ عَلَى مُكَلَّفٍ، لَمْ يَقُمْ بِهِ مَانِعٌ وُجُوبًا مُسْتَقِرًّا، فَإِذَا قَامَ بِهِ مَانِعٌ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُسْقِطْهَا.فَيَجِبُ قَضَاؤُهَا عِنْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ.وَلَا تَلْزَمُهَا غَيْرُ الَّتِي دَخَلَ وَقْتُهَا قَبْلَ طُرُوءِ الْحَيْضِ، لِأَنَّهَا لَمْ تُدْرِكْ جُزْءًا مِنْ وَقْتِهَا، وَلَا مِنْ وَقْتِ تَبَعِهَا فَلَمْ تَجِبْ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
68-موسوعة الفقه الكويتية (خطأ 2)
خَطَأٌ -220- الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: وَعَبَّرَ عَنْهَا ابْنُ نُجَيْمٍ بِقَوْلِهِ: وَأَمَّا مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعْيِينُ فَالْخَطَأُ فِيهِ يَضُرُّ.
وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعْيِينُ فَالْخَطَأُ فِيهِ مُبْطِلٌ، وَمَا يَجِبُ التَّعَرُّضُ لَهُ جُمْلَةً وَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُهُ تَفْصِيلًا إِذَا عَيَّنَهُ وَأَخْطَأَ ضَرَّ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا عِنْدَهُمَا:
1- الْخَطَأُ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ فَإِنَّهُ يَضُرُّ.وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَالَ الْخَرَشِيُّ: إِنْ خَالَفَتْ نِيَّتُهُ لَفْظَهُ، فَالْعِبْرَةُ بِالنِّيَّةِ دُونَ اللَّفْظِ، كَنَاوِي ظُهْرٍ تَلَفَّظَ بِعَصْرٍ مَثَلًا، وَهَذَا إِذَا تَخَالَفَا سَهْوًا، وَأَمَّا إِنْ فَعَلَهُ مُتَعَمِّدًا فَهُوَ مُتَلَاعِبٌ، وَنُقِلَ عَنِ الْإِرْشَادِ أَنَّ الْأَحْوَطَ الْإِعَادَةُ أَيْ فِيمَا إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ سَهْوًا، قَالَ الشَّيْخُ زَرُّوقٌ فِي شَرْحِهِ: لِلْخِلَافِ فِي الشُّبْهَةِ إِذْ يُحْتَمَلُ تَعَلُّقُ النِّيَّةِ بِمَا سَبَقَ إِلَيْهِ لِسَانُهُ.
2- وَكَذَلِكَ إِذَا نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِزَيْدٍ فَإِذَا هُوَ عَمْرٌو لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ.
وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوِ اقْتَدَى شَخْصٌ بِمَنْ يُصَلِّي إِمَامًا بِمَسْجِدٍ مُعَيَّنٍ وَلَا يَدْرِي مَنْ هُوَ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ صَحِيحَةٌ، وَكَذَا إِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ زَيْدٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَمْرٌو فِيمَا يَظْهَرُ، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ الِاقْتِدَاءَ بِهِ إِنْ كَانَ زَيْدًا لَا إِنْ كَانَ عَمْرًا، فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ، وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ زَيْدٌ لِتَرَدُّدِهِ فِي النِّيَّةِ.
3- الْخَطَأُ فِي تَعْيِينِ الْمَيِّتِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ بِأَنْ نَوَى الصَّلَاةَ عَلَى زَيْدٍ فَبَانَ غَيْرُهُ، أَوْ نَوَى الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ الذَّكَرِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أُنْثَى، أَوْ عَكْسُهُ، فَإِنَّهُ يَضُرُّ وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ.
وَوَافَقَهُمَا الْمَالِكِيَّةُ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، فَقَالُوا: إِنْ نَوَى الصَّلَاةَ عَلَى مُعَيَّنٍ مِنْ مَوْتَى يُرِيدُ بِهِ زَيْدًا فَبَانَ غَيْرُهُ جَزَمَ أَبُو الْمَعَالِي أَنَّهَا لَا تَصِحُّ، وَقَالُوا بِالصِّحَّةِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، فَلَوْ نَوَى الصَّلَاةَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ فَبَانَ امْرَأَةً أَوْ عَكْسَهُ، بِأَنْ نَوَى هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَبَانَتْ رَجُلًا، قَالُوا فَالْقِيَاسُ الْإِجْزَاءُ لِقُوَّةِ التَّعْيِينِ عَلَى الصِّفَةِ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ وَغَيْرِهَا.
4- لَوْ نَوَى قَضَاءَ ظُهْرِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَكَانَ عَلَيْهِ ظُهْرُ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ لَمْ يُجْزِئْهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَلَا يَضُرُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِأَنَّهُ لَا يَنْوِي الْأَيَّامَ اتِّفَاقًا، وَقَالُوا.إِنَّ الْمَشْهُورَ عَدَمُ وُجُوبِ نِيَّةِ الْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ وَكَذَا ذِكْرُ الْيَوْمِ الَّذِي هُوَ فِيهِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ كَانَ الظُّهْرَانِ فَائِتَتَيْنِ فَنَوَى ظُهْرًا مِنْهُمَا وَلَمْ يُعَيِّنْهَا لَمْ تُجْزِهِ الظُّهْرُ الَّتِي صَلاَّهَا عَنْ إِحْدَاهُمَا، حَتَّى يُعَيِّنَ السَّابِقَةَ لِأَجْلِ اعْتِبَارِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْفَوَائِتِ.قَالُوا: لَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ صَلَوَاتٌ فَصَلَّى أَرْبَعًا يَنْوِي بِهَا مِمَّا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إِجْمَاعًا، فَلَوْلَا اشْتِرَاطُ التَّعْيِينِ لأَجْزَأَهُ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنْ ظَنَّ أَنَّ عَلَيْهِ ظُهْرًا فَائِتَةً فَقَضَاهَا فِي وَقْتِ ظُهْرِ الْيَوْمِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فَهَلْ يُجْزِئُهُ عَنْ ظُهْرِ الْيَوْمِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُعَيَّنَةٌ، وَإِنَّمَا أَخْطَأَ فِي نِيَّةِ الْوَقْتِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ، كَمَا إِذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الْوَقْتَ قَدْ خَرَجَ فَبَانَ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ، أَوْ كَمَا لَوْ نَوَى ظُهْرَ أَمْسٍ وَعَلَيْهِ ظُهْرُ يَوْمٍ قَبْلَهُ.
وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ عَيْنَ الصَّلَاةِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى قَضَاءَ عَصْرٍ لَمْ يُجْزِهِ عَنِ الظُّهْرِ.
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: الْخَطَأُ فِي الِاعْتِقَادِ دُونَ التَّعْيِينِ:
21- وَمَثَّلَ لَهَا السُّيُوطِيُّ بِجُمْلَةِ أَمْثِلَةٍ مِنْهَا: 1- لَوْ أَدَّى الظُّهْرَ فِي وَقْتِهَا مُعْتَقِدًا أَنَّهُ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ فَكَانَ الثُّلَاثَاءَ صَحَّ.
2- وَلَوْ غَلِطَ فِي الْأَذَانِ فَظَنَّ أَنَّهُ يُؤَذِّنُ لِلظُّهْرِ وَكَانَتِ الْعَصْرُ، قَالَ: لَا أَعْلَمُ فِيهِ نَقْلًا وَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِعْلَامُ مِمَّنْ هُوَ أَهْلُهُ وَقَدْ حَصَلَ.
وَهَذِهِ الْأَمْثِلَةُ أَوْ بَعْضُهَا مَذْكُورَةٌ فِي الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: لَوْ نَوَى قَضَاءَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الصَّوْمِ وَهُوَ يَظُنُّهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَهُوَ غَيْرُهُ جَازَ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: قَالَ الزُّرْقَانِيُّ إِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ زَيْدٌ أَيِ: الْإِمَامَ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَمْرٌو، فَإِنَّ صَلَاتَهُ صَحِيحَةٌ.وَنَحْوُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
ثَانِيًا: الْخَطَأُ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ:
22- مَنْ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ كُلَّ الصَّلَاةِ أَوْ بَعْضَهَا لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ اتِّفَاقًا، سَوَاءٌ فَعَلَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ كَمَا هُوَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ فَهُوَ شَرْطٌ لِصِحَّتِهَا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} أَيْ فَرْضًا مُؤَقَّتًا حَتَّى لَا يَجُوزَ أَدَاءُ الْفَرْضِ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ فُرِضَتْ لِأَوْقَاتِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}
وَلِهَذَا تَكَرَّرَ وُجُوبُهَا بِتَكَرُّرِ الْوَقْتِ، وَتُؤَدَّى فِي مَوَاقِيتِهَا.فَلَوْ شَكَّ فِي دُخُولِ وَقْتِ الْعِبَادَةِ فَأَتَى بِهَا، فَبَانَ أَنَّهُ فَعَلَهَا قَبْلَ الْوَقْتِ لَمْ يُجْزِهِ، قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُجْزِئُهُ، وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا وَقَعَتْ فِيهِ لِتَرَدُّدِ النِّيَّةِ وَعَدَمِ تَيَقُّنِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ.
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ مَعْرِفَةَ دُخُولِ الْوَقْتِ يَقِينًا بِأَنْ شَاهَدَ الشَّمْسَ غَارِبَةً، أَوْ ظَنًّا بِأَنِ اجْتَهَدَ لِغَيْمٍ أَوْ نَحْوِهِ، فَمَنْ صَلَّى بِدُونِ ذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ وَإِنْ وَقَعَتْ فِي الْوَقْتِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ دُخُولُ وَقْتِ الصَّلَاةِ تَصِحُّ صَلَاتُهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ أَنْ يَتَيَقَّنَ دُخُولَهُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ.فَإِنْ صَلَّى مَعَ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ أَعَادَ اتِّفَاقًا.
ثَالِثًا: الْخَطَأُ فِي الْقِبْلَةِ:
23- اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ.
فَإِنْ صَلَّى ثُمَّ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ فِي الْقِبْلَةِ: فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَتَحَرَّى الْمُصَلِّي لِاشْتِبَاهِ الْقِبْلَةِ وَعَدَمِ الْمُخْبِرِ بِهَا، وَلَمْ يُعِدِ الصَّلَاةَ إِنْ أَخْطَأَ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ، وَلَا وُسْعَ فِي إِصَابَةِ الْجِهَةِ حَقِيقَةً، فَصَارَتْ جِهَةُ التَّحَرِّي هُنَا كَجِهَةِ الْكَعْبَةِ لِلْغَائِبِ عَنْهَا، وَقَدْ قِيلَ فِي قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أَيْ قِبْلَةُ اللَّهِ نَزَلَتْ فِي الصَّلَاةِ حَالَ الِاشْتِبَاهِ، وَلَوْ عَلِمَ خَطَأَهُ فِي الصَّلَاةِ، أَوْ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا بِالتَّحَرِّي اسْتَدَارَ فِي الْأَوَّلِ إِلَى جِهَةِ الصَّوَابِ وَفِي الثَّانِي إِلَى جِهَةِ تَحَوُّلِ رَأْيِهِ إِلَيْهَا.
24- وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ لَوْ صَلَّى إِلَى جِهَةِ اجْتِهَادِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ، فَإِنْ كَانَ تَحَرِّيهِ مَعَ ظُهُورِ الْعَلَامَاتِ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ إِنِ اسْتَدْبَرَ، وَكَذَا لَوْ شَرَّقَ أَوْ غَرَّبَ، وَإِنْ كَانَ مَعَ عَدَمِ ظُهُورِهَا فَلَا إِعَادَةَ.
25- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ صَلَّى ثُمَّ تَيَقَّنَ الْخَطَأَ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُعِيدَ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ فِيمَا يَأْمَنُ مِثْلَهُ فِي الْقَضَاءِ فَلَمْ يُعْتَدَّ بِمَا مَضَى، كَالْحَاكِمِ إِذَا حَكَمَ ثُمَّ وُجِدَ النَّصُّ بِخِلَافِهِ، وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ جِهَةٌ تَجُوزُ الصَّلَاةُ إِلَيْهَا بِالِاجْتِهَادِ فَأَشْبَهَ إِذَا لَمْ يَتَيَقَّنِ الْخَطَأَ.وَإِنْ صَلَّى إِلَى جِهَةٍ ثُمَّ رَأَى الْقِبْلَةَ فِي يَمِينِهَا أَوْ شِمَالِهَا لَمْ يُعِدْ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ فِي الْيَمِينِ وَالشِّمَالِ لَا يُعْلَمُ قَطْعًا فَلَا يُنْتَقَضُ بِالِاجْتِهَادِ.
26- وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا صَلَّى بِالِاجْتِهَادِ إِلَى جِهَةٍ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِعَادَةٌ.وَقَالُوا: إِذَا صَلَّى الْبَصِيرُ فِي حَضَرٍ فَأَخْطَأَ، أَوْ صَلَّى الْأَعْمَى بِلَا دَلِيلٍ بِأَنْ لَمْ يَسْتَخْبِرْ مَنْ يُخْبِرُهُ وَلَمْ يَلْمِسَ الْمِحْرَابَ وَنَحْوَهُ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَعْرِفَ بِهِ الْقِبْلَةَ أَعَادَا وَلَوْ أَصَابَا، أَوِ اجْتَهَدَ الْبَصِيرُ؛ لِأَنَّ الْحَضَرَ لَيْسَ بِمَحَلِّ اجْتِهَادٍ لِقُدْرَةِ مَنْ فِيهِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْمَحَارِيبِ وَنَحْوِهَا، وَلِوُجُودِ مَنْ يُخْبِرُهُ عَنْ يَقِينٍ غَالِبًا، وَإِنَّمَا وَجَبَتِ الْإِعَادَةُ عَلَيْهِمَا لِتَفْرِيطِهِمَا بِعَدَمِ الِاسْتِخْبَارِ أَوِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْمَحَارِيبِ.
رَابِعًا: الْخَطَأُ فِي الْقِرَاءَةِ:
27- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: خَطَأُ الْقَارِئِ إِمَّا فِي الْإِعْرَابِ، أَوْ فِي الْحُرُوفِ، أَوْ فِي الْكَلِمَاتِ، أَوِ الْآيَاتِ، وَفِي الْحُرُوفِ إِمَّا بِوَضْعِ حَرْفٍ مَكَانَ آخَرَ أَوْ تَقْدِيمِهِ، أَوْ تَأْخِيرِهِ، أَوْ زِيَادَتِهِ، أَوْ نَقْصِهِ.
أَمَّا الْإِعْرَابُ فَإِنْ لَمْ يُغَيِّرَ الْمَعْنَى لَا تَفْسُدُ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّ تَغْيِيرَهُ خَطَأٌ لَا يُسْتَطَاعُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَيُعْذَرُ، وَإِنْ غَيَّرَ الْمَعْنَى تَغْيِيرًا فَاحِشًا مِمَّا اعْتِقَادُهُ كُفْرٌ، مِثْلُ الْبَارِئِ الْمُصَوَّرِ- بِفَتْحِ الْوَاوِ- وَ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءَ} بِرَفْعِ اسْمِ الْجَلَالَةِ وَنَصْبِ الْعُلَمَاءِ- فَسَدَتْ فِي قَوْلِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ: فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: لَا تَفْسُدُ.وَمَا قَالَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ أَحْوَطُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَعَمَّدَ يَكُونُ كُفْرًا، وَمَا يَكُونُ كُفْرًا لَا يَكُونُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ النَّاسِ الْكُفَّارِ غَلَطًا وَهُوَ مُفْسِدٌ، كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ النَّاسِ سَاهِيًا مِمَّا لَيْسَ بِكُفْرٍ فَكَيْفَ وَهُوَ كُفْرٌ، وَقَوْلُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَوْسَعُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ وُجُوهِ الْإِعْرَابِ.
وَيَتَّصِلُ بِهَذَا تَخْفِيفُ الْمُشَدَّدِ، وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْمَدِّ وَالتَّشْدِيدِ كَالْخَطَأِ فِي الْإِعْرَابِ، فَلِذَا قَالَ كَثِيرٌ بِالْفَسَادِ فِي تَخْفِيفِ- {رَبِّ الْعَالَمِينَ} - و- {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} - وَالْأَصَحُّ لَا تَفْسُدُ.
وَأَمَّا فِي الْحُرُوفِ فَإِذَا وَضَعَ حَرْفًا مَكَانَ غَيْرِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَطَأً أَوْ عَجْزًا، فَالْأَوَّلُ إِنْ لَمْ يُغَيِّرَ الْمَعْنَى وَكَانَ مِثْلُهُ مَوْجُودًا فِي الْقُرْآنِ نَحْوُ- إِنَّ الْمُسْلِمُونَ- لَا تَفْسُدُ، وَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْ وَلَيْسَ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ نَحْوُ- قَيَّامِينَ بِالْقِسْطِ- وَالتَّيَّابِينَ- وَالْحَيُّ الْقَيَّامُ- لَمْ تَفْسُدْ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَفْسُدُ.وَإِنْ غَيَّرَ الْمَعْنَى فَسَدَتْ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ.فَلَوْ قَرَأَ أَصْحَابَ الشَّعِيرِ- بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ فَسَدَتِ اتِّفَاقًا- فَالْعِبْرَةُ فِي عَدَمِ الْفَسَادِ عِنْدَهُمَا بِعَدَمِ تَغَيُّرِ الْمَعْنَى- وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْعِبْرَةُ بِوُجُودِ الْمِثْلِ فِي الْقُرْآنِ.
وَأَمَّا التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فَإِنْ غَيَّرَ، نَحْوَ قَوْسَرَةٍ فِي قَسْوَرَةٍ فَسَدَتْ، وَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْ لَا تَفْسُدُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ وَمِنْهَا فَكُّ الْمُدْغَمِ، فَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْ نَحْوُ (وَانْهَا عَنِ الْمُنْكَرِ) بِالْأَلِفِ (وَرَادِدُوهُ إِلَيْكَ) لَا تَفْسُدُ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ.وَإِنْ غَيَّرَ نَحْوُ (زَرَابِيبَ) مَكَانَ (زَرَابِيُّ) (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (وَإِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) بِزِيَادَةِ الْوَاوِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ تَفْسُدُ.
وَكَذَا النُّقْصَانُ إِنْ لَمْ يُغَيِّرْ لَا تَفْسُدُ نَحْوُ (جَاءَهُمْ) مَكَانَ (جَاءَتْهُمْ) وَإِنْ غَيَّرَ فَسَدَ نَحْوُ (النَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى مَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) بِلَا وَاوٍ.
أَمَّا الْكَلِمَةُ مَكَانَ الْكَلِمَةِ فَإِنْ تَقَارَبَا مَعْنًى، وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَالْحَكِيمِ مَكَانَ الْعَلِيمِ، لَمْ تَفْسُدِ اتِّفَاقًا، وَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الْمِثْلُ كَالْفَاجِرِ مَكَانَ الْأَثِيمِ فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ، فَلَوْ لَمْ يَتَقَارَبَا وَلَا مِثْلَ لَهُ فَسَدَتِ اتِّفَاقًا إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَكَرًا، وَإِنْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ مِمَّا اعْتِقَادُهُ كُفْرٌ كَغَافِلِينَ فِي {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} فَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ عَلَى أَنَّهَا تَفْسُدُ اتِّفَاقًا.
وَأَمَّا التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْ لَمْ تَفْسُدْ نَحْوُ {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا}، وَإِنْ غَيَّرَ فَسَدَتْ نَحْوُ الْيُسْرِ مَكَانَ الْعُسْرِ وَعَكْسُهُ.
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فَإِنْ لَمْ تُغَيِّرْ وَهِيَ فِي الْقُرْآنِ نَحْوُ (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِرًّا) لَا تَفْسُدُ فِي قَوْلِهِمْ، وَإِنْ غَيَّرَتْ فَسَدَتِ الصَّلَاةُ لِأَنَّهُ لَوْ تَعَمَّدَهُ كَفَرَ، فَإِذَا أَخْطَأَ فِيهِ أَفْسَدَ.
مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:
28- بَحَثَ الْمَالِكِيَّةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي صَلَاةِ الْمُقْتَدِي بِاللاَّحِنِ.
فَقَالَ الْخَرَشِيُّ: قِيلَ: تَبْطُلُ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي بِلَاحِنٍ مُطْلَقًا، أَيْ فِي الْفَاتِحَةِ أَوْ غَيْرِهَا، سَوَاءٌ غَيَّرَ الْمَعْنَى كَكَسْرِ كَافِ {إِيَّاكَ} وَضَمِّ تَاءِ {أَنْعَمْتُ} أَمْ لَا، وُجِدَ غَيْرُهُ أَمْ لَا، إِنْ لَمْ تَسْتَوِ حَالَتُهُمَا أَوْ إِنْ كَانَ لَحْنُهُ فِي الْفَاتِحَةِ دُونَ غَيْرِهَا؟ قَوْلَانِ.ثُمَّ قَالَ: وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَنْ عَجَزَ عَنْ تَعَلُّمِ الصَّوَابِ لِضِيقِ الْوَقْتِ أَوْ لِعَدَمِ مَنْ يُعَلِّمُهُ مَعَ قَبُولِ التَّعْلِيمِ، أَوِ ائْتَمَّ بِهِ مَنْ لَيْسَ مِثْلَهُ لِعَدَمِ وُجُودِ غَيْرِهِ.وَأَمَّا مَنْ تَعَمَّدَ اللَّحْنَ فَصَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنِ اقْتَدَى بِهِ بَاطِلَةٌ بِلَا نِزَاعٍ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِكَلِمَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ فِي صَلَاتِهِ، وَمَنْ فَعَلَهُ سَاهِيًا لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَلَا صَلَاةَ مَنِ اقْتَدَى بِهِ قَطْعًا بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَهَا عَنْ كَلِمَةٍ فَأَكْثَرَ فِي الْفَاتِحَةِ أَوْ غَيْرِهَا.
وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَجْزًا بِأَنْ لَا يَقْبَلَ التَّعْلِيمَ فَصَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنِ اقْتَدَى بِهِ صَحِيحَةٌ أَيْضًا قَطْعًا، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَلْكِنَةِ، وَسَوَاءٌ وُجِدَ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ أَوْ لَا.
وَإِنْ كَانَ عَجْزُهُ لِضِيقِ الْوَقْتِ أَوْ لِعَدَمِ مَنْ يُعَلِّمُهُ مَعَ قَبُولِهِ التَّعْلِيمَ، فَإِنْ كَانَ مَعَ وُجُودِ مَنْ يَأْتَمُّ بِهِ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ وَصَلَاةَ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ بَاطِلَةٌ سَوَاءٌ أَكَانَ مِثْلَ الْإِمَامِ فِي اللَّحْنِ أَمْ لَا، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَأْتَمُّ بِهِ فَصَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنِ اقْتَدَى بِهِ صَحِيحَةٌ إِنْ كَانَ مِثْلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَهُ بِأَنْ كَانَ يَنْطِقُ بِالصَّوَابِ فِي كُلِّ قِرَاءَتِهِ، أَوْ صَوَابُهُ أَكْثَرُ مِنْ صَوَابِ إِمَامِهِ فَإِنَّهُ مَحَلُّ خِلَافٍ.
وَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي بِغَيْرِ مُمَيِّزٍ بَيْنَ ضَادٍ وَظَاءٍ مَا لَمْ تَسْتَوِ حَالَتُهُمَا؟ قَالَ بِالْبُطْلَانِ: ابْنُ أَبِي زَيْدٍ وَالْقَابِسِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ يُونُسَ وَعَبْدُ الْحَقِّ.
وَأَمَّا صَلَاتُهُ هُوَ فَصَحِيحَةٌ، إِلاَّ أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ عَمْدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.ثُمَّ قَالَ: وَظَاهِرُهُ جَرَيَانُ هَذَا الْخِلَافِ فِيمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الضَّادِ وَالظَّاءِ فِي الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا، وَفِي الْمَوَّاقِ تَقْيِيدُهُ بِمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الضَّادِ وَالظَّاءِ بَيْنَهُمَا فِي الْفَاتِحَةِ، وَذَكَرَ الْحَطَّابُ وَالنَّاصِرُ اللَّقَانِيُّ مَا يُفِيدُ أَنَّ الرَّاجِحَ صِحَّةُ الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَهُمَا، وَحَكَى الْمَوَّاقُ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ، وَحُكْمُ مَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الصَّادِ وَالسِّينِ كَمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الضَّادِ وَالظَّاءِ، وَكَذَا بَيْنَ الزَّايِ وَالسِّينِ.
29- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِلَاحِنٍ بِمَا لَا يُغَيِّرُ الْمَعْنَى كَضَمِّ الْهَاءِ فِي {لِلَّهِ} فَإِنْ غَيَّرَ مَعْنًى فِي الْفَاتِحَةِ كَأَنْعَمْتُ بِضَمٍّ أَوْ كَسْرٍ وَلَمْ يُحْسِنَ اللاَّحِنُ الْفَاتِحَةَ فَكَأُمِّيٍّ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِهِ أَمْكَنَهُ التَّعَلُّمُ أَوْ لَا وَلَا صَلَاتُهُ إِنْ أَمْكَنَهُ التَّعَلُّمُ وَإِلاَّ صَحَّتْ كَاقْتِدَائِهِ بِمِثْلِهِ فَإِنْ أَحْسَنَ اللاَّحِنُ الْفَاتِحَةَ وَتَعَمَّدَ اللَّحْنَ أَوْ سَبَقَ لِسَانُهُ إِلَيْهِ وَلَمْ يُعِدِ الْقِرَاءَةَ عَلَى الصَّوَابِ فِي الثَّانِيَةِلَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ مُطْلَقًا وَلَا الِاقْتِدَاءُ بِهِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ أَوْ فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ كَجَرِّ اللاَّمِ فِي قَوْلِهِ {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْمُقْتَدِي بِهِ حَالَ كَوْنِهِ عَاجِزًا عَنِ التَّعَلُّمِ، أَوْ جَاهِلًا بِالتَّحْرِيمِ، أَوْ نَاسِيًا كَوْنَهُ فِي الصَّلَاةِ.
30- وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا تَصِحُّ إِمَامَةُ الْأُمِّيِّ وَهُوَ مَنْ لَا يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ أَوْ يُدْغِمُ مِنْهَا حَرْفًا لَا يُدْغَمُ، أَوْ يَلْحَنُ فِيهَا لَحْنًا يُحِيلُ الْمَعْنَى كَفَتْحِ هَمْزَةِ اهْدِنَا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِمَعْنَى طَلَبِ الْهَدِيَّةِ لَا الْهِدَايَةِ، وَضَمِّ تَاءِ أَنْعَمْتُ وَكَسْرِهَا وَكَسْرِ كَافِ إِيَّاكَ، فَإِنْ لَمْ يَحِلَّ الْمَعْنَى كَفَتْحِ دَالِ نَعْبُدُ وَنُونِ نَسْتَعِينُ فَلَيْسَ أُمِّيًّا وَإِنْ أَتَى بِاللَّحْنِ الْمُحِيلِ لِلْمَعْنَى مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِصْلَاحِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْ كَوْنِهِ قُرْآنًا فَهُوَ كَسَائِرِ الْكَلَامِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ غَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ إِصْلَاحِ اللَّحْنِ الْمُحِيلِ لِلْمَعْنَى قَرَأَهُ فِي فَرْضِ الْقِرَاءَةِ لِحَدِيثِ: « إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ » وَمَا زَادَ عَنِ الْفَاتِحَةِ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِعَمْدِهِ.
خَامِسًا: الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ خَطَأٌ:
31- إِنْ أَرَادَ الْمُصَلِّي قِرَاءَةً أَوْ ذِكْرًا فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ كَلَامُ النَّاسِ قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: فَإِنْ تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا مُخْطِئًا أَوْ قَاصِدًا اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ لِحَدِيثِ « وَلْيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ » فَدَلَّ أَنَّ بَعْدَ الْكَلَامِ لَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ قَطُّ وَلِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: « إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ ».هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أَمَّا عِنْدَ غَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ يَسِيرِ الْكَلَامِ وَكَثِيرِهِ وَقَالُوا: إِنَّ الْيَسِيرَ مِنْهُ خَطَأٌ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَيُفْسِدُهَا الْكَلَامُ الْكَثِيرُ.وَتَفْصِيلُهُ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاةٌ).
سَادِسًا: شَكُّ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ:
32- إِنْ سَهَا الْإِمَامُ فِي صَلَاتِهِ فَسَبَّحَ اثْنَانِ يَثِقُ الْإِمَامُ بِقَوْلِهِمَا لَزِمَهُ قَبُولُهُ وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ سَوَاءٌ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صَوَابُهُمَا أَوْ خَطَؤُهُمَا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- رَجَعَ إِلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رضي الله عنهما- فِي حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ لَمَّا سَأَلَهُمَا « أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ ».فَقَالَا نَعَمْ.مَعَ أَنَّهُ كَانَ شَاكًّا بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَنْكَرَ مَا قَالَ ذُو الْيَدَيْنِ وَسَأَلَهُمَا عَنْ صِحَّةِ قَوْلِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ خَطَؤُهُمَا لَمْ يَعْمَلْ بِقَوْلِهِمَا.لِأَنَّ مَنْ شَكَّ فِي فِعْلِ نَفْسِهِ لَمْ يَرْجِعْ فِيهِ إِلَى قَوْلِ غَيْرِهِ. أَمَّا إِذَا تَيَقَّنَ الْإِمَامُ مِنْ صَوَابِهِ وَخَطَأِ الْمَأْمُومِينَ لَمْ يَجُزْ لَهُ مُتَابَعَتُهُمْ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ وَجُمْهُورُ الْحَنَابِلَةِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الطَّبَرِيِّ وَصَحَّحَهُ الْمُتَوَلِّي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ الْمُخْبِرِينَ إِذَا كَانُوا كَثِيرِينَ كَثْرَةً ظَاهِرَةً بِحَيْثُ يَبْعُدُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْخَطَأِ لَزِمَهُ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِهِمْ كَالْحَاكِمِ يَحْكُمُ بِالشَّاهِدَيْنِ وَيَتْرُكُ يَقِينَ نَفْسِهِ.
سَابِعًا: الْخَطَأُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ:
33- رَأَى الْمُسْلِمُونَ فِي حَالَةِ الْخَوْفِ سَوَادًا فَظَنُّوهُ خَطَأً عَدُوًّا وَصَلَّوْا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَدُوًّا، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ حَائِلٌ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إِلَيْهِمُ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْأَوَّلُ: تَلْزَمُهُمْ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ الْمُبِيحُ فَأَشْبَهَ مَنْ ظَنَّ الطَّهَارَةَ ثُمَّ عَلِمَ بِحَدَثِهِ، سَوَاءٌ اسْتَنَدَ الظَّنُّ لِخَبَرِ ثِقَةٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلِأَنَّهُمْ تَيَقَّنُوا الْغَلَطَ فِي الْقِبْلَةِ.
الثَّانِي: لَا يُعِيدُونَ وَتُجْزِئُهُمْ صَلَاتُهُمْ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ.وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِوُجُودِ الْخَوْفِ حَالَ الصَّلَاةِ.
ج- الزَّكَاةُ:
أَوَّلًا: الْخَطَأُ فِي الْخَرْصِ:
34- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا خَرَصَ الثَّمَرَةَ فَوُجِدَتْ أَكْثَرُ مِمَّا خَرَصَ يَأْخُذُ زَكَاةَ الزَّائِدِ، قِيلَ: وُجُوبًا، وَقِيلَ: اسْتِحْبَابًا، وَمَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ حَمَلَهُ عَلَى الْحَاكِمِ يَحْكُمُ ثُمَّ يَظْهَرُ أَنَّهُ خَطَأٌ صُرَاحٌ، وَمَنْ قَالَ بِالِاسْتِحْبَابِ حَمَلَهُ عَلَى التَّعْلِيلِ بِقِلَّةِ إِصَابَةِ الْخِرَاصِ.
أَمَّا إِذَا ثَبَتَ نَقْصُ الثَّمَرَةِ، فَإِنْ ثَبَتَ النَّقْصُ بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ عَمِلَ بِهَا، وَإِلاَّ لَمْ تَنْقُصِ الزَّكَاةُ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ رَبِّهَا فِي نَقْصِهَا لِاحْتِمَالِ كَوْنِ النَّقْصِ مِنْهُ.وَلَوْ تَحَقَّقَ أَنَّ النَّقْصَ مِنْ خَطَأِ الْخَارِصِ نَقَصَتِ الزَّكَاةُ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَاعِدَةِ- الْوَاجِبُ الِاجْتِهَادُ أَوِ الْإِصَابَةُ. 35- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنِ ادَّعَى الْمَالِكُ أَنَّ الْخَارِصَ أَخْطَأَ أَوْ غَلِطَ فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنَ الْقَدْرَ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ بِلَا خِلَافٍ.وَإِنْ بَيَّنَهُ، وَكَانَ يَحْتَمِلُ الْغَلَطَ فِي مِثْلِهِ كَخَمْسَةِ أَوْسُقٍ فِي مِائَةٍ قُبِلَ قَوْلُهُ، وَحُطَّ عَنْهُ مَا ادَّعَاهُ، فَإِنِ اتَّهَمَهُ حَلَّفَهُ، وَفِي الْيَمِينِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا مُسْتَحَبَّةٌ.هَذَا إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى فَوْقَ مَا يَقَعُ بَيْنَ الْكَيْلَيْنِ، أَمَّا إِذَا ادَّعَى بَعْدَ الْكَيْلِ غَلَطًا يَسِيرًا فِي الْخَرْصِ بِقَدْرِ مَا يَقَعُ بَيْنَ الْكَيْلَيْنِ كَصَاعٍ مِنْ مِائَةٍ فَهَلْ يُحَطُّ مِنْهُ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا.لَا يُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقِ النَّقْصُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْكَيْلِ، وَلَوْ كِيلَ ثَانِيًا لَوَفَّى.وَالثَّانِي: يُقْبَلُ وَيُحَطُّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْكَيْلَ تَعَيَّنَ وَالْخَرْصُ تَخْمِينٌ فَالْإِحَالَةُ عَلَيْهِ أَوْلَى.
أَمَّا إِذَا ادَّعَى نَقْصًا فَاحِشًا لَا يُجَوِّزُ أَهْلُ الْخِبْرَةِ وُقُوعَ مِثْلِهِ غَلَطًا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي حَطِّ جَمِيعِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَهَلْ يُقْبَلُ فِي حَطِّ الْمُمْكِنِ فِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا يُقْبَلُ.
36- وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنِ ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ غَلَطَ الْخَارِصِ وَكَانَ مَا ادَّعَاهُ مُحْتَمَلًا قُبِلَ قَوْلُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ غَلَطَ النِّصْفِ أَوْ نَحْوِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ فَيُعْلَمُ كَذِبُهُ، وَإِنْ قَالَ لَمْ يَحْصُلْ فِي يَدِيَّ غَيْرُ هَذَا قُبِلَ مِنْهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتْلَفُ بَعْضُهَا بِآفَةٍ لَا نَعْلَمُهَا.
ثَانِيًا: الْخَطَأُ فِي مَصْرِفِ الزَّكَاةِ:
37- إِذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ لِمَنْ ظَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا فَبَانَ خَطَؤُهُ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْأَوَّلُ: يُجْزِئُهُ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَمَالِكٍ إِذَا كَانَ الدَّافِعُ هُوَ السُّلْطَانُ أَوِ الْوَصِيُّ أَوْ مُقَدَّمُ الْقَاضِي وَتَعَذَّرَ رَدُّهَا.
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ « مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- أَنَا وَأَبِي وَجَدِّي، وَخَطَبَ عَلِيٌّ فَأَنْكَحَنِي وَخَاصَمْتُ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبِي يَزِيدَ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ، فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ، وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ » فَجَوَّزَ - صلى الله عليه وسلم- ذَلِكَ وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ أَنَّ الصَّدَقَةَ كَانَتْ فَرِيضَةً أَوْ تَطَوُّعًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَالَ لَا تَخْتَلِفُ، أَوْ لِأَنَّ مُطْلَقَ الصَّدَقَةِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْفَرِيضَةِ، وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا هُوَ بِالِاجْتِهَادِ لَا الْقَطْعِ فَيُبْنَى الْأَمْرُ عَلَى مَا يَقَعُ عِنْدَهُ كَمَا إِذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ، وَلَوْ فُرِضَ تَكَرُّرُ خَطَئِهِ فَتَكَرَّرَتِ الْإِعَادَةُ أَفْضَى إِلَى الْحَرَجِ لِإِخْرَاجِ كُلِّ مَالِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الزَّكَاةُ خُصُوصًا مَعَ كَوْنِ الْحَرَجِ مَدْفُوعًا عُمُومًا.
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: لَا يُجْزِئُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ إِلاَّ أَنَّهُ قَالَ لَا يَسْتَرِدُّهُ.وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ أَيْضًا إِذَا كَانَ الدَّافِعُ هُوَ رَبُّ الْمَالِ.وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَ الدَّافِعُ هُوَ الْإِمَامُ وَيَسْتَرْجِعُ مِنَ الْمَدْفُوعِ إِلاَّ أَنْ يَتَعَذَّرَ الِاسْتِرْجَاعُ مِنَ الْقَابِضِ فَلَا ضَمَانَ، وَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ هُوَ رَبُّ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ عَنِ الْفَرْضِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيَّنَ أَنَّهَا زَكَاةٌ لَمْ يَرْجِعْ، وَإِنْ بَيَّنَ رَجَعَ فِي عَيْنِهَا فَإِنْ تَلِفَتْ فَفِي بَدَلِهَا، فَإِنْ تَعَذَّرَ الِاسْتِرْجَاعُ فَفِي الضَّمَانِ وَإِخْرَاجِ بَدَلِهَا قَوْلَانِ: قَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَذْهَبُ أَنَّهَا لَا تُجْزِئُهُ وَيَلْزَمُهُ الْإِخْرَاجُ.
وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ فِي غَيْرِ مَنْ ظَنَّهُ فَقِيرًا فَبَانَ غَنِيًّا وَقَالُوا: يَسْتَرِدُّهَا رَبُّهَا بِزِيَادَتِهَا مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَّصِلَةً أَمْ مُنْفَصِلَةً.
وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ: بِأَنَّهُ ظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ، وَكَانَ بِإِمْكَانِهِ الْوُقُوفُ عَلَى مَدَى اسْتِحْقَاقِهِ أَوْ عَدَمِهِ فَصَارَ كَالْأَوَانِي وَالثِّيَابِ، فَإِذَا تَحَرَّى فِي الْأَوَانِي الطَّاهِرَةِ الْمُخْتَلِطَةِ بِالنَّجِسَةِ وَتَوَضَّأَ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ الْخَطَأُ يُعِيدُ الْوُضُوءَ، وَكَذَلِكَ الثِّيَابُ إِذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ مِنْهَا بِالتَّحَرِّي ثُمَّ ظَهَرَ خَطَؤُهُ أَعَادَ الصَّلَاةَ، وَمِثْلُهُ إِذَا قَضَى الْقَاضِي بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ.وَلِأَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ وَهُوَ لَا يَخْفَى حَالُهُ غَالِبًا فَلَمْ يُعْذَرْ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ.
وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ دَفْعِهَا خَطَأً إِلَى مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا لِكُفْرٍ أَوْ شَرَفٍ، وَبَيْنَ دَفْعِهَا لِمَنْ ظَنَّهُ فَقِيرًا فَبَانَ غَنِيًّا، فَقَالُوا: لَا تُجْزِئُ إِذَا دَفَعَهَا لِلْكَافِرِ أَوْ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا لِكَوْنِهِ هَاشِمِيًّا، وَلَهُ حَقُّ اسْتِرْدَادِ مَا دَفَعَ.لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِبْرَاءُ الذِّمَّةِ بِالزَّكَاةِ وَلَمْ يَحْصُلْ لِدَفْعِهَا لِلْكَافِرِ، فَيَمْلِكُ الرُّجُوعَ بِخِلَافِ دَفْعِهَا لِلْغَنِيِّ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الثَّوَابُ وَلَمْ يَفُتْ.
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي عَدَمِ الِاسْتِرْدَادِ أَنَّ فَسَادَ جِهَةِ الزَّكَاةِ لَا يَنْقُضُ الْأَدَاءَ. د- الصَّوْمُ:
أَوَّلًا: الْخَطَأُ فِي صِفَةِ نِيَّةِ صَوْمِ رَمَضَانَ:
38- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَطْلَقَ الصَّائِمُ نِيَّةَ الصَّوْمِ فِي أَدَاءِ رَمَضَانَ، أَوْ نَوَى النَّفَلَ أَوْ وَصَفَهُ وَأَخْطَأَ الْوَصْفَ صَحَّ صَوْمُهُ.
قَالَ فِي الدُّرَرِ: وَصَحَّ الصَّوْمُ بِمُطْلَقِهَا أَيِ النِّيَّةِ، وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ، وَبِخَطَأِ الْوَصْفِ فِي أَدَاءِ رَمَضَانَ لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ الْوَقْتَ مُتَعَيِّنٌ لِصَوْمِ رَمَضَانَ، وَالْإِطْلَاقُ فِي الْمُتَعَيِّنِ تَعْيِينٌ، وَالْخَطَأُ فِي الْوَصْفِ لَمَّا بَطَلَ بَقِيَ أَصْلُ النِّيَّةِ فَكَانَ فِي حُكْمِ الْمُطْلَقِ، نَظِيرُهُ الْمُتَوَحِّدُ فِي الدَّارِ إِذَا نُودِيَ بِيَا رَجُلُ أَوْ بِاسْمٍ غَيْرِ اسْمِهِ يُرَادُ بِهِ ذَلِكَ بِخِلَافِ قَضَاءِ رَمَضَانَ حَيْثُ لَا تَعْيِينَ فِي وَقْتِهِ إِلاَّ إِذَا وَقَعَتِ النِّيَّةُ مِنْ مَرِيضٍ أَوْ مُسَافِرٍ حَيْثُ يَحْتَاجُ حِينَئِذٍ إِلَى التَّعْيِينِ وَلَا يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (صَوْمٌ، نِيَّةٌ).
ثَانِيًا: الْخَطَأُ فِي الْإِفْطَارِ:
39- مَنْ كَانَ ذَاكِرًا لِلصَّوْمِ فَأَفْطَرَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَمَا إِذَا تَمَضْمَضَ فَدَخَلَ الْمَاءُ فِي حَلْقِهِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ: يَبْطُلُ الصَّوْمُ وَيَلْزَمُ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ عُذْرٌ لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ بِخِلَافِ النِّسْيَانِ فَإِنَّهُ عُذْرٌ غَالِبٌ؛ وَلِأَنَّ الْوُصُولَ إِلَى الْجَوْفِ مَعَ التَّذَكُّرِ فِي الْخَطَأِ لَيْسَ إِلاَّ لِتَقْصِيرٍ فِي الِاحْتِرَازِ فَيُنَاسِبُ الْفَسَادَ، إِذْ فِيهِ نَوْعُ إِضَافَةٍ إِلَيْهِ بِخِلَافِ النِّسْيَانِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: عَدَمُ الْبُطْلَانِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ كَغُبَارِ الطَّرِيقِ وَغَرْبَلَةِ الدَّقِيقِ وَالذُّبَابِ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ بَالَغَ أَفْطَرَ وَإِلاَّ فَلَا، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ « بَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَائِمًا » فَنَهَاهُ عَنِ الْمُبَالَغَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ وُصُولُ الْمَاءِ فِي الْمُبَالَغَةِ يُبْطِلُ صَوْمَهُ لَمْ يَكُنْ لِلنَّهْيِ عَنِ الْمُبَالَغَةِ مَعْنًى، وَلِأَنَّ الْمُبَالِغَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا فِي الصَّوْمِ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ سَبَبٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فَهُوَ كَالْمُبَاشَرَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا جَرَحَ إِنْسَانًا فَمَاتَ جُعِلَ كَأَنَّهُ بَاشَرَ قَتْلَهُ.
ثَالِثًا: الْخَطَأُ فِي تَعْيِينِ رَمَضَانَ لِلْأَسِيرِ:
40- إِنِ اشْتَبَهَتِ الشُّهُورُ عَلَى أَسِيرٍ لَزِمَهُ أَنْ يَتَحَرَّى وَيَصُومَ، فَإِنْ وَافَقَ صَوْمُهُ شَهْرًا قَبْلَ رَمَضَانَ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى عَدَمِ الْإِجْزَاءِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْعِبَادَةَ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهَا، فَلَمْ تُجْزِهِ كَمَنْ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ وَلِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ فِيمَا يَأْمَنُ مِثْلَهُ فِي الْقَضَاءِ فَلَمْ يُعْتَدَّ لَهُ بِمَا فَعَلَهُ، كَمَا لَوْ تَحَرَّى فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْوَقْتِ.
وَيَرَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ النَّوَوِيُّ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
69-موسوعة الفقه الكويتية (خطبة 1)
خِطْبَةٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الْخِطْبَةُ- بِكَسْرِ الْخَاءِ- مَصْدَرُ خَطَبَ، يُقَالُ: خَطَبَ الْمَرْأَةَ خِطْبَةً وَخَطْبًا، وَاخْتَطَبَهَا، إِذَا طَلَبَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَاخْتَطَبَ الْقَوْمُ فُلَانًا إِذَا دَعَوْهُ إِلَى تَزْوِيجِ صَاحِبَتِهِمْ.وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
النِّكَاحُ:
2- النِّكَاحُ مَصْدَرُ نَكَحَ، يُقَالُ: نَكَحَ فُلَانٌ امْرَأَةً يَنْكِحُهَا إِذَا تَزَوَّجَهَا، وَنَكَحَهَا يَنْكِحُهَا: وَطِئَهَا أَيْضًا.
وَاصْطِلَاحًا: عَقْدٌ يُفِيدُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ قَصْدًا، بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ شَرْعِيٍّ.وَالْخِطْبَةُ مُقَدِّمَةٌ لِلنِّكَاحِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى النِّكَاحِ.
وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3- الْخِطْبَةُ فِي الْغَالِبِ وَسِيلَةٌ لِلنِّكَاحِ، إِذْ لَا يَخْلُو عَنْهَا فِي مُعْظَمِ الصُّوَرِ، وَلَيْسَتْ شَرْطًا لِصِحَّةِ النِّكَاحِ فَلَوْ تَمَّ بِدُونِهَا كَانَ صَحِيحًا، وَحُكْمُهَا الْإِبَاحَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْخِطْبَةَ مُسْتَحَبَّةٌ لِفِعْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- حَيْثُ « خَطَبَ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، وَخَطَبَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ- رضي الله عنهم- ».
أَوَّلًا: اخْتِلَافُ حُكْمِ الْخِطْبَةِ بِالنَّظَرِ إِلَى حَالِ الْمَرْأَةِ:
أ- خِطْبَةُ الْخَلِيَّةِ:
4- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْخَلِيَّةَ مِنَ النِّكَاحِ وَالْعِدَّةِ وَالْخِطْبَةِ وَمَوَانِعِ النِّكَاحِ تَجُوزُ خِطْبَتُهَا تَصْرِيحًا وَتَعْرِيضًا.
وَأَمَّا الْمَنْكُوحَةُ، أَوِ الْمُعْتَدَّةُ، أَوِ الْمَخْطُوبَةُ، أَوِ الَّتِي قَامَ بِهَا مَانِعٌ مِنْ مَوَانِعِ النِّكَاحِ، فَلَا تَجُوزُ خِطْبَتُهَا عَلَى التَّفْصِيلِ الْآتِي:
خِطْبَةُ زَوْجَةِ الْغَيْرِ:
5- لَا تَجُوزُ خِطْبَةُ الْمَنْكُوحَةِ تَصْرِيحًا أَوْ تَعْرِيضًا؛ لِأَنَّ الْخِطْبَةَ مُقَدِّمَةٌ لِلنِّكَاحِ، وَمَنْ كَانَتْ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ لَا يَجُوزُ لِلْغَيْرِ أَنْ يَنْكِحَهَا فَلَا تَصِحُّ خِطْبَتُهَا وَلَا تَجُوزُ بَلْ تَحْرُمُ.
خِطْبَةُ مَنْ قَامَ بِهَا مَانِعٌ:
6- لَا تَجُوزُ خِطْبَةُ مَنْ قَامَ بِهَا مَانِعٌ مِنْ مَوَانِعِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْخِطْبَةَ مُقَدِّمَةٌ إِلَى النِّكَاحِ، وَمَا دَامَ مَمْنُوعًا فَتَكُونُ الْخِطْبَةُ كَذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَحِلُّ خِطْبَةُ نَحْوِ مَجُوسِيَّةٍ لِيَنْكِحَهَا إِذَا أَسْلَمَتْ.
خِطْبَةُ الْمُعْتَدَّةِ:
7- يَخْتَلِفُ حُكْمُ خِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ بِاخْتِلَافِ لَفْظِ الْخِطْبَةِ (تَصْرِيحًا كَانَ أَوْ تَعْرِيضًا) وَبِاخْتِلَافِ حَالَةِ الْمُعْتَدَّةِ (رَجْعِيَّةً كَانَتْ أَوْ بَائِنًا بِطَلَاقٍ، أَوْ فَسْخٍ، أَوِ انْفِسَاخٍ، أَوْ مَوْتٍ، أَوْ مُعْتَدَّةٍ مِنْ شُبْهَةٍ).
التَّصْرِيحُ بِالْخِطْبَةِ:
8- هُوَ مَا يَقْطَعُ بِالرَّغْبَةِ فِي النِّكَاحِ وَلَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ، كَقَوْلِ الْخَاطِبِ لِلْمُعْتَدَّةِ: أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ، أَوْ: إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُكِ تَزَوَّجْتُكِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّصْرِيحَ بِخِطْبَةِ مُعْتَدَّةِ الْغَيْرِ حَرَامٌ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ أَمْ بَائِنٍ، أَمْ وَفَاةٍ، أَمْ فَسْخٍ، أَمْ غَيْرِ ذَلِكَ لِمَفْهُومِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} وَلِأَنَّ الْخَاطِبَ إِذَا صَرَّحَ بِالْخِطْبَةِ تَحَقَّقَتْ رَغْبَتُهُ فِيهَا فَرُبَّمَا تَكْذِبُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ.وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.
التَّعْرِيضُ بِالْخِطْبَةِ:
9- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: التَّعْرِيضُ أَنْ يُضَمِّنَ كَلَامَهُ مَا يَصْلُحُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ وَغَيْرِهِ إِلاَّ أَنَّ إِشْعَارَهُ بِالْمَقْصُودِ أَتَمُّ، وَيُسَمَّى تَلْوِيحًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكِنَايَةِ أَنَّ التَّعْرِيضَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَالْكِنَايَةَ هِيَ التَّعْبِيرُ عَنِ الشَّيْءِ بِلَازِمِهِ، كَقَوْلِنَا فِي كَرَمِ الشَّخْصِ: هُوَ طَوِيلُ النِّجَادِ كَثِيرُ الرَّمَادِ.
وَعَرَّفَ الشَّافِعِيَّةُ التَّعْرِيضَ بِالْخِطْبَةِ بِأَنَّهُ: مَا يَحْتَمِلُ الرَّغْبَةَ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهَا كَقَوْلِهِ: وَرُبَّ رَاغِبٍ فِيكِ، وَمَنْ يَجِدُ مِثْلَكِ؟
وَقَالُوا: وَنَحْوُ الْكِنَايَةِ وَهِيَ الدَّلَالَةُ عَلَى الشَّيْءِ بِذِكْرِ لَازِمِهِ قَدْ يُفِيدُ مَا يُفِيدُهُ التَّصْرِيحُ كَأُرِيدُ أَنْ أُنْفِقَ عَلَيْكِ نَفَقَةَ الزَّوْجَاتِ وَتَحِلِّينَ لِي، وَقَدْ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ فَيَكُونُ تَعْرِيضًا كَذِكْرِ الْعِبَارَةِ السَّابِقَةِ « أُرِيدُ أَنْ أُنْفِقَ...إِلَخْ » مَا عَدَا « وَتَحِلِّينَ لِي ».
وَفَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- التَّعْرِيضَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} بِقَوْلِهِ: يَقُولُ: إِنِّي أُرِيدُ التَّزَوُّجَ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّهُ يُيَسَّرُ لِي امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ.
وَلَيْسَ حُكْمُ التَّعْرِيضِ بِالْخِطْبَةِ وَاحِدًا بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِ الْمُعْتَدَّاتِ، بَلْ إِنَّهُ مُخْتَلِفٌ بِالنَّظَرِ إِلَى حَالَةِ كُلِّ مُعْتَدَّةٍ، رَجْعِيَّةً كَانَتْ أَوْ بَائِنًا بِطَلَاقٍ أَوْ فَسْخٍ أَوْ مَوْتٍ.
التَّعْرِيضُ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ:
10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّعْرِيضُ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الزَّوْجِيَّةِ لِعَوْدِهَا إِلَى النِّكَاحِ بِالرَّجْعَةِ، فَأَشْبَهَتِ الَّتِي فِي صُلْبِ النِّكَاحِ؛ وَلِأَنَّ نِكَاحَ الْأَوَّلِ قَائِمٌ؛ وَلِأَنَّهَا مَجْفُوَّةٌ بِالطَّلَاقِ فَقَدْ تَكْذِبُ انْتِقَامًا.
التَّعْرِيضُ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا:
11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْرِيضُ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، لِيُفْهَمَ مُرَادُ الْمُعَرِّضِ بِالْخِطْبَةِ لَا لِيُجَابَ، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} وَهِيَ وَارِدَةٌ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَلِأَنَّ « رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ- رضي الله عنها- وَهِيَ مُتَأَيِّمٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ- رضي الله عنه- فَقَالَ: لَقَدْ عَلِمْتُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَخِيرَتُهُ وَمَوْضِعِي مِنْ قَوْمِي ».
وَلِانْقِطَاعِ سَلْطَنَةِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا مَعَ ضَعْفِ التَّعْرِيضِ.
التَّعْرِيضُ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ الْبَائِنِ:
12- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ- وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْرِيضُ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ الْبَائِنِ لِعُمُومِ قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} وَلِمَا رُوِيَ عَنْ « فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ- رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهَا لَمَّا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا: إِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي » وَفِي لَفْظٍ « لَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِكِ ».وَفِي لَفْظٍ « لَا تَفُوتِينَا بِنَفْسِكِ » وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِخِطْبَتِهَا فِي عِدَّتِهَا، وَلِانْقِطَاعِ سُلْطَةِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّعْرِيضُ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ الْبَائِنِ لِإِفْضَائِهِ إِلَى عَدَاوَةِ الْمُطَلِّقِ.
خِطْبَةُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ فَسْخٍ:
13- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّعْرِيضِ بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَفَسْخٍ وَشَبَهِهِمَا، كَالْمُعْتَدَّةِ مِنْ لِعَانٍ أَوْ رِدَّةٍ، أَوِ الْمُسْتَبْرَأَةِ مِنَ الزِّنَى، أَوِ التَّفْرِيقِ لِعَيْبٍ أَوْ عُنَّةٍ.
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى جَوَازِ التَّعْرِيضِ لَهُنَّ أَخْذًا بِعُمُومِ الْآيَةِ وَقِيَاسًا عَلَى الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، وَأَنَّ سُلْطَةَ الزَّوْجِ قَدِ انْقَطَعَتْ.
هَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ صَاحِبِ الْعِدَّةِ الَّذِي يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا فِيهَا، أَمَّا هُوَ فَيَحِلُّ لَهُ التَّعْرِيضُ وَالتَّصْرِيحُ، وَأَمَّا مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهُ فِيهَا كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا الثَّالِثَةَ أَوْ رَجْعِيًّا فَوَطِئَهَا أَجْنَبِيٌّ بِشُبْهَةٍ فِي الْعِدَّةِ فَحَمَلَتْ مِنْهُ، فَإِنَّ عِدَّةَ الْحَمْلِ تُقَدَّمُ، فَلَا يَحِلُّ لِصَاحِبِ عِدَّةِ الشُّبْهَةِ أَنْ يَخْطُبَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا حِينَئِذٍ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِحَسَبِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ يُؤَدِّي إِلَى عَدَاوَةِ الْمُطَلِّقِ فَهُوَ حَرَامٌ، وَإِلاَّ فَلَا. جَوَابُ الْخِطْبَةِ:
14- حُكْمُ جَوَابِ الْمَرْأَةِ أَوْ وَلِيِّهَا لِلْخَاطِبِ كَحُكْمِ خِطْبَةِ هَذَا الْخَاطِبِ حِلًّا وَحُرْمَةً، فَيَحِلُّ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا الْمُعْتَدَّةُ أَنْ تُجِيبَ مَنْ عَرَّضَ بِخُطْبَتِهَا بِتَعْرِيضٍ أَيْضًا، وَيَحْرُمُ عَلَيْهَا وَعَلَى كُلِّ مُعْتَدَّةٍ التَّصْرِيحُ بِالْجَوَابِ- لِغَيْرِ صَاحِبِ الْعِدَّةِ الَّذِي يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا- وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي بَقِيَّةِ الْمُعْتَدَّاتِ فِي ضَوْءِ التَّفْصِيلِ السَّابِقِ.
خِطْبَةُ الْمُحْرِمِ:
15- يُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَخْطُبَ امْرَأَةً وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مُحْرِمَةً عِنْدَ الْجُمْهُورِ، كَمَا يُكْرَهُ أَنْ يَخْطُبَ غَيْرُ الْمُحْرِمِ الْمُحْرِمَةَ، لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: « لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ وَلَا يَخْطُبُ »، وَالْخِطْبَةُ تُرَادُ لِعَقْدِ النِّكَاحِ فَإِذَا كَانَ مُمْتَنِعًا كُرِهَ الِاشْتِغَالُ بِأَسْبَابِهِ؛ وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ إِلَى الْحَرَامِ.
وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْخِطْبَةُ حَالَ الْإِحْرَامِ.
مَنْ تُخْطَبُ إِلَيْهِ الْمَرْأَةُ:
15 م- خِطْبَةُ الْمَرْأَةِ الْمُجْبَرَةِ تَكُونُ إِلَى وَلِيِّهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ « أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- خَطَبَ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- إِلَى أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه- فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا أَنَا أَخُوكَ، فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم- لَهُ: أَخِي فِي دِينِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَهِيَ لِي حَلَالٌ ».
وَيَجُوزُ أَنْ تَخْطُبَ الْمَرْأَةُ الرَّشِيدَةُ إِلَى نَفْسِهَا لِحَدِيثِ « أُمِّ سَلَمَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ.لَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ أَرْسَلَ إِلَيَّ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ- رضي الله عنه- يَخْطُبُنِي لَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ لِي بِنْتًا وَأَنَا غَيُورٌ، فَقَالَ: أَمَّا ابْنَتُهَا فَنَدْعُو اللَّهَ أَنْ يُغْنِيَهَا عَنْهَا، وَأَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَذْهُبَ بِالْغَيْرَةِ ».
وَكَذَلِكَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: « إِنِّي امْرَأَةٌ غَيْرَى وَإِنِّي امْرَأَةٌ مُصْبِيَةٌ فَقَالَ: أَمَّا قَوْلُكِ: إِنِّي امْرَأَةٌ غَيْرَى فَسَأَدْعُو اللَّهَ لَكِ فَيُذْهِبُ غَيْرَتَكِ، وَأَمَّا قَوْلُكِ: إِنِّي امْرَأَةٌ مُصْبِيَةٌ فَسَتُكْفَيْنَ صِبْيَانَكِ ».
عَرْضُ الْوَلِيِّ مُوَلِّيَتَهُ عَلَى ذَوِي الصَّلَاحِ:
16- يُسْتَحَبُّ لِلْوَلِيِّ عَرْضُ مُوَلِّيَتِهِ عَلَى ذَوِي الصَّلَاحِ وَالْفَضْلِ، كَمَا عَرَضَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ إِحْدَى ابْنَتَيْهِ عَلَى مُوسَى- عليه الصلاة والسلام- الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي قوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ}، وَكَمَا فَعَلَ عُمَرُ- رضي الله عنه- حَيْثُ عَرَضَ ابْنَتَهُ حَفْصَةَ- رضي الله عنها- عَلَى عُثْمَانَ، ثُمَّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنهما-.
إِخْفَاءُ الْخِطْبَةِ:
17- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ إِخْفَاءُ الْخِطْبَةِ خِلَافًا لِعَقْدِ النِّكَاحِ فَيُنْدَبُ- عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ بَقِيَّةِ الْفُقَهَاءِ- إِعْلَانُهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: « أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ ».
ثَانِيًا: الْخِطْبَةُ عَلَى الْخِطْبَةِ:
18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخِطْبَةَ عَلَى الْخِطْبَةِ حَرَامٌ إِذَا حَصَلَ الرُّكُونُ إِلَى الْخَاطِبِ الْأَوَّلِ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « لَا يَخْطُبِ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ الرَّجُلِ حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ ».وَلِأَنَّ فِيهَا إِيذَاءً وَجَفَاءً وَخِيَانَةً وَإِفْسَادًا عَلَى الْخَاطِبِ الْأَوَّلِ، وَإِيقَاعًا لِلْعَدَاوَةِ بَيْنَ النَّاسِ.
وَحَكَى النَّوَوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ فِي الْحَدِيثِ لِلتَّحْرِيمِ.
مَتَى تَحْرُمُ الْخِطْبَةُ عَلَى الْخِطْبَةِ؟
19- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلتَّحْرِيمِ أَنْ يَكُونَ الْخَاطِبُ الْأَوَّلُ قَدْ أُجِيبَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَلَمْ يَعْرِضْ وَلَمْ يَأْذَنْ لِلْخَاطِبِ الثَّانِي، وَعَلِمَ الْخَاطِبُ الثَّانِي بِخِطْبَةِ الْأَوَّلِ وَإِجَابَتِهِ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ فِي شُرُوطِ التَّحْرِيمِ، أَنْ تَكُونَ إِجَابَةُ الْخَاطِبِ الْأَوَّلِ صَرَاحَةً، وَخُطْبَتُهُ جَائِزَةٌ أَيْ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ، وَأَنْ يَكُونَ الْخَاطِبُ الثَّانِي عَالِمًا بِحُرْمَةِ الْخِطْبَةِ عَلَى الْخِطْبَةِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ إِجَابَةَ الْخَاطِبِ الْأَوَّلِ تَعْرِيضًا تَكْفِي لِتَحْرِيمِ الْخِطْبَةِ عَلَى خِطْبَتِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ التَّصْرِيحُ بِالْإِجَابَةِ.وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَكَلَامِ أَحْمَدَ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِتَحْرِيمِ الْخِطْبَةِ عَلَى الْخِطْبَةِ رُكُونُ الْمَرْأَةِ الْمَخْطُوبَةِ أَوْ وَلِيِّهَا، وَوُقُوعُ الرِّضَا بِخِطْبَةِ الْخَاطِبِ الْأَوَّلِ غَيْرِ الْفَاسِقِ وَلَوْ لَمْ يُقَدَّرْ صَدَاقٌ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَمُقَابِلُهُ لِابْنِ نَافِعٍ: لَا تَحْرُمُ خِطْبَةُ الرَّاكِنَةِ قَبْلَ تَقْدِيرِ الصَّدَاقِ.
وَسَيَأْتِي حُكْمُ خِطْبَةِ الْمُسْلِمِ عَلَى خِطْبَةِ الْفَاسِقِ، أَوْ خِطْبَةِ الْكَافِرِ لِلذِّمِّيَّةِ.
مَنْ تُعْتَبَرُ إِجَابَتُهُ أَوْ رَدُّهُ:
20- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ رَدُّ الْوَلِيِّ وَإِجَابَتُهُ إِنْ كَانَتْ مُجْبَرَةً، وَإِلاَّ فَرَدُّهَا وَإِجَابَتُهَا.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الْمُعْتَبَرُ رُكُونُ غَيْرِ الْمُجْبَرَةِ إِلَى الْخَاطِبِ الْأَوَّلِ، وَرُكُونُ الْمُجْبَرَةِ مُعَرِّضًا مُجْبِرُهَا بِالْخَاطِبِ وَلَوْ بِسُكُوتِهِ، وَعَلَيْهِ لَا يُعْتَبَرُ رُكُونُ الْمُجْبَرَةِ مَعَ رَدِّ مُجْبِرِهَا، وَلَا رَدُّهَا مَعَ رُكُونِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ رُكُونُ أُمِّهَا أَوْ وَلِيِّهَا غَيْرِ الْمُجْبِرِ مَعَ رَدِّهَا لَا مَعَ عَدَمِهِ فَيُعْتَبَرُ.
خِطْبَةُ مَنْ لَا تُعْلَمُ خِطْبَتُهَا أَوْ جَوَابُهَا:
21- الْمَرْأَةُ الَّتِي لَا يُعْلَمُ أَهِيَ مَخْطُوبَةٌ أَمْ لَا، أُجِيبَ خَاطِبُهَا أَمْ رُدَّ، يَجُوزُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ أَنْ يَخْطُبَهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ، وَالْخَاطِبُ مَعْذُورٌ بِالْجَهْلِ.
الْخِطْبَةُ عَلَى خِطْبَةِ الْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ:
22- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخِطْبَةَ عَلَى خِطْبَةِ الْكَافِرِ الْمُحْتَرَمِ (غَيْرِ الْحَرْبِيِّ أَوِ الْمُرْتَدِّ) حَرَامٌ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: أَنْ يَخْطُبَ ذِمِّيٌّ كِتَابِيَّةً وَيُجَابُ ثُمَّ يَخْطُبُهَا مُسْلِمٌ، لِمَا فِي الْخِطْبَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْإِيذَاءِ لِلْخَاطِبِ الْأَوَّلِ، وَقَالُوا: إِنَّ ذِكْرَ لَفْظِ الْأَخِ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ: « لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ ».خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ؛ وَلِأَنَّهُ أَسْرَعُ امْتِثَالًا.
وَلَيْسَ الْحَالُ فِي الْفَاسِقِ كَالْكَافِرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِأَنَّ الْفَاسِقَ لَا يُقَرُّ شَرْعًا عَلَى فِسْقِهِ، فَتَجُوزَ الْخِطْبَةُ عَلَى خِطْبَتِهِ بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ فِي حَالَةٍ يُقَرُّ عَلَيْهَا بِالْجِزْيَةِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا تَحْرُمُ الْخِطْبَةُ عَلَى خِطْبَةِ كَافِرٍ لِمَفْهُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: « عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ » وَلِأَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ، بِالْمُسْلِمِ وَإِلْحَاقُ غَيْرِهِ بِهِ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ مِثْلَهُ، وَلَيْسَ الذِّمِّيُّ كَالْمُسْلِمِ، وَلَا حُرْمَتُهُ كَحُرْمَتِهِ.
الْعَقْدُ بَعْدَ الْخِطْبَةِ الْمُحَرَّمَةِ:
23- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى امْرَأَةٍ تَحْرُمُ خِطْبَتُهَا عَلَى الْعَاقِدِ كَالْخِطْبَةِ عَلَى الْخِطْبَةِ، وَكَالْخِطْبَةِ الْمُحَرَّمَةِ فِي الْعِدَّةِ تَصْرِيحًا أَوْ تَعْرِيضًا. فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ عَلَى مَنْ تَحْرُمُ خِطْبَتُهَا- كَعَقْدِ الْخَاطِبِ الثَّانِي عَلَى الْمَخْطُوبَةِ، وَكَعَقْدِ الْخَاطِبِ فِي الْعِدَّةِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا- يَكُونُ صَحِيحًا مَعَ الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ الْخِطْبَةَ الْمُحَرَّمَةَ لَا تُقَارِنُ الْعَقْدَ فَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ؛ وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ فَلَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ بِوُقُوعِهَا غَيْرَ صَحِيحَةٍ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ عَقْدَ الْخَاطِبِ الثَّانِي عَلَى الْمَخْطُوبَةِ يُفْسَخُ حَالَ خِطْبَةِ الْأَوَّلِ بِطَلَاقٍ، وُجُوبًا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْهُ الْخَاطِبُ الْأَوَّلُ، وَظَاهِرُهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الثَّانِي بِخِطْبَةِ الْأَوَّلِ، مَا لَمْ يُبَيِّنِ الثَّانِي حَيْثُ اسْتَمَرَّ الرُّكُونُ أَوْ كَانَ الرُّجُوعُ لِأَجْلِ خِطْبَةِ الثَّانِي، فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهَا لَمْ يُفْسَخْ، وَمَحَلُّهُ أَيْضًا إِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الثَّانِي حَاكِمٌ يَرَاهُ وَإِلاَّ لَمْ يُفْسَخْ.
وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ أَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ حِينَئِذٍ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ لِمَنْ صَرَّحَ لِامْرَأَةٍ فِي عِدَّتِهَا بِالْخِطْبَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا يُنْدَبُ لَهُ فِرَاقُهَا.
ثَالِثًا: نَظَرُ الْخَاطِبِ إِلَى الْمَخْطُوبَةِ:
24- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ نِكَاحَ امْرَأَةٍ فَلَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي إِبَاحَةِ النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ لِمَنْ أَرَادَ نِكَاحَهَا، وَقَدْ رَوَى جَابِرٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: « إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ الْمَرْأَةَ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ ».
قَالَ: فَخَطَبْتُ امْرَأَةً فَكُنْتُ أَتَخَبَّأُ لَهَا حَتَّى رَأَيْتُ مِنْهَا مَا دَعَانِي إِلَى نِكَاحِهَا فَتَزَوَّجْتُهَا.
25- لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ نَظَرِ الْخَاطِبِ إِلَى الْمَخْطُوبَةِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ هَذَا النَّظَرِ فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: يُنْدَبُ النَّظَرُ لِلْأَمْرِ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَعَ تَعْلِيلِهِ بِأَنَّهُ {أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَهُمَا » أَيْ تَدُومُ الْمَوَدَّةُ وَالْأُلْفَةُ.فَقَدْ وَرَدَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: « خَطَبْتُ امْرَأَةً فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: أَنَظَرْتَ إِلَيْهَا؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَانْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا ».
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُبَاحُ لِمَنْ أَرَادَ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ إِجَابَتُهُ نَظَرَ مَا يَظْهَرُ غَالِبًا. قَالَ فِي « الْإِنْصَافِ »: وَيَجُوزُ لِمَنْ أَرَادَ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ النَّظَرُ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَذَلِكَ لِوُرُودِ الْأَمْرِ بِالنَّظَرِ بَعْدَ الْحَظْرِ، فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ.
نَظَرُ الْمَخْطُوبَةِ إِلَى خَاطِبِهَا:
26- حُكْمُ نَظَرِ الْمَرْأَةِ الْمَخْطُوبَةِ إِلَى خَاطِبِهَا كَحُكْمِ نَظَرِهِ إِلَيْهَا لِأَنَّهُ يُعْجِبُهَا مِنْهُ مَا يُعْجِبُهُ مِنْهَا، بَلْ هِيَ- كَمَا قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ- أَوْلَى مِنْهُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ مُفَارَقَةَ مَنْ لَا يَرْضَاهَا بِخِلَافِهَا.
وَاشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) لِمَشْرُوعِيَّةِ النَّظَرِ أَنْ يَكُونَ النَّاظِرُ إِلَى الْمَرْأَةِ مُرِيدًا نِكَاحَهَا، وَأَنْ يَرْجُوَ الْإِجَابَةَ رَجَاءً ظَاهِرًا، أَوْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يُجَابُ إِلَى نِكَاحِهَا، أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْإِجَابَةُ.
وَاكْتَفَى الْحَنَفِيَّةُ بِاشْتِرَاطِ إِرَادَةِ نِكَاحِهَا فَقَطْ.
الْعِلْمُ بِالنَّظَرِ وَالْإِذْنُ فِيهِ:
27- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْمَخْطُوبَةِ أَوْ إِذْنُهَا أَوْ إِذْنُ وَلِيِّهَا بِنَظَرِ الْخَاطِبِ إِلَيْهَا اكْتِفَاءً بِإِذْنِ الشَّارِعِ وَلِإِطْلَاقِ الْأَخْبَارِ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ عَدَمَ ذَلِكَ أَوْلَى لِأَنَّهَا قَدْ تَتَزَيَّنُ لَهُ بِمَا يَغُرُّهُ، وَلِحَدِيثِ جَابِرٍ- رضي الله عنه- السَّابِقِ وَفِيهِ إِطْلَاقُ الْإِذْنِ، وَقَدْ تَخَبَّأَ جَابِرٌ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي خَطَبَهَا حَتَّى رَأَى مِنْهَا مَا دَعَاهُ إِلَى نِكَاحِهَا.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَحَلُّ نَدْبِ النَّظَرِ إِنْ كَانَ بِعِلْمٍ مِنْهَا إِنْ كَانَتْ رَشِيدَةً، وَإِلاَّ فَمِنْ وَلِيِّهَا، وَإِلاَّ كُرِهَ لِئَلاَّ يَتَطَرَّقَ الْفُسَّاقُ لِلنَّظَرِ لِلنِّسَاءِ وَيَقُولُونَ: نَحْنُ خُطَّابٌ.
أَمْنُ الْفِتْنَةِ وَالشَّهْوَةِ:
28- لَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِمَشْرُوعِيَّةِ النَّظَرِ أَمْنَ الْفِتْنَةِ أَوِ الشَّهْوَةِ أَيْ ثَوَرَانِهَا بِالنَّظَرِ، بَلْ قَالُوا: يَنْظُرُ لِغَرَضِ التَّزَوُّجِ وَإِنْ خَافَ أَنْ يَشْتَهِيَهَا، أَوْ خَافَ الْفِتْنَةَ؛ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ بِالْمَشْرُوعِيَّةِ لَمْ تُقَيِّدَ النَّظَرَ بِذَلِكَ.
وَاشْتَرَطَ الْحَنَابِلَةُ لِإِبَاحَةِ النَّظَرِ أَمْنَ الْفِتْنَةِ، وَأَمَّا النَّظَرُ بِقَصْدِ التَّلَذُّذِ أَوِ الشَّهْوَةِ فَهُوَ عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ. مَا يُنْظَرُ مِنَ الْمَخْطُوبَةِ:
29- اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَا يُبَاحُ لِلْخَاطِبِ نَظَرُهُ مِنْ مَخْطُوبَتِهِ الْحُرَّةِ هُوَ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ ظَاهِرُهُمَا وَبَاطِنُهُمَا إِلَى كُوعَيْهِمَا لِدَلَالَةِ الْوَجْهِ عَلَى الْجَمَالِ، وَدَلَالَةِ الْكَفَّيْنِ عَلَى خِصْبِ الْبَدَنِ، وَهُنَاكَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْقَدَمَيْنِ لَيْسَتَا بِعَوْرَةٍ حَتَّى فِي غَيْرِ الْخِطْبَةِ.
وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِيمَا يَنْظُرُ الْخَاطِبُ مِنَ الْمَخْطُوبَةِ، فَفِي « مَطَالِبِ أُولِي النُّهَى » « وَكَشَّافِ الْقِنَاعِ » أَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى مَا يَظْهَرُ مِنْهَا غَالِبًا كَوَجْهٍ وَيَدٍ وَرَقَبَةٍ وَقَدَمٍ، لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا أَذِنَ فِي النَّظَرِ إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمِهَا، عُلِمَ أَنَّهُ أَذِنَ فِي النَّظَرِ إِلَى جَمِيعِ مَا يَظْهَرُ غَالِبًا، إِذْ لَا يُمْكِنُ إِفْرَادُ الْوَجْهِ بِالنَّظَرِ مَعَ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ فِي الظُّهُورِ؛ وَلِأَنَّهُ يَظْهَرُ غَالِبًا فَأَشْبَهَ الْوَجْهَ.
وَفِي الْمُغْنِي: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي إِبَاحَةِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَهُوَ مَجْمَعُ الْمَحَاسِنِ وَمَوْضِعُ النَّظَرِ، وَلَا يُبَاحُ النَّظَرُ إِلَى مَا لَا يَظْهَرُ عَادَةً.
أَمَّا مَا يَظْهَرُ غَالِبًا سِوَى الْوَجْهِ، كَالْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تُظْهِرُهُ الْمَرْأَةُ فِي مَنْزِلِهَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ لِلْحَنَابِلَةِ.
إِحْدَاهُمَا: لَا يُبَاحُ النَّظَرُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ عَوْرَةٌ، فَلَمْ يُبَحِ النَّظَرُ إِلَيْهِ كَالَّذِي لَا يَظْهَرُ، فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ »، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَنْدَفِعُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْوَجْهِ فَبَقِيَ مَا عَدَاهُ عَلَى التَّحْرِيمِ.
وَالثَّانِيَةُ: وَهِيَ الْمَذْهَبُ، لِلْخَاطِبِ النَّظَرُ إِلَى ذَلِكَ، قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا وَإِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا مِنْ يَدٍ أَوْ جِسْمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا حَاسِرَةً.وَوَجْهُ جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى مَا يَظْهَرُ غَالِبًا أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا أَذِنَ فِي النَّظَرِ إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمِهَا عُلِمَ أَنَّهُ أَذِنَ فِي النَّظَرِ إِلَى جَمِيعِ مَا يَظْهَرُ عَادَةً إِذْ لَا يُمْكِنُ إِفْرَادُ الْوَجْهِ بِالنَّظَرِ مَعَ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ لَهُ فِي الظُّهُورِ، وَلِأَنَّهُ يَظْهَرُ غَالِبًا فَأُبِيحَ النَّظَرُ إِلَيْهِ كَالْوَجْهِ وَلِأَنَّهَا امْرَأَةٌ أُبِيحَ النَّظَرُ إِلَيْهَا بِأَمْرِ الشَّارِعِ فَأُبِيحَ النَّظَرُ مِنْهَا إِلَى ذَلِكَ كَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: يَنْظُرُ الْخَاطِبُ إِلَى مَوَاضِعِ اللَّحْمِ.
تَزَيُّنُ الْمَرْأَةِ الْخَلِيَّةِ وَتَعَرُّضُهَا لِلْخُطَّابِ:
30- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ تَحْلِيَةَ الْبَنَاتِ بِالْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ لِيَرْغَبَ فِيهِنَّ الرِّجَالُ سُنَّةٌ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ نَقَلَ الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ الْقَطَّانِ قَوْلُهُ: وَلَهَا (أَيْ لِلْمَرْأَةِ الْخَالِيَةِ مِنَ الْأَزْوَاجِ) أَنْ تَتَزَيَّنَ لِلنَّاظِرِينَ (أَيْ لِلْخُطَّابِ)، بَلْ لَوْ قِيلَ بِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ مَا كَانَ بَعِيدًا، وَلَوْ قِيلَ إِنَّهُ يَجُوزُ لَهَا التَّعَرُّضُ لِمَنْ يَخْطُبُهَا إِذَا سَلِمَتْ نِيَّتُهَا فِي قَصْدِ النِّكَاحِ لَمْ يَبْعُدِ.انْتَهَى.
ثُمَّ قَالَ الْحَطَّابُ: هَلْ يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ نَظَرُ الرَّجُلِ؟ لَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا لِلْمَالِكِيَّةِ، وَالظَّاهِرُ اسْتِحْبَابُهُ وِفَاقًا لِلشَّافِعِيَّةِ، قَالُوا: يُسْتَحَبُّ لَهَا أَيْضًا أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: إِذَا خَطَبَ الرَّجُلُ امْرَأَةً هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْصِدَهَا مُتَعَرِّضًا لَهَا بِمَحَاسِنِهِ الَّتِي لَا يَجُوزُ إِبْدَاؤُهَا إِلَيْهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ مَخْطُوبَةً وَيَتَصَنَّعُ بِلُبْسِهِ، وَسِوَاكِهِ، وَمُكْحُلَتِهِ وَخِضَابِهِ، وَمَشْيِهِ، وَرِكْبَتِهِ، أَمْ لَا يَجُوزُ لَهُ إِلاَّ مَا كَانَ جَائِزًا لِكُلِّ امْرَأَةٍ؟ هُوَ مَوْضِعُ نَظَرٍ، وَالظَّاهِرُ جَوَازُهُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ فِي الْمَنْعِ إِجْمَاعٌ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ خَطَبَ وَلَكِنَّهُ يَتَعَرَّضُ لِنَفْسِهِ ذَلِكَ التَّعَرُّضَ لِلنِّسَاءِ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ تَعَرُّضٌ لِلْفِتَنِ وَتَعْرِيضٌ لَهَا، وَلَوْلَا الظَّاهِرُ مَا أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي لَمْ تُخْطَبْ عَلَى أَنَّا لَمْ نَجْزِمْ فِيهِ بِالْجَوَازِ.
وَقَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: قَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ فِي كِتَابِ الِاسْتِغْنَاءِ فِي مَعْرِفَةِ اسْتِعْمَالِ الْحِنَّاءِ عَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: « يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ اخْتَضِبْنَ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَخْتَضِبُ لِزَوْجِهَا، وَإِنَّ الْأَيِّمَ تَخْتَضِبُ تُعَرَّضُ لِلرِّزْقِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ».
وَقَدْ وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ « كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ وَهُوَ فِي بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَهِيَ حَامِلٌ فَلَمْ تَنْشَبْ أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ- رضي الله عنه- رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ فَقَالَ لَهَا: مَا لِي أَرَاكِ مُتَجَمِّلَةً؟ لَعَلَّكِ تَرْجِينَ النِّكَاحَ.إِنَّكِ وَاللَّهِ مَا أَنْتِ بِنَاكِحٍ حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْكِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ.قَالَتْ سُبَيْعَةُ: فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي حِينَ أَمْسَيْتُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَفْتَانِي بِأَنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي وَأَمَرَنِي بِالتَّزْوِيجِ إِنْ بَدَا لِي.}
تَكْرِيرُ النَّظَرِ:
31- لِلْخَاطِبِ أَنْ يُكَرِّرَ النَّظَرَ إِلَى الْمَخْطُوبَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ هَيْئَتُهَا فَلَا يَنْدَمُ عَلَى نِكَاحِهَا، وَيَتَقَيَّدُ فِي ذَلِكَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَمِنْ ثَمَّ لَوِ اكْتَفَى بِنَظْرَةٍ حَرُمَ مَا زَادَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ نَظَرٌ أُبِيحَ لِحَاجَةٍ فَيَتَقَيَّدُ بِهَا.
وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ- عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- أَخَافَ الْخَاطِبُ الْفِتْنَةَ أَمْ لَا..كَمَا قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالرُّويَانِيُّ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: يُكَرِّرُ الْخَاطِبُ النَّظَرَ وَيَتَأَمَّلُ الْمَحَاسِنَ وَلَوْ بِلَا إِذْنٍ، وَلَعَلَّهُ أَوْلَى، إِنْ أَمِنَ الشَّهْوَةَ أَيْ ثَوَرَانَهَا.
مَسُّ مَا يَنْظُرُ:
32- لَا يَجُوزُ لِلْخَاطِبِ أَنْ يَمَسَّ وَجْهَ الْمَخْطُوبَةِ وَلَا كَفَّيْهَا وَإِنْ أَمِنَ الشَّهْوَةَ؛ لِمَا فِي الْمَسِّ مِنْ زِيَادَةِ الْمُبَاشَرَةِ؛ وَلِوُجُودِ الْحُرْمَةِ وَانْعِدَامِ الضَّرُورَةِ وَالْبَلْوَى.
الْخَلْوَةُ بِالْمَخْطُوبَةِ:
33- لَا يَجُوزُ خَلْوَةُ الْخَاطِبِ بِالْمَخْطُوبَةِ لِلنَّظَرِ وَلَا لِغَيْرِهِ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ وَلَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِغَيْرِ النَّظَرِ فَبَقِيَتْ عَلَى التَّحْرِيمِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنَ الْخَلْوَةِ الْوُقُوعُ فِي الْمَحْظُورِ.فَإِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: « أَلَا لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ ».
إِرْسَالُ مَنْ يَنْظُرُ الْمَخْطُوبَةَ:
34- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْخَاطِبِ أَنْ يُرْسِلَ امْرَأَةً لِتَنْظُرَ الْمَخْطُوبَةَ ثُمَّ تَصِفَهَا لَهُ وَلَوْ بِمَا لَا يَحِلُّ لَهُ نَظَرُهُ مِنْ غَيْرِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ فَيَسْتَفِيدَ بِالْبَعْثِ مَا لَا يَسْتَفِيدُ بِنَظَرِهِ، وَهَذَا لِمَزِيدِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ مُسْتَثْنًى مِنْ حُرْمَةِ وَصْفِ امْرَأَةٍ لِرَجُلٍ، وَقَدْ رُوِيَ « أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَرْسَلَ أُمَّ سُلَيْمٍ تَنْظُرُ إِلَى جَارِيَةٍ فَقَالَ: شُمِّي عَوَارِضَهَا وَانْظُرِي إِلَى عُرْقُوبِهَا ».
وَالْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّ مَنْ يُرْسَلُ لِلنَّظَرِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً أَوْ نَحْوَهَا مِمَّنْ يَحِلُّ لَهُ نَظَرُهَا رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً كَأَخِيهَا، أَوْ مَسْمُوحٌ يُبَاحُ لَهُ النَّظَرُ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ لِلْخَاطِبِ أَنْ يُرْسِلَ رَجُلًا.قَالَ الْحَطَّابُ: وَالظَّاهِرُ جَوَازُ النَّظَرِ إِلَى الْمَخْطُوبَةِ عَلَى حَسَبِ مَا لِلْخَاطِبِ، وَيُنَزَّلُ مَنْزِلَتَهُ مَا لَمْ يَخَفْ مَفْسَدَةً مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهَا.
مَا يَفْعَلُهُ الْخَاطِبُ إِنْ لَمْ تُعْجِبْهُ الْمَخْطُوبَةُ:
35- إِذَا نَظَرَ الْخَاطِبُ إِلَى مَنْ يُرِيدُ نِكَاحَهَا فَلَمْ تُعْجِبْهُ فَلْيَسْكُتْ، وَلَا يَقُلْ، لَا أُرِيدُهَا؛ لِأَنَّهُ إِيذَاءٌ.
رَابِعًا: ذِكْرُ عُيُوبِ الْخَاطِبِ:
36- مَنِ اسْتُشِيرَ فِي خَاطِبٍ أَوْ مَخْطُوبَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ مَا فِيهِ مِنْ مَسَاوِئَ شَرْعِيَّةٍ أَوْ عُرْفِيَّةٍ وَلَا يَكُونُ غِيبَةً مُحَرَّمَةً إِذَا قَصَدَ بِهِ النَّصِيحَةَ وَالتَّحْذِيرَ لَا الْإِيذَاءَ، « لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ- رضي الله عنها- لَمَّا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ وَأَبَا جَهْمٍ- رضي الله عنهما- خَطَبَاهَا: أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ » وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: « إِذَا اسْتَنْصَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَنْصَحْهُ »، وَعَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: « الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ » وَقَالَ: « الدِّينُ النَّصِيحَةُ »، وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ أَنَّ أَخًا لِبِلَالٍ- رضي الله عنه- خَطَبَ امْرَأَةً فَقَالُوا: إِنْ يَحْضُرْ بِلَالٌ زَوَّجْنَاكَ، فَحَضَرَ، فَقَالَ: أَنَا بِلَالٌ وَهَذَا أَخِي، وَهُوَ امْرُؤٌ سَيِّئُ الْخُلُقِ وَالدِّينِ.قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ.
وَمَنِ اسْتُشِيرَ فِي أَمْرِ نَفْسِهِ فِي النِّكَاحِ بَيَّنَهُ، كَقَوْلِهِ: عِنْدِي شُحٌّ، وَخُلُقِي شَدِيدٌ وَنَحْوُهُمَا، لِعُمُومِ مَا سَبَقَ.
وَفَصَّلَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْبَارِزِيِّ- مِنَ الشَّافِعِيَّةِ- لَوِ اسْتُشِيرَ فِي أَمْرِ نَفْسِهِ فِي النِّكَاحِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ فِيهِ وَجَبَ ذِكْرُهُ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا يُقَلِّلُ الرَّغْبَةَ فِيهِ وَلَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ، كَسُوءِ الْخُلُقِ وَالشُّحِّ، اسْتُحِبَّ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَعَاصِي وَجَبَ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ فِي الْحَالِ وَسَتْرُ نَفْسِهِ.
خَامِسًا: الْخُطْبَةُ قَبْلَ الْخِطْبَةِ:
37- يُنْدَبُ لِلْخَاطِبِ أَوْ نَائِبِهِ تَقْدِيمُ خُطْبَةٍ قَبْلَ الْخِطْبَةِ لِخَبَرِ: « كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ » أَيْ عَنِ الْبَرَكَةِ، فَيَبْدَأُ بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ بِالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ يُوصِي بِالتَّقْوَى، ثُمَّ يَقُولُ: جِئْتُكُمْ خَاطِبًا كَرِيمَتَكُمْ، وَإِنْ كَانَ وَكِيلًا قَالَ: جَاءَكُمْ مُوَكِّلِي خَاطِبًا كَرِيمَتَكُمْ أَوْ فَتَاتَكُمْ، وَيَخْطُبُ الْوَلِيُّ أَوْ نَائِبُهُ كَذَلِكَ ثُمَّ يَقُولُ: لَسْتُ بِمَرْغُوبٍ عَنْكَ أَوْ نَحْوَهُ.
وَتَبَرَّكَ الْأَئِمَّةُ بِمَا جَاءَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- « أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَّمَنَا خُطْبَةَ الْحَاجَةِ: إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {رَقِيبًا} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} إِلَى قَوْلِهِ {عَظِيمًا} »، وَكَانَ الْقَفَّالُ يَقُولُ بَعْدَهَا: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا بِيَدِ اللَّهِ، يَقْضِي فِيهَا مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، لَا مُؤَخِّرَ لِمَا قَدَّمَ وَلَا مُقَدِّمَ لِمَا أَخَّرَ، وَلَا يَجْتَمِعُ اثْنَانِ وَلَا يَتَفَرَّقَانِ إِلاَّ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ وَكِتَابٍ قَدْ سَبَقَ، وَإِنَّ مِمَّا قَضَى اللَّهُ تَعَالَى وَقَدَّرَ أَنْ خَطَبَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانٍ..أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ أَجْمَعِينَ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
70-موسوعة الفقه الكويتية (خيار الشرط 1)
خِيَارُ الشَّرْطِ -1التَّعْرِيفُ:
1- الْخِيَارُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ مَصْدَرٍ مِنَ الِاخْتِيَارِ، وَمَعْنَاهُ طَلَبُ خَيْرِ الْأَمْرَيْنِ، أَوِ الْأُمُورِ.
أَمَّا (الشَّرْطُ) - بِسُكُونِ الرَّاءِ- فَمَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ: إِلْزَامُ الشَّيْءِ وَالْتِزَامُهُ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَالْجَمْعُ شُرُوطٌ، وَبِفَتْحِهَا: الْعَلَامَةُ، وَالْجَمْعُ أَشْرَاطٌ، وَالِاشْتِرَاطُ: الْعَلَامَةُ يَجْعَلُهَا النَّاسُ بَيْنَهُمْ.
2- أَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: «إِنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ مُرَكَّبٌ إِضَافِيٌّ صَارَ عَلَمًا فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ عَلَى: مَا يَثْبُتُ (بِالِاشْتِرَاطِ) لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مِنَ الِاخْتِيَارِ بَيْنَ الْإِمْضَاءِ وَالْفَسْخِ...»
وَقَدْ عَرَّفَهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (ابْنُ عَرَفَةَ) - بِمُلَاحَظَةِ الْكَلَامِ عَنْ (بَيْعِ الْخِيَارِ) - بِقَوْلِهِ: (بَيْعٌ وُقِفَ بَتُّهُ أَوَّلًا عَلَى إِمْضَاءٍ يُتَوَقَّعُ).وَاحْتَرَزَ بِعِبَارَةِ وُقِفَ بَتُّهُ عَنْ بَيْعِ الْبَتِّ، وَهُوَ مَا لَيْسَ فِيهِ خِيَارٌ.
كَمَا ذَكَرُوا أَنَّ قَيْدَ (أَوَّلًا) لِإِخْرَاجِ خِيَارِ الْعَيْبِ وَنَحْوِهِ (خِيَارَاتِ النَّقِيصَةِ) لِأَنَّ أَمْثَالَ هَذَا الْخِيَارِ لَمْ تَتَوَقَّفْ أَوَّلًا، بَلْ آلَ أَمْرُهَا إِلَى الْخِيَارِ، أَيْ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ فِيهَا يَثْبُتُ فِيمَا بَعْدُ، حِينَ ظُهُورِ الْعَيْبِ.
3- وَلِخِيَارِ الشَّرْطِ أَسْمَاءٌ أُخْرَى دَعَاهُ بِهَا بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ، مِنْهَا:
أ- الْخِيَارُ الشَّرْطِيُّ (بِالْوَصْفِيَّةِ لَا بِالْإِضَافَةِ) وَالسَّبَبُ فِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ ظَاهِرٌ، وَالْغَرَضُ مِنْ وَصْفِهِ بِالشَّرْطِيِّ تَمْيِيزُهُ عَنِ الْخِيَارِ (الْحُكْمِيِّ) الَّذِي يَثْبُتُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ دُونَ الْحَاجَةِ إِلَى اشْتِرَاطٍ، كَخِيَارِ الْعَيْبِ.
وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ مُتَدَاوَلَةٌ كَثِيرًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
ب- خِيَارُ التَّرَوِّي، لِأَنَّهُ شُرِعَ لِلتَّرَوِّي وَهُوَ النَّظَرُ وَالتَّفَكُّرُ فِي الْأَمْرِ وَالتَّبَصُّرُ فِيهِ قَبْلَ إِبْرَامِهِ.
وَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ يَسْتَعْمِلُهَا الشَّافِعِيَّةُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمْ.
ج- بَيْعُ الْخِيَارِ، وَهَذَا الِاسْمُ وَاقِعٌ عَلَى الْعَقْدِ الَّذِي اقْتَرَنَ بِخِيَارِ الشَّرْطِ، وَيُعَبِّرُ بِهِ أَصْحَابُ الْمَذَاهِبِ كُلُّهُمْ وَبِخَاصَّةِ الْمَالِكِيَّةُ.
مَشْرُوعِيَّتُهُ:
4- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى الْأَخْذِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَاعْتِبَارَهُ مَشْرُوعًا لَا يُنَافِي الْعَقْدَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.
فَأَمَّا السُّنَّةُ: فَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ «رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَ بِلِسَانِهِ لَوْثَةٌ، وَكَانَ لَا يَزَالُ يُغْبَنُ فِي الْبُيُوعِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: إِذَا بِعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ، مَرَّتَيْنِ»
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنُ حِبَّانَ قَالَ: هُوَ جَدِّي مُنْقِذُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ رَجُلًا قَدْ أَصَابَتْهُ آمَّةٌ فِي رَأْسِهِ، فَكَسَرَتْ لِسَانَهُ وَنَازَعَتْهُ عَقْلَهُ، وَكَانَ لَا يَدَعُ التِّجَارَةَ وَلَا يَزَالُ يُغْبَنُ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: «إِذَا بِعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ، ثُمَّ أَنْتَ فِي كُلِّ سِلْعَةٍ تَبْتَاعُهَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَإِنْ رَضِيتَ فَأَمْسِكْ، وَإِنْ سَخِطْتَ فَارْدُدْهَا عَلَى صَاحِبِهَا».وَقَدْ كَانَ عُمِّرَ طَوِيلًا، عَاشَ ثَلَاثِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ، وَكَانَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ- رضي الله عنه- حِينَ فَشَا النَّاسُ وَكَثُرُوا، يَتَبَايَعُ الْبَيْعَ فِي السُّوقِ وَيَرْجِعُ بِهِ إِلَى أَهْلِهِ وَقَدْ غُبِنَ غَبْنًا قَبِيحًا، فَيَلُومُونَهُ وَيَقُولُونَ: لِمَ تَبْتَاعُ؟ فَيَقُولُ: أَنَا بِالْخِيَارِ إِنْ رَضِيتُ أَخَذْتُ، وَإِنْ سَخِطْتُ رَدَدْتُ، قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- جَعَلَنِي بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا، فَيَرُدُّ السِّلْعَةَ عَلَى صَاحِبِهَا مِنَ الْغَدِ وَبَعْدَ الْغَدِ فَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَقْبَلُهَا، قَدْ أَخَذْتُ سِلْعَتِي وَأَعْطَيْتنِي دَرَاهِمَ، قَالَ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ جَعَلَنِي بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا.فَكَانَ يَمُرُّ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَيَقُولُ لِلتَّاجِرِ: وَيْحَكَ إِنَّهُ قَدْ صَدَقَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ كَانَ جَعَلَهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا.
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِإِحْدَى رِوَايَاتِ حَدِيثِ «الْمُتَبَايِعَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» الَّتِي فِيهَا قَوْلُهُ- عليه الصلاة والسلام-: «إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «إِلاَّ صَفْقَةَ خِيَارٍ».فَحَمَلَ هَؤُلَاءِ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى حَالَةِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ، وَقَالُوا فِي مَعْنَاهُ: هُوَ خِيَارُ كُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْعَقْدِ، أَوِ الْإِحْجَامِ عَنْهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يَمْتَدَّ فَيَكُونَ لَهُ الْخِيَارُ أَطْوَلَ مِنْ تِلْكَ الْفَتْرَةِ إِذَا كَانَ الْبَيْعُ مُشْتَرَطًا فِيهِ خِيَارٌ.
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَاسْتَدَلَّ بِهِ لِخِيَارِ الشَّرْطِ كَثِيرُونَ، قَالَ النَّوَوِيُّ: «وَقَدْ نَقَلُوا فِيهِ الْإِجْمَاعَ» وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: «وَهُوَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ».لَكِنَّهُ أَشَارَ فِي مَوْضِعٍ ثَالِثٍ إِلَى أَنَّ صِحَّتَهُ الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا هِيَ فِيمَا «إِذَا كَانَتْ مُدَّتُهُ مَعْلُومَةً»
وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: «وَشَرْطُ الْخِيَارِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ».
صِيغَةُ الْخِيَارِ:
5- لَا يَتَطَلَّبُ ثُبُوتُ الْخِيَارِ التَّعْبِيرَ بِصِيغَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَكَمَا يَحْصُلُ بِلَفْظِ اشْتِرَاطِ (الْخِيَارِ) يَحْصُلُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْمُرَادِ، مِثْلُ لَفْظِ (الرِّضَا) أَوِ (الْمَشِيئَةِ) بَلْ يَثْبُتُ وَلَوْ لَمْ يَتَضَمَّنُ الْكَلَامُ لَفْظَ الْخِيَارِ أَوْ مَا هُوَ بِمَعْنَاهُ، فِيمَا إِذَا وَرَدَ عِنْدَ التَّعَاقُدِ أَوْ بَعْدَهُ مَا هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْخِيَارِ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ حَيْثُ جَاءَ فِيهَا: «إِذَا بَاعَ مِنْ آخَرَ ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، ثُمَّ إِنَّ الْبَائِعَ قَالَ لِلْمُشْتَرِي: لِي عَلَيْكَ الثَّوْبُ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ (وَقَبِلَ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ) قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا عِنْدَنَا خِيَارٌ، كَذَا فِي الْمُحِيطِ».وَذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ نَقْلًا عَنِ الْمِعْرَاجِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْبَائِعُ: خُذْهُ وَانْظُرْ إِلَيْهِ الْيَوْمَ فَإِنْ رَضِيتَهُ أَخَذْتَهُ بِكَذَا، فَهُوَ خِيَارٌ.وَنُقِلَ عَنِ الذَّخِيرَةِ مِثْلُ هَذَا الِاعْتِبَارِ فِيمَا لَوْ قَالَ: هُوَ بَيْعٌ لَكَ إِنْ شِئْتَ الْيَوْمَ.
وَمِنْ ذَلِكَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي الثَّمَنِ، أَوِ الْمَبِيعِ بَدَلًا عَنِ اشْتِرَاطِهِ فِي الْعَقْدِ، فَيَكُونُ بِمَثَابَةِ اشْتِرَاطِهِ فِيهِ، فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ فِي الثَّمَنِ أَوْ فِي الْمَبِيعِ.فَهُوَ كَقَوْلِهِ: عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ (فِي الْعَقْدِ).
وَمِنْ ذَلِكَ: التَّوَاطُؤُ عَلَى أَلْفَاظٍ أَوْ تَعَابِيرَ بِأَنَّهَا يَتَوَلَّدُ عَنْهَا الْخِيَارُ، سَوَاءٌ كَانَ ارْتِبَاطُ هَذِهِ التَّعَابِيرِ بِنُشُوءِ الْخِيَارِ مُنْبَعِثًا عَنِ الِاسْتِعْمَالِ الشَّرْعِيِّ مُبَاشَرَةً أَوِ الْعُرْفِ.فَمِمَّا اعْتُبِرَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُتَوَاطَأِ عَلَى أَنَّهَا يُرَادُ بِهَا الْخِيَارُ، تَبَعًا لِلِاسْتِعْمَالِ الشَّرْعِيِّ، عِبَارَةُ «لَا خِلَابَةَ» شَرِيطَةَ عِلْمِ الْعَاقِدَيْنِ بِمَعْنَاهَا.
قَالَ النَّوَوِيُّ: اشْتُهِرَ فِي الشَّرْعِ أَنَّ قَوْلَهُ: «لَا خِلَابَةَ» عِبَارَةٌ عَنِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِذَا أَطْلَقَ الْمُتَعَاقِدَانِ هَذِهِ اللَّفْظَةَ، وَهُمَا عَالِمَانِ بِمَعْنَاهَا كَانَ كَالتَّصْرِيحِ بِالِاشْتِرَاطِ، وَإِنْ كَانَا جَاهِلَيْنِ لَمْ يَثْبُتِ الْخِيَارُ قَطْعًا، فَإِنْ عَلِمَهُ الْبَائِعُ دُونَ الْمُشْتَرِي فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، حَكَاهُمَا الْمُتَوَلِّي وَابْنُ الْقَطَّانِ وَآخَرُونَ (أَصَحُّهُمَا) لَا يَثْبُتُ، (وَالْوَجْهُ الثَّانِي) يَثْبُتُ، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ، بَلْ غَلَطٌ، لِأَنَّ مُعْظَمَ النَّاسِ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ وَالْمُشْتَرِي غَيْرُ عَارِفٍ بِهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ الْعَقْدُ مَعَ شَرْطِ الِاسْتِئْمَارِ خِلَالَ وَقْتٍ مُحَدَّدٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ عَلَى أَنْ أَسْتَأْمِرَ فُلَانًا، وَحَدَّدَ لِذَلِكَ وَقْتًا مَعْلُومًا، فَهُوَ خِيَارٌ صَحِيحٌ لَدَى الْحَنَابِلَةِ.وَقَالُوا: إِنَّ لَهُ الْفَسْخَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَأْمِرَهُ «لِأَنَّا جَعَلْنَا ذَلِكَ كِنَايَةً عَنِ الْخِيَارِ» وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي جَوَازِ الْفَسْخِ قَبْلَ الِاسْتِئْمَارِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَأْمِرَهُ.
هَذَا إِذَا ضُبِطَ شَرْطُ الِاسْتِئْمَارِ بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُضْبَطْ، فَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ فِي الْأَصَحِّ أَنَّهُ غَيْرُ سَائِغٍ.أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَحُكْمُهُ عِنْدَهُمْ حُكْمُ الْخِيَارِ الْمَجْهُولِ، لَا يَصِحُّ عَلَى الرَّاجِحِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعَادَةَ تَقُومُ مَقَامَ التَّصْرِيحِ بِالْخِيَارِ.قَالَ الزَّرْقَانِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: «لَوْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِاشْتِرَاطِهِ (أَيْ خِيَارِ الشَّرْطِ) كَانَ خِيَارًا، لِأَنَّهَا- أَيِ الْعَادَةَ- كَالشَّرْطِ صَرَاحَةً»
فَإِذَا تَعَارَفَ النَّاسُ عَلَى ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِي بَيْعِ سِلْعَةٍ مِنَ السِّلَعِ ثَبَتَ الْخِيَارُ فِيهَا بِلَا شَرْطٍ.
وَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ الْأَخْرَسَ تَقُومُ إِشَارَتُهُ مَقَامَ الصِّيغَةِ، فَإِنْ لَمْ تُفْهَمْ إِشَارَتُهُ أَوْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، قَامَ وَلِيُّهُ مِنْ أَبٍ أَوْ وَصِيٍّ أَوْ حَاكِمٍ مَقَامَهُ.
شَرَائِطُ قِيَامِ الْخِيَارِ:
6- لَا يَقُومُ خِيَارُ الشَّرْطِ بِمُجَرَّدِ حُدُوثِ الِاشْتِرَاطِ فِي الْعَقْدِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الشَّرَائِطِ الشَّرْعِيَّةِ لَهُ، فَإِذَا اكْتَمَلَتْ تِلْكَ الشَّرَائِطُ غَدَا خِيَارُ الشَّرْطِ قَائِمًا مَرْعِيَّ الِاعْتِبَارِ، وَإِذَا اخْتَلَّ شَيْءٌ مِنْهَا اعْتُبِرَ الْعَقْدُ لَازِمًا بِالرَّغْمِ مِنِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِي الْعَقْدِ.غَيْرَ أَنَّ تِلْكَ الشَّرَائِطَ لَيْسَتْ مَوْضِعَ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، فَهِيَ مُتَفَاوِتَةُ الْعَدَدِ بَيْنَ مَذْهَبٍ وَآخَرَ، وَفِيمَا يَأْتِي بَيَانُهَا:
أَوَّلًا: شَرِيطَةُ الْمُقَارَنَةِ لِلْعَقْدِ:
7- الْمُرَادُ مِنَ الْمُقَارَنَةِ لِلْعَقْدِ أَنْ يَحْصُلَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ مَعَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ أَوْ لَاحِقًا بِهِ، لَا أَنْ يَسْبِقَ الِاشْتِرَاطُ الْعَقْدَ.فَلَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ قَبْلَ إِجْرَاءِ الْعَقْدِ، إِذِ الْخِيَارُ كَالصِّفَةِ لِلْعَقْدِ فَلَا يُذْكَرُ قَبْلَ الْمَوْصُوفِ.وَبَيَانُ الصُّورَةِ الْمُحْتَرَزِ مِنْهَا مَا جَاءَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ عَنِ الْعَتَّابِيَّةِ أَنَّهُ «لَوْ قَالَ: جَعَلْتُكَ بِالْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ الَّذِي نَعْقِدُهُ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ مُطْلَقًا لَمْ يَثْبُتِ الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ».
وَيُعْتَبَرُ بِمَنْزِلَةِ الْمُقَارَنَةِ لِلْعَقْدِ مَا لَوْ أُلْحِقَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ بِالْعَقْدِ بَعْدَئِذٍ، بِتَرَاضِي الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَذَلِكَ فِي حُكْمِ حُصُولِهِ فِي أَثْنَاءِ الْعَقْدِ أَوْ بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ عِنْدَ الْمُلْتَزَمَيْنِ بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ.
ذَهَبَ إِلَى تِلْكَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُقَارَنَةِ وَاللَّحَاقِ الْحَنَفِيَّةُ.وَمِنْ مُسْتَنَدِهِمُ الْقِيَاسُ لِهَذَا عَلَى مَا فِي النِّكَاحِ مِنْ جَوَازِ الِاتِّفَاقِ بَعْدَ الْعَقْدِ عَلَى مَا يَتَّصِلُ بِهِ، كَالزِّيَادَةِ فِي الْمَهْرِ أَوِ الْحَطِّ مِنْهُ، وَدَلِيلُ هَذَا الْحُكْمِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ}.قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ يَجُوزُ إِلْحَاقُ خِيَارِ الشَّرْطِ بِالْبَيْعِ، لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْبَيْعِ وَلَوْ بِأَيَّامٍ: جَعَلْتُكَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ صَحَّ بِالْإِجْمَاعِ- أَيْ إِجْمَاعِ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ- ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ إِلْحَاقَ الْخِيَارِ بَعْدَ الْعَقْدِ جَارٍ مَجْرَى إِدْخَالِهِ فِي الْعَقْدِ تَمَامًا مِنْ حَيْثُ نَوْعُ الْخِيَارِ الْمَشْرُوطِ وَمُدَّتُهُ وَبَقِيَّةُ أَحْكَامِهِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَلْحَقُ خِيَارُ الشَّرْطِ بِالْعَقْدِ بَعْدَهُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، أَوْ فِي مَجْلِسِهِ.وَاسْتَدَلَّ ابْنُ قُدَامَةَ لِمَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ الْمَانِعِ مِنْ تَأَخُّرِ الْخِيَارِ عَنِ الْعَقْدِ بِأَنَّ الْعَقْدَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمَجْلِسِ أَصْبَحَ لَازِمًا، فَلَمْ يَصِرْ جَائِزًا بِقَوْلِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.وَذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ مِنْ أُصُولِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّ إِلْحَاقَ الزِّيَادَةِ (فِي الْأُجْرَةِ) وَالشُّرُوطِ بِالْعُقُودِ اللاَّزِمَةِ لَا يَصِحُّ.
وَبَيْن هَذَيْنِ الِاتِّجَاهَيْنِ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ اشْتَرَكَ مَعَ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ فِي النَّتِيجَةِ وَاخْتَلَفَ عَنْهُ فِي تَحْدِيدِ طَبِيعَةِ هَذَا التَّصَرُّفِ، فَقَدْ أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ إِلْحَاقَ الْخِيَارِ بِالْعَقْدِ بَعْدَ أَنْ وَقَعَ عَلَى النِّيَّاتِ، سَوَاءٌ كَانَ إِلْحَاقُهُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَوْ مِنْ كِلَيْهِمَا، فَيَصِحُّ الِاشْتِرَاطُ اللاَّحِقُ، وَيَلْزَمُ مَنِ الْتَزَمَهُ بَعْدَ صُدُورِ الْعَقْدِ خَالِيًا مِنْهُ، لَكِنَّهُ- وَهَذَا هُوَ الْفَارِقُ عَنِ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ- بِمَثَابَةِ بَيْعٍ مُؤْتَنَفٍ، بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ الْمُشْتَرِي لَهَا مِنْ غَيْرِ الْبَائِعِ..صَارَ فِيهِ الْمُشْتَرِي بَائِعًا..كَمَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ الْبَائِعُ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي، بِنَاءً عَلَى الْمَذْهَبِ مِنْ أَنَّ اللاَّحِقَ لِلْعُقُودِ لَيْسَ كَالْوَاقِعِ فِيهَا، فَمَا أَصَابَ السِّلْعَةَ فِي أَيَّامِ الْخِيَارِ فَهُوَ مِنَ الْمُشْتَرِي.
وَأَشَارَ خَلِيلٌ وَشُرَّاحُهُ إِلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِجَوَازِ إِلْحَاقِ الْخِيَارِ إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ انْتِقَادِ الْبَائِعِ الثَّمَنَ، أَمَّا إِلْحَاقُهُ قَبْلَ انْتِقَادِهِ فَلَا يُسَاوِيهِ فِي الْجَوَازِ لِمَا فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ (فَسْخِ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ) وَأَصْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ مَنْعُهُ.
وَقَدْ ذَكَرُوا فِي خِلَالِ مُنَاقَشَةِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وَجْهًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ «جَعْلَ الْخِيَارِ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ لَيْسَ عَقْدًا حَقِيقَةً، إِذِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ تَطْيِيبُ نَفْسِ مَنْ جُعِلَ لَهُ الْخِيَارُ لَا حَقِيقَةُ الْبَيْعِ».قَالَ الْخَرَشِيُّ وَالدُّسُوقِيُّ: لَكِنَّ الْمُرَجَّحَ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، أَيِ اقْتِصَارُ الْجَوَازِ عَلَى مَا لَوْ نَقَدَ الثَّمَنَ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا.
ثَانِيًا: شَرِيطَةُ التَّوْقِيتِ أَوْ مَعْلُومِيَّةُ الْمُدَّةِ:
8- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ تَقْيِيدِ الْخِيَارِ بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ مَضْبُوطَةٍ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَلَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ خِيَارٍ غَيْرِ مُؤَقَّتٍ أَصْلًا، وَهُوَ مِنَ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ بِالتَّفْصِيلِ.
قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ لِلْحَالِ، فَكَانَ شَرْطًا مُغَيِّرًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، إِلاَّ أَنَّا عَرَفْنَا جَوَازَهُ اسْتِحْسَانًا (بِخِلَافِ الْقِيَاسِ) بِالنَّصِّ، فَبَقِيَ مَا وَرَاءَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ.
وَالْحِكْمَةُ فِي تَوْقِيتِ الْمُدَّةِ أَنْ لَا يَكُونَ الْخِيَارُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى التَّنَازُعِ، وَهُوَ مِمَّا تَتَحَامَاهُ الشَّرِيعَةُ فِي أَحْكَامِهَا.
9- وَلِلْمُدَّةِ الْجَائِزِ ذِكْرُهَا حَدَّانِ: حَدٌّ أَدْنَى، وَحَدٌّ أَقْصَى.
أَمَّا الْحَدُّ الْأَدْنَى فَلَا تَوْقِيتَ لَهُ، وَلَيْسَ لَهُ قَدْرٌ مَحْدُودٌ بِحَيْثُ لَا يَقِلُّ عَنْهُ فَيَجُوزُ مَهْمَا قَلَّ، لِأَنَّ جَوَازَ الْأَكْثَرِ يَدُلُّ بِالْأَوْلَوِيَّةِ عَلَى جَوَازِ الْأَقَلِّ، وَمِنْ هُنَا نَصَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ «وَلَوْ لَحْظَةً».
قَالَ الْكَاسَانِيُّ: (أَقَلُّ مُدَّةِ الْخِيَارِ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ).وَنَحْوُهُ نُصُوصُ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ يُعْرَفُ.
وَأَمَّا الْحَدُّ الْأَقْصَى لِلْمُدَّةِ الْجَائِزَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ الْمَذَاهِبُ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، يُمْكِنُ حَصْرُهُ فِي الِاتِّجَاهَاتِ الْفِقْهِيَّةِ التَّالِيَةِ: التَّفْوِيضُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ مُطْلَقًا- التَّفْوِيضُ لَهُمَا فِي حُدُودِ الْمُعْتَادِ- التَّحْدِيدُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ- التَّفْوِيضُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ مُطْلَقًا:
10- مُقْتَضَى هَذَا الِاتِّجَاهِ جَوَازُ اتِّفَاقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ عَلَى أَيِّ مُدَّةٍ مَهْمَا طَالَتْ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَبِي يُوسُفَ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ، لَكِنَّهُ قَالَ: لَا يُعْجِبُنِي الطَّوِيلُ.
فَعِنْدَ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءِ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لِمَا فِي النُّصُوصِ الْمُثْبِتَةِ لِلْخِيَارِ مِنَ الْإِطْلَاقِ وَعَدَمِ التَّفْصِيلِ، وَلِأَنَّ الْخِيَارَ حَقٌّ يَعْتَمِدُ الشَّرْطَ مِنَ الْعَاقِدِ فَرَجَعَ إِلَيْهِ فِي تَقْدِيرِهِ.أَوْ يُقَالُ: هُوَ مُدَّةٌ مُلْحَقَةٌ بِالْعَقْدِ فَتَقْدِيرُهَا إِلَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ.
وَهُنَاكَ صُورَةٌ نَادِرَةٌ تُشْبِهُ مَا سَبَقَ فِي الْحَدِّ الْأَدْنَى لِلْمُدَّةِ لَكِنَّهَا تَسْتَحِقُّ الْإِشَارَةَ إِلَيْهَا، لِمَا فِي بَحْثِهَا مِنْ تَقْيِيدِ الْخِيَارِ بِأَنْ لَا يُنَافِيَ الْعَقْدَ وَيُفْقِدَهُ غَايَتَهُ.تِلْكَ الصُّورَةُ مَا لَوْ شَرَطَ الْمُتَعَاقِدَانِ مُدَّةً طَوِيلَةً خَارِجَةً عَنِ الْعَادَةِ «كَأَلْفِ سَنَةٍ، وَمِائَةِ سَنَةٍ» فَقَدِ اسْتَوْجَهَ صَاحِبُ غَايَةِ الْمُنْتَهَى أَنْ لَا يَصِحَّ لِإِفْضَائِهِ- عَلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ وَنَحْوِهَا- إِلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ، وَهَذَا الْمَنْعُ مُنَافٍ لِلْعَقْدِ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّارِعُ إِرْفَاقًا لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَقَدْ وَافَقَهُ الشَّارِحُ عَلَى ذَلِكَ.
الِاتِّجَاهُ الثَّانِي- التَّفْوِيضُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي حُدُودِ الْمُعْتَادِ:
11- وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَحْدَهُ.فَيَتَحَدَّدُ أَقْصَى مُدَّةِ الْخِيَارِ الْجَائِزَةِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، نَظَرًا لِاخْتِلَافِ الْمَبِيعَاتِ، فَلِلْعَاقِدِ تَعْيِينُ الْمُدَّةِ الَّتِي يَشَاءُ عَلَى أَنْ لَا يُجَاوِزَ الْحَدَّ الْمُعْتَادَ فِي كُلِّ نَوْعٍ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَأَمَّا عُمْدَةُ أَصْحَابِ مَالِكٍ فَهُوَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْخِيَارِ هُوَ اخْتِبَارُ الْمَبِيعِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَحْدُودًا بِزَمَانِ إِمْكَانِ اخْتِبَارِ الْمَبِيعِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ كُلِّ مَبِيعٍ.
وَبِمَا أَنَّ لِهَذَا الِاتِّجَاهِ الْفِقْهِيِّ تَقْدِيرَاتٍ مُحَدَّدَةً بِحَسَبِ الْحَاجَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا فَقَدْ جَرَى تَصْنِيفُهَا لَدَى الْمَالِكِيَّةِ إِلَى زُمَرٍ: الْعَقَارُ:
12- وَأَقْصَى مُدَّتِهِ شَهْرٌ، وَمَا أُلْحِقَ بِهِ هُوَ سِتَّةُ أَيَّامٍ، فَأَقْصَى الْمُدَّةِ الَّتِي يَجُوزُ مَدُّ الْخِيَارِ إِلَيْهَا فِي الْعَقَارِ (36) يَوْمًا.وَهُنَاكَ الْيَوْمَانِ الْمُلْحَقَانِ بِزَمَنِ الْخِيَارِ وَهُمَا لِلتَّمْكِينِ مِنْ رَدِّ الْمَبِيعِ إِذَا كَانَ حِينَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ (الشَّهْرِ وَالْأَيَّامِ السِّتَّةِ) بِيَدِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ يُرِيدُ الْفَسْخَ، وَالْحُكْمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَلْزَمَ الْمَبِيعُ عَلَى مَنْ هُوَ بِيَدِهِ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ دُونَ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لَهُ أَوْ لِلْعَاقِدِ الْآخَرِ.فَالْيَوْمَانِ الْمُلْحَقَانِ هُمَا لِهَذَا الْغَرَضِ (دَفْعِ اللُّزُومِ عَنِ الْمُشْتَرِي دُونَ إِرَادَتِهِ).أَمَّا زَمَنُ الْخِيَارِ لِلْعَقَارِ فَهُوَ شَهْرٌ وَسِتَّةُ أَيَّامٍ.
الدَّوَابُّ:
13- وَتَخْتَلِفُ الْمُدَّةُ فِيهَا بِحَسَبِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْخِيَارِ فِيهَا
، فَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِمَعْرِفَةِ قُوَّتِهَا وَأَكْلِهَا وَسِعْرِهَا فَأَقْصَى مُدَّتِهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ.وَإِنْ كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ مُتَضَمِّنًا أَنَّهَا لِلِاخْتِبَارِ فِي الْبَلَدِ نَفْسِهِ فَالْمُدَّةُ يَوْمٌ وَاحِدٌ وَشَبَهُهُ، أَمَّا إِنْ كَانَ خَارِجَهُ فَأَقْصَى الْمُدَّةِ بَرِيدٌ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَبَرِيدَانِ عِنْدَ أَشْهَبَ.وَقَدْ أُلْحِقَ بِالثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ يَوْمٌ وَاحِدٌ لِتَمْكِينِ الْمُشْتَرِي مِنْ رَدِّ الْمَبِيعِ، كَمَا سَلَفَ.
بَقِيَّةُ الْأَشْيَاءِ:
14- وَتَشْمَلُ: الثِّيَابَ، وَالْعُرُوضَ، وَالْمِثْلِيَّاتِ. وَأَقْصَى الْمُدَّةِ لَهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَيَلْحَقُ بِهَا يَوْمٌ.وَقَدْ أَطْلَقَ الْخَرَشِيُّ لَفْظَ (الْمِثْلِيَّاتِ) عَلَى كُلِّ مَا عَدَا (الرَّقِيقِ وَالْعَقَارِ وَالدَّوَابِّ) وَبِالرَّغْمِ مِنْ شُمُولِ الْمِثْلِيَّاتِ لِلْخُضَرِ وَالْفَوَاكِهِ إِلاَّ أَنَّ لِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ حُكْمًا خَاصًّا بِهِمَا مِنْ حَيْثُ الْمُدَّةُ نَظَرًا لِطَبِيعَتِهِمَا الْخَاصَّةِ مِنْ تَسَارُعِ التَّلَفِ إِلَيْهِمَا، فَالْخُضَرُ وَالْفَوَاكِهُ بِخَاصَّةٍ أَمَدُ الْخِيَارِ فِيهِمَا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، أَوْ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى الْمُدَّةُ الَّتِي لَا تَتَغَيَّرُ فِيهَا.
الِاتِّجَاهُ الثَّالِثُ- التَّحْدِيدُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ:
15- وَهَذَا التَّحْدِيدُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا مَهْمَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، مَعَ الْمَنْعِ مِنْ مُجَاوَزَتِهَا.وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبِهِ زُفَرَ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْوَجْهِ الْمَشْهُورِ عَنْهُ.
وَقَدِ احْتَجَّ لِهَذَا التَّحْدِيدِ بِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ السَّابِقِ ذِكْرُهُ لِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.
وَالْبَيَانُ الدَّقِيقُ لِمُسْتَنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَحْدِيدِ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ هُوَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُهُ أَبُو يُوسُفَ، فَقَدْ قَالَ فِي بَيَانِ مَذْهَبِ الْإِمَامِ: لَا يَكُونُ الْخِيَارُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «مَنِ اشْتَرَى شَاةً مُحَفَّلَةً فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ: إِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ».فَجَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ الْخِيَارَ كُلَّهُ عَلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.
وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: (الْخِيَارُ جَائِزٌ شَهْرًا كَانَ أَوْ سَنَةً وَبِهِ نَأْخُذُ).وَنَحْوُهُ مُسْتَنَدُ الشَّافِعِيِّ، كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي مَعْرِفَةِ السُّنَنِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْأَصْلُ فِي الْبَيْعِ بِالْخِيَارِ أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا، وَلَكِنْ لَمَّا شَرَطَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمُصَرَّاةِ خِيَارَ ثَلَاثٍ فِي الْبَيْعِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ لَحِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ خِيَارَ ثَلَاثٍ فِيمَا ابْتَاعَ، انْتَهَيْنَا إِلَى مَا قَالَ- صلى الله عليه وسلم-.
كَمَا احْتَجُّوا لَهُ مِنَ الْمَعْقُولِ بِأَنَّ الْخِيَارَ مُنَافٍ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَقَدْ جَازَ لِلْحَاجَةِ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْقَلِيلِ مِنْهُ، وَآخِرُ الْقِلَّةِ ثَلَاثٌ، وَاحْتَجَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ النَّوَوِيُّ بَعْدَمَا أَشَارَ إِلَى حَدِيثِ حِبَّانَ.
الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثِ:
16- إِذَا زَادَتْ مُدَّةُ خِيَارِ الشَّرْطَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا لَدَى هَذَا الْفَرِيقِ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِ بِالتَّحْدِيدِ بِهَا، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ، وَبَاطِلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، ذَهَابًا مِنْهُ إِلَى أَنَّ إِسْقَاطَ الزِّيَادَةِ لَا يُصَحِّحُ الْعَقْدَ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْمَجْلِسِ فَقَطْ، بَلْ فِي الْمَجْلِسِ أَيْضًا عَلَى الْمَشْهُورِ، لِأَنَّ الْمَجْلِسَ ثَبَتَ لِعَقْدٍ صَحِيحٍ، لَا لِفَاسِدٍ، لِوُقُوعِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَثْبُتُ دَائِمًا.
غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَحْدَهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ إِسْقَاطَ شَرْطِ الْخِيَارِ الزَّائِدِ عَنِ الثَّلَاثِ- أَوْ إِسْقَاطَ الزِّيَادَةِ- يُصَحِّحُ الْعَقْدَ، وَلَوْ حَصَلَ ذَلِكَ الْإِسْقَاطُ بَعْدَ مُفَارَقَةِ مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ مَا لَمْ تَمْضِ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ.وَخَالَفَهُ صَاحِبُهُ زُفَرُ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّ إِسْقَاطَ الزَّائِدِ لَا يُصَحِّحُ الْعَقْدَ لِأَنَّ الْبَقَاءَ عَلَى حَسَبِ الثُّبُوتِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنَ الصُّوَرِ الْمُفْسِدَةِ: - اشْتِرَاطَ مُشَاوَرَةِ مَنْ لَا يَعْلَمُ مَا عِنْدَهُ إِلاَّ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُدَّةِ بِأَمَدٍ، كَمَا لَوِ اشْتَرَطَ الْخِيَارَ فِي الْعَقَارِ لِمُدَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مَعَ أَنَّ الْمُدَّةَ الْمُحَدَّدَةَ لِلْعَقَارِ أَقْصَاهَا ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا.
- اشْتِرَاطَ مُدَّةٍ زَائِدَةٍ عَلَى مُدَّةِ تِلْكَ السِّلْعَةِ بِكَثِيرٍ، أَمَّا لَوْ بِزِيَادَةِ يَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ فَلَا يَضُرُّ.
الْخِيَارُ الْمُطْلَقُ:
17- فِي الْخِيَارِ الْمُطْلَقِ عَنِ الْمُدَّةِ تَتَّجِهُ الْمَذَاهِبُ إِلَى أَرْبَعَةِ اتِّجَاهَاتٍ: بُطْلَانِ الْعَقْدِ أَوْ فَسَادِهِ- بُطْلَانِ الشَّرْطِ دُونَ الْعَقْدِ- صِحَّةِ الْعَقْدِ وَتَعْدِيلِ الشَّرْطِ- صِحَّةِ الْعَقْدِ وَبَقَاءِ الشَّرْطِ بِحَالِهِ.
أ- بُطْلَانُ الْعَقْدِ أَوْ فَسَادُهُ، فَالْبُطْلَانُ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ- وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى فَسَادِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا هُنَا بَيْنَ الْجَهَالَةِ الْمُتَفَاحِشَةِ أَوِ الْمُتَقَارِبَةِ كَالْحَصَادِ مَثَلًا، كَمَا ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْخِيَارِ الْمُفْسِدِ لَوْ أَبْطَلَ خِيَارَهُ، أَوْ بَيَّنَهُ، أَوْ سَقَطَ بِسَبَبٍ مَا وَلَزِمَ الْبَيْعُ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ التَّالِيَةِ لِلْعَقْدِ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ (خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الْمُشْتَرِطِ حُصُولَ ذَلِكَ قَبْلَ مُضِيِّ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ) انْقَلَبَ الْعَقْدُ صَحِيحًا عِنْدَ الْجَمِيعِ- بَلْ لَوْ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ- لِحَذْفِ الْمُفْسِدِ قَبْلَ اتِّصَالِهِ بِالْعَقْدِ لِأَنَّهُمَا يُجِيزَانِ الزِّيَادَةَ عَنِ الثَّلَاثَةِ.
ب- بُطْلَانُ الشَّرْطِ دُونَ الْعَقْدِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ لِأَحْمَدَ وَمَذْهَبُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى
ج- صِحَّةُ الْعَقْدِ وَتَعْدِيلُ الشَّرْطِ، فَالْخِيَارُ الْمُطْلَقُ أَوِ الْمُؤَبَّدُ هُنَا يُخَوِّلُ الْقَاضِي تَحْدِيدَ الْمُدَّةِ الْمَأْلُوفَةِ فِي الْعَادَةِ لِاخْتِبَارِ مِثْلِ السِّلْعَةِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ مُقَيَّدٌ فِي الْعَادَةِ، فَإِذَا أَطْلَقَا حُمِلَ عَلَيْهِ.وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ.
وَقَدِ اخْتَارَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ الْعَاقِدَيْنِ إِنْ أَطْلَقَا الْخِيَارَ وَلَمْ يُوَقِّتَاهُ بِمُدَّةٍ تَوَجَّهَ أَنْ يَثْبُتَ ثَلَاثًا، لِخَبَرِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ.
د- صِحَّةُ الْعَقْدِ وَبَقَاءُ الشَّرْطِ بِحَالِهِ: فَيَبْقَى الْخِيَارُ مُطْلَقًا أَبَدًا كَمَا نَشَأَ حَتَّى يَصْدُرَ مَا يُسْقِطُهُ.وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ شُبْرُمَةَ، وَقَوْلٌ لِأَحْمَدَ.
تَأْبِيدُ الْخِيَارِ:
18- مِنَ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ: شَرْطُ خِيَارٍ مُؤَبَّدٍ فِي الْبَيْعِ بِأَنْ قَالَ (أَبَدًا) أَوْ (أَيَّامًا).
التَّوْقِيتُ بِوَقْتٍ مَجْهُولٍ:
19- مِنَ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ: شَرْطُ خِيَارٍ مُؤَقَّتٍ بِوَقْتٍ مَجْهُولٍ سَوَاءٌ كَانَتْ جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً، كَهُبُوبِ الرِّيَاحِ، وَمَجِيءِ الْمَطَرِ، وَقُدُومِ فُلَانٍ، وَمَوْتِ فُلَانٍ، وَوَضْعِ الْحَامِلِ وَنَحْوِهِ.أَوْ جَهَالَةً مُتَقَارِبَةً، كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ، وَقُدُومِ الْحَاجِّ.
ثَالِثًا- شَرِيطَةُ الِاتِّصَالِ، وَالْمُوَالَاةِ
20- الْمُرَادُ بِالِاتِّصَالِ أَنْ تَبْدَأَ مُدَّةُ الْخِيَارِ مِنْ فَوْرِ إِبْرَامِ الْعَقْدِ، أَيْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَتَرَاخَى عَنْهُ، فَلَوْ شَرَطَ الْمُتَعَاقِدَانِ الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَثَلًا مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ، أَوْ تَبْدَأُ مِنَ الْغَدِ، أَوْ تَبْدَأُ مَتَى شَاءَ..أَوْ شَرَطَا خِيَارَ الْغَدِ دُونَ الْيَوْمِ، فَسَدَ الْعَقْدُ لِمُنَافَاتِهِ لِمُقْتَضَاهُ، وَالْمُرَادُ بِالْمُقْتَضَى هُنَا: حُصُولُ آثَارِهِ مُبَاشَرَةً.هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: (وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ مُتَّصِلَةً بِالْعَقْدِ.لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ خِيَارًا مُتَرَاخِيًا عَنِ الْعَقْدِ) لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ لَا يُبْطِلُونَ هَذَا الْعَقْدَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ نَظَرًا لِذَهَابِهِمْ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْبُطْلَانِ وَالْفَسَادِ، وَالْفَاسِدُ مِنَ الْعُقُودِ مُنْعَقِدٌ وَيَحْتَمِلُ بَعْضُهُ التَّصْحِيحَ، وَسَبِيلُ ذَلِكَ هُنَا اعْتِبَارُ الْمُدَّةِ الْفَاصِلَةِ بَيْنَ الْعَقْدِ وَبَيْنَ مَبْدَأِ الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ مَشْمُولَةً بِالشَّرْطِ، فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ اشْتِرَاطَ خِيَارِ أَيَّامٍ غَيْرِ مُتَّصِلَةٍ بِالْعَقْدِ، مِثْلُ مَا لَوْ كَانَ الْعَقْدُ فِي آخِرِ رَمَضَانَ وَاشْتَرَطَ خِيَارَ يَوْمَيْنِ بَعْدَ رَمَضَانَ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ (الْيَوْمُ الْآخِرُ مِنْ رَمَضَانَ وَالْيَوْمَانِ مِمَّا بَعْدَهُ).
وَهَكَذَا يُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى إِرَادَةِ الْمُدَّةِ الْمُتَّصِلَةِ وَمَا بَعْدَهَا.أَمَّا إِذَا كَانَ الِاشْتِرَاطُ غَيْرَ قَابِلٍ لِلْحَمْلِ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ عَقْدٌ فَاسِدٌ مُسْتَحِقٌّ لِلْفَسْخِ بِإِرَادَةِ كُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ وَبِإِرَادَةِ الْقَاضِي، وَمِثَالُهُ فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ- عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- مَا لَوْ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ فِي رَمَضَانَ، وَلَهُ كَذَا يَوْمًا مِمَّا بَعْدَهُ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ. 21- وَيَتْبَعُ شَرِيطَةَ الِاتِّصَالِ شَرِيطَةٌ أُخْرَى يُمْكِنُ تَسْمِيَتُهَا «الْمُوَالَاةَ» لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا: تَتَابُعُ أَجْزَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ.فَلَوْ شَرَطَا الْخِيَارَ لِمُدَّةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَلَى أَنَّهُ يَوْمًا يَثْبُتُ وَيَوْمًا لَا يَثْبُتُ فَفِيهِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا- وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ-: الصِّحَّةُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، لِإِمْكَانِهِ، وَالْبُطْلَانُ فِيمَا بَعْدَهُ، لِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا لَزِمَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَمْ يَعُدْ إِلَى عَدَمِ اللُّزُومِ.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: (احْتِمَالُ) بُطْلَانِ الشَّرْطِ كُلِّهِ، لِأَنَّهُ شَرْطٌ وَاحِدٌ تَنَاوَلَ الْخِيَارَ فِي أَيَّامٍ، فَإِذَا فَسَدَ فِي بَعْضِهِ فَسَدَ جَمِيعُهُ.
رَابِعًا- تَعْيِينُ مُسْتَحِقِّ الْخِيَارِ:
22- مُسْتَحِقُّ الْخِيَارِ أَوْ صَاحِبُ الْخِيَارِ: هُوَ ذَلِكَ الشَّخْصُ الَّذِي يَكُونُ إِلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْخِيَارِ وَمُمَارَسَتُهُ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ مُشْتَرِطَهُ أَوْ خُوِّلَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَاقِدِ الْآخَرِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ طَرَفًا فِي الْعَقْدِ أَمْ كَانَ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ، وَلَا يَصِحُّ تَطَرُّقُ الْجَهَالَةِ إِلَى مُسْتَحِقِّ الْخِيَارِ، فَلَوِ اتَّفَقَ الْعَاقِدَانِ عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ لِأَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يُبَيِّنَا هَلْ هُوَ الْبَائِعُ أَمِ الْمُشْتَرِي، أَوْ تَعَاقَدَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِشَخْصٍ مَا يُعَيِّنُهُ أَحَدُهُمَا فِيمَا بَعْدُ، أَوْ لِمَنْ يَشَاءُ أَحَدُهُمَا، فَهَذَا كُلُّهُ فِيهِ جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ لِلنِّزَاعِ. وَلِذَا صَرَّحَ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى التَّنَازُعِ.لِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ مُسْتَحِقِّ الْخِيَارِ تَعْيِينًا مُشَخَّصًا أَهُوَ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي، وَكَذَلِكَ تَعْيِينُهُ بِالذَّاتِ إِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا عَنِ الْعَقْدِ، وَعَدَمُ الِاكْتِفَاءِ بِذِكْرِ الصِّفَةِ (مَثَلًا) كَقَوْلِهِ: عَلَى أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ لِأَحَدِ التُّجَّارِ أَوِ الْخُبَرَاءِ دُونَ تَحْدِيدٍ.وَقَالَ النَّوَوِيُّ: (لَوْ يُشْرَطُ الْخِيَارُ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَفِي صِحَّةِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ، الْأَصَحُّ: الصِّحَّةُ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
71-موسوعة الفقه الكويتية (دار الإسلام)
دَارُ الْإِسْلَامِالتَّعْرِيفُ:
1- دَارُ الْإِسْلَامِ هِيَ: كُلُّ بُقْعَةٍ تَكُونُ فِيهَا أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ ظَاهِرَةً.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: هِيَ كُلُّ أَرْضٍ تَظْهَرُ فِيهَا أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ- وَيُرَادُ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ: كُلُّ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِهِ غَيْرِ نَحْوِ الْعِبَادَاتِ كَتَحْرِيمِ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ- أَوْ يَسْكُنُهَا الْمُسْلِمُونَ وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ فِيهَا أَهْلُ ذِمَّةٍ، أَوْ فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَأَقَرُّوهَا بِيَدِ الْكُفَّارِ، أَوْ كَانُوا يَسْكُنُونَهَا، ثُمَّ أَجَلَاهُمُ الْكُفَّارُ عَنْهَا.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- دَارُ الْحَرْبِ:
2- دَارُ الْحَرْبِ هِيَ: كُلُّ بُقْعَةٍ تَكُونُ فِيهَا أَحْكَامُ الْكُفْرِ ظَاهِرَةً.
ب- دَارُ الْعَهْدِ:
3- دَارُ الْعَهْدِ: وَتُسَمَّى دَارَ الْمُوَادَعَةِ وَدَارَ الصُّلْحِ وَهِيَ: كُلُّ نَاحِيَةٍ صَالَحَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَهَا بِتَرْكِ الْقِتَالِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ لِأَهْلِهَا.
ج- دَارُ الْبَغْيِ:
4- دَارُ الْبَغْيِ هِيَ: نَاحِيَةٌ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ تَحَيَّزَ إِلَيْهَا مَجْمُوعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ شَوْكَةٌ خَرَجَتْ عَلَى طَاعَةِ الْإِمَامِ بِتَأْوِيلٍ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5- إِذَا اسْتَوْلَى الْكُفَّارُ عَلَى بُقْعَةٍ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ صَارَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ النَّاحِيَةِ الَّتِي اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْكُفَّارُ، رِجَالًا وَنِسَاءً، صِغَارًا وَكِبَارًا، أَصِحَّاءَ وَمَرْضَى، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَهْلُ النَّاحِيَةِ دَفْعَ الْعَدُوِّ عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، صَارَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ أَهْلِ النَّوَاحِي الْأُخْرَى مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهَكَذَا حَتَّى يَكُونَ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَجُوزُ تَمْكِينُ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ.وَيَأْثَمُ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ إِذَا تَرَكُوا غَيْرَهُمْ يَسْتَوْلِي عَلَى شَيْءٍ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ. (ر: جِهَادٌ).
وَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ بُلْدَانِ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَقُرَاهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِقَامَةُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَإِظْهَارُهَا فِيهَا كَالْجُمُعَةِ، وَالْجَمَاعَةِ، وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، وَالْأَذَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ تَرَكَ أَهْلُ بَلَدٍ أَوْ قَرْيَةٍ إِقَامَةَ هَذِهِ الشَّعَائِرِ أَوْ إِظْهَارَهَا قُوتِلُوا وَإِنْ أَقَامُوهَا سِرًّا.
وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ دُخُولُ دَارِ الْإِسْلَامِ إِلاَّ بِإِذْنٍ مِنَ الْإِمَامِ أَوْ أَمَانٍ فِي مُسْلِمٍ.وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ إِحْدَاثُ دُورِ عِبَادَةٍ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ: كَالْكَنَائِسِ، وَالصَّوَامِعِ، وَبَيْتِ النَّارِ، عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي.
تَحَوُّلُ دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَى دَارِ كُفْرٍ:
6- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحَوُّلِ دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَى دَارٍ لِلْكُفْرِ.
فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا تَصِيرُ دَارُ الْإِسْلَامِ دَارَ كُفْرٍ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَإِنِ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْكُفَّارُ، وَأَجْلَوُا الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا، وَأَظْهَرُوا فِيهَا أَحْكَامَهُمْ.لِخَبَرِ: «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ» وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ (أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ): تَصِيرُ دَارُ الْإِسْلَامِ دَارَ كُفْرٍ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فِيهَا.وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لَا تَصِيرُ دَارَ كُفْرٍ إِلاَّ بِثَلَاثِ شَرَائِطَ:
1- ظُهُورُ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فِيهَا.
2- أَنْ تَكُونَ مُتَاخِمَةً لِدَارِ الْكُفْرِ.
3- أَنْ لَا يَبْقَى فِيهَا مُسْلِمٌ، وَلَا ذِمِّيٌّ آمِنًا بِالْأَمَانِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَمَانُ الْمُسْلِمِينَ.
وَوَجْهُ قَوْلِ الصَّاحِبَيْنِ وَمَنْ مَعَهُمَا أَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ وَدَارَ الْكُفْرِ: أُضِيفَتَا إِلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَى الْكُفْرِ لِظُهُورِ الْإِسْلَامِ أَوِ الْكُفْرِ فِيهِمَا، كَمَا تُسَمَّى الْجَنَّةُ دَارَ السَّلَامِ، وَالنَّارُ دَارَ الْبَوَارِ، لِوُجُودِ السَّلَامَةِ فِي الْجَنَّةِ، وَالْبَوَارِ فِي النَّارِ، وَظُهُورُ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ إِنَّمَا هُوَ بِظُهُورِ أَحْكَامِهِمَا، فَإِذَا ظَهَرَتْ أَحْكَامُ الْكُفْرِ فِي دَارٍ فَقَدْ صَارَتْ دَارَ كُفْرٍ، فَصَحَّتِ الْإِضَافَةُ، وَلِهَذَا صَارَتِ الدَّارُ دَارَ إِسْلَامٍ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ شَرِيطَةٍ أُخْرَى، فَكَذَا تَصِيرُ دَارَ كُفْرٍ بِظُهُورِ أَحْكَامِ الْكُفْرِ فِيهَا.
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِضَافَةِ الدَّارِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ لَيْسَ هُوَ عَيْنُ الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُوَ: الْأَمْنُ، وَالْخَوْفُ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْأَمْنَ إِنْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الدَّارِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْخَوْفَ لِغَيْرِهِمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَهِيَ دَارُ إِسْلَامٍ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْنُ فِيهَا لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْخَوْفُ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَهِيَ دَارُ كُفْرٍ، فَالْأَحْكَامُ عِنْدَهُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْأَمَانِ وَالْخَوْفِ، لَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ، فَكَانَ اعْتِبَارُ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ أَوْلَى.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي (دَارُ الْحَرْبِ).
دُخُولُ الْحَرْبِيِّ دَارَ الْإِسْلَامِ:
7- لَيْسَ لِلْحَرْبِيِّ دُخُولُ دَارِ الْإِسْلَامِ إِلاَّ بِإِذْنٍ مِنَ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، فَإِنِ اسْتَأْذَنَ فِي دُخُولِهَا فَإِنْ كَانَ فِي دُخُولِهِ مَصْلَحَةٌ، كَإِبْلَاغِ رِسَالَةٍ، أَوْ سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ حَمْلِ مِيرَةٍ أَوْ مَتَاعٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِمَا الْمُسْلِمُونَ، جَازَ الْإِذْنُ لَهُ بِدُخُولِ دَارِ الْإِسْلَامِ إِلاَّ الْحَرَمَ، وَلَا يُقِيمُ فِي الْحِجَازِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ.وَفِي غَيْرِ الْحِجَازِ يُقِيمُ قَدْرَ الْحَاجَةِ.أَمَّا الْحَرَمُ فَلَا يَجُوزُ دُخُولُ كَافِرٍ فِيهِ وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}.وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ: (أَرْضُ الْعَرَبِ، حَرَمٌ).
مَالُ الْمُسْتَأْمَنِ وَأَهْلُهُ:
8- إِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ مِنَ الْإِمَامِ كَانَ مَا مَعَهُ مِنْ مَالٍ، وَزَوْجَةٍ، وَأَوْلَادٍ صِغَارٍ فِي أَمَانٍ، أَمَّا مَا خَلَّفَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْأَمَانِ، إِلاَّ بِالشَّرْطِ فِي عَقْدِ الْأَمَانِ.
وَإِنْ نَقَضَ الْعَهْدَ وَالْتَحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَقِيَ الْأَمَانُ لِمَا تَرَكَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِتَحْصِيلِ مَا تَرَكَهُ مِنْ دَيْنٍ وَوَدِيعَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ مَاتَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَتَرِكَتُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِوَرَثَتِهِ.
وَإِنْ دَخَلَ لِتِجَارَةٍ جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ عُشْرَ مَا مَعَهُ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ، وَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ بِغَيْرِ شَيْءٍ.
اسْتِيطَانُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ دَارَ الْإِسْلَامِ:
9- قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ دَارَ الْإِسْلَامِ إِلَى قِسْمَيْنِ: جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهَا: فَجَزِيرَةُ الْعَرَبِ لَا يُمَكَّنُ غَيْرُ الْمُسْلِمِ مِنَ الِاسْتِيطَانِ فِيهَا، وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِخَبَرِ: «لَا يُتْرَكُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ».
وَخَبَرِ: «أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ».
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ.
فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: الْمُرَادُ بِالْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْحِجَازُ، فَتَجُوزُ إِقَامَتُهُمْ فِي غَيْرِ الْحِجَازِ مِنَ الْجَزِيرَةِ، لِأَنَّ أَحَدًا مِنَ الْخُلَفَاءِ لَمْ يُخْرِجِ الْكُفَّارَ مِنَ الْيَمَنِ، وَتَيْمَاءَ، وَنَجْرَانَ.وَقَالَ غَيْرُهُمْ: الْمُرَادُ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ كُلُّهَا مِنْ عَدَنِ أَبْيَنَ إِلَى رِيفِ الْعِرَاقِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَرْضُ الْعَرَبِ).
إِحْدَاثُ دُورِ عِبَادَةٍ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ:
10- لَا يَجُوزُ إِحْدَاثُ كَنِيسَةٍ، أَوْ صَوْمَعَةٍ، أَوْ بَيْتِ نَارٍ لِلْمَجُوسِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، بِتَفْصِيلٍ يُرْجَعُ: إِلَى مُصْطَلَحِ: (مَعَابِدُ).
اللَّقِيطُ وَأَثَرُ الدَّارِ فِي دِينِهِ:
11- إِذَا وُجِدَ طِفْلٌ مَنْبُوذٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ مُسْلِمِينَ (انْظُرْ: لَقِيطٌ).
إِحْيَاءُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ مَوَاتَ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَحَفْرُ مَعَادِنِهِ
12- لَيْسَ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ إِحْيَاءُ مَوَاتٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَمْلِكُهُ بِالْإِحْيَاءِ، وَلَا حَفْرُ مَعَادِنِهَا، وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ.وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ، وَزَكَاةُ الْمَعَادِنِ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
72-موسوعة الفقه الكويتية (دار الحرب)
دَارُ الْحَرْبِالتَّعْرِيفُ:
1- دَارُ الْحَرْبِ: هِيَ كُلُّ بُقْعَةٍ تَكُونُ أَحْكَامُ الْكُفْرِ فِيهَا ظَاهِرَةً.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِدَارِ الْحَرْبِ:
الْهِجْرَةُ:
2- قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ النَّاسَ فِي شَأْنِ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أ- مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ، وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا، وَلَا يُمْكِنُهُ إِظْهَارُ دِينِهِ مَعَ الْمُقَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَإِنْ كَانَتْ أُنْثَى لَا تَجِدُ مَحْرَمًا، إِنْ كَانَتْ تَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهَا فِي الطَّرِيقِ، أَوْ كَانَ خَوْفُ الطَّرِيقِ أَقَلَّ مِنْ خَوْفِ الْمُقَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ.لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}.
وَفِي الْآيَةِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ، وَالْوَعِيدُ الشَّدِيدُ لَا يَكُونُ إِلاَّ فِي ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ وَتَرْكِ الْوَاجِبِ.
وَلِحَدِيثِ: «أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا» وَحَدِيثِ: «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا دَامَ الْعَدُوُّ يُقَاتِلُ» أَمَّا حَدِيثُ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» فَمَعْنَاهُ لَا هِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ فَتْحِهَا، لِصَيْرُورَةِ مَكَّةَ دَارَ إِسْلَامٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
ب- مَنْ لَا هِجْرَةَ عَلَيْهِ: وَهُوَ مَنْ يَعْجِزُ عَنْهَا، إِمَّا لِمَرَضٍ، أَوْ إِكْرَاهٍ عَلَى الْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْكُفْرِ، أَوْ ضَعْفٍ كَالنِّسَاءِ، وَالْوِلْدَانِ.لقوله تعالى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}.
ج- مَنْ تُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ: مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْهِجْرَةِ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَهَذَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْهِجْرَةُ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْجِهَادِ، وَتَكْثِيرِ الْمُسْلِمِينَ.
د- وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ قِسْمًا رَابِعًا: وَهُوَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ دِينِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَيَقْدِرُ عَلَى الِاعْتِزَالِ فِي مَكَانٍ خَاصٍّ، وَالِامْتِنَاعِ مِنَ الْكُفَّارِ، فَهَذَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ، لِأَنَّ مَكَانَ اعْتِزَالِهِ صَارَ دَارَ إِسْلَامٍ بِامْتِنَاعِهِ، فَيَعُودُ بِهِجْرَتِهِ إِلَى حَوْزَةِ الْكُفَّارِ، وَهُوَ أَمْرٌ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ كُلَّ مَحَلٍّ قَدَرَ أَهْلُهُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْكُفَّارِ صَارَ دَارَ إِسْلَامٍ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا تَجِبُ الْهِجْرَةُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لِخَبَرِ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ».
أَمَّا حَدِيثُ: «ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ».فَمَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ».
التَّزَوُّجُ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
3- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّزَوُّجِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِمَنْ دَخَلَ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِأَمَانٍ، لِتِجَارَةٍ، أَوْ لِغَيْرِهَا، وَلَوْ بِمُسْلِمَةٍ، وَتَشْتَدُّ الْكَرَاهَةُ إِذَا كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْكَرَاهَةُ تَحْرِيمِيَّةٌ فِي الْحَرْبِيَّةِ لِافْتِتَاحِ بَابِ الْفِتْنَةِ، وَتَنْزِيهِيَّةٌ فِي غَيْرِهَا، لِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضًا لِلذُّرِّيَّةِ لِفَسَادٍ عَظِيمٍ، إِذْ أَنَّ الْوَلَدَ إِذَا نَشَأَ فِي دَارِهِمْ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَنْشَأَ عَلَى دِينِهِمْ، وَإِذَا كَانَتِ الزَّوْجَةُ مِنْهُمْ فَقَدْ تَغْلِبُ عَلَى وَلَدِهَا فَيَتْبَعُهَا عَلَى دِينِهَا.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ أَسِيرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ التَّزَوُّجُ مَا دَامَ أَسِيرًا، لِأَنَّهُ إِذَا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ كَانَ لَهُمْ رَقِيقًا
الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ:
4- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِلَى أَنَّ الرِّبَا حَرَامٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَحُرْمَتِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَمَا كَانَ حَرَامًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، كَانَ حَرَامًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، سَوَاءٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ، أَوْ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ لَمْ يُهَاجِرَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالُوا: إِنَّ النُّصُوصَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا عَامَّةٌ، وَلَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ دَارٍ وَدَارٍ، وَلَا بَيْنَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ. (رَاجِعْ مُصْطَلَحَ: رِبًا).
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَحْرُمُ الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَأَهْلِ الْحَرْبِ، وَلَا بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ لَمْ يُهَاجِرَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ.لِحَدِيثِ: «لَا رِبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ» وَلِأَنَّ مَالَهُمْ مُبَاحٌ فِي دَارِهِمْ، فَبِأَيِّ طَرِيقٍ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُ أَخَذَ مَالًا مُبَاحًا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَدْرٌ، وَلِأَنَّ مَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ مُبَاحٌ بِغَيْرِ عَقْدٍ، فَبِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ أَوْلَى.
وَلِأَنَّ «أَبَا بَكْرٍ- رضي الله عنه- خَاطَرَ قُرَيْشًا قَبْلَ الْهِجْرَةِ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: أَتَرَوْنَ أَنَّ الرُّومَ تَغْلِبُ؟ قَالَ: نَعَمْ.فَقَالُوا: هَلْ لَكَ أَنْ تُخَاطِرَنَا فِي ذَلِكَ؟ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: اذْهَبْ إِلَيْهِمْ فَزِدْ فِي الْخَطَرِ وَزِدْ فِي الْأَجَلِ فَفَعَلَ، وَغَلَبَتِ الرُّومُ فَارِسًا فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ خَطَرَهُ، فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ الْقِمَارُ بِعَيْنِهِ».
وَكَانَتْ مَكَّةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دَارَ حَرْبٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لِلْمُسْلِمِ أَخْذَ مَالِ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَا لَمْ يَكُنْ غَدْرًا.
إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
5- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ زَنَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ سَرَقَ، أَوْ قَذَفَ مُسْلِمًا، أَوْ شَرِبَ خَمْرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ.
فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ، لِأَنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ فَرْضٌ كَالصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ، وَلَا تُسْقِطُ دَارُ الْحَرْبِ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
إِذَا قَتَلَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ يَسْتَوْفِي مِنْهُ الْقِصَاصَ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ كَمَا لَوْ كَانُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَوْ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: {لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي دَارِ الْحَرْبِ».وَقَوْلِهِ: «مَنْ زَنَى أَوْ سَرَقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَصَابَ بِهَا حَدًّا ثُمَّ هَرَبَ فَخَرَجَ إِلَيْنَا فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ» وَلِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِقَامَةِ الْحُدُودِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ، وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا أَصْلًا، وَكَذَلِكَ إِذَا قَتَلَ مُسْلِمًا فِيهَا لَا يُؤْخَذُ بِالْقِصَاصِ وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ، وَلِأَنَّ كَوْنَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْرَثَ شُبْهَةً فِي الْوُجُوبِ، وَالْقِصَاصُ لَا يَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَيَضْمَنُ الدِّيَةَ وَتَكُونُ فِي مَالِهِ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ، لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ ابْتِدَاءً، ثُمَّ الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّلُ عَنْهُ لِمَا بَيْنَهُمْ مِنَ التَّنَاصُرِ، وَلَا تَنَاصُرَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الدَّارِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا: تَجِبُ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ، وَلَكِنَّهَا لَا تُقَامُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَتُقَامُ عَلَيْهِ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ.وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ، أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- كَتَبَ إِلَى النَّاسِ لَا يَجْلِدَنَّ أَمِيرُ جَيْشٍ وَلَا سَرِيَّةٍ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَدًّا وَهُوَ غَازٍ حَتَّى يَقْطَعَ الدَّرْبَ قَافِلًا لِئَلاَّ يَلْحَقَهُ حَمِيَّةُ الشَّيْطَانِ، فَيَلْحَقَ، بِالْكُفَّارِ.
حَدُّ مَنْ أَصَابَ حَدًّا مِنْ أَفْرَادِ الْجَيْشِ:
6- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَصَابَ أَحَدُ أَفْرَادِ الْجَيْشِ حَدًّا، أَوْ قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً أَوْ عَمْدًا فِي دَارِ الْحَرْبِ خَارِجَ الْمُعَسْكَرِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَوِ الْقِصَاصُ، أَمَّا إِذَا زَنَى أَحَدُهُمْ فِي مُعَسْكَرِ الْجَيْشِ لَمْ يَأْخُذْهُ أَمِيرُ الْجَيْشِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْإِمَامُ لَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْهِ إِقَامَةَ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، إِلاَّ أَنَّهُ يُضَمِّنُهُ الْمَسْرُوقَ وَالدِّيَةَ فِي الْقَتْلِ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِيفَاءِ ضَمَانِ الْمَالِ.
أَمَّا إِذَا غَزَا مَنْ لَهُ وِلَايَةُ إِقَامَةِ الْحُدُودِ، سَوَاءٌ غَزَا الْخَلِيفَةُ بِنَفْسِهِ، أَوْ أَمِيرُ مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ، فَفَعَلَ رَجُلٌ مِنَ الْجَيْشِ ذَلِكَ فِي مُعَسْكَرِهِ أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَاقْتَصَّ مِنْهُ فِي الْعَمْدِ، وَضَمَّنَهُ الدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ فِي مَالِهِ، لِأَنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ إِلَى الْإِمَامِ، وَبِمَا لَهُ مِنَ الشَّوْكَةِ، وَانْقِيَادِ الْجُيُوشِ لَهُ يَكُونُ لِعَسْكَرِهِ حُكْمُ دَارِ الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: إِذَا أَصَابَ الرَّجُلُ حَدًّا وَهُوَ مُحَاصِرٌ لِلْعَدُوِّ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ.وَقَالُوا: وَلَا يَمْنَعُنَا الْخَوْفُ عَلَيْهِ مِنَ اللُّحُوقِ بِالْمُشْرِكِينَ أَنْ نُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ.وَلَوْ فَعَلْنَا ذَلِكَ تَوَقِّيًا مِنْ أَنْ يَغْضَبَ مَا أَقَمْنَا الْحَدَّ أَبَدًا، لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَيُعَطَّلَ حُكْمُ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ أَقَامَ الْحُدُودَ بِالْمَدِينَةِ وَالشِّرْكُ قَرِيبٌ مِنْهَا، وَفِيهَا مُشْرِكُونَ مُوَادَعُونَ.
وَضَرَبَ الشَّارِبَ بِحُنَيْنٍ.وَالشِّرْكُ قَرِيبٌ مِنْهَا.
حُصُولُ الْفُرْقَةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ:
7- اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي انْقِطَاعِ عِصْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ.
فَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِاخْتِلَافِ الدَّارِ، فَإِنْ أَسْلَمَ زَوْجُ كِتَابِيَّةٍ، وَهَاجَرَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَبَقِيَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا، لِأَنَّ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّةِ يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهُ فَالِاسْتِمْرَارُ أَوْلَى، سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَوْ بَعْدَهُ.وَإِنْ أَسْلَمَتْ كِتَابِيَّةٌ تَحْتَ كِتَابِيٍّ، أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ غَيْرَ الْكِتَابِيِّينَ، قَبْلَ الدُّخُولِ حَصَلَتِ الْفُرْقَةُ، لقوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} وَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ، وَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى انْتِهَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَ الْآخَرُ فِي الْعِدَّةِ بَقِيَ نِكَاحُهُمَا، وَإِلاَّ تَبَيَّنَّا فَسْخَهُ مُنْذُ أَسْلَمَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ اخْتِلَافُ الدِّينِ لَا اخْتِلَافُ الدَّارِ.وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ شُبْرُمَةَ قَالَ: «كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُسْلِمُ الرَّجُلُ قَبْلَ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةُ قَبْلَهُ، فَأَيُّهُمَا أَسْلَمَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْعِدَّةِ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا»، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَثَرِ دَارَ حَرْبٍ، وَلَا دَارَ إِسْلَامٍ، فَسَبَبُ الْفُرْقَةِ إِذًا اخْتِلَافُ الدِّينِ.
فَكَوْنُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُوجِبُ فُرْقَةً.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ تَحْصُلُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ، فَإِنْ خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، وَتَرَكَ الْآخَرَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ يَخْرُجُ الْمِلْكُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ، لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنَ الِانْتِفَاعِ عَادَةً، فَلَمْ يَكُنْ فِي بَقَائِهِ فَائِدَةٌ.
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (اخْتِلَافُ الدَّارِ).
قِسْمَةُ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ قَسْمِ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ قِسْمَتُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَتَبَايُعُهَا فِيهَا، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ قَالَ: قُلْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ: هَلْ قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا مِنَ الْغَنَائِمِ بِالْمَدِينَةِ؟ فَقَالَ: لَا أَعْلَمُهُ، إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يَتَّبِعُونَ غَنَائِمَهُمْ، وَيَقْسِمُونَهَا فِي أَرْضِ عَدُوِّهِمْ، وَلَمْ يَغْفُلْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ غَزَاةٍ قَطُّ أَصَابَ فِيهَا غُنَيْمَةً إِلاَّ خَمَّسَهَا وَقَسَّمَهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَغْفُلَ، مِنْ ذَلِكَ غُزَاةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَهَوَازِنَ، وَخَيْبَرَ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِيهَا بِالْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ فَصَحَّتْ قِسْمَتُهُ، وَلِأَنَّ قِسْمَةَ أَمْوَالِهِمْ فِي دَارِهِمْ أَنْكَى لَهُمْ، وَأَطْيَبُ لِقُلُوبِ الْمُجَاهِدِينَ، وَأَحْفَظُ لِلْغَنِيمَةِ، وَأَرْفَقُ بِهِمْ فِي التَّصَرُّفِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْقِسْمَةُ نَوْعَانِ:
1- قِسْمَةُ حَمْلٍ وَنَقْلٍ.
2- وَقِسْمَةُ مِلْكٍ.
أَمَّا قِسْمَةُ الْحَمْلِ، فَهِيَ إِنْ عَزَّتِ الدَّوَابُّ، وَلَمْ يَجِدِ الْإِمَامُ حَمُولَةً يُفَرِّقُ الْغَنَائِمَ عَلَى الْغُزَاةِ فَيَحْمِلُ كُلُّ رَجُلٍ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يَسْتَرِدُّهَا مِنْهُمْ، فَيَقْسِمُهَا قِسْمَةَ مِلْكٍ.
أَمَّا قِسْمَةُ الْمِلْكِ فَلَا تَجُوزُ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى يُخْرِجُوهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَيُحْرِزُوهَا، وَقَالُوا: إِنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ، وَيَتَأَكَّدُ بِالْإِحْرَازِ، وَيَتَمَكَّنُ بِالْقِسْمَةِ كَحَقِّ الشَّفِيعِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ، وَيَتَأَكَّدُ بِالطَّلَبِ، وَيَتِمُّ الْمِلْكُ بِالْأَخْذِ، وَمَا دَامَ الْحَقُّ ضَعِيفًا لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ لِأَنَّهُ دُونَ الْمِلْكِ الضَّعِيفِ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْقَهْرُ، وَقَبْلَ الْإِحْرَازِ هُمْ قَاهِرُونَ يَدًا مَقْهُورُونَ دَارًا، وَالثَّابِتُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ يَكُونُ ضَعِيفًا.
9- وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلَافِ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْجُمْهُورِ أَحْكَامٌ.
مِنْهَا: أَنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُ الْغَانِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُورَثُ مِنَ الْغَنِيمَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يُورَثُ.
وَمِنْهَا: إِذَا لَحِقَ الْجَيْشَ أَحَدٌ بَعْدَ الْحِيَازَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُشَارِكُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُشَارِكُهُمْ إِذَا لَحِقَ قَبْلَ الْحِيَازَةِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ.
وَإِذَا أَتْلَفَ أَحَدُ الْغَانِمِينَ شَيْئًا مِنَ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَضْمَنُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَا يَضْمَنُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. اسْتِيلَاءُ الْكُفَّارِ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَثَرُ الدَّارِ فِي ذَلِكَ:
10- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَمَلُّكِ أَهْلِ الْحَرْبِ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهَا وَإِنْ أَحْرَزُوهَا بِدَارِهِمْ، لِأَنَّهُ مَالٌ مَعْصُومٌ طَرَأَتْ عَلَيْهِ يَدٌ عَادِيَةٌ، فَلَمْ يَمْلِكْ بِهَا كَالْغَصْبِ.
وَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ لَا يَمْلِكُ مَالَ الْمُسْلِمِ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ بِغَصْبٍ، فَالْمُشْرِكُ أَوْلَى أَلاَّ يَمْلِكَ.
وَخَبَرُ «عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي الْأَنْصَارِيَّةِ الَّتِي أُسِرَتْ، ثُمَّ امْتَطَتْ نَاقَةَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، وَأَعْجَزَتْ مَنْ طَلَبَهَا، فَنَذَرَتِ الْأَنْصَارِيَّةُ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَلَمَّا قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ رَآهَا النَّاسُ، فَقَالُوا: الْعَضْبَاءُ، نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.فَقَالَتْ: إِنَّهَا نَذَرَتْ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، بِئْسَمَا جَزَتْهَا، نَذَرَتْ لِلَّهِ إِنْ نَجَّاهَا اللَّهُ عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا، لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ».
وَلَوْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَمْلِكُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَمْوَالَهُمْ لَمَلَكَتِ الْأَنْصَارِيَّةُ النَّاقَةَ.لِأَنَّهَا تَكُونُ أَخَذَتْ مَالًا غَيْرَ مَعْصُومٍ فِي دَارِ حَرْبٍ وَأَحْرَزُوهُ بِدَارِهِمْ، وَلَكِنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- أَخْبَرَ أَنَّهَا نَذَرَتْ فِيمَا لَا تَمْلِكُ وَأَخَذَ نَاقَتَهُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، قَالَ: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ أَهْلَ دَارِ الْحَرْبِ إِذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُحْرِزُوهَا بِدَارِهِمْ لَا يَمْلِكُونَهَا، أَمَّا إِذَا أَحْرَزُوهَا بِدَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَمْلِكُونَهَا.وَقَالُوا: لِأَنَّ مِلْكَ الْمُسْلِمِ يَزُولُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ، فَتَزُولُ الْعِصْمَةُ، فَكَأَنَّهُمُ اسْتَوْلَوْا عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ، لِأَنَّ الْمِلْكَ هُوَ: الِاخْتِصَاصُ بِالْمَحَلِّ فِي حَقِّ التَّصَرُّفِ، أَوْ شُرِعَ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَحَلِّ، وَقَدْ زَالَ بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ.فَإِذَا زَالَ مَعْنَى الْمِلْكِ أَوْ مَا شُرِعَ لَهُ الْمِلْكُ، يَزُولُ الْمِلْكُ ضَرُورَةً.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ: يَمْلِكُونَهَا بِالِاسْتِيلَاءِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.وَقَالُوا: لِأَنَّ الْقَهْرَ سَبَبٌ يَمْلِكُ بِهِ الْمُسْلِمُ مَالَ الْكَافِرِ، فَمَلَكَ بِهِ الْكَافِرُ مَالَ الْمُسْلِمِ كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ سَبَبُ الْمِلْكِ فَيَثْبُتُ قَبْلَ الْحِيَازَةِ إِلَى الدَّارِ، كَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَالِ الْكُفَّارِ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ سَبَبًا لِلْمِلْكِ أَثْبَتَ الْمِلْكَ حَيْثُ وُجِدَ، كَالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ.
وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، اخْتِلَافُهُمْ فِي حُكْمِ مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ أَهْلُ دَارِ الْحَرْبِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ اسْتَرَدَّهُ الْمُسْلِمُونَ، فَمَنْ رَأَى أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ: يَرَى أَنَّهُ إِذَا وَجَدَهُ مَالِكُهُ الْمُسْلِمُ أَوِ الذِّمِّيُّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِدُونِ رَدِّ قِيمَتِهِ، أَمَّا إِذَا وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهِ.وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهُ: يَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا وَجَدَ مَالَهُ فِي الْغَنِيمَةِ أَخَذَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِلَا رَدِّ شَيْءٍ.
قَضَاءُ الْقَاضِي الْمُسْلِمِ فِي مُنَازَعَاتٍ حَدَثَتْ أَسْبَابُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ:
11- إِذَا دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، وَأَخَذَ مَالًا مِنْ حَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُضَارَبَةً، أَوْ وَدِيعَةً، أَوْ بِشِرَاءٍ أَوْ بِبَيْعٍ فِي الذِّمَّةِ أَوْ قَرْضٍ، فَالثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ، عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ إِلَيْهِ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَإِذَا خَرَجَ الْحَرْبِيُّ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْتَأْمَنًا قَضَى الْقَاضِي عَلَى الْمُسْلِمِ بِمَالِهِ كَمَا يَقْضِي بِهِ لِلْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ جَارٍ عَلَى الْمُسْلِمِ حَيْثُ كَانَ، لَا نُزِيلُ الْحَقَّ عَنْهُ بِأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ.كَمَا لَا تَزُولُ الصَّلَاةُ عَنْهُ بِأَنْ يَكُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَكَذَلِكَ إِنِ اقْتَرَضَ حَرْبِيٌّ مِنْ حَرْبِيٍّ أَوْ مُسْلِمٍ مَالًا ثُمَّ دَخَلَ إِلَيْنَا فَأَسْلَمَ، فَعَلَيْهِ الْبَدَلُ وَيُقْضَى عَلَيْهِ لِالْتِزَامِهِ بِعَقْدٍ.
أَمَّا إِنْ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَالَهُ أَوْ غَصَبَهُ مِنْهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَقَدِمَا إِلَيْنَا بِإِسْلَامٍ، أَوْ أَمَانٍ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ شَيْئًا، وَالْإِتْلَافُ لَيْسَ عَقْدًا يُسْتَدَامُ، وَلِأَنَّ مَالَ الْحَرْبِيِّ لَا يَزِيدُ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ، وَهُوَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْحَرْبِيِّ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَضْمَنَ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَيْسَ لِلْقَاضِي الْمُسْلِمِ الْقَضَاءُ مِنْ حَرْبِيَّيْنِ إِذَا خَرَجَا إِلَيْنَا مُسْتَأْمَنَيْنِ، لِأَنَّ الْمُدَايَنَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَعَتْ هَدَرًا لِانْعِدَامِ وِلَايَتِنَا عَلَيْهِمْ.أَمَّا لَوْ خَرَجَا إِلَيْنَا مُسْلِمَيْنِ فَإِنَّهُ يَقْضِي بَيْنَهُمَا لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ، أَمَّا فِي الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ فَلَا يَقْضِي، وَإِنْ خَرَجَا إِلَيْنَا مُسْلِمَيْنِ.
عِصْمَةُ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
12- الْأَصْلُ أَنَّ أَمْوَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَدِمَاءَهُمْ مُبَاحَةٌ لَا عِصْمَةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلِلْمُسْلِمِينَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بِشَتَّى الطُّرُقِ، لِأَنَّهُمْ يَسْتَبِيحُونَ دِمَاءَنَا وَأَمْوَالَنَا، وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَلَكِنْ ذَكَرُوا حَالَاتٍ تُثْبِتُ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِأَمْوَالِهِمُ الْعِصْمَةَ وَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، مِنْهَا:
13- أ- إِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ أَوْ بِأَسْرٍ، وَائْتَمَنُوهُ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ خِيَانَتُهُمْ فِي شَيْءٍ، لِأَنَّهُمْ أَعْطَوْهُ الْأَمَانَ مَشْرُوطًا بِتَرْكِهِ خِيَانَتَهُمْ، وَأَمْنِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي اللَّفْظِ، فَهُوَ مَعْلُومٌ فِي الْمَعْنَى، فَلَمْ يَحِلَّ لَهُ خِيَانَتُهُمْ، لِأَنَّهُ غَدْرٌ، وَلَا يَصْلُحُ الْغَدْرُ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنْ سَرَقَ مِنْهُمْ شَيْئًا أَوْ غَصَبَ، وَجَبَ رَدُّهُ إِلَى أَرْبَابِهِ، فَإِنْ جَاءَ أَرْبَابُهُ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ رَدَّهُ إِلَيْهِمْ، وَإِلاَّ بَعَثَ بِهِ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهٍ مُحَرَّمٍ فَلَزِمَهُ رَدُّهُ، كَمَا لَوْ أَخَذَ مَالَ مُسْلِمٍ.
وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ حُقِنَ دَمُهُ، وَأَحْرَزَ مَالَهُ وَأَوْلَادَهُ الصِّغَارَ مِنَ السَّبْيِ، فَإِذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا اقْتُصَّ مِنْهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَإِنْ قَتَلَهُ خَطَأً فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ فِي عِصْمَةِ دَمِ الْمُسْلِمِ وَمَالِهِ أَيْنَمَا كَانَ وَحَيْثُ وُجِدَ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَتَلَهُ مُسْلِمٌ عَمْدًا فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ خَطَأً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِلاَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْخَطَأِ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وَلَمْ يَذْكُرِ الدِّيَةَ.وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (قَتْلُ عَمْدٍ).
أَمَّا أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ فَأَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ تَبَعًا لَهُ أَمَّا مَالُهُ فَمَا كَانَ بِيَدِهِ مِنْ مَنْقُولٍ فَهُوَ لَهُ.
وَكَذَلِكَ مَا كَانَ بِيَدِ مُسْلِمٍ وَدِيعَةً، أَوْ بِيَدِ ذِمِّيٍّ فَهُوَ لَهُ، لِأَنَّ يَدَ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمَالِكِ فَكَانَ مَعْصُومًا.
أَمَّا الْعَقَارُ مِنْ مَالِهِ فَإِنْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى دَارِ الْحَرْبِ فَهِيَ غَنِيمَةٌ، لِأَنَّهَا بُقْعَةٌ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فَجَازَ اغْتِنَامُهَا.
14- ب- وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ خَرَجَ إِلَيْهَا، وَلَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ صَارُوا مُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَجُزْ سَبْيُهُمْ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.وَقَالُوا: إِنَّهُمْ أَوْلَادُ مُسْلِمٍ، فَيَجِبُ أَنْ يَتْبَعُوهُ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا لَوْ كَانُوا مَعَهُ فِي الدَّارِ، وَلِأَنَّ مَالَهُ مَالُ مُسْلِمٍ فَلَا يَجُوزُ اغْتِنَامُهُ كَمَا لَوْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَهَاجَرَ إِلَيْنَا ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ، فَأَمْوَالُهُ فَيْءٌ، إِلاَّ مَا كَانَ فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ وَدِيعَةً.
وَإِنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَجَمِيعُ أَمْوَالِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ فَيْءٌ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارِ يَمْنَعُ التَّبَعِيَّةَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ أَيْضًا.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ فَأَصَابَ مَالًا، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إِلَيْنَا.
التِّجَارَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ:
15- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلتَّاجِرِ أَنْ يَحْمِلَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ أَهْلُ الْحَرْبِ عَلَى الْحَرْبِ، كَالسِّلَاحِ بِأَنْوَاعِهِ، وَالسُّرُوجِ، وَالنُّحَاسِ، وَالْحَدِيدِ، وَكُلِّ مَا مِنْ شَأْنِهِ تَقْوِيَتِهِمْ فِي الْحَرْبِ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِمْدَادَهُمْ وَإِعَانَتَهُمْ عَلَى حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لِلْحَرْبِيِّ إِذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ أَنْ يَشْتَرِيَ سِلَاحًا، وَإِذَا اشْتَرَى لَا يُمَكَّنُ مِنْ إِدْخَالِهِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ.
أَمَّا الِاتِّجَارُ بِغَيْرِ السِّلَاحِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يُسْتَخْدَمُ فِي الْحَرْبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ، كَالثِّيَابِ، وَالطَّعَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لِانْعِدَامِ عِلَّةِ الْمَنْعِ مِنَ الْبَيْعِ.إِلاَّ أَنْ يَحْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلْعَةِ فَلَا يُحْمَلُ إِلَيْهِمْ، وَجَرَتِ الْعَادَةُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ التُّجَّارِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَدْخُلُونَ دَارَ الْحَرْبِ لِلتِّجَارَةِ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ الْمَنْعِ وَلَا إِنْكَارَ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَتْرُكُوا ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ يَسْتَخِفُّونَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَكَانَ الْكَفُّ وَالْإِمْسَاكُ عَنِ الدُّخُولِ فِي دَارِهِمْ مِنْ بَابِ صِيَانَةِ النَّفْسِ عَنِ الْهَوَانِ، وَالدِّينِ عَنِ الزَّوَالِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ الْمُتَاجَرَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى بِلَادِهِمْ حَيْثُ تَجْرِي أَحْكَامُ الْكُفْرِ عَلَيْهِ.
أَثَرُ اخْتِلَافِ الدَّارِ فِي أَحْكَامِ الْأُسْرَةِ وَالتَّوَارُثِ:
16- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ الْمُسْلِمَ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالْآخَرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَوَارُثِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي الدَّارِ.
(ر: اخْتِلَافُ الدَّارِ).
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
73-موسوعة الفقه الكويتية (دفع)
دَفْعٌالتَّعْرِيفُ:
1- الدَّفْعُ: مَصْدَرُ دَفَعَ.وَمِنْ مَعَانِي مَادَّتِهِ فِي اللُّغَةِ: التَّنْحِيَةُ وَالْمُمَاطَلَةُ وَالْمُحَاجَّةُ عَنِ الْغَيْرِ وَالرَّدُّ، وَيَشْمَلُ رَدَّ الْقَوْلِ وَرَدَّ غَيْرِهِ كَالْوَدِيعَةِ مَثَلًا، وَالِارْتِحَالَ عَنِ الْمَوْضِعِ، وَالْمَجِيءَ بِمَرَّةٍ.وَإِذَا بُنِيَ فِعْلُهُ لِلْمَفْعُولِ كَانَ بِمَعْنَى الِانْتِهَاءِ إِلَى الشَّيْءِ.
وَأَمَّا مَعْنَاهُ فِي الِاصْطِلَاحِ: فَهُوَ كَمَا جَاءَ فِي الْكُلِّيَّاتِ صَرْفُ الشَّيْءِ قَبْلَ الْوُرُودِ، وَإِذَا عُدِّيَ فِعْلُهُ بِإِلَى كَانَ مَعْنَاهُ الْإِنَالَةَ نَحْوَ قوله تعالى: {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} وَإِذَا عُدِّيَ بِعَنْ كَانَ مَعْنَاهُ الْحِمَايَةَ كَمَا فِي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}.
وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَإِنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ الدَّفْعَ بِمَعْنَى الْإِعْطَاءِ، أَوِ الْإِخْرَاجِ، أَوِ الْأَدَاءِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ.
وَيَسْتَعْمِلُونَهُ أَيْضًا بِمَعْنَى الرَّدِّ كَمَا فِي رَدِّ الْوَدِيعَةِ إِلَى الْمُودِعِ.
وَيَسْتَعْمِلُونَهُ أَيْضًا بِمَعْنَى اتِّقَاءِ الشَّرِّ وَمَنْعِهِ كَمَا فِي دَفْعِ الصَّائِلِ.
وَيَسْتَعْمِلُونَهُ أَيْضًا بِمَعْنَى رَدِّ خُصُومَةِ الْمُدَّعِي وَإِبْطَالِ دَعْوَاهُ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- دَرْءٌ:
2- وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: الدَّفْعُ.قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: دَرَأْتُ الشَّيْءَ- بِالْهَمْزَةِ- دَرْءًا مِنْ بَابِ نَفَعَ، دَفَعْتُهُ، وَدَارَأْتُهُ دَافَعْتُهُ، وَتَدَارَءُوا تَدَافَعُوا.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: أَيْضًا مَعْنَاهُ الدَّفْعُ.
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَهُ بِهَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِهِمْ: الْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ.
ب- رَدٌّ:
3- وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ.وَالرُّجُوعُ، أَوِ الْإِرْسَالُ.قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: رَدَدْتُ الشَّيْءَ رَدًّا مَنَعْتُهُ فَهُوَ مَرْدُودٌ، وَقَدْ يُوصَفُ بِالْمَصْدَرِ فَيُقَالُ: فَهُوَ رَدٌّ.وَرَدَدْتُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ.وَرَدَدْتُ إِلَيْهِ جَوَابَهُ أَيْ: رَجَعْتُ وَأَرْسَلْتُ.وَمِنْهُ رَدَدْتُ عَلَيْهِ الْوَدِيعَةَ أَيْ دَفَعْتُهَا إِلَيْهِ.
ج- رَفْعٌ:
4- وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: خِلَافُ الْخَفْضِ، وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ أَيْضًا إِذَاعَةُ الْأَمْرِ، وَالشَّرَفُ فِي النَّسَبِ، وَالْإِسْرَاعُ فِي السَّيْرِ، وَقَبُولُ الْعَمَلِ، وَهُوَ فِي الْأَجْسَامِ حَقِيقَةٌ فِي الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ.وَفِي الْمَعَانِي مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ، وَمَعْنَاهُ فِي الِاصْطِلَاحِ: يُقَابِلُ مَعْنَى الدَّفْعِ إِذْ مَعْنَاهُ صَرْفُ الشَّيْءِ بَعْدَ وُرُودِهِ، وَالدَّفْعُ صَرْفُهُ قَبْلَ وُرُودِهِ.
د- مَنْعٌ:
5- وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي اللُّغَةِ: الْحِرْمَانُ مِنَ الْأَمْرِ، وَالْكَفُّ عَنْهُ، وَمُنَازَعَةُ الشَّيْءِ، وَالتَّمَنُّعُ بِالْقَوْمِ: التَّقَوِّي بِهِمْ.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: خِلَافُ الْعَطَاءِ، وَالصِّلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّفْعِ هِيَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يَسْتَعْمِلُونَ الدَّفْعَ وَيُرِيدُونَ مِنْهُ الْمَنْعَ كَمَا فِي دَفْعِ الصَّائِلِ.
الْأَحْكَامُ الْإِجْمَالِيَّةُ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
5- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ الْأَحْكَامَ الْخَاصَّةَ بِمُصْطَلَحِ دَفْعٍ فِي عَدَدٍ مِنَ الْمَوَاطِنِ كَمَا يَلِي:
أ- الزَّكَاةُ:
6- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ دَفْعٍ فِي الزَّكَاةِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَوْطِنٍ وَأَرَادُوا بِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَعْنًى، فَقَدِ اسْتَعْمَلُوهُ بِمَعْنَى الْإِعْطَاءِ أَوِ الْأَدَاءِ، كَقَوْلِهِمْ: مَنْ يَجُوزُ أَنْ تُدْفَعَ لَهُ الصَّدَقَةُ وَمَنْ لَا يَجُوزُ، وَاشْتِرَاطُ النِّيَّةِ عِنْدَ دَفْعِهَا، وَبِمَعْنَى الْإِخْرَاجِ كَقَوْلِهِمْ: وَقْتُ دَفْعِ الزَّكَاةِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاة).
ب- الْوَدِيعَةُ:
7- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الدَّفْعِ أَيْضًا فِي الْوَدِيعَةِ، وَأَرَادُوا بِهِ الرَّدَّ، أَيْ رَدَّهَا إِلَى الْمُودِعِ وَدَفْعَهَا إِلَيْهِ، أَوْ إِلَى وَكِيلِهِ عِنْدَ طَلَبِهَا.فَإِنْ أَخَّرَهَا حَتَّى تَلِفَتْ ضَمِنَ.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (وَدِيعَة).
ج- الصِّيَالُ:
8- يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ الدَّفْعَ فِي الصِّيَالِ وَيَعْنُونَ بِهِ مَنْعَ الصَّائِلِ مِنْ تَحْقِيقِ غَرَضِهِ وَاتِّقَاءِ شَرِّهِ.وَالصَّائِلُ هُوَ مَنْ قَصَدَ غَيْرَهُ بِشَرٍّ سَوَاءٌ أَكَانَ الصَّائِلُ مُسْلِمًا أَمْ ذِمِّيًّا أَمْ عَبْدًا أَمْ حُرًّا أَمْ صَبِيًّا أَمْ مَجْنُونًا أَمْ بَهِيمَةً، فَيَجُوزُ دَفْعُهُ عَنْ كُلِّ مَعْصُومٍ مِنْ نَفْسٍ، أَوْ طَرَفٍ، أَوْ مَنْفَعَةٍ، وَعَنِ الْبُضْعِ، وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَعَنِ الْمَالِ وَإِنْ قَلَّ، مَعَ رِعَايَةِ التَّدْرِيجِ فِي كَيْفِيَّةِ الدَّفْعِ بِأَنْ يَبْدَأَ بِالْأَهْوَنِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُهُ إِلاَّ بِقَتْلِهِ قَتَلَهُ.وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِقِصَاصٍ، وَلَا دِيَةٍ، وَلَا كَفَّارَةٍ، وَلَا قِيمَةٍ.
فَإِنْ قُتِلَ الْمُدَافِعُ كَانَ شَهِيدًا لِخَبَرِ: «وَمَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» وَلِأَنَّهُ قُتِلَ لِدَفْعِ ظَالِمٍ، فَكَانَ شَهِيدًا كَالْعَادِلِ إِذَا قَتَلَهُ الْبَاغِي.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (صِيَال).
د- دَعْوَى:
9- يَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ الدَّفْعَ فِي الدَّعْوَى وَيَعْنُونَ بِهِ رَدَّ كَلَامِ الْمُدَّعِي وَإِبْطَالَ دَعْوَاهُ.وَمِمَّا ذَكَرُوهُ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَنْ يَقُولَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: هَذَا الشَّيْءُ أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ الْغَائِبُ أَوْ رَهَنَهُ عِنْدِي، أَوْ غَصَبْتُهُ مِنْهُ، أَوْ أَعَارَنِي، أَوْ آجَرَنِي.وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً، فَحِينَئِذٍ تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُحْتَالًا كَمَا ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ.
وَمِمَّا تَنْدَفِعُ بِهِ دَعْوَى مَنِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ بِمِلْكِ إِنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِتِلْكَ الدَّعْوَى، أَوْ يُقِرُّ بِهِ لِغَيْرِ الْمُدَّعِي كَمَا فِي التَّبْصِرَةِ مِنْ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ.
وَمِمَّا تَنْدَفِعُ بِهِ دَعْوَى الدَّيْنِ أَنْ يَقُولَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: قَضَيْتُ أَوْ أَبْرَأَنِي، كَمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ.
وَتَنْدَفِعُ دَعْوَى مَنِ ادَّعَى زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ بِإِنْكَارِهَا، وَلَا يُسْتَحْلَفُ كَمَا ذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (دَعْوَى).
الدَّفْعُ أَقْوَى مِنَ الرَّفْعِ:
10- وَهِيَ قَاعِدَةٌ فِقْهِيَّةٌ ذَكَرَهَا الزَّرْكَشِيُّ فِي الْمَنْثُورِ.وَمِنْ فُرُوعِهَا أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ إِذَا بَلَغَ قُلَّتَيْنِ لَا يَعُودُ طَهُورًا فِي وَجْهٍ، وَفِي وَجْهٍ يَعُودُ.فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِهِ.وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَاءَ إِذَا اسْتُعْمِلَ وَهُوَ قُلَّتَانِ كَانَ دَافِعًا لِلِاسْتِعْمَالِ، وَإِذَا جُمِعَ كَانَ رَافِعًا.وَالدَّفْعُ أَقْوَى مِنَ الرَّفْعِ وَمِنْ فُرُوعِهَا أَيْضًا أَنَّ السَّفَرَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصِّيَامِ يُبِيحُ الْفِطْرَ وَيَدْفَعُ الصَّوْمَ.وَلَوْ سَافَرَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ لَا يُبِيحُهُ وَلَا يَرْفَعُ الصَّوْمَ.وَالدَّفْعُ أَقْوَى مِنَ الرَّفْعِ.
هَذَا وَيَرِدُ ذِكْرُ الدَّفْعِ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ وَمَسَائِلِهِ، كَالصَّلَاةِ وَالْإِحْرَامِ وَالسَّلَمِ وَالْحَوَالَةِ وَالرَّهْنِ وَالضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَاللُّقَطَةِ وَالْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ وَالنَّفَقَاتِ وَالْجِنَايَاتِ وَالْحُدُودِ وَالْجِهَادِ وَالْجِزْيَةِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ الْخَاصَّةِ بِتِلْكَ الْأَبْوَابِ وَالْمَسَائِلِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
74-موسوعة الفقه الكويتية (ديات 2)
دِيَاتٌ -2د- الْقَتْلُ بِالتَّسَبُّبِ:
27- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِالسَّبَبِ مُطْلَقًا، بَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّهُمُ اشْتَرَطُوا فِي الْقِصَاصِ أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مُبَاشَرَةً، وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ عِنْدَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ فَيُقْتَصُّ مِنَ الْقَاتِلِ فِي بَعْضِ حَالَاتِ التَّسَبُّبِ عِنْدَهُمْ.
وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ، وَلَمْ يَقُولُوا بِالْقِصَاصِ فِي حَالَاتٍ أُخْرَى بَلْ قَالُوا بِوُجُوبِ الدِّيَةِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَتْلٌ بِالتَّسَبُّبِ).
مَا تَجِبُ مِنْهُ الدِّيَةُ: (أُصُولُ الدِّيَةِ):
28- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِبِلَ أَصْلٌ فِي الدِّيَةِ، فَتُقْبَلُ إِذَا أُدِّيَتْ مِنْهَا عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى الْإِبِلِ: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ أُصُولَ الدِّيَةِ أَيْ مَا تُقْضَى مِنْهُ الدِّيَةُ مِنَ الْأَمْوَالِ ثَلَاثَةُ أَجْنَاسٍ: الْإِبِلُ وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ فِي النَّفْسِ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ» وَقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ».
فَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ (الْفِضَّةِ) اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ» وَلِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ رَجُلًا قُتِلَ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دِيَتَهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا»
قَالَ النَّفْرَاوِيُّ الْمَالِكِيُّ: صَرْفُ دِينَارِ الدِّيَةِ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا، كَدِينَارِ السَّرِقَةِ وَالنِّكَاحِ، بِخِلَافِ دِينَارِ الْجِزْيَةِ وَالزَّكَاةِ فَصَرْفُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَأَمَّا دِينَارُ الصَّرْفِ فَلَا يَنْضَبِطُ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الدِّيَةُ مِنَ الْوَرِقِ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ؛ لِقَوْلِ عُمَرَ- رضي الله عنه-: (الدِّيَةُ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ)، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَيَكُونُ إِجْمَاعًا مَعَ أَنَّ الْمَقَادِيرَ لَا تُعْرَفُ إِلاَّ سَمَاعًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، وَلِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَضَى بِالدِّيَةِ فِي قَتِيلٍ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ»
وَلِأَنَّ الدِّينَارَ مُقَوَّمٌ فِي الشَّرْعِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كَمَا فِي الزَّكَاةِ، فَإِنَّ نِصَابَ الْفِضَّةِ فِي الزَّكَاةِ مُقَدَّرٌ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَنِصَابَ الذَّهَبِ فِيهَا بِعِشْرِينَ دِينَارًا.
قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: يُحْمَلُ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ مَعَهُ عَلَى وَزْنِ خَمْسَةٍ، وَمَا رَوَيْنَاهُ عَلَى وَزْنِ سِتَّةٍ، وَهَكَذَا كَانَتْ دَرَاهِمُهُمْ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى زَمَانِ عُمَرَ- رضي الله عنه- فَاسْتَوَيَا.وَبِهَذَا ظَهَرَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي مِقْدَارِ الدِّيَةِ يَرْجِعُ إِلَى سِعْرِ صَرْفِ الدِّينَارِ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الصَّاحِبَيْنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ أُصُولَ الدِّيَةِ خَمْسَةٌ: الْإِبِلُ وَالذَّهَبُ وَالْوَرِقُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَفُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى.وَزَادَ عَلَيْهَا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ- الْحُلَلَ، فَتَكُونُ أُصُولُ الدِّيَةِ سِتَّةَ أَجْنَاسٍ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ عُمَرَ قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: أَلَا إِنَّ الْإِبِلَ قَدْ غَلَتْ.فَفَرَضَهَا عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مَائِتَيْ بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ أَلْفَيْ شَاةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةٍ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَأَيُّ شَيْءٍ أَحْضَرَهُ مَنْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ مِنَ الْجَانِي أَوِ الْعَاقِلَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ لَزِمَ الْوَلِيَّ أَوِ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ أَخْذُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِغَيْرِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ النَّوْعِ أَمْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهَا أُصُولٌ فِي قَضَاءِ الْوَاجِبِ يُجْزِئُ وَاحِدٌ مِنْهَا، فَكَانَتِ الْخِيَرَةُ إِلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَوْلُ طَاوُسٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ: إِنَّ الْأَصْلَ فِي الدِّيَةِ الْإِبِلُ لَا غَيْرُ؛ لِقَوْلِهِ: «أَلَا إِنَّ قَتِيلَ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ».
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَرَّقَ بَيْنَ دِيَةِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ فَغَلَّظَ بَعْضَهَا وَخَفَّفَ بَعْضَهَا، وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا فِي غَيْرِ الْإِبِلِ؛ وَلِأَنَّهُ بَدَلُ مُتْلَفٍ (وَجَبَ) حَقًّا لآِدَمِيٍّ، فَكَانَ مُتَعَيِّنًا كَعِوَضِ الْأَمْوَالِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ وَلَهُ إِبِلٌ تُؤْخَذُ الدِّيَةُ مِنْهَا سَلِيمَةً مِنَ الْعُيُوبِ، وَأَيُّهُمَا أَرَادَ الْمَعْدُولُ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا فَلِلْآخَرِ مَنْعُهُ، وَلَا يَعْدِلُ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ أَوْ قِيمَتِهِ إِلاَّ بِتَرَاضٍ مِنَ الْمُودِي وَالْمُسْتَحِقِّ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ مُتَعَيِّنٌ فِي الْإِبِلِ فَاسْتُحِقَّتْ كَالْمِثْلِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ الْمُتْلَفَةِ.
وَلَوْ عَدِمَتْ إِبِلُ الدِّيَةِ حِسًّا بِأَنْ لَمْ تُوجَدْ فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ تَحْصِيلُهَا مِنْهُ، أَوْ شَرْعًا بِأَنْ وُجِدَتْ فِيهِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهَا، فَالْوَاجِبُ أَلْفُ دِينَارٍ عَلَى أَهْلِ الدَّنَانِيرِ أَوِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِضَّةً عَلَى أَهْلِ الدَّرَاهِمِ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ لِحَدِيثِ: «عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ» وَفِي الْقَوْلِ الْجَدِيدِ لِلشَّافِعِيِّ تَجِبُ قِيمَتُهَا وَقْتَ وُجُوبِ تَسْلِيمِهَا بِنَقْدِ بَلَدِهِ الْغَالِبِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مُتْلَفٍ، فَيَرْجِعُ إِلَى قِيمَتِهَا عِنْدَ إِعْوَازِ الْأَصْلِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: أَهْلُ الْبَوَادِي مِنْ كُلِّ إِقْلِيمٍ مِنْ أَهْلِ الْإِبِلِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُمْ إِلاَّ الْخَيْلُ وَالْبَقَرُ فَلَا نَصَّ، وَالظَّاهِرُ تَكْلِيفُهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَى حَاضِرَتِهِمْ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَقِيلَ: يُكَلَّفُونَ قِيمَةَ الْإِبِلِ.
مِقْدَارُ الدِّيَةِ:
أَوَّلًا: مِقْدَارُ الدِّيَةِ فِي النَّفْسِ:
أ- دِيَةُ الذَّكَرِ الْحُرِّ:
29- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ دِيَةَ الذَّكَرِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ هِيَ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا عَلَى مَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ.كَمَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي مِقْدَارِ الدِّيَةِ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْحُلَلِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهَا.
دِيَةُ الْأُنْثَى
30- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ دِيَةَ الْأُنْثَى الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ هِيَ نِصْفُ دِيَةِ الذَّكَرِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ- رضي الله عنهم-.قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ؛ لِمَا رَوَى مُعَاذٌ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «دِيَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ».وَلِأَنَّهَا فِي الشَّهَادَةِ وَالْمِيرَاثِ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ فَكَذَلِكَ فِي الدِّيَةِ.
وَهَذَا فِي دِيَةِ النَّفْسِ، أَمَّا فِي دِيَةِ الْأَطْرَافِ وَالْجُرُوحِ فَاخْتَلَفُوا: فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِنَّهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ أَطْرَافِ وَجِرَاحِ الرَّجُلِ أَيْضًا؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: عَقْلُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَهَا.وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لِأَنَّهُمَا شَخْصَانِ تَخْتَلِفُ دِيَتُهُمَا فِي النَّفْسِ فَاخْتَلَفَتْ فِي الْأَطْرَافِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تُسَاوِي الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ فِي دِيَةِ الْأَطْرَافِ إِلَى ثُلُثِ دِيَةِ الرَّجُلِ.فَإِذَا بَلَغَتِ الثُّلُثَ رَجَعَتْ إِلَى عَقْلِهَا، فَإِذَا قَطَعَ لَهَا ثَلَاثَ أَصَابِعَ فَلَهَا ثَلَاثُونَ مِنَ الْإِبِلِ كَالرَّجُلِ، وَإِذَا قَطَعَ لَهَا أَرْبَعَ أَصَابِعَ فَإِنَّهَا تَأْخُذُ نِصْفَ مَا يَأْخُذُهُ الرَّجُلُ: أَيْ تَأْخُذُ عِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ- رضي الله عنهم-، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعُرْوَةُ وَالزُّهْرِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «عَقْلُ الْمَرْأَةِ مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثَ مِنْ دِيَتِهَا».وَهُوَ نَصٌّ يُقَدَّمُ عَلَى مَا سِوَاهُ.
دِيَةُ الْخُنْثَى
31- إِذَا كَانَ الْمَقْتُولُ خُنْثَى مُشْكِلًا فَفِيهِ نِصْفُ دِيَةِ ذَكَرٍ وَنِصْفُ دِيَةِ أُنْثَى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الذُّكُورِيَّةَ وَالْأُنُوثِيَّةَ، وَقَدْ يَئِسْنَا مِنِ انْكِشَافِ حَالِهِ فَيَجِبُ التَّوَسُّطُ بَيْنَهُمَا بِكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قُتِلَ خَطَأً وَجَبَتْ دِيَةُ الْمَرْأَةِ وَيُوقَفُ الْبَاقِي إِلَى التَّبَيُّنِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْخُنْثَى كَالْأُنْثَى فِي الدِّيَةِ فَيَجِبُ فِي قَتْلِهَا نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ زِيَادَتَهُ عَلَيْهَا مَشْكُوكٌ فِيهَا.
دِيَةُ الْكَافِرِ
32- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا دِيَةَ لِلْحَرْبِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا عِصْمَةَ لَهُ.
أَمَّا الذِّمِّيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الدِّيَةِ فِيهِمَا: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعُرْوَةَ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ دِيَةَ الْكِتَابِيِّ الذِّمِّيِّ وَالْمُعَاهَدِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «دِيَةُ الْمُعَاهَدِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ»، وَفِي لَفْظٍ: «دِيَةُ عَقْلِ الْكَافِرِ نِصْفُ دِيَةِ عَقْلِ الْمُؤْمِنِ».
وَوَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: «دِيَةُ الْمُعَاهِدِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ».وَأَهْلُ الْكِتَابِ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَابْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنهم-، وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَهَذَا فِي دِيَةِ النَّفْسِ.قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَدِيَةُ جِرَاحِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَذَلِكَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ جِرَاحِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: جِرَاحَاتُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَاتِهِمْ كَجِرَاحِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ دِيَاتِهِمْ.وَتُغَلَّظُ دِيَاتُهُمْ بِاجْتِمَاعِ الْحُرُمَاتِ عِنْدَ مَنْ يَرَى تَغْلِيظَ دِيَاتِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الذِّمِّيَّ- كِتَابِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ- وَالْمُسْتَأْمَنَ وَالْمُسْلِمَ فِي الدِّيَةِ سَوَاءٌ وَهَذَا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاوِيَةَ- رضي الله عنهم-.
فَلَا يَخْتَلِفُ قَدْرُ الدِّيَةِ بِالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِتَكَافُؤِ الدِّمَاءِ، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}.أَطْلَقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْقَوْلَ بِالدِّيَةِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ.
وَرُوِيَ «أَنَّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ قَتَلَ مُسْتَأْمَنَيْنِ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِيهِمَا بِدِيَةِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ».وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ- رضي الله عنهما- قَضَيَا فِي دِيَةِ الذِّمِّيِّ بِمِثْلِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ كَمَالِ الدِّيَةِ يَعْتَمِدُ عَلَى كَمَالِ حَالِ الْقَتْلِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَهِيَ الذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْعِصْمَةُ وَقَدْ وُجِدَتْ، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا دِيَةَ فِي الْمُسْتَأْمَنِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: دِيَةُ كُلٍّ مِنَ الْيَهُودِيِّ أَوِ النَّصْرَانِيِّ إِذَا كَانَ لَهُ أَمَانٌ وَتَحِلُّ مُنَاكَحَتُهُ ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ نَفْسًا وَغَيْرَهَا، وَدِيَةُ الْوَثَنِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ إِذَا كَانَ لَهُمَا أَمَانٌ ثُلُثَا عُشْرِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَمِثْلُ الْمَجُوسِيِّ عَابِدُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالزِّنْدِيقُ مِمَّنْ لَهُ أَمَانٌ؛ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- جَعَلَ دِيَةَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَدِيَةَ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَهَذَا التَّقْدِيرُ لَا يُفْعَلُ بِلَا تَوْقِيفٍ، فَأَمَّا غَيْرُ الْمَعْصُومِ فَدَمُهُ هَدَرٌ.
وَهَذَا كُلُّهُ فِي الذُّكُورِ، أَمَّا الْإِنَاثُ مِنَ الْكُفَّارِ اللَّوَاتِي لَهُمْ أَمَانٌ فَدِيَتُهُنَّ نِصْفُ دِيَةِ الذُّكُورِ مِنْهُمُ اتِّفَاقًا.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْمَرْأَةِ نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ.
دِيَةُ الْجَنِينِ
33- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْجِنَايَةِ الَّتِي تَرَتَّبَ عَلَيْهَا انْفِصَالُ الْجَنِينِ عَنْ أُمِّهِ مَيِّتًا هُوَ غُرَّةٌ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْجِنَايَةُ بِالضَّرْبِ أَمْ بِالتَّخْوِيفِ أَمِ الصِّيَاحِ أَمْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْجِنَايَةُ عَمْدًا أَمْ خَطَأً، وَلَوْ مِنَ الْحَامِلِ نَفْسِهَا أَوْ مِنْ زَوْجِهَا.لِمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-: «أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ رَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى فَطَرَحَتْ جَنِينَهَا، فَقَضَى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ».
وَالْغُرَّةُ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ، وَهِيَ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ أَوْ خَمْسُونَ دِينَارًا، وَلَا تَخْتَلِفُ الْغُرَّةُ بِذُكُورَةِ الْجَنِينِ وَأُنُوثَتِهِ، فَهِيَ فِي كِلَيْهِمَا سَوَاءٌ (ر: غُرَّة).
وَأَمَّا جَنِينُ الْكِتَابِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ مِمَّنْ لَهُنَّ أَمَانٌ إِذَا كَانَ مَحْكُومًا بِكُفْرِهِ فَفِيهِ عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ؛ لِأَنَّ جَنِينَ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ مَضْمُونٌ بِعُشْرِ دِيَةِ أُمِّهِ فَكَذَلِكَ جَنِينُ الْكَافِرَةِ.
وَهَذَا إِذَا أَلْقَتْهُ نَتِيجَةً لِلْجِنَايَةِ مَيِّتًا فِي حَيَاتِهَا.
أَمَّا إِذَا أَلْقَتْهُ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً ثُمَّ مَاتَ نَتِيجَةً لِلْجِنَايَةِ: كَأَنْ مَاتَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مُبَاشَرَةً أَوْ دَامَ أَلَمُهُ ثُمَّ مَاتَ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّهُ قَتْلُ إِنْسَانٍ حَيٍّ.
وَإِذَا أَلْقَتْهُ نَتِيجَةً؛ لِلْجِنَايَةِ عَلَيْهَا مَيِّتًا بَعْدَ مَوْتِهَا فَاخْتَلَفُوا فِيهِ:
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: فِي الْأُمِّ الدِّيَةُ، وَلَا شَيْءَ فِي الْجَنِينِ؛ لِأَنَّ مَوْتَهَا سَبَبٌ لِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَنِقُ بِمَوْتِهَا، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَتَنَفَّسُ بِنَفَسِهَا، وَاحْتُمِلَ مَوْتُهُ بِالضَّرْبَةِ فَلَا تَجِبُ الْغُرَّةُ بِالشَّكِّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تَجِبُ فِيهِ غُرَّةٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ جَنِينٌ تَلِفَ بِحِنَايَةٍ، وَعُلِمَ ذَلِكَ بِخُرُوجِهِ فَوَجَبَ ضَمَانُهُ، كَمَا لَوْ سَقَطَ فِي حَيَاتِهَا، وَلِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مَوْرُوثٌ فَلَا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِ أُمِّهِ كَمَا لَوْ خَرَجَ حَيًّا.وَإِنْ أَلْقَتْ جَنِينَيْنِ مَيِّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ غُرَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ آدَمِيٍّ فَتَتَعَدَّدُ الْغُرَّةُ بِتَعَدُّدِهِ كَالدِّيَاتِ.
وَإِنْ أَلْقَتْهُمْ أَحْيَاءَ ثُمَّ مَاتُوا فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ حَيًّا فَمَاتَ، وَبَعْضُهُمْ مَيِّتًا، فَفِي الْحَيِّ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَفِي الْمَيِّتِ غُرَّةٌ.
وَإِنْ ظَهَرَ بَعْضُ خَلْقِهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَيِّتًا وَلَمْ يَخْرُجْ بَاقِيهِ فَفِيهِ غُرَّةٌ أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَقَالَ مَالِكٌ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا تَجِبُ الْغُرَّةُ حَتَّى تُلْقِيَهُ كَامِلًا.
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ أَلْقَتْ يَدًا أَوْ رِجْلًا وَمَاتَتْ فَتَجِبُ غُرَّةٌ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ قَدْ حَصَلَ بِوُجُودِ الْجَنِينِ، وَالْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْيَدَ بَانَتْ بِالْجِنَايَةِ، وَلَوْ عَاشَتْ وَلَمْ تُلْقِ جَنِينًا فَلَا يَجِبُ إِلاَّ نِصْفُ غُرَّةٍ، كَمَا أَنَّ يَدَ الْحَيِّ لَا يَجِبُ فِيهَا إِلاَّ نِصْفُ دِيَةٍ وَلَا يُضْمَنُ بَاقِيهِ؛ لِأَنَّا لَمْ نَتَحَقَّقْ تَلَفَهُ.
وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَجِبُ لِلْعُضْوِ الزَّائِدِ حُكُومَةٌ، وَلَوْ أَلْقَتْ يَدًا ثُمَّ جَنِينًا مَيِّتًا بِلَا يَدٍ قَبْلَ الِانْدِمَالِ وَزَالَ الْأَلَمُ مِنَ الْأُمِّ فَغُرَّةٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْيَدَ مُبَانَةٌ مِنْهُ بِالْجِنَايَةِ، أَوْ حَيًّا فَمَاتَ مِنَ الْجِنَايَةِ فَدِيَةٌ وَدَخَلَ فِيهَا أَرْشُ الْيَدِ، فَإِنْ عَاشَ وَشَهِدَ الْقَوَابِلُ أَوْ عُلِمَ أَنَّهَا يَدُ مَنْ خُلِقَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ فَنِصْفُ دِيَةٍ لِلْيَدِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدِ الْقَوَابِلُ بِذَلِكَ وَلَمْ يُعْلَمْ فَنِصْفُ غُرَّةٍ لِلْيَدِ عَمَلًا بِالْيَقِينِ، أَوْ أَلْقَتْهُ بَعْدَ الِانْدِمَالِ وَزَالَ الْأَلَمُ أُهْدِرَ الْجَنِينُ لِزَوَالِ الْأَلَمِ الْحَاصِلِ بِالْجِنَايَةِ، وَوَجَبَ لِلْيَدِ الْمُلْقَاةِ قَبْلَهُ إِنْ خَرَجَ مَيِّتًا نِصْفُ غُرَّةٍ، أَوْ حَيًّا وَمَاتَ أَوْ عَاشَ فَنِصْفُ دِيَةٍ إِنْ شَهِدَ الْقَوَابِلُ أَوْ عُلِمَ أَنَّهَا يَدُ مَنْ خُلِقَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ، وَإِنِ انْفَصَلَ بَعْدَ إِلْقَاءِ الْيَدِ مَيِّتًا كَامِلَ الْأَطْرَافِ بَعْدَ الِانْدِمَالِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ، وَفِي الْيَدِ حُكُومَةٌ، أَوْ قَبْلَ الِانْدِمَالِ مَيِّتًا فَغُرَّةٌ فَقَطْ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْيَدَ الَّتِي أَلْقَتْهَا كَانَتْ زَائِدَةً لِهَذَا الْجَنِينِ وَانْمَحَقَ أَثَرُهَا، أَوْ حَيًّا وَمَاتَ فَدِيَةٌ لَا غُرَّةٌ، وَإِنْ عَاشَ فَحُكُومَةٌ، وَتَأَخُّرُ الْيَدِ عَنِ الْجَنِينِ إِلْقَاءٌ كَتَقَدُّمٍ؛ لِذَلِكَ فِيمَا ذُكِرَ، وَكَذَا لَحْمٌ أَلْقَتْهُ امْرَأَةٌ بِحِنَايَةٍ عَلَيْهَا يَجِبُ فِيهِ غُرَّةٌ إِذَا قَالَ الْقَوَابِلُ وَهُنَّ أَهْلُ الْخِبْرَةِ فِيهِ صُورَةٌ خَفِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِنَّ فَلَا يَعْرِفُهَا سِوَاهُنَّ لِحِذْقِهِنَّ، وَنَحْوُهُ لِلْحَنَابِلَةِ.
ثَانِيًا- الِاعْتِدَاءُ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ
مُوجِبَاتُ الدِّيَةِ فِي الِاعْتِدَاءِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ، وَهِيَ إِبَانَةُ الْأَطْرَافِ، وَإِتْلَافُ الْمَعَانِي، وَالشِّجَاجُ وَالْجُرُوحُ.
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: إِبَانَةُ الْأَطْرَافِ: (قَطْعُ الْأَعْضَاءِ):
34- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ فِي قَطْعِ مَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ كَالْأَنْفِ وَاللِّسَانِ وَالذَّكَرِ وَالْحَشَفَةِ وَالصُّلْبِ إِذَا انْقَطَعَ الْمَنِيُّ، وَمَسْلَكِ الْبَوْلِ، وَمَسْلَكِ الْغَائِطِ دِيَةً كَامِلَةً.
وَمَنْ أَتْلَفَ مَا فِي الْبَدَنِ مِنْهُ شَيْئَانِ كَالْعَيْنَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالرِّجْلَيْنِ، وَالشَّفَتَيْنِ وَالْحَاجِيَيْنِ إِذَا ذَهَبَ شَعْرُهُمَا نِهَائِيًّا وَلَمْ يَنْبُتْ، وَالثَّدْيَيْنِ، وَالْحَلَمَتَيْنِ، وَالْأُنْثَيَيْنِ، وَالشُّفْرَيْنِ وَاللَّحْيَيْنِ، وَالْأَلْيَتَيْنِ إِذَا تَلِفَتَا مَعًا فَفِيهِمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ: وَفِي إِحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَمَنْ أَتْلَفَ مَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْهُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ، كَأَشْفَارِ الْعَيْنَيْنِ وَالْأَجْفَانِ فَفِيهَا الدِّيَةُ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا رُبْعُ الدِّيَةِ، وَمَا فِيهِ مِنْهُ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ، كَأَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَأَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ فَفِي جَمِيعِهَا الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عُشْرُ الدِّيَةِ، وَمَا فِي الْأَصَابِعِ مِنَ الْمَفَاصِلِ (السَّلَامِيَّاتِ) فَفِي أَحَدِهَا ثُلُثُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ، وَنِصْفُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ فِيمَا فِيهَا مَفْصِلَانِ وَهِيَ الْإِبْهَامُ خَاصَّةً، وَفِي جَمِيعِ الْأَسْنَانِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَفِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا وَرَدَ فِي «الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ أَنَّ فِي النَّفْسِ الدِّيَةَ وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةَ وَفِي الْأَنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةَ»
فَالنَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْبَعْضِ يَكُونُ وَارِدًا فِي الْبَاقِي دَلَالَةً؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ.
وَالْأَصْلُ فِي الْأَعْضَاءِ أَنَّهُ إِذَا فُوِّتَ جِنْسُ مَنْفَعَةٍ عَلَى الْكَمَالِ أَوْ أَزَالَ جَمَالًا مَقْصُودًا فِي الْآدَمِيِّ عَلَى الْكَمَالِ يَجِبُ كُلُّ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِتْلَافَ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ، إِذِ النَّفْسُ لَا تَبْقَى مُنْتَفَعًا بِهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَإِتْلَافُ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ مُلْحَقٌ بِالْإِتْلَافِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي الْآدَمِيِّ تَعْظِيمًا لَهُ كَمَا قَالَ الزَّيْلَعِيُّ.
وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
أَوَّلًا- دِيَةُ مَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْبَدَنِ مِنَ الْأَعْضَاءِ.
أ- دِيَةُ الْأَنْفِ:
35- الْأَنْفُ إِذَا قُطِعَ كُلُّهُ أَوْ قُطِعَ الْمَارِنُ مِنْهُ (وَهُوَ مَا لَانَ مِنَ الْأَنْفِ وَخَلَا مِنَ الْعَظْمِ) فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ؛ لِمَا رُوِيَ فِي كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ: «وَإِنَّ فِي الْأَنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةَ».وَلِأَنَّ فِيهِ جَمَالًا وَمَنْفَعَةً زَالَتَا بِالْقَطْعِ فَوَجَبَتِ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ.
ثُمَّ إِنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ قَالُوا: فِي قَطْعِ كُلٍّ مِنْ طَرَفَيِ الْمَارِنِ الْمُسَمَّيَيْنِ بِالْمَنْخِرَيْنِ، وَفِي الْحَاجِزِ بَيْنَهُمَا ثُلُثُ الدِّيَةِ تَوْزِيعًا لِلدِّيَةِ عَلَيْهَا.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْحَاجِزِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَفِيهِمَا دِيَةٌ؛ لِأَنَّ الْجَمَالَ وَكَمَالَ الْمَنْفَعَةِ فِيهِمَا دُونَ الْحَاجِزِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَا نَقَصَ مِنَ الْأَنْفِ فَفِيهِ بِحِسَابِهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَالنَّقْصُ يُقَاسُ مِنَ الْمَارِنِ، لَا مِنَ الْأَصْلِ.
ب- دِيَةُ اللِّسَانِ:
36- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي قَطْعِ اللِّسَانِ الْمُتَكَلَّمِ بِهِ إِذَا اسْتُوعِبَ قَطْعًا، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ- رضي الله عنهم-.وَوَرَدَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ: «وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ» وَلِأَنَّ فِيهِ جَمَالًا وَمَنْفَعَةً.أَمَّا الْجَمَالُ فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنِ الْجَمَالِ فَقَالَ: فِي اللِّسَانِ» وَأَمَّا الْمَنْفَعَةُ فَإِنَّ بِهِ تُبَلَّغُ الْأَغْرَاضُ وَتُسْتَخْلَصُ الْحُقُوقُ وَتُقْضَى الْحَاجَاتُ وَتَتِمُّ الْعِبَادَاتُ، وَالنُّطْقُ يَمْتَازُ بِهِ الْآدَمِيُّ عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَبِهِ مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْإِنْسَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} وَكَذَا تَجِبُ الدِّيَةُ بِقَطْعِ بَعْضِهِ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ لِتَفْوِيتِ الْمَنْفَعَةِ، وَقَدْ حَصَلَ بِالِامْتِنَاعِ عَنِ الْكَلَامِ.
وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الْكَلَامِ بِبَعْضِ الْحُرُوفِ دُونَ بَعْضٍ، تُقَسَّمُ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِ الْحُرُوفِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ، فَمَا نَقَصَ مِنَ الْحُرُوفِ وَجَبَ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِهِ، وَقِيلَ: تُقْسَمُ الدِّيَةُ عَلَى الْحُرُوفِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ دُونَ الشَّفَةِ وَالْحَلْقِ، فَتُسْتَثْنَى مِنْهَا الْحُرُوفُ الشَّفَوِيَّةُ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْبَاءُ، وَالْمِيمُ، وَالْفَاءُ، وَالْوَاوُ، وَحُرُوفُ الْحَلْقِ وَهِيَ سِتَّةٌ هِيَ: الْهَمْزَةُ، وَالْهَاءُ، وَالْعَيْنُ، وَالْحَاءُ، وَالْغَيْنُ، وَالْخَاءُ، فَتَبْقَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَرْفًا تَنْقَسِمُ الدِّيَةُ عَلَيْهَا.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: فِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، فَإِنْ قُطِعَ بَعْضُهُ فَإِنْ مَنَعَ جُمْلَةَ الْكَلَامِ فَفِيهِ الدِّيَةُ.وَقَالُوا أَيْضًا: الدِّيَةُ فِي الْكَلَامِ لَا فِي اللِّسَانِ، فَإِنْ قُطِعَ مِنْ لِسَانِهِ مَا يَنْقُصُ مِنْ حُرُوفِهِ فَعَلَيْهِ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَلَا يُحْتَسَبُ فِي الْكَلَامِ عَلَى عَدَدِ الْحُرُوفِ، فَرُبَّ حَرْفٍ أَثْقَلُ مِنْ حَرْفٍ فِي النُّطْقِ، وَلَكِنْ بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا نَقَصَ مِنَ الْكَلَامِ. قَطْعُ لِسَانِ الْأَخْرَسِ وَالصَّغِيرِ:
37- لَا دِيَةَ فِي قَطْعِ لِسَانِ الْأَخْرَسِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بَلْ تَجِبُ فِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْكَلَامُ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ فَصَارَ كَالْيَدِ الشَّلاَّءِ.
وَهَذَا إِذَا لَمْ يَذْهَبْ بِقَطْعِهِ الذَّوْقُ، وَإِلاَّ تَجِبُ الدِّيَةُ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ إِزَالَةِ الْمَنَافِعِ، أَمَّا إِذَا قُطِعَ لِسَانَ الصَّغِيرِ الَّذِي لَا يَتَكَلَّمُ لِصِغَرِهِ فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ السَّلَامَةُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَكَلَّمْ لِأَنَّهُ لَا يُحْسِنُ الْكَلَامَ، فَوَجَبَتْ بِهِ الدِّيَةُ كَالْكَبِيرِ وَيُخَالِفُ الْأَخْرَسَ، فَإِنَّهُ عُلِمَ أَنَّهُ أَشَلُّ؛ وَلِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ فِي سَائِرِ أَعْضَاءِ الصَّغِيرِ فَكَذَلِكَ فِي قَطْعِ لِسَانِهِ، وَإِنْ بَلَغَ حَدًّا يَتَكَلَّمُ مِثْلُهُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ فَقُطِعَ لِسَانُهُ لَمْ تَجِبِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ فَيَجِبُ فِيهِ مَا يَجِبُ فِي لِسَانِ الْأَخْرَسِ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الدِّيَةِ فِي لِسَانِ الصَّغِيرِ ظُهُورُ أَثَرِ نُطْقٍ بِتَحْرِيكِهِ لِبُكَاءٍ وَمَصِّ ثَدْيٍ وَنَحْوِهِمَا؛ لِأَنَّهَا أَمَارَاتٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى سَلَامَةِ اللِّسَانِ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فَحُكُومَةٌ؛ لِأَنَّ سَلَامَتَهُ غَيْرُ مُتَيَقَّنَةٍ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ.
وَلَمْ نَعْثُرْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى نَصٍّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
ج- دِيَةُ الذَّكَرِ وَالْحَشَفَةِ:
38- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي قَطْعِ تَمَامِ الْحَشَفَةِ (رَأْسِ الذَّكَرِ) كَمَا تَجِبُ فِي قَطْعِ الذَّكَرِ مِنْ أَصْلِهِ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ مَنَافِعِ الذَّكَرِ مِنْ لَذَّةِ الْمُبَاشَرَةِ، وَأَحْكَامِ الْوَطْءِ، وَالْإِيلَادِ، وَاسْتِمْسَاكِ الْبَوْلِ وَنَحْوِهَا تَتَعَلَّقُ بِهَا، وَالْحَشَفَةُ أَصْلٌ فِي مَنْفَعَةِ الْإِيلَاجِ وَالدَّفْقِ، وَالْقَصَبَةُ كَالتَّابِعِ لَهَا.
وَإِذَا قُطِعَ بَعْضُ الْحَشَفَةِ فَفِيهِ بِحِسَابِهِ مِنَ الدِّيَةِ، وَيُقَاسُ مِنَ الْحَشَفَةِ لَا مِنْ أَصْلِ الذَّكَرِ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَجِبُ بِقِسْطِهِ مِنْ كُلِّ الذَّكَرِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِكَمَالِ الدِّيَةِ.قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَهَذَا إِذَا لَمْ يَخْتَلَّ مَجْرَى الْبَوْلِ، فَإِنِ اخْتَلَّ وَلَمْ يَنْقَطِعِ الْبَوْلُ فَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِسْطِ الدِّيَةِ وَحُكُومَةِ فَسَادِ الْمَجْرَى.أَمَّا إِذَا انْقَطَعَ الْبَوْلُ وَفَسَدَ مَسْلَكُهُ فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي ذَكَرِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالشَّيْخِ وَالشَّابِّ عَلَى السَّوَاءِ، سَوَاءٌ أَقَدَرَ عَلَى الْجِمَاعِ أَمْ لَمْ يَقْدِرْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ؛ لِعُمُومِ مَا وَرَدَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِأَهْلِ الْيَمَنِ «وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ» وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّغِيرِ: إِنْ عُلِمَتْ صِحَّتُهُ بِحَرَكَةٍ لِلْبَوْلِ وَنَحْوِهِ فَفِيهِ الدِّيَةُ، وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ صِحَّتُهُ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ.
أَمَّا ذَكَرُ الْعِنِّينِ وَالْخَصِيِّ فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّهُ تَجِبُ فِيهِمَا الدِّيَةُ؛ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ وَلِأَنَّ ذَكَرَ الْخَصِيِّ سَلِيمٌ قَادِرٌ عَلَى الْإِيلَاجِ وَإِنَّمَا الْفَائِتُ الْإِيلَادُ، وَالْعُنَّةُ عَيْبٌ فِي غَيْرِ الذَّكَرِ؛ لِأَنَّ الشَّهْوَةَ فِي الْقَلْبِ وَالْمَنِيَّ فِي الصُّلْبِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَا تَكْمُلُ دِيَتُهُمَا لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ الْإِنْزَالُ وَالْإِحْبَالُ وَالْجِمَاعُ وَقَدْ عُدِمَ ذَلِكَ فِيهِمَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، فَلَمْ تَكْمُلْ دِيَتُهُمَا، وَإِذَا لَمْ تَجِبْ فِيهِمَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ تَجِبُ فِيهِمَا حُكُومَةُ عَدْلٍ.
وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْعِنِّينِ وَالْخَصِيِّ فَقَالُوا: إِذَا كَانَ مُعْتَرِضًا عَنْ جَمِيعِ النِّسَاءِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: لُزُومُ الدِّيَةِ، وَقِيلَ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَرِضًا عَنْ بَعْضِ النِّسَاءِ فَفِيهِ الدِّيَةُ اتِّفَاقًا عِنْدَهُمْ.
د- دِيَةُ الصُّلْبِ:
39- صُلْبُ الرَّجُلِ إِذَا انْكَسَرَ وَذَهَبَ مَشْيُهُ أَوْ جِمَاعُهُ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ.وَكَذَلِكَ إِذَا انْكَسَرَ وَاحْدَوْدَبَ وَانْقَطَعَ الْمَاءُ، فَلَمْ يَنْجَبِرْ وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ جِمَاعُهُ وَلَا مَشْيُهُ؛ لِمَا وَرَدَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ» وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: «مَضَتِ السُّنَّةُ أَنَّهُ فِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ»؛ وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ لَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِثْلُهُ، وَفِيهِ جَمَالٌ وَمَنْفَعَةٌ، فَوَجَبَتْ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ كَالْأَنْفِ.
وَأَطْلَقَ الْحَنَابِلَةُ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ فِي كَسْرِ الصُّلْبِ وَإِنْ لَمْ تَذْهَبْ مَنَافِعُهُ مِنَ الْمَشْيِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْجِمَاعِ، وَلَمْ يَنْقَطِعِ الْمَاءُ.
هـ- دِيَةُ إِتْلَافِ مَسْلَكِ الْبَوْلِ وَمَسْلَكِ الْغَائِطِ:
40- تَجِبُ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ فِي إِتْلَافِ مَسْلَكِ الْبَوْلِ وَمَسْلَكِ الْغَائِطِ، وَفِي إِفْضَاءِ الْمَرْأَةِ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ أَوْ غَيْرِهِ، وَهُوَ رَفْعُ مَا بَيْنَ مَدْخَلِ ذَكَرٍ وَدُبُرٍ، فَيَصِيرُ مَسْلَكُ جِمَاعِهَا وَغَائِطِهَا وَاحِدًا.وَقِيلَ: الْإِفْضَاءُ رَفْعُ مَا بَيْنَ مَدْخَلِ ذَكَرٍ وَمَخْرَجِ بَوْلٍ، فَيَصِيرُ سَبِيلُ جِمَاعِهَا وَبَوْلِهَا وَاحِدًا، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَجِبُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِذْ بِهِ تَفُوتُ الْمَنْفَعَةُ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُهَا مِنَ اللَّذَّةِ، وَلَا تُمْسِكُ الْوَلَدَ وَلَا الْبَوْلَ إِلَى الْخَلَاءِ؛ وَلِأَنَّ مُصِيبَتَهَا أَعْظَمُ مِنَ الْمُصَابَةِ بِالشُّفْرَيْنِ، كَمَا عَلَّلَهُ ابْنُ شَعْبَانَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ فِي الْإِفْضَاءِ حُكُومَةُ عَدْلٍ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: فِي الْإِفْضَاءِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَضَى فِيهِ بِذَلِكَ،
وَقَالُوا: إِنِ اسْتَطْلَقَ بَوْلُهَا مَعَ الْإِفْضَاءِ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ.
ثَانِيًا- الْأَعْضَاءُ الَّتِي فِي الْبَدَنِ مِنْهَا اثْنَانِ:
الْأُذُنَانِ:
41- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ) إِلَى أَنَّ فِي اسْتِيصَالِ الْأُذُنَيْنِ قَلْعًا أَوْ قَطْعًا كَمَالَ الدِّيَةِ، وَفِي قَلْعِ أَوْ قَطْعِ إِحْدَاهُمَا نِصْفَهَا
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ- رضي الله عنهما-، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَذَلِكَ لِخَبَرِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «فِي الْأُذُنِ خَمْسُونَ مِنَ الْإِبِلِ» وَلِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ فِيهِمَا جَمَالٌ وَمَنْفَعَةٌ، وَفِي قَلْعِهِمَا أَوْ قَطْعِهِمَا تَفْوِيتُ الْجَمَالِ عَلَى الْكَمَالِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمَا الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ،
وَسَوَاءٌ أَذْهَبَ السَّمْعَ أَمْ لَمْ يُذْهِبْ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ سَمِيعًا أَمْ أَصَمَّ؛ لِأَنَّ الصَّمَمَ نَقْصٌ فِي غَيْرِ الْأُذُنِ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي دِيَتِهِمَا.
وَفِي وَجْهٍ أَوْ قَوْلٍ مُخَرَّجٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: تَجِبُ فِي الْأُذُنَيْنِ حُكُومَةُ عَدْلٍ إِلاَّ إِذَا ذَهَبَ السَّمْعُ فَفِيهِ دِيَةٌ اتِّفَاقًا.وَثَالِثُ الْأَقْوَالِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: هُوَ أَنَّ فِي الْأُذُنَيْنِ حُكُومَةً مُطْلَقًا.قَالَ الْمَوَّاقُ: وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
75-موسوعة الفقه الكويتية (دين الله)
دَيْنُ اللَّهِالتَّعْرِيفُ:
1- فِي اللُّغَةِ: دَانَ يَدِينُ دَيْنًا، وَدَايَنَهُ مُدَايَنَةً وَدِيَانًا، عَامَلَهُ بِالدَّيْنِ فَأَعْطَاهُ دَيْنًا وَأَخَذَ بِدَيْنٍ، وَادَّانَ: اقْتَرَضَ فَصَارَ دَيْنًا.وَالدَّيْنُ: الْقَرْضُ وَثَمَنُ الْمَبِيعِ، وَكُلُّ مَا لَيْسَ حَاضِرًا.
وَالدَّيْنُ اصْطِلَاحًا: عُرِّفَ بِتَعْرِيفَاتٍ كَثِيرَةٍ وَأَوْلَى هَذِهِ التَّعْرِيفَاتِ هُوَ «لُزُومُ حَقٍّ فِي الذِّمَّةِ».وَهَذَا التَّعْرِيفُ يَشْمَلُ كُلَّ مَا يَشْغَلُ ذِمَّةَ الْإِنْسَانِ سَوَاءٌ أَكَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ أَمْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَدَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ حُقُوقُهُ الَّتِي ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ وَلَا مُطَالِبَ لَهَا مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ، كَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْحَجِّ، وَالصَّوْمِ الَّذِي لَمْ يُؤَدَّ، وَالصَّلَاةِ الَّتِي خَرَجَ وَقْتُهَا وَلَمْ تُؤَدَّ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ إِذْ أَنَّ الزَّكَاةَ مِنْ حَقِّ الْإِمَامِ الْمُطَالَبَةُ بِهَا وَكَذَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ كَالْكَفَّارَةِ وَالْهَدْيِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى:
2- الْحَقُّ ضِدُّ الْبَاطِلِ، وَحَقَّ الْأَمْرُ: أَيْ ثَبَتَ وَوَجَبَ.وَحَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْعُ الْعَامُّ لِلْعَالَمِ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدٌ، وَيُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمًا.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: حَقُّ اللَّهِ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ.وَفِي الْحَدِيثِ: «حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا».
وَقَدْ قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى عِبَادَاتٍ وَعُقُوبَاتٍ وَكَفَّارَاتٍ.إِلَخْ فَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى أَعَمُّ مِنْ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَشْمَلُ كُلَّ مَا وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ أَكَانَ دَيْنًا تَرَتَّبَ فِي الذِّمَّةِ أَمْ لَا.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3- دَيْنُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي يَتَرَتَّبُ فِي ذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الدَّيْنُ عِبَادَاتٍ بَدَنِيَّةً أَمْ مَالِيَّةً أَمْ كَانَ كَفَّارَاتٍ أَمْ نُذُورًا يَجِبُ قَضَاؤُهُ، لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ».قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُلْتَحَقُ بِالْحَجِّ كُلُّ حَقٍّ ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ مِنْ كَفَّارَةٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ زَكَاةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ كَذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى».
وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا، لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلاَّ ذَلِكَ».
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ مَا ذُكِرَ عَنِ ابْنِ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَا يَقْضِي لِمَفْهُومِ قَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا».وَحِكْمَتُهُ التَّغْلِيظُ عَلَيْهِ، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ.
هَذَا مَعَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي وَفِيمَا يُقْضَى عَنِ الْمَيِّتِ أَوْ لَا يُقْضَى.
أَسْبَابُ صَيْرُورَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ:
يَصِيرُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ لِأَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْهَا: أ- خُرُوجُ الْوَقْتِ قَبْلَ الْأَدَاءِ:
4- الْعِبَادَةُ الْبَدَنِيَّةُ الَّتِي لَهَا وَقْتٌ مُحَدَّدٌ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ إِذَا فَاتَ الْوَقْتُ الْمُحَدَّدُ لَهَا قَبْلَ الْأَدَاءِ اسْتَقَرَّتْ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ وَوَجَبَ الْقَضَاءُ، يَقُولُ الْقَرَافِيُّ: الصَّلَاةُ لَا يَنْتَقِلُ الْأَدَاءُ فِيهَا إِلَى الذِّمَّةِ إِلاَّ إِذَا خَرَجَ الْوَقْتُ؛ لِأَنَّهَا مُعَيَّنَةٌ بِوَقْتِهَا، وَالْقَضَاءُ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ يَتَعَيَّنُ حَدُّهُ بِخُرُوجِهِ فَهُوَ فِي الذِّمَّةِ، فَالصَّلَاةُ إِنْ تَعَذَّرَ فِيهَا الْأَدَاءُ بِخُرُوجِ وَقْتَيْهَا (أَيِ الِاخْتِيَارِيِّ وَالضَّرُورِيِّ) لِعُذْرٍ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ، وَإِنْ خَرَجَ لِغَيْرِ عُذْرٍ تَرَتَّبَتْ فِي الذِّمَّةِ وَوَجَبَ الْقَضَاءُ.وَبِمِثْلِ ذَلِكَ قَالَ الْكَاسَانِيُّ.
وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا أَوْجَبَهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ مِنْ عِبَادَاتٍ بَدَنِيَّةٍ مُقَيَّدَةٍ بِوَقْتٍ كَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرِ رَجَبٍ مَثَلًا وَمَضَى شَهْرُ رَجَبٍ دُونَ أَنْ يَصُومَهُ فَإِنَّهُ يُصْبِحُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
وَلِذَلِكَ يُقَسِّمُ الْحَنَفِيَّةُ صَوْمَ الْفَرْضِ إِلَى قِسْمَيْنِ: عَيْنٍ وَدَيْنٍ.فَالْعَيْنُ مَا لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ إِمَّا بِتَعْيِينِ اللَّهِ تَعَالَى كَصَوْمِ رَمَضَانَ وَإِمَّا بِتَعْيِينِ الْعَبْدِ كَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، وَأَمَّا صَوْمُ الدَّيْنِ فَمَا لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ كَصَوْمِ قَضَاءِ رَمَضَانَ.إِلَخْ يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: فَمَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ رَجَبٍ فَأَفْطَرَ فِيهِ قَضَى فِي شَهْرٍ آخَرَ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الْوَاجِبَ عَنْ وَقْتِهِ فَصَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى أَنَّ كَوْنَ الصَّلَاةِ أَوِ الصِّيَامِ تُصْبِحُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ لَا يُنَاقِضُ التَّعَلُّقَ بِالذِّمَّةِ فِي وَقْتِ الْأَدَاءِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ أَصْلِ الْوُجُوبِ وَوُجُوبِ الْأَدَاءِ، وَبَيْنَ الْوَاجِبِ بِالْأَمْرِ وَالْوَاجِبِ بِالسَّبَبِ وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
ب- إِتْلَافُ الْمُعَيَّنِ مِنَ الْأَمْوَالِ أَوْ تَلَفُهُ:
5- مَعَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِالْعَيْنِ أَوْ بِالذِّمَّةِ إِلاَّ أَنَّهُمْ جَمِيعًا يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اسْتِهْلَاكَ مَالِ الزَّكَاةِ أَوِ التَّصَرُّفَ فِيهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ يَجْعَلُهَا دَيْنًا ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ.يَقُولُ الْقَرَافِيُّ: إِنَّ الزَّكَاةَ مَا دَامَتْ مُعَيَّنَةً بِوُجُودِ نِصَابِهَا لَا تَكُونُ فِي الذِّمَّةِ فَإِذَا تَلِفَ النِّصَابُ بِعُذْرٍ لَا يَضْمَنُ نَصِيبَ الْفُقَرَاءِ وَلَا يَنْتَقِلُ الْوَاجِبُ إِلَى الذِّمَّةِ، وَيَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: مَنْ أَتْلَفَ الثِّمَارَ أَوِ الزَّرْعَ أَوْ أَكَلَهَا بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا ضَمِنَهَا وَكَانَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ مَالَ الزَّكَاةِ بَعْدَ حَوَلَانِ الْحَوْلِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (زَكَاة).
وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ مُعَيَّنًا مِنْ نَذْرٍ أَوْ هَدْيٍ وَاجِبٍ.فَمَنْ عَيَّنَ هَدْيًا فَعَطِبَ أَوْ سُرِقَ أَوْ ضَلَّ عَادَ الْوُجُوبُ إِلَى ذِمَّتِهِ.
ج- الْعَجْزُ عَنِ الْأَدَاءِ حِينَ الْوُجُوبِ:
6- قَالَ النَّوَوِيُّ وَالسُّيُوطِيُّ وَالزَّرْكَشِيُّ: الْحُقُوقُ الْمَالِيَّةُ الْوَاجِبَةُ لِلَّهِ تَعَالَى ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ:
1- ضَرْبٌ يَجِبُ لَا بِسَبَبِ مُبَاشَرَةٍ مِنَ الْعَبْدِ كَزَكَاةِ الْفِطْرِ فَإِذَا عَجَزَ عَنْهُ وَقْتَ الْوُجُوبِ لَمْ يَثْبُتْ فِي ذِمَّتِهِ فَلَوْ أَيْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ.
2- وَضَرْبٌ يَجِبُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَفِدْيَةِ الْحَلْقِ وَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ فِي الْحَجِّ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْهُ وَقْتَ وُجُوبِهِ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ تَغْلِيبًا لِمَعْنَى الْغَرَامَةِ لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ مَحْضٌ.
3- وَضَرْبٌ يَجِبُ بِسَبَبِهِ لَا عَلَى جِهَةِ الْبَدَلِ كَكَفَّارَةِ الْجِمَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ وَالْقَتْلِ، فَفِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ عِنْدَ الْعَجْزِ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْعَجْزِ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (صَوْم، وَكَفَّارَة، وَقَتْل، وَظِهَار).
د- النُّذُورُ الْمُطْلَقَةُ:
7- وَهِيَ الَّتِي لَمْ تُعَلَّقْ عَلَى شَرْطٍ أَوْ تُقَيَّدْ بِوَقْتٍ بَلْ كَانَتْ مُضَافَةً إِلَى وَقْتٍ مُبْهَمٍ كَمَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا، فَهِيَ فِي الذِّمَّةِ إِلَى أَنْ تُؤَدَّى، وَجَمِيعُ الْعُمْرِ وَقْتٌ لَهَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ عَلَى التَّرَاخِي.وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْحَجُّ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي كَالْحَنَفِيَّةِ.
وَيَقُولُ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: يُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ نَذْرِ الْقُرْبَةِ الْمَالِيَّةِ كَالصَّدَقَةِ وَالْأُضْحِيَّةِ الِالْتِزَامُ لَهَا فِي الذِّمَّةِ أَوِ الْإِضَافَةِ إِلَى مُعَيَّنٍ يَمْلِكُهُ.
وَيَقُولُ الْقَرَافِيُّ: جَمِيعُ الْعُمْرِ ظَرْفٌ لِوُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِإِيقَاعِ النُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ لِوُجُودِ التَّكْلِيفِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ.
النِّيَابَةُ عَنِ الْغَيْرِ فِي أَدَاءِ دَيْنِ اللَّهِ:
8- دَيْنُ اللَّهِ الْمَالِيُّ الْمَحْضُ كَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ تَجُوزُ فِيهِ النِّيَابَةُ عَنِ الْغَيْرِ سَوَاءٌ أَكَانَ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا إِخْرَاجُ الْمَالِ وَهُوَ يَحْصُلُ بِفِعْلِ النَّائِبِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْأَدَاءُ عَنِ الْحَيِّ أَمْ عَنِ الْمَيِّتِ، إِلاَّ أَنَّ الْأَدَاءَ عَنِ الْحَيِّ لَا يَجُوزُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ بِاتِّفَاقٍ وَذَلِكَ لِلِافْتِقَارِ فِي الْأَدَاءِ إِلَى النِّيَّةِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ فَلَا تَسْقُطُ عَنِ الْمُكَلَّفِ بِدُونِ إِذْنِهِ.أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَيِّتِ فَلَا يُشْتَرَطُ الْإِذْنُ إِذْ يَجُوزُ التَّبَرُّعُ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ عَنِ الْمَيِّتِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَلَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا حَالَ الْحَيَاةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} وَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ.
قَالَ الْكَاسَانِيُّ: أَيْ فِي حَقِّ الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ لَا فِي حَقِّ الثَّوَابِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ بَعْدَ الْمَمَاتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
وَهَذَا الْحُكْمُ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِقَضَاءِ الْعِبَادَةِ نَفْسِهَا عَنِ الْمَيِّتِ.أَمَّا فِدْيَةُ الصِّيَامِ وَكَفَّارَةُ الْإِفْطَارِ فَيَجُوزُ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَتَبَرَّعُوا بِهَا عَنِ الْمَيِّتِ إِذَا لَمْ يُوصِ.أَمَّا إِذَا أَوْصَى فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ فَتُؤَدَّى مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ.وَلِغَيْرِهِمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (وَصِيَّة).
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ عَنِ الْمَيِّتِ عَمَّا تَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ صَلَاةٍ فَاتَتْهُ وَمَاتَ دُونَ قَضَائِهَا.وَأَمَّا الصَّوْمُ فَمَا تَرَتَّبَ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ مِنْهُ فَفِي الْجَدِيدِ لَا يَصِحُّ الصَّوْمُ عَنْهُ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَإِنَّمَا يُكَفَّرُ عَنْهُ بِإِخْرَاجِ مُدٍّ مِنْ طَعَامٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ فَاتَهُ، وَفِي الْقَدِيمِ يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ وَلِيُّهُ عَنْهُ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ»، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ، قَالَ السُّبْكِيُّ وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُخْتَارَ وَالْمُفْتَى بِهِ، وَالْقَوْلَانِ يَجْرِيَانِ فِي الصِّيَامِ الْمَنْذُورِ إِذَا لَمْ يُؤَدَّ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ فَصَلُوا بَيْنَ الْوَاجِبِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَبَيْنَ مَا أَوْجَبَهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ نَذْرِ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ.فَقَالُوا: مَنْ مَاتَ وَفِي ذِمَّتِهِ صَلَاةٌ مَفْرُوضَةٌ لَمْ تُؤَدَّ، أَوْ صِيَامُ رَمَضَانَ لَمْ يُؤَدَّ، فَلَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ حَالَ الْحَيَاةِ فَبَعْدَ الْمَوْتِ كَذَلِكَ.أَمَّا مَا أَوْجَبَهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَتَمَكَّنَ مِنَ الْأَدَاءِ وَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ سُنَّ لِوَلِيِّهِ فِعْلُ النَّذْرِ عَنْهُ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَصَوْمِي عَنْ أُمِّكِ» لِأَنَّ النَّذْرَ أَخَفُّ حُكْمًا مِنَ الْوَاجِبِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ.
وَيَجُوزُ لِغَيْرِ الْوَلِيِّ فِعْلُ مَا عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ نَذْرٍ بِإِذْنِهِ وَبِدُونِ إِذْنِهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَجِّ لِمَا فِيهِ مِنْ جَانِبٍ مَالِيٍّ وَجَانِبٍ بَدَنِيٍّ، فَمَنْ كَانَ عَاجِزًا بِنَفْسِهِ عَنْ أَدَاءِ الْحَجِّ وَأَمْكَنَهُ الْأَدَاءُ بِمَالِهِ بِإِنَابَةِ غَيْرِهِ مَنَابَ نَفْسِهِ لَزِمَهُ الْإِنَابَةُ فِي الْحَجِّ عَنْهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ عَدَمُ جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي الْحَجِّ.وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيِّ فِي الْجُمْلَةِ.
أَمَّا مَنْ مَاتَ وَكَانَ مُسْتَطِيعًا وَلَمْ يَحُجَّ فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَجِبُ الْقَضَاءُ مِنْ رَأْسِ مَالِ تَرِكَتِهِ؛ لِمَا رَوَى بُرَيْدَةُ قَالَ: «أَتَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: حُجِّي عَنْ أُمِّكِ».وَلِأَنَّهُ حَقٌّ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ حَالَ الْحَيَاةِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ حَجُّ الْفَرِيضَةِ وَالنَّذْرِ، فَإِنْ حَجَّ عَنْهُ الْوَارِثُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِاسْتِئْجَارٍ سَقَطَ الْحَجُّ عَنِ الْمَيِّتِ.وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ حَجَّ عَنِ الْمَيِّتِ أَجْنَبِيٌّ جَازَ وَلَوْ بِلَا إِذْنٍ كَمَا إِنَّ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ بِلَا إِذْنٍ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ تَبَرُّعُ الْوَارِثِ بِالْحَجِّ بِنَفْسِهِ عَنِ الْمَيِّتِ أَوْ بِالْإِحْجَاجِ عَنْهُ رَجُلًا آخَرَ وَلَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
أَثَرُ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ
8 م- مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ أَلاَّ يَكُونَ هُنَاكَ دَيْنٌ لآِدَمِيٍّ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّ لَهُ مُطَالِبًا مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ، وَكَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِدَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى كَالْكَفَّارَةِ وَالنَّذْرِ وَالْهَدْيِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقَوْلُ خَلِيلٍ وَابْنِ رُشْدٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ أَثَرَ هَذَا الدَّيْنِ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَهُوَ الثَّوَابُ بِالْأَدَاءِ وَالْإِثْمُ بِالتَّرْكِ، وَلِإِطْلَاقِ الْأَدِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلزَّكَاةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَعِنْدَ ابْنِ عَتَّابٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ هَذَا الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْأَمْوَالِ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ: هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلِيُؤَدِّهِ حَتَّى تُخْرِجُوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ.وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى».
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّ هَذَا الدَّيْنَ يَمْنَعُ زَكَاةَ الْمَالِ الْبَاطِنِ وَهُوَ النَّقْدُ وَالْعَرْضُ وَلَا يَمْنَعُ زَكَاةَ الْمَالِ الظَّاهِرِ وَهُوَ الْمَاشِيَةُ وَالزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ وَالْمَعَادِنُ.
وَهَذَا الْحُكْمُ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ لِدُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا فِي ذَلِكَ دَيْنُ الزَّكَاةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ دَيْنِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهِ مِنَ الدُّيُونِ.فَالْحُكْمُ السَّابِقُ عِنْدَهُمْ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ دَيْنِ الزَّكَاةِ.
أَمَّا مَنْ كَانَ فِي ذِمَّتِهِ زَكَاةُ سَنَوَاتٍ مَضَتْ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ لِلزَّكَاةِ الْحَاضِرَةِ.
فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ دَيْنُ الزَّكَاةِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ الْحَاضِرَةِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: دَيْنُ الزَّكَاةِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ الْحَاضِرَةِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ.
وَحُجَّةُ الْقَائِلِينَ بِالْمَنْعِ أَنَّ دَيْنَ الزَّكَاةِ لَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ وَهُوَ الْإِمَامُ فَأَشْبَهَ دَيْنَ الْآدَمِيِّ وَهُوَ تَعْلِيلُ زُفَرَ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ بِخِلَافِ الْبَاطِنَةِ.وَيُلَاحَظُ أَنَّ الْأَحْكَامَ السَّابِقَةَ جَمِيعُهَا إِنَّمَا هِيَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِزَكَاةِ الْعَيْنِ (النَّقْدَيْنِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ) فَهِيَ الَّتِي يُؤَثِّرُ فِيهَا الدَّيْنُ، أَمَّا زَكَاةُ الْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ فَلَا يُؤَثِّرُ الدَّيْنُ فِي وُجُوبِ إِخْرَاجِهَا.وَلِتَفْصِيلِ ذَلِكَ يُنْظَرُ: (زَكَاة).
حُكْمُ الْإِيصَاءِ بِدَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى:
9- دُيُونُ اللَّهِ تَعَالَى الْمَالِيَّةُ الَّتِي اسْتَقَرَّتْ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ مِنْ زَكَاةٍ أَوْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ أَوْ إِفْطَارٍ فِي رَمَضَانَ أَوْ ظِهَارٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ فِدْيَةِ أَذًى فِي الْحَجِّ، أَوْ جَزَاءِ صَيْدٍ، أَوْ هَدْيٍ لِتَمَتُّعٍ أَوْ قِرَانٍ إِذَا أَدْرَكَتْهُ الْوَفَاةُ وَلَمْ يُؤَدِّهَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِيصَاءُ بِهَا.وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْحَجِّ، أَوْ كَانَ عَاجِزًا بِنَفْسِهِ وَأَمْكَنَهُ الْأَدَاءُ بِمَالِهِ بِإِنَابَةِ غَيْرِهِ مَنَابَ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ بِالْحَجِّ عَنْهُ.
أَمَّا الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الَّتِي تَرَتَّبَتْ فِي ذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ كَالصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ فَإِنَّ الصِّيَامَ الَّذِي فَرَّطَ الْإِنْسَانُ فِيهِ كَقَضَاءِ رَمَضَانَ أَوْ صِيَامِ كَفَّارَةٍ أَوْ نَذْرٍ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوصِيَ عِنْدَ وَفَاتِهِ بِالْفِدْيَةِ، وَهِيَ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الصِّيَامِ الَّتِي فَاتَتْهُ.
وَالْحُكْمُ فِي جَمِيعِ مَا سَبَقَ هُوَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةٌ لَمْ يَقْضِهَا.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: مَنْ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ وَكَانَ يَقْدِرُ عَلَى الصَّلَاةِ وَلَوْ بِالْإِيمَاءِ وَلَمْ يُصَلِّ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِيصَاءُ بِالْكَفَّارَةِ بِأَنْ يُعْطِيَ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَاتَتْهُ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ كَالْفِطْرَةِ قَالَ: وَكَذَا حُكْمُ الْوِتْرِ.وَنَقَلَ الْبُوَيْطِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يُطْعَمَ لِكُلِّ صَلَاةٍ مُدٌّ.
تَعَلُّقُ دَيْنِ اللَّهِ بِتَرِكَةِ الْمَيِّتِ:
10- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُتَرَتِّبَ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ يَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ، وَيَجِبُ أَدَاؤُهُ مِنْهَا سَوَاءٌ أَوْصَى الْمَيِّتُ بِذَلِكَ أَمْ لَمْ يُوصِ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ إِلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِهِ الْمَيِّتُ فَإِذَا أَوْصَى بِهِ أَخْرَجَهُ الْوَرَثَةُ مِنَ التَّرِكَةِ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ دَيْنُ اللَّهِ بِالتَّرِكَةِ إِلاَّ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ هِيَ:
أ- أَنْ يُوصِيَ الْمَيِّتُ بِذَلِكَ فَتَخْرُجُ مِنَ التَّرِكَةِ.
ب- أَنْ يُشْهِدَ فِي صِحَّتِهِ بِأَنَّ هَذَا الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَخْرُجُ مِنَ التَّرِكَةِ وَلَوْ لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ.
ج- أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الْوَاجِبُ إِخْرَاجُهَا قَائِمَةً كَزَكَاةِ الْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ مِنَ الثُّلُثِ، وَمَا يُقَدَّمُ مِنْ ذَلِكَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ؟ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَرِكَة).
سُقُوطُ دَيْنِ اللَّهِ
11- الْأَصْلُ أَنَّ دَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَسْقُطُ وَلَا تَبْرَأُ مِنْهُ الذِّمَّةُ إِلاَّ بِالْقَضَاءِ، لَكِنْ هُنَاكَ بَعْضُ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَسْقُطُ بِهَا الْقَضَاءُ وَمِنْ ذَلِكَ: 1- الْحَرَجُ:
12- أ- فَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُمَا قَضَاءُ الصَّوْمِ وَيَسْقُطُ عَنْهُمَا قَضَاءُ الصَّلَاةِ لِلْحَرَجِ يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ قَضَاءُ الصَّوْمِ لِفَوَاتِ صَوْمِ رَمَضَانَ عَلَيْهِمَا وَلِقُدْرَتِهِمَا عَلَى الْقَضَاءِ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمَا قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحَرَجِ لِأَنَّ وُجُوبَهَا يَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ.
ب- الْمُغْمَى عَلَيْهِ، إِنْ أُغْمِيَ عَلَى شَخْصٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ أَقَلَّ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الصَّلَاةِ لِانْعِدَامِ الْحَرَجِ، وَإِنْ زَادَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُحْرَجُ فِي الْقَضَاءِ لِدُخُولِ الْعِبَادَةِ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ.وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يُفِيقَ فِي جُزْءٍ مِنْ وَقْتِهَا.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَقْضِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي فَاتَتْهُ حَالَ إِغْمَائِهِ.وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِغْمَاء).
ج- يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: الْمَرِيضُ الْعَاجِزُ عَنِ الْإِيمَاءِ فِي الصَّلَاةِ إِذَا فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ ثُمَّ بَرِئَ، فَإِنْ كَانَ مَا فَاتَهُ يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ قَضَاهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَرَجِ، وَذَلِكَ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِمِثْلِ ذَلِكَ رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَهُوَ أَيْضًا مِنِ اخْتِيَارَاتِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ.
2- الْعَجْزُ عَنِ الْقَضَاءِ:
13- أ- مَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ لِعُذْرٍ مِنْ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ ثُمَّ مَاتَ سَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَجَبَ بِالشَّرْعِ، وَقَدْ مَاتَ قَبْلَ إِمْكَانِ فِعْلِهِ فَسَقَطَ إِلَى غَيْرِ بَدَلٍ كَالْحَجِّ.
ب- مَنْ عَجَزَ عَنْ كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ الَّتِي وَجَبَتْ بِجِمَاعٍ أَوْ بِغَيْرِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي الْمَذَاهِبِ سَقَطَتْ عَنْهُ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ الْأَعْرَابِيَّ أَنْ يُطْعِمَ أَهْلَهُ» وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِكَفَّارَةٍ أُخْرَى وَلَا بَيَّنَ لَهُ بَقَاءَهَا فِي ذِمَّتِهِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ.وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَظْهَرِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: تَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ.
3- هَلَاكُ مَالِ الزَّكَاةِ:
14- هَلَاكُ نِصَابِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا بِحَوَلَانِ الْحَوْلِ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْهَلَاكُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَدَاءِ أَمْ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ يَسْتَدْعِي تَفْوِيتَ مِلْكٍ أَوْ يَدٍ، وَتَأْخِيرَ الزَّكَاةِ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ لَمْ يُفَوِّتْ عَلَى الْفَقِيرِ مِلْكًا وَلَا يَدًا فَلَا يَضْمَنُ.
وَيَقُولُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ فَعَزَلَهَا وَأَخْرَجَهَا فَتَلِفَتْ مِنْهُ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ إِلاَّ إِنْ تَلِفَ الْمَالُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَدَاءِ بِلَا تَقْصِيرٍ، أَمَّا بَعْدَ التَّمَكُّنِ فَتَلَفُ الْمَالِ يُوجِبُ الضَّمَانَ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: الزَّكَاةُ لَا تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَالِ فَرَّطَ أَوْ لَمْ يُفَرِّطْ، هَذَا الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَحَكَى عَنْهُ الْمَيْمُونِيُّ أَنَّهُ إِذَا تَلِفَ النِّصَابُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَدَاءِ سَقَطَتِ الزَّكَاةُ عَنْهُ، وَإِنْ تَلِفَ بَعْدَهُ لَمْ تَسْقُطْ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مَذْهَبًا لِأَحْمَدَ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَالصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ الزَّكَاةَ تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَالِ إِذَا لَمْ يُفَرِّطْ فِي الْأَدَاءِ لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ فَلَا تَجِبُ عَلَى وَجْهٍ يَجِبُ أَدَاؤُهَا مَعَ عَدَمِ الْمَالِ وَفَقْرِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (زَكَاة).
4- الرِّدَّةُ
15- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرِّدَّةَ تُسْقِطُ دَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، سَوَاءٌ أَكَانَ بَدَنِيًّا أَمْ مَالِيًّا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ».وَعَلَى هَذَا فَمَنْ كَانَ مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ- وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ- ثُمَّ أَسْلَمَ فَمَا كَانَ مِنْ دُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذِمَّتِهِ فَقَدْ بَطَلَ تَعَلُّقُهُ بِهَا وَسَقَطَ عَنْهُ الْقَضَاءُ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرِّدَّةَ لَا تُسْقِطُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى مَالِيًّا أَوْ بَدَنِيًّا.
وَقَدْ فَصَّلَ ابْنُ قُدَامَةَ الْقَوْلَ بِالنِّسْبَةِ لِمَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ فَقَالَ فِي الزَّكَاةِ: مَنِ ارْتَدَّ قَبْلَ مُضِيِّ الْحَوْلِ وَحَالَ الْحَوْلُ وَهُوَ مُرْتَدٌّ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فَعَدَمُهُ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ كَالْمِلْكِ وَالنِّصَابِ، وَإِنْ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ مُضِيِّ الْحَوْلِ اسْتَأْنَفَ حَوْلًا، أَمَّا إِنِ ارْتَدَّ بَعْدَ الْحَوْلِ لَمْ تَسْقُطِ الزَّكَاةُ عَنْهُ.
وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا تَسْقُطُ أَيْضًا لَكِنْ لَا يُطَالَبُ بِفِعْلِهَا لِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ مِنْهُ وَلَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ، فَإِذَا عَادَ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا، وَالزَّكَاةُ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ وَلَا تَسْقُطُ بِالرِّدَّةِ كَالدَّيْنِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (رِدَّة، زَكَاة).
5- الْمَوْتُ:
16- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دُيُونَ اللَّهِ لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ بَلْ تَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ فَيَخْرُجُ مِنْهَا مَا عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ دُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى كَدُيُونِ الْآدَمِيِّ.وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْحَجُّ فَيُحَجُّ عَنْهُ مِنْ مَالِهِ.أَمَّا الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَسْقُطُ عَنْهُ عِنْدَهُمَا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قَالَهُ الْبُوَيْطِيُّ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْإِطْعَامِ عَنْهُ لِكُلِّ صَلَاةٍ مُدٌّ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قِيلَ فِي الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ.وَأَمَّا الصِّيَامُ فَيُفْدَى عَنْهُ، وَفِي الْقَدِيمِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُصَامُ عَنْهُ، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ وَالْقَدِيمُ أَظْهَرُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ نَذْرُ الْعِبَادَةِ يُفْعَلُ عَنِ الْمَيِّتِ مِنْ تَرِكَتِهِ، أَمَّا صَوْمُ رَمَضَانَ وَالْكَفَّارَةُ فَيُطْعَمُ عَنْهُ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِعَدَمِ سُقُوطِ دَيْنِ اللَّهِ بِالْمَوْتِ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَالَتِ امْرَأَةٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا قَالَ: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ.قَالَ: فَصَوْمِي عَنْ أُمِّكِ».
وَمَا رَوَى النَّسَائِيُّ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ» كَمَا اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ بِصِيَامِ الْوَلِيِّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ».
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمَوْتَ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا لَمْ يُوصِ بِهِ، فَمَنْ مَاتَ وَفِي ذِمَّتِهِ صَلَاةٌ أَوْ صَوْمٌ أَوْ زَكَاةٌ أَوْ حَجٌّ أَوْ كَفَّارَةٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى سَقَطَتْ عَنْهُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَلِذَلِكَ لَا تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَلَا يُؤْمَرُ الْوَصِيُّ أَوِ الْوَارِثُ بِالْأَدَاءِ مِنَ التَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ دَيْنَ اللَّهِ عِبَادَةٌ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِنِيَّةِ الْمُكَلَّفِ وَفِعْلِهِ، فَإِذَا لَمْ يُوصِ فَقَدْ فَاتَ الشَّرْطُ بِمَوْتِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الْوَاجِبِ فَيَسْقُطُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا لِلتَّعَذُّرِ.
لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْعُشْرِ إِذَا كَانَ قَائِمًا، فَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ الْعُشْرُ، فَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ قَائِمًا فَلَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَسْقُطُ، أَمَّا لَوْ كَانَ الْخَارِجُ مُسْتَهْلَكًا فَإِنَّهُ يَسْقُطُ.
وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمَوْتَ يُسْقِطُ مَا عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ دُيُونِ اللَّهِ تَعَالَى إِلاَّ فِي أَحْوَالٍ ثَلَاثَةٍ وَهِيَ:
أ- إِذَا أَوْصَى بِهَا.
ب- إِذَا أَشْهَدَ فِي صِحَّتِهِ أَنَّهَا بِذِمَّتِهِ وَلَوْ لَمْ يُوصِ بِهَا.
ج- إِذَا تَعَلَّقَ بِعَيْنٍ قَائِمَةٍ كَزَكَاةِ الْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (حَجّ، وَصَوْم).
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
76-موسوعة الفقه الكويتية (رأس)
رَأْسٌالتَّعْرِيفُ:
1- الرَّأْسُ مُفْرَدٌ، وَجَمْعُ الْقِلَّةِ فِيهِ: أَرْؤُسٌ، وَجَمْعُ الْكَثْرَةِ رُؤُوسٌ.
وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: أَعْلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى سَيِّدِ الْقَوْمِ، وَعَلَى الْقَوْمِ إِذَا كَثُرُوا وَعَزُّوا.وَرَأْسُ الْمَالِ: أَصْلُهُ.
وَالِاصْطِلَاحُ الشَّرْعِيُّ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرَّأْسِ:
2- تَخْتَلِفُ الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرَّأْسِ بِاخْتِلَافِ مَوْضُوعِ الْحُكْمِ.
فَفِي الْوُضُوءِ يَجِبُ الْمَسْحُ بِالرَّأْسِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.وَأَمَّا مِقْدَارُ مَا يُمْسَحُ فَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (وُضُوءٌ).
وَفِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ الْمُحْرِمِ تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ أَوْ جُزْءٍ مِنْهُ، وَتَجِبُ الْفِدْيَةُ فِيهِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَامٌ).
وَفِي الْجِنَايَةِ عَلَى الرَّأْسِ قِصَاصٌ، أَوْ دِيَةٌ، أَوْ أَرْشٌ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (جِنَايَةٌ، دِيَةٌ، أَرْشٌ).
كَشْفُ الرَّأْسِ فِي الصَّلَاةِ:
3- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اسْتِحْبَابِ سَتْرِ الرَّأْسِ فِي الصَّلَاةِ لِلرَّجُلِ، بِعِمَامَةٍ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ كَذَلِكَ يُصَلِّي.
أَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَجِبُ عَلَيْهَا سَتْرُ رَأْسِهَا فِي الصَّلَاةِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (صَلَاةٌ وَعَوْرَةٌ).
سَتْرُ الرَّأْسِ عِنْدَ دُخُولِ الْخَلَاءِ:
3- يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْخَلَاءَ حَاسِرَ الرَّأْسِ لِخَبَرِ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ لَبِسَ حِذَاءَهُ، وَغَطَّى رَأْسَهُ».
ضَرْبُ الرَّأْسِ فِي الْحَدِّ، وَالتَّأْدِيبِ:
4- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُضْرَبُ رَأْسُ الْمَجْلُودِ لِلْحَدِّ أَوِ التَّعْزِيرِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمَقَاتِلِ، وَرُبَّمَا يُفْضِي ضَرْبُهُ إِلَى ذَهَابِ سَمْعِهِ، وَبَصَرِهِ، وَعَقْلِهِ، أَوْ قَتْلِهِ، وَالْمَقْصُودُ تَأْدِيبُهُ لَا قَتْلُهُ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ لِلْجَلاَّدِ: اتَّقِ الْوَجْهَ، وَالرَّأْسَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّهُ يُضْرَبُ الرَّأْسُ فِي الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخَافُ التَّلَفُ بِسَوْطٍ أَوْ سَوْطَيْنِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: اضْرِبُوا الرَّأْسَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ فِيهِ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
الْيَمِينُ عَلَى أَكْلِ الرُّءُوسِ:
5- إِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رَأْسًا وَأَطْلَقَ، حُمِلَ عَلَى رُءُوسِ الْأَنْعَامِ، وَهِيَ الْغَنَمُ، وَالْإِبِلُ، وَالْبَقَرُ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُبَاعُ وَتُشْتَرَى فِي السُّوقِ مُنْفَرِدَةً، وَهِيَ الْمُتَعَارَفَةُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ، وَأَبُو حَنِيفَةَ.وَقَالَ الصَّاحِبَانِ: يُحْمَلُ عَلَى رَأْسِ الْغَنَمِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَمَّا إِنْ عَمَّمَ أَوْ خَصَّصَ فَإِنَّهُ يُتَّبَعُ، وَإِنْ قَصَدَ مَا يُسَمَّى رَأْسًا حَنِثَ بِالْكُلِّ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَبَاحِثِ الْأَيْمَانِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
أَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِشَعْرِ الرَّأْسِ مِنَ الْأَحْكَامِ فَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (شَعْرٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
77-موسوعة الفقه الكويتية (رؤية الهلال 1)
رُؤْيَةُ الْهِلَالِ -1التَّعْرِيفُ:
1- الرُّؤْيَةُ: النَّظَرُ بِالْعَيْنِ وَالْقَلْبِ، وَهِيَ مَصْدَرُ رَأَى، وَالرُّؤْيَةُ بِالْعَيْنِ تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَبِمَعْنَى الْعِلْمِ تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ.وَحَقِيقَةُ الرُّؤْيَةِ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى الْأَعْيَانِ كَانَتْ بِالْبَصَرِ، كَقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام- «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ»،، وَقَدْ يُرَادُ بِهَا الْعِلْمُ مَجَازًا.
وَتَرَاءَى الْقَوْمُ: رَأَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَتَرَاءَيْنَا الْهِلَالَ: نَظَرْنَا.
وَلِلْهِلَالِ عِدَّةُ مَعَانٍ مِنْهَا: الْقَمَرُ فِي أَوَّلِ اسْتِقْبَالِهِ الشَّمْسَ كُلَّ شَهْرٍ قَمَرِيٍّ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، قِيلَ: وَالثَّالِثَةِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَسَبْعٍ وَعِشْرِينَ لِأَنَّهُ فِي قَدْرِ الْهِلَالِ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ.
وَقِيلَ يُسَمَّى هِلَالًا إِلَى أَنْ يَبْهَرَ ضَوْءُهُ سَوَادَ اللَّيْلِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلاَّ فِي اللَّيْلَةِ السَّابِعَةِ.
وَالْمَقْصُودُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ: مُشَاهَدَتُهُ بِالْعَيْنِ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ السَّابِقِ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ خَبَرُهُ وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فَيَثْبُتُ دُخُولُ الشَّهْرِ بِرُؤْيَتِهِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
طَلَبُ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ:
2- رُؤْيَةُ الْهِلَالِ أَمْرٌ يَقْتَضِيهِ ارْتِبَاطُ تَوْقِيتِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ بِهَا، فَيُشْرَعُ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَجِدُّوا فِي طَلَبِهَا وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ فِي لَيْلَةِ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ لِمَعْرِفَةِ دُخُولِ رَمَضَانَ، وَلَيْلَةِ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ لِمَعْرِفَةِ نِهَايَتِهِ وَدُخُولِ شَوَّالٍ، وَلَيْلَةِ الثَّلَاثِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ لِمَعْرِفَةِ ابْتِدَاءِ ذِي الْحِجَّةِ.فَهَذِهِ الْأَشْهُرُ الثَّلَاثَةُ يَتَعَلَّقُ بِهَا رُكْنَانِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ هُمَا الصِّيَامُ وَالْحَجُّ، وَلِتَحْدِيدِ عِيدِ الْفِطْرِ وَعِيدِ الْأَضْحَى.
وَقَدْ حَثَّ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى طَلَبِ الرُّؤْيَةِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ».
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ».
أَوْجَبَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ صِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ بِرُؤْيَةِ هِلَالِهِ أَوْ بِإِكْمَالِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ، وَأَمَرَ بِالْإِفْطَارِ لِرُؤْيَةِ هِلَالِ شَوَّالٍ، أَوْ بِإِتْمَامِ رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ.
وَنَهَى الْحَدِيثُ الثَّانِي عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ قَبْلَ رُؤْيَةِ هِلَالِهِ أَوْ قَبْلَ إِتْمَامِ شَعْبَانَ فِي حَالَةِ الصَّحْوِ.
وَوَرَدَ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- حَدِيثٌ فِيهِ أَمْرٌ بِالِاعْتِنَاءِ بِهِلَالِ شَعْبَانَ لِأَجْلِ رَمَضَانَ قَالَ: «أَحْصُوا هِلَالَ شَعْبَانَ لِرَمَضَانَ» وَحَدِيثٌ يُبَيِّنُ اعْتِنَاءَهُ بِشَهْرِ شَعْبَانَ لِضَبْطِ دُخُولِ رَمَضَانَ، عَنْ عَائِشَةَ «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَتَحَفَّظُ مِنْ شَعْبَانَ مَا لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ يَصُومُ لِرُؤْيَةِ رَمَضَانَ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْهِ عَدَّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ صَامَ» قَالَ الشُّرَّاحُ: أَيْ يَتَكَلَّفُ فِي عَدِّ أَيَّامِ شَعْبَانَ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ.وَقَدِ اهْتَمَّ الصَّحَابَةُ- رضي الله عنهم- فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَبَعْدَ وَفَاتِهِ- صلى الله عليه وسلم- بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ فَكَانُوا يَتَرَاءَوْنَهُ.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: «تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلَالَ فَأَخْبَرْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ».
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ عُمَرَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَتَرَاءَيْنَا الْهِلَالَ، وَكُنْتُ رَجُلًا حَدِيدَ الْبَصَرِ فَرَأَيْتُهُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَآهُ غَيْرِي.قَالَ: فَجَعَلْتُ أَقُولُ لِعُمَرَ: أَمَا تَرَاهُ؟ فَجَعَلَ لَا يَرَاهُ.قَالَ: يَقُولُ عُمَرُ: سَأَرَاهُ وَأَنَا مُسْتَلْقٍ عَلَى فِرَاشِي.
وَقَدْ أَوْجَبَ الْحَنَفِيَّةُ كِفَايَةَ الْتِمَاسِ رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ فَإِنْ رَأَوْهُ صَامُوا، وَإِلاَّ أَكْمَلُوا الْعِدَّةَ ثُمَّ صَامُوا؛ لِأَنَّ مَا لَا يَحْصُلُ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ تَرَائِي الْهِلَالِ احْتِيَاطًا لِلصَّوْمِ وَحِذَارًا مِنْ الِاخْتِلَافِ.
وَلَمْ نَجِدْ لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ تَصْرِيحًا بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
طُرُقُ إِثْبَاتِ الْهِلَالِ:
أَوَّلًا: الرُّؤْيَةُ بِالْعَيْنِ:
أ- الرُّؤْيَةُ مِنَ الْجَمِّ الْغَفِيرِ الَّذِينَ تَحْصُلُ بِهِمْ الِاسْتِفَاضَةُ:
3- هِيَ رُؤْيَةُ الْجَمِّ الْغَفِيرِ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ عَادَةً، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي صِفَتِهِمْ مَا يُشْتَرَطُ فِي صِفَةِ الشَّاهِدِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ وَالْبُلُوغِ وَالْعَدَالَةِ.
وَهَذَا أَحَدُ تَفْسِيرَيْ الِاسْتِفَاضَةِ، وَقَدِ ارْتَقَتْ بِهِ إِلَى التَّوَاتُرِ، أَمَّا التَّفْسِيرُ الثَّانِي لِلِاسْتِفَاضَةِ فَقَدْ حُدِّدَتْ بِمَا زَادَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْخَاصٍ.
وَالتَّفْسِيرَانِ يَلْتَقِيَانِ فِي أَنَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ تَكُونُ فِي حَالَةِ الصَّحْوِ، وَأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهَا دُخُولُ رَمَضَانَ.
وَقَدْ قَالَ بِهَذَا النَّوْعِ فِي الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ الْحَنَفِيَّةُ لِإِثْبَاتِ رَمَضَانَ وَشَوَّالٍ.
وَقَالَ بِهِ أَيْضًا الْمَالِكِيَّةُ لَكِنَّهُمْ سَكَتُوا عَنِ اشْتِرَاطِ الصَّحْوِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
ب- رُؤْيَةُ عَدْلَيْنِ:
4- نُقِلَ الْقَوْلُ بِاشْتِرَاطِ رُؤْيَةِ عَدْلَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- وَابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ بِهَذَا الرَّأْيِ الْمَالِكِيَّةُ فِي حَالَةِ الْغَيْمِ وَالصَّحْوِ فِي الْمِصْرِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فَيَثْبُتُ بِرُؤْيَةِ الْعَدْلَيْنِ الصَّوْمُ وَالْفِطْرُ وَشَهْرُ ذِي الْحِجَّةِ، وَاشْتَرَطُوا فِي الْعَدْلِ الْإِسْلَامَ وَالْحُرِّيَّةَ وَالذُّكُورَةَ وَمَا تَقْتَضِيهِ الْعَدَالَةُ مِنَ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَالِالْتِزَامِ بِالْإِسْلَامِ.
وَاعْتَبَرَ سَحْنُونٌ شَهَادَةَ اثْنَيْنِ فَقَطْ فِي الصَّحْوِ، وَفِي الْمِصْرِ الْكَبِيرِ رِيبَةً، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ تَعْيِينُ الْعَدَدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي مِثْلِهَا غَيْرُ الرُّؤْيَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ وَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ.
قَالَ: «وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ إِذَا لَمْ يَشْهَدْ غَيْرُهُمَا فِي الْمِصْرِ الْكَبِيرِ وَالصَّحْوِ، وَأَيَّةُ رِيبَةٍ أَكْبَرُ مِنْ هَذِهِ».
وَنُقِلَ الْقَوْلُ بِاشْتِرَاطِ عَدْلَيْنِ فِي الشَّهَادَةِ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا هِلَالُ رَمَضَانَ عَنِ الْبُوَيْطِيِّ تِلْمِيذِ الشَّافِعِيِّ.
ج- رُؤْيَةُ عَدْلٍ وَاحِدٍ:
5- لِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلَاتٌ وَشُرُوطٌ فِي قَبُولِ رُؤْيَةِ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي: قَبِلَ الْحَنَفِيَّةُ فِي رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ شَهَادَةَ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ فِي الْغَيْمِ أَوِ الْغُبَارِ وَانْعِدَامِ صَحْوِ السَّمَاءِ، وَاكْتَفَوْا فِي وَصْفِ الْعَدَالَةِ بِتَرْجِيحِ الْحَسَنَاتِ عَلَى السَّيِّئَاتِ، وَقَبِلُوا شَهَادَةَ مَسْتُورِ الْحَالِ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا الذُّكُورَةَ وَالْحُرِّيَّةَ، وَاعْتَبَرُوا الْإِعْلَامَ بِالرُّؤْيَةِ مِنْ قَبِيلِ الْإِخْبَارِ.
وَتَتِمُّ الشَّهَادَةُ عِنْدَهُمْ فِي الْمِصْرِ أَمَامَ الْقَاضِي، وَفِي الْقَرْيَةِ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ وَلَمْ يَقْبَلِ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ صَامَ، فَلَوْ أَفْطَرَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ.
وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أَبْصَرْتُ الْهِلَالَ اللَّيْلَةَ، قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: يَا بِلَالُ أَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا».
وَتَقَدَّمَ فِي تَرَائِي الْهِلَالِ حَدِيثُ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَفِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَصَامَ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالصِّيَامِ».
وَبِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ مِنَ الرِّوَايَةِ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ؛ لِأَنَّهُ يُلْزِمُ الْمُخْبَرَ بِالصَّوْمِ، وَمَضْمُونُ الشَّهَادَةِ لَا يُلْزِمُ الشَّاهِدَ بِشَيْءٍ، وَالْعَدَدُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الرِّوَايَةِ فَأَمْكَنَ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ بِالشُّرُوطِ الْوَاجِبِ تَوَفُّرُهَا فِي الرَّاوِي لِخَبَرٍ دِينِيٍّ، وَهِيَ: الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْعَدَالَةُ.
وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْمَالِكِيَّةُ رُؤْيَةَ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ فِي إِثْبَاتِ الْهِلَالِ، وَلَمْ يُوجِبُوا الصَّوْمَ بِمُقْتَضَاهَا عَلَى الْجَمَاعَةِ وَأَلْزَمُوا مَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ بِإِعْلَامِ الْإِمَامِ بِرُؤْيَتِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ رَأَى أَوْ عَلِمَ فَتَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا، وَأَوْجَبُوا عَلَى الرَّائِي الْمُنْفَرِدِ الصِّيَامَ، وَلَوْ رَدَّ الْإِمَامُ شَهَادَتَهُ فَإِنْ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ.وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ، فَقَالَ: إِنِّي جَالَسْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَسَأَلْتُهُمْ وَأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ حَدَّثُونِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا ثَلَاثِينَ فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا».
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ قَبُولُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الرُّؤْيَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ مَنْ يَعْتَنِي بِأَمْرِ الْهِلَالِ.
وَقَبِلَ بَعْضُهُمْ رُؤْيَةَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ وَالْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ إِذَا أُرِيدَ مِنَ الشَّهْرِ مَعْرِفَةُ عِلْمِ التَّارِيخِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ حُلُولُ دَيْنٍ أَوْ إِكْمَالُ عِدَّةٍ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ شَاهِدَيْنِ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَبُولُ رُؤْيَةِ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ وَإِلْزَامُ الْجَمِيعِ الصِّيَامَ بِمُقْتَضَاهَا احْتِيَاطًا لِلْفَرْضِ، وَلَمْ يَقْبَلُوهَا مِنَ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِالرُّؤْيَةِ عِنْدَهُمْ مِنْ قَبِيلِ الشَّهَادَةِ، وَاسْتَدَلُّوا «بِقَبُولِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِخْبَارَ ابْنِ عُمَرَ وَحْدَهُ بِهِلَالِ رَمَضَانَ»، وَقَبُولِهِ أَيْضًا إِخْبَارَ أَعْرَابِيٍّ بِذَلِكَ وَأَوْجَبُوا عَلَى الرَّائِي الصَّوْمَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا.
وَقَبِلَ الْحَنَابِلَةُ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ رُؤْيَةَ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا الذُّكُورَةَ وَالْحُرِّيَّةَ وَرَفَضُوا شَهَادَةَ مَسْتُورِ الْحَالِ فِي الصَّحْوِ وَالْغَيْمِ، وَمُسْتَنَدُهُمْ قَبُولُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- خَبَرَ الْأَعْرَابِيِّ.وَلَمْ يَقْبَلُوا فِي بَقِيَّةِ الشُّهُورِ إِلاَّ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ عَلَى مَا سَيَأْتِي.
رُؤْيَةُ هِلَالِ شَوَّالٍ وَبَقِيَّةِ الشُّهُورِ:
6- اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى اشْتِرَاطِ رُؤْيَةِ عَدْلَيْنِ فِي هِلَالِ شَوَّالٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التَّفْصِيلَاتِ.
فَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ لِإِثْبَاتِ هِلَالِ شَوَّالٍ فِي حَالَةِ الصَّحْوِ أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ جَمَاعَةً يَحْصُلُ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي بِخَبَرِهِمْ كَمَا فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، وَلَمْ يَقْبَلُوا فِي حَالِ الْغَيْمِ إِلاَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَيْنِ حُرَّيْنِ عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ غَيْرَ مَحْدُودَيْنِ فِي قَذْفٍ، وَإِنْ تَابَا كَمَا فِي الشَّهَادَةِ فِي الْحُقُوقِ وَالْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِهِلَالِ شَوَّالٍ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ.وَفِيهِ نَفْعٌ لِلْمُخْبِرِ، وَهُوَ إسْقَاطُ الصَّوْمِ عَنْهُ فَكَانَ مُتَّهَمًا فَاشْتُرِطَ فِيهِ الْعَدَدُ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ بِخِلَافِ هِلَالِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِيهِ.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ فِي هِلَالِ شَوَّالٍ الرُّؤْيَةَ الْمُسْتَفِيضَةَ أَوْ شَهَادَةَ عَدْلَيْنِ مِمَّنْ يَشْهَدُونَ فِي الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ.وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ مَنْ رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ وَحْدَهُ لَا يُفْطِرُ، خَوْفًا مِنَ التُّهْمَةِ وَسَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، وَإِنْ أَفْطَرَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ عُثِرَ عَلَيْهِ عُوقِبَ إِنِ اتُّهِمَ.
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي ثُبُوتِ هِلَالِ شَوَّالٍ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ حُرَّيْنِ عَدْلَيْنِ احْتِيَاطًا لِلْفَرْضِ، وَأَبَاحَ الشَّافِعِيَّةُ الْفِطْرَ سِرًّا لِمَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ أَظْهَرَهُ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتُّهْمَةِ وَالْعُقُوبَةِ، وَمَنَعَ الْحَنَابِلَةُ الْفِطْرَ لِمَنْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْفِطْرُ سِرًّا لِأَنَّهُ تَيَقَّنَهُ يَوْمَ عِيدٍ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ صَوْمِهِ.
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَفِيَّةُ فِي حَالَةِ الصَّحْوِ بَيْنَ أَهِلَّةِ رَمَضَانَ وَشَوَّالٍ وَذِي الْحِجَّةِ وَاشْتَرَطُوا فِي الثَّلَاثَةِ رُؤْيَةَ جَمْعٍ يَثْبُتُ بِهِ الْعِلْمُ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهَا فِي حَالَةِ الْغَيْمِ فَاكْتَفَوْا فِي ثُبُوتِ هِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ بِشَهَادَةِ عَدْلٍ وَاحِدٍ.وَاشْتَرَطَ الْكَرْخِيُّ مِنْهُمْ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ كَمَا فِي هِلَالِ شَوَّالٍ لِأَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمُ وُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ فَيَجِبُ فِيهَا الْعَدَدُ.
وَرَدَّ عَلَيْهِ الْكَاسَانِيُّ بِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ هِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ لَا الشَّهَادَةِ لِوُجُوبِ الْأُضْحِيَّةِ عَلَى الشَّاهِدِ وَغَيْرِهِ، فَلَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ.
وَأَوْجَبَ الْمَالِكِيَّةُ شَهَادَةَ عَدْلَيْنِ، فَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَوْسِمِ بِأَنَّهُ يُقَامُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ إِذَا كَانَا عَدْلَيْنِ.
وَسَوَّى الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ شَوَّالٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ فَاشْتَرَطُوا رُؤْيَةَ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا».
رُؤْيَةُ الْهِلَالِ نَهَارًا:
7- وَرَدَتْ عَنْ صَحَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نُقُولٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي حُكْمِ رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ نَهَارًا، وَهَلْ هُوَ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ أَوِ الْمُقْبِلَةِ؟ فَعَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ، وَرِوَايَةٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنهم- التَّفْرِيقُ بَيْنَ الرُّؤْيَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ.فَإِنْ كَانَتْ قَبْلَ الزَّوَالِ فَالْهِلَالُ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ الزَّوَالِ، فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى هَذَا الرَّأْيِ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْهِلَالَ لَا يُرَى قَبْلَ الزَّوَالِ عَادَةً إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لِلَيْلَتَيْنِ، وَهَذَا يُوجِبُ كَوْنَ الْيَوْمِ مِنْ رَمَضَانَ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، وَكَوْنَهُ يَوْمَ الْفِطْرِ فِي هِلَالِ شَوَّالٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَفِي نَقْلٍ عَنِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رُؤْيَةَ الْهِلَالِ يَوْمَ الشَّكِّ هِيَ لِلَّيْلَةِ الْمُقْبِلَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ قَبْلَ الزَّوَالِ أَمْ بَعْدَهُ.
وَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ الْأَهِلَّةَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ نَهَارًا فَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تُمْسُوا إِلاَّ أَنْ يَشْهَدَ رَجُلَانِ مُسْلِمَانِ أَنَّهُمَا أَهَلاَّهُ بِالْأَمْسِ عَشِيَّةً.
وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ نَاسًا رَأَوْا هِلَالَ الْفِطْرِ نَهَارًا، فَأَتَمَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ صِيَامَهُ إِلَى اللَّيْلِ، وَقَالَ: لَا، حَتَّى يُرَى مِنْ حَيْثُ يُرَى بِاللَّيْلِ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «...إِنَّمَا مَجْرَاهُ فِي السَّمَاءِ، وَلَعَلَّهُ أَبْيَنُ سَاعَتَئِذٍ، وَإِنَّمَا الْفِطْرُ مِنَ الْغَدِ فِي يَوْمِ يُرَى الْهِلَالُ».
وَنُسِبَ هَذَا الرَّأْيُ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا النَّقْلُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَيَكُونُ رِوَايَةً ثَانِيَةً عَنْهُ تُخَالِفُ مَا نُقِلَ عَنْهُ مِنَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الرُّؤْيَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ.
وَقَدْ رَفَضَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ التَّفْرِيقَ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ وَشَوَّالٍ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُمَا أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَلَا بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ لِرُؤْيَتِهِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ.
وَعَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ «مَنْ رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ نَهَارًا فَلَا يُفْطِرُ، وَيُتِمُّ صِيَامَ يَوْمِهِ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا هُوَ هِلَالُ اللَّيْلَةِ الَّتِي تَأْتِي».
وَهُوَ فِي هَذَا النَّقْلِ عَنْهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الرُّؤْيَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ، وَاعْتَبَرَ الْهِلَالَ الَّذِي رُئِيَ نَهَارًا لِلَّيْلَةِ الْقَادِمَةِ، وَذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ إِلَى التَّفْرِيقِ، وَنَسَبَهُ إِلَى مَالِكٍ، قَالَ: «فَإِنْ رُئِيَ الْهِلَالُ قَبْلَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ فَيُمْسِكُونَ إِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي شَعْبَانَ وَيُفْطِرُونَ إِنْ وَقَعَ فِي رَمَضَانَ وَيُصَلُّونَ الْعِيدَ، وَإِذَا رُئِيَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلْقَادِمَةِ سَوَاءٌ أَصَلَّيْتَ الظُّهْرَ أَمْ لَمْ تُصَلِّ».
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ رُئِيَ الْهِلَالُ بِالنَّهَارِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ لِمَا رَوَى سُفْيَانُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- وَنَحْنُ بِخَانِقِينَ: إِنَّ الْأَهِلَّةَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ نَهَارًا فَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى يَشْهَدَ رَجُلَانِ مُسْلِمَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ بِالْأَمْسِ.
وَنَبَّهَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْهِلَالَ لَا يُرَى يَوْمَ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ قَبْلَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّهُ أَهَّلَ سَاعَتَئِذٍ، وَلِأَنَّ الشَّهْرَ لَا يَكُونُ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ فَتَحَدَّدَ مَجَالُ رُؤْيَتِهِ فِي الْيَوْمِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ بَعْدَ الزَّوَالِ أَوْ فِي يَوْمِ ثَلَاثِينَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ، فَإِذَا رُئِيَ يَوْمَ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَمْ يُرَ لَيْلًا، فَالظَّاهِرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَثْبُتُ بِالرُّؤْيَةِ النَّهَارِيَّةِ، وَعَارَضَ ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: لَا يَكْفِي ذَلِكَ عَنْ رُؤْيَتِهِ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ، وَأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِرُؤْيَتِهِ نَهَارًا.
وَأَمَّا رُؤْيَتُهُ نَهَارًا يَوْمَ ثَلَاثِينَ فَلَا يُبْحَثُ مَعَهَا عَنْ رُؤْيَتِهِ لَيْلًا لِإِكْمَالِ الْعِدَّةِ.
ثَانِيًا: إِكْمَالُ الشَّهْرِ ثَلَاثِينَ:
8- يَكُونُ الشَّهْرُ الْقَمَرِيُّ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِحَدِيثِ: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا» يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «لَمَا صُمْنَا مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- تِسْعًا وَعِشْرِينَ أَكْثَرُ مِمَّا صُمْنَا ثَلَاثِينَ».
وَإِذَا لَمْ يُرَ الْهِلَالُ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ أَوْ رَمَضَانَ أَوْ ذِي الْقَعْدَةِ أَكْمَلَ الشَّهْرَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا حَسَبَ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ».
وَفَرَّقَ الْحَنَابِلَةُ بَيْنَ حَالَةِ الصَّحْوِ وَحَالَةِ الْغَيْمِ فَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ وُجُوبُ صِيَامِ يَوْمِ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ إِنْ حَالَ دُونَ مَطْلَعِهِ غَيْمٌ أَوْ قَتَرٌ وَنَحْوُهُمَا بِنِيَّةِ رَمَضَانَ احْتِيَاطًا لَا يَقِينًا وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُسَمَّى صِيَامَ يَوْمِ الشَّكِّ وَتَفْصِيلُهَا فِي: (صَوْمٌ).
فَإِنْ تَبَيَّنَ فِي نِهَايَةِ رَمَضَانَ أَنَّ شَعْبَانَ نَاقِصٌ وَجَبَ قَضَاءُ الْيَوْمِ الَّذِي غُمَّ فِيهِ الْهِلَالُ.
تَوَالِي الْغَيْمِ:
9- عِنْدَ تَوَالِي الْغَيْمِ فِي نِهَايَةِ الشُّهُورِ الْقَمَرِيَّةِ تُكْمَلُ ثَلَاثِينَ ثَلَاثِينَ عَمَلًا بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ».
وَيَقَعُ قَضَاءُ مَا ثَبَتَ إِفْطَارُهُ، فَإِذَا حَصَلَ الْغَيْمُ فِي شَهْرٍ أَوْ أَكْثَرَ قَبْلَ رَمَضَانَ فَكَمُلَتْ، ثُمَّ رُئِيَ هِلَالُ شَوَّالٍ لَيْلَةَ ثَلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَلَا قَضَاءَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَمَضَانُ نَاقِصًا، وَإِنْ رُئِيَ لَيْلَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ وَجَبَ قَضَاءُ يَوْمٍ، وَإِنْ رُئِيَ لَيْلَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَجَبَ قَضَاءُ يَوْمَيْنِ، وَإِنْ رُئِيَ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ تَمَّ قَضَاءُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.
وَإِنَّ مَا أَجْرَى اللَّهُ بِهِ الْعَادَةَ أَنْ لَا تَتَوَالَى أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ نَاقِصَةٌ وَلَا كَامِلَةٌ، وَمِنَ النَّادِرِ تَوَالِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ نَاقِصَةٍ أَوْ كَامِلَةٍ أَيْضًا.
قَالَ الْحَطَّابُ: فَإِنْ تَوَالَى الْكَمَالُ فِي شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ عُمِلَ عَلَى أَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ نَاقِصٌ فَأَصْبَحَ النَّاسُ صِيَامًا، وَإِنْ تَوَالَتْ نَاقِصَةً عُمِلَ عَلَى أَنَّ رَمَضَانَ كَامِلٌ فَأَصْبَحَ النَّاسُ مُفْطِرِينَ وَإِنْ لَمْ يَتَوَالَ قَبْلَ هَذَا الشَّهْرِ الَّذِي غُمَّ الْهِلَالُ فِي آخِرِهِ شَهْرَانِ فَأَكْثَرُ كَامِلَةٌ وَلَا نَاقِصَةٌ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّهْرُ نَاقِصًا أَوْ كَامِلًا احْتِمَالًا وَاحِدًا يُوجِبُ أَنْ يَكْمُلَ ثَلَاثِينَ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ.ثُمَّ قَالَ: هَذَا فِي الصَّوْمِ، أَمَّا فِي الْفِطْرِ إِذَا غُمَّ هِلَالُ شَوَّالٍ فَلَا يُفْطِرُ بِالتَّقْدِيرِ الَّذِي يَغْلِبُ فِيهِ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ رَمَضَانَ نَاقِصٌ.
وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى نَصٍّ لِلْفُقَهَاءِ فِي شَأْنِ الْبِلَادِ الَّتِي يَسْتَقِرُّ الْغَيْمُ أَوِ الضَّبَابُ فِي سَمَائِهَا.
صَوْمُ مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْأَشْهُرُ:
10- مَنْ كَانَ مِنَ النَّاسِ فِي مَكَانٍ لَا تَصِلُهُ فِيهِ أَخْبَارُ رَمَضَانَ، كَالسَّجِينِ وَالْأَسِيرِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَاشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْأَشْهُرُ، وَلَمْ يَعْرِفْ مَوْعِدَ رَمَضَانَ، يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ لِمَعْرِفَتِهِ فَإِنِ اجْتَهَدَ وَتَحَرَّى وَوَافَقَ صِيَامُهُ شَهْرَ رَمَضَانَ أَوْ مَا بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي صَامَهُ نَاقِصًا، وَرَمَضَانُ كَامِلًا قَضَى النَّقْصَ، وَإِنْ صَامَ شَهْرًا قَبْلَ رَمَضَانَ لَمْ يَكْفِهِ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَصِحُّ قَبْلَ وَقْتِهَا، فَلَوْ وَافَقَ بَعْضَهُ فَمَا وَافَقَهُ أَوْ بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ دُونَ مَا قَبْلَهُ، وَإِنْ صَامَ بِلَا اجْتِهَادٍ لَمْ يُجْزِهِ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الِاجْتِهَادِ.
ثَالِثًا: إِثْبَاتُ الْأَهِلَّةِ بِالْحِسَابِ الْفَلَكِيِّ:
11- وَقَعَ الْخَوْضُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُنْذُ أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الْهِجْرِيِّ الْأَوَّلِ، فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهَا أَحَدُ التَّابِعِينَ وَبُحِثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ لَدُنْ فُقَهَائِنَا السَّابِقِينَ بِالْقَدْرِ الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ.
وَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ بَحْثِهَا وُجُودُ لَفْظَةٍ مُشْكِلَةٍ فِي حَدِيثٍ ثَابِتٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- اخْتَلَفَ الشُّرَّاحُ فِي الْمُرَادِ مِنْهَا، وَاسْتَدَلَّ بِهَا الْقَائِلُونَ بِالْحِسَابِ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ.
وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ مِنْ إيرَادِ الْحَدِيثِ بِلَفْظِهِ، وَإِتْبَاعِهِ بِتَفْسِيرِ الَّذِينَ اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى جَوَازِ اعْتِمَادِ الْحِسَابِ فِي إِثْبَاتِ الْهِلَالِ، ثُمَّ آرَاءِ الَّذِينَ فَهِمُوا مِنْهُ خِلَافَ فَهْمِهِمْ.عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ: «لَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلَالَ، وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ».
عَلَّقَ الْحَدِيثُ بِدَايَةَ صِيَامِ رَمَضَانَ وَالشُّرُوعِ فِي الْإِفْطَارِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَأَمَرَ عِنْدَ تَعَذُّرِهَا فِي حَالَةِ الْغَيْمِ بِالتَّقْدِيرِ، فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ»، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ.
رَأْيُ الْقَائِلِينَ بِالْحِسَابِ:
12- تَضَمَّنَ هَذَا الرَّأْيُ الْقَوْلَ بِتَقْدِيرِ الْهِلَالِ بِالْحِسَابِ الْفَلَكِيِّ وَنُسِبَ إِلَى مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ مِنَ التَّابِعِينَ وَأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ قُتَيْبَةَ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَصِحُّ عَنْ مُطَرِّفٍ، وَنَفَى نِسْبَةَ مَا عُرِفَ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ إِلَى الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عَنْهُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ.
وَنَقَلَ ابْنُ رُشْدٍ عَنْ مُطَرِّفٍ قَوْلَهُ: «يُعْتَبَرُ الْهِلَالُ إِذَا غُمَّ بِالنُّجُومِ وَمَنَازِلِ الْقَمَرِ وَطَرِيقِ الْحِسَابِ، قَالَ: وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي رِوَايَةٍ، وَالْمَعْرُوفُ لَهُ الْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُصَامُ إِلاَّ بِرُؤْيَةٍ فَاشِيَةٍ أَوْ شَهَادَةٍ عَادِلَةٍ كَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ».
وَعَنْ مُطَرِّفٍ أَيْضًا أَنَّ الْعَارِفَ بِالْحِسَابِ يَعْمَلُ بِهِ فِي نَفْسِهِ.
أَمَّا ابْنُ سُرَيْجٍ فَاعْتَبَرَ قَوْلَهُ- صلى الله عليه وسلم-: «فَاقْدُرُوا لَهُ»: خِطَابًا لِمَنْ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِ الْحِسَابِ، وَقَوْلَهُ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ» خِطَابًا لِلْعَامَّةِ.
وَبَيَّنَ ابْنُ الصَّلَاحِ مَا قَصَدَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِالْحِسَابِ فَقَالَ: «مَعْرِفَةُ مَنَازِلِ الْقَمَرِ هِيَ مَعْرِفَةُ سَيْرِ الْأَهِلَّةِ، وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْحِسَابِ فَأَمْرٌ دَقِيقٌ يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الْآحَادُ.فَمَعْرِفَةُ مَنَازِلِ الْقَمَرِ تُدْرَكُ بِأَمْرٍ مَحْسُوسٍ يُدْرِكُهُ مَنْ يُرَاقِبُ النُّجُومَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَقَالَ بِهِ فِي حَقِّ الْعَارِفِ بِهَا فِيمَا يَخُصُّهُ».
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ فِي حُكْمِ صِيَامِ الْعَارِفِ بِالْحِسَابِ عِنْدَ ثُبُوتِ الْهِلَالِ عِنْدَهُ، فَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَالَ بِجَوَازِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ لُزُومُ الصِّيَامِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ.
وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلُ: لَا بَأْسَ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى قَوْلِ الْمُنَجِّمِينَ.
وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: «إِذَا دَلَّ الْحِسَابُ عَلَى أَنَّ الْهِلَالَ قَدْ طَلَعَ مِنَ الْأُفُقِ عَلَى وَجْهٍ يُرَى لَوْلَا وُجُودُ الْمَانِعِ كَالْغَيْمِ مَثَلًا، فَهَذَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ لِوُجُودِ السَّبَبِ الشَّرْعِيِّ، وَلَيْسَ حَقِيقَةُ الرُّؤْيَةِ مَشْرُوطَةً فِي اللُّزُومِ، فَإِنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْمَحْبُوسَ فِي الْمَطْمُورَةِ إِذَا عَلِمَ بِإِتْمَامِ الْعِدَّةِ أَوْ بِالِاجْتِهَادِ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ».
آرَاءُ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ إِثْبَاتِ الْأَهِلَّةِ بِالْحِسَابِ وَأَدِلَّتُهُمْ:
13- الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ الْحَنَفِيِّ أَنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الصَّوْمِ وَالْإِفْطَارِ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ، وَأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ الْمُؤَقِّتِينَ وَلَوْ عُدُولًا، وَمَنْ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِمْ فَقَدْ خَالَفَ الشَّرْعَ، وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُجْتَهَدَ فِي ذَلِكَ، وَيُعْمَلَ بِقَوْلِ أَهْلِ الْحِسَابِ.
وَمَنَعَ مَالِكٌ مِنَ اعْتِمَادِ الْحِسَابِ فِي إِثْبَاتِ الْهِلَالِ، فَقَالَ: «إِنَّ الْإِمَامَ الَّذِي يَعْتَمِدُ عَلَى الْحِسَابِ لَا يُقْتَدَى بِهِ، وَلَا يُتَّبَعُ».
وَبَيَّنَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ حُكْمَ صِيَامِ مَنِ اعْتَمَدَ الْحِسَابَ فَقَالَ: «فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ فَالَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِمَا صَامَ مِنْهُ عَلَى الْحِسَابِ وَيَرْجِعُ إِلَى الرُّؤْيَةِ وَإِكْمَالِ الْعَدَدِ، فَإِنِ اقْتَضَى ذَلِكَ قَضَاءَ شَيْءٍ مِنْ صَوْمِهِ قَضَاهُ».
وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ قَوْلًا آخَرَ لِلْمَالِكِيَّةِ بِجَوَازِ اعْتِمَادِ الْحِسَابِ فِي إِثْبَاتِ الْأَهْلِيَّةِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ: «لَا يَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ إِلاَّ بِدُخُولِهِ، وَيُعْلَمُ دُخُولُهُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَإِنْ غُمَّ وَجَبَ اسْتِكْمَالُ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ، ثُمَّ يَصُومُونَ سَوَاءٌ كَانَتِ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً أَوْ مُغَيِّمَةً غَيْمًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا».وَفِي هَذَا حَصْرُ طُرُقِ إِثْبَاتِ هِلَالِ رَمَضَانَ فِي الرُّؤْيَةِ وَإِكْمَالِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ، وَفِي هَذَا الْحَصْرِ نَفْيٌ لِاعْتِمَادِ الْحِسَابِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِرَفْضِهِ؛ لِأَنَّهُ حَدْسٌ وَتَخْمِينٌ وَرَأَى اعْتِبَارَهُ فِي الْقِبْلَةِ وَالْوَقْتِ.
نَقَلَ الْقَلْيُوبِيُّ عَنِ الْعَبَّادِيِّ قَوْلَهُ: إِذَا دَلَّ الْحِسَابُ الْقَطْعِيُّ عَلَى عَدَمِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْعُدُولِ بِرُؤْيَتِهِ، وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ.ثُمَّ قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ، وَلَا يَجُوزُ الصَّوْمُ حِينَئِذٍ وَمُخَالَفَةُ ذَلِكَ مُعَانَدَةٌ وَمُكَابَرَةٌ.
وَلَا يَعْتَمِدُ الْحَنَابِلَةُ الْحِسَابَ الْفَلَكِيَّ فِي إِثْبَاتِ هِلَالِ رَمَضَانَ، وَلَوْ كَثُرَتْ إِصَابَتُهُ.
أَدِلَّةُ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ إِثْبَاتِ الْأَهِلَّةِ بِالْحِسَابِ:
اسْتَدَلَّ الْمَانِعُونَ بِالْحَدِيثِ نَفْسِهِ الَّذِي اسْتَدَلَّ الْمُثْبِتُونَ بِهِ فَفَسَّرُوهُ بِغَيْرِ الْمُرَادِ مِنْهُ.
أَوَّلًا: تَفْسِيرُ الْحَدِيثِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى التَّقْدِيرِ بِمَا يَنْقُضُ مَفْهُومَ التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَائِلُونَ بِالْحِسَابِ.
فَسَّرَ الْأَئِمَّةُ الْأَجِلَّةُ قَوْلَهُ- صلى الله عليه وسلم-: «فَاقْدُرُوا لَهُ» بِتَفْسِيرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: حَمْلُ التَّقْدِيرِ عَلَى إِتْمَامِ الشَّهْرِ ثَلَاثِينَ.
الثَّانِي: تَفْسِيرٌ بِمَعْنَى تَضْيِيقِ عَدَدِ أَيَّامِ الشَّهْرِ.
التَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ:
جَاءَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ يُصْبِحُ مُفْطِرًا إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ صَاحِيَةً وَصَائِمًا إِذَا كَانَتْ مُغَيِّمَةً لِأَنَّهُ يَتَأَوَّلُ قَوْلَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ إِتْمَامُ الشَّهْرِ ثَلَاثِينَ.
وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، فَحَمَلُوا عِبَارَةَ: «فَاقْدُرُوا لَهُ» عَلَى تَمَامِ الْعَدَدِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا.
وَالْبُخَارِيُّ أَتْبَعَ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ هُنَا بِرِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ جَاءَ فِيهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ».وَأَتْبَعَهُ فِي نَفْسِ الْبَابِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَوْ قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ- صلى الله عليه وسلم-: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ».
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَصَدَ (الْبُخَارِيُّ) بِذَلِكَ بَيَانَ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ «فَاقْدُرُوا لَهُ»،، وَأَيَّدَ ابْنُ رُشْدٍ تَفْسِيرَ الْبُخَارِيِّ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ التَّقْدِيرَ يَكُونُ بِمَعْنَى التَّمَامِ، وَدَعَّمَ رَأْيَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} أَيْ تَمَامًا.
التَّفْسِيرُ الثَّانِي بِمَعْنَى تَضْيِيقِ عَدَدِ أَيَّامِ الشَّهْرِ:
فَسَّرَ الْقَائِلُونَ بِهِ «اقْدُرُوا لَهُ» بِمَعْنَى ضَيِّقُوا لَهُ الْعَدَدَ مِنْ قوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} وَالتَّضْيِيقُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ شَعْبَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا.وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الرَّأْيِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يُجَوِّزُ صَوْمَ يَوْمِ الشَّكِّ إِنْ كَانَتِ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسِبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا» يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً ثَلَاثِينَ.
بَيَّنَ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ الْمَنْفِيَّ عَنْهُمُ الْكِتَابُ وَالْحِسَابُ هُمْ أَغْلَبُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ تَحْدِيثِهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّبِيُّ نَفْسُهُ- عليه الصلاة والسلام-.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: «الْمُرَادُ بِالْحِسَابِ هُنَا حِسَابُ النُّجُومِ وَتَسْيِيرُهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ النَّزْرَ الْيَسِيرَ، فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِالصَّوْمِ وَغَيْرِهِ بِالرُّؤْيَةِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُمْ فِي مُعَانَاةِ حِسَابِ التَّسْيِيرِ، وَاسْتَمَرَّ الْحُكْمُ فِي الصَّوْمِ وَلَوْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ، بَلْ ظَاهِرُ السِّيَاقِ يُشْعِرُ بِنَفْيِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالْحِسَابِ أَصْلًا.وَيُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَاضِي «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ» وَلَمْ يَقُلْ فَسَلُوا أَهْلَ الْحِسَابِ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ كَوْنُ الْعَدَدِ عِنْدَ الْإِغْمَاءِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُكَلَّفُونَ فَيَرْتَفِعُ الِاخْتِلَافُ وَالنِّزَاعُ عَنْهُمْ».
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
78-موسوعة الفقه الكويتية (رائحة)
رَائِحَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الرَّائِحَةُ وَالرِّيحُ فِي اللُّغَةِ: النَّسِيمُ طَيِّبًا كَانَ أَوْ نَتِنًا.يُقَالُ: وَجَدْتُ رَائِحَةَ الشَّيْءِ وَرِيحَهُ.وَالرَّائِحَةُ عَرَضٌ يُدْرَكُ بِحَاسَّةِ الشَّمِّ.وَقِيلَ: لَا يُطْلَقُ اسْمُ الرِّيحِ إِلاَّ عَلَى الطَّيِّبِ جَاءَ فِي الْأَثَرِ: «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِالْإِثْمِدِ الْمُرَوَّحِ أَيِ الْمُطَيَّبِ عِنْدَ النَّوْمِ».
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
تَرِدُ كَلِمَةُ «رَائِحَةٌ» فِي كُتُبِ الْفِقْهِ فِي أَبْوَابٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَبِاخْتِلَافِ الْأَبْوَابِ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا.
أ- الرَّائِحَةُ فِي بَابِ الطَّهَارَةِ:
2- الْأَصْلُ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ وَإِزَالَةِ الْخَبَثِ أَنْ يَكُونَ بِالْمَاءِ قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}.
وَاشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لِطَهُورِيَّةِ الْمَاءِ بَقَاءَ أَوْصَافِهِ الْأَصْلِيَّةِ وَهِيَ: اللَّوْنُ وَالطَّعْمُ وَالرَّائِحَةُ.فَإِنْ تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ، كَرَائِحَتِهِ، بِشَيْءٍ خَالَطَهُ بِحَيْثُ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَاءِ عُرْفًا، بَلْ يُضَافُ إِلَيْهِ قَيْدٌ لَازِمٌ، كَمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ يَسْلُبُ عَنْهُ الطَّهُورِيَّةَ، فَيُصْبِحُ الْمَاءُ طَاهِرًا غَيْرَ مُطَهِّرٍ إِنْ كَانَ الْمُخَالِطُ الْمُغَيِّرُ طَاهِرًا، فَلَا يَرْفَعُ حَدَثًا وَلَا يُزِيلُ خَبَثًا وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا بِذَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَاءً مُطْلَقًا.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يَسْلُبُ الطَّهُورِيَّةَ عَنِ الْمَاءِ تَغَيُّرُ أَوْصَافِهِ إِنْ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ طَبْعُ الْمَاءِ.وَطَبْعُ الْمَاءِ: كَوْنُهُ سَيَّالًا مُرَطِّبًا مُسَكِّنًا لِلْعَطَشِ.
أَمَّا إِذَا حَصَلَ التَّغَيُّرُ بِمُجَاوِرٍ لِلْمَاءِ لَمْ يُخَالِطْهُ فَإِنَّهُ لَا يَسْلُبُ الطَّهُورِيَّةَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ تَرَوُّحٍ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (مِيَاهٌ).
ب- رَائِحَةُ الطِّيبِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ:
3- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يُحْظَرُ عَلَى الْمُحْرِمِ اسْتِعْمَالُ مَا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ وَيُقْصَدُ بِهِ رَائِحَتُهُ كَالْمِسْكِ وَالْعُودِ وَنَحْوِهِمَا، أَمَّا مَا لَا تُقْصَدُ رَائِحَتُهُ، كَالتُّفَّاحِ وَالْأُتْرُجِّ فَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ اسْتِعْمَالُهُ، وَإِنْ كَانَتْ رَائِحَتُهُ طَيِّبَةً.وَانْظُرْ (إِحْرَامٌ).
ج- الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ وَالرَّائِحَةُ الْكَرِيهَةُ فِي الْمَسَاجِدِ:
4- يُسْتَحَبُّ تَطْيِيبُ الْمَسَاجِدِ، وَيُصَانُ الْمَسْجِدُ عَنِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ مِنْ ثُومٍ أَوْ بَصَلٍ وَنَحْوِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ، كَمَا يُكْرَهُ لِمَنْ أَكَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ دُخُولُ الْمَسَاجِدِ وَيُرَخَّصُ لَهُ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَمِثْلُهُ مَنْ لَهُ صُنَانٌ أَوْ بَخَرٌ.وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ إِخْرَاجِ مَنْ بِهِ ذَلِكَ إِزَالَةً لِلْأَذَى؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَخْرَجَ أَذًى مِنَ الْمَسْجِدِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ»،، وَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْنَا- أَوْ قَالَ: فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا».
وَقَالَ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ يَعْنِي الثُّومَ فَلَا يَقْرَبْنَا فِي الْمَسْجِدِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَلَا يَقْرَبْ مُصَلاَّنَا».
وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِخْرَاجُ الرِّيحِ فِي الْمَسْجِدِ بِجَامِعِ الْإِيذَاءِ بِالرَّائِحَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ لِخَبَرِ: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ».
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِ ذَلِكَ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ يُنَزَّهُ عَنِ النَّجَاسَةِ الْعَيْنِيَّةِ.وَانْظُرْ: (مَسَاجِدُ).
د- التَّلَفُ بِسَبَبِ الرَّائِحَةِ:
5- إِذَا اتَّخَذَ مِنْ دَارِهِ- بَيْنَ الدُّورِ الْمَسْكُونَةِ- مَعْمَلًا لَهُ رَائِحَةٌ مُؤْذِيَةٌ، فَشَمَّهُ أَطْفَالٌ أَوْ غَيْرُهُمْ فَمَاتُوا بِذَلِكَ ضَمِنَ صَاحِبُ الدَّارِ، لِمُخَالَفَتِهِ الْعَادَةَ.وَإِنْ قَلَى أَوْ شَوَى فِي دَارِهِ مَا يُسَبِّبُ إِجْهَاضَ الْحَامِلِ إِنْ لَمْ تَأْكُلْ مِنْهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُقَدِّمَ إِلَيْهَا مَا يَدْفَعُ عَنْهَا الْإِجْهَاضَ بِعِوَضٍ إِنْ كَانَتْ قَادِرَةً عَلَى الْعِوَضِ، وَإِلاَّ فَبِلَا عِوَضٍ، وَإِنْ لَمْ تَطْلُبْ مِنْهُ، فَإِنْ قَصَّرَ ضَمِنَ دِيَةَ الْجَنِينِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي بَابِ الدِّيَاتِ، وَمُصْطَلَحِ: (إِجْهَاضٌ، ف9).
هـ- ثُبُوتُ حَدِّ الشُّرْبِ بِوُجُودِ الرَّائِحَةِ:
6- لَا يَثْبُتُ حَدُّ الشُّرْبِ بِوُجُودِ رَائِحَةِ الْخَمْرِ فِي فَمِ الشَّارِبِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ: الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَهِيَ الْمَذْهَبُ.وَقَالُوا: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ بِالْخَمْرِ أَوْ حَسِبَهَا مَاءً فَلَمَّا صَارَتْ فِي فَمِهِ مَجَّهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُكْرَهًا، أَوْ شَرِبَ شَرَابَ التُّفَّاحِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْهُ كَرَائِحَةِ الْخَمْرِ، وَبِوُجُودِ الِاحْتِمَالِ لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَثْبُتُ حَدُّ الشُّرْبِ بِوُجُودِ الرَّائِحَةِ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَبِي طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَالُوا: إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ جَلَدَ رَجُلًا وَجَدَ مِنْهُ رَائِحَةَ الْخَمْرِ؛ وَلِأَنَّ الرَّائِحَةَ تَدُلُّ عَلَى شُرْبِهِ لِلْخَمْرِ، فَأُجْرِيَ مَجْرَى الْإِقْرَارِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي: (سُكْرٌ).
و- تَغَيُّرُ رَائِحَةِ لَحْمِ الْجَلاَّلَةِ أَوْ لَبَنِهَا:
7- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ أَكْلُ لَحْمِ الْجَلاَّلَةِ وَشُرْبُ لَبَنِهَا إِذَا تَغَيَّرَتْ رَائِحَتُهُمَا بِالنَّجَاسَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ بِالتَّحْرِيمِ.وَانْظُرْ: (أَطْعِمَةٌ، جَلاَّلَةٌ).
ز- مَنْعُ الزَّوْجَةِ مِنْ أَكْلِ مَا يَتَأَذَّى الزَّوْجُ مِنْ رَائِحَتِهِ:
8- لِلزَّوْجِ مَنْعُ زَوْجَتِهِ مِنْ تَنَاوُلِ مَا يَتَأَذَّى مِنْ رَائِحَتِهِ كَالثُّومِ، وَالْبَصَلِ وَنَحْوِهِمَا.
كَمَا لَهُ إِجْبَارُهَا عَلَى إِزَالَةِ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ مِنْ بَدَنِهَا، وَثَوْبِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ كَمَالَ الِاسْتِمْتَاعِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاحٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
79-موسوعة الفقه الكويتية (رشوة)
رِشْوَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الرِّشْوَةُ فِي اللُّغَةِ: مُثَلَّثَةُ الرَّاءِ: الْجُعْلُ، وَمَا يُعْطَى لِقَضَاءِ مَصْلَحَةٍ، وَجَمْعُهَا رُشًا وَرِشًا.
قَالَ الْفَيُّومِيُّ: الرِّشْوَةُ- بِالْكَسْرِ-: مَا يُعْطِيهِ الشَّخْصُ لِلْحَاكِمِ أَوْ غَيْرِهِ لِيَحْكُمَ لَهُ، أَوْ يَحْمِلَهُ عَلَى مَا يُرِيدُ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: الرِّشْوَةُ: الْوُصْلَةُ إِلَى الْحَاجَةِ بِالْمُصَانَعَةِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الرِّشَاءِ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْمَاءِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: الرِّشْوَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ رَشَا الْفَرْخُ إِذَا مَدَّ رَأْسَهُ إِلَى أُمِّهِ لِتَزُقَّهُ
- وَرَاشَاهُ: حَابَاهُ، وَصَانَعَهُ، وَظَاهَرَهُ
- وَارْتَشَى: أَخَذَ رِشْوَةً، وَيُقَالُ: ارْتَشَى مِنْهُ رِشْوَةً: أَيْ أَخَذَهَا- وَتَرَشَّاهُ: لَايَنَهُ، كَمَا يُصَانَعُ الْحَاكِمُ بِالرِّشْوَةِ
- وَاسْتَرْشَى: طَلَبَ رِشْوَةً
- وَالرَّاشِي: مَنْ يُعْطِي الَّذِي يُعِينُهُ عَلَى الْبَاطِلِ.
- وَالْمُرْتَشِي: الْآخِذُ
- وَالرَّائِشُ: الَّذِي يَسْعَى بَيْنَهُمَا يَسْتَزِيدُ لِهَذَا، وَيَسْتَنْقِصُ لِهَذَا.
وَقَدْ تُسَمَّى الرِّشْوَةُ الْبِرْطِيلَ وَجَمْعُهُ بَرَاطِيلُ.
قَالَ الْمُرْتَضَى الزَّبِيدِيُّ: وَاخْتَلَفُوا فِي الْبِرْطِيلِ بِمَعْنَى الرِّشْوَةِ، هَلْ هُوَ عَرَبِيٌّ أَوْ لَا؟.
وَفِي الْمَثَلِ: الْبَرَاطِيلُ تَنْصُرُ الْأَبَاطِيلَ.
وَالرِّشْوَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ: مَا يُعْطَى لِإِبْطَالِ حَقٍّ، أَوْ لِإِحْقَاقِ بَاطِلٍ.
وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ التَّعْرِيفِ اللُّغَوِيِّ، حَيْثُ قُيِّدَ بِمَا أُعْطِيَ لِإِحْقَاقِ الْبَاطِلِ، أَوْ إِبْطَالِ الْحَقِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْمُصَانَعَةُ:
2- الْمُصَانَعَةُ: أَنْ تَصْنَعَ لِغَيْرِكَ شَيْئًا لِيَصْنَعَ لَكَ آخَرَ مُقَابِلَهُ، وَكِنَايَةٌ عَنِ الرِّشْوَةِ، وَفِي الْمَثَلِ: مَنْ صَانَعَ بِالْمَالِ لَمْ يَحْتَشِمْ مِنْ طَلَبِ الْحَاجَةِ.
ب- السُّحْتُ- بِضَمِّ السِّينِ:
3- أَصْلُهُ مِنَ السَّحْتِ- بِفَتْحِ السِّينِ- وَهُوَ الْإِهْلَاكُ وَالِاسْتِئْصَالُ، وَالسُّحْتُ: الْحَرَامُ الَّذِي لَا يَحِلُّ كَسْبُهُ؛ لِأَنَّهُ يَسْحَتُ الْبَرَكَةَ أَيْ: يُذْهِبُهَا.
وَسُمِّيَتِ الرِّشْوَةُ سُحْتًا.وَقَدْ سَارَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى ذَلِكَ.
لَكِنَّ السُّحْتَ أَعَمُّ مِنَ الرِّشْوَةِ، لِأَنَّ السُّحْتَ كُلُّ حَرَامٍ لَا يَحِلُّ كَسْبُهُ.
ج- الْهَدِيَّةُ:
4- مَا أَتْحَفْتَ بِهِ غَيْرَكَ، أَوْ مَا بَعَثْتَ بِهِ لِلرَّجُلِ عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَامِ، وَالْجَمْعُ هَدَايَا وَهَدَاوَى- وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ-
يُقَالُ: أَهْدَيْتُ لَهُ وَإِلَيْهِ، وَفِي التَّنْزِيلِ {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ}.
قَالَ الرَّاغِبُ: وَالْهَدِيَّةُ مُخْتَصَّةٌ بِاللُّطْفِ، الَّذِي يُهْدِي بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ، وَالْمِهْدَى: الطَّبَقُ الَّذِي يُهْدَى عَلَيْهِ.
وَالْمِهْدَاءُ: مَنْ يُكْثِرُ إِهْدَاءَ الْهَدِيَّةِ.
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ الرِّشْوَةُ هِيَ: مَا يُعْطَى بَعْدَ الطَّلَبِ، وَالْهَدِيَّةُ قَبْلَهُ.
د- الْهِبَةُ:
5- الْهِبَةُ فِي اللُّغَةِ الْعَطِيَّةُ بِلَا عِوَضٍ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: الْهِبَةُ: الْعَطِيَّةُ الْخَالِيَةُ عَنِ الْأَعْوَاضِ وَالْأَغْرَاضِ، فَإِذَا كَثُرَتْ سُمِّيَ صَاحِبُهَا وَهَّابًا.
وَاتَّهَبْتُ الْهِبَةَ: قَبِلْتُهَا، وَاسْتَوْهَبْتُهَا: سَأَلْتُهَا، وَتَوَاهَبُوا: وَهَبَ بَعْضُهُمُ الْبَعْضَ.
وَاصْطِلَاحًا: إِذَا أُطْلِقَتْ هِيَ التَّبَرُّعُ بِمَالِهِ حَالَ الْحَيَاةِ بِلَا عِوَضٍ.وَقَدْ تَكُونُ بِعِوَضٍ فَتُسَمَّى هِبَةَ الثَّوَابِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الرِّشْوَةِ وَالْهِبَةِ، أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إِيصَالًا لِلنَّفْعِ إِلَى الْغَيْرِ، وَإِنْ كَانَ عَدَمُ الْعِوَضِ ظَاهِرًا فِي الْهِبَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ فِي الرِّشْوَةِ يَنْتَظِرُ النَّفْعَ، وَهُوَ عِوَضٌ.
و- الصَّدَقَةُ:
6- مَا يُخْرِجُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ كَالزَّكَاةِ، لَكِنِ الصَّدَقَةُ فِي الْأَصْلِ تُقَالُ لِلْمُتَطَوَّعِ بِهِ، وَالزَّكَاةُ لِلْوَاجِبِ، وَقَدْ يُسَمَّى الْوَاجِبُ صَدَقَةً، إِذَا تَحَرَّى صَاحِبُهَا الصِّدْقَ فِي فِعْلِهِ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْهَدِيَّةُ وَالْعَطِيَّةُ مَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَكُلُّهَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَاسْمُ الْعَطِيَّةِ شَامِلٌ لِجَمِيعِهَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّشْوَةِ وَالصَّدَقَةِ: أَنَّ الصَّدَقَةَ تُدْفَعُ طَلَبًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى، فِي حِينِ أَنَّ الرِّشْوَةَ تُدْفَعُ لِنَيْلِ غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ عَاجِلٍ.
أَحْكَامُ الرِّشْوَةِ:
7- الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ، وَرِشْوَةُ الْمَسْئُولِ عَنْ عَمَلٍ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ، وَهِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} قَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ الرِّشْوَةُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ» وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ «وَالرَّائِشَ».
وَيَحْرُمُ طَلَبُ الرِّشْوَةِ، وَبَذْلُهَا، وَقَبُولُهَا، كَمَا يَحْرُمُ عَمَلُ الْوَسِيطِ بَيْنَ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي.
غَيْرَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ- عِنْدَ الْجُمْهُورِ- أَنْ يَدْفَعَ رِشْوَةً لِلْحُصُولِ عَلَى حَقٍّ، أَوْ لِدَفْعِ ظُلْمٍ أَوْ ضَرَرٍ، وَيَكُونُ الْإِثْمُ عَلَى الْمُرْتَشِي دُونَ الرَّاشِي.
قَالَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ: لَا بَأْسَ أَنْ يَدْفَعَ الرَّجُلُ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ بِالرِّشْوَةِ.
وَفِي حَاشِيَةِ الرَّهُونِيِّ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ: إِذَا عَجَزْتَ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَاسْتَعَنْتَ عَلَى ذَلِكَ بِوَالٍ يَحْكُمُ بِغَيْرِ الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أَثِمَ دُونَكَ إِنْ كَانَ ذَلِكَ زَوْجَةً يُسْتَبَاحُ فَرْجُهَا، بَلْ يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْكَ؛ لِأَنَّ مَفْسَدَةَ الْوَالِي أَخَفُّ مِنْ مَفْسَدَةِ الزِّنَا وَالْغَصْبِ، وَكَذَلِكَ اسْتِعَانَتُكَ بِالْأَجْنَادِ يَأْثَمُونَ وَلَا تَأْثَمُ، وَكَذَلِكَ فِي غَصْبِ الدَّابَّةِ وَغَيْرِهَا، وَحُجَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّادِرَ مِنَ الْمُعِينِ عِصْيَانٌ لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ، وَالْجَحْدَ وَالْغَصْبَ عِصْيَانٌ وَمَفْسَدَةٌ، وَقَدْ جَوَّزَ الشَّارِعُ الِاسْتِعَانَةَ بِالْمَفْسَدَةِ- لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مَفْسَدَةٌ- عَلَى دَرْءِ مَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ مِنْهَا، كَفِدَاءِ الْأَسِيرِ، فَإِنَّ أَخْذَ الْكُفَّارِ لِمَالِنَا حَرَامٌ عَلَيْهِمْ، وَفِيهِ مَفْسَدَةُ إِضَاعَةِ الْمَالِ، فَمَا لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ أَوْلَى أَنْ يُجَوَّزَ.
فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ يَسِيرًا نَحْوَ كِسْرَةٍ وَتَمْرَةٍ، حُرِّمَتْ الِاسْتِعَانَةُ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِغَيْرِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَا يُبَاحُ بِالْيَسِيرِ.
وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْأَثَرِ بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ كَانَ بِالْحَبَشَةِ فَرَشَا بِدِينَارَيْنِ، حَتَّى خُلِّيَ سَبِيلُهُ.وَقَالَ: إِنَّ الْإِثْمَ عَلَى الْقَابِضِ دُونَ الدَّافِعِ.
وَعَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ: لَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَانِعَ الرَّجُلُ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ إِذَا خَافَ الظُّلْمَ.
أَقْسَامُ الرِّشْوَةِ:
8- قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الرِّشْوَةَ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ مِنْهَا:
أ- الرِّشْوَةُ عَلَى تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ وَالْإِمَارَةِ وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى الْآخِذِ وَالْمُعْطِي.
ب- ارْتِشَاءُ الْقَاضِي لِيَحْكُمَ، وَهُوَ كَذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى الْآخِذِ وَالْمُعْطِي، وَلَوْ كَانَ الْقَضَاءُ بِحَقٍّ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ.
ج- أَخْذُ الْمَالِ لِيُسَوِّيَ أَمْرَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ، دَفْعًا لِلضَّرَرِ أَوْ جَلْبًا لِلنَّفْعِ، وَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْآخِذِ فَقَطْ.
د- إِعْطَاءُ إِنْسَانٍ غَيْرِ مُوَظَّفٍ عِنْدَ الْقَاضِي أَوِ الْحَاكِمِ مَالًا لِيَقُومَ بِتَحْصِيلِ حَقِّهِ لَهُ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ دَفْعُ ذَلِكَ وَأَخْذُهُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَتْ مُعَاوَنَةُ الْإِنْسَانِ لِلْآخَرِ بِدُونِ مَالٍ وَاجِبَةً، فَأَخْذُ الْمَالِ مُقَابِلَ الْمُعَاوَنَةِ لَمْ يَكُنْ إِلاَّ بِمَثَابَةِ أُجْرَةٍ.
حُكْمُ الرِّشْوَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُرْتَشِي:
أ- الْإِمَامُ وَالْوُلَاةُ:
9- قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي كَرَاهِيَةِ الْهَدِيَّةِ إِلَى السُّلْطَانِ الْأَكْبَرِ، وَإِلَى الْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ وَجُبَاةِ الْأَمْوَالِ- وَيُقْصَدُ بِالْكَرَاهِيَةِ الْحُرْمَةُ-.
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ.
«وَكَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ» وَهَذَا مِنْ خَوَاصِّهِ، وَالنَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مَعْصُومٌ مِمَّا يُتَّقَى عَلَى غَيْرِهِ مِنْهَا، وَلَمَّا رَدَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْهَدِيَّةَ، قِيلَ لَهُ: كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَقْبَلُهَا، فَقَالَ: كَانَتْ لَهُ هَدِيَّةً، وَهِيَ لَنَا رِشْوَةٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ لِنُبُوَّتِهِ لَا لِوِلَايَتِهِ، وَنَحْنُ يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَيْنَا لِوِلَايَتِنَا.
يُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي (إِمَامَة فِقْرَة 28، 29).
ب- الْعُمَّالُ:
10- وَحُكْمُ الرِّشْوَةِ إِلَى الْعُمَّالِ (الْوُلَاةِ) كَحُكْمِ الرِّشْوَةِ إِلَى الْإِمَامِ- كَمَا مَرَّ فِي كَلَامِ ابْنِ حَبِيبٍ لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولٌ».وَلِحَدِيثِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ.
قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَعَزُّزَ الْأَمِيرِ وَمَنَعَتَهُ بِالْجُنْدِ وَبِالْمُسْلِمِينَ لَا بِنَفْسِهِ، فَكَانَتِ الْهَدِيَّةُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْزِلَةِ الْغَنِيمَةِ، فَإِذَا اسْتَبَدَّ بِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ خِيَانَةً، بِخِلَافِ هَدَايَا رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-؛ لِأَنَّ تَعَزُّزَهُ وَمَنَعَتَهُ كَانَتْ بِنَفْسِهِ لَا بِالْمُسْلِمِينَ، فَصَارَتِ الْهَدِيَّةُ لَهُ لَا لِلْمُسْلِمِينَ.
ج- الْقَاضِي:
11- وَالرِّشْوَةُ إِلَى الْقَاضِي حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ.
قَالَ الْجَصَّاصُ: وَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِ الرِّشَا عَلَى الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ السُّحْتِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَاتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي.
قَالَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ وَيَحْرُمُ قَبُولُهُ هَدِيَّةً، وَاسْتِعَارَتُهُ مِنْ غَيْرِهِ كَالْهَدِيَّةِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ كَالْأَعْيَانِ، وَمِثْلُهُ مَا لَوْ خَتَنَ وَلَدَهُ وَنَحْوُهُ فَأُهْدِيَ لَهُ، وَلَوْ قُلْنَا إِنَّهَا لِلْوَلَدِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إِلَى الرِّشْوَةِ، فَإِنْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَالْأَوْلَى أَنَّهُ كَالْهَدِيَّةِ، وَفِي الْفُنُونِ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ.
وَهَدِيَّةُ الْقَاضِي فِيهَا تَفْصِيلٌ تُنْظَرُ فِي (هَدِيَّة، قَضَاء).
د- الْمُفْتِي:
12- يَحْرُمُ عَلَى الْمُفْتِي قَبُولُ رِشْوَةٍ مِنْ أَحَدٍ لِيُفْتِيَهُ بِمَا يُرِيدُ، وَلَهُ قَبُولُ هَدِيَّةٍ.
قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: مَا أُهْدِيَ لِلْمُفْتِي، إِنْ كَانَ يَنْشَطُ لِلْفُتْيَا أُهْدِيَ لَهُ أَمْ لَا، فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا يَنْشَطُ إِذَا أُهْدِيَ لَهُ فَلَا يَأْخُذُهَا، وَهَذَا مَا لَمْ تَكُنْ خُصُومَةٌ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ لَا يَقْبَلَ الْهَدِيَّةَ مِنْ صَاحِبِ الْفُتْيَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَيْشُونٍ وَكَانَ يَجْعَلُ ذَلِكَ رِشْوَةً.
هـ- الْمُدَرِّسُ:
13- إِنْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ تَحَبُّبًا وَتَوَدُّدًا لِعِلْمِهِ وَصَلَاحِهِ فَلَا بَأْسَ بِقَبُولِهِ، وَإِنْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ لِيَقُومَ بِوَاجِبِهِ فَالْأَوْلَى عَدَمُ الْأَخْذِ.
و- الشَّاهِدُ:
14- وَيَحْرُمُ عَلَى الشَّاهِدِ أَخْذُ الرِّشْوَةِ.وَإِذَا أَخَذَهَا سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ.
وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي (شَهَادَة).
حُكْمُ الرِّشْوَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّاشِي:
أ- الْحَاجُّ:
15- لَا يَلْزَمُ الْحَجُّ مَعَ الْخَفَارَةِ وَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً؛ لِأَنَّهَا رِشْوَةٌ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَجُمْهُورِ الْحَنَابِلَةِ، وَقَالَ مَجْدُ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ وَحَفِيدُهُ تَقِيُّ الدِّينِ وَابْنُ قُدَامَةَ: يَلْزَمُهُ الْحَجُّ وَلَوْ كَانَ يَدْفَعُ خَفَارَةً إِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَلَهُمْ تَفْصِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيُكْرَهُ بَذْلُ الْمَالِ لِلرَّصْدِيِّينَ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْرِصُونَ عَلَى التَّعَرُّضِ لِلنَّاسِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَلَوْ وَجَدُوا مَنْ يَخْفِرُهُمْ بِأُجْرَةٍ، وَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَمْنُهُمْ بِهِ، فَفِي لُزُومِ اسْتِئْجَارِهِ وَجْهَانِ.قَالَ الْإِمَامُ: أَصَحُّهُمَا لُزُومُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُهَبِ الطَّرِيقِ كَالرَّاحِلَةِ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.
ب- صَاحِبُ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ:
16- يَجُوزُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ أَنْ يَرْشُوَ الْعَامِلَ الْقَابِضَ لِخَرَاجِهِ، وَيُهْدِيَ لَهُ لِدَفْعِ ظُلْمٍ فِي خَرَاجِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَوَصَّلُ بِذَلِكَ إِلَى كَفِّ الْيَدِ الْعَادِيَةِ عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْشُوَهُ أَوْ يُهْدِيَهُ لِيَدَعَ عَنْهُ خَرَاجًا؛ لِأَنَّهُ يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى إِبْطَالِ حَقٍّ.
ج- الْقَاضِي:
17- مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَرْشُوَ لِتَحْصِيلِ الْقَضَاءِ، وَمَنْ تَقَبَّلَ الْقَضَاءَ بِقِبَالَةٍ (عِوَضٍ)، وَأَعْطَى عَلَيْهِ الرِّشْوَةَ فَوِلَايَتُهُ بَاطِلَةٌ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ- رحمه الله-: لَوْ بَذَلَ مَالًا لِيَتَوَلَّى الْقَضَاءَ، فَقَدْ أَطْلَقَ ابْنُ الْقَاصِّ وَآخَرُونَ أَنَّهُ حَرَامٌ وَقَضَاؤُهُ مَرْدُودٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ ابْنِ نُجَيْمٍ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ: وَلَمْ أَرَ حُكْمَ مَا إِذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَمْ يُوَلَّ إِلاَّ بِمَالٍ هَلْ يَحِلُّ بَذْلُهُ؟ وَيَنْبَغِي أَنْ يَحِلَّ بَذْلُهُ لِلْمَالِ كَمَا يَحِلُّ طَلَبُ الْقَضَاءِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا تَعَيَّنَ عَلَى شَخْصٍ تَوَلِّي الْقَضَاءِ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوُجُوبِ بِسُؤَالِهِمْ أَنْ يُوَلُّوهُ، فَإِذَا مَنَعَهُ السُّلْطَانُ أَثِمَ بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ الْأَوْلَى وَوَلَّى غَيْرَهُ، فَيَكُونُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا مَنَعَهُ لَمْ يَبْقَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ دَفْعُ الرِّشْوَةِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ بَذْلُ الْمَالِ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي نَصْبِهِ قَاضِيًا، وَيَحْرُمُ أَخْذُ الْمَالِ عَلَى تَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ.
حُكْمُ الْقَاضِي:
18- اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّةِ حُكْمِ الْقَاضِي الْمُرْتَشِي، فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، وَكَذَلِكَ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ إِذَا تَوَلَّى الْقَضَاءَ بِرِشْوَةٍ.
وَلَكِنْ لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي حُكْمِ الْقَاضِي الْمُرْتَشِي.
قَالَ مُنْلَا خُسْرَوْ فِي بَيَانِ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ: إِذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِالرِّشْوَةِ سَوَاءٌ كَانَ حُكْمُهُ قَبْلَ أَخْذِهِ الرِّشْوَةَ أَوْ بَعْدَ أَخْذِ الرِّشْوَةِ فَفِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
1- فَعَلَى قَوْلٍ: أَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي صَحِيحٌ إِذَا كَانَ مُوَافِقًا لِلْمَسْأَلَةِ الشَّرْعِيَّةِ، سَوَاءٌ فِي الدَّعْوَى الَّتِي ارْتَشَى فِيهَا أَوِ الَّتِي لَمْ يَرْتَشِ فِيهَا، وَبِأَخْذِ الرِّشْوَةِ لَا يَبْطُلُ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ أَخْذِ الرِّشْوَةِ هُوَ فِسْقُ الْقَاضِي، وَبِمَا أَنَّ فِسْقَ الْقَاضِي لَا يُوجِبُ انْعِزَالَهُ فَوِلَايَةُ الْقَاضِي بَاقِيَةٌ، وَإِذَا كَانَ قَضَاؤُهُ بِحَقٍّ يَلْزَمُ نَفَاذُ قَضَائِهِ.
2- وَعَلَى قَوْلٍ آخَرَ: لَا يَنْفُذُ حُكْمُ الْقَاضِي فِي الدَّعْوَى الَّتِي ارْتَشَى فِيهَا، قَالَ قَاضِيخَانْ: إِنَّ الْقَاضِيَ لَوْ أَخَذَ رِشْوَةً وَحَكَمَ فَحُكْمُهُ غَيْرُ نَافِذٍ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُهُ بِحَقٍّ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَكُونُ قَدِ اسْتُؤْجِرَ لِلْحُكْمِ، وَالِاسْتِئْجَارُ لِلْحُكْمِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَاجِبٌ عَلَى الْقَاضِي.
3- وَعَلَى قَوْلٍ ثَالِثٍ: أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ حُكْمُ الْقَاضِي الْمُرْتَشِي فِي جَمِيعِ الدَّعَاوَى الَّتِي حَكَمَ فِيهَا.وَهَذَا قَوْلُ الْخَصَّافِ وَالطَّحَاوِيِّ.
انْعِزَالُ الْقَاضِي:
19- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ- فِي الْمُعْتَمَدِ- وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالْخَصَّافُ، وَالطَّحَاوِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَابْنُ الْقَصَّارِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْحَاكِمَ يَنْعَزِلُ بِفِسْقِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَبُولُهُ الرِّشْوَةَ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا ارْتَشَى الْحَاكِمُ انْعَزَلَ فِي الْوَقْتِ وَإِنْ لَمْ يُعْزَلْ، وَبَطَلَ كُلُّ حُكْمٍ حَكَمَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَمَذْهَبُ الْآخَرِينَ أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ بِذَلِكَ، بَلْ يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ الَّذِي وَلاَّهُ.
أَثَرُ الرِّشْوَةِ:
أ- فِي التَّعْزِيرِ:
20- هَذِهِ الْجَرِيمَةُ لَيْسَ فِيهَا عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ فَيَكُونُ فِيهَا التَّعْزِيرُ.
انْظُرْ: تَعْزِير.
ب- دَعْوَى الرِّشْوَةِ عَلَى الْقَاضِي:
21- لِلْقَاضِي أَنْ يُؤَدِّبَ خَصْمًا افْتَاتَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ حَكَمْتَ عَلَيَّ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوِ ارْتَشَيْتَ وَنَحْوِهِ بِضَرْبٍ لَا يَزِيدُ عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ وَحَبْسٍ، وَأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، وَلَوْ لَمْ يَثْبُتِ افْتِيَاتُهُ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ.
ج- فِي الْحُكْمِ بِالرُّشْدِ:
22- صَرْفُ الْمَالِ فِي مُحَرَّمٍ كَرِشْوَةٍ عَدَمُ صَلَاحٍ لِلدِّينِ وَلِلْمَالِ، مِمَّا يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ بِرُشْدِ الصَّبِيِّ.
د- الْمَالُ الْمَأْخُوذُ:
23- إِنْ قَبِلَ الرِّشْوَةَ أَوِ الْهَدِيَّةَ حَيْثُ حَرُمَ الْقَبُولُ وَجَبَ رَدُّهَا إِلَى صَاحِبِهَا، كَمَقْبُوضٍ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، وَقِيلَ تُؤْخَذُ لِبَيْتِ الْمَالِ لِخَبَرِ ابْنِ اللُّتْبِيَّةِ.
وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِيمَنْ تَابَ عَنْ أَخْذِ مَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ: إِنْ عَلِمَ صَاحِبَهُ دَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَإِلاَّ دَفَعَهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
80-موسوعة الفقه الكويتية (رق 9)
رِقّ -9الْكَفَّارَةُ فِي قَتْلِ الرَّقِيقِ:
121- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ فِي قَتْلِ الرَّقِيقِ- بِالْإِضَافَةِ إِلَى قِيمَتِهِ الْوَاجِبَةِ لِسَيِّدِهِ- الْكَفَّارَةَ وَلَوْ قَتَلَ عَبْدَ نَفْسِهِ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ كَذَلِكَ، لِعُمُومِ قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}.الْآيَةَ، وَلِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَأَشْبَهَ الْحُرَّ، وَهِيَ كَكَفَّارَةِ قَتْلِ الْحُرِّ سَوَاءٌ، عَلَى التَّفْصِيلِ وَالْخِلَافِ فِي ذَلِكَ (ر: كَفَّارَة).
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ كَفَّارَةٌ فِي قَتْلِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ مَالٌ، وَيُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ، فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ، كَمَا لَا كَفَّارَةَ فِي إِتْلَافِ سَائِرِ الْمُمْتَلَكَاتِ.وَالتَّكْفِيرُ مَعَ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ.قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَحُكْمُ الرَّقِيقِ فِي التَّكْفِيرِ إِذَا قَتَلَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا حُكْمُ الْحُرِّ مِنْ حَيْثُ أَصْلِ التَّكْفِيرِ.
وَأَمَّا مَا يُكَفِّرُ بِهِ الْعَبْدُ فَقَدْ ذُكِرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
غَصْبُ الرَّقِيقِ:
122- مَنْ غَصَبَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْغَصْبِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ (ر: غَصْب).
وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّقِيقَ مَالٌ فَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ غَصْبِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، وَمَنْ غَصَبَ جَارِيَةً لَمْ تَثْبُتْ يَدُهُ عَلَى بُضْعِهَا وَهُوَ الْجِمَاعُ، فَيَصِحُّ تَزْوِيجُ السَّيِّدِ لَهَا، وَلَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ مَهْرَهَا لَوْ حَبَسَهَا عَنِ النِّكَاحِ حَتَّى فَاتَ نِكَاحُهَا بِالْكِبَرِ.
وَإِنْ وَطِئَهَا بَعْدَ الْغَصْبِ فَهُوَ زِنًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَتَهُ وَلَا مِلْكَ يَمِينِهِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِشُرُوطِهِ، وَيَلْزَمُهُ مَهْرُ مِثْلِهَا إِنْ لَمْ تَكُنْ مُطَاوِعَةً اتِّفَاقًا.
أَمَّا إِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ إِلَى أَنَّهُ لَا مَهْرَ لَهَا، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ».وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: وَلَيْسَ فِي الْأَمَةِ الثَّيِّبِ فِي قَضَاءِ الْأَئِمَّةِ غُرْمٌ وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ الْمَهْرُ وَيَكُونُ لِسَيِّدِهَا لِأَنَّهُ حَقُّهُ، فَلَا يَسْقُطُ بِمُطَاوَعَتِهَا كَأَجْرِ مَنَافِعِهَا.
الرَّقِيقُ وَالْحُدُودُ:
حَدُّ الزِّنَا:
123- إِذَا زَنَى الرَّقِيقُ يُجْلَدُ خَمْسِينَ جَلْدَةً ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَلَا يُرْجَمُ، اتِّفَاقًا، لقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} فَيَنْصَرِفُ التَّنْصِيفُ إِلَى الْجَلْدِ دُونَ الرَّجْمِ لِوَجْهَيْنِ: أَنَّ الْجَلْدَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ دُونَ الرَّجْمِ، وَأَنَّ الرَّجْمَ لَا يَتَنَصَّفُ بَلِ الَّذِي يَتَنَصَّفُ هُوَ الْجَلْدُ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنِ الْأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنُ فَقَالَ إِذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ» وَالْعَبْدُ كَالْأَمَةِ لِعَدَمِ الْفَرْقِ.قَالَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه-: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمُ الْحَدَّ، مَنْ أُحْصِنَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُحْصَنْ».
السَّرِقَةُ:
الْمَمْلُوكُ السَّارِقُ:
124- ذَهَبَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ سَرَقَ الْمَمْلُوكُ مَا فِيهِ الْحَدُّ وَتَمَّتْ شُرُوطُ الْحَدِّ وَجَبَ قَطْعُهُ، لِعُمُومِ آيَةِ حَدِّ السَّرِقَةِ، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ رَقِيقًا لِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ سَرَقُوا نَاقَةً لِرَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ فَنَحَرُوهَا، فَأَمَرَ بِهِمْ عُمَرُ- رضي الله عنه- أَنْ تُقْطَعَ أَيْدِيهِمْ.ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: وَاَللَّهِ إِنِّي لأَرَاكَ تُجِيعُهُمْ، وَلَكِنْ لأُغَرِّمَنَّكَ غُرْمًا يَشُقُّ عَلَيْكَ.ثُمَّ قَالَ لِلْمُزَنِيِّ: كَمْ ثَمَنُ نَاقَتِكَ؟ قَالَ: أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ.قَالَ: أَعْطِهِ ثَمَانَمِائَةِ دِرْهَمٍ.وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدًا أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ عِنْدَ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- فَقَطَعَهُ.
وَإِنْ سَرَقَ الرَّقِيقُ مَالَ سَيِّدِهِ أَوْ مَالَ رَقِيقٍ آخَرَ لِسَيِّدِهِ لَمْ يُقْطَعْ لِخَبَرِ عُمَرَ: عَبْدُكُمْ سَرَقَ مَتَاعَكُمْ؛ وَلِشُبْهَةِ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَا مَلَكَتْ يَدَاهُ لِسَيِّدِهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ حِرْزِهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لَا يُقْطَعُ الْعَبْدُ بِسَرِقَتِهِ مِمَّنْ لَوْ سَرَقَ مِنْهُ السَّيِّدُ لَمْ يُقْطَعْ، وَذَلِكَ كَزَوْجِ السَّيِّدَةِ أَوْ زَوْجَةِ السَّيِّدِ، أَوْ أَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ أَوِ ابْنِهِ أَوْ بِنْتِهِ.
حَدُّ الْقَذْفِ:
أ- إِيقَاعُ الْحَدِّ عَلَى الرَّقِيقِ إِذَا قَذَفَ مُحْصَنًا أَوْ مُحْصَنَةً:
125- إِذَا قَذَفَ الرَّقِيقُ الْمُكَلَّفُ مُحْصَنًا أَوْ مُحْصَنَةً بِالزِّنَا وَلَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِجْمَاعًا إِذَا تَمَّتْ شُرُوطُهُ لِعُمُومِ آيَةِ الْقَذْفِ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ حَدَّ الرَّقِيقِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ حَدُّ الْقَذْفِ الْجَلْدَ فَهُوَ يَتَنَصَّفُ، فَوَجَبَ تَنْصِيفُهُ، كَحَدِّ الْجَلْدِ فِي الزِّنَا، وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ: أَدْرَكْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْخُلَفَاءِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَضْرِبُونَ الْمَمْلُوكَ إِذَا قَذَفَ إِلاَّ أَرْبَعِينَ.
ب- قَذْفُ الرَّقِيقِ:
126- مَنْ قَذَفَ رَقِيقًا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا، سَوَاءٌ كَانَ الْقَاذِفُ سَيِّدَ الرَّقِيقِ أَوْ غَيْرَ سَيِّدِهِ.
وَاسْتَثْنَى مَالِكٌ مَنْ قَذَفَ أَمَةً حَامِلًا مِنْ سَيِّدِهَا الْحُرِّ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَنَّهَا حَامِلٌ مِنْ زِنًا.وَدَلِيلُ عَدَمِ حَدِّ قَاذِفِ الرَّقِيقِ قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْيَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} فَجَعَلَتِ الْآيَةُ: الْحَدَّ لِقَاذِفِ الْمُحْصَنَةِ، وَشَرْطُ الْإِحْصَانِ الْحُرِّيَّةُ.وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا قَالَ جُلِدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ».وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ كَانَ لِلَّهِ فِي ظَهْرِهِ حَدٌّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَى السَّيِّدِ الْحَدُّ فِي الدُّنْيَا لَذَكَرَهُ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْآخِرَةِ.
وَحَيْثُ انْتَفَى الْحَدُّ شُرِعَ التَّعْزِيرُ وَلِلْعَبْدِ إِنْ قَذَفَهُ سَيِّدُهُ أَوْ غَيْرُهُ أَنْ يَرْفَعَهُ إِلَى الْحَاكِمِ لِيُعَزِّرَهُ، وَالْحَقُّ فِي الْعَفْوِ لِلْعَبْدِ لَا لِلسَّيِّدِ، فَإِنْ مَاتَ فَلِلسَّيِّدِ الْمُطَالَبَةُ.
حَدُّ شُرْبِ الْمُسْكِرِ:
127- يُحَدُّ الرَّقِيقُ إِذَا شَرِبَ الْمُسْكِرَ بِالتَّفْصِيلِ الَّذِي يُذْكَرُ فِي حَدِّ الْحُرِّ، إِلاَّ أَنَّ حَدَّ الرَّقِيقِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْحُرَّ يُحَدُّ ثَمَانِينَ جَلْدَةً جَعَلَ حَدَّ الْعَبْدِ أَرْبَعِينَ، وَمَنْ قَالَ حَدُّ الْحُرِّ أَرْبَعُونَ قَالَ: إِنَّ حَدَّ الرَّقِيقِ عِشْرُونَ جَلْدَةً.
الرَّقِيقُ وَالْوِلَايَاتُ:
128- الرَّقِيقُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ، مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ عَجْزٌ حُكْمِيٌّ سَبَبُهُ فِي الْأَصْلِ الْكُفْرُ؛ وَلِأَنَّ الرَّقِيقَ مُوَلًّى عَلَيْهِ مَشْغُولٌ بِحُقُوقِ سَيِّدِهِ وَتَلْزَمُهُ طَاعَتُهُ فَلَا يَكُونُ وَالِيًا.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَةَ الْعُظْمَى لَا تَكُونُ فِي الْعَبِيدِ إِذَا كَانَ بِطَرِيقِ الِاخْتِيَارِ.قَالَ ابْنُ حَجَرٍ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ ذَلِكَ: أَمَّا لَوْ تَغَلَّبَ عَبْدٌ حَقِيقَةً بِطَرِيقِ الشَّوْكَةِ فَإِنَّ طَاعَتَهُ تَجِبُ إِخْمَادًا لِلْفِتْنَةِ مَا لَمْ يَأْمُرْ بِمَعْصِيَةٍ.ا هـ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَمَّا لَوِ اسْتُعْمِلَ الْعَبْدُ عَلَى إِمَارَةِ بَلَدٍ مَثَلًا وَجَبَتْ طَاعَتُهُ.
وَحُمِلَ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ».
وَفُسِّرَ اسْتِعْمَالُ الْعَبْدِ فِي الْحَدِيثِ بِأَنْ يُجْعَلَ عَامِلًا فَيُؤَمَّرُ إِمَارَةً عَامَّةً عَلَى بَلَدٍ مَثَلًا، أَوْ يُوَلَّى فِيهَا وِلَايَةً خَاصَّةً كَإِمَامَةِ الصَّلَاةِ، أَوْ جِبَايَةِ الْخَرَاجِ أَوْ مُبَاشَرَةِ الْحَرْبِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْعَبْدُ لَا يَلِي أَمْرًا عَامًّا، إِلاَّ نِيَابَةً عَنِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ فَلَهُ نَصْبُ الْقَاضِي نِيَابَةً عَنِ السُّلْطَانِ وَلَكِنْ لَا يَقْضِي هُوَ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُوَلَّى تَقْرِيرَ الْفَيْءِ وَلَا جِبَايَةَ أَمْوَالِهِ بَعْدَ تَقْرِيرِهَا.
وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَجُوزُ شَرْعًا أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا لِنَقْصِهِ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: الْعَبْدُ لَا يَكُونُ قَاضِيًا، وَلَا قَاسِمًا، وَلَا مُقَوِّمًا، وَلَا قَائِفًا وَلَا مُتَرْجِمًا، وَلَا كَاتِبَ حَاكِمٍ، وَلَا أَمِينًا لِحَاكِمٍ، وَلَا وَلِيًّا فِي نِكَاحٍ أَوْ قَوَدٍ، وَأَضَافَ ابْنُ نُجَيْمٍ: وَلَا مُزَكِّيًا عَلَانِيَةً، وَلَا عَاشِرًا، وَأَضَافَ السُّيُوطِيُّ: وَلَا خَارِصًا، وَلَا يَكُونُ عَامِلًا فِي الزَّكَاةِ إِلاَّ إِذَا عَيَّنَ لَهُ الْإِمَامُ قَوْمًا يَأْخُذُ مِنْهُمْ قَدْرًا مُعَيَّنًا.
شَهَادَةُ الرَّقِيقِ:
128 م- مِنْ شَرْطِ الشَّاهِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ.قَالَ عَمِيرَةُ الْبُرُلُّسِيُّ: لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِالْآيَةِ (يَعْنِي آيَةَ الدَّيْنِ) الْأَحْرَارَ، بِدَلِيلِ قوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ} لقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وَإِنَّمَا يُرْتَضَى الْأَحْرَارُ، قَالَ: وَأَيْضًا نُفُوذُ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ نَوْعُ وِلَايَةٍ.يَعْنِي وَالرَّقِيقُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، وَمَالَ ابْنُ الْهُمَامِ إِلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ لِأَنَّ عَدَمَ وِلَايَتِهِ هُوَ لِحَقِّ الْمَوْلَى لَا لِنَقْصٍ فِي الْعَبْدِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ جَائِزَةٌ عَلَى الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ وَابْنُ الْهُمَامِ عَنْ أَنَسٍ وَعَلِيٍّ- رضي الله عنهما-، إِلاَّ أَنَّ ابْنَ الْهُمَامِ قَالَ إِنَّ عَلِيًّا كَانَ يَقُولُ: تُقْبَلُ عَلَى الْعَبِيدِ دُونَ الْأَحْرَارِ.
وَمِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ قَبُولُ شَهَادَةِ الْعَبِيدِ عُرْوَةُ وَشُرَيْحٌ وَإِيَاسٌ وَابْنُ سِيرِينَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
قَالَ أَنَسٌ: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَدَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ.وَوَجَّهَهُ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّ الْعَبِيدَ مِنْ رِجَالِنَا فَدَخَلَ فِي عُمُومِ قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وَلِأَنَّهُ إِنْ كَانَ عَدْلًا غَيْرَ مُتَّهَمٍ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَفُتْيَاهُ وَأَخْبَارُهُ الدِّينِيَّةُ، فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ كَالْحُرِّ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَعْتَمِدُ الْمُرُوءَةَ، وَالْعَبِيدُ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ مُرُوءَةٌ وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُمُ الْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالصَّالِحُونَ وَالْأَتْقِيَاءُ.وَلِأَنَّ مَنْ أُعْتِقَ مِنْهُمْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ اتِّفَاقًا، وَالْحُرِّيَّةُ لَا تُغَيِّرُ طَبْعًا وَلَا تُحْدِثُ عِلْمًا وَلَا مُرُوءَةً.
وَأَمَّا شَهَادَةُ الْعَبْدِ فِي الْحُدُودِ فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي قَبُولِ رِوَايَتِهِ فِي الْأَمْوَالِ يُورِثُ شُبْهَةً.
وَأَمَّا فِي الْقِصَاصِ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَهُمْ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ فَأَشْبَهَ الْأَمْوَالَ.
قَالُوا: وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَمَةِ فِيمَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْحُرَّةِ، وَذَلِكَ فِي الْمَالِ.
وَهَذَا إِنْ شَهِدَ الْعَبْدُ أَوِ الْأَمَةُ لِغَيْرِ سَيِّدِهِ.أَمَّا لَوْ شَهِدَ لِسَيِّدِهِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ يَتَبَسَّطُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ، وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ، وَتَجِبُ نَفَقَتُهُ مِنْهُ، وَلَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ مِنْهُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، كَالِابْنِ مَعَ أَبِيهِ.
وَكَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ اتِّفَاقًا كَمَا لَا يُقْبَلُ قَضَاؤُهُ لَهُ لِأَنَّ مَالَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، فَشَهَادَتُهُ لَهُ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ فِي الْمَالِ.وَكَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ بِنِكَاحٍ، وَلَا لِأَمَتِهِ بِطَلَاقٍ لِأَنَّ فِي طَلَاقِ أَمَتِهِ تَخْلِيصَهَا مِنْ زَوْجِهَا وَإِبَاحَتَهَا لِلسَّيِّدِ، وَفِي نِكَاحِ الْعَبْدِ نَفْعٌ لَهُ.
وَبَعْضُ الَّذِينَ لَمْ يَقْبَلُوا شَهَادَةَ الْعَبْدِ اسْتَثْنَوْا الشَّهَادَةَ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ مِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.فَقَالُوا: تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ عَلَى ذَلِكَ كَالْأَحْرَارِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ دِينِيٌّ فَأَشْبَهَ رِوَايَةَ الْأَخْبَارِ، وَلِهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ.
رِوَايَةُ الْعَبْدِ وَأَخْبَارُهُ:
129- رِوَايَةُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ لِلْحَدِيثِ وَأَخْبَارُهُمَا مَقْبُولَةٌ اتِّفَاقًا حَتَّى فِي أُمُورِ الدِّينِ كَالْقِبْلَةِ، وَالطَّهَارَةِ، أَوِ النَّجَاسَةِ، وَكَحِلِّ اللَّحْمِ وَحُرْمَتِهِ إِنْ كَانَا عَدْلَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَابَ الرِّوَايَةِ وَاسِعٌ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ.وَيُقْبَلُ قَوْلُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ فِي الْهَدِيَّةِ وَالْإِذْنِ، لِأَنَّ الْهَدَايَا تُبْعَثُ عَادَةً عَلَى أَيْدِي هَؤُلَاءِ، فَلَوْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْحَرَجِ، حَتَّى لَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَالَتْ جَارِيَةٌ لِرَجُلٍ: بَعَثَنِي مَوْلَايَ هَدِيَّةً إِلَيْكَ، وَسِعَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا، لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إِذَا أَخْبَرَتْ بِإِهْدَاءِ الْمَوْلَى غَيْرَهَا أَوْ نَفْسَهَا.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي التَّقْرِيبِ: يُقْبَلُ تَعْدِيلُ الْعَبْدِ الْعَارِفِ.وَنَقَلَ السُّيُوطِيُّ مِثْلَ ذَلِكَ عَنِ الْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ وَالرَّازِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيِّ.
الرَّقِيقُ وَالْجِهَادُ:
130- الْجِهَادُ لَا يَجِبُ عَلَى الرَّقِيقِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «كَانَ يُبَايِعُ الْحُرَّ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ، وَيُبَايِعُ الْعَبْدَ عَلَى الْإِسْلَامِ دُونَ الْجِهَادِ».وَلِأَنَّ الْجِهَادَ عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الْعَبْدِ كَالْحَجِّ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: لَا جِهَادَ عَلَى رَقِيقٍ وَإِنْ أَمَرَهُ سَيِّدُهُ، إِذْ لَيْسَ الْقِتَالُ مِنْ الِاسْتِخْدَامِ الْمُسْتَحَقِّ لِلسَّيِّدِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الذَّبُّ عَنْ سَيِّدِهِ عِنْدَ خَوْفِهِ عَلَى رُوحِهِ إِذَا لَمْ نُوجِبِ الدَّفْعَ عَنِ الْغَيْرِ، بَلِ السَّيِّدُ فِي ذَلِكَ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَلِلسَّيِّدِ اسْتِصْحَابُهُ فِي سَفَرِ الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ لِيَخْدُمَهُ وَيَسُوسَ دَوَابَّهُ.ا هـ.
لَكِنْ إِنْ فَاجَأَ الْعَدُوُّ بَلَدًا بِنُزُولِهِ عَلَيْهَا بَغْتَةً، فَيَلْزَمُ كُلَّ أَحَدٍ بِهِ طَاقَةٌ عَلَى الْقِتَالِ الْخُرُوجُ لِدَفْعِ الْعَدُوِّ حَتَّى الْمَرْأَةَ وَالْعَبْدَ، وَلَوْ لَمْ يَأْذَنِ الزَّوْجُ أَوِ السَّيِّدُ، وَكَذَا يَلْزَمُ الْخُرُوجُ الصَّبِيَّ وَالْمُطِيقَ لِلْقِتَالِ، وَمِنْ هُنَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُسْهَمُ لِهَؤُلَاءِ مِمَّا يُغْنَمُ مِنَ الْعَدُوِّ فِي هَذِهِ الْحَالِ، لِكَوْنِ الْقِتَالِ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ.
وَلَا يُسْهَمُ لِلْعَبْدِ إِذَا حَضَرَ الْوَقْعَةَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، لِمَا رَوَى عُمَيْرٌ مَوْلَى أَبِي اللَّحْمِ أَنَّهُ قَالَ: «شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي، فَكَلَّمُوا فِيَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَمَرَنِي، فَقُلِّدْتُ سَيْفًا، فَإِذَا أَنَا أَجُرُّهُ، فَأُخْبِرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاعِ».وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَمْلُوكُ وَالْمَرْأَةُ يَحْذِيَانِ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَلَيْسَ لَهُمْ سَهْمٌ.
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: يُسْهَمُ لِلْعَبِيدِ كَالْأَحْرَارِ، لِمَا رَوَى الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّهُ شَهِدَ فَتْحَ الْقَادِسِيَّةِ عَبِيدٌ فَضُرِبَتْ لَهُمْ سِهَامُهُمْ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْعَبْدِ فِي الدِّينِ كَحُرْمَةِ الْحُرِّ.
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَوِ انْفَرَدَ الْعَبِيدُ بِالِاغْتِنَامِ قُسِمَتْ عَلَيْهِمُ الْغَنِيمَةُ بَعْدَ تَخْمِيسِهَا.
وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَلَوْ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ رَقِيقِ الْكُفَّارِ الْحَرْبِيِّينَ إِلَيْنَا مُسْلِمًا مُرَاغِمًا لَهُمْ فَهُوَ حُرٌّ إِنْ فَارَقَهُمْ ثُمَّ أَسْلَمَ، وَإِنْ كَانَتْ رَقِيقَةً لَمْ تُرَدَّ عَلَى سَيِّدِهَا وَلَا زَوْجِهَا وَتَكُونُ حُرَّةً؛ لِأَنَّهَا مَلَكَتْ نَفْسَهَا بِقَهْرِهَا لَهُمْ عَلَى نَفْسِهَا. حَقُّ الْعَبِيدِ فِي الْفَيْءِ:
131- قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ الْيَوْمَ خِلَافًا فِي أَنَّ الْعَبِيدَ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ.ا هـ.وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ عُمَرَ- رضي الله عنه- فِي ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ لَهُ فِي هَذَا الْمَالِ نَصِيبٌ إِلاَّ الْعَبِيدَ فَلَيْسَ لَهُمْ فِيهِ شَيْءٌ.
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ- رضي الله عنه- سَوَّى بَيْنَ النَّاسِ فِي الْعَطَاءِ وَأَدْخَلَ فِيهِ الْعَبِيدَ..فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ- رضي الله عنه- فَاضَلَ بَيْنَهُمْ وَأَخْرَجَ الْعَبِيدَ، فَلَمَّا وَلِيَ عَلِيٌّ سَوَّى بَيْنَهُمْ وَأَخْرَجَ الْعَبِيدَ.
وَمِنْ هُنَا قَالَ النَّوَوِيُّ: لَا تُثْبَتُ فِي الدِّيوَانِ أَسْمَاءُ الْعَبِيدِ، وَإِنَّمَا هُمْ تَبَعٌ لِلْمُقَاتِلِ، يُعْطِي لَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يُثْبَتُ فِي الدِّيوَانِ أَسْمَاءُ الرِّجَالِ الْمُكَلَّفِينَ الْمُسْتَعِدِّينَ لِلْغَزْوِ.
نَظَرُ الْعَبْدِ إِلَى سَيِّدَتِهِ:
132- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ عَوْرَةَ الْحُرَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَبْدِهَا لَا تَخْتَلِفُ عَنْ عَوْرَتِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ، وَهِيَ مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ، وَلَكِنْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَدْخُلُ الْعَبْدُ عَلَى مَوْلَاتِهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: عَبْدُ الْمَرْأَةِ مَحْرَمٌ لَهَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَعْنِي قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}.وَحَدِيثَ: «إِنَّمَا هُوَ أَبُوكِ وَغُلَامُكِ».
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لِلْعَبْدِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ مَوْلَاتِهِ الرَّأْسَ وَالرَّقَبَةَ وَالذِّرَاعَ وَالسَّاقَ، وَلَا يَكُونُ مَحْرَمًا لَهَا فِي السَّفَرِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا «سَفَرُ الْمَرْأَةِ مَعَ عَبْدِهَا ضَيْعَةٌ».
وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ: فَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْعَبْدُ لَهُ مَنْظَرٌ، كُرِهَ لَهُ أَنْ يَرَى مِنْ سَيِّدَتِهِ مَا عَدَا وَجْهَهَا، فَإِنْ كَانَ وَغْدًا (أَيْ بِخِلَافِ ذَلِكَ) جَازَ أَنْ يَرَى مِنْهَا مَا يَرَاهُ الْمَحْرَمُ.وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا. ذَبِيحَةُ الرَّقِيقِ وَتَضْحِيَتُهُ:
133- يَمْلِكُ الرَّقِيقُ أَنْ يَذْبَحَ، وَذَبِيحَتُهُ حَلَالٌ، لِمَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ «أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا بِسِلَعٍ، فَأُصِيبَتْ شَاةٌ مِنْهَا، فَأَدْرَكَتْهَا فَذَبَحَتْهَا بِحَجَرٍ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: كُلُوهَا».
قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ رَاوِي الْحَدِيثِ: فَيُعْجِبُنِي أَنَّهَا أَمَةٌ وَأَنَّهَا ذَبَحَتْ.
وَنَقَلَ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ رَوَى عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَتَهُ أَيْ مِنْ حَيْثُ هِيَ امْرَأَةٌ، وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ يُكْرَهُ ذَبْحُ الْمَرْأَةِ الْأُضْحِيَّةَ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ مَالِكٍ جَوَازُهُ.
(ر: ذَبَائِح).
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْعَبْدُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّضْحِيَةُ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ فَإِنْ أَذِنَ السَّيِّدُ، وَقَعَتِ التَّضْحِيَةُ عَنِ السَّيِّدِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمْ يَمْلِكُونَ بِالتَّمْلِيكِ وَإِذْنِ السَّيِّدِ وَقَعَتِ التَّضْحِيَةُ عَنِ الْعَبْدِ.وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ مَسْأَلَةِ مِلْكِ الْعَبْدِ بِالتَّمْلِيكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ.
النَّوْعُ الثَّانِي
أَحْكَامُ الرَّقِيقِ الْقِنِّ الْمُشْتَرَكِ
134- قَدْ يَكُونُ الرَّقِيقُ مَمْلُوكًا لِأَكْثَرَ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ.وَيَنْشَأُ الِاشْتِرَاكُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ، نَحْوُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْعَبْدَ شَخْصَانِ فَأَكْثَرُ، أَوْ يَرِثَاهُ أَوْ يَقْبَلَاهُ هِبَةً أَوْ وَصِيَّةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، أَوْ أَنْ يَبِيعَ السَّيِّدُ جُزْءًا شَائِعًا مِنْ عَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ.
وَقَدْ يَشْتَرِي الشُّرَكَاءُ فِي شَرِكَةِ الْعُقُودِ عَبْدًا لِلتِّجَارَةِ، فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا أَيْضًا.
وَأَحْكَامُ الرَّقِيقِ الْمُشْتَرَكِ هِيَ أَحْكَامُ الرَّقِيقِ غَيْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، لِأَنَّهُ قِنٌّ مِثْلُهُ، لَكِنْ يَخْتَصُّ الرَّقِيقُ الْمُشْتَرَكُ بِأَحْكَامٍ تَقْتَضِيهَا الشَّرِكَةُ مِنْهَا:
135- لَيْسَ لِأَيِّ الشَّرِيكَيْنِ أَوِ الشُّرَكَاءِ وَطْءُ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَحِلُّ إِلاَّ أَنْ يَمْلِكَهَا الْوَاطِئُ مِلْكًا تَامًّا (ر: تَسَرٍّ) لَكِنْ إِنْ وَطِئَهَا أَحَدُ الشُّرَكَاءِ فَيُعَزَّرُ وَلَا يُحَدُّ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ إِجْمَاعًا، إِلاَّ مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ، فَإِنْ لَمْ تَلِدْ مِنْهُ كَانَ لَهُمْ بِقَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ فِيهَا مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَأَرْشِ الْبَكَارَةِ إِنْ كَانَتْ بِكْرًا عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنْ وَلَدَتْ مِنْهُ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَيَضْمَنُ لِشُرَكَائِهِ قِيمَةَ أَنْصِبَائِهِمْ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهَا عَنْ مِلْكِهِمْ، فَلَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهَا. وَيَكُونُ وَلَدُهُ حُرًّا، وَاخْتُلِفَ هَلْ يَلْزَمُهُ لِشُرَكَائِهِ قِيمَةُ نَصِيبِهِمْ مِنْهُ أَمْ لَا.
وَأَمَّا فِي النَّظَرِ وَالْعَوْرَةِ فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، بِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُشْتَرَكَ مَعَ سَيِّدَتِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَالْأَمَةَ الْمُشْتَرَكَةَ مَعَ سَيِّدِهَا كَالْمَحْرَمِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا.
136- وَمِنْهَا أَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الرَّقِيقِ الْمُشْتَرَكِ وَاجِبٌ عَلَى الشُّرَكَاءِ جَمِيعًا بِنِسْبَةِ أَنْصِبَائِهِمْ فِي مِلْكِيَّتِهِ، وَكَذَا فِطْرَتُهُ.
137- وَمِنْهَا الْوِلَايَةُ عَلَى الرَّقِيقِ الْمُشْتَرَكِ، وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْمَالِكِينَ، فَإِنْ كَانَ الرَّقِيقُ أَمَةً فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ إِذْنِ الْآخَرِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى تَزْوِيجُ نَصِيبِهِ وَحْدَهُ.
ثُمَّ إِنِ اشْتَجَرَ الْمَالِكُونَ فِي تَزْوِيجِهَا لَمْ يَكُنْ لِلسُّلْطَانِ وِلَايَةُ تَزْوِيجِهَا؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِمُكَلَّفٍ رَشِيدٍ بَالِغٍ حَاضِرٍ لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ أَوْلِيَاءِ الْحُرَّةِ إِنِ اشْتَجَرُوا.
وَالِاشْتِجَارُ فِي شُؤُونِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ فِي تَزْوِيجِهِ، أَوِ الْإِذْنِ لَهُ بِتِجَارَةٍ، أَوْ عَمَلٍ، أَوْ سَفَرٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يَجْعَلُهُ فِي نَصَبٍ وَلَا يَرْضَى مِنْهُ الْمُشْتَرِكُونَ غَالِبًا، لِاخْتِلَافِ أَهْوَائِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ، وَلِذَا ضَرَبَ اللَّهُ الْمَثَلَ بِهِ لِلْمُشْرِكِينَ بِاَللَّهِ فَقَالَ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}.وَقُرِئَ فِي السَّبْعِ (سَالِمًا لِرَجُلٍ).
وَالْمُهَايَأَةُ طَرِيقَةٌ لِتَقْلِيلِ نِزَاعِ الشُّرَكَاءِ فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ كَمَا يَأْتِي.
138- وَمِنْهَا الِانْتِفَاعُ بِالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ وَاسْتِخْدَامُهُ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِطُرُقٍ مِنْهَا، الْمُهَايَأَةُ عَلَى الِاسْتِخْدَامِ فِي الزَّمَانِ، بِأَنْ يَسْتَخْدِمَهُ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ أَنْصِبَائِهِمْ فِيهِ، فَإِذَا تَهَايَآهُ اخْتَصَّ كُلٌّ مِنَ الشُّرَكَاءِ بِنَفَقَتِهِ الْعَامَّةِ وَكَسْبِهِ الْعَامِّ فِي مُدَّتِهِ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُ الْقِسْمَةِ.
أَمَّا النَّفَقَاتُ النَّادِرَةُ كَأُجْرَةِ الْحَجَّامِ وَالطَّبِيبِ وَالْأَكْسَابِ النَّادِرَةِ كَاللُّقَطَةِ وَالْهِبَةِ وَالرِّكَازِ، أَيْ إِذَا وَجَدَهُ الْعَبْدُ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ مَنْ هُوَ فِي نَوْبَتِهِ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ تَكُونُ مُشْتَرَكَةً كَالنَّفَقَةِ الْعَامَّةِ وَالْكَسْبِ الْعَامِّ.
وَكَذَا تَجُوزُ الْمُهَايَأَةُ فِي خِدْمَةِ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي الزَّمَانِ اتِّفَاقًا لِلضَّرُورَةِ، وَقَالُوا: يُقْرَعُ فِي الْبِدَايَةِ، أَيْ يُعَيَّنُ بِالْقُرْعَةِ مِنْ يَكُونُ لَهُ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنَ الْخِدْمَةِ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ.قَالُوا: وَلَوْ كَانَ عَبْدَانِ بَيْنَ اثْنَيْنِ جَازَ أَنْ يَتَهَايَآ عَلَى الْخِدْمَةِ فِيهِمَا، عَلَى أَنْ يَخْدُمَ هَذَا الشَّرِيكَ هَذَا الْعَبْدُ، وَالْآخَرَ الْآخَرُ.وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْسِمَ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَبْرًا إِذَا طَلَبَهُ أَحَدُهُمَا؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ قَلَّمَا تَتَفَاوَتُ بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ.قَالُوا: وَلَوْ تَهَايَآ فِيهِمَا عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ كُلِّ عَبْدٍ عَلَى مَنْ يَأْخُذُهُ جَازَ اسْتِحْسَانًا لِلْمُسَامَحَةِ فِي إِطْعَامِ الْمَمَالِيكِ بِخِلَافِ شَرْطِ الْكِسْوَةِ فَإِنَّهَا لَا يُسَامَحُ فِيهَا.
وَأَمَّا التَّهَايُؤُ فِي اسْتِغْلَالِ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ فَقَدْ مَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ، بِخِلَافِ التَّهَايُؤِ فِي اسْتِغْلَالِ الدَّارِ مَثَلًا، قَالُوا: لِأَنَّ الِاسْتِغْلَالَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالِاسْتِعْمَالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَمَلَهُ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي لَا يَكُونُ كَمَا كَانَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ.فَلَوْ فَعَلَا فَزَادَتِ الْغَلَّةُ لِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ يَشْتَرِكَانِ فِي الزِّيَادَةِ لِيَتَحَقَّقَ التَّعْدِيلُ، وَلِأَنَّ الْغَلَّةَ يُمْكِنُ بِهِ قِسْمَتُهَا فَلَا ضَرُورَةَ إِلَى التَّهَايُؤِ فِيهَا، بِخِلَافِ الْخِدْمَةِ، وَأَمَّا فِي الْعَبْدَيْنِ فِي الِاسْتِغْلَالِ فَجَائِزٌ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الْإِفْرَازِ وَالتَّمْيِيزِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي رَأَى أَنَّ الْمَنْعَ فِي صُورَةِ الْعَبْدَيْنِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ فِي صُورَةِ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ، وَلِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الِاسْتِغْلَالِ يَكْثُرُ؛ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ التَّسَامُحُ فِي الْخِدْمَةِ وَالِاسْتِقْصَاءُ فِي الِاسْتِغْلَالِ.
وَكَذَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ تَهَايُؤُ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ وَتَهَايُؤُ الْعَبْدَيْنِ (عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِ كَيْفِيَّتِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) عَلَى سَبِيلِ الِانْتِفَاعِ وَالِاسْتِخْدَامِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ وَالْعَبْدَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغْلَالِ.وَحَيْثُ جَازَ قَيَّدُوا بِأَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عِنْدَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ يَوْمًا فَأَكْثَرَ إِلَى شَهْرٍ لَا أَكْثَرَ، ثُمَّ يَكُونُ عِنْدَ الْآخَرِ كَذَلِكَ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ
الرَّقِيقُ الْمُبَعَّضُ
وَهُوَ الَّذِي بَعْضُهُ رَقِيقٌ وَبَعْضُهُ حُرٌّ.
وَيَنْشَأُ التَّبْعِيضُ فِي الرَّقِيقِ فِي صُوَرٍ، مِنْهَا:
139- أ- أَنْ يُعْتِقَ مَالِكُ الرَّقِيقِ جُزْءًا مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ شَائِعًا كَرُبُعِهِ، أَوْ مُعَيَّنًا كَيَدِهِ، فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ مَا أَعْتَقَهُ يَكُونُ حُرًّا، وَمَا لَمْ يُعْتِقْهُ يَبْقَى عَلَى الرِّقِّ، وَيُسْتَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَةِ جُزْئِهِ الَّذِي لَمْ يُعْتَقْ، كَالْمُكَاتَبِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَا يُرَدُّ إِلَى الرِّقِّ لَوْ عَجَزَ عَنِ الْأَدَاءِ، وَمَا لَمْ يُؤَدِّ فَهُوَ مُبَعَّضٌ، فَإِنْ أَدَّى عَتَقَ.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ جُزْءًا مِنْ عَبْدِهِ مُعَيَّنًا كَيَدِهِ أَوْ شَائِعًا كَرُبُعِهِ سَرَى الْعِتْقُ إِلَى بَاقِيهِ فَيَعْتِقُ كُلُّهُ، قَالُوا: لِأَنَّ زَوَالَ الرِّقِّ لَا يَتَجَزَّأُ، وَقِيَاسًا عَلَى سِرَايَةِ الْعِتْقِ فِيمَا لَوْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي الْعَبْدِ، كَمَا يَأْتِي (وَانْظُرْ: تَبْعِيض ف 40).
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ الْمُعْتِقُ غَيْرَ سَفِيهٍ.
ب- أَنْ يَكُونَ الرَّقِيقُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ مَالِكَيْنِ فَأَكْثَرَ، فَيُعْتِقُ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ، فَإِنَّ بَاقِيَهُ يَبْقَى رَقِيقًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا، وَلِشَرِيكِ الْمُعْتِقِ إِمَّا أَنْ يُحَرِّرَ نَصِيبَهُ، أَوْ يُدَبِّرَهُ، أَوْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ إِنْ كَانَ الْعِتْقُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أَوْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ فِي تَحْصِيلِ قِيمَةِ بَاقِيهِ لِيَتَحَرَّرَ، فَإِنِ امْتَنَعَ آجَرَهُ جَبْرًا.
وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَمِنْهُمُ الصَّاحِبَانِ، إِلَى أَنَّ الشَّرِيكَ إِنْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَكَانَ مُوسِرًا سَرَى الْعِتْقُ إِلَى الْبَاقِي فَصَارَ كُلُّ الْعَبْدِ حُرًّا، وَيَكُونُ عَلَى مَنْ بَدَأَ بِالْعِتْقِ قِيمَةُ أَنْصِبَاءِ شُرَكَائِهِ، وَالْوَلَاءُ لَهُ دُونَهُمْ، فَإِنْ أَعْتَقَ الثَّانِيَ بَعْدَ الْأَوَّلِ وَقَبْلَ أَخْذِ الْقِيمَةِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلثَّانِي عِتْقٌ، لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ صَارَ حُرًّا بِعِتْقِ الْأَوَّلِ.وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ آخَرَ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِعِتْقِ الْأَوَّلِ مَا لَمْ يَأْخُذِ الْقِيمَةَ، أَمَّا قَبْلَ أَخْذِ الْقِيمَةِ فَبَاقِي الْعَبْدِ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِهِ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِالْعِتْقِ، وَلَا يَنْفُذُ بِغَيْرِهِ.
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ لِلشَّافِعِيِّ: إِنَّ الْعِتْقَ مُرَاعًى، فَإِنْ دَفَعَ الْقِيمَةَ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ عَتَقَ مِنْ حِينَ أَعْتَقَ الْأَوَّلُ نَصِيبَهُ، وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَتَقَ.
أَمَّا إِنْ كَانَ مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مُعْسِرًا فَلَا يَسْرِي الْعِتْقُ، وَيَكُونُ الْعَبْدُ مُبَعَّضًا.
وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ».وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلاَّ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ. (وَانْظُرْ تَبْعِيض ف 41).
وَعَلَى مِثْلِ هَذَا التَّفْصِيلِ مَا لَوْ عَتَقَ عَلَى الْمَالِكِ سَهْمُهُ مِنْ عَبْدٍ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، كَمَنْ مَلَكَ سَهْمًا مِنْ ذِي مَحْرَمٍ بِاخْتِيَارِهِ، أَمَّا إِنْ مَلَكَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، كَمَنْ وَرِثَ جُزْءًا مِنِ ابْنِهِ، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ وَلَا يَسْرِي إِلَى بَاقِيهِ اتِّفَاقًا، بَلْ يَبْقَى مُبَعَّضًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ مَا يُتْلِفُ بِهِ نَصِيبَ شَرِيكِهِ.
ج- أَنْ تَلِدَ الْمُبَعَّضَةُ وَلَدًا مِنْ زَوْجٍ أَوْ زِنًا، فَمُقْتَضَى تَبَعِيَّةِ الْوَلَدِ لأُِمِّهِ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ أَنْ يَكُونَ وَلَدُهَا مُبَعَّضًا كَذَلِكَ.
د- وَلَدُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ مِنْ وَطْءِ الشَّرِيكِ الْمُعْسِرِ، فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ
هـ- أَنْ يَضْرِبَ الْإِمَامُ الرِّقَّ عَلَى بَعْضِ الْأَسِيرِ لِعِتْقِ بَعْضِهِ، فَيَكُونُ مُبَعَّضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَذَلِكَ.
وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ صُوَرًا أُخْرَى نَادِرَةً.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
81-موسوعة الفقه الكويتية (زمزم)
زَمْزَمُالتَّعْرِيفُ:
1- زَمْزَمُ- بِزَايَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ- اسْمٌ لِلْبِئْرِ الْمَشْهُورَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ ثَمَانٍ وَثَلَاثُونَ ذِرَاعًا.
وَسُمِّيَتْ زَمْزَمُ لِكَثْرَةِ مَائِهَا، يُقَالُ: مَاءُ زَمْزَمَ وَزُمْزُومٍ إِذَا كَانَ كَثِيرًا، وَقِيلَ: لِاجْتِمَاعِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَاضَ مِنْهَا الْمَاءُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ قَالَتْ هَاجَرَ لِلْمَاءِ: زَمَّ زَمَّ، أَيْ: اجْتَمِعْ يَا مُبَارَكُ، فَاجْتَمَعَ فَسُمِّيَتْ زَمْزَمُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا زَمَّتْ بِالتُّرَابِ لِئَلاَّ يَأْخُذَ الْمَاءَ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَقَدْ ضَمَّتْ هَاجَرُ مَاءَهَا حِينَ انْفَجَرَتْ وَخَرَجَ مِنْهَا الْمَاءُ وَسَاحَ يَمِينًا وَشِمَالًا فَمُنِعَ بِجَمْعِ التُّرَابِ حَوْلَهُ، وَرُوِيَ: «لَوْلَا أُمُّكُمْ هَاجَرُ حَوَّطَتْ عَلَيْهَا لَمَلأَتْ أَوْدِيَةَ مَكَّةَ».وَقِيلَ: إِنَّ اسْمَهَا غَيْرُ مُشْتَقٍّ.
وَلِزَمْزَمَ أَسْمَاءٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: طَيِّبَةٌ، وَبَرَّةٌ، وَمَضْنُونَةٌ، وَسُقِيَا اللَّهِ إِسْمَاعِيلَ، وَبَرَكَةٌ، وَحَفِيرَةُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَوُصِفَتْ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهَا «طَعَامُ طُعْمٍ، وَشِفَاءُ سُقْمٍ».
2- وَزَمْزَمُ هِيَ بِئْرُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ((، الَّتِي سَقَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا حِينَ ظَمِئَ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَالْتَمَسَتْ لَهُ أُمُّهُ مَاءً فَلَمْ تَجِدْهُ، فَقَامَتْ إِلَى الصَّفَا تَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى وَتَسْتَغِيثُهُ لِإِسْمَاعِيلَ، ثُمَّ أَتَتِ الْمَرْوَةَ فَفَعَلَتْ مِثْلَ ذَلِكَ، وَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ- عليه السلام- فَهَمَزَ لَهُ بِعَقِبِهِ فِي الْأَرْضِ فَظَهَرَ الْمَاءُ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِزَمْزَمَ:
أ- الشُّرْبُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ:
3- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- شَرِبَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ»، وَلِمَا رَوَى مُسْلِمٌ: «إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ» زَادَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: «وَشِفَاءُ سُقْمٍ».
وَيُسَنُّ لِلشَّارِبِ أَنْ يَتَضَلَّعَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، أَيْ يُكْثِرَ مِنْ شُرْبِهِ حَتَّى يَمْتَلِئَ، وَيَرْتَوِيَ مِنْهُ حَتَّى يَشْبَعَ رِيًّا، لِخَبَرِ ابْنِ مَاجَهْ: «آيَةُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ لَا يَتَضَلَّعُونَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ».
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ شُرْبُ مَاءِ زَمْزَمَ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ، لَا عَقِبَ الطَّوَافِ خَاصَّةً، وَأَنَّهُ يُسَنُّ شُرْبُ مَاءِ زَمْزَمَ لِكُلِّ أَحَدٍ وَلَوْ لِغَيْرِ الْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ.
ب- آدَابُ الشُّرْبِ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ:
4- لِلشُّرْبِ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ آدَابٌ، عَدَّهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ السُّنَنِ أَوِ الْمَنْدُوبَاتِ أَوِ الْمُسْتَحَبَّاتِ، مِنْهَا: مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- جَالِسًا فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ جِئْتَ؟ قَالَ: مِنْ زَمْزَمَ: قَالَ: فَشَرِبْتَ مِنْهَا كَمَا يَنْبَغِي؟ قَالَ: فَكَيْفَ؟ قَالَ: إِذَا شَرِبْتَ مِنْهَا فَاسْتَقْبِلِ الْكَعْبَةَ وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَنَفَّسْ ثَلَاثًا مِنْ زَمْزَمَ، وَتَضَلَّعْ مِنْهَا، فَإِذَا فَرَغْتَ فَاحْمَدِ اللَّهَ تَعَالَى.
وَمِنْهَا: أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْبَيْتِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ يَتَنَفَّسُ مِنْ زَمْزَمَ، وَيَنْضَحُ مِنَ الْمَاءِ عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَصَدْرِهِ، وَيُكْثِرُ مِنَ الدُّعَاءِ عِنْدَ شُرْبِهِ، وَيَشْرَبُهُ لِمَطْلُوبِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَقُولُ عِنْدَ شُرْبِهِ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ» وَأَنَا أَشْرَبُهُ لِكَذَا- وَيَذْكُرُ مَا يُرِيدُ دِينًا وَدُنْيَا- اللَّهُمَّ فَافْعَلْ ذَلِكَ بِفَضْلِكَ، وَيَدْعُو بِالدُّعَاءِ الَّذِي كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- يَدْعُو بِهِ إِذَا شَرِبَ مَاءَ زَمْزَمَ وَهُوَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا وَاسِعًا، وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ.
وَنَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ شُرْبَ مَاءِ زَمْزَمَ لِنَيْلِ الْمَطْلُوبِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ شَامِلٌ لِمَا لَوْ شَرِبَهُ بِغَيْرِ مَحَلِّهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ خَاصًّا بِالشَّارِبِ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ كَذَلِكَ، بَلْ يُحْتَمَلُ تَعَدِّي ذَلِكَ إِلَى الْغَيْرِ، فَإِذَا شَرِبَهُ إِنْسَانٌ بِقَصْدِ وَلَدِهِ أَوْ أَخِيهِ مَثَلًا حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ إِذَا شَرِبَ بِنِيَّةٍ صَادِقَةٍ.
وَنَصَّ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ الْجُلُوسُ عِنْدَ شُرْبِ مَاءِ زَمْزَمَ كَغَيْرِهِ، وَقَالُوا: إِنَّ مَا رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنِ «ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ زَمْزَمَ وَهُوَ قَائِمٌ» مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَمُعَارِضٌ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَاصِمٍ قَالَ: ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعِكْرِمَةَ فَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا فَعَلَ- أَيْ مَا شَرِبَ قَائِمًا- لِأَنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ رَاكِبًا.
ج- نَقْلُ مَاءِ زَمْزَمَ:
5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّزَوُّدُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وَنَقْلُهُ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَخْلَفُ، فَهُوَ كَالثَّمَرَةِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ يَزُولُ فَلَا يَعُودُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ التَّزَوُّدُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وَحَمْلُهُ إِلَى الْبِلَادِ فَإِنَّهُ شِفَاءٌ لِمَنِ اسْتَشْفَى، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ «عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا كَانَتْ تَحْمِلُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، وَتُخْبِرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَحْمِلُهُ»، وَرَوَى غَيْرُ التِّرْمِذِيِّ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَحْمِلُهُ وَكَانَ يَصُبُّهُ عَلَى الْمَرْضَى وَيَسْقِيهِمْ»، «وَأَنَّهُ حَنَّكَ بِهِ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ- رضي الله عنهما- »، وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- اسْتَهْدَى سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ» وَفِي تَارِيخِ الْأَزْرَقِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- اسْتَعْجَلَ سُهَيْلًا فِي إِرْسَالِ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ بَعَثَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِرَاوِيَتَيْنِ.
د- اسْتِعْمَالُ مَاءِ زَمْزَمَ:
6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّطْهِيرَ بِمَاءِ زَمْزَمَ صَحِيحٌ، وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي، وَالنَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.
وَفِي اسْتِعْمَالِ مَاءِ زَمْزَمَ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ وَفِي إِزَالَةِ الْخَبَثِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (آبَارٍ) الْمَوْسُوعَةُ الْفِقْهِيَّةُ (1/ 91).
هـ- فَضْلُ مَاءِ زَمْزَمَ:
7- فِي فَضْلِ مَاءِ زَمْزَمَ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «خَيْرُ مَاءٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَاءُ زَمْزَمَ، فِيهِ طَعَامٌ مِنَ الطُّعْمِ وَشِفَاءٌ مِنَ السَّقَمِ» أَيْ أَنَّ شُرْبَ مَائِهَا يُغْنِي عَنِ الطَّعَامِ وَيَشْفِي مِنَ السَّقَامِ، لَكِنْ مَعَ الصِّدْقِ، كَمَا وَقَعَ لِأَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ- رضي الله عنه-، فَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ أَقَامَ شَهْرًا بِمَكَّةَ لَا قُوتَ لَهُ إِلاَّ مَاءَ زَمْزَمَ، وَرَوَى الْأَزْرَقِيُّ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ- رضي الله عنه- قَالَ: تَنَافَسَ النَّاسُ فِي زَمْزَمَ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى أَنْ كَانَ أَهْلُ الْعِيَالِ يَفِدُونَ بِعِيَالِهِمْ فَيَشْرَبُونَ فَيَكُونُ صَبُوحًا لَهُمْ، وَقَدْ كُنَّا نَعُدُّهَا عَوْنًا عَلَى الْعِيَالِ، قَالَ الْعَبَّاسُ: وَكَانَتْ زَمْزَمُ تُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ شُبَاعَةَ.
قَالَ الْأَبِيُّ: هُوَ لِمَا شُرِبَ لَهُ، جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِإِسْمَاعِيلَ وَأُمِّهِ هَاجَرَ طَعَامًا وَشَرَابًا، وَحَكَى الدَّيْنَوَرِيُّ عَنِ الْحُمَيْدِيِّ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فَحَدَّثَنَا بِحَدِيثِ «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ».فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمَجْلِسِ ثُمَّ عَادَ فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أَلَيْسَ الْحَدِيثُ الَّذِي حَدَّثْتَنَا فِي مَاءِ زَمْزَمَ صَحِيحًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ الرَّجُلُ: فَإِنِّي شَرِبْتُ الْآنَ دَلْوًا مِنْ زَمْزَمَ عَلَى أَنَّكَ تُحَدِّثُنِي بِمِائَةِ حَدِيثٍ، فَقَالَ لَهُ سُفْيَانُ: اقْعُدْ، فَقَعَدَ فَحَدَّثَهُ بِمِائَةِ حَدِيثٍ.وَدَخَلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ زَمْزَمَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ ابْنَ الْمُؤَمَّلِ حَدَّثَنِي عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ» اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَشْرَبُهُ لِعَطَشِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَمَاءُ زَمْزَمَ شَرَابُ الْأَبْرَارِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: صَلُّوا فِي مُصَلَّى الْأَخْيَارِ وَاشْرَبُوا مِنْ شَرَابِ الْأَبْرَارِ، قِيلَ: مَا مُصَلَّى الْأَخْيَارِ؟ قَالَ: تَحْتَ الْمِيزَابِ، قِيلَ: وَمَا شَرَابُ الْأَبْرَارِ؟ قَالَ: مَاءُ زَمْزَمَ وَأَكْرِمْ بِهِ مِنْ شَرَابٍ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ: إِنَّ حِكْمَةَ غَسْلِ صَدْرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِمَاءِ زَمْزَمَ لِيَقْوَى بِهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى رُؤْيَةِ مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ خَوَاصِّ مَاءِ زَمْزَمَ أَنَّهُ يُقَوِّي الْقَلْبَ وَيُسْكِنُ الرَّوْعَ.رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ- رضي الله عنه- يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «فُرِجَ سَقْفِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ- عليه السلام- فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَبَرِحَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا».
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
82-موسوعة الفقه الكويتية (زوجة)
زَوْجَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الزَّوْجَةُ فِي اللُّغَةِ: امْرَأَةُ الرَّجُلِ، وَجَمْعُهَا زَوْجَاتٌ، وَيُقَالُ لَهَا: زَوْجٌ، فَالرَّجُلُ زَوْجُ الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةُ زَوْجُهُ.هَذِهِ هِيَ اللُّغَةُ الْعَالِيَةُ وَبِهَا جَاءَ الْقُرْآنُ نَحْوُ قوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} وَالْجَمْعُ فِيهَا أَزْوَاجٌ قَالَهُ أَبُو حَاتِمٍ.وَأَهْلُ نَجْدٍ يَقُولُونَ فِي الْمَرْأَةِ: زَوْجَةٌ بِالْهَاءِ، وَأَهْلُ الْحَرَمِ يَتَكَلَّمُونَ بِهَا.وَعَكَسَ ابْنُ السِّكِّيتِ فَقَالَ: وَأَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ لِلْمَرْأَةِ زَوْجٌ بِغَيْرِ هَاءٍ، وَسَائِرُ الْعَرَبِ زَوْجَةٌ بِالْهَاءِ وَجَمْعُهَا زَوْجَاتٌ، وَالْفُقَهَاءُ يَقْتَصِرُونَ فِي الِاسْتِعْمَالِ عَلَيْهَا لِلْإِيضَاحِ وَخَوْفِ لَبْسِ الذَّكَرِ بِالْأُنْثَى.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالزَّوْجَةِ:
اتِّخَاذُ الزَّوْجَةِ:
2- ذَهَبَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الزَّوَاجَ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ، إِلاَّ إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْوُقُوعَ فِي مَحْظُورٍ فَيَلْزَمُهُ إِعْفَافُ نَفْسِهِ، وَلَا يَزِيدُ عَنْ زَوْجَةٍ وَاحِدَةٍ إِنْ خَافَ الْجَوْرَ لقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْخِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} وَقَدْ تَعْتَرِيهِ أَحْكَامٌ أُخْرَى.
وَالتَّفْصِيلُ فِي (نِكَاحٍ).
اخْتِيَارُ الزَّوْجَةِ:
3- الْمَرْأَةُ سَكَنٌ لِلزَّوْجِ وَحَرْثٌ لَهُ، وَأَمِينَتُهُ فِي مَالِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَوْضِعُ سِرِّهِ، وَعَنْهَا يَرِثُ أَوْلَادُهَا كَثِيرًا مِنَ الصِّفَاتِ، وَيَكْتَسِبُونَ بَعْضَ عَادَاتِهِمْ مِنْهَا، لِهَذَا حَضَّتِ الشَّرِيعَةُ عَلَى حُسْنِ اخْتِيَارِ الزَّوْجَةِ، وَحَدَّدَتْ صِفَاتِ الزَّوْجَةِ الصَّالِحَةِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
4- يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ ذَاتَ دِينٍ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك» أَيْ أَنَّ الَّذِي يُرَغِّبُ فِي الزَّوَاجِ، وَيَدْعُو الرِّجَالَ إِلَيْهِ أَحَدُ هَذِهِ الْخِصَالِ الْأَرْبَعِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَلاَّ يَعْدِلُوا عَنْ ذَاتِ الدِّينِ إِلَى غَيْرِهَا.
5- أَنْ تَكُونَ وَلُودًا، لِحَدِيثِ: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ، الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأَنْبِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
وَيُعْرَفُ كَوْنُ الْبِكْرِ وَلُودًا بِكَوْنِهَا مِنْ أُسْرَةٍ يُعْرَفُ نِسَاؤُهَا بِكَثْرَةِ الْأَوْلَادِ.
6- أَنْ تَكُونَ بِكْرًا، لِخَبَرِ: «فَهَلاَّ بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ».
7- أَنْ تَكُونَ حَسِيبَةً نَسِيبَةً أَيْ طَيِّبَةَ الْأَصْلِ بِانْتِسَابِهَا إِلَى الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِكَرَاهَةِ الزَّوَاجِ بِبِنْتِ الزِّنَى، وَاللَّقِيطَةِ، وَبِنْتِ الْفَاسِقِ لِخَبَرِ: «تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ وَانْكِحُوا الْأَكْفَاءَ وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ».
8- وَأَنْ لَا تَكُونَ ذَاتَ قَرَابَةٍ قَرِيبَةٍ، لِحَدِيثِ: «لَا تَنْكِحُوا الْقَرَابَةَ الْقَرِيبَةَ فَإِنَّ الْوَلَدَ يُخْلَقُ ضَاوِيًا».
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِاسْتِحْبَابِ اخْتِيَارِ الْأَجْنَبِيَّةِ فَإِنَّ وَلَدَهَا أَنْجَبُ.
9- أَنْ تَكُونَ جَمِيلَةً لِأَنَّهَا أَسْكَنُ لِنَفْسِهِ وَأَغَضُّ لِبَصَرِهِ، وَأَكْمَلُ لِمَوَدَّتِهِ، وَلِذَلِكَ شُرِعَ النَّظَرُ قَبْلَ الْعَقْدِ، وَلِحَدِيثِ: «مَا اسْتَفَادَ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ إِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا أَسَرَّتْهُ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ».
10- أَنْ تَكُونَ ذَاتَ عَقْلٍ، وَيَجْتَنِبَ الْحَمْقَاءَ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يُرَادُ لِلْعِشْرَةِ الدَّائِمَةِ، وَلَا تَصْلُحُ الْعِشْرَةُ مَعَ الْحَمْقَاءِ وَلَا يَطِيبُ الْعَيْشُ مَعَهَا، وَرُبَّمَا تَعَدَّى إِلَى وَلَدِهَا.
حَقُّ الْمَرْأَةِ فِي اخْتِيَارِ زَوْجِهَا:
11- لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْتَارَ زَوْجَهَا، جَاءَ فِي الْأَثَرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: أَنْ تَسْكُتَ».وَعَنْ «عَائِشَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحْيِي، قَالَ: رِضَاهَا صَمْتُهَا».وَلَا يَنْبَغِي لِلْوَلِيِّ أَنْ يُزَوِّجَ مُولِيَتَهُ إِلاَّ التَّقِيَّ الصَّالِحَ، جَاءَ فِي الْأَثَرِ: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ».وَرُوِيَ: «مَنْ زَوَّجَ كَرِيمَتَهُ مِنْ فَاسِقٍ فَقَدْ قَطَعَ رَحِمَهَا» وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَأْمِرَ الْبِكْرَ قَبْلَ النِّكَاحِ وَيَذْكُرَ لَهَا الزَّوْجَ فَيَقُولَ: إِنَّ فُلَانًا يَخْطُبُكِ أَوْ يَذْكُرُكِ، وَإِنْ زَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْمَارٍ فَقَدْ أَخْطَأَ السُّنَّةَ لِخَبَرِ: «شَاوِرُوا النِّسَاءَ فِي أَبْضَاعِهِنَّ» وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ إِلاَّ بِرِضَاهَا، وَلَا يَنْعَقِدُ الزَّوَاجُ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ إِذَا زَوَّجَ الْقَاصِرَةَ أَوِ الْبِكْرَ بِغَيْرِ كُفْءٍ، وَلَهَا فَسْخُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (وِلَايَةٍ).
وَلَيْسَ لَهُ تَزْوِيجُ الثَّيِّبِ إِلاَّ بِإِذْنِهَا لِخَبَرِ: «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَعْضُلَهَا، وَيَسْقُطُ بِالْعَضْلِ حَقُّهُ فِي تَزْوِيجِهَا إِنْ رَغِبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَ كُفْئًا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاحٍ، وَلِيٍّ).
حُقُوقُ الزَّوْجَةِ:
12- إِذَا وَقَعَ الْعَقْدُ صَحِيحًا نَافِذًا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ آثَارُهُ، وَتَنْشَأُ بِهِ حُقُوقٌ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
1- حُقُوقٌ وَاجِبَةٌ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا.
2- حُقُوقٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا.
3- وَحُقُوقٌ وَاجِبَةٌ لِلزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ، وَتُرَاجَعُ فِي مُصْطَلَحِ: (زَوْجٍ).
الْحُقُوقُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ هِيَ:
13- 1- حِلُّ الْعِشْرَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَاسْتِمْتَاعُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ فَيَحِلُّ لِلزَّوْجَةِ مِنْ زَوْجِهَا مَا يَحِلُّ لَهُ مِنْهَا، وَتَفْصِيلُ هَذَا الْحَقِّ وَحُدُودُهُ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (عِشْرَةٍ).
2- حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ، فَالزَّوْجَةُ تَحْرُمُ عَلَى آبَاءِ الزَّوْجِ وَأَجْدَادِهِ وَأَبْنَائِهِ، وَفُرُوعِ أَبْنَائِهِ وَبَنَاتِهِ، وَيَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجِ أُمَّهَاتُ الزَّوْجَةِ وَجَدَّاتُهَا وَبَنَاتُهَا، وَبَنَاتِ آبَائِهَا وَبَنَاتِهَا، وَأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أُخْتِهَا أَوْ عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا وَانْظُرِ التَّفْصِيلَ فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاحٍ، وَمُحَرَّمَاتٍ).
3- ثُبُوتُ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمَا بِمُجَرَّدِ إِتْمَامِ الْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِالزَّوْجَةِ، وَالتَّفْصِيلُ فِي: (إِرْثٍ).
4- ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْ صَاحِبِ الْفِرَاشِ.
5- حُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ، فَيَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُعَاشِرَ زَوْجَتَهُ بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِثْلُ ذَلِكَ لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَالتَّفْصِيلُ فِي (نِكَاحٍ).
حُقُوقُ الزَّوْجَةِ الْخَاصَّةُ بِهَا:
14- لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا حُقُوقٌ مَالِيَّةٌ وَهِيَ: الْمَهْرُ، وَالنَّفَقَةُ، وَالسُّكْنَى، وَحُقُوقٌ غَيْرُ مَالِيَّةٍ: كَالْعَدْلِ فِي الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ، وَعَدَمِ الْإِضْرَارِ بِالزَّوْجَةِ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (عِشْرَةٍ).
أ- الْمَهْرُ:
15- الْمَهْرُ هُوَ الْمَالُ الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجَةُ عَلَى زَوْجِهَا بِالْعَقْدِ عَلَيْهَا أَوْ بِالدُّخُولِ بِهَا.وَهُوَ حَقٌّ وَاجِبٌ لِلْمَرْأَةِ عَلَى الرَّجُلِ عَطِيَّةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مُبْتَدَأَةً، أَوْ هَدِيَّةً أَوْجَبَهَا عَلَى الرَّجُلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} إِظْهَارًا لِخَطَرِ هَذَا الْعَقْدِ وَمَكَانَتِهِ، وَإِعْزَازًا لِلْمَرْأَةِ وَإِكْرَامًا لَهَا.
وَالْمَهْرُ لَيْسَ شَرْطًا فِي عَقْدِ الزَّوَاجِ وَلَا رُكْنًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِهِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهِ، فَإِذَا تَمَّ الْعَقْدُ بِدُونِ ذِكْرِ مَهْرٍ صَحَّ بِاتِّفَاقِ الْجُمْهُورِ لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} فَإِبَاحَةُ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَقَبْلَ فَرْضِ صَدَاقٍ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ عَدَمِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ فِي الْعَقْدِ.وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَعْرَى النِّكَاحُ عَنْ تَسْمِيَةِ الصَّدَاقِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُزَوِّجُ بَنَاتِهِ وَغَيْرَهُنَّ، وَيَتَزَوَّجُ وَلَمْ يَكُنْ يُخَلِّي النِّكَاحَ مِنْ صَدَاقٍ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَفْسُدُ النِّكَاحُ إِنْ نَقَصَ صَدَاقُهُ عَنْ رُبُعِ دِينَارٍ شَرْعِيٍّ أَوْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَيُتِمُّ النَّاقِصَ عَمَّا ذُكِرَ وُجُوبًا إِنْ دَخَلَ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يُتِمَّ فَلَا فَسْخَ، فَإِنْ لَمْ يُتِمَّهُ فُسِخَ بِطَلَاقٍ وَوَجَبَ فِيهِ نِصْفُ الْمُسَمَّى
وَالتَّفْصِيلُ فِي (صَدَاقٍ).
ب- النَّفَقَةُ:
16- مِنْ حُقُوقِ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا: النَّفَقَةُ، وَقَدْ أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ بِشُرُوطٍ يَذْكُرُونَهَا فِي بَابِ النَّفَقَةِ.وَالْحِكْمَةُ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ لَهَا أَنَّ الْمَرْأَةَ مَحْبُوسَةٌ عَلَى الزَّوْجِ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الزَّوَاجِ، مَمْنُوعَةٌ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ إِلاَّ بِإِذْنٍ مِنْهُ لِلِاكْتِسَابِ، فَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا، وَعَلَيْهِ كِفَايَتُهَا، فَالنَّفَقَةُ مُقَابِلُ الِاحْتِبَاسِ، فَمَنِ احْتَبَسَ لِمَنْفَعَةِ غَيْرِهِ كَالْقَاضِي وَغَيْرِهِ مِنَ الْعَامِلِينَ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَجَبَتْ نَفَقَتُهُ.
وَالْمَقْصُودُ بِالنَّفَقَةِ تَوْفِيرُ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الزَّوْجَةُ مِنْ طَعَامٍ، وَمَسْكَنٍ، وَخِدْمَةٍ، فَتَجِبُ لَهَا هَذِهِ الْأَشْيَاءُ وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً، لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّاآتَاهُ اللَّهُ}.
وَفِي الْأَثَرِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلاَّ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ».
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَفَقَةٍ، سُكْنَى).
الْعَدْلُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ:
17- مِنْ حَقِّ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا الْعَدْلُ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنْ زَوْجَاتِهِ، إِنْ كَانَ لَهُ زَوْجَاتٌ، فِي الْمَبِيتِ وَالنَّفَقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ الْمُعَامَلَةِ الْمَادِّيَّةِ، وَذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} وَجَاءَ فِي الْخَبَرِ: «إِذَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ امْرَأَتَانِ فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ سَاقِطٌ».
وَقَالَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ هَذِهِ قِسْمَتِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ».ر: (قَسْمٌ).
حُسْنُ الْعِشْرَةِ:
18- يُسْتَحَبُّ لِلزَّوْجِ تَحْسِينُ خُلُقِهِ مَعَ زَوْجَتِهِ وَالرِّفْقُ بِهَا، وَتَقْدِيمُ مَا يُمْكِنُ تَقْدِيمُهُ إِلَيْهَا مِمَّا يُؤَلِّفُ قَلْبَهَا، لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَقَوْلِهِ: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَفِي الْخَبَرِ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ».وَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «خِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ خُلُقًا».
وَمِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ فِي مُعَامَلَةِ الزَّوْجَةِ التَّلَطُّفُ بِهَا وَمُدَاعَبَتُهَا.فَقَدْ جَاءَ فِي الْأَثَرِ: «كُلُّ مَا يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ بَاطِلٌ إِلاَّ رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ، وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ، وَمُلَاعَبَتَهُ أَهْلَهُ، فَإِنَّهُنَّ مِنَ الْحَقِّ».
وَالتَّفْصِيلُ فِي: (عِشْرَةٍ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
83-موسوعة الفقه الكويتية (زيارة)
زِيَارَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الزِّيَارَةُ فِي اللُّغَةِ: الْقَصْدُ، يُقَالُ: زَارَهُ يَزُورُهُ زَوْرًا وَزِيَارَةً: قَصَدَهُ وَعَادَهُ.
وَفِي الْعُرْفِ هِيَ قَصْدُ الْمَزُورِ إِكْرَامًا لَهُ وَاسْتِئْنَاسًا بِهِ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعِيَادَةُ:
2- هِيَ مِنْ عَادَ الْمَرِيضَ يَعُودُهُ عِيَادَةً: إِذَا زَارَهُ فِي مَرَضِهِ.
فَالْعِيَادَةُ عَلَى هَذَا أَخَصُّ مِنَ الزِّيَارَةِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3- تَخْتَلِفُ أَحْكَامُ الزِّيَارَةِ بِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهَا، وَالْمَزُورِ، وَالزَّائِرِ.
زِيَارَةُ قَبْرِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-:
4- زِيَارَةُ قَبْرِهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ أَهَمِّ الْقُرُبَاتِ وَأَفْضَلِ الْمَنْدُوبَاتِ، وَقَدْ نَقَلَ صَاحِبُ فَتْحِ الْقَدِيرِ عَنْ مَنَاسِكِ الْفَاسِيِّ وَشَرْحِ الْمُخْتَارِ: أَنَّ زِيَارَةَ قَبْرِهِ- صلى الله عليه وسلم- قَرِيبَةٌ مِنَ الْوُجُوبِ.وَفِي حَدِيثٍ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي»، وَرُوِيَ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ جَاءَنِي زَائِرًا لَا يَعْلَمُ لَهُ حَاجَةً إِلاَّ زِيَارَتِي، كَانَ حَقًّا عَلَيَّ أَنْ أَكُونَ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-).
زِيَارَةُ الْقُبُورِ:
5- تُسَنُّ زِيَارَةُ قُبُورِ الْمُسْلِمِينَ لِلرِّجَالِ بِدُونِ سَفَرٍ، لِخَبَرِ «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا».
وَيُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ: «نُهِينَا عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا».وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (زِيَارَةِ الْقُبُورِ).
زِيَارَةُ الْأَمَاكِنِ:
6- وَرَدَتْ نُصُوصٌ وَآثَارٌ تَدْعُو إِلَى زِيَارَةِ أَمَاكِنَ بِعَيْنِهَا.وَمِنْهَا مَا وَرَدَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} وَكَانَ- صلى الله عليه وسلم- يَزُورُهُ كُلَّ سَبْتٍ.وَالْمَسَاجِدُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي وَرَدَ الْحَدِيثُ بِشَدِّ الرِّحَالِ إِلَيْهَا وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا، وَمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى».
وَمِنْهَا جَبَلُ أُحُدٍ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَمَاكِنِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا نَصٌّ بِذَلِكَ فَتُسْتَحَبُّ زِيَارَتُهَا.
زِيَارَةُ الصَّالِحِينَ، وَالْإِخْوَانِ:
7- تُسَنُّ زِيَارَةُ الصَّالِحِينَ وَالْإِخْوَانِ، وَالْأَصْدِقَاءِ وَالْجِيرَانِ، وَالْأَقَارِبِ وَصِلَتُهُمْ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ زِيَارَتُهُمْ عَلَى وَجْهٍ يَرْتَضُونَهُ، وَفِي وَقْتٍ لَا يَكْرَهُونَهُ.كَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ أَخِيهِ الصَّالِحِ أَنْ يَزُورَهُ وَيُكْثِرَ زِيَارَتَهُ إِذَا لَمْ يَشُقَّ ذَلِكَ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَثَرِ: «أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ: لَا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ، بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ».
وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: «حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِي، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَنَاصِحِينَ فِي، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَزَاوِرِينَ فِي».
وَعَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه-: «إِذَا جَاءَكُمُ الزَّائِرُ فَأَكْرِمُوهُ».
زِيَارَةُ الزَّوْجَةِ لِأَهْلِهَا وَوَالِدَيْهَا، وَزِيَارَتُهُمْ لَهَا:
8- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَهُمْ: لِلْمَرْأَةِ الْخُرُوجُ لِزِيَارَةِ وَالِدَيْهَا كُلَّ جُمُعَةٍ، وَمَحَارِمِهَا كُلَّ سَنَةٍ وَلَوْ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَمِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ.وَقَيَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنْ يَكُونَ الْوَالِدَانِ فِي الْبَلَدِ.
وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَمْنَعُ أَبَوَيِ الزَّوْجَةِ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهَا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ، وَلَا يَمْنَعُ غَيْرَهُمَا مِنَ الْمَحَارِمِ فِي كُلِّ سَنَةٍ.
وَكَذَا بِالنِّسْبَةِ لِأَوْلَادِهَا مِنْ غَيْرِهِ إِنْ كَانُوا صِغَارًا، لَا يَمْنَعُهُمُ الزَّوْجُ مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْهَا كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً، وَإِنِ اتَّهَمَ وَالِدَيْهَا بِإِفْسَادِهَا، فَيُقْضَى لَهُمَا بِالدُّخُولِ مَعَ امْرَأَةٍ أَمِينَةٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ وَعَلَيْهِ أُجْرَتُهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَفِيَّةِ: إِلَى أَنَّ لَهُ الْمَنْعَ مِنَ الدُّخُولِ، مُعَلِّلًا بِأَنَّ الْمَنْزِلَ مِلْكُهُ وَلَهُ حَقُّ الْمَنْعِ مِنْ دُخُولِ مِلْكِهِ، وَهَذَا ظَاهِرُ الْكَنْزِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقُدُورِيِّ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الذَّخِيرَةِ.
وَقِيلَ: لَا مَنْعَ مِنَ الدُّخُولِ بَلْ مِنَ الْقَرَارِ؛ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ فِي الْمُكْثِ وَطُولِ الْكَلَامِ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، أَنَّهُ يُقْضَى بِزِيَارَةِ وَالِدَيْهَا وَأَوْلَادِهَا الْكِبَارِ مِنْ غَيْرِهِ لَهَا فِي بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّةً.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الْخُرُوجَ مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِيَّةِ لِزِيَارَةِ وَالِدَيْهَا وَمَحَارِمِهَا فِي غَيْبَةِ الزَّوْجِ إِنْ لَمْ يَنْهَهَا عَنِ الْخُرُوجِ.وَجَرَتِ الْعَادَةُ بِالتَّسَامُحِ بِذَلِكَ.أَمَّا إِذَا نَهَاهَا عَنِ الْخُرُوجِ فِي غَيْبَتِهِ فَلَيْسَ لَهَا الْخُرُوجُ لِزِيَارَةٍ وَلَا لِغَيْرِهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ مَنْعُ أَبُوهَا مِنْ زِيَارَتِهَا، لِمَا فِيهِ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، لَكِنْ إِنْ عَرَفَ بِقَرَائِنِ الْحَالِ حُدُوثَ ضَرَرٍ بِزِيَارَتِهِمَا، أَوْ زِيَارَةِ أَحَدِهِمَا فَلَهُ الْمَنْعُ.
زِيَارَةُ الْمَحْضُونِ:
9- لِكُلٍّ مِنَ الْأَبَوَيْنِ زِيَارَةُ أَوْلَادِهِ إِذَا كَانَتِ الْحَضَانَةُ لِغَيْرِهِ، وَلَيْسَ لِمَنْ لَهُ حَقُّ الْحَضَانَةِ مَنْعُ الزِّيَارَةِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَضَانَةٍ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
84-موسوعة الفقه الكويتية (زيوف)
زُيُوفٌالتَّعْرِيفُ:
1- الزُّيُوفُ لُغَةً: النُّقُودُ الرَّدِيئَةُ، وَهِيَ جَمْعُ زَيْفٍ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ، ثُمَّ وُصِفَ بِالْمَصْدَرِ، فَيُقَالُ: دِرْهَمٌ زَيْفٌ، وَدَرَاهِمُ زُيُوفٌ، وَرُبَّمَا قِيلَ: زَائِفَةٌ.قَالَ بَعْضُهُمْ: الزُّيُوفُ هِيَ الْمَطْلِيَّةُ بِالزِّئْبَقِ الْمَعْقُودِ بِمُزَاوَجَةِ الْكِبْرِيتِ وَتُسَكُّ بِقَدْرِ الدَّرَاهِمِ الْجَيِّدَةِ لِتَلْتَبِسَ بِهَا.وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-: أَنَّهُ بَاعَ نُفَايَةَ بَيْتِ الْمَالِ وَكَانَتْ زُيُوفًا وَقَسِّيَّةً.أَيْ رَدِيئَةً.
وَالتَّزْيِيفُ لُغَةً: إِظْهَارُ زَيْفِ الدَّرَاهِمِ.
وَلَا يَخْرُجُ اصْطِلَاحُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَقَدْ أَصْبَحَ لِلزُّيُوفِ فِي الْعَصْرِ الْحَاضِرِ مَعْنًى آخَرَ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْجِيَادُ:
2- الْجِيَادُ لُغَةً: جَمِيعُ جَيِّدَةٍ، وَالدَّرَاهِمُ الْجِيَادُ مَا كَانَ مِنَ الْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ تَرُوجُ فِي التِّجَارَاتِ وَتُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ.وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَهُمَا التَّضَادُّ.
ب- النَّبَهْرَجَةُ:
3- التَّبَهْرُجُ وَالْبَهْرَجُ: الرَّدِيءُ مِنَ الشَّيْءِ، وَدِرْهَمٌ نُبَهْرَجٌ، أَوْ بَهْرَجٌ، أَوْ مُبَهْرَجٌ أَيْ رَدِيءُ الْفِضَّةِ، وَهُوَ مَا يَرُدُّهُ التُّجَّارُ، وَقِيلَ هُوَ: مَا ضُرِبَ فِي غَيْرِ دَارِ السُّلْطَانِ.
ج- السَّتُّوقَةُ:
4- وَهِيَ صُفْرٌ مُمَوَّهٌ بِالْفِضَّةِ نُحَاسُهَا أَكْثَرُ مِنْ فِضَّتِهَا.
د- الْفُلُوسُ:
5- الْفُلُوسُ جَمْعُ فَلْسٍ، وَهُوَ قِطْعَةٌ مَضْرُوبَةٌ مِنَ النُّحَاسِ يُتَعَامَلُ بِهَا.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَا:
6- يَجُوزُ التَّعَامُلُ بِدَرَاهِمَ زُيُوفٍ أَيْ «مَغْشُوشَةٍ» وَإِنْ جَهِلَ قَدْرَ غِشِّهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ لَهَا قِيمَةٌ إِنِ انْفَرَدَتِ الْفِضَّةُ أَمْ لَا، اسْتُهْلِكَتْ فِيهَا أَمْ لَا، وَلَوْ فِي الذِّمَّةِ، وَلَا يَضُرُّ اخْتِلَاطُهَا بِالنُّحَاسِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ رَوَاجُهَا، وَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يَتَعَامَلُونَ بِدَرَاهِمِ الْعَجَمِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَضْرِبْ نُقُودًا وَلَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، - رضي الله عنهم-، وَكَانُوا إِذَا زَافَتْ عَلَيْهِمْ أَتَوْا بِهَا إِلَى السُّوقِ وَقَالُوا: مَنْ يَبِيعُنَا بِهَذِهِ، وَسُئِلَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي دَرَاهِمَ يُقَالُ لَهَا: الْمُسَيَّبِيَّةُ عَامَّتُهَا مِنْ نُحَاسٍ، إِلاَّ أَنَّ فِيهَا شَيْئًا مِنَ الْفِضَّةِ فَقَالَ: إِذَا كَانَ شَيْئًا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ أَرْجُو أَلاَّ يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ؛ وَلِأَنَّهُ لَا تَغْرِيرَ فِيهِ وَلَا يُمْنَعُ النَّاسُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ مُسْتَفِيضٌ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ جَارٍ بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَعَارَفِ النَّاسُ عَلَى التَّعَامُلِ بِهَا فَلَا يَجُوزُ.
ضَرْبُ الدَّرَاهِمِ الزُّيُوفِ:
7- يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ ضَرْبُ نُقُودٍ زَائِفَةٍ، كَمَا يُكْرَهُ لِلْأَفْرَادِ اتِّخَاذُهَا، أَوْ إِمْسَاكُهَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَامَلُ بِهَا مَنْ لَا يَعْرِفُ حَالَهَا فَيَظُنُّهَا جَيِّدَةً وَلِخَبَرِ «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا».
وَمَنِ اجْتَمَعَتْ عِنْدَهُ زُيُوفٌ فَلَا يُمْسِكُهَا بَلْ يَسْبِكُهَا وَيَصُوغُهَا، وَلَا يَبِيعُهَا لِلنَّاسِ، إِلاَّ أَنْ يُبَيِّنَ حَالَهَا لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا خَلَطَهَا بِدَرَاهِمَ جَيِّدَةٍ، وَيُعَامِلَ مَنْ لَا يَعْرِفُهَا فَيَكُونُ تَغْرِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ وَإِدْخَالًا لِلضَّرَرِ عَلَيْهِمْ.وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَغُرَّ بِهَا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا أَقُولُ إِنَّهَا حَرَامٌ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ الزُّيُوفَ لِبَيْتِ الْمَالِ مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ وَمِنْ أَهْلِ الْأَرَاضِي الْخَرَاجِيَّةِ.
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- يَكْسِرُ الزُّيُوفَ وَهُوَ فِي بَيْتِ الْمَالِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ دِرْهَمٍ زَائِفٍ بِدِرْهَمٍ جَيِّدٍ وَزْنًا بِوَزْنٍ وَلَا بِعَرَضٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَاعِيَةٌ إِلَى إِدْخَالِ الْغِشِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يُرِيقُ اللَّبَنَ الْمَشُوبَ بِالْمَاءِ، تَأْدِيبًا لِصَاحِبِهِ، فَإِجَازَةُ شِرَائِهِ إِجَازَةٌ لِغِشِّهِ وَإِفْسَادٌ لِأَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِخَبَرِ «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا».
وَقَدْ نَهَى عُمَرُ- رضي الله عنه- عَنْ بَيْعِ نُفَايَةِ بَيْتِ الْمَالِ، وَكَانَتْ زُيُوفًا؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهِ- وَهُوَ الْفِضَّةُ- مَجْهُولٌ، فَأَشْبَهَ تُرَابَ الصَّاغَةِ، وَاللَّبَنُ الْمَشُوبُ بِالْمَاءِ.
وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَيُعَلِّلُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مَنْعَ بَيْعِ الدَّرَاهِمِ الْجَيِّدَةِ بِالدَّرَاهِمِ الزُّيُوفِ بِأَنَّهُ مِنْ رِبَا الْفَضْلِ لِعَدَمِ مَعْرِفَةِ التَّمَاثُلِ مَعَ وَحْدَةِ الْجِنْسِ فِي الْعِوَضَيْنِ.
وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي الزُّيُوفِ:
8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الزُّيُوفِ مِنَ الدَّرَاهِمِ.
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَتِ الْفِضَّةُ فِيهَا هِيَ الْغَالِبَةُ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ الْغِشَّ مُسْتَهْلَكٌ مَغْمُورٌ، وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ قَالَ: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الدَّرَاهِمِ الْجِيَادِ، وَالزُّيُوفِ، وَالنَّبَهْرَجَةِ، وَالْمُزَيَّفَةِ، إِذَا كَانَ الْغَالِبُ فِيهَا الْفِضَّةَ؛ لِأَنَّ مَا يَغْلِبُ فِضَّتُهُ عَلَى غِشِّهِ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الدِّرْهَمِ مُطْلَقًا، وَالشَّرْعُ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ بِاسْمِ الدِّرْهَمِ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ فِيهَا الْغِشَّ وَالْفِضَّةُ مَغْلُوبَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ أَثْمَانًا رَائِجَةً، أَوْ يُمْسِكُهَا لِلتِّجَارَةِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا، فَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنْ أَدْنَى الدَّرَاهِمِ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ- وَهِيَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا الْفِضَّةُ- تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ.وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ فَلَا تَجِبُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَثْمَانًا رَائِجَةً، وَلَا مُعَدَّةً لِلتِّجَارَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الصُّفْرَ أَيِ النُّحَاسَ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ إِلاَّ بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ، فَإِذَا أَعَدَّهَا لِلتِّجَارَةِ اعْتَبَرْنَا فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا الْقِيمَةَ كَعُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ، وَلَيْسَتْ أَثْمَانًا رَائِجَةً، اعْتَبَرْنَا مَا فِيهَا مِنَ الْفِضَّةِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الزُّيُوفِ مِنَ النُّقُودِ حَتَّى يَبْلُغَ خَالِصُهَا نِصَابًا.فَإِذَا بَلَغَ خَالِصُهَا النِّصَابَ أَخْرَجَ الْوَاجِبَ خَالِصًا، أَوْ أَخْرَجَ مِنَ الْمَغْشُوشِ مَا يَعْلَمُ اشْتِمَالَهُ عَلَى خَالِصٍ بِقَدْرِ الْوَاجِبِ.
وَلِتَفْصِيلِ ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (زَكَاةٍ).
بَيْعُ الزُّيُوفِ بِالْجِيَادِ:
9- لَا يَجُوزُ بَيْعُ الزُّيُوفِ بِالْجِيَادِ مُتَفَاضِلًا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لِخَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ...مِثْلًا بِمِثْلٍ».
وَعَنْ عُبَادَةَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا»، وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ أَنَّهُ سَأَلَ عَلِيًّا- رضي الله عنه- عَنِ الدَّرَاهِمِ تَكُونُ مَعِي لَا تُنْفَقُ فِي حَاجَتِي أَيْ رَدِيئَةً، فَأَشْتَرِي بِهَا دَرَاهِمَ تُنْفَقُ فِي حَاجَتِي وَأَهْضِمُ مِنْهَا؟ أَيْ أُنْقِصُ مِنَ الْبَدَلِ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ بِعْ دَرَاهِمَكَ بِدَنَانِيرَ ثُمَّ اشْتَرِ بِهَا دَرَاهِمَ تُنْفَقُ فِي حَاجَتِكَ؛ وَلِأَنَّ الْجِيَادَ وَالزُّيُوفَ نَوْعٌ وَاحِدٌ فَيَحْرُمُ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا.
وَلَا مَعْنَى لِمُرَاعَاةِ فَرْقِ الْجَوْدَةِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ «جَيِّدِهَا وَرَدِيئِهَا سَوَاءٌ».
وَمَنَعَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْعَ الدَّرَاهِمِ الْجِيَادِ بِالدَّرَاهِمِ الرَّدِيئَةِ حَتَّى تُكْسَرَ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَغُشَّ غَيْرَهُ فِي أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ عِنْدَهُمْ.
وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: وَالْخِلَافُ فِي الْمَغْشُوشِ الَّذِي لَا يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ كَغَيْرِهِ، وَإِلاَّ جَازَ قَطْعًا.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (رِبًا)، (صَرْفٍ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
85-موسوعة الفقه الكويتية (سؤال)
سُؤَالٌالتَّعْرِيفُ:
1- السُّؤَالُ: مَصْدَرُ (سَأَلَ) تَقُولُ: سَأَلْتُهُ الشَّيْءَ، وَسَأَلْتُهُ عَنِ الشَّيْءِ سُؤَالًا وَمَسْأَلَةً، وَجَمْعُ سُؤَالٍ أَسْئِلَةٌ، وَجَمْعُ الْمَسْأَلَةِ مَسَائِلُ، وَقَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: سَأَلْتُهُ الشَّيْءَ اسْتَعْطَيْتُهُ إِيَّاهُ.قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} وَسَأَلْتُهُ عَنِ الشَّيْءِ وَبِهِ: اسْتَخْبَرْتُهُ، وَفِي هَذَا قَالَ تَعَالَى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} وقوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} وَحَدِيثُ: «إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ».
وَفِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ: اسْتِدْعَاءُ مَعْرِفَةٍ أَوْ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْمَعْرِفَةِ، أَوْ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْمَالِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ بِهِ:
الِاسْتِجْدَاءُ:
2- وَهُوَ مَنْ أَجْدَى عَلَيْهِ أَيْ أَعْطَاهُ، يُقَالُ: جَدَوْتُهُ جَدْوًا، وَأَجْدَيْتُهُ، وَاسْتَجْدَيْتُهُ: إِذَا أَتَيْتُهُ أَسْأَلُهُ حَاجَةً، وَطَلَبْتُ جَدْوَاهُ أَوْ طَلَبْتُ الصَّدَقَةَ مِنْهُ.
الشِّحَاذَةُ:
3- الشِّحَاذَةُ هِيَ الْإِلْحَاحُ فِي الْمَسْأَلَةِ.
الْأَمْرُ:
4- الْأَمْرُ: هُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ بِالْقَوْلِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعْلَاءِ.
الدُّعَاءُ:
5- الدُّعَاءُ هُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، فَالدُّعَاءُ نَوْعٌ مِنَ السُّؤَالِ.
الِالْتِمَاسُ:
6- الِالْتِمَاسُ هُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ مِنَ الْمُسَاوِي.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
تَخْتَلِفُ أَحْكَامُ السُّؤَالِ بِاخْتِلَافِ حَالَةِ السَّائِلِ وَنَوْعِ السُّؤَالِ، وَقَصْدِ السَّائِلِ مِنْهُ:
أَوَّلًا- السُّؤَالُ (بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ):
7- السُّؤَالُ عَلَى وَجْهِ التَّبَيُّنِ وَالتَّعَلُّمِ عَمَّا تَمَسُّ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ فِي أُمُورِ الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا مَأْمُورٌ بِهِ، أَوْ مُبَاحٌ بِحَسَبِ حَالِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ.
أَمَّا السُّؤَالُ عَمَّا لَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ وَلَا دُنْيَوِيَّةٌ عَلَى طَرِيقِ التَّكَلُّفِ وَالتَّعَنُّتِ لِغَرَضِ التَّعْجِيزِ وَتَغْلِيطِ الْعُلَمَاءِ فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} قَالَ الطَّبَرِيُّ: ذَكَرَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِسَبَبِ مَسَائِلَ كَانَ يَسْأَلُهَا إِيَّاهُ أَقْوَامٌ امْتِحَانًا لَهُ أَحْيَانًا وَاسْتِهْزَاءً أَحْيَانًا.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ قَوْمٌ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- اسْتِهْزَاءً، يَقُولُ الرَّجُلُ مَنْ أَبِي؟ وَيَقُولُ الرَّجُلُ: تَضِلُّ نَاقَتُهُ: أَيْنَ نَاقَتِي؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}.
وَعَنْهُ- صلى الله عليه وسلم-: «الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ».وَوَرَدَ عَنْهُ- عليه الصلاة والسلام- أَنَّهُ: «كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ».
وَجَاءَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ «كَرِهَ الْمَسَائِلَ، وَعَابَهَا»
وَالْمُرَادُ الْمَسَائِلُ الدَّقِيقَةُ الَّتِي لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-: شَرُّ النَّاسِ الَّذِينَ يَسْأَلُونَ شَرَّ الْمَسَائِلِ كَيْ يُغَلِّطُوا الْعُلَمَاءَ
السُّؤَالُ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْمُتَكَلِّمِ:
8- قَالَ الشَّاطِبِيُّ: إِنَّ السُّؤَالَ إِمَّا أَنْ يَقَعَ مِنْ عَالِمٍ أَوْ غَيْرِ عَالِمٍ.وَأَعْنِي بِالْعَالَمِ الْمُجْتَهِدِ، وَغَيْرِ الْعَالِمِ الْمُقَلِّدِ.وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَسْئُولُ عَالِمًا أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ.فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: (الْأَوَّلُ) سُؤَالُ الْعَالِمِ لِلْعَالِمِ.وَذَلِكَ فِي الْمَشْرُوعِ يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ، كَتَحْقِيقِ مَا حَصَلَ، أَوْ رَفْعِ إِشْكَالٍ عَنَّ لَهُ، وَتَذَكَّرَ مَا خَشِيَ عَلَيْهِ النِّسْيَانُ، أَوْ تَنْبِيهِ الْمَسْئُولِ عَلَى خَطَأٍ يُورِدُهُ مَوْرِدَ الِاسْتِفَادَةِ، أَوْ نِيَابَةٍ مِنْهُ عَنِ الْحَاضِرِينَ مِنَ الْمُتَعَلِّمِينَ، أَوْ تَحْصِيلِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ فَاتَهُ مِنَ الْعِلْمِ.
(وَالثَّانِي) سُؤَالُ الْمُتَعَلِّمِ لِمِثْلِهِ، وَذَلِكَ أَيْضًا يَكُونُ عَلَى وُجُوهٍ، كَمُذَاكَرَتِهِ لَهُ بِمَا سَمِعَ، أَوْ طَلَبِهِ مِنْهُ مَا لَمْ يَسْمَعْ مِمَّا سَمِعَهُ الْمَسْئُولُ، أَوْ تَمَرُّنِهِ مَعَهُ فِي الْمَسَائِلِ قَبْلَ لِقَاءِ الْعَالِمِ، أَوِ التَّهَدِّي بِعَقْلِهِ إِلَى فَهْمِ مَا أَلْقَاهُ الْعَالِمُ.
(وَالثَّالِثُ) سُؤَالُ الْعَالِمِ لِلْمُتَعَلِّمِ.وَهُوَ عَلَى وُجُوهٍ كَذَلِكَ، كَتَنْبِيهٍ عَلَى مَوْضِعِ إِشْكَالٍ يَطْلُبُ رَفْعَهُ، أَوِ اخْتِبَارِ عَقْلِهِ أَيْنَ بَلَغَ؟ وَالِاسْتِعَانَةِ بِفَهْمِهِ إِنْ كَانَ لِفَهْمِهِ فَضْلٌ، أَوْ تَنْبِيهِهِ عَلَى مَا عَلِمَ لِيَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى مَا لَمْ يَعْلَمْ.
(وَالرَّابِعُ) وَهُوَ الْأَصْلُ الْأَوَّلُ، سُؤَالُ الْمُتَعَلِّمِ لِلْعَالِمِ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى طَلَبِ عِلْمِ مَا لَمْ يَعْلَمْ.فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مُسْتَحَقٌّ إِنْ عُلِمَ، مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ عَارِضٌ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا، وَإِلاَّ فَالِاعْتِرَافُ بِالْعَجْزِ.وَأَمَّا الرَّابِعُ فَلَيْسَ الْجَوَابُ بِمُسْتَحَقٍّ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ فِيهِ تَفْصِيلٌ.فَيَلْزَمُ الْجَوَابُ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِمَا سُئِلَ عَنْهُ مُتَعَيِّنًا عَلَيْهِ فِي نَازِلَةٍ وَاقِعَةٍ، أَوْ فِي أَمْرٍ فِيهِ نَصٌّ شَرْعِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُتَعَلِّمِ، لَا مُطْلَقًا، وَيَكُونُ السَّائِلُ مِمَّنْ يَحْتَمِلُ عَقْلُهُ الْجَوَابَ، وَلَا يُؤَدِّي السُّؤَالُ إِلَى تَعَمُّقٍ وَلَا تَكَلُّفٍ، وَهُوَ مِمَّا يُبْنَى عَلَيْهِ عَمَلٌ شَرْعِيٌّ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ.وَقَدْ لَا يَلْزَمُ الْجَوَابُ فِي مَوَاضِعَ، بِمَا إِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ.أَوِ الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ لَا نَصَّ فِيهَا لِلشَّارِعِ.وَقَدْ لَا يَجُوزُ، كَمَا إِذَا لَمْ يَحْتَمِلْ عَقْلُهُ الْجَوَابَ أَوْ كَانَ فِيهِ تَعَمُّقٌ، أَوْ أَكْثَرُ مِنَ السُّؤَالَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ الْأَغَالِيطِ وَفِيهِ نَوْعُ اعْتِرَاضٍ.انْتَهَى كَلَامُ الشَّاطِبِيِّ.
هَذَا وَالسُّؤَالُ مِنَ الْمُقَلِّدِ عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِيمَا وَقَعَ لَهُ يُسَمَّى اسْتِفْتَاءً، وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (فَتْوَى).
ثَانِيًا- السُّؤَالُ بِمَعْنَى طَلَبِ الْحَاجَةِ:
التَّعَرُّضُ لِلصَّدَقَةِ بِالسُّؤَالِ، أَوْ إِظْهَارِ أَمَارَةِ الْفَاقَةِ:
9- يَحْرِصُ الْإِسْلَامُ عَلَى حِفْظِ كَرَامَةِ الْمُسْلِمِ، وَصَوْنِ نَفْسِهِ عَنِ الِابْتِذَالِ وَالْوُقُوفِ بِمَوَاقِفِ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ، فَحَذَّرَ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلصَّدَقَةِ بِالسُّؤَالِ، أَوْ بِإِظْهَارِ أَمَارَاتِ الْفَاقَةِ، بَلْ حَرَّمَ السُّؤَالَ عَلَى مَنْ يَمْلِكُ مَا يُغْنِيهِ عَنْهَا مِنْ مَالٍ أَوْ قُدْرَةٍ عَلَى التَّكَسُّبِ، سَوَاءٌ كَانَ مَا يَسْأَلُهُ زَكَاةً أَوْ تَطَوُّعًا أَوْ كَفَّارَةً، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ ذَلِكَ إِنْ أُعْطِيَ بِالسُّؤَالِ أَوْ إِظْهَارِ الْفَاقَةِ.قَالَ الشَّبْرَامَلِّسِي: لَوْ أَظْهَرَ الْفَاقَةَ وَظَنَّهُ الدَّافِعُ مُتَّصِفًا بِهَا لَمْ يَمْلِكْ مَا أَخَذَهُ، لِأَنَّهُ قَبَضَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ، إِذْ لَمْ يَسْمَحْ لَهُ إِلاَّ عَلَى ظَنِّ الْفَاقَةِ.لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَسْأَلَتُهُ خُمُوشٌ، أَوْ خُدُوشٌ، أَوْ كُدُوحٌ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا يُغْنِيهِ؟ قَالَ: خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ قِيمَتُهَا مِنَ الذَّهَبِ» وَعَنْهُ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ» وَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ».
أَمَّا إِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الصَّدَقَةِ، وَمِمَّنْ يَسْتَحِقُّونَهَا لِفَقْرٍ أَوْ زَمَانَةٍ، أَوْ عَجْزٍ عَنِ الْكَسْبِ فَيَجُوزُ لَهُ السُّؤَالُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَبِشَرْطِ أَنْ لَا يُذِلَّ نَفْسَهُ، وَأَنْ لَا يُلِحَّ فِي السُّؤَالِ، أَوْ يُؤْذِيَ الْمَسْئُولَ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ بَاعِثَ الْمُعْطِي الْحَيَاءُ مِنَ السَّائِلِ أَوْ مِنَ الْحَاضِرِينَ، فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ السُّؤَالُ وَأَخْذُ الصَّدَقَةِ وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، وَيَحْرُمُ أَخْذُهَا، وَيَجِبُ رَدُّهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ مُضْطَرًّا بِحَيْثُ يَخْشَى الْهَلَاكَ إِنْ لَمْ يَأْخُذِ الصَّدَقَةَ، لِحَدِيثِ: «لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ».فَإِنْ خَافَ هَلَاكًا لَزِمَهُ السُّؤَالُ إِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنِ التَّكَسُّبِ.فَإِنْ تَرَكَ السُّؤَالَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ حَتَّى مَاتَ أَثِمَ لِأَنَّهُ أَلْقَى بِنَفْسِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَالسُّؤَالُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فِي مَقَامِ التَّكَسُّبِ؛ لِأَنَّهَا الْوَسِيلَةُ الْمُتَعَيِّنَةُ لِإِبْقَاءِ النَّفْسِ، وَلَا ذُلَّ فِيهَا لِلضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ.
وَلَا بَأْسَ بِسُؤَالِ الْمَاءِ لِلشُّرْبِ لِفِعْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الْعَطْشَانِ الَّذِي لَا يَسْتَسْقِي: يَكُونُ أَحْمَقَ، وَلَا بَأْسَ بِمَسْأَلَةِ الِاسْتِعَارَةِ وَالِاسْتِقْرَاضِ نَصَّ عَلَيْهِمَا أَحْمَدُ قَالَ الْآجُرِّيُّ يَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ حَلَّ الْمَسْأَلَةِ وَمَتَى تَحِلُّ، وَمَا قَالَهُ بِمَعْنَى قَوْلِ أَحْمَدَ فِي أَنَّ تَعَلُّمَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِدَيْنِهِ فَرْضٌ، وَلَا بَأْسَ بِسُؤَالِ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ، كَشَسْعِ النَّعْلِ أَيْ سَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَسْأَلَةِ شُرْبِ الْمَاءِ، وَإِنْ أُعْطِيَ مَالًا طَيِّبًا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا اسْتِشْرَافِ نَفْسٍ مِمَّا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ مِنْ زَكَاةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ صَدَقَةِ تَطَوُّعٍ أَوْ هِبَةٍ وَجَبَ أَخْذُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَنَقَلَهُ جَمَاعَةٌ عَنْ أَحْمَدَ السُّؤَالُ فِي الْمَسْجِدِ:
10- يُكْرَهُ السُّؤَالُ فِي الْمَسْجِدِ، وَالصَّدَقَةُ فِيهِ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ إِلاَّ إِذَا كَانَ السَّائِلُ يَسْأَلُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَتُمْنَعُ؛ لِأَنَّ السَّائِلَ فَعَلَ مَا لَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ، فَلَا يُعِينُهُ عَلَيْهِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (مَسْجِدٍ).
ثَالِثًا- السُّؤَالُ بِاللَّهِ أَوْ بِوَجْهِ اللَّهِ
11- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ السُّؤَالَ بِاللَّهِ، أَوْ بِوَجْهِ اللَّهِ مَكْرُوهٌ، كَأَنْ يَقُولَ: أَسْأَلُكَ بِوَجْهِ اللَّهِ، أَوْ أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
كَمَا يُكْرَهُ رَدُّ السَّائِلِ بِذَلِكَ.لِخَبَرِ: «لَا يُسْأَلُ بِوَجْهِ اللَّهِ إِلاَّ الْجَنَّةُ».وَخَبَرِ: «مَنْ سَأَلَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ».
رَابِعًا- سُؤَالُ اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِهِ
12- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ أَنْ يُسْأَلَ اللَّهَ بِغَيْرِهِ كَأَنْ يَقُولَ السَّائِلُ: اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ بِفُلَانٍ، أَوْ بِمَلَائِكَتِكَ، أَوْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِكَ، لِأَنَّ هَذَا يُوهِمُ تَعَلُّقَ عِزَّتِهِ تَعَالَى بِالْعَرْشِ، وَصِفَاتُ اللَّهِ جَمِيعُهَا قَدِيمَةٌ بِقِدَمِ ذَاتِهِ، فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ الْإِمْسَاكَ عَمَّا يَقْتَضِي الْإِيهَامَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ بِجَوَازِ ذَلِكَ، لِلدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِكَ، وَمُنْتَهَى الرَّحْمَةِ مِنْ كِتَابِكَ، وَبِاسْمِكَ الْأَعْظَمِ، وَكَلِمَاتِكَ التَّامَّةِ».
وَالتَّفْصِيلُ فِي (دُعَاءٍ، وَتَوَسُّلٍ).
خَامِسًا- الْأَسْئِلَةُ فِي الِاسْتِدْلَالِ
13- يُسَمِّي بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ الِاعْتِرَاضَاتُ الَّتِي تُورَدُ عَلَى كَلَامِ الْمُسْتَدِلِّ (الْأَسْئِلَةَ) وَبَعْضُهُمْ يَحْصُرُهَا فِي عَشَرَةِ أَنْوَاعٍ مِنْهَا: النَّقْضُ، وَالْقَلْبُ، وَالْمُطَالَبَةُ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي بَابِ الْقِيَاسِ مِنَ الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
86-موسوعة الفقه الكويتية (سائق)
سَائِقٌالتَّعْرِيفُ:
1- السَّائِقُ فِي اللُّغَةِ: اسْمُ فَاعِلٍ (سَاقَ)، يُقَالُ: سَاقَ الْإِبِلَ يَسُوقُهَا سَوْقًا وَسِيَاقًا، فَهُوَ سَائِقٌ.
وَفِي التَّنْزِيلِ {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} أَيْ سَائِقٌ يَسُوقُهَا إِلَى الْمَحْشَرِ، وَاسْمُ الْمَفْعُولِ: (مَسُوقٌ).
وَسَائِقُ الْإِبِلِ يَكُونُ خَلْفَهَا بِخِلَافِ الرَّاكِبِ وَالْقَائِدِ.فَالرَّاكِبُ يَمْتَطِيهَا وَيَعْلُو عَلَيْهَا، وَالْقَائِدُ يَكُونُ أَمَامَهَا آخِذًا بِقِيَادِهَا.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
2- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا سَاقَ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ دَابَّةً أَوْ دَوَابَّ فَجَنَتْ عَلَى نَفْسٍ، أَوْ أَتْلَفَتْ مَالًا ضَمِنَ السَّائِقُ مَا أَتْلَفَتْهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مَالِكًا أَمْ غَاصِبًا، أَمْ أَجِيرًا أَمْ مُسْتَأْجِرًا، أَمْ مُسْتَعِيرًا أَمْ مُوصًى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ، وَقَالُوا: لِأَنَّهَا فِي يَدِهِ، وَفِعْلُهَا مَنْسُوبٌ لَهُ، فَعَلَيْهِ حِفْظُهَا، وَتَعَهُّدُهَا؛ وَلِأَنَّ إِبَاحَةَ السَّوْقِ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ مَشْرُوطَةٌ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ، فَإِنْ حَصَلَ تَلَفٌ بِسَبَبِهِ لَمْ يَتَحَقَّقِ الشَّرْطُ فَوَقَعَ تَعَدِّيًا، فَيَكُونُ الْمُتَوَلَّدُ مِنْهُ مِمَّا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَيَكُونُ مَضْمُونًا، وَهَذَا مِمَّا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِأَنْ يَذُودَ النَّاسَ عَنِ الطَّرِيقِ، فَيَضْمَنُ وَسَوَاءٌ أَكَانَ السَّائِقُ رَاجِلًا أَمْ رَاكِبًا.وَخَصَّ الْحَنَابِلَةُ الضَّمَانَ بِمَا تُتْلِفُهُ الدَّابَّةُ بِيَدِهَا، أَوْ فَمِهَا، أَوْ وَطِئَتْ بِرِجْلِهَا.أَمَّا مَا تَنْفَحُهُ بِرِجْلِهَا فَلَا يُضْمَنُ.لِخَبَرِ «الرِّجْلُ جُبَارٌ» وَفِي رِوَايَةٍ «رِجْلُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ» فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي جِنَايَتِهَا بِغَيْرِ رِجْلِهَا، وَخَصَّصَ عَدَمَ الضَّمَانِ بِالنَّفْحِ دُونَ الْوَطْءِ لِأَنَّ مَنْ بِيَدِهِ الدَّابَّةُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُجَنِّبَهَا وَطْءَ مَا لَا يُرِيدُ أَنْ تَطَأَهُ بِتَصَرُّفِهِ فِيهَا، بِخِلَافِ نَفْحِهَا، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَضْمَنُ السَّائِقُ إِلاَّ إِذَا حَدَثَ التَّلَفُ بِفِعْلٍ مِنْهُ.
وَإِذَا كَانَ مَعَ السَّائِقِ قَائِدٌ، أَوْ رَاكِبٌ، أَوْ هُمَا وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَتَصَرَّفُ فِي الدَّابَّةِ اشْتَرَكُوا فِي الضَّمَانِ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي التَّصَرُّفِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَيَجِبُ عَلَى الرَّاكِبِ أَيْضًا الْكَفَّارَةُ فِي صُورَةِ الْقَتْلِ الْخَطَأِ وَيُحْرَمُ مِنَ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ، أَمَّا الرَّاجِلُ مِنْهُمْ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنَ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أَحْكَامٌ تَتَعَلَّقُ بِمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ لَا بِالتَّسْبِيبِ، وَالْمُبَاشَرَةُ مِنَ الرَّاكِبِ لَا مِنْ غَيْرِهِ.وَالتَّفْصِيلُ فِي (ضَمَانٍ).
سَائِقُ الْقِطَارِ (الدَّوَابِّ الْمَقْطُورَةِ):
3- إِذَا كَانَتِ الدَّوَابُّ قِطَارًا مَرْبُوطًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَيَقُودُهَا قَائِدٌ، وَالسَّائِقُ فِي آخِرِهَا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَبَبُ التَّلَفِ.وَإِنْ كَانَ السَّائِقُ فِي وَسَطِ الْقِطَارِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ السَّائِقَ يَسُوقُ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ قَائِدٌ لِمَا خَلْفَهُ، وَالسَّوْقُ وَالْقَوْدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ.وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ السَّائِقُ فِي آخِرِ الْمَقْطُورَةِ شَارَكَ الْقَائِدَ فِي ضَمَانِ الْأَخِيرِ فَقَطْ، لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي التَّصَرُّفِ عَلَى الْأَخِيرِ، وَلَا يُشَارِكُ الْقَائِدَ فِيمَا قَبْلَ الْأَخِيرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ سَائِقًا لِمَا قَبْلَ الْأَخِيرِ وَلَا هُوَ تَابِعٌ لِمَا يَسُوقُهُ.
وَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْمَقْطُورَةِ شَارَكَ الْقَائِدَ فِي ضَمَانِ جِنَايَةِ الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ لَوِ انْفَرَدَ بِذَلِكَ لَضَمِنَ جِنَايَةَ الْجَمِيعِ، لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْأَوَّلِ تَابِعٌ، سَائِرٌ بِسَيْرِهِ فَإِذَا كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ وَجَبَ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ السَّائِقُ فِيمَا عَدَا الْأَوَّلَ مِنَ الْمَقْطُورَةِ شَارَكَ الْقَائِدَ، فِي ضَمَانِ مَا بَاشَرَ سَوْقَهُ، وَفِي ضَمَانِ مَا بَعْدَ الَّذِي بَاشَرَ سَوْقَهُ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لَهُ، وَلَا يُشَارِكُ السَّائِقُ الْقَائِدَ فِي ضَمَانِ مَا قَبْلَ مَا بَاشَرَ سَوْقَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ سَائِقًا لَهُ، وَهَذَا الْقِسْمُ مِنَ الْمَقْطُورَةِ لَيْسَ تَابِعًا لِمَا يَسُوقُهُ.
وَحَيْثُ وَجَبَ الضَّمَانُ فَهُوَ عَلَى السَّائِقِ إِنْ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِمَّا لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ غُرْمَهُ كَالْمَالِ.
وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مِمَّا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ كَدِيَةِ الْقَتْلِ الْخَطَأِ فَالْغُرْمُ عَلَيْهَا. (ر: عَاقِلَةٌ).
السَّائِقُ مَعَ الْمَاشِيَةِ حِرْزٌ لَهَا:
4- الْمَاشِيَةُ الْمَسُوقَةُ مُحْرَزَةٌ بِسَائِقِهَا، فَيُقْطَعُ سَارِقُهَا بِشَرْطِ أَنْ يَنْتَهِيَ نَظَرُ السَّائِقِ إِلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ لَا يَرَى الْبَعْضَ لِحَائِلٍ فَهَذَا الْبَعْضُ غَيْرُ مُحْرَزٍ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهَا غَيْرُ مُحْرَزَةٍ فَلَا يُقْطَعُ سَارِقُهَا، وَقَالُوا: لِأَنَّ السَّائِقَ وَنَحْوَهُ كَالْقَائِدِ إِنَّمَا يَقْصِدُونَ قَطْعَ الْمَسَافَةِ، وَنَقْلَ الْأَمْتِعَةِ دُونَ حِفْظِ الدَّابَّةِ.
تَنَازُعُ السَّائِقِ مَعَ الرَّاكِبِ:
5- إِذَا تَنَازَعَ السَّائِقُ مَعَ الرَّاكِبِ فِي مِلْكِيَّةِ الدَّابَّةِ وَلَا بَيِّنَةَ، صُدِّقَ الرَّاكِبُ، إِلاَّ إِذَا جَرَى الْعُرْفُ عَلَى سَوْقِ الْمَالِكِ الدَّابَّةَ، فَيَتَّبِعُ الْعُرْفَ.وَالتَّفْصِيلُ فِي (دَعْوَى، وَبَيِّنَةٍ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
87-موسوعة الفقه الكويتية (سفر 1)
سَفَر -1التَّعْرِيفُ:
1- السَّفَرُ لُغَةً قَطْعُ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ.يُقَالُ ذَلِكَ إِذَا خَرَجَ لِلِارْتِحَالِ.
قَالَ الْفَيُّومِيُّ: وَقَالَ بَعْضُ الْمُصَنَّفِينَ: أَقَلُّ السَّفَرِ يَوْمٌ.
وَالْجَمْعُ أَسْفَارٌ، وَرَجُلٌ مُسَافِرٌ، وَقَوْمٌ سَفْرٌ وَأَسْفَارٌ وَسُفَّارٌ، وَأَصْلُ الْمَادَّةِ الْكَشْفُ.
وَسُمِّيَ السَّفَرُ سَفَرًا لِأَنَّهُ يُسْفِرُ عَنْ وُجُوهِ الْمُسَافِرِينَ وَأَخْلَاقِهِمْ فَيَظْهَرُ مَا كَانَ خَافِيًا.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: السَّفَرُ هُوَ الْخُرُوجُ عَلَى قَصْدِ قَطْعِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ الشَّرْعِيَّةِ فَمَا فَوْقَهَا.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْحَضَرُ:
2- الْحَضَرُ بِفَتْحَتَيْنِ وَالْحَضْرَةُ وَالْحَاضِرَةُ خِلَافُ الْبَادِيَةِ، وَهِيَ الْمُدُنُ وَالْقُرَى وَالرِّيفُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَهَا حَضَرُوا الْأَمْصَارَ وَمَسَاكِنَ الدِّيَارِ الَّتِي يَكُونُ لَهُمْ بِهَا قَرَارٌ.وَالْحَضَرُ مِنَ النَّاسِ سَاكِنُو الْحَضَرِ، وَالْحَاضِرُ خِلَافُ الْبَادِي، وَالْحَضَرُ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلسَّفَرِ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
ب- الْإِقَامَةُ:
3- مِنْ مَعَانِي الْإِقَامَةِ: الثُّبُوتُ فِي الْمَكَانِ وَاِتِّخَاذُهُ وَطَنًا، وَهِيَ ضِدُّ السَّفَرِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4- قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ السَّفَرَ مِنْ حَيْثُ حُكْمُهُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: سَفَرُ طَاعَةٍ كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ، وَسَفَرٌ مُبَاحٌ كَالتِّجَارَةِ، وَسَفَرُ مَعْصِيَةٍ كَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَحَجِّ الْمَرْأَةِ بِلَا مَحْرَمٍ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: السَّفَرُ عَلَى قِسْمَيْنِ: سَفَرُ طَلَبٍ، وَسَفَرُ هَرَبٍ.فَسَفَرُ الْهَرَبِ وَاجِبٌ.
وَهُوَ إِذَا كَانَ فِي بَلَدٍ يَكْثُرُ فِيهِ الْحَرَامُ وَيَقِلُّ فِيهِ الْحَلَالُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ السَّفَرُ مِنْهُ إِلَى بَلَدٍ يَكْثُرُ فِيهِ الْحَلَالُ.وَكَذَلِكَ يَجِبُ الْهُرُوبُ مِنْ مَوْضِعٍ يُشَاهَدُ فِيهِ الْمُنْكَرُ مِنْ شُرْبِ خَمْرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَى مَوْضِعٍ لَا يُشْهَدُ فِيهِ ذَلِكَ.وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْهَرَبُ مِنْ بَلَدٍ أَوْ مَوْضِعٍ يُذِلُّ فِيهِ نَفْسَهُ إِلَى مَوْضِعٍ يُعِزُّ فِيهِ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ عَزِيزٌ لَا يُذِلُّ نَفْسَهُ.وَكَذَلِكَ يَجِبُ الْهُرُوبُ مِنْ بَلَدٍ لَا عِلْمَ فِيهِ إِلَى بَلَدٍ فِيهِ الْعِلْمُ.وَكَذَلِكَ يَجِبُ الْهُرُوبُ مِنْ بَلَدٍ يُسْمَعُ فِيهِ سَبُّ الصَّحَابَةِ ((، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ حَيْثُ لَمْ يُمْكِنِ الْإِنْسَانَ التَّغْيِيرُ وَالْإِصْلَاحُ.
وَأَمَّا سَفَرُ الطَّلَبِ فَهُوَ عَلَى أَقْسَامٍ- وَيُوَافِقُهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَيْهَا- وَاجِبٌ كَسَفَرِ حَجِّ الْفَرِيضَةِ وَالْجِهَادِ إِذَا تَعَيَّنَ.
وَمَنْدُوبٌ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالطَّاعَةِ قُرْبَةً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ كَالسَّفَرِ لِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ أَوْ لِصِلَةِ الرَّحِمِ أَوْ طَلَبِ الْعِلْمِ أَوْ لِلتَّفَكُّرِ فِي الْخَلْقِ، وَمُبَاحٌ وَهُوَ سَفَرُ التِّجَارَةِ، وَمَمْنُوعٌ وَهُوَ السَّفَرُ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى.وَمَثَّلَ الشَّافِعِيَّةُ لِلسَّفَرِ الْمَكْرُوهِ بِاَلَّذِي يُسَافِرُ وَحْدَهُ، وَسَفَرُ الِاثْنَيْنِ أَخَفُّ كَرَاهَةً، وَذَلِكَ لِخَبَرِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ «كَرِهَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْوَحْدَةَ فِي السَّفَرِ» وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الرَّاكِبُ شَيْطَانٌ وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ».وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ السَّفَرَ لِرُؤْيَةِ الْبِلَادِ وَالتَّنَزُّهِ فِيهَا مُبَاحٌ.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ السِّيَاحَةَ لِغَيْرِ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ مَكْرُوهٌ.
السَّفَرُ مِنْ عَوَارِضِ الْأَهْلِيَّةِ:
5- السَّفَرُ مِنْ عَوَارِضِ الْأَهْلِيَّةِ الْمُكْتَسَبَةِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي شَيْئًا مِنْ أَهْلِيَّةِ الْأَحْكَامِ وُجُوبًا وَأَدَاءً مِنَ الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا.فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ نَحْوِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ لِبَقَاءِ الْقُدْرَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ بِكَمَالِهَا.لَكِنَّهُ جُعِلَ فِي الشَّرْعِ مِنْ أَسْبَابِ التَّخْفِيفِ بِنَفْسِهِ مُطْلَقًا- يَعْنِي مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى كَوْنِهِ مُوجِبًا لِلْمَشَقَّةِ أَوْ غَيْرَ مُوجِبٍ لَهَا- لِأَنَّ السَّفَرَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَشَقَّةِ فِي الْغَالِبِ.فَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ نَفْسُ السَّفَرِ سَبَبًا لِلرُّخَصِ وَأُقِيمَ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
شُرُوطُ السَّفَرِ:
6- يُشْتَرَطُ فِي السَّفَرِ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الْأَحْكَامُ، مَا يَلِي:
أ- أَنْ يَبْلُغَ الْمَسَافَةَ الْمُحَدَّدَةَ شَرْعًا:
7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسَافَةِ السَّفَرِ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الْأَحْكَامُ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّ مَسَافَةَ السَّفَرِ الَّتِي تَتَغَيَّرُ بِهَا الْأَحْكَامُ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفَانَ» وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهم- يَقْصُرَانِ وَيُفْطِرَانِ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ.وَذَلِكَ إِنَّمَا يُفْعَلُ عَنْ تَوْقِيفٍ.وَكُلُّ بَرِيدٍ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ، وَالْفَرْسَخُ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ هَاشِمِيَّةٍ.
فَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا، وَالْفَرْسَخُ بِأَمْيَالِ بَنَى أُمَيَّةَ مِيلَانِ وَنِصْفٌ، فَالْمَسَافَةُ عَلَى هَذَا أَرْبَعُونَ مِيلًا.
وَالتَّقْدِيرُ بِثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَعِنْدَهُمْ أَقْوَالٌ ضَعِيفَةٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا تُحْسَبُ مِنْ هَذِهِ الْمَسَافَةِ مُدَّةُ الرُّجُوعِ اتِّفَاقًا.
فَلَوْ كَانَتْ مُلَفَّقَةً مِنَ الذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ لَمْ تَتَغَيَّرِ الْأَحْكَامُ.وَهِيَ بِاعْتِبَارِ الزَّمَانِ مَرْحَلَتَانِ، وَهُمَا سَيْرُ يَوْمَيْنِ مُعْتَدِلَيْنِ أَوْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بِسَيْرِ الْإِبِلِ الْمُثْقَلَةِ بِالْأَحْمَالِ عَلَى الْمُعْتَادِ، مَعَ النُّزُولِ الْمُعْتَادِ لِنَحْوِ اسْتِرَاحَةٍ وَأَكْلٍ وَصَلَاةٍ.قَالَ الْأَثْرَمُ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فِي كَمْ تُقْصَرُ الصَّلَاةُ؟ قَالَ: فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ.قِيلَ لَهُ: مَسِيرَةُ يَوْمٍ تَامٍّ؟ قَالَ: لَا، أَرْبَعَةُ بُرُدٍ، سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ.
قَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَقَدْ قَدَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- مِنْ عُسْفَانَ إِلَى مَكَّةَ، وَمِنَ الطَّائِفِ إِلَى مَكَّةَ، وَمِنْ جَدَّةَ إِلَى مَكَّةَ.وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْيَوْمَ يُعْتَبَرُ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِأَنَّهُ الْمُعْتَادُ لِلسَّيْرِ غَالِبًا لَا مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَأَنَّ الْبَحْرَ كَالْبَرِّ فِي اشْتِرَاطِ الْمَسَافَةِ الْمَذْكُورَةِ.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ: إِنَّ الْبَحْرَ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَسَافَةُ بَلِ الزَّمَانُ وَهُوَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَقِيلَ بِاعْتِبَارِهَا فِيهِ كَالْبَرِّ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَعَلَيْهِ إِذَا سَافَرَ وَبَعْضُ سَفَرِهِ فِي الْبَرِّ وَبَعْضُ سَفَرِهِ فِي الْبَحْرِ، فَقِيلَ: يُلَفِّقُ مَسَافَةَ أَحَدِهِمَا لِمَسَافَةِ الْآخَرِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ.وَقِيلَ: لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّفْصِيلِ عَلَى مَا مَرَّ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.
وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ قَطْعُ الْمَسَافَةِ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ، فَلَوْ قَطَعَ الْأَمْيَالَ فِي سَاعَةٍ مَثَلًا لِشِدَّةِ جَرْيِ السَّفِينَةِ بِالْهَوَاءِ وَنَحْوِهِ، أَوْ قَطَعَهَا فِي الْبَرِّ فِي بَعْضِ يَوْمٍ عَلَى مَرْكُوبٍ جَوَادٍ تَغَيَّرَتِ الْأَحْكَامُ فِي حَقِّهِ لِوُجُودِ الْمَسَافَةِ الصَّالِحَةِ لِتَغَيُّرِ الْأَحْكَامِ؛ وَلِأَنَّهُ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ سَافَرَ أَرْبَعَةَ بُرُدٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَسَافَةَ السَّفَرِ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الْأَحْكَامُ هُوَ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقَدَّرَهَا بَعْضُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ بِأَقْصَرِ أَيَّامِ السَّنَةِ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْحِلْيَةِ: الظَّاهِرُ إِبْقَاؤُهَا عَلَى إِطْلَاقِهَا بِحَسَبِ مَا يُصَادِفُهُ مِنَ الْوُقُوعِ فِيهَا طُولًا وَقِصَرًا وَاعْتِدَالًا إِنْ لَمْ تُقَدَّرْ بِالْمُعْتَدِلَةِ الَّتِي هِيَ الْوَسَطُ.وَلَا اعْتِبَارَ عِنْدَهُمْ بِالْفَرَاسِخِ عَلَى الْمَذْهَبِ.قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: هُوَ الصَّحِيحُ، احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ فِي تَقْدِيرِهَا بِالْفَرَاسِخِ.ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: وَاحِدٌ وَعِشْرُونَ، وَقِيلَ: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَقِيلَ: خَمْسَةَ عَشَرَ، وَالْفَتْوَى عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ الْأَوْسَطُ، وَفِي الْمُجْتَبَى: فَتْوَى أَئِمَّةِ خُوَارِزْمَ عَلَى الثَّالِثِ.
ثُمَّ إِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ سَفَرُ كُلِّ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ بَلْ يَكْفِي إِلَى الزَّوَالِ، وَالْمُعْتَبَرُ السَّيْرُ الْوَسَطُ.
قَالُوا: وَيُعْتَبَرُ فِي الْجَبَلِ بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنَ السَّيْرِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ صُعُودًا وَهُبُوطًا وَمَضِيقًا وَوَعِرًا فَيَكُونُ مَشْيُ الْإِبِلِ وَالْأَقْدَامِ فِيهِ دُونَ سَيْرِهَا فِي السَّهْلِ.وَفِي الْبَحْرِ يُعْتَبَرُ اعْتِدَالُ الرِّيحِ عَلَى الْمُضِيِّ بِهِ، فَيُعْتَبَرُ فِي كُلِّ ذَلِكَ السَّيْرُ الْمُعْتَادُ فِيهِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ فَيُرْجَعُ إِلَيْهِمْ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ.
وَخَرَجَ سَيْرُ الْبَقَرِ يَجُرُّ الْعَجَلَةَ وَنَحْوُهُ؛ لِأَنَّهُ أَبْطَأُ السَّيْرِ، كَمَا أَنَّ أَسْرَعَهُ سَيْرُ الْفَرَسِ وَالْبَرِيدِ، حَتَّى لَوْ كَانَتِ الْمَسَافَةُ ثَلَاثًا بِالسَّيْرِ الْمُعْتَادِ فَسَارَ إِلَيْهَا عَلَى الْفَرَسِ جَرْيًا حَثِيثًا فَوَصَلَ فِي يَوْمَيْنِ أَوْ أَقَلَّ قَصَرَ.
ب- الْقَصْدُ:
8- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي السَّفَرِ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الْأَحْكَامُ قَصْدُ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّفَرِ، فَلَا قَصْرَ وَلَا فِطْرَ لِهَائِمٍ عَلَى وَجْهِهِ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَتَوَجَّهُ، وَلَا لِتَائِهٍ ضَالِّ الطَّرِيقِ، وَلَا لِسَائِحٍ لَا يَقْصِدُ مَكَانًا مُعَيَّنًا.وَكَذَا لَوْ خَرَجَ أَمِيرٌ مَعَ جَيْشِهِ فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ وَلَمْ يَعْلَمْ أَيْنَ يُدْرِكُهُمْ، فَإِنَّهُ يُتِمُّ وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ أَوِ الْمُكْثُ، وَمِثْلُهُ طَالِبُ غَرِيمٍ وَآبِقٍ يَرْجِعُ مَتَى وَجَدَهُ وَلَا يَعْلَمُ مَوْضِعَهُ، وَإِنْ طَالَ سَفَرُهُ.
وَهَذَا فِيمَنْ كَانَ مُسْتَقِلًّا بِرَأْيِهِ، أَمَّا التَّابِعُ لِغَيْرِهِ كَالزَّوْجَةِ مَعَ زَوْجِهَا، وَالْجُنْدِيِّ مَعَ الْأَمِيرِ فَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (صَلَاة الْمُسَافِرِ).
ج- مُفَارَقَةُ مَحِلِّ الْإِقَامَةِ:
9- يُشْتَرَطُ فِي السَّفَرِ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الْأَحْكَامُ مُفَارَقَةُ بُيُوتِ الْمِصْرِ فَلَا يَصِيرُ مُسَافِرًا قَبْلَ الْمُفَارَقَةِ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَيُشْتَرَطُ مُفَارَقَةُ مَا كَانَ مِنْ تَوَابِعِ مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ كَرُبَضِ الْمِصْرِ.وَهُوَ مَا حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنْ بُيُوتٍ وَمَسَاكِنَ فَإِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمِصْرِ.وَكَذَا الْقُرَى الْمُتَّصِلَةُ بِالرُّبَضِ فِي الصَّحِيحِ، بِخِلَافِ الْبَسَاتِينِ وَلَوْ مُتَّصِلَةً بِالْبِنَاءِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْبَلْدَةِ، وَلَوْ سَكَنَهَا أَهْلُ الْبَلْدَةِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ أَوْ بَعْضِهَا، كَمَا أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ سُكْنَى الْحَفَظَةِ وَالْأَكَرَةِ اتِّفَاقًا.
وَأَمَّا الْفِنَاءُ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُعَدُّ لِمَصَالِحِ الْبَلَدِ كَرَكْضِ الدَّوَابِّ وَدَفْنِ الْمَوْتَى وَإِلْقَاءِ التُّرَابِ، فَإِنِ اتَّصَلَ بِالْمِصْرِ اعْتُبِرَتْ مُجَاوَزَتُهُ لَا إِنِ انْفَصَلَ بِمَزْرَعَةٍ بِقَدْرِ ثَلَاثِمِائَةِ إِلَى أَرْبَعِمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَالْقَرْيَةُ الْمُتَّصِلَةُ بِالْفِنَاءِ دُونَ الرُّبَضِ لَا تُعْتَبَرُ مُجَاوَزَتُهَا عَلَى الصَّحِيحِ.
وَالْمُعْتَبَرُ الْمُجَاوَزَةُ مِنَ الْجَانِبِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى لَوْ جَاوَزَ عُمْرَانَ الْمِصْرِ قَصَرَ، وَإِنْ كَانَ بِحِذَائِهِ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ أَبْنِيَةٌ.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ مُجَاوَزَةَ الْبَسَاتِينِ إِذَا سَافَرَ مِنْ نَاحِيَتِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِ نَاحِيَتِهَا وَإِنْ مُحَاذِيًا لَهَا، وَإِلاَّ فَيَقْصُرُ بِمُجَرَّدِ مُجَاوَزَةِ الْبُيُوتِ.
وَقَالَ الْبُنَانِيُّ: لَا يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَةُ الْبَسَاتِينِ إِلاَّ إِذَا سَافَرَ مِنْ نَاحِيَتِهَا، وَإِنْ سَافَرَ مِنْ غَيْرِ نَاحِيَتِهَا فَلَا تُشْتَرَطُ مُجَاوَزَتُهَا وَلَوْ كَانَ مُحَاذِيًا لَهَا إِذْ غَايَةُ الْبَسَاتِينِ أَنْ تَكُونَ كَجُزْءٍ مِنَ الْبَلَدِ.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ: مِثْلُ الْبَسَاتِينِ الْمَسْكُونَةِ الْقَرْيَتَانِ اللَّتَانِ يَرْتَفِقُ أَهْلُ أَحَدِهِمَا بِأَهْلِ الْأُخْرَى بِالْفِعْلِ، وَإِلاَّ فَكُلُّ قَرْيَةٍ تُعْتَبَرُ بِمُفْرَدِهَا، وَإِذَا كَانَ بَعْضُ سَاكِنِيهَا يَرْتَفِقُ بِالْبَلَدِ الْأُخْرَى كَالْجَانِبِ الْأَيْمَنِ دُونَ الْآخَرِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ حُكْمَهَا كُلَّهَا كَحُكْمِ الْمُتَّصِلَةِ.ثُمَّ إِنَّ الْعِبْرَةَ عِنْدَهُمْ بِالْبَسَاتِينِ الْمُتَّصِلَةِ وَلَوْ حُكْمًا بِأَنْ يَرْتَفِقَ سُكَّانُهَا بِالْبَلَدِ الْمَسْكُونَةِ بِالْأَهْلِ وَلَوْ فِي بَعْضِ الْعَامِّ ارْتِفَاقَ الِاتِّصَالِ، مِنْ نَارٍ وَطَبْخٍ وَخَبْزٍ.
أَمَّا الْبَسَاتِينُ الْمُنْفَصِلَةُ أَوْ غَيْرُ الْمَسْكُونَةِ فَلَا عِبْرَةَ بِهَا، وَلَا عِبْرَةَ أَيْضًا بِالْحَارِسِ وَالْعَامِلِ فِيهَا.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِلْبَلَدِ سُورٌ فَأَوَّلُ سَفَرِهِ مُجَاوَزَةُ سُورِهَا، وَلَوْ مُتَعَدِّدًا أَوْ كَانَ دَاخِلَهُ مَزَارِعُ أَوْ خَرَابٌ؛ إِذْ مَا فِي دَاخِلِ السُّورِ مَعْدُودٌ مِنْ نَفْسِ الْبَلَدِ مَحْسُوبٌ مِنْ مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ.وَإِنْ كَانَ لَهَا بَعْضُ سُورٌ وَهُوَ صَوْبُ مَقْصِدِهِ اشْتُرِطَتْ مُجَاوَزَتُهُ، وَلَوْ كَانَ السُّورُ مُتَهَدِّمًا وَبَقِيَتْ لَهُ بَقَايَا اشْتُرِطَتْ مُجَاوَزَتُهُ أَيْضًا وَإِلاَّ فَلَا.وَالْخَنْدَقُ فِي الْبَلْدَةِ الَّتِي لَا سُورَ لَهَا كَالسُّورِ، وَبَعْضُهُ كَبَعْضِهِ، وَلَا أَثَرَ لَهُ مَعَ وُجُودِ السُّورِ.وَيَلْحَقُ بِالسُّورِ تَحْوِيطَةُ أَهْلِ الْقُرَى عَلَيْهَا بِتُرَابٍ وَنَحْوِهِ.وَلَا تُشْتَرَطُ مُجَاوَزَةُ الْعِمَارَةِ وَرَاءَ السُّورِ فِي الْأَصَحِّ لِعَدَمِ عَدِّهَا مِنَ الْبَلَدِ.وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْبَلَدِ سُوْرٌ أَصْلًا، أَوْ فِي جِهَةِ مَقْصِدِهِ، أَوْ كَانَ لَهَا سُورٌ غَيْرُ خَاصٍّ بِهَا، وَكَقُرَى مُتَفَاصِلَةٍ جَمَعَهَا سُورٌ وَلَوْ مَعَ التَّقَارُبِ، فَأَوَّلُ سَفَرِهِ مُجَاوَزَةُ الْعُمْرَانِ.وَلَوْ تَخَلَّلَهُ خَرَابٌ لَا أُصُولَ أَبْنِيَةٍ بِهِ أَوْ نَهْرٌ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَتُهُ لِكَوْنِهِ مَحَلَّ الْإِقَامَةِ، أَمَّا الْخَرَابُ خَارِجَ الْعُمْرَانِ الَّذِي لَمْ تَبْقَ أُصُولُهُ أَوْ هَجَرُوهُ بِالتَّحْوِيطِ عَلَيْهِ أَوِ اتَّخَذُوهُ مَزَارِعَ فَلَا تُشْتَرَطُ مُجَاوَزَتُهُ، كَمَا لَا تُشْتَرَطُ مُجَاوَزَةُ الْبَسَاتِينِ وَالْمَزَارِعِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَإِنِ اتَّصَلَتْ بِمَا سَافَرَ مِنْهُ أَوْ كَانَتْ مَحُوطَةً لِأَنَّهَا لَا تُتَّخَذُ لِلْإِقَامَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ بِهَا قُصُورٌ أَمْ دُورٌ تُسْكَنُ فِي بَعْضِ فُصُولِ السَّنَةِ أَوْ لَا.وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْقَرْيَتَيْنِ الْمُتَّصِلَتَيْنِ عُرْفًا كَبَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنِ اخْتَلَفَ اسْمُهُمَا وَإِلاَّ اكْتَفَى بِمُجَاوَزَةِ قَرْيَةِ الْمُسَافِرِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ تُشْتَرَطُ مُفَارَقَةُ بُيُوتِ قَرْيَتِهِ الْعَامِرَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ دَاخِلَ السُّورِ أَوْ خَارِجَهُ، فَيَقْصُرُ إِذَا فَارَقَهَا بِمَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُفَارَقَةِ بِنَوْعِ الْبُعْدِ عُرْفًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَبَاحَ الْقَصْرَ لِمَنْ ضَرَبَ فِي الْأَرْضِ.وَقَبْلَ مُفَارَقَتِهِ مَا ذُكِرَ لَا يَكُونُ ضَارِبًا فِيهَا وَلَا مُسَافِرًا؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَحَدُ طَرَفَيِ السَّفَرِ أَشْبَهَ حَالَةَ الِانْتِهَاءِ.
وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- إِنَّمَا كَانَ يَقْصُرُ إِذَا ارْتَحَلَ»، وَلَا تُعْتَبَرُ مُفَارَقَةُ الْخَرَابِ وَإِنْ كَانَتْ حِيطَانُهُ قَائِمَةً إِنْ لَمْ يَلِهِ عَامِرٌ فَإِنْ وَلِيَهُ عَامِرٌ اعْتُبِرَتْ مُفَارَقَةُ الْجَمِيعِ.وَكَذَا لَوْ جُعِلَ الْخَرَابُ مَزَارِعَ وَبَسَاتِينَ يَسْكُنُهُ أَهْلُهُ وَلَوْ فِي فَصْلِ النُّزْهَةِ فَلَا يَقْصُرُ حَتَّى يُفَارِقَهُ.وَلَوْ كَانَتْ قَرْيَتَانِ مُتَدَانِيَتَيْنِ وَاتَّصَلَ بِنَاءُ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى فَهُمَا كَالْوَاحِدَةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ فَلِكُلِّ قَرْيَةٍ حُكْمُ نَفْسِهَا.
وَأَمَّا مَسَاكِنُ الْخِيَامِ فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ أَوَّلَ سَفَرِهِ مُجَاوَزَةُ حِلَّتِهِ.قَالَ الشَّافِعِيَّةُ الْحِلَّةُ بُيُوتٌ مُجْتَمَعَةٌ أَوْ مُتَفَرِّقَةٌ بِحَيْثُ يَجْتَمِعُ أَهْلُهَا لِلسَّمَرِ فِي نَادٍ وَاحِدٍ، وَيَسْتَعِيرُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الْحِلَّةُ مَنْزِلُ قَوْمِهِ، فَالْحِلَّةُ وَالْمَنْزِلُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَمَذْهَبُهُمْ أَنَّهُ تُشْتَرَطُ مُفَارَقَةُ بُيُوتِ الْحِلَّةِ وَلَوْ تَفَرَّقَتْ، حَيْثُ جَمَعَهُمُ اسْمُ الْحَيِّ وَالدَّارِ أَوِ الدَّارِ فَقَطْ، بِمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا جَمَعَهُمُ اسْمُ الْحَيِّ وَالدَّارِ أَوِ الدَّارِ فَقَطْ فَإِنَّهُ لَا يَقْصُرُ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ إِلاَّ إِذَا جَاوَزَ جَمِيعَ الْبُيُوتِ.وَأَمَّا لَوْ جَمَعَهُمُ اسْمُ الْحَيِّ فَقَطْ دُونَ الدَّارِ بِأَنْ كَانَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ فِي دَارٍ فَإِنَّهَا تُعْتَبَرُ كُلُّ دَارٍ عَلَى حِدَتِهَا حَيْثُ كَانَ لَا يَرْتَفِقُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَإِلاَّ فَهُمْ كَأَهْلِ الدَّارِ الْوَاحِدَةِ.وَكَذَا إِذَا لَمْ يَجْمَعْهُمُ اسْمُ الْحَيِّ وَالدَّارِ فَإِنَّهُ يَقْصُرُ إِذَا جَاوَزَ بُيُوتَ حِلَّتِهِ هُوَ.وَالْمُرَادُ بِالْحَيِّ عِنْدَهُمُ الْقَبِيلَةُ، وَبِالدَّارِ الْمَنْزِلُ الَّذِي يَنْزِلُونَ فِيهِ.وَمَحَلُّ مُجَاوَزَةِ الْحِلَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ كَانَ بِمُسْتَوٍ.
فَإِنْ كَانَتْ بَوَادٍ وَمُسَافِرٌ فِي عَرْضِهِ، أَوْ بِرَبْوَةٍ أَوْ وَحْدَةٍ، اشْتُرِطَتْ مُجَاوَزَةُ الْعَرْضِ وَمَحَلِّ الصُّعُودِ وَالْهُبُوطِ إِنْ كَانَتِ الثَّلَاثَةُ مُعْتَدِلَةً، وَإِلاَّ بِأَنْ أَفْرَطَتْ سَعَتُهَا أَوْ كَانَتْ بِبَعْضِ الْعَرْضِ اكْتُفِيَ بِمُجَاوَزَةِ الْحِلَّةِ.قَالُوا: وَلَا بُدَّ مِنْ مُجَاوَزَةِ مَرَافِقِهَا أَيْضًا كَمَلْعَبِ صِبْيَانٍ وَنَادٍ وَمَطْرَحِ رَمَادٍ وَمَعْطِنِ إِبِلٍ، وَكَذَا مَاءٌ وَحَطَبٌ اخْتَصَّا بِهَا.
وَأَمَّا سَاكِنُ الْجِبَالِ وَمَنْ نَزَلَ بِمَحَلٍّ فِي بَادِيَةٍ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي سَفَرِهِ مُجَاوَزَةُ مَحَلِّهِ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ سُكَّانَ الْبَسَاتِينِ وَنَحْوَهُمْ كَأَهْلِ الْعِزَبِ يُشْتَرَطُ فِي سَفَرِهِمِ الِانْفِصَالُ عَنْ مَسَاكِنِهِمْ.
قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: سَوَاءٌ أَكَانَتْ تِلْكَ الْبَسَاتِينُ مُتَّصِلَةً بِالْبَلَدِ أَمْ مُنْفَصِلَةً عَنْهَا.وَاعْتَبَرَ الْحَنَابِلَةُ الْعُرْفَ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: لِيَصِيرُوا مُسَافِرِينَ لَا بُدَّ مِنْ مُفَارَقَةِ مَا نُسِبُوا إِلَيْهِ بِمَا يُعَدُّ مُفَارَقَةً عُرْفًا.
وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي سَفَرِ الْبَحْرِ الْمُتَّصِلِ سَاحِلُهُ بِالْبَلَدِ جَرْيُ السَّفِينَةِ أَوِ الزَّوْرَقِ إِلَيْهَا.قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَإِنْ كَانَ فِي هَوَاءِ الْعُمْرَانِ كَمَا اقْتَضَاهُ إِطْلَاقُهُمْ.
د- أَلاَّ يَكُونَ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ:
10- اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الرَّاجِحِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- فِي السَّفَرِ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الْأَحْكَامُ أَلاَّ يَكُونَ الْمُسَافِرُ عَاصِيًا بِسَفَرِهِ كَقَاطِعِ طَرِيقٍ وَنَاشِزَةٍ وَعَاقٍّ وَمُسَافِرٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَالٌّ قَادِرٌ عَلَى وَفَائِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ غَرِيمِهِ.
إِذْ مَشْرُوعِيَّةُ التَّرَخُّصِ فِي السَّفَرِ لِلْإِعَانَةِ.
وَالْعَاصِي لَا يُعَانُ؛ لِأَنَّ الرُّخَصَ لَا تُنَاطُ بِالْمَعَاصِي، وَمِثْلُهُ مَا إِذَا انْتَقَلَ مِنْ سَفَرِهِ الْمُبَاحِ إِلَى سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ بِأَنْ أَنْشَأَ سَفَرًا مُبَاحًا ثُمَّ قَصَدَ سَفَرًا مُحَرَّمًا.
وَالْمُرَادُ بِالْمُسَافِرِ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ أَوْ سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ أَنْ يَكُونَ الْحَامِلُ عَلَى السَّفَرِ نَفْسَ الْمَعْصِيَةِ كَمَا فِي الْأَمْثِلَةِ السَّابِقَةِ.وَقَدْ أَلْحَقَ الْحَنَابِلَةُ بِسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ السَّفَرَ الْمَكْرُوهَ فَلَا يَتَرَخَّصُ الْمُسَافِرُ عِنْدَهُمْ إِذَا كَانَ مُسَافِرًا لِفِعْلٍ مَكْرُوهٍ، وَفِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ خِلَافٌ فِي التَّرَخُّصِ فِي السَّفَرِ الْمَكْرُوهِ فَقِيلَ بِالْمَنْعِ وَقِيلَ بِالْجَوَازِ.قَالَ ابْنُ شَعْبَانَ: إِنْ قَصَرَ لَمْ يُعِدْ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ.
ثُمَّ إِنَّهُ مَتَى تَابَ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ فِي أَثْنَائِهِ فَإِنَّهُ يَتَرَخَّصُ بِسَفَرِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مَعْصِيَةٌ.وَيَكُونُ أَوَّلُ سَفَرِهِ مِنْ حِينِ التَّوْبَةِ.
وَعَلَى هَذَا فَإِنْ كَانَ بَيْنَ مَحَلِّ التَّوْبَةِ وَمَقْصِدِهِ مَرْحَلَتَانِ قَصَرَ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي دُونَهَا فَلَا قَصْرَ.وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْمَالِكِيَّةُ لِذِكْرِ الْمَسَافَةِ فِي حَالِ التَّوْبَةِ.
وَعِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ التَّرَخُّصُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ مَعَ الْكَرَاهَةِ.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الشَّرْطَ، فَلِلْمُسَافِرِ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ أَنْ يَتَرَخَّصَ بِرُخَصِ السَّفَرِ كُلِّهَا لِإِطْلَاقِ نُصُوصِ الرُّخَصِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ» قَالُوا: وَلِأَنَّ الْقَبِيحَ الْمُجَاوِرَ- أَيِ الْمَعْصِيَةَ- لَا يُعْدِمُ الْمَشْرُوعِيَّةَ، بِخِلَافِ الْقَبِيحِ لِعَيْنِهِ وَضْعًا كَالْكُفْرِ، أَوْ شَرْعًا كَبَيْعِ الْحُرِّ، فَإِنَّهُ يُعْدِمُ الْمَشْرُوعِيَّةَ.
كَمَا أَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَيْسَتْ سَبَبًا لِلرُّخْصَةِ وَالسَّبَبُ هُوَ السَّفَرُ، وَالْمَعْصِيَةُ لَيْسَتْ عَيْنَ السَّفَرِ، وَقَدْ وُجِدَ السَّفَرُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الرُّخْصَةِ.
وَأَمَّا الْعَاصِي فِي سَفَرِهِ وَهُوَ مَنْ يَقْصِدُ سَفَرًا مُبَاحًا ثُمَّ تَطْرَأُ عَلَيْهِ مَعْصِيَةٌ يَرْتَكِبُهَا فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَتَرَخَّصُ فِي سَفَرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ السَّفَرَ لِلْمَعْصِيَةِ وَلِأَنَّ سَبَبَ تَرَخُّصِهِ- وَهُوَ السَّفَرُ- مُبَاحٌ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا.
الْأَحْكَامُ الَّتِي تَتَغَيَّرُ فِي السَّفَرِ:
الْأَحْكَامُ الَّتِي تَتَغَيَّرُ فِي السَّفَرِ مِنْهَا مَا يَكُونُ لِلتَّخْفِيفِ عَنِ الْمُسَافِرِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ.
أَوَّلًا: مَا يَكُونُ لِلتَّخْفِيفِ عَنِ الْمُسَافِرِ:
أ- امْتِدَادُ مُدَّةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ:
11- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّ السَّفَرَ يَمُدُّ مُدَّةَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ.
لِمَا رَوَى شُرَيْحُ بْنُ هَانِئٍ قَالَ: «سَأَلْتُ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقَالَتْ: سَلْ عَلِيًّا، فَإِنَّهُ كَانَ يُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ».
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْمُسَافِرَ الْعَاصِيَ بِسَفَرِهِ يَمْسَحُ مُدَّةَ الْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً؛ لِأَنَّهُ مُقِيمٌ حُكْمًا.وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ الْمَسْحَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ مِنَ الزَّمَنِ مَا لَمْ يَخْلَعْهُ أَوْ يَحْدُثْ لَهُ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ، وَنَحْوُهُ اخْتِيَارُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي الْمُسَافِرِ الَّذِي يَشُقُّ اشْتِغَالُهُ بِالْخَلْعِ وَاللُّبْسِ، كَالْبَرِيدِ الْمُجَهَّزِ فِي مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مَسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ).
ب- قَصْرُ الصَّلَاةِ وَجَمْعُهَا:
12- أَجْمَعُ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ.لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْخِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وَلِمَا رَوَى «يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْخِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ.قَالَ.عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ».وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّ السَّفَرَ مِنَ الْأَعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِجَمْعِ الصَّلَوَاتِ.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ فَرِيضَتَيْنِ إِلاَّ فِي عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ.فَيُجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ بِعَرَفَةَ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاة الْمُسَافِرِ).
ج- سُقُوطُ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ:
13- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِقَامَةَ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى الْمُسَافِرِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَعَلَيْهِ الْجُمُعَةُ، إِلاَّ مَرِيضٌ أَوْ مُسَافِرٌ أَوِ امْرَأَةٌ أَوْ صَبِيٌّ أَوْ مَمْلُوكٌ» وَلِأَنَّ النَّبِيَّ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُسَافِرُونَ فِي الْجَمْعِ وَغَيْرِهِ فَلَمْ يُصَلِّ أَحَدٌ مِنْهُمُ الْجُمُعَةَ فِيهِ مَعَ اجْتِمَاعِ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ، وَلِأَنَّ الْمُسَافِرَ يُحْرَجُ فِي حُضُورِ الْجُمُعَةِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاة الْجُمُعَةِ).
د- التَّنَفُّلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ:
14- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي جَوَازِ التَّنَفُّلِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُوتِرُ عَلَى الْبَعِيرِ»، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَطَوُّع).
هـ- جَوَازُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ:
15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ بِشُرُوطِهِ السَّابِقَةِ هُوَ مِنَ الْأَعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِلْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ، فَيَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُفْطِرَ فِي رَمَضَانَ لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ»
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَوْم).
ثَانِيًا: أَحْكَامُ السَّفَرِ لِغَيْرِ التَّخْفِيفِ:
أ- حُكْمُ انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِالْمُسَافِرِ:
16- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ الِاسْتِيطَانَ، فَلَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ بِالْمُسَافِرِ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِ، أَيْ لَا يَكْمُلُ بِهِ نِصَابُهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِالْمُسَافِرِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاةِ الْجُمُعَةِ).
ب- تَحْرِيمُ السَّفَرِ عَلَى الْمَرْأَةِ إِلاَّ مَعَ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ:
17- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تُسَافِرَ بِمُفْرَدِهَا، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ مَعَهَا.لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ»، وَلِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- مَرْفُوعًا: «لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا رَجُلٌ إِلاَّ وَمَعَهَا مَحْرَمٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَخْرُجَ فِي جَيْشِ كَذَا وَكَذَا، وَامْرَأَتِي تُرِيدُ الْحَجَّ.قَالَ: اخْرُجْ مَعَهَا».
18- وَيُسْتَثْنَى مِنْ مَنْعِ سَفَرِ الْمَرْأَةِ بِدُونِ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ.الْمُهَاجِرَةُ وَالْأَسِيرَةُ.فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَزِمَهَا الْخُرُوجُ مِنْهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ، وَكَذَا إِذَا أَسَرَهَا الْكُفَّارُ وَأَمْكَنَهَا أَنْ تَهْرُبَ مِنْهُمْ فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ، وَلَا يَعْتَبِرُ الْحَنَفِيَّةُ خُرُوجَ الْمَرْأَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ سَفَرًا.قَالَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ: لِأَنَّهَا لَا تَقْصِدُ مَكَانًا مُعَيَّنًا بَلِ النَّجَاةَ خَوْفًا مِنَ الْفِتْنَةِ، فَقَطْعُهَا الْمَسَافَةَ كَقَطْعِ السَّائِحِ.
وَلِذَا إِذَا وَجَدَتْ مَأْمَنًا كَعَسْكَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَجَبَ أَنْ تُقِرَّ وَلَا تُسَافِرَ إِلاَّ بِزَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ.عَلَى أَنَّهَا لَوْ قَصَدَتْ مَكَانًا مُعَيَّنًا لَا يُعْتَبَرُ قَصْدُهَا وَلَا يَثْبُتُ السَّفَرُ بِهِ؛ لِأَنَّ حَالَهَا- وَهُوَ ظَاهِرُ قَصْدِ مُجَرَّدِ التَّخَلُّصِ- يُبْطِلُ تَحْرِيمَتَهَا.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ: إِنْ كَانَ يَحْصُلُ لَهَا ضَرَرٌ بِكُلٍّ مِنْ إقَامَتِهَا وَخُرُوجِهَا دُونَ رُفْقَةٍ مَأْمُونَةٍ، خُيِّرَتْ إِنْ تَسَاوَى الضَّرَرَانِ.
كَمَا أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُسَافِرَ لِلْحَجِّ الْوَاجِبِ مَعَ الرُّفْقَةِ الْمَأْمُونَةِ.
وَلَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ رُفْقَة ف9 (22/299) وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ بِالْحَجِّ سَفَرَهَا الْوَاجِبَ، فَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ مَعَ الرُّفْقَةِ الْمَأْمُونَةِ مِنَ النِّسَاءِ الثِّقَاتِ فِي كُلِّ سَفَرٍ يَجِبُ عَلَيْهَا.
قَالَ الْبَاجِيُّ: وَلَعَلَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِنَّمَا هُوَ فِي الِانْفِرَادِ وَالْعَدَدِ الْيَسِيرِ، فَأَمَّا فِي الْقَوَافِلِ الْعَظِيمَةِ وَالطُّرُقِ الْمُشْتَرَكَةِ الْعَامِرَةِ الْمَأْمُونَةِ فَإِنَّهَا عِنْدِي مِثْلُ الْبِلَادِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْأَسْوَاقُ وَالتُّجَّارُ فَإِنَّ الْأَمْنَ يَحْصُلُ لَهَا دُونَ ذِي مَحْرَمٍ وَلَا امْرَأَةٍ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ.قَالَ الْحَطَّابُ: وَذَكَرَهُ الزَّنَاتِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ عَلَى أَنَّهُ الْمَذْهَبُ فَيُقَيَّدُ بِهِ كَلَامُ غَيْرِهِ.أَمَّا سَفَرُهَا فِي التَّطَوُّعِ فَلَا يَجُوزُ إِلاَّ مَعَ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ.
كَمَا أَجَازَ الْفُقَهَاءُ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ فِي سَفَرِهَا أَنْ تُسَافِرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ لَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ فِي السَّفَرِ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فَإِنَّهَا تَتْبَعُ زَوْجَهَا حَيْثُ مَضَى لِأَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ، وَإِنْ كَانَ بَائِنًا أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ كُلٍّ مِنْ مِصْرِهَا وَمَقْصِدِهَا أَقَلُّ مِنَ السَّفَرِ، فَإِنْ شَاءَتْ مَضَتْ إِلَى الْمَقْصِدِ وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي مِصْرٍ أَوْ لَا، مَعَهَا مَحْرَمٌ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ إنْشَاءُ سَفَرٍ، وَخُرُوجُ الْمُطَلَّقَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مَا دُونَ السَّفَرِ مُبَاحٌ إِذَا مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ بِمَحْرَمٍ وَبِغَيْرِهِ، إِلاَّ أَنَّ الرُّجُوعَ أَوْلَى لِيَكُونَ الِاعْتِدَادُ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ.فَإِنْ كَانَتْ مَسَافَةُ أَحَدِهِمَا أَقَلَّ تَعَيَّنَ، وَنَحْوُهُ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ مُضِيَّهَا فِي سَفَرِهَا لَا يَجُوزُ إِلاَّ إِذَا كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ، لَكِنْ إِنْ كَانَ فِي رُجُوعِهَا خَوْفٌ أَوْ ضَرَرٌ فَلَهَا الْمُضِيُّ فِي سَفَرِهَا.
وَأَوْجَبَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَيْهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى مَنْزِلِهَا إِنْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنَ الْعِدَّةِ وَلَكِنْ مَعَ ثِقَةٍ وَلَوْ غَيْرَ مَحْرَمٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْأَفْضَلُ عَوْدُ الْمَرْأَةِ إِلَى بَيْتِهَا وَلَا يَلْزَمُهَا ذَلِكَ إِنْ مَاتَ زَوْجُهَا وَهُمَا فِي السَّفَرِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
88-موسوعة الفقه الكويتية (سفر 2)
سَفَر -2حُكْمُ السَّفَرِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ:
19- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى حُرْمَةِ السَّفَرِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ لِمَنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا تَعَلَّقَ بِهِ بِمُجَرَّدِ دُخُولِ الْوَقْتِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ تَفْوِيتُهُ.وَالْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِيَّةُ، وَحَدَّدُوا ذَلِكَ بِالنِّدَاءِ الْأَوَّلِ.وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا تَمَكَّنَ الْمُسَافِرُ مِنْ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ فِي طَرِيقِهِ أَوْ مَقْصِدِهِ، فَلَا يَحْرُمُ حِينَئِذٍ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِذَلِكَ.كَمَا اسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ التَّضَرُّرَ مِنْ فَوْتِ الرُّفْقَةِ، فَلَا يَحْرُمُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ.
وَأَمَّا السَّفَرُ قَبْلَ الزَّوَالِ، فَهُوَ مَحَلُّ خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهَةِ السَّفَرِ قَبْلَ الزَّوَالِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ سَافَرَ مِنْ دَارِ إقَامَةٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دَعَتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ أَنْ لَا يُصْحَبَ فِي سَفَرِهِ، وَلَا يُعَانَ فِي حَاجَتِهِ»
قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: بَعْدَ فَجْرِ يَوْمِهَا عَلَى الْمَشْهُورِ خِلَافًا لِمَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ بِإِبَاحَتِهِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ إِلاَّ إِذَا أَتَى بِهَا فِي طَرِيقِهِ فَلَا يُكْرَهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ السَّفَرِ قَبْلَ الزَّوَالِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَهُمْ، وَكَذَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى تَحْرِيمِ السَّفَرِ قَبْلَ الزَّوَالِ أَيْضًا- وَأَوَّلُهُ الْفَجْرُ- لِوُجُوبِ السَّعْيِ عَلَى بَعِيدِ الْمَنْزِلِ قَبْلَهُ، وَالْجُمُعَةُ مُضَافَةٌ إِلَى الْيَوْمِ.فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْجُمُعَةُ فِي طَرِيقِهِ أَوْ تَضَرَّرَ بِتَخَلُّفِهِ جَازَ وَإِلاَّ فَلَا.وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ مُبَاحًا أَوْ طَاعَةً فِي الْأَصَحِّ.
كَمَا يُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ السَّفَرُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِخَبَرِ «مَنْ سَافَرَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ دَعَا عَلَيْهِ مَلَكَاهُ».
سَفَرُ الْمَدِينِ:
20- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ- فِي الْجُمْلَةِ- عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَالٌّ أَنْ يُسَافِرَ بِغَيْرِ إِذْنِ دَائِنِهِ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ لِلدَّائِنِ أَنْ يَمْنَعَ الْمَدِينَ مِنَ السَّفَرِ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ إِلاَّ إِذَا كَانَ سَفَرُهُ طَوِيلًا وَيَحِلُّ الدَّيْنُ فِي أَثْنَائِهِ.
وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ أَجَازُوا لَهُ السَّفَرَ إِذَا كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا وَلَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ.
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ السَّفَرَ إِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَ الْأَجَلُ قَرِيبًا أَمْ بَعِيدًا.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (غَرِيم) (وَدَيْن).
آدَابُ السَّفَرِ:
21- لِلسَّفَرِ آدَابٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا:
(1) إِذَا اسْتَقَرَّ عَزْمُ الْمُسَافِرِ عَلَى السَّفَرِ لِحَجٍّ أَوْ غَزْوٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْدَأَ بِالتَّوْبَةِ مِنْ جَمِيعِ الْمَعَاصِي، وَيَخْرُجَ مِنْ مَظَالِمِ الْخَلْقِ، وَيَقْضِيَ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ دُيُونِهِمْ، وَيَرُدَّ الْوَدَائِعَ، وَيَسْتَحِلَّ كُلَّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مُعَامَلَةٌ فِي شَيْءٍ أَوْ مُصَاحَبَةٌ، وَيَكْتُبَ وَصِيَّتَهُ وَيُشْهِدَ عَلَيْهَا، وَيُوَكِّلَ مَنْ يَقْضِي مَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ قَضَائِهِ مِنْ دُيُونِهِ، وَيَتْرُكَ نَفَقَةً لِأَهْلِهِ وَمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ إِلَى حِينِ رُجُوعِهِ.
وَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَسْتَخِيرَ اللَّهَ تَعَالَى فَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ غَيْرَ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ يَدْعُوَ بِدُعَاءِ الِاسْتِخَارَةِ يُنْظَرُ (اسْتِخَارَة) وَيَنْبَغِي إِرْضَاءُ وَالِدَيْهِ وَمَنْ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ بِرُّهُ وَطَاعَتُهُ.
(2) يُسْتَحَبُّ أَنْ يُرَافِقَ فِي سَفَرِهِ مَنْ هُوَ مُوَافِقٌ رَاغِبٌ فِي الْخَيْرِ كَارِهًا لِلشَّرِّ، إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُرَافِقَ فِي سَفَرِهِ جَمَاعَةً؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «لَوْ أَنَّ النَّاسَ يَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ مِنَ الْوَحْدَةِ مَا سَرَى رَاكِبٌ بِلَيْلٍ.يَعْنِي وَحْدَهُ».
(3) يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ سَفَرُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ فَإِنْ فَاتَهُ فَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَأَنْ يَكُونَ بَاكِرًا، وَدَلِيلُ الْخَمِيسِ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «أَقَلُّ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَخْرُجُ إِلاَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ» وَدَلِيلُ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ» وَدَلِيلُ الْبُكُورِ حَدِيثُ صَخْرٍ الْغَامِدِيِّ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا.قَالَ: وَكَانَ إِذَا بَعَثَ جَيْشًا أَوْ سَرِيَّةً بَعَثَهُمْ أَوَّلَ النَّهَارِ، وَكَانَ صَخْرٌ تَاجِرًا وَكَانَ إِذَا بَعَثَ تُجَّارَهُ بَعَثَهُمْ أَوَّلَ النَّهَارِ، فَأَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ».
وَيُسْتَحَبُّ السُّرَى فِي آخِرِ اللَّيْلِ لِحَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «عَلَيْكُمْ بِالدُّلْجَةِ فَإِنَّ الْأَرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْلِ».
(4) وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُسَافِرِ إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَنْزِلِهِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَفِي الثَّانِيَةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فَفِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَا خَلَّفَ عَبْدٌ عَلَى أَهْلِهِ أَفْضَلَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ يَرْكَعُهُمَا عِنْدَهُمْ حِينَ يُرِيدُ السَّفَرَ» وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لَا يَنْزِلُ مَنْزِلًا إِلاَّ وَدَّعَهُ بِرَكْعَتَيْنِ»
(5) يُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَدِّعَ أَهْلَهُ وَجِيرَانَهُ وَأَصْدِقَاءَهُ وَسَائِرَ أَحْبَابِهِ وَأَنْ يُوَدِّعُوهُ، وَيَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ: أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ، زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى وَغَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ وَيَسَّرَ الْخَيْرَ لَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ.لِحَدِيثِ «ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- كَانَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا: هَلُمَّ أُوَدِّعُكَ كَمَا وَدَّعَنِي رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ» وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخِطْمِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوَدِّعَ الْجَيْشَ قَالَ: أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكُمْ وَأَمَانَتَكُمْ وَخَوَاتِيمَ أَعْمَالِكُمْ».
وَعَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ سَفَرًا فَزَوِّدْنِي.فَقَالَ: زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى، فَقَالَ: زِدْنِي، فَقَالَ: وَغَفَرَ ذَنْبَكَ، قَالَ: زِدْنِي.قَالَ: وَيَسَّرَ لَكَ الْخَيْرَ حَيْثُمَا كُنْتَ».
(6) يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَمِّرَ الرُّفْقَةُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَفْضَلَهُمْ وَأَجْوَدَهُمْ رَأْيًا وَيُطِيعُونَهُ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ».
(7) يُسْتَحَبُّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُكَبِّرَ إِذَا صَعِدَ الثَّنَايَا وَشَبَهَهَا، وَيُسَبِّحَ إِذَا هَبَطَ الْأَوْدِيَةَ وَنَحْوَهَا، وَيُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ «كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا وَإِذَا نَزَلْنَا سَبَّحْنَا» وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَكُنَّا إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا وَكَبَّرْنَا ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا.فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّهُ مَعَكُمْ سَمِيعٌ قَرِيبٌ» وَيُسْتَحَبُّ إِذَا أَشْرَفَ عَلَى قَرْيَةٍ يُرِيدُ دُخُولَهَا أَوْ مَنْزِلٍ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ أَهْلِهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا.
لِحَدِيثِ صُهَيْبٍ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَرَ قَرْيَةً يُرِيدُ دُخُولَهَا إِلاَّ قَالَ حِينَ يَرَاهَا: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ وَرَبَّ الْأَرَضِينَ السَّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَمَا أَذْرَيْنَ، فَإِنَّا نَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَخَيْرَ أَهْلِهَا.وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا».
(8) يُسْتَحَبُّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَدْعُوَ فِي سَفَرِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ مُجَابَةٌ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ».
(9) السُّنَّةُ لِلْمُسَافِرِ إِذَا قَضَى حَاجَتَهُ أَنْ يُعَجِّلَ الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ، يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ» وَيُكْرَهُ أَنْ يَطْرُقَ أَهْلَهُ طُرُوقًا بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَهُوَ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِمْ فِي اللَّيْلِ، بَلِ السُّنَّةُ أَنْ يَقْدَمَ أَوَّلَ النَّهَارِ وَإِلاَّ فَفِي آخِرِهِ لِحَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لَا يَطْرُقُ أَهْلَهُ وَكَانَ لَا يَدْخُلُ إِلاَّ غُدْوَةً أَوْ عَشِيَّةً» وَقَدْ أَوْصَلَ النَّوَوِيُّ آدَابَ السَّفَرِ إِلَى اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ أَدَبًا فَصَّلَهَا فِي كِتَابِهِ الْمَجْمُوعِ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
89-موسوعة الفقه الكويتية (السكنى 2)
السُّكْنَى -2هِبَةُ السُّكْنَى:
21- هِبَةُ الدَّارِ لِلسُّكْنَى إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْإِيجَابُ فِيهَا بِلَفْظٍ مُطْلَقٍ، كَقَوْلِ الْوَاهِبِ لِشَخْصٍ آخَرَ: وَهَبْتُ لَكَ دَارِي لِلسُّكْنَى، أَوْ: مَلَّكْتُكَ سُكْنَى عِمَارَتِي.فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَكُونُ سُكْنَى الدَّارِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ إِذَا تَمَّتِ الْهِبَةُ مُسْتَوْفِيَةً لِلشُّرُوطِ وَالْأَرْكَانِ اللاَّزِمِ تَوَافُرُهَا فِيهَا.وَيَجُوزُ لَهُ كَذَلِكَ أَنْ يُسْكِنَهَا لِغَيْرِهِ بِالْإِجَارَةِ أَوْ بِالْإِعَارَةِ.وَمِلْكِيَّةُ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لِلْهِبَةِ غَيْرُ لَازِمَةٍ، فَيَجُوزُ لِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْإِيجَابُ مُقَيَّدًا فَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (هِبَة، وَعُمْرَى، وَرُقْبَى).وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَجُوزُ لِلْوَاهِبِ اسْتِرْجَاعُ السُّكْنَى فِيهِ إِذَا لَمْ يُقَيِّدْ بِوَقْتٍ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَاهِبِ اسْتِرْجَاعُ الْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ لِلسُّكْنَى أَيَّ وَقْتٍ شَاءَ، وَلَا تَتَقَيَّدُ فِي الرُّجُوعِ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ؛ لِأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ قَبِيلِ الْعَارِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلِهِمُ الثَّانِي إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْوَاهِبِ هِبَةَ السُّكْنَى أَنْ يَسْتَرْجِعَ السُّكْنَى إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ.فَإِذَا مَاتَ (الْوَاهِبُ) قَبْلَ مَوْتِ (الْمَوْهُوبِ لَهُ) فَإِنَّ الْمَسْكَنَ يَرْجِعُ إِلَى الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِ (الْمَوْهُوبِ لَهُ).وَأَصْحَابُ هَذَا الرَّأْيِ يَعْتَبِرُونَ الْمَسْكَنَ كَالْمُعَمَّرِ.
حِيَازَةُ الدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ:
22- الْمِلْكِيَّةُ لِلدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ تَثْبُتُ بِالْقَبْضِ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَتَثْبُتُ الْمِلْكِيَّةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ لِتَمَامِ الْعَقْدِ الْحِيَازَةَ لِلدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا وَهَبَ شَخْصٌ لآِخَرَ دَارًا فَإِنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ تَثْبُتُ لَهُ مِلْكِيَّةُ الدَّارِ، وَتُصْبِحُ نَافِذَةً عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ بِحِيَازَةِ هَذِهِ الدَّارِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بَالِغًا رَشِيدًا.
فَإِذَا كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَيَقُومُ وَلِيُّهُ مَقَامَهُ نِيَابَةً عَنْهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ الْوَاهِبَ.فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ هُوَ الْوَاهِبَ فَإِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَقُولُونَ تُخْلَى الدَّارُ الْمَوْهُوبَةُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَلَا يَسْكُنُهَا الْوَلِيُّ، فَإِنْ سَكَنَهَا بَطَلَتِ الْهِبَةُ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْأَبَ لَوْ وَهَبَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ الدَّارَ الَّتِي يَسْكُنُهَا، وَكَانَتْ مَشْغُولَةً بِمَتَاعِهِ (أَيِ الْوَاهِبِ) فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ لَهُ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّةَ الْهِبَةِ.لَكِنْ لَوْ أَسْكَنَهَا الْأَبُ لِغَيْرِهِ بِأَجْرٍ فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ.وَلَوْ أَسْكَنَهَا لِغَيْرِهِ بِدُونِ أَجْرٍ جَازَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ.
وَاتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ وَهَبَتْ دَارَهَا لِزَوْجِهَا وَهِيَ سَاكِنَةٌ فِيهَا وَلَهَا أَمْتِعَةٌ فِيهَا، وَالزَّوْجُ سَاكِنٌ مَعَهَا، فَإِنَّ هَذِهِ الْهِبَةَ صَحِيحَةٌ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَهَبَ الزَّوْجُ دَارَ سُكْنَاهُ لِزَوْجَتِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى لِلرَّجُلِ لَا لِلْمَرْأَةِ، فَإِنَّهَا تَبَعٌ لِزَوْجِهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ خُلُوِّ الدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ مِنْ أَمْتِعَةِ غَيْرِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، فَإِنْ كَانَتْ مَشْغُولَةً بِهَا، وَاسْتَمَرَّتْ فِيهَا فَإِنَّ الْهِبَةَ لَا تَصِحُّ.وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْهِبَةِ لِلْأَجْنَبِيِّ أَوْ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ، وَيَقُولُونَ بِجَوَازِ أَنْ يَسْكُنَ الْأَبُ فِي دَارِ سُكْنَاهُ الْمَوْهُوبَةِ لِوَلَدِهِ الْمَشْمُولِ بِوِلَايَتِهِ، وَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ بَعْدَ تَمَامِ الْهِبَةِ.
وَقْفُ الْعَيْنِ لِلسُّكْنَى:
23- الْوَقْفُ مَشْرُوعٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ جَائِزٌ لَازِمٌ إِنْ وَقَعَ، وَوَقْفُ السُّكْنَى مُخْتَلَفٌ فِيهِ عِنْدَهُمْ؛ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي وَقْفِ الْمَنَافِعِ.
فَيَرَى الْجُمْهُورُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ وَمَنْ قَالَ بِجَوَازِ الْوَقْفِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ وَقْفَ الْمَنَافِعِ دُونَ الذَّاتِ لَا يَصِحُّ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ وَقْفَ السُّكْنَى بِاعْتِبَارِهَا مَنْفَعَةً مِنَ الْمَنَافِعِ جَائِزٌ وَصَحِيحٌ شَرْعًا.
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَقْفِ الْخُلُوِّ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى صِحَّةِ وَقْفِهِ وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ وَقْفِهِ.
وَانْظُرْ بَحْثَ (خُلُوف 22) (وَوَقْف).
سُكْنَى الْمُرْتَهِنِ لِلْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ:
24- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا يَحِلُّ لَهُ سُكْنَى الدَّارِ الْمَرْهُونَةِ إِذَا لَمْ يَأْذَنِ الرَّاهِنُ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ إِنَّمَا تُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ، وَالْأَصْلُ مَمْلُوكٌ لِلرَّاهِنِ، فَالْمَنْفَعَةُ تَكُونُ عَلَى مِلْكِهِ، وَلَا يَسْتَوْفِيهَا غَيْرُهُ إِلاَّ بِإِيجَابِهَا لَهُ.وَعَقْدُ الرَّهْنِ لَا يَتَضَمَّنُ إِلاَّ مِلْكَ الْيَدِ لِلْمُرْتَهِنِ لَا مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ مَالُهُ فِي الِانْتِفَاعِ بَعْدَ عَقْدِ الرَّاهِنِ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ.
وَهَذَا إِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الرَّاهِنُ، فَإِنْ أَذِنَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ بِالسُّكْنَى فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي سُكْنَى الرَّاهِنِ لِلدَّارِ الْمَرْهُونَةِ.وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (رَهْن).
غَصْبُ السُّكْنَى:
25- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْغَصْبَ يَقَعُ عَلَى السُّكْنَى؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةُ عَقَارٍ وَغَصْبُ الْعَقَارِ مُمْكِنٌ، فَمَنْ مَنَعَ آخَرَ مِنْ سُكْنَى دَارِهِ يَكُونُ غَاصِبًا لِلسُّكْنَى، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ ظَلَمَ قَيْدَ شِبْرٍ مِنَ الْأَرْضِ طَوَّقَهُ اللَّهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ».
فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ بِمَنْطُوقِهِ عَلَى إِمْكَانِ وُقُوعِ الْغَصْبِ عَلَى الْعَقَارِ؛ لِأَنَّهُ أَسْنَدَ الْغَصْبَ إِلَى الْأَرْضِ، وَالْإِسْنَادُ دَلِيلُ الْوُقُوعِ وَإِمْكَانُهُ فَإِذَا ثَبَتَ وُقُوعُ الْغَصْبِ عَلَى الْعَقَارِ فَيَثْبُتُ عَلَى مَنَافِعِهِ الَّتِي مِنْهَا سُكْنَى الدُّورِ.
وَلِأَنَّ الْغَصْبَ يَتَحَقَّقُ بِإِثْبَاتِ يَدِ الْغَاصِبِ وَإِزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي الدَّارِ وَالْعَقَارِ.فَالْغَاصِبُ يُثْبِتُ يَدَهُ الْمُعْتَدِيَةَ وَيُزِيلُ يَدَ الْمَالِكِ الْمُحِقَّةَ، وَالْيَدُ هِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّصَرُّفِ، وَعَدَمُهَا يَتَمَثَّلُ فِي عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ.فَإِنْ أَثْبَتَ الْغَاصِبُ يَدَهُ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ السُّكْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا الْغَصْبُ؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَالٍ، وَالْغَصْبُ لَا يَكُونُ إِلاَّ فِي الْمَالِ.فَلَوْ غَصَبَ دَارًا لَمْ يَضْمَنْ مَنَافِعَهَا بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ.وَاسْتَثْنَوْا صُوَرًا، مِنْهَا: الْوَقْفُ، وَدَارُ الْيَتِيمِ، وَالْمُعَدُّ لِلِاسْتِغْلَالِ.وَانْظُرْ (ضَمَان) (وَغَصْب).
مَتَى يَتَحَقَّقُ الْغَصْبُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ:
26- الْمَالِكِيَّةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الذَّاتِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ.وَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْغَاصِبَ لِلدَّارِ لَا يَضْمَنُ الْأُجْرَةَ إِلاَّ إِذَا سَكَنَ بِالْفِعْلِ أَوْ أَسْكَنَهَا لِغَيْرِهِ.أَمَّا الْمُتَعَدِّي (وَهُوَ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِي شَيْءٍ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ دُونَ قَصْدِ التَّمَلُّكِ) فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ لِمَالِكِ الْمَنْفَعَةِ.
وَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ أَنَّ الْغَصْبَ يَقَعُ بِدُخُولِ الدَّارِ، وَإِزْعَاجِ سُكَّانِهَا، سَوَاءٌ كَانَ عِنْدَهُ نِيَّةٌ فِي الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا وَالْحِيَازَةِ لِمَنَافِعِهَا أَمْ لَمْ يَكُنْ.
وَهَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ بِتَحَقُّقِ الْغَصْبِ عِنْدَ إِثْبَاتِ الْيَدِ الْمُتَعَدِّيَةِ.وَدَلِيلُ ثُبُوتِ الْيَدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنَّهُ لَوْ تَنَازَعَ الْخَارِجُ وَالدَّاخِلُ فِيهَا حُكِمَ لِمَنْ هُوَ فِيهَا دُونَ الْخَارِجِ عَنْهَا.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْغَصْبَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلاَّ بِالدُّخُولِ لِلدَّارِ بِقَصْدِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا، أَمَّا الدُّخُولُ بِدُونِ هَذِهِ النِّيَّةِ فَلَا يُسَمَّى غَصْبًا، وَلِهَذَا قَالُوا فِي كُتُبِهِمْ: «لَا يَحْصُلُ الْغَصْبُ مِنْ غَيْرِ اسْتِيلَاءٍ، فَلَوْ دَخَلَ أَرْضَ إِنْسَانٍ أَوْ دَارَهُ لَمْ يَضْمَنْهَا بِدُخُولِهِ، سَوَاءٌ دَخَلَهَا بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ صَاحِبُهَا فِيهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ».
الصُّلْحُ عَلَى السُّكْنَى عَنْ دَعْوَى غَيْرِ مَنْفَعَةٍ:
27- يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْ دَعْوَى الْمَالِ عَلَى السُّكْنَى، وَهَذَا الصُّلْحُ إجَارَةٌ لِلْمَصَالِحِ بِهِ فَيُشْتَرَطُ فِيهَا شُرُوطُهَا؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ الْمُدَّعَى بِهَا أُجْرَةٌ لِلسُّكْنَى (سَوَاءٌ أَكَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ أَمْ عَنْ إِنْكَارٍ أَمْ عَنْ سُكُوتِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ).
وَمِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ: صَالَحْتُكَ عَنْ هَذِهِ الدَّارِ عَلَى سُكْنَى دَارٍ أُخْرَى مُدَّةً مَعْلُومَةً.
وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُدَّعِي يَتْرُكُ الدَّارَ الْمُدَّعَى بِهَا وَيَسْكُنُ الدَّارَ الْمُصَالَحَ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِصِحَّةِ الصُّلْحِ عَلَى السُّكْنَى عِدَّةَ شُرُوطٍ ذُكِرَتْ عِنْدَهُمْ فِي الصُّلْحِ عَلَى الْمَنَافِعِ، مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى بِهِ مُعَيَّنًا حَاضِرًا، كَأَنْ يَدَّعِيَ بِهَذَا الْعَبْدِ أَوْ هَذَا الْكِتَابِ وَهُوَ بِيَدِهِ، فَيُصَالِحَهُ بِسُكْنَى دَارِهِ.
فَلَوْ كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ كَدَرَاهِمَ، فَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَيْهَا بِالسُّكْنَى لِأَنَّهُ فَسْخُ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ.
وَذَهَبَ الْمُتَيْطِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الصُّلْحِ عَلَى سُكْنَى دَارٍ.وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَلاَّ يَكُونَ الصُّلْحُ عَلَى سُكْنَى الْعَيْنِ الْمُدَّعَى بِهَا، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِلَى الْمُدَّعِي.وَعَلَيْهِ فَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الَّذِي فِي يَدِهِ الدَّارَ سَنَةً فِيهَا.ثُمَّ يَدْفَعَهَا إِلَى الْمُدَّعِي لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ وَمَنَافِعَهَا مِلْكٌ لِلْمُقَرِّ لَهُ.فَكَيْفَ يَتَعَوَّضُ مِنْ مِلْكِهِ أَوْ مَنْفَعَتِهِ.فَإِذَا أَسْكَنَ الْمُدَّعِي الْمُقِرُّ- الْمُدَّعَى عَلَيْهِ- فَيَكُونُ هَذَا تَبَرُّعًا مِنْ صَاحِبِ الْبَيْتِ بِمَنَافِعِهِ لَهُ، فَلَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنَ الدَّارِ مَتَى شَاءَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الَّذِي فِي يَدِهِ الدَّارُ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ الْمُدَّةُ مَعْلُومَةً.
وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ لِنَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ الْمَشْرُوطَةِ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فِي زَعْمِهِ، فَيَجُوزُ.
الصُّلْحُ عَنِ السُّكْنَى:
28- يَجُوزُ الصُّلْحُ عَنِ السُّكْنَى عَلَى مَالٍ، أَوْ عَلَى خِدْمَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ إِذَا كَانَا مُخْتَلِفَيِ الْجِنْسِ.
وَأَمَّا الصُّلْحُ عَنِ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى فَفِيهَا خِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (صُلْح).
سُكْنَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ:
29- سُكْنَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إِنْ كَانَتْ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَلَا تَجُوزُ بِاتِّفَاقٍ.
لَمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «أَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، قَالَ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوُفُودَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ، وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثِ»، وَلِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَبْقَيَنَّ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ».
وَهَذَا الْحُكْمُ وَإِنْ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْخِلَافَ وَقَعَ فِي الْمُرَادِ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ.
وَأَمَّا سُكْنَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي غَيْرِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَهِيَ جَائِزَةٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ الْمَذْكُورِينَ، نَظِيرُ مَا يَدْفَعُونَهُ مِنْ جِزْيَةٍ، عَلَى التَّفْصِيلِ الْآتِي:
أَوَّلًا: مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:
30- إِذَا أَرَادَ الذِّمِّيُّ السُّكْنَى مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ سُكْنَاهُ بِالشِّرَاءِ لِدَارٍ، أَوْ بِاسْتِئْجَارِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
فَإِذَا أَرَادَ الذِّمِّيُّ أَنْ يَشْتَرِيَ دَارًا فِي الْمِصْرِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُبَاعَ مِنْهُ، وَإِنِ اشْتَرَاهَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا مِنْ مُسْلِمٍ، وَقِيلَ: لَا يُجْبَرُ.
وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: إِنْ مَصَّرَ الْإِمَامُ فِي أَرَاضِيهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ- كَمَا مَصَّرَ عُمَرُ- رضي الله عنه- الْبَصْرَةَ وَالْكُوفَةَ- فَاشْتَرَى بِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ دُورًا وَسَكَنُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يُمْنَعُوا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّا قَبِلْنَا مِنْهُمْ عَقْدَ الذِّمَّةِ لِيَقِفُوا عَلَى مَحَاسِنِ الدِّينِ، فَعَسَى أَنْ يُؤْمِنُوا، وَاخْتِلَاطُهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ وَالسَّكَنُ مَعَهُمْ يُحَقِّقُ هَذَا الْمَعْنَى.
وَقَيَّدَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ جَوَازَ السُّكْنَى بِقَوْلِهِ: هَذَا إِذَا قَلُّوا وَكَانُوا بِحَيْثُ لَا تَتَعَطَّلُ جَمَاعَاتُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَقَلَّلُ الْجَمَاعَةُ بِسُكْنَاهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ.فَأَمَّا إِذَا كَثُرُوا عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إِلَى تَعْطِيلِ بَعْضِ الْجَمَاعَاتِ أَوْ تَقْلِيلِهَا مُنِعُوا مِنَ السُّكْنَى وَأُمِرُوا أَنْ يَسْكُنُوا نَاحِيَةً لَيْسَ فِيهَا لِلْمُسْلِمِينَ جَمَاعَةٌ.قَالَ: وَهَذَا مَحْفُوظٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: قَالَ الْخَيْرُ الرَّمْلِيُّ: إِنَّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ التَّفْصِيلُ، فَلَا نَقُولُ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا، وَلَا بِعَدَمِهِ مُطْلَقًا، بَلْ يَدُورُ الْحُكْمُ عَلَى الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَالضَّرَرِ وَالْمَنْفَعَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ.
وَإِذَا تَكَارَى أَهْلُ الذِّمَّةِ دُورًا فِي الْمِصْرِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَسْكُنُوا فِيهَا جَازَ؛ لِعَوْدِ نَفْعِهِ إِلَيْنَا؛ وَلِيَرَوْا أَفْعَالَنَا فَيُسْلِمُوا.وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكِرَاءِ وَالشِّرَاءِ، فَكُلُّ مَا قِيلَ فِي الشِّرَاءِ يَأْتِي هُنَا فِي الْكِرَاءِ.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِصِحَّةِ سُكْنَى الذِّمِّيِّ أَنْ تَكُونَ حَيْثُ يَنَالُهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَسْكُنُ الذِّمِّيُّ حَيْثُ يُخْشَى مِنْهُ أَنْ يَنْكُثَ.فَإِذَا سَكَنَ فِي أَمَاكِنَ بِحَيْثُ لَا تَنَالُهُ أَحْكَامُنَا، فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالِانْتِقَالِ.فَإِنْ أَبَوْا قُوتِلُوا.
وَنَقَلَ الْحَطَّابُ قَوْلَ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ أَهْلُ جِهَةٍ، وَخِفْنَا عَلَيْهِمُ الِارْتِدَادَ إِذَا فُقِدَ الْجَيْشُ، فَإِنَّهُمْ يُؤْمَرُونَ بِالِانْتِقَالِ.
بَيْعُ مَكَانِ سُكْنَى الْمُفْلِسِ لِحَقِّ غُرَمَائِهِ:
31- إِذَا كَانَ لِلْمُفْلِسِ دَارٌ فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنْ تُبَاعَ فِي دَيْنِهِ وَيُكْتَرَى لَهُ بَدَلُهَا، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهَا لَا تُبَاعُ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ نَفِيسَةً، فَتُبَاعُ وَيُشْتَرَى بِبَعْضِ ثَمَنِهَا مَسْكَنٌ، وَيُصْرَفُ الْبَاقِي إِلَى الْغُرَمَاءِ.وَانْظُرْ بَحْثَ (إِفْلَاس) ف 49.
حُكْمُ بَيْعِ مَحَلِّ السُّكْنَى لِلْحَجِّ:
32- الْحَجُّ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ حُرٍّ بِشَرْطِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَهِيَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ مَعَ الرُّفْقَةِ الْآمِنَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَهَلْ يَكُونُ مَنْ كَانَ لَهُ بَيْتٌ يَسْكُنُهُ قَادِرًا عَلَى الْحَجِّ بِأَنْ يَبِيعَهُ وَيَحُجَّ بِثَمَنِهِ؟.
قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ السَّكَنَ إِذَا كَانَ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ، بِأَنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْهُ لِسُكْنَاهُ أَوْ لِسُكْنَى مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِسْكَانُهُ، لَا يُبَاعُ لِلْحَجِّ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَسْكَنُ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ، أَوْ كَانَ نَفِيسًا، وَلَوْ أَبْدَلَهُ لَوَفَّى التَّفَاوُتُ بِنَفَقَةِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ بَيْعُ الْفَاضِلِ، أَوِ اسْتِبْدَالُ النَّفِيسِ بِمَسْكَنٍ يَلِيقُ بِمِثْلِهِ لِلْحَجِّ.وَالرَّأْيُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَالْمُؤْنَةِ فَاضِلًا عَنْ مَسْكَنِهِ اللاَّئِقِ الْمُسْتَغْرِقِ لِحَاجَتِهِ.وَلِهَذَا قَالُوا بِبَيْعِ الْمَسْكَنِ لِلْحَجِّ، قِيَاسًا عَلَى بَيْعِهِ فِي الدَّيْنِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يَلْزَمُهُ بَيْعُ مَسْكَنِهِ لِأَجْلِ الْحَجِّ مُطْلَقًا.
حُرْمَةُ مَحَلِّ السُّكْنَى:
33- جَعَلَ اللَّهُ لِلْمَسْكَنِ حُرْمَةً، فَلَا يَجُوزُ الدُّخُولُ فِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ.يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا}.وَيَقُولُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ اطَّلَعَ فِي دَارِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَفَقَأُوا عَيْنَهُ فَقَدْ أُهْدِرَتْ عَيْنُهُ».
وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَإِنْ أُذِنَ لَكَ فَادْخُلْ وَإِلاَّ فَارْجِعْ».فَالسُّنَّةُ فِي الِاسْتِئْذَانِ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ لَا يُزَادُ عَلَيْهَا، قَالَ مَالِكٌ: الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ لَا أُحِبُّ أَنْ يَزِيدَ أَحَدٌ عَلَيْهِ، إِلاَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ، فَلَا أَرَى بَأْسًا أَنْ يَزِيدَ إِذَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ.
وَتُنْظَرُ التَّفَاصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِئْذَان).
حُكْمُ دُخُولِ مَحَلِّ سُكْنَى الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ:
34- مَنْ دَخَلَ دَارَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِدُخُولِ مِلْكِ غَيْرِهِ دُونَ إِذْنٍ، فَكَانَ لِصَاحِبِ الدَّارِ مُطَالَبَتُهُ بِتَرْكِ التَّعَدِّي.كَمَا لَوْ غَصَبَ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنْ خَرَجَ بِالْأَمْرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ضَرْبُهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِخْرَاجُهُ وَإِزَالَةُ الْعُدْوَانِ بِغَيْرِ الْقَتْلِ.كَمَا لَوْ غَصَبَ مِنْهُ شَيْئًا فَأَمْكَنَ أَخْذُهُ بِغَيْرِ الْقَتْلِ.فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ بِالْأَمْرِ كَانَ لَهُ دَفْعُهُ بِأَسْهَلِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَنْدَفِعُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُهُ، فَإِذَا انْدَفَعَ بِقَلِيلٍ فَلَا حَاجَةَ إِلَى أَكْثَرَ مِنْهُ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَخْرُجُ بِالْعَصَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ضَرْبُهُ بِالْحَدِيدِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيدَ آلَةٌ لِلْقَتْلِ بِخِلَافِ الْعَصَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُهُ إِلاَّ بِالْقَتْلِ أَوْ خَافَ أَنْ يَبْدُرَهُ بِالْقَتْلِ إِنْ لَمْ يَقْتُلْهُ، فَلَهُ دَفْعُهُ بِمَا يَقْتُلُهُ أَوْ يَقْطَعُ طَرَفَهُ، وَمَا أَتْلَفَ مِنْهُ فَهُوَ هَدَرٌ إِنْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ الدَّاخِلَ كَابَرَ صَاحِبَ الدَّارِ وَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ دَفْعَهُ إِلاَّ بِذَلِكَ.وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ.
35- وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ جَوَازِ دُخُولِ بَيْتِ الْغَيْرِ إِلاَّ بِإِذْنٍ، فَإِنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ بَعْضُ الْأَحْوَالِ الْخَاصَّةِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الدُّخُولُ بِغَيْرِ إِذْنٍ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ:
أ- حَالَةُ الْغَزْوِ، فَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ مُشْرِفًا عَلَى الْعَدُوِّ فَلِلْغُزَاةِ دُخُولُهُ لِيُقَاتِلُوا الْعَدُوَّ مِنْهُ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى إِذْنِ صَاحِبِ الْبَيْتِ.
ب- مَنْ نَهَبَ مِنْ غَيْرِهِ ثَوْبًا، وَدَخَلَ النَّاهِبُ دَارَهُ جَازَ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ أَنْ يَدْخُلَ دُونَ إِذْنٍ لِأَخْذِ حَقِّهِ.
ج- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ عَلِمَ أَنَّ بَيْتًا يُشْرَبُ فِيهِ الْخَمْرُ أَوْ يُضْرَبُ فِيهِ الطُّنْبُورُ فَلَهُ الْهُجُومُ عَلَيْهِ وَإِزَالَةُ الْمُنْكَرِ وَلَوْ بِالْقِتَالِ، وَهَذَا عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ.
حُكْمُ النَّظَرِ فِي مَحَلِّ سُكْنَى الْغَيْرِ دُونَ إِذْنٍ:
36- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ غَيْرِهِ- دُونَ إِذْنٍ- مِنْ ثَقْبٍ أَوْ كُوَّةٍ فَرَمَاهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ بِحَصَاةٍ أَوْ طَعَنَهُ بِعُودٍ فَقَلَعَ عَيْنَهُ، لَمْ يَضْمَنْهَا.وَكَذَا لَوْ أَصَابَ قُرْبَ عَيْنِهِ فَجَرَحَهُ، فَسَرَى الْجُرْحُ فَمَاتَ فَهَدَرٌ، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ الْمَرْفُوعِ: «لَوِ اطَّلَعَ أَحَدٌ فِي بَيْتِكَ وَلَمْ تَأْذَنْ لَهُ فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْكَ جُنَاحٌ».
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ «رَجُلًا اطَّلَعَ فِي جُحْرٍ مِنْ بَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَرَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَحُكُّ رَأْسَهُ بِمِدْرَى فِي يَدِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْتَظِرُنِي لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنَيْكَ» وَإِنْ تَرَكَ النَّاظِرُ الِاطِّلَاعَ وَانْصَرَفَ لَمْ يَجُزْ رَمْيُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَطْعَنِ الَّذِي اطَّلَعَ ثُمَّ انْصَرَفَ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْجِنَايَةَ.
وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الدَّارِ رَمْيُ النَّاظِرِ بِمَا يَقْتُلُهُ ابْتِدَاءً.فَإِنْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ يَقْتُلُهُ أَوْ حَدِيدَةٍ ثَقِيلَةٍ ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا لَهُ مَا يَقْلَعُ بِهِ الْعَيْنَ الْمُبْصِرَةَ الَّتِي حَصَلَ الْأَذَى مِنْهَا، دُونَ مَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهَا، فَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعِ الْمُطَّلِعُ بِرَمْيِهِ بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ جَازَ رَمْيُهُ بِأَكْثَرَ مِنْهُ وَلَوْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ.وَعَلَى صَاحِبِ الدَّارِ ابْتِدَاءً أَنْ يَدْفَعَهُ بِأَسْهَلَ مَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ، بِأَنْ يَقُولَ لَهُ انْصَرِفْ، أَوْ يُخَوِّفَهُ أَوْ يَصِيحَ عَلَيْهِ صَيْحَةً مُزْعِجَةً.فَإِنْ لَمْ يَنْصَرِفْ أَشَارَ إِلَيْهِ يُوهِمُهُ أَنَّهُ يَحْذِفُهُ.فَإِنْ لَمْ يَنْصَرِفْ فَلَهُ حَذْفُهُ حِينَئِذٍ.
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي هَذَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ إِلاَّ بِذَلِكَ؛ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ أَوْلَى.
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَا يَجُوزُ رَمْيُ مَنْ نَظَرَ مِنَ الْبَابِ الْمَفْتُوحِ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيطَ مِنْ صَاحِبِ الدَّارِ بِفَتْحِهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ وَالْأَوْلَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْبَابَ الْمَفْتُوحَ كَالْكُوَّةِ، وَالْكُوَّةُ الْكَبِيرَةُ كَالْبَابِ الْمَفْتُوحِ، وَفِي مَعْنَاهَا الشُّبَّاكُ الْوَاسِعُ، فَلَا يَجُوزُ رَمْيُهُ مِنْهُ؛ لِتَقْصِيرِ صَاحِبِ الدَّارِ إِلاَّ أَنْ يُنْذِرَهُ فَيَرْمِيَهُ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَالُوا: يَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ الثُّقْبُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، أَوْ كَانَ الشَّقُّ وَاسِعًا فَلِصَاحِبِ الدَّارِ رَمْيُهُ.وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ نِسَاءٌ، وَكَانَ فِيهَا صَاحِبُ الْبَيْتِ وَحْدَهُ فَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ رَمْيُ النَّاظِرِ إِلاَّ إِذَا كَانَ صَاحِبُ الدَّارِ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ، فَلَهُ الرَّمْيُ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لِصَاحِبِ الدَّارِ رَمْيُ النَّاظِرِ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الدَّارِ نِسَاءٌ أَمْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ كَانَ فِي الدَّارِ الَّتِي اطَّلَعَ فِيهَا عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- نِسَاءٌ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَحَذَفْتَهُ..».عَامٌّ فِي الدَّارِ الَّتِي فِيهَا نِسَاءٌ وَغَيْرِهَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْأَذْرَعِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مَا إِذَا كَانَ النَّاظِرُ أَحَدَ أُصُولِ صَاحِبِ الدَّارِ الَّذِينَ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِمْ وَلَا حَدَّ قَذْفٍ، فَلَا يَجُوزُ رَمْيُهُ، فَإِنْ رَمَاهُ ضَمِنَ.
وَاسْتَثْنَوْا كَذَلِكَ مَا إِذَا كَانَ النَّظَرُ مُبَاحًا لِلنَّاظِرِ لِخُطْبَةٍ وَنَحْوِهَا.
وَحُكْمُ نَظَرِ النَّاظِرِ مِنْ سَطْحِ نَفْسِهِ وَنَظَرِ الْمُؤَذِّنِ مِنَ الْمَنَارَةِ كَالنَّظَرِ مِنَ الْكُوَّةِ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ؛ إِذْ لَا تَفْرِيطَ مِنْ صَاحِبِ الدَّارِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: مَنْ قَصَدَ عَيْنَ النَّاظِرِ بِرَمْيِهَا بِحَصَاةٍ أَوْ نَخَسَهَا بِعُودٍ فَفَقَأَهَا، فَالْقِصَاصُ مِنْ عَيْنِ الْمَنْظُورِ لَهُ حَقٌّ لِلنَّاظِرِ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ عَيْنَ الْمَنْظُورِ بِأَنْ قَصَدَ مُجَرَّدَ زَجْرِهِ فَصَادَفَ عَيْنَهُ، فَلَا قَوَدَ عَلَى الْمَنْظُورِ.وَفِي غَيْرِ النَّاظِرِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَنْظُورِ.وَيُحْمَلُ حَدِيثُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي رَمْيِ النَّاظِرِ عَلَى أَنَّهُ يَرْمِيهِ لِيُنَبِّهَهُ عَلَى أَنَّهُ فَطِنَ بِهِ، أَوْ لِيَدْفَعَهُ عَنْ ذَلِكَ غَيْرَ قَاصِدٍ فَقْءَ عَيْنِهِ فَانْفَقَأَتْ عَيْنُهُ خَطَأً فَالْجُنَاحُ مُنْتَفٍ، وَهُوَ الَّذِي نُفِيَ فِي الْحَدِيثِ.
وَلِأَنَّهُ لَوْ نَظَرَ إِنْسَانٌ إِلَى عَوْرَةِ آخَرَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَلَا يَسْتَبِيحُ فَقْءَ عَيْنِهِ فَالنَّظَرُ إِلَيْهِ فِي بَيْتِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يُسْتَبَاحَ بِهِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ نَظَرَ فِي بَيْتِ إِنْسَانٍ فَفَقَأَ صَاحِبُ الْبَيْتِ عَيْنَهُ لَا يَضْمَنُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَنْحِيَتُهُ مِنْ غَيْرِ فَقْئِهَا، وَإِنْ أَمْكَنَ ضَمِنَ.وَلَوْ أَدْخَلَ رَأْسَهُ فَرَمَاهُ بِحَجَرٍ فَفَقَأَهَا لَا يَضْمَنُ إِجْمَاعًا، لِأَنَّهُ شَغَلَ مِلْكَهُ كَمَا لَوْ قَصَدَ أَخْذَ ثِيَابِهِ فَدَفَعَهُ حَتَّى قَتَلَهُ لَمْ يَضْمَنْ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
90-موسوعة الفقه الكويتية (سكوت)
سُكُوتالتَّعْرِيفُ:
1- السُّكُوتُ خِلَافُ النُّطْقِ، وَهُمَا مَصْدَرَانِ.يُقَالُ: سَكَتَ الصَّائِتُ سُكُوتًا: إِذَا صَمَتَ.
وَالِاسْمُ السُّكْتَةُ وَالسِّكْتَةُ.يَقُولُ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ: السُّكُوتُ مُخْتَصٌّ بِتَرْكِ الْكَلَامِ.
وَرَجُلٌ سِكِّيتٌ: كَثِيرُ السُّكُوتِ.
وَفِي النِّهَايَةِ لِابْنِ الْأَثِيرِ: تَكَلَّمَ الرَّجُلُ ثُمَّ سَكَتَ، بِغَيْرِ أَلِفٍ، فَإِذَا انْقَطَعَ كَلَامُهُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ قِيلَ: أَسْكَتَ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الصَّمْتُ:
2- الصَّمْتُ هُوَ السُّكُوتُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ أَمْ لَا.وَجَاءَ فِي الْمُغْرِبِ أَنَّ الصَّمْتَ هُوَ السُّكُوتُ الطَّوِيلُ.وَمِثْلُهُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ النَّهْرِ حَيْثُ قَالَ: السُّكُوتُ ضَمُّ الشَّفَتَيْنِ، فَإِنْ طَالَ يُسَمَّى صَمْتًا.
وَفِي الْحَدِيثِ: قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- «لَا صُمَاتَ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ».
ب- الْإِنْصَاتُ:
3- الْإِنْصَاتُ هُوَ السُّكُوتُ لِلِاسْتِمَاعِ، يُقَالُ: أَنْصَتَ: إِذَا سَكَتَ سُكُوتَ مُسْتَمِعٍ.
وَأَنْصَتَهُ: إِذَا أَسْكَتَهُ، فَهُوَ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ.يَقُولُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} الْإِنْصَاتُ هُوَ السُّكُوتُ لِلِاسْتِمَاعِ، وَالْإِصْغَاءُ وَالْمُرَاعَاةُ.
وَعَلَى ذَلِكَ فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ السُّكُوتِ.
حُكْمُ السُّكُوتِ:
4- تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ لِحُكْمِ السُّكُوتِ فِي مُخْتَلَفِ الْمَسَائِلِ: وَفِيمَا يَلِي نَذْكُرُ أَحْكَامَهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، بَادِئِينَ بِالْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ، ثُمَّ حُكْمِ السُّكُوتِ وَأَثَرِهِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْعُقُودِ وَالدَّعَاوَى وَالْبَيِّنَاتِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ نُبَيِّنُ مَا ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ إِجْمَالًا مَعَ التَّعَرُّضِ لِحُكْمِ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5- السُّكُوتُ مُبَاحٌ غَالِبًا، وَتَعْتَرِيهِ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْأُخْرَى حَسَبَ الْأَحْوَالِ، وَقَدْ تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لِحُكْمِ السُّكُوتِ التَّكْلِيفِيِّ فِي مَسَائِلَ، مِنْهَا:
سُكُوتُ الْمُقْتَدِي:
6- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ السُّكُوتُ عَلَى الْمُقْتَدِي عِنْدَ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا، فَيَسْتَمِعُ إِذَا جَهَرَ الْإِمَامُ، وَيُنْصِتُ إِذَا أَسَرَّ.فَإِنْ قَرَأَ كُرِهَ تَحْرِيمًا، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «كُنَّا نَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ فَنَزَلَ {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} » قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْبَحْرِ: الْمَطْلُوبُ بِالْآيَةِ أَمْرَانِ: الِاسْتِمَاعُ وَالسُّكُوتُ، فَيُعْمَلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا.وَالْأَوَّلُ يَخُصُّ الْجَهْرِيَّةَ، وَالثَّانِي لَا، فَيُجْرَى عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَيَجِبُ السُّكُوتُ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا.ا هـ.وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: الِاسْتِمَاعُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا عِنْدَ الْمُخَافَتَةِ بِالْقِرَاءَةِ فَالْإِنْصَاتُ مُمْكِنٌ عِنْدَ الْمُخَافَتَةِ بِالْقِرَاءَةِ، فَيَجِبُ بِظَاهِرِ النَّصِّ.وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ مَشْهُورٍ: «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ.فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا».وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ قِرَاءَةٌ لَهُ».
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَا تَجِبُ عَلَى الْمُقْتَدِي الْقِرَاءَةُ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الصَّلَاةُ جَهْرِيَّةً أَمْ سَرِيَّةً، لَكِنَّهُمْ قَالُوا بِاسْتِحْبَابِ الْقِرَاءَةِ فِيمَا لَا يُجْهَرُ فِيهِ.كَمَا أَنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا بِاسْتِحْبَابِهَا لِلْمُقْتَدِي فِي الْجَهْرِيَّةِ عِنْدَ سَكَتَاتِ الْإِمَامِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: يَجِبُ عَلَى الْمُقْتَدِي قِرَاءَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ».
أَمَّا فِيمَا يُجْهَرُ فِيهَا فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَدِيمُ أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ بَلْ يُنْصِتُ، وَذَلِكَ لِلْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ.وَفِي الْجَدِيدِ: تَتَعَيَّنُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ، حِفْظًا أَوْ نَظَرًا فِي مُصْحَفٍ، أَوْ تَلْقِينًا، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، لِكُلٍّ مِنَ الْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ وَالْمُقْتَدِي، سَرِيَّةً كَانَتِ الصَّلَاةُ أَوْ جَهْرِيَّةً، وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ».
وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (قِرَاءَة).
السُّكُوتُ لِاسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ:
7- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ) إِلَى أَنَّ السُّكُوتَ وَالْإِنْصَاتَ لِاسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ وَاجِبٌ، فَيَحْرُمُ الْكَلَامُ إِلاَّ لِلْخَطِيبِ أَوْ لِمَنْ يُكَلِّمُهُ الْخَطِيبُ، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}.وَلِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ».
وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ تَحْذِيرَ مَنْ خِيفَ هَلَاكُهُ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ لِحَقِّ آدَمِيٍّ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، وَالْإِنْصَاتُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ.وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ قَلِيلَ الذِّكْرِ سِرًّا، كَالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُشِيرَ بِرَأْسِهِ، أَوْ يَدِهِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ مُنْكَرًا.
وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ وُجُوبَ السُّكُوتِ بِمَا إِذَا كَانَ الْإِمَامُ قَرِيبًا، بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْإِنْصَاتِ لِلِاسْتِمَاعِ، وَالْبَعِيدُ لَيْسَ بِمُسْتَمِعٍ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا بِوُجُوبِ السُّكُوتِ حِينَ الْخُطْبَةِ بِلَا فَرْقٍ بَيْنَ قَرِيبٍ وَبَعِيدٍ، فِي الْأَصَحِّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ: لَا يَجِبُ الْإِنْصَاتُ، وَلَا يَحْرُمُ الْكَلَامُ حِينَ الْخُطْبَةِ؛ لِمَا صَحَّ أَنَّ «أَعْرَابِيًّا قَالَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: هَلَكَ الْمَالُ وَجَاعَ الْعِيَالُ فَادْعُ لَنَا.فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَدَعَا وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ مَوْعِدِ السَّاعَةِ، فَأَوْمَأَ النَّاسُ إِلَيْهِ بِالسُّكُوتِ، فَلَمْ يَقْبَلْ، وَأَعَادَ الْكَلَامَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا».وَالْأَمْرُ فِي الْآيَةِ لِلنَّدْبِ، فَيُسَنُّ السُّكُوتُ وَالْإِنْصَاتُ وَيُكْرَهُ الْكَلَامُ، وَذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.
سَكَتَاتُ الْإِمَامِ:
8- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْكُتَ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَالتَّأْمِينِ قَدْرَ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ الْفَاتِحَةَ.وَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ؛ لِيَتَمَكَّنَ الْمَأْمُومُ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ مَعَ الْإِنْصَاتِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ.
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ حِينَئِذٍ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالذِّكْرِ أَوِ الدُّعَاءِ أَوْ الْقِرَاءَةِ سِرًّا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَ فِيهَا سُكُوتٌ حَقِيقِيٌّ لِلْإِمَامِ.
وَقَالُوا: إِنَّ السَّكَتَاتِ الْمَنْدُوبَةَ فِي الصَّلَاةِ أَرْبَعٌ: سَكْتَةٌ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ يَفْتَتِحُ فِيهَا، وَسَكْتَةٌ بَيْنَ: وَلَا الضَّالِّينَ وَآمِينَ، وَسَكْتَةٌ لِلْإِمَامِ بَعْدَ التَّأْمِينِ فِي الْجَهْرِيَّةِ بِقَدْرِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَسَكْتَةٌ قَبْلَ تَكْبِيرِ الرُّكُوعِ.
وَجَاءَ فِي الْمُغْنِي: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لِلْإِمَامِ سَكْتَتَانِ، فَاغْتَنِمُوا فِيهِمَا الْقِرَاءَةَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ: إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، وَإِذَا قَالَ: {وَلَا الضَّالِّينَ}.
وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَمَّا أَنَا فَأَغْتَنِمُ مِنَ الْإِمَامِ اثْنَتَيْنِ: إِذَا قَالَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فَأَقْرَأُ عِنْدَهَا، وَحِينَ يَخْتِمُ السُّورَةَ، فَأَقْرَأُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ.
وَلَا يَقُولُ بِاسْتِحْبَابِ هَذِهِ السَّكَتَاتِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ.وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلَاة، وَقِرَاءَة).
السُّكُوتُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمُنْكَرِ:
9- الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ- أَيْ مَا عُرِفَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ- وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ مَا فِيهِ غَضَبُ اللَّهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ- أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ كَمَا يَقُولُ الْغَزَالِيُّ، وَهُوَ وَاجِبٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَحَكَى النَّوَوِيُّ وَابْنُ حَزْمٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.فَالسُّكُوتُ عِنْدَ رُؤْيَةِ ارْتِكَابِ الْمُنْكَرِ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَحْرِيمِهِ حَرَامٌ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ حِينَ تَوَفُّرِ شُرُوطِهِ وَالْمَرَاتِبِ وَالْوَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَفِي بَيَانِ شُرُوطِهِ وَأَرْكَانِهِ وَمَرَاتِبِهِ، وَالْوَسَائِلِ الَّتِي يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ اتِّخَاذُهَا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهَلْ هُوَ فَرْضُ عَيْنٍ أَوْ كِفَايَةٍ- تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ، يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ الْمُنْكَرِ) ف 3- 5 (6 248- 250).
السُّكُوتُ عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ:
10- تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَيَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ بِالطَّلَبِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ.وَهَذَا إِذَا عَلِمَ الشَّاهِدُ بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ، وَكَانَ الْقَاضِي عَادِلًا، وَيَكُونُ الْمَكَانُ قَرِيبًا، وَلَا يَعْلَمُ بُطْلَانَ الشُّهُودِ بِهِ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ خَوْفًا.
فَإِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ يَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ السُّكُوتُ؛ لِأَنَّ فِي سُكُوتِهِ تَضْيِيعًا لِلْحَقِّ وَهُوَ مُحَرَّمٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وَهَذَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ.
أَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالرَّضَاعِ فَيَجِبُ الْأَدَاءُ حِسْبَةً بِلَا طَلَبٍ.
إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: يُخَيَّرُ فِي الْحُدُودِ، وَسَتْرُهَا فِي بَعْضِ الْحُدُودِ أَبَرُّ، فَالْأَوْلَى فِيهَا الْكِتْمَانُ إِلاَّ لِمُتَهَتِّكٍ وَمَنِ اشْتُهِرَ بِالْفِسْقِ وَالْمَعَاصِي.
هَكَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى، مَعَ تَفْصِيلٍ فِي بَعْضِ الشُّرُوطِ، وَخِلَافٍ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَة).
حُكْمُ السُّكُوتِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْعُقُودِ:
11- الْمُعَامَلَاتُ وَالْعُقُودُ أَسَاسُهَا الرِّضَا الَّذِي يَتَحَقَّقُ غَالِبًا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ الْقَوْلِيِّ.
وَالْأَصْلُ أَنَّ السُّكُوتَ لَا يُعْتَبَرُ رِضًا فَالْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ تَقُولُ: (لَا يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ) وَلِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ وَالسُّيُوطِيُّ فِي أَشْبَاهِهِمَا مِنْ أَنَّ الثَّيِّبَ لَوْ سَكَتَتْ عِنْدَ الِاسْتِئْذَانِ فِي النِّكَاحِ لَمْ يَقُمْ مَقَامَ الْإِذْنِ.وَلَوْ رَأَى أَجْنَبِيًّا يَبِيعُ مَالَهُ فَسَكَتَ وَلَمْ يَنْهَهُ عَنِ الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا بِسُكُوتِ الْمُوَكِّلِ، وَلَوْ سَكَتَ عَنْ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْهُ أَوْ إِتْلَافِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَنْعِ لَمْ يَسْقُطْ ضَمَانُهُ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَ كُفْءٍ فَسُكُوتُ الْوَلِيِّ عَنْ مُطَالَبَةِ التَّفْرِيقِ لَيْسَ بِرِضًا مَا لَمْ تَلِدْ.
وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ بَعْضِ هَذِهِ الْفُرُوعِ وَنَظَائِرِهَا فِيمَا بَعْدُ مَعَ الْأَدِلَّةِ.هَذَا هُوَ الْأَصْلُ.
لَكِنْ قَدْ يَتَحَقَّقُ الرِّضَا بِالْفِعْلِ وَالتَّعَاطِي، أَوِ الْقَوْلِ مِنْ طَرَفٍ وَالْفِعْلِ مِنْ طَرَفٍ آخَرَ، أَوِ الْقَوْلِ مِنْ جَانِبٍ وَالسُّكُوتِ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا، كَمَا فُصِّلَ فِي مُصْطَلَحِ (عَقْد)
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَمْثِلَةً لِمَا يَدُلُّ السُّكُوتُ فِيهَا عَلَى الرِّضَا وَالْإِذْنِ وَفْقًا لِقَاعِدَةِ: إِنَّ السُّكُوتَ فِي مَعْرِضِ الْحَاجَةِ بَيَانٌ، كَمَا ذَكَرُوا أَمْثِلَةً لِمَا لَا يَدُلُّ فِيهِ السُّكُوتُ عَلَى الرِّضَا بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ.
وَفِيمَا يَلِي نَذْكُرُ أَهَمَّ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِالتَّفْصِيلِ:
أ- سُكُوتُ الْمَالِكِ عِنْدَ تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ
12- إِذَا تَصَرَّفَ الْفُضُولِيُّ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِبَيْعٍ فِي حُضُورِ الْمَالِكِ، فَسَكَتَ فِي حَالِ كَوْنِهِ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ الْبَيْعِ، فَهَلْ يُعْتَبَرُ سُكُوتُهُ رِضًا وَإِذْنًا بِالْبَيْعِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ: فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يُعْتَبَرُ هَذَا السُّكُوتُ إِذْنًا وَلَا يَلْزَمُ بِهِ الْبَيْعُ، وَذَلِكَ لِقَاعِدَةِ: لَا يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ.وَعَلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ الْبَيْعُ صَحِيحًا، لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ الصَّرِيحَةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ بِيعَ مَالُهُ بِحَضْرَتِهِ وَهُوَ سَاكِتٌ لَزِمَهُ الْبَيْعُ، وَلَا يُعْذَرُ بِسُكُوتِهِ إِذَا ادَّعَاهُ.فَإِنْ مَضَى عَامٌ وَهُوَ سَاكِتٌ سَقَطَ حَقُّهُ فِي الثَّمَنِ أَيْضًا.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ بَيْعُ الْفُضُولِيِّ أَصْلًا، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ بَاعَ مَالَ غَيْرِهِ بِحَضْرَتِهِ وَهُوَ سَاكِتٌ لَمْ يَصِحَّ قَطْعًا وَمِثْلُهُ مَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَالَ الْبُهُوتِيُّ: إِنْ بَاعَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَلَوْ بِحَضْرَتِهِ وَسُكُوتِهِ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ وَلَوْ أَجَازَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ أَيِ الْمِلْكِ وَالْإِذْنِ.
أَمَّا شِرَاءُ الْفُضُولِيِّ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (فُضُولِيّ).
ب- سُكُوتُ الْوَلِيِّ عِنْدَ بَيْعِ أَوْ شِرَاءِ مَنْ تَحْتَ وِلَايَتِهِ:
13- إِذَا رَأَى الْوَلِيُّ مُوَلِّيَهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَسَكَتَ وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ التَّصَرُّفِ يُعْتَبَرُ سُكُوتُهُ رِضًا وَإِذْنًا فِي التِّجَارَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.قَالَ الْمُوصِلِيُّ: لِأَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ دَلِيلُ رِضًا، كَسُكُوتِ الشَّفِيعِ عِنْدَ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْهُ يَتَصَرَّفُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَالْوَلِيُّ سَاكِتٌ، يَعْتَقِدُونَ رِضَاهُ بِذَلِكَ، وَإِلاَّ لَمَنَعَهُ، فَيُعَامِلُونَهُ مُعَامَلَةَ الْمَأْذُونِ.فَلَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ سُكُوتُهُ رِضًا يُفْضِي ذَلِكَ إِلَى الْإِضْرَارِ بِهِمْ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ: السُّكُوتُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يُعْتَبَرُ رِضًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الرِّضَا وَالسَّخَطَ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا لِلْإِذْنِ عِنْدَ الِاحْتِمَالِ.
وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ سُكُوتَ الْقَاضِي فَقَالُوا: إِذَا رَأَى الْقَاضِي الصَّبِيَّ أَوِ الْمَعْتُوهَ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَسَكَتَ، لَا يَكُونُ سُكُوتُهُ إِذْنًا فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي مَالِ الْغَيْرِ حَتَّى يَكُونَ الْإِذْنُ إِسْقَاطًا لِحَقِّهِ.
ج- سُكُوتُ الشَّفِيعِ:
14- سُكُوتُ الشَّفِيعِ عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ وَالثَّمَنِ يُعْتَبَرُ رِضًا بِالْعَقْدِ وَإِقْرَارًا بِالتَّنَازُلِ عَنِ الشُّفْعَةِ، فَيَسْقُطُ حَقُّهُ عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ).فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ الشَّفِيعَ أَنْ يَقُولَ كَلَامًا يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ الشُّفْعَةِ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي سَمِعَ فِيهِ عَقْدَ الْبَيْعِ فِي الْحَالِ، ثُمَّ يَطْلُبُ طَلَبَ التَّقْرِيرِ وَالْإِشْهَادِ، فَإِنْ سَكَتَ وَأَخَّرَ الطَّلَبَ يَسْقُطُ حَقُّ شُفْعَتِهِ.
وَمِثْلُهُ مَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، قَالَ الْخَطِيبُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الشُّفْعَةَ عَلَى الْفَوْرِ، لِأَنَّهَا حَقٌّ ثَبَتَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، فَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ كَرَدِّ الْمَبِيعِ، وَإِذَا كَانَ مَرِيضًا أَوْ غَائِبًا أَوْ خَائِفًا مِنْ عَدُوٍّ فَلْيُوَكِّلْ إِنْ قَدَرَ، وَإِلاَّ فَلْيُشْهِدْ عَلَى الطَّلَبِ.وَإِلاَّ بَطَلَ حَقُّهُ فِي الْأَظْهَرِ لِتَقْصِيرِهِ، وَلِإِشْعَارِ السُّكُوتِ- مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْإِشْهَادِ- بِالرِّضَا.
وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ: إِنِ اشْتَغَلَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ بِكَلَامٍ آخَرَ، أَوْ سَلَّمَ عَلَى الْمُشْتَرِي، ثُمَّ سَكَتَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمُ الطَّلَبُ فَوْرًا، لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ سَكَتَ الشَّفِيعُ مَعَ عِلْمِهِ بِهَدْمٍ أَوْ بِنَاءٍ فِي الْأَرْضِ مِنْ قِبَلِ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ لِإِصْلَاحٍ، أَوْ سَكَتَ بِلَا مَانِعٍ شَهْرَيْنِ، إِنْ حَضَرَ الْعَقْدُ تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ.
وَإِلاَّ فَتَسْقُطُ بِحُضُورِهِ سَاكِتًا بِلَا عُذْرٍ سَنَةً.
فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ وَهُوَ حَاضِرٌ فِي الْبَلَدِ سَاكِتٌ بِلَا مَانِعٍ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ.
د- السُّكُوتُ فِي الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ:
15- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْوَدِيعَةَ كَمَا تَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ صَرَاحَةً تَنْعَقِدُ كَذَلِكَ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ دَلَالَةً.فَإِذَا وَضَعَ رَجُلٌ مَالَهُ فِي دُكَّانٍ مَثَلًا، فَرَآهُ صَاحِبُ الدُّكَّانِ وَسَكَتَ، ثُمَّ تَرَكَ الرَّجُلُ ذَلِكَ الْمَالَ وَانْصَرَفَ صَارَ ذَلِكَ الْمَالُ عِنْدَ صَاحِبِ الدُّكَّانِ وَدِيعَةً، لِأَنَّ سُكُوتَ صَاحِبِ الدُّكَّانِ حِينَ وَضَعَ الْمَالَ يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ حِفْظِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا فَرَّطَ فِي حِفْظِهِ يَكُونُ ضَامِنًا كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْأَمَانَاتِ.
أَمَّا السُّكُوتُ فِي الْعَارِيَّةِ فَلَا يُعْتَبَرُ رِضًا وَإِذْنًا مِنَ الْمُعِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلَوْ طَلَبَ شَخْصٌ مِنْ آخَرَ إعَارَةَ شَيْءٍ، فَسَكَتَ صَاحِبُ ذَلِكَ الشَّيْءِ ثُمَّ أَخَذَهُ الْمُسْتَعِيرُ كَانَ غَاصِبًا.
وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا حَيْثُ قَالُوا: الْأَصَحُّ فِي النَّاطِقِ اشْتِرَاطُ لَفْظٍ يُشْعِرُ بِالْإِذْنِ أَوْ بِطَلَبِهِ، كَأَعَرْتُكَ هَذَا وَنَحْوَهُ.وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ لَا يُشْتَرَطُ اللَّفْظُ.
وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحَيْ: (وَدِيعَة، عَارِيَّةً).
هـ- الصُّلْحُ عَلَى السُّكُوتِ:
16- الصُّلْحُ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ، وَهُوَ انْتِقَالٌ عَنْ حَقٍّ أَوْ دَعْوَى بِعِوَضٍ لِرَفْعِ نِزَاعٍ، أَوْ خَوْفِ وُقُوعِهِ، كَمَا عَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ، أَوْ عَقْدٌ يَرْفَعُ النِّزَاعَ بِالتَّرَاضِي، كَمَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ.
وَقَدْ قَسَّمَهُ الْفُقَهَاءُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ، وَالصُّلْحُ عَنْ إِنْكَارٍ وَالصُّلْحُ عَنْ سُكُوتٍ، بِأَنْ يَسْكُتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ إِجَابَةِ دَعْوَى الْمُدَّعِي فَيُصَالِحَهُ بِدَفْعِ شَيْءٍ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ الْمُدَّعِي الدَّعْوَى.
وَحُكْمُ الصُّلْحِ عَلَى السُّكُوتِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ هُوَ حُكْمُ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ.
قَالَ الْبُهُوتِيُّ: إِنِ ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِهِ أَوْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، فَيُنْكِرُهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ يَسْكُتُ وَهُوَ يَجْهَلُهُ، ثُمَّ يُصَالِحُ عَلَى مَالٍ، يَصِحُّ الصُّلْحُ، وَيَكُونُ الْمَالُ الْمُصَالَحُ بِهِ بَيْعًا فِي حَقِّ الْمُدَّعِي وَإِبْرَاءً فِي حَقِّ الْمُنْكِرِ.
وَنَظِيرُهُ مَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ حَيْثُ نَصُّوا بِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ أَوِ السُّكُوتِ هُوَ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي مُعَاوَضَةٌ، وَفِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَلَاصٌ مِنَ الْيَمِينِ وَقَطْعٌ لِلْمُنَازَعَةِ.
أَمَّا الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَحُكْمُ السُّكُوتِ فِي الصُّلْحِ حُكْمُ الْإِقْرَارِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ وَتَجْرِي فِيهِ الصُّوَرُ الَّتِي تَجْرِي فِي الْإِقْرَارِ، مِنْ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ هِبَةٍ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صُلْح).
سُكُوتُ الْمَرْأَةِ عِنْدَ اسْتِئْذَانِهَا لِلنِّكَاحِ:
17- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ سُكُوتَ الْبِكْرِ عِنْدَ اسْتِئْذَانِهَا لِلنِّكَاحِ يُعْتَبَرُ رِضًا وَإِذْنًا، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «اسْتَأْمِرُوا النِّسَاءَ فِي أَبْضَاعِهِنَّ، قِيلَ: إِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي وَتَسْكُتُ، قَالَ: هُوَ إِذْنُهَا».وَفِي رِوَايَةٍ: «الْبِكْرُ رِضَاهَا صُمَاتُهَا».وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهَا إِنْ بَكَتْ بِغَيْرِ صَوْتٍ أَوْ ضَحِكَتْ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ سُكُوتِهَا.
لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: سُكُوتُ الْبِكْرِ فِي النِّكَاحِ إِذْنٌ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ قَطْعًا، أَمَّا لِسَائِرِ الْعَصَبَةِ وَالْحَاكِمِ فَقَوْلَانِ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ إِذْنٌ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ لَا بُدَّ مِنَ الْكَلَامِ كَالثَّيِّبِ.
أَمَّا الثَّيِّبُ فَسُكُوتُهَا عِنْدَ الِاسْتِئْذَانِ فِي النِّكَاحِ لَا يُعْتَبَرُ إِذْنًا عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْإِذْنِ الصَّرِيحِ بِالْكَلَامِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي أَنَّ إِذْنَهَا الْكَلَامُ لِخَبَرِ: «الثَّيِّبُ تُعْرِبُ عَنْ نَفْسِهَا».ا هـ.وَلِأَنَّ السُّكُوتَ إِنَّمَا جُعِلَ إِذْنًا فِي الْبِكْرِ لِمَكَانِ الْحَيَاءِ الْمَانِعِ مِنَ النُّطْقِ الْمُخْتَصِّ بِالْأَبْكَارِ، لِأَنَّ الْحَيَاءَ يَكُونُ فِيهِنَّ أَكْثَر، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ الثَّيِّبُ، كَمَا قَالَ الْمُوصِلِيُّ.
وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاح، وَاسْتِئْذَان).
سُكُوتُ الزَّوْجِ عِنْدَ وِلَادَةِ الْمَرْأَةِ:
18- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي بَحْثِ اللِّعَانِ أَنَّهُ لَوْ نَفَى الْوَلَدَ فِي مُدَّةِ التَّهْنِئَةِ، أَوْ عِنْدَ شِرَاءِ آلَةِ الْوِلَادَةِ كَالْمَهْدِ وَنَحْوِهِ، صَحَّ نَفْيُهُ.أَمَّا بَعْدَ التَّهْنِئَةِ أَوْ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّتِهَا فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ دَلِيلٌ عَلَى رِضَاهُ وَإِقْرَارٌ عَلَى النَّسَبِ، فَلَا يَصِحُّ نَفْيُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ التَّهْنِئَةِ: فَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ سَبْعَةُ أَيَّامٍ، وَبَعْضُهُمْ قَدَّرَهَا بِمُدَّةِ النِّفَاسِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ أَخَّرَ الزَّوْجُ نَفْيَ الْحَمْلِ يَوْمًا بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْوَضْعِ أَوِ الْحَمْلِ بِلَا عُذْرٍ، امْتَنَعَ لِعَانُهُ وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ.وَمِثْلُهُ مَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَظْهَرِ، حَيْثُ قَالُوا: يُشْتَرَطُ النَّفْيُ عَلَى الْفَوْرِ، فَلَوْ سَكَتَ مُدَّةً مَعَ إِمْكَانِ الرَّدِّ يُعْتَبَرُ سُكُوتُهُ رِضًا وَإِقْرَارًا، كَحَقِّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَخِيَارِ الشُّفْعَةِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ سَمِعَ إِنْسَانًا يُقِرُّ بِنَسَبٍ، وَسَكَتَ الْمُقَرُّ لَهُ جَازَ لِلسَّامِعِ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ فِي النَّسَبِ إِقْرَارٌ، لِأَنَّ مَنْ بُشِّرَ بِوَلَدٍ فَسَكَتَ لَحِقَهُ كَمَا لَوْ كَانَ أَقَرَّ بِهِ.وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحَيْ: (لِعَان وَنَسَب).
19- هَذَا، وَقَدْ تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لِحُكْمِ السُّكُوتِ فِي مَسَائِلَ أُخْرَى، وَذَكَرُوا أَنَّ السُّكُوتَ فِيهَا وَأَمْثَالِهَا يُعْتَبَرُ رِضًا وَإِذْنًا، كَالْقَبُولِ بِالسُّكُوتِ فِي الْإِجَارَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْإِذْنِ بِالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ، وَسُكُوتِ الْمُحْرِمِ حِينَ حَلَقَ رَأْسَهُ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَسَائِلِ.فَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ السُّكُوتَ فِي الْإِجَارَةِ يُعَدُّ قَبُولًا وَرِضًا، فَإِذَا قَالَ صَاحِبُ الدَّارِ: اسْكُنْ بِكَذَا وَإِلاَّ فَاخْرُجْ، فَسَكَتَ وَسَكَنَ، كَانَ مُسْتَأْجَرًا بِالْمُسَمَّى بِسُكْنَاهُ وَسُكُوتِهِ.كَذَلِكَ لَوْ قَالَ صَاحِبُ الدَّارِ: اسْكُنْ بِمِائَةٍ، وَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ: ثَمَانِينَ، فَسَكَتَ الْمَالِكُ وَأَبْقَى الْمُسْتَأْجِرَ سَاكِنًا يَلْزَمُ ثَمَانُونَ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ مِنْ قِبَلِ الْمَالِكِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُعَدُّ قَبُولًا.
وَكَذَا لَوْ قَالَ الرَّاعِي لِلْمَالِكِ: لَا أَرْضَى بِمَا سَمَّيْتَ وَإِنَّمَا أَرْضَى بِكَذَا، فَسَكَتَ الْمَالِكُ فَرَعَى الرَّاعِي لَزِمَ الْمَالِكَ مَا سَمَّاهُ الرَّاعِي بِسُكُوتِ الْمَالِكِ.
وَقَالُوا: سُكُوتُ الْوَكِيلِ قَبُولٌ وَيَرْتَدُّ بِرَدِّهِ.وَسُكُوتُ الْبَائِعِ الَّذِي لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حِينَ رَأَى الْمُشْتَرِيَ قَبَضَ الْمَبِيعَ إِذْنٌ بِقَبْضِهِ.وَإِذَا رَأَى الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ يَبِيعُ الرَّهْنَ فَسَكَتَ يَكُونُ رِضًا مِنَ الْمُرْتَهِنِ، وَيَبْطُلُ الرَّهْنُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَلَقَ الْحَلاَّقُ رَأْسَ مُحْرِمٍ وَهُوَ سَاكِتٌ فَلَمْ يَمْنَعْهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ إِذْنًا، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ كَمَا لَوْ حَلَقَ بِأَمْرِهِ فَتَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ.
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الْقِرَاءَةُ عَلَى الشَّيْخِ وَهُوَ سَاكِتٌ، فَإِنَّهَا تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ النُّطْقِ.وَاشْتَرَطَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنَّهُ لَوْ عَرَضَ مِنَ الْقَارِئِ تَصْحِيفٌ وَتَحْرِيفٌ لَرَدَّهُ الشَّيْخُ، فَسُكُوتُهُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ قِرَاءَتِهِ.وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي أَشْبَاهِهِ، وَالْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ، وَابْنُ عَابِدِينَ وَالزَّرْكَشِيُّ فُرُوعًا أُخْرَى يَنْزِلُ فِيهَا السُّكُوتُ مَنْزِلَةَ النُّطْقِ وَالْإِذْنِ.
كَمَا ذَكَرُوا أَمْثِلَةً أُخْرَى لَا يَدُلُّ السُّكُوتُ فِيهَا عَلَى الرِّضَا وَالْإِذْنِ وَفْقًا لِقَاعِدَةِ: (لَا يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ) وَمِنْ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ:
لَوْ سَكَتَ عَنْ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْهُ فَلَا يَسْقُطُ ضَمَانُهُ.وَلَوْ سَكَتَ عَنْ إِتْلَافِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الدَّفْعِ لَمْ يَسْقُطْ ضَمَانُهُ.وَلَوْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَ كُفْءٍ فَسَكَتَ الْوَلِيُّ عَنْ مُطَالَبَةِ التَّفْرِيقِ لَا يُعَدُّ رِضًا مَا لَمْ تَلِدْ، وَكَذَا سُكُوتُ امْرَأَةِ الْعِنِّينِ لَيْسَ بِرِضًا وَلَوْ أَقَامَتْ مَعَهُ سِنِينَ.وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا وَفِي مَظَانِّهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ
السُّكُوتُ فِي الدَّعَاوَى:
20- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا كُلِّفَ بِالْيَمِينِ فَنَكَلَ صَرَاحَةً، كَأَنْ قَالَ: لَا أَحْلِفُ، أَوْ حُكْمًا كَأَنْ سَكَتَ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَمِنْ غَيْرِ آفَةٍ (كَخَرَسٍ وَطَرَشٍ) يُعْتَبَرُ سُكُوتُهُ نُكُولًا يَحْكُمُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ.
وَإِذَا قَالَ: لَا أُقِرُّ وَلَا أُنْكِرُ، لَا يُسْتَحْلَفُ بَلْ يُحْبَسُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، وَكَذَا لَوْ لَزِمَ السُّكُوتَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْبَدَائِعِ أَنَّ الْأَشْبَهَ أَنَّ هَذَا السُّكُوتَ إِنْكَارٌ فَيُسْتَحْلَفُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا سَكَتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ قَالَ: لَا أُخَاصِمُهُ، قَالَ لَهُ الْقَاضِي: إِمَّا خَاصَمْتَ وَإِمَّا أَحَلَفْتُ هَذَا الْمُدَّعِيَ عَلَى دَعْوَاهُ وَحَكَمْتُ لَهُ.فَإِنْ تَكَلَّمَ وَإِلاَّ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ بَعْدَ يَمِينِ الْمُدَّعِي.وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَشْهَبَ وَجَرَى بِهَا الْعَمَلُ: إِنْ قَالَ: لَا أُقِرُّ وَلَا أُنْكِرُ، لَمْ يَتْرُكْهُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ.فَإِنْ تَمَادَى فِي امْتِنَاعِهِ حَكَمَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَصَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى السُّكُوتِ عَنْ جَوَابِ الْمُدَّعِي لِغَيْرِ دَهْشَةٍ أَوْ غَبَاوَةٍ جُعِلَ حُكْمُهُ كَمُنْكِرٍ لِلْمُدَّعَى بِهِ نَاكِلٌ عَنِ الْيَمِينِ، وَحِينَئِذٍ فَتُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي بَعْدَ أَنْ يَقُولَ لَهُ الْقَاضِي: أَجِبْ عَنْ دَعْوَاهُ وَإِلاَّ جَعَلْتُكَ نَاكِلًا، فَإِنْ كَانَ سُكُوتُهُ لِدَهْشَةٍ أَوْ جَهَالَةٍ أَوْ غَبَاوَةٍ شَرَحَ لَهُ ثُمَّ حَكَمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ.وَسُكُوتُ الْأَخْرَسِ عَنِ الْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ لِلْجَوَابِ كَسُكُوتِ النَّاطِقِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي اعْتِبَارِ سُكُوتِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ نُكُولًا رِوَايَتَانِ: فَقَدْ جَاءَ فِي الْمُغْنِي أَنَّهُ إِنْ سَكَتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ جَوَابِ الدَّعْوَى حَبَسَهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يُجِيبَ، وَلَا يَجْعَلُهُ بِذَلِكَ نَاكِلًا.ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ.
وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ قَوْلًا آخَرَ مُوَافِقًا لِمَا قَالَهُ الْبُهُوتِيُّ مِنْ أَنَّهُ إِنْ سَكَتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَمْ يُقِرَّ وَلَمْ يُنْكِرْ أَوْ قَالَ: لَا أُقِرُّ وَلَا أُنْكِرُ، أَوْ قَالَ: لَا أَعْلَمُ قَدْرَ حَقِّهِ: قَالَ لَهُ الْقَاضِي: احْلِفْ وَإِلاَّ جَعَلْتُكَ نَاكِلًا وَقَضَيْتُ عَلَيْكَ.وَإِنْ لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: إِنْ حَلَفْتَ وَإِلاَّ قَضَيْتُ عَلَيْكَ بِالنُّكُولِ وَيُكَرِّرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَجَابَ وَإِلاَّ جَعَلَهُ نَاكِلًا وَحَكَمَ عَلَيْهِ.
وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاء).
السُّكُوتُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ:
تَعَرَّضَ الْأُصُولِيُّونَ لِحُكْمِ السُّكُوتِ فِي مَوْضِعَيْنِ: الْأَوَّلُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ أَقْسَامِ الْبَيَانِ وَمِنْهَا بَيَانُ الضَّرُورَةِ، وَالثَّانِي عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ.وَفِيمَا يَلِي إِجْمَالُ مَا قَالُوا:
21- أَوَّلًا: مِنْ أَقْسَامِ الْبَيَانِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ بَيَانُ الضَّرُورَةِ وَهُوَ الْبَيَانُ الَّذِي يَقَعُ بِسَبَبِ الضَّرُورَةِ بِمَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ وَهُوَ السُّكُوتُ، فَيَقَعُ السُّكُوتُ فِيهِ مَقَامَ الْكَلَامِ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:
(الْأَوَّلُ): مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمَنْطُوقِ مِثْلُ قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ لِلْأَبِ، فَصَارَ بَيَانًا لِقَدْرِ نَصِيبِهِ بِدَلَالَةِ صَدْرِ الْكَلَامِ، لَا بِمَحْضِ السُّكُوتِ.وَنَظِيرُ ذَلِكَ الْمُضَارَبَةُ فَإِنَّ بَيَانَ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ وَالسُّكُوتَ عَنْ نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ صَحِيحٌ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْبَيَانِ.كَذَلِكَ بَيَانُ نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ وَالسُّكُوتُ عَنْ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ وَعَلَى هَذَا حُكْمُ الْمُزَارَعَةِ.
(الثَّانِي): مَا يَثْبُتُ بِدَلَالَةِ حَالِ الْمُتَكَلِّمِ كَسُكُوتِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ أَمْرٍ يُعَايِنُهُ عَنِ التَّغْيِيرِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ حَقًّا، مِثْلُ مَا شَاهَدَ مِنْ بِيَاعَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ كَانَ النَّاسُ يَتَعَامَلُونَهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَمَآكِلَ وَمَشَارِبَ وَمَلَابِسَ كَانُوا يَسْتَدِيمُونَ مُبَاشَرَتَهَا، فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُنْكِرْهَا عَلَيْهِمْ، فَدَلَّ أَنَّ جَمِيعَهَا مُبَاحٌ فِي الشَّرْعِ، إِذْ لَا يَجُوزُ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُقِرَّ النَّاسَ عَلَى مُنْكَرٍ مَحْظُورٍ، فَكَانَ سُكُوتُهُ بَيَانًا.وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ سُكُوتُ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ فِي النِّكَاحِ يُجْعَلُ بَيَانًا لِحَالِهَا الَّتِي تُوجِبُ ذَلِكَ، وَهُوَ الْحَيَاءُ، فَجُعِلَ سُكُوتُهَا دَلِيلًا عَلَى الْإِجَازَةِ وَالرِّضَا.وَكَذَلِكَ النُّكُولُ جُعِلَ بَيَانًا لِحَالِ النَّاكِلِ، وَهُوَ امْتِنَاعُهُ عَنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْمُدَّعَى.
(الثَّالِثُ): مَا جُعِلَ بَيَانًا لِضَرُورَةِ دَفْعِ الْغُرُورِ، كَسُكُوتِ الْمَوْلَى حِينَ يَرَى عَبْدَهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي، فَجُعِلَ هَذَا السُّكُوتُ إِذْنًا؛ دَفْعًا لِلْغُرُورِ عَنِ النَّاسِ.
وَكَذَا سُكُوتُ الشَّفِيعِ، جُعِلَ رَدًّا لِهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ دَفْعُ الْغُرُورِ عَنِ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ سُكُوتُ الشَّفِيعِ عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ إِسْقَاطًا لَهَا فَإِمَّا أَنْ يَمْتَنِعَ الْمُشْتَرِي عَنِ التَّصَرُّفِ أَوْ تَصَرَّفَ ثُمَّ يَنْقُضُ الشَّفِيعُ عَلَيْهِ تَصَرُّفَهُ، وَكِلَاهُمَا ضَرَرٌ عَلَى الْمُشْتَرِي.
(الرَّابِعُ): مَا ثَبَتَ لِضَرُورَةِ الْكَلَامِ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَدِرْهَمٌ، أَوْ أَلْفٌ وَدِينَارٌ أَوْ مِائَةٌ وَقَفِيزُ حِنْطَةٍ، فَإِنَّ الْعَطْفَ جُعِلَ بَيَانًا لِلْأَوَّلِ، فَجُعِلَ الْأَوَّلُ مِنْ جِنْسِ الْمَعْطُوفِ.
ثَانِيًا: الْإِجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ:
22- الْإِجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ هُوَ أَنْ يَقُولَ بَعْضُ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ بِقَوْلٍ وَيَنْتَشِرَ ذَلِكَ فِي الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ فَيَسْكُتُونَ، وَلَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ تَصْرِيحٌ بِالْقَوْلِ وَلَا الْإِنْكَارِ.
وَشُرُوطُ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ الَّذِي اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ فِي حُكْمِهِ هِيَ:
(1) أَنْ يَكُونَ السُّكُوتُ مُجَرَّدًا عَنْ أَمَارَةِ الرِّضَا وَالسَّخَطِ، فَإِذَا كَانَ السُّكُوتُ مُقْتَرِنًا بِالرِّضَا فَإِنَّهُ إِجْمَاعٌ قَطْعًا، أَوْ بِالسَّخَطِ فَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ قَطْعًا.
(2) أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ قَدْ بَلَغَتْ كُلَّ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ.
(3) أَنْ يَكُونَ قَدْ مَضَى عَلَى الْحُكْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ زَمَنُ مُهْلَةِ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ عَادَةً، وَلَا تَقِيَّةَ هُنَاكَ لِخَوْفٍ أَوْ مَهَابَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا.
(4) أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ وَلَا تَكُونَ قَطْعِيَّةً، وَإِلاَّ فَلَا يَكُونُ مِنْ مَحَلِّ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ.
وَاخْتَلَفُوا فِي حُجِّيَّتِهِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَأَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ قَالُوا: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ قَطْعِيٌّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ شُرِطَ قَوْلُ كُلٍّ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ لَمْ يَتَحَقَّقْ إِجْمَاعٌ أَصْلًا، لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي كُلِّ عَصْرٍ إِفْتَاءُ الْأَكَابِرِ وَسُكُوتُ الْأَصَاغِرِ تَسْلِيمًا.قَالَ الْجَلَالُ الْمَحَلِّيُّ: سُكُوتُ الْعُلَمَاءِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ يُظَنُّ مِنْهُ الْمُوَافَقَةُ عَادَةً.
وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، أَخْذًا مِنْ قَاعِدَةِ: (لَا يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ) وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ السُّكُوتُ لِغَيْرِ الْمُوَافَقَةِ، كَالْخَوْفِ وَالْمَهَابَةِ وَالتَّرَدُّدِ فِي الْمَسْأَلَةِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ قَطْعِيٌّ فِي الْفُتْيَا فَقَطْ أَمَّا الْقَضَاءُ فَلَا إِجْمَاعَ فِيهِ أَصْلًا.
وَقِيلَ: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ قَطْعِيٌّ إِذَا كَثُرَ السُّكُوتُ وَتَكَرَّرَ فِيمَا يَعُمُّ فِيهِ الْبَلْوَى.وَذَهَبَ الْآمِدِيُّ وَالْكَرْخِيُّ إِلَى أَنَّهُ إِجْمَاعٌ ظَنِّيٌّ.
قَالَ ابْنُ السُّبْكِيِّ بَعْدَمَا نَقَلَ أَقْوَالَ وَآرَاءَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ حُجَّةٌ مُطْلَقًا.
وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
91-موسوعة الفقه الكويتية (شارب)
شَارِبالتَّعْرِيفُ:
1- الشَّارِبُ: اسْمُ فَاعِلِ شَرِبَ، يُقَالُ: شَرِبَ الْمَاءَ أَوْ غَيْرَهُ شُرْبًا فَهُوَ شَارِبٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ}.
وَرَجُلٌ شَارِبٌ وَشَرُوبٌ وَشَرَّابٌ وَشِرِّيبٌ: مُولَعٌ بِالشَّرَابِ، كَخِمِّيرٍ، وَالشَّرْبُ وَالشُّرُوبُ: الْقَوْمُ يَشْرَبُونَ وَيَجْتَمِعُونَ عَلَى الشَّرَابِ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: الشَّرْبُ اسْمُ جَمْعٍ لِشَارِبٍ، كَرَكْبٍ وَرَجْلٍ، وَقِيلَ: هُوَ جَمْعٌ، وَالشُّرُوبُ جَمْعُ شَارِبٍ، كَشَاهِدٍ وَشُهُودٍ.
وَالشَّارِبُ- أَيْضًا- اسْمٌ لِلشَّعْرِ الَّذِي يَسِيلُ عَلَى الْفَمِ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَلَا يَكَادُ يُثَنَّى، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: قَالَ الْكِلَابِيُّونَ: شَارِبَانِ، بِاعْتِبَارِ الطَّرَفَيْنِ، وَالْجَمْعُ شَوَارِبُ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- اللِّحْيَةُ:
2- اللِّحْيَةُ: وَهِيَ- بِكَسْرِ اللاَّمِ وَفَتْحِهَا- الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى الذَّقَنِ خَاصَّةً، وَالْجَمْعُ: لِحًى وَلُحِيٌّ مَا يَنْبُتُ مِنَ الشَّعْرِ عَلَى ظَاهِرِ اللَّحْيِ، وَهُوَ فَكُّ الْحَنَكِ الْأَسْفَلُ.
وَالشَّارِبُ وَاللِّحْيَةُ كِلَاهُمَا مِنْ شَعْرِ الْوَجْهِ، لَكِنِ الشَّارِبُ يَكُونُ عَلَى الشَّفَةِ الْعُلْيَا، وَاللِّحْيَةُ تَكُونُ عَلَى الذَّقَنِ.
ب- الْعِذَارُ:
3- الْعِذَارُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْفِقْهِ: هُوَ الشَّعْرُ النَّابِتُ الْمُحَاذِي لِلْأُذُنَيْنِ بَيْنَ الصُّدْغِ وَالْعَارِضِ وَهُوَ أَوَّلُ مَا يَنْبُتُ لِلْأَمْرَدِ غَالِبًا.
وَالشَّارِبُ وَالْعِذَارُ كِلَاهُمَا مِنْ شَعْرِ الْوَجْهِ، لَكِنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي مَوْضِعِهِمَا مِنَ الْوَجْهِ.
ج- الْعَنْفَقَةُ:
4- الْعَنْفَقَةُ: شُعَيْرَاتٌ بَيْنَ الشَّفَةِ السُّفْلَى وَالذَّقَنِ، وَقِيلَ: الْعَنْفَقَةُ مَا بَيْنَ الذَّقَنِ وَطَرَفِ الشَّفَةِ السُّفْلَى كَانَ عَلَيْهَا شَعْرٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَقِيلَ: الْعَنْفَقَةُ مَا نَبَتَ عَلَى الشَّفَةِ السُّفْلَى مِنَ الشَّعْرِ.
د- الْعُثْنُونُ:
5- الْعُثْنُونُ: اللِّحْيَةُ أَوْ مَا فَضَلَ مِنْهَا بَعْدَ الْعَارِضَيْنِ، أَوْ مَا نَبَتَ عَلَى الذَّقَنِ وَتَحْتَهُ سُفْلًا.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشَّارِبِ (مِنَ الشُّرْبِ):
6- يُطْلَقُ الشَّارِبُ- كَمَا سَبَقَ فِي التَّعْرِيفِ- عَلَى مَنْ شَرِبَ الْمَاءَ أَوْ غَيْرَهُ، وَلَكِنِ الشَّارِبُ الَّذِي عُنِيَ الْفُقَهَاءُ بِالْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ هُوَ شَارِبُ الْخَمْرِ وَسَائِرِ الْمُسْكِرَاتِ.
وَشُرْبُ الْخَمْرِ مِنْ كَبَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ، بَلْ إِنَّ الْخَمْرَ أُمُّ الْكَبَائِرِ كَمَا قَالَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ- رضي الله عنهما- وَالْأَصْلُ فِي تَحْرِيمِهَا، قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.انْظُرْ: (أَشْرِبَة، سُكْر).
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشَّارِبِ (الشَّعْرِ عَلَى الشَّفَةِ الْعُلْيَا):
أَوَّلًا: تَطْهِيرُ الشَّارِبِ:
أ- فِي الْوُضُوءِ:
7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ الشَّارِبِ مَعَ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ، وَعَلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ بَشَرَةِ الشَّارِبِ إِذَا كَانَ خَفِيفًا بِحَيْثُ لَا يَسْتُرُ شَعْرُ الشَّارِبِ الْبَشَرَةَ؛ أَيِ الْجِلْدَ تَحْتَهُ، فَإِنْ لَمْ تُغْسَلِ الْبَشَرَةُ- أَيْ لَمْ يَصِلِ الْمَاءُ إِلَيْهَا- فَلَا يُجْزِئُ ذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ.
وَلَكِنِ الْفُقَهَاءُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ إيصَالِ الْمَاءِ إِلَى بَشَرَةِ الشَّارِبِ فِي الْوُضُوءِ إِذَا كَانَ الشَّعْرُ كَثِيفًا يَسْتُرُ الْبَشَرَةَ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الْوُضُوءِ غَسْلُ بَاطِنِ شَعْرِ الشَّارِبِ وَإِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ تَحْتَهُ إِذَا كَانَ كَثِيفًا، لَكِنِ الشَّارِبُ إِذَا كَانَ طَوِيلًا يَسْتُرُ حُمْرَةَ الشَّفَتَيْنِ وَجَبَ تَخْلِيلُهُ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ ظَاهِرًا وُصُولَ الْمَاءِ إِلَى جَمِيعِ الشَّفَةِ أَوْ بَعْضِهَا، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ كَثِيفًا، وَتَخْلِيلُهُ مُحَقِّقٌ لِوُصُولِ الْمَاءِ إِلَى جَمِيعِهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْوُضُوءِ مَعَ غَسْلِ الْوَجْهِ غَسْلُ ظَاهِرِ الشَّعْرِ إِذَا كَانَ كَثِيفًا، وَيُكْرَهُ تَخْلِيلُ الشَّعْرِ الْكَثِيفِ عَلَى ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْوُضُوءِ مَعَ غَسْلِ الْوَجْهِ غَسْلُ الشَّارِبِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَإِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ تَحْتَهُ وَإِنْ كَثُفَ الشَّعْرُ؛ لِأَنَّ كَثَافَتَهُ نَادِرَةٌ فَأُلْحِقَ بِالْغَالِبِ، وَالْمُرَادُ بِالظَّاهِرِ: الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا مِمَّا يَلِي الْوَجْهَ، وَبِالْبَاطِنِ: خِلَالُ الشَّعْرِ وَالْبَشَرَةُ الَّتِي تَحْتَهُ، وَقِيلَ: الظَّاهِرُ مَا ظَهَرَ مِنَ الْجِهَتَيْنِ، وَالْبَاطِنُ مَا بَيْنَهُمَا وَأُصُولُ الشَّعْرِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ الشَّارِبِ مَعَ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ.فَإِنْ كَانَ شَعْرُ الشَّارِبِ كَثِيفًا لَا يَصِفُ الْبَشَرَةَ أَجْزَأَ غَسْلُ ظَاهِرِهِ، وَيُسَنُّ تَخْلِيلُ الشَّارِبِ إِذَا كَانَ كَثِيفًا وَغَسْلُ بَاطِنِهِ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ ذَكَرَ فِي الشَّارِبِ وَجْهًا آخَرَ فِي وُجُوبِ غَسْلِ بَاطِنِهِ وَإِنْ كَانَ كَثِيفًا؛ لِأَنَّهُ يَسْتُرُ مَا تَحْتَهُ عَادَةً، وَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ كَانَ نَادِرًا فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ.
ب- فِي الْغُسْلِ:
8- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْغُسْلِ تَعْمِيمُ الشَّارِبِ شَعْرًا وَبَشَرَةً بِالْمَاءِ، كَثِيفًا كَانَ الشَّارِبُ أَوْ خَفِيفًا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةً فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَ».وَلِمَا رَوَى عَلِيٌّ- رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَرَكَ مَوْضِعَ شَعْرَةٍ مِنْ جَنَابَةٍ لَمْ يَغْسِلْهَا فُعِلَ بِهِ مِنَ النَّارِ كَذَا وَكَذَا» قَالَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه-: «فَمِنْ ثَمَّ عَادَيْتُ شَعْرِي ثَلَاثًا» وَكَانَ يَجُزُّ شَعْرَهُ.وَلِأَنَّ الْحَدَثَ فِي الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ عَمَّ جَمِيعَ الْبَدَنِ فَوَجَبَ تَعْمِيمُهُ بِالْغُسْلِ، وَلِأَنَّ مَا تَحْتَ الشَّعْرِ بَشَرَةٌ أَمْكَنَ إيصَالُ الْمَاءِ إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، فَلَزِمَ كَسَائِرِ بَشَرَتِهِ؛ وَلِأَنَّهُ شَعْرٌ نَابِتٌ فِي مَحَلِّ الْغُسْلِ فَوَجَبَ غَسْلُهُ؛ وَلِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ غَسْلِ الْبَشَرَةِ غَسْلُهُ، فَوَجَبَ غَسْلُهُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَتِمُّ إِلاَّ بِهِ.
ج- إِعَادَةُ التَّطَهُّرِ بَعْدَ حَلْقِ الشَّارِبِ:
9- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ تَوَضَّأَ أَوِ اغْتَسَلَ ثُمَّ حَلَقَ شَارِبَهُ أَوْ قَصَّهُ، لَا يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَلَا يَلْزَمُهُ إِعَادَةُ غَسْلِ مَحَلِّ الْحَلْقِ أَوِ الْقَصِّ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِيمَا يَشْمَلُ هَذِهِ الْحَالَةَ: وَمَتَى غَسَلَ هَذِهِ الشُّعُورَ ثُمَّ زَالَتْ عَنْهُ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي طَهَارَتِهِ، قَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: مَا زَادَهُ ذَلِكَ إِلاَّ طَهَارَةً، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْغَسْلِ انْتَقَلَ إِلَى الشَّعْرِ أَصْلًا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ غَسَلَ الْبَشَرَةَ دُونَ الشَّعْرِ لَمْ يُجْزِهِ، بِخِلَافِ الْخُفَّيْنِ فَإِنَّ مَسْحَهُمَا بَدَلٌ عَنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فَيُجْزِئُ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ دُونَ مَسْحِ الْخُفَّيْنِ.
وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّ ظُهُورَ بَشَرَةِ الْوَجْهِ بَعْدَ غَسْلِ شَعْرِهِ يُوجِبُ غَسْلَهَا قِيَاسًا عَلَى ظُهُورِ قَدَمِ الْمَاسِحِ عَلَى الْخُفِّ.
ثَانِيًا: الْأَخْذُ مِنَ الشَّارِبِ:
10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ مِنَ الشَّارِبِ مِنَ الْفِطْرَةِ؛ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْفِطْرَةُ خَمْسٌ- أَوْ: خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ- الْخِتَانُ وَالِاسْتِحْدَادُ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَنَتْفُ الْإِبْطِ وَقَصُّ الشَّارِبِ».
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَتَفْسِيرُ الْفِطْرَةِ بِالسُّنَّةِ هُنَا هُوَ الصَّوَابُ؛ لِمَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مِنَ السُّنَّةِ قَصُّ الشَّوَارِبِ وَنَتْفُ الْإِبْطِ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ».
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ مِنَ الشَّارِبِ مِنَ السُّنَّةِ لِلْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَلِمَا وَرَدَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ فَلَيْسَ مِنَّا».
11- لَكِنِ الْفُقَهَاءُ اخْتَلَفُوا فِي ضَابِطِ الْأَخْذِ مِنَ الشَّارِبِ، هَلْ يَكُونُ بِالْقَصِّ أَمْ بِالْحَلْقِ أَمْ بِالْإِحْفَاءِ؟.
فَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا يُسَنُّ فِي الشَّارِبِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ الْخِلَافَ فَقَالَ: الْمَذْهَبُ عِنْدَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا أَنَّهُ الْقَصُّ، قَالَ فِي الْبَدَائِعِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: الْقَصُّ حَسَنٌ وَالْحَلْقُ أَحْسَنُ، وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَأَمَّا طَرَفَا الشَّارِبِ، وَهُمَا السَّبَالَانِ، فَقِيلَ: هُمَا مِنْهُ، وَقِيلَ: مِنَ اللِّحْيَةِ، وَعَلَيْهِ فَلَا بَأْسَ بِتَرْكِهِمَا، وَقِيلَ: يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَذَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ.وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ تَوْفِيرَ الشَّارِبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِلْغَازِي مَنْدُوبٌ؛ لِيَكُونَ أَهْيَبَ فِي عَيْنِ الْعَدُوِّ.
وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَهُمْ قَصُّ الشَّارِبِ كُلَّ أُسْبُوعٍ، وَالْأَفْضَلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيُكْرَهُ تَرْكُهُ وَرَاءَ الْأَرْبَعِينَ لِمَا رَوَاهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَنَتْفِ الْإِبْطِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ أَنْ لَا تُتْرَكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» وَهُوَ مِنَ الْمُقَدَّرَاتِ الَّتِي لَيْسَ لِلرَّأْيِ فِيهَا مَدْخَلٌ فَيَكُونُ كَالْمَرْفُوعِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: قَصُّ الشَّارِبِ مِنَ الْفِطْرَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «قُصُّوا الشَّوَارِبَ» وَهُوَ سُنَّةٌ خَفِيفَةٌ، فَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي الْحَدِيثِ لِلْوُجُوبِ، وَالسُّنَّةُ: الْقَصُّ لَا الْإِحْفَاءُ، وَالشَّارِبُ لَا يُحْلَقُ بَلْ يُقَصُّ، قَالَ يَحْيَى: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: يُؤْخَذُ مِنَ الشَّارِبِ حَتَّى يَبْدُوَ طَرَفُ الشَّفَةِ وَهُوَ الْإِطَارُ، وَلَا يَجُزُّهُ فَيُمَثِّلَ بِنَفْسِهِ.
وَفِي قَصِّ السَّبَالَتَيْنِ عِنْدَهُمْ قَوْلَانِ.
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ حَلْقُ مَا خُلِقَ لَهَا مِنْ شَارِبٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: قَصُّ الشَّارِبِ سُنَّةٌ لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَيُسْتَحَبُّ فِي قَصِّ الشَّارِبِ أَنْ يَبْدَأَ بِالْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ».وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَقُصَّ شَارِبَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ يَقُصَّهُ لَهُ غَيْرُهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ هَتْكِ مُرُوءَةٍ.
وَأَمَّا حَدُّ مَا يَقُصُّهُ: فَالْمُخْتَارُ أَنْ يَقُصَّ حَتَّى يَبْدُوَ طَرَفُ الشَّفَةِ، وَلَا يَحُفُّهُ مِنْ أَصْلِهِ، قَالُوا: وَحَدِيثُ: «أَحْفُوا الشَّوَارِبَ...» مَحْمُولٌ عَلَى مَا طَالَ عَلَى الشَّفَتَيْنِ، وَعَلَى الْحَفِّ مِنْ طَرَفِ الشَّفَةِ لَا مِنْ أَصْلِ الشَّعْرِ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَقُصُّ أَوْ يَأْخُذُ مِنْ شَارِبِهِ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ يَفْعَلُهُ»، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ خَمْسَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُصُّونَ شَوَارِبَهُمْ وَيَعْفُونَ لِحَاهُمْ وَيُصَغِّرُونَهَا: أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ عَبْدٍ السُّلَمِيُّ، وَالْحَجَّاجُ بْنُ عَامِرٍ الثَّمَالِيُّ، وَالْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيُّ، كَانُوا يَقُصُّونَ شَوَارِبَهُمْ مَعَ طَرَفِ الشَّفَةِ.
وَقَالَ الْمُحَاطِيُّ وَغَيْرُهُ: يُكْرَهُ حَلْقُ الشَّارِبِ.
وَقَالَ الْبَاجُورِيُّ: إِحْفَاءُ الشَّارِبِ بِالْحَلْقِ أَوِ الْقَصِّ مَكْرُوهٌ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَحْلِقَ مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى تَظْهَرَ الشَّفَةُ، وَأَنْ يَقُصَّ مِنْهُ شَيْئًا وَيُبْقِيَ مِنْهُ شَيْئًا.
وَنَقَلَ الزَّرْكَشِيُّ عَنْ أَبِي حَامِدٍ وَالصَّيْمَرِيِّ؛ اسْتِحْبَابَ الْإِحْفَاءِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَمْ نَجِدْ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ نَصًّا، وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ رَأَيْنَاهُمْ كَالْمُزَنِيِّ وَالرَّبِيعِ كَانَا يُحْفِيَانِ شَوَارِبَهُمَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا أَخَذَا ذَلِكَ عَنْهُ، وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَزَعَمَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ أَنَّهُ بِدْعَةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ.
وَلَا بَأْسَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِتَرْكِ السَّبَالَتَيْنِ، وَهُمَا طَرَفَا الشَّارِبِ، لِفِعْلِ عُمَرَ- رضي الله عنه- وَغَيْرِهِ؛ وَلِأَنَّهُمَا لَا يَسْتُرَانِ الْفَمَ، وَلَا يَبْقَى فِيهِمَا غَمَرُ الطَّعَامِ إِذْ لَا يَصِلُ إِلَيْهِمَا.
وَيُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَأْخِيرُ قَصِّ الشَّارِبِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَالتَّأْخِيرُ إِلَى مَا بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ أَشَدُّ كَرَاهَةً لِخَبَرِ مُسْلِمٍ الْمُتَقَدِّمِ.قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ: وَمَعْنَى الْخَبَرِ أَنَّهُمْ لَا يُؤَخِّرُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فَإِنْ أَخَّرُوهَا فَلَا يُؤَخِّرُونَهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ، لَا أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُؤَخِّرُونَهَا إِلَى الْأَرْبَعِينَ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَالْأَخْذُ مِنْ هَذِهِ الشُّعُورِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُسَنُّ قَصُّ الشَّارِبِ- أَيْ قَصُّ الشَّعْرِ الْمُسْتَدِيرِ عَلَى الشَّفَةِ- أَوْ قَصُّ طَرَفِهِ، وَحَفُّهُ أَوْلَى نَصًّا، قَالَ فِي النِّهَايَةِ: إِحْفَاءُ الشَّوَارِبِ أَنْ تُبَالِغَ فِي قَصِّهَا، وَمِنَ الشَّارِبِ السَّبَالَانِ وَهُمَا طَرَفَاهُ، لِحَدِيثِ أَحْمَدَ: «قُصُّوا سِبَالَكُمْ وَوَفِّرُوا عَثَانِينَكُمْ وَخَالِفُوا أَهْلَ الْكِتَابِ».
وَقَالُوا: يُسَنُّ الْأَخْذُ مِنَ الشَّارِبِ كُلَّ جُمُعَةٍ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَأْخُذُ أَظْفَارَهُ وَشَارِبَهُ كُلَّ جُمُعَةٍ» فَإِنْ تَرَكَهُ فَوْقَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا كُرِهَ لِحَدِيثِ أَنَسٍ السَّابِقِ: «وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ...» إِلَخْ؛ وَعَلَّلُوا الْأَخْذَ مِنَ الشَّارِبِ كُلَّ جُمُعَةٍ بِأَنَّهُ إِذَا تُرِكَ يَصِيرُ وَحْشًا.
ثَالِثًا: الْأَخْذُ مِنَ الشَّارِبِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ:
12- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ يُرِيدُ حُضُورَ الْجُمُعَةِ تَحْسِينُ هَيْئَتِهِ بِقَصِّ الشَّارِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمَنْدُوبَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- رضي الله عنهما- الَّذِي رَوَاهُ الْبَغَوِيُّ، وَقَدْ سَبَقَ؛ وَلِأَنَّ الْجُمُعَةَ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَاسْتُحِبَّ أَنْ يَكُونَ الْمُقِيمُ لَهَا عَلَى أَحْسَنِ وَصْفٍ، وَإِظْهَارًا لِفَضِيلَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ سَيِّدُ الْأَيَّامِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْأَخْذَ مِنَ الشَّارِبِ يَكُونُ قَبْلَ حُضُورِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَلَكِنِ الْحَنَفِيَّةُ قَالُوا: إِنَّ حَلْقَ الشَّعْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ لِتَنَالَهُ بَرَكَةُ الصَّلَاةِ.
رَابِعًا: إِزَالَةُ الشَّارِبِ فِي الْإِحْرَامِ:
13- مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ إِزَالَةُ الشَّعْرِ مِنْ جَمِيعِ بَدَنِ الْمُحْرِمِ وَمِنْهُ الشَّارِبُ، لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} أَيْ: شُعُورَهَا، نَصَّ عَلَى حَلْقِ شَعْرِ الرَّأْسِ وَعَدَّى إِلَى شَعْرِ سَائِرِ الْبَدَنِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، إِذْ حَلْقُهُ يُؤْذِنُ بِالرَّفَاهِيَةِ، وَهُوَ يُنَافِي الْإِحْرَامَ، لِكَوْنِ الْمُحْرِمِ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، وَقِيسَ عَلَى الْحَلْقِ النَّتْفُ وَالْقَلْعُ وَنَحْوُهُمَا لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْحَلْقِ مِنْ حَيْثُ إِزَالَةُ الشَّعْرِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْحَلْقِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِأَنَّهُ هُوَ الْغَالِبُ أَمَّا مَا يَجِبُ فِي ذَلِكَ فَيُنْظَرُ فِي (إِحْرَام) (وَحَلْق).
خَامِسًا: الْأَخْذُ مِنْ شَارِبِ الْمَيِّتِ:
14- إِذَا مَاتَ الْمُحْرِمُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ شَارِبِهِ وَلَا مِنْ شَعْرِهِ شَيْءٌ؛ مُرَاعَاةً لِإِحْرَامِهِ، لِأَنَّهُ يَظَلُّ عَلَيْهِ، وَيُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ «الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ فَمَاتَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلَا تُحَنِّطُوهُ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا».
وَأَمَّا غَيْرُ الْمُحْرِمِ مِنَ الْمَوْتَى فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْأَخْذِ مِنْ شَارِبِهِ: وَلِلشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ:
قَالَ النَّوَوِيُّ: يَحْصُلُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَخْذِ مِنْ شَارِبِ الْمَيِّتِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الْمُخْتَارُ: أَنَّهُ يُكْرَهُ، وَالثَّانِي: لَا يُكْرَهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ، وَالثَّالِثُ: يُسْتَحَبُّ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ إِذَا كَانَ الشَّارِبُ طَوِيلًا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «اصْنَعُوا بِمَوْتَاكُمْ مَا تَصْنَعُونَ بِعَرَائِسِكُمْ».وَلِأَنَّ تَرْكَهُ يُقَبِّحُ مَنْظَرَهُ، وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ مَسْنُونٌ فِي الْحَيَاةِ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ فَشُرِعَ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالْغُسْلِ، وَمِمَّنِ اسْتَحَبَّهُ: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ.وَمِمَّنْ كَرِهَهُ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْمُزَنِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَنَقَلَهُ الْعَبْدَرِيُّ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
وَصَرَّحَ الْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الْأَخْذُ مِنْ شَارِبِ الْمَيِّتِ بِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُ يَكُونُ قَبْلَ الْغُسْلِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْجُمْهُورُ- يَعْنِي جُمْهُورَ الْأَصْحَابِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ- لِدَفْنِ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ مَعَ الْمَيِّتِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ: مَا يُؤْخَذُ مِنْهَا يُصَرُّ فِي كَفَنِهِ، وَوَافَقَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبُ التَّهْذِيبِ فِي الشَّعْرِ الْمُنَتَّفِ فِي تَسْرِيحِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، وَقَالَ بِهِ غَيْرُهُمْ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْحَادِي: الِاخْتِيَارُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يُدْفَنُ مَعَهُ إِذْ لَا أَصْلَ لَهُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا أُخِذَ الشَّعْرُ جُعِلَ مَعَهُ فِي أَكْفَانِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمَيِّتِ فَيُسْتَحَبُّ جَعْلُهُ فِي أَكْفَانِهِ كَأَعْضَائِهِ، فَيُغَسَّلُ وَيُجْعَلُ مَعَهُ.
سَادِسًا: أَخْذُ الْمُعْتَكِفِ مِنْ شَارِبِهِ:
15- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَضُرُّ فِي الِاعْتِكَافِ أَخْذُ الْمُعْتَكِفِ مِنْ شَارِبِهِ إِذَا لَمْ يُلَوِّثِ الْمَسْجِدَ بِذَلِكَ، لِعَدَمِ وُرُودِ تَرْكِ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَلَا الْأَمْرِ بِهِ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ الْإِبَاحَةِ.
لَكِنِ الْمَالِكِيَّةُ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ شَارِبِهِ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَوْ جَمَعَ مَا يَأْخُذُهُ فِي ثَوْبِهِ وَأَلْقَاهُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ لِحُرْمَتِهِ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِنَّهُ يُبْطِلُ اعْتِكَافَهُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ مِنْهُمْ بِإِبْطَالِ الِاعْتِكَافِ بِكُلِّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ عِنْدَ مَنْ خَصَّ الْإِبْطَالَ بِالْكَبِيرَةِ.
وَقَالُوا: إِذَا احْتَاجَ الْمُعْتَكِفُ إِلَى قَصِّ شَارِبِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يُدْنِيَ رَأْسَهُ لِمَنْ يَأْخُذُ مِنْ شَعْرِهِ وَيُصْلِحُهُ، وَلَا يَخْرُجُ فِي ذَلِكَ إِلَى بَيْتِهِ وَلَا إِلَى دُكَّانِ الْحَجَّامِ، لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُسَنُّ صَوْنُ الْمَسَاجِدِ عَنْ كُلِّ قَذَرٍ كَقَصِّ الشَّارِبِ وَنَحْوِهِ.
سَابِعًا: الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ بَعْدَ قَصِّ الشَّارِبِ:
16- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ الْوُضُوءُ لِمَنْ قَصَّ شَارِبَهُ، وَكَذَلِكَ الْغُسْلُ.
ثَامِنًا: الْجِنَايَةُ عَلَى الشَّارِبِ:
17- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الشَّارِبِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، لِأَنَّ الشَّارِبَ تَبَعٌ لِلِّحْيَةِ فَصَارَ كَبَعْضِ أَطْرَافِهَا.وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ (حُكُومَة عَدْلٍ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
92-موسوعة الفقه الكويتية (شرب)
شُرْبالتَّعْرِيفُ:
1- الشُّرْبُ- بِالضَّمِّ- لُغَةً: تَنَاوُلُ كُلِّ مَائِعٍ، مَاءً كَانَ أَوْ غَيْرَهُ.
وَيَسْتَعْمِلُ الْفُقَهَاءُ هَذَا اللَّفْظَ بِنَفْسِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2- الْأَصْلُ جَوَازُ شُرْبِ الْمَشْرُوبَاتِ كُلِّهَا إِلاَّ مَا قَامَتْ دَلَالَةُ تَحْرِيمِهِ.
وَإِذَا كَانَ تَرْكُ الشُّرْبِ يُتْلِفُ نَفْسَ الْإِنْسَانِ أَوْ بَعْضَ أَعْضَائِهِ أَوْ يُضْعِفُهُ عَنْ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَشْرَبَ مَا يَزُولُ مَعَهُ خَوْفُ الضَّرَرِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَمَّا مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ وَهُوَ مَا سَكَّنَ الظَّمَأَ فَمَنْدُوبٌ إِلَيْهِ عَقْلًا وَشَرْعًا لِمَا فِيهِ مِنْ حِفْظِ النَّفْسِ وَحِرَاسَةِ الْحَوَاسِّ.
وَقَالَ الْجَصَّاصُ: أَمَّا الْحَالُ الَّتِي لَا يَخَافُ الْإِنْسَانُ ضَرَرًا فِيهَا بِتَرْكِ الشُّرْبِ فَالشُّرْبُ مُبَاحٌ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي شُرْبِ الزَّائِدِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقِيلَ حَرَامٌ.وَقِيلَ مَكْرُوهٌ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ.
آدَابُ الشُّرْبِ:
1 التَّسْمِيَةُ عَلَى الشُّرْبِ:
3- تُسْتَحَبُّ التَّسْمِيَةُ فِي أَوَّلِ الشُّرْبِ.
قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْمُنْتَهَى: يُسَمِّي الشَّارِبُ عِنْدَ كُلِّ ابْتِدَاءٍ وَيَحْمَدُ عِنْدَ كُلِّ قَطْعٍ.
وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّسْمِيَةِ لِيُسْمِعَ غَيْرَهُ وَيُنَبِّهَهُ عَلَيْهَا.وَلَوْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ فِي أَوَّلِ الشُّرْبِ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا أَوْ مُكْرَهًا أَوْ عَاجِزًا لِعَارِضٍ آخَرَ، ثُمَّ تَمَكَّنَ أَثْنَاءَ شُرْبِهِ أَوْ بَعْدَهُ مِنْهَا، يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَمِّيَ وَيَقُولُ: «بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ» لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ».
وَتَحْصُلُ التَّسْمِيَةُ بِقَوْلِهِ: «بِسْمِ اللَّهِ» فَإِنْ قَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» كَانَ حَسَنًا.
(2) الشُّرْبُ بِالْيَمِينِ:
4- يُسْتَحَبُّ الشُّرْبُ بِالْيَمِينِ، وَيُكْرَهُ الشُّرْبُ بِالشِّمَالِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ؛ لِخَبَرِ «إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ».فَإِنْ كَانَ عُذْرٌ يَمْنَعُ الشُّرْبَ بِالْيَمِينِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ جِرَاحَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا كَرَاهَةَ فِي الشِّمَالِ.
(3) الشُّرْبُ ثَلَاثَةُ أَنْفَاسٍ:
5- السُّنَّةُ: أَنْ يَشْرَبَ الْمَاءَ فِي ثَلَاثَةِ أَنْفَاسٍ، فَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ- رضي الله عنه-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثًا» وَفِي لَفْظٍ «كَانَ يَتَنَفَّسُ ثَلَاثًا، وَيَقُولُ: إِنَّهُ أَرْوَى وَأَبْرَأُ وَأَمْرَأُ».وَمَعْنَى أَرْوَى: أَيْ أَكْثَرُ رَيًّا، وَأَبْرَأُ: أَيْ أَسْلَمُ مِنْ مَرَضٍ أَوْ أَذًى يَحْصُلُ بِسَبَبِ الشُّرْبِ فِي نَفَسٍ وَاحِدٍ، وَأَمْرَأُ: أَيْ أَكْمَلُ انْسِيَاغًا.
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الْحَدِيثِ: هَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِأَنْ يَشْرَبَ ثَلَاثَةَ أَنْفَاسٍ خَارِجَ الْقَدَحِ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الشُّرْبِ بِنَفْسٍ وَاحِدٍ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُمَا أَجَازَاهُ بِنَفَسٍ وَاحِدٍ.وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٍ وَعِكْرِمَةَ كَرَاهَةُ الشُّرْبِ بِنَفَسٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ شُرْبُ الشَّيْطَانِ.
(4) عَدَمُ التَّنَفُّسِ فِي الْإِنَاءِ:
6- يُنْدَبُ إِبْعَادُ الْقَدَحِ حِينَ التَّنَفُّسِ حَالَةَ الشُّرْبِ، وَيُكْرَهُ التَّنَفُّسُ فِي الْإِنَاءِ كَمَا يُكْرَهُ النَّفْخُ فِيهِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى أَنْ يَتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ أَوْ يَنْفُخَ فِيهِ».
قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ فِي حِكْمَةِ النَّهْيِ عَنِ النَّفْخِ فِي الْإِنَاءِ: نَهَى- صلى الله عليه وسلم- عَنِ النَّفْخِ فِي الشَّرَابِ حَمْلًا لِأُمَّتِهِ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، لِأَنَّ النَّافِخَ فِي آنِيَةِ الْمَاءِ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مِنْ رِيقِهِ فِيهَا شَيْءٌ مَعَ النَّفْخِ فَيَتَقَذَّرَهُ النَّاظِرُ وَيُفْسِدَهُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ: النَّهْيُ عَنِ التَّنَفُّسِ فِي (الْإِنَاءِ) الَّذِي يُشْرَبُ مِنْهُ لِئَلاَّ يَخْرُجَ مِنَ الْفَمِ بُزَاقٌ يَسْتَقْذِرُهُ مَنْ شَرِبَ بَعْدَهُ مِنْهُ، أَوْ تَحْصُلُ فِيهِ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمَاءِ أَوْ بِالْإِنَاءِ.
(5) عَدَمُ الشُّرْبِ قَائِمًا:
7- كَانَ مِنْ هَدْيِهِ- صلى الله عليه وسلم- الشُّرْبُ قَاعِدًا، هَذَا كَانَ هَدْيُهُ الْمُعْتَادُ، وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ الَّذِي شَرِبَ قَائِمًا أَنْ يَسْتَقِيءَ وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ شَرِبَ قَائِمًا.
قَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّ النَّهْيَ مَحْمُولٌ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ.أَمَّا شُرْبُهُ- صلى الله عليه وسلم- قَائِمًا فَبَيَانٌ لِلْجَوَازِ، فَلَا إِشْكَالَ وَلَا تَعَارُضَ.وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ الشُّرْبُ قَائِمًا مَكْرُوهًا وَقَدْ فَعَلَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ فِعْلَهُ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا كَانَ بَيَانًا لِلْجَوَازِ لَا يَكُونُ مَكْرُوهًا بَلِ الْبَيَانُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ- صلى الله عليه وسلم-.
وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً، وَطَافَ عَلَى بَعِيرٍ»، مَعَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَالطَّوَافَ مَاشِيًا أَكْمَلُ.وَنَظَائِرُ هَذَا غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ، فَكَانَ- صلى الله عليه وسلم- يُنَبِّهُ عَلَى جَوَازِ الشَّيْءِ مَرَّةً أَوْ مَرَّاتٍ وَيُوَاظِبُ عَلَى الْأَفْضَلِ مِنْهُ.وَهَكَذَا كَانَ أَكْثَرُ وُضُوئِهِ- صلى الله عليه وسلم- ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَالطَّوَافُ مَاشِيًا وَأَكْثَرُ شُرْبِهِ جَالِسًا.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ تَبَعًا لِلرَّافِعِيِّ: لَا يُكْرَهُ الشُّرْبُ قَائِمًا.وَأَضَافَ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الشُّرْبَ قَائِمًا بِلَا عُذْرٍ خِلَافُ الْأَوْلَى لِلْأَحَادِيثِ الصَّرِيحَةِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ.وَقَدْ ضَعَّفَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَحَادِيثَ النَّهْيِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ.
(6) مَصُّ الْمَاءِ:
8- يُنْدَبُ مَصُّ الْمَاءِ وَيُكْرَهُ عَبُّهُ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَمُصَّ مَصًّا وَلَا يَعُبُّ عَبًّا فَإِنَّ الْكُبَادَ مِنَ الْعَبِّ».
وَالْكُبَادُ وَجَعُ الْكَبِدِ، وَمِثْلُ الْمَاءِ كُلُّ مَائِعٍ كَاللَّبَنِ.
وَقَالَ الرَّحِيبَانِيُّ: يَعُبُّ اللَّبَنَ لِأَنَّهُ طَعَامٌ.
(7) تَقْلِيلُ الشَّرَابِ:
9- يُطْلَبُ تَخْفِيفَ الْمَعِدَةِ بِتَقْلِيلِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عَلَى قَدْرٍ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ وَلَا كَسَلٌ عَنِ الْعِبَادَةِ.
قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: اعْلَمْ أَنَّهُ مَتَى بَالَغَ فِي تَقْلِيلِ الْغِذَاءِ أَوِ الشَّرَابِ فَأَضَرَّ بِبَدَنِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ، أَوْ قَصَّرَ عَنْ فِعْلِ وَاجِبٍ لِحَقِّ اللَّهِ أَوْ لِحَقِّ آدَمِيٍّ، كَالتَّكَسُّبِ لِمَنْ يَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ، وَإِلاَّ كُرِهَ ذَلِكَ إِذَا خَرَجَ عَنِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ.
(8) الشُّرْبُ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ:
10- يُكْرَهُ الشُّرْبُ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ، وَكَذَا اخْتِنَاثُ الْأَسْقِيَةِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الشُّرْبِ مِنْ فِي السِّقَاءِ».وَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه-: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ» يَعْنِي أَنْ تُكْسَرَ أَفْوَاهُهَا فَيُشْرَبَ مِنْهَا.
وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ الْكَرَاهَةَ هُنَا لِلتَّنْزِيهِ، لَا لِلتَّحْرِيمِ.وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَى هَذَا.وَهُنَاكَ أَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ.قَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ وَبَيْنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ: إِنَّهُ لَوْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا يَكُونُ لِعُذْرٍ كَأَنْ تَكُونَ الْقِرْبَةُ مُعَلَّقَةً وَلَمْ يَجِدِ الْمُحْتَاجُ إِلَى الشُّرْبِ إِنَاءً مُتَيَسِّرًا وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ التَّنَاوُلِ بِكَفِّهِ فَلَا كَرَاهَةَ حِينَئِذٍ، وَعَلَى هَذَا تُحْمَلُ الْأَحَادِيثُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الشُّرْبِ مِنْ فِي السِّقَاءِ، وَبَيْنَ مَا يَكُونُ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَتُحْمَلُ عَلَيْهِ أَحَادِيثُ النَّهْيِ.
وَقِيلَ: لَمْ يَرِدْ حَدِيثٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ إِلاَّ بِفِعْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَحَادِيثُ النَّهْيِ كُلُّهَا مِنْ قَوْلِهِ، فَهِيَ أَرْجَحُ.
وَوَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي النَّهْيِ مَا قَالَهُ الْبَعْضُ مِنْ أَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْ دُخُولِ شَيْءٍ مِنَ الْهَوَامِّ مَعَ الْمَاءِ فِي جَوْفِ السِّقَاءِ، فَيَدْخُلُ فَمَ الشَّارِبِ وَلَا يَدْرِي.فَعَلَى هَذَا لَوْ مَلأَ السِّقَاءَ وَهُوَ يُشَاهِدُ الْمَاءَ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ ثُمَّ رَبَطَهُ رَبْطًا مُحْكَمًا، ثُمَّ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَشْرَبَ حَلَّهُ فَشَرِبَ مِنْهُ، لَا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ، وَقِيلَ: مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- بِلَفْظِ: «نَهَى أَنْ يُشْرَبَ مِنْ فِيِّ السِّقَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنْتِنُهُ» وَهَذَا عَامٌّ.وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي يَشْرَبُ مَنْ فِي السِّقَاءِ قَدْ يَغْلِبُهُ الْمَاءُ فَيَنْصَبُّ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ حَاجَتِهِ فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَشْرَقَ بِهِ أَوْ تَبْتَلَّ ثِيَابُهُ.
(9) الشُّرْبُ مِنْ ثُلْمَةِ الْإِنَاءِ:
11- يُكْرَهُ الشُّرْبُ مِنْ ثُلْمَةِ الْإِنَاءِ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه-: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الشُّرْبِ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ وَأَنْ يَنْفُخَ فِي الشَّرَابِ».
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا نَهَى عَنِ الشُّرْبِ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ لِأَنَّهُ إِذَا شَرِبَ مِنْهَا تَصَبَّبَ الْمَاءُ وَسَالَ قَطْرُهُ عَلَى وَجْهِهِ وَثَوْبِهِ، لِأَنَّ الثُّلْمَةَ لَا تَتَمَاسَكُ عَلَيْهَا شَفَةُ الشَّارِبِ، كَمَا تَتَمَاسَكُ عَلَى الْمَوْضِعِ الصَّحِيحِ مِنَ الْكُوزِ وَالْقَدَحِ.
(10) الْحَمْدُ عَقِبَ الشُّرْبِ:
12- يُسَنُّ لِلشَّارِبِ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ عَقِبَ الشُّرْبِ؛ لِمَا وَرَدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا».
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَ وَسَقَى وَسَوَّغَهُ وَجَعَلَ لَهُ مَخْرَجًا».
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ».
قَالَ زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيُّ: «يُنْدَبُ أَنْ يَشْرَبَ فِي ثَلَاثَةِ أَنْفَاسٍ، بِالتَّسْمِيَةِ فِي أَوَائِلِهَا وَبِالْحَمْدِ فِي أَوَاخِرِهَا».
(11) التَّيَامُنُ فِي مُنَاوَلَةِ الشَّرَابِ:
13- يُسَنُّ التَّيَامُنُ فِي مُنَاوَلَةِ الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُمَا.قَالَ الرَّحِيبَانِيُّ: إِذَا شَرِبَ لَبَنًا أَوْ غَيْرَهُ سُنَّ أَنْ يُنَاوِلَ الْأَيْمَنَ وَلَوْ صَغِيرًا أَوْ مَفْضُولًا، وَيَتَوَجَّهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَهُ فِي مُنَاوَلَتِهِ الْأَكْبَرَ فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ نَاوَلَهُ لَهُ.
فَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِلَبَنٍ قَدْ شِيبَ بِمَاءٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ وَعَنْ شِمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَشَرِبَ ثُمَّ أَعْطَى الْأَعْرَابِيَّ، وَقَالَ: الْأَيْمَنَ الْأَيْمَنَ».وَمِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيِّ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ وَعَنْ يَسَارِهِ الْأَشْيَاخُ، فَقَالَ لِلْغُلَامِ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ: وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا.قَالَ: فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي يَدِهِ».قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ: وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ حُكْمَ التَّيَامُنِ فِي الْمُنَاوَلَةِ آكَدُ مِنْ حُكْمِ السِّنِّ.
الشُّرْبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:
14- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ تَحْرِيمَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي إِنَاءِ الذَّهَبِ وَإِنَاءِ الْفِضَّةِ، وَيَسْتَوِي فِي التَّحْرِيمِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ.
وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ، إِلاَّ مَا نُقِلَ عَنِ التَّابِعِيِّ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، وَنُقِلَ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي سَمَاعِ حَرْمَلَةَ أَنَّ النَّهْيَ فِيهِ لِلتَّنْزِيهِ لِأَنَّ فِيهِ تَشَبُّهًا بِالْأَعَاجِمِ.
.
شُرْبُ الْجُنُبِ:
15- يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُسَنُّ لِمَنْ عَلَيْهِ غُسْلٌ أَنْ يَتَوَضَّأَ لِإِرَادَةِ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِلْجُنُبِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ».
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ: وَلَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِلْحَائِضِ لِأَنَّ الْوُضُوءَ لَا يُؤَثِّرُ فِي حَدَثِهَا، وَيُؤَثِّرُ فِي حَدَثِ الْجَنَابَةِ؛ لِأَنَّهُ يُخَفِّفُهُ وَيُزِيلُهُ عَنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ.
وَيُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْجُنُبَ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْوُضُوءِ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ.
قَالَ مَالِكٌ: لَا يَتَوَضَّأُ إِلاَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنَامَ فَقَطْ وَهُوَ جُنُبٌ، وَأَمَّا مَنْ أَرَادَ أَنْ يَطْعَمَ أَوْ يُعَاوِدَ الْجِمَاعَ فَلَمْ يُؤْمَرْ بِالْوُضُوءِ.
الشُّرْبُ فِي الصَّلَاةِ:
16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ مَمْنُوعٌ مِنْ الشُّرْبِ، وَأَنَّهُ إِذَا شَرِبَ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ عَامِدًا لَزِمَهُ الْإِعَادَةُ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ سَاهِيًا: فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَيُشْرَعُ لَهُ سُجُودُ السَّهْوِ.وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَدَمَ بُطْلَانِ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَا إِذَا كَانَ الشُّرْبُ يَسِيرًا، أَمَّا كَثِيرُ الشُّرْبِ فَيُبْطِلُ الصَّلَاةَ مُطْلَقًا.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ أَنَّ الصَّلَاةَ يُفْسِدُهَا الشُّرْبُ مُطْلَقًا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ، لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُبْطِلٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الصَّلَاةِ، فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ كَالْعَمَلِ الْكَثِيرِ.
وَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَيُبْطِلُهُ الشُّرْبُ الْمُتَعَمَّدُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ مَا أَبْطَلَ الْفَرْضَ أَبْطَلَ التَّطَوُّعَ كَسَائِرِ مُبْطِلَاتِهِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أَنَّهُ لَا يُبْطِلُهُ.وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُمَا شَرِبَا فِي التَّطَوُّعِ.وَعَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ إِسْحَاقُ، لِأَنَّهُ عَمَلٌ يَسِيرٌ فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْأَكْلِ.
فَأَمَّا إِنْ كَثُرَ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يُفْسِدُهَا، لِأَنَّ غَيْرَ الْأَكْلِ مِنَ الْأَعْمَالِ يُفْسِدُ إِذَا كَثُرَ، فَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ أَوْلَى.
وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: صَلَاة).
شُرْبُ الصَّائِمِ:
17- يَحْرُمُ عَلَى الصَّائِمِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}.فَإِنْ شَرِبَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلصَّوْمِ عَالِمٌ بِتَحْرِيمِهِ مُخْتَارٌ بَطَلَ صَوْمُهُ، لِمَا رَوَى لَقِيطُ بْنُ صَبِرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَسْبِغِ الْوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَائِمًا».فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وَصَلَ إِلَى الدِّمَاغِ شَيْءٌ بَطَلَ صَوْمُهُ.
وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عَلَى الصَّائِمِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: صَوْم).
الشُّرْبُ مِنْ زَمْزَمَ:
18- يُسْتَحَبُّ لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وَأَنْ يَتَضَلَّعَ مِنْهُ.وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي بَحْثِ زَمْزَم مِنَ الْمَوْسُوعَةِ ج 24 ف 3
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
93-موسوعة الفقه الكويتية (شرب)
شِرْبالتَّعْرِيفُ:
1- الشِّرْبُ فِي اللُّغَةِ: الْحَظُّ وَالنَّصِيبُ مِنَ الْمَاءِ.
قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ صَالِحٍ- عليه الصلاة والسلام-: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}.
وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَاءِ عَيْنِهِ، وَعَلَى النَّوْبَةِ.وَهِيَ الْوَقْتُ الْمُحَدَّدُ لِاسْتِحْقَاقِ الشُّرْبِ، وَعَلَى الْمَوْرِدِ، وَالْجَمْعُ أَشْرَابٌ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ: نَوْبَةُ الِانْتِفَاعِ، أَوْ زَمَنُ الِانْتِفَاعِ بِالشِّرْبِ لِسَقْيِ الشَّجَرِ أَوِ الزَّرْعِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الشَّفَةُ:
2- وَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُهُ الْإِنْسَانُ مِنَ الْمَاءِ لِدَفْعِ عَطَشٍ فِي نَفْسِهِ أَوْ لِلطَّبْخِ أَوِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِسَقْيِ الْمَوَاشِي وَالدَّوَابِّ لِدَفْعِ الْعَطَشِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُنَاسِبُهَا.
الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:
أَنْوَاعُ الْمِيَاهِ بِالنِّسْبَةِ لِحَقَّيِ الشِّرْبِ وَالشَّفَةِ:
تَنْقَسِمُ الْمِيَاهُ بِالنَّظَرِ إِلَى تَمَلُّكِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْمَاءُ الْعَامُّ:
3- وَهُوَ النَّابِعُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَخْتَصُّ بِأَحَدٍ وَلَا صُنْعَ لِلْآدَمِيِّينَ فِي إِنْبَاطِهِ وَإِجْرَائِهِ كَالْأَنْهَارِ الْكَبِيرَةِ كَالنِّيلِ وَالْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ وَسَائِرِ أَوْدِيَةِ الْعَالَمِ وَالْعُيُونِ فِي الْجِبَالِ، فَهَذَا النَّوْعُ حَقٌّ لِلنَّاسِ جَمِيعًا وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِلْكٌ فِي الْمَاءِ وَلَا فِي الْمَجْرَى.
وَلِكُلِّ وَاحِدٍ حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِهِ بِالشَّفَةِ وَالشِّرْبِ، وَلَهُ شَقُّ الْجَدَاوِلِ مِنَ الْأَنْهَارِ وَنَحْوِهَا، وَنَصْبُ آلَاتِ السَّقْيِ عَلَيْهَا لِإِجْرَاءِ الْمِيَاهِ لِأَرْضِهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ وَسَائِلِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَاءِ.
وَلَيْسَ لِحَاكِمٍ وَلَا لِغَيْرِهِ مَنْعُ أَحَدٍ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ بِكُلِّ الْوُجُوهِ، إِنْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى فِعْلِهِ ضَرَرٌ عَلَى النَّهْرِ أَوِ الْجَمَاعَةِ.
لِخَبَرِ «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ فِي الْكَلَأِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ».فَإِنْ أَضَرَّ فِعْلُهُ بِالْعَامَّةِ فَلِلْحَاكِمِ إِزَالَةُ الْقَدْرِ الضَّارِّ مِنْ فِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِبَاحَةُ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّهِمْ مَشْرُوطَةٌ بِانْتِفَاءِ الضَّرَرِ لِحَدِيثِ «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَلِلْعَامَّةِ أَيْضًا مَنْعُهُ مِنَ الْإِضْرَارِ بِحَقِّهِمْ.
وَإِنْ حَضَرَ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا شَاءَ.
وَإِنْ قَلَّ الْمَاءُ أَوْ ضَاقَ الْمَشْرَعُ قُدِّمَ السَّابِقُ، فَإِنْ جَاءَا مَعًا أَقُرِعَ بَيْنَهُمَا، وَإِنِ احْتَاجَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْمَاءِ لِسَقْيِ الْأَرْضِ، وَالْبَعْضُ الْآخَرُ لِلشُّرْبِ لِدَفْعِ الْعَطَشِ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ دَوَابِّهِ قُدِّمَ الْمُحْتَاجُ لِلشُّرْبِ.
قِسْمَةُ الْمِيَاهِ الْعَامَّةِ:
4- إِذَا أَرَادَ قَوْمٌ سَقْيَ أَرَاضِيهِمْ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْمِيَاهِ، فَإِنْ كَانَ النَّهْرُ عَظِيمًا وَالْمَشْرَعُ وَاسِعًا يَفِي بِالْجَمِيعِ سَقَى مَنْ شَاءَ مَتَى شَاءَ، وَيَأْخُذُ مِنْهُ مَا شَاءَ.
وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا أَوْ ضَاقَ الْمَشْرَعُ، سَقَى الْأَوَّلُ أَرْضَهُ ثُمَّ يُرْسِلُهُ إِلَى الثَّانِي، ثُمَّ الثَّانِي إِلَى الثَّالِثِ، وَهَكَذَا.
هَذَا إِذَا كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْإِحْيَاءِ عَلَى الْأَسْفَلِ، أَوْ تَسَاوَيَا فِي الْإِحْيَاءِ، أَمَّا إِنْ تَقَدَّمَ الْأَسْفَلُ فَيُقَدَّمُ هُوَ.
فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنِ الْأَوَّلِ شَيْءٌ أَوْ عَنِ الثَّانِي أَوْ عَنْ مَنْ يَلِيهِمْ فَلَا شَيْءَ لِلْبَاقِينَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ إِلاَّ مَا فَضَلَ فَلَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ كَالْعَصَبَةِ فِي الْمِيرَاثِ.وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ- رضي الله عنهما- قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَالَ: يَا زُبَيْرُ اسْقِ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجُدُرِ وَقَالَ الزُّبَيْرُ فَوَاَللَّهِ إِنِّي لأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}.وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: نَظَرْنَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى الْجُدُرِ فَكَانَ ذَلِكَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ».
5- وَإِنِ اسْتَوَى اثْنَانِ فِي الْقُرْبِ مِنْ أَوَّلِ النَّهْرِ اقْتَسَمَا الْمَاءَ بَيْنَهُمَا إِنْ أَمْكَنَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا فَيُقَدَّمُ مَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ، فَإِنْ كَانَ لَا يَفْضُلُ عَنْ أَحَدِهِمَا سَقَى مَنْ تَقَعُ لَهُ الْقُرْعَةُ بِقَدْرِ حَقِّهِ مِنَ الْمَاءِ ثُمَّ تَرَكَهُ لِلْآخَرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَهْلِكَ جَمِيعَ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْآخَرَ يُسَاوِيهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَاءِ، وَإِنَّمَا الْقُرْعَةُ لِلتَّقْدِيمِ فِي الِاسْتِيفَاءِ أَوَّلًا.لَا فِي أَصْلِ الْحَقِّ بِخِلَافِ الْأَعْلَى مَعَ الْأَسْفَلِ.
فَإِنْ كَانَتْ أَرْضُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْضِ الْآخَرِ قُسِمَ الْمَاءُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ، لِأَنَّ الزَّائِدَ مِنْ أَرْضِ أَحَدِهِمَا مُسَاوٍ فِي الْقُرْبِ، فَاسْتَحَقَّ جُزْءًا مِنَ الْمَاءِ كَمَا لَوْ كَانَ لِشَخْصٍ ثَالِثٍ.
6- وَإِنْ كَانَ لِجَمَاعَةٍ حَقُّ الشُّرْبِ فِي نَهْرٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ أَوْ سَيْلٍ وَأَحْيَا غَيْرُهُمْ أَرْضًا مَوَاتًا أَقْرَبَ إِلَى رَأْسِ النَّهْرِ مِنْ أَرْضِهِمْ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْقِيَ قَبْلَهُمْ لِأَنَّهُمْ أَسْبَقُ مِنْهُ إِلَى النَّهْرِ، وَلِأَنَّ مَنْ مَلَكَ أَرْضًا مَلَكَهَا بِحُقُوقِهَا وَمَرَافِقِهَا، وَالْمَاءُ أَهَمُّ الْمَرَافِقِ، فَلَا يَمْلِكُ إِبْطَالَ حُقُوقِهَا، وَالشُّرْبُ مِنْ حُقُوقِهَا.
كَرْيُ الْأَنْهَارِ الْعَامَّةِ:
7- الْكَرْيُ: إِخْرَاجُ الطِّينِ مِنْ أَرْضِ النَّهْرِ وَحَفْرُهُ وَإِصْلَاحُ ضِفَّتَيْهِ، وَمُؤْنَةُ الْكَرْيِ وَجَمِيعُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْإِصْلَاحِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهُ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ.فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ، أَجْبَرَ الْحَاكِمُ النَّاسَ عَلَى إِصْلَاحِ النَّهْرِ إِنِ امْتَنَعُوا عَنْهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَتَحْقِيقًا لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمِيَاهُ الْجَارِيَةُ فِي أَنْهَارٍ وَسَوَاقِي مَمْلُوكَةٍ:
8- مَنْ يَحْفِرُ نَهْرًا يَدْخُلُ فِيهِ الْمَاءُ مِنَ النَّهْرِ الْعَظِيمِ أَوْ مِنْ نَهْرٍ مُتَفَرِّعٍ مِنْهُ، فَالْمَاءُ فِي هَذَا بَاقٍ عَلَى إِبَاحَتِهِ، وَلَكِنْ مَالِكُ النَّهْرِ أَحَقُّ بِهِ كَالسَّيْلِ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ، وَلِغَيْرِهِ حَقُّ الشِّرْبِ مِنْهُ وَالِاسْتِعْمَالِ، وَسَقْيِ الدَّوَابِّ لَا سَقْيِ أَرْضِهِ وَشَجَرِهِ، فَإِنْ أَبَى صَاحِبُهُ كَانَ لِلْمُضْطَرِّ أَخْذُهُ جَبْرًا، وَلَهُ إِنْ مَنَعَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ وَلَوْ بِالسِّلَاحِ لِأَنَّ الْمَاءَ فِي النَّهْرِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ بِشَرْطِ أَلاَّ يَجِدَ الْمُضْطَرُّ مَاءً مُبَاحًا.لِأَثَرِ عُمَرَ- رضي الله عنه- رَوَى أَنَّ قَوْمًا وَرَدُوا مَاءً فَسَأَلُوا أَهْلَهُ أَنْ يَدُلُّوهُمْ عَلَى الْبِئْرِ، فَلَمْ يَدُلُّوهُمْ عَلَيْهَا فَقَالُوا: إِنَّ أَعْنَاقَنَا وَأَعْنَاقَ مَطَايَانَا قَدْ كَادَتْ تَتَقَطَّعُ مِنَ الْعَطَشِ، فَدُلُّونَا عَلَى الْبِئْرِ، وَأَعْطُونَا دَلْوًا نَسْتَقِي، فَلَمْ يَفْعَلُوا فَذُكِرَ ذَلِكَ- لِعُمَرِ- رضي الله عنه- فَقَالَ: هَلاَّ وَضَعْتُمِ السِّلَاحَ فِيهِمْ».
وَيَجُوزُ لِغَيْرِ مَالِكِ النَّهْرِ أَنْ يَحْفِرَ فَوْقَ نَهْرِهِ نَهْرًا إِنْ لَمْ يُضَيِّقْ عَلَيْهِ، فَإِنْ ضَيَّقَ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ.
فَإِنِ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي الْحَفْرِ اشْتَرَكُوا فِي الْمِلْكِ عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِمْ، فَإِنِ اشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ النَّهْرُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مِلْكِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ يَكُونُ عَمَلُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ أَرْضِهِ، فَإِنْ زَادَ أَحَدُهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرْضِهِ مُتَطَوِّعًا فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْبَاقِينَ.فَإِنْ أُكْرِهَ أَوْ شَرَطُوا لَهُ عِوَضًا رَجَعَ عَلَيْهِمْ بِأُجْرَةِ مَا زَادَ، وَلَيْسَ لِلْأَعْلَى حَبْسُ الْمَاءِ عَنِ الْأَسْفَلِ.
وَإِذَا اقْتَسَمُوا الْمَاءَ بِالْأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ حَقَّهُمْ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ، وَإِنْ تَشَاحُّوا فِي قِسْمَتِهِ قَسَمَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَمْلَاكِهِمْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَمْلِكُ مِنَ النَّهْرِ بِقَدْرِ ذَلِكَ وَذَلِكَ بِأَنْ يَنْصِبَ خَشَبَةً فِي عَرْضِ النَّهْرِ فِيهَا ثُقُوبٌ مُتَسَاوِيَةٌ أَوْ مُتَفَاوِتَةٌ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ.وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمُ التَّصَرُّفُ فِي النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمْ بِتَوْسِيعِ فَمِ النَّهْرِ أَوْ تَضْيِيقِهِ وَلَا بِنَاءِ قَنْطَرَةٍ عَلَيْهِ إِلاَّ بِرِضَاهُمْ.وَعِمَارَتُهُ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ الْمِلْكِ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْمِلْكِ وَالِانْتِفَاعِ، وَلَهُمْ أَنْ يَقْتَسِمُوا مُهَايَأَةً بِأَنْ يَسْقِيَ كُلُّ وَاحِدٍ يَوْمًا أَوْ بَعْضُهُمْ يَوْمًا فَأَكْثَرَ بِحَسَبِ حِصَّتِهِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمُ الرُّجُوعُ عَنِ الْمُهَايَأَةِ مَتَى شَاءَ، وَلَهُمْ أَنْ يَقْتَسِمُوا بِكُلِّ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ لِإِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ مِنَ الْمَاءِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمَنْبَعُ مَمْلُوكًا:
9- كَأَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي مَوَاتٍ لِلتَّمَلُّكِ، أَوِ انْفَجَرَتْ فِي مِلْكِهِ عَيْنٌ.فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الْمَاءَ لِأَنَّهُ نَمَاءٌ مَلَكَهُ كَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُ الْفَاضِلِ مِنَ الْمَاءِ عَنْ شُرْبِهِ لِشُرْبِ غَيْرِهِ، وَبَذْلُ مَا فَضَلَ عَنْ مَاشِيَتِهِ لِمَاشِيَةِ غَيْرِهِ لِحَدِيثِ: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْكَلَأِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ» بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ كَلأٌَ تَرْعَى الْمَاشِيَةُ مِنْهُ، وَلَا يَجِدُ مَاءً مُبَاحًا أَوْ مَمْلُوكًا يَبْذُلُهُ صَاحِبُهُ لَهُ مَجَّانًا.
وَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، لِلنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ، وَلَا يَجِبُ بَذْلُ فَضْلِ الْمَاءِ لِزَرْعِهِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَهُ مَنْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَبَيْعُهُ، وَهِبَتُهُ، وَالتَّصَدُّقُ بِهِ، إِلاَّ مَنْ خِيفَ عَلَيْهِ هَلَاكٌ أَوْ ضَرَرٌ شَدِيدٌ، وَلَا ثَمَنَ مَعَهُ حِينَ الْخَوْفِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ، فَلَيْسَ لِلْمَالِكِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَنْعُهُ وَلَا بَيْعُهُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُهُ لَهُ مَجَّانًا، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ.أَمَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ مَالٌ فَلَا يَبْذُلُ لَهُ إِلاَّ بِالثَّمَنِ.وَكَذَا يَجِبُ عَلَى مَالِكِ الْمَاءِ بَذْلُ الْفَاضِلِ مِنَ الْمَاءِ لِزَرْعِ جَارِهِ، بِشَرْطِ أَنْ يَظُنَّ هَلَاكَ الزَّرْعِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَاءُ فَاضِلًا عَنْ زَرْعِ مَالِكِ الْمَاءِ، وَأَنْ يَزْرَعَ الْجَارُ زَرْعَهُ عَلَى مَاءٍ لَهُ، وَأَنْ يَشْرَعَ فِي إِصْلَاحِ بِئْرِهِ.
فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْ زَرْعِهِ شَيْءٌ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُ الْمَاءِ لِغَيْرِهِ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَزْرَعِ الْجَارُ زَرْعَهُ عَلَى مَاءِ لِمُخَاطَرَتِهِ وَتَعْرِيضِهِ زَرْعَهُ لِلْهَلَاكِ، وَكَذَا إِنْ كَانَ قَدْ زَرَعَ عَلَى مَاءٍ فَعَطِبَ وَلَمْ يَشْرَعْ فِي إِصْلَاحِهِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مَاءَ الْآبَارِ وَالْحِيَاضِ وَالْعُيُونِ لَا يُمْلَكُ، بَلْ هُوَ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ، سَوَاءٌ حُفِرَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ أَوْ أَرْضٍ مُبَاحَةٍ، وَلَكِنْ لِحَافِرِ الْبِئْرِ فِي مِلْكِهِ، أَوْ فِي مَوَاتٍ لِلتَّمَلُّكِ، وَلِمَنْ نَبَعَتِ الْعَيْنُ فِي أَرْضٍ يَمْلِكُهَا حَقُّ الِاخْتِصَاصِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ فِي الْأَصْلِ خُلِقَ مُبَاحًا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْكَلَأِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ» وَالشَّرِكَةُ تَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ لِجَمِيعِ الشُّرَكَاءِ إِلاَّ إِذَا حَصَلَ فِي إِنَاءٍ وَأَحْرَزَهُ بِهِ، فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا، لِأَنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَهُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ غَيْرِ الْمَمْلُوكَةِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ بَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ الثَّابِتَةِ بِالشَّرْعِ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ فِي مَالٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ.وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ النَّاسَ مِنَ الشُّرْبِ بِأَنْفُسِهِمْ وَسَقْيِ دَوَابِّهِمْ مِنْهُ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَمْنَعَ نَقْعَ الْبِئْرِ» وَهُوَ فَضْلُ مَائِهَا الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهَا، فَلِلنَّاسِ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْهَا وَيَسْقُوا مِنْهَا دَوَابَّهُمْ، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَلِصَاحِبِهَا أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ؛ لِأَنَّ فِي الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ إِضْرَارًا بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ.وَإِنِ اضْطُرُّوا إِلَيْهِ بِأَنْ لَمْ يَجِدُوا مَاءً غَيْرَهُ وَخَافُوا الْهَلَاكَ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ أَوْ يُخْرِجَ الْمَاءَ لَهُمْ، وَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُ عَلَى ذَلِكَ بِالسِّلَاحِ لِيَأْخُذُوهُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ.
حَفْرُ بِئْرٍ لِلِارْتِفَاقِ لَا لِلتَّمَلُّكِ:
10- إِنْ حَفَرَ بِئْرًا لِلِارْتِفَاقِ فِي مَوَاتٍ اخْتَصَّ بِهِ وَبِمَائِهِ كَالْمَالِكِ مَا دَامَ مُقِيمًا عَلَيْهِ، لِخَبَرِ «مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ» وَلَكِنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَنْعَ مَا فَضَلَ مِنْهُ عَنِ الْمُحْتَاجِ لِشُرْبٍ وَسَقْيِ دَوَابَّ وَمَوَاشِي، وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.فَإِنِ ارْتَحَلَ عَنْهَا بَطَلَ اخْتِصَاصُهُ.فَإِنْ عَادَ مَرَّةً أُخْرَى فَهُوَ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَعُودُ لَهُ الِاخْتِصَاصُ.
وَإِنْ حَفَرَهَا لِلْمَارَّةِ فَهُوَ فِيهَا كَأَحَدِهِمْ.
وَإِنْ حَفَرَهَا بِلَا قَصْدِ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ فَكَذَلِكَ. وَالْقَنَاةُ الْمَمْلُوكَةُ كَالْبِئْرِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَحْكَامٍ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: الْمَاءُ الْمُحْرَزُ بِالْأَوَانِي وَالظُّرُوفِ:
11- وَهَذَا مَمْلُوكٌ لِمُحْرِزِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ وَلَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا فِي الْأَصْلِ فَإِنَّ الْمُبَاحَ يُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لِلْغَيْرِ كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالصَّيْدِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ وَالتَّصَدُّقُ بِهِ.وَقَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ فِي جَمِيعِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ عَلَى بَيْعِ السَّقَّائِينَ الْمِيَاهَ الْمُحْرَزَةَ فِي الظُّرُوفِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَخْذُهُ بِغَيْرِ إِذْنِ مُحْرِزِهِ، إِلاَّ أَنْ يَخَافَ الْهَلَاكَ، وَعِنْدَهُ فَضْلٌ عَنْ حَاجَتِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُهُ لَهُ، فَإِنِ امْتَنَعَ أَنْ يُقَدِّمَهُ لَهُ فَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ عَلَيْهِ.
شَرْطُ وُجُوبِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَنْهَارِ الْخَاصَّةِ وَنَحْوِهَا:
12- يَجِبُ عَلَى الْمُنْتَفِعِ بِالْأَنْهَارِ وَالسَّوَّاقِي وَالْآبَارِ الْخَاصَّةِ أَلاَّ يَضُرَّ الْمَالِكَ فِي مِلْكِهِ، بِأَنْ يُحَافِظَ عَلَى حَافَّةِ النَّهْرِ وَالسَّاقِيَّةِ، وَالْبِئْرِ مِنَ التَّخْرِيبِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلِصَاحِبِ الْمَجْرَى الْمَنْعُ مِنْهُ؛ إِذْ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ.
رَفْعُ الدَّعْوَى لِلشِّرْبِ:
13- مَنْ كَانَ لَهُ شِرْبٌ فِي مَاءٍ فَلَهُ رَفْعُ الدَّعْوَى عَلَى مَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ الشِّرْبَ مَرْغُوبٌ فِيهِ مُنْتَفَعٌ بِهِ وَيُمْكِنُ اسْتِحْقَاقُهُ بِغَيْرِ أَرْضٍ بِالْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدِ ابْتَاعَ الْأَرْضَ دُونَ حَقِّ الشِّرْبِ، فَيَبْقَى الشِّرْبُ وَحْدَهُ، فَإِنِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الظُّلْمَ عَنْ نَفْسِهِ بِإِثْبَاتِ حَقِّهِ بِالْبَيِّنَةِ، صَرَّحَ بِهَذَا الْحَنَفِيَّةُ وَهُمْ لَا يُجِيزُونَ التَّصَرُّفَ فِي الشِّرْبِ بِالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْعُقُودِ وَغَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ أَوْلَى بِإِجَازَةِ رَفْعِ الدَّعْوَى لِكَوْنِهِمْ يُجِيزُونَ بَيْعَ حَقِّ الشِّرْبِ.كَمَا سَيَأْتِي.
التَّصَرُّفُ فِي الشِّرْبِ:
14- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الشِّرْبِ بِالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالصُّلْحِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ.
فَإِنْ صَالَحَ رَجُلًا عَلَى مَوْضِعِ قَنَاةٍ فِي أَرْضِهِ يَجْرِي فِيهَا مَاءٌ وَبَيَّنَا مَوْضِعَهَا وَعَرْضَهَا وَطُولَهَا جَازَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بَيْعُ مَوْضِعٍ مِنْ أَرْضِهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ عُمْقِهِ لِأَنَّهُ إِذَا مَلَكَ الْمَوْضِعَ كَانَ لَهُ إِلَى تُخُومِهِ، وَإِنْ صَالَحَ عَلَى إجْرَاءِ الْمَاءِ فِي سَاقِيَةٍ مِنْ أَرْضِ رَبِّ الْأَرْضِ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِهِ عَلَيْهَا، جَازَ، وَهُوَ إجَارَةٌ لِلْأَرْضِ فَيُشْتَرَطُ تَقْدِيرُ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ الْإِجَارَةِ.
أَمَّا الشِّرْبُ بِمَعْنَى الْمَاءِ فَقَدْ جَوَّزَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْعَهُ مُطْلَقًا فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ شِرْبَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ بِغَيْرِ أَصْلِ الْمَاءِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنِ اشْتَرَى شِرْبَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ مِنْ نَهْرِ رَجُلٍ أَوْ صَالَحَ عَلَيْهِ وَقُدِّرَ بِشَيْءٍ يُعْلَمُ بِهِ.قَالَ الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَاءَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا الصُّلْحُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ.وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى سَهْمٍ مِنَ الْعَيْنِ أَوِ النَّهْرِ كَالرُّبُعِ وَالثُّلُثِ جَازَ، وَكَانَ بَيْعًا لِلْقَرَارِ وَالْمَاءُ تَابِعٌ لَهُ.قَالَ ذَلِكَ الْقَاضِي.وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَجُوزَ الصُّلْحُ عَلَى الشِّرْبِ مِنْ نَهْرِهِ أَوْ قَنَاتِهِ، لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ.وَالْمَاءُ مِمَّا يَجُوزُ الْعِوَضُ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَخَذَهُ فِي إِنَاءٍ أَوْ قِرْبَةٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَيَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْقِصَاصِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَاءِ إِنْ وَجَبَ بَذْلُهُ.وَإِنْ لَمْ يَجِبْ بَذْلُهُ بِأَنْ وَجَدَ مُحْتَاجُ الشُّرْبِ مَاءً آخَرَ فَلَهُ بَيْعُ الْمَاءِ، مُقَدَّرًا بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ، وَلَا يَجُوزُ مُقَدَّرًا بِرَيِّ الْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الشِّرْبِ مُنْفَرِدًا بِأَنْ بَاعَ شِرْبَ يَوْمٍ أَوْ أَكْثَرَ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ حَقِّ الشِّرْبِ وَالسَّقْيِ، وَالْحُقُوقُ لَا تَحْتَمِلُ الْإِفْرَادَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَلَوْ اشْتَرَى الشِّرْبَ بِدَارٍ وَقَبَضَهَا لَزِمَهُ رَدُّ الدَّارِ لِأَنَّهَا مَقْبُوضَةٌ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ، فَكَانَ وَاجِبَ الرَّدِّ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا انْتَفَعَ بِهِ مِنَ الشِّرْبِ، وَإِنْ بَاعَ الشِّرْبَ مَعَ الْأَرْضِ جَازَ تَبَعًا لِلْأَرْضِ؛ لِجَوَازِ كَوْنِ الشَّيْءِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ تَجْعَلْهُ التَّبَعِيَّةُ مَقْصُودًا بِذَاتِهِ، وَلَا يَجُوزُ جَعْلُهُ أُجْرَةً لِدَارٍ، وَلَا إجَارَتُهُ مُنْفَرِدًا لِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَحْتَمِلُ الْإِجَارَةَ كَمَا لَا تَحْتَمِلُ الْبَيْعَ. وَإِنْ بَاعَ الْأَرْضَ وَلَمْ يَذْكُرِ الشِّرْبَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ.وَإِنْ أَجَّرَهَا وَلَمْ يَذْكُرِ الشِّرْبَ لَمْ يَدْخُلْ قِيَاسًا وَيَدْخُلُ اسْتِحْسَانًا لِوُجُودِ الذِّكْرِ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ وَلَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِالْأَرْضِ بِدُونِ الشِّرْبِ فَيَكُونُ مَذْكُورًا بِذِكْرِ الْأَرْضِ دَلَالَةً بِخِلَافِ الْبَيْعِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ، وَالْعَيْنُ تَحْتَمِلُ الْمِلْكَ بِدُونِ الْمَنْفَعَةِ، وَلَا تَجُوزُ هِبَةُ الشِّرْبِ وَالتَّصَدُّقُ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ تَمْلِيكٌ وَالْحُقُوقُ الْمُفْرَدَةُ لَا تَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ، وَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ لِأَنَّ الصُّلْحَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ وَلَا يَصْلُحُ مَهْرًا وَلَا بَدَلَ خُلْعٍ.
النِّزَاعُ فِي اسْتِحْقَاقِ الشِّرْبِ:
15- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا وُجِدَتْ أَرْضٌ لَمْ يَكُنْ سَقْيُهَا مِنَ النَّهْرِ الْعَامِّ، وَوُجِدَتْ سَاقِيَةٌ لَهَا مِنَ النَّهْرِ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهَا شِرْبٌ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، حَكَمْنَا عِنْدَ التَّنَازُعِ بِأَنَّ لَهَا شِرْبًا مِنْهُ.وَلَوْ تَنَازَعَ الشُّرَكَاءُ فِي النَّهْرِ فِي قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ يُجْعَلُ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِينَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الشَّرِكَةَ بِحَسَبِ الْمِلْكِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
94-موسوعة الفقه الكويتية (شروع)
شُرُوعٌالتَّعْرِيفُ:
1- الشُّرُوعُ مَصْدَرُ شَرَعَ.يُقَالُ: شَرَعْتُ فِي الْأَمْرِ أَشْرَعُ شُرُوعًا، أَخَذْتُ فِيهِ، وَشَرَعْتَ فِي الْمَاءِ شُرُوعًا شَرِبْتَ بِكَفَّيْكَ أَوْ دَخَلْتَ فِيهِ، وَشَرَعْتَ الْمَالَ (أَيِ الْإِبِلَ) أَشْرَعُهُ: أَوْرَدْتُهُ الشَّرِيعَةَ، وَشَرَعَ الْبَابُ إِلَى الطَّابَقِ شُرُوعًا: اتَّصَلَ بِهِ، وَطَرِيقٌ شَارِعٌ يَسْلُكُهُ النَّاسُ عَامَّةً، وَأَشْرَعْتُ الْجَنَاحَ إِلَى الطَّرِيقِ: وَضَعْتُهُ.
وَمِنْهُ: شَرَعَ اللَّهُ الدِّينَ، أَيْ سَنَّهُ وَبَيَّنَهُ، وَمِنْهُ الشَّرِيعَةُ وَهِيَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشُّرُوعِ:
الشُّرُوعُ فِي الْعِبَادَاتِ:
2- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الْعِبَادَاتِ يَتَحَقَّقُ بِالْفِعْلِ مَقْرُونًا بِالنِّيَّةِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا بِحَسَبِ كُلِّ عِبَادَةٍ، فَعَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ يَكُونُ الشُّرُوعُ فِي الصَّلَاةِ بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ مَقْرُونَةً بِالنِّيَّةِ، وَالصَّوْمُ يَكُونُ الشُّرُوعُ فِيهِ بِالنِّيَّةِ وَالْإِمْسَاكِ.
(انْظُرْ مُصْطَلَحَ: عِبَادَةٌ- نِيَّةٌ- صَلَاةٌ- صَوْمٌ- حَجٌّ- جِهَادٌ- ذِكْرٌ).
الشُّرُوعُ فِي الْمُعَامَلَاتِ:
3- يَتَحَقَّقُ الشُّرُوعُ فِي الْمُعَامَلَاتِ: بِالْقَوْلِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَيَنُوبُ عَنْهُ مِنَ: الْمُعَاطَاةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهَا، أَوِ الْكِتَابَةِ، أَوِ الْإِشَارَةِ.
وَلَا تُعَدُّ النِّيَّةُ هُنَا شُرُوعًا فِي الْبَيْعِ، أَوِ النِّكَاحِ، أَوِ الْإِجَارَةِ، أَوِ الْهِبَةِ، أَوِ الْوَقْفِ، أَوِ الْوَصِيَّةِ، أَوِ الْعَارِيَّةِ، أَوْ غَيْرِهَا مِنْ أَصْنَافِ الْمُعَامَلَاتِ؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ الْقَصْدَ الْمَنْوِيَّ.فَهَذِهِ الْمُعَامَلَاتُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، فَإِيجَابُ الْمُوجِبِ بِقَوْلِهِ: «بِعْتُكَ كَذَا وَكَذَا» شُرُوعٌ فِي الْبَيْعِ، فَإِذَا قَبِلَ الْبَائِعُ هَذَا الْإِيجَابَ تَمَّ الْبَيْعُ.
الشُّرُوعُ فِي الْجِنَايَاتِ:
4- يَتَحَقَّقُ الشُّرُوعُ فِي الْجِنَايَاتِ وَالْحُدُودِ: بِالْفِعْلِ لَا بِالْقَوْلِ، وَلَا بِالنِّيَّةِ.
مَا يَجِبُ إِتْمَامُهُ بِالشُّرُوعِ:
5- مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى الْمُكَلَّفِ، إِذَا شَرَعَ فِيهِ وَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُهُ بِاتِّفَاقٍ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ قَطْعُهُ أَوِ الِانْصِرَافُ عَنْهُ إِلاَّ بَعْدَ إِتْمَامِهِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ حَالَةُ الضَّرُورَةِ الَّتِي تَمْنَعُ مِنْ إِتْمَامِهِ، كَأَنْ يُنْتَقَضَ وُضُوءُ الْمُصَلِّي، أَوْ يُغْمَى عَلَيْهِ، أَوْ تَحِيضَ الْمَرْأَةُ أَثْنَاءَ الصَّلَاةِ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَعُوقُ الْمُكَلَّفَ عَنِ الْإِتْمَامِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (اسْتِئْنَافٌ- حَيْضٌ- صَلَاةٌ).
وَمِثْلُ الصَّلَاةِ كُلُّ مَفْرُوضٍ مِنْ: صِيَامٍ أَوْ زَكَاةٍ، أَوْ حَجٍّ، إِذَا شَرَعَ فِيهِ وَجَبَ إِتْمَامُهُ، وَيَأْثَمُ بِتَرْكِهِ، وَقَدْ يَجْلِبُ عَلَيْهِ الْعِقَابَ فِي الدُّنْيَا، كَالْكَفَّارَةِ لِمَنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا فِي رَمَضَانَ بِدُونِ عُذْرٍ، وَلُزُومِ الْهَدْيِ لِمَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ أَوْ عُمْرَتَهُ، وَإِعَادَتُهُمَا فِي الْعَامِ الْقَابِلِ أَمْرٌ لَازِمٌ مُتَعَلِّقٌ بِذِمَّتِهِ.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: أَمَّا الشَّارِعُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ، إِذَا أَرَادَ قَطْعَهُ فَإِنْ كَانَ يَلْزَمُ مِنْ قَطْعِهِ بُطْلَانُ مَا مَضَى مِنَ الْفِعْلِ حَرُمَ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَإِلاَّ فَإِنْ لَمْ تَفُتْ بِقَطْعِهِ الْمَصْلَحَةُ الْمَقْصُودَةُ لِلشَّارِعِ، بَلْ حَصَلَتْ بِتَمَامِهَا، كَمَا إِذَا شَرَعَ فِي إِنْقَاذِ غَرِيقٍ ثُمَّ حَضَرَ آخَرُ لِإِنْقَاذِهِ جَازَ قَطْعًا.
نَعَمْ ذَكَرُوا فِي اللَّقِيطِ أَنَّ مَنِ الْتَقَطَ لَيْسَ لَهُ نَقْلُهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ، لَكِنْ لَا عَلَى التَّمَامِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ لَهُ الْقَطْعَ أَيْضًا، كَالْمُصَلِّي فِي جَمَاعَةٍ يَنْفَرِدُ، وَإِنْ قُلْنَا الْجَمَاعَةُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَالشَّارِعُ فِي الْعِلْمِ فَإِنَّ قَطْعَهُ لَهُ لَا يَجِبُ بِهِ بُطْلَانُ مَا عَرَفَهُ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ بَعْضَهُ لَا يَرْتَبِطُ بِبَعْضٍ، وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ، فَالصُّوَرُ ثَلَاثَةٌ:
قَطْعٌ يُبْطِلُ الْمَاضِيَ فَيَبْطُلُ قَطْعًا، وَقَطْعٌ لَا يُبْطِلُهُ وَلَا يُفَوِّتُ الشَّاهِدَ فَيَجُوزُ قَطْعًا، وَقَطْعٌ لَا يُبْطِلُ أَصْلَ الْمَقْصُودِ، وَلَكِنْ يُبْطِلُ أَمْرًا مَقْصُودًا عَلَى الْجُمْلَةِ، فَفِيهِ خِلَافٌ.
قَالَ الْفَتُوحِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَتَعَيَّنُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، وَيَجِبُ إِتْمَامُهُ عَلَى الْأَظْهَرِ وَيُؤْخَذُ لُزُومُهُ بِالشُّرُوعِ مِنْ مَسْأَلَةِ حِفْظِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ تَرْكُ الْحِفْظِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَفِي وَجْهٍ يُكْرَهُ.
6- أَمَّا مَا نَدَبَ إِلَيْهِ الشَّارِعُ مِنَ السُّنَنِ فَإِنْ كَانَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً وَشَرَعَ فِيهِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ بِاتِّفَاقٍ، لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}.وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُمَا فَإِتْمَامُهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ مَحَلُّ خِلَافٍ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ شَرَعَ فِي نَفْلٍ لَزِمَهُ إِتْمَامُهُ لقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} فَمَا أَدَّاهُ وَجَبَ صِيَانَتُهُ وَحِفْظُهُ عَنِ الْإِبْطَالِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ صَارَ حَقًّا لِلَّهِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى حِفْظِهِ إِلاَّ بِالْتِزَامِ الْبَاقِي، فَوَجَبَ الْإِتْمَامُ ضَرُورَةً.
فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ بِدُونِ عُذْرٍ، لَزِمَهُ الْقَضَاءُ، وَعَلَيْهِ الْإِثْمُ، وَالْعِقَابُ عَلَى تَرْكِهِ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ لِعُذْرٍ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ.فَأَصْبَحَتِ النَّافِلَةُ عِنْدَهُمْ وَاجِبًا بَعْدَ الشُّرُوعِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ خَرَجَ مِنَ النَّفْلِ بِعُذْرٍ، فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا شَرَعَ فِي النَّفْلِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْمُضِيُّ فِيهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إِذَا لَمْ يُتِمَّهُ؛ لِأَنَّ النَّفَلَ لَمَّا شُرِعَ غَيْرَ لَازِمٍ قَبْلَ الشُّرُوعِ، وَجَبَ أَنْ يَبْقَى كَذَلِكَ بَعْدَ الشُّرُوعِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الشَّرْعِ لَا تَتَغَيَّرُ بِالشُّرُوعِ وَلَوْ أَتَمَّهُ صَارَ مُؤَدِّيًا لِلنَّفْلِ، لَا مُسْقِطًا لِلْوُجُوبِ.أَمَّا لَوْ شَرَعَ فِي صَوْمِ نَفْلٍ فَنَذَرَ إِتْمَامَهُ، لَزِمَهُ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ شَرَعَ فِي النَّفْلِ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْبَقَاءُ فِيهِ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
7- أَمَّا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: إِذَا شَرَعَ الْمُكَلَّفُ فِيهَا، فَيُكْرَهُ قَطْعُهَا لِمُكَالَمَةِ النَّاسِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْثِرَ كَلَامَهُ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ.وَقَدْ وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ.
وَأَمَّا الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ فَإِنَّهُمَا إِذَا شَرَعَتَا فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، نَاسِيَةً إِحْدَاهُمَا أَنَّهَا حَائِضٌ، وَالْأُخْرَى أَنَّهَا نُفَسَاءُ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا الِاسْتِمْرَارُ فِي الْقِرَاءَةِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْقَطْعُ.
أَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ، وَمَنْ بِهِ عُذْرٌ، كَسَلَسِ الْبَوْلِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُهُمَا لِلصَّلَاةِ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ، فَإِذَا شَرَعَ فِي قِرَاءَةٍ مُتَوَضِّئًا، فَلَا يَقْطَعُ نَدْبًا، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُ السُّورَةِ أَوِ الْحِزْبِ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
أَمَّا إِذَا شَرَعَ الْمُكَلَّفُ الَّذِي لَا يَمْنَعُهُ مَانِعٌ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، ثُمَّ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ لِضَرُورَةٍ طَرَأَتْ عَلَيْهِ- كَخُرُوجِ رِيحٍ، أَوْ حَصْرِ بَوْلٍ، فَلَهُ عَدَمُ إِتْمَامِ مَا قَرَأَ وَيَنْتَهِي إِلَى حَيْثُ يَقِفُ، وَإِذَا تَرَكَهُ لَا لِضَرُورَةٍ، فَلَا عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يَتَخَيَّرَ الْوَقْفَ، بِانْتِهَاءِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يَقْرَأُ، فَلَوْ كَانَ يَقْرَأُ فِي قِصَّةِ مُوسَى، أَوْ هُودٍ أَوْ أَهْلِ الْكَهْفِ، فَلْيُتِمَّهَا نَدْبًا حَتَّى لَا يَكُونُ كَلَامُهُ مَبْتُورًا، وَحَتَّى تَكْتَمِلَ فِي رَأْسِهِ الْمَوْعِظَةُ.
أَمَّا إِذَا شَرَعَ فِي غَيْرِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ- كَوِرْدٍ مِنَ الْأَوْرَادِ، أَوْ مَا يُسَمَّى بِالذِّكْرِ الْجَمَاعِيِّ أَوِ الْفَرْدِيِّ- فَلَا يُطَالَبُ بِإِتْمَامِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْزَمٍ بِهِ.
8- وَأَمَّا الْمُبَاحُ: إِذَا شَرَعَ فِيهِ الْمُكَلَّفُ فَإِتْمَامُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- خَيَّرَ الْمُكَلَّفَ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ.
الشُّرُوعُ فِي الْعُقُودِ:
أَوَّلًا: عَقْدُ الْبَيْعِ:
9- الْبَيْعُ إِيجَابٌ وَقَبُولٌ، فَإِنْ حَصَلَ الْإِيجَابُ كَانَ شُرُوعًا فِي الْبَيْعِ، فَإِنْ وَافَقَهُ الْقَبُولُ كَانَ إِتْمَامًا لِلْبَيْعِ.فَإِنْ رَجَعَ الْمُوجِبُ فِي إِيجَابِهِ، قَبْلَ صُدُورِ الْقَبُولِ، يَكُونُ رُجُوعًا عَنِ الشُّرُوعِ فِي الْبَيْعِ فَإِنْ صَدَرَ الْقَبُولُ قَبْلَ عَوْدِ الْمُوجِبِ تَمَّ الْبَيْعُ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِيجَابٌ) (وَبَيْعٌ)
ثَانِيًا: الْهِبَةُ:
10- يَكُونُ الشُّرُوعُ فِي الْهِبَةِ بِلَفْظِ: وَهَبْتُ، وَأَعْطَيْتُ، وَنَحَلْتُ، وَلَا تَتِمُّ إِلاَّ بِالْقَبْضِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَلَا تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ.
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (هِبَةٌ).
ثَالِثًا: الْوَقْفُ:
11- الشُّرُوعُ فِي الْوَقْفِ يَكُونُ بِلَفْظِ: وَقَفْتُ، وَحَبَسْتُ، فَمَنْ أَتَى بِكَلِمَةٍ مِنْهُمَا، كَانَ شَارِعًا فِي الْوَقْفِ، وَلَزِمَهُ لِعَدَمِ احْتِمَالِ غَيْرِهِمَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِلَى أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِهِ، وَلِلْوَاقِفِ الرُّجُوعُ فِيهِ، إِلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَلْزَمَ، أَوْ يَحْكُمَ بِلُزُومِهِ حَاكِمٌ.
وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ، فَقَالَا بِلُزُومِهِ، وَأَنَّهُ يَنْقُلُ الْمِلْكَ، وَلَا يَقِفُ لُزُومُهُ عَلَى الْقَبْضِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ، وَإِخْرَاجِ الْوَقْفِ لَهُ عَنْ يَدِهِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (وَقْفٌ).
رَابِعًا: الْوَصِيَّةُ:
12- الشُّرُوعُ فِي الْوَصِيَّةِ يَقَعُ بِالْقَوْلِ أَوِ الْكِتَابَةِ، كَأَنْ يُوصِيَ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَتَتِمَّ وَيَلْزَمَ بِقَبُولِ الْمُوصَى لَهُ الْمُعَيَّنَ بَعْدَ وَفَاةِ الْمُوصِي.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (وَصِيَّةٌ).
خَامِسًا: الْعَارِيَّةُ:
13- يَكُونُ الشُّرُوعُ فِيهَا كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْمُنْضَبِطَةِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، فَيَكُونُ الْإِيجَابُ بِقَوْلِهِ: أَعَرْتُكَ كَذَا شُرُوعًا فِي الْإِعَارَةِ، وَيَكُونُ الْقَبُولُ فِيهَا إِتْمَامًا لِعَقْدِ الْعَارِيَّةُ، فَبِهِ يَتِمُّ الْعَقْدُ، وَلِكُلٍّ مِنَ الْمُعِيرِ وَالْمُسْتَعِيرِ الرُّجُوعُ قَبْلَ صُدُورِ الْقَبُولِ، وَقَبْلَ الْقَبْضِ أَيْضًا بِرَفْضِ أَخْذِهَا، وَلَهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. (ر: إِعَارَةٌ).
الشُّرُوعُ بِدُونِ إِذْنٍ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنٍ:
14- الشُّرُوعُ فِي الْعِبَادَاتِ الْمَفْرُوضَةِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنٍ، إِذْ إِنَّ فَرْضِيَّتَهَا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ لَا يَقْتَضِي إِذْنًا مِنْ أَحَدٍ. أَمَّا الْعِبَادَاتُ غَيْرُ الْمَفْرُوضَةِ، وَالْمُعَامَلَاتُ، فَقَدْ أَوْجَبَ الشَّارِعُ الْإِذْنَ فِيهَا لِحَقِّ مَنْ لَهُ الْحَقُّ عَلَى الْمُكَلَّفِ، كَحَقِّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ، وَحَقِّ الْوَلِيِّ عَلَى الصَّغِيرِ وَالسَّفِيهِ.
فَأَعْطَى لِلزَّوْجِ أَنْ تَسْتَأْذِنَهُ زَوْجَتُهُ فِي فِعْلِ بَعْضِ النَّوَافِلِ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَإِذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهَا، وَلَمْ تُطِعْهُ، كَانَ لَهُ مَنْعُهَا، فَإِذَا شَرَعَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْحَجِّ تَطَوُّعًا، بِدُونِ إِذْنِ زَوْجِهَا، فَلِلزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّلَهَا، وَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ.
وَكَذَا إِذَا شَرَعَتْ فِي صِيَامِ نَفْلٍ بِدُونِ إِذْنِهِ، لَهُ أَنْ يُفَطِّرَهَا، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ».
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
95-موسوعة الفقه الكويتية (صلاة 2)
صَلَاةٌ-2أَرْكَانُ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ هِيَ:
أ- النِّيَّةُ:
16- النِّيَّةُ وَهِيَ الْعَزْمُ عَلَى فِعْلِ الْعِبَادَةِ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِهَا بِحَالٍ، وَالْأَصْلُ فِيهَا قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى».وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى اعْتِبَارِهَا فِي الصَّلَاةِ.وَلَا بُدَّ فِي النِّيَّةِ مِنْ تَعْيِينِ الْفَرْضِيَّةِ وَنَوْعِيَّةِ الصَّلَاةِ، هَلْ هِيَ ظُهْرٌ أَمْ عَصْرٌ؟
وَتَفْصِيلُ الْكَلَامِ عَنِ النِّيَّةِ فِي مُصْطَلَحِ (نِيَّةٌ).
ب- تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ:
17- وَدَلِيلُ فَرْضِيَّتِهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتَفْتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ» وَحَدِيثُ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ» وَحَدِيثُ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- يَرْفَعُهُ قَالَ: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ الْكَلَامِ عَلَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فِي مُصْطَلَحِ (تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ 13217).
ج- الْقِيَامُ لِلْقَادِرِ فِي الْفَرْضِ:
18- لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وَلِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ «كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ.
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ الْقِيَامُ فِي فَرْضِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ وَلَوْ بِمُعِينٍ بِأُجْرَةٍ فَاضِلَةٍ عَنْ مُؤْنَتِهِ وَمُؤْنَةِ مَنْ يَعُولُهُ يَوْمَهُ وَلَيْلَتَهُ.
وَيُقَسِّمُ الْمَالِكِيَّةُ رُكْنَ الْقِيَامِ إِلَى رُكْنَيْنِ: الْقِيَامِ لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَالْقِيَامِ لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ.قَالُوا: وَالْمُرَادُ بِالْقِيَامِ الْقِيَامُ اسْتِقْلَالاً، فَلَا يُجْزِئُ إِيقَاعُ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فِي الْفَرْضِ لِلْقَادِرِ عَلَى الْقِيَامِ جَالِسًا أَوْ مُنْحَنِيًا، وَلَا قَائِمًا مُسْتَنِدًا لِعِمَادٍ، بِحَيْثُ لَوْ أُزِيلَ الْعِمَادُ لَسَقَطَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: شَرْطُهُ نَصْبُ فَقَارِهِ لِلْقَادِرِ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ وَقَفَ مُنْحَنِيًا أَوْ مَائِلاً بِحَيْثُ لَا يُسَمَّى قَائِمًا لَمْ يَصِحَّ، وَالِانْحِنَاءُ السَّالِبُ لِلِاسْمِ: أَنْ يَصِيرَ إِلَى الرُّكُوعِ أَقْرَب.
قَالُوا: لَوِ اسْتَنَدَ إِلَى شَيْءٍ كَجِدَارٍ أَجْزَأَهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ.وَكَذَا لَوْ تَحَامَلَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَوْ رُفِعَ مَا اسْتَنَدَ إِلَيْهِ لَسَقَطَ؛ لِوُجُودِ اسْمِ الْقِيَامِ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَرْفَعُ قَدَمَيْهِ إِنْ شَاءَ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى قَائِمًا بَلْ مُعَلِّقًا نَفْسَهُ.وَلَوْ أَمْكَنَهُ الْقِيَامُ مُتَّكِئًا عَلَى شَيْءٍ أَوِ الْقِيَامُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَيْسُورُهُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: حَدُّ الْقِيَامِ مَا لَمْ يَصِرْ رَاكِعًا، وَرُكْنُهُ الِانْتِصَابُ بِقَدْرِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَفِيمَا بَعْدَهَا بِقَدْرِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فَقَطْ.
وَرُكْنُ الْقِيَامِ خَاصٌّ بِالْفَرْضِ مِنَ الصَّلَوَاتِ دُونَ النَّوَافِلِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ» وَقَدْ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ تَطَوُّعٌ ف 16 (12 157) وَأَمَّا بَقِيَّةُ تَفْصِيلَاتِ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ فَتَأْتِي فِي مُصْطَلَحِ (قِيَامٌ).
د- قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ:
19- وَهِيَ رُكْنٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ فَرْضًا أَوْ نَفْلاً جَهْرِيَّةً كَانَتْ أَوْ سِرِّيَّةً.لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَفِي رِوَايَةٍ «لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَلِفِعْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَلِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي».
وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فَرْضٌ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ وَالْفَذِّ دُونَ الْمَأْمُومِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ بِفَرْضِيَّتِهَا فِي الْجَمِيعِ.
تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قِرَاءَةٌ).
هـ- الرُّكُوعُ:
20- وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى رُكْنِيَّتِهِ، وَسَنَدُهُ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا}.
وَحَدِيثُ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَرَدَّ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَيْهِ السَّلَام ثُمَّ قَالَ: ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ.فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا.ثُمَّ قَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ فَمَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي.فَقَالَ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ.ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا».فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمُسَمَّاةَ فِي الْحَدِيثِ لَا تَسْقُطُ بِحَالٍ، فَإِنَّهَا لَوْ سَقَطَتْ لَسَقَطَتْ عَنِ الْأَعْرَابِيِّ لِجَهْلِهِ بِهَا
وَتَفْصِيلُ مَبَاحِثِ الرُّكُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (رُكُوعٌ).
و- الِاعْتِدَالُ:
21- هُوَ الْقِيَامُ مَعَ الطُّمَأْنِينَةِ بَعْدَ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ، وَهُوَ رُكْنٌ فِي الْفَرْضِ وَالنَّافِلَةِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ «ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا»، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- دَاوَمَ عَلَيْهِ.لِقَوْلِ أَبِي حُمَيْدٍ فِي «صِفَةِ صَلَاةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ» وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي».
وَيَدْخُلُ فِي رُكْنِ الِاعْتِدَالِ الرَّفْعُ مِنْهُ لِاسْتِلْزَامِهِ لَهُ، وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ بَيْنَهُمَا فَعَدُّوا كُلًّا مِنْهُمَا رُكْنًا.قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَعَمُّدِ تَرْكِ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ، وَأَمَّا إِنْ تَرَكَهُ سَهْوًا فَيَرْجِعُ مُحْدَوْدِبًا حَتَّى يَصِلَ لِحَالَةِ الرُّكُوعِ ثُمَّ يَرْفَعُ، وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ إِلاَّ الْمَأْمُومَ فَلَا يَسْجُدُ لِحَمْلِ الْإِمَامِ لِسَهْوِهِ، فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ مُحْدَوْدِبًا وَرَجَعَ قَائِمًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ مُرَاعَاةً لِقَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ: إِنَّ تَارِكَ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ سَهْوًا يَرْجِعُ قَائِمًا لَا مُحْدَوْدِبًا كَتَارِكِ الرُّكُوعِ.
ثُمَّ إِنَّ أَكْثَرَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى نَفْيِ رُكْنِيَّةِ الِاعْتِدَالِ، وَأَنَّهُ سُنَّةٌ.قَالُوا: فَيَسْجُدُ لِتَرْكِهِ سَهْوًا، وَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ عَمْدًا قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ شُهِرَتْ فَرْضِيَّتُهَا.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ: قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْعَدَوِيُّ- هَذَا هُوَ الرَّاجِحُ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ الْحَطَّابِ، وَحَدُّ الِاعْتِدَالِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنْ لَا يَكُونَ مُنْحَنِيًا، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: مَا لَمْ يَصِرْ رَاكِعًا، قَالُوا: وَالْكَمَالُ مِنْهُ الِاسْتِقَامَةُ حَتَّى يَعُودَ كُلُّ عُضْوٍ إِلَى مَحَلِّهِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَضُرُّ بَقَاؤُهُ مُنْحَنِيًا يَسِيرًا حَالَ اعْتِدَالِهِ وَاطْمِئْنَانِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْهَيْئَةَ لَا تُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ قَائِمًا، وَسَبَقَ حَدُّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي رُكْنِ الْقِيَامِ.وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الِاعْتِدَالِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الطُّمَأْنِينَةُ فِي الِاعْتِدَالِ: أَنْ تَسْتَقِرَّ أَعْضَاؤُهُ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ رُكُوعِهِ، بِحَيْثُ يَنْفَصِلُ ارْتِفَاعُهُ عَنْ عَوْدِهِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَقْصِدَ غَيْرَ الِاعْتِدَالِ، فَلَوْ رَفَعَ فَزِعًا مِنْ شَيْءٍ كَحَيَّةٍ لَمْ يُحْسَبْ رَفْعُهُ اعْتِدَالاً لِوُجُودِ الصَّارِفِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ لَا يَقْصِدَ بِرَفْعِهِ شَيْئًا آخَرَ.
ز- السُّجُودُ:
22- مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ السُّجُودُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مَرَّتَيْنِ.وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ لقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} وَلِحَدِيثِ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ «ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا» وَحَدَّ الْمَالِكِيَّةُ السُّجُودَ بِأَنَّهُ مَسُّ الْأَرْضِ، أَوْ مَا اتَّصَلَ بِهَا مِنْ ثَابِتٍ بِالْجَبْهَةِ، فَلَا يُجْزِئُ السُّجُودُ عَلَى نَحْوِ السَّرِيرِ الْمُعَلَّقِ، وَيَتَحَقَّقُ السُّجُودُ عِنْدَهُمْ بِوَضْعِ أَيْسَرِ جُزْءٍ مِنَ الْجَبْهَةِ بِالْأَرْضِ أَوْ مَا اتَّصَلَ بِهَا، وَيُشْتَرَطُ اسْتِقْرَارُهَا عَلَى مَا يَسْجُدُ عَلَيْهِ، فَلَا يَصِحُّ عَلَى تِبْنٍ أَوْ قُطْنٍ.وَأَمَّا وَضْعُ الْأَنْفِ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ، لَكِنْ تُعَادُ الصَّلَاةُ لِتَرْكِهِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا فِي الظُّهْرَيْنِ لِلِاصْفِرَارِ، وَفِي غَيْرِهِمَا لِلطُّلُوعِ مُرَاعَاةً لِلْقَوْلِ بِوُجُوبِهِ.وَوَضْعُ بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ- الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ- فَهُوَ سُنَّةٌ.قَالَ الدُّسُوقِيُّ.قَالَ فِي التَّوْضِيحِ:
وَكَوْنُ السُّجُودِ عَلَيْهَا سُنَّةً لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الْمَذْهَبِ.غَايَتُهُ أَنَّ ابْنَ الْقَصَّارِ قَالَ: الَّذِي يَقْوَى فِي نَفْسِي أَنَّهُ سُنَّةٌ فِي الْمَذْهَبِ.وَقِيلَ:
إِنَّ السُّجُودَ عَلَيْهَا وَاجِبٌ، وَصَرَّحُوا بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ ارْتِفَاعِ الْعَجِيزَةِ عَنِ الرَّأْسِ بَلْ يُنْدَبُ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّ أَقَلَّ السُّجُودِ يَتَحَقَّقُ بِمُبَاشَرَةِ بَعْضِ جَبْهَتِهِ مَكْشُوفَةَ مُصَلاَّهُ؛ لِحَدِيثِ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: «شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- شِدَّةَ الرَّمْضَاءِ فِي جِبَاهِنَا وَأَكُفِّنَا فَلَمْ يُشْكِنَا» أَيْ لَمْ يُزِلْ شَكْوَانَا.
وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْحَدِيثِ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ كَشْفُ الْجَبْهَةِ لأَرْشَدَهُمْ إِلَى سَتْرِهَا، وَإِنَّمَا اعْتُبِرَ كَشْفُهَا دُونَ بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ لِسُهُولَتِهِ فِيهَا دُونَ الْبَقِيَّةِ؛ وَلِحُصُولِ مَقْصُودِ السُّجُودِ وَهُوَ غَايَةُ التَّوَاضُعِ بِكَشْفِهَا.وَيَجِبُ- أَيْضًا- وَضْعُ جُزْءٍ مِنَ الرُّكْبَتَيْنِ، وَمِنْ بَاطِنِ الْكَفَّيْنِ، وَمِنْ بَاطِنِ الْقَدَمَيْنِ عَلَى مُصَلاَّهُ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: عَلَى الْجَبْهَةِ- وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أَنْفِهِ- وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ» وَلَا يَجِبُ كَشْفُ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، بَلْ يُكْرَهُ كَشْفُ الرُّكْبَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إِلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ.وَقِيلَ: يَجِبُ كَشْفُ بَاطِنِ الْكَفَّيْنِ.
ثُمَّ إِنَّ مَحَلَّ وُجُوبِ الْوَضْعِ إِذَا لَمْ يَتَعَذَّرْ وَضْعُ شَيْءٍ مِنْهَا، وَإِلاَّ فَيَسْقُطُ الْفَرْضُ، فَلَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ مِنَ الزَّنْدِ لَمْ يَجِبْ وَضْعُهُ؛ لِفَوْتِ مَحَلِّ الْفَرْضِ.
وَيَجِبُ- أَيْضًا- أَنْ يَنَالَ مَحَلُّ سُجُودِهِ ثِقَلَ رَأْسِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا سَجَدْتَ فَأَمْكِنْ جَبْهَتَكَ» قَالُوا: وَمَعْنَى الثِّقَلِ أَنْ يَتَحَامَلَ بِحَيْثُ لَوْ فُرِضَ تَحْتَهُ قُطْنٌ أَوْ حَشِيشٌ لَانْكَبَسَ وَظَهَرَ أَثَرُهُ فِي يَدِهِ لَوْ فُرِضَتْ تَحْتَ ذَلِكَ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّحَامُلُ فِي غَيْرِ الْجَبْهَةِ مِنَ الْأَعْضَاءِ.
وَيَجِبُ كَذَلِكَ أَنْ لَا يَهْوِيَ لِغَيْرِ السُّجُودِ، فَلَوْ سَقَطَ لِوَجْهِهِ مِنَ الِاعْتِدَالِ وَجَبَ الْعَوْدُ إِلَى الِاعْتِدَالِ لِيُهْوِيَ مِنْهُ؛ لِانْتِفَاءِ الْهُوِيِّ فِي السُّقُوطِ.وَإِنْ سَقَطَ مِنَ الْهَوِيِّ لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَوْدُ بَلْ يُحْسَبُ ذَلِكَ سُجُودًا.
وَيَجِبُ أَيْضًا أَنْ تَرْتَفِعَ أَسَافِلُهُ- عَجِيزَتُهُ وَمَا حَوْلَهَا- عَلَى أَعَالِيهِ لِخَبَرِ «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» فَلَا يَكْتَفِي بِرَفْعِ أَعَالِيهِ عَلَى أَسَافِلِهِ وَلَا بِتَسَاوِيهِمَا، لِعَدَمِ اسْمِ السُّجُودِ كَمَا لَوْ أَكَبَّ وَمَدَّ رِجْلَيْهِ، إِلاَّ إِنْ كَانَ بِهِ عِلَّةٌ لَا يُمْكِنُهُ السُّجُودُ إِلاَّ كَذَلِكَ فَيَصِحُّ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ السُّجُودُ عَلَى وِسَادَةٍ بِتَنْكِيسٍ لَزِمَهُ؛ لِحُصُولِ هَيْئَةِ السُّجُودِ بِذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُهُ بِلَا تَنْكِيسٍ.
وَإِذَا صَلَّى فِي سَفِينَةٍ مَثَلاً وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ ارْتِفَاعِ ذَلِكَ لِمَيَلَانِهَا صَلَّى عَلَى حَالِهِ وَلَزِمَهُ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّ هَذَا عُذْرٌ نَادِرٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ السُّجُودَ عَلَى الْأَعْضَاءِ السَّبْعَةِ: الْجَبْهَةِ مَعَ الْأَنْفِ، وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَالْقَدَمَيْنِ، رُكْنٌ مَعَ الْقُدْرَةِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ عَلَى الْجَبْهَةِ- وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أَنْفِهِ- وَالْيَدَيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ» وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا سَجَدَ الْعَبْدُ سَجَدَ مَعَهُ سَبْعَةُ آرَابٍ: وَجْهُهُ، وَكَفَّاهُ، وَرُكْبَتَاهُ، وَقَدَمَاهُ».
ثُمَّ إِنَّهُ يُجْزِئُ بَعْضُ كُلِّ عُضْوٍ فِي السُّجُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْ فِي الْحَدِيثِ الْكُلَّ، وَلَوْ كَانَ سُجُودُهُ عَلَى ظَهْرِ كَفٍّ، وَظَهْرِ قَدَمٍ، وَأَطْرَافِ أَصَابِعِ يَدَيْنِ، وَلَا يُجْزِئُهُ إِنْ كَانَ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ كَوَضْعِ جَبْهَتِهِ عَلَى يَدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى تَدَاخُلِ أَعْضَاءِ السُّجُودِ.
وَمَتَى عَجَزَ الْمُصَلِّي عَنِ السُّجُودِ بِجَبْهَتِهِ سَقَطَ عَنْهُ لُزُومُ بَاقِي الْأَعْضَاءِ؛ لِأَنَّ الْجَبْهَةَ هِيَ الْأَصْلُ فِي السُّجُودِ، وَغَيْرُهَا تَبَعٌ لَهَا، فَإِذَا سَقَطَ الْأَصْلُ سَقَطَ التَّبَعُ، وَدَلِيلُ التَّبَعِيَّةِ، مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ الْيَدَيْنِ تَسْجُدَانِ كَمَا يَسْجُدُ الْوَجْهُ، فَإِذَا وَضَعَ أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ فَلْيَضَعْ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَهُ فَلْيَرْفَعْهُمَا» وَبَاقِي الْأَعْضَاءِ مِثْلُهُمَا فِي ذَلِكَ لِعَدَمِ الْفَارِقِ، وَأَمَّا إِنْ قَدَرَ عَلَى السُّجُودِ بِالْجَبْهَةِ فَإِنَّهُ يَتْبَعُهَا الْبَاقِي مِنَ الْأَعْضَاءِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ السُّجُودُ مَعَ عَدَمِ اسْتِعْلَاءِ الْأَسَافِلِ إِنْ خَرَجَ عَنْ صِفَةِ السُّجُودِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ سَاجِدًا، وَأَمَّا الِاسْتِعْلَاءُ الْيَسِيرُ فَلَا بَأْسَ بِهِ- بِأَنْ عَلَا مَوْضِعُ رَأْسِهِ عَلَى مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ بِلَا حَاجَةٍ يَسِيرًا- وَيُكْرَهُ الْكَثِيرُ.
ح- الْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ:
23- مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ الْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ أَمِ النَّفْلِ؛ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ: ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا» وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ جَالِسًا».
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ قَبْلَ هَذَا الرُّكْنِ رُكْنًا آخَرَ وَهُوَ الرَّفْعُ مِنَ السُّجُودِ.وَمَا سَبَقَ مِنْ نَفْيِ أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ الِاعْتِدَالَ مِنَ الرُّكُوعِ يَجْرِي- أَيْضًا- فِي الِاعْتِدَالِ مِنَ السُّجُودِ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِصِحَّةِ صَلَاةِ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ عَنِ الْأَرْضِ حَالَ الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَقْصِدَ بِرَفْعِهِ غَيْرَ الْجُلُوسِ، كَمَا فِي الرُّكُوعِ.فَلَوْ رَفَعَ فَزَعًا مِنْ شَيْءٍ لَمْ يَكْفِ، وَيَجِبُ أَنْ يَعُودَ إِلَى السُّجُودِ.
وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا، قَالُوا: وَيُشْتَرَطُ فِي نَحْوِ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَرَفْعٍ مِنْهُمَا: أَنْ لَا يَقْصِدَ غَيْرَهُ، فَلَوْ رَكَعَ أَوْ سَجَدَ، أَوْ رَفَعَ خَوْفًا مِنْ شَيْءٍ لَمْ يُجْزِئْهُ، كَمَا لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَقْصِدَهُ؛ اكْتِفَاءً بِنِيَّةِ الصَّلَاةِ الْمُسْتَصْحِبِ حُكْمَهَا.
قَالَ الشَّيْخُ الرَّحِيبَانِيُّ: بَلْ لَا بُدَّ مِنْ قَصْدِ ذَلِكَ وُجُوبًا.
ط- الْجُلُوسُ لِلتَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ:
24- وَهُوَ رُكْنٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِمُدَاوَمَةِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَيْهِ، وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَلِأَنَّ التَّشَهُّدَ فَرْضٌ وَالْجُلُوسُ لَهُ مَحَلُّهُ فَيَتْبَعُهُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الرُّكْنَ هُوَ الْجُلُوسُ لِلسَّلَامِ فَقَطْ.فَالْجُزْءُ الْأَخِيرُ مِنَ الْجُلُوسِ الَّذِي يُوقِعُ فِيهِ السَّلَامَ فَرْضٌ، وَمَا قَبْلَهُ سُنَّةٌ، وَعَلَيْهِ فَلَوْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ وَاعْتَدَلَ جَالِسًا وَسَلَّمَ كَانَ ذَلِكَ الْجُلُوسُ هُوَ الْوَاجِبَ، وَفَاتَتْهُ السُّنَّةُ، وَلَوْ جَلَسَ ثُمَّ تَشَهَّدَ، ثُمَّ سَلَّمَ كَانَ آتِيًا بِالْفَرْضِ وَالسُّنَّةِ، وَلَوْ جَلَسَ وَتَشَهَّدَ ثُمَّ اسْتَقَلَّ قَائِمًا وَسَلَّمَ كَانَ آتِيًا بِالسُّنَّةِ تَارِكًا لِلْفَرْضِ.
ى- التَّشَهُّدُ الْأَخِيرُ:
25- وَيَقُولُ بِرُكْنِيَّتِهِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ.»
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ:
«كُنَّا نَقُولُ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ التَّشَهُّدُ: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-:
لَا تَقُولُوا هَذَا.فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ، وَلَكِنْ قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ.» الْحَدِيثَ، وَقَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه- لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ إِلاَّ بِتَشَهُّدٍ.
وَأَقَلُّ التَّشَهُّدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ.سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.سَلَامٌ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.وَهُوَ أَقَلُّهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- أَيْضًا- بِدُونِ لَفْظِ: «وَبَرَكَاتُهُ».مَعَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ «وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» «وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» لِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ عَلَى ذَلِكَ.
وَالتَّشَهُّدُ الْأَخِيرُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ.
ك- الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ:
26- هِيَ رُكْنٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وَلِحَدِيثِ: «قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ».
وَقَدْ «صَلَّى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى نَفْسِهِ فِي الْوِتْرِ.وَقَالَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي».
وَأَقَلُّ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ) قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَنَحْوُهُ كَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ أَوْ عَلَى رَسُولِهِ أَوْ عَلَى النَّبِيِّ أَوْ عَلَيْهِ، وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ بَعْدَ التَّشَهُّدِ، فَلَوْ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَبْلَ التَّشَهُّدِ لَمْ تُجْزِئْهُ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ يَعُدُّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- رُكْنًا مُسْتَقِلًّا، وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُهَا مِنْ جُمْلَةِ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ.
ل- السَّلَامُ:
27- اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى رُكْنِيَّتِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» وَقَالَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَخْتِمُ الصَّلَاةَ بِالتَّسْلِيمِ».
وَلَفْظُهُ الْمُجْزِئُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ».
قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: فَلَا يُجْزِئُ سَلَامُ اللَّهِ، أَوْ سَلَامِي، أَوْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَلَا بُدَّ- أَيْضًا- مِنْ تَأَخُّرِ «عَلَيْكُمْ» وَأَنْ يَكُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ.
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ تَقَدُّمَ «عَلَيْكُمْ» فَيُجْزِئُ عِنْدَهُمْ «عَلَيْكُمُ السَّلَامُ» مَعَ الْكَرَاهَةِ.قَالُوا: وَلَا يُجْزِئُ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ، وَلَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ لِلْغَائِبِ، وَلَا عَلَيْكَ وَلَا عَلَيْكُمَا، وَلَا سَلَامِي عَلَيْكُمْ، وَلَا سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.فَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِالتَّحْرِيمِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَلَا تُجْزِئُ- أَيْضًا- سَلَامٌ عَلَيْكُمْ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ صِيغَتَهُ الْمُجْزِئَةَ:
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يَقُلْ «وَرَحْمَةُ اللَّهِ» فِي غَيْرِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لَمْ يُجْزِئْهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُهُ.وَقَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَهُوَ سَلَامٌ فِي صَلَاةِ وَرَدَ مَقْرُونًا بِالرَّحْمَةِ فَلَمْ يُجْزِئْهُ بِدُونِهَا كَالسَّلَامِ فِي التَّشَهُّدِ.فَإِنْ نَكَّرَ السَّلَامَ، كَقَوْلِهِ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، أَوْ عَرَّفَهُ بِغَيْرِ اللاَّمِ، كَسَلَامِي، أَوْ سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، أَوْ نَكَّسَهُ فَقَالَ عَلَيْكُمْ سَلَامٌ أَوْ عَلَيْكُمُ السَّلَامُ، أَوْ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ لَمْ يُجْزِئْهُ لِمُخَالَفَتِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَمَنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ يُغَيِّرُ السَّلَامَ الْوَارِدَ، وَيُخِلُّ بِحَرْفٍ يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ.
وَالْوَاجِبُ تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: بِوُجُوبِ التَّسْلِيمَتَيْنِ.وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنْ يَنْوِيَ بِالسَّلَامِ الْخُرُوجَ مِنَ الصَّلَاةِ، فَلَا تَجِبُ نِيَّةُ الْخُرُوجِ مِنَ الصَّلَاةِ، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْعِبَادَاتِ؛ وَلِأَنَّ النِّيَّةَ السَّابِقَةَ مُنْسَحِبَةٌ عَلَى جَمِيعِ الصَّلَاةِ.
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْخُرُوجِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْأَوَّلِ: أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يُجَدِّدَ نِيَّةَ الْخُرُوجِ مِنَ الصَّلَاةِ بِالسَّلَامِ لِأَجْلِ أَنْ يَتَمَيَّزَ عَنْ جِنْسِهِ كَافْتِقَارِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ إِلَيْهَا لِتَمَيُّزِهَا عَنْ غَيْرِهَا، فَلَوْ سَلَّمَ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ نِيَّةٍ لَمْ يُجْزِهِ، قَالَ سَنَدٌ: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ.
الثَّانِي: لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُنْدَبُ فَقَطْ؛ لِانْسِحَابِ النِّيَّةِ الْأُولَى.قَالَ ابْنُ الْفَاكِهَانِيِّ: هُوَ الْمَشْهُورُ، وَكَلَامُ ابْنِ عَرَفَةَ يُفِيدُ أَنَّهُ الْمُعْتَمَدُ.
م- الطُّمَأْنِينَةُ:
28- هِيَ: اسْتِقْرَارُ الْأَعْضَاءِ زَمَنًا مَا.قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: أَقَلُّهَا أَنْ تَسْتَقِرَّ الْأَعْضَاءُ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: حُصُولُ السُّكُونِ وَإِنْ قَلَّ.وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ.
وَالثَّانِي: بِقَدْرِ الذِّكْرِ الْوَاجِبِ.وَفَائِدَةُ الْوَجْهَيْنِ: إِذَا نَسِيَ التَّسْبِيحَ فِي رُكُوعِهِ أَوْ سُجُودِهِ، أَوِ التَّحْمِيدَ فِي اعْتِدَالِهِ، أَوْ سُؤَالَ الْمَغْفِرَةِ فِي جُلُوسِهِ، أَوْ عَجَزَ عَنْهُ لِعُجْمَةٍ أَوْ خَرَسٍ، أَوْ تَعَمَّدَ تَرْكَهُ وَقُلْنَا هُوَ سُنَّةٌ وَاطْمَأَنَّ قَدْرًا لَا يَتَّسِعُ لَهُ، فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَلَا تَصِحُّ عَلَى الثَّانِي.
وَهِيَ رُكْنٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَصَحَّحَ ابْنُ الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فَرْضِيَّتَهَا.
وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَلِذَا قَالَ زَرُّوقٌ: مَنْ تَرَكَ الطُّمَأْنِينَةَ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ عَلَى الْمَشْهُورِ.وَقِيلَ: إِنَّهَا فَضِيلَةٌ.
وَدَلِيلُ رُكْنِيَّةِ الطُّمَأْنِينَةِ حَدِيثُ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ الْمُتَقَدِّمُ.وَحَدِيثُ «حُذَيْفَةَ: أَنَّهُ رَأَى رَجُلاً لَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَلَا السُّجُودَ فَقَالَ لَهُ:
مَا صَلَّيْتَ، وَلَوْ مِتَّ مِتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا مُحَمَّدًا- صلى الله عليه وسلم- » وَهِيَ رُكْنٌ فِي جَمِيعِ الْأَرْكَانِ.
ن- تَرْتِيبُ الْأَرْكَانِ:
29- لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّيهَا مُرَتَّبَةً، مَعَ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَعَلَّمَهَا لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ مُرَتَّبَةً «بِثُمَّ» وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَبْطُلُ بِالْحَدَثِ كَانَ التَّرْتِيبُ فِيهَا رُكْنًا كَغَيْرِهِ.وَالتَّرْتِيبُ وَاجِبٌ فِي الْفَرَائِضِ فِي أَنْفُسِهَا فَقَطْ.وَأَمَّا تَرْتِيبُ السُّنَنِ فِي أَنْفُسِهَا، أَوْ مَعَ الْفَرَائِضِ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.
أَرْكَانُ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
أَرْكَانُ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سِتَّةٌ:
أ- الْقِيَامُ:
30- وَهُوَ رُكْنٌ فِي فَرْضٍ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ، وَيَشْمَلُ التَّامَّ مِنْهُ وَهُوَ: الِانْتِصَابُ مَعَ الِاعْتِدَالِ، وَغَيْرَ التَّامِّ وَهُوَ: الِانْحِنَاءُ الْقَلِيلُ بِحَيْثُ لَا تَنَالُ يَدَاهُ رُكْبَتَيْهِ، وَيَسْقُطُ عَنَ الْعَاجِزِ عَنْهُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، وَالْعَجْزُ الْحُكْمِيُّ هُوَ: كَمَا لَوْ حَصَلَ لَهُ بِهِ أَلَمٌ شَدِيدٌ، أَوْ خَافَ زِيَادَةَ الْمَرَضِ.وَمِنَ الْعَجْزِ الْحُكْمِيِّ أَيْضًا كَمَنْ يَسِيلُ جُرْحُهُ إِذَا قَامَ، أَوْ يَسْلُسُ بَوْلُهُ، أَوْ يَبْدُو رُبُعُ عَوْرَتِهِ، أَوْ يَضْعُفُ عَنِ الْقِرَاءَةِ أَصْلاً- أَمَّا لَوْ قَدَرَ عَلَى بَعْضِ الْقِرَاءَةِ إِذَا قَامَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْرَأَ مِقْدَارَ قُدْرَتِهِ، وَالْبَاقِي قَاعِدًا، أَوْ عَنْ صَوْمِ رَمَضَانَ، فَيَتَحَتَّمُ الْقُعُودُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ لِعَجْزِهِ عَنِ الْقِيَامِ حُكْمًا إِذْ لَوْ قَامَ لَزِمَ فَوْتُ الطَّهَارَةِ أَوِ السَّتْرِ أَوِ الْقِرَاءَةِ أَوِ الصَّوْمِ بِلَا خُلْفٍ.
ب- الْقِرَاءَةُ:
31- وَيَتَحَقَّقُ رُكْنُ الْقِرَاءَةِ بِقِرَاءَةِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَمَحَلُّهَا رَكْعَتَانِ فِي الْفَرْضِ وَجَمِيعِ رَكَعَاتِ النَّفْلِ وَالْوِتْرِ.
قَالَ الْكَاسَانِيُّ: عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَدْرِ الْقِرَاءَةِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ.فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَدَّرَ أَدْنَى الْمَفْرُوضِ بِالْآيَةِ التَّامَّةِ طَوِيلَةً كَانَتْ أَوْ قَصِيرَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُدْهَامَّتَانِ} وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ نَظَرَ} وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ}.
وَفِي رِوَايَةٍ: الْفَرْضُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، بَلْ هُوَ عَلَى أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ سَوَاءٌ كَانَتْ آيَةً أَوْ مَا دُونَهَا بَعْدَ أَنْ قَرَأَهَا عَلَى قَصْدِ الْقِرَاءَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: قَدْرُ الْفَرْضِ بِآيَةٍ طَوِيلَةٍ كَآيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الدَّيْنِ، أَوْ ثَلَاثِ آيَاتٍ قِصَارٍ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ.
وَأَصْلُهُ قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} فَهُمَا يَعْتَبِرَانِ الْعُرْفَ، وَيَقُولَانِ: مُطْلَقُ الْكَلَامِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُتَعَارَفِ، وَأَدْنَى مَا يُسَمَّى الْمَرْءُ بِهِ قَارِئًا فِي الْعُرْفِ أَنْ يَقْرَأَ آيَةً طَوِيلَةً، أَوْ ثَلَاثَ آيَاتٍ قِصَارٍ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَحْتَجُّ بِالْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ أَمَرَ بِمُطْلَقِ الْقِرَاءَةِ، وَقِرَاءَةُ آيَةٍ قَصِيرَةٍ قِرَاءَةٌ.وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمَرَ بِقِرَاءَةِ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَعَسَى أَنْ لَا يَتَيَسَّرَ إِلاَّ هَذَا الْقَدْرُ.
وَقَدْ أَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَ يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ لَا يُحْسِنُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِنْ كَانَ يُحْسِنُ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ يَجُوزُ، وَإِلَى قَوْلِهِمَا رَجَعَ أَبُو حَنِيفَةَ كَمَا جَاءَ فِي ابْنِ عَابِدِينَ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فَسَيَأْتِي أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ.
ج- الرُّكُوعُ:
32- وَأَقَلُّهُ طَأْطَأَةُ الرَّأْسِ مَعَ انْحِنَاءِ الظَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ مَوْضُوعِ اللُّغَةِ فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ قوله تعالى: {ارْكَعُوا}، وَفِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ: هُوَ بِحَيْثُ لَوْ مَدَّ يَدَيْهِ نَالَ رُكْبَتَيْهِ.
د- السُّجُودُ:
33- وَيَتَحَقَّقُ بِوَضْعِ جُزْءٍ مِنْ جَبْهَتِهِ وَإِنْ قَلَّ، وَوَضْعُ أَكْثَرِهَا وَاجِبٌ لِلْمُوَاظَبَةِ، كَمَا يَجِبُ وَضْعُ الْأَنْفِ مَعَ الْجَبْهَةِ، وَفِي وَضْعِ الْقَدَمَيْنِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ:
الْأُولَى: فَرْضِيَّةُ وَضْعِهِمَا.
وَالثَّانِيَةُ: فَرْضِيَّةُ إِحْدَاهُمَا.وَالثَّالِثَةُ: عَدَمُ الْفَرْضِيَّةِ: أَيْ أَنَّهُ سُنَّةٌ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْمَشْهُورَ فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ اعْتِمَادُ الْفَرْضِيَّةِ، وَالْأَرْجَحُ مِنْ حَيْثُ الدَّلِيلُ وَالْقَوَاعِدُ عَدَمُ الْفَرْضِيَّةِ، وَلِذَا قَالَ فِي الْعِنَايَةِ وَالدُّرَرِ: إِنَّهُ الْحَقُّ، ثُمَّ الْأَوْجَهُ حَمْلُ عَدَمِ الْفَرْضِيَّةِ عَلَى الْوُجُوبِ.
هـ- الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ قَدْرَ التَّشَهُّدِ:
34- وَهِيَ مَحَلُّ خِلَافٍ عِنْدَهُمْ.فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ رُكْنٌ أَصْلِيٌّ.وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
إِنَّهَا وَاجِبَةٌ لَا فَرْضٌ، لَكِنِ الْوَاجِبُ- هُنَا- فِي قُوَّةِ الْفَرْضِ فِي الْعَمَلِ كَالْوِتْرِ.وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ: إِنَّهَا فَرْضٌ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ أَصْلِيٍّ بَلْ هِيَ شَرْطٌ لِلتَّحْلِيلِ.
و- الْخُرُوجُ بِصُنْعِهِ:
35- أَيْ بِصُنْعِ الْمُصَلِّي- فِعْلُهُ الِاخْتِيَارِيُّ- بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَالْوَاجِبُ الْخُرُوجُ بِلَفْظِ السَّلَامِ وَيُكْرَهُ تَحْرِيمًا الْخُرُوجُ بِغَيْرِهِ كَأَنْ يَضْحَكَ قَهْقَهَةً، أَوْ يُحْدِثَ عَمْدًا، أَوْ يَتَكَلَّمَ، أَوْ يَذْهَبَ، وَاحْتُرِزَ (بِصُنْعِهِ) عَمَّا لَوْ كَانَ سَمَاوِيًّا كَأَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ.
36- قَالَ الْحَصْكَفِيُّ شَارِحُ تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ: وَبَقِيَ مِنَ الْفُرُوضِ: تَمْيِيزُ الْمَفْرُوضِ، وَتَرْتِيبُ الْقِيَامِ عَلَى الرُّكُوعِ، وَالرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ، وَالْقُعُودِ الْأَخِيرِ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَإِتْمَامُ الصَّلَاةِ، وَالِانْتِقَالُ مِنْ رُكْنٍ إِلَى آخَرَ، وَمُتَابَعَتُهُ لِإِمَامِهِ فِي الْفُرُوضِ، وَصِحَّةُ صَلَاةِ إِمَامِهِ فِي رَأْيِهِ، وَعَدَمُ تَقَدُّمِهِ عَلَيْهِ، وَعَدَمُ مُخَالَفَتِهِ فِي الْجِهَةِ، وَعَدَمُ تَذَكُّرِ فَائِتَةٍ، وَعَدَمُ مُحَاذَاةِ امْرَأَةٍ بِشَرْطِهِمَا، وَتَعْدِيلُ الْأَرْكَانِ عِنْدَ الثَّانِي (وَهُوَ أَبُو يُوسُفَ).
وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ تَمْيِيزِ الْمَفْرُوضِ، فَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ: بِأَنْ يُمَيِّزَ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ عَنِ الْأُولَى، بِأَنْ يَرْفَعَ وَلَوْ قَلِيلاً أَوْ يَكُونَ إِلَى الْقُعُودِ أَقْرَب، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّمْيِيزِ تَمْيِيزُ مَا فُرِضَ عَلَيْهِ مِنَ الصَّلَوَاتِ عَمَّا لَمْ يُفْرَضْ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَعْلَمْ فَرْضِيَّةَ الْخَمْسِ، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا لَا يُجْزِيهِ.
وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ الْبَعْضَ فَرْضٌ وَالْبَعْضَ سُنَّةٌ وَنَوَى الْفَرْضَ فِي الْكُلِّ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَنَوَى صَلَاةَ الْإِمَامِ عِنْدَ اقْتِدَائِهِ فِي الْفَرْضِ جَازَ، وَلَوْ عَلِمَ الْفَرْضَ دُونَ مَا فِيهِ مِنْ فَرَائِض وَسُنَنٍ جَازَتْ صَلَاتُهُ أَيْضًا؛ فَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمَفْرُوضَ مِنْ أَجْزَاءِ كُلِّ صَلَاةٍ، أَيْ كَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِيهَا فَرْضٌ وَأَنَّ التَّسْبِيحَ سُنَّةٌ وَهَكَذَا.وَالْمُرَادُ بِتَرْتِيبِ الْقِيَامِ عَلَى الرُّكُوعِ، وَالرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ، وَالْقُعُودِ الْأَخِيرِ عَلَى مَا قَبْلَهُ، تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ رَكَعَ ثُمَّ قَامَ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ الرُّكُوعُ، فَإِنْ رَكَعَ ثَانِيًا صَحَّتْ صَلَاتُهُ؛ لِوُجُودِ التَّرْتِيبِ الْمَفْرُوضِ، وَلَزِمَهُ سُجُودُ السَّهْوِ لِتَقْدِيمِهِ الرُّكُوعَ الْمَفْرُوضَ، وَكَذَا تَقْدِيمُ الرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ، وَأَمَّا الْقُعُودُ الْأَخِيرُ فَيُفْتَرَضُ إِيقَاعُهُ بَعْدَ جَمِيعِ الْأَرْكَانِ، حَتَّى لَوْ تَذَكَّرَ بَعْدَهُ سَجْدَةً صُلْبِيَّةً سَجَدَهَا وَأَعَادَ الْقُعُودَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَلَوْ تَذَكَّرَ رُكُوعًا قَضَاهُ مَعَ مَا بَعْدَهُ مِنَ السُّجُودِ، أَوْ قِيَامًا أَوْ قِرَاءَةً صَلَّى رَكْعَةً.
37- وَمِنَ الْفَرَائِضِ- أَيْضًا- إِتْمَامُ الصَّلَاةِ، وَالِانْتِقَالُ مِنْ رُكْنٍ إِلَى رُكْنٍ؛ لِأَنَّ النَّصَّ الْمُوجِبَ لِلصَّلَاةِ يُوجِبُ ذَلِكَ، إِذْ لَا وُجُودَ لِلصَّلَاةِ بِدُونِ إِتْمَامِهَا وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي الْأَمْرَيْنِ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِتْمَامِ عَدَمُ الْقَطْعِ.وَبِالِانْتِقَالِ الِانْتِقَالُ عَنَ الرُّكْنِ لِلْإِتْيَانِ بِرُكْنٍ بَعْدَهُ إِذْ لَا يَتَحَقَّقُ مَا بَعْدَهُ إِلاَّ بِذَلِكَ، وَأَمَّا الِانْتِقَالُ مِنْ رُكْنٍ إِلَى آخَرَ بِلَا فَاصِلٍ بَيْنَهُمَا فَوَاجِبٌ حَتَّى لَوْ رَكَعَ ثُمَّ رَكَعَ يَجِبُ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ مِنَ الْفَرْضِ وَهُوَ الرُّكُوعُ إِلَى السُّجُودِ، بَلْ أَدْخَلَ بَيْنَهُمَا أَجْنَبِيًّا، وَهُوَ الرُّكُوعُ الثَّانِي.
وَالنِّيَّةُ عِنْدَهُمْ شَرْطٌ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (نِيَّة).
وَكَذَا تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ، فَهِيَ عِنْدَهُمْ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ عُمُومًا غَيْرَ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، أَمَّا فِي الْجِنَازَةِ فَهِيَ رُكْنٌ اتِّفَاقًا.تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ) ف 3 (13 218).
وَاجِبَاتُ الصَّلَاةِ:
قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِوَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ سِوَى الْحَنَفِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ، وَوَاجِبَاتُ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَخْتَلِفُ عَنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
أ- وَاجِبَاتُ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:
38- قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ.وَهِيَ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ لِثُبُوتِهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الزَّائِدِ عَلَى قوله تعالى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} وَالزِّيَادَةُ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَجُوزُ لَكِنْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا.
وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالُوا بِوُجُوبِهَا.وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ» وَلَوْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ رُكْنًا لَعَلَّمَهُ إِيَّاهَا لِجَهْلِهِ بِالْأَحْكَامِ وَحَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْفَضِيلَةِ.
ثُمَّ إِنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنْهَا وَاجِبَةٌ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ بِتَرْكِهَا.وَهَذَا عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ الْقَائِلِ إِنَّهَا وَاجِبَةٌ بِتَمَامِهَا، وَأَمَّا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ: فَالْوَاجِبُ أَكْثَرُهَا، فَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ بِتَرْكِ أَكْثَرِهَا لَا أَقَلِّهَا.قَالَ الْحَصْكَفِيُّ: وَهُوَ- أَيْ قَوْلُ الْإِمَامِ- أَوْلَى، وَعَلَيْهِ فَكُلُّ آيَةٍ وَاجِبَةٌ.
39- ضَمُّ أَقْصَرِ سُورَةٍ إِلَى الْفَاتِحَةِ- كَسُورَةِ الْكَوْثَرِ- أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ ثَلَاثِ آيَاتٍ قِصَارٍ نَحْوَ قوله تعالى: {ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} أَوْ آيَةٍ طَوِيلَةٍ تَعْدِلُ ثَلَاثَ آيَاتٍ قِصَارٍ، وَقَدَّرُوهَا بِثَلَاثِينَ حَرْفًا.
وَمَحَلُّ هَذَا الضَّمِّ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنَ الْفَرْضِ، وَجَمِيعِ رَكَعَاتِ النَّفْلِ وَالْوِتْرِ.
40- وَيَجِبُ تَعْيِينُ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ عَيْنً
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
96-موسوعة الفقه الكويتية (صلاة 5)
صَلَاةٌ-5(ج) دُعَاءُ الِاسْتِفْتَاحِ وَالتَّعَوُّذُ وَالْبَسْمَلَةُ:
65- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّ مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ دُعَاءَ الِاسْتِفْتَاحِ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ.لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ» وَلِمَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ لِلصَّلَاةِ قَالَ: وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ.أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ.ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ.وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ.لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ وَأَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ».وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ صِيَغٌ كَثِيرَةٌ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ غَيْرَ هَاتَيْنِ الصِّيغَتَيْنِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ- رضي الله عنهما- يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» وَحَدِيثِ: «الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ» وَلَيْسَ فِيهِ اسْتِفْتَاحٌ.
وَتَفْصِيلُ الْكَلَامِ عَلَى دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ فِي مُصْطَلَحِ: اسْتِفْتَاحٌ (4 64).
أَمَّا التَّعَوُّذُ بَعْدَ دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ وَقَبْلَ الْقِرَاءَةِ فَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنَالشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَتِهِ فِي الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: اسْتِعَاذَةٌ ف 18 وَمَا بَعْدَهَا (4 11).
أَمَّا الْبَسْمَلَةُ فَلِلْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِهَا خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: بَسْمَلَةٌ ف 5 (8 86).
(د) قِرَاءَةُ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ:
66- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقْرَأَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْقِرَاءَةِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا أَصْلُ السُّنَّةِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى حُصُولِ السُّنَّةِ بِقِرَاءَةِ مَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ، وَلَوْ آيَةً- سَوَاءٌ كَانَتْ طَوِيلَةً أَمْ قَصِيرَةً كَ {مُدْهَامَّتَانِ} - كَمَا تَحْصُلُ السُّنَّةُ بِقِرَاءَةِ بَعْضِ آيَةٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهَا مَعْنًى تَامٌّ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِانْفِرَادِهَا، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ سُورَةً كَامِلَةً.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى حُصُولِ السُّنَّةِ بِقِرَاءَةِ آيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَاسْتَحَبَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ طَوِيلَةً: كَآيَةِ الدَّيْنِ وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ لِتُشْبِهَ بَعْضَ السُّوَرِ الْقِصَارِ.
قَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَالظَّاهِرُ عَدَمُ إِجْزَاءِ آيَةٍ لَا تَسْتَقِلُّ بِمَعْنًى أَوْ حُكْمٍ نَحْوَ {ثُمَّ نَظَرَ}، أَوْ {مُدْهَامَّتَانِ}.
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ ثَلَاثَ آيَاتٍ لِتَكُونَ قَدْرَ أَقْصَرِ سُورَةٍ.وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ السُّورَةَ الْكَامِلَةَ أَفْضَلُ، وَأَنَّهُ لَا تُجْزِئُهُ السُّورَةُ مَا لَوْ قَرَأَهَا قَبْلَ الْفَاتِحَةِ؛ لِعَدَمِ وُقُوعِهَا مَوْقِعَهَا، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ تَكْرَارُ الْفَاتِحَةِ عَنَ السُّورَةِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ؛ وَلِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يُؤَدَّى بِهِ فَرْضٌ وَنَفْلٌ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، إِلاَّ إِذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ غَيْرَ الْفَاتِحَةِ وَأَعَادَهَا فَإِنَّهُ يُتَّجَهُ- كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ- الْإِجْزَاءُ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقْرَأَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ.لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} وَنَحْوِهَا، وَكَانَتْ صَلَاتُهُ بَعْدُ تَخْفِيفًا».
وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ فِي الظُّهْرِ فَيُسَنُّ عِنْدَهُمْ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَقْرَأَ فِي الظُّهْرِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ ثَلَاثِينَ».
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الظُّهْرِ تَكُونُ دُونَ قِرَاءَةِ الْفَجْرِ قَلِيلًا.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ: يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ مِنْ أَطْوَلِ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ، وَفِي الظُّهْرِ مِنْ أَقْصَرِ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ مِنْ أَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى «أَنِ اقْرَأْ فِي الصُّبْحِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ، وَاقْرَأْ فِي الظُّهْرِ بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ، وَاقْرَأْ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ».وَأَمَّا صَلَاةُ الْعَصْرِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَقْرَأُ فِيهَا بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَقْرَأُ فِيهَا بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ وَفِي الْعِشَاءِ بِأَوْسَاطِهِ؛ لِمَا رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَحَدٍ أَشْبَهَ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ فُلَانٍ.قَالَ سُلَيْمَانُ: كَانَ يُطِيلُ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فِي الظُّهْرِ، وَيُخَفِّفُ الْأُخْرَيَيْنِ، وَيُخَفِّفُ الْعَصْرَ، وَيَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ الْمُفَصَّلِ، وَيَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ، وَيَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ».
وَاخْتُلِفَ فِي بَيَانِ الْمُفَصَّلِ طِوَالِهِ وَأَوْسَاطِهِ وَقِصَارِهِ
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (سُورَةٌ، وَقِرَاءَةٌ)
مَحَلُّ الْقِرَاءَةِ:
67- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْقِرَاءَةِ الْمَسْنُونَةِ هُوَ الرَّكْعَتَانِ الْأُولَيَانِ مِنْ صَلَاةِ الْفَرْضِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ، وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا، وَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ».
قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَإِنَّمَا تُسَنُّ السُّورَةُ فِي الْفَرْضِ الْوَقْتِيِّ الْمُتَّسِعِ وَقْتَهُ، أَمَّا إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ بِحَيْثُ يَخْشَى خُرُوجَهُ بِقِرَاءَتِهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ الْقِرَاءَةِ مُحَافَظَةً عَلَى الْوَقْتِ.
وَانْظُرْ تَفْصِيلَ مَحَلِّ الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلَاةُ التَّطَوُّعِ) وَقِرَاءَةَ الْمَأْمُومِ فِي (صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ).
كَمَا يُسَنُّ تَطْوِيلُ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ-
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا تُسَنُّ إِطَالَةُ الرَّكْعَةِ الْأُولَى عَلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فَقَطْ دُونَ بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، فَلَا تُسَنُّ إِطَالَتُهَا.
(هـ) التَّأْمِينُ:
68- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ التَّأْمِينَ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ سُنَّةٌ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فَقُولُوا آمِينَ.فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ مَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنْ ذَنْبِهِ».
وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَأْتِي بِالتَّأْمِينِ بَعْدَ سَكْتَةٍ لَطِيفَةٍ لِيَتَمَيَّزَ عَنَ الْقِرَاءَةِ، فَيَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا هِيَ طَابَعُ الدُّعَاءِ.
وَقَالُوا: لَا يَفُوتُ التَّأْمِينُ إِلاَّ بِالشُّرُوعِ فِي غَيْرِهِ، فَإِنْ تَرَكَ الْمُصَلِّي التَّأْمِينَ حَتَّى شَرَعَ فِي قِرَاءَةِ السُّورَةِ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ فَاتَ مَحَلُّهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ بِفَوَاتِهِ بِالرُّكُوعِ.
ثُمَّ إِنَّ التَّأْمِينَ سُنَّةٌ لِلْمُصَلِّي- عُمُومًا- سَوَاءٌ كَانَ إِمَامًا أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا، وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ الْإِمَامَ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُنْدَبُ لَهُ التَّأْمِينُ، وَكَذَا الْمَأْمُومُ إِنْ لَمْ يَسْمَعْ إِمَامَهُ يَقُولُ: {وَلَا الضَّالِّينَ} وَإِنْ سَمِعَ مَا قَبْلَهُ، وَنَصُّوا عَلَى كَرَاهَتِهِ حِينَئِذٍ وَلَا يَتَحَرَّى عَلَى الْأَظْهَرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَحَرَّى لِرُبَّمَا أَوْقَعَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَلَرُبَّمَا صَادَفَ آيَةَ عَذَابٍ، وَمُقَابِلُهُ يَتَحَرَّى، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبْدُوسٍ.
وَالسُّنَّةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُصَلِّي بِالتَّأْمِينِ سِرًّا سَوَاءٌ كَانَ إِمَامًا أَمْ مَأْمُومًا أَمْ مُنْفَرِدًا؛ فَالْإِتْيَانُ بِالتَّأْمِينِ سُنَّةٌ، وَالْإِسْرَارُ بِهَا سُنَّةٌ أُخْرَى، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَعَلَى هَذَا فَتَحْصُلُ سُنِّيَّةُ الْإِتْيَانِ بِهَا وَلَوْ مَعَ الْجَهْرِ بِهَا.
قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لِأَنَّهُ دُعَاءٌ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْإِخْفَاءُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ وَالْمَأْمُومَ وَالْمُنْفَرِدَ يَجْهَرُونَ بِالتَّأْمِينِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ وَيُسِرُّونَ بِهِ فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ.
وَصَرَّحُوا: بِأَنَّهُ إِذَا تَرَكَ الْإِمَامُ التَّأْمِينَ، أَوْ أَسَرَّهُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا أَتَى بِهِ الْمَأْمُومُ لِيُذَكِّرَهُ فَيَأْتِيَ بِهِ.
(و) تَكْبِيرَاتُ الِانْتِقَالِ:
69- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- إِلَى أَنَّ تَكْبِيرَاتِ الِانْتِقَالِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ، لِحَدِيثِ: «الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ» فَإِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَأْمُرْهُ بِتَكْبِيرَاتِ الِانْتِقَالَاتِ وَأَمَرَهُ بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ.أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ تَكْبِيرَاتِ الِانْتِقَالِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ.
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (تَكْبِيرٌ).
(ز) هَيْئَةُ الرُّكُوعِ الْمَسْنُونَةُ:
70- أَقَلُّ الْوَاجِبِ فِي الرُّكُوعِ: أَنْ يَنْحَنِيَ قَدْرَ بُلُوغِ رَاحَتَيْهِ رُكْبَتَيْهِ، وَكَمَالُ السُّنَّةِ فِيهِ: أَنْ يُسَوِّيَ ظَهْرَهُ وَعُنُقَهُ وَعَجُزَهُ، وَيَنْصِبَ سَاقَيْهِ وَفَخِذَيْهِ، وَيَأْخُذَ رُكْبَتَيْهِ بِيَدَيْهِ مُعْتَمِدًا بِالْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ، مُفَرِّقًا أَصَابِعَهُ، وَيُجَافِيَ مِرْفَقَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ.
لِحَدِيثِ «عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّهُ رَكَعَ فَجَافَى يَدَيْهِ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ مِنْ وَرَاءِ رُكْبَتَيْهِ وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي».
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلْصَاقَ الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ خَصُّوا هَذِهِ الْهَيْئَةَ بِالرَّجُلِ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَنْحَنِي فِي الرُّكُوعِ يَسِيرًا، وَلَا تُفَرِّجُ، وَلَكِنْ تَضُمُّ وَتَضَعُ يَدَيْهَا عَلَى رُكْبَتَيْهَا وَضْعًا، وَتَحْنِي رُكْبَتَيْهَا، وَلَا تُجَافِي عَضُدَيْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا.
وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَسَبَقَ تَفْصِيلُ هَيْئَاتِ الرُّكُوعِ وَأَذْكَارِهِ فِي مُصْطَلَحِ: (رُكُوعٌ).
(ح) التَّسْمِيعُ وَالتَّحْمِيدُ:
71- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- إِلَى سُنِّيَّةِ التَّسْمِيعِ عِنْدَ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ، وَالتَّحْمِيدِ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ قَائِمًا.
وَالسُّنَّةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ التَّسْمِيعُ فَقَطْ، أَمَّا التَّحْمِيدُ فَهُوَ مَنْدُوبٌ عِنْدَهُمْ.وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ، كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ.
ثُمَّ إِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْمُصَلِّي الَّذِي يُسَنُّ لَهُ التَّسْمِيعُ وَالتَّحْمِيدُ فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ يُسَمِّعُ فَقَطْ، وَالْمَأْمُومَ يَحْمَدُ فَقَطْ، وَالْمُنْفَرِدُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، فَلَا يَحْمَدُ الْإِمَامُ وَلَا يُسَمِّعُ الْمَأْمُومُ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ» فَالنَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- قَسَمَ بَيْنَهُمَا، وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي الشَّرِكَةَ.
قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: فَالْإِمَامُ مُخَاطَبٌ بِسُنَّةٍ فَقَطْ، وَالْمَأْمُومُ مُخَاطَبٌ بِمَنْدُوبٍ فَقَطْ، وَالْفَذُّ مُخَاطَبٌ بِسُنَّةٍ وَمَنْدُوبٍ وَخَالَفَ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ، فَذَهَبَا إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَجْمَعُ بَيْنَ التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا»؛ وَلِأَنَّهُ حَرَّضَ غَيْرَهُ فَلَا يَنْسَى نَفْسَهُ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الْمُتُونُ عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ.
وَصَرَّحُوا بِأَنَّ أَفْضَل صِيَغِ التَّحْمِيدِ:
اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: ثُمَّ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ.
وَصِيغَةُ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ هِيَ مَا اخْتَارَهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَعِنْدَهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَرَابِعَةٌ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيعَ وَالتَّحْمِيدَ سُنَّةٌ لِلْجَمِيعِ: الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ.وَصَرَّحُوا بِأَنَّ أَفْضَل صِيَغِ التَّحْمِيدِ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ؛ لِوُرُودِ السُّنَّةِ بِهِ.
قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: لَكِنْ قَالَ فِي الْأُمِّ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ أَحَبُّ إِلَيَّ، أَيْ لِأَنَّهُ جَمَعَ مَعْنَيَيْنِ: الدُّعَاءَ وَالِاعْتِرَافَ.أَيْ رَبَّنَا اسْتَجِبْ لَنَا، وَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى هِدَايَتِكَ إِيَّانَا.
قَالُوا: وَلَوْ قَالَ: مَنْ حَمِدَ اللَّهَ سَمِعَ لَهُ كَفَى فِي تَأْدِيَةِ أَصْلِ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، لَكِنَّ التَّرْتِيبَ أَفْضَلُ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ التَّسْمِيعَ وَاجِبٌ عَلَى الْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ دُونَ الْمَأْمُومِ، وَالتَّحْمِيدَ وَاجِبٌ عَلَى الْجَمِيعِ- إِمَامٍ وَمَأْمُومٍ وَمُنْفَرِدٍ- وَأَفْضَلُ صِيَغِ التَّحْمِيدِ عِنْدَهُمْ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، ثُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ.قَالُوا: وَإِنْ شَاءَ قَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَأَفْضَلُ مِنْهُ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَلَوْ قَالَ: مَنْ حَمِدَ اللَّهَ سَمِعَ لَهُ لَمْ يُجْزِئْهُ، لِتَغْيِيرِ الْمَعْنَى.
الْأَذْكَارُ الْوَارِدَةُ فِي الِاسْتِوَاءِ بَعْدَ الرَّفْعِ مِنَ الرُّكُوعِ:
72- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي بَعْدَ التَّحْمِيدِ أَنْ يَقُولَ: «مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ» لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، مِلْءَ السَّمَاوَاتِ، وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ».
وَلَهُ أَنْ يَزِيدَ: «أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ، وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ»؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ.قَالَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلُ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ.أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ- وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ- اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ».
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى «عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ، وَفِي لَفْظٍ: يَدْعُو إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ.اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ.اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْوَسَخِ».
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِاسْتِحْبَابِ زِيَادَةِ: حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ.لِحَدِيثِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: «كُنَّا نُصَلِّي يَوْمًا وَرَاءَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ.فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: مَنِ الْمُتَكَلِّمُ؟ قَالَ: أَنَا، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلَ».
(ح م) رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَالْقِيَامُ لِلرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ:
73- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَعِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ لِلرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ، فَاتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَأَنَّهُ مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا قَامَ فِي الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يَكُونَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ حِينَ يُكَبِّرُ لِلرُّكُوعِ وَيَفْعَلُ ذَلِكَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ».وَعَنِ الْحَسَنِ: «أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ».
وَكَانَ عُمَرُ «إِذَا رَأَى رَجُلًا لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَصَّبَهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْفَعَ».
قَالَ الْبُخَارِيُّ: رَوَاهُ سَبْعَةَ عَشْرَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَدَمُ الرَّفْعِ.
وَقَالَ السُّيُوطِيُّ: الرَّفْعُ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ رِوَايَةِ خَمْسِينَ صَحَابِيًّا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ التَّشَهُّدِ لِلرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، لِمَا رَوَى نَافِعٌ: «أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا رَكَعَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَامَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ.وَرَفَعَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ».
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ هِيَ عَدَمُ الرَّفْعِ.
قَالَ فِي الْإِنْصَافِ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ وَقَطَعَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْهُمْ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ إِلاَّ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، فَلَا يُشْرَعُ رَفْعُهُمَا عِنْدَ الرُّكُوعِ أَوِ الرَّفْعِ مِنْهُ، أَوِ الْقِيَامِ لِلثَّالِثَةِ.لِحَدِيثِ الْبَرَاءِ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَرْفَعُ يَدَيْهِ حِينَ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ لَمْ يَرْفَعْهُمَا حَتَّى انْصَرَفَ» وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: مَالِي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيَكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلِ شُمْسٍ، اسْكُنُوا فِي الصَّلَاةِ» وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-: «أَلَا أُصَلِّي بِكُمْ صَلَاةَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّى وَلَمْ يَرْفَعْ يَدَيْهِ إِلاَّ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ».
(ط) كَيْفِيَّةُ الْهُوِيِّ لِلسُّجُودِ وَالنُّهُوضِ مِنْهُ:
74- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ عِنْدَ الْهُوِيِّ إِلَى السُّجُودِ أَنْ يَضَعَ الْمُصَلِّي رُكْبَتَيْهِ أَوَّلًا، ثُمَّ يَدَيْهِ، ثُمَّ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ؛ لِمَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا سَجَدَ يَضَعُ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، وَإِذَا نَهَضَ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ.
وَلِأَنَّ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةَ أَرْفَقُ بِالْمُصَلِّي.وَأَحْسَنُ فِي الشَّكْلِ وَرَأْيِ الْعَيْنِ.وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَضَعُ جَبْهَتَهُ ثُمَّ أَنْفَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْفَهُ ثُمَّ جَبْهَتَهُ.وَعِنْدَ النُّهُوضِ مِنَ السُّجُودِ يُسَنُّ الْعَكْسُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَرْفَعَ جَبْهَتَهُ أَوَّلًا ثُمَّ يَدَيْهِ ثُمَّ رُكْبَتَيْهِ لِحَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ الْمُتَقَدِّمِ.قَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِلاَّ أَنْ يَشُقَّ عَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ؛ لِكِبَرٍ أَوْ ضَعْفٍ أَوْ مَرَضٍ، أَوْ سِمَنٍ وَنَحْوِهِ، فَيَعْتَمِدُ بِالْأَرْضِ، لِمَا رَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «مِنَ السُّنَّةِ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ إِذَا نَهَضَ أَنْ لَا يَعْتَمِدَ بِيَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ».
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يَعْتَمِدَ فِي قِيَامِهِ مِنَ السُّجُودِ عَلَى يَدَيْهِ، مَبْسُوطَتَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ خُشُوعًا وَتَوَاضُعًا، وَأَعْوَنُ لِلْمُصَلِّي، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى نَدْبِ تَقْدِيمِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْهُوِيِّ إِلَى السُّجُودِ، وَتَأْخِيرِهِمَا عِنْدَ الْقِيَامِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَبْرُكُ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ وَلْيَضَعْ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ».
قَالُوا: وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَا يُقَدِّمُ رُكْبَتَيْهِ عِنْدَ هَوِيِّهِ لِلسُّجُودِ كَمَا يُقَدِّمُهُمَا الْبَعِيرُ عِنْدَ بُرُوكِهِ، وَلَا يُؤَخِّرُهُمَا فِي الْقِيَامِ كَمَا يُؤَخِّرُهُمَا الْبَعِيرُ فِي قِيَامِهِ.
(ى) هَيْئَةُ السُّجُودِ الْمَسْنُونَةُ:
75- كَيْفِيَّةُ السُّجُودِ الْمَسْنُونَةُ: أَنْ يَسْجُدَ الْمُصَلِّي عَلَى الْأَعْضَاءِ السَّبْعَةِ: الْجَبْهَةِ مَعَ الْأَنْفِ، وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَالْقَدَمَيْنِ- مُمَكِّنًا جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَيَنْشُرَ أَصَابِع يَدَيْهِ مَضْمُومَةً لِلْقِبْلَةِ، وَيُفَرِّقَ رُكْبَتَيْهِ، وَيَرْفَعَ بَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ، وَفَخِذَيْهِ عَنْ سَاقَيْهِ، وَيُجَافِيَ عَضُدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ، وَيَسْتَقْبِلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ.وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْأَرْكَانِ.
(ك) التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ وَقُعُودُهُ:
76- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى سُنِّيَّةِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ وَقُعُودِهِ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَامَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ وَلَمْ يَجْلِسْ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ كَبَّرَ وَهُوَ جَالِسٌ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ السَّلَامِ ثُمَّ سَلَّمَ» فَدَلَّ عَدَمُ تَدَارُكِهِمَا عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِهِمَا كَمَا سَبَقَ فِي وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ.
(ل) صِيغَةُ التَّشَهُّدِ:
77- سَبَقَ خِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ؛ فَهُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ رُكْنٌ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَاجِبٌ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ سُنَّةٌ، وَاخْتَلَفُوا- أَيْضًا- فِي صِيغَتِهِ الْمَسْنُونَةِ. (ر: تَشَهُّدٌ).
(م) الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ التَّشَهُّدِ (الصَّلَاةُ الْإِبْرَاهِيمِيَّةُ)
78- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ سُنَّةٌ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ خِلَافٌ فِي أَنَّ الْمَشْهُورَ: هَلْ هِيَ سُنَّةٌ أَوْ فَضِيلَةٌ؟
وَأَفْضَلُ صِيَغِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
وَهِيَ- أَيْضًا- أَفْضَلُ صِيَغِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَكِنْ بِحَذْفِ (إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) الْأُولَى.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ رُكْنٌ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ.
وَقَدْ أَخَذَ الْحَنَابِلَةُ بِصِيغَةِ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ وَهِيَ أَفْضَلُ الصِّيَغِ عِنْدَهُمْ.وَلَكِنْ يَتَحَقَّقُ رُكْنُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِقَوْلِ: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ).
وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِبْدَالُ آلٍ بِأَهْلٍ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الرَّجُلِ أَقَارِبُهُ أَوْ زَوْجَتُهُ، وَآلَهُ أَتْبَاعُهُ عَلَى دِينِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: أَقَلُّ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، وَالسُّنَّةُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِكُلِّ هَذِهِ الصِّيَغِ.
وَقَدْ سَبَقَ حُكْمُ تَسْوِيدِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي مُصْطَلَحِ: (تَسْوِيدٌ ف 7 «11/346»).
(ن) الدُّعَاءُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ:
79- يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي بَعْدَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ أَنْ يَدْعُوَ بِمَا شَاءَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ- إِلَى آخِرِهِ، ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ، أَوْ مَا أَحَبَّ».
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: «ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ فَيَدْعُو بِهِ».وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمٍ «ثُمَّ لِيَتَخَيَّرَ بَعْدُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ» وَهُوَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَنْدُوبٌ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يَدْعُو بِالْأَدْعِيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْوِي الْقِرَاءَةَ إِذَا دَعَا بِأَدْعِيَةِ الْقُرْآنِ لِكَرَاهَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالتَّشَهُّدِ.وَلَا يَدْعُو بِمَا يُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ.
وَالْأَفْضَلُ الدُّعَاءُ بِالْمَأْثُورِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ «عَنْ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي فَقَالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ.فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»
وَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ الْآخِرِ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ، مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ شَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ».
(س) كَيْفِيَّةُ الْجُلُوسِ:
80- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَيْئَةِ الْجُلُوسِ الْمَسْنُونَةِ فِي الصَّلَاةِ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَالرَّجُلُ يُسَنُّ لَهُ الِافْتِرَاشُ، وَالْمَرْأَةُ يُسَنُّ لَهَا التَّوَرُّكُ.
لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ أَوِ الْأَخِيرِ، أَوِ الْجِلْسَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ هَيْئَةَ الْجُلُوسِ الْمَسْنُونَةَ فِي جَمِيعِ جِلْسَاتِ الصَّلَاةِ هِيَ التَّوَرُّكُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوِ الْمَرْأَةُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ التَّوَرُّكُ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، وَالِافْتِرَاشُ فِي بَقِيَّةِ جِلْسَاتِ الصَّلَاةِ، لِحَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْيُمْنَى، وَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَنَصَبَ الْأُخْرَى، وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ» وَفِي رِوَايَةٍ «فَإِذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ أَفْضَى بِوَرِكِهِ الْيُسْرَى إِلَى الْأَرْضِ، وَأَخْرَجَ قَدَمَيْهِ مِنْ نَاحِيَةٍ وَاحِدَةٍ».
وَالْحِكْمَةُ فِي الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْأَخِيرِ وَغَيْرِهِ مِنْ بَقِيَّةِ الْجِلْسَاتِ: أَنَّ الْمُصَلِّيَ مُسْتَوْفِزٌ فِيهَا لِلْحَرَكَةِ، بِخِلَافِهِ فِي الْأَخِيرِ، وَالْحَرَكَةُ عَنْ الِافْتِرَاشِ أَهْوَنُ.
وَالِافْتِرَاشُ: أَنْ يَنْصِبَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى قَائِمَةً عَلَى أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ بِحَيْثُ تَكُونُ مُتَوَجِّهَةً نَحْوَ الْقِبْلَةِ، وَيَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى بِحَيْثُ يَلِي ظَهْرُهَا الْأَرْضَ، جَالِسًا عَلَى بَطْنِهَا.
وَالتَّوَرُّكُ: كَالِافْتِرَاشِ.لَكِنْ يُخْرِجُ يُسْرَاهُ مِنْ جِهَةِ يَمِينِهِ، وَيُلْصِقُ وَرِكَهُ بِالْأَرْضِ.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ تَوَرُّك (14- 148) وَمُصْطَلَحَ: جُلُوس ف 11- 13 (15- 267).
(ع) جِلْسَةُ الِاسْتِرَاحَةِ:
81- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ بَعْدَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ جِلْسَةٌ لِلِاسْتِرَاحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ يَقُومُ مِنْهَا؛ لِمَا رَوَى مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَجْلِسُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ قَبْلَ أَنْ يَنْهَضَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى».
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى كَرَاهَةِ فِعْلِهَا تَنْزِيهًا لِمَنْ لَيْسَ بِهِ عُذْرٌ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ الْكَلَامِ عَلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ: جُلُوسٌ ف 12 (15 266).
(ف) كَيْفِيَّةُ وَضْعِ الْيَدَيْنِ أَثْنَاءَ الْجُلُوسِ:
82- يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي أَثْنَاءَ الْجُلُوسِ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَيَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُسْرَى بِحَيْثُ تُسَاوِي رُءُوسُ أَصَابِعِهِ رُكْبَتَيْهِ، وَتَكُونُ أَصَابِعُهُ مَنْشُورَةً إِلَى الْقِبْلَةِ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: مُفَرَّجَةً قَلِيلًا، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَضْمُومَةً.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يُشِيرَ بِسَبَّابَتِهِ أَثْنَاءَ التَّشَهُّدِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ قَبْضِ الْيَدِ وَالْإِشَارَةِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَيْسَ لَنَا سِوَى قَوْلَيْنِ:
الْأَوَّلِ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ بَسْطُ الْأَصَابِعِ بِدُونِ إِشَارَةٍ.
الثَّانِي: بَسْطُ الْأَصَابِعِ إِلَى حِينِ الشَّهَادَةِ فَيَعْقِدُ عِنْدَهَا وَيَرْفَعُ السَّبَّابَةَ عِنْدَ النَّفْيِ وَيَضَعَهَا عِنْدَ الْإِثْبَاتِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَقْبِضَ الْمُصَلِّي أَصَابِع يَدِهِ الْيُمْنَى وَيَضَعَهَا عَلَى طَرَفِ رُكْبَتِهِ إِلاَّ الْمُسَبِّحَةَ فَيُرْسِلَهَا، وَيَقْبِضَ الْإِبْهَامَ بِجَنْبِهَا بِحَيْثُ يَكُونُ تَحْتَهَا عَلَى حَرْفِ رَاحَتِهِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا قَعَدَ وَضَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى وَعَقَدَ ثَلَاثَةً وَخَمْسِينَ وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ».
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ- وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- إِلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ يُحَلِّقُ بَيْنَ الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ لِمَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَضَعَ حَدَّ مِرْفَقِهِ الْأَيْمَنِ عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَعَقَدَ ثَلَاثِينَ، وَحَلَّقَ وَاحِدَةً، أَشَارَ بِأُصْبُعِهِ بِالسَّبَّابَةِ».
وَمَحَلُّ الرَّفْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِلاَّ اللَّهَ، فَيَرْفَعُ الْمُسَبِّحَةَ عِنْدَ ذَلِكَ لِلِاتِّبَاعِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَيُمِيلُهَا قَلِيلًا كَمَا قَالَهُ الْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُ.وَيُقِيمُهَا وَلَا يَضَعُهَا.
وَيُسَنُّ- أَيْضًا- أَنْ يَكُونَ رَفْعُهَا إِلَى الْقِبْلَةِ نَاوِيًا بِذَلِكَ التَّوْحِيدَ وَالْإِخْلَاصَ، وَفِي تَحْرِيكِهَا عِنْدَهُمْ رِوَايَتَانِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُشِيرُ بِسَبَّابَتِهِ مِرَارًا، كُلَّ مَرَّةٍ عِنْدَ ذِكْرِ لَفْظِ (اللَّهِ) تَنْبِيهًا عَلَى التَّوْحِيدِ، وَلَا يُحَرِّكُهَا لِفِعْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالُوا: وَلَا يُشِيرُ بِغَيْرِ سَبَّابَةِ الْيُمْنَى وَلَوْ عُدِمَتْ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: بِكَرَاهَةِ الْإِشَارَةِ بِسَبَّابَةِ الْيُسْرَى وَلَوْ مِنْ مَقْطُوعِ الْيُمْنَى.وَعَدَّ الْمَالِكِيَّةُ الْإِشَارَةَ بِالسَّبَّابَةِ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ.
وَيُنْدَبُ تَحْرِيكُ السَّبَّابَةِ يَمِينًا وَشِمَالًا دَائِمًا- لَا لِأَعْلَى وَلَا لِأَسْفَلَ- فِي جَمِيعِ التَّشَهُّدِ.وَأَمَّا الْيُسْرَى فَيَبْسُطُهَا مَقْرُونَةَ الْأَصَابِعِ عَلَى فَخِذِهِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
97-موسوعة الفقه الكويتية (صلاة التراويح)
صَلَاةُ التَّرَاوِيحِالتَّعْرِيفُ:
1- تَقَدَّمَ تَعْرِيفُ الصَّلَاةِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا فِي مُصْطَلَحِ: (صَلَاة).
وَالتَّرَاوِيحُ: جَمْعُ تَرْوِيحَةٍ، أَيْ تَرْوِيحَةٌ لِلنَّفْسِ، أَيِ اسْتِرَاحَةٌ، مِنَ الرَّاحَةِ وَهِيَ زَوَالُ الْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ، وَالتَّرْوِيحَةُ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِلْجِلْسَةِ مُطْلَقَةً، وَسُمِّيَتِ الْجِلْسَةُ الَّتِي بَعْدَ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ بِالتَّرْوِيحَةِ لِلِاسْتِرَاحَةِ، ثُمَّ سُمِّيَتْ كُلُّ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ تَرْوِيحَةً مَجَازًا، وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الصَّلَاةُ بِالتَّرَاوِيحِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُطِيلُونَ الْقِيَامَ فِيهَا وَيَجْلِسُونَ بَعْدَ كُلِّ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ لِلِاسْتِرَاحَةِ.
وَصَلَاةُ التَّرَاوِيحِ: هِيَ قِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ، مَثْنَى مَثْنَى، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي عَدَدِ رَكَعَاتِهَا، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِهَا.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- إِحْيَاءُ اللَّيْلِ:
2- إِحْيَاءُ اللَّيْلِ، وَيُطْلِقُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا قِيَامَ اللَّيْلِ، هُوَ: إِمْضَاءُ اللَّيْلِ، أَوْ أَكْثَرِهِ فِي الْعِبَادَةِ كَالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
(ر: إِحْيَاءُ اللَّيْلِ).
وَإِحْيَاءُ اللَّيْلِ: يَكُونُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الْعَامِ، وَيَكُونُ بِأَيٍّ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَذْكُورَةِ أَوْ نَحْوِهَا وَلَيْسَ بِخُصُوصِ الصَّلَاةِ.
أَمَّا صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ فَتَكُونُ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ خَاصَّةً.
ب- التَّهَجُّدُ:
3- التَّهَجُّدُ فِي اللُّغَةِ: مِنَ الْهُجُودِ، وَيُطْلَقُ الْهُجُودُ عَلَى النَّوْمِ وَعَلَى السَّهَرِ، يُقَالُ: هَجَدَ إِذَا نَامَ بِاللَّيْلِ، وَيُقَالُ أَيْضًا هَجَدَ: إِذَا صَلَّى اللَّيْلَ، فَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَيُقَالُ: تَهَجَّدَ إِذَا أَزَالَ النَّوْمَ بِالتَّكَلُّفِ.
وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: صَلَاةُ التَّطَوُّعِ فِي اللَّيْلِ بَعْدَ النَّوْمِ.
وَالتَّهَجُّدُ- عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- صَلَاةُ التَّطَوُّعِ فِي اللَّيْلِ بَعْدَ النَّوْمِ، فِي أَيِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الْعَامِ.
أَمَّا صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا أَنْ تَكُونَ بَعْدَ النَّوْمِ، وَهِيَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ خَاصَّةً.
ج- التَّطَوُّعُ:
4- التَّطَوُّعُ هُوَ: مَا شُرِعَ زِيَادَةً عَلَى الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ مِنَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى مَا فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَصَلَاةُ التَّطَوُّعِ أَوِ النَّافِلَةِ تَنْقَسِمُ إِلَى نَفْلٍ مُقَيَّدٍ وَمِنْهُ صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ، وَإِلَى نَفْلٍ مُطْلَقٍ أَيْ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِوَقْتٍ.
وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (تَطَوُّع).
د- الْوِتْرُ:
5- الْوِتْرُ هُوَ: الصَّلَاةُ الْمَخْصُوصَةُ بَعْدَ فَرِيضَةِ الْعِشَاءِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ عَدَدَ رَكَعَاتِهَا وِتْرٌ لَا شَفْعٌ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى سُنِّيَّةِ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ، وَهِيَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَهِيَ سُنَّةٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَهِيَ مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ الظَّاهِرَةِ.
وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ وَرَغَّبَ فِيهَا، فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ صِيَامَ رَمَضَانَ عَلَيْكُمْ، وَسَنَنْتُ لَكُمْ قِيَامَهُ.» وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُرَغِّبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ فِيهِ بِعَزِيمَةٍ فَيَقُولَ: مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» قَالَ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ وَغَيْرُهُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ هِيَ الْمُرَادَةُ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ.
وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي، وَلَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهَا، وَبَيَّنَ الْعُذْرَ فِي تَرْكِ الْمُوَاظَبَةِ وَهُوَ خَشْيَةُ أَنْ تُكْتَبَ فَيَعْجِزُوا عَنْهَا، فَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلَةِ فَكَثُرَ النَّاسُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ الثَّالِثَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ، فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلاَّ أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ»، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ زَادَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ: «فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ».
وَفِي تَعْيِينِ اللَّيَالِي الَّتِي قَامَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِأَصْحَابِهِ رَوَى أَبُو ذَرٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: «صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- رَمَضَانَ فَلَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَتِ السَّادِسَةُ لَمْ يَقُمْ بِنَا، فَلَمَّا كَانَتِ الْخَامِسَةُ قَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ نَفَلْتَنَا قِيَامَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ؟ قَالَ: فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ قَالَ: فَلَمَّا كَانَتِ الرَّابِعَةُ لَمْ يَقُمْ، فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةُ جَمَعَ أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ وَالنَّاسَ فَقَامَ بِنَا حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ قَالَ: قُلْتُ: وَمَا الْفَلَاحُ؟ قَالَ: السَّحُورُ، ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا بَقِيَّةَ الشَّهْرِ».
وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «قُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قُمْنَا مَعَهُ لَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ قُمْنَا مَعَهُ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ لَا نُدْرِكَ الْفَلَاحَ وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ السَّحُورَ».
وَقَدْ وَاظَبَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ زَمَنِ عُمَرَ- رضي الله عنه- عَلَى صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ جَمَاعَةً، وَكَانَ عُمَرُ- رضي الله عنه- هُوَ الَّذِي جَمَعَ النَّاسَ فِيهَا عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ.
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْقَارِيَّ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- لَيْلَةً فِي رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مُتَفَرِّقُونَ، يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ، ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ، فَقَالَ: نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَاَلَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي يَقُومُونَ.يُرِيدُ آخِرَ اللَّيْلِ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ.
وَرَوَى أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنِ التَّرَاوِيحِ وَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ، فَقَالَ: التَّرَاوِيحُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَلَمْ يَتَخَرَّصْ عُمَرُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مُبْتَدِعًا، وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ إِلاَّ عَنْ أَصْلٍ لَدَيْهِ وَعَهْدٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَلَقَدْ سَنَّ عُمَرُ هَذَا وَجَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَصَلاَّهَا جَمَاعَةً وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمَا رَدَّ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، بَلْ سَاعَدُوهُ وَوَافَقُوهُ وَأَمَرُوا بِذَلِكَ.
فَضْلُ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ:
7- بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ مَنْزِلَةَ التَّرَاوِيحِ بَيْنَ نَوَافِلِ الصَّلَاةِ.
قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: التَّرَاوِيحُ مِنَ النَّوَافِلِ الْمُؤَكَّدَةِ، حَيْثُ قَالُوا: وَتَأَكُّدُ تَرَاوِيحَ، وَهُوَ قِيَامُ رَمَضَانَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: التَّطَوُّعُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ وَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّا لَا تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ لِتَأَكُّدِهِ بِسَنِّهَا لَهُ، وَلَهُ مَرَاتِبُ:
فَأَفْضَلُهُ الْعِيدَانِ ثُمَّ الْكُسُوفُ لِلشَّمْسِ، ثُمَّ الْخُسُوفُ لِلْقَمَرِ، ثُمَّ الِاسْتِسْقَاءُ، ثُمَّ التَّرَاوِيحُ.وَقَالُوا: الْأَصَحُّ أَنَّ الرَّوَاتِبَ وَهِيَ التَّابِعَةُ لِلْفَرَائِضِ أَفْضَلُ مِنَ التَّرَاوِيحِ وَإِنْ سُنَّ لَهَا الْجَمَاعَةُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَاظَبَ عَلَى الرَّوَاتِبِ دُونَ التَّرَاوِيحِ.
قَالَ شَمْسُ الدِّينِ الرَّمْلِيُّ: وَالْمُرَادُ تَفْضِيلُ الْجِنْسِ عَلَى الْجِنْسِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ لِعَدَدٍ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: أَفْضَلُ صَلَاةِ تَطَوُّعٍ مَا سُنَّ أَنْ يُصَلَّى جَمَاعَةً؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْفَرَائِضِ ثُمَّ الرَّوَاتِبُ، وَآكَدُ مَا يُسَنُّ جَمَاعَةً: كُسُوفٌ فَاسْتِسْقَاءٌ فَتَرَاوِيحُ.
تَارِيخُ مَشْرُوعِيَّةِ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَالْجَمَاعَةِ فِيهَا:
8- رَوَى الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- خَرَجَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ لَيَالِيَ مِنْ رَمَضَانَ وَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ، وَصَلَّى النَّاسُ بِصَلَاتِهِ، وَتَكَاثَرُوا فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ فِي الرَّابِعَةِ، وَقَالَ لَهُمْ: خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا».
قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: هَذَا يُشْعِرُ أَنَّ صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ لَمْ تُشْرَعْ إِلاَّ فِي آخِرِ سِنِي الْهِجْرَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ أَنَّهُ صَلاَّهَا مَرَّةً ثَانِيَةً وَلَا وَقَعَ عَنْهَا سُؤَالٌ.
وَجَمَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- النَّاسَ فِي التَّرَاوِيحِ عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ، لِنَحْوِ سَنَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ خِلَافَتِهِ، وَفِي رَمَضَانَ الثَّانِي مِنْ خِلَافَتِهِ.
النِّدَاءُ لِصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ:
9- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَا أَذَانَ وَلَا إِقَامَةَ لِغَيْرِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَذَّنَ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ دُونَ مَا سِوَاهَا مِنَ الْوِتْرِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَالْكُسُوفِ، وَالْخُسُوفِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَالسُّنَنِ وَالنَّوَافِلِ».
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُنَادَى لِجَمَاعَةِ غَيْرِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ قَوْلَهُ: لَا أَذَانَ وَلَا إِقَامَةَ لِغَيْرِ الْمَكْتُوبَةِ، فَأَمَّا الْأَعْيَادُ وَالْكُسُوفُ وَقِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَأُحِبُّ أَنْ يُقَالَ: الصَّلَاةَ جَامِعَةً.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى الشَّيْخَانِ أَنَّهُ «لَمَّا كُسِفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نُودِيَ: إِنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ» وَقِيسَ بِالْكُسُوفِ غَيْرُهُ مِمَّا تُشْرَعُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ وَمِنْهَا التَّرَاوِيحُ.
وَكَالصَّلَاةِ جَامِعَةً: الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، أَوْ هَلُمُّوا إِلَى الصَّلَاةِ، أَوِ الصَّلَاةَ رَحِمَكُمُ اللَّهُ، أَوْ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُنَادَى عَلَى التَّرَاوِيحِ «الصَّلَاةَ جَامِعَةً» لِأَنَّهُ مُحْدَثٌ.
تَعْيِينُ النِّيَّةِ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ:
10- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى اشْتِرَاطِ تَعْيِينِ النِّيَّةِ فِي التَّرَاوِيحِ، فَلَا تَصِحُّ التَّرَاوِيحُ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ، بَلْ يَنْوِي صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ مِنْ قِيَامِ رَمَضَانَ أَوْ مِنَ التَّرَاوِيحِ لِحَدِيثِ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَلِيَتَمَيَّزَ إِحْرَامُهُ بِهِمَا عَنْ غَيْرِهِ.
وَعَلَّلَ الْحَنَفِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ قَوْلَهُمْ بِأَنَّ التَّرَاوِيحَ سُنَّةٌ، وَالسُّنَّةُ عِنْدَهُمْ لَا تَتَأَدَّى بِنِيَّةِ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ أَوْ نِيَّةِ التَّطَوُّعِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ: لَا تَتَأَدَّى رَكْعَتَا الْفَجْرِ إِلاَّ بِنِيَّةِ السُّنَّةِ.
لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَجْدِيدِ النِّيَّةِ لِكُلِّ رَكْعَتَيْنِ مِنَ التَّرَاوِيحِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي الْخُلَاصَةِ: الصَّحِيحُ نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ، وَفِي الْخَانِيَّةِ: الْأَصَحُّ لَا، فَإِنَّ الْكُلَّ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ قَالَ وَيَظْهَرُ لِي (تَرْجِيحُ) التَّصْحِيحِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ بِالسَّلَامِ خَرَجَ مِنَ الصَّلَاةِ حَقِيقَةً، فَلَا بُدَّ مِنْ دُخُولِهِ فِيهَا بِالنِّيَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ الْأَحْوَطُ خُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ.
وَقَالَ عَامَّةُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ التَّرَاوِيحَ وَسَائِرَ السُّنَنِ تَتَأَدَّى بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ سُنَّةً لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا نَافِلَةً، وَالنَّوَافِلُ تَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ الِاحْتِيَاطَ أَنْ يَنْوِيَ التَّرَاوِيحَ أَوْ سُنَّةَ الْوَقْتِ أَوْ قِيَامَ رَمَضَانَ احْتِرَازًا عَنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ مِنَ التَّرَاوِيحِ أَنْ يَنْوِيَ فَيَقُولَ سِرًّا:
أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مِنَ التَّرَاوِيحِ الْمَسْنُونَةِ أَوْ مِنْ قِيَامِ رَمَضَانَ.
عَدَدُ رَكَعَاتِ التَّرَاوِيحِ:
11- قَالَ السُّيُوطِيُّ: الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَالْحِسَانُ الْأَمْرُ بِقِيَامِ رَمَضَانَ وَالتَّرْغِيبُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِعَدَدٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى التَّرَاوِيحَ عِشْرِينَ رَكْعَةً، وَإِنَّمَا صَلَّى لَيَالِيَ صَلَاةً لَمْ يُذْكَرْ عَدَدُهَا، ثُمَّ تَأَخَّرَ فِي اللَّيْلَةِ الرَّابِعَةِ خَشْيَةَ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْهِمْ فَيَعْجِزُوا عَنْهَا.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْثَمِيُّ: لَمْ يَصِحَّ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى التَّرَاوِيحَ عِشْرِينَ رَكْعَةً، وَمَا وَرَدَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عِشْرِينَ رَكْعَةً فَهُوَ شَدِيدُ الضَّعْفِ.
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِيمَا كَانَ يُصَلَّى بِهِ فِي رَمَضَانَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه-:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ- إِلَى أَنَّ التَّرَاوِيحَ عِشْرُونَ رَكْعَةً، لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ مِنْ قِيَامِ النَّاسِ فِي زَمَانِ عُمَرَ- رضي الله عنه- بِعِشْرِينَ رَكْعَةً، وَجَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ مِنَ الرَّكَعَاتِ جَمْعًا مُسْتَمِرًّا، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: جَمَعَ عُمَرُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ- رضي الله عنه- فَصَلَّى بِهِمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ وَغَيْرُهُ: كَانَ عَلَيْهِ عَمَلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: عَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ شَرْقًا وَغَرْبًا.
وَقَالَ عَلِيٌّ السَّنْهُورِيُّ: هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ وَاسْتَمَرَّ إِلَى زَمَانِنَا فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَهَذَا فِي مَظِنَّةِ الشُّهْرَةِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ فَكَانَ إِجْمَاعًا وَالنُّصُوصُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَرَوَى مَالِكٌ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، قَالَ: وَقَدْ كَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِئِينَ، حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدَ عَلَى الْعِصِيِّ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، وَمَا كُنَّا نَنْصَرِفُ إِلاَّ فِي فُرُوعِ الْفَجْرِ.
وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي رَمَضَانَ بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَالْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُمَا: أَيْ بِعَشْرَيْنَ رَكْعَةً غَيْرَ الْوِتْرِ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ- رضي الله عنه- قَالَ: كَانُوا يَقُومُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً
قَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ أَمَرَهُمْ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَأَمَرَهُمْ مَعَ ذَلِكَ بِطُولِ الْقِرَاءَةِ، يَقْرَأُ الْقَارِئُ بِالْمِئِينَ فِي الرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّ التَّطْوِيلَ فِي الْقِرَاءَةِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ، فَلَمَّا ضَعُفَ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً عَلَى وَجْهِ التَّخْفِيفِ عَنْهُمْ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، وَاسْتَدْرَكَ بَعْضُ الْفَضِيلَةِ بِزِيَادَةِ الرَّكَعَاتِ.
وَقَالَ الْعَدَوِيُّ: الْإِحْدَى عَشْرَةَ كَانَتْ مَبْدَأَ الْأَمْرِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْعِشْرِينَ.وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: رَجَعَ عُمَرُ إِلَى ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً
وَخَالَفَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ مَشَايِخَ الْحَنَفِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعِشْرِينَ سُنَّةٌ فِي التَّرَاوِيحِ فَقَالَ: قِيَامُ رَمَضَانَ سُنَّةٌ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً بِالْوِتْرِ فِي جَمَاعَةٍ، فَعَلَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ، أَفَادَ أَنَّهُ لَوْلَا خَشْيَةَ فَرْضِهِ عَلَيْهِمْ لَوَاظَبَ بِهِمْ، وَلَا شَكَّ فِي تَحَقُّقِ الْأَمْنِ مِنْ ذَلِكَ بِوَفَاتِهِ- صلى الله عليه وسلم- فَيَكُونُ سُنَّةً، وَكَوْنُهَا عِشْرِينَ سُنَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ» نَدْبٌ إِلَى سُنَّتِهِمْ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ ذَلِكَ سُنَّتَهُ؛ إِذْ سُنَّتُهُ بِمُوَاظَبَتِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ إِلاَّ لِعُذْرٍ، وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِ ذَلِكَ الْعُذْرِ كَانَ يُوَاظِبُ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُ، فَتَكُونُ الْعِشْرُونَ مُسْتَحَبًّا، وَذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْهَا هُوَ السُّنَّةُ، كَالْأَرْبَعِ بَعْدَ الْعِشَاءِ مُسْتَحَبَّةٌ وَرَكْعَتَانِ مِنْهَا هِيَ السُّنَّةُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمَشَايِخِ أَنَّ السُّنَّةَ عِشْرُونَ، وَمُقْتَضَى الدَّلِيلِ مَا قُلْنَا فَيَكُونُ هُوَ الْمَسْنُونَ، أَيْ فَيَكُونُ الْمَسْنُونُ مِنْهَا ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ وَالْبَاقِي مُسْتَحَبًّا.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الْقِيَامُ فِي رَمَضَانَ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً أَوْ بِسِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَاسِعٌ أَيْ جَائِزٌ، فَقَدْ كَانَ السَّلَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ- ( (- يَقُومُونَ فِي رَمَضَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- فِي الْمَسَاجِدِ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً، ثُمَّ يُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ، ثُمَّ صَلُّوا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ سِتًّا وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً غَيْرَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ.
قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ، قَالَ: هُوَ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ أَيْ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَقَالُوا: كَرِهَ مَالِكٌ نَقْصَهَا عَمَّا جُعِلَتْ بِالْمَدِينَةِ.
وَعَنْ مَالِكٍ- أَيْ فِي غَيْرِ الْمُدَوَّنَةِ- قَالَ: الَّذِي يَأْخُذُ بِنَفْسِي فِي ذَلِكَ الَّذِي جَمَعَ عُمَرُ عَلَيْهِ النَّاسَ، إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْهَا الْوِتْرُ، وَهِيَ صَلَاةُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَفِي الْمَذْهَبِ أَقْوَالٌ وَتَرْجِيحَاتٌ أُخْرَى.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلِأَهْلِ الْمَدِينَةِ فِعْلُهَا سِتًّا وَثَلَاثِينَ؛ لِأَنَّ الْعِشْرِينَ خَمْسُ تَرْوِيحَاتٍ، وَكَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يَطُوفُونَ بَيْنَ كُلِّ تَرْوِيحَتَيْنِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، فَحَمَلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بَدَلَ كُلِّ أُسْبُوعٍ تَرْوِيحَةً لِيُسَاوُوهُمْ، قَالَ الشَّيْخَانِ: وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ.وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا قَالَ الرَّمْلِيُّ لِأَنَّ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ شَرَفًا بِهِجْرَتِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَمَدْفِنِهِ، وَخَالَفَ الْحَلِيمِيُّ فَقَالَ: وَمَنَ اقْتَدَى بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ فَقَامَ بِسِتٍّ وَثَلَاثِينَ فَحَسَنٌ أَيْضًا.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَنْقُصُ مِنَ الْعِشْرِينَ رَكْعَةً، وَلَا بَأْسَ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا نَصًّا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: رَأَيْتُ أَبِي يُصَلِّي فِي رَمَضَانَ مَا لَا أُحْصِي، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدُ يَقُومُ بِأَرْبَعِينَ رَكْعَةً وَيُوتِرُ بَعْدَهَا بِسَبْعٍ.
قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَالْأَفْضَلُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُصَلِّينَ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمُ احْتِمَالٌ لِطُولِ الْقِيَامِ، فَالْقِيَامُ بِعَشْرِ رَكَعَاتٍ وَثَلَاثٍ بَعْدَهَا، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي لِنَفْسِهِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ هُوَ الْأَفْضَلُ.وَإِنْ كَانُوا لَا يَحْتَمِلُونَهُ فَالْقِيَامُ بِعِشْرِينَ هُوَ الْأَفْضَلُ.وَهُوَ الَّذِي يَعْمَلُ بِهِ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ وَسَطٌ بَيْنَ الْعَشْرِ وَبَيْنَ الْأَرْبَعِينَ، وَإِنْ قَامَ بِأَرْبَعِينَ وَغَيْرِهَا جَازَ ذَلِكَ وَلَا يُكْرَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ.قَالَ: وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ فِيهِ عَدَدٌ مُوَقَّتٌ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ فَقَدْ أَخْطَأَ.
الِاسْتِرَاحَةُ بَيْنَ كُلِّ تَرْوِيحَتَيْنِ:
12- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الِاسْتِرَاحَةِ بَعْدَ كُلِّ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَوَارَثُ عَنِ السَّلَفِ، فَقَدْ كَانُوا يُطِيلُونَ الْقِيَامَ فِي التَّرَاوِيحِ وَيَجْلِسُ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُونَ بَعْدَ كُلِّ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ لِلِاسْتِرَاحَةِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُنْدَبُ الِانْتِظَارُ بَيْنَ كُلِّ تَرْوِيحَتَيْنِ، وَيَكُونُ قَدْرَ تَرْوِيحَةٍ، وَيَشْغَلُ هَذَا الِانْتِظَارَ بِالسُّكُوتِ أَوِ الصَّلَاةِ فُرَادَى أَوِ الْقِرَاءَةِ أَوِ التَّسْبِيحِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا بَأْسَ بِتَرْكِ الِاسْتِرَاحَةِ بَيْنَ كُلِّ تَرْوِيحَتَيْنِ، وَلَا يُسَنُّ دُعَاءٌ مُعَيَّنٌ إِذَا اسْتَرَاحَ لِعَدَمِ وُرُودِهِ.
التَّسْلِيمُ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ:
13- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَنْ يُصَلِّي التَّرَاوِيحَ يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ التَّرَاوِيحَ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ فَتَكُونُ مَثْنَى مَثْنَى، لِحَدِيثِ: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى» وَلِأَنَّ التَّرَاوِيحَ تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ فَيُرَاعَى فِيهَا التَّيْسِيرُ بِالْقَطْعِ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ لِأَنَّ مَا كَانَ أَدْوَمَ تَحْرِيمَةً كَانَ أَشَقَّ عَلَى النَّاسِ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ صَلَّى التَّرَاوِيحَ وَلَمْ يُسَلِّمْ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ:
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ صَلَّى التَّرَاوِيحَ كُلَّهَا بِتَسْلِيمَةٍ وَقَعَدَ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَصِحُّ صَلَاتُهُ عَنِ الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِجَمِيعِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَشَرَائِطِهَا؛ لِأَنَّ تَجْدِيدَ التَّحْرِيمَةِ لِكُلِّ رَكْعَتَيْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُمْ، لَكِنَّهُ يُكْرَهُ إِنْ تَعَمَّدَ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ؛ لِمُخَالَفَتِهِ الْمُتَوَارَثَ، وَتَصْرِيحُهُمْ بِكَرَاهَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى ثَمَانٍ فِي صَلَاةِ مُطْلَقِ التَّطَوُّعِ فَهُنَا أَوْلَى.
وَقَالُوا: إِذَا لَمْ يَقْعُدْ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَفْسُدُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَلَا تَفْسُدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا تَجُوزُ عَنْ تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَكُونَ الشَّفْعُ الْأَوَّلُ كَامِلاً، وَكَمَالُهُ بِالْقَعْدَةِ وَلَمْ تُوجَدْ، وَالْكَامِلُ لَا يَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُنْدَبُ لِمَنْ صَلَّى التَّرَاوِيحَ التَّسْلِيمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُ التَّسْلِيمِ بَعْدَ كُلِّ أَرْبَعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلَ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ فَالْأَفْضَلُ لَهُ السَّلَامُ بَعْدَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ صَلَّى فِي التَّرَاوِيحِ أَرْبَعًا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَصِحَّ، فَتَبْطُلُ إِنْ كَانَ عَامِدًا عَالِمًا، وَإِلاَّ صَارَتْ نَفْلاً مُطْلَقًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّرَاوِيحَ أَشْبَهَتِ الْفَرَائِضَ فِي طَلَبِ الْجَمَاعَةِ فَلَا تُغَيَّرُ عَمَّا وَرَدَ.
وَلَمْ نَجِدْ لِلْحَنَابِلَةِ كَلَامًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
الْقُعُودُ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ:
14- جَاءَ فِي مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مَنْ يُصَلِّي التَّرَاوِيحَ قَاعِدًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الْكَرَاهَةِ تَنْزِيهًا لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ الْمُتَوَارَثَةِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: يُكْرَهُ لِلْمُقْتَدِي أَنْ يَقْعُدَ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ، فَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ يُكْرَهُ تَحْرِيمًا؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِظْهَارَ التَّكَاسُلِ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّشَبُّهَ بِالْمُنَافِقِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِكَسَلٍ بَلْ لِكِبَرٍ وَنَحْوِهِ لَا يُكْرَهُ وَلَمْ نَجِدْ مِثْلَ هَذَا لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقْتُ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ:
15- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ وَقْتَ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَقَبْلِ الْوِتْرِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ؛ لِنَقْلِ الْخَلَفِ عَنِ السَّلَفِ، وَلِأَنَّهَا عُرِفَتْ بِفِعْلِ الصَّحَابَةِ فَكَانَ وَقْتُهَا مَا صَلَّوْا فِيهِ، وَهُمْ صَلَّوْا بَعْدَ الْعِشَاءِ قَبْلَ الْوِتْرِ؛ وَلِأَنَّهَا سُنَّةٌ تَبَعٌ لِلْعِشَاءِ فَكَانَ وَقْتُهَا قَبْلَ الْوِتْرِ.
وَلَوْ صَلاَّهَا بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَقَبْلَ الْعِشَاءِ فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ عَنِ التَّرَاوِيحِ، وَتَكُونُ نَافِلَةً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ اللَّيْلِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ قَبْلَ الْعِشَاءِ وَبَعْدَهَا وَقْتٌ لِلتَّرَاوِيحِ؛ لِأَنَّهَا سُمِّيَتْ قِيَامَ اللَّيْلِ فَكَانَ وَقْتُهَا اللَّيْلَ.
وَعَلَّلَ الْحَنَابِلَةُ عَدَمَ الصِّحَّةِ بِأَنَّهَا تُفْعَلُ بَعْدَ مَكْتُوبَةٍ وَهِيَ الْعِشَاءُ فَلَمْ تَصِحَّ قَبْلَهَا كَسُنَّةِ الْعِشَاءِ، وَقَالُوا: إِنَّ التَّرَاوِيحَ تُصَلَّى بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَبَعْدَ سُنَّتِهَا، قَالَ الْمَجْدُ: لِأَنَّ سُنَّةَ الْعِشَاءِ يُكْرَهُ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِ الْعِشَاءِ الْمُخْتَارِ، فَكَانَ إِتْبَاعُهَا لَهَا أَوْلَى.
وَلَوْ صَلاَّهَا بَعْدَ الْعِشَاءِ وَبَعْدَ الْوِتْرِ فَالْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهَا تُجْزِئُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ التَّرَاوِيحِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِهِ، وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي أَدَائِهَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ، فَقِيلَ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْعِشَاءِ كَسُنَّتِهَا، وَالصَّحِيحُ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهَا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَالْأَفْضَلُ فِيهَا آخِرُهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ صَلَاتَهَا أَوَّلَ اللَّيْلِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَقُومُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَوَّلَهُ، وَقَدْ قِيلَ لِأَحْمَد: يُؤَخَّرُ الْقِيَامُ أَيْ فِي التَّرَاوِيحِ إِلَى آخِرِ اللَّيْلِ؟ قَالَ: سُنَّةُ الْمُسْلِمِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ.
الْجَمَاعَةُ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ:
16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْجَمَاعَةِ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ؛ لِفِعْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- كَمَا سَبَقَ، وَلِفِعْلِ الصَّحَابَةِ- رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ- وَمَنْ تَبِعَهُمْ مُنْذُ زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- ؛ وَلِاسْتِمْرَارِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ حَتَّى الْآنِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ سُنَّةٌ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ بِالْجَمَاعَةِ سُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ فِي الْأَصَحِّ، فَلَوْ تَرَكَهَا الْكُلُّ أَسَاءُوا، أَمَّا لَوْ تَخَلَّفَ عَنْهَا رَجُلٌ مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ وَصَلَّى فِي بَيْتِهِ فَقَدْ تَرَكَ الْفَضِيلَةَ، وَإِنْ صَلَّى فِي الْبَيْتِ بِالْجَمَاعَةِ لَمْ يَنَلْ فَضْلَ جَمَاعَةِ الْمَسْجِدِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: تُنْدَبُ صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ فِي الْبُيُوتِ إِنْ لَمْ تُعَطَّلِ الْمَسَاجِدُ، وَذَلِكَ لِخَبَرِ: «عَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ» وَلِخَوْفِ الرِّيَاءِ وَهُوَ حَرَامٌ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا صَلاَّهَا فِي بَيْتِهِ، هَلْ يُصَلِّيهَا وَحْدَهُ أَوْ مَعَ أَهْلِ بَيْتِهِ؟ قَوْلَانِ، قَالَ الزَّرْقَانِيُّ: لَعَلَّهُمَا فِي الْأَفْضَلِيَّةِ سَوَاءٌ.
وَنَدْبُ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ- فِي الْبُيُوتِ عِنْدَهُمْ- مَشْرُوطٌ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَنْ لَا تُعَطَّلَ الْمَسَاجِدُ، وَأَنْ يَنْشَطَ لِفِعْلِهَا فِي بَيْتِهِ، وَلَا يَقْعُدَ عَنْهَا، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ آفَاقِيٍّ بِالْحَرَمَيْنِ، فَإِنْ تَخَلَّفَ شَرْطٌ كَانَ فِعْلُهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلَ، وَقَالَ الزَّرْقَانِيُّ: يُكْرَهُ لِمَنْ فِي الْمَسْجِدِ الِانْفِرَادُ بِهَا عَنِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي يُصَلُّونَهَا فِيهِ، وَأَوْلَى إِذَا كَانَ انْفِرَادُهُ يُعَطِّلُ جَمَاعَةَ الْمَسْجِدِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تُسَنُّ الْجَمَاعَةُ فِي التَّرَاوِيحِ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ؛ وَلِلْأَثَرِ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- وَلِعَمَلِ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ.
وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الِانْفِرَادَ بِصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ أَفْضَلُ كَغَيْرِهَا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ لِبُعْدِهِ عَنِ الرِّيَاءِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ جَمَاعَةً أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فُرَادَى، قَالَ أَحْمَدُ: كَانَ عَلِيٌّ وَجَابِرٌ وَعَبْدُ اللَّهِ- رضي الله عنهم- يُصَلُّونَهَا فِي الْجَمَاعَةِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- جَمَعَ أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ، وَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ».
وَقَالُوا: إِنْ تَعَذَّرَتِ الْجَمَاعَةُ صَلَّى وَحْدَهُ لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»
الْقِرَاءَةُ وَخَتْمُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي التَّرَاوِيحِ:
17- ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَأَكْثَرُ الْمَشَايِخِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَخْتِمَ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ لِيَسْمَعَ النَّاسُ جَمِيعَ الْقُرْآنِ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: السُّنَّةُ الْخَتْمُ مَرَّةً، فَلَا يَتْرُكُ الْإِمَامُ الْخَتْمَ لِكَسَلِ الْقَوْمِ، بَلْ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ عَشَرَ آيَاتٍ أَوْ نَحْوَهَا، فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ الْخَتْمُ؛ لِأَنَّ عَدَدَ رَكَعَاتِ التَّرَاوِيحِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سِتُّمِائَةِ رَكْعَةٍ، أَوْ خَمْسُمِائَةٍ وَثَمَانُونَ، وَآيُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ سِتُّ آلَافٍ وَشَيْءٌ.
وَيُقَابِلُ قَوْلَ هَؤُلَاءِ مَا قِيلَ: الْأَفْضَلُ أَنْ يَقْرَأَ قَدْرَ قِرَاءَةِ الْمَغْرِبِ لِأَنَّ النَّوَافِلَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّخْفِيفِ خُصُوصًا بِالْجَمَاعَةِ، وَمَا قِيلَ: يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ثَلَاثِينَ آيَةً لِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَمَرَ بِذَلِكَ، فَيَقَعُ الْخَتْمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ عَشْرٍ فَضِيلَةً كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، «أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ وَأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ وَآخِرُهُ عِتْقٌ مِنَ النَّارِ».
وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: مَا أَمَرَ بِهِ عُمَرُ- رضي الله عنه- هُوَ مِنْ بَابِ الْفَضِيلَةِ، وَهُوَ أَنْ يَخْتِمَ الْقُرْآنَ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَهَذَا فِي زَمَانِهِمْ، وَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقْرَأَ الْإِمَامُ عَلَى حَسَبِ حَالِ الْقَوْمِ، فَيَقْرَأُ قَدْرَ مَا لَا يُنَفِّرُهُمْ عَنِ الْجَمَاعَةِ؛ لِأَنَّ تَكْثِيرَ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ.
وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ مَنَ اسْتَحَبَّ الْخَتْمَ لَيْلَةَ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ رَجَاءَ أَنْ يَنَالُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَإِذَا خَتَمَ قَبْلَ آخِرِهِ.قِيلَ: لَا يُكْرَهُ لَهُ التَّرَاوِيحُ فِيمَا بَقِيَ، قِيلَ: يُصَلِّيهَا وَيَقْرَأُ فِيهَا مَا يَشَاءُ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُنْدَبُ لِلْإِمَامِ الْخَتْمُ لِجَمِيعِ الْقُرْآنِ فِي التَّرَاوِيحِ فِي الشَّهْرِ كُلِّهِ، وَقِرَاءَةُ سُورَةٍ فِي تَرَاوِيحِ جَمِيعِ الشَّهْرِ تُجْزِئُ، وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ سُورَةٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، أَوْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ مِنْ تَرَاوِيحِ كُلِّ لَيْلَةٍ فِي جَمِيعِ الشَّهْرِ تُجْزِئُ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الْأَوْلَى إِذَا كَانَ يَحْفَظُ غَيْرَهَا أَوْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ غَيْرَهُ، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: فِي الْمُدَوَّنَةِ لِمَالِكٍ: وَلَيْسَ الْخَتْمُ بِسُنَّةٍ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْتَدِئَ التَّرَاوِيحَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ بِسُورَةِ الْقَلَمِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} بَعْدَ الْفَاتِحَةِ لِأَنَّهَا أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَإِذَا سَجَدَ لِلتِّلَاوَةِ قَامَ فَقَرَأَ مِنَ الْبَقَرَةِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَدْ بَلَغَهُ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ، وَعَنْهُ: أَنَّهُ يَقْرَأُ بِسُورَةِ الْقَلَمِ فِي عِشَاءِ الْآخِرَةِ مِنَ اللَّيْلَةِ الْأُولَى مِنْ رَمَضَانَ.
قَالَ الشَّيْخُ: وَهُوَ أَحْسَنُ مِمَّا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِهَا التَّرَاوِيحَ وَيَخْتِمُ آخِرَ رَكْعَةٍ مِنَ التَّرَاوِيحِ قَبْلَ رُكُوعِهِ وَيَدْعُو، نَصَّ عَلَيْهِ.
الْمَسْبُوقُ فِي التَّرَاوِيحِ:
18- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: مَنْ فَاتَهُ بَعْضُ التَّرَاوِيحِ وَقَامَ الْإِمَامُ إِلَى الْوِتْرِ أَوْتَرَ مَعَهُ ثُمَّ صَلَّى مَا فَاتَهُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً فَلَا يَخْلُو أَنْ تَكُونَ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ مِنَ التَّرْوِيحَةِ أَوْ مِنَ الْأُولَيَيْنِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْأَخِيرَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَقْضِي الرَّكْعَةَ الَّتِي فَاتَتْهُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ فِي أَثْنَاءِ فَتْرَةِ الرَّاحَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ سَلَامَهُ وَلَكِنْ يَقُومُ فَيَصْحَبُ الْإِمَامَ فَإِذَا قَامَ الْإِمَامُ مِنَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنَ الْأُخْرَيَيْنِ تَشَهَّدَ وَسَلَّمَ ثُمَّ دَخَلَ مَعَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ فَصَلَّى مِنْهُمَا رَكْعَةً ثُمَّ قَضَى الثَّانِيَةَ مِنْهُمَا حِينَ انْفِرَادِهِ بِالتَّنَفُّلِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَمَّنْ أَدْرَكَ مِنْ تَرْوِيحَةٍ رَكْعَتَيْنِ يُصَلِّي إِلَيْهَا رَكْعَتَيْنِ؟ فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ: هِيَ تَطَوُّعٌ.
قَضَاءُ التَّرَاوِيحِ:
19- إِذَا فَاتَتْ صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ عَنْ وَقْتِهَا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي ظَاهِرِ كَلَامِهِمْ إِلَى أَنَّهَا لَا تُقْضَى؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِآكَدَ مِنْ سُنَّةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَتِلْكَ لَا تُقْضَى فَكَذَلِكَ هَذِهِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ قَضَاهَا كَانَتْ نَفْلاً مُسْتَحَبًّا لَا تَرَاوِيحَ كَرَوَاتِبِ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّهَا مِنْهَا، وَالْقَضَاءُ عِنْدَهُمْ مِنْ خَوَاصِّ الْفَرْضِ وَسُنَّةُ الْفَجْرِ بِشَرْطِهَا.
وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤَدِّ التَّرَاوِيحَ فِي وَقْتِهَا فَإِنَّهُ يَقْضِيهَا وَحْدَهُ مَا لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُ تَرَاوِيحَ أُخْرَى، وَقِيلَ: مَا لَمْ يَمْضِ الشَّهْرُ.
وَلَمْ نَجِدْ تَصْرِيحًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
لَكِنْ قَالَ النَّوَوِيُّ: لَوْ فَاتَ النَّفَلُ الْمُؤَقَّتُ نُدِبَ قَضَاؤُهُ فِي الْأَظْهَرِ.
- رحمه الله-
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
98-موسوعة الفقه الكويتية (صلاة التطوع)
صَلَاةُ التَّطَوُّعِالتَّعْرِيفُ:
1- التَّطَوُّعُ لُغَةً: التَّبَرُّعُ، يُقَالُ: تَطَوَّعَ بِالشَّيْءِ، تَبَرَّعَ بِهِ، وَمِنْ مَعَانِيهِ فِي الِاصْطِلَاحِ أَنَّهُ اسْمٌ لِمَا شُرِعَ زِيَادَةً عَلَى الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ.أَوْ مَا كَانَ مَخْصُوصًا بِطَاعَةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ، أَوْ هُوَ الْفِعْلُ الْمَطْلُوبُ طَلَبًا غَيْرَ جَازِمٍ.وَتَفْصِيلُ الِاصْطِلَاحَاتِ الْفِقْهِيَّةِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَطَوُّع).
وَصَلَاةُ التَّطَوُّعِ هِيَ مَا زَادَتْ عَلَى الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ.«لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثِ السَّائِلِ عَنِ الْإِسْلَامِ خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَقِيلَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا قَالَ: لَا، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ».
أَنْوَاعُ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ:
2- الْأَصْلُ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ أَنْ تُؤَدَّى عَلَى انْفِرَادٍ، وَهِيَ أَنْوَاعٌ:
مِنْهَا: السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ، وَهِيَ السُّنَنُ التَّابِعَةُ لِلْفَرَائِضِ، وَهِيَ عَشْرُ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَانِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَهُ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَانِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: «وَأَرْبَعٌ قَبْلَ الْعَصْرِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا» وَآكَدُ هَذِهِ الرَّكَعَاتِ رَكْعَتَا الْفَجْرِ».
حَيْثُ قَالَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: «لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَشَدُّ مِنْهُ تَعَاهُدًا عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ».
وَمِنْ هَذِهِ السُّنَنِ مَا يَتَقَدَّمُ عَلَى الْفَرَائِضِ، وَمِنْهَا مَا يَتَأَخَّرُ عَنْهَا، وَفِي ذَلِكَ مَعْنًى لَطِيفٌ مُنَاسِبٌ:
أَمَّا فِي التَّقْدِيمِ فَلِأَنَّ النُّفُوسَ- لِاشْتِغَالِهَا بِأَسْبَابِ الدُّنْيَا- بَعِيدَةٌ عَنْ حَالِ الْخُشُوعِ وَالْحُضُورِ الَّتِي هِيَ رَوْحُ الْعِبَادَةِ، فَإِذَا قُدِّمَتِ النَّوَافِلُ عَلَى الْفَرَائِضِ أَنِسَتِ النَّفْسُ بِالْعِبَادَةِ.
وَأَمَّا تَأْخِيرُهَا عَنْهَا فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّوَافِلَ جَابِرَةٌ لِنَقْصِ الْفَرَائِضِ، فَإِذَا وَقَعَ الْفَرْضُ نَاسَبَ أَنْ يَقَعَ بَعْدَهُ مَا يُجْبِرُ الْخَلَلَ الَّذِي قَدْ يَقَعُ فِيهِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ: (رَاتِب، وَسُنَن رَوَاتِب).
وَمِنْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ صَلَوَاتٌ مُعَيَّنَةٌ غَيْرُ السُّنَنِ مَعَ الْفَرَائِضِ وَالتَّطَوُّعَاتِ الْمُطْلَقَةِ وَمِنْهَا:
3- صَلَاةُ الضُّحَى: وَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: «أَوْصَانِي خَلِيلِي- صلى الله عليه وسلم- بِثَلَاثٍ لَا أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ: صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلَاةِ الضُّحَى، وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ».
انْظُرْ (صَلَاةُ الضُّحَى؛ وَصَلَاةُ الْأَوَّابِينَ).
4- صَلَاةُ التَّسْبِيحِ: لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- دَعَاهُ إِلَى صَلَاتِهَا مَرَّةً كُلَّ يَوْمٍ، أَوْ كُلَّ جُمُعَةٍ، أَوْ كُلَّ شَهْرٍ، أَوْ كُلَّ سَنَةٍ، أَوْ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً».
وَقَالَ أَحْمَدُ عَنْهَا: لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يَصِحُّ، وَلَمْ يَرَهَا مُسْتَحَبَّةً، وَإِنْ فَعَلَهَا إِنْسَانٌ فَلَا بَأْسَ، فَإِنَّ النَّوَافِلَ وَالْفَضَائِلَ لَا يُشْتَرَطُ صِحَّةُ الْحَدِيثِ فِيهَا.
وَأَمْثِلَةُ الصَّلَاةِ الْمُتَطَوَّعِ بِهَا كَثِيرَةٌ كَصَلَاةِ الِاسْتِخَارَةِ، وَصَلَاةِ الْحَاجَةِ، وَصَلَاةِ التَّوْبَةِ، وَصَلَاةِ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَرَكْعَتَيِ السَّفَرِ وَغَيْرِهَا فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحَاتِهَا الْخَاصَّةِ.
الْفَرْقُ بَيْنَ أَحْكَامِ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ وَأَحْكَامِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ:
5- صَلَاةُ التَّطَوُّعِ تُفَارِقُ صَلَاةَ الْفَرْضِ فِي أَشْيَاءَ مِنْهَا:
الصَّلَاةِ جُلُوسًا: يَجُوزُ التَّطَوُّعُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ خَيْرٌ دَائِمٌ، فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ الْقِيَامَ لَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ إِدَامَةُ هَذَا الْخَيْرِ.
أَمَّا الْفَرْضُ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَلَا يَكُونُ فِي إِلْزَامِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ حَرَجٌ.
الْقِرَاءَةِ: الْقِرَاءَةُ فِي التَّطَوُّعِ تَكُونُ فِيمَا سِوَى الْفَاتِحَةِ فِي الرَّكَعَاتِ كُلِّهَا، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فِي الرُّبَاعِيَّةِ وَالثُّلَاثِيَّةِ مِنَ الْمَكْتُوبَاتِ فَهِيَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فَقَطْ، وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (قِرَاءَة).
الْجُلُوسِ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ: الْجُلُوسُ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ وَالثُّلَاثِيَّةِ فِي الْفَرَائِضِ لَيْسَ بِفَرْضٍ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا يَفْسُدُ الْفَرْضُ بِتَرْكِهِ، وَفِي التَّطَوُّعِ اخْتِلَافٌ.انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (صَلَاة).
الْجَمَاعَةُ فِي التَّطَوُّعِ: الْجَمَاعَةُ فِي التَّطَوُّعِ لَيْسَتْ بِسُنَّةٍ إِلاَّ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، وَفِي الْفَرْضِ وَاجِبَةٌ أَوْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي مَسْجِدِي هَذَا إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ».
انْظُرْ: (صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ).
الْوَقْتُ وَالْمِقْدَارُ: التَّطَوُّعُ الْمُطْلَقُ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بِوَقْتٍ خَاصٍّ، وَلَا مُقَدَّرٍ بِمِقْدَارٍ خَاصٍّ، فَيَجُوزُ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ عَلَى أَيِّ مِقْدَارٍ كَانَ، إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَعَلَى بَعْضِ الْمَقَادِيرِ.
وَالْفَرْضُ مُقَدَّرٌ بِمِقْدَارٍ خَاصٍّ، مُوَقَّتٌ بِأَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْرِهِ.انْظُرْ: (أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ).
النِّيَّةِ: يَتَأَدَّى التَّطَوُّعُ الْمُطْلَقُ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ، وَلَا يَتَأَدَّى الْفَرْضُ إِلاَّ بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ، انْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي: (نِيَّة).
الصَّلَاةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا: يَجُوزُ التَّنَفُّلُ عَلَى الدَّابَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّزُولِ، أَمَّا أَدَاءُ الْفَرْضِ عَلَى الدَّابَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ.عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلَافٍ يُنْظَرُ فِي: (الصَّلَاةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ).
الصَّلَاةُ فِي الْكَعْبَةِ وَعَلَى ظَهْرِهَا: لَا تَصِحُّ الْفَرِيضَةُ فِي الْكَعْبَةِ وَلَا عَلَى ظَهْرِهَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لقوله تعالى: {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} وَالْمُصَلِّي فِيهَا أَوْ عَلَى ظَهْرِهَا غَيْرُ مُسْتَقْبِلٍ لَهَا؛ وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَقْبِلٌ لِجُزْءٍ مِنْهَا.
وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ مَعَ الْقُدْرَةِ إِلاَّ فِي النَّفْلِ لِلْمُسَافِرِ السَّائِرِ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا فَيُصَلِّي حَيْثُ تَوَجَّهَ، وَقِيلَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلاَّ لِلرَّاكِبِ.
وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ.صَلَاةَ الْفَرِيضَةِ فِي الْكَعْبَةِ وَعَلَى ظَهْرِهَا؛ لِأَنَّهُ مَسْجِدٌ؛ وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِصَلَاةِ النَّفْلِ، فَكَانَ مَحَلًّا لِلْفَرْضِ كَخَارِجِهَا.وَلَكِنْ النَّافِلَةُ مَبْنَاهَا عَلَى التَّخْفِيفِ وَالْمُسَامَحَةِ بِدَلِيلِ صَلَاتِهَا قَاعِدًا وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، وَفِي السَّفَرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَقَدْ «صَلَّى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ».
مَا يُكْرَهُ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ:
6- الْمَكْرُوهُ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ نَوْعَانِ.
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَا يَرْجِعُ إِلَى الْقَدْرِ.
تُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي النَّهَارِ، وَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، فَلِلْمُصَلِّي أَنْ يُصَلِّيَ سِتًّا وَثَمَانِيًا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّوَافِلَ شُرِعَتْ تَبَعًا لِلْفَرَائِضِ، وَالتَّبَعُ لَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ فَلَوْ زِيدَتْ عَلَى الْأَرْبَعِ فِي النَّهَارِ لَخَالَفَتِ الْفَرَائِضَ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي اللَّيْلِ، إِلاَّ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَرْبَعِ إِلَى الثَّمَانِي أَوْ إِلَى السِّتِّ مَعْرُوفٌ بِالنَّصِّ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ «النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ خَمْسَ رَكَعَاتٍ، سَبْعَ رَكَعَاتٍ، تِسْعَ رَكَعَاتٍ، إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً».
وَالثَّلَاثُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْدَادِ الْوِتْرُ وَرَكْعَتَانِ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ سُنَّةُ الْفَجْرِ، فَيَبْقَى رَكْعَتَانِ وَأَرْبَعٌ وَسِتٌّ وَثَمَانٌ، فَيَجُوزُ إِلَى هَذَا الْقَدْرِ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ.
7- وَاخْتَلَفُوا فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّمَانِي بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ:
قَالَ بَعْضُهُمْ: يُكْرَهُ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ عَلَى هَذَا لَمْ تُرْوَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُكْرَهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ السَّرَخْسِيُّ.قَالَ: لِأَنَّ فِيهِ وَصْلَ الْعِبَادَةِ بِالْعِبَادَةِ فَلَا يُكْرَهُ.
وَقَدْ حُكِيَ عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيِّ أَنَّ مُنْتَهَى صَلَاةِ الضُّحَى- عِنْدَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ- ثَمَانٍ، وَأَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ، وَأَوْسَطُهَا سِتٌّ، فَمَا زَادَ عَلَى الْأَكْثَرِ يُكْرَهُ.
النَّوْعُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا يَرْجِعُ إِلَى الْوَقْتِ.
8- فَيُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ، بَعْضُهَا يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهَا لِمَعْنًى فِي الْوَقْتِ، وَبَعْضُهَا يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهَا لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْوَقْتِ: فَأَمَّا الَّذِي يُكْرَهُ التَّطَوُّعُ فِيهَا لِمَعْنًى يَرْجِعُ إِلَى الْوَقْتِ فَهِيَ: مَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ تَرْتَفِعَ وَتَبْيَضَّ.عِنْدَ اسْتِوَاءِ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ تَزُولَ.عِنْدَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ، وَهُوَ احْمِرَارُهَا وَاصْفِرَارُهَا إِلَى أَنْ تَغْرُبَ. وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي: (أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ).
9- وَمِنَ الْأَوْقَاتِ الَّتِي يُكْرَهُ فِيهَا التَّطَوُّعُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْوَقْتِ مَا بَعْدَ الْغُرُوبِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَأْخِيرَ الْمَغْرِبِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ.
وَمِنْهَا مَا بَعْدَ شُرُوعِ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَبْلَ شُرُوعِهِ بَعْدَمَا أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ؛ قَضَاءً لِحَقِّ الْجَمَاعَةِ.
وَمِنْهَا وَقْتُ الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِتَرْكِ اسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ.
وَمِنْهَا مَا بَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ لِلْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَغِلَ بِهَا وَمَا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَشْرَعَ فِي الصَّلَاةِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ عَلَى خِلَافٍ فِيهَا انْظُرْ: (تَحِيَّة).
وَمِنْهَا مَا قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَتَطَوَّعْ قَبْلَ الْعِيدَيْنِ مَعَ شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى الصَّلَاةِ»، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ أَنَّهُمَا كَانَا يَنْهَيَانِ النَّاسَ عَنِ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْعِيدِ؛ لِأَنَّ الْمُبَادَرَةَ إِلَى صَلَاةِ الْعِيدِ مَسْنُونَةٌ، وَفِي الِاشْتِغَالِ بِالتَّطَوُّعِ تَأْخِيرُهَا، وَلَوِ اشْتَغَلَ بِأَدَاءِ التَّطَوُّعِ فِي بَيْتِهِ يَقَعُ فِي وَقْتِ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَكِلَاهُمَا مَكْرُوهٌ، وَقِيلَ إِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي الْمُصَلَّى كَيْ لَا يَشْتَبِهَ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ الْعِيدَ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ، فَأَمَّا فِي بَيْتِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَطَوَّعَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ.وَعَامَّةُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَطَوَّعُ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ، لَا فِي الْمُصَلَّى وَلَا فِي بَيْتِهِ، فَأَوَّلُ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ صَلَاةُ الْعِيدِ.
الْأَوْقَاتُ الْمُسْتَحَبَّةُ لِلنَّفْلِ:
10- النَّوَافِلُ الْمُطْلَقَةُ تُشْرَعُ فِي اللَّيْلِ كُلِّهِ وَفِي النَّهَارِ فِيمَا سِوَى أَوْقَاتِ النَّهْيِ، وَتَطَوُّعُ اللَّيْلِ أَفْضَلُ مِنْ تَطَوُّعِ النَّهَارِ.قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَفْضَلُ الصَّلَاةَ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ، وَأَفْضَلُ التَّهَجُّدِ جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرِ» وَلِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ اللَّيْلِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: جَوْفُ اللَّيْلِ الْآخِرِ».
وَيُسْتَحَبُّ الْوِتْرُ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ.وَالْأَفْضَلُ فِعْلُ الْوِتْرِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ، فَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَقُومُ آخِرَ اللَّيْلِ فَلْيَفْعَلْهُ فِي أَوَّلِهِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ، فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ وَذَلِكَ أَفْضَلُ» انْظُرْ: (صَلَاةُ الْوِتْرِ).
الشُّرُوعُ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ:
11- يَلْزَمُ النَّفَلُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ- عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ- لقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وَلِأَنَّ مَا أَدَّاهُ صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ صِيَانَتُهُ بِلُزُومِ الْبَاقِي.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيمَا لَمْ يَفْعَلْ بَعْدُ، فَلَهُ إِبْطَالُ مَا أَدَّاهُ تَبَعًا.
12- وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا شَرَعَ الْمُتَطَوِّعُ فِي الصَّلَاةِ فَقَدْ قِيلَ: لَا يَلْزَمُ بِالِافْتِتَاحِ أَكْثَرُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ نَوَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ بِعَارِضِ الِاقْتِدَاءِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ:
الْأُولَى- أَنَّ مَنِ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ يَنْوِي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ أَفْسَدَهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ أَرْبَعًا. الثَّانِيَةُ- أَنَّ مَنِ افْتَتَحَ النَّافِلَةَ يَنْوِي عَدَدًا يَلْزَمُهُ بِالِافْتِتَاحِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ رَكْعَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي كَوْنِهِ سَبَبًا لِلُّزُومِ كَالنَّذْرِ، ثُمَّ يَلْزَمُهُ بِالنَّذْرِ جَمِيعُ مَا تَنَاوَلَهُ كَذَا بِالشُّرُوعِ.
الثَّالِثَةُ- أَنَّ مَنْ نَوَى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لَزِمَهُ، وَإِنْ نَوَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ.وَكَذَا فِي السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِالشُّرُوعِ فِيهَا إِلاَّ رَكْعَتَانِ، حَتَّى لَوْ قَطَعَهَا قَضَى رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّهُ نَفْلٌ، وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ وَمُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ قَضَى أَرْبَعًا.
وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ رَكْعَتَانِ بِالشُّرُوعِ فَفَرَغَ مِنْهُمَا وَقَعَدَ عَلَى رَأْسِ الرَّكْعَتَيْنِ وَقَامَ إِلَى الثَّالِثَةِ عَلَى قَصْدِ الْأَدَاءِ يَلْزَمُهُ إِتْمَامُ رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ وَيَبْنِيهِمَا عَلَى التَّحْرِيمَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْمُؤَدَّى صَارَ عِبَادَةً فَيَجِبُ عَلَيْهِ إِتْمَامُ الرَّكْعَتَيْنِ صِيَانَةً لَهُ عَنِ الْبُطْلَانِ.
الْأَفْضَلُ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ:
13- أَفْضَلُ التَّطَوُّعِ فِي النَّهَارِ أَرْبَعٌ أَرْبَعٌ فِي قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ فَقَدْ صَلَّى ابْنُ عُمَرَ صَلَاةَ التَّطَوُّعِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ بِالنَّهَارِ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ لَيْسَ فِيهِنَّ تَسْلِيمٌ، تُفْتَحُ لَهُنَّ أَبْوَابُ السَّمَاءِ» وَلِأَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى» أَنَّ صَلَاةَ النَّهَارِ رُبَاعِيَّةٌ جَوَازًا لَا تَفْضِيلًا.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: النَّوَافِلُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْأَفْضَلُ لِلْمُتَنَفِّلِ لَيْلًا وَنَهَارًا أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، لِخَبَرِ: «صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى».
وَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ: إِنَّهَا مَثْنَى.مَثْنَى.
وَصَلَاةُ اللَّيْلِ- عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- أَرْبَعٌ، احْتِجَاجًا بِمَا وَرَدَ عَنْ «عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي رَمَضَانَ فَقَالَتْ: مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ، وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا» وَكَلِمَةُ: (كَانَ) عِبَارَةٌ عَنِ الْعَادَةِ وَالْمُوَاظَبَةِ، وَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُوَاظِبُ إِلاَّ عَلَى أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، وَأَحَبَّهَا إِلَى اللَّهِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: صَلَاةُ التَّطَوُّعِ فِي اللَّيْلِ لَا تَجُوزُ إِلاَّ مَثْنَى مَثْنَى، وَالْأَفْضَلُ فِي تَطَوُّعِ النَّهَارِ كَذَلِكَ مَثْنَى مَثْنَى، وَإِنْ تَطَوَّعَ بِأَرْبَعٍ فِي النَّهَارِ فَلَا بَأْسَ.
مَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ:
لَيْسَ هُنَاكَ مَا يُفِيدُ تَوْقِيفًا فِي الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ، وَلَكِنْ هُنَاكَ مَا يُفِيدُ نَدْبَ آيَاتٍ أَوْ سُوَرٍ مُعَيَّنَةٍ فِي صَلَوَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، مِنْهَا عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ:
الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ:
14- يُسْتَحَبُّ فِي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ التَّخْفِيفُ، وَمِنْ صُوَرِ التَّخْفِيفِ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَقَطْ، وَقَدْ وَرَدَ عَنِ «النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ يُخَفِّفُ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ عَلَى مَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ قَالَتْ: حَتَّى إِنِّي أَقُولُ: هَلْ قَرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ؟».
وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَقَطْ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ مَعَ سُورَةٍ قَصِيرَةٍ.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ السُّورَتَيْنِ هُمَا: (الْكَافِرُونَ) وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}.
«وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: رَمَقْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- شَهْرًا، فَكَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ بِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ».
وَوَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ فِي الْأُولَى مِنْهُمَا: {قُولُوا آمَنَّا بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الْآيَةَ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ مِنْهُمَا: {آمَنَّا بِاَللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ».
وَرَوَى أَبُو دَاوُد «أَنَّهُ قَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} أَوْ {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} »، فَسُنَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِيَتَحَقَّقَ الْإِتْيَانُ بِالْوَارِدِ.
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ اخْتِلَافُ قِرَاءَتِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي تَعْيِينِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَوْقِيفَ فِي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي الْقِرَاءَةِ يُسْتَحَبُّ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِمَا الْمَرْءُ حِزْبَهُ مِنَ اللَّيْلِ.
الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ:
15- يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِمَا {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ «مَا أُحْصِي مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ بِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ».
رَكَعَاتُ الْوِتْرِ الثَّلَاثُ:
16- عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُوتِرُ بِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ».
وَعَنْ عَائِشَةَ مِثْلُهُ، وَقَالَتْ: «فِي الثَّالِثَةِ بِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ».
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ فِي الشَّفْعِ: لَمْ يَبْلُغْنِي فِيهِ شَيْءٌ مَعْلُومٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ: يُقْرَأُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي الْوِتْرِ؟ قَالَ: وَلِمَ لَا يُقْرَأُ؟، وَذَلِكَ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وَفِي الثَّانِيَةِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَفِي الثَّالِثَةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ». التَّحَوُّلُ مِنَ الْمَكَانِ لِلتَّطَوُّعِ بَعْدَ الْفَرْضِ:
17- مَنْ صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ وَأَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ، فَإِنْ كَانَ إِمَامًا اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْ مَكَانِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ إِمَامٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ تَحَوَّلَ، وَإِنْ شَاءَ تَطَوَّعَ فِي مَكَانِهِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّحَوُّلِ بَعْدَ الْفَرْضِ لِلْإِمَامِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمَا، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: الْفَصْلُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ بِالْكَلَامِ يَقُومُ مَقَامَ التَّحَوُّلِ.
وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ «السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ مُعَاوِيَةَ الْجُمُعَةَ فِي الْمَقْصُورَةِ فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ قُمْتُ فِي مَقَامِي فَصَلَّيْتُ، فَلَمَّا دَخَلَ أَرْسَلَ إِلَيَّ فَقَالَ: لَا تَعُدْ لِمَا فَعَلْتَ إِذَا صَلَّيْتَ الْجُمُعَةَ فَلَا تَصِلْهَا بِصَلَاةٍ حَتَّى تَكَلَّمَ أَوْ تَخْرُجَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَنَا بِذَلِكَ».
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمَا كَانَ يُعْجِبُهُمَا إِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ أَنْ يَتَقَدَّمَ.
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَإِسْحَاقَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، إِلاَّ أَنَّ مَالِكًا كَرِهَ لِلْمَأْمُومِ- أَيْضًا- التَّطَوُّعَ بَعْدَ الْجُمُعَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَحَوَّلَ.
وَقَدْ رَوَى عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يُصَلِّ الْإِمَامُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ حَتَّى يَتَحَوَّلَ».
الْجَمَاعَةُ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ:
18- الْجَمَاعَةُ سُنَّةٌ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهِيَ لَيْسَتْ بِتَطَوُّعٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. (ر: صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ).
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ سُنَّةٌ فِي الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ، وَكَذَلِكَ فِي صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ إِلاَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ لَا جَمَاعَةَ فِيهَا عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا صَلَاةَ فِيهَا.
وَالْجَمَاعَةُ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَمُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَالْجَمَاعَةُ فِي صَلَاةِ الْوِتْرِ سُنَّةٌ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
أَمَّا مَا عَدَا مَا ذُكِرَ مِمَّا تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يُصَلَّى عَلَى انْفِرَادٍ لَكِنْ لَوْ صَلَّى جَمَاعَةً جَازَ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَعَلَ الْأَمْرَيْنِ كِلَيْهِمَا وَكَانَ أَكْثَرُ تَطَوُّعِهِ مُنْفَرِدًا وَصَلَّى بِأَنَسٍ وَأُمِّهِ وَالْيَتِيمِ.
الْجَهْرُ وَالْإِسْرَارُ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ:
19- يُسْتَحَبُّ الْجَهْرُ بِالنَّوَافِلِ لَيْلًا مَا لَمْ يُشَوِّشْ عَلَى مُصَلٍّ آخَرَ، وَالْإِسْرَارُ نَهَارًا.وَإِنَّمَا جَهَرَ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ لِحُضُورِ أَهْلِ الْبَوَادِي وَالْقُرَى كَيْ يَسْمَعُوهُ فَيَتَعَلَّمُوهُ وَيَتَّعِظُوا بِهِ.وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي: (جَهْرٌ ف 18).
الْوُقُوفُ وَالْقُعُودُ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ:
20- يَجُوزُ التَّطَوُّعُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ خَيْرٌ دَائِمٌ، فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ الْقِيَامَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إِدَامَةُ هَذَا الْخَيْرِ.
وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَشُقُّ عَلَيْهِ طُولُ الْقِيَامِ، فَلَوْ وَجَبَ فِي التَّطَوُّعِ لَتُرِكَ أَكْثَرُهُ، فَسَامَحَ الشَّارِعُ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ فِيهِ تَرْغِيبًا فِي تَكْثِيرِهِ كَمَا سَامَحَ فِي فِعْلِهِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ.
وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ النَّفْلِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي جَالِسًا، فَيَقْرَأُ وَهُوَ جَالِسٌ، فَإِذَا بَقِيَ مِنْ قِرَاءَتِهِ قَدْرُ مَا يَكُونُ ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً، قَامَ فَقَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ سَجَدَ، ثُمَّ يَفْعَلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ».
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ مَا يُفِيدُ التَّخْيِيرَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، حَيْثُ فَعَلَ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- الْأَمْرَيْنِ، كَمَا زَادَتْ عَائِشَةُ: «أَنَّهَا لَمْ تَرَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي صَلَاةَ اللَّيْلِ قَاعِدًا قَطُّ حَتَّى أَسَنَّ، فَكَانَ يَقْرَأُ قَاعِدًا حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ آيَةً أَوْ أَرْبَعِينَ آيَةً ثُمَّ رَكَعَ». وَعَنْهَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي لَيْلًا طَوِيلًا قَائِمًا، وَلَيْلًا طَوِيلًا قَاعِدًا، وَكَانَ إِذَا قَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَائِمٌ، وَإِذَا قَرَأَ وَهُوَ قَاعِدٌ رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَاعِدٌ».
وَلَوِ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ قَائِمًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْعُدَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ فِي الِابْتِدَاءِ فَكَذَا بَعْدَ الشُّرُوعِ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ أَيْضًا.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ كَالنَّذْرِ، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ قَائِمًا لَا يَجُوزُ لَهُ الْقُعُودُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَكَذَا إِذَا شَرَعَ قَائِمًا.
وَلَوِ افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ قَاعِدًا فَأَدَّى بَعْضَهَا قَاعِدًا، وَبَعْضَهَا قَائِمًا أَجْزَأَهُ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ، فَقَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْقُعُودِ إِلَى الْقِيَامِ، وَمِنَ الْقِيَامِ إِلَى الْقُعُودِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ.
وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَدَمُ جَوَازِ صَلَاةِ سُنَّةِ الْفَجْرِ وَالتَّرَاوِيحِ قَاعِدًا، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ. وَإِذَا لَمْ يُرْوَ خِلَافٌ فِي إبَاحَةِ التَّطَوُّعِ جَالِسًا، فَقَدْ رُوِيَ تَفْضِيلُ الْقِيَامِ حَيْثُ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ صَلَّى قَائِمًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ صَلَّى قَاعِدًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَائِمِ».وَفِي رِوَايَةٍ «صَلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا نِصْفُ الصَّلَاةِ».
الصَّلَاةُ مُضْطَجِعًا:
21- وَأَمَّا صَلَاةُ التَّطَوُّعِ مُضْطَجِعًا فَظَاهِرُ قَوْلِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ عَدَمُ الْجَوَازِ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ عَلَى افْتِرَاضِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالِاعْتِدَالِ عَنْهُمَا.
وَقَوْلُ الْجَوَازِ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ صَلَّى نَائِمًا فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِ الْقَاعِدِ» وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ: إِنْ شَاءَ الرَّجُلُ صَلَّى صَلَاةَ التَّطَوُّعِ قَائِمًا أَوْ جَالِسًا أَوْ مُضْطَجِعًا. وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: التَّطَوُّعُ مُضْطَجِعًا لِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يُجَوِّزْهُ إِلاَّ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ صَلَّى مُضْطَجِعًا بِلَا عُذْرٍ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مَشْرُوعًا لَفَعَلُوهُ.
حُكْمُ سُجُودِ السَّهْوِ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ:
22- قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ السَّهْوَ فِي التَّطَوُّعِ كَالسَّهْوِ فِي الْفَرِيضَةِ يُشْرَعُ لَهُ سُجُودُ السَّهْوِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي عَقِيلٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: سَجْدَتَا السَّهْوِ فِي النَّوَافِلِ كَسَجْدَتَيِ السَّهْوِ فِي الْمَكْتُوبَةِ.وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ.انْظُرْ: (سُجُودُ السَّهْوِ).
حُكْمُ قَضَاءِ السُّنَنِ:
23- يُسْتَحَبُّ قَضَاءُ النَّوَافِلِ بَعْدَ وَقْتِهَا الْمُحَدَّدِ لَهَا عَلَى خِلَافٍ لِلْفُقَهَاءِ وَتَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ الْجُوَيْنِيُّ فِي قَضَاءِ النَّوَافِلِ: إِنَّ مَا لَا يَجُوزُ التَّقَرُّبُ بِهِ ابْتِدَاءً لَا يُقْضَى كَالْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ الْإِنْسَانُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ وُجُودِ سَبَبِهِمَا، وَمَا يَجُوزُ التَّطَوُّعُ بِهِ ابْتِدَاءً كَنَافِلَةِ رَكْعَتَيْنِ مَثَلًا، هَلْ تُقْضَى؟ فِيهِ قَوْلَانِ وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي: (قَضَاء).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
99-موسوعة الفقه الكويتية (صلاة الكسوف)
صَلَاةُ الْكُسُوفِالتَّعْرِيفُ:
1- هَذَا الْمُصْطَلَحُ مُرَكَّبٌ فِي لَفْظَيْنِ تَرْكِيبَ إِضَافَةٍ: صَلَاةٍ، وَالْكُسُوفِ.فَالصَّلَاةُ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلَاة).
أَمَّا الْكُسُوفُ: فَهُوَ ذَهَابُ ضَوْءِ أَحَدِ النَّيِّرَيْنِ (الشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ) أَوْ بَعْضِهِ، وَتَغَيُّرُهُ إِلَى سَوَادٍ، يُقَالُ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ، وَكَذَا خَسَفَتْ، كَمَا يُقَالُ: كَسَفَ الْقَمَرُ، وَكَذَا خَسَفَ، فَالْكُسُوفُ، وَالْخُسُوفُ، مُتَرَادِفَانِ، وَقِيلَ: الْكُسُوفُ لِلشَّمْسِ، وَالْخُسُوفُ لِلْقَمَرِ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ فِي اللُّغَةِ.
وَصَلَاةُ الْكُسُوفِ: صَلَاةٌ تُؤَدَّى بِكَيْفِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ، عِنْدَ ظُلْمَةِ أَحَدِ النَّيِّرَيْنِ أَوْ بَعْضِهِمَا.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2- الصَّلَاةُ لِكُسُوفِ الشَّمْسِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَفِي قَوْلٍ لِلْحَنَفِيَّةِ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ.
أَمَّا الصَّلَاةُ لِخُسُوفِ الْقَمَرِ فَهِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهِيَ حَسَنَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَنْدُوبَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ: كَخَبَرِ الشَّيْخَيْنِ: أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللَّهَ، وَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ» «وَلِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- صَلاَّهَا لِكُسُوفِ الشَّمْسِ» كَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَلِكُسُوفِ الْقَمَرِ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِهِ الثِّقَاتِ.
وَعَنِ «ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه-: أَنَّهُ صَلَّى بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ: إِنَّمَا صَلَّيْتُ لِأَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي».وَالصَّارِفُ عَنِ الْوُجُوبِ: حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ الْمَعْرُوفُ: «هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا» وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ ذَاتُ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ، لَا أَذَانَ لَهَا وَلَا إِقَامَةَ، كَصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ.
وَقْتُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ:
3- وَوَقْتُهَا مِنْ ظُهُورِ الْكُسُوفِ إِلَى حِينِ زَوَالِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَادْعُوا اللَّهَ وَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ» فَجَعَلَ الِانْجِلَاءَ غَايَةً لِلصَّلَاةِ؛ وَلِأَنَّهَا شُرِعَتْ رَغْبَةً إِلَى اللَّهِ فِي رَدِّ نِعْمَةِ الضَّوْءِ، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنَ الصَّلَاةِ.
صَلَاةُ الْكُسُوفِ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ:
4- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ إِلَى أَنَّهَا لَا تُصَلَّى فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا، كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، فَإِنْ صَادَفَ الْكُسُوفَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لَمْ تُصَلَّ، جُعِلَ فِي مَكَانِهَا تَسْبِيحًا، وَتَهْلِيلًا، وَاسْتِغْفَارًا، وَقَالُوا: لِأَنَّهُ إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الصَّلَاةُ نَافِلَةً فَالتَّنَفُّلُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مَكْرُوهٌ وَإِنْ كَانَ لَهَا سَبَبٌ.وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً فَأَدَاءُ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ فِيهَا مَكْرُوهٌ أَيْضًا وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ- وَهُوَ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ مَالِكٍ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ-: تُصَلَّى فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ مُتَقَدِّمٌ أَوْ مُقَارِنٌ، كَالْمَقْضِيَّةِ وَصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَرَكْعَتَيِ الْوُضُوءِ، وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهَا إِذَا طَلَعَتْ مَكْسُوفَةً يُصَلَّى حَالًا، وَإِذَا دَخَلَ الْعَصْرُ مَكْسُوفَةً، أَوْ كُسِفَتْ عِنْدَهُمَا لَمْ يُصَلَّ لَهَا.
فَوَاتُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ:
5- تَفُوتُ صَلَاةُ كُسُوفِ الشَّمْسِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلِ: انْجِلَاءِ جَمِيعِهَا، فَإِنِ انْجَلَى الْبَعْضُ فَلَهُ الشُّرُوعُ فِي الصَّلَاةِ لِلْبَاقِي، كَمَا لَوْ لَمْ يَنْكَسِفْ إِلاَّ ذَلِكَ الْقَدْرُ.
الثَّانِي: بِغُرُوبِهَا كَاسِفَةً.
وَيَفُوتُ خُسُوفُ الْقَمَرِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: الِانْجِلَاءُ الْكَامِلُ.
الثَّانِي: طُلُوعِ الشَّمْسِ،
وَلَوْ حَالَ سَحَابٌ، وَشُكَّ فِي الِانْجِلَاءِ صَلَّى؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْكُسُوفِ.وَلَوْ كَانَا تَحْتَ غَمَامٍ، فَظَنَّ الْكُسُوفَ لَمْ يُصَلَّ حَتَّى يُسْتَيْقَنَ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ غَابَ الْقَمَرُ وَهُوَ خَاسِفٌ لَمْ يُصَلَّ.وَإِنْ صَلَّ وَلَمْ تَنْجَلِ لَمْ تُكَرَّرِ الصَّلَاةُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ، وَإِنِ انْجَلَتْ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ أَتَمَّهَا؛ لِأَنَّهَا صَلَاةُ أَصْلٍ، غَيْرُ بَدَلٍ عَنْ غَيْرِهَا؛ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا بِخُرُوجِ وَقْتِهَا كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ.
سُنَنُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ:
6- يُسَنُّ لِمُرِيدِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ:
(1) أَنْ يَغْتَسِلَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ شُرِعَ لَهَا الِاجْتِمَاعُ.
(2) وَأَنْ تُصَلَّى حَيْثُ تُصَلَّى الْجُمُعَةُ؛ لِأَنَّ « النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: صَلاَّهَا فِي الْمَسْجِدِ».
(3) وَأَنْ يُدْعَى لَهَا: «الصَّلَاةَ جَامِعَةً» لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو- رضي الله عنهما-: « قَالَ: لَمَّا كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- نُودِيَ: إِنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ» وَلَيْسَ لَهَا أَذَانٌ وَلَا إِقَامَةٌ اتِّفَاقًا.
(4) وَأَنْ يُكْثِرَ ذِكْرَ اللَّهِ، وَالِاسْتِغْفَارَ، وَالتَّكْبِيرَ وَالصَّدَقَةَ، وَالتَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا اسْتَطَاعَ مِنَ الْقُرَبِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا».
(5) وَأَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَلاَّهَا فِي جَمَاعَةٍ».
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ: يُصَلَّى لِخُسُوفِ الْقَمَرِ وُحْدَانًا: رَكْعَتَيْنِ، رَكْعَتَيْنِ، وَلَا يُصَلُّونَهَا جَمَاعَةً، لِأَنَّ الصَّلَاةَ جَمَاعَةً لِخُسُوفِ الْقَمَرِ لَمْ تُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مَعَ أَنَّ خُسُوفَهُ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ كُسُوفِ الشَّمْسِ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ غَيْرَ الْمَكْتُوبَةِ لَا تُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ إِلاَّ إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ فِيهَا.
الْخُطْبَةُ فِيهَا:
7- قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ: لَا خُطْبَةَ لِصَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَذَلِكَ لِخَبَرِ: «فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ، وَكَبِّرُوا، وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا» أَمَرَهُمْ- عليه الصلاة والسلام- بِالصَّلَاةِ، وَالدُّعَاءِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالصَّدَقَةِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِخُطْبَةٍ، وَلَوْ كَانَتِ الْخُطْبَةُ مَشْرُوعَةً فِيهَا لأَمَرَهُمْ بِهَا؛ وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ يَفْعَلُهَا الْمُنْفَرِدُ فِي بَيْتِهِ؛ فَلَمْ يُشْرَعْ لَهَا خُطْبَةٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ أَنْ يُخْطَبَ لَهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ خُطْبَتَانِ، كَخُطْبَتَيِ الْعِيدِ.لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قَامَ وَخَطَبَ النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُخْسَفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا».
8- وَتُشْرَعُ صَلَاةُ الْكُسُوفِ لِلْمُنْفَرِدِ، وَالْمُسَافِرِ وَالنِّسَاءِ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ، وَأَسْمَاءَ- رضي الله عنهما- صَلَّتَا مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.وَيُسْتَحَبُّ لِلنِّسَاءِ غَيْرِ ذَوَاتِ الْهَيْئَاتِ أَنْ يُصَلِّينَ مَعَ الْإِمَامِ، وَأَمَّا اللَّوَاتِي تُخْشَى الْفِتْنَةُ مِنْهُنَّ فَيُصَلِّينَ فِي الْبُيُوتِ مُنْفَرِدَاتٍ.فَإِنِ اجْتَمَعْنَ فَلَا بَأْسَ، إِلاَّ أَنَّهُنَّ لَا يَخْطُبْنَ.
إِذْنُ الْإِمَامِ بِصَلَاةِ الْكُسُوفِ:
9- لَا يُشْتَرَطُ لِإِقَامَتِهَا إِذْنُ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهَا نَافِلَةٌ وَلَيْسَ إِذْنُهُ شَرْطًا فِي نَافِلَةٍ، فَإِذَا تَرَكَ الْإِمَامُ صَلَاةَ الْكُسُوفِ فَلِلنَّاسِ أَنْ يُصَلُّوهَا عَلَانِيَةً إِنْ لَمْ يَخَافُوا فِتْنَةً، وَسِرًّا إِنْ خَافُوهَا، إِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: لَا يُقِيمُهَا جَمَاعَةً إِلاَّ الْإِمَامُ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ، لِأَنَّ أَدَاءَ هَذِهِ الصَّلَاةِ جَمَاعَةً عُرِفَ بِإِقَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَلَا يُقِيمُهَا إِلاَّ مَنْ هُوَ قَائِمٌ مَقَامَهُ.فَإِنْ لَمْ يُقِمْهَا الْإِمَامُ صَلَّى النَّاسُ حِينَئِذٍ فُرَادَى.وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ لِكُلِّ إِمَامِ مَسْجِدٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فِي مَسْجِدِهِ بِجَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْمِصْرِ، فَلَا تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً بِالسُّلْطَانِ كَغَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ.
كَيْفِيَّةُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ:
10- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ رَكْعَتَانِ.وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ بِهَا.
وَذَهَبَ الْأَئِمَّةُ: مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ: إِلَى أَنَّهَا رَكْعَتَانِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قِيَامَانِ، وَقِرَاءَتَانِ، وَرُكُوعَانِ، وَسَجْدَتَانِ.
وَاسْتَدَلُّوا: بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّى الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- وَالنَّاسُ مَعَهُ، فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، ثُمَّ قَامَ قِيَامًا طَوِيلًا وَهُوَ دُونَ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ».
وَقَالُوا: وَإِنْ كَانَتْ هُنَاكَ رِوَايَاتٌ أُخْرَى، إِلاَّ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ هِيَ أَشْهَرُ الرِّوَايَاتِ فِي الْبَابِ.
وَالْخِلَافُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي الْكَمَالِ لَا فِي الْإِجْزَاءِ وَالصِّحَّةِ فَيُجْزِئُ فِي أَصْلِ السُّنَّةِ رَكْعَتَانِ كَسَائِرِ النَّوَافِلِ عِنْدَ الْجَمِيعِ.
وَأَدْنَى الْكَمَالِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ: أَنْ يُحْرِمَ بِنِيَّةِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَيَقْرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، ثُمَّ يَرْكَعَ، ثُمَّ يَرْفَعَ رَأْسَهُ وَيَطْمَئِنَّ، ثُمَّ يَرْكَعَ ثَانِيًا، ثُمَّ يَرْفَعَ وَيَطْمَئِنَّ، ثُمَّ يَسْجُدَ سَجْدَتَيْنِ فَهَذِهِ رَكْعَةٌ.
ثُمَّ يُصَلِّيَ رَكْعَةً أُخْرَى كَذَلِكَ.فَهِيَ رَكْعَتَانِ: فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قِيَامَانِ، وَرُكُوعَانِ، وَسَجْدَتَانِ.وَبَاقِي الصَّلَاةِ مِنْ قِرَاءَةٍ، وَتَشَهُّدٍ، وَطُمَأْنِينَةٍ كَغَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ.
وَأَعْلَى الْكَمَالِ: أَنْ يُحْرِمَ، وَيَسْتَفْتِحَ، وَيَسْتَعِيذَ، وَيَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ، سُورَةَ الْبَقَرَةِ، أَوْ قَدْرَهَا فِي الطُّولِ، ثُمَّ يَرْكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا فَيُسَبِّحَ قَدْرَ مِائَةِ آيَةٍ، ثُمَّ يَرْفَعَ مِنْ رُكُوعِهِ، فَيُسَبِّحَ، وَيَحْمَدَ فِي اعْتِدَالِهِ.ثُمَّ يَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ، وَسُورَةً دُونَ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: آلَ عِمْرَانَ، أَوْ قَدْرَهَا، ثُمَّ يَرْكَعَ فَيُطِيلَ الرُّكُوعَ، وَهُوَ دُونَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ يَرْفَعَ مِنَ الرُّكُوعِ، فَيُسَبِّحَ، وَيَحْمَدَ، وَلَا يُطِيلَ الِاعْتِدَالَ، ثُمَّ يَسْجُدَ سَجْدَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، وَلَا يُطِيلَ الْجُلُوسَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ.ثُمَّ يَقُومَ إِلَى الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، فَيَفْعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنَ الرُّكُوعَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، لَكِنْ يَكُونُ دُونَ الْأَوَّلِ فِي الطُّولِ فِي كُلِّ مَا يَفْعَلَ ثُمَّ يَتَشَهَّدَ وَيُسَلِّمَ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهَا رَكْعَتَانِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قِيَامٌ وَاحِدٌ، وَرُكُوعٌ وَاحِدٌ وَسَجْدَتَانِ كَسَائِرِ النَّوَافِلِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ: «خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَخَرَجَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَسْجِدِ وَثَابَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ» إِلَخْ» وَمُطْلَقُ الصَّلَاةِ تَنْصَرِفُ إِلَى الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ.وَفِي رِوَايَةٍ: «فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلُّونَ».
الْجَهْرُ بِالْقِرَاءَةِ وَالْإِسْرَارُ بِهَا:
11- يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي خُسُوفِ الْقَمَرِ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَيْلِيَّةٌ وَلِخَبَرِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «إِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- جَهَرَ فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ»
وَلَا يَجْهَرُ فِي صَلَاةِ كُسُوفِ الشَّمْسِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «إِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ، فَلَمْ نَسْمَعْ لَهُ صَوْتًا».
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.وَقَالَ أَحْمَدُ، وَأَبُو يُوسُفَ: يَجْهَرُ بِهَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ.وَقَالُوا: قَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- وَفَعَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ وَبِحَضْرَتِهِ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَم.وَرَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: صَلَّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ، وَجَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ» وَلِأَنَّهَا نَافِلَةٌ شُرِعَتْ لَهَا الْجَمَاعَةُ، فَكَانَ مِنْ سُنَنِهَا الْجَهْرُ كَصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَالْعِيدَيْنِ.
اجْتِمَاعُ الْكُسُوفِ بِغَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ:
12- إِذَا اجْتَمَعَ مَعَ الْكُسُوفِ أَوِ الْخُسُوفِ غَيْرُهُ مِنَ الصَّلَاةِ: كَالْجُمُعَةِ، أَوِ الْعِيدِ، أَوْ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ، أَوِ الْوِتْرِ، وَلَمْ يُؤْمَنْ مِنَ الْفَوَاتِ، قُدِّمَ الْأَخْوَفُ فَوْتًا ثُمَّ الْآكَدُ، فَتُقَدَّمُ الْفَرِيضَةُ، ثُمَّ الْجِنَازَةُ، ثُمَّ الْعِيدُ، ثُمَّ الْكُسُوفُ.وَلَوِ اجْتَمَعَ وِتْرٌ وَخُسُوفٌ قُدِّمَ الْخُسُوفُ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ آكَدُ حِينَئِذٍ لِخَوْفِ فَوْتِهَا، وَإِنْ أُمِنَ مِنَ الْفَوَاتِ، تُقَدَّمُ الْجِنَازَةُ ثُمَّ الْكُسُوفُ أَوِ الْخُسُوفُ، ثُمَّ الْفَرِيضَةُ.
الصَّلَاةُ لِغَيْرِ الْكُسُوفِ مِنَ الْآيَاتِ:
13- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: تُسْتَحَبُّ الصَّلَاةُ فِي كُلِّ فَزَعٍ: كَالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ، وَالزَّلْزَلَةِ، وَالظُّلْمَةِ، وَالْمَطَرِ الدَّائِمِ لِكَوْنِهَا مِنَ الْأَفْزَاعِ، وَالْأَهْوَالِ.وَقَدْ رُوِيَ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- صَلَّى لِزَلْزَلَةٍ بِالْبَصْرَةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَا يُصَلَّى لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ الزَّلْزَلَةُ الدَّائِمَةُ، فَيُصَلَّى لَهَا كَصَلَاةِ الْكُسُوفِ؛ لِفِعْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَمَّا غَيْرُهَا فَلَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ الصَّلَاةُ لَهُ.وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ يُصَلَّى لِكُلِّ آيَةٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يُصَلَّى لِغَيْرِ الْكُسُوفَيْنِ صَلَاةُ جَمَاعَةٍ، بَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلَّى فِي بَيْتِهِ، وَأَنْ يَتَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ بِالدُّعَاءِ عِنْدَ رُؤْيَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ- رحمه الله-: لَا آمُرُ بِصَلَاةِ جَمَاعَةٍ فِي زَلْزَلَةٍ، وَلَا ظُلْمَةٍ، وَلَا لِصَوَاعِقَ، وَلَا رِيحٍ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَآمُرُ بِالصَّلَاةِ مُنْفَرِدِينَ، كَمَا يُصَلُّونَ مُنْفَرِدِينَ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُصَلَّى لِهَذِهِ الْآيَاتِ مُطْلَقًا.
- رحمه الله-
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
100-موسوعة الفقه الكويتية (صيال)
صِيَالٌالتَّعْرِيفُ:
1- الصِّيَالُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ صَالَ يَصُولُ، إِذَا قَدِمَ بِجَرَاءَةٍ وَقُوَّةٍ، وَهُوَ: الِاسْتِطَالَةُ وَالْوُثُوبُ وَالِاسْتِعْلَاءُ عَلَى الْغَيْرِ.
وَيُقَالُ: صَاوَلَهُ مُصَاوَلَةً، وَصِيَالًا، وَصِيَالَةً، أَيْ: غَالَبَهُ وَنَافَسَهُ فِي الصَّوْلِ، وَصَالَ عَلَيْهِ، أَيْ: سَطَا عَلَيْهِ لِيَقْهَرَهُ، وَالصَّائِلُ: الظَّالِمُ، وَالصَّئُولُ: الشَّدِيدُ الصَّوْلِ، وَالصَّوْلَةُ: السَّطْوَةُ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا، وَصَؤُلَ الْبَعِيرُ: إِذَا صَارَ يَقْتُلُ النَّاسَ وَيَعْدُو عَلَيْهِمْ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الصِّيَالُ الِاسْتِطَالَةُ وَالْوُثُوبُ عَلَى الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْبُغَاةُ:
2- الْبَغْيُ: الظُّلْمُ وَالِاعْتِدَاءُ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ.
وَالْبُغَاةُ هُمْ: قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، خَالَفُوا الْإِمَامَ الْحَقَّ بِخُرُوجٍ عَلَيْهِ وَتَرْكِ الِانْقِيَادِ لَهُ، أَوْ مَنْعِ حَقٍّ تَوَجَّهَ عَلَيْهِمْ، بِشَرْطِ شَوْكَةٍ لَهُمْ، وَتَأْوِيلٍ لَا يُقْطَعُ بِفَسَادِهِ.
ب- الْمُحَارِبُ.
3- وَهُوَ: قَاطِعُ الطَّرِيقِ لِمَنْعِ سُلُوكٍ، أَوْ أَخْذِ مَالِ مُسْلِمٍ أَوْ غَيْرِهِ، عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْغَوْثُ
وَالصَّائِلُ أَعَمُّ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْحَيَوَانَ وَغَيْرَهُ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4- الصِّيَالُ حَرَامٌ، لِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى الْغَيْرِ، لقوله تعالى: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وَقَوْلُ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ».
دَفْعُ الصَّائِلِ عَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا:
5- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ دَفْعِ الصَّائِلِ عَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ- إِلَى وُجُوبِ دَفْعِ الصَّائِلِ عَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الصَّائِلُ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا، عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا، بَالِغًا أَوْ صَغِيرًا، مَعْصُومَ الدَّمِ أَوْ غَيْرَ مَعْصُومِ الدَّمِ، آدَمِيًّا أَوْ غَيْرَهُ.
وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ هَذَا الرَّأْيِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فَالِاسْتِسْلَامُ لِلصَّائِلِ إِلْقَاءٌ بِالنَّفْسِ لِلتَّهْلُكَةِ، لِذَا كَانَ الدِّفَاعُ عَنْهَا وَاجِبًا.وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَشَارَ بِحَدِيدَةٍ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ- يُرِيدُ قَتْلَهُ- فَقَدْ وَجَبَ دَمُهُ».
وَلِأَنَّهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمَصُولِ عَلَيْهِ قَتْلُ نَفْسِهِ، يَحْرُمُ عَلَيْهِ إِبَاحَةُ قَتْلِهَا، وَلِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى إِحْيَاءِ نَفْسِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُ ذَلِكَ، كَالْمُضْطَرِّ لِأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الصَّائِلُ كَافِرًا، وَالْمَصُولُ عَلَيْهِ مُسْلِمًا وَجَبَ الدِّفَاعُ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْكَافِرُ مَعْصُومًا أَوْ غَيْرَ مَعْصُومٍ، إِذْ غَيْرُ الْمَعْصُومِ لَا حُرْمَةَ لَهُ، وَالْمَعْصُومُ بَطَلَتْ حُرْمَتُهُ بِصِيَالِهِ، وَلِأَنَّ الِاسْتِسْلَامَ لِلْكَافِرِ ذُلٌّ فِي الدِّينِ، وَفِي حُكْمِهِ كُلُّ مَهْدُورِ الدَّمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَالزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَمَنْ تَحَتَّمَ قَتْلُهُ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْجِنَايَاتِ.
كَمَا يَجِبُ دَفْعُ الْبَهِيمَةِ الصَّائِلَةِ، لِأَنَّهَا تُذْبَحُ لِاسْتِبْقَاءِ الْآدَمِيِّ، فَلَا وَجْهَ لِلِاسْتِسْلَامِ لَهَا، مِثْلُهَا مَا لَوْ سَقَطَتْ جَرَّةٌ وَنَحْوُهَا عَلَى إِنْسَانٍ وَلَمْ تَنْدَفِعْ عَنْهُ إِلاَّ بِكَسْرِهَا.
أَمَّا إِنْ كَانَ الصَّائِلُ مُسْلِمًا غَيْرَ مَهْدُورِ الدَّمِ فَلَا يَجِبُ دَفْعُهُ فِي الْأَظْهَرِ، بَلْ يَجُوزُ الِاسْتِسْلَامُ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الصَّائِلُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا، وَسَوَاءٌ أَمْكَنَ دَفْعُهُ بِغَيْرِ قَتْلِهِ أَوْ لَمْ يُمْكِنْ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: يُسَنُّ الِاسْتِسْلَامُ لَهُ «لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: كُنْ كَابْنِ آدَمَ» يَعْنِي هَابِيلَ- وَلِمَا وَرَدَ عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: خَرَجْتُ بِسِلَاحِي لَيَالِيَ الْفِتْنَةِ، فَاسْتَقْبَلَنِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أُرِيدُ نُصْرَةَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَكِلَاهُمَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، قِيلَ: فَهَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ» وَلِأَنَّ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- تَرَكَ الْقِتَالَ مَعَ إِمْكَانِهِ، وَمَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ نَفْسَهُ، وَمَنَعَ حُرَّاسَهُ مِنَ الدِّفَاعِ عَنْهُ- وَكَانُوا أَرْبَعَمِائَةٍ يَوْمَ الدَّارِ- وَقَالَ: مَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ فَهُوَ حُرٌّ، وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ.
وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ- عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- أَنَّهُ يَجِبُ دَفْعُ الصَّائِلِ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا، مَعْصُومَ الدَّمِ أَوْ غَيْرَ مَعْصُومِ الدَّمِ، آدَمِيًّا أَوْ غَيْرَ آدَمِيٍّ، لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}.
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الصَّائِلُ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِسْلَامُ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا لَا إِثْمَ عَلَيْهِمَا كَالْبَهِيمَةِ.
وَاسْتَثْنَى الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ مَسَائِلَ مِنْهَا:
أ- لَوْ كَانَ الْمَصُولُ عَلَيْهِ عَالِمًا تَوَحَّدَ فِي عَصْرِهِ، أَوْ خَلِيفَةً تَفَرَّدَ، بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَى قَتْلِهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ، لِعَدَمِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، فَيَجِبُ دَفْعُ الصَّائِلِ.
ب- لَوْ أَرَادَ الصَّائِلُ قَطْعَ عُضْوِ الْمَصُولِ عَلَيْهِ فَيَجِبُ دَفْعُهُ لِانْتِفَاءِ عِلَّةِ الشَّهَادَةِ.
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ- رحمه الله-: وَيَجِبُ الدَّفْعُ عَنْ عُضْوٍ عِنْدَ ظَنِّ السَّلَامَةِ، وَعَنْ نَفْسٍ ظَنَّ بِقَتْلِهَا مَفَاسِدَ فِي الْحَرِيمِ وَالْمَالِ وَالْأَوْلَادِ.
ج- قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: إِنَّ الْمَصُولَ عَلَيْهِ إِنْ أَمْكَنَهُ دَفْعَ الصَّائِلِ بِغَيْرِ قَتْلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ دَفْعُهُ وَإِلاَّ فَلَا.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ دَفْعِ الصَّائِلِ عَنِ النَّفْسِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْفِتْنَةِ، لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وَلِأَنَّهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُ نَفْسِهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إِبَاحَةُ قَتْلِهَا.
أَمَّا فِي زَمَنِ الْفِتْنَةِ، فَلَا يَلْزَمُهُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِهِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «فَإِنْ خَشِيتَ أَنْ يَبْهَرَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ، فَأَلْقِ ثَوْبَكَ عَلَى وَجْهِكَ» وَلِأَنَّ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- تَرَكَ الْقِتَالَ عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَمَنَعَ غَيْرَهُ قِتَالَهُمْ، وَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ.وَلَوْ لَمْ يَجُزْ لأَنْكَرَ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ ذَلِكَ.
قَتْلُ الصَّائِلِ وَضَمَانُهُ:
6- إِنْ قَتَلَ الْمَصُولُ عَلَيْهِ الصَّائِلَ دِفَاعًا عَنْ نَفْسِهِ وَنَحْوِهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ- عِنْدَ الْجُمْهُورِ- بِقِصَاصٍ وَلَا دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ وَلَا قِيمَةٍ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ.
أَمَّا إِذَا تَمَكَّنَ الصَّائِلُ مِنْ قَتْلِ الْمَصُولِ عَلَيْهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ.
وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ فِي ضَمَانِ الصَّائِلِ، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمَصُولَ عَلَيْهِ يَضْمَنُ الْبَهِيمَةَ الصَّائِلَةَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَتْ لِغَيْرِهِ، لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ، كَالْمُضْطَرِّ إِلَى طَعَامِ غَيْرِهِ إِذَا أَكَلَهُ.
وَمِثْلُ الْبَهِيمَةِ عِنْدَهُمْ غَيْرُ الْمُكَلَّفِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَيَضْمَنُهُمَا إِذَا قَتَلَهُمَا، لِأَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ إِبَاحَةَ أَنْفُسِهِمَا، وَلِذَلِكَ لَوِ ارْتَدَّا لَمْ يُقْتَلَا..لَكِنَّ الْوَاجِبَ فِي حَقِّ قَاتِلِ الصَّبِيِّ أَوِ الْمَجْنُونِ الصَّائِلَيْنِ الدِّيَةُ لَا الْقِصَاصُ؛ لِوُجُودِ الْمُبِيحِ، وَهُوَ دَفْعُ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَمَّا الْوَاجِبُ فِي حَقِّ قَاتِلِ الْبَهِيمَةِ فَهُوَ الْقِيمَةُ.
7- وَيُدْفَعُ الصَّائِلُ بِالْأَخَفِّ فَالْأَخَفِّ إِنْ أَمْكَنَ، فَإِنْ أَمْكَنَ دَفْعُهُ بِكَلَامٍ أَوِ اسْتِغَاثَةٍ بِالنَّاسِ حَرُمَ الضَّرْبُ، أَوْ أَمْكَنَ دَفْعُهُ بِضَرْبٍ بِيَدٍ حَرُمَ بِسَوْطٍ، أَوْ بِسَوْطٍ حَرُمَ بِعَصًا، أَوْ أَمْكَنَ دَفْعُهُ بِقَطْعِ عُضْوٍ حَرُمَ دَفْعُهُ بِقَتْلٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ جُوِّزَ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْأَثْقَلِ مَعَ إِمْكَانِ تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ بِالْأَخَفِّ.
وَعَلَيْهِ فَلَوِ انْدَفَعَ شَرُّهُ بِشَيْءٍ آخَرَ، كَأَنْ وَقَعَ فِي مَاءٍ أَوْ نَارٍ، أَوِ انْكَسَرَتْ رِجْلُهُ، أَوْ حَالَ بَيْنَهُمَا جِدَارٌ أَوْ خَنْدَقٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ضَرْبُهُ، وَإِنْ ضَرَبَهُ ضَرْبَةً عَطَّلَتْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُثْنِيَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ كُفَى شَرُّهُ وَلِأَنَّ الزَّائِدَ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ الدَّفْعُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِعْلُهُ.
وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ هُوَ غَلَبَةُ ظَنِّ الْمَصُولِ عَلَيْهِ، فَلَا يَكْفِي تَوَهُّمُ الصِّيَالِ، أَوِ الشَّكُّ فِيهِ، فَإِنْ خَالَفَ التَّرْتِيبَ الْمَذْكُورَ، وَعَدَلَ إِلَى رُتْبَةٍ- مَعَ إِمْكَانِ دَفْعِهِ بِمَا دُونَهَا- ضَمِنَ، فَإِنْ وَلَّى الصَّائِلُ هَارِبًا فَاتَّبَعَهُ الْمَصُولُ عَلَيْهِ، وَقَتَلَهُ ضَمِنَ بِقِصَاصٍ أَوْ دِيَةٍ، وَكَذَا إِنْ ضَرَبَهُ فَقَطَعَ يَمِينَهُ ثُمَّ وَلَّى هَارِبًا فَضَرَبَهُ ثَانِيَةً وَقَطَعَ رِجْلَهُ مَثَلًا فَالرِّجْلُ مَضْمُونَةٌ بِقِصَاصٍ أَوْ دِيَةٍ، فَإِنْ مَاتَ الصَّائِلُ مِنْ سِرَايَةِ الْقَطْعَيْنِ فَعَلَى الْمَصُولِ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ، لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ فِعْلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ وَفِعْلٍ آخَرَ غَيْرِ مَأْذُونٍ فِيهِ.
وَاسْتَثْنَى الْفُقَهَاءُ مِنْ ذَلِكَ صُوَرًا مِنْهَا: أ- لَوْ كَانَ الصَّائِلُ يَنْدَفِعُ بِالسَّوْطِ أَوِ الْعَصَا وَنَحْوِهِمَا، وَالْمَصُولُ عَلَيْهِ لَا يَجِدُ إِلاَّ السَّيْفَ فَلَهُ الضَّرْبُ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ إِلاَّ بِهِ، وَلَيْسَ بِمُقَصِّرٍ فِي تَرْكِ اسْتِصْحَابِ السَّوْطِ وَنَحْوِهِ.
ب- لَوِ الْتَحَمَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمَا، وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ عَنِ الضَّبْطِ فَلَهُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا لَدَيْهِ، دُونَ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ.
ج- إِذَا ظَنَّ الْمَصُولُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّائِلَ لَا يَنْدَفِعُ إِلاَّ بِالْقَتْلِ فَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ دُونَ مُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ، وَكَذَا إِنْ خَافَ أَنْ يَبْدُرَهُ بِالْقَتْلِ إِنْ لَمْ يَسْبِقْ هُوَ بِهِ فَلَهُ ضَرْبُهُ بِمَا يَقْتُلُهُ، أَوْ يَقْطَعُ طَرَفَهُ.وَيُصَدَّقُ الْمَصُولُ عَلَيْهِ فِي عَدَمِ إِمْكَانِ التَّخَلُّصِ بِدُونِ مَا دَفَعَ بِهِ، لِعُسْرِ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ.
د- إِذَا كَانَ الصَّائِلُ مُهْدَرَ الدَّمِ- كَمُرْتَدٍّ وَحَرْبِيٍّ وَزَانٍ مُحْصَنٍ- فَلَا تَجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِي حَقِّهِ بَلْ لَهُ الْعُدُولُ إِلَى قَتْلِهِ، لِعَدَمِ حُرْمَتِهِ.
الْهَرَبُ مِنَ الصَّائِلِ:
8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْهَرَبِ مِنَ الصَّائِلِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ الْمَصُولُ عَلَيْهِ أَنْ يَهْرُبَ أَوْ يَلْتَجِئَ إِلَى حِصْنٍ أَوْ جَمَاعَةٍ أَوْ حَاكِمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْقِتَالُ، لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَخْلِيصِ نَفْسِهِ بِالْأَهْوَنِ فَالْأَهْوَنِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ إِلَى الْأَشَدِّ مَعَ إِمْكَانِ الْأَسْهَلِ وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِهِ دُونَ إِضْرَارِ غَيْرِهِ فَلَزِمَهُ ذَلِكَ.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِوُجُوبِ الْهَرَبِ أَنْ يَكُونَ بِلَا مَشَقَّةٍ، فَإِنْ كَانَ بِمَشَقَّةٍ فَلَا يَجِبُ.وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَكُونَ الصَّائِلُ مَعْصُومَ الدَّمِ، فَلَوْ صَالَ عَلَيْهِ مُرْتَدٌّ أَوْ حَرْبِيٌّ لَمْ يَجِبِ الْهَرَبُ وَنَحْوُهُ، بَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ.
فَإِنْ لَمْ يَهْرُبْ- حَيْثُ وَجَبَ الْهَرَبُ- فَقَاتَلَ وَقَتَلَ الصَّائِلَ، لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، فِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْأَوْجَهُ، وَلَزِمَتْهُ الدِّيَةُ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ لَهُمْ أَيْضًا.
وَأَمَّا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَهُوَ عَدَمُ وُجُوبِ الْهَرَبِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إِقَامَتَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ جَائِزَةٌ، فَلَا يُكَلَّفُ الِانْصِرَافُ.
وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْمَصُولَ عَلَيْهِ إِنْ تَيَقَّنَ النَّجَاةَ بِالْهَرَبِ وَجَبَ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ فَلَا يَجِبُ.
الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِ الْغَيْرِ:
9- لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِ الْغَيْرِ وَمَا دُونَهَا مِنَ الْأَطْرَافِ إِذَا صَالَ عَلَيْهَا صَائِلٌ- عَنْ قَوْلِهِمْ فِي الدِّفَاعِ عَنِ النَّفْسِ إِذَا كَانَ الْمَصُولُ عَلَيْهِ مَعْصُومَ الدَّمِ، بِأَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا.
وَاسْتَدَلُّوا فِي وُجُوبِ الدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِ الْغَيْرِ وَأَطْرَافِهِ بِنَفْسِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي اسْتَدَلُّوا بِهَا فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الدِّفَاعَ عَنْ نَفْسِ الْغَيْرِ- إِذَا كَانَ آدَمِيًّا مُحْتَرَمًا- حُكْمُهُ كَحُكْمِ دِفَاعِهِ عَنْ نَفْسِهِ، فَيَجِبُ حَيْثُ يَجِبُ، وَيَنْتَفِي حَيْثُ يَنْتَفِي، إِذْ لَا يَزِيدُ حَقُّ غَيْرِهِ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ، وَمَحَلُّ الْوُجُوبِ- عِنْدَهُمْ- إِذَا أَمِنَ الْهَلَاكَ عَلَى نَفْسِهِ، إِذْ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَلَ رُوحَهُ بَدَلًا عَنْ رُوحِ غَيْرِهِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي قِتَالِ الْحَرْبِيِّينَ وَالْمُرْتَدِّينَ فَلَا يَسْقُطُ الْوُجُوبُ بِالْخَوْفِ الظَّاهِرِ، وَهَذَا أَصَحُّ الطُّرُقِ عِنْدَهُمْ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ آخَرَانِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
أَوَّلُهُمَا: يَجِبُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِ غَيْرِهِ وَمَا دُونَهَا مِنَ الْأَطْرَافِ قَطْعًا، لِأَنَّ لَهُ الْإِيثَارَ بِحَقِّ نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أُذِلَّ عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ فَلَمْ يَنْصُرْهُ- وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَنْصُرَهُ- أَذَلَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
ثَانِيهِمَا: لَا يَجُوزُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِ الْغَيْرِ، لِأَنَّ شَهْرَ السِّلَاحِ يُحَرِّكُ الْفِتَنَ، وَخَاصَّةً فِي مَجَالِ نُصْرَةِ الْآخَرِينَ، وَلَيْسَ الدِّفَاعُ عَنِ الْغَيْرِ مِنْ شَأْنِ آحَادِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَظِيفَةُ الْإِمَامِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ.
وَيَجْرِي هَذَا الْخِلَافُ فِي الْمَذْهَبِ بِالنِّسْبَةِ لآِحَادِ النَّاسِ، أَمَّا الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ- مِنَ الْوُلَاةِ- فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ دَفْعُ الصَّائِلِ عَلَى نَفْسِ الْغَيْرِ اتِّفَاقًا.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَيَجِبُ الدِّفَاعُ عَنْ نَفْسِ غَيْرِهِ وَمَا دُونَهَا مِنَ الْأَطْرَافِ فِي غَيْرِ فِتْنَةٍ، وَمَعَ ظَنِّ سَلَامَةِ الدَّافِعِ وَالْمَدْفُوعِ عَنْهُ، وَإِلاَّ حَرُمَ الدِّفَاعُ.
دَفْعُ الصَّائِلِ عَنِ الْعِرْضِ:
10- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ دَفْعُ الصَّائِلِ عَلَى بُضْعِ أَهْلِهِ أَوْ غَيْرِ أَهْلِهِ، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى إِبَاحَتِهِ، وَمِثْلُ الزِّنَا بِالْبُضْعِ فِي الْحَكَمِ مُقَدِّمَاتُهُ فِي وُجُوبِ الدَّفْعِ حَتَّى لَوْ أَدَّى إِلَى قَتْلِ الصَّائِلِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.بَلْ إِنْ قُتِلَ الدَّافِعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَهُوَ شَهِيدٌ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ».
وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حَقِّهِ وَحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى- وَهُوَ مَنْعُ الْفَاحِشَةِ- وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا».
إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ شَرَطُوا لِوُجُوبِ الدِّفَاعِ عَنْ عِرْضِهِ وَعِرْضِ غَيْرِهِ: أَنْ لَا يَخَافَ الدَّافِعُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، أَوْ عَلَى مَنْفَعَةٍ مِنْ مَنَافِعِ أَعْضَائِهِ.
أَمَّا الْمَرْأَةُ الْمَصُولُ عَلَيْهَا مِنْ أَجْلِ الزِّنَا بِهَا، فَيَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهَا إِنْ أَمْكَنَهَا ذَلِكَ، لِأَنَّ التَّمْكِينَ مِنْهَا مُحَرَّمٌ، وَفِي تَرْكِ الدَّفْعِ نَوْعُ تَمْكِينٍ، فَإِذَا قَتَلَتِ الصَّائِلَ- وَلَمْ يَكُنْ يَنْدَفِعُ إِلاَّ بِالْقَتْلِ- فَلَا تَضْمَنُهُ بِقِصَاصٍ وَلَا دِيَةٍ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أَضَافَ نَاسًا مِنْ هُذَيْلٍ، فَأَرَادَ امْرَأَةً عَلَى نَفْسِهَا، فَرَمَتْهُ بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهُ، فَقَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: وَاللَّهِ لَا يُودَى أَبَدًا وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قُتِلَ دُونَ عِرْضِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ».
وَفِي الْمُغْنِي: لَوْ رَأَى رَجُلًا يَزْنِي بِامْرَأَتِهِ- أَوْ بِامْرَأَةِ غَيْرِهِ- وَهُوَ مُحْصَنٌ فَصَاحَ بِهِ، وَلَمْ يَهْرُبْ وَلَمْ يَمْتَنِعْ عَنِ الزِّنَا حَلَّ لَهُ قَتْلُهُ، فَإِنْ قَتَلَهُ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- بَيْنَمَا هُوَ يَتَغَدَّى يَوْمًا إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ يَعْدُو وَمَعَهُ سَيْفٌ مُجَرَّدٌ مُلَطَّخٌ بِالدَّمِ، فَجَاءَ حَتَّى قَعَدَ مَعَ عُمَرَ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ وَأَقْبَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ هَذَا قَتَلَ صَاحِبَنَا مَعَ امْرَأَتِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: إِنَّهُ ضَرَبَ فَخِذَيِ امْرَأَتَهُ بِالسَّيْفِ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَحَدٌ فَقَدْ قَتَلَهُ، فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: مَا يَقُولُ؟ قَالُوا: ضَرَبَ بِسَيْفِهِ فَقَطَعَ فَخِذَيِ امْرَأَتَهُ فَأَصَابَ وَسَطَ الرَّجُلِ فَقَطَعَهُ بِاثْنَيْنِ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنْ عَادُوا فَعُدْ.
11- وَإِذَا قَتَلَ رَجُلًا، وَادَّعَى أَنَّهُ وَجَدَهُ مَعَ امْرَأَتِهِ، فَأَنْكَرَ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ بَيْتَهُ، فَإِذَا مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلٌ، فَقَتَلَهَا وَقَتَلَهُ، قَالَ عَلِيٌّ: إِنْ جَاءَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، وَإِلاَّ فَلْيُعْطَ بِرُمَّتِهِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مَا يَدَّعِيهِ، فَلَا يَسْقُطُ حُكْمُ الْقَتْلِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى.
إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْبَيِّنَةِ.
فَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهَا أَرْبَعَةُ شُهَدَاءَ، لِخَبَرِ عَلِيٍّ السَّابِقِ، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ «سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أَأُمْهِلُهُ حَتَّى آتِي بِأَرْبَعِهِ شُهَدَاءَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: نَعَمْ».الْحَدِيثَ.
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يَكْفِي شَاهِدَانِ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تَشْهَدُ عَلَى وُجُودِ الرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَلَيْسَ عَلَى الزِّنَا.
وَكَذَا لَوْ قَتَلَ رَجُلًا فِي دَارِهِ، وَادَّعَى أَنَّهُ قَدْ هَجَمَ عَلَى مَنْزِلِهِ، فَأَنْكَرَ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَلَمْ يَكُنِ الْمَقْتُولُ مَعْرُوفًا بِالشَّرِّ وَالسَّرِقَةِ، قُتِلَ صَاحِبُ الدَّارِ قِصَاصًا، وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ مَعْرُوفًا بِالشَّرِّ وَالسَّرِقَةِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنَ الْقَاتِلِ فِي الْقِيَاسِ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ فِي الِاسْتِحْسَانِ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الْحَالِ أَوْرَثَتْ شُبْهَةً فِي الْقِصَاصِ لَا الْمَالِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَاهُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ بِمَوْضِعٍ لَيْسَ يَحْضُرُهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، وَيَكْفِي فِي الْبَيِّنَةِ قَوْلُهَا: دَخَلَ دَارَهُ شَاهِرًا السِّلَاحَ، وَلَا يَكْفِي قَوْلُهَا: دَخَلَ بِسِلَاحٍ مِنْ غَيْرِ شَهْرٍ، إِلاَّ إِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْفَسَادِ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَتِيلِ عَدَاوَةٌ فَيَكْفِي ذَلِكَ لِلْقَرِينَةِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْتُولُ يُعْرَفُ بِفَسَادٍ أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ لَمْ يُعْرَفْ بِذَلِكَ، فَإِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُمْ رَأَوْا هَذَا مُقْبِلًا إِلَى هَذَا بِالسِّلَاحِ الْمَشْهُورِ فَضَرَبَهُ هَذَا، فَقَدْ هُدِرَ دَمُهُ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْهُ دَاخِلًا دَارَهُ، وَلَمْ يَذْكُرُوا سِلَاحًا، أَوْ ذَكَرُوا سِلَاحًا غَيْرَ مَشْهُورٍ لَمْ يَسْقُطِ الْقِصَاصُ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ لِحَاجَةٍ، وَمُجَرَّدُ الدُّخُولِ لَا يُوجِبُ إِهْدَارَ دَمِهِ.
وَإِنْ تَجَارَحَ رَجُلَانِ، وَادَّعَى كُلٌّ مِنْهُمَا قَائِلًا: إِنِّي جَرَحْتُهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِي، حَلَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى إِبْطَالِ دَعْوَى صَاحِبِهِ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا جَرَحَهُ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعٍ عَلَى الْآخَرِ مَا يُنْكِرُهُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ.
وَالتَّفَاصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (قِصَاص، شَهَادَة).
دَفْعُ الصَّائِلِ عَلَى الْمَالِ:
12- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ- إِلَى وُجُوبِ دَفْعِ الصَّائِلِ عَلَى الْمَالِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «قَاتِلْ دُونَ مَالِكَ».وَاسْمُ الْمَالِ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ كَمَا يَقَعُ عَلَى الْكَثِيرِ.فَإِذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ دَفْعِ الصَّائِلِ عَلَى مَالِهِ إِلاَّ بِالْقَتْلِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ».
وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَالِهِ وَمَالِ غَيْرِهِ.فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْخَانِيَّةِ: أَنَّهُ لَوْ رَأَى رَجُلًا يَسْرِقُ مَالَهُ فَصَاحَ بِهِ وَلَمْ يَهْرُبْ، أَوْ رَأَى رَجُلًا يَثْقُبُ حَائِطَهُ، أَوْ حَائِطَ غَيْرِهِ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالسَّرِقَةِ فَصَاحَ بِهِ وَلَمْ يَهْرُبْ حَلَّ لَهُ قَتْلُهُ، وَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ.
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اشْتَرَطُوا لِلْوُجُوبِ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى أَخْذِهِ هَلَاكٌ، أَوْ شِدَّةُ أَذًى، وَإِلاَّ فَلَا يَجِبُ الدَّفْعُ اتِّفَاقًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الدَّفْعُ عَنِ الْمَالِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ إِبَاحَتُهُ لِلْغَيْرِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ ذَا رُوحٍ أَوْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ كَرَهْنٍ وَإِجَارَةٍ فَيَجِبُ الدِّفَاعُ عَنْهُ، قَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ: وَكَذَا إِنْ كَانَ مَالَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ، أَوْ وَقْفٍ أَوْ مَالًا مُودَعًا، فَيَجِبُ عَلَى مَنْ هُوَ بِيَدِهِ الدِّفَاعُ عَنْهُ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَخْشَ عَلَى نَفْسٍ، أَوْ عَلَى بُضْعٍ، وَعَلَيْهِ فَإِذَا رَأَى شَخْصًا يُتْلِفُ حَيَوَانَ نَفْسِهِ إِتْلَافًا مُحَرَّمًا وَجَبَ عَلَيْهِ الدِّفَاعُ عَنْهُ، مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.
كَمَا ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ الصَّائِلَ عَلَى الْمَالِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِقِصَاصٍ وَلَا دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ وَلَا قِيمَةٍ، لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ بِالْقِتَالِ وَالْقَتْلِ، وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ وَالضَّمَانِ مُنَافَاةٌ، قَالَ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.وَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» وَقَالَ أَيْضًا: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ».
وَيُسْتَثْنَى عِنْدَهُمْ مِنْ جَوَازِ الدِّفَاعِ عَنِ الْمَالِ صُورَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: لَوْ قَصَدَ مُضْطَرٌّ طَعَامَ غَيْرِهِ، فَلَا يَجُوزُ لِمَالِكِهِ دَفْعُهُ عَنْهُ، إِنْ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا مِثْلَهُ، فَإِنْ قَتَلَ الْمَالِكُ الصَّائِلَ الْمُضْطَرَّ إِلَى الطَّعَامِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ.وَالْأُخْرَى: إِذَا كَانَ الصَّائِلُ مُكْرَهًا عَلَى إِتْلَافِ مَالِ غَيْرِهِ، فَلَا يَجُوزُ دَفْعُهُ عَنْهُ، بَلْ يَلْزَمُ الْمَالِكَ أَنْ يَقِيَ رُوحَهُ بِمَالِهِ، كَمَا يَتَنَاوَلُ الْمُضْطَرُّ طَعَامَهُ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا دَفْعُ الْمُكْرَهِ.
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَهَذَا فِي آحَادِ النَّاسِ، أَمَّا الْإِمَامُ وَنُوَّابُهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِمُ الدِّفَاعُ عَنْ أَمْوَالِ رَعَايَاهُمْ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ: لَا يَلْزَمُهُ الدِّفَاعُ عَنْ مَالِهِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَا مَالِ غَيْرِهِ، وَلَا حِفْظِهِ مِنَ الضَّيَاعِ وَالْهَلَاكِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ بَذْلُهُ لِمَنْ أَرَادَهُ مِنْهُ ظُلْمًا.وَتَرْكُ الْقِتَالِ عَلَى مَالِهِ أَفْضَلُ مِنَ الْقِتَالِ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: يَجِبُ عَلَيْهِ الدِّفَاعُ عَنْ مَالِهِ.
أَمَّا دَفْعُ الْإِنْسَانِ عَنْ مَالِ غَيْرِهِ فَيَجُوزُ مَا لَمْ يُفْضِ إِلَى الْجِنَايَةِ عَلَى نَفْسِ الطَّالِبِ، أَوْ شَيْءٍ مِنْ أَعْضَائِهِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَلْزَمُهُ الدِّفَاعُ عَنْ مَالِ الْغَيْرِ مَعَ ظَنِّ سَلَامَةِ الدَّافِعِ وَالصَّائِلِ، وَإِلاَّ حُرِّمَ الدِّفَاعُ.
قَالُوا: وَيَجِبُ عَلَيْهِ مَعُونَةُ غَيْرِهِ فِي الدِّفَاعِ عَنْ مَالِهِ مَعَ ظَنِّ السَّلَامَةِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا»، وَلِأَنَّهُ لَوْلَا التَّعَاوُنُ لَذَهَبَتْ أَمْوَالُ النَّاسِ وَأَنْفُسُهُمْ، لِأَنَّ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ إِذَا انْفَرَدُوا بِأَخْذِ مَالِ إِنْسَانٍ- وَلَمْ يُعِنْهُ غَيْرُهُ- فَإِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَمْوَالَ الْكُلِّ، وَاحِدًا وَاحِدًا.
- رحمهم الله-
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
101-موسوعة الفقه الكويتية (طريق)
طَرِيقٌالتَّعْرِيفُ:
1- الطَّرِيقُ فِي اللُّغَةِ: السَّبِيلُ- يُذَكَّرُ، وَيُؤَنَّثُ.بِالتَّذْكِيرِ جَاءَ الْقُرْآنُ: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} وَيُقَالُ: الطَّرِيقُ الْأَعْظَمُ كَمَا يُقَالُ: كَمَا يُقَالُ الطَّرِيقُ الْعُظْمَى.
وَفِي الْإِصْلَاحِ: لَا يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَيُطْلَقُ عَلَى النَّافِذِ، وَغَيْرِ النَّافِذِ، وَالْوَاسِعِ وَالضَّيِّقِ، وَالْعَامِّ، وَالْخَاصِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الشَّارِعُ:
2- مِنْ مَعَانِي الشَّارِعِ: الطَّرِيقُ، قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: بَيْنَ الطَّرِيقِ وَالشَّارِعِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَالطَّرِيقُ عَامٌّ فِي الصَّحَارِيِ، وَالْبُنْيَانِ، وَالنَّافِذِ وَغَيْرِ النَّافِذِ، أَمَّا الشَّارِعُ فَهُوَ خَاصٌّ فِي الْبُنْيَانِ النَّافِذِ.
ب- السِّكَّةُ:
3- السِّكَّةُ هِيَ الطَّرِيقُ الْمُصْطَفَّةُ مِنَ النَّخِيلِ.وَالطَّرِيقُ أَعَمُّ مِنَ السِّكَّةِ.
ج- الزُّقَاقُ:
4- الزُّقَاقُ طَرِيقٌ ضَيِّقٌ دُونَ السِّكَّةِ، وَيَكُونُ نَافِذًا وَغَيْرَ نَافِذٍ وَالطَّرِيقُ أَعَمُّ مِنَ الزُّقَاقِ.
د- الدَّرْبُ:
5- الدَّرْبُ: بَابُ السِّكَّةِ الْوَاسِعُ، وَأَصْلُ الدَّرْبِ: الطَّرِيقُ الضَّيِّقُ فِي الْجَبَلِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمَدْخَلِ الضَّيِّقِ.
هـ- الْفِنَاءُ:
6- الْفِنَاءُ فِي اللُّغَةِ: سِعَةٌ أَمَامَ الْبَيْتِ، وَقِيلَ: مَا امْتَدَّ مِنْ جَوَانِبِهِ، وَيُطْلِقُهُ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَا فَضَلَ مِنْ حَاجَةِ الْمَارَّةِ مِنْ طَرِيقٍ نَافِذٍ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالطَّرِيقِ:
7- الطَّرِيقُ قَدْ يَكُونُ عَامًّا، وَقَدْ يَكُونُ خَاصًّا: فَالطَّرِيقُ الْعَامُّ: مَا يَسْلُكُهُ قَوْمٌ غَيْرُ مَحْصُورِينَ، أَوْ مَا جُعِلَ طَرِيقًا عِنْدَ إِحْيَاءِ الْبَلَدِ، أَوْ قَبْلَهُ، أَوْ وَقَفَهُ مَالِكُ الْأَرْضِ لِيَكُونَ طَرِيقًا، وَلَوْ بِغَيْرِ إِحْيَاءٍ.
وَإِنْ وُجِدَ سَبِيلٌ يَسْلُكُهُ النَّاسُ عَامَّةً، اعْتُمِدَ فِيهِ الظَّاهِرُ وَاعْتُبِرَ طَرِيقًا عَامًّا، وَلَا يَبْحَثُ عَنْ أَصْلِهِ.
أَمَّا بِنْيَاتُ الطَّرِيقِ- وَهِيَ الْمَمَرَّاتُ الْخَفِيَّةُ الَّتِي يَعْرِفُهَا الْخَوَاصُّ- فَلَا تَكُونُ بِذَلِكَ طَرِيقًا.
قَدْرُ مِسَاحَةِ الطَّرِيقِ:
8- إِنْ كَانَتِ الطَّرِيقُ مِنْ أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ يُسَبِّلُهَا مَالِكُهَا فَتَقْدِيرُ مِسَاحَةِ الطَّرِيقِ إِلَى اخْتِيَارِهِ، وَالْأَفْضَلُ تَوْسِيعُهُ، وَعِنْدَ الْإِحْيَاءِ: إِلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُحْيُونَ، فَإِنْ تَنَازَعُوا جُعِلَ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «قَضَى النَّبِيُّ إِذَا تَشَاجَرُوا فِي الطَّرِيقِ الْمِيتَاءِ بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ»، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ: «إِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي الطَّرِيقِ جُعِلَ عَرْضُهُ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ».
وَنَازَعَ فِي هَذَا التَّحْدِيدِ جَمْعٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ تَبَعًا لِلْأَذْرَعِيِّ: تَابَعَ النَّوَوِيُّ فِي هَذَا التَّحْدِيدِ إِفْتَاءَ ابْنِ الصَّلَاحِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: اعْتِبَارُ قَدْرِ الْحَاجَةِ فِي قَدْرِ الطَّرِيقِ، زَادَ عَنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ أَوْ نَقَصَ عَنْهَا، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ عُرْفَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَإِنْ زَادَ عَلَى سَبْعَةِ أَذْرُعٍ، أَوْ عَنْ قَدْرِ الْحَاجَةِ لَمْ يُغَيَّرْ، لِأَنَّ الطُّرُقَ وَالْأَفْنِيَةَ كَالْإِحْبَاسِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، أَوْ يَقْتَطِعَ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ وَاسِعًا، لَا يَتَضَرَّرُ الْمَارَّةُ بِالْجُزْءِ الْمُقْتَطَعِ مِنْهُ، لِمَا رُوِيَ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ الْحَارِثِ السُّلَمِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ أَخَذَ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، شِبْرًا طَوَّقَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ»، وَيُهْدَمُ إِنِ اسْتَوْلَى شَخْصٌ أَوِ اقْتَطَعَ مِنَ الطَّرِيقِ وَأَدْخَلَهُ فِي بِنَائِهِ وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ لَا يُهْدَمُ عَلَيْهِ مَا اقْتَطَعَ مِنْهَا إِذَا كَانَ مِمَّا لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَارَّةُ، وَلَا يُضَيِّقُ عَلَى الْمَارَّةِ لِسِعَتِهِ.
الِانْتِفَاعُ بِالطَّرِيقِ النَّافِذَةِ:
9- الطَّرِيقُ النَّافِذَةُ وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِـ «الشَّارِعِ» مِنَ الْمَرَافِقِ الْعَامَّةِ، لِلْجَمِيعِ الِانْتِفَاعُ بِهَا بِمَا لَا يَضُرُّ الْآخَرِينَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَمَنْفَعَتُهَا الْأَصْلِيَّةُ: الْمُرُورُ فِيهَا، لِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِذَلِكَ، فَيُبَاحُ لَهُمُ الِانْتِفَاعُ بِمَا وُضِعَ لَهُ، وَهُوَ الْمُرُورُ بِلَا خِلَافٍ وَكَذَلِكَ يُبَاحُ لِلْجَمِيعِ الِانْتِفَاعُ بِغَيْرِ الْمُرُورِ مِمَّا لَا يَضُرُّ الْمَارَّةَ، كَالْجُلُوسِ فِي الطَّرِيقِ الْوَاسِعَةِ لِانْتِظَارِ رَفِيقٍ أَوْ سُؤَالٍ إِنْ لَمْ يَضُرَّ الْمَارَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنِ الْإِمَامُ بِذَلِكَ لِاتِّفَاقِ النَّاسِ فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ وَالْأَعْصَارِ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا أَيْضًا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فَإِنْ ضَرَّ الْمَارَّةَ أَوْ ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجُزْ لِخَبَرِ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ».
وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ الْجُلُوسُ فِي الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ لِلْمُعَامَلَةِ كَالْبَيْعِ وَالصِّنَاعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ طَالَ عَهْدُهُ وَلَمْ يَأْذَنِ الْإِمَامُ، كَمَا لَا يَحْتَاجُ فِي الْإِحْيَاءِ إِلَى إِذْنِهِ، لِاتِّفَاقِ النَّاسِ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ.
وَلَا يُزْعَجُ عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي سَبَقَ إِلَيْهِ لِلْمُعَامَلَةِ، وَإِنْ طَالَ مُقَامُهُ فِيهِ، لِخَبَرِ: «مَنْ سَبَقَ إِلَى مَا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ لَهُ»، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْمُرْتَفِقِينَ، وَقَدْ ثَبَتَ لَهُ بِالْيَدِ فَصَارَ أَحَقَّ مِنْ غَيْرِهِ فِيهِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ أَلاَّ يَطُولَ الْجُلُوسُ أَوِ الْبَيْعُ، فَإِنْ طَالَ أُخْرِجَ عَنْهُ.لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُتَمَلِّكِ إِنْ طَالَ الْجُلُوسُ لِلْمُعَامَلَةِ، وَيَنْفَرِدُ بِنَفْعٍ يُسَاوِيهِ فِيهِ غَيْرُهُ.
وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجُلُوسُ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ لِاسْتِرَاحَةٍ وَنَحْوِهَا كَالْحَدِيثِ، وَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِجَوَازِ الْجُلُوسِ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ لِلِاسْتِرَاحَةِ، لِحَدِيثِ الْأَمْرِ بِإِعْطَاءِ الطَّرِيقِ حَقَّهُ: مِنْ: غَضٍّ لِلْبَصَرِ، وَكَفٍّ لِلْأَذَى، وَرَدٍّ لِلسَّلَامِ، وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، مَا لَمْ يَضُرَّ الْمَارَّةَ، وَلَمْ يُضَيِّقْ عَلَيْهِمْ، وَإِلاَّ كُرِهَ.
إِذْنُ الْإِمَامِ فِي الِارْتِفَاقِ بِالطَّرِيقِ:
10- لَا يُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ الْجُلُوسِ لِلْمُعَامَلَةِ فِي الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ إِذْنُ الْإِمَامِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ وَلَا لِأَحَدٍ مِنَ الْوُلَاةِ أَخْذُ عِوَضٍ مِمَّنْ يَرْتَفِقُ بِالْجُلُوسِ فِيهِ لِلْمُعَامَلَةِ، وَلَا أَنْ يَبِيعَ جُزْءًا مِنَ الطَّرِيقِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ فَضَلَ الْجُزْءُ الْمُبَاعُ عَنْ حَاجَةِ الطَّرِيقِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ يَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ الْمِلْكِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ بَيْعُ الْمَوَاتِ وَلَا قَائِلَ بِهِ، وَلِأَنَّ الطُّرُقَ كَالْأَحْبَاسِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا تَصَرُّفًا يُغَيِّرُ وَضْعَهَا.
وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَ بُقْعَةً مِنَ الطَّرِيقِ الْعَامِّ لِمَنْ يَجْلِسُ فِيهَا لِلْمُعَامَلَةِ ارْتِفَاقًا، لَا تَمْلِيكًا، إِنْ لَمْ يَضُرَّ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ لَهُ نَظَرًا وَاجْتِهَادًا فِي الضَّرَرِ وَغَيْرِهِ، وَلَا يَمْلِكُ الْمَقْطُوعُ لَهُ الْبُقْعَةَ، إِنَّمَا يَكُونُ أَحَقَّ بِالْجُلُوسِ فِيهَا كَالسَّابِقِ إِلَيْهَا.
التَّزَاحُمُ فِي الِارْتِفَاقِ:
11- لِلْجَالِسِ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ لِلْمُعَامَلَةِ تَظْلِيلُ مَوْضِعِ جُلُوسِهِ بِمَا لَا ثَبَاتَ لَهُ مِنْ حَصِيرٍ، أَوْ عَبَاءَةٍ، أَوْ ثَوْبٍ، لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُزَاحِمَهُ فِي مَحَلِّ جُلُوسِهِ بِحَيْثُ يَضُرُّهُ، وَيُضَيِّقُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَالْأَخْذِ وَالْعَطَاءِ، وَلَا أَنْ يُزَاحِمَهُ فِي مَوْضِعِ أَمْتِعَتِهِ وَمَوْقِفِ مُعَامِلِيهِ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ الْوُقُوفَ بِقُرْبِهِ إِنْ كَانَ الْوُقُوفُ يَمْنَعُ رُؤْيَةَ بِضَاعَتِهِ، أَوْ وُصُولَ الْقَاصِدِينَ إِلَيْهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ تَمَامِ الِانْتِفَاعِ بِمَوْضِعِ اخْتِصَاصِهِ، وَلَيْسَ لَهُ الْمَنْعُ مِنَ الْجُلُوسِ بِقُرْبِهِ لِبَيْعِ مِثْلِ بِضَاعَتِهِ، إِنْ لَمْ يُزَاحِمْهُ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنَ الْمَرَافِقِ الْمَذْكُورَةِ.
وَمَنْ سَبَقَ إِلَى الْجُلُوسِ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الطَّرِيقِ النَّافِذِ لِلْمُعَامَلَةِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا سَبَقَ، وَإِنْ سَبَقَ اثْنَانِ، وَتَنَازَعَا فِيهِ وَلَمْ يَسَعْهُمَا مَعًا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، لِانْتِفَاءِ الْمُرَجِّحِ.
تَرْكُ صَاحِبِ الِاخْتِصَاصِ مَوْضِعًا اخْتَصَّ بِهِ:
12- إِنْ تَرَكَ الْجَالِسُ مَوْضِعَ اخْتِصَاصِهِ، وَانْتَقَلَ إِلَى غَيْرِهِ أَوْ تَرَكَ الْحِرْفَةَ الَّتِي كَانَ يُزَاوِلُهَا فِيهِ بَطَلَ حَقُّهُ فِيهِ، سَوَاءٌ أَأَقْطَعُهُ الْإِمَامُ لَهُ، أَمْ سَبَقَ إِلَيْهِ بِلَا إِقْطَاعٍ مِنَ الْإِمَامِ.وَإِنْ فَارَقَهُ لِيَعُودَ إِلَيْهِ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ إِلاَّ أَنْ يَطُولَ غِيَابُهُ عَنْهُ، لِحَدِيثِ: «مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» فَإِنْ طَالَ غِيَابُهُ عَنْهُ بِحَيْثُ يَنْقَطِعُ مُعَامِلُوهُ عَنْهُ وَيَأْلَفُونَ غَيْرَهُ يَبْطُلُ حَقُّهُ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ فَارَقَهُ لِعُذْرٍ أَوْ تَرَكَ مَتَاعَهُ فِيهِ أَوْ كَانَ بِإِقْطَاعِ الْإِمَامِ لَهُ إِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ نَقَلَ مَتَاعَهُ عَنْ مَوْضِعِ اخْتِصَاصِهِ، بَطَلَ حَقُّهُ فِيهِ، وَإِنْ تَرَكَ مَتَاعَهُ فِيهِ، أَوْ أَجْلَسَ شَخْصًا فِيهِ لِيَحْفَظَ لَهُ الْمَكَانَ، لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ إِزَالَةُ مَتَاعِهِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ قَامَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوْ وُضُوءٍ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ.
وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) لَا يُجِيزُ إِطَالَةَ الْجُلُوسِ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ لِلْمُعَامَلَةِ، فَإِنْ أَطَالَ أُزِيلَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُتَمَلِّكِ، يَخْتَصُّ بِنَفْعٍ يُسَاوِيهِ فِيهِ غَيْرُهُ، وَحَدَّدَ الْمَالِكِيَّةُ طُولَ الْمُقَامِ بِيَوْمٍ كَامِلٍ.
وَإِنْ جَلَسَ لِاسْتِرَاحَةٍ، أَوْ حَدِيثٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ بَطَلَ حَقُّهُ فِيهِ بِمُفَارَقَتِهِ، بِلَا خِلَافٍ.
الِانْتِفَاعُ فِي الطَّرِيقِ بِغَيْرِ الْمُرُورِ، وَالْجُلُوسِ لِلْمُعَامَلَةِ:
13- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى حُرْمَةِ التَّصَرُّفِ فِي الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِـ (الشَّارِعِ) بِمَا يَضُرُّ الْمَارَّةَ فِي مُرُورِهِمْ، لِأَنَّ الْحَقَّ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُضَارَّهُمْ فِي حَقِّهِمْ، وَيَمْتَنِعُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ بِنَاءُ دِكَّةٍ- وَهِيَ الَّتِي تُبْنَى لِلْجُلُوسِ عَلَيْهَا وَنَحْوِهَا- فِي الطَّرِيقِ النَّافِدَةِ وَغَرْسُ شَجَرَةٍ فِيهَا وَإِنِ اتَّسَعَ الطَّرِيقُ، وَأَذِنَ الْإِمَامُ، وَانْتَفَى الضَّرَرُ، وَبُنِيَتْ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لِمَنْعِهِمَا الطُّرُوقَ فِي مَحَلِّهِمَا، وَلِأَنَّهُ بِنَاءٌ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَقَدْ يُؤْذِي الْمَارَّةَ فِيمَا بَعْدُ، وَيُضَيِّقُ عَلَيْهِمْ، وَيَعْثِرُ بِهِ الْعَاثِرُ، فَلَمْ يَجُزْ، وَلِأَنَّهُ إِذَا طَالَ الزَّمَنُ أَشْبَهَ مَوْضِعُهُمَا الْأَمْلَاكَ الْخَاصَّةَ، وَانْقَطَعَ اسْتِحْقَاقُ الطُّرُوقِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ بِنَاءُ دِكَّةٍ، وَغَرْسُ أَشْجَارٍ فِي الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ كَإِخْرَاجِ الْمَيَازِيبِ، وَالْأَجْنِحَةِ، إِنْ لَمْ يَضُرَّ الْمَارَّةَ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْمُرُورِ فِيهَا، فَإِنْ ضَرَّ الْمَارَّةَ أَوْ مَنَعَ لَمْ يَجُزْ إِحْدَاثُهَا، وَلِكُلٍّ مِنَ الْعَامَّةِ مِنْ أَهْلِ الْخُصُومَةِ مَنْعُهُ مِنْ إِحْدَاثِهَا ابْتِدَاءً، وَمُطَالَبَتُهُ بِنَقْضِهِ بَعْدَ الْبِنَاءِ، سَوَاءٌ أَضَرَّ أَمْ لَمْ يَضُرَّ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبُ حَقٍّ بِالْمُرُورِ بِنَفْسِهِ وَبِدَوَابِّهِ، فَكَانَ لَهُ حَقُّ النَّقْضِ كَمَا فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ.
هَذَا إِذَا بَنَاهَا لِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ، فَإِنْ بَنَاهَا لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَإِنْ بَنَاهَا لِنَفْسِهِ لَمْ يُنْقَضْ، إِنْ لَمْ يَضُرَّ الْمَارَّةَ.
وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ الْعَامَّةَ لَا يَجُوزُ إِحْدَاثُهُ، أَذِنَ الْإِمَامُ أَمْ لَمْ يَأْذَنْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ».
الِارْتِفَاقُ فِي هَوَاءِ الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ:
14- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَامَّةِ الِانْتِفَاعُ فِي هَوَاءِ الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ بِإِخْرَاجِ جَنَاحٍ إِلَيْهَا أَوْ رَوْشَنٍ أَوْ سَابَاطٍ، وَهُوَ سَقِيفَةٌ عَلَى حَائِطَيْنِ وَيَمُرُّ الطَّرِيقُ بَيْنَهُمَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ كَالْمِيزَابِ، إِنْ رَفَعَهَا بِحَيْثُ يَمُرُّ تَحْتَهُ الْمَاشِي مُنْتَصِبًا، مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى طَأْطَأَةِ رَأْسِهِ، وَعَلَى رَأْسِهِ الْحُمُولَةُ الْمُعْتَادَةُ، وَلَمْ يَسُدَّ الضَّوْءَ عَنِ الطَّرِيقِ، وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ مَمَرًّا لِلْقَوَافِلِ يُرْفَعُ الْمِيزَابُ وَالْجَنَاحُ وَنَحْوُهَا بِحَيْثُ يَمُرُّ تَحْتَهَا الْمَحْمَلُ عَلَى الْبَعِيرِ، وَالْمِظَلَّةُ فَوْقَ الْمَحْمَلِ، فَإِنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَدَمَهُ الْحَاكِمُ، وَلِكُلٍّ الْمُطَالَبَةُ بِإِزَالَتِهِ، لِأَنَّهُ إِزَالَةٌ لِلْمُنْكَرِ
وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ إِخْرَاجِ الْجَنَاحِ إِلَى الطَّرِيقِ النَّافِذِ مَا صَحَّ مِنْ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم-: نَصَبَ بِيَدِهِ الشَّرِيفَةِ مِيزَابًا فِي دَارِ عَمِّهِ الْعَبَّاسِ إِلَى الطَّرِيقِ، وَكَانَ شَارِعًا إِلَى مَسْجِدِهِ» وَقِيسَ عَلَيْهِ الْجَنَاحُ وَنَحْوُهُ، وَلِإِطْبَاقِ النَّاسِ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ، لِكُلٍّ مِنْ أَهْلِ الْخُصُومَةِ مِنَ الْعَامَّةِ مَنْعُهُ مِنْ إِحْدَاثِ ذَلِكَ ابْتِدَاءً، وَمُطَالَبَتُهُ بِنَقْضِهِ بَعْدَ الْبِنَاءِ ضَرَّ أَمْ لَمْ يَضُرَّ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ إِلَى طَرِيقٍ نَافِذَةٍ أَذِنَ الْإِمَامُ، أَوْ لَمْ يَأْذَنْ، ضَرَّ الْمَارَّةَ أَوْ لَمْ يَضُرَّ وَقَالُوا: لِأَنَّهُ بِنَاءٌ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ، بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ، فَلَمْ يَجُزْ كَبِنَاءِ الدِّكَّةِ، أَوْ بِنَائِهِ فِي دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ بِغَيْرِ إِذْنِ أَهْلِهِ، وَيُفَارِقُ الْمُرُورَ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنَّهَا جُعِلَتْ لِذَلِكَ وَلَا مَضَرَّةَ فِيهِ، وَالْجُلُوسُ لِأَنَّهُ لَا يَدُومُ وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَلَا يَخْلُو الْإِخْرَاجُ إِلَى الطَّرِيقِ الْعَامِّ عَنْ مَضَرَّةٍ، فَإِنَّهُ يَظْلِمُ الطَّرِيقَ بِسَدِّ الضَّوْءِ عَنْهُ، وَرُبَّمَا سَقَطَ عَلَى الْمَارَّةِ، أَوْ سَقَطَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَقَدْ تَعْلُو الْأَرْضُ بِمُرُورِ الزَّمَنِ فَيَصْدِمُ رُءُوسَ النَّاسِ، وَيَمْنَعُ مُرُورَ الدَّوَابِّ بِالْأَحْمَالِ، وَمَا يُفْضِي إِلَى الضَّرَرِ فِي ثَانِي الْحَالِ يَجِبُ الْمَنْعُ مِنْهُ فِي ابْتِدَائِهِ، كَمَا لَوْ أَرَادَ بِنَاءَ حَائِطٍ مَائِلٍ إِلَى الطَّرِيقِ يَخْشَى وُقُوعَهُ عَلَى مَنْ يَمُرُّ فِيهَا.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ يَجُوزُ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ، أَوْ نَائِبِهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ، لِأَنَّ الْإِمَامَ، نَائِبٌ عَنِ الْمُسْلِمِينَ- وَفِي حُكْمِهِ نُوَّابُهُ- وَإِذْنُهُ كَإِذْنِ الْمُسْلِمِينَ.
وَلِمَا وَرَدَ «أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه-: اجْتَازَ عَلَى دَارِ الْعَبَّاسِ- رضي الله عنهما- وَقَدْ نَصَبَ مِيْزَابًا إِلَى الطَّرِيقِ فَقَلَعَهُ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: تَقْلَعُهُ وَقَدْ نَصَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا تَنْصِبُهُ إِلاَّ عَلَى ظَهْرِي، فَانْحَنَى حَتَّى صَعِدَ عَلَى ظَهْرِهِ فَنَصَبَهُ»، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِهِ.
مَا تَوَلَّدَ مِنْ إِخْرَاجِ الْمِيزَابِ وَنَحْوِهِ إِلَى الطَّرِيقِ النَّافِذِ:
15- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ مَا تَوَلَّدَ مِنْ إِخْرَاجِ مِيزَابٍ وَنَحْوِهِ: كَالْجَنَاحِ وَالسَّابَاطِ إِلَى الطَّرِيقِ النَّافِذِ مِنْ تَلَفِ مَالٍ، أَوْ مَوْتِ نَفْسٍ فَمَضْمُونٌ وَإِنْ جَازَ إِخْرَاجُهُ، وَأَذِنَ الْإِمَامُ وَلَمْ يَضُرَّ الْمَارَّةَ، وَتَنَاهَى فِي الِاحْتِيَاطِ، وَحَدَثَ مَا لَمْ يُتَوَقَّعْ، كَصَاعِقَةٍ، أَوْ رِيحٍ شَدِيدَةٍ، لِأَنَّ الِارْتِفَاقَ بِالطَّرِيقِ الْعَامِّ مَشْرُوطٌ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ، وَمَا لَمْ تَسْلَمْ عَاقِبَتُهُ فَلَيْسَ بِمَأْذُونٍ فِيهِ، وَيَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ، وَكَذَا إِنْ وَضَعَ تُرَابًا فِي الطَّرِيقِ لِتَطْيِينِ سَطْحِ مَنْزِلِهِ، فَزَلَّ بِهِ إِنْسَانٌ فَمَاتَ، أَوْ بَهِيمَةٌ فَتَلِفَتْ يَضْمَنُ، لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ فِي تَلَفِهِ، فَتَجِبُ دِيَةُ الْخَطَأِ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَقِيمَةُ الدَّابَّةِ فِي مَالِهِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: هَذَا إِذَا لَمْ يَأْذَنِ الْإِمَامُ، فَإِنْ أَذِنَ الْإِمَامُ بِإِخْرَاجِ الْمِيزَابِ وَنَحْوِهِ إِلَى الطَّرِيقِ الْعَامِّ فَلَا ضَمَانَ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي إِخْرَاجِ الْجَنَاحِ حِينَئِذٍ، لِأَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً عَلَى الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنِ الْعَامَّةِ، فَكَانَ الْمُخْرِجُ كَمَنْ فَعَلَهُ فِي مِلْكِهِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا أَذِنَ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ، جَاءَ فِي مَوَاهِبِ الْجَلِيلِ: قَالَ مَالِكٌ فِي جَنَاحٍ خَارِجٍ إِلَى الطَّرِيقِ فَسَقَطَ عَلَى رَجُلٍ فَمَاتَ.قَالَ مَالِكٌ: لَا شَيْءَ عَلَى مَنْ بَنَاهُ.
مَا يَجِبُ فِي الضَّمَانِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ:
16- إِنْ كَانَ بَعْضُ الْجَنَاحِ فِي الْجِدَارِ، وَبَعْضُهُ خَارِجًا إِلَى الطَّرِيقِ فَسَقَطَ الْخَارِجُ وَحْدَهُ- كُلُّهُ، أَوْ بَعْضُهُ- فَأَتْلَفَ شَيْئًا فَعَلَى الْمُخْرِجِ ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِهِ مِنْ نَفْسٍ، أَوْ مَالٍ، لِأَنَّهُ تَلِفَ بِمَا هُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ خَاصَّةً، سَوَاءٌ كَانَ الْمُخْرِجُ مَالِكَهُ أَوْ مُسْتَعِيرًا أَوْ مُسْتَأْجِرًا أَوْ غَاصِبًا، وَإِنْ سَقَطَ مَا فِي الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ، وَتَلِفَ بِهِ إِنْسَانٌ، أَوْ مَالٌ فَعَلَى صَاحِبِ الْجِدَارِ، نِصْفُ الدِّيَةِ، إِنْ كَانَ التَّالِفُ إِنْسَانًا، وَنِصْفُ قِيمَةِ الْمُتْلَفِ إِنْ كَانَ مَالًا، لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِسُقُوطِ مَا فِي دَاخِلِ الْجِدَارِ مِنَ الْجَنَاحِ، وَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ لِأَنَّهُ فِي مِلْكِهِ، وَالْمَشْرُوعُ إِلَى الطَّرِيقِ الْعَامِّ، وَهُوَ مَضْمُونٌ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَضْمَنُ كُلَّ الدِّيَةِ أَوِ الْقِيمَةَ فِي الْحَالَيْنِ، لِأَنَّهُ تَلِفَ بِمَا أَخْرَجَهُ إِلَى الطَّرِيقِ فَضَمِنَ، كَمَا لَوْ بَنَى حَائِطًا مَائِلًا إِلَى الطَّرِيقِ فَأَتْلَفَ شَيْئًا، وَلِأَنَّهُ إِخْرَاجٌ يَضْمَنُ بِهِ بَعْضَهُ فَيَضْمَنُ كُلَّهُ.
سُقُوطُ جِدَارٍ مَائِلٍ إِلَى طَرِيقٍ نَافِذٍ:
17- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَنَى فِي مِلْكِهِ جِدَارًا مَائِلًا إِلَى الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ فَسَقَطَ فِيهِ فَتَلِفَ بِهِ شَيْءٌ ضَمِنَ، لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ بَنَاهُ فِي مِلْكِهِ مُسْتَوِيًا فَسَقَطَ بِغَيْرِ اسْتِهْدَامٍ وَلَا مَيْلٍ، فَأَتْلَفَ شَيْئًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ فِي بِنَائِهِ، وَلَا حَصَلَ مِنْهُ تَفْرِيطٌ بِإِبْقَائِهِ، وَإِنْ مَالَ قَبْلَ وُقُوعِهِ إِلَى هَوَاءِ الطَّرِيقِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ نَقْضُهُ وَإِصْلَاحُهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ بِبِنَائِهِ، وَلَا فَرَّطَ فِي تَرْكِهِ وَإِصْلَاحِهِ، لِعَجْزِهِ عَنْهُ، فَأَشْبَهَ كَمَا لَوْ سَقَطَ مِنْ غَيْرِ مَيْلٍ.
وَإِنْ أَمْكَنَهُ نَقْضُهُ وَإِصْلَاحُهُ، فَلَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَحْمَدُ إِلَى الضَّمَانِ بِشَرْطِ أَنْ يُطَالِبَ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الْمَصْلَحَةِ فِي الْخُصُومَةِ بِالنَّقْضِ، وَيَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ حَاكِمٍ أَوْ جَمْعٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَضْمَنُ لِتَقْصِيرِهِ وَإِنْ لَمْ يُطَالِبْ وَلَمْ يَشْهَدْ.
إِلْقَاءُ شَيْءٍ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ:
18- لَوْ أَلْقَى قُمَامَاتٍ، أَوْ قُشُورَ بِطِّيخٍ وَرُمَّانٍ وَمَوْزٍ بِطَرِيقٍ نَافِذٍ فَمَضْمُونٌ، مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ الْمَارُّ الْمَشْيَ عَلَيْهَا قَصْدًا، وَكَذَا إِنْ رَشَّ فِي الطَّرِيقِ مَاءً فَزَلَقَ بِهِ إِنْسَانٌ، أَوْ بَهِيمَةٌ، فَتَلِفَ يَضْمَنُ. (ر: مُصْطَلَح: ضَمَان)
إِحْدَاثُ بِئْرٍ فِي طَرِيقٍ نَافِذٍ:
19- لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ النَّافِذِ لِنَفْسِهِ، سَوَاءٌ جَعَلَهَا لِمَاءِ الْمَطَرِ، أَوِ اسْتِخْرَاجِ مَاءٍ يَنْتَفِعُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ، لِأَنَّ الطَّرِيقَ مِلْكٌ لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْدَثَ فِيهَا شَيْءٌ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، وَإِذْنُ كُلِّهِمْ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ، وَإِنْ حَفَرَهَا وَتَرَتَّبَ عَلَى حَفْرِهَا ضَرَرٌ فَفِي ضَمَانِهِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْحَفْرُ لِمَصْلَحَةِ الْحَافِرِ أَوْ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ.
(ر: مُصْطَلَح: ضَمَان).
ضَمَانُ الضَّرَرِ الْحَادِثِ مِنْ مُرُورِ الْبَهَائِمِ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ:
20- الْمُرُورُ فِي الطَّرِيقِ النَّافِذِ حَقٌّ لِجَمِيعِ النَّاسِ، لِأَنَّهُ وُضِعَ لِذَلِكَ، وَمُبَاحٌ لَهُمْ بِدَوَابِّهِمْ، بِشَرْطِ السَّلَامَةِ فِيمَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، فَإِنْ تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ ضَرَرٌ فَفِي ضَمَانِهِ تَفْصِيلٌ (يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: ضَمَان) الطَّرِيقُ غَيْرُ النَّافِذِ:
21- الطَّرِيقُ غَيْرُ النَّافِذِ مِلْكٌ لِأَهْلِهِ، فَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ أَهْلِهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ إِلاَّ بِرِضَاهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ، لِأَنَّهُ مِلْكُهُمْ، فَأَشْبَهَ الدُّورَ.
وَأَهْلُهُ مَنْ لَهُمْ حَقُّ الْمُرُورِ فِيهِ إِلَى مِلْكِهِمْ مِنْ دَارٍ، أَوْ بِئْرٍ، أَوْ فُرْنٍ، أَوْ حَانُوتٍ، لَا مَنْ لَاصَقَ جِدَارُهُ الدَّرْبَ مِنْ غَيْرِ نُفُوذِ بَابٍ فِيهِ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الْمُسْتَحِقُّونَ الِارْتِفَاقَ فِيهِ.
وَيَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ غَيْرِ النَّافِذِ الِارْتِفَاقَ بِمَا بَيْنَ رَأْسِ الدَّرْبِ وَبَابِ دَارِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَحَلُّ تَرَدُّدِهِ، وَمُرُورِهِ، وَمَا عَدَاهُ هُوَ فِيهِ كَالْأَجْنَبِيِّ مِنَ الطَّرِيقِ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: لِكُلٍّ مِنْ أَهْلِ الدَّرْبِ غَيْرِ النَّافِذِ الِارْتِفَاقُ بِكُلِّ الطَّرِيقِ، لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا يَحْتَاجُونَ إِلَى التَّرَدُّدِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ كُلِّهِ، لِإِلْقَاءِ الْقُمَامَاتِ فِيهِ عِنْدَ الْإِدْخَالِ وَالْإِخْرَاجِ.
أَمَّا الْبِنَاءُ فِيهِ وَإِخْرَاجُ رَوْشَنٍ، أَوْ جَنَاحٍ، أَوْ سَابَاطٍ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ، إِلاَّ بِرِضَا الْبَاقِينَ، كَسَائِرِ الْأَمْلَاكِ الْمُشْتَرَكَةِ، لِأَنَّهُ بِنَاءٌ فِي هَوَاءِ قَوْمِ مُعَيَّنِينَ فَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ.
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: يَجُوزُ لِبَعْضِ أَهْلِ الدَّرْبِ إِخْرَاجُ مَا ذُكِرَ إِلَى الطَّرِيقِ الْمَسْدُودِ بِغَيْرِ رِضَا الْبَاقِينَ إِنْ لَمْ يَضُرَّ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الِانْتِفَاعَ بِقَرَارِهِ فَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَوَائِهِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
قَالَ الزُّرْقَانِيُّ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَالْأَوَّلُ ضَعِيفٌ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
102-موسوعة الفقه الكويتية (طهارة 2)
طَهَارَةٌ -2طَهَارَةُ الْأَرْضِ بِالْمَاءِ:
20- إِذَا تَنَجَّسَتْ الْأَرْضُ بِنَجَاسَةٍ مَائِعَةٍ- كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِهِمَا- فَتَطْهِيرُهَا أَنْ تُغْمَرَ بِالْمَاءِ بِحَيْثُ يَذْهَبُ لَوْنُ النَّجَاسَةِ وَرِيحُهَا، وَمَا انْفَصَلَ عَنْهَا غَيْرُ مُتَغَيِّرٍ بِهَا فَهُوَ طَاهِرٌ.
بِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ أَنَسٌ- رضي الله عنه- قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةٍ نَاحِيَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ» وَفِي لَفْظٍ فَدَعَاهُ فَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذِرِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ» وَأَمَرَ رَجُلًا فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ.وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالذَّنُوبِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَغْمُرُ الْبَوْلَ، وَيُسْتَهْلَكُ فِيهِ الْبَوْلُ وَإِنْ أَصَابَ الْأَرْضَ مَاءُ الْمَطَرِ أَوِ السُّيُولُ فَغَمَرَهَا وَجَرَى عَلَيْهَا فَهُوَ كَمَا لَوْ صَبَّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ تَطْهِيرَ النَّجَاسَةِ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ نِيَّةٌ وَلَا فِعْلٌ، فَاسْتَوَى مَا صَبَّهُ الْآدَمِيُّ وَمَا جَرَى بِغَيْرِ صَبِّهِ.
وَلَا تَطْهُرُ الْأَرْضُ حَتَّى يَذْهَبَ لَوْنُ النَّجَاسَةِ وَرَائِحَتُهَا، وَلِأَنَّ بَقَاءَهُمَا دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ النَّجَاسَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَزُولُ لَوْنُهَا إِلاَّ بِمَشَقَّةٍ سَقَطَ عَنْهُ إِزَالَتُهَا كَالثَّوْبِ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الرَّائِحَةِ.
وَيَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا أَصَابَتِ النَّجَاسَةُ أَرْضًا رَخْوَةً فَيُصَبُّ عَلَيْهَا الْمَاءُ فَتَطْهُرُ، لِأَنَّهَا تُنَشِّفُ الْمَاءَ، فَيَطْهُرُ وَجْهُ الْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَتْ صُلْبَةً يُصَبُّ الْمَاءُ عَلَيْهَا، ثُمَّ تُكْبَسُ الْحَفِيرَةُ الَّتِي اجْتَمَعَ فِيهَا الْغُسَالَةُ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَرْض ف 3).
مَا تَطْهُرُ بِهِ الْأَرْضُ سِوَى الْمِيَاهِ:
21- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ عَدَا زُفَرَ إِلَى أَنَّ الْأَرْضَ إِذَا أَصَابَهَا نَجِسٌ، فَجَفَّتْ بِالشَّمْسِ أَوِ الْهَوَاءِ أَوْ غَيْرِهِمَا وَذَهَبَ أَثَرُهُ طَهُرَتْ وَجَازَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَيُّمَا أَرْضٍ جَفَّتْ فَقَدْ ذَكَتْ».
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهَا لَا تَطْهُرُ بِغَيْرِ الْمَاءِ، لِأَمْرِهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُصَبَّ عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ ذَنُوبُ مَاءٍ، وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «أَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، أَوْ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ» وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ نَجِسٌ فَلَمْ يَطْهُرْ بِغَيْرِ الْغَسْلِ.
طَهَارَةُ النَّجَاسَةِ بِالِاسْتِحَالَةِ:
22- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى طَهَارَةِ الْخَمْرِ بِالِاسْتِحَالَةِ، فَإِذَا انْقَلَبَتِ الْخَمْرُ خَلًّا صَارَتْ طَاهِرَةً.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَخْلِيل ف 13، 14).
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا عَدَا الْخَمْرَ مِنْ نَجِسِ الْعَيْنِ هَلْ يَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ نَجِسُ الْعَيْنِ بِالِاسْتِحَالَةِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى عَنْ أَكْلِ الْجَلاَّلَةِ وَأَلْبَانِهَا» لِأَكْلِهَا النَّجَاسَةَ، وَلَوْ طَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ.
قَالَ الرَّمْلِيُّ: وَلَا يَطْهُرُ نَجِسُ الْعَيْنِ بِالْغَسْلِ مُطْلَقًا، وَلَا بِالِاسْتِحَالَةِ، كَمَيْتَةٍ وَقَعَتْ فِي مَلاَّحَةٍ فَصَارَتْ مِلْحًا، أَوْ أُحْرِقَتْ فَصَارَتْ رَمَادًا.
وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: وَلَا تَطْهُرُ نَجَاسَةٌ بِنَارٍ، فَالرَّمَادُ مِنَ الرَّوْثِ النَّجِسِ نَجِسٌ وَصَابُونٌ عُمِلَ مِنْ زَيْتٍ نَجِسٍ نَجِسٌ، وَكَذَا لَوْ وَقَعَ كَلْبٌ فِي مَلاَّحَةٍ فَصَارَ مِلْحًا، أَوْ فِي صَبَّانَةٍ فَصَارَ صَابُونًا.
لَكِنْ نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَحَوَّلَتِ الْعَلَقَةُ إِلَى مُضْغَةٍ، فَإِنَّهَا تَصِيرُ طَاهِرَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ نَجِسَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ نَجَاسَتَهَا بِصَيْرُورَتِهَا عَلَقَةً، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ عَادَتْ إِلَى أَصْلِهَا، كَالْمَاءِ الْكَثِيرِ الْمُتَغَيِّرِ بِالنَّجَاسَةِ.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ نَجِسَ الْعَيْنِ يَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ رَتَّبَ وَصْفَ النَّجَاسَةِ عَلَى تِلْكَ الْحَقِيقَةِ، وَتَنْتَفِي الْحَقِيقَةُ بِانْتِفَاءِ بَعْضِ أَجْزَاءِ مَفْهُومِهَا، فَكَيْفَ بِالْكُلِّ؟.
وَنَظِيرُهُ فِي الشَّرْعِ النُّطْفَةُ نَجِسَةٌ، وَتَصِيرُ عَلَقَةً وَهِيَ نَجِسَةٌ، وَتَصِيرُ مُضْغَةً فَتَطْهُرُ، وَالْعَصِيرُ طَاهِرٌ فَيَصِيرُ خَمْرًا فَيَنْجُسُ، وَيَصِيرُ خَلًّا فَيَطْهُرُ، فَعَرَفْنَا أَنَّ اسْتِحَالَةَ الْعَيْنِ تَسْتَتْبِعُ زَوَالَ الْوَصْفِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَا اسْتَحَالَتْ بِهِ النَّجَاسَةُ بِالنَّارِ، أَوْ زَالَ أَثَرُهَا بِهَا يَطْهُرُ.
كَمَا تَطْهُرُ النَّجَاسَةُ عِنْدَهُمْ بِانْقِلَابِ الْعَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَاخْتَارَهُ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.
وَمِنْ تَفْرِيعَاتِ ذَلِكَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْمُجْتَبَى أَنَّهُ إِنْ جُعِلَ الدُّهْنُ النَّجِسُ فِي صَابُونٍ يُفْتَى بِطَهَارَتِهِ، لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ، وَالتَّغَيُّرُ يُطَهِّرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَيُفْتَى بِهِ لِلْبَلْوَى، وَعَلَيْهِ يَتَفَرَّعُ مَا لَوْ وَقَعَ إِنْسَانٌ أَوْ كَلْبٌ فِي قِدْرِ الصَّابُونِ فَصَارَ صَابُونًا يَكُونُ طَاهِرًا لِتَبَدُّلِ الْحَقِيقَةِ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الْعِلَّةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ هِيَ التَّغَيُّرُ وَانْقِلَابُ الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّهُ يُفْتَى بِهِ لِلْبَلْوَى، وَمُقْتَضَاهُ: عَدَمُ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِالصَّابُونِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَا كَانَ فِيهِ تَغَيُّرٌ وَانْقِلَابٌ حَقِيقَةً، وَكَانَ فِيهِ بَلْوَى عَامَّةٌ.
كَمَا نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ إِذَا تَحَجَّرَتْ فَإِنَّهَا تَطْهُرُ، لِزَوَالِ الْإِسْكَارِ مِنْهَا، وَأَنَّ رَمَادَ النَّجِسِ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ النَّارَ تَطْهُرُ.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ: سَوَاءٌ أَكَلَتِ النَّارُ النَّجَاسَةَ أَكْلًا قَوِيًّا أَوْ لَا، فَالْخُبْزُ الْمَخْبُوزُ بِالرَّوْثِ النَّجِسِ طَاهِرٌ وَلَوْ تَعَلَّقَ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الرَّمَادِ، وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ قَبْلَ غَسْلِ الْفَمِ مِنْ أَكْلِهِ، وَيَجُوزُ حَمْلُهُ فِي الصَّلَاةِ.
مَا يَطْهُرُ مِنَ الْجُلُودِ بِالدِّبَاغَةِ:
23- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَةِ جُلُودِ مَيْتَةِ الْحَيَوَانَاتِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَاخْتَلَفُوا فِي طَهَارَةِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغَةِ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي مُصْطَلَحِ: (دِبَاغَة ج 20 ف 8 وَمَا بَعْدَهَا).
تَطْهِيرُ الْخُفِّ مِنَ النَّجَاسَةِ:
24- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَصَابَتْ أَسْفَلَ الْخُفِّ أَوِ النَّعْلِ نَجَاسَةٌ فَإِنَّ تَطْهِيرَهُ يَكُونُ بِغَسْلِهِ، وَلَا يُجْزِئُ لَوْ دَلَكَهُ كَالثَّوْبِ وَالْبَدَنِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ رَطْبَةً أَوْ جَافَّةً، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ فِي الْعَفْوِ عَنِ النَّجَاسَةِ الْجَافَّةِ إِذَا دُلِكَتْ، أَصَحُّهُمَا: الْقَوْلُ الْجَدِيدُ لِلشَّافِعِيِّ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَغْسِلَهُ، وَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِهِ، وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ- رضي الله عنه- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ؛ فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ، وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا».
قَالَ الرَّافِعِيُّ: إِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ وَهُوَ الْعَفْوُ فَلَهُ شُرُوطٌ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ لِلنَّجَاسَةِ جِرْمٌ يَلْتَصِقُ بِالْخُفِّ، أَمَّا الْبَوْلُ وَنَحْوُهُ فَلَا يَكْفِي دَلْكُهُ بِحَالٍ.
الثَّانِي: أَنْ يَدْلُكَهُ فِي حَالِ الْجَفَافِ، وَأَمَّا مَا دَامَ رَطْبًا فَلَا يَكْفِي دَلْكُهُ قَطْعًا.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حُصُولُ النَّجَاسَةِ بِالْمَشْيِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ، فَلَوْ تَعَمَّدَ تَلْطِيخَ.الْخُفِّ بِهَا وَجَبَ الْغَسْلُ قَطْعًا.
وَنَقَلَ الْبُهُوتِيُّ عَنِ الْإِنْصَافِ أَنَّ يَسِيرَ النَّجَاسَةِ إِذَا كَانَتْ عَلَى أَسْفَلِ الْخُفِّ وَالْحِذَاءِ بَعْدَ الدَّلْكِ يُعْفَى عَنْهُ عَلَى الْقَوْلِ بِنَجَاسَتِهِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَصَابَ الْخُفَّ نَجَاسَةٌ لَهَا جِرْمٌ، كَالرَّوْثِ وَالْعَذِرَةِ، فَجَفَّتْ، فَدَلَكَهُ بِالْأَرْضِ جَازَ، وَالرَّطْبُ وَمَا لَا جِرْمَ لَهُ كَالْخَمْرِ وَالْبَوْلِ لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلاَّ الْغَسْلُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُجْزِئُ الْمَسْحُ فِيهِمَا إِلاَّ الْبَوْلَ وَالْخَمْرَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ فِيهِمَا إِلاَّ الْغُسْلُ كَالثَّوْبِ.
وَلِأَبِي يُوسُفَ إِطْلَاقُ قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَصَابَ خُفَّ أَحَدِكُمْ أَوْ نَعْلَهُ أَذًى فَلْيَدْلُكْهُمَا فِي الْأَرْضِ، وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ طَهُورٌ لَهُمَا» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ، وَالْمُتَجَسِّدِ وَغَيْرِهِ، وَلِلضَّرُورَةِ الْعَامَّةِ.وَلِأَبِي حَنِيفَةَ هَذَا الْحَدِيثُ.إِلاَّ أَنَّ الرَّطْبَ إِذَا مُسِحَ بِالْأَرْضِ يَتَلَطَّخُ بِهِ الْخُفُّ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ، فَلَا يُطَهِّرُهُ بِخِلَافِ الْيَابِسِ؛ لِأَنَّ الْخُفَّ لَا يَتَدَاخَلُهُ إِلاَّ شَيْءٌ يَسِيرٌ وَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَلَا كَذَلِكَ الْبَوْلُ وَالْخَمْرُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يُجْتَذَبُ مِثْلُ مَا عَلَى الْخُفِّ، فَيَبْقَى عَلَى حَالِهِ، حَتَّى لَوْ لَصِقَ عَلَيْهِ طِينٌ رَطْبٌ فَجَفَّ، ثُمَّ دَلَكَهُ جَازَ، كَاَلَّذِي لَهُ جِرْمٌ، وَبِخِلَافِ الثَّوْبِ لِأَنَّهُ مُتَخَلَّلٌ فَتَتَدَاخَلُهُ أَجْزَاءُ النَّجَاسَةِ، فَلَا تَزُولُ بِالْمَسْحِ، فَيَجِبُ الْغَسْلُ.
وَلِمُحَمَّدٍ الْقِيَاسُ عَلَى الثَّوْبِ وَالْبِسَاطِ، بِجَامِعِ أَنَّ النَّجَاسَةَ تَدَاخَلَتْ فِي الْخُفِّ تَدَاخُلَهَا فِيهِمَا.
قَالَ الْكَمَالُ: وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِعُمُومِ الْبَلْوَى.
وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ عَنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: وَهُوَ صَحِيحٌ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى لِلضَّرُورَةِ.
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ النَّجَاسَاتِ، فَإِذَا أَصَابَ الْخُفَّ شَيْءٌ مِنْ رَوْثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ إِنْ دُلِكَ بِتُرَابٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ نَحْوِهِ حَتَّى زَالَتِ الْعَيْنُ، وَكَذَا إِنْ جَفَّتِ النَّجَاسَةُ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ يُخْرِجُهُ الْغُسْلُ سِوَى الْحُكْمِ.
وَقَيَّدَ بَعْضُهُمُ الْعَفْوَ بِأَنْ تَكُونَ إِصَابَةُ الْخُفِّ أَوِ النَّعْلِ بِالنَّجَاسَةِ بِمَوْضِعٍ يَطْرُقُهُ الدَّوَابُّ كَثِيرًا- كَالطُّرُقِ- لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ نَقْلًا عَنِ الْبُنَانِيِّ: وَهَذَا الْقَيْدُ نَقَلَهُ فِي التَّوْضِيحِ، وَالظَّاهِرُ اعْتِبَارُهُ، وَفِي كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ لِتَعْلِيلِهِ بِالْمَشَقَّةِ، كَمَا ذَكَرَ خَلِيلٌ أَنَّ الْعَفْوَ إِنَّمَا هُوَ لِعُسْرِ الِاحْتِرَازِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يُعْفَى عَمَّا أَصَابَ الْخُفَّ وَالنَّعْلَ مِنْ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ بِمَوْضِعٍ لَا تَطْرُقُهُ الدَّوَابُّ كَثِيرًا وَلَوْ دَلْكًا.
وَإِنْ أَصَابَ الْخُفَّ أَوِ النَّعْلَ شَيْءٌ مِنَ النَّجَاسَاتِ غَيْرِ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا، كَخُرْءِ الْكِلَابِ أَوْ فَضْلَةِ الْآدَمِيِّ أَوْ دَمٍ، فَإِنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ.
قَالَ الْحَطَّابُ نَقْلًا عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ: وَالْعِلَّةُ نُدُورُ ذَلِكَ فِي الطُّرُقَاتِ، فَإِنْ كَثُرَ ذَلِكَ فِيهَا صَارَ كَرَوْثِ الدَّوَابِّ.
تَطْهِيرُ مَا تُصِيبُهُ النَّجَاسَةُ مِنْ مَلَابِسِ النِّسَاءِ فِي الطُّرُقِ:
25- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَنَجَّسَ ذَيْلُ ثَوْبِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهُ كَالْبَدَنِ، وَلَا يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَرْضِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى عَمَّا يُصِيبُ ذَيْلَ ثَوْبِ الْمَرْأَةِ الْيَابِسِ مِنَ النَّجَاسَةِ إِذَا مَرَّتْ بَعْدَ الْإِصَابَةِ عَلَى مَوْضِعٍ طَاهِرٍ يَابِسٍ، سَوَاءٌ كَانَ أَرْضًا أَوْ غَيْرَهُ.
وَقَيَّدُوا هَذَا الْعَفْوَ بِعِدَّةِ قُيُودٍ هِيَ:
أ- أَنْ يَكُونَ الذَّيْلُ يَابِسًا وَقَدْ أَطَالَتْهُ لِلسَّتْرِ، لَا لِلزِّينَةِ وَالْخُيَلَاءِ.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ: مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا تُطِيلُهُ لِلسَّتْرِ إِلاَّ إِذَا كَانَتْ غَيْرَ لَابِسَةٍ لِخُفٍّ أَوْ جَوْرَبٍ، فَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ لَابِسَةً لَهُمَا فَلَا عَفْوَ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ زِيِّهَا أَمْ لَا.
ب- وَأَنْ تَكُونَ النَّجَاسَةُ الَّتِي أَصَابَتْ ذَيْلَ الثَّوْبِ مُخَفَّفَةٌ جَافَّةٌ، فَإِنْ كَانَتْ رَطْبَةً فَإِنَّهُ يَجِبُ الْغُسْلُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعْفُوًّا عَنْهُ كَالطِّينِ.
ج- وَأَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَمُرُّ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ طَاهِرًا يَابِسًا.
التَّطْهِيرُ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ وَبَوْلِ الْجَارِيَةِ:
26- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّطْهِيرَ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ وَبَوْلِ الْجَارِيَةِ الصَّغِيرَيْنِ أَكَلَا أَوْ لَا، يَكُونُ بِغَسْلِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ».
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ فِي التَّطْهِيرِ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ الَّذِي لَمْ يَطْعَمِ الطَّعَامَ النَّضْحُ، وَيَكُونُ بِرَشِّ الْمَاءِ عَلَى الْمَكَانِ الْمُصَابِ وَغَمْرِهِ بِهِ بِلَا سَيَلَانٍ، فَقَدْ «رَوَتْ أُمُّ قَيْسِ بِنْتُ مُحْصَنٍ- رضي الله عنها- أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي حِجْرِهِ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ» أَمَّا بَوْلُ الْجَارِيَةِ الصَّغِيرَةِ فَلَا يُجْزِئُ فِي تَطْهِيرِهِ النَّضْحُ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْغَسْلِ، لِخَبَرِ التِّرْمِذِيِّ «يُنْضَحُ بَوْلُ الْغُلَامِ، وَيُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ»، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا: بِأَنَّ الِائْتِلَافَ بِحَمْلِ الصَّبِيِّ يَكْثُرُ، فَيُخَفَّفُ فِي بَوْلِهِ، وَبِأَنَّ بَوْلَهُ أَرَقُّ مِنْ بَوْلِهَا، فَلَا يَلْصَقُ بِالْمَحَلِّ كَلَصْقِ بَوْلِهَا بِهِ.
قَالَ أَحْمَدُ: الصَّبِيُّ إِذَا طَعِمَ الطَّعَامَ وَأَرَادَهُ وَاشْتَهَاهُ غُسِلَ بَوْلُهُ، وَلَيْسَ إِذَا طَعِمَ، لِأَنَّهُ قَدْ يَلْعَقُ الْعَسَلَ، وَمَا يَطْعَمُهُ لِغِذَائِهِ وَهُوَ يُرِيدُهُ وَيَشْتَهِيهِ يُوجِبُ الْغَسْلَ (ر: أُنُوثَة ف 16).
تَطْهِيرُ أَوَانِي الْخَمْرِ:
27- الْأَصْلُ فِي تَطْهِيرِ أَوَانِي الْخَمْرِ هُوَ غَسْلُهَا، بِهَذَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ فِيمَا كَانَ مُزَفَّتًا مِنَ الْآنِيَةِ.
وَفِي هَذَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: تَطْهُرُ بِغَسْلِهَا ثَلَاثًا بِحَيْثُ لَا تَبْقَى فِيهَا رَائِحَةُ الْخَمْرِ وَلَا أَثَرُهَا، فَإِنْ بَقِيَتْ رَائِحَتُهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ فِيهَا مِنَ الْمَائِعَاتِ سِوَى الْخَلِّ؛ لِأَنَّهُ بِجَعْلِهِ فِيهَا تَطْهُرُ وَإِنْ لَمْ تُغْسَلْ؛ لِأَنَّ مَا فِيهَا مِنَ الْخَمْرِ يَتَخَلَّلُ بِالْخَلِّ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: الْكُوزُ إِذَا كَانَ فِيهِ خَمْرٌ تَطْهِيرُهُ أَنْ يُجْعَلَ فِيهِ الْمَاءُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلَّ مَرَّةٍ سَاعَةً، وَإِنْ كَانَ جَدِيدًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَطْهُرُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَطْهُرُ أَبَدًا.
وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: تَطْهُرُ بِغَسْلِهَا مَرَّةً وَاحِدَةً إِذَا زَالَ أَثَرُ النَّجَاسَةِ، وَيُنْدَبُ غَسْلُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ».
فَنُدِبَ إِلَى الثَّلَاثِ لِلشَّكِّ فِي النَّجَاسَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يُسْتَحَبُّ إِذَا تَيَقَّنَ وَيَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْغَسْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَالْغَسْلُ الْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ: أَنْ يُكَاثِرَ بِالْمَاءِ حَتَّى تُسْتَهْلَكَ النَّجَاسَةُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، كَمَا جَاءَ فِي الْقَوَانِينِ الْفِقْهِيَّةِ: فِي طَهَارَةِ الْفَخَّارِ مِنْ نَجِسِ غَوَّاصٍ كَالْخَمْرِ قَوْلَانِ، قَالَ الْمَوَّاقُ نَقْلًا عَنِ النَّوَادِرِ فِي أَوَانِي الْخَمْرِ: تُغْسَلُ وَيُنْتَفَعُ بِهَا، وَلَا تَضُرُّهَا الرَّائِحَةُ.وَتَطْهُرُ أَوَانِيهِ إِذَا تَحَجَّرَتِ الْخَمْرُ فِيهَا أَوْ خُلِّلَتْ، وَيَطْهُرُ إِنَاؤُهَا تَبَعًا لَهَا وَلَوْ فَخَّارًا بِغَوَّاصٍ.
وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا كَانَ فِي الْإِنَاءِ خَمْرٌ يَتَشَرَّبُهَا الْإِنَاءُ، ثُمَّ مَتَى جُعِلَ فِيهِ مَائِعٌ، سَوَاءٌ ظَهَرَ فِيهِ طَعْمُ الْخَمْرِ أَوْ لَوْنُهُ، لَمْ يَطْهُرْ بِالْغَسْلِ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ لَا يَسْتَأْصِلُ أَجْزَاءَهُ مِنْ جِسْمِ الْإِنَاءِ، فَلَمْ يُطَهِّرْهُ.كَالسِّمْسِمِ إِذَا ابْتَلَّ بِالنَّجَاسَةِ، قَالَ أَبُو الْفَرَجِ الْمَقْدِسِيُّ: آنِيَةُ الْخَمْرِ مِنْهَا الْمُزَفَّتُ، فَتَطْهُرُ بِالْغَسْلِ؛ لِأَنَّ الزِّفْتَ يَمْنَعُ وُصُولَ النَّجَاسَةِ إِلَى: جِسْمِ الْإِنَاءِ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِمُزَفَّتٍ، فَيَتَشَرَّبُ أَجْزَاءَ النَّجَاسَةِ، فَلَا يَطْهُرُ بِالتَّطْهِيرِ، فَإِنَّهُ مَتَى تُرِكَ فِيهِ مَائِعٌ ظَهَرَ فِيهِ طَعْمُ الْخَمْرِ وَلَوْنُهُ.
تَطْهِيرُ آنِيَةِ الْكُفَّارِ وَمَلَابِسِهِمْ:
28- يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ فِي آنِيَةِ الْكُفَّارِ: إِنَّهَا طَاهِرَةٌ لِأَنَّ سُؤْرَهُمْ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمُخْتَلِطَ بِهِ اللُّعَابُ، وَقَدْ تَوَلَّدَ مِنْ لَحْمٍ طَاهِرٍ، فَيَكُونُ طَاهِرًا، فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ وَكَانُوا مُشْرِكِينَ».
وَلَوْ كَانَ عَيْنُ الْمُشْرِكِ نَجِسًا لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ: وَلَا يُعَارَضُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّجَسُ فِي الْعَقِيدَةِ، فَمَتَى تَنَجَّسَتْ أَوَانِيهِمْ فَإِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهَا مَا يَجْرِي عَلَى مَا تَنَجَّسَ مِنْ أَوَانِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَسْلٍ وَغَيْرِهِ، إِذْ لَهُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْنَا وَثِيَابُهُمْ طَاهِرَةٌ، وَلَا يُكْرَهُ مِنْهَا إِلاَّ السَّرَاوِيلُ الْمُتَّصِلَةُ بِأَبْدَانِهِمْ لِاسْتِحْلَالِهِمُ الْخَمْرَ، وَلَا يَتَّقُونَهَا كَمَا لَا يَتَوَقَّوْنَ النَّجَاسَةَ وَالتَّنَزُّهَ عَنْهَا، فَلَوْ أَمِنَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لَهَا وَكَانَ التَّأَكُّدُ مِنْ طَهَارَتِهَا قَائِمًا، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لُبْسُهَا، وَإِذَا تَنَجَّسَتْ جَرَى عَلَيْهَا مَا يَجْرِي عَلَى تَطْهِيرِ مَلَابِسِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَمَا تُصِيبُهَا نَجَاسَةٌ، سَوَاءٌ بِالْغَسْلِ أَوْ غَيْرِهِ.
وَكَرِهَ الشَّافِعِيَّةُ اسْتِعْمَالَ أَوَانِيَهُمْ وَثِيَابَهُمْ لِمَا «رَوَى أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ- رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا بِأَرْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَنَأْكُلُ فِي آنِيَتِهِمْ فَقَالَ: لَا تَأْكُلُوا فِي آنِيَتِهِمْ إِلاَّ أَنْ لَا تَجِدُوا بُدًّا، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا بُدًّا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا».وَلِأَنَّهُمْ لَا يَتَجَنَّبُونَ النَّجَاسَةَ فَكُرِهَ لِذَلِكَ.
فَإِنْ تَوَضَّأَ مِنْ أَوَانِيهِمْ نُظِرَتْ: فَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ لَا يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ صَحَّ الْوُضُوءُ؛ «لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ» وَتَوَضَّأَ عُمَرُ- رضي الله عنه- مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيٍّ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي أَوَانِيهِمُ الطَّهَارَةُ.
وَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَصِحُّ الْوُضُوءُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي أَوَانِيهِمُ الطَّهَارَةُ، وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ كَمَا يَتَدَيَّنُ.
الْمُسْلِمُونَ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ، فَالظَّاهِرُ مِنْ أَوَانِيهِمْ وَثِيَابِهِمُ النَّجَاسَةُ.
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ اسْتِعْمَالَ أَوَانِيهِمْ إِلاَّ إِذَا تَيَقَّنَ عَدَمَ طَهَارَتِهَا، وَصَرَّحَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا يَصْنَعُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ لَا يُصَلُّونَ وَلَا يَسْتَنْجُونَ وَلَا يَتَحَرَّزُونَ مِنَ النَّجَاسَاتِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا مَحْمُولٌ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ النَّجَاسَةَ، فَإِذَا تَنَجَّسَتْ أَوَانِيهِمْ فَإِنَّهَا تَطْهُرُ بِزَوَالِ تِلْكَ النَّجَاسَةِ بِالْغَسْلِ بِالْمَاءِ أَوْ بِغَيْرِهِ مِمَّا لَهُ صِفَةُ الطَّهُورِيَّةِ.
وَكَذَلِكَ الْحَالُ بِالنِّسْبَةِ لِمَلَابِسِهِمْ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الطَّهَارَةُ مَا لَمْ يُصِبْهَا النَّجِسُ، وَلِذَا لَا يُصَلَّى فِي مَلَابِسِهِمْ أَيْ مَا يَلْبَسُونَهُ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ نَجَاسَتُهَا، فَحُمِلَ عَلَيْهَا عِنْدَ الشَّكِّ: أَمَّا إِنْ عُلِمَتْ أَوْ ظُنَّتْ طَهَارَتُهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى فِيهَا.
وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ فِي ثِيَابِهِمْ وَأَوَانِيهِمْ: إِنَّهَا طَاهِرَةٌ مُبَاحَةُ الِاسْتِعْمَالِ مَا لَمْ تُعْلَمْ نَجَاسَتُهَا، وَأَضَافُوا: إِنَّ الْكُفَّارَ عَلَى ضَرْبَيْنِ- أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ- فَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَيُبَاحُ أَكْلُ طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ وَاسْتِعْمَالِ آنِيَتِهِمْ مَا لَمْ تُعْلَمْ نَجَاسَتُهَا، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ فِي أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُ أَوَانِيهِمْ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ- رضي الله عنه- قَالَ: أَصَبْتُ جِرَابًا مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ، قَالَ فَالْتَزَمْتُهُ، فَقُلْتُ: وَاَللَّهِ لَا أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَدًا مِنْ هَذَا شَيْئًا.قَالَ: فَالْتَفَتُّ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مُتَبَسِّمًا».
وَرَوَى «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَضَافَهُ يَهُودِيٌّ بِخُبْزٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ»، وَتَوَضَّأَ عُمَرُ مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ.
وَأَمَّا غَيْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ- وَهُمُ الْمَجُوس وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ وَنَحْوُهُمْ- وَمَنْ يَأْكُلُ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي مَوْضِعٍ يُمْكِنُهُمْ أَكْلُهُ، أَوْ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، أَوْ يَذْبَحُ بِالسِّنِّ وَالظُّفْرِ فَحُكْمُ ثِيَابِهِمْ حُكْمُ ثِيَابِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ، وَأَمَّا أَوَانِيهِمْ فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: حُكْمُهَا حُكْمُ أَوَانِي أَهْلِ الْكِتَابِ، يُبَاحُ اسْتِعْمَالُهَا مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ نَجَاسَتُهَا، «لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابَهُ تَوَضَّئُوا مِنْ مَزَادَةِ مُشْرِكَةٍ» وَلِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ.
وَقَالَ الْقَاضِي: هِيَ نَجِسَةٌ، لَا يُسْتَعْمَلُ مَا اسْتَعْمَلُوهُ مِنْهَا إِلاَّ بَعْدَ غَسْلِهِ، لِحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْمُتَقَدِّمِ، وَلِأَنَّ أَوَانِيَهُمْ لَا تَخْلُو مِنْ أَطْعِمَتِهِمْ، وَذَبَائِحُهُمْ مَيْتَةٌ، فَتَتَنَجَّسُ بِهَا وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمَجُوسِ: لَا يُؤْكَلُ مِنْ طَعَامِهِمْ إِلاَّ الْفَاكِهَةُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ نَجَاسَةُ آنِيَتِهِمُ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي أَطْعِمَتِهِمْ، وَمَتَى شَكَّ فِي الْإِنَاءِ هَلْ اسْتَعْمَلُوهُ أَمْ لَا؟ فَهُوَ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَتُهُ.
تَطْهِيرُ الْمَصْبُوغِ بِنَجِسٍ:
29- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّ الْمَصْبُوغَ بِنَجِسٍ يَطْهُرُ بِغُسْلِهِ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ: يُغْسَلُ حَتَّى يَصِيرَ الْمَاءُ صَافِيًا، وَقِيلَ: يُغْسَلُ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: يَطْهُرُ بِغَسْلِهِ حَتَّى يَزُولَ طَعْمُ النَّجِسِ، وَمَتَى زَالَ طَعْمُهُ فَقَدْ طَهُرَ وَلَوْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ لَوْنِهِ وَرِيحِهِ.
وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: يُغْسَلُ حَتَّى يَنْفَصِلَ النَّجِسُ مِنْهُ وَلَمْ يَزِدِ الْمَصْبُوغُ وَزْنًا بَعْدَ الْغَسْلِ عَلَى وَزْنِهِ قَبْلَ الصَّبْغِ، وَإِنْ بَقِيَ اللَّوْنُ لِعُسْرِ زَوَالِهِ، فَإِنْ زَادَ وَزْنُهُ ضَرَّ، فَإِنْ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْهُ لِتَعَقُّدِهِ بِهِ لَمْ يَطْهُرْ، لِبَقَاءِ النَّجَاسَةِ فِيهِ.
وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: يَطْهُرُ بِغَسْلِهِ وَإِنْ بَقِيَ اللَّوْنُ لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام- فِي الدَّمِ: «وَلَا يَضُرُّكَ أَثَرُهُ».
رَمَادُ النَّجِسِ الْمُحْتَرِقِ بِالنَّارِ:
30- الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَبِهِ يُفْتَى، وَالْحَنَابِلَةُ فِي غَيْرِ الظَّاهِرِ: أَنَّ رَمَادَ النَّجِسِ الْمُحْتَرِقِ بِالنَّارِ طَاهِرٌ، فَيَطْهُرُ بِالنَّارِ الْوَقُودُ الْمُتَنَجِّسُ وَالسِّرْقِينُ وَالْعَذِرَةُ تَحْتَرِقُ فَتَصِيرُ رَمَادًا تَطْهُرُ، وَيَطْهُرُ مَا تَخَلَّفَ عَنْهَا.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (رَمَاد ج 23، ف 3).
تَطْهِيرُ مَا يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ:
31- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اللَّحْمِ الَّذِي طُبِخَ بِنَجِسٍ، هَلْ يَطْهُرُ أَمْ لَا؟
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- عَدَا أَبِي يُوسُفَ- وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ اللَّحْمَ الَّذِي طُبِخَ بِنَجِسٍ لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْخَانِيَّةِ: إِذَا صَبَّ الطَّبَّاخُ فِي الْقِدْرِ مَكَانَ الْخَلِّ خَمْرًا غَلَطًا، فَالْكُلُّ نَجِسٌ لَا يَطْهُرُ أَبَدًا، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُغْلَى ثَلَاثًا لَا يُؤْخَذُ بِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ اللَّحْمَ الَّذِي طُبِخَ بِنَجِسٍ مِنْ مَاءٍ، أَوْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ حَالَ طَبْخِهِ قَبْلَ نُضْجِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ، أَمَّا إِنْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ بَعْدَ نُضْجِهِ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَغْسِلَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الْمَرَقِ.
وَقَيَّدَ الدُّسُوقِيُّ ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ تَطُلْ إِقَامَةُ النَّجَاسَةِ فِيهِ، بِحَيْثُ يَظُنُّ أَنَّهَا سَرَتْ فِيهِ، وَإِلاَّ فَلَا يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ اللَّحْمَ الَّذِي طُبِخَ بِنَجِسٍ يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ، وَفِي كَيْفِيَّةِ طَهَارَتِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُغْسَلُ ثُمَّ يُعْصَرُ كَالْبِسَاطِ، الثَّانِي: يُشْتَرَطُ أَنْ يَغْلِيَ بِمَاءٍ طَهُورٍ.وَقَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي بِوُجُوبِ السَّقْي مَرَّةً ثَانِيَةً وَالْغَلْيِ، وَاخْتَارَ الشَّاشِيُّ الِاكْتِفَاءَ بِالْغُسْلِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِي الْفَخَّارِ الَّذِي يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ، هَلْ يَطْهُرُ أَمْ لَا؟
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْفَخَّارَ الَّذِي يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ لَا يَطْهُرُ.
وَنَقَلَ الدُّسُوقِيُّ عَنِ الْبُنَانِيِّ أَنَّ الْفَخَّارَ الْبَالِيَ إِذَا حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةُ غَوَّاصَةٍ يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ، وَاَلَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ هُوَ الْفَخَّارُ الَّذِي لَمْ يُسْتَعْمَلْ قَبْلَ حُلُولِ الْغَوَّاصِ فِيهِ، أَوِ اسْتُعْمِلَ قَلِيلًا، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَهُوَ أَوْلَى.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ مِثْلَ الْفَخَّارِ أَوَانِي الْخَشَبِ الَّذِي يُمْكِنُ سَرَيَانُ النَّجَاسَةِ إِلَى دَاخِلِهِ.
وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ تَطْهِيرُ الْخَزَفِ الَّذِي يَتَشَرَّبُ النَّجَاسَةَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُنْقَعَ فِي الْمَاءِ ثَلَاثًا، وَيُجَفَّفَ كُلَّ مَرَّةٍ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَقْيَسُ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوْسَعُ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ بَاطِنُ حَبٍّ تَشَرَّبَ النَّجَاسَةَ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لَوْ طُبِخَتِ الْحِنْطَةُ فِي الْخَمْرِ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: تُطْبَخُ ثَلَاثًا بِالْمَاءِ وَتُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا طُبِخَتْ فِي الْخَمْرِ لَا تَطْهُرُ أَبَدًا، وَبِهِ يُفْتَى، إِلاَّ إِذَا صُبَّ فِيهِ الْخَلُّ، وَتُرِكَ حَتَّى صَارَ الْكُلُّ خَلًّا.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الزَّيْتُونَ الَّذِي مُلِّحَ بِنَجِسٍ، بِأَنْ جُعِلَ عَلَيْهِ مِلْحٌ نَجِسٌ يُصْلِحُهُ، إِمَّا وَحْدَهُ أَوْ مَعَ مَاءٍ لَا يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ، أَمَّا لَوْ طَرَأَتْ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ بَعْدَ تَمْلِيحِهِ وَاسْتِوَائِهِ، فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ، وَذَلِكَ بِغَسْلِهِ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي الْجُبْنِ وَاللَّيْمُونِ وَالنَّارِنْجِ وَالْبَصَلِ وَالْجَزَرِ الَّذِي يَتَخَلَّلُ، وَمَحَلُّ عَدَمِ الضَّرَرِ إِذَا لَمْ تَمْكُثِ النَّجَاسَةُ مُدَّةً يُظَنُّ أَنَّهَا سَرَتْ فِيهِ، وَإِلاَّ فَلَا يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ.
كَمَا نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْبَيْضَ الَّذِي سُلِقَ بِنَجِسٍ لَا يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الْمَسْلُوقُ فِيهِ مُتَغَيِّرًا بِالنَّجَاسَةِ أَمْ لَا.
وَقَالَ الْبُنَانِيِّ: الظَّاهِرُ- كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ- أَنَّ الْمَاءَ إِذَا حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ، ثُمَّ سُلِقَ فِيهِ الْبَيْضُ، فَإِنَّهُ لَا يُنَجِّسُهُ، حَيْثُ إِنَّ الْمَاءَ حِينَئِذٍ طَهُورٌ وَلَوْ قَلَّ عَلَى الْمَشْهُورِ.
أَمَّا لَوْ طَرَأَتْ عَلَى الْبَيْضِ الْمَسْلُوقِ نَجَاسَةٌ بَعْدَ سَلْقِهِ وَاسْتِوَائِهِ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَجَّسُ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ شُوِيَ الْبَيْضُ الْمُتَنَجِّسُ قِشْرُهُ فَإِنَّهُ لَا يَنْجُسُ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّبِنَ الْمُخْتَلِطَ بِنَجَاسَةٍ جَامِدَةٍ- كَالرَّوْثِ وَعِظَامِ الْمَيْتَةِ- نَجِسٌ، وَلَا طَرِيقَ إِلَى تَطْهِيرِهِ لِعَيْنِ النَّجَاسَةِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: فَإِنْ طُبِخَ فَالْمَذْهَبُ- وَهُوَ الْجَدِيدُ- أَنَّهُ عَلَى نَجَاسَتِهِ.أَمَّا اللَّبِنُ غَيْرُ الْمُخْتَلِطِ بِنَجَاسَةٍ جَامِدَةٍ، بِأَنْ نَجِسَ بِسَبَبِ عَجْنِهِ بِمَاءٍ نَجِسٍ أَوْ بَوْلٍ، فَيَطْهُرُ ظَاهِرُهُ بِإِفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَيْهِ، وَيَطْهُرُ بَاطِنُهُ بِأَنْ يُنْقَعَ فِي الْمَاءِ حَتَّى يَصِلَ الْمَاءُ إِلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهِ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ عَجِينٌ تَنَجَّسَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
103-موسوعة الفقه الكويتية (عبادة)
عِبَادَةالتَّعْرِيفُ:
1- الْعِبَادَةُ فِي اللُّغَةِ: الْخُضُوعُ، وَالتَّذَلُّلُ لِلْغَيْرِ لِقَصْدِ تَعْظِيمِهِ وَلَا يَجُوزُ فِعْلُ ذَلِكَ إِلاَّ لِلَّهِ، وَتُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الطَّاعَةِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: ذَكَرُوا لَهَا عِدَّةَ تَعْرِيفَاتٍ مُتَقَارِبَةٍ: مِنْهَا:
(1) - هِيَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْخُضُوعِ لِلَّهِ، وَالتَّذَلُّلُ لَهُ.
(2) - هِيَ الْمُكَلَّفُ عَلَى خِلَافِ هَوَى نَفْسِهِ تَعْظِيمًا لِرَبِّهِ.
(3) - هِيَ فِعْلٌ لَا يُرَادُ بِهِ إِلاَّ تَعْظِيمَ اللَّهِ بِأَمْرِهِ.
(4) - هِيَ اسْمٌ لِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَالْأَفْعَالِ، وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْقُرْبَةُ:
2- الْقُرْبَةُ هِيَ: مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ فَقَطْ، أَوْ مَعَ الْإِحْسَانِ لِلنَّاسِ كَبِنَاءِ الرِّبَاطِ وَالْمَسَاجِدِ، وَالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.
ب- الطَّاعَةُ:
3- الطَّاعَةُ هِيَ: مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ بِامْتِثَالِهِ سَوَاءٌ أَكَانَ مِنَ اللَّهِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ قَالَ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}
4- قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ (الْعِبَادَةُ- الْقُرْبَةُ- الطَّاعَةُ) عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ.
فَالْعِبَادَةُ: مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ، وَتَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى نِيَّةٍ، وَالْقُرْبَةُ: مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ مَنْ يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِهِ، وَلَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى نِيَّةٍ، وَالطَّاعَةُ: مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ تَوَقَّفَ عَلَى نِيَّةٍ أَمْ لَا، عَرَفَ مَنْ يَفْعَلُهُ لِأَجْلِهِ، أَمْ لَا.
فَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالصَّوْمُ، وَالزَّكَاةُ، وَكُلُّ مَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى نِيَّةٍ: عِبَادَةٌ، وَطَاعَةٌ، وَقُرْبَةٌ.
وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَالْوَقْفُ، وَالْعِتْقُ، وَالصَّدَقَةُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ: قُرْبَةٌ، وَطَاعَةٌ، لَا عِبَادَةٌ.
وَالنَّظَرُ الْمُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى: طَاعَةٌ، لَا قُرْبَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ تَحْصُلُ بَعْدَهَا، وَلَا عِبَادَةَ لِعَدَمِ تَوَقُّفِهِ عَلَى نِيَّةٍ وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الْعِبَادَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّعَبُّدِ، وَعَدَمُ النِّيَّةِ لَا يَمْنَعُ كَوْنَ الْعَمَلِ عِبَادَةً، وَقَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ الْعِبَادَةَ، وَالْقُرْبَةَ، وَالطَّاعَةَ تَكُونُ فِعْلًا وَتَرْكًا، وَالْعَمَلُ الْمَطْلُوبُ شَرْعًا يُسَمَّى عِبَادَةً إِذَا فَعَلَهُ الْمُكَلَّفُ تَعَبُّدًا، أَوْ تَرَكَهُ تَعَبُّدًا أَمَّا إِذَا فَعَلَهُ لَا بِقَصْدِ التَّعَبُّدِ، بَلْ لِغَرَضٍ آخَرَ، أَوْ تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ لِغَرَضٍ آخَرَ غَيْرِ التَّعَبُّدِ فَلَا يَكُونُ عِبَادَةً لقوله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ}
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعِبَادَةِ:
الْعِبَادَةُ لَا تَصْدُرُ إِلاَّ عَنْ وَحْيٍ:
5- الْمَقْصُودُ مِنَ الْعِبَادَةِ: تَهْذِيبُ النَّفْسِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى اللَّهِ، وَالْخُضُوعِ لَهُ، وَالِانْقِيَادِ لِأَحْكَامِهِ بِالِامْتِثَالِ لِأَمْرِهِ، فَلَا تَصْدُرُ إِلاَّ عَنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ بِنَوْعَيْهِ: الْكِتَابِ الْكَرِيمِ، وَسُنَّةِ النَّبِيِّ الْمَعْصُومِ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}.
أَوْ بِمَا يُقِرُّهُ اللَّهُ مِنِ اجْتِهَادِهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» أَمَّا الْأُمُورُ الْعَادِيَّةُ الَّتِي تَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ لِتَنْظِيمِ مَصَالِحِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا: التَّوْجِيهُ إِلَى إِقَامَةِ الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ، فَيَجُوزُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ، لِتَحْقِيقِ الْعَدْلِ، وَدَفْعِ الضَّرَرِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
اشْتِرَاطُ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ:
6- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ لِخَبَرِ «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَالْحِكْمَةُ فِي إِيجَابِ النِّيَّةِ فِيهَا: تَمَيُّزُ الْعِبَادَةِ عَنِ الْعَادَةِ، وَتَمْيِيزُ رُتَبِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ، وَلِهَذَا قَالُوا: تَجِبُ النِّيَّةُ فِي الْعِبَادَةِ الَّتِي تَلْتَبِسُ بِعَادَةٍ، فَالْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ يَتَرَدَّدَانِ بَيْنَ التَّنْظِيفِ وَالتَّبَرُّدِ وَالْعِبَادَةِ، وَالْإِمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ قَدْ يَكُونُ لِلَّحْمِيَّةِ وَالتَّدَاوِي، وَقَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ، وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ يَكُونُ لِلِاسْتِرَاحَةِ وَيَكُونُ لِلِاعْتِكَافِ، وَدَفْعُ الْمَالِ لِلْغَيْرِ قَدْ يَكُونُ صَدَقَةَ تَطَوُّعٍ وَقَدْ يَكُونُ فَرْضَ الزَّكَاةِ، فَشُرِعَتِ النِّيَّةُ لِتَمْيِيزِ الْعِبَادَةِ عَنْ غَيْرِهَا، وَالصَّلَاةُ قَدْ تَكُونُ فَرْضًا، أَوْ نَفْلًا، فَشُرِعَتِ النِّيَّةُ لِتَمْيِيزِ الْفَرْضِ عَنِ النَّفْلِ.
أَمَّا الَّتِي لَا تَلْتَبِسُ بِعَادَةٍ، كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ، وَالْأَذَانِ، وَالْإِقَامَةِ، وَخُطْبَةِ الْجُمُعَةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْأَذْكَارِ فَلَا تَجِبُ فِيهَا النِّيَّةُ لِأَنَّهَا مُتَمَيِّزَةٌ بِصُورَتِهَا.
النِّيَابَةُ فِي الْعِبَادَاتِ:
7- قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْعِبَادَةَ فِي هَذَا الصَّدَدِ إِلَى أَقْسَامِ ثَلَاثَةٍ:
1- عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ.
2- عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ مَحْضَةٌ.
3- عِبَادَةٌ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَهُمَا.
فَالْعِبَادَةُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ: كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَالْوُضُوءِ، وَالْغُسْلِ..فَالْأَصْلُ فِيهَا امْتِنَاعُ النِّيَابَةِ، إِلاَّ مَا أُخْرِجَ بِدَلِيلٍ، كَالصَّوْمِ عَنِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّكَالِيفِ الْبَدَنِيَّةِ الِابْتِلَاءُ، وَالْمَشَقَّةُ، وَهِيَ تَحْصُلُ بِإِتْعَابِ النَّفْسِ وَالْجَوَارِحِ بِالْأَفْعَالِ الْمَخْصُوصَةِ، وَهُوَ أَمْرٌ لَا يَتَحَقَّقُ بِفِعْلِ نَائِبِهِ، فَلَمْ تُجْزِئِ النِّيَابَةُ، إِلاَّ فِي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ تَبَعًا لِلنُّسُكِ، وَلَوِ اسْتَنَابَ فِيهِمَا وَحْدَهُمَا لَمْ يَصِحَّ.
أَمَّا الصَّوْمُ عَنِ الْمَيِّتِ فَقَدْ أُخْرِجَ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ لِدَلِيلٍ وَرَدَ فِيهِ: فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ فَقَالَ: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ أَكَانَ ذَلِكَ يُؤَدَّى عَنْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ»: (ر: صَوْم).
الْعِبَادَةُ الْمَالِيَّةُ: أَمَّا الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ الْمَحْضَةُ كَالصَّدَقَةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَالنَّذْرِ، وَالْأُضْحِيَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَتَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ، لِأَنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ إِلَى الْإِمَامِ إِمَّا وَاجِبٌ، أَوْ مَنْدُوبٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُفَرِّقُهَا عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ إِلاَّ عَنْ طَرِيقِ النِّيَابَةِ.
وَأَمَّا الْعِبَادَةُ الْمُتَرَدِّدَةُ بَيْنَ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ فَتَصِحُّ فِيهَا النِّيَابَةُ عِنْدَ الْعَجْزِ الدَّائِمِ إِلَى الْمَوْتِ، أَوْ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَذَلِكَ كَالْحَجِّ.
وَصْفُ الْعِبَادَةِ بِالْأَدَاءِ، أَوِ الْقَضَاءِ، أَوِ الْإِعَادَةِ:
8- الْعِبَادَةُ: إِنْ كَانَ لَهَا وَقْتٌ مَحْدُودُ الطَّرَفَيْنِ، وَوَقَعَتْ فِي الْوَقْتِ، وَلَمْ يَسْبِقْ فِعْلُهَا مَرَّةً أُخْرَى فِي الْوَقْتِ فَأَدَاءٌ، وَإِنْ سَبَقَ فِعْلُهَا فِيهِ فَإِعَادَةٌ، وَإِنْ وَقَعَتْ بَعْدَ الْوَقْتِ فَقَضَاءٌ، أَوْ قَبْلَهُ فَتَعْجِيلٌ، فَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَالْحَجُّ، وَالْعُمْرَةُ، وَالنَّوَافِلُ الْمُؤَقَّتَةُ كُلُّهَا تُوصَفُ بِالْأَدَاءِ، وَبِالْقَضَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَقْتٌ مَحْدُودُ الطَّرَفَيْنِ، كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالتَّوْبَةِ عَنِ الذُّنُوبِ، وَرَدِّ الْمَظَالِمِ، فَلَا تُوصَفُ بِأَدَاءٍ، وَلَا قَضَاءٍ وَكَذَا الْوُضُوءُ، وَالْغُسْلُ لَا يُوصَفَانِ بِأَدَاءٍ وَلَا قَضَاءٍ، وَالزَّكَاةُ إِنْ أَخْرَجَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ يُسَمَّى تَعْجِيلًا.
وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
جَعْلُ ثَوَابِ مَا فَعَلَهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ لِغَيْرِهِ:
9- ذَهَبَ عُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: إِلَى أَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ مَا فَعَلَهُ مِنْ عِبَادَةٍ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا مَحَلُّ اتِّفَاقٍ فِي الْعِبَادَاتِ غَيْرِ الْبَدَنِيَّةِ الْمَحْضَةِ كَالصَّدَقَةِ، وَالدُّعَاءِ، وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالْوَقْفِ عَنِ الْمَيِّتِ، وَبِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَنْهُ، وَالْحَجِّ عَنْهُ، إِذَا فَعَلَهَا وَجَعَلَ ثَوَابَهَا لِلْمَيِّتِ لقوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} وَقَوْلُهُ جَلَّ شَأْنُهُ: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وَدُعَاءُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: لِكُلِّ مَيِّتٍ صَلَّى عَلَيْهِ، «وَسَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ أَفَيَنْفَعُهَا إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ».
وَاخْتَلَفُوا فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الْمَحْضَةِ: فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ: لَهُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ عِبَادَتِهِ لِغَيْرِهِ، سَوَاءٌ صَحَّتْ فِيهَا النِّيَابَةُ، أَمْ لَمْ تَصِحَّ فِيهَا، كَالصَّلَاةِ، وَالتِّلَاوَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا تَجُوزُ فِيهَا النِّيَابَةُ، وَقَالُوا: وَرَدَتْ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ، فِي الصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَالدُّعَاءِ، وَالِاسْتِغْفَارِ وَهِيَ: عِبَادَاتٌ بَدَنِيَّةٌ، وَقَدْ أَوْصَلَ اللَّهُ نَفْعَهَا إِلَى الْمَيِّتِ، وَكَذَلِكَ مَا سِوَاهَا، مَعَ مَا رُوِيَ فِي التِّلَاوَةِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: مَا عَدَا الصَّدَقَةَ، وَنَحْوَهَا مِمَّا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ كَالدُّعَاءِ، وَالِاسْتِغْفَارِ، لَا يُفْعَلُ عَنِ الْمَيِّتِ كَالصَّلَاةِ عَنْهُ قَضَاءً، أَوْ غَيْرِهَا، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، لقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الْإِمَامِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ.
وَلَكِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ ثَوَابَ الْقِرَاءَةِ يَصِلُ إِلَى الْمَيِّتِ وَحَكَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَالْأَذْكَارِ وَجْهًا أَنَّ ثَوَابَ الْقِرَاءَةِ يَصِلُ إِلَى الْمَيِّتِ.
وَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْهُمُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ، وَصَاحِبُ الذَّخَائِرِ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ وَ «مَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ».
هَلْ يَكُونُ الْكَافِرُ مُسْلِمًا بِإِتْيَانِ الْعِبَادَةِ؟:
10- قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: الْأَصْلُ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَتَى بِعِبَادَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي سَائِرِ الْأَدْيَانِ؛ لَا يَكُونُ بِهَا مُسْلِمًا كَالصَّلَاةِ، مُنْفَرِدًا، وَالصَّدَقَةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ الَّذِي لَيْسَ بِكَامِلٍ، وَإِنْ أَتَى مَا يَخْتَصُّ بِشَرْعِنَا، وَلَوْ مِنَ الْوَسَائِلِ كَالتَّيَمُّمِ، أَوْ مِنَ الْمَقَاصِدِ، أَوْ مِنَ الشَّعَائِرِ كَالصَّلَاةِ بِجَمَاعَةٍ، وَالْحَجِّ الْكَامِلِ، وَالْأَذَانِ فِي الْمَسْجِدِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ عِنْدَ سَمَاعِ آيَاتِ السَّجْدَةِ، يَكُونُ بِذَلِكَ مُسْلِمًا.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِسْلَام).
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
104-موسوعة الفقه الكويتية (عدة 3)
عِدَّةٌ -3الْحَمْلُ الَّذِي تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ:
22- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْحَمْلَ الَّذِي تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ هُوَ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَلَوْ كَانَ مَيِّتًا أَوْ مُضْغَةً تُصُوِّرَتْ، وَلَوْ صُورَةً خَفِيَّةً تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الثِّقَاتِ مِنَ الْقَوَابِلِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ مُضْغَةً لَمْ تُتَصَوَّرْ لَكِنْ شَهِدَتِ الثِّقَاتُ مِنَ الْقَوَابِلِ أَنَّهَا مَبْدَأُ خِلْقَةِ آدَمِيٍّ لَوْ بَقِيَتْ لَتُصُوِّرَتْ فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَنْقَضِي بِهَا الْعِدَّةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ وَرِوَايَةً عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لِحُصُولِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ بِهِ.
خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالْوَضْعِ لِأَنَّ الْحَمْلَ اسْمٌ لِنُطْفَةٍ مُتَغَيِّرَةٍ، فَإِذَا كَانَ مُضْغَةً أَوْ عَلَقَةً لَمْ تَتَغَيَّرْ وَلَمْ تُتَصَوَّرْ فَلَا يُعْرَفُ كَوْنُهَا مُتَغَيِّرَةً إِلاَّ بِاسْتِبَانَةِ بَعْضِ الْخَلْقِ، أَمَّا إِذَا أَلْقَتِ الْمَرْأَةُ نُطْفَةً أَوْ عَلَقَةً أَوْ دَمًا أَوْ وَضَعَتْ مُضْغَةً لَا صُورَةَ فِيهَا فَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِالْوَضْعِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْحَمْلُ دَمًا اجْتَمَعَ تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَعَلَامَةُ كَوْنِهِ حَمْلًا أَنَّهُ إِذَا صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ الْحَارُّ لَمْ يَذُبْ.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ فِي الْحَمْلِ الَّذِي تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مَنْسُوبًا لِصَاحِبِ الْعِدَّةِ إِمَّا ظَاهِرًا وَإِمَّا احْتِمَالًا كَالْمَنْفِيِّ بِاللِّعَانِ، فَإِذَا لَاعَنَ حَامِلًا وَنَفَى الْحَمْلَ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ لِإِمْكَانِ كَوْنِهِ مِنْهُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِي الْعِدَّةِ إِذَا تَحَقَّقَ الْإِمْكَانُ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ فَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، كَمَا إِذَا مَاتَ صَبِيٌّ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْإِنْزَالُ أَوْ مَمْسُوحٌ عَنْ زَوْجَةٍ حَامِلٍ، وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ أَتَتْ زَوْجَتُهُ الْحَامِلُ بِوَلَدٍ لَا يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنْهُ.
23- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْحَامِلِ تَنْقَضِي بِانْفِصَالِ جَمِيعِ الْوَلَدِ إِذَا كَانَ الْحَمْلُ وَاحِدًا لقوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَاخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَتَيْنِ.
24- الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِيمَا لَوْ خَرَجَ أَكْثَرُ الْوَلَدِ هَلْ تَنْقَضِي الْعِدَّةُ أَمْ لَا؟
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ أَكْثَرُ الْوَلَدِ لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ مُرَاجَعَتُهَا وَلَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ إِلاَّ بِانْفِصَالِهِ كُلِّهِ عَنْ أُمِّهِ خِلَافًا لِابْنِ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ الْقَائِلِ إِنَّهَا تَحِلُّ بِوَضْعِ ثُلُثَيِ الْحَمْلِ بِنَاءً عَلَى تَبَعِيَّةِ الْأَقَلِّ لِلْأَكْثَرِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ أَكْثَرُ الْوَلَدِ تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ وَلَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي انْقِطَاعِ الرَّجْعَةِ احْتِيَاطًا، وَلَا يَقُومُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَتَّى لَا تَحِلَّ لِلْأَزْوَاجِ احْتِيَاطًا.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَنْقَضِي بِخُرُوجِ بَعْضِ الْوَلَدِ، وَلَوْ خَرَجَ بَعْضُهُ مُنْفَصِلًا أَوْ غَيْرَ مُنْفَصِلٍ وَلَمْ يَخْرُجِ الْبَاقِي بَقِيَتِ الرَّجْعَةُ، وَلَوْ طَلَّقَهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَرِثَهُ الْآخَرُ.
25- الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ الْحَمْلُ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ الْحَمْلَ إِذَا كَانَ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ إِلاَّ بِوَضْعِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ اسْمٌ لِجَمِيعِ مَا فِي الرَّحِمِ، وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ شُرِعَتْ لِمَعْرِفَةِ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْحَمْلِ، فَإِذَا عُلِمَ وُجُودُ الْوَلَدِ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ فَقَدْ تُيُقِّنَ وُجُودُ الْمُوجِبِ لِلْعِدَّةِ وَانْتَفَتِ الْبَرَاءَةُ الْمُوجِبَةُ لِانْقِضَائِهَا، وَلِأَنَّهَا لَوِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْأَوَّلِ لأُبِيحَ لَهَا النِّكَاحُ كَمَا لَوْ وَضَعَتِ الْآخَرَ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَضَعَتْ وَلَدًا وَشَكَّتْ فِي وُجُودِ ثَانٍ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى تَزُولَ الرِّيبَةُ وَتَتَيَقَّنَ أَنَّهَا لَمْ يَبْقَ مَعَهَا حَمْلٌ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَوْ وَضَعَتْ أَحَدَهُمَا وَكَانَتْ رَجْعِيَّةً فَلِزَوْجِهَا الرَّجْعَةُ قَبْلَ أَنْ تَضَعَ الثَّانِيَ أَوِ الْآخَرَ لِبَقَاءِ الْعِدَّةِ، وَإِنَّمَا يَكُونَانِ تَوْأَمَيْنِ إِذَا وَضَعَتْهُمَا مَعًا أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا دُونَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَالثَّانِي حَمْلٌ آخَرُ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: ذَهَبَ عِكْرِمَةُ وَأَبُو قِلَابَةَ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْأَوَّلِ وَلَكِنْ لَا تَتَزَوَّجُ حَتَّى تَضَعَ الْوَلَدَ الْآخَرَ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَلَمْ يَقُلْ أَحْمَالَهُنَّ فَإِذَا وَضَعَتْ أَحَدَهُمَا فَقَدْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَجُوزُ مُرَاجَعَتُهَا بَعْدَ وَضْعِ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ لِعَدَمِ بَقَاءِ الْعِدَّةِ إِلاَّ أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ تَضَعَ الْأَخِيرَ مِنَ التَّوَائِمِ، خِلَافًا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّ انْقِضَاءَ مُرَاجَعَةِ الْحَامِلِ يَتَوَقَّفُ عَلَى وَضْعِ كُلِّ الْحَمْلِ وَهَذَا هُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
مَتَى يَجُوزُ لِلْمُعْتَدَّةِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ الزَّوَاجُ: بِالْوَضْعِ أَمْ بِالطُّهْرِ؟
26- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةُ الْفَتْوَى إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَتَزَوَّجُ بَعْدَ وَضْعِ الْحَمْلِ حَتَّى وَإِنْ كَانَتْ فِي دَمِهَا؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْلِ كُلِّهِ فَتَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ إِلاَّ أَنَّ زَوْجَهَا لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى تَطْهُرَ لقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}.
الْقَوْلُ الثَّانِي: ذَهَبَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَحَمَّادٌ إِلَى أَنَّهُ لَا تُنْكَحُ النُّفَسَاءُ مَا دَامَتْ فِي دَمِ نِفَاسِهَا لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ» وَمَعْنَى تَعَلَّتْ يَعْنِي طَهُرَتْ.
ارْتِيَابُ الْمُعْتَدَّةِ فِي وُجُودِ حَمْلٍ:
27- مَعْنَاهُ أَنْ تَرَى الْمَرْأَةُ أَمَارَاتِ الْحَمْلِ وَهِيَ فِي عِدَّةِ الْأَقْرَاءِ أَوِ الْأَشْهُرِ مِنْ حَرَكَةٍ أَوْ نَفْخَةٍ وَنَحْوِهِمَا وَشَكَّتْ هَلْ هُوَ حَمْلٌ أَمْ لَا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: قَالَ الْمَالِكِيَّةُ إِنِ ارْتَابَتِ الْمُعْتَدَّةُ أَيْ شَكَّتْ وَتَحَيَّرَتْ بِالْحَمْلِ إِلَى أَقْصَى أَمَدِ الْحَمْلِ هَلْ تَتَرَبَّصُ خَمْسًا مِنَ السِّنِينَ أَوْ أَرْبَعًا؟ فِيهِ خِلَافٌ: إِنْ مَضَتِ الْمُدَّةُ وَلَمْ تَزِدِ الرِّيبَةُ حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، أَمَّا إِنْ مَضَتْ وَزَادَتِ الرِّيبَةُ لِكِبَرِ بَطْنِهَا مَكَثَتْ حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَفِي رِوَايَةٍ إِذَا مَضَتِ الْخَمْسَةُ أَوِ الْأَرْبَعَةُ حَلَّتْ وَلَوْ بَقِيَتِ الرِّيبَةُ، وَلَوْ تَزَوَّجَتِ الْمُرْتَابَةُ بِالْحَمْلِ قَبْلَ تَمَامِ الْخَمْسِ سِنِينَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَوَلَدَتْ لِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ مِنْ نِكَاحِ الثَّانِي لَمْ يُلْحَقِ الْوَلَدُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَيُفْسَخُ نِكَاحُ الثَّانِي لِأَنَّهُ نَكَحَ حَامِلًا، أَمَّا عَدَمُ لُحُوقِهِ بِالْأَوَّلِ فَلِزِيَادَتِهِ عَلَى الْخَمْسِ سِنِينَ بِشَهْرٍ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِوِلَادَتِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: - قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوِ ارْتَابَتْ فِي الْعِدَّةِ فِي وُجُودِ حَمْلٍ أَمْ لَا بِثِقَلٍ وَحَرَكَةٍ تَجِدُهُمَا لَمْ تَنْكِحْ آخَرَ حَتَّى تَزُولَ الرِّيبَةُ بِمُرُورِ زَمَنٍ تَزْعُمُ النِّسَاءُ أَنَّهَا لَا تَلِدُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ قَدْ لَزِمَتْهَا بِيَقِينٍ فَلَا تَخْرُجُ عَنْهَا إِلاَّ بِيَقِينٍ، فَإِنْ نَكَحَتْ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ لِلتَّرَدُّدِ فِي انْقِضَائِهَا وَالِاحْتِيَاطِ فِي الْأَبْضَاعِ، وَلِأَنَّ الشَّكَّ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يُبْطِلُ الْعَقْدَ، فَإِنِ ارْتَابَتْ بَعْدَ الْعِدَّةِ وَنِكَاحِ الْآخَرِ اسْتَمَرَّ نِكَاحُهَا إِلَى أَنْ تَلِدَ لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ عَقْدِهِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِبُطْلَانِ عَقْدِ النِّكَاحِ لِتَحَقُّقِ كَوْنِهَا حَامِلًا يَوْمَ الْعَقْدِ وَالْوَلَدُ لِلْأَوَّلِ إِنْ أَمْكَنَ كَوْنُهُ مِنْهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ فَالْوَلَدُ لِلثَّانِي، وَإِنِ ارْتَابَتْ بَعْدَ الْعِدَّةِ قَبْلَ نِكَاحٍ بِآخَرَ تَصْبِرُ عَلَى النِّكَاحِ لِتَزُولَ الرِّيبَةُ لِلِاحْتِيَاطِ لِخَبَرِ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ».
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ الْحَنَابِلَةُ إِنَّ الْمُرْتَابَةَ فِي الْعِدَّةِ فِي وُجُودِ حَمْلٍ أَمْ لَا لَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنْ تَحْدُثَ بِهَا الرِّيبَةُ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَإِنَّهَا تَبْقَى فِي حُكْمِ الِاعْتِدَادِ حَتَّى تَزُولَ الرِّيبَةُ، فَإِنْ بَانَ حَمْلٌ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ، وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَمْلٍ تَبَيَّنَّا أَنَّ عِدَّتَهَا انْقَضَتْ بِالْقُرُوءِ، أَوْ بِالشُّهُورِ، فَإِنْ زُوِّجَتْ قَبْلَ زَوَالِ الرِّيبَةِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهَا تَزَوَّجَتْ وَهِيَ فِي حُكْمِ الْمُعْتَدَّاتِ فِي الظَّاهِرِ، وَيُحْتَمَلُ إِذَا تَبَيَّنَ عَدَمُ الْحَمْلِ أَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ، لِبَيَانِ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا.
الثَّانِي: إِنْ ظَهَرَتِ الرِّيبَةُ بَعْدَ قَضَاءِ عِدَّتِهَا وَالتَّزَوُّجِ فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ وُجِدَ بَعْدَ قَضَاءِ عِدَّتِهَا فِي الظَّاهِرِ وَالْحَمْلُ مَعَ الرِّيبَةِ مَشْكُوكٌ فِيهِ وَلَا يَزُولُ بِهِ مَا حُكِمَ بِصِحَّتِهِ لَكِنْ لَا يَحِلُّ لِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا لِلشَّكِّ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ، ثُمَّ نَنْظُرُ فَإِنْ وَضَعَتِ الْوَلَدَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي وَوَطِئَهَا فَنِكَاحُهُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ نَكَحَهَا وَهِيَ حَامِلٌ، وَإِنْ أَتَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِهِ وَنِكَاحُهُ صَحِيحٌ.
الثَّالِثُ: أَنْ تَظْهَرَ الرِّيبَةُ بَعْدَ قَضَاءِ الْعِدَّةِ وَقَبْلَ النِّكَاحِ فَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ، وَإِنْ تَزَوَّجَتْ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ، وَفِي وَجْهٍ آخَرَ يَحِلُّ لَهَا النِّكَاحُ وَيَصِحُّ.
تَحَوُّلُ الْعِدَّةِ أَوِ انْتِقَالُهَا:
أَنْوَاعُ الْعِدَّةِ ثَلَاثَةٌ: عِدَّةٌ بِالْأَقْرَاءِ أَوْ بِالْأَشْهُرِ أَوْ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَقَدْ تَنْتَقِلُ مِنْ حَالَةٍ إِلَى أُخْرَى كَمَا يَلِي:
الْحَالَةُ الْأُولَى:
انْتِقَالُ الْعِدَّةِ أَوْ تَحَوُّلُهَا مِنَ الْأَشْهُرِ إِلَى الْأَقْرَاءِ، كَالصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَحِضْ، وَكَذَلِكَ الْآيِسَةُ.
28- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَةَ أَوِ الْبَالِغَةَ الَّتِي لَمْ تَحِضْ إِذَا اعْتَدَّتْ بِالْأَشْهُرِ فَحَاضَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَلَوْ بِسَاعَةٍ لَزِمَهَا اسْتِئْنَافُ الْعِدَّةِ، فَتَنْتَقِلُ عِدَّتُهَا مِنَ الْأَشْهُرِ إِلَى الْأَقْرَاءِ، لِأَنَّ الْأَشْهُرَ بَدَلٌ عَنِ الْأَقْرَاءِ فَإِذَا وُجِدَ الْمُبْدَلُ بَطَلَ حُكْمُ الْبَدَلِ كَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْمَاءِ.
أَمَّا إِنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِالْأَشْهُرِ ثُمَّ حَاضَتْ بَعْدَهَا وَلَوْ بِلَحْظَةٍ لَمْ يَلْزَمْهَا اسْتِئْنَافُ الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ مَعْنًى حَدَثَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، كَاَلَّتِي حَاضَتْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا بِزَمَنٍ طَوِيلٍ، وَلَا يُمْكِنُ مَنْعُ هَذَا الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ مَنْعُهُ لَمْ يَحْصُلْ لِمَنْ لَمْ تَحِضْ الِاعْتِدَادُ بِالْأَشْهُرِ بِحَالٍ.
وَالْآيِسَةُ إِذَا اعْتَدَّتْ بِبَعْضِ الْأَشْهُرِ، ثُمَّ رَأَتِ الدَّمَ، فَتَتَحَوَّلُ عِدَّتُهَا إِلَى الْأَقْرَاءِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهَا لَمَّا رَأَتِ الدَّمَ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ آيِسَةً وَأَنَّهَا أَخْطَأَتْ فِي الظَّنِّ فَلَا يُعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ فِي حَقِّهَا لِأَنَّهَا بَدَلٌ فَلَا يُعْتَبَرُ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي وَقَّتُوا لِلْإِيَاسِ فِيهَا وَقْتًا- إِلَى أَنَّهُ إِذَا بَلَغَتْ ذَلِكَ الْوَقْتَ ثُمَّ رَأَتْ بَعْدَهُ الدَّمَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الدَّمُ حَيْضًا كَالدَّمِ الَّذِي تَرَاهُ الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَا يَحِيضُ مِثْلُهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ دَمًا خَالِصًا فَحَيْضٌ حَتَّى يَبْطُلَ بِهِ الِاعْتِدَادُ بِالْأَشْهُرِ.
وَنَقَلَ الْكَاسَانِيُّ عَنِ الْجَصَّاصِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ فِي الَّتِي ظَنَّتْ أَنَّهَا آيِسَةٌ، فَأَمَّا الْآيِسَةُ فَمَا تَرَى مِنَ الدَّمِ لَا يَكُونُ حَيْضًا، أَلَا تَرَى أَنَّ وُجُودَ الْحَيْضِ مِنْهَا كَانَ مُعْجِزَةَ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ( (؟ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ إِلاَّ عَلَى وَجْهِ الْمُعْجِزَةِ، كَذَا عَلَّلَ الْجَصَّاصُ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْآيِسَةَ إِذَا رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ وَقَبْلَ السَّبْعِينَ، وَالْحَنَابِلَةِ الْقَائِلِينَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ وَقَبْلَ السِّتِّينَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ دَمًا مَشْكُوكًا فِيهِ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى النِّسَاءِ لِمَعْرِفَةِ هَلْ هُوَ حَيْضٌ أَمْ لَا؟ إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ عَلَى الْعَادَةِ الَّتِي كَانَتْ تَرَاهُ فِيهَا فَهُوَ حَيْضٌ فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْحَيْضِ الْوُجُودُ فِي زَمَنِ الْإِمْكَانِ، وَهَذَا يُمْكِنُ وُجُودُ الْحَيْضِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ نَادِرًا، وَإِنْ رَأَتْهُ بَعْدَ السِّتِّينَ فَقَدْ تُيُقِّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا تَعْتَدُّ بِهِ، وَتَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ، كَاَلَّتِي لَا تَرَى دَمًا.
(ر: مُصْطَلَحَ إِيَاس ف 6).
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ الْآيِسَةَ إِذَا رَأَتِ الدَّمَ بَعْدَ تَمَامِ الْأَشْهُرِ فَثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: - لَا يَلْزَمُهَا الْعَوْدُ إِلَى الْأَقْرَاءِ، بَلِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، كَمَا لَوْ حَاضَتِ الصَّغِيرَةُ بَعْدَ الْأَشْهُرِ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
الثَّانِي: - يَلْزَمُهَا، لِأَنَّهُ بَانَ أَنَّهَا لَيْسَتْ آيِسَةً بِخِلَافِ الصَّغِيرَةِ فَإِنَّهَا بِرُؤْيَةِ الْحَيْضِ لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا وَقْتَ الِاعْتِدَادِ مِنَ اللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ.
الثَّالِثُ: - وَهُوَ الْأَظْهَرُ إِنْ كَانَ نَكَحَتْ بَعْدَ الْأَشْهُرِ فَقَدْ تَمَّتِ الْعِدَّةُ وَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ، وَإِلاَّ لَزِمَهَا الْأَقْرَاءُ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: - انْتِقَالُ الْعِدَّةِ مِنَ الْأَقْرَاءِ إِلَى الْأَشْهُرِ:
29- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَنْتَقِلُ مِنَ الْأَقْرَاءِ إِلَى الْأَشْهُرِ فِي حَقِّ مَنْ حَاضَتْ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ يَئِسَتْ مِنَ الْمَحِيضِ فَتَسْتَقْبِلُ الْعِدَّةَ بِالْأَشْهُرِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَاَللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ}.
وَالْأَشْهُرُ بَدَلٌ عَنِ الْحَيْضِ فَلَوْ لَمْ تَسْتَقْبِلْ وَثَبَتَتْ عَلَى الْأَوَّلِ لَصَارَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ أَصْلًا وَبَدَلًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ، كَمَا أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تُلَفَّقُ مِنْ جِنْسَيْنِ وَقَدْ تَعَذَّرَ إِتْمَامُهَا بِالْحَيْضِ فَوَجَبَتْ بِالْأَشْهُرِ.
وَإِيَاسُ الْمَرْأَةِ أَنْ تَبْلُغَ مِنَ السِّنِّ مَا لَا يَحِيضُ فِيهِ مِثْلُهَا عَادَةً، فَإِذَا بَلَغَتْ هَذِهِ السِّنَّ مَعَ انْقِطَاعِ الدَّمِ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهَا آيِسَةٌ مِنَ الْحَيْضَةِ حَتَّى يَتَّضِحَ لَنَا خِلَافُهُ.وَسِنُّ الْيَأْسِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَقْوَالٍ.
أَمَّا إِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ قَبْلَ سِنِّ الْيَأْسِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحُكْمِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.
(ر: مُصْطَلَحَ إِيَاس).
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: تَحَوُّلُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ:
30- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا، ثُمَّ تُوُفِّيَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، سَقَطَتْ عَنْهَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ، وَاسْتَأْنَفَتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا مِنْ وَقْتِ الْوَفَاةِ؛ لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ وَيَسْرِي عَلَيْهَا قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}.
وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ زَوْجَةٌ يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ وَيَنَالُهَا مِيرَاثُهُ، فَاعْتَدَّتْ لِلْوَفَاةِ كَغَيْرِ الْمُطَلَّقَةِ.
وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا فِي حَالِ صِحَّتِهِ، أَوْ بِنَاءً عَلَى طَلَبِهَا، ثُمَّ تُوُفِّيَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنَّهَا تُكْمِلُ عِدَّةَ الطَّلَاقِ وَلَا تَنْتَقِلُ إِلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ، لِانْقِطَاعِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ بِالْإِبَانَةِ، فَلَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ وُجُودِ سَبَبِهِ، فَتَعَذَّرَ إِيجَابُ عِدَّةِ الْوَفَاةِ فَبَقِيَتْ عِدَّةُ الطَّلَاقِ عَلَى حَالِهَا.
وَأَمَّا لَوْ طَلَّقَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ دُونَ طَلَبٍ مِنْهَا، ثُمَّ تُوُفِّيَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إِلَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ- مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَعِدَّةِ الْوَفَاةِ- احْتِيَاطًا، لِشُبْهَةِ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ لِأَنَّهَا تَرِثُهُ، فَلَوْ فَرَضْنَا بِأَنَّهَا حَاضَتْ قَبْلَ الْمَوْتِ حَيْضَتَيْنِ، وَلَمْ تَحِضِ الثَّالِثَةَ بَعْدَ الْمَوْتِ حَتَّى انْتَهَتْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ، فَإِنَّهَا تُكْمِلُ عِدَّةَ الطَّلَاقِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَاضَتِ الثَّالِثَةَ بَعْدَ الْوَفَاةِ وَقَبْلَ انْتِهَاءِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ فَإِنَّهَا تُكْمِلُ هَذِهِ الْعِدَّةَ.
وَيَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا بَقِيَ فِي حَقِّ الْإِرْثِ خَاصَّةً لِتُهْمَةِ الْفِرَارِ فَلأَنْ يَبْقَى فِي حَقِّ وُجُوبِ الْعِدَّةِ أَوْلَى، لِأَنَّ الْعِدَّةَ يُحْتَاطُ فِي إِيجَابِهَا فَكَانَ قِيَامُ النِّكَاحِ مِنْ وَجْهٍ كَافِيًا لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ احْتِيَاطًا فَيَجِبُ عَلَيْهَا الِاعْتِدَادُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فِيهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو يُوسُفَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ تَبْنِي عَلَى عِدَّةِ الطَّلَاقِ لِانْقِطَاعِ الزَّوْجِيَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِأَنَّهَا بَائِنٌ مِنَ النِّكَاحِ فَلَا تَكُونُ مَنْكُوحَةً، وَلِأَنَّ الْإِرْثَ الَّذِي ثَبَتَ مُعَامَلَةً بِنَقِيضِ الْقَصْدِ لَا يَقْتَضِي بَقَاءَ زَوْجِيَّةٍ مُوجِبَةٍ لِلْأَسَفِ وَالْحُزْنِ وَالْحِدَادِ عَلَى الْمُتَوَفَّى.
الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: تَحَوُّلُ الْعِدَّةِ مِنَ الْقُرُوءِ أَوِ الْأَشْهُرِ إِلَى وَضْعِ الْحَمْلِ.
31- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ بِالْقُرُوءِ أَوِ الْأَشْهُرِ أَوْ بَعْدَهَا أَنَّ الْمَرْأَةَ حَامِلٌ مِنَ الزَّوْجِ، فَإِنَّ الْعِدَّةَ تَتَحَوَّلُ إِلَى وَضْعِ الْحَمْلِ، وَسَقَطَ حُكْمُ مَا مَضَى مِنَ الْقُرُوءِ أَوِ الْأَشْهُرِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا رَأَتْهُ مِنَ الدَّمِ لَمْ يَكُنْ حَيْضًا، لِأَنَّ الْحَامِلَ لَا تَحِيضُ وَلِأَنَّ وَضْعَ الْحَمْلِ أَقْوَى دَلَالَةً عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْ آثَارِ الزَّوْجِيَّةِ الَّتِي انْقَضَتْ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.
ابْتِدَاءُ الْعِدَّةِ وَانْقِضَاؤُهَا:
32- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَبْدَأُ فِي الطَّلَاقِ عَقِيبَ الطَّلَاقِ، وَفِي الْوَفَاةِ عَقِيبَ الْوَفَاةِ، لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ الطَّلَاقُ أَوِ الْوَفَاةُ، فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِالطَّلَاقِ أَوِ الْوَفَاةِ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةُ الْعِدَّةِ فَقَدِ انْقَضَتْ مُدَّتُهَا، لَكِنْ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ: وَمَشَايِخُنَا يُفْتُونَ فِي الطَّلَاقِ أَنَّ ابْتِدَاءَهَا مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ نَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمُوَاضَعَةِ، قَالَ الْبَابَرْتِيُّ: لِجَوَازِ أَنْ يَتَوَاضَعَا عَلَى الطَّلَاقِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِيَصِحَّ إِقْرَارُ الْمَرِيضِ لَهَا بِالدَّيْنِ وَوَصِيَّتِهِ لَهَا بِشَيْءٍ، وَيَتَوَاضَعَا عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِيَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا أَوْ أَرْبَعًا سِوَاهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: إِلَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَبْدَأُ مِنْ وَقْتِ الْعِلْمِ بِالطَّلَاقِ، فَلَوْ أَقَرَّ فِي صِحَّتِهِ بِطَلَاقٍ مُتَقَدِّمٍ، وَقَدْ مَضَى مِقْدَارُ الْعِدَّةِ قَبْلَ إِقْرَارِهِ، اسْتَأْنَفَتْ عِدَّتَهَا مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ، وَتَرِثُهُ لِأَنَّهَا فِي عِدَّتِهَا، وَلَا يَرِثُهَا لِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِإِقْرَارِهِ، إِلاَّ إِذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ فَتَعْتَدُّ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرَتْهُ الْبَيِّنَةُ، وَهَذَا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، أَمَّا الْبَائِنُ فَلَا يَتَوَارَثَانِ، أَمَّا عِدَّةُ الْوَفَاةِ فَتَبْدَأُ مِنْ وَقْتِ الْوَفَاةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تَبْدَأُ عِدَّةُ الْوَفَاةِ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ، وَتَبْدَأُ عِدَّةُ الْأَقْرَاءِ مِنْ حِينِ الطَّلَاقِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَقْتُ الْوُجُوبِ، وَلَوْ بَلَغَتْهَا وَفَاةُ زَوْجِهَا أَوْ طَلَاقُهَا بَعْدَ مُدَّةِ الْعِدَّةِ كَانَتْ مُنْقَضِيَةً، فَلَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ مِنْهَا، لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ تَعْتَدُّ مَعَ عَدَمِ قَصْدِهَا.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْهَا، فَعِدَّتُهَا مِنْ يَوْمِ الْمَوْتِ أَوِ الطَّلَاقِ لَا مِنْ يَوْمِ الْعِلْمِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إِنْ قَامَتْ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ فَعِدَّتُهَا مِنْ يَوْمِ يَأْتِيهَا الْخَبَرُ.
33- وَانْقِضَاءُ الْعِدَّةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ نَوْعِهَا فَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ حَامِلًا فَإِنَّ عِدَّتَهَا تَنْتَهِي بِوَضْعِ الْحَمْلِ كُلِّهِ، وَإِذَا كَانَتِ الْعِدَّةُ بِالْقُرُوءِ فَإِنَّهَا تَنْتَهِي بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، وَإِذَا كَانَتِ الْعِدَّةُ بِالْأَشْهُرِ فَإِنَّهَا تُحْسَبُ مِنْ وَقْتِ الْفُرْقَةِ أَوِ الْوَفَاةِ حَتَّى تَنْتَهِيَ بِمُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ.
وَبَيَّنَ الْكَاسَانِيُّ مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ فَقَالَ: انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ نَوْعَانِ: الْأَوَّلُ بِالْقَوْلِ، وَالثَّانِي بِالْفِعْلِ.
أَمَّا الْقَوْلُ فَهُوَ: إِخْبَارُ الْمُعْتَدَّةِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي مُدَّةٍ يُحْتَمَلُ الِانْقِضَاءُ فِي مِثْلِهَا، فَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً مِنْ ذَوَاتِ الْأَشْهُرِ فَإِنَّهَا لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ أَوْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ وَمُعْتَدَّةً مِنْ وَفَاةٍ، فَإِنَّهَا لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، أَوْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ فَإِنْ أَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فِي مُدَّةٍ تَنْقَضِي فِي مِثْلِهَا الْعِدَّةُ يُقْبَلُ قَوْلُهَا، وَإِنْ أَخْبَرَتْ فِي مُدَّةٍ لَا تَنْقَضِي فِي مِثْلِهَا الْعِدَّةُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْأَمِينِ إِنَّمَا يُقْبَلُ فِيمَا لَا يُكَذِّبُهُ الظَّاهِرُ، وَالظَّاهِرُ هُنَا يُكَذِّبُهَا، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا إِلاَّ إِذَا فَسَّرَتْ مَعَ يَمِينِهَا، فَيُقْبَلُ قَوْلُهَا مَعَ هَذَا التَّفْسِيرِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يُكَذِّبُهَا مَعَ التَّفْسِيرِ، وَأَقَلُّ مَا تُصَدَّقُ فِيهِ الْمُعْتَدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سِتُّونَ يَوْمًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا.
وَأَمَّا الْفِعْلُ: فَيَتَمَثَّلُ فِي أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ تَنْقَضِي فِي مِثْلِهَا الْعِدَّةُ، حَتَّى لَوْ قَالَتْ: لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتِي لَمْ تُصَدَّقْ، لَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَلَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ الثَّانِي، وَنِكَاحُ الزَّوْجِ الثَّانِي جَائِزٌ؛ لِأَنَّ إِقْدَامَهَا عَلَى التَّزَوُّجِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ يُحْتَمَلُ الِانْقِضَاءُ فِي مِثْلِهَا دَلِيلٌ عَلَى الِانْقِضَاءِ.
عِدَّةُ الْمُسْتَحَاضَةِ:
34- الِاسْتِحَاضَةُ فِي الشَّرْعِ هِيَ: سَيَلَانُ الدَّمِ فِي غَيْرِ أَوْقَاتِهِ الْمُعْتَادَةِ مِنْ مَرَضٍ وَفَسَادٍ مِنْ عِرْقٍ فِي أَدْنَى الرَّحِمِ يُسَمَّى الْعَاذِلَ.
فَإِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ الْمُطَلَّقَةُ الْمُعْتَدَّةُ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ، وَاسْتَمَرَّ نُزُولُ الدَّمِ عَلَيْهَا بِدُونِ انْقِطَاعٍ فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ، وَالْحَالُ لَا يَخْلُو مِنْ أَمْرَيْنِ:
35- الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: إِنِ اسْتَطَاعَتْ أَنْ تُمَيِّزَ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ بِرَائِحَةٍ أَوْ لَوْنٍ أَوْ كَثْرَةٍ أَوْ قِلَّةٍ أَوْ عَادَةٍ- وَيُطْلَقُ عَلَيْهَا غَيْرَ الْمُتَحَيِّرَةِ- فَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} وَلِأَنَّهَا تُرَدُّ إِلَى أَيَّامِ عَادَتِهَا الْمَعْرُوفَةِ لَهَا وَلِأَنَّ الدَّمَ الْمُمَيَّزَ بَعْدَ طُهْرٍ تَامٍّ يُعَدُّ حَيْضًا، فَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ لَا بِالْأَشْهُرِ.
36- الْأَمْرُ الثَّانِي الْمُسْتَحَاضَةُ الْمُتَحَيِّرَةُ الَّتِي لَمْ تَسْتَطِعِ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الدَّمَيْنِ وَنَسِيَتْ قَدْرَ عَادَتِهَا، أَوْ تَرَى يَوْمًا دَمًا وَيَوْمًا نَقَاءً، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ مُبْتَدَأَةً أَمْ غَيْرَهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عِدَّتِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَأَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمُسْتَحَاضَةِ هُنَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْغَالِبَ نُزُولُ الْحَيْضِ مَرَّةً فِي كُلِّ شَهْرٍ، أَوْ لِاشْتِمَالِ كُلِّ شَهْرٍ عَلَى طُهْرٍ وَحَيْضٍ غَالِبًا، وَلِعِظَمِ مَشَقَّةِ الِانْتِظَارِ إِلَى سِنِّ الْيَأْسِ، وَلِأَنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُرْتَابَةٌ، فَدَخَلَتْ فِي قوله تعالى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ تَلَجَّمِي وَتَحَيَّضِي فِي كُلِّ شَهْرٍ فِي عِلْمِ اللَّهِ سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ» فَجَعَلَ لَهَا حَيْضَةً فِي كُلِّ شَهْرٍ تَتْرُكُ فِيهَا الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ، وَيَثْبُتُ فِيهَا سَائِرُ أَحْكَامِ الْحَيْضِ، فَيَجِبُ أَنْ تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْحَيْضِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَإِسْحَاقُ إِلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمُسْتَحَاضَةِ الْمُتَحَيِّرَةِ سَنَةٌ كَامِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ رُفِعَتْ حَيْضَتُهَا وَلَا تَدْرِي مَا رَفَعَهَا، وَلِأَنَّهَا لَمْ تَتَيَقَّنْ لَهَا حَيْضًا مَعَ أَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْقُرُوءِ، فَكَانَتْ عِدَّتُهَا سَنَةً، كَاَلَّتِي ارْتَفَعَ حَيْضُهَا.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا تَتَرَبَّصُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ اسْتِبْرَاءً لِزَوَالِ الرِّيبَةِ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةُ الْحَمْلِ غَالِبًا، ثُمَّ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَتَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ بَعْدَ السَّنَةِ، وَقِيلَ: بِأَنَّ السَّنَةَ كُلَّهَا عِدَّةٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ عِنْدَهُمْ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ: بِأَنَّ الْمُعْتَدَّةَ الْمُتَحَيِّرَةَ تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ سِنِّ الْيَأْسِ، أَوْ تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ أَوْ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ لِلِاحْتِيَاطِ، قِيَاسًا عَلَى مَنْ تَبَاعَدَ حَيْضُهَا وَطَالَ طُهْرُهَا، أَوْ لِأَنَّهَا قَبْلَ الْيَأْسِ مُتَوَقِّعَةٌ لِلْحَيْضِ الْمُسْتَقِيمِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
105-موسوعة الفقه الكويتية (غش)
غِشٌّالتَّعْرِيفُ:
1- الْغِشُّ بِالْكَسْرِ فِي اللُّغَةِ نَقِيضُ النُّصْحِ، يُقَالُ: غَشَّ صَاحِبَهُ: إِذَا زَيَّنَ لَهُ غَيْرَ الْمَصْلَحَةِ، وَأَظْهَرَ لَهُ غَيْرَ مَا أَضْمَرَ، وَلَبَنٌ مَغْشُوشٌ: أَيْ مَخْلُوطٌ بِالْمَاءِ.
وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- التَّدْلِيسُ:
2- التَّدْلِيسُ: الْخَدِيعَةُ وَهُوَ مَصْدَرُ دَلَّسَ، وَالدُّلْسَةُ: الظُّلْمَةُ، وَالتَّدْلِيسُ فِي الْبَيْعِ: كِتْمَانُ عَيْبِ السِّلْعَةِ عَنِ الْمُشْتَرِي، يُقَالُ: دَلَّسَ الْبَائِعُ تَدْلِيسًا: كَتَمَ عَيْبَ السِّلْعَةِ عَنِ الْمُشْتَرِي وَأَخْفَاهُ، وَمِنْهُ التَّدْلِيسُ فِي الْإِسْنَادِ.
فَالتَّدْلِيسُ مِنْ أَنْوَاعِ الْغِشِّ.
ب- التَّغْرِيرُ:
3- التَّغْرِيرُ هُوَ: الْخَطَرُ وَالْخُدْعَةُ، وَتَعْرِيضُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ أَوْ مَالَهُ لِلْهَلَكَةِ، وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: الْغَرَرُ: مَا يَكُونُ مَجْهُولَ الْعَاقِبَةِ لَا يُدْرَى أَيَكُونُ أَمْ لَا.وَفِي الِاصْطِلَاحِ: التَّغْرِيرُ تَوْصِيفُ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ صِفَتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ.وَبَيْعُ الْغَرَرِ هُوَ الْبَيْعُ الَّذِي فِيهِ خَطَرُ انْفِسَاخِهِ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ.
وَالتَّغْرِيرُ مِنْ أَنْوَاعِ الْغِشِّ.
ج- الْخِلَابَةُ:
4- الْخِلَابَةُ بِالْكَسْرِ: الْمُخَادَعَةُ، وَقِيلَ: الْخَدِيعَةُ بِاللِّسَانِ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ كَانَ يُخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ: «إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ».وَالْخِلَابَةُ نَوْعٌ مِنَ الْغِشِّ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْغِشَّ حَرَامٌ سَوَاءٌ أَكَانَ بِالْقَوْلِ أَمْ بِالْفِعْلِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ بِكِتْمَانِ الْعَيْبِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوِ الثَّمَنِ أَمْ بِالْكَذِبِ وَالْخَدِيعَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْمُعَامَلَاتِ أَمْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمَشُورَةِ وَالنَّصِيحَةِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي تَحْرِيمِ الْغِشِّ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنِّي».وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا».
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَأَمْثَالَهُ غَيْرُ مَحْمُولٍ عَلَى الظَّاهِرِ، فَالْغِشُّ لَا يُخْرِجُ الْغَاشَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ لَيْسَ عَلَى سِيرَتِنَا وَمَذْهَبِنَا.
وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ رُشْدٍ الْجَدُّ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ، حَدِيثٌ قَالَ: مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا أَيْ: لَيْسَ عَلَى مِثْلِ هُدَانَا وَطَرِيقَتِنَا، إِلاَّ أَنَّ الْغِشَّ لَا يُخْرِجُ الْغَاشَّ مِنَ الْإِيمَانِ، فَهُوَ مَعْدُودٌ فِي جُمْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ، إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى هُدَاهُمْ وَسَبِيلِهِمْ؛ لِمُخَالَفَتِهِ إِيَّاهُمْ فِي الْتِزَامِ مَا يَلْزَمُهُ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ..فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مُسْلِمٍ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً مِنَ السِّلَعِ أَوْ دَارًا أَوْ عَقَارًا أَوْ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ- وَهُوَ يَعْلَمُ فِيهِ عَيْبًا قَلَّ أَوْ كَثُرَ- حَتَّى يُبَيِّنَ ذَلِكَ لِمُبْتَاعِهِ، وَيَقِفَهُ عَلَيْهِ وَقْفًا يَكُونُ عِلْمُهُ بِهِ كَعِلْمِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَكَتَمَهُ الْعَيْبَ وَغَشَّهُ بِذَلِكَ لَمْ يَزَلْ فِي مَقْتِ اللَّهِ وَلَعْنَةِ مَلَائِكَةِ اللَّهِ.ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» عَلَى ظَاهِرِهِ فِيمَنْ غَشَّ الْمُسْلِمِينَ مُسْتَحِلًّا لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنِ اسْتَحَلَّ التَّدْلِيسَ بِالْعُيُوبِ وَالْغِشَّ فِي الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا، فَهُوَ كَافِرٌ حَلَالُ الدَّمِ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِلَ.
وَلَا تَخْتَلِفُ كَلِمَةُ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ النُّصْحَ فِي الْمُعَامَلَةِ وَاجِبٌ.
وَقَدْ بَيَّنَ الْغَزَالِيُّ ضَابِطَ النُّصْحِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْمُعَامَلَةِ فِي أَرْبَعَةِ أُمُورٍ: أَنْ لَا يُثْنِيَ عَلَى السِّلْعَةِ بِمَا لَيْسَ فِيهَا، وَأَنْ لَا يَكْتُمَ مِنْ عُيُوبِهَا وَخَفَايَا صِفَاتِهَا شَيْئًا أَصْلًا، وَأَنْ لَا يَكْتُمَ فِي وَزْنِهَا وَمِقْدَارِهَا شَيْئًا، وَأَنْ لَا يَكْتُمَ مِنْ سِعْرِهَا مَا لَوْ عَرَفَهُ الْمُعَامِلُ لَامْتَنَعَ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ أَخْفَاهُ كَانَ ظَالِمًا غَاشًّا، وَالْغِشُّ حَرَامٌ، وَكَانَ تَارِكًا لِلنُّصْحِ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَالنُّصْحُ وَاجِبٌ.
وَقَدْ رَجَّحَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْغِشَّ كَبِيرَةٌ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ يَفْسُقُ فَاعِلُهُ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ، وَقَدْ عَلَّلَ ابْنُ عَابِدِينَ هَذَا التَّرْجِيحَ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ الْغِشَّ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ.
الْغِشُّ فِي الْمُعَامَلَاتِ:
6- يَحْصُلُ الْغِشُّ كَثِيرًا فِي الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْمُعَاوَضَاتِ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ صُوَرًا لِلْغِشِّ الْوَاقِعِ فِي زَمَانِهِمْ بَيْنَ التُّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ.
وَلِلْغِشِّ صُوَرٌ مُخْتَلِفَةٌ كَالْغِشِّ بِالتَّدْلِيسِ وَالْخِيَانَةِ وَالْكَذِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ لِلْغِشِّ آثَارًا مُتَنَوِّعَةً كَالْغَبْنِ وَالْغَرَرِ وَنَحْوِهَا.
أَوَّلًا- الْغِشُّ بِالتَّدْلِيسِ وَالتَّصْرِيَةِ:
7- يَقَعُ الْغِشُّ فِي الْمُعَامَلَاتِ كَثِيرًا بِصُورَةِ التَّدْلِيسِ الْقَوْلِيِّ، كَالْكَذِبِ فِي سِعْرِ الْمَبِيعِ، أَوِ الْفِعْلِيِّ كَكِتْمَانِ عُيُوبِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، أَوْ بِصُورَةِ التَّصْرِيَةِ كَأَنْ يَتْرُكَ الْبَائِعُ حَلْبَ النَّاقَةِ أَوْ غَيْرِهَا مُدَّةً قَبْلَ بَيْعِهَا لِيُوهِمَ الْمُشْتَرِيَ كَثْرَةَ اللَّبَنِ، وَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ يُخْدَعُ الْمُشْتَرِي، فَيُبْرِمُ الْعَقْدَ وَهُوَ غَيْرُ رَاضٍ بِذَلِكَ إِذَا عَلِمَ الْحَقِيقَةَ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ التَّدْلِيسَ عَيْبٌ، فَإِذَا اخْتَلَفَ الثَّمَنُ لِأَجْلِهِ فِي الْمُعَامَلَاتِ يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَعْلَمَ الْمُدَلَّسُ عَلَيْهِ الْعَيْبَ قَبْلَ الْعَقْدِ أَوْ عِنْدَهُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ الْعَيْبُ ظَاهِرًا.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَدْلِيس ف 7 وَمَا بَعْدَهَا)
وَفِي الْغِشِّ بِصُورَةِ التَّصْرِيَةِ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ تَصْرِيَةَ الْحَيَوَانِ عَيْبٌ يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَذَلِكَ لِحَدِيثِ: «لَا تُصَرُّوا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ فَإِنَّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا: إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ».
وَلَا يَعْتَبِرُ أَبُو حَنِيفَةَ التَّصْرِيَةَ عَيْبًا مُثْبِتًا لِلْخِيَارِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُصَرَّاةً فَوَجَدَهَا أَقَلَّ لَبَنًا مِنْ أَمْثَالِهَا لَمْ يَمْلِكْ رَدَّهَا، وَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِأَرْشِهَا.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَصْرِيَة ف 3 وَمَا بَعْدَهَا)
ثَانِيًا- الْغِشُّ الْمُسَبِّبُ لِلْغَبْنِ:
8- الْغِشُّ يُؤَثِّرُ كَثِيرًا فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ بِصُورَةِ الْغَبْنِ، فَيَحْصُلُ النَّقْصُ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ أَوْ بَدَلِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْغَبْنَ الْيَسِيرَ- وَهُوَ مَا يُحْتَمَلُ غَالِبًا، أَوْ يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ- لَا يَثْبُتُ خِيَارًا لِلْمَغْبُونِ.
أَمَّا الْغَبْنُ الْفَاحِشُ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِهِ عَلَى الْعَقْدِ وَثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمَغْبُونِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (غَرَر) (وَغَبْن) (وَخِيَارُ الْغَبْنِ ف 3 وَمَا بَعْدَهَا)
التَّعَامُلُ بِالنَّقْدِ الْمَغْشُوشِ:
9- أَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِنْفَاقَ الْمَغْشُوشِ مِنَ النُّقُودِ إِذَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ وَظَهَرَ غِشُّهُ، وَلَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ التَّفْصِيلُ التَّالِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشِّرَاءَ بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ جَائِزٌ، وَذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْغِشُّ فِيهَا غَالِبًا وَالْفِضَّةُ مَغْلُوبَةً، سَوَاءٌ أَكَانَ بِالْوَزْنِ أَوِ الْعَدَدِ حَسَبَ تَعَامُلِ النَّاسِ لَهَا كَالْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ.
وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْفِضَّةُ فِيهَا غَالِبَةً أَوْ مُتَسَاوِيَةً مَعَ الْغِشِّ، إِلاَّ أَنَّهَا هُنَا إِذَا قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا جَازَ التَّعَامُلُ بِهَا وَزْنًا لَا عَدَدًا؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ وَزْنِيَّةٌ فِي الْأَصْلِ وَالْغَالِبُ لَهُ حُكْمُ الْكُلِّ، أَمَّا فِي صُوَرِ التَّسَاوِي فَالْحُكْمُ بِالْفَسَادِ عِنْدَ تَعَارُضِ جِهَتَيِ الْجَوَازِ وَالْفَسَادُ أَحْوَطُ، كَمَا عَلَّلَهُ الْكَاسَانِيُّ.
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ نَقَلَ الْحَطَّابُ عَنِ الْعُتْبِيَّةِ أَنَّ الْعَامَّةَ إِذَا اصْطَلَحَتْ عَلَى سِكَّةٍ وَإِنْ كَانَتْ مَغْشُوشَةً فَلَا تُقْطَعُ (أَيْ لَا تُمْنَعُ مِنَ التَّدَاوُلِ) لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى إِتْلَافِ رُءُوسِ أَمْوَالِ النَّاسِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْفَتْوَى عَلَى قَطْعِ الدَّرَاهِمِ الزَّائِفَةِ الَّتِي يُزَادُ فِي غِشِّهَا حَتَّى صَارَتْ نُحَاسًا.وَكَذَا الذَّهَبُ الْمُحَلاَّةُ لِعَدَمِ ضَبْطِهَا فِي الْغِشِّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ ضَرْبُ الْمَغْشُوشِ لِخَبَرِ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وَلِئَلاَّ يَغُشَّ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ بَعْضًا.فَإِنْ عَلِمَ مِعْيَارَهَا صَحَّتِ الْمُعَامَلَةُ بِهَا مُعَيَّنَةً وَفِي الذِّمَّةِ اتِّفَاقًا، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أَصَحُّهَا الصِّحَّةُ مُطْلَقًا كَبَيْعِ الْغَالِيَةِ وَالْمَعْجُونَاتِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ رَوَاجُهَا وَهِيَ رَائِجَةٌ، وَلِحَاجَةِ الْمُعَامَلَةِ بِهَا،
وَالثَّانِي: لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا كَاللَّبَنِ الْمَخْلُوطِ بِالْمَاءِ، وَالثَّالِثُ: وَإِنْ كَانَ الْغِشُّ مَغْلُوبًا صَحَّ التَّعَامُلُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ غَالِبًا لَمْ يَصِحَّ، وَالرَّابِعُ: يَصِحُّ التَّعَامُلُ بِهَا فِي الْعَيْنِ دُونَ الذِّمَّةِ.
وَلِلْحَنَابِلَةِ فِي الْمَغْشُوشِ مِنَ النُّقُودِ رِوَايَتَانِ: أَظْهَرُهُمَا الْجَوَازُ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: نَقَلَ صَالِحٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي دِرْهَمٍ يُقَالُ لَهَا الْمُسَيِّبِيَّةُ عَامَّتُهَا نُحَاسٌ إِلاَّ شَيْئًا فِيهَا فِضَّةٌ، فَقَالَ: إِذَا كَانَ شَيْئًا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ- مِثْلَ الْفُلُوسِ- وَاصْطَلَحُوا عَلَيْهَا فَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهَا بَأْسٌ.
وَالثَّانِيَةُ: التَّحْرِيمُ: نَقَلَ حَنْبَلٌ فِي دَرَاهِمَ مَخْلُوطَةٍ يُشْتَرَى بِهَا وَيُبَاعُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْتَاعَ بِهَا أَحَدٌ، كُلُّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْغِشِّ فَالشِّرَاءُ بِهِ وَالْبَيْعُ حَرَامٌ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ أَحْمَدَ فِي الْجَوَازِ عَلَى الْخُصُوصِ فِيمَا ظَهَرَ غِشُّهُ وَاصْطُلِحَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُعَامَلَةَ بِهِ جَائِزَةٌ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنَ اشْتِمَالِهِ عَلَى جِنْسَيْنِ لَا غَرَرَ فِيهِمَا، فَلَا يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِمَا كَمَا لَوْ كَانَا مُتَمَيِّزَيْنِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (فُلُوس).
صَرْفُ الْمَغْشُوشِ بِجِنْسِهِ أَوْ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ:
10- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا غَلَبَ ذَهَبُهُ أَوْ فِضَّتُهُ حُكْمُهُ حُكْمُ النُّقُودِ الْخَالِصَةِ.فَلَا يَجُوزُ صَرْفُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَلَا بِالْخَالِصَةِ إِلاَّ مُتَسَاوِيًا وَزْنًا مَعَ التَّقَابُضِ.
وَمَا غَلَبَ غِشُّهُ عَلَى الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْعُرُوضِ، يَصِحُّ بَيْعُهُ بِالْخَالِصِ إِنْ كَانَ الْخَالِصُ أَكْثَرَ مِمَّا فِي الْمَغْشُوشِ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ مُتَسَاوِي الْغِشِّ وَالْفِضَّةِ، فَيُصْرَفُ فِضَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى غِشِّ الْآخَرِ وَبِالْعَكْسِ.
وَيَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بَيْعُ نَقْدٍ مَغْشُوشٍ بِمِثْلِهِ وَلَوْ لَمْ يَتَسَاوَ غِشُّهُمَا، وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِمْ جَوَازُ بَيْعِ الْمَغْشُوشِ بِصِنْفِهِ الْخَالِصِ أَيْضًا إِذَا كَانَ يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالْغِشُّ الْمُخَالِطُ فِي الْمَوْزُونِ مَمْنُوعٌ عِنْدَهُمْ مُطْلَقًا، قَلِيلًا كَانَ أَمْ كَثِيرًا، فَلَا تُبَاعُ فِضَّةٌ خَالِصَةٌ بِمَغْشُوشَةٍ، وَلَا فِضَّةٌ مَغْشُوشَةٌ بِفِضَّةٍ مَغْشُوشَةٍ، وَمِثْلُهُ الذَّهَبُ.
وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ بَيْعَ الْأَثْمَانِ الْمَغْشُوشَةِ بِالْمَغْشُوشَةِ إِذَا كَانَ الْغِشُّ فِيهِمَا مُتَسَاوِيًا وَمَعْلُومَ الْمِقْدَارِ.وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ إِذَا كَانَ الْغِشُّ فِي الثَّمَنِ أَوِ الْمُثَمَّنِ مُتَفَاوِتًا أَوْ غَيْرَ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْأَثْمَانِ الْمَغْشُوشَةِ بِأَثْمَانٍ خَالِصَةٍ مِنْ جِنْسِهَا.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (صَرْف ف 41- 44) الْغِشُّ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ:
11- لَقَدْ عَظَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَأَمَرَ بِالْوَفَاءِ فِيهِمَا، وَنَهَى عَنِ الْغِشِّ بِالْبَخْسِ وَالتَّطْفِيفِ فِيهِمَا، وَذَلِكَ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ، مِنْهَا قوله تعالى: (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) وَتَوَعَّدَ الْمُطَفِّفِينَ بِالْوَيْلِ وَهَدَّدَهُمْ بِعَذَابٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي قوله تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ).
وَذَكَرَهُ الذَّهَبِيُّ فِي الْكَبَائِرِ وَقَالَ: وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنَ السَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي وَظَائِفِ الْمُحْتَسِبِ أَنَّ مِمَّا هُوَ عُمْدَةٌ نَظَرُهُ الْمَنْعُ مِنَ التَّطْفِيفِ وَالْبَخْسِ فِي الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ وَالصَّنَجَاتِ، وَأَنْ يَطْبَعَ عَلَيْهَا طَابَعُهُ، وَلَهُ الْأَدَبُ عَلَيْهِ وَالْمُعَاقَبَةُ فِيهِ، فَإِنْ زَوَّرَ قَوْمٌ عَلَى طَابَعِهِ كَانَ الزُّورُ فِيهِ كَالْمُبَهْرَجِ عَلَى طَابَعِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَإِنْ قُرِنَ التَّزْوِيرُ بِغِشٍّ كَانَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَالتَّأْدِيبُ مُسْتَحَقًّا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي حَقِّ السَّلْطَنَةِ مِنْ جِهَةِ التَّزْوِيرِ، وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فِي الْغِشِّ، وَهُوَ أَغْلَظُ الْمُنْكَرَيْنِ، وَإِنْ سَلِمَ التَّزْوِيرُ مِنْ غِشٍّ تَفَرَّدَ بِالْإِنْكَارِ لِحَقِّ السَّلْطَنَةِ خَاصَّةً.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَطْفِيف ف 3، 4) (وَحِسْبَة ف 34).
الْغِشُّ فِي الْمُرَابَحَةِ:
12- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ شَيْئًا مُرَابَحَةً فَقَالَ: هُوَ عَلَيَّ بِمِائَةٍ بِعْتُكَ بِهَا وَبِرِبْحِ عَشَرَةٍ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ رَأْسَ مَالِهِ تِسْعُونَ، فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا زَادَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ عَشَرَةٌ وَحَظُّهَا مِنَ الرِّبْحِ- وَهُوَ دِرْهَمٌ- فَيَبْقَى عَلَى الْمُشْتَرِي بِتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ.
وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهُ إِذَا اشْتَرَاهُ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ وَبَاعَهُ بِرِبْحِ خَمْسَةٍ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الْبَائِعَ اشْتَرَاهُ بِثَمَانِيَةٍ فَإِنَّهُ يَحُطُّ قَدْرَ الْخِيَانَةِ مِنَ الْأَصْلِ وَهُوَ الْخُمُسُ- أَيْ دِرْهَمَانِ وَمَا قَابَلَهُ مِنَ الرِّبْحِ- وَهُوَ دِرْهَمٌ، فَيَأْخُذُ الثَّوْبَ بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا.
وَقَدْ عَلَّلَ الشَّافِعِيَّةُ حَطَّ الزِّيَادَةِ وَرِبْحَهَا بِقَوْلِهِمْ: لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِاعْتِمَادِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَتُحَطُّ الزِّيَادَةُ عَنْهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَحُطُّ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَمَّى عِوَضًا وَعَقَدَ بِهِ.
وَبِنَاءً عَلَى الْحَطِّ فَهَلْ لِلْمُشْتَرِي خِيَارٌ؟ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَلَا لِلْبَائِعِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَبِيعُ بَاقِيًا أَمْ تَالِفًا، أَمَّا الْمُشْتَرِي فَلِأَنَّهُ إِذَا رَضِيَ بِالْأَكْثَرِ فَبِالْأَقَلِّ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَأَمَّا الْبَائِعُ فَلِتَدْلِيسِهِ.
وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، كَمَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ.
وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَخْذِ الْمَبِيعِ بِرَأْسِ مَالِهِ وَحِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ.وَبَيْنَ تَرْكِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ الْخِيَانَةَ فِي هَذَا الثَّمَنِ أَيْضًا.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَذَبَ الْبَائِعُ فِي إِخْبَارِهِ، كَأَنْ يُخْبِرَهُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِخَمْسِينَ وَقَدْ كَانَ اشْتَرَاهُ بِأَرْبَعِينَ- سَوَاءٌ أَكَانَ عَمْدًا أَمْ خَطَأً- لَزِمَ الْبَيْعُ الْمُشْتَرِيَ إِنْ حَطَّ الْبَائِعُ الزَّائِدَ الْمَكْذُوبَ.وَإِلاَّ خُيِّرَ بَيْنَ التَّمَاسُكِ وَالرَّدِّ، وَإِذَا غَشَّ بِأَنِ اشْتَرَاهُ بِثَمَانِيَةٍ مَثَلًا وَيُرَقِّمُ عَلَيْهَا عَشْرَةً، ثُمَّ يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً فَالْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَتَمَاسَكَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ الَّذِي نَقَدَهُ- وَهُوَ الثَّمَانِيَةُ وَرِبْحُهَا- أَوْ يَرُدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ وَيَرْجِعَ بِثَمَنِهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ ظَهَرَتْ خِيَانَةُ الْبَائِعِ فِي مُرَابَحَةٍ أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي بِكُلِّ ثَمَنِهِ أَوْ رَدَّهُ لِفَوَاتِ الرِّضَا.
وَلِلْغِشِّ فِي الْمُرَابَحَةِ صُوَرٌ وَأَحْكَامٌ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (مُرَابَحَة)
الْغِشُّ فِي التَّوْلِيَةِ:
13- إِذَا ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ فِي التَّوْلِيَةِ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ بِأَنِ اشْتَرَى شَيْئًا نَسِيئَةً، ثُمَّ بَاعَهُ تَوْلِيَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ نَسِيئَةً، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارَ فِي رَدِّ الْمَبِيعِ وَأَخْذِهِ إِنْ كَانَ قَائِمًا، وَإِذَا هَلَكَ أَوِ اسْتُهْلِكَ فَلَا خِيَارَ لَهُ وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ حَالًا مَعَ تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ يَأْخُذُ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِالثَّمَنِ مُؤَجَّلًا بِالْأَجَلِ الَّذِي اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ إِلَيْهِ، وَلَا خِيَارَ لَهُ.
وَإِنْ ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَحُطُّ قَدْرَ الْخِيَانَةِ، وَيَلْزَمُ الْعَقْدُ بِالثَّمَنِ الْبَاقِي دُونَ خِيَارٍ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنْ حَطَّ الْبَائِعُ الزَّائِدَ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ، وَإِلاَّ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ السِّلْعَةَ أَوْ يَأْخُذَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَوْلِيَة ف 18، 19)
الْغِشُّ فِي الْوَضِيعَةِ:
14- حُكْمُ الْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ فِي الْوَضِيعَةِ يُشْبِهُ حُكْمَ الْغِشِّ فِي الْمُرَابَحَةِ؛ لِأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ رِبْحُ الْمُشْتَرِي.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (وَضَيْعَة)
غِشُّ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ فِي النِّكَاحِ:
15- إِذَا غَشَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الْآخَرَ بِكِتْمَانِ عَيْبٍ فِيهِ يُنَافِي الِاسْتِمْتَاعَ أَوْ كَمَالَ الِاسْتِمْتَاعِ، يَثْبُتُ لِلْمُتَضَرِّرِ مِنْهُمَا خِيَارُ الْفَسْخِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (طَلَاق ف 93 وَمَا بَعْدَهَا)
غِشُّ وُلَاةِ الْأُمُورِ لِرَعِيَّتِهِمْ:
16- الْمُرَادُ بِأُولِي الْأَمْرِ الْأُمَرَاءُ وَالْحُكَّامُ وَكُلُّ مَنْ تَقَلَّدَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ حَمَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَا يَعُمُّ الْأُمَرَاءَ وَالْعُلَمَاءَ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ غِشِّهِمْ لِلرَّعِيَّةِ أَحَادِيثُ، مِنْهَا، مَا رَوَاهُ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَسْتَرْعِي اللَّهُ عَبْدًا رَعِيَّةً يَمُوتُ حِينَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهَا إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» وَفِي رِوَايَةٍ: «مَا مِنْ وَالٍ يَلِي رَعِيَّةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهُمْ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّاعِيَ وَالْوَالِيَ الْغَاشَّ مَحْرُومٌ مِنَ الْجَنَّةِ أَبَدًا، لَكِنَّ النَّوَوِيَّ قَالَ فِي مَعْنَى: «حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ، وَالثَّانِي: حَرَّمَ عَلَيْهِ دُخُولَهَا مَعَ الْفَائِزِينَ السَّابِقِينَ، وَمَعْنَى التَّحْرِيمِ هُنَا الْمَنْعُ.وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: الْأَوْلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَحِلِّ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الزَّجْرُ وَالتَّغْلِيظُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا وَلاَّهُ عَلَى عِبَادِهِ لِيُدِيمَ لَهُمُ النَّصِيحَةَ- لَا لِيَغُشَّهُمْ- حَتَّى يَمُوتَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا قَلَبَ الْقَضِيَّةَ اسْتَحَقَّ أَنْ يُعَاقَبَ.
وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ قَوْلَهُ: مَعْنَاهُ بَيِّنٌ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ غَشِّ الْمُسْلِمِينَ لِمَنْ قَلَّدَهُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِمْ وَاسْتَرْعَاهُ عَلَيْهِمْ وَنَصَّهُ لِمَصْلَحَتِهِمْ فِي دِينِهِمْ أَوْ دُنْيَاهُمْ، فَإِذَا خَانَ فِيمَا اؤْتُمِنَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْصَحْ فِيمَا قَلَّدَهُ: إِمَّا بِتَضْيِيعِهِ تَعْرِيفَهُمْ مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ دِينِهِمْ وَأَخْذِهِمْ بِهِ، وَإِمَّا بِالْقِيَامِ بِمَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِ شَرَائِعِهِمْ، وَالذَّبِّ عَنْهَا لِكُلِّ مُتَصَدٍّ لِإِدْخَالِهِ دَاخِلَةً فِيهَا أَوْ تَحْرِيفٍ لِمَعَانِيهَا أَوْ إِهْمَالِ حُدُودِهِمْ أَوْ تَضْيِيعِ حُقُوقِهِمْ أَوْ تَرْكِ حِمَايَةِ حَوْزَتِهِمْ وَمُجَاهَدَةِ عَدُوِّهِمْ أَوْ تَرْكِ سِيرَةِ الْعَدْلِ فِيهِمْ فَقَدْ غَشَّهُمْ.
17- وَقَدْ عَدَّ الذَّهَبِيُّ غِشَّ الْوُلَاةِ مِنَ الْكَبَائِرِ وَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ فَاسِقٌ، وَالْفِسْقُ مُنَافٍ لِلْعَدَالَةِ.
وَيَخْتَلِفُ أَثَرُ فِسْقِ الْوُلَاةِ حَسَبَ نَوْعِيَّةِ الْوِلَايَةِ وَمَدَى سُلْطَتِهِمْ عَلَى الرَّعِيَّةِ.
فَفِي الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْعَدَالَةَ، فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْفَاسِقِ، لَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي دَوَامِ الْإِمَامَةِ، فَلَا يَنْعَزِلُ السُّلْطَانُ بِالظُّلْمِ وَالْفِسْقِ وَتَعْطِيلِ الْحُقُوقِ، وَلَا يَجِبُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ وَعْظُهُ وَدَعْوَتُهُ إِلَى الصَّلَاحِ، بَلْ إِنَّ بَعْضَهُمْ قَالُوا بِحُرْمَةِ الْخُرُوجِ عَلَى الْإِمَامِ الْجَائِرِ تَحَرُّزًا عَنِ الْفِتْنَةِ، وَتَقْدِيمًا لِأَخَفِّ الْمَفْسَدَتَيْنِ، إِلاَّ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ إِمَامٌ عَدْلٌ فَيَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ وَإِعَانَةُ ذَلِكَ الْقَائِمِ.
وَتَخْتَلِفُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ فِي سَائِرِ الْوِلَايَاتِ كَالْقَضَاءِ وَالْإِمَارَةِ وَنَحْوِهِمَا حَسَبَ اخْتِلَافِ طَبِيعَتِهَا.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحَاتِ (الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى ف 12) (وَعَزْل) (وَقَضَاء).
الْغِشُّ فِي الْمَشُورَةِ وَالنَّصِيحَةِ:
18- يَنْبَغِي عَلَى الْمُسْتَشَارِ أَنْ يُشِيرَ إِلَى مَا فِيهِ رُشْدُ الْمُسْتَشِيرِ وَخَيْرُهُ، فَإِنْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ صَوَابٍ فَقَدْ غَشَّهُ فِي مَشُورَتِهِ، وَخَانَهُ بِكِتْمَانِ مَصْلَحَتِهِ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنِ اسْتَشَارَهُ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رُشْدٍ فَقَدْ خَانَهُ».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ» أَيِ الَّذِي طُلِبَ مِنْهُ الْمَشُورَةُ وَالرَّأْيُ فِيمَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ أَمِينٌ فِيمَا يُسْأَلُ مِنَ الْأُمُورِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخُونَ الْمُسْتَشِيرَ بِكِتْمَانِ مَصْلَحَتِهِ.
التَّعْزِيرُ عَلَى الْغِشِّ:
19- الْغَاشُّ يُؤَدَّبُ بِالتَّعْزِيرِ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ زَاجِرًا وَمُؤَدِّبًا لَهُ، فَالْمُقَرَّرُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ عُقُوبَةَ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي لَا حَدَّ فِيهَا وَلَا كَفَّارَةَ التَّعْزِيرُ، وَلَا يَمْنَعُ التَّعْزِيرُ عَنِ الْحُكْمِ بِالرَّدِّ وَفَسْخِ الْعَقْدِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْغِشِّ إِذَا تَحَقَّقَتْ شُرُوطُ الرَّدِّ.
وَنَقَلَ الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ رُشْدٍ قَوْلَهُ: مِمَّا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى مَنْ غَشَّ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ أَوْ غَرَّهُ أَوْ دَلَّسَ لَهُ بِعَيْبٍ أَنْ يُؤَدَّبَ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
106-موسوعة الفقه الكويتية (قتل)
قَتْلٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْقَتْلُ فِي اللُّغَةِ: فِعْلٌ يَحْصُلُ بِهِ زُهُوقُ الرُّوحِ يُقَالُ: قَتَلَهُ قَتْلًا: أَزْهَقَ رُوحَهُ، وَالرَّجُلُ قَتِيلٌ وَالْمَرْأَةُ قَتِيلٌ إذَا كَانَ وَصْفًا، فَإِذَا حُذِفَ الْمَوْصُوفُ جُعِلَ اسْمًا وَدَخَلَتِ الْهَاءُ نَحْوُ: رَأَيْتُ قَتِيلَةَ بَنِي فُلَانٍ.
وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ نَقْلًا عَنِ التَّهْذِيبِ يُقَالُ: قَتَلَهُ بِضَرْبٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ سُمٍّ: أَمَاتَهُ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، قَالَ الْبَابَرْتِيُّ: إنَّ الْقَتْلَ فِعْلٌ مِنَ الْعِبَادِ تَزُولُ بِهِ الْحَيَاةُ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْجَرْحُ:
2- الْجَرْحُ بِالْفَتْحِ مَصْدَرُ جَرَحَ يَجْرَحُ جَرْحًا: أَثَرٌ بِالسِّلَاحِ وَنَحْوِهِ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْجَرْحُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْقَتْلِ.
ب- الضَّرْبُ:
3- مِنْ مَعَانِي الضَّرْبِ: الْإِصَابَةُ بِالْيَدِ أَوِ السَّوْطِ أَوِ السَّيْفِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
وَالضَّرْبُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ الْقَتْلِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4- تَجْرِي عَلَى قَتْلِ الْآدَمِيِّ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْخَمْسَةُ:
فَيَكُونُ الْقَتْلُ حَرَامًا كَقَتْلِ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ ظُلْمًا.
وَيَكُونُ وَاجِبًا كَقَتْلِ الْمُرْتَدِّ إذَا لَمْ يَتُبْ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ، وَالزَّانِي الْمُحْصَنِ بَعْدَ ثُبُوتِ الزِّنَا عَلَيْهِ شَرْعًا.
وَيَكُونُ مَكْرُوهًا كَقَتْلِ الْغَازِي قَرِيبَهُ الْكَافِرَ إذَا لَمْ يَسْمَعْهُ يَسُبُّ اللَّهَ أَوْ رَسُولَهُ.
وَيَكُونُ مَنْدُوبًا كَقَتْلِ الْغَازِي قَرِيبَهُ الْكَافِرَ إذَا سَبَّ اللَّهَ أَوْ رَسُولَهُ.
وَيَكُونُ مُبَاحًا: كَقَتْلِ الْإِمَامِ الْأَسِيرَ فَإِنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِ.
قَتْلُ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ:
5- قَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قَتْلَهَا مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الْكُفْرِ بِاَللَّهِ، لِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى صُنْعِ اللَّهِ، وَاعْتِدَاءٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَالْمُجْتَمَعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قِيلَ: وَمَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ».
الْقَتْلُ الْمَشْرُوعُ:
6- الْقَتْلُ الْمَشْرُوعُ هُوَ مَا كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ مِنَ الشَّارِعِ، وَهُوَ الْقَتْلُ بِحَقٍّ، كَقَتْلِ الْحَرْبِيِّ وَالْمُرْتَدِّ وَالزَّانِي الْمُحْصَنِ وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ، وَالْقَتْلِ قِصَاصًا، وَمَنْ شَهَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ سَيْفًا، كَالْبَاغِي، وَهَذَا الْإِذْنُ مِنَ الشَّارِعِ لِلْإِمَامِ لَا لِلْأَفْرَادِ، لِأَنَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الْمَنُوطَةِ بِالْإِمَامِ، لِتُصَانَ مَحَارِمُ اللَّهِ عَنِ الِانْتِهَاكِ، وَتُحْفَظَ حُقُوقُ الْعِبَادِ، وَيُحْفَظَ الدِّينُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلاَّ بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، الْمُفَارِقُ لِدِينِهِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ»، وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ شَهَرَ سَيْفَهُ ثُمَّ وَضَعَهُ فَدَمُهُ هَدَرٌ».
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (رِدَّةٌ ف 4، وَأَهْلُ الْحَرْبِ ف 11، وَقِصَاصٌ، وَحِرَابَةٌ ف 16 وَمَا بَعْدَهَا).
أَقْسَامُ الْقَتْلِ:
7- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ بِحَسَبِ الْقَصْدِ وَعَدَمِهِ يَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
(أ) - قَتْلٌ عَمْدٌ.
(ب) - قَتْلٌ شِبْهُ عَمْدٍ.
(ج) - قَتْلٌ خَطَأٌ.
وَيَزِيدُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى ذَلِكَ مَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ، وَالْقَتْلَ بِسَبَبٍ.
وَيَعْتَبِرُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةَ مَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ وَالْقَتْلَ بِسَبَبٍ قِسْمًا وَاحِدًا، فَالْقَتْلُ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ.
اُنْظُرْ مُصْطَلَحَ (جِنَايَةٌ فِقْرَةُ 6).
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَالْقَتْلُ عِنْدَهُمْ نَوْعَانِ: عَمْدٌ وَخَطَأٌ.
وَتَفْصِيلُ أَقْسَامِ الْقَتْلِ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا (قَتْلٌ عَمْدٌ، وَقَتْلُ شِبْهِ الْعَمْدِ، وَقَتْلٌ خَطَأٌ وَقَتْلٌ بِسَبَبٍ).
قَتْلُ غَيْرِ الْآدَمِيِّ:
8- يَجْرِي فِي قَتْلِ غَيْرِ الْآدَمِيِّ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْخَمْسَةُ:
فَقَدْ يَحْرُمُ كَقَتْلِ الصَّيْدِ الْبَرِّيِّ مِنَ الْمُحْرِمِ، وَلَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ الْبَرِّيِّ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} كَمَا ذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إلَى حُرْمَةِ قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ مِنَ الْمُحْرِمِ وَالْمُحِلِّ، إلاَّ مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْهَا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «هَذَا الْبَلَدُ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ، لَا يُعْضَدُ شَجَرُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ».
وَقَدْ يُسْتَحَبُّ كَقَتْلِ الْفَوَاسِقِ الْخَمْسِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، وَهِيَ: الْحِدَأَةُ، وَالْغُرَابُ الْأَبْقَعُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْحَيَّةُ، لِخَبَرِ عَائِشَة- رضي الله عنها- قَالَتْ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِقَتْلِ خَمْسِ فَوَاسِق فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْفَأْرَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْغُرَابُ، وَالْحُدَيَّا، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» وَكَذَا كُلُّ سَبُعٍ ضَارٍ، كَالْأَسَدِ، وَالنَّمِرِ.
وَقَدْ يُكْرَهُ كَقَتْلِ مَا لَا تَظْهَرُ مِنْهُ مَنْفَعَةٌ وَلَا مَضَرَّةٌ، كَالْقِرْدِ، وَالْهُدْهُدِ، وَالْخُطَّافِ، وَالضُّفْدَعِ، وَالْخُنْفُسَاءِ.
وَقَدْ يَكُونُ جَائِزًا، كَقَتْلِ الْهَوَامِّ لِلْمُحْرِمِ وَالْحَلَالِ، كَالْبُرْغُوثِ، وَالْبَعُوضِ وَالذُّبَابِ وَجَمِيعِ هَوَامِّ الْأَرْضِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ صَيْدًا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُحْرِمِ.
وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَقَتْلِ الْحَيَوَانِ الصَّائِلِ الَّذِي يُهَدِّدُ حَيَاةَ الْإِنْسَانِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِ: (صَيْدٌ ف 10، وَصِيَالٌ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
107-موسوعة الفقه الكويتية (قصاص 1)
قِصَاص -1التَّعْرِيفُ:
1- مِنْ مَعَانِي الْقِصَاصِ فِي اللُّغَةِ: تَتَبُّعُ الْأَثَرِ، يُقَالُ: قَصَصْتُ الْأَثَرَ تَتَبَّعْتُهُ.
وَمِنْ مَعَانِيهِ: الْقَوَدُ، يُقَالُ: أَقَصَّ السُّلْطَانُ فُلَانًا إِقْصَاصًا: قَتَلَهُ قَوَدًا، وَأَقَصَّهُ مِنْ فُلَانٍ: جَرَحَهُ مِثْلَ جَرْحِهِ، وَاسْتَقَصَّهُ: سَأَلَهُ أَنْ يَقُصَّهُ.
قَالَ الْفَيُّومِيُّ: ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْقِصَاصِ فِي قَتْلِ الْقَاتِلِ، وَجُرْحِ الْجَارِحِ وَقَطْعِ الْقَاطِعِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْقِصَاصُ أَنْ يُفْعَلَ بِالْفَاعِلِ الْجَانِي مِثْلُ مَا فَعَلَ
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الثَّأْرُ:
2- الثَّأْرُ فِي اللُّغَةِ: الدَّمُ، وَالطَّلَبُ بِهِ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الثَّأْرِ وَالْقِصَاصِ: أَنَّ الْقِصَاصَ يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى الْجَانِي الْمُكَافِئِ فَلَا يُؤْخَذُ غَيْرُهُ بِجَرِيرَتِهِ، أَمَّا الثَّأْرُ فَلَا يُبَالِي وَلِيُّ الدَّمِ فِي الِانْتِقَامِ مِنَ الْجَانِي أَوْ سِوَاهُ.
ب- الْحَدُّ:
3- الْحَدُّ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ، وَالْحَاجِزُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْبَوَّابُ حَدَّادًا لِلْمَنْعِ مِنَ الدُّخُولِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَجَبَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى.
وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ: أَنَّ كِلَيْهِمَا عُقُوبَةٌ عَلَى جِنَايَةٍ، إِلاَّ أَنَّ الْأَوَّلَ وَجَبَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى غَالِبًا، وَالثَّانِي وَجَبَ حَقًّا لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ أَوْلِيَائِهِ.
(ر: حُدُود ف 1- 2).
ج- الْجِنَايَةُ:
4- الْجِنَايَةُ فِي اللُّغَةِ: الذَّنْبُ وَالْجُرْمُ، وَتَجَنَّى عَلَيْهِ: إِذَا ادَّعَى ذَنْبًا لَمْ يَفْعَلْهُ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: هِيَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ حَلَّ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ.
وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْجِنَايَةِ وَالْقِصَاصِ: السَّبَبِيَّةُ، فَقَدْ تَكُونُ الْجِنَايَةُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ.
د- التَّعْزِيرُ:
5- التَّعْزِيرُ فِي اللُّغَةِ: التَّوْقِيرُ، وَالتَّعْظِيمُ وَالتَّأْدِيبُ، وَمِنْهُ الضَّرْبُ دُونَ الْحَدِّ
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: عُقُوبَةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ وَجَبَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لآِدَمِيٍّ، فِي مَعْصِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ وَلَا كَفَّارَةٌ غَالِبًا.
وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ التَّعْزِيرِ وَالْقِصَاصِ: أَنَّ الْقِصَاصَ مُقَدَّرٌ بِمَا يُسَاوِي الْجِنَايَةَ، وَالتَّعْزِيرُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِذَلِكَ.ثُمَّ إِنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ لِأَوْلِيَائِهِ، أَمَّا التَّعْزِيرُ فَقَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
هـ- الْعُقُوبَةُ:
6- الْعُقُوبَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ مِنْ عَاقَبَ يُعَاقِبُ عِقَابًا وَمُعَاقَبَةً، وَهُوَ أَنْ تُجْزِيَ الرَّجُلَ بِمَا فَعَلَ سُوءًا، وَعَاقَبَهُ بِذَنْبِهِ: إِذَا أَخَذَهُ بِهِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ عَرَّفَهَا ابْنُ عَابِدِينَ بِأَنَّهَا: جَزَاءٌ بِالضَّرْبِ أَوِ الْقَطْعِ أَوِ الرَّجْمِ أَوِ الْقَتْلِ، وَسُمِّيَ بِهَا لِأَنَّهَا تَتْلُو الذَّنْبَ، وَمِنْ تَعَقَّبَهُ: إِذَا تَبِعَهُ.
وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْعُقُوبَةِ وَالْقِصَاصِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، فَالْقِصَاصُ ضَرْبٌ مِنَ الْعُقُوبَةِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْقِصَاصِ الْوُجُوبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ مِنْ مُسْتَحِقِّهِ، وَمُبَاحٌ طَلَبُهُ مِنْ قِبَلِ مُسْتَحِقِّهِ إِذَا اسْتَوْفَى شُرُوطَهُ، فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ، وَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ عَلَيْهِ، وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ، وَالْعَفْوُ أَفْضَلُ، ثُمَّ الصُّلْحُ.
وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ أَوْ عَلَى مَا دُونَهَا.
وَذَلِكَ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى}، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}.وَقَوْلُهُ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ}، وَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُودَى، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ»، وَمَا رَوَاهُ أَنَسٌ- رضي الله عنه- «أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَعَرَضُوا عَلَيْهِمُ الْأَرْشَ فَأَبَوْا، وَطَلَبُوا الْعَفْوَ فَأَبَوْا، فَأَتَوُا النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَمَرَ بِالْقِصَاصِ فَجَاءَ أَخُوهَا أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا.فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ قَالَ: فَعَفَا الْقَوْمُ.ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ»؛ وَلِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ كَالنَّفْسِ فِي الْحَاجَةِ إِلَى حِفْظِهِ بِالْقِصَاصِ، فَكَانَ كَالنَّفْسِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ.
أَسْبَابُ الْقِصَاصِ:
8- أَسْبَابُ الْقِصَاصِ هِيَ: الْقَتْلُ وَالْقَطْعُ وَالْجُرْحُ وَالشِّجَاجُ وَإِزَالَةُ مَعَانِي الْأَعْضَاءِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي: الْقِصَاصُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ:
9- الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ سَبَبُهُ الْقَتْلُ الْعَمْدُ بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ سَوْفَ يَأْتِي تَفْصِيلُهَا.
شُرُوطُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:
10- لِلْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ شُرُوطٌ فِي الْقَاتِلِ، وَالْمَقْتُولِ، وَفِعْلِ الْقَتْلِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ إِلاَّ بِتَوَفُّرِهَا، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الشُّرُوطِ وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الْآخَرِ، كَمَا يَلِي:
أ- التَّكْلِيفُ:
11- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْقَاتِلِ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا، أَيْ عَاقِلًا بَالِغًا عِنْدَ الْقَتْلِ، فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ إِذَا كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا جُنُونًا مُطْبِقًا عِنْدَ الْقَتْلِ.
فَإِذَا قَتَلَهُ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ دَفَعَهُ الْقَاضِي لِلْوَلِيِّ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ اقْتُصَّ مِنْهُ، وَإِنْ جُنَّ قَبْلَ دَفْعِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْقِصَاصُ وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ بَدَلًا مِنْهُ اسْتِحْسَانًا، وَكَذَلِكَ إِذَا جُنَّ قَبْلَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مُخَاطَبًا حَالَةَ الْوُجُوبِ وَذَلِكَ بِالْقَضَاءِ وَيَتِمُّ بِالدَّفْعِ، فَإِذَا جُنَّ قَبْلَ الدَّفْعِ تَمَكَّنَ الْخَلَلُ فِي الْوُجُوبِ فَصَارَ كَمَا لَوْ جُنَّ قَبْلَ الْقَضَاءِ.
فَإِنْ كَانَ يَجِنُّ وَيُفِيقُ، فَإِنْ قَتَلَ فِي إِفَاقَتِهِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ، فَإِنْ جُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ مُطْبِقًا سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ غَيْرَ مُطْبِقٍ قُتِلَ قِصَاصًا بَعْدَ إِفَاقَتِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْتَظَرُ إِلَى حِينِ إِفَاقَتِهِ ثُمَّ يُقْتَصُّ مِنْهُ.
فَإِذَا كَانَ الْقَاتِلُ مَجْنُونًا جُنُونًا مُتَقَطِّعًا، فَإِنْ قَتَلَهُ فِي حَالِ صَحْوِهِ اقْتُصَّ مِنْهُ فِي حَالِ صَحْوِهِ، وَإِنْ قَتَلَهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَتَلَهُ وَهُوَ مَجْنُونٌ جُنُونًا مُطْبِقًا فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ جُنُونُهُ مُتَقَطِّعًا، فَإِنْ قَتَلَهُ حَالَ الْجُنُونِ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ حَالَ الْجُنُونِ وَهُوَ فِيهَا غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَإِنْ قَتَلَهُ حَالَ الْإِفَاقَةِ، أَوْ قَتَلَهُ وَهُوَ عَاقِلٌ ثُمَّ جُنَّ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ، وَيُقْتَصُّ مِنْهُ حَالَ جُنُونِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَتَلَهُ وَهُوَ عَاقِلٌ ثُمَّ جُنَّ لَمْ يَسْقُطِ الْقِصَاصُ عَنْهُ، ثُمَّ يُقْتَصُّ مِنْهُ فِي حَالِ جُنُونِهِ إِنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ بِبَيِّنَةٍ، فَإِنْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ حَتَّى يَصْحُوَ؛ لِاحْتِمَالِ رُجُوعِهِ عَنْ إِقْرَارِهِ.
وَمِثْلُ الْجُنُونِ: النَّوْمُ وَالْإِغْمَاءُ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ، لِلْحَدِيثِ الشَّرِيفِ: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».
أَمَّا السَّكْرَانُ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمَا إِلَى أَنَّهُ إِنْ قَتَلَ وَهُوَ سَكْرَانُ، فَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ بِمُحَرَّمٍ وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ سُكْرُهُ لِعُذْرٍ كَالْإِكْرَاهِ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ مَبْنِيٌّ عَلَى وُقُوعِ طَلَاقِهِ، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ، فَيَكُونُ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ.
ب- عِصْمَةُ الْقَتِيلِ:
12- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَاتِلِ أَنْ يَكُونَ الْقَتِيلُ مَعْصُومَ الدَّمِ، أَوْ مَحْقُونَ الدَّمِ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ.
فَإِذَا كَانَ الْقَتِيلُ مُهْدَرَ الدَّمِ فِي حَقِّ جَمِيعِ النَّاسِ- كَالْحَرْبِيِّ وَالْمُرْتَدِّ- لَمْ يَجِبْ بِقَتْلِهِ قِصَاصٌ مُطْلَقًا.
فَإِذَا كَانَ مُهْدَرَ الدَّمِ فِي حَقِّ بَعْضِ النَّاسِ دُونَ سَائِرِهِمْ، كَالْقَاتِلِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ فِي حَقِّ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ خَاصَّةً، فَإِنْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ قُتِلَ بِهِ قِصَاصًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُهْدَرِ الدَّمِ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ قَتَلَهُ وَلِيُّ الدَّمِ لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ فِي حَقِّهِ.
إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ اشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مَحْقُونَ الدَّمِ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ عَلَى التَّأْبِيدِ كَالْمُسْلِمِ، فَإِنْ كَانَتْ عِصْمَتُهُ مُؤَقَّتَةً كَالْمُسْتَأْمَنِ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ قَاتِلُهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ مَصُونُ الدَّمِ فِي حَالِ أَمَانِهِ فَقَطْ، وَهُوَ مُهْدَرُ الدَّمِ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ، فَلَا قِصَاصَ فِي قَتْلِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَاتِلُهُ مُسْتَأْمَنًا أَيْضًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَيُقْتَلُ بِهِ لِلْمُسَاوَاةِ لَا اسْتِحْسَانًا، وَقِيلَ: لَا يُقْتَلُ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْقِصَاصُ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ؛ لِقِيَامِ الْعِصْمَةِ وَقْتَ الْقَتْلِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْعِصْمَةِ التَّأْبِيدُ، وَعَلَى ذَلِكَ يُقْتَلُ قَاتِلُ الْمُسْتَأْمَنِ، لقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ}.
ج- الْمُكَافَأَةُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ:
13- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ الْمُكَافَأَةُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ فِي أَوْصَافٍ اعْتَبَرُوهَا، فَلَا يُقْتَلُ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى، وَلَكِنْ يُقْتَلُ الْأَدْنَى بِالْأَعْلَى وَبِالْمُسَاوِي.
وَخَالَفَ الْحَنَفِيَّةُ، وَقَالُوا: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ عِنْدَهُمُ الْمُسْلِمُ وَلَا الذِّمِّيُّ بِالْحَرْبِيِّ، لَا لِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ بَلْ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ.
إِلاَّ أَنَّ الْجُمْهُورَ اخْتَلَفُوا فِي الْأَوْصَافِ الَّتِي اعْتَبَرُوهَا لِلْمُكَافَأَةِ.
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ.أَوْ أَنْ يَكُونَ الْقَتِيلُ أَزْيَدَ مِنَ الْقَاتِلِ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ الْقَاتِلُ أَزْيَدَ مِنَ الْقَتِيلِ فِيهِمَا فَلَا قِصَاصَ، فَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْقَصَ مِنَ الْآخَرِ فِي أَحَدِهِمَا، كَانَ نَقْصُ الْكُفْرِ أَكْثَرَ مِنْ نَقْصِ الرِّقِّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ وَلَوْ عَبْدًا بِكَافِرٍ وَلَوْ حُرًّا، وَلَا حُرٌّ بِرَقِيقٍ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ زَائِدَ إِسْلَامٍ، فَيُقْتَلُ حُرٌّ كِتَابِيٌّ بِرَقِيقٍ مُسْلِمٍ كَمَا سَيَأْتِي تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْحُرِّيَّةِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا يُقْتَلُ الْكَافِرُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ مُطْلَقًا عِنْدَهُمْ، كَمَا لَا يُقْتَلُ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ بِالْحُرِّ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالْكَافِرِ مُطْلَقًا، فَإِذَا قَتَلَ مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ عَبْدًا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ، وَإِذَا قَتَلَ حُرٌّ مَنْ نِصْفُهُ عَبْدٌ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ أَيْضًا لِعَدَمِ الْمُكَافَأَةِ.
وَيُقْتَلُ الْعَبْدُ الْقِنُّ بِالْمُكَاتَبِ، وَيُقْتَلُ الْمُكَاتَبُ بِهِ، وَيُقْتَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ- وَالْعَكْسُ- لِأَنَّ الْكُلَّ عَبِيدٌ.
وَيُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ مُطْلَقًا.
وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِلْقَوَدِ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: لَا بُدَّ فِي الْقَوَدِ مِنَ الْمُكَافَأَةِ فِي الْحَالَاتِ الثَّلَاثِ: حَالَةُ الرَّمْيِ وَحَالَةُ الْإِصَابَةِ وَحَالَةُ الْمَوْتِ، وَمَتَى فُقِدَ التَّكَافُؤُ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَبَيَّنَ هُنَا أَنَّهُ فِي الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ الَّذِي فِيهِ مَالٌ إِذَا زَالَتِ الْمُكَافَأَةُ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ، أَوْ عُدِمَتْ قَبْلَ السَّبَبِ وَحَدَثَتْ بَعْدَهُ وَقَبْلَ الْمُسَبَّبِ وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ، كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي ضَمَانِهَا وَقْتَ الْمُسَبَّبِ، وَهُوَ وَقْتُ الْإِصَابَةِ فِي الْجُرْحِ وَوَقْتُ التَّلَفِ فِي الْمَوْتِ، وَلَا يُرَاعَى فِيهِ وَقْتُ السَّبَبِ وَهُوَ الرَّمْيُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَرَجَعَ إِلَيْهِ سَحْنُونٌ خِلَافًا لِأَشْهَبَ.
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مِنِ اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ هُنَا الْقَتْلَ غِيلَةً، وَقَالُوا بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ، قَالَ الدَّرْدِيرُ: إِلاَّ الْغِيلَةَ- بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَهِيَ الْقَتْلُ لِأَخْذِ الْمَالِ- فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ، بَلْ يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَالْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَوَقْتُ الْمُسَاوَاةِ الْمُشْتَرَطِ عِنْدَهُمْ هُوَ وَقْتُ الْقَتْلِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ قَتَلَ كَافِرٌ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ..فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُقْتَصُّ مِنْهُ..لِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ فَكَانَ الِاعْتِبَارُ فِيهَا بِحَالِ وُجُوبِهَا دُونَ حَالِ اسْتِيفَائِهَا كَالْحُدُودِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُقْتَلَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ.
وَيَسْتَوِي عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الْقَتْلُ غِيلَةً وَغَيْرَهُ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَقَتْلُ الْغِيلَةِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ فِي الْقِصَاصِ وَالْعَفْوِ، وَذَلِكَ لِلْوَلِيِّ دُونَ السُّلْطَانِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى اشْتِرَاطِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْقَتِيلِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْأَمَانِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْأَصْلِيَّةِ وَالسِّيَادَةِ، فَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ وَلَوْ زَانِيًا مُحْصَنًا بِذِمِّيٍّ لِخَبَرِ: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ».
وَلِأَنَّهُ لَا يُقَادُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِالْإِجْمَاعِ، فَفِي النَّفْسِ أَوْلَى..وَيُقْتَلُ ذِمِّيٌّ بِهِ أَيِ الْمُسْلِمِ لِشَرَفِهِ عَلَيْهِ، وَيُقْتَلُ أَيْضًا بِذِمِّيٍّ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مِلَّتُهُمَا، وَمُعَاهَدٍ وَمُسْتَأْمَنٍ وَمَجُوسِيٍّ وَعَكْسُهُ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّسْخَ شَمِلَ الْجَمِيعَ.
وَالْأَظْهَرُ: قَتْلُ مُرْتَدٍّ بِذِمِّيٍّ وَمُسْتَأْمَنٍ وَمُعَاهَدٍ سَوَاءٌ عَادَ الْمُرْتَدُّ إِلَى الْإِسْلَامِ أَمْ لَا؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْكُفْرِ، بَلِ الْمُرْتَدُّ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ مُهْدَرُ الدَّمِ.وَالثَّانِي: لَا يُقْتَلُ بِهِ لِبَقَاءِ عُلْقَةِ الْإِسْلَامِ فِي الْمُرْتَدِّ، وَالْأَظْهَرُ أَيْضًا: قَتْلُ مُرْتَدٍّ بِمُرْتَدٍّ لِتَسَاوِيهِمَا، كَمَا لَوْ قَتَلَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيًّا، وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ مُبَاحُ الدَّمِ، لَا ذِمِّيٌّ بِمُرْتَدٍّ فِي الْأَظْهَرِ، وَالثَّانِي يُقْتَلُ بِهِ أَيْضًا، وَيُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ بِالزَّانِي الْمُسْلِمِ الْمُحْصَنِ كَمَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ، وَلَا يُقْتَلُ زَانٍ مُحْصَنٌ بِهِ لِاخْتِصَاصِهِ بِفَضِيلَةِ الْإِسْلَامِ، وَلِخَبَرِ: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ»، وَلَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِمَنْ فِيهِ رِقٌّ وَإِنْ قَلَّ، لقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ}، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُكَاتَبُ وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَعَبْدُهُ وَعَبْدُ غَيْرِهِ.
وَيُقْتَلُ قِنٌّ وَمُدَبَّرٌ وَمُكَاتَبٌ وَأُمُّ وَلَدٍ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَلَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ لِكَافِرٍ وَالْقَاتِلُ لِمُسْلِمٍ لِلتَّسَاوِي فِي الْمِلْكِ، وَاسْتُثْنِيَ الْمُكَاتَبُ إِذَا قَتَلَ عَبْدَهُ لَا يُقْتَلُ بِهِ كَمَا لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِعَبْدِهِ.
وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ لَوْ قَتَلَ مِثْلَهُ أَيْ مُبَعَّضًا، سَوَاءٌ ازْدَادَتْ حُرِّيَّةُ الْقَاتِلِ عَلَى حُرِّيَّةِ الْمَقْتُولِ أَمْ لَا، لَا قِصَاصَ، وَقِيلَ: إِنْ لَمْ تَزِدْ حُرِّيَّةُ الْقَاتِلِ وَجَبَ الْقِصَاصُ، سَوَاءٌ أَتَسَاوَيَا أَمْ كَانَتْ حُرِّيَّةُ الْمَقْتُولِ أَكْثَرَ، أَمَّا إِنْ كَانَتْ حُرِّيَّةُ الْقَاتِلِ أَكْثَرَ فَلَا قِصَاصَ قَطْعًا؛ لِانْتِفَاءِ الْمُسَاوَاةِ.
وَالْفَضِيلَةُ فِي شَخْصٍ لَا تُجْبِرُ النَّقْصَ فِيهِ، فَلَا قِصَاصَ وَاقِعٌ بَيْنَ عَبْدٍ مُسْلِمٍ وَحُرٍّ ذِمِّيٍّ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ، وَالْحُرُّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ، وَلَا تُجْبَرُ فَضِيلَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا نَقِيصَتَهُ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي وَصْفَيِ الْأَصْلِيَّةِ وَالسِّيَادَةِ.
وَالشَّافِعِيَّةُ يَعْتَبِرُونَ الْمُسَاوَاةَ الْمَشْرُوطَةَ فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَقْتَ الْقَتْلِ، وَهُوَ وَقْتُ انْعِقَادِ سَبَبِ الْقِصَاصِ، وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ، الَّذِي قَتَلَ كَافِرًا مُكَافِئًا لَهُ لَمْ يَسْقُطِ الْقِصَاصُ لِتَكَافُئِهِمَا حَالَةَ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعُقُوبَاتِ بِحَالِ الْجِنَايَةِ، وَلَا نَظَرَ لِمَا يَحْدُثُ بَعْدَهَا، وَلِذَلِكَ لَوْ جَرَحَ ذِمِّيٌّ أَوْ نَحْوُهُ ذِمِّيًّا أَوْ نَحْوَهُ وَأَسْلَمَ الْجَارِحُ، ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ بِسِرَايَةِ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ لَا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ فِي الْأَصَحِّ، لِلتَّكَافُؤِ حَالَةَ الْجَرْحِ.
د- أَنْ لَا يَكُونَ الْقَاتِلُ حَرْبِيًّا:
14- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَى الْقَاتِلِ إِذَا كَانَ حَرْبِيًّا، حَتَّى وَلَوْ أَسْلَمَ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ، لِمَا تَوَاتَرَ مِنْ فِعْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَالصَّحَابَةِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ عَدَمِ الْقِصَاصِ مِمَّنْ أَسْلَمَ كَوَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ وَلِعَدَمِ الْتِزَامِهِ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنْ يُقْتَلُ بِمَا هُدِرَ بِهِ دَمُهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ قَتَلَ حَرْبِيٌّ مُسْلِمًا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ قِصَاصًا، وَيُقْتَلُ لِإِهْدَارِ دَمِهِ، فَإِذَا أَسْلَمَ سَقَطَ الْقَتْلُ وَالْقِصَاصُ.
هـ- أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُتَعَمِّدًا الْقَتْلَ:
15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجِبُ فِي غَيْرِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْعَمْدُ قَوَدٌ»، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ مُتَنَاهِيَةٌ فَلَا تَجِبُ إِلاَّ فِي جِنَايَةٍ مُتَنَاهِيَةٍ، وَالْجِنَايَةُ لَا تَتَنَاهَى إِلاَّ بِالْعَمْدِ، وَالْقَتْلُ الْعَمْدُ هُوَ قَصْدُ الْفِعْلِ وَالشَّخْصِ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (قَتْلُ عَمْدٍ ف 1).
و- أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُخْتَارًا:
16- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي إِسْقَاطِ الْقِصَاصِ عَنِ الْمُكْرَهِ، فَإِذَا قَتَلَ غَيْرَهُ مُكْرَهًا لَزِمَهُ الْقِصَاصُ، وَلَزِمَ الْقِصَاصُ الْمُكْرَهَ أَيْضًا وَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْقِصَاصِ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُخْتَارًا اخْتِيَارَ الْإِيثَارِ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى مُكْرَهٍ إِكْرَاهًا مُلْجِئًا اسْتَوْفَى شُرُوطَهُ الْأُخْرَى وَهَلْ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ؟
فِيهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِكْرَاه ف 19).
أَمَّا الْإِكْرَاهُ غَيْرُ الْمُلْجِئِ فَلَا أَثَرَ لَهُ وَيُقْتَصُّ مَعَهُ مِنَ الْقَاتِلِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِكْرَاه ف 19- 24).
ز- أَنْ لَا يَكُونَ الْمَقْتُولُ جُزْءَ الْقَاتِلِ أَوْ مِنْ فُرُوعِهِ:
17- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ مُطْلَقًا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ»؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ سَبَبَ حَيَاتِهِ فَلَا يَكُونُ الْوَلَدُ سَبَبًا فِي مَوْتِهِ، وَفِي حُكْمِ الْوَالِدِ هُنَا كُلُّ الْأُصُولِ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ مَهْمَا بَعُدُوا، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأُمُّ وَالْجَدَّاتُ وَإِنْ عَلَوْنَ مِنَ الْأَبِ كُنَّ أَمْ مِنَ الْأُمِّ، كَمَا يَدْخُلُ الْأَجْدَادُ وَإِنْ عَلَوْا مِنَ الْأَبِ كَانُوا أَوْ مِنَ الْأُمِّ؛ لِشُمُولِ لَفْظِ الْوَالِدِ لَهُمْ جَمِيعًا.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْأُمَّ تُقْتَلُ بِالِابْنِ خِلَافًا لِلْأَبِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا كَالْأَبِ فَلَا تُقْتَلُ بِالِابْنِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْأَبَ إِذَا قَتَلَ ابْنَهُ قُتِلَ بِهِ إِذَا كَانَ قَصَدَ إِزْهَاقَ رُوحِهِ وَاضِحًا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاضِحًا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ، قَالَ الدَّرْدِيرُ: وَضَابِطُهُ أَنْ لَا يَقْصِدَ إِزْهَاقَ رُوحِهِ، فَإِنْ قَصَدَهُ كَأَنْ يَرْمِيَ عُنُقَهُ بِالسَّيْفِ، أَوْ يُضْجِعَهُ فَيَذْبَحَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَالْقِصَاصُ.
وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْوَالِدِ النَّسَبِيِّ، قَالَ الْحَنَابِلَةُ: أَمَّا الْوَالِدُ مِنَ الرَّضَاعِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِوَلَدِهِ مِنَ الرَّضَاعِ لِعَدَمِ الْجُزْئِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ.
ح- أَنْ لَا يَكُونَ الْمَقْتُولُ مَمْلُوكًا لِلْقَاتِلِ:
18- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَتَلَ سَيِّدَهُ قُتِلَ بِهِ، أَمَّا السَّيِّدُ إِذَا قَتَلَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً مَمْلُوكَيْنِ لَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِهِمَا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدِهِ».
وَمِثْلُ الْمَمْلُوكِ هُنَا مَنْ لَهُ فِيهِ شُبْهَةُ مِلْكٍ، أَوْ كَانَ يَمْلِكُ جُزْءًا مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَا قِصَاصَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ بَعْضِ الْقِصَاصِ دُونَ بَعْضٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَجَزِّئٍ.
كَمَا لَا يُقْتَلُ الْمَوْلَى بِمُدَبَّرِهِ، وَأُمِّ وَلَدِهِ، وَمُكَاتَبِهِ؛ لِأَنَّهُمْ مَمَالِيكُهُ حَقِيقَةً.
ط- أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مُبَاشِرًا:
19- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْمُبَاشَرَةِ وَالتَّسَبُّبِ عَلَى سَوَاءٍ، إِذَا تَوَافَرَتْ شُرُوطُ الْقِصَاصِ الْأُخْرَى.
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ مُبَاشَرَةً، فَلَوْ قَتَلَهُ بِالسَّبَبِ كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَوَقَعَ فِيهَا إِنْسَانٌ فَمَاتَ فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْحَافِرِ، وَكَذَلِكَ الشَّاهِدُ إِذَا شَهِدَ بِالْقَتْلِ فَاقْتُصَّ مِنَ الْقَاتِلِ بِشَهَادَتِهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنِ الشَّهَادَةِ، أَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ كَاذِبًا لِثُبُوتِ حَيَاةِ الْمَقْتُولِ، فَإِنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ عِنْدَهُمْ.
ي- أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ قَدْ حَدَثَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ:
20- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، لِإِطْلَاقِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ وَالْأَحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ بَيْنَ دَارٍ وَدَارٍ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ وَلَمْ يُهَاجِرْ إِلَيْنَا فَقَتَلَهُ مُسْلِمٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ مَكَانًا، فَكَانَ كَالْمُحَارِبِ لَا عِصْمَةَ لَهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ تَاجِرَانِ مُسْلِمَانِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَإِنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهِ أَيْضًا.
ك- الْعُدْوَانُ:
21- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجِبُ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عُدْوَانٌ، وَالْعُدْوَانُ يَعْنِي تَجَاوُزَ الْحَدِّ وَالْحَقِّ، فَإِذَا قَتَلَهُ بِحَقٍّ أَوْ بِإِذْنِ الْقَتِيلِ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَاءِ، وَعَلَى ذَلِكَ يُخَرَّجُ الْقَتْلُ قِصَاصًا، أَوْ حَدًّا، أَوْ دِفَاعًا عَنِ النَّفْسِ، أَوْ دِفَاعًا عَنِ الْمَالِ كَقَتْلِ السَّارِقِ وَالْغَاصِبِ، أَوْ تَأْدِيبًا، أَوْ تَطْبِيبًا فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّ الْقَتْلَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ لِعَدَمِ الِاعْتِدَاءِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي (إِذْن ف 39 وَ 58 وَ 60، وَتَأْدِيب ف 11، وَتَطْبِيب ف 7، وَصِيَال ف 6)
ل- أَنْ لَا يَكُونَ وَلِيُّ الدَّمِ فَرْعًا لِلْقَاتِلِ:
22- لَوْ كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ فَرْعًا لِلْقَاتِلِ، كَأَنْ وَرِثَ الْقِصَاصَ عَلَيْهِ، سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ لِلْجُزْئِيَّةِ، لِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْفَرْعُ أَحَدَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ.
م- أَنْ يَكُونَ وَلِيُّ الدَّمِ فِي الْقِصَاصِ مَعْلُومًا:
23- وَهَذَا شَرْطٌ نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، فَإِذَا كَانَ وَلِيُّ الدَّمِ مَجْهُولًا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ وُجُوبٌ لِلِاسْتِيفَاءِ، وَاسْتِيفَاءُ الْمَجْهُولِ مُتَعَذِّرٌ فَتَعَذَّرَ الْإِيجَابُ.
ن- أَنْ لَا يَكُونَ لِلْقَاتِلِ شَرِيكٌ فِي الْقَتْلِ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُ:
24- إِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْ أَحَدِ الْمُشَارِكِينَ فِي الْقَتْلِ لِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ غَيْرِ الْعَفْوِ عَنْهُ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الْجَمِيعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّ الْقَتْلَ وَاحِدٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَغَيَّرَ مُوجِبُهُ بِتَغَيُّرِ الْمُشَارِكِينَ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْقَاتِلِينَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ أَبًا أَوْ مُدَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ..سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الْجَمِيعِ.
أَمَّا إِذَا قَتَلَ اثْنَانِ رَجُلًا، فَعَفَا الْوَلِيُّ عَنْ أَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ عَنِ الثَّانِي بِذَلِكَ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ، وَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ كَالْأَوَّلِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِذَا عَفَا عَنْ أَحَدِهِمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الثَّانِي.
هَذَا مَا دَامَ الْوَلِيُّ الْعَافِي وَاحِدًا، فَإِذَا كَانَ لِلْقَتِيلِ أَوْلِيَاءٌ فَعَفَا أَحَدُهُمْ، سَقَطَ الْقِصَاصُ لِلْبَاقِينَ بِاتِّفَاقِ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَتَجَزَّأُ، فَإِذَا قَتَلَ إِنْسَانٌ رَجُلَيْنِ، فَعَفَا وَلِيُّ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، سَقَطَ حَقُّ الْأَوَّلِ وَبَقِيَ حَقُّ الثَّانِي فِي الْقِصَاصِ عَلَى حَالِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى شَرِيكِ الصَّبِيِّ إِنْ تَمَالآَ عَلَى قَتْلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَالآَ عَلَى قَتْلِهِ وَتَعَمَّدَا قَتْلَهُ، أَوِ الْكَبِيرُ فَقَطْ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى الْكَبِيرِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّ ضَرْبَ الصَّغِيرِ هُوَ الْقَاتِلُ، إِلاَّ أَنْ يَدَّعِيَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ أَنَّهُ مَاتَ بِضَرْبِ الْكَبِيرِ، وَيُقْسِمُونَ عَلَى ذَلِكَ فَيُقْتَلُ الْكَبِيرُ.
وَلَا قِصَاصَ عَلَى شَرِيكِ مُخْطِئٍ أَوْ مَجْنُونٍ، وَهَلْ يُقْتَصُّ مِنْ شَرِيكِ سَبْعٍ، أَوْ جَارِحٍ نَفْسَهُ جُرْحًا يَمُوتُ مِنْهُ غَالِبًا، أَوْ شَرِيكِ حَرْبِيٍّ لَمْ يَتَمَالآَ عَلَى قَتْلِهِ، وَإِلاَّ اقْتُصَّ مِنَ الشَّرِيكِ.أَوْ شَرِيكِ مَرَضٍ، بِأَنْ جَرَحَهُ ثُمَّ مَرِضَ مَرَضًا يَمُوتُ مِنْهُ غَالِبًا ثُمَّ مَاتَ، وَلَمْ يُدْرَ أَمَاتَ مِنَ الْجُرْحِ أَمْ مِنَ الْمَرَضِ؟ قَوْلَانِ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَالرَّاجِحُ فِي شَرِيكِ الْمَرَضِ الْقِصَاصُ، وَفِي غَيْرِهِ لَا يُوجَدُ تَرْجِيحٌ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَالرَّاجِحُ فِي شَرِيكِ الْمَرَضِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْجُرْحِ الْقَسَامَةُ وَيَثْبُتُ الْقَوَدُ فِي الْعَمْدِ، وَكُلُّ الدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَرَضُ قَبْلَ الْجُرْحِ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنَ الْجَارِحِ اتِّفَاقًا، وَقَالَ: وَأَمَّا الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ الْأُوَلُ فَالْقَوْلَانِ فِيهَا عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ كَمَا قَرَّرَهُ شَيْخُنَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ: إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْ شَرِيكٍ مُخْطِئٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ، وَيُقْتَصُّ مِنْ شَرِيكِ مَنِ امْتَنَعَ قَوَدُهُ لِمَعْنًى فِيهِ إِذَا تَعَمَّدَا جَمِيعًا، فَلَا يُقْتَلُ شَرِيكُ مُخْطِئٍ وَشِبْهِ مُخْطِئٍ وَشِبْهِ عَمْدٍ؛ لِأَنَّ الزُّهُوقَ حَصَلَ بِفِعْلَيْنِ أَحَدُهُمَا يُوجِبُهُ وَالْآخَرُ يَنْفِيهِ، فَغَلَبَ الْمُسْقِطُ.
وَيُقْتَلُ شَرِيكُ الْأَبِ فِي قَتْلِ وَلَدِهِ، وَعَلَى الْأَبِ نِصْفُ الدِّيَةِ مُغَلَّظَةً، وَفَارَقَ شَرِيكُ الْأَبِ شَرِيكَ الْمُخْطِئِ بِأَنَّ الْخَطَأَ شُبْهَةٌ فِي فِعْلِ الْخَاطِئِ وَالْفِعْلَانِ مُضَافَانِ إِلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فَأَوْرَثَ شُبْهَةً فِي الْقِصَاصِ كَمَا لَوْ صَدَرَا مِنْ وَاحِدٍ، وَشُبْهَةُ الْأُبُوَّةِ فِي ذَاتِ الْأَبِ لَا فِي ذَاتِ الْفِعْلِ، وَذَاتُ الْأَبِ مُتَمَيِّزَةٌ عَنْ ذَاتِ الْأَجْنَبِيِّ، فَلَا تُورِثُ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا، وَكَانَ أَحَدُ الْجَمَاعَةِ أَبًا لِلْقَتِيلِ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الْأَبِ وَحْدَهُ، وَوَجَبَ عَلَى الْآخَرِينَ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ قَاتِلٌ يَسْتَحِقُّ الْقِصَاصَ مُنْفَرِدًا، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي جَمَاعَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: لَا قِصَاصَ عَلَى الْأَبِ وَلَا عَلَى شُرَكَائِهِ كَالْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ مِنْهُمْ جَمِيعًا، فَلَا يَخْتَلِفُ وَصْفُهُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنِ الْآخَرِ، وَمَا دَامَ قَدْ سَقَطَ عَنْ أَحَدِهِمْ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنِ الْبَاقِينَ.
وَمِثْلُ الْأَبِ هُنَا كُلُّ مَنْ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُ لِمَعْنًى فِيهِ مِنْ غَيْرِ قُصُورٍ فِي السَّبَبِ فَفِيهِ الرِّوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، كَالذِّمِّيِّ مَعَ الْمُسْلِمِ، وَالْحُرِّ مَعَ الْعَبْدِ فِي قَتْلِ الْعَبْدِ، فَإِذَا اشْتَرَكَ فِي الْقَتْلِ صَبِيٌّ وَمَجْنُونٌ وَعَاقِلٌ سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنْهُمْ جَمِيعًا فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْقِصَاصِ عَنِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِمَعْنًى فِي فِعْلِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَقَطْ، وَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ.
قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ:
25- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَوْ تَوَاطَأَ جَمَاعَةٌ عَلَى قَتْلِ وَاحِدٍ مَعْصُومِ الدَّمِ، فَإِنَّ الْجَمْعَ يُقْتَلُونَ بِالْفَرْدِ الَّذِي تَمَّ التَّوَاطُؤُ عَلَى قَتْلِهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- قَتَلَ سَبْعَةً مِنْ صَنْعَاءَ قَتَلُوا رَجُلًا، وَقَالَ: لَوْ تَمَالأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعًا.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَوَاطُؤ ف 7).
وَلِيُّ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ:
26- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَقَعَتْ عَلَيْهِ فَكَانَ الْجَزَاءُ حَقَّهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا عَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِشُرُوطِهِ سَقَطَ الْقِصَاصُ، فَإِذَا مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عَفْوٍ، انْتَقَلَ الْقِصَاصُ إِلَى الْوَرَثَةِ عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَهُمْ، كُلٌّ مِنْهُمْ حَسَبَ حِصَّتِهِ فِي التَّرِكَةِ، يَسْتَوِي فِيهِمُ الْعَاصِبُ وَصَاحِبُ الْفَرْضِ، وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، فَإِذَا مَاتَ مَدِينًا بِدَيْنٍ مُسْتَغْرِقٍ، أَوْ مَاتَ لَا عَنْ تَرِكَةٍ فَالْقِصَاصُ لِوَرَثَتِهِ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَرِثُوا شَيْئًا؛ لِأَنَّ فِيهِمْ قُوَّةَ الْإِرْثِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ زَائِدٌ عَنِ الدَّيْنِ لَوَرِثُوهُ مِنْهُ، فَكَذَلِكَ الْقِصَاصُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْقِصَاصِ هُوَ التَّشَفِّي، وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لِلْمَيِّتِ، وَيَحْصُلُ لِوَرَثَتِهِ، فَكَانَ حَقًّا لَهُمُ ابْتِدَاءً، وَثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْكَمَالِ لَا عَلَى الشَّرِكَةِ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْمَيِّتِ فِيهِ حَقًّا حَتَّى يَسْقُطَ بِعَفْوِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ لِعَصَبَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الذُّكُورِ فَقَطْ، سَوَاءٌ كَانُوا عَصَبَةً بِالنَّسَبِ كَالِابْنِ، أَوْ بِالسَّبَبِ كَالْوَلَاءِ، فَلَا دَخْلَ فِيهِ لِزَوْجٍ وَلَا أَخٍ لأُِمٍّ أَوْ جَدٍّ لأُِمٍّ، يُقَدَّمُ فِيهِ الِابْنُ ثُمَّ ابْنُ الِابْنِ، وَيُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ مِنَ الْعَصَبَاتِ عَلَى الْأَبْعَدِ، إِلاَّ الْجَدُّ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ مَعَ الْإِخْوَةِ بِخِلَافِ الْأَبِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَصَبَةِ هُنَا الْعَصَبَةُ بِنَفْسِهِ لِاشْتِرَاطِ الذُّكُورَةِ فِيهِ، فَلَا يَسْتَحِقُّهُ عَصَبَتُهُ بِغَيْرِهِ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ.
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ يَكُونُ لِلنِّسَاءِ بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُنْ مِنْ وَرَثَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، كَالْبِنْتِ وَالْأُخْتِ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُسَاوِيَهُنَّ عَاصِبٌ، فَإِنْ سَاوَاهُنَّ فَلَا قِصَاصَ لَهُنَّ، كَالْبِنْتِ مَعَ الِابْنِ، وَالْأُخْتِ مَعَ الْأَخِ، فَإِنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمَا فِي الْقِصَاصِ، وَالْحَقُّ فِيهِ لِلِابْنِ وَحْدَهُ، وَلِلْأَخِ وَحْدَهُ.
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الْوَارِثَةُ مِمَّنْ لَوْ ذُكِّرَتْ عُصِّبَتْ، كَالْبِنْتِ وَالْأُخْتِ الشَّقِيقَةِ أَوْ لِأَبٍ، فَأَمَّا الزَّوْجَةُ وَالْجَدَّةُ لأُِمٍّ وَالْأُخْتُ لأُِمٍّ..فَلَا قِصَاصَ لَهُنَّ مُطْلَقًا.
فَإِذَا كَانَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَارِثٌ مِنَ النِّسَاءِ، وَعَصَبَتُهُ مِنَ الرِّجَالِ أَبْعَدُ مِنْهُنَّ، كَانَ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لَهُنَّ وَلِلْعَصَبَةِ الْأَبْعَدِ مِنْهُنَّ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ الْمُنْفَرِدِينَ وَالْمُتَعَدِّدِينَ تَوْكِيلَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (وَكَالَةٌ).
وَلِلْأَبِ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ عَنِ ابْنِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ، أَمَّا غَيْرُ الْأَبِ مِنْ أَوْلِيَاءِ النَّفْسِ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ فَلَهُ ذَلِكَ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.أَمَّا الْوَصِيُّ فَلَيْسَ لَهُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ عَنِ الْقَاصِرِ الْمَشْمُولِ بِوِصَايَتِهِ؛ لِأَنَّ الْوِصَايَةَ عَلَى الْمَالِ فَقَطْ وَلَيْسَ الْقِصَاصُ مِنْهُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ عَمَّنْ يَلِي عَلَيْهِ، أَبًا أَوْ غَيْرَهُ.
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْتُولِ وَارِثٌ وَلَا عَصَبَةٌ، كَانَ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِلسُّلْطَانِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ لِوِلَايَتِهِ الْعَامَّةِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا وِلَايَةَ لِلسُّلْطَانِ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ إِذَا كَانَ الْمَقْتُولُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: حَقُّ الْقِصَاصِ لِلسُّلْطَانِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
108-موسوعة الفقه الكويتية (قلنسوة)
قَلَنْسُوَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْقَلَنْسُوَةُ لُغَةً: مِنْ مَلَابِسِ الرُّءُوسِ.وَالتَّقْلِيسُ: لُبْسُ الْقَلَنْسُوَةِ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَلَنْسُوَةِ مِنْ أَحْكَامٍ:
حُكْمُ الْمَسْحِ عَلَيْهَا فِي الْوُضُوءِ:
2- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ فِي الْوُضُوءِ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ لِعَدَمِ الْحَرَجِ فِي نَزْعِهَا.
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُمْسَحُ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ إِنْ خِيفَ مِنْ نَزْعِهَا ضَرَرٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ عَسُرَ رَفْعُ الْقَلَنْسُوَةِ، أَوْ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ كَمَّلَ بِالْمَسْحِ عَلَيْهَا وَإِنْ لَبِسَهَا عَلَى حَدَثٍ، لِخَبَرِ مُسْلِمٍ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ»، وَسَوَاءٌ أَعَسُرَ عَلَيْهِ تَنْحِيَتُهَا أَمْ لَا
حُكْمُ لُبْسُ الْمُحْرِمِ الْقَلَنْسُوَةَ:
3- يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ لُبْسُ الْقَلَنْسُوَةِ، لِأَنَّ سَتْرَ الرَّأْسِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي الْمُحْرِمِ: لَا يَلْبَسُ الْقُمُصَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْبَرَانِسَ وَلَا الْخِفَافَ إِلاَّ أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَل مِنَ الْكَعْبَيْنِ».
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: (قَوْلُهُ وَلَا الْبَرَانِسَ) قَالَ فِي الصِّحَاحِ الْبُرْنُسُ: قَلَنْسُوَةٌ طَوِيلَةٌ وَكَانَ النُّسَّاكُ يَلْبَسُونَهَا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ.
فَإِنْ لَبِسَ الْمُحْرِمُ الْقَلَنْسُوَةَ لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
حُكْمُ لُبْسِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْقَلَانِسَ:
4- مِنْ أَحْكَامِ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنَّهُمْ يُلْزَمُونَ بِلُبْسٍ يُمَيِّزُهُمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- صَالَحَهُمْ عَلَى تَغْيِيرِ زِيِّهِمْ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَإِذَا لَبِسُوا الْقَلَانِسَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُخَالِفَةً لِلْقَلَانِسِ الَّتِي يَلْبَسُهَا الْمُسْلِمُونَ وَذَلِكَ بِتَمْيِيزِهَا بِعَلَامَةٍ يُعْرَفُونَ بِهَا.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: يُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ لُبْسِ الْقَلَانِسِ الصِّغَارِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ طَوِيلَةً مِنْ كِرْبَاسٍ مَصْبُوغَةً بِالسَّوَادِ مَضْرَبَةً مُبَطَّنَةً وَهَذَا فِي الْعَلَامَةِ أَوْلَى.
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ بِإِلْزَامِهِمْ لُبْسَ الْقَلَانِسِ الطَّوِيلَةِ الْمَضْرَبَةِ وَأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- كَانَ يَأْمُرُ بِذَلِكَ، أَيْ تَكُونُ عَلَامَةً يُعْرَفُونَ بِهَا.
وَقَالَ الشِّيرَازِيُّ: إِنْ لَبِسُوا الْقَلَانِسَ جَعَلُوا.فِيهَا خِرَقًا لِيَتَمَيَّزُوا عَنْ قَلَانِسِ الْمُسْلِمِينَ، لِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ لِعُمَرَ حِينَ صَالَحَ نَصَارَى الشَّامِ فَشَرَطَ أَنْ لَا تَتَشَبَّهَ بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ لِبَاسِهِمْ مِنْ قَلَنْسُوَةٍ وَلَا عِمَامَةٍ.
وَبِمِثْلِ ذَلِكَ قَالَ الْحَنَابِلَةُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُلْزَمُونَ بِلُبْسٍ يُمَيِّزُهُمْ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
109-موسوعة الفقه الكويتية (قيام الليل)
قِيَامُ اللَّيْلِالتَّعْرِيفُ:
1- (الْقِيَامُ فِي اللُّغَةِ: نَقِيضُ الْجُلُوسِ).
وَاللَّيْلُ فِي اللُّغَةِ مِنْ مَغْرِبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ.
وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ: قَضَاءُ اللَّيْلِ وَلَوْ سَاعَةً بِالصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَغْرِقًا لِأَكْثَرِ اللَّيْلِ.
وَيَرَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ يَحْصُلُ بِصَلَاةِ الْعِشَاءِ جَمَاعَةً وَالْعَزْمِ عَلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ جَمَاعَةً، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ».
وَجَاءَ فِي مَرَاقِي الْفَلَاحِ: مَعْنَى الْقِيَامِ أَنْ يَكُونَ مُشْتَغِلًا مُعْظَمَ اللَّيْلِ بِطَاعَةٍ، وَقِيلَ: سَاعَةً مِنْهُ، يَقْرَأُ الْقُرْآنَ أَوْ يَسْمَعُ الْحَدِيثَ أَوْ يُسَبِّحُ أَوْ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
التَّهَجُّدُ:
2- التَّهَجُّدُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْهُجُودِ، وَيُطْلَقُ عَلَى النَّوْمِ وَالسَّهَرِ: يُقَالُ: هَجَدَ: نَامَ بِاللَّيْلِ، فَهُوَ هَاجِدٌ، وَالْجَمْعُ هُجُودٌ، وَهَجَدَ: صَلَّى بِاللَّيْلِ، وَيُقَالُ تَهَجَّدَ: إِذَا نَامَ، وَتَهَجَّدَ إِذَا صَلَّى، فَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِصَلَاةِ اللَّيْلِ: التَّهَجُّدُ.
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: أَنَّ الْهَاجِدَ هُوَ النَّائِمُ، هَجَدَ، هُجُودًا إِذَا نَامَ، وَأَمَّا الْمُتَهَجِّدُ فَهُوَ الْقَائِمُ إِلَى الصَّلَاةِ مِنَ النَّوْمِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ مُتَهَجِّدٌ لِإِلْقَائِهِ الْهُجُودَ عَنْ نَفْسِهِ.
وَقَدْ فَسَّرَتْ عَائِشَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-، وَمُجَاهِدٌ، قوله تعالى: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} بِالْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ مِنَ النَّوْمِ، فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِلتَّهَجُّدِ.
وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ: فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ التَّهَجُّدَ فِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ صَلَاةُ التَّطَوُّعِ فِي اللَّيْلِ بَعْدَ النَّوْمِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو- رضي الله عنه- قَالَ: «يَحْسِبُ أَحَدُكُمْ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يُصَلِّي حَتَّى يُصْبِحَ أَنَّهُ قَدْ تَهَجَّدَ، إِنَّمَا التَّهَجُّدُ: الْمَرْءُ يُصَلِّي الصَّلَاةَ بَعْدَ رَقْدَةٍ»، وَقِيلَ: إِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ مُطْلَقًا.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (تَهَجُّدٌ ف 4- 6).
وَالصِّلَةُ بَيْنَ قِيَامِ اللَّيْلِ وَالتَّهَجُّدِ: أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ أَعَمُّ مِنَ التَّهَجُّدِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
3- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَمَنْدُوبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي فَرْضِيَّتِهِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (اخْتِصَاصٌ ف 4).
كَمَا صَرَّحُوا بِأَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ، قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَقَدْ صَرَّحَتِ الْأَحَادِيثُ بِفَضْلِهِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ، كَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَهُوَ قُرْبَةٌ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الْإِثْمِ».
الْوَقْتُ الْأَفْضَلُ لِقِيَامِ اللَّيْلِ:
4- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ لَا يَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، سَوَاءٌ سَبَقَهُ نَوْمٌ أَوْ لَمْ يَسْبِقْهُ، وَأَنَّ كَوْنَهُ بَعْدَ النَّوْمِ أَفْضَلُ.
وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَفْضَلِ الْأَوْقَاتِ لِقِيَامِ اللَّيْلِ عَلَى أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ مُطْلَقًا السُّدُسُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ مِنَ اللَّيْلِ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو- رضي الله عنهما- «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: أَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ- عليه السلام-، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا».
وَأَمَّا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ اللَّيْلَ نِصْفَيْنِ: أَحَدَهُمَا لِلنَّوْمِ، وَالْآخَرَ لِلْقِيَامِ، فَالنِّصْفُ الْأَخِيرُ أَفْضَلُ، لِقِلَّةِ الْمَعَاصِي فِيهِ غَالِبًا، وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مِنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟».
وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ أَثْلَاثًا، فَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ ثُلُثَيْهِ، فَالثُّلُثُ الْأَوْسَطُ أَفْضَلُ مِنْ طَرَفَيْهِ؛ لِأَنَّ الْغَفْلَةَ فِيهِ أَتَمُّ، وَالْعِبَادَةَ فِيهِ أَثْقَلُ، وَالْمُصَلِّينَ فِيهِ أَقَلُّ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «ذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ مِثْلُ الشَّجَرَةِ الْخَضْرَاءِ فِي وَسَطِ الشَّجَرِ».
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْأَفْضَلَ قِيَامُ ثُلُثِ اللَّيْلِ الْآخِرِ لِمَنْ تَكُونُ عَادَتُهُ الِانْتِبَاهَ آخِرَ اللَّيْلِ، أَمَّا مَنْ كَانَ غَالِبُ حَالِهِ أَنْ لَا يَنْتَبِهَ آخِرَهُ، فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَجْعَلَهُ أَوَّلَ اللَّيْلِ احْتِيَاطًا.
أَمَّا اللَّيْلُ كُلُّهُ، فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ قِيَامِهِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «لَا أَعْلَمُ نَبِيَّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي لَيْلَةٍ، وَلَا صَلَّى لَيْلَةً إِلَى الصُّبْحِ، وَلَا صَامَ شَهْرًا كَامِلًا غَيْرَ رَمَضَانَ».
وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ- رضي الله عنهما-: أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: فَلَا تَفْعَلْ، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنْ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا».
وَاسْتَثْنَوْا لَيَالِيَ مَخْصُوصَةً لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ».
عَدَدُ رَكَعَاتِهِ:
5- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ افْتِتَاحُ قِيَامِ اللَّيْلِ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ فَلْيَفْتَتِحْ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ».
وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: مُنْتَهَى رَكَعَاتِهِ ثَمَانِي رَكَعَاتٍ وَهُوَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَشْرُ رَكَعَاتٍ، أَوِ اثْنَتَا عَشْرَةَ رَكْعَةً.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا حَصْرَ لِعَدَدِ رَكَعَاتِهِ لِخَبَرِ: «الصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَسْتَكْثِرَ فَلْيَسْتَكْثِرْ».
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فِي عَدَدِ رَكَعَاتِ صَلَاتِهِ- صلى الله عليه وسلم- بِاللَّيْلِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً» وَقَالَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: «مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً: يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا» وَفِي لَفْظٍ قَالَتْ: «كَانَتْ صَلَاتُهُ- صلى الله عليه وسلم- فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ بِاللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، مِنْهَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ».
وَفِي كُلِّ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَيْ (تَهَجُّدٌ ف 6، وَصَلَاةُ التَّرَاوِيحِ ف 11).
وَهَلْ يُصَلِّي أَرْبَعًا أَرْبَعًا، أَوْ مَثْنَى مَثْنَى؟
ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ يُصَلِّي مَثْنَى مَثْنَى، احْتِجَاجًا بِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى..»؛ وَلِأَنَّ عَمَلَ الْأُمَّةِ فِي التَّرَاوِيحِ مَثْنَى مَثْنَى، مِنْ لَدُنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُصَلَّى أَرْبَعًا أَرْبَعًا، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- السَّابِقِ.
وَقَالَ الْمَوْصِلِيُّ: صَلَاةُ اللَّيْلِ رَكْعَتَانِ بِتَسْلِيمَةٍ، أَوْ سِتٌّ أَوْ ثَمَانٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ نُقِلَ فِي تَهَجُّدِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ.
تَرْكُ قِيَامِ اللَّيْلِ لِمُعْتَادِهِ:
6- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ تَرْكُ تَهَجُّدٍ اعْتَادَهُ بِلَا عُذْرٍ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو- رضي الله عنهما-: «يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ» فَيَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ الْأَخْذُ مِنَ الْعَمَلِ بِمَا يُطِيقُهُ، وَلِذَا قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ».
وَقَالَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا صَلَّى صَلَاةً دَاوَمَ عَلَيْهَا».
وَقَالَتْ: «كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً» وَقَالَتْ: «كَانَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ».
الِاجْتِمَاعُ لِقِيَامِ اللَّيْلِ:
7- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ جَمَاعَةً وَفُرَادَى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَعَلَ الْأَمْرَيْنِ كِلَيْهِمَا.
وَالْأَفْضَلُ فِي غَيْرِ التَّرَاوِيحِ الْمَنْزِلُ، لِحَدِيثِ: «عَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ».
وَفِي رِوَايَةٍ: «صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي مَسْجِدِي هَذَا إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ».
وَلَكِنْ إِذَا كَانَ فِي بَيْتِهِ مَا يَشْغَلُ بَالَهُ، وَيُقَلِّلُ خُشُوعَهُ، فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي الْمَسْجِدِ فُرَادَى؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْخُشُوعِ أَرْجَحُ. وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى كَرَاهَةِ الْجَمَاعَةِ فِي التَّطَوُّعِ إِذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّدَاعِي، بِأَنْ يَقْتَدِيَ أَرْبَعَةٌ بِوَاحِدٍ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ الْجَمْعُ فِي النَّافِلَةِ غَيْرِ التَّرَاوِيحِ إِنْ كَثُرَتِ الْجَمَاعَةُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَكَانُ الَّذِي أُرِيدَ الْجَمْعُ فِيهِ مُشْتَهِرًا كَالْمَسْجِدِ، أَوْ لَا كَالْبَيْتِ، أَوْ قَلَّتِ الْجَمَاعَةُ وَكَانَ الْمَكَانُ مُشْتَهِرًا، وَذَلِكَ لِخَوْفِ الرِّيَاءِ.
فَإِنْ قَلَّتْ وَكَانَ الْمَكَانُ غَيْرَ مُشْتَهِرٍ فَلَا كَرَاهَةَ، إِلاَّ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي صَرَّحَ الْعُلَمَاءُ بِبِدْعَةِ الْجَمْعِ فِيهَا، كَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَأَوَّلِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَلَيْلَةِ عَاشُورَاءَ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الْكَرَاهَةِ مُطْلَقًا.
قِيَامُ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ:
8- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى نَدْبِ إِحْيَاءِ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ تَخْصِيصُ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ.أَيْ بِصَلَاةٍ لِحَدِيثِ: «لَا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي».
أَمَّا تَخْصِيصُ غَيْرِهَا، سَوَاءٌ كَانَ بِالصَّلَاةِ أَوْ بِغَيْرِهَا، فَلَا يُكْرَهُ.
وَكَذَلِكَ لَا يُكْرَهُ تَخْصِيصُ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ بِغَيْرِ الصَّلَاةِ، كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، أَوِ الذِّكْرِ، أَوِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.
قِيَامُ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ:
9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ قِيَامُ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَامَ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ مُحْتَسِبًا لِلَّهِ لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ».
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْيَاءُ اللَّيْلِ ف 11).
قِيَامُ لَيَالِي رَمَضَانَ:
10- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي سُنِّيَّةِ قِيَامِ لَيَالِي رَمَضَانَ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنَّ التَّرَاوِيحَ هِيَ قِيَامُ رَمَضَانِ، وَلِذَلِكَ فَالْأَفْضَلُ اسْتِيعَابُ أَكْثَرِ اللَّيْلِ بِهَا؛ لِأَنَّهَا قِيَامُ اللَّيْلِ.
قِيَامُ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَالِاجْتِمَاعُ لَهُ:
11- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى نَدْبِ قِيَامِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَقُومُوا لَيْلَهَا، وَصُومُوا نَهَارَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ فِيهَا لِغُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: أَلَا مِنْ مُسْتَغْفِرٍ لِي فَأَغْفِرَ لَهُ، أَلَا مِنْ مُسْتَرْزِقٍ فَأَرْزُقَهُ، أَلَا مُبْتَلًى فَأُعَافِيَهُ..أَلَا كَذَا..أَلَا كَذَا..حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ».
وَالتَّفْصِيلُ فِي (إِحْيَاءُ اللَّيْلِ ف 13).
قِيَامُ لَيَالِي الْعَشْرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ:
12- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ قِيَامُ اللَّيَالِيِ الْعَشْرِ الْأُوَّلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فِيهَا مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، يَعْدِلُ صِيَامُ كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا بِصِيَامِ سَنَةٍ، وَقِيَامُ كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْهَا بِقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ».
قِيَامُ أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ:
13- يَرَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ قِيَامُ أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ؛ لِأَنَّهَا مِنَ اللَّيَالِي الْخَمْسِ الَّتِي لَا يُرَدُّ فِيهَا الدُّعَاءُ، وَهِيَ: لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ، وَأَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَلَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَيْلَتَا الْعِيدِ.
مَا يُسْتَحَبُّ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ:
يُسْتَحَبُّ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ مَا يَلِي:
أ- الِافْتِتَاحُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ:
14- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِقَائِمِ اللَّيْلِ أَنْ يَفْتَتِحَ تَهَجُّدَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ فَلْيَفْتَتِحْ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ»، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: «لأَرْمُقَنَّ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- اللَّيْلَةَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ..» الْحَدِيثَ.
ب- مَا يَقُولُهُ الْقَائِمُ لِلتَّهَجُّدِ:
15- اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَقُولُهُ قَائِمُ اللَّيْلِ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ، تَبَعًا لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.
فَقَالَ سُلَيْمَانُ الْجَمَلُ: إِنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَمْسَحَ الْمُسْتَيْقِظُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَأَنْ يَنْظُرَ إِلَى السَّمَاءِ وَلَوْ أَعْمَى وَتَحْتَ سَقْفٍ، وَأَنْ يَقْرَأَ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ.
وَعَنْ عُبَادَةَ- رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَعَارَّ اسْتَيْقَظَ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، أَوْ دَعَا، اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلَاتُهُ».
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ، قَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ- صلى الله عليه وسلم- حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَوْ لَا إِلَهَ غَيْرُكَ» وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: «وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ».
ج- كَيْفِيَّةُ الْقِرَاءَةِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ:
16- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ قَائِمَ اللَّيْلِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ وَالْإِسْرَارِ بِهَا، غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: إِنَّ الْجَهْرَ أَفْضَلُ مَا لَمْ يُؤْذِ نَائِمًا وَنَحْوَهُ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ الْجَهْرُ أَنْشَطَ لَهُ فِي الْقِرَاءَةِ، أَوْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يَسْتَمِعُ قِرَاءَتَهُ، أَوْ يَنْتَفِعُ بِهَا، فَالْجَهْرُ أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ مَنْ يَتَهَجَّدُ، أَوْ مَنْ يَسْتَضِرُّ بِرَفْعِ صَوْتِهِ، فَالْإِسْرَارُ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا فَلْيَفْعَلْ مَا شَاءَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَيْسٍ: «سَأَلْتُ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-، كَيْفَ كَانَ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-؟ فَقَالَتْ: كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ يَفْعَلُ، رُبَّمَا أَسَرَّ بِالْقِرَاءَةِ، وَرُبَّمَا جَهَرَ» وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-: «كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي اللَّيْلِ يَرْفَعُ طَوْرًا وَيَخْفِضُ طَوْرًا».
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يُنْدَبُ الْجَهْرُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ مَا لَمْ يُشَوِّشْ عَلَى مُصَلٍّ آخَرَ، وَإِلاَّ حَرُمَ، وَالسِّرُّ فِيهَا خِلَافُ الْأَوْلَى.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ التَّوَسُّطُ بَيْنَ الْإِسْرَارِ وَالْجَهْرِ إِنْ لَمْ يُشَوِّشْ عَلَى نَائِمٍ أَوْ مُصَلٍّ أَوْ نَحْوِهِمَا.
د- إِيقَاظُ مِنْ يُرْجَى تَهَجُّدُهُ:
17- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَامَ يَتَهَجَّدُ أَنْ يُوقِظَ مَنْ يَطْمَعُ فِي تَهَجُّدِهِ إِذَا لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنِ اسْتَيْقَظَ مِنَ اللَّيْلِ وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ جَمِيعًا كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ».
هـ- إِطَالَةُ الْقِيَامِ وَتَكْثِيرُ الرَّكَعَاتِ:
18- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ فِي قَوْلٍ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ طُولَ الْقِيَامِ أَفْضَلُ مِنْ كَثْرَةِ الْعَدَدِ، فَمَنْ صَلَّى أَرْبَعًا مَثَلًا وَطَوَّلَ الْقِيَامَ أَفْضَلُ مِمَّنْ صَلَّى ثَمَانِيًا وَلَمْ يُطَوِّلْهُ، لِلْمَشَقَّةِ الْحَاصِلَةِ بِطُولِ الْقِيَامِ، وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ» وَالْقُنُوتُ: الْقِيَامُ.
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ أَكْثَرُ صَلَاتِهِ التَّهَجُّدَ، وَكَانَ يُطِيلُهُ، وَهُوَ- صلى الله عليه وسلم- لَا يُدَاوِمُ إِلاَّ عَلَى الْأَفْضَلِ. وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ قَوْلَهُمْ: هَذَا إِنْ صَلَّى قَائِمًا، فَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَالْأَقْرَبُ أَنَّ كَثْرَةَ الْعَدَدِ أَفْضَلُ، لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْقُعُودِ الَّذِي لَا مَشَقَّةَ فِيهِ، حَيْثُ زَادَتْ كَثْرَةُ الْعَدَدِ بِالرُّكُوعَاتِ وَالسُّجُودَاتِ وَغَيْرِهَا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وِرْدٌ فَطُولُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ لَهُ وِرْدٌ مِنَ الْقُرْآنِ يَقْرَؤُهُ، فَكَثْرَةُ السُّجُودِ أَفْضَلُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ كَثْرَةُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ، فَإِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلاَّ رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً»؛ وَلِأَنَّ السُّجُودَ فِي نَفْسِهِ أَفْضَلُ وَآكَدُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ، وَلَا يُبَاحُ بِحَالٍ إِلاَّ لِلَّهِ تَعَالَى، بِخِلَافِ الْقِيَامِ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ فِي النَّفْلِ، وَيُبَاحُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ لِلْوَالِدَيْنِ، وَالْحَاكِمِ، وَسَيِّدِ الْقَوْمِ وَالِاسْتِكْثَارُ مِمَّا هُوَ آكَدُ وَأَفْضَلُ أَوْلَى.
وَلِلْحَنَابِلَةِ وَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ، لِتَعَارُضِ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ. و- نِيَّةُ قِيَامِ اللَّيْلِ عِنْدَ النَّوْمِ:
19- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُنْدَبُ أَنْ يَنْوِيَ الشَّخْصُ قِيَامَ اللَّيْلِ عِنْدَ النَّوْمِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ».
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
110-موسوعة الفقه الكويتية (قيم)
قَيِّمٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْقَيِّمُ فِي اللُّغَةِ: مَنْ قَامَ بِالْأَمْرِ قِيَامًا وَقَوْمًا: اهْتَمَّ بِهِ بِالرِّعَايَةِ وَالْحِفْظِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} وَالْقَوَّامُ اسْمٌ لِمَنْ يَكُونُ مُبَالِغًا فِي الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ، وَقَيِّمُ الْيَتِيمِ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِأَمْرِهِ، وَيَتَعَهَّدُ شُئُونَهُ بِالرِّعَايَةِ وَالْحِفْظِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ مَنْ يُعَيِّنُهُ الْحَاكِمُ لِتَنْفِيذِ وَصَايَا مَنْ لَمْ يُوصِ مُعَيَّنًا لِتَنْفِيذِ وَصِيَّتِهِ، وَالْقِيَامِ بِأَمْرِ الْمَحْجُورِينَ مِنْ أَوْلَادِهِ مِنْ أَطْفَالٍ، وَمَجَانِينَ وَسُفَهَاءَ، وَحِفْظِ أَمْوَالِ الْمَفْقُودِينَ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُمْ وَكِيلٌ.
وَيُسَمِّيهِ الْمَالِكِيَّةُ: مُقَدَّمَ الْقَاضِي أَوْ نَائِبَ الْقَاضِي الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْوَصِيُّ:
2- الْوَصِيُّ هُوَ مَنْ يَعْهَدُ إِلَيْهِ الْأَبُ أَوِ الْجَدُّ أَوِ الْقَاضِي بِالتَّصَرُّفِ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ أَوِ الْجَدِّ فِيمَا كَانَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ فِي حَيَاتِهِ مِنْ شُئُونِهِ: كَقَضَاءِ دُيُونِهِ وَاقْتِضَائِهَا، وَرَدِّ الْمَظَالِمِ وَالْوَدَائِعِ، وَاسْتِرْدَادِهَا، وَتَنْفِيذِ وَصَايَاهُ وَالْوِلَايَةِ عَلَى أَوْلَادِهِ الَّذِينَ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَطْفَالٍ وَمَجَانِينَ وَسُفَهَاءَ، وَالنَّظَرِ فِي أَمْوَالِهِمْ، بِحِفْظِهَا وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا بِمَا لَهُمْ فِيهِ الْحَظُّ.
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْوَصِيَّ أَعَمُّ مِنَ الْقَيِّمِ.
ب- الْوَكِيلُ:
3- الْوَكِيلُ هُوَ مَنْ يَقُومُ بِشُئُونِ الْغَيْرِ بِتَفْوِيضٍ مِنْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَالْوَكِيلُ يُنَصِّبُهُ الشَّخْصُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَالْقَيِّمُ يُنَصِّبُهُ الْقَاضِي.الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقَيِّمِ:
يَتَعَلَّقُ بِالْقَيِّمِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
تَرْتِيبُهُ فِي وِلَايَةِ الْمَحْجُورِينَ:
4- وِلَايَةُ الْقَيِّمِ، بَعْدَ وِلَايَةِ الْأَبِ، وَالْجَدِّ، وَوَصِيِّهِمَا وَوَصِيِّ وَصِيِّهِمَا مُطْلَقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهُ الْوَلِيُّ مِنَ الْإِيصَاءِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ فِي الْإِيصَاءِ فِي الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّهُ: يَسْتَفِيدُهَا مِنَ الْقَاضِي، وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ هَؤُلَاءِ لِخَبَرِ: «السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ»؛ وَلِأَنَّ الْأُبُوَّةَ دَاعِيَةٌ إِلَى كَمَالِ النَّظَرِ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ لِوُفُورِ شَفَقَةِ الْأَبِ، وَوَصِيُّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّهُ اخْتَارَهُ وَرَضِيَهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَا اخْتَارَهُ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ إِلاَّ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ شَفَقَتَهُ عَلَى وَرَثَتِهِ مِثْلُ شَفَقَتِهِ عَلَيْهِمْ وَكَذَا الْجَدُّ، وَوَصِيُّهُ؛ وَلِأَنَّ شَفَقَةَ الْأَبِ وَالْجَدِّ تَنْشَأُ عَنِ الْقَرَابَةِ، وَوَصِيُّهُمَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا، بِخِلَافِ الْقَاضِي وَوَصِيِّهِ، فَإِنَّهَا تَنْشَأُ لِكَوْنِهِ مَظِنَّةَ الْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ وَالتَّقْوَى فَتَأَخَّرَتْ وِلَايَتُهُ عَنْ وِلَايَتِهِمَا، وَوَصِيُّهُ نَائِبٌ عَنْهُ.
تَصَرُّفَاتُ الْقَيِّمِ:
5- الْقَيِّمُ كَوَصِيِّ الْمَيِّتِ فِي التَّصَرُّفَاتِ إِلاَّ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ ذَكَرَهَا الْحَنَفِيَّةُ، وَخَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ فِي مُعْظَمِهَا.
الْأُولَى: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَيِّمِ الشِّرَاءُ لِنَفْسِهِ وَلَا أَنْ يَبِيعَ مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، بِخِلَافِ وَصِيِّ الْأَصْلِ فَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ فِيهِ لِلْمَحْجُورِ غِبْطَةٌ ظَاهِرَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَشْتَرِي الْوَصِيُّ مُطْلَقًا مِنَ التَّرِكَةِ عَلَى جِهَةِ الْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ عَلَى الْمُحَابَاةِ فَإِنِ اشْتَرَى شَيْئًا مِنَ التَّرِكَةِ تَعَقَّبَهُ الْحَاكِمُ بِالنَّظَرِ فِي الْمَصْلَحَةِ فَإِنْ كَانَ صَوَابًا أَمْضَاهُ وَإِلاَّ رَدَّهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ لِلْوَصِيِّ بَيْعُ مَالِ الْمُوصَى عَلَيْهِ لِنَفْسِهِ وَلَا بَيْعُ مَالِ نَفْسِهِ لَهُ، وَالْقَاضِي وَأَمِينُهُ كَالْوَصِيِّ، وَالْمَجْنُونُ وَالسَّفِيهُ كَالطِّفْلِ أَمَّا الْأَبُ وَالْجَدُّ فَلَهُمَا ذَلِكَ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَصِحُّ أَنْ يَبِيعَ وَلِيُّ صَغِيرٍ وَسَفِيهٍ وَمَجْنُونٍ مِنْ مَالِ مُوَلِّيهِ لِنَفْسِهِ أَوْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ التُّهْمَةِ أَمَّا الْأَبُ فَلَهُ ذَلِكَ.
الثَّانِيَةُ: إِذَا خَصَّصَ الْقَاضِي وِلَايَةَ الْقَيِّمِ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ تَخَصَّصَ بِهِ فَلَا يُجَاوِزُهُ، بِخِلَافِ وَصِيِّ الْأَصْلِ.
وَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: لَيْسَ لِلْوَصِيِّ مُطْلَقًا أَنْ يَتَجَاوَزَ مَا خَصَّصَ لَهُ الْمُوصِي فِي التَّصَرُّفَاتِ وَلَا يَكُونُ وَصِيًّا فِي غَيْرِ مَا خَصَّصَ لَهُ الْمُوصِي؛ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ التَّصَرُّفَ بِإِذْنِ الْمُوصِي فَكَانَ مَقْصُورًا عَلَى مَا أَذِنَ لَهُ.
الثَّالِثَةُ: جَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ لَا يَجُوزُ لِلْقَيِّمِ أَنْ يُؤَجِّرَ الصَّغِيرَ لِعَمَلٍ مَا، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَثْنَى تَسْلِيمُهُ فِي حِرْفَةٍ.وَفِي أَدَبِ الْأَوْصِيَاءِ: لِلْوَصِيِّ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَ الْيَتِيمِ وَعَقَارَاتِهِ وَسَائِرَ أَمْوَالِهِ وَلَوْ بِيَسِيرِ الْغَبْنِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ وَلِلْحَاكِمِ أَوْ مَنْ يُقِيمُهُ أَنْ يَبِيعَ مَا تَدْعُو الضَّرُورَةُ لِبَيْعِهِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّسَوُّقُ بِالْمَبِيعِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يُجْبِرُ الْقَاضِي الصَّبِيَّ وَالسَّفِيهَ عَلَى الِاكْتِسَابِ إِنْ كَانَ لَهُمَا كَسْبٌ لِيَرْتَفِقَا بِهِ فِي النَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا.
الرَّابِعَةُ: لَيْسَ لِلْقَاضِي عَزْلُ وَصِيِّ الْأَصْلِ إِنْ ضَعُفَ عَنِ الْكِفَايَةِ، بَلْ يَضُمُّ إِلَيْهِ مَنْ يُعِينُهُ، فَمَنْصُوبُ الْأَصْلِ يُحْتَفَظُ بِهِ مَا أَمْكَنَ وَلَا يُعْزَلُ عَنِ التَّصَرُّفِ، وَلَهُ عَزْلُ الْقَيِّمِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَلاَّهُ.
الْخَامِسَةُ: لَا يَمْلِكُ الْقَيِّمُ الْقَبْضَ إِلاَّ بِإِذْنٍ مُبْتَدَأٍ مِنَ الْقَاضِي بَعْدَ الْإِيصَاءِ، بِخِلَافِ وَصِيِّ الْأَصْلِ.
السَّادِسَةُ: لِلْقَاضِي نَهْيُ الْقَيِّمِ عَنْ بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ وَلَيْسَ لَهُ نَهْيُ وَصِيِّ الْمَيِّتِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: يَسْتَوِيَانِ فِي امْتِنَاعِ مَا مَنَعَ مِنْهُمَا.
(ر: وَصِيٌّ).
السَّابِعَةُ: لَيْسَ لِلْقَيِّمِ نَصْبُ وَصِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ وَإِذَا فَعَلَ لَا يَصِيرُ الثَّانِي وَصِيًّا، بِخِلَافِ وَصِيِّ الْأَصْلِ، هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يَكُونُ وَصِيُّ وَصِيِّ الْأَصْلِ وَصِيًّا إِلاَّ إِذَا أَذِنَ الْأَصْلُ فِي حَيَاتِهِ لِوَصِيِّهِ بِذَلِكَ.
(ر: وَصِيٌّ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
111-موسوعة الفقه الكويتية (كفاءة 1)
كَفَاءَةٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الْكَفَاءَةُ لُغَةً: الْمُمَاثَلَةُ وَالْمُسَاوَاةُ، يُقَالُ: كَافَأَ فُلَانٌ فُلَانًا مُكَافَأَةً وَكِفَاءً وَهَذَا كِفَاءُ هَذَا وَكُفْؤُهُ: أَيْ مِثْلُهُ، يَكُونُ هَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَفُلَانٌ كُفْءُ فُلَانَةَ: إِذَا كَانَ يَصْلُحُ بَعْلًا لَهَا، وَالْجَمْعُ أَكْفَاءٌ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: يَخْتَلِفُ تَعْرِيفُ الْكَفَاءَةِ بِاخْتِلَافِ مَوْطِنِ بَحْثِهَا: فِي الْقِصَاصِ، أَوِ الْمُبَارَزَةِ، أَوِ النِّكَاحِ.
فَفِي النِّكَاحِ: عَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهَا مُسَاوَاةٌ مَخْصُوصَةٌ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ.
وَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنَّهَا الْمُمَاثَلَةُ وَالْمُقَارَبَةُ فِي التَّدَيُّنِ وَالْحَالِ، أَيِ السَّلَامَةُ مِنَ الْعُيُوبِ الْمُوجِبَةِ لِلْخِيَارِ.
وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهَا أَمْرٌ يُوجِبُ عَدَمُهُ عَارًا.
وَعَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ: بِأَنَّهَا الْمُمَاثَلَةُ وَالْمُسَاوَاةُ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ
أَمَّا فِي الْقِصَاصِ، فَقَدْ عَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ: بِأَنَّهَا مُسَاوَاةُ الْقَاتِلِ الْقَتِيلَ بِأَنْ لَا يَفْضُلَهُ بِإِسْلَامٍ أَوْ أَمَانٍ أَوْ حُرِّيَّةٍ أَوْ أَصْلِيَّةٍ أَوْ سِيَادَةٍ.
وَفِي الْمُبَارَزَةِ عَرَّفَهَا الْحَنَابِلَةُ: بِأَنْ يَعْلَمَ الشَّخْصُ الَّذِي يَخْرُجُ لَهَا مِنْ نَفْسِهِ الْقُوَّةَ وَالشَّجَاعَةَ، وَأَنَّهُ لَنْ يَعْجِزَ عَنْ مُقَاوَمَةِ خَصْمِهِ.
حُكْمُ الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ:
2- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ لِاعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ اعْتِبَارُهَا فَيَجِبُ تَزْوِيجُ الْمَرْأَةِ مِنَ الْأَكْفَاءِ، وَيَحْرُمُ عَلَى وَلِيِّ الْمَرْأَةِ تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ.
وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْكَفَاءَةَ تُعْتَبَرُ فِي جَانِبِ الرِّجَالِ لِلنِّسَاءِ، وَلَا تُعْتَبَرُ فِي جَانِبِ النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ وَرَدَتْ بِاعْتِبَارِهَا فِي جَانِبِ الرِّجَالِ خَاصَّةً، فَإِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَا مُكَافِئَ لَهُ، وَقَدْ تَزَوَّجَ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، وَتَزَوَّجَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ- رضي الله عنها-، وَقَالَ: «ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: الرَّجُلُ تَكُونُ لَهُ الْأَمَةُ فَيُعَلِّمُهَا فَيُحْسِنُ تَعْلِيمَهَا، وَيُؤَدِّبُهَا فَيُحْسِنُ تَأْدِيبَهَا، فَيَتَزَوَّجُهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ»؛ وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي شُرِعَتِ الْكَفَاءَةُ مِنْ أَجْلِهِ يُوجِبُ اخْتِصَاصَ اعْتِبَارِهَا بِجَانِبِ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ هِيَ الَّتِي تَسْتَنْكِفُ لَا الرَّجُلُ، فَهِيَ الْمُسْتَفْرَشَةُ، وَالزَّوْجُ هُوَ الْمُسْتَفْرِشُ، فَلَا تَلْحَقُهُ الْأَنَفَةُ مِنْ قِبَلِهَا، إِذْ إِنَّ الشَّرِيفَةَ تَأْبَى أَنْ تَكُونَ فِرَاشًا لِلدَّنِيِّ، وَالزَّوْجُ الْمُسْتَفْرِشُ لَا تَغِيظُهُ دَنَاءَةُ الْفِرَاشِ، وَكَذَلِكَ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَشْرُفُ بِشَرَفِ أَبِيهِ لَا بِأُمِّهِ.
وَنُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْكَفَاءَةَ فِي جَانِبِ النِّسَاءِ مُعْتَبَرَةٌ.
قَالَ الْكَمَالُ: مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ وُجُوبُ إِنْكَاحِ الْأَكْفَاءِ، وَهَذَا الْوُجُوبُ يَتَعَلَّقُ بِالْأَوْلِيَاءِ حَقًّا لَهَا، وَبِهَا حَقًّا لَهُمْ لَكِنْ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ الْمَعْصِيَةُ فِي حَقِّهِمْ إِذَا كَانَتْ صَغِيرَةً؛ لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ كَبِيرَةً لَا يَنْفُذُ عَلَيْهَا تَزْوِيجُهُمْ إِلاَّ بِرِضَاهَا، فَهِيَ تَارِكَةٌ لِحَقِّهَا، كَمَا إِذَا رَضِيَ الْوَلِيُّ بِتَرْكِ حَقِّهِ حَيْثُ يَنْفُذُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ عَلَى وَلِيِّ الْمَرْأَةِ تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ بِغَيْرِ رِضَاهَا لِأَنَّهُ إِضْرَارٌ بِهَا وَإِدْخَالٌ لِلْعَارِ عَلَيْهَا، وَيَفْسُقُ الْوَلِيُّ بِتَزْوِيجِهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ دُونَ رِضَاهَا، وَذَلِكَ إِنْ تَعَمَّدَهُ.
وَاخْتَلَفَ الرَّأْيُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
فَقَالَ خَلِيلٌ: لِلْمَرْأَةِ وَلِلْوَلِيِّ تَرْكُهَا.أَيِ الْكَفَاءَةِ.
وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: لَهُمَا مَعًا تَرْكُهَا وَتَزْوِيجُهَا مِنْ فَاسِقٍ سِكِّيرٍ يُؤْمَنُ عَلَيْهَا مِنْهُ، وَإِلاَّ رَدَّهُ الْإِمَامُ وَإِنْ رَضِيَتْ، لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى؛ حِفْظًا لِلنُّفُوسِ وَكَذَا تَزْوِيجُهَا مِنْ مَعِيبٍ، لَكِنَّ السَّلَامَةَ مِنَ الْعُيُوبِ حَقٌّ لِلْمَرْأَةِ فَقَطْ، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ فِيهِ كَلَامٌ.
وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: حَاصِلُ مَا فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ ظَاهِرَ مَا نَقَلَهُ الْحَطَّابُ وَغَيْرُهُ وَاسْتَظْهَرَهُ الشَّيْخُ ابْنُ رَحَّالٍ مَنْعُ تَزْوِيجِهَا مِنَ الْفَاسِقِ ابْتِدَاءً وَإِنْ كَانَ يُؤْمَنُ عَلَيْهَا مِنْهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا وَلَا لِلْوَلِيِّ الرِّضَا بِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ مُخَالَطَةَ الْفَاسِقِ مَمْنُوعَةٌ، وَهَجْرُهُ وَاجِبٌ شَرْعًا، فَكَيْفَ بِخُلْطَةِ النِّكَاحِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُكْرَهُ التَّزْوِيجُ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ عِنْدَ الرِّضَا إِلاَّ لِمَصْلَحَةٍ.
وَقَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: يُكْرَهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً التَّزْوِيجُ مِنْ فَاسِقٍ إِلاَّ رِيبَةً تَنْشَأُ مِنْ عَدَمِ تَزْوِيجِهَا لَهُ، كَأَنْ خِيفَ زِنَاهُ بِهَا لَوْ لَمْ يَنْكِحْهَا، أَوْ يُسَلِّطُ فَاجِرًا عَلَيْهَا.
3- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ- كَذَلِكَ- فِي حُكْمِ الْكَفَاءَةِ مِنْ حَيْثُ اعْتِبَارُهَا فِي النِّكَاحِ أَوْ عَدَمُ اعْتِبَارِهَا، وَهَلْ هِيَ- فِي حَالِ اعْتِبَارِهَا- شَرْطٌ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ أَمْ فِي لُزُومِهِ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَفِيَّةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِي شَهَرَهُ الْفَاكِهَانِيُّ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ أَكْثَرِ مُتَأَخِّرِي الْحَنَابِلَةِ وَالْأَصَحُّ كَمَا قَالَ فِي الْمُقْنِعِ وَالشَّرْحِ، إِلَى أَنَّ الْكَفَاءَةَ تُعْتَبَرُ لِلُزُومِ النِّكَاحِ لَا لِصِحَّتِهِ غَالِبًا، فَيَصِحُّ النِّكَاحُ مَعَ فَقْدِهَا؛ لِأَنَّهَا حَقٌّ لِلْمَرْأَةِ وَلِلْأَوْلِيَاءِ، فَإِنْ رَضُوا بِإِسْقَاطِهَا فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَابْنِ سِيرِينَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- زَوَّجَ بَنَاتِهِ وَلَا أَحَدَ يُكَافِئُهُ، وَبِأَنَّهُ «- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ وَهِيَ قُرَشِيَّةٌ أَنْ تَنْكِحَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ مَوْلَاهُ، فَنَكَحَهَا بِأَمْرِهِ»، وَزَوَّجَ- صلى الله عليه وسلم- زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ابْنَةَ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةَ وَبِأَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ تَبَنَّى سَالِمًا وَأَنْكَحَهُ ابْنَةَ أَخِيهِ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَهُوَ مَوْلَى لِامْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَبِأَنَّ الْكَفَاءَةَ لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا حَقًّا لِلْمَرْأَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ وُجُودُهَا.
وَوَجْهُ اعْتِبَارِهَا عِنْدَهُمْ، أَنَّ انْتِظَامَ الْمَصَالِحِ يَكُونُ عَادَةً بَيْنَ الْمُتَكَافِئَيْنِ، وَالنِّكَاحُ شُرِعَ لِانْتِظَامِهَا، وَلَا تَنْتَظِمُ الْمَصَالِحُ بَيْنَ غَيْرِ الْمُتَكَافِئَيْنِ، فَالشَّرِيفَةُ تَأْبَى أَنْ تَكُونَ مُسْتَفْرَشَةً لِلْخَسِيسِ، وَتُعَيَّرُ بِذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ وُضِعَ لِتَأْسِيسِ الْقَرَابَاتِ الصِّهْرِيَّةِ، لِيَصِيرَ الْبَعِيدُ قَرِيبًا عَضُدًا وَسَاعِدًا، يَسُرُّهُ مَا يَسُرُّكَ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِالْمُوَافَقَةِ وَالتَّقَارُبِ، وَلَا مُقَارِبَةَ لِلنُّفُوسِ عِنْدَ مُبَاعَدَةِ الْأَنْسَابِ، وَالِاتِّصَافِ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَعَقْدُهُ مَعَ غَيْرِ الْمُكَافِئِ قَرِيبُ الشَّبَهِ مِنْ عَقْدٍ لَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَقَاصِدُهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ الْمُخْتَارَةِ لِلْفَتْوَى عِنْدَهُمْ- وَاللَّخْمِيُّ وَابْنُ بَشِيرٍ وَابْنُ فَرْحُونَ وَابْنُ سَلْمُونٍ- مِنَ الْمَالِكِيَّةِ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.إِلَى أَنَّ الْكَفَاءَةَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ، قَالَ أَحْمَدُ: إِذَا تَزَوَّجَ الْمَوْلَى الْعَرَبِيَّةَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ فِي الرَّجُلِ يَشْرَبُ الشَّرَابَ: مَا هُوَ بِكُفْءٍ لَهَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ: لَوْ كَانَ الْمُتَزَوِّجُ حَائِكًا فَرَّقْتُ بَيْنَهُمَا، لِقَوْلِ عُمَرَ- رضي الله عنه-: لأَمْنَعَنَّ فُرُوجَ ذَوَاتِ الْأَحْسَابِ إِلاَّ مِنَ الْأَكْفَاءِ.
وَلِقَوْلِ سَلْمَانَ- رضي الله عنه-: ثِنْتَانِ فَضَلْتُمُونَا بِهَا يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، لَا نَنْكِحُ نِسَاءَكُمْ وَلَا نَؤُمُّكُمْ، وَلِأَنَّ التَّزَوُّجَ مَعَ فَقْدِ الْكَفَاءَةِ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ مَنْ يَحْدُثُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ، كَمَا لَوْ زَوَّجَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا.
وَذَهَبَ الْكَرْخِيُّ وَالْجَصَّاصُ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ، وَقَالُوا: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي النِّكَاحِ أَصْلًا، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «يَا بَنِي بَيَاضَةَ أَنْكِحُوا أَبَا هِنْدٍ وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِ، قَالَ: وَكَانَ حَجَّامًا»، أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالتَّزْوِيجِ عِنْدَ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَلَوْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً لَمَا أَمَرَ، وَبِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى»، وَبِأَنَّ الْكَفَاءَةَ لَوْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الشَّرْعِ لَكَانَ أَوْلَى الْأَبْوَابِ بِالِاعْتِبَارِ بِهَا بَابُ الدِّمَاءِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَاطُ فِيهِ مَا لَا يُحْتَاطُ فِي سَائِرِ الْأَبْوَابِ، وَمَعَ هَذَا لَمْ تُعْتَبَرْ، حَتَّى يُقْتَلُ الشَّرِيفُ بِالْوَضِيعِ، فَهَاهُنَا أَوْلَى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا لَمْ تُعْتَبَرْ فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ، فَكَذَا فِي جَانِبِ الزَّوْجِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْكَفَاءَةَ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُعْتَبَرُ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ غَالِبًا بَلْ لِكَوْنِهَا حَقًّا لِلْوَلِيِّ وَالْمَرْأَةِ إِلاَّ أَنَّهَا قَدْ تُعْتَبَرُ لِلصِّحَّةِ كَمَا فِي التَّزْوِيجِ بِالْإِجْبَارِ.
وَقْتُ اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ:
4- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْكَفَاءَةَ تُعْتَبَرُ عِنْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ، فَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ عِنْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ مُسْتَوْفِيًا لِخِصَالِ الْكَفَاءَةِ ثُمَّ زَالَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ أَوِ اخْتَلَّتْ، فَإِنَّ الْعَقْدَ لَا يَبْطُلُ بِذَلِكَ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: تُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، فَلَا يَضُرُّ زَوَالُهَا بَعْدَهُ، فَلَوْ كَانَ وَقْتُهُ كُفُؤًا ثُمَّ زَالَتْ كَفَاءَتُهُ لَمْ يُفْسَخْ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ دَبَّاغًا فَصَارَ تَاجِرًا، فَإِنْ بَقِيَ عَارُهَا لَمْ يَكُنْ كُفُؤًا، وَإِنْ تَنَاسَى أَمْرُهَا لِتَقَادُمِ زَمَانِهَا كَانَ كُفُؤًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْعِبْرَةُ فِي خِصَالِ الْكَفَاءَةِ بِحَالَةِ الْعَقْدِ، نَعَمْ إِنْ تَرَكَ الْحِرْفَةَ الدَّنِيئَةَ قَبْلَهُ لَا يُؤَثِّرُ إِلاَّ إِنْ مَضَتْ سَنَةٌ- كَمَا أَطْلَقَهُ جَمْعٌ- وَهُوَ وَاضِحٌ إِنْ تَلَبَّسَ بِغَيْرِهَا، بِحَيْثُ زَالَ عَنْهُ اسْمُهَا وَلَمْ يُنْسَبْ إِلَيْهَا أَصْلًا، وَإِلاَّ فَلَا بُدَّ مِنْ مُضِيِّ زَمَنٍ يَقْطَعُ نِسْبَتَهَا عَنْهُ، بِحَيْثُ لَا يُعَيَّرُ بِهَا، وَقَدْ بَحَثَ ابْنُ الْعِمَادِ وَالزَّرْكَشِيُّ أَنَّ الْفَاسِقَ إِذَا تَابَ لَا يُكَافِئُ الْعَفِيفَةَ، وَصَرَّحَ ابْنُ الْعِمَادِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّ الزَّانِيَ الْمُحْصَنَ وَإِنْ تَابَ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ لَا يَعُودُ كُفُؤًا، كَمَا لَا تَعُودُ عِفَّتُهُ، وَبِأَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ لَيْسَ بِكُفْءٍ لِلرَّشِيدَةِ.
وَقَالُوا: إِنَّ طُرُوَّ الْحِرْفَةِ الدَّنِيئَةِ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ.وَهُوَ الْأَوْجَهُ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ فِي النِّكَاحِ بَعْدَ صِحَّتِهِ لَا يُوجَدُ إِلاَّ بِالْأَسْبَابِ الْخَمْسَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فِي بَابِهِ، وَبِالْعِتْقِ تَحْتَ رَقِيقٍ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ زَالَتِ الْكَفَاءَةُ بَعْدَ الْعَقْدِ فَلِلزَّوْجَةِ فَقَطِ الْفَسْخُ دُونَ أَوْلِيَائِهَا، كَعِتْقِهَا تَحْتَ عَبْدٍ؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الْأَوْلِيَاءِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لَا فِي اسْتِدَامَتِهِ
الْحَقُّ فِي الْكَفَاءَةِ:
5- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْكَفَاءَةَ حَقٌّ لِلْمَرْأَةِ وَلِلْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّ لَهَا الْحَقَّ فِي أَنْ تَصُونَ نَفْسَهَا عَنْ ذُلِّ الِاسْتِفْرَاشِ لِمَنْ لَا يُسَاوِيهَا فِي خِصَالِ الْكَفَاءَةِ، فَكَانَ لَهَا حَقٌّ فِي الْكَفَاءَةِ أَمَّا الْأَوْلِيَاءُ فَإِنَّهُمْ يَتَفَاخَرُونَ بِعُلُوِّ نَسَبِ الْخَتَنِ، وَيَتَعَيَّرُونَ بِدَنَاءَةِ نَسَبِهِ، فَيَتَضَرَّرُونَ بِذَلِكَ، فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْفَعُوا الضَّرَرَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِالِاعْتِرَاضِ عَلَى نِكَاحِ مَنْ لَا تَتَوَافَرُ فِيهِ خِصَالُ الْكَفَاءَةِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ تَقْرِيرَ الْحَقِّ لَهُمْ فِي الْكَفَاءَةِ.
وَلِلْفُقَهَاءِ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْكَفَاءَةُ حَقٌّ لِلْمَرْأَةِ وَالْوَلِيُّ وَاحِدًا كَانَ أَوْ جَمَاعَةً مُسْتَوِينَ فِي دَرَجَةٍ، فَلَا بُدَّ مَعَ رِضَاهَا بِغَيْرِ الْكُفْءِ مِنْ رِضَا الْأَوْلِيَاءِ بِهِ، لَا رِضَا أَحَدِهِمْ، فَإِنَّ رِضَا أَحَدِهِمْ لَا يَكْفِي عَنْ رِضَا الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ لَهُمْ حَقًّا فِي الْكَفَاءَةِ فَاعْتُبِرَ رِضَاهُمْ بِتَرْكِهَا كَالْمَرْأَةِ، فَإِنْ تَفَاوَتَ الْأَوْلِيَاءُ، فَلِلْوَلِيِّ الْأَقْرَبِ أَنْ يُزَوِّجَهَا بِغَيْرِ الْكُفْءِ بِرِضَاهَا، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ الْأَبْعَدِ الِاعْتِرَاضُ، فَلَوْ كَانَ الَّذِي يَلِي أَمْرَهَا السُّلْطَانُ، فَهَلْ لَهُ تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ الْكُفْءِ إِذَا طَلَبَتْهُ؟ قَالَ النَّوَوِيُّ: قَوْلَانِ أَوْ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ كَالنَّائِبِ، فَلَا يَتْرُكُ الْحَظَّ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْكَفَاءَةُ حَقٌّ لِلْمَرْأَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ كُلِّهِمْ، الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، حَتَّى مَنْ يَحْدُثُ مِنْهُمْ بَعْدَ الْعَقْدِ؛ لِتَسَاوِيهِمْ فِي لُحُوقِ الْعَارِ بِفَقْدِ الْكَفَاءَةِ.
خِصَالُ الْكَفَاءَةِ:
6- الْكَفَاءَةُ مُعْتَبَرَةٌ فِي النِّكَاحِ لِدَفْعِ الْعَارِ وَالضِّرَارِ، وَخِصَالُهَا- أَيِ الصِّفَاتُ الْمُعْتَبَرَةُ فِيهَا لِيُعْتَبَرَ فِي الزَّوْجِ مِثْلُهَا فِي الْجُمْلَةِ- هِيَ: الدِّينُ، وَالنَّسَبُ وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْحَسَبِ، وَالْحِرْفَةُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْمَالُ، وَالتَّنَقِّي مِنَ الْعُيُوبِ الْمُثْبِتَةِ لِلْخِيَارِ، لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى اعْتِبَارِهَا كُلِّهَا كَامِلَةً، بَلْ كَانَ لَهُمْ فِيهَا تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ:
أ- الدِّينُ:
7- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مِنْ خِصَالِ الْكَفَاءَةِ الدِّينَ، أَيِ الْمُمَاثَلَةُ وَالْمُقَارَبَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي التَّدَيُّنِ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، لَا فِي مُجَرَّدِ أَصْلِ الْإِسْلَامِ، وَلَهُمْ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: لَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنَاتِ الصَّالِحِينَ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ فَاسِقٍ، كَانَ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ؛ لِأَنَّ التَّفَاخُرَ بِالدِّينِ أَحَقُّ مِنَ التَّفَاخُرِ بِالنَّسَبِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْمَالِ، وَالتَّعْيِيرُ بِالْفِسْقِ أَشَدُّ وُجُوهِ التَّعْيِيرِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ فِي الدِّينِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ، وَالْكَفَاءَةُ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَلَا يَقْدَحُ فِيهَا الْفِسْقُ إِلاَّ إِذَا كَانَ شَيْئًا فَاحِشًا، بِأَنْ كَانَ الْفَاسِقُ مِمَّنْ يُسْخَرُ مِنْهُ وَيُضْحَكُ عَلَيْهِ وَيُصْفَعُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُهَابُ مِنْهُ، بِأَنْ كَانَ أَمِيرًا قَتَّالًا فَإِنَّهُ يَكُونُ كُفْئًا لِأَنَّ هَذَا الْفِسْقَ لَا يُعَدُّ شَيْئًا فِي الْعَادَةِ، فَلَا يَقْدَحُ فِي الْكَفَاءَةِ.وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْفَاسِقَ إِنْ كَانَ مُعْلِنًا لَا يَكُونُ كُفْئًا وَإِنْ كَانَ مُسْتَتِرًا يَكُونُ كُفْئًا.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الْمُرَادُ بِالدِّينِ الْإِسْلَامُ مَعَ السَّلَامَةِ مِنَ الْفِسْقِ، وَلَا تُشْتَرَطُ الْمُسَاوَاةُ فِي الصَّلَاحِ، فَإِنْ فُقِدَ الدِّينُ وَكَانَ الزَّوْجُ فَاسِقًا فَلَيْسَ بِكُفْءٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ خِصَالِ الْكَفَاءَةِ الدِّينُ وَالصَّلَاحُ وَالْكَفُّ عَمَّا لَا يَحِلُّ، وَالْفَاسِقُ لَيْسَ بِكُفْءٍ لِلْعَفِيفَةِ، وَغَيْرُ الْفَاسِقِ- عَدْلًا كَانَ أَوْ مَسْتُورًا- كُفْءٌ لَهَا، وَلَا تُعْتَبَرُ الشُّهْرَةُ بِالصَّلَاحِ، فَغَيْرُ الْمَشْهُورِ بِالصَّلَاحِ كُفْءٌ لِلْمَشْهُورَةِ بِهِ، وَالْفَاسِقُ كُفْءٌ لِلْفَاسِقَةِ مُطْلَقًا إِلاَّ إِنْ زَادَ فِسْقُهُ أَوِ اخْتَلَفَ نَوْعُهُ كَمَا بَحَثَهُ الْإِسْنَوِيُّ، وَالْمُبْتَدِعُ لَيْسَ بِكُفْءٍ لِلْعَفِيفَةِ أَوِ السُّنِّيَّةِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الدِّينُ مِمَّا يُعْتَبَرُ فِي الْكَفَاءَةِ، فَلَا تُزَوَّجُ عَفِيفَةٌ عَنِ الزِّنَا بِفَاجِرٍ، أَيْ بِفَاسِقٍ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوِ اعْتِقَادٍ، قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: لَا يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ مِنْ حَرُورِيٍّ قَدْ مَرَقَ مِنَ الدِّينِ، وَلَا مِنَ الرَّافِضِيِّ وَلَا مِنَ الْقَدَرِيِّ، فَإِنْ كَانَ لَا يَدْعُو فَلَا بَأْسَ، وَلَا تُزَوَّجُ امْرَأَةٌ عَدْلٌ بِفَاسِقٍ كَشَارِبِ خَمْرٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكُفْءٍ، سَكِرَ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَسْكَرْ، وَكَذَلِكَ مَنْ سَكِرَ مِنْ خَمْرٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْمُسْكِرِ لَيْسَ بِكُفْءٍ، قَالَ إِسْحَاقُ إِذَا زَوَّجَ كَرِيمَتَهُ مِنْ فَاسِقٍ فَقَدْ قَطَعَ رَحِمَهُ.
ب- النَّسَبُ:
8- مِنَ الْخِصَالِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْكَفَاءَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ النَّسَبُ، وَعَبَّرَ عَنْهُ الْحَنَابِلَةُ بِالْمَنْصِبِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِ عُمَرَ- رضي الله عنه-: لأَمْنَعَنَّ فُرُوجَ ذَوَاتِ الْأَحْسَابِ إِلاَّ مِنَ الْأَكْفَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ قُلْتُ: وَمَا الْأَكْفَاءُ؟ قَالَ: فِي الْأَحْسَابِ؛ وَلِأَنَّ الْعَرَبَ يَعْتَمِدُونَ الْكَفَاءَةَ فِي النَّسَبِ وَيَتَفَاخَرُونَ بِرِفْعَةِ النَّسَبِ، وَيَأْنَفُونَ مِنْ نِكَاحِ الْمَوَالِي، وَيَرَوْنَ ذَلِكَ نَقْصًا وَعَارًا؛ وَلِأَنَّ الْعَرَبَ فَضَلَتِ الْأُمَمَ بِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.
وَالِاعْتِبَارُ فِي النَّسَبِ بِالْآبَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَفْتَخِرُ بِهِ فِيهِمْ دُونَ الْأُمَّهَاتِ، فَمَنِ انْتَسَبَتْ لِمَنْ تَشْرُفُ بِهِ لَمْ يُكَافِئْهَا مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَالْعَجَمِيُّ أَبًا وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ عَرَبِيَّةً لَيْسَ كُفْءَ عَرَبِيَّةٍ وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهَا عَجَمِيَّةً؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اصْطَفَى الْعَرَبَ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَمَيَّزَهُمْ عَنْهُمْ بِفَضَائِلَ جَمَّةٍ، كَمَا صَحَّتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ.
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ النَّسَبِ فِي الْكَفَاءَةِ، قِيلَ لِمَالِكٍ: إِنَّ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ فَرَّقُوا بَيْنَ عَرَبِيَّةٍ وَمَوْلًى، فَأَعْظَمَ ذَلِكَ إِعْظَامًا شَدِيدًا وَقَالَ: أَهْلُ الْإِسْلَامِ كُلُّهُمْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاءٌ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي التَّنْزِيلِ: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، وَكَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ: لَا تُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ فِي النَّسَبِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ سَوَاسِيَةٌ بِالْحَدِيثِ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى» وَقَدْ تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، وَلِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِاعْتِبَارِ النَّسَبِ فِي الْكَفَاءَةِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى مَا سَبَقَ تَفْصِيلٌ:
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: قُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاءٌ، وَالْعَرَبُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاءٌ، وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاءٌ، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «قُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ، وَالْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ، قَبِيلَةٌ بِقَبِيلَةٍ، وَرَجُلٌ بِرَجُلٍ، وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ، قَبِيلَةٌ بِقَبِيلَةٍ، وَرَجُلٌ بِرَجُلٍ إِلاَّ حَائِكٌ أَوْ حَجَّامٌ».
وَقَالُوا: الْقُرَشِيُّ كُفْءٌ لِلْقُرَشِيَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ الْقَبِيلَةِ، وَلَا يُعْتَبَرُ التَّفَاضُلُ فِيمَا بَيْنَ قُرَيْشٍ فِي الْكَفَاءَةِ، فَالْقُرَشِيُّ الَّذِي لَيْسَ بِهَاشِمِيٍّ كَالتَّيْمِيِّ وَالْأُمَوِيِّ، وَالْعَدَوِيُّ كُفْءٌ لِلْهَاشِمِيَّةِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «قُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ» وَقُرَيْشٌ تَشْتَمِلُ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَإِنْ كَانَ لِبَنِي هَاشِمٍ مِنَ الْفَضِيلَةِ مَا لَيْسَ لِسَائِرِ قُرَيْشٍ، لَكِنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ تِلْكَ الْفَضِيلَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ مَا عَرَفْنَا ذَلِكَ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «زَوَّجَ ابْنَتَيْهِ مِنْ عُثْمَانَ- رضي الله عنه-، وَكَانَ أُمَوِيًّا لَا هَاشِمِيًّا»، وَزَوَّجَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- ابْنَتَهُ مِنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- وَلَمْ يَكُنْ هَاشِمِيًّا بَلْ عَدَوِيًّا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَفَاءَةَ فِي قُرَيْشٍ لَا تَخْتَصُّ بِبَطْنٍ دُونَ بَطْنٍ.
وَاسْتَثْنَى مُحَمَّدٌ بَيْتَ الْخِلَافَةِ، فَلَمْ يَجْعَلَ الْقُرَشِيَّ الَّذِي لَيْسَ بِهَاشِمِيٍّ كُفْئًا لَهُ، فَلَوْ تَزَوَّجَتْ قُرَشِيَّةٌ مِنْ أَوْلَادِ الْخُلَفَاءِ قُرَشِيًّا لَيْسَ مِنْ أَوْلَادِهِمْ، كَانَ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ بِالنَّصِّ، وَلَا تَكُونُ الْعَرَبُ كُفْئًا لِقُرَيْشٍ؛ لِفَضِيلَةِ قُرَيْشٍ عَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ وَلِذَلِكَ اخْتُصَّتِ الْإِمَامَةُ بِهِمْ، قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ».
وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ بِالنَّصِّ، وَلَا تَكُونُ الْمَوَالِي أَكْفَاءً لِلْعَرَبِ، لِفَضْلِ الْعَرَبِ عَلَى الْعَجَمِ، وَمَوَالِي الْعَرَبِ أَكْفَاءٌ لِمَوَالِي قُرَيْشٍ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ رَجُلٌ بِرَجُلٍ» وَمُفَاخَرَةُ الْعَجَمِ بِالْإِسْلَامِ لَا بِالنَّسَبِ، فَمَنْ لَهُ أَبَوَانِ فِي الْإِسْلَامِ فَصَاعِدًا فَهُوَ مِنَ الْأَكْفَاءِ لِمَنْ لَهُ آبَاءٌ فِيهِ، وَمَنْ أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ أَوْ لَهُ أَبٌ وَاحِدٌ فِي الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ كُفْئًا لِمَنْ لَهُ أَبَوَانِ فِي الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ تَمَامَ النَّسَبِ بِالْأَبِ وَالْجَدِّ، وَمَنْ أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ كُفْئًا لِمَنْ لَهُ أَبٌ وَاحِدٌ فِي الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: غَيْرُ الْقُرَشِيِّ مِنَ الْعَرَبِ لَيْسَ كُفْءَ الْقُرَشِيَّةِ، لِخَبَرِ: «قَدِّمُوا قُرَيْشًا وَلَا تَقَدَّمُوهَا» وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَلَيْسَ غَيْرُ الْهَاشِمِيِّ وَالْمُطَّلِبِيِّ مِنْ قُرَيْشٍ كُفْئًا لِلْهَاشِمِيَّةِ أَوِ الْمُطَّلِبِيَّةِ، لِخَبَرِ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ» وَالْمُطَّلِبِيُّ كُفْءُ الْهَاشِمِيَّةِ وَعَكْسُهُ، لِحَدِيثِ: «إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ» فَهُمَا مُتَكَافِئَانِ، وَمَحَلُّهُ إِذَا لَمْ تَكُنْ شَرِيفَةً، أَمَّا الشَّرِيفَةُ فَلَا يُكَافِئُهَا إِلاَّ شَرِيفٌ، وَالشَّرَفُ مُخْتَصٌّ بِأَوْلَادِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ- رضي الله عنهما- وَعَنْ أَبَوَيْهِمَا.نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ ظَهِيرَةَ، وَمَحَلُّهُ أَيْضًا فِي الْحُرَّةِ، فَلَوْ نَكَحَ هَاشِمِيٌّ أَوْ مُطَّلِبِيٌّ أَمَةً فَأَتَتْ مِنْهُ بِبِنْتٍ فَهِيَ مَمْلُوكَةٌ لِمَالِكِ أُمِّهَا، فَلَهُ تَزْوِيجُهَا مِنْ رَقِيقٍ وَدَنِيءِ النَّسَبِ، لِأَنَّ وَصْمَةَ الرِّقِّ الثَّابِتِ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ أَلْغَتِ اعْتِبَارَ كُلِّ كَمَالٍ مَعَهُ، مَعَ كَوْنِ الْحَقِّ فِي الْكَفَاءَةِ فِي النَّسَبِ لِسَيِّدِهَا لَا لَهَا عَلَى مَا جَزَمَ بِهِ الشَّيْخَانِ.
أَمَّا غَيْرُ قُرَيْشٍ مِنَ الْعَرَبِ فَإِنَّ بَعْضَهُمْ أَكْفَاءُ بَعْضٍ.نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ، وَقَالَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ إِنَّهُ مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ.
وَقَالُوا: الْأَصَحُّ اعْتِبَارُ النَّسَبِ فِي الْعَجَمِ كَالْعَرَبِ قِيَاسًا عَلَيْهِمْ، فَالْفُرْسُ أَفْضَلُ مِنَ الْقِبْطِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَوْ كَانَ الدِّينُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَذَهَبَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ فَارِسٍ»، وَبَنُو إِسْرَائِيلَ أَفْضَلُ مِنَ الْقِبْطِ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ: أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ النَّسَبُ فِي الْعَجَمِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَنُونَ بِحِفْظِ الْأَنْسَابِ وَلَا يُدَوِّنُونَهَا بِخِلَافِ الْعَرَبِ، وَالِاعْتِبَارُ فِي النَّسَبِ بِالْأَبِ، وَلَا يُكَافِئُ مَنْ أَسْلَمَ أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ أَجْدَادِهِ الْأَقْرَبِينَ أَقْدَمَ مِنْهُ فِي الْإِسْلَامِ، فَمَنْ أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ لَيْسَ كُفْءَ مَنْ لَهَا أَبٌ أَوْ أَكْثَرُ فِي الْإِسْلَامِ، وَمَنْ لَهُ أَبَوَانِ فِي الْإِسْلَامِ لَيْسَ كُفْءَ مَنْ لَهَا ثَلَاثَةُ آبَاءٍ فِيهِ.
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ غَيْرَ قُرَيْشٍ مِنَ الْعَرَبِ لَا يُكَافِئُهَا، وَغَيْرُ بَنِي هَاشِمٍ لَا يُكَافِئُهُمْ، لِحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ»، وَلِأَنَّ الْعَرَبَ فُضِّلَتْ عَلَى الْأُمَمِ بِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَقُرَيْشٌ أَخَصُّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ، وَبَنُو هَاشِمٍ أَخَصُّ بِهِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ عُثْمَانُ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ عَلَيْنَا لِمَكَانِكَ الَّذِي وَضَعَكَ اللَّهُ بِهِ مِنْهُمْ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْعَرَبَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاءٌ، وَالْعَجَمَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاءٌ؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- زَوَّجَ ابْنَتَيْهِ عُثْمَانَ»، وَزَوَّجَ عَلِيٌّ عُمَرَ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ- رضي الله عنهما-.
وَالْكَفَاءَةُ فِي النَّسَبِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.
ج- الْحُرِّيَّةُ:
9- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، إِلَى أَنَّ الْحُرِّيَّةَ مِنْ خِصَالِ الْكَفَاءَةِ، فَلَا يَكُونُ الْقِنُّ أَوِ الْمُبَعَّضُ أَوِ الْمُدَبَّرُ أَوِ الْمُكَاتَبُ كُفْئًا لِلْحُرَّةِ وَلَوْ عَتِيقَةً؛ لِأَنَّهَا تَتَعَيَّرُ بِهِ، إِذِ النَّقْصُ وَالشَّيْنُ بِالرِّقِّ فَوْقَ النَّقْصِ وَالشَّيْنِ بِدَنَاءَةِ النَّسَبِ؛ وَلِأَنَّهَا تَتَضَرَّرُ بِنِكَاحِهِ لِأَنَّهُ يُنْفِقُ نَفَقَةَ الْمُعْسِرِينَ، وَلَا يُنْفِقُ عَلَى وَلَدِهِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِهِ، غَيْرُ مَالِكٍ لَهُ، مَشْغُولٌ عَنِ امْرَأَتِهِ بِحُقُوقِ سَيِّدِهِ، وَمِلْكُ السَّيِّدِ رَقَبَتَهُ يُشْبِهُ مِلْكَ الْبَهِيمَةِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَى عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ «بَرِيرَةَ أُعْتِقَتْ فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- »، وَلَوْ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا لَمْ يُخَيِّرْهَا وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي كَفَاءَةِ الْعَبْدِ لِلْحُرَّةِ أَوْ عَدَمِهَا فِي تَأَوُّلَيْنِ.
فَأَجَازَ ابْنُ الْقَاسِمِ نِكَاحَ الْعَبْدِ عَرَبِيَّةً، وَقَالَ عَبْدُ الْبَاقِي: إِنَّهُ الْأَحْسَنُ وَرَجَّحَ الدَّرْدِيرُ عَدَمَ كَفَاءَةِ الْعَبْدِ لِلْحُرَّةِ، وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: إِنَّهُ الْمَذْهَبُ.
د- الْحِرْفَةُ:
10- الْحِرْفَةُ مَا يُطْلَبُ بِهِ الرِّزْقُ مِنَ الصَّنَائِعِ وَغَيْرِهَا، وَالْحِرْفَةُ الدَّنِيئَةُ مَا دَلَّتْ مُلَابَسَتُهَا عَلَى انْحِطَاطِ الْمُرُوءَةِ وَسُقُوطِ النَّفْسِ، كَمُلَابَسَةِ الْقَاذُورَاتِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- فِي الْمُفْتَى بِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ- وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- فِي الرِّوَايَةِ الْمُعْتَمَدَةِ عَنْ أَحْمَدَ- إِلَى اعْتِبَارِ الْحِرْفَةِ فِي الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ، لقوله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} أَيْ فِي سَبَبِهِ، فَبَعْضُهُمْ يَصِلُ إِلَيْهِ بِعِزٍّ وَرَاحَةٍ، وَبَعْضُهُمْ بِذُلٍّ وَمَشَقَّةٍ؛ وَلِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاخَرُونَ بِشَرَفِ الْحِرَفِ وَيَتَعَيَّرُونَ بِدَنَاءَتِهَا.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ الْحِرْفَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الِانْتِقَالُ وَالتَّحَوُّلُ عَنِ الْخَسِيسَةِ إِلَى النَّفِيسَةِ مِنْهَا، فَلَيْسَتْ وَصْفًا لَازِمًا.
وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، حَيْثُ قَالَ: إِنَّهَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ فَاحِشَةً.
كَحِرْفَةِ الْحَجَّامِ وَالْكَنَّاسِ وَالدَّبَّاغِ، فَلَا يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمْ كُفْءَ بِنْتِ الْعَطَّارِ وَالصَّيْرَفِيِّ وَالْجَوْهَرِيِّ.
وَوَفْقَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لَا يَكُونُ الرَّجُلُ صَاحِبُ الصِّنَاعَةِ أَوِ الْحِرْفَةِ الدَّنِيئَةِ أَوِ الْخَسِيسَةِ كُفْءَ بِنْتِ صَاحِبِ الصِّنَاعَةِ أَوِ الْحِرْفَةِ الرَّفِيعَةِ أَوِ الشَّرِيفَةِ.لِمَا سَبَقَ، وَلِمَا ذَكَرَهُ الْحَنَابِلَةُ مِنْ أَنَّهُ نَقْصٌ فِي عُرْفِ النَّاسِ أَشْبَهَ نَقْصَ النَّسَبِ، وَلِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ: «الْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ» وَفِي آخِرِهِ «إِلاَّ حَائِكٌ أَوْ حَجَّامٌ»، قِيلَ لِأَحْمَدَ: كَيْفَ تَأْخُذُ بِهِ وَأَنْتَ تُضَعِّفُهُ؟ قَالَ: الْعَمَلُ عَلَيْهِ، يَعْنِي أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِأَهْلِ الْعُرْفِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: تَثْبُتُ الْكَفَاءَةُ بَيْنَ الْحِرْفَتَيْنِ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ، كَالْبَزَّازِ مَعَ الْبَزَّازِ، وَالْحَائِكِ مَعَ الْحَائِكِ، وَتَثْبُتُ عِنْدَ اخْتِلَافِ جِنْسِ الْحِرْفَةِ إِذَا كَانَ يُقَارِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، كَالْبَزَّازِ مَعَ الصَّائِغِ، وَالصَّائِغِ مَعَ الْعَطَّارِ، وَلَا تَثْبُتُ فِيمَا لَا مُقَارَبَةَ بَيْنَهُمَا، كَالْعَطَّارِ مَعَ الْبَيْطَارِ، وَالْبَزَّازِ مَعَ الْخَرَّازِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الِاعْتِبَارُ بِالْعُرْفِ الْعَامِّ لِبَلَدِ الزَّوْجَةِ لَا لِبَلَدِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى تَعْيِيرِهَا أَوْ عَدَمِهِ، وَذَلِكَ يُعْرَفُ بِالنِّسْبَةِ لِحِرَفِ بَلَدِهَا، أَيِ الَّتِي هِيَ بِهَا حَالَةَ الْعَقْدِ.
قَالَ الرَّمْلِيُّ: حِرْفَةُ الْآبَاءِ- كَحِرْفَةِ الزَّوْجِ- مُعْتَبَرَةٌ فِي الْكَفَاءَةِ، وَالْأَوْجَهُ أَنَّ كُلَّ ذِي حِرْفَةٍ فِيهَا مُبَاشَرَةُ نَجَاسَةٍ لَيْسَ كُفْءَ الَّذِي حِرْفَتُهُ لَا مُبَاشَرَةَ فِيهَا لِلنَّجَاسَةِ، وَأَنَّ بَقِيَّةَ الْحِرَفِ الَّتِي لَمْ يَذْكُرُوا فِيهَا تَفَاضُلًا مُتَسَاوِيَةٌ إِلاَّ إِنِ اطَّرَدَ الْعُرْفُ بِتَفَاوُتِهَا.وَقَالَ: مَنْ لَهُ حِرْفَتَانِ: دَنِيَّةٌ وَرَفِيعَةٌ اعْتُبِرَ مَا اشْتُهِرَ بِهِ، وَإِلاَّ غَلَبَتِ الدَّنِيَّةُ، بَلْ لَوْ قِيلَ بِتَغْلِيبِهَا مُطْلَقًا لَمْ يَبْعُدْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ تَعْيِيرِهِ بِهَا.
وَأَضَافَ الْقَلْيُوبِيُّ: لَوْ تَرَكَ حِرْفَةً لِأَرْفَعَ مِنْهَا أَوْ عَكْسِهِ، اعْتُبِرَ قَطْعُ نِسْبَتِهِ عَنِ الْأُولَى، وَلَيْسَ تَعَاطِي الْحِرْفَةِ الدَّنِيئَةِ لِتَوَاضُعٍ أَوْ كَسْرِ نَفْسٍ أَوْ لِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ مُضِرًّا فِي الْكَفَاءَةِ وَالْعِلْمِ- بِشَرْطِ عَدَمِ الْفِسْقِ- وَكَذَلِكَ الْقَضَاءُ أَرْفَعُ الْحِرَفِ كُلِّهَا، فَيُكَافِئَانِ سَائِرَ الْحِرَفِ، فَلَوْ جَاءَتِ امْرَأَةٌ لَا يُعْرَفُ نَسَبُهَا إِلَى قَاضٍ لِيُزَوِّجَهَا، لَا يُزَوِّجُهَا إِلاَّ مِنَ ابْنِ عَالِمٍ أَوْ قَاضٍ دُونَ غَيْرِهِمَا؛ لِاحْتِمَالِ شَرَفِهَا بِالنَّسَبِ إِلَى أَحَدِهِمَا.
وَالْمُرَادُ بِبِنْتِ الْعَالِمِ وَالْقَاضِي فِي ظَاهِرِ كَلَامِهِمْ- كَمَا قَالَ الرَّمْلِيُّ- مَنْ فِي آبَائِهَا الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهِمْ أَحَدُهُمَا وَإِنْ عَلَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا تَفْتَخِرُ بِهِ، وَبَحَثَ الْأَذْرَعِيُّ أَنَّ الْعِلْمَ مَعَ الْفِسْقِ لَا أَثَرَ لَهُ، إِذْ لَا فَخْرَ لَهُ حِينَئِذٍ فِي الْعُرْفِ فَضْلًا عَنِ الشَّرْعِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْقَاضِي أَهْلًا فَعَالِمٌ وَزِيَادَةٌ، أَوْ غَيْرَ أَهْلٍ فَفِي النَّظَرِ إِلَيْهِ نَظَرٌ.
وَالْجَاهِلُ- كَمَا أَضَافَ الرَّمْلِيُّ- لَا يَكُونُ كُفْءَ عَالِمَةٍ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ إِذَا اعْتُبِرَ فِي آبَائِهَا فَلأَنْ يُعْتَبَرَ فِيهَا بِالْأَوْلَى، إِذْ أَقَلُّ مَرَاتِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ كَالْحِرْفَةِ، وَصَاحِبُ الْحِرْفَةِ الدَّنِيئَةِ لَا يُكَافِئُ صَاحِبَ الشَّرِيفَةِ.
وَلَا يَعْتَبِرُ الْمَالِكِيَّةُ الْحِرْفَةَ مِنْ خِصَالِ الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ؛ إِذْ الْكَفَاءَةُ عِنْدَهُمْ فِي الدِّينِ وَالْحَالِ، وَأَمَّا الدِّينُ فَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ أَوِ الْمُقَارَبَةُ فِي التَّدَيُّنِ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ لَا فِي مُجَرَّدِ أَصْلِ الْإِسْلَامِ.
وَأَمَّا الْحَالُ فَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ أَوِ الْمُقَارَبَةُ فِي السَّلَامَةِ مِنَ الْعُيُوبِ الْمُوجِبَةِ لِلْخِيَارِ، لَا الْحَسَبُ وَالنَّسَبُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
112-موسوعة الفقه الكويتية (كلأ)
كَلأٌالتَّعْرِيفُ:
1- يُطْلَقُ الْكَلأُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ مِنْهَا:
الْعُشْبُ رَطْبًا كَانَ أَمْ يَابِسًا، وَالْجَمْعُ أَكْلَاءٌ مِثْلُ سَبَبٍ وَأَسْبَابٍ، يُقَالُ: مَكَانٌ مُكْلِئٌ: فِيهِ كَلأٌ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ قَالَ الْكَاسَانِيُّ: الْكَلأُ حَشِيشٌ يَنْبُتُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ الْعَبْدِ.
وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: هُوَ مَا يَنْبَسِطُ وَيَنْتَشِرُ وَلَا سَاقَ لَهُ كَالْإِذْخِرِ وَنَحْوِهِ وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: الْكَلأُ: الْعُشْبُ.
حُكْمُ الِانْتِفَاعِ بِالْكَلَأِ:
2- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَا نَبَتَ مِنَ الْكَلَأِ فِي الْأَمَاكِنِ الْمُبَاحَةِ كَالْأَوْدِيَةِ، وَالْجِبَالِ وَالْأَرَاضِي الَّتِي لَا مَالِكَ لَهَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا يُمْنَعُ أَحَدٌ مِنْ أَخْذِ كَلَئِهَا وَلَا رَعْيِ مَاشِيَتِهِ فِيهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءِ، وَالنَّارِ، وَالْكَلَأِ».
وَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «ثَلَاثٌ لَا يُمْنَعْنَ: الْمَاءُ وَالْكَلأُ وَالنَّارُ».
وَالْحَدِيثَانِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّاسَ شُرَكَاءُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ، وَهُوَ إِجْمَاعٌ فِي الْكَلَأِ النَّابِتِ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ لَا مَالِكَ لَهَا، وَفِي الْجِبَالِ وَالْأَوْدِيَةِ، وَعَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ أَنْ يَحْمِيَهُ لِنَفْسِهِ، وَيَمْنَعَ غَيْرَهُ مِنْ أَخْذِهِ أَوْ رَعْيِ مَاشِيَتِهِ أَمَّا النَّابِتُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ أَوْ مُحَجَّرَةٍ فَفِي جَوَازِ حِمَاهُ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ:
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: مَا نَبَتَ- أَيْ مِنَ الْكَلَأِ- فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ بِلَا إِنْبَاتِ صَاحِبِهَا حُكْمُهُ كَمَا سَبَقَ، أَيْ لَا يُمْنَعُ أَحَدٌ مِنَ الْأَخَذِ مِنْهُ وَلَا رَعْيُ مَاشِيَتِهِ فِيهِ، إِلاَّ أَنَّ لِرَبِّ الْأَرْضِ الْمَنْعَ مِنَ الدُّخُولِ فِي أَرْضِهِ قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ مِلْكَ غَيْرِهِ لِاحْتِشَاشِ الْكَلَأِ فَإِذَا كَانَ يَجِدُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الدُّخُولِ وَإِنْ كَانَ لَا يَجِدُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
يُقَالُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ: إِمَّا أَنْ تَأْذَنَ لَهُ بِالدُّخُولِ وَإِمَّا أَنْ تَحُشَّ بِنَفْسِكَ فَتَدْفَعَهُ إِلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا احْتَشَّ مَالِكٌ آخَرُ الْكَلأَ الَّذِي نَبَتَ فِي أَرْضِهِ دُونَ إِنْبَاتٍ كَانَ أَنْبَتَهُ فِي أَرْضِهِ فَهُوَ مِلْكٌ لَهُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَخْذُهُ بِوَجْهٍ لِحُصُولِهِ بِكَسْبِهِ.
وَفِي كِتَابِ الْخَرَاجِ لِأَبِي يُوسُفَ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ قَرْيَةٍ لَهُمْ مُرُوجٌ يَرْعَوْنَ فِيهَا، وَيَحْتَطِبُونَ مِنْهَا، وَقَدْ عُرِفَ أَنَّهَا لَهُمْ فَهِيَ لَهُمْ عَلَى حَالِهَا، يَتَبَايَعُونَهَا، وَيَتَوَارَثُونَهَا، وَيُحْدِثُونَ فِيهَا مَا يُحْدِثُ الرَّجُلُ فِي مِلْكِهِ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا الْكَلأَ وَلَا الْمَاءَ، وَلِأَصْحَابِ الْمَوَاشِي أَنْ يَرْعَوْا فِي تِلْكَ الْمُرُوجِ وَيَسْتَقُوا مِنْ تِلْكَ الْمِيَاهِ، وَلَيْسَتِ الْآجَامُ كَالْمُرُوجِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْتَطِبَ مِنْ أَجَمَةِ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، وَلَوْ أَنَّ صَاحِبَ بَقَرٍ رَعَى بَقَرَهُ فِي أَجَمَةِ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَضَمِنَ مَا رَعَى وَأَفْسَدَ.
وَالْكَلأُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُدْفَعُ مُعَامَلَةً.ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ تَكُونُ لَهُمْ هَذِهِ الْمُرُوجُ، وَفِي مِلْكِهِمْ مَوْضِعُ مَسْرَحٍ وَمَرْعًى لِدَوَابِّهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ غَيْرِ هَذِهِ الْمُرُوجِ، وَكَانُوا مَتَى أَذِنُوا لِلنَّاسِ فِي رَعْيِ هَذِهِ الْمُرُوجِ أَضَرَّ ذَلِكَ بِهِمْ وَبِمَوَاشِيهِمْ وَدَوَابِّهِمْ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا كُلَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَرْعَى أَوْ يَحْتَطِبَ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ مَرْعًى وَمَوْضِعُ احْتِطَابٍ حَوْلَهُمْ لَيْسَ لَهُ مَالِكٌ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا الِاحْتِطَابَ وَالرَّعْيَ مِنَ النَّاسِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَمْنَعُ مَالِكُ أَرْضٍ تَرَكَهَا اسْتِغْنَاءً عَنْهَا وَلَمْ يُبَوِّرْهَا لِلرَّعْيِ مِنْ رَعْيِ كَلأٍَ لَمْ يَزْرَعْهُ فِيهَا، وَلَا يَمْنَعُ رَعْيَ كَلأٍَ نَبَتَ فِي أَرْضٍ لَهُ لَا تَقْبَلُ الزَّرْعَ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ مَنْ يُرِيدُ رَعْيَ مَاشِيَتِهِ مِنْ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ، وَمَحَلُّ عَدَمِ مَنْعِهِمَا، حَيْثُ لَمْ يَكْتَنِفْهُ زَرْعٌ لَهُ يَخْشَى أَنْ تُفْسِدَهُ الْمَوَاشِي، فَإِنِ اكْتَنَفَهُ فَلَهُ مَنْعُهُ، وَلَهُ مَنْعُ كَلَأِ مَرْجِ دَوَابِّهِ مِنْ أَرْضٍ يَمْلِكُهَا.
وَحِمَاهُ الَّذِي بَوَّرَهُ مِنْ أَرْضِهِ لِلْمَرْعَى، لَهُ مَنْعُ غَيْرِهِ مِنْ رَعْيِ كَلَأِ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ، وَبَيْعِهِ، هَذَا وَمَا قَبْلَهُ فِي الْأَرْضِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ، أَمَّا غَيْرُهَا كَالْفَيَافِي، فَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: النَّاسُ فِيهِ سَوَاءٌ اتِّفَاقًا.
وَإِنْ سَبَقَ شَخْصٌ إِلَى مَوْضِعٍ فِيهِ كَلأٌ وَقَصَدَهُ مِنْ بُعْدٍ، فَتَرَكَهُ وَرَعَى مَا حَوْلَهُ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ غَيْرَهُ مِنَ الرَّعْيِ فِيهِ؟.
قَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ، قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
وَفِي قَوْلٍ: يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ.
وَفِي قَوْلٍ: إِنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الْمَوْضِعِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ.
قَالَ الزُّرْقَانِيُّ: وَهُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَأَوْلَاهَا بِالصَّوَابِ: لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمُقَامِ عَلَى الْمَاءِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي ذَلِكَ مَرْعًى فَتَذْهَبُ نَفَقَتُهُ فِي الْبِئْرِ بَاطِلًا.
مَا يُحْمَى مِنْ مَوَاضِعِ الْكَلَأِ:
3- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَحْمِيَ بُقْعَةَ مَوَاتٍ لِرَعْيِ نَعَمِ جِزْيَةٍ وَصَدَقَةٍ وَضَالَّةٍ وَضَعِيفٍ عَنِ النُّجْعَةِ بِأَنْ يَمْنَعَ النَّاسَ مِنْ رَعْيِ مَا حَمَاهُ بِحَيْثُ لَا يَضُرُّهُمْ، أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ تَكْفِي بَقِيَّتُهُ النَّاسَ، لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- «حَمَا النَّقِيعَ لِخَيْلِ الْمُسْلِمِينَ».
وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: الْمَنْعُ لِخَبَرِ: «لَا حِمَى إِلاَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» وَفِي شُرُوطِ الْجَوَازِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ الْحِمَى تَفْصِيلٌ فِي مُصْطَلَحِ (حِمًى ف 6 وَمَا بَعْدَهَا).
رَعْيُ نَبَاتِ الْحَرَمِ:
4- يَجُوزُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ رَعْيُ حَشِيشِ الْحَرَمِ وَكَلَئِهِ لِأَنَّ الْهَدَايَا كَانَتْ تُسَاقُ فِي عَصْرِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابِهِ- رضي الله عنهم-، وَمَا كَانَتْ تُسَدُّ أَفْوَاهُهَا فِي الْحَرَمِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: حَرَمٌ.ف 10- 12).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
113-موسوعة الفقه الكويتية (لعان 2)
لِعَانٌ -2آثَارُ اللِّعَانِ
أَوَّلًا: آثَارُ اللِّعَانِ فِي حَقِّ الزَّوْجَيْنِ:
إِذَا تَمَّ اللِّعَانُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَامْرَأَتِهِ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ آثَارٌ فِي حَقِّهِمَا، مِنْهَا:
21- الْأَوَّلُ: انْتِفَاءُ الْحَدِّ عَنِ الزَّوْجَيْنِ، فَلَا يُقَامُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى الزَّوْجِ، وَلَا يُقَامُ حَدُّ الزِّنَا عَلَى الْمَرْأَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّارِعَ خَفَّفَ عَنِ الزَّوْجَيْنِ، فَشَرَعَ لَهُمَا اللِّعَانُ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُمَا، فَإِذَا أُجْرِيَ اللِّعَانُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ سَقَطَ عَنِ الزَّوْجِ حَدُّ الْقَذْفِ وَسَقَطَ عَنِ الْمَرْأَةِ حَدُّ الزِّنَا.
22- الثَّانِي: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ حُكْمَ اللِّعَانِ حُرْمَةُ الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ وَلَكِنْ لَا تَقَعُ التَّفْرِقَةُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ.
وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ وَلَوْ دَلَالَةً حُدَّ لِلْقَذْفِ، وَلَهُ بَعْدَمَا كَذَّبَ نَفْسَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا: حُدَّ أَوْ لَا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِذَا افْتَرَقَ الْمُتَلَاعِنَانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، فَيَثْبُتُ بَيْنَهُمَا حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ كَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ بِتَمَامِ لِعَانِ الزَّوْجَيْنِ تَتَأَبَّدُ الْحُرْمَةُ بَيْنَهُمَا لِقَوْلِ عُمَرَ- رضي الله عنه-: الْمُتَلَاعِنَانِ إِذَا تَلَاعَنَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَلَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا لَاعَنَ الزَّوْجُ لِدَرْءِ حَدِّ قَذْفِ الزَّوْجَةِ بِالزِّنَا عَنْهُ ثَبَتَتِ الْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى هَذَا اللِّعَانِ، فَإِنْ لَاعَنَ لِنَفْيِ النَّسَبِ وَحْدَهُ لَمْ يَنْقَطِعْ بِهِ نِكَاحٌ وَلَمْ تَسْقُطْ بِهِ عُقُوبَةٌ بِأَنْ كَانَ أَبَانَهَا أَوْ عَفَتْ عَنِ الْعُقُوبَةِ أَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِزِنَاهَا.
وَقَالُوا: وَالْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى لِعَانِ الزَّوْجِ لِدَرْءِ حَدِّ قَذْفِهِ زَوْجَتَهُ تَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا بَعْدَ اللِّعَانِ، وَلَا وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ لَوْ كَانَتْ أَمَةً وَاشْتَرَاهَا، لِمَا وَرَدَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ قَالَ: «لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا»،، وَلِقَوْلِهِ: «الْمُتَلَاعِنَانِ إِذَا تَفَرَّقَا لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا».
وَإِنْ أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ فَلَا يُفِيدُهُ ذَلِكَ عَوْدَ النِّكَاحِ وَلَا رَفْعَ تَأْبِيدِ الْحُرْمَةِ لِأَنَّهُمَا حَقٌّ لَهُ وَقَدْ بَطَلَا فَلَا يُتَمَكَّنُ مِنْ عَوْدِهِمَا، بِخِلَافِ الْحَدِّ وَلُحُوقِ النَّسَبِ فَإِنَّهُمَا يَعُودَانِ لِأَنَّهُمَا حَقٌّ عَلَيْهِ، وَأَمَّا حَدُّهَا فَفِي كَلَامِ الْإِمَامِ مَا يُفْهِمُ سُقُوطَهُ بِإِكْذَابِهِ نَفْسَهُ.
23- الثَّالِثُ: حُصُولُ الْفُرْقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ.
غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ لَا تَتِمُّ إِلاَّ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَحَمْدَ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فَلَوْ تَمَّ اللِّعَانُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَلَمْ يَحْكُمِ الْقَاضِي بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فَالزَّوْجِيَّةُ تُعْتَبَرُ قَائِمَةً فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَحْكَامِ كَالْمِيرَاثِ وَوُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَلَوْ مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بَعْدَ اللِّعَانِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ بِالتَّفْرِيقِ وَرِثَهُ الْآخَرُ، وَلَوْ طَلَّقَ الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ وَقَبْلَ التَّفْرِيقِ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَوْ أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ حِينَئِذٍ فَإِنَّهَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ عَقْدِ الزَّوَاجِ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ، مَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- «فَرَّقَ بَيْنَهُمَا» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَقَعُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَلَا بِلِعَانِ الزَّوْجَةِ، إِذْ لَوْ وَقَعَتْ لَمَا حَصَلَ التَّفْرِيقُ مِنْ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا بِنَفْسِ اللِّعَانِ وَمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-، فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي إِمْكَانَ إِمْسَاكِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ اللِّعَانِ وَأَنَّهُ وَقَعَ طَلَاقُهُ، وَلَوْ كَانَتِ الْفُرْقَةُ وَقَعَتْ قَبْلَ ذَلِكَ بِاللِّعَانِ لَمَا وَقَعَ طَلَاقُهُ وَلَا أَمْكَنَهُ إِمْسَاكُهَا، وَأَيْضًا فَإِنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْفُرْقَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْحَاكِمِ فَالْفُرْقَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ لَا تَقَعُ إِلاَّ بِحُكْمِهِ قِيَاسًا عَلَى الْفُرْقَةِ بِالْعُنَّةِ وَنَحْوِهَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى حُكْمِ الْقَاضِي، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْفُرْقَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَإِنْ لَمْ تُلَاعِنِ الزَّوْجَةُ، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: الْمُتَلَاعِنَانِ إِذَا تَلَاعَنَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا وَلِأَنَّ اللِّعَانَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ الْمُؤَبَّدَ فَلَا يَحْتَاجُ لِلتَّفْرِيقِ بِهِ إِلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ كَالرَّضَاعِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفُرْقَةَ لَوْ لَمْ تَحْصُلْ إِلاَّ بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ لَسَاغَ تَرْكُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا كَرِهَا الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَرْضَيَا بِهَا، كَالتَّفْرِيقِ لِلْعَيْبِ وَالْإِعْسَارِ، وَتَرْكُ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا لَا يَجُوزُ رَضِيَا بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَرْضَيَا.
24- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَوْعِ الْفُرْقَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى اللِّعَانِ أَهِيَ طَلَاقٌ أَوْ فَسْخٌ؟ وَفِي الْحُرْمَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى اللِّعَانِ أَهِيَ حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ فَلَا تَحِلُّ الْمَرْأَةُ لِلرَّجُلِ وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ؟ أَوْ هِيَ حُرْمَةٌ مُؤَقَّتَةٌ تَنْتَهِي إِذَا أَكْذَبَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ؟ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ بِاللِّعَانِ فَسْخٌ وَهِيَ تُوجِبُ التَّحْرِيمَ الْمُؤَبَّدَ كَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ الْمُتَلَاعِنَانِ إِلَى الزَّوَاجِ بَعْدَ اللِّعَانِ أَبَدًا وَلَوْ أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ أَوْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ أَوْ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فِي قَذْفِهِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ «لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا».وَلِمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ- رضي الله عنه- قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا وَلِأَنَّ اللِّعَانَ قَدْ وُجِدَ، وَهُوَ سَبَبُ التَّفْرِيقِ، وَتَكْذِيبُ الزَّوْجِ نَفْسَهُ أَوْ خُرُوجُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عَنْ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ لَا يَنْفِي وُجُودَ السَّبَبِ، بَلْ هُوَ بَاقٍ فَيَبْقَى حُكْمُهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الرَّجُلَ إِنْ كَانَ صَادِقًا فِي قَذْفِ امْرَأَتِهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَعُودَ إِلَى مُعَاشَرَتِهَا مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهَا حَتَّى لَا يَكُونَ زَوْجَ بَغِيٍّ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي قَذْفِهَا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُمَكَّنَ مِنْ مُعَاشَرَتِهَا لِإِسَاءَتِهِ إِلَيْهَا وَاتِّهَامِهَا بِهَذِهِ الْفِرْيَةِ الْعَظِيمَةِ وَإِحْرَاقِ قَلْبِهَا، وَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْفُرْقَةِ بِاللِّعَانِ طَلَاقًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الطَّلَاقِ وَلَا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ طَلَاقًا لَوَقَعَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ دُونَ لِعَانِ الْمَرْأَةِ، وَالْفُرْقَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ- عِنْدَ غَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ- لَا تَقَعُ إِلاَّ بِلِعَانِهِمَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: الْفُرْقَةُ بِسَبَبِ اللِّعَانِ تَكُونُ طَلَاقًا بَائِنًا لَا فَسْخًا، لِأَنَّهَا فُرْقَةٌ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ، وَالْقَاضِي قَامَ بِالتَّفْرِيقِ، نِيَابَةً عَنْهُ، فَيَكُونُ فِعْلُهُ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ، وَالْفُرْقَةُ مَتَى كَانَتْ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ وَأَمْكَنَ جَعْلُهَا طَلَاقًا كَانَتْ طَلَاقًا لَا فَسْخًا، وَإِنَّمَا كَانَتْ طَلَاقًا بَائِنًا، لِتَوَقُّفِهَا عَلَى الْقَضَاءِ، وَكُلُّ فُرْقَةٍ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ تُعْتَبَرُ طَلَاقًا بَائِنًا، وَقَالَا: إِنَّ الْحُرْمَةَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى اللِّعَانِ تَزُولُ إِذَا أَكْذَبَ الزَّوْجُ نَفْسَهُ أَوْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ، أَوْ خَرَجَتْ هِيَ عَنْ أَهْلِيَّتِهَا لِلشَّهَادَةِ، لِأَنَّ الزَّوْجَ إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ اعْتُبِرَ تَكْذِيبُهُ رُجُوعًا عَنِ اللِّعَانِ، وَاللِّعَانُ شَهَادَةٌ فِي رَأْيِهِمَا، وَالشَّهَادَةُ لَا حُكْمَ لَهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ عَنْهَا، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُحَدُّ الرَّجُلُ حَدَّ الْقَذْفِ، وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ إِنْ كَانَ الْقَذْفُ نَفْيَ الْوَلَدِ.
وَإِذَا خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَنْ أَهْلِيَّتِهِ لِلشَّهَادَةِ انْتَفَى السَّبَبُ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ كَانَ التَّفْرِيقُ وَهُوَ اللِّعَانُ، فَيَزُولُ حُكْمُهُ وَهُوَ التَّحْرِيمُ.
ثَانِيًا: آثَارُ اللِّعَانِ فِي حَقِّ نَسَبِ الْوَلَدِ
25- إِذَا تَمَّ اللِّعَانُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَكَانَ مَوْضُوعُهُ نَفْيَ نَسَبِ الْوَلَدِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ انْتِفَاءُ نَسَبِ الْوَلَدِ عَنِ الزَّوْجِ وَأُلْحِقَ بِأُمِّهِ، وَذَلِكَ إِذَا تَوَافَرَتِ الشُّرُوطُ الْآتِيَةُ: الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: الْفَوْرِيَّةُ:
26- أَنْ يَنْفِيَ الزَّوْجُ الْوَلَدَ عِنْدَ الْوِلَادَةِ أَوْ فِي مُدَّةِ التَّهْنِئَةِ بِالْمَوْلُودِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ تَقْدِيرُ هَذِهِ الْمُدَّةِ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ جُعِلَ تَقْدِيرُهَا مُفَوَّضًا إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي لِأَنَّ نَفْيَ الْوَلَدِ أَوْ عَدَمَ نَفْيِهِ يَحْتَاجُ إِلَى التَّفْكِيرِ وَالتَّرَوِّي قَبْلَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، إِذْ رُبَّمَا يَنْفِي نَسَبَهُ وَهُوَ مِنْهُ، أَوْ يَعْتَرِفُ بِهِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْهُ، وَكِلَاهُمَا لَا يَحِلُّ شَرْعًا، وَعَلَى هَذَا لَا بُدَّ مِنْ إِعْطَاءِ الزَّوْحِ مُدَّةً يُفَكِّرُ فِيهَا وَيُتَرَوَّى، وَهَذِهِ الْمُدَّةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ، فَلَا يُمْكِنُ تَحْدِيدُ زَمَنٍ يُطَبَّقُ بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ وَالْحَالَاتِ، فَيَجِبُ تَفْوِيضُ ذَلِكَ إِلَى الْقَاضِي.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: نَفْيُ الْوَلَدِ يَتَقَدَّرُ بِأَكْثَرِ مُدَّةِ النِّفَاسِ وَهِيَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا، لِأَنَّ النِّفَاسَ أَثَرُ الْوِلَادَةِ، فَيَأْخُذُ حُكْمَهَا، فَكَمَا يَكُونُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَنْفِيَ الْوَلَدَ عِنْدَ الْوِلَادَةِ يَكُونُ لَهُ أَيْضًا أَنْ يَنْفِيَهُ مَا دَامَ أَثَرُهَا بَاقِيًا وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّعْجِيلَ شَرْطٌ لِنَفْيِ الْحَمْلِ أَوِ الْوَلَدِ عَنِ الزَّوْجِ، فَلَوْ عَلِمَ الزَّوْجُ بِالْحَمْلِ أَوِ الْوِلَادَةِ فَسَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَهُ بِاللِّعَانِ، فَإِنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْهُ وَيُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ، سَوَاءٌ طَالَ زَمَنُ سُكُوتِهِ كَالشَّهْرِ أَوْ قَصُرَ كَالْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ لِعُذْرٍ.
وَفِي مُغْنِي الْمُحْتَاجِ: وَالنَّفْيُ لِنَسَبِ وَلَدٍ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ فِي الْأَظْهَرِ الْجَدِيدِ، لِأَنَّهُ شُرِعَ لِدَفْعِ ضَرَرٍ مُحَقَّقٍ فَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَخِيَارِ الشُّفْعَةِ، وَيُعْذَرُ الزَّوْجُ فِي تَأْخِيرِ النَّفْيِ لِعُذْرٍ، كَأَنْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ لَيْلًا فَأَخَّرَ حَتَّى يُصْبِحَ أَوْ كَانَ جَائِعًا فَأَكَلَ أَوْ عَارِيًا فَلَبِسَ، فَإِنْ كَانَ مَحْبُوسًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ خَائِفًا ضَيَاعَ مَالٍ أَرْسَلَ إِلَى الْقَاضِي لِيَبْعَثَ إِلَيْهِ نَائِبًا يُلَاعِنُ عِنْدَهُ، أَوْ لِيُعْلِمَهُ أَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى النَّفْيِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ بَطَلَ حَقُّهُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْإِرْسَالُ أَشْهَدَ إِنْ أَمْكَنَهُ، فَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ بَطَلَ حَقُّهُ.
وَفِي الْمُغْنِي لِابْنِ قُدَامَةَ: إِذَا وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ فَسَكَتَ زَوْجُهَا عَنْ نَفْيِ وَلَدِهَا مَعَ إِمْكَانِهِ لَزِمَهُ نَسَبُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا يَتَقَرَّرُ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، بَلْ هُوَ عَلَى حَسَبِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، إِنْ كَانَ لَيْلًا فَحَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْتَشِرَ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ جَائِعًا أَوْ ظَمْآنَ فَحَتَّى يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ، أَوْ يَنَامَ إِنْ كَانَ نَاعِسًا، أَوْ يَلْبَسَ ثِيَابَهُ وَيُسَرِّجَ دَابَّتَهُ وَيَرْكَبَ، وَيُصَلِّيَ إِنْ حَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَيُحَرِّزُ مَالَهُ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُحَرَّزٍ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنْ أَشْغَالِهِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: عَدَمُ الْإِقْرَارِ:
27- يُشْتَرَطُ أَلَا يَكُونَ الزَّوْجُ أَقَرَّ بِالْوَلَدِ صَرَاحَةً أَوْ دَلَالَةً، مِثَالُ الْإِقْرَارِ صَرَاحَةً أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: هَذَا وَلَدِي، أَوْ هَذَا الْوَلَدُ مِنِّي، وَمِثَالُ الْإِقْرَارِ دَلَالَةً أَنْ يَقْبَلَ التَّهْنِئَةَ بِالْمَوْلُودِ أَوْ يَسْكُتَ عِنْدَ التَّهْنِئَةِ، وَلَا يَرُدَّ عَلَى الْمُهَنِّئِ، لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَسْكُتُ عَادَةً عِنْدَ التَّهْنِئَةِ بِوَلَدٍ لَيْسَ مِنْهُ، فَإِذَا سَكَتَ كَانَ سُكُوتُهُ اعْتِرَافًا بِالنَّسَبِ دَلَالَةً.
وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَرَّ الزَّوْجُ بِالْوَلَدِ صَرَاحَةً أَوْ دَلَالَةً، أَوْ سَكَتَ عَنْ نَفْيِ نَسَبٍ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةُ التَّهْنِئَةِ، أَوْ أَكْثَرُ مُدَّةِ النِّفَاسِ، أَوْ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةٌ يُمْكِنُهُ النَّفْيُ فِيهَا وَلَمْ يَنْفِهِ ثُمَّ نَفَى نَسَبَهُ لَا يَنْتَفِي نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ، لِأَنَّ سُكُوتَهُ عَنِ النَّفْيِ حَتَّى مَضَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ يُعْتَبَرُ إِقْرَارًا مِنْهُ بِالْوَلَدِ، وَالْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهِ.
وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْحَقُّ فِي طَلَبِ اللِّعَانِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا نَفَى نَسَبَ الْوَلَدِ مِنْهُ كَانَ مُتَّهِمًا لَهَا بِالزِّنَا، فَيَكُونُ لَهَا أَنْ تَدْفَعَ الْعَارَ عَنْ نَفْسِهَا بِاللِّعَانِ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ، وَلَوْ تَمَّ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى طَلَبِ الْمَرْأَةِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ قَطْعُ نَسَبِ الْوَلَدِ عَنِ الزَّوْجِ، لِأَنَّ نَسَبَهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ صَرَاحَةً أَوْ دَلَالَةً فَلَا يُمْكِنُ نَفْيُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ إِذَا امْتَنَعَ إِجْرَاؤُهُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لِنَفْيِ نَسَبِ الْوَلَدِ، كَأَنْ وَطِئَ الْمُلَاعِنُ زَوْجَتَهُ بَعْدَ رُؤْيَتِهَا تَزْنِي، أَوْ بَعْدَ عِلْمِهِ بِوَضْعٍ أَوْ حَمْلٍ، أَوْ أَخَّرَ اللِّعَانَ بَعْدَ عِلْمِهِ بِوَضْعٍ أَوْ حَمْلٍ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ بِلَا عُذْرٍ فِي التَّأْخِيرِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَاتِ يَمْتَنِعُ لِعَانُهُ وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ وَبَقِيَتْ زَوْجَةً، وَإِنَّمَا يُحَدُّ الزَّوْجُ حَدَّ الْقَذْفِ إِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ مُسْلِمَةً.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: حَيَاةُ الْوَلَدِ:
28- أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ حَيًّا عِنْدَ اللِّعَانِ وَعِنْدَ الْحُكْمِ بِقَطْعِ نَسَبِهِ وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلَوْ وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ وَلَدًا، وَنَفَى الزَّوْحُ نَسَبَهُ مِنْهُ، ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ حُصُولِ اللِّعَانِ، أَوْ مَاتَ بَعْدَ حُصُولِهِ وَلَكِنْ قَبْلَ الْحُكْمِ بِقَطْعِ نَسَبِهِ مِنَ الزَّوْجِ لَا يَنْتَفِي عَنْهُ، لِأَنَّ النَّسَبَ يَتَقَرَّرُ بِالْمَوْتِ، وَالشَّيْءُ إِذَا تَقَرَّرَ لَا يُمْكِنُ نَفْيُهُ، وَلَكِنْ لِلزَّوْجَةِ الْحَقُّ فِي طَلَبِ إِجْرَاءِ اللِّعَانِ إِنْ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ إِجْرَائِهِ لِدَفْعِ عَارِ الزِّنَا عَنْهَا.
وَالْمَالِكِيَّةُ يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ فِي ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ لِلزَّوْجِ الْحَقَّ فِي طَلَبِ اللِّعَانِ بَعْدَ مَوْتِ الْوَلَدِ، وَذَلِكَ لِإِسْقَاطِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: حَيَاةُ الْوَلَدِ عِنْدَ اللِّعَانِ لَيْسَتْ شَرْطًا لِنَفْيِ نَسَبِهِ بِاللِّعَانِ، لِأَنَّ نَسَبَهُ لَا يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ، بَلْ يُقَالُ: مَاتَ وَلَدُ فُلَانٍ، وَهَذَا قَبْرُ وَلَدِ فُلَانٍ، وَيَلْزَمُ الزَّوْجَ تَجْهِيزُهُ وَتَكْفِينُهُ، فَيَكُونُ لَهُ نَفْيُ نَسَبِهِ وَإِسْقَاطُ مُؤْنَتِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ حَيًّا.
أَثَرُ اللِّعَانِ مِنْ حَيْثُ جَعْلِ الْوَلَدِ الْمَنْفِيِّ نَسَبُهُ أَجْنَبِيًّا
الْوَلَدُ الَّذِي يُقْطَعُ نَسَبُهُ مِنَ الْأَبِّ، وَيَلْحَقُ بِأُمِّهِ بِنَاءً عَلَى اللِّعَانِ يَكُونُ أَجْنَبِيًّا مِنْهُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَلَا يَكُونُ أَجْنَبِيًّا مِنْهُ فِي بَعْضِهَا:
29- فَيَكُونُ أَجْنَبِيًّا مِنْهُ فِي الْأَحْكَامِ الْآتِيَةِ:
أ- الْإِرْثُ: فَلَا تَوَارُثَ بَيْنَ الْمُلَاعِنِ وَبَيْنَ الْوَلَدِ الَّذِي نَفَى نَسَبَهُ بِاللِّعَانِ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، بِمَعْنَى أَنَّ قَرَابَةَ الْأُبُوَّةِ لَا تَكُونُ مُعْتَبَرَةً فِي الْإِرْثِ، فَلَوْ مَاتَ الْوَلَدُ الَّذِي نُفِيَ نَسَبُهُ بِاللِّعَانِ وَتَرَكَ مَالًا فَلَا يَرِثُهُ أَحَدٌ بِقَرَابَةِ الْأُبُوَّةِ، وَإِنَّمَا تَرِثُهُ أُمُّهُ وَأَقْرِبَاؤُهُ مِنْ جِهَتِهَا.
ب- النَّفَقَةُ: فَلَا تَجِبُ بَيْنَ الْمُلَاعِنِ وَبَيْنَ مَنْ نَفَى نَسَبَهُ بِاللِّعَانِ نَفَقَةُ الْأَبْنَاءِ عَلَى الْآبَاءِ، وَلَا نَفَقَةُ الْآبَاءِ عَلَى الْأَبْنَاءِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.
30- وَلَا يَكُونُ الْوَلَدُ أَجْنَبِيًّا مِنَ الْمُلَاعِنِ فِي الْأَحْكَامِ الْآتِيَةِ:
أ- الشَّهَادَةُ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَصْلِ الْوَاحِدِ مِنْ فُرُوعِهِ، وَبِالْعَكْسِ كَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُلَاعِنِ وَأُصُولُهُ لِمَنْ نَفَى نَسَبَهُ بِاللِّعَانِ، وَلَا شَهَادَةُ مَنْ نَفَى نَسَبَهُ وَأَحَدِ فُرُوعِهِ لِمَنْ نَفَاهُ وَلَا لأُِصُولِهِ، وَذَلِكَ لِصِحَّةِ اسْتِلْحَاقِهِ أَيِ الْوَلَدِ الْمُلَاعَنِ.
ب- الْقِصَاصُ: فَلَوْ قَتَلَ الْمُلَاعِنُ الْوَلَدَ الَّذِي نَفَاهُ بِاللِّعَانِ لَا يُقْتَلُ فِيهِ كَمَا لَوْ قَتَلَ الْأَبُ وَلَدَهُ.
ج- الِالْتِحَاقُ بِالْغَيْرِ: فَلَوِ ادَّعَى غَيْرُ الْمُلَاعِنِ الْوَلَدَ الَّذِي نَفَى نَفْسَهُ بِاللِّعَانِ لَا يَصِحُّ ادِّعَاؤُهُ وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُكَذِّبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ فَيَعُودُ نَسَبُ الْوَلَدِ لَهُ، وَمَنْ أَجْلِ هَذَا قَالَ الْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: إِنَّ الْحُكْمَ بِعَدِمِ ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ مِمَّنِ ادَّعَاهُ مُشْكِلٌ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ وَكَانَ ادِّعَاؤُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُلَاعِنِ لِأَنَّ النَّسَبَ مِمَّا يُحْتَاطُ فِي إِثْبَاتِهِ، وَالْوَلَدُ مَقْطُوعُ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِ الْمُدَّعِي وَوَقَعَ الْيَأْسُ مِنْ ثُبُوتِهِ مِنَ الْمُلَاعِنِ، وَثُبُوتُ النَّسَبِ مِنَ الْأُمِّ لَا يُنَافِي ثُبُوتَهُ مِنَ الْمُدَّعِي، لِإِمْكَانِ كَوْنِهِ وَطْأَهَا بِشُبْهَةٍ.
د- الْمَحْرَمِيَّةُ: فَلَوْ كَانَ لِلْمُلَاعِنِ بِنْتٌ مِنَ امْرَأَةٍ أُخْرَى، وَأَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهَا لِمَنْ نَفَى نَسَبَهُ بِاللِّعَانِ أَوْ لَابْنِهِ فَلَا يَحِلُّ هَذَا الزَّوَاجُ، لِأَنَّ الْوَلَدَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْنًا لِلْمُلَاعِنِ، خُصُوصًا وَأَنَّ الْفِرَاشَ الَّذِي يَثْبُتُ النَّسَبُ بِهِ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ وِلَادَتِهِ، وَمَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَا يَحِلُّ الزَّوَاجُ شَرْعًا.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّةَ بِاللِّعَانِ حُكْمُهَا أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَى نَافِيهَا وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِأُمِّهَا، لِأَنَّهَا لَا تَنْتِفِي عَنْهُ قَطْعًا لِدَلِيلِ لُحُوقِهَا بِهِ لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ وَلِأَنَّهَا رَبِيبَةٌ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا، وَتَتَعَدَّى حُرْمَتُهَا إِلَى سَائِرِ مَحَارِمِهِ، وَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ بِقَتْلِهِ لَهَا وَالْحَدِّ بِقَذْفِهِ لَهَا وَالْقَطْعِ بِسَرِقَةِ مَالِهَا، وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ لَهَا وَجْهَانِ: أَوْجَهُهُمَا عَدَمُ الْوُجُوبِ.
31- وَمِنْ آثَارِ اللِّعَانِ أَيْضًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:
أ- تَشْطِيرُ صَدَاقِ الْمُلَاعَنَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا.
ب- سُقُوطُ حَضَانَةِ الْمَرْأَةِ إِنْ لَمْ تُلَاعِنْ.
ج- اسْتِبَاحَةُ نِكَاحِ أُخْتِ الْمُلَاعَنَةِ وَمَنْ يَحْرُمُ جَمْعُهُ مَعَهَا أَوْ أَرْبَعٍ سِوَاهَا فِي عِدَّتِهَا.
تَغْلِيظُ اللِّعَانِ
32- تَغْلِيظُ اللِّعَانِ سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا يُسَنُّ التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ وَلَا بِالزَّمَانِ.وَالتَّغْلِيظُ يَكُونُ بِأَحَدِ أُمُورٍ هِيَ:
أ- التَّغْلِيظُ بِالزَّمَانِ:
33- يُغَلَّظُ لِعَانُ الْمُسْلِمِ بِزَمَانٍ وَهُوَ بَعْدَ صَلَاةِ عَصْرِ كُلِّ يَوْمٍ إِنْ كَانَ طَلَبُ اللِّعَانِ حَثِيثًا، لِأَنَّ الْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ أَغْلَظُ عُقُوبَةً لِخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»، وَعَدَّ مِنْهُمْ «رَجُلًا حَلَفَ يَمِينًا كَاذِبَةً بَعْدَ الْعَصْرِ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ».
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَلَبٌ حَثِيثٌ فَبَعْدَ صَلَاةِ عَصْرِ يَوْمِ جُمُعَةٍ أَوْلَى لِأَنَّ سَاعَةَ الْإِجَابَةِ فِيهِ.وَأَلْحَقَ بَعْضُهُمْ بِعَصْرِ الْجُمُعَةِ الْأَوْقَاتَ الشَّرِيفَةَ كَشَهْرِ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ وَيَوْمَيِ الْعِيدِ وَعَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ.
ب- التَّغْلِيظُ بِالْمَكَانِ:
34- يُغَلَّظُ اللِّعَانُ بِالْمَكَانِ، بِأَنْ يَكُونَ فِي أَشْرَفِ مَوَاضِعِ بَلَدِهِ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَأْثِيرًا فِي الزَّجْرِ عَنِ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ.
فَفِي مَكَّةَ يَكُونُ بَيْنَ الرُّكْنِ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ وَبَيْنَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ- عليه السلام-.وَاللِّعَانُ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ يَكُونُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ مِمَّا يَلِي الْقَبْرَ الشَّرِيفَ، وَقَالَ فِي الْأُمِّ وَالْمُخْتَصَرِ: يَكُونُ فِي الْمِنْبَرِ.وَاللِّعَانُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، لِأَنَّهَا أَشْرَفُ بِقَاعِهِ إِذْ هِيَ قِبْلَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهَا مِنَ الْجَنَّةِ.وَالتَّغْلِيظُ بِالْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لِمَنْ هُوَ بِهَا، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا لَمْ يَجُزْ نَقْلُهُ إِلَيْهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ. وَالتَّغْلِيظُ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ مِنْبَرِ الْجَامِعِ لِأَنَّهُ الْمُعَظَّمُ.
وَتُلَاعِنُ الْمَرْأَةُ الْحَائِضُ بِبَابِ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ لِتَحْرِيمِ مُكْثِهَا فِيهِ.
وَيُلَاعِنُ كِتَابِيٌّ فِي بَيْعَةٍ وَكَنِيسَةٍ وَيَقُولُ الْيَهُودِيُّ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَيَقُولُ النَّصْرَانِيُّ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى.
وَيُلَاعِنُ الْمَجُوسِيُّ فِي بَيْتِ نَارِهِمْ فِي الْأَصَحِّ لِأَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَهُ، وَالْمَقْصُودُ الزَّجْرُ عَنِ الْكَذِبِ.
أَمَّا تَغْلِيظُ الْكَافِرِ بِالزَّمَانِ فَيُعْتَبَرُ بِأَشْرَفِ الْأَوْقَاتِ عِنْدَهُمْ كَمَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيَّ.
ج- التَّغْلِيظُ بِحُضُورِ جَمْعٍ:
35- يُغَلَّظُ اللِّعَانُ بِحُضُورِ جَمْعٍ مِنْ عُدُولِ أَعْيَانِ بَلَدِ اللِّعَانِ وَصُلَحَائِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ وَلِأَنَّ فِيهِ رَدْعًا عَنِ الْكَذِبِ، وَأَقَلُّهُ أَرْبَعَةٌ لِثُبُوتِ الزِّنَا بِهِمْ، فَاسْتُحِبَّ أَنْ يَحْضُرَ ذَلِكَ الْعَدَدُ إِتْيَانَهُ بِاللِّعَانِ، وَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ الْحَاكِمِ كَمَا سَبَقَ. سُنَنُ اللِّعَانِ
أ- وَعْظُ الْقَاضِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ:
36- يُسَنُّ لِلْقَاضِي أَوْ نَائِبِهِ وَعْظُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- لِهِلَالٍ: «عَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ» وَيَقْرَأُ عَلَيْهِمَا: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} وَيَقُولُ لَهُمَا: قَالَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ: «اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ»،، وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعِ يُبَالِغُ الْقَاضِي وَمَنْ فِي حُكْمِهِ فِي وَعْظِهِمَا عِنْدَ الْخَامِسَةِ مِنْ لِعَانِهِمَا قَبْلَ شُرُوعِهِمَا فِيهَا.
ب- قِيَامُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ:
37- يُسَنُّ لِلْمَتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يَتَلَاعَنَا قَائِمَيْنِ لِيَرَاهُمَا النَّاسُ وَيَشْتَهِرُ أَمْرُهُمَا، فَيَقُومُ الرَّجُلُ عِنْدَ لِعَانِهِ وَالْمَرْأَةُ جَالِسَةٌ، وَتَقُومُ الْمَرْأَةُ عِنْدَ لِعَانِهَا وَيَجْلِسُ الرَّجُلُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ لَاعَنَ قَاعِدًا أَوْ مُضَّجِعًا.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
114-موسوعة الفقه الكويتية (مارن)
مَارِنٌالتَّعْرِيفُ:
1- مِنْ مَعَانِي الْمَارِنِ فِي اللُّغَةِ: الْأَنْفُ، أَوْ: طَرَفُهُ، أَوْ: مَا لَانَ مِنَ الْأَنْفِ، وَقِيلَ: مَا لَانَ مِنَ الْأَنْفِ مُنْحَدِرًا عَنِ الْعَظْمِ وَفَضَلَ عَنِ الْقَصَبَةِ.
وَالْمَارِنُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: طَرَفُ الْأَنْفِ أَوْ مَا لَانَ مِنْهُ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْأَنْفُ:
2- الْأَنْفُ هُوَ عُضْوُ التَّنَفُّسِ وَالشَّمِّ، وَهُوَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الْمَنْخِرَيْنِ وَالْحَاجِزِ، وَالْجَمْعُ أُنُوفٌ وَآنَافٌ وَآنُفٌ.
فَالْأَنْفُ أَعَمُّ مِنَ الْمَارِنِ اصْطِلَاحًا.
ب- الْوَتَرَةُ:
3- الْوَتَرَةُ وَالْوَتِيرَةُ فِي الْأَنْفِ صِلَةُ مَا بَيْنَ الْمَنْخِرَيْنِ، وَقِيلَ: الْوَتِيرَةُ مِنَ الْأَنْفِ الْحَاجِزُ بَيْنَ الْمَنْخِرَيْنِ مِنْ مُقَدَّمِ الْأَنْفِ دُونَ الْغُضْرُوفِ.
قَالَ الْعَدَوِيُّ: هِيَ الْحَاجِزُ بَيْنَ طَاقَتَيِ الْأَنْفِ وَقَالَ الْحَطَّابُ: الْوَتَرَةُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ هِيَ الْحَاجِزُ بَيْن ثُقْبَيِ الْأَنْفِ.
وَالْوَتَرَةُ وَالْمَارِنُ جُزْءٌ مِنَ الْأَنْفِ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَقِّلَةُ بِالْمَارِنِ:
غَسْلُ الْمَارِنِ فِي الْوُضُوءِ
4- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ غَسْلَ ظَاهِرِ الْمَارِنِ وَاجِبٌ فِي الْوُضُوءِ وَالطَّهَارَةِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي فُرِضَ غَسْلُهُ فِي الْوُضُوءِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} قَالَ الْفُقَهَاءُ: وَالْوَجْهُ مَا تَقَعُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ وَمِنْهُ ظَاهِرُ الْمَارِنِ.
وَأَمَّا غَسْلُ الْمَارِنِ مِنْ دَاخِلِ الْأَنْفِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ إِيصَالَ الْمَاءِ إِلَى الْمَارِنِ فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ، وَأَمَّا فِي الْغُسْلِ فَهُوَ فَرْضٌ عِنْدَهُمْ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ إِيصَالَ الْمَاءِ إِلَى الْمَارِنِ دَاخِلَ الْأَنْفِ سُنَّةٌ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا يَجِبُ فِي الْوُضُوءِ غَسْلُ دَاخِلِ الْأَنْفِ قَطْعًا، وَلَكِنْ يَجِبُ غَسْلُ ذَلِكَ إِنْ تَنَجَّسَ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ الِاسْتِنْشَاقُ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَهُوَ اجْتِذَابُ الْمَاءِ بِالنَّفَسِ إِلَى بَاطِنِ الْأَنْفِ، وَلَا يَجِبُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى جَمِيعِ بَاطِنِ الْأَنْفِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مُبَالَغَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الصَّائِمِ.
دِيَةُ الْمَارِنِ
5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَارِنَ إِذَا قُطِعَ مِنَ الْأَنْفِ فِي غَيْرِ عَمْدٍ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ لِخَبَرِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «فِي الْأَنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ»، وَلِأَنَّ فِيهِ جَمَالًا وَمَنْفَعَةً زَالَتَا بِالْقَطْعِ فَوَجَبَتِ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَاتٌ ف 35).
الْقِصَاصُ فِي الْمَارِنِ
6- الْجِنَايَةُ عَلَى الْمَارِنِ عَمْدًا مُوجِبَةٌ لِلْقِصَاصِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ}.
وَلِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْلِ فِيهِ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّ لَهُ حَدًّا مَعْلُومًا وَهُوَ مَا لَانَ مِنْهُ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ف 20).
هَلِ انْفِرَاقُ أَرْنَبَةِ الْمَارِنِ مِنْ عَلَامَاتِ الْبُلُوغِ؟
7- ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مِنْ عَلَامَاتِ الْبُلُوغِ فِي الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فَرْقُ أَرْنَبَةِ الْمَارِنِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ انْفِرَاقَ الْأَرْنَبَةِ لَيْسَ مِنْ عَلَامَاتِ الْبُلُوغِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (بُلُوغٌ ف 16).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
115-موسوعة الفقه الكويتية (مباشرة)
مُبَاشَرَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- مِنْ مَعَانِي الْمُبَاشَرَةِ فِي اللُّغَةِ:
الْمُلَامَسَةُ وَأَصْلُهُ مِنْ لَمْسِ بَشَرَةِ الرَّجُلِ بَشَرَةَ الْمَرْأَةِ وَمِنْ مَعَانِيهَا- أَيْضًا-:
الْجِمَاعُ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنْ ذَلِكَ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُبَاشَرَةِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْمُبَاشَرَةِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
مُبَاشَرَةُ الْحَائِضِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ
2- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ وَطْءَ الْحَائِضِ فِي الْفَرْجِ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} كَمَا لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي جَوَازِ مُبَاشَرَتِهَا فِيمَا فَوْقَ السُّرَّةِ وَدُونَ الرُّكْبَةِ لِحَدِيثِ: أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «سُئِلَ عَمَّا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنَ امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَائِضٌ؟ فَقَالَ: مَا فَوْقَ الْإِزَارِ» وَاخْتَلَفُوا فِي مُبَاشَرَتِهَا فِيمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ حَرَامٌ وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَتْ إِحْدَانَا إِذَا كَانَتْ حَائِضًا فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُبَاشِرَهَا أَمَرَهَا أَنْ تَتَّزِرَ فِي فَوْرِ حَيْضَتِهَا ثُمَّ يُبَاشِرُهَا».
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ أَنْ يَصْنَعَ كُلَّ شَيْءٍ مَا عَدَا الْوَطْءَ.
وَلِلتَّفْصِيلِ- يُنْظَرُ (حَيْضٌ ف 42).
مُبَاشَرَةُ الصَّائِمِ
3- يَجُوزُ لِلصَّائِمِ أَنْ يُبَاشِرَ زَوْجَتَهُ بِمَا دُونَ الْفَرْجِ إِنْ أَمِنَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ وَلَا يَبْطُلُ صَوْمُهُ إِنْ لَمْ يُنْزِلْ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ» (ر: صَوْمٌ ف 39).
وَتَحْرُمُ الْمُبَاشَرَةُ إِنْ كَانَتْ تُحَرِّكُ شَهْوَتَهُ لِخَبَرِ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: رَخَّصَ فِي الْقُبْلَةِ لِلشَّيْخِ وَهُوَ صَائِمٌ وَنَهَى عَنْهَا الشَّابَّ وَقَالَ: الشَّيْخُ يَمْلِكُ إِرْبَهُ وَالشَّابُّ يَفْسُدُ صَوْمُهُ»
قَالَ الرَّمْلِيُّ: فَفَهِمْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ أَنَّهُ دَائِرٌ مَعَ تَحْرِيكِ الشَّهْوَةِ وَعَدَمِهَا وَلِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضًا لِإِفْسَادِ الْعِبَادَةِ.
وَالْمُبَاشَرَةُ وَالْمُعَانَقَةُ كَالْقُبْلَةِ.
مُبَاشَرَةُ الْمُعْتَكِفِ
4- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ بِمَعْنَى الْوَطْءِ يَحْرُمُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ لقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}.وَأَمَّا الْمُبَاشَرَةُ بِلَا وَطْءٍ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (اعْتِكَافٌ ف 27).
مُبَاشَرَةُ الْمُحْرِمِ
5- يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ مُبَاشَرَةُ النِّسَاءِ بِأَنْوَاعِهَا:
الْجِمَاعُ وَالْقُبْلَةُ وَالْمُعَانَقَةُ وَاللَّمْسُ بِشَهْوَةٍ وَلَوْ مَعَ عَدَمِ الْإِنْزَالِ، لقوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْرَامٌ ف 93).
التَّعَدِّي عَلَى الْغَيْرِ بِالْمُبَاشَرَةِ
6- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ التَّعَدِّيَ عَلَى الْغَيْرِ مُبَاشَرَةً هُوَ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الضَّمَانِ.
كَمَا اتَّفَقُوا فِي الْجُمْلَةِ: عَلَى أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ الْمُبَاشِرُ وَالْمُتَسَبِّبُ أُضِيفَ الْحُكْمُ إِلَى الْمُبَاشِرِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ.فَالْقَاعِدَةُ: إِذَا اجْتَمَعَ السَّبَبُ وَالْمُبَاشَرَةُ أَوِ الْغُرُورُ وَالْمُبَاشَرَةُ قُدِّمَتِ الْمُبَاشَرَةُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
116-موسوعة الفقه الكويتية (مجلس)
مَجْلِسٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْمَجْلِسُ (بِكَسْرِ اللاَّمِ) مَوْضِعُ الْجُلُوسِ وَبِفَتْحِهَا: مَصْدَرٌ وَالْجُلُوسُ: الْقُعُودُ وَهُوَ نَقِيضُ الْقِيَامِ.
وَالْجِلْسَةُ: الْحَالُ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الْجَالِسُ.
وَالْجَلِيسُ: مَنْ يُجَالِسُكَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ.
وَجَمْعُ الْمَجْلِسِ: مَجَالِسُ.
وَقَدْ يُطْلَقُ الْمَجْلِسُ عَلَى أَهْلِهِ مَجَازًا تَسْمِيَةً لِلْحَالِ بِاسْمِ الْمَحِلِّ فَيُقَالُ: اتَّفَقَ الْمَجْلِسُ.
وَتُسْتَعْمَلُ الْمَجَالِسُ بِمَعْنَى الْجُلُوسِ كَمَا فِي حَدِيثِ: «فَإِذَا أَتَيْتُمْ إِلَى الْمَجَالِسِ...».
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْحَلْقَةُ:
2- الْحَلْقَةُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ مُسْتَدِيرُونَ كَحَلْقَةِ الْبَابِ وَغَيْرِهَا.
وَالتَّحَلُّقُ: عَلَى وَزْنِ تَفَعُّلٍ وَهُوَ تَعَمُّدُ الْجُلُوسِ مُسْتَدِيرِينَ كَالْحَلْقَةِ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.وَالصِّلَةُ أَنَّ الْمَجْلِسَ قَدْ يَكُونُ عَلَى هَيْئَةِ الْحَلْقَةِ.
صِفَةُ الْمَجْلِسِ وَهَيْئَةُ أَهْلِهِ
3- لَمْ تُفْرَضْ فِي الْمَجْلِسِ صِفَةٌ مُعَيَّنَةٌ وَإِنَّمَا شُرِعَتْ لَهُ آدَابٌ وَهُنَاكَ إِشَارَاتٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ مَجَالِسِ السَّلَفِ كَانَتْ بِصِفَةِ الْحَلْقَةِ وَكَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يُرْشِدُ إِلَى تَوْسِعَةِ الْمَجْلِسِ فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «خَيْرُ الْمَجَالِسِ أَوْسَعُهَا» وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: يُصْفِي لَكَ وُدَّ أَخِيكَ ثَلَاثٌ...وَيَعُدُّ مِنْهَا أَنْ تُوَسِّعَ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ.
أَمَّا هَيْئَةُ الْجَالِسِ مَعَ غَيْرِهِ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهَا إِلاَّ مَا كَانَ مُفْضِيًا إِلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ أَوْ جُزْءٍ مِنْهَا.
وَهُنَاكَ هَيْئَةٌ فِي الْجُلُوسِ تَدُلُّ عَلَى التَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ وَالْقَسْوَةِ نَهَى عَنْهَا الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَاهُ الشَّرِيدُ بْنُ سُوَيْدٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا جَالِسٌ وَقَدْ وَضَعْتُ يَدِيَ الْيُسْرَى خَلْفَ ظَهْرِي وَاتَّكَأْتُ عَلَى أَلْيَةِ يَدِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَتَقْعُدُ قَعْدَةَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ».
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ بِزِيَادَةٍ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَضْعُ رَاحَتَيْكَ عَلَى الْأَرْضِ.
قَالَ الْعَظِيمَ آبَادِي: الْأَلْيَةُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ: اللَّحْمَةُ الَّتِي فِي أَصْلِ الْإِبْهَامِ وَقَالَ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ أَعَمُّ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ الْمُتَكَبِّرِينَ الْمُتَجَبِّرِينَ مِمَّنْ تَظْهَرُ آثَارُ الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ عَلَيْهِمْ مِنْ قُعُودِهِمْ وَمَشْيِهِمْ وَنَحْوِهِمَا.
وَلِلْجُلُوسِ لِلْأَكْلِ هَيْئَاتٌ وَآدَابٌ مُسْتَحَبَّةٌ مِنْهَا: عَدَمُ الِاتِّكَاءِ فِي الْجِلْسَةِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي (أَكْلٌ ف 19).
4- وَمِمَّا عُرِفَ مِنْ هَيْئَاتِ جُلُوسِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-
أ- التَّرَبُّعُ فَفِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ- رضي الله عنه-: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ تَرَبَّعَ فِي مَجْلِسِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسْنَاءَ».
ب- الِاتِّكَاءُ وَقَدْ أَشَارَتْ إِلَيْهِ أَحَادِيثُ مِنْهَا حَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ- رضي الله عنه-: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ».
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: كُلُّ مُعْتَمِدٍ عَلَى شَيْءٍ مُتَمَكِّنٍ مِنْهُ فَهُوَ مُتَّكِئٌ.
قَالَ الْمُهَلَّبُ: يَجُوزُ لِلْعَالِمِ وَالْمُفْتِي وَالْإِمَامِ الِاتِّكَاءُ فِي مَجْلِسِهِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ لِأَلَمٍ يَجِدُهُ فِي بَعْضِ أَعْضَائِهِ أَوْ لِرَاحَةٍ يَرْتَفِقُ بِذَلِكَ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي عَامَّةِ جُلُوسِهِ.
ج- الِاضْطِجَاعُ: وَهُوَ: وَضْعُ الْجَنْبِ عَلَى الْأَرْضِ فَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «كَانَ النَّبِيُّ إِذَا صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ».
د- الِاحْتِبَاءُ: وَهُوَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى أَلْيَتَيْهِ رَافِعًا رُكْبَتَيْهِ مُحْتَوِيًا عَلَيْهِمَا بِيَدَيْهِ أَوْ غَيْرِهِمَا.
فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ مُحْتَبِيًا بِيَدِهِ هَكَذَا..».
هـ- الِاسْتِلْقَاءُ هُوَ الِاضْطِجَاعُ عَلَى الْقَفَا وَوَضْعُ الظَّهْرِ عَلَى الْأَرْضِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ نَوْمٌ أَمْ لَا فَعَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ «أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- مُسْتَلْقِيًا فِي الْمَسْجِدِ وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى».
وَقَدْ عُرِفَ مِنْ عَادَةِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ كَانَ يَجْلِسُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ بِالْوَقَارِ التَّامِّ فَمَا وَرَدَ مِنَ اسْتِلْقَائِهِ- عليه السلام- إِنَّمَا كَانَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَكَانَ فِي وَقْتِ الِاسْتِرَاحَةِ لَا عِنْدَ مُجْتَمَعِ النَّاسِ.
مَكَانُ الْمَجْلِسِ
5- تُعْقَدُ الْمَجَالِسُ فِي كُلِّ مَكَانٍ مُنَاسِبٍ لَهَا مَعَ مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ وَتَجَنُّبِ الْأَمَاكِنِ الَّتِي قَدْ يُفْضِي الْجُلُوسُ بِهَا إِلَى مَفَاسِدَ وَمَضَارَّ.
وَصَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ الْجُلُوسُ عَلَى الطُّرُقَاتِ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «اجْتَنِبُوا مَجَالِسَ الصُّعُدَاتِ فَقُلْنَا إِنَّمَا قَعَدْنَا لِغَيْرِ مَا بَأْسٍ، قَعَدْنَا نَتَذَاكَرُ وَنَتَحَدَّثُ، قَالَ: أَمَّا لَا، فَأَدُّوا حَقَّهَا: غُضُّوا الْبَصَرَ وَرُدُّوا السَّلَامَ وَحَسِّنُوا الْكَلَامَ».
وَزَادَ أَبُو دَاوُدَ «وَإِرْشَادُ السَّبِيلِ» وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا: «وَتُغِيثُوا الْمَلْهُوفَ وَتُهْدُوا الضَّالَّ».
وَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْفِتَنِ وَالْأَذَى.
قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: أَمَّا الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ فَالْمُرُوءَةُ وَالنَّزَاهَةُ اجْتِنَابُ الْجُلُوسِ فِيهِ، فَإِنْ جَلَسَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ حَقَّ الطَّرِيقِ: غَضُّ الْبَصَرِ، وَإِرْشَادُ الضَّالِّ، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَجَمْعُ اللُّقَطَةِ لِلتَّعْرِيفِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَمَنْ جَلَسَ وَلَمْ يُعْطِ الطَّرِيقَ حَقَّهَا فَقَدِ اسْتَهْدَفَ لِأَذِيَّةِ النَّاسِ.
آدَابُ الْمَجْلِسِ
مِنْ آدَابِ الْمَجْلِسِ مَا يَلِي:
أ- التَّفَسُّحُ فِي الْمَجْلِسِ وَعَدَمُ الْجُلُوسِ وَسْطَ الْحَلْقَةِ:
6- صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ الْجُلُوسُ فِي وَسْطِ الْحَلْقَةِ كَحَلْقَةِ الذِّكْرِ وَالْعِلْمِ وَالطَّعَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَعَنَ مَنْ جَلَسَ وَسْطَ الْحَلْقَةِ» وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِذَا كَانَ فِي الْحَلْقَةِ فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَعَدَ خَلْفَهُ يَتَأَخَّرُ قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: يَعْنِي أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ فِي وَسْطِ الْحَلْقَةِ وَيَتَوَجَّهَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ.
وَالْجُلُوسُ فِي وَسْطِ الْحَلْقَةِ مَعْنَاهُ: أَنْ يَأْتِيَ حَلْقَةً فَيَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ وَيَقْعُدَ وَسْطَ الْقَوْمِ، وَلَا يَقْعُدُ حَيْثُ يَنْتَهِي الْمَجْلِسُ، أَوْ أَنْ يَقْعُدَ وَسْطَ الْحَلْقَةِ مُقَابِلًا بَيْنَ وُجُوهِ الْمُتَحَلِّقِينَ فَيَحْجُبَ بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا لُعِنَ لِأَنَّهُمْ يَلْعَنُونَهُ وَيَذُمُّونَهُ لِتَأَذِّيهِمْ.
وَقِيلَ: اللَّعْنُ مُخْتَصٌّ بِمَنْ يَجْلِسُ اسْتِهْزَاءً كَالْمُضْحِكِ وَبِمَنْ يَجْلِسُ لِأَخْذِ الْعِلْمِ نِفَاقًا.
ب- تَجَنُّبُ إِقَامَةِ شَخْصٍ مِنْ مَجْلِسِهِ:
7- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي تَخْصِيصُ مَكَانٍ لِنَفْسِهِ فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْخُشُوعِ أَيْ لِأَنَّهُ إِذَا اعْتَادَهُ ثُمَّ صَلَّى فِي غَيْرِهِ يَبْقَى بَالُهُ مَشْغُولًا بِالْأَوَّلِ بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَأْلَفْ مَكَانًا مُعَيَّنًا.
وَقَالُوا: لَيْسَ لِمَنْ لَهُ فِي الْمَسْجِدِ مَوْضِعٌ مُعَيَّنٌ يُوَاظِبُ عَلَيْهِ- وَلَوْ مُدَرِّسًا- وَقَدْ شَغَلَهُ غَيْرُهُ إِزْعَاجُ هَذَا الْغَيْرِ مِنْهُ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَيْسَ مِلْكًا لِأَحَدٍ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِمَا إِذَا لَمْ يَقُمْ عَنْهُ عَلَى نِيَّةِ الْعَوْدِ بِلَا مُهْلَةٍ كَمَا لَوْ قَامَ لِلْوُضُوءِ مَثَلًا وَلَا سِيَّمَا إِذَا وَضَعَ فِيهِ ثَوْبَهُ لِتَحَقُّقِ سَبْقِ يَدِهِ.
وَقَالَ الْخَيْرُ الرَّمْلِيُّ: مَثَلُ الْمَسْجِدِ مَقَاعِدُ الْأَسْوَاقِ الَّتِي يَتَّخِذُهَا الْمُحْتَرِفُونَ: مَنْ سَبَقَ لَهَا فَهُوَ الْأَحَقُّ بِهَا وَلَيْسَ لِمُتَّخِذِهَا أَنْ يُزْعِجَهُ إِذْ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا مَا دَامَ فِيهَا فَإِذَا قَامَ عَنْهَا اسْتَوَى هُوَ وَغَيْرُهُ فِيهَا مُطْلَقًا قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالْمُرَادُ بِهَا (بِالْمَقَاعِدِ) الَّتِي لَا تَضُرُّ الْعَامَّةَ وَإِلاَّ أُزْعِجَ فِيهَا مُطْلَقًا.
وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ إِذَا ضَاقَ الْمَسْجِدُ فَلِلْمُصَلِّي إِزْعَاجُ الْقَاعِدِ وَلَوْ مُشْتَغِلًا بِقِرَاءَةٍ أَوْ دَرْسٍ وَكَذَا إِذَا لَمْ يَضِقْ لَكِنْ فِي قُعُودِ الْقَاعِدِ قَطْعٌ لِلصَّفِّ.
وَفِي شَرْحِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ لِلسَّرَخْسِيِّ: وَكَذَا كُلُّ مَا يَكُونُ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ سَوَاءً كَالنُّزُولِ فِي الرِّبَاطَاتِ وَالْجُلُوسِ فِي الْمَسَاجِدِ لِلصَّلَاةِ وَالنُّزُولِ بِمِنًى أَوْ عَرَفَاتٍ لِلْحَجِّ حَتَّى لَوْ ضَرَبَ فُسْطَاطَهُ فِي مَكَانٍ كَانَ يَنْزِلُ فِيهِ غَيْرُهُ فَهُوَ أَحَقُّ وَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يُحَوِّلَهُ فَإِنْ أَخَذَ مَوْضِعًا فَوْقَ مَا يَحْتَاجُهُ فَلِلْغَيْرِ أَخْذُ الزَّائِدِ مِنْهُ.
وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يَقُومُ مِنَ الْمَجْلِسِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَزْعُمُ أَنَّهُ إِذَا قَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ أَنَّهُ أَحَقُّ بِهِ فَقَالَ: سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ شَيْئًا وَإِنَّهُ لَحَسَنٌ إِنْ كَانَ إِتْيَانُهُ قَرِيبًا وَإِنْ تَبَاعَدَ ذَلِكَ حَتَّى يَذْهَبَ بَعِيدًا وَنَحْوَ ذَلِكَ فَلَا أَرَى ذَلِكَ لَهُ وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ رُشْدٍ مَعْنَاهُ: إِذَا قَامَ عَنْهُ عَلَى أَنْ لَا يَرْجِعَ إِلَيْهِ وَأَمَّا إِنْ قَامَ عَنْهُ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ إِنْ رَجَعَ بِالْقُرْبِ فَتَحْصِيلُ هَذَا أَنَّهُ إِنْ قَامَ عَنْهُ عَلَى أَنْ لَا يَرْجِعَ إِلَيْهِ فَرَجَعَ بِالْقُرْبِ حَسَنٌ أَنْ يَقُومَ لَهُ عَنْهُ مَنْ جَلَسَ بَعْدَهُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ بِالْقُرْبِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِحْسَانِ وَإِنْ قَامَ عَنْهُ عَلَى أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ فَعَادَ إِلَيْهِ بِالْقُرْبِ كَانَ أَحَقَّ بِهِ وَوَجَبَ عَلَى مَنْ جَلَسَ فِيهِ بَعْدَهُ أَنْ يَقُومَ لَهُ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ بِالْقُرْبِ حَسُنَ أَنْ يَقُومَ لَهُ عَنْهُ مَنْ جَلَسَ فِيهِ بَعْدَهُ وَلَمْ يَجِبْ ذَلِكَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَحْرُمُ أَنْ يُقِيمَ أَحَدًا وَلَوْ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ لِيَجْلِسَ مَكَانَهُ لِخَبَرِ: «نَهَى أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ آخَرُ وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا».
فَإِنْ قَامَ الْجَالِسُ بِاخْتِيَارِهِ وَأَجْلَسَ غَيْرَهُ فَلَا كَرَاهَةَ فِي جُلُوسِ غَيْرِهِ وَأَمَّا هُوَ فَإِنِ انْتَقَلَ إِلَى مَكَانٍ أَقْرَبَ إِلَى الْإِمَامِ أَوْ مِثْلِهِ لَمْ يُكْرَهْ وَإِلاَّ كُرِهَ إِنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ، كَإِيثَارٍ، نَحْوُ عَالِمٍ وَقَارِئٍ؛ لِأَنَّ الْإِيثَارَ بِالْقُرْبِ مَكْرُوهٌ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: اسْتَثْنَى أَصْحَابُنَا مَنْ أَلِفَ مِنَ الْمَسْجِدِ مَوْضِعًا يُفْتِي فِيهِ أَوْ يُقْرِئُ فِيهِ قُرْآنًا أَوْ عِلْمًا فَلَهُ أَنْ يُقِيمَ مَنْ سَبَقَهُ إِلَى الْقُعُودِ فِيهِ، وَفِي مَعْنَاهُ- كَمَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ- مَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ الشَّوَارِعِ وَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ لِمُعَامَلَةٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَبْعَثَ مَنْ يَقْعُدُ لَهُ فِي مَكَانٍ لِيَقُومَ عَنْهُ إِذَا جَاءَ هُوَ.
وَإِذَا فُرِشَ لِأَحَدٍ ثَوْبٌ أَوْ نَحْوُهُ فَلِغَيْرِهِ تَنْحِيَتُهُ وَالصَّلَاةُ مَكَانَهُ لَا الْجُلُوسُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ، وَلَا يَرْفَعُهُ بِيَدِهِ أَوْ غَيْرِهَا لِئَلاَّ يَدْخُلَ فِي ضَمَانِهِ.
وَمَنْ جَلَسَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِهِ لِصَلَاةٍ مَثَلًا ثُمَّ فَارَقَهُ لِيَعُودَ إِلَيْهِ- بَعْدَ وُضُوءٍ مَثَلًا أَوْ شُغْلٍ يَسِيرٍ- لَا يَبْطُلُ اخْتِصَاصُهُ بِهِ وَلَهُ أَنْ يُقِيمَ مَنْ قَعَدَ فِيهِ وَعَلَى الْقَاعِدِ أَنْ يُطِيعَهُ وُجُوبًا عَلَى الْأَصَحِّ وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ فَيَجْلِسَ مَكَانَهُ وَلَوْ عَبْدَهُ الْكَبِيرَ أَوْ وَلَدَهُ الْكَبِيرَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ دِينِيٌّ فَاسْتَوَى فِيهِ السَّيِّدُ وَعَبْدُهُ وَالْوَالِدُ وَوَلَدُهُ، أَوْ كَانَتْ عَادَتُهُ الصَّلَاةَ فِيهِ، حَتَّى الْمُعَلِّمُ وَنَحْوُهُ كَالْمُفْتِي وَالْمُحَدِّثِ، وَمَنْ يَجْلِسُ لِلْمُذَاكَرَةِ فِي الْفِقْهِ إِذَا جَلَسَ إِنْسَانٌ مَوْضِعَ حَلْقَتِهِ حَرُمَ عَلَيْهِ إِقَامَتُهُ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: «نَهَى أَنْ يُقَامَ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ آخَرُ وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا» وَلَكِنْ يَقُولُ: افْسَحُوا؛ وَلِأَنَّ الْمَسْجِدَ بَيْتُ اللَّهِ وَالنَّاسُ فِيهِ سَوَاءٌ إِلاَّ الصَّغِيرُ فَيُؤَخَّرُ.
وَقَوَاعِدُ الْمَذْهَبِ: تَقْتَضِي عَدَمَ صِحَّةِ صَلَاةِ مَنْ أَخَّرَ مُكَلَّفًا وَجَلَسَ مَكَانَهُ؛ لِشَبَهِهِ الْغَاصِبَ إِلاَّ مَنْ جَلَسَ بِمَوْضِعٍ يَحْفَظُهُ لِغَيْرِهِ بِإِذْنِهِ أَوْ دُونَهُ لِأَنَّ النَّائِبَ يَقُومُ بِاخْتِيَارِهِ وَلِأَنَّهُ قَعَدَ فِيهِ لِحِفْظِهِ لَهُ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إِلاَّ بِإِقَامَتِهِ لَكِنْ إِنْ جَلَسَ فِي مَكَانِ الْإِمَامِ أَوْ طَرِيقِ الْمَارَّةِ أَوِ اسْتَقْبَلَ الْمُصَلِّينَ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ أُقِيمَ.
وَيُكْرَهُ إِيثَارُهُ غَيْرَهُ بِمَكَانِهِ الْأَفْضَلِ كَالصَّفِّ الْأَوَّلِ وَنَحْوِهِ وَكَيَمِينِ الْإِمَامِ وَيَتَحَوَّلُ إِلَى مَا دُونَهُ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الرَّغْبَةِ عَنِ الْمَكَانِ الْأَفْضَلِ، وَظَاهِرُهُ: وَلَوْ آثَرَ بِهِ وَالِدَهُ وَنَحْوَهُ، وَلَا يُكْرَهُ لِلْمُؤْثَرِ قَبُولُ الْمَكَانِ الْأَفْضَلِ وَلَا رَدُّهُ، فَلَوْ آثَرَ- الْجَالِسُ بِمَكَانِ أَفْضَلَ- زَيْدًا فَسَبَقَهُ إِلَيْهِ عَمْرٌو حَرُمَ عَلَى عَمْرٍو سَبْقُهُ إِلَيْهِ، وَإِنْ وَجَدَ مُصَلًّى مَفْرُوشًا فَلَيْسَ لَهُ رَفْعُهُ لِأَنَّهُ كَالنَّائِبِ عَنْهُ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الِافْتِيَاتِ عَلَى صَاحِبِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَالْإِفْضَاءِ إِلَى الْخُصُومَةِ، وَقَاسَهُ فِي الشَّرْحِ عَلَى رَحَبَةِ الْمَسْجِدِ، وَمَقَاعِدُ الْأَسْوَاقِ مَا لَمْ تَحْضُرِ الصَّلَاةُ فَلَهُ رَفْعُهُ وَالصَّلَاةُ مَكَانَهُ لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا الْحُرْمَةُ لِرَبِّهِ، وَلَمْ يَحْضُرْ، وَلَا الْجُلُوسُ وَلَا الصَّلَاةُ عَلَيْهِ.
قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيَتَوَجَّهُ إِنْ حَرُمَ رَفْعُهُ فَلَهُ فَرْشُهُ، وَإِلاَّ كُرِهَ، وَمَنَعَ مِنَ الْفَرْشِ الشَّيْخَ لِتَحَجُّرِهِ مَكَانًا مِنَ الْمَسْجِدِ، وَمَنْ قَامَ مِنْ مَوْضِعِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ لِعَارِضٍ لَحِقَهُ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ قَرِيبًا فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا «مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» وَقَيَّدَهُ فِي الْوَجِيزِ بِمَا إِذَا عَادَ وَلَمْ يَتَشَاغَلْ بِغَيْرِهِ مَا لَمْ يَكُنْ صَبِيًّا قَامَ فِي صَفٍّ فَاضِلٍ أَوْ فِي وَسْطِ الصَّفِّ ثُمَّ قَامَ لِعَارِضٍ ثُمَّ عَادَ فَيُؤَخَّرُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَقُمْ مِنْهُ بِالْأَوْلَى، فَإِنْ لَمْ يَصِلِ الْعَائِدُ إِلَيْهِ إِلاَّ بِالتَّخَطِّي جَازَ لَهُ التَّخَطِّي، كَمَنْ رَأَى فُرْجَةً لَا يَصِلُ إِلَيْهَا إِلاَّ بِهِ.
ج- السَّلَامُ:
8- قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَوْ دَخَلَ شَخْصٌ مَجْلِسًا فَإِنْ كَانَ الْجَمْعُ قَلِيلًا يَعُمُّهُمْ سَلَامٌ وَاحِدٌ فَسَلَّمَ كَفَاهُ، فَإِنْ زَادَ فَخَصَّصَ بَعْضَهُمْ فَلَا بَأْسَ، وَيَكْفِي أَنْ يَرُدَّ مِنْهُمْ وَاحِدٌ فَإِنْ زَادَ فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانُوا كَثِيرًا بِحَيْثُ لَا يَنْتَشِرُ فِيهِمْ فَيُبْتَدَأُ أَوَّلَ دُخُولِهِ إِذَا شَاهَدَهُمْ، وَتَتَأَدَّى سُنَّةُ السَّلَامِ فِي حَقِّ جَمِيعِ مَنْ يَسْمَعُهُ، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ الرَّدُّ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَإِذَا جَلَسَ سَقَطَ عَنْهُ سُنَّةُ السَّلَامِ فِيمَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ الْبَاقِينَ.
وَفِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لَا يُسَلِّمُ الْقَاضِي عَلَى الْخُصُومِ، وَلَا هُمْ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُمْ لَوْ سَلَّمُوا عَلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ الرَّدُّ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اشْتَغَلَ بِأَمْرٍ هُوَ أَعْظَمُ وَأَهَمُّ.
وَمَنْ قَامَ مِنَ الْمَجْلِسِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَ أَيْضًا، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى مَجْلِسٍ فَلْيُسَلِّمْ، فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِسْ، ثُمَّ إِذَا قَامَ فَلْيُسَلِّمْ، فَلَيْسَتِ الْأُولَى بِأَحَقَّ مِنَ الْآخِرَةِ».
كَفَّارَةُ الْمَجْلِسِ وَالدُّعَاءُ فِيهِ
9- يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ إِذَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ أَنْ يَقُولَ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ» لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ».
وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِيُّ فِي كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ بِمَا رَوَاهُ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «كَفَّارَةُ الْمَجْلِسِ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَقُولَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَه إِلاَّ أَنْتَ، تُبْ عَلَيَّ وَاغْفِرْ لِي، » يَقُولُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَإِنْ كَانَ مَجْلِسَ لَغَطٍ كَانَتْ كَفَّارَةً لَهُ، وَإِنْ كَانَ مَجْلِسَ ذِكْرٍ كَانَتْ طَابِعًا عَلَيْهِ.
وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ وَأَبُو الْأَحْوَصِ وَيَحْيَى بْنُ جَعْدَةَ وَعَطَاءٌ قَالُوا: فِي تَأْوِيلِ قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} أَيْ: حِينَ تَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ تَقُولُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، وَقَالُوا: مَنْ قَالَهَا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا كَانَ فِي الْمَجْلِسِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنْ كُنْتَ أَحْسَنْتَ ازْدَدْتَ إِحْسَانًا، وَإِنْ كُنْتَ غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ كَفَّارَةً.
قَالَ ابْنُ عَلاَّنَ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: عُمُومُهُ مَخْصُوصٌ بِمَا عَدَا الْكَبَائِرَ، فَإِنَّهَا لَا تُكَفَّرُ إِلاَّ بِالتَّوْبَةِ، أَوْ بِالْفَضْلِ الْإِلَهِيِّ، وَبِمَا عَدَا تَبِعَاتِ الْعِبَادِ، لِأَنَّ إِسْقَاطَهَا عِنْدَ التَّلَوُّثِ بِهَا مَوْقُوفٌ عَلَى رِضَا ذِي الْحَقِّ، وَهَذَا التَّخْصِيصُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَحَادِيثَ أُخَرَ.
ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا تَرَتَّبَ عَلَى هَذَا الذِّكْرِ غَفْرُ مَا كَسَبَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَنْزِيهِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِإِحْسَانِهِ، وَالشَّهَادَةِ بِتَوْحِيدِهِ، ثُمَّ سُؤَالِ الْمَغْفِرَةِ مِنْ جَنَابِهِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُخَيِّبُ قَاصِدَ بَابِهِ.
أَمَانَةُ الْمَجْلِسِ
10- قَالَ الْخَادِمِيُّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ: «الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ» أَيْ لَا يُشِيعُ حَدِيثَ جَلِيسِهِ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مُجَالَسَةِ أَهْلِ الْأَمَانَةِ وَتَجَنُّبِ أَهْلِ الْخِيَانَةِ، وَعَنِ الْعَسْكَرِيِّ: يُرِيدُ أَنَّ الرَّجُلَ يَجْلِسُ إِلَى الْقَوْمِ فَيَخُوضُونَ فِي حَدِيثٍ رُبَّمَا كَانَ فِيهِ مَا يَكْرَهُونَ فَيَأْمَنُونَهُ عَلَى سِرِّهِمْ، فَذَلِكَ الْحَدِيثُ كَالْأَمَانَةِ عِنْدَهُ، وَفُسِّرَ أَيْضًا: بِأَنَّ الْمَجَالِسَ إِنَّمَا تَحْسُنُ بِالْأَمَانَةِ لِحَاضِرِيهَا عَلَى مَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ.
وَقَالَ رَجَبُ بْنُ أَحْمَدَ: يَعْنِي جَمِيعَ الْمَجَالِسِ مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ مُلَابِسٌ بِالْأَمَانَاتِ عَلَى أَهْلِهَا دُونَ الْخِيَانَةِ، فَلَا يَجُوزُ إِظْهَارُ مَا فِيهَا وَإِفْشَاؤُهُ بَيْنَ النَّاسِ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إِفْشَاءُ السِّرِّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيذَاءِ وَالتَّهَاوُنِ بِحَقِّ الْمَعَارِفِ وَالْأَصْدِقَاءِ، قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- «إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ».
وَإِفْشَاءُ السِّرِّ حَرَامٌ إِذَا كَانَ فِيهِ إِضْرَارٌ، وَلُؤْمٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِضْرَارٌ.
وَقَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: لَا يَجُوزُ الِاسْتِمَاعُ إِلَى كَلَامِ قَوْمٍ يَتَشَاوَرُونَ وَيَجِبُ حِفْظُ سِرِّ مَنْ يَلْتَفِتُ فِي حَدِيثِهِ حَذَرًا مِنْ إِشَاعَتِهِ، لِأَنَّهُ كَالْمُسْتَوْدَعِ، لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِالْحَدِيثِ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ».
وَاسْتُثْنِيَ مِنْ خَطَرِ إِفْشَاءِ السِّرِّ ثَلَاثَةُ مَجَالِسَ، وَرَدَتْ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ جَابِرٌ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ إِلاَّ ثَلَاثَةُ مَجَالِسَ: سَفْكُ دَمٍ حَرَامٍ، وَفَرْجٌ حَرَامٌ، وَاقْتِطَاعُ مَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ».
قَالَ الْخَادِمِيُّ: فَيُفْشِي مَا سَمِعَ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِإِهْرَاقِ دَمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَلْحَقُهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالضَّرْبِ وَالْجُرْحِ، وَيُفْشِي مَا سَمِعَ عَنِ الزِّنَا، وَعَنْ مَجْلِسٍ يُقْتَطَعُ فِيهِ مَالُ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ بِغَيْرِ حَقٍّ شَرْعِيٍّ مُبِيحٍ، فَيُظْهِرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ أَوِ التَّلَفِ أَوِ الْإِهْدَارِ، فَلَا يَجُوزُ لِلسَّامِعِ كَتْمُهُ، قَالَ فِي الْفَيْضِ: قَالَ الْقَاضِي: يُرِيدُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْبَغِي إِذَا حَضَرَ مَجْلِسًا وَوَجَدَ أَهْلَهُ عَلَى مُنْكَرٍ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِهِمْ وَلَا يُشِيعُ مَا يَرَى مِنْهُمْ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَإِنَّهُ فَسَادٌ كَبِيرٌ، وَإِخْفَاؤُهُ ضَرَرٌ عَظِيمٌ.
مَجَالِسُ اللَّهْوِ:
11- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حُضُورُ مَجْلِسِ اللَّهْوِ إِذَا كَانَ فِيهِ مَعْصِيَةٌ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُجَالَسَةَ أَهْلِ الْكَبَائِرِ لَا تَحِلُّ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: كُلُّ لَهْوٍ بَاطِلٌ إِذَا شَغَلَهُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَمَنِ الْتَهَى بِشَيْءِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُطْلَقَةِ، سَوَاءٌ كَانَ مَأْذُونًا فِي فِعْلِهِ أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ، كَمَنِ اشْتَغَلَ بِصَلَاةِ نَافِلَةٍ أَوْ بِتِلَاوَةٍ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ تَفَكُّرٍ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ مَثَلًا حَتَّى خَرَجَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ عَمْدًا، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا الضَّابِطِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُرَغَّبِ فِيهَا الْمَطْلُوبِ فِعْلُهَا فَكَيْفَ حَالُ مَا دُونَهَا.
وَتَفْصِيلُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاللَّهْوِ فِي مُصْطَلَحِ (لَهْوٌ ف 3 وَمَا بَعْدَهَا).
مَجْلِسُ الْقَضَاءِ
12- مَجْلِسُ الْقَضَاءِ يَسْتَقْبِلُ الْقَاضِي فِيهِ الْخُصُومَ وَوُكَلَاءَهُمْ وَالشُّهُودَ وَيَسْتَمِعُ إِلَى دَعَاوِيهِمْ وَحُجَجِهِمْ وَيُصْدِرُ فِيهِ الْأَحْكَامَ.
وَلِهَذَا الْمَجْلِسِ آدَابٌ وَأَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمَكَانِ وَبِالْقَاضِي وَالْمُتَقَاضِينَ وَوُكَلَائِهِمْ وَبِالشَّهَادَةِ وَالْإِقْرَارِ فِيهِ وَبِمَنْ يَحْضُرُهُ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءٌ ف 32، 37 وَمَا بَعْدَهَا).
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
117-موسوعة الفقه الكويتية (مذي)
مَذْيٌالتَّعْرِيفُ
1- الْمَذْيُ وَالْمَذِيُّ لُغَةً: مَاءٌ رَقِيقٌ يَخْرُجُ عِنْدَ الْمُلَاعَبَةِ أَوِ التَّذَكُّرِ وَيَضْرِبُ إِلَى الْبَيَاضِ، وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: فِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ، الْأُولَى: سُكُونُ الذَّالِ، وَالثَّانِيَةُ: كَسْرُهَا مَعَ التَّثْقِيلِ (تَثْقِيلُ الْيَاءِ)، وَالثَّالِثَةُ: الْكَسْرُ مَعَ التَّخْفِيفِ، وَالْمَذَّاءُ فَعَّالٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي كَثْرَةِ الْمَذْيِ مِنْ مَذَى يَمْذِي.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْمَنِيُّ:
2- الْمَنِيُّ فِي اللُّغَةِ مُشَدَّدُ الْيَاءِ: مَاءُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَجَمْعُهُ مُنْيٌ، وَفِي التَّنْزِيلِ: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} وَقَالَ صَاحِبُ الزَّاهِرِ: سُمِّيَ الْمَنِيُّ مَنِيًّا لِأَنَّهُ يُمْنَى أَيْ يُرَاقُ وَيُدْفَقُ، وَمِنْ هَذَا سُمِّيَتْ مِنًى: لِمَا يُمْنَى بِهَا، أَيْ يُرَاقُ مِنْ دِمَاءِ النُّسُكِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الْمَاءُ الْغَلِيظُ الدَّافِقُ الَّذِي يَخْرُجُ عِنْدَ اشْتِدَادِ الشَّهْوَةِ.
وَقَالَ صَاحِبُ دُسْتُورِ الْعُلَمَاءِ: الْمَنِيُّ هُوَ الْمَاءُ الْأَبْيَضُ الَّذِي يَنْكَسِرُ الذَّكَرُ بَعْدَ خُرُوجِهِ وَيَتَوَلَّدُ مِنْهُ الْوَلَدُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَذْيِ وَالْمَنِيِّ أَنَّ الْمَنِيَّ يَخْرُجُ بِشَهْوَةٍ مَعَ الْفُتُورِ عَقِيبَهُ، وَأَمَّا الْمَذْيُ فَيَخْرُجُ عَنْ شَهْوَةٍ لَا بِشَهْوَةٍ وَلَا يَعْقُبُهُ فُتُورٌ.
ب- الْوَدْيُ
3- الْوَدْيُ بِإِسْكَانِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِهَا الْمَاءُ الثَّخِينُ الْأَبْيَضُ الَّذِي يَخْرُجُ فِي إِثْرِ الْبَوْلِ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالصِّلَةُ أَنَّ الْمَذْيَ يَخْرُجُ عِنْدَ الشَّهْوَةِ وَيَكُونُ مَاءً رَقِيقًا، أَمَّا الْوَدْيُ فَلَا يَخْرُجُ عِنْدَ الشَّهْوَةِ وَإِنَّمَا عَقِبَ الْبَوْلِ وَيَكُونُ ثَخِينًا.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَذْيِ مِنْ أَحْكَامٍ
أ- نَجَاسَتُهُ:
4- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى نَجَاسَةِ الْمَذْيِ لِلْأَمْرِ بِغَسْلِ الذَّكَرِ مِنْهُ وَالْوُضُوءِ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- حَيْثُ قَالَ: «كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً وَكُنْتُ أَسْتَحِي أَنْ أَسْأَلَ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لِمَكَانِ ابْنَتِهِ، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ».
وَلِأَنَّهُ- كَمَا قَالَ الشِّيرَازِيُّ- خَارِجٌ مِنْ سَبِيلِ الْحَدَثِ لَا يُخْلَقُ مِنْهُ طَاهِرٌ فَهُوَ كَالْبَوْلِ.
ب- كَيْفِيَّةُ التَّطَهُّرِ مِنَ الْمَذْيِ
5- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى جَوَازِ إِزَالَةِ الْمَذْيِ بِالِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ أَوِ الِاسْتِجْمَارِ بِالْأَحْجَارِ مِنْهُ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ لِمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ قَالَ «كُنْتُ أَلْقَى مِنَ الْمَذْيِ شِدَّةً وَعَنَاءً فَكُنْتُ أُكْثِرُ مِنْهُ الْغُسْلَ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنَّمَا يُجْزِئُكَ مِنْ ذَلِكَ الْوُضُوءُ» وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ لَا يُوجِبُ الِاغْتِسَالَ أَشْبَهَ الْوَدْيَ.
وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ بِالْحَجَرِ فَيَتَعَيَّنُ غَسْلُهُ بِالْمَاءِ، فَعَلَى هَذَا يُجْزِئُهُ غَسْلُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ خَرَجَ الْمَذْيُ بِلَذَّةِ مُعْتَادَةٍ يُغْسَلُ وُجُوبًا وَإِلاَّ كَفَى فِيهِ الْحَجَرُ مَا لَمْ يَكُنْ سَلَسًا لَازِمًا كُلَّ يَوْمٍ وَلَوْ مَرَّةً وَإِلاَّ عُفِيَ عَنْهُ.
ج- نَقْضُ الْوُضُوءِ بِهِ:
6- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ خُرُوجَ الْمَذْيِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ خُرُوجَ الْمَذْيِ مِنَ الْأَحْدَاثِ الَّتِي تَنْقُضُ الطَّهَارَةَ وَتُوجِبُ الْوُضُوءَ وَلَا تُوجِبُ الْغُسْلَ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- فِيمَا سَبَقَ، وَلِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: «كُنْتُ أَلْقَى مِنَ الْمَذْيِ شِدَّةً وَعَنَاءً وَكُنْتُ أُكْثِرُ مِنْهُ الْغُسْلَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنَّمَا يُجْزِئُكَ مِنْ ذَلِكَ الْوُضُوءُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ بِمَا يُصِيبُ ثَوْبِي مِنْهُ؟ قَالَ: يَكْفِيكَ أَنْ تَأْخُذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَتَنْضَحَ بِهِ ثَوْبَكَ حَيْثُ تَرَى أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ مِنْهُ».
د- الْغُسْلُ مِنْهُ:
7- إِذَا اسْتَيْقَظَ إِنْسَانٌ مِنْ نَوْمِهِ وَوَجَدَ فِي ثَوْبِهِ أَوْ فَخِذِهِ بَلَلًا وَلَمْ يَتَذَكَّرِ احْتِلَامًا فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ لِاحْتِمَالِ انْفِصَالِهِ عَنْ شَهْوَةٍ ثُمَّ نَسِيَ وَرَقَّ هُوَ بِالْهَوَاءِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ، وَلَوْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ مَذْيٌ لَا يَجِبُ اتِّفَاقًا، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: لَوْ أُغْشِيَ عَلَيْهِ فَأَفَاقَ فَوَجَدَ مَذْيًا، أَوْ كَانَ سَكْرَانَ فَأَفَاقَ فَوَجَدَ مَذْيًا لَا غُسْلَ عَلَيْهِ، وَلَا يُشْبِهُ النَّائِمَ إِذَا اسْتَيْقَظَ فَوَجَدَ عَلَى فِرَاشِهِ مَذْيًا حَيْثُ كَانَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ إِنْ تَذَكَّرَ الِاحْتِلَامَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ فِي النَّوْمِ ظَهَرَ تَذَكُّرٌ، ثُمَّ إِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَنِيٌّ رَقَّ بِالْهَوَاءِ أَوْ لِلْغِذَاءِ فَاعْتَبَرْنَاهُ مَنِيًّا احْتِيَاطًا وَلَا كَذَلِكَ السَّكْرَانُ وَالْمَغْشِيُّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِمَا هَذَا السَّبَبُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ شَكَّ مَنْ وَجَدَ بِفَرْجِهِ أَوْ ثَوْبِهِ أَوْ فَخِذِهِ شَيْئًا مِنْ بَلَلٍ أَوْ أَثَرَ مَذْيٍ أَوْ مَنِيٍّ وَكَانَ شَكُّهُ مُسْتَوِيًا اغْتَسَلَ وُجُوبًا لِلِاحْتِيَاطِ كَمَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِلاَّ الْوُضُوءُ مَعَ غَسْلِ ذَكَرِهِ وَإِنْ تَرَجَّحَ لَدَيْهِ أَحَدُهُمَا عَمِلَ بِمُقْتَضَى الرَّاجِحِ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنِ احْتَمَلَ كَوْنَ الْخَارِجِ مَنِيًّا أَوْ غَيْرَهُ كَوَدْيٍ أَوْ مَذْيٍ تَخَيَّرَ بَيْنَ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، فَإِنْ جَعَلَهُ مَنِيًّا اغْتَسَلَ أَوْ غَيْرَهُ تَوَضَّأَ وَغَسَلَ مَا أَصَابَهُ، لِأَنَّهُ إِذَا أَتَى بِمُقْتَضَى أَحَدِهِمَا بَرِئَ مِنْهُ يَقِينًا وَالْأَصْلُ بَرَاءَتُهُ مِنَ الْآخَرِ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: قَالَ أَحْمَدُ: إِذَا وَجَدَ بَلَّةً اغْتَسَلَ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بِهِ بَرْدَةٌ أَوْ لَاعَبَ أَهْلَهُ فَإِنَّهُ رُبَّمَا خَرَجَ مِنْهُ الْمَذْيُ فَأَرْجُو أَلاَّ يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ انْتَشَرَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ بِتَذَكُّرٍ أَوْ رُؤْيَةٍ لَا غُسْلَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَذْيٌ وَقَدْ وُجِدَ سَبَبُهُ فَلَا يُوجِبُ الْغُسْلَ مَعَ الشَّكِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ، لِخَبَرِ عَائِشَةَ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ احْتِلَامٌ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاضِعَ.
هـ- أَثَرُهُ فِي الصَّوْمِ:
8- إِذَا أَمْذَى الصَّائِمُ بِأَيِّ سَبَبٍ كَقُبْلَةٍ أَوْ نَظَرٍ أَوْ فِكْرٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي فِطْرِهِ بِذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (صَوْمٌ ف44).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
118-موسوعة الفقه الكويتية (مسجد 2)
مَسْجِدٌ -2تَعْلِيمُ الصِّبْيَانِ فِي الْمَسْجِدِ
17- قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: هَؤُلَاءِ الْمُكَتِّبُونَ الَّذِينَ يَجْتَمِعُ عِنْدَهُمُ الصِّبْيَانُ فِي الْمَسَاجِدِ لِلتَّعْلِيمِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ، إِذْ هُمْ لَا يَقْصِدُونَ الْعِبَادَةَ بَلِ الِارْتِزَاقُ، وَمُعَلِّمُ الصِّبْيَانِ الْقُرْآنَ كَالْكَاتِبِ إِنْ كَانَ بِالْأَجْرِ لَا يَجُوزُ وَحِسْبَةً لِلَّهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ هَذَا، إنْ كَانَ لِضَرُورَةِ الْحَرِّ وَغَيْرِهِ لَا يُكْرَهُ وَإِلاَّ فَيُكْرَهُ، وَسَكَتَ عَنْ كَوْنِهِ بِأَجْرِ أَوْ غَيْرِهِ فَيَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى مَا إذَا كَانَ حِسْبَةً، فَأَمَّا إنْ كَانَ بِأَجْرِ فَلَا شَكَّ فِي الْكَرَاهَةِ، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانَ حِسْبَةً وَلَا ضَرُورَةَ يُكْرَهُ، لِأَنَّ نَفْسَ التَّعْلِيمِ وَمُرَاجَعَةُ الْأَطْفَالِ لَا تَخْلُو عَمَّا يُكْرَهُ فِي الْمَسْجِدِ.
وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَفِي الْخُلَاصَةِ تَعْلِيمُ الصِّبْيَانِ فِي الْمَسْجِدِ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَكَرِهَ الْمَالِكِيَّةُ تَعْلِيمَ الصَّبِيِّ فِي الْمَسْجِدِ إِلاَّ أَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ رَوَى إِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ مَبْلَغَ الْأَدَبِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُؤْتَى بِهِ الْمَسْجِدَ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لَا يَقِرُّ فِيهِ وَيَعْبَثُ فَلَا أُحِبُّ ذَلِكَ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ مَنْعُ تَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ فِيهِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ مَظِنَّةً لِلْعَبَثِ وَالتَّقْدِيرِ أَمْ لَا، لِأَنَّ الْغَالِبَ عَدَمُ تَحَفُّظِهِمْ مِنَ النَّجَاسَةِ.
وَأَمَّا إِحْضَارُ الصَّبِيِّ الْمَسْجِدَ فَأَجَازُوهُ حَيْثُ لَا يَعْبَثُ بِهِ وَيَكُفُّ عَنِ الْعَبَثِ إِذَا نُهِيَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ الْعَبَثُ أَوْ عَدَمُ الْكَفِّ فَلَا يَجُوزُ إِحْضَارُهُ فِيهِ لِحَدِيثِ: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ مَجَانِينَكُمْ وَصِبْيَانَكُمْ».
وَنَقَلَ الزَّرْكَشِيُّ عَنِ الْقَفَّالِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ فِي الْمَسْجِدِ؟ فَقَالَ: الْأَغْلَبُ مِنَ الصِّبْيَانِ الضَّرَرُ بِالْمَسْجِدِ فَيَجُوزُ مَنْعُهُمْ.
وَقَالَ الْجِرَاعِيُّ الْحَنْبَلِيُّ: يُسَنُّ أَنْ يُصَانَ الْمَسْجِدُ عَنْ عَمَلِ صَنْعَةٍ، وَنُقِلَ عَنِ السَّامِرِيِّ قَوْلُهُ: سَوَاءٌ كَانَ الصَّانِعُ يُرَاعِي الْمَسْجِدَ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: مَا يُعْجِبُنِي مِثْلُ الْخَيَّاطِ وَالْإِسْكَافِ وَمَا أَشْبَهَهُ وَسَهَّلَ فِي الْكِتَابَةِ فِيهِ.
وَقَالَ الْقَاضِي سَعْدُ الدِّينِ: خَصَّ الْكِتَابَةَ لِأَنَّهَا نَوْعُ تَحْصِيلٍ لِلْعِلْمِ فَهِيَ فِي مَعْنَى الدِّرَاسَةِ، وَهَذَا يُوجِبُ التَّقَيُّدَ مِمَّا لَا يَكُونُ تَكَسُّبًا.
وَنَقَلَ الْجِرَاعِيُّ عَنِ ابْنِ الصَّيْرَفِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي النَّوَادِرِ: لَا يَجُوزُ التَّعْلِيمُ فِي الْمَسَاجِدِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ فِي الْفَتَاوَى الْمِصْرِيَّةِ: لَا يَجُوزُ- وَقَدْ سُئِلَ عَنْهَا- يُصَانُ الْمَسْجِدُ مِمَّا يُؤْذِيهِ وَيُؤْذِي الْمُسْلِمِينَ حَتَّى رَفْعِ الصِّبْيَانِ أَصْوَاتَهُمْ فِيهِ، كَذَلِكَ تَوْسِيخُهُمْ لِحُصْرِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ ذَلِكَ وَقْتَ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهَا: وَأَمَّا تَعْلِيمُ الصِّبْيَانِ فِي الْمَسْجِدِ بِحَيْثُ يُؤْذُونَ الْمَسْجِدَ فَيَكُونُونَ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ وَيَشْغَلُونَ الْمُصَلِّيَ فِيهِ فَهَذَا مِمَّا يَجِبُ النَّهْيُ عَنْهُ وَالْمَنْعُ مِنْهُ.
وَأَضَافَ الْجِرَاعِيُّ: وَقَالَ صَاحِبُ الْفُرُوعِ- ابْنُ مُفْلِحٍ- عَقِيبَ كَلَامِ الْقَاضِي سَعْدِ الدِّينِ الْمُتَقَدِّمِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُخَرَّجَ عَلَى هَذَا تَعْلِيمُ الصِّبْيَانِ لِلْكِتَابَةِ فِي الْمَسْجِدِ بِالْأُجْرَةِ، وَتَعْلِيمُهُمْ تَبَرُّعًا جَائِزٌ كَتَلْقِينِ الْقُرْآنِ، وَتَعْلِيمِ الْعِلْمِ، وَهَذَا كُلُّهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَحْصُلَ ضَرَرٌ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
رَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ وَالْجَهْرُ فِيهِ
18- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ بِكَرَاهَةِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِذِكْرٍ فِي الْمَسْجِدِ إِلاَّ لِلْمُتَفَقِّهِ، وَفِي حَاشِيَةِ الْحَمَوِيِّ عَنِ الشَّعْرَانِيِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ سَلَفًا وَخَلَفًا عَلَى اسْتِحْبَابِ ذِكْرِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا، إِلاَّ أَنْ يُشَوِّشَ جَهْرُهُمْ عَلَى نَائِمٍ أَوْ مُصَلٍّ أَوْ قَارِئٍ.
وَصَرَّحُوا بِكَرَاهَةِ الْكَلَامِ الْمُبَاحِ فِي الْمَسْجِدِ وَقَيَّدَهُ فِي الظَّهِيرِيَّةِ بِأَنْ يُجْلَسَ لِأَجْلِهِ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَا بُنِيَ لِأُمُورِ الدُّنْيَا.
وَفِي صَلَاةِ الْجَلاَّبِيِّ- كَمَا نَقَلَ عَنْهُ ابْنُ عَابِدِينَ- الْكَلَامُ الْمُبَاحُ مِنْ حَدِيثِ الدُّنْيَا يَجُوزُ فِي الْمَسَاجِدِ وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَشْتَغِلَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى قَوْلِ الْجَلاَّبِيِّ: فَقَدْ أَفَادَ أَنَّ الْمَنْعَ خَاصٌّ بِالْمُنْكَرِ مِنَ الْقَوْلِ أَمَّا الْمُبَاحُ فَلَا.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ بِذِكْرٍ وَقُرْآنٍ وَعِلْمٍ فَوْقَ إِسْمَاعِ الْمُخَاطَبِ وَلَوْ بِغَيْرِ مَسْجِدٍ، وَمَحَلُّ كَرَاهَةِ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ مَا لَمْ يُخَلِّطْ عَلَى مُصَلٍّ وَإِلاَّ حَرُمَ، بِخِلَافِ مَسْجِدِ مَكَّةَ وَمِنَى فَيَجُوزُ رَفْعُ الصَّوْتِ فِيهِمَا عَلَى الْمَشْهُورِ.
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: يُكْرَهُ اللَّغَطُ وَرَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ.
وَقَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: يُسَنُّ أَنْ يُصَانَ عَنْ لَغَطٍ وَكَثْرَةِ حَدِيثٍ لَاغٍ وَرَفْعِ صَوْتٍ بِمَكْرُوهِ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ مُبَاحًا أَوْ مُسْتَحَبًّا.
وَنُقِلَ عَنِ الْغُنْيَةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ إِلاَّ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْمُنَاظَرَةِ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْمَسَاجِدِ إِذَا كَانَ الْقَصْدُ طَلَبَ الْحَقِّ، فَإِنْ كَانَ مُغَالَبَةً وَمُنَافَرَةً دَخَلَ فِي حَيِّزِ الْمُلَاحَاةِ وَالْجِدَالِ فِيمَا لَا يَعْنِي وَلَمْ يَجُزْ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَمَّا الْمُلَاحَاةُ فِي غَيْرِ الْعُلُومِ فَلَا تَجُوزُ فِي الْمَسْجِدِ.
وَنُقِلَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ يُكْرَهُ كَثْرَةُ الْحَدِيثِ وَاللَّغَطُ فِي الْمَسَاجِدِ.
التَّقَاضِي فِي الْمَسْجِدِ
19- أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ التَّقَاضِيَ فِي الْمَسْجِدِ، فَلِلْقَاضِي أَنْ يَجْلِسَ فِيهِ لِلْفَصْلِ فِي الْخُصُومَاتِ جُلُوسًا ظَاهِرًا فَإِنَّ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَفْصِلُ بَيْنَ الْخُصُومِ فِي الْمَسْجِدِ وَكَذَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ، وَلِئَلاَّ يَشْتَبِهَ عَلَى الْغُرَبَاءِ مَكَانُهُ فَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ خَرَجَ الْقَاضِي إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَنَظَرَ فِي خُصُومَتِهَا أَوْ أَمَرَ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ كَانَتِ الْمُنَازَعَةُ فِي دَابَّةٍ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ لِاسْتِمَاعِ الدَّعْوَى وَالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا فِي الشَّهَادَةِ.
وَلِلْمَالِكِيَّةِ طَرِيقَتَانِ: الْأُولَى اسْتِحْبَابُ الْجُلُوسِ فِي الرِّحَابِ وَكَرَاهَتُهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَالثَّانِيَةُ اسْتِحْبَابُ جُلُوسِهِ فِي نَفْسِ الْمَسْجِدِ.
وَكَرِهَ الشَّافِعِيَّةُ لِلْقَاضِي أَنْ يَجْلِسَ لِلْقَضَاءِ فِي الْمَسْجِدِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ مُعَاذًا- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ وَحُدُودَكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ».
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قَضَاءٌ ف 38).
إِقَامَةُ الْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ فِيهِ:
20- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ لِقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ وَجَمِّرُوهَا فِي جُمَعِكُمْ وَضَعُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ».
وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ خُرُوجُ النَّجَاسَةِ مِنَ الْمَحْدُودِ فَيَجِبُ نَفْيُهُ عَنِ الْمَسْجِدِ إِذْ بِالضَّرْبِ قَدْ يَنْشَقُّ الْجِلْدُ فَيَسِيلُ مِنْهُ الدَّمُ فَيَتَنَجَّسُ الْمَسْجِدُ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (حُدُودٌ ف 44).
الْأَكْلُ وَالنَّوْمُ فِي الْمَسْجِدِ
21- كَرِهَ الْحَنَفِيَّةُ الْأَكْلَ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّوْمَ فِيهِ وَقِيلَ: لَا بَأْسَ لِلْغَرِيبِ أَنْ يَنَامَ فِيهِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعْتَكِفِ فَلَهُ أَنْ يَشْرَبَ وَيَأْكُلَ وَيَنَامَ فِي مُعْتَكَفِهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَكُنْ يَأْوِي فِي اعْتِكَافِهِ إِلاَّ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ قَضَاءُ هَذِهِ الْحَاجَةِ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا ضَرُورَةَ إِلَى الْخُرُوجِ.
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ إِنْزَالَ الضَّيْفِ بِمَسْجِدِ بَادِيَةٍ وَإِطْعَامَهُ فِيهِ الطَّعَامَ النَّاشِفَ كَالتَّمْرِ لَا إِنْ كَانَ مُقَذِّرًا كَبِطِّيخِ أَوْ طَبِيخٍ فَيَحْرُمُ إِلاَّ بِنَحْوِ سُفْرَةٍ تُجْعَلُ تَحْتَ الْإِنَاءِ فَيُكْرَهُ، وَمِثْلُ مَسْجِدِ الْبَادِيَةِ مَسْجِدُ الْقَرْيَةِ الصَّغِيرَةِ وَأَمَّا التَّصْنِيفُ فِي مَسْجِدِ الْحَاضِرَةِ فَيُكْرَهُ وَلَوْ كَانَ الطَّعَامُ نَاشِفًا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ.
كَمَا أَجَازُوا النَّوْمَ فِيهِ بِقَائِلَةٍ أَيْ نَهَارًا وَكَذَا بِلَيْلٍ لَمِنْ لَا مَنْزِلَ لَهُ أَوْ عَسُرَ الْوُصُولُ إِلَيْهِ.
أَمَّا الْمُعْتَكِفُ: فَاسْتَحَبُّوا لَهُ أَنْ يَأْكُلَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي صَحْنِهِ أَوْ فِي مَنَارَتِهِ وَكَرِهُوا أَكْلَهُ خَارِجَهُ، وَأَمَّا النَّوْمُ فِيهِ مُدَّةَ الِاعْتِكَافِ فَمِنْ لَوَازِمِهِ، إِذْ يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ بِعَدَمِ النَّوْمِ فِيهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ أَكْلُ الْخُبْزِ وَالْفَاكِهَةِ وَالْبِطِّيخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ الزُّبَيْدِيِّ قَالَ: «كُنَّا نَأْكُلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَسْجِدِ الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ».
قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْسُطَ شَيْئًا خَوْفًا مِنَ التَّلَوُّثِ وَلِئَلاَّ يَتَنَاثَرَ شَيْءٌ مِنَ الطَّعَامِ فَتَجْتَمِعَ عَلَيْهِ الْهَوَامُّ، هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ كَالثُّومِ وَالْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ وَنَحْوِهِ فَيُكْرَهُ أَكْلُهُ فِيهِ وَيُمْنَعُ آكِلُهُ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَذْهَبَ رِيحُهُ، فَإِنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ أُخْرِجَ مِنْهُ لِحَدِيثِ: «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْنَا، أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ».
وَقَالُوا أَيْضًا بِجِوَازِ النَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ فَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، فَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ وَهُوَ شَابٌّ أَعْزَبُ لَا أَهْلَ لَهُ فِي مَسْجِدِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- وَأَنَّ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ قَالَ: كُنَّا نَبِيتُ عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ وَعَطَاءً وَالشَّافِعِيَّ رَخَّصُوا فِيهِ.
أَمَّا الْمُعْتَكِفُ فَأَكْلُهُ وَمَبِيتُهُ فِي مَسْجِدِ اعْتِكَافِهِ، وَأُجِيزَ لَهُ أَنْ يَمْضِيَ إِلَى الْبَيْتِ لِيَأْكُلَ فِيهِ، وَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِأَنَّ الْأَكْلَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْقُصُ مِنَ الْمُرُوءَةِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: لَا يَجُوزُ دُخُولُ الْمَسْجِدِ لِلْأَكْلِ وَنَحْوِهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ تَمِيمٍ وَابْنُ حَمْدَانَ، وَذَكَرَ فِي الشَّرْحِ وَالرِّعَايَةِ وَغَيْرِهِمَا بِأَنَّ لِلْمُعْتَكِفِ الْأَكْلَ فِي الْمَسْجِدِ وَغَسْلَ يَدِهِ فِي طَسْتٍ، وَذَكَرَ فِي الشَّرْحِ فِي آخِرِ بَابِ الْأَذَانِ: أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالِاجْتِمَاعِ فِي الْمَسْجِدِ وَالْأَكْلِ فِيهِ وَالِاسْتِلْقَاءِ فِيهِ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَأْكُلَ الْمُعْتَكِفُ فِي الْمَسْجِدِ وَيَضَعَ سُفْرَةً يَسْقُطُ عَلَيْهَا مَا يَقَعُ مِنْهُ كَيْلَا يُلَوِّثَ الْمَسْجِدَ.
الْغِنَاءُ وَالتَّصْفِيقُ وَالرَّقْصُ فِي الْمَسْجِدِ
22- قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: يُسَنُّ أَنْ يُصَانَ الْمَسْجِدُ عَنِ الْغِنَاءِ فِيهِ وَالتَّصْفِيقِ.
وَأَمَّا لَعِبُ الْحَبَشَةِ بِدَرَقِهِمْ وَحِرَابِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ عِيدٍ وَجَعْلُ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتُرُ عَائِشَةَ وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَقَوْلُهُ لَهُمْ: «دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفَدَةَ» (بَنُو أَرْفَدَةَ: جِنْسٌ مِنَ الْحَبَشَةِ يَرْقُصُونَ)، فَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: فِيهِ جَوَازُ اللَّعِبِ بِالسِّلَاحِ وَنَحْوِهِ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَلْحَقُ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُعِينَةِ عَلَى الْجِهَادِ، وَفِيهِ بَيَانُ مَا كَانَ عَلَيْه- صلى الله عليه وسلم- مِنَ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَالْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ.
وَلِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: «جَاءَ حَبَشٌ يَزْفِنُونَ (أَيْ يَرْقُصُونَ) فِي يَوْمِ عِيدٍ فِي الْمَسْجِدِ»، وَنَقَلَ ابْنُ مُفْلِحٍ عَنْ شَرْحِ مُسْلِمٍ: حَمَلَهُ الْعُلَمَاءُ عَلَى التَّوَثُّبِ بِسِلَاحِهِمْ وَلَعِبِهِمْ بِحِرَابِهِمْ عَلَى قَرِيبٍ مِنْ هَيْئَةِ الرَّاقِصِ لِأَنَّ مُعْظَمَ الرِّوَايَاتِ إِنَّمَا فِيهَا لَعِبُهُمْ بِحِرَابِهِمْ فَتَتَأَوَّلُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «بَيْنَمَا الْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- بِحِرَابِهِمْ إِذْ دَخَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- فَأَهْوَى إِلَى الْحَصْبَاءِ يَحْصِبُهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-: دَعْهُمْ يَا عُمَرُ» قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ.
قَالَ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ شَارِحُ الْبُخَارِيِّ: الْمَسْجِدُ مَوْضُوعٌ لِأَمْرِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَجْمَعُ مَنْفَعَةَ الدِّينِ وَأَهْلِهِ، وَاللَّعِبُ بِالْحِرَابِ مِنْ تَدْرِيبِ الْجَوَارِحِ عَلَى مَعَانِي الْحُرُوبِ فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ.
الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْأَذَانِ
23- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ دَخَلَ مَسْجِدًا قَدْ أُذِّنَ فِيهِ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ حَتَّى يُصَلِّيَ إِلاَّ لِعُذْرِ كَانْتِقَاضِ طَهَارَةٍ أَوْ خَوْفِ فَوَاتِ رُفْقَةٍ، وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَنْتَظِمُ بِهِ أَمْرُ جَمَاعَةٍ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَ النِّدَاءِ إِلاَّ مُنَافِقٌ، إِلاَّ رَجُلٌ يَخْرُجُ لِحَاجَتِهِ وَهُوَ يُرِيدُ الرَّجْعَةَ إِلَى الصَّلَاةِ» وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَدْرَكَهُ الْأَذَانُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ خَرَجَ لَمْ يَخْرُجْ لِحَاجَةٍ وَهُوَ لَا يُرِيدُ الرَّجْعَةَ فَهُوَ مُنَافِقٌ» وَعَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ: كُنَّا مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- فِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ رَجُلٌ حِينَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِلْعَصْرِ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ.
وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَدْ صَلَّى وَكَانَتِ الظُّهْرُ أَوِ الْعِشَاءُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ لِأَنَّهُ أَجَابَ دَاعِيَ اللَّهِ مَرَّةً، إِلاَّ إِذَا أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ بِمُخَالَفَةِ الْجَمَاعَةِ عِيَانًا، وَإِنْ كَانَتِ الْعَصْرَ أَوِ الْمَغْرِبَ أَوِ الْفَجْرَ خَرَجَ وَإِنْ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ فِيهَا لِكَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ بَعْدَهَا.
وَقَالُوا: إِنَّ مَنْ دَخَلَ مَسْجِدًا قَدْ أُذِّنَ فِيهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ صَلَّى أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ صَلَّى، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَسْجِدَ حَيِّهِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ مَسْجِدَ حَيِّهِ كُرِهَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ قَبْلَ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمُؤَذِّنَ دَعَاهُ لِيُصَلِّيَ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسْجِدَ حَيِّهِ فَإِنْ صَلَّى فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ صَارَ بِالدُّخُولِ فِيهِ مِنْ أَهْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يُصَلِّ فِيهِ وَهُوَ يَخْرُجُ لِأَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ.
وَإِنْ كَانَ قَدْ صَلَّى وَكَانَتِ الظُّهْرَ أَوِ الْعِشَاءَ فَلَا بَأْسَ بِالْخُرُوجِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْأَذَانِ بِلَا عُذْرٍ أَوْ نِيَّةِ رُجُوعٍ لِحَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَهُ الْأَذَانُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ خَرَجَ لَمْ يَخْرُجْ لِحَاجَةِ وَهُوَ لَا يُرِيدُ الرَّجْعَةَ فَهُوَ مُنَافِقٌ» وَقَالَ صَالِحٌ: لَا يَخْرُجُ، وَنَقَلَ أَبُو طَالِبٍ: لَا يَنْبَغِي، وَنَقَلَ ابْنُ الْحَكَمِ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ لَا يَخْرُجَ، وَكَرِهَهُ أَبُو الْوَفَاءِ وَأَبُو الْمَعَالِي وَقَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: يَجُوزُ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَخْرُجَ بَعْدَ أَذَانِ الْفَجْرِ، قَالَ الشَّيْخُ: إِنْ كَانَ التَّأْذِينُ لِلْفَجْرِ قَبْلَ الْوَقْتِ لَمْ يُكْرَهِ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ.
صَلَاةُ النَّوَافِلِ فِي الْمَسْجِدِ
24- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ النَّوَافِلِ فِي الْبَيْتِ أَفَضْلُ مِنْهَا فِي الْمَسْجِدِ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ» وَقَالَ: «اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا» وَقَالَ: «أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ».
وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ مَا شُرِعَتْ لَهُ الْجَمَاعَةُ كَالتَّرَاوِيحِ فَإِنَّهَا تُصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ، وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ الرَّوَاتِبَ أَيْضًا.
الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي الْمَسْجِدِ
25- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ فِي الْمَسْجِدِ فَكَرِهَهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَجَازَهَا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ فِيهِ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ بِجِوَازِهَا فِي الْمَسْجِدِ وَقَيَّدَ الْحُكْمَ بِأَمْنِ تَلْوِيثِ الْمَسْجِدِ، وَإِلاَّ كُرِهَ.
وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (جَنَائِزٌ ف 38).
السَّكَنُ وَالْبِنَاءُ فِي الْمَسْجِدِ
26- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِقَيِّمِ الْمَسْجِدِ أَنْ يَجْعَلَهُ سَكَنًا لِأَنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَسْقُطُ حُرْمَتُهُ.
وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ حَوَانِيتَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي فِنَائِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ، لِأَنَّ الْفِنَاءَ تَبَعٌ لِلْمَسْجِدِ.
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةِ لِرَجُلٍ تَجَرَّدَ لِلْعِبَادَةِ السُّكْنَى بِالْمَسْجِدِ وَذَلِكَ مَا لَمْ يَحْجُرْ فِيهِ وَيُضَيِّقْ عَلَى الْمُصَلِّينَ وَإِلاَّ مُنِعَ، لِأَنَّ السُّكْنَى فِي الْمَسْجِدِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ التَّجَرُّدِ لِلْعِبَادَةِ مُمْتَنِعَةٌ، لِأَنَّهَا تَغْيِيرٌ لَهُ عَمَّا حُبِّسَ لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهَا أَوْ يُكْرَهُ وَلَوْ تَجَرَّدَتْ لِلْعِبَادَةِ لِأَنَّهَا قَدْ تَحِيضُ وَقَدْ يَلْتَذُّ بِهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَتَنْقَلِبُ الْعِبَادَةُ مَعْصِيَةً حَتَّى وَلَوْ كَانَتْ عَجُوزًا لَا إِرَبَ لِلرِّجَالِ فِيهَا، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: لِأَنَّ كُلَّ سَاقِطَةٍ لَهَا لَاقِطَةٌ.
الِاعْتِكَافُ فِي الْمَسْجِدِ
27- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْتَكِفَ إِلاَّ فِي الْمَسْجِدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} «وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَعْتَكِفْ إِلاَّ فِي الْمَسْجِدِ».
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهَا كَالرَّجُلِ لَا يَصِحُّ أَنْ تَعْتَكِفَ إِلاَّ فِي الْمَسْجِدِ، مَا عَدَا الْحَنَفِيَّةَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهَا تَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا لِأَنَّهُ هُوَ مَوْضِعُ صَلَاتِهَا، وَلَوِ اعْتَكَفَتْ فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (اعْتِكَافٌ ف 14 وَمَا بَعْدَهَا).
عَقْدُ النِّكَاحِ فِي الْمَسْجِدِ
28- اسْتَحَبَّ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَقْدَ النِّكَاحِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْبَرَكَةِ، وَلِأَجْلِ شُهْرَتِهِ فَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-: «أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَاجْعَلُوهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ».
وَأَضَافَ الْمَالِكِيَّةُ فِي إِجَازَتِهِمْ لِعَقْدِ النِّكَاحِ فِي الْمَسْجِدِ أَنْ يَكُونَ بِمُجَرَّدِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ شُرُوطٍ وَلَا رَفْعِ صَوْتٍ أَوْ تَكْثِيرِ كَلَامٍ وَإِلاَّ كُرِهَ فِيهِ.
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الزِّفَافَ بِهِ لَا يُكْرَهُ إِذَا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى مَفْسَدَةٍ دِينِيَّةٍ فَإِنِ اشْتَمَلَ عَلَيْهَا كُرِهَ فِيهِ.
الْبُصَاقُ فِي الْمَسْجِدِ
29- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ فِي اسْتِحْبَابِ صِيَانَةِ الْمَسْجِدِ عَنِ الْبَصْقَةِ فِيهِ إِذْ هِيَ فِيهِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا لِمَا فِيهَا مِنْ تَقَزُّزِ النَّاسِ مِنْهَا.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (بُصَاقٌ ف 4).
الْبَيْعُ فِي الْمَسْجِدِ
30- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي الْمَسْجِدِ لِقَوْلِه- صلى الله عليه وسلم-: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ وَاتَّخِذُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ وَجَمِّرُوهَا فِي الْجُمَعِ».
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-: نَهَى عَنِ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ وَأَنْ تُنْشَدَ فِيهِ ضَالَّةٌ، وَأَنْ يُنْشَدَ فِيهِ شِعْرٌ» وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعْتَكِفِ فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يَبِيعَ وَيَبْتَاعَ فِي الْمَسْجِدِ مَا كَانَ مِنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْضِرَ السِّلْعَةَ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ بِأَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يَقُومُ بِحَاجَتِهِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: يُكْرَهُ إِحْضَارُ السِّلْعَةِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُحَرَّرٌ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَفِيهِ شُغْلُهُ بِهَا.
وَكَذَلِكَ الْحَالُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي كَرَاهَةِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ سَمْسَرَةٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ».فَإِنْ كَانَ بِسَمْسَرَةٍ أَيْ بِمُنَادَاةٍ عَلَى السِّلْعَةٍ بِأَنْ جَلَسَ صَاحِبُ السِّلْعَةِ فِي الْمَسْجِدِ وَأَتَاهُ الْمُشْتَرِي يُقَلِّبُهَا وَيَنْظُرُ فِيهَا وَيُعْطِي فِيهَا مَا يُرِيدُ مِنْ ثَمَنٍ حَرُمَ لِجَعْلِ الْمَسْجِدِ سُوقًا، ثُمَّ إِنَّ مَحَلَّ الْكَرَاهَةِ إِذَا جَعَلَ الْمَسْجِدَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِأَنْ أَظْهَرَ السِّلْعَةَ فِيهِ مُعْرِضًا لَهَا لِلْبَيْعِ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ عَقْدِهِمَا فَلَا يُكْرَهُ.
وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْقَوْلُ بِكَرَاهَةِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِيهِ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ».
نِشْدَانُ الضَّالَّةِ فِي الْمَسْجِدِ
31- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِلَى كَرَاهَةِ نِشْدَانِ الضَّالَّةِ فِي الْمَسْجِدِ فَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنِ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ يُنْشَدَ فِيهِ ضَالَّةٌ أَوْ يُنْشَدَ فِيهِ شِعْرٌ».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ فِيهِ ضَالَّةً فَقُولُوا: لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ» وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ، فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا».
صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ
32- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدَيْنِ سُنَّةٌ فِي الْمُصَلَّى- وَالْمُرَادُ الْفَضَاءُ وَالصَّحْرَاءُ- وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهَا مَنْدُوبَةٌ، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ- رضي الله عنه-: «كَانَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى إِلَى الْمُصَلَّى» وَكَذَا الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ وَكَرِهُوا صَلَاتَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ إِلَى الصَّلَاةِ فِيهِ، وَذَلِكَ كَقِيَامِ عُذْرٍ يَمْنَعُ الْخُرُوجَ إِلَى الْمُصَلَّى مِنْ مَطَرٍ أَوْ وَحْلٍ أَوْ خَوْفٍ مِنْ لُصُوصٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنْ وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَعْذَارِ وَمَثِيلَاتِهَا فَإِنَّهَا تُصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ بِلَا كَرَاهَةٍ لِوُجُودِ الضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ لِذَلِكَ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «أَصَابَنَا مَطَرٌ فِي يَوْمِ عِيدٍ فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- فِي الْمَسْجِدِ» وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ- رضي الله عنهما- صَلَّيَا فِي الْمَسْجِدِ فِي الْمَطَرِ، وَأَمَّا بِمَكَّةَ فَتُنْدَبُ صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِمُشَاهَدَةِ الْكَعْبَةِ وَهِيَ عِبَادَةٌ لِخَبَرِ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنَزِّلُ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عِشْرِينَ وَمِائَةَ رَحْمَةٍ، يَنْزِلُ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ سِتُّونَ لِلطَّائِفِينَ وَأَرْبَعُونَ لِلْمُصَلِّينَ وَعِشْرُونَ لِلنَّاظِرِينَ».
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْمَسْجِدَ إِنْ كَانَ وَاسِعًا فَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْمُصَلَّى لِأَنَّ الْأَئِمَّةَ لَمْ يَزَالُوا يُصَلُّونَ صَلَاةَ الْعِيدِ بِمَكَّةَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلِأَنَّ الْمَسْجِدَ أَشْرَفُ وَأَنْظَفُ، وَإِنْ صَلَّى فِي الصَّحْرَاءِ فَلَا بَأْسَ، لِأَنَّهُ إِذَا تَرَكَ الْمَسْجِدَ وَصَلَّى فِي الصَّحْرَاءِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ ضَرَرٌ، وَقِيلَ: فِعْلُهَا فِي الصَّحْرَاءِ أَفْضَلُ، لِأَنَّهَا أَرْفَقُ بِالرَّاكِبِ وَغَيْرِهِ، إِلاَّ لِعُذْرٍ كَمَطَرٍ وَنَحْوِهِ فَالْمَسْجِدُ أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ ضَيِّقًا فَصَلَّى فِيهِ وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى الْمُصَلَّى كُرِهَ ذَلِكَ لِتَأَذِّي النَّاسِ بِالزِّحَامِ، وَرُبَّمَا فَاتَ بَعْضَهُمُ الصَّلَاةُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَالْحِكْمَةُ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ فِي الْمُصَلَّى هِيَ مِنْ أَجْلِ الْمُبَاعَدَةِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ وَإِنْ كَبُرَتْ يَقَعُ الِازْدِحَامُ فِيهَا وَفِي أَبْوَابِهَا بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ دُخُولًا وَخُرُوجًا، فَتُتَوَقَّعُ الْفِتْنَةُ فِي مَحَلِّ الْعِبَادَةِ.
33- وَهَلْ لِلْمُصَلَّى حُكْمُ الْمَسْجِدِ: سُئِلَ الْغَزَالِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فِي فَتَاوِيهِ عَنِ الْمُصَلَّى الَّذِي بُنِيَ لِصَلَاةِ الْعِيدِ خَارِجَ الْبَلَدِ فَقَالَ: لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ فِي الِاعْتِكَافِ وَمُكْثِ الْجُنُبِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، لِأَنَّ الْمَسْجِدَ هُوَ الَّذِي أُعِدَّ لِرَوَاتِبِ الصَّلَاةِ وَعُيِّنَ لَهَا، حَتَّى لَا يُنْتَفَعَ بِهِ فِي غَيْرِهَا، وَمَوْضِعُ صَلَاةِ الْعِيدِ مُعَدٌّ لِلِاجْتِمَاعَاتِ وَلِنُزُولِ الْقَوَافِلِ وَلِرُكُوبِ الدَّوَابِّ وَلَعِبِ الصِّبْيَانِ وَلَمْ تَجْرِ عَادَةُ السَّلَفِ بِمَنْعِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ، وَلَوِ اعْتَقَدُوهُ مَسْجِدًا لَصَانُوهُ عَنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَلَقُصِدَ لِإِقَامَةِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَصَلَاةُ الْعِيدِ تَطَوُّعٌ وَهُوَ لَا يَكْثُرُ تَكَرُّرُهُ، بَلْ يُبْنَى لِقَصْدِ الِاجْتِمَاعِ وَالصَّلَاةُ تَقَعُ فِيهِ بِالتَّبَعِ.
صَلَاةُ النِّسَاءِ فِي الْمَسَاجِدِ
34- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلنِّسَاءِ أَنْ تَكُونَ صَلَاتُهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ، فَذَلِكَ لَهُنَّ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِنَّ فِي الْمَسْجِدِ، فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ»،، فَإِنْ أَرَادَتِ الْمَرْأَةُ حُضُورَ الْمَسْجِدِ مَعَ الرِّجَالِ: فَإِنْ كَانَتْ شَابَّةً أَوْ كَبِيرَةً يُشْتَهَى مِثْلُهَا كُرِهَ لَهَا الْحُضُورُ وَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا لَا تُشْتَهَى لَمْ يُكْرَهْ لَهَا، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- قَالَ: وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا صَلَّتِ امْرَأَةٌ صَلَاةً قَطُّ خَيْرٌ لَهَا مِنْ صَلَاةٍ تُصَلِّيهَا فِي بَيْتِهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَوْ مَسْجِدَ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- إِلاَّ عَجُوزًا فِي مَنْقَلِهَا وَذَلِكَ حَيْثُ تَقِلُّ الرَّغْبَةُ فِيهَا، وَلِذَا يَجُوزُ لَهَا حُضُورُ الْمَسَاجِدِ كَمَا فِي الْعِيدِ.
وَإِنْ كَانَتْ شَابَّةً غَيْرَ فَارِهَةٍ فِي الْجَمَالِ وَالشَّبَابِ جَازَ لَهَا الْخُرُوجُ لِتُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ، بِشَرْطِ عَدَمِ الطِّيبِ، وَأَنْ لَا يُخْشَى مِنْهَا الْفِتْنَةُ، وَأَنْ تَخْرُجَ فِي رَدِيءِ ثِيَابِهَا، وَأَنْ لَا تُزَاحِمَ الرِّجَالَ، وَأَنْ تَكُونَ الطَّرِيقُ مَأْمُونَةً مِنْ تَوَقُّعِ الْمَفْسَدَةِ، فَإِنْ لَمْ تَتَحَقَّقْ فِيهَا تِلْكَ الشُّرُوطُ كُرِهَ لَهَا الصَّلَاةُ فِيهِ، فَقَدْ كَانَتِ النِّسَاءُ يُبَاحُ لَهُنَّ الْخُرُوجُ إِلَى الصَّلَوَاتِ، ثُمَّ لَمَّا صَارَ سَبَبًا لِلْوُقُوعِ فِي الْفِتْنَةِ مُنِعْنَ عَنْ ذَلِكَ جَاءَ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ النِّسْوَةِ حَيْثُ كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَتَأَخَّرُونَ لِلِاطِّلَاعِ عَلَى عَوْرَاتِهِنَّ، وَقَوْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- فِي الصَّحِيحِ: لَوْ أَدْرَكَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- تَرْفَعُهُ «أَيُّهَا النَّاسُ انْهُوا نِسَاءَكُمْ عَنْ لُبْسِ الزِّينَةِ وَالتَّبَخْتُرِ فِي الْمَسَاجِدِ، فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يُلْعَنُوا حَتَّى لَبِسَ نِسَاؤُهُمُ الزِّينَةَ وَتَبَخْتَرُوا فِي الْمَسَاجِدِ»،، وَفِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ- رضي الله عنها-: «خَيْرُ مَسَاجِدِ النِّسَاءِ قَعْرُ بُيُوتِهِنَّ».
دُخُولُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ فِي الْمَسْجِدِ وَعُبُورُهُمْ لَهُ
35- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ دُخُولُ الْمَسْجِدِ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «جَاءَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- وَوُجُوهُ بُيُوتِ أَصْحَابِهِ شَارِعَةٌ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوتَ عَنِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ دَخَلَ وَلَمْ يَصْنَعِ الْقَوْمُ شَيْئًا رَجَاءَ أَنْ تَنْزِلَ فِيهِمْ رُخْصَةٌ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوتَ عَنِ الْمَسْجِدِ فَإِنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضِ وَلَا جُنُبٍ».
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الْمُكْثُ فِي الْمَسْجِدِ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ الْعُبُورُ فِيهِ إِنْ خِيفَ تَلْوِيثُ الْمَسْجِدِ وَإِنْ لَمْ يُخَفِ التَّلْوِيثُ جَازَ الْعُبُورُ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَيْضٌ ف 41، وَجَنَابَةٌ ف 18، وَدُخُولٌ ف 6).
حَيْضُ الْمَرْأَةِ وَجَنَابَةُ الرَّجُلِ فِي الْمَسْجِدِ
36- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ إِذَا حَاضَتْ، وَالرَّجُلِ إِذَا أَجْنَبَ، وَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ أَنْ يَبْقَيَا فِيهِ وَهُمَا عَلَى مَا هُمَا عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِمَا أَنْ يَخْرُجَا مِنْهُ حَتَّى يَطْهُرَ كُلٌّ مِنْهُمَا، فَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها- قَوْلَ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضِ وَلَا جُنُبٍ».
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَفْسُدُ بِالِاحْتِلَامِ، ثُمَّ إِنْ أَمْكَنَهُ الِاغْتِسَالُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَلَوَّثَ الْمَسْجِدُ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَإِلاَّ فَيَخْرُجُ وَيَغْتَسِلُ وَيَعُودُ إِلَى الْمَسْجِدِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ وَهِيَ فِي مَسْجِدِ اعْتِكَافِهَا- قَبْلَ إِتْمَامِ مَا نَوَتْهُ أَوْ نَذَرَتْهُ- خَرَجَتْ وُجُوبًا مِنْهُ وَعَلَيْهَا حُرْمَةُ الِاعْتِكَافِ، فَلَا تَفْعَلُ مَا لَا يَفْعَلُهُ الْمُعْتَكِفُ مِنْ جِمَاعٍ أَوْ مُقَدِّمَاتِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا رَجَعَتْ فَوْرًا لِمُعْتَكَفِهَا لِلْبِنَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالْبِنَاءِ: الْإِتْيَانُ بِبَدَلِ مَا حَصَلَ فِيهِ الْمَانِعُ وَتَكْمِيلُ مَا نَذَرَتْهُ وَلَوْ أَخَّرَتْ رُجُوعَهَا إِلَيْهِ وَلَوْ نَاسِيَةً أَوْ مُكْرَهَةً بَطَلَ اعْتِكَافُهَا وَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَأْنِفَهُ.
وَإِذَا أَجْنَبَ الرَّجُلُ فِي الْمَسْجِدِ وَكَانَ مُعْتَكِفًا فَسَدَ اعْتِكَافُهُ وَابْتَدَأَهُ بَعْدَ أَنْ يَغْتَسِلَ، إِذْ يَحْرُمُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ مِنْ أَهْلِهِ بِاللَّيْلِ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنْهُنَّ بِالنَّهَارِ، وَلَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَتَهُ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}.
وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا طَرَأَ الْحَيْضُ وَجَبَ الْخُرُوجُ، وَكَذَا الْجَنَابَةُ إِنْ تَعَذَّرَ الْغُسْلُ فِي الْمَسْجِدِ لِحُرْمَةِ الْمُكْثِ فِيهِ عَلَى الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ، فَلَوْ أَمْكَنَ الْغُسْلُ فِيهِ جَازَ الْخُرُوجُ لَهُ وَلَا يَلْزَمُ، بَلْ يَجُوزُ الْغُسْلُ فِيهِ وَيَلْزَمُهُ أَنْ يُبَادِرَ بِهِ كَيْلَا يَبْطُلَ تَتَابُعُ اعْتِكَافِهِ، وَلَا يُحْسَبُ زَمَنُ الْحَيْضِ وَلَا الْجَنَابَةِ فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الِاعْتِكَافِ لِمُنَافَاتِهِمَا لَهُ.
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: إِذَا أَجْنَبَ الرَّجُلُ فِي الْمَسْجِدِ اسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُرَاعِيَ أَقْرَبَ الطُّرُقِ إِلَى الْخُرُوجِ.
وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ عَلَى الْحَائِضِ الْمُعْتَكِفَةِ أَنْ تَتَحَيَّضَ فِي خِبَاءٍ فِي رَحْبَةِ الْمَسْجِدِ إِنْ كَانَ لَهُ رَحْبَةٌ وَأَمْكَنَ ذَلِكَ بِلَا ضَرَرٍ وَإِلاَّ فَفِي بَيْتِهَا، فَإِنْ طَهُرَتْ وَكَانَ الِاعْتِكَافُ مَنْذُورًا رَجَعَتْ فَأَتَمَّتِ اعْتِكَافَهَا وَقَضَتْ مَا فَاتَهَا وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا.
وَقَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: وَفِي جَوَازِ مَبِيتِ الْجُنُبِ فِيهِ مُطْلَقًا بِلَا ضَرُورَةٍ رِوَايَتَانِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ إِنْ كَانَ مُسَافِرًا أَوْ مُجْتَازًا، وَإِلاَّ فَلَا.
وَإِذَا خَافَ الْجُنُبُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، أَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ، أَوْ لَمْ يَجِدْ مَكَانًا غَيْرَهُ، أَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْغُسْلُ وَلَا الْوُضُوءُ تَيَمَّمَ ثُمَّ أَقَامَ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِذَا تَوَضَّأَ الْجُنُبُ فَلَهُ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ.
تَخَطِّي الرِّقَابِ فِي الْمَسْجِدِ
37- لِتَخَطِّي الرِّقَابِ فِي الْمَسْجِدِ أَحْكَامٌ تَخْتَلِفُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمُتَخَطِّي إِنْ كَانَ إِمَامًا أَوْ غَيْرَهُ، أَوْ كَانَ لِلصَّلَاةِ أَوْ لِغَيْرِهَا، وَمَعَ وُجُودِ فُرْجَةٍ أَوْ عَدَمِ وُجُودِهَا.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَخَطِّي الرِّقَابِ ف 2 وَمَا بَعْدَهَا).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
119-موسوعة الفقه الكويتية (المسجد الحرام)
الْمَسْجِدُ الْحَرَامُالتَّعْرِيفُ:
1- الْمَسْجِدُ- بِكَسْرِ الْجِيمِ- فِي اللُّغَةِ: مَوْضِعُ السُّجُودِ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ، وَبَيْتُ الصَّلَاةِ.
وَالْمَسْجِدُ شَرْعًا هُوَ كُلُّ مَوْضِعٍ مِنَ الْأَرْضِ لِقَوْلِه- صلى الله عليه وسلم- «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا» ثُمَّ إِنَّ الْعُرْفَ خَصَّصَ الْمَسْجِدَ بِالْمَكَانِ الْمُهَيَّأِ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ.
وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فِي الِاصْطِلَاحِ- كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ- قَدْ يُرَادُ بِهِ الْكَعْبَةُ فَقَطْ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَسْجِدُ حَوْلَهَا مَعَهَا، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَكَّةُ كُلُّهَا مَعَ الْحَرَمِ حَوْلَهَا، وَقَدْ جَاءَتْ نُصُوصُ الشَّرْعِ بِهَذِهِ الْأَقْسَامِ.
وَسُمِّيَ الْمَسْجِدُ حَرَامًا لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ انْتِهَاكُهُ فَلَا يُصَادُ عِنْدَهُ وَلَا حَوْلَهُ وَلَا يُخْتَلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ الْحَشِيشِ-.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَأُرِيدَ بِتَحْرِيمِ الْبَيْتِ سَائِرُ الْحَرَمِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ
2- الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ هُوَ الْمَسْجِدُ الَّذِي بَنَاهُ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- فِي مَوْقِعِهِ الْمَعْرُوفِ بِالْمَدِينَةِ حِينَ قَدِمَ مُهَاجِرًا إِلَيْهَا مِنْ مَكَّةَ، وَهُوَ ثَانِي الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ.
وَالصِّلَةُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ مِنَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تُشَدُّ إِلَيْهَا الرِّحَالُ وَيُضَاعَفُ فِيهَا الْأَجْرُ.
ب- الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى
3- الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى هُوَ الْمَسْجِدُ الْمَعْرُوفُ فِي مَدِينَةِ الْقُدْسِ وَقَدْ بُنِيَ عَلَى سَفْحِ الْجَبَلِ، وَيُسَمَّى بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَيِ الْبَيْتُ الْمُطَهَّرُ الَّذِي يُتَطَهَّرُ فِيهِ مِنَ الذُّنُوبِ.
(ر: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى).
وَالصِّلَةُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى مِنَ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تُشَدُّ إِلَيْهَا الرِّحَالُ وَيُضَاعَفُ فِيهَا الْأَجْرُ.
بِنَاءُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
4- أَوَّلُ مَسْجِدٍ وُضِعَ عَلَى الْأَرْضِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَهُوَ مَسْجِدُ مَكَّةَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} وَعَنْ «أَبِي ذَرٍّ- رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلَ؟ فَقَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى، قُلْتُ وَكَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ عَامًا».
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إِنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ كَانَ صَغِيرًا وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جِدَارٌ إِنَّمَا كَانَتِ الدُّورُ مُحْدِقَةً بِهِ، وَبَيْنَ الدُّورِ أَبْوَابٌ يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ فَضَاقَ عَلَى النَّاسِ الْمَسْجِدُ فَاشْتَرَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- دُورًا فَهَدَمَهَا، ثُمَّ أَحَاطَ عَلَيْهِ جِدَارًا قَصِيرًا، ثُمَّ وَسَّعَ الْمَسْجِدَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ- رضي الله عنه- وَاشْتَرَى مِنْ قَوْمٍ، ثُمَّ زَادَ ابْنُ الزُّبَيْرِ- رضي الله عنهما- فِي الْمَسْجِدِ وَاشْتَرَى دُورًا وَأَدْخَلَهَا فِيهِ، وَأَوَّلُ مَنْ نَقَلَ إِلَيْهِ أَسَاطِينَ الرُّخَامِ وَسَقَفَهُ بِالسَّاجِ الْمُزَخْرَفِ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ زَادَ الْمَنْصُورُ فِي شِقِّهِ الشَّامِيِّ ثُمَّ زَادَ الْمَهْدِيُّ، وَكَانَتِ الْكَعْبَةُ فِي جَانِبٍ فَأَحَبَّ أَنْ تَكُونَ وَسَطًا فَاشْتَرَى مِنَ النَّاسِ الدُّورَ وَوَسَطَهَا.
ثُمَّ تَوَالَتِ الزِّيَادَاتُ فِيهِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا.
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ
5- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ أَعْظَمَ الْمَسَاجِدِ حُرْمَةً الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ ثُمَّ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ ثُمَّ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ الْجَوَامِعُ ثُمَّ مَسَاجِدُ الْمَحَالِّ ثُمَّ مَسَاجِدُ الشَّوَارِعِ ثُمَّ مَسَاجِدُ الْبُيُوتِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ أَفْضَلُ الْمَسَاجِدِ وَيَلِيهِ مَسْجِدُ مَكَّةَ وَيَلِيهِ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
شَدُّ الرِّحَالِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
6- الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ هُوَ أَحَدُ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي تُشَدُّ إِلَيْهَا الرِّحَالُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى».هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ وَمَزِيَّتِهَا لِكَوْنِهَا مَسَاجِدِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلِأَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ قِبْلَةُ النَّاسِ وَإِلَيْهِ حَجُّهُمْ، وَمَسْجِدُ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى كَانَ قِبْلَةَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَأُولَى الْقِبْلَتَيْنِ.
تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
7- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ مَا يَبْدَأُ بِهِ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الطَّوَافُ مُحْرِمًا أَوْ غَيْرَ مُحْرِمٍ دُونَ الصَّلَاةِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ، أَوْ خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِيَّةِ وَلَوِ الْوِتْرَ، أَوْ سُنَّةً رَاتِبَةً، أَوْ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ، فَيُقَدِّمُ الصَّلَاةَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ عَلَى الطَّوَافِ.
قَالَ الْمُنْلَا عَلِيٌّ: مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لَا يَشْتَغِلُ بِتَحِيَّةِ لِأَنَّ تَحِيَّةَ هَذَا الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ هِيَ الطَّوَافُ لِمَنْ عَلَيْهِ الطَّوَافُ أَوْ أَرَادَهُ، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُرِدْهُ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْلِسَ فَلَا يَجْلِسُ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مَكْرُوهًا.
وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي مُرِيدُ الطَّوَافِ لِلتَّحِيَّةِ أَصْلًا لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ انْدِرَاجُهَا فِي رَكْعَتَيْهِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ، وَكَذَلِكَ الْمَكِّيُّ الْمَأْمُورُ بِالطَّوَافِ الطَّوَافُ، وَأَمَّا الْمَكِّيُّ الَّذِي لَمْ يُؤْمَرْ بِطَوَافٍ وَلَمْ يَدْخُلْهُ لِأَجْلِ الطَّوَافِ، بَلْ لِلْمُشَاهَدَةِ أَوْ لِلصَّلَاةِ أَوْ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَتَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ فِي حَقِّهِ الصَّلَاةُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ الصَّلَاةُ وَتَحِيَّةَ الْبَيْتِ الطَّوَافُ، وَلَيْسَ الطَّوَافُ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ وَلَكِنْ تَدْخُلُ التَّحِيَّةُ فِي رَكْعَتَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الصَّلَاةُ وَتُجْزِئُ عَنْهَا الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الطَّوَافِ.
وَنَقَلَ ابْنُ مُسْدِيٍّ فِي «إِعْلَامِ النَّاسِكِ» عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يُحَيِّي الْمَسْجِدَ أَوَّلًا بِرَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقْصِدُ الطَّوَافَ.
فَضْلُ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
8- إِنَّ صَلَاةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ».
ثُمَّ إِنَّ التَّضْعِيفَ الْمَذْكُورَ يَرْجِعُ إِلَى الثَّوَابِ وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى الْإِجْزَاءِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ كَمَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ فَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ صَلَاتَانِ فَصَلَّى فِي أَحَدِ الْمَسْجِدَيْنِ (الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ) صَلَاةً لَمْ تُجْزِئْ إِلاَّ عَنْ وَاحِدَةٍ.
9- وَالْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى فَضِيلَةِ الْفَرْضِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى الْفَرْضِ فِي غَيْرِهِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي شُمُولِ هَذَا الْفَضْلِ الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ.
قَالَ الْفَاسِيُّ الْمَالِكِيُّ: إِنَّ الْفَضْلَ يَخْتَصُّ بِالْفَرْضِ وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِنَا وَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ قَوْلَ الْفَاسِيِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَقِّبَ عَلَيْهِ، وَنَسَبَ الْعَيْنِيُّ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى الطَّحَاوِيِّ أَيْضًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ لَا تَخْتَصُّ بِالْفَرِيضَةِ بَلْ تَعُمُّ النَّفْلَ وَالْفَرْضَ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ: وَهُوَ لَازِمٌ لِلْأَصْحَابِ مِنِ اسْتِثْنَائِهِمُ النَّفْلَ بِمَكَّةَ مِنَ الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ لِأَجْلِ زِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ الْحَنْبَلِيُّ: ظَاهِرُ الْأَخْبَارِ أَنَّ النَّفْلَ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلُ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ»،، قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ إِلاَّ النِّسَاءَ لِأَنَّ صَلَاتَهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ أَفْضَلُ، وَالْأَخْبَارُ مَشْهُورَةٌ فِي ذَلِكَ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ.
الْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي تُضَاعَفُ فِيهِ الصَّلَاةُ
10- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ تَعُمُّ جَمِيعَ حَرَمِ مَكَّةَ فَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: «بَيْنَمَا ابْنُ الزُّبَيْرِ يَخْطُبُنَا إِذْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-: صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ تَفْضُلُ بِمِائَةٍ، قَالَ عَطَاءٌ فَكَأَنَّهُ مِائَةُ أَلْفٍ، قَالَ: قُلْتُ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ هَذَا الْفَضْلُ الَّذِي يُذْكَرُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحْدَهُ أَوْ فِي الْحَرَمِ؟ قَالَ: بَلْ فِي الْحَرَمِ، فَإِنَّ الْحَرَمَ كُلَّهُ مَسْجِدٌ».
وَقَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنَّهُ نَفْسُ الْمَسْجِدِ، وَمَعَ هَذَا فَالْحَرَمُ أَفْضَلُ مِنَ الْحِلِّ، فَالصَّلَاةُ فِيهِ أَفْضَلُ.
وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: يَتَحَصَّلُ فِي الْمُرَادِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي تُضَاعَفُ فِيهِ الصَّلَاةُ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ.
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْمَكَانُ الَّذِي يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ الْإِقَامَةُ فِيهِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ مَكَّةُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْحَرَمُ كُلُّهُ إِلَى الْحُدُودِ الْفَارِقَةِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، قَالَهُ عَطَاءٌ وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُهُ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ الرُّويَانِيُّ: فُضِّلَ الْحَرَمُ عَلَى سَائِرِ الْبِقَاعِ فَرُخِّصَ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ لِفَضِيلَةِ الْبُقْعَةِ وَحِيَازَةِ الثَّوَابِ الْمُضَاعَفِ، وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهَذَا فِيهِ تَصْرِيحٌ بِهَذَا الْقَوْلِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ الْكَعْبَةُ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَهُوَ أَبْعَدُهَا.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ الْكَعْبَةُ وَالْمَسْجِدُ حَوْلَهَا، وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ.
السَّادِسُ: أَنَّهُ جَمِيعُ الْحَرَمِ وَعَرَفَةَ، قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ.
السَّابِعُ: أَنَّهُ الْكَعْبَةُ وَمَا فِي الْحَجَرِ مِنَ الْبَيْتِ، وَهُوَ قَوْلُ صَاحِبِ الْبَيَانِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَحَكَى الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ خِلَافَ الْفُقَهَاءِ فِي مَكَانِ الْمُضَاعَفَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَرَجَّحَ أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ تَخْتَصُّ بِمَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ.
تَقَدُّمُ الْمَأْمُومِ عَلَى الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
11- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا صَلَّى الْإِمَامُ خَارِجَ الْكَعْبَةِ وَتَحَلَّقَ الْمُقْتَدُونَ حَوْلَهَا جَازَ لِمَنْ فِي غَيْرِ جِهَتِهِ أَنْ يَكُونَ أَقْرَبَ إِلَيْهَا مِنْهُ، لَا لِمَنْ كَانَ فِي جِهَتِهِ، لِأَنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ إِنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِهَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقِفَ خَلْفَ الْمَقَامِ، وَيَقِفَ الْمَأْمُومُونَ مُسْتَدِيرِينَ بِالْكَعْبَةِ، بِحَيْثُ يَكُونُ الْإِمَامُ أَقْرَبَ إِلَى الْكَعْبَةِ مِنْهُمْ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَقْرَبَ إِلَيْهَا مِنْهُ وَهُوَ فِي جِهَةِ الْإِمَامِ فَفِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ قَوْلَانِ: الْجَدِيدُ بُطْلَانُهَا، وَالْقَدِيمُ صِحَّتُهَا.
وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ جِهَتِهِ فَطَرِيقَانِ: الْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِصِحَّتِهَا وَهُوَ نَصُّهُ فِي الْأُمِّ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ.
وَالثَّانِي فِيهِ الْقَوْلَانِ، حَكَاهُ الْأَصْحَابُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.
الْمُرُورُ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
12- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ الْمَارُّ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ الْمُطَّلِبِ ابْنِ أَبِي وَدَاعَةَ- رضي الله عنه-: «أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي مِمَّا يَلِي بَابَ بَنِي سَهْمٍ وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا سُتْرَةٌ»،، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الطَّائِفِينَ فِيمَا يَظْهَرُ لِأَنَّ الطَّوَافَ صَلَاةٌ فَصَارَ كَمَنْ بَيْنَ يَدَيْهِ صُفُوفٌ مِنَ الْمُصَلِّينَ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَرُمَ الْمُرُورُ إِنْ كَانَ لَهُ مَنْدُوحَةٌ وَصَلَّى لِسُتْرَةِ، وَإِلاَّ جَازَ، هَذَا إِذَا كَانَ الْمَارُّ غَيْرَ طَائِفٍ، وَأَمَّا هُوَ فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مُطْلَقًا، ثُمَّ إِنْ كَانَ لَهُ سُتْرَةٌ كُرِهَ حَيْثُ كَانَ لِلطَّائِفِ مَنْدُوحَةٌ.
وَنَصَّ الرَّمْلِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَصَّرَ الْمُصَلِّي، بِأَنْ وَقَفَ فِي قَارِعَةِ الطَّرِيقِ أَوْ بِشَارِعٍ أَوْ دَرْبٍ ضَيِّقٍ أَوْ نَحْوِ بَابِ مَسْجِدٍ كَالْمَحَلِّ الَّذِي يَغْلِبُ مُرُورُ النَّاسِ بِهِ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ وَلَوْ فِي الْمَسْجِدِ كَالْمَطَافِ، وَكَأَنْ تَرَكَ فُرْجَةً فِي صَفِّ إِمَامِهِ فَاحْتِيجَ لِلْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ لِفُرْجَةِ قَبْلَهُ فَلَا يَحْرُمُ الْمُرُورُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَلَوْ فِي حَرِيمِ الْمُصَلَّى وَهُوَ قَدْرُ إِمْكَانِ سُجُودِهِ، خِلَافًا لِلْخَوَارِزْمِيِّ، بَلْ وَلَا يُكْرَهُ عِنْدَ التَّقْصِيرِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْمُصَلِّي بِمَكَّةَ الْمُشَرَّفَةِ لَا يَرُدُّ الْمَارَّ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ أَحْمَدُ: لِأَنَّ مَكَّةَ لَيْسَتْ كَغَيْرِهَا لِأَنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ بِهَا وَيَزْدَحِمُونَ فَمَنْعُهُمْ تَضْيِيقٌ عَلَيْهِمْ، وَلِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- صَلَّى بِمَكَّةَ وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا سِتْرٌ.
وَأَلْحَقَ الْمُوَفَّقُ بِمَكَّةَ سَائِرَ الْحَرَمِ لِمُشَارَكَتِهِ لَهَا فِي الْحُرْمَةِ.
وَقَالَ الرَّحِيبَانِيُّ: إِنَّمَا يَتَمَشَّى كَلَامُ الْمُوَفَّقِ فِي زَمَنِ حَاجٍّ لِكَثْرَةِ النَّاسِ وَاضْطِرَارِهِمْ إِلَى الْمُرُورِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْحَجِّ فَلَا حَاجَةَ لِلْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الصَّلَاةِ فِي الْمَطَافِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ وَهُوَ مُتَّجَهٌ.
أَفْضَلِيَّةُ صَلَاةِ الْعِيدِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
13- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى نَدْبِ إِيقَاعِ صَلَاةِ الْعِيدِ بِالْمُصَلَّى فِي الصَّحْرَاءِ، وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ أَفْضَلِيَّةَ الصَّلَاةِ فِي الصَّحْرَاءِ بِمَا إِذَا كَانَ مَسْجِدُ الْبَلَدِ ضَيِّقًا.
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ صَلَاةَ الْعِيدِ بِمَكَّةَ، فَمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَإِيقَاعُهُ صَلَاةَ الْعِيدِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ لِلْمَزَايَا الَّتِي تَقَعُ فِيهِ لِمَنْ يُصَلِّي الْعِيدَ وَهِيَ النَّظَرُ وَالطَّوَافُ الْمَعْدُومَانِ فِي غَيْرِهِ لِخَبَرِ «يُنَزِّلُ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ مَسْجِدِ مَكَّةَ كُلَّ يَوْمٍ عِشْرِينَ وَمِائَةَ رَحْمَةً: سِتِّينَ مِنْهَا لِلطَّائِفِينَ، وَأَرْبَعِينَ لِلْمُصَلِّينَ، وَعِشْرِينَ مِنْهَا لِلنَّاظِرِينَ».
نَذْرُ الْإِتْيَانِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
14- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي أَصَحِّ الطَّرِيقَيْنِ إِلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ إِتْيَانَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: «نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ، وَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَاسْتَفْتَيْتُهُ، فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ»،، وَلِأَنَّ مُطْلَقَ كَلَامِ النَّاذِرِينَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ثَبَتَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، وَالْعُرْفُ قَصْدُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَيُحْمَلُ نَذْرُهُ عَلَيْهِ.
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ لُزُومَ الْمَشْيِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمَا إِذَا نَذَرَ النَّاذِرُ الْمَشْيَ لَهُ لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ لِصَلَاةٍ فِيهِ فَرْضًا كَانَتْ أَوْ نَفْلًا.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا لَزِمَهُ الْمَشْيُ مَشَى مِنْ حَيْثُ نَذَرَ الْمَشْيَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ مَحَلًّا مَخْصُوصًا فَمِنَ الْمَكَانِ الْمُعْتَادِ لِمَشْيِ الْحَالِفِينَ بِالْمَشْيِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَكَانًا مُعْتَادًا لِلْحَالِفِينَ فَمِنْ حَيْثُ حَلَفَ أَوْ نَذَرَ وَأَجْزَأَ الْمَشْيُ مِنْ مِثْلِهِ فِي الْمَسَافَةِ، وَجَازَ رُكُوبٌ لِحَاجَةٍ كَأَنْ يَرْجِعَ لِشَيْءِ نَسِيَهُ أَوِ احْتَاجَ إِلَيْهِ كَمَا يَجُوزُ لَهُ الرُّكُوبُ فِي الطَّرِيقِ لِبَحْرٍ اعْتِيدَ رُكُوبُهُ لِلْحَالِفِينَ أَوِ اضْطُرَّ إِلَى رُكُوبِهِ، وَيَسْتَمِرُّ مَاشِيًا لِتَمَامِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ أَوْ تَمَامِ السَّعْيِ إِنْ كَانَ سَعْيُهُ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ.
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ مَنْ قَالَ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْإِحْرَامِ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ عَلَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُ إِيجَابُهُ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ فَامْتَنَعَ أَصْلًا.
وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: نَذْرٌ).
حَاضِرُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ:
15- قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ- بَعْدَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ وَمَا اتَّصَلَ بِهَا مِنْ حَاضِرِيهِ- وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: بَعْدَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَهْلِ الْحَرَمِ.قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَيْسَ كَمَا قَالَ- فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَنْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ فَهُوَ حَضَرِيٌّ، وَمَنْ كَانَ أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بَدَوِيٌّ، فَجَعَلَ اللَّفْظَةَ مِنَ الْحَضَارَةِ وَالْبَدَاوَةِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ مِنْ أَهْلِ دَاخِلِ الْمَوَاقِيتِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ الْمُعْتَمَدِ الْمُخْتَارِ إِلَى أَنَّ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ دُونَ مَرْحَلَتَيْنِ مِنَ الْحَرَمِ.
وَفِي الْقَوْلِ الْمُقَابِلِ لِلْأَصَحِّ: حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ دُونَ مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي الْإِشْرَافِ: حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَأَهْلُ ذِي طُوًى: وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَطَاوُسٌ: هُمْ أَهْلُ الْحَرَمِ.
دُخُولُ الْكَافِرِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ
16- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ لَهُ دُخُولُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِحَالٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}.
وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ إِذْ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْكَافِرَ يُمْنَعُ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ مُطْلَقًا وَإِنْ أَذِنَ لَهُ مُسْلِمٌ مَا لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ لِدُخُولِهِ كَعِمَارَةِ وَقَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} عَامَّةٌ فِي سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ وَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ، وَبِذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عُمَّالِهِ، وَنَزَعَ فِي كِتَابِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قوله تعالى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} وَدُخُولُ الْكُفَّارِ فِيهَا مُنَاقِضٌ لِتَرْفِيعِهَا.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِدُخُولِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَسَائِرَ الْمَسَاجِدِ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
120-موسوعة الفقه الكويتية (مسك)
مِسْكٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْمِسْكُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ السِّينِ: طِيبٌ مَعْرُوفٌ، وَثَوْبٌ مُمَسَّكٌ: مَصْبُوغٌ بِهِ، وَدَوَاءٌ مُمَسَّكٌ: فِيهِ مِسْكٌ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمِسْكُ مِنَ الطِّيبِ، فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ قَالَ: وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّيهِ الْمَشْمُومَ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ قَالَ الْبُنَانِيُّ نَقْلًا عَنِ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ: الْمِسْكُ دَمٌ يَجْتَمِعُ فِي سُرَّةِ الْغَزَالِ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ مِنَ السَّنَةِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ وَرِمَ الْمَوْضِعُ، فَيَمْرَضُ الْغَزَالُ إِلَى أَنْ يَسْقُطَ مِنْهُ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْعَنْبَرُ:
2- الْعَنْبَرُ فِي اللُّغَةِ: مَادَّةٌ صُلْبَةٌ لَا طَعْمَ لَهَا وَلَا رِيحَ إِلاَّ إِذَا سُحِقَتْ أَوْ أُحْرِقَتْ، يُقَالُ: إِنَّهُ رَوْثُ دَابَّةٍ بَحْرِيَّةٍ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّ الْعَنْبَرَ شَيْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ- أَيْ رَمَى بِهِ- إِلَى السَّاحِلِ.
وَالْعِلَاقَةُ بَيْنَ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا طِيبٌ، وَلَهُمَا أَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ مُشْتَرَكَةٌ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمِسْكِ:
أ- طَهَارَةُ الْمِسْكِ وَأَكْلُهُ
3- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمِسْكَ طَاهِرٌ حَلَالٌ، يَجُوزُ أَكْلُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ بِكُلِّ حَالٍ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالْأَدْوِيَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ لِضَرُورَةٍ أَمْ لَا، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ دَمًا فَقَدْ تَغَيَّرَ، وَاسْتَحَالَ أَصْلُهُ إِلَى صَلَاحٍ، فَيَصِيرُ طَاهِرًا، وَلِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَنَّ الْمِسْكَ أَطْيَبُ الطِّيبِ».
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: حَكَى النَّوَوِيُّ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى طَهَارَتِهِ وَجَوَازِ بَيْعِهِ.
وَأَمَّا نَافِجَةُ الْمِسْكِ فَطَاهِرَةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي التَّفَاصِيلِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ إِلَى طَهَارَتِهَا مُطْلَقًا، أَيْ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ رَطْبِهَا وَيَابِسِهَا، وَبَيْنَ مَا انْفَصَلَ مِنَ الْمَذْبُوحِ أَوْ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَتْ بِحَالِ لَوْ أَصَابَهَا الْمَاءُ لَمْ تَفْسُدْ فَهِيَ طَاهِرَةٌ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: فَأْرَةُ الْمِسْكِ مَيْتَةٌ طَاهِرَةٌ إِجْمَاعًا لِانْتِقَالِهَا عَنِ الدَّمِ، كَالْخَمْرِ لِلْخَلِّ.
وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنِ انْفَصَلَتْ مِنْ حَيَّةٍ أَوْ مُذَكَّاةٍ فَطَاهِرَةٌ وَتَكُونُ كَالرِّيشِ، وَإِنِ انْفَصَلَتْ مِنْ مَيْتَةٍ فَنَجِسَةٌ كَاللَّبَنِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْمِسْكُ وَفَأْرَتُهُ (وِعَاؤُهُ) طَاهِرَانِ، لِأَنَّهُ مُنْفَصِلٌ بِطَبْعِهِ، أَشْبَهَ الْوَلَدَ
ب- زَكَاةُ الْمِسْكِ
4- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي الْمِسْكِ.
ج- بَيْعُ الْمِسْكِ وَفَأْرَتِهِ
5- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمِسْكِ فِي الْجُمْلَةِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: حَكَى النَّوَوِيُّ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى طَهَارَتِهِ وَجَوَازِ بَيْعِهِ.
وَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ الْقَوْلَ فِيهِ فَقَالُوا: لَا يَصِحُّ بَيْعُ مِسْكٍ اخْتَلَطَ بِغَيْرِهِ لِجَهْلِ الْمَقْصُودِ، وَلَوْ كَانَ قَدْرُ الْمِسْكِ مَعْلُومًا صَحَّ الْبَيْعُ، هَذَا إِذَا خَالَطَهُ لَا عَلَى وَجْهِ التَّرْكِيبِ، فَإِنْ كَانَ مَعْجُونًا بِغَيْرِهِ كَالْغَالِيَةِ، وَالنِّدِّ صَحَّ الْبَيْعُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ جَمِيعُهَا لَا الْمِسْكُ وَحْدَهُ.
وَكَذَلِكَ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمِسْكِ فِي فَأْرَتِهِ مَعَهَا، أَوْ دُونَهَا، وَلَوْ فَتَحَ رَأْسَهَا كَاللَّحْمِ فِي الْجِلْدِ.
أَمَّا لَوْ رَأَى الْمِسْكَ خَارِجَ الْفَأْرَةِ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ بَعْدَ رَدِّهِ إِلَيْهَا، أَوْ رَأَى الْفَأْرَةَ فَارِغَةً، ثُمَّ مُلِئَتْ مِسْكًا لَمْ يَرَهُ، ثُمَّ رَأَى أَعْلَاهُ مِنْ رَأْسِهَا جَازَ، وَإِلاَّ فَلَا، لِأَنَّهُ بَيْعُ غَائِبٍ.
وَأَمَّا لَوْ بَاعَ الْمِسْكَ وَفَأْرَتَهُ كُلَّ رَطْلٍ أَوْ قِيرَاطٍ مَثَلًا بِدِرْهَمٍ صَحَّ الْبَيْعُ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ قِيمَتُهُمَا، شَرِيطَةَ أَنْ يَعْرِفَ وَزْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَانَ لِلْفَأْرَةِ قِيمَةٌ، وَإِلاَّ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْبَيْعَ اشْتَمَلَ عَلَى اشْتِرَاطِ بَذْلِ مَالٍ فِي مُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُ مِسْكٍ فِي فَأْرَتِهِ مَا لَمْ يُفْتَحْ وَيُشَاهَدْ، لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ كَاللُّؤْلُؤِ فِي الصَّدَفِ، قَالَ الرَّحِيبَانِيُّ: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا اشْتَرَى نَافِجَةَ مِسْكٍ، وَأَخْرَجَ الْمِسْكَ مِنْهَا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا لِرُؤْيَةٍ أَوْ عَيْبٍ، لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ يُدْخِلُ فِيهِ عَيْبًا.
د- السَّلَمُ فِي الْمِسْكِ
6- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ فِي الْمِسْكِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَتَعَيَّنُ وَزْنُ فُتَاتِ الْمِسْكِ، وَلَا يَجُوزُ كَيْلًا لِأَنَّ الْكَيْلَ لَا يُعَدُّ ضَابِطًا فِيهِ لِعِظَمِ خَطَرِهِ؛ لِأَنَّ يَسِيرَهُ مَالِيَّةٌ كَثِيرَةٌ.
قَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَيَصِفُهُ، وَيَضْبِطُهُ بِاللَّوْنِ، وَالْبَلَدِ وَمَا يُخْتَلَفُ بِهِ.
هـ- ضَمَانُ رَائِحَةِ الْمِسْكِ الْمَغْصُوبِ
7- نَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْغَاصِبَ يَضْمَنُ نَقْصَ رَائِحَةِ الْمِسْكِ أَوْ نَحْوِهِ كَعَنْبَرٍ، لِأَنَّ قِيمَتَهُ تَخْتَلِفُ بِالنَّظَرِ إِلَى قُوَّةِ رَائِحَتِهِ، وَضَعْفِهَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ فَاتَ الْجَمِيعُ لَوَجَبَ قِيمَتُهُ، فَإِذَا فَاتَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَجَبَ قَدْرُهُ مِنَ الْقِيمَةِ.
و- اسْتِعْمَالُ الْمِسْكِ لِلْمُحْرِمِ وَغَيْرِهِ
8- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ التَّطَيُّبِ بِالْمِسْكِ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ: «الْمِسْكُ أَطْيَبُ الطِّيبِ».
وَفِي اسْتِعْمَالِهِ لِلْمُحْرِمِ، وَالتَّدَاوِي بِهِ، وَأَكْلِهِ، وَشَمِّهِ خِلَافٌ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (إِحْرَامٌ ف 74- 78).
ز- اسْتِعْمَالُ الْمِسْكِ لِلْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ
9- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، بِأَنَّهُ يُسَنُّ اسْتِعْمَالُ الْمِسْكِ لِكُلِّ مُغْتَسِلَةٍ مِنْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ مِسْكًا فَطِيبًا آخَرَ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ غُسْلِهَا مِنَ الْمَحِيضِ، فَأَمَرَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ، قَالَ: خُذِي فِرْصَةً مِنْ مِسْكٍ، فَتَطَهَّرِي بِهَا قَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ بِهَا؟ قَالَ: تَطَهَّرِي بِهَا قَالَتْ: كَيْفَ؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! تَطَهَّرِي، تَقُولُ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: فَجَذَبْتُهَا إِلَيَّ، فَقُلْتُ: تَتَّبِعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ».
وَكَيْفِيَّةُ اسْتِعْمَالِهِ كَمَا ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنْ تَأْخُذَ الْمِسْكَ، وَتَجْعَلَهُ فِي قُطْنٍ، وَيُقَالُ لَهَا الْكُرْسُفُ أَوِ الْفِرْصَةُ وَتُدْخِلُهَا الْفَرْجَ، لِيَقْطَعَ رَائِحَةَ دَمِ الْحَيْضِ أَوِ النِّفَاسِ.
ح- إِفْطَارُ الصَّائِمِ بِشَمِّ رَائِحَةِ الْمِسْكِ
10- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ شَمَّ الْمِسْكَ وَلَوْ ذَاكِرًا، أَوْ شَمَّ هَوَاءً تَطَيَّبَ بِرِيحِ الْمِسْكِ أَوْ شَبَهِهِ فَلَا يُفْطِرُ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ مَنْ شَمَّ رَائِحَةَ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالزَّبَادِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَ الْحَلْقَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا وَصَلَ إِلَى الْحَلْقِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، أَمَّا لَوْ وَصَلَ إِلَى الْحَلْقِ بِاخْتِيَارِهِ، أَيْ بِاسْتِنْشَاقِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَنْشِقُ صَانِعَهُ أَوْ غَيْرَهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ شَمُّ مَا لَا يَأْمَنُ أَنْ يَجْذِبَهُ نَفْسُهُ إِلَى حَلْقِهِ كَسَحِيقِ مِسْكٍ وَكَافُورٍ، وَكَبُخُورٍ، وَعَنْبَرٍ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
121-موسوعة الفقه الكويتية (مشي)
مَشْيٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْمَشْيُ لُغَةً السَّيْرُ عَلَى الْقَدَمِ، سَرِيعًا كَانَ أَوْ غَيْرَ سَرِيعٍ، يُقَالُ: مَشَى يَمْشِي مَشْيًا: إِذَا كَانَ عَلَى رِجْلَيْهِ، سَرِيعًا كَانَ أَوْ بَطِيئًا، فَهُوَ مَاشٍ، وَالْجَمْعُ مُشَاةٌ.
وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ:
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- السَّعْيُ:
2- مِنْ مَعَانِي السَّعْيِ فِي اللُّغَةِ الْإِسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ.
وَالسَّعْيُ فِي الِاصْطِلَاحِ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ مِنْهَا: قَطْعُ الْمَسَافَةِ الْكَائِنَةِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَ مَرَّاتٍ ذَهَابًا وَإِيَابًا، وَمِنْهَا: الْإِسْرَاعُ فِي الْمَشْيِ.
قَالَ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ: السَّعْيُ: الْمَشْيُ السَّرِيعُ وَهُوَ دُونَ الْعَدْوِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا هِيَ أَنَّ الْمَشْيَ أَعَمُّ مِنَ السَّعْيِ.
ب- الرَّمَلُ
3- الرَّمَلُ- بِفَتْحِ الْمِيمِ- فِي اللُّغَةِ الْهَرْوَلَةُ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: رَمَلَ يَرْمُلُ رَمَلًا وَرَمَلَانًا: إِذَا أَسْرَعَ فِي الْمَشْيِ وَهَزَّ مَنْكِبَيْهِ.
وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، لَكِنَّ النَّوَوِيَّ قَالَ: الرَّمَلُ- بِفَتْحِ الرَّاءِ- هُوَ إِسْرَاعُ الْمَشْيِ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَى دُونَ الْوُثُوبِ وَالْعَدْوِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا هِيَ أَنَّ الرَّمَلَ أَخَصُّ مِنَ الْمَشْيِ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَشْيِ:
تَتَعَلَّقُ بِالْمَشْيِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
إِمْكَانِيَّةُ مُتَابَعَةِ الْمَشْيِ فِي الْخُفِّ لِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَيْهِ:
4- يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ شُرُوطًا مِنْهَا:
أَنْ يَكُونَ الْخُفُّ مِمَّا يُمْكِنُ مُتَابَعَةُ الْمَشْيِ فِيهِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: مَسْحٌ عَلَى الْخُفَّيْنِ).
الْمَشْيُ فِي الصَّلَاةِ
5- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ إِذَا مَشَى فِي صَلَاتِهِ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ مَشْيًا غَيْرَ مُتَدَارَكٍ
بِأَنْ مَشَى قَدْرَ صَفٍّ، ثُمَّ وَقَفَ قَدْرَ رُكْنٍ، ثُمَّ مَشَى قَدْرَ صَفٍّ آخَرَ، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ مَشَى قَدْرَ صُفُوفٍ كَثِيرَةٍ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، إِلاَّ إِنْ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الصَّلَاةُ فِيهِ، أَوْ تَجَاوَزَ الصُّفُوفَ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الصَّلَاةُ فِي الصَّحْرَاءِ، فَإِنْ مَشَى مَشْيًا مُتَلَاحِقًا بِأَنْ مَشَى قَدْرَ صَفَّيْنِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، أَوْ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، أَوْ تَجَاوَزَ الصُّفُوفَ فِي الصَّحْرَاءِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ الْقَلِيلَ غَيْرُ مُفْسِدٍ مَا لَمْ يَتَكَرَّرْ مُتَوَالِيًا، وَعَلَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْمَكَانِ مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ مَا لَمْ يَكُنْ لِإِصْلَاحِهَا، وَالْمَسْجِدُ مَكَانٌ وَاحِدٌ حُكْمًا، وَمَوْضِعُ الصُّفُوفِ فِي الصَّحْرَاءِ كَالْمَسْجِدِ، هَذَا إِذَا كَانَ قُدَّامَهُ صُفُوفٌ.
أَمَّا لَوْ كَانَ إِمَامًا فَمَشَى حَتَّى جَاوَزَ مَوْضِعَ سُجُودِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِقْدَارَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ لَا تَفْسُدُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فَسَدَتْ، وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَالْمُعْتَبَرُ مَوْضِعُ سُجُودِهِ، إِنْ جَاوَزَهُ فَسَدَتْ وَإِلاَّ فَلَا.
وَهَذَا التَّفْصِيلُ كُلُّهُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَاشِي فِي الصَّلَاةِ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ، بِأَنْ مَشَى قُدَّامَهُ أَوْ يَمِينًا أَوْ يَسَارًا أَوْ إِلَى وَرَائِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْوِيلٍ أَوِ اسْتِدْبَارٍ، وَأَمَّا إِذَا اسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ فَقَدْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ سَوَاءٌ مَشَى قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا أَوْ لَمْ يَمْشِ، لِأَنَّ اسْتِدْبَارَ الْقِبْلَةِ لِغَيْرِ إِصْلَاحِ الصَّلَاةِ وَحْدَهُ مُفْسِدٌ.
وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ فِي رَجُلٍ رَأَى فُرْجَةً فِي الصَّفِّ الَّذِي أَمَامَهُ مُبَاشَرَةً فَمَشَى إِلَى تِلْكَ الْفُرْجَةِ فَسَدَّهَا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَلَوْ مَشَى إِلَى صَفٍّ غَيْرِ الَّذِي أَمَامَهُ مُبَاشَرَةً فَسَدَّ فُرْجَةً فِيهِ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَبْطُلُ بِمَشْيِ الْمُصَلِّي صَفَّيْنِ لِسُتْرَةٍ يَقْرُبُ إِلَيْهَا، أَوْ دَفْعِ مَارٍّ أَوْ لِذَهَابِ دَابَّةٍ أَوْ لَسَدِّ فُرْجَةٍ فِي صَفٍّ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَشْيُ بِجَنْبٍ أَوْ قَهْقَرَى: بِأَنْ يَرْجِعَ عَلَى ظَهْرِهِ، بِشَرْطِ أَلَا يَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ، فِيمَا عَدَا مَسْأَلَةَ الدَّابَّةِ فَإِنَّهُ يُعْذَرُ إِنِ اسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَشْيَ أَكْثَرَ مِنْ خُطْوَتَيْنِ مُتَوَسِّطَتَيْنِ مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ إِنْ تَوَالَتْ لَا إِنْ تَفَرَّقَتْ، أَمَا الْمَشْيُ خُطْوَتَيْنِ فَلَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَإِنِ اتَّسَعَتْ، كَمَا تَبْطُلُ بِالْوَثْبَةِ الْفَاحِشَةِ مُطْلَقًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي مُسَمَّى الْخُطْوَةِ هَلْ هُوَ نَقُلْ رِجْلٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ أَوْ نَقْلُ الرِّجْلِ الْأُخْرَى إِلَى مُحَاذَاتِهَا، قَالَ ابْنُ أَبِي الشَّرِيفِ: كُلٌّ مِنْهُمَا مُحْتَمَلٌ، وَالثَّانِي أَقْرَبُ.
وَالَّذِي يُسْتَفَادُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْمَشْيَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ صِحَّةُ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ مَعَ إِمَامِهِ جَائِزٌ، كَمَا إِذَا كَبَّرَ فَذًّا خَلْفَ الْإِمَامِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ عَنْ يَمِينِهِ، أَوْ تَقَدَّمَ الْمَأْمُومُ إِلَى صَفٍّ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ كَانَا اثْنَيْنِ وَرَاءَ الْإِمَامِ، فَخَرَجَ أَحَدُهُمَا مِنَ الصَّلَاةِ فَمَشَى الْمَأْمُومُ حَتَّى وَقَفَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ، أَوْ كَانَ الْمَأْمُومُ وَاحِدًا فَكَبَّرَ آخَرُ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ أَدَارَهُ الْإِمَامُ عَنْ يَمِينِهِ.
وَالْعِبْرَةُ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَشْيَ الْكَثِيرَ إِنْ كَانَ لِضَرُورَةٍ كَخَوْفٍ أَوْ هَرَبٍ مِنْ عَدُوٍّ وَنَحْوِهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِضَرُورَةٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ.
التَّنَفُّلُ مَاشِيًا
6- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى جَوَازِ التَّنَفُّلِ مَاشِيًا وَلِكُلٍّ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ:
فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ التَّنَفُّلُ مَاشِيًا، وَعَلَى الرَّاحِلَةِ سَائِرَةً إِلَى جِهَةِ مَقْصِدِهِ فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ، وَكَذَا الْقَصِيرِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْحَضَرِ عَلَى الصَّحِيحِ بَلْ لَهَا فِيهِ حُكْمُ الْفَرِيضَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ الْقِيَامَ، وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ: يَجُوزُ لِلرَّاكِبِ وَالْمَاشِي فِي الْحَضَرِ مُتَرَدِّدًا فِي جِهَةِ مَقْصِدِهِ، وَاخْتَارَ الْقَفَّالُ الْجَوَازَ بِشَرْطِ الِاسْتِقْبَالِ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِ الِاسْتِقْبَالِ لِمُتَنَفِّلٍ رَاكِبٍ وَمَاشٍ فِي سَفَرٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ وَلَا مَكْرُوهٍ، وَلَوْ كَانَ السَّفَرُ قَصِيرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} قَالَ ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: نَزَلَتْ فِي التَّطَوُّعِ خَاصَّةً، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ أَيْنَمَا تَوَجَّهَتْ يُومِئُ، وَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَفْعَلُهُ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- يَفْعَلُهُ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ طَوِيلِ السَّفَرِ وَقَصِيرِهِ، وَأَلْحَقَ الْمَاشِي بِالرَّاكِبِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ أُبِيحَتْ لِلرَّاكِبِ لِئَلاَّ يَنْقَطِعَ عَنِ الْقَافِلَةِ فِي السَّفَرِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمَاشِي.
وَلَا تَجُوزُ صَلَاةُ الْمَاشِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.
آدَابُ الْمَشْيِ إِلَى صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ
7- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِقَاصِدِ الْجَمَاعَةِ أَنَّ يَمْشِيَ إِلَى الصَّلَاةِ بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ، وَإِنْ سَمِعَ الْإِقَامَةَ لَمْ يَسْعَ إِلَيْهَا، سَوَاءٌ خَافَ فَوْتَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ أَمْ لَا لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ ائْتُوهَا تَمْشُونَ، وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا».
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ الْإِسْرَاعُ لِإِدْرَاكِ الصَّلَاةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ بِلَا هَرْوَلَةٍ وَهِيَ مَا دُونَ الْجَرْيِ، وَتُكْرَهُ الْهَرْوَلَةُ لِأَنَّهَا تُذْهِبُ الْخُشُوعَ، إِلاَّ أَنْ يَخَافَ فَوَاتَ الْوَقْتِ فَتَجِبُ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُنْظَرُ فِي (صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ ف 22).
الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ لِقَاصِدِ الْجُمُعَةِ
8- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمُرِيدِ حُضُورِ الْجُمُعَةِ الْمَشْيُ فِي ذَهَابِهِ لِخَبَرِ: «مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ، ثُمَّ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، وَدَنَا مِنَ الْإِمَامِ فَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا»،، وَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّهُ عَبْدٌ ذَاهِبٌ لِمَوْلَاهُ، فَيَطْلُبُ مِنْهُ التَّوَاضُعَ لَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا فِي إِقْبَالِهِ عَلَيْهِ.
قَالَ الْبُهُوتِيُّ: هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فَلَا بَأْسَ بِرُكُوبِهِ ذَهَابًا وَإِيَابًا، لَكِنَّ الْإِيَابَ لَا بَأْسَ بِهِ وَلَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يُنْدَبُ الْمَشْيُ فِي الرُّجُوعِ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ قَدِ انْقَضَتْ.
وَقَالَ الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: مَنْ رَكِبَ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ سَيَّرَ دَابَّتَهُ بِسُكُونٍ كَالْمَاشِي مَا لَمْ يَضِقِ الْوَقْتُ، وَيُشْبِهُ أَنَّ الرُّكُوبَ أَفَضْلُ لِمَنْ يُجْهِدُهُ الْمَشْيُ لِهَرَمٍ أَوْ ضَعْفٍ أَوْ بُعْدِ مَنْزِلِهِ، بِحَيْثُ يَمْنَعُهُ مَا يَنَالُهُ مِنَ التَّعَبِ الْخُشُوعَ وَالْخُضُوعَ فِي الصَّلَاةِ عَاجِلًا.
اشْتِرَاطُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَشْيِ لِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ
9- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ Cالْجُمُعَةِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمَشْيِ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الْمَرِيضِ وَلَا عَلَى الْمُقْعَدِ وَإِنْ وَجَدَ مَنْ يَحْمِلُهُ وَلَا عَلَى الْأَعْمَى وَإِنْ وَجَدَ قَائِدًا، وَقَالُوا: الشَّيْخُ الْكَبِيرُ مُلْحَقٌ بِالْمَرِيضِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ، وَالْمَطَرُ الشَّدِيدُ مُسْقِطٌ لِلْجُمُعَةِ عِنْدَهُمْ.
وَلَمْ يَنُصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَإِنَّمَا عَبَّرُوا عَنْهُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ، قَالَ ابْنُ شَاسٍ: وَيَلْتَحِقُ بِعُذْرِ الْمَرَضِ الْمَطَرُ الشَّدِيدُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِيهِمَا.وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْمَرَضَ مِنْ أَعْذَارِ تَرْكِ الْجُمُعَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَالُوا: إِنْ لَمْ يَتَضَرَّرِ الْمَرِيضُ بِإِتْيَانِ الْمَسْجِدِ رَاكِبًا أَوْ مَحْمُولًا، أَوْ تَبَرَّعَ أَحَدٌ بِأَنْ يُرْكِبَهُ أَوْ يَحْمِلَهُ، أَوْ يَتَبَرَّعَ بِقَوْدِ أَعْمًى لَزِمَتْهُ الْجُمُعَةُ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى الْأَعْمَى إِذَا وَجَدَ قَائِدًا وَلَوْ بِأُجْرَةٍ وَلَهُ مَالٌ وَإِلاَّ فَقَدْ أَطْلَقَ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: إِنْ كَانَ الْأَعْمَى يُحْسِنُ الْمَشْيَ بِالْعَصَا مِنْ غَيْرِ قَائِدٍ لَزِمَهُ.
وَفِي الْوَحْلِ الشَّدِيدِ لِلشَّافِعِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ.وَالْجَمَاعَةِ. وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ فِي طَرِيقِهِ إِلَيْهَا مَطَرٌ يَبُلُّ الثِّيَابَ، أَوْ وَحْلٌ يَشُقُّ الْمَشْيُ إِلَيْهَا فِيهِ
الْمَشْيُ لِقَاصِدِ صَلَاةِ الْعِيدِ
10- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِقَاصِدِ الْعِيدِ الْمَشْيُ إِنْ قَدَرَ، لِمَا رَوَى الْحَارِثُ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: «مِنَ السُّنَّةِ أَنْ تَخْرُجَ إِلَى الْعِيدِ مَاشِيًا»،، وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ لِلتَّوَاضُعِ، فَإِنْ ضَعُفَ لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ فَلَهُ الرُّكُوبُ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ ف 13)
الْمَشْيُ فِي تَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ
11- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ اتِّبَاعُ الْجِنَازَةِ مَاشِيًا، وَالْمَشْيُ أَفَضْلُ مِنَ الرُّكُوبِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (جَنَائِزُ ف 14).
الْمَشْيُ فِي الْمَقَابِرِ:
12- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ الْمَشْيُ فِي الْمَقَابِرِ بِنَعْلَيْنِ
وَقَالَ الْحَصْكَفِيُّ: يُكْرَهُ وَطْءُ الْقَبْرِ وَالْمَشْيُ Cفِي طَرِيقٍ ظَنَّ أَنَّهُ مُحْدِثٌ حَتَّى إِذَا لَمْ يَصِلْ إِلَى قَبْرِ قَرِيبِهِ إِلاَّ بِوَطْءِ قَبْرٍ تَرَكَهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنْ خِزَانَةِ الْفَتَاوَى:
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُوطَأُ الْقَبْرُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا بَأْسَ بِأَنْ يَطَأَ الْقَبْرَ وَهُوَ يَقْرَأُ أَوْ يُسَبِّحُ أَوْ يَدْعُو لَهُمْ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْقَبْرَ مُحَرَّمٌ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْشِيَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُسَنَّمًا وَالطَّرِيقُ دُونَهُ، فَأَمَّا إِذَا عَفَا فَوَاسِعٌ.
وَقَالَ صَاحِبُ التَّهْذِيبِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْمَشْيِ بِالنَّعْلِ بَيْنَ الْقُبُورِ وَقَالُوا: الْقَبْرُ مُحَرَّمٌ تَوْقِيرًا لِلْمَيِّتِ فَيُكْرَهُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمُ الْجُلُوسُ عَلَيْهِ وَالِاتِّكَاءُ وَوَطْؤُهُ إِلاَّ لِحَاجَةٍ بِأَنْ لَا يَصِلَ إِلَى قَبْرِ مَيِّتِهِ إِلاَّ بِوَطْئِهِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: يَحْرُمُ ذَلِكَ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ: «لأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتَحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ».
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ بِكَرَاهَةِ وَطْءِ الْقُبُورِ وَالْمَشْيِ بَيْنَهَا بِنَعْلٍ لِخَبَرِ «حَتَّى بِالتُّمُشْكِ»- نَوْعٌ مِنَ النِّعَالِ- وَقَالُوا: لَا يُكْرَهُ الْمَشْيُ بَيْنَهَا بِخُفٍّ لِمَشَقَّةِ نَزْعِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَعْلٍ، وَيُسَنُّ خَلْعُ النَّعْلِ إِذَا دَخَلَ الْمَقْبَرَةَ لِحَدِيثِ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا أُمَاشِي رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- إِذَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي الْقُبُورِ عَلَيْهِ نَعْلَانِ فَقَالَ: يَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ، وَيْحَكَ، أَلْقِ سِبْتِيَّتَيْكَ فَنَظَرَ الرَّجُلُ فَلَمَّا عَرَفَ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- خَلَعَهُمَا فَرَمَى بِهِمَا»،، وَاحْتِرَامًا لِأَمْوَاتِ الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ خَوْفَ نَجَاسَةٍ وَشَوْكٍ وَحَرَارَةِ أَرْضٍ وَبُرُودَتِهَا فَلَا يُكْرَهُ- الْمَشْيُ بِنَعْلٍ بَيْنَ الْقُبُورِ- لِلْعُذْرِ.
الْمَشْيُ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ
13- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ الْمَشْيَ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِمَا وَاجِبٌ مُطْلَقًا.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَاجِبٌ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ الْوَاجِبَيْنِ، وَأَمَّا الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ غَيْرُ الْوَاجِبَيْنِ فَالْمَشْيُ فِيهِمَا سُنَّةٌ عِنْدَهُمْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى Cأَنَّ الْمَشْيَ فِي الطَّوَافِ سُنَّةٌ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (طَوَافٌ ف 25، سَعْيٌ ف 14) -
نَذْرُ الْمَشْيِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ
14- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ قَالَ- وَهُوَ فِي الْكَعْبَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا- عَلَيَّ الْمَشْيُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إِلَى الْكَعْبَةِ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ مَاشِيًا وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَأَهْرَقَ دَمًا، وَقَالُوا: مَذْهَبُنَا مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-، وَلِأَنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا إِيجَابَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ فَصَارَ كَمَا إِذَا قَالَ: عَلَيَّ زِيَارَةُ الْبَيْتِ مَاشِيًا فَيَلْزَمُهُ مَاشِيًا وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَأَهْرَقَ دَمًا.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ أَوْ إِلَى جُزْءٍ مِنْهُ كَالرُّكْنِ وَالْحَجَرِ وَالْحَطِيمِ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ إِنْ نَوَى نُسُكًا فَإِنْ لَمْ يَنْوِ النُّسُكَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ.
وَإِذَا لَزِمَهُ الْمَشْيُ مَشَى مِنْ حَيْثُ نَوَى الْمَشْيَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ مَحِلًّا مَخْصُوصًا فَمِنْ حَيْثُ حَلَفَ أَوْ نَذَرَ وَأَجْزَأَ الْمَشْيُ مِنْ مِثْلِهِ فِي الْمَسَافَةِ، وَيَسْتَمِرُّ مَاشِيًا لِتَمَامِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ أَوْ تَمَامِ السَّعْيِ إِنْ كَانَ سَعْيُهُ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ، وَلَزِمَ الرُّجُوعُ فِي عَامٍ قَابِلٍ لِمَنْ رَكِبَ فِي الْعَامِ الَّذِي نَذَرَ فِيهِ الْمَشْيَ فَيَمْشِي مَا رَكِبَ فِيهِ إِنْ عَلِمَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهُ فَيَجِبُ مَشْيُ جَمِيعِ الْمَسَافَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى نَاوِيًا الْكَعْبَةَ أَوْ إِتْيَانَهُ فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ إِتْيَانِهِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَفِي قَوْلٍ مِنْ طَرِيقٍ لَا يَجِبُ.
وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْكَعْبَةَ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ نَذْرُهُ وَقِيلَ: يُحْمَلُ عَلَيْهَا.
فَإِنْ نَذَرَ الْإِتْيَانَ لَمْ يَلْزَمْهُ مَشْيٌ وَلَهُ الرُّكُوبُ.
وَإِنْ نَذَرَ الْمَشْيَ أَوْ أَنْ يَحُجَّ أَوْ يَعْتَمِرَ مَاشِيًا فَالْأَظْهَرُ وُجُوبُ الْمَشْيِ، وَالثَّانِي: لَهُ الرُّكُوبُ وَإِنْ قَالَ: أَمْشِي إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَمْشِي مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ فِي الْأَصَحِّ، وَالثَّانِي: يَمْشِي مِنْ حَيْثُ يُحْرِمُ.
وَإِذَا وَجَبَ الْمَشْيُ فَرَكِبَ لِعُذْرٍ أَجْزَأَهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ فِي الْأَظْهَرِ لِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ، وَالثَّانِي: لَا دَمَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ نَذَرَ الصَّلَاةَ قَائِمًا فَصَلَّى قَاعِدًا لِعَجْزِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَإِذَا رَكِبَ بِلَا عُذْرٍ أَجْزَأَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ إِلاَّ هَيْئَةً الْتَزَمَهَا وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرَفُّهِهِ بِتَرْكِهَا، وَالثَّانِي: لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِمَا الْتَزَمَهُ بِالصِّفَةِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَأَطْلَقَ فَلَمْ يَقُلْ فِي حَجٍّ وَلَا Cعُمْرَةٍ وَلَا غَيْرِهِ أَوْ قَالَ غَيْرَ حَاجٍّ وَلَا مُعْتَمِرٍ لَزِمَهُ الْمَشْيُ فِي حَجٍّ أَوْ فِي عُمْرَةٍ حَمْلًا لَهُ عَلَى الْمَعْهُودِ الشَّرْعِيِّ وَإِلْغَاءً لِإِرَادَتِهِ غَيْرَهُ، وَيَلْزَمُهُ الْمَشْيُ مِنْ مَكَانِ النَّذْرِ أَيْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ كَمَا فِي حَجِّ الْفَرْضِ إِلَى أَنْ يَتَحَلَّلَ، وَلَا يَلْزَمُهُ إِحْرَامٌ قَبْلَ مِيقَاتِهِ مَا لَمْ يَنْوِ مَكَانًا بِعَيْنِهِ لِلْمَشْيِ مِنْهُ أَوِ الْإِحْرَامِ فَيَلْزَمُهُ لِعُمُومِ حَدِيثِ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ»،، وَمَنْ نَوَى بِنَذْرِهِ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ إِتْيَانَهُ لَا حَقِيقَةَ الْمَشْيِ فَيَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ وَيُخَيَّرُ بَيْنَ الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ لِحُصُولِهِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا.
وَإِنْ رَكِبَ نَاذِرُ الْمَشْيِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ لِعَجْزٍ أَوْ غَيْرِهِ كَفَّرَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ.
وَلِلتَّفْصِيلِ فِي أَحْكَامِ نَذْرِ الْمَشْيِ إِلَى أَحَدِ الْمَشَاعِرِ، وَنَذْرِ الْمَشْيِ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ أَحَدِ الْمَسَاجِدِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (نَذْرٌ).
الْوَاجِبُ فِي إِزَالَةِ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ
15- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي إِزَالَةِ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ كَمَالُ الدِّيَةِ، فَلَوْ ضَرَبَ صُلْبَهُ فَبَطَلَ مَشْيُهُ وَرِجْلُهُ سَلِيمَةٌ وَجَبَتِ الدِّيَةُ وَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: وَلَا تُؤْخَذُ الدِّيَةُ حَتَّى تَنْدَمِلَ فَإِنِ انْجَبَرَ وَعَادَ مَشْيُهُ فَلَا دِيَةَ وَتَجِبُ الْحُكُومَةُ إِنْ بَقِيَ أَثَرٌ، وَكَذَا إِنْ نَقَصَ مَشْيُهُ بِأَنِ احْتَاجَ إِلَى عَصًا، أَوْ صَارَ يَمْشِي مُحْدَوْدِبًا، وَلَوْ كُسِرَ صُلْبُهُ وَشُلَّتْ رِجْلُهُ قَالَ الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: يَلْزَمُهُ دِيَةٌ لِفَوَاتِ الْمَشْيِ، وَحُكُومَةٌ لِكَسْرِ الظَّهْرِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَتِ الرِّجْلُ سَلِيمَةً لَا يَجِبُ مَعَ الدِّيَةِ حُكُومَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ مَنْفَعَةٌ فِي الرِّجْلِ فَإِذَا شُلَّتِ الرِّجْلُ فَفَوَاتُ الْمَنْفَعَةِ لِشَلَلِ الرِّجْلِ فَأُفْرِدَ كَسْرُ الصُّلْبِ بِحُكُومَةٍ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ سَلِيمَةً فَفَوَاتُ الْمَشْيِ لِخَلَلِ الصُّلْبِ فَلَا يُفْرَدُ بِحُكُومَةٍ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّ مُجَرَّدَ الْكَسْرِ لَا يُوجِبُ الدِّيَةَ وَإِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ إِذَا فَاتَ بِهِ الْمَشْيُ.
وَلَوْ أَذْهَبَ كَسْرُ الصُّلْبِ مَشْيَهُ وَمَنِيَّهُ، أَوْ مَنِيَّهُ وَجِمَاعَهُ وَجَبَتْ دِيَتَانِ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَقِيلَ: دِيَةٌ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ دِيَةَ ذَهَابِ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ تَجِبُ حَتَّى لَوِ انْجَبَرَ كَسْرُ الصُّلْبِ.
الْمَشْيُ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ:
16- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهَةِ الْمَشْيِ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَلَوْ يَسِيرًا سَوَاءٌ كَانَ فِي إِصْلَاحِ Cالْأُخْرَى أَوْ لَا، لِقَوْلِه- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَمْشِي أَحَدُكُمْ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ»،، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا انْقَطَعَ شِسْعُ أَحَدِكُمْ فَلَا يَمْشِي فِي الْأُخْرَى حَتَّى يُصْلِحَهَا»،، وَقَالَ أَبُو يَحْيَى زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيُّ: وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَشْيَهُ يَخْتَلُّ بِذَلِكَ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ أَنَّ النَّعْلَ شُرِعَتْ لِوَقَايَةِ الرِّجْلِ عَمَّا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ شَوْكٍ أَوْ نَحْوِهِ فَإِذَا انْفَرَدَتْ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ احْتَاجَ الْمَاشِي أَنْ يَتَوَقَّى لِإِحْدَى رِجْلَيْهِ مَا لَا يَتَوَقَّى لِلْأُخْرَى فَيَخْرُجُ بِذَلِكَ مِنْ سَجِيَّةِ مَشْيِهِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَمْشِي أَحَدٌ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَقِفُ فِيهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْخَفِيفُ، فِي حَالِ كَوْنِهِ مُتَشَاغِلًا بِإِصْلَاحِ الْأُخْرَى، وَلْيَلْبَسْهُمَا جَمِيعًا أَوْ فَلْيَنْزِعْهُمَا جَمِيعًا. تَسْلِيمُ الرَّاكِبِ عَلَى الْمَاشِي
17- يُسَنُّ تَسْلِيمُ الرَّاكِبِ عَلَى الْمَاشِي وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ، وَالصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، لِقَوْلِه- صلى الله عليه وسلم-: «يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي، وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ».
وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: سَلَامٌ ف 23).
آدَابُ الْمَشْيِ مَعَ النَّاسِ
18- قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: مَنْ مَشَى مَعَ إِنْسَانٍ فَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْهُ وَأَعْلَمَ مَشَى عَنْ يَمِينِهِ يُقِيمُهُ مَقَامَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ.
قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ مُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ عَقِيلٍ:
اسْتِحْبَابُ مَشْيِ الْجَمَاعَةِ خَلْفَ الْكَبِيرِ وَإِنْ مَشَوْا عَنْ جَانِبَيْهِ فَلَا بَأْسَ كَالْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَفِي مُسْلِمٍ قَوْلُ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ أَنَّهُ هُوَ وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَشْيا عَلَى جَانِبَيْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى مَشْيِ الْجَمَاعَةِ مَعَ فَاضِلِهِمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَكْتَنِفُونَهُ وَيَحُفُّونَ بِهِ.
قَالَ الْحَصْكَفِيُّ وَابْنُ عَابِدِينَ: وَلِلشَّابِّ الْعَالِمِ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الشَّيْخِ الْجَاهِلِ، لِأَنَّهُ Cأَفْضَلُ مِنْهُ، وَلِهَذَا يُقَدَّمُ فِي الصَّلَاةِ وَهِيَ إِحْدَى أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ تَالِيَةُ الْإِيمَانِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَصَرَّحَ الرَّمْلِيُّ فِي فَتَاوَاهُ بِحُرْمَةِ تَقَدُّمِ الْجَاهِلِ عَلَى الْعَالِمِ حَيْثُ يَشْعُرُ بِنُزُولِ دَرَجَتِهِ عِنْدَ الْعَامَّةِ لِمُخَالَفَتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}
وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، فَالْمُتَقَدِّمُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً فَيُعَزَّرُ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
122-موسوعة الفقه الكويتية (مضاربة 5)
مُضَارَبَةٌ -5ثَانِيًا: الرِّبْحُ الْمُسَمَّى:
48- مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ الْمُضَارِبُ بِعَمَلِهِ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ هُوَ الرِّبْحُ الْمُسَمَّى إِنْ كَانَ فِي الْمُضَارَبَةِ رِبْحٌ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ.
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَمْلِكُ الْمُضَارِبُ فِيهِ حِصَّتَهُ مِنْ رِبْحِ الْمُضَارَبَةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الْمُضَارِبَ يَمْلِكُ حِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ بِالْقِسْمَةِ لَا بِالظُّهُورِ.
قَالَ الْكَاسَانِيُّ: يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ بِعَمَلِهِ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ الرِّبْحَ الْمُسَمَّى- إِنْ كَانَ فِيهَا رِبْحٌ- وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ بِالْقِسْمَةِ، وَيُشْتَرَطُ لِجَوَازِ الْقِسْمَةِ قَبْضُ الْمَالِكِ رَأْسَ الْمَالِ، فَلَا تَصِحُّ قِسْمَةُ الرِّبْحِ قَبْلَ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ، حَتَّى لَوْ دَفَعَ رَجُلٌ إِلَى آخَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَرَبِحَ أَلْفًا، فَاقْتَسَمَا الرِّبْحَ وَرَأْسُ الْمَالِ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ لَمْ يَقْبِضْهُ رَبُّ الْمَالِ، فَهَلَكَتِ الْأَلْفُ الَّتِي فِي يَدِ الْمُضَارِبِ بَعْدَ قِسْمَتِهِمَا الرِّبْحَ، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ الْأُولَى لَمْ تَصِحَّ، وَمَا قَبَضَ رَبُّ الْمَالِ فَهُوَ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، وَمَا قَبَضَهُ الْمُضَارِبُ دَيْنٌ عَلَيْهِ يَرُدُّهُ إِلَى رَبِّ الْمَالِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ، وَلَا تَصِحُّ قِسْمَةُ الرِّبْحِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ الْمَالِ، وَالْأَصْلُ فِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «مَثَلُ الْمُصَلِّي كَمَثَلِ التَّاجِرِ لَا يَخْلُصُ لَهُ رِبْحُهُ حَتَّى يَخْلُصَ لَهُ رَأْسُ مَالِهِ، كَذَلِكَ الْمُصَلِّي لَا تُقْبَلُ نَافِلَتُهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْفَرِيضَةَ»، فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ قِسْمَةَ الرِّبْحِ قَبْلَ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ لَا تَصِحُّ، وَلِأَنَّ الرِّبْحَ زِيَادَةٌ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الشَّيْءِ لَا تَكُونُ إِلاَّ بَعْدَ سَلَامَةِ الْأَصْلِ، وَلِأَنَّ الْمَالَ إِذَا بَقِيَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ فَحُكْمُ الْمُضَارَبَةِ بِحَالِهَا، فَلَوْ صَحَّحْنَا قِسْمَةَ الرِّبْحِ لَثَبَتَتْ قِسْمَةُ الْفَرْعِ قَبْلَ الْأَصْلِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الْقِسْمَةُ فَإِذَا هَلَكَ مَا فِي يَدِ الْمُضَارِبِ صَارَ الَّذِي اقْتَسَمَاهُ هُوَ رَأْسُ الْمَالِ، فَوَجَبَ عَلَى الْمُضَارِبِ أَنْ يَرُدَّ مِنْهُ تَمَامَ رَأْسِ الْمَالِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُقْسَمُ الرِّبْحُ فِي الْمُضَارَبَةِ إِلاَّ بَعْدَ كَمَالِ رَأْسِ الْمَالِ، وَمَا بَقِيَ بَعْدَ تَمَامِ رَأْسِ الْمَالِ يَكُونُ بِيَدِ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارَبَةُ عَلَى مَا شَرَطَا.
وَقَالُوا: لَا يَقْتَسِمُ رَبُّ الْمَالِ وَالْعَامِلُ فِي الْمُضَارَبَةِ الرِّبْحَ حَتَّى يُنَضَّ رَأْسُ الْمَالِ، أَوْ يَتَرَاضَيَا عَلَى قَسْمِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا قُسِمَ قَبْلَ نَضُوضِهِ أَوِ التَّرَاضِي عَلَى قَسْمِهِ قَدْ تَهْلَكُ السِّلَعُ أَوْ تَتَحَوَّلُ أَسْوَاقُهَا فَيَنْقُصُ رَأْسُ الْمَالِ، فَيَحْصُلُ الضَّرَرُ لِرَبِّ الْمَالِ بِعَدِمِ جَبْرِ رَأْسِ الْمَالِ بِالرِّبْحِ، وَإِنْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا نَضُوضَهُ فَالْحَاكِمُ يَنْظُرُ فِي تَعْجِيلِ ذَلِكَ أَوْ تَأْخِيرِهِ، فَمَا كَانَ صَوَابًا فَعَلَهُ، وَتَجُوزُ قِسْمَةُ الْعُرُوضِ إِذَا تَرَاضَوْا عَلَيْهَا وَتَكُونُ بَيْعًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الْعَامِلَ فِي الْمُضَارَبَةِ يَمْلِكُ حِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ الْحَاصِلِ بِعَمَلِهِ بِالْقِسْمَةِ لِلْمَالِ لَا بِظُهُورِ الرِّبْحِ، إِذْ لَوْ مَلَكَ بِالظُّهُورِ لَكَانَ شَرِيكًا حَتَّى لَوْ هَلَكَ مِنْهُ شَيْءٌ هَلَكَ مِنَ الْمَالَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الرِّبْحُ وَقَايَةٌ لِرَأْسِ الْمَالِ، وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ يَمْلِكُ بِالظُّهُورِ قِيَاسًا عَلَى الْمُسَاقَاةِ.
وَلَا يَسْتَقِرُّ مِلْكُ الْعَامِلِ فِي حِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ بِالْقِسْمَةِ، بَلْ إِنَّمَا يَسْتَقِرُّ بِتَنْضِيضِ رَأْسِ الْمَالِ وَفَسْخِ الْعَقْدِ، لِبَقَاءِ الْعَقْدِ قَبْلَ الْفَسْخِ مَعَ عَدَمِ تَنْضِيضِ الْمَالِ، حَتَّى لَوْ حَصَلَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ نَقْصٌ جُبِرَ بِالرِّبْحِ الْمَقْسُومِ، أَوْ بِتَنْضِيضِ الْمَالِ وَالْفَسْخِ بِلَا قِسْمَةٍ لِارْتِفَاعِ الْعَقْدِ وَالْوُثُوقِ بِحُصُولِ رَأْسِ الْمَالِ، أَوْ تَنْضِيضِ رَأْسِ الْمَالِ فَقَطْ وَاقْتِسَامِ الْبَاقِي مَعَ أَخْذِ الْمَالِكِ رَأْسَ الْمَالِ، وَكَالْأَخْذِ الْفَسْخُ كَمَا عَبَّرَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي
وَإِنْ طَلَبَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فِي الْمُضَارَبَةِ قِسْمَةَ الرِّبْحِ قَبْلَ الْمُفَاصَلَةِ فَامْتَنَعَ الْآخَرُ لَمْ يُجْبَرْ، لِأَنَّهُ إِنِ امْتَنَعَ رَبُّ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ إِجْبَارُهُ، لِأَنَّهُ يَقُولُ: الرِّبْحُ وَقَايَةٌ لِرَأْسِ الْمَالِ فَلَا أُعْطِيكَ حَتَّى تُسَلِّمَ لِي رَأْسَ الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي امْتَنَعَ هُوَ الْعَامِلُ لَمْ يَجُزْ إِجْبَارُهُ، لِأَنَّهُ يَقُولُ: لَا نَأْمَنُ أَنْ نَخْسِرَ فَنَحْتَاجَ أَنْ نَرُدَّ مَا أَخَذَ.
وَإِنْ تَقَاسَمَا- أَيْ قَبْلَ الْمُفَاصَلَةِ- جَازَ، لِأَنَّ الْمَنْعَ لَحِقَهُمَا وَقَدْ رَضِيَا، فَإِنْ حَصَلَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ خُسْرَانٌ لَزِمَ الْعَامِلَ أَنْ يَجْبُرَهُ بِمَا أَخَذَ، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ إِلاَّ بَعْدَ تَسْلِيمِهِ رَأْسَ الْمَالِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا ظَهَرَ رِبْحٌ فِي الْمُضَارَبَةِ لَمْ يَكُنْ لِلْعَامِلِ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهُ إِلاَّ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ بِلَا نِزَاعٍ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ.
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ مُقَابِلٌ لِلْأَظْهُرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْعَامِلَ يَمْلِكُ حِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ بِالظُّهُورِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَمْلِكُ الْعَامِلُ حِصَّتَهُ مِنَ الرِّبْحِ بِالْمُحَاسَبَةِ وَالتَّنْضِيضِ وَالْفَسْخِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَالْقَبْضِ، وَنَصَّ عَلَيْهَا وَاخْتَارَهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ الْمِرْدَاوِيُّ: وَيَسْتَقِرُّ الْمِلْكُ فِيهَا بِالْمُقَاسَمَةِ عِنْدَ الْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ، وَلَا يَسْتَقِرُّ بِدُونِهَا، وَمِنَ الْأَصْحَابِ- كَابْنِ أَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِ- مَنْ قَالَ: يَسْتَقِرُّ بِالْمُحَاسَبَةِ التَّامَّةِ، وَبِذَلِكَ جَزَمَ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ فِي الْقَوَاعِدِ: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ صَرِيحًا عَنْ أَحْمَدَ.
الزِّيَادَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ
49- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: ثِمَارُ الشَّجَرِ وَالنِّتَاجُ مِنْ بَهِيمَةٍ، وَسَائِرُ الزَّوَائِدِ الْعَيْنِيَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ يَفُوزُ بِهَا الْمَالِكُ فِي الْأَصَحِّ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ فَوَائِدِ التِّجَارَةِ الْحَاصِلَةِ بِتَصَرُّفِ الْعَامِلِ فِي مَالِ التِّجَارَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، بَلْ هِيَ نَاشِئَةٌ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ مِنَ الْعَامِلِ، أَمَّا لَوْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ غَيْرَ حَاصِلَةٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، كَمَا لَوِ اشْتَرَى حَيَوَانًا حَامِلًا أَوْ شَجَرًا عَلَيْهِ ثَمَرٌ، فَالْأَوْجَهُ أَنَّ الْوَلَدَ وَالثَّمَرَةَ مَالُ مُضَارَبَةٍ.
وَقِيلَ: كُلُّ مَا يَحْصُلُ مِنْ هَذِهِ الْفَوَائِدِ مَالُ مُضَارَبَةٍ لِحُصُولِهَا بِسَبَبِ شِرَاءِ الْعَامِلِ الْأَصْلَ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ- عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا ذَكَرَ الْمِرْدَاوِيُّ- مِنْ جُمْلَةِ الرِّبْحِ: الْمَهْرَ وَالثَّمَرَةَ وَالْأُجْرَةَ وَالْأَرْشَ وَكَذَا النِّتَاجُ، وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيَتَوَجَّهُ فِيهِ وَجْهٌ.
جَبْرُ تَلَفِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَخَسَارَتُهُ
50- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ تَلِفَ بَعْضُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ بَعْدَ تَحْرِيكِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ أَوْ خَسِرَ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ بِالرِّبْحِ إِنْ كَانَ، أَيْ يُكْمِلُ مِنَ الرِّبْحِ مَا نَقَصَ بِالتَّلَفِ أَوِ الْخُسْرِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، ثُمَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ رَبِحَ أَوْ زَادَ التَّلَفُ أَوِ الْخُسْرُ عَلَى الرِّبْحِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ.
قَالَ الْمَوْصِلِيُّ: مَا هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَمِنَ الرِّبْحِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ كَالْعَفْوِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ، فَإِنْ زَادَ فَمِنْ رَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ أَمِينٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، فَإِنِ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ وَالْمُضَارَبَةُ بِحَالِهَا ثُمَّ هَلَكَ رَأْسُ الْمَالِ أَوْ بَعْضُهُ رَجَعَ فِي الرِّبْحِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ رَأْسَ الْمَالِ، لِأَنَّ الرِّبْحَ فَضْلٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَلَا يُعْرَفُ الْفَضْلُ إِلاَّ بَعْدَ سَلَامَةِ رَأْسِ الْمَالِ، فَلَا تَصِحُّ قِسْمَتُهُ فَيَنْصَرِفُ الْهَلَاكُ إِلَيْهِ، وَلَوْ فُسِخَتِ الْمُضَارَبَةُ ثُمَّ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ، ثُمَّ عَقَدَا الْمُضَارَبَةَ فَهَلَكَ رَأْسُ الْمَالِ لَمْ يَتَرَادَّا الرِّبْحَ، لِأَنَّ هَذِهِ مُضَارَبَةٌ جَدِيدَةٌ، وَالْأُولَى قَدِ انْتَهَتْ فَانْتَهَى حُكْمُهَا، وَاشْتِرَاطُ الْوَضِيعَةِ عَلَى الْمُضَارِبِ بَاطِلٌ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: النَّقْصُ الْحَاصِلُ بِرُخْصٍ فِي مَالِ الْقِرَاضِ هُوَ خُسْرَانٌ مَجْبُورٌ بِالرِّبْحِ، وَكَذَا النَّقْصُ بِالتَّعَيُّبِ وَالْمَرَضِ الْحَادِثَيْنِ، وَأَمَّا النَّقْصُ الْعَيْنِيُّ وَهُوَ تَلَفُ بَعْضِ الْمَالِ، فَإِنْ حَصَلَ بَعْدَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ بَيْعًا وَشِرَاءً فَقَطَعَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الِاحْتِرَاقَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْآفَاتِ السَّمَاوِيَّةِ خُسْرَانٌ يُجْبَرُ بِالرِّبْحِ، وَفِي التَّلَفِ بِالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ إِذَا تَعَذَّرَ أَخْذُ الْبَدَلِ مِنَ الْمُتْلِفِ وَجْهَانِ، وَطَرَّدَ جَمَاعَةٌ الْوَجْهَيْنِ فِي الْآفَةِ السَّمَاوِيَّةِ، وَالْأَصَحُّ فِي الْجَمِيعِ الْجَبْرُ.
وَإِنْ حَصَلَ النَّقْصُ قَبْلَ التَّصَرُّفِ فَوَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ خُسْرَانٌ فَيُجْبَرُ بِالرِّبْحِ الْحَاصِلِ بَعْدُ، لِأَنَّهُ بِقَبْضِ الْعَامِلِ صَارَ مَالَ مُضَارَبَةٍ، وَأَصَحُّهُمَا: يَتْلَفُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لَا مِنَ الرِّبْحِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَتَأَكَّدْ بِالْعَمَلِ. هَذَا إِذَا تَلِفَ بَعْضُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، أَمَّا إِذَا تَلِفَ كُلُّهُ بِآفَةِ سَمَاوِيَّةٍ قَبْلَ التَّصَرُّفِ أَوْ بَعْدَهُ فَتَرْتَفِعُ الْمُضَارَبَةُ، وَكَذَا لَوْ أَتْلَفَهُ الْمَالِكُ، لَكِنْ لَوْ أَتْلَفَ أَجْنَبِيٌّ جَمِيعَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ أَوْ بَعْضَهُ أُخِذَ مِنْهُ بَدَلُهُ وَاسْتَمَرَّتْ فِيهِ الْمُضَارَبَةُ.
وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ إِنْ تَلِفَ رَأْسُ الْمَالِ أَوْ تَلِفَ بَعْضُهُ بَعْدَ تَصَرُّفِهِ، أَوْ تَعَيُّبِ رَأْسِ الْمَالِ، أَوْ خَسِرَ بِسَبَبِ مَرَضٍ، أَوْ تَغَيُّرِ صِفَةٍ، أَوْ نَزَلَ السِّعْرُ بَعْدَ تَصَرُّفِ الْمُضَارِبِ فِي رَأْسِ الْمَالِ.جُبِرَتِ الْوَضِيعَةُ مِنْ رِبْحِ بَاقِيهِ قَبْلَ قِسْمَتِهِ، نَاضًّا أَوْ مَعَ تَنْضِيضِهِ بِالْمُحَاسَبَةِ، لِأَنَّهُ مُضَارَبَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ إِلاَّ بَعْدَ كَمَالِ رَأْسِ الْمَالِ.
وَإِنْ تَلِفَ بَعْضُ رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ تَصَرُّفِ الْعَامِلِ فِيهِ انْفَسَخَتِ الْمُضَارَبَةُ فِي التَّالِفِ، وَكَانَ رَأْسُ الْمَالِ هُوَ الْبَاقِيَ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ مَالٌ هَلَكَ عَلَى جِهَةٍ قَبْلَ التَّصَرُّفِ، أَشْبَهَ التَّالِفَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَفَارَقَ مَا بَعْدَ التَّصَرُّفِ لِأَنَّهُ دَارَ فِي التِّجَارَةِ.
وَقَالُوا: وَمَهْمَا بَقِيَ الْعَقْدُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ وَجَبَ جَبْرُ خُسْرَانِهِ مِنْ رِبْحِهِ وَإِنِ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ لِأَنَّهَا مُضَارَبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَتَحْرُمُ قِسْمَتُهُ وَالْعَقْدُ بَاقٍ إِلاَّ بِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَعَ امْتِنَاعِ رَبِّ الْمَالِ وَقَايَةً لِرَأْسِ مَالِهِ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ الْخُسْرَانَ فَيَجْبُرُهُ بِالرِّبْحِ، وَمَعَ امْتِنَاعِ الْعَامِلِ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَلْزَمَهُ رَدُّ مَا أَخَذَ فِي وَقْتٍ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَلَا يُجْبَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُجْبَرُ خُسْرُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ بِالرِّبْحِ، هَذَا فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ أَوِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي فِيهَا قِرَاضُ الْمِثْلِ، وَأَمَّا الَّتِي فِيهَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ فَلَا يَتَأَتَّى فِيهَا جَبْرٌ، وَضَابِطُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنْ حَقِيقَةِ الْمُضَارَبَةِ مِنْ أَصْلِهَا فَفِيهَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَأَمَّا إِنْ شَمِلَتْهَا الْمُضَارَبَةُ لَكِنِ اخْتَلَّ مِنْهَا شَرْطٌ فَفِيهَا مُضَارَبَةُ الْمِثْلِ.
وَلَوْ دَخَلَ الْمُضَارِبُ وَرَبُّ الْمَالِ عَلَى عَدَمِ الْجَبْرِ بِالرِّبْحِ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ وَالشَّرْطُ مُلْغًى، قَالَ الصَّاوِيُّ: هَذَا هُوَ ظَاهِرُ مَا لِمَالِكِ وَابْنِ الْقَاسِمِ، وَحَكَى بَهْرَامٌ مُقَابِلَهُ عَنْ جَمْعٍ فَقَالُوا: مَحِلُّ الْجَبْرِ مَا لَمْ يَشْتَرِطَا خِلَافَهُ وَإِلاَّ عُمِلَ بِذَلِكَ الشَّرْطِ، قَالَ بَهْرَامٌ: وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْأَقْرَبُ لِأَنَّ الْأَصْلَ إِعْمَالُ الشَّرْطِ لِخَبَرِ «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» مَا لَمْ يُعَارِضْهُ نَصٌّ. وَقَالُوا: يُجْبَرُ أَيْضًا بِالرِّبْحِ مَا تَلِفَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ بِسَمَاوِيٍّ، وَأُلْحِقَ بِهِ مَا أَخَذَهُ لِصٌّ أَوْ عَشَّارٌ، وَإِنْ وَقَعَ التَّلَفُ قَبْلَ الْعَمَلِ بِالْمَالِ، مَا لَمْ يَقْبِضْ رَبُّ الْمَالِ مِنَ الْعَامِلِ مَالَ الْمُضَارَبَةِ، فَإِنْ قَبَضَهُ نَاقِصًا عَنْ أَصْلِهِ ثُمَّ رَدَّهُ لَهُ فَلَا يُجْبَرُ بِالرِّبْحِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ صَارَ مُضَارَبَةً مُسْتَأْنَفَةً، وَالْجَبْرُ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ أَصْلِ الْمَالِ، فَلَوْ تَلِفَ جَمِيعُهُ فَأَتَى لَهُ رَبُّهُ بِبَدَلِهِ فَلَا جَبْرَ لِلْأَوَّلِ بِرِبْحِ الثَّانِي.
مَا يَسْتَحِقُّهُ رَبُّ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ
51- يَسْتَحِقُّ رَبُّ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ الرِّبْحَ الْمُسَمَّى إِذَا كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمُضَارِبِ.
زَكَاةُ مَالِ الْمُضَارَبَةِ
52- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ زَكَاةَ رَأْسِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ.
وَأَمَّا زَكَاةُ الرِّبْحِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهَا خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (زَكَاةٌ ف 96). آثَارُ الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ
53- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى فَسَادِ الْمُضَارَبَةِ:
أ- أَنَّ الرِّبْحَ- إِنْ حَدَثَ- يَكُونُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ، لِأَنَّ الرِّبْحَ نَمَاءُ مَالِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ شَطْرًا مِنْهُ بِالشَّرْطِ، وَلَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ إِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الشَّرْطُ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الْمُضَارِبُ مِنَ الرِّبْحِ شَيْئًا، وَكَانَ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ.
ب- أَنَّ الْمُضَارِبَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ- خَسِرَ الْمَالُ أَوْ رَبِحَ- لِأَنَّ عَمَلَهُ إِنَّمَا كَانَ فِي مُقَابَلَةِ الْمُسَمَّى، فَإِذَا لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ وَجَبَ رَدُّ عَمَلِهِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ، فَوَجَبَ لَهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَلِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ الْفَاسِدَةَ فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ، وَالْأَجِيرُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ أَجْرَ الْمِثْلِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَكُونُ لِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ مُطْلَقًا، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، رَبِحَ الْمَالُ أَوْ لَا، بِلَا زِيَادَةٍ عَلَى الْمَشْرُوطِ خِلَافًا لِمُحَمَّدِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَالَ إِذَا لَمْ يَرْبَحْ لَا أَجْرَ لِلْمُضَارِبِ، وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ لِئَلاَّ تَرْبُوَ الْمُضَارَبَةُ الْفَاسِدَةُ عَلَى الصَّحِيحَةِ، ثُمَّ قَالَ: الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا رَبِحَ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَرْبَحْ فَأَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهُ بِنِصْفِ الرِّبْحِ الْمَعْدُومِ، لَكِنْ فِي الْوَاقِعَاتِ: مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ مَخْصُوصٌ بِمَا إِذَا رَبِحَ، وَمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ أَنَّ لَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ.
وَالْأَصْلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنْ حَقِيقَةِ الْمُضَارَبَةِ مِنْ أَصْلِهَا فَفِيهَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَأَمَّا إِنْ شَمِلَتْهَا الْمُضَارَبَةُ لَكِنِ اخْتَلَّ مِنْهَا شَرْطٌ فَفِيهَا مُضَارَبَةُ الْمِثْلِ.
وَقَالُوا: إِذَا فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ فَإِنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُضَارِبُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، عَلَى مَا يَلِي:
أ- يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ أُجْرَةَ مِثْلِهِ وَمُضَارَبَةُ مِثْلِ الْمَالِ فِي رِبْحِهِ إِنْ رَبِحَ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَرَضًا دَفَعَهُ رَبُّ الْمَالِ وَتَوَلَّى الْمُضَارِبُ بَيْعَهُ وَعَمِلَ بِثَمَنِهِ مُضَارَبَةً، أَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ رَهْنًا أَوْ وَدِيعَةً، أَوْ دَيْنًا وَكَّلَ رَبَّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ عَلَى تَخْلِيصِهِ وَالْعَمَلِ بِمَا خَلَّصَهُ مُضَارَبَةً، أَوْ كَانَ أَحَدَ النَّقْدَيْنِ دَفَعَهُ رَبُّ الْمَالِ إِلَى الْمُضَارِبِ لِيَصْرِفَهُ ثُمَّ يَعْمَلُ بِمَا صَرَفَهُ مُضَارَبَةً.فَلِلْمُضَارِبِ إِنْ عَمِلَ أَجْرُ مِثْلِهِ فِي تَوَلِّيهِ بَيْعَ الْعَرَضِ أَوْ تَخْلِيصَ الرَّهْنِ أَوِ الْوَدِيعَةِ أَوِ الدَّيْنِ، أَوْ فِي تَوَلِّيهِ الصَّرْفَ، وَهَذَا الْأَجْرُ يَكُونُ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ.
وَلِلْمُضَارِبِ فِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ مَعَ أَجْرِ الْمِثْلِ مُضَارَبَةً مِثْلُ الْمَالِ فِي رِبْحِهِ- إِنْ رَبِحَ- لَا فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَحْصُلْ رِبْحٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ.
ب- يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ مُضَارَبَةَ مِثْلِ الْمَالِ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا إِذَا انْتَفَى عِلْمُ نَصِيبِ الْعَامِلِ مِنَ الرِّبْحِ، أَوْ إِذَا أُبْهِمَتِ الْمُضَارَبَةُ، أَوْ أُجِّلَتِ ابْتِدَاءً أَوِ انْتِهَاءً، أَوْ ضَمِنَ الْعَامِلُ، أَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ شِرَاءَ مَا يَقِلُّ وُجُودُهُ، فَلِلْمُضَارِبِ فِي كُلِّ صُورَةٍ مُضَارَبَةُ الْمِثْلِ فِي الرِّبْحِ إِنْ عَمِلَ وَرِبْحُ الْمَالِ، وَإِلاَّ فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ.
ج- يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ أَجْرَ مِثْلِهِ.
وَذَلِكَ فِي غَيْرِ مَا سَبَقَ- وَنَحْوِهِ- مِنَ الْمُضَارَبَاتِ الْفَاسِدَةِ، كَاشْتِرَاطِ يَدِهِ، أَوْ مُشَاوَرَتِهِ، أَوْ أَمِينٍ عَلَيْهِ، أَوْ كَخِيَاطَةٍ أَوْ فَرْزٍ، أَوْ تَعْيِينِ مَحَلٍّ، أَوْ زَمَنٍ، أَوْ شَخْصٍ، أَوْ مُشَارَكَةٍ، أَوْ خَلْطٍ.
وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مَا فِيهِ مُضَارَبَةُ الْمِثْلِ وَمَا فِيهِ أَجْرُ الْمِثْلِ مِنَ الْمُضَارَبَاتِ الْفَاسِدَةِ مِنْ وُجُوهٍ:
أ- أَنَّ مَا فِيهِ مُضَارَبَةُ الْمِثْلِ لَا شَيْءَ لِلْمُضَارِبِ فِيهِ إِنْ لَمْ يَحْصُلْ رِبْحٌ، بِخِلَافِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ فَإِنَّهَا لَا تَرْتَبِطُ بِحُصُولِ رِبْحٍ، بَلْ تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ وَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ رِبْحٌ. ب- أَنَّ مَا فِيهِ مُضَارَبَةُ الْمِثْلِ يُفْسَخُ قَبْلَ الْعَمَلِ وَيَفُوتُ بِالْعَمَلِ، وَمَا فِيهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ يُفْسَخُ مَتَى اطَّلَعَ عَلَيْهِ وَلَهُ أُجْرَةُ مَا عَمِلَ.
ج- أَنَّ الْعَامِلَ يَكُونُ أَحَقَّ مِنَ الْغُرَمَاءِ إِذَا كَانَ لَهُ مُضَارَبَةُ الْمِثْلِ، وَيَكُونُ أُسْوَتَهُمْ إِذَا كَانَ لَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ.عَلَى ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ، مَا لَمْ يَكُنِ الْفَسَادُ بِاشْتِرَاطِ عَمَلِ يَدِهِ- كَأَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ يَخِيطَ مَثَلًا- فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ مِنَ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ صَانِعٌ.
54- نَقَلَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ عَنِ الْفُصُولِ الْعِمَادِيَّةِ أَنَّ كُلَّ مَا جَازَ لِلْمُضَارِبِ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ شِرَاءٍ وَبَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ بِضَاعَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: تَصَرُّفَاتُ الْعَامِلِ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ نَافِذَةٌ كَتَصَرُّفَاتِهِ فِي الصَّحِيحَةِ، لِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ وَبَقِيَ الْإِذْنُ لِنَحْوِ فَوَاتِ شَرْطٍ- كَكَوْنِهِ غَيْرَ نَقْدٍ- نَفَذَ تَصَرُّفُ الْعَامِلِ نَظَرًا لِبَقَاءِ الْإِذْنِ كَالْوَكَالَةِ الْفَاسِدَةِ، هَذَا إِذَا قَارَضَهُ الْمَالِكُ بِمَالِهِ، أَمَّا إِذَا قَارَضَهُ بِمَالِ غَيْرِهِ بِوَكَالَةٍ أَوْ وِلَايَةٍ أَوْ فَسَدَ الْقِرَاضُ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ. 55- وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَا ضَمَانَ عَلَى الْعَامِلِ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ، لِأَنَّ مَا لَا ضَمَانَ فِي صَحِيحِهِ لَا ضَمَانَ فِي فَاسِدِهِ.
اخْتِلَافُ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ
قَدْ يَخْتَلِفُ رَبُّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ مِنْهَا:
أَوَّلًا- اخْتِلَافُ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ:
56- فَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ اخْتِلَافَ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَقَالُوا: إِنِ اخْتَلَفَا فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْعُمُومَ، بِأَنِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْمُضَارَبَةَ فِي عُمُومِ التِّجَارَاتِ أَوْ فِي عُمُومِ الْأَمْكِنَةِ أَوْ مَعَ عُمُومِ الْأَشْخَاصِ، وَادَّعَى الْآخَرُ نَوْعًا دُونَ نَوْعٍ وَمَكَانًا دُونَ مَكَانٍ وَشَخْصًا دُونَ شَخْصٍ، لِأَنَّ قَوْلَ مَنْ يَدَّعِي الْعُمُومَ مُوَافِقٌ لِلْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ الرِّبْحُ، وَهَذَا فِي الْعُمُومِ أَوْفَرُ.وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْإِطْلَاقَ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ الرِّبْحُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا، وَقِيلَ: إِنَّهُ قَوْلُ زُفَرَ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْإِذْنَ يُسْتَفَادُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ فَكَانَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ.
فَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ لَهُمَا فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ مُدَّعِي الْعُمُومِ فِي الِاخْتِلَافِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةً، وَبَيِّنَةُ مُدَّعِي التَّقْيِيدِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةً فِيهِ وَبَيِّنَةُ الْإِطْلَاقِ سَاكِتَةٌ.
وَلَوِ اتَّفَقَا عَلَى الْخُصُوصِ لَكِنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ الْخَاصِّ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: دَفَعْتُ إِلَيْكَ مُضَارَبَةً فِي الْبَزِّ، وَقَالَ الْمُضَارِبُ: فِي الطَّعَامِ.فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ- بِاتِّفَاقِهِمْ- لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّرْجِيحُ هُنَا بِالْمَقْصُودِ مِنَ الْعَقْدِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي ذَلِكَ فَتَرَجَّحَ بِالْإِذْنِ وَأَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ.
فَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَةً.فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ مُثْبِتَةٌ وَبَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ نَافِيَةٌ، لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِثْبَاتِ وَالْمُضَارِبُ يَحْتَاجُ إِلَى الْإِثْبَاتِ لِدَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ، فَالْبَيِّنَةُ الْمُثْبِتَةُ لِلزِّيَادَةِ أَوْلَى.
ثَانِيًا- اخْتِلَافُ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ فِي قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ
57- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الْمَالِ وَالْعَامِلُ فِي قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ الْمَدْفُوعِ لِلْمُضَارَبَةِ فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: دَفَعْتُ أَلْفَيْنِ، وَقَالَ الْعَامِلُ: بَلْ دَفَعْتُ أَلْفًا.فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ، لِأَنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَهُوَ أَمِينٌ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ لِلْقَابِضِ أَمِينًا أَوْ ضَمِينًا كَمَا لَوْ أَنْكَرَهُ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْقَبْضِ فَلَا يَلْزَمُهُ إِلاَّ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَلِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَدَّعِي عَلَيْهِ قَبْضَ شَيْءٍ وَهُوَ يُنْكِرُهُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ.
وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ قَوْلَهُ: أَجْمَعَ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْعَامِلِ فِي قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ.
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الْحُكْمَ السَّابِقَ بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ فَفِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْعَامِلِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ، لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِيمَا يَسْتَحِقَّانِ مِنَ الرِّبْحِ فَتَحَالَفَا كَمَا لَوِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الرِّبْحِ الْمَشْرُوطِ، قَالَ الشِّيرَازِيُّ: وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الرِّبْحِ الْمَشْرُوطِ اخْتِلَافٌ فِي صِفَةِ الْعَقْدِ فَتَحَالَفَا، كَالْمُتَبَايِعَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الثَّمَنِ، وَهَذَا اخْتِلَافٌ فِيمَا قُبِضَ، فَكَانَ الظَّاهِرُ مَعَ الَّذِي يُنْكِرُ، كَالْمُتَبَايِعَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَا فِي قَبْضِ الثَّمَنِ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ.
وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ مَعَ ذَلِكَ فِي مِقْدَارِ الرِّبْحِ فَالْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ فِي مِقْدَارِ الرِّبْحِ فَقَطْ لِأَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ، وَأَيُّهُمَا أَقَامَ بَيِّنَةً تُقْبَلُ، وَإِنْ أَقَامَاهَا فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ فِي دَعْوَاهُ الزِّيَادَةَ فِي رَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّهَا فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ إِثْبَاتًا، وَبَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ فِي دَعْوَاهُ الزِّيَادَةَ فِي الرِّبْحِ لِأَنَّهَا فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ إِثْبَاتًا.
ثَالِثًا- الِاخْتِلَافُ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ فِي أَصْلِ الْمُضَارَبَةِ
ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ لِلِاخْتِلَافِ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ فِي أَصْلِ الْمُضَارَبَةِ صُوَرًا، مِنْهَا:
أ- اخْتِلَافُهُمَا فِي كَوْنِ رَأْسِ الْمَالِ مُضَارَبَةً أَوْ قَرْضًا:
58- فَصَّلَ الْفُقَهَاءُ حُكْمَ اخْتِلَافِ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ فِي كَوْنِ رَأْسِ الْمَالِ كَانَ مُضَارَبَةً أَوْ قَرْضًا
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: دَفَعْتُ إِلَيْكَ الْمَالَ مُضَارَبَةً، وَقَالَ الْمُضَارِبُ: أَقْرَضْتَنِي الْمَالَ وَالرِّبْحُ لِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ التَّمْلِيكَ وَهُوَ مُنْكِرٌ، فَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَةً، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ التَّمْلِيكَ، وَلِأَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَعْطَاهُ مُضَارَبَةً ثُمَّ أَقْرَضَهُ. وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ: دَفَعْتُ إِلَيَّ مُضَارَبَةً، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: بَلْ أَقْرَضْتُكَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ كَانَ بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ، وَرَبُّ الْمَالِ يَدَّعِي عَلَى الْمُضَارِبِ الضَّمَانَ وَهُوَ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ لَهُ، فَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ لَهُمَا فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ أَصْلَ الضَّمَانِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: أَعْطَيْتُكَ الْمَالَ مُضَارَبَةً، وَقَالَ الْعَامِلُ: بَلْ سَلَفًا.فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ، لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ هُنَا مُدَّعٍ فِي الرِّبْحِ فَلَا يُصَدَّقُ.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَجُلِ: لَكَ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ بَلْ هِيَ عِنْدَكَ سَلَفًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ- كَمَا قَالَ الشِّهَابُ الرَّمْلِيُّ- لَوْ قَالَ الْمَالِكُ: مُضَارَبَةً، وَقَالَ الْآخَرُ: قَرْضًا، عِنْدَ بَقَاءِ الْمَالِ وَرِبْحِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مُدَّعِي الْقَرْضِ لأُِمُورِ مِنْهَا: أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى جَعْلِ الرِّبْحِ لَهُ بِقَوْلِهِ: اشْتَرَيْتُ هَذَا لِي فَإِنَّهُ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَلَوِ انْعَكَسَ قَوْلُهُمَا بَعْدَ تَلَفِ الْمَالِ فِي يَدِ الْعَامِلِ صُدِّقَ الْعَامِلُ- كَمَا أَفَتَى الْأَنْصَارِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَابْنُ الصَّلَاحِ- لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى جَوَازِ التَّصَرُّفِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ الضَّمَانِ، وَإِنْ أَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ فَوَجْهَانِ: أَوْجَهُهُمَا تَقْدِيمُ بَيِّنَةِ الْمَالِكِ لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ مَا لَا يَتَّجِرُ بِهِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: كَانَ مُضَارَبَةً عَلَى النِّصْفِ- مَثَلًا- فَرِبْحُهُ بَيْنَنَا، وَقَالَ الْعَامِلُ: كَانَ قَرْضًا فَرِبْحُهُ كُلُّهُ لِي.فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مِلْكِهِ عَلَيْهِ، فَيَحْلِفُ رَبُّ الْمَالِ، وَيُقْسَمُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ تَعَارَضَتِ الْبَيِّنَتَانِ وَسَقَطَتَا، وَقُسِمَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ عَلَيْهِ وَتَبِعَهُ الرِّبْحُ، لَكِنْ قَدِ اعْتَرَفَ بِنِصْفِ الرِّبْحِ لِلْعَامِلِ فَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى الْأَصْلِ، وَالْمَذْهَبُ: تَقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْعَامِلِ.
ب- اخْتِلَافُهُمَا فِي كَوْنِ رَأْسِ الْمَالِ مُضَارَبَةً أَوْ بِضَاعَةً:
59- لِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي اخْتِلَافِ طَرَفَيِ الْمُضَارَبَةِ فِي كَوْنِ رَأْسِ الْمَالِ مُضَارَبَةً أَوْ بِضَاعَةً
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: دَفَعْتُ إِلَيْكَ بِضَاعَةً وَقَالَ الْمُضَارِبُ: مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَسْتَفِيدُ الرِّبْحَ بِشَرْطِهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ، وَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقًا فِي مَالِ الْغَيْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْمَالِ.
وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ: أَقْرَضْتَنِي الْمَالَ وَالرِّبْحُ لِي، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: دَفَعْتُهُ إِلَيْكَ بِضَاعَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ، لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ التَّمْلِيكَ وَهُوَ مُنْكِرٌ، فَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَةً فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ ادَّعَى الْعَامِلُ أَنَّهُ مُضَارَبَةٌ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: بَلْ أَبْضَعْتُهُ مَعَكَ لِتَعْمَلَ لِي بِهِ، فَإِنَّ الْقَوْلَ حِينَئِذٍ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ بِيَمِينِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُضَارَبَةٍ، وَيَكُونُ لِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا ادَّعَاهُ فَلَا يُزَادُ، وَإِنْ نَكَلَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْعَامِلِ مَعَ يَمِينِهِ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يُسْتَعْمَلُ مِثْلُهُ فِي الْمُضَارَبَةِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ إِنْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ: كَانَ بِضَاعَةً فَرِبْحُهُ لِي، وَقَالَ الْعَامِلُ: كَانَ مُضَارَبَةً فَرِبْحُهُ لَنَا.حَلَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى إِنْكَارِ مَا ادَّعَاهُ خَصْمُهُ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُنْكِرٌ لِمَا ادَّعَاهُ خَصْمُهُ عَلَيْهِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ، وَكَانَ لِلْعَامِلِ أُجْرَةُ مِثْلِهِ، وَالْبَاقِي لِرَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مَالِهِ تَابِعٌ لَهُ. ج- اخْتِلَافُهُمَا فِي كَوْنِ رَأْسِ الْمَالِ مُضَارَبَةً أَوْ غَصْبًا
60- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ: دَفَعْتَهُ إِلَيَّ مُضَارَبَةً، وَقَدْ ضَاعَ الْمَالُ قَبْلَ أَنْ أَعْمَلَ بِهِ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: أَخَذْتَهُ غَصْبًا، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ بِوُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا أَقَرَّ بِتَسْلِيمِ رَبِّ الْمَالِ إِلَيْهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَرَبُّ الْمَالِ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْغَصْبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ وَهُوَ يُنْكِرُ، فَإِنْ كَانَ عَمِلَ بِهِ ثُمَّ ضَاعَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمَالِ، لِأَنَّ عَمَلَهُ فِي مَالِ الْغَيْرِ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَثْبُتْ إِذْنُ صَاحِبِهِ فِيهِ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ لِإِنْكَارِهِ، فَأَمَّا إِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ.فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ تَسْلِيمَ رَبِّ الْمَالِ وَالْإِذْنَ لَهُ فِي الْعَمَلِ بِبَيِّنَةِ.
وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ: أَخَذْتُ مِنْكَ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً فَضَاعَ قَبْلَ أَنْ أَعْمَلَ بِهِ أَوْ بَعْدَ مَا عَمِلْتُ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: أَخَذْتَهُ مِنِّي غَصْبًا.فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ، وَالْمُضَارِبُ ضَامِنٌ، لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْأَخَذِ وَهُوَ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ، ثُمَّ ادَّعَى الْمُسْقِطَ وَهُوَ إِذْنُ صَاحِبِهِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ إِلاَّ بِحُجَّةٍ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا قَالَ الْعَامِلُ: الْمَالُ بِيَدِي مُضَارَبَةً أَوْ وَدِيعَةً، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ: بَلْ غَصَبْتَهُ مِنِّي أَوْ سَرَقْتَهُ مِنِّي، فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْعَامِلِ مَعَ يَمِينِهِ وَالْبَيِّنَةُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، لِأَنَّهُ مُدَّعٍ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَلَوْ كَانَ مِثْلُهُ يُشْبِهُ أَنْ يُغْصَبَ أَوْ يُسْرَقَ.
د- اخْتِلَافُهُمَا فِي كَوْنِ الْعَقْدِ مُضَارَبَةً أَوْ وَكَالَةً
61- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا اخْتَلَفَ الْعَامِلُ وَرَبُّ الْمَالِ فِي أَصْلِ الْمُضَارَبَةِ فَقَالَ الْعَامِلُ ضَارَبْتَنِي وَقَالَ الْمَالِكُ: بَلْ وَكَّلْتُكَ.صُدِّقَ الْمَالِكُ بِيَمِينِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مُقَابَلَةِ الْعَمَلِ بِشَيْءِ، فَإِذَا حَلَفَ أَخَذَ الْمَالَ وَرِبْحَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْآخَرِ، فَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ فَالظَّاهِرُ- كَمَا قَالَ الْأَنْصَارِيُّ- تَقْدِيمُ بَيِّنَةِ الْعَامِلِ لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ.
وَقَالَ الشِّهَابُ الرَّمْلِيُّ: صُدِّقَ الْمَالِكُ بِيَمِينِهِ، إِذِ الْقَاعِدَةُ أَنَّ مَنْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي أَصْلِ الشَّيْءِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي صِفَتِهِ، مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِائْتِمَانِ الدَّافِعِ لِلضَّمَانِ.
هـ- جُحُودُ الْعَامِلِ الْمُضَارَبَةَ
62- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ جَحَدَ الْمُضَارِبُ الْمُضَارَبَةَ أَصْلًا وَرَبُّ الْمَالِ يَدَّعِي دَفْعَ الْمَالِ إِلَيْهِ مُضَارَبَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ، لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَدَّعِي عَلَيْهِ قَبْضَ مَالِهِ وَهُوَ يُنْكِرُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، وَلَوْ جَحَدَ ثُمَّ أَقَرَّ.فَرَوَى ابْنُ سَمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَوْلَهُ فِي رَجُلٍ دَفَعَ إِلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً ثُمَّ طَلَبَهُ مِنْهُ فَقَالَ: لَمْ تَدْفَعْ إِلَيَّ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: بَلَى أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ قَدْ دَفَعْتَ إِلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً.هُوَ ضَامِنٌ لِلْمَالِ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَالْأَمِينُ إِذَا جَحَدَ الْأَمَانَةَ ضَمِنَ كَالْمُودَعِ، وَهَذَا لِأَنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ لَيْسَ بِعَقْدٍ لَازِمٍ، بَلْ هُوَ عَقْدٌ جَائِزٌ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ، فَكَانَ جُحُودُهُ فَسْخًا لَهُ أَوْ رَفْعًا لَهُ، وَإِذَا ارْتَفَعَ الْعَقْدُ صَارَ الْمَالُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، فَإِنِ اشْتَرَى بِهِ مَعَ الْجُحُودِ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْمَالِ فَلَا يَبْقَى حُكْمُ الْمُضَارَبَةِ، لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الْمُضَارِبِ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، فَإِذَا صَارَ ضَمِينًا لَمْ يَبْقَ أَمِينًا، فَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ الْجُحُودِ لَا يَرْتَفِعُ الضَّمَانُ، لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدِ ارْتَفَعَ بِالْجُحُودِ فَلَا يَعُودُ إِلاَّ بِسَبَبِ جَدِيدٍ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
123-موسوعة الفقه الكويتية (مقبوض)
مَقْبُوضٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْمَقْبُوضُ اسْمُ مَفْعُولٍ: لِلْفِعْلِ قَبَضَ.وَأَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ مِنْ مَعَانٍ فِي اللُّغَةِ: مَا أُخِذَ مِنَ الْمَالِ بِالْيَدِ أَوْ حِيزَ فَصَارَ فِي حِيَازَةِ شَخْصٍ وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: يُطْلَقُ الْقَبْضُ عَلَى قَبُولِكَ الشَّيْءَ وَإِنْ لَمْ تُحَوِّلْهُ عَنْ مَكَانِهِ، وَعَلَى تَحْوِيلِكَ إِلَى حَيْزِكَ، وَعَلَى التَّنَاوُلِ بِالْيَدِ وَفِي كُلِّ هَذِهِ الْمَعَانِي يُسَمَّى الشَّيْءُ مَقْبُوضًا.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَقْبُوضِ مِنْ أَحْكَامٍ:
يَتَعَلَّقُ بِالْمَقْبُوضِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
اخْتِلَافُ الْقَبْضِ بِاخْتِلَافِ الْمَقْبُوضِ
2- إِذَا كَانَ الْمَقْبُوضُ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ أَوْ يُعَدُّ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَقْبُوضًا بِالْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ، أَوِ الْعَدِّ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُنْقَلُ كَالثِّيَابِ وَجَمِيعِ الْمَنْقُولَاتِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَقْبُوضًا بِالنَّقْلِ.
وَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا فَقَبْضُهُ بِتَمْشِيَتِهِ مِنْ مَكَانِ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُتَنَاوَلُ بِالْيَدِ كَالْجَوَاهِرِ وَالْأَثْمَانِ فَقَبْضُهُ بِتَنَاوُلِهِ بِالْيَدِ.
وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا لَا يُنْقَلُ عَادَةً كَالْعَقَارِ وَالْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ وَنَحْوِهِ كَالثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ قَبْلَ جُذَاذِهِ فَقَبْضُهُ بِتَخْلِيَتِهِ مَعَ عَدَمِ مَانِعٍ، مَعَ تَسْلِيمِ مِفْتَاحِ الدَّارِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَهُ مِفْتَاحٌ، وَتَفْرِيغِهَا مِنْ مَتَاعٍ، وَإِلاَّ لَمْ يَصِرْ مَقْبُوضًا، لِكَوْنِ الْمُشْتَرِي لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ.
وَإِتْلَافُ الْمُشْتَرِي الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ يَجْعَلُهُ مَقْبُوضًا حُكْمًا وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (قَبْضٌ ف 5).
حُكْمُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ
3- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضُ ف 2).
مِلْكُ الْمَقْبُوضِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ
4- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِلْكِ الْمَقْبُوضِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (خِيَارُ الشَّرْطِ ف 28- 30).
الْمَقْبُوضُ لِلْعَارِيَّةِ
5- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَقْبُوضَ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ إِنْ تَلِفَتْ بِتَعَدٍّ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا تَلِفَتْ بِلَا تَعَدٍّ مِنَ الْمُسْتَعِيرِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (إِعَارَةٌ ف 15).
الْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ
6- الْمَقْبُوضُ عَلَى السَّوْمِ مَضْمُونٌ وَإِنْ تَلِفَ بِلَا تَعَدٍّ مِنَ الْقَابِضِ لِخَبَرِ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ».وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (ضَمَانٌ ف 40).
الْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الرَّهْنِ
7- الْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الرَّهْنِ إِذَا لَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ مَا يُرِيدُ أَخْذَهُ مِنَ الدَّيْنِ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
أَمَّا إِنْ بَيَّنَ فَيَكُونُ مَضْمُونًا وَصُورَتُهُ: أَخَذَ الرَّهْنَ بِشَرْطِ أَنْ يُقْرِضَهُ مَبْلَغًا مِنَ النُّقُودِ، فَهَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يُقْرِضَهُ، ضَمِنَ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِمَّا سَمَّى مِنَ الْقَرْضِ، لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِسَوْمِ الرَّهْنِ، وَالْمَقْبُوضُ بِسَوْمِ الرَّهْنِ كَالْمَقْبُوضِ بِسَوْمِ الشِّرَاءِ إِذَا هَلَكَ فِي الْمُسَاوَمَةِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ.
فَإِنْ هَلَكَ وَسَاوَتْ قِيمَتُهُ الدَّيْنَ صَارَ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ حُكْمًا، وَإِنْ زَادَتْ كَانَ الْفَضْلُ أَمَانَةً فَيَضْمَنُ بِالتَّعَدِّي.وَإِنْ نَقَصَتْ سَقَطَ بِقَدْرِهِ وَرَجَعَ الْمُرْتَهِنُ بِالْفَضْلِ، لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ بِقَدْرِ الْمَالِيَّةِ، وَضَمِنَ الْمُرْتَهِنُ الْمَرْهُونَ الْمَقْبُوضَ بِدَعْوَى الْهَلَاكِ بِلَا بُرْهَانٍ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ وَلَا يُصَدَّقُ دَعْوَى الْهَلَاكِ بِلَا حُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ.
الْمَقْبُوضُ لِلرَّهْنِ
8- الْمَقْبُوضُ لِلرَّهْنِ مَضْمُونٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَيَدُهُ يَدُ ضَمَانٍ فَيَضْمَنُ الْمُرْتَهِنُ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنَ الدَّيْنِ، وَالْمُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ لَا يَوْمَ الْهَلَاكِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهَا يَدُ أَمَانَةٍ لِخَبَرِ: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ لِصَاحِبِهِ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (رَهْنٌ ف 18).
الْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الْقَرْضِ
9- الْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الْقَرْضِ مَضْمُونٌ بِمَا سَاوَمَ، كَمَقْبُوضٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ، بِمَنْزِلَةِ مَقْبُوضٍ عَلَى سَوْمِ الْبَيْعِ إِلاَّ أَنَّ فِي الْبَيْعِ يَضْمَنُ الْقِيمَةَ وَهُنَا يَهْلِكُ الرَّهْنُ بِمَا سَاوَمَهُ مِنَ الْقَرْضِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
124-موسوعة الفقه الكويتية (مناشدة)
مُنَاشَدَةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْمُنَاشَدَةُ فِي اللُّغَةِ: مَأْخُوذٌ مِنْ نَشَدَ، وَالْمُنَاشَدَةُ: الْمُنَادَاةُ مَعَ رَفْعِ الصَّوْتِ.
يُقَالُ: نَشَدْتُ الضَّالَّةَ: رَفَعْتُ نَشِيدِي: أَيْ صَوْتِي بِطَلَبِهَا، فَأَنَا نَاشِدٌ، وَأَنْشَدْتُهَا: أَيْ رَفَعْتُ صَوْتِي بِتَعْرِيفِهَا: فَأَنَا مُنْشِدٌ كَمَا يُقَالُ: نَشَدَ بِالشِّعْرِ يَنْشُدُهُ: إِذَا رَفَعَ صَوْتَهُ بِهِ، وَنَاشَدَ الْمُعْتَدِي بِالدَّعْوَةِ إِلَى التَّقْوَى وَالْكَفِّ عَنِ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: نَاشَدْتُكَ اللَّهَ وَنَحْوَهُ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمُنَاشَدَةِ:
إِنْشَادُ اللُّقَطَةِ
2- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ إِنْشَادَ اللُّقَطَةِ وَاجِبٌ عَلَى الْمُلْتَقِطِ، سَوَاءٌ أَرَادَ تَمَلُّكَهَا أَوْ أَرَادَ حِفْظَهَا لِصَاحِبِهَا.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (لُقَطَةٌ ف 7)، وَمُصْطَلَحِ (تَعْرِيفٌ ف 7).
إِنْشَادُ لُقَطَةِ غَيْرِ الْحَيَوَانِ
3- لِلُقَطَةِ غَيْرِ الْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ لِإِنْشَادِهَا حَالَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ تُوجَدَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهَا.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تُوجَدَ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ مِنْ مَسْجِدٍ، أَوْ طَرِيقٍ، أَوْ مَوَاتٍ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَكَّةَ أَوْ بِغَيْرِ مَكَّةَ، فَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ مَكَّةَ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: ظَاهِرٍ وَمَدْفُونٍ.
فَإِنْ كَانَ الْمَالُ ظَاهِرًا: وَكَانَ مِمَّا لَا يَبْقَى كَالطَّعَامِ الرَّطْبِ الَّذِي يُفْسِدُهُ الْإِمْسَاكُ كَالْهَرِيسَةِ، وَالْفَوَاكِهِ وَالْبُقُولِ الَّتِي لَا تَبْقَى عَلَى الْأَيَّامِ، فَقَدْ حَكَى الْمُزَنِيِّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي بَابِ اللُّقَطَةِ أَنَّهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ: يَأْكُلُهُ الْوَاجِدُ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَحْبَبْتُ أَنْ يَبِيعَهُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ، فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَطَائِفَةٌ يُخَرِّجُونَ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كَالشَّاةِ الَّتِي لَمَّا تَعَذَّرَ اسْتِبْقَاؤُهَا أُبِيحَ لِوَاجِدِهَا أَكْلُهَا بِلَا إِنْشَادٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَيْسَ لِوَاجِدِهِ أَكْلُهُ، بِخِلَافِ الشَّاةِ الَّتِي لَا يَجِبُ تَعْرِيفُهَا فَأُبِيحَ لَهُ أَكْلُهَا، وَالطَّعَامُ وَإِنْ كَانَ رَطْبًا يَجِبُ إِنْشَادُهُ فَلَمْ يُسْتَبَحْ أَكْلُهُ.
فَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ أَكْلِهِ فَأَكَلَهُ صَارَ ضَامِنًا بِقِيمَتِهِ، وَعَلَيْهِ إِنْشَادُ الطَّعَامِ حَوْلًا، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمَ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ، وَلَا يَتَوَلَّى بَيْعَهُ بِنَفْسِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ لِلْحَاكِمِ إِلاَّ بَعْدَ اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ، فَإِنْ أَعْوَزَهُ إِذْنُ الْحَاكِمِ جَازَ بَيْعُهُ، فَلَوْ بَاعَهُ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ كَانَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ أَمَانَةً، وَعَلَيْهِ إِنْشَادُ الطَّعَامِ حَوْلًا، وَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ الرَّطْبُ مِمَّا يُمْكِنُ إِبْقَاؤُهُ بِعِلَاجٍ، كَرَطْبٍ يَتَجَفَّفُ، وَالْعِنَبِ الَّذِي يَتَزَبَّبُ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ غَيْرِ الطَّعَامِ فِي وُجُوبِ إِنْشَادِهِ وَاسْتِبْقَائِهِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَتِ اللُّقَطَةُ شَيْئًا لَا يَبْقَى عَرَّفَهُ حَتَّى إِذَا خَافَ أَنْ يَفْسُدَ تَصَدَّقَ بِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَهَا.
أَمَّا إِنْ كَانَ مِمَّا يَبْقَى كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَالْقُمَاشِ، فَهَذِهِ هِيَ اللُّقَطَةُ الَّتِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً» فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِشُرُوطِ تَعْرِيفِهَا، ثُمَّ بَعْدَ الْحَوْلِ إِنْ لَمْ يَأْتِ صَاحِبُهَا تَمَلَّكَهَا إِنْ أَرَادَ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ الْمَالُ مَدْفُونًا، فَضَرَبَانِ: جَاهِلِيٌّ وَإِسْلَامِيٌّ.
فَإِنْ كَانَ إِسْلَامِيًّا فَلُقَطَةٌ يَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ اللُّقَطَةِ فَيُنْشَدُ.
وَإِنْ كَانَ جَاهِلِيًّا فَهُوَ رِكَازٌ، وَيَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ.
مُدَّةُ الْإِنْشَادِ
4- مُدَّةُ الْإِنْشَادِ حَوْلٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ،
وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ عِنْدَهُمْ: يُنْشِدُهَا إِلَى أَنْ يَظُنَّ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهَا، وَلَيْسَ لِلْإِنْشَادِ مُدَّةٌ مُحَدَّدَةٌ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (لُقْطَةٌ ف 8).
هَذَا فِي غَيْرِ لُقَطَةِ الْحَرَمِ، أَمَّا لُقَطَةُ الْحَرَمِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ:
ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ لُقَطَةَ الْحَرَمِ كَلُقَطَةِ سَائِرِ الْبِلَادِ فِي الْأَحْكَامِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ- رحمه الله-: إِنَّهُ لَيْسَ لِوَاجِدِ لُقَطَةِ مَكَّةَ تَمَلُّكُهَا، وَيُنْشِدُهَا أَبَدًا.
وَالتَّفْصِيلُ فِي (لُقَطَةٌ ف 14).
أَمَاكِنُ الْإِنْشَادِ
5- أَمَاكِنُ الْإِنْشَادِ هِيَ: مَجَامِعُ النَّاسِ وَمَحَافِلُهُمْ مِنَ الْبُلْدَانِ الَّتِي وَجَدَ اللُّقَطَةَ فِيهَا، وَمَحَالُّ الرِّحَالِ، وَمُنَاخُ الْأَسْفَارِ، وَفِي الْأَسْوَاقِ.
فَأَمَّا الضَّوَاحِي الْخَالِيَةُ مِنَ النَّاسِ فَلَا يَكُونُ الْإِنْشَادُ فِيهَا تَعْرِيفًا.
وَيُنْشِدُهَا فِي أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ عِنْدَ خُرُوجِ الْجَمَاعَاتِ، أَوْ أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَى مَكَانِ الِالْتِقَاطِ، وَإِنْ جَازَتْ قَافِلَةٌ تَبِعَهُمْ وَأَنْشَدَهَا فِيهِمْ.
إِنْشَادُ اللُّقَطَةِ فِي الْمَسَاجِدِ
6- يَحْرُمُ أَوْ يُكْرَهُ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ إِنْشَادُ اللُّقَطَةِ فِي الْمَسَاجِدِ، لِخَبَرِ: «مَنْ سَمِعَ رَجُلًا يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْكَ».
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا بَأْسَ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ صُورَةِ إِنْشَادٍ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ عَنْ حَظْرِ إِنْشَادِ اللُّقَطَةِ فِي الْمَسَاجِدِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَقَالُوا: لَا يُكْرَهُ إِنْشَادُ اللُّقَطَةِ فِيهِ، وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ شَأْنُهُ جَعَلَ هَذَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ: أَيْ يَعُودُونَ إِلَيْهِ، فَرُبَّمَا يَرْجِعُ مَالِكُهَا وَإِنْ طَالَ الزَّمَنُ.
إِنْشَادُ ضَوَالِّ الْحَيَوَانِ
7- ضَوَالُّ الْحَيَوَانِ إِنْ وُجِدَتْ فِي صَحْرَاءَ: فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يَصِلُ إِلَى الْمَاءِ وَالرِّعْيِ بِنَفْسِهِ، وَيَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ صِغَارَ السِّبَاعِ بِقُوَّتِهِ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ فَلَا يَجُوزُ التَّعَرُّضُ لَهَا لِلنِّشْدَانِ وَلَا لِلتَّمَلُّكِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي ضَوَالِّ الْإِبِلِ: «مَا لَكَ وَلَهَا؟! مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا، تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا».
أَمَّا إِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ صِغَارَ السِّبَاعِ، وَيَعْجِزُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَاءِ وَالرِّعْيِ كَالْغَنَمِ وَالدَّجَاجِ، فَلِلْوَاجِدِ أَخْذُهُ وَأَكْلُهُ مِنْ غَيْرِ نِشْدَانٍ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ إِذَا ظَهَرَ مَالِكُهُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهَا بِالصَّحْرَاءِ إِذَا لَمْ يَتَيَسَّرْ حَمْلُهَا أَوْ سَوْقُهَا لَلْعُمْرَانِ.وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهَا فِي الصَّحْرَاءِ وَلَوْ مَعَ تَيَسُّرِ سَوْقِهَا لَلْعُمْرَانِ، وَإِنْ أَتَى بِهَا حَيَّةً لَلْعُمْرَانِ وَجَبَ عَلَيْهِ تَعْرِيفُهَا.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (ضَالَّةٌ ف 3- 4 وَمَا بَعْدَهَا).
الْإِنْشَادُ بِالشِّعْرِ
8- الْإِنْشَادُ بِالشِّعْرِ جَائِزٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ وَخَلَا عَنْ هَجْوٍ وَإِغْرَاقٍ فِي الْمَدْحِ وَالْكَذِبِ الْمَحْضِ وَالْغَزَلِ الْحَرَامِ.
وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (شِعْرٌ ف 7).
مُنَاشَدَةُ الظَّالِمِ
9- نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَرَّضَ الْمُحَارِبُ لِلْمُسَافِرِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُنَاشِدَهُ قَبْلَ الْقِتَالِ إِذَا أَمْكَنَ.
وَالْمُنَاشَدَةُ هُنَا أَنْ يَدْعُوَهُ إِلَى التَّقْوَى وَالْكَفِّ عَنِ التَّعَرُّضِ لَهُ.
وَصِيغَةُ الْمُنَاشَدَةِ: نَاشَدْتُكَ اللَّهَ إِلاَّ مَا خَلَّيْتَ سَبِيلِي، أَوِ: اتَّقِ اللَّهَ وَكُفَّ عَنِ الِاعْتِدَاءِ وَالظُّلْمِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ التَّذْكِيرِ وَالْوَعْظِ.
وَقَالَ سَحْنُونُ: لَا يُنَاشِدُ الْمُعْتَرِضَ لَهُ وَلَا يَدْعُوهُ لِلتَّقْوَى، لِأَنَّ الدَّعْوَةَ لِلتَّقْوَى وَالتَّذْكِيرِ لَا يَزِيدُهُ إِلاَّ إِشْلَاءً وَجُرْأَةً.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
125-موسوعة الفقه الكويتية (موقوف)
مَوْقُوفٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْمَوْقُوفُ لُغَةً: اسْمُ مَفْعُولٍ لِفِعْلِ: وَقَفَ، بِمَعْنَى: سَكَنَ وَحُبِسَ وَمُنِعَ، يُقَالُ: وَقَفَتِ الدَّابَّةُ: سَكَنَتْ، وَوَقَفْتُهَا أَنَا: مَنَعْتُهَا مِنَ السَّيْرِ وَنَحْوِهِ، وَوَقَفْتُ الدَّارَ: حَبَسْتُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ.
وَيُطْلَقُ عَلَى عَكْسِ الْجُلُوسِ، يُقَالُ: وَقَفَ الرَّجُلُ: قَامَ عَنْ مَجْلِسِهِ، وَعَلَى الْمَنْعِ: وَقَفْتُهُ عَنِ الْكَلَامِ: مَنَعْتُهُ عَنْهُ.
وَالْمَوْقُوفُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
الْمَعْنَى الْأَوَّلُ: يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ عَيْنٍ مَحْبُوسَةٍ فِي سَبِيلِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ بِشُرُوطٍ.
وَالْمَعْنَى الثَّانِي: يُطْلَقُ عَلَى الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ، وَهُوَ مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ، وَيُفِيدُ الْمِلْكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَقُّفِ، وَلَا يُفِيدُ تَمَامَهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ.
وَالْمَوْقُوفُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ: مَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَيْهِمْ وَلَا يَتَجَاوَزُ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الصَّدَقَةُ:
2- الصَّدَقَةُ فِي اللُّغَةِ: مَا يُعْطَى عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هِيَ الْعَطِيَّةُ تَبْتَغِي بِهَا الْمَثُوبَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَوْقُوفِ وَالصَّدَقَةِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، فَلَيْسَ كُلُّ مَوْقُوفٍ صَدَقَةً، وَلَيْسَ كُلُّ صَدَقَةٍ مَوْقُوفًا.
ب- الْمُوصَى بِهِ:
3- الْمُوصَى بِهِ اسْمٌ لِمَا يَتَبَرَّعُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ مَالٍ فِي حَالِ حَيَاتِهِ تَبَرُّعًا مُضَافًا لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَوْقُوفِ وَالْمُوصَى بِهِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بَذْلُ مَالٍ بِلَا عِوَضٍ ابْتِغَاءَ الْمَثُوبَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَوْقُوفِ:
أَوَّلًا- الْمَوْقُوفُ بِمَعْنَى الْعَيْنِ الْمَحْبُوسَةِ:
أ- مَا يَجُوزُ وَقْفُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ
4- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي بَعْضِ أَحْكَامِ الْمَوْقُوفِ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ وَقْفُ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ، كَحَيَوَانٍ وَسِلَاحٍ وَأَثَاثٍ وَنَحْوِ ذَلِك، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا فَإِنَّهُ احْتَبَسَ أَدْرُعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ اتَّفَقَتْ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ وَالْأَزْمَانِ عَلَى وَقْفِ الْحُصُرِ وَالْقَنَادِيلِ وَالزَّلَالِيِّ فِي الْمَسَاجِدِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي حَبْسِ الْعَيْنِ لِلْبِرِّ أَنْ تَكُونَ مِمَّا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ كَالْعَقَارِ، فَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ وَقْفُ الْمَنْقُولِ مَقْصُودًا، لِأَنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطُ جَوَازِهِ، وَوَقْفُ الْمَنْقُولِ لَا يَتَأَبَّدُ لِكَوْنِهِ عَلَى شُرَفِ الْهَلَاكِ، فَلَا يَجُوزُ وَقْفُهُ مَقْصُودًا.
وَيَجُوزُ إِنْ كَانَ تَبَعًا لِمَا لَا يُنْقَلُ كَالْعَقَارِ.
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِي وَقْفِ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ وَالْمَنْفَعَةِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (وَقْفٌ).
ب- انْتِقَالُ مِلْكِيَّةِ الْمَوْقُوفِ مِنَ الْوَاقِفِ بِالْوَقْفِ
5- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِقَالِ مِلْكِيَّةِ الْمَوْقُوفِ بِالْوَقْفِ عَلَى ثَلَاثَةِ آرَاءٍ:
الرَّأْيُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي أَظْهَرِ أَقْوَالٍ ثَلَاثَةٍ لَهُمْ، وَأَبُو يُوْسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ مِلْكَ رَقَبَةِ الْمَوْقُوفِ تَنْتَقِلُ مِنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَمَعْنَى انْتِقَالِهِ إِلَى اللَّهِ: أَنَّ الْمِلْكَ يَنْفَكُّ مِنِ اخْتِصَاصِ الْآدَمِيِّ، وَإِلاَّ فَجَمِيعُ الْأَشْيَاءِ مِلْكٌ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَا تَكُونُ لِلْوَاقِفِ وَلَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ.
غَيْرَ أَنَّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَبِيْ يُوْسُفَ أَنَّ الْمِلْكِيَّةَ تَنْتَقِلُ بِمُجَرَّدِ التَّلَفُّظِ بِصِيغَةِ صَحِيحَةٍ مِنْ صِيَغِ الْوَقْفِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بْنِ الْحَسَنِ لَا تَنْتَقِلُ بِالْقَوْلِ حَتَّى يَجْعَلَ لِلْمَوْقُوفِ وَلِيًّا يُسَلِّمُهُ إِلَيْهِ.
وَلَا فَرْقَ فِي انْتِقَالِ الْمِلْكِ إِلَى اللَّهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ جِهَةً عَامَّةً كَالرِّبَاطِ وَالْمَدَارِسِ وَالْغُزَاةِ وَالْفُقَرَاءِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- قَالَ: «أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا.فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ: إِنْ شِئْت حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُبْتَاعُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ.قَالَ: فَتَصَدَّقَ عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ وَفِي الْقُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالضَّيْفِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ».
وَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا قَدْ تَعَامَلُوهُ فَكَانَ إِجْمَاعًا وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إِلَى أَنْ يَلْزَمَ الْوَقْفُ لِيَصِلَ ثَوَابُهُ إِلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ، وَأَمْكَنَ دَفْعُ هَذِهِ الْحَاجَةِ بِإِسْقَاطِ الْمِلْكِ وَجَعْلُهُ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي الْمَسْجِدِ، وَيَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ كَمَا يَخْرُجُ الْمَسْجِدُ.
وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ بِزَوَالِ الْمِلْكِ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ- كَمَا سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ- لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ لِلَّهِ فَصَارَ كَالْعِتْقِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَزُولُ الْمِلْكُ حَتَّى يُسَلِّمَهُ إِلَى الْمُتَوَلِّي لِأَنَّهُ صَدَقَةٌ، فَيَكُونُ التَّسْلِيمُ مِنْ شَرْطِهِ كَالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ، وَلِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَحَقَّقُ قَصْدًا لِأَنَّهُ مَالِكُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَلَكِنَّهُ يَثْبُتُ فِي ضِمْنِ التَّسْلِيمِ إِلَى الْعَبْدِ.
الرَّأْيُ الثَّانِي: ذَهَبَ أَبَو حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّ الْمَوْقُوفَ يَبْقَى عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ إِذَا لَمْ يَجْعَلْهُ مَسْجِدًا، وَلَهُمْ تَفْصِيلٌ بَيَانُهُ كَالْآتِي:
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَزُولُ الْمِلْكُ إِلاَّ بِقَضَاءِ قَاضٍ يَرَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، فَيَنْفُذُ قَضَاؤُهُ.
وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ: «لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ» وَلِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ بَاقٍ، إِذْ غَرَضُهُ التَّصَدُّقُ بِغَلَّتِهِ، وَهُوَ لَا يُتَصَوَّرُ إِلاَّ إِذَا بَقِيَ الْأَصْلُ عَلَى مِلْكِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ- عليه الصلاة والسلام- لِعُمَرِ- رضي الله عنه-: «احْبِسْ أَصْلَهَا وَسَبِّلْ ثَمَرَتَهَا» أَيْ: احْبِسْهُ عَلَى مِلْكِك وَتَصَدَّقْ بِثَمَرَتِهَا، وَإِلاَّ كَانَ مُسَبِّلًا جَمِيعَهَا، وَلِأَنَّ خُرُوجَ الْمِلْكِ لَا إِلَى مَالِكٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَانَا عَنِ السَّائِبَةِ، وَهِيَ الَّتِي يُسَيِّبُهَا مَالِكُهَا وَيُخْرِجُهَا عَنْ مِلْكِهِ بِزَعْمِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ}.
وَفَرَّقُوا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ جَعْلِ الْبُقْعَةِ مَسْجِدًا أَوِ الْوَقْفِ عَلَيْهِ وَالْعِتْقِ، حَيْثُ يَزُولُ الْمِلْكُ بِهِمَا، لِأَنَّهُ يُحْرَزُ عَنْ حَقِّ الْعَبْدِ حَتَّى لَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ، وَلِهَذَا لَا يَنْقَطِعُ عَنْهُ حَقُّ الْعَبْدِ حَتَّى كَانَ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِصَرْفِ غَلاَّتِهِ إِلَى مَصَارِفِهِ، وَنَصْبِ الْقَيِّمِ، وَلِأَنَّهُ تَصَدَّقَ بِالْغَلَّةِ أَوِ الْمَنْفَعَةِ الْمَعْدُومَةِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ إِلاَّ فِي الْوَصِيَّةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ: إِنَّ مِلْكَ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ ثَابِتٌ لِلْوَاقِفِ، لِأَنَّ الْوَقْفَ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِسْقَاطِ فَلَا يَزُولُ بِهِ الْمِلْكُ، بَلْ يَبْقَى فِي مِلْكِ الْوَاقِفِ، وَلِلْوَاقِفِ فِي حَيَاتِهِ مَنْعُ مَنْ يُرِيدُ إِصْلَاحَهُ لِئَلاَّ يُؤَدِّيَ الْإِصْلَاحُ إِلَى تَغْيِيرِ مَعَالِمِهِ، وَلِوَارِثِهِ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَمْنَعِ الْوَارِثُ فَلِلْإِمَامِ ذَلِكَ، هَذَا إِذَا قَامَ الْوَرَثَةُ بِإِصْلَاحِهِ، وَإِلاَّ فَلِغَيْرِهِمْ إِصْلَاحُهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الثَّانِي: يَبْقَى مِلْكُ رَقَبَةِ الْمَوْقُوفِ لِلْوَاقِفِ، لِأَنَّهُ حَبَسَ الْأَصْلَ وَسَبَّلَ الثَّمَرَةَ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِهِ.
الرَّأْيُ الثَّالِثُ: ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا يُوقَفُ عَلَى شَخْصٍ أَوْ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَبَيْنَ مَا يُوقَفُ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ، حَيْثُ يَبْقَى الْأَوَّلُ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ، وَالثَّانِي يَنْتَقِلُ إِلَى مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ.
قَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ جِهَةً عَامَّةً، كَالْمَدَارِسِ وَالرِّبَاطِ وَالْمَسَاجِدِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْغُزَاةِ، فَإِنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ يَنْتَقِلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا عِنْدَهُمْ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ آدَمِيًّا مُعَيَّنًا أَوْ عَدَدًا مِنَ الْآدَمِيِّينَ مَحْصُورِينَ كَأَوْلَادِهِ أَوْ أَوْلَادِ زَيْدٍ: يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، فَيَمْلِكُهُ كَالْهِبَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْلِ الثَّالِثِ لَهُمْ: يَنْتَقِلُ الْمَوْقُوفُ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إِلْحَاقًا بِالصَّدَقَةِ وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا وُقِفَ عَلَى شَخْصٍ أَوْ جِهَةٍ عَامَّةٍ، أَمَّا إِذَا جَعَلَ الْبُقْعَةَ مَسْجِدًا أَوْ مَقْبَرَةً فَهُوَ فَكٌّ عَنِ الْمِلْكِ، فَيَنْقَطِعُ مِنْهُ اخْتِصَاصُ الْآدَمِيِّينَ قَطْعًا.
ج- الِانْتِفَاعُ بِمَنَافِعِ الْمَوْقُوفِ
6- مَنَافِعُ الْمَوْقُوفِ عَلَى مُعَيَّنٍ مِلْكٌ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ يَسْتَوْفِيهَا بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، بِإِعَارَةٍ وَإِجَارَةٍ كَسَائِرِ الْأَمْلَاكِ، وَلَكِنْ لَا يُؤَجِّرُ إِلاَّ إِذَا كَانَ نَاظِرًا أَوْ أَذِنَ لَهُ النَّاظِرُ فِي تَأْجِيرِهَا.
وَكَذَلِكَ يَمْلِكُ فَوَائِدَ الْمَوْقُوفِ الْحَاصِلَةَ بَعْدَ الْوَقْفِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَوْ شَرْطِ أَنَّهَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ كَأُجْرَةِ الْعَقَارِ وَنَحْوِهَا، وَزَوَائِدُ الْمَوْقُوفِ كَثَمَرَةِ، وَصُوفٍ، وَلَبَنٍ، وَكَذَا الْوَلَدُ الْحَادِثُ بَعْدَ الْوَقْفِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، أَوْ شَرْطُ الْوَلَدِ لَهُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيَمْلِكُهُ كَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ وَقْفًا تَبَعًا لأُِمِّهِ، وَلَوْ كَانَتْ حَامِلًا عِنْدَ الْوَقْفِ فَوَلَدُهَا وَقْفٌ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي وَكَذَا عَلَى الْأَوَّلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ يُعْلَمُ، وَهَذَا الْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ.
وَإِنْ مَاتَتِ الْبَهِيمَةُ اخْتَصَّ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بِجِلْدِهَا، لِأَنَّهُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ.
وَكُلُّ هَذَا مَا لَمْ يُعَيِّنِ الْوَاقِفُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَوْجُهِ الِانْتِفَاعِ.
د- حُكْمُ بَدَلِ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ إِذَا تَلِفَتْ
7- لَا يَمْلِكُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بَدَلَ الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةَ إِنْ تَلِفَتْ تَحْتَ يَدٍ ضَامِنَةٍ، بَلْ يَشْتَرِي بِهَا مِثْلَهَا لِتَكُونَ وَقْفًا مَكَانَهَا مُرَاعَاةً لِغَرَضِ الْوَاقِفِ فِي اسْتِمْرَارِ الثَّوَابِ.
وَاَلَّذِي يَتَوَلَّى الشِّرَاءَ وَالْوَقْفَ هُوَ الْحَاكِمُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَوْقُوفَ مِلْكٌ لِلَّهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لِلْوَقْفِ نَاظِرٌ خَاصٌّ أَوْ لَا.
أَمَّا مَا اشْتَرَاهُ النَّاظِرُ مِنْ مَالِهِ أَوْ مِنْ رِيعِ الْمَوْقُوفِ أَوْ يَعْمُرُهُ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا لِجِهَةِ الْوَقْفِ فَالْمُنْشِئُ هُوَ النَّاظِرُ، وَكَذَا مَا يَشْتَرِيهِ الْحَاكِمُ بِبَدَلِ الْمُتْلَفِ لَا يَصِيرُ مَوْقُوفًا حَتَّى يَقِفَهُ الْحَاكِمُ.
أَمَّا مَا يَقُومُ النَّاظِرُ أَوِ الْحَاكِمُ مِنْ تَرْمِيمِ الْمَوْقُوفِ وَإِصْلَاحِ جُدْرَانِهِ فَلَيْسَ وَقْفًا مُنْشِئًا، لِأَنَّ الْعَيْنَ فِي مَسْأَلَةِ شِرَاءِ بَدَلِ الْعَيْنِ التَّالِفَةِ بِمِثْلِهَا فَاتَتْ بِالْكُلِّيَّةِ، أَمَّا الْأَرَاضِي الْمَوْقُوفَةُ فَهِيَ بَاقِيَةٌ، وَالطِّينُ وَالْحَجَرُ الْمَبْنِيُّ بِهِمَا كَالْوَصْفِ التَّابِعِ لِلْمَوْقُوفِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَصِيرُ الْبَدَلُ وَقْفًا بِلَا حَاجَةٍ إِلَى إِنْشَاءِ وَقْفٍ جَدِيدٍ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَصِيرُ وَقْفًا إِذَا أَمْكَنَ وَإِلاَّ تَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ.
هـ- الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ الْمَوْقُوفِ وَجِنَايَتُهُ
8- إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ قِنًّا وَكَانَ قَتْلُهُ عَمْدًا فَلَيْسَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ عَفْوٌ مَجَّانًا وَلَا قَوَدٌ، لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ كَعَبْدٍ مُشْتَرَكٍ، فَيُشْتَرَى بِقِيمَتِهِ بَدَلُهُ: أَيْ مِثْلُهُ.
وَاعْتِبَارُ الْمِثْلِيَّةِ فِي الْبَدَلِ الْمُشْتَرَى مَعْنَاهُ: وُجُوبُ الذَّكَرِ فِي الذَّكَرِ، وَالْأُنْثَى فِي الْأُنْثَى، وَالْكَبِيرِ فِي الْكَبِيرِ، وَسَائِرِ الْأَوْصَافِ الَّتِي تَتَفَاوَتُ الْأَعْيَانُ بِتَفَاوُتِهَا، وَلَا سِيَّمَا الصِّنَاعِيَةُ الْمَقْصُودَةُ فِي الْوَقْفِ، لِأَنَّ الْغَرَضَ جُبْرَانُ مَا فَاتَ وَلَا يَحْصُلُ بِدُونِ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ قَطْعَ بَعْضِ أَطْرَافِهِ عَمْدًا فَلِلْقِنِّ الْمَوْقُوفِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ حَقُّهُ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ.
وَإِنْ عَفَا الْقِنُّ الْمَوْقُوفُ عَنِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ أَوْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ لَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ لِعَدَمِ الْمُكَافَأَةِ أَوْ لِكَوْنِهَا خَطَأً وَجَبَ نِصْفُ قِيمَتِهِ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ قَطْعَ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ مِمَّا فِيهِ نِصْفُ دِيَةٍ فِي الْحُرِّ وَإِلاَّ فَبِحِسَابِهِ وَيُشْتَرَى بِالْأَرْشِ مِثْلُهُ أَوْ شِقْصُ بَدَلِهِ.
وَإِنْ جَنَى الْعَبْدُ الْمَوْقُوفُ خَطَأً فَالْأَرْشُ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ كَأُمِّ الْوَلَدِ.
وَلَمْ يَلْزَمِ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ فَيَجِبُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْقِيمَةِ أَوْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ.
9- وَإِنْ كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَالْمَسَاكِينِ وَجَنَى فَأَرْشُ الْجِنَايَةِ فِي كَسْبِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مُسْتَحِقٌّ مُعَيَّنٌ يُمْكِنُ إِيجَابُ الْأَرْشِ عَلَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُ تَعَلُّقُهَا بِرَقَبَتِهِ فَتَعَيَّنَ فِي كَسْبِهِ.
وَإِنْ جَنَى الْمَوْقُوفُ جِنَايَةً تُوجِبُ الْقِصَاصَ وَجَبَ الْقِصَاصُ لِعُمُومِ قوله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}.
فَإِنْ قُتِلَ قِصَاصًا بَطَلَ الْوَقْفُ كَمَا لَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، وَإِنْ قُطِعَ كَانَ بَاقِيهِ وَقْفًا.
و- عَطَبُ الْمَوْقُوفِ بِسَبَبٍ غَيْرِ مَضْمُونٍ
10- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا تَعَطَّلَتْ مَنْفَعَةُ الْمَوْقُوفِ، كَأَنْ جَفَّتِ الشَّجَرَةُ أَوْ قَلَعَهَا رِيحٌ أَوْ سَيْلٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ وَلَمْ يُمْكِنْ إِعَادَتُهَا إِلَى مَغْرَزِهَا قَبْلَ جَفَافِهَا لَمْ يَنْقَطِعِ الْوَقْفُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَإِنِ امْتَنَعَ وَقْفُهَا ابْتِدَاءً لَقُوَّةِ الدَّوَامِ بَلْ يُنْتَفَعُ بِهَا جِذْعًا بِإِجَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا إِدَامَةً لِلْوَقْفِ فِي عَيْنِهَا، وَلَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ، وَقِيلَ: تُبَاعُ لِتَعَذُّرِ الِانْتِفَاعِ كَمَا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ، وَالثَّمَنُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ حُكْمُهُ كَقِيمَةِ الْمُتْلَفِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَصِحُّ بَيْعُ شَجَرَةٍ مَوْقُوفَةٍ يَبِسَتْ وَبَيْعُ جِذْعٍ مَوْقُوفٍ إِنِ انْكَسَرَ أَوْ بَلِيَ أَوْ خِيفَ الْكَسْرُ أَوِ الْهَدْمُ، وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ نَقْلًا عَنْ صَاحِبِ التَّلْخِيصِ: إِذَا أَشْرَفَ الْجِذْعُ الْمَوْقُوفُ عَلَى الِانْكِسَارِ أَوْ دَارُهُ عَلَى الِانْهِدَامِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَوْ أُخِّرَ لَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ رِعَايَةً لِلْمَالِيَّةِ، أَوْ يُنْقَضُ تَحْصِيلًا لِلْمَصْلَحَةِ.
وَالْمَدَارِسُ وَالرُّبُطُ وَالْخَانَاتُ الْمُسَبَّلَةُ وَنَحْوُهَا جَازَ بَيْعُهَا عِنْدَ خَرَابِهَا، وَيَصِحُّ بَيْعُ مَا فَضَلَ مِنْ نِجَارَةِ خَشَبِ الْمَوْقُوفِ وَنُحَاتَتِهِ وَإِنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ عَدَمَ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ لِخَبَرِ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ».
وَإِنْ بِيعَ الْمَوْقُوفُ يُصْرَفُ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ أَوْ بَعْضِ مِثْلِهِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ فِي مِثْلِهِ، لِأَنَّ فِي إِقَامَةِ الْبَدَلِ مَقَامَهُ تَأْبِيدًا لَهُ وَتَحْقِيقًا لِلْمَقْصُودِ فَتَعَيَّنَ وُجُوبُهُ، وَيُصْرَفُ فِي جِهَتِهِ وَهِيَ مَصْرِفُهُ، لِامْتِنَاعِ تَغْيِيرِ الْمَصْرِفِ مَعَ إِمْكَانِ مُرَاعَاتِهِ.
وَإِنْ تَعَطَّلَتِ الْجِهَةُ الَّتِي عَيَّنَهَا الْوَاقِفُ صُرِفَ فِي جِهَةٍ مِثْلِهَا، فَإِذَا وَقَفَ عَلَى الْغُزَاةِ فِي مَكَانٍ فَتَعَطَّلَ الْغَزْوُ فِيهِ، صُرِفَ الْبَدَلُ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْغُزَاةِ فِي مَكَانٍ آخَرَ تَحْصِيلًا لِغَرَضِ الْوَاقِفِ فِي الْجُمْلَةِ حَسْبَ الْإِمْكَانِ.
ز- عِمَارَةُ الْمَوْقُوفِ
11- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ عِمَارَةُ الْمَوْقُوفِ حَتَّى لَا يَضِيعَ الْوَقْفُ وَتَتَعَطَّلَ أَغْرَاضُهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْجِهَةِ الَّتِي يُنْفَقُ مِنْهَا عَلَى الْعِمَارَةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّ الْعِمَارَةَ تَكُونُ مِنْ غَلَّةِ الْمَوْقُوفِ، سَوَاءٌ شَرَطَ الْوَاقِفُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَشْرِطْ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَتْبَعُ شَرْطَ الْوَاقِفِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (وَقْفٌ).
ج- نَقْضُ الْمَوْقُوفِ
12- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا انْهَدَمَ الْبِنَاءُ الْمَوْقُوفُ يُصْرَفُ نَقْضُهُ إِلَى عِمَارَتِهِ إِنِ احْتَاجَ، وَإِلاَّ حَفِظَهُ إِلَى الِاحْتِيَاجِ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْعِمَارَةِ، لِأَنَّ الْمَوْقُوفَ لَا يَبْقَى بِدُونِهَا فَلَا يَحْصُلُ صَرْفُ الْغَلَّةِ إِلَى الْمَصْرِفِ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَيَبْطُلُ غَرَضُ الْوَاقِفِ إِلَى الْمَصْرِفِ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَيَصْرِفُهُ لِلْحَالِ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ.
وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ يُمْسِكُهُ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَيْهِ كَيْ لَا يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَوَانَ الْحَاجَةِ.
وَلَا يُقْسَمُ النَّقْضُ عَلَى مُسْتَحِقِّي غَلَّةِ الْمَوْقُوفِ لِأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ حَقٌّ فِي الْعَيْنِ وَلَا فِي جُزْءٍ مِنْهُ وَإِنَّمَا حَقُّهُمْ فِي الْمَنَافِعِ، فَلَا يُصْرَفُ إِلَيْهِمْ غَيْرُ حَقِّهِمْ، وَإِنْ تَعَذَّرَ إِعَادَةُ عَيْنِهِ بِيعَ وَصُرِفَ ثَمَنُهُ إِلَى الْعِمَارَةِ، لِأَنَّ الْبَدَلَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُبْدَلِ فَيُصْرَفُ مَصْرِفَ الْبَدَلِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَنَقْضُ الْحَبْسِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبْدَلَ رِيعٌ خَرِبٌ بِرِيعٍ غَيْرِ خَرِبٍ إِلاَّ لِتَوْسِعَةِ مَسْجِدٍ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوِ انْهَدَمَ مَسْجِدٌ وَتَعَذَّرَتْ إِعَادَتُهُ لَمْ يُبَعْ بِحَالٍ لِإِمْكَانِ الِانْتِفَاعِ بِهِ حَالًا بِالصَّلَاةِ فِي أَرْضِهِ، نَعَمْ لَوْ خِيفَ عَلَى نَقْضِهِ نُقِضَ وَحُفِظَ لَيُعْمِرَ بِهِ مَسْجِدًا آخَرَ إِنْ رَآهُ الْحَاكِمُ، وَالْمَسْجِدُ الْأَقْرَبُ أَوْلَى، وَبَحَثَ الْأَذْرَعِيُّ تَعَيُّنَ مَسْجِدٍ خُصَّ بِطَائِفَةٍ خُصَّ بِهَا الْمُنْهَدِمُ إِنْ وُجِدَ وَإِنْ بَعُدَ.
ثَانِيًا- الْمَوْقُوفُ بِمَعْنَى التَّصَرُّفِ الْمَوْقُوفُ:
13- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْهُ تَمْلِيكًا كَانَ كَبَيْعٍ وَتَزْوِيجٍ، أَوْ إِسْقَاطًا كَطَلَاقٍ وَإِعْتَاقٍ وَلَهُ مُجِيزٌ: أَيْ لَهُ مَنْ لَهُ حَقُّ الْإِجَازَةِ حَالَ وُقُوعِهِ انْعَقَدَ مَوْقُوفًا.
أَمَّا مَا لَا مُجِيزَ لَهُ لَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا.
فَإِنْ بَاعَ صَبِيٌّ مَثَلًا ثُمَّ بَلَغَ قَبْلَ إِجَازَةِ وَلِيِّهِ فَأَجَازَ بِنَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ جَازَ، لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ مُجِيزٌ فِي حَالَةِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْوَلِيُّ، أَمَّا إِنْ طَلَّقَ الصَّبِيُّ زَوْجَتَهُ مَثَلًا قَبْلَ الْبُلُوغِ فَأَجَازَهُ بِنَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْإِسْقَاطِ مُجِيزٌ فِي وَقْتِ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَمْلِكُ إِيقَاعَ الطَّلَاقِ عَلَى زَوْجَةِ مُوَلِّيهِ فَلَا يَمْلِكُ إِجَازَتَهُ.
(ر: الْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ).
أَقْسَامُ الْمَوْقُوفِ:
14- قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ التَّصَرُّفَ الْمَوْقُوفَ إِلَى: مَوْقُوفٍ قَابِلٍ لِلصِّحَّةِ، وَمَوْقُوفٍ فَاسِدٍ.
وَالْمَوْقُوفُ الْقَابِلُ لِلصِّحَّةِ: هُوَ مَا كَانَ صَحِيحًا فِي أَصْلِ وَصْفِهِ وَيُفِيدُ الْمِلْكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَقُّفِ وَلَا يُفِيدُ تَمَامَهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ وَيَتَنَاوَلُ كُلَّ تَصَرُّفٍ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْهُ تَمْلِيكًا كَانَ التَّصَرُّفُ كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَالصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَحْجُورَيْنِ، أَمْ إِسْقَاطًا كَالطَّلَاقِ وَالْإِعْتَاقِ.
وَالتَّمْلِيكُ يَشْمَلُ الْحَقِيقِيَّ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَنْقُلُ الْمِلْكَ، وَالْحُكْمِيُّ كَالتَّزْوِيجِ، وَهَذَا مِنْ قِسْمِ الصَّحِيحِ.
وَالْفَاسِدُ الْمَوْقُوفُ مَا كَانَ مَشْرُوعًا فِي أَصْلِهِ لَا فِي وَصْفِهِ كَبَيْعِ الْمُكْرَهِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الْفَاسِدَةِ.
وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمُّونَهُ: مَوْقُوفًا فَاسِدًا فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ إِلاَّ بِالْقَبْضِ عِنْدَ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ فَإِذَا بَاعَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ مُكْرَهًا ثَبَتَ فِيهِ الْمِلْكُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ.
وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالتَّسْلِيمِ مُكْرَهًا لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِجَازَةِ فَلَا يُفِيدُ الْمِلْكَ قَبْلَهَا، وَقَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ- أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ- إِنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إِلَى مَحَلِّهِ، وَالْفَسَادُ لِفَقْدِ شَرْطِهِ وَهُوَ الرِّضَا، فَصَارَ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالْقَبْضِ، حَتَّى لَوْ قَبَضَهُ وَأَعْتَقَ أَوْ تَصَرَّفَ بِهِ أَيَّ تَصَرُّفٍ- لَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ- جَازَ، وَيَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ كَسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ.
وَبِإِجَازَةِ الْمَالِكِ يَرْتَفِعُ الْمُفْسِدُ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ وَعَدَمُ الرِّضَا فَيَجُوزُ إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ اسْتِرْدَادِ الْبَائِعِ بِالْإِكْرَاهِ وَإِنْ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي وَلَمْ يَرْضَ الْبَائِعُ بِذَلِكَ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا تَصَرَّفَ إِنْسَانٌ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ نَفَاذُ هَذَا التَّصَرُّفِ عَلَى إِجَازَةِ مَنْ لَهُ حَقُّ الْإِجَازَةِ وَذَلِكَ كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ مِلْكَ غَيْرِهِ فَإِنَّ نَفَاذَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ مَالِكِهِ.
وَكَبَيْعِ الْغَاصِبِ الشَّيْءَ الْمَغْصُوبَ لِغَيْرِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ.
وَكَطَلَاقِ الْفُضُولِيِّ، فَإِنَّهُ صَحِيحٌ مُتَوَقِّفٌ عَلَى إِجَازَةِ الزَّوْجِ.
15- وَالْوَقْفُ يُطْلِقُهُ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ لِبَيَانِ مَا يَحْدُثُ فِي الْعِبَادَاتِ وَفِي الْعُقُودِ، فَمِنَ الْأَوَّلِ حَجُّ الصَّبِيِّ، فَإِنْ دَامَ صَبِيًّا إِلَى آخِرِ أَعْمَالِ الْحَجِّ كَانَ نَفْلًا، وَإِنْ بَلَغَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ انْقَلَبَ فَرْضًا.
وَمِنْهَا: إِذَا كَانَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ فَسَلَّمَ سَاهِيًا قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِسُجُودِ السَّهْوِ فَتَذَكَّرَ قَرِيبًا فَفِي صِحَّةِ سَلَامِهِ وَجْهَانِ: فَإِنْ صَحَّحْنَاهُ فَقَدْ فَاتَ مَحَلُّ السُّجُودِ، وَإِنْ أَبْطَلْنَاهُ فَإِنْ سَجَدَ فَهُوَ بَاقٍ فِي الصَّلَاةِ وَلَوْ أَحْدَثَ لَبَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ تَرَكَ السُّجُودَ فَقَالَ الْإِمَامُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ وَلَا بُدَّ مِنَ السَّلَامِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: السَّلَامُ مَوْقُوفٌ فَإِنْ سَجَدَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ وَإِنْ تَرَكَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَدْ تَحَلَّلَ.
أَمَّا فِي الْعُقُودِ فَالْوَقْفُ فِيهَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ ثَلَاثِ مَسَائِلَ:
الْأُولَى: بَيْعُ الْفُضُولِيِّ فِي الْقَوْلِ الْقَدِيمِ لِلشَّافِعِيِّ: وَهُوَ وَقْفُ صِحَّةٍ بِمَعْنَى أَنَّ الصِّحةَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْإِجَازَةِ فَلَا تَحْصُلُ إِلاَّ بَعْدَهَا، هَذَا مَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ الْأَكْثَرِينَ، وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ عَنِ الْإِمَامِ: أَنَّ الصِّحةَ نَاجِزَةٌ وَالْمُتَوَقِّفَ عَلَى الْإِجَازَةِ هُوَ الْمِلْكُ.
الثَّانِيَةُ: بَيْعُ مَالِ مُوَرِّثِهِ ظَانًّا حَيَاتَهُ، وَهُوَ وَقْفُ تَبَيُّنٍ بِمَعْنَى أَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ صَحِيحٌ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ فِي ثَانِي الْحَالِ فَهُوَ وَقْفٌ عَلَى ظُهُورِ أَمْرٍ كَانَ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَالْمِلْكُ فِيهِ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ وَلَا خِيَارَ فِيهِ.
الثَّالِثَةُ: تَصَرُّفَاتُ الْغَاصِبِ وَهِيَ مَا إِذَا غَصَبَ أَمْوَالًا وَبَاعَهَا وَتَصَرَّفَ فِي أَثْمَانِهَا بِحَيْثُ يَعْسُرُ أَوْ يَتَعَذَّرُ تَتَبُّعُهَا بِالنَّقْضِ فَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: لِلْمَالِكِ أَنْ يُجِيزَ وَيَأْخُذَ الْحَاصِلَ مِنْ أَثْمَانِهَا.
16- وَتَنْحَصِرُ التَّصَرُّفَاتُ الْمَوْقُوفَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي سِتَّةِ أَنْوَاعٍ:
وَضَبَطَ الْإِمَامُ الْوَقْفَ الْبَاطِلَ فِي الْعُقُودِ بِتَوَقُّفِ الْعَقْدِ عَلَى وُجُودِ شَرْطٍ قَدْ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ، كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ.
وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ السِّتَّةُ هِيَ:
الْأَوَّلُ: مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُولِ شَرْطٍ بَعْدَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ فِي الْقَوْلِ الْجَدِيدِ لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ.
الثَّانِي: مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَبْيِينٍ وَانْكِشَافٍ سَابِقٍ عَلَى الْعَقْدِ فَهُوَ صَحِيحٌ كَبَيْعِ مَالِ أَبِيهِ ظَانًّا حَيَاتَهُ.
وَأَلْحَقَ بِهِ الرَّافِعِيُّ: مَا إِذَا بَاعَ الْعَبْدَ عَلَى ظَنٍّ أَنَّهُ آبِقٌ أَوْ مُكَاتَبٌ وَكَانَ قَدْ عَجَّزَ نَفْسَهُ، أَوْ فَسَخَ الْكِتَابَةَ، وَكَذَلِكَ لَوِ اشْتَرَى لِغَيْرِهِ عَلَى ظَنٍّ أَنَّهُ فُضُولِيٌّ فَبَانَ أَنَّهُ قَدْ وَكَّلَهُ فِي ذَلِكَ يَصِحُّ فِي الْأَصَحِّ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ: أَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ وَأَنَّهُ يَكُونُ وَكِيلًا قَبْلَ بُلُوغِ الْخَبَرِ إِلَيْهِ.
الثَّالِثُ: مَا تَوَقَّفَ عَلَى انْقِطَاعِ تَعَدِّي فَقَوْلَانِ: الْأَصَحُّ الْإِبْطَالُ كَبَيْعِ الْمُفْلِسِ مَالَهُ ثُمَّ يُفَكُّ الْحَجْرُ عَنْهُ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْفَكِّ إِنْ وُجِدَ نَفَذَ وَإِلاَّ فَلَا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَهُوَ وَقْفُ تَبْيِينٍ.
وَالرَّابِعُ: مَا تَوَقَّفَ عَلَى ارْتِفَاعِ حَجْرٍ حُكْمِيٍّ خَاصٍّ كَأَنْ يُقِيمَ الْعَبْدُ شَاهِدَيْنِ عَلَى عِتْقِهِ وَلَمْ يُعَدَّلَا، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَحْجُرُ عَلَى السَّيِّدِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ إِلَى التَّعْدِيلِ، فَلَوْ بَاعَهُ السَّيِّدُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ثُمَّ تَبَيَّنَ عَدَمُ عَدَالَتِهِمْ فَعَلَى قَوْلِ الْوَقْفِ فِي صُورَةِ الْمُفْلِسِ كَمَا سَبَقَ، بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَخَصُّ مِنْهَا لِوُجُودِ الْحَجْرِ هُنَا عَلَى الْعَيْنِ خَاصَّةً، وَهُنَاكَ عَلَى الْعُمُومِ.
الْخَامِسُ: مَا تَوَقَّفَ لِأَجْلِ حَجْرٍ شَرْعِيٍّ مِنْ غَيْرِ الْحَاكِمِ وَفِيهِ صُورَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: تَصَرُّفُ الْمَرِيضِ بِالْمُحَابَاةِ فِيمَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الثُّلُثِ فِيهَا، وَفِيهَا قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بَاطِلَةٌ وَأَصَحُّهُمَا أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ أَجَازَهَا الْوَارِثُ صَحَّتْ وَإِلاَّ بَطَلَتْ.
ثَانِيَتُهَا: إِذَا أَوْصَى بِعَيْنٍ حَاضِرَةٍ هِيَ ثُلُثُ مَالِهِ وَبَاقِي الْمَالِ غَائِبٌ فَتَصَرَّفَ الْوَرَثَةُ فِي ثُلُثَيِ الْحَاضِرِ ثُمَّ بَانَ تَلَفُ الْغَائِبِ فَأَلْحَقهَا الرَّافِعِيُّ بِبَيْعِ الْفُضُولِيِّ، وَخَالَفَهُ النَّوَوِيُّ فَأَلْحَقَهَا بِبَيْعِ مَالِ مُوَرِّثِهِ يَظُنُّ حَيَاتَهُ، وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَهَذَا أَشْبَهُ، لِأَنَّ التَّصَرُّفَ هُنَا صَادَفَ مِلْكَهُ فَهِيَ بِبَيْعِ الِابْنِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْفُضُولِيِّ.
السَّادِسُ: مَا تَوَقَّفَ لِأَجْلِ حَجْرٍ وَضْعِيٍّ أَيْ بِاخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ كَالرَّاهِنِ يَبِيعُ الْمَرْهُونَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمُرْتَهِنِ فَهُوَ بَاطِلٌ عَلَى الْجَدِيدِ، وَعَلَى الْقَدِيمِ الَّذِي يُجِيزُ وَقْفَ التَّصَرُّفَاتِ يَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى الِانْفِكَاكِ وَعَدَمِهِ، وَأَلْحَقَهُ الْإِمَامُ بِبَيْعِ الْمُفْلِسِ مَالَهُ.
هَذَا وَأَنَّ الْوَقْفَ الْمُمْتَنِعَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ فِي الِابْتِدَاءِ دُونَ الِاسْتِدَامَةِ، لِهَذَا قَالُوا: لَوِ ارْتَدَّتِ الْمَرْأَةُ كَانَ اسْتِدَامَةُ النِّكَاحِ مَوْقُوفًا، فَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ دَامَ النِّكَاحُ، وَإِلاَّ بَانَتْ، وَلَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِ مُرْتَدَّةٍ
وَقَدْ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَبْقَى الْمِلْكُ مَوْقُوفًا فِي مِلْكِ الْمَبِيعِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا عَلَى الْأَصَحِّ.
وَمِلْكُ الْمُوصَى لَهُ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ الْقَبُولِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، إِنْ قَبِلَ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ مَلَكَ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ، وَإِلاَّ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ عَلَى مِلْكِ الْوَارِثِ.
وَكَذَلِكَ مِلْكُ الْمُرْتَدِّ مَالَهُ، فَإِنْ تَابَ تَبَيَّنَ أَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُلْ وَإِنْ قُتِلَ حَدًّا أَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ تَبَيَّنَّا أَنَّ مِلْكَهُ زَالَ مِنْ حِينِ الِارْتِدَادِ.
ثَالِثًا- الْمَوْقُوفُ مِنَ الْأَحَادِيثِ
17- وَهُوَ مَا يُرْوَى عَنِ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- مِنْ أَقْوَالِهِمْ أَوْ أَفْعَالِهِمْ وَنَحْوِهَا فَيُوقَفُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُتَجَاوَزُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.
ثُمَّ إِنَّ مِنْهُ مَا يَتَّصِلُ الْإِسْنَادُ فِيهِ إِلَى الصَّحَابِيِّ فَيَكُونُ مِنَ الْمَوْقُوفِ الْمَوْصُولِ، وَمِنْهُ مَا لَا يَتَّصِلُ إِسْنَادُهُ فَيَكُونُ مِنَ الْمَوْقُوفِ غَيْرِ الْمَوْصُولِ عَلَى حَسَبِ مَا عُرِفَ مِثْلُهُ فِي الْمَرْفُوعِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.
وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
126-موسوعة الفقه الكويتية (مولى العتاقة)
مَوْلَى الْعَتَاقَةِالتَّعْرِيفُ:
1- مَوْلَى الْعَتَاقَةِ مُرَكَّبٌ مِنْ لَفْظَيْنِ: مَوْلًى، وَالْعَتَاقَةُ.
وَالْمَوْلَى: يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَعَانٍ: يُطْلَقُ عَلَى ابْنِ الْعَمِّ، وَعَلَى الْعَصَبَةِ عَامَّةً، وَالْحَلِيفِ: وَهُوَ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ، وَعَلَى مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، وَعَلَى الْعَتِيقِ، وَعَلَى مَنْ أَسْلَمَ بِيَدِهِ شَخْصٌ.
أَمَّا الْعَتَاقَةُ لُغَةً: فَهِيَ مِنْ عَتَقَ الْعَبْدُ عَتَاقَةً، مِنْ بَابِ ضَرَبَ: خَرَجَ مِنَ الْمَمْلُوكِيَّةِ.
وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ فِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الْمُعْتِقُ، وَهُوَ مَنْ لَهُ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَنْ عَتَقَ عَلَيْهِ رَقِيقٌ أَوْ مُبَعَّضٌ، بِإِعْتَاقٍ مُنَجَّزٍ اسْتِقْلَالًا، أَوْ بِعِوَضٍ كَبَيْعِ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ، أَوْ ضِمْنًا كَقَوْلِهِ لِغَيْرِهِ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي فَأَجَابَهُ، أَوْ كِتَابَةً مِنْهُ وَتَدْبِيرًا وَاسْتِيلَادًا أَوْ قَرَابَةً كَأَنْ يَمْلِكَ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ مِنْ أَقَارِبِهِ بِإِرْثٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ.
وَوَلَاءُ الْعَتَاقَةِ يُسَمَّى أَيْضًا وَلَاءَ نِعْمَةٍ، لِأَنَّ الْمُعْتِقَ أَنْعَمَ عَلَى الْمُعْتَقِ حَيْثُ أَحْيَاهُ حُكْمًا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} أَيْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْهُدَى، وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بِالْإِعْتَاقِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
مَوْلَى الْمُوَالَاةِ:
2- مَوْلَى الْمُوَالَاةِ هُوَ شَخْصٌ مَجْهُولُ النَّسَبِ آخَى مَعْرُوفَ النَّسَبِ وَوَالَاهُ، فَقَالَ: إِنْ جَنَتْ يَدِيَّ جِنَايَةً تَجِبُ دِيَتُهَا عَلَى عَاقِلَتِك، وَإِنْ حَصَلَ لِي مَالٌ فَهُوَ لَك بَعْدَ مَوْتِي.
وَيُسَمَّى هَذَا الْعَقْدُ: مُوَالَاةً، وَالشَّخْصُ الْمَعْرُوفُ النَّسَبِ: مَوْلَى الْمُوَالَاةِ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ:
ثُبُوتُ الْوَلَاءِ بِالْعِتْقِ
3- لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ مَنْ عَتَقَ عَلَيْهِ رَقِيقٌ بِإِعْتَاقٍ مُنَجَّرٍ، إِمَّا اسْتِقْلَالًا أَوْ بِعِوَضٍ كَبَيْعِ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ، أَوْ بِفَرْعٍ مِنَ الْإِعْتَاقِ كَكِتَابَةٍ، وَتَدْبِيرٍ وَاسْتِيلَادٍ، أَوْ بِمِلْكِ قَرِيبٍ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، فَلَهُ وَلَاؤُهُ، وَيُسَمَّى مَوْلَى الْعَتَاقَةِ.
وَإِنْ أَعْتَقَهُ عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِ كَكَفَّارَةٍ عَنْ قَتْلٍ، أَوْ ظِهَارٍ، أَوْ إِفْطَارٍ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ بِجِمَاعٍ، أَوْ بِغَيْرِهِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، أَوْ عَنْ إِيلَاءٍ، أَوْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ أَوْ عَنْ نَذْرٍ، فَلَهُ وَلَاؤُهُ أَيْضًا.لِعُمُومِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» وَقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمِيرَاثُ لِلْعَصَبَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةٌ فَالْوَلَاءُ» وَوَرَدَ: «أَنَّ رَجُلًا مَاتَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا إِلاَّ عَبْدًا هُوَ أَعْتَقَهُ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مِيرَاثَهُ».وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ يَرِثُ عَتِيْقَهُ، إِنْ مَاتَ وَلَمْ يُخَلِّفْ وَارِثًا سِوَاهُ.
تَرْتِيبُ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ فِي الْإِرْثِ
4- مَوْلَى الْعَتَاقَةِ مُقَدَّمٌ فِي التَّوْرِيثِ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَمُقَدَّمٌ عَلَى الرَّدِّ عَلَى أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، إِذَا بَقِيَ بَعْدَ الْفُرُوضِ شَيْءٌ مِنَ التَّرِكَةِ وَلَمْ تُوجَدْ عَصَبَةُ النَّسَبِ عِنْدَ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَمُؤَخَّرٌ عَنِ الْعَصَبَةِ النَّسَبِيَّةِ.
فَإِذَا مَاتَ رَجُلٌ وَخَلَّفَ بِنْتَهُ وَمَوْلَاهُ: فَلِبِنْتِهِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي لِمَوْلَاهُ، وَإِنْ خَلَّفَ ذَا رَحِمٍ وَمَوْلَاهُ: فَالْمَالُ لِمَوْلَاهُ دُونَ ذِي رَحِمِهِ.
وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ- رضي الله عنهما-: يُقَدَّمُ الرَّدُّ عَلَى مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، وَعَنْهُمَا وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنهم-: تَقْدِيمُ ذَوِي الْأَرْحَامِ عَلَى مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، قَالَ ابن قُدَامَةَ: وَلَعَلَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}.
وَإِنْ كَانَ لِلْمُعْتِقِ عَصَبَةٌ مِنْ نَسَبِهِ، أَوْ ذُو فَرْضٍ يَسْتَغْرِقُ التَّرِكَةَ، فَلَا شَيْءَ لِلْمَوْلَى.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ».
وَالْعَصَبَةُ مِنَ الْقَرَابَةِ أَوْلَى مِنْ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، لِأَنَّهُ مُشَبَّهٌ بِالْقَرَابَةِ، وَالْمُشَبَّهُ بِهِ أَقْوَى مِنَ الْمُشَبَّهِ، وَلِأَنَّ النَّسَبَ أَقْوَى مِنَ الْوَلَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ وَالنَّفَقَةُ وَسُقُوطُ الْقِصَاصِ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالْوَلَاءِ.
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِرْثٌ ف 63 وَمَا بَعْدَهَا).
ثُبُوتُ الْوَلَاءِ لِلْكَافِرِ
5- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوَلَاءَ يَثْبُتُ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ كَعَكْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَارَثَا.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى عَدَمِ التَّوَارُثِ فِي حَالَةِ اخْتِلَافِ دِينِهِمَا بِحَدِيثِ: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» وَلِأَنَّهُ مِيرَاثٌ فَيَمْنَعُهُ اخْتِلَافُ الدِّينِ كَمِيرَاثِ النَّسَبِ، وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ مَانِعٌ مِنَ الْمِيرَاثِ بِالنَّسَبِ فَمَنَعَ الْمِيرَاثَ بِالْوَلَاءِ كَالْقَتْلِ وَالرِّقِّ، يُحَقِّقُهُ: أَنَّ الْمِيرَاثَ بِالنَّسَبِ أَقْوَى، فَإِذَا مَنَعَ الْأَقْوَى فَالْأَضْعَفُ أَوْلَى، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَلْحَقَ الْوَلَاءَ بِالنَّسَبِ بِقَوْلِهِ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» فَكَمَا يَمْنَعُ اخْتِلَافُ الدِّينِ التَّوَارُثَ مَعَ صِحَّةِ النَّسَبِ وَثُبُوتِهِ كَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مَعَ صِحَّةِ الْوَلَاءِ وَثُبُوتِهِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا عَلَى الْإِسْلَامِ تَوَارَثَا كَالْمُتَنَاسِبَينِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَعْتَقَ الْكَافِرُ مُسْلِمًا- سَوَاءٌ مَلَكَهُ مُسْلِمًا أَوْ أَسْلَمَ عِنْدَهُ- أَوْ أَعْتَقَ عَنْهُ فَلَا وَلَاءَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ، بَلْ وَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَعُودُ لَهُ إِنْ أَسْلَمَ عَلَى الْمَذْهَبِ.
وَإِنْ أَعْتَقَ الْمُسْلِمُ كَافِرًا فَمَالُهُ لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِ قَرَابَةٌ عَلَى دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ قَرَابَةٌ كُفَّارٌ فَالْوَلَاءُ لَهُمْ، فَإِنْ أَسْلَمَ عَادَ الْوَلَاءُ لِسَيِّدِهِ الْمُسْلِمِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- وَعُمَرَ بْنِ عَبْدٍ الْعَزِيزِ أَنَّهُمَا يَتَوَارَثَانِ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِرْثٌ ف 18).
انْتِقَالُ الْوَلَاءِ
6- لَا يَصِحُّ مِنْ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ نَقْلُ الْوَلَاءِ بِالْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ، وَلَا أَنْ يَأْذَنَ لِعَتِيقِهِ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ يَشَاءُ، وَلَا يَنْتَقِلُ الْوَلَاءُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى، وَلَا يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ، وَإِنَّمَا يَرِثُونَ الْمَالَ بِالْوَلَاءِ مَعَ بَقَائِهِ لِلْمَوْلَى.لِحَدِيثِ: «نَهَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ» وَقَالَ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» وَقَالَ- عليه الصلاة والسلام-: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ» وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يُورَثُ بِهِ فَلَا يَنْتَقِلُ كَالْقَرَابَةِ.
عِتْقُ الْعَبْدِ بِشَرْطِ أَنْ لَا وَلَاءَ لِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ
7- لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى أَنْ لَا وَلَاءَ لَهُ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى أَنْ يَكُونَ سَائِبَةً، أَوْ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لِغَيْرِهِ لَمْ يَبْطُلْ وَلَاؤُهُ وَلَمْ يَنْتَقِلْ كَنَسَبِهِ لِخَبَرِ: «مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ» وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» وَقَوْلِهِ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ».
فَكَمَا لَا يَزُولُ نَسَبُ الْإِنْسَانِ وَلَا يَنْتَقِلُ كَذَلِكَ لَا يَزُولُ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا أَرَادَ أَهْلُ بَرِيرَةَ اشْتِرَاطَ وَلَائِهَا عَلَى عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «اشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ، فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ» يَعْنِي: أَنَّ اشْتِرَاطَ تَحْوِيلِ الْوَلَاءِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا، وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنه- فَقَالَ: إِنِّي أَعْتَقْتُ غُلَامًا لِي وَجَعَلْتُهُ سَائِبَةً، فَمَاتَ وَتَرَكَ مَالًا.فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَهْلَ الْإِسْلَامِ لَا يُسَيِّبُونَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تُسَيِّبُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنْتَ وَارِثُهُ وَوَلِيُّ نِعْمَتِهِ، فَإِنْ تَحَرَّجْتَ مِنْ شَيْءٍ فَأَدْنَاهُ نَجْعَلُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ: إِنْ أَعْتَقَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ سَائِبَةً، كَأَنْ يَقُولَ: قَدْ أَعْتَقْتُكَ سَائِبَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ وَلَاءٌ، وَكَأَنَّهُ جَعَلَهُ لِلَّهِ وَسَلَّمَهُ، وَقَالَ أَحْمَدُ: قَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: السَّائِبَةُ وَالصَّدَقَةُ لِيَوْمِهَا وَمَتَى قَالَ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ: أَعْتَقْتُكَ سَائِبَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ وَلَاءٌ، فَإِنْ مَاتَ وَخَلَّفَ مَالًا وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا اشْتُرِيَ بِمَالِهِ رِقَابٌ فَأُعْتِقُوا فِي الْمَنْصُوصِ عَنْ أَحْمَدَ قَالَ: أَعْتَقَ ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- عَبْدًا سَائِبَةً، فَمَاتَ، فَاشْتَرَى ابْنُ عُمَرَ بِمَالِهِ رِقَابًا فَأَعْتَقَهُمْ وَوَلَاؤُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (سَائِبَةٌ ف 3).
الْمِيرَاثُ بِالْوَلَاءِ
8- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ مَنْ لَا عَصَبَةَ لَهُ بِنَسَبٍ وَلَهُ مُعْتِقٌ فَمَالُهُ وَمَا لَحِقَ بِهِ- أَوِ الْفَاضِلُ مِنْهُ بَعْدَ الْفُرُوضِ أَوِ الْفَرْضِ- لَهُ، رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً، لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ».وَلِأَنَّ الْإِنْعَامَ بِالْإِعْتَاقِ مَوْجُودٌ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَاسْتَوَيَا فِي الْإِرْثِ بِهِ.
فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مُعْتِقٌ فَلِعَصَبَتِهِ: أَيِ الْمُعْتِقِ.
وَتَرْتِيبُهُمْ كَتَرْتِيبِهِمْ فِي النَّسَبِ، فَيُقَدَّمُ ابْنُ الْمُعْتِقِ، ثُمَّ ابْنُهُ وَإِنْ سَفَلَ، ثُمَّ أَبُوهُ، ثُمَّ جَدُّهُ وَإِنْ عَلَا.
وَلَكِنْ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ أَخَا الْمُعْتِقِ لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ وَابْنَ أَخِيهِ يُقَدَّمَانِ عَلَى جَدِّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ جَرْيًا عَلَى الْقِيَاسِ فِي أَنَّ الْبُنُوَّةَ أَقْوَى مِنَ الْأُبُوَّةِ.
وَإِنَّمَا خَالَفُوا فِي النَّسَبِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم- عَلَى أَنَّ الْأَخَ لَا يُسْقِطُ الْجَدَّ، وَلَا إِجْمَاعَ فِي الْوَلَاءِ فَصَارُوا إِلَى الْقِيَاسِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِرْثٌ ف 51).
إِرْثُ النِّسَاءِ بِالْوَلَاءِ
9- لَا يَرِثُ النِّسَاءُ بِالْوَلَاءِ إِلاَّ مَنْ أَعْتَقْنَ بِالْمُبَاشَرَةِ، أَوْ مُنْتَمِيًا إِلَيْهِ بِنَسَبٍ أَوْ وَلَاءٍ لِحَدِيثِ: «لَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنَ الْوَلَاءِ إِلاَّ مَا أَعْتَقْنَ، أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ، أَوْ كَاتَبْنَ أَوْ كَاتَبَ مَنْ كَاتَبْنَ، أَوْ دَبَّرْنَ أَوْ دَبَّرَ مَنْ دَبَّرْنَ، أَوْ جَرَّ وَلَاءَ مُعْتَقِهِنَّ».
وَلِأَنَّ ثُبُوتَ صِفَةِ الْمِلْكِيَّةِ وَالْقُوَّةِ لِلْمُعْتِقِ حَصَلَ مِنْ جِهَتِهَا، فَكَانَتْ مُحْيِيَةً لَهُ فَيُنْسَبُ الْمُعْتَقُ بِالْوَلَاءِ إِلَيْهَا.
فَإِنْ مَاتَ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَهُ عَتِيقُهُ وَلَمْ يُخَلِّفْ عَاصِبًا ذَكَرًا فَإِرْثُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا حَقَّ لِبَنَاتِهِ وَلَا لِأَخَوَاتِهِ انْفَرَدْنَ أَوِ اجْتَمَعْنَ، فَلَوْ مَاتَ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ عَنِ ابْنٍ وَبِنْتٍ، ثُمَّ مَاتَ الْعَتِيقُ وَلَمْ يُخَلِّفْ وَارِثًا فَمَا تَرَكَهُ الْعَتِيقُ لَابْن مَوْلَى الْعَتَاقَةِ وَلَا شَيْءَ لِلْبِنْتِ.
وَكَذَا إِنْ تَرَكَ ابْنَ عَمٍّ وَبِنْتَ صُلْبٍ أَخَذَ ابْنُ الْعَمِّ الْمَالَ وَلَا شَيْءَ لِبِنْتِ الصُّلْبِ.
حُقُوقٌ أُخْرَى تَثْبُتُ لِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ:
10- يَثْبُتُ لِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ وِلَايَةُ الصَّلَاةِ عَلَى عَتِيقِهِ، وَوِلَايَةُ النِّكَاحِ عَلَى أَوْلَادِهِ الْقُصَّرِ، وَعَلَيْهِ الْعَقْلُ عَنْهُ
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
127-موسوعة الفقه الكويتية (ميت)
مَيِّتٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْمَيْتُ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِهَا فِي اللُّغَةِ: هُوَ الَّذِي فَارَقَ الْحَيَاةَ وَيُجْمَعُ عَلَى أَمْوَاتٍ، وَالْمَيِّتُ، (بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ): مَنْ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ وَلَيْسَ بِهِ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَمْوَاتٍ، وَمَوْتَى.
يُقَالُ: مَاتَ يَمُوتُ مَوْتًا فَهُوَ مَيِّتٌ بِالتَّثْقِيلِ وَالتَّخْفِيفِ، وَيُعَدَّى بِالْهَمْزَةِ فَيُقَالُ: أَمَاتَهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الْحَيُّ فَمَيِّتٌ بِالتَّثْقِيلِ لَا غَيْرُ، وَعَلَيْهِ قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} أَيْ سَيَمُوتُونَ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْمَيِّتُ: الَّذِي فَارَقَ الْحَيَاةَ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْحَيُّ:
2- الْحَيُّ لُغَةً: يُقَالُ: حَيِيَ يَحْيَى حَيَاةً مِنْ بَابِ تَعِبَ فَهُوَ حَيٌّ وَيَتَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ فَيُقَالُ: أَحْيَاهُ اللَّهُ وَاسْتَحْيَيْتُهُ- بِيَاءَيْنِ- إِذَا تَرَكْتَهُ حَيًّا فَلَمْ تَقْتُلْهُ، فَالْحَيُّ ضِدُّ الْمَيِّتِ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْحَيُّ الْمُتَّصِفُ بِالْحَيَاةِ وَهِيَ صِفَةٌ تُوجِبُ لِلْمَوْصُوفِ بِهَا أَنْ يَعْلَمَ وَيَقْدِرَ ظَاهِرًا.
وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْمَيِّتِ وَالْحَيِّ التَّضَادُّ.ب- الْمُحْتَضَرُ:
3- الْمُحْتَضَرُ: هُوَ مَنْ فِي النَّزْعِ أَيْ أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ يُقَالُ حَضَرَهُ الْمَوْتُ وَاحْتَضَرَهُ: أَشْرَفَ فَهُوَ فِي النَّزْعِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُحْتَضَرِ وَالْمَيْتِ أَنَّ الِاحْتِضَارَ مُقَدِّمَةٌ لِلْمَوْتِ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَيْتِ:
أ- تَقْبِيلُ وَجْهِ الْمَيِّتِ
4- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ تَقْبِيلِ وَجْهِ الْمَيِّتِ لِخَبَرِ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَبَّلَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ بَعْدَ مَوْتِهِ» وَلِمَا ثَبَتَ «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ- رضي الله عنه- قَبَّلَ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ مَوْتِهِ».
وَذَهَبَ السُّبْكِيُّ إِلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ، وَخَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَجْهَ الْمَيِّتِ الصَّالِحِ، أَمَّا غَيْرُهُ فَيُكْرَهُ.
ب- تَغْمِيضُ عَيْنَيْ الْمَيِّتِ
5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَغْمِيضِ عَيْنَيِ الْمَيِّتِ بَعْدَ ثُبُوتِ مَوْتِهِ لِمَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شُقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَالَ إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ».
وَرَوَى شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «إِذَا حَضَرْتُمْ مَوْتَاكُمْ فَأَغْمِضُوا الْبَصَرَ فَإِنَّ الْبَصَرَ يَتْبَعُ الرُّوحُ، وَقُولُوا خَيْرًا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ عَلَى مَا قَالَ أَهْلُ الْمَيِّتِ».
وَلِأَنَّ الْمَيِّتَ إِذَا كَانَ مَفْتُوحَ الْعَيْنَيْنِ فَلَمْ يُغْمَضْ حَتَّى يَبْرُدَ بَقِيَ مَفْتُوحًا فَيَقْبُحُ مَنْظَرُهُ.
وَيَقُولُ مَنْ يُغْمِضُ الْمَيِّتَ: «بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ».
وَقَالَ أَحْمَدُ: تُغْمِضُ الْمَرْأَةُ عَيْنَهُ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ مَحْرَمٍ لَهُ، وَقَالَ: يُكْرَهُ لِلْحَائِضِ وَالْجُنُبِ تَغْمِيضُهُ وَأَنْ تَقْرَبَاهُ.
ج- إِخْرَاجُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْجُنُبِ مِنْ عِنْدِ الْمَيِّتِ
6- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي إِخْرَاجُ النُّفَسَاءِ وَالْجُنُبِ مِنْ عِنْدِ الْمَيِّتِ وَكَذَلِكَ الْحَائِضُ فِي رَأْيٍ عِنْدَهُمْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِمَنْ حَضَرَتْهُ عَلَامَاتُ الْمَوْتِ تَجَنُّبُ حَائِضٍ وَنُفَسَاءَ وَجُنُبٍ لِأَجْلِ الْمَلَائِكَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيْبٍ: يُسْتَحَبُّ أَلاَّ تَحْضُرَ الْحَائِضُ وَلَا الْكَافِرَةُ وَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ وَقُرْبَهُ غَيْرُ طَاهِرٍ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ تَقْرُبَ الْحَائِضُ وَالْجُنُبُ الْمَيِّتَ لِحَدِيثِ: «لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ جُنُبٌ».
(ر: احْتِضَارٌ ف 3).
د- تَلْقِينُ الْمَيِّتِ بَعْدَ الْمَوْتِ
7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَلْقِينِ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ: فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَلْقِينِهِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ».
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يُلَقَّنُ.
انْظُرْ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَلْقِينٌ ف 5 احْتِضَارٌ ف 7).
هـ- غَسْلُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ الْمَيِّتَ
8- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ أَنْ يَغْسِلَ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ الْمَيِّتَ بِلَا كَرَاهَةٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّطْهِيرُ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِالْجُنُبِ وَالْحَائِضِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْغَاسِلِ الطَّهَارَةُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ غَسْلِ الْجُنُبِ لِلْمَيْتِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ طُهْرَهُ وَلَا يُكْرَهُ تَغْسِيلُ الْحَائِضِ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ طُهْرَهَا.وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ كَرِهَ لِلْحَائِضِ الْغُسْلَ لِأَنَّهَا لَوِ اغْتَسَلَتْ لِنَفْسِهَا لَمْ تَعْتَدَّ بِهِ فَكَذَا إِذَا غَسَّلَتْ.
و- شَدُّ لَحْيَيِ الْمَيِّتِ وَتَلْيِينُ مَفَاصِلِهِ
9- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ شَدِّ لَحْيَيِ الْمَيِّتِ بِعِصَابَةِ عَرِيضَةٍ تُرْبَطُ فَوْقَ رَأْسِهِ، لِئَلاَّ يَبْقَى فَمُهُ مَفْتُوحًا، فَتَدْخُلَهُ الْهُوَامُ وَيَتَشَوَّهُ خَلْقُهُ وَيَدْخُلَ الْمَاءُ عِنْدَ غَسْلِهِ.
وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَلْيِينِ مَفَاصِلِ الْمَيِّتِ، وَذَلِكَ بِرِدِّ سَاعِدِهِ إِلَى عَضُدِهِ وَسَاقِهِ إِلَى فَخِذِهِ وَفَخِذِهِ إِلَى بَطْنِهِ، ثُمَّ تُمَدُّ وَتَلِينُ أَصَابِعُهُ بِأَنْ تُرَدَّ إِلَى بَطْنِ كَفِّهِ ثُمَّ تُمَدُّ تَسْهِيلًا لِغَسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ، فَإِنَّ فِي الْبَدَنِ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الرُّوحِ بَقِيَّةُ حَرَارَةٍ فَإِذَا لُيِّنَتِ الْمَفَاصِلُ حِينَئِذٍ لَانَتْ وَإِلاَّ فَلَا يُمْكِنُ تَلْيِينُهَا.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ تَلْيِينَ مَفَاصِلِهِ تَكُونُ وَلَوْ بِنَحْوِ دُهْنٍ إِنْ تَوَقَّفَ التَّلْيِينُ عَلَيْهِ لِيَسْهُلَ غُسْلُهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى تَرْكِ تَلْيِينِ الْمَفَاصِلِ إِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ تَنْكَسِرَ أَعْضَاؤُهُ وَصَيَّرَ بِهِ ذَلِكَ إِلَى الْمُثْلَةِ.
ز- تَوْجِيهُ الْمَيِّتِ لِلْقِبْلَةِ
10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَوْجِيهِ الْمَيِّتِ إِلَى الْقِبْلَةِ لِأَنَّهَا أَشَرَفُ الْجِهَاتِ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي طَرِيقَةِ تَوْجِيهِ الْمَيِّتِ إِلَى الْقِبْلَةِ عَلَى أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يُوَجَّهَ الْمُحْتَضَرُ لِلْقِبْلَةِ عَلَى يَمِينِهِ مِثْلَ تَوْجِيهِهِ فِي الْقَبْرِ وَجَازَ الِاسْتِلْقَاءُ عَلَى ظَهْرِهِ وَقَدَمَاهُ إِلَيْهَا وَلَكِنْ يُرْفَعُ رَأْسُهُ قَلِيلًا لِيَتَوَجَّهَ لِلْقِبْلَةِ، وَقِيلَ: يُوضَعُ كَمَا تَيَسَّرَ عَلَى الْأَصَحِّ وَإِنْ شُقَّ عَلَيْهِ تُرِكَ عَلَى حَالِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَوْجِيهُهُ لِلْقِبْلَةِ عَلَى يَمِينِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَعَلَى يَسَارِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَعَلَى ظَهْرِهِ وَرِجْلَاهُ لِلْقِبْلَةِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَعَلَى بَطْنِهِ وَرَأْسُهُ لَهَا، وَهَذَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ شُخُوصِ بَصَرِهِ لَا قَبْلَهُ لِئَلاَّ يُفْزِعَهُ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَوْجِيهُهُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ كَمَا يُوضَعُ فِي اللَّحْدِ إِلَى الْقِبْلَةِ فَإِنْ تَعَذَّرَ وَضْعُهُ عَلَى يَمِينِهِ لِضِيقِ مَكَانٍ أَوْ لِعِلَّةٍ فِي جَنْبِهِ أَوْ غَيْرِهَا فَإِنَّهُ يُوضَعُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ أُلْقِيَ عَلَى قَفَاهُ وَوَجْهُهُ وَأَخْمَصَاهُ لِلْقِبْلَةِ بِأَنْ يُرْفَعَ رَأْسُهُ قَلِيلًا، كَأَنْ يُوضَعَ تَحْتَ رَأْسِهِ مُرْتَفِعٌ لِيَتَوَجَّهَ وَجْهُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ.
وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ أَنَّ هَذَا الِاسْتِلْقَاءَ أَفَضْلُ، فَإِنْ تَعَذَّرَ اضْطَجَعَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ وُضِعَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ.
وَلِلْحَنَابِلَةِ فِي كَيْفِيَّةِ تَوْجِيهِ الْمَيِّتِ لِلْقِبْلَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُجْعَلُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ وَيُرْفَعَ رَأْسُهُ قَلِيلًا، لِيَصِيرَ وَجْهُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ دُونَ السَّمَاءِ.
وَقَالَ الْقَاضِي: إِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ وَاسِعًا فَعَلَى جَنْبِهِ، وَإِلاَّ فَعَلَى ظَهْرِهِ.وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا يُوَجَّهُ قَبْلَ تَيَقُّنِ مَوْتِهِ، وَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْأَوْلَى التَّوْجِيهُ قَبْلَ ذَلِكَ.
ج- سَتْرُ بَدَنِ الْمَيِّتِ
11- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى اسْتِحْبَابِ سَتْرِ الْمَيِّتِ حِينَ الْغُسْلِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يُسْتَرُ وَيُغَطَّى.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ سَتْرِ الْمَيِّتِ حِينَ الْغُسْلِ، وَأَنَّ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ فِي السَّتْرِ هُوَ سَتْرُ عَوْرَتِهِ الْغَلِيظَةِ فَقَطْ عَلَى الظَّاهِرِ مِنَ الرِّوَايَةِ، وَقِيلَ مُطْلَقًا تُسْتَرُ عَوْرَتُهُ الْغَلِيظَةُ وَالْخَفِيفَةُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ أَنْ يَسْتُرَ الْغَاسِلُ الْمَيِّتَ مِنْ سُرَّتِهِ إِلَى رُكْبَتِهِ إِنْ كَانَ الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَ الْمَيِّتِ سَيِّدًا أَوْ زَوْجًا لَكِنْ إِنْ كَانَ الَّذِي يَتَوَلَّى أَمْرَهُ أَجْنَبِيًّا فَإِنَّهُ يَجِبُ سَتْرُ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ سَتْرِ جَمِيعِ بَدَنِهِ بِثَوْبٍ خَفِيفٍ بَعْدَ نَزْعِ ثِيَابِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا، وَيُجْعَلُ طَرَفُ الثَّوْبِ تَحْتَ رَأْسِهِ وَطَرَفُهُ الْآخَرُ تَحْتَ رِجْلَيْهِ لِئَلاَّ يَنْكَشِفَ، وَاحْتُرِزَ بِالثَّوْبِ الْخَفِيفِ عَنِ الثَّقِيلِ لِأَنَّ الثَّقِيلَ يَحْمِيهِ فَيُغَيِّرُهُ وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: «سُجِّيَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- حِينَ مَاتَ بِثَوْبٍ حِبَرَةٍ».
أَمَّا الْمُحْرِمُ فَيُسْتَرُ مِنْهُ مَا يَجِبُ تَكْفِينُهُ مِنْهُ.وَصَرَّحَ الْقَلْيُوبِيُّ بِأَنَّهُ لَا يُغَطَّى رَأْسُ الْمُحْرِمِ وَلَا وَجْهُ الْمُحْرِمَةِ وَيُغْسَلُ الْمَيِّتُ نَدْبًا فِي قَمِيصٍ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا شَرَعَ فِي غَسْلِهِ وَجَبَ سَتْرُ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَلِيٍّ- رضي الله عنه-: «لَا تُبْرِزْ فَخِذَكَ، وَلَا تَنْظُرَنَّ إِلَى فَخِذِ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ» وَهَذَا فِي غَيْرِ مَنْ سِنُّهُ دُونَ سَبْعِ سِنِينَ فَلَا بَأْسَ بِغَسْلِهِ مُجَرَّدًا.
وَقَالَ الْقَاضِي: السُّنَّةُ أَنْ يُغَسَّلَ فِي قَمِيصٍ رَقِيقٍ يُنْزَلُ الْمَاءُ فِيهِ وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يَصِلَ إِلَى بَدَنِهِ وَيُدْخِلَ يَدَهُ فِي كُمِّ الْقَمِيصِ فَيَمُرَّهَا عَلَى بَدَنِهِ وَالْمَاءُ يُصَبُّ فَإِنْ كَانَ الْقَمِيصُ ضَيِّقًا فَتَقَ رَأْسَ الدَّخَارِيصِ وَأَدْخَلَ يَدَهُ مِنْهُ.
ط- قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَيِّتِ وَقَبْلَ غَسْلِهِ
12- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَقَبْلَ غَسْلِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ عِنْدَ الْمَيِّتِ سُورَةَ (يس) وَكَذَا سُورَةُ الْفَاتِحَةِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: قِرَاءَةٌ ف 17، 18). ي- تَغْسِيلُ الْمَيِّتِ
13- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَغْسِيلَ الْمُسْلِمِ وَاجِبُ كِفَايَةٍ.
وَانْظُرْ حَقِيقَتَهُ وَحُكْمَهُ، وَمَنْ يُغَسِّلُهُ، وَكَيْفِيَّةُ تَغْسِيلِهِ، وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِنْ أَحْكَامٍ فِي مُصْطَلَحِ (تَغْسِيلِ الْمَيِّتِ).
ك- تَكْفِينُ الْمَيِّتِ
14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ تَكْفِينَ الْمَيِّتِ بِمَا يَسْتُرُهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ.
وَانْظُرْ حَقِيقَتَهُ وَحُكْمَهُ وَكَيْفِيَّتَهُ فِي مُصْطَلَحِ (تَكْفِينٌ).
ل- حَمْلُ الْمَيِّتِ
15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ حَمْلَ الْجِنَازَةِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ حَمْلِهَا وَعَدَدِ حَامِلِيهَا.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (جَنَائِزُ ف 11- 13).
م- دَفْنُ الْمَيِّتِ
16- دَفْنُ الْمَيِّتِ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِجْمَاعًا إِنْ أَمْكَنَ.انْظُرْ حَقِيقَتَهُ وَحُكْمَهُ، وَأَفْضَلَ مَكَانٍ لِدَفْنِهِ، وَالْأَحَقَّ بِدَفْنِهِ، وَكَيْفِيَّتَهُ وَوَقْتَهُ، وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ أَحْكَامٍ فِي مُصْطَلَحِ (دَفْنٌ).
ن- نَبْشُ قَبْرُ الْمَيِّتِ
17- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَنْعِ نَبْشِ الْقَبْرِ إِلاَّ لِعُذْرٍ وَغَرَضٍ صَحِيحٍ، وَمِنَ الْأَعْذَارِ الَّتِي تُجِيزُ نَبْشَ الْقَبْرِ كَوْنُ الْأَرْضِ مَغْصُوبَةً أَوِ الْكَفَنِ مَغْصُوبًا أَوْ سَقَطَ مَالٌ فِي الْقَبْرِ.وَعِنْدَهُمْ تَفْصِيلٌ فِي هَذِهِ الْأَعْذَارِ يُنْظَرُ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ (قَبْرٌ ف 21، وَنَبْشٌ).
س- نَقْلُ الْمَيِّتِ
18- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْلُ الْمَيِّتِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ بَعْدَ الدَّفْنِ مُطْلَقًا.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ نَقْلُ الْمَيِّتِ قَبْلَ الدَّفْنِ وَكَذَا بَعْدَهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ بِشُرُوطِ.يُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (دَفْنٌ ف 4، وَنَبْشٌ).
ع- قَذْفُ الْمَيِّتِ
19- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ مَنْ قَذَفَ مَيِّتًا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَهُ حَقُّ طَلَبِ إِقَامَةِ الْحَدِّ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ طَلَبَ إِقَامَةِ الْحَدِّ يَرْجِعُ لِمَنْ يَقَعُ الْقَدْحُ فِي نَسَبِهِ بِسَبَبِ قَذْفِ الْمَيِّتِ وَهُمُ الْأُصُولُ وَالْفُرُوعُ وَإِنْ عَلَوْا أَوْ سَفَلُوا، وَلَوْ كَانَ الطَّالِبُ مَحْجُوبًا أَوْ مَحْرُومًا عَنِ الْمِيرَاثِ بِقِتْلٍ أَوْ رِقٍّ أَوْ كُفْرٍ أَوْ كَوْنِهِ وَلَدَ بِنْتٍ.وَلَوْ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَبِ أَوْ عَفْوِهِ أَوْ تَصْدِيقِهِ لِلْقَاذِفِ لِلُحُوقِ الْعَارِ بِهِمْ بِسَبَبِ الْجُزْئِيَّةِ، أَيْ كَوْنُ الْمَيِّتِ جُزْءًا مِنْهُمْ أَوْ كَوْنُهُمْ جُزْءًا مِنْهُ.
وَلَوْ قَالَ: يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ وَقَدْ مَاتَ أَبَوَاهُ فَعَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ قَبْلَ حَدِّ قَاذِفِهِ فَلِوَارِثِهِ الْقِيَامُ بِهِ وَلَوْ مَنَعَهُ مِنَ الْإِرْثِ مَانِعٌ كَرِقٍّ وَقَتْلٍ وَكُفْرٍ إِنْ كَانَ قَذَفَهُ فِي حَيَاتِهِ.
وَإِنْ قَذَفَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلِوَارِثِهِ الْقِيَامُ بِحَدِّهِ لِلِحُوقِ الْمَعَرَّةِ لَهُ.
وَأَمَّا الْوَرَثَةُ الَّذِينَ يَحِقُّ لَهُمُ الْمُطَالَبَةُ بِالْحَدِّ فَهُمْ: وَلَدُ الْمَقْذُوفِ وَيَشْمَلُ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ وَإِنْ سَفَلُوا، وَأَبُ الْمَقْذُوفِ وَإِنْ عَلَا.
فَمَنْ قَذَفَ مَيِّتًا كَانَ لِوَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ وَلِأَبِيهِ وَإِنْ عَلَا أَنْ يَقُومُوا بِذَلِكَ وَمَنْ قَامَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ أَخَذَهُ بِحَدِّهِ وَإِنْ كَانَ ثَمَّ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ لِأَنَّهُ عَيْبٌ يَلْزَمُهُمْ، وَلَيْسَ لِلْإِخْوَةِ وَسَائِرِ الْعَصَبَةِ قِيَامٌ مَعَ هَؤُلَاءِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ أَحَدٌ فَلِلْعَصَبَةِ الْقِيَامُ، وَلِلْأَخَوَاتِ وَالْجَدَّاتِ الْقِيَامُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْمَقْذُوفِ وَارِثٌ فَلَيْسَ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَقُومَ بِحَدِّهِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ قَذَفَ مَيِّتًا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَطَلَبُ إِقَامَةِ الْحَدِّ لِلْوَارِثِ إِلاَّ أَنْ يَعْفُوَ، وَلَوْ عَفَا وَارِثُ الْمَقْذُوفِ مُقَابِلَ مَالٍ يَأْخُذُهُ سَقَطَ الْحَدُّ وَلَمْ يَجِبِ الْمَالُ، وَلَوْ عَفَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ فَلِلْبَاقِي أَنْ يَسْتَوْفُوا الْحَدَّ عَلَى الْأَصَحِّ، لِأَنَّهُ عَارٌ، وَالْعَارُ يَلْزَمُ الْوَاحِدَ كَمَا يَلْزَمُ الْجَمِيعَ.
وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِيمَنْ يَرِثُ حَدَّ الْقَذْفِ عَلَى أَوْجُهٍ:
أَصَحُّهَا: جَمِيعُ الْوَرَثَةِ كَالْمَالِ وَالْقِصَاصِ.
وَالثَّانِي: جَمِيعُهُمْ غَيْرُ الزَّوْجَيْنِ.
وَالثَّالِثُ: رِجَالُ الْعَصَبَاتِ فَقَطْ لِأَنَّهُ لِدَفْعِ الْعَارِ كَوِلَايَةِ التَّزْوِيجِ.
وَالرَّابِعُ: رِجَالُ الْعَصَبَةِ سِوَى الْبَنِينَ كَالتَّزْوِيجِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ لِلسُّلْطَانِ.
وَلَوْ قَذَفَ رَجُلٌ مُوَرِّثَهُ، وَمَاتَ الْمَقْذُوفُ، سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ إِنْ كَانَ حَائِزًا لِلْإِرْثِ، وَلِأَنَّ الْقَذْفَ لَا يَمْنَعُ الْإِرْثَ بِخِلَافِ الْقَتْلِ.
وَلَوْ قَذَفَ وَلَدٌ أَبَاهُ فَمَاتَ الْأَبُ وَتَرَكَ الْقَاذِفَ وَابْنًا آخَرَ فَإِنَّ فِيهِ الْخِلَافَ فِيمَنْ يَرِثُ الْحَدَّ فَإِنْ قُلْنَا: إِذَا عَفَا بَعْضُ الْمُسْتَحِقِّينَ كَانَ لِلْآخَرِ اسْتِيفَاءُ الْجَمِيعِ فَلِلِابْنِ الْآخَرِ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ بِتَمَامِهِ، وَإِنْ قُلْنَا يَسْقُطُ الْجَمِيعُ فَكَذَا هُنَا، وَإِنْ قُلْنَا: يَسْقُطُ نَصِيبُ الْعَافِي فَلِلِابْنِ الْآخَرِ اسْتِيفَاءُ نِصْفِ الْحَدِّ.
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَقَالُوا إِذَا قُذِفَتِ الْمَرْأَةُ لَمْ يَكُنْ لِوَلَدِهَا الْمُطَالَبَةُ إِذَا كَانَتِ الْأُمُّ فِي الْحَيَاةِ، وَإِنْ قُذِفَتْ وَهِيَ مَيِّتَةٌ- مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كَافِرَةً حُرَّةً أَوْ أَمَةً- حُدَّ الْقَاذِفُ إِذَا طَالَبَ الِابْنُ وَكَانَ مُسْلِمًا حُرًّا وَهُوَ الْمَذْهَبُ لِأَنَّهُ قَدْحٌ فِي نَسَبِهِ وَلِأَنَّهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ يَنْسُبُهُ إِلَى أَنَّهُ مِنْ زِنَا وَلَا يَسْتَحِقُّ إِقَامَةَ الْحَدِّ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ وَلِذَلِكَ تُعْتَبَرُ حَصَانَتُهُ وَلَا تُعْتَبَرُ حَصَانَةُ أُمِّهِ لِأَنَّ الْقَذْفَ لَهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَذْفِ مَيْتَةٍ، وَكَذَلِكَ تُقَاسُ الْجَدَّةُ عَلَى الْأُمِّ فِي الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ.
وَأَمَّا إِنْ قَذَفَ أَبَاهُ أَوْ جَدَّهُ أَوْ أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِهِ غَيْرَ أُمَّهَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَوْجَبَ بِقَذْفِ أُمِّهِ حَقًّا لَهُ لِنَفْيِ نَسَبِهِ لَاحِقًا لِلْمَيِّتِ وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ إِحْصَانُ الْمَقْذُوفَةِ وَاعْتُبِرَ إِحْصَانُ الْوَلَدِ، وَمَتَى كَانَ الْمَقْذُوفُ مِنْ غَيْرِ أُمَّهَاتِهِ لَمْ يَتَضَمَّنْ نَفْيَ نَسَبِهِ فَلَمْ يَجِبِ الْحَدُّ.
وَإِذَا مَاتَ الْمَقْذُوفُ وَلَمْ يُطَالِبْ بِالْحَدِّ سَقَطَ الْحَدُّ وَإِنْ كَانَ قَدْ طَالَبَ بِهِ فَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ وَلِلْوَرَثَةِ طَلَبُهُ.
وَالْحَقُّ فِي حَدِّ الْقَذْفِ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ، حَتَّى لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَنَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.وَقَالَ الْقَاضِي: لَهُمْ سِوَى الزَّوْجَيْنِ، وَقَالَ فِي الْمُغْنِي: هُوَ لِلْعَصَبَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَرِثُهُ الْإِمَامُ أَيْضًا فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَارِثِ.وَلَوْ عَفَا بَعْضُهُمْ حُدَّ لِلْبَاقِي كَامِلًا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ.
ف- حَلْقُ شَعْرِ الْمَيِّتِ وَقَصُّ ظُفُرِهِ
20- لِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي حُكْمِ حَلْقِ شَعْرِ الْمَيِّتِ أَوْ تَسْرِيحِهِ أَوْ ضَفْرِ شَعْرِ الْمَرْأَةِ وَكَذَا سَائِرُ شَعْرِ الْبَدَنِ كَاللِّحْيَةِ وَالشَّارِبِ وَشَعْرِ الْإِبِطِ وَالْعَانَةِ.
وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (شَعْرٌ وَصُوفٌ وَوَبَرٌ ف 4، 5، 6، حَلَقَ ف 14).
كَمَا اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ تَقْلِيمِ أَظْفَارِ الْمَيِّتِ وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَغْسِيلُ الْمَيِّتِ ف9).
ص- تَغْسِيلُ السِّقْطِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَدَفْنُهُ
21- السِّقْطُ هُوَ الْوَلَدُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى يَسْقُطُ قَبْلَ تَمَامِهِ وَهُوَ مُسْتَبِينُ الْخَلْقِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ خِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (جَنِينٌ ف 22).
قِ- إِدْخَالُ الْمَيِّتِ الْمَسْجِدَ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِيهِ:
22- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ أَوْ مَسْجِدِ الْمَحَلَّةِ وَإِدْخَالُهُ فِيهِ تَحْرِيمًا وَقِيلَ تَنْزِيهًا وَرَجَّحَهُ الْكَمَالُ وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى الْكَرَاهَةِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (جَنَائِزُ ف 38).
ر- الصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ إِذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ قَبْلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ
23- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ إِذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ فِيهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ.
وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (جَنَائِزُ ف 37).
ش- طَهَارَةُ جَسَدِ الْمَيِّتِ
24- ذَهَبَ عَامَّةُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْمَيِّتَ يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ كَمَا يَتَنَجَّسُ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَهَا دَمٌ سَائِلٌ بِالْمَوْتِ وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ فِي الْمَذْهَبِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ هَلْ نَجَاسَتُهُ نَجَاسَةُ خَبَثٍ أَوْ حَدَثٍ؟ فَقِيلَ: إِنَّهَا نَجَاسَةُ خَبَثٍ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، فَلَوْ وَقَعَ فِي بِئْرٍ قَبْلَ غَسْلِهِ نَجَّسَهَا وَكَذَلِكَ لَوْ حَمَلَ مَيِّتًا قَبْلَ غَسْلِهِ وَصَلَّى بِهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَلِذَلِكَ إِنَّمَا يَطْهُرُ الْمَيِّتُ بِالْغُسْلِ كَرَامَةً لِلْمُسْلِمِ.
أَمَّا الْكَافِرُ فَهُوَ نَجِسٌ وَلَوْ بَعْدَ غَسْلِهِ فَلَوْ وَقَعَ كَافِرٌ فِي بِئْرٍ بَعْدَ غُسْلِهِ فَإِنَّهُ يُنَجِّسُ الْبِئْرَ.
وَقِيلَ: هِيَ نَجَاسَةُ حَدَثٍ قَالَ فِي الْفَتْحِ:
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-: «سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا»،، فَإِنْ صَحَّ وَجَبَ تَرْجِيحُ أَنَّهُ لِلْحَدَثِ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «لَا تُنَجِّسُوا مَوْتَاكُمْ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَنْجُسُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا». وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثَّلْجِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْآدَمِيَّ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ بِتَشَرُّبِ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ فِي أَجْزَائِهِ، كَرَامَةً لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَنَجَّسَ لَمَا حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ بِالْغُسْلِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي حُكِمَ بِنَجَاسَتِهَا بِالْمَوْتِ، وَالْآدَمِيُّ يَطْهُرُ بِالْغُسْلِ حَتَّى رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَيِّتَ لَوْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ قَبْلَ الْغُسْلِ يُوجِبُ تَنْجِيسَ الْبِئْرِ، وَلَوْ وَقَعَ بَعْدَ الْغُسْلِ لَا يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَتَنَجَّسْ بِالْمَوْتِ وَلَكِنْ وَجَبَ غُسْلُهُ لِلْحَدَثِ، لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يَخْلُو عَنْ سَابِقَةِ حَدَثٍ لِوُجُودِ اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ وَزَوَالِ الْعَقْلِ، وَالْبَدَنُ فِي حَقِّ التَّطْهِيرِ لَا يَتَجَزَّأُ فَوَجَبَ غَسْلُهُ كُلُّهُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالْبَلْخِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ مَيْتَةَ الْآدَمِيِّ وَلَوْ كَافِرًا طَاهِرَةٌ، لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} وَقَضِيَّةُ تَكْرِيمِهِمْ أَنْ لَا يُحْكَمَ بِنَجَاسَتِهِمْ بِالْمَوْتِ، وَلِخَبَرِ «لَا تُنَجِّسُوا مَوْتَاكُمْ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا» قَالَ عِيَاضُ: وَلِأَنَّ غَسْلَهُ وَإِكْرَامَهُ يَأْبَى تَنْجِيسُهُ، إِذْ لَا مَعْنَى لِغَسْلِ الْمَيْتَةِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْعُذْرَةِ. وَأَمَّا قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} فَالْمُرَادُ نَجَاسَةُ الِاعْتِقَادِ أَوْ أَنَّا نَجْتَنِبُهُمْ كَالنَّجَاسَةِ لَا نَجَاسَةَ الْأَبَدَانِ، وَلِهَذَا رَبَطَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْأَسِيرَ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ أَحَلَّ اللَّهُ طَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ فِي غَيْرِ أَجْسَادِ الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ مُتَّفَقٌ عَلَى طَهَارَتِهَا، وَأَلْحَقَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ بِهِمُ الشُّهَدَاءَ.
وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي طَهَارَةِ مَيْتَةِ الْآدَمِيِّ وَنَجَاسَتِهَا فِي الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ.
فَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى نَجَاسَةِ مَيْتَةِ الْآدَمِيِّ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَنْجُسَ الْكَافِرُ بِمَوْتِهِ لِأَنَّ الْخَبَرَ: «الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ» إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْمُسْلِمِ وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْكَافِرِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ حُرْمَةٌ كَحُرْمَةِ الْمُسْلِمِ. حُكْمُ مَا أُبِينَ مِنَ الْآدَمِيِّ
25- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَا أُبِينَ مِنَ الْآدَمِيِّ يَأْخُذُ حُكْمَهُ فِي الْقَوْلِ بِطَهَارَتِهِ أَوْ بِنَجَاسَتِهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّ شَعْرَ الْآدَمِيِّ غَيْرَ الْمَنْتُوفِ طَاهِرٌ بِخِلَافِ الْمَنْتُوفِ فَإِنَّهُ نَجِسٌ لِمَا يَحْمِلُ مِنْ دُسُومَةٍ.
وَكَذَلِكَ عَظْمُ الْمَيِّتِ وَعَصَبُهُ فَإِنَّهُمَا طَاهِرَانِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَكَذَلِكَ سِنُّ الْمَيِّتِ عَلَى الظَّاهِرِ مِنَ الْمَذْهَبِ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَا دَمَ فِيهَا وَالْمُنَجَّسُ هُوَ الدَّمُ.
وَكَذَلِكَ ظُفُرُ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ إِذَا كَانَ خَالِيًا عَنِ الدُّسُومَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى طَهَارَةِ مَا أُبِينَ مِنَ الْآدَمِيِّ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِنَاءً عَلَى الْمُعْتَمَدِ مِنْ طَهَارَةِ مَيْتَتِهِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فِي الْمَذْهَبِ فَمَا أُبِينَ مِنْهُ نَجِسٌ مُطْلَقًا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى إِلْحَاقِ مَا انْفَصَلَ مِنَ الْآدَمِيِّ بِمَيْتَتِهِ فِي الطَّهَارَةِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: حُكْمُ أَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ وَأَبْعَاضِهِ حُكْمُ جُمْلَتِهِ سَوَاءٌ انْفَصَلَتْ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، لِأَنَّهَا أَجَزَاءٌ مِنْ جُمْلَتِهِ فَكَانَ حُكْمُهَا كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَةِ وَالنَّجِسَةِ وَلِأَنَّهَا يُصَلَّى عَلَيْهَا فَكَانَتْ طَاهِرَةً كَجُمْلَتِهِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهَا نَجِسَةٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهَا لَا حُرْمَةَ لَهَا.
ت- غَسْلُ مَا أُبِينَ مِنَ الْآدَمِيِّ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ:
26- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ بَعْضُ الْمَيِّتِ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ لِأَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- صَلَّى عَلَى عِظَامٍ بِالشَّامِ، وَصَلَّى أَبُو عُبَيْدَةَ- رضي الله عنه- عَلَى رُءُوسٍ، وَصَلَّتِ الصَّحَابَةُ- رضي الله عنهم- عَلَى يَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ أَلْقَاهَا طَائِرٌ بِمَكَّةَ مِنْ وَقْعَةِ الْجَمَلِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا وُجِدَ رَأْسُ آدَمِيٍّ أَوْ أَحَدُ شِقَّيْهِ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ بَلْ يُدْفَنُ إِلاَّ أَنْ يُوجَدَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِهِ وَلَوْ بِلَا رَأْسٍ فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُغَسَّلُ دُونَ ثُلُثَيِ الْجَسَدِ، وَالْمُرَادُ بِالْجَسَدِ مَا عَدَا الرَّأْسِ، فَإِذَا وُجِدَ نِصْفُ الْجَسَدِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ وَدُونَ الثُّلُثَيْنِ مَعَ الرَّأْسِ لَمْ يُغْسَّلْ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ أَيْ يُكْرَهُ، لِأَنَّ شَرْطَ الْغُسْلِ وُجُودُ الْمَيِّتِ، فَإِنْ وُجِدَ بَعْضُهُ فَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ وَلَا حُكْمَ لِلْيَسِيرِ وَهُوَ مَا دُونَ الثُّلُثَيْنِ.
وَالْعِلَّةُ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَى مَا دُونَ الْجُلِّ خَوْفُ الْوُقُوعِ فِي الْمَكْرُوهِ وَهُوَ الصَّلَاةُ عَلَى غَائِبٍ، قَالَ فِي التَّوْضِيحِ لِأَنَّا لَا نُخَاطَبُ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ إِلاَّ بِشَرْطِ الْحُضُورِ، وَحُضُورُ جُلِّهِ كَحُضُورِ كُلِّهِ، وَحُضُورُ الْأَقَلِّ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ. (ر: تَغْسِيلُ الْمَيِّتِ ف 26).
ث- تَنَازُعُ الْمَيِّتِ وَالْحَيِّ الْمَاءَ:
27- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ مَيِّتٌ وَجُنُبٌ وَحَائِضٌ وَمُحْدِثٌ وَكَانَ الْمَاءُ مِلْكًا لِأَحَدِهِمْ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِمِلْكِهِ، وَلِلْفُقَهَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَاءُ مِلْكًا لِأَحَدِهِمْ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِمِلْكِهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَاءُ مُبَاحًا فَإِنَّ الْجُنُبَ أَوْلَى بِالْمَاءِ مِنَ الْحَائِضِ وَالْمُحْدِثِ وَيُيَمَّمُ الْمَيِّتُ لِيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ وَالْمُحْدِثُ وَيَقْتَدِيَانِ بِهِ، لِأَنَّ الْجَنَابَةَ أَغْلَظُ مِنَ الْحَدَثِ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَصْلُحُ إِمَامًا. وَقِيلَ فِي السِّرَاجِ: أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْلَى لِأَنَّ غُسْلَهُ يُرَادُ لِلتَّنْظِيفِ وَهُوَ لَا يَحْصُلُ بِالتُّرَابِ.
وَعَنِ الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ، وَفِي السِّرَاجِ أَيْضًا: لَوْ كَانَ الْمَاءُ يَكْفِي الْمُحْدِثَ فَقَطْ كَانَ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَاءُ مُشْتَرَكًا فَيَنْبَغِي لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يَصْرِفَ نَصِيبَهُ لِلْمَيْتِ حَيْثُ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ لَا يَكْفِيهِ نَصِيبُهُ، وَلَا يُمَكَّنُ الْجُنُبُ وَلَا غَيْرُهُ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِالْكُلِّ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِحِصَّةِ الْمَيِّتِ، وَكَوْنُ الْجَنَابَةِ أَغْلَظُ لَا يُبِيحُ اسْتِعْمَالَ حِصَّةِ الْمَيِّتِ فَلَمْ يَكُنِ الْجُنُبُ أَوْلَى، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْمَاءُ مُبَاحًا فَإِنَّهُ حَيْثُ أَمْكَنَ بِهِ رَفْعَ الْجَنَابَةِ كَانَ أَوْلَى.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ صَاحِبُ الْمَاءِ وَمَعَهُ شَخْصٌ حَيٌّ مُحْدِثٌ جُنُبٌ أَوْ غَيْرُهُ فَإِنَّ الْمَيِّتَ يُقَدَّمُ عَلَى الْمُحْدِثِ الْحَيِّ لِحَقِيِّةِ الْمِلْكِ إِلاَّ أَنْ يُخَافَ عَلَى الْحَيِّ الْعَطَشُ فَإِنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ أَحَقُّ مِنْ صَاحِبِهِ وَيُيَمَّمُ الْمَيِّتُ حِفْظًا لِلنَّفُوسِ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْوَرَثَةِ.
أَمَّا لَوْ كَانَ الْمَاءُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمَيِّتِ وَالْحَيِّ يُقَدَّمُ الْحَيُّ وَلَوْ لَمْ يَخَفْ عَطَشًا لِتَرْجِيحِ جَانِبِهِ بِالشَّرِكَةِ وَيَضْمَنُ قِيمَةَ نَصِيبِ الْمَيِّتِ. وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ اجْتَمَعَ مَيِّتٌ وَجُنُبٌ وَحَائِضٌ انْقَطَعَ دَمُهَا وَهُنَاكَ مَا يَكْفِي أَحَدَهُمَا فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا كَانَ صَاحِبُ الْمَاءِ أَحَقَّ بِهِ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ لِنَفْسِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ بَذْلُهُ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ بَذَلَهُ لِلْآخَرِ وَتَيَمَّمَ لَمْ يَصِحَّ تَيَمُّمُهُ.
وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ مُبَاحًا لَهُمَا كَانَا فِيهِ سَوَاءً.
وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ مُبَاحًا أَوْ لِغَيْرِهِمَا وَأَرَادَ أَنْ يَجُودَ بِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا فَالْمَيِّتُ أَوْلَى لِأَنَّهُ خَاتِمَةُ طَهَارَتِهِ، وَالْجُنُبُ وَالْحَائِضُ يَرْجِعَانِ إِلَى الْمَاءِ وَيَغْتَسِلَانِ.
وَإِذَا اجْتَمَعَ مَيِّتٌ وَحَيٌّ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ وَالْمَاءُ يَكْفِي أَحَدَهُمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ صَاحِبَ النَّجَاسَةِ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَيْسَ لِطَهَارَتِهِ بَدَلٌ وَلِطَهَارَةِ الْمَيِّتِ بَدَلٌ وَهُوَ التَّيَمُّمُ فَكَانَ صَاحِبُ النَّجَاسَةِ أَحَقَّ بِالْمَاءِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْلَى لِأَنَّهُ خَاتِمَةُ طَهَارَتِهِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا اجْتَمَعَ جُنُبٌ وَمَيِّتٌ وَمَنْ عَلَيْهَا غُسْلُ حَيْضٍ وَمَعَهُمْ مَاءٌ لَا يَكْفِي إِلاَّ أَحَدَهُمْ، فَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِأَحَدِهِمْ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِنَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ بَذْلُهُ لِغَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ مَالِكَهُ الْمَيِّتُ أَوْ أَحَدُ الْحَيَّيْنِ. وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ لِغَيْرِهِ وَأَرَادَ أَنْ يَجُودَ بِهِ عَلَى أَحَدِهِمْ فَعَنْ أَحْمَدَ- رحمه الله- رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: الْمَيِّتُ أَحَقُّ بِهِ لِأَنَّ غُسْلَهُ خَاتِمَةُ طَهَارَتِهِ، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ طَهَارَتُهُ كَامِلَةً، وَالْحَيُّ يَرْجِعُ إِلَى الْمَاءِ فَيَغْتَسِلُ، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ بِغُسْلِ الْمَيِّتِ تَنْظِيفُهُ وَلَا يَحْصُلُ بِالتَّيَمُّمِ، وَالْحَيُّ يَقْصِدُ بِغُسْلِهِ إِبَاحَةَ الصَّلَاةِ وَيَحْصُلُ ذَلِكَ بِالتُّرَابِ.
وَالثَّانِيَةُ: الْحَيُّ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُتَعَبِّدٌ بِالْغُسْلِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ، وَالْمَيِّتُ قَدْ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْهُ بِالْمَوْتِ.وَاخْتَارَ هَذَا الْخَلاَّلُ.
وَإِنْ وَجَدُوا الْمَاءَ فِي مَكَانٍ فَهُوَ لِلْأَحْيَاءِ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَجِدُ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ فَفَضَلَتْ مِنْهُ فَضْلَةٌ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ حَاضِرٌ فَلِلْحَيِّ أَخْذُهُ بِقِيمَتِهِ لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ إِتْلَافَهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: لَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ لِأَنَّ
مَالِكَهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ إِلاَّ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَيْهِ لِلْعَطَشِ فَيَأْخُذَهُ بِشَرْطِ الضَّمَانِ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
128-موسوعة الفقه الكويتية (نجاسة 1)
نَجَاسَةٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- النَّجَاسَةُ فِي اللُّغَةِ: الْقَذَارَةُ، يُقَالُ: تَنَجَّسَ الشَّيْءُ: صَارَ نَجِسًا، وَتَلَطَّخَ بِالْقَذِرِ.
وَالنَّجَاسَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ عَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا: مُسْتَقْذِرٌ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ حَيْثُ لَا مُرَخِّصَ.
وَعَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهَا: صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ لِمَوْصُوفِهَا مَنْعَ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ بِهِ أَوْ فِيهِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الطَّهَارَةُ:
2- الطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ: النَّقَاءُ مِنَ الدَّنَسِ وَالنَّجِسِ وَالْبَرَاءَةُ مِنْ كُلِّ مَا يَشِينُ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ لِمَوْصُوفِهَا جَوَازَ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ بِهِ أَوْ فِيهِ أَوْ لَهُ.
فَالطَّهَارَةُ هِيَ الْمَدْخَلُ لِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَا تَجُوزُ إِلاَّ بِهَا، كَالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ، وَهِيَ لَا تَكُونُ إِلاَّ بِإِزَالَةِ مَا قَدْ يَكُونُ عَالِقًا وَقَائِمًا بِالْبَدَنِ أَوِ الثَّوْبِ أَوِ الْمَكَانِ مِنْ أَحْدَاثٍ وَأَخْبَاثٍ.
ب- الِاسْتِنْجَاءُ:
3- مِنْ مَعَانِي الِاسْتِنْجَاءِ لُغَةً: الْخَلَاصُ مِنَ الشَّيْءِ.يُقَالُ: اسْتَنْجَيْتُ الشَّجَرَةَ: قَطَعْتُهَا مِنْ أَصْلِهَا.
وَالِاسْتِنْجَاءُ فِي الِاصْطِلَاحِ: إِزَالَةُ مَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ سَوَاءٌ بِالْغَسْلِ أَوِ الْمَسْحِ بِالْحِجَارَةِ وَنَحْوِهَا عَنْ مَوْضِعِ الْخُرُوجِ وَمَا قَرُبَ مِنْهُ.
وَالِاسْتِنْجَاءُ خَاصٌّ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَنِ السَّبِيلَيْنِ فَقَطْ، لَا عَنْ بَاقِي الْبَدَنِ أَوِ الثَّوْبِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّجَاسَةِ وَالِاسْتِنْجَاءِ: أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ وَسِيلَةٌ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَنِ الْمَحَلِّ وَتَطْهِيرِهِ.(ر: اسْتِنْجَاء ف 1).
مَا يُعْتَبَرُ نَجِسًا وَمَا لَا يُعْتَبَرُ:
4- قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ الْأَعْيَانَ النَّجِسَةَ إِلَى نَوْعَيْنِ: النَّجَاسَةُ الْمُغَلَّظَةُ وَالنَّجَاسَةُ الْمُخَفَّفَةُ.وَقَالُوا: كُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ مِمَّا يُوجِبُ خُرُوجُهُ الْوُضُوءَ أَوِ الْغُسْلَ فَهُوَ مُغَلَّظٌ، كَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ وَالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ وَالْقَيْءِ إِذَا مَلأَ الْفَمَ وَدَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالِاسْتِحَاضَةِ، وَكَذَلِكَ بَوْلُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ أَكَلَا أَوْ لَا، وَالْخَمْرُ وَالدَّمُ الْمَسْفُوحُ وَلَحْمُ الْمَيْتَةِ وَبَوْلُ مَا لَا يُؤْكَلُ وَالرَّوْثُ وَإِخْثَاءُ الْبَقَرِ وَالْعَذِرَةُ وَنَجْوُ الْكَلْبِ وَخُرْءُ الدَّجَاجِ وَالْبَطِّ وَالْأَوِزِّ وَخِرَاءُ السِّبَاعِ وَالسِّنَّوْرِ وَالْفَأْرِ وَخِرَاءُ الْحَيَّةِ وَبَوْلُهَا وَخِرَاءُ الْعَلَقِ وَدَمُ الْحَلَمَةِ وَالْوَزَغَةِ إِذَا كَانَ سَائِلاً، فَهَذِهِ الْأَعْيَانُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً.
وَعَدُّوا مِنَ النَّجَاسَاتِ الْمُخَفَّفَةِ: بَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَالْفَرَسُ وَخِرَاءُ طَيْرٍ لَا يُؤْكَلُ.
أَمَّا أَجْزَاءُ الْمَيْتَةِ الَّتِي لَا دَمَ فِيهَا إِنْ كَانَتْ صُلْبَةً، كَالْقَرْنِ وَالْعَظْمِ وَالسِّنِّ وَالْحَافِرِ وَالْخُفِّ وَالظِّلْفِ وَالشَّعْرِ وَالصُّوفِ وَالْعَصَبِ وَالْإِنْفَحَةِ الصُّلْبَةِ فَلَيْسَتْ بِنَجِسٍ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ بِمَيْتَةٍ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ تَمْيِيزِ الْأَعْيَانِ الطَّاهِرَةِ عَنِ النَّجِسَةِ:
أ- الْجَمَادَاتُ كُلُّهَا عَلَى الطَّهَارَةِ إِلاَّ الْمُسْكِرَ.
ب- وَالْحَيَوَانَاتُ كُلُّهَا عَلَى الطَّهَارَةِ.
ج- وَالْمَيْتَاتُ كُلُّهَا عَلَى النَّجَاسَةِ.
د- وَدُودُ الطَّعَامِ كُلُّهُ طَاهِرٌ، وَلَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ مَعَ الطَّعَامِ، وَكُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ لَا يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ، وَلَا يَنْجَسُ مَا مَاتَ فِيهِ مِنْ مَاءٍ أَوْ مَائِعٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْيَانِ الطَّهَارَةُ.
وَفَصَّلُوا فِي ضَبْطِهَا فَقَالُوا: الْأَعْيَانُ جَمَادٌ وَحَيَوَانٌ.
فَالْجَمَادُ كُلُّهُ طَاهِرٌ.
وَالْحَيَوَانُ- أَيِ الْحَيُّ- كُلُّهُ طَاهِرٌ إِلاَّ الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ وَفَرْعَ كُلٍّ مِنْهُمَا.
وَجُزْءُ الْحَيَوَانِ كَمَيْتَتِهِ.
وَالْمَيْتَةُ كُلُّهَا نَجِسَةٌ إِلاَّ السَّمَكَ، وَالْجَرَادَ، وَالْآدَمِيَّ، وَالْجَنِينَ بَعْدَ ذَكَاةِ أُمِّهِ، وَالصَّيْدَ الَّذِي لَا تُدْرَكُ ذَكَاتُهُ.
وَالْمُنْفَصِلُ عَنِ الْحَيَوَانِ إِمَّا يَرْشَحُ رَشْحًا كَالْعَرَقِ، وَلَهُ حُكْمُ حَيَوَانِهِ- أَيِ الْحَيِّ- وَإِمَّا لَهُ اسْتِحَالَةٌ فِي الْبَاطِنِ كَالْبَوْلِ فَهُوَ نَجِسٌ إِلاَّ مَا اسْتُثْنِيَ.
تَقْسِيمُ النَّجَاسَةِ إِلَى نَجَاسَةٍ عَيْنِيَّةٍ وَنَجَاسَةٍ حُكْمِيَّةٍ:
5- مِنْ تَقْسِيمَاتِ النَّجَاسَةِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ تَقْسِيمُهَا إِلَى نَجَاسَةٍ عَيْنِيَّةٍ وَنَجَاسَةٍ حُكْمِيَّةٍ.
وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْعَيْنِيَّةَ تَعْنِي الْخَبَثَ، وَالْحُكْمِيَّةَ تَعْنِي الْحَدَثَ.
وَعَرَّفُوا الْخَبَثَ بِأَنَّهُ: عَيْنٌ مُسْتَقْذَرَةٌ شَرْعًا.
وَعَرَّفُوا الْحَدَثَ بِأَنَّهُ: وَصْفٌ شَرْعِيٌّ يَحُلُّ فِي الْأَعْضَاءِ يُزِيلُ الطَّهَارَةَ.سَوَاءٌ كَانَ أَصْغَرَ أَوْ أَكْبَرَ، فَلَا تَحِلُّ مَثَلاً صَلَاةٌ مَعَ وُجُودِهِ حَتَّى يَضَعَ مُرِيدُ الصَّلَاةِ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّهُ لَا تَتِمُّ صَلَاةٌ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ فَيَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ» فَهُوَ يُوجِبُ الطَّهَارَةَ مِنَ النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ.
وَيَطْهَرُ الْخَبَثُ بِزَوَالِهِ؛ «لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ: اغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي» فَإِنَّهُ يُوجِبُ الطَّهَارَةَ مِنَ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ.
وَيَمْنَعُ بَقَاءَ الْحُكْمِيَّةِ عَنِ الْمَشْرُوطِ بِزَوَالِهَا بَقَاءُ بَعْضِ الْمَحَلِّ وَإِنْ قَلَّ مِنْ غَيْرِ إِصَابَةِ مُزِيلِهَا.فَالْمُحْدِثُ حَدَثًا أَصْغَرَ يَمْنَعُهُ قِيَامُ هَذَا الْحَدَثِ مِنَ الصَّلَاةِ مَثَلاً حَتَّى يَتَوَضَّأَ حَالَةَ وُجُودِ الْمَاءِ أَوْ يَتَيَمَّمَ حَالَةَ فَقْدِهِ بِشُرُوطِهِ، وَالْمُحْدِثُ حَدَثًا أَكْبَرَ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَغْتَسِلَ.وَعَلَى هَذَا فَقَلِيلُ الْحُكْمِيَّةِ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ بِالِاتِّفَاقِ.
وَالْعَيْنِيَّةُ تَخْتَلِفُ مِنْ حَيْثُ غِلَظِهَا وَخِفَّتِهَا، وَقَلِيلُهَا عَفْوٌ، وَهُوَ دُونَ مُقَعَّرِ الْكَفِّ فِي الْغَلِيظَةِ، وَدُونَ رُبْعِ الثَّوْبِ أَوِ الْبَدَنِ فِي الْخَفِيفَةِ، وَتَطْهَرُ بِزَوَالِ عَيْنِهَا فِي الْمَرْئِيِّ، وَبِالْغُسْلِ فِي غَيْرِهِ.
وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْعَيْنِيَّةَ هِيَ مَا لَا تَتَجَاوَزُ مَحَلَّ حُلُولِ مُوجِبِهَا كَالنَّجَاسَاتِ، وَالْحُكْمِيَّةَ هِيَ مَا تَتَجَاوَزُهُ بِغَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ أَوْ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِخُرُوجِ الْخَارِجِ وَبِنُزُولِ الْمَنِيِّ.
وَقَدْ تُطْلَقُ الْحُكْمِيَّةُ عَلَى مَا لَا وَصْفَ لَهُ مِنْ طَعْمٍ أَوْ لَوْنٍ أَوْ رِيحٍ مِنْ بَابِ مَجَازِ الْمُشَاكَلَةِ.
وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْحَدَثَ هُوَ الْوَصْفُ الْمَانِعُ مِنَ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، الْمُقَدَّرُ شَرْعًا قِيَامُهُ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ أَوْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَقَطْ عِنْدَ مُوجِبِهِ.
وَالْخَبَثُ: هُوَ الْوَصْفُ الْمُقَدَّرُ شَرْعًا قِيَامُهُ بِعَيْنِ النَّجَاسَةِ.
وَفِي ذَلِكَ يَقُولُونَ: النَّجَاسَةُ حَدَثٌ وَخَبَثٌ، فَالْحَدَثُ هُوَ الْمَنْعُ الْقَائِمُ بِالْأَعْضَاءِ لِمُوجِبٍ مِنْ بَوْلٍ وَنَحْوِهِ أَوْ جَنَابَةٍ أَوْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ.
وَإِنْ كَانَ الْمَمْنُوعُ مِنْهُ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الصَّلَاةِ ثَوْبًا أَوْ مَكَانًا فَهِيَ طَهَارَةُ خَبَثٍ أَيْ طَهَارَةٌ مِنْهُ.
وَالْحَدَثُ وَالْخَبَثُ لَا يُرْفَعَانِ إِلاَّ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ.
وَالْحَدَثُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: الْأَكْبَرُ وَالْأَصْغَرُ، أَمَّا الْأَكْبَرُ فَهُوَ الْجَنَابَةُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ، وَالْأَصْغَرُ هُوَ الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ وَالرِّيحُ وَالْمَذْيُ وَالْوَدْيُ.
وَأَمَّا الْخَبَثُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ النَّجَاسَةِ الْقَائِمَةِ بِالشَّخْصِ أَوِ الثَّوْبِ أَوِ الْمَكَانِ.
وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ هِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْأَحْدَاثِ وَالْأَخْبَاثِ، وَلَا يَصِحُّ التَّطْهِيرُ مِنْهَا إِلاَّ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ مَا كَانَ عَلَى خِلْقَتِهِ أَوْ تَغَيَّرَ بِمَا لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا كَقَرَارِهِ وَالْمُتَوَلِّدِ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} وَالْمَاءُ الطَّهُورُ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي نَفْسِهِ مُطَهِّرًا لِغَيْرِهِ، كَمَاءِ الْمَطَرِ وَالْبَحْرِ وَالْبِئْرِ إِذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ شَيْءٌ مِنْ أَوْصَافِهِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ اللَّوْنُ وَالطَّعْمُ وَالرِّيحُ.
وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْحَدَثَ هُوَ الْوَصْفُ الْقَائِمُ بِالْبَدَنِ الْمَانِعُ مِنَ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا، وَزَوَالُ هَذَا الْوَصْفِ يَكُونُ بِالْوُضُوءِ فِي الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، وَبِالْغُسْلِ فِي الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ (الْجَنَابَةُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ).
وَالْخَبَثُ مَا كَانَ نَجِسًا مُسْتَقْذَرًا، وَتَطْهِيرُهُ بِغَسْلِهِ بِالْمَاءِ، فَهُوَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَيُزِيلُ الْخَبَثَ لقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ» «وَقَوْلِهِ فِي الْبَحْرِ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ».
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْخَبَثَ يَخْتَصُّ بِالنَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَيُقَسِّمُونَ النَّجَاسَةَ الْحَقِيقِيَّةَ (الْخَبَثَ) إِلَى قِسْمَيْنِ: مُغَلَّظَةٌ وَمُخَفَّفَةٌ.
فَمَا تَوَافَقَتْ عَلَى نَجَاسَتِهِ الْأَدِلَّةُ فَمُغَلَّظٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، سَوَاءٌ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ وَكَانَ فِيهِ بَلْوَى أَمْ لَا، وَإِلاَّ فَهُوَ مُخَفَّفٌ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: مَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى نَجَاسَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ بَلْوَى فَمُغَلَّظٌ وَإِلاَّ فَمُخَفَّفٌ، وَلَا نَظَرَ لِلْأَدِلَّةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: النَّجَاسَةُ الْعَيْنِيَّةُ (الْخَبَثُ) ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: مُغَلَّظَةٌ أَوْ مُخَفَّفَةٌ أَوْ مُتَوَسِّطَةٌ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَا نَجُسَ بِمُلَاقَاةِ شَيْءٍ مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا تَنَجَّسَ بِبَوْلِ صَبِيٍّ لَمْ يُطْعَمْ غَيْرَ لَبَنٍ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا تَنَجَّسَ بِغَيْرِهِمَا.
طَهَارَةُ الْآدَمِيِّ وَنَجَاسَتُهُ:
6- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى طَهَارَةِ الْآدَمِيِّ الْحَيِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} «وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ» وَلَوْ كَانَتْ أَبْدَانُهُمْ نَجِسَةً لَمْ يُنْزِلْهُمْ فِيهِ تَنْزِيهًا لَهُ.
وَأَمَّا الْآدَمِيُّ الْمَيِّتُ فَيَرَى عَامَّةُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ، كَمَا يَتَنَجَّسُ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَهَا دَمٌ سَائِلٌ بِالْمَوْتِ، وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ يُوجِبُ تَنَجُّسَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا غُسِلَ يُحْكَمُ بِطِهَارَتِهِ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا كَرَامَةً لَهُ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِالْغَسْلِ، وَأَنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاةُ حَامِلِهِ.
وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: مَيْتَةُ الْآدَمِيِّ وَلَوْ كَافِرًا طَاهِرَةٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَمَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ شَعْبَانَ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ نَجَاسَتُهُ.
قَالَ عِيَاضٌ: لِأَنَّ غَسْلَهُ وَإِكْرَامَهُ يَأْبَى تَنْجِيسَهُ، إِذْ لَا مَعْنَى لِغَسْلِ الْمَيْتَةِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْعَذِرَةِ «وَلِصَلَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ- رضي الله عنه- فِي الْمَسْجِدِ» وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَبَّلَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ بَعْدَ الْمَوْتِ» وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا فَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ.
وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ كَذَلِكَ بِطَهَارَةِ الْآدَمِيِّ الْمَيِّتِ مُسْلِمًا أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ، لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} وَتَكْرِيمُهُمْ يَقْتَضِي طَهَارَتَهُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَقَضِيَّةُ التَّكْرِيمِ أَنْ لَا يُحْكَمَ بِنَجَاسَتِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُسْلِمُ وَغَيْرُهُ.وَأَمَّا قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ
نَجَس}.فَالْمُرَادُ بِهِ نَجَاسَةُ الِاعْتِقَادِ أَوِ اجْتِنَابُهُمْ كَالنَّجِسِ لَا نَجَاسَةُ الْأَبْدَانِ.
وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الصَّحِيحَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْآدَمِيَّ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ» وَلِأَنَّهُ آدَمِيٌّ فَلَوْ نَجُسَ بِالْمَوْتِ لَمْ يَطْهُرْ بِالْغُسْلِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تَنْجُسُ.
وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْآدَمِيَّةِ وَفِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْجُسَ الْكَافِرُ بِمَوْتِهِ، لِأَنَّ الْخَبَرَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْمُسْلِمِ وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْكَافِرِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ حُرْمَةٌ كَحُرْمَةِ الْمُسْلِمِ.
7- وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ حُكْمَ أَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ وَأَبْعَاضِهِ حُكْمُ جُمْلَتِهِ سَوَاءٌ انْفَصَلَتْ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ، لِأَنَّهَا أَجْزَاءٌ مِنْ جُمْلَتِهِ وَلِأَنَّهَا يُصَلَّى عَلَيْهَا فَكَانَتْ طَاهِرَةً كَجُمْلَتِهِ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهَا نَجِسَةٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهَا لَا حُرْمَةَ لَهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا.
طَهَارَةُ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ وَنَجَاسَتُهُ:
أ- الْكَلْبُ:
8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْكَلْبِ مِنْ حَيْثُ الطَّهَارَةُ وَالنَّجَاسَةُ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْكَلْبَ نَجِسُ الْعَيْنِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَلْبَ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ، وَلَكِنَّ سُؤْرَهُ وَرُطُوبَاتِهِ نَجِسَةٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَلْبَ طَاهِرُ الْعَيْنِ، لِقَوْلِهِمْ: الْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الطَّهَارَةُ، فَكُلُّ حَيٍّ وَلَوْ كَلْبًا طَاهِرٌ، وَكَذَا عَرَقُهُ وَدَمْعُهُ وَمُخَاطُهُ وَلُعَابُهُ.
كَمَا اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ شَعْرِ الْكَلْبِ، وَحُكْمِ مَعَضِّ كَلْبِ الصَّيْدِ مِنْ حَيْثُ النَّجَاسَةُ وَالطَّهَارَةُ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْحُكْمِ بِالنَّجَاسَةِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى الْحُكْمِ بِالطَّهَارَةِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مُصْطَلَحِ (كَلْب ف 15- 19، شَعْر وَصُوف وَوَبَر ف 19، صَيْد.ف 44).
ب- الْخِنْزِيرُ:
9- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى نَجَاسَةِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ، وَكَذَلِكَ نَجَاسَةُ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ، وَمَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ كَعَرَقِهِ وَلُعَابِهِ، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}.وَالضَّمِيرُ فِي قوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} رَاجِعٌ إِلَى الْخِنْزِيرِ فَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ وَجَمِيعِ أَجْزَائِهِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى طَهَارَةِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ حَالَ الْحَيَاةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ حَيٍّ الطَّهَارَةُ، وَالنَّجَاسَةُ عَارِضَةٌ، فَطَهَارَةُ عَيْنِهِ بِسَبَبِ الْحَيَاةِ، وَكَذَلِكَ طَهَارَةُ عَرَقِهِ وَلُعَابِهِ وَدَمْعِهِ وَمُخَاطِهِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (خِنْزِير ف 4 وَمَا بَعْدَهَا).
ج ـ سِبَاعُ الْبَهَائِمِ وَسِبَاعُ الطَّيْرِ:
10- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي طَهَارَةِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَالطَّيْرِ أَوْ نَجَاسَتِهَا.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى نَجَاسَةِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ كَالْأَسَدِ وَالْفَهْدِ وَالذِّئْبِ وَالنَّمِرِ وَالْقِرْدِ، وَنَجَاسَةِ سِبَاعِ الطَّيْرِ كَالصَّقْرِ وَالشَّاهِينِ وَالْحِدَأَةِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْحَيَّ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ طَاهِرٌ، وَقِيلَ بِنَجَاسَةِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمُشْرِكِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ بِطَهَارَةِ الْحَيَوَانَاتِ وَأَسْآرِهَا، إِلاَّ الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا فَهُوَ نَجِسٌ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْحَيَوَانُ قِسْمَانِ: نَجِسٌ وَطَاهِرٌ.
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: النَّجِسُ، وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا هُوَ نَجِسٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَهُوَ الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَهَذَا نَجِسٌ عَيْنُهُ وَسُؤْرُهُ وَجَمِيعُ مَا خَرَجَ مِنْهُ.
وَالثَّانِي: مَا اخْتُلِفَ فِيهِ، وَهُوَ سَائِرُ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ إِلاَّ السِّنَّوْرَ وَمَا دُوَنَهُ فِي الْخِلْقَةِ، وَكَذَلِكَ جَوَارِحُ الطَّيْرِ وَالْحِمَارُ الْأَهْلِيُّ وَالْبَغْلُ، فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ سُؤْرَهَا نَجِسٌ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: طَاهِرٌ فِي نَفَسِهِ وَسُؤْرِهِ وَعَرَقِهِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: الْأَوَّلُ: الْآدَمِيُّ، وَالثَّانِي: مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَالثَّالِثُ: السِّنَّوْرُ وَمَا دُونَهَا فِي الْخِلْقَةِ.
طَهَارَةُ الْحَيَوَانِ الْمَيِّتِ وَنَجَاسَتُهُ:
أ- مَيْتَةُ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ:
11- ذَهَبَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ كَالذُّبَابِ وَالْبَعُوضِ وَنَحْوِهِمِا إِذَا وَقَعَ فِي مَاءٍ يَسِيرٍ أَوْ مَائِعٍ وَمَاتَ فَإِنَّهُ لَا يُنَجِّسُ مَا وَقَعَ فِيهِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ، فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً وَالْأُخْرَى شِفَاءً وَفِي رِوَايَةٍ: وَإِنَّهُ يَتَّقِي بِجَنَاحِهِ الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ» وَقَدْ يُفْضِي غَمْسُهُ إِلَى مَوْتِهِ فَلَوْ نَجَّسَ لَمَا أَمَرَ بِهِ.
وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يُنَجِّسُ مَا وَقَعَ فِيهِ كَسَائِرِ الْمَيْتَاتِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَمَحَلُّ الْخِلَافِ إِذَا لَمْ تَنْشَأْ فِيهِ، فَإِنْ نَشَأَتْ فِيهِ وَمَاتَتْ كَدُودِ الْخَلِّ لَمْ تُنَجِّسْهُ جَزْمًا.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ مِنَ الْحَيَوَانِ نَوْعَانِ: مَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الطَّاهِرَاتِ فَهُوَ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ النَّجَاسَاتِ كَصَرَاصِرِ الْحَشِّ وَدُودِهِ فَهُوَ نَجِسٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنَ النَّجَاسَةِ فَكَانَ نَجِسًا كَوَلَدِ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ.
قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ: صَرَاصِرُ الْكَنِيفِ وَالْبَالُوعَةِ إِذَا وَقَعَ فِي الْإِنَاءِ أَوِ الْحَبِّ صُبَّ، وَصَرَاصِرُ الْبِئْرِ لَيْسَتْ بِقَذِرَةٍ وَلَا تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ.
ب- مَيْتَةُ الْحَيَوَانِ الْبَحْرِيِّ وَالْبَرْمَائِيِّ:
12- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا كَانَ مَائِيَّ الْمَوْلِدِ مِنَ الْحَيَوَانِ فَمَوْتُهُ فِي الْمَاءِ لَا يُفْسِدُهُ كَالسَّمَكِ وَالضِّفْدَعِ وَالسَّرَطَانِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَهُوَ يُفِيدُ عَدَمَ تَنَجُّسِهِ بِالْمَوْتِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ نَجِسًا لَا يُنَجِّسُ مَا يُجَاوِرُهُ.وَكَذَا لَوْ مَاتَ خَارِجَ الْمَاءِ ثُمَّ وَقَعَ فِيهِ.
وَلَوْ مَاتَ فِي غَيْرِ الْمَاءِ كَالْخَلِّ وَاللَّبَنِ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ وَسَوَاءٌ فِيهِ الْمُنْتَفِخُ وَغَيْرُهُ، وَعَنْهُ: أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الضِّفْدَعِ الْبَرِّيِّ وَالْمَائِيِّ.وَقِيلَ: إِنْ كَانَ لِلْبَرِّيِّ دَمٌ سَائِلٌ أَفْسَدَهُ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ دَوَابُّ الْمَاءِ طَاهِرَةٌ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ»، فَمَيْتَةُ الْحَيَوَانِ الْبَحْرِيِّ طَاهِرَةٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَسَوَاءٌ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ وَوُجِدَ طَافِيًا، أَوْ بِسَبَبِ شَيْءٍ فُعِلَ بِهِ: مِنِ اصْطِيَادِ مُسْلِمٍ أَوْ مَجُوسِيٍّ، أَوْ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، أَوْ دُسَّ فِي طِينٍ وَمَاتَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، أَوْ وُجِدَ فِي بَطْنِ حُوتٍ أَوْ طَيْرٍ مَيِّتًا.
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا تَطُولُ حَيَاتُهُ بِبَرٍّ كَحُوتٍ، أَوْ تَطُولُ حَيَاتُهُ كَالضِّفْدَعِ الْبَحْرِيِّ وَالسُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ.
وَعَنْ عَبْدِ الْحَقِّ: وَأَمَّا مَيْتَةُ الضَّفَادِعِ الْبَرِّيَّةِ فَنَجِسَةٌ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي مَيْتَةِ مَا تَطُولُ حَيَاتُهُ بِبَرٍّ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالْبَحْرِ كَالتِّمْسَاحِ الطَّهَارَةُ، وَعَلَيْهِ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ مِنْ أَهْلِ الْمُدُنِ وَالْأَمْصَارِ إِلاَّ مَنْ شَذَّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَيْتَةُ حَيَوَانِ الْبَحْرِ طَاهِرَةٌ وَحَلَالٌ أَكْلُهَا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ».
وَقَالُوا: مَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ وَفِي الْبَرِّ كَطَيْرِ الْمَاءِ مِثْلِ الْبَطِّ وَالْأَوِزِّ وَنَحْوِهِمَا حَلَالٌ، إِلاَّ مَيْتَتَهَا لَا تَحِلُّ قَطْعًا، وَالضِّفْدَعُ وَالسَّرَطَانُ مُحَرَّمَانِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَذَوَاتُ السُّمُومِ حَرَامٌ قَطْعًا، وَيَحْرُمُ التِّمْسَاحُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالسُّلَحْفَاةُ عَلَى الْأَصَحِّ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ تُبَاحُ مَيْتَةُ السَّمَكِ وَسَائِرِ حَيَوَانِ الْبَحْرِ الَّذِي لَا يَعِيشُ إِلاَّ فِي الْمَاءِ فَهُوَ طَاهِرٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُبَحْ أَكْلُهُ، فَإِنَّ غَيْرَ الْمَاءِ لَمْ يُمْنَعْ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ.
وَحَيَوَانُ الْبَحْرِ الَّذِي يَعِيشُ فِي الْبَرِّ كَالضِّفْدَعِ وَالتِّمْسَاحِ وَشِبْهِهِمَا يُنَجِّسُ بِالْمَوْتِ، فَيُنَجَّسُ الْمَاءَ الْقَلِيلَ إِذَا مَاتَ فِيهِ، وَالْكَثِيرَ إِذَا غَيَّرَهُ، لِأَنَّهَا تُنَجِّسُ غَيْرَ الْمَاءِ فَتُنَجِّسُ الْمَاءَ كَحَيَوَانِ الْبَرِّ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ لَا تُبَاحُ مَيْتَتُهُ فَأَشْبَهَ طَيْرَ الْمَاءِ.وَيُفَارِقُ السَّمَكَ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ وَلَا يُنَجِّسُ غَيْرَ الْمَاءِ.
ج- مَيْتَةُ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ:
13- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَيْتَةَ الْحَيَوَانِ كُلَّهَا نَجِسَةٌ إِلاَّ السَّمَكَ وَالْجَرَادَ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ: فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ».
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (مَيْتَة).
د- مَا انْفَصَلَ مِنَ الْحَيَوَانِ:
14- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ مَا انْفَصَلَ مِنَ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ فَهُوَ كَمَيْتَتِهِ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ».
وَاخْتَلَفُوا فِي أُمُورٍ أُخْرَى وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ شَعْرَ الْمَيْتَةِ غَيْرَ الْخِنْزِيرِ وَعَظْمَهَا وَعَصَبَهَا- عَلَى الْمَشْهُورِ- وَحَافِرَهَا وَقَرْنَهَا الْخَالِيَةَ عَنِ الدُّسُومَةِ، وَكَذَا كُلُّ مَا لَا تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ وَهُوَ مَا لَا يَتَأَلَّمُ الْحَيَوَانُ بِقَطْعِهِ كَالرِّيشِ وَالْمِنْقَارِ وَالظِّلْفِ طَاهِرٌ.
وَاخْتُلِفَ فِي أُذُنَيْهِ فَفِي الْبَدَائِعِ نَجِسَةٌ، وَفِي الْخَانِيَةِ: لَا، وَفِي الْأَشْبَاهِ: الْمُنْفَصِلُ مِنَ الْحَيِّ كَمَيْتَتِهِ إِلاَّ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ فَطَاهِرٌ وَإِنْ كَثُرَ.
(ر: أَطْعِمَة ف 74 وَمَا بَعْدَهَا).
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: أَجْزَاءُ الْمَيْتَةِ نَجِسَةٌ إِلاَّ الشَّعْرَ وَشِبْهَهَا مِنَ الرِّيشِ.
وَأَمَّا أَجْزَاءُ الْحَيَوَانِ فَإِنْ قُطِعَتْ مِنْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَهِيَ نَجِسَةٌ إِجْمَاعًا إِلاَّ الشَّعْرَ وَالصُّوفَ وَالْوَبَرَ.وَإِنْ قُطِعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنْ قِيلَ بِطَهَارَتِهِ فَأَجْزَاؤُهُ كُلُّهَا طَاهِرَةٌ، وَإِنْ قِيلَ بِالنَّجَاسَةِ فَلَحْمُهُ نَجِسٌ.
وَأَمَّا الْعَظْمُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَالْقَرْنِ وَالسِّنِّ وَالظِّلْفِ فَهِيَ نَجِسَةٌ مِنَ الْمَيْتَةِ، وَأَمَّا الصُّوفُ وَالْوَبَرُ وَالشَّعْرُ فَهِيَ طَاهِرَةٌ مِنَ الْمَيْتَةِ.
وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: الْجُزْءُ الْمُنْفَصِلُ مِنَ الْحَيِّ كَمَيْتَةِ ذَلِكَ الْحَيِّ: إِنْ كَانَ طَاهِرًا فَطَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا فَنَجِسٌ لِخَبَرِ: «مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ»، فَالْمُنْفَصِلُ مِنَ الْآدَمِيِّ أَوِ السَّمَكِ أَوِ الْجَرَادِ طَاهِرٌ، وَمِنْ غَيْرِهَا نَجِسٌ إِلاَّ شَعْرَ الْمَأْكُولِ أَوْ صُوفَهُ أَوْ رِيشَهُ أَوْ وَبَرَهُ فَطَاهِرٌ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ نُتِفَ مِنْهَا.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا أُخِذَ بَعْدَ التَّذْكِيَةِ أَوْ فِي الْحَيَاةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْهُودُ.
وَقَالُوا: دَخَلَ فِي نَجَاسَةِ الْمَيْتَةِ جَمِيعُ أَجْزَائِهَا مِنْ عَظْمٍ وَشَعْرٍ وَصُوفٍ وَوَبَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهَا تُحِلُّهُ الْحَيَاةُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: عَظْمُ الْمَيْتَةِ وَقَرْنُهَا وَظُفْرُهَا وَعَصَبُهَا وَحَافِرُهَا، وَأُصُولُ شَعْرِهَا إِذَا نُتِفَ، وَأُصُولُ رِيشِهَا إِذَا نُتِفَ وَهُوَ رَطْبٌ أَوْ يَابِسٌ نَجِسٌ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ أَشْبَهَ سَائِرَهَا، وَلِأَنَّ أُصُولَ الشَّعْرِ وَالرِّيشِ جُزْءٌ مِنَ اللَّحْمِ لَمْ يَسْتَكْمِلْ شَعْرًا وَلَا رِيشًا.
وَصُوفُ مَيْتَةٍ طَاهِرَةٍ فِي الْحَيَاةِ كَالْغَنَمِ طَاهِرٌ، وَشَعْرُهَا وَوَبَرُهَا وَرِيشُهَا طَاهِرٌ وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ كَهِرٍّ وَمَا دُونَهَا فِي الْخِلْقَةِ، لقوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} وَالْآيَةُ سِيقَتْ لِلِامْتِنَانِ، فَالظَّاهِرُ شُمُولُهَا لِحَالَتَيِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَالرِّيشُ مَقِيسٌ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ.
وَمَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ مِنْ قَرْنٍ وَإِلْيَةٍ وَنَحْوِهِمَا كَحَافِرٍ وَجِلْدٍ فَهُوَ كَمَيْتَتِهِ طَهَارَةً أَوْ نَجَاسَةً لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ مَيْتَةٌ».
وَلِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيلِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِ (شَعْر وَصُوف وَوَبَر ف 17 وَمَا بَعْدَهَا، وَعَظْم ف 2، وَأَظْفَار ف 12).
هـ- جِلْدُ الْحَيَوَانِ:
15- جِلْدُ الْحَيَوَانِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ جِلْدَ مَيْتَةٍ، أَوْ جِلْدَ حَيَوَانٍ حَيٍّ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ.
أَمَّا جِلْدُ الْمَيْتَةِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي طَهَارَتِهِ بِالدِّبَاغَةِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي جِلْدِ مَيْتَةِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ- إِلَى أَنَّ الدِّبَاغَةَ تُطَهِّرُ جُلُودَ الْمَيْتَةِ إِلاَّ جِلْدَ الْخِنْزِيرِ عِنْدَهُمْ لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ سَحْنُونٍ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلُهُمَا بِطَهَارَةِ جِلْدِ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ بِالدِّبَاغَةِ حَتَّى الْخِنْزِيرِ.
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا جِلْدَ الْكَلْبِ، كَمَا اسْتَثْنَى مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ جِلْدَ الْفِيلِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى عَدَمِ طَهَارَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغَةِ.
وَأَمَّا جِلْدُ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّذْكِيَةَ لَا تُطَهِّرُهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ عِنْدَهُمْ بِالدِّبَاغِ يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَتَفْصِيلُ مَا سَبَقَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِ (جِلْد ف 8، 10، وَدِبَاغَة ف9 وَمَا بَعْدَهَا، وَطَهَارَة ف 23).
حُكْمُ مَا يَخْرُجُ مِنْ أَبْدَانِ النَّاسِ وَالْحَيَوَانَاتِ:
أ- الرِّيقُ وَالْمُخَاطُ وَالْبَلْغَمُ:
16- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى طَهَارَةِ الْبَلْغَمِ، فَمَنْ قَاءَ بَلْغَمًا لَا يَنْتَقِضُ وُضُوؤُهُ وَإِنْ مَلأَ الْفَمَ لِطَهَارَتِهِ، «لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَزَقَ فِيهِ وَرَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ» وَلِهَذَا لَا يَنْقُضُ النَّازِلُ مِنَ الرَّأْسِ بِالْإِجْمَاعِ، هُوَ لِلُزُوجَتِهِ لَا تَتَدَاخَلُهُ النَّجَاسَةُ، وَأَمَّا مَا يُجَاوِرُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ فَهُوَ قَلِيلٌ، وَالْقَلِيلُ غَيْرُ نَاقِضٍ، بِخِلَافِ الصَّفْرَاءِ فَإِنَّهَا تُمَازِجُهَا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ كَانَ مِنَ الْجَوْفِ نَقَضَ لِأَنَّهُ مَحَلُّ النَّجَاسَةِ فَأَشْبَهَ الصَّفْرَاءَ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ كُلَّ حَيٍّ بَحْرِيًّا كَانَ أَوْ بَرِّيًّا، كَلْبًا أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ آدَمِيًّا، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، لُعَابُ ذَلِكَ كُلِّهِ- وَهُوَ مَا سَالَ مِنْ فَمِهِ فِي يَقَظَةٍ أَوْ نَوْمٍ- طَاهِرٌ، مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ الْمَعِدَةِ بِصُفْرَتِهِ وَنُتُونَتِهِ، فَإِنَّهُ نَجِسٌ، وَلَا يُسَمَّى حِينَئِذٍ لُعَابًا، وَيُعْفَى عَنْهُ إِذَا لَازَمَ وَإِلاَّ فَلَا، وَمُخَاطُهُ كَذَلِكَ طَاهِرٌ، وَهُوَ مَا سَالَ مِنْ أَنْفِهِ.
وَالْبَلْغَمُ طَاهِرٌ، وَهُوَ الْمُنْعَقِدُ كَالْمُخَاطِ يَخْرُجُ مِنَ الصَّدْرِ أَوْ يَسْقُطُ مِنَ الرَّأْسِ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، حَيْثُ يَقُولُونَ بِطِهَارَةِ الْمَعِدَةِ لِعِلَّةِ الْحَيَاةِ، فَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا طَاهِرٌ، وَعِلَّةُ نَجَاسَةِ الْقَيْءِ الِاسْتِحَالَةُ إِلَى فَسَادٍ.
وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ مَا انْفَصَلَ عَنْ بَاطِنِ الْحَيَوَانِ، وَلَيْسَ لَهُ اجْتِمَاعٌ وَاسْتِحَالَةٌ فِي الْبَاطِنِ، وَإِنَّمَا يَرْشَحُ رَشْحًا كَاللُّعَابِ وَالدَّمْعِ وَالْعَرَقِ وَالْمُخَاطِ، فَلَهُ حُكْمُ الْحَيَوَانِ الْمُتَرَشَّحِ مِنْهُ، إِنْ كَانَ نَجِسًا فَنَجِسٌ، وَإِلاَّ فَطَاهِرٌ.
وَيَقُولُونَ: إِنَّ الْبَلْغَمَ الصَّاعِدَ مِنَ الْمَعِدَةِ
نَجِسٌ، بِخِلَافِ النَّازِلِ مِنَ الرَّأْسِ أَوْ مِنْ أَقْصَى الْحَلْقِ أَوِ الصَّدْرِ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ.
وَيَقُولُ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ رِيقَ الْآدَمِيِّ وَمُخَاطَهُ وَنُخَامَتَهُ طَاهِرٌ، فَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَأَى نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُؤِيَ فِي وَجْهِهِ، فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ فَقَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ- أَوْ: إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ- فَلَا يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ قِبْلَتِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَقَالَ: أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا» وَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَمَا أَمَرَ بِمَسْحِهَا فِي ثَوْبِهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ وَلَا تَحْتَ قَدَمِهِ.
وَلَا فَرْقَ فِي الْبَلْغَمِ بَيْنَ مَا يَخْرُجُ مِنَ الرَّأْسِ وَمَا يَخْرُجُ مِنَ الصَّدْرِ.
وَرِيقُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ طَاهِرٌ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ، فَهُمَا نَجِسَانِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِمَا وَفَضَلَاتِهِمَا وَمَا يَنْفَصِلُ عَنْهُمَا.
الثَّانِي: مَا عَدَاهُمَا مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ وَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ، فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا نَجِسَةٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا وَفَضَلَاتِهَا إِلاَّ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ نَجَاسَتِهَا، وَعَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهَا فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْآدَمِيِّ.
ب- الْقَيْءُ وَالْقَلْسُ:
17- يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِنَجَاسَةِ الْقَيْءِ، لِأَنَّهُ طَعَامٌ اسْتَحَالَ فِي الْجَوْفِ إِلَى النَّتْنِ وَالْفَسَادِ فَكَانَ نَجِسًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِعَمَّارٍ- رضي الله عنه-: «إِنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ...وَعَدَّ مِنْهَا الْقَيْءَ».
وَهُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ نَجِسٌ إِذَا كَانَ مِلْءَ الْفَمِ أَمَّا مَا دُونَهُ فَطَاهِرٌ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ النَّجِسَ مِنْهُ هُوَ الْمُتَغَيِّرُ عَنْ حَالِ الطَّعَامِ، فَإِنْ كَانَ تَغَيُّرُهُ لِصَفْرَاءَ أَوْ بَلْغَمٍ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ حَالَةِ الطَّعَامِ فَطَاهِرٌ.
فَإِذَا تَغَيَّرَ بِحُمُوضَةٍ أَوْ نَحْوِهَا فَهُوَ نَجِسٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ.
18- أَمَّا الْقَلْسُ- بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ اللاَّمِ- فَهُوَ كَمَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَاءٌ تَقْذِفُهُ الْمَعِدَةُ أَوْ يَقْذِفُهُ رِيحٌ مِنْ فَمِهَا، وَقَدْ يَكُونُ مَعَهُ طَعَامٌ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقَلْسَ نَجِسٌ، فَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلْسٌ أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ، ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ».
وَقَالُوا: إِنَّ خُرُوجَ النَّجَاسَةِ هُوَ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي زَوَالِ الطَّهَارَةِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الْقَلْسَ طَاهِرٌ كَالْقَيْءِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ حَالَةِ الطَّعَامِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ كَانَ نَجِسًا.
ج- الْجِرَّةُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمُجْتَرِّ:
19- الْجِرَّةُ بِالْكَسْرِ: عَرَّفَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهَا: مَا يَصْدُرُ مِنْ جَوْفِ الْبَعِيرِ أَوِ الْبَقَرِ أَوِ الْغَنَمِ إِلَى فِيهِ.
وَعَرَّفَهَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهَا مَا يُخْرِجُهُ الْبَعِيرُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ جَوْفِهِ لِلِاجْتِرَارِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ مَا عَدَا زُفَرَ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا نَجِسَةٌ كَرَوْثِهِ، لِأَنَّهُ وَارَاهُ جَوْفُهُ، كَالْمَاءِ إِذَا وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ بَوْلِهِ، فَكَذَا الْجِرَّةُ يَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمَ الرَّوْثِ، وَلَا يَجْتَرُّ مِنَ الْحَيَوَانِ إِلاَّ مَا لَهُ كَرِشٌ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ لِأَنَّ مَعِدَةَ مُبَاحِ الْأَكْلِ طَاهِرَةٌ عِنْدَهُمْ لِعِلَّةِ الْحَيَاةِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ مَرَارَةٍ وَصَفْرَاءَ.
د- عَرَقُ الْحَيَوَانِ:
20- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ طَهَارَةِ عَرَقِ الْحَيَوَانِ أَوْ نَجَاسَتِهِ.
فَذَهَبُوا إِلَى طَهَارَةِ عَرَقِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (عَرَق ف 4 وَمَا بَعْدَهَا).
هـ- اللَّبَن:
21- اللَّبَن إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ حَيَوَانٍ، فَإِنْ كَانَ مِنْ آدَمِيٍّ حَيٍّ فَهُوَ طَاهِرٌ بِاتِّفَاقٍ.
وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيَوَانٍ حَيٍّ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَهُوَ طَاهِرٌ بِلَا خِلَافٍ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ تَبَعًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِي حِلِّ أَكْلِ الْحَيَوَانِ، فَمَا حَلَّ أَكْلُهُ كَانَ لَبَنُهُ طَاهِرًا.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (لَبَن ف 2 وَمَا بَعْدَهَا).
و- الْإِنْفَحَةُ:
22- الْإِنْفَحَةُ: مَادَّةٌ بَيْضَاءُ صَفْرَاوِيَّةٌ فِي وِعَاءٍ جِلْدِيٍّ يُسْتَخْرَجُ مِنْ بَطْنِ الْجَدْيِ أَوِ الْحَمَلِ الرَّضِيعِ يُوضَعُ مِنْهَا قَلِيلٌ فِي اللَّبَنِ الْحَلِيبِ فَيَنْعَقِدُ وَيَتَكَاثَفُ وَيَصِيرُ جُبْنًا، وَجِلْدَةُ الْإِنْفَحَةِ هِيَ الَّتِي تُسَمَّى كَرِشًا إِذَا رَعَى الْحَيَوَانُ الْعُشْبَ.
وَالْإِنْفَحَةُ إِنْ أُخِذَتْ مِنْ مُذَكًّى ذَكَاةً شَرْعِيَّةً فَهِيَ طَاهِرَةٌ مَأْكُولَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِأَلاَّ يُطْعَمَ الْمُذَكَّى غَيْرُ اللَّبَنِ.
وَإِنْ أُخِذَتْ مِنْ مَيِّتٍ، أَوْ مِنْ مُذَكًّى ذَكَاةً غَيْرَ شَرْعِيَّةٍ فَهِيَ نَجِسَةٌ غَيْرُ مَأْكُولَةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَطَاهِرَةٌ مَأْكُولَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ صُلْبَةً أَمْ مَائِعَةً قِيَاسًا عَلَى اللَّبَنِ.
وَقَالَ الصَّاحِبَانِ: إِنْ كَانَتْ صُلْبَةً يُغْسَلُ ظَاهِرُهَا وَتُؤْكَلُ، وَإِنْ كَانَتْ مَائِعَةً فَهِيَ نَجِسَةٌ لِنَجَاسَةِ وِعَائِهَا بِالْمَوْتِ فَلَا تُؤْكَلُ.
وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: أَطْعِمَة ف 85).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
129-موسوعة الفقه الكويتية (نجاسة 3)
نَجَاسَةٌ -3بَيْعُ النَّجَاسَاتِ وَالْمُتَنَجِّسَاتِ:
43- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ بَيْعَ النَّجِسِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَفِي هَذَا قَالُوا: إِنَّ بَيْعَ شَعْرِ الْخِنْزِيرِ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إِهَانَةً لَهُ، وَلَكِنَّهُمْ أَجَازُوا الِانْتِفَاعَ بِهِ لِلْخَرَزِ لِلضَّرُورَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ لَا يَتَأَتَّى بِدُونِهِ
كَمَا لَمْ يُجِيزُوا بَيْعَ جُلُودِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ أَنْ تُدْبَغَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهَا، قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ» وَهُوَ اسْمٌ لِغَيْرِ الْمَدْبُوغِ، وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهَا وَالِانْتِفَاعِ بِهَا بَعْدَ الدِّبَاغِ لِأَنَّهَا قَدْ طَهُرَتْ بِالدِّبَاغِ، أَمَّا قَبْلَ الدِّبَاغِ فَهِيَ نَجِسَةٌ
وَيَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ وَالْفَهْدِ وَالسَّبُعِ، الْمُعَلَّمُ وَغَيْرُ الْمُعَلَّمِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، لِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ حِرَاسَةً وَاصْطِيَادًا فَكَانَ مَالًا فَيَجُوزُ بَيْعُهُ، بِخِلَافِ الْهَوَامِّ الْمُؤْذِيَةِ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ، وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ»
وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا».
وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي الْبِيَاعَاتِ كَالْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِمُوجِبِ الْبَيْعَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ مُحْتَاجُونَ إِلَى مُبَاشَرَتِهَا كَالْمُسْلِمِينَ، إِلاَّ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ خَاصَّةً فَإِنَّ عَقْدَهُمْ عَلَى الْخَمْرِ كَعَقْدِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْعَصِيرِ وَعَقْدَهُمْ عَلَى الْخِنْزِيرِ كَعَقْدِ الْمُسْلِمِ عَلَى الشَّاةِ، لِأَنَّهَا أَمْوَالٌ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَعْتَقِدُونَ، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ عُمَرَ- رضي الله عنه-: وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا، وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْحَيَّاتِ إِذَا كَانَ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي الْأَدْوِيَةِ وَإِنْ لَمْ يُنْتَفَعْ فَلَا يَجُوزُ.
وَيَجُوزُ بَيْعُ الدُّهْنِ النَّجِسِ لِأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ لِلِاسْتِصْبَاحِ فَهُوَ كَالسِّرْقِينِ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ، وَأَمَّا الْعَذِرَةُ فَلَا يُنْتَفَعُ بِهَا إِلاَّ إِذَا خُلِطَتْ بِالتُّرَابِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا إِلاَّ تَبَعًا لِلتُّرَابِ الْمَخْلُوطِ، بِخِلَافِ الدَّمِ يُمْنَعُ مُطْلَقًا
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ لَدَيْهِمْ إِلَى أَنَّ الْمُتَنَجِّسَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ كَالثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَمَا لَا يَقْبَلُهُ كَالزَّيْتِ الْمُتَنَجِّسِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ
وَفِي أَسْهَلِ الْمَدَارِكِ عَنِ الْخَرَشِيِّ: جِلْدُ الْمَيْتَةِ وَالْمَأْخُوذِ مِنَ الْحَيِّ نَجِسٌ، وَلَوْ دُبِغَ عَلَى الْمَشْهُورِ الْمَعْلُومِ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ.قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَلَا يُؤَثِّرُ دَبْغُهُ طَهَارَةً فِي ظَاهِرِهِ وَلَا بَاطِنِهِ
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ شُرُوطِ الْمَبِيعِ طَهَارَةُ عَيْنِهِ، فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ نَجِسِ الْعَيْنِ، سَوَاءٌ أَمْكَنَ تَطْهِيرُهُ بِالِاسْتِحَالَةِ كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ أَمْ لَا كَالسِّرْجِينِ وَالْكَلْبِ وَلَوْ مُعَلَّمًا وَالْخَمْرِ وَلَوْ مُحْتَرَمَةً، لِخَبَرِ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم-: «نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ» وَقَالَ كَذَلِكَ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ» وَقِيسَ بِهَا مَا فِي مَعْنَاهُ.
وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمُتَنَجِّسِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ كَالْخَلِّ وَاللَّبَنِ وَالصَّبْغِ وَالْآجُرِّ الْمَعْجُونِ بِالزِّبْلِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى نَجِسِ الْعَيْنِ، أَمَّا مَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ كَالثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ لِإِمْكَانِ طُهْرِهِ
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ: وَفْقُ ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ تَحْرِيمُ بَيْعِ النَّجِسِ، وَقَالَ أَبُو مُوسَى فِي الزَّيْتِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ: لُتُّوهُ بِالسَّوِيقِ وَبِيعُوهُ وَلَا تَبِيعُوهُ مِنْ مُسْلِمٍ وَبَيِّنُوهُ.
وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً؛ أَنَّهُ يُبَاعُ لِكَافِرٍ بِشَرْطِ أَنْ يَعْلَمَ بِنَجَاسَتِهِ، لِأَنَّ الْكُفَّارَ يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ وَيَسْتَبِيحُونَ أَكْلَهُ.
وَاسْتَدَلَّ ابْنُ قُدَامَةَ لِظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الشُّحُومَ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ» وَلَكِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ حِلَّهُ وَلَا يَجُوزُ لَنَا بَيْعُهُ لَهُمْ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ
الِانْتِفَاعُ بِالنَّجَاسَاتِ وَالْمُتَنَجِّسَاتِ دُونَ تَطْهِيرٍ:
44- ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِالدُّهْنِ الْمُتَنَجِّسِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَامَ الْفَتْحِ يَقُولُ وَهُوَ بِمَكَّةَ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ.فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ قَالَ: لَا.هُوَ حَرَامٌ»
كَمَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِشَعْرِ الْخِنْزِيرِ لِلْخَرَّازِينَ لِلضَّرُورَةِ بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَمَلَهُمْ لَا يَتَأَتَّى بِدُونِهِ وَلِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَعْمَلُ عَمَلَهُ
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِمُتَنَجِّسٍ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ كَزَيْتٍ وَلَبَنٍ وَخَلٍّ وَنَبِيذٍ، أَمَّا النَّجِسُ وَهُوَ مَا كَانَتْ ذَاتُهُ نَجِسَةً كَالْبَوْلِ وَالْعَذِرَةِ وَنَحْوِهِمَا فَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ، إِلاَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ الْمَدْبُوغَ فَإِنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ بَعْدَ الدَّبْغِ فِي الْيَابِسَاتِ وَالْمَاءِ، أَوْ مَيْتَةً تُطْرَحُ لِكِلَابٍ إِذْ طَرْحُ الْمَيْتَةِ لِلْكِلَابِ فِيهِ انْتِفَاعٌ لِتَوْفِيرِ مَا كَانَتْ تَأْكُلُهُ مِنْ عِنْدِ صَاحِبِهَا، أَوْ شَحْمَ مَيْتَةٍ لِدُهْنِ عِجْلَةٍ وَنَحْوِهَا، أَوْ عَظْمَ مَيْتَةٍ لِوَقُودٍ عَلَى طُوبٍ أَوْ حِجَارَةٍ لِتَصِيرَ جِيرًا، أَوْ دَعَتْ ضَرُورَةٌ كَإِسَاغَةِ غُصَّةٍ بِخَمْرٍ عِنْدَ عَدَمِ غَيْرِهِ، وَكَأَكْلِ مَيْتَةٍ لِمُضْطَرٍّ، أَوْ جَعْلَ عَذِرَةٍ بِمَاءٍ لِسَقْيِ الزَّرْعِ فَيَجُوزُ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ لَا فِيهِ، فَلَا يُوقَدُ بِزَيْتٍ تَنَجَّسَ إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمِصْبَاحُ خَارِجَهُ وَالضَّوْءُ فِيهِ فَيَجُوزُ، وَلَا يُبْنَى بِالْمُتَنَجِّسِ فَإِنْ بُنِيَ بِهِ لَا يُهْدَمُ لِإِضَاعَةِ الْمَالِ، وَفِي غَيْرِ أَكْلِ وَشُرْبِ آدَمِيٍّ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْآدَمِيِّ أَكْلُ وَشُرْبُ الْمُتَنَجِّسِ لِتَنْجِيسِهِ جَوْفَهُ وَعَجْزِهِ عَنْ تَطْهِيرِهِ، وَلَا يُدْهَنُ بِهِ، إِلاَّ أَنَّ الِادِّهَانَ بِهِ مَكْرُوهٌ عَلَى الرَّاجِحِ إِنْ عَلِمَ أَنَّ عِنْدَهُ مَا يُزِيلُ بِهِ النَّجَاسَةَ، وَالْمُرَادُ بِغَيْرِ الْمَسْجِدِ وَأَكْلِ الْآدَمِيِّ أَنْ يُسْتَصْبَحَ بِالزَّيْتِ الْمُتَنَجِّسِ وَيُعْمَلَ بِهِ صَابُونٌ، ثُمَّ تُغْسَلَ الثِّيَابُ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ بَعْدَ الْغَسْلِ بِهِ، وَيُدْهَنَ بِهِ حَبْلٌ وَعَجَلَةٌ وَسَاقِيَةٌ وَيُسْقَى بِهِ وَيُطْعَمَ لِلدَّوَابِّ
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ النَّجِسِ وَالْمُتَنَجِّسِ فِي الْأَشْيَاءِ الْيَابِسَةِ كَاسْتِعْمَالِ الْإِنَاءِ مِنَ الْعَظْمِ النَّجِسِ، وَكَذَا جِلْدُ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَإِيقَادُ عِظَامِ الْمَيْتَةِ لَكِنْ يُكْرَهُ
وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الِاسْتِصْبَاحِ بِالزَّيْتِ النَّجِسِ فَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ إِبَاحَتُهُ، لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَمَرَ أَنْ يُسْتَصْبَحَ بِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تُطْلَى بِهِ السُّفُنُ، وَعَنْ أَحْمَدَ لَا يَجُوزُ الِاسْتِصْبَاحُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ، لِحَدِيثِ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنْ شُحُومِ الْمَيْتَةِ تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَتُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ فَقَالَ: لَا، هُوَ حَرَامٌ»
وَفِي إِبَاحَةِ الِاسْتِصْبَاحِ بِهِ قَالُوا: إِنَّهُ زَيْتٌ أُمْكِنَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فَجَازَ كَالطَّاهِرِ، وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْعَجِينِ الَّذِي عُجِنَ بِمَاءٍ مِنْ آبَارِ ثَمُودَ أَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ أَكْلِهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَعْلِفُوهُ النَّوَاضِحَ وَهَذَا الزَّيْتُ لَيْسَ بِمَيْتَةٍ وَلَا هُوَ مِنْ شُحُومِهَا فَيَتَنَاوَلُهُ الْخَبَرُ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُسْتَصْبَحُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمَسُّهُ وَلَا تَتَعَدَّى نَجَاسَتُهُ إِلَيْهِ.
وَلَمْ يَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ تُدْهَنَ بِهَا الْجُلُودُ وَقَالَ: يُجْعَلُ مِنْهُ الْأَسْقِيَةُ وَالْقِرَبُ.
وَنُقِلَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ تُدْهَنُ بِهِ الْجُلُودُ، وَعَجِبَ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا وَقَالَ: إِنَّ فِي هَذَا لَعَجَبًا! ! شَيْءٌ يُلْبَسُ يُطَيَّبُ بِشَيْءٍ فِيهِ مَيْتَةٌ؟! ! فَعَلَى هَذَا أَيْ عَلَى قَوْلِ أَحْمَدَ: كُلُّ انْتِفَاعٍ يُفْضِي إِلَى تَنْجِيسِ إِنْسَانٍ لَا يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يُفْضِ إِلَى ذَلِكَ جَازَ، فَأَمَّا أَكْلُهُ فَلَا إِشْكَالَ فِي تَحْرِيمِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ» وَلِأَنَّ النَّجِسَ خَبِيثٌ وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الْخَبَائِثَ.
فَأَمَّا شُحُومُ الْمَيْتَةِ وَشَحْمُ الْخِنْزِيرِ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهَا بِاسْتِصْبَاحٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَا أَنْ تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَلَا الْجُلُودُ، لِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ قَالَ: لَا، هُوَ حَرَامٌ».
وَإِذَا اسْتُصْبِحَ بِالزَّيْتِ النَّجِسِ فَدُخَانُهُ نَجِسٌ لِأَنَّهُ جُزْءٌ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ وَالِاسْتِحَالَةُ لَا تَطْهُرُ، فَإِنْ عَلِقَ بِشَيْءٍ وَكَانَ يَسِيرًا عُفِيَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ فَأَشْبَهَ دَمَ الْبَرَاغِيثِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَمْ يُعْفَ عَنْهُ.
اسْتِعْمَالُ مَا غَالِبُ حَالِهِ النَّجَاسَةُ:
45- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِعْمَالِ مَا غَالِبُ حَالِهِ النَّجَاسَةُ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ فِي أَوَانِي الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ الْغَسْلِ، وَمَعَ هَذَا لَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِيهَا قَبْلَ الْغَسْلِ جَازَ، وَلَا يَكُونُ آكِلًا وَشَارِبًا حَرَامًا.وَهَذَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِنَجَاسَةِ الْأَوَانِي، فَأَمَّا إِذَا عَلِمَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرَبَ وَيَأْكُلَ مِنْهَا قَبْلَ الْغَسْلِ، وَلَوْ شَرِبَ أَوْ أَكَلَ كَانَ شَارِبًا وَآكِلًا حَرَامًا، وَهُوَ نَظِيرُ سُؤْرِ الدَّجَاجَةِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى مِنْقَارِهَا نَجَاسَةٌ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ.
وَالصَّلَاةُ فِي سَرَاوِيلِ الْمُشْرِكِينَ نَظِيرُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنْ أَوَانِيهِمْ: إِنْ عَلِمَ أَنَّ سَرَاوِيلَهُمْ نَجِسَةٌ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهَا، وَلَوْ صَلَّى يَجُوزُ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ أَنْ يُصَلَّى فَرْضٌ أَوْ نَفْلٌ بِلِبَاسِ كَافِرٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، كِتَابِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، بَاشَرَ جِلْدَهُ أَوْ لَمْ يُبَاشِرْهُ، كَانَ مِمَّا الشَّأْنُ أَنْ تَلْحَقَهُ النَّجَاسَةُ كَالذَّيْلِ وَمَا حَاذَى الْفَرْجَ، أَوْ لَا كَعِمَامَتِهِ وَالشَّالِ، جَدِيدًا أَوْ لَا، إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ أَوْ تُظَنَّ طَهَارَتُهُ، بِخِلَافِ نَسْجِهِ أَيْ مَنْسُوجِ الْكَافِرِ، فَيُصَلَّى فِيهِ مَا لَمْ تَتَحَقَّقْ نَجَاسَتُهُ أَوْ تُظَنَّ لِحَمْلِهِ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَكَذَا سَائِرُ صَنَائِعِهِ يُحْمَلُ فِيهَا عَلَى الطَّهَارَةِ عِنْدَ الشَّكِّ- وَلَوْ صَنَعَهَا فِي بَيْتِ نَفْسِهِ- خِلَافًا لِابْنِ عَرَفَةَ.
وَيَحْرُمُ أَنْ يُصَلَّى بِمَا يَنَامُ فِيهِ مُصَلٍّ آخَرُ، أَيْ غَيْرُ مُرِيدِ الصَّلَاةِ بِهِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ نَجَاسَتُهُ بِمَنِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَوْ يَظُنَّ أَنَّ مَنْ يَنَامُ فِيهِ مُحْتَاطٌ فِي طَهَارَتِهِ، وَإِلاَّ صَلَّى فِيهِ، وَكَذَا يُصَلَّى فِيهِ إِذَا أَخْبَرَ صَاحِبُهُ بِطَهَارَتِهِ إِذَا كَانَ ثِقَةً. وَأَمَّا مَا يُفْرَشُ فِي الْمَضَايِفِ وَالْقِيعَانِ وَالْمَقَاعِدِ فَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ النَّائِمَ عَلَيْهِ يَلْتَفُّ فِي شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ ذَلِكَ الْفَرْشِ، فَإِذَا حَصَلَ مِنْهُ شَيْءٌ مَثَلًا فَإِنَّمَا يُصِيبُ مَا هُوَ مُلْتَفٌّ بِهِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْأَصْلُ وَالْغَالِبُ عَلَى طَهَارَتِهَا.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ غَلَبَتِ النَّجَاسَةُ فِي شَيْءٍ وَالْأَصْلُ فِيهِ الطَّهَارَةُ كَثِيَابِ مُدْمِنِي الْخَمْرِ، وَالنَّجَاسَةُ كَالْمَجُوسِ وَالْمَجَانِينِ وَالصِّبْيَانِ وَالْجَزَّارِينَ..حُكِمَ لَهُ بِالطَّهَارَةِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ، وَكَذَا مَا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى كَعَرَقِ الدَّوَابِّ وَلُعَابِهَا..وَنَحْوِ ذَلِكَ
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ ثِيَابَ الْكُفَّارِ وَأَوَانِيَهُمْ طَاهِرَةٌ إِنْ جَهِلَ حَالَهَا كَمَا لَوْ عُلِمَتْ طَهَارَتُهَا، وَكَذَا آنِيَةُ مُدْمِنِي الْخَمْرِ وَثِيَابُهُمْ، وَآنِيَةُ مَنْ لَابَسَ النَّجَاسَةَ كَثِيرًا وَثِيَابُهُمْ طَاهِرَةٌ.
وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي ثِيَابِ الْمُرْضِعَةِ وَالْحَائِضِ وَالصَّبِيِّ وَنَحْوِهِمْ كَمُدْمِنِي الْخَمْرِ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَتُهَا، مَعَ الْكَرَاهَةِ احْتِيَاطًا لِلْعِبَادَةِ، مَا لَمْ تُعْلَمْ نَجَاسَتُهَا فَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهَا.
الصَّبْغُ لِلثِّيَابِ وَالِاخْتِضَابُ بِمَادَّةٍ نَجِسَةٍ:
46- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مَا خُضِّبَ أَوْ صُبِغَ بِمُتَنَجِّسٍ يُطَهَّرُ بِغَسْلِهِ ثَلَاثًا، فَلَوِ اخْتَضَبَ الرَّجُلُ أَوِ اخْتَضَبَتِ الْمَرْأَةُ بِالْحِنَّاءِ الْمُتَنَجِّسِ وَغُسِلَ كُلٌّ ثَلَاثًا طَهُرَ، أَمَّا إِذَا كَانَ الِاخْتِضَابُ بِعَيْنِ النَّجَاسَةِ فَلَا يَطْهُرُ إِلاَّ بِزَوَالِ عَيْنِهَا وَطَعْمِهَا وَرِيحِهَا وَخُرُوجِ الْمَاءِ صَافِيًا، وَيُعْفَى عَنْ بَقَاءِ اللَّوْنِ لِأَنَّ الْأَثَرَ الَّذِي يَشُقُّ زَوَالُهُ لَا يَضُرُّ بَقَاؤُهُ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الْمَصْبُوغُ بِالدَّمِ فَهُوَ نَجِسٌ، وَالْمَصْبُوغُ بِالدُّودَةِ غَيْرِ الْمَائِيَّةِ الَّتِي لَهَا دَمٌ سَائِلٌ فَإِنَّهَا مَيْتَةٌ يَتَجَمَّدُ الدَّمُ فِيهَا وَهُوَ نَجِسٌ.
وَأَضَافَ الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ صَفَاءِ غُسَالَةِ ثَوْبٍ صُبِغَ بِنَجِسٍ، وَيَكْفِي غَمْرُ مَا صُبِغَ بِمُتَنَجِّسٍ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ أَوْ صَبُّ مَاءٍ قَلِيلٍ عَلَيْهِ كَذَلِكَ فَيَطْهُرُ هُوَ وَصِبْغُهُ.
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (اخْتِضَاب ف 15).
الِاسْتِجْمَارُ بِالنَّجِسِ:
47- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِجْمَارُ بِالنَّجِسِ وَلَا بِالْمُتَنَجِّسِ، وَمِمَّا اشْتَرَطُوهُ فِيمَا يَصِحُّ الِاسْتِجْمَارُ بِهِ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا، أَيْ غَيْرَ نَجِسٍ وَلَا مُتَنَجِّسٍ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِجْمَار ف 28). التَّدَاوِي بِالنَّجِسِ:
48- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّدَاوِي بِالنَّجِسِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ إِلاَّ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَدَاوِي ف 8).
سَقْيُ الزُّرُوعِ بِالْمِيَاهِ النَّجِسَةِ وَالتَّسْمِيدُ بِالنَّجَاسَاتِ:
49- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي سَقْيِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ بِالْمِيَاهِ النَّجِسَةِ أَنَّهَا لَا تَتَنَجَّسُ وَلَا تَحْرُمُ. (ر: أَطْعِمَة ف 11).
وَفِي هَذَا يَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: الزَّرْعُ الْمَسْقِيُّ بِنَجِسٍ طَاهِرٌ وَإِنْ تَنَجَّسَ ظَاهِرُهُ فَيُغْسَلُ مَا أَصَابَهُ مِنَ النَّجَاسَةِ وَلَوْ جَعَلَ الْعَذِرَةَ فِي الْمَاءِ لِسَقْيِ الزَّرْعِ جَازَ وَأَنَّ الْمُتَغَيِّرَ بِالنَّجِسِ كَالْعَذِرَةِ وَنَحْوِهَا نَجِسٌ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعَادَاتِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ، لَكِنْ يُسْقَى بِهِ الزَّرْعُ وَالْبَهَائِمُ.
وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: الزَّرْعُ النَّابِتُ عَلَى السِّرْجِينِ قَالَ عَنْهُ الْأَصْحَابُ: إِنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسِ
الْعَيْنِ لَكِنْ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ فَإِذَا غُسِلَ طَهُرَ، وَإِذَا سَنْبَلَ فَحَبَّاتُهُ الْخَارِجَةُ طَاهِرَةٌ وَلَوْ أَكَلَتْ بَهِيمَةٌ حَبًّا ثُمَّ أَلْقَتْهُ صَحِيحًا: فَإِنْ كَانَتْ صَلَابَتُهُ بَاقِيَةً بِحَيْثُ لَوْ زُرِعَ نَبَتَ فَعَيْنُهُ طَاهِرَةٌ، وَيَجِبُ غَسْلُ ظَاهِرِهِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ صَارَ غِذَاءً لَهَا فَمَا تَغَيَّرَ إِلَى فَسَادٍ، فَصَارَ كَمَا لَوِ ابْتَلَعَ نَوَاةً، وَإِنْ زَالَتْ صَلَابَتُهُ بِحَيْثُ لَا يَنْبُتُ فَنَجِسُ الْعَيْنِ.
وَحَرَّمَ الْحَنَابِلَةُ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ الَّتِي سُقِيَتَ بِالنَّجِسَاتِ أَوْ سُمِّدَتْ بِهَا، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- قَالَ: «كُنَّا نُكْرِي أَرْضَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، وَنَشْتَرِطُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَدْمِلُوهَا بِعَذِرَةِ النَّاسِ».وَلِأَنَّهَا تَتَغَذَّى بِالنَّجَاسَاتِ وَأَجْزَاؤُهَا تَتَحَلَّلُ فِيهَا، وَالِاسْتِحَالَةُ لَا تُطَهِّرُ.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُكْرَهَ ذَلِكَ وَلَا يَحْرُمَ، وَلَا يُحْكَمُ بِتَنْجِيسِهَا لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَسْتَحِيلُ فِي بَاطِنِهَا فَتَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ، كَالدَّمِ يَسْتَحِيلُ فِي أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ وَيَصِيرُ لَبَنًا، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ- رضي الله عنه- يَدْخُلُ أَرْضَهُ بِالْمَعَرَّةِ وَيَقُولُ: مِكْتَلُ عَرَّةٍ مِكْتَلُ بُرٍّ، وَالْعَرَّةُ عَذِرَةُ النَّاسِ.
وَكَرِهُوا لِذَلِكَ أَكْلَ الزُّرُوعِ الَّتِي تُسَمَّدُ بِالنَّجَاسَةِ أَوْ تُسْقَى بِمُتَنَجِّسٍ مِنْ زَرْعٍ وَثَمَرٍ، وَلَا يَحِلُّ حَتَّى يُسْقَى بَعْدَ ذَلِكَ بِمَاءٍ طَاهِرٍ يَسْتَهْلِكُ عَيْنَ النَّجَاسَةِ، وَنُقِلَ فِي الْإِنْصَافِ عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ قَوْلُهُ: لَيْسَ بِنَجِسٍ وَلَا مُحَرَّمٍ، بَلْ يَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ كَالدَّمِ يَسْتَحِيلُ لَبَنًا، وَجَزَمَ بِهِ فِي التَّبْصِرَةِ.
وَقَالُوا: إِنَّ رَوْثَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ فَالتَّسْمِيدُ بِهِ لَا يُحَرِّمُ الزَّرْعَ.
إِطْعَامُ الْحَيَوَانَاتِ عَلَفًا نَجِسًا أَوْ مُتَنَجِّسًا:
50- أَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِطْعَامَ الْعَلَفِ النَّجِسِ أَوِ الْمُتَنَجِّسِ لِلدَّوَابِّ كَمَا أَجَازُوا سَقْيَ الْمَاءِ الْمُتَغَيِّرِ بِالنَّجِسِ لِلْبَهَائِمِ وَالزَّرْعِ.
وَيَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ بِحُرْمَةِ الِانْتِفَاعِ بِالْخَمْرِ فِي التَّدَاوِي بِالِاحْتِقَانِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ وَالْإِقْطَارِ فِي الْإِحْلِيلِ، ذَلِكَ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالنَّجِسِ حَرَامٌ، فَإِذَا حَرُمَ سَقْيُ الدَّوَابِّ بِالنَّجِسِ حَرُمَ إِطْعَامُهَا بِهِ.
وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ إِطْعَامَ ذَلِكَ لِمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الدَّوَابِّ، وَلَمْ يُجِيزُوا إِطْعَامَهُ لِمَا يُؤْكَلُ مِنْهَا، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ إِذَا أَطْعَمَهُ لَمْ يُذْبَحْ حَتَّى يَكُونَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ عَلَى مَعْنَى الْجَلاَّلَةِ، فَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ خَبَّازٍ خَبَزَ خُبْزًا فَبَاعَ مِنْهُ، ثُمَّ نَظَرَ فِي الْمَاءِ الَّذِي عَجَنَ مِنْهُ فَإِذَا فِيهِ فَأْرَةٌ؟ فَقَالَ: لَا يَبِيعُ الْخُبْزَ مِنْ أَحَدٍ، وَإِنْ بَاعَهُ اسْتَرَدَّهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ صَاحِبَهُ تَصَّدَّقَ بِثَمَنِهِ، وَيُطْعِمُهُ مِنَ الدَّوَابِّ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَلَا يُطْعِمُ لِمَا يُؤْكَلُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ إِذَا أَطْعَمَهُ لَمْ يُذْبَحْ حَتَّى يَكُونَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ عَلَى مَعْنَى الْجَلاَّلَةِ قَالَ: لَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ إِنَّمَا اشْتُبِهَ عَلَيْهِ، قِيلَ لَهُ: فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِ الْحَجَّامِ يُطْعِمُ النَّوَاضِحَ، قَالَتْ هَذَا أَشَدُّ عِنْدِي لَا يُطْعِمُ الرَّقِيقَ لَكِنْ يَعْلِفُهُ الْبَهَائِمَ، قِيلَ لَهُ: أَيْنَ الْحُجَّةُ؟ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ صَخْرٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- «أَنَّ قَوْمًا اخْتَبَزُوا مِنْ آبَارِ الَّذِينَ مُسِخُوا، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُهَرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا مِنْ بِئَارِهَا، وَأَنْ يَعْلِفُوا الْإِبِلَ الْعَجِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنَ الْبِئْرِ الَّتِي كَانَ تَرِدُهَا النَّاقَةُ».
دَرَجَاتُ النَّجَاسَاتِ:
أ- النَّجَاسَاتُ الْمُغَلَّظَةُ:
51- الْمُغَلَّظُ مِنَ النَّجَاسَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَا وَرَدَ فِي نَجَاسَتِهِ نَصٌّ وَلَمْ يُعَارِضْهُ آخَرُ وَلَا حَرَجَ فِي اجْتِنَابِهِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: مَا اتُّفِقَ عَلَى نَجَاسَتِهِ وَلَا بَلْوَى فِي إِصَابَتِهِ.
وَالْقَدْرُ الَّذِي يَمْنَعُ الصَّلَاةَ مِنَ النَّجَاسَةِ الْغَلِيظَةِ أَنْ تَزِيدَ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِسَاحَةً إِنْ كَانَ مَائِعًا وَوَزْنًا إِنْ كَانَ كَثِيفًا.
وَقَالُوا: كُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلتَّطْهِيرِ فَنَجَاسَتُهُ غَلِيظَةٌ كَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالدَّمِ وَالصَّدِيدِ وَالْقَيْءِ وَلَا خِلَافَ فِيهِ، كَذَلِكَ الْمَنِيُّ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «إِنْ كَانَ رَطْبًا فَاغْسِلِيهِ، وَإِنْ كَانَ يَابِسَةً فَافْرُكِيهِ» وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ- رضي الله عنهما-: «إِنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنْ خَمْسٍ: وَذَكَرَ مِنْهَا الْمَنِيَّ» وَلَوْ أَصَابَ الْبَدَنَ وَجَفَّ، رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِالْفَرْكِ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَطْهُرُ لِأَنَّ الْبَلْوَى فِيهِ أَعَمُّ، وَالِاكْتِفَاءَ بِالْفَرْكِ لَا يَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهِ، فَإِنَّ الصَّحِيحَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِالْفَرْكِ، فَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ حَتَّى إِذَا أَصَابَهُ الْمَاءُ يَعُودُ نَجِسًا عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا.
وَكَذَلِكَ الرَّوْثُ وَالْإِخْثَاءُ وَبَوْلُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الدَّوَابِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ نَجَاسَتَهَا ثَبَتَتْ بِنَصٍّ لَمْ يُعَارِضْهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ قَوْلُه- عليه الصلاة والسلام- فِي الرَّوْثَةِ: «هِيَ رِجْسٌ» وَالْإِخْثَاءُ مِثْلُهُ، وَلِأَنَّهُ اسْتَحَالَ إِلَى نَتَنٍ وَفَسَادٍ وَهُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْ حَيَوَانٍ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَصَارَ كَالْآدَمِيِّ. وَكَذَلِكَ بَوْلُ الْفَأْرَةِ وَخُرْؤُهَا، لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ» وَالِاحْتِرَازُ عَنْهُ مُمْكِنٌ فِي الْمَاءِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي الطَّعَامِ وَالثِّيَابِ فَيُعْفَى عَنْهُ فِيهِمَا.
وَكَذَلِكَ بَوْلُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ أَكَلَا أَوْ لَا، لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ نَضْحِ بَوْلِ الصَّبِيِّ إِذَا لَمْ يَأْكُلْ فِيمَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «يُنْضَحُ بَوْلُ الْغُلَامِ، وَيُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ» فَالنَّضْحُ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْغَسْلِ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الْمَذْيِ: «تَوَضَّأْ وَانْضَحْ فَرْجَكَ» أَيِ اغْسِلْهُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَوْفِيقًا.
وَالْبَطُّ الْأَهْلِيُّ وَالدَّجَاجُ نَجَاسَتُهُمَا غَلِيظَةٌ بِإِجْمَاعِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْمُغَلَّظَ مَا نَجُسَ بِمُلَاقَاةِ شَيْءٍ مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مُتَوَلِّدٍ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا.
وَالنَّجِسُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: مَا كَانَتْ ذَاتُهُ نَجِسَةً كَالْبَوْلِ وَالْعَذِرَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَالْمُتَنَجِّسُ مَا كَانَ طَاهِرًا فِي الْأَصْلِ وَأَصَابَهُ نَجَاسَةٌ.
وَقَسَّمَ الْحَنَابِلَةُ النَّجَاسَةَ مِنْ حَيْثُ تَطْهِيرِهَا إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ.
الْأَوَّلُ: نَجَاسَةُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَيَكُونُ تَطْهِيرُهَا بِالْغَسْلِ سَبْعَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ.
الثَّانِي: نَجَاسَةُ بِوْلِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ، وَيُطَهَّرُ مَحَلُّ النَّجَاسَةِ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ بِنَضْحِهِ أَيْ غَمْرِهِ بِالْمَاءِ.
الثَّالِثُ: بَقِيَّةُ الْمُتَنَجِّسَاتِ وَتُطَهَّرُ بِسَبْعِ غَسَلَاتٍ مُنْقِيَةٍ وَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا تُرَابٌ.
ب- النَّجَاسَاتُ الْمُخَفَّفَةُ:
52- الْمُخَفَّفُ مِنَ النَّجَاسَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: مَا تَعَارَضَ نَصَّانِ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: مَا اخْتُلِفَ فِي نَجَاسَتِهِ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ كَالنَّصِّ. وَالنَّجَاسَةُ الْمُخَفَّفَةُ لَا تَمْنَعُ الصَّلَاةَ إِذَا لَمْ تَبْلُغْ رُبُعَ الثَّوْبِ، لِأَنَّ لِلرُّبُعِ حُكْمَ الْكُلِّ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ كَمَسْحِ الرَّأْسِ وَحَلْقِهِ، وَثُمَّ قِيلَ: رُبُعُ جَمِيعِ الثَّوْبِ، وَقِيلَ: رُبُعُ مَا أَصَابَهُ كَالْكُمِّ وَالذَّيْلِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: شِبْرٌ فِي شِبْرٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: ذِرَاعٌ فِي ذِرَاعٍ، وَعَنْهُ: مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَالْمُخْتَارُ الرُّبُعُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ هُوَ مَوْكُولٌ إِلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى، لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الِاسْتِفْحَاشِ.
وَمِنَ النَّجَسِ نَجَاسَةً مُخَفَّفَةً عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الرَّوْثُ وَالْإِخْثَاءُ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ فِي الطُّرُقَاتِ وَوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ.
وَبَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَبَوْلُ الْفَرَسِ وَدَمُ السَّمَكِ وَلُعَابُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ وَخُرْءُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ نَجَاسَتُهُ مُخَفَّفَةٌ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ، لِحَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ، وَهُوَ «أَنَّ قَوْمًا مِنْ عُرَيْنَةَ أَتَوُا الْمَدِينَةَ فَاجْتَوَوْهَا- أَيْ لَمْ تُوَافِقْهُمْ- فَاصْفَرَّتْ أَلْوَانُهُمْ وَانْتَفَخَتْ بُطُونُهُمْ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِأَنْ يَخْرُجُوا إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَخَرَجُوا وَشَرِبُوا فَصَحُّوا».فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْإِبِلِ نَجِسًا لَمَا أَمَرَهُمْ بِشُرْبِهِ لِكَوْنِهِ حَرَامًا- وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ».
وَيَدْخُلُ فِي الطَّاهِرِ بَوْلُ الْفَرَسِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَيْضًا، وَدَمُ السَّمَكِ لَيْسَ بِدَمٍ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ يَبْيَضُّ بِالشَّمْسِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَلِذَا قِيلَ بِخِفَّتِهِ لِذَلِكَ، وَلُعَابُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ لِتَعَارُضِ النُّصُوصِ، وَخُرْءُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ لِأَنَّهَا تَزْرِقُ مِنَ الْهَوَاءِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نَجَاسَتُهُ غَلِيظَةٌ لِأَنَّهَا لَا تُخَالِطُ النَّاسَ فَلَا بَلْوَى.
وَالْمُخَفَّفَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ هِيَ خُصُوصُ بَوْلِ الصَّبِيِّ إِذَا لَمْ يَبْلُغِ الْحَوْلَيْنِ وَلَمْ يَتَغَذَّ إِلاَّ بِاللَّبَنِ، بِخِلَافِ الْأُنْثَى وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلِ، ذَلِكَ لِأَنَّ بَوْلَ الصَّبِيِّ عِنْدَمَا يُرَادُ تَطْهِيرُ مَحَلِّ إِصَابَتِهِ يُرَشُّ عَلَى مَحَلِّ الْإِصَابَةِ بِمَاءٍ يَعُمُّ النَّجَاسَةَ وَإِنْ لَمْ يَسِلْ، أَمَّا الْأُنْثَى وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلُ فَإِنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ مَحَلِّ الْإِصَابَةِ، وَيَتَحَقَّقُ الْغَسْلُ بِالسَّيَلَانِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ، وَيُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ».وَأُلْحِقَ الْخُنْثَى بِالْأُنْثَى.
وَلَهُمْ تَقْسِيمٌ ثَالِثٌ وَهُوَ النَّجَاسَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ، وَهِيَ مَا عَدَا النَّجَاسَةَ الْمُغَلَّظَةَ وَالْمُخَفَّفَةَ.
فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَيْنًا، وَهِيَ مَا تُيُقِّنَ وُجُودُهَا، وَلَا يُدْرَكُ لَهَا طَعْمٌ وَلَا لَوْنٌ وَلَا رِيحٌ كَفَى فِي تَطْهِيرِهَا جَرْيُ الْمَاءِ عَلَى مَحَلِّهَا بِحَيْثُ يَسِيلُ زَائِدًا عَلَى النَّضْحِ.
وَإِنْ كَانَتْ عَيْنِيَّةً وَجَبَ بَعْدَ زَوَالِ عَيْنِهَا إِزَالَةُ الطَّعْمِ وَالرِّيحِ وَإِنْ عَسُرَ، لِأَنَّ بَقَاءَهُ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ.
وَلَا يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنٍ أَوْ رِيحٍ عَسُرَ زَوَالُهُ فَيُطَهَّرُ الْمَحَلُّ لِلْمَشَقَّةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا سَهُلَ فَيَضُرُّ بَقَاؤُهُ لِدَلَالَةِ ذَلِكَ عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ.
وَفِي الرِّيحِ قَوْلُهُ أَنَّهُ يَضُرُّ بَقَاؤُهُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: فَإِنْ بَقِيَا مَعًا بِمَحَلٍّ وَاحِدٍ ضَرَّا عَلَى الصَّحِيحِ لِقُوَّةِ دَلَالَتِهِمَا عَلَى بَقَاءِ الْعَيْنِ، وَالثَّانِي لَا يَضُرُّ لِاغْتِفَارِهِمَا مُنْفَرِدَيْنِ، فَكَذَا مُجْتَمِعَيْنِ.
وَقَسَّمَ الْحَنَابِلَةُ النَّجَاسَةَ مِنْ حَيْثُ تَطْهِيرُهَا إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: نَجَاسَةُ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَيَكُونُ تَطْهِيرُهَا بِالْغَسْلِ سَبْعَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ.
وَالثَّانِي: نَجَاسَةُ بَوْلِ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ، وَيُطَهَّرُ مَحَلُّ النَّجَاسَةِ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ بِنَضْحِهِ أَيْ غَمْرِهِ بِالْمَاءِ.
الثَّالِثُ: بَقِيَّةُ النَّجَاسَاتِ، وَتُطَهَّرُ بِسَبْعِ غَسَلَاتٍ مُنْقِيَةٍ وَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا تُرَابٌ.
ج ـ النَّجَاسَاتُ الْمَعْفُوُّ عَنْهَا:
53- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُعْفَى فِي النَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ عَنْ أُمُورٍ: فَيُعْفَى قَدْرَ الدِّرْهَمِ وَزْنًا فِي النَّجَاسَةِ الْكَثِيفَةِ وَقُدِّرَ بِعِشْرِينَ قِيرَاطًا، وَفِي النَّجَاسَةِ الرَّقِيقَةِ أَوِ الْمَائِعَةِ بِقَدْرِ الدِّرْهَمِ مِسَاحَةً، وَقُدِّرَ بِمُقَعَّرِ الْكَفِّ دَاخِلَ مَفَاصِلِ الْأَصَابِعِ، وَالْمَقْصُودُ بِعَفْوِ الشَّارِعِ عَنْهَا: الْعَفْوُ عَنْ فَسَادِ الصَّلَاةِ، وَإِلاَّ فَكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ بَاقِيَةٌ إِجْمَاعًا إِنْ بَلَغَتِ الدِّرْهَمَ، وَتَنْزِيهًا إِنْ لَمْ تَبْلُغْ.
وَيُعْفَى عَنْ بَوْلِ الْهِرَّةِ وَالْفَأْرَةِ وَخُرْئِهِمَا فِيمَا تَظْهَرُ فِيهِ حَالَةُ الضَّرُورَةِ، فَيُعْفَى عَنْ خُرْءِ الْفَأْرَةِ إِذَا وَقَعَ فِي الْحِنْطَةِ وَلَمْ يَكْثُرْ حَتَّى يَظْهَرَ أَثَرُهُ، وَيُعْفَى عَنْ بَوْلِهَا إِذَا سَقَطَ فِي الْبِئْرِ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَصَابَ أَحَدُهُمَا ثَوْبًا أَوْ إِنَاءً مَثَلًا فَإِنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ لِإِمْكَانِ التَّحَرُّزِ، وَيُعْفَى عَنْ بَوْلِ الْهِرَّةِ إِذَا وَقَعَ عَلَى نَحْوِ ثَوْبٍ لِظُهُورِ الضَّرُورَةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَصَابَ خُرْؤُهَا أَوْ بَوْلُهَا شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْهُ.
وَيُعْفَى عَنْ بُخَارِ النَّجِسِ وَغُبَارِ سِرْقِينٍ، فَلَوْ مَرَّتِ الرِّيحُ بِالْعَذِرَاتِ وَأَصَابَتِ الثَّوْبَ لَا يَتَنَجَّسُ إِلاَّ أَنْ يَظْهَرَ أَثَرُ النَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ، وَقِيلَ: يَتَنَجَّسُ إِنْ كَانَ مَبْلُولًا لِاتِّصَالِهَا بِهِ.
وَيُعْفَى عَنْ رَشَاشِ الْبَوْلِ إِذَا كَانَ رَقِيقًا كَرُءُوسِ الْإِبَرِ بِحَيْثُ لَا يُرَى وَلَوْ مَلأَ الثَّوْبَ أَوِ الْبَدَنَ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ كَالْعَدَمِ لِلضَّرُورَةِ، وَمِثْلُهُ الدَّمُ الَّذِي يُصِيبُ الْقَصَّابَ فَيُعْفَى عَنْهُ فِي حَقِّهِ لِلضَّرُورَةِ، فَلَوْ أَصَابَ الرَّشَاشُ ثَوْبًا ثُمَّ وَقَعَ ذَلِكَ الثَّوْبُ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ تَنَجَّسَ الْمَاءُ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ حِينَئِذٍ، وَمِثْلُ هَذَا أَثَرُ الذُّبَابِ الَّذِي وَقَعَ عَلَى نَجَاسَةٍ ثُمَّ أَصَابَ ثَوْبَ الْمُصَلِّي فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ. وَيُعْفَى عَمَّا يُصِيبُ الْغَاسِلَ مِنْ غُسَالَةِ الْمَيِّتِ مِمَّا لَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ مَا دَامَ فِي تَغْسِيلِهِ.
وَيُعْفَى عَنْ طِينِ الشَّوَارِعِ وَلَوْ كَانَ مَخْلُوطًا بِنَجَاسَةٍ غَالِبَةٍ مَا لَمْ يُرَ عَيْنُهَا.
وَيُعْفَى فِي النَّجَاسَةِ الْمُخَفَّفَةِ عَمَّا دُونَ رُبُعِ الثَّوْبِ كُلِّهِ أَوْ رُبُعِ الْبَدَنِ كُلِّهِ.
وَإِنَّمَا تَظْهَرُ الْخِفَّةُ فِي غَيْرِ الْمَائِعِ، لِأَنَّ الْمَائِعَ مَتَى أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ تَنَجَّسَ، لَا فَرْقَ بَيْنَ مُغَلَّظَةٍ وَمُخَفَّفَةٍ، وَلَا عِبْرَةَ فِيهِ لِوَزْنٍ أَوْ مِسَاحَةٍ.
وَيُعْفَى عَنْ بَعْرِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ إِذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ أَوْ فِي الْإِنَاءِ، مَا لَمْ يَكْثُرْ كَثْرَةً فَاحِشَةً أَوْ يَتَفَتَّتْ فَيَتَلَوَّنَ بِهِ الشَّيْءُ الَّذِي خَالَطَهُ.
وَالْقَلِيلُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ هُوَ مَا يَسْتَقِلُّهُ النَّاظِرُ إِلَيْهِ، وَالْكَثِيرُ عَكْسُهُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
130-موسوعة الفقه الكويتية (نسيان 2)
نِسْيَانٌ -2ع- نِسْيَانُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ:
23- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا نَسِيَ الذَّابِحُ الَّذِي تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الذَّبْحِ فَإِنَّ ذَبِيحَتَهُ تَحِلُّ.وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تَحْرُمُ.وَالتَّفْصِيلُ فِي (بَسْمَلَة ف 8، وَذَبَائِح ف 31).
ف- تَأْثِيرُ النِّسْيَانِ فِي الشَّهَادَةِ:
24- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ شَهِدَ وَلَمْ يَبْرَحْ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ ثُمَّ قَالَ: أَخْطَأْتُ بِنِسْيَانِ مَا يَحِقُّ عَلَيَّ ذِكْرُهُ، أَوْ أَتَيْتُ بِمَا لَا يَجُوزُ لِي: فَإِمَّا أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ وَهُوَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي أَوْ بَعْدَمَا قَامَ عَنْهُ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ، وَعَلَى كُلٍّ مِنَ التَّقْدِيرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَدْلًا أَوْ غَيْرَهُ، وَالْمُتَدَارِكُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضِعَ شُبْهَةِ التَّلْبِيسِ وَالتَّغْرِيرِ مِنْ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ أَوْ لَا.
فَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ قَالَهُ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَهُ، فِي مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ أَوْ غَيْرِهِ.وَإِنْ كَانَ عَدْلًا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ، مِثْلُ أَنْ يَدَعَ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، مِثْلُ أَنْ يَتْرُكَ ذِكْرَ اسْمِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوِ الْإِشَارَةَ إِلَى أَحَدِهِمَا، سَوَاءٌ كَانَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ أَوْ فِي غَيْرِهِ.وَتَدَارُكُ تَرْكِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ، إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ قَبْلَ الْقَضَاءِ إِذْ مِنْ شَرْطِ الْقَضَاءِ أَنْ يَتَكَلَّمَ الشَّاهِدُ بِلَفْظِ: أَشْهَدُ، وَالْمَشْرُوطُ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الشَّرْطِ.وَأَمَّا إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعِ شُبْهَةِ التَّلْبِيسِ كَمَا إِذَا شَهِدَ بِأَلْفٍ ثُمَّ قَالَ: غَلِطْتُ بَلْ هِيَ خَمْسُمِائَةٍ أَوْ بِالْعَكْسِ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ إِذَا قَالَ فِي الْمَجْلِسِ بِجَمِيعِ مَا شَهِدَ أَوَّلًا عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ لَهُ اسْتَحَقَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ، وَوَجَبَ قَضَاؤُهُ فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: أَوْهَمْتُ، وَبِمَا بَقِيَ أَوْ زَادَ عِنْدَ آخَرِينَ؛ لِأَنَّ الْحَادِثَ بَعْدَ الشَّهَادَةِ مِنَ الْعَدْلِ فِي الْمَجْلِسِ كَالْمَقْرُونِ بِأَصْلِهَا، وَإِلَيْهِ مَالَ السَّرَخْسِيُّ.وَهَذَا التَّدَارُكُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ وَبَعْدَهَا.وَوَجْهُ قَبُولِهِ مِنَ الْعَدْلِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ أَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يُبْتَلَى بِمِثْلِهِ، لِمَهَابَةِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، فَكَانَ الْعُذْرُ وَاضِحًا، إِذْ طَبْعُ الْبَشَرِ النِّسْيَانُ، وَعَدَالَتُهُ مَعَ عَدَمِ التُّهْمَةِ تُوجِبُ قَبُولَ قَوْلِهِ ذَلِكَ.وَأَمَّا إِنْ كَانَ بَعْدَمَا قَامَ عَنِ الْمَجْلِسِ فَلَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ الزِّيَادَةَ مِنَ الْمُدَّعِي بِإِطْمَاعِهِ الشَّاهِدَ بِحُطَامِ الدُّنْيَا وَالنُّقْصَانِ مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَوَجَبَ الِاحْتِيَاطُ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: النِّسْيَانُ فِي فِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ لَيْسَ فِيهِ إِتْلَافٌ:
النِّسْيَانُ فِي فِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِتْلَافِ لَهُ صُوَرٌ مِنْهَا:
أ- وَطْءُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ الْحَائِضَ نِسْيَانًا:
25- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ وَطْءَ الْحَائِضِ كَبِيرَةٌ إِنْ كَانَ عَامِدًا مُخْتَارًا عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ، لَا جَاهِلًا أَوْ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا، فَتَلْزَمُهُ التَّوْبَةُ، وَيُنْدَبُ تَصَدُّقُهُ بِدِينَارٍ أَوْ نِصْفِهِ، وَمَصْرِفُهُ كَزَكَاةٍ، وَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ تَصَدُّقٌ؟ قَالَ فِي الضِّيَاءِ: الظَّاهِرُ لَا وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَطْءُ الْحَائِضِ فِي الْفَرْجِ كَبِيرَةٌ مِنَ الْعَامِدِ الْعَالِمِ بِالتَّحْرِيمِ الْمُخْتَارِ، وَيُكَفَّرُ مُسْتَحِلُّهُ، بِخِلَافِ الْجَاهِلِ وَالنَّاسِي وَالْمُكْرَهِ لِخَبَرِ «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».
ب- الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ نِسْيَانًا:
26- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ إِنْ كَانَ الْكَلَامُ يَسِيرًا وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ- وَمِثْلُهَا سُجُودُ السَّهْوِ وَالتِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ- التَّكَلُّمُ وَهُوَ النُّطْقُ بِحَرْفَيْنِ، أَوْ حَرْفٍ مُفْهِمٍ كَ ـ (عِ، قِ، أَمْرًا) عَمْدًا كَانَ أَوْ سَهْوًا قَبْلَ قُعُودِهِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ لِحَدِيثِ: «إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ».وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ: إِذَا تَكَلَّمَ الْمُصَلِّي سَهْوًا فِي صَلَاتِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إِمَامًا كَانَ الْمُصَلِّي أَوْ غَيْرَهُ، فَرْضًا كَانْتِ الصَّلَاةُ أَوْ نَفْلًا وَفِي رِوَايَةٍ: لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِالتَّكَلُّمِ نَاسِيًا وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاة ف 107).
ج- الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ فِي الصَّلَاةِ نِسْيَانًا:
27- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ يَسِيرًا نَاسِيًا أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي الصَّلَاةِ وَلَوْ سِمْسِمَةً، أَوْ وَقَعَ فِي فِيهِ قَطْرَةُ مَطَرٍ فَابْتَلَعَهَا وَلَوْ نَاسِيًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ أَسْنَانِهِ مَأْكُولٌ دُونَ الْحِمْصَةِ فَابْتَلَعَهَا فَإِنَّهُ لَا تَفْسُدُ بِهِ الصَّلَاةُ.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (صَلَاة ف 113).
د- الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ أَوِ الْجِمَاعُ نَاسِيًا فِي رَمَضَانَ:
28- لِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي أَثَرِ النِّسْيَانِ عَلَى مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ نَاسِيًا.
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ: أَنَّهُ إِذَا أَكَلَ الصَّائِمُ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ نَاسِيًا لَمْ يُفْطِرْ، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا نَسِيَ فَأَكَلَ وَشَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ» وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ثَبَتَ فِي الْوِقَاعِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا نَظِيرٌ لِلْآخَرِ فِي كَوْن الْكَفِّ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُكْنًا فِي الصَّوْمِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَسَدَ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي الْفَرْضِ مُطْلَقًا أَفْطَرَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا أَوْ غَلَبَةً أَوْ إِكْرَاهًا، كَانَ الْفَرْضُ أَصْلِيًّا أَوْ نَذْرًا، وَوَجَبَ الْإِمْسَاكُ مُطْلَقًا أَفْطَرَ عَمْدًا أَوْ لَا، وَكَذَا الْجِمَاعُ نَاسِيًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى الْمَشْهُورِ.وَفِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ إِنْ أَفْطَرَ نَاسِيًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ جُمْهُورُهُمْ: إِنْ أَكَلَ الصَّائِمُ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا لَمْ يُفْطِرْ وَإِنْ كَثُرَ الْأَكْلُ لِلْحَدِيثِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا كَثُرَ الْأَكْلُ أَوِ الشُّرْبُ أَفْطَرَ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ مَعَ الْكَثْرَةِ نَادِرٌ، وَلِهَذَا بَطَلَتِ الصَّلَاةُ بِكَثِيرِ الْكَلَامِ دُونَ قَلِيلِهِ، وَالْكَثِيرُ كَمَا فِي الْأَنْوَارِ ثَلَاثُ لُقَمٍ.وَالْجِمَاعُ نَاسِيًا كَالْأَكْلِ نَاسِيًا فَلَا يُفْطِرُ بِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوِ احْتَجَمَ أَوِ اسْتَعَطَ أَوْ أَدْخَلَ إِلَى جَوْفِهِ شَيْئًا مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ، أَوْ قَبَّلَ فَأَمْنَى أَوْ أَمْذَى أَوْ كَرَّرَ النَّظَرَ فَأَنْزَلَ، فَأَيَّ ذَلِكَ فَعَلَهُ نَاسِيًا فَهُوَ عَلَى صَوْمِهِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَقَالُوا فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ: إِنَّ مَنْ جَامَعَ نَاسِيًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فِي الْفَرْجِ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ قُبُلَا كَانَ الْفَرْجُ أَوْ دُبُرًا.وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: لَا يُكَفِّرُ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ ابْنُ بَطَّةَ، وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ: لَعَلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ مَاحِيَةٌ، وَمَعَ النِّسْيَانِ لَا إِثْمَ يَنْمَحِي.وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ كَذَلِكَ: وَلَا يَقْضِي أَيْضًا، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ الْآجُرِّيُّ وَأَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْزِيُّ وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَصَاحِبُ الْفَائِقِ.
هـ- الْجِمَاعُ نَاسِيًا فِي الِاعْتِكَافِ:
29- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنْ جَامَعَ فِي اعْتِكَافِهِ نَاسِيًا فَإِنَّ اعْتِكَافَهُ يَبْطُلُ لقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ يَبْطُلُ بِالْجِمَاعِ مِنْ عَالِمٍ بِتَحْرِيمِهِ ذَاكِرٍ لَهُ، فَمَنْ جَامَعَ نَاسِيًا لَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ.وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (اعْتِكَاف ف 27).
و- الْجِمَاعُ فِي الْحَجِّ نَاسِيًا:
30- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْجِمَاعَ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ جِنَايَةٌ يَجِبُ فِيهَا الْجَزَاءُ.وَالْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) عَلَى أَنَّ الْعَامِدَ وَالْجَاهِلَ وَالسَّاهِيَ وَالنَّاسِيَ وَالْمُكْرَهَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، لَكِنِ اسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مِنَ الْفِدَاءِ الْمَوْطُوءَةَ كُرْهًا.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَطْءُ النَّاسِي لَا يُفْسِدُ الْإِحْرَامَ.وَالتَّفْصِيلُ فِي (إِحْرَام ف 170 وَمَا بَعْدَهَا، وَكفاره ف 47).
ز- النِّسْيَانُ فِي الطَّلَاقِ:
لِلنِّسْيَانِ فِي الطَّلَاقِ صُوَرٌ: 31- مِنْهَا: مَا لَوْ طَلَّقَ نَاسِيًا أَنَّهُ تَزَوَّجَ مَثَلًا أَوْ طَلَّقَ امْرَأَةً بِعَيْنِهَا نَاسِيًا أَنَّهَا زَوْجَتُهُ.فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ طَلَاقَ النَّاسِي وَاقِعٌ.وَقَالَ الطُّوفِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: الْأَشْبَهُ عَدَمُ وُقُوعِ طَلَاقِ النَّاسِي؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ وَلَا عِبَارَةَ لِغَيْرِ مُكَلَّفٍ.
32- وَمِنْهَا: لَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى أَمْرٍ فَفَعَلَهُ نَاسِيًا: فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْعَامِدُ وَالنَّاسِي فِي الطَّلَاقِ سَوَاءٌ، فَإِنْ عَلَّقَ طَلَاقَهُ عَلَى فِعْلِهِ أَوْ فِعْلِ غَيْرِهِ، فَحَصَلَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا، فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ شَرْطُ الْوُقُوعِ، وَالْفِعْلَ الْحَقِيقِيَّ لَا يَنْعَدِمُ بِالنِّسْيَانِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ مَنْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِفِعْلِ شَيْءٍ فَفَعَلَهُ مُكْرَهًا أَوْ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ قَوْلَانِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الْأَظْهَرَ فِي الْأَيْمَانِ لَا يَحْنَثُ النَّاسِي وَالْمُكْرَهُ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ مِثْلَهُ، وَقَطَعَ الْقَفَّالُ بِأَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».وَكَذَلِكَ لَوْ عَلَّقَ بِفِعْلِ غَيْرِهِ مِنْ زَوْجَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّنْ يُبَالِي بِتَعْلِيقِهِ، بِأَنْ تَقْضِيَ الْعَادَةُ وَالْمُرُوءَةُ بِأَنَّهُ لَا يُخَالِفُهُ وَيَبَرُّ قَسَمَهُ لِنَحْوِ حَيَاءٍ أَوْ صَدَاقَةٍ أَوْ حُسْنِ خُلُقٍ، قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: فَلَوْ نَزَلَ بِهِ عَظِيمُ قَرْيَةٍ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَتَرَحَّلَ حَتَّى يُضِيفَهُ وَعَلِمَ ذَلِكَ الْغَيْرُ بِتَعْلِيقِهِ، يَعْنِي وَقَصَدَ إِعْلَامَهُ بِهِ فَلَا يَحْنَثُ بِفِعْلِهِ: نَاسِيًا لِلتَّعْلِيقِ أَوِ الْمُعَلَّقِ بِهِ أَوْ مُكْرَهًا، وَإِلاَّ بِأَنْ لَمْ يَقْصِدِ الْحَالِفُ حَثَّهُ أَوْ مَنْعَهُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ يُبَالِي بِتَعْلِيقِهِ كَالسُّلْطَانِ وَالْحَجِيجِ، أَوْ كَانَ يُبَالِي وَلَمْ يَعْلَمْ وَتَمَكَّنَ مِنْ إِعْلَامِهِ وَلَمْ يُعْلِمْهُ، فَيَقَعُ قَطْعًا وَلَوْ نَاسِيًا؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حِينَئِذٍ غَرَضُ حَثٍّ وَلَا مَنْعٍ، لِأَنَّهُ مَنُوطٌ بِوُجُودِ صُورَةِ الْفِعْلِ.
وَلَوْ عَلَّقَ بِقُدُومٍ وَهُوَ عَاقِلٌ، فَجُنَّ ثُمَّ قَدِمَ، لَمْ يَقَعْ كَمَا فِي الْكِفَايَةِ عَنِ الطَّبَرِيِّ، وَحُكْمُ الْيَمِينِ فِيمَا ذُكِرَ كَالطَّلَاقِ، وَلَا تَنْحَلُّ بِفِعْلِ الْجَاهِلِ وَالنَّاسِي وَالْمُكْرَهِ وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَفَعَلَهُ نَاسِيًا حَنَثَ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لِوُجُودِ شَرْطِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ كَأَنْتِ طَالِقٌ إِنْ قَدِمَ الْحَاجُّ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعِتْقَ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا حَقُّ آدَمِيٍّ فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ مَعَ النِّسْيَانِ كَالْإِتْلَافِ.وَلَا يَحْنَثُ فِي يَمِينٍ مُكَفِّرَةٍ مَعَ النِّسْيَانِ، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ لِدَفْعِ الْإِثْمِ، وَلَا إِثْمَ عَلَى النَّاسِي.وَمَنْ يَمْتَنِعُ بِيَمِينِ الْحَالِفِ إِذَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَقَصَدَ بِيَمِينِهِ مَنْعَهُ كَأَنْ يَحْلِفَ عَلَى زَوْجَتِهِ أَوْ نَحْوِهَا لَا تَدْخُلُ دَارًا فَدَخَلَتْهَا نَاسِيَةً، فَعَلَى مَا سَبَقَ يَحْنَثُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ فَقَطْ.وَأَمَّا إِنْ حَلَفَ عَلَى حَقٍّ لَا يَمْتَنِعُ بِيَمِينِهِ كَسُلْطَانٍ وَأَجْنَبِيٍّ فَإِنَّ الْحَالِفَ يَحْنَثُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ مُكْرَهًا أَوْ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ مَحْضٌ فَحَنِثَ بِوُجُودِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ.
33- وَمِنْهَا: مَا لَوْ طَلَّقَ إِحْدَى نِسَائِهِ وَكَانَ قَدْ عَيَّنَهَا ثُمَّ نَسِيَ التَّعْيِينَ.
فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ قَالَ لِزَوْجَاتِهِ: إِحْدَاكُنَّ طَالِقٌ وَلَمْ يَنْوِ مُعَيَّنَةً أَوْ عَيَّنَهَا وَنَسِيَهَا فَالْجَمِيعُ يُطَلَّقْنَ وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ طَلَّقَ إِحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا كَأَنْ خَاطَبَهَا بِهِ أَوْ نَوَاهَا، عِنْدَ قَوْلِهِ «طَالِقٌ» ثُمَّ جَهِلَهَا بِنَحْوِ نِسْيَانٍ وَقَّفَ حَتْمًا الْأَمْرَ مِنْ وَطْءٍ وَغَيْرِهِ عَنْهُمَا حَتَّى يَتَذَكَّرَ لِحُرْمَةِ إِحْدَاهُمَا عَلَيْهِ يَقِينًا، وَلَا دَخْلَ لِلِاجْتِهَادِ هُنَا، وَلَا يُطَالَبُ بِبَيَانٍ لِلْمُطَلَّقَةِ إِنْ صَدَّقَتَاهُ فِي الْجَهْلِ بِهَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا، فَإِنْ كَذَّبَتَاهُ وَبَادَرَتْ وَاحِدَةٌ وَادَّعَتْ أَنَّهَا الْمُطَلَّقَةُ طُولِبَ بِيَمِينٍ جَازِمَةٍ أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْهَا، وَلَا يَقْنَعُ مِنْهُ بِ: نَسِيتُ وَإِنِ احْتَمَلَ، فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَتْ وَقُضِيَ لَهَا، فَإِنْ قَالَتِ الْأُخْرَى ذَلِكَ فَكَذَلِكَ، وَلَوِ ادَّعَتْ كُلٌّ مِنْهُمَا أَوْ إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ يَعْلَمُ الَّتِي عَنَاهَا بِالطَّلَاقِ وَسَأَلَتْ تَحْلِيفَهُ عَلَى نَفْيِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ وَلَمْ تَقُلْ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْمُطَلَّقَةَ فَالْوَجْهُ- كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ- سَمَاعُ دَعْوَاهَا وَتَحْلِيفُهُ عَلَى ذَلِكَ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: النِّسْيَانُ فِي فِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ إِتْلَافٌ:
34- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلنِّسْيَانِ عَلَى ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ، حَتَّى لَوْ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ نَاسِيًا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ مُحْتَرَمَةٌ لِحَاجَتِهِمْ، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ مِنَ الْجَوَابِرِ، وَالْجَوَابِرُ لَا تَسْقُطُ بِالنِّسْيَانِ.وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا جَنَى جِنَايَةً عَلَى النَّفْسِ أَوْ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ نَاسِيًا وَهِيَ مِمَّا يَسْتَوْجِبُ الْمَالَ فَتَجِبُ الدِّيَةُ أَوِ الْأَرْشُ وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ أَوْ تَسَبَّبَ فِي إِتْلَافِهِ عُدْوَانًا فَهُوَ ضَامِنٌ، سَوَاءٌ فَعَلَ ذَلِكَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
131-موسوعة الفقه الكويتية (نفل 2)
نَفْلٌ -2النَّافِلَةُ مِنَ الصَّدَقَاتِ:
14- صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ مُسْتَحَبَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ لقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} وَأَمَرَ بِالصَّدَقَةِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَحَثَّ عَلَيْهَا وَرَغَّبَ فِيهَا.
وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلَا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلاَّ الطَّيِّبُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ».
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّصَدُّقِ قَبْلَ أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ مِنَ الزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَقَبْلَ الْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ مِنَ الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ.
فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ.
وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَحْرُمُ صَدَقَتُهُ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِنَفَقَةِ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ أَوْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِنَفَقَةِ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْإِضَافَةِ أَوْ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِدَيْنٍ لَا يَرْجُو لَهُ وَفَاءً؛ لِخَبَرِ «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ» «وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ»، وَلِأَنَّ كِفَايَتَهُمْ فَرْضٌ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّفْلِ.
وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَحَبَّةٍ.
وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (صَدَقَة ف 23).
وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيُّ: الصَّدَقَةُ مِنْهَا مَا نَفْعُهُ مُتَعَدٍّ كَالْإِصْلَاحِ، وَإِعَانَةِ الرَّجُلِ عَلَى دَابَّتِهِ يَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ مَتَاعَهُ عَلَيْهَا، وَالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا السَّلَامُ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَإِزَالَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَدَفْنُ النُّخَامَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِعَانَةُ ذِي الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفِ وَإِسْمَاعُ الْأَصَمِّ، وَالْبَصَرُ لِلْمَنْقُوصِ بَصَرُهُ، وَهِدَايَةُ الْأَعْمَى أَوْ غَيْرِهِ الطَّرِيقَ، وَجَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: «وَبَيَانُكَ عَنِ الْأَرْتَمِ صَدَقَةٌ» يَعْنِي مَنْ لَا يُطِيقُ الْكَلَامَ إِمَّا لآِفَةٍ فِي لِسَانِهِ أَوْ لِعُجْمَةٍ فِي لُغَتِهِ، فَيُبَيِّنُ عَنْهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِهِ.
وَمِنْهُ مَا هُوَ قَاصِرُ النَّفْعِ كَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ، وَالْمَشْيِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَالْجُلُوسِ فِي الْمَسَاجِدِ لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ أَوْ لِاسْتِمَاعِ الذِّكْرِ، وَالتَّوَاضُعِ فِي اللِّبَاسِ وَالْمَشْيِ وَالْهَدْيِ، وَالتَّبَذُّلِ فِي الْمِهْنَةِ وَاكْتِسَابِ الْحَلَالِ وَالتَّحَرِّي فِيهِ.
صِيَامُ النَّافِلَةِ:
15- صِيَامُ النَّافِلَةِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَيَتَأَكَّدُ اسْتِحْبَابُهُ فِي الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ، وَفَوَاضِلُ الْأَيَّامِ بَعْضُهَا يُوجَدُ فِي كُلِّ سَنَةٍ وَبَعْضُهَا يُوجَدُ فِي كُلِّ شَهْرٍ وَبَعْضُهَا فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ.
أَمَّا فِي السَّنَةِ بَعْدَ أَيَّامِ رَمَضَانَ فَيَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ عَاشُورَاءَ وَالْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَالْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَجَمِيعُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مَظَانُّ الصَّوْمِ وَهِيَ أَوْقَاتٌ فَاضِلَةٌ.
وَأَمَّا مَا يَتَكَرَّرُ فِي الشَّهْرِ فَأَوَّلُ الشَّهْرِ وَأَوْسَطُهُ وَآخِرُهُ، وَوَسَطُهُ الْأَيَّامُ الْبِيضُ وَهِيَ الثَّالِثُ عَشَرَ وَالرَّابِعُ عَشَرَ وَالْخَامِسُ عَشَرَ.
وَأَمَّا فِي الْأُسْبُوعِ فَالِاثْنَيْنُ وَالْخَمِيسُ وَالْجُمُعَةُ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: فَهَذِهِ هِيَ الْأَيَّامُ الْفَاضِلَةُ فَيُسْتَحَبُّ فِيهَا الصِّيَامُ وَتَكْثُرُ الْخَيْرَاتُ لِتُضَاعَفَ أُجُورُهَا بِبَرَكَةِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ.
وَإِذَا ظَهَرَتْ أَوْقَاتُ الْفَضِيلَةِ فَالْكَمَالُ فِي أَنْ يَفْهَمَ الْإِنْسَانُ مَعْنَى الصِّيَامِ وَأَنَّ مَقْصُودَهُ تَصْفِيَةُ الْقَلْبِ وَتَفْرِيغُ الْهَمِّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَالْفَقِيهُ بِدَقَائِقِ الْبَاطِنِ يَنْظُرُ إِلَى أَحْوَالِهِ، فَقَدْ يَقْتَضِي حَالُهُ دَوَامَ الصَّوْمِ وَقَدْ يَقْتَضِي دَوَامَ الْفِطْرِ وَقَدْ يَقْتَضِي مَزْجَ الْإِفْطَارِ بِالصَّوْمِ، وَإِذَا فَهِمَ الْمَعْنَى وَتَحَقَّقَ حَدَّهُ فِي سُلُوكِ طَرِيقِ الْآخِرَةِ بِمُرَاقَبَةِ الْقَلْبِ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ صَلَاحُ قَلْبِهِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ تَرْتِيبًا مُسْتَمِرًّا، وَلِذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلاَّ رَمَضَانَ» «وَعَنْ أَنَسٍ: كَانَ لَا تَشَاءُ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلاَّ رَأَيْتَهُ، وَلَا نَائِمًا إِلاَّ رَأَيْتَهُ» وَكَانَ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَنْكَشِفُ لَهُ بِنُورِ النُّبُوَّةِ مِنَ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ الْأَوْقَاتِ.
وَلِلتَّفْصِيلِ فِي أَنْوَاعِ صِيَامِ النَّافِلَةِ وَمَا يُسْتَحَبُّ صِيَامُهُ مِنَ الْأَيَّامِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَوْضُوعِ (ر: صَوْمُ التَّطَوُّعِ مِنْ ف 7- 17).
حَجُّ النَّفْلِ:
16- حَجُّ النَّفْلِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ».
«وَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَغْزُو وَنُجَاهِدُ مَعَكُمْ؟ فَقَالَ: «لَا، لَكِنَّ أَحْسَنَ الْجِهَادِ وَأَجْمَلَهُ حَجٌّ مَبْرُورٌ» قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَا أَدَعُ الْحَجَّ بَعْدَ إِذْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ».
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ حَجِّ النَّفْلِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: بِنَاءُ الرِّبَاطِ أَفْضَلُ مِنْ حَجِّ النَّفْلِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَحَجِّ النَّفْلِ: فَرَجَّحَ صَاحِبُ البَزَّازِيَّةِ أَفْضَلِيَّةَ حَجِّ النَّفْلِ لِمَشَقَّتِهِ فِي الْمَالِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا، قَالَ: وَبِهِ أَفْتَى أَبُو حَنِيفَةَ حِينَ حَجَّ وَعَرَفَ الْمَشَقَّةَ.
وَفِي الْوَلْوَالِجِيَّةِ: الْمُخْتَارُ أَنَّ الصَّدَقَةَ أَفْضَلُ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَطَوُّعًا يَعُودُ نَفْعُهَا عَلَى غَيْرِهِ وَالْحَجُّ لَا.
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ أَرْبَعَ صُوَرٍ، حَيْثُ قَالُوا: إِنَّ الصُّوَرَ أَرْبَعُ لِأَنَّ الْحَجَّ وَالْغَزْوَ إِمَّا فَرْضَانِ أَوْ مُتَطَوَّعٌ بِهِمَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ فَرْضًا وَالْغَزْوُ تَطَوُّعًا وَإِمَّا عَكْسُهُ، فَإِنْ كَانَ الْجِهَادُ مُتَعَيِّنًا بِفَجْأَةِ الْعَدُوِّ أَوْ بِتَعْيِينِ الْإِمَامِ أَوْ بِكَثْرَةِ الْخَوْفِ، كَانَ أَفْضَلَ مِنَ الْحَجِّ سَوَاءٌ كَانَ تَطَوُّعًا أَوْ وَاجِبًا، وَحِينَئِذٍ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَلَوْ عَلَى الْقَوْلِ بِفَوْرِيَّةِ الْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ الْجِهَادُ غَيْرَ مُتَعَيِّنٍ كَانَ الْحَجُّ وَلَوْ تَطَوُّعًا أَفْضَلَ مِنَ الْغَزْوِ، وَلَوْ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَحِينَئِذٍ فَيُقَدَّمُ تَطَوُّعُ الْحَجِّ عَلَى تَطَوُّعِ الْغَزْوِ وَهُوَ الْجِهَادُ فِي الْجِهَاتِ الْغَيْرِ الْمُخِيفَةِ، وَعَلَى فَرْضِهِ الْكِفَائِيِّ كَالْجِهَادِ فِي الْجِهَاتِ الْمُخِيفَةِ.
وَيُقَدَّمُ فَرْضُ الْحَجِّ عَلَى تَطَوُّعٍ وَعَلَى فَرْضِ الْغَزْوِ الْكِفَائِيِّ عَلَى الْقَوْلِ بِالْفَوْرِ، وَكَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّرَاخِي إِنْ خِيفَ الْفَوَاتُ، فَإِنْ لَمْ يَخَفْ يُقَدِّمْ فَرْضَ الْغَزْوِ الْكِفَائِيِّ عَلَى فَرْضِ الْحَجِّ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
132-موسوعة الفقه الكويتية (نقض 1)
نَقْضٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- النَّقْضُ لُغَةً: إِفْسَادُ مَا أَبْرَمْتَهُ مِنْ عَقْدٍ أَوْ بِنَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، يُقَالُ: نَقَضْتُ الْحَبْلَ نَقْضًا حَلَلْتُ بَرْمَهُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: نَقَضْتُ مَا أَبْرَمَهُ: إِذَا أَبْطَلْتَهُ، فَالنَّقْضُ ضِدُّ الْإِبْرَامِ.
وَلَا يَخْرُجُ اسْتِعْمَالُ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالنَّقْضُ بِاعْتِبَارِهِ مِنْ قَوَادِحِ الْعِلَّةِ: هُوَ إِبْدَاءُ الْوَصْفِ الْمُدَّعَى عِلِّيَّتُهُ بِدُونِ وُجُودِ الْحُكْمِ فِي صُورَةٍ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِتَخْصِيصِ الْوَصْفِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْإِبْرَامُ:
2- الْإِبْرَامُ فِي اللُّغَةِ مِنْ أَبْرَمَ الْأَمْرَ وَبَرَمَهُ: أَحْكَمَهُ، قَالَ الْخَلِيلُ: أَبْرَمْتُ الْأَمْرَ أَحْكَمْتُهُ، وَقَالَ الْعَسْكَرِيُّ: إِبْرَامُ الشَّيْءِ تَقْوِيَتُهُ، وَأَصْلُهُ فِي تَقْوِيَةِ الْحَبْلِ، وَهُوَ فِي غَيْرِهِ مُسْتَعَارٌ.
وَيَسْتَعْمِلُ الْفُقَهَاءُ هَذَا اللَّفْظَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْعُقُودِ، فَيُقَالُ: أَبْرَمَ عَقْدَ الْبَيْعِ وَأَبْرَمَ عَقْدَ النِّكَاحِ، وَالْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ يَتَوَلَّى إِبْرَامَ عَقْدِ الذِّمَّةِ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّقْضِ وَالْإِبْرَامِ التَّضَادُّ.
ب- الْعَقْدُ:
3- الْعَقْدُ فِي اللُّغَةِ: نَقِيضُ الْحَلِّ، يُقَالُ: عَقَدَهُ يَعْقِدُهُ عَقْدًا، وَعَقْدُ كُلِّ شَيْءٍ إِبْرَامُهُ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْعَقْدُ رَبْطُ أَجْزَاءِ التَّصَرُّفِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّقْضِ وَالْعَقْدِ هِيَ التَّضَادُّ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّقْضِ:
تَتَعَلَّقُ بِالنَّقْضِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أَوَّلًا: نَقْضُ الطَّهَارَةِ:
4- الْمُرَادُ بِنَقْضِ الطَّهَارَةِ: إِفْسَادُ مَا قَامَ بِهِ الْمُكَلَّفُ مِنْ فِعْلٍ مَوْضُوعٍ لِرَفْعِ حَدَثٍ أَوْ إِزَالَةِ خَبَثٍ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُمَا.
وَنَوَاقِضُ الطَّهَارَةِ تَشْمَلُ: نَوَاقِضَ الْوُضُوءِ وَنَوَاقِضَ التَّيَمُّمِ وَنَوَاقِضَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ- نَوَاقِضُ الْوُضُوءِ:
5- عَدَّدَ الْفُقَهَاءُ نَوَاقِضَ الْوُضُوءِ، وَهِيَ فِي الْجُمْلَةِ: خُرُوجُ شَيْءٍ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ، وَخُرُوجُ نَجِسٍ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، وَزَوَالُ الْعَقْلِ (السُّكْرُ- الْجُنُونُ- الْإِغْمَاءُ)، وَالنَّوْمُ، وَاللَّمْسُ، وَمَسُّ فَرْجِ الْآدَمِيِّ، وَالْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلَاةِ، وَأَكْلُ لَحْمِ الْجَزُورِ، وَغَسْلُ الْمَيِّتِ، وَالرِّدَّةُ، وَالشَّكُّ فِي الْحَدَثِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى نَقْضِ الْوُضُوءِ بِبَعْضِهَا وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الْآخَرِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَدَث ف 6- 20).
ب- نَوَاقِضُ التَّيَمُّمِ:
6- يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ أُمُورٌ، بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَمِنْهَا: كُلُّ مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ لِأَنَّهُ بَدَلًا مِنْهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُهُ، وَخُرُوجُ الْوَقْتِ، وَوُجُودُ مَاءٍ لِعَادِمِهِ، وَزَوَالُ الْعُذْرِ الْمُبِيحِ لَهُ إِذَا قَدَرَ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ بِلَا ضَرَرٍ كَأَنْ تَيَمَّمَ لِمَرَضٍ فَعُوفِيَ أَوْ لِبَرْدٍ فَزَالَ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي (تَيَمُّم ف 33).
ج- نَوَاقِضُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ:
7- يَنْقُضُ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ أُمُورٌ بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَمِنْهَا: كُلُّ مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْهُ فَيَنْقُضُهُ نَاقِضُ أَصْلِهِ كَالتَّيَمُّمِ، وَنَزْعُ الْخُفَّيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا، فَيَغْسِلُ الْقَدَمَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ السَّابِقَ عَنِ الطَّهَارَةِ يَسْرِي عَلَى الْقَدَمَيْنِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ، وَمُضِيِّ مُدَّةِ الْمَسْحِ، وَحُدُوثِ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (مَسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ ف 11).
ثَانِيًا: نَقْضُ الْعُهُودِ:
نَقْضُ الْعُهُودِ يَشْمَلُ نَقْضَ الْهُدْنَةِ، وَنَقْضَ الْأَمَانِ، وَنَقْضَ عَقْدِ الذِّمَّةِ.
أ- نَقْضُ الْهُدْنَةِ:
8- إِذَا تَعَاهَدَ الْمُسْلِمُونَ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَفَاءُ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}.
وَتُنْقَضُ الْهُدْنَةُ بِأُمُورٍ مِنْهَا:
- نَقْضُ الْإِمَامِ إِنْ عَلَّقَ بَقَاءَهَا بِمَشِيئَتِهِ أَوْ مَشِيئَةِ غَيْرِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِذَا رَأَى فِي نَقْضِهَا مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ.
- صُدُورُ خِيَانَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُهَادِنِينَ كَقَتْلِ مُسْلِمٍ وَقِتَالِ مُسْلِمِينَ بِلَا شُبْهَةٍ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ وَإِيوَاءِ جَاسُوسٍ يَنْقُلُ أَخْبَارَ الْمُسْلِمِينَ وَمَوَاضِعَ الضَّعْفِ فِيهِمْ لِأَهْلِ الْحَرْبِ.
- نَقْضُ مَنْ عَقَدَ لَهُمْ بِصَرِيحِ الْقَوْلِ أَوْ دَلَالَتِهِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (هُدْنَة).
ب- نَقْضُ الْأَمَانِ:
9- إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ أَوْ مُسْلِمٌ بَالِغٌ حُرٌّ مِنْ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ حَرْبِيًّا أَوْ عَدَدًا مَحْصُورِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ وَلَا أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ نَقْضُهُ لِخَبَرِ: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخَفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» إِلاَّ أَنْ يَخَافَ الْإِمَامُ خِيَانَةً مِنْهُمْ، لِأَنَّ الْأَمَانَ لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَجَائِزٌ مِنْ جِهَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَهُمْ أَنْ يَنْقُضُوهُ وَقْتَمَا شَاءُوا، فَإِنْ خَافَ خِيَانَتَهُمْ بِأَمَارَاتٍ ظَاهِرَةٍ، فَلَهُ نَبْذُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ لِلْإِمَامِ نَقْضَ الْأَمَانِ مَتَى شَاءَ وَإِنْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ مَا يُخَالِفُ عَقْدَ الْأَمَانِ وَلَمْ تَظْهَرْ مِنْهُمْ أَمَارَاتُهَا.
ج- نَقْضُ عَقْدِ الذِّمَّةِ:
10- يَنْتَقِضُ عَقْدُ الذِّمَّةِ بِأُمُورٍ مِنْهَا:
لُحُوقُ الذِّمِّيِّ بِدَارِ الْحَرْبِ، أَوِ التَّطَلُّعُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (أَهْل الذِّمَّةِ ف 42).
ثَالِثًا: نَقْضُ الِاجْتِهَادِ:
11- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ قِي قَضِيَّةٍ أَوْ أَفْتَى الْمُفْتِي فِي مَسْأَلَةٍ- وَهُمَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ- لَمْ يَجُزِ النَّقْضُ، إِلاَّ إِذَا بَانَ أَنَّ حُكْمَهُ خِلَافُ نَصِّ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْإِجْمَاعِ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا كَانَ لِمُخَالَفَةِ قِيَاسٍ جَلِيٍّ، وَهُوَ مَا قُطِعَ فِيهِ بِعَدَمِ تَأْثِيرِ الْفَارِقِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، كَقِيَاسِ تَحْرِيمِ الضَّرْبِ عَلَى التَّأْفِيفِ بِالْوَالِدَيْنِ فِي قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} أَيِ الْوَالِدَيْنِ.
وَكَقِيَاسِ مَا فَوْقَ الذَّرَّةِ بِالذَّرَّةِ فِي قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}.
وَمَا قُطِعَ بِهِ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْفَرْعُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنَ الْأَصْلِ، كَقِيَاسِ الْأَمَةِ عَلَى الْعَبْدِ فِي السِّرَايَةِ فِيمَا إِذَا أَعْتَقَ الْمُوسِرُ بَعْضَهُ، وَقِيَاسُ غَيْرِ السَّمْنِ مِنَ الْمَائِعَاتِ عَلَى السَّمْنِ فِي حُكْمِ وُقُوعِ الْفَأْرَةِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.
رَابِعًا: نَقْضُ الْقَضَاءِ:
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِنَقْضِ الْقَضَاءِ:
12- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا خَالَفَ فِي حُكْمِهِ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا كَانَ قَضَاؤُهُ فَاقِدًا لِشَرْطٍ وَوَجَبَ نَقْضُهُ، إِذْ أَنَّ شَرْطَ الْحُكْمِ بِالِاجْتِهَادِ عَدَمُ النَّصِّ بِدَلِيلِ خَبَرِ مُعَاذٍ- رضي الله عنه-: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو» وَلِأَنَّهُ إِذَا تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَقَدْ فَرَّطَ، فَوَجَبَ نَقْضُ حُكْمِهِ، إِذْ لَا مَسَاغَ لِلِاجْتِهَادِ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ، وَزَادَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ زِيَادَاتٍ أُخْرَى كَالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ.
وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي حُكْمِ مَا يُنْقَضُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ أَنْ يَنْقُضَ مِنْ حُكْمِ قَاضٍ صَالِحٍ لِلْقَضَاءِ شَيْئًا لِئَلاَّ يُؤَدِّيَ إِلَى نَقْضِ الْحُكْمِ بِمِثْلِهِ وَإِلَى أَلاَّ يَثْبُتَ حُكْمٌ أَصْلًا، غَيْرَ مَا خَالَفَ نَصَّ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةٍ مُتَوَاتِرَةٍ أَوْ سُنَّةٍ آحَادٍ أَوْ خَالَفَ إِجْمَاعًا قَطْعِيًّا، بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ.
مَا يُنْقَضُ مِنَ الْأَحْكَامِ وَمَا لَا يُنْقَضُ:
13- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُنْقَضُ مِنَ الْأَحْكَامِ وَمَا لَا يُنْقَضُ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَوَسَّعَ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَصَرَ النَّقْضَ فِي نِطَاقِ الْمُخَالَفَةِ الصَّرِيحَةِ لِلنَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ، وَمَنَعَهُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ.
وَفِي الْجُمْلَةِ فَإِنَّ أَحْكَامَ الْقَاضِي لَا تَخْلُو عَنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
قِسْمٌ يُنْقَضُ بِكُلِّ حَالٍ، وَقِسْمٌ يُمْضَى بِكُلِّ حَالٍ، وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَا يُنْقَضُ مِنَ الْأَحْكَامِ:
14- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ نَقْضُ الْحُكْمِ إِذَا خَالَفَ نَصَّ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْإِجْمَاعَ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مَا ذُكِرَ: مَا يَشِذُّ مَدْرَكُهُ أَيْ دَلِيلُهُ، أَوْ مُخَالَفَةُ الْقَوَاعِدِ، أَوِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، وَقَيَّدَ الْقَرَافِيُّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ قَوْلَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ حُكْمَ الْقَاضِي يُنْقَضُ إِذَا خَالَفَ الْقَوَاعِدَ أَوِ الْقِيَاسَ أَوِ النَّصَّ- فَالْمُرَادُ مِنْهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مُعَارِضٌ رَاجِحٌ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ لَهَا مُعَارِضٌ فَلَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ، وَقَالُوا: إِذَا كَانَ الْحُكْمُ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ فَلَا يَرْفَعُ الْخِلَافَ وَيَجِبُ نَقْضُهُ، كَمَا لَوْ حَكَمَ بِأَنَّ الْمِيرَاثَ كُلَّهُ لِلْأَخِ دُونَ الْجَدِّ، فَهَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، لأَنَّ الْأُمَّةَ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْمَالُ كُلُّهُ لِلْجَدِّ أَوْ يُقَاسِمُ الْأَخَ، وَأَمَّا حِرْمَانُ الْجَدِّ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَّةِ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا خَالَفَ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ خَالَفَ مِنْ قِيَاسِ الْمَعْنَى الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ، أَوْ خَالَفَ مِنْ قِيَاسِ الشَّبَهِ قِيَاسَ التَّحْقِيقِ- نُقِضَ بِهِ حُكْمُهُ وَحُكْمُ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- عَدَلَ عَنِ اجْتِهَادٍ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ حِينَ أَخْبَرَهُ حَمْلُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَضَى فِيهِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ. وَكَانَ لَا يُوَرِّثُ امْرَأَةً مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا حَتَّى رَوَى لَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَرَّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا فَوَرَّثَهَا عُمَرُ».
وَقَضَى فِي الْأَصَابِعِ بِقَضَاءٍ، ثُمَّ أُخْبِرَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ» وَنَقَضَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- قَضَاءَ شُرَيْحٍ فِي ابْنَيْ عَمٍّ، أَحَدُهُمَا أَخٌ لأُِمٍّ- بِأَنَّ الْمَالَ لِلْأَخِ مُتَمَسِّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} فَيَحْتَمِلُ أَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- نَقَضَ ذَلِكَ الْحُكْمَ لِمُخَالَفَةِ نَصِّ هَذِهِ الْآيَةِ.فَهَذِهِ كُلُّهَا آثَارٌ لَمْ يَظْهَرْ لَهَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، فَكَانَتْ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَصْلُ الْإِجْمَاعِ.وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنْ تَبَيَّنَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ خَالَفَ قَطْعِيًّا كَنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ مُتَوَاتِرَةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ، أَوْ ظَنًّا مُحْكَمًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَوْ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، فَيَلْزَمُهُ نَقْضُ حُكْمِهِ، أَمَّا إِنْ تَبَيَّنَ لَهُ بِقِيَاسٍ خَفِيٍّ رَآهُ أَرْجَحَ مِمَّا حَكَمَ بِهِ وَأَنَّهُ الصَّوَابُ، فَلْيَحْكُمْ فِيمَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَخَوَاتِ الْحَادِثَةِ بِمَا رَآهُ ثَانِيًا، وَلَا يَنْقُضُ مَا حَكَمَ بِهِ أَوَّلًا، بَلْ يُمْضِيهِ، ثُمَّ مَا نَقَضَ بِهِ قَضَاءَ نَفْسِهِ نَقَضَ بِهِ قَضَاءَ غَيْرِهِ، وَمَا لَا فَلَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَتَتَبَّعُ قَضَاءَ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يَنْقُضُهُ إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ، وَلَهُ تَتَبُّعُ قَضَاءِ نَفْسِهِ لِيَنْقُضَهُ.
وَقَالَ: مَا يَنْقُضُ مِنَ الْأَحْكَامِ لَوْ كُتِبَ بِهِ إِلَيْهِ لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَقْبَلُهُ وَلَا يُنَفِّذُهُ.وَأَمَّا مَا لَا يَنْقُضُ وَيَرَى غَيْرَهُ أَصْوَبَ مِنْهُ فَنَقَلَ ابْنُ كَجٍّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُعْرِضُ عَنْهُ وَلَا يُنَفِّذُهُ لِأَنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ خَطَأً، وَقَالَ ابْنُ الْقَاصِّ: لَا أُحِبُّ تَنْفِيذَهُ.وَفِي هَذَا إِشْعَارٌ بِتَجْوِيزِ تَنْفِيذِهِ.
وَصَرَّحَ السَّرَخْسِيُّ (الشَّافِعِيُّ) بِنَقْلِ الْخِلَافِ فَقَالَ: إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ حُكْمُ قَاضٍ قَبْلَهُ فَلَمْ يَرَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي النَّقْضَ، لَكِنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَى غَيْرِهِ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُعْرِضُ عَنْهُ، وَأَصَحُّهُمَا: يُنْفِذُهُ، وَعَلَى هَذَا الْعَمَلُ، كَمَا لَوْ حَكَمَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ تَغَيُّرًا لَا يَقْتَضِي النَّقْضَ، وَتَرَافَعَ الْخُصُومُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يُمْضِي حُكْمَهُ الْأَوَّلَ وَإِنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَى أَنَّ غَيْرَهُ أَصْوَبُ مِنْهُ.
وَيَرَى فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمُخَالَفَةِ الْكِتَابِ مُخَالَفَةُ النَّصِّ الْقُرْآنِيِّ الَّذِي لَمْ يَخْتَلِفِ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} فَإِنَّ السَّلَفَ اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِ تَزَوُّجِ امْرَأَةِ الْأَبِ وَجَارِيَتِهِ الَّتِي وَطِئَهَا الْأَبُ، فَلَوْ حَكَمَ قَاضٍ بِجَوَازِ ذَلِكَ نَقَضَهُ مَنْ رُفِعَ إِلَيْهِ.
وَإِنَّ الْمُرَادَ بِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ كَالْحُكْمِ بِحِلِّ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ بِمُجَرَّدِ النِّكَاحِ بِدُونِ إِصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي، فَإِنَّ اشْتِرَاطَ الدُّخُولِ ثَابِتٌ بِحَدِيثِ الْعُسَيْلَةِ.
وَالْمُرَادُ بِالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَيْ جُلُّ النَّاسِ وَأَكْثَرُهُمْ، وَمُخَالَفَةُ الْبَعْضِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافٌ لَا اخْتِلَافٌ، وَقَالُوا: يُنْقَضُ الْحُكْمُ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ حُكْمًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ قَطْعًا.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يُنْقَضُ مِنَ الْأَحْكَامِ:
15- لَا يُنْقَضُ مِنَ الْأَحْكَامِ كُلُّ حُكْمٍ وَافَقَ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، فَإِذَا أَصَابَ الْقَاضِي فِي حُكْمِهِ فَالْأَصْلُ أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ كَمَا إِذَا حَكَمَ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ كَانَ حُكْمُهُ نَافِذًا وَحُكْمُ غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ بِهِ نَافِذًا، لَا يُتَعَقَّبُ بِفَسْخٍ وَلَا نَقْضٍ، لِأَنَّ هَذَا الْقَضَاءَ حَصَلَ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ فَنَفَذَ، وَلَزِمَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ إِبْطَالُهُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقْضِي بِالْقَضَاءِ، وَيَنْزِلُ الْقُرْآنُ بِغَيْرِ مَا قَضَى، فَيَسْتَقْبِلُ حُكْمَ الْقُرْآنِ وَلَا يَرُدُّ قَضَاءَهُ الْأَوَّلَ» وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- «أَنَّهُ حَكَمَ بِحِرْمَانِ الْإِخْوَةِ الْأَشِقَّاءِ مِنَ التَّرِكَةِ فِي الْمُشْرِكَةِ، ثُمَّ شَرَّكَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْقُضْ قَضَاءَهُ الْأَوَّلَ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ قَالَ: ذَلِكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا وَهَذَا عَلَى مَا نَقْضِي»، وَقَضَى فِي الْجَدِّ بِقَضَايَا مُخْتَلِفَةٍ وَلَمْ يَرُدَّ الْأُولَى، وَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى نَقْضِ الْحُكْمِ بِمِثْلِهِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى أَنْ لَا يَثْبُتَ الْحُكْمُ أَصْلًا، لِأَنَّ الْقَاضِيَ الثَّانِيَ يُخَالِفُ الَّذِي قَبْلَهُ، وَالثَّالِثُ يُخَالِفُ الثَّانِيَ، فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ.
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ لَوْ قَضَى عَلَى خِلَافِ قِيَاسٍ خَفِيٍّ- وَهُوَ مَا لَا يُزِيلُ احْتِمَالَ الْمُفَارَقَةِ وَلَا يَبْعُدُ كَقِيَاسِ الْأُرْزِ عَلَى الْبُرِّ فِي بَابِ الرِّبَا بِعِلَّةِ الطَّعَامِ- فَلَا يَنْقُضُ الْحُكْمُ الْمُخَالِفَ لَهُ، لِأَنَّ الظُّنُونَ الْمُتَعَادِلَةَ لَوْ نَقَضَ بَعْضُهَا بَعْضًا لَمَا اسْتَمَرَّ حُكْمٌ وَلَشَقَّ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنِ اجْتَهَدَ مِنَ الْحُكَّامِ فَقَضَى بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ رَأَى أَنَّ اجْتِهَادَهُ خَطَأٌ، فَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ لَمْ يَرُدَّهُ، وَحَكَمَ فِيمَا يَسْتَأْنِفُ بِالَّذِي هُوَ أَصْوَبُ.
وَيُفَرِّقُ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ وَالْحُكْمِ الْمُجْتَهَدِ فِيهِ.
فَالْحُكْمُ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَسَبَبِ الْقَضَاءِ، كَمَا لَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ الْمَحْدُودِينِ بِالْقَذْفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَكَانَ الْقَاضِي يَرَى سَمَاعَ شَهَادَتِهِمَا، فَإِذَا رُفِعَ إِلَى قَاضٍ آخَرَ لَا يَرَى ذَلِكَ يُمْضِيهِ وَلَا يَنْقُضْهُ.وَكَذَا لَوْ قَضَى لِامْرَأَةٍ بِشَهَادَةِ زَوْجِهَا وَآخَرَ أَجْنَبِيٍّ، فَرُفِعَ لِمَنْ لَا يُجِيزُ هَذِهِ الشَّهَادَةَ أَمْضَاهُ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَضَى بِمُجْتَهَدٍ فِيهِ فَيَنْفُذُ، لِأَنَّ الْمُجْتَهَدَ فِيهِ سَبَبُ الْقَضَاءِ، وَهُوَ أَنَّ شَهَادَةَ هَؤُلَاءِ هَلْ تَصِيرُ حُجَّةً لِلْحُكْمِ أَوْ لَا؟
فَالْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَسَبَبِ الْحُكْمِ لَا فِي نَفْسِ الْحُكْمِ.
وَفَصَّلُوا مَسْأَلَةَ الْمُجْتَهَدِ فِيهِ، فَقَالُوا: إِنْ حَكَمَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُجْمَعًا عَلَى كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخْتَلَفًا فِي كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مُجْمَعًا عَلَى كَوْنِهِ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ هُوَ الْمَقْضِيَّ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْسَ الْقَضَاءِ.
فَإِنْ كَانَ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ هُوَ الْمَقْضِيَّ بِهِ، فَرُفِعَ إِلَى قَاضٍ آخَرَ لَمْ يَنْقُضْهُ الثَّانِي بَلْ يُنْفِذُهُ لِكَوْنِهِ قَضَاءً مُجْمَعًا عَلَى صِحَّتِهِ، لِمَا عُلِمَ أَنَّ النَّاسَ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِأَيِّ الْأَقْوَالِ الَّذِي مَالَ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، فَكَانَ قَضَاءً مُجْمَعًا عَلَى صِحَّتِهِ، فَلَوْ نَقَضَهُ إِنَّمَا يَنْقُضُهُ بِقَوْلِهِ، وَفِي صِحَّتِهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ النَّاسِ، فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ مَا صَحَّ بِالِاتِّفَاقِ بِقَوْلٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَ الثَّانِي دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ بَلِ اجْتِهَادِيٌّ، وَصِحَّةُ قَضَاءِ الْقَاضِي الْأَوَّلِ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ وَهُوَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى جَوَازِ الْقَضَاءِ بِأَيِّ وَجْهٍ اتَّضَحَ لَهُ، فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ مَا مَضَى بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ، وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ تُوجِبُ الْقَوْلَ بِلُزُومِ الْقَضَاءِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَأَنْ لَا يَجُوزَ نَقْضُهُ، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ نَقْضُهُ بِرَفْعِهِ إِلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَ رَأْيِ الْأَوَّلِ فَيَنْقُضُهُ، ثُمَّ يَرْفَعُهُ الْمُدَّعِي إِلَى قَاضٍ ثَالِثٍ يَرَى خِلَافَ رَأْيِ الْقَاضِي الثَّانِي فَيَنْقُضُ نَقْضَهُ، وَيَقْضِي كَمَا قَضَى الْأَوَّلُ، فَيُؤَدِّي إِلَى أَنْ لَا تَنْدَفِعَ الْخُصُومَةُ وَالْمُنَازَعَةُ أَبَدًا، وَالْمُنَازَعَةُ فَسَادٌ، وَمَا أَدَّى إِلَى الْفَسَادِ فَسَادٌ.
فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي الثَّانِي رَدَّ الْحُكْمَ، فَرَفَعَهُ إِلَى قَاضٍ ثَالِثٍ- نُفِّذَ قَضَاءُ الْأَوَّلِ وَأُبْطِلَ قَضَاءُ الْقَاضِي الثَّانِي، لِأَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِ الِاجْتِهَادَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَقَدْ تَرَجَّحَ الْأَوَّلُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَلَا يُنْتَقَضُ بِمَا هُوَ دُونَهُ، كَمَا أَنَّ قَضَاءَ الْأَوَّلِ كَانَ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ، وَالْقَضَاءُ بِالْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَكَانَ الْقَضَاءُ مِنَ الثَّانِي مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ، فَيَكُونُ بَاطِلًا، وَلِأَنَّهُ لَا يُنْقَضُ الِاجْتِهَادُ بِالِاجْتِهَادِ، وَالدَّعْوَى مَتَى فَصَلَتْ مَرَّةً بِالْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ لَا تُنْتَقَضُ وَلَا تُعَادُ، فَيَكُونُ قَضَاءُ الْأَوَّلِ صَحِيحًا، وَقَضَاءُ الثَّانِيَ بِالرَّدِّ بَاطِلًا وَشَرْطُ نَفَاذِ الْقَضَاءِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ أَنْ يَكُونَ فِي حَادِثَةٍ وَدَعْوَى صَحِيحَةٍ، فَإِنْ فَاتَ هَذَا الشَّرْطُ كَانَ فَتْوَى لَا حُكْمًا.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْقَضَاءُ نَفْسُهُ مُجْتَهَدًا فِيهِ، أَوْ كَانَ فِي مَحَلٍّ اخْتَلَفُوا أَنَّهُ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ، وَهُوَ الْحُكْمُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي النَّازِلَةِ مَوْضُوعِ الدَّعْوَى يَرْفَعُ الْخِلَافَ، فَلَا يَجُوزُ لِمُخَالِفٍ فِيهَا نَقْضُهَا، فَإِذَا حَكَمَ بِفَسْخِ عَقْدٍ أَوْ صِحَّتِهِ لِكَوْنِهِ يَرَى ذَلِكَ، لَمْ يَجُزْ لِقَاضٍ غَيْرِهِ وَلَا لَهُ نَقْضُهُ، وَهَذَا فِي الْخِلَافِ الْمُعْتَبَرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَبَيَّنَ لَهُ بِقِيَاسٍ خَفِيٍّ رَآهُ أَرْجَحَ مِمَّا حَكَمَ بِهِ وَأَنَّهُ الصَّوَابُ فَلَا يَنْقُضُ حُكْمَهُ، بَلْ يُمْضِيهِ وَيَحْكُمُ فِيمَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا رَآهُ ثَانِيًا.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اخْتُلِفَ فِي نَقْضِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ:
الْأَحْكَامُ الَّتِي يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِيهَا بَيْنَ الْقَوْلِ بِنَقْضِهَا وَالْقَوْلِ بِعَدَمِ النَّقْضِ مُتَعَدِّدَةٌ، وَيَتَعَذَّرُ حَصْرُهَا، وَأَهَمُّهَا:
أ- الْحُكْمُ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ:
16- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْحُكْمُ الْمُجْتَهَدُ فِيهِ: هُوَ مَا يَقَعُ الْخِلَافُ فِيهِ بَعْدَ وُجُودِ الْحُكْمِ، فَقِيلَ: يَنْفُذُ، وَقِيلَ: يَتَوَقَّفُ عَلَى إِمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ فَيَجُوزُ لِلْقَاضِي الثَّانِي أَنْ يَنْقُضَ قَضَاءَ الْأَوَّلِ إِذَا مَالَ اجْتِهَادُهُ إِلَى خِلَافِ اجْتِهَادِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ قَضَاءَهُ لَمْ يُجَزْ بِقَوْلِ الْكُلِّ، بَلْ بِقَوْلِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، فَلَمْ يَكُنْ جَوَازُهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلنَّقْضِ بِمِثْلِهِ، فَلَوْ أَبْطَلَهُ الثَّانِي بَطَلَ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُجِيزَهُ كَمَا لَوْ قَضَى لِوَلَدِهِ عَلَى أَجْنَبِيٍّ أَوْ لِامْرَأَتِهِ، لأَنَّ نَفْسَ الْقَضَاءِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
أَمَّا إِذَا أَمْضَاهُ الْقَاضِي الثَّانِي فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ حَكَمَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ، فَلَيْسَ لِلثَّالِثِ نَقْضُهُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْقَضَاءُ فِي مَحَلٍّ أَجْمَعُوا عَلَى كَوْنِهِ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ فِي مَحَلٍّ اخْتَلَفُوا أَنَّهُ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ كَبَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَنْفُذُ؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ، وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي جَوَازِ بَيْعِهَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَنْفُذُ لِوُقُوعِ الِاتِّفَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، فَخَرَجَ عَنْ مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُتَأَخِّرَ لَا يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ- عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ- أَمَّا مُحَمَّدٌ فَيَرَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُتَأَخِّرَ يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ، فَكَانَ هَذَا الْفَصْلُ مُخْتَلَفًا فِي كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ رَأْيِ الْقَاضِي الثَّانِي أَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَلَا يَرُدُّهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ رَأْيِهِ أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الِاجْتِهَادِ وَصَارَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ لَا يَنْفُذُ، بَلْ يَنْقُضُهُ لِأَنَّ قَضَاءَ الْأَوَّلِ وَقَعَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ فَكَانَ بَاطِلًا.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا اجْتَهَدَ لِنَفْسِهِ- فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ- فَحَكَمَ بِمَا هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَهُ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ بِاجْتِهَادٍ ثَانٍ أَنَّ الصَّوَابَ خِلَافُهُ فَلَا يَنْقُضُهُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ نَقْضُ هَذَا لِرَأْيِهِ الثَّانِي لَكَانَ لَهُ نَقْضُ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَلَا يَقِفُ عَلَى حَدٍّ، وَلَا يَثِقُ أَحَدٌ بِمَا قُضِيَ لَهُ بِهِ، وَذَلِكَ ضَرَرٌ شَدِيدٌ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، فَقَالُوا: يُفْسَخُ الْحُكْمُ.
وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مَا سَبَقَ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَاضِي حَكَمَ بِقَضِيَّةٍ فِيهَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَوَافَقَ قَوْلًا شَاذًّا نَقَضَ حُكْمَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَاذًّا لَمْ يَنْقُضْ حُكْمَهُ.قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: سَمِعْتُ ابْنَ الْقَاسِمِ يَقُولُ: الَّذِي يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ فَيَرْفَعُ أَمْرَهُ إِلَى مَنْ لَا يَرَى الْبَتَّةَ فَجَعَلَهَا وَاحِدَةً، فَتَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ- أَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: وَلَسْتُ أَرَاهُ، لَا يَرْجِعُ الْقَاضِي عَمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ وَلَا إِلَى مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ حَتَّى يَكُونَ الْأَوْلَى خَطَأً بَيِّنًا صُرَاحًا.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي الْمُسْتَنِدِ إِلَى اجْتِهَادِهِ الْمُخَالِفِ خَبَرَ الْوَاحِدِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ إِلاَّ تَأْوِيلًا بَعِيدًا يَنْبُو الْفَهْمُ عَنْ قَبُولِهِ- يُنْقَضُ، وَقِيلَ: لَا يُنْقَضُ، مِثَالُهُ الْقَضَاءُ بِنَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ- عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ- وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ بِلَا وَلِيٍّ.وَقِيلَ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ فِي مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ، وَصَحَّحَهُ فِي الرَّوْضَةِ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ قَضَى بِاجْتِهَادِهِ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، ثُمَّ بَانَ لَهُ فَسَادُ اجْتِهَادِهِ لَمْ يَجُزْ نَقْضُ حُكْمِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِلاَّ بِاجْتِهَادٍ ثَانٍ دُونَ الْأَوَّلِ، وَلَوْ بَانَ لَهُ فَسَادُ الِاجْتِهَادِ قَبْلَ تَنْفِيذِ الْحُكْمِ بِهِ حَكَمَ بِالِاجْتِهَادِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، قِيَاسًا عَلَى الْمُجْتَهِدِ فِي الْقِبْلَةِ إِنْ بَانَ لَهُ بِالِاجْتِهَادِ خَطَأُ مَا تَقَدَّمَ مِنِ اجْتِهَادِهِ قَبْلَ صَلَاتِهِ عَمِلَ عَلَى اجْتِهَادِهِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ بَانَ لَهُ بَعْدَ صَلَاتِهِ لَمْ يُعِدْ، وَصَلَّى، وَاسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ الثَّانِيَةَ بِالِاجْتِهَادِ الثَّانِي.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ إِذَا رَفَعَ إِلَى قَاضٍ حَكَمَ فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ لَا يَلْزَمُهُ نَقْضُهُ لِيُنَفِّذَهُ لَزِمَهُ تَنْفِيذُهُ فِي الْأَصَحِّ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ الْمَرْفُوعُ إِلَيْهِ صَحِيحًا، لِأَنَّهُ حُكْمٌ سَاغَ الْخِلَافُ فِيهِ، فَإِذَا حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ لَمْ يَجُزْ نَقْضُهُ فَوَجَبَ تَنْفِيذُهُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ نَفْسُ الْحُكْمِ مُخْتَلَفًا فِيهِ كَحُكْمِهِ بِعِلْمِهِ وَقِيلَ: يَحْرُمُ تَنْفِيذُ الْحُكْمِ إِذَا كَانَ الْقَاضِي الثَّانِي لَا يَرَى صِحَّةَ الْحُكْمِ، وَفِي الْمُحَرَّرِ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ قَاضٍ آخَرُ قَبْلَهُ.
ب- عَدَمُ عِلْمِ الْقَاضِي بِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ:
17- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا رُفِعَ إِلَى قَاضٍ حُكْمُ قَاضٍ آخَرَ نَفَّذَهُ، أَيْ: أُلْزِمَ الْحُكْمَ وَالْعَمَلَ بِمُقْتَضَاهُ، لَوْ مُجْتَهِدًا فِيهِ عَالِمًا بِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ، فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يَجُزْ قَضَاؤُهُ، وَلَا يُمْضِيهِ الثَّانِي فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، لَكِنْ فِي الْخُلَاصَةِ: وَيُفْتَى بِخِلَافِهِ- وَكَأَنَّهُ- تَيْسِيرًا.
وَأَضَافَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا قَضَى الْمُجْتَهِدُ فِي حَادِثَةٍ، لَهُ فِيهَا رَأْيٌ مُقَرَّرٌ قَبْلَ قَضَائِهِ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ الَّتِي قَصَدَ فِيهَا الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ، فَحَصَلَ حُكْمُهُ فِي الْمَحَلِّ الْمُخْتَلَفِ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، ثُمَّ بَانَ أَنَّ قَضَاءَهُ هَذَا عَلَى خِلَافِ رَأْيِهِ الْمُقَرَّرِ قَبْلَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ فَحِينَئِذٍ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، وَأَمَّا إِذَا وَافَقَ قَضَاؤُهُ رَأْيَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَعْلَمْ حَالَ قَضَائِهِ أَنَّ فِيهَا خِلَافًا، فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ بِأَنَّهُ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ حُكْمُ الْقَاضِي بِعَدَمِ عِلْمِهِ الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ، لِأَنَّ عِلْمَهُ بِالْخِلَافِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي صِحَّةِ الْحُكْمِ وَلَا بُطْلَانِهِ حَيْثُ وَافَقَ مُقْتَضَى الشَّرْعِ.
ج- الْخَطَأُ فِي الْحُكْمِ:
18- يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا قَصَدَ الْحُكْمَ بِشَيْءٍ فَأَخْطَأَ عَمَّا قَصَدَهُ لِغَفْلَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ أَوِ اشْتِغَالِ بَالٍ يُنْقَضُ حُكْمُهُ إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ، أَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ فَيَنْقُضُهُ الَّذِي أَصْدَرَهُ دُونَ غَيْرِهِ.
وَكَذَلِكَ يُنْقَضُ حُكْمُهُ إِذَا حَكَمَ بِالظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ وَلَا اجْتِهَادٍ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا قَضَى فِي الْمُجْتَهَدِ فِيهِ مُخَالِفًا لِرَأْيِهِ نَاسِيًا لِمَذْهَبِهِ نَفَذَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ كَانَ عَامِدًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْهُ، وَوَجْهُ النَّفَاذِ: أَنَّهُ لَيْسَ بِخَطَأٍ بِيَقِينٍ لِأَنَّ رَأْيَهُ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُ الصَّوَابَ، وَرَأْيُ غَيْرِهِ يَحْتَمِلُ الصَّوَابَ وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُ خَطَأً، فَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا خَطَأً بِيَقِينٍ، فَكَانَ حَاصِلُهُ قَضَاءً فِي مَحَلٍّ مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَيَنْفُذُ، وَوَجْهُ عَدَمِ النَّفَاذِ أَنَّ قَضَاءَهُ مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ غَيْرُ حَقٍّ عَبَثٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ.وَبِهَذَا أَخَذَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْأَوْزَجَنْدِيُّ، وَبِالْأَوَّلِ أَخَذَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَنْفُذُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ قَضَى بِمَا هُوَ خَطَأٌ عِنْدَهُ.
د- إِذَا خَالَفَ مَا يَعْتَقِدُهُ أَوْ خَالَفَ مَذْهَبَهُ:
19- إِذَا خَالَفَ الْقَاضِي الْمُجْتَهِدُ مَذْهَبَهُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَنْ غَفْلَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ اجْتَهَدَ، وَبِذَلِكَ لَا يَجُوزُ نَقْضُ حُكْمِهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ مُقَلِّدًا وَقَضَى فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ مُخَالِفًا لِمَذْهَبِهِ أَوْ رَأْيِ مُقَلَّدِهِ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَنْقُضُ هُوَ حُكْمَهُ دُونَ غَيْرِهِ.
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْمُقَلِّدُ غَيْرَ مُتَبَحِّرٍ، وَأَنْ تَكُونَ الْمُخَالَفَةُ لِلْمُعْتَمَدِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ، وَأَنَّهُ لَوْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَذْهَبِ مَنْ قَلَّدَهُ لَمْ يُنْقَضْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِلْمُقَلِّدِ تَقْلِيدَ مَنْ شَاءَ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ الْقَاضِي مُتَّبِعًا لِإِمَامٍ فَخَالَفَهُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ لِقُوَّةِ دَلِيلٍ أَوْ قَلَّدَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ أَوْ أَتْقَى مِنْهُ فَحَسَنٌ، وَلَمْ يُقْدَحْ فِي عَدَالَتِهِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي شَرْحِ مَجَلَّةِ الْأَحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: أَنَّ الْقَاضِيَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِ مُجْتَهِدٍ خِلَافَ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي أُمِرَ بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ فِي الْمَسَائِلِ الْمُجْتَهَدِ فِيهَا، فَإِنْ عَمِلَ وَحَكَمَ لَا يُنَفَّذُ حُكْمُهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ بِالْحُكْمِ بِمَا يُنَافِي ذَلِكَ الرَّأْيَ لَمْ يَكُنِ الْقَاضِي قَاضِيًا لِلْحُكْمِ بِالرَّأْيِ الْمَذْكُورِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقَاضِيَ الْمُجْتَهِدَ وَالْمُقَلِّدَ إِذَا حَكَمَ فِي قَضِيَّةٍ ثُمَّ جَدَّتْ أُخْرَى مُمَاثِلَةً فَإِنَّ حُكْمَهُ لَا يَتَعَدَّى لِلدَّعْوَى الْأُخْرَى، فَالْمُجْتَهِدُ يَجْتَهِدُ فِي النَّازِلَةِ الْجَدِيدَةِ، وَالْمُقَلِّدُ يَحْكُمُ بِمَا حَكَمَ بِهِ أَوَّلًا مِنْ رَاجِحِ قَوْلِ مُقَلَّدِهِ، وَلِغَيْرِهِ مِنْ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ أَنْ يَحْكُمَ بِضِدِّهِ، كَمَا لَوْ حَكَمَ بِفَسْخِ نِكَاحِ مَنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِلَا وَلِيٍّ، ثُمَّ تَجَدَّدَ مِثْلُهَا، فَنَظَرَهَا قَاضٍ يَرَى صِحَّةَ الزَّوَاجِ بِدُونِ وَلِيٍّ، فَإِنَّهُ يَحْكُمُ بِصِحَّتِهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا ارْتَفَعَ فِيهَا الْخِلَافُ وَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ نَقْضُهُ، حَتَّى وَلَوْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْقَضِيَّةِ الْأُولَى هِيَ ذَاتَ الْمَرْأَةِ فِي الْقَضِيَّةِ الثَّانِيَةِ.
وَإِذَا خَالَفَ الْقَاضِي مَا يَعْتَقِدُهُ: بِأَنْ حَكَمَ بِمَا لَا يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ يَلْزَمُهُ نَقْضُهُ لِاعْتِقَادِهِ بُطْلَانَهُ، فَإِنِ اعْتَقَدَهُ صَحِيحًا وَقْتَ الْحُكْمِ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ وَلَا نَصَّ وَلَا إِجْمَاعَ لَمْ يَنْقُضْهُ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
133-موسوعة الفقه الكويتية (نكاح 1)
نِكَاحٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- النِّكَاحُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ نَكَحَ، يُقَالُ: نَكَحَ يَنْكِحُ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ نِكَاحًا: مِنْ بَابِ ضَرَبَ، قَالَ ابْنُ فَارِسٍ وَغَيْرُهُ: يُطْلَقُ عَلَى الْوَطْءِ، وَعَلَى الْعَقْدِ دُونَ الْوَطْءِ، وَيُقَالُ: نُكِحَتِ الْمَرْأَةُ: تَزَوَّجَتْ، وَنَكَحَ فُلَانٌ امْرَأَةً: تَزَوَّجَهَا، قَالَ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وَنَكَحَ الْمَرْأَةَ: بَاضَعَهَا.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِ النِّكَاحِ:
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: النِّكَاحُ عَقْدٌ يُفِيدُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ بِالْأُنْثَى قَصْدًا، أَيْ يُفِيدُ حِلَّ اسْتِمْتَاعِ الرَّجُلِ مِنَ امْرَأَةٍ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ نِكَاحِهَا مَانِعٌ شَرْعِيٌّ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: النِّكَاحُ عَقْدٌ لِحِلِّ تَمَتُّعٍ بِأُنْثَى غَيْرِ مَحْرَمٍ وَمَجُوسِيَّةٍ وَأَمَةٍ كِتَابِيَّةٍ بِصِيغَةٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: النِّكَاحُ عَقْدٌ يَتَضَمَّنُ إِبَاحَةَ وَطْءٍ بِلَفْظِ إِنْكَاحٍ أَوْ تَزْوِيجٍ أَوْ تَرْجَمَتِهِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: النِّكَاحُ عَقْدُ التَّزْوِيجِ، أَيْ عَقْدٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ لَفْظُ نِكَاحٍ أَوْ تَزْوِيجٍ أَوْ تَرْجَمَتُهُ.
حَقِيقَةُ النِّكَاحِ:
2- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِيقَةِ النِّكَاحِ إِلَى ثَلَاثَةِ آرَاءٍ:
الرَّأْيُ الْأَوَّلُ: أَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ مَجَازٌ فِي الْعَقْدِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ الْقَاضِي مِنْهُمْ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ مُجَرَّدًا عَنِ الْقَرَائِنِ- أَيْ مُحْتَمِلًا لِلْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ بِلَا مُرَجِّحٍ خَارِجٍ- يُرَادُ بِهِ الْوَطْءُ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ خَلَفٌ عَنِ الْحَقِيقَةِ، فَتَتَرَجَّحُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهَا، كَمَا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} بِخِلَافِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} لِإِسْنَادِهِ إِلَيْهَا، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا الْعَقْدُ لَا الْوَطْءُ إِلاَّ مَجَازًا.
الرَّأْيُ الثَّانِي:
أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ مَجَازٌ فِي الْوَطْءِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْعَقْدِ مَا لَمْ يَصْرِفْهُ دَلِيلٌ لِأَنَّهُ الْمَشْهُورُ فِي الْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ اللَّذَيْنِ يَنْعَقِدُ بِهِمَا عَقْدُ النِّكَاحِ، فَكَانَ حَقِيقَةً فِيهِ كَاللَّفْظِ الْآخَرِ، وَقَدْ قِيلَ: لَيْسَ فِي الْكِتَابِ لَفْظُ النِّكَاحِ بِمَعْنَى الْوَطْءِ إِلاَّ قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} لِخَبَرِ: «حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ» وَلِصِحَّةِ نَفْيِهِ عَنِ الْوَطْءِ، وَلِأَنَّهُ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَلَا يَتَبَادَرُ الذِّهْنُ إِلاَّ إِلَيْهِ فَهُوَ مَا نَقَلَهُ الْعُرْفُ.
الرَّأْيُ الثَّالِثُ:
أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي كُلٍّ مِنَ الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ، وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ لَفْظِيٌّ فِيهِمَا أَوْ مُشْتَرَكٌ مَعْنَوِيٌّ فِيهِمَا.
وَقَالَ بَهْرَامُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَيُسْتَعْمَلُ لَفْظُ النِّكَاحِ- فِي الشَّرْعِ- فِي الْوَجْهَيْنِ، لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ فِيهِمَا جَمِيعًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ: إِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا بِالِاشْتِرَاكِ كَالْعَيْنِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ: هُوَ مُشْتَرَكٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ، قَالَ الْمَرْدَاوِيُّ: وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا مَعًا، فَلَا يُقَالُ: هُوَ حَقِيقَةٌ عَلَى أَحَدِهِمَا بِانْفِرَادِهِ، بَلْ عَلَى مَجْمُوعِهِمَا، فَهُوَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُتَوَاطِئَةِ، قَالَ ابْنُ رَزِينٍ: هُوَ الْأَشْبَهُ، قَالَ الْمَرْدَاوِيُّ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاشْتِرَاكِ وَالتَّوَاطُؤِ: أَنَّ الِاشْتِرَاكَ يُقَالُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ حَقِيقَةً بِخِلَافِ الْمُتَوَاطِئِ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ حَقِيقَةً إِلاَّ عَلَيْهِمَا مُجْتَمِعَيْنِ.
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي حَقِيقَةِ النِّكَاحِ:
3- يَتَرَتَّبُ عَلَى اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي حَقِيقَةِ النِّكَاحِ اخْتِلَافُ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ.
فَمَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَى أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ الزِّنَا لَا يُثْبِتُ الْمُصَاهَرَةَ، فَلِمَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِفُرُوعِهَا وَأُصُولِهَا، وَلِأَبِيهِ وَابْنِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، قَالَ الشَّبْرَامَلِّسِيُّ: بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ لَا يُسَمَّى نِكَاحًا وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّحْرِيمُ بِالْمُصَاهَرَةِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ حَيْثُ أُطْلِقَ حُمِلَ عَلَى الْعَقْدِ إِلاَّ بِقَرِينَةٍ، فَنَحْوُ قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} مَعْنَاهُ: لَا تَنْكِحُوا مَنْ عَقَدَ عَلَيْهَا آبَاؤُكُمْ، وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ مَنْ زَنَى بِهَا أَبُوهُ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ الزِّنَا لَا حُكْمَ لَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} وَلَيْسَتِ الَّتِي زَنَى بِهَا مِنْ أُمَّهَاتِ نِسَائِهِ وَلَا ابْنَتُهَا مِنْ رَبَائِبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ارْتَفَعَ الصَّدَاقُ فِي الزِّنَا وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ وَالْمِيرَاثِ وَلُحُوقِ الْوَلَدِ وَوَجَبَ الْحَدُّ ارْتَفَعَ أَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِحُكْمِ النِّكَاحِ الْجَائِزِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ رَجُلٍ زَنَى بِامْرَأَةٍ، فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا أَوِ ابْنَتَهَا فَقَالَ: لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ، إِنَّمَا يُحَرِّمُ مَا كَانَ بِنِكَاحٍ».
وَمِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي حَقِيقَةِ النِّكَاحِ: أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَنْكِحُ، وَمَنْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى النِّكَاحِ فَإِنَّ الْحِنْثَ وَوُقُوعَ الطَّلَاقِ بِالْوَطْءِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إِنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَبِالْعَقْدِ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ فِيهِ.
وَفَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا: لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ نَكَحْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ تَعَلَّقَ بِالْوَطْءِ، وَكَذَا لَوْ أَبَانَهَا قَبْلَ الْوَطْءِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا تَطْلُقُ بِهِ لَا بِالْعَقْدِ، بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيَّةِ فَيَتَعَلَّقُ بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ وَطْئَهَا لَمَّا حَرُمَ عَلَيْهِ شَرْعًا كَانَتِ الْحَقِيقَةُ مَهْجُورَةً فَتَعَيَّنَ الْمَجَازُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ حَلَفَ لَا يَنْكِحُ حَنِثَ بِالْعَقْدِ لَا بِالْوَطْءِ، إِلاَّ إِذَا نَوَاهُ، وَكَذَا لَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى النِّكَاحِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْخِطْبَةُ:
4- الْخِطْبَةُ- بِكَسْرِ الْخَاءِ- فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ خَطَبَ، يُقَالُ: خَطَبَ الْمَرْأَةَ خَطْبًا وَخِطْبَةً: طَلَبُهَا لِلزَّوَاجِ، وَخَطَبَهَا إِلَى أَهْلِهَا: طَلَبَهَا مِنْهُمْ لِلزَّوَاجِ، وَاخْتَطَبَ الْقَوْمُ فُلَانًا: إِذَا دَعَوْهُ إِلَى تَزْوِيجِ صَاحِبَتِهِمْ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْخِطْبَةُ مُقَدِّمَةٌ لِلنِّكَاحِ.
ب- السِّفَاحُ:
5- السِّفَاحُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ سَافَحَ، يُقَالُ: سَافَحَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ سِفَاحًا وَمُسَافَحَةً، وَهُوَ الْمُزَانَاةُ وَالْفُجُورُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يُصَبُّ ضَائِعًا، وَفِي النِّكَاحِ غُنْيَةٌ عَنِ السِّفَاحِ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالسِّفَاحُ ضِدُّ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي السِّفَاحِ حَرَامٌ، وَفِي النِّكَاحِ حَلَالٌ.
ج- الطَّلَاقُ:
6- الطَّلَاقُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ طَلَقَ- بِفَتْحِ اللاَّمِ وَضَمِّهَا- يُقَالُ: طَلَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا طَلَاقًا: بَانَتْ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الطَّلَاقُ حَلُّ عَقْدِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ وَنَحْوِهِ، أَوْ كَمَا قَالَ الْحَنَابِلَةُ: حَلُّ قَيْدِ النِّكَاحِ أَوْ بَعْضِهِ- أَيْ بَعْضِ قَيْدِ النِّكَاحِ- إِذَا طَلَّقَهَا طَلْقَةً رَجْعِيَّةً وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الطَّلَاقَ حَلٌّ لِقَيْدِ النِّكَاحِ.
مَشْرُوعِيَّةُ النِّكَاحِ وَحِكْمَتُهُ:
7- ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ النِّكَاحِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ:
فَمِنَ الْكِتَابِ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ}.
وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ».
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ مَشْرُوعٌ، وَنَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ شُرِعَ مِنْ عَهْدِ آدَمَ- عليه السلام-، وَاسْتَمَرَّتْ مَشْرُوعِيَّتُهُ، بَلْ هُوَ مُسْتَمِرٌّ فِي الْجَنَّةِ.
وَأَمَّا حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ النِّكَاحِ فَهِيَ مُتَعَدِّدَةُ الْجَوَانِبِ، مِنْهَا: حِفْظُ النَّسْلِ، وَإِخْرَاجُ الْمَاءِ الَّذِي يَضُرُّ احْتِبَاسُهُ بِالْبَدَنِ، وَنَيْلُ اللَّذَّةِ، وَهَذِهِ الْأَخِيرَةُ هِيَ الَّتِي فِي الْجَنَّةِ؛ إِذْ لَا تَنَاسُلَ هُنَاكَ وَلَا احْتِبَاسَ.
وَقَالَ الْبَابَرْتِيُّ: مَا اتُّفِقَ فِي حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مِثْلَ مَا اتُّفِقَ فِي النِّكَاحِ مِنَ اجْتِمَاعِ دَوَاعِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَالطَّبْعِ، فَأَمَّا دَوَاعِي الشَّرْعِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا دَوَاعِي الْعَقْلِ: فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يُحِبُّ أَنْ يَبْقَى اسْمُهُ وَلَا يَنْمَحِيَ رَسْمُهُ، وَمَا ذَلِكَ غَالِبًا إِلاَّ بِبَقَاءِ النَّسْلِ، وَأَمَّا دَوَاعِي الطَّبْعِ: فَإِنَّ الطَّبْعَ الْبَهِيمِيَّ مِنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى يَدْعُو إِلَى تَحْقِيقِ مَا أُعِدَّ مِنَ الْمُبَاضَعَاتِ الشَّهْوَانِيَّةِ وَالْمُضَاجَعَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ وَلَا مَزْجَرَةَ فِيهَا إِذَا كَانَتْ بِأَمْرِ الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَتْ بِدَوَاعِي الطَّبْعِ بَلْ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ: يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْعَقْدِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، مِنْ ذَلِكَ حِفْظُ النِّسَاءِ وَالْقِيَامُ عَلَيْهِنَّ وَالْإِنْفَاقُ، وَصِيَانَةُ النَّفْسِ عَنِ الزِّنَا، وَتَكْثِيرُ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَأُمَّةِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم-، وَتَحْقِيقُ مُبَاهَاةِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- كَمَا قَالَ: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأَنْبِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنِّي لأَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ وَمَا لِي فِيهَا حَاجَةٌ، وَأَطَؤُهَا وَمَا أَشْتَهِيهَا، قِيلَ لَهُ: وَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: حُبِّي أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنِّي مَنْ يُكَاثِرُ بِهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- النَّبِيِّينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَأَضَافَ السَّرَخْسِيُّ قَوْلَهُ: وَسَبَبُهُ تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمَقْدُورِ بِهِ إِلَى وَقْتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِبَقَاءِ الْعَالَمِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَبِالتَّنَاسُلِ يَكُونُ هَذَا الْبَقَاءُ، وَهَذَا التَّنَاسُلُ يَحْصُلُ عَادَةً بِالْوَطْءِ، فَجَعَلَ الشَّرْعُ طَرِيقَ ذَلِكَ الْوَطْءِ النِّكَاحَ؛ لِأَنَّ فِي التَّغَالُبِ فَسَادًا، وَفِي الْإِقْدَامِ بِغَيْرِ مِلْكٍ اشْتِبَاهَ الْأَنْسَابِ وَهُوَ سَبَبٌ لِضَيَاعِ النَّسْلِ، وَهَذَا الْمِلْكُ عَلَى مَا عَلَيْهِ أَصْلُ الْآدَمِيِّ مِنَ الْحُرِّيَّةِ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِطَرِيقِ النِّكَاحِ، فَهَذَا مَعْنَى أَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ الْبَقَاءُ الْمَقْدُورُ إِلَى وَقْتِهِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ النِّكَاحَ تَجْرِي عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ، فَيَكُونُ وَاجِبًا- أَوْ فَرْضًا- أَوْ مُسْتَحَبًّا أَوْ مُبَاحًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ حَرَامًا، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
أَوَّلًا: الْوُجُوبُ:
8- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: النِّكَاحُ يَكُونُ وَاجِبًا عِنْدَ التَّوَقَانِ، أَيْ شِدَّةِ الِاشْتِيَاقِ بِحَيْثُ يَخَافُ الْوُقُوعَ فِي الزِّنَا لَوْ لَمْ يَتَزَوَّجْ؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنَ الِاشْتِيَاقِ إِلَى الْجِمَاعِ الْخَوْفُ الْمَذْكُورُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَكَذَا فِيمَا يَظْهَرُ لَوْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ مَنْعُ نَفْسِهِ عَنِ النَّظَرِ الْمُحَرَّمِ أَوْ عَنِ الِاسْتِمْنَاءِ بِالْكَفِّ، فَيَجِبُ التَّزَوُّجُ وَإِنْ لَمْ يَخَفِ الْوُقُوعَ فِي الزِّنَا.
وَيَكُونُ النِّكَاحُ فَرْضًا إِنْ تَيَقَّنَ الزِّنَا إِلاَّ بِهِ، بِأَنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنِ الزِّنَا إِلاَّ بِهِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى تَرْكِ الْحَرَامِ إِلاَّ بِهِ يَكُونُ فَرْضًا.
وَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ النِّكَاحِ أَوْ فَرْضِهِ أَنْ يَمْلِكَ مَنْ قَامَتْ بِهِ حَالَةُ الْوُجُوبِ أَوِ الْفَرْضِ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَزَادَ فِي الْبَحْرِ شَرْطًا آخَرَ فِيهِمَا وَهُوَ: عَدَمُ الْجَوْرِ أَيِ الظُّلْمِ، فَإِنْ وُجِدَتِ الشُّرُوطُ كَانَ الْحُكْمُ، وَإِلاَّ فَلَا إِثْمَ بِتَرْكِ النِّكَاحِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجِبُ النِّكَاحُ عَلَى الرَّاغِبِ إِنْ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الزِّنَا إِذَا لَمْ يَتَزَوَّجْ، وَإِنْ أَدَّى إِلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا مِنْ حَرَامٍ، أَوْ أَدَّى إِلَى عَدَمِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا مَعَ وُجُوبِ إِعْلَامِهَا بِذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجِبُ النِّكَاحُ لَوْ خَافَ الْعَنَتَ وَتَعَيَّنَ طَرِيقًا لِدَفْعِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ، وَحَكَى ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ هَذَا الْحُكْمَ وَجْهًا فَقَالَ: وَوَجْهٌ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ خَافَ زِنًا، قِيلَ: مُطْلَقًا لِأَنَّ الْإِحْصَانَ لَا يُوجَدُ إِلاَّ بِهِ، وَقِيلَ: إِنْ لَمْ يُرِدِ التَّسَرِّيَ، وَتَلْحَقُ الْمَرْأَةُ بِالرَّجُلِ فِي هَذَا الْحُكْمِ فَيَجِبُ النِّكَاحُ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا يَنْدَفِعُ عَنْهَا الْفَجَرَةُ إِلاَّ بِالنِّكَاحِ.
وَقَالُوا: يَجِبُ النِّكَاحُ بِالنَّذْرِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُ، قَالَ الشَّرْوَانِيُّ: خِلَافًا لِنِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ وَالشِّهَابِ الرَّمْلِيِّ.
وَقَالَ الشَّمْسُ الرَّمْلِيُّ: لَا يُلْزَمُ بِالنَّذْرِ مُطْلَقًا وَإِنِ اسْتَحَبَّ كَمَا أَفْتَى بِهِ الْوَالِدُ- رحمه الله- (، قَالَ الشَّبْرَامَلِّسِيُّ: سَوَاءٌ احْتَاجَ إِلَيْهِ أَمْ لَا، تَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَيْهِ أَمْ لَا.
وَقِيلَ: النِّكَاحُ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الْأُمَّةِ لَا يَسُوغُ لِجَمَاعَتِهِمِ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ لِبَقَاءِ النَّسْلِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ النِّكَاحُ عَلَى مَنْ يَخَافُ الزِّنَا بِتَرْكِ النِّكَاحِ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ، سَوَاءً كَانَ خَوْفُهُ ذَلِكَ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا، لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ إِعْفَافُ نَفْسِهِ وَصَرْفُهَا عَنِ الْحَرَامِ، وَطَرِيقُهُ النِّكَاحُ، وَيُقَدَّمُ حِينَئِذٍ عَلَى حَجٍّ وَاجِبٍ نَصًّا لِخَشْيَةِ الْمَحْظُورِ بِتَأْخِيرِهِ بِخِلَافِ الْحَجِّ.
وَفَصَّلَ الْبُهُوتِيُّ بَعْضَ الْمَسَائِلِ فَقَالَ: وَلَا يَكْتَفِي فِي الْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ الْوُجُوبِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ يَكُونُ التَّزْوِيجُ فِي مَجْمُوعِ الْعُمُرِ لِتَنْدَفِعَ خَشْيَةُ الْوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ.
وَلَا يَكْتَفِي فِي الِامْتِثَالِ بِالْعَقْدِ فَقَطْ، بَلْ يَجِبُ الِاسْتِمْتَاعُ لِأَنَّ خَشْيَةَ الْمَحْظُورِ لَا يَنْدَفِعُ إِلاَّ بِهِ.
وَيُجْزِئُ تَسَرٍّ عَنْهُ لقوله تعالى: {فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}.
وَمَنْ أَمَرَهُ بِالنِّكَاحِ وَالِدَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا قَالَ أَحْمَدُ: أَمَرْتُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ لِوُجُوبِ بِرِّ وَالِدَيْهِ، قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَالَّذِي يَحْلِفُ بِالطَّلَاقِ لَا يَتَزَوَّجُ أَبَدًا إِنْ أَمَرَهُ بِهِ أَبُوهُ تَزَوَّجَ، قَالَ الشَّيْخُ: وَلَيْسَ- لِأَبَوَيْهِ- إِلْزَامُهُ بِنِكَاحِ مَنْ لَا يُرِيدُ نِكَاحَهَا لِعَدَمِ حُصُولِ الْغَرَضِ بِهَا.
وَيَجِبُ النِّكَاحُ بِالنَّذْرِ مِنْ ذِي الشَّهْوَةِ، لِحَدِيثِ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ» وَأَمَّا نَحْوُ الْعِنِّينِ فَيُخَيَّرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَفَّارَةِ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ إِذَا نَذَرَهَا.
ثَانِيًا: النَّدْبُ:
9- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: النِّكَاحُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فِي الْأَصَحِّ- وَهُوَ مَحْمَلُ الْقَوْلِ بِالِاسْتِحْبَابِ- فَيَأْثَمُ بِتَرْكِهِ، لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ مُؤْثِمٌ، وَيُثَابُ إِنْ نَوَى وَلَدًا وَتَحْصِينًا، أَيْ مَنْعَ نَفْسِهِ وَنَفْسِهَا عَنِ الْحَرَامِ، وَكَذَا لَوْ نَوَى مُجَرَّدَ الِاتِّبَاعِ وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَوَى مُجَرَّدَ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَاللَّذَّةِ، وَهَذَا الْحُكْمُ فِي حَالِ الِاعْتِدَالِ، أَيِ الْقُدْرَةِ عَلَى وَطْءٍ وَمَهْرٍ وَنَفَقَةٍ، وَأَمَّا حَالُ الِاعْتِدَالِ فِي التَّوَقَانِ فَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَكُونَ بِالْمَعْنَى الْمَارِّ فِي الْوَاجِبِ وَالْفَرْضِ وَهُوَ شِدَّةُ الِاشْتِيَاقِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ فِي غَايَةِ الْفُتُورِ كَالْعِنِّينِ، بَلْ يَكُونُ بَيْنَ الْفُتُورِ وَالشَّوْقِ، وَأَمَّا الْقُدْرَةُ عَلَى الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ فَلِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْهُمَا يُسْقِطُ الْفَرْضَ فَيُسْقِطُ السُّنِّيَّةَ بِالْأَوْلَى.
وَمَنْ قَالَ: إِنَّ النِّكَاحَ مَنْدُوبٌ وَمُسْتَحَبٌّ فَإِنَّهُ يُرَجِّحُهُ عَلَى النَّوَافِلِ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُنَّةٌ، قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «النِّكَاحُ مِنْ سُنَّتِي» وَالسُّنَنُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى النَّوَافِلِ، وَلِأَنَّهُ أَوْعَدَ عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ النَّفَرِ الثَّلَاثَةِ: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» وَلَا وَعِيدَ عَلَى تَرْكِ النَّوَافِلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَوَاظَبَ عَلَيْهِ، أَيْ دَاوَمَ وَثَبَتَ عَلَيْهِ، بِحَيْثُ لَمْ يُخِلَّ عَنْهُ، بَلْ كَانَ يَزِيدُ عَلَيْهِ حَتَّى تَزَوَّجَ عَدَدًا مِمَّا أُبِيحَ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ، وَلَوْ كَانَ التَّخَلِّي أَفْضَلَ لَمَا فَعَلَ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَتْرُكُونَ الْأَفْضَلَ فِيمَا لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ، لِأَنَّ تَرْكَ الْأَفْضَلِ فِيمَا لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ يُعَدُّ زَلَّةً مِنْهُمْ، وَإِذَا ثَبَتَ أَفْضَلِيَّةُ النِّكَاحِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- ثَبَتَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرَائِعِ هُوَ الْعُمُومُ، وَالْخُصُوصُ بِدَلِيلٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَقْصُودٍ هُوَ مُفَضَّلٌ عَلَى النَّوَافِلِ، لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِصِيَانَةِ النَّفْسِ عَنِ الْفَاحِشَةِ، وَسَبَبٌ لِصِيَانَةِ نَفْسِهَا- أَيِ الزَّوْجَةِ- عَنِ الْهَلَاكِ بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَاللِّبَاسِ لِعَجْزِهَا عَنِ الْكَسْبِ، وَسَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ الْمُوَحِّدِ، وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ مُفَضَّلٌ عَلَى النَّوَافِلِ، فَكَذَا السَّبَبُ الْمُوَصِّلُ إِلَيْهِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الشَّخْصُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي النِّكَاحِ رَغْبَةٌ أَوْ لَا: فَالرَّاغِبُ إِنْ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الزِّنَا إِذَا لَمْ يَتَزَوَّجْ وَجَبَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَدَّى إِلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا مِنْ حَرَامٍ أَوْ أَدَّى إِلَى عَدَمِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، أَوْ مَعَ وُجُودِ مُقْتَضَى تَحْرِيمِ غَيْرِ ذَلِكَ.وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ إِعْلَامِهَا بِذَلِكَ.
وَإِنْ لَمْ يَخْشَ عَلَى نَفْسِهِ الزِّنَا نُدِبَ لَهُ النِّكَاحُ إِلاَّ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى حَرَامٍ فَيُحَرَّمُ.وَغَيْرُ الرَّاغِبِ إِنْ أَدَّاهُ إِلَى قَطْعٍ مَنْدُوبٍ كُرِهَ وَإِلاَّ أُبِيحَ إِلاَّ أَنْ يَرْجُوَ نَسْلًا أَوْ يَنْوِيَ خَيْرًا مِنْ نَفَقَةٍ عَلَى فَقِيرَةٍ أَوْ صَوْنٍ لَهَا فَيُنْدَبُ مَا لَمْ يُؤَدِّ إِلَى مُحَرَّمٍ وَإِلاَّ حُرِّمَ.وَالْأَصْلُ فِي النِّكَاحِ النَّدْبُ.
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ النَّدْبَ بِأَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا ذَا أُهْبَةٍ، وَزَادَ الْحَطَّابُ بِأَنْ لَا يَخْشَى الْعَنَتَ.
وَنَقَلَ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ أَنَّ الْإِنْفَاقَ مِنَ الْكَسْبِ الْحَرَامِ لَا يَجُوزُ مَعَهُ النِّكَاحُ وَإِنْ عَلِمَتِ الْمَرْأَةُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: النِّكَاحُ مُسْتَحَبٌّ لِمُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، أَيْ تَائِقٍ لَهُ، بِأَنْ تَتُوقَ نَفْسُهُ إِلَى الْوَطْءِ، وَلَوْ خَصِيًّا كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْإِحْيَاءِ، يَجِدُ أُهْبَتَهُ مِنْ مَهْرٍ، وَكُسْوَةِ فَصْلِ التَّمْكِينِ، وَنَفَقَةِ يَوْمِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَعَبِّدًا، تَحْصِينًا لِدِينِهِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ بَقَاءِ النَّسْلِ وَحِفْظِ النَّسَبِ، وَلِلِاسْتِعَانَةِ عَلَى الْمَصَالِحِ، وَلِخَبَرِ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ لقوله تعالى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} إِذِ الْوَاجِبُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِطَابَةِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} وَلَا يَجِبُ الْعَدَدُ بِالْإِجْمَاعِ وَلِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ لَهُ شَهْوَةٌ وَلَا يَخَافُ الزِّنَا يُسَنُّ لَهُ النِّكَاحُ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ»، عَلَّلَ أَمْرَهُ بِأَنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَخَاطَبَ الشَّبَابَ لِأَنَّهُمْ أَغْلَبُ شَهْوَةً، وَذَكَرَهُ بِأَفْعَلِ التَّفْضِيلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى لِلْأَمْنِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مَحْظُورِ النَّظَرِ وَالزِّنَا، وَيُسَنُّ لَهُ وَلَوْ كَانَ فَقِيرًا عَاجِزًا عَنِ الْإِنْفَاقِ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصْبِحُ وَمَا عِنْدَهُمْ شَيْءٌ، وَيُمْسِي وَمَا عِنْدَهُمْ شَيْءٌ، وَلِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- «زَوَّجَ رَجُلًا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى خَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَلَا وَجَدَ إِلاَّ إِزَارَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رِدَاءٌ» وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رَجُلٍ قَلِيلِ الْكَسْبِ يَضْعُفُ قَلْبُهُ عَنِ التَّزَوُّجِ: اللَّهُ يَرْزُقُهُمُ، التَّزَوُّجُ أَحْصَنُ لَهُ.
هَذَا فِي حَقِّ مَنْ يُمْكِنُهُ التَّزَوُّجُ، فَأَمَّا مَنْ لَا يُمْكِنُهُ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وَنَقَلَ صَالِحٌ: يَقْتَرِضُ وَيَتَزَوَّجُ، وَاشْتِغَالُ ذِي الشَّهْوَةِ بِالنِّكَاحِ أَفْضَلُ مِنْ نَوَافِلِ الْعِبَادَةِ وَمِنَ التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ الْعِبَادَةِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-: لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ أَجْلِي إِلاَّ عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَأَعْلَمُ أَنِّي أَمُوتُ فِي آخِرِهَا يَوْمًا وَلِي طَوْلُ النِّكَاحِ فِيهِنَّ لَتَزَوَّجْتُ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ، قَالَ أَحْمَدُ: لَيْسَتِ الْعُزُوبَةُ مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ، وَلِأَنَّ مَصَالِحَ النِّكَاحِ أَكْثَرُ مِنْ مَصَالِحِ التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ الْعِبَادَةِ، لِاشْتِمَالِهِ عَلَى تَحْصِينِ فَرْجِ نَفْسِهِ وَزَوْجَتِهِ، وَحِفْظِهَا، وَالْقِيَامِ بِهَا، وَإِيجَادِ النَّسْلِ، وَتَكْثِيرِ الْأُمَّةِ، وَتَحْقِيقِ مُبَاهَاةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الرَّاجِحِ أَحَدُهَا عَلَى نَفْلِ الْعِبَادَةِ.
ثَالِثًا: الْكَرَاهَةُ:
10- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَكُونُ النِّكَاحُ مَكْرُوهًا- أَيْ تَحْرِيمًا- لِخَوْفِ الْجَوْرِ، فَإِنْ تَعَارَضَ خَوْفُ الْوُقُوعِ فِي الزِّنَا لَوْ لَمْ يَتَزَوَّجْ وَخَوْفَ الْجَوْرِ لَوْ تَزَوَّجَ قُدِّمَ الثَّانِي، فَلَا افْتِرَاضَ بَلْ يُكْرَهُ، لِأَنَّ الْجَوْرَ مَعْصِيَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْعِبَادِ، وَالْمَنْعُ مِنَ الزِّنَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عِنْدَ التَّعَارُضِ لِاحْتِيَاجِهِ وَغِنَى الْمَوْلَى تَعَالَى.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ النِّكَاحُ لِمَنْ لَا يَشْتَهِيهِ وَيَقْطَعُهُ عَنْ عِبَادَةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ لَمْ يَحْتَجْ لِلنِّكَاحِ بِأَنْ لَمْ تَتُقْ نَفْسُهُ لَهُ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ، أَوْ لِعَارِضٍ كَمَرَضٍ أَوْ عَجْزٍ..كُرِهَ لَهُ إِنْ فَقَدَ الْأُهْبَةَ، لِمَا فِيهِ مِنِ الْتِزَامٍ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَحُكْمُ الِاحْتِيَاجِ لِلتَّزْوِيجِ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ غَيْرِ النِّكَاحِ كَخِدْمَةٍ وَتَأَنُّسٍ كَالِاحْتِيَاجِ لِلنِّكَاحِ كَمَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ، وَفِي الْإِحْيَاءِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَنُقِلَ عَنِ الْبَلْقِينِيِّ أَنَّ مَحَلَّ الْكَرَاهَةِ فِيمَنْ يَصِحُّ نِكَاحُهُ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ، أَمَّا مَنْ لَا يَصِحُّ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ كَالسَّفِيهِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ النِّكَاحُ حِينَئِذٍ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي رَأْيٍ عِنْدَهُمْ حُكِيَ بِقِيلَ يُكْرَهُ النِّكَاحُ لِمَنْ لَا شَهْوَةَ لَهُ، قَالَ الْمَرْدَاوِيُّ فِي الْإِنْصَافِ: وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ عَنْ هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ لِمَنْعِ مَنْ يَتَزَوَّجُهَا مِنَ التَّحْصِينِ بِغَيْرِهِ، وَيَضُرُّهَا بِحَبْسِهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَيُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِوَاجِبَاتٍ وَحُقُوقٍ لَعَلَّهُ لَا يَقُومُ بِهَا، وَيَشْتَغِلُ عَنِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ.
رَابِعًا: الْحُرْمَةُ:
11- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَكُونُ النِّكَاحُ حَرَامًا إِنْ تَيَقَّنَ الْجَوْرَ، لِأَنَّ النِّكَاحَ إِنَّمَا شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ تَحْصِينِ النَّفْسِ وَتَحْصِيلِ الثَّوَابِ بِالْوَلَدِ الَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُوَحِّدُهُ، وَبِالْجَوْرِ يَأْثَمُ وَيَرْتَكِبُ الْمُحَرَّمَاتِ، فَتَنْعَدِمُ الْمَصَالِحُ لِرُجْحَانِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَحْرُمُ عَلَيْهِ النِّكَاحُ إِذَا لَمْ يَخْشَ الزِّنَا، وَكَانَ نِكَاحُهُ يَضُرُّ بِالْمَرْأَةِ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْوَطْءِ أَوْ لِعَدَمِ النَّفَقَةِ، أَوِ التَّكَسُّبِ مِنْ حَرَامٍ أَوْ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عَنْ أَوْقَاتِهَا لِاشْتِغَالِهِ بِتَحْصِيلِ نَفَقَتِهَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ لَا يَصِحُّ نِكَاحُهُ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ كَالسَّفِيهِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ.
وَقَالُوا: مَنْ لَا تَحْتَاجُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَى النِّكَاحِ وَعَلِمَتْ مِنْ نَفْسِهَا عَدَمَ الْقِيَامِ بِحَاجَةِ الزَّوْجِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّكَاحِ حَرُمَ عَلَيْهَا.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَيْسَ لِمُسْلِمٍ دَخَلَ دَارَ كُفَّارٍ بِأَمَانٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، وَلَا يَتَسَرَّى إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، وَلَا يَطَأُ زَوْجَتَهُ إِنْ كَانَتْ مَعَهُ وَلَا أَمَتَهُ وَلَا أَمَةً اشْتَرَاهَا مِنْهُمْ بِدَارِ الْحَرْبِ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ وَلَوْ مَسْلِمَةً، وَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- زَوَّجَ أَبَا بَكْرٍ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ وَهُمْ تَحْتَ الرَّايَاتِ».وَلِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَدَ لَهُمْ عَلَيْهِ أَشْبَهَ مَنْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْأَسِيرُ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ: لَا يَحِلُّ لَهُ التَّزَوُّجُ مَا دَامَ أَسِيرًا، لِأَنَّهُ مَنَعَهُ مِنْ وَطْءِ امْرَأَتِهِ إِذَا أُسِرَتْ مَعَهُ مَعَ صِحَّةِ نِكَاحِهِمَا، قَالَ الْبُهُوتِيُّ: فَظَاهِرُهُ وَلَوْ لِضَرُورَةٍ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْمُنْتَهَى.
خَامِسًا: الْإِبَاحَةُ:
12- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَكُونُ النِّكَاحُ مُبَاحًا إِنْ خَافَ الْعَجْزَ عَنِ الْإِيفَاءِ بِمَوَاجِبِهِ خَوْفًا غَيْرَ رَاجِحٍ، لِأَنَّ عَدَمَ الْجَوْرِ مِنْ وَاجِبِهِ، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْصِدْ إِقَامَةَ السُّنَّةِ، بَلْ قَصَدَ مُجَرَّدَ التَّوَصُّلِ إِلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ، وَلَمْ يَخَفْ شَيْئًا لَمْ يُثَبْ عَلَيْهِ، إِذْ لَا ثَوَابَ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، فَيَكُونُ مُبَاحًا.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُبَاحُ النِّكَاحُ لِمَنْ لَا يُولَدُ لَهُ وَلَا يَرْغَبُ فِي النِّسَاءِ، قَالَ اللَّخْمِيُّ: إِذَا كَانَ لَا إِرْبَ لَهُ فِي النِّسَاءِ وَلَا يَرْجُو نَسْلًا- لِأَنَّهُ حَصُورٌ أَوْ خَصِيٌّ أَوْ مَجْبُوبٌ أَوْ شَيْخٌ فَانٍ أَوْ عَقِيمٌ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ- كَانَ مُبَاحًا، وَيُقَيَّدُ هَذَا بِمَا إِذَا لَمْ يَقْطَعْهُ عَنْ عِبَادَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمِ الْمَرْأَةُ مِنْهُ كَوْنَهُ حَصُورًا أَوْ خَصِيًّا أَوْ مَجْبُوبًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مَنْ وَجَدَ الْأُهْبَةَ مَعَ عَدَمِ حَاجَتِهِ إِلَى النِّكَاحِ وَلَا عِلَّةَ بِهِ فَلَا يُكْرَهُ لَهُ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ.
وَمَقَاصِدُ النِّكَاحِ لَا تَنْحَصِرُ فِي الْجِمَاعِ، لَكِنَّ التَّخَلِّيَ لِلْعِبَادَةِ مِنَ الْمُتَعَبِّدِ أَفْضَلُ لَهُ مِنَ النِّكَاحِ إِذَا كَانَ يَقْطَعُهُ عَنْهَا، وَفِي مَعْنَى التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ التَّخَلِّي لِلِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ بَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِيهَا.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُبَاحُ النِّكَاحُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ لِمَنْ لَا شَهْوَةَ لَهُ كَالْعِنِّينِ وَالْمَرِيضِ وَالْكَبِيرِ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي لَهَا يَجِبُ النِّكَاحُ أَوْ يُسْتَحَبُّ، وَهِيَ خَوْفُ الزِّنَا أَوْ وُجُودُ الشَّهْوَةِ مَفْقُودَةٌ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ النِّكَاحِ الْوَلَدُ وَهُوَ فِيمَنْ لَا شَهْوَةَ لَهُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ، فَلَا يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ الْخِطَابُ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا فِي حَقِّهِ كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ لِعَدَمِ مَنْعِ الشَّرْعِ مِنْهُ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمَرْأَةَ مُسَاوِيَةٌ لِلرَّجُلِ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَسَرَّى.
النِّكَاحُ وَالْعِبَادَةُ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ النِّكَاحِ عِبَادَةً، وَفِي كَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنَ النَّوَافِلِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
أ- كَوْنُ النِّكَاحِ عِبَادَةً:
13- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: النِّكَاحُ أَقْرَبُ إِلَى الْعِبَادَاتِ.
وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ فِي النِّكَاحِ هَلْ هُوَ عِبَادَةٌ أَمْ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ: فَصَرَّحَ جَمْعٌ مِنْهُمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ بِدَلِيلِ صِحَّتِهِ مِنَ الْكَافِرِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ أَنَّ هَذَا الْفَهْمَ مَرْدُودٌ وَأَنَّهُ عِبَادَةٌ، بِدَلِيلِ أَمْرِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بِهِ وَالْعِبَادَةُ تُتَلَقَّى مِنَ الشَّرْعِ، وَصِحَّةُ النِّكَاحِ مِنَ الْكَافِرِ- مَعَ أَنَّهُ عِبَادَةٌ، وَعِبَادَةُ الْكَافِرِ لَا تَصِحُّ- لِمَا فِيهِ مِنْ عِمَارَةِ الدُّنْيَا كَعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ وَالْجَوَامِعِ وَالْعِتْقِ، فَإِنَّ هَذِهِ تَصِحُّ مِنَ الْمُسْلِمِ وَهِيَ مِنْهُ عِبَادَةٌ، وَتَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ وَلَيْسَتْ مِنْهُ عِبَادَةٌ، وَأَفْتَى الْمَاوَرْدِيُّ وَالنَّوَوِيُّ بِأَنَّ مَنْ قَصَدَ بِالنِّكَاحِ طَاعَةً مِنْ وَلَدٍ صَالِحٍ أَوْ إِعْفَافٍ كَانَ مِنْ عَمَلِ الْآخِرَةِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ كَانَ مُبَاحًا.
وَمَحَلُّ اخْتِلَافِهِمْ فِي غَيْرِ نِكَاحِهِ- صلى الله عليه وسلم-، أَمَّا هُوَ فَقُرْبَةٌ وَعِبَادَةٌ قَطْعًا وَمُطْلَقًا، لِأَنَّ فِيهِ نَشْرَ الشَّرِيعَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَحَاسِنِهِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلاَّ النِّسَاءُ، وَمِنْ ثَمَّ وَسَّعَ لَهُ فِي عَدَدِ الزَّوْجَاتِ مَا لَمْ يُوَسِّعْ لِغَيْرِهِ، لِيَحْفَظَ كُلَّ مَا لَمْ يَحْفَظْهُ غَيْرُهُ، لِتَعَذُّرِ إِحَاطَةِ الْعَدَدِ الْقَلِيلِ بِهَا لِكَثْرَتِهَا بَلْ لِخُرُوجِهَا عَنِ الْحَصْرِ.
ب- الْمُفَاضَلَةُ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالنَّوَافِلِ:
14- قَالَ الْكَاسَانِيُّ: مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِنَّ النِّكَاحَ فَرْضٌ أَوْ وَاجِبٌ، قَالَ إِنَّ الِاشْتِغَالَ بِهِ مَعَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ أَوْلَى مِنَ التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ مَعَ تَرْكِ النِّكَاحِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ، لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ كَيْفَ مَا كَانَ أَوْلَى مِنْ الِاشْتِغَالِ بِالتَّطَوُّعِ.
وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ: إِنَّهُ مَنْدُوبٌ وَمُسْتَحَبٌّ، فَإِنَّهُ يُرَجِّحُهُ عَلَى النَّوَافِلِ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُنَّةٌ، قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «النِّكَاحُ مِنْ سُنَّتِي» وَالسُّنَنُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى النَّوَافِلِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّهُ أَوْعَدَ عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» وَلَا وَعِيدَ عَلَى تَرْكِ النَّوَافِلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَوَاظَبَ عَلَيْهِ أَيْ دَاوَمَ وَثَبَتَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَمْ يَخْلُ عَنْهُ، بَلْ كَانَ يَزِيدُ عَلَيْهِ، حَتَّى تَزَوَّجَ عَدَدًا مِمَّا أُبِيحَ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ، وَلَوْ كَانَ التَّخَلِّي لِلنَّوَافِلِ أَفْضَلَ لَمَا فَعَلَ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَتْرُكُونَ الْأَفْضَلَ فِيمَا لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ، لِأَنَّ تَرْكَ الْأَفْضَلِ فِيمَا لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ عُدَّ زَلَّةً مِنْهُمْ، وَإِذَا ثَبَتَ أَفْضَلِيَّةُ النِّكَاحِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى لِلَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرَائِعِ هُوَ الْعُمُومُ، وَالْخُصُوصُ بِدَلِيلٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَقْصُودٍ هُوَ مُفَضَّلٌ عَلَى النَّوَافِلِ، لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِصِيَانَةِ النَّفْسِ عَنِ الْفَاحِشَةِ، وَسَبَبٌ لِصِيَانَةِ نَفْسِهَا عَنِ الْهَلَاكِ بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَاللِّبَاسِ لِعَجْزِهَا عَنِ الْكَسْبِ، وَسَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ الْمُوَحِّدِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ مُفَضَّلٌ عَلَى النَّوَافِلِ، فَكَذَا السَّبَبُ الْمُوصِلُ إِلَيْهِ كَالْجِهَادِ وَالْقَضَاءِ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الرَّاغِبَ فِي النِّكَاحِ إِنْ لَمْ يَخْشَ الْعَنَتَ نُدِبَ لَهُ النِّكَاحُ رَجَا النَّسْلَ أَوْ لَا وَلَوْ قَطَعَهُ عَنْ عِبَادَةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ مِنَ الْمُتَعَبِّدِ أَفْضَلُ لَهُ مِنَ النِّكَاحِ إِذَا كَانَ يَقْطَعُهُ عَنْهَا، وَفِي مَعْنَى التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ التَّخَلِّي لِلِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، بَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِيهَا.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ النِّكَاحَ أَفْضَلُ مِنْ نَوَافِلِ الْعِبَادَةِ وَمِنَ التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ الْعِبَادَةِ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الصَّغِيرُ: لَا يَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ التَّخَلِّي إِلاَّ إِذَا قَصَدَ بِهِ الْمَصَالِحَ الْمَعْلُومَةَ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَقْصِدْهَا فَلَا يَكُونُ أَفْضَلَ.
وَعَنْ أَحْمَدَ: التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ الْعِبَادَةِ أَفْضَلُ كَمَا لَوْ كَانَ مَعْدُومَ الشَّهْوَةِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
134-موسوعة الفقه الكويتية (نكاح 2)
نِكَاحٌ -2خَصَائِصُ عَقْدِ النِّكَاحِ:
يَتَمَيَّزُ عَقْدُ النِّكَاحِ بِخَصَائِصَ مِنْهَا:
أ- التَّأْبِيدُ:
15- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ مُؤَبَّدٌ لَا يَقْبَلُ التَّأْقِيتَ، فَلَا يَصِحُّ تَوْقِيتُهُ، سَوَاءٌ أَكَانَ بِلَفْظِ الْمُتْعَةِ أَمْ بِغَيْرِهِ مِنْ أَلْفَاظِ النِّكَاحِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ التَّأْقِيتُ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ أَمْ قَصِيرَةٍ، مَعْلُومَةٍ أَمْ مَجْهُولَةٍ.
16- أَمَّا إِذَا كَانَ التَّأْقِيتُ مُضْمَرًا فِي نَفْسِ الزَّوْجِ غَيْرَ مُصَرَّحٍ بِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ.وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الرَّاجِحِ وَالشَّافِعِيَّةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا بِكَرَاهَتِهِ وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ حُكِيَ بِقِيلَ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ بَهْرَامَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.
وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (تَأْقِيت ف 14- 16، نِكَاحٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ).
ب- اللُّزُومُ:
17- النِّكَاحُ عَقْدٌ لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ وَمِنْ جِهَةِ الزَّوْجَةِ، وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ جَائِزٌ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ لَهُ رَفْعَهُ بِالطَّلَاقِ وَالْفَسْخِ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِهِ، أَمَّا فَسْخُهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْفَسْخِ فَلَا يَتَأَتَّى لَا مِنَ الرَّجُلِ وَلَا مِنَ الْمَرْأَةِ.
مَا يُسَنُّ فِي النِّكَاحِ:
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ تُسَنُّ فِي النِّكَاحِ أُمُورٌ، اتَّفَقُوا عَلَى بَعْضِهَا وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي:
أ- أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ:
18- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَزِيدَ الرَّجُلُ فِي النِّكَاحِ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ ظَاهِرَةٍ، إِنْ حَصَلَ بِهَا الْإِعْفَافُ لِمَا فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْوَاحِدَةِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْمُحَرَّمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ يَمِيلُ إِلَى إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ».
وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ: لَوْ أَعَفَّتْهُ وَاحِدَةٌ لَكِنَّهَا عَقِيمٌ اسْتُحِبَّ لَهُ نِكَاحُ وَلُودٍ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ إِبَاحَةَ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ إِلَى أَرْبَعٍ إِذَا أَمِنَ عَدَمَ الْجَوْرِ بَيْنَهُنَّ فَإِنْ لَمْ يَأْمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى مَا يُمْكِنُهُ الْعَدْلُ بَيْنَهُنَّ، فَإِنْ لَمْ يَأْمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى وَاحِدَةٍ لقوله تعالى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}.
ب- أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي شَوَّالٍ وَيَدْخُلَ فِيهِ:
19- نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي شَوَّالَ وَيَدْخُلَ فِيهِ، «لِقَوْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي شَوَّالٍ، وَبَنَى بِي فِي شَوَّالٍ».وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَبَعْضُ الْعَوَامِّ يَكْرَهُونَ التَّزَوُّجَ وَالتَّزْوِيجَ فِي شَوَّالَ وَيَتَطَيَّرُونَ بِذَلِكَ لِمَا فِي اسْمِ شَوَّالٍ مِنَ الْإِشَالَةِ وَالرَّفْعِ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يَصِحُّ التَّرْغِيبُ فِي صَفَرٍ، لِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- زَوَّجَ ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ عَلِيًّا- رضي الله عنهما- فِي شَهْرِ صَفَرٍ عَلَى رَأْسِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ».
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُسَنُّ أَنْ يَتَزَوَّجَ فِي شَوَّالٍ حَيْثُ كَانَ يُمْكِنُهُ فِيهِ، وَفِي غَيْرِهِ عَلَى السَّوَاءِ، فَإِنْ وُجِدَ سَبَبٌ لِلنِّكَاحِ فِي غَيْرِهِ فَعَلَهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْبَزَّازِيَّةِ: وَالْبِنَاءُ وَالنِّكَاحُ بَيْنَ الْعِيدَيْنِ جَائِزٌ، وَكُرِهَ الزِّفَافُ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّه- عليه الصلاة والسلام- تَزَوَّجَ بِالصِّدِّيقَةِ- رضي الله عنها- فِي شَوَّالٍ وَبَنَى بِهَا فِيهِ.
ج- أَنْ يَعْقِدَ النِّكَاحَ فِي الْمَسْجِدِ:
20- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُنْدَبُ عَقْدُ النِّكَاحِ فِي الْمَسْجِدِ لِحَدِيثِ: «أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ، وَاجْعَلُوهُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ».
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهُ جَائِزٌ.
د- أَنْ يَكُونَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ:
21- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ عَقْدُ النِّكَاحِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لِأَنَّ جَمَاعَةً مِنَ السَّلَفِ اسْتَحَبُّوا ذَلِكَ، مِنْهُمْ ضَمْرَةُ بْنُ حَبِيبٍ وَرَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ وَحَبِيبُ بْنُ عُتْبَةَ، وَلِأَنَّهُ يَوْمٌ شَرِيفٌ، وَيَوْمُ عِيدٍ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ- عليه السلام-.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ النَّهَارِ لِخَبَرِ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا»
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْإِمْسَاءُ بِالنِّكَاحِ أَوْلَى، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَمْسُوا بِالْمِلَاكِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ» وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ لِمَقْصُودِهِ وَأَقَلُّ لِانْتِظَارِهِ، وَلِأَنَّ فِي آخِرِ النَّهَارِ مِنْ يَوْمِ الْجُمْعَةِ سَاعَةَ الْإِجَابَةِ.
وَنَقَلَ الْمَالِكِيَّةُ عَنِ الطِّرَازِ وَأَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُ تُسْتَحَبُّ الْخِطْبَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَذَلِكَ لِقُرْبِهِ مِنَ اللَّيْلِ وَسُكُونِ النَّاسِ فِيهِ وَالْهُدُوءِ فِيهِ.
هـ- أَنْ يَكُونَ بِعَاقِدٍ رَشِيدٍ وَشُهُودٍ عُدُولٍ:
22- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ بِعَاقِدٍ رَشِيدٍ وَشُهُودٍ عُدُولٍ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْقِدَ مَعَ الْمَرْأَةِ بِلَا أَحَدٍ مِنْ عَصَبَتِهَا، وَلَا مَعَ عَصَبَةِ فَاسِقٍ، وَلَا عِنْدَ شُهُودٍ غَيْرِ عُدُولٍ، خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ الَّذِي يَرَى أَنَّ الَّذِي يُجْرِي الْعَقْدَ وَلِيُّهَا.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ تَفْوِيضُ وَلِيِّ الْمَرْأَةِ وَمِثْلُهُ الزَّوْجُ الْعَقْدَ لِفَاضِلٍ تُرْجَى بَرَكَتُهُ، وَأَمَّا تَفْوِيضُ الْعَقْدِ لِغَيْرِ فَاضِلٍ فَهُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى
وَ- أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَنْ يُرِيدُ نِكَاحَهَا:
23- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِمَنْ يُرِيدُ نِكَاحَ امْرَأَةٍ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَهُمَا، وَلِلْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ فِي ذَلِكَ.
وَالْمَذْهَبُ عَنِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ هَذَا النَّظَرَ مُبَاحٌ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (خِطْبَة ف 24- 29).
ز- ذِكْرُ الصَّدَاقِ وَحُلُولُهُ:
24- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ تَسْمِيَةُ الصَّدَاقِ وَالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعَقْدِ، لِمَا فِيهِ مِنَ اطْمِئْنَانِ النَّفْسِ وَدَفْعِ تَوَهُّمِ الِاخْتِلَافِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَمَحَلُّ نَدَبِهِ إِنْ كَانَتِ الصِّيغَةُ: أَنْكَحْتُ وَزَوَّجْتُ، لَا وَهَبْتُ فَيَجِبُ ذِكْرُهُ.
وَقَالُوا: يُنْدَبُ حُلُولُ كُلِّهِ بِلَا تَأْجِيلٍ لِبَعْضِهِ، وَتَأْجِيلُهُ كُلًّا أَوْ بَعْضًا خِلَافُ الْأَوْلَى، حَيْثُ أُجِّلَ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، وَإِلاَّ فَلَا يَجُوزُ
ح- الِاسْتِدَانَةُ لِلنِّكَاحِ:
25- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ الِاسْتِدَانَةُ لِلنِّكَاحِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ، لِأَنَّ ضَمَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ».
ط- الْخُطْبَةُ قَبْلَ الْخِطْبَةِ وَالْعَقْدِ:
26- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ فِي النِّكَاحِ خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَفَصَّلُوا:
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُنْدَبُ قَبْلَ إِجْرَاءِ الْعَقْدِ تَقْدِيمُ خُطْبَةٍ، وَلَا تَتَعَيَّنُ بِأَلْفَاظٌ مَخْصُوصَةٌ، بَلْ يُجْزِئُ الْحَمْدُ وَالتَّشَهُّدُ، وَإِنْ خَطَبَ بِمَا وَرَدَ فَهُوَ أَحْسَنُ، وَمِنْهُ مَا نُقِلَ مِنْ لَفْظِهِ- صلى الله عليه وسلم-، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِخُطْبَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهِيَ كَمَا قَالَ- رضي الله عنه-: «عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّشَهُّدَ فِي الْحَاجَةِ: إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضَلِّلُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَقْرَأُ ثَلَاثَ آيَاتٍ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} وَ {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} ».
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ بَعْدَ خُطْبَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-، يَخْطُبُهَا الْعَاقِدُ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْحَاضِرِينَ قَبْلَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ: وَإِنْ أَخَّرَ الْخُطْبَةَ عَنِ الْعَقْدِ جَازَ، وَقَالَ فِي الْإِنْصَافِ: يَنْبَغِي أَنْ تُقَالَ- مَعَ النِّسْيَانِ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَكَانَ أَحْمَدُ إِذَا حَضَرَ عَقْدَ نِكَاحٍ وَلَمْ يُخْطَبْ فِيهِ بِهَا قَامَ وَتَرَكَهُمْ، وَهَذَا مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ فِي اسْتِحْبَابِهَا لَا عَلَى الْإِيجَابِ، فَإِنَّ حَرْبَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ خُطْبَةُ النِّكَاحِ مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ؟ فَوَسَّعَ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً لِأَنَّ «رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: زَوِّجْنِيهَا، فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ» وَلَمْ يَذْكُرْ خُطْبَةً، وَرُوِيَ «عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ قَالَ: خَطَبْتُ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أُمَامَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَأَنْكَحَنِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَشَهَّدَ» وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ خُطْبَةٌ كَالْبَيْعِ.
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى خُطْبَةٍ هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَيُجْزِئُ عَنْ ذَلِكَ أَنْ يَتَشَهَّدَ وَيُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ كَانَ إِذَا دُعِيَ لِيُزَوِّجَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، إِنَّ فُلَانًا يَخْطُبُ إِلَيْكُمْ فُلَانَةً، فَإِنْ أَنْكَحْتُمُوهُ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَإِنْ رَدَدْتُمُوهُ فَسُبْحَانَ اللَّهِ.
وَالْمُسْتَحَبُّ خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- وَعَنِ السَّلَفِ خُطْبَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ أَوْلَى مَا اتُّبِعَ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ يُسْتَحَبُّ فِي النِّكَاحِ أَرْبَعُ خُطَبٍ: الْأُولَى: خُطْبَةٌ قَبْلَ الْخِطْبَةِ مِنَ الْخَاطِبِ أَوْ نَائِبِهِ تَتَضَمَّنُ الْتِمَاسَ النِّكَاحِ.
الثَّانِيَةُ: خُطْبَةٌ مِنَ الْوَلِيِّ أَوْ نَائِبِهِ تَتَضَمَّنُ إِجَابَةَ الْخَاطِبِ أَوْ الِاعْتِذَارَ لَهُ.
وَفِيهَا تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (خِطْبَة ف 37).
الثَّالِثَةُ: قَبْلَ عَقْدِ النِّكَاحِ مِنَ الْوَلِيِّ بِالْإِيجَابِ.
الرَّابِعَةُ: قَبْلَ تَمَامِ عَقْدِ النِّكَاحِ مِنَ الزَّوْجِ بِالْقَبُولِ.
وَقَالُوا: الْفَصْلُ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِخُطْبَةِ الزَّوَاجِ مُغْتَفَرٌ، لِأَنَّهُ مُقَدِّمَةُ الْقَبُولِ مَعَ قِصَرِهِ، فَلَيْسَ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ.
ي- إِعْلَانُ النِّكَاحِ:
27- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ إِعْلَانُ النِّكَاحِ، أَيْ إِظْهَارُ عَقْدِهِ، حَتَّى يُشْهَرَ وَيُعْرَفَ وَيَبْعُدَ عَنْ تُهْمَةِ الزِّنَا لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ» وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَاجْعَلُوهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ».
وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (إِعْلَان ف 7).
ك- الْوَلِيمَةُ لِلنِّكَاحِ:
28- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوَلِيمَةَ- وَهِيَ طَعَامُ الْعُرْسِ- مُسْتَحَبٌّ لِلْقَادِرِ عَلَيْهَا، أَوْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِثُبُوتِهَا عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَوْلًا وَفِعْلًا، «فَعَنْهُ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ أَوْلَمَ عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ» «وَأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- أَوْلَمَ عَلَى صَفِيَّةَ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ وَأَقِطٍ».
«وَأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَقَدْ تَزَوَّجَ: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ».
وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَوْلٌ أَوْ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَوْلٌ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ.
وَفِي تَفْصِيلِ حُكْمِ الْوَلِيمَةِ وَوَقْتِهَا، وَمَا يُجْزِئُ مِنْهَا، وَالْإِجَابَةُ إِلَيْهَا، وَمَا يَجُوزُ أَوْ لَا يَجُوزُ فِيهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (وَلِيمَة).
ل- الدُّعَاءُ لِلزَّوْجَيْنِ وَالتَّهْنِئَةُ:
29- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ لِلزَّوْجَيْنِ أَوْ لِأَحَدِهِمَا بَعْدَ الْعَقْدِ بِالْبَرَكَةِ وَالسَّعَةِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَيُنْدَبُ تَهْنِئَةُ الزَّوْجَيْنِ وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا، أَوْ عَلَيْهِمَا.
وَالسُّنَّةُ أَنْ يُقَالَ لِلزَّوْجِ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَالَ لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ: بَارَكَ اللَّهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا فِي صَاحِبِهِ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا رَفَّأَ إِنْسَانًا إِذَا تَزَوَّجَ قَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ».
وَفِي لَفْظِ التَّهْنِئَةِ بِالنِّكَاحِ، وَوَقْتِ التَّهْنِئَةِ، وَمَنْ تُسْتَحَبُّ فِي حَقِّهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (تَهْنِئَة ف 6- 8).
م- دُعَاءُ مَنْ زُفَّتْ إِلَيْهِ امْرَأَتُهُ:
30- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ زُفَّتْ إِلَيْهِ امْرَأَتُهُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى خَيْرَهَا، وَيَسْتَعِيذَ بِهِ مِنْ شَرِّهَا، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَمِّيَ- الزَّوْجُ- اللَّهَ تَعَالَى، وَيَأْخُذَ بِنَاصِيَةِ الزَّوْجَةِ أَوَّلَ مَنْ يَلْقَاهَا، وَيَقُولَ: بَارَكَ اللَّهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا فِي صَاحِبِهِ لِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا تَزَوَّجَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً أَوِ اشْتَرَى خَادِمًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا جَبَلَتْهَا عَلَيْهِ، وَأُعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا جَبَلَتْهَا عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ لْيَأْخُذْ بِنَاصِيَتِهَا وَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ».
وَنَقَلَ الْحَطَّابُ عَنِ النَّوَادِرِ قَوْلَ ابْنِ حَبِيبٍ: رُوِيَ «عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَنِ ابْتَنَى بِزَوْجَتِهِ أَنْ يَأْمُرَهَا أَنْ تُصَلِّيَ خَلْفَهُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَأْخُذَ بِنَاصِيَتِهَا وَيَدْعُوَ بِالْبَرَكَةِ».
وَوَرَدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي أُسَيْدٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَ فَحَضَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو ذَرٍّ وَحُذَيْفَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنهم- فَقَالُوا لَهُ: إِذَا أُدْخِلَ عَلَيْكَ أَهْلُكَ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَمُرْهَا فَلْتُصَلِّ خَلْفَكَ، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهَا وَسَلِ اللَّهَ خَيْرًا، وَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا.
.وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ (عُرْس ف 5).
مَا يُسْتَحَبُّ فِي الزَّوْجَةِ مِنْ أَوْصَافٍ:
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ النِّكَاحَ أَنْ يَتَخَيَّرَ الْمَرْأَةَ الَّتِي تَجْتَمِعُ فِيهَا الْأَوْصَافُ التَّالِيَةُ، أَوْ بَعْضُهَا:
أ- أَنْ تَكُونَ ذَاتَ دِينٍ:
31- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَسْتَحِبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَخَيَّرَ لِلنِّكَاحِ الْمَرْأَةَ ذَاتَ الدِّينِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ» أَيِ اسْتَغْنَيْتَ إِنْ فَعَلْتَ، أَوِ افْتَقَرْتَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ.
وَفَسَّرَ الشَّافِعِيَّةُ ذَاتَ الدِّينِ بِالَّتِي تُوجَدُ فِيهَا صِفَةُ الْعَدَالَةِ وَالْحِرْصِ عَلَى الطَّاعَاتِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالْعِفَّةِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، لَا الْعِفَّةِ عَنِ الزِّنَا فَقَطْ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُنْدَبُ أَنْ يَخْتَارَ الزَّوْجُ مَنْ فَوْقَهُ خُلُقًا وَأَدَبًا وَوَرَعًا.
ب- أَنْ تَكُونَ بِكْرًا:
32- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ اخْتِيَارُ الْبِكْرِ لِلنِّكَاحِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَيْكُمْ بِالْأَبْكَارِ، فَإِنَّهُنَّ أَعْذَبُ أَفْوَاهًا، وَأَنْتَقُ أَرْحَامًا، وَأَرْضَى بِالْيَسِيرِ» أَيْ أَطْيَبُ كَلَامًا وَأَكْثَرُ أَوْلَادًا، وَأَرْضَى بِالْيَسِيرِ.
إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الثَّيِّبَ أَوْلَى لِمَنْ لَهُ مَصْلَحَةٌ أَرْجَحُ فِي نِكَاحِ الثَّيِّبِ فَيُقَدِّمُهَا عَلَى الْبِكْرِ مُرَاعَاةً لِلْمَصْلَحَةِ، كَالْعَاجِزِ عَنْ الِافْتِضَاضِ، وَمِنْ عِنْدِهِ عِيَالٌ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ تَقُومُ عَلَيْهِنَّ كَمَا اسْتَصْوَبَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه-، فَقَدَ «رَوَى جَابِرٌ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لَهُ: فَهَلاَّ تَزَوَّجْتَ بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ؟ فَقَالَ جَابِرٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُوُفِّيَ وَالِدِي- أَوِ اسْتُشْهِدَ- وَلِي أَخَوَاتٌ صِغَارٌ فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَ مِثْلَهُنَّ فَلَا تُؤَدِّبَهُنَّ وَلَا تَقُومَ عَلَيْهِنَّ فَتَزَوَّجْتُ ثَيِّبًا.وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَ امْرَأَةً تَقُومُ عَلَيْهِنَّ وَتُمَشِّطُهُنَّ.فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: أَصَبْتَ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «فَقَالَ جَابِرٌ: إِنَّ أَبِي قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ تِسْعَ بَنَاتٍ كُنَّ لِي تِسْعَ أَخَوَاتٍ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَجْمَعَ إِلَيْهِنَّ جَارِيَةً خَرْقَاءَ مِثْلَهُنَّ، وَلَكِنِ امْرَأَةً تُمَشِّطُهُنَّ وَتَقُومُ عَلَيْهِنَّ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: أَصَبْتَ».ج- أَنْ تَكُونَ حَسِيبَةً:
33- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَخَيَّرَ الرَّجُلُ لِنِكَاحِهِ الْمَرْأَةَ الْحَسِيبَةَ النَّسِيبَةَ، أَيْ طَيِّبَةَ الْأَصْلِ، وَذَاتُ الْحَسَبِ هِيَ الَّتِي يَكُونُ أُصُولُهَا ذَوِي شَرَفٍ وَكَرَمٍ وَدِيَانَةٍ، لِنِسْبَتِهَا إِلَى الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ، «لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا تُنْكَحُ لَهُ الْمَرْأَةُ: لِحَسَبِهَا» وَلِيَكُونَ وَلَدُهَا نَجِيبًا، فَإِنَّهُ رُبَّمَا أَشْبَهَ أَهْلَهَا وَنَزَعَ إِلَيْهِمْ.
لَكِنَّ الْحَنَفِيَّةَ قَالُوا: يُنْدَبُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ دُونَ زَوْجِهَا حَسَبًا لِتَنْقَادَ لَهُ وَلَا تَحْتَقِرَهُ، وَإِلاَّ تَرَفَّعَتْ عَلَيْهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لِعِزِّهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إِلاَّ ذُلًّا، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا لِمَالِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إِلاَّ فَقْرًا، وَمَنْ تَزَوَّجَهَا لِحَسَبِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إِلاَّ دَنَاءَةً، وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَمْ يَتَزَوَّجْهَا إِلاَّ لِيَغُضَّ بَصَرَهُ، أَوْ لِيُحْصِنَ فَرْجَهُ أَوْ يَصِلَ رَحِمَهُ بَارَكَ اللَّهُ لَهُ فِيهَا وَبَارَكَ لَهَا فِيهِ».
وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ: وَسُنَّ أَنْ تَكُونَ مِنْ بَيْتٍ مَعْرُوفٍ بِالدِّينِ وَالْقَنَاعَةِ لِأَنَّهُ مَظِنَّةُ دِينِهَا وَقَنَاعَتِهَا.
د- أَنْ تَكُونَ وَدُودًا وَلُودًا:
34- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الَّتِي تُخْتَارُ لِلنِّكَاحِ وَدُودًا وَلُودًا لِحَدِيثِ أَنَسٍ- رضي الله عنه-: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَيُعْرَفُ كَوْنُ الْبِكْرِ وَلُودًا بِكَوْنِهَا مِنْ نِسَاءٍ يُعْرَفْنَ بِذَلِكَ.
هـ- أَنْ تَكُونَ جَمِيلَةً:
35- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ تُخْتَارَ لِلنِّكَاحِ الْمَرْأَةُ الْحَسْنَاءُ ذَاتُ الْجَمَالِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ قَالَ: الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلَا تُخَالِفُهُ فِيمَا يَكْرَهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ».وَلِمَا رَوَى يَحْيَى بْنُ جَعْدَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «خَيْرُ فَائِدَةٍ أَفَادَهَا الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَهَا، وَتَحْفَظُهُ فِي غَيْبَتِهِ وَمَالِهِ وَنَفْسِهَا.»، وَلِأَنَّ جَمَالَ الزَّوْجَةِ أَسْكَنُ لِنَفْسِ الزَّوْجِ وَأَغَضُّ لِبَصَرِهِ وَأَكْمَلُ لِمَوَدَّتِهِ، وَلِذَلِكَ جَازَ النَّظَرُ إِلَيْهَا قَبْلَ النِّكَاحِ.
و- أَنْ تَكُونَ عَاقِلَةً حَسَنَةَ الْخُلُقِ:
36- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ الَّتِي تُخْتَارُ لِلنِّكَاحِ وَافِرَةَ الْعَقْلِ، حَسَنَةَ الْخُلُقِ، لَا حَمْقَاءَ وَلَا سَيِّئَةَ الْخُلُقِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ يُرَادُ لِلْعِشْرَةِ الْحَسَنَةِ، وَلَا تَصْلُحُ الْعِشْرَةُ مَعَ الْحَمْقَاءِ، وَلَا يَطِيبُ مَعَهَا عَيْشٌ، وَرُبَّمَا تَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى وَلَدِهَا، وَقَدْ قِيلَ: اجْتَنِبُوا الْحَمْقَاءَ فَإِنَّ وَلَدَهَا ضَيَاعٌ وَصُحْبَتَهَا بَلَاءٌ.
ز- أَنْ تَكُونَ أَجْنَبِيَّةً:
37- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِيمَنْ تُخْتَارُ لِلنِّكَاحِ أَنْ تَكُونَ أَجْنَبِيَّةً مِنَ الزَّوْجِ وَلَا تَكُونَ ذَاتَ قَرَابَةٍ قَرِيبَةٍ، وَقَالُوا: يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ مِنْ عَشِيرَتِهِ لِأَنَّ وَلَدَ الْأَجْنَبِيَّةِ يَكُونُ أَنْجَبَ، وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ الطَّلَاقَ فَيُفْضِي مَعَ الْقَرَابَةِ إِلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ الْمَأْمُورِ بِصِلَتِهَا.
ح- أَنْ تَكُونَ خَفِيفَةَ الْمَهْرِ وَالْمُؤْنَةِ:
38- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَحَرَّى الرَّجُلُ فِيمَنْ يَنْكِحُهَا أَنْ تَكُونَ أَيْسَرَ النِّسَاءِ خِطْبَةً وَمُؤْنَةً، وَأَنْ تَكُونَ خَفِيفَةَ الْمَهْرِ لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ تَيْسِيرَ خِطْبَتِهَا وَتَيْسِيرَ صَدَاقِهَا وَتَيْسِيرَ رَحِمِهَا، » وَقَالَ عُرْوَةُ: وَأَنَا أَقُولُ مِنْ أَوَّلِ شُؤْمِهَا أَنْ يَكْثُرَ صَدَاقُهَا.
ط- أَنْ لَا تَكُونَ ذَاتَ وَلَدٍ:
39- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَحَرَّى الرَّجُلُ فِيمَنْ يَنْكِحُهَا أَنْ لَا تَكُونَ ذَاتَ وَلَدٍ مِنْ غَيْرِهِ إِلاَّ لِمَصْلَحَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ مَصْلَحَةٌ فَلَا قَيْدَ لِأَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَزَوَّجَ أَمَّ سَلَمَةَ وَمَعَهَا وَلَدُ أَبِي سَلَمَةَ- رضي الله عنهما- ».
ي- أَنْ لَا تَكُونَ مُطَلَّقَةً وَلَا فِي حِلِّهَا خِلَافٌ:
40- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا تَكُونَ الْمَرْأَةُ الَّتِي يُرَادُ نِكَاحُهَا مُطَلَّقَةً، لَهَا إِلَى مُطَلِّقِهَا رَغْبَةٌ، وَأَنْ لَا يَكُونَ فِي حِلِّهَا لِمَنْ يُرِيدُ نِكَاحَهَا خِلَافٌ فِقْهِيٌّ كَأَنْ زَنَى أَوْ تَمَتَّعَ بِأُمِّهَا، أَوْ بِهَا، فَرْعَهُ أَوْ أَصْلَهُ، أَوْ شَكَّ بِنَحْوِ رَضَاعٍ.
تَرْتِيبُ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَمَا يَسْأَلُ عَنْهُ أَوَّلًا:
41- نَصَّ شَمْسُ الدِّينِ الرَّمْلِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَعَارَضَتِ الصِّفَاتُ الْمُسْتَحَبَّةُ فِيمَنْ تُخْتَارُ لِلنِّكَاحِ فَالْأَوْجَهُ تَقْدِيمُ ذَاتِ الدِّينِ مُطْلَقًا، ثُمَّ الْعَقْلِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ، ثُمَّ النَّسَبِ، ثُمَّ الْبَكَارَةِ، ثُمَّ الْوِلَادَةِ، ثُمَّ الْجَمَالِ، ثُمَّ مَا الْمَصْلَحَةُ فِيهِ أَظْهَرُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: إِذَا خَطَبَ الرَّجُلُ امْرَأَةً سَأَلَ عَنْ جَمَالِهَا أَوَّلًا، فَإِنْ حُمِدَ سَأَلَ عَنْ دِينِهَا، فَإِنْ حُمِدَ تَزَوَّجَ، وَإِنْ لَمْ يُحْمَدْ يَكُونُ رَدًّا لِأَجْلِ الدِّينِ، وَلَا يَسْأَلُ عَنِ الدِّينِ أَوَّلًا، فَإِنْ حُمِدَ سَأَلَ عَنِ الْجَمَالِ، فَإِنْ لَمْ يُحْمَدْ رَدَّهَا لِلْجَمَالِ لَا لِلدِّينِ.
مَا يُسْتَحَبُّ فِي الزَّوْجِ مِنْ أَوْصَافٍ:
42- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَوْصَافًا تُتَحَرَّى فِي الرَّجُلِ عِنْدَ إِنْكَاحِهِ:
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: تَخْتَارُ الْمَرْأَةُ الزَّوْجَ الدَّيِّنَ الْحَسَنَ الْخُلُقِ، الْجَوَادَ الْمُوسِرَ، وَلَا تَتَزَوَّجُ فَاسِقًا، وَلَا يُزَوِّجُ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ الشَّابَّةَ شَيْخًا كَبِيرًا، وَلَا رَجُلًا دَمِيمًا، وَيُزَوِّجُهَا الْكُفْءَ، فَإِنْ خَطَبَهَا لَا يُؤَخِّرُهَا.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ إِلاَّ مِنْ بِكْرٍ لَمْ يَتَزَوَّجْ قَطُّ.وَيُسَنُّ لِلْمَرْأَةِ وَلِوَلِيِّهَا أَنْ يَتَحَرَّى كُلٌّ مِنْهُمَا فِي الزَّوْجِ الصِّفَاتِ الَّتِي يُسَنُّ تَحَرِّيهَا فِي الْمَرْأَةِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ أَنْ يَنْظُرَ لَهَا شَابًّا وَسِيمًا حَسَنَ الصُّورَةِ، وَلَا يُزَوِّجَهَا دَمِيمًا، وَقَالُوا: وَمِنَ التَّغْفِيلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الشَّيْخُ صَبِيَّةً أَيْ شَابَّةً.
الْمَرْأَةُ الَّتِي يُكْرَهُ نِكَاحُهَا:
43- نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَوْصَافٍ فِي الْمَرْأَةِ تَجْعَلُ نِكَاحَهَا مَكْرُوهًا، وَمِنْ ذَلِكَ:
قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: كُرِهَ تَزَوُّجُ امْرَأَةٍ مَشْهُورَةٍ بِالزِّنَا وَلَوْ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهَا بِالْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ، أَيْ هَذَا إِذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، بَلْ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ، وَأَمَّا مَنْ يُتَكَلَّمُ فِيهَا وَلَيْسَتْ مَشْهُورَةً بِذَلِكَ فَلَا كَرَاهَةَ فِي زَوَاجِهَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَمَحَلُّ الْكَرَاهَةِ تَزَوُّجُ الْمَرْأَةِ الَّتِي اشْتَهَرَتْ بِالزِّنَا إِذَا لَمْ تُحَدَّ، أَمَّا إِذَا حُدَّتْ فَلَا كَرَاهَةَ فِي زَوَاجِهَا.
وَقَالُوا: وَكُرِهَ تَزَوُّجُ امْرَأَةٍ صَرَّحَ لَهَا بِالْخِطْبَةِ فِي الْعِدَّةِ، وَنُدِبَ فِرَاقُ كُلٍّ مِنْهُمَا.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: تُكْرَهُ بِنْتُ الزِّنَا وَالْفَاسِقِ- أَيْ يُكْرَهُ نِكَاحُ كُلٍّ مِنْهُمَا- وَأُلْحِقَ بِهِمَا اللَّقِيطَةُ وَمَنْ لَا يُعْرَفُ أَبُوهَا، لِخَبَرِ: «تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ وَأَنْكِحُوا الْأَكْفَاءَ وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ» وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا يُعَيَّرُ بِكُلٍّ مِنْهُنَّ لِدَنَاءَةِ أَصْلِهَا، وَرُبَّمَا اكْتَسَبَتْ مِنْ طِبَاعِ أَبِيهَا.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَنْبَغِي تَزَوُّجُ بِنْتِ زِنًا وَلَقِيطَةٍ وَدَنِيئَةِ نَسَبٍ وَمَنْ لَا يُعْرَفُ أَبُوهَا.
حُكْمُ الزِّفَافِ:
44- الزِّفَافُ: إِهْدَاءُ الْمَرْأَةِ إِلَى زَوْجِهَا، أَيْ نَقْلُ الْعَرُوسِ مِنْ بَيْتِ أَبَوَيْهَا إِلَى بَيْتِ زَوْجِهَا، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالْمُرَادُ بِهِ اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ لِذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَازِمٌ لَهُ عُرْفًا.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ- فِي الْمُخْتَارِ عِنْدَهُمْ- عَلَى أَنَّ الزِّفَافَ إِذَا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى مَفْسَدَةٍ دِينِيَّةٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَلَا يُكْرَهُ.
قَالَ الْكَمَالُ: اخْتَلَفُوا فِي كَرَاهَةِ الزِّفَافِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ إِذَا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى مَفْسَدَةٍ دِينِيَّةٍ، وَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَاجْعَلُوهُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ» وَعَنْهَا قَالَتْ: «زُفَّتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: يَا عَائِشَةُ مَا كَانَ مَعَكُمْ لَهْوٌ فَإِنَّ الْأَنْصَارَ يُعْجِبُهُمُ اللَّهْوُ» وَرُوِيَ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم-: «فَصْلُ مَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ» وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: الْمُرَادُ بِالدُّفِّ مَا لَا جَلَاجِلَ لَهُ.
وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْبَحْرِ عَنِ الذَّخِيرَةِ: ضَرْبُ الدُّفِّ فِي الْعُرْسِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَكَذَا اخْتَلَفُوا فِي الْغِنَاءِ فِي الْعُرْسِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ كَرَاهَتِهِ كَضَرْبِ الدُّفِّ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِمَاع ف 22، عُرْس ف 7، مَعَازِف ف 5 وَمَا بَعْدَهَا).
أَرْكَانُ النِّكَاحِ:
45- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَرْكَانِ النِّكَاحِ.فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ رُكْنَ النِّكَاحِ هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَقَطْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَهُ: وَلِيٌ، وَمَحَلٌّ (زَوْجٌ وَزَوْجَةٌ)، وَصِيغَةٌ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَهُ خَمْسَةٌ: صِيغَةٌ، وَزَوْجٌ، وَزَوْجَةٌ، وَشَاهِدَانِ، وَوَلِيٌّ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَهُ ثَلَاثَةٌ: زَوْجَانِ، وَالْإِيجَابُ، وَالْقَبُولُ.
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي إِيضَاحِ هَذِهِ الْأَرْكَانِ.
أَوَّلًا: الصِّيغَةُ فِي النِّكَاحِ:
46- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَذَلِكَ بِاللَّفْظِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَمَا يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ.
أَمَّا الْإِيجَابُ فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- هُوَ مَا يَصْدُرُ مِنْ وَلِيِّ الزَّوْجَةِ، وَالْقَبُولُ هُوَ مَا يَصْدُرُ مِنَ الزَّوْجِ أَوْ وَكِيلِهِ.
لَكِنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالشَّافِعِيَّةَ يَسْتَوِي عِنْدَهُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْقَبُولُ عَلَى الْإِيجَابِ أَوْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ مَا دَامَ قَدْ تَحَدَّدَ الْمُوجِبُ وَالْقَابِلُ، فَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ لِلْوَلِيِّ: زَوِّجْنِي أَوْ تَزَوَّجْتُ بِنْتَكَ كَانَ قَبُولًا، وَلَوْ قَالَ الْوَلِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ: زَوَّجْتُكَ أَوْ أَنَكَحْتُكَ كَانَ إِيجَابًا، وَانْعَقَدَ النِّكَاحُ بِذَلِكَ.
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: يُنْدَبُ تَقَدَّمُ الْإِيجَابِ.
أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْإِيجَابُ عَلَى الْقَبُولِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْقَبُولُ عَلَيْهِ، قَالُوا: لِأَنَّ الْقَبُولَ إِنَّمَا يَكُونُ لِلْإِيجَابِ، فَمَتَى وُجِدَ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ قَبُولًا لِعَدَمِ مَعْنَاهُ فَلَمْ يَصِحَّ، فَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: تَزَوَّجْتُ ابْنَتَكَ، وَقَالَ الْوَلِيُّ: زَوَّجْتُكَهَا، لَمْ يَصِحَّ رِوَايَةً وَاحِدَةً.
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَالْإِيجَابُ عِنْدَهُمْ هُوَ مَا يَصْدُرُ أَوَّلًا، سَوَاءً أَكَانَ الْمُتَقَدِّمُ هُوَ كَلَامَ الزَّوْجِ أَمْ كَانَ كَلَامَ الزَّوْجَةِ أَوْ وَلِيِّهَا، وَالْقَبُولُ هُوَ مَا يَصْدُرُ مُؤَخَّرًا، سَوَاءً أَكَانَ صُدُورُهُ مِنَ الزَّوْجِ أَمْ كَانَ مِنَ الزَّوْجَةِ أَوْ وَلِيِّهَا.
وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ الزَّوْجُ: زَوِّجْنِي أَوْ تَزَوَّجْتُ بِنْتَكَ كَانَ إِيجَابًا، فَلَوْ قَالَ الْوَلِيُّ أَوِ الزَّوْجَةُ: قَبِلْتُ كَانَ قَبُولًا، وَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِذَلِكَ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
135-موسوعة الفقه الكويتية (نكاح 5)
نِكَاحٌ -5أَنْوَاعُ الْوِلَايَةِ فِي النِّكَاحِ:
80- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ فِي النِّكَاحِ بِحَسَبِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ نَوْعَانِ:
وِلَايَةُ إِجْبَارٍ: وَهِيَ تَنْفِيذُ الْقَوْلِ بِالْإِنْكَاحِ عَلَى الْغَيْرِ، أَيْ أَنْ يُبَاشِرَ الْوَلِيُّ الْعَقْدَ فَيَنْفُذُ عَلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ شَاءَ أَوْ أَبَى.
وَوِلَايَةُ اخْتِيَارٍ: أَوْ وِلَايَةُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ، أَوْ وِلَايَةُ شَرِكَةٍ، عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَسْمِيَتِهَا.
وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْوِلَايَةِ تَنْفِيذُ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ أَوْ إِجْبَارُهُ، وَمُقْتَضَاهَا أَنَّ نِكَاحَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ يَصِحُّ بَعْدَ أَخْذِ إِذْنِهِ أَوِ اخْتِيَارِهِ.
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي كُلِّ نَوْعٍ تَفْصِيلٌ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ- وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ:
81- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى إِثْبَاتِ وِلَايَةِ الْإِجْبَارِ لِبَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى بَعْضِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ.
82- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وِلَايَةُ الْحَتْمِ وَالْإِيجَابِ وَالِاسْتِبْدَادِ «الْإِجْبَارِ» تَكُونُ لِلْوَلِيِّ، وَهُوَ عِنْدَهُمُ الْعَصَبَةُ مُطْلَقًا، فَلَهُ إِنْكَاحُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ، وَالْمَجْنُونِ وَالْمَجْنُونَةِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «النِّكَاحُ إِلَى الْعَصَبَاتِ» وَالْبَالِغَاتُ خَرَجْنَ «بِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ فِي أَبْضَاعِهِنَّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَإِنَّ الْبِكْرَ تُسْتَأْمَرُ فَتَسْتَحِي فَتَسْكُتُ.قَالَ: سُكَاتُهَا إِذْنُهَا» وَبِخُرُوجِ الْبَالِغَاتِ بَقِيَ الصِّغَارُ، «وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- تَزَوَّجَهَا وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، وَبَنَى بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ».
وَشَرْطُ ثُبُوتِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ عِنْدَهُمْ كَوْنُ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ صَغِيرًا أَوْ صَغِيرَةً، أَوْ مَجْنُونًا كَبِيرًا أَوْ مَجْنُونَةً كَبِيرَةً، سَوَاءٌ كَانَتِ الصَّغِيرَةُ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا، فَلَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ عَلَى الْبَالِغِ الْعَاقِلِ وَلَا عَلَى الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْوِلَايَةَ تَدُورُ مَعَ الصِّغَرِ وُجُودًا وَعَدَمًا فِي الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ، وَفِي الْكَبِيرِ وَالْكَبِيرَةِ تَدُورُ مَعَ الْجُنُونِ وُجُودًا وَعَدَمًا، سَوَاءٌ كَانَ الْجُنُونُ أَصْلِيًّا بِأَنْ بَلَغَ مَجْنُونًا، أَوْ عَارِضًا بِأَنْ طَرَأَ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَقَالَ زُفَرُ: إِذَا طَرَأَ لَمْ يَجُزْ لِلْمُوَلَّى التَّزْوِيجُ، وَعَلَى أَصْلِ الْحَنَفِيَّةِ يَنْبَنِي أَنَّ الْأَبَ وَالْجَدَّ لَا يَمْلِكَانِ إِنْكَاحَ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا عِنْدَهُمْ.
وَقَالُوا: إِنَّ إِثْبَاتَ وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ عَلَى هَؤُلَاءِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ يَتَضَمَّنُ الْمَصَالِحَ، وَذَلِكَ يَكُونُ بَيْنَ الْمُتَكَافِئَيْنِ، وَالْكُفْءُ لَا يَتَّفِقُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَمَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى إِثْبَاتِ الْوِلَايَةِ عَلَى الصِّغَارِ تَحْصِيلًا لِلْمَصْلَحَةِ، وَالْقَرَابَةُ مُوجِبَةٌ لِلْنَظَرِ وَالشَّفَقَةِ فَيَنْتَظِمُ الْجَمِيعُ، إِلاَّ أَنَّ شَفَقَةَ الْأَبِ وَالْجَدِّ أَكْثَرُ.
وَإِنْ كَانَ الْمُزَوِّجُ لِلصَّغِيرِ أَوِ الصَّغِيرَةِ أَبًا أَوْ جَدًّا، وَلِلْمَجْنُونِ أَوِ الْمَجْنُونَةِ ابْنَهُمَا، وَلِلرَّقِيقِ مَالِكَهُ لَزِمَ النِّكَاحُ، وَلَا خِيَارَ لِوَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ، وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ بِغَيْرِ كُفْءٍ أَوْ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ، لِوُفُورِ شَفَقَةِ الْأَوْلِيَاءِ، وَشِدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى نَفْعِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ فَكَأَنَّهُمْ بَاشَرُوهُ بِأَنْفُسِهِمْ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- مَا خَيَّرَ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- حِينَ بَلَغَتْ، لَكِنَّهُ يَشْتَرِطُ فِي الْأَوْلِيَاءِ عِنْدَئِذٍ أَنْ لَا يُعْرَفَ مِنْ أَيٍّ مِنْهُمْ سُوءُ الِاخْتِيَارِ مَجَانَةً وَفِسْقًا وَإِلاَّ فَبَطَلَ النِّكَاحُ.
وَإِنْ كَانَ الْمُزَوِّجُ لِوَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ غَيْرَ مَنْ ذُكِرَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْخِيَارُ وَإِنْ كَانَ إِنْكَاحُهُ مِنْ كُفْءٍ وَبِلَا غَبْنٍ- إِنْ شَاءَ أَقَامَ عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا خِيَارَ لَهُمْ كَمَا فِي إِنْكَاحِ الْأَبِ وَالْجَدِّ.
وَقَالُوا: يَمْلِكُ السَّيِّدُ إِجْبَارَ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ عَلَى النِّكَاحِ صِيَانَةً لِمِلْكِهِ وَتَحْصِينًا لَهُ عَنِ الزِّنَا الَّذِي هُوَ سَبَبُ هَلَاكِهِمْ أَوْ نُقْصَانِهِمْ، وَلَيْسَ لِلْمُوَلَّى أَنْ يُزَوِّجَ الْمُكَاتَبَ وَالْمُكَاتَبَةَ بِغَيْرِ رِضَاهُمَا، لِخُرُوجِهِمَا عَنْ يَدِهِ، وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهُمَا إِلاَّ بِإِذْنِ الْمَوْلَى لِلرِّقِّ الثَّابِتِ فِيهِمَا، وَيَمْلِكُ الْمُكَاتَبُ تَزْوِيجَ أَمَتِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الِاكْتِسَابِ، وَلَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ خُسْرَانٌ لَا اكْتِسَابٌ، وَلَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ بِغَيْرِ مَهْرٍ جَازَ وَلَا مَهْرَ، وَقِيلَ: يَجِبُ حَقًّا لِلشَّرْعِ ثُمَّ يَسْقُطُ.
83- وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الْوَلِيُّ الْمُجْبِرُ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ:
أ- الْأَبُ فَلَهُ الْجَبْرُ، وَلَوْ بِدُونِ صَدَاقِ الْمِثْلِ، وَلَوْ لِأَقَلِّ حَالٍ مِنْهَا، أَوْ لِقَبِيحِ مَنْظَرٍ لِثَلَاثٍ مِنْ بَنَاتِهِ:
الْأُولَى: الْبِكْرُ وَلَوْ عَانِسًا طَالَتْ إِقَامَتُهَا عِنْدَ أَبِيهَا وَعَرَفَتْ مَصَالِحَ نَفْسِهَا قَبْلَ الزَّوَاجِ.
وَجَبْرُ الْبِكْرِ وَلَوْ عَانِسًا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ، خِلَافًا لِابْنِ وَهْبٍ حَيْثُ قَالَ: لِلْأَبِ جَبْرُ الْبِكْرِ مَا لَمْ تَكُنْ عَانِسًا، لِأَنَّهَا لَمَّا عَنَسَتْ صَارَتْ كَالثَّيِّبِ.
وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ هَلِ الْعِلَّةُ فِي الْجَبْرِ الْبَكَارَةُ أَوِ الْجَهْلُ بِمَصَالِحِ النِّسَاءِ، فاَلْمَشْهُورُ نَاظِرٌ لِلْأَوَّلِ، وَابْنُ وَهْبٍ نَاظِرٌ لِلثَّانِي.
وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ جَبْرِ الْبِكْرِ مَنْ رَشَّدَهَا الْأَبُ، أَيْ جَعَلَهَا رَشِيدَةً أَوْ أَطْلَقَ الْحَجْرَ عَنْهَا لِمَا قَامَ بِهَا مِنْ حُسْنِ التَّصَرُّفِ، وَهَذَهِ الْبِكْرُ الْمُسْتَثْنَاةُ مِنَ الْجَبْرِ لَا بُدَّ مِنْ إِذْنِهَا فِي النِّكَاحِ بِالْقَوْلِ.
كَمَا اسْتَثْنَوْا مَنْ أَقَامَتْ سَنَةً فَأَكْثَرَ بِبَيْتِ زَوْجِهَا بَعْدَ أَنْ دَخَلَ بِهَا ثُمَّ تَأَيَّمَتْ وَهِيَ بِكْرٌ فَلَا جَبْرَ عَلَيْهَا تَنْزِيلًا لِإِقَامَتِهَا بِبَيْتِ الزَّوْجِ سَنَةً مَنْزِلَةَ الثُّيُوبَةِ.
الثَّانِيَةُ: الثَّيِّبُ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ وَتَأَيَّمَتْ بَعْدَ أَنْ أَزَالَ الزَّوْجُ بَكَارَتَهَا، فَلِلْأَبِ جَبْرُهَا لِصِغَرِهَا إِذْ لَا عِبْرَةَ بِثِيُوبَتِهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَالثَّيِّبُ الَّتِي بَلَغَتْ وَزَالَتْ بَكَارَتُهَا بِزِنًا وَلَوْ تَكَرَّرَ مَتَى زَالَ الْحَيَاءُ عَنْ وَجْهِهَا أَوْ وَلَدَتْ مِنَ الزِّنَا فَلِلْأَبِ جَبْرُهَا، وَلَا حَقَّ لِوِلَادَتِهَا مِنَ الزِّنَا، وَالثَّيِّبُ الَّتِي زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِعَارِضٍ كَوَثْبَةٍ أَوْ ضَرْبَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَلِلْأَبِ جَبْرُهَا وَلَوْ عَانِسًا.
أَمَّا مَنْ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ وَلَوْ مُجْمَعًا عَلَى فَسَادِهِ فَلَيْسَ لِلْأَبِ جَبْرُهَا إِنْ دُرِئَ الْحَدُّ لِشُبْهَةٍ، وَإِلاَّ فَلَهُ جَبْرُهَا.
الثَّالِثَةُ: الْمَجْنُونَةُ الْبَالِغَةُ الثَّيِّبُ لِلْأَبِ جَبْرُهَا لِعَدَمِ تَمْيِيزِهَا، وَلَا كَلَامَ لِوَلَدِهَا مَعَهُ إِنْ كَانَ لَهَا وَلَدٌ رَشِيدٌ، إِلاَّ مَنْ تُفِيقُ أَحْيَانًا فَتُنْتَظَرُ إِفَاقَتُهَا لِتُسْتَأْذَنَ وَلَا تُجْبَرُ.
وَمَحَلُّ جَبْرِ الْأَبِ فِي الثَّلَاثِ إِذَا لَمْ يَلْزَمْ عَلَى تَزْوِيجِ أَيٍّ مِنْهُنَّ ضَرَرٌ عَادَةً، كَتَزْوِيجِهَا مِنْ خَصِيٍّ أَوْ ذِي عَاهَةٍ- كَجُنُونٍ وَنَحْوِهِ- مِمَّا يُرَدُّ بِهِ الزَّوْجُ شَرْعًا، وَإِلاَّ فَلَا جَبْرَ.
ب- وَصِيُّ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ فَلَهُ الْجَبْرُ فِيمَا لِلْأَبِ جَبْرٌ فِيهِ، وَمَحَلُّهُ إِنْ عَيَّنَ لَهُ الْأَبُ الزَّوْجَ، وَبَذَلَ مَهْرَ الْمِثْلِ، وَلَمْ يَكُنْ فَاسِقًا، بِخِلَافِ الْأَبِ فَلَهُ جَبْرُهَا مُطْلَقًا وَلَوْ بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَلِلْوَصِيِّ الْجَبْرُ كَذَلِكَ إِنْ أَمَرَهُ الْأَبُ بِهِ وَلَوْ ضِمْنًا، أَوْ أَمَرَهُ بِالنِّكَاحِ وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ الزَّوْجَ وَلَا الْإِجْبَارَ، بِأَنْ قَالَ لَهُ: زَوِّجْهَا، أَوْ زَوِّجْهَا مِمَّنْ أَحْبَبْتَ أَوْ لِمَنْ تَرْضَاهُ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ، وَقَالُوا: الرَّاجِحُ الْجَبْرُ إِنْ ذَكَرَ الْبُضْعَ أَوِ النِّكَاحَ أَوِ التَّزْوِيجَ بِأَنْ قَالَ لَهُ الْأَبُ: أَنْتَ وَصِيِّي عَلَى بُضْعِ بَنَاتِي، أَوْ عَلَى نِكَاحِ بَنَاتِي، أَوْ عَلَى تَزْوِيجِهِنَّ، أَوْ وَصِيِّي عَلَى بِنْتِي تُزَوِّجُهَا، أَوْ تُزَوِّجُهَا مِمَّنْ أَحْبَبْتَ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ شَيْءٌ مِنَ الثَّلَاثَةِ فَالرَّاجِحُ عَدَمُ الْجَبْرِ، كَمَا إِذَا قَالَ: وَصِيِّي عَلَى بَنَاتِي، أَوْ عَلَى بَعْضِ بَنَاتِي، أَوْ عَلَى بِنْتِي فُلَانَةَ، وَأَمَّا لَوْ قَالَ: وَصِيِّي فَقَطْ فَلَا جَبْرَ اتِّفَاقًا.
وَالْوَصِيُّ فِي الثَّيِّبِ الْبَالِغَةِ إِذَا أَمَرَهُ الْأَبُ بِتَزْوِيجِهَا كَأَبٍ، مَرْتَبَتُهُ بَعْدَ الِابْنِ، وَلَا جَبْرَ، فَإِنْ زَوَّجَهَا مَعَ وُجُودِ الِابْنِ جَازَ عَلَى الِابْنِ، وَإِنْ زَوَّجَهَا الْأَخُ بِرِضَاهَا جَازَ عَلَى الْوَصِيِّ، لِصِحَّةِ عَقْدِ الْأَبْعَدِ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَبِ، وَالْجَوَازُ بِمَعْنَى الْمُضِيِّ بَعْدَ الْوُقُوعِ، وَإِلاَّ فَالِابْنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيِّ، وَهَذَا مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَخِ.هَذَا عَنِ الْوَلِيِّ الْمُجْبِرِ لِلْأُنْثَى، أَمَّا الْوَلِيُّ الْمُجْبِرُ لِلذَّكَرِ فَقَالُوا: يُجْبِرُ أَبٌ وَوَصِيٌّ وَحَاكِمٌ لَا غَيْرُهُمْ ذَكَرًا مَجْنُونًا مُطْبِقًا وَصَغِيرًا لِمَصْلَحَةٍ اقْتَضَتْ تَزْوِيجَهُمَا، بِأَنْ خِيفَ الزِّنَا أَوِ الضَّرَرُ عَلَى الْمَجْنُونِ فَتَحْفَظُهُ الزَّوْجَةُ، وَمَصْلَحَةُ الصَّبِيِّ تَزْوِيجُهُ مِنْ غَنِيَّةٍ أَوْ شَرِيفَةٍ أَوِ ابْنَةِ عَمٍّ أَوْ لِمَنْ تَحْفَظُ مَالَهُ، وَلَا جَبْرَ لِلْحَاكِمِ إِلاَّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ، إِلاَّ إِذَا بَلَغَ عَاقِلًا أَيْ رَشَدَ ثُمَّ جُنَّ فَالْكَلَامُ لِلْحَاكِمِ.
ج- الْمَالِكُ لِأَمَةٍ أَوْ عَبْدٍ، لَهُ جَبْرُهُمَا عَلَى النِّكَاحِ، وَلَوْ كَانَ الْمَالِكُ أُنْثَى فَلَهَا الْجَبْرُ كَذَلِكَ لَكِنْ تُوَكِّلُ فِي الْعَقْدِ عَلَى الْأَمَةِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَلَهَا الْعَقْدُ بِنَفْسِهَا، وَيَمْتَنِعُ الْجَبْرُ إِنْ كَانَ يَلْحَقُ الْمَمْلُوكَ فِي النِّكَاحِ الَّذِي يُجْبَرُ عَلَيْهِ ضَرَرٌ، كَالتَّزْوِيجِ لِذِي عَاهَةٍ، فَلَا جَبْرَ، وَيُفْسَخُ النِّكَاحُ وَلَوْ طَالَ الْأَمَدُ.
وَلِلْمَالِكِ الْجَبْرُ وَلَوْ كَانَ الْمَمْلُوكُ عَبْدًا مُدَبَّرًا أَوْ مُعْتَقًا لِأَجَلٍ، مَا لَمْ يَمْرَضْ مَاِلكُ الْمُدَبَّرِ، أَوْ يَقْرُبْ أَجَلُ الْعِتْقِ كَالثَّلَاثَةِ الْأَشْهُرِ فَدُونَ، فَإِنْ مَرِضَ أَوْ قَرُبَ الْأَجَلُ فَلَا جَبْرَ لِلْمَالِكِ.
وَالْأَصَحُّ عِنْدَ اللَّخْمِيِّ وَغَيْرِهِ عَدَمُ الْجَبْرِ مُطْلَقًا لِلْأُنْثَى الْمُدَبَّرَةِ أَوِ الْمُعْتَقَةِ لِأَجَلٍ.
وَلَا جَبْرَ لِلسَّيِّدِ عَلَى الْمُبَعَّضِ وَالْمُكَاتَبِ، لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ أَحْرَزَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ، وَالْمُبَعَّضَ تَعَلَّقَتْ بِهِ الْحُرِّيَّةُ.
وَكُرِهَ لِلسَّيِّدِ جَبْرُ أُمِّ وَلَدِهِ بَعْدَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا عَلَى النِّكَاحِ، فَإِنْ جَبَرَهَا صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: لَا جَبْرَ لَهُ عَلَيْهَا، فَإِنْ جَبَرَهَا لَمْ يُمْضَ.
وَجَبْرُ الشُّرَكَاءِ مَمْلُوكَهُمْ- ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى- إِنِ اتَّفَقُوا عَلَى تَزْوِيجِهِ، لَا إِنْ خَالَفَ بَعْضُهُمْ فَلَيْسَ لِلْآخَرِ جَبْرٌ.
وَقُدِّمَ الْمَالِكُ عَلَى سَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ الْمُجْبِرِينَ لِقُوَّةِ تَصَرُّفِهِ لِأَنَّهُ يُزَوِّجُ الْأَمَةَ مَعَ وُجُودِ أَبِيهَا وَلَهُ جَبْرُ الثَّيِّبِ وَالْبِكْرِ، وَالْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، لِأَنَّ الرَّقِيقَ مَالٌ مِنْ أَمْوَالِهِ، وَلَهُ أَنْ يُصْلِحَ مَالَهُ بِأَيِّ وَجْهٍ.
84- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لِلْأَبِ وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ وَهِيَ تَزْوِيجُ ابْنِهِ الصَّغِيرِ الْعَاقِلِ وَابْنَتِهِ الْبِكْرِ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً، عَاقِلَةً أَوْ مَجْنُونَةً بِغَيْرِ إِذْنِهَا، لِخَبَرِ: «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا فِي نَفْسِهَا» وَفِي رِوَايَةٍ: «الْبِكْرُ يَسْتَأْمِرُهَا أَبُوهَا» حُمِلَتْ عَلَى النَّدْبِ، وَلِأَنَّهَا لَمْ تُمَارِسِ الرِّجَالَ بِالْوَطْءِ فَهِيَ شَدِيدَةُ الْحَيَاءِ.
وَلِتَزْوِيجِ الْأَبِ ابْنَتَهُ الْبِكْرَ بِغَيْرِ إِذْنِهَا شُرُوطٌ:
الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ، فَإِنْ كَانَ فَلَيْسَ لَهُ تَزْوِيجُهَا إِلاَّ بِإِذْنِهَا بِخِلَافِ غَيْرِ الظَّاهِرِةِ لِأَنَّ الْوَلِيَّ يَحْتَاطُ لِمُوَلِّيَتِهِ لِخَوْفِ الْعَارِ وَغَيْرِهِ.
الثَّانِي: أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ كُفْءٍ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُزَوِّجَهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا.
الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ.
الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَكُونَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا بِالْمَهْرِ.
السَّادِسُ: أَنْ لَا يُزَوِّجَهَا بِمَنْ تَتَضَرَّرُ بِمُعَاشَرَتِهِ كَأَعْمَى وَشَيْخٍ هَرِمٍ.
السَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا الْحَجُّ، فَإِنَّ الزَّوْجَ قَدْ يَمْنَعُهَا لِكَوْنِ الْحَجِّ عَلَى التَّرَاخِي، وَلَهَا غَرَضٌ فِي تَعْجِيلِ بَرَاءَةِ ذِمَّتِهَا.
وَهَذِهِ الشُّرُوطُ مِنْهَا مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ الْإِذْنِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُعْتَبَرٌ لِجَوَازِ الْإِقْدَامِ فَقَطْ.
فَالْمُعْتَبَرُ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ دُونَ إِذْنِهَا مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ: أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلِيِّهَا عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَأَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ كُفْئًا، وَأَنْ يَكُونَ مُوسِرًا بِحَالِ الصَّدَاقِ حَتَّى لَا يَكُونَ قَدْ بَخَسَهَا حَقَّهَا، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ مُعْتَبَرٌ لِجَوَازِ الْإِقْدَامِ عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ دُونَ إِذْنِهَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَيُسْتَحَبُّ اسْتِئْذَانُ الْبِكْرِ إِذَا كَانَتْ مُكَلَّفَةً لِحَدِيثِ: «الْبِكْرُ يَسْتَأْمِرُهَا أَبُوهَا».وَتَطْيِيبًا لِخَاطِرِهَا، أَمَّا غَيْرُ الْمُكَلَّفَةِ فَلَا إِذْنَ لَهَا، وَيُسَنُّ اسْتِفْهَامُ الْمُرَاهِقَةِ، وَأَنْ لَا يُزَوِّجَ الصَّغِيرَةَ حَتَّى تَبْلُغَ.
وَالْمُسْتَحَبُّ فِي الِاسْتِئْذَانِ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهَا نِسْوَةً ثِقَاتٍ يَنْظُرْنَ مَا فِي نَفْسِهَا، وَالْأُمُّ أَوْلَى بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَطَّلِعُ عَلَى مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهَا.
وَالْجَدُّ أَبُو الْأَبِ وَإِنْ عَلَا كَالْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ أَوْ عَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ فِيمَا ذُكِرَ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً وَعُصُوبَةً كَالْأَبِ، وَيَزِيدُ الْجَدُّ عَلَيْهِ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ تَوَلِّي طَرَفَيِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ الْأَبِ.
وَوَكِيلُ الْأَبِ وَالْجَدِّ كَالْأَبِ وَالْجَدِّ، لَكِنْ وَكِيلُ الْجَدِّ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ.
وَلَا أَثَرَ لِزَوَالِ الْبَكَارَةِ بِلَا وَطْءٍ فِي الْقُبُلِ، كَسَقْطَةٍ، وَحِدَّةِ طَمْثٍ وَطُولِ تَعْنِيسٍ- وَهُوَ الْكِبَرُ- أَوْ بِأُصْبُعٍ وَنَحْوِهِ فِي الْأَصَحِّ كَمَا فِي مِنْهَاجِ الطَّالِبِينَ- أَوِ الصَّحِيحِ كَمَا فِي رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ- بَلْ حُكْمُهَا حُكْمُ الْأَبْكَارِ لِأَنَّهَا لَمْ تُمَارِسِ الرِّجَالَ فَهِيَ عَلَى حَالِهَا وَحَيَائِهَا، وَالثَّانِي أَنَّهَا كَالثَّيِّبِ لِزَوَالِ الْعُذْرَةِ، وَلَوْ خُلِقَتْ بِلَا بَكَارَةٍ فَهِيَ بِكْرٌ.
وَيَلْزَمُ الْمُجْبِرَ- الْأَبَ أَوِ الْجَدَّ- تَزْوِيجُ مَجْنُونَةٍ أَطْبَقَ جُنُونُهَا بَالِغَةٍ مُحْتَاجَةٍ وَلَوْ ثَيِّبًا لِاكْتِسَابِهَا الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ، وَرُبَّمَا كَانَ جُنُونُهَا لِشِدَّةِ الشَّبَقِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَجْنُونَةِ أَبٌ أَوْ جَدٌّ لَمْ تُزَوَّجِ الْمَجْنُونَةُ الصَّغِيرَةُ حَتَّى تَبْلُغَ، وَحِينَئِذٍ يُزَوِّجُهَا السُّلْطَانُ فِي الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ، بِمُرَاجَعَةِ أَقَارِبِهَا تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ وَلِأَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِمَصْلَحَتِهَا، وَالثَّانِي: يُزَوِّجُهَا الْقَرِيبُ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ إِذْنِهَا.
وَتُزَوَّجُ بِوَاسِطَةِ السُّلْطَانِ لِلْحَاجَةِ- إِلَى النِّكَاحِ بِظُهُورِ عَلَامَةِ شَهْوَتِهَا، أَوْ تَوَقُّعِ شِفَائِهَا بِقَوْلِ عَدْلَيْنِ مِنَ الْأَطِبَّاءِ، لِأَنَّ تَزَوُّجَهَا يَقَعُ إِجْبَارًا وَغَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ لَا يَمْلِكُ الْإِجْبَارَ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ لِلْحَاجَةِ النَّازِلَةِ مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ، وَلَا يُزَوِّجُهَا لِمَصْلَحَةٍ كَتَوَفُّرِ الْمُؤَنِ فِي الْأَصَحِّ، وَالثَّانِي: نَعَمْ كَالْأَبِ وَالْجَدِّ، قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَإِذَا أَفَاقَتِ الْمَجْنُونَةُ- هَذِهِ- بَعْدَ تَزْوِيجِهَا لَا خِيَارَ لَهَا، لِأَنَّ تَزْوِيجَهَا كَالْحُكْمِ لَهَا أَوْ عَلَيْهَا.
وَيُزَوِّجُ الْأَبُ وَالْجَدُّ الْمَجْنُونَةَ لِأَنَّهُ لَا يُرْجَى لَهَا حَالَةٌ تُسْتَأْذَنُ فِيهَا، وَلَهُمَا وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ، إِنْ ظَهَرَتْ مَصْلَحَةٌ فِي تَزْوِيجِهَا، وَلَا تُشْتَرَطُ الْحَاجَةُ قَطْعًا، لِإِفَادَتِهَا الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ، بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ، وَسَوَاءٌ فِي جَوَازِ التَّزْوِيجِ صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ، ثَيِّبٌ وَبِكْرٌ، جُنَّتْ قَبْلَ الْبُلُوغِ أَوْ بَعْدَهُ.
وَيَلْزَمُ الْوَلِيَّ الْمُجْبِرَ- الْأَبَ أَوِ الْجَدَّ- تَزْوِيجُ مَجْنُونٍ بَالِغٍ أَطْبَقَ جُنُونُهُ وَظَهَرَتْ حَاجَتُهُ لِلنِّكَاحِ بِظُهُورِ رَغْبَتِهِ فِيهِ إِمَّا بِدَوَرَانِهِ حَوْلَ النِّسَاءِ وَتَعَلُّقِهِ بِهِنَّ، أَوْ بِتَوَقُّعِ شِفَائِهِ بِالْوَطْءِ بِقَوْلِ عَدْلَيْنِ مِنَ الْأَطِبَّاءِ لِظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى ذَلِكَ.
فَإِنْ تَقَطَّعَ جُنُونُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ- وَلَوْ ثَيِّبًا- الْبَالِغَيْنِ لَمْ يُزَوَّجَا حَتَّى يَفِيقَا وَيَأْذَنَا، وَيَكُونَ الْعَقْدُ حَالَ الْإِفَاقَةِ.
وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلسَّيِّدِ إِجْبَارُ عَبْدِهِ- غَيْرِ الْمُكَاتَبِ وَالْمُبَعَّضِ وَلَوْ صَغِيرًا وَخَالَفَهُ فِي الدِّينِ- عَلَى النِّكَاحِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ رَفْعَهُ بِالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ يَلْزَمُ ذِمَّةَ الْعَبْدِ مَالًا فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ كَالْكِتَابَةِ.
وَالثَّانِي: لَهُ إِجْبَارُهُ كَالْأَمَةِ، وَقِيلَ: يُجْبَرُ الصَّغِيرُ.
وَلِلسَّيِّدِ إِجْبَارُ أَمَتِهِ غَيْرِ الْمُبَعَّضَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ عَلَى النِّكَاحِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ يَرِدُ عَلَى مَنَافِعِ الْبُضْعِ وَهِيَ مَمْلُوكَةٌ لَهُ، وَبِهَذَا فَارَقَتِ الْعَبْدَ، فَيُزَوِّجُهَا بِرَقِيقٍ وَدَنِيءِ النَّسَبِ وَإِنْ كَانَ أَبُوهَا قُرَشِيًّا لِأَنَّهَا لَا نَسَبَ لَهَا، وَلَا يُزَوِّجُهَا بِمَعِيبٍ كَأَجْذَمَ وَأَبْرَصَ وَمَجْنُونٍ بِغَيْرِ رِضَاهَا- وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ بَيْعُهَا مِنْهُ وَإِنْ كَرِهَتْ- وَلَوْ أَجْبَرَهَا السَّيِّدُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ عَلَى النِّكَاحِ لَمْ يَصِحَّ.
وَإِذَا طَلَبَ الْعَبْدُ الْبَالِغُ أَوِ الْأَمَةُ مِنْ سَيِّدِ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يُزَوِّجَهُ لَمْ يُجْبَرِ السَّيِّدُ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يُشَوِّشُ عَلَيْهِ مَقَاصِدَ الْمِلْكِ وَفَوَائِدَهُ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ تَنْقِيصِ الْقِيمَةِ وَتَفْوُيتِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْأَمَةِ عَلَيْهِ، وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ فِي الْعَبْدِ: يُجْبَرُ السَّيِّدُ عَلَى إِنْكَاحِ الْعَبْدِ أَوْ عَلَى بَيْعِهِ، لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ يُوقِعُهُ فِي الْفُجُورِ إِنْ خَشِيَ الْعَنَتَ، وَقِيلَ فِي الْأَمَةِ: إِنْ حُرِّمَتِ الْأَمَةُ عَلَى السَّيِّدِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ أَوْ كَانَتْ بَالِغَةً تَائِقَةً خَائِفَةَ الزِّنَا، لَزِمَ السَّيِّدَ تَزْوِيجُهَا، إِذْ لَا يُتَوَقَّعُ مِنْهُ قَضَاءُ شَهْوَتِهَا، وَلَا بُدَّ مِنْ إِعْفَافِهَا، أَمَّا إِذَا كَانَ التَّحْرِيمُ لِعَارِضٍ كَأَنْ مَلَكَ أُخْتَيْنِ فَوَطِئَ إِحْدَاهُمَا ثُمَّ طَلَبَتِ الْأُخْرَى تَزْوِيجَهَا فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِجَابَتُهَا قَطْعًا.
85- وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي وِلَايَةِ الْإِجْبَارِ: لِلْأَبِ خَاصَّةً تَزْوِيجُ بَنِيهِ الصِّغَارِ، وَكَذَا الْمَجَانِينَ وَلَوْ بَالِغِينَ دُونَ إِذْنِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا قَوْلَ لَهُمْ فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ تَزْوِيجِهِمْ كَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ، وَحَيْثُ زَوَّجَ الْأَبُ ابْنَهُ لِصِغَرِهِ أَوْ جُنُونِهِ فَإِنَّهُ يُزَوِّجُهُ بِغَيْرِ أَمَةٍ لِئَلاَّ يُسْتَرَقَّ وَلَدُهُ، وَلَا مَعِيبَةٍ عَيْبًا يُرَدُّ بِهِ النِّكَاحُ كَرَتْقَاءَ وَجَذْمَاءَ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنْفِيرِ، وَيُزَوِّجُ الْأَبُ ابْنَهُ الصَّغِيرَ وَالْمَجْنُونَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَغَيْرِهِ وَلَوْ كُرْهًا، وَلَيْسَ لِأَيٍّ مِنْهُمَا خِيَارٌ إِذَا بَلَغَ وَعَقَلَ.
وَلِلْأَبِ تَزْوِيجُ بَنَاتِهِ الْأَبْكَارِ وَلَوْ بَعْدَ الْبُلُوغِ دُونَ إِذْنِهِنَّ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا» فَلَمَّا قَسَّمَ النِّسَاءَ قِسْمَيْنِ وَأَثْبَتَ الْحَقَّ لِأَحَدِهِمَا دَلَّ عَلَى نَفْيِهِ عَنِ الْقِسْمِ الْآخَرِ وَهِيَ الْبِكْرُ، فَيَكُونُ وَلِيُّهَا أَحَقَّ مِنْهَا بِهَا، وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ هُنَا وَالِاسْتِئْمَارَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ.
وَلِلْأَبِ أَيْضًا تَزْوِيجُ ثَيِّبٍ لَهَا دُونَ تِسْعِ سِنِينَ بِغَيْرِ إِذْنِهَا، لِأَنَّهُ لَا إِذْنَ لَهَا.
وَلَيْسَ لِلْجَدِّ تَزْوِيجُ هَؤُلَاءِ بِدُونِ إِذْنِهِمْ لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ، وَلِأَنَّهُ قَاصِرٌ عَنِ الْأَبِ فَلَمْ يَمْلِكِ الْإِجْبَارَ كَالْعَمِّ.
وَيُسَنُّ اسْتِئْذَانُ بِكْرٍ بَالِغَةٍ هِيَ وَأُمِّهَا، أَمَّا هِيَ فَلِمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا أُمُّهَا فَلِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- مَرْفُوعًا: «آمِرُوا النِّسَاءَ فِي بَنَاتِهِنَّ» وَيَكُونُ اسْتِئْذَانُ الْوَلِيِّ لَهَا بِنَفْسِهِ أَوْ بِنِسْوَةٍ ثِقَاتٍ يَنْظُرْنَ مَا فِي نَفْسِهَا لِأَنَّهَا قَدْ تَسْتَحْيِي مِنْهُ، وَأُمُّهَا بِذَلِكَ أَوْلَى لِأَنَّهَا تَطَّلِعُ مِنْهَا عَلَى مَا تُخْفِيهِ عَلَى غَيْرِهَا.
وَحَيْثُ أُجْبِرَتُ الْبِكْرُ أُخِذَ بِتَعْيِينِ بِنْتِ تِسْعِ سِنِينَ فَأَكْثَرَ كُفْئًا لَا بِتَعْيِينِ الْمُجْبِرِ مِنْ أَبٍ أَوْ وَصِيِّهِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ يُرَادُ لِلرَّغْبَةِ فَلَا تُجْبَرُ عَلَى مَنْ لَا تَرْغَبُ فِيهِ.
وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلْإِجْبَارِ شُرُوطٌ هِيَ:
أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ كُفْءٍ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا، وَأَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَبِ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَأَنْ يُزَوِّجَهَا بِنَقْدِ الْبَلَدِ، فَإِنِ امْتَنَعَ الْمُجْبِرُ مِنْ تَزْوِيجِ مَنْ عَيَّنَتْهُ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ فَأَكْثَرَ، فَهُوَ عَاضِلٌ سَقَطَتْ وِلَايَتُهُ، وَيَفْسُقُ بِهِ إِنْ تَكَرَّرَ.
وَقَالُوا: وَأَمَّا الْمَجْنُونَةُ فَلِجَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ تَزْوِيجُهَا إِذَا ظَهَرَ مِنْهَا الْمَيْلُ لِلرِّجَالِ، لِأَنَّ لَهَا حَاجَةً إِلَى النِّكَاحِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الشَّهْوَةِ عَنْهَا، وَصِيَانَتِهَا عَنِ الْفُجُورِ، وَتَحْصِيلِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالْعَفَافِ وَصِيَانَةِ الْعِرْضِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى إِذْنِهَا فَأُبِيحَ تَزْوِيجُهَا كَالْبِنْتِ مَعَ أَبِيهَا، وَيُعْرَفُ مَيْلُهَا إِلَى الرِّجَالِ مِنْ كَلَامِهَا وَتَتَبُّعِهَا الرِّجَالَ وَمَيْلِهَا إِلَيْهِمْ وَنَحْوِهِ مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، وَكَذَا إِنْ قَالَ ثِقَةٌ مِنْ أَهْلِ الطِّبِّ إِنْ تَعَذَّرَ غَيْرُهُ وَإِلاَّ فَاثْنَانِ: إِنَّ عِلَّتَهَا تَزُولُ بِتَزْوِيجِهَا، فَلِكُلِّ وَلِيٍّ تَزْوِيجُهَا لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ مَصَالِحِهَا كَالْمُدَاوَاةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَجْنُونَةِ ذَاتِ الشَّهْوَةِ ونَحْوَهَا وَلِيٌّ إِلاَّ الْحَاكِمُ زَوَّجَهَا.
وَإِنِ احْتَاجَ الصَّغِيرُ الْعَاقِلُ أَوِ الْمَجْنُونُ الْمُطْبِقُ الْبَالِغُ إِلَى النِّكَاحِ لِوَطْءٍ أَوْ خِدْمَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا زَوَّجَهُمَا الْحَاكِمُ بَعْدَ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ، أَيْ مَعَ عَدَمِهِمَا، لِأَنَّهُ يَنْظُرُ فِي مَصَالِحِهِمَا إِذَنْ، وَلَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَهُمَا بَقِيَّةُ الْأَوْلِيَاءِ وَهُمْ مَنْ عَدَا الْأَبِ وَوَصِيِّهِ وَالْحَاكِمِ لِأَنَّهُ لَا نَظَرَ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ فِي مَالِهِمَا وَمَصَالِحِهِمَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَاجَا إِلَى النِّكَاحِ فَلَيْسَ لِلْحَاكِمِ تَزْوِيجُهُمَا، لِأَنَّهُ إِضْرَارٌ بِهِمَا بِلَا مَنْفَعَةٍ.
وَلِلسَّيِّدِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِجْبَارُ إِمَائِهِ الْأَبْكَارِ وَالثُّيَّبِ عَلَى النِّكَاحِ، لَا فَرْقَ بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ مِنْهُنَّ، وَلَا بَيْنَ الْقِنِّ وَالْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ، لِأَنَّ مَنَافِعَهُنَّ مَمْلُوكَةٌ لَهُ، وَالنِّكَاحُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَتِهِنَّ، وَلِذَلِكَ مَلَكَ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا، وَبِهَذَا فَارَقَتِ الْعَبْدَ، وَلِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ مَا لَهُ مِنْ مَهْرِهَا وَوَلَدِهَا وَتَسْقُطُ عَنْهُ نَفَقَتُهَا وَكِسْوَتُهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهَا مُبَاحَةً أَوْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ كَأُخْتِهِ مِنْ رَضَاعٍ.
وَلَا يُجْبِرُ مُكَاتَبَتَهُ وَلَوْ صَغِيرَةً لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ مِلْكِهِ، وَلِذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا، وَلَا يَمْلِكُ إِجَارَتَهَا وَلَا أَخْذَ مَهْرِهَا.
وَلِلسَّيِّدِ إِجْبَارُ عَبْدِهِ الصَّغِيرِ، وَكَذَا الْمَجْنُونُ وَلَوْ بَالِغًا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَلَكَ تَزْوِيجَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ فَعَبْدُهُ كَذَلِكَ مَعَ مِلْكِهِ وَتَمَامِ وِلَايَتِهِ أَوْلَى.
وَلَا يَمْلِكُ السَّيِّدُ إِجْبَارَ عَبْدِهِ الْكَبِيرِ الْعَاقِلِ عَلَى النِّكَاحِ، لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى النِّكَاحِ كَالْحُرِّ، وَالْأَمْرُ بِإِنْكَاحِهِ مُخْتَصٌّ بِحَالَةِ طَلَبِهِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
136-موسوعة الفقه الكويتية (نكاح 6)
نِكَاحٌ -6النَّوْعُ الثَّانِي: وِلَايَةُ الْمُشَارَكَةِ أَوْ وِلَايَةُ النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ:
86- هَذِهِ الْوِلَايَةُ تُفِيدُ أَنَّ نِكَاحَ الْمُوَلَّى عَلَيْهَا إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ أَخْذِ إِذْنِهَا نَدْبًا وَاسْتِحْبَابًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، أَوْ وِلَايَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْوَلِيِّ وَالْمُوَلَّى عَلَيْهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، أَيْ لَا يَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْوَلِيِّ إِلاَّ بَعْدَ أَخْذِ إِذْنِ الْمُوَلَّى عَلَيْهَا كَمَا نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
87- فَيَرَى أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فِي رَأْيِهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَا إِجْبَارَ عَلَى الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ فِي النِّكَاحِ، وَكَذَلِكَ الْحُرُّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ وَالْمُكَاتَبُ وَالْمُكَاتَبَةُ وَلَوْ صَغِيرَيْنِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الثِّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ، وَإِذْنُهَا سُكُوتُهَا» «وَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ فِي أَبْضَاعِهِنَّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَإِنَّ الْبِكْرَ تُسْتَأْمَرُ فَتَسْتَحِي فَتَسْكُتُ.قَالَ: سُكَاتُهَا إِذْنُهَا».
وَلِأَنَّ وِلَايَةَ الْحَتْمِ وَالْإِيجَابِ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ إِنَّمَا تَثْبُتُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنِ الصَّغِيرَةِ لِعَجْزِهَا عَنِ التَّصَرُّفِ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ وَالْمَصْلَحَةِ بِنَفْسِهَا، وَبِالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ زَالَ الْعَجْزُ وَثَبَتَتِ الْقُدْرَةُ حَقِيقَةً، وَلِهَذَا صَارَتْ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، إِلاَّ أَنَّهَا مَعَ قُدْرَتِهَا حَقِيقَةً عَاجِزَةٌ عَنْ مُبَاشَرَةِ النِّكَاحِ عَجْزَ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ، لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى الْخُرُوجِ إِلَى مَحَافِلِ الرِّجَالِ، وَالْمَرْأَةُ مُخَدَّرَةٌ مَسْتُورَةٌ، وَالْخُرُوجُ إِلَى مَحْفَلِ الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ عَيْبٌ فِي الْعَادَةِ، فَكَانَ عَجْزُهَا عَجْزَ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ لَا حَقِيقَةٍ، فَثَبَتَتِ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا عَلَى حَسَبِ الْعَجْزِ، وَهِيَ وِلَايَةُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ لَا وِلَايَةَ حَتْمٍ وَإِيجَابٍ إِثْبَاتًا لِلْحُكْمِ عَلَى قَدْرِ الْعِلَّةِ.
وَأَمَّا طَرِيقُ مُحَمَّدٍ فَهُوَ أَنَّ الثَّابِتَ بَعْدَ الْبُلُوغِ وِلَايَةُ الشَّرِكَةِ لَا وِلَايَةُ الِاسْتِبْدَادِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الرِّضَا كَمَا فِي الثَّيِّبِ الْبَالِغَةِ.
وَإِذَا كَانَ الرِّضَا فِي نِكَاحِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ شَرْطَ الْجَوَازِ فَإِنَّهَا إِذَا زُوِّجَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهَا تَوَقَّفَ التَّزْوِيجُ عَلَى رِضَاهَا، فَإِنْ رَضِيَتْ جَازَ، وَإِنْ رَدَّتْ بَطَلَ.
وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ- كَسَائِرِ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ- بَيْنَ مَا يُعْرَفُ بِهِ الرِّضَا بِالنِّكَاحِ مِنَ الثَّيِّبِ، وَمَا يُعْرَفُ بِهِ مِنَ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ، فَقَالُوا: إِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ الَّتِي يُرَادُ تَزْوِيجُهَا ثَيِّبًا فَرِضَاهَا يُعْرَفُ بِالْقَوْلِ تَارَةً وَبِالْفِعْلِ أُخْرَى، أَمَّا الْقَوْلُ فَهُوَ التَّنْصِيصُ عَلَى الرِّضَا وَمَا يَجْرِى مَجْرَاهُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «الثَّيِّبُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا» وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «الثَّيِّبُ تُعْرِبُ عَنْ نَفْسِهَا» وَأَمَّا الْفِعْلُ نَحْوَ التَّمْكِينِ مِنْ نَفْسِهَا، وَالْمُطَالَبَةِ بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِأَنَّ هَذَا دَلِيلُ الرِّضَا، وَهُوَ يَثْبُتُ بِالنَّصِّ مَرَّةً وَبِالدَّلِيلِ أُخْرَى، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ «عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ لِبَرِيرَةَ- رضي الله عنها-: إِنْ وَطَأَكِ فَلَا خِيَارَ لَكِ».
وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ بِكْرًا فَيُعْرَفُ رِضَاهَا بِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ، وَبِثَالِثٍ وَهُوَ السُّكُوتُ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ سُكُوتُهَا رِضًا.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا وَرَدَ «عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: يُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ فِي أَبْضَاعِهِنَّ؟ قَالَ: نَعَمْ.فَقَالَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: فَإِنَّ الْبِكْرَ تُسْتَأْمَرُ فَتَسْتَحِي فَتَسْكُتُ، فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «سُكَاتُهَا إِذْنُهَا» وَرُوِيَ: «سُكُوتُهَا رِضَاهَا»» وَرُوِيَ: سُكُوتُهَا إِقْرَارُهَا وَكُلُّ ذَلِكَ نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَلِأَنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي عَنِ النُّطْقِ بِالْإِذْنِ فِي النِّكَاحِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِظْهَارِ رَغْبَتِهَا فِي الرِّجَالِ فَتُنْسَبُ إِلَى الْوَقَاحَةِ، فَلَوْ لَمْ يَجْعَلْ سُكُوتَهَا إِذْنًا وَرِضًا بِالنِّكَاحِ دَلَالَةً، وَشَرَطَ اسْتِنْطَاقَهَا وَهِيَ لَا تَنْطِقُ عَادَةً، لَفَاتَتْ عَلَيْهَا مَصَالِحُ النِّكَاحِ مَعَ حَاجَتِهَا إِلَى ذَلِكَ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَتَرَجَّحَ جَانِبُ الرِّضَا عَلَى جَانِبِ السُّخْطِ فِي سُكُوتِ الْبِكْرِ لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ رَاضِيَةً لَرَدَّتْ، لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ تَسْتَحِي عَنِ الْإِذْنِ فَلَا تَسْتَحِي عَنِ الرَّدِّ، فَلَمَّا سَكَتَتْ وَلَمْ تَرُدَّ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا رَاضِيَةٌ، بِخِلَافِ مَا إِذَا زَوَّجَهَا أَجْنَبِيٌّ أَوْ وَلِيٌّ غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ، لِأَنَّ احْتِمَالَ السُّخْطِ- فِي حَالَةِ السُّكُوتِ- ازْدَادَ، فَقَدْ يَكُونُ سُكُوتُهَا عَنْ جَوَابِهِ مَعَ أَنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى الرَّدِّ تَحْقِيرًا لَهُ وَعَدَمَ مُبَالَاةٍ بِكَلَامِهِ، فَبَطَلَ رُجْحَانُ دَلِيلِ الرِّضَا، وَلِأَنَّهَا إِنَّمَا تَسْتَحِي مِنَ الْأَوْلِيَاءِ مِنَ الْأَجَانِبِ، وَالْأَبْعَدُ عِنْدَ قِيَامِ الْأَقْرَبِ وَحُضُورِهِ أَجْنَبِيٌّ، فَكَانَتْ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ كَالثَّيِّبِ، فَلَا بُدَّ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا، وَلِأَنَّ الْمُزَوِّجَ إِذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا أَوْ كَانَ الْوَلِيُّ الْأَبْعَدُ كَانَ النِّكَاحُ مِنْ طَرِيقِ الْوَكَالَةِ لَا مِنْ طَرِيقِ الْوِلَايَةِ لِانْعِدَامِهَا، وَالْوَكَالَةُ لَا تَثْبُتُ إِلاَّ بِالْقَوْلِ، وَإِذَا كَانَ وَلِيًّا فَالْجَوَازُ بِطَرِيقِ الْوِلَايَةِ فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَوْلِ.
وَوَجْهُ الْقِيَاسِ الَّذِي لَا يَعْتَبِرُ سُكُوتَ الْمَرْأَةِ رِضًا أَنَّ السُّكُوتَ يَحْتَمِلُ الرِّضَا وَيَحْتَمِلُ السُّخْطَ، فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلُ الرِّضَا مَعَ الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ دَلِيلًا إِذَا كَانَ الْمُزَوِّجُ أَجْنَبِيًّا أَوْ وَلِيًّا غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ.
وَالسُّنَّةُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَسْتَأْمِرَ الْبِكْرَ قَبْلَ النِّكَاحِ وَيَذْكُرَ لَهَا الزَّوْجَ، فَيَقُولَ: إِنَّ فُلَانًا يَخْطُبُكِ أَوْ يَذْكُرُكِ، فَإِذَا سَكَتَتْ فَقَدْ رَضِيَتْ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا، فَإِذَا زَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْمَارٍ فَقَدْ أَخْطَأَ السُّنَّةَ، زَادَ فِي الْبَحْرِ عَنِ الْمُحِيطِ: وَتُوقَفُ عَلَى رِضَاهَا، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ فَاطِمَةَ مِنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنهما- دَنَا إِلَى خِدْرِهَا فَقَالَ: إِنَّ عَلِيًّا يَذْكُرُكِ فَسَكَتَتْ فَزَوَّجَهَا».
وَلَوِ اسْتَأْذَنَ الْوَلِيُّ الْبِكْرَ الْبَالِغَةَ الْعَاقِلَةَ فِي النِّكَاحِ فَضَحِكَتْ غَيْرَ مُسْتَهْزِئَةٍ، أَوْ تَبَسَّمَتْ، أَوْ بَكَتْ بِلَا صَوْتٍ فَهُوَ إِذْنٌ- فِي الْمُخْتَارِ لِلْفَتْوَى- لِأَنَّهُ حُزْنٌ عَلَى مُفَارَقَةِ أَهْلِهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِجَازَةِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْبُكَاءِ أَنَّهُ رِضًا لِأَنَّهُ لِشِدَّةِ الْحَيَاءِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَدٌّ لِأَنَّ وَضْعَهُ لِإِظْهَارِ الْكَرَاهَةِ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ بَعْدَمَا سَبَقَ: وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ اعْتِبَارُ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ فِي الْبُكَاءِ وَالضَّحِكِ، فَإِنْ تَعَارَضَتْ أَوْ أُشْكِلَ احْتِيطَ.
وَلَوِ اسْتَأْذَنَهَا الْوَلِيُّ فَبَكَتْ بِصَوْتٍ لَمْ يَكُنْ إِذْنًا وَلَا رَدًّا، حَتَّى لَوْ رَضِيَتْ بَعْدَهُ انْعَقَدَ كَمَا قَالَ الْحَصْكَفِيُّ نَقْلًا عَنِ الْمِعْرَاجِ وَغَيْرِهِ.
وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ لَوِ اسْتَأْذَنَهَا الْوَلِيُّ بِوَاسِطَةِ وَكِيلِهِ أَوْ رَسُولِهِ، أَوْ زَوَّجَهَا وَلِيُّهَا وَأَخْبَرَهَا رَسُولُهُ أَوْ فُضُولِيٌّ عَدْلٌ.
وَلَوْ قَالَ الْوَلِيُّ لِلْبِكْرِ: أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَكِ فُلَانًا، فَقَالَتْ: غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ لَمْ يَكُنْ إِذْنًا، وَلَوْ زَوَّجَهَا ثُمَّ أَخْبَرَهَا فَقَالَتْ: قَدْ كَانَ غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ كَانَ إِجَازَةً، لِأَنَّ قَوْلَهَا فِي الْأَوَّلِ إِظْهَارُ عَدَمِ الرِّضَا بِالتَّزْوِيجِ مِنْ فُلَانٍ، وَقَوْلَهَا فِي الثَّانِي قَبُولٌ أَوْ سُكُوتٌ عَنِ الرَّدِّ، وَسُكُوتُ الْبِكْرِ عَنِ الرَّدِّ يَكُونُ رِضًا.
وَلَوْ قَالَ الْوَلِيُّ لِلْبِكْرِ: أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَكِ مِنْ رَجُلٍ وَلَمْ يُسَمِّهِ فَسَكَتَتْ لَمْ يَكُنْ رِضًا كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ، لِأَنَّ الرِّضَا بِالشَّيْءِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ لَا يَتَحَقَّقُ.
وَلَوْ قَالَ: أُزَوِّجُكَ فُلَانًا أَوْ فُلَانًا حَتَّى عَدَّ جَمَاعَةً فَسَكَتَتْ، فَمِنْ أَيِّهِمْ زَوَّجَهَا جَازَ.
وَلَوْ سَمَّى لَهَا الْجَمَاعَةَ مُجْمَلًا بِأَنْ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ أُزَوِّجَكِ مِنْ جِيرَانِي أَوْ مِنْ بَنِي عَمِّي فَسَكَتَتْ، فَإِنْ كَانُوا يُحْصَوْنَ فَهُو رِضًا، وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ لَمْ يَكُنْ رِضًا، لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ يُعْلَمُونَ فَيَتَعَلَّقُ الرِّضَا بِهِمْ، وَإِذَا لَمْ يُحْصَوْا لَمْ يُعْلَمُوا فَلَا يُتَصَوَّرُ الرِّضَا، لِأَنَّ الرِّضَا بِغَيْرِ الْمَعْلُومِ مُحَالٌ.
وَلَوْ سَمَّى الْوَلِيُّ لَهَا الزَّوْجَ وَلَمْ يُسَمِّ الْمَهْرَ فَسَكَتَتْ فَسُكُوتُهَا رِضًا عَلَى مَا صَحَّحَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ وَالْمِرْغِينَانِيُّ وَشُرَّاحُ كِتَابَيْهِمَا تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ وَالْهِدَايَةِ وَجُمْهُورِ الْمُتَقَدِّمِينَ، لِأَنَّ لِلْنِكَاحِ صِحَّةٌ بِدُونِ ذِكْرِ الْمَهْرِ، وَقِيلَ يُشْتَرَطُ تَسْمِيَةُ قَدْرِ الصَّدَاقِ مَعَ تَسْمِيَةِ الزَّوْجِ، لِاخْتِلَافِ الرَّغْبَةِ بِاخْتِلَافِ الصَّدَاقَةِ قِلَّةً وَكَثْرَةً، وَتَمَامُ الرِّضَا لَا يَثْبُتُ إِلاَّ بِذِكْرِ الزَّوْجِ وَالْمَهْرِ وَهُوَ مَا نَقَلَهُ الْحَصْكَفِيُّ عَنِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَنَقَلَهُ الْكَاسَانِيُّ عَنِ الْفَتَاوِي.
وَلَوِ اسْتَأْذَنَ الْمَرْأَةَ غَيْرُ الْوَلِيِّ الْأَقْرَبِ، كَأَجْنَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ بَعِيدٍ، فَلَا عِبْرَةَ لِسُكُوتِهَا بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا كَطَلَبِ مَهْرِهَا وَنَفَقَتِهَا، وَتَمْكِينِهَا مِنَ الْوَطْءِ، وَدُخُولِهِ بِهَا بِرِضَاهَا، وَقَبُولِ التَّهْنِئَةِ وَالضَّحِكِ سُرُورًا، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِأَنَّ السُّكُوتَ إِنَّمَا جُعِلَ رِضًا عِنْدَ الْحَاجَةِ أَيْ عِنْدَ اسْتِئْمَارِ الْوَلِيِّ وَعَجْزِهَا عَنِ الْمُبَاشَرَةِ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ عَدَمُ الْحَاجَةِ وَهُوَ مَنْ لَا يَمْلِكُ الْعَقْدَ وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى كَلَامِهِ.
وَقَالُوا: مَنْ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِوَثْبَةٍ- أَيْ نَطَّةٍ- مِنْ فَوْقٍ إِلَى أَسْفَلَ، أَوْ طَفْرَةٍ وَهِيَ عَكْسُ النَّطَّةِ، أَوْ دُرُورِ حَيْضٍ، أَوْ حُصُولِ جِرَاحَةٍ، أَوْ تَعْنِيسٍ فَهِيَ بِكْرٌ حَقِيقَةً، لِأَنَّ الْبِكْرَ عِنْدَهُمُ الْمَرْأَةُ الَّتِي لَمْ تُجَامَعْ بِنِكَاحٍ وَلَا غَيْرِهِ، كَمَا نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الظُّهَيْرِيَّةِ، فَهِيَ وَإِنْ زَالَتْ مِنْهَا الْعُذْرَةُ- أَيِ الْجِلْدَةُ الَّتِي عَلَى الْمَحَلِّ- فَإِنَّ بَكَارَتَهَا لَمْ تَزُلْ لِأَنَّهَا لَمْ تُجَامَعْ، فَهِيَ بِكْرٌ حَقِيقَةً، وَهِيَ كَذَلِكَ بِكْرٌ حُكْمًا تُزَوَّجُ كَمَا تُزَوَّجُ الْأَبْكَارُ، وَتَأْخُذُ فِي الرِّضَا وَغَيْرِهَا حُكْمَ الْأَبْكَارِ حَتَّى تَدْخُلَ- كَمَا قَالَ ابْنُ مَوْدُودٍ الْمَوْصِلِيُّ- تَحْتَ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ بِالْإِجْمَاعِ.
وَمَنْ زَالَتْ عُذْرَتُهَا بِوَطْءٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ ثُبُوتُ النَّسَبِ، وَهُوَ الْوَطْءُ بِعَقْدٍ جَائِزٍ أَوْ فَاسِدٍ أَوْ شُبْهَةِ عَقْدٍ تُزَوَّجُ كَمَا تُزَوَّجُ الثَّيِّبُ، وَلَا يَكْفِي فِي رِضَاهَا السُّكُوتُ.
وَإِذَا زَالَتْ عُذْرَتُهَا بِالزِّنَا فَإِنَّهَا تُزَوَّجُ كَمَا تُزَوَّجُ الْأَبْكَارُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ عِلَّةُ إِقَامَةِ السُّكُوتِ مَقَامَ النُّطْقِ فِي الْبِكْرِ الْحَيَاءُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ هَذِهِ وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا حَقِيقَةً، لِأَنَّ زَوَالَ بَكَارَتِهَا لَمْ يَظْهَرْ لِلنَّاسِ فَيَسْتَقْبِحُونَ مِنْهَا الْإِذْنَ بِالنِّكَاحِ صَرِيحًا وَيَعُدُّونَهُ مِنْ بَابِ الْوَقَاحَةِ، وَلَا يَزُولُ ذَلِكَ مَا لَمْ يُوجَدِ النِّكَاحُ أَوْ يَشْتَهِرِ الزِّنَا، وَلَوِ اشْتَرَطَ نُطْقَهَا فَإِنْ لَمْ تَنْطِقْ تَفُوتُهَا مَصْلَحَةُ النِّكَاحِ، وَإِنْ نَطَقَتْ وَالنَّاسُ يَعْرِفُونَهَا بِكْرًا تَتَضَرَّرُ بِاشْتِهَارِ الزِّنَا عَنْهَا، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَشْتَرِطُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: تُزَوَّجُ كَمَا تُزَوَّجُ الثَّيِّبُ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ وَالثَّيِّبُ تُشَاوَرُ» وَهَذِهِ ثَيِّبٌ حَقِيقَةً، لِأَنَّ الثَّيِّبَ حَقِيقَةً مَنْ زَالَتْ عُذْرَتُهَا وَهَذِهِ كَذَلِكَ، فَيَجْرِى عَلَيْهَا أَحْكَامُ الثَّيِّبِ، وَمِنْ أَحْكَامِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا نَصًّا فَلَا يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا.
وَلَوْ كَانَتْ مُشْتَهِرَةً بِالزِّنَا، بِأَنْ أُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدُّ، أَوِ اعْتَادَتْهُ وَتَكَرَّرَ مِنْهَا، أَوْ قَضَى عَلَيْهَا بِالْعِدَّةِ، تُسْتَنْطَقُ بِالْإِجْمَاعِ لِزَوَالِ الْحَيَاءِ وَعَدَمِ التَّضَرُّرِ بِالنُّطْقِ.
وَلَوْ مَاتَ زَوْجُ الْبِكْرِ أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ تُزَوَّجُ كَالْأَبْكَارِ، لِبَقَاءِ الْبَكَارَةِ وَالْحَيَاءِ.
88- وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْوَلِيَّ غَيْرُ الْمُجْبِرِ هُوَ مَنْ عَدَا الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ فِي وِلَايَةِ الْإِجْبَارِ، وَهُمُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْمَالِكُ، وَعَلَيْهِ لَا تُزَوَّجُ بَالِغٌ إِلاَّ بِإِذْنِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا، وَالْإِذْنُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مُخْتَلِفٌ: فَإِذْنُ الْبِكْرِ غَيْرِ الْمُجْبَرَةِ صَمْتُهَا، أَيْ إِذَا سُئِلَتْ، هَلْ تَرْضَيْنَ بِأَنْ نُزَوِّجَكِ مِنْ فُلَانٍ عَلَى مَهْرٍ قَدْرُهُ كَذَا عَلَى أَنَّ الَّذِي يَتَوَلَّى الْعَقْدَ فُلَانٌ؟ فَلَا تُكَلَّفُ النُّطْقَ، وَنُدِبَ إِعْلَامُهَا بِأَنَّ سُكُوتَهَا إِذْنٌ وَرِضًا، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِذَلِكَ وَادَّعَتِ الْجَهْلَ فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهَا وَتَمَّ النِّكَاحُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ.
وَلَا تُزَوَّجُ الْبِكْرُ إِنْ مَنَعَتْ، بِأَنْ قَالَتْ: لَا أَتَزَوَّجُ أَوْ لَا أَرْضَى أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ، وَكَذَا إِنْ نَفَرَتْ، لِأَنَّ النُّفُورَ دَلِيلُ عَدَمِ الرِّضَا، لَا إِنْ ضَحِكَتْ أَوْ بَكَتْ فَتُزَوَّجُ، لِأَنَّ بُكَاءَهَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لِفَقْدِ أَبِيهَا الَّذِي يَتَوَلَّى عَقْدَهَا.
وَالثَّيِّبُ- وَلَوْ سَفِيهَةً- تُعْرِبُ عَنِ الرِّضَا أَوِ الْمَنْعِ، وَلَا يُكْتَفَى مِنْهَا بِالصَّمْتِ وَيُشَارِكُ الثَّيِّبَ فِي عَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِالصَّمْتِ سِتُّ أَبْكَارٍ:
الْأُولَى: الْبِكْرُ الَّتِي رَشَّدَهَا أَبُوهَا بِأَنْ أَطْلَقَ الْحَجْرَ عَنْهَا فِي التَّصَرُّفِ الْمَالِيِّ وَهِيَ بَالِغٌ فَلَا بُدَّ مِنْ إِذْنِهَا بِالْقَوْلِ.
الثَّانِيَةُ: الْبِكْرُ الَّتِي عُضِلَتْ فَرَفَعَتْ أَمْرَهَا إِلَى الْحَاكِمِ فَزَوَّجَهَا الْحَاكِمُ لَا بُدَّ مِنْ إِذْنِهَا بِالْقَوْلِ، فَإِنْ أَمَرَ الْحَاكِمُ أَبَاهَا بِالْعَقْدِ، فَأَجَابَ وَزَوَّجَهَا لَمْ يَحْتَجْ لِإِذْنٍ، لِأَنَّهُ مُجْبِرٌ.
الثَّالِثَةُ: الْبِكْرُ الْمُهْمَلَةُ الَّتِي لَا أَبَ لَهَا وَلَا وَصِيَّ وَزُوِّجَتْ بِعَرَضٍ، وَهِيَ مِنْ قَوْمٍ لَا يُزَوِّجُونَ بِالْعُرُوضِ، أَوْ يُزَوِّجُونَ بِعَرَضٍ مَعْلُومٍ فَزَوَّجَهَا وَلِيُّهَا بِغَيْرِهِ لَا بُدَّ مِنْ نُطْقِهَا بِأَنْ تَقُولَ: رَضِيتُ بِهِ، وَلَا تَكْفِي الْإِشَارَةُ.
الرَّابِعَةُ: الْبِكْرُ وَلَوْ مُجْبَرَةً الَّتِي زُوِّجَتْ بِرَقِيقٍ- أَيِ الَّتِي أَرَادَ وَلِيُّهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا لِرَقِيقٍ- لَا بُدَّ مِنْ إِذْنِهَا بِالْقَوْلِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِكُفْءٍ لِلْحُرَّةِ.
الْخَامِسَةُ: الْبِكْرُ الَّتِي زُوِّجَتْ لِذِي عَيْبٍ- كَجُذَامٍ وَبَرَصٍ وَجُنُونٍ وَخِصَاءٍ- فَلَا بُدَّ مِنْ نُطْقِهَا بِأَنْ تَقُولَ: رَضِيتُ بِهِ مَثَلًا.
السَّادِسَةُ: غَيْرُ الْمُجْبَرَةِ الَّتِي افْتِيتَ عَلَيْهَا، أَيْ تَعَدَّى عَلَيْهَا وَلِيُّهَا غَيْرُ الْمُجْبِرِ فَعَقَدَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا ثُمَّ أَنْهَى إِلَيْهَا الْخَبَرَ فَرَضِيَتْ، فَيَصِحُّ النِّكَاحُ، وَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهَا بِالْقَوْلِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَصِحُّ عَقْدُ الْمُفْتَاتِ عَلَيْهَا إِذَا رَضِيَتْ بِعَقْدِ وَلِيِّهَا عَلَيْهَا افْتِيَاتًا بِشُرُوطٍ سِتَّةٍ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَقْرُبَ رِضَاهَا، بِأَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ بِالسُّوقِ أَوْ بِالْمَسْجِدِ مَثَلًا وُيُسَارُّ إِلَيْهَا بِالْخَبَرِ مِنْ وَقْتِهِ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الرِّضَا بِالْقَوْلِ، فَلَا يَكْفِي الصَّمْتُ.
الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَقَعَ مِنْهَا رَدٌّ لِلنِّكَاحِ قَبْلَ الرِّضَا بِهِ.
الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ مَنِ افْتِيتَ عَلَيْهَا بِالْبَلَدِ حَالَ الِافْتِيَاتِ وَالرِّضَا، فَإِنْ كَانَتْ بِآخَرَ لَمْ يَصِحَّ وَلَوْ قَرُبَ الْبَلَدَانِ وَأَنْهَى إِلَيْهَا الْخَبَرَ مِنْ وَقْتِهِ. الْخَامِسُ: أَنْ لَا يُقِرَّ الْوَلِيُّ بِالِافْتِيَاتِ حَالَ الْعَقْدِ، بِأَنْ سَكَتَ أَوِ ادَّعَى أَنَّهُ مَأْذُونٌ، فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ لَمْ يَصِحَّ.
السَّادِسُ: أَنْ لَا يَكُونَ الِافْتِيَاتُ عَلَى الزَّوْجَةِ وَالزَّوْجِ مَعًا، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِمَا مَعًا لَمْ يَصِحَّ وَلَا بُدَّ مِنْ فَسْخِهِ.
وَالِافْتِيَاتُ عَلَى الزَّوْجِ كَالِافْتِيَاتِ عَلَى الزَّوْجَةِ فِي جَمِيعِ مَا مَرَّ، أَيْ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ إِنْ رَضِيَ بِهِ نُطْقًا، مَعَ الشُّرُوطِ السَّابِقَةِ.
89- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ لِلْوَلِيِّ الْمُجْبِرِ تَزْوِيجُ ثَيِّبٍ بَالِغَةٍ وَإِنْ عَادَتْ بَكَارَتُهَا إِلاَّ بِإِذْنِهَا، لِخَبَرِ: «لَا تَنْكِحُوا الْأَيَامَى حَتَّى تَسْتَأْمِرُوهُنَّ» وَلِأَنَّهَا عَرَفَتْ مَقْصُودَ النِّكَاحِ فَلَا تُجْبَرُ بِخِلَافِ الْبِكْرِ، فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الثَّيِّبُ صَغِيرَةً غَيْرَ مَجْنُونَةٍ وَغَيْرَ أَمَةٍ لَمْ تُزَوَّجْ، سَوَاءٌ احْتَمَلَتِ الْوَطْءَ أَمْ لَا، حَتَّى تَبْلُغَ، لِأَنَّ إِذْنَ الصَّغِيرَةِ لَيْسَ مُعْتَبَرًا فَامْتَنَعَ تَزْوِيجُهَا إِلَى الْبُلُوغِ، أَمَّا الْمَجْنُونَةُ فَيُزَوِّجُهَا الْأَبُ وَالْجَدُّ عِنْدَ عَدَمِهِ قَبْلَ بُلُوغِهَا لِلْمَصْلَحَةِ، وَأَمَّا الْأَمَةُ فَلِسَيِّدِهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا.
وَقَالُوا: وَسَوَاءٌ فِي حُصُولِ الثُّيُوبَةِ وَاعْتِبَارِ إِذْنِهَا زَوَالُ الْبَكَارَةِ بِوَطْءٍ فِي قُبُلِهَا حَلَالٍ كَالنِّكَاحِ أَوْ حَرَامٍ كَالزِّنَا أَوْ بِوَطْءٍ لَا يُوصَفُ بِهِمَا كَشُبْهَةٍ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي نَوْمٍ أَوْ يَقَظَةٍ، وَالْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ لَا أَثَرَ لَهُ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهَا لَمْ تُمَارِسِ الرِّجَالَ بِالْوَطْءِ فِي مَحَلِّ الْبَكَارَةِ.
وَلَا أَثَرَ لِزَوَالِ الْبَكَارَةِ بِلَا وَطْءٍ فِي الْقُبُلِ، كَسَقْطَةٍ وَحِدَّةِ طَمْثٍ وَطُولِ تَعْنِيسٍ- وَهُوَ الْكِبَرُ- أَوْ بِأُصْبُعٍ وَنَحْوِهِ فِي الْأَصَحِّ كَمَا فِي مِنْهَاجِ الطَّالِبِينَ، أَوِ الصَّحِيحِ كَمَا فِي رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ بَلْ حُكْمُهَا حُكْمُ الْأَبْكَارِ لِأَنَّهَا لَمْ تُمَارِسِ الرِّجَالَ فَهِيَ عَلَى حَالِهَا وَحَيَائِهَا، وَالثَّانِي أَنَّهَا كَالثَّيِّبِ لِزَوَالِ الْعُذْرَةِ، وَلَوْ خُلِقَتْ بِلَا بَكَارَةٍ فَهِيَ بِكْرٌ.
90- وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْأَبِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ تَزْوِيجُ حُرَّةٍ كَبِيرَةٍ بَالِغَةٍ- ثَيِّبًا كَانَتْ أَوْ بِكْرًا- إِلاَّ بِإِذْنِهَا، لِحَدِيثِ: «لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: أَنْ تَسْكُتَ» إِلاَّ الْمَجْنُونَةَ فَلِسَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ تَزْوِيجُهَا إِذَا ظَهَرَ مِنْهَا الْمَيْلُ لِلرِّجَالِ، لِأَنَّ لَهَا حَاجَةً إِلَى النِّكَاحِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الشَّهْوَةِ عَنْهَا، وَصِيَانِتِهَا عَنِ الْفُجُورِ، وَتَحْصِيلِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ الْعَفَافِ وَصِيَانَةِ الْعِرْضِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى إِذْنِهَا فَأُبِيحَ تَزْوِيجُهَا، كَالْبِنْتِ مَعَ أَبِيهَا، وَيُعْرَفُ مَيْلُهَا إِلَى الرِّجَالِ مِنْ كَلَامِهَا وَتَتَبُّعِهَا الرِّجَالَ وَمَيْلِهَا إِلَيْهِمْ وَنَحْوِهِ مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، وَكَذَا إِنْ قَالَ ثِقَةٌ مِنْ أَهْلِ الطِّبِّ إِنْ تَعَذَّرَ غَيْرُهُ وَإِلاَّ فَاثْنَانِ: إِنَّ عِلَّتَهَا تَزُولُ بِتَزْوِيجِهَا، فَلِكُلِّ وَلِيٍّ تَزْوِيجُهَا لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ مَصَالِحِهَا كَالْمُدَاوَاةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَجْنُونَةِ ذَاتِ الشَّهْوَةِ وَنَحْوِهَا وَلِيٌّ إِلاَّ الْحَاكِمُ زَوَّجَهَا.
وَلَيْسَ لِمَنْ عَدَا الْأَبِ وَوَصِيِّهِ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ تَزْوِيجُ صَغِيرَةٍ لَهَا دُونَ تِسْعِ سِنِينَ بِحَالٍ، وَلَهُمْ تَزْوِيجُ بِنْتِ تِسْعِ سِنِينَ فَأَكْثَرَ بِإِذْنِهَا، وَلَهَا إِذْنٌ صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ نَصًّا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: إِذَا بَلَغَتِ الْجَارِيَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَهِيَ امْرَأَةٌ وَرُوِيَ مَرْفُوعًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما- وَمَعْنَاهُ: فِي حُكْمِ الْمَرْأَةِ، وَلِأَنَّهَا تَصْلُحُ بِذَلِكَ لِلنِّكَاحِ وَتَحْتَاجُ إِلَيْهِ، أَشْبَهَتِ الْبَالِغَةَ.
وَإِذْنُ الثَّيِّبِ الْكَلَامُ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الثَّيِّبُ تُعْرِبُ عَنْ نَفْسِهَا» وَهِيَ مَنْ وُطِئَتْ فِي الْقُبُلِ بِآلَةِ الرِّجَالِ وَلَوْ بِزِنًا، وَحَيْثُ حَكَمْنَا بِالثُّيُوبَةِ وَعَادَتِ الْبَكَارَةُ لَمْ يَزُلْ حُكْمُ الثُّيُوبَةِ، لِأَنَّ الْحِكْمَةَ الَّتِي اقْتَضَتِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْبِكْرِ مُبَاضَعَةُ الرِّجَالِ وَهَذَا مَوْجُودٌ مَعَ عَوْدِ الْبَكَارَةِ.
وَإِذْنُ الْبِكْرِ الصُّمَاتُ وَلَوْ زَوَّجَهَا غَيْرُ الْأَبِ لِمَا سَبَقَ، وَإِنْ ضَحِكَتْ أَوْ بَكَتْ فَذَلِكَ كَسُكُوتِهَا، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فَإِنْ سَكَتَتْ فَهُوَ إِذْنُهَا، وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنْ بَكَتْ أَوْ سَكَتَتْ» وَلِأَنَّهَا غَيْرُ نَاطِقَةٍ بِالِامْتِنَاعِ مَعَ سَمَاعِهَا لِلِاسْتِئْذَانِ فَكَانَ ذَلِكَ إِذْنًا مِنْهَا، وَنُطْقُ الْبِكْرِ أَبْلَغُ مِنْ سُكُوتِهَا وَضَحِكِهَا وَبُكَائِهَا لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْإِذْنِ وَإِنَّمَا اكْتُفِيَ مِنْهَا بِالصُّمَاتِ لِلِاسْتِحْيَاءِ، فَإِنْ أَذِنَتْ نُطْقًا فَقَدْ تَمَّ الْإِذْنُ، وَإِنْ لَمْ تَأْذَنْ نُطْقًا اسْتُحِبَّ أَنْ لَا يُجْبِرَهَا عَلَى النُّطْقِ، وَاكْتُفِيَ بِسُكُوتِهَا إِنْ لَمْ تُصَرِّحْ بِالْمَنْعِ.
وَزَوَالُ الْبَكَارَةِ بِأُصْبُعٍ أَوْ وَثْبَةٍ أَوْ شِدَّةِ حَيْضَةٍ وَنَحْوِهِ كَسُقُوطٍ مِنْ شَاهِقٍ لَا يُغَيِّرُ صِفَةَ الْإِذْنِ، فَلَهَا حُكْمُ الْبِكْرِ فِي الْإِذْنِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَخْبُرِ الْمَقْصُودَ وَلَا وُجِدَ وَطْؤُهَا فِي الْقُبُلِ فَأَشْبَهَتْ مَنْ لَمْ تَزُلْ عُذْرَتُهَا، وَكَذَا وَطْءٌ فِي الدُّبُرِ وَمُبَاشَرَةٌ دُونَ الْفَرْجِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَوْطُوءَةٍ فِي الْقُبُلِ.
وَيُعْتَبَرُ فِي الِاسْتِئْذَانِ تَسْمِيَةُ الزَّوْجِ عَلَى وَجْهٍ تَقَعُ مَعْرِفَةُ الْمَرْأَةِ بِهِ، بِأَنْ يَذْكُرَ لَهَا نَسَبَهُ وَمَنْصِبَهُ وَنَحْوَهُ لِتَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ إِذْنِهَا فِي تَزْوِيجِهِ لَهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِئْذَانِ تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ رُكْنًا فِي النِّكَاحِ وَلَا مَقْصُودًا مِنْهُ، قَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَلَا يُشْتَرَطُ أَيْضًا اقْتِرَانُهُ بِالْعَقْدِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِشْهَادُ عَلَى إِذْنِهَا لِوَلِّيِهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا وَلَوْ غَيْرَ مُجْبَرَةٍ، وَالِاحْتِيَاطُ الْإِشْهَادُ. تَرْتِيبُ الْأَوْلِيَاءِ:
91- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْوَلِيَّ فِي النِّكَاحِ إِذَا كَانَ مُجْبِرًا فَإِنَّهُ يَكُونُ الْمُقَدَّمَ، لَا يُنَازِعُهُ أَحَدٌ فِي تِلْكَ الْوِلَايَةِ.
وَذَهَبُوا- فِي الْجُمْلَةِ- إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَدَّدَتْ أَسْبَابُ وِلَايَةِ النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ مَنْ كَانَ سَبَبُ وِلَايَتِهِ الْمِلْكَ، ثُمَّ مَنْ كَانَ سَبَبُ وِلَايَتِهِ الْقَرَابَةَ، ثُمَّ مَنْ كَانَ سَبَبُ وِلَايَتِهِ الْإِمَامَةَ، ثُمَّ مَنْ كَانَ سَبَبُ وِلَايَتِهِ الْوَلَاءَ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
137-موسوعة الفقه الكويتية (نكاح 8)
نِكَاحٌ -8الْوَكِيلُ فِي النِّكَاحِ:
الْوَكِيلُ فِي النِّكَاحِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَكِيلاً عَنِ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ أَوِ الْوَلِيِّ.
أ- تَوْكِيلُ الزَّوْجِ غَيْرَهُ فِي النِّكَاحِ:
107- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ- الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- عَلَى صِحَّةِ التَّوْكِيلِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ مِنَ الرَّجُلِ.
وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ «عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ وَكَّلَ أَبَا رَافِعٍ فِي تَزْوِيجِهِ مَيْمُونَةَ» «وَوَكَّلَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ فِي تَزْوِيجِهِ أُمَّ حَبِيبَةَ» وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَجَازَ التَّوْكِيلُ فِيهِ كَالْبَيْعِ.
108- وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَكِيلِ: قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُشْتَرَطُ فِي الْوَكِيلِ أَنْ يَكُونَ عَاقِلاً، فَلَا تَصِحُّ وَكَالَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ.
وَأَمَّا الْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَا بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ فَتَصِحُّ وَكَالَةُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَالْعَبْدِ، مَأْذُونَيْنِ كَانَا أَوْ مَحْجُورَيْنِ، لِمَا وَرَدَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا خَطَبَ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِي شَاهِدٌ، فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِكِ شَاهِدٌ وَلَا غَائِبٌ يَكْرَهُ ذَلِكَ، فَقَالَتْ لِابْنِهَا عَمْرِو بْنِ أُمِّ سَلَمَةَ: يَا عَمْرُو قُمْ فَزَوِّجْ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- » وَكَانَ صَبِيًّا، وَالِاعْتِبَارُ بِالْمَجْنُونِ غَيْرُ سَدِيدٍ، لِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَقَدِ انْعَدَمَ الْعَقْلُ فِي الْمَجْنُونِ، وَوُجِدَ هُنَا فِي الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ، فَتَصِحُّ وَكَالَتُهُ كَالْبَالِغِ، إِلاَّ أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَرْجِعُ إِلَى الْمُوَكَّلِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَصِحُّ لِلزَّوْجِ إِذَا وَكَّلَ مَنْ يَعْقِدُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، حُرًّا أَوْ رَقِيقًا، بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا، مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا إِلاَّ الْمُحْرِمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَإِلاَّ ضَعِيفَ الْعَقْلِ أَوْ فَاقِدَهُ، فَلَا يَصِحُّ لِلزَّوْجِ تَوْكِيلُ أَيٍّ مِنْهُمْ لِمَانِعِ الْإِحْرَامِ وَضَعْفِ الْعَقْلِ أَوْ عَدَمِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَصِحُّ أَنْ يُوَكِّلَ الزَّوْجُ فِي النِّكَاحِ مَنْ يَصِحُّ لَهُ أَنْ يُبَاشِرَ النِّكَاحَ بِنَفْسِهِ، فَلَا يَصِحُّ تَوْكِيلُ صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ وَلَا مُغْمًى عَلَيْهِ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا مُحْرِمٍ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الشَّخْصِ لِنَفْسِهِ أَقْوَى مِنْ تَصَرُّفِهِ لِغَيْرِهِ فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ لَهُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، وَلِغَيْرِهِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ، فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْأَقْوَى فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْأَضْعَفِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَقْبَلُ لَهُ النِّكَاحُ، فَقَدْ «وَرَدَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- وَكَّلَ أَبَا رَافِعٍ فِي تَزْوِيجِهِ مَيْمُونَةَ، وَوَكَّلَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ فِي تَزْوِيجِهِ أُمَّ حَبِيبَةَ».
وَقَالُوا: لَا يُشْتَرَطُ فِي وَكِيلِ الزَّوْجِ عَدَالَتُهُ فَيَصِحُّ تَوْكِيلُ فَاسِقٍ فِي قَبُولِهِ لِأَنَّ الْفَاسِقَ يَصِحُّ قَبُولُهُ النِّكَاحَ لِنَفْسِهِ فَصَحَّ قَبُولُهُ لِغَيْرِهِ، وَكَذَا لَوْ وَكَّلَ مُسْلِمٌ نَصْرَانِيًّا فِي قَبُولِ نِكَاحِ نَصْرَانِيَّةٍ لِصِحَّةِ قَبُولِ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ.
ب- تَوْكِيلُ الْمَرْأَةِ مَنْ يُزَوِّجُهَا:
109- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ تَوْكِيلِ الْمَرْأَةِ مَنْ يُزَوِّجُهَا.
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُبَاشِرَ عَقْدَ الزَّوَاجِ، سَوَاءٌ أَزَوَّجَتْ نَفْسَهَا، أَمْ زَوَّجَتْ غَيْرَهَا، فَلَهَا أَنْ تُوَكِّلَ مَنْ يُزَوِّجُهَا، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْمُوَكِّلِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَمْلِكُ فِعْلَ مَا وَكَّلَ بِهِ بِنَفْسِهِ، فَمَا لَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَمِلُ التَّفْوُيِضَ إِلَى غَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا وَكَّلَتِ الدَّنِيئَةُ كَالْمُعْتَقَةِ وَالْمِسْكِينَةِ أَجْنَبِيًّا فِي بَلَدٍ لَيْسَ فِيهِ سُلْطَانٌ أَوْ فِيهِ لَكِنْ يَعْسُرُ وُصُولُهَا إِلَيْهِ وَلَا وَلِيَّ لَهَا جَازَ.
وَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَلِيَ عَقْدَ الزَّوَاجِ بِنَفْسِهَا سَوَاءٌ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا أَمْ غَيْرَهَا، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُوَكِّلَ مَنْ يَتَوَلَّى عَقْدَ زَوَاجِهَا لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ هَذَا الْحَقَّ، فَمَا لَا تَمْلِكُهُ لَا يَصِحُّ لَهَا أَنْ تُوَكِّلَ فِيهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ صُوَرًا تَتَعَلَّقُ بِإِذْنِ الْمَرْأَةِ فِي زَوَاجِهَا:
فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا كَانَ الْوَلِيُّ غَيْرَ مُجْبِرٍ أَوْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَفِي التَّوْكِيلِ صُوَرٌ:
إِحْدَاهُمَا: قَالَتْ: زَوِّجْنِي وَوَكِّلْ، فَلَهُ التَّزْوِيجُ وَالتَّوْكِيلُ.
الثَّانِيَةُ: نَهَتْ عَنِ التَّوْكِيلِ، فَلَا يُوَكَّلُ.
الثَّالِثَةُ: قَالَتْ: وَكِّلْ بِتَزْوِيجِي، وَاقْتَصَرَتْ عَلَيْهِ، فَلَهُ التَّوْكِيلُ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ بِنَفْسِهِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ.
الرَّابِعَةُ: قَالَتْ: أَذِنْتُ لَكَ فِي تَزْوِيجِي، فَلَهُ التَّوْكِيلُ عَلَى الْأَصَحِّ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالْوِلَايَةِ.
وَلَوْ وَكَّلَ مِنْ غَيْرِ مُرَاجَعَتِهَا وَاسْتِئْذَانِهَا بِالْكُلِّيَّةِ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّزْوِيجَ بِنَفْسِهِ حِينَئِذٍ، وَالثَّانِي: يَصِحُّ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَالْوَلِيُّ لَيْسَ بِوَكِيلٍ لِلْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ وِلَايَتُهُ مِنْ جِهَتِهَا، وَلَوْ كَانَ الْوَلِيُّ وَكِيلاً عَنْهَا لَتَمَكَّنَتْ مِنْ عَزْلِهِ كَسَائِرِ الْوُكَلَاءِ، وَإِنَّمَا إِذْنُهَا- حَيْثُ اعْتُبِرَ- شَرْطٌ لِصِحَّةِ تَصَرُّفِهِ أَشْبَهَ وِلَايَةَ الْحَاكِمِ عَلَيْهَا، وَحَيْثُ تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَيْسَ وَكِيلاً عَنْهَا فَلَهُ تَوْكِيلُ مَنْ يُوجِبُ نِكَاحَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا وَقُبِلَ إِذْنُهَا لِوَلِيِّهَا فِي تَزْوِيجِهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُجْبَرَةً، وَلَا يَفْتَقِرُ تَوْكِيلُهُ إِلَى حُضُورِ شَاهِدَيْنِ لِأَنَّهُ إِذْنٌ مِنَ الْوَلِيِّ فِي التَّزْوِيجِ، فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِ الْمَرْأَةِ، وَلَا الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ، كَإِذْنِ الْحَاكِمِ.
وَلَا بُدَّ مِنْ إِذْنِ امْرَأَةٍ غَيْرِ مُجْبَرَةٍ لِوَكِيلِ وَلِيِّهَا فِي التَّزْوِيجِ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ غَيْرِ مُجْبِرٍ، فَيَثْبُتُ لَهُ مَا يَثْبُتُ لِمَنْ يَنُوبُ عَنْهُ، فَلَا يَكْفِي إِذْنُهَا لِوَلِيِّهَا مِنْ غَيْرِ مُرَاجَعَةِ وَكِيلٍ لَهَا وَإِذْنِهَا لَهُ بَعْدَ تَوْكِيلِهِ، وَلَا يَكْفِي إِذْنُهَا لِوَلِيِّهَا بِتَوْكِيلٍ فِي التَّزْوِيجِ بِلَا مُرَاجَعَةِ وَكِيلٍ لَهَا وَإِذْنِهَا لِلْوَكِيلِ فِي التَّزْوِيجِ بَعْدَ تَوْكِيلِهِ، لِأَنَّ الَّذِي يُعْتَبَرُ إِذْنُهَا فِيهِ لِلْوَكِيلِ هُوَ غَيْرُ مَا يُوَكَّلُ فِيهِ الْمُوَكَّلُ، فَهُوَ كَالْمُوَكَّلِ فِي ذَلِكَ، وَلَا أَثَرَ لِإِذْنِهَا لَهُ قَبْلَ أَنْ يُوَكِّلَ الْوَلِيُّ، لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ وَبَعْدَ تَوْكِيلِهِ كَوَلِيٍّ، قَالَ الْبُهُوتِيُّ: فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوِ انْتَقَلَتِ الْوِلَايَةُ لِلْأَبْعَدِ فَلَا بُدَّ مِنْ مُرَاجَعَتِهِ لَهَا بَعْدَ انْتِقَالِ الْوِلَايَةِ إِلَيْهِ.
وَلَوْ وَكَّلَ وَلِيُّ غَيْرِ مُجْبَرَةٍ فِي تَزْوِيجِهَا بِلَا إِذْنِهَا، ثُمَّ أَذِنَتْ لِوَكِيلِ وَلِيِّهَا فِي تَزْوِيجِهَا فَزَوَّجَهَا صَحَّ النِّكَاحُ، وَلَوْ لَمْ تَأْذَنْ لِلْوَلِيِّ فِي التَّزْوِيجِ أَوِ التَّوْكِيلِ، لِقِيَامِ وَكِيلِهِ مَقَامَهُ.
وَيَصِحُّ تَوْكِيلُ الْوَلِيِّ فِي إِيجَابِ النِّكَاحِ تَوْكِيلاً مُطْلَقًا، وَإِذْنُهَا لِوَلِيِّهَا فِي الْعَقْدِ إِذْنًا مُطْلَقًا، كَقَوْلِ الْمَرْأَةِ لِوَلِيِّهَا: زَوِّجْ مَنْ شِئْتَ أَوْ مَنْ تَرْضَاهُ.
وَيَتَقَيَّدُ الْوَلِيُّ إِذَا أَذِنَتْ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا وَأَطْلَقَتْ بِالْكُفْءِ، وَكَذَلِكَ وَكِيلُهُ الْمُطْلَقُ يَتَقَيَّدُ بِالْكُفْءِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ، لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ يُحْمَلُ عَلَى مَا لَا نَقِيصَةَ فِيهِ.
ج- تَوْكِيلُ الْوَلِيِّ غَيْرَهُ فِي النِّكَاحِ:
110- تَوْكِيلُ الْوَلِيِّ غَيْرَهُ لِمُبَاشَرَةِ عَقْدِ النِّكَاحِ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذَا تَوَافَرَتْ فِي الْوَكِيلِ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ عِنْدَ كُلِّ مَذْهَبٍ.
وَفِيمَا يَلِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ:
فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يَصِحُّ تَوْكِيلُ وَلِيِّ امْرَأَةٍ لِمَنْ يَتَوَلَّى عَقْدَ نِكَاحِهَا نِيَابَةً عَنْهُ إِلاَّ مِثْلَهُ فِي اسْتِيفَاءِ الشُّرُوطِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي وَلِيِّ النِّكَاحِ.
وَقَالُوا: تُوَكِّلُ الْمَرْأَةُ الْمَالِكَةُ لِأَمَةٍ وَالْوَصِيَّةُ عَلَى أُنْثَى وَالْمُعْتِقَةُ لِأُنْثَى ذَكَرًا مُسْتَوْفِيًا لِلشُّرُوطِ فِي عَقْدِ الْأُنْثَى- فِي الْحَالَاتِ الثَّلَاثِ- وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ أَجْنَبِيًّا مِنَ الْمُوَكِّلَةِ فِي الثَّلَاثِ مَعَ حُضُورِ أَوْلِيَائِهَا، وَمِنَ الْمُوَكَّلِ عَلَيْهَا فِي الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ لَا فِي الثَّالِثَةِ حَيْثُ يَكُونُ لَهَا وَلِيُّ نَسَبٍ، إِذْ لَا وِلَايَةَ لِلْمُعْتِقَةِ حِينَئِذٍ حَيْثُ يُقَدَّمُ عَلَيْهَا وَلِيُّ النَّسَبِ.
وَأَمَّا فِي الذَّكَرِ فَكُلٌّ مِنَ الْمَالِكَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْمُعْتِقَةِ تَلِي تَزْوِيجَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَالْوَاضِحَةِ، وَقِيلَ: لَا تُقْبَلُ الْمَرْأَةُ لِلذَّكَرِ، نَقَلَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: التَّوْكِيلُ بِالتَّزْوِيجِ جَائِزٌ، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ مُجْبِرًا فَلَهُ التَّوْكِيلُ بِغَيْرِ إِذْنِهَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ يُشْتَرَطُ إِذْنُهَا حَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً امْتَنَعَ التَّوْكِيلُ، وَعَلَى الصَّحِيحِ إِذَا وَكَّلَ لَا يَشْتَرِطُ تَعْيِينَ الزَّوْجِ عَلَى الْأَظْهَرِ.
وَلَوْ أَذِنَتِ الثَّيِّبُ فِي النِّكَاحِ أَوِ الْبِكْرُ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ فَفِي اشْتِرَاطِ التَّعْيِينِ الْقَوْلَانِ، وَقِيلَ: لَا يُشْتَرَطُ قَطْعًا، لِأَنَّ الْوَلِيَّ يُعْنَى بِدَفْعِ الْعَارِ عَنِ النَّسَبِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ.
وَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ غَيْرَ مُجْبِرٍ أَوْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَفِي التَّوْكِيلِ صُوَرٌ:
إِحْدَاهَا: قَالَتْ: زَوِّجْنِي وَوَكِّلْ، فَلَهُ التَّزْوِيجُ وَالتَّوْكِيلُ. الثَّانِيَةُ: نَهَتْ عَنِ التَّوْكِيلِ، فَلَا يُوَكِّلُ.
الثَّالِثَةُ: قَالَتْ: وَكِّلْ بِتَزْوِيجِي، وَاقْتَصَرَتْ عَلَيْهِ، فَلَهُ التَّوْكِيلُ، وَهَلْ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ بِنَفْسِهِ؟ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا: نَعَمْ.
الرَّابِعَةُ: قَالَتْ: أَذِنْتُ لَكَ فِي تَزْوِيجِي، فَلَهُ التَّوْكِيلُ عَلَى الْأَصَحِّ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالْوِلَايَةِ.
وَلَوْ وَكَّلَ مِنْ غَيْرِ مُرَاجَعَتِهَا وَاسْتِئْذَانِهَا بِالْكُلِّيَّةِ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّزْوِيجَ بِنَفْسِهِ حِينَئِذٍ، وَالثَّانِي: يَصِحُّ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَكِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ مُجْبِرًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ حَاضِرًا، لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَجَازَ كَالْبَيْعِ، وَلِأَنَّهُ وَرَدَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- وَكَّلَ أَبَا رَافِعٍ فِي تَزْوِيجِهِ مَيْمُونَةَ.
وَالْوَلِيُّ لَيْسَ بِوَكِيلٍ لِلْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ وِلَايَتُهُ مِنْ جِهَتِهَا، وَلَوْ كَانَ الْوَلِيُّ وَكِيلاً عَنْهَا لَتَمَكَّنَتْ مِنْ عَزْلِهِ كَسَائِرِ الْوُكَلَاءِ، وَإِنَّمَا إِذْنُهَا- حَيْثُ اعْتُبِرَ- شَرْطٌ لِصِحَّةِ تَصَرُّفِهِ أَشْبَهَ وِلَايَةَ الْحَاكِمِ عَلَيْهَا، وَحَيْثُ تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَيْسَ وَكِيلاً عَنْهَا فَلَهُ تَوْكِيلُ مَنْ يُوجِبُ نِكَاحَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا، وَقُبِلَ إِذْنُهَا لِوَلِيِّهَا فِي تَزْوِيجِهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُجْبَرَةً، وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى حُضُورِ شَاهِدَيْنِ لِأَنَّهُ إِذْنٌ مِنَ الْوَلِيِّ فِي التَّزْوِيجِ فَلَا يَفْتَقِرُ التَّوْكِيلُ إِلَى إِذْنِ الْمَرْأَةِ وَلَا الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ كَإِذْنِ الْحَاكِمِ.
وَيَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ مَا يَثْبُتُ لِلْمُوَكِّلِ حَتَّى فِي الْإِجْبَارِ لِأَنَّهُ نَائِبُهُ، وَكَذَا الْحَاكِمُ وَالسُّلْطَانُ يَأْذَنُ لِغَيْرِهِ فِي التَّزْوِيجِ.
وَلَا يَمْلِكُ الْوَلِيُّ تَوْكِيلاً فِي تَزْوِيجِ مُوَلِّيَتِهِ إِنْ وَكَّلَتْ غَيْرَهُ- كَمَا لَوْ وَكَّلَتْ مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ- وَلَوْ كَانَ تَوْكِيلُهَا لِلْبَعِيدِ بِإِذْنِهِ، فَلَوْ وَكَّلَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَمْ يَصِحَّ تَوْكِيلُهُ، لِأَنَّهُ إِنْ صَحَّ بِدُونِ إِذْنِهَا لَكِنْ صِحَّةُ تَصَرُّفِ وَكِيلِ الْوَلِيِّ مَوْقُوفَةٌ عَلَى اسْتِئْذَانِهَا وَقَدْ سَبَقَ صُدُورُ الْإِذْنِ مِنْهَا لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَصِحَّ تَوْكِيلُهُ لِذَلِكَ.
وَلَوْ وَكَّلَ وَلِيُّ غَيْرِ مُجْبَرَةٍ فِي تَزْوِيجِهَا بِلَا إِذْنِهَا، ثُمَّ أَذِنَتْ لِوَكِيلِ وَلِيِّهَا فِي تَزْوِيجِهَا فَتَزَوَّجَهَا صَحَّ النِّكَاحُ وَلَوْ لَمْ تَأْذَنْ لِلْوَلِيِّ فِي التَّزْوِيجِ أَوِ التَّوْكِيلِ، لِقِيَامِ وَكِيلِهِ مَقَامَهُ.
وَيُشْتَرَطُ فِي وَكِيلِ الْوَلِيِّ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَلِيِّ مِنَ الذُّكُورَةِ وَالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَالْعَدَالَةِ وَاتِّحَادِ الدِّينِ وَالرُّشْدِ، لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُبَاشِرَهَا غَيْرُ أَهْلِهَا، وَلِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَمْلِكْ تَزْوِيجَ مُوَلِّيَتِهِ أَصَالَةً فَلأَنْ لَا يَمْلِكَ تَزْوِيجَ مُوَلِّيَةِ غَيْرِهِ بِالتَّوْكِيلِ أَوْلَى.
وَيَصِحُّ تَوْكِيلُ الْوَلِيِّ فِي إِيجَابِ النِّكَاحِ تَوْكِيلاً مُطْلَقًا، وَيَصِحُّ قَوْلُ الْوَلِيِّ لِوَكِيلِهِ: زَوِّجْ مَنْ شِئْتَ أَوْ مَنْ تَرْضَاهُ، رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الْعَرَبِ تَرَكَ ابْنَتَهُ عِنْدَ عُمَرَ- رضي الله عنه- وَقَالَ: إِذَا وَجَدْتَ كُفْئًا فَزَوِّجْهُ وَلَوْ بِشِرَاكِ نَعْلِهِ، فَزَوَّجَهَا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ- رضي الله عنه- ، فَهِيَ أُمُّ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ فَلَمْ يُنْكَرْ، وَكَالتَّوْكِيلِ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ.
وَيَتَقَيَّدُ الْوَلِيُّ إِذَا أَذِنَتْ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا وَأَطْلَقَتْ بِالْكُفْءِ، وَكَذَلِكَ وَكِيلُهُ الْمُطْلَقُ يَتَقَيَّدُ بِالْكُفْءِ، وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ، لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ يُحْمَلُ عَلَى مَا لَا نَقِيصَةَ فِيهِ.
وَيَصِحُّ تَوْكِيلُهُ مُقَيَّدًا، كَزَوِّجْ فُلَانًا بِعَيْنِهِ، أَوْ زَوِّجْ هَذَا، فَلَا يُزَوِّجُ غَيْرَهُ لِقُصُورِ وِلَايَتِهِ.
الْوَصِيُّ فِي النِّكَاحِ:
111- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِثْبَاتِ وِلَايَةِ النِّكَاحِ لِلْوَصِيِّ، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ لَا تُسْتَفَادُ وِلَايَةُ النِّكَاحِ بِالْوَصِيَّةِ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَيْسَ لِلْوَصِيِّ وِلَايَةُ الْإِنْكَاحِ، لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِالْأَمْرِ فَلَا يَعْدُو مَوْضِعَ الْأَمْرِ كَالْوَكِيلِ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ قَدْ أَوْصَى إِلَيْهِ لَا يَمْلِكُ أَيْضًا لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْوِصَايَةِ نَقْلَ وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ إِلَيْهِ، وَإِنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ النَّقْلَ حَالَ الْحَيَاةِ كَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَلَوْ عَيَّنَ الْمُوصِي فِي حَيَاتِهِ رَجُلاً فَزَوَّجَ الْوَصِيُّ الْمَرْأَةَ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي فَهُوَ وَكِيلٌ لَا وَصِيٌّ، وَإِنْ زَوَّجَهَا مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَقَدْ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ بِالْمَوْتِ وَانْتَقَلَتِ الْوِلَايَةُ لِلْحَاكِمِ عِنْدَ عَدَمِ قَرِيبٍ، نَعَمْ لَوْ كَانَ الْوَصِيُّ قَرِيبًا أَوْ حَاكِمًا فَإِنَّهُ يَمْلِكُ التَّزْوِيجَ بِالْوِلَايَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَوْلَى مِنْهُ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ أَنَّ وِلَايَةَ النِّكَاحِ تُسْتَفَادُ بِالْوَصِيَّةِ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَصِيُّ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ لَهُ الْجَبْرُ فِيمَا لِلْأَبِ فِيهِ جَبْرٌ.
وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي وِلَايَةِ الْإِجْبَارِ (فِقْرَة: 83).
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَصِيُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ فِي النِّكَاحِ بِمَنْزِلَتِهِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ، فَتُسْتَفَادُ وِلَايَةُ النِّكَاحِ بِالْوَصِيَّةِ إِذَا نَصَّ لَهُ عَلَى التَّزْوِيجِ مُجْبِرًا كَانَ الْوَلِيُّ أَوْ غَيْرَ مُجْبِرٍ كَأَخٍ لِغَيْرِ أُمٍّ وَكَذَا عَمٌّ وَابْنُهُ، لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ ثَابِتَةٌ لِلْوَلِيِّ فَجَازَتْ وَصِيَّتُهُ بِهَا كَوِلَايَةِ الْمَالِ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهَا فِي حَيَاتِهِ وَيَكُونَ نَائِبُهُ فِيهَا قَائِمًا مَقَامَهُ فَجَازَ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهَا بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَصِفَةُ الْإِيصَاءِ أَنْ يَقُولَ الْأَبُ لِمَنِ اخْتَارَهُ: وَصَّيْتُ إِلَيْكَ بِنِكَاحِ بَنَاتِي، أَوْ جَعَلْتُكَ وَصِيًّا فِي نِكَاحِ بَنَاتِي، فَيَقُومُ الْوَصِيُّ مَقَامَهُ مُقَدَّمًا عَلَى مَنْ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ الْمُوصِي، فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ لَهُ الْإِجْبَارُ كَأَبِي الْبِكْرِ فَذَلِكَ الْإِجْبَارُ لِوَصِيِّهِ، فَيُجْبِرُ وَصِيُّ الْأَبِ مَنْ يُجْبِرُهُ الْأَبُ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْأَبِ، وَإِنْ كَانَ الْأَبُ لَيْسَ مُجْبِرًا كَأَبِي ثَيِّبٍ تَمَّ لَهَا تِسْعُ سِنِينَ، وَأَخِيهَا وَعَمِّهَا وَنَحْوِهِ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِهَا فَوَصِيُّهُ كَذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنِهَا كَوَكِيلِهِ.
وَلَا خِيَارَ لِمَنْ زَوَّجَهُ الْوَصِيُّ- ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى- إِذَا بَلَغَ، لِأَنَّ الْوَصِيَّ قَامَ مَقَامَ الْمُوصِي فَلَمْ يَثْبُتْ فِي تَزْوِيجِهِ خِيَارٌ كَالْوَكِيلِ.
وَإِذَا أَوْصَى إِلَيْهِ بِالنَّظَرِ فِي أَمْرِ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ لَمْ يَمْلِكْ تَزْوِيجَ أَحَدِهِمْ.
وَعَنْ أَحْمَدَ لَا تُسْتَفَادُ وِلَايَةُ النِّكَاحِ بِالْوَصِيَّةِ إِذَا كَانَ لِلْمُوصِي عَصَبَةٌ، حَكَاهَا الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَامِدٍ.
إِنْكَاحُ الْيَتِيمِ:
112- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِنْكَاحِ الْيَتِيمِ- وَهُوَ الصَّغِيرُ أَوِ الصَّغِيرَةُ الَّذِي مَاتَ أَبُوهُ- فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْمَنْعِ مُطْلَقًا، وَأَجَازَهُ غَيْرُهُمْ بِالْقَرَابَةِ أَوِ بِالسَّبَبِ الْعَامِّ لِلْوِلَايَةِ، وَقَيَّدَ آخَرُونَ الْإِجَازَةَ بِخِيفَةِ الْفَسَادِ، فِي حِينِ قَيَّدَهَا غَيْرُهُمْ بِبُلُوغِ تِسْعِ سِنِينَ فَأَكْثَرَ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَيْسَ لِلْوَصِيِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَصِيٌّ أَنْ يُزَوِّجَ الْيَتِيمَ- وَهُوَ يَشْمَلُ الصَّغِيرَ وَالصَّغِيرَةَ- سَوَاءٌ أَوْصَى إِلَيْهِ الْأَبُ بِالنِّكَاحِ أَوْ لَمْ يُوصِ عَلَى الْمَذْهَبِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَلِيٍّ، نَعَمْ لَوْ كَانَ قَرِيبًا أَوْ حَاكِمًا فَإِنَّهُ يَمْلِكُ التَّزْوِيجَ بِالْوِلَايَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَوْلَى مِنْهُ.
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ- كَمَا نَقَلَ الدُّسُوقِيُّ عَنِ الْعَدَوِيِّ- وَهُوَ مَا ارْتَضَاهُ الْمُتَأَخِّرُونَ أَنَّ الْمَدَارَ عَلَى خِيفَةِ الْفَسَادِ عَلَى الْيَتِيمَةِ، فَمَتَى خِيفَ عَلَيْهَا فَسَادُ حَالِهَا بِفَقْرٍ أَوْ زِنًا أَوْ عَدَمِ حَاضِنٍ شَرْعِيٍّ أَوْ ضَيَاعِ مَالٍ أَوْ دِينٍ زُوِّجَتْ، بَلَغَتْ عَشْرًا أَوْ لَا، رَضِيَتْ بِالنِّكَاحِ أَوْ لَا، فَيُجْبِرُهَا وَلِيُّهَا عَلَى النِّكَاحِ، وَوَجَبَ مُشَاوَرَةُ الْقَاضِي فِي تَزْوِيجِهَا.
وَإِنْ لَمْ يُخَفْ عَلَيْهَا الْفَسَادُ وَزُوِّجَتْ صَحَّ إِنْ دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ وَطَالَ أَمَدُ النِّكَاحِ، بِأَنْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنَيْنِ أَوْ مَضَتْ مُدَّةٌ تَلِدُ فِيهَا ذَلِكَ.
وَإِنْ خِيفَ فَسَادُهَا وَزُوِّجَتْ مِنْ غَيْرِ مُشَاوَرَةِ الْقَاضِي صَحَّ النِّكَاحُ إِنْ دُخِلَ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَطُلْ.
وَقَالُوا: وَجَبْرُ وَصِيٍّ صَغِيرًا لِمَصْلَحَةٍ اقْتَضَتْ تَزْوِيجَهُ كَتَزْوِيجِهِ مِنْ غَنِيَّةٍ أَوْ شَرِيفَةٍ أَوِ ابْنَةِ عَمٍّ أَوْ لِمَنْ تَحْفَظُ مَالَهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَصْلَحَةٌ فَلَا يَصِحُّ تَزْوِيجُهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَمَنْ عَلَى حَاشِيَةِ النَّسَبِ كَأَخٍ وَعَمٍّ وَنَحْوِهِمَا لَا يُزَوِّجُ صَغِيرَةً بِحَالٍ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا، عَاقِلَةً أَوْ مَجْنُونَةً، لِأَنَّهَا إِنَّمَا تُزَوَّجُ بِالْإِذْنِ وَإِذْنُهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ.
وَكَذَا الصَّغِيرُ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْ حَاشِيَةِ النَّسَبِ أَوِ الْوَصِيِّ أَوِ الْقَاضِي أَنْ يُزَوِّجَهُ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ وَانْتِفَاءِ كَمَالِ الشَّفَقَةِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَيْسَ لِمَنْ عَدَا الْأَبِ وَوَصِيِّهِ الَّذِي نَصَّ لَهُ عَلَى الْإِنْكَاحِ تَزْوِيجُ صَغِيرَةٍ لَهَا دُونَ تِسْعِ سِنِينَ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ- رضي الله عنه- زَوَّجَ ابْنَةَ أَخِيهِ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ- رضي الله عنه- فَرَفَعَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: لَا تُنْكَحُ إِلاَّ بِإِذْنِهَا» وَالصَّغِيرَةُ لَا إِذْنَ لَهَا بِحَالٍ، وَلَيْسَ لِسَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ وَلَا لِلْحَاكِمِ تَزْوِيجُهَا، وَلِسَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ تَزْوِيجُ بِنْتِ تِسْعِ سِنِينَ فَأَكْثَرَ بِإِذْنِهَا، وَلَهَا إِذْنٌ صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ نَصًّا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «إِذَا بَلَغَتِ الْجَارِيَةُ تِسْعَ سِنِينَ فَهِيَ امْرَأَةٌ» وَمَعْنَاهُ: فِي حُكْمِ الْمَرْأَةِ، وَلِأَنَّهَا تَصْلُحُ بِذَلِكَ لِلنِّكَاحِ وَتَحْتَاجُ إِلَيْهِ، أَشْبَهَتِ الْبَالِغَةَ.
وَقَالُوا: حُكْمُ تَزْوِيجِ صَبِيٍّ صَغِيرٍ بِالْوَصِيَّةِ حُكْمُ تَزْوِيجِ الْأُنْثَى بِهَا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ فَلِوَصِيِّ الْأَبِ أَنْ يُزَوِّجَ الْغُلَامَ قَبْلَ بُلُوغِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْغُلَامُ عَاقِلاً أَوْ مَجْنُونًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْجُنُونُ مُسْتَدَامًا أَوْ طَارِئًا.
وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (يَتِيم).
نِكَاحُ الرَّقِيقِ:
113- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّقِيقِ- ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى- أَنْ يَتَزَوَّجَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ، لِأَنَّ فِي هَذَا صَوْنًا لِلرَّقِيقِ عَنِ الزِّنَا، وَحِفْظًا لِمَالِ السَّيِّدِ مِنَ النَّقْصِ أَوِ التَّلَفِ، لقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلَا يَجِبُ إِلاَّ عِنْدَ الطَّلَبِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ وِلَايَةَ تَزْوِيجِ الرَّقِيقِ لِمَالِكِهِ.
وَتَفْصِيلُ نِكَاحِ الرَّقِيقِ، وَإِعْفَافِهِ، وَوِلَايَةِ إِنْكَاحِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (رق ف 25، 48، 73- 99).
إِنْكَاحُ الْفُضُولِيِّ:
114- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِنْكَاحِ الْفُضُولِيِّ فَمِنْهُمْ مَنْ أَبْطَلَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مَوْقُوفًا.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (فُضُولِيّ ف 8).
نِكَاحُ السَّفِيهِ:
115- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى صِحَّةِ نِكَاحِ السَّفِيهِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِلسَّفَهِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ إِذْنِ الْوَلِيِّ لِصِحَّةِ نِكَاحِهِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (سَفِهَ ف 22).
ثَالِثًا: الْإِشْهَادُ عَلَى النِّكَاحِ:
116- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ الْإِشْهَادِ عَلَى النِّكَاحِ: رُكْنًا أَوْ شَرْطًا أَوْ وَاجِبًا، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ: فَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ-: لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ إِلاَّ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ لِخَبَرِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «لَا نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ، وَمَا كَانَ مِنْ نِكَاحٍ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ» وَالْمَعْنَى فِي اعْتِبَارِهِمَا الِاحْتِيَاطُ لِلْأَبْضَاعِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ غَيْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَهُوَ الْوَلَدُ، فَاشْتُرِطَتِ الشَّهَادَةُ فِيهِ لِئَلاَّ يَجْحَدَهُ أَبُوهُ فَيَضِيعَ نَسَبُهُ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إِلَى دَفْعِ تُهْمَةِ الزِّنَا عَنِ الزَّوْجَةِ بَعْدَ النِّكَاحِ وَالدُّخُولِ، وَلَا تَنْدَفِعُ إِلاَّ بِالشُّهُودِ لِظُهُورِ النِّكَاحِ وَاشْتِهَارِهِ بِقَوْلِ الشُّهُودِ.
غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ يَرَوْنَهُ شَرْطًا، وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ رُكْنٌ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ مِنْ شُرُوطِ النِّكَاحِ، وَذَكَرَهَا أَبُو بَكْرٍ فِي الْمُقْنِعِ وَجَمَاعَةٌ. وَقَيَّدَ الْمَجْدُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأَصْحَابِ بِمَا إِذَا لَمْ يَكْتُمُوهُ فَمَعَ الْكَتْمِ تُشْتَرَطُ الشَّهَادَةُ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ إِجْمَاعًا وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: الْإِشْهَادُ عَلَى النِّكَاحِ وَاجِبٌ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ عَقْدِ النِّكَاحِ لِأَنَّ مَاهِيَّةَ الْعَقْدِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ عَقْدِ النِّكَاحِ، بَلْ هُوَ وَاجِبٌ مُسْتَقِلٌّ، مَخَافَةَ أَنَّ كُلَّ اثْنَيْنِ- رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ- اجْتَمَعَا فِي خَلْوَةٍ عَلَى فَسَادٍ يَدَّعِيَانِ سَبْقَ عَقْدٍ بِلَا إِشْهَادٍ فَيُؤَدِّي إِلَى رَفْعِ حَدِّ الزِّنَا.
وَأَصْلُ الْإِشْهَادِ عَلَى النِّكَاحِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَاجِبٌ، وَكَوْنُهُ عِنْدَ الْعَقْدِ زِيَادَةً عَلَى الْوَاجِبِ، فَإِنْ حَصَلَ الْإِشْهَادُ عِنْدَ الْعَقْدِ فَقَدْ حَصَلَ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ، وَإِنْ فُقِدَ عِنْدَ الْعَقْدِ وَوُجِدَ عِنْدَ الدُّخُولِ فَقَدْ حَصَلَ الْوَاجِبُ وَفَاتَ الْمَنْدُوبُ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ عِنْدَ الْعَقْدِ كَانَ وَاجِبًا عِنْدَ الْبِنَاءِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ شُهُودٌ أَصْلاً وَحَصَلَ الدُّخُولُ بِلَا إِشْهَادٍ عَلَى النِّكَاحِ فُسِخَ الْعَقْدُ بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ الْفَسْخُ بِطَلْقَةٍ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ بِدُونِ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ، وَكَانَ بِبَائِنَةٍ لِأَنَّهُ فَسْخٌ جَبْرِيٌّ مِنَ الْحَاكِمِ.
الشُّرُوطُ الْوَاجِبُ تَوَافُرُهَا فِي الشَّاهِدَيْنِ:
117- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ تَوَفُّرُ شُرُوطٍ فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى بَعْضِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِهَا الْآخَرِ، تَفْصِيلُهَا عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ- الْإِسْلَامُ:
118- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ الْإِسْلَامُ، وَذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى نِكَاحِ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمَةَ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَهُمْ، فَلَا يَنْعَقِدُ هَذَا النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ».
وَأَمَّا الْمُسْلِمُ إِذَا نَكَحَ ذِمِّيَّةً فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ إِسْلَامُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى هَذَا النِّكَاحِ، لِأَنَّ شَهَادَةَ الذِّمِّيَّيْنِ عَلَى الزَّوْجَةِ الذِّمِّيَّةِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عِنْدَهُمْ، وَفِي الِاحْتِجَاجِ بِحَدِيثِ: «لَا نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» قَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: الْمُرَادُ مِنْهُ عَدَالَةُ الدِّينِ لَا عَدَالَةُ التَّعَاطِي، لِإِجْمَاعِنَا عَلَى أَنَّ فِسْقَ التَّعَاطِي لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ النِّكَاحِ، وَلِأَنَّ الْإِشْهَادَ شَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ، وَالْعَقْدَ يَتَعَلَّقُ وُجُودُهُ بِالطَّرَفَيْنِ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ، وَلَمْ يُوجَدِ الْإِشْهَادُ عَلَى الطَّرَفَيْنِ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرِ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْكَافِرِ وَلَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ، فَكَانَتْ شَهَادَتُهُ فِي حَقِّهِ مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ، فَلَمْ يُوجَدِ الْإِشْهَادُ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ، فَصَارَ كَأَنَّهُمَا سَمِعَا كَلَامَ الْمَرْأَةِ دُونَ كَلَامِ الرَّجُلِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ النِّكَاحُ، كَذَا هَذَا.
وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فَقَالَا: إِذَا تَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيَّةً بِشَهَادَةِ ذِمِّيَّيْنِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ، سَوَاءٌ كَانَا مُوَافِقَيْنِ لَهَا فِي الْمِلَّةِ أَوْ مُخَالِفَيْنِ، لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلِأَنَّ لِلْكَافِرِ وِلَايَةً عَلَى الْكَافِرِ.
ب- التَّكْلِيفُ:
119- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ التَّكْلِيفُ، أَيْ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَاقِلاً بَالِغًا، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَجْنُونٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا شَهَادَةُ صَبِيٍّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وَلِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَهِيَ نَفَاذُ الْمَشِيئَةِ لِأَنَّهَا تَنْفِيذُ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ، وَكُلٌّ مِنَ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَكَيْفَ تَكُونُ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى غَيْرِهِ.
ج- الْعَدَالَةُ:
120- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ.
فَيَشْتَرِطُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ- فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ الْعَدَالَةَ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» فَلَا يَنْعَقِدُ بِفَاسِقَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا يُثْبَتُ بِهِمَا.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عَلَى أَنَّهُ يَكْفِي فِيهِمَا الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ، فَيَنْعَقِدُ بِمَسْتُورَيِ الْعَدَالَةِ وَهُمَا الْمَعْرُوفَانِ بِهَا ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا، بِأَنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُمَا بِالْمُخَالَطَةِ دُونَ التَّزْكِيَةِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْعَدَالَةُ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ يَجْرِي بَيْنَ أَوْسَاطِ النَّاسِ وَالْعَوَامِّ، فَلَوِ اعْتُبِرَ فِيهِ الْعَدَالَةُ الْبَاطِنَةُ لَاحْتَاجُوا إِلَى مَعْرِفَتِهَا لِيُحْضِرُوا مَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِهَا فَيَطُولَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ وَيَشُقَّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ مُقَابِلُ الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ بِالْمَسْتُورَيْنِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْعَدَالَةِ الْبَاطِنَةِ.
وَيَبْطُلُ السَّتْرُ بِتَفْسِيقِ عَدْلٍ فِي الرِّوَايَةِ، فَلَوْ أَخْبَرَ بِفِسْقِ الْمَسْتُورِ عَدْلٌ لَمْ يَصِحَّ بِهِ النِّكَاحُ كَمَا رَجَّحَهُ ابْنُ الْمُقْرِي تَبَعًا لِلْإِمَامِ.
وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ مَسْتُورِ الْعَدَالَةِ وَمَسْتُورِ الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ- وَالْعَدَالَةُ وَالْإِسْلَامُ وَالْحُرِّيَّةُ مِمَّا يَشْتَرِطُونَهُ فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ- فَقَالُوا: يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ مَسْتُورَيِ الْعَدَالَةِ لَا بِمَسْتُورَيِ الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ، بِأَنْ لَمْ يُعْرَفْ إِسْلَامُ الشَّاهِدِ وَلَا حُرِّيَّتُهُ، كَأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ يَخْتَلِطُ فِيهَا مُسْلِمُونَ بِالْكُفَّارِ، وَالْأَحْرَارُ بِالْأَرِقَّاءِ، وَلَا غَالِبَ، أَوْ يَكُونَ ظَاهِرُهُ الْإِسْلَامَ وَالْحُرِّيَّةَ بِالدَّارِ فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ حَالِ الشَّاهِدِ بِالْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ بَاطِنًا، لِسُهُولَةِ الْوُقُوفِ عَلَى ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْعَدَالَةِ وَالْفِسْقِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ عَدَالَةَ الشَّاهِدَيْنِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحُضُورِ الْفَاسِقَيْنِ، لِأَنَّ عُمُومَاتِ النِّكَاحِ مُطْلَقَةٌ عَنْ شَرْطٍ، وَاشْتِرَاطُ أَصْلِ الشَّهَادَةِ بِصِفَاتِهَا الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ، فَمَنِ ادَّعَى شَرْطَ الْعَدَالَةِ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ، وَلِأَنَّ الْفِسْقَ لَا يَقْدَحُ فِي وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ بِنَفْسِهِ.
د- الْعَدَدُ:
121- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ شَاهِدَيْنِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «لَا نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ».
وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ حُضُورِ الشَّاهِدَيْنِ قَصْدًا أَوِ اتِّفَاقًا.
هـ- الْحُرِّيَّةُ:
122- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَاهِدَيِ النِّكَاحِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا، فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِمَنْ فِيهِ رِقٌّ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلاً لِلشَّهَادَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى النِّكَاحِ حُرَّيْنِ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى قَوْلٍ أَشْبَهَتْ الِاسْتِفَاضَةَ.
و- الذُّكُورَةُ:
123- يَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ الذُّكُورَةَ، فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ عِنْدَهُمْ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، وَلَا بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِنَّ، رَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْأَمْوَالِ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنْ لَا تَجُوزَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَلَا فِي النِّكَاحِ وَلَا فِي الطَّلَاقِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذُكُورَةُ شَاهِدَيِ النِّكَاحِ، فَيَنْعَقِدُ عِنْدَهُمْ بِحُضُورِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ.
ز- السَّمْعُ:
124- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ السَّمْعِ فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ.
فَيَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدَا النِّكَاحِ سَمِيعَيْنِ وَلَوْ بِرَفْعِ صَوْتٍ إِذِ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ قَوْلٌ فَلَا بُدَّ مِنْ سَمَاعِهِ، أَيْ سَمَاعِ كَلَامِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ جَمِيعًا، حَتَّى لَوْ سَمِعَا كَلَامَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، أَوْ سَمِعَ أَحَدُهُمَا كَلَامَ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَسَمِعَ الْآخَرُ كَلَامَ الْمُتَعَاقِدِ الثَّانِي لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: لِأَنَّ حُضُورَ الشُّهُودِ شَرْطُ رُكْنِ الْعَقْدِ، وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، فَمَا لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَهُمَا لَا تَتَحَقَّقُ الشَّهَادَةُ عِنْدَ الرُّكْنِ فَلَا يُوجَدُ شَرْطُ الرُّكْنِ.
وَحَكَى الشَّمْسُ الرَّمْلِيُّ فِي الْأَصَمِّ وَجْهًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّاهِدِ عَلَى النِّكَاحِ السَّمْعُ.
ح- الْبَصَرُ:
125- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ الْبَصَرِ فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ.
فَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ الْبَصَرَ، لِأَنَّ الْأَقْوَالَ- وَهِيَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ- لَا تَثْبُتُ إِلاَّ بِالْمُعَايَنَةِ وَالسَّمَاعِ.
وَلَا يَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ الْبَصَرَ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا ضَرِيرَيْنِ إِذَا تَيَقَّنَا الصَّوْتَ تَيَقُّنًا لَا شَكَّ فِيهِ، كَالشَّهَادَةِ بِالِاسْتِفَاضَةِ، وَلِأَنَّ الْعَمَى كَمَا يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ لَا يَقْدَحُ إِلاَّ فِي الْأَدَاءِ لِتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ، وَلِأَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ وَلَا فِي قَبُولِ النِّكَاحِ بِنَفْسِهِ وَلَا فِي الْمَنْعِ مِنْ جَوَازِ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِ فِي الْجُمْلَةِ، فَكَانَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ بِحُضُورِهِ.
وَنَقَلَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ عَنِ الْبَحْرِ أَنَّ الْوَجْهَ بِانْعِقَادِ النِّكَاحِ بِحَضْرَةِ الْأَعْمَى حُكِيَ عَنِ النَّصِّ، لِأَنَّ الْأَعْمَى أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ.
ط- النُّطْقُ:
126- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ النُّطْقِ فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ.
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي شَاهِدَيِ النِّكَاحِ أَنْ يَكُونَا نَاطِقَيْنِ، فَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ عِنْدَهُمْ بِشَاهِدَيْنِ أَخْرَسَيْنِ، أَوْ بِشَاهِدَيْنِ أَحَدُهُمَا كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْأَخْرَسَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ.
لَكِنْ قَالَ الْحَنَابِلَةُ إِذَا أَدَّاهَا بِخَطِّهِ قُبِلَتْ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَمُقَابِلِ الْأَصَحِّ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (خرس ف 12).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
138-موسوعة الفقه الكويتية (نكاح منهي عنه 3)
نِكَاحٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ -3الْعَاشِرُ: نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ:
19- نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ يَتَأَتَّى فِي امْرَأَةٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا فَلَا تَحِلُّ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ إِلاَّ بِشُرُوطٍ هِيَ:
أ- أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْهُ.
ب- أَنْ يَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ آخَرُ زَوَاجًا صَحِيحًا.
ج- أَنْ يَدْخُلَ بِهَا الزَّوْجُ الْجَدِيدُ دُخُولًا حَقِيقِيًّا بِأَنَّ تَغِيبَ حَشَفَتُهُ أَوْ قَدْرُهَا فِي فَرْجِهَا.
د- أَنْ يُطَلِّقَهَا الزَّوْجُ الْآخَرُ.
هـ- أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْهُ
وَقَدْ قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ صُوَرَ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ إِلَى أَقْسَامٍ مِنْهَا:
الْأُولَى: أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى شَرْطٍ إِذَا أَحَلَّهَا بِإِصَابَةٍ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا وَهَذَا النِّكَاحُ بَاطِلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَاللَّيْثُ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ، لِحَدِيثِ: «لَعَنَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْمُحِلَّ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وَلِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ: هُوَ الْمُحَلِّلُ، لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وَلِمَا رَوَاهُ قَبِيصَةُ بْنُ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أُوتَى بِمُحِلٍّ وَلَا مُحَلَّلٍ لَهُ إِلاَّ رَجَمْتُهُمَا وَلِأَنَّهُ إِلَى مُدَّةٍ أَوْ فِيهِ شَرْطٌ يَمْنَعُ بَقَاءَهُ فَأَشْبَهَ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ، بَلْ أَغْلَظُ مِنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ كَمَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ أَحَدُهُمَا: جَهَالَةُ مُدَّتِهِ.وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِصَابَةَ فِيهِ مَشْرُوطَةٌ لِغَيْرِهِ فَكَانَ بِالْفَسَادِ أَخَصَّ.
وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ شُرِطَ فِيهِ انْقِطَاعُهُ قَبْلَ غَايَتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ بِكُلِّ صُوَرِهِ إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ عِنْدَهُمْ تَحْرِيمًا إِذَا كَانَ بِشَرْطِ التَّحْلِيلِ كَأَنْ يَقُولَ: تَزَوَّجْتُكِ عَلَى أَنْ أُحِلَّكِ لِلْأَوَّلِ، فَيَصِحُّ النِّكَاحُ وَيَلْغُو الشَّرْطُ.
وَخَالَفَهُمْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَبُو يُوسُفَ فَيَرَى فَسَادَ النِّكَاحِ فِيهَا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى النِّكَاحِ الْمُؤَقَّتِ وَلَا تَحِلُّ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَيَشْتَرِطَ فِي الْعَقْدِ أَنَّهُ إِذَا أَحَلَّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ طَلَّقَهَا فَهَذَا النِّكَاحُ بَاطِلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يَمْنَعُ دَوَامَ النِّكَاحِ فَأَشْبَهَ التَّأْقِيتَ.وَلِحَدِيثِ: «لَعَنَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْمُحِلَّ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ».
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى صِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ وَبُطْلَانِ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا وَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ النِّكَاحُ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا كَمَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَلِأَنَّ عُمُومَاتِ النِّكَاحِ تَقْتَضِي الْجَوَازَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إِذَا شُرِطَ فِيهِ الْإِحْلَالُ أَوْ لَا، فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ صَحِيحًا، فَيَدْخُلُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَحْتَ قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} إِلاَّ أَنَّهُ كَرِهَ النِّكَاحَ بِهَذَا الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ يُنَافِي الْمَقْصُودَ مِنَ النِّكَاحِ وَهُوَ السَّكَنُ وَالتَّوَالُدُ وَالتَّعَفُّفُ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَقِفُ عَلَى الْبَقَاءِ وَالدَّوَامِ عَلَى النِّكَاحِ.قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَهَذَا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- مَعْنَى إِلْحَاقِ اللَّعْنِ بِالْمُحَلِّلِ فِي الْحَدِيثِ، وَأَمَّا إِلْحَاقُ اللَّعْنِ بِالْمُحَلَّلِ لَهُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَبَبٌ لِمُبَاشَرَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي هَذَا النِّكَاحَ، لِقَصْدِ الْفِرَاقِ وَالطَّلَاقِ دُونَ الْإِبْقَاءِ وَتَحْقِيقِ وَمَا وُضِعَ لَهُ، وَالْمُسَبِّبُ شَرِيكُ الْمُبَاشِرِ فِي الْإِثْمِ وَالثَّوَابِ فِي التَّسَبُّبِ لِلْمَعْصِيَةِ وَالطَّاعَةِ.
ثَانِيهِمَا: أَنَّهُ بَاشَرَ مَا يُفْضِي إِلَى الَّذِي تَنْفِرُ مِنْهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ وَتَكْرَهُهُ مِنْ عَوْدِهَا إِلَيْهِ- أَيِ الْمَرْأَةِ- مِنْ مُضَاجَعَةِ غَيْرِهِ إِيَّاهَا وَاسْتِمْتَاعِهِ بِهَا وَهُوَ الطَّلَقَاتُ الثَّلَاثُ، إِذْ لَوْلَاهَا لَمَا وَقَعَ فِيهِ فَكَانَ إِلْحَاقُهُ اللَّعْنَ بِهِ لِأَجْلِ الطَّلَقَاتِ
وَقَدْ أَوَّلَ الْحَنَفِيَّةُ اللَّعْنَ الْوَارِدَ فِي شَأْنِ الْمُحَلِّلِ بِتَأْوِيلَاتٍ أُخْرَى مِنْهَا: أَنَّ اللَّعْنَ عَلَى مَنْ شَرَطَ الْأَجْرَ عَلَى التَّحْلِيلِ، وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَاللَّعْنُ عَلَى هَذَا الْحَمْلِ أَظْهَرُ، لِأَنَّهُ كَأَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى عَسْبِ التَّيْسِ وَهُوَ حَرَامٌ، وَيُقَرِّبُهُ أَنَّه- عليه الصلاة والسلام- سَمَّى الْمُحَلِّلَ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ.
وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْبَزَّازِيِّ: أَنَّهُ لَوْ زَوَّجَتِ الْمُطَلَّقَةُ نَفْسَهَا مِنَ الثَّانِي بِشَرْطِ أَنْ يُجَامِعَهَا وَيُطْلِقَهَا لِتَحِلَّ لِلْأَوَّلِ قَالَ الْإِمَامُ: النِّكَاحُ وَالشَّرْطُ جَائِزَانِ حَتَّى إِذَا أَبَى الثَّانِي طَلَاقَهَا أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ وَحَلَّتْ لِلْأَوَّلِ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَوَاطَأَ الْعَاقِدَانِ قَبْلَ الْعَقْدِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَحَلَّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ طَلَّقَهَا ثُمَّ عَقَدَ بِذَلِكَ الْقَصْدِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الشَّرْطِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي وَجْهٍ ذَكَرَهُ الْقَاضِي إِلَى صِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ، لِخُلُوِّهِ مِنْ شَرْطٍ يُفْسِدُهُ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى طَلَاقَهَا لِغَيْرِ الْإِحْلَالِ أَوْ مَا لَوْ نَوَتِ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ إِنَّمَا يَبْطُلُ بِمَا شُرِطَ لَا بِمَا قُصِدَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: إِنَّ امْرَأَةً طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا وَكَانَ مِسْكِينٌ أَعْرَابِيٌّ يَقْعُدُ بِبَابِ الْمَسْجِدِ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ لَهُ: هَلْ لَكَ فِي امْرَأَةٍ تَنْكِحُهَا فَتَبِيتَ مَعَهَا اللَّيْلَةَ، فَتُصْبِحَ فَتُفَارِقَهَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَكَانَ ذَلِكَ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: إِنَّكَ إِذَا أَصْبَحْتَ فَإِنَّهُمْ سَيَقُولُونَ لَكَ فَارِقْهَا، فَلَا تَفْعَلْ فَإِنِّي مُقِيمَةٌ لَكَ مَا تَرَى، وَاذْهَبْ إِلَى عُمَرَ، فَلَمَّا أَصْبَحَتْ أَتَوْهُ وَأَتَوْهَا، فَقَالَتْ: كَلِّمُوهُ أَنْتُمْ جِئْتُمْ بِهِ، فَكَلَّمُوهُ، فَأَبَى وَانْطَلَقَ إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: الْزَمِ امْرَأَتَكَ فَإِنْ رَابُوكَ بِرَيْبٍ فَائْتِنِي، وَأَرْسَلَ إِلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي مَشَتْ فَنَكَّلَ بِهَا، ثُمَّ كَانَ يَغْدُو إِلَى عُمَرَ وَيَرُوحُ فِي حُلَّةٍ فَيَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَاكَ يَا ذَا الرُّقْعَتَيْنِ حُلَّةً تَغْدُو فِيهَا وَتَرُوحُ فَقَدْ أَمْضَى عُمَرُ- رضي الله عنه- هَذَا النِّكَاحَ وَلَمْ يَرَ فِيهِ بَأْسًا حَيْثُ تَقَدَّمَ فِيهِ الشَّرْطُ عَلَى الْعَقْدِ.
إِلاَّ أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ يُكْرَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَبْطَلَهُ، وَلِأَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ- رضي الله عنه- نَكَّلَ بِالْمَرْأَةِ الَّتِي سَفَّرَتْ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الْقِصَّةِ السَّابِقَةِ فَدَلَّ عَلَى كَرَاهَتِهِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ مُسْتَحَبٌّ، وَأَنَّ الرَّجُلَ الْمُحَلِّلَ مَأْجُورٌ فِيهِ إِذَا فَعَلَهُ لِقَصْدِ الْإِصْلَاحِ، لَا مُجَرَّدَ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَنَحْوِهَا إِلاَّ أَنَّ السُّرُوجِيَّ أَوْرَدَ: أَنَّهُ يُكْرَهُ، لِأَنَّ الثَّابِتَ عَادَةً كَالثَّابِتِ نَصًّا، أَيْ فَيَصِيرُ شَرْطُ التَّحْلِيلِ كَأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْعَقْدِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِحَدِيثِ: «لَعَنَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْمُحِلَّ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وَلِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ التَّحْلِيلَ فَلَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ شَرَطَهُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ يَرَوْنَ أَنَّهُ بَاطِلٌ، أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّهُ يُفْسَخُ أَبَدًا بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَمَحَلُّ فَسَادِ النِّكَاحِ إِذَا قَصَدَ الْمُحَلِّلُ تَحْلِيلَهَا مَا لَمْ يَحْكُمْ بِصِحَّتِهِ مَنْ يَرَى صِحَّتَهُ كَشَافِعِيٍّ وَإِلاَّ كَانَ صَحِيحًا، لِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ يَرْفَعُ الْخِلَافَ وَيُصَيِّرُ الْمَسْأَلَةَ كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهَا.
الرَّابِعَةُ: أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَقْدِ أَنْ يُحِلَّهَا لَهُ فَنَوَى الْمُحَلِّلُ فِي الْعَقْدِ غَيْرَ مَا شَرَطُوا عَلَيْهِ كَأَنْ يَقْصِدَ نِكَاحَ رَغْبَةٍ، أَوْ نَوَى إِمْسَاكَهَا وَعَدَمَ فِرَاقِهَا إِنْ أَعْجَبَتْهُ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى صِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ، لِأَنَّهُ خَلَا عَنْ شَرْطِ التَّحْلِيلِ وَنِيَّةِ التَّحْلِيلِ كَمَا لَوْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ.قَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ حَدِيثُ ذِي الرُّقْعَتَيْنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ قَصَدَ التَّحْلِيلَ وَلَا أَنَّهُ نَوَاهُ.وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْمُحَلِّلَ إِنْ نَوَى التَّحْلِيلَ مَعَ نِيَّةِ إِمْسَاكِهَا عِنْدَ الْإِعْجَابِ بِأَنْ نَوَى مُفَارَقَتَهَا إِنْ لَمْ تُعْجِبْهُ وَإِمْسَاكَهَا إِنْ أَعْجَبَتْهُ فَإِنَّهُ لَا يُحِلُّهَا وَهُوَ نِكَاحٌ فَاسِدٌ: لِانْتِفَاءِ نِيَّةِ الْإِمْسَاكِ عَلَى الدَّوَامِ الْمَقْصُودَةِ مِنَ النِّكَاحِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْبِنَاءِ وَبَعْدَهُ بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ.
الْآثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ:
أَوَّلًا: حِلُّ الْمَرْأَةِ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ:
20- يَرَى مَنْ قَالَ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ حَسَبَ الصُّوَرِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ مِنْ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ وَوُجُوبِ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَثُبُوتِ الْإِحْصَانِ وَالنَّسَبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ.
وَأَمَّا مَنِ اعْتَبَرَ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ فَاسِدًا فِي الصُّوَرِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا فَيَثْبُتُ فِيهِ عِنْدَهُمْ سَائِرُ أَحْكَامِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِحْصَانُ وَلَا الْإِبَاحَةُ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَحِلُّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ فِي نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ الْفَاسِدِ إِذَا ذَاقَتْ عُسَيْلَةَ الْمُحَلِّلِ وَذَاقَ عُسَيْلَتَهَا.
ثَانِيًا: هَدْمُ الطَّلَقَاتِ:
21- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ يَهْدِمُ طَلَقَاتِ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ الثَّلَاثَ.وَالتَّفْصِيلُ فِي (تَحْلِيلِ ف 12).
حَادِيَ عَشَرَ: نِكَاحُ الْمُحْرِمِ
22- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ.فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ نِكَاحَ الْمُحْرِمِ لَا يَصِحُّ سَوَاءٌ كَانَ زَوْجًا أَوْ زَوْجَةً أَوْ وَلِيًّا عَقَدَ النِّكَاحَ لِمَنْ يَلِيهِ أَوْ وَكِيلًا عَقَدَ النِّكَاحَ لِمُوَكِّلِهِ وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ- رضي الله عنهم- وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ وَلَا يَخْطُبُ».وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا يَتَزَوَّجُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُزَوَّجُ» وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-: مَنْ تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ نَزَعْنَا مِنْهُ امْرَأَتَهُ وَعَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه-: أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ مُحْرِمَيْنِ تَزَوَّجَا وَلِمَا رُوِيَ عَنْ شَوْذَبٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ- رضي الله عنهما- أَنَّهُ تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَفَرَّقَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بَيْنَهُمَا وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يَثْبُتُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمُصَاهَرَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ الْإِحْرَامُ كَالْوَطْءِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ: الِاعْتِبَارُ بِحَالَةِ الْعَقْدِ لَا بِحَالَةِ الْوَكَالَةِ، فَلَوْ وَكَّلَ مُحْرِمٌ حَلَالًا فَعَقَدَ النِّكَاحَ بَعْدَ حِلِّهِ مِنَ الْإِحْرَامِ صَحَّ النِّكَاحُ عَلَى الصَّحِيحِ لِوُقُوعِهِ حَالَ حِلِّ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكَّلِ، وَلَوْ وَكَّلَ حَلَالٌ حَلَالًا فَعَقَدَ الْوَكِيلُ النِّكَاحَ بَعْدَ أَنْ أَحْرَمَ هُوَ أَوْ مُوَكِّلُهُ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَالَةِ الْعَقْدِ.وَقِيلَ: يَصِحُّ.
وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ ثُمَّ أَحْرَمَ الْمُوَكِّلُ لَمْ يَنْعَزِلْ وَكِيلُهُ بِإِحْرَامِهِ، فَإِذَا حَلَّ الْمُوَكِّلُ كَانَ لِوَكِيلِهِ عَقْدُ النِّكَاحِ لَهُ لِزَوَالِ الْمَانِعِ، وَقِيلَ يَنْعَزِلُ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: إِنْ زَوَّجَ الْمُحْرِمُ غَيْرَهُ صَحَّ سَوَاءٌ كَانَ وَلِيًّا أَوْ وَكِيلًا، وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، لِأَنَّ النِّكَاحَ حَرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ، لِدَوَاعِي الْوَطْءِ الْمُفْسِدِ لِلْحَجِّ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فِي هَذَا النِّكَاحِ لِكَوْنِهِ وَلِيًّا لِغَيْرِهِ.
وَنِكَاحُ الْمُحْرِمِ بِصُوَرِهِ الْمُخْتَلِفَةِ بَاطِلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ.
أَمَّا عِنْدُ الْمَالِكِيَّةِ فَهُوَ فَاسِدٌ وَيُفْسَخُ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَبَعْدَ الْبِنَاءِ بِطَلْقَةٍ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ، لِأَنَّهُ نِكَاحٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- وَالْحَنَفِيَّةُ إِلَى صِحَّةِ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ حَتَّى وَإِنْ كَانَ الزَّوْجَانِ مُحْرِمَيْنِ، لِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ».وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْبُضْعُ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ الْإِحْرَامُ كَالرَّجْعَةِ إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا وَقِيلَ تَنْزِيهًا، لِأَنَّ الْمُحْرِمَ فِي شُغُلٍ عَنْ مُبَاشَرَةِ عُقُودِ الْأَنْكِحَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ شَغْلَ قَلْبِهِ عَنْ إِحْسَانِ الْعِبَادَةِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ خِطْبَةٍ وَمُرَاوَدَاتٍ وَدَعْوَةٍ وَاجْتِمَاعَاتٍ، وَيَتَضَمَّنُ تَنْبِيهَ النَّفْسِ لِطَلَبِ الْجِمَاعِ.
ثَانِيَ عَشَرَ: نِكَاحُ الْمَرِيضِ وَالْمَرِيضَةِ:
23- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نِكَاحِ الْمَرِيضِ وَالْمَرِيضَةِ: فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَرَبِيعَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَنْكِحَ جَمِيعَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَرْبَعًا وَمَا دُونَهُنَّ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ، لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ.
وَمِنْهَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالِي: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} وَلِمَا رُوِيَ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهم- أَنَّهُ قَالَ: كَانَتِ ابْنَةُ حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- تَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ، فَحَدَثَ أَنَّهَا عَاقِرٌ لَا تَلِدُ، فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا، فَمَكَثَتْ حَيَاةَ عُمَرَ وَبَعْضَ خِلَافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ- رضي الله عنهما-، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَهُوَ مَرِيضٌ لِتُشْرِكَ نِسَاءَهُ فِي الْمِيرَاثِ، وَكَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ.
وَلِأَنَّ النِّكَاحَ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ لِلْإِنْسَانِ فَكَذَلِكَ وُجُوبُ الْمَهْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِ النِّكَاحِ شَرْعًا، وَالْمَرِيضُ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَنْ صَرْفِ مَالِهِ إِلَى حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ كَثَمَنِ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ.
وَلِأَنَّهُ نِكَاحٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ بِشَرْطِهِ فَيَصِحُّ كَحَالِ الصِّحَّةِ، وَلِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ ابْنَ أُمِّ الْحَكَمِ تَزَوَّجَ فِي مَرَضِهِ ثَلَاثَ نِسْوَةٍ أَصْدَقَ كُلَّ وَاحِدَةٍ أَلْفًا لِيُضَيِّقَ بِهِنَّ عَلَى امْرَأَتِهِ وَيُشْرِكْنَهَا فِي مِيرَاثِهَا فَأُجِيزَ ذَلِكَ.
قَالَ الْجُمْهُورُ: وَإِذَا ثَبَتَ صِحَّةُ النِّكَاحِ ثَبَتَ كَذَلِكَ صِحَّةُ الصَّدَاقِ وَاسْتِحْقَاقُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِرْثَ الْآخَرِ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ.
وَنَصَّ ابْنُ مُفْلِحٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ فِي مَرَضِهِ مُضَارَّةً لِيُنْقِصَ إِرْثَ غَيْرِهَا وَأَقَرَّتْ بِهِ لَمْ تَرِثْهُ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: النِّكَاحُ صَحِيحٌ وَلَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا.
وَقَالَ رَبِيعَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: النِّكَاحُ صَحِيحٌ وَالصَّدَاقُ وَالْمِيرَاثُ مِنَ الثُّلُثِ.
وَلَا فَرْقَ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ سَوَاءٌ كَانَ الرَّجُلُ هُوَ الْمَرِيضَ أَمِ الْمَرْأَةُ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحَ الدُّسُوقِيُّ أَنَّهُ يَتَّفِقُ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَنْعِ نِكَاحِ الزَّوْجَيْنِ إِذَا كَانَا مَرِيضَيْنِ مَرَضًا مُخَوِّفًا يُتَوَقَّعُ مِنْهُ الْمَوْتُ عَادَةً.وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مَرِيضًا هَذَا الْمَرَضَ وَالْآخَرُ صَحِيحًا.
فَالْمَشْهُورُ الرَّاجِحُ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَإِنْ أَذِنَ الْوَرَثَةُ أَوِ احْتَاجَ الْمَرِيضُ إِلَيْهِ لِلنَّهْيِ عَنْ إِدْخَالِهِ وَارِثًا.
وَفِي قَوْلٍ: يَجُوزُ النِّكَاحُ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ الْمَرِيضُ أَوْ أَذِنَ الْوَارِثُ وَهَذَا الَّذِي شَهَرَهُ ابْنُ شَاسٍ فِي الْجَوَاهِرِ.
وَعَلَى الْأَوَّلِ- وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ- لَوْ وَقَعَ النِّكَاحُ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ الْمُخَوِّفِ بِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ بِهِمَا مَعًا فُسِخَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ مَا لَمْ يَصِحَّ الْمَرِيضُ، فَإِنْ مَاتَتِ الْمَرْأَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَا صَدَاقَ لَهَا وَلَا مِيرَاثَ لَهُ، وَإِنْ مَاتَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا الصَّدَاقُ الْمُسَمَّى.وَلَا مِيرَاثَ لَهُ مِنْهَا.
إِذَا مَاتَ الْمَرِيضُ الْمُتَزَوِّجُ فِي مَرَضِهِ الْمُخَوِّفِ قَبْلَ فَسْخِ النِّكَاحِ- سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ- عَلَيْهِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ: الْأَقَلُّ مِنَ الْمُسَمَّى مِنْ صَدَاقِ الْمِثْلِ...وَأَمَّا إِذَا فُسِخَ النِّكَاحُ قَبْلَ مَوْتِهِ وَقَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ.
وَأَمَّا إِذَا فُسِخَ بَعْدَ الدُّخُولِ، ثُمَّ مَاتَ أَوْ صَحَّ كَانَ لَهَا الْمُسَمَّى تَأْخُذُهُ مِنْ ثُلُثِهِ مَبْدَءًا إِنْ مَاتَ، وَمِنْ رَأْسِ مَالِهِ إِنْ صَحَّ.
أَمَّا إِذَا صَحَّ الْمَرِيضُ مِنْهُمَا أَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُمَا يُقَرَّانِ عَلَى نِكَاحِهِمَا وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَيَكُونُ لَهَا عَلَيْهِ الصَّدَاقُ الَّذِي سَمَّى.
وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَيُّ الزَّوْجَيْنِ مَرِيضًا مَرَضًا مُخَوِّفًا حَالَ عَقْدِ النِّكَاحِ فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ لَا يَتَوَارَثَانِ بِهِ إِلاَّ أَنْ يُصِيبَهَا فَلَهَا الْمُسَمَّى فِي ثُلُثِ مَالِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْعَصَبَةِ.
وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالْحَسَنُ: إِنْ قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِوَرَثَتِهِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ وَإِلاَّ فَهُوَ صَحِيحٌ.وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (مَرَضِ الْمَوْتِ ف 21).
ثَالِثَ عَشَرَ: نِكَاحُ السِّرِّ:
أ- حَقِيقَةُ نِكَاحِ السِّرِّ:
24- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِيقَةِ نِكَاحِ السِّرِّ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ نِكَاحَ السِّرِّ هُوَ مَا لَمْ يَحْضُرْهُ الشُّهُودُ، أَمَّا مَا حَضَرَهُ شَاهِدَانِ فَهُوَ نِكَاحُ عَلَانِيَةٍ لَا نِكَاحَ السِّرِّ، إِذِ السِّرُّ إِذَا جَاوَزَ اثْنَيْنِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ سِرًّا، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى صِحَّتِهِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا نِكَاحَ إِلاَّ بَوْلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» مَفْهُومُهُ انْعِقَادُ النِّكَاحِ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الْإِظْهَارُ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَمْ يُشْتَرَطْ إِظْهَارُهُ كَالْبَيْعِ.
وَأَخْبَارُ الْإِعْلَانِ عَنْهُ فِي أَحَادِيثَ مِثْلَ: «أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ» يُرَادُ بِهَا الِاسْتِحْبَابُ، بِدَلِيلِ أَمْرِهِ فِيهَا بِالضَّرْبِ بِالدُّفِّ وَالصَّوْتِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ، وَكَذَلِكَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِعْلَانُ.أَوْ يُحْمَلُ الْأَمْرُ بِالْإِعْلَانِ فِي النِّكَاحِ عَلَى أَنْ يَكُونَ إِعْلَانُهُ بِالشَّهَادَةِ، وَكَيْفَ يَكُونُ مَكْتُومًا مَا شَهِدَ بِهِ شُهُودٌ، أَمْ كَيْفَ يَكُونُ مُعْلَنًا مَا خَلَا مِنْ بَيِّنَةٍ وَشُهُودٍ؟ وَلِأَنَّ إِعْلَانَ النِّكَاحِ وَالضَّرْبَ عَلَيْهِ بِالدُّفِّ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَلَوْ كَانَ شَرْطًا لَاعْتُبِرَ حَالَةَ الْعَقْدِ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ.
وَأَمَّا نَهْيُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ نِكَاحِ السِّرِّ فَالْمُرَادُ بِهِ النِّكَاحُ الَّذِي لَمْ يَشْهَدْهُ الشُّهُودُ بِدَلِيلِ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ- رضي الله عنه- أُتِيَ بِنِكَاحٍ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ إِلاَّ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ وَقَالَ: هَذَا نِكَاحُ السِّرِّ، وَلَا أُجِيزُهُ، وَلَوْ كُنْتُ تَقَدَّمْتُ فِيهِ لَرَجَمْتُ.وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَهُمْ فِي حَقِيقَةِ نِكَاحِ السِّرِّ طَرِيقَتَانِ:
الْأُولَى: طَرِيقَةُ الْبَاجِيِّ وَهِيَ اسْتِكْتَامُ غَيْرِ الشُّهُودِ كَمَا لَوْ تَوَاصَى الزَّوْجَانِ وَالْوَلِيُّ عَلَى كَتْمِهِ سَوَاءٌ أَوْصَى الشُّهُودَ بِذَلِكَ أَمْ لَا.
الثَّانِيَةُ: طَرِيقَةُ ابْنِ عَرَفَةَ وَهِيَ مَا أَوْصَى الشُّهُودَ عَلَى كَتْمِهِ سَوَاءٌ أَوْصَى غَيْرَهُمْ عَلَى كَتْمِهِ أَمْ لَا.
وَلَا بُدَّ عَلَى طَرِيقَةِ ابْنِ عَرَفَةَ أَنْ يَكُونَ الْمُوصِي هُوَ الزَّوْجَ سَوَاءٌ انْضَمَّ لَهُ غَيْرُهُ كَالزَّوْجَةِ أَمْ لَا.
وَهَذَا بِمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْكِتْمَانُ بِسَبَبِ خَوْفٍ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ خَوْفٍ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ نَحْوِهِ كَأَنْ يَأْخُذَ الظَّالِمُ مَثَلًا مَالًا أَوْ غَيْرَهُ فَالْوَصِيَّةُ عَلَى كَتْمِهِ خَوْفًا مِنْ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ نِكَاحَ سِرٍّ أَيْضًا إِذَا كَانَ الْإِيصَاءُ بِكَتْمِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ.
ب- حُكْمُ نِكَاحِ السِّرِّ:
25- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِنَاءً عَلَى حَقِيقَةِ نِكَاحِ السِّرِّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ نِكَاحٌ بَاطِلٌ لِعَدَمِ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ لِخَبَرِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «لَا نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ».
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (نِكَاحِ ف 16).
وَأَمَّا نِكَاحُ السِّرِّ حَسَبَ حَقِيقَتِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَحُكْمُهُ عَلَى الطَّرِيقَتَيْنِ أَنَّهُ يُفْسَخُ قَبْلَ الدُّخُولِ كَمَا يُفْسَخُ أَيْضًا إِذَا دَخَلَ وَلَمْ يُطِلْ، فَإِنْ دَخَلَ وَطَالَ لَمْ يُفْسَخْ عَلَى الْمَشْهُورِ خِلَافًا لِابْنِ الْحَاجِبِ حَيْثُ قَالَ: يُفْسَخُ بَعْدَ الدُّخُولِ وَالطُّولِ، وَالطُّولُ فِي وَقْتِ نِكَاحِ السِّرِّ يَعُودُ إِلَى الْعُرْفِ، لَا بِوِلَادَةِ الْأَوْلَادِ وَهُوَ مَا يَحْصُلُ فِيهِ الظُّهُورُ وَالِاشْتِهَارُ عَادَةً.
وَالْفَسْخُ فِيهِ بِطَلَاقٍ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَنْكِحَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَيُعَاقَبُ الزَّوْجَانِ فِي نِكَاحِ السِّرِّ إِنْ دَخَلَا وَلَمْ يُعْذَرَا بِجَهْلٍ وَلَمْ يَكُونَا مَجْبُورَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلَا أَوْ دَخَلَا وَلَكِنْ عُذِرَا بِالْجَهْلِ فَلَا عِقَابَ عَلَيْهِمَا، وَلَا عِقَابَ عَلَيْهِمَا كَذَلِكَ إِذَا كَانَا مَجْبُورَيْنِ وَحِينَئِذٍ الْعِقَابُ عَلَى وَلِيِّهِمَا.
وَيُعَاقَبُ كَذَلِكَ الشُّهُودُ إِنْ حَصَلَ دُخُولٌ وَلَمْ يُعْذَرُوا بِجَهْلٍ وَلَمْ يَكُونُوا مَجْبُورِينَ عَلَى الْكِتْمَانِ.
وَجَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ يُونُسَ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ شِهَابٍ عَنْ رَجُلٍ نَكَحَ سِرًّا وَأَشْهَدَ رَجُلَيْنِ فَقَالَ: إِنْ مَسَّهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَاعْتَدَّتْ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَعُوقِبَ الشَّاهِدَانِ بِمَا كَتَمَا مِنْ ذَلِكَ، وَلِلْمَرْأَةِ مَهْرُهَا، ثُمَّ إِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا حِينَ تَنْقَضِي عَدَّتُهَا نَكَحَهَا عَلَانِيَةً...وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسَّهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَلَا صَدَاقَ لَهَا وَنَرَى أَنْ يُنَكِّلَهُمَا الْإِمَامُ بِعُقُوبَةٍ وَالشَّاهِدَيْنِ بِعُقُوبَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ نِكَاحُ السِّرِّ وَنِكَاحُ السِّرِّ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مَعَ صِحَّتِهِ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ عُقِدَ النِّكَاحُ بَوْلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ فَأَسَرُّوهُ أَوْ تَوَاصَوْا بِكِتْمَانِهِ كُرِهَ ذَلِكَ وَصَحَّ النِّكَاحُ.وَمِمَّنْ كَرِهَ نِكَاحَ السِّرِّ الْمُوصَى فِيهِ بِالْكِتْمَانِ عُمَرُ- رضي الله عنه- وَعُرْوَةُ- رضي الله عنهما- وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ وَالشَّعْبِيُّ وَنَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ.وَبِصِحَّةِ هَذَا النِّكَاحِ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ.وَإِلَى عَدَمِ صِحَّةِ نِكَاحِ السِّرِّ الَّذِي أَوْصَى فِيهِ الشُّهُودَ بِكِتْمَانِهِ ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.
رَابِعَ عَشَرَ: نِكَاحُ الْمَحَارِمِ:
26- مُحَرَّمَاتُ النِّكَاحِ مِنْهَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً، بِسَبَبِ قَرَابَةٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ حُرْمَةً مُؤَقَّتَةً، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ خَالَتِهَا.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ).
- رحمهم الله-
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
139-موسوعة الفقه الكويتية (نهر 1)
نَهْرٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- النَّهْرُ فِي اللُّغَةِ: مَجْرَى الْمَاءِ الْعَذْبِ وَالْمَاءِ الْجَارِي الْمُتَّسِعِ، وَالْجَمْعُ نُهُرٌ بِضَمَّتَيْنِ وَأَنْهُرٌ، وَالنَّهَرُ- بِفَتْحَتَيْنِ- لُغَةٌ، وَالْجَمْعُ أَنْهَارٌ، ثُمَّ أُطْلِقَ النَّهْرُ عَلَى الْأُخْدُودِ مَجَازًا لِلْمُجَاوَرَةِ، فَيُقَالُ: جَرَى النَّهْرُ، وَجَفَّ النَّهْرُ، وَالْأَصْلُ جَرَى مَاءُ النَّهْرِ.
وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ النَّهْرُ: هُوَ الْمَجْرَى الْوَاسِعُ لِلْمَاءِ فَوْقَ السَّاقِيَةِ فَهُوَ مَجْرًى كَبِيرٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْكِرَى فِي كُلِّ حِينٍ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْبَحْرُ:
2- الْبَحْرُ فِي اللُّغَةِ: الْمَاءُ الْكَثِيرُ، مِلْحًا كَانَ أَوْ عَذْبًا، وَهُوَ خِلَافُ الْبَرِّ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لَعُمْقِهِ وَاتِّسَاعِهِ، وَقَدْ غَلَبَ عَلَى الْمِلْحِ حَتَّى قَلَّ فِي الْعَذْبِ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْبَحْرِ وَالنَّهْرِ أَنَّ كِلَيْهِمَا مَكَانٌ وَاسِعٌ جَامِعٌ لِلْمَاءِ الْكَثِيرِ، إِلاَّ أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْبَحْرِ أَنَّهُ لِلْمَاءِ الْمَالِحِ، أَمَّا النَّهْرُ فَهُوَ لِلْمَاءِ الْعَذْبِ.
ب- الْبِئْرُ:
3- الْبِئْرُ فِي اللُّغَةِ: الْقَلِيبُ، وَهُوَ مِنْ بَأَرَ، أَيْ حَفَرَ.
وَالْبِئْرُ: حُفْرَةٌ عَمِيقَةٌ يُسْتَخْرَجُ مِنْهَا الْمَاءُ أَوِ النِّفْطُ.
وَاصْطِلَاحًا: نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ النُّتَفِ:
أَنَّ الْبِئْرَ هِيَ الَّتِي لَهَا مَوَادٌّ مِنْ أَسْفَلِهَا، ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: أَيْ لَهَا مِيَاهٌ تَمُدُّهَا وَتَنْبُعُ مِنْ أَسْفَلِهَا.
وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ النَّهْرِ وَالْبِئْرِ أَنَّ كِلَيْهِمَا مَجْمَعٌ لِلْمَاءِ، إِلاَّ أَنَّ النَّهْرَ مَجْرًى وَاسِعٌ، وَالْبِئْرَ حُفْرَةٌ عَمِيقَةٌ.
أَقْسَامُ النَّهْرِ:
4- قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ النَّهْرَ بِاعْتِبَارِ الْمِيَاهِ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: نَهْرٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ، أَوْ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِأَحَدٍ كَمَا عَبَّرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، وَذَلِكَ كَنَهْرِ النِّيلِ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَسَيْحُونَ وَجَيْحُونَ.
وَالثَّانِي: نَهْرٌ مَمْلُوكٌ لِشَخْصٍ أَوْ أَكْثَرَ وَلِكُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ أَحْكَامٌ تَخُصُّهُ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلًا: النَّهْرُ الْعَامُّ (غَيْرُ الْمَمْلُوكِ):
5- النَّهْرُ غَيْرُ الْمَمْلُوكِ لِأَحَدٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَظِيمًا كَالنِّيلِ وَالْفُرَاتِ لَا يَتَأَتَّى تَزَاحُمُ النَّاسِ عَلَى مَائِهِ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَهْرًا صَغِيرًا يَزْدَحِمُ النَّاسُ فِيهِ وَيَتَشَاحُّونَ فِي مَائِهِ.
وَيَخْتَلِفُ حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا يَلِي:
أ- النَّهْرُ الْعَظِيمُ وَحَقُّ الِانْتِفَاعِ بِهِ:
6- إِذَا كَانَ النَّهْرُ عَظِيمًا لَا يَتَأَتَّى تَزَاحُمُ النَّاسِ فِيهِ، كَنَهْرِ النِّيلِ وَالْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ، فَلِكُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ فَيَشْرَبَ وَيَسْقِيَ دَوَابَّهُ مَتَى شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ، لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِي الْمَاءِ وَلَا فِي رَقَبَةِ النَّهْرِ، وَلِأَنَّ الْمَاءَ مَوْجُودٌ بِإِيجَادِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَبْقَى عَلَى الْإِبَاحَةِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءِ وَالْكَلَإِ وَالنَّارِ».
وَلِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَشُقَّ مِنْ هَذِهِ الْأَنْهَارِ نَهْرًا إِلَى أَرْضِهِ، بِأَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً بِإِذْنِ الْإِمَامِ، فَلَهُ أَنْ يَشُقَّ إِلَيْهَا نَهْرًا، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ وَلَا لِأَحَدٍ مَنْعُهُ إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِالنَّهْرِ، وَلَهُ أَنْ يَنْصِبَ عَلَيْهِ رَحًى وَدَالِيَةً وَسَانِيَةً إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِالنَّهْرِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَنْهَارَ لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ يَدِ أَحَدٍ فَلَا يَثْبُتُ الِاخْتِصَاصُ بِهَا لِأَحَدٍ فَكَانَ النَّاسُ فِيهَا سَوَاءً، وَكُلُّ وَاحِدٍ بِسَبِيلٍ مِنَ الِانْتِفَاعِ، لَكِنْ بِشَرِيطَةِ عَدَمِ الضَّرَرِ بِالنَّهْرِ كَالِانْتِفَاعِ بِطَرِيقِ الْعَامَّةِ.
فَإِنْ أَضَرَّ بِالنَّهْرِ أَوْ بِعَامَّةِ النَّاسِ كَأَنْ يُفِيضَ الْمَاءَ وَيُفْسِدَ حُقُوقَ النَّاسِ، أَوْ يَنْقَطِعَ الْمَاءُ عَنِ النَّهْرِ الْأَعْظَمِ أَوْ يَمْنَعَ جَرَيَانَ السُّفُنِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُكَاتِبًا مَنْعُهُ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِبَاحَةُ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّهِمْ مَشْرُوطَةٌ بِانْتِفَاءِ الضَّرَرِ كَالتَّصَرُّفِ فِي الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ.
وَقَدْ سُئِلَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ نَهْرِ مَرْوَ وَهُوَ نَهْرٌ عَظِيمٌ أَحْيَا رَجُلٌ أَرْضًا كَانَتْ مَوَاتًا فَحَفَرَ لَهَا نَهْرًا فَوْقَ مَرْوَ مِنْ مَوْضِعٍ لَيْسَ يَمْلِكُهُ أَحَدٌ فَسَاقَ الْمَاءَ إِلَيْهَا مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِ مَرْوَ ضَرَرٌ فِي مَائِهِمْ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّهُمْ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُ، وَسُئِلَ أَيْضًا إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ مِنْ هَذَا النَّهْرِ كُوًى مَعْرُوفَةٌ هَلْ لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا؟ فَقَالَ: إِنْ زَادَ فِي مِلْكِهِ وَذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِأَهْلِ النَّهْرِ فَلَهُ ذَلِكَ.
ب- النَّهْرُ الصَّغِيرُ وَحَقُّ الِانْتِفَاعِ بِهِ:
7- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ النَّهْرُ غَيْرُ الْمَمْلُوكِ صَغِيرًا يَتَزَاحَمُ النَّاسُ عَلَيْهِ وَيَتَشَاحُّونَ فِي مَائِهِ فَلِمَنْ فِي أَوَّلِ النَّهْرِ (أَيْ أَعْلَاهُ) أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ وَيَحْبِسَ الْمَاءَ إِلَى الْكَعْبِ، ثُمَّ يُرْسِلَ الْمَاءَ إِلَى الَّذِي يَلِيهِ، ثُمَّ مِنَ الثَّانِي إِلَى الثَّالِثِ، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ سَقْيُ الْأَرَاضِي كُلِّهَا.
وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ «أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: سَرِّحِ الْمَاءَ يَمُرُّ، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِلزُّبَيْرِ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ، فَغَضِبَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَالَ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم} ».
وَإِنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الزُّبَيْرَ- رضي الله عنه- أَنْ يَسْقِيَ ثُمَّ يُرْسِلَ الْمَاءَ تَسْهِيلًا عَلَى غَيْرِهِ، فَلَمَّا قَالَ الْأَنْصَارِيُّ مَا قَالَ اسْتَوْعَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ.
وَقَدْ رَوَى عُبَادَةُ- رضي الله عنه- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَضَى فِي شُرْبِ النَّخْلِ مِنَ السَّيْلِ أَنَّ الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى يَشْرَبُ قَبْلَ الْأَسْفَلِ، وَيُتْرَكُ الْمَاءُ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَاءُ إِلَى الْأَسْفَلِ الَّذِي يَلِيهِ، حَتَّى تَنْقَضِيَ الْحَوَائِطُ أَوْ يَفْنَى الْمَاءُ».
وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَضَى فِي سَيْلٍ مَهْزُورٍ وَمُذَيْنِبٍ، أَنَّ الْأَعْلَى يُرْسَلُ إِلَى الْأَسْفَلِ وَيُحْبَسُ قَدْرَ كَعْبَيْنِ».
وَإِذَا سَقَى الْأَوَّلُ وَلَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ مِنَ الْمَاءِ، أَوْ سَقَى الثَّانِي وَلَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ، فَلَا شَيْءَ لِمَنْ بَعْدَهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ مَا فَضَلَ، فَهُوَ كَالْعُصْبَةِ مَعَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ فِي الْمِيرَاثِ.
وَإِنْ كَانَ فِي أَرْضِ أَحَدِهِمَا انْخِفَاضٌ وَارْتِفَاعٌ، أَيْ كَانَ بَعْضُهَا مُرْتَفِعًا وَبَعْضُهَا مُنْخَفِضًا فَإِنَّهُ يَسْقِي كُلَّ نَوْعٍ عَلَى حِدَةٍ لِأَنَّهُمَا لَوْ سَقَيَا مَعًا لَزَادَ الْمَاءُ فِي الْأَرْضِ الْمُنْخَفِضَةِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ، وَطَرِيقَةُ ذَلِكَ أَنْ يَسْقِيَ الْمُنْخَفِضُ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يَسُدَّهُ ثُمَّ يَسْقِيَ الْمُرْتَفِعُ.
وَإِذَا سَقَى الْأَعْلَى، ثُمَّ احْتَاجَ إِلَى سَقْيِ أَرْضِهِ مَرَّةً أُخْرَى قَبْلَ انْتِهَاءِ سَقْيِ الْأَرَاضِي كُلِّهَا فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ سَقْيُ الْأَرَاضِي لِيَحْصُلَ التَّعَادُلُ.
هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي هَذَا وَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ مَنْ فِي أَعْلَا النَّهْرِ بِالسَّقْيِ فَيَسْقِيَ أَرْضَهُ وَيَحْبِسَ الْمَاءَ حَتَّى يَصِلَ إِلَى كَعْبِهِ ثُمَّ يُرْسِلَهُ إِلَى مَنْ يَلِيهِ، وَهَكَذَا كَمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ، إِذَا كَانَ إِحْيَاؤُهُمْ مَعًا، أَوْ أَحْيَا الْأَعْلَى قَبْلَ غَيْرِهِ، أَوْ جَهِلَ الْحَالَ.
8- أَمَّا لَوْ كَانَ مَنْ فِي أَسْفَلِ النَّهْرِ هُوَ الَّذِي سَبَقَ بِالْإِحْيَاءِ فَهُوَ الْمُقَدَّمُ فِي السَّقْيِ، ثُمَّ مَنْ أَحْيَا بَعْدَهُ، وَهَكَذَا لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي السَّقْيِ هُوَ السَّبْقُ إِلَى الْإِحْيَاءِ لَا إِلَى أَوَّلِ النَّهْرِ.
بَلْ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْأَسْفَلُ أَسْبَقَ إِحْيَاءً فَهُوَ الْمُقَدَّمُ، بَلْ لَهُ مَنْعُ مَنْ أَرَادَ إِحْيَاءَ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى النَّهْرِ وَسَقْيَهُ مِنْهُ عِنْدَ الضِّيقِ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الرَّوْضَةِ وَصَرَّحَ بِهِ جَمْعٌ، لِئَلاَّ يُسْتَدَلَّ بِقُرْبِهِ بَعْدُ عَلَى أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ.ثُمَّ مَنْ وَلِيَهُ فِي الْإِحْيَاءِ وَهَكَذَا، وَلَا عِبْرَةَ حِينَئِذٍ بِالْقُرْبِ مِنَ النَّهْرِ، وَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِالْأَعْلَى: الْمُحْيِي قَبْلَ الثَّانِي وَهَكَذَا، لَا الْأَقْرَبُ إِلَى النَّهْرِ.
وَقَيَّدَ سَحْنُونُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مَحَلَّ تَقْدِيمِ الْأَسْفَلِ السَّابِقِ فِي الْإِحْيَاءِ عَلَى الْأَعْلَى الْمُتَأَخِّرِ فِي الْإِحْيَاءِ إِذَا خِيفَ عَلَى زَرْعِ الْأَسْفَلِ الْهَلَاكُ بِتَقْدِيمِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ فِي السَّقْيِ، وَإِلاَّ قُدِّمَ الْأَعْلَى الْمُتَأَخِّرُ فِي الْإِحْيَاءِ عَلَى الْأَسْفَلِ، وَالَّذِي حَقَّقَهُ مُصْطَفَى الرَّمَاصِيِّ أَنَّ الْأَسْفَلَ يُقَدَّمُ إِذَا تَقَدَّمَ فِي الْإِحْيَاءِ وَلَوْ لَمْ يُخَفْ عَلَى زَرْعِهِ بِتَقْدِيمِ الْأَعْلَى.
قَدْرُ مَا يُحْبَسُ مِنَ الْمَاءِ:
9- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يُحْبَسُ مِنَ الْمَاءِ قَبْلَ إِرْسَالِهِ إِلَى الْآخَرِ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: نَظَرْنَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ الْجَدْرَ» فَكَانَ ذَلِكَ إِلَى الْكَعْبَيْنِ.
وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِيمَا يُحْبَسُ مِنَ الْمَاءِ وَجْهَيْنِ:
قَالَ: الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَحْبِسُهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي قَدْرِ السَّقْيِ إِلَى الْعَادَةِ وَالْحَاجَةِ، وَقَدْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَيْسَ التَّقْدِيرُ بِالْكَعْبَيْنِ فِي كُلِّ الْأَزْمَانِ وَالْبُلْدَانِ، لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَرْضِ وَبِاخْتِلَافِ مَا فِيهَا مِنْ زَرْعٍ وَشَجَرٍ، وَبِوَقْتِ الزِّرَاعَةِ وَبِوَقْتِ السَّقْيِ.
وَفِي حَاشِيَةِ الرَّمْلِيِّ عَلَى أَسْنَى الْمَطَالِبِ ذَكَرَ أَنَّ كَلَامَ الْجُمْهُورِ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ (وَهُوَ أَنْ يُحْبَسَ الْمَاءُ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ) مَحْمُولٌ عَلَى أَرْضٍ يَكْفِيهَا ذَلِكَ، أَمَّا الْأَرْضُ الَّتِي لَا تَكْفِيهَا إِلاَّ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ كَغَالِبِ مَزَارِعِ الْيَمَنِ فَتُسْقَى إِلَى حَدِّ كِفَايَتِهَا عَادَةً مَكَانًا وَزَمَانًا، وَقَدِ اخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ، قَالَ الْأَذْرُعِيُّ: وَهُوَ قَوِيٌّ، وَمِمَّنْ جَزَمَ بِهِ الْمُتَوَلِّيُّ.
10- وَهَلِ الْمُرَادُ بِالْكَعْبَيْنِ اللَّذَيْنِ يُحْبَسُ الْمَاءُ إِلَيْهِمَا الْأَسْفَلُ مِنَ الْكَعْبَيْنِ أَوِ الْأَعْلَى كَمَا قَالُوا فِي آيَةِ الْوُضُوءِ؟ الظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، وَالْمَرْجِعُ إِلَى الْقَدْرِ الْمُعْتَدِلِ أَوِ الْغَالِبِ، لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَرْتَفِعُ كَعْبُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْخَفِضُ وَيَدْنُو مِنْ أَسْفَلِ الرِّجْلِ وَالْأَقْرَبُ الْأَوَّلُ.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَحْبِسُ الْأَعْلَى مِنَ الْمَاءِ مَا بَلَغَ الْكَعْبَ وَيُرْسِلُ مَا زَادَ عَلَيْهِ لِلَّذِي يَلِيهِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَهُوَ الْأَظْهَرُ.وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُرْسِلُ جَمِيعَ الْمَاءِ وَلَا يَحْبِسُ شَيْئًا مِنْهُ (أَيْ بَعْدَ سَقْيِ أَرْضِهِ).
ثَانِيًا: النَّهْرُ الْخَاصُّ (الْمَمْلُوكُ) وَحَقُّ الِانْتِفَاعِ
11- إِذَا كَانَ النَّهْرُ مَمْلُوكًا لِشَخْصٍ، كَأَنْ شَقَّ شَخْصٌ لِنَفْسِهِ نَهْرًا مِنَ الْأَنْهَارِ غَيْرِ الْمَمْلُوكَةِ أَصْبَحَ مَالِكًا لَهُ وَكَانَ أَحَقَّ بِهِ لِسَقْيِ أَرْضِهِ وَدَوَابِّهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مُزَاحَمَتُهُ أَوْ سَقْيُ أَرْضٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ زَرْعٍ مِنْهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إِذْنِهِ.
فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مَنْ سَقَى أَرْضَهُ أَوْ زَرَعَهُ مِنْ نَهْرِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ- سَوَاءٌ اضْطُرَّ إِلَى ذَلِكَ أَوْ لَا- لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَخَذَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ يُؤَدِّبْهُ السُّلْطَانُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ إِنْ رَأَى ذَلِكَ.
وَلَكِنْ لِلْغَيْرِ حَقُّ الشُّرْبِ لِنَفْسِهِ وَدَوَابِّهِ إِلاَّ إِذَا خِيفَ تَخْرِيبُ النَّهْرِ بِكَثْرَةِ الدَّوَابِّ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: وَالشَّفَةُ إِذَا كَانَتْ تَأْتِي عَلَى الْمَاءِ كُلِّهِ بِأَنْ كَانَ جَدْوَلًا صَغِيرًا وَفِيمَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوَاشِي كَثْرَةٌ تَقْطَعُ الْمَاءَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَمْنَعُ، وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: يَمْنَعُ لِلضَّرَرِ وَجُزِمَ بِالثَّانِي فِي الْمُلْتَقَى.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَيْسَ لِمَالِكِ النَّهْرِ أَنْ يَمْنَعَ مَا لِلشُّرْبِ وَالِاسْتِعْمَالِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ وَلَوْ بِدَلْوٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ أَنَّهُ لَا يُدْلِي أَحَدٌ فِيهِ دَلْوًا.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: الشُّرْبُ وَسَقْيُ الدَّوَابِّ مِنَ الْجَدَاوِلِ وَالْأَنْهَارِ الْمَمْلُوكَةِ إِذَا كَانَ السَّقْيُ لَا يَضُرُّ بِمَالِكِهَا جَائِزٌ، إِقَامَةً لِلْإِذْنِ الْعُرْفِيِّ مَقَامَ اللَّفْظِيِّ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ كَانَ النَّهْرُ لِمَنْ لَا يُعْتَبَرُ إِذْنُهُ كَالْيَتِيمِ وَالْأَوْقَافِ الْعَامَّةِ فَعِنْدِي فِيهِ وَقْفَةٌ، وَالظَّاهِرُ الْجَوَازُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَسْتَقِيَ مِنَ الْمَاءِ الْجَارِي لِشُرْبِهِ وَغَسْلِهِ وَغَسْلِ ثِيَابِهِ وَيَنْتَفِعَ بِهِ فِي أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ إِذَا لَمْ يَدْخُلْ إِلَيْهِ فِي مَكَانٍ مَحُوطٍ عَلَيْهِ، وَلَا يَحِلُّ لِصَاحِبِهِ الْمَنْعُ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ كَانَ لَهُ فَضْلُ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ فَمَنَعَهُ مِنَ ابْنِ السَّبِيلِ»....«وَعَنْ بُهَيْسَةَ عَنْ أَبِيهَا أَنَّهُ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: الْمَاءُ، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ: مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: الْمِلْحُ، قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: أَنْ تَفْعَلَ الْخَيْرَ خَيْرٌ لَكَ».فَأَمَّا مَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَاءِ كَسَقْيِ الْمَاشِيَةِ الْكَثِيرَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ: فَإِنْ فَضَلَ الْمَاءُ عَنْ حَاجَةِ صَاحِبِهِ لَزِمَهُ بَذْلُهُ لِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْ حَاجَتِهِ لَمْ يَلْزَمْ بَذْلُهُ.
ثَالِثًا: النَّهْرُ دَاخِلُ الْمِلْكِ:
12- إِذَا كَانَ النَّهْرُ دَاخِلَ مِلْكِ رَجُلٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ غَيْرَهُ مِنَ الدُّخُولِ فِي أَرْضِهِ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ فِي الْجُمْلَةِ.
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي ذَلِكَ بَيَانُهُ كَالْآتِي:
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْمَاءُ الَّذِي يَكُونُ فِي الْحِيَاضِ وَالْآبَارِ وَالْعُيُونِ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لِصَاحِبِهِ بَلْ هُوَ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ أَوْ مَمْلُوكَةٍ، لَكِنْ لَهُ حَقٌّ خَاصٌّ فِيهِ، لِأَنَّ الْمَاءَ فِي الْأَصْلِ خُلِقَ مُبَاحًا لِحَدِيثِ: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ» وَالشَّرِكَةُ الْعَامَّةُ تَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ، فَلَوْ كَانَ النَّهْرُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يُرِيدُ مِنَ الشُّرْبِ لِنَفْسِهِ أَوْ مَاشِيَتِهِ مِنَ الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ، لِأَنَّ الدُّخُولَ إِلَى أَرْضِهِ إِضْرَارٌ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ مَنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ يَجِدُ مَاءً بِقُرْبِهِ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً بِقُرْبِهِ وَاضْطُرَّ لِلدُّخُولِ وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ وَدَابَّتِهِ الْهَلَاكَ فَيُقَالُ لِصَاحِبِ النَّهْرِ: إِمَّا أَنْ تَأْذَنَ بِالدُّخُولِ لِيَأْخُذَ الْمَاءَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكْسِرَ ضَفَّةَ النَّهْرِ، وَإِمَّا أَنْ تُخْرِجَ الْمَاءَ إِلَيْهِ وَتُعْطِيَهُ بِنَفْسِكَ.فَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ وَمَنَعَهُ مِنَ الدُّخُولِ فَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ بِالسِّلَاحِ لِيَأْخُذَ قَدْرَ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ الْهَلَاكُ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا وَرَدُوا مَاءً فَسَأَلُوا أَهْلَهُ أَنْ يَدُلُّوهُمْ عَلَى الْبِئْرِ فَأَبَوْا، وَسَأَلُوهُمْ أَنْ يُعْطُوهُمْ دَلْوًا فَأَبَوْا، فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّ أَعْنَاقَنَا وَأَعْنَاقَ مَطَايَانَا كَادَتْ تُقْطَعُ فَأَبَوْا، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِسَيِّدِنَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- فَقَالَ: هَلاَّ وَضَعْتُمْ فِيهِمُ السِّلَاحَ. وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَا كَانَ مِنَ الْمَاءِ فِي أَرْضٍ مُتَمَلَّكَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْتَنْبَطًا مِثْلَ بِئْرٍ يَحْفِرُهَا أَوْ عَيْنٍ يَسْتَخْرِجُهَا، أَوْ غَيْرَ مُسْتَنْبَطٍ غَدِيرًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَيَحِلُّ لَهُ بِيعُهُ وَمَنْعُ النَّاسِ مِنْهُ إِلاَّ بِثَمَنٍ، إِلاَّ أَنْ يَرِدَ عَلَيْهِ قَوْمٌ لَا ثَمَنَ مَعَهُمْ وَيَخَافُ عَلَيْهِمُ الْهَلَاكَ إِنْ مَنَعَهُمْ فَحَقَّ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَمْنَعَهُمْ.
فَإِنْ مَنَعَهُمْ فَعَلَيْهِمْ مُجَاهَدَتُهُ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ: وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ خَافَ عَلَى مُسْلِمٍ الْمَوْتَ أَنْ يُحْيِيَهُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَيَجِبُ عَلَى أَصْحَابِ الْمِيَاهِ بَيْعُهَا مِنَ الْمُسَافِرِينَ بِمَا تُسَاوِي، وَلَا يَشْتَطُّوا عَلَيْهِمْ فِي ثَمَنِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُسَافِرُونَ لَا ثَمَنَ مَعَهُمْ وَجَبَتْ مُوَاسَاتُهُمْ لِلْخَوْفِ عَلَيْهِمْ وَلَا يُتْبِعُوا بِالثَّمَنِ وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ أَمْوَالٌ بِبَلَدِهِمْ، لِأَنَّهُمُ الْيَوْمَ أَبْنَاءُ سَبِيلٍ يَجُوزُ لَهُمْ أَخْذُ الزَّكَاةِ لِوُجُوبِ مُوَاسَاتِهِمْ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْمِيَاهُ الْمُخْتَصَّةُ بِبَعْضِ النَّاسِ وَهِيَ مِيَاهُ الْآبَارِ وَالْقَنَوَاتِ، كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ أَوِ انْفَجَرَ فِيهِ عَيْنٌ مَلَكَهَا وَمَلَكَ مَاءَهَا فِي الْأَصَحِّ، إِذِ الْمَاءُ يُمْلَكُ، وَهُوَ نَمَاءُ مِلْكِهِ كَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ، لَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُ الْفَاضِلِ مِنْهُ عَنْ شُرْبِهِ لِشُرْبِ غَيْرِهِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ وَعَنْ مَاشِيَتِهِ وَزَرْعِهِ لِمَاشِيَةِ غَيْرِهِ.
وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ: أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمَاءَ، لِخَبَرِ: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ» وَسَوَاءٌ مَلَكَ الْمَاءَ عَلَى الصَّحِيحِ أَوْ لَا، لَا يَلْزَمُهُ بَذْلُ مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ لِزَرْعٍ وَشَجَرٍ، وَيَجِبُ بَذْلُ الْفَاضِلِ مِنْهُ عَنْ شُرْبِهِ لِشُرْبِ غَيْرِهِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ وَالْفَاضِلِ عَنْ مَاشِيَتِهِ وَزَرْعِهِ لِمَاشِيَةِ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ بَذْلُهُ لِلْمَاشِيَةِ دُونَ الزَّرْعِ لِحُرْمَةِ الرُّوحِ، وَقِيلَ: يَجِبُ بَذْلُهُ لِلزَّرْعِ كَالْمَاشِيَةِ، وَقِيلَ: لَا يَجِبُ لِلْمَاشِيَةِ كَالْمَاءِ الْمُحْرَزِ وَإِنَّمَا يَجِبُ الْبَذْلُ لِلْمَاشِيَةِ إِنْ كَانَ هُنَاكَ كَلأٌَ مُبَاحٌ وَلَمْ يَجِدْ مَاءً مَبْذُولًا لَهُ وَلَمْ يُحْرِزْهُ فِي إِنَاءٍ وَنَحْوِهُ، وَإِلاَّ فَلَا يَجِبُ بَذْلُهُ.وَحَيْثُ وَجَبَ الْبَذْلُ لَمْ يَجُزْ أَخْذُ عِوَضٍ عَلَيْهِ فَإِنْ صَحَّ بَيْعُ الطَّعَامِ لِلْمُضْطَرِّ، لِصِحَّةِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ.
وَيُشْتَرَطُ فِي بَيْعِ الْمَاءِ التَّقْدِيرُ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ لَا بِرَيِّ الْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمَاءَ لِحَدِيثِ: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ»، وَمَا فَضَلَ مِنْ مَائِهِ الَّذِي لَمْ يُحْرِزْهُ عَنْ حَاجَتِهِ وَحَاجَةِ عِيَالِهِ وَحَاشِيَتِهِ وَدِرْعِهِ يَجِبُ بَذْلُهُ لِبَهَائِمِ غَيْرِهِ وَزَرْعِهِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «لَا تَمْنَعُوا فَضْلَ الْمَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ فَضْلَ الْكَلَإِ».
وَهَذَا مَا لَمْ يَجِدْ رَبُّ الْبَهَائِمِ أَوِ الزَّرْعِ مَاءً مُبَاحًا فَيَسْتَغْنِي بِهِ فَلَا يَجِبُ الْبَذْلُ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَكَذَا إِذَا كَانَ الْبَاذِلُ لِلْمَاءِ يَتَضَرَّرُ فَلَا يَلْزَمُهُ الْبَذْلُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ طَالِبُ الْمَاءِ يُؤْذِي صَاحِبَهُ بِدُخُولِهِ فِي أَرْضِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَمْنَعَهُ دَفْعًا لِلْأَذَى.
رَابِعًا: النَّهْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ وَحَقُّ الِانْتِفَاعِ بِهِ:
13- إِذَا كَانَ النَّهْرُ مَمْلُوكًا لِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ فِي النَّهْرِ أَنْ يَشُقَّ مِنْهُ نَهْرًا أَوْ يَنْصِبَ عَلَيْهِ رَحًى أَوْ دَالِيَةً أَوْ جِسْرًا أَوْ قَنْطَرَةً أَوْ يُوَسِّعَ فَمَ النَّهْرِ أَوْ يَسُوقَ نَصِيبَهُ إِلَى أَرْضٍ لَهُ أُخْرَى إِلاَّ بِرِضَا شُرَكَائِهِ لِأَنَّهُمْ قَدْ يَتَضَرَّرُونَ بِذَلِكَ.
وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الشُّرَكَاءِ فِي النَّهْرِ أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمْ، فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْخَانِيَّةِ أَنَّ النَّهْرَ إِذَا كَانَ خَاصًّا بِقَوْمٍ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَسْقِيَ بُسْتَانَهُ أَوْ أَرْضَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِمْ، فَإِنْ أَذِنُوا إِلاَّ وَاحِدًا أَوْ كَانَ فِيهِمْ صَبِيٌّ أَوْ غَائِبٌ لَا يَسَعُ الرَّجُلَ أَنْ يَسْقِيَ مِنْهُ أَرْضَهُ أَوْ زَرْعَهُ.
وَفِي الْأُمِّ: لَوْ أَنَّ جَمَاعَةً كَانَ لَهُمْ مِيَاهٌ بِبَادِيَةٍ فَسَقَوْا مِنْهَا وَاسْتَقَوْا وَفَضَلَ مِنْهَا شَيْءٌ، فَجَاءَ مَنْ لَا مَاءَ لَهُ يَطْلُبُ أَنْ يَشْرَبَ أَوْ يَسْقِيَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ دُونَ وَاحِدٍ لَمْ يَجُزْ لِمَنْ مَعَهُ فَضْلٌ مِنَ الْمَاءِ- وَإِنْ قَلَّ- مَنْعُهُ إِيَّاهُ إِنْ كَانَ فِي عَيْنٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ نَهْرٍ، لِأَنَّهُ فَضْلُ مَاءٍ يَزِيدُ وَيُسْتَخْلَفُ.
كَيْفِيَّةُ قِسْمَةِ مَاءِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ:
14- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ فِي حَفْرِ النَّهْرِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَاءِ هَذَا النَّهْرِ فِي شُرْبِهِ وَسَقْيِ أَرْضِهِ، فَإِنْ تَرَاضَوْا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى كَيْفِيَّةٍ خَاصَّةٍ فِي الِانْتِفَاعِ جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَجُوزُ أَنْ يَقْتَسِمَ الشُّرَكَاءُ مَاءَ النَّهْرِ بِالْمُهَايَأَةِ إِذَا تَرَاضَوْا عَلَى ذَلِكَ وَكَانَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَعْلُومًا، مِثْلَ أَنْ يَجْعَلُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ حِصَّةً يَوْمًا وَلَيْلَةً، أَوْ أَنْ يَجْعَلُوا لِوَاحِدٍ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى الزَّوَالِ، وَلِلْآخَرِ مِنَ الزَّوَالِ إِلَى الْغُرُوبِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، أَوِ اقْتَسَمُوهُ بِالسَّاعَاتِ وَأَمْكَنَ ضَبْطُ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ جَازَ إِذَا تَرَاضَوْا بِهِ، لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ لَا يَتَجَاوَزُهُمْ، أَوْ أَنْ يَسْقِيَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَوْمًا، أَوْ بَعْضُهُمْ يَسْقِي يَوْمًا وَبَعْضُهُمْ يَسْقِي أَكْثَرَ بِحَسَبِ حِصَّتِهِ وَيُسْتَأْنَسُ لِذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}.
قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَإِذَا اقْتَسَمُوا بِالْمُهَايَأَةِ جَازَ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمُ الرُّجُوعُ مَتَى شَاءَ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِنْ رَجَعَ وَقَدْ أَخَذَ نَوْبَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ الْآخَرُ نَوْبَتَهُ فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ نَوْبَتِهِ مِنَ النَّهْرِ لِلْمُدَّةِ الَّتِي أَخَذَ نَوْبَتَهُ فِيهَا.
وَقِيلَ: تَلْزَمُ الْمُهَايَأَةُ لِيَثِقَ كُلُّ وَاحِدٍ بِالِانْتِفَاعِ، وَقِيلَ: لَا تَصِحُّ الْقِسْمَةُ بِالْمُهَايَأَةِ، لِأَنَّ الْمَاءَ يَقِلُّ وَيَكْثُرُ، وَتَخْتَلِفُ فَائِدَةُ السَّقْيِ بِالْأَيَّامِ.
15- وَإِنْ تَشَاحَّ الشُّرَكَاءُ فِي قِسْمَةِ الْمَاءِ أَوْ ضَاقَ عَنْهُمْ قَسَمَهُ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمْ.
وَطَرِيقَةُ ذَلِكَ- كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- بِنَصْبِ نَحْوِ خَشَبَةٍ أَوْ حَجَرٍ فِي عُرْضِ النَّهْرِ مُسْتَوِيَةِ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَسَطِ، مَوْضُوعَةٍ بِمُسْتَوٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَفِيهَا ثُقُبٌ مُتَسَاوِيَةٌ أَوْ مُتَفَاوِتَةٌ عَلَى قَدْرِ الْحِصَصِ مِنَ النَّهْرِ، لِأَنَّهُ طَرِيقٌ فِي اسْتِيفَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ حِصَّتَهُ.
فَإِنْ كَانَتْ أَمْلَاكُهُمْ مُسْتَوِيَةً فَوَاضِحٌ.
وَإِنْ كَانَتْ أَمْلَاكُهُمْ مُخْتَلِفَةً قَسَّمَ الْمَاءَ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ لِوَاحِدٍ النِّصْفُ وَلآِخَرَ الثُّلْثُ وَلآِخَرَ السُّدْسُ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ فِي الْخَشَبَةِ سِتَّ ثُقُبٍ، لِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةُ ثُقُوبٍ تَصُبُّ فِي سَاقِيَتِهِ، وَلِصَاحِبِ الثُّلْثِ اثْنَانِ يَصُبَّانِ فِي سَاقِيَتِهِ، وَلِصَاحِبِ السُّدْسِ وَاحِدٌ يَصُبُّ فِي سَاقِيَتِهِ.
وَإِنْ كَانَ لِوَاحِدٍ الْخُمُسَانِ، وَالْبَاقِي لِاثْنَيْنِ يَتَسَاوَيَانِ فِيهِ، جَعَلَ فِي الْخَشَبَةِ عَشَرَةَ ثُقُوبٍ، لِصَاحِبِ الْخَمْسِينَ أَرْبَعَةٌ تَصُبُّ فِي سَاقِيَتِهِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْآخَرِينَ ثَلَاثَةٌ تَصُبُّ فِي سَاقِيَتِهِ. وَإِنْ كَانَ النَّهْرُ لِعَشَرَةٍ، لِخَمْسَةٍ مِنْهُمْ أَرَاضٍ قَرِيبَةٌ مِنْ أَوَّلِ النَّهْرِ، وَلِخَمْسَةٍ أَرَاضٍ بَعِيدَةٌ جَعَلَ لِأَصْحَابِ الْأَرْضِ الْقَرِيبَةِ خَمْسَةَ ثُقُوبٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثُقْبٌ، وَجَعَلَ لِلْبَاقِينَ خَمْسَةً تَجْرِي فِي النَّهْرِ حَتَّى تَصِلَ إِلَى أَرْضِهِمْ، ثُمَّ تُقَسَّمَ بَيْنَهُمْ قِسْمَةً أُخْرَى.
وَمَا حَصَلَ لِأَحَدِهِمْ فِي سَاقِيَتِهِ تَصَرَّفَ فِيهِ بِمَا أَحَبَّ، فَكُلُّ وَاحِدٍ يَصْنَعُ بِنَصِيبِهِ مَا شَاءَ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا كَانَ نَهْرٌ بَيْنَ قَوْمٍ وَاخْتَصَمُوا فِي الشُّرْبِ كَانَ الشُّرْبُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرَاضِيهِمْ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِانْتِفَاعُ بِسَقْيِ الْأَرَاضِي فَيُتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَعْلَى مِنْهُمْ لَا يَشْرَبُ حَتَّى يَسْكَرَ النَّهْرُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ حَقِّ الْبَاقِينَ وَلَكِنَّهُ يَشْرَبُ بِحِصَّتِهِ.
فَإِنْ تَرَاضَوْا عَلَى أَنْ يَسْكُرَ الْأَعْلَى النَّهْرَ حَتَّى يَشْرَبَ بِحِصَّتِهِ أَوِ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يَسْكُرَ كُلٌّ مِنْهُمْ فِي نَوْبَتِهِ جَازَ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ، إِلاَّ أَنَّهُ إِذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ بِلَوْحٍ فَلَا يَسْكُرُ بِمَا يَنْكَبِسُ بِهِ النَّهْرُ كَالطِّينِ وَغَيْرِهِ، لِكَوْنِهِ إِضْرَارًا بِهِمْ بِمَنْعِ مَا فَضَلَ مِنَ السَّكْرِ عَنْهُمْ، إِلاَّ إِذَا رَضُوا بِذَلِكَ.
فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمُ الشُّرْبُ إِلاَّ بِالسَّكْرِ وَلَمْ يَصْطَلِحُوا عَلَى شَيْءٍ فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِأَهْلِ الْأَسْفَلِ حَتَّى يَرْوُوا، ثُمَّ بَعْدَهُ لِأَهْلِ الْأَعْلَى أَنْ يَسْكُرُوا.
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه-: «أَهْلُ أَسْفَلِ النَّهْرِ أُمَرَاءٌ عَلَى أَهْلِ أَعْلَاهُ حَتَّى يَرْوُوا».لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا أَهْلَ الْأَعْلَى مِنَ السَّكْرِ، وَعَلَيْهِمْ طَاعَتُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَمَنْ لَزِمَكَ طَاعَتُهُ فَهُوَ أَمِيرُكَ.
وَفِي الدُّرِّ الْمُنْتَقَى: قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَاسْتَحْسَنَ مَشَايِخُ الْأَنَامِ قَسْمَ الْإِمَامِ بِالْأَيَّامِ، أَيْ إِذَا لَمْ يَصْطَلِحُوا وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِلَا سَكْرٍ يَقْسِمُ الْإِمَامُ بَيْنَهُمْ بِالْأَيَّامِ فَيَسْكُرُ كُلٌّ فِي نَوْبَتِهِ.
قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: فِيهِ دَفْعُ الضَّرَرِ الْعَامِّ وَقَطْعُ التَّنَازُعِ وَالْخِصَامِ، إِذْ لَا شَكَّ أَنَّ لِكُلِّ شَرِيكٍ فِي هَذَا الْمَاءِ حَقًّا، فَتَخْصِيصُ أَهْلِ الْأَسْفَلِ بِهِ حِينَ قِلَّةِ الْمَاءِ فِيهِ ضَرَرٌ لِأَهْلِ الْأَعْلَى، كَذَا تَخْصِيصُ أَهْلِ الْأَعْلَى بِهِ فِيهِ ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْكُلِّ، فَلِذَا اسْتَحْسَنُوا مَا ذَكَرُوا وَارْتَضَوْهُ. وَلَوْ كَانَتْ قِسْمَةُ الْمَاءِ وَقَعَتْ بِالْكِوَى- بِكَسْرِ الْكَافِ جَمْعُ كَوَّةٍ بِفَتْحِهَا: الثُّقْبُ- فَأَرَادَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ أَنْ يَقْسِمَ بِالْأَيَّامِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَلِأَنَّ الْقَدِيمَ يُتْرَكُ عَلَى قِدَمِهِ لِظُهُورِ الْحَقِّ فِيهِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنِ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ عَلَى إِجْرَاءِ الْمَاءِ بِأَرْضٍ مُبَاحَةٍ أَوْ أَرْضِهِمُ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُمْ أَوْ عَلَى حَفْرِ بِئْرٍ أَوْ عَيْنٍ قُسِّمَ الْمَاءُ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ أَعْمَالِهِمْ بِقِلْدٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى إِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَإِذَا قُسِّمَ الْمَاءُ بِالْقِلْدِ فَإِنَّهُ يُرَاعَى اخْتِلَافُ كَثْرَةِ الْجَرْيِ وَقِلَّتِهِ، فَإِنَّ جَرْيَهُ عِنْدَ كَثْرَتِهِ أَقْوَى مِنْ جَرْيِهِ عِنْدَ قِلَّتِهِ، فَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ لِأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، وَإِنْ تَشَاحُّوا فِي التَّبْدِئَةِ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ بِالتَّقْدِيمِ قُدِّمَ.
مُؤْنَةُ كِرَى الْأَنْهَارِ (عِمَارَتُهَا وَإِصْلَاحُهَا):
16- الْأَنْهَارُ إِمَّا عَامَّةٌ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لِأَحَدٍ أَوْ خَاصَّةٌ مَمْلُوكَةٌ لِشَخْصٍ أَوْ أَكْثَرَ.
وَيَخْتَلِفُ مَنْ يَتَحَمَّلُ كِرَى الْأَنْهَارِ وَإِصْلَاحَهَا بِاخْتِلَافِ نَوْعِ النَّهْرِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أَوَّلًا: الْأَنْهَارُ الْعَامَّةُ:
17- كَرْيُ الْأَنْهَارِ الْعَامَّةِ كَالنِّيلِ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ يَكُونُ عَلَى السُّلْطَانِ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْكَرْيِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَتَكُونُ مُؤْنَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ».
وَتَكُونُ الْمُؤْنَةُ مِنْ مَالِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ دُونَ الْعُشُورِ وَالصَّدَقَاتِ، لِأَنَّ الْعُشُورَ وَالصَّدَقَاتِ لِلْفُقَرَاءِ، وَالْخَرَاجَ وَالْجِزْيَةَ لِلنَّوَائِبِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ يَكُونُ كَرْيُهُ عَلَى النَّاسِ، فَإِنِ امْتَنَعُوا أَجْبَرَ الْإِمَامُ النَّاسَ عَلَى كَرْيِهِ إِحْيَاءً لِمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، إِذْ هُمْ لَا يُقِيمُونَهَا بِأَنْفُسِهِمْ، قَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه-: لَوْ تُرِكْتُمْ لَبِعْتُمْ أَوْلَادَكُمْ.
إِلاَّ أَنَّ الْإِمَامَ يُخْرِجُ لِلْكَرْيِ مَنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ وَيُطِيقُهُ، وَيَجْعَلُ مُؤْنَتَهُ عَلَى الْمَيَاسِيرِ الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا يَفْعَلُ فِي تَجْهِيزِ الْجُيُوشِ، لِأَنَّهُ يُخْرِجُ مَنْ كَانَ يُطِيقُ الْقِتَالَ، وَيَجْعَلُ مُؤْنَتَهُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، كَذَا هَاهُنَا.
وَلَوْ خِيفَ مِنْ هَذِهِ الْأَنْهَارِ الْغَرَقُ فَعَلَى السُّلْطَانِ إِصْلَاحُ مَسَنَاتِهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
ثَانِيًا: الْأَنْهَارُ الْمَمْلُوكَةُ:
18- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْأَنْهَارَ الْمَمْلُوكَةَ يَكُونُ كَرْيُهَا وَإِصْلَاحُهَا وَعِمَارَتُهَا عَلَى مَنْ يَمْلِكُونَهَا، لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ وَالْمَنْفَعَةَ تَعُودُ عَلَيْهِمْ عَلَى الْخُصُوصِ وَالْخُلُوصِ.
كَيْفِيَّةُ الْكَرْيِ وَالْإِصْلَاحِ:
19- يَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ كَرْيِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ وَإِصْلَاحِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي:
عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَكُونُ كَرْيُ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ وَإِصْلَاحُهُ عَلَى الشُّرَكَاءِ بِحَسَبِ مِلْكِهِمْ فِيهِ.
وَيُوَضِّحُ الْحَنَابِلَةُ الْكَيْفِيَّةَ الَّتِي يَتِمُّ بِهَا الْإِصْلَاحُ فَيَقُولُونَ: إِذَا كَانَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ فِي النَّهْرِ أَقْرَبَ إِلَى أَوَّلِهِ مِنْ بَعْضٍ اشْتَرَكَ الْكُلُّ فِي كَرْيِهِ وَإِصْلَاحِهِ حَتَّى يَصِلُوا إِلَى الْأَوَّلِ، ثُمَّ إِذَا وَصَلُوا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْأَوَّلِ بَعْدَ ذَلِكَ لِانْتِهَاءِ اسْتِحْقَاقِهِ، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَيَشْتَرِكُ الْبَاقُونَ حَتَّى يَصِلُوا إِلَى الثَّانِي ثُمَّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ يَشْتَرِكُ مِنْ بَعْدِ الثَّانِي حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الثَّالِثِ، ثُمَّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَكَذَا كُلَّمَا انْتَهَى الْعَمَلُ إِلَى مَوْضِعِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيمَا بَعْدَهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ فِيمَا وَرَاءَ مَوْضِعِهِ.
فَإِنْ كَانَ يَفْضُلُ عَنْ جَمِيعِهِمْ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَى مَصْرَفٍ فَمُؤْنَتُهُ عَلَى جَمِيعِهِمْ، لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ، فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُمْ عَلَيْهِ كَأَوَّلِهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مُؤْنَةُ كَرْيِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَعْلَاهُ فَإِذَا جَاوَزُوا أَرْضَ رَجُلٍ مِنْهُمْ بَرِئَ مِنْ مُؤْنَةِ الْكَرْيِ، وَيُوَضِّحُ ابْنُ عَابِدِينَ ذَلِكَ فَيَقُولُ: بَيَانُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الشُّرَكَاءُ فِي النَّهْرِ عَشَرَةً فَعَلَى كُلٍّ عُشْرُ الْمُؤْنَةِ فَإِذَا جَاوَزُوا أَرْضَ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَهِيَ عَلَى التِّسْعَةِ الْبَاقِينَ أَتْسَاعًا لِعَدَمِ نَفْعِ الْأَوَّلِ فِيمَا بَعْدَ أَرْضِهِ، وَهَكَذَا فَمَنْ فِي الْآخِرِ أَكْثَرُهُمْ غَرَامَةً لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ إِلاَّ إِذَا وَصَلَ الْكَرْيُ إِلَى أَرْضِهِ وَدُونَهُ فِي الْغَرَامَةِ مَنْ قَبْلَهُ إِلَى الْأَوَّلِ وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْكَرْيَ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ، وَالْمِلْكُ فِي الْأَعْلَى مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْكُلِّ مِنْ فُوَّهَةِ النَّهْرِ إِلَى مَشْرَبِ أَوَّلِهِمْ، فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَى الْكُلِّ، فَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا مِلْكَ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى فِيهِ إِنَّمَا لَهُ حَقٌّ، وَهُوَ حَقُّ تَسْيِيلِ الْمَاءِ فِيهِ، فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ عَلَى صَاحِبِ الْمِلْكِ لَا عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ، وَلِهَذَا كَانَتْ مُؤْنَةُ الْكَرْيِ عَلَى أَصْحَابِ النَّهْرِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ: الْكَرْيُ عَلَى جَمِيعِ الشُّرَكَاءِ مِنْ أَوَّلِ النَّهْرِ إِلَى آخِرِهِ لِاشْتِرَاكِهِمْ وَانْتِفَاعِهِمْ بِهِ، وَقَالَ الصَّاحِبَانِ بِحِصَصِ الشُّرْبِ وَالْأَرَضِينَ كَمَا يَسْتَوُونَ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى حَقًّا فِي الْأَسْفَلِ لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى تَسْيِيلِ مَا فَضَلَ مِنَ الْمَاءِ فِيهِ.
20- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ الشَّفَةِ مِنَ الْكَرْيِ شَيْءٌ، لِأَنَّ الْكَرْيَ مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ لِأَهْلِ الشَّفَةِ فِي رَقَبَةِ النَّهْرِ، بَلْ لَهُمْ حَقُّ شُرْبِ الْمَاءِ وَالسَّقْيِ لِلدَّوَابِّ فَقَطْ، وَلِأَنَّهُمْ لَا يُحْصُونَ، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الدُّنْيَا جَمِيعًا.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
140-موسوعة الفقه الكويتية (هلاك)
هَلَاكٌالتَّعْرِيفُ
1- الْهَلَاكُ: مَصْدَرٌ لِفِعْلِ هَلَكَ، يُقَالُ: هَلَكَ الشَّيْءُ هَلْكًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَهَلَاكًا، وَهُلُوكًا: مَاتَ.
وَيَتَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ، يُقَالُ: أَهْلَكْتُهُ.
وَفِي لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ: فَيُقَالُ: هَلَكْتُهُ، وَيُسْتَعْمَلُ عَلَى فَقْدِ الشَّيْءِ مَعَ وُجُودِهِ مَعَ غَيْرِهِ.وَعَلَى السُّقُوطِ، وَالْفَسَادِ، وَمَصِيرِ الشَّيْءِ إِلَى حَيْثُ لَا يُدْرَى أَيْنَ هُوَ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ خُرُوجُ الشَّيْءِ عَنِ الِانْتِفَاعِ الْمَقْصُودِ بِهِ سَوَاءٌ بَقِيَ أَوْ لَمْ يَبْقَ أَصْلًا.
وَالْهَلَاكُ يُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْمَوْتِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْفَنَاءُ:
2- الْفَنَاءُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ فَنَى أَيْ بَادَ وَانْتَهَى وُجُودُهُ يُقَالُ: فَنَى فُلَانٌ أَيْ هَرِمَ وَأَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ.
وَاصْطِلَاحًا: صَيْرُورَةُ الشَّيْءِ مَعْدُومًا بِذَاتِهِ أَوْ بِأَجْزَائِهِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ أَصْلًا.
وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْهَلَاكِ وَالْفَنَاءِ: أَنَّ الْفَنَاءَ أَعَمُّ مِنَ الْهَلَاكِ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْهَلَاكِ:
يَتَعَلَّقُ بِالْهَلَاكِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
أ- هَلَاكُ الْمَبِيعِ:
3- إِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَهُوَ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَإِنْ هَلَكَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ عَلِمَ عَيْبًا بَعْدَ هَلَاكِهِ كَأَنْ تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا، أَوْ خَرَجَ عَنْ قَبُولِ النَّقْلِ كَأَنْ يَعْتِقَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ أَوْ وَقَفَهُ أَوِ اسْتَوْلَدَ الْأَمَةَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ الْعَيْبَ، أَوْ جَعَلَ الشَّاةَ أُضْحِيَّةً ثُمَّ عَلِمَ بِالْعَيْبِ رَجَعَ بِالْأَرْشِ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ حِسًّا فِي حَالَةِ التَّلَفِ، وَلِعَدَمِ قَبُولِ النَّقْلِ فِي حَالَاتِ الْإِعْتَاقِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالْوَقْفِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَمْنَعُ النَّقْلَ.أَمَّا الْهَلَاكُ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ انْتَهَى بِهِ، وَالِامْتِنَاعُ حُكْمِيٌّ لَا بِفِعْلِهِ، وَأَمَّا الْإِعْتَاقُ فَإِنَّهُ إِنْهَاءٌ لِلْمِلْكِ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ لَمْ يُخْلَقْ لِلْمِلْكِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمَلِكُ مُوَقَّتًا إِلَى الْإِعْتَاقِ فَكَانَ الْإِنْهَاءُ بِهِ كَالْمَوْتِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (بَيْع ف 59، عَيْب ف 6، وَمَا بَعْدَهَا، تَلَف ف9 وَمَا بَعْدَهَا، ضَمَان ف 31 وَمَا بَعْدَهَا).
وَفَصَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فَقَالُوا: إِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ هَلَاكِهِ عَيْبًا قَدِيمًا فِيهِ فَإِنْ لَمْ يُدَلِّسْهُ الْبَائِعُ بِأَنْ لَمْ يَعْلَمْهُ رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِأَرْشِ الْعَيْبِ فَقَطْ.
أَمَّا إِنْ هَلَكَ بِسَبَبِ عَيْبٍ دَلَّسَهُ الْبَائِعُ بِأَنْ عَلِمَهُ وَكَتَمَهُ أَوْ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فِي زَمَنِ تَلَبُّسِهِ بِالْعَيْبِ الْمُدَلَّسِ كَمَوْتِهِ فِي إِبَاقِهِ كَأَنِ اقْتَحَمَ نَهْرًا فِي إِبَاقِهِ أَوْ تَرَدَّى فِي نَهْرٍ وَنَحْوِهِ، أَوْ دَخَلَ جُحْرًا فَنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ حُكْمًا كَأَنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ خَبَرٌ فِي زَمَنِ إِبَاقِهِ الَّذِي دُلِّسَ فِيهِ فَهَلَكَ، أَوْ غَابَ وَلَمْ يَدْرِ حَيَاتَهُ وَلَا مَوْتَهُ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ الْمُدَلِّسِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لَا بِالْأَرْشِ فَقَطْ.
وَإِنْ مَاتَ بِسَمَاوِيٍّ فِي غَيْرِ حَالَةِ تَلَبُّسِهِ بِعَيْبِ التَّدْلِيسِ فَلَا يَرْجِعُ بِثَمَنِهِ بَلْ يَرْجِعُ بِالْأَرْشِ الْقَدِيمِ فَقَطْ وَإِنْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ اطِّلَاعِهِ عَلَى الْعَيْبِ فَهَلَكَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ بِعَيْبِ التَّدْلِيسِ رَجَعَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ الْمُدَلِّسِ، إِنْ لَمْ يُمْكِنْ رُجُوعُهُ عَلَى بَائِعِهِ لِعَدَمِهِ أَوْ غَيْبَتِهِ وَلَا مَالَ لَهُ حَاضِرٌ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهُ الْمُدَلِّسُ، لِكَشْفِ الْعَيْبِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ بِتَدْلِيسِهِ.فَإِنْ سَاوَى مَا أَخَذَهُ مَا خَرَجَ مِنْ يَدِهِ فَوَاضِحُ.
وَإِنْ زَادَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ الْمَأْخُوذُ مِنَ الْمُدَلِّسِ عَلَى مَا أَخَذَهُ مِنْهُ الْبَائِعُ الثَّانِي فَالزِّيَادَةُ لِلْبَائِعِ الثَّانِي وَهُوَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ يَحْفَظُهُ لَهُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي حَتَّى يَدْفَعَهُ لَهُ أَوْ لِوَرَثَتِهِ، وَإِنْ نَقَصَ الْمَأْخُوذُ مِنَ الْمُدَلِّسِ عَلَى مَا خَرَجَ مِنْ يَدِهِ فَهَلْ يُكْمِلُهُ الْبَائِعُ الثَّانِي لِلْمُشْتَرِي مِنْهُ لِأَنَّهُ قَبَضَ هَذَا الزَّائِدَ مِنْهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِهِ أَوْ لَا يُكْمِلُهُ لَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ بِاتِّبَاعِ الْأَوَّلِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الثَّانِي فِيهِ قَوْلَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:
الْأَوَّلُ: حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ وَابْنُ شَاسٍ، وَالثَّانِي حَكَاهُ فِي النَّوَادِرِ وَفِي كِتَابِ ابْنِ يُونُسَ.
ب- سُقُوطُ الزَّكَاةِ بِهَلَاكِ الْمَالِ مَحَلِّ الْوُجُوبِ:
4- إِنْ هَلَكَ الْمَالُ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ أَوْ بَعْدَ تَمَامِهِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ تَسْقُطُ الزَّكَاةُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَالِكِ.وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ أَدَائِهَا تَسْتَقِرُّ فِي ذِمَّةِ الْمَالِكِ فَتَصِيرُ عَلَيْهِ دَيْنًا لِلتَّقْصِيرِ فِي تَأْخِيرِ إِخْرَاجِهَا فَيَكُونُ ضَامِنًا.وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَلَف ف 4 وَمَا بَعْدَهَا).
ج- هَلَاكُ الْمَالِ بَعْدَ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ:
5- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ هَلَاكَ الْمَالِ بَعْدَ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ لَا يُسْقِطُهَا إِنْ كَانَ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ إِخْرَاجِهَا.أَمَّا بَعْدَ الْوُجُوبِ وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ فَتَسْقُطُ عَنْهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي (تَلَف ف 5 وَمَا بَعْدَهَا).
د- هَلَاكُ الْأُضْحِيَّةِ:
6- إِنْ عَيَّنَ شَاةً أَوْ بَدَنَةً لِلْأُضْحِيَّةِ: كَأَنْ يَقُولَ: جَعَلْتُ هَذِهِ الشَّاةَ أُضْحِيَّةً، أَوْ نَذَرَ: كَأَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُضَحِّيَ هَذِهِ الْبَدَنَةَ أَوِ الشَّاةَ فَمَاتَتْ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، أَوْ سُرِقَتْ قَبْلَ تَمَكُّنِهِ مِنْ ذَبْحِهَا يَوْمَ النَّحْرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.وَكَذَا الْهَدْيُ الْمُعَيَّنُ إِذَا تَلِفَ قَبْلَ بُلُوغِ الْمَنْسَكِ أَوْ بَعْدَهُ وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَبْحِهِ.
أَمَّا إِنْ تَلِفَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَبْحِهِ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَلَف ف 6، هَدْي ف 7).
هـ- هَلَاكُ الْمَهْرِ:
7- إِذَا هَلَكَ الْمَهْرُ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي ضَمَانِهِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ كَوْنِ هَلَاكِهِ فِي يَدِ الزَّوْجَةِ أَوْ فِي يَدِ الزَّوْجِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ كَانَ الْهَلَاكُ بِفِعْلِ أَحَدِهِمَا أَوْ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ.
وَانْظُرْ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مَهْر ف 54).
و- هَلَاكُ الْمَرْهُونِ:
8- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ عَلَى الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ يَدُ أَمَانَةٍ فَلَا يَضْمَنُ إِنْ هَلَكَتْ بِغَيْرِ تَعَدٍّ؛ لِخَبَرِ: «لَا يَغْلَقُ الرَّهْنُ، لِصَاحِبِهِ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ».
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهَا يَدُ ضَمَانٍ فَيَضْمَنُ الْمُرْتَهِنُ إِنْ هَلَكَ بِيَدِهِ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنَ الدَّيْنِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ يَضْمَنُ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَرْهُونُ عِنْدَ أَمِينٍ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ فَلَا يَضْمَنُ إِلاَّ بِتَعَدٍّ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (رَهَنَ ف 18 وَمَا بَعْدَهَا).
ز- هَلَاكُ الْمُعَارِ:
9- لَا خِلَافَ بَيْنِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْعَارِيَّةَ إِنْ هَلَكَتْ بِتَعَدٍّ مِنَ الْمُسْتَعِيرِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي هَلَاكِ الْمُعَارِ بِغَيْرِ تَعَدٍّ مِنَ الْمُسْتَعِيرِ.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (عَارِيَة ف 15).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
141-موسوعة الفقه الكويتية (وضوء 1)
وُضُوءٌ-1التَّعْرِيفُ:
1- الْوُضُوءُ فِي اللُّغَةِ: مِنَ الْوَضَاءَةِ: أَيِ الْحُسْنِ وَالنَّظَافَةِ، وَقَدْ وَضُؤَ- مِنْ بَابِ كَرُمَ- وَضَاءَةً، مِثْلُ ضَخُمَ ضَخَامَةً: حَسُنَ وَنَظُفَ، وَوَضَّأَهُ: جَعَلَهُ يَتَوَضَّأُ، وَتَوَضَّأَ: غَسَلَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ وَنَظَّفَهَا، وَتَوَضَّأَ الْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ: أَدْرَكَا حَدَّ الْبُلُوغِ.
وَالْمِيضَأَةُ: بِكَسْرِ الْمِيمِ: الْمَوْضِعُ يُتَوَضَّأُ فِيهِ وَمِنْهُ، وَالْمِطْهَرَةُ: يُتَوَضَّأُ مِنْهَا.
وَالْوُضُوءُ- بِالضَّمِّ- الْفِعْلُ، وَبِالْفَتْحِ: الْمَاءُ يُتَوَضَّأُ بِهِ.
وَقِيلَ: الْوُضُوءُ بِالْفَتْحِ- مَصْدَرٌ أَيْضًا، أَوْ هُمَا لُغَتَانِ قَدْ يُعْنَى بِهِمَا الْمَصْدَرُ، وَقَدْ يُعْنَى بِهِمَا الْمَاءُ.
وَالْوُضُوءُ شَرْعًا: عَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ بِتَعْرِيفَاتِ مِنْهَا: قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الْوُضُوءُ هُوَ الْغَسْلُ وَالْمَسْحُ عَلَى أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: هُوَ طِهَارَةٌ مَائِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِأَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ- وَهِيَ الْأَعْضَاءُ الْأَرْبَعَةُ- عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: هُوَ أَفْعَالٌ مَخْصُوصَةٌ مُفْتَتَحَةٌ بِالنِّيَّةِ، أَوْ هُوَ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِي أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ مُفْتَتَحًا بِالنِّيَّةِ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: هُوَ اسْتِعْمَالُ مَاءٍ طَهُورٍ فِي الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ، (وَهِيَ الْوَجْهُ وَالْيَدَانِ، وَالرَّأْسُ، وَالرِّجْلَانِ)، عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ فِي الشَّرْعِ، بِأَنْ يَأْتِيَ بِهَا مُرَتَّبَةً مُتَوَالِيَةً مَعَ بَاقِي الْفُرُوضِ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْغَسْلُ:
2- الْغَسْلُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ غَسَلَ، يُقَالُ: غَسَلَ يَغْسِلُهُ غَسْلًا: أَزَالَ عَنْهُ الْوَسَخَ وَنَظَّفَهُ بِالْمَاءِ، وَيُضَمُّ- أَيْ تُضَمُّ الْغَيْنُ- أَوْ: بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ، وَبِالضَّمِّ اسْمٌ، وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ الْمَضْمُومَ وَالْمَفْتُوحَ بِمَعْنًى، وَعَزَاهُ إِلَى سِيبَوَيْهِ.
وَمِنْ مَعَانِي الْغُسْلِ- بِالضَّمِّ- فِي اللُّغَةِ: تَمَامُ الطِّهَارَةِ.كَمَا قَالَ ابْنُ الْقُوطِيَّةِ.
وَالْغُسْلُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: اسْتِعْمَالُ مَاءٍ طَهُورٍ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا رَافِعٌ لِلْحَدَثِ، لَكِنَّ الْوُضُوءَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ الْأَصْغَرَ، وَالْغُسْلَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ الْأَكْبَرَ.
ب- الطَّهَارَةُ:
3- الطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ نَقِيضُ النَّجَاسَةِ، وَهِيَ النَّقَاءُ مِنَ النَّجَاسَةِ وَالدَّنَسِ.يُقَالُ: طَهَّرَهُ بِالْمَاءِ: غَسَلُهُ بِهِ، وَالتَّطَهُّرُ: التَّنَزُّهُ، وَالْكَفُّ عَنِ الْإِثْمِ.
وَالطَّهَارَةُ فِي الِاصْطِلَاحِ: ارْتِفَاعُ الْحَدَثِ- أَكْبَرَ كَانَ أَوْ أَصْغَرَ، أَيْ زَوَالُ الْوَصْفِ الْمَانِعِ مِنَ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا- وَمَا فِي مَعْنَاهُ، وَزَوَالُ النَّجَسِ أَوِ ارْتِفَاعُ حُكْمِ ذَلِكَ.
وَالصِّلَةُ أَنَّ الطَّهَارَةَ أَعَمُّ مِنَ الْوُضُوءِ.
ج- التَّيَمُّمُ:
4- التَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ: التَّوَخِّي وَالتَّعَمُّدُ وَالْقَصْدُ، يُقَالُ: تَيَمَّمْتُ الصَّعِيدَ تَيَمُّمًا وَتَأَمَّمْتُ أَيْضًا: قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} أَيِ اقْصِدُوا الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: عَرَّفَهُ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ: مَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِصَعِيدٍ طَاهِرٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.
وَالصِّلَةُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ طَهَارَةٌ وَرَفْعٌ لِلْحَدَثِ، لَكِنَّ الْوُضُوءَ مِنَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَهُوَ طَهَارَةٌ مَائِيَّةٌ، أَمَّا التَّيَمُّمُ فَيَكُونُ مِنْ أَيٍّ مِنَ الْحَدَثَيْنِ: الْأَصْغَرِ أَوِ الْأَكْبَرِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِيهِ الصَّعِيدُ الطَّاهِرُ.
الْوُضُوءُ مِنَ الشَّرَائِعِ الْقَدِيمَةِ:
5- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ- إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ مِنَ الشَّرَائِعِ الْقَدِيمَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي تِلْكَ الشَّرَائِعِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم-، بِدَلِيلِ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: «ثُمَّ دَعَا- أَيِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي» وَمَا ثَبَتَ لِلْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَثْبُتُ لِأُمَمِهِمْ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ «إِبْرَاهِيمَ- عليه السلام- لَمَّا مَرَّ عَلَى الْجَبَّارِ وَمَعَهُ سَارَّةُ.أَنَّهَا لَمَّا دَخَلَتْ عَلَى الْجَبَّارِ تَوَضَّأَتْ وَصَلَّتْ وَدَعَتِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ» وَمَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ جُرَيْجٍ الرَّاهِبِ لَمَّا رَمَوْهُ بِالْمَرْأَةِ أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَصَلَّى، ثُمَّ قَالَ لِلْغُلَامِ: مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: هَذَا الرَّاعِي.
وَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي هُوَ مِنْ خَصَائِصِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- إِنَّمَا هُوَ الْكَيْفِيَّةُ الْمَخْصُوصَةُ، أَوْ أَثَرُ الْوُضُوءِ، وَهُوَ بَيَاضُ مَحَلِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُسَمَّى بِالْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ مِنْ خَصَائِصَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، مُسْتَدِلِّينَ بِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ، تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ».
مَكَانُ فَرْضِ الْوُضُوءِ وَزَمَانُهُ:
6- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فُرِضَ بِمَكَّةَ مَعَ فَرْضِ الصَّلَاةِ، وَالْمَعِيَّةُ هُنَا لِلْمَكَانِ لَا لِلزَّمَانِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَبْلَ الِافْتِرَاضِ بِلَا وُضُوءٍ، وَقَدْ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ قَطْعًا، وَلَمْ يُصَلِّ قَطُّ إِلاَّ بِوُضُوءٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا مِمَّا لَا يَجْهَلُهُ عَالِمٌ، وَلَمْ يُنْقَلْ وُقُوعُ صَلَاةٍ لِغَيْرِ عُذْرٍ بِدُونِهِ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» أَيْ بِالْمَاءِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ» فَأَطْلَقَ الشَّارِعُ عَلَى التَّيَمُّمِ أَنَّهُ وُضُوءٌ لِكَوْنِهِ قَامَ مَقَامَهُ.
وَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الْوُضُوءَ شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا إِذَا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، وَلَمْ يَظْهَرْ نَسْخُهُ.وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَرَأْيٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ فَائِدَةَ نُزُولِ آيَةِ الْوُضُوءِ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، مَعَ أَنَّ الْوُضُوءَ فُرِضَ بِمَكَّةَ: تَقْرِيرُ حُكْمِهِ الثَّابِتِ، فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عِبَادَةً مُسْتَقِلَّةً، بَلْ تَابِعًا لِلصَّلَاةِ احْتُمِلَ أَنْ لَا تَهْتَمَّ الْأُمَّةُ بِشَأْنِهِ، وَأَنْ يَتَسَاهَلُوا فِي شَرَائِطِهِ وَأَرْكَانِهِ بِطُولِ الْعَهْدِ عَنْ زَمَنِ الْوَحْيِ وَانْتِقَاصِ النَّاقِلِينَ يَوْمًا فَيَوْمًا، بِخِلَافِ مَا إِذَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ الْمُتَوَاتِرِ الْبَاقِي فِي كُلِّ زَمَانٍ وَعَلَى كُلِّ لِسَانٍ.
وَمِنَ الْفَائِدَةِ كَذَلِكَ تَأَتِّي اخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ الَّذِي هُوَ رَحْمَةٌ، وَذَلِكَ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ، كَالنِّيَّةِ، وَالدَّلْكِ، وَالتَّرْتِيبِ، وَقَدْرِ الْمَسْمُوحِ، وَنَقْضِهِ بِالْمَسِّ، وَكَذَلِكَ اشْتِمَالُ الْآيَةِ عَلَى أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ مَبْسُوطَةٍ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لَا يُصَلُّونَ إِلاَّ بِالْوُضُوءِ، لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ أَوِ النَّظَافَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الشَّرَائِعِ الْقَدِيمَةِ، كَمَا دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا.
وَكَانَ الْوُضُوءُ وَاجِبًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ لِكُلِّ صَلَاةٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ثُمَّ نُسِخَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ- إِلاَّ مَعَ الْحَدَثِ- وَصَارَ يُؤَدَّى بِهِ صَلَوَاتٌ كَثِيرَةٌ مَعَ بَقَاءِ طَلَبِهِ. (ر: شَرْع مَنْ قَبْلَنَا ف 3).
مَشْرُوعِيَّةُ الْوُضُوءِ:
7- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ:
فَمِنَ الْكِتَابِ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}.قَالُوا: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْوُضُوءِ، أَوْ هِيَ آيَةُ الْوُضُوءِ كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ، وَظَاهِرُهَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْوُضُوءِ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ إِلَى الصَّلَاةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ- مُحْدِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ- وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ، قَالُوا: مَعْنَاهُ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ.وَإِنَّمَا أَضْمَرَ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ كَرَاهَةَ أَنْ يَفْتَتِحَ آيَةَ الطَّهَارَةِ بِذِكْرِ الْحَدَثِ كَمَا قَالَ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} وَلَمْ يَقُلْ هُدًى لِلضَّالِّينَ الصَّائِرِينَ إِلَى التَّقْوَى بَعْدَ الضَّلَالِ، كَرَاهَةَ أَنْ يَفْتَتِحَ أُولَى الزَّهْرَاوَيْنِ بِذِكْرِ الضَّلَالَةِ.
وَمِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طَهُورٍ».
وَأَجْمَعَ أَهِلُ السِّيَرِ أَنَّ الْوُضُوءَ فُرِضَ بِمَكَّةَ مَعَ فَرْضِ الصَّلَاةِ بِتَعْلِيمِ جِبْرِيلَ- عليه السلام-، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْوُضُوءِ وَوُجُوبِهِ.
مُنْكِرُ وُجُوبِ الْوُضُوءِ:
8- نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ وُجُوبَ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ يَكْفُرُ، لِإِنْكَارِهِ النَّصَّ الْقَطْعِيَّ، وَهُوَ آيَةُ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} وَلِإِنْكَارِهِ الْإِجْمَاعَ.
وَأَضَافَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مُنْكِرَ وُجُوبِ الْوُضُوءِ إِنْ كَانَ إِنْكَارُهُ وُجُوبَ الْوُضُوءِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ لَا يَكْفُرُ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ لِمَسِّ الْمُصْحَفِ، لِوُقُوعِ الْخِلَافِ فِي تَفْسِيرِ آيَتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}.
تَرَكَ الْوُضُوءَ عَمْدًا ثُمَّ صَلَّى مُحْدِثًا:
9- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْتَخِفُّ بِالدِّينِ يَكْفُرُ- كَالصَّلَاةِ بِلَا وُضُوءٍ عَمْدًا-.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَنْ تَرَكَ الطَّهَارَةَ يُقْتَلُ بِهَا كَالصَّلَاةِ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ تَعَمَّدَ تَرْكَ الْوُضُوءِ ثُمَّ صَلَّى مُحْدِثًا، اسْتُتِيبَ فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ حَدًّا لَا كُفْرًا.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ تَرَكَ شَرْطًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ أَوْ رُكْنًا كَالطَّهَارَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَهُوَ كَتَارِكِهَا، حُكْمُهُ حُكْمُهُ، وَقَالُوا: مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَهُوَ بَالِغٌ عَاقِلٌ- جَاحِدًا أَوْ غَيْرَ جَاحِدٍ- دُعِيَ إِلَيْهَا فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ صَلَّى وَإِلاَّ قُتِلَ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْوُضُوءِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ مَا يُتَوَضَّأُ لِأَجْلِهِ، وَتَفْصِيلُهُ فِيمَا يَلِي:
أَوَّلًا: مَا يَكُونُ الْوُضُوءُ لَهُ فَرْضًا:
أ- الصَّلَاةُ:
10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فَرْضٌ عَلَى الْمُحْدِثِ إِذَا أَرَادَ الْقِيَامَ لِصَلَاةِ الْفَرْضِ أَوِ النَّفْلِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ صَلَاةً مِنْ غَيْرِ طَهُورٍ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فَرْضٌ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَامِلَةً.وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ، إِذْ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عِنْدَهُمْ مَا يُشْتَرَطُ لِبَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ مِنَ الطَّهَارَةِ الْحُكْمِيَّةِ أَوِ الطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّةِ بَدَنًا وَثَوْبًا وَمَكَانًا وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَالنِّيَّةِ.
(ر: جَنَائِز ف22)
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فُرِضَ لِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ مَا يُشْتَرَطُ لِلصَّلَاةِ.
(ر: سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ ف3)
ب- الطَّوَافُ
11- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ- إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فُرِضَ لِلطَّوَافِ فَرْضِهِ وَنَفْلِهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «الطَّوَافُ حَوْلَ الْبَيْتِ مِثْلُ الصَّلَاةِ، إِلاَّ أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلَا يَتَكَلَّمَنَّ إِلاَّ بِخَيْرٍ».
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لِلطَّوَافِ وَاجِبٌ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِالْحَدِيثِ الْآنِفِ الذِّكْرِ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ الْجُمْهُورُ وَقَالُوا: إِنَّهُ لَمَّا أَشْبَهَ الطَّوَافُ الصَّلَاةَ مِنْ وَجْهٍ قُلْنَا بِوُجُوبِ الطَّهَارَةِ وَعَدَمِ تَوَقُّفِ صِحَّتِهِ عَلَيْهَا، وَزَادُوا: إِذَا طَافَ الطَّائِفُ الْفَرْضَ مُحْدِثًا وَجَبَ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ جُنُبًا فَبَدَنَةٌ، وَإِذَا طَافَ الْوَاجِبَ كَالْوَدَاعِ أَوِ النَّفْلَ مُحْدِثًا فَصَدَقَةٌ، وَجُنُبًا فَدَمٌ.
ج- مَسُّ الْمُصْحَفِ:
12- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي فَرْضِيَّةِ الْوُضُوءِ لِمَسِّ الْمُصْحَفِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوُضُوءَ فُرِضَ لِمَسِّ الْمُصْحَفِ لقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}.
(ر: مُصْحَف ف 4- 11) ثَانِيًا: مَا يَكُونُ الْوُضُوءُ لَهُ سُنَّةً:
13- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ غَيْرَ الْبَغَوِيِّ بِأَنَّ الْوُضُوءَ لِلنَّوْمِ سُنَّةٌ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِحَدِيثِ: «إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ».
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْوُضُوءَ لِلنَّوْمِ مُسْتَحَبٌّ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ وُضُوءُ الْجُنُبِ لِلنَّوْمِ سُنَّةٌ وَفِي قَوْلٍ: إِنَّهُ وَاجِبٌ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِنَّ النُّوَّمَ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْوُضُوءُ.
ثَالِثًا: مَا يَكُونُ الْوُضُوءُ لَهُ مَنْدُوبًا:
ضَابِطُ الْوُضُوءِ الْمَنْدُوبِ: كُلُّ وُضُوءٍ لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ مَا يُفْعَلُ بِهِ بَلْ مِنْ كَمَالَاتِ مَا يُفْعَلُ بِهِ.
يَكُونُ الْوُضُوءُ مَنْدُوبًا فِي أَحْوَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: أ- قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ
14- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَةِ الْحَدِيثِ وَرِوَايَتِهِ.
ب- ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى:
15- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِاسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
(ر: ذِكْر ف 28).
ج- الْأَذَانُ:
5 ام- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ: الْوُضُوءُ لِلْأَذَانِ.
(ر: أَذَان ف33).
د- الْإِقَامَةُ:
16- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْوُضُوءِ لِلْإِقَامَةِ. (ر: إِقَامَة ف 11).
هـ- الْخُطْبَةُ:
17- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِلْخُطْبَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي عَقِبَ الْخُطْبَةِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِطَهَارَةٍ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَطَهِّرًا، وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ- صلى الله عليه وسلم- إِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَهُوَ سُنَّةٌ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْقَوْلِ الْمُقَابِلِ لِلْمَشْهُورِ أَنَّ الطَّهَارَةَ عَنِ الْحَدَثِ مِنْ شُرُوطِ الْخُطْبَةِ.
(ر: خُطْبَة ف11)
و- دِرَاسَةُ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ:
18- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِدِرَاسَةِ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ، وَقَالَ الْحَطَّابُ نَقْلًا عَنِ الشَّبِيبِيِّ: مِنَ الْمُبَاحِ الْوُضُوءُ لِتَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمِهِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ.
ز- الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ:
19- يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لِشَرَفِ الْمَكَانِ وَمُبَاهَاةِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ بِالْوَاقِفِينَ، كَمَا يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِلسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِأَدَاءِ الْعِبَادَةِ وَشَرَفِ الْمَكَانَيْنِ.
ح- زِيَارَةُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-:
20- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِزِيَارَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- تَعْظِيمًا لِحَضْرَتِهِ وَدُخُولِ مَسْجِدِهِ.
ط- الْوُضُوءُ عَلَى الْوُضُوءِ:
21- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ.
(ر: تَجْدِيد ف2) ي- وُضُوءُ الْجُنُبِ عِنْدَ إِرَادَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَمُعَاوَدَةِ الْوَطْءِ وَالنَّوْمِ:
22- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْجُنُبِ الْوُضُوءُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَمُعَاوَدَةِ الْوَطْءِ وَالنَّوْمِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ غَسَلَ فَرْجَهُ وَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ».
وَلِحَدِيثِ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «إِذَا كَانَ جُنُبًا فَأَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَنَامَ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ» وَلِحَدِيثِ «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضَّأْ».
قَالَ الطَّحْطَاوِيُّ: أَمَّا الْوُضُوءُ بَيْنَ الْجِمَاعَيْنِ وَعِنْدَ النَّوْمِ فَالْمُرَادُ بِهِ الشَّرْعِيُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَالْجُمْهُورِ لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ غَسَلَ فَرْجَهُ وَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ».
أَمَّا الْوُضُوءُ عِنْدَ إِرَادَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَالْمُرَادُ بِهِ اللُّغَوِيُّ؛ لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ وَهُوَ جُنُبٌ غَسَلَ يَدَيْهِ» قَالَ فِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ: وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ بَيْنَ الْجِمَاعَيْنِ بَلْ هُوَ جَائِزٌ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَيْسَ عَلَى الْجُنُبِ وُضُوءٌ عِنْدَ إِرَادَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَوْ مُعَاوَدَةِ الْجِمَاعِ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ غَسْلُ يَدَيْهِ مِنَ الْأَذَى إِذَا أَرَادَ الْأَكْلَ كَمَا يُسْتَحَبُّ لَهُ غَسْلُ فَرْجِهِ وَمَوَاضِعِ النَّجَاسَةِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُعَاوِدَ الْجِمَاعَ، أَمَّا إِذَا أَرَادَ النَّوْمَ فَفِي وُضُوئِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُنْدَبُ لَهُ الْوُضُوءُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ يُسَنُّ لَهُ الْوُضُوءُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوء.
ك- الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْوُضُوءِ:
23- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُنْدَبُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْوُضُوءِ، وَتَفْسِيرُهُ: أَنْ يَتَوَضَّأَ كُلَّمَا أَحْدَثَ لِيَكُونَ عَلَى الْوُضُوءِ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا.
ل- الْوُضُوءُ خُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ:
24- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلَافِ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ كَمَا إِذَا مَسَّ امْرَأَةً مُشْتَهَاةً غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ، أَوْ فَرْجَهُ بِبَطْنِ كَفِّهِ لِتَكُونَ عِبَادَتُهُ صَحِيحَةً بِالِاتِّفَاقِ عَلَيْهَا اسْتِبْرَاءً لِدِينِهِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْإِفْسَادِ.
(ر: مُرَاعَاة الْخِلَاف فِقْرَة 2- 4)
رَابِعًا: مَا يُبَاحُ لَهُ الْوُضُوءُ:
25- صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْوُضُوءَ الْمُبَاحَ هُوَ الْوُضُوءُ لِلتَّنْظِيفِ وَالتَّبَرُّدِ، وَقَالَ الشَّبِيبِيُّ: مِنَ الْمُبَاحِ الْوُضُوءُ لِتَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَتَعْلِيمِهِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ.
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: الْوُضُوءُ الْمُبَاحُ هُوَ الْوُضُوءُ لِلدُّخُولِ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَلِرُكُوبِ الْبَحْرِ وَشِبْهِهِ مِنَ الْمَخَاوِفِ، وَلِيَكُونَ الشَّخْصُ عَلَى طَهَارَةٍ وَلَا يُرِيدَ بِهِ اسْتِبَاحَةَ صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا يَمْنَعُهُ الْحَدَثُ.ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يُقَالُ فِي هَذَا كُلِّهِ: إِنَّهُ مِنَ الْمُسْتَحِبَّاتِ.
وَاسْتَظْهَرَ الْحَطَّابُ فِي هَذَا كُلِّهِ الِاسْتِحْبَابَ مَا عَدَا التَّنْظِيفَ وَالتَّبَرُّدَ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ.
وَهَذَا الْوُضُوءُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ مَا لَمْ يَنْوِهِ؛ لِأَنَّ مَا قَصَدَهُ يَصِحُّ فِعْلُهُ مَعَ بَقَاءِ الْحَدَثِ.
خَامِسًا: الْوُضُوءُ الْمَمْنُوعُ:
26- نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ الْمَمْنُوعَ هُوَ الْمُجَدَّدُ قَبْلَ أَنْ تُفْعَلَ بِهِ عِبَادَةٌ، وَالْوُضُوءُ لِغَيْرِ مَا شُرِعَ لَهُ الْوُضُوءُ أَوْ أُبِيحَ.
انْظُرِ الْمُصْطَلَحَ (تَجْدِيد ف2)
فَضِيلَةُ الْوُضُوءِ:
27- وَرَدَتْ عِدَّةُ أَحَادِيثَ فِي فَضْلِ الْوُضُوءِ وَسُقُوطِ الْخَطَايَا بِهِ، مِنْهَا:
مَا رَوَى أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الطَّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ».
وَرَوَى «عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ مِثْلَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ قَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ هَكَذَا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
وَعَنْ عُثْمَانَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ».
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ، أَوْ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، إِلاَّ فُتِّحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ، «وَفِي رِوَايَةٍ»: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ».
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ».
شُرُوطُ الْوُضُوءِ:
28- شُرُوطُ الْوُضُوءِ مِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِهِ وَصِحَّتِهِ مَعًا.
وَالْمُرَادُ بِشُرُوطِ الْوُجُوبِ: هِيَ مَا إِذَا اجْتَمَعَتْ وَجَبَتِ الطَّهَارَةُ عَلَى الشَّخْصِ.
وَشُرُوطُ الصِّحَّةِ هِيَ مَا لَا تَصِحُّ الطَّهَارَةُ إِلاَّ بِهَا، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ بَلْ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَجْهِيٌّ.
أَوَّلًا: شُرُوطُ وُجُوبِ الْوُضُوءِ:
أ- الْعَقْلُ:
29- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْعَقْلَ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ إِذْ لَا خِطَابَ بِدُونِ الْعَقْلِ وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ وَصِحَّتِهِ مَعًا وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوُضُوءِ.
ب- الْبُلُوغُ:
30- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْبُلُوغَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ لِعَدَمِ تَكْلِيفِ الْقَاصِرِ، أَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ فَيَصِحُّ وُضُوؤُهُ.
ج- الْإِسْلَامُ:
31- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْوُضُوءِ، إِذْ لَا يُخَاطَبُ كَافِرٌ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ.
كَمَا يَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْمَشْهُورِ أَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ وَالصِّحَّةِ مَعًا.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ أَنَّ الْإِسْلَامَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْوُضُوءِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ يُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ.
د- انْقِطَاعُ مَا يُنَافِي الْوُضُوءَ مِنْ حَيْضٍ وَنِفَاسٍ:
32- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ انْقِطَاعَ مَا يُنَافِي الْوُضُوءَ مِنْ حَيْضٍ وَنِفَاسٍ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ وَصِحَّتِهِ مَعًا.
هـ- وُجُودُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ الطَّهُورِ الْكَافِي:
33- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ وُجُودَ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ الطَّهُورِ الْكَافِي.
فَلَا يَجِبُ الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ عَدِمَ الْمَاءَ، وَالْحَاجَةُ إِلَى الْمَاءِ تَنْفِيهِ حُكْمًا، فَلَا قُدْرَةَ إِلاَّ بِالْمَاءِ الْكَافِي لِجَمِيعِ الْأَعْضَاءِ مَرَّةً مَرَّةً، وَغَيْرُهُ كَالْعَدَمِ.
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ وُجُودَ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَالْعِلْمَ بِأَنَّهُ مُطْلَقٌ وَلَوْ ظَنًّا عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى اشْتِرَاطِ طَهُورِيَّةِ الْمَاءِ.
و- الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ:
34- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ الْقُدْرَةَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى عَاجِزٍ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرِ، وَلَا عَلَى مَنْ قُطِعَتْ يَدَاهُ مِنَ الْمَرْفِقَيْنِ، وَرِجْلَاهُ مِنَ الْكَعْبَيْنِ.
ز- وُجُودُ الْحَدَثِ:
35- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ وُجُودَ الْحَدَثِ الْمُوجِبِ لِلْوُضُوءِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْوُضُوءِ.
نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ فِي مُوجِبِهِ أَوْجُهًا:
أَحَدُهَا: الْحَدَثُ مَعَ الِانْقِطَاعِ فَيَجِبُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا.
ثَانِيهَا: الْقِيَامُ إِلَى الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا.
ثَالِثُهَا: هُمَا مَعًا وَهُوَ الْأَصَحُّ فِي التَّحْقِيقِ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْوُضُوءِ الْحَدَثُ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ.
وَفِي الِانْتِصَارِ: يَجِبُ بِإِرَادَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْحَدَثِ.قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَا تَجِبُ الطَّهَارَةُ قَبْلَ إِرَادَةِ الصَّلَاةِ بَلْ تُسْتَحَبُّ.
أَمَّا إِذَا شَكَّ فِي الْحَدَثِ وَتَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّ عَلَيْهِ الْوُضُوءَ وُجُوبًا، وَقِيلَ: اسْتِحْبَابًا.
انْظُرْ مُصْطَلَحَ (شَكّ ف 14).
ح- ضِيقُ الْوَقْتِ:
36- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ ضِيقَ الْوَقْتِ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ، وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ الْمُضَيَّقِ، لِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ مُضَيَّقًا حِينَئِذٍ وَمُوَسَّعًا فِي ابْتِدَائِهِ، بِمَعْنَى أَنَّ وُجُوبَ الْوُضُوءِ مُوَسَّعٌ بِدُخُولِ الْوَقْتِ كَالصَّلَاةِ، فَإِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ صَارَ الْوُجُوبُ فِيهِمَا مُضَيَّقًا.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ دُخُولَ وَقْتِ الصَّلَاةِ الْحَاضِرَةِ وَتَذَكُّرَ الْفَائِتَةِ.
وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيُتَوَجَّهُ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْوُضُوءَ يَجِبُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ إِذَنْ وَوُجُوبِ الشَّرْطِ بِوُجُوبِ الْمَشْرُوطِ.
ط- بُلُوغُ دَعْوَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-:
37- صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْوُضُوءِ وَوُجُوبِهِ بُلُوغَ دَعْوَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمُكَلَّفِ.
ثَانِيًا: شُرُوطُ صِحَّةِ الْوُضُوءِ:
أ- عُمُومُ الْبَشَرَةِ بِالْمَاءِ الطَّهُورِ:
38- صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْوُضُوءِ عُمُومَ الْبَشَرَةِ بِالْمَاءِ الطَّهُورِ، أَيْ بِأَنْ يَعُمَّ الْمَاءُ جَمِيعَ الْمَحَلِّ الْوَاجِبِ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ، حَتَّى لَوْ بَقِيَ مِقْدَارُ مَغْرِزِ إِبْرَةٍ لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ مِنَ الْمَفْرُوضِ غَسْلُهُ لَمْ يَصِحَّ الْوُضُوءُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: مِنْ شُرُوطِ الْوُضُوءِ أَنْ يَغْسِلَ مَعَ الْمَغْسُولِ جُزْءًا يَتَّصِلُ بِالْمَغْسُولِ وَيُحِيطُ بِهِ، لِيَتَحَقَّقَ بِهِ اسْتِيعَابُ الْمَغْسُولِ.
ب- زَوَالُ مَا يَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ إِلَى الْجَسَدِ:
39- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْوُضُوءِ زَوَالُ مَا يَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ إِلَى الْجَسَدِ لِجِرْمِهِ الْحَائِلِ كَشَمْعٍ وَشَحْمٍ وَعَجِينٍ وَطِينٍ.
وَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِزَالَةَ مَانِعِ وُصُولِ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ مِنْ شُرُوطِ الْوُضُوءِ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ: وَأَنْ لَا يَكُونَ عَلَى الْعُضْوِ مَا يُغَيِّرُ الْمَاءَ تَغَيُّرًا مُضِرًّا.قَالَ فِي الْإِمْدَادِ: وَمِنْهُ الطِّيبُ الَّذِي يُحَسَّنُ بِهِ الشَّعْرُ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُنَشَّفُ وَيَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ لِلْبَاطِنِ، فَيَجِبُ إِزَالَتُهُ وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ.
ج- انْقِطَاعُ الْحَدَثِ حَالَ التَّوَضُّؤِ:
40- يَرَى الْفُقَهَاءُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) أَنَّ انْقِطَاعَ الْحَدَثِ حَالَ التَّوَضُّؤِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ بِظُهُورِ بَوْلٍ وَسَيَلَانٍ نَاقِضٍ لَا يَصِحُّ الْوُضُوءُ.
د- الْعِلْمُ بِكَيْفِيَّةِ الْوُضُوءِ:
41- ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ- ضِمْنَ شُرُوطِ الْوُضُوءِ- مَعْرِفَةَ كَيْفِيَّةِ الْوُضُوءِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمُتَوَضِّئِ أَنْ يُمَيِّزَ فَرَائِضَ الْوُضُوءِ مِنْ سُنَنِهِ، أَوْ يَعْتَقِدَ أَنَّ فِيهِ فَرْضًا وَسُنَّةً وَإِنْ لَمْ يُمَيِّزْ أَحَدَهُمَا عَنِ الْآخَرِ، أَوْ يَعْتَقِدَ أَنَّ أَفْعَالَهُ كُلَّهَا فَرْضٌ.
وَالْمُضِرُّ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ فِيهِ فُرُوضًا وَسُنَنًا وَيَعْتَقِدَ أَنَّ الْفَرْضَ سُنَّةٌ.
وَهَذَا فِي حَقِّ الْعَامِّيِّ، أَمَّا الْعَالِمُ فَلَا بُدَ فِيهِ مِنَ التَّمْيِيزِ.
هـ- عَدَمُ الصَّارِفِ عَنِ الْوُضُوءِ:
42- ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ شُرُوطِ الْوُضُوءِ عَدَمَ صَارِفٍ عَنِ الْوُضُوءِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِدَوَامِ النِّيَّةِ حُكْمًا: بِأَنْ لَا يَأْتِيَ بِمُنَافٍ لِلنِّيَّةِ كَرِدَّةٍ أَوْ قَوْلِ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا بِنِيَّةِ التَّبَرُّكِ أَوْ قَطْعٍ لِلنِّيَّةِ.
و- جَرْيُ الْمَاءِ عَلَى الْعُضْوِ:
43- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْوُضُوءِ جَرْيَ الْمَاءِ عَلَى الْعُضْوِ، وَقَالُوا: لَا يَمْنَعُ مَنْ عَدَّ هَذَا شَرْطًا كَوْنَهُ مَعْلُومًا مِنْ مَفْهُومِ الْغُسْلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يَعُمُّ النَّضْحَ.
ز- النِّيَّةُ:
44- عَدَّ الْحَنَابِلَةُ مِنْ شُرُوطِ الْوُضُوءِ النِّيَّةَ لِخَبَرِ «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» أَيْ لَا عَمَلَ جَائِزٌ وَلَا فَاضِلٌ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، وَلِأَنَّ النَّصَّ دَلَّ عَلَى الثَّوَابِ فِي كُلِّ وُضُوءٍ وَلَا ثَوَابَ فِي غَيْرِ مَنْوِيٍّ؛ وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ وَمِنْ شُرُوطِ الْعِبَادَةِ النِّيَّةُ؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يُعْلَمْ إِلاَّ مِنَ الشَّارِعِ فَهُوَ عِبَادَةٌ.
ح- إِبَاحَةُ الْمَاءِ:
45- يَرَى الْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْوُضُوءِ إِبَاحَةَ الْمَاءِ لِحَدِيثِ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» فَلَا يَصِحُّ الْوُضُوءُ بِمَاءٍ مُحَرَّمِ الِاسْتِعْمَالِ كَالْمَغْصُوبِ وَنَحْوِهِ، وَعَنْ أَحْمَدَ: تَصِحُّ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ الْمَغْصُوبِ وَتُكْرَهُ.
شُرُوطُ الْوُضُوءِ فِي حَقِّ صَاحِبِ الضَّرُورَةِ:
46- يَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لِوُضُوءِ صَاحِبِ الضَّرُورَةِ- وَهُوَ مَنْ حَدَثُهُ دَائِمٌ كَسَلَسٍ وَاسْتِحَاضَةٍ- دَخَلَ الْوَقْتُ وَلَوْ ظَنًّا؛ لِأَنَّ طَهَارَتَهُ طَهَارَةُ عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ، فَتَقَيَّدَتْ بِالْوَقْتِ كَالتَّيَمُّمِ، وَتَقْدِيمِ الِاسْتِنْجَاءِ أَوِ الِاسْتِجْمَارِ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ اشْتِرَاطَ التَّحَفُّظِ حَيْثُ احْتِيجَ إِلَيْهِ، وَأَيْضًا الْمُوَالَاةَ بَيْنَ الِاسْتِنْجَاءِ وَالتَّحَفُّظِ، وَالْمُوَالَاةَ بَيْنَ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ، وَالْمُوَالَاةَ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ.
وَانْظُرْ لِلتَّفْصِيلِ فِي مُصْطَلَحِ (سَلَس ف 5)، (وَاسْتِحَاضَة ف 30 وَمَا بَعْدَهَا)
أَسْبَابُ الْوُضُوءِ:
47- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ- الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَرَأْيٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- إِلَى أَنَّ سَبَبَ فَرِيضَةِ الْوُضُوءِ إِرَادَةُ الصَّلَاةِ مَعَ وُجُودِ الْحَدَثِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا}.) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ إِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ، وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْوُضُوءِ الْحَدَثُ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا، فَلَوْلَاهُ لَمْ يَجِبِ الْوُضُوءُ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي رَأْيٍ إِلَى أَنَّ مُوجِبَ الْوُضُوءِ الْقِيَامُ إِلَى الصَّلَاةِ أَوْ نَحْوَهَا، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ الْوُضُوءُ قَبْلَهُ.
وَفِي رَأْيٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ- نُقِلَ عَنِ الْفُرُوعِ- أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْوُضُوءَ يَجِبُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ.
فُرُوضُ الْوُضُوءِ:
48- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ غَسْلَ الْوَجْهِ، وَغَسْلَ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَمَسْحَ الرَّأْسِ، وَغَسْلَ الرِّجْلَيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي عَدِّ النِّيَّةِ وَالْمُوَالَاةِ (وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْفَوْرِ) وَالتَّرْتِيبِ وَالدَّلْكِ مِنْ فَرَائِضِهِ.
وَنُوَضِّحُ كُلَّ فَرْضٍ مِنْ هَذِهِ الْفُرُوضِ فِيمَا يَلِي
أَوَّلًا: الْفَرَائِضُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا فِي الْوُضُوءِ:
الْفَرْضُ الْأَوَّلُ: غَسْلُ الْوَجْهِ:
49- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ غَسْلَ ظَاهِرِ الْوَجْهِ بِكَامِلِهِ مَرَّةً فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الْوُضُوءِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}.).
وَلِمَا رَوَى عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ أَنَّ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ «أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ- رضي الله عنه- دَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا».
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الْوَجْهِ بِكَامِلِهِ فِي الْوُضُوءِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
142-موسوعة الفقه الكويتية (وضوء 4)
وُضُوءٌ-4سَادِسًا: مَسْحُ كُلِّ الرَّأْسِ:
94- سَبَقَ بَيَانُ أَنَّ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ فَرْضٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَالْحَنَابِلَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ مَسْحَ كُلِّ الرَّأْسِ.
وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِمَا وَرَدَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ وَمَسَحَ رَأْسَهُ كُلَّهُ».
وَقَالُوا «إِنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَدْ مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ»، فَيَكُونُ مَسْحُ الرُّبُعِ فَرْضًا وَيَكُونُ مَسْحُ الْجَمِيعِ سُنَّةً.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ إِذَا دَاوَمَ عَلَى تَرْكِ اسْتِيعَابِ كُلِّ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ بِلَا عُذْرٍ يَأْثَمُ، وَقَالُوا: وَكَأَنَّهُ لِظُهُورِ رَغْبَتِهِ عَنِ السُّنَّةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ لِلْمُتَوَضِّئِ مَسْحُ كُلِّ الرَّأْسِ لِلِاتِّبَاعِ، وَخُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهُ.
مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِمَسْحِ الرَّأْسِ:
أ- تَكْرَارُ الْمَسْحِ
95- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ مَسْحُ كُلِّ الرَّأْسِ مَرَّةً بِمَاءٍ وَاحِدٍ، وَالَّذِي يُرْوَى مِنَ التَّثْلِيثِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَسْحِ بِمَاءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَشْرُوعٌ عَلَى مَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ إِذَا مَسَحَ بِمَاءٍ وَاحِدٍ ثَلَاثًا كَانَ مَسْنُونًا.
أَمَّا لَوْ مَسَحَ ثَلَاثًا فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قِيلَ يُكْرَهُ، وَقِيلَ: بِدْعَةٌ، وَقِيلَ: لَا بَأْسَ بِهِ.
وَفِي الْخَانِيَّةِ: لَا يُكْرَهُ وَلَا يَكُونُ سُنَّةً وَلَا أَدَبًا، قَالَ فِي الْبَحْرِ: وَهُوَ الْأَوْلَى، إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لَكِنِ اسْتَوْجَهَ فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ الْقَوْلَ بِالْكَرَاهَةِ، وَذَكَرْتُ مَا يُؤَيِّدُهُ فِيمَا عَلَّقْتُهُ عَلَى الْبَحْرِ.
أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: فَيُسَنُّ مَسْحُ كُلِّ الرَّأْسِ ثَلَاثًا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ.إِذْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ تَثْلِيثُ مَغْسُولٍ وَمَمْسُوحٍ، وَلَوْ مَسَحَ بَعْضَ رَأْسِهِ ثَلَاثًا حَصَلَ لَهُ التَّثْلِيثُ.
ب- كَيْفِيَّةُ مَسْحِ الرَّأْسِ الْمَسْنُونِ:
96- الْأَظْهَرُ فِي كَيْفِيَّةِ مَسْحِ الرَّأْسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَضَعَ كَفَّيْهِ وَأَصَابِعَهُ عَلَى مُقَدَّمِ رَأْسِهِ وَيَمُدَّهُمَا إِلَى الْقَفَا عَلَى وَجْهٍ يَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ الرَّأْسِ، ثُمَّ يَمْسَحُ أُذُنَيْهِ بِإِصْبَعَيْهِ، وَالْأُذُنَانِ عِنْدَهُمْ مِنَ الرَّأْسِ، فَلَا يَثْبُتُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ قَبْلَ الِانْفِصَالِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: السُّنَّةُ فِي كَيْفِيَّةِ الْمَسْحِ أَنْ يَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى مُقَدَّمِ رَأْسِهِ وَيُلْصِقَ سَبَّابَتَهُ بِالْأُخْرَى، وَإِبْهَامَيْهِ عَلَى صُدْغَيْهِ، ثُمَّ يَذْهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَرُدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي ذَهَبَ مِنْهُ إِذَا كَانَ لَهُ شَعْرٌ يَنْقَلِبُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الذَّهَابُ وَالرَّدُّ مَسْحَةً وَاحِدَةً؛ لِعَدَمِ تَمَامِ الْمَسْحَةِ بِالذَّهَابِ.
وَأَمَّا مَنْ لَا شَعْرَ لَهُ أَوْ لَهُ شَعْرٌ لَا يَنْقَلِبُ لِقِصَرِهِ أَوْ طُولِهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الذَّهَابِ، فَلَوْ رَدَّ لَمْ يُحْسَبْ ثَانِيَةً.وَقَالُوا فِيمَا إِذَا مَسَحَ كُلَّ رَأْسِهِ فَهَلْ يَقَعُ كُلُّهُ فَرْضًا أَوْ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْحِ يَكُونُ فَرْضًا وَالْبَاقِي سُنَّةٌ؟ وَجْهَانِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ تَكْرَارُ مَسْحِ الرَّأْسِ لِمَا «رَوَى أَبُو حَيَّةَ قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا تَوَضَّأَ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ حَتَّى أَنْقَاهُمَا، ثُمَّ مَضْمَضَ ثَلَاثًا، وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا، وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، وَذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً، ثُمَّ غَسَلَ قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ أَحْبَبْتُ أَنْ أُرِيَكُمْ كَيْفَ كَانَ طَهُورُ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ».
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَتَوَضَّأُ.- فَذَكَرَ الْحَدِيثَ- كُلَّهُ ثَلَاثًا.وَقَالَ: مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ وَاحِدَةً.
وَعَنْ أَحْمَدَ: يُسْتَحَبُّ تَكْرَارُ الْمَسْحِ بِمَاءٍ جَدِيدٍ.نَصَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَكَذَا أُذُنَيْهِ وِفَاقًا.
وَعَدَّ الْمَالِكِيَّةُ مِنَ السُّنَنِ كَذَلِكَ رَدَّ الْمُتَوَضِّئِ مَسْحَ رَأْسِهِ أَيْ إِلَى حَيْثُ بَدَأَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَعْرٌ بِأَنْ يَعُمَّهُ بِالْمَسْحِ ثَانِيًا بَعْدَ أَنْ عَمَّهُ أَوَّلًا، وَلَا يَحْصُلُ التَّعْمِيمُ إِذَا كَانَ الشَّعْرُ طَوِيلًا إِلاَّ بِالرَّدِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ يَأْتِي بِالسُّنَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنْ يُعِيدَ الْمَسْحَ وَالرَّدَّ، كَذَا قِيلَ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اسْتَظْهَرُوا مَا لِلزُّرْقَانِيِّ- الْمُرَادُ بِهِ الشَّيْخُ أَحْمَدُ بْنُ فَجْلَهْ- مِنْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الرَّدُّ فِي الْمُسْتَرْخِي؛ لِأَنَّ لَهُ حُكْمَ الْبَاطِنِ وَالْمَسْحُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ.
قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَحَاصِلُ كَلَامِهِمْ أَنَّ الشَّعْرَ الطَّوِيلَ إِنَّمَا يُمْسَحُ مَرَّتَيْنِ فَقَطْ، مَرَّةً لِلْفَرْضِ وَمَرَّةً لِلسُّنَّةِ، وَأَنَّ إِدْخَالَ الْيَدِ تَحْتَهُ فِي رَدِّ الْمَسْحِ هُوَ السُّنَّةُ.
وَمَحَلُّ كَوْنِ الرَّدِّ سُنَّةً: إِنْ بَقِيَ بِيَدِهِ بَلَلٌ مِنَ الْمَسْحِ الْوَاجِبِ وَإِلاَّ لَمْ يُسَنَّ، وَيُكْرَهُ تَجْدِيدُ الْمَاءِ لِلرَّدِّ؛ وَلِهَذَا لَوْ نَسِيَهُ حَتَّى أَخَذَ الْمَاءَ لِرِجْلَيْهِ لَمْ يَأْتِ بِهِ وَلَمْ يَكُنِ الرَّدُّ فَضِيلَةً، فَإِنْ بَقِيَ مَا يَكْفِي بَعْضَ الرَّدِّ فَالظَّاهِرُ أَنْ يُسَنَّ بِقَدْرِ الْبَلَلِ فَقَطْ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَائْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَمُقَابِلُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ يَسْقُطُ.
ج- صِفَةُ مَسْحِ الرَّأْسِ:
97- وَقَالُوا فِي صِفَةِ الْمَسْحِ: يَأْخُذُ الْمَاءَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى فَيُفْرِغُهُ عَلَى بَاطِنِ يَدِهِ الْيُسْرَى ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا رَأْسَهُ، يَبْدَأُ بِمُقَدَّمِهِ مِنْ أَوَّلِ مَنَابِتِ شَعْرِ رَأْسِهِ وَقَدْ قَرَنَ أَطْرَافَ أَصَابِعِ يَدَيْهِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ عَلَى رَأْسِهِ، وَجَعَلَ إِبْهَامَيْهِ عَلَى صُدْغَيْهِ ثُمَّ يَذْهَبُ بِيَدَيْهِ مَاسِحًا إِلَى طَرَفِ شَعْرِ رَأْسِهِ مِمَّا يَلِي قَفَاهُ ثُمَّ يَرُدُّهُمَا حَيْثُ بَدَأَ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: الصِّفَةُ الْمَسْنُونَةَ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ أَنَّهُ يُمِرُّ يَدَيْهِ مِنْ مُقَدَّمِهِ إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَرُدُّهُمَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ».ثُمَّ يُدْخِلُ سَبَّابَتَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ وَيَمْسَحُ بِإِبْهَامَيْهِ ظَاهِرَهُمَا.
فَإِنْ كَانَ الْمُتَوَضِّئُ ذَا شَعْرٍ يَخَافُ أَنْ يَنْتَفِشَ بِرَدِّ يَدَيْهِ لَمْ يَرُدَّهُمَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ «عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَوَضَّأَ عِنْدَهَا فَمَسَحَ الرَّأْسَ كُلَّهُ مِنْ قَرْنِ الشَّعْرِ، كُلَّ نَاحِيَةٍ لِمُنْصَبِّ الشَّعْرِ لَا يُحَرَّكُ الشَّعْرُ عَنْ هَيْئَتِهِ».
وَسُئِلَ أَحْمَدُ كَيْفَ تَمْسَحُ الْمَرْأَةُ؟ قَالَ: هَكَذَا فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى وَسَطِ رَأْسِهِ ثُمَّ جَرَّهَا إِلَى مُقَدَّمِهِ، ثُمَّ رَفَعَهَا فَوَضَعَهَا حَيْثُ مِنْهُ بَدَأَ، ثُمَّ جَرَّهَا إِلَى مُؤَخَّرِهِ.
سَابِعًا- مَسْحُ الْأُذُنَيْنِ:
98- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَسْحِ الْأُذُنَيْنِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ مَسْحَ الْأُذُنَيْنِ ظَاهِرِهِمَا وَبَاطِنِهِمَا؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- مَسَحَ فِي وُضُوئِهِ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا، وَأَدْخَلَ إِصْبَعَيْهِ فِي صِمَاخِ أُذُنَيْهِ».
وَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) أَنَّ ظَاهِرَ الْأُذُنَيْنِ هُوَ مَا يَلِي الرَّأْسَ، وَبَاطِنَهَا هُوَ مَا كَانَ مُوَاجِهًا.
قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لِأَنَّهَا خُلِقَتْ كَالْوَرْدَةِ.
وَفِي رَأْيٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ ظَاهِرَ الْأُذُنَيْنِ هُوَ مَا كَانَ مُوَاجِهًا وَبَاطِنَهُمَا هُوَ مَا يَلِي الرَّأْسَ.
تَجْدِيدُ مَاءٍ لِمَسْحِ الْأُذُنَيْنِ، وَكَيْفِيَّةُ مَسْحِهِمَا:
99- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَجْدِيدِ مَاءِ مَسْحِ الْأُذُنَيْنِ
فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ) أَنَّهُ يُسَنُّ تَجْدِيدُ الْمَاءِ لَهُمَا.وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ:
فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: السُّنَنُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأُذُنَيْنِ فِي الْوُضُوءِ ثَلَاثٌ: مَسْحُ ظَاهِرِهِمَا وَبَاطِنِهِمَا، وَمَسْحُ الصِّمَاخَيْنِ، وَتَجْدِيدُ الْمَاءِ لَهُمَا، فَلَوْ مَسَحَهُمَا بِلَا تَجْدِيدِ مَاءٍ كَانَ آتِيًا بِسُنَّةِ الْمَسْحِ فَقَطْ وَتَارِكًا لِسُنَّةِ تَجْدِيدِ الْمَاءِ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ سُنَّةُ مَسْحِ الصِّمَاخَيْنِ؛ إِذْ هُوَ سُنَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ كَمَا نَقَلَ الْمَوَّاقُ عَنِ اللَّخْمِيِّ وَابْنِ يُونُسَ.
وَالصِّمَاخُ: هُوَ الثُّقْبُ الَّذِي تَدْخُلُ فِيهِ رَأَسُ الْإِصْبَعِ مِنَ الْأُذُنِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ مَسْحُ الْأُذُنَيْنِ بِمَاءٍ جَدِيدٍ، وَيَأْخُذُ لِصِمَاخَيْهِ مَاءً جَدِيدًا، وَيُشْتَرَطُ فِي تَحْصِيلِ السُّنَّةِ تَرْتِيبُ الْأُذُنِ عَلَى الرَّأْسِ- قَالَ الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: كَمَا هُوَ الْأَصَحُّ فِي الرَّوْضَةِ- وَلَوْ أَخَذَ بِأَصَابِعِهِ مَاءً لِرَأْسِهِ ثُمَّ أَمْسَكَ بَعْضَ أَصَابِعِهِ وَلَمْ يَمْسَحِ الرَّأْسَ بِهَا بَعْدَ الْأُذُنَيْنِ كَفَى؛ لِأَنَّهُ مَاءٌ جَدِيدٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ مَسْحُ أُذُنَيْهِ ظَاهِرِهِمَا وَبَاطِنِهِمَا، قَالَ الْحَنَابِلَةُ: لِأَنَّهُمَا مِنَ الرَّأْسِ؛ لِقَوْلِهِ- عليه السلام-: «الْأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ».
وَيُسَنُّ مَسْحُهُمَا بِمَاءٍ جَدِيدٍ بَعْدَ مَسْحِ رَأْسِهِ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ- رضي الله عنه- أَنَّهُ «رَأَى رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَتَوَضَّأُ، فَأَخَذَ لأُِذُنَيْهِ مَاءً خِلَافَ الْمَاءِ الَّذِي مَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ» وَالْبَيَاضُ فَوْقَ الْأُذُنَيْنِ دُونَ الشَّعْرِ مِنَ الرَّأْسِ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، فَيَجِبُ مَسْحُهُ مَعَ الرَّأْسِ، وَكَيْفَ مَسَحَ الْأُذُنَيْنِ أَجْزَأَ كَالرَّأْسِ.
وَالْمَسْنُونُ فِي مَسْحِهِمَا أَنْ يُدْخِلَ سَبَّابَتَيْهِ فِي صِمَاخَيْهِمَا، وَيَمْسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ ظَاهِرَهُمَا؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ: دَاخَلَهُمَا بِالسَّبَّابَتَيْنِ وَخَالَفَ بِإِبْهَامَيْهِ إِلَى ظَاهِرِ أُذُنَيْهِ» وَلَا يَجِبُ مَسْحُ مَا اسْتَتَرَ مِنَ الْأُذُنَيْنِ بِالْغَضَارِيفِ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ لَا يَجِبُ مَسْحُ مَا اسْتَتَرَ مِنْهُ بِالشَّعْرِ، فَالْأُذُنُ أَوْلَى.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَكْفِي مَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ وَالْأُذُنَيْنِ بِمَاءٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُمَا مِنَ الرَّأْسِ، قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «الْأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ» وَالْمُرَادُ بَيَانُ الْحُكْمِ دُونَ الْخِلْقَةِ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَضَعُ كَفَّيْهِ وَأَصَابِعَهُ عَلَى مُقَدَّمِ رَأْسِهِ وَيَمُدُّهُمَا إِلَى قَفَاهُ عَلَى وَجْهٍ يَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ الرَّأْسِ، ثُمَّ يَمْسَحُ أُذُنَيْهِ بِإِصْبَعَيْهِ، وَلَا يَكُونُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِهَذَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِيعَابَ بِمَاءٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ.
فَلَوْ مَسَحَ الْمُتَوَضِّئُ أُذُنَيْهِ بِالْبَلَّةِ الْبَاقِيَةِ مِنْ مَسْحِ الرَّأْسِ كَفَى وَكَانَ مُقِيمًا لِلسُّنَّةِ، وَلَكِنَّ مَسْحَهُمَا بِمَاءٍ جَدِيدٍ أَوْلَى؛ مُرَاعَاةً لِلْخِلَافِ لِيَكُونَ آتِيًا بِالسُّنَّةِ اتِّفَاقًا.
وَقَالُوا يُنْدَبُ إِدْخَالُ خِنْصَرِهِ الْمَبْلُولَةِ فِي صِمَاخِ أُذُنَيْهِ عِنْدَ مَسْحِهِمَا.
ثَامِنًا- تَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ وَشُعُورِ الْوَجْهِ:
100- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ- فِي الْجُمْلَةِ- إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ فِي الْوُضُوءِ تَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ وَسَائِرِ شُعُورِ الْوَجْهِ، عَلَى خِلَافٍ بَيْنَهُمْ وَتَفْصِيلٍ سَبَقَ بَيَانُهُ (ف5) فِي غَسْلِ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ، وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (تَخْلِيل ف 6- 8).
تَاسِعًا- تَخْلِيلُ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَ الرِّجْلَيْنِ:
101- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَخْلِيلِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَأَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (إِصْبَع ف 2- 3، وَتَخْلِيل 2- 5).
عَاشِرًا- التَّثْلِيثُ:
102- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ تَثْلِيثَ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَقَالَ: هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَعَالَى الصَّلَاةَ إِلاَّ بِهِ، وَتَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَقَالَ: هَذَا وُضُوءُ مَنْ يُضَاعِفُ اللَّهُ لَهُ الْأَجْرَ مَرَّتَيْنِ، وَتَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَقَالَ: هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي» وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَثْلِيث ف2)
الْحَادِي عَشَرَ- الِاسْتِيَاكُ:
103- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ السِّوَاكَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْوُضُوءِ؛ لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَوْلَا أَنَّ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ».وَقَالَ الْحَصْكَفِيُّ: السِّوَاكُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ.وَهُوَ لِلْوُضُوءِ عِنْدَنَا.
وَالْمَشْهُورُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ السِّوَاكَ مُسْتَحَبٌّ، وَنَقَلَ الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ عَرَفَةَ أَنَّ مُقْتَضَى الْأَحَادِيثِ مِنْ مُلَازَمَةِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَيْهِ لِمَرَضِ مَوْتِهِ، وَقَوْلُهُ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ».أَنْ يَكُونَ سُنَّةً، وَهُوَ وَجِيهٌ، لَكِنَّهُ خِلَافُ الْمَشْهُورِ، قَالَهُ الدُّسُوقِيُّ.
وَفِي تَعْرِيفِ الِاسْتِيَاكِ، وَحِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّتِهِ، وَحُكْمِهِ التَّكْلِيفِيِّ، وَالِاسْتِيَاكِ فِي الْوُضُوءِ، وَلِلصَّائِمِ، وَمَا يُسْتَاكُ بِهِ، وَمَا يُحْظَرُ أَوْ يُكْرَهُ، وَصِفَاتِ السِّوَاكِ، وَالسِّوَاكِ بِغَيْرِ عُودٍ أَوْ بِالْإِصْبَعِ، وَكَيْفِيَّةِ الِاسْتِيَاكِ، وَآدَابِهِ، وَتَكْرَارِهِ، وَأَقَلِّهِ وَأَكْثَرِهِ، وَإِدْمَاءِ السِّوَاكِ لِلْفَمِ، وَ.فِي كُلِّ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِيَاك).
الثَّانِي عَشَرَ- الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ:
104- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَانْظُرْ تَفْصِيلَ آرَائِهِمْ فِي مُصْطَلَحِ (مَسْح ف 8- 12، عِمَامَة ف13).
الثَّالِثَ عَشَرَ- عَدَمُ الْإِسْرَافِ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ:
105- تَنَاوَلَ الْفُقَهَاءُ مَوْضُوعَ الْإِسْرَافِ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي الْوُضُوءِ فِي حَالَتَيْنِ:
أ- الزِّيَادَةُ عَلَى ثَلَاثِ مَرَّاتٍ.
ب- حَالَةُ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ بِكَثْرَةٍ فِي الْوُضُوءِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِي الْحَالَتَيْنِ فِي مُصْطَلَحِ (إِسْرَاف ف 6- 7).
الرَّابِعَ عَشَرَ- التَّيَامُنُ:
106- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّيَامُنِ فِي الْوُضُوءِ فِي الْيَدَيْنِ وَ الرِّجْلَيْنِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ التَّيَامُنَ فِي الْوُضُوءِ مُسْتَحَبٌّ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ: وَفِي طَهُورِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَتَنَعُّلِهِ».
وَحَكَى عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ- رضي الله عنهما- وُضُوءَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «فَبَدَأَ بِالْيُمْنَى قَبْلَ الْيُسْرَى».
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، إِلَى أَنَّ التَّيَامُنَ فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا تَوَضَّأْتُمْ فَابْدَءُوا بِمَيَامِنِكُمْ».
وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: إِنَّ التَّيَامُنَ سُنَّةٌ؛ لِثُبُوتِ مُوَاظَبَتِهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَيْهِ، فَغَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ حَكَى وُضُوءَهُ- صلى الله عليه وسلم- صَرَّحُوا بِتَقْدِيمِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى مِنَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَذَلِكَ يُفِيدُ الْمُوَاظَبَةَ؛ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَحْكُونَ وُضُوءَهُ الَّذِي هُوَ دَأْبُهُ وَعَادَتُهُ فَيَكُونُ سُنَّةً؛ وَلِمَا وَرَدَ عَنْهُ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا تَوَضَّأْتُمْ فَابْدَءُوا بِمَيَامِنِكُمْ».
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ التَّيَامُنَ وَاجِبٌ، حَكَاهَا الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَشَذَّذَهُ الزَّرْكَشِيُّ.
وَقِيلَ يُكْرَهُ تَرْكُهُ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا إِعَادَةَ عَلَى مَنْ بَدَأَ بِيَسَارِهِ قَبْلَ يَمِينِهِ.
الْخَامِسَ عَشَرَ- إِطَالَةُ الْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ:
107- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ يُسَنُّ فِي الْوُضُوءِ إِطَالَةُ الْغُرَّةِ وَالتَّحْجِيلِ، بِأَنْ يَتَجَاوَزَ الْمُتَوَضِّئُ مَوْضِعَ الْفَرْضِ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَ الرِّجْلَيْنِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ آدَابِ الْوُضُوءِ.
وَإِطَالَةُ الْغُرَّةِ تَكُونُ بِغَسْلٍ زَائِدٍ عَلَى الْوَاجِبِ مِنَ الْوَجْهِ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ، وَغَايَتُهَا غَسْلُ صَفْحَةِ الْعُنُقِ مَعَ مُقَدِّمَاتِ الرَّأْسِ.
وَإِطَالَةُ التَّحْجِيلِ بِغَسْلٍ زَائِدٍ عَلَى الْوَاجِبِ مِنَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ، وَغَايَتُهَا اسْتِيعَابُ الْعَضُدَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ بَقَاءِ مَحَلِّ الْفَرْضِ وَسُقُوطِهِ.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ خَبَرُ: «إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ».
وَمَعْنَى «غُرًّا مُحَجَّلِينَ»: بِيضُ الْوُجُوهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، كَالْفَرَسِ الْأَغَرِّ وَهُوَ الَّذِي فِي وَجْهِهِ بَيَاضٌ، وَالْمُحَجَّلُ وَهُوَ الَّذِي قَوَائِمُهُ بِيضٌ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: لَا تُنْدَبُ إِطَالَةُ الْغُرَّةِ، وَهِيَ الزِّيَادَةُ فِي غَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ عَلَى مَحَلِّ الْفَرْضِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: بَلْ يُكْرَهُ لِأَنَّهُ مِنَ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا يُنْدَبُ دَوَامُ الطَّهَارَةِ وَالتَّجْدِيدِ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَيُسَمَّى ذَلِكَ إِطَالَةَ الْغُرَّةِ كَمَا حُمِلَ عَلَيْهِ قَوْلُه- عليه الصلاة والسلام-: «مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ»، فَقَدْ حَمَلُوا الْإِطَالَةَ عَلَى الدَّوَامِ، وَالْغُرَّةَ عَلَى الْوُضُوءِ.
وَقَالَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ إِطَالَةَ الْغُرَّةِ تُطْلَقُ عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَى الْمَغْسُولِ، وَتُطْلَقُ عَلَى إِدَامَةِ الْوُضُوءِ، وَإِطَالَةُ الْغُرَّةِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ هُوَ الْمَكْرُوهُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَإِطَالَةُ الْغُرَّةِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي مَطْلُوبٌ عِنْدَهُ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ الْحَدِيثُ السَّابِقُ مُعَارِضًا لِمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْكَرَاهَةِ.
(ر: غُرَّة ف 5).
السَّادِسَ عَشَرَ- اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ:
108- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ أَثْنَاءَ الْوُضُوءِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ فِي الْوُضُوءِ مِنْ آدَابِهِ وَفَضَائِلِهِ، وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنْ يُمْكِنَ بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ، وَهُوَ مُتَّجَهٌ لِكُلِّ طَاعَةٍ إِلاَّ لِدَلِيلٍ، كَمَا نَقَلَ الْمُرْدَاوِيُّ عَنِ الْفُرُوعِ.
السَّابِعَ عَشَرَ- الْجُلُوسُ بِمَكَانٍ مُرْتَفِعٍ:
109- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ آدَابِ الْوُضُوءِ الْجُلُوسَ فِي مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ، تَحَرُّزًا عَنِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْوُضُوءِ؛ لِوُقُوعِ الْخِلَافِ فِي نَجَاسَتِهِ؛ وَلِأَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ، زَادَ الْمَالِكِيَّةُ الْجُلُوسَ مَعَ التَّمَكُّنِ.
وَعَبَّرَ الْكَمَالُ بِحِفْظِ ثِيَابِهِ مِنَ الْمَاءِ الْمُتَقَاطِرِ.قَالَ الْحَصْكَفِيُّ: وَهُوَ أَشْمَلُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُسْتَعْلِيًا وَلَا يَتَحَفَّظُ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يَتَوَقَّى الْمُتَوَضِّئُ الرَّشَاشَ الْمُتَطَايِرَ مِنْ مَاءِ الْوُضُوءِ.
الثَّامِنَ عَشَرَ- التَّوَضُّؤُ فِي مَكَانٍ طَاهِرٍ:
110- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الْوُضُوءِ التَّوَضُّؤَ فِي مَكَانٍ طَاهِرٍ؛ لِأَنَّ لِمَاءِ الْوُضُوءِ حُرْمَةً.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي مَوْضِعٍ طَاهِرٍ بِالْفِعْلِ، وَشَأْنُ الْمَكَانِ الطَّهَارَةُ لِيَخْرُجَ بَيْتُ الْخَلَاءِ قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ، فَيُكْرَهُ الْوُضُوءُ فِيهِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا بِالْفِعْلِ لَكِنْ لَيْسَ شَأْنُهُ الطَّهَارَةَ، وَأَوْلَى غَيْرُهُ مِنَ الْمَوَاضِعِ الْمُتَنَجِّسَةِ بِالْفِعْلِ.
التَّاسِعَ عَشَرَ- تَرْكُ الِاسْتِعَانَةِ:
111- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ عَدَمَ الِاسْتِعَانَةِ، وَعَدَّ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ مِنْ آدَابِ الْوُضُوءِ.
قَالَ الْحَنَابِلَةُ: مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ أَنْ يَتَوَلَّى الشَّخْصُ وُضُوءَهُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ مُعَاوَنَةٍ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَا يَكِلُ طَهُورَهُ إِلَى أَحَدٍ، وَلَا صَدَقَتَهُ الَّتِي يَتَصَدَّقُ بِهَا إِلَى أَحَدٍ، يَكُونُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلاَّهَا بِنَفْسِهِ» وَتُبَاحُ مُعَاوَنَةُ الْمُتَوَضِّئِ كَتَقْرِيبِ مَاءِ الْوُضُوءِ أَوْ صَبِّهِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ «الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ- رضي الله عنه-: «أَفْرَغَ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ وَضُوئِهِ».«وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ»- رضي الله عنه- قَالَ: صَبَبْتُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- الْمَاءَ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ فِي الْوُضُوءِ».وَتَرْكُ الْمُعَاوَنَةِ أَفْضَلُ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ تَرْكُ الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّبِّ عَلَيْهِ لِغَيْرِ عُذْرٍ؛ لِأَنَّهُ الْأَكْثَرُ مِنْ فِعْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-، وَلِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ نَوْعٌ مِنَ التَّنَعُّمِ وَالتَّكَبُّرِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالْمُتَعَبِّدِ، وَالْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ، وَهِيَ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَقِيلَ: تُكْرَهُ، وَالِاسْتِعَانَةُ بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ لَا بِالصَّبِّ مَكْرُوهَةٌ، أَمَّا الِاسْتِعَانَةُ بِإِحْضَارِ الْمَاءِ فَهِيَ لَا بَأْسَ بِهَا، أَمَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ كَمَرَضٍ فَلَا تَكُونُ الِاسْتِعَانَةُ خِلَافَ الْأَوْلَى وَلَا مَكْرُوهَةً دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ، بَلْ قَدْ تَجِبُ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ التَّطَهُّرُ إِلاَّ بِهَا وَلَوْ بِبَذْلِ أُجْرَةٍ مَثَلًا.
وَالْمُرَادُ بِتَرْكِ الِاسْتِعَانَةِ الِاسْتِقْلَالُ بِالْأَفْعَالِ لَا طَلَبُ الْإِعَانَةِ فَقَطْ، حَتَّى لَوْ أَعَانَهُ غَيْرُهُ وَهُوَ سَاكِتٌ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ.
وَإِذَا اسْتَعَانَ بِالصَّبِّ فَلْيَقِفِ الْمُعِينُ عَلَى يَسَارِ الْمُتَوَضِّئِ لِأَنَّهُ أَعْوَنُ وَأَمْكَنُ وَأَحْسَنُ أَدَبًا.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: مِنْ آدَابِ الْوُضُوءِ عَدَمُ اسْتِعَانَةِ الْمُتَوَضِّئِ بِغَيْرِهِ إِلاَّ لِعُذْرٍ، وَأَمَّا اسْتِعَانَتُهُ- صلى الله عليه وسلم- بِالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ- رضي الله عنه- فَكَانَتْ لِتَعْلِيمِ الْجَوَازِ.
وَقَالَ ابْنُ مَوْدُودٍ: يُكْرَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ فِي وُضُوئِهِ بِغَيْرِهِ إِلاَّ عِنْدَ الْعَجْزِ؛ لِيَكُونَ أَعْظَمَ لِثَوَابِهِ وَأَخْلَصَ لِعِبَادَتِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَظَاهِرُ مَا فِي شَرْحِ الْمُنْيَةِ أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ أَصْلًا إِذَا كَانَتْ بِطِيبِ قَلْبٍ وَمَحَبَّةٍ مِنَ الْمُعِينِ مِنْ غَيْرِ تَكْلِيفٍ مِنَ الْمُتَوَضِّئِ.
وَقَالَ: حَاصِلُهُ: أَنَّ الِاسْتِعَانَةَ فِي الْوُضُوءِ إِنْ كَانَتْ بِصَبِّ الْمَاءِ أَوِ اسْتِقَائِهِ أَوْ إِحْضَارِهِ فَلَا كَرَاهَةَ بِهَا أَصْلًا وَلَوْ كَانَتْ بِطَلَبِهِ، وَإِنْ كَانَتْ بِالْغَسْلِ وَالْمَسْحِ فَتُكْرَهُ بِلَا عُذْرٍ.
الْعِشْرُونَ- مَسْحُ الرَّقَبَةِ:
112- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ مَسْحِ الرَّقَبَةِ:
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: مِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الْوُضُوءِ مَسْحُ الْمُتَوَضِّئِ رَقَبَتَهُ بِظَهْرِ يَدَيْهِ، لِعَدَمِ اسْتِعْمَالِ بِلَّتِهِمَا، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.وَقِيلَ: إِنَّهُ سَنَّةٌ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ: لَا يُسَنُّ مَسْحُ الرَّقَبَةِ، إِذْ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ شَيْءٌ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ حُكِيَ بِلَفْظِ «قِيلَ» وَالنَّوَوِيُّ إِلَى أَنَّ مَسْحَ الرَّقَبَةِ بِدْعَةٌ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُنْدَبُ مَسْحُ الرَّقَبَةِ بِالْمَاءِ؛ لِعَدَمِ وُرُودِ ذَلِكَ فِي وُضُوئِهِ- صلى الله عليه وسلم-، بَلْ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ.
الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ- تَحْرِيكُ الْخَاتَمِ:
113- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ تَحْرِيكِ الْخَاتَمِ فِي الْوُضُوءِ:
فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: مِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الْوُضُوءِ تَحْرِيكُ الْمُتَوَضِّئِ خَاتَمَهُ الْوَاسِعَ- وَمِثْلُهُ الْقُرْطُ- وَكَذَا الضَّيِّقُ إِنْ عَلِمَ وُصُولَ الْمَاءِ، وَإِلاَّ فُرِضَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: مَنْ تَوَضَّأَ وَكَانَ خَاتَمُهُ ضَيِّقًا فَلَا بُدَّ أَنْ يُحَرِّكَهُ، وَإِنْ كَانَ وَاسِعًا يَدْخُلُ فِيهِ الْمَاءُ أَجْزَأَهُ، وَقَدْ رَوَى أَبُو رَافِعٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ حَرَّكَ خَاتَمَهُ».
وَإِذَا شَكَّ فِي وُصُولِ الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَهُ وَجَبَ تَحْرِيكُهُ لِيَتَبَيَّنَ وُصُولَ الْمَاءِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْخَاتَمَ الْمَأْذُونَ فِيهِ لَا يَجِبُ نَزْعُهُ وَلَا تَحْرِيكُهُ فِي الْوُضُوءِ وَلَوْ كَانَ ضَيِّقًا لَا يَصِلُ الْمَاءُ تَحْتَهُ، فَإِنْ نَزَعَهُ غَسَلَ مَحَلَّهُ إِنْ لَمْ يَظُنَّ أَنَّ الْمَاءَ وَصَلَ تَحْتَهُ.وَأَمَّا غَيْرُ الْمَأْذُونِ فِيهِ فَيَجِبُ نَزْعُهُ إِنْ كَانَ حَرَامًا وَأَجْزَأَ تَحْرِيكُهُ إِنْ كَانَ وَاسِعًا.
الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ- الْبَدْءُ بِمُقَدَّمِ الْأَعْضَاءِ:
114- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ فِي الْوُضُوءِ الْبَدْءُ بِأَعْلَى الْوَجْهِ، وَأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ، وَمُقْدَّمِ الرَّأْسِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: مِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الْوُضُوءِ الْبَدْءُ فِي الْغُسْلِ أَوِ الْمَسْحِ بِمُقَدَّمِ الْعُضْوِ، بِأَنْ يَبْدَأَ فِي الْوَجْهِ مِنْ مَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ الْمُعْتَادِ نَازِلًا إِلَى ذَقْنِهِ أَوْ لِحْيَتِهِ، وَيَبْدَأُ فِي الْيَدَيْنِ مِنْ أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ إِلَى الْمَرْفَقَيْنِ، وَفِي الرَّأْسِ مِنْ مَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ الْمُعْتَادِ إِلَى نُقْرَةِ الْقَفَا، وَفِي الرَّجُلِ مِنَ الْأَصَابِعِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ.
الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ- عَدَمُ الْكَلَامِ:
115- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ الْمُتَوَضِّئُ أَثْنَاءَ وُضُوئِهِ بِلَا حَاجَةٍ.
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُكْرَهُ الْكَلَامُ عَلَى الْوُضُوءِ.
وَالْمُرَادُ بِالْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ هُنَا تَرْكُ الْأَوْلَى.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَابْنُ مُفْلِحٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: الْكَرَاهَةُ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ.
السَّلَامُ عَلَى الْمُتَوَضِّئِ وَرَدُّهُ:
116- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ إِلْقَاءِ السَّلَامِ عَلَى الْمُتَوَضِّئِ وَحُكْمِ رَدِّهِ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ السَّلَامُ عَلَى الْمُتَوَضِّئِ كَمَا يُشْرَعُ رَدُّهُ.قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ يُشْرَعُ السَّلَامُ عَلَى الْمُتَوَضِّئِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ.
قَالَ فِي الْفُرُوعِ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَكْثَرِ لَا يُكْرَهُ السَّلَامُ وَلَا الرَّدُّ وَإِنْ كَانَ الرَّدُّ عَلَى طُهْرٍ أَكْمَلَ؛ لِفِعْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ أَمَّ هَانِئٍ- رضي الله عنها- سَلَّمَتْ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَغْتَسِلُ، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قُلْتُ: أَمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ».
وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَى الْمُتَوَضِّئِ، وَفِي «الرِّعَايَةِ»: وَيُكْرَهُ رَدُّ الْمُتَوَضِّئِ السَّلَامَ.
الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ- الدُّعَاءُ عِنْدَ كُلِّ عُضْوٍ:
117- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الدُّعَاءِ عِنْدَ غَسْلِ أَوْ مَسْحِ الْأَعْضَاءِ فِي الْوُضُوءِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ قَوْلُ الدُّعَاءِ عِنْدَ كُلِّ عُضْوٍ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ غَسْلِ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ.
وَدُعَاءُ الْأَعْضَاءِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْأَفْقَهْسِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ هُوَ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْمَضْمَضَةِ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ.
وَعِنْدَ الِاسْتِنْشَاقِ: اللَّهُمَّ أَرِحْنِي رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَلَا تُرِحْنِي رَائِحَةَ النَّارِ.
وَعِنْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ: اللَّهُمَّ بَيِّضْ وَجْهِي يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ.
وَعِنْدَ غَسْلِ يَدِهِ الْيُمْنَى: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي كِتَابِي بِيَمِينِي وَحَاسِبْنِي حِسَابًا يَسِيرًا.
وَعِنْدَ غَسْلِ يَدِهِ الْيُسْرَى: اللَّهُمَّ لَا تُعْطِنِي كِتَابِي بِشِمَالِي وَلَا مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي.
وَعِنْدَ مَسْحِ رَأْسِهِ: اللَّهُمَّ أَظِلَّنِي تَحْتَ عَرْشِكَ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلاَّ ظَلَّ عَرْشِكَ.
وَعِنْدَ مَسْحِ أُذُنَيْهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.
وَعِنْدَ مَسْحِ عُنُقِهِ: اللَّهُمَّ أَعْتِقْ رَقَبَتِي مِنَ النَّارِ.
وَعِنْدَ غَسْلِ رِجْلِهِ الْيُمْنَى: اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قَدَمِي عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ الْأَقْدَامُ.
وَعِنْدَ غَسْلِ رِجْلِهِ الْيُسْرَى: اللَّهُمَّ اجْعَلْ ذَنْبِي مَغْفُورًا وَسَعْيِي مَشْكُورًا وَتِجَارَتِي لَنْ تَبُورَ.
وَقَالُوا: إِنَّ الْوَارِدَ مِنَ الدُّعَاءِ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْ طُرُقٍ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا- فَارْتَقَى إِلَى مَرْتَبَةِ الْحُسْنِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ- فَيُعْمَلُ بِهِ، وَالْحَدِيثُ الضَّعِيفُ يُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ بِشَرْطِ عَدَمِ شِدَّةِ ضَعْفِهِ، وَأَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ أَصْلٍ عَامٍّ، وَأَنْ لَا يُعْتَقَدَ سُنِّيَّةُ ذَلِكَ الْحَدِيثِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي رَأْيٍ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْأَصَحِّ: إِلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ عِنْدَ كُلِّ عُضْوٍ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى كَرَاهَتِهِ، وَالْمُرَادُ تَرْكُ الْأَوْلَى.
قَالَ النَّوَوِيُّ: دُعَاءُ الْأَعْضَاءِ لَا أَصْلَ لَهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: الْأَذْكَارُ الَّتِي يَقُولُهَا الْعَامَّةُ عَلَى الْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ عُضْوٍ لَا أَصْلَ لَهَا عَنْهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ.
الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ- الدُّعَاءُ بَعْدَ الْوُضُوءِ:
118- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الدُّعَاءِ بَعْدَ الْوُضُوءِ:
فَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يَقُولَ الْمُتَوَضِّئُ عَقِبَ فَرَاغِهِ مِنَ الْوُضُوءِ وَهُوَ مُسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَقَدْ رَفَعَ يَدَيْهِ وَبَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، لِخَبَرِ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيَبْلُغُ أَوْ يُسْبِغُ الْوُضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ» ثُمَّ يَقُولُ الْمُتَوَضِّئُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ- زَادَهُ التِّرْمِذِيُّ عَلَى خَبَرِ مُسْلِمٍ- سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، لِخَبَرِ: «مَنْ تَوَضَّأَ ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، كُتِبَ فِي رَقٍّ ثُمَّ طُبِعَ بِطَابَعٍ، فَلَمْ يُكْسَرْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» أَيْ لَمْ يَتَطَرَّقْ إِلَيْهِ إِبْطَالٌ، أَيْ يُصَانُ صَاحِبُهُ مِنْ تَعَاطِي مُبْطِلٍ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: يُسَنُّ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ الْوُضُوءِ: وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ.
وَزَادَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ: وَيَقُولُ الْمُتَوَضِّئُ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ مِنَ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ: وَيَقْرَأُ سُورَةَ الْقَدْرِ ثَلَاثًا.
وَالْحِكْمَةُ- كَمَا قَالَ الْبُهُوتِيُّ- فِي خَتْمِ الْوُضُوءِ، وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا بِالِاسْتِغْفَارِ: أَنَّ الْعِبَادَ مُقَصِّرُونَ عَنِ الْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللَّهِ كَمَا يَنْبَغِي، وَعَنْ أَدَائِهَا عَلَى الْوَجْهِ اللاَّئِقِ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَإِنَّمَا يُؤَدُّونَهَا عَلَى قَدْرِ مَا يُطِيقُونَهُ، فَالْعَارِفُ يَعْرِفُ أَنَّ قَدْرَ الْحَقِّ أَجَلُّ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ يَسْتَحْيِي مِنْ عَمَلِهِ، وَيَسْتَغْفِرُ مِنْ تَقْصِيرِهِ فِيهِ، كَمَا يَسْتَغْفِرُ غَيْرُهُ مِنْ ذُنُوبِهِ وَغَفَلَاتِهِ.
وَالِاسْتِغْفَارُ يَرِدُ مُجَرَّدًا، وَمَقْرُونًا بِالتَّوْبَةِ.
فَإِنْ وَرَدَ مُجَرَّدًا دَخَلَ فِيهِ طَلَبُ وِقَايَةِ شَرِّ الذَّنْبِ الْمَاضِي بِالدُّعَاءِ وَالنَّدَمِ عَلَيْهِ، وَوِقَايَةِ شَرِّ الذَّنْبِ الْمُتَوَقَّعِ بِالْعَزْمِ عَلَى الْإِقْلَاعِ عَنْهُ، وَهَذَا الِاسْتِغْفَارُ الَّذِي يَمْنَعُ الْإِصْرَارَ وَالْعُقُوبَةَ.
وَإِنْ وَرَدَ مَقْرُونًا بِالتَّوْبَةِ اخْتُصَّ بِالنَّوْعِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ النَّدَمُ عَلَى الذَّنْبِ الْمَاضِي- بَلْ كَانَ سُؤَالًا مُجَرَّدًا- فَهُوَ دُعَاءٌ مَحْضٌ، وَإِنْ صَحِبَهُ نَدَمٌ فَهُوَ تَوْبَةٌ، وَالْعَزْمُ عَلَى الْإِقْلَاعِ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
143-موسوعة الفقه الكويتية (ولاء 1)
وَلَاءٌ -1التَّعْرِيفُ:
1 ـ الْوَلَاءُ لُغَةً مِنَ الْوَلْيِ، وَهُوَ أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَى الْقُرْبِ.قَالَ الرَّاغِبُ: وَيُسْتَعَارُ ذَلِكَ لِلْقُرْبِ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانُ، وَمِنْ حَيْثُ النِّسْبَةُ، وَمِنْ حَيْثُ الدِّينُ، وَمِنْ حَيْثُ الصَّدَاقَةُ وَالنُّصْرَةُ وَالِاعْتِقَادُ.
وَمِنَ الْبَابِ: الْمَوْلَى، وَيُقَالُ لِابْنِ الْعَمِّ وَالنَّاصِرِ وَالْحَلِيفِ وَالصَّاحِبِ وَالْمُعِينِ وَالْمُعْتَقِ وَالْجَارِ وَغَيْرِهِمْ.
أَمَّا الْوِلَاءُ ـ بِالْكَسْرِ ـ وَالتَّوَالِي، فَمَعْنَاهُمَا الْمُتَابَعَةُ، وَهِيَ أَنْ يَحْصُلَ شَيْئَانِ فَصَاعِدَا حُصُولًا لَيْسَ بَيْنَهُمَا مَا لَيْسَ مِنْهُمَا.
وَالْبَابُ كُلُّهُ- كَمَا قَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي مُعْجَمِ مَقَايِيسِ اللُّغَةِ- رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْبِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِ الْوَلَاءُ اصْطِلَاحًا: فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ قَصَرُوهُ عَلَى الْقَرَابَةِ الْحُكْمِيَّةِ النَّاشِئَةِ عَنْ زَوَالِ الْمِلْكِ عَنِ الرَّقِيقِ بِالْحُرِّيَّةِ.
فَعَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ «اتِّصَالٌ كَالنَّسَبِ نَشَأَ عَنْ عِتْقٍ».
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: «الْوَلَاءُ شَرْعًا: عُصُوبَةٌ نَاشِئَةٌ عَنْ حُرِّيَّةٍ حَدَثَتْ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكٍ، مُتَرَاخِيَةٌ عَنْ عُصُوبَةِ نَسَبٍ، تَقْتَضِي لِلْمُعْتِقِ وَعَصَبَتِهِ الْإِرْثَ وَوِلَايَةَ النِّكَاحِ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ وَالْعَقْلَ عَنْهُ».
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: هُوَ ثُبُوتُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ- أَيْ عُصُوبَةٍ ثَابِتَةٍ- بِعِتْقٍ أَوْ تَعَاطِي سَبَبِهِ كَاسْتِيلَادٍ وَتَدْبِيرٍ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَقَدْ عَرَّفُوهُ بِأَنَّهُ قَرَابَةٌ حُكْمِيَّةٌ حَاصِلَةٌ مِنْ عِتْقٍ أَوْ مُوَالَاةٍ، وَمِنْ آثَارِهِ الْإِرْثُ وَالْعَقْلُ وَوِلَايَةُ النِّكَاحِ.حَيْثُ إِنَّ الْوَلَاءَ عِنْدَهُمْ نَوْعَانِ:
ـ وَلَاءُ عَتَاقَةٍ: وَيُسَمَّى وَلَاءَ نِعْمَةٍ.وَسَبَبُهُ الْإِعْتَاقُ.
ـ وَوَلَاءُ مُوَالَاةٍ: وَسَبَبُهُ الْعَقْدُ الْمَعْرُوفُ بِالْمُوَالَاةِ.وَهُوَ أَنْ يُعَاهِدَ شَخْصٌ شَخْصًا آخَرَ عَلَى أَنَّهُ إِنْ جَنَى فَعَلَيْهِ أَرْشُهُ، وَإِنْ مَاتَ فَمِيرَاثُهُ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَا رَجُلَيْنِ أَوِ امْرَأَتَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا رَجُلًا وَالْآخَرُ امْرَأَةً.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ
أ- الْعِتْقُ:
2- الْعِتْقُ فِي اللُّغَةِ الْحُرِّيَّةُ.
وَاصْطِلَاحًا: هُوَ قُوَّةٌ حُكْمِيَّةٌ يَصِيرُ بِهَا الْعَبْدُ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَّلَاءِ وَالْعِتْقِ أَنَّ الْعِتْقَ سَبَبٌ لِلْوَلَاءِ.
ب- الْإِرْثُ:
3 ـ أَصْلُ الْإِرْثِ لُغَةً أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ لِقَوْمٍ ثُمَّ يَصِيرَ إِلَى آخَرِينَ بِنَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ.أَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ، فَيُطْلَقُ عَلَى مَا خَلَّفَهُ الْمَيِّتُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحُقُوقِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا بِمَوْتِهِ مَنْ ثَبَتَ لَهُ ذَلِكَ شَرْعًا.
فَهُوَ حَقٌّ قَابِلٌ لِلتَّجَزُّؤِ يَثْبُتُ لِمُسْتَحِقِّهِ بَعْدَ مَوْتِ مَنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِقَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا أَوْ نَحْوِهَا.
وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْوَلَاءِ وَالْإِرْثِ أَنَّ الْوَلَاءَ سَبَبٌ لِلْإِرْثِ.
ج- الْعَقْلُ:
4- الْمُرَادُ بِالْعَقْلِ: الدِّيَةُ.وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: الْمَالُ الَّذِي يُعْطَى بَدَلًا لِلنَّفْسِ.
َوَالْعَقْلُ اصْطِلَاحًا: الْمَالُ الْوَاجِبُ بِالْجِنَايَةِ فِي نَفْسٍ أَوْ مَا دُونَ النَّفْسِ
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْوَلَاءِ وَالْعَقْلِ أَنَّ الْوَلَاءَ سَبَبٌ لِلْعَقْلِ.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ باِلْوَلَاءِ:
يُقَسِّمُ الْفُقَهَاءُ الْوَلَاءَ إِلَى وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ وَوَلَاءِ الْمُوَالَاةِ.
وَنَتَنَاوَلُ فِيمَا يَلِي بَيَانَ أحكام كُلٍّ مِنْهُمَا
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ:
5- وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ أَوِ الْعِتْقِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: هُوَ عُصُوبَةٌ مُتَرَاخِيَةٌ عَنْ عُصُوبَةِ النَّسَبِ تَقْتَضِي لِلْمُعْتِقِ- وَلِعَصَبَتِهِ الذُّكُورِ مِنْ بَعْدِهِ- الْإِرْثَ وَالْعَقْلَ وَوِلَايَةَ أَمْرِ النِّكَاحِ وَالصَّلَاةَ عَلَى مَنْ أَعْتَقَهُ.
وَاسْمُ «مَوْلَى الْعَتَاقَةِ» يَقَعُ عَلَى الْمُعْتِقِ وَعَلَى الْعَتِيقِ وَقِيلَ: هُوَ مَنْ لَهُ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ، وَهُوَ الْمُعْتِقُ.
مَشْرُوعِيَّةُ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ:
6- ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ».
سَبَبُ ثُبُوتِ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ:
7- سَبَبُ ثُبُوتِ هَذَا الْوَلَاءِ الْعِتْقُ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ مَحْظُورًا فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ، سَوَاءٌ كَانَ الْعِتْقُ حَاصِلًا بِصُنْعِهِ وَهُوَ الْعَتَاقُ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْعَتَاقِ شَرْعًا كَشِرَاءِ الْقَرِيبِ وَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ، أَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ بِأَنْ وَرِثَ قَرِيبَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِعْتَاقُ بِغَيْرِ بَدَلٍ أَوْ بِبَدَلٍ، وَهُوَ الْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ مُضَافًا إِلَى وَقْتٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ صَرِيحًا أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ، أَوْ كِنَايَةً أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْكِنَايَةِ، وَكَذَا الْعِتْقُ الْحَاصِلُ بِالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ صَرِيحُ التَّدْبِيرِ وَالْإِعْتَاقُ وَالِاسْتِيلَادُ وَالْكِتَابَةُ، وَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ لَهُ إِذَا أَعْتَقَهُ عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِ كَالْإِعْتَاقِ عَنْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ أَوِ الظِّهَارِ أَوِ الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ، أَوِ الْإِيلَاءِ، أَوِ الْيَمِينِ أَوِ النَّذْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا وَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ عَلَى الْمُعْتَقِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ.
الْوَلَاءُ فِي الْعِتْقِ الْمَحْظُورِ:
8 ـ الْعِتْقُ قَدْ يَكُونُ مَحْظُورًا: وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْإِعْتَاقِ الْمُحَرَّمِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الْإِعْتَاقُ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُعْتِقِ أَنَّهُ إِنْ أَعْتَقَهُ يَذْهَبُ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ يَرْتَدُّ، أَوْ يُخَافُ مِنْهُ السَّرِقَةُ وَقَطْعُ الطَّرِيقِ، وَكَذَلِكَ الْإِعْتَاقُ لِلشَّيْطَانِ وَلِلصَّنَمِ.
وَقَالُوا: يَنْفُذُ الْعِتْقُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ مَعَ تَحْرِيمِهِ.
وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الْمُعْتِقَ يَكْفُرُ عَلَى الْأَظْهَرِ بِالْإِعْتَاقِ لِلشَّيْطَانِ وَالصَّنَمِ.
وَفِي قَوْلٍ يَكْفُرُ بِالْإِعْتَاقِ لِلصَّنَمِ، وَيَأْثَمُ بِالْإِعْتَاقِ لِلشَّيْطَانِ.وَفِي كُلِّ هَذِهِ الصُّوَرِ يَثْبُتُ الْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ.
وَذَكَرَ الْحَنَابِلَةُ ضِمْنَ أَمْثِلَةِ الْعِتْقِ الْمَحْظُورِ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَقُ مِمَّا يُخَافُ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ وَالرُّجُوعُ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، أَوْ يُخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ كَعَبْدٍ يُخَافُ أَنَّهُ إِذَا أُعْتِقَ وَاحْتَاجَ سَرَقَ وَفَسَقَ وَقَطَعَ الطَّرِيقَ، أَوْ جَارِيَةٍ يُخَافُ مِنْهَا الزِّنَا وَالْفَسَادُ.
وَقَالُوا: يُكْرَهُ الْإِعْتَاقُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ.وَأَمَّا إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ إِفْضَاءُ الْإِعْتَاقِ إِلَى الْمَحْظُورِ كَانَ الْإِعْتَاقُ مُحَرَّمًا لِأَنَّ التَّوَسُّلَ إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ صَحَّ لِأَنَّهُ إِعْتَاقٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ كَإِعْتَاقِ غَيْرِهِ.
وَقَالُوا: كُلُّ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا أَوْ عَتَقَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُعْتِقْهُ سَائِبَةً فَلَهُ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ.
الْوَلَاءُ فِي الْإِعْتَاقِ سَائِبَةً:
9- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ لَهُ الْوَلَاءُ فِي الْإِعْتَاقِ سَائِبَةً:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى الْأَصَحِّ وَابْنُ نَافِعٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ- فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الْمَدِينَةِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى- إِلَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ سَائِبَةً كَقَوْلِهِ: أَعْتَقْتُكَ سَائِبَةً، فَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ وَرَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ وَحَمْزَةَ بْنِ حَبِيبٍ؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» وَقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ».
وَلِأَنَّهُ كَمَا لَا يَزُولُ نَسَبُ إِنْسَانٍ وَلَا وَلَدٍ عَنْ فِرَاشٍ بِشَرْطٍ لَا يَزُولُ وَلَاءٌ عَنْ عَتِيقٍ بِذَلِكَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي حُكْمِ الْإِعْتَاقِ سَائِبَةً:
فَذَهَبُوا فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى ذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ سَائِبَةٌ، وَقَصَدَ بِهِ الْعِتْقَ.
وَقَالَ أَصْبَغُ: يَجُوزُ الْإِعْتَاقُ سَائِبَةً.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونَ: يُمْنَعُ الْإِعْتَاقُ سَائِبَةً.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَهُ الْوَلَاءُ فِي الْعِتْقِ بِلَفْظِ سَائِبَةٍ:
فَذَهَبُوا فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيِّ وَمَكْحُولٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا وَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ عَلَى مُعْتَقِهِ فِي الْإِعْتَاقِ سَائِبَةً.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ هَذَا الِاتِّجَاهِ فِيمَا رَجَعَ مِنْ مِيرَاثِ الْمُعْتِقِ عَلَى رَأْيَيْنِ:
الرَّأْيُ الْأَوَّلُ: يَشْتَرِي بِهِ رِقَابًا يُعْتِقُهُمْ.
الرَّأْيُ الثَّانِي: مِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ.قَالَ الْمَرْدَاوِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ. اخْتِلَافُ الدِّينِ وَأَثَرُهُ فِي ثُبُوتِ الْوَلَاءِ:
10- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ثُبُوتِ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ إِذَا اخْتَلَفَ دِينُهُ عَنْ دِينِ مُعْتَقِهِ.
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، إِلَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا يُبَايِنُهُ فِي دِينِهِ فَلَهُ وَلَاؤُهُ.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِاسْتِحْقَاقِ الْمُعْتِقِ الْوَلَاءَ أَنْ يَتَسَاوَى الْمُعْتِقُ وَالْمُعْتَقُ فِي الدِّينِ.فَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ كَافِرًا فَلَا وَلَاءَ لَهُ عَلَى عَتِيقِهِ الْمُسْلِمِ بَلْ يَكُونُ وَلَاؤُهُ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لَا يَعُودُ إِلَيْهِ بِإِسْلَامِهِ.
وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: الْمُرَادُ بِالْوَلَاءِ هُنَا بِمَعْنَى الْمِيرَاثِ لَا بِمَعْنَى اللُّحْمَةِ إِذْ هُوَ ثَابِتٌ لِمَنْ أَعْتَقَ وَلَوْ كَافِرًا.وَلَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِقَالِ الْمَالِ انْتِقَالُهَا.
بَيْعُ الْوَلَاءِ وَهِبَتُهُ:
11- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْوَلَاءِ وَلَا هِبَتُهُ.وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَعَنْ هِبَتِهِ.وَقَالَ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ».وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ».وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يُوَرَّثُ بِهِ، فَلَا يَنْتَقِلُ، كَالْقَرَابَةِ.
انْتِقَالُ الْوَلَاءِ بِالْمَوْتِ:
12- ذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ ثُمَّ لِعَصَبَتِهِ بِنَفْسِهَا دُونَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ.وَلَا تَرِثُ امْرَأَةٌ بِالْوَلَاءِ إِلاَّ مِنْ عَتِيقِهَا وَأَوْلَادِهِ وَعُتَقَائِهِ. وَيَرَى إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَشُرَيْحٌ وَطَاوُسٌ أَنَّ الْوَلَاءَ يَجْرِي مَجْرَى الْمَالِ فَيُوَرَّثُ مِنَ الْمُعْتِقِ كَمَا يُوَرَّثُ سَائِرُ أَمْوَالِهِ.
الْمِيرَاثُ بِالْوَلَاءِ
13- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ السَّيِّدَ يَرِثُ فِي الْحَالَاتِ الَّتِي يَثْبُتُ لَهُ فِيهَا الْوَلَاءُ جَمِيعَ مَالِ عَتِيقِهِ إِذَا مَاتَ، وَاتَّفَقَ دِينَاهُمَا، وَلَمْ يُخَلِّفْ وَارِثًا سِوَاهُ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ».وَالنَّسَبُ يُوَرَّثُ بِهِ، وَلَا يُورَثُ، كَذَلِكَ الْوَلَاءُ.وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: «إِنَّ ابْنَةَ حَمْزَةَ أَعْتَقَتْ غُلَامًا لَهَا، فَتُوُفِّيَ، وَتَرَكَ ابْنَتَهُ وَابْنَةَ حَمْزَةَ، فَقَسَمَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لَهَا النِّصْفَ وَلِابْنَتِهِ النِّصْفَ».
وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمِيرَاثُ لِلْعَصَبَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَبَةٌ فَالْوَلَاءُ».وَعَنْهُ «أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدًا، فَقَالَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: مَا تَرَى فِي مَالِهِ؟ قَالَ: «إِنْ مَاتَ وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا فَهُوَ لَكَ».
وَيُقَدَّمُ الْمَوْلَى فِي الْمِيرَاثِ عَلَى الْرَدِّ وَذَوِي الْأَرْحَامِ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَإِنْ كَانَ لِلْمُعْتَقِ عَصَبَةٌ مِنْ نَسَبِهِ، أْو َذَوُو فُرُوضٍ تَسْتَغْرِقُ فُرُوضُهُمُ الْمَالَ، فَلَا شَيْءَ لِلْمَوْلَى.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحَدِيثِ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا تَرَكَتِ الْفُرُوضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ».وَفِي لَفْظٌ: «فِلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ».وَالْعَصَبَةُ مِنَ الْقَرَابَةِ أَوْلَى مِنْ ذِي الْوَلَاءِ، لِأَنَّهُ مُشَبَّهٌ بِالْقَرَابَةِ، وَالْمُشَبَّهُ بِهِ أَقْوَى مِنَ الْمُشَبَّهِ، وَلِأَنَّ النَّسَبَ أَقْوَى مِنَ الْوَلَاءِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ وَالنَّفَقَةُ وَسُقُوطُ الْقِصَاصِ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِالْوَلَاءِ.
(ر: إِرْث فَقْرَةَ 51)
أ َمَّا إِذَا اخْتَلَفَ دِينُ الْمُعْتِقِ وَدِينُ الْمُعْتَقِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّوَارُثِ بَيْنَهُمَا.
فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَرِثُ الْمُعْتِقُ الْمُعْتَقَ مَعَ اخْتِلَافِ دِينَيْهِمَا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ».وَلِأَنَّهُ مِيرَاثٌ، فَيَمْنَعُهُ اخْتِلَافُ الدِّينِ، كَمِيرَاثِ النَّسَبِ، وَلِأَنَّ اخْتِلَافَ الدِّينِ مَانِعٌ مِنَ الْمِيرَاثِ، فَمَنْعُ الْمِيرَاثِ بِالْوَلَاءِ كَالْقَتْلِ وَالرِّقِّ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْمِيرَاثَ بِالنَّسَبِ أَقْوَى، فَإِذَا مُنِعَ الْأَقْوَى فَالْأَضْعَفُ أَوْلَى وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَلْحَقَ الْوَلَاءَ بِالنَّسَبِ بِقَوْلِهِ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ».وَكَمَا يَمْنَعُ اخْتِلَافُ الدِّينِ التَّوَارُثَ مَعَ صِحَّةِ النَّسَبِ وَثُبُوتِهِ، كَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مَعَ صِحَّةِ الْوَلَاءِ وَثُبُوتِهِ.فَإِذَا اجْتَمَعَا عَلَى الْإِسْلَامِ تَوَارَثَا كَالْمُتَنَاسِبَيْنِ، وَهَذَا أَصَحُّ فِي الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَعْتَقَ الْكَافِرُ عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ فَإِنَّ الْوَلَاءَ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ لَا لِلْمُعْتِقِ الْكَافِرِ وَلَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ.
أَمَّا لَوْ أَعْتَقَ الْكَافِرُ عَبْدَهُ الْكَافِرَ ثُمَّ أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَإِنَّ وَلَاءَهُ يَنْتَقِلُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ عَصَبَتِهِ لِسَيِّدِهِ النَّصْرَانِيِّ.فَإِنْ أَسْلَمَ سَيِّدُهُ الَّذِي أَعْتَقَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْوَلَاءَ يَعُودُ إِلَيْهِ.
قَالَ الْعَدَوِيُّ: وَالْمُرَادُ بِعَوْدِ الْوَلَاءِ هُنَا إِنَّمَا هُوَ الْمِيرَاثُ فَقَطْ.
وَإِذَا أَعْتَقَ مُسْلِمٌ كَافِرًا فَيَكُونُ الْمِيرَاثُ لِبَيْتِ الْمَالِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِ أَقَارِبُ كُفَّارٌ فَيَكُونُ الْوَلَاءُ لَهُمْ.
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ مِنَ الْكَافِرِ وَالْكَافِرَ مِنَ الْمُسْلِمِ بِالْوَلَاءِ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ النُّصَرْاَنِيَّ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ».
14- وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَقَ لَا يَرِثُ مَنْ يُعْتِقُهُ لِأَنَّهُ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا أُلْحِقَ الْوَلَاءُ بِالنَّسَبِ فِي حَقِّ الْمُعْتِقِ حَيْثُ أَنْعَمَ عَلَى عَبْدِهِ بِالْإِعْتَاقِ وَتَسَبَّبَ إِلَى حَيَاتِهِ مَعْنًى، فَجُوزِيَ بِاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ صِلَةً لَهُ وَكَرَامَةً.وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ مِنَ الْعَبْدِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ.
وَحُكِيَ عَنْ شُرَيْحٍ وَطَاوُسٍ أَنَّهُمَا وَرَّثَا الْمُعْتَقِ مِنَ الْمُعْتِقِ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَجُلًا مَاتَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا إِلاَّ عَبْدًا هُوَ أَعْتَقَهُ فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- مِيرَاثَهُ».
تَحَمُّلُ الدِّيَةِ بِالْوَلَاءِ:
15- نَصَّ جَمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْعَاقِلَةَ (وَهِيَ الَّتِي تَتَحَمَّلُ الدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ هُمُ الْعَصَبَةُ النَّسَبِيَّةُ ثُمَّ الْعَصَبَةُ بِسَبَبِ الْعِتْقِ.
فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْقَاتِلِ دِيوَانٌ فَعَاقِلَتُهُ قَبِيلَتُهُ مِنَ النَّسَبِ لِأَنَّ اسْتِنْصَارَهُ بِهِمْ.وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُعْتِقًا أَوْ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ فَعَاقِلَتُهُ مَوْلَاهُ وَقَبِيلَةُ مَوْلَاهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ».
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: فِي الْمُعْتَمَدِ: عَاقِلَةُ الْجَانِي عَصَبَتُهُ النَّسَبِيَّةُ فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَالْمُوَالُونَ الْأَعْلَوْنَ وَهُمُ الْمُعْتِقُونَ- بِكَسْرِ التَّاءِ- لِأَنَّهُمْ عَصَبَةُ سَبَبٍ، وَلَوْ أُنْثَى حَيْثُ بَاشَرَتِ الْعِتْقَ، وَيُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَسْفَلُونَ (الْمُعْتَقُونَ- بِفَتْحِ التَّاءِ- حَيْثُ لَمْ يُوجَدْ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْأَعْلَيْنِ، فَبَيْتُ الْمَالِ، إِنْ كَانَ الْجَانِي مُسْلِمًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْتُ مَالٍ فَتُنَجَّمُ عَلَى الْجَانِي.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: عَاقِلَةُ الْإِنْسَانِ الْجَانِي هُمْ عَصَبَتُهُ النَّسَبِيَّةُ إِلاَّ الْأَصْلَ وَإِنْ عَلَا، وَإِلاَّ الْفَرْعَ وَإِنْ سَفَلَ، ثُمَّ بَعْدَ عَصَبَةِ النَّسَبِ إِنْ فُقِدُوا، أَوْ لَمْ يُوَفُّوا مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَاجِبِ فِي الْجِنَايَةِ فَمُعْتِقٍ، ثُمَّ إِنْ فُقِدَ الْمُعْتِقُ أَوْ لَمْ يُوَفِّ مَا عَلَيْهِ فَعَصَبَةُ الْمُعْتِقِ مِنْ نَسَبٍ غَيْرِ أَصْلِهِ وَفَرْعِهِ، ثُمَّ مُعْتِقُ الْمُعْتِقِ ثُمَّ عَصَبَتُهُ وَهَكَذَا أَبَدًا.فَإِنْ فُقِدَ الْعَاقِلُ مِمَّنْ ذُكِرَ أَوْ لَمْ يُوَفِّ مَا عَلَيْهِ فَبَيْتُ الْمَالِ يَعْقِلُ عَنِ الْمُسْلِمِ لِخَبَرِ: «أَنَا وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ أَعْقِلُ عَنْهُ وَأَرِثُهُ». وَلَا يَعْقِلُ عَتِيقٌ عَنْ مُعْتِقِهِ فِي الْأَظْهَرِ كَمَا لَا يَرِثُ، وَمُقَابِلُ الْأَظْهَرِ أَنَّهُ يَعْقِلُ، لِأَنّ الْعَقْلَ لِلنُّصْرَةِ وَالْإِعَانَةِ وَالْعَتِيقُ أَوْلَى بِهَا، وَهُوَ مَا رَجَّحَهُ الْبَلْقِينِيُّ مِنْهُمْ، أَمَّا عَصَبَةُ الْعَتِيقِ فَلَا تَعْقِلُ عَنْ مُعْتِقِهِ قَطْعًا.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: عَاقِلَةُ الْإِنْسَانِ: عَصَبَاتُهُ كُلُّهُمْ قَرِيبُهُمْ وَبَعِيدُهُمْ مِنَ النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ إِلاَّ عَمُودَيْ نَسَبِهِ: آبَاؤُهُ وَأَبْنَاؤُهُ.وَقَالُوا: عَاقِلَةُ الْعَبْدِ الْمُعْتَقِ عَصَبَاتُ سَيِّدِهِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ
16- الْمُوَالَاةُ لَغُةً مَصْدَرُ الْفِعْلِ وَالَى، فَيُقَالُ: وَالَاهُ مُوَالَاةً وَوَلَاءً؛ أَيْ تَابَعَهُ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ الْفِقْهِيِّ: هُوَ أَنْ يُعَاهِدَ شَخْصٌ شَخْصًا آخَرَ عَلَى أَنَّهُ إِنْ جَنَى فَعَلَيْهِ أَرْشُهُ وَإِنْ مَاتَ فَمِيرَاثُهُ لَهُ.
حُكْمُ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ:
17- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ، وَمَدَى ثُبُوتِ الْوَلَاءِ بِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: (أَحَدُهَا) وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِنَ الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم-.وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ.وَهُوَ أَنَّهُ وَلَاءٌ ثَابِتٌ بِعَقْدٍ مَشْرُوعٍ، سَوَاءٌ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ أَوْ لَمْ يُسْلِمْ وَيَقَعُ بِهِ التَّوَارُثُ وَالْعَقْلُ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ.
فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}.إِذِ الْمُرَادُ مِنَ النَّصِيبِ: الْمِيرَاثُ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَضَافَ النَّصِيبَ إِلَيْهِمْ، فَدَلَّ عَلَى قِيَامِ حَقٍّ لَهُمْ مُقَدَّرٍ فِي التَّرِكَةِ، وَهُوَ الْمِيرَاثُ، لِأَنَّ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ}.لَكِنْ هَذَا عِنْدَ عَدَمِ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَقَدْ عَرَفْنَاهُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ- رضي الله عنه- قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا السُّنَّةُ فِي الرَّجُلِ يُسْلِمُ عَلَى يَدَيِ الرَّجُلِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ».أَيْ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَحَالِ مَوْتِهِ.قَالَ الْكَاسَانِيُّ: أَرَادَ بِهِ- صلى الله عليه وسلم- مَحْيَاهُ فِي الْعَقْلِ وَمَمَاتَهُ فِي الْمِيرَاثِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ: إِنَّ مَالَ الْإِنْسَانِ حَقُّهُ، فَيَصْرِفُهُ إِلَى حَيْثُ شَاءَ، وَالصَّرْفُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ إِنَّمَا هُوَ ضَرُورَةُ عَدَمِ الْمُسَتَحِقِّ، لَا أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ بَيْتَ الْمَالِ إِنَّمَا يَرِثُ بِوَلَاءِ الْإِيمَانِ فَقَطْ، لِأَنَّهُ بَيْتُ مَالِ الْمُؤْمِنِينَ.قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}، وَلِمَوْلَى الْمُوَالَاةِ هَذَا الْوَلَاءُ وَوَلَاءُ الْمُعَاقَدَةِ أَيْضًا، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ.أَلَا تَرَى أَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ أَوْلَى مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِلتَّسَاوِي فِي وَلَاءِ الْإِيمَانِ، وَالتَّرْجِيحُ لِوَلَاءِ الْعِتْقِ، كَذَا هَذَا.
إِلاَّ أَنَّ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ يَتَأَخَّرُ عَنْ سَائِرِ الْأَقَارِبِ، وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ يَتَقَدَّمُ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَلَاءَ بِالرَّحِمِ فَوْقَ الْوَلَاءِ بِالْعَقْدِ، فَيَتَأَخَّرُ عَنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَوَلَاءُ الْعَتَاقَةِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ النِّعْمَةِ بِالْإِعْتَاقِ الَّذِي هُوَ إِحْيَاءٌ وَإِيلَادٌ مَعْنًى أُلْحِقَ بِالتَّعْصِيبِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْهُ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ».
(وَالثَّانِي) لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَلَا حُكْمَ لِهَذَا الْعَقْدِ، أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ أَوْ لَمْ يُسْلِمْ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إِرْثٌ وَلَا عَقْلٌ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ: بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ».لِأَنَّ «إِنَّمَا» فِي الْحَدِيثِ لِلْحَصْرِ، وَالْأَلِفُ وَاللاَّمُ فِي «الْوَلَاءِ» لِلْحَصْرِ أَيْضًا.وَمَعْنَى الْحَصْرِ: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ خَاصًّا بِالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ.وَعَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ وَلَاءٌ بِحَسَبِ مَفْهُومِ هَذَا الْقَوّْلِ إِلاَّ لِلْمُعْتِقِ فَقَطْ.
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ».قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ ابْنُ رُشْدٍ: مَعْنَاهُ لَا حُكْمَ لَهُ فِي الْمُوَارَثَةِ عَلَى مَا كَانَ يُفْعَلُ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِأَنَّ فِي عَقْدِ الْمُوَالَاةِ إِبْطَالَ حَقِّ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَاقِدِ وَارِثٌ، كَانَ وَرَثَتُهُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَعْقِلُونَ عَنْهُ، فَقَامُوا مَقَامَ الْوَرَثَةِ الْمُعَيَّنِينَ.وَكَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إِبْطَالِ حَقِّهِمْ، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِبْطَالِ حَقِّ مَنْ قَامَ مَقَامَهُمْ.
(وَالثَّالِثُ) لِإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي الْقَوْلِ الْمُقَابِلِ لِلْمَشْهُورِ: وَهُوَ أَنَّ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ إِنَّمَا يَثْبُتُ لِلشَّخْصِ إِذَا أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ آخَرُ، وَلَوْ لَمْ يُوَالِهِ.فَبِنَفْسِ الْإِسْلَامِ عَلَى يَدَيْهِ يَكُونُ وَلَاؤُهُ لَهُ، وَيَرِثُهُ بِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- وَعَطَاءٍ، وَبِهِ قَضَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ.وَحُجَّتُهُمْ حَدِيثُ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ الْآنِفُ الذِّكْرِ.
سَبَبُ ثُبُوتِ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ:
18- ذَهَبَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ إِلَى أَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ هَذَا الْوَلَاءِ نَفْسُ إِسْلَامِ الْمَرْءِ عَلَى يَدِ آخَرَ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ تَمِيمٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: مَا السُّنَّةُ فِي الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ يُسْلِمُ عَلَى يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ».
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُمْ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْوَلَاءِ عَقْدُ الْمُوَالَاةِ، وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ بِأَنْ يَقُولَ لِصَاحِبِهِ: أَنْتَ مَوْلَايَ تَرِثُنِي إِذَا مِتُّ وَتَعْقِلُ عَنِّي إِذَا جَنَيْتُ.فَيَقُولُ: قَبِلْتُ.سَوَاءٌ قَالَ ذَلِكَ لِلَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ أَوْ لآِخَرَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْإِرْثَ وَالْعَقْلَ فِي الْعَقْدِ.وَلَوْ أَسْلَمَ شَخْصٌ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَلَمْ يُوَالِهِ وَوَالَى غَيْرَهُ، فَهُوَ مَوْلًى لِلَّذِي وَالَاهُ.وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} حَيْثُ جَعَلَ الْوَلَاءَ لِلْعَاقِدِ دُونَ غَيْرِهِ.
قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَكَذَا لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَثْبَتُوا الْوَلَاءَ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ، وَكُلُّ النَّاسِ كَانُوا يُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَكَانَ لَا يَقُولُ أَحَدٌ لِمَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ أَحَدٍ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَالِيَ غَيْرَ الَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّ نَفْسَ الْإِسْلَامِ عَلَى يَدِ رَجُلٍ لَيْسَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْوَلَاءِ لَهُ، بَلِ السَّبَبُ هُوَ الْعَقْدُ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ لَا يَثْبُتُ الْإِرْثُ وَالْعَقْلُ.
شَرَائِطُ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ:
19- شَرَائِطُ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ تِسْعَةٌ:
(أَحَدُهَا) عَقْلُ الْعَاقِدِ: إِذْ لَا صِحَّةَ لِلْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِدُونِ الْعَقْلِ.أَمَّا الْبُلُوغُ، فَهُوَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ فِي جَانِبِ الْإِيجَابِ، فَلَا يَنْعَقِدُ الْإِيجَابُ مِنَ الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَوَالَاهُ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ أَذِنَ أَبُوهُ الْكَافِرُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ، وَعَقْدُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ إِنَّمَا يَقِفُ عَلَى إِذْنِ وَلِيِّهِ، وَلَا وِلَايَةَ لِلْأَبِ الْكَافِرِ عَلَى وَلَدِهِ الْمُسْلِمِ، فَكَانَ إِذْنُهُ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ سَائِرُ عُقُودِهِ بِإِذْنِهِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، كَذَا عَقْدُ الْمُوَالَاةِ.
وَأَمَّا فِي جَانِبِ الْقَبُولِ، فَهُوَ شَرْطُ النَّفَاذِ، حَتَّى لَوْ وَالَى بَالِغٌ صَبِيًّا، فَقَبِلَ الصَّبِيُّ، يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَةِ أَبِيهِ أَوْ وَصِيِّهِ.فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ، لِأَنَّ هَذَا نَوْعُ عَقْدٍ، فَكَانَ قَبُولُ الصَّبِيِّ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ قَبُولِهِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ، ً فَيَجُوزُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ وَوَصِيِّهِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ.
أَمَّا الْإِسْلَامُ، فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ، فَتَصِحُّ وَتَجُوزُ مُوَالَاةُ الذِّمِّيِّ الذِّمِّيَّ وَالذِّمِّيِّ الْمُسْلِمَ وَالْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ، لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ، وَلَوْ أَوْصَى ذِمِّيٌّ لِذِمِّيٍّ أَوْ لِمُسْلِمٍ أَوْ مُسْلِمٌ لِذِمِّيٍّ بِالْمَالِ جَازَتِ الْوَصِيَّةُ، كَذَا الْمُوَالَاةُ.
وَكَذَا الذُّكُورَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، فَتَجُوزُ مُوَالَاةُ الرَّجُلِ امْرَأَةً وَالْمَرْأَةِ رَجُلًا.وَكَذَا دَارُ الْإِسْلَامِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ أَيْضًا، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ فَوَالَى مُسْلِمًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ مَوْلَاهُ، لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ عَقْدٌ مِنَ الْعُقُودِ، فَلَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ وَبِدَارِ الْإِسْلَامِ وَبِدَارِ الْحَرْبِ.
(وَالشَّرْطُ الثَّانِي) أَنْ لَا يَكُونَ لِلْعَاقِدِ وَارِثٌ: وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مِنْ أَقَارِبِهِ مَنْ يَرِثُهُ.فَإِنْ كَانَ لَمْ يَصِحَّ عَقْدُ الْمُوَالَاةِ، لِأَنَّ الْقَرَابَةَ أَقْوَى مِنْهُ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}.فَإِنْ كَانَ لَهُ زَوْجٌ أَوْ زَوْجَةٌ يَصِحُّ الْعَقْدُ، وَيُعْطَى نَصْيِبَهُ أَوْ نَصْيِبَهَا، وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى.
(وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ) أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وَلَاءُ عَتَاقَةٍ: فَإِنْ كَانَ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ عَقْدُ الْمُوَالَاةِ، لِأَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ أَقْوَى مِنْ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ، لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ، وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ، فَلَا يَجُوزُ رَفْعُ الْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ.
(وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ) أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وَلَاءُ مُوَالَاةٍ مَعَ أَحَدٍ وَقَدْ عَقَلَ عَنْهُ: لِأَنَّهُ لَمَّا عَاقَدَ غَيْرَهُ فَعَقَلَ عَنْهُ، فَقَدْ تَأَكَّدَ عَقْدُهُ وَلَزِمَ، وَخَرَجَ عَنِ احْتِمَالِ النَّقْضِ وَالْفَسْخِ، فَلَا يَصِحُّ مُعَاقَدَةُ غَيْرِهِ.
(وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ) أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ عَقَلَ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ: لِأَنَّهُ إِذَا عَقَلَ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ، فَقَدْ صَارَ وَلَاؤُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَجُوزُ تَحْوِيلُهُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ.
(وَالشَّرْطُ السَّادِسُ) أَنْ يَكُونَ حُرًّا مَجْهُولَ النَّسَبِ: وَذَلِكَ بِأَلاَّ يُنْسَبَ إِلَى غَيْرِهِ إِذْ لَا يُدْرَى لَهُ أَبٌ فِي مَسْقَطِ رَأْسِهِ، لِأَنَّ مَنْ عُرِفَ نَسَبُهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَالِيَ غَيْرَهُ.وهَذَاَ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ.
أَمَّا نِسْبَةُ غَيْرِهِ إِلَيْهِ فَغَيْرُ مَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ مُوَالَاتِهِ.
وَفِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ: كَوْنُهُ مَجْهُولَ النَّسَبِ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
(وَالشَّرْطُ السَّابِعُ) أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ الْعَرَبِ: حَتَّى لَوْ وَالَى عَرَبِيٌّ رَجُلًا مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِهِ، لَمْ يَكُنْ مَوْلَاهُ، وَلَكِنْ يُنْسَبُ إِلَى عَشِيرَتِهِ، وَهُمْ يَعْقِلُونَ عَنْهُ، لِأَنَّ جَوَازَ الْمُوَالَاةِ لِلتَّنَاصُرِ، وَالْعَرَبُ يَتَنَاصَرُونَ بِقَبَائِلِهِمْ، فَأَغْنَى عَنْ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ.وَإِنَّمَا تَجُوزُ مُوَالَاةُ الْعَجَمِ لِأَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ قَبِيلَةٌ يَتَنَاصَرُونَ بِهَا، فَتَجُوزُ مُوَالَاتُهُمْ لِأَجْلِ التَّنَاصُرِ.
وَأَمَّا الَّذِي هُوَ مِنَ الْعَرَبِ، فَلَهُ قَبِيلَةٌ يَنْصُرُونَهُ، وَالنُّصْرَةُ بِالْقَبِيلَةِ أَقْوَى، فَلَا يَصِيرُ مَوْلًى.وَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وَكَذَا وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ.وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ مَعَ أَنَّهُ أَقْوَى، فَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ أَوْلَى بِعَدَمِ الثُّبُوتِ عَلَيْهِ.
وَقَدْ عَلَّقَ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى اشْتِرَاطِ صَاحِبِ الدُّرِّ هَذَا الشَّرْطَ، فَقَالَ: وَيُغْنِي عَنْ هَذَا كَوْنُهُ مَجْهُولَ النَّسَبِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ أَنْسَابُهُمْ مَعْلُومَةٌ.
(وَالشَّرْطُ الثَّامِنُ) أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ مَوَالِي الْعَرَبِ: لِأَنَّ مَوْلَاهُمْ مِنْهُمْ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ».
(وَالشَّرْطُ التَّاسِعُ) أَنْ يَشْتَرِطَ الْعَقْلَ وَالْإِرْثَ: أَيْ أَنْ يَعْقِلَ عَنْهُ إِذَا جَنَى وَيَرِثَهُ إِذَا مَاتَ.
صِفَةُ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ:
20- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُوَالَاةَ عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ طَرَفَيْهِ أَنْ يَفْسَخَهُ بِإِرَادَتِهِ الْمُنْفَرِدَةِ، دُونَ تَوَقُّفٍ عَلَى رِضَا الطَّرَفِ الْآخَرِ.حَتَّى لَوْ وَالَى رَجُلًا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُ بِوَلَائِهِ إِلَى غَيْرِهِ.لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يُمْلَكُ بِهِ شَيْءٌ، فَلَمْ يَكُنْ لَازِمًا، كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ.وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ، وَالْوَصِيَّةُ غَيْرُ لَازِمَةٍ، فَكَذَا عَقْدُ الْمُوَالَاةِ، إِلاَّ إِذَا عَقَلَ عَنْهُ، فَلَيْسَ لَهُ حِينَئِذٍ فَسْخُهُ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ وَحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ.حَيْثُ إِنَّ وِلَايَةَ التَّحَوُّلِ قَبْلَ أَنْ يَعْقِلَ بِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ، فَإِذَا عَقَلَ عَنْهُ، صَارَ كَالْعِوَضِ فِي الْهِبَةِ.وَلِأَنَّهُ إِذَا عَقَلَ عَنْهُ فَقَدْ تَأَكَّدَ الْعَقْلُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَفِي التَّحَوُّلِ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ فَسْخُ قَضَائِهِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ فَسْخَ الْقَضَاءِ.
وَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَهُ صَرِيحًا قَبْلَ أَنْ يَعْقِلَ عَنْهُ- بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: فَسَخْتُ عَقْدَ الْمُوَالَاةِ مَعَكَ- لِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ غَيْرُ لَازِمٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَهُ إِلاَّ بِحَضْرَةِ الْآخَرِ، أَيْ بِعِلْمِهِ، لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْآخَرِ، فَلَا يَمْلِكُ إِسْقَاطَهُ مَقْصُورًا مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ، كَعَزْلِ الْوَكِيلِ مَقْصُورًا مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ، إِلاَّ أَنْ يُوَالِيَ الْأَسْفَلُ (أَيِ الْمَوْلَى الْمُوجِبُ) آخَرَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ نَقْضًا دَلَالَةً، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ صَاحِبُهُ، أَوِ انْتِقَاضًا ضَرُورَةً، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مُوَالَاةَ غَيْرِهِ إِلاَّ بِانْفِسَاخِ عَقْدِهِ الْأَوَّلِ فَيَنْفَسِخُ الْأَوَّلُ دَلَالَةً وَضَرُورَةً.إِذْ كَثِيرًا مَا يَثْبُتُ الشَّيْءُ دَلَالَةً أَوْ ضَرُورَةً، وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ قَصْدًا.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
144-موسوعة الفقه الكويتية (وليمة 1)
وَلِيمَةٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الْوَلِيمَةُ فِي اللُّغَةِ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْوَلْمِ وَهُوَ الْجَمْعُ، لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ يَجْتَمِعَانِ، وَهِيَ اسْمٌ لِطَعَامِ الْعُرْسِ وَالْإِمْلَاكِ، وَقِيلَ: هِيَ كُلُّ طَعَامٍ صُنِعَ لِعُرْسٍ وَغَيْرِهِ أَوْ كُلُّ طَعَامٍ يُتَّخَذُ لِجَمْعٍ.وَفِي الِاصْطِلَاحِ تَقَعُ الْوَلِيمَةُ عَلَى كُلِّ طَعَامٍ يُتَّخَذُ لِسُرُورٍ حَادِثٍ مِنْ عُرْسٍ وَإِمْلَاكٍ وَغَيْرِهِمَا، لَكِنَّ اسْتِعْمَالَهَا مُطْلَقَةً فِي الْعُرْسِ أَشْهَرُ وَفِي غَيْرِهِ بِقَيْدٍ.
وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ لِلْوَلَائِمِ الَّتِي يُدْعَى إِلَيْهَا النَّاسُ أَسْمَاءً خَاصَّةً.تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (دَعْوَة ف 26).
وَيَنْحَصِرُ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى بَيَانِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِوَلِيمَةِ الْعُرْسِ، أَمَّا الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِسَائِرِ الْوَلَائِمِ فَتُنْظَرُ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ الْخَاصَّةِ بِهَا وَفِي مُصْطَلَحِ (دَعْوَة).
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ ـ الدَّعْوَةُ:
2- مِنْ مَعَانِي الدَّعْوَةِ فِي اللُّغَةِ: الضِّيَافَةُ، وَهِيَ بِفَتْحِ الدَّالِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعَرَبِ، وَتَيْمُ الرِّبَابِ تَكْسِرُهَا، وَذَكَرَهَا قُطْرُبٌ بِالضَّمِّ وَغَلَّطُوهُ.
وَيَسْتَعْمِلُ الْفُقَهَاءُ الدَّعْوَةَ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَالصِّلَةُ بَيْنَ الدَّعْوَةِ وَالْوَلِيمَةِ أَنَّ الدَّعْوَةَ أَعَمُّ مِنَ الْوَلِيمَةِ.
ب ـ الْمَأْدُبَةُ:
3- الْمَأْدُبَةُ لُغَةً: الطَّعَامُ الَّذِي يَصْنَعُهُ الرَّجُلُ وَيَدْعُو إِلَيْهِ النَّاسَ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: كُلُّ طَعَامٍ صُنِعَ لِدَعْوَةٍ مَأْدُبَةٌ.وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَأْدُبَةِ وَالْوَلِيمَةِ أَنَّ الْوَلِيمَةَ أَخَصُّ مِنَ الْمَأْدُبَةِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
4- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْوَلِيمَةِ وَلَهُمْ رَأْيَانِ:
الْأَوَّلُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ وَلِيمَةَ الْعَرَبِ سُنَّةٌ، زَادَ الْحَنَفِيَّةُ وَفِيهَا مَثُوبَةٌ عَظِيمَةٌ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ.وَاسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْوَلِيمَةَ مَسْنُونَةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ».
وَقَالُوا: سَبَبُ الْوَلِيمَةِ عَقْدُ النِّكَاحِ وَهُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ فَفَرْعُهُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ غَيْرَ وَاجِبٍ، وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لَتَقَدَّرَتْ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَلَكَانَ لَهَا بَدَلٌ عِنْدَ الْإِعْسَارِ، كَمَا يَعْدِلُ الْمُكَفِّرُ فِي إِعْسَارِهِ إِلَى الصِّيَامِ، فَدَلَّ عَدَمُ تَقْدِيرِهَا وَبَدَلِهَا عَلَى سُقُوطِ وُجُوبِهَا، وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لَكَانَ مَأْخُوذًا بِفِعْلِهَا حَيًّا، وَمَأْخُوذَةً مِنْ تَرِكَتِهِ مَيِّتًا كَسَائِرِ الْحُقُوقِ.
الثَّانِي: ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالْإِمَامُ أَحْمَدَ فِي قَوْلٍ ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ إِلَى أَنَّ الْوَلِيمَةَ وَاجِبَةٌ، لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «رَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ- رضي الله عنه- أَثَرَ صُفْرَةٍ فَقَالَ لَهُ: مَهْيَمْ- أَيْ مَا الْخَبَرُ؟- قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ.فَقَالَ: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ».وَهَذَا أَمْرٌ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- مَا نَكَحَ قَطُّ إِلاَّ أَوْلَمَ فِي ضِيقٍ أَوْ سَعَةٍ، وَلِأَنَّ فِي الْوَلِيمَةِ إِعْلَانًا لِلنِّكَاحِ، فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السِّفَاحِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ» وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ إِجَابَةُ الدَّاعِي إِلَيْهَا وَاجِبَةً، دَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْوَلِيمَةِ وَاجِبٌ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْمُسَبِّبِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ السَّبَبِ.
الْقَضَاءُ بِالْوَلِيمَةِ:
5- نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ بِالْوَلِيمَةِ أَوْ عَدَمِ الْقَضَاءِ بِهَا، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي وُجُوبِ الْوَلِيمَةِ أَوْ نَدْبِهَا.
وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَدَمَ الْقَضَاءِ بِالْوَلِيمَةِ، لِأَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ عِنْدَهُمْ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَحَمَلُوا الْأَمْرَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ- رضي الله عنه-: «أَوْلِمْ...» عَلَى النَّدْبِ.
وَقَالَ خَلِيلٌ: وَصُحِّحَ الْقَضَاءُ بِالْوَلِيمَةِ: أَيْ عَلَى الزَّوْجِ إِنْ طَالَبَتْهُ الزَّوْجَةُ وَأَبَى مِنْهَا، وَأَشَارَ خَلِيلٌ بِهَذَا إِلَى قَوْلِ أَبِي الْأُصْبُعِ بْنِ سَهْلٍ: الصَّوَابُ الْقَضَاءُ بِهَا لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: «أَوْلِمْ...» وَالْأَصْلُ فِي الْأَمْرِ الْوُجُوبُ مَعَ الْعَمَلِ بِهِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ.
وَمَحَلُّ الْخِلَافِ- كَمَا قَالَ الدُّسُوقِيُّ- مَا لَمْ تَشْتَرِطْ عَلَى الزَّوْجِ أَوْ يَجْرِ بِهَا الْعُرْفُ، وَإِلاَّ قَضَى بِهَا اتِّفَاقًا...أَيْ عِنْدَهُمْ.
حِكْمَةُ الْوَلِيمَةِ:
6- الْوَلِيمَةُ: عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لِإِشْهَارِ النِّكَاحِ، قَالَ مَالِكٌ: كَانَ رَبِيعَةُ يَقُولُ: إِنَّمَا يُسْتَحَبُّ الطَّعَامُ فِي الْوَلِيمَةِ لِإِثْبَاتِ النِّكَاحِ وَإِظْهَارِهِ وَمَعْرِفَتِهِ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ يَهْلَكُونَ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: يُرِيدُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالْوَلِيمَةِ وَحَضَّ عَلَيْهَا.بِقَوْلِهِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ- رضي الله عنه-: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ».وَبِمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ، وَقَوْلُهُ صَحِيحٌ يُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- مَرَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِبَنِي زُرَيْقٍ فَسَمِعُوا غِنَاءً وَلَعِبًا، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: نِكَاحُ فُلَانٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: كَمُلَ دِينُهُ، هَذَا النِّكَاحُ لَا السِّفَاحُ، وَلَا نِكَاحُ السِّرِّ حَتَّى يُسْمَعُ دُفٌّ أَوْ يُرَى دُخَانٌ».
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الظَّاهِرُ أَنَّ سِرَّهَا- أَيْ حِكْمَةُ الْوَلِيمَةِ- رَجَاءُ صَلَاحِ الزَّوْجَةِ بِبَرَكَتِهَا، فَكَانَتْ كَالْفِدَاءِ لَهَا.
إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ:
أ- حُكْمُ إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ:
7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ إِلَى ثَلَاثِ آرَاءٍ:
الرَّأْيُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْإِجَابَةَ إِلَى الْوَلِيمَةِ وَاجِبَةٌ.
وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وُجُوبَ الْإِجَابَةِ بِأَنْ يَكُونَ الْمَدْعُوُّ لِلْوَلِيمَةِ مُعَيَّنًا بِالشَّخْصِ صَرِيحًا أَوْ ضِمْنًا وَلَوْ بِكِتَابٍ أَوْ بِرَسُولٍ ثِقَةٍ يَقُولُ لَهُ رَبُّ الْوَلِيمَةِ: ادْعُ فُلَانًا أَوْ أَهْلَ مَحَلَّةِ كَذَا، أَوْ أَهْلَ الْعِلْمِ أَوْ الْمُدَرِّسِينَ- وَهُمْ مَحْصُورُونَ- لِأَنَّهُمْ مُعَيَّنُونَ حُكْمًا، فَلَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ إِذَا كَانُوا غَيْرَ مَحْصُورِينَ، كَادْعُ مَنْ لَقِيتَ أَوِ الْعُلَمَاءَ أَوِ الْمُدَرِّسِينَ وَهُمْ غَيْرُ مَحْصُورِينَ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِنْ دَعَا الْجَفَلَى-.بِأَنْ يَقُولَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا إِلَى الْوَلِيمَةِ، أَوْ يَقُولُ الرَّسُولُ: أُمِرْتُ أَنْ أَدْعُوَ كُلَّ مَنْ لَقِيتُ أَوْ مَنْ شِئْتُ- لَمْ تَجِبِ الْإِجَابَةُ وَلَمْ تُسْتَحَبُّ، وَتَجُوزُ الْإِجَابَةُ بِهَذَا لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ الدُّعَاءِ.
قَالَ الزُّرْقَانِيُّ: قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَّاحِ: وَالتَّعْيِينُ بِأَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الْعُرْسِ أَوْ وَكِيلُهُ لِمُعَيَّنٍ: تَأْتِي وَقْتَ كَذَا، أَوْ أَسْأَلُكَ الْحُضُورَ، أَوْ أُحِبُّ أَنْ تَحْضُرَ، أَوْ تُجَمِّلَنِي بِالْحُضُورِ، لَا إِنْ قَالَ: احْضُرْ إِنْ شِئْتَ إِلاَّ لِقَرِينَةٍ أَوْ اسْتِعْطَافٍ مَعَ رَغْبَتِهِ فِي حُضُورِهِ.
وَاسْتَدَلَّ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْإِجَابَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ بِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ فَلْيَأْتِهَا» وَفِي لَفْظٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «أَجِيبُوا هَذِهِ الدَّعْوَةَ إِذَا دُعِيتُمْ إِلَيْهَا» وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ، يُدْعَى لَهَا الْأَغْنِيَاءُ وَيُتْرَكُ الْفُقَرَاءُ، وَمَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ».
قَالُوا: إِنَّ فِي الْإِجَابَةِ تَآلُفًا، وَفِي تَرْكِهَا ضَرَرًا وَتَقَاطُعًا.
الرَّأْيُ الثَّانِي: ذَهَبَ عَامَّةُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ- اخْتَارَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ- إِلَى أَنَّ الْإِجَابَةَ إِلَى الْوَلِيمَةِ سُنَّةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ، لِأَنَّهَا تَقْتَضِي أَكْلَ طَعَامٍ وَتَمَلُّكُ مَالٍ، وَلَا يُلْزَمُ أَحَدٌ أَنْ يَتَمَلَّكَ مَالًا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلِأَنَّ الزَّكَوَاتِ مَعَ وُجُوبِهَا عَلَى الْأَعْيَانِ لَا يُلْزَمُ الْمَدْفُوعَةُ إِلَيْهِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا فَكَانَ غَيْرُهَا أَوْلَى.
الرَّأْيُ الثَّالِثُ: يَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ: أَنَّ الْإِجَابَةَ إِلَى الْوَلِيمَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِذَا أَجَابَ مِمَّنْ دُعِيَ مَنْ تَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ سَقَطَ وُجُوبُهَا عَنِ الْبَاقِينَ وَإِلاَّ حُرِّجُوا أَجْمَعِينَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْوَلِيمَةِ ظُهُورُهَا وَانْتِشَارُهَا لِيَقَعَ الْفَرْقُ فِيهَا بَيْنَ النِّكَاحِ وَالسِّفَاحِ، فَإِذَا وُجِدَ الْمَقْصُودُ بِمَنْ حَضَرَ سَقَطَ وُجُوبُهَا عَمَّنْ تَأَخَّرَ.
ب- مَا تَتَحَقَّقُ بِهِ الْإِجَابَةُ:
الْمَدْعُوُّ إِلَى الْوَلِيمَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَائِمًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُفْطِرًا:
8 ـ أَمَّا الصَّائِمُ فَتَتَحَقَّقُ الْإِجَابَةُ إِلَى الْوَلِيمَةِ فِي حَقِّهِ بِحُضُورِهَا، ثُمَّ يُنْظَرُ إِنْ كَانَ صَوْمُهُ فَرْضًا لَمْ يُفْطِرْ وَدَعَا لِلْقَوْمِ بِالْبَرَكَةِ وَقَالَ: إِنِّي صَائِمٌ، وَكَانَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمَقَامِ أَوْ الِانْصِرَافِ، فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ، وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ» قَوْلُهُ «فَلْيُصَلِّ» أَيْ يَدْعُو، وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ قَالَ: دَعَا أَبِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فَأَتَاهُ، فَجَلَسَ وَوَضَعَ الطَّعَامَ، فَمَدَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَدَهُ وَقَالَ: خُذُوا بِسْمِ اللَّهِ، وَقَبَضَ عَبْدَ اللَّهِ يَدَهُ وَقَالَ: إِنِّي صَائِمٌ.
وَإِنْ كَانَ صَوْمَهُ تَطَوُّعًا فَيَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إِتْمَامُ الصِّيَامِ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ وَيُفْطِرَ، إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: أَنَّهُ إِنْ شَقَّ عَلَى الدَّاعِي صَوْمُ نَفْلٍ مِنَ الْمَدْعُوِّ فَالْفِطْرُ لَهُ أَفْضَلُ مِنْ إِتْمَامِ الصَّوْمِ وَلَوْ آخِرَ النَّهَارِ لِجَبْرِ خَاطِرِ الدَّاعِي، وَلِمَا وَرَدَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ فِي دَعْوَةٍ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: إِنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ Bرَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: دَعَاكُمْ أَخُوكُمْ وَتَكَلَّفَ لَكُمْ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: افْطَرْ وَصُمْ مَكَانَهُ صُمْ يَوْمًا إِنْ شِئْتَ».
فَإِنْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَالْإِمْسَاكُ أَفْضَلُ، لِحَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ أَجَابَ عَبْدَ الْمُغِيرَةِ وَهُوَ صَائِمٌ فَقَالَ: إِنِّي صَائِمٌ وَلَكِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أُجِيبَ الدَّاعِيَ، فَأَدْعُو بِالْبَرَكَةِ.وَعَنْ عَبْدِ اللِّهِ قَالَ: إِذَا عُرِضَ عَلَى أَحَدِكُمْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ.
قَالَ الرَّحِيبَانِيُّ: إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِ الْمَدْعُوِّ الْأَكْلَ كَسْرُ قَلْبِ الدَّاعِي كَانَ تَمَامُ صَوْمِ التَّطَوُّعِ أَوْلَى مِنْ فِطْرِهِ.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَهُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ، وَقَالَ: لَا يَنْبَغِي لِصَاحِبِ الدَّعْوَةِ الْإِلْحَاحُ فِي الطَّعَامِ أَيْ الْأَكْلُ لِلْمَدْعُوِّ إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْفِطْرِ فِي التَّطَوُّعِ، أَوْ الْأَكْلِ إِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَإِنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ جَائِزٌ، وَإِذَا أَلْزَمَهُ بِمَا لَا يَلْزَمُهُ كَانَ مِنْ نَوْعِ الْمَسْأَلَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا.
9- أَمَّا الْمَدْعُوُّ الْمُفْطِرُ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ أَكْلِهِ فِي الْوَلِيمَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
َذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الظَّاهِرِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُفْطِرَ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْأَكْلُ وَلَا يَلْزَمُهُ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ شَاءَ طَعُمَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ».
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى وُجُوبِ الْأَكْلِ عَلَى الْمُفْطِرِ لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ» وَلِأَنَّ الْأَكْلَ هُوَ مَقْصُودُ الْحُضُورِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ آخَرَ: إِنَّ الْأَكْلَ فِي الْوَلِيمَةِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، فَإِنْ أَكَلَ غَيْرَهُ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْأَكْلِ.
ج ـ شُرُوطُ إِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ:
اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ إِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ شُرُوطًا مِنْهَا مَا يُعْتَبَرُ فِي مَكَانِ الدَّعْوَةِ، وَمِنْهَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الدَّاعِي، وَمِنْهَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الْمَدْعُوِّ، وَمِنْهَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الْوَلِيمَةِ نَفْسِهَا.
الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي مَكَانِ الدَّعْوَةِ:
أَوَّلًا: أَنْ لَا يَكُونُ فِي الدَّعْوَةِ مَنْ يَتَأَذَّى بِهِ الْمَدْعُوُّ أَوْ عَدُوٌّ لَهُ:
10- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي مَوْضِعِ الدَّعْوَةِ مَنْ يَتَأَذَّى الْمَدْعُوُّ بِهِ أَوْ لَا يَلِيقُ بِهِ مُجَالَسَتُهُ، فَإِنْ كَانَ فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي التَّخَلُّفِ..وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ أَنْ يَكُونَ التَّأَذِّي لِأَمْرٍ دِينِيٍّ.
وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي اعْتِبَارِ الْعَدَاوَةِ أَوْ عَدَمِ اعْتِبَارِهَا، وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ اخْتَلَفُوا فِي اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ كُلِّهِ أَوْ عَدَمِ اعْتِبَارِهِ، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ الْآتِي:
قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَحْضُرَ مَنْ يَتَأَذَّى بِهِ الْمَدْعُوُّ لِأَمْرٍ دِينِيٍّ، كَمَنْ شَأْنُهُمْ الْوُقُوعُ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ، فَإِنْ حَضَرَ مَنْ ذُكِرَ لَمْ تَجِبِ الْإِجَابَةُ، أَمَّا لَوْ حَضَرَ مَنْ يَتَأَذَّى مِنْ رُؤْيَتِهِ أَوْ مِنْ مُخَاطَبَتِهِ لِأَجْلِ حَظِّ نَفْسٍ لَا لِضَرَرٍ يَحْصُلُ لَهُ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُ التَّخَلُّفُ لِذَلِكَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ بِالْمَحَلِّ الَّذِي يَحْضُرُ فِيهِ الْمَدْعُوِّ إِلَى الْوَلِيمَةِ مَنْ يَتَأَذَّى بِهِ، أَوْ لَا يَلِيقُ بِهِ مُجَالَسَتُهُ، فَإِنْ كَانَ فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي التَّخَلُّفِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّأَذِّي فِي الْأَوَّلِ وَالْغَضَاضَةِ فِي الثَّانِي.
وَمَثَّلُوا لِلْغَضَاضَةِ بِمَنْ لَا يَلِيقُ بِالْمَدْعُوِّ مُجَالَسَتُهُ كَالْأَرْذَالِ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ، وَمَثَّلُوا لِلتَّأَذِّي بِحُضُورِ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدْعُوِّ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ، كَمَا نَقَلَ الرَّمْلِيُّ عَنِ الزَّرْكَشِيِّ وَقَالَ- الرَّمْلِيُّ وَوَافَقَهُ الْخَطِيبُ-: أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلْعَدَاوَةِ بَيْنَ الْمَدْعُوِّ وَالدَّاعِي، لَكِنَّ الرَّمْلِيَّ نَقَلَ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ وَالرُّويَانِيِّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْمَدْعُوِّ عَدُوٌّ أَوْ دَعَاهُ عَدْوُهُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي إِسْقَاطِ الْوُجُوبِ، وَحَمَلَ ذَلِكَ كَمَا نَقَلَ عَنِ الْأَذْرُعِيِّ عَلَى مَا إِذَا كَانَ لَا يَتَأَذَّى بِهِ.
وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ، فَفِي التَّرْغِيبِ وَالْبُلْغَةِ: أَنَّهُ إِنْ عَلِمَ الْمَدْعُوُّ حُضُورَ الْأَرْذَالِ وَمَنْ مُجَالَسَتُهُمْ تُزْرِي بِمِثْلِهِ لَمْ تَجِبْ إِجَابَتُهُ.
قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ: لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا.
قَالَ: وَقَدْ أَطْلَقَ أَحْمَدُ الْوُجُوبَ، وَاشْتَرَطَ الْحِلَّ وَعَدَمَ الْمُنْكَرِ، فَأَمَّا هَذَا الشَّرْطُ فَلَا أَصْلَ لَهُ، كَمَا أَنَّ مُخَالَطَةَ هَؤُلَاءِ فِي صُفُوفِ الصَّلَاةِ لَا تُسْقِطُ الْجَمَاعَةَ، وَفِي الْجِنَازَةِ لَا تُسْقِطُ الْحُضُورَ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا.
ثَانِيًا: أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ مُنْكَرٌ:
11- الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ وَعَلِمَ قَبْلَ الْحُضُورِ بِوُجُودِ الْخُمُورِ أَوِ الْمَلَاهِي وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي فِيهَا، وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ وَإِزَالَتِهِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ وُجُوبُ الْإِجَابَةِ فِي حَقِّهِ.
12- ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ حُضُورِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي أَظْهَرِ الْوَجْهَيْنِ ـ وَهُوَ الصَّحِيحُ ـ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْحُضُورُ لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنهما- قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسُ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ» وَلِأَنَّهُ يَكُونُ قَاصِدًا لِرُؤْيَةِ الْمُنْكَرِ أَوْ سَمَاعِهِ بِلَا حَاجَةٍ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ مَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ عَلَيْهَا لَهْوٌ إِنْ عَلِمَ بِهِ قَبْلَ الْحُضُورِ لَا يُجِيبُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ حَقُّ الْإِجَابَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ جَرَى عَلَيْهِ الْعِرَاقِيُّونَ: الْأَوْلَى أَنْ لَا يَحْضُرَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَحْضُرَ وَلَا يَسْتَمِعَ وَيُنْكِرَ بِقَلْبِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ يُضْرَبُ الْمُنْكَرُ فِي جِوَارِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ التَّحَوُّلُ وَإِنْ بَلَغَهُ الصَّوْتُ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ الْحُضُورِ بِأَنَّهُ رُبَّمَا أَحَشَمَهُمْ حُضُورُهُ فَكَفُّوا وَأَقْصَرُوا، وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ وَمُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ دُعِيَا إِلَى وَلِيمَةٍ فَسَمِعَا مُنْكَرًا فَقَامَ مُحَمَّدُ لِيَنْصَرِفَ فَجَذَبَهُ الْحَسَنُ وَقَالَ: اجْلِسْ وَلَا يَمْنَعُكَ مَعْصِيَتُهُمْ مِنْ طَاعَتِكَ.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ عَلِمَ وُجُودَ الْمُنْكَرِ قَبْلَ حُضُورِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُنْكَرُ يَزُولُ بِحُضُورِهِ لِنَحْوِ عِلْمٍ أَوْ جَاهٍ فَلْيَحْضُرْ وُجُوبًا، إِجَابَةً لِلدَّعْوَةِ وَإِزَالَةً لِلْمُنْكَرِ، وَلَا يَمْنَعُ الْوُجُوبُ وُجُودَ مَنْ يُزِيلُهُ غَيْرُهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِزَالَةِ فَقَطْ.
وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ وُجُودَ الْمُنْكَرِ يَمْنَعُ Bالْإِجَابَةَ مُطْلَقًا.
13- وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِمَا فِي الْوَلِيمَةِ مِنَ الْمَعَاصِي فَعَلَيْهِ الْإِجَابَةُ وَلَا يَكُونُ خَوْفُهُ مِنْهَا عُذْرًا فِي التَّأْخِيرِ عَنْهَا لِجَوَازِ أَنْ لَا يَكُونَ.
وَإِنْ حَضَرَ وَكَانَتِ الْمَعَاصِي بِحَيْثُ لَا يُشَاهِدُهَا وَلَا يَسْمَعُهَا، قَالَ الْجُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَقَامَ عَلَى حُضُورِهِ وَلَمْ يَنْصَرِفْ.
وَإِنْ سَمِعَهَا وَلَمْ يُشَاهِدْهَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَمْ يَتَعَمَّدِ السَّمَاعَ وَأَقَامَ عَلَى الْحُضُورِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ سَمِعَ فِي مَنْزِلِهِ مَعَاصٍ مِنْ دَارِ غَيْرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الِانْتِقَالُ عَنْ مَنْزِلِهِ، كَذَلِكَ هَذَا.
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْمُنْكَرِ حَتَّى حَضَرَ فَشَاهَدَهُ نَهَاهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا وَجَبَ الْخُرُوجُ إِلاَّ إِنْ خَافَ كَأَنْ كَانَ فِي لَيْلٍ وَخَافَ مِنَ الْخُرُوجِ فَقَعَدَ كَارِهًا بِقَلْبِهِ وَلَا يَسْمَعُ لِمَا يَحْرُمُ اسْتِمَاعُهُ.
وَإِنْ اشْتَغَلَ بِالْحَدِيثِ أَوْ الْأَكْلِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي جِوَارِ بَيْتِهِ، لَا يَلْزَمُهُ التَّحَوُّلُ، وَإِنْ بَلَغَهُ الصَّوْتُ.
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْمُنْكَرِ حَتَّى حَضَرَ أَزَالَهُ وَجَلَسَ بَعْدَ ذَلِكَ إِجَابَةً لِلدَّعْوَةِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِزَالَتِهِ انْصَرَفَ لِئَلاَّ يَكُونَ قَاصِدًا لِرُؤْيَتِهِ أَوْ سَمَاعِهِ «وَرَوَى نَافِعٌ قَالَ: سَمِعَ ابْنُ عُمَرَ مِزْمَارًا فَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ عَلَى أُذُنَيْهِ وَنَأَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَقَالَ لِي: يَا نَافِعُ هَلْ تَسْمَعُ شَيْئًا؟ فَقُلْتُ: لَا، قَالَ: فَرَفَعَ أُصْبُعَيْهِ مِنْ أُذُنَيْهِ وَقَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَسَمِعَ مِثْلَ هَذَا فَصَنَعَ مِثْلَ هَذَا».
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُنْكَرُ فِي الْمَنْزِلِ فَإِنْ قَدِرَ الْمَدْعُوُّ عَلَى الْمَنْعِ فَعَلَ وَإِلاَّ صَبَرَ مَعَ الْإِنْكَارِ بِقَلْبِهِ، هَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ مُقْتَدًى بِهِ، فَإِنْ كَانَ مُقْتَدًى بِهِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَنْعِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ وَلَا يَقْعُدُ لِأَنَّ فِيهِ شَيْنُ الدِّينِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُنْكَرُ عَلَى الْمَائِدَةِ فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْعُدَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقْتَدًى بِهِ، بَلْ يَخْرُجُ مُعْرِضًا.لقوله تعالى: {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
ثَالِثًا: أَنْ لَا يَكُونَ بِمَكَانِ الدَّعْوَةِ صُورَةً مُحَرَّمَةً:
14- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ إِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ أَنْ لَا تَكُونَ بِمَكَانِ الدَّعْوَةِ صُوَرٌ مُجَسِّدَةٌ لِإِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ كَامِلِ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ وَلَهَا ظِلٌّ يَدُومُ وَهِيَ مَنْصُوبَةٌ، إِذْ تَصْوِيرُ إِنْسَانٍ أَوْ حَيَوَانٍ إِذَا كَانَ كَامِلَ الْأَعْضَاءِ مُحَرَّمٌ فَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ لَعَنَ الْمُصَوِّرَ» وَقَالَ: «مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَنْفُخَ مِنْهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ».
وَلِمَا وَرَدَ «عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ صَنَعَ طَعَامًا فَدَعَا رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَجَاءَ، فَرَأَى فِي الْبَيْتِ سِتْرًا فِيهِ تَصَاوِيرَ فَرَجَعَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَجَعَكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟ قَالَ: إِنَّ فِي الْبَيْتِ سِتْرًا فِيهِ تَصَاوِيرُ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ تَصَاوِيرُ».
وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي حُكْمِ اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الصُّوَرِ فِي مَكَانٍ مُهَانٍ مُسْتَبْذَلٍ، وَفِيمَا إِذَا كَانَتِ الصُّورَةُ لِحَيَوَانٍ لَمْ يُشَاهِدْ مَثَلَهُ، أَوْ كَانَ نَاقِصَ الْأَعْضَاءِ أَوْ لَا يَدُومُ ظِلُّهُ، وَفِي تَصْوِيرِ مَا لَيْسَ بِذِي رُوحٍ تَنْظُرُ فِي مُصْطَلَحِ (تَصْوِير، ف 2، 10، 17)
رَابِعًا: أَنْ لَا يُوجَدَ كَلْبٌ:
15- نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ أَنْ لَا يُوجَدَ كَلْبٌ لَا يَحِلُّ اقْتِنَاؤُهُ، أَوْ عَقُورٌ، وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الدَّاخِلُ أَعْمًى.
خَامِسًا: أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ كَثْرَةَ زِحَامٍ:
16- اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ أَنْ لَا يَكُونَ بِمَكَانِ الدَّعْوَةِ كَثْرَةَ زِحَامٍ، فَإِنْ وُجِدَتْ جَازَ التَّخَلُّفُ عَنْ حُضُورِ الدَّعْوَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَا تَكُونُ كَثْرَةُ الزَّحْمَةِ عُذْرًا إِنْ وَجَدَ سِعَةً لِمَدْخَلِهِ وَمَجْلِسِهِ وَأَمِنَ عَلَى نَحْوِ عِرْضِهِ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْ سِعَةً وَلَمْ يَأْمَنْ عَلَى نَحْوِ عِرْضِهِ فَإِنَّ كَثْرَةَ الزَّحْمَةِ تَكُونُ عُذْرًا.
سَادِسًا: أَنْ لَا يَكُونَ بَابُ مَكَانِ الْوَلِيمَةِ مُغْلَقًا:
17- ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ ضِمْنَ شُرُوطِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ عَدَمَ إِغْلَاقِ الْبَابِ عِنْدَ حُضُورِ الْمَدْعُوِّ، فَلَوْ عَلِمَ الْمَدْعُوُّ أَنَّ الْبَابَ يُغْلَقُ عِنْدَ حُضُورِهِ وَلَوْ لِمُشَاوَرَةٍ جَازَ لَهُ التَّخَلُّفُ عَنِ الْحُضُورِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِطَّةِ.
أَمَّا إِغْلَاقُ مَكَانِ الْوَلِيمَةِ لِخَوْفِ الطُّفَيْلِيَّةِ فَلَا يُبِيحُ التَّخَلُّفَ؛ لِأَنَّ الْإِغْلَاقَ لِلضَّرُورَةِ.
سَابِعًا: أَنْ لَا يَكُونَ مَكَانُ الْوَلِيمَةِ بَعِيدًا:
18- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ أَلاَّ يَبْعُدَ مَكَانُهَا بِحَيْثُ يَشُقُّ عَلَى الْمُجِيبِ الْإِتْيَانُ.
ثَامِنًا: أَنْ لَا تُوجَدَ نِسَاءٌ يُشْرِفْنَ عَلَى الْمَدْعُوِّينَ:
19- نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ مِمَّا يُسْقِطُ إِجَابَةَ الدَّعْوَةِ لِلْوَلِيمَةِ أَنْ تُوجَدَ نِسَاءٌ يَنْظُرْنَ إِلَى الْمَدْعُوِّينَ.
قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مِنْ جُمْلَةِ مَا يُسْقِطُ الْإِجَابَةَ كَوْنُ الطَّرِيقِ أَوْ الْبَيْتِ فِيهِ نِسَاءٌ وَاقِفَاتٌ يَتَفَرَّجْنَ عَلَى الدَّاخِلِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُوجَدَ مُحْرَمٌ: كَنَظَرِ رَجُلٍ لِامْرَأَةٍ أَوْ عَكْسِهِ، فَإِشْرَافُ النِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ عُذْرٌ فِي عَدَمِ الْإِجَابَةِ وَلَوْ أَمْكَنَهُ التَّحَرُّزَ عَنْ رُؤْيَتِهِنَّ لَهُ كَتَغْطِيَةِ رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ بِحَيْثُ لَا يُرَى شَيْءٌ مِنْ بَدَنِهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ.
تَاسِعًا: أَنْ لَا يَكُونَ بِمَكَانِ الدَّعْوَةِ اخْتِلَاطُ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ:
20- مِنْ شُرُوطِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ أَنْ لَا يَكُونَ بِمَكَانِ الْوَلِيمَةِ اخْتِلَاطُ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ.
الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الدَّاعِي:
الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الدَّاعِي لِوُجُوبِ الْإِجَابَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ هِيَ:
أَوَّلًا: كَوْنُ الدَّاعِي مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ:
21- نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ، فَلَا تُطْلَبُ إِجَابَةُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِصِبًا، أَوْ جُنُونٍ، أَوْ سَفَهٍ وَإِنْ أَذِنَ وَلَيُّهُ، لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِ مَالِهِ لَا بِإِتْلَافِهِ، نَعَمْ إِنْ Bاتَّخَذَ الْوَلِيُّ الْوَلِيمَةَ مِنْ مَالِهِ وَهُوَ أَبٌ أَوْ جَدٌّ فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ وُجُوبُ الْحُضُورِ وَهَذَا يَتَّفِقُ مَعَ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ الْآخَرِينَ.وَانْظُرْ (أَهْلِيَّة ف 22، وَبُلُوغ ف 26، وَجُنُون ف9).
ثَانِيًا: كَوْنُ الدَّاعِي مُسْلِمًا:
22- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلُزُومِ إِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي إِلَيْهَا مُسْلِمًا.
فَإِنْ كَانَ الدَّاعِي كَافِرًا فَلَا تَلْزَمُ إِجَابَتُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ الْإِجَابَةَ لِلْمُسْلِمِ لِلْإِكْرَامِ وَالْمُوَالَاةِ وَتَأْكِيدِ الْمَوَدَّةِ وَالْإِخَاءِ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ، وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ اخْتِلَاطَ طَعَامِهِمْ بِالْحَرَامِ وَالنَّجَاسَةِ.
وَلَكِنْ تَجُوزُ إِجَابَةُ الْكَافِرِ.لِمَا رَوَى أَنَسٌ «أَنْ يَهُودِيًّا دَعَا النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى خُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ فَأَجَابَهُ».
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ: لَا بَأْسَ بِالذَّهَابِ إِلَى ضِيَافَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي قَوْلٍ: الْمَجُوسِيُّ أَوِ النَّصْرَانِيُّ إِذَا دَعَا رَجُلًا إِلَى طَعَامِهِ تُكْرَهُ الْإِجَابَةُ، وَإِنْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ اللَّحْمَ مِنَ السُّوقِ فَإِنْ كَانَ الدَّاعِي نَصْرَانِيًّا فَلَا بَأْسَ بِهِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ تَجِبُ إِجَابَةُ دَعْوَةِ الذِّمِّيِّ.
ثَالِثًا: أَنْ لَا يَكُونَ الدَّاعِي فَاسِقًا:
23- اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِلُزُومِ إِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ أَنْ لَا يَكُونَ الدَّاعِي فَاسِقًا، فَإِنْ كَانَ الدَّاعِي فَاسِقًا فَلَا تَلْزَمُ إِجَابَتُهُ، قَالَ الْأَذْرَعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: كُلُّ مَنْ جَازَ هَجْرُهُ لَا تَجِبْ إِجَابَتُهُ.
وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ الْحُكْمَ بِكَوْنِ الْفَاسِقِ مُعْلِنًا فِسْقَهُ وَفِي الْخُلَاصَةِ: يَجُوزُ لِلْوَرِعِ أَنْ يُجِيبَ دَعْوَةَ الْفَاسِقِ، وَالْأَوْرَعُ أَنْ لَا يُجِيبَ.
رَابِعًا: أَنْ لَا يَكُونَ غَالِبَ مَالِ الدَّاعِي مِنْ حَرَامٍ:
24- الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبْ إِجَابَةُ دَعْوَةُ مَنْ كَانَ غَالِبَ مَالِهِ مِنْ حَرَامٍ مَا لَمْ يُخْبِرْ أَنَّهُ Bحَلَالٌ، وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ تُكْرَهُ إِجَابَتُهُ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي إِجَابَةِ وَلِيمَةُ مَنْ كَانَ فِي مَالِهِ حَرَامٌ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمُعْتَمَدِ إِلَى أَنَّهُ تُكْرَهُ إِجَابَةُ مَنْ فِي مَالِهِ حَرَامٌ.لِحَدِيثِ «مَنْ اتَّقَى الشُّبَهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ».
وَأَضَافَ الْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ تَقْوَى الْكَرَاهَةُ وَتَضْعُفُ بِحَسَبِ كَثْرَةِ الْحَرَامِ وَقِلَّتِهِ.
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمَدْعُوَّ يُجِيبُ دَعْوَةَ مَنْ كَانَ غَالِبَ مَالِهِ حَلَالٌ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ عِنْدَهُ أَنَّهُ حَرَامٌ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا كَانَ فِي الطَّعَامِ شُبْهَةٌ لَا يَجُوزُ الْحُضُورُ وَلَا الْأَكْلُ.
وَيَرَى ذَلِكَ جَمْعٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ مِنْهُمُ الشِّيرَازِيُّ وَالْأَزَجِيُّ حَيْثُ قَالُوا بِتَحْرِيمِ الْأَكْلِ مُطْلَقًا وَلَوْ قَلَّ الْحَرَامُ كَمَا لَوْ كَانَ كُلُّهُ حَرَامًا.
كَمَا اخْتَارَ جَمْعٌ مِنْهُمْ، الْخِرَقِيُّ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْحَرَامُ أَكْثَرَ حَرُمَ الْأَكْلُ وَإِلاَّ فَلَا يَحْرُمُ، إِقَامَةً لِلْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ، وَاخْتَارَ جَمْعٌ آخَرُ- مِنْهُمْ صَاحِبُ الرِّعَايَةِ- أَنَّهُ إِنْ زَادَ الْحَرَامُ عَلَى الثُّلْثِ حَرُمَ الْأَكْلُ وَإِلاَّ فَلَا.
خَامِسًا: أَنْ لَا يَكُونَ الدَّاعِي طَالِبًا لِلْمُبَاهَاةِ:
25- يُشْتَرَطُ لِإِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ أَنْ لَا يَكُونَ الدَّاعِي إِلَيْهَا طَالِبًا لِلْمُبَاهَاةِ وَالْفَخْرِ.
وَبِهَذَا صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.
وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الدَّعْوَةَ الَّتِي يَقْصِدُ بِهَا قَصْدًا مَذْمُومًا مِنَ التَّطَاوُلِ وَإِنْشَاءِ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي إِجَابَتُهَا لَا سِيَّمَا أَهْلُ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ فِي الْإِجَابَةِ إِذْلَالَ أَنْفُسِهِمْ.
كَمَا نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ أَكْلُ طَعَامٍ اتُّخِذَ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالْمُبَاهَاةِ إِذَا عَلِمَ ذَلِكَ، أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمَدْعُوِّ بِالْقَرَائِنِ وَالْأَمَارَاتِ.
سَادِسًا: أَنْ لَا يَكُونَ الدَّاعِي امْرَأَةً غَيْرَ مَحْرَمٍ:
26- يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ إِجَابَةِ الْوَلِيمَةِ أَنْ لَا يَكُونَ الدَّاعِي إِلَيْهَا امْرَأَةً غَيْرَ مَحْرَمٍ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ الدَّاعِيَةِ مَحْرَمٌ لِلْمَدْعُوِّ أُنْثَى يَحْتَشِمُهَا، أَوْ يَكُونَ لِلْدَّاعِيَةِ مَحْرَمٌ.
وَبِهَذَا قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ إِنْ دَعَتِ امْرَأَةٌ رَجُلًا عَيَّنَتْهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ إِلاَّ مَعَ خَلْوَةٍ مُحَرَّمَةٍ فَتَحْرُمُ الْإِجَابَةُ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مُحَرَّمٍ.
سَابِعًا: أَنْ لَا يَكُونَ الدَّاعِي قَدْ خَصَّ بِالدَّعْوَةِ الْأَغْنِيَاءَ:
27- يُشْتَرَطُ لِلُزُومِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ أَنْ لَا يَظْهَرَ مِنَ الدَّاعِي قَصْدُ تَخْصِيصِ الْأَغْنِيَاءِ لِأَجْلِ غِنَاهُمْ، فَلَوْ خَصَّهُمْ بِالدَّعْوَةِ لِأَجْلِ غِنَاهُمْ لَمْ تَجِبْ الْإِجَابَةُ عَلَيْهِمْ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ وَذَلِكَ لِخَبَرِ: «شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ يُدْعَى إِلَيْهَا الْأَغْنِيَاءُ وَيُتْرَكُ الْفُقَرَاءُ».
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ» ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِي اخْتِصَاصِ الْأَغْنِيَاءِ بِالدَّعْوَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ هَلْ تُجَابُ دَعْوَتُهُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَا تُجَابُ، وَنَحَا نَحْوَهُ ابْنُ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ وُجُوبُ الْإِجَابَةِ وَقَالَ فِي الْعُتْبِيَّةِ فِي تَرْجَمَةِ حِكَايَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- فِي إِتْيَانِ الْوَلِيمَةِ قَالَ مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ دُونٌ، فَأَتَى لِيَدْخُلَ فَمُنِعَ وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ: فَذَهَبَ فَلَبِسَ ثِيَابًا جِيَادًا ثُمَّ جَاءَ فَأُدْخِلَ، فَلَمَّا وُضِعَ الثَّرِيدُ وَضَعَ كُمَّيْهِ عَلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ: مَا هَذَا يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟! فَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ الَّتِي أُدْخِلَتْ، وَأَمَّا أَنَا فَلَمْ أَدْخُلْ قَدْ رَدَدْتُ إِذْ لَمْ تَكُنْ عَلَيَّ.ثُمَّ بَكَى وَقَالَ: ذَهَبَ حِبِّي وَلَمْ يَنَلْ مِنْ هَذَا شَيْئًا وَبَقِيتُمْ تُهَانُونَ بَعْدَهُ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: هَذِهِ الْوَلِيمَةُ الَّتِي رَدَّ فِيهَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَنْ لَمْ يُمَيِّزْهُ مِنْ حُجَّابِ بَابِ الْوَلِيمَةِ إِذْ ظَنَّهُ فَقِيرًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الثِّيَابِ الدُّونِ وَأَدْخَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ رَآهُ مِنْ حُجَّابِهَا فِي Bصِفَةِ الْأَغْنِيَاءِ بِالثِّيَابِ الْحِسَانِ هِيَ الَّتِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ يُدْعَى إِلَيْهَا الْأَغْنِيَاءُ وَيُتْرَكُ الْفُقَرَاءُ، وَمَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» وَيُرْوَى «بِئْسَ الطَّعَامُ» يُرِيدُ أَنَّهُ بِئْسَ الطَّعَامُ لِمُطْعِمِهِ إِذْ رَغِبَ عُمَّالُهُ فِي الْحَظِّ مِنْ أَنْ لَا يَخُصَّ بِطَعَامِهِ الْأَغْنِيَاءَ دُونَ الْفُقَرَاءِ فَالْبَأْسُ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِ لَا عَلَى مَنْ دَعَاهُ إِلَيْهِ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ «وَمَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» وَبَكَى- رضي الله عنه- شَفَقًا مِنْ تَغْيِيرِ الْأَحْوَالِ عَلَى قُرْبِ الْعَهْدِ بِالنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَرَغْبَةِ النَّاسِ عَمَّا نُدِبُوا إِلَيْهِ فِي وَلَائِمِهِمْ مِنْ عَمِلَهَا وَتَرْكِ الرِّيَاءِ فِيهَا وَالسُّمْعَةِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
145-الغريبين في القرآن والحديث (ب د د)
(ب د د)في الحديث: (أن ابن الزبير كان حسن الباد إذا ركب) الباد: أصل الفخذ، والبادان أيضًا من ظهر الفرس: ما وقع عليه فخذا الفارس، سميا باسم الفخذ ورسمي الفخذ بهما.
وفي حديث آخر: (كأنه أبد يده إلى الأرض) أي مدها، يقال: أبد ضبعيك في الصلاة. أي مدهما.
وفي حديث وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فأبد رسول الله بصره) يعني إلى السواك في يد عبد الرحمن بن أبي بكر.
وفي حديث وفاة عمر بن عبد العزيز: (فأبد النظر) أي مده، كأنه نظر إلى كل شيء فأعطى كل شيء بدته من النظر: أي حطه، وجمع البدة: بدد.
ومنه الحديث: (اللهم أحصهم عددًا واقتلهم بددًا) أي متفرقين واحدًا بعد واحد، ومن رواه بددًا فإنه أراد اجعله أقسامًا يعني القتل وحصصًا بينهم.
ومنه حديث ابن عباس قال: (دخلت على عمر وهو يبدني النظر استعجالًا لخبر ما بعثني إليه).
وفي حديث خالد بن سنان المخزومي: (أنه انتهى إلى النار وعليه مدرعه صوف، فجعل يفرقها بعصاه، ويقول: بدًا بدًا) قال القتيبي: أراد: تبددي.
ويقال: بددت بدًا، وبددت تبد يدًا، كما يقال: مددت مدًا، ومددت تمديدًا، والتبديد: التفريق.
وفي حديث أم سلمة: (أبديهم يا جارية تمرة) أي أعطيهم وفرقي فيهم.
وقال عمرو عن أبيه: البد: الفراق، ويقال: لابد اليوم من كذا: أي لا فراق دونه.
الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م
146-تاج العروس (سو سوو سوسو)
[سوو]: والسَّوا؛ هكذا هو في النُّسخِ بالقَصْرِ والصَّوابُ بالمدِّ، العَدْلُ؛ ومنه قَوْله تعالى: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ}؛ نقلَهُ الجوهريُّ.قال الرَّاغبُ: أَي عَدْلٍ مِن الحُكْم، قالَ: ولمعْنَى المعادلة التي فيه [استعمل] اسْتِعمال العَدْل، قال الشاعر:
أَبَيْنا فلا نُعْطِي السّواء عَدُوُّنا
قالَ الأزهريُّ: ومنه قوله تعالى: {إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا} أَي عَدْلٍ؛ وقال زهيرٌ:
أَرُوني خُطَّةً لا عَيْبَ فيها *** يُسَوِّي بَيْننا فِيها السَّواءُ
والسَّواءُ: الوَسَطُ؛ ومنه قوْله تعالى: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ}؛ وكَذلِكَ: {سَواءَ السَّبِيلِ} *.
وقالَ الفرَّاءُ: سَواءُ السَّبِيلِ قَصْدُه.
ويقالُ: انْقَطَعَ سَوائِي؛ أَي وَسَطِي.
ويقالُ: مَكانٌ سَواءٌ: أَي عَدْلٌ ووَسَطٌ بينَ الفَرِيقَيْن.
والسَّواءُ: الغَيْرُ؛ قالَ الأعْشى:
تَجانَفُ عن جَوِّ اليَمامةِ ناقتِي *** وما عَدَلَتْ عن أَهْلِها السَّوائِكا
كالسِّوَى، بالكسْر والضَّمِّ، في الكُلِّ. قالَ الأَخْفَش:
سُوًى إذا كانَ بمعْنَى غَيْر أَو بمَعْنى العدْلِ يكونُ فيه ثلاثُ لغاتُ: إن ضَمَمْت السِّين أَو كَسَرْت قَصرْتَ فيهما جميعًا، وإن فتحْتَ مددْتَ لا غَيْر؛ قالَ موسَى بنُ جابرٍ:
وجَدْنا أَبانا كان حَلَّ ببَلْدَةٍ *** سِوًى بينَ قَيْسٍ قَيْسِ عَيْلانَ والفِرْزِ
كما في الصِّحاح. وهو شاهِدٌ لسِوًى مَقْصورًا، بالكسْر، بمعْنَى العَدْلِ والوَسَطِ وتقولُ: مررْتُ برجُلٍ سِوَاكَ وسُوَاكَ وسَوائِكَ؛ أَي غَيْرَك؛ نقلَهُ الجوهريُّ.
والسَّواءُ: المُسْتَوِي. يقالُ: أَرْضٌ سَواءٌ؛ أَي مُسْتَويةٌ.
ودارٌ سَواء: أَي مُسْتويَةٌ المَرافِق.
وثوبٌ سَواءٌ: مُسْتَوٍ عَرْضُه وطولُه وصنفاته.
ولا يقالُ: جَمَلٌ سَواءٌ ولا حِمارٌ سَواءٌ؛ ولا رَجُلٌ سَواءٌ؛ ويقالُ: رجُلٌ سَواءٌ البَطْنِ إذا كانَ بَطْنُه مُسْتوِيًا مع الصَّدْرِ، وسَواءُ القَدَمِ إذا لم يكنْ له أَخْمَص، فسَواءُ في هذا المَعْنى المُسْتَوِي.
والسَّواءُ من الجَبَلِ: ذِرْوَتُهُ.
والسَّواءُ من النَّهارِ: مُتَّسَعُهُ.
وفي المُحْكَم: مُنْتَصِفُهُ.
والسّواءُ: موضع لهُذَيْل؛ وبه فُسِّر قوْلُ أَبي ذُؤَيْب يَصِفُ الحِمارَ والأُتُن:
فافْتَنَّهُنَّ من السَّواءِ وماؤُهُ *** بَثْرٌ وعانَدَهُ طريقٌ مَهْيَعُ
هذا أَحَدُ الأَقْوالِ في تَفْسِيرِه.
والسَّواءُ: حِصْنٌ في جَبَلِ صَبْرٍ باليَمَنِ. وسَواءُ بنُ الحارِثِ النَّجارِيُّ، كذا قالَ أَبو نعيم، وكأنَّه المحاربي؛ وسَواءُ بنُ خالِدِ مِن بَني عامِرِ بنِ صَعْصَعَة؛ وقيلَ: من خزاعَةَ وسَمَّاهُ وكيعٌ سوارًا بزِيادَةِ راءٍ فوَهِمَ، الصَّحابيَّانِ، رضِيَ الله تعالى عنهما.
والسَّواءةُ: المَثَلُ، الجمع: أَسْواءٌ؛ قال الشَّاعرُ:
تَرى القومَ أَسْواءً إذا حَلَبوا معًا *** وفي القومِ زَيْفٌ مثلُ زَيْفِ الدراهِمِ
وسوَاسِيَةٌ وسَوَاسٍ وسَواسِوَةٌ نادِرَةٌ، كُلّها أَسْماءُ جَمْع.
وقالَ أَبو عليِّ: أَمَّا قَوْلهم سَواسِوَة فالقَوْل فيه عِنْدي أَنَّه مِن بابِ ذَلاذِلَ، وهو جمعُ سَواءٍ من غيرِ لفْظِه، وقد قالوا سَواسِيَةٌ؛ قال الشاعرُ:
لَهُمْ مَجْلِسٌ صُهْبُ السِّبالِ أَذِلَّةٌ *** سَواسِيَةٌ أَحْرارُها وعَبِيدُها
فياؤُها مُنْقَلِبَة عن واوٍ، ونَظِيرُه من الياءِ صَياصٍ جَمْع صِيصِيَةً، وإنَّما صَحَّت الواوُ فيمَنْ قالَ سَواسِوَة ليعْلَمَ أَنَّها لامُ أَصْل وأنَّ الياءَ فيمَنْ قالَ سَواسِيَةٌ مُنْقَلِبَة عنها، كذا في المُحْكم.
وقال الجوهريُّ: هُما في هذا الأَمْرِ سِواءٌ، وإن شِئْتَ سَواآنِ، وهم سَواءٌ للجَمْع، وهم أَسْواءٌ، وهم سَواسِيَةٌ مثلُ يمانِيةٍ على غيرِ قِياسٍ.
قالَ الأخْفَش: وَزْنُه فَعَافِلَةٌ، ذَهَبَ عنها الحَرْفُ الثالثُ وأَصْلُه الياءُ، قالَ فأَمَّا سَواسِيَة أَي أَشْباهٌ، فإنَّ سَواءً فَعالٌ وسِيَةٌ يجوزُ أَنْ يكونَ فِعَةً أَو فِلَةً، إلَّا أَنَّ فِعةً أَقْيَس لأَنَّ أَكْثَر ما يُلْقونَ موضِعَ اللامِ، وانْقَلَبَتِ الواوُ في سِيَة ياءً لكَسْرةِ ما قَبْلها لأنَّ أَصْلَه سِوْيَة، انتَهَى.
وفي التَّهْذيب: قالَ الفرَّاءُ هُم سَواسِيَةٌ يَسْتَوون في الشَّرِّ، ولا أَقولُ في الخَيْرِ، ولا واحِدَ له.
وحُكِىَ عن أَبي القَمْقامِ: سَواسِيَة، أَرادَ سَواءَ ثم قال سِيَة.
ورُوِيَ عن أَبي عَمْروٍ أَنَّه قالَ: ما أَشَدَّ ما هَجَا القائلُ:
سَواسِيَةٌ كأَسْنانِ الحِمارِ
وذلكَ أَنَّ أَسْنانَه مُسْتَوِيَةٌ، انتَهَى.
قالَ ابنُ سِيدَه: وسَواءٌ تَطْلُبُ اثْنَيْنِ تقولُ: سَواءٌ زَيْدٌ وعَمْرٌو، أَي: ذَوَا سَواءِ زَيْدٌ وعَمْروٌ، لأنَّه مَصْدرٌ فلا يجوزُ له أَنْ يُرْفَعَ ما بعْدها إلَّا على الحَذْفِ، تقولُ: عَدْلٌ زيْدٌ وعَمْرٌو، والمَعْنى ذَوَا عَدْلٍ، لأنَّ المَصادِرَ ليسَتْ بأَسْماءِ الفاعِلِينَ وإنَّما يَرْفَعُ الأَسْماءَ أَوْصافُها، فأمَّا إذا رَفَعَتْها المَصادِرُ فهي على الحذْفِ.
واسْتَوَيا وتَساوَيا: أَي تَماثَلا، فهذا فِعْلٌ أُسْنِدَ إليه فاعِلانِ فصاعِدًا، تقولُ: اسْتَوى زيْدٌ وعَمْروٌ وخالِدٌ في كذا؛ أَي تَساوَوْا؛ ومنه قوْله تعالى: {لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ}.
وسَوَّيْتُهُ به تَسْوِيَةً وسَوَّيْتُ بَيْنهما: عَدَّلْت وساوَيْتُ بَيْنهما مُساواةً؛ مِثْله يقالُ: ساوَيْتُ هذا بذاكَ إذا رَفَعْته حتى بَلَغَ قَدْرَه ومَبْلَغَه؛ وقوْلُه تعالى: {حَتّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ}؛ أَي سَوَّى بَيْنهما.
وأَسْوَيْتُهُ به وساوَيْتُ؛ ومنه قوْلُ القناني في أَبي الحَجْناء:
فإنَّ الذي يُسْويكَ يَوْمًا بواحِدٍ *** مِنَ الناسِ أَعْمى القَلْبِ أَعْمى بَصائِرهْ
وهما سَواءَانِ وسِيَّانِ، بالكسْر: أَي مِثْلانِ، الواحِدُ سَواءٌ وسِيٌّ، والجَمْعُ أَسْواءٌ كنَقْضٍ وأَنْقاضٍ؛ وأَنْشَدَ الجوهريُّ للحُطَيْئة، وقيلَ لذي الرُّمّة:
فإِيَّاكُمْ وحَيَّةَ بَطْنِ وادٍ *** هَمُوزَ النَّابِ ليْسَ لَكُمْ بسِيِّ
يريدُ تَعْظِيمه.
ولا سِيَّما: كلمةٌ يُسْتَثْنى بها، وهو سِيٌّ ضُمَّ إليه ما.
في المُحْكَم: قالَ سِيْبَوَيْه: سأَلْته عن قَوْلهم لا سِيَّما زَيْدٍ فزَعَم أَنَّه مِثْلُ: لا مِثْلَ زيْدٍ، وما لَغْوٌ، قالَ: ويَرْفَعُ زيْدٌ فيُقالُ: لا سِيَّما زَيْدٍ مِثْلَ دَعْ ما زَيْدٌ وكَذلِكَ قوْلُه تعالى: {مَثَلًا ما بَعُوضَةً}.
وفي الصِّحاحِ: الاسْمُ الذي بَعْدَ «ما» لَكَ فيه وَجْهان؛ إنْ شِئْتَ جعلْتَ ما بمنْزِلةِ الذي وأَضْمرْت مُبْتَدأ ورَفَعْت الاسْمَ الذي تَذْكُرُه لخبَرِ المُبْتَدأ، تقولُ: جاني القَوْمُ لا سِيَّما أَخُوكَ أَي ولا سِيَّ الذي هو أَخُوكَ؛ وإنْ شِئْتَ جررْتَ ما بَعْدَه على أنْ تَجْعَل ما زائِدَةً وتجُرَّ الاسْمَ بسِيِّ لأنَّ مَعْنى سِيِّ مَعْنى مِثْلٍ، ويُنْشدُ لامْرئِ القَيْسِ:
أَلا رُبَّ يومٍ لكَ مِنْهُنَّ صالِحٍ *** ولا سِيَّما يومٌ بدَارَةِ جُلْجُلِ
مَجْرورًا ومَرْفوعًا. وتقولُ: اضْرِب القومَ ولا سِيَّما أَخيكَ؛ أَي ولا مثْلَ ضَرْبةِ أَخِيكَ، وإنْ قلْتَ ولا سِيَّما أَخُوكَ؛ أَي ولا مثْلَ الذي هو أَخُوكَ، تَجْعَل ما بمعْنَى الذي وتضْمِرُ هو وتَجْعلُه مُبْتَدأ وأَخُوكَ خَبَره.
قالَ الأخْفَش: قَوْلهم إنَّ فُلانًا كرِيمٌ ولا سِيَّما إن أَتَيْته قاعِدًا، فإنَّ ما ههنا زائِدَةٌ ولا تكونُ مِن الأَصْل، وحذفَ هنا الإضْمار وصارَ ما عِوَضًا منه كأَنَّه قالَ ولا مِثْله إنْ أَتَيْتَه قاعِدًا، انتَهَى.
وفي المِصْباح عن ابنِ جِنِّي: ويجوزُ النَّصْب على الاسْتِثْناء وليسَ بالجيِّد، قالوا: ولا يُسْتَعْمل إلَّا مع الجَحْد، نَصَّ عليه أَبو جَعْفرٍ النّحوي في شرْحِ المُعَلَّقات، وابن يَعِيش وصاحِب البَارع.
وقالَ السَّخاوي عن ثَعْلب: مَنْ قالَهُ بغَيْرِ اللَّفْظ الذي جاءَ به امْرُؤُ القَيْس فقد أَخْطَأَ، يَعْني بغَيْر لا، لأنَّ لا وسِيَّما تركبا وصارَا كالكَلمَةِ الواحِدَةِ وتُساقُ لتَرْجِيح ما بَعْدها على ما قَبْلها فيكونُ كالمخرج عن مُساوَاتِه إلى التَّفْضِيل، فقَوْلهم تُسْتَحَبُّ الصَّدَقَة في شَهْر رَمَضان لا سِيَّما في العشْرِ الأَوَاخِر، مَعناه واسْتِحبابها في العشْره الأَوَاخِر آكدُ وأَفْضَل فهو مُفَضَّل على ما قَبْله.
قالَ ابنُ فارِسَ: ولا سِيَّما؛ أَي ولا مِثْل ما كأَنَّهم يُريدُون تَعْظِيمه.
وقالَ السَّخاوي أَيْضًا: وفيه إِيذانٌ بأَنَّ له فَضِيلَةً ليسَتْ لغيرِه إذ تقرَّرَ ذلكَ، فلو قيلَ سِيَّما بغَيْرِ نَفْيٍ اقْتَضَى التَّسْويَة وبَقِي المَعْنى على التَّشْبيه، فيَبْقى التَّقديرُ يُسْتَحبُّ الصَّدَقَةُ في شَهْرِ رَمَضان مِثْل اسْتِحْبابِها في العشْرِ الأَوَاخِر ولا يَخْفَى ما فيه. وتَقْدِيرُ قَوْل امْرئِ القَيْسِ: مَضَى لنا أَيَّام طَيِّبَة ليسَ فيها يَوْم مِثْل دارَةِ جُلْجُل، فإنَّه أَطْيَب من غيْرِه، ولو حُذِفَت لا بَقِي المَعْنَى مَضَت لنا أَيَّام طَيِّبَة مِثْل يَوْم دَارَةِ جُلْجُل، فلا يَبْقى فيه مَدْحٌ، ولا تَعْظِيم. وقد قالوا: لا يجوزُ حَذْف العَامِل وإبْقاء عَمَله، ويقالُ: أَجابَ القومُ لا سِيَّما زَيْد، والمَعْنى فإنَّه أَحْسَن إجابَة فالتَّفْضِيل إنَّما حَصَلَ مِنَ التَّرْكِيب فصارَتْ لا مع سِيَّما بمنْزِلَتِها في قوْلِكَ لا رجُلَ في الدَّارِ، فهي المُفِيدَةُ للنَّفْي، ورُبَّما حُذِفَتْ للعِلْم بها، وهي مُرادَةٌ، لكنَّه قَليلٌ ويقربُ منه قَوْلُ ابنِ السَّراج وابنِ بابْشَاذ، وبعضُهم يَسْتَثْنِي بسِيَّما، انتَهَى.
ويُخَفِّفُ الياءُ؛ نقلَهُ صاحِبُ المِصْباح، قالَ: وفَتْح السِّين مع التَّثقِيل لُغَةٌ أَيْضًا.
وحَكَى اللحْياني: ما هو لكَ بسِيِّ؛ أَي بنَظِيرٍ، وما هُمْ لكَ بأَسْواءٍ، ولا سِيِّ لِمَا فُلانٍ، ولا سِيَّكَ ما فُلانٌ، ولا سِيَّةَ فُلانٍ، وهذه لم يَذْكُرْها اللَّحْياني؛ ثم قالَ: ويقولون: لا سِيَّكَ إذا فَعَلْتَ ذاكَ، ولا سِيَّ لمَنْ فَعَلَ ذلكَ. وفي المُؤنَّث: لَيْسَتِ المَرْأَةُ لكَ بسِيِّ، وما هُنَّ لكَ بأَسْواءِ: كُلُّ ذلكَ بمَعْنى المِثْل والنَّظِير؛ وقولُ أَبي ذُؤيْب:
وكانَ سِيَّان أَلَّا يَسْرَحُوا نَعَمًا *** أَو يَسْرَحُوه بها واغْبَرَّتِ السُّوجُ
وَضَعَ أَو هنا مَوْضِعَ الواوِ كَرَاهِية الخَبْنِ، وسَواءٌ وسِيَّان لا يُسْتَعْملان إلَّا بالواوِ؛ ومثْلُه قَوْلُ الآخِرِ:
فسِيَّان حَرْبٌ أَو تَبُوءَ بمثْله *** وقد يَقْبَلُ الضَّيْمَ الذَّليلُ المسَيَّرُ
ومَرَرْتُ برجُلِ سَواءٍ والعَدمُ، ويُكْسَرُ؛ ومَرَرْتُ برجُلٍ سُوًى، بالكسر والضَّمِ، والعَدَمُ: أَي سَواءٌ وجُودُهُ وعَدَمُهُ.
وحكَى سِيْبَوَيْه: سَواءٌ هو والعَدَمُ.
وقالوا: هذا دِرْهَمٌ سَواءٌ، بالنَّصْبِ على المَصْدرِ كأَنَّكَ قلْت اسْتواءً، والرَّفْع على الصِّفَة كأَنَّك قلْتَ مُسْتَوٍ.
وقولُه تعالى: {سَواءً لِلسّائِلِينَ}؛ وقُرِئَ: سَواءَ على الصِّفَة.
وقولُه تعالى: {مَكانًا سُوىً}، هو بالكسْر والضَّمِّ.
قالَ الفرَّاءُ: وأَكْثَرُ كَلامِهم بالفَتْحِ إذا كانَ بمعْنَى نَصَفٍ وعَدْلٍ فَتَحُوه ومَدُّوه، والكسْرُ مع الضمِّ عَرَبِيَّان وقُرئَ بهما.
وقالَ الرَّاغبُ: مَكانٌ سِوىً وسُوىً مُسْتَوٍ طَرَفاهُ، يُسْتَعْمل وَصْفًا وظَرْفًا، وأَصْلُ ذلك مَصْدرٌ.
وقال ابنُ سِيدَه: أَي مَعْلَمٌ، وهو الأثَرُ الذي يُسْتدلُّ به على الطَّريقِ، وتَقْديرُه ذُو مَعْلَمٍ يُهْتَدَى به إليه؛ قالَهُ شْخُنا.
وهو لا يُساوِي شيئًا: أَي لا يُعادِلُه.
وفي المِصْباح: المُساوَاةُ: المُمَاثلةُ والمُعادَلةُ قدْرًا وقيمةً؛ ومنه قَوْلُهم: هذا يُساوِي دِرْهمًا؛ أَي يُعادِلُ قِيمَته دِرْهمًا، انتَهَى.
وفي حديثِ البُخاري: «ساوَى الظِّلُّ التِّلالَ».
قالَ الحافِظُ: أَي ماثَلَ امْتِدادُه ارْتِفاعَها، وهو قدْر القامَةِ، انتَهَى.
وقالَ الرَّاغبُ: المُساوَاةُ المُعادلةُ المُعْتَبَرةُ بالذرْعِ والوَزْنِ والكَيْل. يقالُ: هذا الثوْبُ مُساوٍ لذلكَ الثَّوبِ، وهذا الثوْبُ مُساوٍ لذلكَ الدِّرْهم؛ وقد يُعْتَبر بالكَيْفيَّةِ نَحْو: هذا السَّوادُ مُساوٍ لذلكَ السَّوادِ.
ولا يَسْوَى، كيَرْضَى، لُغَةٌ قَليلَةٌ أَنْكَرَها أَبو عبيدَةَ، وحَكَاها غيرُهُ.
وفي المِصْباح: وفي لُغَةٍ قَلِيلَةٍ سَوَى دِرْهمًا يَسْواهُ.
وفي التَّهْذيب: قالَ الفرَّاءُ: لا يُساوِي الثوبُ وغيرُه كذا ولم يُعْرف يَسْوَى.
وقالَ اللَّيْث: يَسْوَى نادِرَةٌ، ولا يقالُ منه سَوِيَ ولا سَوى، كما أنَّ نَكْراءَ جاءَتْ نادِرَةً ولا يقالُ لذَكَرِها أَنْكرُ، ويقولونَ نَكِرَ ولا يقولون يَنْكَرُ.
قالَ الأزهريُّ: قلْت: قولُ الفرَّاء صحيحٌ، ولا يَسْوى ليسَ من كَلامِ العَرَبِ بل مِن كَلامِ المُولّدين، وكذا لا يُسْوى ليسَ بعَربيِّ صحيحٍ، انتَهَى؛ الأخيرَةُ بضمِّ الياءِ وهي كثيرَةٌ الجَرْي على أَلْسِنَةِ العامَّة.
وقال شيْخُنا: لا يَسْوى أَنْكَرها الجماهِيرُ وصَرَّحَ في الفَصِيح بإنْكارِها، ولكنْ حَكَاها شُرَّاحُه، وقيلَ: هي صَحِيحةٌ فَصِيحةٌ، وهي لُغَةُ الحَجازِيِّين، وإن ضعَّفَها ابْتِذالها، قالوا: وهي مِن الأفْعال التي لا تَتَصرَّفُ؛ أَي لم يُسْمَع منها إلَّا فِعْلٌ واحِدٌ ماضٍ كعَسَى وتَبارَكَ، أَو مُضارع كيَسْوى ويَبْقى في قَوْلٍ.
وأَوْرَدَه الخفاجي في شفاءِ الغَلِيلِ وفي الرَّيْحانةِ، وهي في الارْتِشافِ وغيرِه.
وأَبو أَحمدَ محمدُ بنُ عليِّ بنِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ سَيَّوَيْه، كعَمْرَوَيْه، المُؤَدِّبُ المَكْفُوفُ، سَمِعَ أَبا الشَّيْخِ الأَصْبَهاني، وعنه الحدادُ وعبدُ العزيزِ النَّخْشيُّ، وعليُّ بنُ أَحمدَ بنِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ سَيَّوَيْهِ الشحَّامُ عن القبَّاب، وعن سعيدُ بنُ محمدٍ المعدانيّ، مُحدِّثانِ، والأَخيرُ مِن قَرابَةِ الأَوّل يَجْتَمِعانِ في محمدِ بنِ عبدِ اللهِ.
واسْتَوَى: قد يُسْنَدُ إليه فاعِلانِ فصاعِدًا؛ وهذا قد تقدَّمَ ذِكْرُه؛ ويكونُ بمعْنَى اعْتَدَلَ في ذاتِه، ومنه قولُه تعالى: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى} و {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى} {الْفُلْكِ}، و {لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ}، و (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ).
وقولُهم: اسْتَوى فلانٌ على عَمَالَتِه، واسْتَوَى يأَمْرِ.
ومن ذلكَ: اسْتَوَى الرَّجُلُ إذا بَلَغَ أَشُدَّهُ؛ فعلى هذا قولُه تعالى: {وَلَمّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى}، يكونُ اسْتَوَى عَطْف تَفْسِير.
أَو بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً؛ وبه فُسِّرَتْ الآيَةُ.
وفي الصِّحاح: اسْتَوَى الرَّجُل إذا انْتَهَى شَبابُهُ.
وفي التَّهْذيب: المُسْتَوِي مِن الرِّجال الذي بَلَغَ الغايَةَ مِن شَبَابِه وتَمَامِ خَلْقِه وعقْلِه وذلكَ بتمامِ ثَمَانِ وعِشْرِين إلى تَمامِ ثَلاثِينَ ثم يَدْخُل في حَدِّ الكُهولَةِ، ويحتملُ كَوْن بلوغُ الأرْبَعِين غايَةَ الاسْتِواءِ وكَمالِ العَقْلِ.
ولا يقالُ في شيءٍ مِن الأَشْياءِ اسْتَوَى بنَفْسِه حتى يُضمَّ إلى غيرِهِ فيُقالُ اسْتَوَى فلانٌ وفلانٌ، إلَّا في مَعْنى بلوغِ الرَّجُلِ النَّهايَةَ فيُقالُ: اسْتَوَى، ومثْلُه اجْتَمَع.
وإذا عُدِّي الاسْتِواءُ بإلى اقْتَضِى مَعْنى الانْتِهاءِ إليه إمَّا بالذَّاتِ أَو بالتَّدْبيرِ؛ وعلى الثاني قوْلُه، عزّ وجلّ: {ثُمَّ اسْتَوى} إِلَى السَّماءِ {وَهِيَ دُخانٌ}.
قالَ الجوهريُّ: أَي صَعِدَ؛ وهو تَفْسيرُ ابنِ عبَّاس، ويَعْني بقَوْله ذلكَ أَي صَعِدَ أَمْرَه إليه، قالَهُ أَبو إسْحاقِ.
أَو عَمَدَ إليها، أَو قَصَدَ إليها، كما تقولُ: فَرَغَ الأَميرُ مِن بَلَدِ كذا ثم اسْتَوَى إلى بَلَدِ كذا، مَعْناه قَصَدَ الاسْتِواء إليه؛ قالَهُ أَبو إسْحق.
او أَقْبَلَ عليها؛ عن ثَعْلَب.
وقالَ الفرَّاءُ: مِن مَعانِي الاسْتِواءِ أَنْ يقولَ كانَ فلانٌ مُقْبلًا على فلانٍ ثم اسْتَوَى عليَّ وإليَّ يُشاتِمُنِي على، مَعْنى أَقْبَل، فهذا مَعْنى {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ}.
أَو اسْتَوْلَى وظَهَرَ؛ نقلَهُ الجوهريُّ ولكنَّه لم يُفَسِّر به الآيَةَ المَذْكورَة.
قالَ الرَّاغبُ: ومَتَى ما عُدِّي بعلى اقْتَضَى مَعْنى الاسْتِيلاءِ كقوْلِه، عزّ وجلّ: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى}؛ ومنه قَوْل الأَخْطَل أَنْشَدَه الجوهرِيُّ:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ على العِرَاق *** من غَيرِ سَيْفَ ودَمٍ مُهْراق
ثم قالَ الرَّاغبُ: وقيلَ مَعْناه اسْتَوَى كلّ شيءٍ في النِّسْبَةِ إليه، فلا شيءَ أَقْرَب إليه مِن شيءٍ إذ كانَ، عزَّ وجَلَّ، ليسَ كالأَجْسامِ الحالَّةِ في مَكانٍ دُونَ مكانٍ.
ومَكانٌ سَوِيٌّ، كغَنِيِّ، وسِيٌّ، كزِيِّ: أَي مُسْتَوٍ طَرَفاهُ في المسافَةِ.
وسَوّاهُ تَسْوِيَةً وأَسْواهُ: جَعَلَهُ سَوِيًّا؛ ومنه قوْلُه تعالى: {فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ}.
قالَ الرَّاغبُ: تَسْوِيَةُ الشيءِ جَعْلَه سَواء إمَّا في الرّفْعَةِ أَو في الضِّعَةِ.
وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ}؛ أَي جَعَلَ خَلْقَكَ على ما اقْتَضَتِ الحكْمَةُ. وقوْلُه تعالى: {وَنَفْسٍ وَما سَوّاها} إشارَة إلى القوى التي جَعَلَها مُقَوِّيَة للنَّفْس فنَسَبَ الفِعْل إليها، وقد ذكرَ في غيرِ هذا الموْضِعِ أَنَّ الفِعْل كما يصح أن يُنْسَبَ إلى الفاعِلِ يصحُّ أَن يُنْسَبَ إلى الآلَةِ وسَائِر ما يَفْتَقِر الفِعْل إليه نَحْو سَيْفٌ قاطِعٌ قالَ: وهذا الوَجْه أَوْلى مِن قَوْل مَنْ قالَ: أَرادَ {وَنَفْسٍ وَما سَوّاها} يَعْني الله تعالى، فإنَّ ما لا يُعَبَّر به عن اللهِ تعالى إذ هو مَوْضُوع للجِنْس ولم يرد به سَمْع يَصِحّ.
وأَمَّا قوْلُه، عزّ وجلّ: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوّى}، فالفِعْل مَنْسوبٌ إليه؛ وكذا قَوْلُه: {فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}.
وقوله تعالى: {رَفَعَ سَمْكَها فَسَوّاها}، يتَضَمَّن بناءَها وتَزْيِينَها المَذْكُور في قوْلِه عزّ وجلّ: {إِنّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ}.
وقوله تعالى: {بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ}، قيلَ: نجْعَلُ كفَّه كخفِّ الجَملِ لا أَصابعَ لها؛ وقيلَ: بل نَجْعَل أَصابِعَه كُلَّها على قدر واحِدٍ حتى لا يَنْتَفِع بها وذلك أَنَّ الحكْمَةَ في كوْنِ الأصابعِ مُتَفاوِتَة في القدر والهَيْئةِ، ظاهِرَة إذ كانَ تَعاونَها على القَبْض أَن يكونَ كَذلِكَ.
وقوله تعالى: {بِذَنْبِهِمْ فَسَوّاها}؛ أَي سَوَّى بِلادَهم بالأَرْضِ، نَحْو {خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها}.
واسْتَوَتْ به الأرضُ، وتَسَوَّتْ وسُوِّيَتْ عليه، كُلُّه، أَي هَلَكَ فيها، ومنه قوله تعالى: {لَوْ تُسَوّى بِهِمُ الْأَرْضُ}.
وفَسَّره ثَعْلَب فقالَ: مَعْناه يَصيرُونَ كالتّرابِ.
وقال الجوهرِيُّ: أَي تَسْتَوِي بهم؛ وقولُ الشاعِرِ:
طالَ على رَسْم مَهْدَدٍ أَبَدُهْ *** وعَفا واسْتَوى به بَلَدُهْ
فسَّرَه ثَعْلَب فقالَ: صارَ كُلّه جديًا.
وأَسُوَى الرَّجُل: كانَ خُلُقُهُ وخُلُقُ والِدِهِ سَواءً، صَوابه: كانَ خُلُقُهُ وخُلُقُ ولدِهِ سَوِيًّا.
وقال الفرَّاءُ: إذا كانَ خُلُق ولدِهِ سَويًّا وخُلُقُهُ أَيْضًا.
ونقلَهُ أَبو عُبيدٍ أَيْضًا ولكن في لَفْظِه اضْطِرابٌ.
وأَسْوى: إذا أَحْدَثَ مِن أُمِّ سويد، وهي الدُّبْرُ؛ قالَهُ أَبو عَمْرو.
وأَسْوى: إذا خَزِىَ، وهو مِن السَّوْأَةِ.
وأَسْوى في المَرْأَةِ: إذا أَوْعَبَ؛ أَي أَدْخَلَ ذَكَرَه كُلَّه في الفَرْجِ.
وأَسْوَى حَرْفًا من القرآنِ: أَسْقَطَ وتَرَكَ وأَغْفَل، مِن أَسْوَيْتُ الشيءَ إذا تَرَكْته وأَغْفَلْته؛ ومنه حديثُ أَبي عبدِ الرحمنِ السُّلمي: «ما رأَيْتُ أَحَدًا أَقْرَأَ مِن عليِّ، رضِيَ اللهُ تعالى عنه، صلَّيْنا خَلْفَه فأَسْوَى بَرْزخًا ثم رجعَ إليه فقَرَأَه، ثم عادَ إلى المَوْضِع الذي كانَ انْتَهى إليه»؛ والبَرْزَخُ: الحاجِزُ بينَ الشَّيْئَين.
وقالَ الجوهريُّ: هكذا حَكَاهُ أَبو عبيدٍ، وأَنا أُرَى أنَّ أَصْلَ هذا الحَرْف مَهْموزٌ.
* قُلْتُ: وذَكَرَ الأزهريُّ ذلكَ أَيْضًا فقالَ: أُراهُ مِن قوْلِهم: أَسْوأ إذا أَحْدَثَ، وأَصْلُه مِن السَّوْأَةِ، وهي الدُّبُر، فَتَرَكَ الهَمْز في الفَعْل انتَهَى. وقالَ ابنُ الأثير: وكَذلكَ الإسْواءُ في الحِسابِ وفي الرَّمْي، وذلكَ إذا أَسْقَطَ وأَغْفَلَ.
وقال الهَرَويُّ: يجوزُ أَشْوَى، بالشِّين المعْجمةِ بمعْنَى أَسْقَطَ، ولكنَّ الرِّوايةَ بالسِّين.
ولَيْلَةُ السَّواءِ: لَيْلَةُ أَرْبَعَ عَشَرَةَ؛ كما في المُحْكَم.
أَو لَيْلَةُ ثَلاثَ عَشَرَةَ؛ وفيها يَسْتوِي القَمَرُ، وهذا قَوْلُ الأصْمعيّ، نقلَهُ الأزهريُّ والجوهريُّ.
وهُمْ في هذا الأَمْرِ على سَوِيَّةٍ، كغَنِيَّةٍ؛ أَي على اسْتِواءٍ واعْتِدالٍ.
والسَّوِيَّةُ، كغَنِيَّةٍ: شبْهُ البَرْذَعةِ من مَراكِبِ الإِماءِ والمُحْتاجِينَ؛ أَي ذَوي الحاجَةِ والفَقْرِ، وكَذلِكَ الذي يُجعلُ على ظَهْرِ الإِبِلِ إلَّا أَنَّه كالحَلْقَةِ لأجْلِ السَّنام، وتسمَّى الحَوِيَّة.
أَو كِساءٌ مَحْشُوٌّ بثُمامٍ أَو ليفٍ أَو نَحْوِهِ؛ وأَنْشَدَ الجوهريُّ لعبدِ اللهِ بنِ عَنَمة الضَّبيّ:
ازْجُرْ حِمارَكَ لا تُنْزَعْ سَوِيَّتُهُ *** إذن يُرَدُّ وقَيْدُ العَيْرِ مَكْرُوبُ
والجَمْعُ سَوايَا.
وأَبو سَوِيَّةَ الأَنْصارِيُّ، ويقالُ الجهنيُّ، صَحَابيٌّ، حدِيثُه في السُّحورِ، رَوَى عنه عبادَةُ بنِ نسي؛ وأَبو سَوِيَّةَ عُبَيْدُ بنُ سَوِيَّةَ بن أَبي سَوِيَّةَ الأَنْصارِيُّ مَوْلاهُمْ، كانَ فاضِلًا رَوَى عنه حيوَةُ بنُ شُرَيْح وعَمْرُو بنُ الحارِثِ وغيرُهُما، قيلَ: إنَّه تُوفي سَنَة 135، قالَهُ ابنُ ماكولا:
* قلْت: وهو مِن رِجال أَبي دَاوُد، ووَقَعَ اخْتِلافٌ في كُنْيَتِه وفي اسْمِه، ففي بعضِ الرِّوايات أَبو سَوْدَةَ وهو وَهمٌ؛ وقالَ أَبو حاتِم بنُ حبَّان: أَبو سُوَيْد وغَلِطَ مَنْ قالَ أَبو سَوِيَّةَ، واسْمُه حُمَيْد، ويقالُ: هو المِصْرِيُّ الذي رَوَى عن عبدِ الرحمنِ بنِ حجرَةَ، وقيلَ غيرُ ذلكَ.
وعبدُ المَلِكِ بنُ أَبي سَويَّةَ سَهْلِ بنِ خَليفَةَ بن عبدَةَ الفُقَميّ، عن أَبيهِ، عن قَيْسِ بنِ عاصِمٍ، وحَفِيده العَلاءُ بنُ الفَضْل بنِ عبدِ المَلِكِ حَدَّثَ أَيْضًا؛ وحَمَّادُ بنُ شاكِرِ بنِ سَوِيَّةَ؛ أَبو محمدٍ الورَّاقُ الفَسَويُّ الحَنَفيُّ الرَّاوي صَحيحَ البُخاري عنه؛ أَي عن البُخارِي نَفْسِه، وكذا رَوَى عن أَبي عيسَى الزندي وعيسَى العَسْقلاني وغيرِهِم، وممَّن رَوَى عنه الصَّحِيح أحمدُ بنُ محمدٍ الفَسَقيّ شيخُ الحاكِمِ ابنِ عبدِ اللهِ ومن طَرِيقِه نَرْويه؛ مُحدِّثونَ.
قالَ الحافِظُ: ماتَ حَمَّادُ بنُ شاكِرٍ سَنَة 311.
والسِّيُّ، بالكسْر: المَفازَةُ لاسْتِواءِ أَطْرافِها وتَماثُلِها.
وأَيْضًا: موضع.
وفي الصِّحاح: أَرضٌ مِن أَراضِي العَرَبِ.
وفي المُحْكم: موْضِعٌ أَمْلَس بالبادِيَةِ.
وقالَ نَصْر في مُعْجمهِ: فَلاةٌ على جادةِ البَصْرَةِ إلى مكَّةَ بينَ الشُّبَيْكَةِ ووَجْرَةَ تأْوِي إليها اللّصُوصُ؛ وقيلَ: هي بينَ دِيارِ بَني عبدِ اللهِ بنِ أَبي بكْرِ بنِ كِلابٍ وجُشَم.
وأَنْشَدَ الجوهريُّ:
كأنَّه خاضِبٌ بالسِّيِّ مَرْتَعُه *** أَبو ثَلاثينَ أَمْسَى وهو مُنْقَلِبُ
ويقالُ: وَقَعَ في سِيِّ رأْسِه؛ بالكسْر، وسَوائِه، بالفتْح ويُكْسَرُ عن الكِسائي.
وقال ثَعْلَبُ: هو القِياسُ.
أَي حُكْمُهُ مِن الخَيْرِ أَو في قَدْرِ ما يَغْمُرُ به رَأْسَه.
وفي التَّهْذيب: في سَواءِ رَأْسِه؛ أَي فيمَا يساوي رَأْسه مِن النِّعْمةِ.
وفي المُحْكَم: قيلَ: إنَّ النّعْمَةَ ساوَتْ رَأْسَه أَي كثُرَتْ عليه ومَلَاءَتْهُ. وقالع ثَعْلب: ساوَتِ النِّعْمَةُ رأْسَه مُساواةً وسِواءً.
وفي الصِّحاح: قالَ الفرَّاءُ هو في سِيِّ رأْسِه وفي سَواءِ رأْسِه إذا كان في النِّعْمَةِ.
أَو في عَدَدِ شَعَرِهِ من الخَيْرِ؛ هكذا فَسَّره أَبو عُبيدٍ نقلَهُ الجوهريُّ.
والسُّوَيَّةُ، كسُمَيَّةَ: امْرأَةٌ.
ويقولونَ: قَصَدْتُ سَواهُ: إذا قَصَدْتُ قَصْدَهُ؛ وأَنْشَدَ الجوهريُّ لقيسِ بنِ الخطيمِ:
ولأَصْرِفَنَّ سِوَى حُذَيْفَةَ مِدْحَتي *** لِفَتى العَشِيِّ وفارِسِ الأَجْرافِ
والسَّايَةُ: فَعْلَةٌ من التَّسْوِيَةِ؛ نقلَهُ الأزهريُّ عن الفرَّاء.
ووَقَعَ في نسخِ التَّهذيب: فَعْلَةٌ مِن السَّوِيَّة.
وسايَةُ: قرية بمكَّةَ.
أَو: وادٍ بينَ الحَرَمَيْنِ.
قالَ ابنُ سِيدَه: هو وادٍ عَظِيمٌ به أَكْثَر من سَبْعِين نهْرًا تَجْري، تَنْزلُه بَنُو سُلَيْم ومُزَيْنَةُ.
وأَيْضًا: وادِي أَمَجَ؛ وأَصْل أَمَجَ خُزاعَةُ.
وقوْلُهم: ضَرَبَ لي سايَةً: أَي هَيَّأَ لي كَلِمَةَ سوءٍ سَوَّاها عليَّ ليَنْحدَعني؛ نقلَهُ الجوهريُّ عن الفرَّاء.
وساوَةُ: د، معروف بَلَدٌ مَعْروفٌ بالعَجَم بينَ هُمَدان والرَّيِّ غاضَتْ بُحَيْرتُه لَيْلَة مَوْلدِ النبيِّ صلى الله عليهوسلم، وقد نُسِبَ إليه خَلْق كثيرٌ مِن المحدِّثين.
والصِّراطُ السُّوَى، كهُدَى، فُعْلَى من السَّواءِ أَو على تَلْيينِ السُّوءَى والإِبْدالِ، والأَوَّل هو المَعْروفُ، وقد تقدَّمَ الكَلامُ عليه عنْدَ قوْلِه: مَكانٌ سُوىً.
* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:
قد يكونُ السّواءُ جَمْعًا؛ ومنه قوْلُه تعالى: {لَيْسُوا سَواءً}؛ أَي لَيْسوا مُسْتَوينَ.
والسَّويَّةُ، كغَنِيَّةٍ: العَدْلُ، يقالُ قسمْتُ بينهما بالسَّوِيَّةِ؛ أَي بالعَدْلِ.
وهُما على سَوِيَّةٍ مِن هذا الأمْرِ: أَي على سَواءٍ.
واسْتَوَى مِن اعْوِجاجٍ.
واسْتَوَى على ظهْرِ دابَّتِه اسْتَقَرَّ.
ورجُلٌ سَويُّ الخَلْقِ: أَي مُسْتوٍ.
قالَ الرَّاغبُ: السَّويُّ يقالُ فيمَا يُصانُ عن الإِفْراطِ والتَّفْريطِ من حيثُ القدرِ والكَيْفيَّة، ومنه {الصِّراطِ السَّوِيِّ}، و {ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا}، ورجُلٌ سَوِيٌّ اسْتَوَتْ أَخْلاقُه وخلقُهُ عن الإِفْراطِ والتَّفْريطِ، و {بَشَرًا سَوِيًّا}: هو جِبْريل، عليهالسلام.
قالَ أَبو الهَيْثم: هو فَعِيلٌ بمعْنَى مُفْتَعل؛ أَي مُسْتَوٍ، وهو الذي بَلَغَ الغايَةَ مِن خلقه وعَقْلِه.
وهذا المَكانُ أَسْوى هذه الأمْكِنَةِ: أَي أَشَدُّها اسْتِواءً؛ نقلَهُ ابنُ سِيدَه.
واسْتَوَتْ أَرْضُهم: صارَتْ جدبًا.
ويقالُ: كيفَ أَمْسَيْتم؟ فيَقولونَ: مُسْوِينَ صالِحِينَ؛ أَي أَنَّ أَوْلادَنا وماشِيَتَنا سَوِيَّةٌ صالِحَةٌ.
والسَّوَاءُ: أَكَمَةٌ أَيَّةً كانت.
وقيلَ: الحَرَّةُ.
وقيلَ: رأْسُ الحَرَّةِ؟ وبه فُسِّر قوْلُ أَبي ذُؤَيْبٍ السابِقُ أَيْضًا.
وقوْلُهم: اسْتَوَى الماءُ والخَشَبَةَ: أَي مَعَها.
وإذا لَحِقَ الرَّجُلُ قِرْنَه في عِلْمٍ أَو شَجاعَةٍ قيلَ: سَاوَاهُ. وفي بعضِ رِوايَةِ الحديثِ: «مَنْ سَاوَى يَوْماه فهو مَغْبونٌ»، قيلَ: مَعْناه تَساوَى.
وقالَ ابنُ بُزُرْج: يقالُ لَئِنْ فَعَلْتَ ذاكَ وأَنا سِواكَ ليَأْتِيَنَّكَ مِنِّي ما تَكْرَهُ؛ يُريدُ وأَنا بأَرْضٍ سِوَى أَرْضِكَ.
وسوَّى تَسْوِيَةً: إذا اسْتَوى، عن ابن الأعْرابيّ.
وسوَّى تَسْويَةً: غَيَّر.
وقالَ الليْثُ: تَصْغيرُ السّواءِ المَمْدودِ سُوَيٌّ.
وأَسْوَى: إذا بَرِصَ.
وأَسْوَى: إذا عُوفيَ بَعْدَ عِلَّةٍ.
وأَسْوَى: إذا اسْتَوى، كأَوْسَى، مَقْلوبٌ منه.
والسَّواءُ: اسْمٌ مِن اسْتَوَى الشَّيءُ اعْتَدَلَ. يقالُ: سَوَاءٌ عليَّ قمْتَ أَو قعدْتَ.
وسُوَى، كهُدىً: ماءٌ بالبادِيَةِ؛ قالَ الراجِزُ:
فَوَّزَ من قُراقِر إلى سُوَى
نقلَهُ الجوهرِيُّ.
وقالَ نَصْر: بفْتحِ السِّين؛ وقيلَ: بكسْرِها: ماءٌ لقُضاعَةَ بالسَّماوَةِ قُرْبَ الشامِ، وعليه مَرَّ خالِدُ بنُ الوليدِ لما فَوَّزَ مِن العِرَاقِ إلى الشامِ بدَلالَةِ رافِع الطَّائيّ.
قال: وسَوَى: بفتْحٍ وقَصْر: موْضِعٌ بنَجْدٍ.
وفي حديثِ قُسِّ: «فإذا أَنا بهَضْبَةٍ في تَسْوائِها»؛ أَي المَوْضِع المُسْتَوِي منها، والتَّاءُ زائِدَةٌ.
وأَرْضٌ سِواءٌ، ككِتابٍ: تُرابُها كالرَّمْلِ، نقلَهُ ابنُ الأثيرِ.
وفي الحديثِ: «لا يزالُ النَّاسُ بَخْير ما تَفاضَلُوا فإذا تَساوَوْا هَلَكُوا»؛ أَي إذا تَرَكُوا التَّنافسَ في الفَضائِلِ ورَضُوا بالنَّقْصِ؛ وقيلَ: هو خاصٌّ بالجَهْلِ لأنَّهم إنَّما يَتساوَوْنَ إذا كانوا جُهَّالًا؛ وقيلَ: المُرادُ بالتَّساوِي هنا التَّحزُّبَ والتفرُّقَ وأَنْ يَنْفَرِدَ كلٌّ برأْيِه وأَن لا يَجْتمعُوا على إمامٍ واحِدٍ.
وقالَ الأزهريُّ: أَي إذا اسْتَوَوْا في الشرِّ ولم يكنْ فيهم ذُو خَيْرٍ هَلَكُوا.
وعنْدِي رجُلٌ سِوَاكَ؛ أَي مَكَانَكَ وبدَلكَ.
وسموا مساوى.
وبعثُوا بالسِّواءِ واللِّواءِ، مكْسُورَتَيْن، يأْتي في لوى.
تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م
147-المصباح المنير (غرب)
غَرَبَتْ الشَّمْسُ تَغْرُبُ غُرُوبًا بَعُدَتْ وَتَوَارَتْ فِي مَغِيبِهَا وَغَرُبَ الشَّخْصُ بِالضَّمِّ غَرَابَةً بَعُدَ عَنْ وَطَنِهِ فَهُوَ غَرِيبٌ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ وَجَمْعُهُ غُرَبَاءُ وَغَرَّبْتُهُ أَنَا تَغْرِيبًا فَتَغَرَّبَ وَاغْتَرَبَ وَغَرَّبَ بِنَفْسِهِ تَغْرِيبًا أَيْضًا وَأَغْرَبَ بِالْأَلِفِ دَخَلَ فِي الْغُرْبَةِ مِثْلُ أَنْجَدَ إذَا دَخَلَ نَجْدًا وَأَغْرَبَ جَاءَ بِشَيْءٍ غَرِيبٍ وَكَلَامٌ غَرِيبٌ بَعِيدٌ مِنْ الْفَهْمِ.وَالْغَرْبُ مِثْلُ فَلْسِ الدَّلْوُ الْعَظِيمَةُ يُسْتَقَى بِهَا عَلَى السَّانِيَةِ وَالْغَرْبُ الْمَغْرِبُ وَالْمَغْرِبُ بِكَسْرِ الرَّاءِ عَلَى الْأَكْثَرِ وَبِفَتْحِهَا وَالنِّسْبَةُ إلَيْهِ مَغْرِبِيٌّ بِالْوَجْهَيْنِ وَالْغَرْبُ الْحِدَّةُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ نَحْوُ الْفَأْسِ وَالسِّكِّينِ حَتَّى قِيلَ اقْطَعْ غَرْبَ لِسَانِهِ أَيْ حِدَّتَهُ وَقَوْلُهُمْ سَهْمٌ غَرْبٌ فِيهِ لُغَاتٌ السُّكُونُ وَالْفَتْحُ وَجَعْلُهُ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ صِفَةً لِسَهْمٍ وَمُضَافًا إلَيْهِ أَيْ لَا يُدْرَى مَنْ رَمَى بِهِ وَهَلْ مِنْ مُغَرِّبَةِ خَبَرٍ بِالْإِضَافَةِ وَبِفَتْحِ الرَّاءِ وَتُكْسَرُ مَعَ التَّثْقِيلِ فِيهِمَا أَيْ هَلْ مِنْ حَالَةٍ حَامِلَةٍ لِخَبَرٍ مِنْ مَوْضِعٍ بَعِيدٍ.
وَالْغَارِبُ مَا بَيْنَ الْعُنُقِ وَالسَّنَامِ وَهُوَ الَّذِي يُلْقَى عَلَيْهِ خِطَامُ الْبَعِيرِ إذَا أُرْسِلَ لِيَرْعَى حَيْثُ شَاءَ ثُمَّ اُسْتُعِيرَ لِلْمَرْأَةِ وَجُعِلَ كِنَايَةً عَنْ طَلَاقِهَا فَقِيلَ لَهَا حَبْلُكَ عَلَى غَارِبِكِ أَيْ اذْهَبِي حَيْثُ شِئْتِ كَمَا يَذْهَبُ الْبَعِيرُ وَفِي النَّوَادِرِ الْغَارِبُ أَعْلَى كُلِّ شَيْءٍ وَالْجَمْعُ الْغَوَارِبُ وَالْغُرَابُ جَمْعُهُ غِرْبَانٌ وَأَغْرِبَةٌ وَأَغْرُبٌ.
المصباح المنير-أبوالعباس الفيومي-توفي: 770هـ/1369م
148-لسان العرب (أجل)
أجل: الأَجَلُ: غايةُ الْوَقْتِ فِي الْمَوْتِ وحُلول الدَّين ونحوِه.والأَجَلُ: مُدَّةُ الشَّيْءِ.
وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ}؛ أَي حَتَّى تَقْضِيَ عِدَّتَهَا.
وَقَوْلُهُ تعالى: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى}؛ أَي لَكَانَ الْقَتْلُ الَّذِي نَالَهُمْ لَازِمًا لَهُمْ أَبدًا وَكَانَ الْعَذَابُ دَائِمًا بِهِمْ، وَيُعْنَى بالأَجَل الْمُسَمَّى الْقِيَامَةُ لأَن اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَهُمْ بِالْعَذَابِ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ}، وَالْجَمْعُ آجَال.
والتَّأْجِيل: تَحْدِيدُ الأَجَلِ.
وَفِي التَّنْزِيلِ: {كِتابًا مُؤَجَّلًا}.
وأَجِلَ الشيءُ يَأْجَلُ، فَهُوَ آجِل وأَجِيل: تأَخر، وَهُوَ نَقِيضُ الْعَاجِلِ.
والأَجِيل: المُؤَجَّل إِلى وَقْتٍ؛ وأَنشد: " وغايَةُ الأَجِيلِ مَهْواةُ الرَّدَى "والآجِلَة: الْآخِرَةُ، وَالْعَاجِلَةُ: الدُّنْيَا، والآجِل والآجِلَة: ضِدُّ الْعَاجِلِ وَالْعَاجِلَةِ.
وَفِي حَدِيثِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ؛ " يَتَعَجَّلونه وَلَا يَتَأَجَّلُونه.
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: يتعجَّله وَلَا يَتَأَجَّله "؛ التَأَجُّل تَفَعُّلٌ مِنَ الأَجَل، وَهُوَ الْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ الْمَحْدُودُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَي أَنهم يَتَعَجَّلُونَ الْعَمَلَ بِالْقُرْآنِ وَلَا يُؤَخِّرُونَهُ.
وَفِي حَدِيثِ مَكْحُولٍ: «كُنَّا بِالسَّاحِلِ مُرَابِطِينَ فَتَأَجَّل مُتَأَجِّل مِنَّا» أَي استأْذن فِي الرُّجُوعِ إِلى أَهله وَطَلَبَ أَن يُضْرَبَ لَهُ فِي ذَلِكَ أَجل، واسْتَأْجَلْتُه فأَجَّلَنِي إِلى مُدَّةٍ.
والإِجْلُ، بِالْكَسْرِ: الْقَطِيعُ مِنْ بَقْرِ الْوَحْشِ، وَالْجَمْعُ آجَال.
وَفِي حَدِيثِ زِيَادٍ: «فِي يَوْمٍ مَطير تَرْمَضُ فِيهِ الآجَال»؛ هِيَ جَمْعُ إِجْل، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ، وَهُوَ الْقَطِيعُ مِنْ بَقَرِ الْوَحْشِ وَالظِّبَاءِ، وتأَجَّلَت الْبَهَائِمُ؛ أي صَارَتْ آجَالًا؛ قَالَ لَبِيدٌ:
والعِينُ ساكنةٌ، عَلَى أَطْلائِها، ***عُوذًا، تَأَجَّلُ بالفَضاءِ بِهامها
وتَأَجَّلَ الصُّوارُ [الصِّوارُ]: صَارَ إِجْلًا.
والإِجَّلُ: لُغَةٌ فِي الإِيَّل وَهُوَ الذَّكَرُ مِنَ الأَوعال، وَيُقَالُ: هُوَ الَّذِي يُسَمَّى بِالْفَارِسِيَّةِ كَوَزْنٍ، وَالْجِيمُ بَدَلٌ مِنَ الْيَاءِ كَقَوْلِهِمْ فِي بَرْنِيٍّ بَرْنِجّ؛ قَالَ أَبو عَمْرِو ابن الْعَلَاءِ: بَعْضُ الأَعراب يَجْعَلُ الْيَاءَ المشدَّدة جِيمًا وإِن كَانَتْ أَيضًا غَيْرَ طَرَفٍ؛ وأَنشد ابْنُ الأَعرابي لأَبي النَّجْمِ:
كأَنَّ فِي أَذْنابِهِنَّ الشُّوَّلِ، ***مِنْ عَبَسِ الصَّيْفِ، قُرونَ الإِجَّلِ
قَالَ: يُرِيدُ الإِيَّل، وَيُرْوَى قُرُونُ الإِيَّل، وَهُوَ الأَصل.
وتَأَجَّلُوا عَلَى الشَّيْءِ: تَجَمَّعوا.
والإِجْل: وَجَع فِي العُنُق، وَقَدْ أَجَلَه مِنْهُ يَأْجِلُه؛ عَنِ الْفَارِسِيِّ، وأَجَّلَه وآجَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ، كُلُّ ذَلِكَ: دَاوَاهُ فأَجَلَه، كحَمأَ البئرَ نزعَ حَمْأَتها، وأَجَّلَه كقَذَّى العَينَ نَزَعَ قَذاها، وآجَلَهُ كَعَاجَلَهُ، وَقَدْ أَجِلَ الرجلُ، بِالْكَسْرِ، أَي نَامَ عَلَى عُنُقِهِ فَاشْتَكَاهَا.
والتَّأْجِيلُ: الْمُدَاوَاةُ، مِنْهُ.
وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ الجَرَّاح: بِي إِجْل فأَجِّلُونِي أَي دَاوُونِي مِنْهُ كَمَا يُقَالُ طَنَّيْته مِنَ الطَّنى ومَرَّضْتُه.
ابْنُ الأَعرابي: هُوَ الإِجْل والإِدْل وَهُوَ وجَع الْعُنُقِ مِنْ تَعادِي الوِساد؛ الأَصمعي: هُوَ البَدَل أَيضًا.
وَفِي حَدِيثِ الْمُنَاجَاةِ: «أَجْلَ أَن يُحْزِنَه»أَي مِنْ أَجله ولأَجله، وَالْكُلُّ لُغَاتٌ وَتُفْتَحُ هَمْزَتُهَا وَتُكْسَرُ؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «أَن تَقْتُلَ وَلَدَكَ أَجْلَ أَن يأْكل مَعَكَ».
والأَجْلُ: الضِّيقُ.
وأَجَلُوا مالَهم: حَبَسُوهُ عَنِ المَرعى.
وأَجَلْ، بِفَتْحَتَيْنِ: بِمَعْنَى نَعَمْ، وَقَوْلُهُمْ أَجَلْ إِنما هُوَ جَوَابٌ مِثْلُ نعَمْ؛ قَالَ الأَخفش: إِلا أَنه أَحسن مِنْ نَعَمْ فِي التَّصْدِيقِ، وَنَعَمْ أَحسن مِنْهُ فِي الِاسْتِفْهَامِ، فإِذا قَالَ أَنت سَوْفَ تَذْهَبُ قُلْتُ أَجَلْ، وَكَانَ أَحسن مِنْ نَعَمْ، وإذا قَالَ أَتذهب قُلْتُ نعَم، وَكَانَ أَحسن مِنْ أَجَلْ.
وأَجَلْ: تَصْدِيقٌ لِخَبَرٍ يُخْبِرُكَ بِهِ صَاحِبُكَ فَيَقُولُ فَعَلَ ذَلِكَ فَتَصْدُقُهُ بِقَوْلِكَ لَهُ أَجَلْ، وأَما نعَمْ فَهُوَ جَوَابُ الْمُسْتَفْهِمِ بِكَلَامٍ لَا جَحْد فِيهِ، تَقُولُ لَهُ: هَلْ صَلَّيْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَهُوَ جَوَابُ الْمُسْتَفْهِمِ.
والمَأْجَلُ، بِفَتْحِ الْجِيمِ: مُسْتنقَع الْمَاءِ، وَالْجَمْعُ المَآجِل.
ابْنُ سِيدَهْ: والمَأْجَل شِبْهُ حَوْضٍ وَاسِعٍ يُؤَجَّلُ أَي يُجْمَعُ فِيهِ الْمَاءُ إِذا كَانَ قَلِيلًا ثُمَّ يُفَجَّر إِلَى المَشارات والمَزْرَعة وَالْآبَارِ، وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ طَرَحَهُ.
وأَجَّلَه فِيهِ: جَمَعَهُ، وتَأَجَّلَ فِيهِ: تَجَمَّع.
والأَجِيل: الشَّرَبَةُ وَهُوَ الطِّينُ يُجْمع حَوْلَ النَّخْلَةِ؛ أَزْديَّة، وَقِيلَ: المَآجِل الجِبَأَةُ الَّتِي تَجْتَمِعُ فِيهَا مِيَاهُ الأَمطار مِنَ الدُّورِ؛ قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: وَبَعْضُهُمْ لَا يَهْمِزُ المأْجل وَيَكْسِرُ الْجِيمَ فَيَقُولُ المَاجِل وَيَجْعَلُهُ مِنَ المَجْل، وَهُوَ الْمَاءُ يَجْتَمِعُ مِنَ النَّفْطة تَمْتَلِئُ مَاءً مِنْ عَمَل أَو حَرَق.
وَقَدْ تَأَجَّلَ الْمَاءُ، فَهُوَ مُتَأَجِّل: يَعْنِي اسْتَنْقَع فِي مَوْضِعٍ.
وَمَاءٌ أَجِيل أَي مُجْتَمِعٌ.
وَفَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِكَ وإِجْلِكَ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا، وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ}، الأَلف مَقْطُوعَةٌ، أَي مِنْ جَرَّا ذَلِكَ؛ قَالَ: وَرُبَّمَا حَذَفَتِ الْعَرَبُ مِنْ فَقَالَتْ فَعَلْتُ ذَلِكَ أَجْلَ [إِجْلَ] كَذَا، قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: وَقَدْ قُرِئَ" مِنْ إِجْل ذَلِكَ "، وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ فَعَلْتُهُ مِنْ أَجْلاك وإِجْلاك أَي مِنْ جَرَّاك، ويُعَدَّى بِغَيْرٍ مِنْ؛ قَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ:
أَجْلَ أَنَّ اللهَ قَدْ فَضَّلَكُمْ، ***فَوْقَ مَنْ أَحْكأَ صُلْبًا بإِزار
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْبَيْتُ: إِجْلَ أَن اللَّهَ قَدْ فَضَّلَكُمْ.
قَالَ الأَزهري: والأَصل فِي قَوْلِهِمْ فعلتُه مِنْ أَجْلِكَ أَجَلَ عَلَيْهِمْ أَجْلًا أَي جَنى عَلَيْهِمْ وجَرَّ.
والتَّأَجُّلُ: الإِقبال والإِدبار، قَالَ:
عَهْدي بِهِ قَدْ كُسْيَ ثُمَّتَ لَمْ يَزَلْ، ***بِدَارِ يَزيدَ، طاعِمًا يَتَأَجَّلُ
والأَجْل: مَصْدَرٌ.
وأَجَلَ عَلَيْهِمْ شَرًّا يَأْجُلُه ويَأْجِلُهُ أَجْلًا: جَناه وهَيَّجه؛ قَالَ خَوَّات بْنُ جُبَير:
وأَهلِ خِباءٍ صالحٍ كُنتُ بَيْنَهُمْ، ***قَدِ احْتَرَبوا فِي عَاجِلٍ أَنا آجِلُه
أَي أَنا جَانِيَهُ.
قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: قَالَ أَبو عُبَيْدَةَ هُوَ للخِنَّوْتِ؛ قَالَ: وَقَدْ وَجَدْتُهُ أَنا فِي شِعْرِ زُهَيْرٍ فِي القصيد الَّتِي أَولها: " صَحا القلبُ عَنْ لَيْلى وأَقْصَرَ باطلُه "قَالَ: وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ الأَصمعي؛ وَقَوْلُهُ وأَهل مَخْفُوضٌ بِوَاوِ رُبَّ؛ عَنِ ابْنِ السِّيرَافِيِّ؛ قَالَ: وَكَذَلِكَ وَجَدْتُهُ فِي شِعْرِ زُهَيْرٍ؛ قَالَ: وَمِثْلُهُ قَوْلُ تَوْبة بْنِ مُضَرِّس العَبْسي:
فإِن تَكُ أُمُّ ابْنَيْ زُمَيْلَةَ أُثْكِلَتْ، ***فَيا رُبَّ أُخْرَى قَدْ أَجَلْتُ لها ثُكْلا
أَي جَلَبْت لها تُكْلًا وهَيَّجْته؛ قَالَ: وَمِثْلُهُ أَيضًا لِتَوْبَةَ:
وأَهلِ خِباءٍ آمِنِينَ فَجَعْتُهم ***بشَيْء عَزيرٍ عاجلٍ، أَنا آجِلُه
وأَقْبَلْتُ أَسْعى أَسأَل القَوْمَ مَا لَهم، ***سُؤَالَك بِالشَّيْءِ الَّذِي أَنت جاهلُه
قَالَ: وَقَالَ أُطَيْط:
وهَمٍّ تَعَنَّاني، وأَنت أَجَلْتَه، ***فعَنَّى النَّدَامَى والغَرِيرِيَّةَ الصُّهْبا
أَبو زَيْدٍ: أَجَلْتُ عَلَيْهِمْ آجُلُ وآجِلُ أَجْلًا أَي جَرَرْت جَريرة.
قَالَ أَبو عَمْرٍو: يُقَالُ جَلَبْت عَلَيْهِمْ وجَرَرْت وأَجَلْت بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَي جَنَيت.
وأَجَل لأَهله يَأْجُلُ ويَأْجِلُ: كَسَب وجمَع وَاحْتَالَ؛ هَذِهِ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.
وأَجَلَى، عَلَى فَعَلى: مَوْضِعٌ وَهُوَ مَرْعًى لَهُمْ مَعْرُوفٌ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
حَلَّتْ سُلَيْمى ساحةَ القَلِيب ***بأَجَلَى، مَحَلَّةَ الغَرِيب
لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م
149-صحاح العربية (سيا)
[سيا] سِيَةُ القوسِ: ما عُطِفَ من طرفيها.والجمع سيات، والهاء في الواحد عوض من الواو.
والنسبة إليها سيوى.
قال أبو عبيدة: كان رؤبة بن العجاج يهمز سية القوس وسائر العرب لا يهمزونها.
الفراء: يقال هو في سِيِّ رأسه، وفي سَواءِ رأسه، إذا كان في النَعْمة.
قال أبو عبيد: وقد يفسّر سِيُّ رأسِه عددَ شعرهِ من الخير.
قال ذو الرمة: كأنَّه خَاضِبٌ بالسِيِّ مَرْتَعُهُ *** أبو ثلاثين أمسى وهو مُنْقَلِبُ والسِيُّ: أرضٌ من أراضي العرب، وقد تكون المفازة.
والسيان: المثلان، الواحد سى.
قال الحطيئة: فإِيَّاكُمُ وحَيَّةَ بطنِ واد *** همو الناب ليس لكم بسى يريد تعظيمه.
وقولهم: (لا سيما) كلمة يستثنى بها، وهو سِيٌّ ضمَّ إليه ما، والاسم الذى بعد " ما " لك فيه وجهان: إن شئت جعلت ما بمنزلة الذى وأضمرت مبتدأ ورفعت الاسم الذى تذكره لخبر المبتدأ، تقول: جاءني القوم لا سيما أخوك، أي ولا سى الذى هو أخوك.
وإن شئت جررت ما بعده على أن تجعل ما زائدة، وتجر الاسم بسى ; لان معنى سى معنى مثل.
وينشد قول امرئ القيس: ألا رب يوم لك منهن صالح *** ولا سيما يوم بدارة جلجل مجرورا ومرفوعا.
وتقول: اضربن القوم ولا سيما أخيك، أي ولا مثل ضربه أخيك.
وإن قلت: ولا سيما أخوك، أي ولا مثل الذى هو أخوك، تجعل ما بمعنى الذى وتضمر هو وتجعله مبتدأ وأخوك خبره: قال الاخفش: قولهم: إن فلانا كريم
ولا سيما إن أتيته قاعدا، فإن " ما " هاهنا زائدة لا تكون من الاصل، وحذف هنا الاضمار، وصار ما عوضا منه، كأنه قال: ولا مثله إن أتيته قاعدا.
صحاح العربية-أبونصر الجوهري-توفي: 393هـ/1003م
150-المحيط في اللغة (قدح)
قدح: القَدَحُ: من الآنِيَةِ، جَمْعُه: أقْدَاحٌ.والقَدَّاحُ: الرَّخْصُ من القَضْبِ وغيرهِ.
وحَجَرُ النّارِ.
والقَدْحُ: قَدْحُ الزَّنْدِ بالقَدّاح.
والمِقْدَحُ: الحَدِيْدَةُ يُقْدَحُ بها.
والقَدْحُ: فِعْلُ القادِحِ.
والقِدْحَةُ: اسْمٌ مُشْتَقٌّ من الاقْتِدَاح.
والقَدْحُ: أُكَالٌ يَقَعُ في الشَّجَرِ والسِّنِّ، وهي القَوَادِحُ.
والقِدْحُ: النَّبْلُ، وهي القِدَاحُ والأقْدَاحُ والقُدُوْحُ.
وما جَرَى فيه السِّنْخُ من القِدْح: مَقْدَحٌ.
والإِنْسَانُ يَقْتَدِحُ الأمْرَ: إذا نَظَرَ فيه ودَبَّرَه.
والقَدِيْحُ: ما يَبْقى في أسْفَلِ القِدْرِ.
وهو أيضًا: ما يُقْدَحُ بالمِغْرَفَةِ: وهي المِقْدَحَةُ.
وفي مَثَلٍ: ستَأْتِيْكَ بما في قَعْرِها المِقْدَحَةُ يُضْرَبُ مَثَلًا لِخَبَرٍ يَعْمى ولا بُدَّ يَظْهَرُ.
وقَدَّحَتْ عَيْنُه: غَارَتْ، فهي مُقَدَّحَةٌ.
وقَدَّحْتُ خَيْلِي: ضَمَّرْتَها، تَقْدِيحًا.
وقَدَحَ فلانٌ في ساقِ فلانٍ: عَمِلَ ما يَكْرَه.
وكذلك إذا عابَه.
وإذا كانَتِ البِئْرُ لا يُؤخَذُ ماؤها إلاّ غُرْفَةً غُرْفَةً: فهي قَدُوْحٌ.
وهذا ماءٌ لا يَنَامُ قادِحُه: يَصِفُوْنَه بالقِلَّة.
والقَدْحُ: أنْ يَجدَحَ اللَّبَنَ حتّى يُرْغي.
وفي المَثَلِ: صَدَقَهُم وَسْمُ قِدْحِه أي قال الحقَّ.
وأبْصِرْ وَسْمَ قِدْحِك أي اعْرِفْ نَفْسَكَ.
المحيط في اللغة-الصاحب بن عباد-توفي: 385هـ/995م
151-تهذيب اللغة (هدن)
هدن: شمِرٌ عن الهوازنيّ قال: الهُدْنة: انتقاض عَزم الرجلُ لخبرٍ يأتيه، فيَهْدِنُه عما كان عليه، فيقال: انْهَدَنَ فلان عن ذاك، وهَدَنَه خبرٌ أتاه هَدْنًا شديدًا.وقال الليث: المهدَنَة من الهُدْنة، وهو السكون، يقال منه: هَدَنْتُ أَهْدِنُ هُدُونًا: إذا سكنْتَ فلم تتحرَّك.
ورجلٌ مَهدون، وهو البليد الذي يُرضيه الكلام، يقال: قد هَدَنوه بالقَوْل دون الفعل، وأنشد:
ولم يُعَوَّدْ نَوْمةَ المهدونِ *
ويقال: هُدِنَ عنك فلان: أي أرضاه الشيء اليسير.
ورُوِي عن سَلمان أنه قال: مَلْغاةٌ أولِ الليل مَهدنةٌ لآخره، معناه أنه إذا سَهر في أول ليلِه فَلَغَا في الأباطل لم يستيقظ في آخره للتهجّد والصلاة.
أبو عبيد، عن أبي عمرو قال: الهدُون: السكون، والهِدان: الرجل الأحمقُ الجافي.
قال رؤبة:
قد يَجمعُ المالَ الهِدانُ الجافي *** من غير ما عَقْلِ ولا اصطِرافِ
أبو عبيد في كتاب «النوادر» قال: الهَيْدانُ والهِدانُ واحد.
قال: والأصل الهدَان، فزادوا الياء.
قلت: وهو فَيْعال، مثاله عَيْدان النخل، النونُ أصلية، والياء زائدة.
وقال الشاعر في المهدُون:
إنَّ العَواوِيرَ مأكولٌ حُظوظتُها *** وذو الكهامَة بالأقوال مَهدُون
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكَر الفِتَن فقال: «يكون بعدَها هُدنةٌ على دَخَن، وجماعةٌ على أَقْذاء»، وتفسيره في الحديث: لا ترجعُ قلوبُ قوم على ما كانت عليه.
وأصل الهدْنة السكون بعد الهَيْج، ويقال للصُّلح بعد القتال: هُدْنة، وربما جُعِلَت الهدْنة مُدّةً معلومة، فإذا انقضت المدة عاوَدُوا القتال.
وتفسير الدَّخَن في كتاب الخاء.
ويقال: هدَّنَت المرأةُ صَبِيَّها: إذا أَهدَأَتْه ليَنَام، فهو مُهدَّن.
وقال ابن الأعرابي: هَدَّن عدوَّه: إذا كافّه، وهَدَن: إذا حَمُق.
وقال الليث: الهوْدَناتُ: النُّوق.
وقال شمِرٌ: هدَنْتُ الرجلَ إذا سَكّنْته وخَدَعْته كما يُهْدَن الصبي.
وقال رؤبة:
ثُقِّفْتَ تَثقِيفَ امرىءٍ لم يُهْدَنِ *
أي: لم يُخدَعْ ولم يُسَكَّن فيُطْمَعَ فيه.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م
152-تهذيب اللغة (أجل)
أجل: قال الليث: الأجَلُ غايةُ الوقْت في المَوت، ومَحَلُّ الدّيْن ونحوه.أبو عُبَيْد عن أبي زيد: أَجَلْتُ عليهم آجَلُ أَجْلًا: أي جَرَرْتُ جَريرةً.
وقال أبو عمرو، ويقال: جَلَبْتُ عليهم، وجَرَرْتُ، وأَجَلتُ، بمعنًى واحد، أي جَنَيْت.
الكسائي: فعلت ذَاك من أَجْلَاك وإجْلاكَ ومن جَلَالِكَ بمعنًى واحد.
الحرانيّ عن ابن السكّيت: فعلتُ ذاك من أجْلكَ، وإذا اسْقَطْتَ «مِنْ» قلتَ: فعلتُ ذاك أَجْلَكَ.
هذا كلامُ العرب، ومن أجل جَرّاك، وإذا جِئْتَ بـ «من» قلت: من أجلِكَ.
وتقول أجَلَ هذا الشيء يأجِلُ فهو آجِل، وهو نَقيض الْعَاجل، قال: والأجيلُ والْمُؤَجّلُ إلى وَقْت، وأنشد:
* وغَايَةُ الأَجِيلِ مَهْوَاةُ الرّدَى*
الحَرانيّ عن ابن السكيت: الأجْلُ: مَصْدَر أَجَلَ عليهم شَرًّا يَأجِلَهُ أَجْلًا إذا جَنَاه عليه.
وقال خَوّاتُ بن جُبَيْر:
وأهْلِ خِبَاءٍ صَالحٍ ذاتُ بينهم *** قد احْتَرَبوا في عاجِلٍ أنا آجِلُه
أي: جَانيه.
قال: والأَجْلُ الْقَطيعُ من بَقَر الوحش، وجمعه الآجَال.
قال: وحَكَى لنا الفَرّاء: والإجْلُ وَجَعٌ في الْعُنق.
وحكي عن أبي الجرّاحِ، أنه قال: بي إجْلٌ فَأَجِّلوني، أي دَاوُوني.
ثعلب، عن ابن الأعرابيّ، قال: هو الأَجَلُ والأَدَل، وهو وَجَعُ العُنُق من تَعادِي الْوِسَاد.
وقال الأصمعيّ: هو الْبَدَلُ أيضًا، وقول الله جلّ وعزّ: {مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ} [المائدة: 32].
الأَلفُ مقطوعةٌ من جَرّى ذلك وربّما حَذَفَت العرب مِنْ فقالت: فَعَلْتُ ذاكَ أجْلَ كذا.
قال عدِيّ:
أجْلَ أنّ اللهَ قد فَضّلَكُمْ *** فوق ما أحكي بصُلْب وإزارِ
رواه شَمِر: إجْلَ أَنّ اللهَ قد فضّلكم.
وقال الليث: الآجِلَة الآخِرة، والعاجِلَةُ الدُّنيا.
قلت: والأُصل في قولهم فَعَلْتُه من أجلِكَ، من قولهم أجَلَ عليه أجْلًا، أيْ جَنَى وَجَرَّ.
والمَأجَل: شِبْهُ حَوْضٍ واسعٍ يُؤْجَلُ فيه ماءُ القَناة إذا كان قليلًا، أي يجْمَعُ، ثم يُفجَّر إلى المزرعة، وهو بالفارسية طَرخَا.
وقال غير الليث: المأْجَلُ: الجِبَأةُ التي يجتمع فيها مياه الأمطار من الدّور قلت: وأصلُ قولهم: من أجلك، مأخوذ من قولك: أجَلْتُ، أي جَنيت، وهو كقولك: فعلت من جرَّاك.
وبعضهم لا يهمِزُ المأْجَل، وبكسر الجيم، فيقول الماجل، ويجعله من المَجْل، وهو الماء يجتمع في النُّقطة تمتلىء ماء من عَمَل أو حَرَق.
وأَجَلْ: تَصْديقٌ لخبرٍ يُخْبِرُك به صاحِبُك، فنقول: فَعل فلان كذا وكذا، فَتُصَدِّقه بقَولك له: أجَلْ، وأَمَّا نعم، فإنَّه جواب المستَفْهِم بكلام لا جحَدْ فيه، يقول لك هل صَلَّيْت، فتقول: نعم.
تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م