نتائج البحث عن (لِلثَّوَّابِ)

1-القاموس المحيط (نثر)

نَثَرَ الشيءَ يَنْثُرُهُ ويَنْثِرُه نَثْرًا ونِثارًا: رَماهُ مُتَفَرِّقًا.

كَنَثَّرَهُ فانْتَثَرَ وتَنَثَّرَ وتَنَاثَرَ.

والنُّثَارَةُ، بالضم، والنَّثَرُ، بالتحريك: ما تَناثَرَ منه، أو الأُولَى تُخَصُّ بما يَنْتَثِرُ من المائِدَة فَيُؤْكَلُ للثَّوابِ.

وتَنَاثَروا: مَرِضوا فَماتوا.

والنَّثورُ: الكثيرَةُ الوَلَدِ، والشاةُ تَطْرَحُ من أنْفها كالدُّودِ،

كالناثِرِ، والواسِعَةُ الإِحْليلِ.

والنَّيْثُرانُ، كرَيْهُقانٍ وككتِفٍ ومِنْبَرٍ: الكثيرُ الكلامِ.

ونَثَرَ الكلاَمَ والوَلَدَ: أكثَرَه.

والنَّثْرَةُ: الخَيْشومُ وما والاهُ، أو الفُرْجَةُ بَيْنَ الشارِبَيْنِ حِيالَ وَتَرَةِ الأَنْفِ، وكَوْكَبانِ بينهما قدرُ شِبْرٍ، وفيهما لَطْخُ بَياضٍ كأنه قِطْعَةُ سَحابٍ، وهي أنفُ الأَسَدِ، والدِّرْعُ السَّلِسَةُ المَلْبَسِ، أو الواسِعَةُ، والعَطْسَةُ.

والنَّثيرُ للدَّوابِّ: كالعُطاسِ لنا، نَثَرَ يَنْثِرُ نَثيرًا.

واسْتَنْثَرَ: اسْتَنْشَقَ الماءَ، ثم اسْتَخْرَجَ ذَلك بِنَفَسِ الأَنْفِ،

كانْتَثَرَ.

والمِنْثارُ: نَخْلَةٌ يَتَنَاثَرُ بُسْرُها.

وأنْثَرَهُ: أرْعَفَه، وألْقاهُ على خَيْشومه،

وـ الرَّجُلُ: أخْرَجَ ما في أنْفِهِ، أو أخْرَجَ نَفَسَه من أنْفِهِ، وأدْخَلَ الماءَ في أنْفِهِ،

كانْتَثَرَ واسْتَنْثَرَ.

والمُنَثَّرُ، كمُعَظَّمٍ: الضَّعيفُ لا خَيْرَ فيه.

القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م


2-معجم البلدان (شلمغان)

شَلْمَغَانُ:

بفتح أوله، وسكون ثانيه ثم ميم مفتوحة، وغين معجمة، وآخره نون: ناحية من نواحي واسط الحجّاج، ينسب إليها جماعة من الكتّاب، منهم:

أبو جعفر محمد بن علي الشلمغاني المعروف بابن أبي العزاقر، بفتح العين المهملة والزاي وبعد الألف قاف مكسورة ثم راء مهملة، وكان يدّعي أن اللاهوت حلّ فيه، وله في ذلك مذهب ملعون، ذكرته في أخبار الأدباء في باب إبراهيم بن محمد بن أحمد بن أبي عون صاحب كتاب التشبيهات لأنه كان يدعي في ابن أبي العزاقر الالهية فأخذهما ابن مقلة محمد بن علي وزير المقتدر في ذي القعدة سنة 322، وقد ذكرت قصتهما بتمامها في أخبار ابن أبي عون، والشلمغان: اسم رجل، ولعلّ هذه القرية نسبت إليه، وهو غلط ممن قاله، وأما اسم رجل فلا شكّ فيه، قال البحتري يمدح أحمد بن عبد العزيز الشلمغاني:

«فاز من حارث وخسرو وماهر *** مز بالمجد والفخار التليد»

«وأطال ابتناءه الحسن القر *** م وعبد العزيز بالتشييد»

«جدّه الشلمغان أكرم جدّ *** شفع المجد بالفعال المجيد»

وحدث شاعر يعرف بالهمداني: قصدت ابن الشلمغان وهو مقيم بمادرايا فأنشدته قصيدة تأنقت فيها وجودت مدحه فيها فلم يحفل بها فكنت أغاديه كلّ يوم أحضر مجلسه فلم أر للثواب أثرا، فحضرته يوما وقد قام شاعر فأنشده قصيدة نونيّة إلى أن بلغ إلى قوله منها:

«فليت الأرض كانت مادرايا، *** وكل الناس آل الشلمغاني»

فعنّ لي في ذلك الوقت أن قمت وقلت:

«إذا كانت جميع الأرض كنفا، *** وكلّ النّاس أولاد الزواني»

فضحك وأمرني بالجلوس وقال: نحن أحوجناك إلى هذا. وأمر لي بجائزة سنية فأخذتها وانصرفت.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


3-موسوعة الفقه الكويتية (اتحاد المجلس)

اتِّحَاد الْمَجْلِسِ

التَّعْرِيفُ:

1- الِاتِّحَادُ لُغَةً: صَيْرُورَةُ الذَّاتَيْنِ وَاحِدَةً، وَلَا يَكُونُ إِلاَّ فِي الْعَدَدِ مِنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا وَالْمَجْلِسُ هُوَ مَوْضِعُ الْجُلُوسِ.

وَيُرَادُ بِهِ الْمَجْلِسُ الْوَاحِدُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى ذَلِكَ يَسْتَعْمِلُهُ الْحَنَفِيَّةُ دُونَ غَيْرِهِمْ بِمَعْنَى تَدَاخُلِ مُتَفَرِّقَاتِ الْمَجْلِسِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمَجْلِسِ مَوْضِعَ الْجُلُوسِ، بَلْ هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ يَحْصُلُ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ مَعَ الْوُقُوفِ، وَمَعَ تَغَايُرِ الْمَكَانِ وَالْهَيْئَةِ.

2- وَالْأَصْلُ إِضَافَةُ الْأَحْكَامِ إِلَى أَسْبَابِهَا، كَقَوْلِهِمْ: كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، أَوْ: سَجْدَةُ السَّهْوِ، وَقَدْ يُتْرَكُ ذَلِكَ وَتُضَافُ إِلَى غَيْرِ الْأَسْبَابِ، كَالْمَجْلِسِ لِلضَّرُورَةِ، كَمَا فِي سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ إِذَا تَكَرَّرَتْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، أَوْ لِلْعُرْفِ، كَمَا فِي الْأَقَارِيرِ، أَوْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ كَمَا فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.

وَاتِّحَادُ الْمَجْلِسِ يُؤَثِّرُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ مُنْفَرِدًا، وَأَحْيَانًا لَا يُؤَثِّرُ إِلاَّ مَعَ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ نَحْوُ اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ النَّوْعِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ فِي تَدَاخُلِ فِدْيَةِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ.

وَاتِّحَادُ الْمَجْلِسِ فِي الْعُقُودِ وَغَيْرِهَا عَلَى قِسْمَيْنِ: حَقِيقِيٌّ بِأَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ فِي مَجْلِسِ الْإِيجَابِ، وَحُكْمِيٌّ إِذَا تَفَرَّقَ مَجْلِسُ الْقَبُولِ عَنْ مَجْلِسِ الْإِيجَابِ كَمَا فِي الْكِتَابَةِ وَالْمُرَاسَلَةِ، فَيَتَّحِدَانِ حُكْمًا.

وَاتِّحَادُ الْمَجْلِسِ فِي الْحَجِّ يُرَادُ بِهِ اتِّحَادُ الْمَكَانِ وَلَوْ تَغَيَّرَتِ الْحَالُ، وَفِي تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ عَدَمُ تَخَلُّلِ زَمَنٍ طَوِيلٍ، أَوْ عَدَمُ الْفَصْلِ بِأَدَاءِ قُرْبَةٍ، كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي الْوُضُوءِ وَالْحَجِّ.

اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ فِي الْعِبَادَاتِ:

3- تَجْدِيدُ الْوُضُوءِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ:

تَكَلَّمَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ:

الْأَوَّلُ: الْكَرَاهَةُ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ، لِلْإِسْرَافِ، وَهُوَ مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ- وَوَصَفُوهُ بِالْغَرَابَةِ- إِذَا وَصَلَهُ بِالْوُضُوءِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَمْضِ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالتَّجْدِيدِ زَمَنٌ يَقَعُ بِمِثْلِهِ تَفْرِيقٌ؛ لِأَنَّهُمْ اعْتَبَرُوهُ بِمَثَابَةِ غَسْلَةٍ رَابِعَةٍ

الثَّانِي: اسْتِحْبَابُ التَّجْدِيدِ مَرَّةً وَاحِدَةً مُطْلَقًا، تَبَدَّلَ الْمَجْلِسُ أَمْ لَا، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الْغَنِيِّ النَّابُلُسِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، لِحَدِيثِ: «مَنْ تَوَضَّأَ عَلَى طُهْرٍ كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ».

الثَّالِثُ: الْكَرَاهَةُ إِذَا تَكَرَّرَ مِرَارًا فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ، وَانْتِفَاؤُهَا إِذَا أَعَادَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَهُوَ مَا وَفَّقَ بِهِ صَاحِبُ النَّهْرِ بَيْنَ مَا جَاءَ فِي التَّتَارْخَانِيَّةِ وَمَا فِي السِّرَاجِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ.

هَذَا وَأَغْلَبُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ تَجْدِيدُ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ أَوْ تَعَدُّدِهِ، وَذَلِكَ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ.

تَكَرُّرُ الْقَيْءِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ:

4- لَوْ قَاءَ الْمُتَوَضِّئُ مُتَفَرِّقًا بِحَيْثُ لَوْ جُمِعَ صَارَ مِلْءَ الْفَمِ فَإِنِ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ وَالسَّبَبُ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَإِنِ اتَّحَدَ السَّبَبُ فَقَطِ انْتَقَضَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَإِنِ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ دُونَ السَّبَبِ انْتَقَضَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ يَجْمَعُ مُتَفَرِّقَاتِهِ.

وَلَمْ يُشَارِكِ الْحَنَفِيَّةَ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِالْقَيْءِ إِلاَّ الْحَنَابِلَةُ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَنْظُرُوا إِلَى اتِّحَادِ السَّبَبِ أَوِ الْمَجْلِسِ، بَلْ رَاعَوْا قِلَّةَ الْقَيْءِ وَكَثْرَتِهِ، تَكَرَّرَ السَّبَبُ وَالْمَجْلِسُ أَوْ لَا.

سُجُودُ التِّلَاوَةِ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ:

5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْقَارِئَ يَسْجُدُ لِلتِّلَاوَةِ عِنْدَ قِرَاءَةِ أَوْ سَمَاعِ آيَةِ السَّجْدَةِ، أَمَّا إِذَا تَكَرَّرَتْ قِرَاءَتُهَا فَإِنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ عَلَى أَنَّ الْقَارِئَ يَسْجُدُ كُلَّمَا مَرَّتْ بِهِ آيَةُ سَجْدَةٍ وَلَوْ كَرَّرَهَا، لِتَعَدُّدِ السَّبَبِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَلَا يَتَكَرَّرُ السُّجُودُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِنِ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ وَالْآيَةُ، حَتَّى وَلَوِ اجْتَمَعَ سَبَبَا الْوُجُوبِ، وَهُمَا التِّلَاوَةُ وَالسَّمَاعُ، بِأَنْ تَلَاهَا ثُمَّ سَمِعَهَا أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ تَكَرَّرَ أَحَدُهُمَا. وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيَّةِ إِنْ لَمْ يَسْجُدْ لِلْأُولَى. وَمَنْ تَكَرَّرَ مَجْلِسُهُ مِنْ سَامِعٍ أَوْ تَالٍ تَكَرَّرَ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ.

اخْتِلَافُ الْمَجْلِسِ وَأَنْوَاعُهُ:

6- مَا لَهُ حُكْمُ الْمَكَانِ الْوَاحِدِ كَالْمَسْجِدِ وَالْبَيْتِ لَا يَنْقَطِعُ فِيهِ الْمَجْلِسُ بِالِانْتِقَالِ إِلاَّ إِنِ اقْتَرَنَ بِعَمَلٍ أَجْنَبِيٍّ كَالْأَكْلِ وَالْعَمَلِ الْكَثِيرَيْنِ، وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ.

وَاخْتِلَافُ الْمَجْلِسِ عَلَى نَوْعَيْنِ:

حَقِيقِيٌّ، بِأَنْ يَنْتَقِلَ مِنَ الْمَكَانِ إِلَى آخَرَ بِأَكْثَرَ مِنْ خُطْوَتَيْنِ كَمَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْكُتُبِ، أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ كَمَا فِي الْمُحِيطِ.

وَحُكْمِيٌّ، وَذَلِكَ بِمُبَاشَرَةِ عَمَلٍ يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ قَاطِعًا لِمَا قَبْلَهُ، هَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، أَمَّا غَيْرُهُمْ فَالْعِبْرَةُ عِنْدَهُمْ بِالسَّبَبِ اتِّحَادًا وَتَعَدُّدًا لَا لِلْمَجْلِسِ.

سُجُودُ السَّامِعِ:

7- لَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَارِئِ وَالسَّامِعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ، وَيَأْخُذُ الْمُسْتَمِعُ لَا السَّامِعُ حُكْمَ الْقَارِئِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ عَلَيْنَا السُّورَةَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَيَسْجُدُ وَنَسْجُدُ مَعَهُ»

وَرَبَطَ الْمَالِكِيَّةُ سُجُودَ الْمُسْتَمِعِ الَّذِي جَلَسَ لِلثَّوَابِ وَالْأَجْرِ وَالتَّعْلِيمِ بِسُجُودِ الْقَارِئِ، فَلَا يَسْجُدُ إِنْ لَمْ يَسْجُدِ الْقَارِئُ، فَإِنْ سَجَدَ فَحَكَى ابْنُ شَعْبَانَ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ.

الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ:

8- لِلْفُقَهَاءِ آرَاءٌ عَدِيدَةٌ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- كُلَّمَا ذُكِرَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَيَتَعَلَّقُ بِالْمَجْلِسِ مِنْهَا ثَلَاثَةُ آرَاءٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تَجِبُ كُلَّمَا ذُكِرَ اسْمُهُ- صلى الله عليه وسلم- وَلَوِ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ، وَبِهِ قَالَ جَمْعٌ، مِنْهُمُ الطَّحَاوِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالطُّرْطُوشِيُّ، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَالْفَاكِهَانِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيُّ وَأَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَابْنُ بَطَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ لِحَدِيثِ «مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ»

الثَّانِي: وُجُوبُ الصَّلَاةِ مَرَّةً فِي كُلِّ مَجْلِسٍ، وَهُوَ مَا صَحَّحَهُ النَّسَفِيُّ فِي الْكَافِي حَيْثُ قَالَ فِي بَابِ التِّلَاوَةِ: وَهُوَ كَمَنْ سَمِعَ اسْمَهُ مِرَارًا، لَمْ تَلْزَمْهُ الصَّلَاةُ إِلاَّ مَرَّةً فِي الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ اسْمِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِحِفْظِ سُنَّتِهِ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الشَّرِيعَةِ، فَلَوْ وَجَبَتِ الصَّلَاةُ بِكُلِّ مَرَّةٍ لأَفْضَى إِلَى الْحَرَجِ.

وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيِّ إِنْ كَانَ السَّامِعُ غَافِلًا فَيَكْفِيهِ مَرَّةٌ فِي آخَرِ الْمَجْلِسِ

الثَّالِثُ: نَدْبُ التَّكْرَارِ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ فِي تَحْصِيلِهِ لآِرَاءِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ.

وَبَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ لَا يَنْظُرُونَ إِلَى اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالنَّدْبِ مُطْلَقًا، اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ أَمِ اخْتَلَفَ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُذْكَرُ فِي مَبْحَثِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.

مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ:

أَوَّلًا- مَا يَتِمُّ بِهِ التَّعَاقُدُ فِي الْجُمْلَةِ:

9- وَيُرَادُ بِهِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ: أَلاَّ يَشْتَغِلَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ بِعَمَلٍ غَيْرِ مَا عُقِدَ لَهُ الْمَجْلِسُ، أَوْ بِمَا هُوَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْعَقْدِ. وَهُوَ شَرْطٌ لِلِانْعِقَادِ عِنْدَهُمْ. وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى يُعْتَبَرُ شَرْطًا فِي الصِّيغَةِ عِنْدَ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ.

وَهُوَ يَدْخُلُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَوَقْتُهُ مَا بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.

وَمَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ لَا يَضُرُّ الْفَصْلُ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ عِنْدَ غَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ مَا لَمْ يُشْعِرْ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِيجَابِ؛ لِأَنَّ الْقَابِلَ يَحْتَاجُ إِلَى التَّأَمُّلِ، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْفَوْرِ لَا يُمْكِنُهُ التَّأَمُّلُ.

وَيَضُرُّ الْفَصْلُ الطَّوِيلُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

خِيَارُ الْقَبُولِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ:

10- يَثْبُتُ خِيَارُ الْقَبُولِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَا دَامَا جَالِسَيْنِ وَلَمْ يَتِمَّ الْقَبُولُ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا حَقُّ الرُّجُوعِ مَا لَمْ يَقْبَلِ الْآخَرُ.

وَلَا يُخَالِفُهُمُ الْحَنَابِلَةُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ عِنْدَهُمْ يَكُونُ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ وَبَعْدَهُ وَاحِدًا، فَخِيَارُ الْقَبُولِ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ.

وَلَا خِيَارَ لِلْقَبُولِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَجُوزُ الرُّجُوعُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَلَوْ بَعْدَ الْقَبُولِ مَا دَامَ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَلَوْ قَبْلَ الِارْتِبَاطِ بَيْنَهُمَا إِلاَّ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْإِيجَابُ أَوِ الْقَبُولُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ ثُمَّ يَدَّعِي الْقَابِلُ أَوِ الْمُوجِبُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ الْبَيْعَ فَيَحْلِفُ وَيُصَدَّقُ.

بِمَ يَنْقَطِعُ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ؟

11- يَنْقَطِعُ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِيجَابِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْأُمُورِ الَّتِي يَحْصُلُ مَعَهَا الْإِعْرَاضُ، فَالشَّافِعِيَّةُ جَعَلُوا الِاشْتِغَالَ بِأَجْنَبِيٍّ خَارِجٍ عَنِ الْعَقْدِ إِبْطَالًا لَهُ، وَكَذَلِكَ السُّكُوتُ الطَّوِيلُ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، لَكِنَّ الْيَسِيرَ لَا يَضُرُّ.

وَجَعَلَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْعُرْفَ هُوَ الضَّابِطَ لِذَلِكَ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يَنْقَطِعُ بِاخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ، فَلَوْ قَامَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَذْهَبْ بَطَلَ الْإِيجَابُ، إِذْ لَا يَبْقَى الْمَجْلِسُ مَعَ الْقِيَامِ. وَإِنْ تَبَايَعَا وَهُمَا يَسِيرَانِ، وَلَوْ كَانَا عَلَى دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ، لَمْ يَصِحَّ لِاخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ. وَاخْتَارَ غَيْرُ وَاحِدٍ كَالطَّحَاوِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ إِنْ أَجَابَ عَلَى فَوْرِ كَلَامِهِ مُتَّصِلًا جَازَ. وَفِي الْخُلَاصَةِ عَنِ النَّوَازِلِ إِذَا أَجَابَ بَعْدَمَا مَشَى خُطْوَةً أَوْ خُطْوَتَيْنِ جَازَ.

وَكَذَلِكَ يَخْتَلِفُ الْمَجْلِسُ بِالِاشْتِغَالِ بِالْأَكْلِ وَتُغْتَفَرُ اللُّقْمَةُ الْوَاحِدَةُ، وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ كُوزٌ فَشَرِبَ ثُمَّ أَجَابَ جَازَ.

وَلَوْ نَامَا جَالِسَيْنِ فَلَا يَتَبَدَّلُ الْمَجْلِسُ، وَلَوْ مُضْطَجِعَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا فَهِيَ فُرْقَةٌ.

وَهَذِهِ الصُّوَرُ الَّتِي تَكَلَّمَ عَنْهَا الْحَنَفِيَّةُ لَمْ تُغْفِلْهَا كُتُبُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى، غَيْرَ أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا عَنْهَا أَثْنَاءَ الْكَلَامِ عَنِ الْمَجْلِسِ لَا فِي الْكَلَامِ عَنِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ اصْطِلَاحٌ خَاصٌّ بِالْحَنَفِيَّةِ، وَمَوْطِنُ تَفْصِيلِهَا عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ.

12- وَغَيْرُ الْبَيْعِ مِثْلُهُ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ غَيْرَ أَنَّ الْمُتَتَبِّعَ لِعُقُودِ الْمَالِكِيَّةِ يَجِدُ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَشْتَرِطُ الْفَوْرِيَّةَ فِي الْوَكَالَةِ وَالنِّكَاحِ.

وَلَا تَخْتَلِفُ أَيْضًا الْعُقُودُ اللاَّزِمَةُ عَنِ الْبَيْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْفَوْرِيَّةِ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ. أَمَّا غَيْرُ اللاَّزِمَةِ فَلَا يَضُرُّ التَّرَاخِي فِيهَا بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.

ثَانِيًا- التَّقَابُضُ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ:

13- إِذَا بِيعَ رِبَوِيٌّ بِمِثْلِهِ اشْتُرِطَ اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ، وَسَوَاءٌ اتَّحَدَ جِنْسُ الْمَبِيعِ أَوِ اخْتَلَفَ، لِمَا صَحَّ مِنْ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ؛ مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَجْنَاسُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» وَبَيَانُ الرِّبَوِيِّ مِنْ غَيْرِهِ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي الرِّبَا.

اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ فِي السَّلَمِ:

14- الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ تَسْلِيمُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، إِذْ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ فِي مَعْنَى بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، وَلِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» وَلِأَنَّ السَّلَمَ عَقْدُ غَرَرٍ فَلَا يُضَمُّ إِلَيْهِ غَرَرٌ آخَرُ، وَلِأَنَّ السَّلَمَ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْتِلَامِ رَأْسِ الْمَالِ، أَيْ تَعْجِيلِهِ، وَأَسْمَاءُ الْعُقُودِ الْمُشْتَقَّةُ مِنَ الْمَعَانِي لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ تَحَقُّقِ تِلْكَ الْمَعَانِي.

وَلَا يَخْتَلِفُ مَجْلِسُ السَّلَمِ عَنْ مَجْلِسِ الْبَيْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُخَالِفُ مَجْلِسُ السَّلَمِ مَجْلِسَ الْبَيْعِ، فَمَجْلِسُ الْبَيْعِ يَنْتَهِي بِمُجَرَّدِ ارْتِبَاطِ الْإِيجَابِ بِالْقَبُولِ، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْآثَارُ. أَمَّا السَّلَمُ فَيَعْتَرِيهِ الْفَسْخُ إِنْ لَمْ يَتِمَّ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ شَرْطُ بَقَاءٍ عَلَى الصِّحَّةِ وَلَيْسَ شَرْطَ انْعِقَادٍ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِتَأْخِيرِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يَأْخُذُ حُكْمَهُ، وَإِذَا أَخَّرَهُ عَنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِغَيْرِ شَرْطٍ وَهُوَ نَقْدٌ فَفِيهِ تَرَدُّدٌ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالْفَسَادِ؛ لِأَنَّهُ ضَارَعَ الدَّيْنَ بِالدَّيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ تَأْخِيرٌ بِغَيْرِ شَرْطٍ، وَهَذَا مَا لَمْ تَبْلُغِ الزِّيَادَةُ إِلَى حُلُولِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ إِلَى حُلُولِ أَجَلِ السَّلَمِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ فِي فَسَادِهِ.

وَلَا يَدْخُلُهُ خِيَارُ الشَّرْطِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَيَدْخُلُهُ خِيَارُ الْمَجْلِسِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِ الْخِيَارِ فِي السَّلَمِ إِنْ شَرَطَ وَلَمْ يَنْقُدْ رَأْسَ الْمَالِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَقَدَ وَتَمَّ السَّلَمُ لَكَانَ فَسْخَ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ، لِإِعْطَاءِ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ سِلْعَةً مَوْصُوفَةً لِأَجَلٍ عَمَّا تَرَتَّبَ فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ حَقِيقَةُ فَسْخِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ.

اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ:

15- لِلْعُلَمَاءِ فِي ارْتِبَاطِ الْإِيجَابِ بِالْقَبُولِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ:

الْأَوَّلُ: اشْتِرَاطُ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ، فَلَوِ اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ لَمْ يَنْعَقِدْ كَمَا لَوْ أَوْجَبَ أَحَدُهُمَا فَقَامَ الْآخَرُ أَوِ اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ آخَرَ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْفَوْرُ.

وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مَا فِي الْمِعْيَارِ عَنِ الْبَاجِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.

الثَّانِي: اشْتِرَاطُ الْفَوْرِيَّةِ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ عَدَا مَا تَقَدَّمَ عَنِ الْبَاجِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّهُمُ اغْتَفَرُوا فِيهِ الْفَاصِلَ الْيَسِيرَ. وَضَبَطَ الْقَفَّالُ الْفَاصِلَ الْكَثِيرَ بِأَنْ يَكُونَ زَمَنًا لَوْ سَكَتَا فِيهِ لَخَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ كَوْنِهِ جَوَابًا. وَالْأَوْلَى ضَبْطُهُ بِالْعُرْفِ.

الثَّالِثُ: صِحَّةُ الْعَقْدِ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ. وَعَلَيْهَا لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ مَعَ التَّفَرُّقِ.

وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ الْحَقِيقِيِّ، أَمَّا مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ الْحُكْمِيِّ فَلَا يَخْتَلِفُ الْأَمْرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ فِي مَجْلِسِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ الْفَوْرِيَّةَ فِي الْإِيجَابِ حِينَ الْعِلْمِ. وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالْكِتَابَةِ. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا وَبَلَغَهُ الْإِيجَابُ مِنْ وَلِيِّ الزَّوْجَةِ. وَإِذَا صَحَّحْنَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ فَيُشْتَرَطُ الْقَبُولُ فِي مَجْلِسِ بُلُوغِ الْخَبَرِ وَعَلَى الْفَوْرِ.

تَدَاخُلُ الْفِدْيَةِ فِي الْإِحْرَامِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ:

16- لَا يَحْصُلُ التَّدَاخُلُ فِي الْمَحْظُورَاتِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ إِلاَّ إِنِ اتَّحَدَ النَّوْعُ، وَأَمَّا مَعَ اخْتِلَافِ النَّوْعِ وَالْجِنْسِ فِي الْمَحْظُورَاتِ فَلَا اعْتِبَارَ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ حِينَئِذٍ بِاتِّحَادِ السَّبَبِ.

وَاتِّحَادُ الْمَجْلِسِ لَهُ أَثَرُهُ فِي تَدَاخُلِ فِدْيَةِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، غَيْرَ فِدْيَةِ الْإِتْلَافِ فَإِنَّهَا تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمُتْلَفِ، وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَنَّهُ لَا جَزَاءَ عَلَى الْعَائِدِ سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَحْظُورُ إِتْلَافًا أَمْ غَيْرَهُ.

وَالتَّدَاخُلُ مَعَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ يَخْتَلِفُ فِي فِدْيَةِ الْجِمَاعِ عَنْهُ فِي بَقِيَّةِ مَحْظُورَاتِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ.

تَدَاخُلُ فِدْيَةِ غَيْرِ الْجِمَاعِ:

17- لَوْ تَطَيَّبَ الْمُحْرِمُ بِأَنْوَاعِ الطِّيبِ، أَوْ لَبِسَ أَنْوَاعًا كَالْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ وَالسَّرَاوِيلِ وَالْخُفِّ، أَوْ نَوْعًا وَاحِدًا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَعَلَى التَّوَالِي فَفِيهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ.

وَالْحَنَفِيَّةُ- غَيْرَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ- وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ، وَابْنُ أَبِي مُوسَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَدَثَ مَا ذُكِرَ فِي مَكَانَيْنِ تَعَدَّدَتِ الْفِدْيَةُ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ أَنَّ عَلَيْهِ فِدْيَةً وَاحِدَةً إِنْ لَمْ يُكَفِّرْ عَنِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ لَا بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَجْنَاسِ.

وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ نَوَى التَّكْرَارَ.

تَدَاخُلُ فِدْيَةِ الْجِمَاعِ فِي الْإِحْرَامِ:

18- لِلْفُقَهَاءِ فِي تَعَدُّدِ الْفِدْيَةِ وَتَدَاخُلِهَا بِتَكَرُّرِ الْجِمَاعِ مِنَ الْمُحْرِمِ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ:

أ- اتِّحَادُ الْفِدْيَةِ إِنِ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى هَذَا إِنْ لَمْ يُكَفِّرْ عَنِ الْأَوَّلِ. وَيُكَفِّرُ عَنِ الْأَخِيرِ إِنْ كَانَ كَفَّرَ لِلسَّابِقِ.

ب- اتِّحَادُ الْفِدْيَةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ أَوِ اخْتَلَفَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْوَطْءِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ.

ج- تَكَرُّرُ الْفِدْيَةِ بِتَكَرُّرِ الْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْكَفَّارَةِ فَأَوْجَبَهَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.

اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ فِي الْخُلْعِ:

19- الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ فَإِنَّ الْقَبُولَ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ، غَيْرَ أَنَّ الْعِبْرَةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِمَجْلِسِ الزَّوْجَةِ إِنْ لَمْ يَشْتَرِطَا الْخِيَارَ فِيهِ، وَمَا لَمْ تَبْدَأِ الزَّوْجَةُ بِهِ، وَلَا يَصِحُّ رُجُوعُ الزَّوْجِ وَلَوْ قَبْلَ قَبُولِهَا، وَيَصِحُّ رُجُوعُهَا مَا لَمْ يَقْبَلْ إِنْ كَانَتْ هِيَ الْبَادِئَةَ.

وَالْعِبْرَةُ عِنْدَ بَقِيَّةِ الْفُقَهَاءِ بِمَجْلِسِ الْمُتَخَالِعَيْنِ مَعًا، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ إِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ هِيَ الْمُوجِبَةَ، وَكَذَلِكَ إِنِ اشْتَرَطَا الْخِيَارَ فِيهِ، وَالْفَوْرَ وَالتَّرَاخِيَ فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ كَالْبَيْعِ عِنْدَهُمْ. وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ عَدَمِ التَّعْلِيقِ.

وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ فِي الْمَجْلِسِ فِي صِيغَةِ التَّعْلِيقِ إِلاَّ عِنْدَ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ هِيَ الْبَادِئَةَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ نَظَرًا لِلْمُعَاوَضَةِ.

وَإِنَّمَا يَكُونُ الْقَبُولُ فِي صِيغَةِ التَّعْلِيقِ عِنْدَ حُصُولِ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ.

وَمَجْلِسُ الْعِلْمِ كَمَجْلِسِ التَّوَاجُبِ فِي الْخُلْعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَلَمْ يُصَرِّحُوا بِذَلِكَ، لَكِنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ صِيغَةَ الْخُلْعِ كَصِيغَةِ الْبَيْعِ، وَفِي كَلَامِهِمْ عَنِ الْخُلْعِ مَعَ غَيْبَةِ الزَّوْجَةِ لَمْ يَأْتُوا بِجَدِيدٍ يُخَالِفُ حُضُورَ الزَّوْجَةِ، وَلَمْ يَخُصُّوا الْوَكِيلَ بِجَدِيدٍ كَذَلِكَ.

اتِّحَادُ مَجْلِسِ الْمُخَيَّرَةِ:

20- الْمُخَيَّرَةُ هِيَ الَّتِي مَلَّكَهَا زَوْجُهَا طَلَاقَهَا بِقَوْلِهِ لَهَا مَثَلًا: اخْتَارِي نَفْسَكِ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَوْ خَيَّرَ امْرَأَتَهُ أَوْ جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا، فَلَهَا أَنْ تَخْتَارَ مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَلَوْ طَالَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ- فَلَوْ قَامَتْ أَوْ أَخَذَتْ فِي عَمَلٍ آخَرَ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ وَالتَّخْيِيرُ يَبْطُلُ بِصَرِيحِ الْإِعْرَاضِ فَكَذَلِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّ الْعِبْرَةَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِمَجْلِسِ الزَّوْجَةِ لَا بِمَجْلِسِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ، وَالْعِبْرَةُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بِمَجْلِسِهِمَا مَعًا.

وَالشَّافِعِيَّةُ- عَلَى الْأَصَحِّ- وَالْحَنَابِلَةُ يَشْتَرِطُونَ الْفَوْرِيَّةَ فِي الْمَجْلِسِ، وَالِاعْتِدَادُ بِمَجْلِسِهِمَا مَعًا، فَلَوْ قَامَ أَحَدُهُمَا بَطَلَ خِيَارُهَا. رَوَى النَّجَّادُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: قَضَى عُمَرُ وَعُثْمَانُ فِي الرَّجُلِ يُخَيِّرُ امْرَأَتَهُ أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا.

وَجَعَلَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ الْخِيَارَ لَهَا خَارِجَ الْمَجْلِسِ مَا لَمْ تَقِفْ أَمَامَ حَاكِمٍ أَوْ تُوطَأْ طَائِعَةً. وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَاحْتَجَّ ابْنُ الْمُنْذِرِ «بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَائِشَةَ لَمَّا خَيَّرَهَا: إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا، فَلَا عَلَيْكِ أَلاَّ تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ» وَهَذَا يَمْنَعُ قَصْرَهُ عَلَى الْمَجْلِسِ.

وَمَا تَقَدَّمَ هُوَ فِي الْحَاضِرَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الْمُخَيَّرَةُ غَائِبَةً فَلَا يَخْتَلِفُ الْحَالُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَيُفْهَمُ مِنْ عِبَارَاتِ الشَّافِعِيَّةِ كَذَلِكَ عَدَمُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْغَائِبَةِ وَالْحَاضِرَةِ، فَالْخُلْعُ- عَلَى الْأَصَحِّ- طَلَاقٌ، وَمَجْلِسُ الْعِلْمِ فِيهِ كَمَجْلِسِ التَّوَاجُبِ. وَكَمَا يُجْرَى الْخِلَافُ فِي الْمُخَيَّرَةِ الْحَاضِرَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُجْرَى أَيْضًا فِي الْمُخَيَّرَةِ الْغَائِبَةِ عَلَى طَرِيقَةِ اللَّخْمِيِّ. وَطَرِيقَةُ ابْنِ رُشْدٍ أَنَّهُ يَبْقَى التَّخْيِيرُ فِي يَدِهَا مَا لَمْ يَطُلْ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرَيْنِ، كَمَا فِي التَّوْضِيحِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ رِضَاهَا بِالْإِسْقَاطِ، وَمَا لَمْ تُوقَفْ أَمَامَ حَاكِمٍ، أَوْ تُوطَأْ طَائِعَةً.

وَاخْتِلَافُ الْمَجْلِسِ فِي الْمُخَيَّرَةِ كَاخْتِلَافِهِ فِي الْبَيْعِ.

تَكْرَارُ الطَّلَاقِ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ:

21- لَوْ قَالَ لِمَدْخُولٍ بِهَا وَمَنْ فِي حُكْمِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ، فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَنَوَى تَكْرَارَ الْوُقُوعِ، فَإِنَّهُ يَقَعُ ثَلَاثًا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ: «أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ قَالَ: أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ حَتَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَقْتُلُهُ؟».

وَعِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ تَقَعُ طَلْقَةً وَاحِدَةً. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ وَطَاوُسٌ وَعِكْرِمَةُ، لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ».

وَإِنْ أَرَادَ التَّأْكِيدَ أَوِ الْإِفْهَامَ فَإِنَّهُ تَقَعُ وَاحِدَةً.

وَتُقْبَلُ نِيَّةُ التَّأْكِيدِ دِيَانَةً لَا قَضَاءً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَتُقْبَلُ قَضَاءً وَإِفْتَاءً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَإِنْ أَطْلَقَ فَيَقَعُ ثَلَاثًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّأْكِيدِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ تَقَعُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ مُحْتَمَلٌ، فَيُؤْخَذُ بِالْيَقِينِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ.

وَمِثْلُ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ، قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَتَعَدُّدِهِ عِنْدَ نِيَّتِهِ، وَفِي إِرَادَةِ التَّأْكِيدِ وَالْإِفْهَامِ. أَمَّا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا فِي الْأُولَى، وَتَقَعُ وَاحِدَةٌ فِي الثَّانِيَةِ.

الْفَصْلُ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَعَدَدِهِ:

22- لَا تَضُرُّ سَكْتَةُ التَّنَفُّسِ، وَالْعِيِّ فِي الِاتِّصَالِ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَعَدَدِهِ. فَإِنْ كَانَ السُّكُوتُ فَوْقَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَضُرُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَا تَقَعُ مَعَهُ نِيَّةُ التَّأْكِيدِ. وَهُوَ قَوْلٌ لِلْمَالِكِيَّةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَضُرُّ إِلاَّ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا. وَفِي الْمَدْخُولِ بِهَا يَحْصُلُ التَّأْكِيدُ بِدُونِ نَسَقٍ (أَيْ عَطْفِهِ بِالْفَاءِ أَوْ بِالْوَاوِ أَوْ ثُمَّ).

تَكْرَارُ طَلَاقِ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا:

23- لِلْعُلَمَاءِ فِي تَكْرِيرِ الطَّلَاقِ لِغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ:

أ- الْأَوَّلُ: وُقُوعُ الطَّلَاقِ وَاحِدَةً، اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ أَمْ تَعَدَّدَ.

وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ حَزْمٍ؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالْأُولَى وَصَارَتْ أَجْنَبِيَّةً عَنْهُ، وَطَلَاقُ الْأَجْنَبِيَّةِ بَاطِلٌ.

الثَّانِي: وُقُوعُ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا إِنْ نَسَّقَهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَ كَلَامِهِ فَهِيَ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ.

الثَّالِثُ: وُقُوعُ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا إِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ شَتَّى وَقَعَ مَا كَانَ فِي الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ فَقَطْ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ.

اسْتَدَلَّ أَصْحَابُ الرَّأْيِ الْأَوَّلِ بِمَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ عَتَّابِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ خُصَيْفٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِيمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا، قَالَ: هِيَ ثَلَاثٌ، فَإِنْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً ثُمَّ ثَنَّى ثُمَّ ثَلَّثَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ بِالْأُولَى. وَصَحَّ هَذَا عَنْ خِلَاسٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ وَطَاوُسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ. وَدَلِيلُ الثَّانِي مَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِيمَنْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ، وَقَالَهَا مُتَّصِلَةً، لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ سَكَتَ، ثُمَّ قَالَ. أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، بَانَتْ بِالْأُولَى وَلَمْ تَكُنِ الْأُخْرَيَانِ شَيْئًا، وَمِثْلُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ.

وَدَلِيلُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ مَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، قَالَ: قَالَ لِي مَنْصُورٌ: حُدِّثْتُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِذَا قَالَ لِلَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، فَلَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. فَإِنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ طَلَّقَ طَلْقَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ طَلَّقَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ.

تَكْرَارُ الطَّلَاقِ مَعَ الْعَطْفِ:

24- التَّكْرَارُ مَعَ الْعَطْفِ كَعَدَمِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فِي تَعَدُّدِ الطَّلَاقِ، وَفِي نِيَّةِ التَّأْكِيدِ وَالْإِفْهَامِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَأَنْتِ طَالِقٌ، وَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَطْفِ بِالْوَاوِ وَالْفَاءِ وَثُمَّ.

وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، وَلَا تُقْبَلُ نِيَّةُ التَّوْكِيدِ مَعَ الْفَاءِ وَثُمَّ، وَفِي بَعْضِ كُتُبِهِمْ مَا يُفِيدُ أَنَّ التَّأْكِيدَ بِثُمَّ كَالتَّأْكِيدِ بِالْوَاوِ، كَمَا فِي الْعُبَابِ.

وَلَا تُقْبَلُ نِيَّةُ التَّأْكِيدِ مَعَ الْعَطْفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، وَلَا يَتَأَتَّى مَعَهَا التَّأْكِيدُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ كَانَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ وَثُمَّ.

تَكَرُّرُ الْإِيلَاءِ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ:

25- الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَرَّرَ يَمِينَ الْإِيلَاءِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَنَوَى التَّأْكِيدَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ إِيلَاءً وَاحِدًا وَيَمِينًا وَاحِدَةً، حَتَّى لَوْ لَمْ يَقْرَبْهَا فِي الْمُدَّةِ طَلُقَتْ طَلْقَةً وَاحِدَةً، وَإِنْ قَرَبَهَا فِيهَا لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَإِنْ لَمْ يَنْوِ التَّأْكِيدَ أَوْ أَطْلَقَ، فَالْيَمِينُ وَاحِدَةٌ، وَالْإِيلَاءُ ثَلَاثٌ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَتَكَرَّرُ الْإِيلَاءُ إِنْ نَوَى التَّأْكِيدَ. وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَمْ فِي مَجَالِسَ، فَإِنْ أَطْلَقَ فَالْيَمِينُ وَاحِدَةٌ إِنِ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ.

وَلَمْ يَتَكَلَّمِ الْحَنَابِلَةُ عَنِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ فِي الْإِيلَاءِ.

وَلَمْ أَقِفْ عَلَى نَصٍّ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي تَكْرَارِ الْإِيلَاءِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَهُ يَمِينًا. وَالْكَفَّارَةُ عِنْدَهُمْ لَا تَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْيَمِينِ مَا لَمْ يَنْوِ التَّكْرَارَ.

اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ فِي الظِّهَارِ:

26- لَيْسَ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ أَثَرٌ إِلاَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ مَا إِذَا كَرَّرَ الظِّهَارَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَأَرَادَ التَّأْكِيدَ، فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ قَضَاءً، وَلَا تَتَكَرَّرُ الْكَفَّارَةُ، وَلَكِنَّهَا تَتَعَدَّدُ إِنْ كَرَّرَهُ فِي مَجَالِسَ. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَنَوَى التَّكْرَارَ، أَوْ أَطْلَقَ.

وَلَا تَتَعَدَّدُ الْكَفَّارَةُ بِتَكْرَارِ الظِّهَارِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ مَا لَمْ يَنْوِ الِاسْتِئْنَافَ. وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَمْ فِي مَجَالِسَ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا بِعَدَمِ التَّعَدُّدِ بِتَكْرَارِ الظِّهَارِ وَلَوْ نَوَى الِاسْتِئْنَافَ؛ لِأَنَّ تَكْرِيرَهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ لِتَحْرِيمِهَا بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ. وَقَاسُوهُ عَلَى الْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


4-موسوعة الفقه الكويتية (أداء 1)

أَدَاءٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْأَدَاءُ: الْإِيصَالُ يُقَالُ: أَدَّى الشَّيْءَ أَوْصَلَهُ، وَأَدَّى دَيْنَهُ تَأْدِيَةً أَيْ قَضَاهُ.وَالِاسْمُ: الْأَدَاءُ.كَذَلِكَ الْأَدَاءُ وَالْقَضَاءُ يُطْلَقَانِ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالْمُؤَقَّتَاتِ، كَأَدَاءِ صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ وَقَضَائِهَا، وَبِغَيْرِ الْمُؤَقَّتَاتِ، كَأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالْأَمَانَةِ، وَقَضَاءِ الْحُقُوقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَفِي اصْطِلَاحِ الْجُمْهُورِ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ: الْأَدَاءُ فِعْلُ بَعْضِ (وَقِيلَ كُلِّ) مَا دَخَلَ وَقْتُهُ قَبْلَ خُرُوجِهِ وَاجِبًا كَانَ أَوْ مَنْدُوبًا، أَمَّا مَا لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ زَمَانٌ فِي الشَّرْعِ، كَالنَّفْلِ وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ وَالزَّكَاةِ، فَلَا يُسَمَّى فِعْلُهُ أَدَاءً وَلَا قَضَاءً.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الْأَدَاءُ تَسْلِيمُ عَيْنِ مَا ثَبَتَ بِالْأَمْرِ.وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي التَّعْرِيفِ التَّقْيِيدُ بِالْوَقْتِ لِيَشْمَلَ أَدَاءَ الزَّكَاةِ وَالْأَمَانَاتِ وَالْمَنْذُورَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ، كَمَا أَنَّهُ يَعُمُّ فِعْلَ الْوَاجِبِ وَالنَّفَلِ.وَقَدْ يُطْلَقُ كُلٌّ مِنَ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ عَلَى الْآخَرِ مَجَازًا شَرْعِيًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} أَيْ أَدَّيْتُمْ، وَكَقَوْلِكَ: نَوَيْتُ أَدَاءَ ظُهْرِ الْأَمْسِ.

2- وَالْأَدَاءُ إِمَّا مَحْضٌ، سَوَاءٌ أَكَانَ كَامِلًا كَصَلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ فِي جَمَاعَةٍ، أَمْ قَاصِرًا كَصَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ؛ وَإِمَّا غَيْرُ مَحْضٍ، وَهُوَ الشَّبِيهُ بِالْقَضَاءِ، كَفِعْلِ اللاَّحِقِ الَّذِي أَدْرَكَ أَوَّلَ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ، وَفَاتَهُ الْبَاقِي فَأَتَمَّ صَلَاتَهُ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ، فَفِعْلُهُ أَدَاءٌ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ فِي الْوَقْتِ، قَضَاءٌ بِاعْتِبَارِ فَوَاتِ مَا الْتَزَمَهُ مِنَ الْأَدَاءِ مَعَ الْإِمَامِ، فَهُوَ يَقْضِي مَا انْعَقَدَ لَهُ إِحْرَامُ الْإِمَامِ، مِنَ الْمُتَابَعَةِ وَالْمُشَارَكَةِ مَعَهُ بِمِثْلِهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْقَضَاءُ:

3- الْقَضَاءُ لُغَةً: مَعْنَاهُ الْأَدَاءُ.وَاسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ الْآتِي، خِلَافًا لِلْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَدَاءِ.وَاصْطِلَاحًا: مَا فُعِلَ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ أَدَائِهِ اسْتِدْرَاكًا لِمَا سَبَقَ لِفِعْلِهِ مُقْتَضٍ، أَوْ تَسْلِيمِ مِثْلِ مَا وَجَبَ بِالْأَمْرِ، كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ.فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَدَاءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مُرَاعَاةُ قَيْدِ الْوَقْتِ فِي الْأَدَاءِ دُونَ الْقَضَاءِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُرَاعَاةُ الْعَيْنِ فِي الْأَدَاءِ وَالْمِثْلِ فِي الْقَضَاءِ، إِذِ الْأَدَاءُ كَمَا سَبَقَ هُوَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي وَقْتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا لَهُ وَقْتٌ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ بِالنِّسْبَةِ لِمَا لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُحَدَّدٌ، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

ب- الْإِعَادَةُ:

4- الْإِعَادَةُ لُغَةً: رَدُّ الشَّيْءِ ثَانِيًا، وَاصْطِلَاحًا: مَا فُعِلَ فِي وَقْتِ الْأَدَاءِ ثَانِيًا لِخَلَلٍ فِي الْأَوَّلِ وَقِيلَ لِعُذْرٍ.فَالصَّلَاةُ بِالْجَمَاعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ مُنْفَرِدًا تَكُونُ إِعَادَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّ طَلَبَ الْفَضِيلَةِ عُذْرٌ فَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَدَاءِ السَّبْقُ وَعَدَمُهُ.

الْأَدَاءُ فِي الْعِبَادَاتِ:

5- الْعِبَادَاتُ الَّتِي لَمْ تُحَدَّدْ بِوَقْتٍ لَا تُوصَفُ بِالْأَدَاءِ بِالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ، أَيِ الَّذِي يُقَابِلُ الْقَضَاءَ، وَذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ عَلَيْهَا لَفْظَ الْأَدَاءِ إِطْلَاقًا لُغَوِيًّا بِمَعْنَى الْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ الْأَعَمِّ مِنَ الْأَدَاءِ الَّذِي يُقَابِلُ الْقَضَاءَ.وَلِذَلِكَ يَقُولُ الشَّبْرَامُلْسِيُّ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى أَدَاءِ الزَّكَاةِ- أَيْ دَفْعِهَا: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَدَاءِ الْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا وَقْتَ لَهَا مُحَدَّدًا حَتَّى تَصِيرَ قَضَاءً بِخُرُوجِهِ.أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَغَيْرُ الْوَقْتِ عِنْدَهُمْ يُسَمَّى أَدَاءً شَرْعًا وَعُرْفًا، وَالْقَضَاءُ يَخْتَصُّ بِالْوَاجِبِ الْمُوَقَّتِ.

أَقْسَامُ الْعِبَادَاتِ بِاعْتِبَارِ وَقْتِ الْأَدَاءِ:

6- الْعِبَادَاتُ بِاعْتِبَارِ وَقْتِ الْأَدَاءِ نَوْعَانِ: مُطْلَقَةٌ وَمُؤَقَّتَةٌ.

فَالْمُطْلَقَةُ: هِيَ الَّتِي لَمْ يُقَيَّدْ أَدَاؤُهَا بِوَقْتٍ مُحَدَّدٍ لَهُ طَرَفَانِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْعُمْرِ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَقْتِ فِيمَا هُوَ مُوَقَّتٌ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعِبَادَةُ وَاجِبَةً كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ، أَمْ مَنْدُوبَةً كَالنَّفْلِ الْمُطْلَقِ.

وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ الْمُوَقَّتَةُ: فَهِيَ مَا حَدَّدَ الشَّارِعُ وَقْتًا مُعَيَّنًا لِأَدَائِهَا، لَا يَجِبُ الْأَدَاءُ قَبْلَهُ، وَيَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ وَاجِبًا، وَذَلِكَ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ.وَوَقْتُ الْأَدَاءِ إِمَّا مُوَسَّعٌ وَأَمَّا مُضَيَّقٌ.

فَالْمُضَيَّقُ: هُوَ مَا كَانَ الْوَقْتُ فِيهِ يَسَعُ الْفِعْلَ وَحْدَهُ، وَلَا يَسَعُ غَيْرَهُ مَعَهُ، وَذَلِكَ كَرَمَضَانَ فَإِنَّ وَقْتَهُ لَا يَتَّسِعُ لِأَدَاءِ صَوْمٍ آخَرَ فِيهِ، وَيُسَمَّى مِعْيَارًا أَوْ مُسَاوِيًا.

وَالْمُوَسَّعُ: هُوَ مَا كَانَ الْوَقْتُ فِيهِ يَفْضُلُ عَنْ أَدَائِهِ، أَيْ أَنَّهُ يَتَّسِعُ لِأَدَاءِ الْفِعْلِ وَأَدَاءِ غَيْرِهِ مِنْ جِنْسِهِ، وَذَلِكَ كَوَقْتِ الظُّهْرِ مَثَلًا، فَإِنَّهُ يَسَعُ أَدَاءَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَأَدَاءَ صَلَوَاتٍ أُخْرَى، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى ظَرْفًا.وَالْحَجُّ مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يُشْتَبَهُ وَقْتُ أَدَائِهِ بِالْمُوَسَّعِ وَالْمُضَيَّقِ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُؤَدِّيَ حَجَّتَيْنِ فِي عَامٍ وَاحِدٍ، فَهُوَ بِهَذَا يُشْبِهُ الْمُضَيَّقَ، وَلَكِنْ أَعْمَالُ الْحَجِّ لَا تَسْتَوْعِبُ وَقْتَهُ، فَهُوَ بِهَذَا يُشْبِهُ الْمُوَسَّعَ، هَذَا عَلَى اعْتِبَارِهِ مِنَ الْوَقْتِ، وَقِيلَ إِنَّهُ مِنَ الْمُطْلَقِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعُمْرَ وَقْتٌ لِلْأَدَاءِ كَالزَّكَاةِ.

صِفَةُ الْأَدَاءِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):

7- الْعِبَادَاتُ إِمَّا فَرْضٌ أَوْ مَنْدُوبٌ، فَإِنْ كَانَتْ فَرْضًا كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْأَهْلِ أَدَاؤُهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، إِذَا تَحَقَّقَ سَبَبُهَا، وَتَوَفَّرَتْ شُرُوطُهَا.فَإِنْ كَانَتِ الْعِبَادَةُ مُحَدَّدَةً بِوَقْتٍ لَهُ طَرَفَانِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَقْتُ مُوَسَّعًا، كَوَقْتِ الصَّلَاةِ، أَمْ كَانَ مُضَيَّقًا كَرَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ وَلَا أَنْ تَتَأَخَّرَ عَنْهُ إِلاَّ لِعُذْرٍ؛ لِأَنَّهَا تَفُوتُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ دُونَ أَدَاءٍ، وَتَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ إِلَى أَنْ تَقْتَضِيَ.وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَحْدِيدِ الْوَقْتِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْأَدَاءُ فِيمَا كَانَ وَقْتُهُ مُضَيَّقًا؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ كُلَّهُ مَشْغُولٌ بِالْعِبَادَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ زَمَنٌ فَارِغٌ مِنْهَا، إِلاَّ أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي تَعْيِينِ النِّيَّةِ لِصِحَّةِ الْأَدَاءِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَكْفِي مُطْلَقُ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَمَّا كَانَ مِعْيَارًا فَلَا يَصْلُحُ لِعَمَلٍ آخَرَ مِنْ جِنْسِهِ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا بُدَّ مِنَ التَّعْيِينِ، فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ لَمْ يُجْزِهِ.

أَمَّا مَا كَانَ وَقْتُهُ مُوَسَّعًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ الْجُزْءِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ الْكُلُّ لَا جُزْءٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي إِيقَاعَ الْفِعْلِ فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ» وَهُوَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ، وَلَيْسَ تَعْيِينُ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ بِأَوْلَى مِنْ تَعْيِينِ الْبَعْضِ الْآخَرِ، إِلاَّ أَنَّ الْأَدَاءَ يَجِبُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مَعَ الْإِمْكَانِ، وَقِيلَ يُسْتَحَبُّ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ».وَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ جَوَازِ التَّأْخِيرِ فِيهِ ضِيقٌ عَلَى النَّاسِ، فَسُمِحَ لَهُمْ بِالتَّأْخِيرِ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ التَّأْخِيرُ لَكِنْ مَعَ الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ، فَإِنْ لَمْ يَعْزِمْ أَثِمَ.وَإِنْ ظَنَّ الْمُكَلَّفُ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ، الْمُوَسَّعِ تَضَيَّقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ وَحَرُمَ عَلَيْهِ التَّأْخِيرُ اعْتِبَارًا بِظَنِّهِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ وَمَاتَ عَصَى اتِّفَاقًا، فَإِنْ لَمْ يَمُتْ بَلْ عَاشَ وَفَعَلَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَهُوَ قَضَاءٌ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيِّ أَدَاءٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لِصِدْقِ تَعْرِيفِ الْأَدَاءِ عَلَيْهِ، وَلَا عِبْرَةَ بِالظَّنِّ الْبَيِّنِ خَطَؤُهُ.

وَعِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَقْتُ الْأَدَاءِ هُوَ الْجُزْءُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْفِعْلُ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَجِبُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنَ الْوَقْتِ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا التَّعْيِينُ إِلَى الْمُصَلِّي مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ حَتَّى إِنَّهُ إِذَا شَرَعَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ يَجِبُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَذَا إِذَا شَرَعَ فِي وَسَطِهِ أَوْ آخِرِهِ، وَمَتَى لَمْ يُعَيِّنْ حَتَّى بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُصَلِّي فِيهِ أَرْبَعًا- وَهُوَ مُقِيمٌ- يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْيِينُ ذَلِكَ الْوَقْتِ لِلْأَدَاءِ فِعْلًا وَيَأْثَمُ بِتَرْكِ التَّعْيِينِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ الْعِرَاقِيِّينَ: إِنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ، فَعَلَى هَذَا، فَإِنْ قَدَّمَهُ ثُمَّ زَالَتْ أَهْلِيَّتُهُ قَبْلَ آخِرِ الْوَقْتِ فَالْمُؤَدَّى نَفْلٌ.وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ فَإِنْ أَخَّرَهُ فَهُوَ قَضَاءٌ.وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ مِمَّنْ يُنْكِرُونَ التَّوَسُّعَ فِي الْوُجُوبِ.

بِمَ يَتَحَقَّقُ الْأَدَاءُ إِذَا تَضَيَّقَ الْوَقْتُ؟

8- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُمْكِنُ بِهِ إِدْرَاكُ الْفَرْضِ إِذَا تَضَيَّقَ الْوَقْتُ، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يُمْكِنُ إِدْرَاكُهُ بِرَكْعَةٍ بِسَجْدَتَيْهَا فِي الْوَقْتِ، فَمَنْ صَلَّى رَكْعَةً فِي الْوَقْتِ ثُمَّ خَرَجَ الْوَقْتُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِلْجَمِيعِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.

قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ» وَذَهَبَ أَشْهَبُ إِلَى أَنَّهَا تُدْرَكُ بِالرُّكُوعِ وَحْدَهُ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ يُمْكِنُ إِدْرَاكُ الصَّلَاةِ بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ أَوَّلَ سَجْدَةٍ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ، وَإِذَا أَدْرَكَ أَوَّلَ سَجْدَةٍ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَقَدْ أَدْرَكَ»؛ وَلِأَنَّ الْإِدْرَاكَ إِذَا تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ فِي الصَّلَاةِ اسْتَوَى فِيهِ الرَّكْعَةُ وَمَا دُونَهَا.وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِمَا صَلَّى فِي الْوَقْتِ قَاضِيًا لِمَا صَلَّى بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، اعْتِبَارًا لِكُلِّ جُزْءٍ بِزَمَانِهِ، وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ صَلَاةَ الصُّبْحِ وَحْدَهَا، فَإِنَّهَا لَا تُدْرَكُ إِلاَّ بِأَدَائِهَا كُلِّهَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِطُرُوءِ الْوَقْتِ النَّاقِصِ عَلَى الْوَقْتِ الْكَامِلِ، وَلِذَا عَدُّوا ذَلِكَ مِنْ مُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ وَأَمَّا مَا كَانَ وَقْتُهُ مُطْلَقًا كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْأَمْرِ بِهِ، هَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي؟ وَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى مِثَالِ مَا قِيلَ فِيمَا كَانَ وَقْتُهُ مُوَسَّعًا فِي أَنَّهُ يَجِبُ تَعْجِيلُ الْأَدَاءِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ، وَيَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ بِدُونِ عَزْمٍ عَلَى الْفِعْلِ، أَوْ أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي وَلَا يَجِبُ التَّعْجِيلُ وَلَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ، لَكِنَّ الْجَمِيعَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ يَتَضَيَّقُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ فِي زَمَانٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنَ الْأَدَاءِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِغَالِبِ ظَنِّهِ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُؤَدِّ حَتَّى مَاتَ أَثِمَ بِتَرْكِهِ.هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَةِ سَوَاءٌ أَكَانَتْ مُوَقَّتَةً أَمْ مُطْلَقَةً.

9- أَمَّا الْمَنْدُوبُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ الْمَنْدُوبَ حُكْمُهُ الثَّوَابُ عَلَى الْفِعْلِ وَعَدَمُ اللَّوْمِ عَلَى التَّرْكِ، لَكِنَّ فِعْلَهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ.وَمِنَ الْمَنْدُوبِ مَا هُوَ مُوَقَّتٌ كَالرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَالرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَهُ، وَمَا بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُسَبَّبٌ كَصَلَاةِ الْخُسُوفِ وَالْكُسُوفِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُطْلَقٌ كَالتَّهَجُّدِ.وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الصَّوْمِ أَيْضًا، فَمِنْهُ مَا هُوَ مُوَقَّتٌ، كَصِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَاجِّ، وَصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَمِنْهُ مَا يَتَطَوَّعُ بِهِ الْإِنْسَانُ فِي أَيِّ يَوْمٍ.وَقَدْ وَرَدَتْ آثَارٌ كَثِيرَةٌ فِي فَضْلِ مَا زَادَ عَلَى الْفَرْضِ مِنَ الْعِبَادَاتِ مِنْ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَحَجٍّ وَزَكَاةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ».

وَقَوْلُهُ: «صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ».وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ ثَابَرَ عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ».وَهَذِهِ الْعِبَادَاتُ الْمَنْدُوبَةُ يُطْلَبُ أَدَاؤُهَا طَلَبًا لِلثَّوَابِ وَلَا يَجِبُ الْأَدَاءُ إِلاَّ مَا شُرِعَ فِيهِ، فَيَجِبُ إِتْمَامُهُ، وَإِذَا فَسَدَ قَضَاهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ.أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَيُسْتَحَبُّ الْإِتْمَامُ إِلاَّ فِي تَطَوُّعِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا شَرَعَ فِيهِمَا فَيَجِبُ إِتْمَامُهُمَا بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ.

أَدَاءُ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ:

10- يُشْتَرَطُ لِأَدَاءِ الْعِبَادَةِ أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ مَعَ الْإِمْكَانِ وَالْقُدْرَةِ.وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْأَدَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْأَدَاءِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ عُذْرٌ فِي آخِرِهِ، كَمَنْ كَانَ أَهْلًا لِلصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، فَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى طَرَأَ عَلَيْهِ آخِرَ الْوَقْتِ عُذْرٌ يَمْنَعُ مِنَ الْأَدَاءِ، كَمَا إِذَا حَاضَتِ الطَّاهِرَةُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ أَوْ نَفِسَتْ أَوْ جُنَّ الْعَاقِلُ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، أَوِ ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ الْفَرْضَ.فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يَلْزَمُهُمُ الْفَرْضُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ وَالْأَهْلِيَّةَ ثَابِتَةٌ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَيَلْزَمُهُمُ الْقَضَاءُ.

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَلَا يَلْزَمُهُمُ الْفَرْضُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَيَّنُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ إِذَا لَمْ يُوجَدِ الْأَدَاءُ قَبْلَهُ، فَيَسْتَدْعِي الْأَهْلِيَّةَ فِيهِ؛ لِاسْتِحَالَةِ الْإِيجَابِ عَلَى غَيْرِ الْأَهْلِ، وَلَمْ يُوجَدْ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَضَاءٌ.وَهُوَ أَيْضًا رَأْيُ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَابْنِ عَرَفَةَ، خِلَافًا لِبَعْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ حَيْثُ الْقَضَاءُ عِنْدَهُمْ أَحْوَطُ.

أَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، ثُمَّ زَالَ الْعُذْرُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، كَمَا إِذَا طَهُرَتِ الْحَائِضُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَأَقَامَ الْمُسَافِرُ أَوْ سَافَرَ الْمُقِيمُ فَلِلْحَنَفِيَّةِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْفَرْضُ وَلَا يَتَغَيَّرُ الْأَدَاءُ إِلاَّ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُمْكِنُ فِيهِ أَدَاءُ الْفَرْضِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلْكَرْخِيِّ وَأَكْثَرِ الْمُحَقِّقِينَ: أَنَّهُ يَجِبُ الْفَرْضُ وَيَتَغَيَّرُ الْأَدَاءُ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يَسَعُ التَّحْرِيمَةَ فَقَطْ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجِبُ الْفَرْضُ إِذَا بَقِيَ مِنَ الْوَقْتِ مِقْدَارُ رَكْعَةٍ مَعَ زَمَنٍ يَسَعُ الطُّهْرَ، وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ إِذَا بَقِيَ مِقْدَارُ رَكْعَةٍ فَقَطْ.

هَذَا مِثَالٌ لِاعْتِبَارِ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ.وَلِمَعْرِفَةِ التَّفَاصِيلِ (ر: أَهْلِيَّةٌ.حَجٌّ.صَلَاةٌ.صَوْمٌ).

11- أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الشَّرْعُ، فَفِي الصَّلَاةِ مَثَلًا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَدَاؤُهَا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَرَدَتْ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَذَلِكَ لِمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» فَمَنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوعَةِ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالصِّفَةِ الَّتِي يَسْتَطِيعُ بِهَا أَدَاءَ الصَّلَاةِ، فَمَنْ عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ صَلَّى جَالِسًا، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ.وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ «لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» وَهَكَذَا وَكَذَلِكَ الْعَاجِزُ عَنِ الصَّوْمِ لِشَيْخُوخَةٍ أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ وَعَدَمِهَا، فَقِيلَ: تَجِبُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ، وَقِيلَ: لَا تَجِبُ.وَالْحَجُّ أَيْضًا لَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ إِلاَّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ بِالْمَالِ وَالْبَدَنِ وَالْمَحْرَمِ أَوِ الرُّفْقَةِ الْمَأْمُونَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ.فَمَنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}.

12- وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ فَنَظَرًا لِلْأَهْلِيَّةِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ، وَيُؤَدِّي عَنْهُمَا وَلِيُّهُمَا، وَتُعْتَبَرُ نِيَّةُ الْوَلِيِّ فِي الْإِخْرَاجِ.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ، وَهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِهَا.

وَكَذَلِكَ مَنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ وَقْتَ الْوُجُوبِ، ثُمَّ تَغَيَّرَ حَالُهُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ.فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: الْعِبْرَةُ بِوَقْتِ الْأَدَاءِ لَا بِوَقْتِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، فَلَوْ كَانَ مُوسِرًا وَقْتَ الْوُجُوبِ جَازَ لَهُ الصَّوْمُ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِوَقْتِ الْوُجُوبِ لَا بِوَقْتِ الْأَدَاءِ.وَفِي قَوْلٍ آخَرَ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَغْلَظُ الْأَحْوَالِ مِنْ حِينِ الْوُجُوبِ إِلَى حِينِ التَّكْفِيرِ.

تَعْجِيلُ الْأَدَاءِ عَنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ أَوْ سَبَبِهِ:

13- الْعِبَادَاتُ الْمُوَقَّتَةُ بِوَقْتٍ، وَالَّتِي يُعْتَبَرُ الْوَقْتُ سَبَبًا لِوُجُوبِهَا، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فَإِنَّ الْوَقْتَ فِيهِمَا سَبَبُ الْوُجُوبِ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.هَذِهِ الْعِبَادَاتُ لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الْأَدَاءِ فِيهَا عَنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ.أَمَّا الْعِبَادَاتُ الَّتِي لَا يُعْتَبَرُ الْوَقْتُ سَبَبًا لِوُجُوبِهَا، وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فِيهَا، كَالزَّكَاةِ، أَوِ الْمُطْلَقَةِ الْوَقْتِ كَالْكَفَّارَاتِ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ تَعْجِيلِ الْأَدَاءِ عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهَا أَوْ عَنْ أَسْبَابِهَا: فَفِي الزَّكَاةِ مَثَلًا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الْأَدَاءِ قَبْلَ الْحَوْلِ مَتَى تَمَّ النِّصَابُ، وَذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- تَسَلَّفَ مِنَ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زَكَاةَ عَامَيْنِ؛ وَلِأَنَّهُ حَقُّ مَالٍ أُجِّلَ لِلرِّفْقِ، فَجَازَ تَعْجِيلُهُ قَبْلَ مَحِلِّهِ، كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ إِخْرَاجُ الْوَاجِبِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ إِلاَّ بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ كَالشَّهْرِ.وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا عَنْ وَقْتِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا قَبْلَ وَقْتِهَا إِلاَّ بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ، كَالْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ.

وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ يَجُوزُ تَعْجِيلُهَا قَبْلَ الْحِنْثِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، مَعَ تَخْصِيصِ الشَّافِعِيَّةِ التَّقْدِيمَ إِذَا كَانَ بِغَيْرِ الصَّوْمِ، وَلَا يَجُوزُ التَّقْدِيمُ عَلَى الْحِنْثِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلَاتٌ كَثِيرَةٌ تُنْظَرُ فِي مَوَاضِعِهَا.

النِّيَابَةُ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ:

14- الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ الْمَحْضَةُ كَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ تَجُوزُ فِيهَا النِّيَابَةُ، سَوَاءٌ كَانَ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ قَادِرًا عَلَى الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا إِخْرَاجُ الْمَالِ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِفِعْلِ النَّائِبِ.

15- أَمَّا الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَلَا تَجُوزُ فِيهَا النِّيَابَةُ حَالَ الْحَيَاةِ بِاتِّفَاقٍ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى}، وَقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ، وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ» أَيْ فِي حَقِّ الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ، لَا فِي حَقِّ الثَّوَابِ.أَمَّا بَعْدَ الْمَمَاتِ فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، إِلاَّ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَنِ الْمَيِّتِ مَنْ يُصَلِّي عَنْهُ مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَوَاتِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي الصَّلَاةِ.أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلصَّوْمِ فَعِنْدَهُمْ أَنَّ مَنْ فَاتَهُ شَيْءٌ مِنْ رَمَضَانَ، وَمَاتَ قَبْلَ إِمْكَانِ الْقَضَاءِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، أَيْ لَا يُفْدَى عَنْهُ وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا تَمَكَّنَ مِنَ الْقَضَاءِ، وَلَمْ يَصُمْ حَتَّى مَاتَ، فَفِيهِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الصَّوْمُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، فَلَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ وَلِيُّهُ عَنْهُ، بَلْ يُنْدَبُ، لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» وَهَذَا الرَّأْيُ هُوَ الْأَظْهَرُ.قَالَ السُّبْكِيُّ: وَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُخْتَارُ وَالْمُفْتَى بِهِ، وَالْقَوْلَانِ يَجْرِيَانِ فِي الصِّيَامِ الْمَنْذُورِ إِذَا لَمْ يُؤَدَّ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ عَنِ الْمَيِّتِ فِي الصَّلَاةِ أَوِ الصِّيَامِ الْوَاجِبِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ- أَيِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ- لِأَنَّ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ حَالَ الْحَيَاةِ، فَبَعْدَ الْمَوْتِ كَذَلِكَ.أَمَّا مَا أَوْجَبَهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ، مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ فِعْلِ الْمَنْذُورِ، كَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ مُعَيَّنٍ وَمَاتَ قَبْلَ حُلُولِهِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنَ الْأَدَاءِ وَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ سُنَّ لِوَلِيِّهِ فِعْلُ النَّذْرِ عَنْهُ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ».وَلِأَنَّ النِّيَابَةَ تَدْخُلُ فِي الْعِبَادَةِ بِحَسَبِ خِفَّتِهَا، وَالنَّذْرُ أَخَفُّ حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ بِأَصْلِ الشَّرْعِ.وَيَجُوزُ لِغَيْرِ الْوَلِيِّ فِعْلُ مَا عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ نَذْرٍ بِإِذْنِهِ وَبِدُونِ إِذْنِهِ.

16- وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَجِّ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ جَانِبٍ مَالِيٍّ وَجَانِبٍ بَدَنِيٍّ.وَالْمَالِكِيَّةُ- فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ- هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِعَدَمِ جَوَازِ النِّيَابَةِ فِي الْحَجِّ.أَمَّا بَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ فَتَصِحُّ عِنْدَهُمُ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ، لَكِنَّهُمْ يُقَيِّدُونَ ذَلِكَ بِالْعُذْرِ، وَهُوَ الْعَجْزُ عَنِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ؛ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ».

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ لِرَجُلٍ: «أَرَأَيْتُكَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ، فَقَضَيْتَهُ عَنْهُ قُبِلَ مِنْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: فَاللَّهُ أَرْحَمُ.حُجَّ عَنْ أَبِيكَ».

وَضَابِطُ الْعُذْرِ الَّذِي تَصِحُّ مَعَهُ النِّيَابَةُ هُوَ الْعَجْزُ الدَّائِمُ إِلَى الْمَوْتِ، وَذَلِكَ كَالشَّيْخِ الْفَانِي وَالزَّمِنِ وَالْمَرِيضِ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ.فَهَؤُلَاءِ إِذَا وَجَدُوا مَالًا يَلْزَمُهُمُ الِاسْتِنَابَةُ فِي الْحَجِّ عَنْهُمْ.

وَمَنْ أَحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ لِلْعُذْرِ الدَّائِمِ، ثُمَّ زَالَ الْعُذْرُ قَبْلَ الْمَوْتِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَمْ يَجُزْ حَجُّ غَيْرِهِ عَنْهُ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، لِضَرُورَةِ الْعَجْزِ الَّذِي لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، فَيَتَقَيَّدُ الْجَوَازُ بِهِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يُجْزِئُ حَجُّ الْغَيْرِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ فَخَرَجَ مِنَ الْعُهْدَةِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَبْرَأْ.لَكِنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا عُوفِيَ بَعْدَ فَرَاغِ النَّائِبِ مِنَ الْحَجِّ، فَإِذَا عُوفِيَ قَبْلَ فَرَاغِ النَّائِبِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُجْزِئَهُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ تَمَامِ الْبَدَلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْزِئَهُ، وَإِنْ بَرَأَ قَبْلَ إِحْرَامِ النَّائِبِ لَمْ يُجْزِئْهُ بِحَالٍ.

وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ بِالْإِجْزَاءِ وَعَدَمِهِ وَالْمَرِيضُ الَّذِي يُرْجَى زَوَالُ مَرَضِهِ وَالْمَحْبُوسُ وَنَحْوُهُ إِذَا أَحَجَّ عَنْهُ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هَذَا الْحَجُّ مَوْقُوفٌ.إِنْ مَاتَ الْمَحْجُوجُ عَنْهُ وَهُوَ مَرِيضٌ أَوْ مَحْبُوسٌ جَازَ الْحَجُّ، وَإِنْ زَالَ الْمَرَضُ أَوِ الْحَبْسُ قَبْلَ الْمَوْتِ لَمْ يَجُزْ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، فَلَا تَجُوزُ فِيهِ النِّيَابَةُ كَالصَّحِيحِ، فَإِنْ خَالَفَ وَأَحَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، لَمْ يُجْزِئْهُ وَلَوْ لَمْ يَبْرَأْ؛ لِأَنَّهُ يَرْجُو الْقُدْرَةَ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ بِهِ الِاسْتِنَابَةُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ مَرَّةً أُخْرَى، وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ إِذَا مَاتَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مَأْيُوسًا مِنْهُ.

وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ مُطْلَقًا.وَقِيلَ تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِي الْحَجِّ لِغَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: تَجُوزُ النِّيَابَةُ لِلْمَعْضُوبِ كَالزَّمِنِ وَالْهَرِمِ.

وَقَالَ أَشْهَبُ: إِنْ آجَرَ صَحِيحٌ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ لَزِمَهُ لِلْخِلَافِ.وَسَوَاءٌ فِيمَا مَرَّ فِي الْمَذَاهِبِ حَجُّ الْفَرِيضَةِ وَحَجُّ النَّذْرِ.وَالْعُمْرَةُ فِي ذَلِكَ كَالْحَجِّ.

17- أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِحَجِّ التَّطَوُّعِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تَجُوزُ فِيهِ الِاسْتِنَابَةُ بِعُذْرٍ وَبِدُونِ عُذْرٍ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ لِعُذْرٍ جَازَ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا حَجَّةٌ لَا تَلْزَمُهُ بِنَفْسِهِ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهَا كَالْمَعْضُوبِ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ كَالْفَرْضِ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ فِيمَا إِذَا كَانَ بِعُذْرٍ: أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَى الِاسْتِنَابَةِ فِيهِ، فَلَمْ تَجُزِ الِاسْتِنَابَةُ فِيهِ كَالصَّحِيحِ، وَالثَّانِي يَجُوزُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ جَازَتِ النِّيَابَةُ فِي فَرْضِهَا جَازَتِ النِّيَابَةُ فِي نَفْلِهَا.وَتُكْرَهُ الِاسْتِنَابَةُ فِي التَّطَوُّعِ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ.

18- وَمَا مَرَّ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَيِّ.أَمَّا الْمَيِّتُ فَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: مَنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَاءِ الْحَجِّ سَقَطَ فَرْضُهُ، وَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ عَنْهُ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَدَاءِ وَلَمْ يُؤَدِّ لَمْ يَسْقُطِ الْفَرْضُ، وَيَجِبُ الْقَضَاءُ مِنْ تَرِكَتِهِ، لِمَا رَوَى بُرَيْدَةُ قَالَ: «أَتَتِ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ، وَلَمْ تَحُجَّ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: حُجِّي عَنْ أُمِّكِ» وَلِأَنَّهُ حَقٌّ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ حَالَ الْحَيَاةِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْمَوْتِ، كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْحَجُّ الْمَنْذُورُ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، وَإِنَّهَا مَاتَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.قَالَ: فَاقْضِ اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ».

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا يَجِبُ الْحَجُّ عَنْهُ، إِلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ، فَإِذَا أَوْصَى حُجَّ مِنْ تَرِكَتِهِ.وَإِذَا لَمْ يُوصِ بِالْحَجِّ عَنْهُ، فَتَبَرَّعَ الْوَارِثُ بِالْحَجِّ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِالْإِحْجَاجِ عَنْهُ رَجُلًا جَازَ، وَلَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. تَأْخِيرُ الْأَدَاءِ عَنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ:

19- تَأْخِيرُ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ عَنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ دُونَ عُذْرٍ يُوجِبُ الْإِثْمَ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ بِوَقْتٍ مُحَدَّدٍ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَجَبَ قَضَاؤُهَا، وَكَذَلِكَ النَّذْرُ الْمُعَيَّنُ إِذَا لَمْ يُؤَدَّ.وَإِنْ كَانَتِ الْعِبَادَاتُ وَقْتُهَا الْعُمْرُ، كَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ فَإِنَّهُ مَتَى تَوَفَّرَتْ شُرُوطُ الْأَدَاءِ، كَحَوَلَانِ الْحَوْلِ وَكَمَالِ النِّصَابِ فِي الزَّكَاةِ مَعَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ، وَلَمْ يَتِمَّ الْأَدَاءُ تَرَتَّبَ الْمَالُ فِي الذِّمَّةِ، وَكَذَلِكَ الْحَجُّ إِذَا وُجِدَتِ الِاسْتِطَاعَةُ الْمَالِيَّةُ وَالْبَدَنِيَّةُ، وَلَمْ يُؤَدِّ الْحَجَّ فَهُوَ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ.

وَمِثْلُ ذَلِكَ الْوَاجِبَاتُ الْمُطْلَقَةُ كَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ مَعَ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِيمَنْ مَاتَ، وَلَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ أَوِ الْحَجَّ أَوِ النَّذْرَ أَوِ الْكَفَّارَةَ، وَكُلُّ مَا كَانَ وَاجِبًا مَالِيًّا، وَأَمْكَنَ أَدَاؤُهُ، وَلَمْ يُؤَدَّ حَتَّى مَاتَ الْمُكَلَّفُ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ لَا تُؤَدَّى مِنْ تَرِكَتِهِ، إِلاَّ إِذَا أَوْصَى بِهَا، فَإِذَا لَمْ يُوصِ فَقَدْ سَقَطَتْ بِالنِّسْبَةِ لِأَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ تُؤَدَّى مِنْ تَرِكَتِهِ وَإِنْ لَمْ يُوصِ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: قَضَاءٌ.حَجٌّ.زَكَاةٌ.نَذْرٌ).هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً أَوْ غَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


5-موسوعة الفقه الكويتية (أذان 1)

أَذَانٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْأَذَانُ لُغَةً: الْإِعْلَامُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أَيْ أَعْلِمْهُمْ بِهِ

وَشَرْعًا: الْإِعْلَامُ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، بِأَلْفَاظٍ مَعْلُومَةٍ مَأْثُورَةٍ، عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ.أَوِ الْإِعْلَامُ بِاقْتِرَابِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْفَجْرِ فَقَطْ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الدَّعْوَةُ- النِّدَاءُ:

2- كِلَا اللَّفْظَيْنِ يَتَّفِقُ مَعَ الْأَذَانِ فِي الْمَعْنَى الْعَامِّ وَهُوَ النِّدَاءُ وَالدُّعَاءُ وَطَلَبُ الْإِقْبَالِ.

ب- الْإِقَامَةُ:

3- لِلْإِقَامَةِ فِي اللُّغَةِ مَعَانٍ عِدَّةٌ، مِنْهَا الِاسْتِقْرَارُ، وَالْإِظْهَارُ، وَالنِّدَاءُ وَإِقَامَةُ الْقَاعِدِ.

وَهِيَ فِي الشَّرْعِ: إِعْلَامٌ بِالْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ بِأَلْفَاظٍ مَعْلُومَةٍ مَأْثُورَةٍ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ.

ج- التَّثْوِيبُ:

4- التَّثْوِيبُ فِي اللُّغَةِ: الرُّجُوعُ، وَهُوَ فِي الْأَذَانِ: الْعَوْدُ إِلَى الْإِعْلَامِ بَعْدَ الْإِعْلَامِ، وَهُوَ زِيَادَةُ عِبَارَةِ: (الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ) مَرَّتَيْنِ بَعْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، أَوْ زِيَادَةُ عِبَارَةِ (حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ) بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ.

صِفَتُهُ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):

5- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِسْلَامِ وَشَعَائِرِهِ الظَّاهِرَةِ، وَأَنَّهُ لَوِ اتَّفَقَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهِ قُوتِلُوا، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْحَضَرِ وَالْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ، وَاسْتَظْهَرَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.كَذَلِكَ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، بِنَاءً عَلَى اصْطِلَاحِهِمْ فِي الْوَاجِبِ.وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ» وَالْأَمْرُ هُنَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى الْكِفَايَةِ؛ وَلِأَنَّهُ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ، فَكَانَ فَرْضَ كِفَايَةٍ كَالْجِهَادِ وَقِيلَ: إِنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لِلْجَمَاعَةِ الَّتِي تَنْتَظِرُ آخَرِينَ لِيُشَارِكُوهُمْ فِي الصَّلَاةِ، وَفِي السَّفَرِ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَمُطْلَقًا فِي رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهِيَ الَّتِي مَشَى عَلَيْهَا الْخِرَقِيُّ.وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ بِقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- لِلْأَعْرَابِيِّ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ: افْعَلْ كَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَذْكُرِ الْأَذَانَ مَعَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ الْوُضُوءَ وَاسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ وَأَرْكَانَ الصَّلَاةِ.وَعَلَى كِلَا الرَّأْيَيْنِ لَوْ أَنَّ قَوْمًا صَلَّوْا بِغَيْرِ أَذَانٍ صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ وَأَثِمُوا، لِمُخَالَفَتِهِمُ السُّنَّةَ وَأَمْرِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-.

وَقِيلَ هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِي الْجُمُعَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَهُوَ رَأْيٌ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ لِلْجَمَاعَةِ، وَالْجَمَاعَةُ وَاجِبَةٌ فِي الْجُمُعَةِ، سُنَّةٌ فِي غَيْرِهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ.

بَدْءُ مَشْرُوعِيَّةِ الْأَذَانِ:

6- شُرِعَ الْأَذَانُ بِالْمَدِينَةِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلَاةَ وَلَيْسَ يُنَادِي بِهَا أَحَدٌ فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَرْنًا مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَوَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلًا يُنَادِي بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-: يَا بِلَالُ قُمْ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ»، «ثُمَّ جَاءَتْ رُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- بِالنَّاقُوسِ لِيُعْمَلَ حَتَّى يُضْرَبَ بِهِ لِيَجْتَمِعَ النَّاسُ لِلصَّلَاةِ طَافَ بِي وَأَنَا نَائِمٌ رَجُلٌ يَحْمِلُ نَاقُوسًا، فَقُلْتُ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَبِيعُ النَّاقُوسَ؟ فَقَالَ: مَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قُلْتُ: نَدْعُو بِهِ لِلصَّلَاةِ، فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ؟، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: تَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَذَكَرَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَتَيْتُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْتُ، فَقَالَ: إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٍّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ».

وَقِيلَ: إِنَّ الْأَذَانَ شُرِعَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ.وَقِيلَ: إِنَّهُ شُرِعَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ بَعِيدٌ لِمُعَارَضَتِهِ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ.

وَقَدِ اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْأَذَانِ، وَالْعَمَلُ بِهِ جَارٍ مُنْذُ عَهْدِ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- إِلَى يَوْمِنَا هَذَا بِلَا خِلَافٍ.

حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْأَذَانِ:

7- شُرِعَ الْأَذَانُ لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَإِعْلَاءِ اسْمِ اللَّهِ بِالتَّكْبِيرِ، وَإِظْهَارِ شَرْعِهِ وَرِفْعَةِ رَسُولِهِ، وَنِدَاءِ النَّاسِ إِلَى الْفَلَاحِ وَالنَّجَاحِ.

فَضْلُ الْأَذَانِ:

8- الْأَذَانُ مِنْ خَيْرِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهِ فَضْلٌ كَثِيرٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي فَضْلِهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا».وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ».وَقَدْ فَضَّلَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْإِمَامَةِ لِلْأَخْبَارِ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهِ قَالُوا: وَلَمْ يَتَوَلَّهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- وَلَا خُلَفَاؤُهُ لِضِيقِ وَقْتِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَوْلَا الْخِلَافَةُ لأَذَّنْتُ.

9- وَنَظَرًا لِمَا فِيهِ مِنْ فَضْلٍ وَدَعْوَةِ الرَّسُول- صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ فَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُ إِذَا تَشَاحَّ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ عَلَى الْأَذَانِ قُدِّمَ مَنْ تَوَافَرَتْ فِيهِ شَرَائِطُ الْأَذَانِ، فَإِنْ تَسَاوَوْا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ.وَقَدْ تَشَاحَّ النَّاسُ فِي الْأَذَانِ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ سَعْدٌ.

أَلْفَاظُ الْأَذَانِ:

10- أَلْفَاظُ الْأَذَانِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فِي رُؤْيَاهُ الَّتِي قَصَّهَا عَلَى النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- هِيَ الَّتِي أَخَذَ بِهَا الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهِيَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ.

هَكَذَا حَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ أَذَانَ (الْمَلَكِ) النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ، وَوَافَقَهُ عُمَرُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-: فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ، فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ

وَأَخَذَ الشَّافِعِيَّةُ بِحَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ وَهُوَ بِنَفْسِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، مَعَ زِيَادَةِ التَّرْجِيعِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ فِي أَوَّلِ الْأَذَانِ مَرَّتَانِ فَقَطْ مِثْلُ آخِرِهِ وَلَيْسَ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّهُ عَمَلُ السَّلَفِ بِالْمَدِينَةِ، وَلِرِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فِيهَا التَّكْبِيرُ فِي أَوَّلِ الْأَذَانِ مَرَّتَيْنِ فَقَطْ.

التَّرْجِيعُ فِي الْأَذَانِ:

11- التَّرْجِيعُ هُوَ أَنْ يَخْفِضَ الْمُؤَذِّنُ صَوْتَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ إِسْمَاعِهِ الْحَاضِرِينَ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِهِمَا.وَهُوَ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا فِي الرَّاجِحِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لِأَنَّ بِلَالًا لَمْ يَكُنْ يُرَجِّعُ فِي أَذَانِهِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي أَذَانِ الْمَلَكِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ.

وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَفِي الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لِوُرُودِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ، وَهِيَ الصِّفَةُ الَّتِي عَلَّمَهَا لَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-، وَعَلَيْهَا السَّلَفُ وَالْخَلَفُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ مُبَاحٌ وَلَا يُكْرَهُ الْإِتْيَانُ بِهِ لِوُرُودِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ.وَبِهَذَا أَيْضًا قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّهُ رُكْنٌ فِي الْأَذَانِ.

التَّثْوِيبُ:

12- التَّثْوِيبُ هُوَ أَنْ يَزِيدَ الْمُؤَذِّنُ عِبَارَةَ (الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ) مَرَّتَيْنِ بَعْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ فِي أَذَانِ الْفَجْرِ، أَوْ بَعْدَ الْأَذَانِ كَمَا يَقُولُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، «لِقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- لِأَبِي مَحْذُورَةَ: فَإِذَا كَانَ صَلَاةُ الصُّبْحِ قُلْتَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ» كَذَلِكَ «لَمَّا أَتَى بِلَالٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يُؤْذِنْهُ بِالصُّبْحِ فَوَجَدَهُ رَاقِدًا فَقَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: مَا أَحْسَنَ هَذَا يَا بِلَالُ، اجْعَلْهُ فِي أَذَانِكَ».وَخُصَّ التَّثْوِيبُ بِالصُّبْحِ لِمَا يَعْرِضُ لِلنَّائِمِ مِنَ التَّكَاسُلِ بِسَبَبِ النَّوْمِ.

وَأَجَازَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ التَّثْوِيبَ فِي الصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ؛ لِأَنَّ الْعِشَاءَ وَقْتُ غَفْلَةٍ وَنَوْمٍ كَالْفَجْرِ

وَأَجَازَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ؛ لِفَرْطِ الْغَفْلَةِ عَلَى النَّاسِ فِي زَمَانِنَا وَهُوَ مَكْرُوهٌ فِي غَيْرِ الْفَجْرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ بِلَالٍ أَنَّهُ قَالَ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- أَنْ أُثَوِّبَ فِي الْفَجْرِ وَنَهَانِي أَنْ أُثَوِّبَ فِي الْعِشَاءِ».وَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ فَسَمِعَ رَجُلًا يُثَوِّبُ فِي أَذَانِ الظُّهْرِ فَخَرَجَ، فَقِيلَ لَهُ: أَيْنَ؟ فَقَالَ: أَخْرَجَتْنِي الْبِدْعَةُ.

هَذَا هُوَ التَّثْوِيبُ الْوَارِدُ فِي السُّنَّةِ.

13- وَقَدِ اسْتَحْدَثَ عُلَمَاءُ الْكُوفَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بَعْدَ عَهْدِ الصَّحَابَةِ تَثْوِيبًا آخَرَ، وَهُوَ زِيَادَةُ الْحَيْعَلَتَيْنِ أَيْ عِبَارَةِ «حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ» مَرَّتَيْنِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الْفَجْرِ، وَاسْتَحْسَنَهُ مُتَقَدِّمُو الْحَنَفِيَّةِ فِي الْفَجْرِ فَقَطْ، وَكُرِهَ عِنْدَهُمْ فِي غَيْرِهِ، وَالْمُتَأَخِّرُونَ مِنْهُمُ اسْتَحْسَنُوهُ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا- إِلاَّ فِي الْمَغْرِبِ لِضِيقِ الْوَقْتِ- وَذَلِكَ لِظُهُورِ التَّوَانِي فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَقَالُوا: إِنَّ التَّثْوِيبَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الصَّلَوَاتِ يَكُونُ بِحَسَبِ مَا يَتَعَارَفُهُ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ، بِالتَّنَحْنُحِ، أَوِ الصَّلَاةَ، الصَّلَاةَ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.كَذَلِكَ اسْتَحْدَثَ أَبُو يُوسُفَ جَوَازَ التَّثْوِيبِ؛ لِتَنْبِيهِ كُلِّ مَنْ يَشْتَغِلُ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَمَصَالِحِهِمْ، كَالْإِمَامِ وَالْقَاضِي وَنَحْوِهِمَا، فَيَقُولُ الْمُؤَذِّنُ بَعْدَ الْأَذَانِ:

السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، الصَّلَاةَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ وَشَارَكَ أَبَا يُوسُفَ فِي هَذَا الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ إِنْ لَمْ يَكُنِ الْإِمَامُ وَنَحْوُهُ قَدْ سَمِعَ الْأَذَانَ وَاسْتَبْعَدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ سَوَاسِيَةٌ فِي أَمْرِ الْجَمَاعَةِ وَشَارَكَهُ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ.

14- وَأَمَّا مَا يَقُومُ بِهِ بَعْضُ الْمُؤَذِّنِينَ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ فَقَدِ اعْتَبَرَهُ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ بِدْعَةً حَسَنَةً، وَقَالَ عَنْهُ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّهُ مِنَ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ، وَلَا يَلْزَمُ فِعْلُهُ وَلَوْ شَرَطَهُ الْوَاقِفُ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ.

الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ الْأَذَانِ:

15- يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْمُؤَذِّنِ بَعْدَ الْأَذَانِ سُنَّةٌ، وَعِنْدَهُمْ يُسَنُّ لِلْمُؤَذِّنِ مُتَابَعَةُ قَوْلِهِ سِرًّا مِثْلَهُ كَالْمُسْتَمِعِ لِيَجْمَعَ بَيْنَ أَدَاءِ الْأَذَانِ وَالْمُتَابَعَةِ، وَرُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَذَّنَ فَقَالَ كَلِمَةً مِنَ الْأَذَانِ قَالَ مِثْلَهَا سِرًّا؛ لِيَكُونَ مَا يُظْهِرُهُ أَذَانًا وَدُعَاءً إِلَى الصَّلَاةِ، وَمَا يُسِرُّهُ ذِكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَمِعَ الْأَذَانَ.

بِذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يَشْمَلَ الْمُؤَذِّنَ الْأَمْرُ الْوَارِدُ فِي قَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ».

وَاعْتَبَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ بِدْعَةً حَسَنَةً وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبِشْبِيشِيُّ فِي رِسَالَتِهِ الْمُسَمَّاةِ بِالتُّحْفَةِ السَّنِيَّةِ فِي أَجْوِبَةِ الْأَسْئِلَةِ الْمَرْضِيَّةِ أَنَّ أَوَّلَ مَا زِيدَتِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ كُلِّ أَذَانٍ عَلَى الْمَنَارَةِ زَمَنَ السُّلْطَانِ الْمَنْصُورِ حَاجِّيِّ بْنِ الْأَشْرَفِ شَعْبَانَ وَذَلِكَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ 791 هـ وَكَانَ قَدْ حَدَثَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ السُّلْطَانِ يُوسُفَ صَلَاحِ الدِّينِ بْنِ أَيُّوبَ أَنْ يُقَالَ قَبْلَ أَذَانِ الْفَجْرِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ بِمِصْرَ وَالشَّامِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى سَنَةِ 777 هـ فَزِيدَ فِيهِ بِأَمْرِ الْمُحْتَسِبِ صَلَاحِ الدِّينِ الْبُرُلُّسِيِّ أَنْ يُقَالَ: الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ جَعَلَ ذَلِكَ عَقِبَ كُلِّ أَذَانٍ سَنَةَ (791) هـ.

النِّدَاءُ بِالصَّلَاةِ فِي الْمَنَازِلِ:

16- يَجُوزُ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ شِدَّةِ الْمَطَرِ أَوِ الرِّيحِ أَوِ الْبَرْدِ: أَلَا صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ الْأَذَانِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَذَّنَ بِالصَّلَاةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ ذَاتُ بَرْدٍ وَمَطَرٍ أَنْ يَقُولَ: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ» وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا ابْتَلَّتِ النِّعَالُ فَالصَّلَاةُ فِي الرِّحَالِ». شَرَائِطُ الْأَذَانِ

يُشْتَرَطُ فِي الْأَذَانِ لِلصَّلَاةِ مَا يَأْتِي:

دُخُولُ وَقْتِ الصَّلَاةِ:

17- دُخُولُ وَقْتِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ شَرْطٌ لِلْأَذَانِ، فَلَا يَصِحُّ الْأَذَانُ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ- إِلاَّ فِي الْأَذَانِ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ عَلَى مَا سَيَأْتِي- لِأَنَّ الْأَذَانَ شُرِعَ لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ، فَإِذَا قُدِّمَ عَلَى الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ، وَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ قَبْلَ الْوَقْتِ أَعَادَ الْأَذَانَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، إِلاَّ إِذَا صَلَّى النَّاسُ فِي الْوَقْتِ وَكَانَ الْأَذَانُ قَبْلَهُ فَلَا يُعَادُ.وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَرْجِعَ فَيُنَادِيَ: أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ، فَرَجَعَ فَنَادَى: أَلَا إِنَّ الْعَبْدَ قَدْ نَامَ».

وَالْمُسْتَحَبُّ إِذَا دَخَلَ الْوَقْتُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي أَوَّلِهِ، لِيَعْلَمَ النَّاسُ فَيَأْخُذُوا أُهْبَتَهُمْ لِلصَّلَاةِ، وَكَانَ بِلَالٌ لَا يُؤَخِّرُ الْأَذَانَ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ

أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْفَجْرِ فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْأَذَانُ لِلْفَجْرِ قَبْلَ الْوَقْتِ، فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ، وَفِي السُّدُسِ الْأَخِيرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.وَيُسَنُّ الْأَذَانُ ثَانِيًا عِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ لِقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ».

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- غَيْرِ أَبِي يُوسُفَ- لَا يَجُوزُ الْأَذَانُ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ إِلاَّ عِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ؛ لِمَا رَوَى شَدَّادٌ مَوْلَى عِيَاضِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِبِلَالٍ: «لَا تُؤَذِّنْ حَتَّى يَسْتَبِينَ لَكَ الْفَجْرُ».

18- وَأَمَّا الْجُمُعَةُ فَمِثْلُ بَاقِي الصَّلَوَاتِ لَا يَجُوزُ الْأَذَانُ لَهَا قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَلِلْجُمُعَةِ أَذَانَانِ، أَوَّلُهُمَا عِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَهُوَ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ مِنْ خَارِجِ الْمَسْجِدِ- عَلَى الْمِئْذَنَةِ وَنَحْوِهَا- وَقَدْ أَمَرَ بِهِ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ كَثُرَ النَّاسُ.

وَالثَّانِي وَهُوَ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ إِذَا صَعِدَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَيَكُونُ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ بَيْنَ يَدَيِ الْخَطِيبِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- وَعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ حَتَّى أَحْدَثَ عُثْمَانُ الْأَذَانَ الثَّانِيَ.

وَكِلَا الْأَذَانَيْنِ مَشْرُوعٌ إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّهُ اسْتَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لِلْجُمُعَةِ أَذَانٌ وَاحِدٌ عِنْدَ الْمِنْبَرِ.هَذَا وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَذَانَيِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَحْكَامٍ وَأَيِّهِمَا الْمُعْتَبَرِ فِي تَحْرِيمِ الْبَيْعِ (ر: بَيْعٌ، وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ).

النِّيَّةُ فِي الْأَذَانِ:

19- نِيَّةُ الْأَذَانِ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِحَدِيثِ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَلِذَلِكَ لَوْ أَخَذَ شَخْصٌ فِي ذِكْرِ اللَّهِ بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ بَدَا لَهُ عَقِبَ مَا كَبَّرَ أَنْ يُؤَذِّنَ فَإِنَّهُ يَبْتَدِئُ الْأَذَانَ مِنْ أَوَّلِهِ، وَلَا يَبْنِي عَلَى مَا قَالَ.وَالنِّيَّةُ لَيْسَتْ شَرْطًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الْأَرْجَحِ وَلَكِنَّهَا مَنْدُوبَةٌ، إِلاَّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ عَدَمُ الصَّارِفِ فَلَوْ قَصَدَ تَعْلِيمَ غَيْرِهِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَا تُشْتَرَطُ عِنْدَهُمُ النِّيَّةُ لِصِحَّةِ الْأَذَانِ وَإِنْ كَانَتْ شَرْطًا لِلثَّوَابِ عَلَيْهِ.

أَدَاءُ الْأَذَانِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ:

20- اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ كَوْنَ الْأَذَانِ بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ عَلَى الصَّحِيحِ وَلَا يَصِحُّ الْإِتْيَانُ بِهِ بِأَيِّ لُغَةٍ أُخْرَى وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ أَذَانٌ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ إِنْ كَانَ يُؤَذِّنُ لِجَمَاعَةٍ وَفِيهِمْ مَنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ لَمْ يَجُزِ الْأَذَانُ بِغَيْرِهَا، وَيُجْزِئُ إِنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يُحْسِنُهَا، وَإِنْ كَانَ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ لَا يُجْزِئُهُ الْأَذَانُ بِغَيْرِهَا وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُهَا أَجْزَأَهُ.وَلَمْ يَظْهَرْ لِلْمَالِكِيَّةِ نَصٌّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

خُلُوُّ الْأَذَانِ مِنَ اللَّحْنِ:

21- اللَّحْنُ الَّذِي يُغَيِّرُ الْمَعْنَى فِي الْأَذَانِ كَمَدِّ هَمْزَةِ اللَّهُ أَكْبَرُ أَوْ بَائِهِ يُبْطِلُ الْأَذَانَ، فَإِنْ لَمْ يُغَيِّرِ الْمَعْنَى فَهُوَ مَكْرُوهٌ وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: اللَّحْنُ الَّذِي يُغَيِّرُ الْكَلِمَاتِ لَا يَحِلُّ فِعْلُهُ.

التَّرْتِيبُ بَيْنَ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ:

22- يُقْصَدُ بِالتَّرْتِيبِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤَذِّنُ بِكَلِمَاتِ الْأَذَانِ عَلَى نَفْسِ النَّظْمِ وَالتَّرْتِيبِ الْوَارِدِ فِي السُّنَّةِ دُونَ تَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ لِكَلِمَةٍ أَوْ جُمْلَةٍ عَلَى الْأُخْرَى، وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ التَّرْتِيبَ عِنْدَهُمْ وَاجِبٌ فَإِنْ فَعَلَ الْمُؤَذِّنُ ذَلِكَ اسْتَأْنَفَ الْأَذَانَ مِنْ أَوَّلِهِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ التَّرْتِيبِ يُخِلُّ بِالْإِعْلَامِ الْمَقْصُودِ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ يُعْتَدُّ بِهِ فَلَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِنَظْمِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى الْمُنْتَظِمِ مِنْهُ، فَلَوْ قَدَّمَ الشَّهَادَةَ بِالرِّسَالَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ بِالتَّوْحِيدِ أَعَادَ الشَّهَادَةَ بِالرِّسَالَةِ، وَإِنْ كَانَ الِاسْتِئْنَافُ أَوْلَى.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَعِنْدَهُمُ التَّرْتِيبُ سُنَّةٌ، فَلَوْ قَدَّمَ فِي الْأَذَانِ جُمْلَةً عَلَى الْأُخْرَى أَعَادَ مَا قَدَّمَ فَقَطْ وَلَا يَسْتَأْنِفُهُ مِنْ أَوَّلِهِ.

الْمُوَالَاةُ بَيْنَ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ:

23- الْمُوَالَاةُ فِي الْأَذَانِ هِيَ الْمُتَابَعَةُ بَيْنَ أَلْفَاظِهِ بِدُونِ فَصْلٍ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَمِنَ الْفَصْلِ بَيْنَ أَلْفَاظِهِ مَا يَحْدُثُ دُونَ إِرَادَةٍ كَالْإِغْمَاءِ أَوِ الرُّعَافِ أَوِ الْجُنُونِ.وَالْفَصْلُ بَيْنَ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ بِأَيِّ شَيْءٍ كَسُكُوتٍ أَوْ نَوْمٍ أَوْ كَلَامٍ أَوْ إِغْمَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، إِنْ كَانَ يَسِيرًا فَلَا يُبْطِلُ الْأَذَانَ وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيُسَنُّ اسْتِئْنَافُ الْأَذَانِ فِي غَيْرِ السُّكُوتِ وَالْكَلَامِ.هَذَا مَعَ اتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ عَلَى كَرَاهَةِ الْكَلَامِ الْيَسِيرِ إِنْ كَانَ لِغَيْرِ سَبَبٍ أَوْ ضَرُورَةٍ.

أَمَّا إِذَا طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ، وَلَوْ مُضْطَرًّا إِلَيْهِ كَإِنْقَاذِ أَعْمَى، أَوْ نَوْمٍ طَوِيلٍ أَوْ إِغْمَاءٍ أَوْ جُنُونٍ فَيَبْطُلُ الْأَذَانُ وَيَجِبُ اسْتِئْنَافُهُ، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ طَرِيقَةُ الْخُرَاسَانِيِّينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَالْأَشْبَهُ وُجُوبُ الِاسْتِئْنَافِ عِنْدَ طُولِ الْفَصْلِ، وَقَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِعَدَمِ الْبُطْلَانِ مَعَ اسْتِحْبَابِ الِاسْتِئْنَافِ.

وَأَلْحَقَ الْحَنَابِلَةُ بِحَالَاتِ بُطْلَانِ الْأَذَانِ وَوُجُوبِ اسْتِئْنَافِهِ الْفَصْلَ بِالْكَلَامِ الْيَسِيرِ الْفَاحِشِ كَالشَّتْمِ وَالْقَذْفِ.

رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْأَذَانِ:

24- أَوْجَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالْأَذَانِ؛ لِيَحْصُلَ السَّمَاعُ الْمَقْصُودُ لِلْأَذَانِ، وَهُوَ كَذَلِكَ رَأْيٌ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْغَرَضُ إِعْلَامَ غَيْرِ الْحَاضِرِينَ بِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، أَمَّا مَنْ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِحَاضِرٍ مَعَهُ فَلَا يُشْتَرَطُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِهِ إِلاَّ بِقَدْرِ مَا يُسْمِعُ نَفْسَهُ أَوْ يَسْمَعُهُ الْحَاضِرُ مَعَهُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ وَبَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ إِلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: عَلِّمْهُ بِلَالًا فَإِنَّهُ أَنْدَى وَأَمَدَّ صَوْتًا مِنْكَ».

25- هَذَا وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْهِدَ الْمُؤَذِّنُ نَفْسَهُ بِمَا فَوْقَ طَاقَتِهِ مُبَالَغَةً فِي رَفْعِ صَوْتِهِ بِالْأَذَانِ خَشْيَةَ حُدُوثِ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ لَهُ.

26- وَلِكَيْ يَكُونَ الْأَذَانُ مَسْمُوعًا وَمُحَقِّقًا لِلْغَرَضِ مِنْهُ اسْتَحَبَّ الْفُقَهَاءُ أَنْ يَكُونَ الْأَذَانُ مِنْ فَوْقِ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ يُسَاعِدُ عَلَى انْتِشَارِ الصَّوْتِ بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ أَكْبَرُ عَدَدٍ مُمْكِنٍ مِنَ النَّاسِ كَالْمِئْذَنَةِ وَنَحْوِهَا.

سُنَنُ الْأَذَانِ

اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ:

27- يُسَنُّ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ حَالَ الْأَذَانِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَوْ تَرَكَ الِاسْتِقْبَالَ يُجْزِئُهُ وَيُكْرَهُ، لِتَرْكِهِ السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ؛ لِأَنَّ مُؤَذِّنِي النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- كَانُوا يُؤَذِّنُونَ مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ

وَجَازَ عِنْدَ بَعْضِ كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ الدَّوَرَانُ حَالَ الْأَذَانِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَسْمَعَ لِصَوْتِهِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْإِعْلَامُ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا لَمْ يَتِمَّ الْإِعْلَامُ بِتَحْوِيلِ وَجْهِهِ عِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ فَقَطْ مَعَ ثَبَاتِ قَدَمَيْهِ فَإِنَّهُ يَسْتَدِيرُ بِجِسْمِهِ فِي الْمِئْذَنَةِ.

وَعِنْدَ الْحَيْعَلَتَيْنِ أَيْ قَوْلِهِ (حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ) يُسَنُّ أَنْ يَلْتَفِتَ الْمُؤَذِّنُ فَيُحَوِّلُ وَجْهَهُ- فَقَطْ دُونَ اسْتِدَارَةِ جِسْمِهِ- يَمِينًا وَيَقُولُ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ يُحَوِّلُ وَجْهَهُ شِمَالًا وَهُوَ يَقُولُ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ مَرَّتَيْنِ، هَكَذَا كَانَ أَذَانُ بِلَالٍ وَبِهَذَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ.

التَّرَسُّلُ أَوِ التَّرْتِيلُ:

28- التَّرَسُّلُ هُوَ التَّمَهُّلُ وَالتَّأَنِّي، وَيَكُونُ بِسَكْتَةٍ- تَسَعُ الْإِجَابَةَ- بَيْنَ كُلِّ جُمْلَتَيْنِ مِنْ جُمَلِ الْأَذَانِ، عَلَى أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ بِصَوْتٍ وَيُفْرِدَ بَاقِيَ كَلِمَاتِهِ؛ لِلْأَمْرِ بِذَلِكَ فِي قَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ» وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْأَذَانِ هُوَ إِعْلَامُ الْغَائِبِينَ بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَالتَّرَسُّلُ أَبْلَغُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْإِسْرَاعِ وَقَدْ لَخَّصَ ابْنُ عَابِدِينَ مَا فِي مَسْأَلَةِ حَرَكَةِ رَاءِ التَّكْبِيرَاتِ فَقَالَ «الْحَاصِلُ أَنَّ التَّكْبِيرَةَ الثَّانِيَةَ فِي الْأَذَانِ سَاكِنَةُ الرَّاءِ لِلْوَقْفِ حَقِيقَةً وَرَفْعُهَا خَطَأٌ، وَأَمَّا التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى مِنْ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ مِنْهُ وَجَمِيعُ تَكْبِيرَاتِ الْإِقَامَةِ فَقِيلَ مُحَرَّكَةُ الرَّاءِ بِالْفَتْحَةِ عَلَى نِيَّةِ الْوَقْفِ، وَقِيلَ بِالضَّمَّةِ إِعْرَابًا، وَقِيلَ سَاكِنَةٌ بِلَا حَرَكَةٍ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَمْدَادِ وَالزَّيْلَعِيِّ وَالْبَدَائِعِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالَّذِي يُظْهِرُ الْإِعْرَابَ لِمَا ذَكَرَهُ عَنِ الطَّلَبَةِ، وَلِمَا فِي الْأَحَادِيثِ الْمُشْتَهِرَةِ لِلْجِرَاحِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ السُّيُوطِيُّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ هُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَمَعْنَاهُ كَمَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الرَّافِعِيُّ وَابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّهُ لَا يَمُدُّ.وَإِطْلَاقُ الْجَزْمِ عَلَى حَذْفِ الْحَرَكَةِ الْإِعْرَابِيَّةِ لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا هُوَ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ فَلَا يَصِحُّ الْحَمْلُ عَلَيْهِ».

صِفَاتُ الْمُؤَذِّنِ

مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مِنَ الصِّفَاتِ:

الْإِسْلَامُ:

29- إِسْلَامُ الْمُؤَذِّنِ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ، فَلَا يَصِحُّ أَذَانُ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ الصَّلَاةَ الَّتِي يُعْتَبَرُ الْأَذَانُ دُعَاءً لَهَا، فَإِتْيَانُهُ بِالْأَذَانِ ضَرْبٌ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ وَلَا يُعْتَدُّ بِأَذَانِهِ، وَفِي حُكْمِ إِسْلَامِهِ لَوْ أَذَّنَ يُنْظَرُ مُصْطَلَحَ: (إِسْلَامٌ).

الذُّكُورَةُ:

30- مِنَ الشُّرُوطِ الْوَاجِبَةِ فِي الْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا، فَلَا يَصِحُّ أَذَانُ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ رَفْعَ صَوْتِهَا قَدْ يُوقِعُ فِي الْفِتْنَةِ، وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا يُعْتَدُّ بِأَذَانِهَا لَوْ أَذَّنَتْ.وَاعْتَبَرَ الْحَنَفِيَّةُ الذُّكُورَةَ مِنَ السُّنَنِ، وَكَرِهُوا أَذَانَ الْمَرْأَةِ، وَاسْتَحَبَّ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ إِعَادَةَ الْأَذَانِ لَوْ أَذَّنَتْ، وَفِي الْبَدَائِعِ: لَوْ أَذَّنَتْ لِلْقَوْمِ أَجْزَأَ، وَلَا يُعَادُ، لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَأَجَازَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَذَانَهَا لِجَمَاعَةِ النِّسَاءِ دُونَ رَفْعِ صَوْتِهَا.

الْعَقْلُ:

31- يُشْتَرَطُ فِي الْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا، فَلَا يَصِحُّ الْأَذَانُ مِنْ مَجْنُونٍ وَسَكْرَانَ لِعَدَمِ تَمْيِيزِهِمَا، وَيَجِبُ إِعَادَةُ الْأَذَانِ لَوْ وَقَعَ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ كَلَامَهُمَا لَغْوٌ، وَلَيْسَا فِي الْحَالِ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَكَرِهَ الْحَنَفِيَّةُ أَذَانَ غَيْرِ الْعَاقِلِ، وَاسْتُحِبَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إِعَادَةُ أَذَانِهِ.

الْبُلُوغُ:

32- الصَّبِيُّ غَيْرُ الْعَاقِلِ (أَيْ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ) لَا يَجُوزُ أَذَانُهُ بِاتِّفَاقٍ؛ لِأَنَّ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، أَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ فَيَجُوزُ أَذَانُهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (مَعَ كَرَاهَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا اعْتَمَدَ عَلَى بَالِغٍ عَدْلٍ فِي مَعْرِفَةِ دُخُولِ الْوَقْتِ. مَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ الْمُؤَذِّنُ:

33- يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ طَاهِرًا مِنَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَالْأَكْبَرِ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ ذِكْرٌ مُعَظَّمٌ، فَالْإِتْيَانُ بِهِ مَعَ الطَّهَارَةِ أَقْرَبُ إِلَى التَّعْظِيمِ، وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «لَا يُؤَذِّنُ إِلاَّ مُتَوَضِّئٌ» وَيَجُوزُ أَذَانُ الْمُحْدِثِ مَعَ الْكَرَاهَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَدَثِ الْأَكْبَرِ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَدَثِ الْأَصْغَرِ كَذَلِكَ.

34- وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ عَلَى الْمَوَاقِيتِ، وَلْيُؤَمِّنْ نَظَرَهُ إِلَى الْعَوْرَاتِ.وَيَصِحُّ أَذَانُ الْفَاسِقِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا يُعْتَدُّ بِأَذَانِ ظَاهِرِ الْفِسْقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ، وَفِي الْوَجْهِ الْآخَرِ يُعْتَدُّ بِأَذَانِهِ؛ لِأَنَّهُ تَصِحُّ صَلَاتُهُ بِالنَّاسِ، فَكَذَا أَذَانُهُ.

35- وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ صَيِّتًا، أَيْ حَسَنَ الصَّوْتِ، «لِقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ، فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ، فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ»؛ وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِعْلَامِ، هَذَا مَعَ كَرَاهَةِ التَّمْطِيطِ وَالتَّطْرِيبِ.

36- وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ حَالَ الْأَذَانِ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِلَالًا بِذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّهُ أَرْفَعُ لِصَوْتِكَ».

37- وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ قَائِمًا، لِقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- لِبِلَالٍ: «قُمْ فَأَذِّنْ بِالصَّلَاةِ» قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ أَنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِسْمَاعِ.وَلَا يُؤَذِّنُ قَاعِدًا إِلاَّ لِعُذْرٍ، أَوْ كَانَ الْأَذَانُ لِنَفْسِهِ كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ رَاكِبًا إِلاَّ فِي سَفَرٍ، وَأَجَازَ أَبُو يُوسُفَ وَالْمَالِكِيَّةُ أَذَانَ الرَّاكِبِ فِي الْحَضَرِ

38- وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ؛ لِيَتَحَرَّاهَا فَيُؤَذِّنَ فِي أَوَّلِهَا، حَتَّى كَانَ الْبَصِيرُ أَفْضَلَ مِنَ الضَّرِيرِ، لِأَنَّ الضَّرِيرَ لَا عِلْمَ لَهُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ

39- وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ هُوَ الْمُقِيمَ؛ لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ «زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ، حِينَ أَذَّنَ فَأَرَادَ بِلَالٌ أَنْ يُقِيمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: إِنَّ أَخَا صُدَاءٍ قَدْ أَذَّنَ، وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ».

40- وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ مُحْتَسِبًا، وَلَا يَأْخُذَ عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الطَّاعَةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ: «مَنْ أَذَّنَ سَبْعَ سِنِينَ مُحْتَسِبًا كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ» وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ مُتَطَوِّعٌ رَزَقَ الْإِمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَنْ يَقُومُ بِهِ؛ لِحَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ.

41- وَبِالنِّسْبَةِ لِلْإِجَارَةِ عَلَى الْأَذَانِ فَقَدْ أَجَازَهُ مُتَأَخِّرُو الْحَنَفِيَّةِ، لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَأَجَازَهُ كَذَلِكَ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ (ر: إِجَارَةٌ).

مَا يُشْرَعُ لَهُ الْأَذَانُ مِنَ الصَّلَوَاتِ:

42- الْأَصْلُ أَنَّ الْأَذَانَ شُرِعَ لِلصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ فِي حَالِ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ وَالْجَمَاعَةِ وَالِانْفِرَادِ، أَدَاءً وَقَضَاءً، وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ إِلاَّ مَا قَالَهُ الْمَالِكِيَّةُ مِنْ أَنَّهُ يُكْرَهُ الْأَذَانُ لِلْفَائِتَةِ، وَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ لَا أَذَانَ فِي الْحَضَرِ لِلْمُنْفَرِدِ، وَلِلْجَمَاعَةِ غَيْرِ الْمُسَافِرَةِ الْمُجْتَمِعِينَ بِمَوْضِعٍ وَلَا يُرِيدُونَ دُعَاءَ غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ إِنَّمَا جُعِلَ لِيُدْعَى بِهِ الْغَائِبُ، وَلَا غَائِبَ حَتَّى يُدْعَى.وَيُنْدَبُ لَهُمُ الْأَذَانُ فِي السَّفَرِ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ بَعْضُ الْفُرُوعِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ وَهِيَ:

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


6-موسوعة الفقه الكويتية (اعتكاف 2)

اعْتِكَافٌ -2

الِاشْتِرَاطُ فِي الِاعْتِكَافِ:

26- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ الشَّرْطِ وَصِحَّتِهِ فِي الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِلَى إِلْغَاءِ الشَّرْطِ.

إِلاَّ أَنَّ الْجُمْهُورَ اخْتَلَفُوا فِيمَا يَصِحُّ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ الشَّرْطِ أَوْ لَا يَدْخُلُ.

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوِ اشْتَرَطَ وَقْتَ النَّذْرِ أَنْ يَخْرُجَ لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ وَصَلَاةِ جِنَازَةٍ وَحُضُورِ مَجْلِسِ عِلْمٍ جَازَ ذَلِكَ.وَهَذَا عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ الصَّاحِبَيْنِ فَالْأَمْرُ أَوْسَعُ.أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا فِي الْمُعْتَمَدِ: لَوِ اشْتَرَطَ الْمُعْتَكِفُ لِنَفْسِهِ سُقُوطَ الْقَضَاءِ عَنْهُ- عَلَى فَرْضِ حُصُولِ عُذْرٍ أَوْ مُبْطِلٍ- لَا يَنْفَعُهُ اشْتِرَاطُ سُقُوطِ الْقَضَاءِ، وَشَرْطُهُ لَغْوٌ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إِنْ حَصَلَ مُوجِبُهُ، وَاعْتِكَافُهُ صَحِيحٌ.وَلَهُمْ قَوْلٌ آخَرُ بِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ، وَقَوْلٌ ثَالِثٌ بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ الِاشْتِرَاطَاتِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الِاعْتِكَافِ فَلَا يَنْعَقِدُ الِاعْتِكَافُ، أَوْ بَعْدَ الدُّخُولِ فَيَلْغُو الشَّرْطُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الِاعْتِكَافَ لَزِمَ بِالْتِزَامِهِ فَيَجِبُ بِحَسَبِ مَا الْتَزَمَهُ.

فَإِذَا اشْتَرَطَ الْمُعْتَكِفُ الْخُرُوجَ لِعَارِضٍ مُبَاحٍ مَقْصُودٍ غَيْرِ مُنَافٍ لِلِاعْتِكَافِ صَحَّ الشَّرْطُ.

فَإِنِ اشْتَرَطَهُ لِخَاصٍّ مِنَ الْأَغْرَاضِ، كَعِيَادَةِ الْمَرْضَى خَرَجَ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَهَمَّ مِنْهُ.وَإِنِ اشْتَرَطَهُ لِأَمْرٍ عَامٍّ كَشُغْلٍ يَعْرِضُ لَهُ خَرَجَ لِكُلِّ مُهِمٍّ دِينِيٍّ كَالْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ، أَوْ دُنْيَوِيٍّ مُبَاحٍ، كَاقْتِضَاءِ الْغَرِيمِ، فَلَيْسَ لَهُ الْخُرُوجُ لِأَجْلِ الْحَرَامِ.

وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ «مَقْصُودٍ» مَا لَوْ شَرَطَهُ، أَوْ لِغَيْرِ مَقْصُودٍ كَنُزْهَةٍ أَوْ فُرْجَةٍ، كَإِتْيَانِ أَهْلِهِ، فَإِذَا اشْتَرَطَ الْخُرُوجَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ نَذْرُهُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَوِ اشْتَرَطَ الْخُرُوجَ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ أَوِ الْإِجَارَةِ، أَوِ التَّكَسُّبِ بِالصِّنَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ بِلَا خِلَافٍ.

وَلَوْ قَالَ: مَتَى مَرِضْتُ أَوْ عَرَضَ لِي عَارِضٌ خَرَجْتُ فَلَهُ شَرْطُهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ.

وَمَحَلُّ ذَلِكَ فِي الِاعْتِكَافِ الْمُتَتَابِعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَدَارُكُ مَا فَاتَهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: نَذَرْتُ هَذَا الشَّهْرَ إِلاَّ كَذَا.فَيَكُونُ الْمَنْذُورُ شَهْرًا، وَالْمَشْرُوطُ مُسْتَثْنًى مِنْهُ.

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَإِنَّ فَائِدَةَ الشَّرْطِ عِنْدَهُمْ سُقُوطُ الْقَضَاءِ فِي الْمُدَّةِ الْمُعَيَّنَةِ.

أَمَّا لَوْ نَذَرَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا، فَلَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ مِنْهُ إِلاَّ لِمَرَضٍ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ زَمَنِ الْمَرَضِ، لِإِمْكَانِ حَمْلِ شَرْطِهِ هُنَا عَلَى نَفْيِ التَّتَابُعِ فَقَطْ، فَنُزِّلَ عَلَى الْأَقَلِّ، وَيَكُونُ الشَّرْطُ قَدْ أَفَادَ هُنَا الْبِنَاءَ مَعَ سُقُوطِ الْقَضَاءِ.

مَا يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ:

يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ مَا يَلِي:

الْأَوَّلُ- الْجِمَاعُ وَدَوَاعِيهِ:

27- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِمَاعَ فِي الِاعْتِكَافِ حَرَامٌ وَمُبْطِلٌ لَهُ، لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا، إِنْ كَانَ عَامِدًا.وَكَذَا إِنْ فَعَلَهُ نَاسِيًا لِاعْتِكَافِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ حُرْمَةَ الْجِمَاعِ وَإِفْسَادَهُ.لِلِاعْتِكَافِ لَا يَكُونُ إِلاَّ مِنْ عَالِمٍ بِتَحْرِيمِهِ ذَاكِرٍ لِلِاعْتِكَافِ، سَوَاءٌ أَجَامَعَ فِي الْمَسْجِدِ أَمْ خَارِجَهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوْ نَحْوِهَا، لِمُنَافَاتِهِ الْعِبَادَةَ الْبَدَنِيَّةَ.وَالْبُطْلَانُ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْتَقْبَلِ، أَمَّا مَا مَضَى فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ فِي الْجُمْلَةِ، عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ يُعْرَفُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.

وَأَمَّا دَوَاعِي الْجِمَاعِ كَاللَّمْسِ وَالْقُبْلَةِ، فَإِنَّهَا تُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ إِذَا أَنْزَلَ، فَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ لَمْ يَفْسُدِ اعْتِكَافُهُ، وَالْقَوْلَانِ الْآخَرَانِ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَبْطُلُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: لَا يَبْطُلُ.

قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّهُ إِذَا قَبَّلَ وَقَصَدَ اللَّذَّةَ، أَوْ لَمَسَ، أَوْ بَاشَرَ بِقَصْدِهَا، أَوْ وَجَدَهَا بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَاسْتَأْنَفَهُ مِنْ أَوَّلِهِ، فَلَوْ قَبَّلَ صَغِيرَةً لَا تُشْتَهَى، أَوْ قَبَّلَ زَوْجَتَهُ لِوَدَاعٍ أَوْ رَحْمَةٍ، وَلَمْ يَقْصِدْ لَذَّةً وَلَا وَجَدَهَا لَمْ يَبْطُلْ.ثُمَّ إِنَّ اشْتِرَاطَ الشَّهْوَةِ فِي الْقُبْلَةِ إِذَا كَانَتْ فِي غَيْرِ الْفَمِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ فِيهِ فَلَا تُشْتَرَطُ الشَّهْوَةُ عَلَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّهُ يُبْطِلُهُ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْوَطْءِ مَا يُبْطِلُ الْوُضُوءَ.

وَقَدْ نَصُّوا عَلَى تَحْرِيمِ الْوَطْءِ فِي الْمَسْجِدِ مُطْلَقًا لِكَرَامَتِهِ، وَوَطْءُ الْمُعْتَكِفَةِ مُفْسِدٌ لِاعْتِكَافِهَا.

وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْجِمَاعَ الْمُفْسِدَ لِلِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ الْمُتَتَابِعِ مِنَ الْمُعْتَكِفِ الذَّاكِرِ لَهُ الْعَالِمِ بِتَحْرِيمِهِ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ.

قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ هُوَ قَوْلُ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ إِلاَّ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالزُّهْرِيُّ، فَقَالَا: عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْوَاطِئِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ.

وَعَنِ الْحَسَنِ رِوَايَةٌ أُخْرَى هِيَ أَنَّهُ يُعْتِقُ رَقَبَةً، فَإِنْ عَجَزَ أَهْدَى بَدَنَةً، فَإِنْ عَجَزَ تَصَدَّقَ بِعِشْرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ.وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: هِيَ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هِيَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.

الثَّانِي- الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ:

28- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْمَسْجِدِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ (وَكَذَلِكَ خُرُوجُ الْمَرْأَةِ مِنْ مَسْجِدِ بَيْتِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ) إِذَا كَانَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ الْوَاجِبَ، وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ- فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ- بِالْوَاجِبِ الِاعْتِكَافَ الْمَنْدُوبَ أَيْضًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْخُرُوجُ يَسِيرًا أَمْ كَثِيرًا.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْخُرُوجُ لِحَاجَةٍ فَلَا يُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْحَاجَةِ الَّتِي لَا تَقْطَعُ الِاعْتِكَافَ وَلَا تُفْسِدُهُ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:

أ- الْخُرُوجُ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ الْوَاجِبِ:

29- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَضُرُّ الْخُرُوجُ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ وَالْغُسْلِ الَّذِي وَجَبَ مِمَّا لَا يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ.لَكِنْ إِنْ طَالَ مُكْثُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مُعْتَكَفِهِ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ، لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَوْ بَطَلَ الِاعْتِكَافُ بِخُرُوجِهِ لَهُ لَمْ يَصِحَّ لِأَحَدٍ الِاعْتِكَافُ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَعْتَكِفُ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ لِحَاجَتِهِ.

وَرَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلاَّ لِحَاجَةٍ إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا»

وَلَهُ الْغُسْلُ وَالْوُضُوءُ وَالِاغْتِسَالُ فِي الْمَسْجِدِ إِذَا لَمْ يُلَوِّثِ الْمَسْجِدَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ أَمْكَنَهُ الْوُضُوءُ فِي الْمَسْجِدِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ فِي الْأَصَحِّ، وَالثَّانِي يَجُوزُ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ دُخُولِ مَنْزِلِ أَهْلِهِ وَبِهِ أَهْلُهُ- أَيْ زَوْجَتُهُ- إِذَا خَرَجَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ، لِئَلاَّ يَطْرَأَ عَلَيْهِ مِنْهُمَا مَا يُفْسِدُ اعْتِكَافَهُ.

أَمَّا إِذَا كَانَ لَهُ مَنْزِلَانِ فَيَلْزَمُهُ أَقْرَبُهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَاخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ.

وَإِذَا كَانَتْ هُنَاكَ مِيضَأَةٌ يَحْتَشِمُ مِنْهَا لَا يُكَلَّفُ التَّطَهُّرَ مِنْهَا، وَلَا يُكَلَّفُ الطَّهَارَةَ فِي بَيْتِ صَدِيقِهِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ خَرْمِ الْمُرُوءَةِ، وَتَزِيدُ دَارُ الصِّدِّيقِ بِالْمِنَّةِ بِهَا.

أَمَّا إِذَا كَانَ لَا يَحْتَشِمُ مِنَ الْمِيضَأَةِ فَيُكَلَّفُهَا.

وَأَلْحَقُوا بِالْخُرُوجِ لِمَا تَقَدَّمَ الْخُرُوجَ لِلْقَيْءِ وَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، فَلَا يَفْسُدُ الِاعْتِكَافُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا.

وَلَا يُكَلَّفُ الَّذِي خَرَجَ لِحَاجَةٍ الْإِسْرَاعُ، بَلْ لَهُ الْمَشْيُ عَلَى عَادَتِهِ.

ب- الْخُرُوجُ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ:

30- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْخُرُوجَ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ يُفْسِدُ اعْتِكَافَهُ إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَأْتِيهِ بِهِ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ إِلَى الْخُرُوجِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَجِدْ مَنْ يَأْتِيهِ بِهِ فَلَهُ الْخُرُوجُ، لِأَنَّهُ خُرُوجٌ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ لِلْأَكْلِ، لِأَنَّ الْأَكْلَ فِي الْمَسْجِدِ يُسْتَحْيَا مِنْهُ.وَكَذَا لِلشُّرْبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ مَاءٌ.

وَخَصَّ الشَّافِعِيَّةُ جَوَازَ الْخُرُوجِ لِلْأَكْلِ إِذَا كَانَ اعْتِكَافُهُ فِي مَسْجِدٍ مَطْرُوقٍ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ مَهْجُورًا فَلَا يَحِقُّ لَهُ الْخُرُوجُ.

ج- الْخُرُوجُ لِغُسْلِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ:

31- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْمُعْتَكِفِ الْخُرُوجَ لِغُسْلِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ وَلِحَرٍّ أَصَابَهُ فَلَا يَفْسُدُ الِاعْتِكَافُ خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ لِغُسْلِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ، لِأَنَّهُ نَفْلٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ.فَإِنِ اشْتُرِطَ ذَلِكَ جَازَ.

د- الْخُرُوجُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ:

32- مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ، وَكَانَ اعْتِكَافُهُ مُتَتَابِعًا، وَاعْتَكَفَ فِي مَسْجِدٍ لَا تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ فَهُوَ آثِمٌ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، لِأَنَّهَا فَرْضٌ.

فَإِذَا خَرَجَ لِلْجُمُعَةِ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ خُرُوجَهُ لِلْجُمُعَةِ لَا يُفْسِدُ اعْتِكَافَهُ، لِأَنَّهُ خُرُوجٌ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، كَالْخُرُوجِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ.

وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ خُرُوجَ الْمُعْتَكِفِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ يُفْسِدُ اعْتِكَافَهُ وَعَلَيْهِ الِاسْتِئْنَافُ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ مِنَ الْخُرُوجِ، بِأَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ وَخَرَجَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ مَا لَوْ شَرَطَ الْخُرُوجَ فِي اعْتِكَافِهِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّ شَرْطَهُ يَصِحُّ، وَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ بِخُرُوجِهِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخُرُوجَ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ يَكُونُ وَقْتَ الزَّوَالِ، وَمَنْ بَعُدَ مَسْجِدُ اعْتِكَافِهِ خَرَجَ فِي وَقْتٍ يُدْرِكُهَا.أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا بِجَوَازِ التَّبْكِيرِ إِلَيْهَا.

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ التَّعْجِيلُ بِالرُّجُوعِ إِلَى مَكَانِ الِاعْتِكَافِ.لَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعْجِيلُ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِلِاعْتِكَافِ، وَكُرِهَ تَنْزِيهًا الْمُكْثُ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لِمُخَالَفَةِ مَا الْتَزَمَهُ بِلَا ضَرُورَةٍ.

هـ- الْخُرُوجُ لِعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ:

33- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْخُرُوجِ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ إِلَى الْخُرُوجِ، إِلاَّ إِذَا اشْتُرِطَ الْخُرُوجُ لَهُمَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَمَحَلُّ ذَلِكَ مَا إِذَا خَرَجَ لِقَصْدِ الْعِيَادَةِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ.أَمَّا إِذَا خَرَجَ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ ثُمَّ عَرَجَ عَلَى مَرِيضٍ لِعِيَادَتِهِ، أَوْ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِشَرْطٍ أَلاَّ يَطُولَ مُكْثُهُ عِنْدَ الْمَرِيضِ، أَوْ بَعْدَ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، بِأَنْ لَا يَقِفَ عِنْدَ الْمَرِيضِ إِلاَّ بِقَدْرِ السَّلَامِ، لِقَوْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «إِنْ كُنْتُ أَدْخُلُ الْبَيْتَ لِلْحَاجَةِ، وَالْمَرِيضُ فِيهِ فَمَا أَسْأَلُ عَنْهُ إِلاَّ وَأَنَا مَارَّةٌ».

وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ مَرْفُوعًا عَنْهَا: «أَنَّهُ- عليه الصلاة والسلام- كَانَ يَمُرُّ بِالْمَرِيضِ، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ، فَيَمُرُّ كَمَا هُوَ وَلَا يُعَرِّجُ يَسْأَلُ عَنْهُ». فَإِنْ طَالَ وُقُوفُهُ عُرْفًا، أَوْ عَدَلَ عَنْ طَرِيقِهِ وَإِنْ قَلَّ لَمْ يَجُزْ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُنْتَقَضُ الِاعْتِكَافُ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ مَعَ الْجُمْهُورِ فِي فَسَادِ الِاعْتِكَافِ لِخُرُوجِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا الْخُرُوجَ لِعِيَادَةِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ الْمَرِيضَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا، وَذَلِكَ لِبِرِّهِمَا فَإِنَّهُ آكَدُ مِنَ الِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ، وَيَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ بِهِ وَيَقْضِيهِ.

و- الْخُرُوجُ فِي حَالَةِ النِّسْيَانِ:

34- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْمَسْجِدِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا يُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ.وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ حَالَةَ الِاعْتِكَافِ مُذَكِّرَةٌ، وَوُقُوعُ ذَلِكَ نَادِرٌ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْعُذْرُ فِيمَا يَغْلِبُ وُقُوعُهُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ الْبُطْلَانِ إِذَا خَرَجَ نَاسِيًا لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «عُفِيَ لأُِمَّتِي عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».

ز- الْخُرُوجُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ:

35- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخُرُوجَ لِأَجْلِ الشَّهَادَةِ مُفْسِدٌ لِلِاعْتِكَافِ.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ شَهَادَةٌ، بِأَلاَّ يَكُونَ هُنَاكَ غَيْرُهُ، أَوْ لَا يَتِمُّ النِّصَابُ إِلاَّ بِهِ، لَا يَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ لِأَدَائِهَا، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُؤَدِّيَهَا فِي الْمَسْجِدِ إِمَّا بِحُضُورِ الْقَاضِي، أَوْ تُنْقَلُ عَنْهُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ مَتَى تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ وَيَأْثَمُ بِعَدَمِ الْخُرُوجِ، وَكَذَلِكَ التَّحَمُّلُ لِلشَّهَادَةِ إِذَا تَعَيَّنَ، فَيَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ وَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ بِذَلِكَ الْخُرُوجِ، لِأَنَّهُ خُرُوجٌ وَاجِبٌ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، أَمَّا إِذَا لَمْ تَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، فَيَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ بِالْخُرُوجِ. ح- الْخُرُوجُ لِلْمَرَضِ:

الْمَرَضُ عَلَى قِسْمَيْنِ:

36- الْمَرَضُ الْيَسِيرُ الَّذِي لَا تَشُقُّ مَعَهُ الْإِقَامَةُ فِي الْمَسْجِدِ كَصُدَاعٍ وَحُمَّى خَفِيفَةٍ وَغَيْرِهِمَا لَا يَجُوزُ مَعَهُ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ إِذَا كَانَ اعْتِكَافُهُ مَنْذُورًا مُتَتَابِعًا، فَإِنْ خَرَجَ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَيْهِ.

37- أَمَّا الْمَرَضُ الشَّدِيدُ الَّذِي يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْبَقَاءُ فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ لَا يُمْكِنُ الْبَقَاءُ مَعَهُ فِي الْمَسْجِدِ، بِأَنْ يَحْتَاجَ إِلَى خِدْمَةٍ أَوْ فِرَاشٍ أَوْ مُرَاجَعَةِ طَبِيبٍ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ خُرُوجَهُ مُفْسِدٌ لِاعْتِكَافِهِ، فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: إِذَا خَرَجَ سَاعَةً بِعُذْرِ الْمَرَضِ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ.هَكَذَا فِي الظَّهِيرِيَّةِ.عِلْمًا بِأَنَّ مَذْهَبَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ اعْتِبَارُ نِصْفِ النَّهَارِ كَمَا تَقَدَّمَ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ وَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ التَّتَابُعُ، وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى إِذَا شُفِيَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَرَضُ مِمَّا يَتَلَوَّثُ بِهِ الْمَسْجِدُ كَالْقَيْءِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ التَّتَابُعُ.

أَمَّا الْخُرُوجُ حَالَةَ الْإِغْمَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ الِاعْتِكَافَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِاخْتِيَارِهِ.

قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَيَّامًا، أَوْ أَصَابَهُ لَمَمٌ (جُنُونٌ) فَسَدَ اعْتِكَافُهُ، وَعَلَيْهِ إِذَا بَرَأَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ، لِأَنَّهُ لَزِمَهُ مُتَتَابِعًا.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمَرَضَ وَالْإِغْمَاءَ يُحْسَبَانِ مِنَ الِاعْتِكَافِ وَفِي مَعْنَى الْمَرَضِ هَذَا، الْخَوْفُ مِنْ لِصٍّ أَوْ حَرِيقٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

ط- الْخُرُوجُ لِانْهِدَامِ الْمَسْجِدِ:

38- إِذَا انْهَدَمَ الْمَسْجِدُ فَخَرَجَ مِنْهُ لِيُقِيمَ اعْتِكَافَهُ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ صَحَّ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اسْتِحْسَانًا، وَكَذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ.

ي- الْخُرُوجُ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ:

39- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخُرُوجَ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ لِحُكُومَةٍ لَا يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ قَبْلَ تَمَامِ الِاعْتِكَافِ.إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ إِذَا دَخَلَ الْمُعْتَكِفُ مَسْجِدًا آخَرَ مِنْ سَاعَتِهِ.وَهَذَا اسْتِحْبَابٌ مِنْهُمْ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَدْخُلْ مَسْجِدًا آخَرَ، فَيَبْقَى الْحُكْمُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَهُوَ الْبُطْلَانُ.

ك- خُرُوجُ الْمُعْتَكِفِ بِغَيْرِ عُذْرٍ:

40- تَقَدَّمَ أَنَّ خُرُوجَ الْمُعْتَكِفِ إِنْ كَانَ بِعُذْرٍ طَبِيعِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ جَازَ لَهُ الْخُرُوجُ عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ.

أَمَّا إِذَا خَرَجَ الْمُعْتَكِفُ بِدُونِ عُذْرٍ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ- حَسَبَ اعْتِبَارِ الْفُقَهَاءِ لِلْعُذْرِ وَعَدَمِهِ- وَلَوْ كَانَ زَمَنُ الْخُرُوجِ يَسِيرًا، إِلاَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنَّهُمَا قَيَّدَا زَمَنَ الْمُفْسِدِ بِأَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ. ل- حَدُّ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ:

41- حَدُّ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ أَنْ يَخْرُجَ بِجَمِيعِ جَسَدِهِ، فَإِنْ خَرَجَ بِبَعْضِهِ لَمْ يَضُرَّ، لِقَوْلِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يُدْنِي إِلَيَّ رَأْسَهُ وَأَنَا فِي حُجْرَتِي، فَأُرَجِّلُ رَأْسَهُ وَأَنَا حَائِضٌ».

م- مَا يُعْتَبَرُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَمَا لَا يُعْتَبَرُ:

42- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْجِدِ الَّذِي يَصِحُّ فِيهِ الِاعْتِكَافُ، مَا كَانَ بِنَاءً مُعَدًّا لِلصَّلَاةِ فِيهِ.

أَمَّا رَحْبَةُ الْمَسْجِدِ، وَهِيَ سَاحَتُهُ الَّتِي زِيدَتْ بِالْقُرْبِ مِنَ الْمَسْجِدِ لِتَوْسِعَتِهِ، وَكَانَتْ مُحَجَّرًا عَلَيْهَا، فَاَلَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا مِنَ الْمَسْجِدِ، وَجَمَعَ أَبُو يَعْلَى بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّ الرَّحْبَةَ الْمَحُوطَةَ وَعَلَيْهَا بَابٌ هِيَ مِنَ الْمَسْجِدِ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ رَحْبَةَ الْمَسْجِدِ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَلَوِ اعْتَكَفَ فِيهَا صَحَّ اعْتِكَافُهُ، وَأَمَّا سَطْحُ الْمَسْجِدِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ صُعُودُ سَطْحِ الْمَسْجِدِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا.

أَمَّا الْمَنَارَةُ فَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ بَابِهَا فِيهِ فَهِيَ مِنَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَإِنْ كَانَ بَابُهَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ أَوْ فِي رَحْبَتِهِ فَهِيَ مِنْهُ، وَيَصِحُّ فِيهَا الِاعْتِكَافُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَإِنْ كَانَ بَابُهَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ فَيَجُوزُ أَذَانُ الْمُعْتَكِفِ فِيهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ مُؤَذِّنًا أَمْ غَيْرَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَقَدْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْمُؤَذِّنِ الرَّاتِبِ وَغَيْرِهِ، فَيَجُوزُ لِلرَّاتِبِ الْأَذَانُ فِيهَا وَهُوَ مُعْتَكِفٌ دُونَ غَيْرِهِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ الْأَصَحُّ.

الثَّالِثُ مِنَ الْمُفْسِدَاتِ- الْجُنُونُ:

43- إِذَا طَرَأَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ الْجُنُونُ، وَكَانَ زَمَنُهُ قَلِيلًا فَإِنَّهُ لَا يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ فِي قَوْلِ الْفُقَهَاءِ جَمِيعًا.أَمَّا إِذَا طَالَ الْجُنُونُ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ الِاعْتِكَافَ، وَمَتَى أَفَاقَ بَنَى.وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْقِيَاسَ سُقُوطُ الْقَضَاءِ قِيَاسًا عَلَى سُقُوطِ قَضَاءِ الصَّوْمِ إِذَا جُنَّ، إِلاَّ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ أَنَّهُ يَقْضِي إِذَا طَالَ جُنُونُهُ سَنَةً فَأَكْثَرَ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إِنَّمَا كَانَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ، لِأَنَّ الْجُنُونَ إِذَا طَالَ قَلَّمَا يَزُولُ، فَيَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَ فَيُحْرَجُ فِي قَضَائِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فِي الِاعْتِكَافِ.

وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِيهِ، هَلْ يَبْنِي أَوْ يَبْتَدِئُ؟ بِنَاءً عَلَى خِلَافِهِمْ فِي بُطْلَانِ الصَّوْمِ. الرَّابِعُ- الرِّدَّةُ:

44- يَبْطُلُ الِاعْتِكَافُ بِالرِّدَّةِ عَلَى قَوْلِهِمْ جَمِيعًا، لَكِنْ إِذَا تَابَ وَأَسْلَمَ هَلْ يَجِبُ اسْتِئْنَافُ الِاعْتِكَافِ؟

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِ الِاسْتِئْنَافِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْقَضَاءُ لَمَّا بَطَلَ بِرِدَّتِهِ، وَلَا يَبْنِي عَلَى مَا مَضَى.لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرُ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ».

وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وُجُوبُ الِاسْتِئْنَافِ.

الْخَامِسُ- السُّكْرُ:

45- ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ السُّكْرَ بِالْحَرَامِ مُفْسِدٌ لِلِاعْتِكَافِ، وَعَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِذَا كَانَ بِسَبَبٍ حَرَامٍ.وَلَمْ يَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ مُفْسِدًا إِنْ وَقَعَ لَيْلًا، أَمَّا إِنْ كَانَ فِي النَّهَارِ فَإِنَّهُ يُبْطِلُ الصَّوْمَ فَيَبْطُلُ الِاعْتِكَافُ، لِأَنَّهُ كَالْإِغْمَاءِ لَا يَقْطَعُ التَّتَابُعَ.وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ بِالسُّكْرِ الْحَرَامِ اسْتِعْمَالَ الْمُخَدِّرِ إِذَا خَدَّرَهُ.

السَّادِسُ: الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ:

46- يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ الْخُرُوجُ مِنَ الْمَسْجِدِ، إِذْ يَحْرُمُ عَلَيْهِمَا الْمُكْثُ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْحَيْضَ وَالنِّفَاسَ يَقْطَعَانِ الصِّيَامَ.

وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ يَبْنِيَانِ وُجُوبًا وَفَوْرًا- فِي نَذْرِ الِاعْتِكَافِ الْمُتَتَابِعِ- بِمُجَرَّدِ زَوَالِ الْعُذْرِ، فَإِذَا تَأَخَّرَتَا بَطَلَ الِاعْتِكَافُ.وَلَا يُحْسَبُ زَمَنُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسُ مِنَ الِاعْتِكَافِ.

وَأَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ، فَإِنَّهَا إِنْ أَمِنَتِ التَّلْوِيثَ لَمْ تَخْرُجْ عَنِ اعْتِكَافِهَا، فَإِنْ خَرَجَتْ بَطَلَ اعْتِكَافُهَا.

وَشَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ لِعَدَمِ انْقِطَاعِ الِاعْتِكَافِ بِالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ أَلاَّ تَكُونَ مُدَّةُ الِاعْتِكَافِ بِحَيْثُ تَخْلُو عَنِ الْحَيْضِ، فَإِنْ كَانَتْ مُدَّةُ الِاعْتِكَافِ بِحَيْثُ تَخْلُو عَنِ الْحَيْضِ انْقَطَعَ التَّتَابُعُ فِي الْأَظْهَرِ، لِإِمْكَانِ الْمُوَالَاةِ بِشُرُوعِهَا عَقِبَ الطُّهْرِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَنْقَطِعُ، لِأَنَّ جِنْسَ الْحَيْضِ مِمَّا يَتَكَرَّرُ فِي الْجُمْلَةِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِي التَّتَابُعِ كَقَضَاءِ الْحَاجَةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ لِلْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ إِلَى بَيْتِهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ، لِلْمَسْجِدِ رَحْبَةٌ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي كُتُبِهِمْ.

مَا يُبَاحُ لِلْمُعْتَكِفِ وَمَا يُكْرَهُ لَهُ:

47- كَرِهَ الْعُلَمَاءُ لِلْمُعْتَكِفِ فُضُولَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَا يُعْتَبَرُ مَكْرُوهًا أَوْ مُبَاحًا عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي:

أ- الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالنَّوْمُ:

يُبَاحُ لِلْمُعْتَكِفِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالنَّوْمُ فِي الْمَسْجِدِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا.

وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ اعْتِكَافَ مَنْ لَا يَجِدُ مَنْ يَأْتِيهِ بِحَاجَتِهِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَكْرُوهٌ.أَمَّا النَّوْمُ لِلْمُعْتَكِفِ فَمَحَلُّهُ الْمَسْجِدُ، لِأَنَّ خُرُوجَهُ لِلنَّوْمِ لَيْسَ بِعُذْرٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ أَنَّ الْخُرُوجَ لِلنَّوْمِ جَائِزٌ.

ب- الْعُقُودُ وَالصَّنَائِعُ فِي الْمَسْجِدِ:

48- يُبَاحُ عَقْدُ الْبَيْعِ وَعَقْدُ النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ لِنَفْسِهِ أَوْ عِيَالِهِ، فَلَوْ لِتِجَارَةٍ كُرِهَ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ لَا يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ إِلاَّ لِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ وُقُوفٍ لِذَلِكَ.

أَمَّا إِذَا خَرَجَ لِأَجْلِهَا فَسَدَ اعْتِكَافُهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ أَنْ يَنْكِحَ لِنَفْسِهِ، وَأَنْ يُنْكِحَ مَنْ فِي وِلَايَتِهِ فِي مَجْلِسِهِ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ انْتِقَالٍ وَلَا طُولِ مُدَّةٍ، وَإِلاَّ كُرِهَ.

وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ إِحْضَارَ الْمَبِيعِ فِي الْمَسْجِدِ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا، لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُحَرَّزٌ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ.

49- وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ الْكِتَابَةِ لِلْمُعْتَكِفِ وَإِنْ كَانَ مُصْحَفًا أَوْ عِلْمًا إِنْ كَثُرَ، وَلَا بَأْسَ بِالْيَسِيرِ وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى.

وَعَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ لِلثَّوَابِ لَا لِلْأُجْرَةِ، بَلْ لِيَقْرَأَ فِيهِ وَيَنْتَفِعَ مَنْ كَانَ مُحْتَاجًا.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِلْمُعْتَكِفِ الصَّنَائِعُ فِي الْمَسْجِدِ كَالْخِيَاطَةِ وَالْكِتَابَةِ مَا لَمْ يَكْثُرْ مِنْهَا، فَإِنْ أَكْثَرَ مِنْهَا كُرِهَتْ لِحُرْمَتِهِ، إِلاَّ كِتَابَةُ الْعِلْمِ، فَلَا يُكْرَهُ الْإِكْثَارُ مِنْهَا، لِأَنَّهَا طَاعَةٌ لِتَعْلِيمِ الْعِلْمِ.

أَمَّا إِذَا احْتَرَفَ الْخِيَاطَةَ وَالْمُعَاوَضَاتِ مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ بِلَا حَاجَةٍ فَتُكْرَهُ وَإِنْ قَلَّتْ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ التَّكَسُّبُ بِالصَّنْعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، كَالْخِيَاطَةِ وَغَيْرِهَا وَالْكَثِيرُ وَالْقَلِيلُ وَالْمُحْتَاجُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ.

ج- الصَّمْتُ:

50- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الصَّمْتَ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا حَالَةَ الِاعْتِكَافِ إِنِ اعْتَقَدَهُ قُرْبَةً، أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْتَقِدْهُ قُرْبَةً فَلَا، لِحَدِيثِ «مَنْ صَمَتَ نَجَا» وَيَجِبُ الصَّمْتُ عَنِ الْغَيْبَةِ وَإِنْشَادِ الشِّعْرِ الْقَبِيحِ وَتَرْوِيجِ سِلْعَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ التَّقَرُّبَ بِالصَّمْتِ لَيْسَ مِنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ.قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: يُكْرَهُ الصَّمْتُ إِلَى اللَّيْلِ.وَقَالَ الْمُوَفَّقُ وَالْمَجْدُ: ظَاهِرُ الْأَخْبَارِ تَحْرِيمُهُ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْكَافِي، قَالَ فِي الِاخْتِيَارَاتِ: وَالتَّحْقِيقُ فِي الصَّمْتِ أَنَّهُ إِنْ طَالَ حَتَّى تَضَمَّنَ تَرْكَ الْكَلَامِ الْوَاجِبِ صَارَ حَرَامًا، وَكَذَا إِنْ تَعَمَّدَ بِالصَّمْتِ عَنِ الْكَلَامِ الْمُسْتَحَبِّ، وَالْكَلَامُ الْمُحَرَّمُ يَجِبُ الصَّمْتُ عَنْهُ، وَفُضُولُ الْكَلَامِ يَنْبَغِي الصَّمْتُ عَنْهَا، وَإِنْ نَذَرَ الصَّمْتَ لَمْ يَفِ بِهِ، لِحَدِيثِ عَلِيٍّ قَالَ: «حَفِظْتُ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «لَا صُمَاتَ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ».

د- الْكَلَامُ:

51- يَنْبَغِي لِلْمُعْتَكِفِ أَلاَّ يَتَكَلَّمَ إِلاَّ بِخَيْرٍ، وَأَنْ يَشْتَغِلَ بِالْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ وَالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَالذِّكْرِ، لِأَنَّهُ طَاعَةٌ فِي طَاعَةٍ، وَكَتَدْرِيسِ سِيرَةِ الرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام- وَقَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَحِكَايَاتِ الصَّالِحِينَ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ لِلْمُعْتَكِفِ تَحْرِيمًا التَّكَلُّمُ إِلاَّ بِخَيْرٍ، وَهُوَ مَا لَا إِثْمَ فِيهِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِغَيْرِ الذِّكْرِ وَالتِّلَاوَةِ وَالصَّلَاةِ مَكْرُوهٌ، أَمَّا هَذِهِ الثَّلَاثَةُ فَفِعْلُهَا مُسْتَحَبٌّ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ لَهُ اجْتِنَابُ مَا لَا يَعْنِيهِ مِنْ جِدَالٍ وَمِرَاءٍ وَكَثْرَةِ كَلَامٍ وَغَيْرِهِ، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام- «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ»، لِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ فِي غَيْرِ الِاعْتِكَافِ فَفِيهِ أَوْلَى.

رَوَى الْخَلاَّلُ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: » كَانُوا يَكْرَهُونَ فُضُولَ الْكَلَامِ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ فُضُولَ الْكَلَامِ: مَا عَدَا كِتَابَ اللَّهِ أَنْ تَقْرَأَهُ، أَوْ أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ، أَوْ تَنْطِقُ فِي مَعِيشَتِكَ بِمَا لَا بُدَّ لَكَ مِنْهُ».

وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لِلْمُعْتَكِفِ الِاشْتِغَالُ بِتَدْرِيسِ الْعِلْمِ وَمُنَاظَرَةِ الْفُقَهَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَخْتَصُّ نَفْعُهَا بِهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَعْتَكِفُ، فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ الِاشْتِغَالُ بِغَيْرِ الْعِبَادَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ.

وَعِنْدَ ابْنِ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَأَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ اسْتِحْبَابُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبِرِّ إِذَا قَصَدَ الطَّاعَةَ لَا الْمُبَاهَاةَ. هـ- الطِّيبُ وَاللِّبَاسُ

52- يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَتَطَيَّبَ بِأَنْوَاعِ الطِّيبِ فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ رَجُلًا أَمِ امْرَأَةً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِهِمْ.

وَكَذَا يَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَخْذُ الظُّفْرِ وَالشَّارِبِ، وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ الْجَوَازَ بِكَوْنِهِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ إِذَا خَرَجَ لِعُذْرٍ.

أَمَّا حَلْقُ الرَّأْسِ، فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يُكْرَهُ مُطْلَقًا إِلاَّ أَنْ يَتَضَرَّرَ.

وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ التَّصْرِيحَ بِجَوَازِ لُبْسِ الثِّيَابِ الْحَسَنَةِ، لِأَصْلِ الْإِبَاحَةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ لِلْمُعْتَكِفِ تَرْكُ لُبْسِ رَفِيعِ الثِّيَابِ، وَالتَّلَذُّذُ بِمَا يُبَاحُ لَهُ قَبْلَ الِاعْتِكَافِ، وَيُكْرَهُ لَهُ الطِّيبُ.قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَتَطَيَّبَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


7-موسوعة الفقه الكويتية (ترك)

تَرْكٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّرْكُ لُغَةً: وَدْعُكَ الشَّيْءَ، وَيُقَالُ: تَرَكْتُ الشَّيْءَ: إِذَا خَلَّيْتَهُ، وَتَرَكْتُ الْمَنْزِلَ: إِذَا رَحَلْتَ عَنْهُ، وَتَرَكْتُ الرَّجُلَ: إِذَا فَارَقْتَهُ.ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِلْإِسْقَاطِ فِي الْمَعَانِي، فَقِيلَ: تَرَكَ حَقَّهُ: إِذَا أَسْقَطَهُ، وَتَرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ: إِذَا لَمْ يَأْتِ بِهَا، فَإِنَّهُ إِسْقَاطٌ لِمَا ثَبَتَ شَرْعًا

وَالتَّرْكُ فِي اصْطِلَاحِ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ: كَفُّ النَّفْسِ عَنِ الْإِيقَاعِ، فَهُوَ فِعْلٌ نَفْسِيٌّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِفِعْلٍ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْإِهْمَالُ:

2- الْإِهْمَالُ: التَّرْكُ عَنْ عَمْدٍ أَوْ نِسْيَانٍ، وَيُقَالُ: أَهْمَلَهُ إِهْمَالًا إِذَا خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ، وَيَأْتِي عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِمَعْنَى التَّرْكِ.

ب- التَّخْلِيَةُ:

3- التَّخْلِيَةُ: التَّرْكُ وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ فِي: تَمْكِينِ الشَّخْصِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الشَّيْءِ دُونَ حَائِلٍ.

فَالتَّرْكُ أَعَمُّ مِنَ التَّخْلِيَةِ.

ج- الْإِسْقَاطُ وَالْإِبْرَاءُ:

4- الْإِسْقَاطُ: إِزَالَةُ الْمِلْكِ أَوِ الْحَقِّ لَا إِلَى مَالِكٍ أَوْ مُسْتَحِقٍّ.

وَالْإِبْرَاءُ: إِسْقَاطُ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ.

وَكِلَاهُمَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَوْطِنِ التَّرْكِ إِلاَّ أَنَّ التَّرْكَ أَعَمُّ فِي اسْتِعْمَالَاتِهِ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

أَوَّلًا- التَّرْكُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ:

أ- التَّرْكُ وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ:

5- اقْتِضَاءُ التَّرْكِ فِي خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقِ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ هُوَ أَحَدُ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ.

وَاقْتِضَاءُ التَّرْكِ لِشَيْءٍ إِنْ كَانَ جَازِمًا فَهُوَ لِلتَّحْرِيمِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ جَازِمٍ فَهُوَ لِلْكَرَاهَةِ، وَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا لِاقْتِضَاءِ الْفِعْلِ فِي الْخِطَابِ فَهُوَ لِلْإِبَاحَةِ.

وَانْظُرِ الْمُلْحَقَ الْأُصُولِيَّ.

ب- التَّرْكُ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ:

6- يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ بِالتَّرْكِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ؛ إِذِ الْمُكَلَّفُ بِهِ فِي النَّهْيِ الْمُقْتَضِي لِلتَّرْكِ هُوَ الْكَفُّ، أَيْ كَفُّ النَّفْسِ عَنِ الْفِعْلِ إِذَا أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِعْلٌ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَتِ الْقَاعِدَةُ الْأُصُولِيَّةُ (لَا تَكْلِيفَ إِلاَّ بِفِعْلٍ) وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْأَمْرِ، وَفِي النَّهْيِ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ مُقْتَضَاهُ وَهُوَ التَّرْكُ فِعْلٌ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ التَّرْكَ مِنْ مُقْتَضَى النَّهْيِ، وَالنَّهْيُ تَكْلِيفٌ، وَالتَّكْلِيفُ إِنَّمَا يَرِدُ بِمَا كَانَ مَقْدُورًا لِلْمُكَلَّفِ، وَالْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ أَثَرٍ وُجُودِيٍّ، وَالْعَدَمُ نَفْيٌ مَحْضٌ، فَيُمْتَنَعُ إِسْنَادُهُ إِلَيْهَا.وَلِأَنَّ الْعَدَمَ الْأَصْلِيَّ- أَيِ الْمُسْتَمِرَّ- حَاصِلٌ، وَالْحَاصِلُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ ثَانِيًا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مُقْتَضَى النَّهْيِ لَيْسَ هُوَ الْعَدَمَ ثَبَتَ أَنَّهُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ.

كَذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ مُمْتَثِلَ التَّكْلِيفِ مُطِيعٌ وَالطَّاعَةُ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلثَّوَابِ، وَلَا يُثَابُ إِلاَّ عَلَى شَيْءٍ (وَأَلاَّ يَفْعَلَ) عَدَمٌ مَحْضٌ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِذَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ شَيْءٌ فَكَيْفَ يُثَابُ عَلَى لَا شَيْءَ؟.

وَقَالَ قَوْمٌ، مِنْهُمْ أَبُو هَاشِمٍ: إِنَّ التَّرْكَ غَيْرُ فِعْلٍ، وَهُوَ انْتِفَاءُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَذَلِكَ مَقْدُورٌ لِلْمُكَلَّفِ بِأَنْ لَا يَشَاءَ فِعْلَهُ الَّذِي يُوجَدُ بِمَشِيئَتِهِ.

وَانْظُرِ: الْمُلْحَقَ الْأُصُولِيَّ.

هَذَا، وَالْخُرُوجُ عَنِ الْعُهْدَةِ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ قَصْدُ التَّرْكِ امْتِثَالًا، بَلْ يَكْفِي مُجَرَّدُ التَّرْكِ.إِنَّمَا يُشْتَرَطُ قَصْدُ التَّرْكِ امْتِثَالًا لِحُصُولِ الثَّوَابِ.

لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ».

وَفِي تَقْرِيرَاتِ الشِّرْبِينِيِّ عَلَى جَمْعِ الْجَوَامِعِ: فِي التَّكْلِيفِ بِالنَّهْيِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ:

الْأَوَّلُ: الْمُكَلَّفُ بِهِ، وَهُوَ مُطْلَقُ التَّرْكِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَصْدِ الِامْتِثَالِ، بَلْ مَدَارُهُ عَلَى إِقْبَالِ النَّفْسِ عَلَى الْفِعْلِ، ثُمَّ كَفِّهَا عَنْهُ.

الثَّانِي: الْمُكَلَّفُ بِهِ الْمُثَابُ عَلَيْهِ، وَهُوَ التَّرْكُ بِقَصْدِ الِامْتِثَالِ.

الثَّالِثُ: عَدَمُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ، لَكِنَّهُ لَيْسَ مُكَلَّفًا بِهِ؛ لِعَدَمِ قُدْرَةِ الْمُكَلَّفِ عَلَيْهِ.وَانْظُرِ الْمُلْحَقَ الْأُصُولِيَّ.

ج التَّرْكُ وَسِيلَةٌ لِبَيَانِ الْأَحْكَامِ:

7- قَدْ يَكُونُ التَّرْكُ وَسِيلَةً لِبَيَانِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، يَقُولُ الْقَرَافِيُّ: الْبَيَانُ إِمَّا بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ كَالْكِتَابَةِ وَالْإِشَارَةِ، أَوْ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، أَوْ بِالتَّرْكِ.

وَالتَّرْكُ يُبَيَّنُ بِهِ حُكْمُ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْمَنْدُوبِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

ثَانِيًا- التَّرْكُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ:

أ- تَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ:

8- الْمُحَرَّمَاتُ الَّتِي نَهَى الشَّرْعُ عَنْهَا، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ عَمَلِ الْجَوَارِحِ كَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، أَمْ كَانَتْ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ كَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ.هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتُ يَجِبُ تَرْكُهَا امْتِثَالًا لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ مِنَ الشَّرْعِ، كَمَا فِي قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى} وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قِيلَ: وَمَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَشَهَادَةُ الزُّورِ».

يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ كَفُّ الْجَوَارِحِ عَنِ الْحَرَامِ، وَكَفُّ الْقَلْبِ عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَهُوَ مَعْنَى قوله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} وَفِعْلُ الْمُحَرَّمَاتِ مَعْصِيَةٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْعُقُوبَةُ الْمُقَرَّرَةُ لِكُلِّ مَعْصِيَةٍ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ حَدًّا كَمَا فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، أَمْ كَانَتْ قِصَاصًا كَمَا فِي الْجِنَايَاتِ، أَمْ كَانَتْ تَعْزِيرًا كَمَا فِي الْمَعَاصِي الَّتِي لَا حَدَّ فِيهَا.

وَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ بَعْضَ الْمُحَرَّمَاتِ تُبَاحُ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ، وَقَدْ تَجِبُ، كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ فِي الْمَخْمَصَةِ إِحْيَاءً لِلنَّفْسِ، وَكَشُرْبِ الْخَمْرِ لِإِزَالَةِ الْغُصَّةِ، وَذَلِكَ بِالشُّرُوطِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فِي الْحَالَتَيْنِ.وَهَكَذَا

وَيُنْظَرُ كُلُّ مَا سَبَقَ فِي أَبْوَابِهِ.

ب- تَرْكُ الْحُقُوقِ:

الْحَقُّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْعِبَادِ.

9- أَمَّا حَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَالْعِبَادَاتِ مَثَلًا، فَتَرْكُهَا حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَيَعْصِي تَارِكُهَا، وَيَكُونُ آثِمًا، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْكُفْرُ إِنْ كَانَ تَرَكَهَا جَحْدًا لَهَا مَعَ كَوْنِهَا فَرْضًا مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، أَوِ الْإِثْمُ وَالْعُقُوبَةُ إِنْ كَانَ تَرَكَهَا كَسَلًا.

يَقُولُ الزَّرْكَشِيُّ: إِذَا امْتَنَعَ الْمُكَلَّفُ مِنَ الْوَاجِبِ، فَإِنْ لَمْ تَدْخُلِ النِّيَابَةُ نُظِرَ: فَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى نُظِرَ: إِنْ كَانَتْ صَلَاةً طُولِبَ بِهَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قُتِلَ، وَإِنْ كَانَ صَوْمًا حُبِسَ وَمُنِعَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ...وَإِنْ دَخَلَتْهُ النِّيَابَةُ قَامَ الْقَاضِي مَقَامَهُ، كَمَا فِي عَضْلِ الْوَلِيِّ الْمُجْبَرِ فِي النِّكَاحِ، عَلَى تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ وَفِيمَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ.

وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُجْمَعِ عَلَيْهِ.أَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ تَارِكُهُ مُعْتَقِدًا جَوَازَ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ فَهُوَ آثِمٌ.

وَكَذَلِكَ يَأْثَمُ الْمُسْلِمُ الْمُكَلَّفُ بِتَرْكِ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ الَّتِي تُعْتَبَرُ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، كَالْجَمَاعَةِ وَالْأَذَانِ وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ إِذْ فِي تَرْكِهَا تَهَاوُنٌ بِالشَّرْعِ، وَلِذَلِكَ لَوْ اتَّفَقَ أَهْلُ بَلْدَةٍ عَلَى تَرْكِهَا وَجَبَ قِتَالُهُمْ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَنْدُوبَاتِ؛ لِأَنَّهَا تُفْعَلُ فُرَادَى.

هَذَا وَيُبَاحُ تَرْكُ الْوَاجِبِ لِلضَّرُورَةِ؛ إِذِ الْمَعْهُودُ فِي الشَّرِيعَةِ دَفْعُ الضَّرَرِ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ إِذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ.وَمِنْ ثَمَّ كَانَتِ الْمُسَامَحَةُ فِي تَرْكِ الْوَاجِبِ أَوْسَعَ مِنَ الْمُسَامَحَةِ فِي فِعْلِ الْمُحَرَّمِ، وَاعْتِنَاءُ الشَّرْعِ بِالْمَنْهِيَّاتِ فَوْقَ اعْتِنَائِهِ بِالْمَأْمُورَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ».

10- وَالْحُدُودُ الَّتِي تَكُونُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، كَحَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ يَجِبُ إِقَامَتُهَا مَتَى بَلَغَتِ الْإِمَامَ.

قَالَ الْفُقَهَاءُ: الْحَدُّ لَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ بَعْدَ ثُبُوتِ سَبَبِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ.وَعَلَيْهِ بُنِيَ عَدَمُ جَوَازِ الشَّفَاعَةِ فِيهِ، فَإِنَّهَا طَلَبُ تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَلِذَا «أَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ- رضي الله عنهما- حِينَ شَفَعَ فِي الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟...» وَلِأَنَّ الْحَدَّ بَعْدَ بُلُوغِ الْإِمَامِ يَصِيرُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ تَرْكُهُ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الشَّفَاعَةُ فِي إِسْقَاطِهِ.

11- أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلتَّعْزِيرِ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْحَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى وَجَبَ إِقَامَتُهُ كَالْحُدُودِ، إِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ إِلاَّ بِهِ، أَوْ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي إِقَامَتِهِ.وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْإِمَامِ، إِنْ شَاءَ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (حَدٌّ- تَعْزِيرٌ).

12- وَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ، فَإِنْ كَانَ حَقًّا لَهُ فَتَرْكُهُ جَائِزٌ، إِذِ الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ جَائِزِ التَّصَرُّفِ لَا يُمْنَعُ مِنْ تَرْكِ حَقِّهِ، مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ كَتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ التَّرْكُ مَنْدُوبًا إِذَا كَانَ قُرْبَةً، كَإِبْرَاءِ الْمُعْسِرِ وَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ.

هَذَا إِذَا كَانَ الْحَقُّ قِبَلَ الْغَيْرِ، أَمَّا إِذَا كَانَ قِبَلَ نَفْسِهِ فَقَدْ يَكُونُ التَّرْكُ حَرَامًا كَمَا إِذَا تَرَكَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ حَتَّى هَلَكَ، وَكَمَا إِذَا أُلْقِيَ فِي مَاءٍ يُمْكِنُهُ الْخَلَاصُ مِنْهُ عَادَةً، فَمَكَثَ فِيهِ مُخْتَارًا حَتَّى هَلَكَ.

وَقِيلَ فِي التَّمَتُّعِ بِأَنْوَاعِ الطَّيِّبَاتِ: إِنَّ التَّرْكَ مِنَ الْبِدَعِ الْمَذْمُومَةِ.قَالَ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} وَقِيلَ: إِنَّ التَّرْكَ أَفْضَلُ لقوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا}.

13- وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ لِلْغَيْرِ، وَتَرَتَّبَ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ، وَأَصْبَحَ مُلْتَزِمًا بِهِ حِفْظًا أَوْ أَدَاءً، فَإِنَّ تَرْكَ الْحِفْظِ أَوِ الْأَدَاءِ يُعْتَبَرُ مَعْصِيَةً تَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْحَقَّ لِأَهْلِهِ، مَعَ الضَّمَانِ فِيمَا ضَاعَ أَوْ تَلِفَ.

وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ يَتَعَلَّقُ بِنَفْعِ الْغَيْرِ، لَكِنْ لَمْ يَلْتَزِمْ بِهِ شَخْصٌ، وَكَانَ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ بِمَا يُحَقِّقُ النَّفْعَ ضَيَاعُ الْمَالِ أَوْ تَلَفُهُ، كَمَنْ تَرَكَ الْتِقَاطَ لُقَطَةٍ تَضِيعُ لَوْ تَرَكَهَا، أَوْ تَرَكَ قَبُولَ وَدِيعَةٍ تَضِيعُ لَوْ لَمْ يَقْبَلْهَا، فَتَلِفَ الْمَالُ أَوْ ضَاعَ، فَإِنَّهُ يَأْثَمُ بِالتَّرْكِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ لِحُرْمَةِ مَالِ الْغَيْرِ، خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ إِذِ الْأَخْذُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدَهُمْ، بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يَخْتَلِفُونَ فِي تَرَتُّبِ الضَّمَانِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ، هَلْ يُعَدُّ التَّرْكُ فِعْلًا يُكَلَّفُ الْإِنْسَانُ بِمُوجَبِهِ؛ إِذْ لَا تَكْلِيفَ إِلاَّ بِفِعْلٍ، أَمْ لَا يُعْتَبَرُ فِعْلًا؟.

فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَجُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا ضَمَانَ بِالتَّرْكِ عِنْدَ الضَّيَاعِ أَوِ التَّلَفِ؛ إِذْ التَّرْكُ فِي نَظَرِهِمْ لَيْسَ سَبَبًا وَلَا تَضْيِيعًا، بَلْ هُوَ امْتِنَاعٌ مِنْ حِفْظٍ غَيْرِ مُلْزِمٍ؛ وَلِأَنَّ الْمَالَ إِنَّمَا يُضْمَنُ بِالْيَدِ أَوِ الْإِتْلَافِ، وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا الْتَقَطَ أَوْ قَبِلَ الْوَدِيعَةَ وَتَرَكَ الْحِفْظَ حَتَّى ضَاعَ الْمَالُ أَوْ تَلِفَ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ حِينَئِذٍ لِتَرْكِهِ مَا الْتَزَمَ بِهِ.

وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: تَرَتُّبُ الضَّمَانِ عَلَى التَّرْكِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ.بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّرْكَ فِعْلٌ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، بَلْ إِنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُضَمِّنُونَ الصَّبِيَّ فِي تَرْكِ مَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ، فَلَوْ مَرَّ صَبِيٌّ مُمَيِّزٌ عَلَى صَيْدٍ مَجْرُوحٍ لَمْ يَنْفُذْ مَقْتَلُهُ، وَأَمْكَنَتْهُ ذَكَاتُهُ، فَتَرَكَ تَذْكِيَتَهُ حَتَّى مَاتَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ مَجْرُوحًا لِصَاحِبِهِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ؛ وَلِأَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ التَّرْكَ سَبَبًا فِي الضَّمَانِ، فَيَتَنَاوَلُ الْبَالِغَ وَغَيْرَهُ.

14- هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَالِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِتَرْكِ إِنْقَاذِ نَفْسٍ مِنَ الْهَلَاكِ، فَالْمُتَتَبِّعُ لِأَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي حَالَتَيْنِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَقُومَ شَخْصٌ بِعَمَلٍ ضَارٍ نَحْوَ شَخْصٍ آخَرَ يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَى هَلَاكِهِ غَالِبًا، ثُمَّ يَتْرُكَ مَا يُمْكِنُ بِهِ إِنْقَاذُ هَذَا الشَّخْصِ فَيَهْلِكُ.

وَمِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَحْبِسَ غَيْرَهُ فِي مَكَانٍ، وَيَمْنَعَهُ الطَّعَامَ أَوِ الشَّرَابَ، فَيَمُوتَ جُوعًا وَعَطَشًا لِزَمَنٍ يَمُوتُ فِيهِ غَالِبًا، وَكَانَ قَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الطَّلَبُ.فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَكُونُ فِيهِ الْقَوَدُ لِظُهُورِ قَصْدِ الْإِهْلَاكِ بِذَلِكَ.

وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ- أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- يَكُونُ فِي ذَلِكَ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ.لِأَنَّ حَبْسَهُ هُوَ الَّذِي تَسَبَّبَ فِي هَلَاكِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ حَصَلَ بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ لَا بِالْحَبْسِ، وَلَا صُنْعَ لِأَحَدٍ فِي الْجُوعِ وَالْعَطَشِ.

فَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهُ الطَّعَامَ أَوِ الشَّرَابَ، بِأَنْ كَانَ مَعَهُ فَلَمْ يَتَنَاوَلْ خَوْفًا أَوْ حُزْنًا، أَوْ كَانَ يُمْكِنُهُ الطَّلَبُ فَلَمْ يَفْعَلْ، فَمَاتَ، فَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ، لِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ.

الْحَالُ الثَّانِيَةُ: مَنْ أَمْكَنَهُ إِنْقَاذُ إِنْسَانِ مِنَ الْهَلَاكِ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ.

وَمِثَالُ ذَلِكَ: مَنْ رَأَى إِنْسَانًا اشْتَدَّ جُوعُهُ.وَعَجَزَ عَنِ الطَّلَبِ، فَامْتَنَعَ مَنْ رَآهُ مِنْ إِعْطَائِهِ فَضْلَ طَعَامِهِ حَتَّى مَاتَ، أَوْ رَأَى إِنْسَانًا فِي مَهْلَكَةٍ فَلَمْ يُنْجِهِ مِنْهَا، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ- فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- عَدَا أَبِي الْخَطَّابِ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُمْتَنِعِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُهْلِكْهُ وَلَمْ يُحْدِثْ فِيهِ فِعْلًا مُهْلِكًا، لَكِنَّهُ يَأْثَمُ.وَهَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا كَانَ الْمُضْطَرُّ لَمْ يَطْلُبِ الطَّعَامَ، أَمَّا إِذَا طَلَبَهُ فَمَنَعَهُ رَبُّ الطَّعَامِ حَتَّى مَاتَ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّ مَنْعَهُ مِنْهُ كَانَ سَبَبًا فِي هَلَاكِهِ، فَضَمِنَهُ بِفِعْلِهِ الَّذِي تَعَدَّى بِهِ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبِي الْخَطَّابِ يَضْمَنُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُنْجِهِ مِنَ الْهَلَاكِ مَعَ إِمْكَانِهِ.

هَذَا وَيُلَاحَظُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ قِتَالُ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ فَضْلَ طَعَامِهِ، فَإِنْ قُتِلَ رَبُّ الطَّعَامِ فَدَمُهُ هَدَرٌ، وَإِنْ قُتِلَ الْمُضْطَرُّ فَفِيهِ الْقِصَاصُ؛ لِقَضَاءِ عُمَرَ- رضي الله عنه- بِذَلِكَ.

عُقُوبَةُ تَرْكِ الْوَاجِبِ:

15- يَقُولُ ابْنُ فَرْحُونَ: التَّعْزِيرُ يَكُونُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَمِنْ ذَلِكَ تَرْكُ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ: مِثْلُ الْوَدَائِعِ وَأَمْوَالِ الْأَيْتَامِ وَغَلاَّتِ الْوُقُوفِ وَمَا تَحْتَ أَيْدِي الْوُكَلَاءِ وَالْمُقَارِضِينَ، وَالِامْتِنَاعِ مِنْ رَدِّ الْمَغْصُوبِ وَالْمَظَالِمِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ، وَيُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ إِنْ أَبَاهُ وَلَوْ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ.

وَيَقُولُ الزَّرْكَشِيُّ: إِذَا امْتَنَعَ الْمُكَلَّفُ مِنَ الْوَاجِبِ، فَإِنْ كَانَ حَقًّا لآِدَمِيٍّ لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ حُبِسَ حَتَّى يَفْعَلَهُ.كَمَا إِذَا امْتَنَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُخَيَّرُ بَيْنَ حَبْسِهِ وَبَيْنَ النِّيَابَةِ عَنْهُ فِي التَّسْلِيمِ، كَالْمُقِرِّ بِمُبْهَمٍ يُحْبَسُ حَتَّى يُبَيِّنَ.وَإِنْ كَانَتْ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ قَامَ الْقَاضِي مَقَامَهُ.

النِّيَّةُ فِي التَّرْكِ:

16- تَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ لِلْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ النَّهْيِ.وَأَمَّا لِحُصُولِ الثَّوَابِ، بِأَنْ كَانَ التَّرْكُ كَفًّا- وَهُوَ: أَنْ تَدْعُوهُ النَّفْسُ إِلَيْهِ قَادِرًا عَلَى فِعْلِهِ، فَكَفَّ نَفْسَهُ عَنْهُ خَوْفًا مِنْ رَبِّهِ- فَهُوَ مُثَابٌ، وَإِلاَّ فَلَا ثَوَابَ عَلَى تَرْكِهِ، فَلَا يُثَابُ الْعِنِّينُ عَلَى تَرْكِ الزِّنَا، وَلَا الْأَعْمَى عَلَى تَرْكِ النَّظَرِ.

آثَارُ التَّرْكِ:

17- تَتَعَدَّدُ آثَارُ التَّرْكِ وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مُتَعَلِّقِهِ، وَبِاخْتِلَافِ مَا إِذَا كَانَ التَّرْكُ عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا أَوْ جَهْلًا وَهَكَذَا.وَفِيمَا يَأْتِي بَعْضُ آثَارِ التَّرْكِ.

أ- يَسْقُطُ الْحَقُّ فِي الشُّفْعَةِ بِتَرْكِ طَلَبِهَا بِلَا عُذْرٍ.وَيَخْتَلِفُ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يَسْقُطُ بِهَا هَذَا الْحَقُّ. (ر: شُفْعَةٌ).

ب- لَا تُؤْكَلُ الذَّبِيحَةُ إِذَا تَرَكَ الذَّابِحُ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَأَمَّا إِنْ تَرَكَ نِسْيَانًا فَتُؤْكَلُ اتِّفَاقًا، وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ يُنْظَرُ (ذَبَائِحُ- أُضْحِيَّةٌ).

وَالْأَجِيرُ إِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا ضَمِنَ قِيمَةَ الذَّبِيحَةِ.

ج- تَرْكُ الْقِيَامِ بِالدَّعْوَى بِلَا عُذْرٍ، وَبَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ الْمُحَدَّدَةِ يَمْنَعُ سَمَاعَهَا، وَهَذَا عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَمْرٍ سُلْطَانِيٍّ، وَكَمَا لَا تُسْمَعُ فِي حَيَاةِ الْمُدَّعِي لِلتَّرْكِ لَا تُسْمَعُ مِنَ الْوَرَثَةِ.

وَإِذَا تَرَكَ الْمُوَرِّثُ الدَّعْوَى مُدَّةً وَتَرَكَهَا الْوَارِثُ مُدَّةً، وَبَلَغَ مَجْمُوعُ الْمُدَّتَيْنِ حَدَّ مُرُورِ الزَّمَانِ فَلَا تُسْمَعُ. (ر: دَعْوَى).

د- يَلْزَمُ الْحِنْثُ وَالْكَفَّارَةُ فِي الْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ. (ر: أَيْمَانٌ).

هـ- تَرْكُ الْعِبَادَاتِ أَوْ بَعْضِ أَجْزَائِهَا يَسْتَلْزِمُ الْجُبْرَانَ.وَالْمَتْرُوكَاتُ مِنْهَا مَا يُجْبَرُ بِالْعَمَلِ الْبَدَنِيِّ كَسُجُودِ السَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ، وَالْقَضَاءِ أَوِ الْإِعَادَةِ لِمَنْ تَرَكَ فَرْضًا.

وَمِنْهَا مَا يُجْبَرُ بِالْمَالِ كَجَبْرِ الصَّوْمِ بِالْإِطْعَامِ فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْعَاجِزِ، وَالدَّمُ لِتَرْكِ وَاجِبٍ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ.

هَذَا وَقَدْ وَرَدَ فِي ثَنَايَا الْبَحْثِ آثَارُ التَّرْكِ، كَتَرَتُّبِ الْحَدِّ أَوِ التَّعْزِيرِ فِي تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ عَدَمِ تَرْكِ مُحَرَّمٍ، وَكَالضَّمَانِ فِي التَّلَفِ بِالتَّرْكِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


8-موسوعة الفقه الكويتية (ثواب)

ثَوَابٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الثَّوَابُ: الْعِوَضُ: وَاللَّهُ يَأْجُرُ عَبْدَهُ، أَيْ يُثِيبُهُ، وَأَصْلُهُ مِنْ ثَابَ أَيْ رَجَعَ، كَأَنَّ الْمُثِيبَ يُعَوِّضُ الْمُثَابَ مِثْلَ مَا أَسْدَى إِلَيْهِ

وَالثَّوَابُ: الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّهُ نَفْعٌ يَعُودُ إِلَى الْمَجْزِيِّ، وَهُوَ اسْمٌ مِنَ الْإِثَابَةِ أَوِ التَّثْوِيبِ، مِنْهُ قَوْلُهُ فِي الْهِبَةِ: مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا، أَيْ مَا لَمْ يُعَوَّضْ.

وَالثَّوَابُ: جَزَاءُ الطَّاعَةِ، وَكَذَلِكَ الْمَثُوبَةُ، قَالَ تَعَالَى: {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} وَأَعْطَاهُ ثَوَابَهُ وَمَثُوبَتَهُ، أَيْ جَزَاءَ مَا عَمِلَهُ.

وَفِي تَعْرِيفَاتِ الْجُرْجَانِيِّ: الثَّوَابُ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الرَّحْمَةَ وَالْمَغْفِرَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالشَّفَاعَةَ مِنَ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-.

وَقِيلَ: الثَّوَابُ هُوَ إِعْطَاءُ مَا يُلَائِمُ الطَّبْعَ.

وَفِي الْفَوَاكِهِ الدَّوَانِي: الثَّوَابُ مِقْدَارٌ مِنَ الْجَزَاءِ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى يُعْطِيهِ لِعِبَادِهِ فِي نَظِيرِ أَعْمَالِهِمْ الْحَسَنَةِ الْمَقْبُولَةِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْحَسَنَةُ:

2- الْحَسَنَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْمَدْحُ فِي الْعَاجِلِ وَالثَّوَابُ فِي الْآجِلِ.وَهِيَ بِذَلِكَ تَكُونُ سَبَبًا لِلثَّوَابِ.

ب- الطَّاعَةُ:

3- الطَّاعَةُ: الِانْقِيَادُ فَإِذَا كَانَتْ فِي الْخَيْرِ كَانَتْ سَبَبًا لِلثَّوَابِ، وَإِذَا كَانَتْ فِي الْمَعْصِيَةِ كَانَتْ سَبَبًا فِي الْعِقَابِ.

مَا يَتَعَلَّقُ بِالثَّوَابِ مِنْ أَحْكَامٍ.

لِلثَّوَابِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ إِطْلَاقَانِ:

أ- الثَّوَابُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ جَزَاءَ طَاعَتِهِ.

ب- الثَّوَابُ فِي الْهِبَةِ (أَيْ الْعِوَضِ الْمَالِيِّ).

وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلًا:

الثَّوَابُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى:

4- الْأَصْلُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ، بَلِ الثَّوَابُ فَضْلُهُ وَالْعِقَابُ عَدْلُهُ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} وَالتَّكَالِيفُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ عِبَادَةِ الْكُلِّ، لَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ الطَّائِعِينَ، وَلَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ الْعَاصِينَ.، وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحْكَامَهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَسْبَابٍ رَبَطَهَا بِهَا، لِيَعْرِفَ الْعِبَادُ بِالْأَسْبَابِ أَحْكَامَهَا، فَيُسَارِعُوا بِذَلِكَ إِلَى طَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ، إِذَا وَقَفُوا عَلَى الْأَسْبَابِ، فَأَمَرَ الْمُكَلَّفِينَ كُلَّهُمْ وَنَهَاهُمْ، وَقَدْ وَعَدَ مَنْ أَطَاعَهُ بِالثَّوَابِ، وَتَوَعَّدَ مَنْ عَصَاهُ بِالْعِقَابِ.

مَنْ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ:

5- لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمُكَلَّفَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُثَابُ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَيُعَاقَبُ عَلَى الْمَعَاصِي إِلاَّ أَنْ يَشْمَلَهُ اللَّهُ بِعَفْوِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ أَوَامِرَ وَنَوَاهٍ وَهِيَ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ.

6- أَمَّا غَيْرُ الْمُكَلَّفِينَ كَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ فَالْأَصْلُ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالتَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ أَهْلٌ لِلثَّوَابِ لِمَا لَهُ مِنْ قُدْرَةٍ قَاصِرَةٍ، وَتَصِحُّ عِبَادَتُهُ مِنْ صَلَاةٍ، وَصَوْمٍ، وَاعْتِكَافٍ، وَحَجٍّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيُكْتَبُ لَهُ ثَوَابُ مَا يَعْمَلُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ عِبَادَتِهِ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ» وَحَدِيثُ صَلَاةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ فَجِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ» وَحَدِيثُ تَصْوِيمِ الصَّحَابَةِ الصِّبْيَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ.فَعَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: «أَرْسَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ: مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيَصُمْ.قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ الْعِهْنِ.فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ» وَقَدْ رَجَّحَ الْمَالِكِيَّةُ تَعَلُّقَ النَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ بِالصَّبِيِّ دُونَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ فَيُشْتَرَطُ لَهَا الْبُلُوغُ، وَذَلِكَ لِأَمْرِهِ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ مِنَ الشَّارِعِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَمْرِ أَمْرٌ بِالشَّيْءِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ أَهْلٌ لِلثَّوَابِ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى مُسْلِمًا بَعْدَ الْجُنُونِ وَالْمُسْلِمُ يُثَابُ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ: (صَبِيٌّ، جُنُونٌ، أَهْلِيَّةٌ).

7- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يَفْعَلُهُ الْكَافِرُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ ثُمَّ يُسْلِمُ، هَلْ يَنْفَعُهُ عَمَلُهُ السَّابِقُ أَوْ لَا يَنْفَعُهُ؟ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ «حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ وَمِنْ صِلَةِ رَحِمٍ فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَجْرٍ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ».

قَالَ الْحَرْبِيُّ: مَعْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ لَكَ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي عَمِلْتَهُ هُوَ لَكَ.وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْخَيْرَ الَّذِي أَسْلَفَهُ، كُتِبَ لَهُ، لَكِنَّ ابْنَ حَجَرٍ نَقَلَ عَنِ الْمَازِرِيِّ رِوَايَةً أُخْرَى فِي مَكَانٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ التَّقَرُّبُ، فَلَا يُثَابُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ الصَّادِرِ مِنْهُ فِي شِرْكِهِ...وَتَابَعَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَلَى ذَلِكَ.

وَاسْتَضْعَفَ النَّوَوِيُّ رَأْيَ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ الثَّوَابِ وَقَالَ: الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ بَلْ نَقَلَ بَعْضُهُمْ فِيهِ الْإِجْمَاعَ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا فَعَلَ أَفْعَالًا جَمِيلَةً كَالصَّدَقَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ أَنَّ ثَوَابَ ذَلِكَ يُكْتَبُ لَهُ، وَقَدْ جَزَمَ بِمَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وَابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْقُدَمَاءِ، وَالْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ الْمُنِيرِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ.

أَمَّا مَا فَعَلَهُ الْكَافِرُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ ثُمَّ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ، فَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَا قَالَ النَّوَوِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَا ثَوَابَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا يُطْعَمُ فِي الدُّنْيَا بِمَا عَمِلَهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا».

مَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَشُرُوطُهُ:

8- مِنَ الْمُقَرَّرِ شَرْعًا أَنَّ الْإِنْسَانَ يُثَابُ- بِفَضْلِ اللَّهِ- عَلَى مَا يُؤَدِّي مِنْ طَاعَاتٍ، وَاجِبَةً كَانَتْ أَوْ مَنْدُوبَةً، وَعَلَى مَا يَتْرُكُ مِنْ مُحَرَّمَاتٍ وَمَكْرُوهَاتٍ.يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} وَيَقُولُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ» لَكِنَّ فِعْلَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ وَتَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ لَيْسَ سَبَبًا فِي حَدِّ ذَاتِهِ- لِلثَّوَابِ- مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْفِعْلُ مُجْزِئًا وَمُبْرِئًا لِلذِّمَّةِ وَالتَّرْكُ كَافِيًا لِلْخُرُوجِ مِنَ الْعُهْدَةِ؛ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِحُصُولِ الثَّوَابِ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ نِيَّةُ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى.بَلْ إِنَّ الْمُبَاحَاتِ رَغْمَ أَنَّهَا لَا تَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، لَكِنْ إِنْ أُرِيدَ بِهَا الثَّوَابُ بِجَعْلِهَا وَسِيلَةً لِلْعِبَادَةِ الْمَشْرُوعَةِ افْتَقَرَتْ إِلَى نِيَّةٍ.

قَالَ الشَّاطِبِيُّ: الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَالْمَقَاصِدُ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا تَنْحَصِرُ، مِنْهَا قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى».وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ: لَا ثَوَابَ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: قَرَّرَ الْمَشَايِخُ فِي حَدِيثِ.«إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»، أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُقْتَضَى، إِذْ لَا يَصِحُّ بِدُونِ تَقْدِيرٍ لِكَثْرَةِ وُجُودِ الْأَعْمَالِ بِدُونِهَا فَقَدَّرُوا مُضَافًا أَيْ حُكْمَ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: أُخْرَوِيٌّ، وَهُوَ الثَّوَابُ وَاسْتِحْقَاقُ الْعِقَابِ، وَدُنْيَوِيٌّ وَهُوَ الصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ، وَقَدْ أُرِيدَ الْأُخْرَوِيُّ بِالْإِجْمَاعِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، وَسَاقَ ابْنُ نُجَيْمٍ الْأَمْثِلَةَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا تُشْتَرَطُ لِلثَّوَابِ صِحَّةُ الْعِبَادَةِ، بَلْ يُثَابُ عَلَى نِيَّتِهِ وَإِنْ كَانَتْ فَاسِدَةً بِغَيْرِ تَعَمُّدِهِ، كَمَا لَوْ صَلَّى مُحْدِثًا عَلَى ظَنِّ طَهَارَتِهِ.

9- بَلْ إِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُثَابُ عَلَى مَا لَمْ يَعْمَلْ، وَيَكُونُ الثَّوَابُ عَلَى النِّيَّةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً» وَقَوْلِهِ: «مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّيَ فِي اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ»

وَيُثَابُ كَذَلِكَ عَلَى الْعَمَلِ وَإِنْ لَمْ يَقَعِ الْمَوْقِعَ الْمُنَاسِبَ، فَفِي الْبُخَارِيِّ حَدِيثُ الْمُتَصَدِّقِ الَّذِي وَقَعَتْ صَدَقَتُهُ فِي يَدِ زَانِيَةٍ وَغَنِيٍّ وَسَارِقٍ.وَحَدِيثُ «مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الْأَخْنَسِ الَّذِي أَخَذَ صَدَقَةَ أَبِيهِ مِنَ الرَّجُلِ الَّذِي وُضِعَتْ عِنْدَهُ وَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ» قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الْمُتَصَدِّقِ إِذَا كَانَتْ صَالِحَةً قُبِلَتْ صَدَقَتُهُ وَإِنْ لَمْ تَقَعِ الْمَوْقِعَ.وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْقُرُبَاتِ الَّتِي لَا لُبْسَ فِيهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ كَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (نِيَّةٌ).

مَا يُثَابُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ مِمَّا لَيْسَ مِنْ كَسْبِهِ:

لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الثَّوَابَ يَتَعَلَّقُ بِمَا هُوَ مِنْ كَسْبِ الْإِنْسَانِ وَاكْتِسَابِهِ، أَمَّا ثَوَابُ مَا لَيْسَ مِنْ كَسْبِهِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ.وَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ:

أَوَّلًا- فِيمَا يَهَبُهُ الْإِنْسَانُ لِغَيْرِهِ مِنَ الثَّوَابِ:

10- يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنْ يَجْعَلَ الْإِنْسَانُ ثَوَابَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ عِبَادَةٍ لِغَيْرِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الْعِبَادَةُ صَلَاةً، أَمْ صَوْمًا، أَمْ حَجًّا، أَمْ صَدَقَةً، أَمْ قِرَاءَةً وَذِكْرًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ لِظَاهِرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهَا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} وقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وَقَدْ «ضَحَّى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْهُ وَالْآخَرُ عَنْ أُمَّتِهِ» وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ أَبِيهِ: لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَأَعْتَقْتُمْ عَنْهُ، أَوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ، أَوْ حَجَجْتُمْ عَنْهُ بَلَغَهُ ذَلِكَ». وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَأَمَّا قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} فَمَعْنَاهُ لَا يَجِبُ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ فِيمَا عَدَا الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيمَا عَدَا الصَّلَاةَ، وَفِي الصِّيَامِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ خِلَافٌ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ.

11- وَاخْتُلِفَ فِي إِهْدَاءِ الثَّوَابِ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ وَمَنَعَهُ الْآخَرُونَ.

وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي بَعْضِ فَتَاوِيهِ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ ثَوَابُ الْقِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الثَّوَابِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ الشَّارِعِ، لَكِنَّ الْحَطَّابَ قَالَ: التَّصَرُّفُ الْمَمْنُوعُ مَا يَكُونُ بِصِيغَةِ جَعَلْتُهُ لَهُ، أَوْ أَهْدَيْتُهُ لَهُ، أَمَّا الدُّعَاءُ بِجَعْلِ ثَوَابِهِ لَهُ فَلَيْسَ تَصَرُّفًا بَلْ سُؤَالٌ لِنَقْلِ الثَّوَابِ إِلَيْهِ وَلَا مَانِعَ مِنْهُ.

وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ أَدَاءٌ (ف 14).

(الْمَوْسُوعَةُ 2 334).

ثَانِيًا- ثَوَابُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ لِمَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ:

12- مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، لَكِنْ هَلْ يَحْصُلُ ثَوَابُ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَفْعَلْ؟

قَالَ الْفُقَهَاءُ: الثَّوَابُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ يَحْصُلُ لِفَاعِلِهِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ ثَوَابُ الْفِعْلِ نَفْسِهِ، وَهُوَ لِفَاعِلِهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْفَاعِلِ فَيَسْتَوِي مَعَ الْفَاعِلِ فِي سُقُوطِ التَّكْلِيفِ، لَا فِي الثَّوَابِ وَعَدَمِهِ، نَعَمْ إِنْ كَانَ نَوَى الْفِعْلَ فَلَهُ الثَّوَابُ عَلَى نِيَّتِهِ، قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ الرِّسَالَةِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَحْصُلُ الثَّوَابُ بِغَيْرِ مَنْ رَدَّ السَّلَامَ- أَيْ بَعْدَ رَدِّ غَيْرِهِ- إِذَا نَوَى الرَّدَّ وَتَرَكَهُ لِأَجْلِ رَدِّ الْغَيْرِ، وَإِلاَّ فَلَا.وَنُقِلَ عَنِ الْأَبِيِّ أَنَّ الثَّوَابَ يَحْصُلُ مُطْلَقًا قَالَ الزُّرْقَانِيُّ: وَفِيهِ تَعَسُّفٌ.

ثَالِثًا- الْمَصَائِبُ الَّتِي تَنْزِلُ بِالْإِنْسَانِ هَلْ يُثَابُ عَلَيْهَا أَمْ لَا

13- الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلَا وَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ، وَلَا حُزْنٍ، وَلَا أَذًى، وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ».

قَالَ الشَّاطِبِيُّ: إِنْ كَانَتِ الْمَصَائِبُ مِنْ فِعْلِ الْغَيْرِ، كَفَّرَ بِهَا مِنْ سَيِّئَاتِهِ، وَأَخَذَ بِهَا مِنْ أَجْرِ غَيْرِهِ، وَحَمَلَ غَيْرُهُ وِزْرَهُ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- فِي الْمُفْلِسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَصَائِبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى: فَهِيَ كَفَّارَاتٌ فَقَطْ، أَوْ كَفَّارَاتٌ وَأُجُورٌ.

وَقَالَ الْقَرَافِيُّ وَالْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: الْمَصَائِبُ كَفَّارَاتٌ لِلذُّنُوبِ قَطْعًا، سَوَاءٌ أَسَخِطَ، أَمْ رَضِيَ، غَيْرَ أَنَّهُ إِنْ صَبَرَ وَرَضِيَ اجْتَمَعَ مَعَ التَّكْفِيرِ الثَّوَابُ، فَالْمَصَائِبُ لَا ثَوَابَ فِيهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مُصِيبَةٌ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُكْتَسَبَةٍ، وَالتَّكْفِيرُ بِالْمُصِيبَةِ يَقَعُ بِالْمُكْتَسَبِ وَغَيْرِ الْمُكْتَسَبِ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُصِيبَةَ كَفَّارَةٌ لِذَنْبٍ يُوَازِيهَا، وَبِالرِّضَا يُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُصَابِ ذَنْبٌ عُوِّضَ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الثَّوَابِ بِمَا يُوَازِيهِ.

وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: مَا وَرَدَ بِهِ السَّمْعُ مِنْ وَعْدِ الرِّزْقِ، وَوَعْدِ الثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَعَلَى أَلَمِ الْمُؤْمِنِ، وَأَلَمِ طِفْلِهِ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا مَحْضُ فَضْلٍ وَتَطَوُّلٍ مِنْهُ تَعَالَى لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِ لِوَعْدِهِ الصَّادِقِ.

تَفَاوُتُ الثَّوَابِ:

يَتَفَاوَتُ الثَّوَابُ قِلَّةً وَكَثْرَةً بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَلِي:

أ- مِنْ حَيْثُ الْمَشَقَّةُ:

14- الْأَصْلُ أَنَّ الْمَشَقَّةَ مِنْ حَيْثُ هِيَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ، فَإِنَّ الْحَرَجَ مَرْفُوعٌ عَنِ الْمُكَلَّفِ، وَلَكِنَّ الْمَشَقَّةَ فِي الْجُمْلَةِ مُثَابٌ عَلَيْهَا إِذَا لَحِقَتْ فِي أَثْنَاءِ التَّكْلِيفِ، وَيَخْتَلِفُ أَجْرُ تَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ بِشِدَّةِ الْمَشَاقِّ وَخِفَّتِهَا، وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَيْنِ إِذَا اتَّحَدَا فِي الشَّرَفِ، وَالشَّرَائِطِ، وَالسُّنَنِ، وَالْأَرْكَانِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا شَاقًّا فَقَدِ اسْتَوَيَا فِي أَجْرِهِمَا لِتَسَاوِيهِمَا فِي جَمِيعِ الْوَظَائِفِ، وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ لِأَجْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَأُثِيبَ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ لَا عَلَى عَيْنِ الْمَشَاقِّ، وَذَلِكَ كَالِاغْتِسَالِ فِي الصَّيْفِ وَالرَّبِيعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الِاغْتِسَالِ فِي شِدَّةِ بَرْدِ الشِّتَاءِ، فَيَزِيدُ أَجْرُ الِاغْتِسَالِ فِي الشِّتَاءِ لِأَجْلِ تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ الْبَرْدِ، وَكَذَلِكَ مَشَاقُّ الْوَسَائِلِ فِي مَنْ يَقْصِدُ الْمَسَاجِدَ، وَالْحَجَّ، وَالْغَزْوَ، مِنْ مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ، وَمَنْ يَقْصِدُ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ مِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ، فَإِنَّ ثَوَابَهَا يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الْوَسِيلَةِ، وَيَتَسَاوَى مِنْ جِهَةِ الْقِيَامِ بِسُنَنِ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ وَشَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا، فَإِنَّ الشَّرْعَ يُثِيبُ عَلَى الْوَسَائِلِ إِلَى الطَّاعَاتِ، كَمَا يُثِيبُ عَلَى الْمَقَاصِدِ مَعَ تَفَاوُتِ أُجُورِ الْوَسَائِلِ وَالْمَقَاصِدِ، وَكَذَلِكَ جَعَلَ لِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا الْمُصَلِّي إِلَى إِقَامَةِ الْجَمَاعَةِ رَفْعَ دَرَجَةٍ وَحَطَّ خَطِيئَةٍ، وَجَعَلَ أَبْعَدَهُمْ مَمْشًى إِلَى الصَّلَاةِ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ أَقْرَبِهِمْ مَمْشًى إِلَيْهَا، وَجَعَلَ لِلْمُسَافِرِينَ إِلَى الْجِهَادِ بِمَا يَلْقَوْنَهُ مِنَ الظَّمَأِ، وَالنَّصَبِ، وَالْمَخْمَصَةِ، وَالنَّفَقَةِ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ، وَقَطْعِ الْأَوْدِيَةِ، وَبِمَا يَنَالُونَهُ مِنَ الْأَعْدَاءِ أَجْرَ عَمَلٍ صَالِحٍ، وَعَلَى ذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْمَشَقَّاتُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَشَقَّاتٌ مُثَابًا عَلَيْهَا زِيَادَةً عَلَى مُعْتَادِ التَّكْلِيفِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ لَهُ، وَإِلاَّ فَلَوْ لَمْ يَقْصِدْهَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا ثَوَابٌ.

ب- تَفَاوُتُ الثَّوَابِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ:

15- مِنْ ذَلِكَ تَفْضِيلُ شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ، وَتَفْضِيلُ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَعَرَفَةَ عَلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَيَّامِ، وَتَفْضِيلُ الْعَمَلِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ اللَّيَالِيِ مَعَ مُسَاوَاتِهَا لِقِيَامِ كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَتَفْضِيلُ الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَزْمِنَةِ.وَغَيْرُ ذَلِكَ.وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ الْكَثِيرُ مِنَ الْأَدِلَّةِ.

مِنْهَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}.

ج- تَفَاوُتُ الثَّوَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانُ:

16- تَفَضَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِتَضْعِيفِ الْأُجُورِ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ، فَجَعَلَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَفْضَلَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَالصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَفْضَلَ مِنَ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِهِ، وَكَتَفْضِيلِ عَرَفَةَ، وَالْمَطَافِ وَالْمَسْعَى وَمُزْدَلِفَةَ، وَمِنًى، وَمَرْمَى الْجِمَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْبِقَاعِ الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَفْضِيلِهَا عَلَى غَيْرِهَا.يَقُولُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ». د- تَفَاوُتُ الثَّوَابِ مِنْ حَيْثُ الْمَصْلَحَةُ فِي الْفِعْلِ:

17- مِنْ ذَلِكَ الْإِيمَانُ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ بِكَثْرَةِ ثَوَابِهِ، فَإِنَّ ثَوَابَهُ الْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ وَالْخُلُوصُ مِنَ النَّارِ.

وَصَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً.

بُطْلَانُ الثَّوَابِ:

18- لَا تَلَازُمَ بَيْنَ صِحَّةِ الْعِبَادَةِ وَإِجْزَائِهَا وَبَيْنَ بُطْلَانِ ثَوَابِهَا، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ قَدْ تَكُونُ صَحِيحَةً مُجْزِئَةً لِاسْتِكْمَالِ أَرْكَانِهَا وَشَرَائِطِهَا، وَلَكِنْ لَا يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهَا الثَّوَابَ، لِمَا يَقْتَرِنُ بِهَا مِنَ الْمَقَاصِدِ وَالنِّيَّاتِ الَّتِي تُبْطِلُ ثَمَرَتَهَا فِي الْآخِرَةِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».

وَمِنْ ذَلِكَ الرِّيَاءُ فَإِنَّهُ يُبْطِلُ ثَوَابَ الْعِبَادَةِ فِي الْجُمْلَةِ.

19- وَقَدْ يَصِحُّ الْعَمَلُ وَيَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ الثَّوَابَ وَلَكِنْ يُتْبِعُهُ بِمَا يُبْطِلُ هَذَا الثَّوَابَ، فَالْمَنُّ وَالْأَذَى يُبْطِلُ أَجْرَ الصَّدَقَةِ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: فَمَثَلُ صَاحِبِهَا وَبُطْلَانِ عَمَلِهِ {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا} وَمِنَ الْمَعَاصِي مَا يُبْطِلُ ثَوَابَ الْعِبَادَةِ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً».

قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا ثَوَابَ لَهُ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ مُجْزِئَةً فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ عَنْهُ.

20- وَالْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ يُبْطِلُ صِحَّةَ الْعَمَلِ وَثَوَابَهُ لقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكَتْ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}.

وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي: (رِدَّةٌ).

ثَانِيًا:

الثَّوَابُ فِي الْهِبَةِ:

21- الْمَقْصُودُ بِالثَّوَابِ فِي الْهِبَةِ الْعِوَضُ الْمَالِيُّ، وَالْأَصْلُ فِي الْهِبَةِ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا عِوَضٌ مَادِّيٌّ، لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ وَلَيْسَتْ مُعَاوَضَةً، إِلاَّ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعْوِيضُ فِيهَا وَتُسَمَّى هِبَةَ الثَّوَابِ، وَهِيَ الْهِبَةُ الَّتِي يَتِمُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا، وَالْعِوَضُ فِي الْهِبَةِ إِمَّا أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْعَقْدِ أَوْ لَا:

فَإِنِ اشْتُرِطَ فِي الْعَقْدِ وَكَانَ مَعْلُومًا صَحَّ الْعَقْدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَظْهَرِ نَظَرًا لِلْمَعْنَى عِنْدَهُمْ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ لِتَنَاقُضِهِ، فَإِنَّ لَفْظَ الْهِبَةِ يَقْتَضِي التَّبَرُّعَ.

وَإِذَا صَحَّ الْعَقْدُ اعْتُبِرَ بَيْعًا أَوْ كَالْبَيْعِ فِي الْجُمْلَةِ.وَيَكُونُ لَهُ أَحْكَامُ الْبَيْعِ فَيَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ الْخِيَارِ، وَحَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَحَقُّ الشُّفْعَةِ، وَيَسْقُطُ حَقُّ الرُّجُوعِ إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ اشْتَرَطُوا لِإِسْقَاطِ حَقِّ الرُّجُوعِ التَّقَابُضَ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَقْتَضِي أَنْ يُغَلَّبَ فِيهَا حُكْمُ الْهِبَةِ فَلَا تَثْبُتُ فِيهَا أَحْكَامُ الْبَيْعِ.

22- وَإِذَا اشْتُرِطَ الْعِوَضُ وَكَانَ مَجْهُولًا صَحَّ الْعَقْدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَمُقَابِلُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.إِلاَّ أَنَّ الْعَقْدَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُعْتَبَرُ هِبَةً ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، فَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا عَلَى أَصْلِ مَذْهَبِهِمُ الَّذِي يُجِيزُ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ، وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لِلْمَوْهُوبِ لَهُ دَفْعُ الْقِيمَةِ أَوْ رَدُّ الْهِبَةِ، فَإِذَا دَفَعَ الْقِيمَةَ أُلْزِمَ الْوَاهِبُ قَبُولَهَا، وَإِذَا لَمْ يَدْفَعْ كَانَ لِلْوَاهِبِ الرَّدُّ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ بُطْلَانُ الْعَقْدِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ.

23- وَإِنْ وَهَبَ مُطْلَقًا دُونَ تَقْيِيدٍ بِثَوَابٍ أَوْ عَدَمِهِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا ثَوَابَ إِنْ وَهَبَ الشَّخْصُ لِمَنْ هُوَ دُونَهُ، وَكَذَا الْأَعْلَى مِنْهُ فِي الْأَظْهَرِ وَلِنَظِيرِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُصَدَّقُ الْوَاهِبُ فِي قَصْدِهِ مَا لَمْ يَشْهَدِ الْعُرْفُ بِضِدِّهِ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لَا تَقْتَضِي ثَوَابًا، أَيْ عِوَضًا، وَالْعِوَضُ فِي الْهِبَةِ الْمُطْلَقَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ هُوَ قِيمَةُ الْمَوْهُوبِ أَوْ مَا يُعْتَبَرُ ثَوَابًا لِمِثْلِهِ عَادَةً.

24- وَمِنْ أَحْكَامِ هِبَةِ الثَّوَابِ- غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ، وَالْخِيَارِ، وَإِسْقَاطِ الرُّجُوعِ- أَنَّ وَلِيَّ الصَّغِيرِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَهَبَ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ هِبَةَ ثَوَابٍ، وَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهَا هِبَةٌ ابْتِدَاءً يَتَوَقَّفُ الْمِلْكُ فِيهَا عَلَى الْقَبْضِ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مُعَاوَضَةً انْتِهَاءً، وَالْوَلِيُّ لَا يَمْلِكُ الْهِبَةَ فَلَمْ يَنْعَقِدْ هِبَةً، فَلَا يُتَصَوَّرُ صَيْرُورَتُهَا مُعَاوَضَةً يَمْلِكُهَا الْوَلِيُّ كَالْبَيْعِ، وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْأَبِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَبِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَهَبَ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ هِبَةَ ثَوَابٍ؛ لِثُبُوتِ الْعِوَضِ فِيهَا فَكَانَتْ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ فَيَجُوزُ لِلْوَلِيِّ، كَالْبَيْعِ.

وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (هِبَةٌ- شُفْعَةٌ- خِيَارٌ).

- رحمهم الله-

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


9-موسوعة الفقه الكويتية (حلف)

حِلْفٌ

التَّعْرِيفُ

1- الْحِلْفُ لُغَةً الْعَهْدُ، وَقَدْ حَالَفَ فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا عَاهَدَهُ وَعَاقَدَهُ.فَهُوَ حَلِيفُهُ، وَتَحَالَفُوا أَيْ تَعَاهَدُوا، وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ: «حَالَفَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ فِي دَارِي أَيْ آخَى بَيْنَهُمْ».

وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: أَصْلُ الْحِلْفِ الْمُعَاقَدَةُ وَالْمُعَاهَدَةُ عَلَى التَّنَاصُرِ وَالتَّسَاعُدِ وَالِاتِّفَاقِ، وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: سُمِّيَ الْحِلْفُ حِلْفًا لِأَنَّهُ لَا يُعْقَدُ إِلاَّ بِالْحَلِفِ، أَيْ يُؤَكَّدُ بِالْأَيْمَانِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْمُؤَاخَاةُ وَالْمُوَالَاةُ:

2- قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَى الْمُؤَاخَاةِ أَنْ يَتَعَاقَدَ الرَّجُلَانِ عَلَى التَّنَاصُرِ وَالْمُوَاسَاةِ وَالتَّوَارُثِ حَتَّى يَصِيرَا كَالْأَخَوَيْنِ نَسَبًا، وَقَدْ يُسَمَّى ذَلِكَ حِلْفًا.وَإِذَا تَحَالَفَا عَلَى ذَلِكَ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَوْلًى لِلْآخَرِ بِالْمُوَالَاةِ (وَانْظُرْ: وَلَاءٌ).

ب- الْمُهَادَنَةُ:

3- الْمُهَادَنَةُ: الْمُصَالَحَةُ بَعْدَ الْحَرْبِ.

ج- الْأَمَانُ:

4- الْأَمَانُ لُغَةً السَّلَامَةُ، وَاصْطِلَاحًا: رَفْعُ اسْتِبَاحَةِ دَمِ الْحَرْبِيِّ وَرِقِّهِ وَمَالِهِ حِينَ قِتَالِهِ، أَوِ الْعَزْمِ عَلَيْهِ مَعَ اسْتِقْرَارِهِ تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ.

الْأَحْلَافُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ:

5- كَانَتِ الْأَحْلَافُ تُعْقَدُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَيْنَ فَرْدٍ وَقَبِيلَةٍ، أَوْ بَيْنَ فَرْدٍ وَفَرْدٍ، أَوْ بَيْنَ قَبِيلَةٍ وَقَبِيلَةٍ.

فَمِمَّا كَانَ بَيْنَ الْقَبَائِلِ حِلْفُ الْمُطَيَّبِينَ مِنْ قُرَيْشٍ.قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: وَهُمْ عَبْدُ مَنَافٍ، وَأَسَدٌ، وَزُهْرَةُ، وَتَيْمٌ رَهْطُ أَبِي بَكْرٍ- رضي الله عنه-.سُمُّوا بِذَلِكَ لَمَّا أَرَادَتْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ أَخْذَ مَا فِي يَدَيْ عَبْدِ الدَّارِ مِنَ الْحِجَابَةِ وَالرِّفَادَةِ وَاللِّوَاءِ وَالسِّقَايَةِ، وَأَبَتْ بَنُو عَبْدُ الدَّارِ، فَأَخْرَجَتْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ جَفْنَةً مَمْلُوءَةً طِيبًا فَوَضَعُوهَا لِأَحْلَافِهِمُ الْمَذْكُورِينَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ غَمَسُوا أَيْدِيهمْ فِيهَا وَتَعَاقَدُوا ثُمَّ مَسَحُوا الْكَعْبَةَ بِأَيْدِيهِمْ تَوْكِيدًا لِلْيَمِينِ فَسُمُّوا الْمُطَيَّبِينَ.وَتَعَاقَدَتْ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ وَحُلَفَاؤُهَا وَهُمْ جُمَحُ وَسَهْمٌ وَمَخْزُومٌ وَعَدِيُّ بْنُ كَعْبٍ رَهْطُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- عَلَى مَا أَرَادُوا مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ، فَسُمُّوا الْأَحْلَافَ.

فَكَانَ يُقَالُ لِأَبِي بَكْرٍ إِنَّهُ (مُطَيَّبِيٌّ) وَلِعُمَرَ إِنَّهُ (أَحْلَافِيٌّ).

وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ فِي قُرَيْشٍ حِلْفٌ آخَرُ هُوَ حِلْفُ الْفُضُولِ، وَقَدْ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِنَفْسِهِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَكَانَ سِنُّهُ إِذْ ذَاكَ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ عَامًا، وَقَدْ قَالَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ: «لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ، وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لأَجَبْتُ».زَادَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «تَحَالَفُوا أَنْ تُرَدَّ الْفُضُولُ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَلاَّ يَعِزَّ ظَالِمٌ مَظْلُومًا» وَمَعْنَى لأَجَبْتُ أَيْ لَنَصَرْتُ الْمَظْلُومَ إِذَا دَعَا بِهِ.

وَالْبُطُونُ الَّتِي تَحَالَفَتْ هَذَا الْحِلْفَ مِنْ قُرَيْشٍ هُمْ بَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، وَبَنُو أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَبَنُو زُهْرَةَ، وَبَنُو تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ، وَمِنْ بَنِي تَيْمٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ الَّذِي عُقِدَ الْحِلْفُ فِي دَارِهِ، تَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا عَلَى أَنْ لَا يَجِدُوا بِمَكَّةَ مَظْلُومًا مِنْ أَهْلِهَا وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ سَائِرِ النَّاسِ إِلاَّ قَامُوا مَعَهُ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ حَتَّى تُرَدَّ عَلَيْهِ مَظْلَمَتُهُ.

وَأَمَّا بَيْنَ الْأَفْرَادِ فَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعَاقِدُ الرَّجُلُ مِنْهُمُ الْآخَرَ فَيَقُولُ: «دَمِي دَمُكَ، وَهَدْمِي هَدْمُكَ، وَثَأْرِي ثَأْرُكَ، وَحَرْبِي حَرْبُكَ، وَسِلْمِي سِلْمُكَ، وَتَرِثُنِي وَأَرِثُكَ، وَتُطْلَبُ بِي وَأُطْلَبُ بِكَ، وَتَعْقِلُ عَنِّي وَأَعْقِلُ عَنْكَ» فَإِذَا قَبِلَ الْآخَرُ نَفَذَ بَيْنَهُمَا هَذَا التَّحَالُفُ.وَكَانَ الْمُتَحَالِفَانِ يَتَنَاصَرَانِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَيَمْنَعُ الرَّجُلُ حَلِيفَهُ وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا، وَيَقُومُ دُونَهُ، وَيَدْفَعُ عَنْهُ بِكُلِّ مُمْكِنٍ، حَتَّى يَمْنَعَ الْحُقُوقَ وَيَنْتَصِرَ بِهِ الظَّالِمُ فِي الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ وَالْعِنَادِ.

وَالتَّحَالُفُ بَيْنَ الْأَفْرَادِ عَلَى نَوْعَيْنِ: فَقَدْ يَكُونُ الِالْتِزَامُ مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ، بِأَنْ يَلْتَجِئَ رَجُلٌ قَدْ تَرَكَ عَشِيرَتَهُ، أَوْ لَا عَشِيرَةَ لَهُ، إِلَى رَجُلٍ ذِي مَنَعَةٍ فَيُحَالِفَهُ لِيَحْمِيَهُ وَيَتَحَمَّلَ عَنْهُ جَرَائِرَهُ، دُونَ الْتِزَامٍ مِنْ قِبَلِ الضَّعِيفِ بِالنُّصْرَةِ أَوِ الْعَقْلِ (الدِّيَةِ)، وَقَدْ كَانَ هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَاسْتَمَرَّ فِي الْإِسْلَامِ، فَكَانَ الْأَعْجَمِيُّ يُوَالِي فِي الْعَرَبِ، وَقَدْ يَكُونُ الِالْتِزَامُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ بِأَنْ يَنْصُرَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ وَيَرِثَهُ وَيَعْقِلَ عَنْهُ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْحِلْفِ:

أَوَّلًا: التَّحَالُفُ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمٍ:

6- لَا يُعْرَفُ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ التَّحَالُفَ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا كَانَ عَلَى أَنْ يَنْصُرَ كُلٌّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ الْآخَرَ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَعَلَى الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، أَوْ عَلَى أَنْ يَرِثَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ دُونَ ذَوِي قَرَابَتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْحِلْفَ يَكُونُ بَاطِلًا، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّنَاصُرُ عَلَى الْبَاطِلِ، وَلَا عَلَى مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا، قَالَ: تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ» قَالَ الْجَصَّاصُ: «كَانَ حِلْفُ الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يُعَاقِدَهُ فَيَقُولَ: دَمِي دَمُكَ وَهَدْمِي هَدْمُكَ وَتَرِثُنِي وَأَرِثُكَ، وَكَانَ فِي هَذَا الْحِلْفِ أَشْيَاءُ قَدْ حَظَرَهَا الْإِسْلَامُ، وَهُوَ أَنَّهُ يُشْرَطُ أَنْ يُحَامِيَ عَنْهُ وَيَبْذُلَ دَمَهُ دُونَهُ وَيَهْدِمَ مَا يَهْدِمُهُ فَيَنْصُرَهُ عَلَى الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَقَدْ أَبْطَلَتِ الشَّرِيعَةُ هَذَا الْحِلْفَ، وَأَوْجَبَتْ مَعُونَةَ الْمَظْلُومِ عَلَى الظَّالِمِ حَتَّى يَنْتَصِفَ مِنْهُ».

وَكَذَا وَرَدَ فِي الْمِيرَاثِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ الَّتِي حَدَّدَتْ نَصِيبَ كُلِّ وَارِثٍ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي آيَاتِ الْمَوَارِيثِ: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} فَمَنْ جَعَلَ مِيرَاثَهُ لِمَنْ وَالَاهُ وَعَاقَدَهُ دُونَ مَنْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمُ الْمِيرَاثَ، نَاقَضَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ، فَبَطَلَ عَقْدُهُ، وَحُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى نَافِذٌ.

7- أَمَّا التَّحَالُفُ عَلَى الْخَيْرِ وَالنُّصْرَةِ عَلَى الْحَقِّ وَعَلَى الْعَقْلِ وَالتَّوَارُثِ لِمَنْ لَا وَارِثَ لَهُ.فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ: «لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إِلاَّ شِدَّةً» وَفِي رِوَايَةٍ «وَلَكِنْ تَمَسَّكُوا بِحِلْفِ الْجَاهِلِيَّةِ» وَفِي رِوَايَةٍ «لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ وَحِلْفُ الْجَاهِلِيَّةِ مَشْدُودٌ» وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ: «فُوا بِحِلْفٍ فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُهُ الْإِسْلَامُ إِلاَّ شِدَّةً وَلَا تُحْدِثُوا حِلْفًا فِي الْإِسْلَامِ».

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ.

8- أ- فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُحَالِفَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا حَتَّى بَعْدَ وُرُودِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الْعَقْلِ وَالْمِيرَاثِ- وَلَا يَرِثُ إِلاَّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَأْتِي بَيَانُهُ- وَعَلَى النُّصْرَةِ وَالنَّصِيحَةِ وَالرِّفَادَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعَاوُنِ.

وَقَالُوا إِنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: نَفْيُ الْحِلْفِ عَلَى الْأُمُورِ الَّتِي كَانُوا يَتَعَاقَدُونَ عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَحَظَرَهَا الْإِسْلَامُ، وَهِيَ أَنْ يَنْصُرَهُ عَلَى الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَيَرِثَهُ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ وَابْنُ أُخْتِهِمْ مِنْهُمْ وَحَلِيفُهُمْ مِنْهُمْ».

وَقَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنهم-.

ثُمَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَدْ تَكُونُ الْمُوَالَاةُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ أَوْ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ وَالَى صَبِيٌّ عَاقِلٌ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ صَحَّ، أَوْ وَالَى الْعَبْدُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ آخَرَ يَصِحُّ كَذَلِكَ، وَيَكُونُ وَكِيلًا عَنْ سَيِّدِهِ بِعَقْدِ الْمُوَالَاةِ، وَلِمَنْ وَالَى رَجُلًا أَنْ يَنْقُلَ وَلَاءَهُ إِلَى غَيْرِهِ إِنْ لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ أَوْ عَنْ وَلَدِهِ، وَلَوْ عَقَلَ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ فَوَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا يَنْتَقِلُ عَنْ وَلَائِهِمْ إِلَى وَلَاءٍ خَاصٍّ، وَلَا بُدَّ فِي عَقْدِ الْمُوَالَاةِ أَنْ يُشْتَرَطَ الْعَقْلُ (أَيْ تَحَمُّلُ الدِّيَةِ) وَالْإِرْثُ.

وَفِي شَرْحِ السِّرَاجِيَّةِ: بَلْ مُجَرَّدُ الْعَقْدِ كَافٍ بِأَنْ يَقُولَ: وَالَيْتُكَ، وَيَقُولَ الْآخَرُ: قَبِلْتُ، فَيَنْعَقِدَ الْعَقْدُ وَيَرِثَ الْقَابِلُ، وَهَذَا إِجْمَالٌ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (وَلَاءٌ).

وَقَدْ أَوْرَدَ الطَّحَاوِيُّ فِي (شُرُوطِهِ) صِيغَةً لِعَقْدِ الْمُوَالَاةِ مُسْتَوْفِيَةً لِلشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

9- ب- وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى الْأَخْذِ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ أَحْلَافَ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَمِرُّ التَّنَاصُرُ بِهَا حَتَّى بَعْدَ هَذَا الْحَدِيثِ، لَكِنْ لَا يَكُونُ إِلاَّ تَنَاصُرًا عَلَى الْحَقِّ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْخَيْرِ، وَلَا تَقْتَضِي مِيرَاثًا لِكَوْنِ التَّوَارُثِ بِهَا مَنْسُوخًا، لَكِنِ الْأَحْلَافُ الَّتِي عُقِدَتْ فِي الْإِسْلَامِ، أَوْ تُعْقَدُ مِنْ بَعْدِ وُرُودِ الْحَدِيثِ مَنْقُوضَةٌ، لِكَوْنِ هَذَا الْحَدِيثِ نَاسِخًا لِإِجَازَةِ التَّحَالُفِ الَّتِي عُمِلَ بِهَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ أُمِرُوا أَنْ لَا يُنْشِئُوا بَعْدَ ذَلِكَ مُعَاقَدَةً كَمَا عَبَّرَ ابْنُ كَثِيرٍ.

وَوَجْهُهُ أَنَّ الْإِسْلَامَ وَحَّدَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ بِمَعْنَى تَحَالُفٍ شَامِلٍ لِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ يَقْتَضِي التَّنَاصُرَ وَالتَّعَاوُنَ بَيْنَهُمْ عَلَى مَنْ قَصَدَ بَعْضَهُمْ بِظُلْمٍ، لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وَقَوْلِهُ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}

وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» وَقَوْلِهِ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» وَقَوْلِهِ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ».وَقَوْلِهِ: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهْم يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ».

فَمَنْ كَانَ قَائِمًا بِوَاجِبِ الْإِيمَانِ كَانَ أَخًا لِكُلِّ مُؤْمِنٍ، وَوَجَبَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَقُومَ بِحُقُوقِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمَا عَقْدٌ خَاصٌّ، فَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَدْ عَقَدَا الْأُخُوَّةَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وَقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «وَدِدْتُ أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ إِخْوَانِي» وَمَنْ لَمْ يَكُنْ خَارِجًا عَنْ حُقُوقِ الْإِيمَانِ وَجَبَ أَنْ يُعَامَلَ بِمُوجَبِ ذَلِكَ، فَيُحْمَدُ عَلَى حَسَنَاتِهِ وَيُوَالَى عَلَيْهَا وَيُنْهَى عَنْ سَيِّئَاتِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَيْهَا.كَفُسَّاقِ أَهْلِ الْمِلَّةِ إِذْ هُمْ مُسْتَحِقُّونَ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَلِلْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ.

قَالُوا: وَأَمَّا اسْتِمْرَارُ الْعَمَلِ بِأَحْلَافِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي التَّنَاصُرِ فَيُؤَيِّدُهُ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ ذِكْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لأَجَبْتُ» أَيْ لَنَصَرْتُ الْمُسْتَنْصِرَ بِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ «شَهِدْتُ حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ وَأَنَا غُلَامٌ مَعَ عُمُومَتِي فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ وَأَنِّي أَنْكُثُهُ».

وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي هُوَ الْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ مَا هُوَ مِنْ أَحْلَافِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَيَبْطُلُ مِنْهُ مَا يُخَالِفُ حُكْمَ الْإِسْلَامِ، وَيَبْقَى مَا عَدَاهُ عَلَى حَالِهِ، فَيَسْتَمِرُّ حُكْمُهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَبَيْنَ مَا هُوَ مِنْ أَحْلَافِ الْإِسْلَامِ فَيُنْقَضُ.فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ- يَعْنِي {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} - فَهُوَ جَاهِلِيٌّ، وَمَا بَعْدَهَا إِسْلَامِيٌّ، وَعَنْ عَلِيٍّ: مَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} جَاهِلِيٌّ، وَمَا بَعْدَهَا إِسْلَامِيٌّ، وَعَنْ عُثْمَانَ: مَا كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَهُوَ جَاهِلِيٌّ وَمَا بَعْدَهَا إِسْلَامِيٌّ.وَعَنْ عُمَرَ: كُلُّ حِلْفٍ كَانَ قَبْلَ الْحُدَيْبِيَةِ فَهُوَ مَشْدُودٌ وَكُلُّ حِلْفٍ بَعْدَهَا مَنْقُوضٌ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَأَظُنُّ قَوْلَ عُمَرَ أَقْوَاهَا.أَيْ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- آخَى بَيْنَهُمْ فِي الْمَدِينَةِ وَذَلِكَ يَنْفِي الْقَوْلَيْنِ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ.

10- وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُعْقَدَ حِلْفٌ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمٍ عَلَى التَّنَاصُرِ عَلَى الْحَقِّ وَالنَّصِيحَةِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْخَيْرِ حَتَّى وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ وُرُودِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلَا تَوَارُثَ بِهِ.قَالَ النَّوَوِيُّ: «الْمُؤَاخَاةُ فِي الْإِسْلَامِ، وَالْمُحَالَفَةُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَالتَّنَاصُرُ فِي الدِّينِ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَإِقَامَةِ الْحَقِّ، هَذَا بَاقٍ لَمْ يُنْسَخْ» قَالَ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ: «وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إِلاَّ شِدَّةً» وَأَمَّا قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ» فَالْمُرَادُ بِهِ حِلْفُ التَّوَارُثِ وَالْحِلْفُ عَلَى مَا مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهُ.

أَطْوَارُ التَّوَارُثِ بِالْحَلِفِ فِي الْإِسْلَامِ:

11- لَا تَخْتَلِفُ كَلِمَةُ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ التَّوَارُثَ بِالْحِلْفِ كَانَ مَعْمُولًا بِهِ أَوَّلًا فِي الْإِسْلَامِ، وَقَدْ آخَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَكَانَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَخٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَتَوَارَثُوا بِذَلِكَ، فَكَانَ الْأَنْصَارِيُّ إِذَا مَاتَ يَرِثُهُ أَخُوهُ الْمُهَاجِرِيُّ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ مِنْهَا:

1- مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَالطَّبَرِيُّ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ فِي قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قَالَ: وَرَثَةً {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ}.

قَالَ: كَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَرِثَ الْمُهَاجِرُ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نُسِخَتْ.ثُمَّ قَالَ {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} إِلاَّ النَّصْرَ وَالرِّفَادَةَ وَالنَّصِيحَةَ، وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ».

وَنَقَلَ الطَّبَرِيُّ عَنِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ «كَانَ الرَّجُلُ يُحَالِفُ الرَّجُلَ لَيْسَ بَيْنَهُمَا نَسَبٌ فَيَرِثُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَنُسِخَ ذَلِكَ» وَعَاقَدَ أَبُو بَكْرٍ- رضي الله عنه- مَوْلًى فَوَرِثَهُ.

وَلَا تَخْتَلِفُ كَلِمَةُ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ التَّوَارُثَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مَنْسُوخٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي النَّاسِخِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: النَّاسِخُ قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} وَقِيلَ: بَلِ الَّتِي فِي آخِرِ الْأَنْفَالِ.

وَقِيلَ: بَلْ قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} أَيْ يَرِثُونَ كُلَّ الْمَالِ، وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أَيْ مِنَ النَّصِيحَةِ وَالنَّصْرِ، دُونَ الْمِيرَاثِ، وَهَذَا قَوْلُ الطَّبَرِيِّ.

وَقِيلَ: حَصَلَ النَّسْخُ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ، فَنُسِخَ الْأَوَّلُ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} أَيْ وَرَثَةً يَرِثُونَ، وَالْمَوْلَى هُنَا هُوَ الْقَرِيبُ كَالْأَخِ وَابْنِ الْعَمِّ، مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ.

وَقُرِئَ: (عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا) فَقَدْ نَسَخَتِ انْفِرَادَ الْحَلِيفِ لِكُلِّ الْمَالِ، وَجَمَعَتْ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، فَجَعَلَتِ الْمَالَ لِلْأَقَارِبِ، وَأَمَرَتْ بِإِعْطَاءِ الْحَلِيفِ نَصِيبًا، فَكَانُوا يُعْطُونَهُ السُّدُسَ، قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} أَيْ قَدْ شَهِدَ مُعَاقَدَتَكُمْ إِيَّاهُمْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْوَفَاءَ.قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ.

قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ الرَّجُلُ يُعَاقِدُ الرَّجُلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أُمِرُوا أَنْ يُؤْتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ وَهُوَ السُّدُسُ، ثُمَّ نُسِخَ بِالْمِيرَاثِ، فَقَالَ: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَرُوِيَ مِنْ طُرُقٍ شَتَّى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ.

قَالَ: وَيُنَزَّلُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى هَذَا.ثُمَّ نُسِخَ هَذَا بِآيَةِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ.وَخُصَّ الْمِيرَاثُ بِالْعَصَبَةِ، وَبَقِيَ لِلْمُعَاقِدِ النَّصْرُ وَالْإِرْفَادُ وَغَيْرُهُمَا.قَالَ وَعَلَى هَذَا يَتَنَزَّلُ بَقِيَّةُ الْآثَارِ، لَكِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِ النَّاسِخِ الثَّانِي.

التَّوَارُثُ بِالْحِلْفِ:

12- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي إِرْثِ الْحَلِيفِ مِنْ حَلِيفِهِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ مِيرَاثَ الْحَلِيفِ مَنْسُوخٌ أَصْلًا، فَلَا تَوَارُثَ بِالْحِلْفِ، وَإِنَّمَا الْمِيرَاثُ بِرَحِمٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ وَلَاءٍ.فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فَتَرِكَتُهُ لِلْمُسْلِمِينَ أَيْ فَتَكُونُ لِبَيْتِ الْمَالِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: إِلَى أَنَّ إِرْثَ الْحَلِيفِ بَاقٍ، قَالُوا: يَرِثُ الْحَلِيفُ كُلَّ الْمَالِ، لَكِنْ بَعْدَ سَائِرِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَرِيبٌ وَلَا وَارِثٌ بِنِكَاحٍ وَلَا مَوْلَى عَتَاقَةٍ فَمِيرَاثُهُ لِحَلِيفِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِبَيْتِ الْمَالِ.وَنَقَلَ الْجَصَّاصُ نَحْوَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنهما- وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَإِبْرَاهِيمِ وَالزُّهْرِيِّ.وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأُمُورٍ مِنْهَا:

أ- قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} فَإِنَّ «أَوْلَى» صِيغَةُ تَفْضِيلٍ تُثْبِتُ أَصْلَ الْمِيرَاثِ لِلْحَلِيفِ، لَكِنْ تَجْعَلُ الْقَرِيبَ أَوْلَى مِنْهُ.قَالَ الْجَصَّاصُ: جَعَلَتِ الْآيَةُ ذَوِي الْأَرْحَامِ أَوْلَى مِنْ مَوَالِي الْمُعَاقَدَةِ، فَنُسِخَ مِيرَاثُهُمْ فِي حَالِ وُجُودِ الْقَرَابَاتِ، وَهُوَ بَاقٍ لَهُمْ إِذَا فُقِدَ الْأَقْرِبَاءُ، عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، فَمَتَى فُقِدُوا وَجَبَ مِيرَاثُ الْحَلِيفِ بِقَضِيَّةِ الْآيَةِ، إِذْ كَانَتْ إِنَّمَا نَقَلَتْ مَا كَانَ لِلْحُلَفَاءِ إِلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ إِذَا وُجِدُوا، فَإِذَا لَمْ يُوجَدُوا فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ مَا يُوجِبُ نَسْخَهَا ا هـ.

ب- رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: «كَتَبَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَلَى كُلِّ بَطْنٍ عُقُولَهُ.ثُمَّ كَتَبَ: أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَتَوَالَى مَوْلَى رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ».

فَأَجَازَتْ أَنْ يَتَحَوَّلَ الرَّجُلُ عَنْ مُوَالَاةِ قَوْمٍ إِلَى مُوَالَاةِ غَيْرِهِمْ بِإِذْنِهِمْ، فَهَذَا فِي مَوْلَى التَّعَاقُدِ، لِأَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ لَا يَتَحَوَّلُ لِمَا فِي الْحَدِيثِ: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ».

ج- مَا رَوَى تَمِيمٌ الدَّارِيُّ أَنَّهُ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: مَا السُّنَّةُ فِي الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ يُسْلِمُ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِمَحْيَاهُ وَمَمَاتِهِ» يَعْنِي مَحْيَاهُ فِي تَحَمُّلِ الْعَقْلِ عَنْهُ وَمَمَاتَهُ فِي الْإِرْثِ عَنْهُ وَلِمَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ التَّوَارُثِ بِالْحِلْفِ يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (إِرْثٌ).

د- مَا رُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ- رضي الله عنه- كَانَ قَدْ عَاقَدَ رَجُلًا يُسَمَّى زَيْدَ بْنَ الْحَتَّاتِ، فَمَاتَ فَحَازَ مُعَاوِيَةُ- رضي الله عنه- مِيرَاثَهُ.

هـ- وَاسْتَدَلُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِغَيْرِ وَارِثٍ، قَالُوا: إِنْ وَصَّى لِغَيْرِ وَارِثٍ بِجَمِيعِ مَالِهِ، فَمَاتَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ، جَازَتِ الْوَصِيَّةُ، فَكَذَا هَذَا.

وَانْظُرْ لِتَمَامِ الْقَوْلِ فِي حُكْمِ التَّوَارُثِ بِالْحِلْفِ مُصْطَلَحَ (إِرْثٌ- 52).

أَحْكَامُ الْحَلِيفِ فِي غَيْرِ التَّوَارُثِ:

13- ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ لِلْحَلِيفِ تَزْوِيجَ الْمَرْأَةِ فَهُوَ أَحَدُ أَوْلِيَائِهَا.لَكِنَّ تَرْتِيبَهُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ جَمِيعِ الْعَصَبَاتِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ، وَهُوَ أَوْلَى مِنَ الْقَاضِي وَالسُّلْطَانِ.وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا وِلَايَةَ فِي التَّزْوِيجِ لِذَوِي الْأَرْحَامِ وَلَا لِمَوْلَى الْمُوَالَاةِ وَهُوَ الْحَلِيفُ.وَاخْتَلَفَ النَّقْلُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَقِيلَ: قَوْلُهُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ: كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ.

وَلَيْسَ لِلْحَلِيفِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ فِي وِلَايَةِ التَّزْوِيجِ مَدْخَلٌ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ فِي أَوْلَوِيَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ: إِنَّ الْأَوْلِيَاءَ فِيهَا عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ فِي النِّكَاحِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ لِلْحَلِيفِ وِلَايَةً فِيهَا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي النِّكَاحِ مِنَ التَّرْتِيبِ.

وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَا عَقْلَ بِالْحِلْفِ.

وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: إِنَّ الرَّجُلَ وَعَشِيرَتَهُ يَعْقِلُونَ عَنْ مَوْلَاهُ بِالْوَلَاءِ، وَإِذَا عَقَلَ عَنْهُ لَزِمَهُ الْوَلَاءُ فَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ بَعْدُ إِلاَّ بِرِضَاهُ.وَلُزُومُ الْعَقْلِ عَنْ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ مَنْقُولٌ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ. (وَانْظُرْ: عَاقِلَةٌ).

ثَانِيًا: التَّحَالُفُ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ:

14- يَرِدُ هُنَا الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ فِي مُحَالَفَةِ الْفَرْدِ لِلْفَرْدِ، غَيْرَ أَنْ لَا تَوَارُثَ هُنَا وَلَا تَعَاقُلَ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْحِلْفِ عِنْدَ مَنْ أَجَازَهُ مُجَرَّدُ التَّنَاصُرِ عَلَى الْحَقِّ وَدَفْعِ الظُّلْمِ.

وَيَسْتَدِلُّ الْمُجِيزُونَ لِمِثْلِ هَذَا التَّحَالُفِ بِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: «حَالَفَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ فِي دَارِي مَرَّتَيْنِ».

وَقَالُوا: إِنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ» الْمُرَادُ بِهِ مَا كَانَ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْإِعَانَةِ بِالْحِلْفِ فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.

قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: أَصْلُ الْحِلْفِ الْمُعَاقَدَةُ وَالْمُعَاهَدَةُ عَلَى التَّسَاعُدِ وَالتَّعَاضُدِ وَالِاتِّفَاقِ، فَمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى الْفِتَنِ وَالْقِتَالِ وَالْغَارَاتِ، فَذَلِكَ الَّذِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى نَصْرِ الْمَظْلُومِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، كَحِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ فَذَلِكَ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إِلاَّ شِدَّةً» يُرِيدُ: مِنَ الْمُعَاقَدَةِ عَلَى الْخَيْرِ وَنُصْرَةِ الْحَقِّ.وَبِذَلِكَ يَجْتَمِعُ الْحَدِيثَانِ.وَهَذَا هُوَ الْحِلْفُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْإِسْلَامُ.

وَتَقَدَّمَ النَّقْلُ عَنِ النَّوَوِيِّ بِمِثْلِ ذَلِكَ (ف 10).

وَأَمَّا الَّذِينَ خَالَفُوا فِي جَوَازِ ذَلِكَ وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ فَقَدِ احْتَجُّوا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ «لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ» وَبِأَنَّ الْإِسْلَامَ جَعَلَ الْمُسْلِمِينَ يَدًا وَاحِدَةً وَأَوْجَبَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ نُصْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَالْقِيَامَ عَلَى الْبَاغِي حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْحَقِّ، كَمَا تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ عَنِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ (ف9).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


10-موسوعة الفقه الكويتية (عفو 1)

عَفْو -1

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الْعَفْوِ فِي اللُّغَةِ الْإِسْقَاطُ، قَالَ تَعَالَى: {وَاعْفُ عَنَّا} وَالْكَثْرَةُ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {حَتَّى عَفَوْا}.أَيْ: كَثُرُوا، وَالذَّهَابُ وَالطَّمْسُ وَالْمَحْوُ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ: عَفَتِ الدِّيَارُ، وَالْإِعْطَاءُ، قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: عَفَا يَعْفُو: إِذَا أَعْطَى، وَقِيلَ: الْعَفْوُ مَا أَتَى بِغَيْرِ مَسْأَلَةٍ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: يَسْتَعْمِلُ الْفُقَهَاءُ الْعَفْوَ غَالِبًا بِمَعْنَى الْإِسْقَاطِ وَالتَّجَاوُزِ

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الصَّفْحُ:

2- الصَّفْحُ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ، وَأَصْلُهُ: الْإِعْرَاضُ بِصَفْحَةِ الْوَجْهِ عَنِ التَّلَفُّتِ إِلَى مَا كَانَ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}.

قَالَ الرَّاغِبُ: وَالصَّفْحُ أَبْلَغُ مِنَ الْعَفْوِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} وَقَدْ يَعْفُو الْإِنْسَانُ وَلَا يَصْفَحُ.

ب- الْمَغْفِرَةُ:

3- الْمَغْفِرَةُ مِنَ الْغَفْرِ مَصْدَرُ غَفَرَ، وَأَصْلُهُ السَّتْرُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: الصَّبْغُ أَغْفَرُ لِلْوَسَخِ، أَيْ أَسْتَرُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: أَنْ يَسْتُرَ الْقَادِرُ الْقَبِيحَ الصَّادِرَ مِمَّنْ هُوَ تَحْتَ قُدْرَتِهِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ أَنَّ الْعَفْوَ يَقْتَضِي إِسْقَاطَ اللَّوْمِ وَالذَّمِّ وَلَا يَقْتَضِي إِيجَابَ الثَّوَابِ، وَالْمَغْفِرَةَ تَقْتَضِي إِسْقَاطَ الْعِقَابِ وَهُوَ: إِيجَابُ الثَّوَابِ، فَلَا يَسْتَحِقُّهَا إِلاَّ الْمُؤْمِنُ الْمُسْتَحِقُّ لِلثَّوَابِ

ج- الْإِسْقَاطُ:

4- الْإِسْقَاطُ: هُوَ إِزَالَةُ الْمِلْكِ أَوِ الْحَقِّ لَا إِلَى مَالِكٍ.

وَالْعَفْوُ عَلَى إِطْلَاقِهِ أَعَمُّ مِنَ الْإِسْقَاطِ لِتَعَدُّدِ اسْتِعْمَالَاتِهِ د- الصُّلْحُ:

5- الصُّلْحُ عَقْدٌ يَرْفَعُ النِّزَاعَ

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْعَفْوِ وَالصُّلْحِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، فَالصُّلْحُ أَعَمُّ مِنَ الْعَفْوِ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

6- يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلْعَفْوِ بِاخْتِلَافِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَقُّ، فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ خَالِصًا لِلْعَبْدِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَالْحُدُودِ مَثَلًا، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ بَعْدَ رَفْعِ الْأَمْرِ إِلَى الْحَاكِمِ.

وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي غَيْرِ الْحُدُودِ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ الْعَفْوَ فِي الْجُمْلَةِ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي يَعْتَبِرُهَا الشَّارِعُ مُؤَدِّيَةً إِلَى ذَلِكَ تَفَضُّلًا مِنْهُ وَرَحْمَةً وَرَفْعًا لِلْحَرَجِ

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِسْقَاط ف 39 وَمَا بَعْدَهَا).

الْعَفْوُ فِي الْعِبَادَاتِ:

أَوَّلًا- الْعَفْوُ عَنْ بَعْضِ النَّجَاسَاتِ:

7- اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يُعْفَى عَنْهُ مِنَ النَّجَاسَاتِ، كَمَا اخْتَلَفَتْ آرَاؤُهُمْ فِي التَّقْدِيرَاتِ الَّتِي تُعْتَبَرُ فِي الْعَفْوِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ النَّجَاسَةِ الْمُخَفَّفَةِ وَالنَّجَاسَةِ الْمُغَلَّظَةِ وَقَالُوا: إِنَّهُ يُعْفَى عَنِ الْمُغَلَّظَةِ إِذَا أَصَابَتِ الثَّوْبَ أَوِ الْبَدَنَ بِشَرْطِ أَنْ لَا تَزِيدَ عَنِ الدِّرْهَمِ، قَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ: وَقَدْرُ الدِّرْهَمِ وَمَا دُونَهُ مِنَ النَّجَسِ الْمُغَلَّظِ كَالدَّمِ وَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَخُرْءِ الدَّجَاجِ وَبَوْلِ الْحِمَارِ، جَازَتِ الصَّلَاةُ مَعَهُ.

أَمَّا النَّجَاسَةُ الْمُخَفَّفَةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الَّذِي يُعْفَى عَنْهُ مِنْهَا عَلَى رِوَايَاتٍ: قَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ: إِنْ كَانَتْ كَبَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ جَازَتِ الصَّلَاةُ مَعَهَا حَتَّى يَبْلُغَ رُبُعَ الثَّوْبِ.

وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: حَدُّ الْكَثِيرِ الَّذِي لَا يُعْفَى عَنْهُ مِنَ النَّجَاسَةِ الْخَفِيفَةِ هُوَ: الْكَثِيرُ الْفَاحِشُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.

وَفَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ الدَّمِ- وَمَا مَعَهُ مِنْ قَيْحٍ وَصَدِيدٍ- وَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ، فَيَقُولُونَ بِالْعَفْوِ عَنْ قَدْرِ دِرْهَمٍ مِنْ دَمٍ وَقَيْحٍ وَصَدِيدٍ، وَالْمُرَادُ بِالدِّرْهَمِ الدِّرْهَمُ الْبَغْلِيُّ وَهُوَ الدَّائِرَةُ السَّوْدَاءُ الْكَائِنَةُ فِي ذِرَاعِ الْبَغْلِ، قَالَ الصَّاوِيُّ: إِنَّمَا اخْتَصَّ الْعَفْوُ بِالدَّمِ وَمَا مَعَهُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو عَنْهُ، فَالِاحْتِرَازُ عَنْ يَسِيرِهِ عَسِرٌ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى الْعَفْوِ عَنِ الْيَسِيرِ مِنَ الدَّمِ وَالْقَيْحِ وَمَا يَعْسُرُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَتَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، كَدَمِ الْقُرُوحِ وَالدَّمَامِلِ وَالْبَرَاغِيثِ وَمَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ، وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَالضَّابِطُ فِي الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ الْعُرْفُ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ نَجَاسَةٍ وَلَوْ لَمْ يُدْرِكْهَا الطَّرْفُ كَالَّذِي يَعْلَقُ بِأَرْجُلِ ذُبَابٍ وَنَحْوِهِ، وَإِنَّمَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ وَمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ مِنَ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ إِلاَّ دَمَ الْحَيَوَانَاتِ النَّجِسَةِ فَلَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ دَمِهَا كَسَائِرِ فَضَلَاتِهَا، وَلَا يُعْفَى عَنِ الدِّمَاءِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنَ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْبَوْلِ أَوِ الْغَائِطِ.

وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ الْيَسِيرَ مَا لَا يَفْحُشُ فِي الْقَلْبِ.وَمِمَّا بَحَثَهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْعَفْوِ عَنِ النَّجَاسَاتِ: أ- الْعَفْوُ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ:

8- يَرَى أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ الْعَفْوَ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ فِي الْجُمْلَةِ.

وَيُقَيِّدُ الشَّافِعِيَّةُ الْعَفْوَ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ بِقُيُودٍ عَبَّرَ عَنْهَا الْبَيْجُورِيُّ بِقَوْلِهِ: خَرَجَ بِالْيَسِيرِ الْكَثِيرُ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الشَّخْصِ نَفْسِهِ وَلَمْ يَكُنْ بِفِعْلِهِ وَلَمْ يَخْتَلِطْ بِأَجْنَبِيٍّ وَلَمْ يُجَاوِزْ مَحَلَّهُ، عُفِيَ عَنْهُ وَإِلاَّ فَلَا، وَمَحَلُّ الْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ فِي الثَّوْبِ عِنْدَهُمْ إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ وَلَوْ لِلتَّجَمُّلِ وَكَانَ مَلْبُوسًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهِ وَمَا لَوْ فَرَشَهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ أَوْ حَمَلَهُ وَصَلَّى بِهِ فَلَا يُعْفَى عَنْهُ.

وَقَالَ الْحَطَّابُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: قَدِ اخْتُلِفَ فِي الْيَسِيرِ الْمَذْكُورِ، هَلْ يُغْتَفَرُ مُطْلَقًا عَلَى جَمِيعِ الْوُجُوهِ حَتَّى يَصِيرَ كَالْمَائِعِ الطَّاهِرِ أَوِ اغْتِفَارُهُ مَقْصُورٌ عَلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَقْطَعُهَا لِأَجْلِهِ إِذَا ذَكَرَهُ فِيهَا وَلَا يُعِيدُهَا، وَأَمَّا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَيُؤْمَرُ بِغَسْلِهِ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ، قَالَهُ فِي التَّوْضِيحِ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الْعِرَاقِيِّينَ.قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّجَاسَاتِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا، وَالثَّانِي عَزَاهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْمُصَنِّفُ لِلْمُدَوَّنَةِ، وَعَزَاهُ صَاحِبُ الطِّرَازِ وَابْنُ عَرَفَةَ نَاقِلًا عَنِ الْمَازِرِيِّ لِابْنِ حَبِيبٍ كَذَلِكَ ابْنُ نَاجِي، قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ: هُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَصَرَّحَ ابْنُ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِأَنَّ قَلِيلَ دَمِ الْحَيْضِ وَكَثِيرَهُ نَجِسٌ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ قَيَّدُوا الْعَفْوَ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ حَيَوَانٍ طَاهِرٍ فِي الْحَيَاةِ، آدَمِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، يُؤْكَلُ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ أَوْ لَا كَالْهِرِّ، بِخِلَافِ الْحَيَوَانِ النَّجِسِ كَالْكَلْبِ وَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ فَلَا يُعْفَى عَنْ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ مِنْهُ، وَلَا يُعْفِي عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ الْخَارِجِ مِنَ السَّبِيلَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ.كَمَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ دَمِ الْحَيْضِ وَكَذَا دَمُ النِّفَاسِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: كَثِيرُ الدَّمِ وَقَلِيلُهُ سَوَاءٌ.وَنَحْوُهُ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ؛ لِأَنَّهُ نَجَاسَةٌ فَأَشْبَهَ الْبَوْلَ.وَحُكْمُ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ حُكْمُ الدَّمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.

ب- الْعَفْوُ عَنْ طِينِ الشَّوَارِعِ:

9- يَرَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الْعَفْوَ عَنْ يَسِيرِ طِينِ الشَّارِعِ النَّجِسِ لِعُسْرِ تَجَنُّبِهِ، قَالَ الزَّرْكَشِيُّ تَعْلِيقًا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَوْضُوعِ: وَقَضِيَّةُ إِطْلَاقِهِمُ الْعَفْوَ عَنْهُ وَلَوِ اخْتَلَطَ بِنَجَاسَةِ كَلْبٍ أَوْ نَحْوِهِ- وَهُوَ الْمُتَّجِهُ لَا سِيَّمَا فِي مَوْضِعٍ يَكْثُرُ فِيهِ الْكِلَابُ- لِأَنَّ الشَّوَارِعَ مَعْدِنُ النَّجَاسَاتِ.

وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِذْ قَالُوا: إِنَّ طِينَ الشَّوَارِعِ الَّذِي فِيهِ نَجَاسَةٌ عَفْوٌ إِلاَّ إِذَا عُلِمَ عَيْنُ النَّجَاسَةِ وَالِاحْتِيَاطُ فِي الصَّلَاةِ غَسْلُهُ.

وَيَقُولُ الْمَالِكِيَّةُ: الْأَحْوَالُ أَرْبَعَةٌ: الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ: كَوْنُ الطِّينِ أَكْثَرَ مِنَ النَّجَاسَةِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهَا تَحْقِيقًا أَوْ ظَنًّا، وَلَا إِشْكَالَ فِي الْعَفْوِ فِيهِمَا، وَالثَّالِثَةُ: غَلَبَةُ النَّجَاسَةِ عَلَى الطِّينِ تَحْقِيقًا أَوْ ظَنًّا، وَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ عَلَى ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ، وَيَجِبُ غَسْلُهُ عَلَى مَا مَشَى عَلَيْهِ الدَّرْدِيرُ تَبَعًا لِابْنِ أَبِي زَيْدٍ. وَالرَّابِعَةُ: أَنْ تَكُونَ عَيْنُهَا قَائِمَةً وَهِيَ لَا عَفْوَ فِيهَا اتِّفَاقًا

ج- الْعَفْوُ عَنْ مَا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ مِنَ النَّجَاسَاتِ:

10- يَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُعْفَى عَنِ النَّجَاسَةِ الَّتِي لَا يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِ نَجَاسَةٍ وَلَوْ لَمْ يُدْرِكْهَا الطَّرْفُ كَالَّذِي يَعْلَقُ بِأَرْجُلِ ذُبَابٍ وَنَحْوِهِ؛ لِعُمُومِ قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}

د- الْعَفْوُ عَنْ دَمِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً:

11- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ دَمَ الْبَرَاغِيثِ وَالْبَقِّ وَالْقَمْلِ وَنَحْوِهَا مِنْ كُلِّ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةً طَاهِرٌ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: دَمُ الْبَرَاغِيثِ يُعْفَى عَنْ قَلِيلِهِ فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ، وَفِي كَثِيرِهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا الْعَفْوُ، وَيَجْرِي الْوَجْهَانِ فِي دَمِ الْقَمْلِ وَالْبَعُوضِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (نَجَاسَة)

ثَانِيًا- الْعَفْوُ فِي الزَّكَاةِ:

12- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا بَيْنَ النِّصَابَيْنِ مِنَ الْأَنْعَامِ هَلْ فِيهِ زَكَاةٌ أَمْ لَا؟

فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمَالِكٌ فِي الصَّحِيحِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ فِي النِّصَابِ فَقَطْ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَوْقَاصِ عَفْوٌ.

وَذَهَبَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ، وَالْبُوَيْطِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ يَتَعَلَّقُ بِالْجَمِيعِ.

أَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْعَفْوَ يَخْتَصُّ فِي زَكَاةِ السَّائِمَةِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ كَالنَّقْدَيْنِ وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ بِحِسَابِهِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ: إِنَّ الْعَفْوَ يَجْرِي فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ حَتَّى فِي النَّقْدَيْنِ، وَمَا زَادَ عَلَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ عَفْوٌ مَا لَمْ يَبْلُغْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَفِيهَا دِرْهَمٌ آخَرُ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي: (أَوْقَاص ف 4 وَمَا بَعْدَهَا) وَفِي: (زَكَاة ف 72)

ثَالِثًا- الْعَفْوُ فِي الصِّيَامِ:

13- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ وَصَلَ جَوْفَ الصَّائِمِ ذُبَابٌ أَوْ غُبَارُ الطَّرِيقِ، أَوْ غَرْبَلَةُ الدَّقِيقِ، أَوْ مَا تَبَقَّى بَيْنَ الْأَسْنَانِ مِنْ طَعَامٍ، فَجَرَى بِهِ رِيقُهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَعَجَزَ عَنْ تَمْيِيزِهِ وَمَجِّهِ- لَمْ يُفْطِرْ فِي كُلِّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ ذَلِكَ مِمَّا يَعْسُرُ.

وَكَذَا لَوْ دَمِيَتْ لِثَتُهُ وَلَمْ يَجِدْ مَاءً وَشَقَّ عَلَيْهِ الْبَصْقُ عُفِيَ عَنْ أَثَرِهِ، وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ فِيمَنْ عَمَّتْ بَلْوَاهُ بِذَلِكَ بِحَيْثُ يَجْرِي دَائِمًا أَوْ غَالِبًا، أَنْ يُسَامَحَ بِمَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فَيَكْفِي بَصْقُهُ الدَّمَ وَيُعْفَى عَنْ أَثَرِهِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (صَوْم ف 76 وَمَا بَعْدَهَا) رَابِعًا- الْعَفْوُ فِي الْحَجِّ:

14- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنْ لَبِسَ الْمُحْرِمُ الْمَخِيطَ أَوْ تَطَيَّبَ أَوْ غَطَّى رَأْسَهُ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا أَوْ مُكْرَهًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا أَوْ مُكْرَهًا.

وَفَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الطِّيبُ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (تَطَيُّب ف 12 وَ 15)

الْعَفْوُ فِي الْمُعَامَلَاتِ:

أَوَّلًا- الْعَفْوُ عَنِ الشُّفْعَةِ:

15- الْعَفْوُ عَنِ الشُّفْعَةِ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ الرَّشِيدِ بِلَا عِوَضٍ جَائِزٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ- وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ- الِاعْتِيَاضَ عَنْ تَرْكِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (إِسْقَاط ف 41 وَ 42) (وَشُفْعَة ف 55 وَمَا بَعْدَهَا)

ثَانِيًا- الْعَفْوُ عَنِ الْمَدِينِ:

16- لِلدَّائِنِ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الْمَدِينِ وَتَبْرَأُ بِذَلِكَ ذِمَّتُهُ مِنَ الدَّيْنِ

انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِبْرَاء ف 40 وَمَا بَعْدَهَا).

ثَالِثًا- الْعَفْوُ عَنِ الصَّدَاقِ:

17- الصَّدَاقُ حَقٌّ خَالِصٌ لِلزَّوْجَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}

وَلِلزَّوْجَةِ أَنْ تَعْفُوَ عَنِ الصَّدَاقِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ، كَمَا أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَعْفُوَ عَنِ الصَّدَاقِ، وَعَفْوُهُ يَكُونُ بِإِكْمَالِ الصَّدَاقِ عِنْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلِأَوْلِيَاءِ النِّكَاحِ الْعَفْوُ كَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}.

وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (مَهْر)

الْعَفْوُ فِي الْعُقُوبَاتِ:

أَوَّلًا- الْعَفْوُ عَنِ الْقِصَاصِ:

18- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}؛

وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِيهِ إِذْ أَنَّ الْقِصَاصَ حَقٌّ، فَجَازَ لِمُسْتَحِقِّهِ تَرْكُهُ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ.

وَنَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى نَدْبِ الْعَفْوِ وَاسْتِحْبَابِهِ لقوله تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} قَالَ الْجَصَّاصُ: نَدَبَهُ إِلَى الْعَفْوِ وَالصَّدَقَةِ، وَلِحَدِيثِ أَنَسٍ - رضي الله عنه-: «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- رُفِعَ إِلَيْهِ شَيْءٌ فِيهِ قِصَاصٌ إِلاَّ أَمَرَ فِيهِ بِالْعَفْوِ».

وَقَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: الْعَفْوُ إِحْسَانٌ وَالْإِحْسَانُ هُنَا أَفْضَلُ، وَاشْتُرِطَ أَلاَّ يَحْصُلَ بِالْعَفْوِ ضَرَرٌ، فَإِذَا حَصَلَ مِنْهُ ضَرَرٌ فَلَا يُشْرَعُ. وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِ الْعَفْوِ إِلاَّ فِي قَتْلِ الْغِيلَةِ، وَهُوَ الْقَتْلُ لِأَخْذِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْحِرَابَةِ، وَالْمُحَارِبُ إِذَا قَتَلَ وَجَبَ قَتْلُهُ، وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ لِدَفْعِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، فَالْقَتْلُ هُنَا حَقٌّ لِلَّهِ لَا لِلْآدَمِيِّ، وَعَلَى هَذَا يُقْتَلُ حَدًّا لَا قَوَدًا.

19- وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مُوجِبِ الْعَمْدِ فِي النَّفْسِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ فِي النَّفْسِ الْقِصَاصُ عَيْنًا، حَتَّى لَا يَمْلِكَ وَلِيُّ الدَّمِ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ مِنَ الْقَاتِلِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَلَوْ مَاتَ الْقَاتِلُ أَوْ عَفَا الْوَلِيُّ سَقَطَ الْمُوجِبُ أَصْلًا.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةُ أَشْهَبَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ إِمَّا الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ، فَلِلْوَلِيِّ خِيَارُ التَّعْيِينِ، إِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ.

وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مُوجِبَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ هُوَ الْقَوَدُ وَأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ عِنْدَ سُقُوطِهِ، وَلِلْوَلِيِّ الْعَفْوُ عَنِ الْقَوَدِ عَلَى الدِّيَةِ بِغَيْرِ رِضَا الْجَانِي.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} وَالْمَكْتُوبُ لَا يُتَخَيَّرُ فِيهِ؛ وَلِأَنَّهُ مُتْلَفٌ يَجِبُ بِهِ الْبَدَلُ فَكَانَ بَدَلُهُ مُعَيَّنًا كَسَائِرِ أَبْدَالِ الْمُتْلَفَاتِ، وَحَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصَّةِ سِنِّ الرُّبَيِّعِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» فَعُلِمَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ الْقِصَاصُ، وَلَمْ يُخَيِّرِ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَجِبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِي الْعَمْدِ الْقِصَاصُ.

وَاسْتَدَلَّ الْحَنَابِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} أَوْجَبَ الِاتِّبَاعَ بِمُجَرَّدِ الْعَفْوِ وَلَوْ أَوْجَبَ الْعَمْدَ بِالْقِصَاصِ عَيْنًا لَمْ تَجِبِ الدِّيَةُ عِنْدَ الْعَفْوِ الْمُطْلَقِ، فَيُخَيَّرُ الْوَلِيُّ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ وَلَوْ لَمْ يَرْضَ الْجَانِي لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما-: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقِصَاصُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمُ الدِّيَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} الْآيَةَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا أَنْ يُودَى وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ» وَاسْتَدَلُّوا مِنَ الْمَعْقُولِ بِأَنَّ فِي الْإِلْزَامِ بِأَحَدِهِمَا عَلَى التَّعْيِينِ مَشَقَّةً، وَبِأَنَّ الْجَانِيَ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ فَلَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ كَالْمُحَالِ عَلَيْهِ وَالْمَضْمُونِ عَنْهُ.

وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيَّةُ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّ نَفْسَ الْقَتِيلِ مَضْمُونَةٌ أَصْلًا بِالْقَوَدِ، وَالضَّمَانُ يَكُونُ بِجِنْسِ الْمُتْلَفِ فَكَانَ الْقَوَدُ هُوَ مُوجِبَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ، فَإِنْ سَقَطَ الْجِنْسُ وَهُوَ الْقَوَدُ وَجَبَ الْبَدَلُ وَهُوَ الدِّيَةُ حَتَّى لَا يَفُوتَ ضَمَانُ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ.

الْعَفْوُ عَنِ الْقَاتِلِ:

20- إِذَا عَفَا وَلِيُّ الدَّمِ عَنِ الْقَاتِلِ مُطْلَقًا صَحَّ وَلَمْ تَلْزَمْهُ عُقُوبَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَأَبِي ثَوْرٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاحِدٌ وَقَدْ أَسْقَطَهُ مُسْتَحِقُّهُ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ.

وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ: يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ سَنَةً.

وَإِذَا عَفَا وَلِيُّ الدَّمِ عَنِ الْقَوَدِ مُطْلَقًا، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ عَلَى الْجَانِي، وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا بِأَلاَّ يَظْهَرَ مِنْ وَلِيِّ الدَّمِ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ الدِّيَةِ عِنْدَ الْعَفْوِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْقِصَاصُ عَيْنًا، فَإِذَا سَقَطَ بِالْعَفْوِ لَا تَجِبُ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ إِسْقَاطُ ثَابِتٍ لَا إِثْبَاتُ مَعْدُومٍ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ عَفَا مُطْلَقًا بِأَنْ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِقَوَدٍ وَلَا دِيَةٍ فَلَهُ الدِّيَةُ لِانْصِرَافِ الْعَفْوِ إِلَى الْقَوَدِ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الِانْتِقَامِ، وَالِانْتِقَامُ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْقَتْلِ؛ وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ شَيْئَيْنِ، فَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ تَعَيَّنَتِ الدِّيَةُ، وَإِذَا قَالَ وَلِيُّ الدَّمِ لِلْجَانِي: عَفَوْتُ عَنْكَ أَوْ عَنْ جِنَايَتِكَ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ

عَفْوُ بَعْضِ الْمُسْتَحِقِّينَ:

21- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُسْتَحِقَّ الْقِصَاصِ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ فَعَفَا أَحَدُهُمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ عَنِ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ نَصِيبُ الْعَافِي بِالْعَفْوِ فَيَسْقُطُ نَصِيبُ الْآخَرِ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ، إِذِ الْقِصَاصُ قِصَاصٌ وَاحِدٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاءُ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، وَيَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ - رضي الله عنهما- فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنهما- أَنَّهُمَا أَوْجَبَا عِنْدَ عَفْوِ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ عَنِ الْقِصَاصِ لِلَّذِينَ لَمْ يَعْفُوا عَنْهُ نَصِيبَهُمْ مِنَ الدِّيَةِ، وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ - رضي الله عنهم- وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ أَحَدٌ عَلَيْهِمَا فَيَكُونُ إِجْمَاعًا.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ حَقٌّ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ مِنْ ذَوِي الْأَنْسَابِ وَالْأَسْبَابِ وَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، فَمَنْ عَفَا مِنْهُمْ صَحَّ عَفْوُهُ وَسَقَطَ الْقِصَاصُ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَالثَّوْرِيُّ.

وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ثُبُوتُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ ابْتِدَاءً لِكُلِّ وَارِثٍ مِنْ ذَوِي الْفُرُوضِ وَالْعَصَبَةِ، وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلَانِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْعَصَبَةِ الذُّكُورِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لِرَفْعِ الْعَارِ فَاخْتَصَّ بِهِمْ كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ الْوَارِثُونَ بِالنَّسَبِ دُونَ السَّبَبِ لِانْقِطَاعِهِ بِالْمَوْتِ فَلَا حَاجَةَ لِلتَّشَفِّي.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ مَنْ لَهُمُ الْعَفْوُ فِي الْجُمْلَةِ هُمُ الَّذِينَ لَهُمُ الْقِيَامُ بِالدَّمِ، وَإِنَّ الْمَقْتُولَ عَمْدًا إِذَا كَانَ لَهُ بَنُونَ بَالِغُونَ فَعَفَا أَحَدُهُمْ فَإِنَّ الْقِصَاصَ قَدْ بَطَلَ وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ، وَقَالُوا: لَيْسَ لِلْبَنَاتِ وَلَا الْأَخَوَاتِ قَوْلٌ مَعَ الْبَنِينَ وَالْإِخْوَةِ فِي الْقِصَاصِ أَوْ ضِدِّهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُنَّ مَعَ الرِّجَالِ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ.

وَقَالُوا: إِنَّ حَقَّ النِّسَاءِ فِي الِاسْتِيفَاءِ مَشْرُوطٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَنْ يَكُنَّ وَارِثَاتٍ، احْتِرَازًا عَنِ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ، وَأَنْ لَا يُسَاوِيَهُنَّ عَاصِبٌ فِي الدَّرَجَةِ بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ عَاصِبٌ أَصْلًا أَوْ يُوجَدْ أَنْزَلُ، كَعَمٍّ مَعَ بِنْتٍ أَوْ أُخْتٍ، فَخَرَجَتِ الْبِنْتُ مَعَ الِابْنِ وَالْأُخْتُ مَعَ الْأَخِ، فَلَا كَلَامَ لَهَا مَعَهُ فِي عَفْوٍ وَلَا قَوَدٍ، وَأَنْ يَكُنَّ عَصَبَتَهُ لَوْ كُنَّ ذُكُورًا، فَلَا كَلَامَ لِلْجَدَّةِ مِنَ الْأُمِّ، وَالْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ، وَالزَّوْجَةِ، فَإِنْ كُنَّ الْوَارِثَاتِ مَعَ عَاصِبٍ غَيْرِ مُسَاوٍ فَلَهُنَّ وَلَهُ الْقَوَدُ، قَالُوا: وَلَا يُعْتَبَرُ عَفْوٌ إِلاَّ بِاجْتِمَاعِ الْفَرِيقَيْنِ أَوْ بِوَاحِدٍ مِنْ كُلِّ فَرِيقٍ، كَالْبَنَاتِ مَعَ الْإِخْوَةِ سَوَاءٌ ثَبَتَ الْقَتْلُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ قَسَامَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ، كَأَنْ حُزْنَ الْمِيرَاثَ كَالْبِنْتِ مَعَهَا أُخْتٌ لِغَيْرِ أُمٍّ مَعَ الْأَعْمَامِ وَثَبَتَ قَتْلُ مُوَرِّثِهِنَّ بِقَسَامَةٍ مِنَ الْأَعْمَامِ، فَلِكُلٍّ الْقَتْلُ، وَلَا عَفْوَ إِلاَّ بِاجْتِمَاعِهِمْ، فَلَوْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ فَلَا كَلَامَ لِلْعَصَبَةِ غَيْرِ الْوَارِثِينَ.

عَفْوُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ:

22- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْمَقْتُولَ عَمْدًا إِذَا عَفَا قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ اعْتُبِرَ عَفْوُهُ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ عَفَا الْمَجْرُوحُ بَعْدَ الْجَرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ جَازَ الْعَفْوُ اسْتِحْسَانًا، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسًا؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْقَتْلِ يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْقَتْلِ، وَالْفِعْلُ لَا يَصِيرُ قَتْلًا إِلاَّ بِفَوَاتِ الْحَيَاةِ عَنِ الْمَحَلِّ وَلَمْ يُوجَدْ، فَالْعَفْوُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ.وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّ الْقَتْلَ إِنْ لَمْ يُوجَدْ لِلْحَالِ فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ وُجُودِهِ، وَهُوَ الْجُرْحُ الْمُفْضِي إِلَى فَوَاتِ الْحَيَاةِ، وَالسَّبَبُ الْمُفْضِي إِلَى الشَّيْءِ يُقَامُ مَقَامَ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْمَقْتُولِ الْعَفْوُ عَنْ دَمِهِ بَعْدَ إِنْفَاذِ مَقْتَلِهِ وَقَبْلَ زُهُوقِ رُوحِهِ، قَالَ الْقَرَافِيُّ: لِأَنَّ لِلْقِصَاصِ سَبَبًا وَهُوَ إِنْفَاذُ الْمَقَاتِلِ وَشَرْطًا وَهُوَ زُهُوقُ الرُّوحِ، فَإِنْ عَفَا الْمَقْتُولُ عَنِ الْقِصَاصِ قَبْلَهُمَا لَمْ يُعْتَبَرْ عَفْوُهُ، وَعَفْوُهُ بَعْدَهُمَا مُتَعَذِّرٌ لِعَدَمِ الْحَيَاةِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَا بَيْنَهُمَا فَيَنْفُذُ إِجْمَاعًا.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قُطِعَ فَعُفِيَ عَنْ قَوَدِهِ وَأَرْشِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْرِ فَلَا شَيْءَ، وَإِنْ سَرَى لِلنَّفْسِ فَلَا قِصَاصَ فِي نَفْسٍ وَلَا طَرَفٍ؛ لِأَنَّ السِّرَايَةَ تَوَلَّدَتْ مِنْ مَعْفُوٍّ عَنْهُ، فَصَارَتْ شُبْهَةً دَافِعَةً لِلْقِصَاصِ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ عَلَيْهِ الدِّيَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: قَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: لَا يَلْزَمُ عَفْوُهُ، وَلِلْأَوْلِيَاءِ الْقِصَاصُ أَوِ الْعَفْوُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ عَفَا الْمَجْرُوحُ عَنْ قَاتِلِهِ بَعْدَ الْجَرْحِ صَحَّ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْعَفْوِ أَوِ الْوَصِيَّةِ أَوِ الْإِبْرَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ، فَصَحَّ بِكُلِّ لَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ.

عَفْوُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَمَّا دُونَ النَّفْسِ عَمْدًا

23- يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ إِذَا قَالَ لِلْجَانِي: عَفَوْتُ عَنِ الْقَطْعِ أَوِ الْجِرَاحَةِ أَوِ الشَّجَّةِ أَوِ الضَّرْبَةِ، أَوْ قَالَ: عَفَوْتُ عَنِ الْجِنَايَةِ، فَإِنْ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ صَحَّ الْعَفْوُ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ وَقَعَ عَنْ ثَابِتٍ وَهُوَ الْجِرَاحَةُ أَوْ مُوجِبُهَا وَهُوَ الْأَرْشُ فَيَصِحُّ الْعَفْوُ وَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي إِتْلَافِ مَالِهِ فَلَا ضَمَانَ بِإِتْلَافِهِ.

حُكْمُ السِّرَايَةِ:

24- وَإِنْ سَرَى الْجُرْحُ إِلَى النَّفْسِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ وَمَاتَ الْمُصَابُ، فَإِنْ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوْ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا صَحَّ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْجِنَايَةِ يَتَنَاوَلُ الْقَتْلَ، وَكَذَا لَفْظُ الْجِرَاحَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا، فَكَانَ ذَلِكَ عَفْوًا عَنِ الْقَتْلِ فَيَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ.وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَصِحُّ الْعَفْوُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ.

وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِيمَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ عَفَا ثُمَّ مَاتَ.

نَقَلَ الْحَطَّابُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ: إِنْ قَالَ: عَفَوْتُ عَنِ الْيَدِ، لَا غَيْرُ، لَا إِشْكَالَ، وَإِنْ قَالَ: عَنِ الْيَدِ وَمَا تَرَامَى إِلَيْهِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ قَالَ: عَفَوْتُ، فَقَطْ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ عَفَا عَمَّا وَجَبَ لَهُ فِي الْحَالِ وَهُوَ قَطْعُ الْيَدِ.

وَعِنْدَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي بَابِ الصُّلْحِ فِي حَقِّ الْأَوْلِيَاءِ- لَا الْمَقْطُوعِ- إِذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى الْجُرْحِ دُونَ مَا تَرَامَى إِلَيْهِ وَهِيَ:

أَحَدُهَا: أَنَّ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُقْسِمُوا وَيَقْتُلُوا وَيُرَدُّ الْمَالُ وَيَبْطُلُ الصُّلْحُ.

الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمُ التَّمَسُّكُ بِالصُّلْحِ لَا فِي الْخَطَأِ وَلَا فِي الْعَمْدِ.

الثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَمْدِ فَيُخَيَّرُونَ فِيهِ، وَالْخَطَأِ فَلَا يُخَيَّرُونَ وَلَيْسَ لَهُمُ التَّمَسُّكُ بِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ قُطِعَ عُضْوُ شَخْصٍ فَعَفَا عَنْ مُوجِبِ الْجِنَايَةِ قَوَدًا أَوْ أَرْشًا فَلَا قِصَاصَ فِي النَّفْسِ، كَمَا لَا قِصَاصَ فِي الطَّرْفِ، وَعَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ وَابْنِ سَلَمَةَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَفْوِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ عَفَا الْمَجْرُوحُ عَنْ قَاتِلِهِ بَعْدَ الْجَرْحِ صَحَّ، سَوَاءٌ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْعَفْوِ أَوِ الْوَصِيَّةِ أَوِ الْإِبْرَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ، فَصَحَّ بِكُلِّ لَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ، فَإِنْ قَالَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ: عَفَوْتُ عَنِ الْجِنَايَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا صَحَّ الْعَفْوُ؛ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِهِ وَلَمْ يَضْمَنِ الْجَانِي السِّرَايَةَ لِلْعَفْوِ عَنْهَا.

عَفْوُ الْوَلِيِّ بَعْدَ الْجَرْحِ وَقَبْلَ مَوْتِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ:

25- نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا عَفَا الْوَلِيُّ عَنِ الْجَانِي بَعْدَ الْجَرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ فَالْقِيَاسُ أَلاَّ يَصِحَّ عَفْوُهُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَصِحُّ، وَجْهُ الْقِيَاسِ: أَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْقَتْلِ يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْقَتْلِ، وَالْفِعْلُ لَا يَصِيرُ قَتْلًا إِلاَّ بِفَوَاتِ الْحَيَاةِ عَنِ الْمَحَلِّ وَلَمْ يُوجَدْ، فَالْعَفْوُ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَلَمْ يَصِحَّ.

أَمَّا الِاسْتِحْسَانُ فَلَهُ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجُرْحَ مَتَى اتَّصَلَتْ بِهِ السِّرَايَةُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ قَتْلًا مِنْ حِينِ وُجُودِهِ.فَكَانَ عَفْوًا عَنْ حَقٍّ ثَابِتٍ فَيَصِحُّ.

الثَّانِي: أَنَّ الْقَتْلَ إِنْ لَمْ يُوجَدْ لِلْحَالِ فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ وُجُودِهِ وَهُوَ الْجُرْحُ الْمُفْضِي إِلَى فَوَاتِ الْحَيَاةِ، وَالسَّبَبُ الْمُفْضِي إِلَى الشَّيْءِ يُقَامُ مَقَامَ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ؛ وَلِأَنَّهُ إِذَا وُجِدَ سَبَبُ وُجُودِ الْقَتْلِ كَانَ الشَّرْعُ تَعْجِيلَ الْحُكْمِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ

عَفْوُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَنِ الْجِنَايَةِ الْخَطَأِ:

26- إِذَا كَانَتِ الْجِنَايَةُ خَطَأً وَعَفَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، فَإِنْ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ صَحَّ الْعَفْوُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْجَانِي، سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوِ الْجِرَاحَةِ، وَسَوَاءٌ يَذْكُرُ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا أَمْ لَمْ يَذْكُرْ.

أَمَّا إِنْ سَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى النَّفْسِ، فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ أَوِ الْجِرَاحَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا صَحَّ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْعَفْوُ فِي حَالِ صِحَّةِ الْمَجْرُوحِ بِأَنْ كَانَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَلَمْ يَصِرْ صَاحِبَ فِرَاشٍ، يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الْمَرَضِ بِأَنْ صَارَ صَاحِبَ فِرَاشٍ، يُعْتَبَرُ عَفْوُهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ تَبَرُّعٌ مِنْهُ، وَتَبَرُّعُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ يُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْرُ الدِّيَةِ يَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ سَقَطَ ذَلِكَ الْقَدْرُ عَنِ الْعَاقِلَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْرُجُ كُلُّهُ مِنَ الثُّلُثِ فَثُلُثُهُ يَسْقُطُ عَنِ الْعَاقِلَةِ وَثُلُثَاهُ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجِرَاحَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا، لَمْ يَصِحَّ الْعَفْوُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ الْعَفْوُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: عَفْوُ الْمَقْتُولِ- وَلَوْ قَبْلَ إِنْفَاذِ شَيْءٍ مِنْ مَقَاتِلِهِ- عَنْ قَاتِلِهِ عَلَى وَجْهِ الْخَطَأِ جَائِزٌ، وَيَكُونُ مِنْهُ وَصِيَّةً بِالدِّيَةِ لِلْعَاقِلَةِ، فَتَكُونُ فِي ثُلُثِهِ، فَإِنْ حَمَلَهَا نَفَذَتْ قَهْرًا عَلَى الْوَرَثَةِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ أَلْفَانِ مِنَ الدَّنَانِيرِ وَدِيَتُهُ أَلْفٌ فَإِنَّ الدِّيَةَ تَسْقُطُ عَنْ عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَالٌ سَقَطَ عَنِ الْقَاتِلِ مَعَ عَاقِلَتِهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، إِلاَّ أَنْ تُجِيزَ الْوَرَثَةُ الزَّائِدَ كَسَائِرِ الْوَصَايَا بِالْمَالِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا جَرَحَ حُرٌّ رَجُلًا خَطَأً فَعَفَا عَنْهُ ثُمَّ سَرَتِ الْجِنَايَةُ إِلَى النَّفْسِ، بُنِيَ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ابْتِدَاءً أَمْ عَلَى الْقَاتِلِ ثُمَّ تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ؟ وَفِيهِ خِلَافٌ، فَإِنْ قَالَ: عَفَوْتُ عَنِ الْعَاقِلَةِ، أَوْ: أَسْقَطْتُ الدِّيَةَ عَنْهُمْ، أَوْ قَالَ: عَفَوْتُ عَنِ الدِّيَةِ، فَهَذَا تَبَرُّعٌ عَلَى غَيْرِ الْقَاتِلِ فَيَنْفُذُ إِذَا وَفَّى الثُّلُثُ بِهِ، وَيُبَرَّءُونَ سَوَاءٌ جَعَلْنَاهُمْ مُتَأَصِّلِينَ أَمْ مُتَحَمِّلِينَ، وَإِنْ قَالَ لِلْجَانِي: عَفَوْتُ عَنْكَ، لَمْ يَصِحَّ.وَقِيلَ: إِنْ قُلْنَا: يُلَاقِيهِ الْوُجُوبُ ثُمَّ يُحْمَلُ عَنْهُ، صَحَّ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْوُجُوبِ يَنْتَقِلُ عَنْهُ فَيُصَادِفُهُ الْعَفْوُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، هَذَا إِذَا ثَبَتَتِ الْجِنَايَةُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِاعْتِرَافِ الْعَاقِلَةِ، فَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ الْقَاتِلُ وَأَنْكَرَتِ الْعَاقِلَةُ فَالدِّيَةُ عَلَى الْقَاتِلِ، وَيَكُونُ الْعَفْوُ تَبَرُّعًا عَلَى الْقَاتِلِ فَفِيهِ الْخِلَافُ.وَلَوْ عَفَا الْوَارِثُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ عَنِ الْعَاقِلَةِ أَوْ مُطْلَقًا صَحَّ، وَلَوْ عَفَا عَنِ الْجَانِي لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ صَحَّ. وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِذَا عَفَا وَلِيُّ الْجِنَايَةِ عَنِ الْجَرْحِ الْخَطَأِ اعْتُبِرَ خُرُوجُ الْجِنَايَةِ وَسِرَايَتُهَا مِنَ الثُّلُثِ كَالْوَصِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنَ الثُّلُثِ سَقَطَ عَنِ الْجَانِي مِنْ دِيَةِ السِّرَايَةِ مَا احْتَمَلَهُ الثُّلُثُ، وَإِنْ أَبْرَأَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْجَانِيَ مِنَ الدِّيَةِ أَوْ وَصَّى لَهُ بِهَا فَهُوَ وَصِيَّةٌ لِقَاتِلٍ، وَتَصِحُّ لِتَأَخُّرِهَا عَنِ الْجِنَايَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَصَّى لَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ.

وَتُعْتَبَرُ الْبَرَاءَةُ مِنَ الدِّيَةِ أَوِ الْوَصِيَّةُ بِهَا لِلْقَاتِلِ مِنَ الثُّلُثِ كَسَائِرِ الْعَطَايَا فِي الْمَرَضِ وَالْوَصَايَا.

وَإِنْ أَبْرَأَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَوْ وَارِثُهُ الْقَاتِلَ مِنَ الدِّيَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ لَمْ يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ؛ لِأَنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنْ حَقٍّ عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الْقَاتِلِ، وَإِنْ أَبْرَأَ الْعَاقِلَةَ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ أَبْرَأَهَا مِنْ حَقٍّ عَلَيْهَا كَالدَّيْنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا.

وَمَنْ صَحَّ عَفْوُهُ مَجَّانًا فَإِنْ أَوْجَبَ الْجُرْحُ مَالًا عَيْنِيًّا كَالْجَائِفَةِ وَجِنَايَةِ الْخَطَأِ فَكَوَصِيَّةٍ، يُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِمَالٍ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


11-موسوعة الفقه الكويتية (كف النفس)

كَفُّ النَّفْسِ

التَّعْرِيفُ

1- مِنْ مَعَانِي الْكَفِّ فِي اللُّغَةِ التَّرْكُ وَالْمَنْعُ، يُقَالُ: كَفَّ عَنِ الشَّيْءِ كَفًّا مِنْ بَابِ قَتَلَ، إِذَا تَرَكَهُ، وَكَفَفْتُهُ كَفًّا مَنَعْتُهُ.

وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَعَرَّفَهُ الْأُصُولِيُّونَ بِأَنَّهُ الِانْتِهَاءُ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، قَالَ فِي التَّقْرِيرِ وَالتَّحْبِيرِ: إِنَّ الْفِعْلَ الْمُكَلَّفَ بِهِ فِي النَّهْيِ هُوَ كَفُّهُ النَّفْسَ عَنِ الْمَنْهِيِّ، أَيِ انْتِهَاؤُهُ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} نَهْيٌ يَقْتَضِي انْتِهَاءَ الْمُكَلَّفِ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، أَيِ الزِّنَا إِذَا طَلَبَتْهُ نَفْسُهُ.

فَلَا يَحْصُلُ الْكَفُّ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إِلاَّ بَعْدَ إِقْبَالِ النَّفْسِ عَلَيْهِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

التَّرْكُ:

2- مِنْ مَعَانِي التَّرْكِ التَّخْلِيَةُ وَالْإِسْقَاطُ وَعَدَمُ الْفِعْلِ، يُقَالُ: تَرَكْتُ الشَّيْءَ إِذَا خَلَّيْتُهُ، وَتَرَكَ حَقَّهُ إِذَا أَسْقَطَهُ، وَتَرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ إِذَا لَمْ يَأْتِ بِهَا.

فَالتَّرْكُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ مِنَ الْوَاجِبِ أَوِ السُّنَّةِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنَ الْحَرَامِ أَوِ الْمَكْرُوهِ.كَمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْحُقُوقِ وَنَحْوِهَا.

وَعَلَى ذَلِكَ فَالتَّرْكُ أَعَمُّ مِنْ كَفِّ النَّفْسِ الَّذِي لَا يُسْتَعْمَلُ إِلاَّ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

3- عَرَّفَ الْأُصُولِيُّونَ الْحُكْمَ بِأَنَّهُ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ اقْتِضَاءً أَوْ تَخْيِيرًا أَوْ وَضْعًا، وَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْخِطَابُ حَتْمًا لِفِعْلِ غَيْرِ كَفٍّ فَالْإِيجَابُ.أَوْ تَرْجِيحًا فَالنَّدْبُ، وَإِنْ كَانَ حَتْمًا لِكَفٍّ فَالتَّحْرِيمُ، أَوْ غَيْرَ حَتْمٍ فَالْكَرَاهَةُ.

وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ- أَمْرًا كَانَ أَوْ نَهْيًا- إِلاَّ بِفِعْلٍ كَسْبِيٍّ لِلْمُكَلَّفِ، وَالْفِعْلُ الْمُكَلَّفُ بِهِ فِي النَّهْيِ كَفُّهُ النَّفْسَ عَنِ الْمَنْهِيِّ، وَيَسْتَلْزِمُ النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ سَبْقَ الدَّاعِيَةِ أَيَّ دَاعِيَةٍ الْمَنْهِيِّ إِلَى فِعْلِهِ، فَلَا تَكْلِيفَ قَبْلَ الدَّاعِيَةِ، فَإِذَا قَالَ الشَّارِعُ: لَا تَزْنِ، وَالْغَرَضُ أَنَّ مَعْنَاهُ كُفَّ نَفْسَكَ مِنَ الزِّنَا لَزِمَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ التَّكْلِيفُ قَبْلَ طَلَبِ النَّفْسِ لِلزِّنَا، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَخْطُرْ طَلَبُهَا لِلزِّنَا كَيْفَ يُتَصَوَّرُ كَفُّهَا عَنْهُ؟ فَلَوْ طَلَبَ مِنْهُ كَفَّ النَّفْسِ فِي حَالِ عَدَمِ طَلَبِهَا طَلَبَ مَا هُوَ مُحَالٌ.

وَعَلَى هَذَا يَكُونُ نَحْوُ: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى} تَعْلِيقُ التَّكْلِيفِ، أَيْ إِذَا طَلَبَتْهُ نَفْسُكَ فَكُفَّهَا.

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَسَّرَ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ الْقَادِرَ الْمُوَجَّهَ إِلَيْهِ التَّكْلِيفُ بِأَنَّهُ إِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ، لَا إِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، فَيَدْخُلُ فِي الْمَقْدُورِ عَدَمُ الْفِعْلِ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى عَدَمِ الْمَشِيئَةِ، وَكَانَ الْفِعْلُ مِمَّا يَصِحُّ تَرَتُّبُهُ عَلَى الْمَشِيئَةِ، فَتُخْرَجُ الْعَدَمِيَّاتُ الَّتِي لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَالْمُكَلَّفُ بِهِ فِي النَّهْيِ لَيْسَ مُجَرَّدُ عَدَمِ الْفِعْلِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَكَفُّ النَّفْسِ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَمَلِ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ، أَمَّا عَدَمُ الْفِعْلِ، فَكَانَ مُتَحَقِّقًا مِنْ قَبْلُ وَاسْتَمَرَّ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ أَصْلًا، كَمَا حَقَّقَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الشِّرْبِينِيُّ عَلَى حَاشِيَةِ الْعَلاَّمَةِ الْبُنَانِيِّ.

وَنَقَلَ ابْنُ أَمِيرِ الْحَاجِّ عَنِ السُّبْكِيِّ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى دَلِيلَيْنِ يَدُلاَّنِ عَلَى أَنَّ الْكَفَّ فِعْلٌ أَحَدُهُمَا قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} إِذِ الِاتِّخَاذُ افْتِعَالٌ، وَالْمَهْجُورُ الْمَتْرُوكُ.

وَالثَّانِي مَا رَوَاهُ أَبُو جُحَيْفَةَ السَّوَائِيُّ- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ فَسَكَتُوا فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، قَالَ: هُوَ حِفْظُ اللِّسَانِ».

وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

تَرَتُّبُ الثَّوَابِ عَلَى كَفِّ النَّفْسِ

4- لَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ كَفَّ النَّفْسِ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ، وَمِنَ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ مُمْتَثِلَ التَّكْلِيفِ مُطِيعٌ، وَالطَّاعَةُ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلثَّوَابِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى}.

وَعَلَى ذَلِكَ فَالْكَفُّ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِالْمَعْنَى الَّذِي تَقَدَّمَ مُوجِبٌ لِلثَّوَابِ، كَمَا حَقَّقَهُ الْآمِدِيُّ فِي مَعْرِضِ أَدِلَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّ الْكَفَّ فِعْلٌ لَكِنْ يَشْتَرِطُ بَعْضُهُمْ لِلثَّوَابِ أَنْ يَكُونَ الْكَفُّ بِقَصْدِ الِامْتِثَالِ.

قَالَ الشِّرْبِينِيُّ فِي تَقْرِيرَاتِهِ عَلَى حَاشِيَةِ الْبُنَانِيِّ: إِنَّ فِي التَّكْلِيفِ بِالنَّهْيِ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: الْمُكَلَّفُ بِهِ، وَهُوَ مُطْلَقُ التَّرْكِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَصْدِ الِامْتِثَالِ بِالْفِعْلِ، بَلْ مَدَارُهُ عَلَى إِقْبَالِ النَّفْسِ عَلَى الْفِعْلِ ثُمَّ كَفُّهَا عَنْهُ.

الثَّانِي: الْمُكَلَّفُ بِهِ الْمُثَابُ عَلَيْهِ، وَهُوَ التَّرْكُ لِلِامْتِثَالِ.

الثَّالِثُ: عَدَمُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ، لَكِنَّهُ لَيْسَ مُكَلَّفًا بِهِ لِعَدَمِ قُدْرَةِ الْمُكَلَّفِ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


12-موسوعة الفقه الكويتية (كنز 2)

كَنْز -2

احْتِفَارُ الذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ لِلْكُنُوزِ:

15- الذِّمِّيُّ كَالْمُسْلِمِ فِي إِيجَابِ الْخُمُسِ وَفِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ إِذْنِ الْإِمَامِ لِاسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ.

يَقُولُ الشَّيْبَانِيُّ: وَمَا أَصَابَ الذِّمِّيُّ مِنْ رِكَازٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ مَعْدِنٍ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ رَصَاصٍ أَوْ زِئْبَقٍ فَهُوَ وَالْمُسْلِمُ فِيهِ سَوَاءٌ، يُخَمَّسُ مَا أَصَابَ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ، لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُنَا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ

أَمَّا الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ فَقَالَ الشَّيْبَانِيُّ: إِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَأَصَابَ رِكَازًا أَوْ مَعْدِنًا، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا أَوْ حَدِيدًا فَإِنَّ إِمَامَ الْمُسْلِمِينَ يَأْخُذُهُ مِنْهُ كُلَّهُ، وَلَا يَكُونُ لَهُ شَيْءٌ، لِأَنَّ هَذَا غَنِيمَةٌ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَوْجَفُوا عَلَيْهَا الْخَيْلَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَصَابَ يُخَمَّسُ وَالْبَاقِي لَهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ غَنِيمَةً لَكَانَ لَا خُمُسَ فِيهِ، وَالْحَرْبِيُّ لَا حَقَّ لَهُ فِي غَنَائِمِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ اسْتَأْذَنَ إِمَامَ الْمُسْلِمِينَ فِي طَلَبِ ذَلِكَ وَالْعَمَلِ فِيهِ حَتَّى يَسْتَخْرِجَهُ فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَعَمِلَ فَأَصَابَ شَيْئًا خُمِّسَ مَا أَصَابَ وَكَانَ مَا بَقِيَ لِلْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ، لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ لَوْ قَاتَلَ الْمُشْرِكِينَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ صَارَ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ نَصِيبٌ، حَتَّى أَنَّهُ يُرْضَخُ لَهُ كَمَا يُرْضَخُ لِلذِّمِّيِّ.

وَقَالَ: لَوْ أَنَّ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ اسْتَأْذَنَ الْإِمَامَ فِي طَلَبِ الْكُنُوزِ وَالْمَعَادِنِ، فَأَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ عَلَى أَنَّ لِلْمُسْلِمِينَ مِمَّا يُصِيبُ النِّصْفَ وَلَهُ النِّصْفُ، فَعَمِلَ عَلَى هَذَا فَأَصَابَ رِكَازًا مَعْدِنًا فَإِنَّ الْإِمَامَ يَأْخُذُ نِصْفَ مَا أَصَابَ وَالْحَرْبِيُّ نِصْفَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ مِنَ الرِّكَازِ الَّذِي أَصَابَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَا اسْتَحَقَّهُ بِشَرْطِ إِذْنِ الْإِمَامِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَصَابَهُ بَعْدَ إِذْنِ الْإِمَامِ أُخِذَ مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ اسْتِحْقَاقُهُ بِالشَّرْطِ.وَالْإِمَامُ شَرَطَ لَهُ النِّصْفَ فَلَا يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ.

ثُمَّ الْإِمَامُ يَأْخُذُ خُمُسَ مَا أَصَابَ الْحَرْبِيُّ مِنَ النِّصْفِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنَ الْحَرْبِيِّ فَيَجْعَلُهُ لِلْفُقَرَاءِ، وَيَجْعَلُ النِّصْفَ لِلْمُقَاتِلَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِذْنَ الْإِمَامِ يُصَيِّرُ مَا أَصَابَهُ الْحَرْبِيُّ غَنِيمَةً يَجِبُ فِيهَا الْخُمُسُ.

ب- الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْعَمَلِ فِي اسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ:

16- أَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الِاسْتِئْجَارَ عَلَى الْعَمَلِ فِي اسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ شَرِيطَةَ اسْتِجْمَاعِ شُرُوطِ صِحَّةِ الْإِجَارَةِ، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ مَعْلُومَةً وَأَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَضْبُوطًا بِزَمَنٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ الضَّبْطُ، كَحَفْرِ كَذَا وَإِزَالَةِ جِدَارٍ أَوْ نَقْلِ قَدْرٍ مُعَيَّنٍ مِنَ التُّرَابِ، وَيَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ الْأَجْرَ وَيَذْهَبُ مَا يُخْرِجُ مِنَ الْكُنُوزِ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ، جَاءَ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ: أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ لِلْعَمَلِ فِي الْمَعْدِنِ فَالْمُصَابُ لِلْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ لَهُ.

وَفِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُهُ أَيِ الْمَعْدِنِ لِمَنْ يَعْمَلُ فِيهِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ يَأْخُذُهَا مِنَ الْعَامِلِ فِي نَظِيرِ أَخْذِهِ مَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْمَعْدِنِ بِشَرْطِ كَوْنِ الْعَمَلِ مَضْبُوطًا بِزَمَنٍ أَوْ عَمَلٍ خَاصٍّ كَحَفْرِ قَامَةٍ أَوْ قَامَتَيْنِ نَفْيًا لِلْجَهَالَةِ فِي الْإِجَارَةِ، وَسُمِّيَ الْعِوَضُ الْمَدْفُوعُ أُجْرَةً لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مُقَابَلَةِ ذَاتٍ، بَلْ فِي مُقَابَلَةِ إِسْقَاطِ الِاسْتِحْقَاقِ وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْجَرَهُ عَلَى أَنَّ مَا يَخْرُجُ لِرَبِّهِ وَالْأُجْرَةُ يَدْفَعُهَا رَبُّهُ لِلْعَامِلِ فَيَجُوزُ وَلَوْ بِأُجْرَةِ نَقْدٍ.وَفِي جَوَازِ دَفْعِ الْمَعْدِنِ بِجُزْءٍ لِلْعَامِلِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهُ كَنِصْفٍ أَوْ رُبُعٍ كَالْقِرَاضِ وَمَنْعِهِ...قَوْلَانِ رُجِّحَ كُلٌّ مِنْهُمَا.

وَإِنَّمَا جَازَتِ الْإِجَارَةُ فِي اسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ لِجَوَازِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَى هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ، يَقُولُ السَّرَخْسِيُّ: وَإِذَا تَقَبَّلَ الرَّجُلُ مِنَ السُّلْطَانِ مَعْدِنًا ثُمَّ اسْتَأْجَرَ فِيهِ أُجَرَاءَ، وَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ مَالًا قَالَ يُخَمَّسُ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِلْمُتَقَبِّلِ، لِأَنَّ عَمَلَ أُجَرَائِهِ كَعَمَلِهِ بِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّ عَمَلَهُمْ صَارَ مُسَلَّمًا إِلَيْهِ حُكْمًا بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْأُجْرَةِ لَهُمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَمِلُوا فِيهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَالْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسُ لَهُمْ دُونَهُ، لِأَنَّهُمْ وَجَدُوا الْمَالَ، وَالْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسُ لِلْوَاجِدِ، وَالتَّقَبُّلُ مِنَ السُّلْطَانِ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مَا هُوَ عَيْنٌ، وَالتَّقَبُّلُ فِي مِثْلِهِ لَا يَصِحُّ، كَمَنْ تَقَبَّلَ أَجَمَةً فَاصْطَادَ فِيهَا السَّمَكَ غَيْرُهُ كَانَ لِلَّذِي اصْطَادَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَقَبَّلَ بَعْضَ الْمَقَانِصِ مِنَ السُّلْطَانِ فَاصْطَادَ فِيهَا غَيْرُهُ كَانَ الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ التَّقَبُّلُ مِنْهُ، فَهَذَا مِثْلُهُ.

وَمَعْنَى التَّقَبُّلِ الِالْتِزَامُ بِالْعَمَلِ بِعَقْدٍ

(ر: تَقَبُّلٌ ف 1).

لَكِنْ لَوْ فَسَدَتِ الْإِجَارَةُ فَالْقِيَاسُ أَلاَّ تَجِبَ الْأُجْرَةُ لِلْأَجِيرِ وَأَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ فِي اسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ نَصَّ ابْنُ عَابِدِينَ فِيمَا لَوْ لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى تَعْيِينِ الْعَمَلِ بِمَا لَا يَضْبِطُهُ- كَأَنْ لَا يَذْكُرَا وَقْتًا يُحَدِّدَانِهِ لِهَذَا الْعَمَلِ- أَنَّ الرِّكَازَ هُنَا لِلْعَامِلِ أَيْضًا، إِذَا لَمْ يُوَقِّتَا، لِأَنَّهُ إِذَا فَسَدَ الِاسْتِئْجَارُ بَقِيَ مُجَرَّدُ التَّوْكِيلِ، وَالتَّوْكِيلُ فِي أَخْذِ الْمُبَاحِ لَا يَصِحُّ بِخِلَافِ مَا إِذَا حَصَّلَهُ أَحَدُهُمَا بِإِعَانَةِ الْآخَرِ، فَإِنَّ لِلْمُعِينِ أَجْرَ مِثْلِهِ، لِأَنَّهُ عَمِلَ لَهُ غَيْرَ مُتَبَرِّعٍ، هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فَتَأَمَّلْهُ.

ج- الِاشْتِرَاكُ فِي اسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ:

17- انْقَسَمَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الِاشْتِرَاكِ فِي اسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ إِلَى فَرِيقَيْنِ:

الْأَوَّلُ: الْحُكْمُ بِفَسَادِ الشَّرِكَةِ فِي اسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ وَرُجُوعِ مَا يَسْتَخْرِجُهُ كُلُّ شَرِيكٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، قَالَ الْحَصْكَفِيُّ: لَوْ عَمِلَ رَجُلَانِ فِي طَلَبِ الرِّكَازِ فَهُوَ لِلْوَاجِدِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْآخَرِ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا إِذَا حَفَرَ أَحَدُهُمَا مَثَلًا، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ وَأَتَمَّ الْحَفْرَ وَاسْتَخْرَجَ الرِّكَازَ، أَمَّا لَوِ اشْتَرَكَا فِي طَلَبِ ذَلِكَ فَسَيُذْكَرُ فِي بَابِ الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ فِي احْتِشَاشٍ وَاصْطِيَادٍ وَاسْتِقَاءٍ وَسَائِرِ مُبَاحَاتٍ كَاجْتِنَاءِ ثِمَارٍ مِنْ جِبَالٍ وَطَلَبِ مَعْدِنٍ مِنْ كَنْزٍ وَطَبْخِ آجُرٍّ مِنْ طِينٍ مُبَاحٍ لِتَضَمُّنِهَا الْوَكَالَةَ، وَالتَّوْكِيلُ فِي أَخْذِ الْمُبَاحِ لَا يَصِحُّ، وَمَا حَصَّلَهُ أَحَدُهُمَا فَلَهُ، وَمَا حَصَّلَاهُ مَعًا فَلَهُمَا نِصْفَيْنِ إِنْ لَمْ يُعْلَمْ مَا لِكُلٍّ، وَمَا حَصَّلَهُ أَحَدُهُمَا بِإِعَانَةِ صَاحِبِهِ فَلَهُ، وَلِصَاحِبِهِ أَجْرُ مِثْلٍ بَالِغًا مَا بَلَغَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ ثَمَنِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا كَانَتْ شَرِكَةً فِي تَحْصِيلِ الْمَعَادِنِ الْخِلْقِيَّةِ أَوِ الْكُنُوزِ الْجَاهِلِيَّةِ فَاسِدَةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ فَلَا تَقْبَلُ التَّوْكِيلَ فِي أَخْذِهَا، وَالشَّرِكَةُ إِنَّمَا تَقُومُ عَلَى مَعْنَى الْوَكَالَةِ، فَكُلٌّ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ وَكِيلٌ عَنِ الْآخَرِ فِي التَّقَبُّلِ وَالْعَمَلِ حَتَّى يَشْتَرِكَا فِي الرِّبْحِ الْحَاصِلِ لَهُمَا، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الِاشْتِرَاكِ فِي التَّحْصِيلِ بِآلَةٍ يَسْتَخْدِمُهَا كُلٌّ مِنْهُمَا فِي عَمَلِهِ أَوْ بِآلَاتٍ مُشْتَرَكَةٍ.

الثَّانِي: جَوَازُ الِاشْتِرَاكِ فِي اسْتِخْرَاجِ الْمَعَادِنِ وَالْكُنُوزِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، خِلَافًا لِاتِّجَاهِ الْحَنَفِيَّةِ، فَفِي حَاشِيَةِ الدُّسُوقِيِّ جَوَازُ الِاشْتِرَاكِ فِي الْحَفْرِ عَلَى الرِّكَازِ وَالْمَعْدِنِ وَالْآبَارِ وَالْعُيُونِ وَكَذَا الْبُنْيَانُ بِشَرْطِ اتِّحَادِ الْمَوْضِعِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْفِرَ هَذَا فِي غَارٍ فِيهِ مَعْدِنٌ وَهَذَا فِي غَارٍ آخَرَ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ جَوَازَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمُبَاحِ كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالثِّمَارِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْجِبَالِ وَالْمَعَادِنِ وَالتَّلَصُّصِ عَلَى دَارِ الْحَرْبِ، فَهَذَا جَائِزٌ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَيَسْتَدِلُّ الْحَنَابِلَةُ لِمَذْهَبِهِمْ مِنَ الْمَنْقُولِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «اشْتَرَكْتُ أَنَا وَعَمَّارٌ وَسَعْدٌ يَوْمَ بَدْرٍ، فَجَاءَ سَعْدٌ بِأَسِيرَيْنِ وَلَمْ أَجِئْ أَنَا وَعَمَّارٌ بِشَيْءٍ» قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْفَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ.

أَمَّا مِنَ الْمَعْقُولِ فَيَسْتَدِلُّونَ بِأَنَّ الْعَمَلَ أَحَدُ جِهَتَيِ الْمُضَارَبَةِ وَصِحَّةُ الشَّرِكَةِ عَلَيْهِ كَالْمَالِ.

د- الِاخْتِصَاصُ وَالْمُزَاحَمَةُ:

18- لَا يَتَوَقَّفُ الْعَمَلُ فِي اسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ وَالْمَعَادِنِ عَلَى إِذْنِ الْإِمَامِ إِلاَّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ اشْتَرَطُوا إِذْنَ الْإِمَامِ لِلْعَمَلِ فِي الْمَعَادِنِ مَنْعًا لِلْهَرْجِ وَالنِّزَاعِ بَيْنَ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعَادِنَ قَدْ يَجِدُهَا شِرَارُ النَّاسِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ إِلَى الْإِمَامِ لأَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْفِتَنِ وَالْهَرْجِ

وَلَا يَعْنِي عَدَمُ اشْتِرَاطِ إِذْنِ الْإِمَامِ فِي الْعَمَلِ فِي الْكُنُوزِ وَالْمَعَادِنِ إِثْبَاتَ حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ فِي مُزَاحَمَةِ الْعَامِلِ فِيهَا، فَلَا تَجُوزُ مُزَاحَمَتُهُ فِيمَا اخْتُصَّ بِهِ بِسِبْقِ يَدِهِ عَلَيْهِ، جَاءَ فِي الْأَصْلِ لِلشَّيْبَانِيِّ فِيمَا لَوْ كَانَ الرَّجُلُ يَعْمَلُ فِي الْمَكَانِ يَوْمًا فَيَجِئُ آخَرُ مِنَ الْغَدِ فَيَعْمَلُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَيُصِيبُ مِنْهُ الْمَالَ مُعْتَبِرًا أَحَقِّيَّتَهُ، قَالَ مُحَمَّدٌ: يُخَمَّسُ وَمَا بَقِيَ بَعْدَ الْخُمُسِ فَهُوَ لِلَّذِي عَمِلَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَخِيرًا إِذْ فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُسْتَخْرِجَ الْأَوَّلَ تَرَكَ مَكَانَ الْحَفْرِ فِي الْفَتْرَةِ الَّتِي عَمِلَ فِيهَا الْآخَرُ.

أَمَّا إِذَا لَمْ يَنْقَطِعْ عَنِ الْعَمَلِ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِي مُزَاحَمَتِهِ، لِسَبْقِ اخْتِصَاصِهِ بِهِ وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ مُجَرَّدَ الْعَمَلِ فِي مَكَانٍ لِلْبَحْثِ عَمَّا فِيهِ مِنْ كُنُوزٍ أَوْ مَعَادِنَ لَا يُوجِبُ مِلْكَ مَا يُوجَدُ فِيهِ، إِذِ الْوَاقِعُ أَنَّ مَنْ مَلَكَ أَنْ يَمْلِكَ لَمْ يَعُدْ مَالِكًا، طِبْقًا لِمَا حَرَّرَهُ الْقَرَافِيُّ.

إِقْطَاعُ الْمَعَادِنِ:

19- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ إِقْطَاعِ الْمَعَادِنِ وَهِيَ الْبِقَاعُ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى جَوَاهِرَ الْأَرْضِ، بَعْدَ أَنْ قَسَّمُوهَا إِلَى مَعَادِنَ ظَاهِرَةٍ وَمَعَادِنَ بَاطِنَةٍ، فَأَجَازَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَمَنَعَهُ آخَرُونَ، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ وَالْمَعَادِنِ الْبَاطِنَةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي: (إِقْطَاعٌ ف 17، 18 وَمَعْدِنٌ). أَثَرُ النَّفَقَةِ فِي وُجُوبِ الْخُمُسِ:

20- يَرَى الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ طِبْقًا لِمَا ذَكَرَهُ الدُّسُوقِيُّ أَنَّ الرِّكَازَ فِيهِ الْخُمُسُ إِلاَّ فِي حَالَتَيْنِ وَهُمَا: إِذَا مَا تَوَقَّفَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْأَرْضِ عَلَى كَبِيرِ نَفَقَةٍ، أَوْ عَمَلٍ، وَأَمَّا فِيهِمَا فَالْوَاجِبُ إِخْرَاجُ رُبُعِ الْعُشْرِ، وَيُخَالِفُ ابْنُ يُونُسَ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ وَيُوجِبُ الْخُمُسَ فِي الرِّكَازِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ افْتَقَرَ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْأَرْضِ إِلَى كَبِيرِ نَفَقَةٍ وَإِلَى كَبِيرِ جُهْدٍ وَعَمَلٍ أَمْ لَمْ يَفْتَقِرْ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْوَاجِبُ فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالنَّفَقَةِ أَوِ الْعَمَلِ فِي الْحُصُولِ عَلَيْهِ حَيْثُ إِنَّهُ لَا نَفَقَةَ لِتَحْصِيلِهِ غَالِبًا، لِأَنَّهُ يَصِلُ إِلَى الْوَاجِدِ مِنْ غَيْرِ نَفَقَةٍ وَلَا تَعَبٍ، أَوْ بِقَلِيلٍ مِنْ ذَلِكَ خِلَافًا لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْمُسْتَخْرَجَيْنِ مِنَ الْمَعْدِنِ فَاعْتُبِرَتِ النَّفَقَةُ وَالْعَمَلُ فِي مِقْدَارِ مَا يَجِبُ فِيهِمَا، لِأَنَّ الْوَاجِبَ يَزْدَادُ بِقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ وَيَنْقُصُ بِكَثْرَتِهَا كَالْمُعَشَّرَاتِ.

نَوْعُ وُجُوبِ الْخُمُسِ:

21- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَكْيِيفِ الْخُمُسِ الَّذِي يَجِبُ فِي الْكَنْزِ، هَلْ هُوَ كَالزَّكَاةِ أَوْ كَخُمُسِ الْغَنِيمَةِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْغَنِيمَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الزَّكَاةِ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي (رِكَازٌ ف 10- 15).

شُرُوطُ وُجُوبِ الْخُمُسِ:

أ- التَّمَوُّلُ وَالتَّقَوُّمُ:

22- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى اشْتِرَاطِ تَمَوُّلِ الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ لِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِيهِ، أَمَّا مَا لَا يَتَمَوَّلُهُ النَّاسُ فِي الْعَادَةِ وَلَا يَبْذُلُونَ الْأَثْمَانَ لِلْحُصُولِ عَلَيْهِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْخَارِجِ مِنَ الْأَثْمَانِ لِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِيهِ أَوْ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْكَنْزِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ كَوْنُهُ مِنَ الْأَثْمَانِ بَلْ قَالُوا: إِنَّ الْخُمُسَ يَجِبُ فِي الْخَارِجِ عَيْنًا كَانَ أَوْ عَرَضًا كَنُحَاسٍ وَحَدِيدٍ وَجَوْهَرٍ وَرُخَامٍ وَصُخُورٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِي الْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ أَنْ يَكُونَ نَقْدًا أَيْ ذَهَبًا وَفِضَّةً، سَوَاءٌ أَكَانَا مَضْرُوبَيْنِ أَمْ غَيْرَ مَضْرُوبَيْنِ كَالسَّبَائِكِ عَلَى الْمَذْهَبِ، لِأَنَّهُ مَالٌ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْأَرْضِ، فَاخْتَصَّ بِمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ قَدْرًا وَنَوْعًا كَالْمَعْدِنِ. ب- سَبْقُ الْيَدِ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى مِلْكِ الْكَنْزِ:

23- يُشْتَرَطُ لِاعْتِبَارِ الْمَالِ الْمَدْفُونِ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ مِنَ الْكُنُوزِ الَّتِي يَجِبُ تَخْمِيسُهَا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكًا لِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْمُرَادُ بِالْجَاهِلِيَّةِ مَا قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مِنْ ضَرْبِ الْجَاهِلِيَّةِ وَصِنَاعَتِهِمْ، بَلْ أَنْ يَكُونَ مِنْ دَفْنِهِمْ، لِيُعْلَمَ أَنَّهُ كَانَ فِي مِلْكِهِمْ.

ج- اسْتِخْرَاجُ الْكَنْزِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ لَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ:

24- أَوْجَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ اسْتِخْرَاجَ الْكَنْزِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ لِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِيهِ، فَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا يُخَمَّسُ رِكَازٌ مَعْدِنًا كَانَ أَوْ كَنْزًا وُجِدَ فِي صَحْرَاءِ دَارِ الْحَرْبِ، بَلْ كُلُّهُ لِلْوَاجِدِ، وَلَوْ مُسْتَأْمَنًا، لِأَنَّهُ كَالْمُتَلَصِّصِ.

وَيُخَالِفُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي هَذَا، فَيُخَمَّسُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مَا يُوجَدُ مِنَ الْكُنُوزِ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ لِأَحَدٍ كَمَوَاتِ أَرْضِ الْإِسْلَامِ وَأَرْضِ الْحَرْبِ، وَلِوَاجِدِهِ الْبَاقِي بَعْدَ الْخُمُسِ، وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ أَنَّ الرِّكَازَ هُوَ الْمَوْجُودُ الْجَاهِلِيُّ فِي مَوَاتٍ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ أَمْ بِدَارِ الْحَرْبِ إِنْ كَانُوا يَذُبُّونَا عَنْهُ، وَسَوَاءٌ أَحْيَاهُ الْوَاجِدُ أَمْ أَقْطَعَهُ أَمْ لَا.

د- الِاسْتِخْرَاجُ مِنَ الْبَرِّ لَا مِنَ الْبَحْرِ:

25- اشْتَرَطَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَخْذَ الْكَنْزِ مِنَ الْبَرِّ لِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِيهِ عَلَى حِينِ لَمْ يَشْتَرِطْ بَعْضُهُمْ هَذَا الشَّرْطَ، وَمَبْنَاهُ اخْتِلَافُهُمْ فِي إِلْحَاقِ الْكُنُوزِ بِالْغَنِيمَةِ أَوْ بِالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَفِي تَحْقِيقِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْكُنُوزِ، وَهِيَ فِي الْبَحْرِ، عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يَرِدُ تَوْضِيحُهُ فِيمَا يَلِي:

يَحْكِي الْكَاسَانِيُّ اخْتِلَافَ الْحَنَفِيَّةِ فِي حُكْمِ مَا يُسْتَخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ بِقَوْلِهِ: أَمَّا الْمُسْتَخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ وَالْعَنْبَرِ وَكُلِّ حِلْيَةٍ تُسْتَخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ لِلْوَاجِدِ.

وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ الْخُمُسُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَامِلَ عُمَرَ - رضي الله عنه- كَتَبَ إِلَيْهِ فِي لُؤْلُؤَةٍ وُجِدَتْ، مَا فِيهَا؟ قَالَ: فِيهَا الْخُمُسُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَيْضًا أَخَذَ الْخُمُسَ مِنَ الْعَنْبَرِ...وَلِأَنَّ الْمَعْنَى هُوَ كَوْنُ ذَلِكَ مَالًا مُنْتَزَعًا مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ بِالْقَهْرِ، إِذِ الدُّنْيَا كُلُّهَا بَرُّهَا وَبَحْرُهَا كَانَتْ تَحْتَ أَيْدِيهِمُ، انْتَزَعْنَاهَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ غَنِيمَةً فَيَجِبُ الْخُمُسُ كَسَائِرِ الْغَنَائِمِ، وَلَهُمَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما- أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْعَنْبَرِ؟ فَقَالَ: هُوَ شَيْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ لَا خُمُسَ فِيهِ، وَلِأَنَّ يَدَ الْكَفَرَةِ لَمْ تَثْبُتْ عَلَى بَاطِنِ الْبِحَارِ الَّتِي يُسْتَخْرَجُ مِنْهَا اللُّؤْلُؤُ وَالْعَنْبَرُ، فَلَمْ يَكُنِ الْمُسْتَخْرَجُ مِنْهَا مَأْخُوذًا مِنْ أَيْدِي الْكَفَرَةِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ، فَلَا يَكُونُ غَنِيمَةً فَلَا يَكُونُ فِيهِ الْخُمُسُ، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنِ اسْتَخْرَجَ مِنَ الْبَحْرِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً فَلَا شَيْءَ فِيهِ.وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه- فِي اللُّؤْلُؤِ وَالْعَنْبَرِ مَحْمُولٌ عَلَى لُؤْلُؤٍ وَعَنْبَرٍ وُجِدَ فِي خَزَائِنِ مُلُوكِ الْكَفَرَةِ، فَكَانَ مَالًا مَغْنُومًا فَأَوْجَبَ فِيهِ الْخُمُسَ وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ فِي الْمَذْهَبِ، فَفِي حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكَنْزَ يُخَمَّسُ كَيْفَ كَانَ.سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ أَوْ لَا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا، وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ جَمِيعُ مَا يُسْتَخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ مِنْ حِلْيَةٍ وَلَوْ ذَهَبًا كَانَ كَنْزًا فِي قَعْرِ الْبَحْرِ.أَيْ وَلَوْ كَانَ مَا يُسْتَخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ ذَهَبًا مَكْنُوزًا بِصُنْعِ الْعِبَادِ فِي قَعْرِ الْبَحْرِ، فَإِنَّهُ لَا خُمُسَ فِيهِ، وَكُلُّهُ لِلْوَاجِدِ.لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ الْقَهْرُ، فَلَمْ يَكُنْ غَنِيمَةً -.وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مَخْصُوصٌ فِيمَا لَيْسَ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنَ الْبَحْرِ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ وَنَحْوِهِ فِي ظَاهِرِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ وَاخْتِيَارِ أَبِي بَكْرٍ، وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وعَطَاءٌ والثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ فِيهِ الزَّكَاةَ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ مَعْدِنٍ فَأَشْبَهَ الْخَارِجَ مِنْ مَعْدِنِ الْبَرِّ وَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيمَا يَخْرُجُ مِنَ الْبَحْرِ لِأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ فِيهِ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْوُجُوبِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: مَا لَفَظَهُ الْبَحْرُ كَعَنْبَرٍ مِمَّا لَمْ يَسْبِقْ عَلَيْهِ مِلْكٌ لِأَحَدٍ فَلِوَاجِدِهِ بِلَا تَخْمِيسٍ، فَإِنْ تَقَدَّمَ مِلْكٌ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ لِجَاهِلِيٍّ أَوْ شُكَّ فِيهِ فَرِكَازٌ، وَإِنْ كَانَ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَلُقَطَةٌ.

هـ- النِّصَابُ:

26- لَا يَشْتَرِطُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ النِّصَابَ لِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِي الْكُنُوزِ فَكُلُّ مَا يُوجَدُ مِنْهُ، قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا مَحَلٌّ لِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِيهِ كَالْغَنِيمَةِ فِي ذَلِكَ، نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ مُقَابِلُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُقَابِلُهُ مَا قَالَهُ ابْنُ سَحْنُونٍ مِنْ أَنَّ الْيَسِيرَ الَّذِي يَقِلُّ عَنِ النِّصَابِ لَا يُخَمَّسُ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ اشْتِرَاطُ النِّصَابِ، وَلَوْ بِالضَّمِّ لِأَنَّهُ مَالٌ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْأَرْضِ فَاخْتَصَّ بِمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ قَدْرًا وَنَوْعًا كَالْمَعَادِنِ.

و- حَوَلَانُ الْحَوْلِ:

27- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْخُمُسِ حَوَلَانُ الْحَوْلِ عَلَى الْخَارِجِ لِحُصُولِهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً كَالزَّرْعِ وَالثِّمَارِ فَلَمْ يُنَاسِبْهُ الْحَوْلُ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْحَوْلِ لِلنَّمَاءِ وَهَذَا كُلُّهُ نَمَاءٌ.

ز- إِسْلَامُ الْوَاجِدِ:

28- لَا يَشْتَرِطُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِسْلَامَ الْوَاجِدِ لِوُجُوبِ الْخُمُسِ، فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ أَصَابَ الذِّمِّيُّ أَوِ الْمُسْلِمُ كَنْزًا خُمِّسَ مَا أَصَابَ وَكَانَتِ الْبَقِيَّةُ لِمَنْ أَصَابَهُ وَيَسْتَوِي- كَمَا قَالَ السَّرَخْسِيُّ- أَنْ يَكُونَ الْوَاجِدُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا، صَبِيًّا أَوْ بَالِغًا، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ هَذَا الْمَالِ كَاسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ، وَلِجَمِيعِ مَنْ سَمَّيْنَا حَقٌّ فِي الْغَنِيمَةِ إِمَّا سَهْمًا وَإِمَّا رَضْخًا. وَفِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ يُخَمَّسُ مَا يُصِيبُ الرَّجُلُ مِنْ كُنُوزٍ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى دِينِهِ وَفِي الْإِنْصَافِ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُخَمِّسَ كُلُّ أَحَدٍ وَجَدَ ذَلِكَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ.وَاخْتَارَ ابْنُ حَامِدٍ أَنْ يُؤْخَذَ الرِّكَازُ كُلُّهُ مِنَ الذِّمِّيِّ لِبَيْتِ الْمَالِ وَلَا خُمُسَ عَلَيْهِ، وَالْمَذْهَبُ هُوَ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي وُجُوبِ الْخُمُسِ.

وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ حُكْمَ الذِّمِّيِّ فِي الرِّكَازِ حُكْمُهُ فِي الْمَعْدِنِ.فَلَا يُمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ وَجَدَهُ مَلَكَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ.

وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ لِوُجُوبِ الْخُمُسِ فِي الرِّكَازِ كَوْنَ وَاجِدِهِ مُسْلِمًا لِأَنَّ خُمُسَ الرِّكَازِ يُصْرَفُ مَصْرِفَ الزَّكَاةِ عِنْدَهُمْ، وَلَيْسَ غَيْرُ الْمُسْلِمِ كَالذِّمِّيِّ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ.

وَأَوْجَبَ الْخُرَاسَانِيُّونَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى الذِّمِّيِّ الْخُمُسَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَصْرِفَهُ مَصْرِفُ الْفَيْءِ، فَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ لِوُجُوبِ الْخُمُسِ عَلَيْهِ. ح- أَهْلِيَّةُ الْوَاجِدِ:

29- يُقْصَدُ بِهَذِهِ الْأَهْلِيَّةِ صَلَاحِيَةُ الْوَاجِدِ لِلِاسْتِحْقَاقِ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَهَذَا هُوَ تَفْسِيرُ الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلِذَا يَجِبُ الْخُمُسُ عَلَى الْوَاجِدِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لَهُ لِتَعَلُّقِ الْوَاجِبِ بِالْعَيْنِ، فَيَسْتَوِي عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِدُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا صَبِيًّا أَوْ بَالِغًا رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْخُمُسُ، وَالْبَاقِي يَكُونُ لِلْوَاجِدِ، سَوَاءٌ وَجَدَهُ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ أَوْ أَرْضِ الْخَرَاجِ، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ هَذَا الْمَالِ كَاسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ، وَلِجَمِيعِ مَنْ سَمَّيْنَا حَقٌّ فِي الْغَنِيمَةِ إِمَّا سَهْمًا وَإِمَّا رَضْخًا فَإِنَّ الصَّبِيَّ وَالْعَبْدَ وَالذِّمِّيَّ وَالْمَرْأَةَ يُرْضَخُ لَهُمْ

وَيَسْتَدِلُّ الْجُمْهُورُ عَلَى مَذْهَبِهِمْ بِعُمُومِ قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم-: «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ» وَلِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْغَنِيمَةِ فِي تَعَلُّقِ الْوَاجِبِ بِعَيْنِهَا، وَلِأَنَّهُ اكْتِسَابُ مَالٍ فَكَانَ لِمُكْتَسِبِهِ حُرًّا أَوْ عَبْدًا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا أَوِ امْرَأَةً.

مَوَانِعُ وُجُوبِ الْخُمُسِ فِي الْكَنْزِ

يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْخُمُسِ أَوْ بَعْضِهِ لِعِدَّةِ أَسْبَابٍ أَهَمُّهَا:

تَلَفُ الْكَنْزِ بَعْدَ خُرُوجِهِ تَلَفًا جُزْئِيًّا أَوْ كُلِّيًّا وَظُهُورُ مَالِكِهِ، وَاشْتِرَاطُ الْإِمَامِ عَلَى الْوَاجِدِ الْعَمَلَ فِي احْتِفَارِ الْكُنُوزِ وَاسْتِخْرَاجِهَا لِبَيْتِ الْمَالِ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ، وَفِيمَا يَلِي تَوْضِيحُ هَذِهِ الْمَوَانِعِ بِوَجْهِ الْإِجْمَالِ وَالْإِيجَازِ:

أ- تَلَفُ الْكَنْزِ جُزْئِيًّا أَوْ كُلِّيًّا:

30- يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الرِّكَازَ يَأْخُذُ مَأْخَذَ الزَّكَاةِ إِذَا احْتَاجَ لِكَبِيرِ نَفَقَةٍ أَوْ عَمَلٍ فِي تَخْلِيصِهِ فَإِذَا تَلِفَ بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ بَعْدَ إِمْكَانِ الْأَدَاءِ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ التَّلَفُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَدَاءِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا تَلِفَ الرِّكَازُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ إِخْرَاجِ الْوَاجِبِ فِيهِ، وَكَانَ التَّلَفُ بِدُونِ تَفْرِيطٍ فِي حِفْظِهِ، فَلَا يَجِبُ الْخُمُسُ، قِيَاسًا عَلَى الْمَالِ الْمُزَكَّى قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ الْمَالِكُ مِنْ إِخْرَاجِ زَكَاتِهِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: زَكَاةٌ -).

ب- مَدْيُونِيَّةُ الْوَاجِدِ:

31- لَا يَمْنَعُ الدَّيْنُ عَلَى الْوَاجِدِ وُجُوبَ الْخُمُسِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ لِلْوَاجِدِ أَنْ يَكْتُمَ الْخُمُسَ لِنَفْسِهِ وَلَا يُخْرِجَهُ إِذَا كَانَ فَقِيرًا أَوْ مَدِينًا مُحْتَاجًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَتَأَوَّلُ أَنَّ لَهُ حَقًّا فِي بَيْتِ الْمَالِ وَنَصِيبًا فِي الْفَيْءِ فَأَجَازُوا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْخُمُسَ لِنَفْسِهِ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ، لَا أَنَّهُمْ أَسَقَطُوا الْخُمُسَ عَنِ الْمَعَادِنِ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، وَالْمَرْجُوحُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ الْوَاجِبَ فِي الْمَالِ الْبَاطِنِ وَهُوَ النَّقْدُ، وَالرِّكَازُ وَالْعَرَضُ، وَلَا يَمْنَعُ فِي الظَّاهِرِ، وَهُوَ الْمَاشِيَةُ وَالزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ وَالْمَعْدِنُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الظَّاهِرَ يَنْمُو بِنَفْسِهِ، وَالْبَاطِنَ إِنَّمَا يَنْمُو بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ، وَالدَّيْنُ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَيُحْوِجُ إِلَى صَرْفِهِ فِي قَضَائِهِ وَمَحَلُّ الْخِلَافِ كَمَا جَاءَ فِي حَاشِيَةِ الْجَمَلِ أَلاَّ يَزِيدَ الْمَالُ عَلَى الدَّيْنِ بِمِقْدَارِ النِّصَابِ، فَإِنْ زَادَ بِمَا يَبْلُغُ النِّصَابَ زَكَّى الزَّائِدَ، وَأَلاَّ يَكُونَ لَهُ مَا يُؤَدِّي دَيْنَهُ مِنْهُ غَيْرُ الْمَالِ الْمُزَكَّى، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَمْنَعْ قَطْعًا عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: الدَّيْنُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ الْأَثْمَانُ وَعُرُوضُ التِّجَارَةِ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ رَبِيعَةُ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ لَا يَمْنَعُ، لِأَنَّهُ حُرٌّ مُسْلِمٌ مَلَكَ نِصَابًا حَوْلًا فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ كَمَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ وَدَلِيلُ الْقَوْلِ بِمَنْعِ الدَّيْنِ زَكَاةَ مَا يُقَابِلُهُ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم-: «لَا صَدَقَةَ إِلاَّ عَنْ ظَهْرِ غِنًى».

أَمَّا الْأَمْوَالُ الظَّاهِرَةُ وَهِيَ الْمَوَاشِي وَالْحُبُوبُ وَالثِّمَارُ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِيهَا لِمَا ذَكَرْنَا، قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: يَبْتَدِئُ بِالدَّيْنِ فَيَقْضِيهِ ثُمَّ يَنْظُرُ مَا بَقِيَ عِنْدَهُ بَعْدَ إِخْرَاجِ النَّفَقَةِ فَيُزَكِّيهِ، وَلَا يَكُونُ عَلَى أَحَدٍ دَيْنُهُ أَكْثَرُ مِنْ مَالِهِ، صَدَقَةٌ فِي إِبِلٍ أَوْ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ أَوْ زَرْعٍ، وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَالثَّوْرِيِّ واللَّيْثِ وَإِسْحَاقَ.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لَا يَمْنَعُ الزَّكَاةَ فِيهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ

وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الدَّيْنُ الزَّكَاةَ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ إِلاَّ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ فِيمَا اسْتَدَانَهُ لِلْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا خَاصَّةً، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ.

وَلِلتَّفْصِيلِ (ر: زَكَاةٌ ف 33- 34). ج- الشَّرْطُ وَالِاتِّفَاقُ مَعَ الْإِمَامِ:

32- إِذَا لَمْ يَأْذَنِ الْإِمَامُ فِي الْعَمَلِ لِاسْتِخْرَاجِ الْكُنُوزِ إِلاَّ بِشُرُوطٍ خَاصَّةٍ كَأَنْ يَأْخُذَ الْوَاجِدُ أُجْرَةً مُعَيَّنَةً وَيَكُونُ الْخَارِجُ لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الشَّرْطِ يَصِحُّ وَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى شُرُوطِهِمْ.

يَقُولُ الْكَاسَانِيُّ: فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ.سَوَاءٌ كَانَ الْوَاجِدُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا...إِلاَّ إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَقَاطَعَهُ عَلَى شَيْءٍ فَلَهُ أَنْ يَفِيَ بِشَرْطِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم-: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ»،، وَلِأَنَّهُ إِذَا قَاطَعَهُ عَلَى شَيْءٍ فَقَدْ جَعَلَ الْمَشْرُوطَ أُجْرَةً لِعَمَلِهِ فَيَسْتَحِقُّهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَيَذْكُرُ الْخَرَشِيُّ اعْتِبَارَ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الِاتِّفَاقِ (هِبَةً لِلثَّوَابِ) حَتَّى لَا يُنَازَعَ فِي صِحَّةِ الْإِجَارَةِ لِجَهَالَةِ الْأُجْرَةِ أَوِ الْمَأْجُورِ عَلَيْهِ.

كَنْزُ الْمَالِ:

33- اتَّجَهَ الْفُقَهَاءُ فِي تَحْدِيدِ مَفْهُومِ كَنْزِ الْمَالِ اتِّجَاهَاتٍ ثَلَاثَةً:

الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ: تَعْرِيفُ الْكَنْزِ بِأَنَّهُ هُوَ «مَا فَضَلَ عَنِ الْحَاجَةِ»، وَأَشْهَرُ مَنْ دَعَا إِلَى هَذَا الِاتِّجَاهِ أَبُو ذَرٍّ - رضي الله عنه-.

قَالَ الرَّازِيُّ: الْمَالُ الْكَثِيرُ إِذَا جُمِعَ فَهُوَ الْكَنْزُ الْمَذْمُومُ سَوَاءٌ أُدِّيَتْ زَكَاتُهُ أَوْ لَمْ تُؤَدَّ لِعُمُومِ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} فَظَاهِرُ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ جَمْعِ الْمَالِ، وَلِمَا رَوَى ثَوْبَانُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم-: «تَبًّا لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَأَيُّ مَالٍ نَكْنِزُ؟ قَالَ: قَلْبًا شَاكِرًا وَلِسَانًا ذَاكِرًا وَزَوْجَةً صَالِحَةً».

الِاتِّجَاهُ الثَّانِي: تَعْرِيفُ الْكَنْزِ بِأَنَّهُ جَمْعُ الْمَالِ الَّذِي لَا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ، أَمَّا مَا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا أُدِّيَ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ تَحْتَ سَبْعِ أَرَضِينَ، وَكُلُّ مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ وَإِنْ كَانَ فَوْقَ الْأَرْضِ.

وَهُوَ الْكَنْزُ الْمَذْمُومُ كَمَا قَالَ الْأَكْثَرُونَ.

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قوله تعالى: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يُرِيدُ الَّذِينَ لَا يُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، وَبِعُمُومِ قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا اكْتَسَبَهُ الْإِنْسَانُ فَهُوَ حَقُّهُ وَبِقَوْلِهِ - عليه الصلاة والسلام-: «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ».

الِاتِّجَاهُ الثَّالِثُ: تَعْرِيفُ الْكَنْزِ لِلْمَالِ بِأَنَّهُ مَا لَمْ تُؤَدَّ مِنْهُ الْحُقُوقُ الْعَارِضَةُ كَفَكِّ الْأَسِيرِ وَإِطْعَامِ الْجَائِعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


13-موسوعة الفقه الكويتية (معازف 1)

مَعَازِفُ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْمَعَازِفُ فِي اللُّغَةِ: الْمَلَاهِي، وَاحِدُهَا مِعْزَفٌ وَمِعْزَفَةٌ، وَالْمَعَازِفُ كَذَلِكَ: الْمَلَاعِبُ الَّتِي يُضْرَبُ بِهَا، فَإِذَا أُفْرِدَ الْمِعْزَفُ فَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الطَّنَابِيرِ يَتَّخِذُهُ أَهْلُ الْيَمَنِ، وَغَيْرُهُمْ يُجْعَلُ الْعُودُ مِعْزَفًا، وَالْمِعْزَفُ آلَةُ الطَّرَبِ كَالْعُودِ وَالطُّنْبُورِ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- اللَّهْوُ:

2- اللَّهْوُ فِي اللُّغَةِ: مَا لَعِبْتَ بِهِ وَشَغَلَكَ مِنْ هَوًى وَطَرَبٍ وَنَحْوِهِمَا، وَنَقَلَ الْفَيُّومِيُّ عَنِ الطُّرْطُوشِيِّ قَوْلَهُ: أَصْلُ اللَّهْوِ التَّرْوِيحُ عَنِ النَّفْسِ بِمَا لَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ.

وَأَلْهَاهُ اللَّعِبُ عَنْ كَذَا: شَغَلَهُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَتَلَذَّذُ بِهِ الْإِنْسَانُ فَيُلْهِيهِ ثُمَّ يَنْقَضِي، وَفِي الْمَدَارِكِ: اللَّهْوُ كُلُّ بَاطِلٍ أَلْهَى عَنِ الْخَيْرِ وَعَمَّا يُعْنَى وَالصِّلَةُ أَنَّ الْمَعَازِفَ قَدْ تَكُونُ وَسِيلَةً أَوْ أَدَاةً لِلَّهْوِ.

ب- الْمُوسِيقَى:

3- الْمُوسِيقَى لَفْظٌ يُونَانِيٌّ يُطْلَقُ عَلَى فُنُونِ الْعَزْفِ عَلَى آلَاتِ الطَّرَبِ.

وَعِلْمُ الْمُوسِيقَى يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ أُصُولِ النَّغَمِ مِنْ حَيْثُ تَأْتَلِفُ أَوْ تَتَنَافَرُ وَأَحْوَالِ الْأَزْمِنَةِ الْمُتَخَلِّلَةِ بَيْنَهَا لِيُعْلَمَ كَيْفَ يُؤَلَّفُ اللَّحْنُ.

وَالْمُوسِيقِيُّ: الْمَنْسُوبُ إِلَى الْمُوسِيقَى، وَالْمُوسِيقَارُ: مَنْ حِرْفَتُهُ الْمُوسِيقَى.

وَالْمُوسِيقَى فِي الِاصْطِلَاحِ: عِلْمٌ يُعْرَفُ مِنْهُ أَحْوَالُ النَّغَمِ وَالْإِيقَاعَاتِ وَكَيْفِيَّةِ تَأْلِيفِ اللُّحُونِ وَإِيجَادِ الْآلَاتِ.

وَالصِّلَةُ: أَنَّ الْمَعَازِفَ تُسْتَعْمَلُ فِي الْمُوسِيقَى.ج- الْغِنَاءُ:

4- الْغِنَاءُ بِكَسْرِ الْغَيْنِ مِثْلُ كِتَابٍ فِي اللُّغَةِ: الصَّوْتُ، وَقِيَاسُهُ ضَمُّ الْغَيْنِ: إِذَا صُوِّتَ، وَهُوَ التَّطْرِيبُ وَالتَّرَنُّمُ بِالْكَلَامِ الْمَوْزُونِ وَغَيْرِهِ، يَكُونُ مَصْحُوبًا بِالْمُوسِيقَى- أَيْ آلَاتِ الطَّرَبِ- وَغَيْرَ مَصْحُوبٍ بِهَا.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: يُطْلَقُ الْغِنَاءُ عَلَى رَفْعِ الصَّوْتِ بِالشِّعْرِ وَمَا قَارَبَهُ مِنَ الرِّجْزِ عَلَى نَحْوٍ مَخْصُوصٍ.

ر: مُصْطَلَحُ (غِنَاءٌ ف 1).

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

5- الْمَعَازِفُ مِنْهَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ كَذَاتِ الْأَوْتَارِ وَالنَّايَاتِ وَالْمَزَامِيرِ وَالْعُودِ وَالطُّنْبُورِ وَالرَّبَابِ، نَحْوُهَا فِي الْجُمْلَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا فَعَلَتْ أُمَّتِي خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً حَلَّ بِهَا الْبَلَاءُ وَعَدَّ- صلى الله عليه وسلم- مِنْهَا: وَاتَّخَذَتِ الْقَيْنَاتِ وَالْمَعَازِفَ» وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْحَقَ الْمَزَامِيرَ وَالْكِنَّارَاتِ يَعْنِي الْبَرَابِطَ وَالْمَعَازِفَ».

وَمِنَ الْمَعَازِفِ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ، كَالدُّفِّ الْمُصَنَّجِ لِلرِّجَالِ عِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.عَلَى تَفْصِيلٍ سَيَأْتِي.

وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مُبَاحًا كَطُبُولِ غَيْرِ اللَّهْوِ مِثْلُ طُبُولِ الْغَزْوِ أَوِ الْقَافِلَةِ.عِنْدَ بَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.

وَمِنْهَا مَا يَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ مَنْدُوبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا كَضَرْبِ الدُّفِّ فِي النِّكَاحِ لِإِعْلَانِهِ.عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَفِي غَيْرِ النِّكَاحِ مِنْ مُنَاسَبَاتِ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ الْبَعْضِ.

عِلَّةُ تَحْرِيمِ بَعْضِ الْمَعَازِفِ:

6- نَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ مَا حَرُمَ مِنَ الْمَعَازِفِ وَآلَاتِ اللَّهْوِ لَمْ يَحْرُمْ لَعَيْنِهِ وَإِنَّمَا لِعِلَّةٍ أُخْرَى:

فَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: آلَةُ اللَّهْوِ لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً لَعَيْنِهَا بَلْ لِقَصْدِ اللَّهْوِ مِنْهَا، إِمَّا مِنْ سَامِعِهَا أَوْ مِنَ الْمُشْتَغِلِ بِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ ضَرْبَ تِلْكَ الْآلَةِ حَلَّ تَارَةً وَحَرُمَ أُخْرَى بِاخْتِلَافِ النِّيَّةِ؟

وَالْأُمُورُ بِمَقَاصِدِهَا.

وَقَالَ الْحَصْكَفِيُّ: وَمِنْ ذَلِكَ- أَيِ الْحَرَامِ- ضَرْبُ النَّوْبَةِ لِلتَّفَاخُرِ، فَلَوْ لِلتَّنْبِيهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْمُلْتَقَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بُوقُ الْحَمَامِ يَجُوزُ كَضَرْبِ النَّوْبَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ طَبْلُ الْمُسَحِّرِ فِي رَمَضَانَ لِإِيقَاظِ النَّائِمِينَ لِلسُّحُورِ كَبُوقِ الْحَمَامِ.

مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ مِنَ الْمَعَازِفِ

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ آلَاتِ الْمَعَازِفِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْآتِي:

أ- الدُّفُّ:

7- الدُّفُّ فِي اللُّغَةِ: هُوَ الَّذِي يُلْعَبُ بِهِ وَقَدْ عَرَّفَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِالطَّارِ أَوِ الْغِرْبَالِ وَهُوَ الْمُغَشَّى بِجِلْدٍ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَدْفِيفِ الْأَصَابِعِ عَلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: الدُّفُّ هُوَ الْمُغَشَّى مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَوْتَارٌ وَلَا جَرَسٌ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ وَلَوْ كَانَ فِيهِ أَوْتَارٌ لِأَنَّهُ لَا يُبَاشِرُهَا بِالْقَرْعِ بِالْأَصَابِعِ.وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الدُّفِّ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا بَأْسَ أَنْ يَكُونَ لَيْلَةَ الْعُرْسِ دُفٌّ يُضْرَبُ بِهِ لِيُعْلَنَ النِّكَاحُ، وَعَنِ السَّرَّاجِيَّةِ: أَنَّ هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ جَلَاجِلُ وَلَمْ يُضْرَبْ عَلَى هَيْئَةِ التَّطَرُّبِ، قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالدُّفُّ الَّذِي يُبَاحُ ضَرْبُهُ فِي الْعُرْسِ.احْتِرَازًا عَنِ الْمُصَنَّجِ، فَفِي النِّهَايَةِ عَنْ أَبِي اللَّيْثِ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا.

وَسُئِلَ أَبُو يُوسُفَ عَنِ الدُّفِّ: أَتَكْرَهُهُ فِي غَيْرِ الْعُرْسِ بِأَنْ تَضْرِبَ الْمَرْأَةُ فِي غَيْرِ فِسْقٍ لِلصَّبِيِّ؟ قَالَ: لَا أَكْرَهُهُ، وَلَا بَأْسَ بِضَرْبِ الدُّفِّ يَوْمَ الْعِيدِ، كَمَا فِي خِزَانَةِ الْمُفْتِينَ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَا يُكْرَهُ الْغِرْبَالُ أَيِ الطَّبْلُ بِهِ فِي الْعُرْسِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَابْنُ عَرَفَةَ: اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى إِجَازَةِ الدُّفِّ وَهُوَ الْغِرْبَالُ فِي الْعُرْسِ، وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: يُسْتَحَبُّ فِي الْعُرْسِ لِقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-: «أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ».

وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْعُرْسِ كَالْخِتَانِ وَالْوِلَادَةِ فَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: الْمَشْهُورُ عَدَمُ جَوَازِ ضَرْبِهِ، وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ جَوَازُهُ فِي كُلِّ فَرَحٍ لِلْمُسْلِمِينَ، قَالَ الْحَطَّابُ: كَالْعِيدِ وَقُدُومِ الْغَائِبِ وَكُلِّ سُرُورٍ حَادِثٍ، وَقَالَ الْآبِيُّ: وَلَا يُنْكَرُ لَعِبُ الصِّبْيَانِ فِيهَا- أَيِ الْأَعْيَادِ- وَضَرْبُ الدُّفِّ، فَقَدْ وَرَدَ إِقْرَارُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-، وَنَقَلَ الْحَطَّابُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى جَوَازِ الدُّفِّ فِي الْعُرْسِ، إِلاَّ لِلْجَوَارِي الْعَوَاتِقِ فِي بُيُوتِهِنَّ وَمَا أَشْبَهَهُنَّ فَإِنَّهُ يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَيَجْرِي لَهُنَّ مَجْرَى الْعُرْسِ إِذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ.

وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الدُّفِّ ذِي الصَّرَاصِرِ أَيِ الْجَلَاجِلِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى جَوَازِ الضَّرْبِ بِهِ فِي الْعُرْسِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ مَحَلَّ الْجَوَازِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ صَرَاصِرُ أَوْ جَرَسٌ وَإِلاَّ حَرُمَ، قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَهُوَ الصَّوَابُ لِمَا فِي الْجَلَاجِلِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِطْرَابِ، هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ.

وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ ضَرْبِ الرِّجَالِ بِالدُّفِّ فَقَالُوا: لَا يُكْرَهُ الطَّبْلُ بِهِ وَلَوْ كَانَ صَادِرًا مِنْ رَجُلٍ، خِلَافًا لِأَصْبَغَ الْقَائِلِ: لَا يَكُونُ الدُّفُّ إِلاَّ لِلنِّسَاءِ، وَلَا يَكُونُ عِنْدَ الرِّجَالِ وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ يَجُوزُ ضَرْبُ دُفٍّ وَاسْتِمَاعُهُ لِعُرْسٍ لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- أَقَرَّ جُوَيْرَاتٍ ضَرَبْنَ بِهِ حِينَ بَنَى عَلَى الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ وَقَالَ لِمَنْ قَالَتْ: وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ: «دَعِي هَذَا وَقُولِي بِالَّذِي كُنْتِ تَقُولِينَ» أَيْ مِنْ مَدْحِ بَعْضِ الْمَقْتُولِينَ بِبَدْرٍ، وَيَجُوزُ لِخِتَانٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ صَوْتًا أَوْ دُفًّا بَعَثَ قَالَ: مَا هُوَ؟ فَإِذَا قَالُوا عُرْسٌ أَوْ خِتَانٌ، صَمَتَ وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ مِمَّا هُوَ سَبَبٌ لِإِظْهَارِ السُّرُورِ كَوِلَادَةِ وَعِيدٍ وَقُدُومِ غَائِبٍ وَشِفَاءِ مَرِيضٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِ جَلَاجِلُ لِإِطْلَاقِ الْخَبَرِ، وَهَذَا فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمَّا رَجَعَ مِنْ بَعْضِ مَغَازِيهِ قَالَتْ لَهُ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ إِنْ رَدَّكَ اللَّهُ صَالِحًا أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْكَ بِالدُّفِّ وَأَتَغَنَّى، فَقَالَ لَهَا: إِنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي، وَإِلاَّ فَلَا» وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ الْمَنْعُ لِأَثَرِ عُمَرَ- رضي الله عنه- السَّابِقِ، وَاسْتَثْنَى الْبُلْقِينِيُّ مِنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ ضَرْبَ الدُّفِّ فِي أَمْرٍ مُهِمٍّ مِنْ قُدُومِ عَالِمٍ أَوْ سُلْطَانٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: إِنَّ الدُّفَّ يُسْتَحَبُّ فِي الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ، وَبِهِ جَزَمَ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ.

أَمَّا مَتَى يُضْرَبُ الدُّفُّ فِي الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ، فَقَدْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: الْمَعْهُودُ عُرْفًا أَنَّهُ يُضْرَبُ بِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَوَقْتَ الزِّفَافِ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلِ، وَعَبَّرَ الْبَغَوِيُّ فِي فَتَاوِيهِ بِوَقْتِ الْعَقْدِ وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ وَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهِ لِلْعَادَةِ، وَيُحْتَمَلُ ضَبْطُهُ بِأَيَّامِ الزِّفَافِ الَّتِي يُؤْثَرُ بِهَا الْعُرْسُ، وَأَمَّا الْخِتَانُ فَالْمَرْجِعُ فِيهِ الْعُرْفُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ يُفْعَلُ مِنْ حِينِ الْأَخْذِ فِي أَسْبَابِهِ الْقَرِيبَةِ مِنْهُ.

وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ شَيْخِهِ الْحَلِيمِيِّ- وَلَمْ يُخَالِفْهُ- أَنَّا إِذْ أَبَحْنَا الدُّفَّ فَإِنَّمَا نُبِيحُهُ لِلنِّسَاءِ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ مِنْ أَعْمَالِهِنَّ، وَقَدْ «لَعَنَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ»، وَنَازَعَهُ السُّبْكِيُّ بِأَنَّ الْجُمْهُورَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَصْلُ اشْتِرَاكُ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فِي الْأَحْكَامِ إِلاَّ مَا وَرَدَ الشَّرْعُ فِيهِ بِالْفُرْقَةِ وَلَمْ يَرِدْ هُنَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ حَتَّى يُقَالَ يَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ التَّشَبُّهُ بِهِنَّ فِيهِ.

وَنَقَلَ الْهَيْتَمِيُّ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ قَوْلَهُ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا، هَلْ ضَرْبُ الدُّفِّ عَلَى النِّكَاحِ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ وَالْأَزْمَانِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِالْبُلْدَانِ الَّتِي لَا يَتَنَاكَرُهُ أَهْلُهَا فِي الْمَنَاكِحِ كَالْقُرَى وَالْبَوَادِي فَيُكْرَهُ فِي غَيْرِهَا، وَبِغَيْرِ زَمَانِنَا، قَالَ: فَيُكْرَهُ فِيهِ لِأَنَّهُ عَدَلَ بِهِ إِلَى السَّخْفِ وَالسَّفَاهَةِ.

وَقَالَ الْهَيْتَمِيُّ: ظَاهِرُ إِطْلَاقِهِمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي جَوَازِ الضَّرْبِ بِالدُّفِّ بَيْنَ هَيْئَةٍ وَهَيْئَةٍ، وَخَالَفَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِقِيِّ فَقَالَ: إِنَّمَا يُبَاحُ الدُّفُّ الَّذِي تَضْرِبُ بِهِ الْعَرَبُ مِنْ غَيْرِ زَفَنٍ- أَيْ رَقْصٍ- فَأَمَّا الَّذِي يُزْفَنُ بِهِ وَيُنْقَرُ- أَيْ بِرُءُوسِ الْأَنَامِلِ وَنَحْوِهَا- عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْأَنْغَامِ فَلَا يَحِلُّ الضَّرْبُ بِهِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِطْرَابِ مِنْ طَبْلِ اللَّهْوِ الَّذِي جَزَمَ الْعِرَاقِيُّونَ بِتَحْرِيمِهِ، وَتَابَعَهُ تِلْمِيذُهُ ابْنُ أَبِي عَصْرُونٍ، قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَهُوَ حَسَنٌ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَتَعَاطَاهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ ذَكَرْنَا مِنْ أَهْلِ الْفُسُوقِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يُسْتَحَبُّ إِعْلَانُ النِّكَاحِ وَالضَّرْبُ فِيهِ بِالدُّفِّ، قَالَ أَحْمَدُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُظْهَرَ النِّكَاحُ وَيُضْرَبَ فِيهِ بِالدُّفِّ حَتَّى يَشْتَهِرَ وَيُعْرَفَ وَقَالَ: يُسْتَحَبُّ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ فِي الْإِمْلَاكِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا الصَّوْتُ؟ قَالَ: يَتَكَلَّمُ وَيَتَحَدَّثُ وَيَظْهَرُ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ حَاطِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-: «فَصْلُ مَا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ» وَعَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا زَوَّجَتْ يَتِيمَةً كَانَتْ فِي حِجْرِهَا رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارُ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ فِيمَنْ أَهْدَاهَا إِلَى زَوْجِهَا، قَالَتْ: فَلَمَّا رَجَعْنَا قَالَ لِي رَسُولُ اللَّه- صلى الله عليه وسلم-: «مَا قُلْتُمْ يَا عَائِشَةُ؟ قَالَتْ: سَلَّمْنَا وَدَعَوْنَا اللَّهَ بِالْبَرَكَةِ ثُمَّ انْصَرَفْنَا، فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: فَهَلْ بَعَثْتُمْ مَعَهَا جَارِيَةً تَضْرِبُ بِالدُّفِّ وَتُغَنِّي: أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ فَحَيَّانَا وَحَيَّاكُمْ».

وَيُسَنُّ عِنْدَهُمْ ضَرْبٌ بِدُفِّ مُبَاحٍ فِي خِتَانٍ وَقُدُومِ غَائِبٍ وَوِلَادَةٍ كَنِكَاحِ لِمَا فِيهِ مِنَ السُّرُورِ، وَالدُّفُّ الْمُبَاحُ هُوَ مَا لَا حِلَقَ فِيهِ وَلَا صُنُوجٌ.

وَاخْتَلَفُوا فِي ضَرْبِ الرِّجَالِ الدُّفَّ، قَالَ الْبُهُوتِيُّ: وَظَاهِرُهُ- أَيْ نَدْبُ إِعْلَانِ النِّكَاحِ وَضَرْبٌ عَلَيْهِ بِدُفِّ مُبَاحٍ- سَوَاءٌ كَانَ الضَّارِبُ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً وَهُوَ ظَاهِرُ نُصُوصِ أَحْمَدَ وَكَلَامِ الْأَصْحَابِ، وَقَالَ الْمُوَفَّقُ: ضَرْبُ الدُّفِّ مَخْصُوصٌ بِالنِّسَاءِ، وَفِي الرِّعَايَةِ: يُكْرَهُ لِلرِّجَالِ مُطْلَقًا.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: ذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ فِي غَيْرِ النِّكَاحِ لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ صَوْتَ الدُّفِّ بَعَثَ فَنَظَرَ فَإِنْ كَانَ فِي وَلِيمَةٍ سَكَتَ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا عَمَدَ بِالدِّرَّةِ.

ب- الْكُوبَةُ:

8- الْكُوبَةُ طَبْلٌ طَوِيلٌ ضَيِّقُ الْوَسَطِ وَاسِعُ الطَّرَفَيْنِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ طَرَفَاهَا مَسْدُودَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا، وَلَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اتِّسَاعُهُمَا عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَوْسَعَ.وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حُكْمِهَا.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ ضَرْبُ الْكُوبَةِ وَالِاسْتِمَاعُ إِلَيْهَا لِقَوْلِ الرَّسُول- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْخَمْرَ وَالْمَيْسِرَ وَالْكُوبَةَ»، وَلِأَنَّ فِي ضَرْبِهَا تَشَبُّهًا بِالْمُخَنَّثِينَ إِذْ لَا يَعْتَادُهَا غَيْرُهُمْ، وَنَقَلَ أَبُو الْفَتْحِ الرَّازِيُّ- كَمَا حَكَى الْهَيْتَمِيُّ- الْإِجْمَاعَ عَلَى حُرْمَتِهَا.

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: كُرِهَ الطَّبْلُ وَهُوَ الْمُنْكَرُ وَهُوَ الْكُوبَةُ الَّتِي نَهَى عَنْهَا النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-.

ج- الْكَبَرُ وَالْمِزْهَرُ

9- الْكَبَرُ بِفَتْحَتَيْنِ عَلَى وَزْنِ جَبَلٍ، هُوَ الطَّبْلُ الْكَبِيرُ.وَالْمِزْهَرُ: هُوَ فِي اللُّغَةِ الْعُودُ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: هُوَ الدُّفُّ الْمُرَبَّعُ الْمَغْلُوفُ.قَالَ الْحَطَّابُ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمِزْهَرَ أَلْهَى، وَكُلَّمَا كَانَ أَلْهَى كَانَ أَغْفَلَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَكَانَ مِنَ الْبَاطِلِ.

وَلِلْمَالِكِيَّةِ فِي الْكَبَرِ وَالْمِزْهَرِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُمَا يُحْمَلَانِ مَحْمَلَ الْغِرْبَالِ، وَيَدْخُلَانِ مَدْخَلَهُ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِمَا فِي الْعُرْسِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَحْمَلَهُ وَلَا يَدْخُلُ مَعَهُ وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي عُرْسٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْبَغَ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يُحْمَلُ مَحْمَلَهُ وَيَدْخُلُ مَدْخَلَهُ فِي الْكَبَرِ وَحْدَهُ دُونَ الْمِزْهَرِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ.

د- الْأَنْوَاعُ الْأُخْرَى مِنَ الطُّبُولِ

10- لِلْفُقَهَاءِ فِي الْأَنْوَاعِ الْأُخْرَى مِنَ الطُّبُولِ تَفْصِيلٌ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الطَّبْلُ لِغَيْرِ اللَّهْوِ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَطَبْلِ الْغُزَاةِ وَالْعُرْسِ وَالْقَافِلَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ طَبْلُ الْمُسَحِّرِ فِي رَمَضَانَ لِإِيقَاظِ النَّائِمِينَ لِلسُّحُورِ كَبُوقِ الْحَمَامِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى اسْتِثْنَاءِ طُبُولِ الْحَرْبِ مِنْ سَائِرِ الطُّبُولِ.

وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَالطُّبُولُ الَّتِي تُهَيَّأُ لِمَلَاعِبِ الصِّبْيَانِ إِنْ لَمْ تُلْحَقْ بِالطُّبُولِ الْكِبَارِ فَهِيَ كَالدُّفِّ وَلَيْسَتْ كَالْكُوبَةِ بِحَالِ، قَالَ الْهَيْتَمِيُّ: وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ مَا يُصْنَعُ فِي الْأَعْيَادِ مِنَ الطُّبُولِ الصِّغَارِ الَّتِي هِيَ عَلَى هَيْئَةِ الْكُوبَةِ وَغَيْرِهَا لَا حُرْمَةَ فِيهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِطْرَابٌ غَالِبًا، وَمَا عَلَى صُورَةِ الْكُوبَةِ مِنْهَا انْتَفَى فِيهِ الْمَعْنَى الْمُحَرَّمُ لِلْكُوبَةِ، لِأَنَّ لِلْفُسَّاقِ فِيهَا كَيْفِيَّاتٌ فِي ضَرْبِهَا، وَغَيْرُهُ لَا يُوجَدُ فِي تِلْكَ الَّتِي تُهَيِّئُ لِلَعِبِ الصِّبْيَانِ، وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ: ضَرْبُ الطُّبُولِ إِنْ كَانَ طَبْلَ لَهْوٍ فَلَا يَجُوزُ، وَاسْتَثْنَى الْحَلِيمِيُّ مِنَ الطُّبُولِ طَبْلَ الْحَرْبِ وَالْعِيدِ، وَأَطْلَقَ تَحْرِيمَ سَائِرِ الطُّبُولِ وَخَصَّ مَا اسْتَثْنَاهُ فِي الْعِيدِ بِالرِّجَالِ خَاصَّةً، وَطَبْلُ الْحَجِيجِ مُبَاحٌ كَطَبْلِ الْحَرْبِ.

وَكَرِهَ أَحَمْدُ الطَّبْلَ لِغَيْرِ حَرْبٍ وَنَحْوِهِ، وَاسْتَحَبَّهُ ابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْحَرْبِ وَقَالَ: لِتَنْهِيضِ طِبَاعِ الْأَوْلِيَاءِ وَكَشْفِ صُدُورِ الْأَعْدَاءِ.

هـ- الْيَرَاعُ

11- الْيَرَاعُ هُوَ الزَّمَّارَةُ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الشَّبَّابَةُ، وَهِيَ مَا لَيْسَ لَهَا بُوقٌ وَمِنْهَا الْمَأْصُولُ الْمَشْهُورُ وَالسَّفَّارَةُ وَنَحْوُهَا، وَسُمِّيَ الْيَرَاعُ بِذَلِكَ لِخُلُوِّ جَوْفِهِ، وَيُخَالِفُ الْمِزْمَارَ الْعِرَاقِيَّ فِي أَنَّهُ لَهُ بُوقٌ وَالْغَالِبُ أَنَّهُ يُوجَدُ مَعَ الْأَوْتَارِ.

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي حُكْمِهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ الِاسْتِمَاعُ إِلَى الْمَزَامِيرِ وَلَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الزَّمَّارَةِ وَالْبُوقِ، وَقِيلَ: يُكْرَهَانِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَهَذَا فِي النِّكَاحِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهِ فَيَحْرُمُ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْيَرَاعِ، فَقَالَ الرَّافِعِيُّ: فِي الْيَرَاعِ وَجْهَانِ، صَحَّحَ الْبَغَوِيُّ التَّحْرِيمَ، وَالْغَزَالِيُّ الْجَوَازَ وَهُوَ الْأَقْرَبُ، قَالُوا: لِأَنَّهُ يُنَشِّطُ عَلَى السَّيْرِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْأَصَحُّ تَحْرِيمُ الْيَرَاعِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ مُطْرِبٌ بِانْفِرَادِهِ، بَلْ قِيلَ إِنَّهُ آلَةٌ كَامِلَةٌ لِجَمِيعِ النَّغَمَاتِ إِلاَّ يَسِيرًا فَحُرِّمَ كَسَائِرِ الْمَزَامِيرِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ آلَاتِ الْمَعَازِفِ تَحْرُمُ سِوَى الدُّفِّ، كَمِزْمَارٍ وَنَايٍ وَزَمَّارَةِ الرَّاعِي سَوَاءٌ اسْتُعْمِلَتْ لِحُزْنٍ أَوْ سُرُورٍ، وَسَأَلَ ابْنُ الْحَكَمِ الْإِمَامَ أَحْمَدَ عَنِ النَّفْخِ فِي الْقَصَبَةِ كَالْمِزْمَارِ فَقَالَ: أَكْرَهُهُ.

و- الضَّرْبُ بِالْقَضِيبِ

12- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الضَّرْبِ عَلَى الْقَضِيبِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ ضَرْبَ الْقَضِيبِ حَرَامٌ لِقَوْلِه- صلى الله عليه وسلم-: «الِاسْتِمَاعُ إِلَى الْمَلَاهِي مَعْصِيَةٌ وَالْجُلُوسُ عَلَيْهَا فِسْقٌ وَالتَّلَذُّذُ بِهَا كُفْرٌ» وَالْمَقْصُودُ بِالْكُفْرِ كُفْرُ النِّعْمَةِ.

وَاخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الضَّرْبِ بِالْقَضِيبِ عَلَى الْوَسَائِدِ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ، لِأَنَّهُ لَا يُفْرَدُ عَنِ الْغِنَاءِ وَلَا يُطْرِبُ وَحْدَهُ وَإِنَّمَا يَزِيدُ الْغِنَاءَ طَرَبًا، فَهُوَ تَابِعٌ لِلْغِنَاءِ الْمَكْرُوهِ فَيَكُونُ مَكْرُوهًا.

وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ حَرَامٌ وَجَرَى عَلَيْهِ الْبَغَوِيُّ وَالْخُرَاسَانِيُونَ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: الضَّرْبُ بِالْقَضِيبِ مَكْرُوهٌ إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ كَالتَّصْفِيقِ وَالْغِنَاءِ وَالرَّقْصِ، وَإِنْ خَلَا عَنْ ذَلِكَ لَمْ يُكْرَهْ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِآلَةِ وَلَا يُطْرِبُ وَلَا يُسْمَعُ مُنْفَرِدًا بِخِلَافِ الْمَلَاهِي.

وَقَالَ فِي الْإِنْصَافِ: فِي تَحْرِيمِ الضَّرْبِ بِالْقَضِيبِ وَجْهَانِ، وَجَزَمَ ابْنُ عَبْدُوسٍ بِالتَّحْرِيمِ.

ز- الْعُودُ:

13- مِنْ مَعَانِي الْعُودِ فِي اللُّغَةِ: كُلُّ خَشَبَةٍ دَقِيقَةً كَانَتْ أَوْ غَلِيظَةً، وَضَرْبٌ مِنَ الطِّيبِ يُتَبَخَّرُ بِهِ، وَآلَةٌ مُوسِيقِيَّةٌ وَتَرِيَّةٌ يُضْرَبُ عَلَيْهَا بِرِيشَةٍ وَنَحْوِهَا، وَالْجَمْعُ أَعْوَادٌ وَعِيدَانٌ، وَالْعَوَّادُ: صَانِعُ الْعِيدَانِ وَالضَّارِبُ عَلَيْهَا.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ.

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى تَحْرِيمِ ضَرْبِ الْعُودِ وَاسْتِمَاعِهِ لِأَنَّ الْعُودَ مِنَ الْمَعَازِفِ وَآلَاتِ اللَّهْوِ.

وَقَالَ الصَّاوِيُّ: ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى جَوَازِهِ، وَنُقِلَ سَمَاعَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَغَيْرِهِمْ، - رضي الله عنهما-، وَعَنْ جُمْلَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ.

ثُمَّ اخْتَلَفَ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى تَحْرِيمِهِ، فَقِيلَ: كَبِيرَةٌ، وَقِيلَ: صَغِيرَةٌ، وَالْأَصَحُّ الثَّانِي، وَحَكَى الْمَازِرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَ فِي عُرْسٍ أَوْ صَنِيعٍ فَلَا تُرَدُّ بِهِ شَهَادَةٌ.

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا كَانَ يَخُصُّ الْعُودَ بِالْإِبَاحَةِ مِنْ بَيْنِ الْأَوْتَارِ.

ح- الصَّفَّاقَتَانِ

14- الصَّفَّاقَتَانِ دَائِرَتَانِ مِنْ صُفْرٍ- أَيْ نُحَاسٍ- تَضْرِبُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، وَتُسَمَّيَانِ بِالصَّنْجِ أَيْضًا، وَهُمَا مِنْ آلَاتِ الْمَلَاهِي.

وَالْمُعْتَمَدُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُمَا وَاسْتِمَاعَهُمَا حَرَامٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ الْمُخَنَّثِينَ وَالْفَسَقَةِ، وَشَارِبِي الْخَمْرِ، وَفِي الضَّرْبِ بِهِمَا تَشَبُّهٌ بِهِمْ وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّ اللَّذَّةَ الْحَاصِلَةَ مِنْهُمَا تَدْعُو إِلَى فَسَادٍ كَشُرْبِ الْخَمْرِ لَا سِيَّمَا مَنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِهَا، وَالِاسْتِمَاعُ هُوَ الْمُحَرَّمُ.

أَمَّا السَّمَاعُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَلَا يَحْرُمُ.

ط- بَاقِي الْمَعَازِفِ الْوَتَرِيَّةُ.

15- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى تَحْرِيمِ اسْتِعْمَالِ الْمَعَازِفِ الْوَتَرِيَّةِ كَالطُّنْبُورِ وَالرَّبَابِ وَالْكَمَنْجَةِ وَالْقَانُونِ وَسَائِرِ الْمَعَازِفِ الْوَتَرِيَّةِ، وَاسْتِعْمَالُهَا هُوَ الضَّرْبُ بِهَا.

تَعَلُّمُ الْمُوسِيقَى

16- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى تَحْرِيمِ تَعَلُّمِ الْمَعَازِفِ وَالْمُوسِيقَى وَالْإِجَارَةِ عَلَى تَعَلُّمِهَا لِقَوْلِ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْحَقَ الْمَزَامِيرَ وَالْكَنَّارَاتِ- يَعْنِي الْبَرَابِطَ- وَالْمَعَازِفَ وَالْأَوْثَانَ..لَا يَحِلُّ بَيْعُهُنَّ وَلَا شِرَاؤُهُنَّ وَلَا تَعْلِيمُهُنَّ».

اتِّخَاذُ الْمَعَازِفِ

17- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ اتِّخَاذُ آلَةِ اللَّهْوِ (الْمَعَازِفِ) الْمُحَرَّمَةِ وَلَوْ بِغَيْرِ اسْتِعْمَالٍ لِأَنَّ اتِّخَاذَهَا يَجُرُّ إِلَى اسْتِعْمَالِهَا، وَقَالُوا: يَحْرُمُ اتِّخَاذُ آلَةٍ مِنْ شِعَارِ الشَّرْبَةِ كَطُنْبُورِ وَعُودٍ وَمِزْمَارٍ عِرَاقِيٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

الِاكْتِسَابُ بِالْمَعَازِفِ

18- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الِاكْتِسَابَ بِالْمَعَازِفِ لَا يَطِيبُ، وَيُمْنَعُ مِنْهُ الْمُكْتَسِبُ وَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْغِنَاءُ حِرْفَتَهُ الَّتِي يَكْتَسِبُ بِهَا الْمَالَ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ التَّغَنِّيَ لِلَّهْوِ أَوْ لِجَمْعِ الْمَالِ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: فِي الْمُنْتَقَى: امْرَأَةٌ نَائِحَةٌ أَوْ صَاحِبَةُ طَبْلٍ أَوْ زَمْرٍ اكْتَسَبَتْ مَالًا رَدَّتْهُ عَلَى أَرْبَابِهِ إِنْ عَلِمُوا وَإِلاَّ تَتَصَدَّقُ بِهِ، وَإِنْ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَهُوَ لَهَا.

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَيُمْنَعُ- أَيِ الْمُحْتَسِبُ- مِنَ التَّكَسُّبِ بِالْكِهَانَةِ وَاللَّهْوِ وَيُؤَدَّبُ عَلَيْهِ الْآخِذُ وَالْمُعْطِي.

الْغِنَاءُ مَعَ الْمَعَازِفِ

19- الْغِنَاءُ إِمَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِآلَةِ مُحَرَّمَةٍ مِنْ آلَاتِ الْعَزْفِ أَوْ لَا يَقْتَرِنَ بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِأَيِّ آلَةٍ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِمَاعٌ ف 16- 22).

وَإِنِ اقْتَرَنَ الْغِنَاءُ بِآلَةِ مُحَرَّمَةٍ مِنْ آلَاتِ الْعَزْفِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى حُرْمَتِهِ.

وَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى حُرْمَةِ آلَةِ الْعَزْفِ وَبَقَاءِ الْغِنَاءِ عَلَى الْكَرَاهَةِ.

الِاسْتِمَاعُ إِلَى الْمَعَازِفِ

20- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الِاسْتِمَاعَ إِلَى الْمَعَازِفِ الْمُحَرَّمَةِ حَرَامٌ، وَالْجُلُوسُ فِي مَجْلِسِهَا حَرَامٌ، قَالَ مَالِكٌ: أَرَى أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ مِنَ الْمَجْلِسِ الَّذِي يُضْرَبُ فِيهِ الْكَبَرُ وَالْمِزْمَارُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ اللَّهْوِ وَقَالَ أَصْبَغُ: دَعَا رَجُلٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- إِلَى وَلِيمَةٍ، فَلَمَّا جَاءَ سَمِعَ لَهْوًا فَلَمْ يَدْخُلْ فَقَالَ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «مَنْ كَثَّرَ سَوَادَ قَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَمَنْ رَضِيَ عَمَلَ قَوْمٍ كَانَ شَرِيكًا لِمَنْ عَمِلَهُ».

بَلْ إِنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ نَصَّ عَلَى أَنَّ مَنْ يَسْتَمِعُ الْمَعَازِفَ الْمُحَرَّمَةَ فَاسِقٌ، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ:

الْعُودُ وَالطُّنْبُورُ وَسَائِرُ الْمَلَاهِي حَرَامٌ، وَمُسْتَمِعُهَا فَاسِقٌ.

شَهَادَةُ الْعَازِفِ وَالْمُسْتَمِعِ لِلْمَعَازِفِ

21- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَازِفِ أَوِ الْمُسْتَمِعِ لِلْمَعَازِفِ الْمُحَرَّمَةِ كَالْمَزَامِيرِ وَالطَّنَابِيرِ وَالصَّنْجِ وَغَيْرِهَا.

التَّدَاوِي بِاسْتِمَاعِ الْمَعَازِفِ

22- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّدَاوِي بِاسْتِمَاعِ الْمَعَازِفِ الْمُحَرَّمَةِ لِلضَّرُورَةِ.

قَالَ الرَّمْلِيُّ: لَوْ أَخْبَرَ طَبِيبَانِ عَدْلَانِ بِأَنَّ الْمَرِيضَ لَا يَنْفَعُهُ لِمَرَضِهِ إِلاَّ الْعُودُ عُمِلَ بِخَبَرِهِمَا، وَحَلَّ لَهُ اسْتِمَاعُهُ، كَالتَّدَاوِي بِنَجِسِ فِيهِ الْخَمْرُ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ الْحَلِيمِيَّ: يُبَاحُ اسْتِمَاعُ آلَةِ اللَّهْوِ إِذَا نَفَعَتْ مِنْ مَرَضٍ، أَيْ لِمَنْ بِهِ ذَلِكَ الْمَرَضُ وَتَعَيَّنَ الشِّفَاءُ فِي سَمَاعِهِ.

وَقَالَ الشَّبْرَامَلِّسِيُّ: آلَةُ اللَّهْوِ قَدْ يُبَاحُ اسْتِعْمَالُهَا بِأَنْ أَخْبَرَ طَبِيبٌ عَدْلٌ مَرِيضًا بِأَنَّهُ لَا يُزِيلُ مَرَضَهُ إِلاَّ سَمَاعُ الْآلَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ إِلاَّ الْآلَةُ الْمُحَرَّمَةُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ التَّدَاوِي بِصَوْتِ مَلْهَاةٍ وَغَيْرِهِ كَسَمَاعِ الْغِنَاءِ وَالْمُحَرَّمِ لِعُمُومِ قَوْلِه- صلى الله عليه وسلم-: «وَلَا تَدَاوَوْا بِالْحَرَامِ».

الْوَصِيَّةُ بِالطَّبْلِ

23- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الشَّخْصَ لَوْ أَوْصَى بِطَبْلٍ، وَلَهُ طَبْلُ لَهْوٍ لَا يَصْلُحُ لِمُبَاحٍ، وَطَبْلٌ يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ، كَطَبْلِ حَرْبٍ يُقْصَدُ بِهِ التَّهْوِيلُ، أَوْ طَبْلُ حَجِيجٍ يُقْصَدُ بِهِ الْإِعْلَامُ بِالنُّزُولِ وَالرَّحِيلِ، أَوْ غَيْرُهُمَا، - غَيْرَ الْكُوبَةِ الْمُحَرَّمَةِ- حُمِلَتِ الْوَصِيَّةُ عَلَى مَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِتَصِحَّ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ قَصْدُهُ لِلثَّوَابِ، وَهُوَ فِيمَا تَصِحُّ بِهِ الْوَصِيَّةُ، فَإِنْ صَلَحَ لِمُبَاحٍ تَخَيَّرَ الْوَارِثُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلاَّ طُبُولٌ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهَا لَغَتْ، وَلَوْ أَوْصَى بِطَبْلِ اللَّهْوِ لَغَتِ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ- إِلاَّ إِنْ صَلَحَ لِحَرْبٍ أَوْ حَجِيجٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ أُخْرَى مُبَاحَةٍ، لِإِمْكَانِ تَصْحِيحِ الْوَصِيَّةِ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُهَا، وَسَوَاءٌ صَلَحَ عَلَى هَيْئَتِهِ أَمْ بَعْدَ تَغَيُّرٍ يَبْقَى مَعَهُ اسْمُ الطَّبْلِ، فَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ إِلاَّ بِزَوَالِ اسْمِ الطَّبْلِ لَغَتِ الْوَصِيَّةُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: وَإِنْ وَصَّى بِدُفٍّ صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ»، وَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِمِزْمَارٍ وَلَا طُنْبُورٍ وَلَا عُودٍ مِنْ عِيدَانِ اللَّهْوِ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ فِيهِ الْأَوْتَارُ أَوْ لَمْ تَكُنْ، لِأَنَّهُ مُهَيَّأٌ لِفِعْلِ الْمَعْصِيَةِ دُونَ غَيْرِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَتْ فِيهِ أَوْتَارٌ.

بَيْعُ الْمَعَازِفِ

24- لَا يَصِحُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ- بَيْعُ الْمَعَازِفِ الْمُحَرَّمَةِ كَالطُّنْبُورِ وَالصَّنْجِ وَالْمِزْمَارِ وَالرَّبَابِ وَالْعُودِ، لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْحَقَ الْمَزَامِيرَ وَالْكَفَّارَاتِ- يَعْنِي الْبَرَابِطَ- وَالْمَعَازِفَ..، لَا يَحِلُّ بَيْعُهُنَّ وَلَا شِرَاؤُهُنَّ وَلَا تَعْلِيمُهُنَّ وَلَا التِّجَارَةُ فِيهِنَّ، وَأَثْمَانُهُنَّ حَرَامٌ لِلْمُغَنِّيَاتِ».

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَصِحُّ بَيْعُ آلَاتِ الْعَزْفِ الْمُحَرَّمَةِ إِنْ عُدَّ رُضَاضُهَا- أَيْ مُكَسَّرُهَا- مَالًا، لِأَنَّ فِيهَا نَفْعًا مُتَوَقَّعًا، أَيْ مِنْ هَذَا الرُّضَاضِ الْمُتَقَوِّمِ، كَمَا يَصِحُّ بَيْعُ الْجَحْشِ الصَّغِيرِ الَّذِي لَا نَفْعَ مِنْهُ فِي الْحَالِ وَيَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْعُ الْمَعَازِفِ لِأَنَّهَا أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ، لِصَلَاحِيَّتِهَا لِلِانْتِفَاعِ بِهَا لِغَيْرِ اللَّهْوِ، كَالْأَمَةِ الْمُغَنِّيَةِ، حَيْثُ تَجِبُ قِيمَتُهَا غَيْرَ صَالِحَةٍ لِهَذَا الْأَمْرِ.

أَمَّا الْمَعَازِفُ الْمُبَاحَةُ كَالنَّفِيرِ وَالطُّبُولِ غَيْرِ الدَّرَبُكَّةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا.

إِجَارَةُ الْمَعَازِفِ

25- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ اسْتِئْجَارَ آلَةِ اللَّهْوِ الْمُحَرَّمَةِ (الْمَعَازِفِ الْمُحَرَّمَةِ) لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ غَيْرُ مُبَاحَةٍ وَيَحْرُمُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِجَارَةِ أَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ مُبَاحَةً، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: يَجُوزُ كِرَاؤُهَا فِي النِّكَاحِ وَالرَّاجِحُ الْحُرْمَةُ.

أَمَّا الْمَعَازِفُ غَيْرُ الْمُحَرَّمَةِ فَيَجُوزُ كِرَاؤُهَا.

إِعَارَةُ الْمَعَازِفِ

26- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْمُسْتَعَارِ كَوْنُهُ مُنْتَفَعًا بِهِ انْتِفَاعًا مُبَاحًا مَقْصُودًا، فَلَا يَجُوزُ إِعَارَةُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعًا مُبَاحًا شَرْعًا كَالْمَعَازِفِ وَآلَاتِ اللَّهْوِ الْمُحَرَّمَةِ.

إِبْطَالُ الْمَعَازِفِ

27- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ آلَاتِ اللَّهْوِ وَالْمَعَازِفَ الْمُبَاحَةَ لَا يَجُوزُ إِبْطَالُهَا أَوْ كَسْرُهَا بَلْ يَحْرُمُ.

أَمَّا آلَاتُ الْعَزْفِ وَالْمَلَاهِي الْمُحَرَّمَةُ الِاسْتِعْمَالِ فَلَا حُرْمَةَ لِصَنْعَتِهَا وَلَا لِمَنْفَعَتِهَا، وَأَنَّهُ يَجِبُ إِبْطَالُهَا لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «بُعِثْتُ بِهَدْمِ الْمِزْمَارِ وَالطَّبْلِ»، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَمَرَنِي اللَّهُ بِمَحْقِ الْقَيْنَاتِ وَالْمَعَازِفِ».

وَفَصَّلَ الشَّافِعِيَّةُ كَيْفِيَّةَ إِبْطَالِ الْمَعَازِفِ الْمُحَرَّمَةِ فَقَالُوا: الْأَصَحُّ أَنَّهَا لَا تُكْسَرُ الْكَسْرَ الْفَاحِشَ لِإِمْكَانِ إِزَالَةِ الْهَيْئَةِ الْمُحَرَّمَةِ مَعَ بَقَاءِ بَعْضِ الْمَالِيَّةِ، نَعَمْ لِلْإِمَامِ ذَلِكَ زَجْرًا وَتَأْدِيبًا، وَإِنَّمَا تُفْصَلُ لِتَعُودَ كَمَا قَبْلَ التَّأْلِيفِ لِزَوَالِ اسْمِهَا وَهَيْئَتِهَا الْمُحَرَّمَةِ بِذَلِكَ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي- مُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ- أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَفْصِيلُ الْجَمِيعِ بَلْ بِقَدْرِ مَا لَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِعْمَالِ، فَلَا تَكْفِي إِزَالَةُ الْأَوْتَارِ فَقَطْ لِأَنَّهَا مُنْفَصِلَةٌ عَنْهَا.

وَالثَّالِثُ: تُكْسَرُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى حَدٍّ لَا يُمْكِنُ اتِّخَاذُ آلَةٍ مُحَرَّمَةٍ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمَعَازِفَ وَآلَاتِ اللَّهْوِ الْمَمْلُوكَةَ لِذِمِّيِّ لَا تَبْطُلُ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِمِثْلِهَا، إِلاَّ أَنْ يَسْمَعَهَا مَنْ لَيْسَ بِدَارِهِمْ أَيْ مَحَلَّتِهِمْ، حَيْثُ كَانُوا بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَإِنِ انْفَرَدُوا بِمَحَلَّةِ مِنَ الْبَلَدِ، فَإِنِ انْفَرَدُوا بِبَلَدٍ أَيْ بِأَنْ لَمْ يُخَالِطْهُمْ مُسْلِمٌ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُمْ.

ضَمَانُ الْمَعَازِفِ

28- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ آلَاتِ اللَّهْوِ (الْمَعَازِفَ) الْمُبَاحَةَ كَطَبْلِ الْغُزَاةِ وَالدُّفِّ الَّذِي يُبَاحُ ضَرْبُهُ وَاسْتِمَاعُهُ فِي الْعُرْسِ يَحْرُمُ كَسْرُهَا، وَتُضْمَنُ إِنْ كُسِرَتْ أَوْ أُتْلِفَتْ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ الْمَعَازِفَ الْمُحَرَّمَةَ لَا يَجِبُ فِي إِبْطَالِهَا شَيْءٌ، لِأَنَّ مَنْفَعَتَهَا مُحَرَّمَةٌ وَالْمُحَرَّمُ لَا يُقَابَلُ بِشَيْءِ، مَعَ وُجُوبِ إِبْطَالِهَا عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِتْلَافٌ ف 12 وَضَمَانٌ ف 140).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


14-موسوعة الفقه الكويتية (ندب)

نَدْبٌ

التَّعْرِيفُ:

1- النَّدْبُ بِفَتْحِ النُّونِ مَصْدَرٌ لِفِعْلِ نَدَبَ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ إِلَى الْفِعْلِ: وَمِنْهُ نَدْبُ الْمَيِّتِ، بِمَعْنَى: تَعْدِيدُ مَحَاسِنِهِ.

وَالنَّدْبُ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ: هُوَ مَأْمُورٌ لَا يَلْحَقُ بِتَرْكِهِ ذَمٌّ مِنْ حَيْثُ تَرْكِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى بَدَلٍ، وَقِيلَ: هُوَ مَا فِي فِعْلِهِ ثَوَابٌ، وَلَا عِقَابَ فِي تَرْكِهِ.

وَقِيلَ هُوَ: خِطَابٌ بِطَلَبِ فِعْلٍ غَيْرِ كَفٍّ يَنْتَهِضُ فِعْلُهُ سَبَبًا لِلثَّوَابِ، وَيُسَمَّى مَنْدُوبًا.

2- وَعَلَى هَذَا: فَالْمَنْدُوبُ وَالْمُسْتَحَبُّ وَالتَّطَوُّعُ وَالنَّفْلُ وَالْمُرَغَّبُ فِيهِ: أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ.

وَسُمِّيَ مَنْدُوبًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الشَّارِعَ نَدَبَ إِلَيْهِ

وَبَيَّنَ ثَوَابَهُ وَفَضِيلَتَهُ، مِنْ نَدَبَ الْمَيِّتَ: عَدَّدَ مَحَاسِنَهُ.

وَسُمِّيَ مُسْتَحَبًّا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الشَّارِعَ يُحِبُّهُ وَيُؤْثِرُهُ.

وَسُمِّيَ نَفْلًا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ زَائِدٌ عَلَى الْفَرْضِ وَيَزِيدُ بِهِ الثَّوَابُ.

وَسُمِّيَ تَطَوُّعًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ فَاعِلَهُ يَفْعَلُهُ تَبَرُّعًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْمَرَ حَتْمًا.

وَقِيلَ: النَّدْبُ أَيِ الْمَنْدُوبُ: هُوَ الزَّائِدُ عَلَى الْفَرْضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ.

وَالتَّفْصِيلُ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَنْدُوبِ مِنْ أَحْكَامٍ:

كَوْنُ الْمَنْدُوبِ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ غَيْرَ مَأْمُورٍ بِهِ:

3- اخْتَلَفَ الْأُصُولِيِّونَ فِي ذَلِكَ:

فَذَهَبَ جُمْهُورُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمَنْدُوبَ مَأْمُورٌ بِهِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ اسْتِدْعَاءٌ وَطَلَبٌ: وَالْمَنْدُوبُ مُسْتَدْعًى وَمَطْلُوبٌ، فَيَدْخُلُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ.

وَقَالَ قَوْمٌ: الْمَنْدُوبُ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ الْأَمْرِ، وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: {فَلْيَحْذَرِالَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَالْمَنْدُوبُ لَا يَجُوزُ فِيهِ ذَلِكَ.

وَالتَّفْصِيلُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

نَدْبُ الْمَيِّتِ:

4- يَحْرُمُ نَدْبُ الْمَيِّتِ بِتَعْدِيدِ شَمَائِلِهِ، وَهِيَ: مَا اتَّصَفَ بِهِ الْمَيِّتُ مِنَ الطَّبَائِعِ الْحَسَنَةِ، كَقَوْلِهِمْ: وَاكَهْفَاهُ، وَاجَبَلَاهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لِحَدِيثِ: «مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ بَاكِيهِ فَيَقُولُ: وَاجَبَلَاهُ! وَاسَيِّدَاهُ! أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، إِلاَّ وُكِلَ بِهِ مَلَكَانِ يَلْهَزَانِهِ: أَهَكَذَا كُنْتَ؟».

وَالتَّفْصِيلُ فِي (نِيَاحَةٌ).

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


15-موسوعة الفقه الكويتية (هبة 3)

هِبَةٌ-3

الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ:

39- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ رُجُوعِ الْوَاهِبِ فِي هِبَتِهِ بَعْدَ قَبْضِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الشَّيْءَ الْمَوْهُوبَ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ أَقْوَالٌ:

الْأَوَّلُ: عَدَمُ جَوَازِ الرُّجُوعِ إِلاَّ لِأَبٍ فِيمَا وَهَبَ وَلَدَهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ، وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ يُلْحَقُ سَائِرُ الْأُصُولِ بِالْأَبِ فِي جَوَازِ الرُّجُوعِ.

وَأَلْحَقَ الْمَالِكِيَّةُ الْأُمَّ بِالْأَبِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الِابْنُ غَيْرَ يَتِيمٍ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الْأُمَّ كَالْأَبِ فِي الرُّجُوعِ مُطْلَقًا وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا يَحِلُّ لِوَاهِبٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ إِلاَّ فِيمَا يَهَبُ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ» فَالْحَدِيثُ نَصٌّ فِي عَدَمِ جَوَازِ رُجُوعِ غَيْرِ الْأَبِ فِي هِبَتِهِ لِوَلَدِهِ.

وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ».

الثَّانِي: يَصِحُّ الرُّجُوعُ لِلْوَاهِبِ فِي هِبَتِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ إِذَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ مِنْ مَوَانِعِ الرُّجُوعِ وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ تَنْزِيهًا، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالِي: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رَدُّوهَا} وَالتَّحِيَّةُ هُنَا تُفَسَّرُ بِالْهَدِيَّةِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ (أَوْ رَدُّوهَا) لِأَنَّ الرَّدَّ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَعْيَانِ لَا فِي الْأَعْرَاضِ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ إِعَادَةِ الشَّيْءِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي الْأَعْرَاضِ كَالتَّحِيَّةِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا» أَيْ يُعَوَّضُ، فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْوَاهِبَ أَحَقَّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ الْعِوَضُ.

وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: إِنَّ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَفَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَلَمْ يُرِدْ خِلَافَهُ عَنْ غَيْرِهِمْ فَكَانَ إِجْمَاعًا.وَاسْتَدَلُّوا: بِأَنَّ الْعِوَضَ الْمَالِيَّ قَدْ يَكُونُ مَقْصُودًا مِنْ هِبَةِ الْأَجَانِبِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَهَبُ الْأَجْنَبِيَّ إِحْسَانًا إِلَيْهِ وَإِنْعَامًا عَلَيْهِ، وَقَدْ يَهَبُ لَهُ طَمَعًا فِي الْمُكَافَأَةِ وَالْمُجَازَاةِ عُرْفًا وَعَادَةً، فَالْمَوْهُوبُ لِأَجْلِهِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ شَرْعًا.

وَقَدْ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ، وَفَوَاتُ الْمَقْصُودِ مِنْ عَقْدٍ مُحْتَمَلٍ لِلْفَسْخِ يَمْنَعُ لُزُومَهُ كَالْبَيْعِ؛ وَلِأَنَّهُ يَعْدَمُ الرِّضَا وَالرِّضَا فِي هَذَا الْبَابِ كَمَا هُوَ شَرْطٌ لِلصِّحَّةِ فَهُوَ شَرْطٌ لِلُّزُومِ كَمَا فِي الْبَيْعِ إِذَا وَجَدَ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ عَيْبًا لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَقْدُ؛ لِعَدَمِ الرِّضَا عِنْدَ عَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ السَّلَامَةُ، فَكَذَا هَذَا.

وَاشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ فِي صِحَّةِ الرُّجُوعِ لِلْوَاهِبِ التَّرَاضِيَ أَوِ التَّقَاضِيَ حَتَّى لَا يَصِحَّ الرُّجُوعُ بِدُونِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.

وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ الرُّجُوعَ فَسْخُ الْعَقْدِ بَعْدَ تَمَامِهِ، وَفَسْخُ الْعَقْدِ بَعْدَ تَمَامِهِ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الْقَضَاءِ أَوِ الرِّضَا.

وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَفِيَّةُ الْإِفْرَازَ فِي الشَّائِعِ؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ.

الثَّالِثُ عَنْ أَحْمَدَ: لَيْسَ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ.

الرَّابِعُ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ لِلْأَبِ الرُّجُوعَ إِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ أَوْ رَغْبَةٌ كَتَزْوِيجٍ وَفَلَسٍ أَوْ مَا يَمْنَعُ تَصَرُّفَ الْمُتَّهَبِ مُؤَبَّدًا أَوْ مُؤَقَّتًا.

مَوَانِعُ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ:

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَوَانِعِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ التَّالِي:

أَوَّلًا: مَوَانِعُ الرُّجُوعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

40- مَنَعَ الْحَنَفِيَّةُ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ فِي الْأَحْوَالِ الْآتِيَةِ:

أ- هَلَاكُ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ أَوِ اسْتِهْلَاكُهُ: فَإِذَا تَلِفَ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ أَوِ اسْتَهْلَكَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الرُّجُوعِ فِي الشَّيْءِ الْهَالِكِ، كَمَا أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الرُّجُوعِ فِي قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَيْسَ قَبْضًا مَضْمُونًا، وَقِيمَتُهُ لَيْسَتْ مَوْهُوبَةً؛ لِعَدَمِ وُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا، وَهَذَا فِي الْهَلَاكِ الْكُلِّيِّ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الْهَلَاكُ جُزْئِيًّا فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ الرُّجُوعَ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ حِينَئِذٍ يَكُونُ رُجُوعًا فِي بَعْضِ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي بَعْضِ الْمَوْهُوبِ وَهُوَ قَائِمٌ، فَكَذَلِكَ إِذَا نَقَصَ.وَلَيْسَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ضَمَانُ النَّقْصِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْهِبَةِ لَيْسَ قَبْضَ ضَمَانٍ.

ب- خُرُوجُ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ عَنْ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ، كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْمَوْتِ وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَخْتَلِفُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، إِذْ إِنَّ مِلْكَ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ سَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي أَوِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الثَّانِي أَوِ الْوَارِثِ.

ج- الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ إِذَا حَدَثَتْ فِي الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ سَوَاءٌ كَانَتْ بِفِعْلِ الْمَوْهُوبِ لَهُ أَوْ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مُتَوَلِّدَةً مِنَ الشَّيْءِ أَمْ لَيْسَتْ مُتَوَلِّدَةً مِنْهُ، نَحْوَ مَا إِذَا كَانَ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ دَارًا فَبَنَى الْمَوْهُوبُ لَهُ زِيَادَةً فِيهَا، أَوْ كَانَتْ أَرْضًا فَغَرَسَ فِيهَا أَشْجَارًا، أَوْ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ صَبْغًا زَادَ فِي قِيمَتِهِ، أَوْ طَرَأَ سِمَنٌ عَلَى الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ، فَفِي كُلِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ اخْتَلَطَ الْمَوْهُوبُ بِغَيْرِهِ، فَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ.

أَمَّا الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَوَلِّدَةً مِنَ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ كَاللَّبَنِ وَالثَّمَرِ، أَوْ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْهُ كَالْكَسْبِ وَالْغَلَّةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الزَّوَائِدَ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهَا الْعَقْدُ، وَكَذَلِكَ لَا يَرِدُ عَلَيْهَا الْفَسْخُ، كَمَا أَنَّهُ يُمْكِنُ فَسْخُ الْعَقْدِ دُونَ الزِّيَادَةِ بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ.

أَمَّا نُقْصَانُ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ فَلَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ لِلْوَاهِبِ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي كُلِّ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي بَعْضِهِ مَعَ بَقَائِهِ، فَكَذَا عِنْدَ نُقْصَانِهِ.

د- وُجُودُ الْعِوَضِ: إِذَا كَانَتِ الْهِبَةُ بِعِوَضٍ وَقَبَضَهُ الْوَاهِبُ لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ، وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ: قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا» كَمَا أَنَّ التَّعْوِيضَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَقْصُودَ الْوَاهِبِ هُوَ الْوُصُولُ إِلَى الْعِوَضِ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُهُ فَيَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ.وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا.

هـ- إِذَا كَانَ فِي الْهِبَةِ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْعِوَضِ: وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْأَحْوَالِ التَّالِيَةِ: - الْهِبَةُ لِصِلَةِ الرَّحِمِ- لَا رُجُوعَ فِي الْهِبَةِ لِذِي رَحِمِ مُحَرَّمٍ مِنَ الْوَاهِبِ.

وَحُجَّتُهُمْ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا» وَمَعْنَاهُ أَنَّ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يُعَوَّضْ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ عِوَضٌ مَعْنًى؛ لِأَنَّ التَّوَاصُلَ سَبَبٌ لِلتَّنَاصُرِ وَالتَّعَاوُنِ فِي الدُّنْيَا وَسَبَبٌ لِلثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ.

كَمَا أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ أَمَرَ بِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ- رضي الله عنه- قَدْ مَنَعَ الرُّجُوعَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْهِبَةِ.

أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْهِبَةُ لِذِي رَحِمٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ فَيَجُوزُ الرُّجُوعُ لِقُصُورِ مَعْنَى الصِّلَةِ، فَلَا يَكُونُ فِي مَدَى الْعِوَضِ.

الزَّوْجِيَّةُ: لَا يَرْجِعُ أَيٌّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ فِيمَا وَهَبَ لِصَاحِبِهِ، وَالْعِبْرَةُ بِقِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ وَقْتَ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ صِلَةَ الزَّوْجِيَّةِ تَجْرِي مَجْرَى صِلَةِ الْقَرَابَةِ الْكَامِلَةِ، بِدَلِيلِ تَعَلُّقِ التَّوَارُثِ بِهَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ.

الثَّوَابُ أَوِ الصَّدَقَةُ: إِذَا كَانَتِ الْهِبَةُ إِلَى فَقِيرٍ فَهِيَ صَدَقَةٌ يُطْلَبُ فِيهَا ثَوَابُ اللَّهِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْعِوَضِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْهِبَةُ لِلْأَغْنِيَاءِ و- مَوْتُ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ: فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهُ بِمَوْتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إِلَى الْوَرَثَةِ كَمَا إِذَا انْتَقَلَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَإِذَا مَاتَ الْوَاهِبُ فَوَارِثُهُ أَجْنَبِيٌّ عَنِ الْعَقْدِ.

ز- تَغَيُّرُ الْمَوْهُوبِ: بِأَنْ كَانَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا، أَوْ دَقِيقًا فَخَبَزَهُ، أَوْ سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ، فَيَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ.

ثَانِيًا: مَوَانِعُ الرُّجُوعِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِيمَا أَجَازُوا الرُّجُوعَ فِيهِ:

41- يَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى سُقُوطِ حَقِّ الْأَبِ أَوِ الْأُمِّ فِي اعْتِصَارِ الْهِبَةِ (أَيِ الرُّجُوعِ فِيهَا) حِينَ يَهَبُ لِوَلَدِهِ بِوُجُودِ أَحَدِ الْمَوَانِعِ الْآتِيَةِ:

أ- أَنْ يَزِيدَ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ أَوْ يَنْقُصَ فِي ذَاتِهِ، كَأَنْ يَكْبُرَ الصَّغِيرُ أَوْ يَسْمُنَ الْهَزِيلُ أَوْ يَهْزِلَ السَّمِينُ، أَمَّا إِذَا تَغَيَّرَتْ قِيمَةُ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ بِسَبَبِ تَغَيُّرِ الْأَسْوَاقِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، لِأَنَّ الْهِبَةَ عَلَى حَالِهَا، وَزِيَادَةَ الْقِيمَةِ أَوْ نُقْصَانَهَا لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ، كَاخْتِلَافِ السِّعْرِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ.

ب- أَنْ يَقْصِدَ النَّاسُ مُدَايَنَةَ الْوَلَدِ أَوْ تَزْوِيجَهُ لِأَجْلِ الْهِبَةِ، لِكَوْنِهِ أَصْبَحَ بِالْهِبَةِ مُوسِرًا، فَمَنْ عَقَدَ زَوَاجَ الذَّكَرِ أَوِ الْأُنْثَى لِأَجْلِ يُسْرِهِمَا بِالْهِبَةِ أَوْ أَعْطَى أَحَدَهُمَا دَيْنًا لِأَجْلِ ذَلِكَ، أَوِ اشْتَرَيَا شَيْئًا فِي الذِّمَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ.أَمَّا إِذَا كَانَ الزَّوَاجُ وَالْمُدَايَنَةُ لِأَمْرٍ غَيْرِ الْهِبَةِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ.

ج- أَنْ يَمْرَضَ الْوَلَدُ الْمَوْهُوبُ لَهُ مَرَضَ الْمَوْتِ؛ وَذَلِكَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ وَرَثَتِهِ بِالْهِبَةِ، فَيَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إِذَا مَرِضَ الْوَاهِبُ ذَلِكَ الْمَرَضَ، فَإِنَّ مَرَضَهُ هَذَا يَمْنَعُهُ مِنَ الرُّجُوعِ فِيمَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ يَكُونُ لِغَيْرِهِ، أَيْ يَمُوتُ فَتَكُونُ الْهِبَةُ الَّتِي رَجَعَ فِيهَا لِغَيْرِ الْوَلَدِ، كَزَوْجَةِ الْأَبِ مَثَلًا، أَمَّا إِذَا وَهَبَ الْوَالِدُ وَلَدَهُ الْمُتَزَوِّجَ أَوِ الْمَدِينَ أَوِ الْمَرِيضَ، أَوْ كَانَ الْوَالِدُ مَرِيضًا وَقْتَ الْهِبَةِ- فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ.

د- أَنْ تَفُوتَ الْهِبَةُ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِمَا يُخْرِجُهَا عَنْ مِلْكِهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا أَوْ تَفُوتَ بِصِفَةٍ فِيهَا مِمَّا يُغَيِّرُهَا عَنْ حَالِهَا كَجَعْلِ الدَّنَانِيرِ حُلِيًّا. ثَالِثًا: مَوَانِعُ الرُّجُوعِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِيمَا أَجَازُوا الرُّجُوعَ فِيهِ:

42- يُمْنَعُ الرُّجُوعُ لِلْأَبِ وَسَائِرِ الْأُصُولِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا خَرَجَ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ عَنْ سَلْطَنَةِ الْوَلَدِ.

وَيَتَحَقَّقُ الْخُرُوجُ بِبَيْعِ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ كُلِّهِ أَوْ وَقْفِهِ أَوْ هِبَتِهِ لآِخَرَ مَعَ قَبْضِ الْمَوْهُوبِ لَهُ.

أَمَّا غَصْبُ الْمَوْهُوبِ أَوْ رَهْنُهُ أَوْ هِبَتُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ إِجَارَتُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ فَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُزِيلُ سَلْطَنَةَ الْوَلَدِ، فَيَجُوزُ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ.

وَلَوْ بَاعَ الْوَلَدُ الشَّيْءَ الْمَوْهُوبَ لَهُ مِنْ أَبِيهِ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ بِشِرَاءٍ أَوْ إِرْثٍ لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ فِي الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ عَوْدَ السَّلْطَنَةِ هُنَا كَانَ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ.

وَلَا تَمْنَعُ الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ الرُّجُوعَ، أَمَّا الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ فَهِيَ لِلْوَلَدِ؛ وَلِأَنَّهَا حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِهِ وَيَرْجِعُ الْوَالِدُ بِالشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ

رَابِعًا: مَوَانِعُ الرُّجُوعِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِيمَا أَجَازُوا الرُّجُوعَ فِيهِ:

43- أ- إِذَا خَرَجَ الْمَوْهُوبُ عَنْ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِأَيِّ سَبَبٍ؛ كَبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ وَقْفٍ أَوْ إِرْثٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ لِلْوَالِدِ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهُ إِبْطَالٌ لِمِلْكِ غَيْرِ الْمَوْهُوبِ لَهُ.وَإِنْ عَادَ الْمِلْكُ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ لَمْ يَمْلِكِ الْأَبُ الرُّجُوعَ.

أَمَّا إِنْ عَادَ إِلَيْهِ بِفَسْخِ الْبَيْعِ لِعَيْبٍ أَوْ إِقَالَةٍ أَوْ فَلَسِ الْمُشْتَرِي، فَفِي جَوَازِ رُجُوعِ الْأَبِ وَجْهَانِ: الْجَوَازُ وَعَدَمُهُ.

ب- عَدَمُ بَقَاءِ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ فِي تَصَرُّفِ الْوَلَدِ بِحَيْثُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي رَقَبَتِهِ، فَإِنْ رَهَنَهُ أَوْ أَفْلَسَ أَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ، لَمْ يَمْلِكِ الْأَبُ الرُّجُوعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إِبْطَالًا لِحَقِّ غَيْرِ الْوَلَدِ، فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ مِنَ التَّصَرُّفِ جَازَ الرُّجُوعُ.

ج- إِذَا تَعَلَّقَ بِالشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ رَغْبَةً لِغَيْرِ الْوَلَدِ، مِثْلَ أَنْ يَهَبَ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ شَيْئًا، فَيَرْغَبُ النَّاسُ فِي مُعَامَلَتِهِ وَمُدَايَنَتِهِ، أَوْ رَغِبُوا فِي تَزْوِيجِهِ فَزَوَّجُوهُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، فَعَنْ أَحْمَدَ فِي جَوَازِ الرُّجُوعِ رِوَايَتَانِ:

الْأُولَى: لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهُ غَرَّ النَّاسَ بِمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ حَتَّى وَثِقُوا بِهِ، فَأَقْدَمُوا عَلَى مُدَايَنَتِهِ أَوْ تَزْوِيجِهِ، فَإِذَا رَجَعَ كَانَ ذَلِكَ إِضْرَارًا بِهِمْ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ، » وَلِأَنَّ فِي هَذَا الصَّنِيعِ تَحَايُلًا عَلَى إِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالنَّاسِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ.

الثَّانِيَةُ: لَهُ الرُّجُوعُ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي رُجُوعِ الْأَبِ فِيمَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ، وَلِأَنَّ حَقَّ الدَّائِنِ وَالْمُتَزَوِّجِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِعَيْنِ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنَ الرُّجُوعِ.

د- إِذَا زَادَ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً كَالسِّمَنِ وَالْكِبَرِ وَتَعَلُّمِ الصَّنْعَةِ، فَإِنْ زَادَتْ فَعَنْ أَحْمَدَ فِي جَوَازِ الرُّجُوعِ رِوَايَتَانِ:

الْأُولَى: يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ لِكَوْنِهَا نَمَاءَ مِلْكِهِ، وَلَمْ تَنْتَقِلْ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ وَالِدِهِ، وَإِذَا امْتَنَعَ الرُّجُوعُ فِيهَا امْتَنَعَ الرُّجُوعُ فِي الْأَصْلِ أَيْضًا.

الثَّانِيَةُ: لَا يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ فَلَمْ تَمْنَعِ الرُّجُوعَ كَالزِّيَادَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَكَالزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ، فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ

هـ- وَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَرْجِعَ فِي صَدَاقِهَا الَّذِي وَهَبَتْهُ لِزَوْجِهَا إِذَا طَلَّقَهَا إِذَا كَانَ الزَّوْجُ قَدْ سَأَلَهَا الْهِبَةَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ بِهَذِهِ الْهِبَةِ تَبْتَغِي اسْتِدَامَةَ النِّكَاحِ، فَلَمَّا طَلَّقَهَا جَازَ لَهَا الرُّجُوعُ.هَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.

وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَرْجِعَ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْهِبَةُ بِطَلَبٍ مِنَ الزَّوْجِ أَمْ لَا، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَحَكَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنِ الْقُضَاةِ.

وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الرُّجُوعُ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَرَبِيعَةَ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَقَتَادَةَ،.

44- لَوْ تَصَرَّفَ الْأَبُ فِي الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ لِوَلَدِهِ مِنْ قِبَلِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ رُجُوعًا.

وَلَوْ أَسْقَطَ الْأَبُ حَقَّهُ مِنَ الرُّجُوعِ فَفِي سُقُوطِهِ احْتِمَالَاتٌ:

الْأَوَّلُ: لَا يَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالشَّرْعِ.

الثَّانِي: يَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ فَلَهُ إِسْقَاطُهُ.

مَاهِيَّةُ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ:

45- الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَدْ يَكُونُ بِالتَّقَاضِي أَوْ يَكُونُ بِالتَّرَاضِي. فَإِنْ كَانَ بِالتَّقَاضِي فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ يَكُونُ فَسْخًا؛ لِأَنَّهُ تَمَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَحُكْمُهُ الْفَسْخُ.

أَمَّا إِذَا كَانَ الرُّجُوعُ بِالتَّرَاضِي فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ غَيْرَ زُفَرَ إِلَى أَنَّ الرُّجُوعَ فَسْخٌ لِلْهِبَةِ، وَقَالَ زُفَرُ: إِنَّهُ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ.

وَحُجَّةُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْوَاهِبَ بِالْفَسْخِ يَسْتَوْفِي حَقَّ نَفْسِهِ، وَاسْتِيفَاءُ الْحَقِّ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي، وَهَذَا بِخِلَافِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ بَيْعًا جَدِيدًا فِي حَقٍّ ثَالِثٍ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمُشْتَرِي فِي الْفَسْخِ، وَإِنَّمَا حَقُّهُ صِفَةُ السَّلَامَةِ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمِ الْمَبِيعَ اخْتَلَّ رِضَاهُ، فَيَثْبُتُ حَقُّ الْفَسْخِ ضَرُورَةً، فَتَوَقَّفَ لُزُومُ مُوجِبِ الْفَسْخِ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي.

وَحُجَّةُ زُفَرَ: أَنَّ مِلْكَ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ عَادَ إِلَى الْوَاهِبِ بِتَرَاضِيهِمَا فَأَشْبَهَ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ فَيُعْتَبَرُ عَقْدًا جَدِيدًا فِي حَقٍّ ثَالِثٍ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ: أَنَّ الْمُتَّهَبَ إِذَا رَدَّ الْهِبَةَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَإِنَّهَا تَكُونُ مِنَ الثُّلُثِ، وَهَذَا حُكْمُ الْهِبَةِ الْمُبْتَدَأَةِ لَا حُكْمُ الْفَسْخِ.

أَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي الرُّجُوعِ قَضَاءَ الْقَاضِي وَلَا التَّرَاضِيَ؛ لِأَنَّهُمْ حِينَ أَجَازُوا رُجُوعَ الْأَبِ فِيمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ إِنَّمَا اعْتَمَدُوا نَصًّا مِنَ الشَّرْعِ، فَالرُّجُوعُ بَعْدَئِذٍ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى أَيِّ شَرْطٍ؛ لِخُلُوِّ النَّصِّ الَّذِي أَجَازَهُ عَنْ مِثْلِ هَذَا الشَّرْطِ.

فَإِذَا رَجَعَ الْأَبُ فَإِنَّهُ خِيَارٌ فِي فَسْخِ عَقْدِ الْهِبَةِ كَالْفَسْخِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ، وَلَا يَكُونُ الرُّجُوعُ هِبَةً مُبْتَدَأَةً.

وَإِذَا كَانَتِ الْهِبَةُ بِعِوَضٍ فَإِنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الْبَيْعِ وَتَأْخُذُ أَحْكَامَهُ فِي الْفَسْخِ وَالْإِقَالَةِ.

وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ التَّفَاسُخَ فِي الْهِبَةِ وَالتَّقَايُلَ لَيْسَ رُجُوعًا، فَلَا تَنْفَسِخُ الْهِبَةُ بِهِمَا.

الْآثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ:

46- إِذَا حَصَلَ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ التَّالِيَةُ:

أ- يَعُودُ الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ إِلَى مِلْكِ الْوَاهِبِ. ب- يَمْلِكُهُ الْوَاهِبُ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ يُعْتَبَرُ فِي انْتِقَالِ الْمِلْكِ لَا فِي عَوْدِ مِلْكٍ قَدِيمٍ.وَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبْضِ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ الرُّجُوعَ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ.

ج- الشَّيْءُ الْمَوْهُوبُ بَعْدَ الرُّجُوعِ يَكُونُ أَمَانَةً بِيَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ لَا يَضْمَنُ؛ لأَنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ قَبْضٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ، فَإِذَا انْفَسَخَتِ الْهِبَةُ بَقِيَ قَبْضُ الْوَاهِبِ قَائِمًا وَعَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يُعِيدَ الْهِبَةَ، لَا يَضْمَنُ إِلاَّ بِالتَّعَدِّي؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ بِيَدِهِ.

47- إِذَا وَهَبَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الشَّيْءَ الْمَوْهُوبَ لِلْوَاهِبِ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ بِتَرَاضٍ لَا قَضَاءِ قَاضٍ فَإِنَّهُ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ.

وَبِنَاءً عَلَيْهِ لَزِمَ مَا يَلِي:

- لَا يَمْلِكُهُ الْوَاهِبُ حَتَّى يَقْبِضَهُ.

- إِذَا قَبَضَهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الرُّجُوعِ بِالتَّرَاضِي أَوِ التَّقَاضِي.

- لَيْسَ لِلْمُتَّهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ.

هَتْمَاءُ

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


16-موسوعة الفقه الكويتية (وضوء 6)

وُضُوءٌ-6

ب- الْإِغْمَاءُ:

148- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْإِغْمَاءَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَمِنْهُ الْغَشْيُ.

(ر: إِغْمَاءٌ، ف6).

ج- الْجُنُونُ:

149- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجُنُونَ- قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا- يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.

(ر: جُنُونٌ، ف10).

د- السُّكْرُ:

150- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ السُّكْرَ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ.

(ر: حَدَثٌ ف11).

رَابِعًا: مَسُّ فَرْجِ الْآدَمِيِّ:

151- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ فَرْجِ الْآدَمِيِّ ذَكَرًا كَانَ أَمْ أُنْثَى أَمْ خُنْثَى، وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (حَدَثٌ ف14، فَرْجٌ ف5، 4، مَسٌّ ف18، خُنْثَى ف9).

خَامِسًا: الْتِقَاءُ بَشَرَتَيِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ:

152- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ بَشَرَةِ الرَّجُلِ بَشَرَةَ الْأُنْثَى، وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (حَدَثٌ ف13، أُنُوثَةٌ ف21).

سَادِسًا: الرِّدَّةُ:

153- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ الِارْتِدَادِ عَنِ الْإِسْلَامِ- وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى- نَاقِضًا لِلْوُضُوءِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الرِّدَّةَ بِذَاتِهَا لَيْسَتْ مِنْ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مُحْبِطَةً لِلْعَمَلِ فِي حَالِ اتِّصَالِهَا بِالْمَوْتِ، وَعَلَيْهِ فَمَنِ ارْتَدَّ وَهُوَ مُتَوَضِّئٌ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ بِرِدَّتِهِ ذَاتِهَا إِنْ لَمْ يَكُنِ انْتَقَضَ لِسَبَبٍ آخَرَ.

وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الرِّدَّةَ إِنِ اتَّصَلَتْ بِالْمَوْتِ فَهِيَ مُحْبِطَةٌ لِلْعَمَلِ وَالثَّوَابِ وَإِنْ لَمْ تَتَّصِلْ بِهِ فَهِيَ مُحْبِطَةٌ لِلثَّوَابِ دُونَ الْعَمَلِ، بِمَعْنَى أَنَّ مَنِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ لَا يُثَابُ عَلَى عَمَلِهِ السَّابِقِ وَلَا يُطَالَبُ بِإِعَادَتِهِ، وَمَنِ اتَّصَلَتْ رِدَّتُهُ بِالْمَوْتِ لَمْ يُثَبْ أَيْضًا.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي وَجْهٍ: إِنَّ الرِّدَّةَ عَنِ الْإِسْلَامِ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فَمَنْ كَانَ عَلَى وُضُوءٍ وَارْتَدَّ انْتَقَضَ هَذَا الْوُضُوءُ بِالرِّدَّةِ ذَاتِهَا وَبِمُجَرَّدِ حُدُوثِهَا؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ عَمَلٌ فَيُحْبَطُ بِنَصِّ الْآيَةِ، وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ يُفْسِدُهَا الْحَدَثُ فَأَفْسَدَهَا الشِّرْكُ كَالصَّلَاةِ وَالتَّيَمُّمِ، وَقَالُوا: الْآيَةُ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- يَسْتَحِيلُ مِنْهُ الرِّدَّةُ شَرْعًا، فَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ- تَعَالَى- أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- لَا يُشْرِكُ وَلَا يَقَعُ مِنْهُ إِشْرَاكٌ.

وَرَوَى مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ نَدْبَ الْوُضُوءِ مِنَ الرِّدَّةِ.

وَقَالَ الصَّاوِيُّ: مَعْنَى إِحْبَاطِ الْعَمَلِ مِنْ حَيْثُ الثَّوَابِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ ثَوَابِهِ إِعَادَتُهُ؛ فَلِهَذَا لَا يُطَالَبُ بَعْدَهَا بِقَضَاءِ مَا قَدَّمَهُ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْوُضُوءُ عَلَى الْقَوْلِ الْمُعْتَمَدِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بَعْدَ تَوْبَتِهِ- أَيْ عَوْدَتِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ- بِمَنْزِلَةِ مَنْ بَلَغَ حِينَئِذٍ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ لِمُوجِبِهِ، وَهُوَ إِرَادَةُ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ.

سَابِعًا: الْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلَاةِ:

154- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِالْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّ الْقَهْقَهَةَ فِي الصَّلَاةِ لَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَتُفْسِدُ الصَّلَاةَ.

وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيَّةُ الْوُضُوءَ مِنَ الضَّحِكِ فِي الصَّلَاةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ- وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ- إِلَى أَنَّ الْقَهْقَهَةَ فِي صَلَاةٍ كَامِلَةً- وَهِيَ مَا لَهَا رُكُوعٌ وَسُجُودٌ- تَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَتُفْسِدُ الصَّلَاةَ.

(ر: حَدَثٌ ف15- 16، قَهْقَهَةٌ ف4- 5).

ثَامِنًا: أَكْلُ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ:

155- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِأَكْلِ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ عَلَى قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ الْوُضُوءُ بِأَكْلِ شَيْءٍ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي طَلْحَةَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ وَأَبِي أُمَامَةَ- رضي الله عنهم- وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ التَّابِعِينَ وَالْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ.

وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: «الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ وَلَيْسَ مِمَّا يَدْخُلُ» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: يَعْنِي الْخَارِجَ النَّجِسَ وَلَمْ يُوجَدْ، وَبِمَا رَوَى جَابِرٌ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا غَيَّرَتِ النَّارُ».

وَالثَّانِي: يَجِبُ الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنِ وَالزُّهْرِيُّ وَأَبِي قِلَابَةَ وَأَبِي مِجْلَزٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي طَلْحَةَ وَأَبِي مُوسَى وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ- رضي الله عنهم-، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ- رضي الله عنهم- عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ».

تَاسِعًا: الْوُضُوءُ مِنْ أَكْلِ لَحْمِ الْجَزُورِ:

156- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِأَكْلِ لَحْمِ الْجَزُورِ وَالْإِبِلِ، عَلَى قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ، وَالْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ الصَّحِيحِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي قَوْلٍ) وَهُوَ مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي طَلْحَةَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ وَأَبِي أُمَامَةَ- رضي الله عنهم- أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ كَأَكْلِ سَائِرِ الْأَطْعِمَةِ.

وَلِحَدِيثِ: «الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ وَلَيْسَ مِمَّا يَدْخُلُ».

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه-: الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ، يَعْنِي الْخَارِجَ مِنَ النَّجِسِ وَلَمْ يُوجَدْ، قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَالْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْحَدَثَ هُوَ خُرُوجُ النَّجِسِ حَقِيقَةً أَوْ مَا هُوَ سَبَبُ الْخُرُوجِ، وَلَمْ يُوجَدْ.

الثَّانِي: يَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ أَكْلِ لَحْمِ الْجَزُورِ خَاصَّةً: لَا فَرْقَ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَكَوْنُهُ نَيْئًا أَوْ غَيْرَ نَيْئٍ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي مُوسَى وَأَبِي طَلْحَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جَابِرٍ الصَّحَابِيِّ- رضي الله عنه-، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي خَيْثَمَةَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ- رضي الله عنه-: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَوَضَّأَ، قَالَ: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ».

وَعَنِ الْبَرَاءِ- رضي الله عنه-: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ فَقَالَ: تَوَضَّئُوا مِنْهَا».

وَلِلْحَنَابِلَةِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِأَكْلِ لُحُومِ الْإِبِلِ تَفْصِيلٌ:

فَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْوُضُوءَ يَنْتَقِضُ بِأَكْلِ لُحُومِ الْجَزُورِ، سَوَاءٌ عَلِمَهُ أَوْ جَهِلَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ نَيْئًا أَوْ مَطْبُوخًا، وَسَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِالْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ أَوْ لَا.

وَعَنْ أَحْمَدَ: يَنْقُضُ نَيْئُهُ دُونَ مَطْبُوخِهِ، وَعَنْهُ: لَا يَنْقُضُ مُطْلَقًا، اخْتَارَهُ يُوسُفُ الْجَوْزِيُّ وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ.

وَعَنْهُ: إِنْ عَلِمَ النَّهْيَ نَقَضَ وَإِلاَّ فَلَا، اخْتَارَهُ الْخَلاَّلُ وَغَيْرُهُ.

وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ كَذَلِكَ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ بِبَقِيَّةِ أَجْزَاءِ الْإِبِلِ كَأَكْلِ سَنَامِهَا وَدُهْنِهَا وَقَلْبِهَا وَكَبِدِهَا وَطِحَالِهَا وَكَرِشِهَا وَمُصْرَانِهَا.

فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ؛ لِأَنَّ النَّصَّ لَا يَتَنَاوَلُهُ، وَالثَّانِي يَنْقُضُ.

وَصَرَّحُوا بِأَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَنْتَقِضُ بِشُرْبِ لَبَنِ الْإِبِلِ وَشُرْبِ مَرَقِ لَحْمِهَا؛ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي اللَّحْمِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَا وَرَدَ النَّصُّ فِيهِ، وَعَنْ أَحْمَدَ: يَنْقُضُ شُرْبُ لَبَنِهَا.

(ر: حَدَثٌ ف17). عَاشِرًا- أَكْلُ الْأَطْعِمَةِ الْمُحَرَّمَةِ:

157- اخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِأَكْلِ الطَّعَامِ الْمُحَرَّمِ:

فَقَدْ وَرَدَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: يَنْقُضُ الْوُضُوءَ الطَّعَامُ الْمُحَرَّمُ، وَعَنْهُ: يَنْقُضُ اللَّحْمُ الْمُحَرَّمُ مُطْلَقًا، وَعَنْهُ يَنْقُضُ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ فَقَطْ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَبَقِيَّةُ النَّجَاسَاتِ تُخَرَّجُ عَلَيْهِ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا نَقْضَ بِأَكْلِ مَا سِوَى لَحْمِ الْإِبِلِ مِنَ اللُّحُومِ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُبَاحَةً أَوْ مُحَرَّمَةً كَلُحُومِ السِّبَاعِ، لِكَوْنِ النَّقْضِ بِلَحْمِ الْإِبِلِ تَعَبُّدِيًّا؛ فَلَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ.

قَالَ الْمَرْدَاوِيُّ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ أَكْلَ الْأَطْعِمَةِ الْمُحَرَّمَةِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَهُوَ صَحِيحٌ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ.

حَادِي عَشَرَ: غَسْلُ الْمَيِّتِ:

158- لَمْ يَذْكُرْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ غَسْلَ الْمَيِّتِ ضِمْنَ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ بَعْدَ غَسْلِ الْمَيِّتِ.

وَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ غُسْلَ الْمَيِّتِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.

وَلِبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ احْتِمَالُ بَعْضِ النَّقْضِ إِذَا غَسَلَهُ الْغَاسِلُ فِي قَمِيصٍ.

(ر: حَدَث ف18).

ثَانِي عَشَرَ: الشَّكُّ فِي الْوُضُوءِ أَوْ عَدَمُهُ:

159- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِالشَّكِّ:

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ مِنْ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ الشَّكَّ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ لَا تَبْرَأُ مِمَّا طُلِبَ مِنْهَا إِلاَّ بِيَقِينٍ، وَلَا تَعَيُّنَ عِنْدَ الشَّاكِّ، وَالْمُرَادُ بِالْيَقِينِ مَا يَشْمَلُ الظَّنَّ.

وَلِلشَّكِّ الْمُوجِبِ لِلْوُضُوءِ عِنْدَهُمْ ثَلَاثُ صُوَرٍ:

الْأُولَى: أَنْ يَشُكَّ بَعْدَ عِلْمِهِ بِتَقَدُّمِ طُهْرِهِ، هَلْ حَصَلَ مِنْهُ نَاقِضٌ مِنْ حَدَثٍ أَوْ سَبَبٍ أَمْ لَا؟

وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَشُكَّ بَعْدَ عِلْمِ حَدَثِهِ، هَلْ حَصَلَ مِنْهُ وُضُوءٌ أَمْ لَا؟ وَالثَّالِثَةُ: عَلِمَ كُلًّا مِنَ الطُّهْرِ وَالْحَدَثِ، وَشَكَّ فِي السَّابِقِ مِنْهُمَا.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الشَّكَّ فِي بَقَاءِ الْوُضُوءِ أَوْ عَدَمِهِ لَيْسَ مِنْ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ، فَمَنْ أَيْقَنَ أَنَّهُ كَانَ مُتَوَضِّئًا، وَشَكَّ فِي حُدُوثِ نَاقِضٍ لِلْوُضُوءِ، وَعَكْسِهِ: وَهُوَ مَنْ أَيْقَنَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا وَشَكَّ فِي طُرُوءِ الْوُضُوءِ.عَمِلَ بِيَقِينِهِ فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ وَهُوَ السَّابِقُ مِنْهُمَا، قَالَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ كَمَا نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ: إِلاَّ إِنْ تَأَيَّدَ اللاَّحِقُ؛ لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ، فَمَنْ ظَنَّ الضِّدَّ- أَيْ ضِدَّ الْيَقِينِ- لَا يَعْمَلُ بِظَنِّهِ؛ لِأَنَّ اسْتِصْحَابَ الْيَقِينِ أَقْوَى مِنْهُ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَقِينِ اسْتِصْحَابُهُ، وَإِلاَّ فَالْيَقِينُ لَا يُجَامِعُهُ شَكٌّ، وَلِخَبَرِ مُسْلِمٍ: «إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لَا؟ فَلَا يُخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا».

ثَالِثَ عَشَرَ- الْغِيبَةُ وَالْكَلَامُ الْقَبِيحُ:

160- حُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةُ أَنَّ الْوُضُوءَ يَنْتَقِضُ بِالْغِيبَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ الشَّرْعِيِّ مِنَ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ كَالْغِيبَةِ

(وَالنَّمِيمَةِ وَالْكَذِبِ وَالْقَذْفِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَالْفُحْشِ وَأَشْبَاهِهَا.

وَوَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: يَتَوَضَّأُ أَحَدُكُمْ مِنَ الطَّعَامِ الطَّيِّبِ وَلَا يَتَوَضَّأُ مِنَ الْكَلِمَةِ الْعَوْرَاءِ يَقُولُهَا.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


17-موسوعة الفقه الكويتية (ولاية 4)

وِلَايَـة -4

وِلَايَةُ اللَّهِ تَعَالَى

مَفْهُومُ وِلَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى

83- ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ وِلَايَةَ اللَّهِ تَعَالَى نَوْعَانِ: عَامَّةٌ، وَخَاصَّةٌ:

فَأَمَّا الْوِلَايَةُ الْعَامَّةُ فَهِيَ وِلَايَةُ كُلِّ مُؤْمِنٍ، فَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا، لِلَّهِ تَقِيًّا، كَانَ اللَّهُ لَهُ وَلِيًّا.وَفِيهِ مِنَ الْوِلَايَةِ بِقَدْرِ إِيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ.

يَدُلُّ عَلَى هَذَا قوله تعالى {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ}، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}.

وَفِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْوِلَايَةِ قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: فَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ مَعَهُ مِنْ وِلَايَةِ اللَّهِ بِقَدْرِ إِيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ، كَمَا مَعَهُ مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ بِقَدْرِ فُجُورِهِ، إِذِ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ تَجْتَمِعُ فِيهِ الْحَسَنَاتُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلثَّوَابِ وَالسَّيِّئَاتُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْعِقَابِ، حَتَّى يُمْكِنَ أَنْ يُثَابَ وَيُعَاقَبَ، وَهَذَا قَوْلُ جَمِيعِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ.

وَأَمَّا الْوِلَايَةُ الْخَاصَّةُ فَهِيَ الْقِيَامُ لِلَّهِ بِجَمِيعِ حُقُوقِهِ، وَإِيثَارُهُ عَلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، حَتَّى تَصِيرَ مَرَاضِي اللَّهِ وَمَحَابُّهُ هِيَ هَمَّهُ وَمُتَعَلِّقَ خَوَاطِرِهِ، يُصْبِحُ وَيُمْسِي وَهَمُّهُ مَرْضَاةُ رَبِّهِ وَإِنْ سَخِطَ الْخَلْقُ.

وَفِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْوِلَايَةِ يَقُولُ الشَّوْكَانِيُّ: الْوَلِيُّ فِي اللُّغَةِ: الْقَرِيبُ.وَالْمُرَادُ بِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ: خُلَّصُ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُمْ قَرُبُوا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِطَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ.

وَقَدْ تَنَوَّعَتْ تَعْرِيفَاتُ الْعُلَمَاءِ لِهَذِهِ الْوِلَايَةِ، فَقَالَ الْغُنَيْمِيُّ الْمَيْدَانِيُّ: الْأَوْلِيَاءُ جَمْعُ وَلِيٍّ، بِوَزْنِ فَعِيلٍ (بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَقَتِيلٍ بِمَعْنَى مَقْتُولٍ، أَوْ (بِمَعْنَى فَاعِلٍ كَعَلِيمٍ بِمَعْنَى عَالَمٍ.قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَكَوْنُهُ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَرْجَحَ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْدَحُ إِلاَّ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، وَقَدْ مَدَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.

- فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْوَلِيُّ مَنْ تَوَلَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رِعَايَتَهُ وَحِفْظَهُ، فَلَا يَكِلُهُ إِلَى نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ}.

- وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الْوَلِيُّ مَنْ تَوَلَّى عِبَادَةَ اللَّهِ وَطَاعَتَهِ، فَهُوَ يَأْتِي بِهَا عَلَى التَّوَالِي، آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ.وَيَجْنَحُ إِلَى هَذَا مَا عَرَّفَهُ بِهِ السَّعْدُ فِي «شَرْحِ الْعَقَائِدِ» حَيْثُ قَالَ: هُوَ الْعَارِفُ بِاللَّهِ حَسَبَ مَا يُمْكِنُ، الْمُوَاظِبُ عَلَى الطَّاعَاتِ، الْمُجْتَنِبُ لِلْمَعَاصِي، الْمُعْرِضُ عَنِ الِانْهِمَاكِ بِاللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ.وَكَذَا تَعْرِيفُ الْهَيْتَمِيِّ لِلْأَوْلِيَاءِ بِأَنَّهُمُ: الْقَائِمُونَ بِحُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ، بِجَمْعِهِمْ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَسَلَامَتِهِمْ مِنَ الْهَفَوَاتِ وَالزَّلَلِ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ سَلَامَتَهُمْ مِنَ الْهَفَوَاتِ وَالزَّلَلِ لَا تَعْنِي الْعِصْمَةَ، إِذْ لَا عِصْمَةَ إِلاَّ لِنَبِيٍّ، وَلَكِنْ كَمَا قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يَحْفَظُ الْوَلِيَّ مِنْ تَمَادِيهِ فِي الزَّلَلِ وَالْخَطَأِ إِنْ وَقَعَ فِيهِمَا، بِأَنْ يُلْهِمَهُ التَّوْبَةَ فَيَتُوبَ مِنْهُمَا، وَإِلاَّ فَهُمَا لَا يَقْدَحَانِ فِي وِلَايَتِهِ.

الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَلِيِّ وَالنَّبِيِّ:

ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مِمَّا يَفْتَرِقُ الْوَلِيُّ عَنِ النَّبِيِّ فِيهِ: أ- الْعِصْمَةُ:

84- فَالْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ وُجُوبًا، وَلَيْسَ الْأَوْلِيَاءُ كَذَلِكَ، فَيَجُوزُ عَلَيْهِمْ مَا يَجُوزُ عَلَى سَائِرِ عِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ اقْتِرَافِ الذُّنُوبِ.قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: لَكِنَّهُمْ قَدْ صَارُوا إِلَى رُتْبَةٍ رَفِيعَةٍ وَمَنْزِلَةٍ عَلِيَّةٍ، فَقَلَّ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ مَا يُخَالِفُ الصَّوَابَ وَيُنَافِي الْحَقَّ، وَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ فَلَا يُخْرِجُهُمْ عَنْ كَوْنِهِمْ أَوْلِيَاءَ لِلَّهِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ مَحْفُوظًا، فَلَا يُصِرُّ عَلَى الذُّنُوبِ، وَإِنْ حَصَلَتْ مِنْهُ هَفَوَاتٌ فِي أَوْقَاتٍ أَوْ زَلاَّتٌ، فَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ.

ب- الْإِيمَانُ بِهِ وَوُجُوبُ الِاتِّبَاعِ:

85- الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَجِبُ لَهُمُ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ مَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيمَا يَأْمُرُونَ بِهِ، بِخِلَافِ الْأَوْلِيَاءِ فَإِنَّهُمْ لَا تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُونَ وَلَا الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ مَا يُخْبِرُونَ بِهِ.قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: بَلْ يُعْرَضُ أَمْرُهُمْ وَخَبَرُهُمْ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَجَبَ قَبُولُهُ، وَمَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ كَانَ مَرْدُودًا.ثُمَّ قَالَ: ذَلِكَ أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الِاعْتِصَامُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنُّةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مَعْصُومٌ يُسَوَّغُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ اتِّبَاعُ مَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنُّةِ.

ج- الْوَحْيُ:

86- الْأَنْبِيَاءُ مُكَرَّمُونَ بِتَلَقِّي الْوَحْيِ وَمُشَاهَدَةِ الْمَلَكِ، وَلَيْسَ الْأَوْلِيَاءُ كَذَلِكَ.فَالْوَلِيُّ لَا يَسَعُهُ إِلاَّ اتِّبَاعُ النَّبِيِّ، حَتَّى إِنَّ الْوَلِيَّ لَوِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ صَارَ عَدُوًّا لِلَّهِ، لَا وَلِيًّا لَهُ.

د- وُجُوبُ تَبْلِيغِ الْوَحْيِ:

87- الْأَنْبِيَاءُ مَأْمُورُونَ بِتَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ وَسَائِرِ مَا يُوحَى إِلَيْهِمْ بِهِ مِنَ اللَّهِ وَإِرْشَادِ الْأَنَامِ لِدِينِهِ، وَلَيْسَ الْأَوْلِيَاءُ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ لَا يَتَلَقَّوْنَ ذَلِكَ مُبَاشَرَةً بِوَاسِطَةِ الْوَحْيِ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ الْأَنْبِيَاءَ.

هـ- الْأَمْنُ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ:

88- فَالْأَنْبِيَاءَ مَأْمُونُونَ عَنْ خَوْفِ سُوءِ الْخَاتِمَةِ، أَمَّا الْوَلِيُّ فَلَا يَعْلَمُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ مَا دَامَ حَيًّا هَلْ سَيُخْتَمُ لَهُ بِالْمُوَافَاةِ عَلَى الْإِيمَانِ، أَمْ أَنَّهُ سَيَلْقَى اللَّهَ غَيْرَ ذَلِكَ.

و- خَتْمُ النُّبُوَّةِ:

89- فَالنُّبُوَّةَ مَخْتُومَةٌ مِنْ حَيْثُ الْإِنْبَاءُ وَالْإِخْبَارُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم-، إِذْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا الْوِلَايَةُ فَدَائِمَةٌ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.

ز) حُكْمُ السَّبِّ:

90- أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ سَبَّ نَبِيًّا فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ سَبَّ أَحَدًا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ سَبُّهُ مُخَالِفًا لِأَصْلٍ مِنْ أَصُولِ الْإِيمَانِ، مِثْلَ أَنْ يَتَّخِذَ ذَلِكَ السَّبَّ دِينًا، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِدِينٍ.

فَضْلُ النَّبِيِّ عَلَى الْوَلِيِّ:

91- اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَخَلَفُهَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَفْضِيلُ أَحَدٍ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ.قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: رُتْبَةُ الْأَوْلِيَاءِ لَا تَبْلُغُ رُتْبَةَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ عَلَى ذَلِكَ.

أَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْكَرَّامِيَّةِ وَغُلَاةِ الْمُتَصَوِّفَةِ مِنْ جَوَازِ كَوْنِ الْوَلِيِّ أَفْضَلَ مِنَ النَّبِيِّ فَهُوَ بَاطِلٌ.

قَالَ الْغُنَيْمِيُّ الْمَيْدَانِيُّ: هُوَ كُفْرٌ وَضَلَالٌ.

92- أَمَا أَفْضَلُ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: أَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى هُمْ أَنْبِيَاؤُهُ، وَأَفْضَلُ أَنْبِيَائِهِ هُمُ الْمُرْسَلُونَ، وَأَفْضَلُ الرُّسُلِ هُمْ أُولُو الْعَزْمِ: نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ- صلى الله عليه وسلم-.وَأَفْضَلُ الرُّسُلِ: نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا كَانَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ هُمُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، فَبِحَسَبِ إِيمَانِ الْعَبْدِ وَتَقْوَاهُ تَكُونُ وِلَايَتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى، فَمَنْ كَانَ أَكْمَلَ إِيمَانًا وَتَقْوَى، كَانَ أَكْمَلَ وِلَايَةً لِلَّهِ، فَالنَّاسُ مُتَفَاضِلُونَ فِي وِلَايَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِحَسَبِ تَفَاضُلِهِمْ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى.

مِعْيَارُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ أَوْلِيَاءَ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ

93- نَبَّهَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُمَيَّزُونَ عَمَّنْ سِوَاهُمْ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْخَوَارِقَ كَمَا تَقَعُ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ، فَقَدْ تَظْهَرُ عَلَى أَيْدِي أَعْدَائِهِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُونَ وَيُمَيَّزُونَ بِصِفَاتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمُ الَّتِي دَلَّ عَلَى خَبَرِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الشَّوْكَانِيُّ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ كَانَ مِنَ الْمَعْدُودِينَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، إِنْ كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ مِنَ اللَّهِ، مُقِيمًا لِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَارِكًا لِمَا نَهَاهُ عَنْهُ، مُسْتَكْثِرًا مِنْ طَاعَاتِهِ، فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَرَامَاتِ الَّتِي لَمْ تُخَالِفِ الشَّرْعَ، فَهِيَ مَوْهِبَةٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُنْكِرَهَا.

وَمَنْ كَانَ بِعَكْسِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، فَلَيْسَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلَيْسَتْ وِلَايَتُهُ رَحْمَانِيَّةً، بَلْ شَيْطَانِيَّةً، وَخَوَارِقُهُ مِنْ تَلْبِيسِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ وَعَلَى النَّاسِ.وَلَيْسَ هَذَا بِغَرِيبٍ وَلَا مُسْتَنْكَرٍ، فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ مَخْدُومًا بِخَادِمٍ مِنَ الْجِنِّ أَوْ بِأَكْثَرَ، فَيَخْدِمُونَهُ فِي تَحْصِيلٍ مَا يَشْتَهِيهِ وَرُبَّمَا كَانَ مُحَرَّمًا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ.وَالْمِعْيَارُ الَّذِي لَا يَزِيغُ، وَالْمِيزَانُ الَّذِي لَا يَجُورُ هُوَ مِيزَانُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.فَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لَهُمَا مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا، فَكَرَامَاتُهُ وَجَمِيعُ أَحْوَالِهِ رَحْمَانِيَّةٌ، وَمَنْ لَمْ يَتَمَسَّكْ بِهِمَا وَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ حُدُودِهِمَا فَأَحْوَالُهُ شَيْطَانِيَّةٌ.

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ ضَابِطَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ مَا يَتَلَبَّسُ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ وَحَالٍ، فَإِنْ كَانَ وَفْقَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ فِي الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ وَفِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي عَلَى الْجَوَارِحِ، كَانَ صَاحِبُهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ مُعْرِضًا فِي ذَلِكَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَهَدْيِ رَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم-، مُخَالِفًا لَهُمَا إِلَى غَيْرِهِ، فَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ.

ثُمَّ قَالَ: فَإِنِ اشْتَبَهَ عَلَيْكَ، فَاكْشِفْهُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ: فِي صَلَاتِهِ، وَمَحَبَّتِهِ لِلسُّنَّةِ وَأَهْلِهَا أَوْ نَفْرَتِهُ عَنْهُمْ، وَدَعْوَتِهِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ وَالْمُتَابَعَةِ وَتَحْكِيمِ السُّنَّةِ، فَزِنْهُ بِذَلِكَ، وَلَا تَزِنْهُ بِحَالٍ وَلَا كَشْفٍ وَلَا خَارِقٍ، وَلَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ وَطَارَ فِي الْهَوَاءِ.

كَرَامَاتُ الْأَوْلِيَاءِ

94- الْكَرَامَاتُ جَمْعُ كَرَامَةٍ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: الشَّرَفُ.مِنَ الْكَرَمِ: الَّذِي يَعْنِي شَرَفَ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ أَوْ فِي خُلُقٍ مِنَ الْأَخْلَاقِ.أَوِ الْإِكْرَامُ: الَّذِي هُوَ إِيصَالُ نَفْعٍ إِلَى الْإِنْسَانِ، لَا يَلْحَقُهُ فِيهِ غَضَاضَةٌ، أَوْ أَنْ يَجْعَلَ مَا يُوَصَلُ إِلَيْهِ شَيْئًا كَرِيمًا، أَيْ شَرِيفًا.

أَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ، فَقَدْ عَرَّفَ ابْنُ عَابِدِينَ الْكَرَامَةَ بِأَنَّهَا: ظُهُورُ أَمْرٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ، عَلَى يَدِ عَبْدٍ ظَاهِرِ الصَّلَاحِ، مُلْتَزِمٍ لِمُتَابَعَةِ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، مُقْتَرِنًا بِصَحِيحِ الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ غَيْرِ مُقَارِنٍ لِدَعْوَى النُّبُوَّةِ.

فَامْتَازَتِ الْكَرَامَةُ بِعَدَمِ الِاقْتِرَانِ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ عَنِ الْمُعْجِزَةِ، وَبِكَوْنِهَا عَلَى يَدِ ظَاهِرِ الصَّلَاحِ وَهُوَ الْوَلِيُّ عَمَّا يُسَمُّونَهُ مَعُونَةً وَهِيَ الْخَارِقُ الظَّاهِرُ عَلَى أَيْدِي عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ، تَخَلُّصًا لَهُمْ مِنَ الْمِحَنِ وَالْمَكَارِهِ، وَبِمُقَارَنَةِ صَحِيحِ الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ عَنِ الِاسْتِدْرَاجِ، وَبِمُتَابَعَةِ نَبِيٍّ قَبْلَهُ عَنْ خَوَارِقِ مُدَّعِي النُّبُوَّةِ الْمُؤَكِّدَةِ لِكَذِبِهِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْإِهَانَةِ كَبَصْقِ مُسَيْلِمَةَ فِي بِئْرٍ عَذْبَةِ الْمَاءِ لِيَزْدَادَ مَاؤُهَا حَلَاوَةً، فَصَارَ مِلْحًا أُجَاجًا.

95- وَقَدْ ذَهَبَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ وَالْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ- خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ- إِلَى أَنَّ ظُهُورَ الْكَرَامَةِ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ جَائِزٌ عَقْلًا، لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُمْكِنَاتِ، وَأَنَّهَا وَاقِعَةٌ نَقْلًا مُفِيدًا لِلْيَقِينِ مِنْ جِهَةٍ مَجِيءِ الْقُرْآنِ بِهَا، وَوُقُوعِ التَّوَاتُرِ عَلَيْهَا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ.وَبَعْدَ ثُبُوتِ الْوُقُوعِ لَا حَاجَةَ إِلَى إِثْبَاتِ الْجَوَازِ قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَكَرَامَاتُ الْأَوْلِيَاءِ حَقٌّ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَالْآثَارُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَهَا أَهْلُ الْبِدَعِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَمَنْ تَابَعَهُمْ، وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَدَّعِيهَا أَوْ تُدَّعَى لَهُ يَكُونُ كَذَّابًا أَوْ مَلْبُوسًا عَلَيْهِ.

الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَرَامَةِ وَالْمُعْجِزَةِ:

96- الْمُعْجِزَةُ اسْمُ فَاعِلٍ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعَجْزِ الْمُقَابِلِ لِلْمَقْدِرَةِ، لِمَا فِيهَا مِنْ إِعْجَازِ الْخَصْمِ عِنْدَ التَّحَدِّي، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ.

وَهِيَ فِي الشَّرْعِ: مَا خَرَقَ الْعَادَةَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، إِذَا وَافَقَ دَعْوَى الرِّسَالَةِ وَقَارَنَهَا وَطَابَقَهَا، عَلَى جِهَةِ التَّحَدِّي ابْتِدَاءً، بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَيْهَا وَلَا عَلَى مِثْلِهَا وَلَا عَلَى مَا يُقَارِبُهَا.

وَتَسْمِيَةُ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَأَعْلَامِهَا «مُعْجِزَاتٍ» إِنَّمَا هُوَ اصْطِلَاحُ النُّظَّارِ، إِذْ لَمْ يَرِدْ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ، وَالَّذِي فِيهِ لَفْظُ الْآيَةِ وَالْبَيِّنَةِ وَالْبُرْهَانِ.

97- أَمَّا وُجُوهُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْكَرَامَةِ وَالْمُعْجِزَةِ فَهِيَ:

أَوَّلًا: أَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَقْتَرِنُ بِالتَّحَدِّي، وَهُوَ طَلَبُ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُقَابَلَةِ يُقَالُ تَحَدَّيْتُ فُلَانًا: إِذَا بَارَيْتَهُ فِي فِعْلٍ وَنَازَعْتَهُ لِلْغَلَبَةِ أَمَّا الْكَرَامَةُ فَلَا تَقْتَرِنُ بِذَلِكَ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مَا وَقَعَ مِنْهُ- صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ النُّبُوَّةِ مِنْ مُعْجِزَاتٍ كَنُطْقِ الْحَصَى وَحَنِينِ الْجِذْعِ وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ- صلى الله عليه وسلم- مَقْرُونٌ بِالتَّحَدِّي، لِأَنَّ قَرَائِنَ أَقْوَالِهِ وَأَحْوَالِهِ نَاطِقَةٌ بِدَعْوَاهُ النُّبُوَّةَ وَتَحَدِّيهِ لِلْمُخَالِفِينَ وَإِظْهَارِهِ مَا يَقْمَعُهُمْ وَيَقْطَعُهُمْ، فَكَانَ كُلُّ مَا ظَهَرَ مِنْهُ- صلى الله عليه وسلم- يُسَمَّى آيَاتٍ وَمُعْجِزَاتٍ، وَلِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ اقْتِرَانِهَا بِالتَّحَدِّي الِاقْتِرَانُ بِالْقُوَّةِ أَوِ الْفِعْلِ.

ثَانِيًا: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَأْمُورُونَ بِإِظْهَارِ مُعْجِزَاتِهِمْ، لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ صِدْقِهِمْ وَاتِّبَاعِهِمْ، وَلَا يُعْرَفُ النَّبِيُّ إِلاَّ بِمُعْجِزٍ.أَمَّا الْكَرَامَةُ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ إِظْهَارُهَا، بَلْ يَسْتُرُ كَرَامَتَهُ وَيُسِرُّهَا وَيَجْتَهِدُ عَلَى إِخْفَاءِ أَمْرِهِ.

ثَالِثًا: أَنَّ دَلَالَةَ الْمُعْجِزَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ قَطْعِيَّةٌ، وَأَنَّ النَّبِيَّ يَعْلَمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، بَيْنَمَا دَلَالَةُ الْكَرَامَةِ عَلَى الْوِلَايَةِ ظَنِّيَّةٌ، وَلَا يَعْلَمُ مُظْهِرُهَا أَوْ مَنْ ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ أَنَّهُ وَلِيٌّ، وَلَا غَيْرُهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَمْكُورًا بِهِ.قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا وَلِيٌّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَصِحُّ إِلاَّ بَعْدَ الْعِلْمِ وَالْقَطْعِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمُوتُ إِلاَّ مُؤْمِنًا، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنَّا أَنْ نَقْطَعَ عَلَى أَنَّهُ وَلِيٌّ لِلَّهِ، لِأَنَّ الْوَلِيَّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُوَافِي إِلاَّ بِالْإِيمَانِ، وَلَمَّا اتُّفِقَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَقْطَعَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُوَافِي إِلاَّ بِالْإِيمَانِ، عُلِمَ أَنَّ الْفِعْلَ الْخَارِقَ لِلْعَادَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى وِلَايَتِهِ.

وَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَدُلُّ عَلَى عِصْمَةِ صَاحِبِهَا وَعَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ، أَمَّا الْكَرَامَةُ فَلَا تَدُلُّ عَلَى عِصْمَةِ مَنْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ، وَلَا عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ فِي كُلِّ مَا يَقُولُ، وَلَا عَلَى وِلَايَتِهِ، لِجَوَازِ سَلْبِهَا أَوْ أَنْ تَكُونَ اسْتِدْرَاجًا لَهُ.

رابِعًا: أَنَّ الْكَرَامَةَ لَا يَجُوزُ بُلُوغُهَا مَبْلَغَ الْمُعْجِزَةِ فِي جِنْسِهَا وَعِظَمِهَا، كَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَانْفِلَاقِ الْبَحْرِ وَقَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً وَخُرُوجِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ الْأَصَابِعِ، وَبِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَاءَ الْمَذْهَبَيْنِ وَغَيْرِهِمْ: كُلُّ مَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ جَازَ أَنْ يَكُونَ كَرَامَةً لِوَلِيٍّ، غَيْرَ أَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَقْتَرِنُ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَالْكَرَامَةُ لَا تَقْتَرِنُ بِذَلِكَ، بَلْ إِنَّ الْوَلِيَّ لَوِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ صَارَ عَدُوًّا لِلَّهِ، لَا يَسْتَحِقُّ الْكَرَامَةَ بَلِ اللَّعْنَةَ وَالْإِهَانَةَ.

خَوَارِقُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ:

98- مِنْ جُمْلَةِ الْكَرَامَاتِ الْخَوَارِقُ الَّتِي وَقَعَتْ لِلْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، كَإِظْلَالِ الْغَمَامِ وَشَقِّ الصَّدْرِ الْوَاقِعَيْنِ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- قَبْلَ الْبَعْثَةِ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ بِمُعْجِزَاتٍ لِتَقَدُّمِهَا عَلَى التَّحَدِّي وَدَعْوَى النُّبُوَّةِ، بَلْ كَرَامَاتٍ، وَتُسَمَّى «إِرْهَاصًا» أَيْ تَأْسِيسًا لِلنُّبُوَّةِ، ذَكَرَ ذَلِكَ جُمْهُورُ أَئِمَّةِ الْأُصُولِ وَغَيْرُهُمْ.

كَرَامَةُ الْوَلِيِّ مُعْجِزَةٌ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-:

99- قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ خَارِقٍ ظَهَرَ عَلَى يَدِ أَحَدٍ مِنَ الْعَارِفِينَ فَهُوَ ذُو جِهَتَيْنِ: جِهَةُ كَرَامَةٍ، مِنْ حَيْثُ ظُهُورِهِ عَلَى يَدِ ذَلِكَ الْعَارِفِ.وَجِهَةُ مُعْجِزَةٍ لِلرَّسُولِ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الَّذِي ظَهَرَتْ هَذِهِ الْكَرَامَةُ عَلَى يَدِهِ هُوَ وَاحِدٌ مِنْ أُمَّتِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ بِتِلْكَ الْكَرَامَةِ الْآتِي بِهَا وَلِيٌّ إِلاَّ وَهُوَ مُحِقٌّ فِي دِيَانَتِهِ، وَدِيَانَتُهُ هِيَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ بِرِسَالَةِ ذَلِكَ الرَّسُولِ مَعَ الْإِطَاعَةِ لِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، حَتَّى لَوِ ادَّعَى هَذَا الْوَلِيُّ الِاسْتِقْلَالَ بِنَفْسِهِ وَعَدَمَ الْمُتَابَعَةِ لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا.

الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَرَامَاتِ وَخَوَارِقِ أَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ:

100- ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْخَارِقَ غَيْرَ الْمُقْتَرِنِ بِتَحَدِّي النُّبُوَّةِ إِذَا ظَهَرَ عَلَى يَدِ عَبْدٍ صَالِحٍ، وَهُوَ الْقَائِمُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ خَلْقِهِ فَهُوَ الْكَرَامَةُ.أَمَّا إِذَا ظَهَرَ عَلَى يَدِ ظَاهِرِ الْفِسْقِ مُطَابِقًا لِدَعْوَاهُ فَهُوَ «الِاسْتِدْرَاجُ» وَقَدْ يُسَمَّى «سِحْرًا وَشَعْوَذَةً».

وَإِنْ ظَهَرَ عَلَى يَدِ مُدَّعِي النُّبُوَّةِ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ فَهُوَ «الْإِهَانَةُ»، كَنُطْقِ الْجَمَادِ بِأَنَّهُ مُفْتَرٍ كَذَّابٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِأَنَّ خَارِقَ الْعَادَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَكُونُ مُوَافِقًا لِلدَّعْوَى، بَلْ مُثْبِتًا لِكَذِبِهَا.

وَأَسَاسُ ذَلِكَ أَنَّ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ لَا يَكُونُ سَبَبُهَا إِلاَّ الْإِيمَانَ وَالتَّقْوَى، أَمَّا خَوَارِقُ أَعْدَاءِ اللَّهِ فَسَبَبُهَا الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ.وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ لَا تَدُلُّ عَلَى عِصْمَةِ صَاحِبِهَا، وَلَا عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ فِي كُلِّ مَا يَقُولُ، لِأَنَّ بَعْضًا مِنْهَا قَدْ يَصْدُرُ عَنِ الْكُفَّارِ وَالسَّحَرَةِ بِمُؤَاخَاتِهِمْ لِلشَّيَاطِينِ، كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الدَّجَّالِ أَنَّهُ يَقُولُ لِلسَّمَاءِ: أَمْطِرِي فَتُمْطِرُ، وَلِلْأَرْضِ: أَنْبِتِي فَتُنْبِتُ، وَأَنَّهُ يَقْتُلُ وَاحِدًا ثُمَّ يُحْيِيهِ، وَأَنَّهُ يَخْرُجُ خَلْفَهُ كُنُوزُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الدِّينِ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ وَمَشَى عَلَى الْمَاءِ، لَمْ تَثْبُتْ لَهُ وِلَايَةٌ، بَلْ وَلَا إِسْلَامٌ حَتَّى يُنْظَرَ وُقُوفُهُ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ- صلى الله عليه وسلم-.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


18-الغريبين في القرآن والحديث (قوم)

(قوم)

قوله تعالى: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} يعني الموضع الذي قام عليه، ويكون الموضع الذي يقام به، ويكون مصدرا يقال أقام بالمكان إقامة ومقاما ومقاما ومقمامة.

ومنه قوله: {الذي أحلنا دار المقامة من فضله} أي دار الإقامة، وسميت القيامة قيامة لأن الخلق يقومون من قبورهم أحياء.

وقوله تعالى: {لا مقام لكم فارجعوا} أي لا مكان لكم، ومن ضم الميم فمعناه لا إقامة لكم.

وقوله تعالى: {في مقام أمين} أي في مجلس أمين كما قال: {في مقعد صدق}.

ومنه قوله: {قبل أن تقوم من مقامك} أي من مجلك وهي المقامة أيضا.

وقوله تعالى: {ذلك لمن خاف مقامي} أي خاف المقام الذي وعدته للثواب والعقاب.

وقوله تعالى: {الحي القيوم} القيوم والقوام: القائم بالأمر، يقال: هو قيم قومه إذا كان قائما بأمورهم، وهم قوام قومهم.

وقوله تعالى: {ولم يجعل هل عوجا قيما} أي أنزل عليه الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا ومعنى القيم المستقيم.

وقوله تعالى: {دينا قيما} أي مستقيما، ومن قرأ (قيما) فهو مصدر كالصغر والكبر، وقال: ابن عرفة: القيم: الاستقامة، وأنشد لكعب بن زهير فهم حدفوكم حتى جرتم عن الهدى بأسيافهم حين استقمتم على القيم وقال أبو عبيد: القيوم: القائم، وهو الدائم الذي لا يزول، ويقال: قام بالأمر وأقام الأمر: إذا حفظه ولم يضيع شيئا منه.

ومنه قوله: {يقيمون الصلاة} أي يقيمونها إيمانا ووقتا وعددا.

وقوله تعالى: {أفمن هو قائم على كل نفس} قال الحسن: بأرزاقهم وآجالهم وأعمالهم، وقال غيره: قائم على كل نفس، آخذ لها ومجاز.

وقوله تعالى: {إلا ما دمت عليه قائما} أي مواظبا بالاقتضاء.

ومنه قوله: {أمة قائمة}.

وقوله: {وإذا أظلم عليهم قاموا} أي وقفوا فلم يتقدموا ولم يتأخروا، وليس من القيام بعد القعود، وهم يقولون للماشي قم أي قف، وأقام بالمكان من هذا.

وقوله: {للطائفين والقائمين} أي المصلين.

وقوله: {وإقام الصلاة} إي إدامتها، ولم يقل، وإقامة لأن الإضافة قامت مقام الهاء.

قوله تعالى: {التي جعل الله لكن قياما} أي ملاكا يقيمكم فتقومون بها، والمعنى: جعلها الله قيمة الأشياء فيه تقوم بأموركم، يقال: هذا قوام الأمر وقيامه أي هذا يستقيم ويصلح به الأمر وكذلك قيمة.

ومن ذلك قوله عز وجل: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس}. أي صلاحا ومعاشا لأمن الناس بهم.

وقوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} قال قتادة: على الطاعة، وقال الأسود بن هلال: أي لم يشركوا به شيئا يقال: أقام، واستقام، كما يقال: أجاب واستجاب.

ومنه الحديث: (استقيموا لقريش ما استقاموا لكم) يقول: استقيموا لهم على الطاعة، ما اتبعوا الحق ويقال: ما أقاموا على الشريعة والدين واحدة.

وقوله تعالى: {وذلك دين القيمة} أي دين الملة القيمة بالحق.

وقوله تعالى: {في أحسن تقويم} أي في أحسن صورة.

وقوله تعالى: {أمة قائمة} أي متمسكة بدينها، وهم قوم آمنوا بموسى وعيسى ومحمد عليه الصلاة والسلام.

ومنه حديث حكيم بن حزام: (قال: بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ألا أخر إلا قائما) قال أبو العباس: أي متمسكا بديني، وقال أبو عبيد: أراد أن لا أموت إلا ثابتا على الإسلام، يقال: قام فلان على الشيء إذا ثبت عليه وتمسك به.

وفي الحديث: (ما أفلح قوم قيمتهم امرأة) يعني الذي يقوم بسياسة أمورهم.

وفي حديث: ابن عباس: (إذا استقمت بنقد وبعت بنقد فلا بأس وإذا استقمت بنقد وبعت بنسيئة فلا خير فيه) قال أبو عبيد: يعني قومت وهذا

كلام أهل مكة، يقولون استقمت المتاع أي قومته قال: ومعنى الحديث: أن يدفع الرجل إلى الرجل الثوب فيقومه ثلاثين ثم يقول: بعه فما زاد عليها فهو لك فإن باعه بأكثر من ثلاثين بالنقد فهو جائز، ويأخذ ما زاد فإن باعه بالنسيئة فأكثر مما يبيعه بالنقد فالبيع مردود لا

الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م


19-الفروق اللغوية للعسكري (الفرق بين الهجو والذم)

الْفرق بَين الهجو والذم

أَن الذَّم نقيض الْحَمد وهما يدلان على الْفِعْل وَحمد الْمُكَلف يدل على اسْتِحْقَاقه للثَّواب بِفِعْلِهِ وَذمَّة يدل على اسْتِحْقَاقه للثَّواب بِفِعْلِهِ وَذمَّة يدل على اسْتِحْقَاقه للعقاب بِفِعْلِهِ والهجو نقيض الْمَدْح وهما يدلان على الْفِعْل وَالصّفة كهجوك الْإِنْسَان بالبخل وقبح الْوَجْه وَفرق آخر أَن الذَّم يسْتَعْمل فِي الْفِعْل وَالْفَاعِل فَتَقول ذممته بِفِعْلِهِ وذممت فعله والهجو يتَنَاوَل الْفَاعِل والموصوف دون الْفِعْل وَالصّفة فَتَقول هجرته بالخل وقبح الْوَجْه وَلَا تَقول هجرت قبحة وبخله وأصل الهجو فِي الْعَرَبيَّة الْهدم تَقول هجوت الْبَيْت إِذا هدمته وَكَانَت الأَصْل فِي الهجو أَن يكون بعد الْمَدْح كَمَا أَن الْهدم يكون بعد الْبناء إِلَّا أَنه كثر اسْتِعْمَاله فَجرى فِي الْوَجْهَيْنِ.

الفروق اللغوية-أبو هلال الحسن بن عبدالله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري-توفي:نحو: 395هـ/1005م


20-الفروق اللغوية للعسكري (الفرق بين العفو والغفران)

الْفرق بَين الْعَفو والغفران

أَن الغفران يَقْتَضِي إِسْقَاط الْعقَاب وَإِسْقَاط الْعقَاب هُوَ إِيجَاب الثَّوَاب فَلَا يسْتَحق الغفران إِلَّا الْمُؤمن الْمُسْتَحق للثَّواب وَلِهَذَا لَا يسْتَعْمل إِلَّا فِي الله فَيُقَال غفر الله لَك وَلَا يُقَال غفر زيد لَك إِلَّا شاذا قَلِيلا وَالشَّاهِد على شذوذه أَنه لَا يتَصَرَّف فِي صِفَات العَبْد كَمَا يتَصَرَّف فِي صِفَات الله تَعَالَى أَلا ترى أَنه يُقَال استغفرت الله تَعَالَى وَلَا يُقَال استغفرت زيدا وَالْعَفو يَقْتَضِي إِسْقَاط اللوم والذم وَلَا يَقْتَضِي إِيجَاب الثَّوَاب وَلِهَذَا يسْتَعْمل فِي العَبْد فَيُقَال عَفا زيد عَن عَمْرو وَإِذا عَفا عَنهُ لم يجب عَلَيْهِ إثابته إِلَّا أَن الْعَفو والغفران لما تقَارب معنياهما تداخلا واستعملا فِي صِفَات الله جلّ اسْمه على وَجه وَاحِد فَيُقَال عَفا الله عَنهُ وَغفر لَهُ بِمَعْنى وَاحِد وَمَا تعدى بِهِ اللفظان يدل على مَا قُلْنَا وَذَلِكَ أَنَّك تَقول عَفا عَنهُ فَيَقْتَضِي ذَلِك إِزَالَة شَيْء عَنهُ وَتقول غفر لَهُ فَيَقْتَضِي ذَلِك اثبات شَيْء لَهُ.

الفروق اللغوية-أبو هلال الحسن بن عبدالله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري-توفي:نحو: 395هـ/1005م


21-التعريفات الفقهية (الندَّب)

الندَّب: بالفتح مصدر ندب للأمر أو إلى الأمر إذا دعاه ورشَّحه للقيام به وحثَّه عليه، وهو عند الأصوليين والفقهاء: خطابٌ بطلب فعل غير كف ينتهض فعله فقط سببًا للثواب وذلك الفعل يسمَّى مندوبًا ومستحبًا وتطوعًا ونفلًا فعلى هذا المندوبُ (إليه) يعمُّ السنة أيضًا وقيل: هو الزائدُ على الفرض والواجبات والسنن.

التعريفات الفقهية-محمد عميم الإحسان-صدر: 1407هـ/1986م


22-لغة الفقهاء (السبيل)

السبيل: الجمع: سبل وأسبله وسبلأن، يذكر ويؤنث، الطريق... Way, road

[*] كل ما أريد به وجه الله، ومنه: إعداد ماء في مكان ما ليشرب منه المارة بغير عوض طلبا للثواب... In the cause of ALLAH

[*] الجهاد في سبيل الله تعالى، وإليه ينصرف المعني عندما يقال)) في سبيل الله ((.

[*] المجاهدون في سبيل الله: الغزاة الذين لا ديوان لهم... Fighters (in holy war against the infidels) - Mujahidoon

[*] ابن السبيل: المسافر الذي نفدت نفقته وهو في غير بلده... Wayfarer, traveller

معجم لغة الفقهاء-محمد رواس قلعه جي/حامد صادق قنيبي-صدر: 1405هـ/1985م


23-تاج العروس (حسب)

[حسب]: حَسَبَهُ كنَصَرَهُ يَحْسَبُهُ حَسْبًا عَلَى القِيَاس، صَرَّحَ به ثَعْلَبٌ والجوهريُّ، وابن سِيدَه وحُسْبَانًا بالضَّمِّ نقله الجوهَرِيُّ، وحكاه أَبُو عُبَيْدَةَ عن أَبي زيد وفي «التهذيب» حَسَبْتُ الشَّي‌ءَ أَحْسُبُهُ حِسْبَانًا بالكسر، وفي الحديث «أَفْضَلُ العَمَلِ مَنْحُ الرِّغَابِ لَا يَعْلَمُ حُسْبَانَ آخْرِهَا إِلَّا اللهُ» الحُسْبَانُ بالضَّمِّ: الحِسَابُ، وفي التَّنْزِيلِ {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ} مَعْنَاهُ بِحِسَابٍ ومَنَازِلَ» لَا تَعْدُوَانِهَا، وقال الزَّجَّاجُ: بِحُسْبَانٍ يَدُلُّ عَلَى عَدَدِ الشُّهُورِ والسِّنِينَ وجَمِيعِ الأَوْقَاتِ، وقال الأَخْفَشُ في قَوْلِه {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبانًا} مَعْنَاهُ بِحِسَابٍ فَحَذَفَ البَاءَ. وقال أَبو العَبَّاسِ: حُسْبَانًا مَصْدَرٌ، كما تقول: حَسَبْتُهُ أَحْسُبُهُ حُسْبَانًا وحِسْبَانًا، وجَعَلَهُ الأَخْفَشُ جَمْعَ حِسَابٍ، وقالَ أَبو الهَيْثَمِ الحُسْبَانُ: جَمْعُ حِسَابٍ، وكذا أَحْسِبَةٌ مِثْلُ شِهَابٍ وأَشْهِبَةٍ وشُهْبَان، وحُسْبَانُكَ على اللهِ أَيْ حِسَابُكَ، قَالَ:

عَلَى اللهِ حُسْبَانِي إِذا النَّفْسُ أَشْرَفَتْ *** عَلَى طَمَعٍ أَوْ خَافَ شَيْئًا ضَمِيرُهَا

وحِسَابًا، ذَكَرَه الجوهَرِيُّ وغيرُه، قال الأَزهريُّ: وإِنّمَا سُمِّيَ الحِسَابُ في المُعَامَلَاتِ حِسَابًا لِأَنَّهُ يُعْلَمُ به ما فيه كِفَايَةٌ ليس فِيهَا زِيَادَةٌ على المِقْدَار ولا نُقْصَانٌ، وقد يَكُونُ الحِسَابُ مَصْدَرَ المُحَاسَبَةِ، عن مَكِّيّ، ويُفْهَمُ مِنْ عِبَارَة ثَعْلَبٍ أَنَّهُ اسْمُ مَصْدَرٍ. وقولُه تعالَى {وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ} أَيْ حِسَابُهُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، وكُلُّ وَاقِع فهو سَرِيعٌ، وسُرْعَةُ حِسَابِ اللهِ أَنَّهُ لَا يَشْغَلُهُ حِسَابُ وَاحِدٍ عَن مُحَاسَبَةِ الآخَرِ، لأَنَّه سُبْحَانَه لا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ ولا شَأْنٌ عن شأَنٍ، وقولُه تعالى {يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ} أَيْ بِغَيْرِ تَقْتِيرٍ ولا تَضْيِيقٍ، كقولك: فُلَانٌ يُنْفِقُ بِغَيْرٍ حِسَابٍ، أَيْ يُوَسِّعُ النَّفَقَةَ ولَا يَحْسُبُهَا، وقد اخْتُلِفَ في تفسيرِه فقال بعضُهُم: بغَيْرِ تَقْدِيرٍ على أَحَدٍ بالنُّقْصَانِ، وقال بعضُهم: بغَيْرِ مُحَاسَبَةٍ؛ أَي لا يَخَافُ أَنْ يُحَاسِبَهُ أَحَدٌ عليه، وقِيلَ: بِغَيْرِ أَن حَسِبَ المُعْطَى أَنْ يُعْطِيهُ أَعطاهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبْ، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: مِنْ حَيْثُ لَا يُقَدِّرُهُ وَلَا يَظُنُّهُ كَائِنًا، مِنْ حَسِبْتُ أَحْسَبُ أَيْ ظَنَنْتُ، وجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ حَسَبْتُ أَحْسُبُ، أَرَادَ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْسُبْهُ لِنَفْسِهِ. كذا في لسان العرب، وقد أَغْفَلَهُ شَيْخُنَا وحَسَبَهُ أَيْضًا حِسْبَةً مِثْل القِعْدَةِ والرِّكْبَةِ، حَكَاهُ الجوهريُّ، وابنُ سِيدَه في المحكم، وابنُ القَطَّاعِ والسَّرَقُسْطِيُّ وابنُ دَرَسْتَوَيْهِ وصاحِبُ الوَاعِي، قال النابغةُ:

فَكَمَّلَتْ مِائَةً فِيهَا حَمَامَتُهَا *** وأَسْرَعَتْ حِسْبَةً فِي ذلك العَدَدِ

أَيْ حِسَابًا، وَرُوِيَ الفَتْحُ، وهو قَلِيلٌ، أَشَار له شَيْخُنَا.

والحِسَابُ والحِسَابَةُ: عَدُّكَ الشَّي‌ءَ وحَسبَ الشي‌ءَ، يَحْسُبُهُ حَسْبًا وحِسَابًا وحِسَابَةً أَوْرَدَهُ ابنُ دَرَسْتَوَيْهِ وابنُ القَطَّاع والفِهْرِيُّ بِكَسْرِهِنَّ أَي في المَصَادِرِ المَذْكُورَةِ ما عَدَا الأَوَّلَيْنِ: عَدَّهُ أَنْشَدَ ابنُ الأَعْرَابِيِّ لِمَنْظُورِ بنِ مَرْثَد الأَسَدِيِّ:

يَا جُمْلُ أُسْقِيتِ بِلَا حِسَابَهْ *** سُقْيَا مَلِيكٍ حَسَنِ الرِّبَابَهْ

قَتَلْتِنِي بِالدَّلِّ والخِلَابَهْ

وَأَوْرَدَ الجَوْهَرِيُّ: يا جُمْلُ أَسْقَاكِ والصَّوَابُ ما ذَكَرْنَا، والرِّبَابَةُ بالكسْرِ: القِيَامُ عَلى الشَّيْ‌ءِ بإِصلَاحِهِ وتَرْبِيَتِهِ، وحَاسَبَهُ مِن المُحَاسَبَةِ. ورَجُلٌ حَاسِبٌ من قَوْمٍ حُسَّبٍ وَحُسَّابِ والمَعْدُودُ: مَحْسُوبٌ يُسْتَعْمَلُ على أَصْلِهِ.

وعلى حَسَبٌ، مُحَرَّكةً وهو فَعَلٌ بمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلُ نَفَضٍ بمَعْنَى منْفُوضٍ، حَكَاهُ الجَوْهَرِيُّ، وصَرَّحَ به كُرَاع في المُجَرَّدِ ومنه قَوْلُهُمْ: لِيَكُنْ عَمَلُكَ بِحَسَبِ ذَلِكَ؛ أَي على قَدْرِهِ وعَدَدِهِ، وهذَا بِحَسَبِ ذَا أَي بِعَدَدِهِ وقَدْرِهِ وقال الكِسَائِيُّ: ما أَدْرِي مَا حَسَبُ حَدِيثكَ أَيْ ما قَدْرُهُ، وَقَدْ يُسَكَّنُ في ضَرُورَةِ الشِّعْرِ. ومن سَجَعَاتِ الأَسَاس: ومَنْ يَقْدِرُ على عَدِّ الرَّمْلِ وحَسْبِ الحَصَى، والأَجْرُ على حَسَبِ المُصِيبَةِ أَي [على] قَدْرِهَا. وفي لسان العرب: الحَسَبُ: العدد المعدود. والحَسَبُ والحَسْبُ: قَدْرُ الشَّيْ‌ءِ كقَوْلك: الأَجْرُ بِحَسَبِ ما عَمِلْتَ وحَسْبِه [أَي قدره]، وكَقَوْلِك عَلَى حَسَبِ ما أَسْدَيْتَ إِلَيَّ شُكْرِي لك. يقول: أَشْكُرُكَ على حَسَبِ بَلَائِكَ عندي أَي على قَدْرِ ذلك.

والحَسَبُ مُحَرَّكَةً: مَا تَعُدّهُ مِن مَفَاخِرِ آبَائِكَ، قاله الجَوْهَرِيُّ وعليه اقْتَصَرَ ابن الأَجْدَابِيّ في الكفايَةِ، وهو رَأْيُ الأَكْثَرِ، وإِطْلَاقُه عليه على سَبِيلِ الحَقِيقَةِ، وقال الأَزهريُّ: إِنَّما سُمِّيَتْ مَسَاعِي الرَّجُل ومَآثِرُ آبَائِهِ حَسَبًا لِأَنَّهُمْ كانوا إِذا تَفَاخَرُوا عَدَّ الفَاخِرُ منهم مَنَاقِبَهُ وَمآئِرَ آبَائِهِ وحَسَبَهَا، أَو الحَسَبُ: المالُ والكَرَمُ: التَّقْوَى، كَمَا وَرَدَ في الحَدِيثِ يَعْنِي: الذي يَقُومُ مَقَامَ الشَّرَفِ والسَّرَاوَةِ إِنَّمَا هو المَالُ، كذا في الفَائِقِ، وفي الحَدِيثِ «حَسَبُ الرَّجُلِ نَقَاءُ ثَوْبَيْهِ» أَيْ أَنَّهُ يُوَقَّرُ لِذلك حيث هو دَلِيلُ الثَّرْوَةِ والجِدَةِ أَوِ الحَسَبُ: الدِّينُ، كِلَاهُمَا عن كُرَاع، ولَا فِعْلَ لهما، أَو الحَسَبُ: الكَرَمُ أَو هو الشَّرَفُ في الفِعْلِ حَكَاهُ ابنُ الأَعرابيِّ، وتَصَحفَّ على شَيْخِنَا فَرَوَاهُ: في العَقْلِ واحْتَاجَ إِلى التَّكَلُّفِ أَو هو الفَعَالُ الصَّالِحُ، وفي نُسْخَةٍ: الفِعْلُ، والنَّسَبُ: الأَصْلُ الحَسَنُ مِثْلُ الجُودِ والشَّجَاعَةِ وحُسْنِ الخُلُقِ والوَفَاءِ. وفي الحَدِيثِ «تُنْكَحُ المَرْأَةُ لِمَالِهَا وحَسَبِهَا ومِيسَمِهَا ودِينِهَا، فَعَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ» قالَ ابنُ الأَثِيرِ قِيلَ النَّسَبُ هَاهُنَا: الفَعَالُ الحَسَنُ، قال الأَزهريُّ: والفُقَهَاءُ يَحْتَاجُونَ إِلى مَعْرِفَةِ الحَسَبِ لأَنَّهُ مِمَّا يُعْتَبَرُ به مَهْرُ مِثْلِ المَرْأَةِ إِذَا عُقِدَ النِّكَاحُ على مَهْرٍ فَاسدٍ أَو هو الشَّرَفُ الثابِتُ فِي الآبَاءِ دون الفِعْلِ. وقال شَمر في غَرِيبِ الحَدِيثِ: الحَسَبُ الفَعَالُ الحَسَنُ له ولآبَائِه، مَأْخوذٌ من الحِسَابِ إِذَا حَسَبُوا مَنَاقِبَهم، وقال المُتَلَمِّسُ:

وَمَنْ كَانَ ذَا نَسْبٍ كَرِيمٍ ولَمْ يَكنْ *** لَهُ حَسَبٌ كَانَ اللَّئيمَ المُذَمَّمَا

فَفَرَّقَ بين الحَسَبِ والنَّسَبِ، فَجَعَلَ النَّسَبَ عَدَدَ الآبَاءِ والأُمَّهَاتِ إِلى حَيْثُ انْتَهَى، أَو الحَسَبُ هو البَالُ أَي الشَّأْنُ، وفي حَدِيثِ عُمَرَ رضي ‌الله‌ عنه أَنَّهُ قال «حَسَبُ المَرْءِ دِينُهُ، ومُرُوءَتُه خُلُقُهُ، وأَصْلُهُ عَقْلُهُ» وفِي آخَرَ أَنَّ النبيَّ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم قال: «كَرَمُ المَرْءِ دِينُهُ، ومُرُوءَتُهُ عَقْلُهُ، وحَسَبُهُ خُلُقُهُ» وَرَجُلٌ شَرِيفٌ ورَجُلٌ مَاجِدٌ: لَهُ آبَاءٌ مُتَقَدِّمُونَ في الشَّرفِ، ورَجُلٌ حَسِيبٌ ورَجُلٌ كَرِيمٌ بِنَفْسِهِ، قال الأَزهريُّ: أَرَادَ أَنَّ الحَسَبِ يَحْصُلُ لِلرَّجُلِ بِكَرَمِ أَخْلَاقِهِ وإِنْ لَمْ يَكُنْ لَه نَسَبٌ، وإِذَا كان حَسِيبَ الآبَاءِ فَهُوَ أَكْرَمُ له. أَو الحَسَبُ والكَرَمُ قَدْ يَكُونَانِ لِمَنْ لا آبَاءَ له شُرَفاءَ، والشَّرَفُ والمَجْدُ لا يَكْونَانِ إِلَّا بهم قاله ابنُ السِّكّيت واخْتَارَه الفَيُّومِيُّ، فَجَعَلَ المَالَ بِمَنْزِلَةِ شَرَفِ النَّفْسِ والآبَاءِ، والمَعْنَى أَنَّ الفَقِيرَ ذَا الحَسَبِ لا يُوَقَّرُ ولا يُحْتَفَلُ به، والغَنِيُّ الذي لا حَسَبَ له يُوَقَّرُ ويُجَلُّ في العيونِ، وفي حَدِيثِ وَفْدِ هَوَازِنَ قال لهم «اخْتَارُوا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إِمَّا المالَ وإِمَّا السَّبْيَ، فَقَالُوا: أَمّا إِذْ خَيَّرْتَنَا بَيْنَ المَالِ والحَسَبِ فإِنَّا نَخْتَارُ الحَسَبَ»، فاخْتَارُوا أَبْنَاءَهُمْ ونِسَاءَهُمْ، أَرَادُوا أَنَّ فَكَاكَ الأَسْرَى وإِيثَارَه على اسْتِرْجَاعِ المَالِ حَسَبٌ وفَعَالٌ حَسَنٌ، فهو بالاخْتِيَارِ أَجْدَرُ وقيل: المُرَادُ بالحَسَبِ هنا عَدَدُ ذَوِي القَرَابَاتِ، مَأْخوذٌ من الحِسَابِ، وذلكَ أَنَّهُمْ إِذا تَفَاخَرُوا عَدُّوا مَنَاقِبَهُمْ وَمَآثِرَهُمْ، وفي التوشيح: الحَسَبُ: الشَّرَفُ بالآبَاءِ والأَقَارِبِ، وفي الأَساس: وفُلانٌ لَا حَسَبَ له ولَا نَسَبَ: وهو مَا يَحْسُبُهُ ويَعُدُّه من مَفَاخِرِ آبَائِهِ، قال شيخُنَا: وهذه الأَقوَالُ التي نَوَّعَ المُصَنِّفُ الخِلَافَ فِيهَا، كُلُّهَا وَرَدَتْ في الأَحَادِيثِ، وكَأَنَّ النبيّ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم لَمَّا عَلِمَ مِن اعْتِنَائِهِم بالمُفَاخَرَةِ والمُبَاهَاةِ كان يُبَيِّنُ لهم أَنَّ الحَسَبَ ليس هو ما تَعُدُّونَهُ من المَفَاخِرِ الدُّنْيَوِيَّةِ والمَنَاقِبِ الفَانِيَةِ الذَّاهِبَةِ، بَل الحَسَبُ الذي يَنْبَغِي للْعَاقِلِ أَنْ يَحْسُبَهُ ويَعُدَّهُ في مُفَاخَرَاتِهِ هُوَ الدِّينُ، وتَارَةً قال: هو التَّقْوَى، وقَال لِآخَرَ ممن يُرِيدُ ما يَفخَرْ به في الدُّنْيَا: المَالُ، وهكذا، ثم قال: وكان بَعْضُ شُيُوخِنَا المُحَقِّقِينَ يقول: إِنَّ بَعْضَ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ حَقَّقَ أَنَّ مَجْمُوعَ كَلَامِهِمْ يَدُلُّ على أَنَّ الحَسَبَ يُسْتَعْمَلُ على ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُها: أَنْ يَكُونَ مِن مَفَاخِرِ الآبَاءِ، كما هُوَ رَأْيُ الأَكْثَرِ، الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ من مَفَاخِرِ الرَّجُلِ نَفْسِهِ، كما هو رَأْيُ ابنِ السكيت ومَنْ وَافَقَهُ، الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ منهما من كُلِّ مَا يَقْتَضِي فَخْرًا لِلْمُفَاخِرِ بأَيِّ نَوْع من المَفَاخِرِ، كما جَزَمَ به في المغرب ونَحْوِه، فقول المُصَنِّفِ: مَا تَعُدُّه مِنْ مَفَاخِرِ آبَائِكَ هو الأَصْلُ والصَّوَابُ المَنْقُولُ عن العَرَبِ، وقَوْلُهُ أَوِ المَالُ إِلى الشرف، كُلُّهَا أَلْفَاظٌ وَرَدَتْ في الحَدِيثِ على جهةِ المَجَازِ لِأَنَّهَا مِمَّا يُفْتَخَرُ بِهِ في الجُمْلَةِ، فلا يَنْبَغِي عَدُّهَا أَقْوَالًا ولا من المَعَانِي الأُصولِ، ولِذَا لم يَذْكُرْهَا أَكْثَرُ اللُّغَويِّين، وأَشَار الجوهريُّ إِلى التَّمَجُّزِ فيها أَيضًا. انتهى. وقد حَسُبَ الرجُل بالضمِّ حَسَابَةً بالفَتْحِ كخَطُبَ خَطَابَة، هكذا مَثَّلَهُ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ كابنِ مَنْظُورٍ والجَوْهري وغَيْرِهِمَا، وتَبِعَهُمُ المَجْدُ، فلا يَتوَجَّهُ عليه قَوْلُ شَيْخِنَا: ولو عَبَّرَ بكَرُمَ كَرَامَةً كان أَظْهَرَ، وحَسَبًا، مُحَرَّكَةً، فَهُوَ حَسِيبٌ أَنشد ثعلبٌ:

وَرُبَّ حَسِيبِ الأَصْلِ غَيْرُ حَسِيبِ

أَي له آبَاءٌ يَفْعَلُونَ الخَيْرَ ولا يَفْعَلُهُ هو، ورَجُلٌ كَرِيمُ الحَسَبِ من قَوْمٍ حُسَبَاءَ.

وحَسْبُ، مَجْزُومٌ، بمَعْنى كَفَى. قال سيبويهِ: وأَمَّا حَسْبُ فمَعْنَاهَا الاكْتِفَاءُ، وحَسْبُكَ دِرْهَمٌ أَي كَفَاكَ، وهو اسْمٌ، وتَقُولُ: حَسْبُكَ ذلك؛ أَي كفاك ذلك، وأَنشد ابن السِّكِّيتِ:

ولمْ يَكُنْ مَلَكٌ لِلْقَوْمِ يُنْزِلُهُمْ *** إِلَّا صَلاصلَ لَا يُلْوَى عَلَى حَسَبِ

قَوْلُهُ لا يُلْوَى على حَسَب؛ أَي يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بالسَّوِيَّةِ ولا يُؤْثَرُ به أَحَدٌ، وقيل «لَا يُلْوَى على حَسَب» أَي لا يُلْوَى على الكِفَايَةِ لِعَوَزِ الماءِ وقِلَّتِهِ، ويقال: أَحْسَبَنِي ما أَعْطَانِي أَي كَفَانِي، كذا في الأَساس وفي لسان العرب وسيأْتي.

وشَيْ‌ءٌ حِسَاب: كافٍ، ومنه في التَّنْزِيلِ العَزِيز عَطاءً حِسابًا أَي كَثِيرًا كافِيًا، وكُلُّ مَن أُرْضِيَ فقد أُحْسِبَ، وهَذَا رجل حَسْبُكَ من رَجُلٍ ومَرَرْتُ بِرَجُلٍ حَسْبِكَ مِن رَجُلٍ. مَدْحٌ لِلنَّكِرَةِ، لأَنَّ فيه تَأْوِيلَ فِعْلٍ «كأَنَّهُ قال: مُحْسِبٌ لك أَي كَاف لَك أَو كَافِيكَ مِن غَيْرِه، لِلْوَاحِدِ والتَّثْنِيَةِ والجَمْعِ لأَنَّهُ مَصْدَر وتقول في المَعْرِفَةِ: هذا عَبْدُ اللهِ حَسْبَكَ مِن رَجُلٍ، فَتَنْصِبُ حَسْبَكَ على الحَالِ وإِنْ أَرَدْتَ الفِعْلَ في حَسْبَكَ قُلْتَ: مَرَرْتُ بِرَجلٍ أَحْسَبَكَ مِن رَجُلٍ، وبِرَجُلَيْنِ أَحْسَبَاكَ، وبرِجَالٍ أَحْسَبُوكَ، ولكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ بِحَسْب مُفْرَدَةً، تقول: رَأَيْتُ زَيْدًا حَسْبُ، كَأَنَّكَ قُلْتَ حَسْبِي أَوْ حَسْبُكَ، وقَالَ الفَرَّاءُ في قَوْلِهِ تَعَالَى {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ يَكْفِيكَ الله ويَكْفِي مَن اتَّبَعَكَ، قالَ: ومَوْضِعُ الكَافِ في حَسْبُكَ ومَوْضِعُ مَنْ نَصْبٌ علَى التَّفْسِيرِ كَمَا قال الشاعُرَ:

إِذَا كَانَتِ الهَيْجَاءُ وانْشَقَّتِ العَصَا *** فَحَسْبُكَ والضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ

وقولهم: حَسِيبُكَ اللهُ أَي كَأَمِيرٍ، كذا في النُّسَخِ، وفي لسان العرب: حَسْبُكَ الله أَيِ انْتَقَمَ اللهُ مِنْكَ وقال الفَرَّاءُ في قوله تعالى وَكَفى بِاللهِ {حَسِيبًا} وقَوْلُه تَعَالَى {إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ‌ءٍ حَسِيبًا} أَيْ مُحَاسِبًا، أَو يَكُونُ بمَعْنَى كَافِيًا أَي يُعْطِي كُلَّ شَيْ‌ءٍ من العِلمِ والحِفْظِ والجَزَاءِ بمِقْدَارِ ما يحْسُبُه، أَيْ يَكْفِيهِ، تَقُولُ حَسْبُكَ هذا أَي اكتَفِ بهَذَا، وفي الأَساس: مِنَ المَجَازِ: الحِسَابُ كَكِتَابِ هو الجَمْعُ الكَثِيرُ من النَّاسِ تقول: أَتَانِي حِسَابٌ من النَّاسِ كما يُقَالُ: [جاءني] عَدَدٌ منهم وعَدِيدٌ. وفي لسان العرب: لُغَةُ هُذَيْلٍ، وقَالَ سَاعِدَةُ بن جُؤَيَّةَ الهُذَلِيُّ:

فَلَمْ تَنْتَبِهْ حَتَّى أَحَاطَ بِظَهْرِهِ *** حِسَابٌ وَسِرْبٌ كَالجَرَادِ يَسُومُ

وفي حَدِيثِ طَلْحَةَ «هَذَا ما اشْتَرَى طَلْحَةُ مِن فُلَانٍ فَتَاهُ بِكَذَا بِالحَسَبِ والطِّيبِ» أَي بالكَرَامَةِ مِن المُشْتَرِي والبَائع والرَّغْبَةِ وطِيبِ النَّفْسِ منهما، وهو مِن حَسَّبْتُهُ إِذَا أَكْرَمْتَهُ، وقيل: مِن الحُسْبَانَةِ، وهي الوِسَادَةُ، وفي حَدِيث سِمَاكٍ، قال شُعْبَةُ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «ما حَسَّبُوا ضَيْفَهُمْ شَيْئًا» أَي ما أَكْرَمُوهُ كَذَا في لسان العرب.

وعَبَّادُ بن حُسَيْبٍ، كُزُبَيْرٍ كُنْيَتُهُ أَبُو الخَشْنَاءِ، أَخْبَارِيٌّ والذي في التَّبْصِيرِ للحَافِظِ أَنَّ اسْمَهُ عَبَّادُ بنُ كُسَيْبٍ، فَتَأَمَّلْ.

والحُسْبَانُ بِالضَّمِّ، جَمْعُ الحِسَابِ قاله الأَخفَش، وتَبِعَهُ أَبو الهَيْثَمِ نقله الجوهريُّ والزَّمخشَرِيُّ، وأَقَرَّه الفِهْرِيُّ، فهو يُسْتَعْمَلُ تَارَةً مُفْرَدًا ومصْدَرًا، وتَارَةً جَمْعًا لِحِسَابٍ إِذا كان اسْمًا لِلْمَحْسُوبِ أَو غَيْرِه، لأَنَّ المَصَادِرَ لا تُجْمَعُ. قال أَبو الهَيْثَمِ: ويُجْمَعُ أَيضًا على أَحْسِبَةٍ. مِثْلُ شِهَابٍ وأَشْهِبَةٍ وشُهْبَانٍ، ومِن غَرِيبِ التَّفْسِيرِ أَنَّ الحُسْبَانَ في قوله تعالى {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ} اسمٌ جَامِدٌ بِمَعْنَى الفلك مِنْ حساب الرَّحَا، وهُوَ مَا أَحَاطَ بِهَا مِنْ أَطْرَافِهَا المُسْتَدِيرَةِ، قَالَهُ الخَفَاجِيُّ ونَقَلَه شيخُنا.

والحُسْبَان: العَذَابُ، قال تعالى {وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْبانًا مِنَ السَّماءِ} أَي عَذَابًا، قاله الجَوْهريُّ، وفي حديث يَحْيَى بنِ يَعْمَرَ «كان إِذا هَبَّتِ الرِّيحُ يقول: لا تَجْعَلْهَا حُسْبَانًا» أَي عَذَابًا وقال أَبُو زِيَادٍ الكِلَابِيُّ: الحُسْبَانُ: البَلَاءُ والشَّرُّ، والحُسْبَانُ: العَجَاجُ والجَرَادُ نَسَبَه الجوهَرِيُّ إِلى أَبِي زِيَادٍ أَيْضًا، والحُسْبَانُ النَّارُ، كذا فَسَّرَ به بعضُهم، والحُسْبَانُ: السِّهَامُ الصِّغَارُ يُرْمَى بها عن القِسِيِّ الفَارِسِيَّةِ، قال ابنُ دُرَيْدٍ: هو مُوَلَّدٌ، وقال ابنُ شُمَيْلٍ: الحُسْبَانُ: سِهَامٌ يَرْمِي بِهَا الرَّجُلُ في جَوْفِ قَصَبَةٍ يَنْزِعُ في القَوْسِ ثُمَّ يَرْمِي بِعِشْرِينَ منْهَا فلا تَمُرُّ بِشَيْ‌ءٍ إِلَّا عَقَرَتْهُ مِن صَاحِبِ سِلَاحٍ وغَيْرِه، فإِذا نَزَعَ في القَصَبَةِ خَرَجَتِ الحُسْبَانُ كَأَنَّهَا غَبْيَةُ مَطَرٍ فَتَفَرَّقَتْ فِي النَّاسِ. وقال ثَعْلَب: الحُسْبَانُ المَرَامِي وهي مِثْلُ المَسَالِّ، رَقِيقَةٌ فيهَا شَيْ‌ءٌ من طُولٍ لا حُرُوفَ لهَا، قال: والمقدَح بالحَدِيدَةِ مِرْمَاةٌ. وبالمَرَامِي فُسِّر قولُهُ تعالى {وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْبانًا مِنَ السَّماءِ} والحُسْبَانَةُ وَاحِدُهَا، والحُسْبَانَةُ: الوِسَادَةُ الصَّغِيرَةُ تقول مِنْهُ: حَسَّبْتُهُ، إِذَا وَسَّدْتَهُ، قال نَهِيكٌ الفَزَارِيُّ يُخَاطِبُ عَامِرَ بنَ الطُّفَيْلِ:

لَتَقِيتَ بِالْوَجْعَاءِ طَعْنَةَ مُرْهَفٍ *** حَرّانَ أَوْ لَثَوَيْتَ غَيْرَ مُحَسَّبِ

الوَجْعَاءُ: الاسْتُ، يقول: لو طَعَنْتُكَ لَوَلَّيْتَنِي دُبُرَكَ واتَّقَيْتَ طَعْنَتِي بِوَجْعَائِكَ ولَثَوَيْتَ هَالِكًا غَيْرَ مُكَرَّمٍ لا مُوَسَّدٍ ولا مُكَفَّنٍ كَالْمَحْسَبَةِ وهي وِسَادَةٌ مِن أَدَمٍ، وحَسَّبَهُ: أَجْلَسَهُ عَلَى الحُسْبَانَة، أَو المَحْسَبَة، وعن ابنِ الأَعْرَابيّ: يُقَالُ لِبِسَاطِ البَيْتِ: الحِلْسُ، ولِمَخَادِّهِ: المَنَابِذُ، ولِمَسَاوِرِهِ: الحُسْبَانَاتُ، ولحُصْرِهِ: الفُحُولُ، والحُسْبَانَةُ: النَّمْلَةُ الصَّغِيرَةُ، والحُسْبَانَةُ: الصَّاعِقَةُ، والحُسْبَانَةُ: السَّحَابَةُ، والحُسْبَانَةُ: البَرَدَة، أَشَارَ إِليه الزجاجُ في تفسيره.

ومُحَمَّدُ بنُ إِبْرَاهِيمَ وفي نُسْخَةٍ أَحْمَدُ بنُ حَمْدَوَيْهِ الحَسَّابُ، كَقَصَّابٍ البُخَارِيُّ الفَرَضِيُّ، مات سنة 339، ومُحَمَّدُ بنُ عُبَيْد بنِ حِسَابِ الغُبْرِيّ البَصْرِيُّ كَكِتَابٍ مُحَدِّثَانِ الأَخِيرُ مِنْ شُيُوخِ مُسْلِمٍ.

والحِسْبَةُ بالكَسْرِ هُوَ الأَجْرُ، واسْمٌ مِنْ الاحتِسَابِ كالعِدَّةِ مِنْ الاعْتِدَادِ؛ أَي احْتِسَابِ الأَجْرِ على اللهِ، تقول: فَعَلْتُهُ حِسْبَةً. واحْتَسِبْ فِيهِ احْتِسَابًا، والاحْتِسَابُ: طَلَبُ الأَجْرِ الجمع: حِسَبٌ كعِنبٍ وسيأْتِي ما يَتَعَلَّقُ به قريبًا، ويُقَالُ: هُوَ حَسنُ الحِسْبَة أَي حَسَنُ التَّدْبِيرِ والكِفَايَةِ والنَّظَرِ فِيهِ، ولَيْسَ هو من احْتِسَابِ الأَجْرِ.

وأَبُو حِسْبَةَ مُسْلِمُ بنُ أَكْيَسَ الشَّامِيُّ تَابِعِيٌّ حَدَّثَ عَنْهُ صَفْوَانُ بنُ عَمْرٍو.

وأَبُو حِسْبَةَ اسْم.

والأَحْسَبُ، بَعِيرَ فيه بَيَاضٌ وحُمْرَةٌ وسَوَادٌ والأَكْلَفُ نَحْوُه، قالَهُ أَبو زِيَادٍ الكِلَابِيُّ، تقول منه: احْسَبَّ البَعِيرُ احْسِيبَابًا والأَحْسَبُ رَجُلٌ في شَعرِ رَأْسِهِ شُقْرَةٌ، كذا في الصّحَاحِ، وأَنْشَدَ لامْرِئِ القَيْسِ بنِ عَابِسٍ الكِنْدِيِّ:

أَيَا هِنْدُ لَا تَنْكَحِي بُوهَةً *** عَلَيْهِ عَقيقَتُهُ أَحْسَبَا

يَصِفُهُ باللُّؤْمِ والشُّحِّ، يقول كأَنَّهُ لم تُحْلَقْ عَقِيقَتُهُ في صِغَرِه حتى شَاخَ، والبُوهَةُ: البُومَةُ العَظِيمَةُ تُضْرَبُ مَثَلًا لِلرَّجُلِ الذِي لا خَيْرَ فيه، وعَقِيقَتُهُ: شَعَرُه الذي يُولدُ به، يقول: لا تَتَزَوَّجِي مَنْ هذه صِفَتُهُ، وقيلَ هو مَن ابيَضَّتْ جِلْدَتُهُ مِن دَاءٍ فَفَسدَتْ شَعْرَتُهُ فَصَارَ أَبْيَضَ وأَحْمَرَ يكون ذَلِكَ في النَّاسِ وفي الإِبِلِ، وقال الأَزْهَرِيُّ عنِ الليثِ: إِنَّ الأَحْسَبَ هو الأَبْرَصُ وقال شَمِرٌ: هو الذي لَا لَوْنَ له الذي يُقَال: أَحْسَبُ كَذا وأَحْسَبُ كذا والاسْمُ من الكُلِّ الحُسْبَةُ، بالضَّمِّ قال ابنُ الأَعْرَابِيِّ: الحُسْبَةُ: سَوَادٌ يَضْرِبُ إِلى الحُمْرَةِ، والكُهْبَةُ: صُفْرَةٌ تَضْرِبُ إِلى الحُمْرَةِ، والقُهْبَةُ: سَوَادٌ يَضْرِبُ إِلى الخُضْرَةِ، والشُّهْبَةُ: سَوَادٌ وَبَيَاضٌ، والجُلْبَةُ: سَوَاد صِرْفٌ، والشُّرْبَةُ: بَيَاضٌ مُشْرَبٌ بِحُمْرَةٍ، واللُّهْبَةُ: بَيَاضٌ نَاصِعٌ قَوِيٌّ.

والإِحَاسِبُ: جَمْعُ أَحْسَبَ: مَسَايِلُ أَوْدِيَةٍ تَنْصَبُّ مِن السَّرَاةِ فِي أَرْضِ تِهَامَةَ، إِن قِيل: إِنما يُجْمَعُ أَفْعَل على أَفَاعِلَ في الصِّفَاتِ إِذَا كان مُؤَنَّثُهُ فُعْلَى مثل صَغِيرٍ وأَصْغرَ وصُغَرَى وأَصَاغِرَ، وهذا مُؤَنَّثُهُ حَسْبَاءُ، فَيجِب أَنْ يُجْمَعَ على فُعْلٍ أَوْ فُعَلَاءَ، الجَوَابُ أَنَّ أَفْعَلَ يُجْمَعُ عَلَى أَفَاعِلَ إِذَا كَانَ اسْمًا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وهَاهُنَا، فكَأَنَّهُمْ سَمَّوْا، مَوَاضِعَ كُلِّ وَاحِدٍ منها أَحْسَبَ، فَزَالَتِ الصِّفَةُ بِنَقْلِهِمْ إِيَّاهُ إِلى العَلَمِيَّة فتنَزَّل مَنْزِلَةَ الاسمِ المَحْضِ، فجَمَعُوه على أَحَاسِبَ، كما فَعَلُوا بأَحَاوِصَ وأَحَاسِنَ في اسْمِ مَوْضِعٍ، وقد يأْتِي، كذا في المعجم.

وحَسِبَهُ كَذَا كَنَعِمَ يَحْسِبُهُ ويَحْسَبُه فِي لُغَتَيْهِ بالفَتحِ والكَسْرِ [والكَسرُ] أَجْوَدُ اللُّغَتَيْنِ، حِسَابًا ومَحْسَبَةً بالفَتْح ومَحْسِبَةَ بالكسْر وحِسْبَانًا: ظَنَّهُ، ومَحْسِبَةٌ بكَسْرِ السِّينِ مَصْدَرٌ نَادِرٌ على مَنْ قَالَ يَحْسَبُ بِالفَتْحِ، وأَمَّا مَن قال يَحْسِبُ فَكَسَرَ فَلَيْسَ بِنَادِرٍ وتَقُولُ: مَا كَان في حِسْبَانِي كذا، ولا تَقُل: مَا كَانَ في حِسَابِي، كذا فِي مُشْكِلِ القُرْآنِ لِابْنِ قُتَيْبَةَ، وفي الصَّحَاح: ويقال: أَحْسِبُهُ: بالكَسْرِ، وهو شَاذٌّ لِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ كان مَاضِيهِ مَكْسُورًا فَإِنَّ مُسْتَقْبَلَهُ يَأْتِي مَفْتُوحَ العَيْنِ نَحْو عَلِمَ يَعْلَمُ إِلَّا أَرْبَعَةَ أَحْرُفٍ جَاءَتْ نَوَادِرَ، حَسِبَ يَحْسَبُ ويَحْسِبُ وَيَئِسَ يَيْأَسُ وَيَيْئِسُ ونَعِمَ يَنْعَمُ ويَنْعِمُ، فإِنَّهَا جَاءَتْ مِن السَّالِمِ بالكَسْرِ والفَتْحِ، ومِن المُعْتلِّ مَا جَاءَ مَاضِيهِ ومُسْتَقْبَلُهُ جَمِيعًا بالكَسْرِ [نحو]: وَمِقَ يَمِقُ وَوَفِقَ يَفِقُ [وَوَثِقَ يَثِقُ] وَوَرِعَ يَرِعُ وَوَرِمَ يَرِمُ وَوَرِثَ يَرِثُ، وَوَرِيَ الزَّنْدُيَرِي وَوَلِيَ يَلِي، وقُرِئَ قَوْلُهُ تَعَالَى {لا تَحْسَبَنَّ} ولا تَحْسِبَنَّ وقولُه تَعَالَى {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ} وَرَوَى الأَزْهَرِيُّ عن جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله الأَنْصَارِيِّ رَضِي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم قَرَأَ يَحْسِبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ.

والحِسْبَةُ والحَسْبُ والتَّحْسيبُ: دَفْنُ المَيِّتِ فِي الحِجَارَةِ قَالَهُ الليثُ أَوْ مُحَسَّبًا بِمَعْنَى مُكَفَّنًا وأَنْشَدَ:

غَدَاةَ ثَوَى فِي الرَّمْلِ غَيْرَ مُحَسَّبِ

أَي غَيْرَ مَدْفُونٍ وقيل، غيرَ مُكَفَّنٍ وَلَا مُكَرَّمٍ، وقيل: غَيْرَ مُوَسَّدٍ، والأَوَّلُ أَحْسَنُ، قال الأَزهريُّ: لا أَعْرِفُ التَّحْسِيبَ بمَعْنَى الدَّفْنِ في الحِجَارَةِ ولا بِمَعْنَى التَكْفِينِ، والمَعْنَى في قَوْلِه غَيْرَ مُحَسَّبِ أَيْ غَيْرَ مُوَسَّدٍ، وقد أَنْكَرَهُ ابنُ فَارِسٍ أَيضًا كالأَزْهَرِيِّ، ونقَلَه الصاغانيُّ. وَحَسَّبَهُ تَحْسِيبًا: وَسَّدَهُ، وحَسَّبَهُ: أَطْعَمَهُ وسَقَاهُ حَتَّى شَبِع وَرَوِيَ، كَأَحْسَبَهُ، وتَحَسَّبَ الرجلُ تَوَسَّدَ، ومن المَجَازِ: تَحَسَّبَ الأَخْبَارَ: تَعَرَّف وتَوَخَّى وَخَرَجَا يَتَحَسَّبَانِ الأَخْبَارَ: يَتَعَرَّفَانِهَا، وعن أَبِي عُبَيْدَ: ذَهَبَ فُلانٌ يَتَحَسَّبُ الأَخْبَارَ أَي يَتَحَسَّسُهَا وَيَتَجَسَّسُهَا بالجِيمِ ويَطْلُبُها، تَحَسُّبًا، وفي حَدِيثِ الأَذَانِ «أَنهُمْ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَسَّبُونَ الصَّلاةَ فَيَجِيئونَ بلا دَاعٍ» أَيْ يَتَعَرَّفُونَ ويَتَطَلَّبُونَ وَقْتَها ويتَوَقَّعُونَهُ، فَيَأْتُونَ المَسْجِدَ قَبْلَ [أَنْ يَسْمَعُوا] الأَذَانِ، والمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَةِ «يَتَحَيَّنُونَ» أَي يَطْلُبُونَ حِينَهَا، وفي حديث بَعْضِ الغَزَوَاتِ «أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَسَّبُونَ الأَخْبَارَ» أَي يَتَطَلَّبُونَهَا وتَحَسَّبَ الخَبَرَ: اسْتَخْبَرَ عنه حِجَازِيَّةٌ، وقَالَ أَبو سِدْرَةَ الأَسَدِيُّ، ويُقَال إِنَّهُ هُجَيْمِيٌّ:

تَحَسَّبَ هَوَّاسٌ وَأَيْقَنَ أَنَّنِي *** بِهَا مُفْتَدٍ مِنْ وَاحِدٍ لَا أُغَامِرُهْ

يَقُولُ تَشَمَّمَ هَوَّاسٌ ـ وهو الأَسَدُ ـ نَاقَتِي فَظَنَّ أَنّي أَتْرُكُهَا له ولا أُقَاتِلُهُ.

واحْتَسَبَ فُلَانٌ عَلَيْهِ: أَنْكَرَ عليه قَبِيحَ عَمَلِه ومنه المُحْتَسِبُ، يُقَالُ: هُوَ مَحْتَسِبُ البَلَدِ، وَلَا تَقُلْ مُحْسِبُه، واحْتسب فلانٌ ابْنًا لَهُ أَوْ بِنْتًا إِذَا مَاتَ كَبِيرًا، فإِنْ مَات صَغِيرًا لَمْ يَبلُغِ الحُلُمَ قيل: افْتَرَطَهُ فَرَطًا، وفي الحَدِيثِ «مَنْ مَاتَ لَهُ وَلَدٌ فاحْتَسَبَهُ» أَي احْتَسَبَ الأَجْرَ بِصَبْرِه على مُصِيبَتِه، مَعْنَاهُ اعْتَدَّ مُصِيبَتَه به في جُمْلَةِ بَلَايَا اللهِ التي يُثَابُ على الصَّبْرِ عليها واحْتَسَبَ بكَذَا أَجْرًا عندَ اللهِ: اعْتَدَّهُ، يَنْوِي به وَجْهَ اللهِ وفي الحَدِيث «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا واحْتِسَابًا» أَيْ طَلَبًا لوَجْهِ الله تعالَى وثَوَابِه، وإِنما قيل لِمَنْ يَنْوِي بعَمَلِه وَجْهَ اللهِ: احْتسَبَهُ لِأَنَّ له حِينَئذ أَنْ يَعْتَدَّ عَمَلَه، فَجُعِلَ في حالِ مُبَاشَرَةِ الفِعْلِ كأَنَّه مُعْتَدٌّ بهِ. وفي لسان العرب: الاحْتِسَابُ في الأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ [و] عند المَكْرُوهَاتِ: هو البِدَارُ إِلى طَلَبِ الأَجْرِ وتَحْصِيلِهِ بالتَّسْلِيمِ والصَّبْرِ، أَو باسْتِعْمَالِ أَنْوَاعِ البِرِّ والقِيَامِ بها على الوَجْهِ المَرْسُومِ فيها، طَلَبًا للثَّوَابِ المَرْجُوّ منها، وفي حديث عُمَرَ «أَيهَا النَّاسُ احْتَسِبُوا أَعْمَالَكُمْ، فإِنَّ مَنِ احْتَسَبَ عمَلَهُ كُتِبَ له أَجْر عَمَلِهِ وأَجْرُ حِسْبَتِهِ». وفي الأَسَاس: ومنَ المَجَازِ: احْتَسَبَ فُلَانًا: اخْتَبَرَ وسَبَرَ ما عنْدَهُ، والنِّسَاءُ يَحْتَسِبْنَ ما عند الرِّجَالِ لهنَّ؛ أَي يَخْتَبِرْنَ، قاله ابنُ السّكِّيتِ.

وزِيَادُ بنُ يَحْيَى الحَسَّابِي، بالفَتْحِ مُشَددّة من شُيوخِ النّبِيليّ، وأَبُو منْصُورٍ مَحْمُودُ بنُ إِسْمَاعِيلَ الصَّيْرَفِيُّ الحِسَابِيُّ بالكَسْرِ مُخَفَّفَةً، مُحَدِّثَانِ الأَخِيرُ عن ابنِ فادشَاه وغيرِه.

وإِبْرَاهِيمُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ يُوسُفَ الحُسبَانيّ الإِرْبِلِيُّ فَقِيهٌ مُحَدِّثٌ وُلِدَ سَنَةَ 670 وتَوَلَّى قَضَاءَ حُسْبان وتُوُفِّيَ سَنَةَ 755، كَذَا في طَبَقَاتِ الخيضري والحَافِظُ المُحَدِّثُ قَاضِي القُضَاةِ أَحْمَدُ بنُ إِسْمَاعِيلَ بنِ الحُسْباني، ولد سنة 749 وتوفِّي سنة 815 تَرْجَمَهُ ابن حُجيّ وابْنُ حَجَرٍ والخيضريّ.

وقد سمت حَسِيبًا وحُسَيْبًا.

وأَحْسَبَهُ الشَّيْ‌ءُ إِذا كَفَاهُ، ومنه اسْمُهُ تَعَالَى الحَسِيبُ، هو الكَافِي، فَعِيلٌ بمَعْنَى مُفْعِلٍ ويقال: أَحْسَبَنِي ما أَعْطَانِي؛ أَي كَفَانِي، قَالَتِ امْرَأَةٌ من بَنِي قُشَيْرٍ:

ونُقْفِي وَلِيدَ الحَيِّ إِن كَانَ جَائِعًا *** ونُحْسِبُهُ إِنْ كَانَ لَيْسَ بِجَائِعِ

أَي نُعْطِيهِ حتى يقول حَسْبِي، ونُقْفِيهِ نُؤْثِرُهُ بالقَفِيَّةِ والقَفَاوَةِ، وهِي مَا يُؤْثَرُ بِهِ الضَّيْفُ والصَّبِيُ، وتقول: أَعْطَى فَأَحْسَبَ؛ أَي أَكْثَرَ حتى قال حَسْبِي، وقال أَبو زَيْدٍ: أَحْسَبْتُ الرَّجُلُ أَعْطَيْتُه حتى قال حَسْبِي، والإِحْسَابُ: الإِكْفَاءُ، وقَالَ ثَعْلَب: أَحْسَبَهُ مِنْ كل شَيْ‌ءٍ: أَعْطَاهُ حَسْبَهُ وما كَفَاه، وإِبلٌ مُحْسِبَةٌ: لها لَحْمٌ وشَحْمٌ كَثِيرٌ، وأَنشَد:

ومُحْسِبَةٌ قَدْ أَخْطَأَ الحَقُّ غيْرَهَا *** تَنَفَّسَ عَنْهَا حَيْنُها فَهْيَ كَالشَّوِي

وقالَ أَحْمَدُ بنُ يَحْيى: سَأَلْتُ ابنَ الأَعْرَابيِّ عن قَوْلِ عُرْوَةَ بنِ الوَرْدِ:

وَمُحْسِبَةٍ مَا أَخْطَأَ الحَقُّ غَيْرَهَا

البَيْتَ، فقال: المُحْسِبَةُ بِمَعْنيَيْنِ: مِن الحَسَب وهو الشرفُ، ومِن الإِحْسَابِ وهو الكِفَايَة، أَيْ أَنَّهَا تُحْسِبُ بِلَبَنِهَا أَهْلَهَا والضَّيْفَ وحاصِلُه أَنَّهَا نُحِرَتْ هِي وسَلِمَ غَيْرُهَا. وقال بَعْضُهُمْ: لأُحْسِبَنَّكم مِن الأَسْوَدَيْنِ، يَعْنِي التَّمْرَ والمَاءَ؛ أَي لأَوَسِّعَنَّ عَلَيْكُم، وأَحْسَبَ الرَّجُلَ وحَسَّبَهُ: أَطْعَمَهُ وسَقَاهُ حتى شَبِعَ. وقدْ تَقَدَّمَ، وقيل: أَعْطَاهُ حتى أَرْضَاهُ، واحْتَسَبَ انْتهَى. واحْتَسَبْتُ عليه بالمَالِ، واحْتَسَبْتُ عنده اكْتَفَيْتُ، وفُلَانٌ لا يُحْتَسَبُ: لا يُعْتَدَّ به، ومن المَجَازِ: اسْتَعْطَانِي فَاحْتَسَبْتُهُ: أَكْثَرْتُ له، كذا في الأَساس. وفي شِعْرِ أَبِي ظَبْيَانَ الوَافِدِ على رَسُولِ اللهِ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم:

نحْنُ صِحَابُ الجَيْشِ يَوْمَ الأَحْسِبَهْ

وهو يَوْمٌ كان بينهم بالسَّرَاةِ وسيأْتِي أَوَّلُ الأَبْيَاتِ في «ل ه ب

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


24-تاج العروس (نصح)

[نصح]: نَصَحَه ينصَحُهُ، ونصَحَ لَهُ، كمنَعَه ـ وباللام أَعلَى، كما صرَّح به الجوهريّ وغيره، وهي اللُّغَة الفُصْحَى. قال أَبو جعفر الفِهْرِيّ في شرح الفصيح: الأَصل في نَصَحَ أَن يَتَعَدَّى هكذا بحرفِ الجرّ، ثم يُتَوَسَّع في حذْف حرْف الجرّ فيصِل الفعلُ بنفْسه. فتقول: نَصحْت زيدًا. وقال الفَرّاءُ في كتاب المصادر له: العربُ لا تكاد تقول نَصَحْتُك، إِنّمَا يقولونَ نَصَحْتُ لك، وقد يقولون نَصحْتُك يريدون نَصحْت لك. قال النابغة:

نَصَحتُ بَنِي عَوفٍ فلم يَتقَبَّلوا *** رَسُولِي ولَم تَنْجَح إِليهم وَسَائِلي

وقال ابنُ دُرُسْتويْه: هو يَتعَدَّى إِلى مفعولٍ واحدٍ، نحْو.

قَولك نَصحْت زيدًا، وإِذا دخلَت اللّامُ صارَ يَتعدَّى إِلى اثنين، فتقول: نَصحْت لزيدٍ رَأْيَه. وقد يُحذَف المفعول إِذَا فُهِم المعنَى، فتقول: نَصحْت لزيدٍ، وأَنت تريد نَصحْت لزيدٍ رَأْيَه، وتحْذف حرْفَ الجرِّ من المفعول الثاني، فيَتَعدّى الفِعل بنفسه إِليهما جميعًا، فتقول.. نصحْتُ زيدًا رأْيَه. قال أَبو جعفر: وما قاله ابنُ دُرُسْتويه من أَنّ نَصحْت يَتعدَّى إِلى اثنين أحدهما بنفْسه والثاني بحرْف الجرّ، نحْو نصَحْت لزيدٍ رأْيَه، دَعْوَى، وهو مُطَالَب بإِثباتها، ولو كان يَتعدَّى إِلى اثنين لسُمِع في مَوضع ما، وفي عدم سماعه دليلٌ على بُطلانه. قال شيخُنا رحمه ‌الله تعالى: وهو كلامٌ ظاهرٌ، وابن دُرُسْتويه كثيرًا ما يَرتكِب مثْلَ هذه التمحُّلات: وقد ذَكَر مثْل هذا في شكر وقال: تقديره شكَرْت نعْمَته. وأطال في تقريره ـ نُصْحًا بضمّ فسكون، ونَصَاحَةً، كَسَحَابة، ونِصَاحَةً، بالكسر، أَوردَه صاحبُ اللّسان، ونَصَاحِيَةً، كَكَرَاهِيَة، ونُصُوحًا، بالضّم، حكاه أَربابُ الأفعال، ونَصْحًا، بفتح فسكون، أورَده صاحب اللِّسان. وهو ناصحٌ ونَصِيحٌ، من قَوم نُصَّحٍ، بضمّ فتشديدِ ونُصَّاح، كُرمّان، ونُصَحاءَ.

ويقال: نَصَحْتُ له نَصيحتي نُصُوحًا؛ أَي أَخلَصْتُ وصَدَقْت، والاسمُ النَّصيحَة.

قال شيخنا: الأَكثر من أَئمّة الاشتقاق على أَنّ النُّصْح تَصفية العَسلِ وخِياطة الثّوبِ، ثم استُعمِل في ضدِّ الغِشّ، وفي الإِخلاصِ والصدق كالتَّوبةِ النَّصوحِ. وقيل: النُّصْحُ والنَّصِيحةُ والمُنَاصَحةُ: إِرادةُ الخَيْرِ للغَيرِ وإِرْشَادُه له، وهي كلمةٌ جامعةٌ لإِرادةِ الخَيْر. وفي النهاية: النَّصِيحَة كلمةٌ يُعبَّر بها عن جُملةٍ، هي إِرادة الخيرِ للمَنصوح له، وليس يُمْكن أَن يُعبَّر عَن هذا المعنَى بكلمةٍ واحدة تَجمَع مَعناه غيرها.

وقال الخَطّابيّ: النَّصِيحَةُ كلمةٌ جامعةٌ معنَاهَا حِيازةُ الحَظّ للمَنصوح له. قال: ويقال هو من وَجِيزِ الأَسماءِ ومختَصَر الكلامِ، وأَنّه ليس في كلام العرب كلمةٌ مفردة تُسْتَوفَى بها العِبَارَة عن معنَى هذه الكَلمة، كما قالوا في الفَلَاح. وفي شَرْح الفصيح للَّبْليّ: النّصيحة: الإِرشادُ إِلى ما فيه صَلاحُ المَنْصوحِ له، ولا يكون إِلّا قَولًا، فإِن استُعْمِل في غَير القَول كان مجازًا. والنُّصْح: بَذْلُ الاجتهادِ في المَشورةِ، وهو النَّصِيحَة أَيضًا، عن صاحِب الجَامع. هذا زبدةُ كلامهم في النّصيحة انتهى.

قلْت: وهذا الّذي نقله شيخُنَا من أَنَّ النُّصح تَصفيةُ العسَل عند الأَكثرِ، قد رَدّه المصنّف في البصائر وقال: النُّصْح: الخلوص مُطلقًا، ولا تَقييد له بالعَسلِ ولا بغَيره.

وقال في محلٍّ آخرَ: النَّصِيحة كلمةٌ جامعَةٌ، مُشتقَّة من مادّة ن ص ح الموضوعة لمعنيَينِ: أَحدهما الخُلوص والنّقَاء، والثاني الالْتئامُ والرِّفَاءُ، إِلى آخِرِ ما قال.

ونَصَحَ الشيْ‌ءُ: خَلَصَ، وكلُّ شيْ‌ءٍ خَلَصَ فقد نَصَحَ.

ومن المجاز: نَصَحَ الخيّاطُ الثَّوْبَ والقَمِيصَ: خَاطَهُ، يَنْصَحه نَصْحًا، أَو أَنْعَمَ خِياطَتَه، كَتَنَصَّحَهُ. ونَصَحَ الرَّجلُ الرِّيَّ نَصْحًا، إِذا شَرِبَ حَتّى رَوِيَ. وفي بعض الأُمّهات «حتى يَرْوَى» قال:

هذا مقامِي لك حتَّى تَنْصَحِي *** رِيًّا وتَجْتَازِي بَلاطَ الأَبطَحِ

ويُروَى «حتّى تَنْضَحي» بالضاد المعجمة، وليس بالعالي.

ومن المجاز قال النضْر: نَصَحَ الغَيْثُ البَلَدَ نَصْحًا: سَقَاه حتَّى اتَّصَلَ نَبْتُه فلم يكُنْ فيه فَضَاءٌ ولا خَلَلٌ. وقال غيرُه: نَصَحَ الغَيْثُ البِلادَ ونَصَرَهَا بمعنًى واحدٍ.

ومن المجاز قولُهم: رجُلٌ ناصحُ الجَيْبِ: نَقِيُّ الصَّدْرِ ناصِحُ القلب، لا غِشَّ فِيه. وفي الجامع للقزّاز: النُّصْحُ: الاجتهادُ في المَشُورَةِ، وقد يستعار فيقال: فلانٌ ناصحُ الجَيْبِ؛ أَي ناصِحُ القَلْبِ، ليس في قَلْبه غِشٌّ. وقيل: ناصِحُ الجَيبِ مثل قولهم: طاهرُ الثَّوْب، وكلُّه على المثَل. قال النابغة:

أَبْلِغِ الحَارِثَ بنَ هِنْدٍ بأَنّي *** ناصِحُ الجَيْبِ باذلٌ للثَّوَابِ

ومن المجاز: سقاني ناصِحَ العَسَلِ؛ أَي ماذِيَّه.

والنَّاصح: العَسَل الخالِصُ. وفي الصّحاح عن الأَصمعيّ: هو الخَالِصُ من العَسَل وغيرِهَا، مثْل الناصِع. ووجدْت في هامشه ما نَصُّه: العربُ تُذكِّر العسَلَ وتُؤَنّثه، والتأْنِيث أَكثرُ، كذا قال الأَزهريّ في كتابه، انتهى. قال ساعدة بن جُؤَيّة الهذليّ يَصِف رَجلًا مَزَجَ عَسَلًا صافيًا بماءٍ حتّى تَفرَّق فيه:

فأَزالَ مُفرِطَهَا بأَبيضَ نَاصحٍ *** من ماءِ أَلْهَاب بهنَّ التَّأْلَبُ

وقال أَبو عمرو: النَّاصِح: النَّاصِعُ في بيت ساعدةَ.

قال: وقال النَّضرُ: أَرادَ أَنّه فَرّقَ بين خالِصِها ورَديئها بأَبيضَ مُفْرَط؛ أَي بماءِ غدِير مملوءٍ.

والناصِح الخَيّاطُ، كالنَّصَّاح والنَّاصِحِيّ. وقميصٌ منصوحٌ و [آخَرُ] مُنْصَاحٌ [أَي منشق].

والناصِح: فَرَسُ الحَارث بن مَرَاغَةَ أَوْ فَضَالَةَ بنِ هِنْد، وفَرَسُ سُوِيدِ بن شَدّادٍ.

ومن المجاز: صَلِّبْ نِصَاحَكَ. النِّصَاح ككِتَابِ: الخَيْطُ، وبه سُمِّيَ الرَّجلُ نِصَاحًا. والسِّلْكُ يُخَاط به، الجمع: نُصُحٌ بضمتين، ونِصَاحةٌ، الكسرة في الجميع غير الكسرة في الواحد، والأَلف فيه غير الأَلف، والهاءُ لتأْنيثِ الجميعِ.

ونِصَاحٌ: والدُ شَيْبَة القارِئ، وكان أَبو سعد الإِدريسيّ يقوله بفتح فتشديد، قاله الحافظ ابن حجر.

والمِنْصَحَةُ، بالكسر: المِخْيَطَة كالمِنْصَح، بغير هاءٍ، وهي الإِبرة، فإِذا غلُظَت فهي الشَّعيرة.

ومن المجاز: المُتَنَصَّحُ: المَتَرقَّعُ كلاهما على صيغةِ المفعولِ. ويقولُون: في ثوبِه مُتَنصَّح لمَنْ يُصلِحه؛ أَي موضِعُ إِصلاحٍ وخِيَاطةٍ، كما يُقَال إِنّ فيه مُتَرقَّعًا. قال ابن مُقْبل:

ويُرعَدُ إِرعادَ الهَجِينِ أَضاعَه *** غَدَاةَ الشَّمَالِ الشُّمْرُجُ المُتَنصَّحُ

وقال أَبو عمرٍو: المُتَنَصَّحُ: المُخَيَّطُ جيِّدًا، وأَنشد بيت ابن مُقْبل.

ومن المجاز أَرْضٌ مَنصوحةٌ: مَجُودَةٌ، نُصِحَتْ نَصْحًا، قاله أَبو زيدٍ. وحكى ابنُ الأَعرابيّ: أَرضٌ مَنصوحة: مُتَّصِلة بالغَيْث كما يُنصَح الثّوبُ. قال ابن سيده: وهذه عبارةٌ رَدِيئة، إِنَّمَا المنصوحَة الأَرضُ المتَّصلةُ النَّبَاتِ بعضه ببعضٍ، كأَنَّ تلك الجُوَبَ التي بين أَشخاصِ النَّبَات خِيطَت حتّى اتّصلَ بعضُها ببعض.

ومن المجاز: نَصَحَتِ الإِبلُ الشّرْبَ تَنصَح نُصُوحًا: صَدَقَتْه. وأَنْصَحَ الإِبلَ: أَرْوَاهَا، عن ابن الأَعرابيّ، كما في الصحاح.

والنِّصَاحات كجِمالاتٍ: الجُلودُ، قال الأَعشى:

فتَرَى القَوْمَ نَشَاوَى كُلَّهُمْ *** مِثْلَما مُدّتْ نِصَاحاتُ الرُّبَحْ

قال الأَزهريّ: أَراد بالرُّبَح الرُّبَعَ في قول بعضهم.

وقال ابن سيده: الرُّبَح من أَولاد الغَنَم، وقيل: هو الطائرُ الّذي يُسمَّى بالفارسية زَاغ وقال المؤرِّج: النِّصَاحاتُ: حَبَالاتٌ يُجعَلُ لها حَلَقٌ وتُنْصَبُ فيُصَادُ بها القُرُودُ. وذلك أَنّهم إِذا أَرادوا صَيْدَهَا يَعمِد رَجلٌ فيعمَل عِدّة حِبَالٍ ثم يأْخذ قِرْدًا فيجعله في حَبْلٍ منها، والقُرُود تَنظُرُ إِليه من فوقِ الجَبَل، ثم يَتنحَّى الحابلُ فتنزلُ القُرُودُ فتدخلُ في الحِبَالِ وهو ينظر إِليها من حيث لا تراه ثم ينزل إِليها فيأْخذ ما نَشِب في الحِبال. وبه فسَّر بعضُهم قول الأَعشى، والرُّبَح القُرُودُ أصلها الرُّبّاح وقد تقدّم.

والنِّصَاحَات: جِبَالٌ بالسَّرَاة.

والنَّصْحاءُ، بفتح فسكون: موضع ومِنْصَحٌ كمِنْبَرٍ: د، والذي في المعجم أَنّه وادٍ بتهامة وراءَ مكَّة. قال امرؤ القيسِ بن عابسٍ السَّكُونيّ:

أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَرَى الوَرْدَ مَرَّةً *** يُطَالِب سِرْبًا مُوكَلًا بِغِوَارِ

امامَ رَعِيلٍ أَو برَوْضَةِ مِنْصَحٍ *** أُبادرُ أَنعامًا وإِجْلَ صُوَارِ

والْمَنْصَحيَّةُ، بالفتح وياءِ النّسبة ماءٌ بتِهَامَةَ لبني هُذَيْل.

ومَنْصَحٌ، كمَسْكَنٍ: موضع آخرُ والصواب في هذا أن يكون بالضاد المعجمة كما سيأْتي.

وتَنَصَّحَ الرَّجلُ، إِذا تَشَبَّه بالنُّصَحاءِ، وانْتَصَحَ فلانٌ قَبِلَهُ أَي النُّصْحَ. وفي اللسان: انتصِحْ كِتَابَ الله؛ أَي اقْبَلْ نُصْحَه. وأَنشدوا:

تقولُ انْتَصِحْني إِنّني لك ناصِحٌ *** وما أَنا إِنْ خبَّرْتُهَا بأَمينِ

قال ابن بَرّيّ: هذا وَهَمٌ، لأَنّ انْتَصَح بمعنَى قبِلَ النصيحةَ لا يَتعدّى أَنّه مطاوعُ نَصحتُه فانتَصَح، كما تَقُول رَددته فارْتَدّ، وسدَدْته فاستَدّ، ومدَدْته فامتدّ، فأمّا انتصَحْتُه بمعنَى اتَّخذْته نَصيحًا فهو متعدٍّ إِلى مفعول، فيكون قوله انتصِحْني إِنّني لك ناصح، بمعنَى اتَّخِذْني ناصحًا لك، ومنه قولهم: لا أُريد منك نُصْحًا ولا انْتِصَاحًا؛ أَي لا أُريد منك أَن تَنْصَحنِي ولا أَن تتّخذني نَصِيحًا، فهذا هو الفَرْق بين النُّصح والانتصاح. والنُّصْح مصدر نَصَحْته، والانتصاح مصدر انتَصَحْتُه أَي اتخذْتُه نَصيحًا، أَو قَبِلْت النَّصِيحَةَ، فقد صار للانْتِصَاح معنيانَ.

ومِن المجازِ: نَصَحَتْ تَوْبَتُهُ نُصُوحًا، التَّوْبَةُ النَّصُوحُ هي الصَّادقةُ. قال أَبو زيد: نَصَحْته أَي صَدَقْته. وقال الجوهَرِيّ: هو مأْخُوذ من نَصَحْت الثَّوْبَ، إِذَا خِطْته، اعتبارًا بقوله صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم: «من اغتابَ خَرَقَ، ومن استغفَرَ الله رَفَأَ».

أَو التَّوْبة النَّصوح: الخَالِصَة وهي أَنْ لا يَرجِعَ العَبْدُ إِلى ما تَابَ عَنْهُ.

وفي حديث أُبَيّ: «سأَلتُ النّبيّ صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم عن التّوبَة النَّصُوح فقال: هي الخالِصَةُ التي لا يُعَاوِدُ بَعْدَها الذّنْب».

وفَعولٌ من أَبنية المبالغة، يَقع على الذّكر والأُنثَى، فكأَنّ الإِنسانَ بالغَ في نُصْح نفْسِه بها. وقال أَبو إِسحاقَ: تَوْبَة نَصُوحٌ: بَالغةٌ في النُّصْح، أَوْ هي أَن لا يَنْوِيَ الرُّجُوعَ ولا يُحدِّث نَفْسَه إِذا تَاب من ذلك الذَّنب العَوْدَ إِليه أَبدًا. قال الفرّاءُ: قرأَ أَهل المدينة نَصُوحًا بفتح النُّون، وُذكِرَ عن عاصِمٍ بضمّ النّون. فالذين قَرَأوا بالفتح جعلوه من صفة التَّوبَة، والذين قرأوا بالضّمّ أَرادوا المصدر مثل القُعود.

وقال المفضّل: بات عَزُوبًا وعُزُوبًا، وعَرُوسًا وعُرُوسًا.

وسَمَّوْا ناصِحًا ونَصِيحًا ونَصَّاحًا.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

انتصَح: ضِدّ اغتشَّ. ومنه قول الشاعر:

أَلَا رُبَّ مَن تَغْتَشُّه لك ناصِحٌ *** ومُنتصِحٍ بادٍ عليكَ غوائلُه

تَغْتَشُّه: تَعتدُّه غاشًّا لك. وتَنتصِحه: تَعتدّه ناصحًا لك.

واستنصَحَه: عَدَّه نَصيحًا.

والتَّنصُّح: كثرةُ النُّصْح. ومنه‌قول أَكثَمَ بن صَيفيّ: «إِيّاكم وكَثرةَ التَّنصُّح فإِنّه يُورِث التُّهَمَة».

ونَاصَحَه مُناصَحَةً.

ومن المجاز غُيوثٌ نواصِحُ: مُترادِفةٌ، كما في الأَساس.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


25-تاج العروس (نثر)

[نثر]: نَثَرَ الشَّيْ‌ءَ يَنْثُرُهُ، بالضمّ، ويَنْثِرُه، بالكَسْر، نَثْرًا، بالفَتْح، ونِثَارًا، بالكسْر: رَمَاهُ بيدِه مُتَفَرِّقًا، مثْل نَثْرِ الجَوْزِ واللَّوْز والسُّكَّر، وكذلك نثَرُ الحَبّ إِذا بَذِرَ. ودُرٌّ مَنْثورٌ.

كنَثَّرَه تَنْثِيرًا فانْتَثَرَ وتَنَثَّرَ وتَناثَرَ، ودُرٌّ مُتَنَاثِر، ومُنَثَّر كمُعَظّم، شَدِّد للكثْرَة.

ويقال: شَهِدْتُ نِثَارَ فُلانٍ، وكُنَّا في نِثَارِهِ، بالكَسْر، وهو اسمٌ للفِعْل، كالنثْر.

والنُّثَارَةُ، بالضَّمّ، والنَّثَرُ، بالتَّحْرِيك: ما تَنَاثَر منه، أَو الأُولَى تُخَصُّ بما يَنْتَثِرُ من المَائِدَة فيُؤْكَلُ للْثَوَاب، خصَّه به اللّحْيَانيّ. وفي التّهْذيب: والنَّثَار: فَتَاتَ ما يَتَنَاثَر حَوَالَيِ الخِوَانِ من الخُبْز ونحو ذلك من كلّ شي‌ءٍ. وقال الجوهَرِيّ: النُّثَارُ، بالضَّمّ: ما تَناثرَ من الشي‌ءِ. وقيل: نُثَارَةُ الحِنْطَةِ والشَّعيرِ ونحوِهما: ما انْتَثَرَ منه. وشي‌ءٌ نَثَرٌ: مُنْتَثِر، وكذلك الجميع: فإِهمال المصنِّف النُّثَار أَمرٌ غريب، وقد جَمعهما الزمخشريّ فقال: والتَقط نُثَارَ الخِوَانِ، بالضّم، ونُثَارَتَه، وهو الفُتَاتُ المُتَنَاثِر حَولَه.

ومن المَجَاز: تَنَاثَرُوا: مَرِضُوا فمَاتُوا، وفي الأَساس: مَرِضُوا فتَنَاثَرُوا مَوْتًا.

ومن المَجَاز: النَّثُور، كصَبُور: الامرَأَةُ الكَثيرةُ الوَلَدِ وكذلِك الرَّجلُ يُقال رَجلٌ نَثُورٌ وامرأَةٌ نَثُورٌ، وسيأتي للمصنّف قريبًا ذلك في قوله: ونَثَرَ الكلامَ والوَلَدَ: أَكْثَرَه.

وقد نَثَرَت ذا بَطْنِهَا، ونَثَرَت بَطْنَهَا. وفي الحَديث: «فلمّا خَلَا سِنِّي ونَثَرْتُ لَهُ ذا بَطْنِي» أَرادتْ أَنّها كانَتْ شابَّةً تَلِدُ الأَوْلَادَ عندَه. وقيل. لامْرَأَةٍ: أَيُّ البُغَاةِ أَحبّ إِلَيْك؟

فقالت: التي إِنْ غَدَتْ بَكَرَتْ. وإِنْ حَدَّثَتْ. نَثَرَتْ. وكُل ذلِكَ مَجاز.

ومن المَجَاز: النَّثُور: الشَّاةُ تَعْطِس وتَطْرَحُ من أَنْفِهَا الأَذَى كالدُّودِ، كالنَّاثِرِ، وقد نَثَرَتْ. وقال الأَصْمَعِيُّ: النّافِر والنّاثِر: الشّاة تَسْعُل فيَنْتَثِرُ من أَنْفِهَا شي‌ءٌ.

ومن المَجَاز: النَّثُور: الشَّاةُ الوَاسِعَةُ الإِحْلِيلِ كأَنَّهَا تَنْثُر اللَّبَنَ نَثْرًا، وبه فُسِّر حديثُ أَبِي ذَرٍّ: «أَيُواقِفُكم العَدُوُّ حَلْبَ شاةٍ نَثُور».

والنَّيْثُرَانُ، كرَيْهُقَان، والنَّثِرُ، ككَتِفٍ، والمِنْثَرُ، ك مِنْبَرٍ: الكَثِيرُ الكَلامِ، والأُنْثَى نَثِرَةٌ، فقط. والأولى ذَكَرَها الصّاغانِيُّ. وقد نَثَرَ الكَلامَ وكذلك الوَلدَ إِذا أَكْثَرَهُ، فهو وهي نَثُورٌ، في الأخير، ومِنْثَرٌ ونَثِرٌ ونَيْثَرَانٌ، في الأَوَّل.

وكُلُّ ذلك مَجازٌ.

ومن المَجَاز: النَّثْرَةُ، بالفَتْح: الخَيْشُومُ وما وَالاهُ؛ قال ابنُ الأَعْرَابِيِّ: النَّثْرَة: طَرَفُ الأَنْفِ، أَو هي الفُرْجَةُ ما بَيْنَ الشارِبَيْنِ حِيَالَ وَتَرَةِ الأَنْفِ، وكذلك هي من الأَسَدِ، وقيل: هي أَنْفُ الأَسَدِ، وهو مَجاز. ومنه النَّثْرَةُ: كَوْكَبَانِ بَيْنَهُمَا قَدْرُ شِبْرٍ وفيهِمَا لَطْخُ بَيَاضٍ كأَنَّه قِطْعَة سَحَابٍ، وهي أَنْفُ الأَسَدِ يَنْزلَهَا القمرُ، كذا في الصّحاح. قال الزّمخشريُّ: كأَنَّ الأَسد مَخَطَ. مَخْطَةً. وفي التَّهْذيب: النَّثْرَة: كوكبٌ في السَّمَاءِ كأَنّه لَطْخ سَحَابٍ حِيَالَ كَوْكَبَيْن تُسمِّيه العَرَبُ نَثْرَة الأَسِد. وهي من مَنازل القَمَر، قال: وهي في عِلْم النُّجُوم من بُرْج السَّرَطان. قال أَبو الهَيْثَم: النَّثْرَة: أَنفُ الأَسدِ ومَنْخِراه، وهي ثلاثة كَواكبَ خَفِيّة مُتقارِبة، والطَّرْفُ: عَينَا الأَسدِ كَوْكَبان، الجَبْهَةُ أَمامَها وهي أَربعةُ كَوَاكِبَ.

ومن المَجاز: أَخَذَ دِرْعًا فنَثَرَهَا على نَفْسه؛ أَي صَبَّهَا، ومنها النَّثْرَةُ، وهي الدِّرعُ السَّلِسَةُ المَلْبَسِ أَو الواسِعَةُ، ويُقَال لها نَثْرَةٌ ونَثْلةٌ. قال ابن جنّي: يَنبغِي أَن تكون الراءُ في النَّثرة بَدلًا من اللّام، لقولهم: نَثَلَ عليه دِرْعَه، ولم يقولُوا نَثَرَها، والّلام أَعَمّ تَصَرُّفًا وهي الأَصل، يعني أَنَّ باب نَثَلَ أَكثرُ من بابِ نَثَر. وقال شَمِرٌ في كِتَابه في السِّلاح: النَّثْرَة والنَّثْلَة: اسمٌ من أَسماءِ الدُّرُوعِ، قال: وهي المَنْثُولة وأَنشَدَ:

وضَاعَفَ مِن فَوْقِهَا نَثْرَةً *** تَرُدُّ القَوَاضِبَ عنها فُلُولَا

وقال ابنُ شُمَيْل: النَّثْل: الأَدْرَاعُ يقال: نَثَلَهَا عليه ونَثَلَهَا عنه؛ أَي خَلَعَهَا، ونَثَلَهَا عليه، إِذ لَبِسَها. قال الجوهَرِيّ: يقال نَثَر دِرْعَه عنه، إِذا أَلقاها عنه، ولا يُقَالُ نَثلَهَا. قُلتُ: والذي قالَهُ أَبو عُبَيْدة في كتاب الدِّرْع له ما نَصّهُ: وللدِّرْع أَسماءٌ من غير لَفظهَا، فمنْ ذلِكَ قَوْلُهُم: نَثْلَة، وقد نَثَلْتُ دِرْعِي عني؛ أَي أَلقَيْتُهَا عني، ويقولُون: نَثْرَة، ولا يقولُون نَثَرْتُ عنّي الدِّرْعَ، فتراهم حَوَّلُوا الَّلامَ إِلى الرّاءِ كما قالوا: سَمَلْت عَينَهُ وسَمَرْت عَينَه. ونُرَى أَنّ النَّثْلَة هي الأَصْل، لأَنّ لها فِعْلًا وليس للنَّثْرَة فِعلٌ.

انتهى، وهو يُخالِف ما ذهبَ إِليه الجَوْهَرِيّ وأُرى الزَّمَخْشَرِيَّ قد اشْتقَّ من النَّثْرَةِ فِعلًا، فتأَمَّل.

والنَّثْرَةُ للدوابِّ: شِبْه العَطْسَة. وفي حَدِيثِ ابنِ عبّاسٍ: «الجَرَادُ نَثْرَةُ الحَوتِ» أَي عَطْسَتُه، وفي حديث كَعْب: «إِنّمَا هو نَثْرَةُ حُوتٍ». والنَّثِيرُ، كأَمِيرٍ لِلدَّوَابِّ. والإِبل كالعُطَاسِ لنا، زادَ الأَزهرِيّ. إِلّا أَنَّه ليس بغالِب، ولكنّه شي‌ءٌ يفعله هو بأَنْفِه، وقَدْ نَثَرَ الحِمَارُ، وهو يَنْثِرُ نَثِيرًا؛ وأَنْشَدَ ابنُ الأَعْرَبِيّ:

فما أَنْجَرَتْ حتَّى أَهَبَّ بسُدْفَةٍ *** عَلاجِيمَ عَيْرِ ابْنيْ صُبَاح نَثِيرُهَا

واسْتَنْثَرَ الإِنسان: اسْتَنْشَقَ المَاءَ ثمّ اسْتَخْرَجَ ذلِك بنَفَسِ الأَنْفِ، وهو مَجاز، كانْتَثَرَ، وقال ابنُ الأَعرابي: الاستِنثار هو الاستِنْشَاقُ وتَحْرِيكُ النَّثْرَةِ وهي طَرَفُ الأَنفِ. وقال الفَرّاءُ: نَثَرَ الرجلُ وانْتَثَر واسْتَنْتَثَر، إِذا حَرَّك النَّثْرَةَ في الطَّهَارَة. قال الأَزهريُّ: وقد رُوِي هذا الحرفُ عن أَبي عُبَيْد أَنّه قال في حَدِيثِ النبيِّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم: «إِذا تَوضَّأْتَ فأَنْثِرُ»، من الإِنْثار، إِنّمَا يُقَال: نَثَر يَنْثِر، وانْتَثَرَ يَنْتَثِرُ. واستَنْثَرَ يستَنْثِر. وفي حَدِيثٍ آخَرَ: «إِذا تَوضَّأَ أَحدُكُم فليَجْعَل المَاءَ في أَنْفه ثمّ لِيَنْثِرْ» قال الأَزْهَريُّ: هكذا رَواهُ أَهْلُ الضَّبْط لأَلفاظ الحَديث. قال: وهو الصَّحيحُ عندي. وقال الأَزهريُّ: فأَنْثِرْ، بقَطْع الأَلِف لا يَعْرِفُه أَهْلُ اللُّغَة.

وقال ابنُ الأَثِير: نَثَرَ يَنْثِرُ، بالكسْر، إِذا امْتَخَطَ، واسْتَنْثَرَ، اسْتَفْعَلَ منه: استَنْشَق الماءَ ثم استخرَجَ ما في الأَنْف، و [قال الأَزهري] يُرْوَى: فأَنْثِرْ، بأَلف مقطوعة، وأَهلُ اللُغَة لا يُجيزُونه والصّوَابُ بأَلِف الوصل.

قلْت: ووُجِدَ بخَطِّ الأَزهريّ في حاشية كتابه في الحَديث: «من تَوَضَّأَ فلْيَنْثِر، بالكَسْر. يقال: نَثَرَ الجَوْز والسُّكَّر يَنْثُر، بالضّمّ، ونَثَرَ من أَنْفِه يَنْثِرُ، بالكَسْر لا غير، قال: [و] هذا صَحِيح، كذا حَفِظَه علماءُ اللغة. وقال بعضُ أَهل العلم: إِنّ الاستِنْثَار غَيْرُ الاسْتِنْشَاق، فإِنّ الاستِنْشَاقَ هو إدْخالُ المَاءِ في الأَنْف، والاستِنْثَار هو اسْتِخْرَاج ما في الأَنفِ من أَذًى أَو مُخَاط، ويدُلُّ لذلك الحَدِيث: «أَنَّ النبيّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم كان يَسْتَنْشِقُ ثلَاثًا، في كُلّ مَرَّةٍ يَسْتَنْثِرُ» فجعل الاسْتِنْثار غيرَ الاستنشاقِ. ويَقرُب من ذلك قَوْلُ مَنْ فَسَّرَه باسْتِخْرَاج نَثِيرِ المَاءِ بنَفَسِ الأَنْف.

والمِنْثَارُ، بكسر المِيمِ: نَخْلَةٌ يَتَنَاثَرُ بُسْرُها. وفي الأَسَاس: تَنْفُضُ بُسْرَها، كالنّاثِر، وهو مَجاز.

ومن المَجاز قولُ الشّاعر:

إِنّ عليهَا فارِسًا كعَشَرَهْ *** إِذا رأَى فارِسَ قَوْمٍ أَنْثَرَه

قال الجوهريّ: طَعَنَه فأَنْثَرَه؛ أَي أَرْعَفَهُ. وقال غيرُه: طَعَنَه فَأَنْثَرَه عن فَرَسه: أَلْقَاهُ على نَثْرَتِه؛ أَي خَيْشُومِه، وذكرَهما الزّمخشريّ في الأَساسِ إِلّا أَنّه قال في الأَوَّل: ضَرَبَه، وفي الثاني: طَعَنَه. وأَنْثَرَ الرَّجُلُ: أَخْرَجَ ما في أَنْفِهِ من الأَذَى والمُخَاط عند الوُضُوءِ مثل نَثَرَ يَنْثِر، بالكَسْرِ، نقله الصّاغَانِيّ، أَو أَخْرَج نَفَسَهُ من أَنْفِهِ، وكلاهما مَجاز. وقد عَلِمْتَ ما فيه من أَقْوَال أَئِمَّةِ اللُّغَة، فإِنّهم لا يُجِيزُون ذلك إِلّا أَنّه قَلَّدَ الصّاغانيّ. وقيل: أَنْثَرَ: أَدْخَلَ المَاءَ في أَنْفِه، كانْتَثَرَ واسْتَنْثَرَ، وهو مَرْجُوحٌ عند أَئِمَّة اللّغَة، وقد تَقَدَّم ما فيه ونَبَّهنا على أَنّ الصّحِيحَ أَنَّ الاستِنْثارَ غيرُ الاستِنْشاقِ.

ومن المَجاز: المُنَثَّرُ، كمُعَظَّم: الرّجل الضَّعِيفُ الذي لا خَيْرَ فيه، شُدّد للكَثرة.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

دُرٌّ نَثيرٌ ومُنَثَّرٌ ومَنْثُور. وانْتَثَرَتِ الكَوَاكبُ: تَفَرَّقت أَو تنَاثَرَت كالحَبِّ.

والنَّثِرُ، ككَتِف: المُتَساقِط الذي لا يَثْبُت، هكذا فسَّر ابنُ سِيدَه ما أَنشده ثعْلَبٌ:

هِذْرِيانٌ هَذِرٌ هَذَّاءَةٌ *** مُوشِكُ السَّقْطَةِ ذُو لُبٍّ نَثِرْ

ووَجَأَهُ فنَثَرَ أَمعاءَه. وهو مَجاز.

والنَّثَرَ، بالتَّحْرِيك: كَثْرةُ الكلامِ وإِذاعةُ الأَسْرَارِ.

ويقولُون: ما أَصَبْنَا من نَثَرِ فُلانٍ شيئًا، وهو اسم المَنْثُور من نحوِ سُكَّرٍ وفاكِهَةٍ، كالنّثَارِ.

ونَثَر يَنْثِر، بالكَسْر، إِذا امْتَخَط.

والنَّثْرُ: هو الكلامُ المُقَفَّى بالأَسْجَاع ضدّ النَّظْم. وهو مَجاز، على التَّشْبِيه بنَثْرِ الحَبِّ إِذَا بُذِرَ.

والمَنْثور: نَوْعٌ من الرَّياحينِ.

وفي الوَعِيد: لأَنْثُرَنَّكَ نَثَرَ الكَرِشِ. ويقال: نَثَرَ كِنَانَته فعَجَمَ عِيدَانَهَا عُودًا عُودًا فوجَدَني أَصْلَبَهَا مَكْسِرًا فرمَاكُمْ بي. ونثَرَ قِرَاءَته: أَسرَعَ فيها. وتَفرَّقُوا وانْتثَرُوا وَتَنَثَّرُوا.

ورأَيْتُه يُنَاثِرُه الدُّرَّ، إِذا حاوَرَه بكلامِ حَسْنٍ.

وأَبو الحَسَن محمّد بن القاسم بن المَنْثُور الجُهَنِيّ الكُوفيّ مات سنة 476 وابنُه أَبو طاهرٍ الحَسَن، رَوَى عنه ابنُ عَساكر.

وَنَثْرَةُ، بالفَتْح: مَوْضِعٌ، نقلَه الصّاغانيّ.

والنَّثُور، كصَبُور: الاسْتُ. ورَوَى الزّمَخْشَرِيُّ في رَبِيع الأَبْرَار عن أَبي هُرَيْرَة رَضِي الله عنه: «كان من دُعائه: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلكَ ضِرْسًا طَحُونًا، ومَعِدَةً هَضومًا ودُبُرًا نَثورًا».

ونَثْرَة، بالفَتْح: مَوضِع ذَكَرَه لبيد بن عُطَارِدِ بن حاجِب بن زُرَارَةَ التَّميميّ وقال:

تَطَاوَل ليْلِيَ بالإِثْمدَيْنِ *** إِلى الشَّطْبَتَيْن إِلى نَثْرَهْ

قاله ياقوت.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


26-لسان العرب (حسب)

حسب: فِي أَسماءِ اللَّهِ تَعَالَى الحَسِيبُ: هُوَ الْكَافِي، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعِل، مِن أَحْسَبَنِي الشيءُ إِذَا كَفاني.

والحَسَبُ: الكَرَمُ.

والحَسَبُ: الشَّرَفُ الثابِتُ فِي الآباءِ، وَقِيلَ: هُوَ الشَّرَفُ فِي الفِعْل، عَنِ ابْنِ الأَعرابي.

والحَسَبُ: مَا يَعُدُّه الإِنسانُ مِن مَفاخِرِ آبائهِ.

والحَسَبُ: الفَعالُ الصَّالِحُ، حَكَاهُ ثَعْلَبٌ.

وَمَا لَه حَسَبٌ وَلَا نَسَبٌ، الحَسَبُ: الفَعالُ الصَّالِحُ، والنَّسَبُ: الأَصْلُ؛ والفِعْلُ مِنْ كلِّ ذَلِكَ: حَسُبَ، بِالضَّمِّ، حَسَبًا وحَسابةً، مِثْلُ خَطُبَ خَطابةً، فَهُوَ حَسِيبٌ؛ أَنشد ثَعْلَبٌ:

ورُبَّ حَسِيبِ الأَصلِ غيرُ حَسِيبِ

أَي لَه آباءٌ يَفْعَلُونَ الخَيْرَ وَلَا يَفْعَلُه هُوَ؛ وَالْجَمْعُ حُسَباءُ.

وَرَجُلٌ كَرِيم الحَسَبِ، وَقَوْمٌ حُسَباءُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «الحَسَبُ: المالُ، والكَرَمُ: التَّقْوَى».

يَقُولُ: الَّذِي يَقُوم مَقام الشَّرَفِ والسَّراوةِ، إِنَّمَا هُوَ المالُ.

والحَسَبُ: الدِّينُ.

والحَسَبُ: البالُ، عَنْ كُرَاعٍ، وَلَا فِعْلَ لَهُمَا.

قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: والحَسَبُ والكَرمُ يَكُونَانِ فِي الرجلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ آباءٌ لَهُمْ شَرَفٌ.

قَالَ: والشَّرَفُ والمَجْدُ لَا يَكُونَانِ إلا بالآباءِ فَجَعَل المالَ بِمَنْزِلَةِ شَرَفِ النَّفْسِ أَو الآباءِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الفَقِير ذَا الحَسَبِ لَا يُوَقَّر، وَلَا يُحْتَفَلُ بِهِ، والغنِيُّ الَّذِي لَا حَسَبَ لَهُ، يُوقَّر ويُجَلُّ فِي العُيون.

وَفِي الْحَدِيثِ: «حَسَبُ الرَّجل خُلُقُه، وكَرَمُهُ دِينُه».

وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ: حَسَبُ الرَّجل نَقاءُ ثَوْبَيْهِ أَي إِنَّهُ يُوَقَّرُ لِذَلِكَ، حيثُ هُوَ دَليل الثَّرْوة والجِدةِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «تُنْكَحُ المَرأَة لمالِها وحَسَبِها ومِيسَمِها ودِينِها، فعَليكَ بذاتِ الدِّين، تَرِبَتْ يَداكَ»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: قِيلَ الحَسَبُ هَاهُنَا: الفَعَالُ الحَسَنُ.

قَالَ الأَزهري: والفُقَهاءِ يَحْتاجُون إِلَى مَعْرِفة الحَسَبِ، لأَنه مِمَّا يُعْتَبر بِهِ مَهْرُ مِثْلِ المرأَة، إِذَا عُقِدَ النِّكاحُ عَلَى مَهْرٍ فاسِدٍ، قَالَ: وَقَالَ شَمِرٌ فِي كِتَابِهِ المُؤَلَّف فِي غَريب الْحَدِيثِ: «الحَسَبُ الفَعالُ الحَسنُ لَهُ وَلِآبَائِهِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الحِسابِ إِذَا حَسَبُوا مَناقِبَهم»؛ وَقَالَ الْمُتَلَمِّسُ:

ومَن كَانَ ذَا نَسْبٍ كَرِيمٍ، وَلَمْ يَكُنْ ***لَه حَسَبٌ، كَانَ اللَّئِيمَ المُذمَّما

ففَرقَ بَين الحَسَبِ والنَّسَبِ، فَجَعَلَ النَّسَبَ عدَد الآباءِ والأُمهاتِ، إِلَى حَيْثُ انْتَهى.

والحَسَبُ: الفَعالُ، مِثْلُ الشَّجاعةِ والجُود، وحُسْنِ الخُلُقِ والوَفاءِ قَالَ الأَزهري: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ شَمِرٌ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا سُميت مَساعِي الرجُل ومآثِرُ آبَائِهِ حَسَبًا، لأَنهم كَانُوا إِذَا تَفاخَرُوا عَدَّ المُفاخِرُ مِنْهُمْ مَناقِبَه ومَآثِرَ آبَائِهِ وحَسَبها؛ فالحَسْبُ: العَدُّ والإِحْصاءُ؛ والحَسَبُ مَا عُدَّ؛ وَكَذَلِكَ العَدُّ، مَصْدَرُ عَدَّ يَعُدُّ، والمَعْدُودُ عَدَدٌ.

وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنه قَالَ: «حَسَبُ المَرْءِ دِينُه»، ومُرُوءَتُه خُلُقه، وأَصلُه عَقْلُه.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَرَمُ المَرْءِ دِينُه، ومُرُوءَتُه عَقْلُه، وحَسَبُه خُلُقُه»؛ ورَجُل شَريفٌ ورجُلٌ ماجِدٌ: لَهُ آباءٌ مُتَقَدِّمون فِي الشَّرَفِ؛ ورَجُلٌ حَسِيبٌ، ورَجُلٌ كرِيمٌ بنفْسِه.

قَالَ الأَزهري: أَراد أَن الحَسَبَ يَحْصُلُ للرَّجل بكَرم أَخْلاقِه، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَسَبٌ، وَإِذَا كَانَ حَسِيبَ الآباءِ، فَهُوَ أَكرَمُ لَهُ.

وَفِي حَدِيثِ وَفْدِ هَوازِنَ: «قَالَ لَهُمْ: اخْتاروا إحْدَى الطائِفَتَيْنِ: إِما المالَ»، وإِما السَّبْيَ.

فَقَالُوا: أَمَّا إذْ خَيَّرْتَنا بَيْنَ المالِ والحَسَبِ، فإِنَّا نَخْتارُ الحَسَبَ، فاخْتاروا أَبْناءَهم ونِساءَهم؛ أَرادوا أَنَّ فِكاكَ الأَسْرَى وإيثارَه عَلَى اسْتِرْجاعِ المالِ حَسَبٌ وفَعالٌ حَسَنٌ، فَهُوَ بالاختِيار أَجْدَرُ؛ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بالحَسَب هَاهُنَا عَدَد ذَوي القَراباتِ، مأْخوذ مِنَ الحِساب، وَذَلِكَ أَنهم إِذَا تَفاخَرُوا عَدُّوا مَناقِبَهم ومآثِرَهم، فالحَسَب العَدُّ والمَعْدُود، والحَسَبُ والحَسْبُ قَدْرُ الشيءِ، كَقَوْلِكَ: الأَجْرُ بحَسَبِ مَا عَمِلْتَ وحَسْبِه أَي قَدْره؛ وَكَقَوْلِكَ: عَلَى حَسَبِ مَا أَسْدَيْتَ إِلَيَّ شُكْري لَكَ، تَقُولُ أَشْكُرُكَ عَلَى حَسَبِ بَلَائِكَ عِنْدي أَي عَلَى قَدْر ذَلِكَ.

وحَسْبُ، مَجْزُومٌ: بِمَعْنَى كَفَى؛ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وأَمَّا حَسْبُ، فَمَعْنَاهَا الاكْتِفاءُ.

وحَسْبُكَ دِرْهم أَي كَفاكَ، وَهُوَ اسْمٌ، وَتَقُولُ: حَسْبُكَ ذَلِكَ أَي كفاكَ ذَلِكَ؛ وأَنشد ابْنُ السِّكِّيتِ:

ولمْ يَكُنْ مَلَكٌ للقَوم يُنْزِلُهم، ***إلَّا صَلاصِلُ لَا تُلْوَى عَلَى حَسَبِ

وَقَوْلُهُ: لَا تُلْوَى عَلَى حَسَبٍ، أَي يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بالسَّوِيَّة، لَا يُؤْثَر بِهِ أَحد؛ وَقِيلَ: لَا تُلْوَىعَلَى حَسَب أَي لَا تُلْوَى عَلَى الكِفايةِ، لعَوَزِ الماءِ وقِلَّتِه.

وَيُقَالُ: أَحْسَبَني مَا أَعْطاني أَي كَفَانِي.

وَمَرَرْتُ برجلٍ حَسْبِكَ مِنْ رَجلٍ أَي كافِيكَ، لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمع لأَنه مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ؛ وَقَالُوا: هَذَا عَرَبِيٌّ حِسْبةً، انْتَصَبَ لأَنه حَالٌ وَقَعَ فِيهِ الأَمر، كَمَا انْتَصَبَ دِنْيًا، فِي قَوْلِكَ: هُوَ ابْنُ عَمِّي دِنْيًا، كأَنك قُلْتَ: هَذَا عرَبي اكْتِفاءً، وَإِنْ لَمْ يُتكلم بِذَلِكَ؛ وَتَقُولُ: هَذَا رَجُل حَسْبُكَ مِنْ رَجُل، وَهُوَ مَدْحٌ لِلنَّكِرَةِ، لأَن فِيهِ تأْويل فِعْل، كأَنه قَالَ: مُحْسِبٌ لَكَ أَي كافٍ لَكَ مِنْ غَيْرِهِ، يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ وَالتَّثْنِيَةُ، لأَنه مَصْدَرٌ؛ وَتَقُولُ فِي الْمَعْرِفَةِ: هَذَا عبدُ اللَّهِ حَسْبَك مِنْ رَجُلٍ، فَتَنْصِبُ حَسْبَك عَلَى الْحَالِ، وَإِنْ أَردت الْفِعْلَ فِي حَسْبك، قُلْتَ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ أَحْسَبَكَ مِنْ رَجُلٍ، وَبِرَجُلَيْنِ أَحْسَباك، وبرِجال أَحْسَبُوكَ، وَلَكَ أَن تَتَكَلَّمَ بحَسْبُ مُفردةً، تَقُولُ: رأَيت زَيْدًا حَسْبُ يَا فتَى، كأَنك قُلْتَ: حَسْبِي أَو حَسْبُكَ، فأَضمرت هَذَا فَلِذَلِكَ لَمْ تنوِّن، لأَنك أَردت الإِضافة، كَمَا تَقُولُ: جاءَني زَيْدٌ لَيْسَ غَيْرُ، تُرِيدُ لَيْسَ غَيْرُهُ عِنْدِي.

وأَحْسَبَني الشيءُ: كَفَانِي؛ قَالَتِ امرأَة مِنْ بَنِي قُشَيْرٍ:

ونُقْفِي وَليدَ الحَيِّ، إِنْ كَانَ جَائِعًا، ***ونُحْسِبُه، إنْ كانَ لَيْسَ بِجائعِ

أَي نُعْطِيه حَتَّى يَقُولَ حَسْبي.

وَقَوْلُهَا: نُقْفِيه أَي نُؤْثِرُه بالقَفِيَّة، وَيُقَالُ لَهَا القَفاوةُ أَيضًا، وَهِيَ مَا يُؤْثَر بِهِ الضَّيفُ والصَّبِيُّ.

وَتَقُولُ: أَعْطَى فأَحْسَبَ أَي أَكثَر حَتَّى قَالَ حَسْبِي.

أَبو زَيْدٍ: أَحْسَبْتُ الرَّجلَ: أَعْطَيْتُه مَا يَرْضَى؛ وَقَالَ غَيْرُهُ: حَتَّى قَالَ حَسْبي؛ وَقَالَ ثَعْلَبٌ: أَحْسَبَه مِنْ كلِّ شيءٍ: أَعْطاه حَسْبَه، وَمَا كَفَاهُ.

وَقَالَ الفرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}؛ جاءَ التَّفْسِيرُ يَكْفِيكَ اللهُ، ويَكْفِي مَن اتَّبَعَكَ؛ قَالَ: وموضِعُ الْكَافِ فِي حَسْبُكَ وَمَوْضِعُ مَنِ نَصْب عَلَى التَّفْسِيرِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

إِذَا كانَتِ الهَيْجاءُ، وانْشَقَّتِ العَصا، ***فَحَسْبُكَ والضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّد

قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ: مَعْنَى الْآيَةِ يَكْفيكَ اللهُ ويَكْفِي مَنِ اتَّبَعَكَ؛ وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قَوْلَانِ: أَحدهما حَسْبُكَ اللهُ ومَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المؤْمنين كفايةٌ إِذَا نَصَرَهم اللَّهُ، وَالثَّانِي حَسبُكَ اللهُ وحَسْبُ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المؤْمنين، أَي يَكفِيكُم اللهُ جَميعًا.

وَقَالَ أَبو إِسحاق فِي قَوْلِهِ، عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيبًا}: يَكُونُ بِمَعْنَى مُحاسِبًا، وَيَكُونُ بِمَعْنَى كافِيًا؛ وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا}؛ أَي يُعْطِي كلَّ شيءٍ مِنَ العِلم والحِفْظ والجَزاءِ مِقْدارَ مَا يُحْسِبُه أَي يَكْفِيهِ.

تَقُولُ: حَسْبُكَ هَذَا أَي اكْتَفِ بِهَذَا.

وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «يُحْسِبُك أَن تَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيام»أَي يَكْفِيكَ؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: وَلَوْ رُوِيَ بحَسْبِكَ أَن تَصُومَ؛ أي كِفايَتُك أَو كافِيكَ، كَقَوْلِهِمْ بِحَسْبِكَ قولُ السُّوءِ، والباءُ زَائِدَةٌ، لكانَ وَجْهًا.

والإِحْسابُ: الإِكْفاءُ.

قَالَ الرَّاعي:

خَراخِرُ، تُحْسِبُ الصَّقَعِيَّ، حَتَّى ***يَظَلُّ يَقُرُّه الرَّاعِي سِجالا

وَإِبِلٌ مُحْسبةٌ: لهَا لَحْم وشَحْم كَثِيرٌ؛ وأَنشد:

ومُحْسِبةٍ قَدْ أَخْطَأَ الحَقُّ غيرَها، ***تَنَفَّسَ عَنْهَا حَيْنُها، فَهِيَ كالشَّوِي

يَقُولُ: حَسْبُها مِنْ هَذَا.

وَقَوْلُهُ: قَدْ أَخطأَ الحَقُّ غَيْرَها، يَقُولُ: قَدْ أَخْطَأَ الحَقُّ غَيْرَهَا مِنْ نُظَرائها، وَمَعْنَاهُ أَنه لَا يُوجِبُ للضُّيُوفِ، وَلَا يَقُوم بحُقُوقِهم إِلَّا نَحْنُ.

وَقَوْلُهُ: تَنَفَّسَ عَنْهَا حَيْنُها فَهِيَ كالشَّوِي، كأَنه نَقْضٌ للأَوَّلِ، وَلَيْسَ بِنَقْضٍ، إِنَّمَا يُرِيدُ: تَنَفَّس عَنْهَا حَيْنُها قبلَ الضَّيْفِ، ثُمَّ نَحَرْناها بعدُ للضَّيْفِ، والشَّوِيُّ هُنا: المَشْوِيُّ.

قَالَ: وَعِنْدِي أَن الْكَافَ زَائِدَةٌ، وَإِنَّمَا أَراد فَهِيَ شَوِيٌّ، أَي فَريقٌ مَشْويٌّ أَو مُنْشَوٍ، وأَراد: وطَبيخٌ، فاجْتَزَأَ بالشَّوِيّ مِنَ الطَّبِيخِ.

قَالَ أَحمد بْنُ يَحْيَى: سأَلت ابْنَ الأَعرابي عَنْ قَوْلِ عُروةَ بْنِ الوَرْد: ومحسبةٍ مَا أَخطأَ الحقُّ غيرَها الْبَيْتَ، فَقَالَ: المُحْسِبةُ بِمَعْنَيَيْنِ: مِنَ الحَسَب وَهُوَ الشَّرَفُ، وَمِنَ الإِحْسابِ وَهُوَ الكِفايةُ، أَي إِنَّهَا تُحْسِبُ بلَبَنِها أَهْلَها والضيفَ، وما صِلَةٌ، الْمَعْنَى: أَنها نُحِرتْ هِيَ وسَلِمَ غَيْرُها.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لأُحْسِبَنَّكُم مِن الأَسْوَدَيْن: يَعْنِي التَّمْر والماءَ أَي لأُوسِعَنَّ عَلَيْكُمْ.

وأَحْسَب الرجلَ وحَسَّبَه: أَطْعَمَه وَسَقَاهُ حَتَّى يَشْبَعَ ويَرْوَى مِنْ هَذَا، وَقِيلَ: أَعطاه مَا يُرْضِيه.

والحِسابُ: الْكَثِيرُ.

وَفِي التَّنْزِيلِ: {عَطاءً حِسابًا}؛ أَي كَثِيرًا كافِيًا؛ وكلُّ مَنْ أُرْضِيَ فَقَدْ أُحْسِبَ.

وشيءٌ حِسابٌ أَي كافٍ.

وَيُقَالُ: أَتاني حِسابٌ مِنَ النَّاسِ أَي جَماعةٌ كَثِيرَةٌ، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلٍ.

وَقَالَ ساعدةُ بْنُ جُؤَيَّةَ الهُذلي:

فَلمْ يَنْتَبِهْ، حَتَّى أَحاطَ بِظَهْرِه ***حِسابٌ وسِرْبٌ، كالجَرادِ، يَسُومُ

والحِسابُ والحِسابةُ: عَدُّك الشيءَ.

وحَسَبَ الشيءَ يَحْسُبُه، بِالضَّمِّ، حَسْبًا وحِسابًا وحِسابةً: عَدَّه.

أَنشد ابْنُ الأَعرابي لمَنْظور بْنِ مَرْثَدٍ الأَسدي:

يَا جُمْلُ أُسْقِيتِ بِلا حِسابَهْ، ***سُقْيَا مَلِيكٍ حَسَنِ الرِّبابَهْ،

قَتَلْتني بالدَّلِّ والخِلابَهْ

أَي أُسْقِيتِ بِلَا حِسابٍ وَلَا هِنْدازٍ، وَيَجُوزُ فِي حَسَنِ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ وَالْجَرُّ، وأَورد الْجَوْهَرِيُّ هَذَا الرَّجَزَ: يَا جُمل أَسقاكِ، وَصَوَابُ إنشادِه: يَا جُمْلُ أُسْقِيتِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي رَجَزِهِ.

والرِّبابةُ، بِالْكَسْرِ: القِيامُ عَلَى الشيءِ بإِصْلاحِه وتَربِيَتِه؛ وَمِنْهُ مَا يُقَالُ: رَبَّ فُلَانٌ النِّعْمةَ يَرُبُّها رَبًّا ورِبابةً.

وحَسَبَه أَيضًا حِسْبةً: مِثْلُ القِعْدةِ والرِّكْبةِ.

قَالَ النَّابِغَةُ:

فَكَمَّلَتْ مِائةً فِيها حَمامَتُها، ***وأَسْرَعَتْ حِسْبَةً فِي ذَلِكَ العَدَدِ

وحُسْبانًا: عَدَّه.

وحُسْبانُكَ عَلَى اللَّهِ أَي حِسابُكَ.

قَالَ:

عَلَى اللَّهِ حُسْباني، إِذَا النَّفْسُ أَشْرَفَتْ ***عَلَى طَمَعٍ، أَو خافَ شَيْئًا ضَمِيرُها

وَفِي التَّهْذِيبِ: حَسِبْتُ الشيءَ أَحْسَبُه حِسابًا، وحَسَبْتُ الشيءَ أَحْسُبُه حِسْبانًا وحُسْبانًا.

وَقَوْلُهُ تعالى: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ}؛ أَي حِسابُه واقِعٌ لَا مَحالَة، وكلُّ واقِعٍ فَهُوَ سَرِيعٌ، وسُرْعةُ حِسابِ اللَّهِ، أَنه لَا يَشْغَلُه حِسابُ وَاحِدٌ عَن مُحاسَبةٍ الآخَر، لأَنه سُبْحَانَهُ لَا يَشْغَلُه سَمْع عَنْ سَمْعٍ، وَلَا شَأْنٌ عَنْ شأْنٍ.

وَقَوْلُهُ، جَلَّ وَعَزَّ: كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا؛ أَي كفَى بِك لنَفْسِكَ مُحاسبًا.

والحُسْبانُ: الحِسابُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَفْضَلُ العَمَلِ مَنْحُ الرِّغابِ، لَا يَعْلَمُ حُسْبانَ أَجْرِهِ إِلَّا اللهُ».

الحُسْبانُ، بِالضَّمِّ: الحِسابُ.

وَفِي التَّنْزِيلِ: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ}، مَعْنَاهُ بِحِسابٍ ومَنازِلَ لَا يَعْدُوانِها.

وَقَالَ الزَجاج: بحُسْبانٍ يَدُلُّ عَلَى عَدَد الشُّهُورِ وَالسِّنِينَ وَجَمِيعِ الأَوقات.

وَقَالَ الأَخفش فِي قَوْلِهِ تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبانًا}: مَعْنَاهُ بِحِسابٍ، فحذَف الباءَ.

وَقَالَ أَبو الْعَبَّاسِ: حُسْبانًا مَصْدَرٌ، كَمَا تَقُولُ: حَسَبْتُه أَحْسُبُه حُسْبانًا وحِسْبانًا؛ وجعله الأَحفش جَمْعَ حِسابٍ؛ وَقَالَ أَبو الْهَيْثَمِ: الحُسْبانُ جَمْعُ حِسابٍ وَكَذَلِكَ أَحْسِبةٌ، مِثل شِهابٍ وأَشْهِبةٍ وشُهْبانٍ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ}؛ أَي بِغَيْرِ تَقْتِير وتَضْيِيقٍ، كَقَوْلِكَ: فُلَانٌ يُنْفِقُ بِغَيْرِ حِساب أَي يُوَسِّعُ النَّفَقة، وَلَا يَحْسُبُها؛ وَقَدِ اختُلف فِي تَفْسِيرِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ عَلَى أَحد بالنُّقصان؛ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِغَيْرِ مُحاسَبةٍ أَي لَا يخافُ أَن يُحاسِبه أَحد عَلَيْهِ؛ وَقِيلَ: بِغَيْرِ أَنْ حَسِبَ المُعْطَى أَنه يُعْطِيه، أَعطاهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبْ.

قَالَ الأَزهري: وأَما قَوْلُهُ، عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}؛ فَجَائِزٌ أَن يَكُونَ مَعْنَاهُ مِنْ حَيْثُ لَا يُقَدِّره وَلَا يَظُنُّه كَائِنًا، مِن حَسِبْتُ أَحْسِبُ، أَي ظَنَنْتُ، وَجَائِزٌ أَن يَكُونَ مأْخوذًا مِن حَسَبْتُ أَحْسُبُ، أَراد مِن حَيْثُ لَمْ يَحْسُبْه لنفْسِه رِزقًا، وَلَا عَدَّه فِي حِسابه.

قَالَ الأَزهري: وَإِنَّمَا سُمِّي الحِسابُ فِي المُعامَلاتِ حِسابًا، لأَنهُ يُعلم بِهِ مَا فِيهِ كِفايةٌ لَيْسَ فِيهِ زيادةٌ عَلَى المِقْدار وَلَا نُقْصان.

وَقَوْلُهُ أَنشده ابْنُ الأَعرابي:

إِذَا نَدِيَتْ أَقْرابُهُ لَا يُحاسِبُ

يَقول: لَا يُقَتِّر عَلَيْكَ الجَرْيَ، وَلَكِنَّهُ يأْتي بِجَرْيٍ كَثِيرٍ.

والمَعْدُود مَحْسُوبٌ وحَسَبٌ أَيضًا، وَهُوَ فَعَلٌ بِمَعْنَى مَفْعولٍ، مِثْلُ نَفَضٍ بِمَعْنَى مَنْفُوضٍ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لِيَكُنْ عَمَلُكَ بحَسَبِ ذَلِكَ، أَي عَلَى قَدْرِه وعَدَدِه.

وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: مَا أَدري مَا حَسَبُ حَدِيثك أَي مَا قَدْرُه وَرُبَّمَا سُكِّنَ فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ.

وحاسَبَه: مِنَ المُحاسَبةِ.

وَرَجُلٌ حاسِبٌ مِنْ قَوْمٍ حُسَّبٍ وحُسَّابٍ.

والحِسْبةُ: مَصْدَرُ احْتِسابِكَ الأَجر عَلَى اللَّهِ، تَقُولُ: فَعَلْته حِسْبةً، واحْتَسَبَ فِيهِ احْتِسابًا؛ والاحْتِسابُ: طَلَبُ الأَجْر، وَالِاسْمُ: الحِسْبةُ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ الأَجْرُ.

واحْتَسَبَ فُلَانٌ ابْنًا لَهُ أَو ابْنةً لَهُ إِذَا ماتَ وَهُوَ كَبِيرٌ، وافْتَرَطَ فَرَطًا إِذَا مَاتَ لَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ، لَمْ يَبْلُغِ الحُلُمَ؛ وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ ماتَ لَهُ وَلَدٌ فاحْتَسَبَه، » أَي احْتسب الأَجرَ بِصَبْرِهِ عَلَى مُصيبتِه بِهِ، مَعْنَاهُ: اعْتَدَّ مُصِيبَتَه بِهِ فِي جُملةِ بَلايا اللَّهِ، الَّتِي يُثابُ عَلَى الصَّبْر عَلَيْهَا، واحْتَسَبَ بِكَذَا أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ، وَالْجَمْعُ الحِسَبُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «مَن صامَ رمضانَ إِيمَانًا واحْتِسابًا» أَي طلَبًا لوجهِ اللهِ تَعَالَى وثَوابِه.

والاحتِسابُ مِنَ الحَسْبِ: كالاعْتدادِ مِنَ العَدِّ؛ وَإِنَّمَا قِيلَ لِمَنْ يَنْوِي بعَمَلِه وجْهَ اللهِ: احْتَسَبَه، لأَن لَهُ حِينَئِذٍ أَن يَعْتدَّ عَمَله، فجُعِل فِي حَالِ مُباشرة الْفِعْلِ، كأَنه مُعْتَدٌّ بِهِ.

والحِسْبةُ: اسْمٌ مِنَ الاحْتِسابِ كالعِدّةِ مِنَ الاعْتِداد.

والاحتِسابُ فِي الأَعمال الصالحاتِ وَعِنْدَ المكْرُوهاتِ: هُوَ البِدارُ إِلَى طَلَبِ الأَجْرِ وتَحْصِيله بِالتَّسْلِيمِ وَالصَّبْرِ، أَو بِاسْتِعْمَالِ أَنواعِ البِرِّ والقِيامِ بِهَا عَلَى الوَجْهِ المَرْسُوم فِيهَا، طلَبًا لِلثَّوَابِ المَرْجُوِّ مِنْهَا.

وَفِي حَدِيثِ عُمَر: «أَيُّها الناسُ»، احْتَسِبُوا أَعْمالَكم، فإنَّ مَن احْتَسَبَ عَمَلَه، كُتِبَ لَهُ أَجْرُ عَمَلِه وأَجْرُ حِسْبَتِه.

وحَسِبَ الشيءَ كائِنًا يَحْسِبُه ويَحْسَبُه، والكَسر أَجْودُ اللغتَين، حِسْبانًا ومَحْسَبَةً ومَحْسِبةً: ظَنَّه؛ ومَحْسِبة: مَصْدَرٌ نَادِرٌ، وَإِنَّمَا هُوَ نَادِرٌ عِنْدِي عَلَى مَنْ قَالَ يَحْسَبُ فَفَتَحَ، وأَما على من قال يَحْسِبُ فكَسَر فَلَيْسَ بِنَادِرٍ.

وَفِي الصِّحَاحِ: وَيُقَالُ: أَحْسِبه بِالْكَسْرِ، وَهُوَ شَاذٌّ لأَنّ كُلَّ فِعْلٍ كَانَ ماضِيه مَكْسُورًا، فَإِنَّ مُسْتَقْبَلَهُ يأْتي مَفْتُوحَ الْعَيْنِ، نَحْوُ عَلِمَ يْعلَم، إِلَّا أَربعةَ أَحرف جاءَت نَوَادِرَ: حَسِبَ يَحْسِبُ، ويَبِسَ يَيْبِسُ، ويَئِسَ يَيْئِسُ، ونَعِمَ يَنْعِم، فَإِنَّهَا جاءَت مِنَ السَّالِمِ، بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ.

وَمِنَ الْمُعْتَلِّ مَا جاءَ مَاضِيهِ ومُسْتَقْبَلُه جَمِيعًا بِالْكَسْرِ: وَمِقَ يَمِقُ، ووَفِقَ يَفِقُ، ووَثِقَ يَثِقُ، ووَرِعَ يَرِعُ، ووَرِمَ يَرِمُ، ووَرِثَ يَرِثُ، ووَرِيَ الزَّنْدُ يَرِي، وَوِليَ يَلي.

وقُرِئَ قَوْلُهُ تعالى: {لَا تَحْسَبَنَّ} {وَلَا تحْسِبَنَّ}؛ وَقَوْلُهُ: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ}؛ الخطابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ الأُمة.

وَرَوَى"""" الأَزهريُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأَ: يَحْسِبُ أَنَّ مالَه أَخْلَدَه.

مَعْنَى أَخْلَدَه أَي يُخْلِدُه، وَمِثْلُهُ: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ؛ أَي يُنادِي؛ وَقَالَ الحُطَيْئَةُ:

شَهِدَ الحُطَيْئةُ، حِينَ يَلْقَى، رَبَّه ***أَنَّ الوَلِيدَ أَحَقُّ بالعُذْرِ

يُرِيدُ: يَشْهَدُ حِينَ يَلْقَى رَبَّه.

وَقَوْلُهُمْ: حَسِيبُكَ اللَّهُ أَي انْتَقَمَ اللهُ مِنْكَ.

والحُسْبانُ، بِالضَّمِّ: العَذاب والبَلاءُ.

وَفِي حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ: «كَانَ»، إِذَا هَبَّتِ الرِّيحُ، يَقُولُ: لَا تَجْعَلْها حُسْبانًا أَي عَذابًا.

وَقَوْلُهُ تعالى: {وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْبانًا مِنَ السَّماءِ}؛ يَعْنِي نَارًا.

والحُسْبانُ أَيضًا: الجرادُ والعَجاجُ.

قَالَ أَبو زِيَادٍ: الحُسْبانُ شَرٌّ وبَلاءٌ، والحُسبانُ: سِهامٌ صِغارٌ يُرْمَى بِهَا عَنِ القِسِيِّ الفارِسِيَّةِ، وَاحِدَتُهَا حُسْبانةٌ.

قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: هُوَ مولَّد.

وَقَالَ ابْنُ شُمَيْلٍ: الحُسْبانُ سِهامٌ يَرْمِي بِهَا الرَّجُلُ فِي جوفِ قَصَبةٍ، يَنْزِعُ فِي القَوْسِ ثُمَّ يَرْمِي بِعِشْرِينَ مِنْهَا فَلَا تَمُرُّ بشيءٍ إِلَّا عَقَرَتْه، مِنْ صاحِب سِلاحٍ وَغَيْرِهِ، فَإِذَا نَزع فِي القَصَبةِ خَرَجَتِ الحُسْبانُ، كأَنها غَبْيةُ مَطَرٍ، فَتَفَرَّقَتْ فِي النَّاسِ؛ وَاحِدَتُهَا حُسْبانةٌ.

وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الحُسْبانُ: المَرامي، وَاحِدَتُهَا حُسْبانةٌ، والمرامِي: مِثْلُ المَسالِّ دَقيقةٌ، فِيهَا شيءٌ مِنْ طُول لَا حُروف لَهَا.

قَالَ: والقِدْحُ بالحَدِيدة"""" مِرْماةٌ، وبالمَرامِي فُسِّرَ قَوْلُهُ تعالى: {وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْبانًا مِنَ السَّماءِ}.

والحُسْبانةُ: الصّاعِقةُ.

والحُسْبانةُ: السَّحابةُ.

وقال الزجاج: يُرْسِلَ عَلَيْها حُسْبانًا، قَالَ: الحُسْبانُ فِي اللُّغَةِ الحِسابُ.

قَالَ تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ}؛ أَي بِحِسابٍ.

قَالَ: فَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْهَا عَذابَ حُسْبانٍ، وَذَلِكَ الحُسْبانُ حِسابُ مَا كَسَبَتْ يَداك.

قَالَ الأَزهري: وَالَّذِي قَالَهُ الزجاجُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بَعِيدٌ، والقولُ مَا تَقَدَّمَ؛ وَالْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعلم: أَنَّ اللهَ يُرْسِلُ، عَلَى جَنَّةِ الْكَافِرِ، مَرامِيَ مِنْ عَذابِ النارِ، إِما بَرَدًا وَإِمَّا حِجارةً، أَو غَيْرَهُمَا مِمَّا شاءَ، فيُهْلِكُها ويُبْطِلُ غَلَّتها وأَصْلَها.

والحُسْبانة: الوِسادةُ الصَّغيرة، تَقُولُ مِنْهُ: حَسَّبْتُه إِذَا وَسَّدْتَه.

قَالَ نَهِيك الفَزارِيُّ، يُخَاطِبُ عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ:

لتَقَيتَ، بالوَجْعاءِ، طَعْنةَ مُرْهَفٍ ***مُرَّانَ، أَو لَثَويْتَ غَيْرَ مُحَسَّبِ

الوَجْعاءُ: الاسْتُ.

يَقُولُ: لَوْ طَعَنْتُكَ لوَلَّيْتني دُبُرَكَ، واتَّقَيْتَ طَعْنَتِي بوَجعائِكَ، ولثَوَيْتَ هالِكًا، غَيْرَ مُكَرَّمٍ لَا مُوَسَّدٍ وَلَا مُكَفَّنٍ؛ أَو مَعْنَاهُ: أَنه لَمْ يَرْفَعْكَ حَسَبُكَ فيُنْجِيَكَ مِنَ الْمَوْتِ، وَلَمْ يُعَظَّم حَسَبُكَ.

والمِحْسَبة: الوِسادةُ مِنَ الأَدَمِ.

وحَسَّبَه: أَجْلسه عَلَى الحُسْبانةِ أَو المِحْسَبة.

ابْنُ الأَعرابي: يُقَالُ لبِساطِ البَيْتِ: الحِلْسُ، ولِمَخادِّه: المَنابِذُ، ولمَساوِرِه: الحُسْباناتُ، ولحُصْرِه: الفُحولُ.

وَفِي حَدِيثِ طَلْحةَ: «هَذَا مَا اشْتَرَى طلحةُ مِن فُلانٍ فَتاه بخَمْسِمائةِ دِرْهم بالحسَبِ والطِّيبِ»أَي بالكَرامةِ مِنَ المُشْتَرِي وَالْبَائِعِ، والرَّغْبةِ وطِيبِ النفْسِ مِنْهُمَا، وَهُوَ مِنْ حَسَّبْتُه إِذَا أَكْرَمْتَه؛ وَقِيلَ: مِنَ الحُسبانةِ، وَهِيَ الوِسادة الصغيرةُ، وَفِي حَدِيثِ سِماكٍ، قَالَ شُعْبةُ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَا حَسَّبُوا ضَيْفَهم شَيْئًا

أَي مَا أَكْرَمُوه.

والأَحْسَبُ: الَّذِي ابْيَضَّتْ جِلْدَته مِن داءٍ، فَفَسَدَتْ شَعَرَته، فَصَارَ أَحمرَ وأَبيضَ؛ يَكُونُ ذَلِكَ فِي النَّاسِ والإِبل.

قَالَ الأَزهري عَنِ اللَّيْثِ: وَهُوَ الأَبْرَصُ.

وَفِي الصِّحَاحِ: الأَحْسَبُ مِنَ النَّاسِ: الَّذِي فِي شَعَرِ رأْسه شُقْرةٌ.

قَالَ إمرؤُ الْقَيْسِ:

أَيا هِندُ لَا تنْكِحي بُوهةً، ***عَلَيْه عَقِيقَتُه، أَحْسَبا

يَصِفُه باللُّؤْم والشُّحِّ.

يَقُولُ: كأَنه لَمْ تُحْلَقْ عَقِيقَتُه فِي صِغَره حَتَّى شاخَ.

والبُوهةُ: البُومة العَظِيمة، تُضْرب مَثَلًا لِلرَّجُلِ الَّذِي لَا خيرَ فِيهِ.

وعَقِيقَتُه: شَعَرُهُ الَّذِي يُولد بِهِ.

يَقُولُ: لَا تَتَزَوَّجي مَن هَذِهِ صِفَتُه؛ وَقِيلَ هُوَ مِنَ الإِبل الَّذِي فِيهِ سَوادٌ وحُمْرة أَو بَياض، وَالِاسْمُ الحُسْبةُ، تَقُولُ مِنْهُ: أَحْسَبَ البَعِيرُ إحْسابًا.

والأَحْسَبُ: الأَبرص.

ابْنُ الأَعرابي: الحُسْبَةُ سَوادٌ يَضْرِبُ إِلَى الحُمْرةِ؛ والكُهْبةُ: صُفرة تَضرِبُ إِلَى حُمْرَةٍ؛ والقُهْبةُ: سَواد يَضْرِبُ إِلَى الخُضْرة؛ والشهْبةُ: سَوَادٌ وَبَيَاضٌ؛ والحُلْبةُ: سَوَادٌ صِرْف؛ والشُّرْبةُ: بَياضٌ مُشْرَبٌ بحُمْرةٍ؛ واللُّهْبة: بَيَاضٌ ناصعٌ نَقِيٌّ؛ والنُّوبة: لَونُ الخِلاسِيِّ، وَهُوَ الَّذِي أَخَذ مِنْ سَواد شَيْئًا، وَمِنْ بَيَاضٍ شَيْئًا كأَنه وُلِدَمِنْ عَرَبيّ وحَبَشِيَّة.

وَقَالَ أَبو زِيَادٍ الكلابيُّ: الأَحْسَبُ مِنَ الإِبل: الَّذِي فِيهِ سَواد وحُمرة وبَياضٌ، والأَكْلَفُ نَحْوُهُ.

وَقَالَ شَمِرٌ: هُوَ الَّذِي لَا لَونَ لَهُ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ أَحْسَبُ كَذَا، وأَحْسَبُ كَذَا.

والحَسْبُ والتَّحْسِيبُ: دَفْنُ المَيِّتِ؛ وَقِيلَ: تَكْفِينُه؛ وَقِيلَ: هُوَ دَفْنُ الميِّتِ فِي الْحِجَارَةِ؛ وأَنشد:

غَداةَ ثَوَى فِي الرَّمْلِ، غيرَ مُحَسَّبِ أَي غَيْرَ مَدْفُون، وَقِيلَ: غَيْرَ مُكَفَّن، وَلَا مُكَرَّم، وَقِيلَ: غَيْرُ مُوَسَّدٍ، والأَول أَحسن.

قَالَ الأَزهري: لَا أَعرف التَّحْسِيبَ بِمَعْنَى الدَّفْن فِي الْحِجَارَةِ، وَلَا بِمَعْنَى التَّكْفِين، وَالْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ غيرَ مُحَسَّب أَي غَيْرَ مُوَسَّد.

وَإِنَّهُ لَحَسنُ الحِسْبةِ فِي الأَمْر أَي حَسَنُ التدبير النَّظَرِ فِيهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنِ احْتِسابِ الأَجْر.

وَفُلَانٌ مُحْتَسِبُ البَلَدِ، وَلَا تَقُلْ مُحْسِبُه.

وتَحَسَّب الخبَرَ: اسْتَخْبَر عَنْهُ، حجازِيَّةٌ.

قَالَ أَبو سِدْرَةَ الأَسدي، وَيُقَالُ: إِنَّهُ هُجَيمِيٌّ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي الهُجَيْمِ:

تَحَسَّب هَوَّاسٌ، وأَيْقَنَ أَنَّني ***بِهَا مُفْتَدٍ مِنْ واحدٍ لَا أُغامِرُهْ

فقلتُ لَهُ: فَاهَا لِفِيكَ، فإنَّها ***قَلُوصُ امْرِئٍ، قاريكَ مَا أَنتَ حاذِرُه

يَقُولُ: تَشَمَّمَ هَوّاسٌ، وَهُوَ الأَسَدُ، نَاقَتِي، وظَنَّ أَني أَتركُها لَهُ، وَلَا أُقاتِله.

وَمَعْنَى لَا أُغامِرُه أَي لَا أُخالِطُه بِالسَّيْفِ، وَمَعْنَى مِنْ وَاحِدٍ أَي مِنْ حَذَر واحدٍ، والهاءُ فِي فَاهَا تَعُودُ عَلَى الداهِية أَي أَلزَم اللهُ فَاهَا لِفيكَ، وَقَوْلُهُ: قاريكَ مَا أَنتَ حاذِرُه، أَي لَا قِرى لَكَ عِنْدِي إِلَّا السَّيفُ.

واحْتَسَبْتُ فُلَانًا: اختبرْتُ مَا عِنْدَهُ، والنِّساءُ يَحْتَسِبْنَ مَا عِندَ الرِّجال لَهُنَّ أَي يَخْتَبِرْنَ.

أَبو عُبَيْدٍ: ذَهَبَ فُلَانٌ يَتَحَسَّبُ الأَخْبارَ أَي يَتَجَسَّسُها، بِالْجِيمِ، ويَتَحَسَّسُها، ويَطْلُبها تَحَسُّبًا.

وَفِي حَدِيثِ الأَذان: «أَنهم كَانُوا يَجْتَمِعُونَ فيَتَحَسَّبُون الصَلاةَ فَيَجِيئُون بِلَا داعٍ»أَي يَتَعَرَّفُون ويَتَطَلَّبُون وَقْتَها ويَتَوَقَّعُونه فيَأْتُون المَسْجد قَبْلَ أَن يَسْمَعُوا الأَذان؛ وَالْمَشْهُورُ فِي الرِّوَايَةِ: يَتَحَيَّنُون مِنَ الحِينِ الوَقْتِ؛ أي يَطْلُبون حِينَها.

وَفِي حَدِيثِ بعْضِ الغَزَواتِ: «أَنهم كَانُوا يَتَحَسَّبُونَ الأَخْبار»أَي يَتَطلَّبُونها.

واحْتَسَبَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ: أَنكر عَلَيْهِ قَبِيحَ عَمَلِهِ؛ وَقَدْ سَمَّتْ (أَي العربُ) حَسِيبًا وحُسَيْبًا.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


27-لسان العرب (غلب)

غلب: غَلَبه يَغْلِبُه غَلْبًا وغَلَبًا، وَهِيَ أَفْصَحُ، وغَلَبةً ومَغْلَبًا ومَغْلَبةً؛ قَالَ أَبو المُثَلَّمِ:

رَبَّاءُ مَرْقَبةٍ، مَنَّاعُ مَغْلَبةٍ، ***رَكَّابُ سَلْهبةٍ، قَطَّاعُ أَقْرانِ

وغُلُبَّى وغِلِبَّى، عَنْ كُرَاعٍ.

وغُلُبَّةً وغَلُبَّةً، الأَخيرةُ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ: قَهَره.

والغُلُبَّة، بِالضَّمِّ وَتَشْدِيدِ الباءِ: الغَلَبةُ؛ قَالَ المَرَّار:

أَخَذْتُ بنَجْدٍ مَا أَخَذْتُ غُلُبَّةً، ***وبالغَوْرِ لِي عِزٌّ أَشَمُّ طَويلُ

وَرَجُلٌ غُلُبَّة أَي يَغْلِبُ سَريعًا، عَنِ الأَصمعي.

وَقَالُوا: أَتَذْكر أَيامَ الغُلُبَّةِ، والغُلُبَّى، والغِلِبَّى، أَي أَيامَ الغَلَبة وأَيامَ مَنْ عَزَّ بَزَّ.

وَقَالُوا: لمنِ الغَلَبُ والغَلَبةُ؟ وَلَمْ يَقُولُوا: لِمَنِ الغَلْبُ؟ وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}؛ وَهُوَ مِنْ مَصَادِرِ الْمَضْمُومِ الْعَيْنِ، مِثْلُ الطَّلَب.

قَالَ الفراءُ: وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَن يكونَ غَلَبةً، فَحُذِفَتِ الهاءُ عِنْدَ الإِضافة، كَمَا قَالَ الفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عُتْبة اللِّهْبيّ:

إِنَّ الخَلِيطَ أَجَدُّوا البَيْنَ فانْجَرَدُوا، ***وأَخْلَفُوكَ عِدَا الأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا

أَراد عِدَةَ الأَمر، فَحَذَفَ الهاءَ عِنْدَ الإِضافة.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «مَا اجْتَمَعَ حلالٌ وحرامٌ إِلا غَلَبَ الحَرامُ الحَلالَ» أَي إِذا امْتَزَجَ الحرامُ بالحَلال، وتَعَذَّرَ تَمْييزهما كالماءِ وَالْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، صَارَ الْجَمِيعُ حَرَامًا.

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ رَحْمَتي تَغْلِبُ غَضَبي»؛ هُوَ إِشارة إِلى سَعَةِ الرَّحْمَةِ وَشُمُولِهَا الخَلْقَ، كَمَا يُقال: غَلَبَ عَلَى فُلَانٍ الكَرَمُ أَي هُوَ أَكثر خِصَالِهِ.

وإِلا فرحمةُ اللَّهِ وغَضَبُه صفتانِ رَاجِعَتَانِ إِلى إِرادته، لِلثَّوَابِ والعِقاب، وصفاتُه لَا تُوصَفُ بغَلَبَةِ إِحداهما الأُخرى، وإِنما عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِلْمُبَالَغَةِ.

وَرَجُلٌ غالِبٌ مِن قَوْمٍ غَلَبةٍ، وغلَّاب مِنْ قَوْمٍ غَلَّابينَ، وَلَا يُكَسَّر.

وَرَجُلٌ غُلُبَّة وغَلُبَّة: غالِبٌ، كَثِيرُ الغَلَبة، وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: شَدِيدُ الغَلَبة.

وَقَالَ: لَتَجِدَنَّه غُلُبَّة عَنْ قَلِيلٍ، وغَلُبَّة أَي غَلَّابًا.

والمُغَلَّبُ: المَغْلُوبُ مِرارًا.

والمُغَلَّبُ مِنَ الشعراءِ: الْمَحْكُومُ لَهُ بِالْغَلَبَةِ عَلَى قِرْنه، كأَنه غَلَب عَلَيْهِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَهلُ الجنةِ الضُّعَفاءُ المُغَلَّبُونَ».

المُغَلَّبُ: الَّذِي يُغْلَبُ كَثِيرًا.

وَشَاعِرٌ مُغَلَّبٌ أَي كَثِيرًا مَا يُغْلَبُ؛ والمُغَلَّبُ أَيضًا: الَّذِي يُحْكَمُ لَهُ بالغَلَبة، وَالْمُرَادُ الأَوَّل.

وغُلِّبَ الرجلُ، فَهُوَ غالِبٌ: غَلَبَ، وَهُوَ مِنَ الأَضداد.

وغُلِّبَ عَلَى صَاحِبِهِ: حُكِمَ لَهُ عَلَيْهِ بالغلَبة؛ قَالَ إمرؤُ الْقَيْسِ:

وإِنَّكَ لَمْ يَفْخَرْ عليكَ كفاخِرٍ ***ضَعِيفٍ؛ وَلَمْ يَغْلِبْكَ مِثْلُ مُغَلَّبِ

وَقَدْ غالبَه مُغالبة وغِلابًا؛ والغِلابُ: المُغالَبة؛ وأَنشد بَيْتَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ:

هَمَّتْ سَخِينَةُ أَن تُغالِبَ رَبَّها، ***ولَيُغْلَبَنَّ مُغالِبُ الغَلَّابِ

والمَغْلبة: الغَلَبة؛ قَالَتْ هِنْدُ بنتُ عُتْبة تَرْثي أَباها:

يَدْفَعُ يومَ المَغْلَبَتْ، ***يُطْعِمُ يومَ المَسْغَبَتْ

وتَغَلَّبَ عَلَى بَلَدِ كَذَا: اسْتَوْلَى عَلَيْهِ قَهْرًا، وغَلَّبْتُه أَنا عَلَيْهِ تَغْليبًا.

محمدُ بنُ سَلَّامٍ: إِذا قَالَتِ الْعَرَبُ: شَاعِرٌ مُغَلَّبٌ، فَهُوَ مَغْلُوبٌ؛ وإِذا قَالُوا: غُلِّبَ فلانٌ، فَهُوَ غَالِبٌ.

وَيُقَالُ: غُلِّبَتْ ليْلى الأَخْيَليَّة عَلَى نابِغة بَنِي جَعْدَة، لأَنها غَلَبَتْه، وَكَانَ الجَعْدِيُّ مُغَلَّبًا.

وَبَعِيرٌ غُلالِبٌ: يَغْلِبُ الإِبل بسَيْرِه، عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.

واسْتَغْلَبَ عَلَيْهِ الضحكُ: اشتدَّ، كاسْتَغْرَبَ.

والغَلَبُ: غِلَظُ العُنق وعِظَمُها؛ وَقِيلَ غِلَظُها مَعَ قِصَرٍ فِيهَا؛ وَقِيلَ: مَعَ مَيَلٍ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ داءٍ أَو غَيْرِهِ.

غَلِبَ غَلَبًا، وَهُوَ أَغْلَبُ: غليظُ الرَّقَبة.

وَحَكَى اللِّحْيَانِيُّ: مَا كَانَ أَغْلَبَ، وَلَقَدْ غَلِبَ غَلَبًا، يَذْهَبُ إِلى الِانْتِقَالِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ.

قَالَ: وَقَدْ يُوصَفُ بِذَلِكَ العُنُق نَفْسُهُ، فَيُقَالُ: عُنُق أَغْلَبُ، كَمَا يُقَالُ: عُنقٌ أَجْيَدُ وأَوْقَصُ.

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ ذِي يَزَنَ: «بِيضٌ مَرازبةٌ غُلْبٌ جَحاجحة»؛ هِيَ جَمْعُ أَغْلَب، وَهُوَ الْغَلِيظُ الرَّقَبة، وَهُمْ يَصِفُون أَبدًا السادةَ بغِلَظِ الرَّقبة وطُولِها؛ والأُنثى: غَلْباءُ؛ وَفِي قَصِيدِ كَعْبٍ:

غَلْباءُ وَجْناءُ عُلْكومٌ مُذَكَّرَةٌ.

وَقَدْ يُسْتَعْمَل ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ، كَقَوْلِهِمْ: حَديقةٌ غَلْباءُ أَي عظيمةٌ مُتكاثفة مُلْتفَّة.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {وَحَدائِقَ غُلْبًا}.

وَقَالَ الرَّاجِزُ:

أَعْطَيْت فِيهَا طائِعًا، أَوكارِها، ***حَديقةً غَلْباءَ فِي جِدارِها

الأَزهري: الأَغْلَبُ الغَلِيظُ القَصَرَةِ.

وأَسَدٌ أَغْلَبُ وغُلُبٌّ: غَلِيظُ الرَّقَبة.

وهَضْبةٌ غَلْباءُ: عَظِيمةٌ مُشْرِفة.

وعِزَّةٌ غَلْباءُ كَذَلِكَ، عَلَى الْمِثْلِ؛ وَقَالَ الشَّاعِرُ:

وقَبْلَكَ مَا اغْلَولَبَتْ تَغْلِبٌ، ***بغَلْباءَ تَغْلِبُ مُغْلَولِبينا

يَعْنِي بِعِزَّة غَلْباءَ.

وقَبيلة غَلْباءُ، عَنِ اللِّحْيَانِيِّ: عَزيزةٌ ممتنعةٌ؛ وَقَدْ غَلِبَتْ غَلَبًا.

واغْلَولَبَ النَّبْتُ: بَلَغَ كلَّ مَبْلَغٍ والتَفَّ، وخَصَّ اللحيانيُّ بِهِ العُشْبَ.

واغْلَولَبَ العُشْبُ، واغْلَولَبَتِ الأَرضُ إِذا التَفَّ عُشْبُها.

واغْلَولَبَ القومُ إِذا كَثُرُوا، مِنِ اغْلِيلابِ العُشْبِ.

وحَديقَةٌ مُغْلَولِبَة: ملْتفّة.

الأَخفش: فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَحَدائِقَ غُلْبًا}؛ قَالَ: شَجَرَةٌ غَلْباءُ إِذا كَانَتْ غَلِيظَةً؛ وَقَالَ إمرؤُ الْقَيْسِ:

وشَبَّهْتُهُمْ فِي الآلِ، لمَّا تَحَمَّلُوا، ***حَدائِقَ غُلْبًا، أَو سَفِينًا مُقَيَّرا

والأَغْلَبُ العِجْليُّ: أَحَدُ الرُّجَّاز.

وتَغْلِبُ: أَبو قَبِيلَةٍ، وَهُوَ تَغْلِبُ بنُ وَائِلِ بْنِ قَاسِطٍ بنِ هِنْبِ بنِ أَفْصَى بْنِ دُعْمِيِّ بْنِ جَديلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنُ ربيعةَ بْنِ نِزار بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنانَ.

وَقَوْلُهُمْ: تَغْلِبُ بنتُ وائِل، إِنما يَذْهَبُون بالتأْنيث إِلى الْقَبِيلَةِ، كَمَا قَالُوا تميمُ بنتُ مُرٍّ.

قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبة، وَكَانَ وَليَ صَدَقات بَنِي تَغْلِبَ:

إِذا مَا شَدَدْتُ الرأْسَ مِنِّي بِمِشْوَذٍ، ***فَغَيَّكِ عَنِّي، تَغْلِبَ ابنةَ وائِل

وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:

لَوْلَا فَوارِسُ تَغْلِبَ ابْنةِ وائِلٍ، ***ورَدَ العَدُوُّ عَلَيْكَ كلَّ مَكانِ

وَكَانَتْ تَغْلِبُ تُسَمَّى الغَلْباءَ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

وأَوْرَثَني بَنُو الغَلْباءِ مَجْدًا ***حَديثًا، بعدَ مَجْدِهِمُ القَديمِ

وَالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا: تَغْلَبيٌّ، بِفَتْحِ اللَّامِ، اسْتِيحاشًا لتَوالي الْكَسْرَتَيْنِ مَعَ ياءِ النَّسَبِ، وَرُبَّمَا قَالُوهُ بِالْكَسْرِ، لأَن فِيهِ حَرْفَيْنِ غَيْرَ مَكْسُورَيْنِ، وَفَارَقَ النِّسْبَةَ إِلى نَمِر.

وَبَنُو الغَلْباءِ: حَيٌّ؛ وأَنشد الْبَيْتَ أَيضًا:

وأَوْرَثَني بنُو الغَلْباءِ مَجْدًا

وغالِبٌ وغَلَّابٌ وغُلَيْبٌ: أَسماءٌ.

وغَلابِ، مِثْلُ قَطامِ: اسْمُ امرأَة؛ مِن الْعَرَبِ مَنْ يَبْنِيه عَلَى الكسرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُجْريه مُجْرى زَيْنَبَ.

وغالِبٌ: موضعُ نَخْلٍ دُونَ مِصْرَ، حَماها اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ:

يَجُوزُ بِيَ الأَصْرامَ أَصْرامَ غالِبٍ، ***أَقُولُ إِذا مَا قِيلَ أَيْنَ تُريدُ:

أُريدُ أَبا بكرٍ، ولَوْ حالَ، دُونَه، ***أَماعِزُ تَغْتالُ المَطِيَّ، وَبِيدُ

والمُغْلَنْبي: الَّذِي يَغْلِبُكَ ويَعْلُوكَ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


28-لسان العرب (نصح)

نصح: نَصَحَ الشيءُ: خَلَصَ.

والناصحُ: الْخَالِصُ مِنَ الْعَسَلِ وَغَيْرِهِ.

وَكُلُّ شيءٍ خَلَصَ، فَقَدْ نَصَحَ؛ قَالَ ساعدةُ بْنُ جُؤَيَّةَ الْهُذَلِيُّ يَصِفُ رَجُلًا مَزَجَ عَسَلًا صَافِيًا بماءٍ حَتَّى تَفَرَّقَ فِيهِ:

فأَزالَ مُفْرِطَها بأَبيضَ ناصِحٍ، ***مِنْ ماءِ أَلْهابٍ، بهنَّ التَّأْلَبُ

وَقَالَ أَبو عَمْرٍو: النَّاصِحُ النَّاصِعُ فِي بَيْتِ ساعدة، قال: وَقَالَ النَّضْرُ أَراد أَنه فَرَّقَ بِهِ خَالِصَهَا وَرَدِيئَهَا بأَبيض مُفْرِطٍ أَي بِمَاءِ غَدِيرٍ مَمْلُوءٍ.

والنُّصْح: نَقِيضُ الغِشّ مُشْتَقٌّ مِنْهُ نَصَحه وَلَهُ نُصْحًا ونَصِيحة ونَصاحة ونِصاحة ونَصاحِيةً ونَصْحًا، وَهُوَ بِاللَّامِ أَفصح؛ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ}.

وَيُقَالُ: نَصَحْتُ لَهُ نَصيحتي نُصوحًا أَي أَخْلَصْتُ وصَدَقْتُ، وَالِاسْمُ النَّصِيحَةُ.

والنصيحُ: النَّاصِحُ، وَقَوْمٌ نُصَحاء؛ وَقَالَ النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ:

نَصَحْتُ بَنِي عَوْفٍ فَلَمْ يَتَقَبَّلوا ***رَسُولي، وَلَمْ تَنْجَحْ لَدَيْهِمْ وَسائِلي

وَيُقَالُ: انْتَصَحْتُ فُلَانًا وَهُوَ ضِدُّ اغْتَشَشْتُه؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ:

أَلا رُبَّ مَنْ تَغْتَشُّه لَكَ ناصِحٌ، ***ومُنْتَصِحٍ بادٍ عَلَيْكَ غَوائِلُهْ

تَغْتَشُّه: تَعْتَدُّه غَاشًّا لَكَ.

وتَنْتَصِحُه: تَعْتَدُّه نَاصِحًا لَكَ.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وانْتَصَحَ فُلَانٌ أَي قَبِلَ النَّصِيحَةَ.

يُقَالُ: انْتَصِحْني إِنني لَكَ نَاصِحٌ؛ وأَنشده ابْنُ بَرِّيٍّ:

تقولُ انْتَصِحْني إِنني لَكَ ناصِحٌ، ***وَمَا أَنا، إِن خَبَّرْتُها، بأَمِينِ

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: هَذَا وَهَمٌ مِنْهُ لأَن انْتَصَحَ بِمَعْنَى قَبِلَ النَّصِيحَةَ لَا يتعدَّى لأَنه مُطَاوِعُ نَصَحْتُهُ فَانْتَصَحَ، كَمَا تَقُولُ رَدَدْتُهُ فارْتَدَّ، وسَدَدْتُه فاسْتَدَّ، ومَدَدْتُه فامْتَدَّ، فأَما انْتَصَحْتُهُ بِمَعْنَى اتَّخَذْتُهُ نَصِيحًا، فَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلى مَفْعُولٍ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ انتصحْني إِنني لَكَ نَاصِحٌ، يَعْنِي اتَّخِذْنِي نَاصِحًا لَكَ؛ ومنه قولهم: لا أُ ريد مِنْكَ نُصْحًا وَلَا انْتِصَاحًا أَي لَا أُريد مِنْكَ أَن تَنْصَحَنِي وَلَا أَن تَتَّخِذَنِي نَصِيحًا، فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ النُّصْح وَالِانْتِصَاحِ.

والنُّصْحُ: مَصْدَرُ نَصَحْتُه.

والانتصاحُ: مَصْدَرُ انْتَصَحْته أَي اتَّخَذْتُهُ نَصِيحًا، وَمَصْدَرُ انْتَصَحْتُ أَيضًا أَي قَبِلْتُ النَّصِيحَةَ، فَقَدْ صَارَ لِلِانْتِصَاحِ مَعْنَيَانِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِن الدِّينَ النصيحةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ ولأَئمة الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ»؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: النَّصِيحَةُ كَلِمَةٌ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جُمْلَةٍ هِيَ إِرادة الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ، فَلَيْسَ يُمْكِنُ أَن يُعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ تَجْمَعُ مَعْنَاهَا غَيْرُهَا.

وأَصل النُّصْحِ: الْخُلُوصُ.

وَمَعْنَى النصيحة لله: صِحَّةُ الِاعْتِقَادِ فِي وَحْدَانِيَّتِهِ وإِخلاص النِّيَّةِ فِي عِبَادَتِهِ.

وَالنَّصِيحَةُ لِكِتَابِ اللَّهِ: هُوَ التَّصْدِيقُ بِهِ وَالْعَمَلُ بِمَا فِيهِ.

وَنَصِيحَةُ رَسُولِهِ: التَّصْدِيقُ بِنُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ وَالِانْقِيَادُ لِمَا أَمر بِهِ وَنُهِيَ عَنْهُ.

وَنَصِيحَةُ الأَئمة: أَن يُطِيعَهُمْ فِي الْحَقِّ وَلَا يَرَى الْخُرُوجَ عَلَيْهِمْ إِذا جَارُوا.

وَنَصِيحَةُ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ: إِرشادهم إِلى الْمَصَالِحِ؛ وَفِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ نظرٌ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ نَصِيحَةُ الأَئمة أَن يُطِيعَهُمْ فِي الْحَقِّ وَلَا يَرَى الْخُرُوجَ عَلَيْهِمْ إِذا جَارُوا، فأَيّ فَائِدَةٍ فِي تَقْيِيدِ لَفْظِهِ بِقَوْلِهِ يُطِيعُهُمْ فِي الْحَقِّ مَعَ إِطلاق قَوْلِهِ وَلَا يَرَى الْخُرُوجَ عَلَيْهِمْ إِذا جَارُوا؟ وإِذا مَنَعَهُ الْخُرُوجُ إِذا جَارُوا لَزِمَ أَن يُطِيعَهُمْ فِي غَيْرِ الْحَقِّ.

وتَنَصَّح أَي تَشَبَّه بالنُّصَحاء.

واسْتَنْصَحه: عَدَّه نَصِيحًا.

وَرَجُلٌ ناصحُ الجَيْب: نَقِيُّ الصَّدْرِ نَاصِحُ الْقَلْبِ لَا غِشَّ فِيهِ، كَقَوْلِهِمْ طَاهِرُ الثَّوْبِ، وَكُلُّهُ عَلَى الْمَثَلِ؛ قَالَ النَّابِغَةُ:

أَبْلِغِ الحرثَ بنَ هِنْدٍ بأَني ***ناصِحُ الجَيْبِ، بازِلٌ للثوابِ

وقومٌ نُصَّح ونُصَّاحٌ.

والتَّنَصُّح: كَثْرَةُ النُّصْحِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِيٍّ: إِياكم وكثرةَ التَّنَصُّح فإِنه يُورِثُ التُّهَمَة.

وَالتَّوْبَةُ النَّصُوح: الْخَالِصَةُ، وَقِيلَ: هِيَ أَن لَا يَرْجِعَ الْعَبْدُ إِلى مَا تَابَ عَنْهُ؛ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {تَوْبَةً نَصُوحًا}؛ قَالَ الْفَرَّاءُ: قرأَ أَهل الْمَدِينَةِ نَصُوحًا، بِفَتْحِ النُّونِ، وَذَكَرَ عَنْ عَاصِمٍ نُصُوحًا، بِضَمِّ النُّونِ؛ وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كأَنّ الَّذِينَ قرأُوا نُصُوحًا أَرادوا الْمَصْدَرَ مِثْلَ القُعود، وَالَّذِينَ قرأُوا نَصُوحًا جَعَلُوهُ مِنْ صِفَةِ التَّوْبَةِ؛ وَالْمَعْنَى أَن يُحَدّث نَفْسَهُ إِذا تَابَ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ أَن لَا يَعُودُ إِليه أَبدًا، وَفِي حَدِيثِ أُبيّ: «سأَلت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ فَقَالَ: هِيَ الْخَالِصَةُ الَّتِي لَا يُعاوَدُ بَعْدَهَا الذنبُ»؛ وفَعُول مِنْ أَبنية الْمُبَالَغَةِ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ والأُنثى، فكأَنَّ الإِنسانَ بَالَغَ فِي نُصْحِ نَفْسِهِ بِهَا، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ النُّصْح وَالنَّصِيحَةِ.

وَسُئِلَ أَبو عَمْرٍو عَنْ نُصُوحًا فَقَالَ: لَا أَعرفه؛ قَالَ الْفَرَّاءُ وَقَالَ المفضَّل: بَاتَ عَزُوبًا وعُزُوبًا وعَرُوسًا وعُرُوسًا؛ وقال أَبو إِسحاق: توبةٌ نَصُوح بَالِغَةٌ فِي النُّصْح، وَمَنْ قرأَ نُصُوحًا فَمَعْنَاهُ يَنْصَحُون فِيهَا نُصوحًا.

وَقَالَ أَبو زَيْدٍ: نَصَحْتُه أَي صَدَقْتُه؛ وَمِنْهُ التَّوْبَةُ النَّصُوحُ، وَهِيَ الصَّادِقَةُ.

والنِّصاحُ: السِّلكُ يُخاط بِهِ.

وَقَالَ اللَّيْثُ: النِّصاحة السُّلوك الَّتِي يُخَاطُ بِهَا، وَتَصْغِيرُهَا نُصَيِّحة.

وَقَمِيصٌ مَنْصُوح أَي مَخِيط.

وَيُقَالُ للإِبرة: المِنْصَحة فإِذا غَلُظَتْ، فَهِيَ الشُّعَيْرَةُ.

والنُّصْحُ: مَصْدَرُ قَوْلِكَ نَصَحْتُ الثوبَ إِذا خِطْتَه.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَمِنْهُ التَّوْبَةُ النَّصُوحُ اعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ اغتابَ خَرَقَ وَمَنِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ رَفَأَ.

ونَصَحَ الثوبَ وَالْقَمِيصَ يَنْصَحُه نَصْحًا وتَنَصَّحه: خَاطَهُ.

وَرَجُلٌ نَاصِحٌ وناصِحِيٌّ ونَصَّاحٌ: خَائِطٌ.

والنِّصاحُ: الخَيْطُ وَبِهِ سُمِّيَ الرَّجُلُ نِصاحًا، وَالْجَمْعُ نُصُحٌ ونِصاحةٌ، الْكَسْرَةُ فِي الْجَمْعِ غَيْرَ الْكَسْرَةِ فِي الْوَاحِدِ، والأَلف فِيهِ غَيْرُ الأَلف، وَالْهَاءُ لتأْنيث الْجَمْعِ.

والمِنْصَحة: المِخْيَطة.

والمِنْصَحُ: المِخْيَطُ.

وفي ثَوْبِهِ مُتَنَصِّحٌ لَمْ يُصلحه أَي مَوْضِعُ إِصلاح وَخِيَاطَةٍ، كَمَا يُقَالُ: إِن فِيهِ مُتَرَقَّعًا؛ قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:

ويُرْعِدُ إِرعادَ الهجِينِ أَضاعه، ***غَداةَ الشَّمالِ، الشُّمْرُخُ المُتَنَصَّحُ

وَقَالَ أَبو عَمْرٍو: المُتَنَصَّحُ المَخيطُ، وأَنشد بَيْتَ ابْنِ مُقْبِلٍ.

وأَرض مَنْصوحة: متصلة بالغيت كَمَا يُنْصَحُ الثوبُ، حَكَاهُ ابْنُ الأَعرابي؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَهَذِهِ عِبَارَةٌ رَدِيئَةٌ إِنما المَنْصُوحة الأَرض الْمُتَّصِلَةُ النَّبَاتِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، كأَنَّ تِلْكَ الجُوَبَ الَّتِي بَيْنَ أَشخاص النَّبَاتِ خِيطَتْ حَتَّى اتَّصَلَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ.

قَالَ النَّضْرُ: نَصَحَ الغيثُ البلادَ نَصْحًا إِذا اتَّصَلَ نَبْتُهَا فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضاء وَلَا خَلَلٌ؛ وَقَالَ غَيْرُهُ: نَصَحَ الغيثُ البلادَ ونَضَرها بِمَعْنًى وَاحِدٍ؛ وَقَالَ أَبو زَيْدٍ: الأَرض الْمَنْصُوحَةُ هِيَ المَجُودةُ نُصِحتْ نَصْحًا.

ونَصَحَ الرجلُ الرِّيَّ نَصْحًا إِذا شَرِبَ حَتَّى يَرْوى؛ وَكَذَلِكَ نَصَحتِ الإِبلُ الشُّرْبَ تَنْصَحُ نُصُوحًا: صَدَقَتْه.

وأَنْصَحْتُها أَنا: أَرويتها؛ قَالَ:

هَذَا مَقامِي لكِ حَتَّى تَنْصَحِي ***رِيًّا، وتَجْتازي بَلاطَ الأَبْطَحِ

وَيُرْوَى: حَتَّى تَنْضَحِي، بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ، وَلَيْسَ بِالْعَالِي.

البَلاطُ: القاعُ.

وأَنْصَح الإِبلَ: أَرْواها.

والنِّصاحاتُ: الجلودُ؛ قَالَ الأَعشى يَصِفُ شَرْبًا:

فتَرى القومَ نَشاوى كلَّهُمْ، ***مِثْلَمَا مُدَّتْ نِصاحاتُ الرُّبَحْ

قَالَ الأَزهري: أَراد بالرُّبَحِ الرُّبَعَ فِي قَوْلِ بَعْضُهُمْ؛ وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: الرُّبَحُ مِنْ أَولاد الْغَنَمِ، وَقِيلَ: هُوَ الطَّائِرُ الَّذِي يُسَمَّى بِالْفَارِسِيَّةِ زَاغَ؛ وَقَالَ المُؤَرِّج: النِّصاحاتُ حِبَالٌ يُجْعَلُ لَهَا حَلَقٌ وَتُنْصَبُ للقُرود إِذا أَرادوا صَيْدَهَا: يَعْمدُ رَجُلٌ فيجعلُ عِدّة حِبَالٍ ثُمَّ يأْخذ قِرْدًا فَيَجْعَلُهُ فِي حَبْلٍ مِنْهَا، وَالْقُرُودُ تَنْظُرُ إِليه مِنْ فَوْقِ الْجَبَلِ، ثُمَّ يَتَنَحَّى الْحَابِلُ فَتَنْزِلُ الْقُرُودُ فَتَدْخُلُ فِي تِلْكَ الْحِبَالِ وَهُوَ يَنْظُرُ إِليها مِنْ حَيْثُ لَا تَرَاهُ، ثُمَّ يَنْزِلُ إِليها فيأْخذ مَا نَشِبَ فِي الْحِبَالِ؛ قَالَ وَهُوَ قَوْلُ الأَعشى:

مِثْلَمَا مُدَّتْ نِصَاحَاتُ الربح

قال: والرُّبَحُ القرود وأَصلها الرُّباح.

وشَيْبَةُ بْنُ نِصاحٍ: رَجُلٌ مِنَ الْقُرَّاءِ.

والنَّصْحاء ومَنْصَح: مَوْضِعَانِ؛ قَالَ سَاعِدَةُ بْنُ جُؤَيَّةَ:

لهنَّ بِمَا بَيْنَ الأَصاغِي ومَنْصَحٍ ***تَعاوٍ، كَمَا عَجَّ الحَجِيحُ المُبَلِّدُ

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com