نتائج البحث عن (لِمَنَعَةِ)

1-العربية المعاصرة (حكم)

حكَمَ/حكَمَ ب/حكَمَ على/حكَمَ ل يَحكُم، حُكْمًا، فهو حاكم، والمفعول مَحْكوم (للمتعدِّي).

* حكَم اللهُ: شرَّع {إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [قرآن].

* حكَم ابنَه: منعه وردّه عن السّوء، أخذ على يديه (حكم أخاه عن مجاراة رفاق السُّوء).

* حكَم البلادَ: تولّى إدارة شئونها (شهد التَّاريخُ الإسلاميّ حُكّامًا عادلين حكموا البلادَ بالشُّورى- تسلّم مقاليد الحكم- يحكم بيدٍ من حديد).

* حكَم الفرسَ: جعل للجامه حَكَمةً، وهي حديدةٌ تُجعل في فمه تمنَعُ جماحَه.

* حكَم بالأمر: قضى به وفصل (حكم بينهم بالعدل- {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [قرآن]) (*) حكَمَ ببراءته: برّأه.

* حكَم على فلان: قضى ضدّه، أو في غير صالحه (حكَم على المتهم بالإعدام/بالسجن) - حَكَمَ اعتباطًا: بلا تبصُّر.

* حكَم لفلان: قضى في صالحه (حكم للزوّجة بحضانة رضيعها).

حكُمَ يحكُم، حُكْمًا وحِكْمةً، فهو حكيم.

* حكُم الشَّخصُ: صار حكيمًا، وهو أن تصدر أعمالُه وأقوالُه عن رويّة ورأي سديد (وأبغضْ بغيضَك بُغْضًا رويدًا.. إذا أنت حاولت أن تَحْكُما: إذا حاولت أن تكون حكيمًا).

أحكمَ يُحكم، إحكامًا، فهو مُحكِم، والمفعول مُحكَم.

* أحكمَ الشَّيءَ أو الأمرَ:

1 - أتقنه وضبطه (أحكَم إقفالَ البابِ- أحكم لغةً أجنبيّة- {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَاتُهُ} [قرآن]).

2 - أقرَّه، أثبته.

* أحكم الفرسَ: جعل في فمه حديدة لمنعه من مخالفة راكبه.

* أحكمته التَّجاربُ ونحوُها: جعلته حكيمًا تصدر أعماله وأقواله عن رويّة ورأي سليم.

احتكمَ/احتكمَ إلى/احتكمَ في يحتكم، احتكامًا، فهو مُحتكِم، والمفعول مُحتكَم إليه.

* احتكم الشَّيءُ أو الأمرُ: توثّق وصار مُحْكمًا وراسخًا.

* احتكم النَّاسُ إلى فلان: رفعوا خصومتَهم إليه ليقضي بينهم.

* احتكم في الشَّيء أو الأمر: تصرّف فيه كما يشاء، حكم فيه وفصل برأي نفسه (احتكم في نصيب مشترك بينه وبين آخر).

استحكمَ/استحكمَ على يستحكم، استحكامًا، فهو مُستحكِم، والمفعول مُستحكَم عليه.

* استحكم الأمرُ أو الشَّيءُ: تمكّن، احتكم، توثَّق وصار محكمًا (استحكم العملُ/إغلاقُ الباب) (*) استحكم المرضُ: صار مزمنًا- غباء مُسْتَحكَم.

* استحكم الشَّخصُ: صار حكيمًا تصدر أعمالُه وأقوالُه عن رويّة ورأي سليم وتناهى عمّا يضرُّه.

* استحكم عليه الشَّيءُ: التبس (استحكم عليه الكلامُ).

تحاكمَ إلى يتحاكم، تحاكُمًا، فهو مُتحاكِم، والمفعول مُتحاكَم إليه.

* تحاكم الطَّرفان إلى فلان: التجآ إليه، رفعا الأمرَ إليه ليقضي بينهما (تحاكم النَّاسُ إلى العقل- {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [قرآن]).

تحكَّمَ ب/تحكَّمَ في يتحكَّم، تحكُّمًا، فهو متحكِّم، والمفعول متحكَّم به.

* تحكَّم بالأمر/تحكَّم في الأمر:

1 - استبدَّ وتعنَّت (الحزم في الإدارة لا يعني التَّحكّم في إصدار القرارات والتّعليمات- تحكّم في الآخرين وتسلَّط).

2 - سيطر عليه (تحكَّم في إطلاق سفينة الفضاء- تحكَّم به الحزنُ).

* تحكَّمَ في الأمر: احتكم، تصرَّف فيه كما يشاء (يتحكَّم في عاطفته/الأمور- تحكَّم في إدارة المشروع).

حاكمَ يحاكم، مُحاكمةً، فهو محاكِم، والمفعول محاكَم.

* حاكمَ القاضي المذنبَ: قاضاه، حكم عليه بعد استجوابه فيما نُسب إليه.

* حاكمه إلى فلان: خاصمه إليه ليكون قاضيًا بينهما (حاكمه إلى القاضي- حاكمه إلى الله وإلى القرآن: دعاه إلى حكمه- وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ) [حديث].

حكَّمَ يحكِّم، تحكيمًا، فهو محكِّم، والمفعول محكَّم.

* حكَّم الشَّخصَ: ولاّه وأسند إليه مسئوليّةً ما (حكَّم الملِكُ أحدَ الأمراء).

* حكَّم فلانًا في الأمر: فوَّض إليه الفصلَ، القضاءَ فيه {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [قرآن] (*) أعماله محكَّمة- حكَّمَ العَقْل: فوّض إليه أمر التَّقرير- هيئة التَّحكيم/لجنة التَّحكيم: هيئة أو لجنة تقوم بالحكم في القضاء، وبين الأطراف المتنازعة، وفي المباريات الرياضيّة ونحوها.

استحكام [مفرد]: جمعه استحكامات (لغير المصدر):

1 - مصدر استحكمَ/استحكمَ على.

2 - تحصين (أقام الجيشُ استحكامات حول جبهة القتال).

* استحكام المرضِ: إذا تجاوز السَّنة فلا يزول إلاّ نادرًا.

تحكُّم [مفرد]: مصدر تحكَّمَ ب/تحكَّمَ في.

* جهاز التَّحَكُّم: آليّة يتمُّ عن طريقها نقل أو تحويل التَّنظيمات الخاصّة بتحكُّمات التَّوجيه إلى الدَّفّة أو العجلة أو أي جزء آخر يُوجِّه مسار المركبة.

تَحَكُّمِيّ [مفرد]:

1 - اسم منسوب إلى تحكُّم.

2 - اعتباطيّ، ما اتُّخذ وفق الإرادة والهوى (قراره تحكّميّ لا يستند إلى عقل أو منطق).

3 - استبداديّ.

تحكُّميَّة [مفرد]: مصدر صناعيّ من تحكُّم: استبداد (المجتمعات التي مُنِيت بالتَّحكُّميّة يكثر فيها الجهل والفساد).

تحكيم [مفرد]: جمعه تحكيمات (لغير المصدر):

1 - مصدر حكَّمَ (*) تحكيم قضائيّ- هيئة التَّحكيم: هيئة أو لجنة تقوم بالحكم في القضاء، وبين الأطراف المتنازعة، وفي المباريات الرياضيّة ونحوها.

2 - استحكام، تحصين (أقام الجيش تحكيمات حول جبهة القتال).

* التَّحكيم:

1 - شعار الحرورية من الخوارج الذين قالوا: (لا حُكم إلا لله) في الخلاف بين عليّ ومعاوية رضي الله عنهما.

2 - [في الفقه] تفويض القاضي إلى شخصَيْن عَدْلين للفصل بين الزَّوجين في حالة الشِّقاق (يفضِّل القاضي اللُّجوءَ إلى التّحكيم قبل النَّظر في الطّلاق).

3 - [في القانون] تسوية نِزاعٍ بين فريقين على يد فرد يكون حكمًا أو هيئة محكَّمة.

4 - [في القانون] ما يقوم به أطراف متنازعة من عرض مسألة النِّزاع؛ ليتمَّ الحكم فيها من فرد محايد أو مجموعة من الأفراد.

حاكم [مفرد]: جمعه حاكمون وحُكَّام:

1 - اسم فاعل من حكَمَ/حكَمَ ب/حكَمَ على/حكَمَ ل (*) أحكم الحاكمين: الله عزوجل.

2 - قاضٍ، من نُصِّب للحكم بين النَّاس (فساد الحكّام من فساد المحكومين- شرُّ الحكام من خافه البريء- إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ) [حديث].

3 - مَنْ يحكم النَّاس ويتولّى شئون إدارتهم، صاحِبُ السُّلطة (حاكم النَّاحية) (*) أُسْرة حاكمة/طبقة حاكمة/هيئة حاكمة: ينحصر رجال الحكم في أبنائها- الحزب الحاكم: الحزب الذي يحصل على الأغلبيّة وباسمه تُمارس الحكومةُ سلطتَها.

* الحاكم: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: المانع لأنّه يمنع الخصمين عن التَّظالم.

* حاكمٌ بأمره: من لا يُرَدُّ له أمر.

* حاكم أعلى: [في السياسة] مَن يمارس سلطة مطلقة دائمة، وعادة يكون في دولة أو مملكة: كالملك والملكة، أو شخص من النُّبلاء يقوم مقام الحاكم، أو مجلس أو لجنة حاكمة محليَّة.

* حاكم ذاتيّ: ممتلك القوَّة أو الحقَّ للحكم الذَّاتيّ المستقلّ.

* حاكم عام: مَن يحكم منطقة كبيرة جدًّا بما لديه من حُكَّام آخرين تحت حكمه.

* حاكم مطلق: من يملك سلطةً قضائيّةً مطلقةً على الحكومة وعلى الدَّولة.

حاكميَّة [مفرد]: مصدر صناعيّ من حاكم: منصب الحاكم أو وظيفته أو لقبُه الوظيفيّ (قضيَّة الحاكميَّة).

حَكَم [مفرد]: جمعه حُكَّام:

1 - حاكِم، من يُختار للفصل بين المتنازعين، وبين الحقّ والباطل {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [قرآن] - {أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [قرآن].

2 - [في الرياضة والتربية البدنية] خبير في قوانين الألعاب يتولَّى إدارة المباراة وتطبيق القوانين الخاصَّة بها (عُقِدَت دورةٌ لحكَّام كرة القدم العرب).

3 - شخص ترجع إليه الأمور لأخذ القرار أو المشورة أو إيجاد حلٍّ لها أو لتقييمها.

4 - قاضٍ.

* الحَكَم: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: الحاكم المُحْكِم.

حُكْم [مفرد]: جمعه أحكام (لغير المصدر):

1 - مصدر حكُمَ وحكَمَ/حكَمَ ب/حكَمَ على/حكَمَ ل (*) أحكام انتقاليَّة: نصوص تشريعيّة ترعى الأحوال ريثما يمكن تنفيذ الأحكام الدائمة- الحُكم الدِّكتاتوريّ: الحكم المستبدّ- الحُكم الوِجاهيّ: الحكم الصَّادر بحضور أطراف الدَّعوى- بحكم شيء: بمقتضاه/استنادًا إليه/بسببه- بحكم منصبه/بحكم عمله/بحكم وظيفته: باعتبار وظيفته التي يشغلها ومهامّه التي يتولاها- تعديل حكم قضائيّ: تحويره بواسطة السُّلطة التّشريعيّة- حُكْمٌ جائر: مائل عن الحقّ ومخالف للعدل- حُكْمٌ جماعيّ: يتَّبع إرادة جماعة من النَّاس- حُكْمٌ حضوريّ: حكم يُصدره القاضي في حضور المتّهم- حُكْمٌ صائب: مطابق للعقل والإنصاف- حُكْمٌ غيابيّ: صادر في غياب المحكوم عليه- حُكْمٌ فرديّ: تابع لإرادة رجل واحد، عكسه حكم جماعيّ- حُكْمٌ محلِّيّ: خاصّ بإدارة محليّة- حُكْمٌ مطلق/حُكْمٌ استبداديٌّ: فرديّ، غير ديمقراطي، حكم استبداديّ- حُكْمٌ نيابيّ: يعتمد النِّظام البرلمانيّ- في حكم العدم: كأنّه غير موجود- في حكم المقرَّر: أوشك أن يقرّر- للضَّرورة أحكام: هناك حالات استثنائيّة تقتضي تعليق القوانين العاديّة- مَنطِقة حكم: منطقة نفوذ- نزَل على حكمه: قبله- يترك زمامَ الحكم: يتنازل عنه لغيره.

2 - قرار (أصدرت المحكمةُ حكمَها).

3 - ممارسة السُّلطة الحاكمة (تولَّى فلان مقاليدَ الحكم).

4 - شكل محدّد لسياسة الحكومة (الحكم الديمُقراطيّ/الشموليّ).

5 - [في القانون] بيان رسميّ من المحكمة أو أيّة هيئة قضائيّة حول الأحكام والدّوافع التي صدر القرار بموجبها (لديّ صورةٌ من الحكم).

6 - علمٌ وتفقهٌ وحكمة {وَءَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [قرآن] (*) أحكام العبادات: قواعدها، كما تنصُّ عليها الشَّريعة- أحكام الله: أوامرُه وحدودُه- حُكْمٌ شرعيّ: مبني على الشَّريعة الإسلاميّة.

7 - قضاء {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [قرآن].

* نقْض الحُكْم: [في القانون] إبطال الحُكْم إذا كان قد صدر مبنيًّا على خطأ في تطبيق القانون أو تأويله، أو كان هناك خطأ جوهريّ في إجراءات الفَصْل أو بطلان في الحكم. والنَّقض قد يصيب الحكم المدنيّ والحكم الجنائيّ على السَّواء متى كان أحدهما قد صدر نهائيًّا من المحاكم الابتدائيّة.

* استشكل في تنفيذ الحُكْم: [في القانون] أورد ما يستدعي وقفَ التنفيذ حتى يُنظر في وجه الاستشكال.

* صُورة الحُكْم التَّنفيذيّة: [في القانون] صورة رسميّة من النُّسخة الأصليّة للحُكْم، يكون التنفيذ بموجبها، وهي تُخْتم بخاتم المحكمة، ويوقِّع عليها الكاتب المختصّ بذلك بعد أن يذيِّلها بالصيغة التنفيذية.

* حكم جمهوريّ: [في السياسة] أن يكون الحُكْم بيد أشخاص تنتخبهم الأمّة على نظام خاصّ، ويكون للأمّة رئيس ينتخب لمدّة محدودة.

* حكم الإرهاب: فترة تتميَّز بالقمع القاسي، وبالرعب والتهديد ممَّن في يده السُّلطة.

* حكم الغوغاء: عقاب الأشخاص المشتبه بهم دون اللّجوء للإجراءات القانونيَّة.

* حُكْم الملك: المدَّة التي يحكم فيها الملك.

* حُكْم سليمان: أحد كتب العهد القديم أو أسفاره.

* حُكْم ذاتيّ: فترة انتقاليَّة يمنحها المستعمرُ لمستعمراته؛ كي تباشر سيادتَها الداخليَّة قبل تمكينها من الاستقلال التامّ، أو حقُّ الشعب في حكم نفسِه بقوانينه.

* حكم عرفيّ/أحكام عرفيَّة: حكم مقيِّد للحرِّيّات يُعلَن عادة في حالات الطَّوارئ كالانقلابات أو الاضطرابات عندما تنهار السُّلطة، حكم لسلطات عسكريَّة مفروض على السُّكَّان المدنيِّين ويكون غالبًا وقتَ الحرب أو عند تعرُّض البلاد لخطر خارجيّ.

* فنّ الحكم: [في السياسة] فنّ إدارة شئون الدّولة.

حَكَمة [مفرد]: جمعه حَكَمات وحَكَم.

* حَكَمةُ اللِّجامِ: حديدته التي تكون في فم الفرس لإحكام جماحه.

حِكْمَة [مفرد]: جمعه حِكْمات (لغير المصدر) وحِكَم (لغير المصدر):

1 - مصدر حكُمَ.

2 - [في الفلسفة والتصوُّف] معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، أو معرفة الحقّ لذاته، ومعرفة الخير لأصل العمل به (رأس الحكمة مخافةُ الله- الصَّمت يورث الحكمةَ، والكلام يورث الندامةَ [مثل أجنبيّ]: يماثله في المعنى قول الشاعر: ما إن ندمت على سكوتي مرّة.. ولقد ندمت على الكلام مرارًا- الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ) [حديث].

3 - علمٌ، تفقّهٌ، إدراك (الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ [حديث] - إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً [حديث] - {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [قرآن]) (*) بَيْتُ الحكمة: معهد أسسه المأمون (198 - 202ه/813 - 817م) واشتهر بمكتبته ودوره في حركة الترجمة- علم الحِكْمة: الكيمياء والطبّ- كتب الحكمة: كتب الفلسفة والطبّ.

4 - صواب الأمر وسداده ووضع الشَّيء في موضعه (حكمة الحياة هي أثمن ما نفوز به من دنيانا- عصب الحكمة أن لا تسارع إلى التَّصديق).

5 - علّة (ما الحكمة في ذلك؟) (*) الحكمة الإلهيّة: علّة يلتمسها الناظرون في أحوال الموجودات الخارجيّة أو يبينها الله تعالى في القرآن الكريم، نحو {وما خلقت الجنَّ والإنس إلا ليعبدون} [قرآن].

6 - كلامٌ يقِلُّ لفظهُ ويجِلّ معناه كالأمثال وجوامع الكلم (*) الحِكْمِيّون: الفلاسفة أو الشُّعراء الذين يؤثرون التَّكلُّم بالحِكم- شعر حِكْمِيّ: ذو حِكَم.

* الحكمة:

1 - السُّنة النبويّة {أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} [قرآن].

2 - الإنجيل {قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} [قرآن].

* الحِكْمة المنزليَّة: [في الفلسفة والتصوُّف] علم يُبحث فيه عن مصالح جماعة مشتركة في المنزل كالولد والوالد والمالك والمملوك ونحو ذلك.

حكومة [مفرد]: جمعه حكومات:

1 - حُكْم وقضاء يصدر في قضيّة (قبلنا حكومتك بيننا).

2 - هيئة مؤلَّفة من أفراد يقومون بتدبير شئون الدَّولة كرئيس الدَّولة، ورئيس الوزراء، والوزراء، ومرءوسيهم (الحكومات ثلاث: حكومة جمهوريّة، وحكومة ملكيّة، وحكومة استبداديّة) (*) الحكومة الانتقاليّة: هي التي تتولَّى زمام الأمور خلال فترة إلى أن يتمَّ اعتمادُ نظامٍ ثابت- تشكّلت الحكومةُ: تألفت- توظّف في الحكومة- حكومة اتّحاديَّة: حكومة مركزيَّة لاتّحاد مجموعة ولايات أو أقطار- حكومة الظِّلّ: حكومة لا وجود لها في الواقع كالحكومة التي تؤلِّفها المعارضةُ لتتولَّى الحكمَ في حالة انتقاله إليها- حكومة مؤقَّتة- حكومة نيابيَّة: حكومة ديمقراطيّة- دوائر الحكومة- مُوظَّف الحكومة.

3 - [في السياسة] سلطات تنفيذيّة وتشريعيّة وقضائيّة.

* حكومة ائتلافيَّة: [في السياسة] حكومة أو مجلس وزراء مؤلَّف من ممثِّلي أكثر من حزب واحد، وذلك بقصد تأمين عدد كاف من الموالين والمؤيِّدين لها في مجلس النُّواب.

حكيم [مفرد]: جمعه حُكَماءُ، والمؤنث حكيمة، والجمع المؤنث حكيمات وحُكَماءُ:

1 - صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من حكُمَ.

2 - مَنْ تصدر أعمالُه وأقوالُه عن رويّة سديدة ورأي سليم، صاحب حكمة، متقن للأمور (رجلٌ حكيم- الراعي الحكيم يجزّ خرافه لا يسلخها: كناية عن حسن التصرُّف- يرى الحكيمُ عيوبَ الغير فيصلح عيوبَ نفسه) (*) الذِّكْر الحكيم: القرآن الكريم.

3 - فيلسوف (اشتهرت اليونانُ بحكمائها).

4 - طبيب.

5 - مُحْكَم {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [قرآن].

* الحكيم: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: الذي أحكم خلقَ الأشياء وأتقن التَّدبير فيها، العليم الذي يعرف أفضلَ المعلومات بأفضل العلوم، المُقدَّس عن فعل مالا ينبغي، الذي لا يقول ولا يفعل إلاّ الصّواب.

مُحَاكمة [مفرد]: مصدر حاكمَ.

* إعادة المُحَاكمة: [في القانون] سماع الدَّعوى ثانية أو من جديد أمام المحكمة ذاتها.

مُحكَم [مفرد]:

1 - اسم مفعول من أحكمَ.

2 - مُتقَن، دقيق، وثيق (عملٌ مُحكَمٌ).

* المُحكَم من القرآن: الظّاهر الذي لا شبهة فيه ولا يحتاج إلى تأويل {مِنْهُ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [قرآن].

مَحْكَمة [مفرد]: جمعه مَحْكمات ومحاكِمُ:

1 - هيئة تتولَّى الفصلَ في النِّزاعات بين الأفراد والجماعات وهي على أنواع حسب صلاحيَّتها، وهي تابعة للسُّلطة القضائيّة (محكمة القضاء الإداريّ- المحكمة الجنائية الدَّولية الدَّائمة- محاكم الأحوال الشّخصيّة: التي تتناولها وتنظر فيها) (*) أمر محكمة: أمر تصدره المحكمة يُكلِّف شخصًا بعمل ما أو بمنعه من آخر- المحاكم المختلطة- المحكمة الابتدائيّة: هي الصالحة للنظر بدرجة أولى في قضايا مدنيّة أو جنحيّة غير داخلة في اختصاص محاكم أخرى- المحكمة العُرفيّة: المحكمة العسكرية تتألف في ظروف استثنائية كحالة الحرب- المحكمة العسكريّة: هي التي تتألّف في ظروف استثنائيّة كحالة الحرب- كاتب المحكمة- محاكم أهليّة- محاكم جزئيّة- محاكم شرعيّة- مَحْكَمة الأحداث: مَحْكَمة مختَصَّة بقضايا صغار السِّنّ- مَحْكَمة القضاء العالي.

2 - مكان انعقاد هيئة القضاء.

* المحكمة العليا: [في القانون] المحكمة الفيدراليّة العليا في أمريكا والمكوّنة من تسعة قضاة، لها سلطة قضائيَّة على المحاكم الأخرى في البلد.

* صديق المحكمة: [في القانون] من ليس طرفًا في نزاع، إنّما يتطوّع لتقديم نصح للمحكمة في قضيّة تنظر فيها.

* محكمة الاستئناف: [في القانون] محكمة عليا تنظر في أحكام محكمة دُونها في جهاز قضائيّ، وهي التي تعيد النَّظر في أحكام المحكمة الابتدائيّة.

* محكمة العدْل الدَّوليَّة: [في القانون] محكمة تنظر في الخلافات بين الدُّول التي تحتكم إليها، مقرُّها في (لاهاي) بهولندا.

* محكمة النَّقض: [في القانون] هي المحكمة العليا في البلاد وتعدّ المبادئ المستمدة من أحكامها ملزمة للمحاكم الأخرى.

مُستحكَم [مفرد]: جمعه مُسْتَحكَمات:

1 - اسم مفعول من استحكمَ/استحكمَ على.

2 - موقعٌ دفاعيّ محصَّن.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


2-العربية المعاصرة (ذكا)

ذَكَا يَذكُو، اذْكُ، ذَكاءً، فهو ذاكٍ وذَكِيّ.

* ذكا المسكُ: طاب، وفاح ريحُه (ذكتِ الرِّيحُ- رائحة المسكُ ذكيّة- مِسْكٌ ذكيّ).

* ذكا الشَّخصُ: كان سريع الفهم، متوقِّد البديهة (ذكا عقلُه: اشتدت فطنتُه- لديه ذكاء حادّ- طفلٌ ذكيّ).

ذَكَا يَذكُو، اذْكُ، ذُكُوًّا وذَكاءً وذَكًا، فهو ذاكٍ وذَكِيّ.

* ذكا الشَّيءُ: اشتعل، اشتدّ لهبُه (ذكتِ النارُ- ذكتِ الحربُ: اتَّقدت، وتسعّرت نارُها- ذكت الأحقادُ بينهم- ذكتِ الشمسُ: اشتدّت حرارتُها).

ذَكَا يَذكُو، اذْكُ، ذَكاةً وذَكاءً، فهو ذاك، والمفعول مذكوّ وذَكِيّ.

* ذكا الشَّاةَ ونحوَها: ذبحها (خروف ذكيّ: ذبيح- ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ) [حديث].

ذكُوَ يَذكُو، اذْكُ، ذكاءً وذكاوةً، فهو ذكيّ.

* ذكُو فلانٌ: كان سريع الفهم، والإدراك، متوقِّد البديهة (يتمّيز الأطفالُ بذكاوة شديدة).

* ذكُو قلبُه: حَيَّ بعد بَلادَةٍ.

ذكِيَ يَذكَى، اذْكَ، ذكاءً وذَكًا، فهو ذكِيّ.

* ذكِي الشَّخصُ: كان سريع الفهم فَطِنًا (هذه المسألة لا يحلّها إلاّ ذكيّ فطن- ذكاءٌ لامع- حدَّة الذكاء).

أذكى يُذكِي، أَذْكِ، إذكاءً، فهو مُذْكٍ، والمفعول مُذْكًى.

* أذكى النَّارَ: أشعلها وسعَّرها وزاد من لهيبها (أذكى النارَ بالنفخ- أذكى الخصومَة/الحماسةَ/الأحقادَ- أذكى الحربَ: أضرم نارها) (*) أذكى عليهم العيونَ: نشر بينهم الجواسيسَ والطلائعَ- أذكى نارَ الثَّورة.

استذكى يستذكي، اسْتذكِ، استذكاءً، فهو مُستذكٍ، والمفعول مُستذكًى (للمتعدِّي).

* استذكتِ النَّارُ: اشتدَّ لهيبُها (استذكتِ الحربُ/الشمسُ).

* استذكى الغبيّ: ادّعى الذَّكاء وسرعة الفهم، وهو ليس كذلك (استذكى الطالب المهمل على أستاذه في حلّ المسألة).

* استذكى فلانٌ النَّارَ: أوقدها (استذكى نارَ الفتنة بين الطرفين).

تذاكى يتذاكَى، تذاكَ، تذاكيًا، فهو مُتذاكٍ.

* تذاكى فلانٌ: تصنَّع الذكاء (المتذاكي عاجز عن الابتكار).

ذكَّى يُذكِّي، ذَكِّ، تذكيةً، فهو مُذَكٍّ، والمفعول مُذكًّى.

* ذكَّى النَّارَ: أوقدها، وأتمَّ إشعالَها، وزاد من لهيبها بما يُلقى فيها من حطب.

* ذكَّى الشَّاةَ: ذبحها أثناء حياتها {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [قرآن].

إذكاء [مفرد]: مصدر أذكى.

استذكاء [مفرد]: مصدر استذكى.

تذكية [مفرد]: مصدر ذكَّى.

ذكًا [مفرد]: مصدر ذَكَا وذكِيَ.

ذَكاء [مفرد]:

1 - مصدر ذَكَا وذَكَا وذَكَا وذكُوَ وذكِيَ.

2 - جمرة ملتهبة.

3 - [في علوم النفس] قدرة على التحليل، والتركيب، والتمييز، والاختيار، والتكيُّف إزاء المواقف المختلفة (ذكاء المرء محسوب عليه).

* الذَّكاء الاجتماعيّ: [في علوم الاجتماع] حسن التّصرُّف في المواقف والأوضاع الاجتماعيّة.

* ذكاء اصطناعيّ: [في الحاسبات والمعلومات] قدرة آلة أو جهاز ما على أداء بعض الأنشطة التي تحتاج إلى ذكاء مثل الاستدلال الفعليّ والإصلاح الذَّاتيّ.

ذُكاء [مفرد]: اسم علم للشّمس غير منصرف للعلَميّة والتأنيث.

* ابن ذُكاءَ: الصُّبحُ.

ذَكاة [مفرد]: مصدر ذَكَا.

ذَكاوة [مفرد]: مصدر ذكُوَ.

ذُكُوّ [مفرد]: مصدر ذَكَا.

ذَكِيّ [مفرد]: جمعه أذكياء:

1 - صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من ذَكَا وذَكَا وذكُوَ وذكِيَ: (طالب ذكيّ- ريح ذكيَّة).

2 - صفة ثابتة للمفعول من ذَكَا3: مذبوح.

* الأسلحة الذَّكيَّة: [في العلوم العسكرية] نوع من الأسلحة التي تصيب أهدافها بدقّة بالغة، وتجيد المراوغة والمناورة، وتعقُّب الأهداف العسكريّة في الخنادق والأنفاق، وتستطيع تعديل الخطط الموضوعة لها طِبقًا لظروف المعركة والمواقع التي يُراد ضربُها.

* العقوبات الذَّكيَّة: [في السياسة] تخفيف العقوبات المفروضة على بلدٍ ما لتقليل الأضرار على الشَّعب، والضغط على النظام لمنعه من إنتاج أو استيراد أسلحة محظورة.

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


3-العربية المعاصرة (عقب)

عقَبَ يَعقُب، عَقْبًا وعُقوبًا، فهو عاقِب وعقيب، والمفعول مَعْقوب.

* عقَب أباه في منصبه: تلاه، خلفَه فيه من بعده (عقَب والدَه في إمامة المسجد- عقَب الشَّيْبُ السَّوَادَ- يَعقُب العاصفةَ هدوءٌ [مثل أجنبيّ]).

أعقبَ يُعقب، إعقابًا، فهو مُعقِب، والمفعول مُعقَب (للمتعدِّي).

* أعقب الرَّجلُ: ترك ولدًا (مات دون أن يُعْقِب).

* أعقب بين الشَّيئين: أتى بأحدهما بعد الآخر (أعقب بين زائرين).

* أعقب أباه في منصبه: عَقبه؛ تلاه وخلفه فيه من بعده (أعقبتِ المفاوضاتُ الحربَ).

* أعقب فلانًا خيرًا: جازاه، عوَّضه وبدَّله (أعقب الرَّجلَ بطاعته).

* أعقب فلانًا ندمًا وحسرةً: أورثه، أتبعه، ألحقه (أعقبه سقمًا- {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ} [قرآن]).

تعاقبَ/تعاقبَ في يتعاقب، تَعَاقُبًا، فهو مُتعاقِب، والمفعول مُتعاقَب فيه.

* تعاقب اللَّيلُ والنَّهارُ: جاء أحدُهما بعد الآخر (تعاقبت الانتصارات: تتابعت، تلاحقت، توالت- تعاقبت الفصولُ: تتابعت بانتظام) (*) المتعاقبان: اللَّيل والنَّهار- على تعاقب العصور: على مرِّ العصور.

* تعاقبوا في الحراسة: تناوبوها وتداولوها (تعاقبوا في الخدمة) - بالتَّعاقب: بالتَّناوب، واحدًا بعد الآخر.

تعقَّبَ يتعقَّب، تعقُّبًا، فهو مُتعقِّب، والمفعول مُتعقَّب.

* تعقَّب هاربًا: تتبَّعه واقتفى أثرَه، طارده ولاحقه، أخذه بذنبٍ كان منه (تعقَّبتِ الشُّرطةُ المجرمين) (*) تعقَّب الخبرَ: سأل غير مَنْ كان سأله أوّل مَرَّة.

عاقبَ يعاقب، عِقابًا ومُعاقبةً وعقوبةً، فهو مُعاقِب وعقيب، والمفعول مُعاقَب (للمتعدِّي).

* عاقب بين الشَّيئين: أتى بأحدهما بعد الآخر (عاقب بين الطَّعام والشَّراب- عاقب بين اللَّعب والمذاكرة).

* عاقب مُجرمًا بذنبه/عاقبه على ذنبه: جزاه سوءًا بما صنع، أخذه به، انتقم (عاقبه على خطئه- لا جريمة بلا عِقاب- فعلٌ يُعاقِب عليه القانون).

* عاقبه في عمله: ناوبه، جاء بعده (عاقبه في الحراسة/الخدمة).

عقَّبَ على يعقِّب، تعقيبًا، فهو مُعقِّب وعقيب، والمفعول مُعقَّب عليه.

* عقَّب على قوله: بيَّن ما فيه من عيوبٍ أو محاسنَ، علَّق عليه فإمّا أن ينقضه أو يردّ عليه أو يؤيِّده (عقَّب على المحاضرة/خطابه/الأنباء) (*) عقَّب في الصَّلاة: جلس -بعد أن صلَّى- لصلاةٍ أخرى أو لدعاءٍ أو نحو ذلك.

* عقَّب القاضي على حُكمِ سَلَفِه: أبطله، حَكم بغيره (عقَّب قاضي الاستئناف على حكم المحكمة الأدنى- {وَاللهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [قرآن]: لا رادّ له ولا ناقض).

* عقَّب عليه: كرَّ ورجع (تصدَّق ولم يُعقِّب: لم يستثنِ أحدًا- {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} [قرآن]).

تعاقُب [مفرد]: مصدر تعاقبَ/تعاقبَ في.

* التَّعاقُب القِمِّيّ: [في النبات] نمو الأعضاء النَّباتيّة من فروع جانبيّة، وأوراق وبراعم وأزهار متتابعة من القاعدة إلى القمة أو العكس.

تعقيب [مفرد]: جمعه تعقيبات (لغير المصدر):

1 - مصدر عقَّبَ على.

2 - [في العلوم العسكرية] أن يوجِّه القائدُ جُندًا من مكان ليحلّ مكانَ جند في مكان آخر.

عاقِبة [مفرد]: جمعه عواقبُ:

1 - آخِرُ كلِّ شيءٍ وخاتمتُه، الجزاءُ بالخير أو الشَّرِّ (حسنُ العاقبة- النَّظر في العواقب تلقيح للعقول- من نظر إلى العواقب سَلِمَ من النَّوائب [مثل] - {وَإِلَى اللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [قرآن] - {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [قرآن]) (*) أمرٌ وخيم العاقبة: مُضِرّ، رديء سيّئ- العاقبة عندكم في المسرَّات: عبارة تذيَّل بها بطاقات الدّعوة لحفلات الزِّفاف، عبارة تستخدم في المجاملة وردّ التهنئة.

2 - نسل، وَلَد (ليست لفلان عاقبة).

عُقاب [مفرد]: جمعه أَعْقُب وعِقْبان: [في الحيوان] من كواسِر الطَّير قوِيّ المخالب، حادّ البَصَر، له منقار قصيرأَعْقف (مذكَّر ومؤنَّث) (عُقاب كاسر- أبْصَر من عُقاب [مثل]).

* العُقاب: راية النَّبيّ عليه السَّلام.

عِقاب [مفرد]:

1 - مصدر عاقبَ (*) عِقاب بدنيّ: جزاء بالضّرب أو بما يؤلم ويؤذي البدنَ.

2 - جزاء فعل السُّوء، الجزاء بالشَّرِّ، عكسه الثَّواب، عذاب (لابد من تطبيق قانون الثَّواب والعقاب في العمل- إذا كان لابدّ من العقاب فليكن على شيء يستحقّ- {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ} [قرآن]).

عَقْب [مفرد]:

1 - مصدر عقَبَ.

2 - ذرّيّة، الولدُ وابنُ الوَلدِ (لا عَقْبَ له: لم يَبْق له ولدٌ ذكر- {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقْبِهِ} [قرآن]).

عَقِب [مفرد]: جمعه أعقاب:

1 - [في التشريح] عظمُ مؤخَّر القَدَم، وهو أكبر عِظامها (ضربَ عَقِبَه- احرص على غسل عقبيك في الوضوء- وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ [حديث]: لتارك غسلهما في الوضوء- {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} [قرآن]: ارتدَّ وانثنى راجعًا- {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللهُ} [قرآن]: نكفر ونَضِلّ) (*) جاء على عقِبه: جاء بعده، خلَفه- سار في أعقابهم: تبعهم، اقتفى أثرَهم- عادوا على أعقابهم/ارتدُّوا على أعقابهم/انقلبوا على أعقابهم: تراجعوا، انهزموا، عادوا سريعًا على الطَّريق الذي جاءوا منه، ارتدُّوا كفّارًا بعد إيمانهم، رجعوا إلى ما كانوا عليه- نكص على عقبيه: رجع عمَّا كان عليه من خير.

2 - آخِرُ كلِّ شيءٍ وخاتمتُه (جرى نقاشٌ عَقِبَ الجلسة- تلقّى التّهاني عَقِب الحفلة- جئتك في عَقِب الشهر: لأيّام بقيت منه عشرة أو أقل) (*) أعقاب الأمور: أواخرها- عَقِب السِّيجارة: ما يُرمى منها بعد تدخين الجزء الأكبر- في أعقاب الشَّيء: في نهايته، بعده- قلَبه رأسًا على عَقِب: جعل عاليه سافله.

3 - وَلَدُ الوالد الباقي بعده (مات وليس له عقِبٌ- {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [قرآن]).

عُقْب [مفرد]: جمعه أعقاب:

1 - عَقِب؛ آخر كُلِّ شيءٍ وخاتمتُه (ضربوه بأعقاب البنادق- عُقْبُ سيجارة- جاء في عُقْب الشَّهر: بعد انقضاء الشّهر كلّه).

2 - خيرُ الجزاء ({هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} [قرآن]: وخيرٌ عاقبةً).

عَقَبَة [مفرد]: جمعه عَقَبات وعِقاب:

1 - صعوبة، عائقٌ ما يعترض سيرَ العمل، أو يحول دون تحقيق شيء وبلوغِه (تغلب على عَقَبة المسكن- الحياة مليئة بالعَقَبات- {فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} [قرآن]).

2 - طريق صعب في الجبل، ويُكنَّى بها عمَّا يحول دون إنجاز أمر أو الصُّعوبة في إنجازه.

عُقْبى [مفرد]: عقِب، عُقْب، آخرُ كلِّ شيء وخاتمتُه {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبَى} [قرآن] - {وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} [قرآن].

* العُقْبى: الآخرة، المَرْجِعُ إلى الله {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [قرآن] (*) عُقبى لك: أدعو لك بحسن العاقبة، تقال ردًّا على التَّهنئة بمولودٍ أو نجاحٍ أو زواجٍ أو حجٍّ أو نحو ذلك.

عُقوب [مفرد]: مصدر عقَبَ.

عُقوبة [مفرد]:

1 - مصدر عاقبَ.

2 - جزاءُ فعل السُّوء، ما يلحق الإنسان من المحنة بعد الذَّنب في الدُّنيا (لكلّ ذنبٍ عقوبة- عقوبة بدنيّة/جنائيّة- عقوبة بالأشغال الشَّاقَّة) (*) عقوبة اقتصاديَّة: إجراء اقتصاديّ تطبِّقه دولةٌ على أخرى كمقاطعة بضائعها أو الامتناع عن التَّصدير لها.

3 - [في القانون] ما يُحكم به على كلِّ من يخالف الأحكامَ القانونيّة (ألغت الدَّولةُ عقوبةَ الإعدام).

* عُقوبة النَّفي: [في السياسة] عُقوبة تقضي بإبعاد شخص خارج حدود بلاده لفترة محدودة أو غير محدودة، وقد نصَّت الدساتير الحديثة على تحريمها.

* العقوبات الذَّكيَّة: تخفيف العقوبات لتقليل الأضرار على شعبٍ ما، والضغط على النِّظام لمنعه من إنتاج أسلحة محظورة (حاولت أمريكا فرض العقوبات الذّكيّة على العراق).

* العُقوبة الدَّوليَّة: إجراء قسريّ تتبنّاه عِدّة دول تعمل مع بعضها البعض ضدَّ بلدٍ واحد قام بخرق القانون الدَّوليّ.

* قانون العقوبات: مجموع التشريعات التي تحدِّد نظام العقوبات المفروضة على مرتكبي المخالفات والجنح.

عقيب [مفرد]:

1 - صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من عاقبَ وعقَبَ وعقَّبَ على.

2 - معاقِب، تالٍ (هو عقيبه: يأتي بعده).

* العقيبان: اللَّيل والنَّهار، كلُّ واحد منهما عَقيب صاحبه.

مُعاقبة [مفرد]:

1 - مصدر عاقبَ.

2 - [في النحو والصرف] صلاحية عنصر لغويّ لأن يحلَّ محلَّ عنصر لغويٍّ آخر مثل معاقبةُ الهمزة ل (هل) في الاستفهام نحو: هل جاءك أخوك؟ أجاءك أخوك؟.

مُعَقِّبات [جمع]: ملائكةُ النَّهار واللَّيل؛ لأنّهم يتعاقبون على الشَّخص حافظين له {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ} [قرآن].

العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م


4-شمس العلوم (الحَدّ)

الكلمة: الحَدّ. الجذر: حدد. الوزن: فَعْل.

[الحَدّ]: الحاجز بين الشيئين.

ومنتهى كل شيء: حَدُّه.

وحدود الله عز وجل: الأسباب التي حَدَّها وبَيَّنَها لعباده، وأمرهم أن لا يعتدوها، ولا يقصروا عنها، قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها}.

وحدُّ كل شيء: شَباتُه، كحد السيف، وهو ما رَقَّ من شفرته.

وحَدُّ الرَّجُل: بأسُه.

وحَدُّ الشراب: صلابته، قال الأعشى:

وكأسٍ كعين الديكِ باكرتُ حَدَّها *** بفتيانِ صِدْقٍ والنواقيسُ تُضْرَبُ

وحَدُّ القاذف والزاني: عذابهما، سمي حدًّا لمنعه عن المعاودة، وأصله مصدر.

وحدود الكواكب في البروج معروفة عند أهل العلم بالنجوم؛ وذلك أن كل برجٍ من البروج الاثني عشر ثلاثون درجة مقسومة بين الكواكب الخمسة: زُحَل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد قسمةً مختلفة الدرج، أكثرها له اثنتا عشرة درجة تسمى حَدَّ ذلك الكوكب، وأقلّها له درجتان حَدّ ذلك الكوكب، ولكل كوكبٍ منها قوَّة في حدِّه يقال لذلك الكوب رَبّ الحد يُستدل به على أخلاق المولود وأحواله وطبائعه وباطن أمره.

شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م


5-مرافعات قضائية (جريمة العصيان)

جريمة العصيان: جريمة العصيان- الإعتراض عن تنفيذ أحكام قضائية -استعمال العنف أو التهديد به ضد ممثل السلطة العمومية -الإحالة دون القيام بمهامه

"من المقرر قانونا أنه يعد مرتكبا لجريمة العصيان، كل شخص هاجم ممثل السلطة العمومية أو قاومه باستعمال العنف أو التهديد به، لمنعه من تنفيذ الأوامر القضائية.

ويعتبر تعديا كل فعل مادي، بطبيعته أن يزرع الخوف لدى ممثل السلطةالعمومية، ويحول دون تأدية مهمته -كما هو عليه في قضية الحال -التي اعترض فيها الطاعن عن دخول المنفذ للمنزل ومنعه من تنفيذ حكم قضائي نهائي.

مرافعات قضائية


6-معجم متن اللغة (العقل)

العقل: الحجر والنهى "ضد الحمق".

و-: التثبت في الأمور "وأصله المنع، لمنعه صاحبه مما لا يليق" ومنه العقال للبعير.

و-: القوة المتهيئة لقبول العلم: العلم أو العلم بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها: ملكة في النفس تستعد بها للعلوم والإدراكات ج عقول.

و-: الدية: الحصن والملجأ، ج عقول.

و-: القلب: ثوب أحمر يجلل به الهودج؛ أو ضرب من الوشي الأحمر؛ أو ضرب من البرود: ضرب من المشط، وبه سميت الماشطة: عاقلة.

معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م


7-جمهرة اللغة (حدد حد)

حَدَّ السِّكِّين وغيره: معروف.

وحَددت السكَين وغيرَه أحده حدًا، إذا مسحته بحجر أو مِبْرَد؛ يقال: حددت السِّكَين وغيره أحُده، وأحَدَّها يُحُّده إحدادًا.

وسِكِّين حديد وحُداد.

ورجل حدٌّ ومحدود، إذا كان محرومًا لا ينال خيرًا.

وأحددت إليك النظر أحده إحدادًا.

والحَدًّ بين الشيئين: الفَرْق بينهما لئلا يعتدي أحدُهما على الآخر.

وحَدَدْت على الرجل أحدُّ حدَّة، إذا غضبت عليه.

وحَدًّ الدار: معروف.

وحَدُّ السارق وغيرِه: الفعل الذي يمنعه من المعاودة ويحده عنه، ويمنع غيره أيضًا.

وأصل الحَدّ: المنع.

يقال: حَدّني عن كذا وكذا، إذا منعني عنه.

وبه سُمّي السَجّان حَدّادًا لمنعه كأنه يمنع من الحركة.

قال الشاعر:

«يقول ليَ الحـدّادُ وهـو يقـودنـي*** إلى السِّجن لا تَجْزَع فما بك من باس»

وسمَى الأعشى الخمّار حدّادًا، لأنه يحبس الخمر عنده فقال:

«فقُمنا ولمّا يَصِحْ ديكُنا*** إلى جَونةٍ عند حدّادها»

يذهب بوصفها إلى السواد، وإلى وعاء الخمر، وهو الزق.

وحدّت المرأةُ وأحَدّت، إذا تركَتِ الطِّيب والزينة بعد زوجها.

وأبى الأصمعي إلّا أحدَّت فهي مُحِدّ ولم يعرف حدَت.

ويقال: هذا أمر حَدد، أي ممتنع.

ودعوة حَدد، أي مردودة لا تُجاب.

وقد أفردنا لهذا بابًا في آخر الكتاب فيما جاء فيه حرفان مِثْلان في موضع عين الفعل ولامه.

وبنو حُدَاد: بطن من العرب، من طيّء.

وبنو حِدّان من بني سعد.

وحُدّان من الأزد.

جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م


8-جمهرة اللغة (حدد حد)

حَدَّ السِّكِّين وغيره: معروف.

وحَددت السكَين وغيرَه أحده حدًا، إذا مسحته بحجر أو مِبْرَد؛ يقال: حددت السِّكَين وغيره أحُده، وأحَدَّها يُحُّده إحدادًا.

وسِكِّين حديد وحُداد.

ورجل حدٌّ ومحدود، إذا كان محرومًا لا ينال خيرًا.

وأحددت إليك النظر أحده إحدادًا.

والحَدًّ بين الشيئين: الفَرْق بينهما لئلا يعتدي أحدُهما على الآخر.

وحَدَدْت على الرجل أحدُّ حدَّة، إذا غضبت عليه.

وحَدًّ الدار: معروف.

وحَدُّ السارق وغيرِه: الفعل الذي يمنعه من المعاودة ويحده عنه، ويمنع غيره أيضًا.

وأصل الحَدّ: المنع.

يقال: حَدّني عن كذا وكذا، إذا منعني عنه.

وبه سُمّي السَجّان حَدّادًا لمنعه كأنه يمنع من الحركة.

قال الشاعر:

«يقول ليَ الحـدّادُ وهـو يقـودنـي*** إلى السِّجن لا تَجْزَع فما بك من باس»

وسمَى الأعشى الخمّار حدّادًا، لأنه يحبس الخمر عنده فقال:

«فقُمنا ولمّا يَصِحْ ديكُنا*** إلى جَونةٍ عند حدّادها»

يذهب بوصفها إلى السواد، وإلى وعاء الخمر، وهو الزق.

وحدّت المرأةُ وأحَدّت، إذا تركَتِ الطِّيب والزينة بعد زوجها.

وأبى الأصمعي إلّا أحدَّت فهي مُحِدّ ولم يعرف حدَت.

ويقال: هذا أمر حَدد، أي ممتنع.

ودعوة حَدد، أي مردودة لا تُجاب.

وقد أفردنا لهذا بابًا في آخر الكتاب فيما جاء فيه حرفان مِثْلان في موضع عين الفعل ولامه.

وبنو حُدَاد: بطن من العرب، من طيّء.

وبنو حِدّان من بني سعد.

وحُدّان من الأزد.

جمهرة اللغة-أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي-توفي: 321هـ/933م


9-التوقيف على مهمات التعاريف (البسل)

البسل: ضم الشيء، ولتضمنه معنى الضم استعير لتقطيب الوجه، ولتضمنه معنى المنع قيل للمحرم والمرتهن بسل ومنه {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ}. أي تحرم الثواب. وقوله {أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا}. أي حرموا الثواب. وفسر بالارتهان لقوله {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}، والفرق بين الحرام والبسل أن الحرام عام فيما كان ممنوعا منه بالحكم والقهر، والبسل وهو الممنوع منه بالقهر، وقيل للشجاعة البسالة وللشجاع باسل لما يوصف به من عبوس وجهه ولكون نفسه محرمة على أقرانه لشجاعته أو لمنعه ما تحت يده من أعدائه.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


10-التوقيف على مهمات التعاريف (الحجاب)

الحجاب: كل ما ستر المطلوب أو منع من الوصول إليه، ومنه قيل للستر حجاب لمنعه المشاهدة، وقيل للبواب حاجب لمنعه من الدخول. وأصله جسم حائل بين جسدين ثم استعمل في المعاني فقيل العجز حجاب بين الرجل ومراده، والمعصية حجاب بين العبد وربه.

التوقيف على مهمات التعاريف-زين الدين محمد المدعو بعبدالرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري-توفي: 1031هـ/1622م


11-القاموس المحيط (الشطر)

الشَّطْرُ: نِصفُ الشيءِ وجُزْؤُهُ، ومنه حديثُ الإِسْراءِ: "فَوَضَعَ شَطْرَهَا"، أي: بعضَها

ج: أشْطُرٌ وشُطُورٌ، والجِهَةُ، والناحيةُ، وإذا كان بهذا المعنى، فلا يَتَصَرَّفُ الفِعْلُ منه، أو يقالُ: شَطَرَ شَطْرَه، أي: قَصَدَ قَصْدَه، وأن تَحْلُبَ شَطْرًا وتَتْرُكَ شَطْرًا.

وللناقَةِ شَطْرانِ: قادِمانِ وآخِرانِ، فكلُّ خِلْفَيْنِ شَطْرٌ.

وشَطَّرَ بِناقتِهِ تَشْطيرًا: صَرَّ خِلْفَيْها، وتَرَكَ خِلْفَيْنِ،

وـ الشيءَ: نَصَّفَه.

وشاةٌ شَطُورٌ: يَبِسَ أحدُ خِلْفَيْها، أو أحدُ طُبَيَيْها أطْوَلُ من الآخَرِ، وقد شَطَرَتْ كَنَصَرَ وكرُمَ.

وثَوْبٌ شَطُورٌ، أي: أحدُ طَرَفَيْ عَرْضِهِ كذلك.

وحَلَبَ فلانٌ الدَّهْرَ أشْطُرَه: مَرَّ به خَيْرُهُ وشَرُّه. وإذا كان نِصْفُ وَلَدِكَ ذُكورًا ونِصْفُهُمْ إناثًا،

فَهُم شِطْرَةٌ، بالكسر.

وإناءٌ شَطْرانُ، كسَكْرَانَ: بَلَغَ الكَيْلُ شَطْرَه. وقَصْعَةٌ شَطْرَى.

وشَطَرَ بَصَرَهُ شُطُورًا: كأنه ينظرُ إليكَ وإلى آخَرَ.

والشَّاطِرُ: من أعْيا أهلَهُ خُبْثًا، وقد شَطَرَ، كنَصَرَ وكرُم، شَطَارَةً فيهما.

وشَطَرَ عنهم شُطُورًا وشُطُورةً وشَطارةً: نَزَحَ عنهم مُرَاغِمًا.

والشَّطِيرُ: البَعيدُ، والغَريبُ.

والمَشْطُورُ: الخُبْزُ المَطْلِيُّ بالكامَخِ،

وـ من الرَّجَزِ: ما نَقَصَتْ ثلاثة أجْزاءٍ من سِتَّتِه.

ونَوًى شُطُرٌ، بضمتين: بعيدةٌ.

وشَطاطيرُ: كُورةٌ بالصَّعيد الأَدْنَى.

وشاطَرْتُهُ مالي: ناصَفْتُه.

وهم مُشاطِرُونا، أي: دُورُهُمْ تَتَّصِلُ بِدُورِنا.

وقولُهُ صلى الله عليه وسلم: "من مَنَعَ صَدَقَةً فإِنَّا آخِذُوها وشَطْرَ مالِه" هكذا رواه بَهْزٌ، ووُهِّمَ، وإنما الصوابُ:

وشُطِرَ مالُهُ، كعُنِي، أي: جُعِلَ مالُه شَطْرَيْنِ، فَيَتَخَيَّرُ عليه المُصَدِّقُ، فيأخُذُ الصَّدَقَةَ من خيْرِ الشَّطْرَيْنِ عُقُوبَةً لِمَنْعِهِ الزكاةَ.

القاموس المحيط-مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي-توفي: 817هـ/1414م


12-المعجم الاشتقاقي المؤصل (نكل)

(نكل): {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)} [النساء: 84]

النِكل -بالكسر: القَيْدُ الشديدُ من أي شيء كان (أي في القدم- أخذًا من قولة سيدنا علي - رضي الله عنه - وكرم الله وجهه نِكْلٌ في قدم "، واللجام / حديدة اللجام، وعِنَاجُ الدَلْو (العِناج: حبل يشد أسفلَ الدلو العظيمة إلى أذنيها دعمًا لها).

° المعنى المحوري

ضبط الشيء بشديد أو صُلب لمنعه من التسيب (إلى ما لا يريده مستعمِل الضابط): كالقيد في القدم، واللجام في فم الفرس، وعناج الدلو. وجمع النِكْل نكول وأنكال: {إِنَّ لَدَينَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12)} [المزمل: 12]. ومنه "نكل عن اليمين والعدُوِّ (قعد وجلس): جَبُن (أمسك نفسه وحجزها)، وأنكلْتُه عن حاجته: دَفَعته عنها {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَينَ يَدَيهَا وَمَا خَلْفَهَا} [البقرة: 66] (عقوبة يُزجَر ويُردعَ بها غيرُهم عن ارتكاب مثل مما استحقوها به من ذنوب، ثم عممت في العقوبة الشديدة)، {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَال الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)} [النازعات: 25] قولتيه: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيرِي} [القصص: 38] {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)} [النازعات: 24] [بحر 8/ 414]، {فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} [المائدة: 38] ونكّل به تنكيلًا: عاقبه في جُرْم عقوبةً تُنْكِل غَيره. ومنه آية التركيب ".

المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم-محمد حسن حسن جبل-صدر: 1432هـ/2010م


13-المعجم المفصّل في الإعراب (كخ كخ)

كخ كخ ـ

كخ كخ أو كخ كخ أو كخ كخ أو كخ كخ... اسم صوت يقال لزجر الطفل عن إتيان عمل ما أو لمنعه من إتيانه. أو عند التقذّر أيضا.

وقد ورد في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسّلام: «أكل الحسن أو الحسين تمرة من تمر الصدقة، فقال له النبيّ عليه الصلاة والسّلام: كخ كخ».

(«كخ»: اسم صوت لزجر الطفل مبنيّ على السكون لا محلّ له من الإعراب. «كخ»: اسم صوت، توكيد لـ «كخ» الأولى مبني على السكون).

المعجم المفصّل في الإعراب-طاهر يوسف الخطيب-صدر: 1412هـ/1991م


14-معجم البلدان (اليمامة)

اليمامة:

منقول عن اسم طائر يقال له اليمام واحدته يمامة، واختلف فيه فقال الكسائيّ: اليمام من الحمام التي تكون في البيوت والحمام البري، وقال الأصمعي:

اليمام ضرب من الحمام بريّ، وأما الحمام فكل ما كان ذا طوق مثل القمري والفاختة، ويجوز أن يكون من أمّ يؤمّ إذا قصد ثم غيّر لأن الحمام يقصد مساكنه في جميع حالاته، والله أعلم، وقال المرّار الفقعسي:

«إذا خفّ ماء المزن فيها تيمّمت *** يمامتها أيّ العداد تروم»

وقال بعضهم: يمامة كلّ شيء قطنه، يقال: الحق بيمامتك، وهذا مبلغ اجتهادنا في اشتقاقه ثم وجدت ابن الأنباري قال: هو مأخوذ من اليمم واليمم طائر، قال: ويجوز أن يكون فعالة من يمّمت الشيء إذا

تعمدته، ويجوز أن يكون من الأمام من قولك:

زيد أمامك أي قدامك فأبدلت الهمزة ياء وأدخلت الهاء لأن العرب تقول: أمامة وأمام، قال أبو القاسم الزجاجي: هذا الوجه الأخير غير مستقيم أن يكون يمامة من أمام وأبدلت الهمزة ياء لأنه ليس بمعروف إبدال الهمزة إذا كانت أولا ياء، وأما الذي حكي أن اليمم طائر فإنما هو اليمام، حكى الأصمعي أن العرب تسمي هذه الدواجن التي في البيوت التي يسميها الناس حماما اليمام واحدتها يمامة، قال: والحمام عند العرب ذات أطواق كالقماريّ والقطا والفواخت، واليمامة في الإقليم الثاني، طولها من جهة المغرب إحدى وسبعون درجة وخمس وأربعون دقيقة، وعرضها من جهة الجنوب إحدى وعشرون درجة وثلاثون دقيقة، وفي كتاب العزيزي: إنها في الإقليم الثالث، وعرضها خمس وثلاثون درجة، وكان فتحها وقتل مسيلمة الكذاب في أيام أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، سنة 12 للهجرة وفتحها أمير المسلمين خالد ابن الوليد عنوة ثم صولحوا، وبين اليمامة والبحرين عشرة أيام، وهي معدودة من نجد وقاعدتها حجر، وتسمى اليمامة جوّا والعروض، بفتح العين، وكان اسمها قديما جوّا فسميت اليمامة باليمامة بنت سهم بن طسم، قال أهل السير: كانت منازل طسم وجديس اليمامة وكانت تدعى جوّا وما حولها إلى البحرين ومنازل عاد الأولى الأحقاف، وهو الرمل ما بين عمان إلى الشحر إلى حضرموت إلى عدن أبين، وكانت منازل عبيل يثرب ومساكن أميم برمل عالج، وهي أرض وبار، ومساكن جرهم بتهائم اليمن ثم لحقوا بمكة ونزلوا على إسماعيل، عليه السّلام، فنشأ معهم وتزوج منهم كما ذكرنا في مكة، وكانت منازل العماليق موضع صنعاء اليوم ثم خرجوا فنزلوا حول مكة ولحقت طائفة منهم بالشام وبمصر وتفرقت طائفة منهم في جزيرة العرب إلى العراق والبحرين إلى عمان، وقيل: إن فراعنة مصر كانوا من العماليق كان منهم فرعون إبراهيم، عليه السّلام، واسمه سنان ابن علوان، وفرعون يوسف، عليه السّلام، واسمه الريّان بن الوليد، وفرعون موسى، عليه السّلام، واسمه الوليد بن مصعب، وكان ملك الحجاز رجلا من العماليق يقال له الأرقم، وكان الضحاك المعروف عند العجم ببيوراسف من العماليق غلب على ملك العجم بالعراق وهو فيما بين موسى وداود، عليه السّلام، وكان منزله بقرية يقال لها ترس، ويقال إنه من الأزد، ويقال إن طسما وجديسا هما من ولد الأزد ابن إرم بن لاوذ بن سام بن نوح، عليه السّلام، أقاموا باليمامة وهي كانت تسمى جوّا والقرية وكثروا بها وربلوا حتى ملك عليهم ملك من طسم يقال له عمليق ابن هباش بن هيلس بن ملادس بن هركوس بن طسم وكان جبارا ظلوما غشوما، وكانت اليمامة أحسن بلاد الله أرضا وأكثرها خيرا وشجرا ونخلا، قالوا:

وتنازع رجل يقال له قابس وامرأته هزيلة جديسيّان في مولود لهما أراد أبوه أخذه فأبت أمه فارتفعا إلى الملك عمليق فقالت المرأة: أيها الملك هذا ابني حملته تسعا، ووضعته رفعا، وأرضعته شبعا، ولم أنل منه نفعا، حتى إذا تمت أوصاله، واستوفى فصاله، أراد بعلي أن يأخذه كرها، ويتركني ولهى، فقال الرجل: أيها الملك أعطيتها المهر كاملا، ولم أصب منها طائلا، إلا ولدا خاملا، فافعل ما كنت فاعلا، على أنني حملته قبل أن تحمله، وكفلت أمه قبل أن تكفله، فقالت: أيها الملك حمله خفّا وحملته ثقلا، ووضعه شهوة ووضعته كرها! فلما رأى عمليق متانة حجتهما تحير فلم يدر بم يحكم فأمر بالغلام أن

يقبض منهما وأن يجعل في غلمانه وقال للمرأة:

أبغيه ولدا، وأجزيه صفدا، ولا تنكحي بعد أحدا، فقالت: أما النكاح فبالمهر، وأما السفاح فبالقهر، وما لي فيهما من أمر، فأمر عمليق بالزوج والمرأة أن يباعا ويردّ على زوجها خمس ثمنها ويرد على المرأة عشر ثمن زوجها، فاسترقّا، فقالت هزيلة:

«أتينا أخا طسم ليحكم بيننا، *** فأظهر حكما في هزيلة ظالما»

«لعمري لقد حكمت لا متورّعا، *** ولا كنت فيما يلزم الحكم حاكما»

«ندمت ولم أندم، وأنّى بعترتي، *** وأصبح بعلي في الحكومة نادما»

فبلغت أبياتها إلى عمليق فأمر أن لا تزوج بكر من جديس حتى تدخل عليه فيكون هو الذي يفترعها قبل زوجها، فلقوا من ذلك ذلّا حتى تزوجت امرأة من جديس يقال لها عفيرة بنت غفار أخت سيد جديس أي الأسود بن غفار وكان جلدا فاتكا، فلما كانت ليلة الإهداء خرجت والبنات حولها لتحمل إلى عمليق وهنّ يضربن بمعازفهنّ ويقلن:

«ابدي بعمليق وقومي فاركبي، *** وبادري الصبح بأمر معجب»

«فسوف تلقين الذي لم تطلبي، *** وما لبكر دونه من مهرب»

ثم أدخلت على عمليق فافترعها، وقيل: انها امتنعت عليه وكانت أيّدة فخاف العار فوجأها بحديدة في قبلها فأدماها فخرجت وقد تقاصرت عليها نفسها فشقت ثوبها من خلفها ودماؤها تسيل على قدميها فمرّت بأخيها وهو في جمع من قومه وهي تبكي وتقول:

«لا أحد أذلّ من جديس *** أهكذا يفعل بالعروس؟»

«يرضى بهذا الفعل قطّ الحرّ *** هذا وقد أعطى وسيق المهر»

«لأخذه الموت كذا لنفسه *** خير من أن يفعل ذا بعرسه»

فأغضب ذلك أخاها فأخذ بيدها ورفعها إلى نادي قومها وهي تقول:

«أيجمل أن يؤتى إلى فتياتكم *** وأنتم رجال فيكم عدد الرمل؟»

«أيجمل تمشي في الدماء فتاتكم *** صبيحة زفّت في العشاء إلى بعل؟»

«فإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه *** فكونوا نساء لا تغبّ من الكحل»

«ودونكم ثوب العروس فإنما *** خلقتم لأثواب العروس وللغسل»

«فلو أننا كنا رجالا وكنتم *** نساء لكنّا لا نقرّ على الذلّ»

«فموتوا كراما أو أميتوا عدوّكم، *** وكونوا كنار شبّ بالحطب الجزل»

«وإلّا فخلّوا بطنها وتحمّلوا *** إلى بلد قفر وهزل من الهزل»

«فللموت خير من مقام على أذى، *** وللهزل خير من مقام على ثكل»

«فدبّوا إليهم بالصوارم والقنا *** وكلّ حسام محدث العهد بالصقل»

«ولا تجزعوا للحرب قومي فإنما *** يقوم رجال للرجال على رجل»

«فيهلك فيها كل وغل مواكل، *** ويسلم فيها ذو الجلادة والفضل»

فلما سمعت جديس منها ذلك امتلأوا غضبا ونكّسوا حياء وخجلا فقال أخوها الأسود: يا قوم أطيعوني فإنه عز الدهر فليس القوم بأعز منكم ولا أجلد ولولا تواكلنا لما أطعناهم وإن فينا لمنعة، فقال له قومه:

أشر بما ترى فنحن لك تابعون ولما تدعونا إليه مسارعون إلا أنك تعلم أن القوم أكثر منا عددا ونخاف أن لا نقوم لهم عند المنابذة، فقال لهم: قد رأيت أن أصنع للملك طعاما ثم أدعوه وقومه فإذا جاءونا قمت أنا إلى الملك وقتلته وقام كل واحد منكم إلى رئيس من رؤسائهم يفرغ منه فإذا فرغنا من الأعيان لم يبق للباقين قوة، فنهتهم أخت الأسود بن غفار عن الغدر وقالت: نافروهم فلعل الله أن ينصركم عليهم لظلمهم بكم، فعصوها، فقالت:

«لا تغدرنّ فإن الغدر منقصة، *** وكل عيب يرى عيبا وإن صغرا»

«إني أخاف عليكم مثل تلك غدا، *** وفي الأمور تدابير لمن نظرا»

«حشّوا شعيرا لهم فينا مناهدة، *** فكلكم باسل أرجو له الظفرا»

«شتّان باغ علينا غير موتئد *** يغشى الظّلامة لن تبقي ولن تذرا»

فأجابها أخوها الأسود وقال:

«إنّا لعمرك لا نبدي مناهدة *** نخاف منها صروف الدهر إن ظفرا»

«اني زعيم لطسم حين تحضرنا *** عند الطعام بضرب يهتك القصرا»

وصنع الأسود الطعام وأكثر وأمر قومه أن يدفن كل واحد منهم سيفه تحته في الرمل مشهورا، وجاء الملك في قومه فلما جلسوا للأكل وثب الأسود على الملك فقتله ووثب قومه على رجال طسم حتى أبادوا أشرافهم ثم قتلوا باقيهم، وقال الأسود بن غفار عند ذلك:

«ذوقي ببغيك يا طسم مجلّلة، *** فقد أتيت لعمري أعجب العجب»

«إنا أنفنا فلم ننفكّ نقتلهم، *** والبغي هيّج منا سورة الغضب»

«فلن تعودوا لبغي بعدها أبدا، *** لكن تكونوا بلا أنف ولا ذنب»

«فلو رعيتم لنا قربى مؤكّدة *** كنّا الأقارب في الأرحام والنسب»

وقال جديلة بن المشمخرّ الجديسي وكان من سادات جديس:

«لقد نهيت أخا طسم وقلت له: *** لا يذهبنّ بك الأهواء والمرح»

«واخش العواقب، إنّ الظلم مهلكة، *** وكلّ فرحة ظلم عندها ترح»

«فما أطاع لنا أمرا فنعذره، *** وذو النصيحة عند الأمر ينتصح»

«فلم يزل ذاك ينمي من فعالهم *** حتى استعادوا لأمر الغي فافتضحوا»

«فباد آخرهم من عند أولهم، *** ولم يكن لهم رشد ولا فلح»

«فنحن بعدهم في الحقّ نفعله *** نسقي الغبوق إذا شئنا ونصطبح»

«فليت طسما على ما كان إذ فسدوا *** كانوا بعافية من بعد ذا صلحوا»

«إذا لكنّا لهم عزّا وممنعة *** فينا مقاول تسمو للعلى رجح»

وهرب رجل من طسم يقال له رياح بن مرة حتى لحق بتبّع قيل أسعد تبان بن كليكرب بن تبع الأكبر ابن الأقرن بن شمر يرعش بن أفريقس، وقيل: بل لحق بحسان بن تبع الحميري وكان بنجران، وقيل:

بالحرم من مكة، فاستغاث به وقال: نحن عبيدك ورعيتك وقد اعتدى علينا جديس، ثم رفع عقيرته ينشده:

«أجبني إلى قوم دعوك لغدرهم *** إلى قتلهم فيها عليهم لك العذر»

«دعونا وكنّا آمنين لغدرهم، *** فأهلكنا غدر يشاب به مكر»

«وقالوا: اشهدونا مؤنسين لتنعموا *** ونقضي حقوقا من جوار له حجر»

«فلما انتهينا للمجالس كلّلوا *** كما كللت أسد مجوّعة خزر»

«فإنك لم تسمع بيوم ولن ترى *** كيوم أباد الحيّ طسما به المكر»

«أتيناهم في أزرنا ونعالنا، *** علينا الملاء الخضر والحلل الحمر»

«فصرنا لحوما بالعراء وطعمة *** تنازعنا ذئب الرّثيمة والنّمر»

«فدونك قوم ليس لله منهم *** ولا لهم منه حجاب ولا ستر»

فأجابه إلى سواله ووعده بنصره ثم رأى منه تباطؤا فقال:

«إني طلبت لأوتاري ومظلمتي *** يا آل حسّان يال العزّ والكرم»

«المنعمين إذا ما نعمة ذكرت، *** الواصلين بلا قربى ولا رحم»

«وعند حسّان نصر إن ظفرت به *** منه يمين ورأي غير مقتسم»

«إني أتيتك كيما أن تكون لنا *** حصنا حصينا ووردا غير مزدحم»

«فارحم أيامى وأيتاما بمهلكة، *** يا خير ماش على ساق وذي قدم»

«إني رأيت جديسا ليس يمنعها *** من المحارم ما يخشى من النّقم»

«فسر بخيلك تظفر إن قتلتهم *** تشفي الصدور من الأضرار والسقم»

«لا تزهدنّ فإنّ القوم عندهم *** مثل النعاج تراعي زاهر السّلم»

«ومقربات خناذيذ مسوّمة *** تعشي العيون وأصناف من النعم»

قال: فسار تبع في جيوشه حتى قرب من جوّ، فلما

كان على مقدار ليلة منها عند جبل هناك قال رياح الطسمي: توقف أيها الملك فإن لي أختا متزوّجة في جديس يقال لها يمامة وهي أبصر خلق الله على بعد فإنها ترى الشخص من مسيرة يوم وليلة وإني أخاف أن ترانا وتنذر بنا القوم، فأقام تبع في ذلك الجبل وأمر رجلا أن يصعد ا

يا قوم إني أرى على الجبل الفلاني رجلا وما أظنه إلّا عينا فاحذروه! فقالوا لها: ما يصنع؟ فقالت: إما يخصف نعلا أو ينهش كتفا، فكذّبوها، ثمّ إنّ رياحا قال للملك: مر أصحابك ليقطعوا من الشجر أغصانا ويستتروا بها ليشبهوا على اليمامة وليسيروا كذلك ليلا، فقال تبع: أوفي الليل تبصر مثل النهار؟ قال: نعم أيها الملك بصرها بالليل أنفذ، فأمر تبع أصحابه بذلك فقطعوا الشجر وأخذ كل رجل بيده غصنا حتى إذا دنوا من اليمامة ليلا نظرت اليمامة فقالت: يا آل جديس سارت إليكم الشّجراء أو جاءتكم أوائل خيل حمير، فكذبوها فصبحتهم حمير فهرب الأسود بن غفار في نفر من قومه ومعه أخته فلحق بجبلي طيّء فنزل هناك، فيقال إن له هناك بقية، وفي شرح هذه القصة يقول الأعشى:

«إذا أبصرت نظرة ليست بفاحشة *** إذا رفّع الآل رأس الكلب فارتفعا»

«قالت: أرى رجلا في كفه كتف، *** أو يخصف النعل، لهفا أيّة صنعا! »

«فكذّبوها بما قالت فصبّحهم *** ذو آل حسّان يزجي السّمر والسّلعا»

«فاستنزلوا آل جوّ من منازلهم، *** وهدّموا شاخص البنيان فاتضعا»

ولما نزل بجديس ما نزل قالت لهم زرقاء اليمامة:

كيف رأيتم قولي؟ وأنشأت تقول:

«خذوا خذوا حذركم يا قوم ينفعكم، *** فليس ما قد أرى م الأمر يحتقر»

«إني أرى شجرا من خلفها بشر، *** لأمر اجتمع الأقوام والشجر»

وهي من أبيات ركيكة، وفتح تبّع حصون اليمامة وامتنع عليه الحصن الذي كانت فيه زرقاء اليمامة فصابره تبّع حتى افتتحه وقبض على زرقاء اليمامة وعلى صاحب الحصن وكان اسمه لا يكلم ثم قال لليمامة: ماذا رأيت وكيف أنذرت قومك بنا؟ فقالت: رأيت رجلا عليه مسح أسود وهو ينكبّ على شيء فأخبرتهم أنه ينهش كتفا أو يخصف نعلا، فقال تبّع للرجل: ماذا صنعت حين صعدت الجبل؟ فقال: انقطع شراك نعلي ودخلت شوكة في رجلي فعالجت إصلاحها بفمي وعالجت نعلي بيدي، قال: فأمر تبّع بقلع عينيها وقال: أحب أن أرى الذي أرى لها هذا النظر، فلما قلع عينيها وجد عروقهما كلها محشوة بالإثمد، قالوا:

وكان قال لها أنّى لك حدّة البصر هذه؟ قالت: إني كنت آخذ حجرا أسود فأدقّه وأكتحل به فكان يقوّي بصري، فيقال إنها أول من اكتحل بالإثمد من العرب، قالوا: ولما قلع عينيها أمر بصلبها على باب جوّ وأن تسمى باسمها فسميت باسمها إلى الآن، وقال تبع يذكر ذلك:

«وسمّيت جوّا باليمامة بعد ما *** تركت عيونا باليمامة همّلا»

«نزعت بها عيني فتاة بصيرة *** رغاما ولم أحفل بذلك محفلا»

«تركت جديسا كالحصيد مطرّحا، *** وسقت نساء القوم سوقا معجّلا»

«أدنت جديسا دين طسم بفعلها، *** ولم أك لولا فعلها ذاك أفعلا»

«وقلت: خذيها يا جديس بأختها، *** وأنت لعمري كنت للظلم أولا! »

«فلا تدع جوّ ما بقيت باسمها، *** ولكنها تدعى اليمامة مقبلا»

قالوا: وخربت اليمامة من يومئذ لأن تبّعا قتل أهلها وسار عنها ولم يخلّف بها أحدا فلم تزل على ذلك حتى كان من حديث عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدّؤل بن حنيفة ما ذكرته في حجر، وممن ينسب إلى اليمامة جبير بن الحسن من أهل اليمامة قدم الشام ورأى عمر بن عبد العزيز وسمع رجاء بن حيوة ويعلى بن شدّاد بن أوس وعطاء ونافعا وعون بن عبد الله بن عتبة والحسن البصري، وروى عنه الأوزاعي وأبو إسحاق الفزاري ويحيى بن حمزة وعبد الصمد بن عبد الأعلى السلامي وعكرمة بن عمّار وخالد بن عبد الرحمن الخراساني وعلي بن الجعد، قال عثمان بن سعيد الدارمي: سألت يحيى بن معين عن جبير فقال: ليس بشيء، وقال أبو حاتم: لا أرى بحديثه بأسا، قال النسائي: هو ضعيف.

معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م


15-معجم المصطلحات البلاغية وتطورها (الكناية)

الكناية:

الكناية: أن تتكلّم بشيء وتريد غيره، وكنّى عن الأمر بغيره يكني كناية، وتكنّى: تستر من كنّى عنه إذا ورّى، أو من الكنية.

من أقدم الذين عرضوا للكناية أبو عبيدة وهي عنده ما فهم من الكلام ومن السياق من غير أن يذكر اسمه صريحا في العبارة فهي تستعمل قريبة من المعنى البلاغي كما في قوله تعالى: {نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} فهو كناية وتشبيه، وفي قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ*} كناية عن الغشيان.

وقد تأتي الكناية بمعنى الضمير وهو ما ذكره سيبويه وكرّره أبو عبيدة في «مجاز القرآن» والفراء في «معاني القرآن». وأشار الجاحظ الى الكناية والتعريض وذكر أنّهما لا يعملان في العقول عمل الافصاح والكشف، وربطها هي والوحي باللحظ ودلالة الاشارة ونقل عن شريح أنه قال: «الحدّة كناية عن الجهل» ونقل عن أبي عبيدة أنّه قال: «العارضة كناية عن البذاء» قال: «واذا قالوا فلان مقتصد فتلك كناية عن البخل، واذا قيل للعامل مستقص فذلك كناية عن الجور». وهذا هو المعنى الذي وقف عنده البلاغيون والنقاد.

وذكر ابن المعتزّ فنّا من محاسن الكلام هو «التعريض والكناية» ولكنه لم يعرفهما وأدخل فيهما ما سمّي لغزا وذكر قول بعضهم:

«أبوك أب ما زال للناس موجعا***لأعناقهم نقرا كما ينقر الصّقر»

«إذا عوّج الكتّاب يوما سطورهم ***فليس بمعوجّ له أبدا سطر»

وتقع الكناية عند المبرّد على ثلاثة أضرب:

أحدها: التعمية والتغطية كقول النابغة الجعدي:

«أكني بغير اسمها وقد علم ***الله خفيات كلّ مكتتم »

وقال ذو الرّمة استراحة الى التصريح من الكناية:

«أحبّ المكان القفر من أجل انني ***به اتغنّى باسمها غير معجم »

وثانيها: الرغبة عن اللفظ الخسيس المفحش الى ما يدلّ على معناه من غيره كقوله تعالى في المسيح وأمه: {كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ} وهو كناية عن قضاء الحاجة.

وثالثها: التفخيم والتعظيم ومنه اشتقت الكنية وهو أن يعظّم الرجل أن يدعى باسمه، وقد وقعت في الكلام على ضربين: في الصبي على جهة التفاؤل بأن يكون له ولد ويدعى بولده كناية عن اسمه، وفي الكبير أن ينادى باسم ولده صيانة لاسمه.

وذكر قدامة فنا سمّاه الإشارة، وهو أن يكون اللفظ القليل مشتملا على معان كثيرة بايماء اليها أو لمحة تدلّ عليها كما قال بعضهم وقد وصف البلاغة «هي لمحة دالّة». وذكر في باب ائتلاف اللفظ والمعنى فنا سماه «الإرداف» وهو أن يريد الشاعر دلالة على معنّى من المعاني فلا يأتي باللفظ الدال على ذلك المعنى بل بلفظ يدلّ على معنّى هو ردفه وتابع له فإذا دلّ على التابع أبان عن المتبوع، كقول عمر بن ابي ربيعة:

«بعيدة مهوى القرط إمّا لنوفل ***أبوها وإما عبد شمس وهاشم »

وإنما أراد أن يصف طول الجيد فلم يذكره بلفظه الخاص بل أتى بمعنى هو تابع لطول الجيد وهو بعد مهوى القرط.

وتحدّث ابن سنان عن حسن الكناية عما يجب أن يكنى عنه في المواضع التي لا يحسن التصريح فيها، وعدّه أصلا من أصول الفصاحة وشرطا من شروط البلاغة.

وتحدّث عن الإرداف وقال: «ومن نعوت البلاغة والفصاحة أن تراد الدّلالة على المعنى فلا يستعمل اللفظ الخاص الموضوع له في اللغة بل يؤتى بلفظ يتبع ذلك المعنى ضرورة فيكون في ذكر التابع دلالة على المتبوع، وهذا يسمّى الإرداف والتتبيع لأنه يؤتى فيه بلفظ هو ردف اللفظ المخصوص بذلك المعنى وتابعه».

واختلط مصطلحا «الكناية» و «التعريض» عند العسكري وقال: «هو أن يكنّى عن الشيء ويعرّض به ولا يصرّح على حسب ما عملوا باللحن والتورية عن الشيء» وتحدّث عن الإرداف والتوابع وقال: «أن يريد المتكلّم الدلالة على معنى فيترك اللفظ الدالّ عليه الخاص به ويأتي بلفظ هو ردفه وتابع له فيجعله عبارة عن المعنى الذي أراده، وذلك مثل قول الله تعالى: {فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ}. وقصور الطرف في الأصل موضوعة للعفاف على جهة التوابع والإرداف، وذلك أنّ المرأة اذا عفّت قصرت طرفها على زوجها فكان، قصور الطرف ردفا للعفاف، والعفاف ردف وتابع لقصور الطرف». وتكلّم على المماثلة وهي: «أن يريد المتكلّم العبارة عن معنى فيأتي بلفظة تكون موضوعة لمعنى آخر إلا أنّه ينبىء اذا أورده عن المعنى الذي أراده كقولهم: «فلان نقي الثوب» يريدون أنّه لا عيب فيه وليس موضوع نقاء الثوب البراءة من العيوب وإنما استعمل فيه تمثيلا».

وأدخل ابن رشيق الكناية في باب الإشارة وهي عنده من غرائب الشعر وملحه، وبلاغته عجيبة تدلّ على بعد المرمى وفرط المقدرة وليس يأتي بها إلا الشاعر المبرز والحاذق الماهر، وهي في كل نوع من الكلام لمحة دالّة واختصار وتلويح يعرف مجملا، ومعناه بعيد من ظاهر لفظه. ومن أنواعها التفخيم والايماء والتعريض والتلويح والكناية والتمثيل والرمز واللمحة واللغز واللحن والتعمية والحذف والتورية والتتبيع. وقال عن الكناية: «والعرب تجعل المهاة شاة لأنّها عندهم ضائنة الظباء، ولذلك يسمونها نعجة. وعلى هذا المتعارف في الكناية جاء قول الله ـ عزوجل ـ في إخباره عن خصم داود ـ عليه‌السلام ـ: {إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ}. كناية بالنعجة عن المرأة. وقال امرؤ القيس:

«وبيضة خدر لا يرام خباؤها***تمتعت من لهو بها غير معجل »

كناية بالبيضة عن المرأة». وقال إنّ من الكناية اشتقاق الكنية لانك تكني عن الرجل بالابوة، وذكر الأضرب الثلاثة التي ذكرها المبرّد.

وبدأ فن الكناية يأخذ طابعه العلمي بعد ذلك فقال عبد القاهر: «الكناية أن يريد المتكلّم اثبات معنى من المعاني فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة ولكن يجيء الى معنى هو تاليه وردفه في الوجود فيومىء به اليه ويجعله دليلا عليه».

وقال الرازي: اعلم أنّ اللفظة اذا اطلقت وكان الغرض الاصلي غير معناها فلا يخلو إما أن يكون معناها مقصودا أيضا ليكون دالا على ذلك الغرض الاصلي، وإما أن لا يكون. فالأول الكناية، والثاني المجاز».

وقال ابن الزملكاني: «هي أن تريد إثبات معنى فتترك اللفظ الموضوع له وتأتي بتاليه وجودا لتومىء به اليه وتجعله شاهدا له ودليلا عليه».

وقال السّكّاكي: «هي ترك التصريح بذكر الشيء الى ذكر ما هو ملزومه لينتقل من المذكور الى المتروك».

وذكر ابن الأثير عدّة تعريفات ورجّح «أنّها كل لفظة دلت على معنى يجوز حمله على جانبي الحقيقة والمجاز بوصف جامع بين الحقيقة والمجاز».

وقال القزويني: «الكناية لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادة معناه حينئذ».

وقال المصري: «هي أن يعبر المتكلم عن المعنى القبيح باللفظ الحسن وعن الفاحش بالطاهر».

وذكر العلوي عدّة تعريفات ثم قال: «فالمختار عندنا في بيان ماهية الكناية أن يقال هي اللفظ الدالّ على معنيين مختلفين حقيقة ومجازا من غير واسطة لا على جهة التصريح».

وقال الزركشي: «الكناية عن الشيء: الدلالة عليه من غير تصريح باسمه، وهي عند أهل البيان أن يريد المتكلّم إثبات معنى من المعاني فلا يذكره باللفظ الموضوع له من اللغة ولكن يجيء الى معنى هو تاليه ورديفه في الوجود ويجعله دليلا عليه فيدلّ على المراد من طريق أولى».

وفرّق الحموي بين الكناية والإرداف فقال عنها: «الكناية هي الإرداف بعينه عند علماء البيان، وإنما علماء البديع أفردوا الإرداف عنها، والكناية هي أن يريد المتكلّم إثبات معنى من المعاني فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة ولكن يجيء الى معنى هو ردفه في الوجود فيومىء اليه ويجعله دليلا عليه». وقال في الإرداف: «نوع الإرداف قالوا:

إنّه هو والكناية شيء واحد. قلت: واذا كان الامر كذلك كان الواجب اختصارهما وإنما ائمة البديع كقدامة والحاتمي والرماني قالوا: إنّ الفرق بينهما ظاهر. والإرداف هو أن يريد المتكلم معنى فلا يعبر عنه بلفظه الموضوع له بل يعبر عنه بلفظ هو رديفه وتابعه».

وقال المدني: «هي ترك التصريح بذكر الشيء الى ذكر لازمه المساوي لينتقل الذهن منه الى الملزوم المطوي ذكره»، وقال السجلماسي: «هي اقتضاب الدلالة على ذات المعنى بما له اليه نسبة».

ولا يخرج كلام الآخرين على الكناية عما تقدم.

واختلف البلاغيون في الكناية، هل هي حقيقة أو مجاز؟ وقد أنكر الرازي أن تكون مجازا وفعل مثله عز الدين بن عبد السّلام الذي قال: «الظاهر أنّ الكناية ليست من المجاز لأنّك استعملت اللفظ فيما وضع له وأردت به الدلالة على غيره ولم تخرجه عن أن يكون مستعملا فيما وضع له». وذهبت جماعة الى أنّها مجاز كالعلوي الذي قال: «وهكذا اسم المجاز فانه شامل لانواعه من الاستعارة والكناية والتمثيل» وقال السكاكي: «إنها نازلة من المجاز منزلة المركب من المفرد» ولذلك أخّر بحثها عن المجاز. وعدّ ابن الاثير الكناية من الاستعارة وقال إنّ كلّ كناية استعارة وليست كل استعارة كناية. وذهب القزويني الى أنّها واسطة بين الحقيقة والمجاز وعلّل الدسوقي ذلك بقوله: «الكناية إخراجها بناء على أنّها واسطة لا حقيقة ولا مجاز، أما أنّها ليست حقيقة فلانها ـ كما سبق ـ اللفظ المستعمل فيما وضع له. والكناية ليست كذلك وأما أنّها ليست مجازا فلانّه اشترط فيها القرينة المانعة عن إرادة الحقيقة، والكناية ليست كذلك ولهذا أخرجها من تعريف المجاز».

ولخّص السيوطي المذاهب المختلفة في الكناية وحصرها في أربعة:

الاول: أنّها حقيقة قاله ابن عبد السّلام وهو الظاهر لأنّها استعملت فيما وضعت له وأريد بها الدلالات على غيره.

الثاني: أنّها مجاز.

الثالث: أنّها لا حقيقة ولا مجاز واليه ذهب صاحب التلخيص لمنعه في المجاز أن يراد المعنى الحقيقي مع المجازي وتجويزه ذلك فيها.

الرابع: وهو اختيار الشيخ تقي الدين السبكي أنّها تقسم الى حقيقة ومجاز، فان استعمل اللفظ في معناه مرادا من لازم المعنى أيضا فهو حقيقة وإن لم يرد المعنى بل عبّر بالملزوم عن اللازم فهو مجاز لاستعماله فيما وضع له.

ولم يكن للكناية في مراحل التأليف الاولى تقسيم واضح، ولكنّ ابن الاثير قسمها في كتابه «الجامع الكبير» الى أربعة أقسام هي: التمثيل والإرداف والمجاورة والكناية التي ليست تمثيلا ولا إردافا ولا مجاورة. وفي كتابه «المثل السائر» قال إنّ هذا التقسيم غير دقيق، وقسمها الى لونين: ما يحسن استعماله وما لا يحسن استعماله وهو عيب في الكلام فاحش. وقسّمها السّكاكي ومن سار على نهجه كالقزويني وشرّاح التلخيص الى ثلاثة أقسام:

الأوّل: الكناية المطلوب بها نفس الموصوف، وهي قريبة وبعيدة، ومثال القريبة قول الشاعر كناية عن القلب:

«الضاربين بكلّ أبيض مخذم ***والطاعنين مجامع الأضغان »

و «مجامع الأضغان» كناية عن القلوب.

وقول أبي العلاء:

«سليل النار دقّ ورقّ حتى ***كأن أباه أورثه السّلالا»

و «سليل النار» كناية عن السيف.

وقول الآخر:

«ودبّ لها في موطن الحلم علّة***لها كالصلال الرقش شرّ دبيب »

و «موطن الحلم» كناية عن الصدور.

والكناية البعيدة أن يتكلف المتكلّم اختصاصها بأن يضم الى لازم لازما آخر وآخر حتى يلفق مجموعا وصفيّا مانعا من دخول كل ما عدا مقصوده، كأن يقال في الكناية عن الانسان: «حي مستوي القامة عريض الأظفار».

الثاني: الكناية المطلوب بها نفس الصفة، وهي قريبة وبعيدة، فالقريبة كقول طرفة:

«أنا الرجل الضّرب الذي تعرفونه ***خشاش كرأس الحية المتوقّد»

وقد كنّى عن صلابة جسمه وخفّة لحمه ومضي رأيه وتوقّد ذهنه وذكائه.

وقول الآخر:

«ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا***ولكن على أقدامنا تقطر الدما»

وهذا كناية عن الشجاعة.

والكناية البعيدة هي الانتقال الى المطلوب من لازم بعيد بوساطة لوازم متسلسلة كقول نصيب:

«لعبد العزيز على قومه ***وغيرهم منن ظاهره »

«فبابك أسهل أبوابهم ***ودارك مأهولة عامره »

«وكلبك آنس بالزائرين ***من الأم بابنتها الزائره »

فانه انتقل من وصف كلبه بما ذكر أنّ الزائرين معارف عنده، ومن ذلك الى اتصال مشاهدتهم ليلا ونهارا، ومنها الى لزومهم بابه، ومنها الى وفور إحسانه وهو المقصود.

ومنه قول المتنبي:

«تشتكي ما اشتكيت من ألم الشّو***ق اليها والشّوق حيث النحول »

الثالث: الكناية التي يطلب بها تخصيص الصفة بالموصوف وهي الكناية عن نسبة ويراد بها إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه أو كما قال ابن الزملكاني: «أن يأتوا بالمراد منسوبا الى أمر يشتمل عليه من هي له حقيقة». ومن هذا النوع قول زياد الأعجم:

«إنّ السماحة والمروءة والنّدى ***في قبّة ضربت على ابن الحشرج »

وقول الشنفري:

«يبيت بمنجاة عن اللوم بيتها***إذا ما بيوت بالملامة حلّت »

وقول حسان بن ثابت:

«بنى المجد بيتا فاستقرّ عماده ***علينا فأعيا الناس أن يتحوّلا»

وقول الآخر:

«اليمن يتبع ظلّه ***والمجد يمشي في ركابه »

وقول أبي نواس:

«فما جازه جود ولا حلّ دونه ***ولكن يصير الجود حيث يصير»

وقول المتنبي:

«إنّ في ثوبك الذي المجد منه ***لضياء يزري بكلّ ضياء»

وقال السّكاكي بعد هذه الاقسام إنّه قد يظن بعضهم أنّ هناك قسما رابعا وليس الأمر كذلك قال: «وقد يظن أنّ ههنا قسما رابعا وهو أن يكون المطلوب بالكناية الوصف والتخصيص معا مثل ما يقال: «يكثر الرماد في ساحة عمرو» في الكناية عن أن عمرا مضياف فليس بذاك إذ ليس ما ذكر بكناية واحدة بل هما كنايتان وانتقال من لازمين الى ملزومين، أحد اللازمين كثرة الرماد والثاني تقييدها وهو قولك «في ساحة عمرو».

وهذه الأقسام الثلاثة هي مما ذكره عبد القاهر، غير أنّه لم يحدّدها تحديدا دقيقا أو يفصل الأمثلة فصلا تاما، وكان السّكاكي ومن سار على مذهبه قد أوقفوا هذا الفن عند هذه الحدود.

معجم المصطلحات البلاغية وتطورها-أحمد مطلوب-صدر: 1403هـ/1983م


16-موسوعة الفقه الكويتية (استثناء 1)

اسْتِثْنَاءٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الِاسْتِثْنَاءُ لُغَةً: مَصْدَرُ اسْتَثْنَى، تَقُولُ: اسْتَثْنَيْتُ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ إِذَا أَخْرَجْتَهُ، وَيُقَالُ: حَلَفَ فُلَانٌ يَمِينًا لَيْسَ فِيهَا ثُنْيَا، وَلَا مَثْنَوِيَّةً، وَلَا اسْتِثْنَاءَ، كُلُّهُ وَاحِدٌ.

وَذَكَرَ الشِّهَابُ الْخَفَاجِيُّ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي اللُّغَةِ وَالِاسْتِعْمَالِ يُطْلَقُ عَلَى: التَّقْيِيدِ بِالشَّرْطِ وَمِنْهُ قوله تعالى {وَلَا يَسْتَثْنُونَ} أَيْ لَا يَقُولُونَ: «إِنْ شَاءَ اللَّهُ».

وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظِيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا أَوْ حُكْمِيًّا، فَالِاسْتِثْنَاءُ اللَّفْظِيُّ هُوَ: الْإِخْرَاجُ مِنْ مُتَعَدِّدٍ بِإِلاَّ، أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا وَيَلْحَقُ بِهِ فِي الْحُكْمِ الْإِخْرَاجُ بِأَسْتَثْنِي وَأُخْرِجُ وَنَحْوِهِمَا عَلَى لَفْظِ الْمُضَارِعِ، وَعَرَّفَهُ السُّبْكِيُّ بِأَنَّهُ: الْإِخْرَاجُ بِإِلاَّ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ.

وَعَرَّفَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ الْحَنَفِيُّ بِأَنَّهُ: الْمَنْعُ مِنْ دُخُولِ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ فِي حُكْمِهِ بِإِلاَّ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا، فَعَرَّفَهُ بِالْمَنْعِ، وَلَمْ يُعَرِّفْهُ بِالْإِخْرَاجِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا إِخْرَاجَ بِهِ، إِذْ لَمْ يَدْخُلِ الْمُسْتَثْنَى فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَصْلًا حَتَّى يَكُونَ مُخْرَجًا.فَالِاسْتِثْنَاءُ لِمَنْعِهِ مِنَ الدُّخُولِ وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الِاسْتِثْنَاءَ أَيْضًا بِمَعْنَى قَوْلِ: «إِنْ شَاءَ اللَّهُ» فِي كَلَامٍ إِنْشَائِيٍّ أَوْ خَبَرِيٍّ.

وَهَذَا النَّوْعُ لَيْسَ اسْتِثْنَاءً حَقِيقِيًّا بَلْ هُوَ مِنْ مُتَعَارَفِ النَّاسِ.فَإِنْ كَانَ بِإِلاَّ وَنَحْوِهَا فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ حَقِيقِيٌّ، أَوِ «اسْتِثْنَاءٌ وَضْعِيٌّ»، كَأَنْ يَقُولَ: لَا أَفْعَلُ كَذَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، أَوْ: لأَفْعَلَنَّ كَذَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، وَمِنَ الْعُرْفِيِّ قَوْلُ النَّاسِ: إِنْ يَسَّرَ اللَّهُ، أَوْ إِنْ أَعَانَ اللَّهُ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ.

وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا التَّعْلِيقُ- وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ إِلاَّ- اسْتِثْنَاءً لِشِبْهِهِ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ فِي صَرْفِهِ الْكَلَامَ السَّابِقَ لَهُ عَنْ ظَاهِرِهِ.

وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمَعْنَوِيُّ هُوَ: الْإِخْرَاجُ مِنَ الْجُمْلَةِ بِغَيْرِ أَدَاةِ اسْتِثْنَاءٍ، كَقَوْلِ الْمُقِرِّ: «لَهُ الدَّارُ، وَهَذَا الْبَيْتُ مِنْهَا لِي».وَإِنَّمَا أَعْطَوْهُ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّهُ فِي قُوَّةِ قَوْلِهِ: «لَهُ جَمِيعُ الدَّارِ إِلاَّ هَذَا الْبَيْتِ».

وَالِاسْتِثْنَاءُ الْحُكْمِيُّ يُقْصَدُ بِهِ أَنْ يُرِدَ التَّصَرُّفَ مَثَلًا عَلَى عَيْنٍ فِيهَا حَقٌّ لِلْغَيْرِ، كَبَيْعِ الدَّارِ الْمُؤَجَّرَةِ، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْقَطِعُ بِذَلِكَ، وَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، فَكَأَنَّ الْبَيْعَ وَرَدَ عَلَى الْعَيْنِ بِاسْتِثْنَاءِ مَنْفَعَتِهَا مُدَّةَ الْإِجَارَةِ.

وَهَذَا الْإِطْلَاقُ قَلِيلٌ فِي مُتَعَارَفِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ لِلسُّيُوطِيِّ وَالْقَوَاعِدِ لِابْنِ رَجَبٍ إِلاَّ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ لَا يَدْخُلُ فِي مَفْهُومِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ، وَلِذَا فَلَا تَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الِاسْتِثْنَاءِ فِيمَا يَلِي مِنْ هَذَا الْبَحْثِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّخْصِيصُ:

2- التَّخْصِيصُ: قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ فَهُوَ يُبَيِّنُ كَوْنَ اللَّفْظِ قَاصِرًا عَنِ الْبَعْضِ.وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُفَارِقُ التَّخْصِيصَ فِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُشْتَرَطُ اتِّصَالُهُ، وَأَنَّهُ يَتَطَرَّقُ إِلَى الظَّاهِرِ وَالنَّصِّ جَمِيعًا، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ ثَلَاثَةً، كَمَا يَقُولُ: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إِلاَّ زَيْدًا، وَالتَّخْصِيصُ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَى النَّصِّ أَصْلًا، وَمِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَيْضًا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِقَوْلٍ، وَيَكُونُ التَّخْصِيصُ بِقَوْلٍ أَوْ قَرِينَةٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ.

هَذَا وَإِنَّ الْفَرْقَ الْأَوَّلَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ مِنِ اشْتِرَاطِ الِاتِّصَالِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فِي التَّخْصِيصِ، لَا يَجْرِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِقَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ اتِّصَالِ الْمُخَصِّصَاتِ أَيْضًا.

ب- النَّسْخُ:

3- النَّسْخُ: رَفْعُ الشَّارِعِ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِهِ بِدَلِيلٍ لَاحِقٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ: أَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ لِمَا دَخَلَ تَحْتَ اللَّفْظِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَدْخُلُ عَلَى الْكَلَامِ فَيَمْنَعُ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ اللَّفْظِ مَا كَانَ يَدْخُلُ لَوْلَاهُ، فَالنَّسْخُ قَطْعٌ وَرَفْعٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مَنْعٌ أَوْ إِخْرَاجٌ، وَأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ، وَالنَّسْخَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُنْفَصِلًا.

ج- الشَّرْطُ:

4- يُشْبِهُ الِاسْتِثْنَاءُ بِإِلاَّ وَأَخَوَاتِهَا الشَّرْطَ (التَّعْلِيقَ)، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مَنْعِ الْكَلَامِ مِنْ إِثْبَاتِ مُوجِبِهِ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ الشَّرْطَ يَمْنَعُ الْكُلَّ، وَالِاسْتِثْنَاءَ يَمْنَعُ الْبَعْضَ.

وَيُشَابِهُ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ الشَّرْطَ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مَنْعِ الْكُلِّ وَذِكْرِ أَدَاةِ التَّعْلِيقِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ عَلَى طَرِيقِهِ؛ لِأَنَّهُ مَنْعٌ لَا إِلَى غَايَةٍ، وَالشَّرْطُ مَنْعٌ إِلَى غَايَةِ تَحَقُّقِهِ، كَمَا فِي قَوْلِكَ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ إِنْ دَخَلُوا دَارِي.وَمِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ لَا يَدْخُلُ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ فِي بَحْثِ التَّعْلِيقِ وَالشَّرْطِ.وَلَا يُورِدُهُ الْفُقَهَاءُ فِي مَبَاحِثِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا فِي بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ، لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي الِاسْمِ.

5- الْقَاعِدَةُ الْأَصِيلَةُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ:

الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ، فَنَحْوُ: مَا قَامَ أَحَدٌ إِلاَّ زَيْدًا، يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ، وَنَحْوُ: قَامَ الْقَوْمُ إِلاَّ زَيْدًا، يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْقِيَامِ عَنْهُ،

وَفِي هَذَا خِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ.

فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ قِيلَ: خِلَافُهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ.وَقِيلَ: بَلْ فِي الثَّانِيَةِ فَقَطْ، فَقَدْ قَالَ: إِنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ، فَزَيْدٌ فِي الْمِثَالِ الْمُتَقَدِّمِ غَيْرُ مَحْكُومٍ بِقِيَامِهِ وَلَا بِعَدَمِهِ.

وَحَاصِلُ الْخِلَافِ فِي نَحْوِ: قَامَ الْقَوْمُ إِلاَّ زَيْدًا، أَنَّ الْجُمْهُورَ يَقُولُونَ: إِنَّ زَيْدًا بِالِاسْتِثْنَاءِ دَخَلَ فِي عَدَمِ الْقِيَامِ.وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ انْتَقَلَ إِلَى عَدَمِ الْحُكْمِ.وَعِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ هُوَ مُخْرَجٌ مِنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ.

وَأَمَّا مَالِكٌ فَيُوَافِقُ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ فِي غَيْرِ الْأَيْمَانِ، أَمَّا فِي الْأَيْمَانِ فَلَيْسَ الِاسْتِثْنَاءُ إِثْبَاتًا.

فَمَنْ حَلَفَ: لَا يَلْبَسُ الْيَوْمَ ثَوْبًا إِلاَّ الْكَتَّانَ، يَحْنَثُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِذَا قَعَدَ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَارِيًّا فَلَمْ يَلْبَسْ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ النَّفْيُ إِثْبَاتًا فَقَدْ حَلَفَ أَنْ يَلْبَسَ الْكَتَّانَ، فَإِذَا لَمْ يَلْبَسْهُ وَقَعَدَ عَارِيًّا حَنِثَ.

أَمَّا عِنْدَ مَالِكٍ فَلَا يَحْنَثُ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَجَّهَ الْقَرَافِيُّ ذَلِكَ بِأَنَّ (إِلاَّ) فِي هَذَا الْمِثَالِ وَنَحْوِهَا صِفَةٌ، فَهِيَ بِمَعْنَى غَيْرُ، فَيَكُونُ قَدْ حَلَفَ عَلَى أَلاَّ يَلْبَسَ ثِيَابًا مُغَايِرَةً لِلْكَتَّانِ.

وَوَجَّهَهُ أَيْضًا بِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّ جَمِيعَ الثِّيَابِ مَحْلُوفٌ عَلَيْهَا غَيْرَ الْكَتَّانِ.

أَنْوَاعُ الِاسْتِثْنَاءِ:

6- الِاسْتِثْنَاءُ إِمَّا مُتَّصِلٌ وَإِمَّا مُنْفَصِلٌ.

فَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُتَّصِلُ: مَا كَانَ فِيهِ الْمُسْتَثْنَى بَعْضُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ نَحْوُ جَاءَ الْقَوْمُ إِلاَّ زَيْدًا.

وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ: (وَيُسَمَّى الْمُنْفَصِلُ أَيْضًا) مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ الْمُسْتَثْنَى بَعْضُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، مِثْلُ قوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} فَإِنَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ لَيْسَ عِلْمًا.

وَيَتَبَيَّنُ مِنْ هَذَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ لَا إِخْرَاجَ بِهِ، وَلَا يَكُونُ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى لَمْ يَدْخُلْ أَصْلًا.هَذَا وَلَا بُدَّ لِلِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فِيمَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ الْمُوَافَقَةُ.وَالْفَائِدَةُ فِيهِ دَفْعُ هَذَا التَّوَهُّمِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ شَبِيهٌ بِ (لَكِنَّ)، فَإِنَّهُ لِلِاسْتِدْرَاكِ، أَيْ دَفْعِ التَّوَهُّمِ مِنَ السَّابِقِ.وَأَشْهَرُ صُوَرِ الْمُخَالَفَةِ: أَنْ يَنْفِيَ عَنِ الْمُسْتَثْنَى الْحُكْمَ الَّذِي ثَبَتَ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، نَحْوُ: جَاءَنِي الْمُدَرِّسُونَ إِلاَّ طَالِبًا، فَقَدْ نَفَيْنَا الْمَجِيءَ عَنِ الطَّالِبِ بَعْدَمَا أَثْبَتْنَاهُ لِلْمُدَرِّسِينَ.

وَلَمَّا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ لَا إِخْرَاجَ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً حَقِيقَةً، بَلْ هُوَ مَجَازٌ.

قَالَ الْمَحَلِّيُّ: هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ الْمُتَّصِلُ دُونَ الْمُنْقَطِعِ.

وَعَلَى هَذَا جَاءَ حَدُّ الِاسْتِثْنَاءِ فِيمَا سَبَقَ، فَقَدْ عُرِّفَ بِمَا لَا يَشْمَلُ الْمُنْقَطِعَ وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ أُخْرَى مَوْطِنُ تَفْصِيلِهَا كُتُبُ الْأُصُولِ.

صِيغَةُ الِاسْتِثْنَاءِ:

أ- أَلْفَاظُ الِاسْتِثْنَاءِ:

7- يَذْكُرُ اللُّغَوِيُّونَ وَالْأُصُولِيُّونَ لِلِاسْتِثْنَاءِ الْحَقِيقِيِّ الْأَلْفَاظَ التَّالِيَةَ: إِلاَّ، وَغَيْرَ، وَسِوَى، وَخَلَا، وَعَدَا، وَحَاشَا، وَبَيْدَ، وَلَيْسَ، وَلَا يَكُونُ.

ب- الِاسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ وَنَحْوِهَا:

8- شَرَعَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هَذَا النَّوْعَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ، فَقَدْ قَالَ لِنَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم-: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: عَاتَبَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - عليه الصلاة والسلام- عَلَى قَوْلِهِ لِلْكُفَّارِ حِينَ سَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، وَالْفِتْيَةِ، وَذِي الْقَرْنَيْنِ: (ائْتُونِي غَدًا) وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِي ذَلِكَ.فَاحْتُبِسَ الْوَحْيُ عَنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَأَرْجَفَ الْكُفَّارُ بِهِ، فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْكَهْفِ، وَأُمِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْهَا: أَلاَّ يَقُولَ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ: إِنِّي أَفْعَلُ غَدًا كَذَا وَكَذَا إِلاَّ أَنْ يُعَلِّقَ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى لَا يَكُونَ مُحَقِّقًا لِحُكْمِ الْخَبَرِ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ: لأَفْعَلَنَّ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَلْ كَانَ كَاذِبًا، وَإِذَا قَالَ لأَفْعَلَنَّ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُحَقِّقًا لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ إِلاَّ أَنْ تَقُولَ: إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ.أَوْ: إِلاَّ أَنْ تَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَقَالَ: وَالْآيَةُ لَيْسَتْ فِي الْأَيْمَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي سُنَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي غَيْرِ الْيَمِينِ وَأَوْضَحَ كَذَلِكَ أَنَّ آخِرَ الْآيَةِ، وَهُوَ قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}.يَدُلُّ- عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِهَا- أَنَّهُ إِذَا نَسِيَ الِاسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ يَقُولُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا تَذَكَّرَهُ.

فَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: مَا دَامَ فِي مَجْلِسِ الذِّكْرِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَنَتَيْنِ.فَيُحْمَلُ عَلَى تَدَارُكِ التَّبَرُّكِ بِالِاسْتِثْنَاءِ.

فَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ الْمُفِيدُ حُكْمًا- يَعْنِي فِي الْيَمِينِ وَنَحْوِهَا- فَلَا يَصِحُّ إِلاَّ مُتَّصِلًا.هَذَا، وَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ وَنَحْوِهَا يَدْخُلُ فِي كَلَامِ النَّاسِ فِي الْأَخْبَارِ، وَالْأَيْمَانِ، وَالنُّذُورِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَالْوَعْدِ، وَالْعَقْدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.ثُمَّ يَكُونُ لَهُ أَثَرُهُ فِي حِلِّ الْيَمِينِ وَنَحْوِهَا.

اسْتِثْنَاءُ عَدَدَيْنِ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الشَّكِّ:

9- إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إِلاَّ مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْحَاصِلِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَلْزَمُهُ تِسْعُمِائَةٍ؛ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا شَكَكْنَا فِي الْمُتَكَلِّمِ بِهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ شَغْلِ الذِّمَمِ، فَثَبَتَ الْأَقَلُّ.

وَالثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ «خُرُوجٌ بَعْدَ دُخُولٍ». يَلْزَمُهُ تِسْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الْأَلْفُ صَارَ الشَّكُّ فِي الْمُخْرَجِ، فَيَخْرُجُ الْأَقَلُّ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ وَالْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ:

10- إِذَا وَرَدَ الِاسْتِثْنَاءُ بِإِلاَّ وَنَحْوِهَا بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ بِالْوَاوِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْفَخْرِ الرَّازِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ.وَعِنْدَ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْكُلِّ.

وَقَالَ الْبَاقِلاَّنِيُّ بِالتَّوَقُّفِ فِي عَوْدِهِ إِلَى مَا عَدَا الْأَخِيرَ.

وَقَالَ الْغَزَالِيُّ بِالتَّوَقُّفِ مُطْلَقًا.

وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْمُعْتَزِلِيُّ: إِنْ ظَهَرَ الْإِضْرَابُ عَنِ الْأُولَى، كَمَا لَوِ اخْتَلَفَ بِالْإِنْشَائِيَّةِ وَالْخَبَرِيَّةِ، أَوِ الْأَمْرِيَّةِ وَالنَّهْيِيَّةِ، أَوْ لَمْ يَكُنِ اشْتِرَاكٌ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ، فَإِنَّهُ يَعُودُ لِلْأَخِيرَةِ فَقَطْ، وَإِلاَّ فَلِلْجَمِيعِ.

وَالنِّزَاعُ كَمَا تَرَى فِي الظُّهُورِ.وَلَا تَتَأَتَّى دَعْوَى النُّصُوصِيَّةِ فِي وَاحِدٍ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ.وَلَمْ يُنَازِعْ أَحَدٌ أَيْضًا فِي إِمْكَانِ عَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْأَخِيرَةِ وَحْدَهَا، وَإِمْكَانِ عَوْدِهِ إِلَى الْكُلِّ، فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ، هَذَا إِذَا كَانَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ أَوْ ثُمَّ فَالْخِلَافُ قَائِمٌ أَيْضًا، لَكِنْ ذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ- كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْآمِدِيِّ- إِلَى أَنَّهُ يَعُودُ حِينَئِذٍ إِلَى الْأَخِيرِ.

وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ حُكْمَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى، ظَاهِرٌ فِي الثُّبُوتِ عُمُومًا، وَرَفْعُهُ عَنِ الْبَعْضِ بِالِاسْتِثْنَاءِ مَشْكُوكٌ فِيهِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ لِلْأَخِيرَةِ فَقَطْ، فَلَا يَرْفَعُ حُكْمَ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يُعَارِضُهُ الْمَشْكُوكُ.بِخِلَافِ الْأَخِيرَةِ، فَإِنَّ حُكْمَهَا غَيْرُ ظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ الرَّفْعَ ظَاهِرٌ فِيهَا فِيمَا لَا صَارِفَ لَهُ، فَيَتَعَلَّقُ بِهَا.

وَاحْتَجُّوا ثَانِيًا بِأَنَّ الِاتِّصَالَ مِنْ شَرْطِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالِاتِّصَالُ ثَابِتٌ فِي الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، أَمَّا فِيمَا قَبْلَهَا فَإِنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِالْعَطْفِ، إِلاَّ أَنَّ الِاتِّصَالَ بِالْعَطْفِ فَقَطْ ضَعِيفٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ آخَرَ مُوجِبٍ لِاعْتِبَارِ هَذَا الِاتِّصَالِ.

وَالشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمُ احْتَجُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى الشَّرْطِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا رَجَعَ إِلَيْهَا اتِّفَاقًا.

وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ الْعَطْفَ يَجْعَلُ الْمُتَعَدِّدَ كَالْمُفْرَدِ، فَالْمُتَعَلِّقُ بِالْوَاحِدِ هُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِالْكُلِّ.وَبِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْكُلِّ، فَإِمَّا أَنْ يُكَرَّرَ الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ كُلِّ جُمْلَةٍ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ وَاحِدَةٍ فَقَطْ، أَوْ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ الْجَمِيعِ.فَالتَّكْرَارُ مُسْتَهْجَنٌ، فَبَطَلَ الْأَوَّلُ وَفِي الثَّانِي تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، فَبَقِيَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ، فَيَلْزَمُ الظُّهُورُ فِيهِ.

11- وَمِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا}...قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: الَّذِينَ تَابُوا مِنَ الْقَاذِفِينَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَالِاسْتِثْنَاءُ عَائِدٌ عَلَى الْحُكْمِ بِفِسْقِهِمْ.وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَعُودُ عَلَى الْجُمَلِ الثَّلَاثِ. أَمَّا الْجَلْدُ فَاتُّفِقَ عَلَى عَدَمِ سُقُوطِهِ بِالتَّوْبَةِ لِأَجْلِ الدَّلِيلِ الْمَانِعِ مِنْ تَعَلُّقِ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وَالْمَانِعُ هُوَ كَوْنُ الْجَلْدِ حَقًّا لِلْآدَمِيِّ، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ.

الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ الْمُفْرَدَاتِ الْمُتَعَاطِفَةِ:

12- إِنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ مُفْرَدَاتٍ مُتَعَاطِفَةٍ فَالْخِلَافُ فِيهِ كَالْخِلَافِ فِي الْجُمَلِ، وَلَكِنْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ أَوْلَى بِعَوْدِهِ لِلْكُلِّ مِنَ الْوَارِدِ بَعْدَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِ الْمُفْرَدَاتِ.نَحْوُ: تَصَدَّقْ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِلاَّ الْفَسَقَةَ مِنْهُمْ.

الِاسْتِثْنَاءُ الْعُرْفِيُّ بَعْدَ الْمُتَعَاطِفَاتِ:

13- أَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ الْعُرْفِيُّ بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ إِذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا نَحْوَ: وَاَللَّهِ لَا آكُلُ وَلَا أَشْرَبُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَيَتَعَلَّقُ بِالْجَمِيعِ اتِّفَاقًا.وَوَجْهُهُ أَنَّهُ شَرْطٌ وَلَيْسَ مِنْ حَقِيقَةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالشَّرْطُ مُقَدَّمٌ تَقْدِيرًا؛ لِأَنَّ لَهُ صَدْرَ الْكَلَامِ بِاتِّفَاقِ النُّحَاةِ، فَيَصِحُّ تَعَلُّقُهُ بِالْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مُقَارِنٌ لَهُ تَقْدِيرًا.بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ مُؤَخَّرٌ لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا.

الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ:

14- هَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ:

الْأَوَّلُ: الِاسْتِثْنَاءَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ الْمُتَعَاطِفَةُ نَحْوُ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ أَرْبَعَةً، وَإِلاَّ ثَلَاثَةً، وَإِلاَّ اثْنَيْنِ.

وَحُكْمُهَا أَنْ تَعُودَ كُلُّهَا إِلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَذْكُورُ قَبْلَهَا.فَيَلْزَمُهُ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ وَاحِدٌ فَقَطْ.

الثَّانِي: الِاسْتِثْنَاءَاتُ الْمُتَوَالِيَةُ بِدُونِ عَاطِفٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهَا مُسْتَغْرِقًا لِمَا قَبْلَهُ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا يَعُودُ إِلَى مَا قَبْلَهُ.فَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ سَبْعَةً، إِلاَّ خَمْسَةً إِلاَّ دِرْهَمَيْنِ، صَحَّ، وَكَانَ مُقِرًّا بِسِتَّةٍ، فَإِنَّ خَمْسَةَ إِلاَّ دِرْهَمَيْنِ عِبَارَةُ عَنْ ثَلَاثَةٍ اسْتَثْنَاهَا مِنْ سَبْعَةٍ بَقِيَ أَرْبَعَةٌ، اسْتَثْنَاهَا مِنْ عَشَرَةٍ بَقِيَ سِتَّةٌ.

وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الِاسْتِثْنَاءَاتِ مُسْتَغْرِقًا لِمَا قَبْلَهُ فَإِنَّهَا لَا تَبْطُلُ، بَلْ تَعُودُ جَمِيعُهَا إِلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَاخْتِلَافٌ.

شُرُوطُ الِاسْتِثْنَاءِ

15- شُرُوطُ الِاسْتِثْنَاءِ عَامَّةٌ، مَا عَدَا شَرْطَ الِاسْتِغْرَاقِ، فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الرَّمْلِيُّ وَسَيَأْتِي أَيْضًا أَنَّ شَرْطَ الْقَصْدِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ.

الشَّرْطُ الْأَوَّلُ:

16- يُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، بِأَلاَّ يَكُونَ مَفْصُولًا بِمَا يُعَدُّ فِي الْعَادَةِ فَاصِلًا.فَلَوْ كَانَ مَفْصُولًا بِتَنَفُّسٍ أَوْ سُعَالٍ أَوْ نَحْوِهِمَا لَمْ يَمْنَعِ الِاتِّصَالَ، وَكَذَلِكَ إِنْ حَالَ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَلَامٌ غَيْرُ أَجْنَبِيٍّ، وَمِنْهُ النِّدَاءُ؛ لِأَنَّهُ لِلتَّنْبِيهِ وَالتَّأْكِيدُ.أَمَّا إِنْ سَكَتَ سُكُوتًا يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ فِيهِ، أَوْ فَصَلَ بِكَلَامٍ أَجْنَبِيٍّ، أَوْ عَدَلَ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ اسْتَقَرَّ حُكْمُ الْمُسْتَثْنَى فَلَمْ يَرْتَفِعْ، بِخِلَافِ مَا لَا يُمْكِنُ، كَمَا لَوْ أَخَذَ آخِذٌ بِفَمِهِ فَمَنَعَهُ الْكَلَامَ.هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمُقَدَّمُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَيُشْتَرَطُ لِتَحَقُّقِ الِاتِّصَالِ أَنْ يَنْوِيَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ، فَلَوْ لَمْ يَنْوِ إِلاَّ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الْعُمْدَةُ مُجَرَّدُ الِاتِّصَالِ سَوَاءٌ نَوَى أَوَّلَ الْكَلَامِ، أَوْ أَثْنَاءَهُ، أَوْ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ.

وَقَدْ نُقِلَ خِلَافُ هَذَا عَنْ قَوْمٍ.فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى شَهْرٍ، وَقِيلَ أَبَدًا.وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَعَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ: يَجُوزُ فِي الْمَجْلِسِ، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ وَعَنْ مُجَاهِدٍ: إِلَى سَنَتَيْنِ.وَقِيلَ: مَا لَمْ يَأْخُذْ فِي كَلَامٍ آخَرَ.وَقِيلَ:

إِنْ نَوَى الِاسْتِثْنَاءَ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ جَازَ التَّأْخِيرُ بَعْدَهُ.وَنُسِبَ هَذَا الْقَوْلُ إِلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ.

وَقِيلَ: يَجُوزُ التَّأْخِيرُ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى خَاصَّةً.

وَمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم- لَمَّا حَرَّمَ مَكَّةَ، وَقَالَ: «لَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، قَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ الْإِذْخِرَ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ، فَقَالَ: إِلاَّ الْإِذْخِرَ» فَهَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْفَصِلٌ.فَحُمِلَ عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ.

فَكَأَنَّهُ كَرَّرَ الْقَوْلَ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْكَلَامِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا

وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الِاتِّصَالِ؛ أَنَّ الْقَوْلَ بِجَوَازِ الِاسْتِثْنَاءِ غَيْرِ الْمُتَّصِلِ يَسْتَلْزِمُ أَلاَّ يَجْزِمَ بِصِدْقٍ أَوْ كَذِبٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَخْبَارِ لِاحْتِمَالِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ عَقْدٌ مِنَ الْعُقُودِ، وَلِإِجْمَاعِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ عَلَى وُجُوبِ الِاتِّصَالِ.فَلَوْ قَالَ: لَهُ عَشَرَةٌ، ثُمَّ زَادَ بَعْدَ شَهْرٍ: إِلاَّ ثَلَاثَةً يُعَدُّ لَغْوًا.

وَلَعَلَّ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَنْ قَالَ شِبْهَ قَوْلِهِ، إِنَّمَا قُصِدَ بِهِ أَنَّ مَنْ نَسِيَ أَنْ يَقُولَ: «إِنْ شَاءَ اللَّهُ» يَقُولُهَا مَتَى تَذَكَّرَ ذَلِكَ، وَلَوْ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، امْتِثَالًا لِلْآيَةِ، وَلَيْسَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُوجِبِ رَفْعُ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى كَمَا تَقَدَّمَ.الشَّرْطُ الثَّانِي:

17- وَيُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَلاَّ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مُسْتَغْرِقًا لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُسْتَغْرِقَ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بَاطِلٌ اتِّفَاقًا، إِلاَّ عِنْدَ مَنْ شَذَّ.

وَادَّعَى الْبَعْضُ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ.فَلَوْ قَالَ: «لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ عَشَرَةً» لَغَا قَوْلُهُ «إِلاَّ عَشَرَةً» وَلَزِمَهُ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ.وَمِمَّنْ شَذَّ ابْنُ طَلْحَةَ الْمَالِكِيُّ فِي الْمَدْخَلِ، نَقَلَ عَنْهُ الْقَرَافِيُّ أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: «أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلاَّ ثَلَاثًا»: لَا يَقَعُ عَلَيْهِ طَلَاقٌ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ، فَهُمْ يُوَافِقُونَ عَلَى بُطْلَانِ الِاسْتِثْنَاءِ إِنْ كَانَ بِعَيْنِ لَفْظِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، كَقَوْلِهِ: عَبِيدِي أَحْرَارٌ إِلاَّ عَبِيدِي، أَوْ بِلَفْظٍ مُسَاوٍ لَهُ، كَقَوْلِهِ: نِسَائِي طَوَالِقُ إِلاَّ زَوْجَاتِي.

أَمَّا إِنْ كَانَ بِغَيْرِهِمَا كَقَوْلِهِ: ثُلُثُ مَالِي لِزَيْدٍ إِلاَّ أَلْفًا، وَالثُّلُثُ أَلْفٌ.فَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَا يَسْتَحِقُّ زَيْدٌ شَيْئًا.

فَالشَّرْطُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِيهَامُ الْبَقَاءِ لَا حَقِيقَتُهُ، حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا سِتًّا إِلاَّ أَرْبَعًا صَحَّ، وَوَقَعَ ثِنْتَانِ.وَإِنْ كَانَتِ السِّتَّةُ لَا صِحَّةَ لَهَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَزِيدُ عَنْ ثَلَاثٍ، وَمَعَ هَذَا لَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلاَّ أَرْبَعًا، فَكَأَنَّ اعْتِبَارَ اللَّفْظِ أَوْلَى.

وَجَعَلَ صَاحِبُ الْمُغْنِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُسْتَغْرِقِ أَنْ يَقُولَ مَثَلًا: «لَهُ عَلَيَّ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَدِرْهَمَانِ إِلاَّ دِرْهَمَيْنِ» فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَهُوَ فِي مِثَالِنَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ.

اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ وَالْأَقَلِّ:

18- أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ النِّصْفِ، وَمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ، مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَغْرِقًا كَمَا تَقَدَّمَ، نَحْوُ: «لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ سِتَّةً أَوْ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ خَمْسَةً».وَنَسَبَ صَاحِبُ فَوَاتِحِ الرَّحَمُوتِ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى الْحَنَفِيَّةِ، وَالْأَكْثَرِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.

وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ.

قِيلَ: إِنَّمَا يَمْنَعُ الْحَنَابِلَةُ اسْتِثْنَاءَ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ، وَيُجِيزُونَ اسْتِثْنَاءَ النِّصْفِ.وَقِيلَ: يَمْنَعُونَ النِّصْفَ أَيْضًا.

وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ يَمْنَعُ اسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ إِنْ كَانَ كُلٌّ مِنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَدَدًا صَرِيحًا.قِيلَ وَبِهَذَا قَالَ الْقَاضِي الْبَاقِلاَّنِيُّ آخِرًا.

وَقَدْ احْتَجَّ لِجَوَازِ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ فِي غَيْرِ الْعَدَدِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَك مِنَ الْغَاوِينَ} وَالْغَاوُونَ هُمْ الْأَكْثَرُ لقوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} وَاحْتَجَّ لِجَوَازِهِ أَيْضًا فِي الْعَدَدِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ جَمِيعًا عَلَى لُزُومِ وَاحِدٍ فِي الْإِقْرَارِ بِلَفْظِ: «لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ تِسْعَةً» وَاحْتَجَّ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ أَئِمَّةَ اللُّغَةِ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ جَائِزًا لُغَةً، مِنْهُمُ ابْنُ جِنِّي، وَالزَّجَّاجُ، وَالْقُتَيْبِيُّ.قَالَ الزَّجَّاجُ: لَمْ يَأْتِ الِاسْتِثْنَاءُ إِلاَّ فِي قَلِيلٍ مِنَ الْكَثِيرِ.

الشَّرْطُ الثَّالِثُ:

19- وَيُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ إِذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَجَوَّزَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْبَاقِلاَّنِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ.وَمِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنَ الدَّنَانِيرِ إِلاَّ فَرَسًا.

وَكَذَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ فَرَسٌ إِلاَّ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ، فَيُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ فَإِنِ اسْتَغْرَقَتِ الْقِيمَةُ الْمُقَرَّ بِهِ بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ.وَلَزِمَهُ الْأَلْفُ بِتَمَامِهَا.

وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَصِحُّ اسْتِحْسَانًا اسْتِثْنَاءُ الْمُقَدَّرِ مِنَ الْمُقَدَّرِ الْكَيْلِيِّ وَالْوَزْنِيِّ، وَالْمَعْدُودِ الَّذِي لَا تَتَفَاوَتُ آحَادُهُ، كَالْفُلُوسِ وَالْجَوْزِ، مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ.وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فَاعْتُبِرَتْ جِنْسًا وَاحِدًا، فَكَانَتْ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.وَتُطْرَحُ قِيمَةُ الْمُسْتَثْنَى مِمَّا أَقَرَّ بِهِ.

وَيَصِحُّ عِنْدَهُمَا هَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَلَوِ اسْتَغْرَقَتِ الْقِيمَةُ جَمِيعَ مَا أَقَرَّ بِهِ، لِاسْتِغْرَاقِهِ بِغَيْرِ الْمُسَاوِي.

وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ.وَهُوَ الْقِيَاسُ.

أَمَّا فِي غَيْرِ الْمُقَدَّرَاتِ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إِلاَّ ثَوْبًا، فَلَا يَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ جَمِيعًا، قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ لَا يَصِحُّ إِلاَّ أَنْ يُسْتَثْنَى الدَّرَاهِمُ مِنَ الدَّنَانِيرِ، أَوِ الدَّنَانِيرُ مِنَ الدَّرَاهِمِ.وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَهُمْ لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا.

وَحُجَّةُ الْمُجِيزِينَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ، مِنْهُ قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآِدَم فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ}.وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلاَّ قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا}.

وَحُجَّةُ الْمَانِعِينَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ صَرْفُ اللَّفْظِ بِحَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ عَمَّا كَانَ يَقْتَضِيهِ لَوْلَاهُ.

وَغَيْرُ الْجِنْسِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي الْكَلَامِ، فَإِذَا ذَكَرَهُ فَمَا صَرَفَ الْكَلَامَ عَنْ صَوْبِهِ، وَلَا ثَنَاهُ عَنْ وَجْهِ اسْتِرْسَالِهِ، فَلَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً، وَإِنَّمَا يُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ اسْتِثْنَاءً مَجَازًا، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ (ف: 6) وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْتِدْرَاكٌ، وَتَكُونُ إِلاَّ بِمَعْنَى لَكِنَّ، فَإِذَا ذَكَرَ الِاسْتِدْرَاكَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ، كَأَنْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي مِائَةُ دِرْهَمٍ إِلاَّ ثَوْبًا لِي عَلَيْهِ كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُقِرًّا بِشَيْءٍ، مُدَّعِيًا لِشَيْءٍ سِوَاهُ، فَيُقْبَلُ إِقْرَارُهُ، وَتَبْطُلُ دَعْوَاهُ وَهِيَ الِاسْتِثْنَاءُ.

وَحُجَّةُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَثْمَانِ وَغَيْرِهَا أَنَّ قَدْرَ الدَّنَانِيرِ مِنَ الدَّرَاهِمِ مَعْلُومٌ، وَيُعَبَّرُ بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، فَإِذَا اسْتَثْنَى أَحَدَهُمَا مِنَ الْآخَرِ عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ التَّعْبِيرَ بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، فَإِنَّ قَوْمًا يُسَمُّونَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ دِينَارًا، وَفِي بِلَادٍ أُخْرَى يُسَمُّونَ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ دِينَارًا.

الشَّرْطُ الرَّابِعُ: التَّلَفُّظُ بِالِاسْتِثْنَاءِ

20- ذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ تَحْرِيكُ الشَّفَتَيْنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحْلَفًا، فَإِنْ كَانَ مُسْتَحْلَفًا لَمْ يُجْزِئْهُ إِلاَّ الْجَهْرُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَنْفَعُهُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ الْمَحْلُوفُ لَهُ.

وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ لِلِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهِ بِحَيْثُ يُسْمِعُ غَيْرَهُ، وَإِلاَّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ خَصْمِهِ فِي النَّفْيِ، وَحَكَمَ بِالْوُقُوعِ إِذَا حَلَفَ الْخَصْمُ عَلَى نَفْيِ الِاسْتِثْنَاءِ.

هَذَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، أَمَّا فِيمَا عَدَاهُ فَيَكْفِي أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ، إِنِ اعْتَدَلَ سَمْعُهُ وَلَا عَارِضَ، وَيُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَلَمْ يَظْهَرْ لِلْحَنَابِلَةِ تَعَرُّضٌ لِصِفَةِ النُّطْقِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا فِي نِيَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْقَلْبِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَنْطُوقُ بِهِ عَامًّا، كَقَوْلِهِ: نِسَائِي طَوَالِقُ، وَاسْتَثْنَى بِقَلْبِهِ وَاحِدَةً، فَيَكُونُ لَهُ اسْتِثْنَاؤُهُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ «نِسَائِي» اسْمٌ عَامٌّ يَجُوزُ التَّعْبِيرُ بِهِ عَنْ بَعْضِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَصًّا فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ كَالْعَدَدِ، فَلَا يَرْتَفِعُ بِالنِّيَّةِ مَا ثَبَتَ بِاللَّفْظِ، كَقَوْلِهِ: نِسَائِي الْأَرْبَعُ أَوِ الثَّلَاثُ طَوَالِقُ، فَلَا يُقْبَلُ اسْتِثْنَاؤُهُ ظَاهِرًا، وَقِيلَ لَا يُقْبَلُ وَلَا بَاطِنًا.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ إِذَا تَكَلَّمَ بِالطَّلَاقِ وَاسْتَثْنَى فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاؤُهُ مَسْمُوعًا، وَالْمُرَادُ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُسْمَعَ، بِحَيْثُ لَوْ قَرَّبَ شَخْصٌ أُذُنَهُ إِلَى فَمِهِ يَسْمَعُ اسْتِثْنَاءَهُ، وَلَوْ حَالَ دُونَ سَمَاعِ الْمُنْشِئِ لِلْكَلَامِ صَمَمٌ أَوْ كَثْرَةُ أَصْوَاتٍ.وَفِي قَوْلِ الْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظٍ مَسْمُوعٍ وَيَقُولُ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِالْكِتَابَةِ صَحِيحٌ، حَتَّى لَوْ تَلَفَّظَ بِالطَّلَاقِ وَكَتَبَ الِاسْتِثْنَاءَ مَوْصُولًا، أَوْ عَكَسَ، أَوْ أَزَالَ الِاسْتِثْنَاءَ بَعْدَ الْكِتَابَةِ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ.

وَجَاءَ فِي التَّتَارْخَانِيَّةِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الزَّوْجَةَ إِذَا سَمِعَتِ الطَّلَاقَ وَلَمْ تَسْمَعِ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَسَعُهَا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنَ الْوَطْءِ، وَيَلْزَمُهَا مُنَازَعَتُهُ.

21- وَلَوِ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي صُدُورِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَادَّعَاهُ الزَّوْجُ وَأَنْكَرَتْهُ الزَّوْجَةُ، فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ.وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.وَهُوَ الْمَذْهَبُ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يُقْبَلُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، عَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ وَالْفَتْوَى احْتِيَاطًا لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ، إِذْ قَدْ يُعَلِّمُهُ ذَلِكَ حِيلَةً بَعْضُ مَنْ لَا يَخَافُ اللَّهَ تَعَالَى، وَلِأَنَّ دَعْوَى الزَّوْجِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، فَإِنَّهُ بِدَعْوَى الِاسْتِثْنَاءِ يَدَّعِي إِبْطَالَ الْمُوجِبِ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بِهِ.

فَالظَّاهِرُ خِلَافُ قَوْلِهِ، وَإِذَا عَمَّ الْفَسَادُ يَنْبَغِي الرُّجُوعُ إِلَى الظَّاهِرِ.وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَهُمْ نَقَلَهُ ابْنُ الْهُمَامِ عَنِ الْمُحِيطِ إِنْ عُرِفَ الزَّوْجُ بِالصَّلَاحِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ تَصْدِيقًا لَهُ، وَإِنْ عُرِفَ بِالْفِسْقِ أَوْ جُهِلَ حَالُهُ فَلَا؛ لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ.وَأَيَّدَهُ ابْنُ عَابِدِينَ.وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى نُصُوصٍ لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


17-موسوعة الفقه الكويتية (أسرى 1)

أَسْرَى -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْأَسْرَى جَمْعُ أَسِيرٍ، وَيُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى أُسَارَى وَأَسَارَى.وَالْأَسِيرُ لُغَةً: مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِسَارِ، وَهُوَ الْقَيْدُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَشُدُّونَهُ بِالْقَيْدِ.فَسُمِّيَ كُلُّ أَخِيذٍ أَسِيرًا وَإِنْ لَمْ يُشَدَّ بِهِ.وَكُلُّ مَحْبُوسٍ فِي قَيْدٍ أَوْ سِجْنٍ أَسِيرٌ.قَالَ مُجَاهِدٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} الْأَسِيرُ: الْمَسْجُونُ.

2- وَفِي الِاصْطِلَاحِ: عَرَّفَ الْمَاوَرْدِيُّ الْأَسْرَى بِأَنَّهُمُ: الرِّجَالُ الْمُقَاتِلُونَ مِنَ الْكُفَّارِ، إِذَا ظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ بِهِمْ أَحْيَاءً.وَهُوَ تَعْرِيفٌ أَغْلَبِيٌّ، لِاخْتِصَاصِهِ بِأَسْرَى الْحَرْبِيِّينَ عِنْدَ الْقِتَالِ، لِأَنَّهُ بِتَتَبُّعِ اسْتِعْمَالَاتِ الْفُقَهَاءِ لِهَذَا اللَّفْظِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَهُ عَلَى كُلِّ مَنْ يُظْفَرُ بِهِمْ مِنَ الْمُقَاتِلِينَ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ، وَيُؤْخَذُونَ أَثْنَاءَ الْحَرْبِ أَوْ فِي نِهَايَتِهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ فِعْلِيَّةٍ، مَا دَامَ الْعَدَاءُ قَائِمًا وَالْحَرْبُ مُحْتَمَلَةٌ.

مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ: أَوْجَبَتِ الشَّرِيعَةُ قِتَالَ الْكُفَّارِ، وَلَمْ تُوجِبْ قَتْلَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ، بَلْ إِذَا أُسِرَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فِي الْقِتَالِ أَوْ غَيْرِ الْقِتَالِ، مِثْلُ أَنْ تُلْقِيَهُ السَّفِينَةُ إِلَيْنَا، أَوْ يَضِلَّ الطَّرِيقَ، أَوْ يُؤْخَذَ بِحِيلَةٍ فَإِنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ الْإِمَامُ الْأَصْلَحَ.وَفِي الْمُغْنِي: هُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ، وَقِيلَ: يَكُونُ فَيْئًا.

وَيُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الْأَسِيرِ أَيْضًا عَلَى: مَنْ يَظْفَرُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْحَرْبِيِّينَ إِذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ وَعَلَى مَنْ يَظْفَرُونَ بِهِ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ عِنْدَ مُقَاتَلَتِهِمْ لَنَا.يَقُولُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَمَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ.

كَمَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْأَسِيرِ عَلَى: الْمُسْلِمِ الَّذِي ظَفِرَ بِهِ الْعَدُوُّ.يَقُولُ ابْنُ رُشْدٍ: وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَفُكَّ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ...وَيَقُولُ: وَإِذَا كَانَ الْحِصْنُ فِيهِ أُسَارَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَطْفَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ...إِلَخْ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الرَّهِينَةُ:

3- الرَّهِينَةُ: وَاحِدَةُ الرَّهَائِنِ وَهِيَ كُلُّ مَا اُحْتُبِسَ بِشَيْءٍ، وَالْأَسِيرُ وَالرَّهِينَةُ كِلَاهُمَا مُحْتَبَسٌ، إِلاَّ أَنَّ الْأَسِيرَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ إِنْسَانًا وَاحْتِبَاسُهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُقَابِلَ حَقٍّ.

ب- الْحَبْسُ:

4- الْحَبْسُ: ضِدُّ التَّخْلِيَةِ، وَالْمَحْبُوسُ: الْمُمْسَكُ عَنِ التَّوَجُّهِ حَيْثُ يَشَاءُ، فَالْحَبْسُ أَعَمُّ مِنَ الْأَسْرِ.

ج- السَّبْيُ:

5- السَّبْيُ وَالسَّبَاءُ: الْأَسْرُ، فَالسَّبْيُ أَخْذُ النَّاسِ عَبِيدًا وَإِمَاءً وَالْفُقَهَاءُ يُطْلِقُونَ لَفْظَ السَّبْيِ عَلَى مَنْ يَظْفَرُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ حَيًّا مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَأَطْفَالِهِمْ.وَيُخَصِّصُونَ لَفْظَ الْأَسْرَى- عِنْدَ مُقَابَلَتِهِ بِلَفْظِ السَّبَايَا- بِالرِّجَالِ الْمُقَاتِلِينَ، إِذَا ظَفِرَ الْمُسْلِمُونَ بِهِمْ أَحْيَاءً.

صِفَةُ الْأَسْرِ (حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ):

6- الْأَسْرُ مَشْرُوعٌ، وَيَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ النُّصُوصُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} وَلَا يَتَنَافَى ذَلِكَ مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} لِأَنَّهَا لَمْ تَرِدْ فِي مَنْعِ الْأَسْرِ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا جَاءَتْ فِي الْحَثِّ عَلَى الْقِتَالِ، وَأَنَّهُ مَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ أَسْرَى قَبْلَ الْإِثْخَانِ فِي الْأَرْضِ، أَيِ الْمُبَالَغَةِ فِي قَتْلِ الْكُفَّارِ.

الْحِكْمَةُ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الْأَسْرِ:

7- هِيَ كَسْرُ شَوْكَةِ الْعَدُوِّ، وَدَفْعُ شَرِّهِ، وَإِبْعَادُهُ عَنْ سَاحَةِ الْقِتَالِ، لِمَنْعِ فَاعِلِيَّتِهِ وَأَذَاهُ، وَلِيُمْكِنَ افْتِكَاكُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ بِهِ.

مَنْ يَجُوزُ أَسْرُهُمْ وَمَنْ لَا يَجُوزُ:

8- يَجُوزُ أَسْرُ كُلِّ مَنْ وَقَعَ فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْحَرْبِيِّينَ، صَبِيًّا كَانَ أَوْ شَابًّا أَوْ شَيْخًا أَوِ امْرَأَةً، الْأَصِحَّاءِ مِنْهُمْ وَالْمَرْضَى، إِلاَّ مَنْ لَا يُخْشَى مِنْ تَرْكِهِ ضَرَرٌ وَتَعَذَّرَ نَقْلُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَسْرُهُ عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ.

فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَا يُؤْسَرُ مَنْ لَا ضَرَرَ مِنْهُمْ، وَلَا فَائِدَةَ فِي أَسْرِهِمْ، كَالشَّيْخِ الْفَانِي وَالزَّمِنِ وَالْأَعْمَى وَالرَّاهِبِ إِذَا كَانُوا مِمَّنْ لَا رَأْيَ لَهُمْ.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَقْتُلُ يَجُوزُ أَسْرُهُ، إِلاَّ الرَّاهِبَ وَالرَّاهِبَةَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا رَأْيٌ فَإِنَّهُمَا لَا يُؤْسَرَانِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمَا مِنَ الْمَعْتُوهِ وَالشَّيْخِ الْفَانِي وَالزَّمِنِ وَالْأَعْمَى فَإِنَّهُمْ وَإِنْ حَرُمَ قَتْلُهُمْ يَجُزْ أَسْرُهُمْ، وَيَجُوزُ تَرْكُهُمْ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ وَمِنْ غَيْرِ أَسْرٍ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَسْرُ الْجَمِيعِ دُونَ اسْتِثْنَاءٍ.

9- وَلَا يَجُوزُ أَسْرُ أَحَدٍ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِذَا كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهَا عَهْدُ مُوَادَعَةٍ، لِأَنَّ عَقْدَ الْمُوَادَعَةِ أَفَادَ الْأَمَانَ، وَبِالْأَمَانِ لَا تَصِيرُ الدَّارُ مُسْتَبَاحَةً، وَحَتَّى لَوْ خَرَجَ قَوْمٌ مِنَ الْمُوَادِعِينَ إِلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مُوَادَعَةٌ، فَغَزَا الْمُسْلِمُونَ تِلْكَ الْبَلْدَةَ، فَهَؤُلَاءِ آمِنُونَ، لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ عَقْدَ الْمُوَادَعَةِ أَفَادَ الْأَمَانَ لَهُمْ، فَلَا يُنْتَقَضُ بِالْخُرُوجِ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ.وَكَذَا لَوْ دَخَلَ فِي دَارِ الْمُوَادَعَةِ رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ دَارِهِمْ بِأَمَانٍ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ، فَهُوَ آمِنٌ لَا يَجُوزُ أَسْرُهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ دَارَ الْمُوَادَعِينَ بِأَمَانِهِمْ صَارَ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ.وَمِثْلُهُ مَا لَوْ وُجِدَ الْحَرْبِيُّ بِدَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَسْرُهُ، وَمَا لَوْ أَخَذَ الْحَرْبِيُّ الْأَمَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ فِي حِصْنِ الْحَرْبِيِّينَ.

الْأَسِيرُ فِي يَدِ آسِرِهِ وَمَدَى سُلْطَانِهِ عَلَيْهِ:

10- الْأَسِيرُ فِي ذِمَّةِ آسِرِهِ لَا يَدَ لَهُ عَلَيْهِ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ، إِذْ الْحَقُّ لِلتَّصَرُّفِ فِيهِ مَوْكُولٌ لِلْإِمَامِ، وَعَلَيْهِ بَعْدَ الْأَسْرِ أَنْ يَقُودَهُ إِلَى الْأَمِيرِ لِيَقْضِيَ فِيهِ بِمَا يَرَى، وَلِلْآسِرِ أَنْ يَشُدَّ وَثَاقَهُ إِنْ خَافَ انْفِلَاتَهُ، أَوْ لَمْ يَأْمَنْ شَرَّهُ، كَمَا يَجُوزُ عَصْبُ عَيْنَيْهِ أَثْنَاءَ نَقْلِهِ لِمَنْعِهِ مِنَ الْهَرَبِ.

فَمِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ أَنْ يَمْنَعَ الْأَسِيرَ مِنَ الْهَرَبِ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْ فُرْصَةً لِمَنْعِهِ إِلاَّ قَتْلَهُ فَلَا بَأْسَ، وَقَدْ فَعَلَ هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.

11- وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْأَسِيرَ إِذَا صَارَ فِي يَدِ الْإِمَامِ فَلَا اسْتِحْقَاقَ لِلْآسِرِ فِيهِ إِلاَّ بِتَنْفِيلِ الْإِمَامِ، لَا بِنَفْسِ الْأَسْرِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُنَادِيَ فِي الْعَسْكَرِ: مَنْ أَصَابَ مِنْكُمْ أَسِيرًا فَهُوَ لَهُ، فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ فَأَعْتَقَ الرَّجُلُ أَسِيرَهُ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ عِتْقُهُ.وَلَوْ أَصَابَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ، لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ لَهُمْ بِالْإِصَابَةِ صَارَ الْأَسِيرُ مَمْلُوكًا لآِسِرِهِ وَاحِدًا أَوْ جَمَاعَةً.بَلْ قَالُوا: لَوْ قَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ.فَأَسَرَ الْعَسْكَرُ بَعْضَ الْأَسْرَى، ثُمَّ قَتَلَ أَحَدُ الْأُسَرَاءِ رَجُلًا مِنَ الْعَدُوِّ، كَانَ السَّلَبُ مِنَ الْغَنِيمَةِ، إِنْ لَمْ يُقَسِّمِ الْأَمِيرُ الْأُسَرَاءَ، وَإِنْ كَانَ قَسَمَهُمْ أَوْ بَاعَهُمْ فَالسَّلَبُ لِمَوْلَى الْأَسِيرِ الْقَاتِلِ.

وَقَدْ فَرَّقَ الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ مَنْ أَسَرَ أَسِيرًا أَثْنَاءَ الْقِتَالِ مُسْتَنِدًا إِلَى قُوَّةِ الْجَيْشِ، وَبَيْنَ مَنْ أَسَرَ أَسِيرًا مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ، وَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْآسِرُ مِنَ الْجَيْشِ، أَوْ مُسْتَنِدًا لَهُ خُمُسٌ كَسَائِرِ الْغَنِيمَةِ، وَإِلاَّ اخْتَصَّ بِهِ الْآسِرُ.

حُكْمُ قَتْلِ الْآسِرِ أَسِيرَهُ:

12- لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنَ الْغُزَاةِ أَنْ يَقْتُلَ أَسِيرَهُ بِنَفْسِهِ، إِذِ الْأَمْرُ فِيهِ بَعْدَ الْأَسْرِ مُفَوَّضٌ لِلْإِمَامِ، فَلَا يَحِلُّ الْقَتْلُ إِلاَّ بِرَأْيِ الْإِمَامِ اتِّفَاقًا، إِلاَّ إِذَا خِيفَ ضَرَرُهُ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ قَتْلُهُ قَبْلَ أَنْ يُؤْتَى بِهِ إِلَى الْإِمَامِ، وَلَيْسَ لِغَيْرِ مَنْ أَسَرَهُ قَتْلُهُ لِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا يَتَعَاطَى أَحَدُكُمْ أَسِيرَ صَاحِبِهِ فَيَقْتُلَهُ». فَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَسِيرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، فَالْحَنَفِيَّةُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ بَعْدَهَا، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ مِنْ دِيَةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ قِيمَةٍ، لِأَنَّ دَمَهُ غَيْرُ مَعْصُومٍ، إِذْ لِلْإِمَامِ فِيهِ خِيَرَةُ الْقَتْلِ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، أَوْ بَعْدَ الْبَيْعِ فَيُرَاعَى فِيهِ حُكْمُ الْقَتْلِ، لِأَنَّ دَمَهُ صَارَ مَعْصُومًا، فَكَانَ مَضْمُونًا بِالْقَتْلِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ.وَلَمْ يُفَرِّقُوا فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ هُوَ الْآسِرُ أَوْ غَيْرُهُ كَمَا يُفِيدُهُ الْإِطْلَاقُ.

وَالْمَالِكِيَّةُ يَتَّجِهُونَ وُجْهَةَ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ نَاحِيَةِ الضَّمَانِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا التَّفْرِقَةَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْقَتْلُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ فِي الْمَغْنَمِ، أَوْ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَغْنَمًا، وَيَنُصُّونَ عَلَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ مَنْ نُهِيَ عَنْ قَتْلِهِ، فَإِنْ قَتَلَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ فِي الْمَغْنَمِ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، وَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ أَنْ صَارَ مَغْنَمًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ.

وَالشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا يُلْزِمُونَ الْقَاتِلَ بِالضَّمَانِ، فَإِذَا كَانَ بَعْدَ اخْتِيَارِ رِقِّهِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ، وَكَانَ فِي الْغَنِيمَةِ.وَإِذَا كَانَ بَعْدَ الْمَنِّ عَلَيْهِ لَزِمَهُ دِيَتُهُ لِوَرَثَتِهِ.وَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ الْفِدَاءِ فَعَلَيْهِ دِيَتُهُ غَنِيمَةً، إِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَ الْإِمَامُ الْفِدَاءَ، وَإِلاَّ فَدِيَتُهُ لِوَرَثَتِهِ.وَإِنْ قَتَلَهُ بَعْدَ اخْتِيَارِ الْإِمَامِ قَتْلَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ عُزِّرَ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ قَتَلَ أَسِيرَهُ أَوْ أَسِيرَ غَيْرِهِ قَبْلَ الذَّهَابِ لِلْإِمَامِ أَسَاءَ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ.

مُعَامَلَةُ الْأَسِيرِ قَبْلَ نَقْلِهِ لِدَارِ الْإِسْلَامِ:

13- مَبَادِئُ الْإِسْلَامِ تَدْعُو إِلَى الرِّفْقِ بِالْأَسْرَى، وَتَوْفِيرِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْكِسَاءِ لَهُمْ، وَاحْتِرَامِ آدَمِيَّتِهِمْ، لقوله تعالى {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكَيْنَا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِأَصْحَابِهِ فِي أَسْرَى بَنِي قُرَيْظَةَ بَعْدَمَا احْتَرَقَ النَّهَارُ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ: «أَحْسِنُوا أُسَارَاهُمْ.وَقَيِّلُوهُمْ وَاسْقُوهُمْ» وَقَالَ: «لَا تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرَّ هَذَا الْيَوْمِ وَحَرَّ السِّلَاحِ...» وَقَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنْ رَأَى الْإِمَامُ قَتْلَ الْأُسَارَى فَيَنْبَغِي لَهُ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ بِالْعَطَشِ وَالْجُوعِ، وَلَكِنَّهُ يَقْتُلُهُمْ قَتْلًا كَرِيمًا.

وَيَجُوزُ حَبْسُ الْأَسْرَى فِي أَيِّ مَكَانٍ، لِيُؤْمَنَ مَنْعُهُمْ مِنَ الْفِرَارِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ «الرَّسُولَ حَبَسَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ»

التَّصَرُّفُ فِي الْأَسْرَى قَبْلَ نَقْلِهِمْ لِدَارِ الْإِسْلَامِ:

14- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ التَّصَرُّفِ فِي الْغَنَائِمِ- وَمِنْهَا الْأَسْرَى فِي دَارِ الْحَرْبِ- وَقَبْلَ نَقْلِهِمْ لِدَارِ الْإِسْلَامِ.قَالَ مَالِكٌ: الشَّأْنُ أَنْ تُقْسَمَ الْغَنَائِمُ وَتُبَاعَ بِبَلَدِ الْحَرْبِ، وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ وَالْخُلَفَاءَ لَمْ يَقْسِمُوا غَنِيمَةً قَطُّ إِلاَّ فِي دَارِ الشِّرْكِ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ- رضي الله عنه-: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي غَزْوَةِ الْمُصْطَلِقِ، فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ سَبْيِ الْعَرَبِ، فَاشْتَهَيْنَا النِّسَاءَ، وَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا وَأَحْبَبْنَا الْعَزْلَ، فَأَرَدْنَا الْعَزْلَ وَقُلْنَا: نَعْزِلُ وَرَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ أَظْهُرِنَا قَبْلَ أَنْ نَسْأَلَهُ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا، مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلاَّ وَهِيَ كَائِنَةٌ» فَإِنَّ سُؤَالَهُمُ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْعَزْلِ فِي وَطْءِ السَّبَايَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قِسْمَةَ الْغَنَائِمِ قَدْ تَمَّتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْجِيلِ مَسَرَّةِ الْغَانِمِينَ وَغَيْظِ الْكَافِرِينَ، وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُهُ لِبَلَدِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْغَانِمُونَ جَيْشًا وَأَمِنُوا مِنْ كَرِّ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ.

وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ لِلْغَانِمَيْنِ التَّمَلُّكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَفْظًا، بِأَنْ يَقُولَ كُلٌّ بَعْدَ الْحِيَازَةِ، وَقَبْلَ الْقِسْمَةِ: اخْتَرْتُ مِلْكَ نَصِيبِي، فَتَمَلَّكَ بِذَلِكَ.

وَقِيلَ: يَمْلِكُونَ بِمُجَرَّدِ الْحِيَازَةِ، لِزَوَالِ مِلْكِ الْكُفَّارِ بِالِاسْتِيلَاءِ.وَقِيلَ: الْمِلْكُ مَوْقُوفٌ.وَالْمُرَادُ عِنْدَ مَنْ قَالَ يَمْلِكُونَ بِمُجَرَّدِ الْحِيَازَةِ: الِاخْتِصَاصُ، أَيْ يَخْتَصِمُونَ.

وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِجَوَازِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَأَبِي ثَوْرٍ لِفِعْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- وَلِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ فِيهَا بِالْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ.

15- وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا تُقْسَمُ الْغَنَائِمُ إِلاَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَتِمُّ عَلَيْهَا إِلاَّ بِالِاسْتِيلَاءِ التَّامِّ، وَلَا يَحْصُلُ إِلاَّ بِإِحْرَازِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْحَقِّ الْقَهْرُ، وَهُوَ مَوْجُودٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، لِأَنَّهُمْ قَاهِرُونَ يَدًا مَقْهُورُونَ دَارًا، فَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْسِمَ الْغَنَائِمَ- وَمِنْهَا الْأَسْرَى- أَوْ يَبِيعَهَا حَتَّى يُخْرِجَهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، خَشْيَةَ تَقْلِيلِ الرَّغْبَةِ فِي لُحُوقِ الْمَدَدِ بِالْجَيْشِ، وَتَعَرُّضِ الْمُسْلِمِينَ لِوُقُوعِ الدَّبَرَةِ عَلَيْهِمْ، بِأَنْ يَتَفَرَّقُوا وَيَسْتَقِلَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحَمْلِ نَصِيبِهِ.وَمَعَ هَذَا فَقَالُوا: وَإِنْ قَسَمَ الْإِمَامُ الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ جَازَ، لِأَنَّهُ أَمْضَى فَصْلًا مُخْتَلَفًا فِيهِ بِالِاجْتِهَادِ.وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ «الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- أَخَّرَ قِسْمَةَ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ حَتَّى انْصَرَفَ إِلَى الْجِعْرَانَةِ».

تَأْمِينُ الْأَسِيرِ:

16- يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحِقُّ لِلْإِمَامِ إِعْطَاءُ الْأَمَانِ لِلْأَسِيرِ بَعْدَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ عُمَرَ لَمَّا قُدِمَ عَلَيْهِ بِالْهُرْمُزَانِ أَسِيرًا قَالَ.لَا بَأْسَ عَلَيْكَ، ثُمَّ أَرَادَ قَتْلَهُ، فَقَالَ لَهُ أَنَسٌ: قَدْ أَمَّنْتُهُ فَلَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهِ، وَشَهِدَ الزُّبَيْرُ بِذَلِكَ فَعَدُّوهُ أَمَانًا وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ، وَالْأَمَانُ دُونَ الْمَنِّ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَصَرَّفَ عَلَى حُكْمِ التَّمَنِّي وَالتَّشَهِّي دُونَ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَمَا عَقَدَهُ أَمِيرُ الْجَيْشِ مِنَ الْأَمَانِ جَازَ وَلَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ، وَأَمَّا آحَادُ الرَّعِيَّةِ فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، لِأَنَّ أَمْرَ الْأَسِيرِ مُفَوَّضٌ إِلَى الْإِمَامِ، فَلَمْ يَجُزْ الِافْتِيَاتُ عَلَيْهِ فِيمَا يَمْنَعُ ذَلِكَ كَقَتْلِهِ.وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ يَصِحُّ أَمَانُ آحَادِ الرَّعِيَّةِ، لِأَنَّ «زَيْنَبَ بِنْتَ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم- أَجَارَتْ زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ بَعْدَ أَسْرِهِ، فَأَجَازَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَانَهَا».

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (أَمَان).

حُكْمُ الْإِمَامِ فِي الْأَسْرَى:

17- يَرْجِعُ الْأَمْرُ فِي أَسْرَى الْحَرْبِيِّينَ إِلَى الْإِمَامِ، أَوْ مَنْ يُنِيبُهُ عَنْهُ.

وَجَعَلَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مَصَائِرَ الْأَسْرَى بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَبْلَ إِجْرَاءِ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فِي أَحَدِ أُمُورٍ: فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى تَخْيِيرِ الْإِمَامِ فِي الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ مِنْ أَسْرَى الْكُفَّارِ، بَيْنَ قَتْلِهِمْ، أَوِ اسْتِرْقَاقِهِمْ، أَوِ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ، أَوْ مُفَادَاتِهِمْ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ قَصَرُوا التَّخْيِيرَ عَلَى ثَلَاثَةِ أُمُورٍ فَقَطِ: الْقَتْلِ، وَالِاسْتِرْقَاقِ، وَالْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِجَعْلِهِمْ أَهْلَ ذِمَّةٍ عَلَى الْجِزْيَةِ، وَلَمْ يُجِيزُوا الْمَنَّ عَلَيْهِمْ دُونَ قَيْدٍ، وَلَا الْفِدَاءَ بِالْمَالِ إِلاَّ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ، أَوْ إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ بِحَاجَةٍ لِلْمَالِ.وَأَمَّا مُفَادَاتُهُمْ بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ فَمَوْضِعُ خِلَافٍ عِنْدَهُمْ.

وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ يُخَيَّرُ فِي الْأَسْرَى بَيْنَ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: فَإِمَّا أَنْ يَقْتُلَ، وَإِمَّا أَنْ يَسْتَرِقَّ، وَإِمَّا أَنْ يُعْتِقَ، وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ فِيهِ الْفِدَاءَ، وَإِمَّا أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِ الذِّمَّةَ وَيَضْرِبَ عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ، وَالْإِمَامُ مُقَيَّدٌ فِي اخْتِيَارِهِ بِمَا يُحَقِّقُ مَصْلَحَةَ الْجَمَاعَةِ.

18- وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي السَّبَايَا مِنَ النِّسَاءِ وَالصَّبِيَّةِ أَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ.فَفِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ لِلدَّرْدِيرِ: وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالذَّرَارِيُّ فَلَيْسَ فِيهِمْ إِلاَّ الِاسْتِرْقَاقُ أَوِ الْفِدَاءُ.وَتَفْصِيلُهُ فِي (سَبْي).

كَمَا يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَسِيرَ الْحَرْبِيَّ الَّذِي أَعْلَنَ إِسْلَامَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، لَا يَحِقُّ لِلْإِمَامِ قَتْلُهُ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ عَاصِمٌ لِدَمِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي.

19- وَيَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ خَفِيَ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ أَمِيرِ الْجَيْشِ الْأَحَظُّ حَبَسَهُمْ حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ، لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الِاجْتِهَادِ، وَيُصَرِّحُ ابْنُ رُشْدٍ بِأَنَّ هَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِذَا لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ تَأْمِينٌ لَهُمْ.

20- وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ قَتْلُ الْأَسِيرِ، وَحَكَى الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ أَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ.

وَالسَّبَبُ فِي الِاخْتِلَافِ تَعَارُضُ الْآيَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَتَعَارُضُ الْأَفْعَالِ، وَمُعَارَضَةُ ظَاهِرِ الْكِتَابِ لِفِعْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-، لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ بَعْدَ الْأَسْرِ إِلاَّ الْمَنُّ أَوِ الْفِدَاءُ.وقوله تعالى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} وَالسَّبَبُ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ أَفْضَلُ مِنْ الِاسْتِبْقَاءِ.وَأَمَّا فِعْلُ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-: فَقَدْ قَتَلَ الْأَسَارَى فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ، فَمَنْ رَأَى أَنَّ الْآيَةَ الْخَاصَّةَ بِالْأَسَارَى نَاسِخَةٌ لِفِعْلِهِ قَالَ: لَا يُقْتَلُ الْأَسِيرُ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ لِقَتْلِ الْأَسِيرِ وَلَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا حَصْرُ مَا يُفْعَلُ بِالْأَسَارَى قَالَ بِجَوَازِ قَتْلِ الْأَسِيرِ.

21- وَيَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَسْرَى مِنْ نِسَاءِ الْحَرْبِيِّينَ وَذَرَارِيِّهِمْ، وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ كَالْخُنْثَى وَالْمَجْنُونِ، وَكَذَا الْعَبِيدُ الْمَمْلُوكُونَ لَهُمْ يُسْتَرَقُّونَ بِنَفْسِ الْأَسْرِ، وَيَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْحَرْبِيِّينَ قَبْلَ الِاسْتِيلَاءِ وَالْأَسْرِ لَا يُسْتَرَقُّ، وَكَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُرْتَدِّينَ، فَإِنَّ الْحُكْمَ بِالنِّسْبَةِ لَهُمْ الِاسْتِتَابَةُ وَالْعَوْدَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَإِلاَّ فَالسَّيْفُ.

22- أَمَّا الرِّجَالُ الْأَحْرَارُ الْمُقَاتِلُونَ مِنْهُمْ.، فَقَدِ اتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى جَوَازِ اسْتِرْقَاقِ الْأَعَاجِمِ، وَثَنِيِّينَ كَانُوا أَوْ أَهْلَ كِتَابٍ.وَاتَّجَهَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ اسْتِرْقَاقِ الْعَرَبِ عَلَى تَفْصِيلٍ بَيْنَهُمْ.وَالْحَنَفِيَّةُ لَا يُجِيزُونَ اسْتِرْقَاقَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ.

الْفِدَاءُ بِالْمَالِ:

23- الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي غَيْرِ رِوَايَةٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: جَوَازُ فِدَاءِ أَسْرَى الْحَرْبِيِّينَ الَّذِينَ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْإِمَامِ فِيهِمْ بِالْمَالِ.غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُجِيزُونَهُ بِمَالٍ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْأَسِيرِ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ- كَمَا نَقَلَ السَّرَخْسِيُّ عَنِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ- تَقْيِيدَ ذَلِكَ بِحَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ لِلْمَالِ، وَقَيَّدَ الْكَاسَانِيُّ هَذَا بِمَا إِذَا كَانَ الْأَسِيرُ شَيْخًا كَبِيرًا لَا يُرْجَى لَهُ وَلَدٌ.وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِالْمَالِ دُونَ قَيْدٍ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ ثَمَّةَ حَاجَةٌ لِلْمَالِ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْدِيَ الْأَسْرَى بِالْمَالِ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ، سَوَاءٌ، أَكَانَ مِنْ مَالِهِمْ أَمْ مِنْ مَالِنَا الَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ، وَأَنْ نَفْدِيَهُمْ بِأَسْلِحَتِنَا الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ.أَمَّا أَسْلِحَتُهُمْ الَّتِي بِأَيْدِينَا فَفِي جَوَازِ مُفَادَاةِ أَسْرَانَا بِهَا وَجْهَانِ، أَوْجَهُهُمَا عِنْدَهُمُ الْجَوَازُ.

وَاسْتَدَلَّ الْمُجِيزُونَ بِظَاهِرِ قوله تعالى {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} وَبِفِعْلِ الرَّسُولِ- صلى الله عليه وسلم-، فَقَدْ فَادَى أَسَارَى بَدْرٍ بِالْمَالِ وَكَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا، كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَدْنَى دَرَجَاتِ فِعْلِهِ الْجَوَازُ وَالْإِبَاحَةُ.

24- وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ، فِي غَيْرِ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلُ أَبِي عُبَيْدِ الْقَاسِمِ بْنِ سَلاَّمٍ عَدَمُ جَوَازِ الْفِدَاءِ بِمَالٍ.

وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ أَنَّ قَتْلَ الْأَسَارَى مَأْمُورٌ بِهِ، لقوله تعالى {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} وَأَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إِلَى مَا بَعْدَ الْأَخْذِ وَالِاسْتِرْقَاقِ، وقوله تعالى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وَالْأَمْرُ بِالْقَتْلِ لِلتَّوَسُّلِ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إِلاَّ لِمَا شُرِعَ لَهُ الْقَتْلُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَسِيلَةً إِلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا يَحْصُلُ مَعْنَى التَّوَسُّلِ بِالْمُفَادَاةِ بِالْمَالِ، كَمَا أَنَّ فِي ذَلِكَ إِعَانَةً لِأَهْلِ الْحَرْبِ، لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى الْمَنَعَةِ، فَيَصِيرُونَ حَرْبًا عَلَيْنَا، وَقَتْلُ الْمُشْرِكِ عِنْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ فَرْضٌ مُحْكَمٌ، وَفِي الْمُفَادَاةِ تَرْكُ إِقَامَةِ هَذَا الْفَرْضِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْأَسِيرِ: لَا تُفَادُوهُ وَإِنْ أُعْطِيتُمْ بِهِ مُدْيَيْن مِنْ ذَهَبٍ وَلِأَنَّهُ صَارَ بِالْأَسْرِ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، فَلَا يَجُوزُ إِعَادَتُهُ لِدَارِ الْحَرْبِ، لِيَكُونَ حَرْبًا عَلَيْنَا، وَفِي هَذَا مَعْصِيَةٌ، وَارْتِكَابُ الْمَعْصِيَةِ لِمَنْفَعَةِ الْمَالِ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ أَعْطَوْنَا مَالًا لِتَرْكِ الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ مَعَ الْحَاجَةِ، فَكَذَا لَا يَجُوزُ تَرْكُ قَتْلِ الْمُشْرِكِ بِالْمُفَادَاةِ.

وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ لِلْإِمَامِ حَقَّ الْمُفَادَاةِ بِالْمَالِ، فَإِنَّ هَذَا الْمَالَ يَكُونُ لِلْغَانِمِينَ، وَلَيْسَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُسْقِطَ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ الَّذِي يَفْرِضُهُ عَلَيْهِمْ مُقَابِلَ الْفِدَاءِ إِلاَّ بِرِضَى الْغَانِمِينَ.

فِدَاءُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ بِأَسْرَى الْأَعْدَاءِ:

25- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ، وَصَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى جَوَازِ تَبَادُلِ الْأَسْرَى، مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ «أَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ وَفُكُّوا الْعَانِيَ» وَقَوْلِهِ «إِنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي فَيْئِهِمْ أَنْ يُفَادُوا أَسِيرَهُمْ، وَيُؤَدُّوا عَنْ غَارِمِهِمْ» «وَفَادَى النَّبِيُّ رَجُلَيْنِ مِنِ الْمُسْلِمِينَ بِالرَّجُلِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ بَنِي عَقِيلٍ».«وَفَادَى بِالْمَرْأَةِ الَّتِي، اسْتَوْهَبَهَا مِنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ نَاسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَدْ أُسِرُوا بِمَكَّةَ» وَلِأَنَّ فِي الْمُفَادَاةِ تَخْلِيصُ الْمُسْلِمِ مِنْ عَذَابِ الْكُفَّارِ وَالْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ، وَإِنْقَاذُ الْمُسْلِمِ أَوْلَى مِنْ إِهْلَاكِ الْكَافِرِ.

وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتِ الْمُفَادَاةُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ بَعْدَهَا.

أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَقَدْ قَصَرَ جَوَازَ الْمُفَادَاةِ عَلَى مَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ، لِأَنَّهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَمْ يَتَقَرَّرْ كَوْنُ أَسِيرِهِمْ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا حَتَّى جَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَأَمَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَقَدْ تَقَرَّرَ كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا حَتَّى لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ.أَيْ فَلَا يُعَادُ بِالْمُفَادَاةِ إِلَى دَارِ الْكُفْرِ.وَلِأَنَّ فِي الْمُفَادَاةِ بَعْدَهَا إِبْطَالُ مِلْكِ الْمَقْسُومِ لَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ.

وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مِثْلِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَجَازَهُ فِي الْحَالَتَيْنِ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ جُوِّزَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، الْحَاجَةُ إِلَى تَخْلِيصِ الْمُسْلِمِ مِنْ عَذَابِهِمْ، وَهَذَا مَوْجُودٌ بَعْدَ الْقِسْمَةِ، وَحَقُّ الْغَانِمِينَ فِي الِاسْتِرْقَاقِ ثَابِتٌ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَقَدْ صَارَ الْأَسِيرُ بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، ثُمَّ تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِهِ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ.

وَقَدْ نَقَلَ الْحَطَّابُ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّ النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ لَيْسَ فِيهِمْ إِلاَّ الِاسْتِرْقَاقُ، أَوِ الْمُفَادَاةُ بِالنُّفُوسِ دُونَ الْمَالِ.

وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَهِيَ مَنْعُ مُفَادَاةِ الْأَسِيرِ بِالْأَسِيرِ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ قَتْلَ الْمُشْرِكِينَ فَرْضٌ مُحْكَمٌ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِالْمُفَادَاةِ.

26- وَلَوْ أَسْلَمَ الْأَسِيرُ لَا يُفَادَى بِهِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، أَيْ لِأَنَّهُ فِدَاءُ مُسْلِمٍ بِمُسْلِمٍ، إِلاَّ إِذَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ وَهُوَ مَأْمُونٌ عَلَى إِسْلَامِهِ:

27- وَيَجُوزُ مُفَادَاةُ الْأَكْثَرِ بِالْأَقَلِّ وَالْعَكْسُ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، لَكِنْ فِي كُتُبِهِمْ مَا يُوَافِقُ ذَلِكَ، لِاسْتِدْلَالِهِمْ بِالْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى لَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْ أَسَرَانَا، وَيُؤْخَذُ بَدَلَهُ أَسِيرَانِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.

جَعْلُ الْأَسْرَى ذِمَّةً لَنَا وَفَرْضُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ:

28- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَضَعَ الْجِزْيَةَ فِي رِقَابِ الْأَسْرَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ عَلَى أَنْ يَكُونُوا ذِمَّةً لَنَا، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إِجَابَتُهُمْ إِلَى ذَلِكَ إِذَا سَأَلُوهُ، كَمَا يَجِبُ إِذَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ فِي غَيْرِ أَسْرٍ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ بِفِعْلِ عُمَرَ فِي أَهْلِ السَّوَادِ وَقَالُوا: إِنَّهُ أَمْرٌ جَوَازِيٌّ، لِأَنَّهُمْ صَارُوا فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ أَمَانٍ، وَكَيْلَا يَسْقُطَ بِذَلِكَ مَا ثَبَتَ مِنِ اخْتِيَارٍ.وَهَذَا إِنْ كَانُوا مِمَّنْ تُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ.

وَهَذَا يَتَّفِقُ مَعَ مَا حَكَاهُ ابْنُ رُشْدٍ حَيْثُ قَالَ: وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَاهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ قَوْمٌ: تُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ مُشْرِكٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ.

وَأَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأُسَارَى مِنْ غَيْرِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ، وَوَضَعُوا قَاعِدَةً عَامَّةً هِيَ: كُلُّ مَنْ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ مِنَ الرِّجَالِ، يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ، كَأَهْلِ الْكِتَابِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَجَمِ، وَمَنْ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ، كَالْمُرْتَدِّينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَرَبِ.

رُجُوعُ الْإِمَامِ فِي اخْتِيَارِهِ:

29- لَمْ نَقِفْ فِيمَا رَجَعْنَا إِلَيْهِ مِنْ كُتُبٍ عَلَى مَنْ تَعَرَّضَ لِهَذَا، إِلاَّ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ الشَّافِعِيُّ مِنْ قَوْلِهِ: لَمْ يَتَعَرَّضُوا فِيمَا عَلِمْتُ إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَوِ اخْتَارَ خَصْلَةً لَهُ الرُّجُوعِ عَنْهَا أَوْ لَا، وَلَا إِلَى أَنَّ اخْتِيَارَهُ هَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى لَفْظٍ أَوْ لَا.وَقَالَ: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَلَوِ اخْتَارَ خَصْلَةً وَظَهَرَ لَهُ بِالِاجْتِهَادِ أَنَّهَا الْأَحَظُّ، ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ أَنَّ الْأَحَظَّ غَيْرُهَا، فَإِنْ كَانَتْ رِقًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهَا مُطْلَقًا، لِأَنَّ الْغَانِمِينَ وَأَهْلَ الْخُمُسِ مَلَكُوا بِمُجَرَّدِ ضَرْبِ الرِّقِّ، فَلَمْ يَمْلِكْ إِبْطَالَهُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ قَتْلًا جَازَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ، تَغْلِيبًا لِحَقْنِ الدِّمَاءِ مَا أَمْكَنَ، وَإِنْ كَانَ فِدَاءً أَوْ مَنًّا لَمْ يُعْمَلْ بِالثَّانِي، لِاسْتِلْزَامِهِ نَقْضَ الِاجْتِهَادِ بِالِاجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ، إِلاَّ إِذَا كَانَ اخْتِيَارُهُ أَحَدَهُمَا لِسَبَبٍ ثُمَّ زَالَ السَّبَبُ، وَتَعَيَّنَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي الثَّانِي عَمِلَ بِقَضِيَّتِهِ.وَلَيْسَ هَذَا نَقْضُ اجْتِهَادٍ بِاجْتِهَادٍ، بَلْ بِمَا يُشْبِهُ النَّصَّ، لِزَوَالِ مُوجِبِهِ الْأَوَّلِ بِالْكُلِّيَّةِ.

مَا يَكُونُ بِهِ الِاخْتِيَارُ:

30- وَأَمَّا تَوَقُّفُ الِاخْتِيَارِ عَلَى لَفْظٍ، فَإِنَّ الِاسْتِرْقَاقَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَا يَكْفِي فِيهِ مُجَرَّدُ الْفِعْلِ، وَكَذَا الْفِدَاءُ، نَعَمْ يَكْفِي فِيهِ لَفْظٌ مُلْتَزِمٌ الْبَدَلَ مَعَ قَبْضِ الْإِمَامِ لَهُ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ، بِخِلَافِ الْخَصْلَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ لِحُصُولِهِمَا بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ.

إِسْلَامُ الْأَسِيرِ:

31- إِذَا أَسْلَمَ الْأَسِيرُ بَعْدَ أَسْرِهِ وَقَبْلَ قَضَاءِ الْإِمَامِ فِيهِ الْقَتْلَ أَوِ الْمَنَّ أَوِ الْفِدَاءَ، فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ إِجْمَاعًا، لِأَنَّهُ بِالْإِسْلَامِ قَدْ عُصِمَ دَمُهُ.

أَمَّا اسْتِرْقَاقُهُ فَفِيهِ رَأْيَانِ: فَالْجُمْهُورُ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَاحْتِمَالٌ لِلْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْإِمَامَ فِيهِ مُخَيَّرٌ فِيمَا عَدَا الْقَتْلِ، لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ الْقَتْلُ بِإِسْلَامِهِ بَقِيَتْ بَاقِي الْخِصَالِ.

وَالْقَوْلُ الظَّاهِرُ لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ اسْتِرْقَاقُهُ، لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِرْقَاقِ قَدِ انْعَقَدَ بِالْأَسْرِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ، فَصَارَ كَالنِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ، فَيَتَعَيَّنُ اسْتِرْقَاقُهُ فَقَطْ، فَلَا مَنَّ وَلَا فِدَاءَ، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُفَادِيَ بِهِ لِتَخْلِيصِهِ مِنَ الرِّقِّ.

أَمْوَالُ الْأَسِيرِ:

32- الْحُكْمُ فِي مَالِ الْأَسِيرِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحُكْمِ فِي نَفْسِهِ، فَلَا عِصْمَةَ لَهُ عَلَى مَالِهِ وَمَا مَعَهُ، فَهُوَ فَيْءٌ لِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ مَا دَامَ أُسِرَ بِقُوَّةِ الْجَيْشِ، أَوْ كَانَ الْأَسْرُ مُسْتَنِدًا لِقُوَّةِ الْجَيْشِ، وَلَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ أَسْرِهِ وَاسْتُرِقَّ تَبِعَهُ مَالُهُ، أَمَّا لَوْ كَانَ إِسْلَامُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَخْذِهِ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْنَا حَتَّى ظَهَرْنَا عَلَى الدَّارِ، عَصَمَ نَفْسَهُ وَصِغَارَهُ وَكُلَّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ مَالٍ، لِحَدِيثِ «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ» وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَنْقُولِ، وَكَذَا الْعَقَارُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَخَرَجَ عَقَارُهُ لِأَنَّهُ فِي يَدِ أَهْلِ الدَّارِ وَسُلْطَانِهَا فَيَكُونُ غَنِيمَةً.وَقِيلَ: إنَّ مُحَمَّدًا جَعَلَهُ كَسَائِرِ مَالِهِ.

وَإِذَا قَالَ الْأَمِيرُ: مَنْ خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ فَأَصَابَ شَيْئًا فَلَهُ مِنْ ذَلِكَ الرُّبُعُ، وَسَمِعَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ أَسِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَخَرَجَ فَأَصَابَ شَيْئًا فَذَلِكَ كُلُّهُ لِلْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الْأَسِيرَ فَيْءٌ لَهُمْ وَكَسْبَ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ.

33- وَإِذَا وَقَعَ السَّبْيُ فِي سَهْمِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَخْرَجَ مَالًا كَانَ مَعَهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، فَيَنْبَغِي لِلَّذِي وَقَعَ فِي سَهْمِهِ أَنْ يَرُدَّهُ فِي الْغَنِيمَةِ، لِأَنَّ الْأَمِيرَ إِنَّمَا مَلَّكَهُ بِالْقِسْمَةِ رَقَبَةَ الْأَسِيرِ لَا مَا مَعَهُ مِنَ الْمَالِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْعَدْلِ فِي الْقِسْمَةِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْعَدْلُ إِذَا كَانَتِ الْقِسْمَةُ لَا تَتَنَاوَلُ إِلاَّ مَا كَانَ مَعْلُومًا.وَيُرْوَى أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى جَارِيَةً مِنَ الْمَغْنَمِ، فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهَا قَدْ خَلَصَتْ لَهُ أَخْرَجَتْ حُلِيًّا كَانَ مَعَهَا، فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا أَدْرِي هَذَا؟ وَأَتَى سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: اجْعَلْهُ فِي غَنَائِمِ الْمُسْلِمِينَ.لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي مَعَ الْأَسِيرِ كَانَ غَنِيمَةً، وَفِعْلُ الْأَمِيرِ تَنَاوَلَ الرَّقَبَةَ دُونَ الْمَالِ، فَبَقِيَ الْمَالُ غَنِيمَةً.وَهَذَا الْحُكْمُ يَصْدُقُ أَيْضًا عَلَى الدُّيُونِ وَالْوَدَائِعِ الَّتِي لَهُ لَدَى مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ.فَإِنْ كَانَتْ لَدَى حَرْبِيٍّ فَهِيَ فَيْءٌ لِلْغَانِمِينَ.

34- وَإِذَا كَانَ عَلَى الْأَسِيرِ دَيْنٌ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ قُضِيَ مِنْ مَالِهِ الَّذِي لَمْ يُغْنَمْ قَبْلَ اسْتِرْقَاقِهِ، فَإِنَّ حَقَّ الدَّيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْغَنِيمَةِ، إِلاَّ إِذَا سَبَقَ الِاغْتِنَامُ رِقَّهُ.وَلَوْ وَقَعَا مَعًا فَالظَّاهِرُ- عَلَى مَا قَالَ الْغَزَالِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ- تَقْدِيمُ الْغَنِيمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالٌ فَهُوَ فِي ذِمَّتِهِ إِلَى أَنْ يَعْتِقَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


18-موسوعة الفقه الكويتية (إضافة)

إِضَافَةٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْإِضَافَةُ: مَصْدَرٌ فِعْلُهُ أَضَافَ، عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ.

وَمِنْ مَعَانِي الْإِضَافَةِ فِي اللُّغَةِ: ضَمُّ الشَّيْءِ إِلَى الشَّيْءِ، أَوْ إِسْنَادُهُ أَوْ نِسْبَتُهُ.

وَالْإِضَافَةُ عِنْدَ النُّحَاةِ: ضَمُّ اسْمٍ إِلَى اسْمٍ عَلَى وَجْهٍ يُفِيدُ تَعْرِيفًا أَوْ تَخْصِيصًا.

وَالْإِضَافَةُ عِنْدَ الْحُكَمَاءِ هِيَ: نِسْبَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ، بِحَيْثُ لَا تُعْقَلُ إِحْدَاهُمَا إِلاَّ مَعَ الْأُخْرَى، كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ.

أَمَّا الْإِضَافَةُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: فَلَا تُخْرَجُ فِي مَعْنَاهَا عَنِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ السَّابِقَةِ، وَهِيَ الْإِسْنَادُ وَالنِّسْبَةُ وَضَمُّ الشَّيْءِ إِلَى الشَّيْءِ.

2- وَيُقْصَدُ بِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ إِرْجَاءُ آثَارِ التَّصَرُّفِ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي حَدَّدَهُ الْمُتَصَرِّفُ، فَالْإِضَافَةُ تُؤَخِّرُ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَى السَّبَبِ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ السَّبَبُ، فَيَتَحَقَّقُ السَّبَبُ الْمُضَافُ قَبْلَ تَحَقُّقِ الْوَقْتِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ بِلَا مَانِعٍ.وَعَدَمُ الْمَانِعِ وَهُوَ التَّكَلُّمُ بِالسَّبَبِ بِلَا تَعْلِيقٍ يَقْتَضِي تَحَقُّقَهُ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِضَافَةِ تَأْخِيرُ الْحُكْمِ الْمُسَبَّبِ إِلَى وُجُودِ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي هُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، إِذِ الزَّمَانُ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ، فَالْإِضَافَةُ إِلَيْهِ إِضَافَةٌ إِلَى مَا قُطِعَ بِوُجُودِهِ، وَفِي مِثْلِهِ يَكُونُ الْغَرَضُ مِنَ الْإِضَافَةِ تَحْقِيقُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ.

وَإِذَا كَانَتِ الْإِضَافَةُ بِمَعْنَى الضَّمِّ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ بِمَعْنَى الزِّيَادَةِ، فَتُحَالُ أَحْكَامُهَا حِينَئِذٍ إِلَى مُصْطَلَحِ (زِيَادَةٌ).

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- التَّعْلِيقُ:

3- التَّعْلِيقُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ رَبْطُ حُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةٍ بِحُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةٍ أُخْرَى.وَبَعْضُ صُوَرِ التَّعْلِيقِ تُسَمَّى يَمِينًا مَجَازًا.

هَذَا، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي فَتْحِ الْغَفَّارِ الْفَرْقَ مِنْ وَجْهَيْنِ بَيْنَ التَّعْلِيقِ وَالْإِضَافَةِ الَّتِي بِمَعْنَى إِسْنَادِ الْحُكْمِ إِلَى زَمَنٍ آخَرَ، وَلَكِنْ لَمْ يَسْلَمُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنَ الِاعْتِرَاضِ.

أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّعْلِيقَ يَمِينٌ، وَهِيَ إِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهَا الْبِرَّ أَفَادَتِ انْتِفَاءَ الْمُعَلَّقِ، وَلَا يُفْضِي إِلَى الْحُكْمِ، أَمَّا الْإِضَافَةُ فَهِيَ لِثُبُوتِ حُكْمِ السَّبَبِ فِي وَقْتِهِ، لَا لِمَنْعِهِ، فَيَتَحَقَّقُ السَّبَبُ بِلَا مَانِعٍ.إِذِ الزَّمَانُ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ.

وَالْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّرْطَ عَلَى خَطَرِ (احْتِمَالِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ) وَلَا خَطَرَ فِي الْإِضَافَةِ.وَيُرْجَعُ إِلَى كُتُبِ الْأُصُولِ لِلِاعْتِرَاضَاتِ عَلَى هَذَيْنِ الْفَرْقَيْنِ، وَالْأَجْوِبَةِ عَنْهَا.

ب- التَّقْيِيدُ:

4- التَّقْيِيدُ فِي الْعُقُودِ هُوَ: الْتِزَامُ حُكْمٍ فِي التَّصَرُّفِ الْقَوْلِيِّ، لَا يَسْتَلْزِمُهُ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ فِي حَالِ إِطْلَاقِهِ.

ج- الِاسْتِثْنَاءُ:

5- الِاسْتِثْنَاءُ: قَوْلٌ ذُو صِيَغٍ مَخْصُوصَةٍ مَحْصُورَةٍ، دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ لَمْ يَرُدَّ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِضَافَةِ: أَنَّ الْحُكْمَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ يَثْبُتُ فِي الْحَالِ، فَلَوْ قَالَ الْمُقِرُّ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشْرَةٌ إِلاَّ ثَلَاثًا فَإِنَّهُ يَكُونُ مُقِرًّا بِسَبْعٍ، بِخِلَافِ الْإِضَافَةِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهَا لَا يَثْبُتُ إِلاَّ عِنْدَ وُجُودِ الزَّمَنِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ الْحُكْمُ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَوَّلَ الشَّهْرِ، فَإِنَّهَا لَا تَطْلُقُ إِلاَّ إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ.أَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فَإِنَّ تَأْخِيرَ الْمُسْتَثْنَى عَنِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ (أَيِ الْفَصْلِ) لِغَيْرِ عُذْرٍ يُبْطِلُهُ.

د- التَّوَقُّفُ:

6- الْمُرَادُ بِالتَّوَقُّفِ هُنَا: عَدَمُ نَفَاذِ حُكْمِ التَّصَرُّفِ الصَّادِرِ مِنْ ذِي أَهْلِيَّةٍ لَكِنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ فِيهِ.وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْعُقُودِ الْقَابِلَةِ لَهُ، كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ، فَإِذَا بَاعَ الْفُضُولِيُّ أَوِ اشْتَرَى فَعِنْدَ الْقَائِلِينَ بِصِحَّةِ تَصَرُّفِهِ يَكُونُ الْعَقْدُ مَوْقُوفًا، لَا يَنْفُذُ إِلاَّ بَعْدَ إِجَازَةِ الْمَالِكِ فِي الْبَيْعِ، وَالْمُشْتَرِي لَهُ فِي الشِّرَاءِ.

هَذَا، وَإِنَّ بَيْنَ الْعُقُودِ الْمُضَافَةِ وَالْعُقُودِ الْمَوْقُوفَةِ شَبَهًا وَفَرْقًا، فَأَمَّا الشَّبَهُ: فَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُوجَدُ عِنْدَ وُجُودِ الصِّيغَةِ، مَعَ تَأَخُّرِ الْحُكْمِ إِلَى الزَّمَنِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ فِي الْعَقْدِ الْمُضَافِ، أَوْ إِلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ فِي الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ.

وَأَمَّا الْفَرْقُ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

أَوَّلُهَا: أَنَّ تَرَاخِيَ الْحُكْمِ عَنِ الصِّيغَةِ فِي الْعَقْدِ الْمُضَافِ نَشَأَ مِنَ الصِّيغَةِ نَفْسِهَا، لِأَنَّ الْإِيجَابَ فِيهَا مُضَافٌ إِلَى زَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، أَمَّا تَرَاخِي الْحُكْمِ فِي الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ فَلَيْسَ مَرْجِعُهُ الصِّيغَةَ، لِأَنَّهَا مُنَجَّزَةٌ،

وَإِنَّمَا مَرْجِعُهُ صُدُورُ التَّصَرُّفِ مِمَّنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ فِي الْعَقْدِ.

ثَانِيهَا: أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ يُنَفَّذُ بَعْدَ الْإِجَازَةِ مُسْتَنِدًا إِلَى وَقْتِ صُدُورِ التَّصَرُّفِ، لِأَنَّ الْإِجَازَةَ اللاَّحِقَةَ فِيهِ كَالْإِذْنِ السَّابِقِ.بِخِلَافِ الْعَقْدِ الْمُضَافِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ لَا يَثْبُتُ إِلاَّ عِنْدَ مَجِيءِ الزَّمَنِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ الْحُكْمُ.

ثَالِثُهَا: أَنَّ الْعَقْدَ الْمُضَافَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ فِي الزَّمَنِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ الْإِيجَابُ، مَا دَامَ صَحِيحًا.بِخِلَافِ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ، فَإِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْإِجَازَةِ وَالرَّدِّ فِيمَا إِذَا لَمْ يُجِزْهُ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ.فَبَيْعُ الْفُضُولِيِّ مَثَلًا لَا يَنْفُذُ إِذَا لَمْ يُجِزْهُ الْمَالِكُ.

هـ- التَّعْيِينُ:

7- التَّعْيِينُ مَعْنَاهُ: التَّحْدِيدُ وَالِاخْتِيَارُ، فَمَنْ طَلَّقَ إِحْدَى نِسَائِهِ، وَلَمْ يُعَيِّنِ الْمُطَلَّقَةَ مِنْهُنَّ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ التَّعْيِينُ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ بِهِ.فَلَوْ قَالَ عِنْدَ التَّعْيِينِ: هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ وَهَذِهِ، أَوْ بَلْ هَذِهِ، أَوْ ثُمَّ هَذِهِ، تَعَيَّنَتِ الْأُولَى، لِأَنَّ التَّعْيِينَ إِنْشَاءُ اخْتِيَارٍ، لَا إِخْبَارٌ عَنْ سَابِقٍ، وَالْبَيَانُ عَكْسُهُ، فَهُنَاكَ شَبَهٌ بَيْنَ التَّعْيِينِ وَالْإِضَافَةِ مِنْ حَيْثُ تَرَاخِي حُكْمِ التَّصَرُّفِ إِلَى التَّعْيِينِ، أَوِ الزَّمَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ.

وَالتَّعْيِينُ يَأْتِي فِي خِصَالِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَإِنَّ مَنْ حَنِثَ، فَخُيِّرَ فِي الْكَفَّارَةِ بَيْنَ الْإِعْتَاقِ وَالْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ، فَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى الصَّوْمِ إِلاَّ بَعْدَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى خَصْلَةٍ مِنْ تِلْكَ الْخِصَالِ الثَّلَاثَةِ.وَعِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى خَصْلَةٍ مِنْهَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُعَيِّنَهَا.

شُرُوطُ الْإِضَافَةِ:

8- يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِضَافَةِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ:

الْأَوَّلُ: صُدُورُهَا مِنْ أَهْلِهَا، وَهُوَ شَرْطٌ مُشْتَرَكٌ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ.

الثَّانِي: مُقَارَنَتُهَا لِلْعَقْدِ أَوِ التَّصَرُّفِ.

الثَّالِثُ: مُصَادَفَتُهَا مَحَلَّهَا الْمَشْرُوعَ مِنَ الْعُقُودِ وَغَيْرِهَا.وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ.

أَنْوَاعُ الْإِضَافَةِ:

9- (الْإِضَافَةُ) نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: الْإِضَافَةُ إِلَى الْوَقْتِ.

وَثَانِيهِمَا: الْإِضَافَةُ إِلَى الشَّخْصِ.

وَمَعْنَى الْإِضَافَةِ إِلَى الْوَقْتِ: تَأْخِيرُ الْآثَارِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الْعَقْدِ إِلَى حُلُولِ الْوَقْتِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْعَقْدُ، فَإِنَّ مِنَ الْعُقُودِ مَا يَقْبَلُ الْإِضَافَةَ إِلَى الْوَقْتِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَقْبَلُ.وَمَعْنَى الْإِضَافَةِ إِلَى الشَّخْصِ، أَنْ يُنْسَبَ حُكْمُ التَّصَرُّفِ إِلَى شَخْصٍ مَعْلُومٍ.

النَّوْعُ الْأَوَّلُ

الْإِضَافَةُ إِلَى الْوَقْتِ

10- الْإِضَافَةُ تَتْبَعُ طَبِيعَةَ التَّصَرُّفَاتِ، وَمِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا يُضَافُ إِلَى الْوَقْتِ، وَمِنْهَا مَا لَا يُضَافُ إِلَيْهِ.

فَالتَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَصِحُّ إِضَافَتُهَا إِلَى الْوَقْتِ هِيَ: الطَّلَاقُ، وَتَفْوِيضُهُ، وَالْخُلْعُ، وَالْإِيلَاءُ، وَالظِّهَارُ، وَالْيَمِينُ، وَالنَّذْرُ، وَالْعِتْقُ، وَالْإِجَارَةُ، وَالْمُعَامَلَةُ، وَالْإِيصَاءُ، وَالْوَصِيَّةُ، وَالْقَضَاءُ، وَالْمُضَارَبَةُ، وَالْكَفَالَةُ، وَالْوَقْفُ، وَالْمُزَارَعَةُ، وَالْوَكَالَةُ.

وَهُنَاكَ تَصَرُّفَاتٌ لَا تَصِحُّ إِضَافَتُهَا إِلَى الْوَقْتِ كَالنِّكَاحِ، وَالْبَيْعِ، وَغَيْرِهِمَا.

التَّصَرُّفَاتُ الَّتِي تَقْبَلُ الْإِضَافَةَ إِلَى الْوَقْتِ:

الطَّلَاقُ:

11- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَضَافَ الطَّلَاقَ إِلَى الْمَاضِي وَقَعَ فِي الْحَالِ.وَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ يَلْغُو.وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ إِنْ نَوَاهُ، وَإِلاَّ فَهُوَ لَغْوٌ.

أَمَّا إِضَافَةُ الطَّلَاقِ إِلَى الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى وُقُوعِهِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ.وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أُضِيفَ إِلَى وَقْتٍ مُحَقَّقِ الْوُقُوعِ وَقَعَ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ إِضَافَةَ الطَّلَاقِ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ أَوِ الْمُحَقَّقِ مَجِيئُهُ تَجْعَلُ النِّكَاحَ مُؤَقَّتًا، فَحِينَئِذٍ يُشْبِهُ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ، وَهُوَ حَرَامٌ، فَيُنَجَّزُ الطَّلَاقُ.

إِضَافَةُ تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ لِلْمُسْتَقْبَلِ:

12- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ قَدِيمٌ لِلشَّافِعِيَّةِ (بِنَاءً عَلَى قَوْلٍ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الْفَوْرِيَّةِ فِي تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ إِلَى الْمَرْأَةِ، وَأَنَّهُ بِمَعْنَى التَّوْكِيلِ) إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إِضَافَةُ تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ.

وَالْقَوْلُ الْجَدِيدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْفَوْرِيَّةُ، فَلَا يُحْتَمَلُ الْإِضَافَةُ إِلَى الْوَقْتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّفْوِيضَ بِمَعْنَى التَّمْلِيكِ.

إِضَافَةُ الْخُلْعِ إِلَى الْوَقْتِ:

13- اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ إِضَافَةِ الْخُلْعِ إِلَى الْوَقْتِ.فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الْوَقْتِ، وَكَانَ يُرَادُ بِهِ التَّعْجِيلُ وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، وَاسْتَحَقَّ الزَّوْجُ الْعِوَضَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ.وَأَمَّا إِذَا طَلَّقَ بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ الْخُلْعُ فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَلَا شَيْءَ لِلزَّوْجِ.وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ فِي كَوْنِ هَذَا الطَّلَاقِ رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا، يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (خُلْعٌ).

إِضَافَةُ الْإِيلَاءِ إِلَى الْوَقْتِ:

14- الْإِيلَاءُ يَقْبَلُ الْإِضَافَةَ إِلَى الْوَقْتِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّ الْإِيلَاءَ يَمِينٌ، وَالْيَمِينُ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالْإِضَافَةِ إِلَى الْوَقْتِ.

إِضَافَةُ الظِّهَارِ إِلَى الْوَقْتِ:

15- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَعَلَى قَوْلٍ ضَعِيفٍ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، أَنَّهُ يَصِحُّ إِضَافَةُ الظِّهَارِ إِلَى الْوَقْتِ.وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِضَافَتُهُ إِلَى الْوَقْتِ.وَلَمْ نَجِدْ لِلشَّافِعِيَّةِ رَأْيًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

إِضَافَةُ الْيَمِينِ إِلَى الْوَقْتِ:

16- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ يَجُوزُ إِضَافَتُهَا إِلَى الْوَقْتِ، مَعَ تَفْصِيلٍ ذَكَرُوهُ فِي كُتُبِهِمْ.وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (أَيْمَانٌ).

إِضَافَةُ النَّذْرِ إِلَى الْوَقْتِ:

17- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ إِضَافَةِ النَّذْرِ إِلَى وَقْتٍ مُسْتَقْبَلٍ، كَأَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرَ رَجَبٍ، أَوْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ يَوْمَ كَذَا، عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي (بَابِ النَّذْرِ).

إِضَافَةُ الْإِجَارَةِ إِلَى الْوَقْتِ:

18- ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جَوَازِ إِضَافَةِ الْإِجَارَةِ إِلَى الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ فِي الْجُمْلَةِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِجَارَةٌ).

إِضَافَةُ الْمُضَارَبَةِ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ:

19- أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ إِضَافَةَ الْمُضَارَبَةِ إِلَى الْوَقْتِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى عَدَمِ الْجَوَازِ.وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (مُضَارَبَةٌ).

إِضَافَةُ الْكَفَالَةِ:

20- أَجَازَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِضَافَةَ الْكَفَالَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ فِي الْمَالِ أَمْ فِي الْبَدَنِ، لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَضَرْبُ أَجَلٍ لَهَا لَا يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ، فَصَحَّتْ كَالنَّذْرِ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا تَجُوزُ إِضَافَتُهَا أَوْ تَعْلِيقُهَا إِنْ كَانَتْ فِي الْمَالِ اتِّفَاقًا، وَكَذَلِكَ فِي الْبَدَنِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا تَجُوزُ وَتَفْصِيلُ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (كَفَالَةٌ).

إِضَافَةُ الْوَقْفِ:

21- يَجُوزُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ إِضَافَةُ الْوَقْفِ إِلَى الْوَقْتِ.وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يُجِيزُونَ إِضَافَتَهُ، إِلاَّ أَنَّ الظَّاهِرَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُمْ يُجِيزُونَ إِضَافَةَ الْوَقْفِ إِذَا أَشْبَهَ التَّحْرِيرَ، كَمَا لَوْ جَعَلَ دَارَهُ مَسْجِدًا إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ، حَيْثُ جَعَلَهَا مُحَرَّرَةً مِنْ كُلِّ مِلْكٍ إِلاَّ لِلَّهِ.

إِضَافَةُ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُعَامَلَةِ:

22- يَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ إِضَافَةَ الْمُعَامَلَةِ (الْمُسَاقَاةُ) إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ جَائِزَةٌ.وَأَمَّا الْمُزَارَعَةُ، فَالْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ يَرَوْنَ قَبُولَهَا الْإِضَافَةَ.لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُعَامَلَةَ عِنْدَهُمْ فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ، وَالْإِجَارَةُ تَصِحُّ إِضَافَتُهَا إِلَى الْوَقْتِ فَكَذَلِكَ الْمُزَارَعَةُ وَالْمُعَامَلَةُ.وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى ذِكْرِ الْمُدَّةِ فِيهَا.وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ لَا يَفْتَقِرَانِ لِلتَّصْرِيحِ بِمُدَّةٍ يَحْصُلُ الْكَمَالُ فِيهَا، بَلْ لَوْ زَارَعَهُ أَوْ سَاقَاهُ دُونَ أَنْ يَذْكُرَ مُدَّةً جَازَ، لِأَنَّ الرَّسُولَ - صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَضْرِبْ لِأَهْلِ خَيْبَرَ مُدَّةً.

إِضَافَةُ الْوَصِيَّةِ وَالْإِيصَاءِ إِلَى الْوَقْتِ:

23- الْوَصِيَّةُ وَالْإِيصَاءُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي اللُّغَةِ، وَيُفَرِّقُ الْفُقَهَاءُ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْتِعْمَالِ، فَالْإِيصَاءُ مَعْنَاهُ أَنْ يَعْهَدَ إِلَى غَيْرِهِ، بِأَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالْوَصِيَّةُ تَصَرُّفٌ مُضَافٌ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ تُسْتَعْمَلُ غَالِبًا فِي الْأَمْوَالِ.وَيَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ وَالْإِيصَاءَ يَقْبَلَانِ الْإِضَافَةَ إِلَى الْوَقْتِ.

إِضَافَةُ الْوَكَالَةِ إِلَى الْوَقْتِ:

24- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْ تَفْرِيعَاتِ الشَّافِعِيَّةِ، إِلَى جَوَازِ إِضَافَةِ الْوَكَالَةِ إِلَى الْوَقْتِ.قَالَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ: رُكْنُ التَّوْكِيلِ قَدْ يَكُونُ مُضَافًا إِلَى وَقْتٍ، بِأَنْ يَقُولَ وَكَّلْتُكَ فِي بَيْعِ هَذِهِ الدَّارِ غَدًا، وَيَصِيرُ وَكِيلًا فِي الْغَدِ فَمَا بَعْدَهُ، وَلَا يَكُونُ وَكِيلًا قَبْلَ الْغَدِ، لِأَنَّ التَّوْكِيلَ إِطْلَاقُ التَّصَرُّفِ، وَالْإِطْلَاقَاتُ مِمَّا تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالْإِضَافَةِ إِلَى الْوَقْتِ، كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ.

الْعُقُودُ الَّتِي لَا تَصِحُّ إِضَافَتُهَا إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ:

25- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ عُقُودَ الْبَيْعِ، وَالنِّكَاحِ، وَالصُّلْحِ عَلَى مَالٍ، وَالرَّجْعَةِ، وَالْقِسْمَةِ لَا تَقْبَلُ الْإِضَافَةَ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ.وَمِثْلُهَا الشَّرِكَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَمْ يُعْثَرْ لِلْآخَرِينَ عَلَى قَوْلٍ فِيهَا.وَاسْتَثْنَى الْمَالِكِيَّةُ مِنْ قَاعِدَةِ عَدَمِ قَبُولِ النِّكَاحِ لِلْإِضَافَةِ الصُّورَةَ التَّالِيَةَ: لَوْ أَضَافَ الْأَبُ نِكَاحَ ابْنَتِهِ إِلَى مَوْتِهِ، وَكَانَ مَرِيضًا مَرَضًا مَخُوفًا أَمْ لَا، طَالَ أَوْ قَصُرَ فَيَصِحُّ النِّكَاحُ إِذَا مَاتَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ مِنْ وَصَايَا الْمُسْلِمِينَ.وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْهِبَةِ لَا يَقْبَلُ الْإِضَافَةَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، ذَكَرُوهَا فِي مَوْضِعِهَا.وَلِلتَّفْصِيلِ وَبَيَانِ الْأَدِلَّةِ فِي كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْمَوْضُوعَاتِ يُرْجَعُ إِلَى مُصْطَلَحَاتِهَا.

النَّوْعُ الثَّانِي الْإِضَافَةُ إِلَى الشَّخْصِ

26- التَّصَرُّفَاتُ إِمَّا أَنْ يُضِيفَهَا مُبَاشِرُهَا إِلَى نَفْسِهِ، وَإِمَّا أَنْ يُضِيفَهَا إِلَى غَيْرِهِ.

أ- إِضَافَةُ التَّصَرُّفِ إِلَى الْمُبَاشِرِ نَفْسِهِ:

27- الْأَصْلُ أَنْ يُضِيفَ مُبَاشِرُ التَّصَرُّفِ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ إِلَى نَفْسِهِ، وَأَنْ يُبَاشِرَ الْعَقْدَ مَنْ يَمْلِكُ السِّلْعَةَ، وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ، فَإِنَّ الزَّوْجَ هُوَ الَّذِي يَمْلِكُهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ، فَإِنْ صَدَرَ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ.

ب- إِضَافَةُ الْمُبَاشِرِ التَّصَرُّفَ إِلَى غَيْرِهِ:

28- إِذَا أَضَافَ الْمُبَاشِرُ التَّصَرُّفَ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ بِإِذْنِ ذَلِكَ الْغَيْرِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنْ أُضِيفَ بِإِذْنِ ذَلِكَ الْغَيْرِ كَالْوَكَالَةِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ، فَمَنْ وَكَّلَ غَيْرَهُ فِي بَيْعٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ إِيصَالِ هِبَةٍ أَوْ وَدِيعَةٍ، فَإِنَّ التَّوْكِيلَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِيمَا وَكَّلَ بِهِ، وَتَصَرُّفَاتُ الْوَكِيلِ مُعْتَبَرَةٌ.وَأَمَّا إِنْ أُضِيفَ التَّصَرُّفُ إِلَى الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إِلَى ذَلِكَ التَّصَرُّفِ، فَإِنْ كَانَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَذَلِكَ كَتَصَرُّفِ الْوَصِيِّ فِي شَأْنِ الْمُوصَى عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ مَنْ أَوْصَى غَيْرَهُ لِيَقُومَ مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي رِعَايَةِ أَبْنَائِهِ لَا يَحْتَاجُ الْوَصِيُّ فِي تَصَرُّفَاتِهِ إِلَى إِذْنِ الْمُوصَى عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ تَحْتَ وِصَايَتِهِ، فَتَصَرُّفَاتُهُ- أَيِ الْوَصِيِّ- تَنْفُذُ عَلَيْهِمْ عَمَلًا بِكَلَامِ الْمُوصِي.

وَمِثْلُ الْوَصِيَّةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى الْوِلَايَةُ.فَإِنَّ تَصَرُّفَاتِ الْوَلِيِّ تَنْفُذُ عَلَى مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِمْ وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِهِمْ.وَكَذَلِكَ الْقَيِّمُ الَّذِي يُعِينُهُ الْقَاضِي، فَإِنَّ تَصَرُّفَاتِهِ صَحِيحَةٌ، وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِ مَنْ لَهُ الْقِوَامَةُ عَلَيْهِ.

29- وَأَمَّا إِنْ كَانَ يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِ الْغَيْرِ فَهُوَ تَصَرُّفُ الْفُضُولِيِّ الَّذِي يَتَصَرَّفُ بِلَا إِذْنٍ وَلَا وِصَايَةٍ وَلَا وِلَايَةٍ وَلَا قِوَامَةٍ فِي بَيْعٍ وَغَيْرِهِ.وَفِي صِحَّةِ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ خِلَافٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ- عَلَى قَوْلٍ عِنْدَهُمْ- وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ الْفُضُولِيَّ إِذَا تَصَرَّفَ بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ وَإِلاَّ فَلَا.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ- عَلَى قَوْلٍ عِنْدَهُمْ- وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَ الْفُضُولِيِّ بِالْبَيْعِ أَوِ الشِّرَاءِ بَاطِلٌ، حَتَّى وَإِنْ أَجَازَهُ الْمَالِكُ.وَاسْتَثْنَى الْحَنَابِلَةُ مَا لَوِ اشْتَرَى لِغَيْرِهِ شَيْئًا فِي ذِمَّتِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَيَصِحُّ إِنْ لَمْ يُسَمِّ الْمُشْتَرِي مَنِ اشْتَرَى لَهُ فِي الْعَقْدِ، بِأَنْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ هَذَا، وَلَمْ يَقُلْ: لِفُلَانٍ، فَيَصِحُّ الْعَقْدُ، سَوَاءٌ نَقَدَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ مِنْ مَالِ الَّذِي اشْتَرَى لَهُ، أَوْ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، أَوْ لَمْ يَنْقُدْهُ بِالْكُلِّيَّةِ، لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي ذِمَّتِهِ، وَهِيَ قَابِلَةٌ لِلتَّصَرُّفِ، وَاَلَّذِي نَقَدَهُ إِنَّمَا هُوَ عِوَضٌ عَمَّا فِي الذِّمَّةِ.فَإِنْ سَمَّاهُ فِي الْعَقْدِ لَمْ يَصِحَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَذِنَ.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ- فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَهُمْ- إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَ الْفُضُولِيِّ بِالْبَيْعِ أَوِ الشِّرَاءِ بَاطِلٌ فِي الْعَقَارِ وَجَائِزٌ فِي الْعُرُوضِ، أَيْ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِي الْمَنْقُولَاتِ دُونَ غَيْرِهَا كَالْأَرَاضِيِ وَالْبُيُوتِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


19-موسوعة الفقه الكويتية (تحريم)

تَحْرِيمٌ

التَّعْرِيفُ:

1- التَّحْرِيمُ فِي اللُّغَةِ: خِلَافُ التَّحْلِيلِ وَضِدُّهُ.

وَالْحَرَامُ: نَقِيضُ الْحَلَالِ.يُقَالُ: حَرُمَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ حُرْمَةً وَحَرَامًا.

وَالْحَرَامُ: مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَالْمُحَرَّمُ: الْحَرَامُ.

وَالْمَحَارِمُ: مَا حَرَّمَ اللَّهُ.وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوْ بِهِمَا: إِذَا دَخَلَ فِي الْإِحْرَامِ بِالْإِهْلَالِ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ بِهِ مَا كَانَ حَلَالًا مِنْ قَبْلُ كَالصَّيْدِ وَالنِّسَاءِ، فَيَتَجَنَّبُ الْأَشْيَاءَ الَّتِي مَنَعَهُ الشَّرْعُ مِنْهَا كَالطِّيبِ وَالنِّكَاحِ وَالصَّيْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.وَالْأَصْلُ فِيهِ الْمَنْعُ، فَكَأَنَّ الْمُحْرِمَ مُمْتَنِعٌ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَمِنْهُ حَدِيثُ الصَّلَاةِ: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ» فَكَأَنَّ الْمُصَلِّيَ بِالتَّكْبِيرِ وَالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ صَارَ مَمْنُوعًا مِنَ الْكَلَامِ وَالْأَفْعَالِ الْخَارِجَةِ عَنْ كَلَامِ الصَّلَاةِ وَأَفْعَالِهَا، فَقِيلَ لِلتَّكْبِيرِ: تَحْرِيمٌ لِمَنْعِهِ الْمُصَلِّيَ مِنْ ذَلِكَ.

وَالْإِحْرَامُ أَيْضًا بِمَعْنَى التَّحْرِيمِ.يُقَالُ: أَحْرَمَهُ وَحَرَّمَهُ بِمَعْنًى.

وَهُوَ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ: خِطَابُ اللَّهِ الْمُقْتَضِي الْكَفَّ عَنِ الْفِعْلِ اقْتِضَاءً جَازِمًا، بِأَنْ لَمْ يُجَوِّزْ فِعْلَهُ.

هَذَا فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ، أَمَّا أُصُولِيُّو الْحَنَفِيَّةِ فَيُعَرِّفُونَهُ: بِأَنَّهُ طَلَبُ الْكَفِّ عَنِ الْفِعْلِ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ.كَمَا فِي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.فَقَدْ ثَبَتَ التَّحْرِيمُ وَالْأَمْرُ بِالْكَفِّ بِالنَّصِّ الْقُرْآنِيِّ الْقَاطِعِ، وَكَتَحْرِيمِ الرِّبَا فِي قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا}.

وَأَوْرَدَ الْبِرْكِيُّ فِي تَعْرِيفَاتِهِ الْفِقْهِيَّةِ تَعْرِيفَ التَّحْرِيمِ فَقَالَ: هُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ مُحَرَّمًا، وَإِنَّمَا خُصَّتِ التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى فِي الصَّلَاةِ بِالتَّحْرِيمَةِ، لِأَنَّهَا تُحَرِّمُ الْأُمُورَ الْمُبَاحَةَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ دُونَ سَائِرِ التَّكْبِيرَاتِ.

هَذَا وَلِلتَّحْرِيمِ إِطْلَاقٌ آخَرُ حِينَ يَصْدُرُ مِنْ غَيْرِ الشَّارِعِ، كَتَحْرِيمِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ تَحْرِيمِ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ بِيَمِينٍ أَوْ بِغَيْرِهَا، وَمَعْنَاهُ هُنَا: الْمَنْعُ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْكَرَاهَةُ:

2- الْكَرَاهَةُ، وَالْكَرَاهِيَةُ: خِطَابُ الشَّارِعِ الْمُقْتَضِي الْكَفَّ عَنِ الْفِعْلِ اقْتِضَاءً غَيْرَ جَازِمٍ.

كَالنَّهْيِ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ» وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ «لَا تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ الشَّيَاطِينِ».

وَالتَّحْرِيمُ وَكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ يَتَشَارَكَانِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ بِتَرْكِ الْكَفِّ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ التَّحْرِيمَ: مَا تُيُقِّنَ الْكَفُّ عَنْهُ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ.

وَالْمَكْرُوهُ مَا تَرَجَّحَ الْكَفُّ عَنْهُ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ.

وَفِي مَرَاقِي الْفَلَاحِ: الْمَكْرُوهُ: مَا كَانَ النَّهْيُ فِيهِ بِظَنِّيٍّ، وَهُوَ قِسْمَانِ: مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا وَهُوَ مَا كَانَ إِلَى الْحِلِّ أَقْرَبَ، وَمَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا وَهُوَ مَا كَانَ إِلَى الْحَرَامِ أَقْرَبَ، فَالْفِعْلُ إِنْ تَضَمَّنَ تَرْكَ وَاجِبٍ فَمَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا، وَإِنْ تَضَمَّنَ تَرْكَ سُنَّةٍ فَمَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا، لَكِنْ تَتَفَاوَتُ كَرَاهَتُهُ فِي الشِّدَّةِ وَالْقُرْبِ مِنَ التَّحْرِيمِ بِحَسَبِ تَأَكُّدِ السُّنَّةِ.

الْحُكْمُ الْإِجْمَالِيُّ:

تَحْرِيمُ الشَّارِعِ يُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِهِ إِلَى الْمُصْطَلَحِ الْأُصُولِيِّ.

أَمَّا تَحْرِيمُ الْمُكَلَّفِ مَا هُوَ حَلَالٌ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ مَا يَلِي مِنَ الْأَحْكَامِ:

أَوَّلًا- تَحْرِيمُ الزَّوْجَةِ:

3- مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ يُسْأَلُ عَنْ نِيَّتِهِ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ الْكَذِبَ، فَهُوَ كَمَا قَالَ، لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ.وَقِيلَ: لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ، لِأَنَّهُ يَمِينٌ ظَاهِرًا؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ يَمِينٌ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إِلَى قَوْلِهِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ فِي نِيَّتِهِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَالْفَتْوَى.

وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ الطَّلَاقَ، فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ، إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ الثَّلَاثَ.

وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ الظِّهَارَ فَهُوَ ظِهَارٌ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَيْسَ بِظِهَارٍ، لِانْعِدَامِ التَّشْبِيهِ بِالْمُحَرَّمَةِ وَهُوَ الرُّكْنُ فِيهِ، وَلَهُمَا أَنَّهُ أَطْلَقَ الْحُرْمَةَ، وَفِي الظِّهَارِ نَوْعُ حُرْمَةٍ، وَالْمُطْلَقُ يَحْتَمِلُ الْمُقَيَّدَ.

وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ التَّحْرِيمَ أَوْ لَمْ أُرِدْ بِهِ شَيْئًا، فَهُوَ يَمِينٌ يَصِيرُ بِهِ مُولِيًا، وَصَرَفَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ لَفْظَةَ التَّحْرِيمِ إِلَى الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ بِحُكْمِ الْعُرْفِ ْ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَانِنَا أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهَذَا اللَّفْظِ الطَّلَاقَ.قَالَ بِذَلِكَ أَبُو اللَّيْثِ.

وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنَا عَلَيْكِ حَرَامٌ وَيَنْوِي الطَّلَاقَ: فَهِيَ طَالِقٌ.

وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي وَنَوَى بِهِ طَلَاقًا أَوْ إِيلَاءً: لَمْ يَكُنْ إِلاَّ ظِهَارًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: هُوَ عَلَى مَا نَوَى لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يَحْتَمِلُ كُلَّ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ إِذَا نَوَى الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ ظِهَارًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَكُونَانِ جَمِيعًا، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ فَلَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ.

أَمَّا إِذَا كَانَ بِلَفْظِ الظِّهَارِ صَرِيحًا كَأَنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَلَا يَنْصَرِفُ لِغَيْرِ الظِّهَارِ، وَبِهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَلَا مَسُّهَا وَلَا تَقْبِيلُهَا، حَتَّى يُكَفِّرَ عَنْ ظِهَارِهِ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} إِلَى قَوْلِهِ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا}.

فَإِنْ وَطِئَهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرُ الْكَفَّارَةِ الْأُولَى، وَلَا يَعُودُ حَتَّى يُكَفِّرَ، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام- لِلَّذِي وَاقَعَ فِي ظِهَارِهِ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ: «فَاعْتَزِلْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ عَنْكَ» وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ آخَرُ وَاجِبًا لَنَبَّهَ عَلَيْهِ.

وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَأُمِّي يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ وَالظِّهَارَ.

فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ الظِّهَارَ أَوِ الطَّلَاقَ فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ: الظِّهَارَ لِمَكَانِ التَّشْبِيهِ، وَالطَّلَاقَ لِمَكَانِ التَّحْرِيمِ.وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ: فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ إِيلَاءٌ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ظِهَارٌ.

هَذَا وَتَحْرِيمُ الزَّوْجَةِ بِأَرْبَعَةِ طُرُقٍ: الطَّلَاقِ، وَالْإِيلَاءِ، وَاللِّعَانِ، وَالظِّهَارِ.وَهَذَا مَا قَالَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ.

4- وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَهُوَ الْبَتَاتُ (الْبَيْنُونَةُ الْكُبْرَى).

وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَكُلِّ شَيْءٍ حَرَّمَهُ الْكِتَابُ، فَإِنَّهُ حَرَّمَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، فَيَلْزَمُهُ الْبَتَاتُ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ نَافِعٍ.

وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: قَالَ رَبِيعَةُ: مَنْ قَالَ: أَنْتِ مِثْلُ كُلِّ شَيْءٍ حَرَّمَهُ الْكِتَابُ، فَهُوَ مُظَاهِرٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ.

5- وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ حَرَّمْتُكِ، وَنَوَى طَلَاقًا أَوْ ظِهَارًا حَصَلَ الْمَنْوِيُّ، وَهُمْ كَالْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَشْهُورِ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَا إِذَا نَوَى الطَّلَاقَ يَكُونُ طَلَاقًا إِلاَّ أَنَّهُ يَكُونُ رَجْعِيًّا.فَإِنْ نَوَى عَدَدًا فَإِنَّهُ يَقَعُ مَا نَوَاهُ وَهُمْ كَرَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ إِذَا نَوَى الظِّهَارَ يَكُونُ ظِهَارًا عِنْدَهُمْ، كَمَا هُوَ ظِهَارٌ عِنْدَهُ.

فَإِنْ نَوَاهُمَا: أَيِ الطَّلَاقَ وَالظِّهَارَ مَعًا تَخَيَّرَ وَثَبَتَ مَا اخْتَارَهُ مِنْهُمَا.وَقِيلَ: الْوَاقِعُ طَلَاقٌ لِأَنَّهُ أَقْوَى بِإِزَالَتِهِ الْمِلْكَ، وَقِيلَ: ظِهَارٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ، وَلَا يَثْبُتَانِ جَمِيعًا لِأَنَّ الطَّلَاقَ يُزِيلُ النِّكَاحَ، وَالظِّهَارَ يَسْتَدْعِي بَقَاءَهُ.

وَإِنْ نَوَى تَحْرِيمَ عَيْنِهَا أَوْ فَرْجِهَا أَوْ وَطْئِهَا لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.

إِنْ أَطْلَقَ قَوْلَهُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَلَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَقَوْلَانِ:

أَظْهَرُهُمَا: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ.وَقَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ صَرِيحٌ فِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ.

وَالثَّانِي: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهَذَا اللَّفْظُ كِنَايَةٌ فِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ.

وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ.أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى التَّحْرِيمَ.فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ أَوْ قَالَهُ فِي مَجَالِسَ وَنَوَى التَّأْكِيدَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ.

وَإِنْ قَالَهُ فِي مَجَالِسَ وَنَوَى الِاسْتِئْنَافَ تَعَدَّدَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ: عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ فَقَطْ.

وَإِنْ أَطْلَقَ فَقَوْلَانِ.

وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَقَالَ: أَرَدْتُ الطَّلَاقَ أَوِ الظِّهَارَ صُدِّقَ، وَإِنْ نَوَى التَّحْرِيمَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَظَاهِرُ النَّصِّ أَنَّهُ كَالْحَرَامِ فَيَكُونُ عَلَى الْخِلَافِ.

6- وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَأَطْلَقَ، فَهُوَ ظِهَارٌ، لِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ لِلزَّوْجَةِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ، فَوَجَبَ بِهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي.

وَإِنْ نَوَى غَيْرَ الظِّهَارِ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ: أَنَّهُ ظِهَارٌ، نَوَى الطَّلَاقَ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ.

وَقِيلَ: إِذَا نَوَى بِقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ الْيَمِينَ كَانَ يَمِينًا، وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-: إِذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ فَهِيَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا.وَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} فَجَعَلَ الْحَرَامَ يَمِينًا.

وَإِنْ قَالَ: أَعْنِي بِأَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ.وَإِنْ نَوَى بِهِ ثَلَاثًا فَهِيَ ثَلَاثٌ، لِأَنَّهُ أَتَى فِي تَفْسِيرِهِ لِلتَّحْرِيمِ بِالْأَلِفِ وَاللاَّمِ الَّتِي لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الطَّلَاقُ كُلُّهُ.وَإِنْ قَالَ: أَعْنِي بِهِ طَلَاقًا فَهُوَ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ مُنَكَّرًا فَيَكُونُ طَلَاقًا وَاحِدًا.

وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا، لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ، وَلَا يَنْصَرِفُ إِلَى غَيْرِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ كِنَايَةً فِي الطَّلَاقِ، كَمَا لَا يَكُونُ الطَّلَاقُ كِنَايَةَ الظِّهَارِ.

وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ كَانَ طَلَاقًا، وَيَقَعُ بِهِ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ مَا نَوَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ.

وَإِنْ نَوَى الظِّهَارَ: وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ تَحْرِيمَهَا عَلَيْهِ مَعَ بَقَاءِ نِكَاحِهَا، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ظِهَارًا، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ ظِهَارًا.

وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ: وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ تَرْكَ وَطْئِهَا لَا تَحْرِيمَهَا وَلَا طَلَاقَهَا فَهُوَ يَمِينٌ.وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الطَّلَاقِ وَلَا نَوَاهُ بِهِ.

وَهَلْ يَكُونُ ظِهَارًا أَوْ يَمِينًا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.

أَحَدُهُمَا يَكُونُ ظِهَارًا، وَالثَّانِي يَكُونُ يَمِينًا.

7- وَإِنْ نَوَى بِقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ الظِّهَارَ فَهُوَ ظِهَارٌ عَلَى مَا قَالَهُ بِهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ) وَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا هُوَ ظِهَارٌ، وَالْأُخْرَى يَمِينٌ.

وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَنَوَى الطَّلَاقَ وَالظِّهَارَ مَعًا كَانَ ظِهَارًا وَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ ظِهَارًا وَطَلَاقًا، وَالظِّهَارُ أَوْلَى بِهَذَا اللَّفْظِ، فَيَنْصَرِفُ إِلَيْهِ، وَعِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ يَتَخَيَّرُ، فَيُقَالُ لَهُ: اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ كَمَا سَبَقَ الْقَوْلُ.

وَلَا خِلَافَ بَيْنَ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُظَاهِرِ وَطْءُ امْرَأَتِهِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ عَنْ ظِهَارِهِ، عَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ بَيَانُهُ.

ثَانِيًا: تَحْرِيمُ الْحَلَالِ:

8- الْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَمِنْهُمُ الْكَرْخِيُّ وَيُعَضِّدُ هَذَا قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ، فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَى شَيْئًا» وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ: «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَنَهَى عَنْ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» وَفِي لَفْظ «وَسَكَتَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَتَكَلَّفُوهَا رَحْمَةً لَكُمْ فَاقْبَلُوهَا» وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ- رضي الله عنه- «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنِ الْجُبْنِ وَالسَّمْنِ وَالْغِذَاءِ فَقَالَ: الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ».

وَقَدْ نَزَلَ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ- رضي الله عنه- فَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا.قَالَتْ: فَتَوَاطَأْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا مَا دَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَلْتَقُلْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ.أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ.فَقَالَ: بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ فَنَزَلَ قوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنْ تَتُوبَا} لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ».

وَفِي قَوْلٍ: إِنَّ الَّتِي حَرَّمَهَا هِيَ مَارِيَةُ الْقِبْطِيَّةُ، فَقَدْ رَوَى الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِحَفْصَةَ- رضي الله عنها-: لَا تُخْبِرِي أَحَدًا وَإِنَّ أُمَّ إِبْرَاهِيمَ (يَعْنِي مَارِيَةَ) عَلَيَّ حَرَامٌ فَقَالَتْ: أَتُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ؟ قَالَ: فَوَاللَّهِ لَا أَقْرَبُهَا، قَالَ: فَلَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى أَخْبَرَتْ عَائِشَةَ.قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} ».

وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ- رضي الله عنه- قَالَ: «حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أُمَّ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَاللَّهِ لَا آتِيَنَّكِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ».فَهَذِهِ رِوَايَاتٌ وَرَدَتْ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالتَّحْرِيمُ الْوَارِدُ فِيهَا يَمِينٌ تَلْزَمُ بِهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} وَلَيْسَ تَحْرِيمًا لِمَا أَحَلَّ اللَّهُ؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَهُ، وَلَا أَنْ يَصِيرَ بِتَحْرِيمِهِ حَرَامًا، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ لِمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ: هُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ.وَإِنَّمَا امْتَنَعَ مِنْ مَارِيَةَ لِيَمِينٍ تَقَدَّمَتْ مِنْهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ «وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُهَا» فَقِيلَ لَهُ: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} أَيْ لِمَ تَمْتَنِعُ مِنْهُ بِسَبَبِ الْيَمِينِ، يَعْنِي أَقْدِمْ عَلَيْهِ وَكَفِّرْ.قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ فَإِنَّمَا هِيَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ (أَيْمَانٌ) وَفِي أَبْوَابِ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


20-موسوعة الفقه الكويتية (تعليق 1)

تَعْلِيقٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- التَّعْلِيقُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ عَلَّقَ، يُقَالُ: عَلَّقَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ، وَمِنْهُ، وَعَلَيْهِ تَعْلِيقًا: نَاطَهُ بِهِ.وَالتَّعْلِيقُ فِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ رَبْطُ حُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةٍ بِحُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةٍ أُخْرَى.وَيُسَمَّى يَمِينًا مَجَازًا، لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ كَالْيَمِينِ.وَالتَّعْلِيقُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ: حَذْفُ رَاوٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنِ ابْتِدَاءِ السَّنَدِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْإِضَافَةُ:

2- الْإِضَافَةُ فِي اللُّغَةِ تَأْتِي بِمَعْنَى: الضَّمِّ، وَالْإِمَالَةِ، وَالْإِسْنَادِ، وَالتَّخْصِيصِ.

وَأَمَّا الْإِضَافَةُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَهَا بِمَعْنَى: الْإِسْنَادِ وَالتَّخْصِيصِ.فَإِذَا قِيلَ: الْحُكْمُ مُضَافٌ إِلَى فُلَانٍ، أَوْ صِفَتُهُ كَذَا، كَانَ ذَلِكَ إِسْنَادًا إِلَيْهِ.وَإِذَا قِيلَ: الْحُكْمُ مُضَافٌ إِلَى زَمَانِ كَذَا، كَانَ تَخْصِيصًا لَهُ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِضَافَةِ وَالتَّعْلِيقِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّعْلِيقَ يَمِينٌ، وَهِيَ لِلْبِرِّ إِعْدَامُ مُوجِبِ الْمُعَلَّقِ، وَلَا يُفْضِي إِلَى الْحُكْمِ.أَمَّا الْإِضَافَةُ فَلِثُبُوتِ حُكْمِ السَّبَبِ فِي وَقْتِهِ، لَا لِمَنْعِهِ، فَيَتَحَقَّقُ السَّبَبُ بِلَا مَانِعٍ، إِذِ الزَّمَانُ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ.

وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الشَّرْطَ عَلَى خَطَرٍ، وَلَا خَطَرَ فِي الْإِضَافَةِ.وَفِي هَذَيْنِ الْفَرْقَيْنِ مُنَازَعَةٌ تُنْظَرُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ.

ب- الشَّرْطُ:

3- الشَّرْطُ- بِسُكُونِ الرَّاءِ- لَهُ عَدَدٌ مِنَ الْمَعَانِي، وَمِنْ بَيْنِ تِلْكَ الْمَعَانِي: إِلْزَامُ الشَّيْءِ وَالْتِزَامُهُ.قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الشَّرْطُ إِلْزَامُ الشَّيْءِ وَالْتِزَامُهُ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، كَالشَّرِيطَةِ.

وَأَمَّا بِفَتْحِ الرَّاءِ فَمَعْنَاهُ: الْعَلَامَةُ، وَيُجْمَعُ عَلَى أَشْرَاطٍ..كَسَبَبٍ وَأَسْبَابٍ.

وَالشَّرْطُ فِي الِاصْطِلَاحِ نَوْعَانِ:

الْأَوَّلُ: الشَّرْطُ الشَّرْعِيُّ، وَهُوَ مَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْعَدَمِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ لِذَاتِهِ.وَهُوَ أَنْوَاعٌ: شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ، وَشَرْطٌ لِلِانْعِقَادِ، وَشَرْطٌ لِلصِّحَّةِ، وَشَرْطٌ لِلُّزُومِ، وَشَرْطٌ لِلنَّفَاذِ.إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ.

وَالنَّوْعُ الْآخَرُ: الشَّرْطُ الْجَعْلِيُّ، وَهُوَ: الْتِزَامُ أَمْرٍ لَمْ يُوجَدْ فِي أَمْرٍ قَدْ وُجِدَ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ- كَمَا قَالَ الْحَمَوِيُّ- وَهُوَ مَا يَشْتَرِطُهُ الْمُتَعَاقِدَانِ فِي تَصَرُّفَاتِهِمَا.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّعْلِيقِ وَالشَّرْطِ- كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ-: أَنَّ التَّعْلِيقَ مَا دَخَلَ عَلَى أَصْلِ الْفِعْلِ بِأَدَاتِهِ كَإِنْ وَإِذَا، وَالشَّرْطُ مَا جُزِمَ فِيهِ بِالْأَصْلِ وَشَرْطُ فِيهِ أَمْرٌ آخَرُ.

وَقَالَ الْحَمَوِيُّ: الْفَرْقُ أَنَّ التَّعْلِيقَ تَرْتِيبُ أَمْرٍ لَمْ يُوجَدْ عَلَى أَمْرٍ يُوجَدُ بِإِنْ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا، وَالشَّرْطُ الْتِزَامُ أَمْرٍ لَمْ يُوجَدْ فِي أَمْرٍ وُجِدَ بِصِيغَةٍ مَخْصُوصَةٍ.

ج- الْيَمِينُ:

4- الْيَمِينُ وَالْقَسَمُ وَالْإِيلَاءُ وَالْحَلِفُ أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ، أَوْ أَنَّ الْحَلِفَ أَعَمُّ وَمَعْنَى الْيَمِينِ فِي اللُّغَةِ: الْجِهَةُ وَالْجَارِحَةُ وَالْقُوَّةُ وَالشِّدَّةُ، وَيُسَمَّى بِهِ الْحَلِفُ مَجَازًا.وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَهِيَ: عِبَارَةٌ عَنْ عَقْدٍ قَوِيٍّ بِهِ عَزَمَ الْحَالِفُ عَلَى الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ.وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ: إِنَّهَا تَوْكِيدُ الْحُكْمِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بِذِكْرٍ مُعَظَّمٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.

وَبَيْنَ التَّعْلِيقِ وَالْيَمِينِ تَشَابُهٌ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِيهِ حَمْلٌ لِلنَّفْسِ عَلَى فِعْلِ الشَّيْءِ أَوْ تَرْكِهِ، وَمَا سُمِّيَ الْحَلِفُ بِاللَّهِ تَعَالَى يَمِينًا إِلاَّ لِإِفَادَتِهِ الْقُوَّةَ عَلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مِنَ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ.

وَالْيَمِينُ تَنْقَسِمُ بِحَسَبِ صِيغَتِهَا إِلَى يَمِينٍ مُنَجَّزَةٍ بِالصِّيغَةِ الْأَصْلِيَّةِ لِلْيَمِينِ، نَحْوُ: وَاللَّهِ لأَفْعَلَن.وَيَمِينٌ بِالتَّعْلِيقِ، وَهِيَ: أَنْ يُرَتِّبَ الْمُتَكَلِّمُ جَزَاءً مَكْرُوهًا لَهُ فِي حَالَةِ مُخَالَفَةِ الْوَاقِعِ، أَوْ تَخَلُّفِ الْمَقْصُودِ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ (أَيْمَانٌ)

صِيغَةُ التَّعْلِيقِ:

5- يَكُونُ التَّعْلِيقُ بِكُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى رَبْطِ حُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةٍ بِحُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةٍ أُخْرَى، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ الرَّبْطُ بِأَدَاةٍ مِنْ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ، أَمْ بِغَيْرِهَا مِمَّا يَقُومُ مَقَامَهَا، كَمَا لَوْ دَلَّ سِيَاقُ الْكَلَامِ عَلَى الِارْتِبَاطِ دَلَالَةَ كَلِمَةِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ.

وَمِثَالُ الرَّبْطِ بَيْنَ جُمْلَتَيِ التَّعْلِيقِ بِأَدَاةٍ مِنْ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ: قَوْلُ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَدْ رَتَّبَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَى دُخُولِهَا الدَّارَ، فَإِنْ دَخَلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَإِلاَّ فَلَا.وَمِثَالُ الرَّبْطِ بَيْنَ جُمْلَتَيِ التَّعْلِيقِ بِلَا أَدَاةِ شَرْطٍ: هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ مَثَلًا: الرِّبْحُ الَّذِي سَيَعُودُ إِلَيَّ مِنْ تِجَارَتِي هَذَا الْعَامِ وَقْفٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَقَدْ رَتَّبَ حُصُولَ الْوَقْفِ عَلَى حُصُولِ الرِّبْحِ بِلَا أَدَاةِ شَرْطٍ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْأُسْلُوبِ يَقُومُ مَقَامَ أَدَاةِ الشَّرْطِ.

وَالْمُرَادُ بِالشَّرْطِ الَّذِي تُسْتَعْمَلُ فِيهِ أَدَاتُهُ لِلرَّبْطِ بَيْنَ جُمْلَتَيِ التَّعْلِيقِ: الشَّرْطُ اللُّغَوِيُّ؛ لِأَنَّ ارْتِبَاطَ الْجُمْلَتَيْنِ النَّاشِئَ عَنْهُ كَارْتِبَاطِ الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ.

أَدَوَاتُ التَّعْلِيقِ:

6- الْمُرَادُ بِهَا: كُلُّ أَدَاةٍ تَدُلُّ عَلَى رَبْطِ حُصُولِ مَضْمُونٍ بِحُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةٍ أُخْرَى، سَوَاءٌ أَكَانَتْ مِنْ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ الْجَازِمَةِ أَمْ مِنْ غَيْرِهَا.وَتِلْكَ الْأَدَوَاتُ كَمَا جَاءَ فِي الْمُغْنِي عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالشَّرْطِ، (إِنْ) (وَإِذَا) (وَمَتَى) (وَمَنْ) (وَأَيْ) وَ (كُلَّمَا).

وَزَادَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ (مَتَى مَا) (وَمَهْمَا).وَزَادَ صَاحِبُ مُسْلِمٍ الثُّبُوتَ (لَوْ) (وَكَيْفَ).

وَزَادَ السَّرَخْسِيُّ فِي أُصُولِهِ وَالْبَزْدَوِيُّ فِي أُصُولِهِ وَصَاحِبُ فَتْحِ الْغَفَّارِ وَصَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ (حَيْثُ)، وَذَكَرَ صَاحِبُ فَتْحِ الْغَفَّارِ وَصَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ أَيْضًا أَنْ (أَيْنَ) مِنْ صِيَغِ التَّعْلِيقِ.

وَزَادَ صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ أَيْضًا (أَنَّى) وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ (إِنْ).

وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي كُلِّ أَدَاةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَدَوَاتِ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ وَمِنْ حَيْثُ التَّعْلِيقُ.

أ- إِنْ:

7- إِنِ الشَّرْطِيَّةُ هِيَ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي الرَّبْطِ بَيْنَ جُمْلَتَيِ التَّعْلِيقِ، فَإِنَّهَا أَصْلٌ فِي التَّعْلِيقِ وَفِي حُرُوفِ الشَّرْطِ وَأَدَوَاتِهِ، لِتَمَحُّضِهَا لِلتَّعْلِيقِ وَالشَّرْطِ، فَلَيْسَ لَهَا مَعْنًى آخَرُ سِوَى الشَّرْطِ وَالتَّعْلِيقِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ كَإِذَا وَمَتَى، فَإِنَّ لَهَا مَعَانِيَ أُخْرَى تُسْتَعْمَلُ فِيهَا إِلَى جَانِبِ الشَّرْطِ.

وَتُسْتَعْمَلُ إِنْ وَغَيْرُهَا مِنَ الْأَدَوَاتِ الْجَازِمَةِ الْمُشَابِهَةِ لَهَا فِي أَمْرٍ مُتَرَدِّدٍ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ، أَيْ: بَيْنَ أَنْ يَكُونَ وَأَنْ لَا يَكُونَ.وَلَا تُسْتَعْمَلُ فِيمَا هُوَ قَطْعِيُّ الْوُجُودِ، أَوْ قَطْعِيُّ الِانْتِفَاءِ، إِلاَّ عَلَى تَنْزِيلِهِمَا مَنْزِلَةَ الْمَشْكُوكِ لِنُكْتَةٍ.

8- وَيَتَرَتَّبُ عَلَى كَوْنِ (إِنْ) لِلشَّرْطِ الْمَحْضِ: أَنَّهُ لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِعَدَمِ تَطْلِيقِهِ لَهَا، بِأَنْ قَالَ: إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى يَمُوتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَهَا؛ لِأَنَّ إِنْ لِلشَّرْطِ، وَأَنَّهُ جَعَلَ عَدَمَ إِيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا شَرْطًا، وَلَا يُتَيَقَّنُ وُجُودُ هَذَا الشَّرْطِ مَا بَقِيَا حَيَّيْنِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنْ لَمْ آتِ الْبَصْرَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ.ثُمَّ إِنْ مَاتَ الزَّوْجُ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا قَبْلَ مَوْتِهِ بِقَلِيلٍ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ الْقَلِيلِ حَدٌّ مَعْرُوفٌ.وَلَكِنْ قُبَيْلَ مَوْتِهِ يَتَحَقَّقُ عَجْزُهُ عَنْ إِيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، فَيَتَحَقَّقُ شَرْطُ الْحِنْثِ.فَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا مِيرَاثَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا، فَلَهَا الْمِيرَاثُ بِحُكْمِ الْفِرَارِ.وَإِنْ مَاتَتِ الْمَرْأَةُ تَطْلُقُ أَيْضًا فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بِلَا فَصْلٍ- كَمَا فِي أُصُولِ السَّرَخْسِيِّ- لِأَنَّ فِعْلَ التَّطْلِيقِ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْمَحَلِّ، وَبِفَوَاتِ الْمَحَلِّ يَتَحَقَّقُ الشَّرْطُ.

وَذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ أَنَّهُ لَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِالنَّفْيِ بِإِحْدَى كَلِمَاتِ الشَّرْطِ، كَانَتْ (إِنْ) عَلَى التَّرَاخِي، وَأَمَّا غَيْرُهَا (كَمَتَى وَمَنْ وَكُلَّمَا وَأَيُّ) فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْفَوْرِ.

وَالتَّفْصِيلُ مَحَلُّهُ مُصْطَلَحُ: (طَلَاقٌ).

ب- إِذَا:

9- (إِذَا) تَرِدُ فِي اللُّغَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ لِلْمُفَاجَأَةِ، فَتَخْتَصُّ بِالْجُمَلِ الِاسْمِيَّةِ، وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى جَوَابٍ، وَلَا تَقَعُ فِي الِابْتِدَاءِ، وَمَعْنَاهَا الْحَالُ لَا الِاسْتِقْبَالُ.

ثَانِيهِمَا: أَنْ تَكُونَ لِغَيْرِ مُفَاجَأَةٍ، فَالْغَالِبُ أَنْ تَكُونَ ظَرْفًا لِلْمُسْتَقْبَلِ مُضَمَّنَةً مَعْنَى الشَّرْطِ.

وَخُلَاصَةُ الْقَوْلِ فِي إِذَا: أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ فِي مَعْنَى الْوَقْتِ، وَفِي مَعْنَى الشَّرْطِ، وَإِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ سَقَطَ عَنْهَا مَعْنَى الْوَقْتِ، وَصَارَتْ حَرْفًا كَإِنْ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَدْ سَبَقَ.

وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ هِيَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَقْتِ، وَتُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرْطِ مَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، فَعِنْدَهُمَا أَنَّهَا مِثْلُ مَتَى، أَيْ لَا يَسْقُطُ عَنْهَا مَعْنَى الظَّرْفِ، وَعِنْدَهُ أَنَّهَا كَإِنْ فِي التَّمَحُّضِ لِلشَّرْطِيَّةِ، فَلَا يَبْقَى فِيهَا مَعْنَى الظَّرْفِ.

10- وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِذَا لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ إِذَا مَا لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنْ عَنَى بِهَا الْوَقْتَ تَطْلُقُ فِي الْحَالِ، وَإِنْ عَنَى بِهَا الشَّرْطَ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَمُوتَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَمُوتَ.وَهَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ (إِذَا) إِنِ اسْتُعْمِلَتْ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ سَقَطَ عَنْهَا مَعْنَى الْوَقْتِ، وَهُوَ رَأْيُ الْكُوفِيِّينَ.

وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَإِنَّهَا تَطْلُقُ فِي الْحَالِ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ، بِنَاءً عَلَى رَأْيِ الْبَصْرِيِّينَ فِي أَنَّ إِذَا تُسْتَعْمَلُ لِلْوَقْتِ غَالِبًا، وَتُقْرَنُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْخَطَرِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: الرَّطْبُ إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ، وَالْبَرْدُ إِذَا جَاءَ الشِّتَاءُ.وَلَا يَسْتَقِيمُ مَكَانُهَا إِنْ.

وَجَاءَ فِي الْمُغْنِي: أَيْضًا وَجْهَانِ فِي (إِذَا) فِيمَا لَوْ قَالَ: إِذَا لَمْ تَدْخُلِي الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ.

أَحَدُهُمَا: هِيَ عَلَى التَّرَاخِي، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَنَصَرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ شَرْطًا.بِمَعْنَى إِنْ.قَالَ الشَّاعِرُ: أَحَدُهُمَا: هِيَ عَلَى التَّرَاخِي، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَنَصَرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ شَرْطًا.بِمَعْنَى إِنْ.قَالَ الشَّاعِرُ:

اسْتَغْنِ مَا أَغْنَاكَ رَبُّكَ بِالْغِنَى

وَإِذَا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلْ

فَجَزَمَ بِهَا كَمَا يَجْزِمُ بِإِنْ، وَلِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى مَتَى وَإِنْ، وَإِذَا احْتَمَلَتِ الْأَمْرَيْنِ فَالْيَقِينُ بَقَاءُ النِّكَاحِ فَلَا يَزُولُ بِالِاحْتِمَالِ.

وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهَا عَلَى الْفَوْرِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهَا اسْمٌ لِزَمَنٍ مُسْتَقْبَلٍ، فَتَكُونُ كَمَتَى.وَأَمَّا الْمُجَازَاةُ بِهَا فَلَا تُخْرِجْهَا مِنْ مَوْضُوعِهَا.

وَأَمَّا إِذَا عَلَّقَ التَّصَرُّفَ بِإِيجَادِ فِعْلٍ بِإِذَا، كَقَوْلِهِ مَثَلًا: إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّهَا تَكُونُ عَلَى التَّرَاخِي كَغَيْرِهَا مِنْ أَدَوَاتِ التَّعْلِيقِ.

وَقَدِ اطَّرَدَ فِي عُرْفِ أَهْلِ الْيَمَنِ- كَمَا جَاءَ فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ- اسْتِعْمَالُهُمْ إِلَى بِمَعْنَى إِذَا كَقَوْلِهِمْ: إِلَى دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ.وَلِهَذَا أَلْحَقَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ بِإِذَا فِي الِاسْتِعْمَالِ.

ج- مَتَى:

11- وَهِيَ اسْمٌ بِاتِّفَاقِ مَوْضُوعٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الزَّمَانِ ثُمَّ ضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ إِذَا وَمَتَى: أَنَّ إِذَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْأُمُورِ الْوَاجِبِ وُجُودُهَا، كَطُلُوعِ الشَّمْسِ وَمَجِيءِ الْغَدِ، بِخِلَافِ مَتَى، فَإِنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْأُمُورِ الْمُبْهَمَةِ، أَيْ فِيمَا يَكُونُ وَفِيمَا لَا يَكُونُ، بِمَعْنَى أَنَّهَا لَا تَخُصُّ وَقْتًا دُونَ وَقْتٍ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ مُشَارَكَةً لِ (إِنْ) فِي الْإِبْهَامِ، وَلِهَذَا أَيْضًا كَانَتِ الْمُجَازَاةُ بِهَا لَازِمَةً فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاسْتِفْهَامِ كَإِنْ، إِلاَّ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ مَتَى وَإِنْ أَنَّ (مَتَى) يُجَازَى بِهَا مَعَ بَقَاءِ مَعْنَى الْوَقْتِ فِيهَا، وَأَمَّا مَتَى الِاسْتِفْهَامِيَّةُ فَإِنَّهَا لَا يُجَازَى بِهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ الْفَهْمِ عَنْ وُجُودِ الْفِعْلِ، فَلَا يَسْتَقِيمُ فِي مَقَامِهِ إِضْمَارُ حَرْفِ إِنْ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَوْ عَلَّقَ التَّصَرُّفَ بِإِيجَادِ فِعْلٍ بِمَتَى فَإِنَّهَا تَكُونُ عَلَى التَّرَاخِي، فَمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: مَتَى تَدْخُلِي الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إِلاَّ عِنْدَ وُجُودِ الصِّفَةِ أَوِ الْفِعْلِ وَهُوَ الدُّخُولُ، أَمَّا إِذَا عَلَّقَ التَّصَرُّفَ بِنَفْيِ صِفَةٍ بِمَتَى، كَمَا إِذَا قَالَ: مَتَى لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ مَتَى لَمْ تَدْخُلِي الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّهُ إِنْ مَضَى زَمَنٌ عُقَيْبَ الْيَمِينِ لَمْ تَدْخُلْ فِيهِ أَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا فِيهِ فَقَدْ وُجِدَتِ الصِّفَةُ، فَإِنَّهَا اسْمٌ لِوَقْتِ الْفِعْلِ، فَتُقَدَّرُ بِهِ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ.

12- وَمِثْلُ مَتَى فِي الْحُكْمِ (مَتَى مَا) فَكُلُّ مَا قِيلَ فِي مَتَى يُقَالُ أَيْضًا فِي (مَتَى مَا)، فَحُكْمُهَا فِي الشَّرْطِ كَحُكْمِ مَتَى بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ اقْتِرَانَ (مَا) بِهَا يَجْعَلُهَا لِلْجَزَاءِ الْمَحْضِ دُونَ غَيْرِهِ كَالِاسْتِفْهَامِ.

د- مَنْ:

13- وَهِيَ اسْمٌ بِاتِّفَاقٍ وُضِعَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ، ثُمَّ ضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ.وَهِيَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ بِوَضْعِ اللُّغَةِ، وَهِيَ تَعُمُّ بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى قَرِينَةٍ، وَهِيَ كَمَا قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ عَامَّةٌ فِي الْعَالِمِينَ أَيْ: أُولِي الْعِلْمِ، لِتَشْمَلَ الْعُقَلَاءَ وَالذَّاتَ الْإِلَهِيَّةَ، لِأَنَّ (مَنْ) تُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كَمَا فِي قوله تعالى {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُوصَفُ بِالْعِلْمِ وَلَا يُوصَفُ بِالْعَقْلِ، وَهُوَ مَعْنًى حَسَنٌ غَفَلَ عَنْهُ الشَّارِحُونَ، كَمَا قَالَ الْإِسْنَوِيُّ.

قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْبُخَارِيُّ فِي كَشْفُ الْأَسْرَارِ شَرْحُ أُصُولِ الْبَزْدَوِيِّ مَا نَصُّهُ: وَمَنْ وَمَا يَدْخُلَانِ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْ بَابِ الشَّرْطِ، لِإِبْهَامِهَا، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَتَنَاوَلُ عَيْنًا.وَتَحْقِيقُهُ: أَنَّ (مَنْ وَمَا) لِإِبْهَامِهِمَا دَخَلَا فِي بَابِ الْعُمُومِ، فَلَمَّا كَانَ الْعُمُومُ فِي الشَّرْطِ مَقْصُودًا لِلْمُتَكَلِّمِ، وَتَخْصِيصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ بِالذِّكْرِ مُتَعَسِّرٌ أَوْ مُتَعَذِّرٌ وَ (مَنْ وَمَا) يُؤَدِّيَانِ هَذَا الْمَعْنَى مَعَ الْإِيجَازِ وَحُصُولِ الْمَقْصُودِ، نَابَا مَنَابَ إِنْ، فَقِيلَ: مَنْ يَأْتِ أُكْرِمْهُ، وَمَا تَصْنَعْ أَصْنَعْ.وَالْمَسَائِلُ فِيهِمَا كَثِيرَةٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: مَنْ دَخَلَ هَذَا الْحِصْنَ فَلَهُ رَأْسٌ، وَمَنْ دَخَلَ مِنْكُمُ الدَّارَ فَهُوَ حُرٌّ.وَأَمَّا إِذَا كَانَ لِلشَّرْطِ فَهُوَ اسْمٌ بِمَعْنَى أَيْ: تَقُولُ: مَا تَصْنَعْ أَصْنَعْ.وَفِي التَّنْزِيلِ. {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا}.

14- وَأَمَّا (مَا) الْمَصْدَرِيَّةُ، فَإِنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْفِقْهِ، وَيُقَيَّدُ بِهَا التَّصَرُّفُ تَقْيِيدَ إِضَافَةٍ لَا تَعْلِيقٍ، كَمَا جَاءَ فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ وَفَتْحِ الْقَدِيرِ؛ لِأَنَّهَا تَنُوبُ عَنْ ظَرْفِ الزَّمَانِ، كَمَا فِي قوله تعالى: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} أَيْ مُدَّةَ دَوَامِي حَيًّا.

وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ أُطَلِّقْكِ، وَسَكَتَ، وَقَعَ الطَّلَاقُ اتِّفَاقًا بِسُكُوتِهِ؛ لِأَنَّهُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ إِضَافَةُ الطَّلَاقِ إِلَى وَقْتٍ لَمْ يُطَلِّقْهَا فِيهِ.

هـ- مَهْمَا:

15- مَهْمَا اسْمٌ وُضِعَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَا لَا يَعْقِلُ، ثُمَّ ضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ.

وَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ: أَنَّ مَهْمَا مِنْ صِيَغِ التَّعْلِيقِ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: مَهْمَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ.

و- أَيُّ:

16- وَهِيَ بِحَسَبِ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ، فَفِي: أَيُّهُمْ يَقُمْ أَقُمْ مَعَهُ مِنْ بَابِ (مَنْ) أَيْ أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِيمَنْ يَعْقِلُ، وَفِي: أَيُّ الدَّوَابِّ تَرْكَبْ أَرْكَبْ مِنْ بَابِ (مَا) أَيْ مِنْ بَابِ مَا لَا يَعْقِلُ، وَفِي: أَيُّ يَوْمٍ تَصُمْ أَصُمْ مِنْ بَابِ (مَتَى) أَيْ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى زَمَانٍ مُبْهَمٍ، وَفِي أَيُّ مَكَانٍ تَجْلِسْ أَجْلِسْ مِنْ بَابِ (أَيْنَ) أَيْ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى مَكَانٍ مُبْهَمٍ.

وَقَدْ جَاءَ فِي الْمُغْنِي وَالرَّوْضَةِ مَا يُفِيدُ أَنَّ حُكْمَ (أَيُّ) فِي التَّعْلِيقِ كَحُكْمِ (مَتَى وَمَنْ وَكُلَّمَا) بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ عَلَّقَ التَّصَرُّفَ بِنَفْيِ فِعْلٍ بِأَيِّ، كَمَا لَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى نَفْيِ الدُّخُولِ بِأَيِّ، بِأَنْ قَالَ: أَيُّ وَقْتٍ لَمْ تَدْخُلِي فِيهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّهُ إِنْ مَضَى زَمَنٌ يُمْكِنُهَا فِيهِ الدُّخُولُ- وَلَمْ تَدْخُلْ- فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ بَعْدَهُ عَلَى الْفَوْرِ.

وَأَمَّا لَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى إِيجَادِ فِعْلٍ بِأَيِّ، فَلَا تُفِيدُ الْفَوْرَ كَغَيْرِهَا مِنْ أَدَوَاتِ التَّعْلِيقِ.

وَجَاءَ فِي تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ أَنَّ (أَيُّ) لَا تَعُمُّ بِعُمُومِ الصِّفَةِ فَلَوْ قَالَ: أَيُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْ.

بِخِلَافِ كِلْمَتَيْ (كُلُّ وَكُلَّمَا) فَإِنَّهُمَا تُفِيدَانِ عُمُومَ مَا دَخَلَتَا عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي.

ز- كُلُّ وَكُلَّمَا:

17- كَلِمَةُ (كُلُّ) تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ بِحَسَبِ الْمَقَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْكَثِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} أَيْ كَثِيرًا؛ لِأَنَّهَا دَمَّرَتْهُمْ وَدَمَّرَتْ مَسَاكِنَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَلَفْظُ (كُلُّ) لَا يُسْتَعْمَلُ إِلاَّ مُضَافًا لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا، وَلَفْظُهُ وَاحِدٌ، وَمَعْنَاهُ جَمْعٌ، وَيُفِيدُ التَّكْرَارُ بِدُخُولِ (مَا) عَلَيْهِ نَحْوُ: كُلَّمَا جَاءَكَ زَيْدٌ فَأَكْرِمْهُ.

18- وَكَلِمَةُ (كُلُّ) مِنْ صِيَغِ التَّعْلِيقِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَكَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِنْ قَصَدَ بِهَا التَّعْلِيقَ دُونَ الْمُكَافَأَةِ.

وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَفِيَّةُ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِ (كُلُّ) بَيْنَ مَا إِذَا عَمَّمَ، بِأَنْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ، أَوْ خَصَّصَ بِأَنْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي فُلَانٍ أَوْ مِنْ بَلَدِ كَذَا.وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُمْ يُخَالِفُونَ الْحَنَفِيَّةَ فِي صُورَةِ التَّعْمِيمِ؛ لِأَنَّ فِيهِ سَدًّا لِبَابِ النِّكَاحِ، وَيَتَّفِقُونَ مَعَهُ فِي صُورَةِ التَّخْصِيصِ بِأَنْ يَخُصَّ بَلَدًا أَوْ قَبِيلَةً أَوْ جِنْسًا أَوْ زَمَنًا يَبْلُغُهُ عُمْرُهُ ظَاهِرًا.

وَذَكَرَ السَّرَخْسِيُّ فِي أُصُولِهِ أَنَّ كَلِمَةَ (كُلُّ) تُوجِبُ الْإِحَاطَةَ عَلَى وَجْهِ الْإِفْرَادِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسَمَّيَاتِ الَّتِي تُوصَلُ بِهَا كَلِمَةُ كُلُّ يَصِيرُ مَذْكُورًا عَلَى سَبِيلِ الِانْفِرَادِ، كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ صِلَةٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ، حَتَّى لَا تُسْتَعْمَلُ وَحْدَهَا لِخُلُوِّهَا عَنِ الْفَائِدَةِ، وَهِيَ تَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ، نَحْوُ كَلِمَةِ (مَنْ) إِلاَّ أَنَّ مَعْنَى الْعُمُومِ فِيهَا يُخَالِفُ مَعْنَى الْعُمُومِ فِي كَلِمَةِ (مَنْ) وَلِهَذَا اسْتَقَامَ وَصْلُهَا بِكَلِمَةِ مَنْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} حَتَّى لَوْ وُصِلَتْ بِاسْمٍ نَكِرَةٍ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي الْعُمُومَ فِي ذَلِكَ الِاسْمِ أَيْضًا.وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ تَطْلُقُ كُلُّ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا عَلَى الْعُمُومِ.وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مَرَّتَيْنِ لَمْ تَطْلُقْ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْعُمُومَ فِيمَا وُصِلَتْ بِهِ مِنَ الِاسْمِ دُونَ الْفِعْلِ.

19- وَالْفَرْقُ بَيْنَ كَلِمَةِ (كُلُّ) وَكَلِمَةِ (مَنْ) فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الْخُصُوصِ: هُوَ أَنَّ كَلِمَةَ كُلُّ وَإِنْ كَانَتِ الْإِحَاطَةُ فِيهَا شَامِلَةً لِكُلِّ فَرْدٍ، إِلاَّ أَنَّهَا تَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ، كَكَلِمَةِ (مَنْ) كَمَا لَوْ قَالَ:

كُلُّ مَنْ دَخَلَ هَذَا الْحِصْنَ أَوَّلًا فَلَهُ كَذَا، فَدَخَلُوا عَلَى التَّعَاقُبِ فَالنَّفَلُ لِلْأَوَّلِ خَاصَّةً لِاحْتِمَالِ الْخُصُوصِ فِي كَلِمَةِ كُلُّ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ اسْمٌ لِفَرْدٍ سَابِقٍ، وَهَذَا الْوَصْفُ مُتَحَقِّقٌ فِيهِ دُونَ مَنْ دَخَلَ بَعْدَهُ.وَمِثْلُ ذَلِكَ كَلِمَةُ (مَنْ) فِي صُورَةِ التَّعَاقُبِ.

20- فَإِنْ دَخَلُوا مَعًا اسْتَحَقُّوا جَمِيعًا النَّفَلَ بِكَلِمَةِ (كُلُّ) دُونَ كَلِمَةِ (مَنْ).

وَأَمَّا كَلِمَةُ (كُلَّمَا) فَإِنَّهَا مِنْ صِيَغِ التَّعْلِيقِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَهِيَ تَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَالْفَوْرَ، وَيَلِيهَا الْفِعْلُ دُونَ الِاسْمِ، فَتَقْتَضِي الْعُمُومَ فِيهِ، فَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ، فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِرَارًا فَإِنَّهَا تَطْلُقُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ يَتَزَوَّجُهَا؛ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي الْعُمُومَ فِي الْأَفْعَالِ دُونَ الْأَسْمَاءِ، بِخِلَافِ كَلِمَةِ (كُلُّ) فَإِنَّهَا تُفِيدُ الْعُمُومَ فِي الْأَسْمَاءِ دُونَ الْأَفْعَالِ.

ح- لَوْ:

21- تَكُونُ (لَوْ) حَرْفَ شَرْطٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، إِلاَّ أَنَّهَا لَا تَجْزِمُ، وَمِثَالُهَا قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} أَيْ: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ إِنْ شَارَفُوا وَقَارَبُوا أَنْ يَتْرُكُوا.وَإِنَّمَا أَوَّلُوا التَّرْكَ بِمُشَارَفَةِ التَّرْكِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَوْصِيَاءِ، وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِمْ قَبْلَ التَّرْكِ؛ لِأَنَّهُمْ بَعْدَهُ أَمْوَاتٌ.

وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ تَعْلِيقُ التَّصَرُّفِ (بِلَوْ) فَقَدْ أَجَازَ الْفُقَهَاءُ- كَأَبِي يُوسُفَ- تَعْلِيقَهُ بِهَا، لِشَبَهِهَا (بِإِنْ) فَإِنَّ لَوْ تُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ وَلَا يَلِيهَا دَائِمًا إِلاَّ الْفِعْلُ كَإِنْ، وَلِوُرُودِ اسْتِعْمَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي مَعْنَى الْأُخْرَى، إِلاَّ أَنَّ (لَوْ) تُفِيدُ التَّقْيِيدَ فِي الْمَاضِي (وَإِنْ) تُفِيدُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.

إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ لَمْ يَنْظُرُوا إِلَى هَذِهِ النَّاحِيَةِ، وَعَامَلُوهَا كَإِنْ فِي التَّعْلِيقِ، فَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: لَوْ دَخَلْتَ الدَّارَ لَتَعْتِقُ، فَإِنَّهُ لَا يَعْتِقُ حَتَّى يَدْخُلَ؛ صَوْنًا لِلْكَلَامِ عَنِ الْإِهْمَالِ، حَتَّى إِنَّ مِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ عَامَلَهَا مُعَامَلَةَ (إِنْ) مُطْلَقًا وَأَجَازَ اقْتِرَانَ جَوَابِهَا بِالْفَاءِ، وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ عِنْدَ النُّحَاةِ؛ لِأَنَّ الْعَامَّةَ تُخْطِئُ وَتُصِيبُ فِي الْإِعْرَابِ، فَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: زَنَيْتِ بِكَسْرِ التَّاءِ، أَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: زَنَيْتَ بِفَتْحِهَا، وَجَبَ حَدُّ الْقَذْفِ فِي الصُّورَتَيْنِ.

22- وَتُسْتَعْمَلُ (لَوْ) فِي الِاسْتِقْبَالِ لِمُؤَاخَاتِهَا لِإِنْ، كَأَنْ يُقَالَ: لَوِ اسْتَقْبَلْتَ أَمْرَكَ بِالتَّوْبَةِ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ، أَيْ إِنِ اسْتَقْبَلْتَ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} أَيْ وَإِنْ أَعْجَبَكُمْ، كَمَا أَنَّ (إِنْ) اسْتُعْلِمَتْ بِمَعْنَى (لَوْ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} وَعَلَى هَذَا فَمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لَوْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَإِنَّهَا لَا تَطْلُقُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ حَتَّى تَدْخُلَ الدَّارَ؛ لِأَنَّ لَوْ بِمَنْزِلَةِ إِنْ، فَتُفِيدُ مَعْنَى التَّرَقُّبِ.وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَمْ يُرْوَ فِيهَا شَيْءٌ عَنْ مُحَمَّدٍ، فَهِيَ مِنَ النَّوَادِرِ.

23- أَمَّا (لَوْلَا) وَهِيَ الَّتِي تُفِيدُ امْتِنَاعَ الثَّانِي لِوُجُودِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ صِيَغِ التَّعْلِيقِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ فَإِنَّ الْجَزَاءَ فِيهَا لَا يُتَوَقَّعُ حُصُولُهُ؛ لِأَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ إِلاَّ فِي الْمَاضِي، وَلَا عَلَاقَةَ لَهَا بِالزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَهِيَ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ لِنَفْيِ شَيْءٍ بِوُجُودِ غَيْرِهِ، فَمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لَوْلَا حُسْنُكِ، أَوْ لَوْلَا صُحْبَتُكِ، لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ حَتَّى وَإِنْ زَالَ الْحُسْنُ أَوِ انْتَفَتِ الصُّحْبَةُ، لِجَعْلِهِ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ.

ط- كَيْفَ:

24- (كَيْفَ) تُسْتَعْمَلُ فِي اللُّغَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ شَرْطًا.

وَالثَّانِي: وَهُوَ الْغَالِبُ فِيهَا: أَنْ تَكُونَ اسْتِفْهَامًا، إِمَّا حَقِيقِيًّا نَحْوَ «كَيْفَ زَيْدٌ؟» أَوْ غَيْرَهُ نَحْوَ {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} الْآيَةَ، فَإِنَّهُ أُخْرِجَ مَخْرَجَ التَّعَجُّبِ، وَتَقَعُ خَبَرًا قَبْلَ مَا لَا يُسْتَغْنَى، نَحْوُ «كَيْفَ أَنْتَ؟» «وَكَيْفَ كُنْتَ؟»، وَحَالًا قَبْلَ مَا يُسْتَغْنَى، نَحْوُ «كَيْفَ جَاءَ زَيْدٌ؟» أَيْ عَلَى أَيِّ حَالَةٍ جَاءَ زَيْدٌ.

وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا فِي اسْتِعْمَالِهِمْ لِكَيْفَ عَمَّا ذَكَرَتْهُ اللُّغَةُ بِشَأْنِهَا.

فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِكَيْفَ لَا يُؤَثِّرُ فِي أَصْلِ التَّصَرُّفِ، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي صِفَتِهِ.وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِهَا يُؤَثِّرُ فِي الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ مَعًا.وَعَلَى هَذَا فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْتِ أَنَّهَا تَطْلُقُ قَبْلَ الْمَشِيئَةِ تَطْلِيقَةً، ثُمَّ إِنْ لَمْ تَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا فَقَدْ بَانَتْ لَا إِلَى عِدَّةٍ، وَلَا مَشِيئَةَ لَهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا فَالتَّطْلِيقَةُ الْوَاقِعَةُ رَجْعِيَّةٌ، وَالْمَشِيئَةُ إِلَيْهَا فِي الْمَجْلِسِ بَعْدَ ذَلِكَ.فَإِنْ شَاءَتِ الْبَائِنَةُ- وَقَدْ نَوَاهَا الزَّوْجُ- كَانَتْ بَائِنَةً، أَوْ إِنْ شَاءَتْ ثَلَاثًا- وَقَدْ نَوَاهَا الزَّوْجُ- تَطْلُقُ ثَلَاثًا، وَإِنْ شَاءَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً- وَقَدْ نَوَى الزَّوْجُ ثَلَاثًا- فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَإِنْ شَاءَتْ ثَلَاثًا- وَقَدْ نَوَى الزَّوْجُ وَاحِدَةً بَائِنَةً- فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ؛ لِأَنَّهَا شَاءَتْ غَيْرَ مَا نَوَى، وَأَوْقَعَتْ غَيْرَ مَا فُوِّضَ إِلَيْهَا، فَلَا يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَتَأَخَّرُ إِلَى مَشِيئَتِهَا مَا عَلَّقَهُ الزَّوْجُ بِمَشِيئَتِهَا دُونَ مَا لَمْ يُعَلِّقْهُ، وَكَلِمَةُ (كَيْفَ) لَا تَرْجِعُ إِلَى أَصْلِ الطَّلَاقِ، فَيَكُونُ هُوَ مُنَجِّزًا أَصْلَ الطَّلَاقِ وَمُفَوِّضًا لِلصِّفَةِ إِلَى مَشِيئَتِهَا، بِقَوْلِهِ: كَيْفَ شِئْتِ.إِلاَّ أَنَّ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا لَا مَشِيئَةَ لَهَا فِي الصِّفَةِ بَعْدَ إِيقَاعِ الْأَصْلِ، فَيَلْغُوَ تَفْوِيضُهُ الصِّفَةَ إِلَى مَشِيئَتِهَا بَعْدَ إِيقَاعِ الْأَصْلِ، وَفِي الْمَدْخُولِ بِهَا، لَهَا الْمَشِيئَةُ فِي الصِّفَةِ بَعْدَ وُقُوعِ الْأَصْلِ، بِأَنْ تَجْعَلَهُ بَائِنًا أَوْ ثَلَاثًا عَلَى مَا عُرِفَ، فَيَصِحُّ تَفْوِيضُهُ إِلَيْهَا.

وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: فَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مَا لَمْ تَشَأْ، فَإِذَا شَاءَتْ فَالتَّفْرِيعُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الطَّلَاقَ مُفَوَّضًا إِلَى مَشِيئَتِهَا فَلَا يَقَعُ بِدُونِ تِلْكَ الْمَشِيئَةِ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ، أَوْ كَمْ شِئْتِ، أَوْ حَيْثُ شِئْتِ، لَا يَقَعُ شَيْءٌ مَا لَمْ تَشَأْ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا فَوَّضَ وَصْفَ الطَّلَاقِ إِلَيْهَا يَكُونُ ذَلِكَ تَفْوِيضًا لِنَفْسِ الطَّلَاقِ إِلَيْهَا ضَرُورَةَ أَنَّ الْوَصْفَ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْأَصْلِ.

وَلَمْ نَطَّلِعْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى كَلَامٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ: فَلَهُمْ رَأْيَانِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.فَقَدْ ذَكَرَ الْبَغَوِيُّ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْتِ، قَالَ أَبُو زَيْدٍ وَالْقَفَّالُ: تَطْلُقُ شَاءَتْ أَمْ لَمْ تَشَأْ.وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ: لَا تَطْلُقُ حَتَّى تُوجَدَ مَشِيئَةٌ فِي الْمَجْلِسِ بِالْإِيقَاعِ أَوْ عَدَمِهِ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَإِنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ (كَيْفَ) وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنْ أَدَوَاتِ التَّعْلِيقِ، فَالطَّلَاقُ عِنْدَهُمْ لَا يَقَعُ حَتَّى تُعْرَفَ مَشِيئَتُهَا بِقَوْلِهَا، فَقَدْ جَاءَ فِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ أَوْ إِذَا شِئْتِ، أَوْ مَتَى شِئْتِ، أَوْ كَيْفَ شِئْتِ..إِلَخْ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَقُولَ: قَدْ شِئْتُ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْقَلْبِ لَا يُعْلَمُ حَتَّى يُعَبِّرَ عَنْهُ اللِّسَانُ.

ي- حَيْثُ، وَأَيْنَ:

25- (حَيْثُ) اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْمُبْهَمِ.

قَالَ الْأَخْفَشُ: وَقَدْ تَكُونُ لِلزَّمَانِ. (وَحَيْثُ) مِنْ صِيَغِ التَّعْلِيقِ، لِشَبَهِهَا (بِإِنْ) فِي الْإِبْهَامِ، وَتَعْلِيقُ التَّصَرُّفِ بِهَا لَا يَتَعَدَّى مَجْلِسَ التَّخَاطُبِ تَشْبِيهًا لَهَا بِ (إِنْ) أَيْضًا، فَإِنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ مَثَلًا بِمَشِيئَةِ الْمَرْأَةِ بِ (إِنْ) لَا يَتَعَدَّى مَجْلِسَ التَّخَاطُبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

فَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ حَيْثُ شِئْتِ، فَإِنَّهَا لَا تَطْلُقُ قَبْلَ الْمَشِيئَةِ، وَتَتَوَقَّفُ مَشِيئَتُهَا عَلَى الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ (حَيْثُ) مِنْ ظُرُوفِ الْمَكَانِ، وَلَا اتِّصَالَ لِلطَّلَاقِ بِالْمَكَانِ، فَيَلْغُوَ ذِكْرُهُ، وَيَبْقَى ذِكْرُ الْمَشِيئَةِ فِي الطَّلَاقِ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ.

وَأَوْرَدَ الْبُهُوتِيُّ (حَيْثُ) فِي صِيَغِ التَّعْلِيقِ، وَأَنَّهَا تُعَامَلُ مُعَامَلَةَ غَيْرِهَا مِنْ أَدَوَاتِ التَّعْلِيقِ، فَتَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِهَا لَا يَكُونُ قَاصِرًا عَلَى الْمَجْلِسِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، بَلْ يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ.فَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ حَيْثُ شِئْتِ، فَإِنَّهَا لَا تَطْلُقُ حَتَّى تُعْرَفَ مَشِيئَتُهَا بِقَوْلِهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الْفَوْرِ أَمْ عَلَى التَّرَاخِي.وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْمَالِكِيَّةُ، وَلَا النَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الرَّوْضَةِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


21-موسوعة الفقه الكويتية (تيمم 2)

تَيَمُّمٌ -2

مَا يَجُوزُ بِهِ التَّيَمُّمُ:

26- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِالصَّعِيدِ الطَّاهِرِ، وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَرْضٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}.

وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالصَّعِيدِ هَلْ هُوَ وَجْهُ الْأَرْضِ أَوِ التُّرَابُ الْمُنْبِتُ؟ أَمَّا جَوَازُ الْمَسْحِ عَلَى التُّرَابِ الْمُنْبِتِ فَبِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ مِمَّا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّعِيدِ وَجْهُ الْأَرْضِ، فَيَجُوزُ عِنْدَهُمُ التَّيَمُّمُ بِكُلِّ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ الصَّعِيدَ مُشْتَقٌّ مِنَ الصُّعُودِ وَهُوَ الْعُلُوُّ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ بِالتُّرَابِ، بَلْ يَعُمُّ كُلَّ مَا صَعِدَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ أَجْزَائِهَا.وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «عَلَيْكُمْ بِالْأَرْضِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَقَوْلُهُ- عليه الصلاة والسلام-: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» وَاسْمُ الْأَرْضِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِهَا.

وَالطَّيِّبُ عِنْدَهُمْ هُوَ الطَّاهِرُ، وَهُوَ الْأَلْيَقُ هُنَا؛ لِأَنَّهُ شُرِعَ مُطَهِّرًا، وَالتَّطْهِيرُ لَا يَقَعُ إِلاَّ بِالطَّاهِرِ، مَعَ أَنَّ مَعْنَى الطَّهَارَةِ صَارَ مُرَادًا بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى لَا يَجُوزَ التَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ النَّجَسِ.

وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ مَا يَجُوزُ بِهِ التَّيَمُّمُ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالتُّرَابِ- وَهُوَ الْأَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ عِنْدَ وُجُودِهِ- وَالرَّمْلِ، وَالْحَصَى، وَالْجِصِّ الَّذِي لَمْ يُحْرَقْ بِالنَّارِ، فَإِنْ أُحْرِقَ أَوْ طُبِخَ لَمْ يَجُزِ التَّيَمُّمُ بِهِ.

وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالْمَعَادِنِ مَا دَامَتْ فِي مَوَاضِعِهَا وَلَمْ تُنْقَلْ مِنْ مَحَلِّهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ- الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ- أَوْ مِنَ الْجَوَاهِرِ كَاللُّؤْلُؤِ، فَلَا يَتَيَمَّمُ عَلَى الْمَعَادِنِ مِنْ شَبٍّ، وَمِلْحٍ، وَحَدِيدٍ، وَرَصَاصٍ، وَقَصْدِيرٍ، وَكُحْلٍ، إِنْ نُقِلَتْ مِنْ مَحَلِّهَا وَصَارَتْ أَمْوَالًا فِي أَيْدِي النَّاسِ.

وَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالْخَشَبِ وَالْحَشِيشِ سَوَاءٌ أَوْجَدَ غَيْرَهُمَا أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

وَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ عِنْدَهُمْ بِالْجَلِيدِ وَهُوَ الثَّلْجُ الْمُجَمَّدُ مِنَ الْمَاءِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَوِ الْبَحْرِ، حَيْثُ عَجَزَ عَنْ تَحْلِيلِهِ وَتَصْيِيرِهِ مَاءً؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهَ بِجُمُودِهِ الْحَجَرَ فَالْتُحِقَ بِأَجْزَاءِ الْأَرْضِ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ، ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِكُلِّ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ الْتَزَقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ التَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الِالْتِزَاقِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ إِلاَّ بِدَلِيلٍ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ إِلاَّ إِذَا الْتَزَقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، فَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنِ اسْتِعْمَالِ جُزْءٍ مِنَ الصَّعِيدِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلاَّ بِأَنْ يَلْتَزِقَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْهُ.

فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالْجِصِّ، وَالنُّورَةِ، وَالزِّرْنِيخِ، وَالطِّينِ الْأَحْمَرِ، وَالْأَسْوَدِ، وَالْأَبْيَضِ، وَالْكُحْلِ، وَالْحَجَرِ الْأَمْلَسِ، وَالْحَائِطِ الْمُطَيَّنِ، وَالْمُجَصَّصِ، وَالْمِلْحِ الْجَبَلِيِّ دُونَ الْمَائِيِّ، وَالْآجُرِّ، وَالْخَزَفِ الْمُتَّخَذِ مِنْ طِينٍ خَالِصٍ، وَالْأَرْضِ النَّدِيَّةِ، وَالطِّينِ الرَّطْبِ.

وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَيَمَّمَ بِالطِّينِ مَا لَمْ يَخَفْ ذَهَابَ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَلْطِيخَ الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَيَصِيرُ بِمَعْنَى الْمُثْلَةِ، وَإِنْ كَانَ لَوْ تَيَمَّمَ بِهِ أَجْزَأَهُ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ الطِّينَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ، فَإِنْ خَافَ ذَهَابَ الْوَقْتِ تَيَمَّمَ وَصَلَّى عِنْدَهُمَا.

وَيَحُوزُ التَّيَمُّمُ عِنْدَهُمَا بِالْغُبَارِ بِأَنْ ضَرَبَ يَدَهُ عَلَى ثَوْبٍ، أَوْ لِبَدٍ، أَوْ صِفَةِ سَرْجٍ، فَارْتَفَعَ غُبَارٌ، أَوْ كَانَ عَلَى الْحَدِيدِ، أَوْ عَلَى الْحِنْطَةِ، أَوِ الشَّعِيرِ، أَوْ نَحْوِهَا غُبَارٌ، فَتَيَمَّمَ بِهِ أَجْزَأَهُ فِي قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّ الْغُبَارَ وَإِنْ كَانَ لَطِيفًا فَإِنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ، كَمَا يَجُوزُ بِالْكَثِيفِ بَلْ أَوْلَى.

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما- كَانَ بِالْجَابِيَةِ فَمُطِرُوا فَلَمْ يَجِدُوا مَاءً يَتَوَضَّئُونَ بِهِ، وَلَا صَعِيدًا يَتَيَمَّمُونَ بِهِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لِيَنْفُضَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ثَوْبَهُ، أَوْ صِفَةَ سَرْجِهِ، وَلْيَتَيَمَّمْ، وَلْيُصَلِّ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا.وَلَوْ كَانَ الْمُسَافِرُ فِي طِينٍ وَرَدْغَةٍ لَا يَجِدُ مَاءً وَلَا صَعِيدًا وَلَيْسَ فِي ثَوْبِهِ وَسَرْجِهِ غُبَارٌ لَطَّخَ ثَوْبَهُ أَوْ بَعْضَ جَسَدِهِ بِالطِّينِ فَإِذَا جَفَّ تَيَمَّمَ بِهِ.

أَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ اتِّفَاقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.فَكُلُّ مَا يَحْتَرِقُ بِالنَّارِ فَيَصِيرُ رَمَادًا كَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَنَحْوِهِمَا، أَوْ مَا يَنْطَبِعُ وَيَلِينُ كَالْحَدِيدِ، وَالصُّفْرِ، وَالنُّحَاسِ، وَالزُّجَاجِ وَنَحْوِهَا، فَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ.كَمَا لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِالرَّمَادِ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَطَبِ فَلَيْسَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ.وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ إِلاَّ بِتُرَابٍ طَاهِرٍ ذِي غُبَارٍ يَعْلَقُ بِالْيَدِ غَيْرِ مُحْتَرِقٍ لقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَمْسَحُ بِجُزْءٍ مِنْهُ، فَمَا لَا غُبَارَ لَهُ كَالصَّخْرِ، لَا يَمْسَحُ بِشَيْءٍ مِنْهُ.وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «جُعِلَ التُّرَابُ لِي طَهُورًا».

فَإِنْ كَانَ جَرِيشًا أَوْ نَدِيًّا لَا يَرْتَفِعُ لَه ُ غُبَارٌ لَمْ يَكْفِ.لِأَنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ هُوَ التُّرَابُ الْمُنْبِتُ، وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما- أَيُّ الصَّعِيدِ أَطْيَبُ فَقَالَ: الْحَرْثُ، وَهُوَ التُّرَابُ الَّذِي يَصْلُحُ لِلنَّبَاتِ دُونَ السَّبْخَةِ وَنَحْوِهَا.

وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى التُّرَابِ الرَّمْلَ الَّذِي فِيهِ غُبَارٌ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ الْجَوَازُ وَعَدَمُهُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ أَيْضًا.

وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا (الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ وَأَبُو يُوسُفَ) التَّيَمُّمُ بِمَعْدِنٍ كَنَفْطٍ، وَكِبْرِيتٍ، وَنُورَةٍ، وَلَا بِسَحَاقَةِ خَزْفٍ؛ إِذْ لَا يُسَمَّى ذَلِكَ تُرَابًا.

وَلَا بِتُرَابٍ مُخْتَلِطٍ بِدَقِيقٍ وَنَحْوِهِ كَزَعْفَرَانٍ، وَجِصٍّ؛ لِمَنْعِهِ وُصُولَ التُّرَابِ إِلَى الْعُضْوِ، وَلَا بِطِينٍ رَطْبٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتُرَابٍ، وَلَا بِتُرَابٍ نَجَسٍ كَالْوُضُوءِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.لقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ إِنَّ مَا اُسْتُعْمِلَ فِي التَّيَمُّمِ لَا يَتَيَمَّمُ بِهِ كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ.وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ الْمَغْصُوبَ وَنَحْوَهُ فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ.

وَيَجُوزُ الْمَسْحُ بِالثَّلْجِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ إِذَا تَعَذَّرَ تَذْوِيبُهُ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ».ثُمَّ إِذَا جَرَى الْمَاءُ عَلَى الْأَعْضَاءِ بِالْمَسِّ لَمْ يُعِدِ الصَّلَاةَ لِوُجُودِ الْغُسْلِ وَإِنْ كَانَ خَفِيفًا، وَإِنْ لَمْ يَسِلْ أَعَادَ صَلَاتَهُ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى بِدُونِ طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ.

كَيْفِيَّةُ التَّيَمُّمِ:

27- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ التَّيَمُّمِ:

أ- فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ».

ب- وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ الْوَاجِبَ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِحَدِيثِ عَمَّارٍ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي التَّيَمُّمِ: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيك ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ» وَالْيَدُ إِذَا أُطْلِقَتْ لَا يَدْخُلُ فِيهَا الذِّرَاعُ كَمَا فِي الْيَدِ الْمَقْطُوعَةِ فِي السَّرِقَةِ.وَالْأَكْمَلُ عَنْهُمْ ضَرْبَتَانِ وَإِلَى الْمِرْفَقَيْنِ كَالْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.

وَصُورَتُهُ- عِنْدَهُمْ جَمِيعًا- فِي مَسْحِ الْيَدَيْنِ بِالضَّرْبَةِ الثَّانِيَةِ: أَنْ يُمِرَّ الْيَدَ الْيُسْرَى عَلَى الْيَدِ الْيُمْنَى مِنْ فَوْقِ الْكَفِّ إِلَى الْمِرْفَقِ، ثُمَّ بَاطِنِ الْمِرْفَقِ إِلَى الْكُوعِ (الرُّسْغِ)، ثُمَّ يُمِرَّ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى كَذَلِكَ.

وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّيَمُّمِ إِيصَالُ التُّرَابِ إِلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، فَبِأَيِّ صُورَةٍ حَصَلَ اسْتِيعَابُ الْعُضْوَيْنِ بِالْمَسْحِ أَجْزَأَهُ تَيَمُّمُهُ.سَوَاءٌ احْتَاجَ إِلَى ضَرْبَتَيْنِ أَوْ أَكْثَر، وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ.

سُنَنُ التَّيَمُّمِ:

يُسَنُّ فِي التَّيَمُّمِ أُمُورٌ:

أ- التَّسْمِيَةُ:

28- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ سُنَّةٌ فِي أَوَّلِ التَّيَمُّمِ كَالْوُضُوءِ بِأَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم، وَيَكْتَفِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِبِسْمِ اللَّهِ، وَقِيلَ: الْأَفْضَلُ ذِكْرُهَا كَامِلَةً.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ فَضِيلَةٌ- وَهِيَ عِنْدَهُمْ أَقَلُّ مِنَ السُّنَّةِ- أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَالتَّسْمِيَةُ وَاجِبَةٌ كَالتَّسْمِيَةِ فِي الْوُضُوءِ.

ب- التَّرْتِيبُ:

29- يُسَنُّ التَّرْتِيبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ بِأَنْ يَمْسَحَ الْوَجْهَ أَوَّلًا ثُمَّ الْيَدَيْنِ، فَإِنْ عَكَسَ صَحَّ تَيَمُّمُهُ، إِلاَّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ يُعِيدَ مَسْحَ الْيَدَيْنِ إِنْ قَرُبَ الْمَسْحُ وَلَمْ يُصَلِّ بِهِ، وَإِلاَّ بَطَلَ التَّيَمُّمُ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ كَالْوُضُوءِ.

ج- الْمُوَالَاةُ:

30- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُوَالَاةَ سُنَّةٌ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ إِلَى وُجُوبِ الْمُوَالَاةِ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ الْمُسْتَعْمَلُ مَاءً لَا يَجِفُّ الْعُضْوُ السَّابِقُ قَبْلَ غَسْلِ الثَّانِي كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ الْمَنْقُولَةِ عَنْهُ حَيْثُ لَمْ يَقَعْ فِيهَا الْفَصْلُ بَيْنَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ.

د- سُنَنٌ أُخْرَى:

31- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى سُنِّيَّةِ الضَّرْبِ بِبَاطِنِ الْكَفَّيْنِ وَإِقْبَالِ الْيَدَيْنِ بَعْدَ وَضْعِهِمَا فِي التُّرَابِ وَإِدْبَارِهِمَا مُبَالَغَةً فِي الِاسْتِيعَابِ، ثُمَّ نَفْضِهِمَا اتِّقَاءَ تَلْوِيثِ الْوَجْهِ، نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَذَهَبُوا أَيْضًا إِلَى سُنِّيَّةِ تَفْرِيجِ الْأَصَابِعِ لِيَصِلَ التُّرَابُ إِلَى مَا بَيْنَهَا، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى سُنِّيَّةِ الضَّرْبَةِ الثَّانِيَةِ لِيَدَيْهِ وَالْمَسْحِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَأَنْ لَا يَمْسَحَ بِيَدَيْهِ شَيْئًا بَعْدَ ضَرْبِهِمَا بِالْأَرْضِ قَبْلَ مَسْحِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، فَإِنْ فَعَلَ كُرِهَ وَأَجْزَأَهُ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ نَفْضِهِمَا نَفْضًا خَفِيفًا.

وَمِنَ الْفَضَائِلِ عِنْدَهُمْ فِي التَّيَمُّمِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، وَالْبَدْءُ بِالْيُمْنَى، وَتَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُسَنُّ الْبُدَاءَةُ بِأَعْلَى الْوَجْهِ، وَتَقْدِيمُ الْيُمْنَى، وَتَفْرِيقُ الْأَصَابِعِ فِي الضَّرْبَةِ الْأُولَى، وَتَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ بَعْدَ مَسْحِ الْيَدَيْنِ احْتِيَاطًا، وَتَخْفِيفُ الْغُبَارِ لِئَلاَّ تَتَشَوَّهَ بِهِ خِلْقَتُهُ.

وَيُسَنُّ عِنْدَهُمْ أَيْضًا الْمُوَالَاةُ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالصَّلَاةِ خُرُوجًا مِنْ خِلَافِ مَنْ أَوْجَبَهَا- وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ- وَيُسَنُّ أَيْضًا إِمْرَارُ الْيَدِ عَلَى الْعُضْوِ كَالدَّلْكِ فِي الْوُضُوءِ، وَعَدَمُ تَكْرَارِ الْمَسْحِ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، وَالشَّهَادَتَانِ بَعْدَهُ كَالْوُضُوءِ فِيهِمَا.

وَيُسَنُّ نَزْعُ الْخَاتَمِ فِي الضَّرْبَةِ الْأُولَى بِاعْتِبَارِ الْيَدِ فِيهَا أَدَاةً لِلْمَسْحِ، وَفِي الثَّانِيَةِ هِيَ مَحَلٌّ لِلتَّطْهِيرِ، وَهُوَ رُكْنٌ فَيَجِبُ، وَيُسَنُّ السِّوَاكُ قَبْلَهُ، وَنَقْلُ التُّرَابِ إِلَى أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ.وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ أَيْضًا.

مَكْرُوهَاتُ التَّيَمُّمِ:

32- يُكْرَهُ تَكْرَارُ الْمَسْحِ بِالِاتِّفَاقِ، وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ كَثْرَةُ الْكَلَامِ فِي غَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، وَإِطَالَةُ الْمَسْحِ إِلَى مَا فَوْقَ الْمِرْفَقَيْنِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالتَّحْجِيلِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُكْرَهُ تَكْثِيرُ التُّرَابِ وَتَجْدِيدُ التَّيَمُّمِ وَلَوْ بَعْدَ فِعْلِ صَلَاةٍ، وَمَسْحُ التُّرَابِ عَنْ أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ، فَالْأَحَبُّ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ الصَّلَاةِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يُكْرَهُ الضَّرْبُ أَكْثَرُ مِنْ مَرَّتَيْنِ، وَنَفْخُ التُّرَابِ إِنْ كَانَ خَفِيفًا.

نَوَاقِضُ التَّيَمُّمِ:

33- يَنْقُضُ التَّيَمُّمَ مَا يَأْتِي:

أ- كُلُّ مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْهُمَا، وَنَاقِضُ الْأَصْلِ نَاقِضٌ لِخَلَفِهِ، وَانْظُرْ مُصْطَلَحَيْ (وُضُوءٌ وَغُسْلٌ).

ب- رُؤْيَةُ الْمَاءِ أَوِ الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْكَافِي وَلَوْ مَرَّةً عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَكْفِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَذَلِكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ لَا فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ فَاضِلًا عَنْ حَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْمَشْغُولَ بِالْحَاجَةِ كَالْمَعْدُومِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مُرُورَ نَائِمٍ أَوْ نَاعِسٍ مُتَيَمِّمٍ عَلَى مَاءٍ كَافٍ يُبْطِلُ تَيَمُّمَهُ كَالْمُسْتَيْقِظِ أَمَّا رُؤْيَةُ الْمَاءِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تُبْطِلُ التَّيَمُّمَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لِبُطْلَانِ الطَّهَارَةِ بِزَوَالِ سَبَبِهَا؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ إِيقَاعُ الصَّلَاةِ بِالْوُضُوءِ.

وَلَا تُبْطِلُهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسَافِرِ فِي مَحَلٍّ لَا يَغْلِبُ فِيهِ وُجُودُ الْمَاءِ؛ لِوُجُودِ الْإِذْنِ بِالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ، وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ؛ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وَقَدْ كَانَ عَمَلُهُ سَلِيمًا قَبْلَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ، وَقِيَاسًا عَلَى رُؤْيَةِ الْمَاءِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الصَّلَاةِ.

أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِصَلَاةِ الْمُقِيمِ بِالتَّيَمُّمِ فَإِنَّهَا تَبْطُلُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ وَتَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ لِوُجُودِ الْمَاءِ، لَكِنْ لَيْسَ مُطْلَقًا، بَلْ قَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ فِي مَحَلٍّ يَغْلِبُ فِيهِ الْمَاءُ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُقِيمُ فِي مَحَلٍّ لَا يَغْلِبُ فِيهِ وُجُودُ الْمَاءِ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، وَحُكْمُهُ حِينَئِذٍ حُكْمُ الْمُسَافِرِ.

وَأَمَّا إِذَا رَأَى الْمَاءَ بَعْدَ انْتِهَاءِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَلَا يُعِيدُهَا الْمُسَافِرُ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ لَمْ يُعِدْهَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسَافِرِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُقِيمَ فِي مَحَلٍّ يَغْلِبُ فِيهِ وُجُودُ الْمَاءِ إِذَا تَيَمَّمَ لِفَقْدِ الْمَاءِ فَإِنَّهُ يُعِيدُ صَلَاتَهُ لِنُدُورِ الْفَقْدِ وَعَدَمِ دَوَامِهِ وَفِي قَوْلٍ: لَا يَقْضِي وَاخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَقْدُورِ، وَفِي قَوْلٍ: لَا تَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ فِي الْحَالِ بَلْ يَصْبِرُ حَتَّى يَجِدَهُ فِي الْوَقْتِ، بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ فَإِنَّهُ لَا يُعِيدُ إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي مَحَلٍّ يَغْلِبُ فِيهِ وُجُودُ الْمَاءِ كَمَا سَبَقَ.

ج- زَوَالُ الْعُذْرِ الْمُبِيحِ لَهُ، كَذَهَابِ الْعَدُوِّ وَالْمَرَضِ وَالْبَرْدِ؛ لِأَنَّ مَا جَازَ بِعُذْرٍ بَطَلَ بِزَوَالِهِ.

د- خُرُوجُ الْوَقْتِ: فَإِنَّهُ يُبْطِلُ التَّيَمُّمَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ سَوَاءٌ أَكَانَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَمْ لَا، وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ انْتَهَتْ بِانْتِهَاءِ وَقْتِهَا، كَمَا لَوِ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمَسْحِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ.

هـ- الرِّدَّةُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الرِّدَّةَ- وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ- لَا تُبْطِلُ التَّيَمُّمَ فَيُصَلِّي بِهِ إِذَا أَسْلَمَ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ بِالتَّيَمُّمِ الطَّهَارَةُ، وَالْكُفْرُ لَا يُنَافِيهَا كَالْوُضُوءِ؛ وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ تُبْطِلُ ثَوَابَ الْعَمَلِ لَا زَوَالَ الْحَدَثِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الرِّدَّةَ تُبْطِلُ التَّيَمُّمَ لِضَعْفِهِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ لِقُوَّتِهِ.

و- الْفَصْلُ الطَّوِيلُ: ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْفَصْلَ الطَّوِيلَ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُهُ، وَالْمُوَالَاةُ لَيْسَتْ وَاجِبَةً بَيْنَهُمَا.وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْفَصْلَ الطَّوِيلَ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالصَّلَاةِ يُبْطِلُهُ لِاشْتِرَاطِهِمِ الْمُوَالَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ.

وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصِيبَ زَوْجَتَهُ إِذَا كَانَ عَادِمًا لِلْمَاءِ لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ- رضي الله عنه- قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَعْزُبُ عَنِ الْمَاءِ وَمَعِي أَهْلِي فَتُصِيبُنِي الْجَنَابَةُ فَأُصَلِّي بِغَيْرِ طَهُورٍ فَقَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ».

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَهِيَ رِوَايَةٌ لِلْحَنَابِلَةِ إِلَى كَرَاهَةِ نَقْضِ الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ لِمَنْ هُوَ فَاقِدٌ الْمَاءَ إِلاَّ لِضَرَرٍ يُصِيبُ الْمُتَوَضِّئَ مِنْ حَقْنٍ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ لِضَرَرٍ يُصِيبُ تَارِكَ الْجِمَاعِ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ ضَرَرٌ فَلَا كَرَاهَةَ حِينَئِذٍ. تَيَمُّمُ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ وَمَرَضِهِ:

34- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى جَوَازِ تَيَمُّمِ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ أَوْ مَرَضِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الرُّخْصَةِ كَغَيْرِهِ، وَالْأَدِلَّةُ عَامَّةٌ تَشْمَلُ الطَّائِعَ وَالْعَاصِيَ وَلَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا؛ وَلِأَنَّ الْعَاصِيَ قَدْ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ فَخَرَجَ مِنْ عُهْدَتِهِ، وَإِنَّ الْقُبْحَ الْمُجَاوِرَ لَا يُعْدِمُ الْمَشْرُوعِيَّةَ.

هَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ رُخْصَةٌ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ التَّيَمُّمَ عَزِيمَةٌ فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ إِلَى أَنَّ الْعَاصِيَ بِسَفَرِهِ، وَمَنْ سَافَرَ لِيُتْعِبَ نَفْسَهُ أَوْ دَابَّتَهُ عَبَثًا يَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ وَيَقْضِيَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الرُّخْصَةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا إِلَى أَنَّ الْعَاصِيَ بِمَرَضِهِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الرُّخْصَةِ، فَإِنْ عَصَى بِمَرَضِهِ لَمْ يَصِحَّ تَيَمُّمُهُ حَتَّى يَتُوبَ.

التَّيَمُّمُ بَدَلٌ عَنِ الْمَاءِ:

35- ذَهَبَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ يَنُوبُ عَنِ الْوُضُوءِ مِنِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، وَعَن الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ فَيَصِحُّ بِهِ مَا يَصِحُّ بِهِمَا مِنْ صَلَاةِ فَرْضٍ أَوْ سُنَّةٍ وَطَوَافٍ وَقِرَاءَةٍ لِلْجُنُبِ وَمَسِّ مُصْحَفٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ مِنْ مُصْطَلَحَيْ (وُضُوءٌ وَغُسْلٌ).

وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَرْجِعِ الضَّمِيرِ فِي قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمِ النِّسَاءَ} فَمَنْ ذَهَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُلَامَسَةَ هِيَ الْجِمَاعُ.قَالَ: إِنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى الْمُحْدِثِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ الْحَدَثُ أَصْغَر أَمْ أَكْبَر أَمَّا مَنْ ذَهَبَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُلَامَسَةَ بِمَعْنَى اللَّمْسِ بِالْيَدِ قَالَ: إِنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ عَلَى الْمُحْدِثِ حَدَثًا أَصْغَر فَقَطْ، وَبِذَلِكَ تَكُونُ مَشْرُوعِيَّةُ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ ثَابِتَةً بِالسُّنَّةِ.كَحَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ فَصَلَّى بِالنَّاسِ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مُعْتَزِلٍ.فَقَالَ: مَا مَنَعَك أَنْ تُصَلِّيَ؟ قَالَ: أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ. وَلَا مَاءَ.قَالَ: عَلَيْك بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيك».

وَكَحَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: «خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ، هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَك رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ، أَوْ يَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهِ، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ».

فَيَدُلُّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى جَوَازِ الْعُدُولِ عَنِ الْغُسْلِ إِلَى التَّيَمُّمِ إِذَا خَافَ الضَّرَرَ.وَمِثْلُ حَدِيثِ «عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّهُ لَمَّا بُعِثَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ قَالَ: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ، فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ، فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: يَا عَمْرُو، صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ، فَقُلْت: ذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} فَتَيَمَّمْتُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا».فَيَدُلُّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ.

نَوْعُ بَدَلِيَّةِ التَّيَمُّمِ عَنِ الْمَاءِ:

36- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَوْعِ الْبَدَلِ هَلْ هُوَ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ أَوْ بَدَلٌ مُطْلَقٌ؟

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ ضَرُورِيٌّ وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْحَدَثَ لَا يَرْتَفِعُ بِالتَّيَمُّمِ، فَيُبَاحُ لِلْمُتَيَمِّمِ الصَّلَاةُ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ حَقِيقَةً لِلضَّرُورَةِ، كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: «فَإِذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمِسَّهُ جِلْدَك فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَك».وَلَوْ رَفَعَ التَّيَمُّمُ الْحَدَثَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الْمَاءِ إِذَا وَجَدَهُ، وَإِذَا رَأَى الْمَاءَ عَادَ الْحَدَثُ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ لَمْ يَرْتَفِعْ، وَأُبِيحَتْ لَهُ الصَّلَاةُ لِلضَّرُورَةِ.

إِلاَّ أَنَّ الْحَنَابِلَةَ أَجَازُوا بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ صَلَاةَ مَا عَلَيْهِ مِنْ فَوَائِتَ فِي الْوَقْتِ إِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ بَدَلٌ مُطْلَقٌ، وَلَيْسَ بِبَدَلٍ ضَرُورِيٍّ، فَالْحَدَثُ يَرْتَفِعُ بِالتَّيَمُّمِ إِلَى وَقْتِ وُجُودِ الْمَاءِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «التَّيَمُّمُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إِلَى عَشْرِ حِجَجٍ مَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ أَوْ يُحْدِثْ».

أَطْلَقَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- الْوُضُوءَ عَلَى التَّيَمُّمِ وَسَمَّاهُ بِهِ.وَالْوُضُوءُ مُزِيلٌ لِلْحَدَثِ فَكَذَا التَّيَمُّمُ؛ وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» وَالطَّهُورُ اسْمٌ لِلْمُطَهِّرِ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ يَزُولُ بِالتَّيَمُّمِ إِلَى حِينِ وُجُودِ الْمَاءِ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ عَادَ حُكْمُ الْحَدِيثِ.

ثَمَرَةُ هَذَا الْخِلَافِ:

37- يَتَرَتَّبُ عَلَى خِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي نَوْعِ بَدَلِيَّةِ التَّيَمُّمِ مَا يَلِي:

أ- وَقْتُ التَّيَمُّمِ:

ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ التَّيَمُّمِ إِلاَّ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ مَا يَتَيَمَّمُ لَهُ مِنْ فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ لَهُ وَقْتٌ مَخْصُوصٌ.

وَاسْتَدَلُّوا لِلْفَرْضِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} وَالْقِيَامُ إِلَى الصَّلَاةِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَا قَبْلَهُ.كَمَا اسْتَدَلُّوا لِلنَّفْلِ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «جُعِلَتِ الْأَرْضُ كُلُّهَا لِي وَلأُِمَّتِي مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي الصَّلَاةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَعِنْدَهُ طَهُورُهُ».

وَإِنَّمَا جَازَ قَبْلَ الْوَقْتِ لِكَوْنِهِ رَافِعًا لِلْحَدَثِ بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ، فَإِنَّهُ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ قَبْلَ الْوَقْتِ.

أَمَّا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ أَوِ النَّفْلِ الَّذِي لَا وَقْتَ لَهُ، أَوِ الْفَوَائِتِ الَّتِي أَرَادَ قَضَاءَهَا، فَإِنَّهُ لَا وَقْتَ لِهَذَا التَّيَمُّمِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي وَقْتٍ مَنْهِيٍّ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ شَرْعًا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ قَبْلَ الْوَقْتِ وَلِأَكْثَرَ مِنْ فَرْضٍ وَلِغَيْرِ الْفَرْضِ أَيْضًا لِأَنَّ التَّيَمُّمَ يَرْتَفِعُ بِهِ الْحَدَثُ إِلَى وُجُودِ الْمَاءِ، وَلَيْسَ بِمُبِيحٍ فَقَطْ، وَقَاسُوا ذَلِكَ عَلَى الْوُضُوءِ؛ وَلِأَنَّ التَّوْقِيتَ لَا يَكُونُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ سَمْعِيٍّ، وَلَا دَلِيلَ فِيهِ. تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ:

38- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ لآِخِرِ الْوَقْتِ أَفْضَلُ مِنْ تَقْدِيمِهِ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الْمَاءَ آخِرَ الْوَقْتِ، أَمَّا إِذَا يَئِسَ مِنْ وُجُودِهِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ تَقْدِيمُهُ أَوَّلَ الْوَقْتِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ).

وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ أَفْضَلِيَّةَ التَّأْخِيرِ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ أَنْ لَا يَخْرُجَ وَقْتُ الْفَضِيلَةِ لَا مُطْلَقًا، حَتَّى لَا يَقَعَ الْمُصَلِّي فِي كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَ وَقْتِ الْفَضِيلَةِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ هَلْ يُؤَخَّرُ أَمْ لَا؟ ذَهَبَ إِلَى كُلٍّ فَرِيقٌ مِنَ الحَنَفِيَّةِ.

وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ فَصَّلُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالُوا: اسْتِحْبَابُ التَّأْخِيرِ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو وُجُودَ الْمَاءِ ظَنًّا أَوْ يَقِينًا، أَمَّا إِذَا كَانَ مُتَرَدِّدًا أَوْ رَاجِيًا لَهُ فَيَتَوَسَّطُ فِي فِعْلِ الصَّلَاةِ.

وَالْقَوْلُ بِاسْتِحْبَابِ التَّأْخِيرِ هُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ مُرِيدَ الصَّلَاةِ حِينَ حَلَّتِ الصَّلَاةُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ لَهَا غَيْرُ وَاجِدٍ لِلْمَاءِ فَدَخَلَ فِي قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}.

فَكَانَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ وُجُوبَ التَّيَمُّمِ أَوَّلَ الْوَقْتِ لَكِنَّهُ أَخَّرَ نَظَرًا لِرَجَائِهِ، فَجَعَلَ لَهُ حَالَةً وُسْطَى وَهِيَ الِاسْتِحْبَابُ.

وَذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ إِنَّمَا هُوَ لِحَوْزِ فَضِيلَتِهِ، وَإِذَا كَانَ مُوقِنًا بِوُجُودِ الْمَاءِ فِي الْوَقْتِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّأْخِيرُ لِيُصَلِّيَ بِالطَّهَارَةِ الْكَامِلَةِ، فَإِنْ خَالَفَ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى كَانَتْ صَلَاتُهُ بَاطِلَةً وَيُعِيدُهَا أَبَدًا.

وَالشَّافِعِيَّةُ خَصُّوا أَفْضَلِيَّتَهُ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ بِحَالَةِ تَيَقُّنِ وُجُودِ الْمَاءِ آخِرَ الْوَقْتِ- مَعَ جَوَازِهِ فِي أَثْنَائِهِ- لِأَنَّ الْوُضُوءَ هُوَ الْأَصْلُ وَالْأَكْمَلُ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ بِهِ- وَلَوْ آخِرَ الْوَقْتِ- أَفْضَلُ مِنْهَا بِالتَّيَمُّمِ أَوَّلَهُ.

أَمَّا إِذَا ظَنَّ وُجُودَ الْمَاءِ فِي آخِرِهِ، فَتَعْجِيلُ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ أَفْضَلُ فِي الْأَظْهَرِ؛ لِأَنَّ فَضِيلَةَ التَّقْدِيمِ مُحَقَّقَةٌ بِخِلَافِ فَضِيلَةِ الْوُضُوءِ.وَالْقَوْلُ الثَّانِي: التَّأْخِيرُ أَفْضَلُ.

أَمَّا إِذَا شَكَّ فَالْمَذْهَبُ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ.وَمَحَلُّ الْخِلَافِ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ صَلَّى أَوَّلَ الْوَقْتِ بِالتَّيَمُّمِ وَبِالْوُضُوءِ فِي أَثْنَائِهِ فَهُوَ النِّهَايَةُ فِي إِحْرَازِ الْفَضِيلَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ أَوْلَى بِكُلِّ حَالٍ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ؛ لِقَوْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه- فِي الْجُنُبِ: يَتَلَوَّمُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخِرِ الْوَقْتِ، فَإِنْ وَجَدَ الْمَاءَ وَإِلاَّ تَيَمَّمَ وَلِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ التَّأْخِيرُ لِلصَّلَاةِ إِلَى مَا بَعْدَ الْعِشَاءِ وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ كَيْ لَا يَذْهَبَ خُشُوعُهَا، وَحُضُورُ الْقَلْبِ فِيهَا، وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُهَا لِإِدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ، فَتَأْخِيرُهَا لِإِدْرَاكِ الطَّهَارَةِ الْمُشْتَرَطَةِ أَوْلَى.

مَا يَجُوزُ فِعْلُهُ بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ:

39- لَمَّا كَانَ التَّيَمُّمُ بَدَلًا عَنِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ يَصِحُّ بِهِ مَا يَصِحُّ بِهِمَا كَمَا سَبَقَ، لَكِنْ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَصِحُّ بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ يُصَلِّي بِتَيَمُّمِهِ مَا شَاءَ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ؛ لِأَنَّهُ طَهُورٌ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ كَمَا سَبَقَ.وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ: «الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ» وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْوُضُوءِ، وَعَلَى مَسْحِ الْخُفِّ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَثَ الْوَاحِدَ لَا يَجِبُ لَهُ طُهْرَانِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُصَلِّي بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ فَرْضَيْنِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُتَيَمِّمِ أَنْ يُصَلِّيَ أَكْثَر مِنْ فَرْضٍ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ نَوَافِلَ، وَبَيْنَ فَرِيضَةٍ وَنَافِلَةٍ إِنْ قَدَّمَ الْفَرِيضَةَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.

أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَيَتَنَفَّلُ مَا شَاءَ قَبْلَ الْمَكْتُوبَةِ وَبَعْدَهَا لِأَنَّهَا غَيْرُ مَحْصُورَةٍ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه- مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُصَلِّيَ الرَّجُلُ بِالتَّيَمُّمِ إِلاَّ صَلَاةً وَاحِدَةً ثُمَّ يَتَيَمَّمَ لِلصَّلَاةِ الْأُخْرَى.

وَهَذَا مُقْتَضَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَلِأَنَّهُ طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ، فَلَا يُصَلِّي بِهَا فَرِيضَتَيْنِ، كَمَا اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْوُضُوءَ كَانَ لِكُلِّ فَرْضٍ لقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} وَالتَّيَمُّمُ بَدَلٌ عَنْهُ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ، فَبَقِيَ التَّيَمُّمُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ؛ وَلِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَيَمَّمَ صَلَّى الصَّلَاةَ الَّتِي حَضَرَ وَقْتُهَا، وَصَلَّى بِهِ فَوَائِتُ وَيَجْمَعُ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ، وَيَتَطَوَّعُ بِمَا شَاءَ مَا دَامَ فِي الْوَقْتِ، فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ صَلَاةٍ أُخْرَى بَطَلَ تَيَمُّمُهُ وَتَيَمَّمَ، وَاسْتَدَلَّ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ كَوُضُوءِ الْمُسْتَحَاضَةِ يَبْطُلُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ.

وَيَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَصَحِّ.صَلَاةُ الْجِنَازَةِ مَعَ الْفَرْضِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَمَّا كَانَتْ فَرْضَ كِفَايَةٍ سَلَكَ بِهَا مَسْلَكَ النَّفْلِ فِي جَوَازِ التَّرْكِ فِي الْجُمْلَةِ. وَيَجُوزُ بِالتَّيَمُّمِ أَيْضًا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ إِنْ كَانَ جُنُبًا وَمَسُّ الْمُصْحَفِ، وَدُخُولُ الْمَسْجِدِ لِلْجُنُبِ، أَمَّا الْمُرُورُ فَيَجُوزُ بِلَا تَيَمُّمٍ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُجَدِّدُ التَّيَمُّمَ لِلنَّذْرِ لِأَنَّهُ كَالْفَرْضِ فِي الْأَظْهَرِ، وَلَا يَجْمَعُهُ فِي فَرْضٍ آخَرَ.

وَيَصِحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَنْ يُصَلِّيَهَا جَمِيعًا بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَسِيَ صَلَاةً وَلَمْ يَعْلَمْ عَيْنَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ الْخَمْسَ لِتَبْرَأَ ذِمَّتُهُ بِيَقِينٍ- وَإِنَّمَا جَازَ تَيَمُّمٌ وَاحِدٌ لَهُنَّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِنَّ وَاحِدَةٌ وَالْبَاقِيَ وَسِيلَةٌ.وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَتَيَمَّمُ خَمْسًا لِكُلِّ صَلَاةٍ تَيَمُّمٌ خَاصٌّ بِهَا، وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ فَرْضَيْنِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


22-موسوعة الفقه الكويتية (حدود 1)

حُدُودٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْحُدُودُ جَمْعُ حَدٍّ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الْمَنْعُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ كُلٌّ مِنَ الْبَوَّابِ وَالسَّجَّانِ حَدَّادًا، لِمَنْعِ الْأَوَّلِ مِنَ الدُّخُولِ، وَالثَّانِي مِنَ الْخُرُوجِ.وَسُمِّيَ الْمُعَرِّفُ لِلْمَاهِيَّةِ حَدًّا، لِمَنْعِهِ مِنَ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ.وَحُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى مَحَارِمُهُ، لقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}.

وَالْحَدُّ فِي الِاصْطِلَاحِ: عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَجَبَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلَى ذَنْبٍ وَجَبَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي الزِّنَى، أَوِ اجْتَمَعَ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ كَالْقَذْفِ فَلَيْسَ مِنْهُ التَّعْزِيرُ لِعَدَمِ تَقْدِيرِهِ، وَلَا الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ حَقٌّ خَالِصٌ لآِدَمِيٍّ.وَعِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ: هُوَ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ بِتَقْدِيرِ الشَّارِعِ، فَيَدْخُلُ الْقِصَاصُ.

وَيُطْلَقُ لَفْظُ الْحَدِّ عَلَى جَرَائِمِ الْحُدُودِ مَجَازًا، فَيُقَالُ: ارْتَكَبَ الْجَانِي حَدًّا، وَيُقْصَدُ أَنَّهُ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً ذَاتَ عُقُوبَةٍ مُقَدَّرَةٍ شَرْعًا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْقِصَاصُ:

2- الْقِصَاصُ لُغَةً الْمُمَاثَلَةُ، وَاصْطِلَاحًا: أَنْ يُوقَعَ عَلَى الْجَانِي مِثْلُ مَا جَنَى كَالنَّفْسِ بِالنَّفْسِ وَالْجُرْحِ بِالْجُرْحِ.وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} وقوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ}.فَالْقِصَاصُ غَيْرُ الْحَدِّ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَجَبَتْ حَقًّا لِلْعِبَادِ.

ب- التَّعْزِيرُ:

3- أَصْلُهُ مِنَ الْعَزْرِ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الرَّدِّ وَالْمَنْعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ مُعَاوَدَةِ الْقَبِيحِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ، وَمِنْهُ

قوله تعالى {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} فَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ.

وَشَرْعًا: تَأْدِيبٌ دُونَ الْحَدِّ، فَالتَّعْزِيرُ فِي بَعْضِ إِطْلَاقَاتِهِ اللُّغَوِيَّةِ حَدٌّ.وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَلَيْسَ بِحَدٍّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ.

ج- الْعُقُوبَةُ:

4- الْعُقُوبَةُ مِنْ عَاقَبْتُ اللِّصَّ مُعَاقَبَةً وَعِقَابًا، وَالِاسْمُ الْعُقُوبَةُ، وَهِيَ الْأَلَمُ الَّذِي يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ مُسْتَحِقًّا عَلَى الْجِنَايَةِ، وَيَكُونُ بِالضَّرْبِ، أَوِ الْقَطْعِ، أَوِ الرَّجْمِ، أَوِ الْقَتْلِ، سُمِّيَ بِهَا لِأَنَّهَا تَتْلُو الذَّنْبَ مِنْ تَعَقَّبَهُ إِذَا تَبِعَهُ، فَالْعُقُوبَةُ أَعَمُّ مِنَ الْحُدُودِ.

د- الْجِنَايَةُ:

5- الْجِنَايَةُ لُغَةً: اسْمٌ لِمَا يُكْتَسَبُ مِنَ الشَّرِّ، وَشَرْعًا: اسْمٌ لِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ وَقَعَ عَلَى مَالٍ أَوْ نَفْسٍ.فَبَيْنَ الْجِنَايَةِ وَالْحَدِّ عَلَى الْإِطْلَاقِ الْمَجَازِيِّ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ إِذْ كُلُّ حَدٍّ جِنَايَةٌ وَلَيْسَ كُلُّ جِنَايَةٍ حَدًّا، وَأَمَّا عَلَى الْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ فَبَيْنَهُمَا تَبَايُنٌ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

6- إِقَامَةُ الْحُدُودِ فَرْضٌ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَدَلِيلُ ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، وَالْمَعْقُولُ.

أَمَّا الْكِتَابُ فَمِنْهُ قوله تعالى فِي الزِّنَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}.

وَفِي السَّرِقَةِ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} الْآيَةَ وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدً} وَفِي قَطْعِ الطَّرِيقِ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} الْآيَةَ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَحَدِيثُ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ، وَالْعَسِيفِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ.

وَقَدْ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ إِقَامَةِ الْحُدُودِ.

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ الطِّبَاعَ الْبَشَرِيَّةَ، وَالشَّهْوَةَ النَّفْسَانِيَّةَ مَائِلَةٌ إِلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ، وَاقْتِنَاصِ الْمَلَاذِ، وَتَحْصِيلِ مَقْصُودِهَا وَمَحْبُوبِهَا مِنَ الشُّرْبِ وَالزِّنَى وَالتَّشَفِّي بِالْقَتْلِ وَأَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ، وَالِاسْتِطَالَةِ عَلَى الْغَيْرِ بِالشَّتْمِ وَالضَّرْبِ، فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ شَرْعَ هَذِهِ الْحُدُودِ حَسْمًا لِهَذَا الْفَسَادِ، وَزَجْرًا عَنِ ارْتِكَابِهِ، لِيَبْقَى الْعَالَمُ عَلَى نَظْمِ الِاسْتِقَامَةِ، فَإِنَّ إِخْلَاءَ الْعَالَمِ عَنْ إِقَامَةِ الزَّاجِرِ يُؤَدِّي إِلَى انْحِرَافِهِ، وَفِيهِ مِنَ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى.

وَلِذَا قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَالْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ مِنْ شَرْعِهِ الِانْزِجَارُ عَمَّا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْعِبَادُ.

أَنْوَاعُ الْحُدُودِ:

7- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يُطَبَّقُ عَلَى جَرِيمَةِ كُلٍّ مِنَ الزِّنَى وَالْقَذْفِ، وَالسُّكْرِ، وَالسَّرِقَةِ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ يُعْتَبَرُ حَدًّا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهَا سِتَّةٌ، وَذَلِكَ بِإِضَافَةِ حَدِّ الشُّرْبِ لِلْخَمْرِ خَاصَّةً.وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْحُدُودَ سَبْعَةٌ، فَيُضِيفُونَ إِلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الرِّدَّةَ وَالْبَغْيَ، فِي حِينِ يَعْتَبِرُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ الْقِصَاصَ أَيْضًا مِنَ الْحُدُودِ، حَيْثُ قَالُوا: الْحُدُودُ ثَمَانِيَةٌ وَعَدُّوهُ بَيْنَهَا.وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ قَتْلَ تَارِكِ الصَّلَاةِ عَمْدًا مِنَ الْحُدُودِ

أَوْجُهُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ:

8- أ- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي الْحُدُودِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ.

ب- لَا تُورَثُ الْحُدُودُ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا الْقِصَاصُ فَيُورَثُ.وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ خِلَافٌ يُنْظَرُ فِي (الْقَذْفُ).

ج- لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ فِي الْحُدُودِ فِي الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ.

د- التَّقَادُمُ لَا يَمْنَعُ مِنَ الشَّهَادَةِ بِالْقَتْلِ فِي الْقِصَاصِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، سِوَى حَدِّ الْقَذْفِ.

هـ- يَثْبُتُ الْقِصَاصُ بِالْإِشَارَةِ وَالْكِتَابَةِ مِنَ الْأَخْرَسِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ.

و- لَا تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ فِي الْحُدُودِ، وَتَجُوزُ فِي الْقِصَاصِ.

ز- لَا تَتَوَقَّفُ الْحُدُودُ- مَا عَدَا حَدَّ الْقَذْفِ- عَلَى الدَّعْوَى بِخِلَافِ الْقِصَاصِ.

ح- يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنِ الْإِقْرَارِ فِي الْحُدُودِ وَلَا تَجُوزُ فِي الْقِصَاصِ.

وَمَرَدُّ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ الْحُدُودَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ الْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ حَقٌّ لِلْعَبْدِ،

وَالتَّفْصِيلُ فِي أَبْوَابِ الْحُدُودِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ وَ (ر: قِصَاصٌ).

أَوْجُهُ الْخِلَافِ بَيْنَ التَّعْزِيرِ وَالْحُدُودِ:

9- يَخْتَلِفُ التَّعْزِيرُ عَنِ الْحُدُودِ فِي أُمُورٍ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مُصْطَلَحِ: (تَعْزِيرٌ).

تَدَاخُلُ الْحُدُودِ:

10- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ مِنَ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ، وَالْقَذْفِ (إِذَا وَقَعَ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ) وَشُرْبِ الْخَمْرِ إِذَا تَكَرَّرَ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، أَجْزَأَ حَدٌّ وَاحِدٌ بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

أَمَّا إِذَا وَقَعَ الْقَذْفُ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ وَاحِدٍ فَفِيهِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ، يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (قَذْفٌ).وَالْأَصْلُ قَاعِدَةُ: إِذَا اجْتَمَعَ أَمْرَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ مَقْصُودُهُمَا، دَخَلَ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ غَالِبًا، وَعَلَى هَذَا فَيُكْتَفَى بِحَدٍّ وَاحِدٍ لِجِنَايَاتٍ اتَّحَدَ جِنْسُهَا بِخِلَافِ مَا اخْتَلَفَ جِنْسُهَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ هُوَ الزَّجْرُ وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِحَدٍّ وَاحِدٍ.

وَإِنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، ثُمَّ حَدَثَتْ مِنْهُ جِنَايَةٌ أُخْرَى فَفِيهَا حَدُّهَا، لِعُمُومِ النُّصُوصِ وَلِوُجُودِ الْمُوجِبِ، وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عَنِ الْأَمَةِ تَزْنِي قَبْلَ أَنْ تُحْصَنَ قَالَ: إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا».

وَلِأَنَّ تَدَاخُلَ الْحُدُودِ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ اجْتِمَاعِهَا، وَهَذَا الْحَدُّ الثَّانِي وَجَبَ بَعْدَ سُقُوطِ الْأَوَّلِ بِاسْتِيفَائِهِ.

وَفِي حَالَةِ اجْتِمَاعِ الْحُدُودِ الْمُخْتَلِفَةِ كَمَا لَوْ زَنَى، وَسَرَقَ وَشَرِبَ الْخَمْرَ، أَوِ اجْتِمَاعِهَا مَعَ الْقِصَاصِ وَالتَّعْزِيرِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ: (تَدَاخُلٌ) (وَتَعْزِيرٌ).

عَدَمُ جَوَازِ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ:

11- لَا خِلَافَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ فِي الْحُدُودِ بَعْدَ وُصُولِهَا لِلْحَاكِمِ، وَالثُّبُوتِ عِنْدَهُ، لِأَنَّهُ طَلَبُ تَرْكِ الْوَاجِبِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «أَنْكَرَ عَلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ حِينَ شَفَعَ فِي الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى».وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي خَلْقِهِ.

وَأَمَّا قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَ الرَّافِعِ لَهُ إِلَى الْحَاكِمِ لِيُطْلِقَهُ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ.فَالْوُجُوبُ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ.

وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ عُرِفَ بِشَرٍّ وَفَسَادٍ فَلَا أُحِبُّ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ أَحَدٌ، وَلَكِنْ يُتْرَكُ لِيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ.

أَثَرُ التَّوْبَةِ عَلَى الْحُدُودِ:

12- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ حَدَّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالرِّدَّةِ يَسْقُطَانِ بِالتَّوْبَةِ إِذَا تَحَقَّقَتْ تَوْبَةُ الْقَاطِعِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ حَدُّ تَرْكِ الصَّلَاةِ عِنْدَ مَنِ اعْتَبَرَهُ حَدًّا، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ بَقِيَّةَ الْحُدُودِ بَعْدَ رَفْعِهَا إِلَى الْحَاكِمِ لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي مُقَابِلِ الْأَظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ، وَالْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِلَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ وَلَوْ كَانَ قَبْلَ الرَّفْعِ إِلَى الْإِمَامِ.لِئَلاَّ يُتَّخَذَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى إِسْقَاطِ الْحُدُودِ وَالزَّوَاجِرِ.

سُقُوطُ الْحُدُودِ بِالشُّبْهَةِ:

13- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.وَالشُّبْهَةُ مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْفَاعِلِ: كَمَنْ وَطِئَ امْرَأَةً ظَنَّهَا حَلِيلَتَهُ.أَوْ فِي الْمَحَلِّ: بِأَنْ يَكُونَ لِلْوَاطِئِ فِيهَا مِلْكٌ أَوْ شُبْهَةُ مِلْكٍ كَالْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ.أَوْ فِي الطَّرِيقِ: بِأَنْ يَكُونَ حَرَامًا عِنْدَ قَوْمٍ، حَلَالًا عِنْدَ آخَرَ.وَفِي الْمَوْضُوعِ تَفْصِيلٌ يُرْجَعُ إِلَى «شُبْهَةٌ».

وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ- رضي الله عنها-: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِنَّ الْإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ».وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَتَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ.

سُقُوطُ الْحُدُودِ بِالرُّجُوعِ عَنِ الْإِقْرَارِ:

14- إِذَا ثَبَتَتِ الْحُدُودُ بِالْإِقْرَارِ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهَا تَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ، إِذَا كَانَ الْحَدُّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى.

وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا أَقَرَّ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِالزِّنَى، لَقَّنَهُ الرُّجُوعَ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلسُّقُوطِ بِالرُّجُوعِ مَا كَانَ لِلتَّلْقِينِ فَائِدَةٌ.وَلِأَنَّهُ يُورِثُ الشُّبْهَةَ، وَالرُّجُوعُ عَنِ الْإِقْرَارِ قَدْ يَكُونُ نَصًّا، وَقَدْ يَكُونُ دَلَالَةً، بِأَنْ يَأْخُذَ النَّاسُ فِي رَجْمِهِ، فَيَهْرُبَ وَلَا يَرْجِعُ، أَوْ يَأْخُذَ الْجَلاَّدُ فِي الْجَلْدِ فَيَهْرُبَ، وَلَا يَرْجِعُ، فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ، لِأَنَّ الْهَرَبَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ دَلَالَةُ الرُّجُوعِ.

وَاسْتَثْنَوْا حَدَّ الْقَذْفِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ، لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ، وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالرُّجُوعِ بَعْدَمَا ثَبَتَ كَالْقِصَاصِ.

وَإِذَا ثَبَتَ الْحَدُّ بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الْحَمْلِ فِي الزِّنَى- عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ- لَمْ يَسْقُطْ بِالرُّجُوعِ.

وَيَسْقُطُ الْحَدُّ بِرُجُوعِ الشُّهُودِ كُلِّهِمْ أَوْ بَعْضِهِمْ إِذَا كَانَ الْبَاقِي أَقَلُّ مِنَ النِّصَابِ بَعْدَ الْقَضَاءِ، قَبْلَ الْإِمْضَاءِ.وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي «كِتَابُ الشَّهَادَاتِ» مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.

سُقُوطُ الْحُدُودِ بِمَوْتِ الشُّهُودِ:

15- يَسْقُطُ حَدُّ الرَّجْمِ خَاصَّةً بِمَوْتِ الشُّهُودِ- عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُونَ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ الْبِدَايَةَ بِالشُّهُودِ وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ- لِأَنَّ بِالْمَوْتِ قَدْ فَاتَتِ الْبِدَايَةُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ، فَسَقَطَ الْحَدُّ ضَرُورَةً.

سُقُوطُ الْحُدُودِ بِالتَّكْذِيبِ وَغَيْرِهِ:

16- تَكْذِيبُ الْمَزْنِيِّ بِهَا لِلْمُقِرِّ بِالزِّنَى قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَتَكْذِيبُ الْمَقْذُوفِ شُهُودَهُ عَلَى الْقَذْفِ، وَهِيَ الْبَيِّنَةُ بِأَنْ يَقُولَ: شُهُودِي زُورٌ، وَادِّعَاءُ النِّكَاحِ وَالْمَهْرِ قَبْلَ إِقَامَةِ حَدِّ الزِّنَى تُعْتَبَرُ مِنْ مُسْقِطَاتِ الْحُدُودِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَدْ فُصِّلَتْ فِي أَبْوَابِهَا.وَ (ر: زِنًى، قَذْفٌ).

عَدَمُ إِرْثِ الْحُدُودِ:

17- لَا خِلَافَ بَيْنَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحُدُودَ لَا تُورَثُ، وَكَذَا لَا يُؤْخَذُ عَنْهَا عِوَضٌ، وَلَا صُلْحَ فِيهَا وَلَا عَفْوَ، لِأَنَّهَا حَقُّ الشَّرْعِ.

وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيَّةُ حَدَّ الْقَذْفِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ عِنْدَهُمْ حَقُّ الْعَبْدِ فَيُورَثُ وَيَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُ.

وَالْحَنَابِلَةُ مَعَ الشَّافِعِيَّةِ فِي جَوَازِ الْعَفْوِ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ.

وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ: فَقَالَ فِي رِوَايَةٍ: لَهُ الْعَفْوُ مَا لَمْ يَبْلُغِ الْإِمَامَ، فَإِنْ بَلَغَهُ فَلَا عَفْوَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: قَالَ: لَهُ الْعَفْوُ مُطْلَقًا، بَلَغَ ذَلِكَ الْإِمَامَ أَوْ لَمْ يَبْلُغْ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي (قَذْفٌ).

التَّلَفُ بِسَبَبِ الْحَدِّ:

18- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحُدُودَ إِذَا أُتِيَ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ أَنَّهُ لَا يُضْمَنُ مَنْ تَلِفَ بِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فَعَلَهَا بِأَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ، فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ، وَلِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَأْمُورٌ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ.وَإِنْ زَادَ عَلَى الْحَدِّ فَتَلِفَ وَجَبَ الضَّمَانُ بِغَيْرِ خِلَافٍ.

الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِلذُّنُوبِ:

19- يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْحَدَّ الْمُقَدَّرَ فِي ذَنْبٍ كَفَّارَةٌ لِذَلِكَ الذَّنْبِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، الْحَدُّ غَيْرُ مُطَهِّرٍ، بَلِ الْمُطَهِّرُ التَّوْبَةُ، فَإِذَا حُدَّ وَلَمْ يَتُبْ يَبْقَى عَلَيْهِ إِثْمُ الْمَعْصِيَةِ عِنْدَهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَدِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

الْإِثْبَاتُ فِي الْحُدُودِ:

20- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحُدُودَ تَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الْإِقْرَارِ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهِمَا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ كَعِلْمِ الْإِمَامِ وَقَرِينَةِ الْحَبَلِ وَغَيْرِهِمَا:

أَوَّلًا- الْبَيِّنَةُ وَشُرُوطُهَا فِي الْحُدُودِ:

تَنْقَسِمُ شُرُوطُ الْبَيِّنَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ:

1- مَا يَعُمُّ الْحُدُودَ كُلَّهَا:

21- وَهِيَ الذُّكُورَةُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ.وَالْأَصَالَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَذْهَبُ لَدَى الْحَنَابِلَةِ، فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلَا كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي، لِتَمَكُّنِ زِيَادَةِ شُبْهَةٍ فِيهَا، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ عَدَمَ اشْتِرَاطِ الْأَصَالَةِ، وَهَذَا إِذَا تَعَذَّرَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ مِنَ الشَّاهِدِ الْأَوَّلِ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْبَةٍ أَوْ مَوْتٍ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَةٌ). مَا تَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُ الْحُدُودِ:

أ- عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ:

22- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي حَدِّ الزِّنَى أَنْ لَا يَقِلَّ عَدَدُ الشُّهُودِ عَنْ أَرْبَعَةٍ لقوله تعالى: {وَاَللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}.

«وَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أَأُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟، قَالَ: نَعَمْ».

ب- اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ:

23- ذَهَبَ الْجُمْهُورُ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ مُجْتَمِعِينَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، فَإِنْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ يَشْهَدُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَيُحَدُّونَ وَإِنْ كَثُرُوا.

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ لقوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَجَالِسَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَتِّيُّ.

ج- عَدَمُ التَّقَادُمِ:

24- يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: أَنَّ الشُّهُودَ لَوْ شَهِدُوا بِزِنًى قَدِيمٍ، وَجَبَ الْحَدُّ، لِعُمُومِ الْآيَةِ.وَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْبَةٍ، وَالْحَدُّ لَا يَسْقُطُ بِمُطْلَقِ الِاحْتِمَالِ، فَإِنَّهُ لَوْ سَقَطَ بِكُلِّ احْتِمَالٍ لَمْ يَجِبْ حَدٌّ أَصْلًا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ عَدَمَ التَّقَادُمِ فِي الْبَيِّنَةِ شَرْطٌ، وَذَلِكَ فِي حَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي حَدِّ الْقَذْفِ، وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ مَذْهَبٌ لِأَحْمَد.

وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الشَّاهِدَ إِذَا عَايَنَ الْجَرِيمَةَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ حِسْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} وَبَيْنَ السَّتْرِ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَلَمَّا لَمْ يَشْهَدْ عَلَى فَوْرِ الْمُعَايَنَةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِيَارِ جِهَةِ السَّتْرِ، فَإِذَا شَهِدَ بَعْدَ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الضَّغِينَةَ حَمَلَتْهُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: أَيُّمَا قَوْمٍ شَهِدُوا عَلَى حَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا عِنْدَ حَضْرَتِهِ، فَإِنَّمَا شَهِدُوا عَنْ ضِغْنٍ، وَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَيَكُونُ إِجْمَاعًا.وَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ يُورِثُ تُهْمَةً، وَلَا شَهَادَةَ لِلْمُتَّهَمِ.

وَهُنَاكَ تَفْصِيلَاتٌ وَشُرُوطٌ فِيهَا خِلَافٌ يُنْظَرُ فِي (شَهَادَةٌ) (وَزِنًى).

ثَانِيًا- الْإِقْرَارُ:

25- شُرُوطُ الْإِقْرَارِ فِي الْحُدُودِ قِسْمَانِ:

شُرُوطٌ تَعُمُّ الْحُدُودَ كُلَّهَا: وَهِيَ الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالنُّطْقُ، فَلَا يَصِحُّ إِقْرَارُ الصَّبِيِّ، لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْحَدِّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ جِنَايَةً، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ جِنَايَةً.

وَكَذَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ بِالْخِطَابِ وَالْعِبَارَةِ دُونَ الْكِتَابِ وَالْإِشَارَةِ، لِأَنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالْبَيَانِ الْمُتَنَاهِي، وَلِذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالزِّنَى.

وَيُقْبَلُ إِقْرَارُ الْأَخْرَسِ بِالْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَلَا تُقْبَلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ احْتِمَالٌ لِلْخِرَقِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَتَفْصِيلُهُ فِي: (إِقْرَارٌ).

شُرُوطٌ تَخُصُّ بَعْضَ الْحُدُودِ مِنْهَا:

أ- تَكْرَارُ الْإِقْرَارِ:

26- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يُقِرَّ الزَّانِي أَوِ الزَّانِيَةُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَبِهَذَا قَالَ الْحَكَمُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاقُ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّ تَكْرَارَ الْإِقْرَارِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيُكْتَفَى بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَحَمَّادُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالطَّبَرِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَجَمَاعَةٌ.لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إِنَّمَا صَارَ حُجَّةً فِي الشَّرْعِ لِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ، وَهَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ التَّكْرَارِ وَالتَّوْحِيدِ سَوَاءٌ، وَلِأَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «اغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» فَعَلَّقَ الرَّجْمَ عَلَى مُجَرَّدِ الِاعْتِرَافِ. وَاسْتَدَلَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ مَاعِزًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَأَقَرَّ بِالزِّنَى، فَأَعْرَض عَنْهُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ إِلَى الْأَرْبَعِ» فَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ مَرَّةً مُوجِبًا لِلْحَدِّ لَمَا أَخَّرَهُ إِلَى الْأَرْبَعِ.

ب- اشْتِرَاطُ عَدَدِ الْمَجَالِسِ:

27- اخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِ عَدَدِ مَجَالِسِ الْإِقْرَارِ عِنْدَ مَنِ اشْتَرَطَ تَكْرَارَهُ، وَكَوْنِ الْإِقْرَارِ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ، وَكَوْنِ الزَّانِي وَالْمَزْنِيِّ بِهَا مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى دَعْوَى الشُّبْهَةِ، وَكَوْنِ الزَّانِي مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ وُجُودُ الزِّنَى، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ ذُكِرَ فِي كُلِّ حَدٍّ مِنَ الْحُدُودِ وَفِي مُصْطَلَحِ: (إِقْرَارٌ).

أَثَرُ عِلْمِ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ فِي الْحُدُودِ:

28- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ: إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ إِقَامَةُ الْحَدِّ بِعِلْمِهِ، لقوله تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وَقَالَ أَيْضًا: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ- رضي الله عنه-.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ: لَهُ إِقَامَتُهُ

بِعِلْمِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ.لِأَنَّهُ إِذَا جَازَتْ لَهُ إِقَامَتُهُ بِالْبَيِّنَةِ وَالِاعْتِرَافِ الَّذِي لَا يُفِيدُ إِلاَّ الظَّنَّ، فَمَا يُفِيدُ الْعِلْمُ هُوَ أَوْلَى.

مَدَى ثُبُوتِ الْحُدُودِ بِالْقَرَائِنِ:

29- تَخْتَلِفُ الْقَرَائِنُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْحُدُودِ- عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهَا- مِنْ حَدٍّ لآِخَرَ.

فَالْقَرِينَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الزِّنَى: هِيَ ظُهُورُ الْحَمْلِ فِي امْرَأَةٍ غَيْرِ مُتَزَوِّجَةٍ أَوْ لَا يُعْرَفُ لَهَا زَوْجٌ.

وَالْقَرِينَةُ فِي الشُّرْبِ: الرَّائِحَةُ، وَالْقَيْءُ، وَالسُّكْرُ، وَوُجُودُ الْخَمْرِ عِنْدَ الْمُتَّهَمِ، وَفِي السَّرِقَةِ وُجُودُ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ عِنْدَ الْمُتَّهَمِ، وَوُجُودُ أَثَرٍ لِلْمُتَّهَمِ فِي مَوْضِعِ السَّرِقَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَفِي كُلٍّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَقْوَالٍ فُصِّلَتْ فِي مَوَاطِنِهَا وَتُنْظَرُ فِي كُلِّ حَدٍّ مِنَ الْحُدُودِ وَفِي مُصْطَلَحِ: (قَرِينَةٌ). أَنْوَاعُ الْحُدُودِ:

الْحُدُودُ الشَّرْعِيَّةُ هِيَ:

أ- الرَّجْمُ:

30- الرَّجْمُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الزَّانِي إِذَا كَانَ مُحْصَنًا وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (زِنًى وَرَجْمٌ).

ب- الْجَلْدُ:

31- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ الزَّانِي الْبِكْرِ مِائَةُ جَلْدَةٍ، لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}.

وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ فِي عُقُوبَةِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْجَلْدَ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الرَّجْمِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ وَغَيْرَهُمَا، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّهُ جَلَدَ وَاحِدًا مِنْهُمْ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ إِنَّمَا وُضِعَ لِلزَّجْرِ، وَلَا تَأْثِيرَ لِلزَّجْرِ بِالضَّرْبِ مَعَ الرَّجْمِ، وَاخْتَارَ هَذَا مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ.

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي رِوَايَةٍ أَنَّ الْجَلْدَ يَجْتَمِعُ مَعَ الرَّجْمِ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَإِسْحَاقُ، فَيُجْلَدُ الزَّانِي الْمُحْصَنُ أَوَّلًا، ثُمَّ يُرْجَمُ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عُبَادَةَ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ».وَبِفِعْلِ عَلِيٍّ- رضي الله عنه-، وَهُوَ أَنَّهُ جَلَدَ شُرَاحَةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثُمَّ رَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَالَ جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-.وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ.

وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْجَلْدَ عُقُوبَةُ الْقَذْفِ وَالشُّرْبِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ فِي الشُّرْبِ وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي أَبْوَابِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ وَ (ر: قَذْفٌ) وَ (شُرْبٌ).

ج- التَّغْرِيبُ:

32- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجْتَمِعُ مَعَ الْجَلْدِ تَغْرِيبُ الزَّانِي الْبِكْرِ، فَالتَّغْرِيبُ عِنْدَهُمْ يُعْتَبَرُ حَدًّا كَالْجَلْدِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «الْبِكْرُ

بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ» وَرُوِيَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ- رضي الله عنهما-، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ.

إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَيَقُولُونَ بِتَغْرِيبِ الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مُحْتَاجَةٌ إِلَى حِفْظٍ وَصِيَانَةٍ، فَلَا يَجُوزُ تَغْرِيبُهَا إِلاَّ بِمَحْرَمٍ، وَهُوَ يُفْضِي إِلَى تَغْرِيبِ مَنْ لَيْسَ بِزَانٍ، وَنَفْيِ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَلِأَنَّهَا عَوْرَةٌ، وَفِي نَفْيِهَا تَضْيِيعٌ لَهَا وَتَعْرِيضُهَا لِلْفِتْنَةِ، وَلِهَذَا نُهِيَتْ عَنِ السَّفَرِ مَعَ غَيْرِ مَحْرَمٍ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ التَّغْرِيبَ لَيْسَ وَاجِبًا، وَلَيْسَ حَدًّا كَالْجَلْدِ، وَإِنَّمَا هِيَ عُقُوبَةٌ تَعْزِيرِيَّةٌ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَلْدِ إِنْ رَأَى فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً، لِأَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- قَالَ: حَسْبُهُمَا مِنَ الْفِتْنَةِ أَنْ يُنْفَيَا.

وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ- رضي الله عنه- غَرَّبَ رَبِيعَةَ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ فِي الْخَمْرِ إِلَى خَيْبَرَ، فَلَحِقَ بِهِرَقْلَ فَتَنَصَّرَ، فَقَالَ عُمَرُ- رضي الله عنه- لَا أُغَرِّبُ مُسْلِمًا بَعْدَ هَذَا أَبَدًا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْجَلْدِ دُونَ التَّغْرِيبِ، فَإِيجَابُ التَّغْرِيبِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ.وَيُرْجَعُ لِتَفْصِيلِ ذَلِكَ إِلَى مَوْطِنِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.وَ (ر: زِنًى) و (تَغْرِيبٌ).

د- الْقَطْعُ:

33- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ السَّرِقَةَ مُوجِبَةٌ لِلْقَطْعِ بِالنَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ.

أَمَّا النَّصُّ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ}.

وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا».

وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ قَطْعِ السَّارِقِ فِي الْجُمْلَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَحَلِّ الْقَطْعِ وَمَوْضِعِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالتَّفْصِيلُ فِي «سَرِقَةٌ».

وَكَذَلِكَ يُقْطَعُ الْمُحَارِبُ مِنْ خِلَافٍ إِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ.

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِي عِقَابِهِ بِأَيَّةِ عُقُوبَةٍ جَاءَتْ بِهَا آيَةُ الْمُحَارَبَةِ مَا عَدَا النَّفْيَ، فَلَا تَخْيِيرَ فِيهِ وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي (حِرَابَةٌ).

هـ- الْقَتْلُ وَالصُّلْبُ:

34- إِذَا قَتَلَ الْمُحَارِبُ وَأَخَذَ الْمَالَ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ وَيُصْلَبُ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ، وَبِهِ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى الزُّهْرِيُّ.

وَإِذَا قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ وَلَا يُصْلَبُ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ يُصْلَبُ، لِأَنَّهُ مُحَارِبٌ يَجِبُ قَتْلُهُ، فَيُصْلَبُ كَاَلَّذِي أَخَذَ الْمَالَ.وَيُنْظَرُ التَّفْصِيلُ فِي (تَصْلِيبٌ).

وَالْقَتْلُ كَذَلِكَ عُقُوبَةٌ حَدِّيَّةٌ لِلرِّدَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّجُلِ.وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ- رضي الله عنهما-، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَحَمَّادٌ، وَاللَّيْثُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُقْتَلُ بِالرِّدَّةِ، بَلْ تُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ، لِأَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى عَنْ قَتْلِ الْمَرْأَةِ الْكَافِرَةِ».

وَلِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ بِالْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ، فَلَا تُقْتَلُ بِالطَّارِئِ كَالصَّبِيِّ.

وَفِي قَتْلِ الْبُغَاةِ، وَهُمُ الْمُحَارِبُونَ عَلَى التَّأْوِيلِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (بَغْيٌ).

شُرُوطُ وُجُوبِ الْحَدِّ:

35- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ إِلاَّ عَلَى مُكَلَّفٍ، وَهُوَ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ، لِأَنَّهُ إِذَا سَقَطَ التَّكْلِيفُ عَنْ غَيْرِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ فِي الْعِبَادَاتِ، وَسَقَطَ الْإِثْمُ عَنْهُ فِي الْمَعَاصِي، فَالْحَدُّ الْمَبْنِيُّ عَلَى الدَّرْءِ بِالشُّبُهَاتِ أَوْلَى.

وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحُدُودَ تُقَامُ عَلَى الذِّمِّيِّينَ وَلَا تُقَامُ عَلَى مُسْتَأْمَنٍ، إِلاَّ حَدُّ الْقَذْفِ فَيُقَامُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ.وَلَا يُقَامُ عَلَى الْكَافِرِ حَدُّ الشُّرْبِ عِنْدَهُمْ.

وَفِي حَدِّ الزِّنَى تَفْصِيلٌ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا زَنَى الْحَرْبِيُّ (الْمُسْتَأْمَنُ) بِذِمِّيَّةٍ تُحَدُّ الذِّمِّيَّةُ وَلَا يُحَدُّ الْحَرْبِيُّ.وَإِذَا زَنَى ذِمِّيٌّ بِمُسْتَأْمَنَةٍ يُحَدُّ الذِّمِّيُّ وَلَا تُحَدُّ الْمُسْتَأْمَنَةُ.

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ كِلَاهُمَا يُحَدَّانِ.

وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى: لَا تُحَدُّ الذِّمِّيَّةُ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَابِعَةٌ لِلرَّجُلِ فَامْتِنَاعُ الْحَدِّ فِي حَقِّ الْأَصْلِ يُوجِبُ امْتِنَاعَهُ فِي حَقِّ الْفَرْعِ.

وَتَفْصِيلُ كُلِّ حَدٍّ فِي مُصْطَلَحِهِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِإِسْلَامِهِ.

أَمَّا حَدُّ الزِّنَى فَإِنَّهُ يُؤَدَّبُ فِيهِ فَقَطْ وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِلاَّ إِذَا اغْتَصَبَ امْرَأَةً مُسْلِمَةً فَإِنَّهُ يُقْتَلُ لِنَقْضِهِ الْعَهْدَ.وَكَذَلِكَ لَوِ ارْتَكَبَ جَرِيمَةَ اللِّوَاطِ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ.وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَوْفَى مِنَ الذِّمِّيِّ مَا ثَبَتَ وَلَوْ حَدَّ زِنًى أَوْ قَطْعَ سَرِقَةٍ، وَلَا يُحَدُّ بِشُرْبِ خَمْرٍ لِقُوَّةِ أَدِلَّةِ حِلِّهِ فِي عَقِيدَتِهِمْ.وَلَا يُشْتَرَطُ فِي إِحْصَانِ الرَّجْمِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا.

وَلَا يُقَامُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.

وَيُحَدُّ الْكَافِرُ حَدَّ الْقَذْفِ ذِمِّيًّا كَانَ أَوْ مُعَاهَدًا.

وَتَفْصِيلُ كُلِّ حَدٍّ فِي مُصْطَلَحِهِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِذَا رُفِعَ إِلَى الْحَاكِمِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَنْ فَعَلَ مُحَرَّمًا يُوجِبُ عُقُوبَةً مِمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ كَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالْقَذْفِ وَالْقَتْلِ فَعَلَيْهِ إِقَامَةُ حَدِّهِ عَلَيْهِ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أُتِيَ بِيَهُودِيَّيْنِ فَجَرَا بَعْدَ إِحْصَانِهِمَا فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا».

وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ إِبَاحَتَهُ كَشُرْبِ خَمْرٍ لَمْ يُحَدَّ، وَإِنْ تَحَاكَمَ مُسْلِمٌ وَذِمِّيٌّ وَجَبَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ بِغَيْرِ خِلَافٍ.وَيُقْطَعُ الذِّمِّيُّ بِالسَّرِقَةِ.وَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ.وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ: لَا يُقْطَعُ الْمُسْتَأْمَنُ.

وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَامُ حَدُّ الزِّنَى عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ.

وَدَلِيلُ وُجُوبِ الْقَطْعِ أَنَّهُ حَدٌّ يُطَالَبُ بِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ كَحَدِّ الْقَذْفِ.

وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ إِلاَّ عَلَى مَنْ عَلِمَ التَّحْرِيمَ، وَبِهَذَا قَالَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِقَوْلِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ- رضي الله عنهم-: لَا حَدَّ إِلاَّ عَلَى مَنْ عَلِمَهُ.فَإِنِ ادَّعَى الزَّانِي الْجَهْلَ بِالتَّحْرِيمِ وَكَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَجْهَلَهُ كَحَدِيثِ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ، قُبِلَ مِنْهُ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ كَالْمُسْلِمِ النَّاشِئِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الزِّنَى لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ هُوَ كَذَلِكَ (كَمَا أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى مُكْرَهَةٍ).وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالثَّوْرِيِّ لقوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.

وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».

وَعَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ امْرَأَةً اسْتُكْرِهَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ».

وَفِي حَدِّ الْمُكْرَهِ عَلَى الزِّنَى خِلَافٌ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى مُصْطَلَحِ (إِكْرَاهٌ) وَ (ر: زِنًى) وَهُنَاكَ شُرُوطٌ أُخْرَى لِوُجُوبِ كُلِّ حَدٍّ فُصِّلَ، الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي أَبْوَابِهَا.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


23-موسوعة الفقه الكويتية (خيار التعيين)

خِيَارُ التَّعْيِينِ

التَّعْرِيفُ:

1- سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (خِيَارٍ) تَعْرِيفُ الْخِيَارِ، وَأَمَّا التَّعْيِينُ: فَهُوَ مَصْدَرٌ قِيَاسِيٌّ لِلْفِعْلِ الْمَزِيدِ (عَيَّنَ) يُقَالُ: عَيَّنْتُ الشَّيْءَ، وَعَيَّنْتُ عَلَيْهِ، وَاسْتِعْمَالُهُمَا وَاحِدٌ، فَمِنَ الْأَوَّلِ- وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِهَذَا الْمَوْضُوعِ- مَا جَاءَ فِي الْمَعَاجِمِ مِنْ أَنَّ تَعْيِينَ الشَّيْءِ مَعْنَاهُ تَخْصِيصُهُ مِنَ الْجُمْلَةِ، كَمَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ.وَمِنَ الثَّانِي: عَيَّنْتُ عَلَى السَّارِقِ: خَصَصْتُهُ مِنْ بَيْنِ الْمُتَّهَمِينَ، مَأْخُوذٌ مِنْ (عَيْنِ) الشَّيْءِ، أَيْ نَفْسِهِ وَذَاتِهِ.

أَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَقَدْ عَرَّفَ الْحَنَفِيَّةُ الْبَيْعَ الَّذِي فِيهِ خِيَارُ التَّعْيِينِ بِأَنَّهُ: شِرَاءُ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الثَّلَاثَةِ عَلَى أَنْ يُعَيِّنَ أَيًّا شَاءَ.أَمَّا تَعْرِيفُ الْخِيَارِ فَيُمْكِنُ اسْتِخْلَاصُ التَّعْرِيفِ التَّالِي لَهُ وَهُوَ: أَنَّهُ (حَقُّ الْعَاقِدِ فِي تَعْيِينِ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى أَحَدِهَا شَائِعًا، خِلَالَ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ).وَصُورَتُهُ: أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي: بِعْتُكَ أَحَدَ هَذِهِ الْأَثْوَابِ الثَّلَاثَةِ وَلَكَ الْخِيَارُ فِي أَيِّهَا شِئْتَ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ، سَوَاءٌ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ مِنَ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي.

تَسْمِيَتُهُ:

2- يُسَمَّى (خِيَارُ التَّعْيِينِ) بِاسْمٍ آخَرَ هُوَ (خِيَارُ التَّمْيِيزِ) وَقَدْ أَطْلَقَهُ عَلَيْهِ الطَّحَاوِيُّ فِي مُنَاسَبَةِ مُقَارَنَتِهِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ قَائِلًا عَنْهُ: وَخِيَارُ التَّمْيِيزِ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ.وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ يُعَبِّرُ عَنْهُ بِالتَّعْبِيرِ الْمُسْهَبِ دُونَ تَسْمِيَتِهِ.وَيُسَمِّي الْمَالِكِيَّةُ الْعَقْدَ الْمُشْتَمِلَ عَلَيْهِ: بَيْعَ الِاخْتِيَارِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

خِيَارُ الشَّرْطِ:

3- هُنَاكَ صُورَةٌ مِنْ خِيَارِ الشَّرْطِ يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا مِنْ صُوَرِ خِيَارِ التَّعْيِينِ، مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهُ فِي شَيْءٍ، وَهِيَ مَا إِذَا بَاعَهُ ثَلَاثَةَ أَثْوَابٍ عَلَى أَنَّ لَهُ خِيَارَ الشَّرْطِ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا لَا فِي الْجَمِيعِ، فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عِبَارَةٌ عَنْ خِيَارِ شَرْطٍ فِي أَحَدِ أَفْرَادِ الْمَبِيعِ، يَتَّضِحُ ذَلِكَ مِنْ كَوْنِ الْمَقْصُودِ بِالْبَيْعِ فِي خِيَارِ التَّعْيِينِ وَاحِدًا، وَهُنَا الْبَيْعُ مُنْصَبٌّ عَلَى الثَّلَاثَةِ، وَلَكِنْ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ الْمُتَعَدِّدِ خِيَارٌ لَمْ يُعَيَّنْ مَحَلُّهُ، وَهِيَ مِنَ الصُّوَرِ الْفَاسِدَةِ.

وَهَذِهِ صُورَةٌ أُخْرَى مِنَ الِاخْتِيَارِ لَا الْخِيَارِ، مَا لَوْ أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ فَعَلَيْهِ اخْتِيَارُ أَرْبَعَةٍ فَقَطْ.

وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ لَوْ مَاتَ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ فَإِنَّ «الْخِيَارَ» لَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَارِثِ.وَهُوَ كَمَا يَبْدُو لَيْسَ خِيَارًا بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِمْضَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ قِيَامُ الْمُكَلَّفِ بِالِاخْتِيَارِ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَهُوَ يُشْبِهُ خِيَارَ التَّعْيِينِ لَكِنَّهُ ثَبَتَ حُكْمًا لَا بِالشَّرْطِ، كَمَا أَنَّ الْوَاقِعَةَ الْمُوَلِّدَةَ لِلْخِيَارِ غَيْرُ عَقْدِيَّةٍ.

خِيَارُ التَّعْيِينِ فِي الثَّمَنِ:

4- أَكْثَرُ مَا يُذْكَرُ لَهُ خِيَارُ التَّعْيِينِ مَا يَكُونُ فِي الْمَبِيعِ، وَلَكِنْ هُنَاكَ خِيَارٌ يَتَّصِلُ بِتَعْيِينِ الثَّمَنِ، لَا يُكْتَفَى بِذِكْرِ الْخِيَارِ فِيهِ، وَهُوَ مَا إِذَا بَاعَ شَيْئًا إِلَى أَجَلَيْنِ، أَوْ بَاعَهُ إِلَى أَجَلٍ أَوْ حَالًّا، بِثَمَنَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَتَرَكَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ.فَهُنَا ذَكَرَ ثَمَنَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَتَرَكَ لَهُ الْخِيَارَ فِي أَحَدِهِمَا مَعَ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنْ حُلُولٍ أَوْ تَأْجِيلٍ.

وَهَذِهِ الصُّورَةُ مِنَ التَّعَاقُدِ مَشْهُورَةٌ فِي الْمَذَاهِبِ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ إِذَا لَمْ يَفْتَرِقَا عَلَى التَّعْيِينِ فِي الْمَجْلِسِ.وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ).

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

5- ذَهَبَ إِلَى الْقَوْلِ بِمَشْرُوعِيَّةِ هَذَا الْخِيَارِ كُلٌّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ سَبَقَ شَيْءٌ مِنِ اهْتِمَامِهِمْ بِهِ، وَقَدْ عَقَدُوا لَهُ فَصْلًا مِنْ بَابِ خِيَارِ الشَّرْطِ، وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَدْ ذَهَبُوا إِلَى ثُبُوتِ الْعَقْدِ عَلَى أَحَدِ أَشْيَاءَ لَا بِعَيْنِهِ، وَتَعْرِيفُهُ وَصُورَتُهُ أَنَّهُ: «بَيْعٌ جَعَلَ فِيهِ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي التَّعْيِينَ لِمَا اشْتَرَاهُ، كَأَبِيعُكَ أَحَدَ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ عَلَى الْبَتِّ بِدِينَارٍ وَجَعَلْتُ لَكَ يَوْمًا (أَوْ يَوْمَيْنِ) تَخْتَارُ فِيهِ وَاحِدًا مِنْهُمَا» وَلَكِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَا صِلَةَ لَهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْأَخْذِ وَالرَّدِّ.

وَصَرَّحُوا أَيْضًا بِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ لَازِمٌ وَسَمَّوْهُ (بَيْعَ الِاخْتِيَارِ) تَمْيِيزًا لَهُ عَنِ الْبَيْعِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ الَّذِي يُسَمَّى أَحْيَانًا (بَيْعَ الْخِيَارِ) وَجَعَلُوا بَيْنَهُمَا تَقَابُلًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ خِيَارٌ فِي الْعَقْدِ «أَحَدُهَا لَازِمٌ لَهُ، وَإِنَّمَا الْخِيَارُ فِي التَّعْيِينِ وَلَا يَرُدُّ إِلاَّ أَحَدَهُمَا».

وَأَشَارَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ (الِاخْتِيَارَ) قَدْ يُجَامِعُ الْخِيَارَ وَقَدْ يَنْفَرِدُ عَنْهُ فَيَكُونُ هُنَاكَ بَيْعُ خِيَارٍ فَقَطْ (وَهُوَ خِيَارُ الشَّرْطِ الْمَعْرُوفِ)، وَبَيْعُ اخْتِيَارٍ فَقَطْ (وَهُوَ الْمُسَمَّى خِيَارُ التَّعْيِينِ) وَبَيْعُ خِيَارٍ وَاخْتِيَارٍ وَهُوَ «بَيْعٌ جَعَلَ فِيهِ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي الِاخْتِيَارَ فِي التَّعْيِينِ، وَبَعْدَهُ هُوَ فِيمَا يُعَيِّنُهُ بِالْخِيَارِ فِي الْأَخْذِ وَالرَّدِّ».وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ انْتَبَهُوا إِلَى اسْتِبْعَادِ اخْتِيَارِ التَّعْيِينِ مِنْ صَعِيدِ (الْخِيَارِ) لِاشْتِرَاطِهِمْ تَوْقِيتَهُ، فِي حِينِ فَصَّلَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنْ جَعَلُوا اشْتِرَاطَ التَّوْقِيتِ قَاصِرًا عَلَى حَالِ تَجَرُّدِ خِيَارِ التَّعْيِينِ مِنْ خِيَارِ الشَّرْطِ.يُضَافُ لِذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي كُتُبِهِمُ الْأُولَى- غَالِبًا- مُلَابِسًا لِخِيَارِ الشَّرْطِ مُقْتَرِنًا بِهِ، لِذَا لَمْ تَحْفِلْ عِبَارَاتُهُمْ بِالِاحْتِرَازِ مِنْهُ.

وَذَكَرَ ابْنُ مُفْلِحٍ أَنَّهُ قَالَ بِهِ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ وَذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْمُفْرَدَاتِ- وَقَوْلُهُ مُخَالِفٌ لِجُمْهُورِهِمْ- وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّرِيفِ وَأَبِي الْخَطَّابِ، وَمَثَّلُوا لَهُ بِنَحْوِ بَيْعِ شَاةٍ مُبْهَمَةٍ فِي شِيَاهٍ إِنْ تَسَاوَتِ الْقِيمَةُ.

هَؤُلَاءِ مُثْبِتُوهُ، وَأَمَّا نُفَاتُهُ فَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ- إِلاَّ فِي قَوْلٍ قَدِيمٍ حَكَاهُ الْمُتَوَلِّي أَنَّهُ يَصِحُّ (فِي مِثْلِ الصُّورَةِ السَّابِقَةِ لَدَى أَبِي حَنِيفَةَ).قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا شَاذٌّ مَرْدُودٌ- وَالشَّافِعِيَّةُ حِينَ مَنَعُوهُ جَعَلُوهُ مِنْ مَسَائِلِ جَهَالَةِ عَيْنِ الْمَبِيعِ، وَنَصُّوا عَلَى بُطْلَانِهِ، سَوَاءٌ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ مُتَعَدِّدٍ، أَوْ وَقَعَ عَلَى الْكُلِّ إِلاَّ وَاحِدًا، وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْحَنَابِلَةِ كَذَلِكَ، مَعَ تَنْصِيصِهِمْ عَلَى أَنَّهُ بَاطِلٌ وَلَوْ تَسَاوَتْ قِيمَةُ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَارِ مِنْهَا وَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ (صِلَتُهُ بِكِفَايَةِ تَعْيِينِ الْمَبِيعِ وَلَا صِلَةَ لَهُ بِخِيَارِ التَّعْيِينِ).وَاسْتَدَلَّ الْحَنَابِلَةُ أَيْضًا لِمَنْعِهِ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْبَيْعِ وَالثُّنْيَا، وَقَدْ «نَهَى- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الثُّنْيَا إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ».وَلِأَنَّ ذَلِكَ غَرَرٌ وَيُفْضِي إِلَى التَّنَازُعِ.

دَلِيلُ مَشْرُوعِيَّةِ خِيَارِ التَّعْيِينِ:

6- احْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ لِمَشْرُوعِيَّتِهِ بِالْقِيَاسِ عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ فِيهِ الشَّرْعُ، وَهُوَ خِيَارُ الشَّرْطِ فَجَازَ إِلْحَاقًا بِهِ، لِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إِلَى دَفْعِ الْغَبْنِ، وَالْحَاجَةُ إِلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبَيْعِ مُتَحَقِّقَةٌ، فَكَانَ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ، وَبِالرَّغْمِ مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ ثَبَتَ اسْتِحْسَانًا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَالْمَقْصُودُ مَبْدَأُ الْقِيَاسِ عُمُومًا، أَمَّا دَلِيلُهُ فَهُوَ الْقِيَاسُ عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ، لِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ نَفْسَهُ ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ اللُّزُومُ.وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مَا فِيهِ مِنْ جَهَالَةٍ لَا تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ لِاسْتِقْلَالِ الْمُشْتَرِي بِالتَّعْيِينِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ مُنَازِعٌ فِيمَا يَخْتَارُ.

شَرَائِطُ قِيَامِ خِيَارِ التَّعْيِينِ:

أ- ذِكْرُ شَرْطِ التَّعْيِينِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ:

7- لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ شَرْطِ التَّعْيِينِ فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِنَحْوِ عِبَارَةِ: عَلَى أَنَّكَ بِالْخِيَارِ فِي أَيِّهِمَا شِئْتَ، أَوْ عَلَى أَنْ تَأْخُذَ أَيَّهَا شِئْتَ، لِيَكُونَ نَصًّا فِي خِيَارِ التَّعْيِينِ وَإِلاَّ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا لِلْجَهَالَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ (الْخِيَارِ) بَلْ يَكْفِي مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ كَقَوْلِهِ: عَلَى أَنْ تَحْتَفِظَ بِأَحَدِهَا وَتُعِيدَ الْبَاقِيَ.

ب- أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْخِيَارِ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ:

8- الْقِيَمِيُّ هُنَا مَا لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ، أَوْ مَا لَا يُوجَدُ لَهُ مِثْلٌ فِي الْأَسْوَاقِ، أَوْ يُوجَدُ لَكِنْ مَعَ التَّفَاوُتِ الْمُعْتَدِّ بِهِ فِي الْقِيمَةِ، أَمَّا الْمِثْلِيَّاتُ الْمُخْتَلِفَةُ الْجِنْسِ فَقَدْ أُلْحِقَتْ بِالْقِيَمِيِّ، وَأَمَّا الْمِثْلِيُّ الْمُتَّفِقُ الْجِنْسِ فَلَا يَصِحُّ.لِأَنَّ الْحَاجَةَ (الَّتِي شُرِعَ لِأَجْلِهَا) هِيَ فِي التَّفَاوُتِ.بِخِلَافِ الْمِثْلِيَّاتِ فَإِنَّ اشْتِرَاطَهُ فِيهَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَمِنْ قَبِيلِ الْعَبَثِ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَفَاوِتَةً فِيمَا بَيْنَهَا.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ مُتَّفِقًا أَوْ مُخْتَلِفًا، فِي حِينِ اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ مِنَ الْقَائِلِينَ بِهِ تَسَاوِيَ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ فِي الْقِيمَةِ.

ج- أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ الْخِيَارِ مَعْلُومَةً:

9- هَذَا عَلَى مَا اعْتَمَدَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَذَكَرَ الزَّيْلَعِيُّ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لِعَدَمِ الْجَدْوَى.وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ زِيَادَتُهَا عَنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَأَطْلَقَ الصَّاحِبَانِ الْمُدَّةَ عَلَى أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً، وَرَجَّحَهُ الزَّيْلَعِيُّ وَغَيْرُهُ.وَقَدْ فَرَّقَ الْبَابَرْتِيُّ وَالزَّيْلَعِيُّ بَيْنَ الْأَخْذِ بِرَأْيِ مَنِ اسْتَلْزَمَ لِخِيَارِ التَّعْيِينِ خِيَارَ الشَّرْطِ، فَلَا بَأْسَ عَلَى هَذَا مِنْ عَدَمِ تَوْقِيتِهِ لِإِغْنَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ عَنْهُ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ أَنْ يَعْرَى عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّوْقِيتِ. د- عَدَمُ زِيَادَةِ الْأَفْرَادِ الْمُخْتَارِ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ:

10- فَلَا يَجُوزُ- عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ- أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخِيَارُ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، لِانْدِفَاعِ الْحَاجَةِ بِذَلِكَ، لِاشْتِمَالِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الْجَيِّدِ وَالْوَسَطِ وَالرَّدِيءِ. (وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِيَارُ فِي وَاحِدٍ مِنِ اثْنَيْنِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى) قَالُوا: وَالزَّائِدُ يَقَعُ مُكَرَّرًا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، وَقَدْ شُرِعَ لِلْحَاجَةِ.

هـ- الْعَدَدُ الْمُخْتَارُ مِنَ الْعَاقِدِ:

11- هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَزِيدَ الْعَدَدُ الْمُخْتَارُ مِنَ الْعَاقِدِ عَلَى وَاحِدٍ أَيْ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اخْتِيَارُهُ أَمْ لَهُ اخْتِيَارُ اثْنَيْنِ (مَثَلًا) ؟ لَمْ نَرَ لِلْحَنَفِيَّةِ فِيهِ نَصًّا، لَكِنَّ الصُّوَرَ الَّتِي ذَكَرُوهَا قَائِمَةٌ عَلَى اخْتِيَارٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَمَسَّكَ إِلاَّ بِوَاحِدٍ عَلَى مَا قَالَ الْحَطَّابُ.

و- اقْتِرَانُهُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ:

12- هَذَا الْخِيَارُ وَثِيقُ الصِّلَةِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ، بَلْ هُوَ مُتَفَرِّعٌ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ مَشْرُوعِيَّتُهُ وَمُعْظَمُ أَحْكَامِهِ، كَالْمُدَّةِ وَالسُّقُوطِ، وَلِذَا يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي أَثْنَاءِ بَابِ خِيَارِ الشَّرْطِ.وَبِالرَّغْمِ مِنْ هَذَا هُوَ خِيَارٌ مُسْتَقِلٌّ، وَسَبَبُ ارْتِبَاطِهِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ إِمَّا غَلَبَةُ اشْتِرَاطِهِ مَعَهُ لِيَكُونَ الْعَقْدُ فِي أَصْلِهِ غَيْرَ لَازِمٍ بِحَيْثُ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي رَدُّ الْجَمِيعِ، وَإِمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِاشْتِرَاطِ اقْتِرَانِهِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ.وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِمُحَمَّدٍ.وَهُنَاكَ رَأْيٌ آخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ بَعْدَ تَرْجِيحِ اشْتِرَاطِهِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ.

مَنْ يُشْتَرَطُ لَهُ الْخِيَارُ (صَاحِبُ الْخِيَارِ):

13- يُمْكِنُ اشْتِرَاطُ هَذَا الْخِيَارِ لِأَيٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي إِذَا كَانَ الْعَقْدُ عَلَى أَنَّهُ يَأْخُذُ أَيًّا شَاءَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُمَيَّزِ بَيْنَهَا بِالثَّمَنِ الْمُبَيَّنِ لَهُ.فَصَاحِبُ الْخِيَارِ هُنَا هُوَ الْمُشْتَرِي وَإِلَيْهِ التَّعْيِينُ، وَيَكُونُ لِلْبَائِعِ إِذَا ذَكَرَا فِي الْعَقْدِ أَنَّ الْبَائِعَ هُوَ الَّذِي يَخْتَارُ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَوْضُوعُ التَّعْيِينِ، فَالْبَائِعُ هُنَا صَاحِبُ الْخِيَارِ وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ بِالتَّعْيِينِ.

وَلَا عِبْرَةَ بِصُدُورِ الِاشْتِرَاطِ مِنَ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي مَثَلًا بَلِ النَّظَرُ لِصِيغَتِهِ، فَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ أَحَدَ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي أَيَّهمَا شِئْتَ بِالثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ لَهُ فَالْخِيَارُ هُنَا لِلْبَائِعِ، وَهُوَ الْمُسْتَفِيدُ بِالرَّغْمِ مِنْ أَنَّ مُشْتَرِطَ الْخِيَارِ هُوَ الْمُشْتَرِي، فَلَا أَثَرَ لِذَلِكَ، فَحُكْمُهُ كَمَا لَوْ صَدَرَ الِاشْتِرَاطُ بِاتِّفَاقِ الطَّرَفَيْنِ، بَلْ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُعْتَبَرٌ مِنْهُمَا، لِضَرُورَةِ اتِّفَاقِ الْإِرَادَتَيْنِ عَلَيْهِ، فَالْعِبْرَةُ إِذَنْ بِالْمُشْتَرَطِ لَهُ الْخِيَارُ لَا فِي ذَاكِرِ الشَّرْطِ.

وَلَا يَسُوغُ أَنْ يُشْتَرَطَ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي آنٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ الَّتِي تُحْدِثُ التَّنَازُعَ، وَقَدِ اغْتُفِرَتْ خِفَّةُ الْجَهَالَةِ بِسَبَبِ اسْتِبْدَادِ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ، أَمَّا لَوْ كَانَ الِاخْتِيَارُ لَهُمَا فَتَخْتَلِفُ رَغْبَتُهُمَا وَيَحْدُثُ التَّنَازُعُ.

أَثَرُ خِيَارِ التَّعْيِينِ عَلَى الْعَقْدِ:

أَثَرُهُ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ:

14- ذَكَرَ مُلاَّ خُسْرُو مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ خِيَارَ التَّعْيِينِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ حُكْمِ الْعَقْدِ، وَهُوَ انْتِقَالُ الْمِلْكِ نَظِيرَ خِيَارِ الشَّرْطِ، وَلَكِنَّ الشُّرُنْبُلَالِيَّ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ ذَلِكَ فِي الْحَاشِيَةِ عَلَيْهِ، وَعَلَّلَ تِلْكَ الْمُخَالَفَةَ بِقَوْلِهِ: أَحَدُ مَا فِيهِ التَّعْيِينُ غَيْرُ مَمْنُوعِ الْحُكْمِ، غَايَتُهُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي بَيَانِ ذَلِكَ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْعَقْدِ خِيَارُ الشَّرْطِ، كَمَا فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَصَحَّحَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ.وَهَذَا وَاضِحٌ لِأَنَّ خِيَارَ التَّعْيِينِ لَا أَثَرَ لَهُ عَلَى لُزُومِ الْعَقْدِ مَا دَامَ عَارِيًا عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ حَقُّ اخْتِيَارٍ، وَلَيْسَ تَعْلِيقًا لِحُكْمِ الْعَقْدِ.

فَخِيَارُ التَّعْيِينِ يَجْعَلُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ بِالْعَقْدِ مُتَعَلِّقًا بِأَحَدِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْخِيَارِ دُونَ تَخْصِيصٍ بِأَحَدِهَا وَلَا مُجَاوَزَةَ إِلَى غَيْرِهَا، وَلِذَلِكَ لَوْ قَبَضَ الْأَشْيَاءَ الْمُخْتَارَ مِنْهَا كَانَ أَحَدُهَا مَبِيعًا مَضْمُونًا وَالْبَاقِي أَمَانَةً فِي يَدِهِ.

وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ فِي شَأْنِ الْإِلْزَامِ بِالِاخْتِيَارِ وَالضَّمَانِ مَا يَلِي: إِذَا مَضَتْ مُدَّةُ الِاخْتِيَارِ وَلَمْ يَخْتَرْ (وَكَانَ لَهُ اخْتِيَارُ التَّعْيِينِ مُجَرَّدًا عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ) يَلْزَمُهُ النِّصْفُ مِنْ كُلٍّ مِنَ الثَّوْبَيْنِ (مَثَلًا)، لِأَنَّ ثَوْبًا قَدْ لَزِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ مَا هُوَ مِنْهُمَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمَا شَرِيكًا.

وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا إِذَا ادَّعَى ضَيَاعَهُمَا أَوْ ضَيَاعَ أَحَدِهِمَا يَلْزَمُهُ النِّصْفُ مِنْ كُلٍّ مِنَ الثَّوْبَيْنِ سَوَاءٌ أَكَانَ الثَّوْبَانِ آنَئِذٍ بِيَدِ الْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَبِيعُ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ أَقَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى الضَّيَاعِ أَمْ لَا، لِأَنَّ الْبَيْعَ عَلَى اللُّزُومِ وَقَدْ قَبَضَ الشَّيْئَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ، أَيْ إِلْزَامِ أَنَّ لَهُ وَاحِدًا مِنَ الِاثْنَيْنِ مِنْ حِينِ الْقَبْضِ.وَلُزُومُ النِّصْفِ مِنْ كُلٍّ مِنَ الثَّوْبَيْنِ إِنَّمَا هُوَ بِكُلِّ الثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ الْبَيْعُ بِهِ.

فَالْمَالِكِيَّةُ فِي حَالِ مُرُورِ مُدَّةِ التَّعْيِينِ وَالِامْتِنَاعِ عَنْهُ لَا يَرَوْنَ إِجْبَارَهُ عَلَى التَّعْيِينِ، بَلْ يُطَبِّقُونَ مُقْتَضَى شَرْطِ التَّعْيِينِ، وَإِرَادَتَهُ تَمَلُّكَ نِصْفِ مَحَلِّ الْعَقْدِ أَوْ ثُلُثِهِ.

تَبِعَةُ الْهَلَاكِ فِي خِيَارِ التَّعْيِينِ:

15- إِذَا هَلَكَ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الْمُخَيَّرِ بَيْنَهَا أَوْ تَعَيَّبَ لَزِمَ الْبَيْعُ فِيهِ بِثَمَنِهِ، وَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْأَمَانَةِ (حَتَّى إِذَا هَلَكَ الْآخَرُ بَعْدَ هَلَاكِ الْأَوَّلِ أَوْ تَعَيَّبَ لَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ قِيمَتِهِ شَيْءٌ) وَهَذَا لِأَنَّ الْعَيْبَ مُمْتَنِعُ الرَّدِّ لِاعْتِبَارِ التَّعَيُّبِ اخْتِيَارًا ضَرُورَةً، وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ، وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِثَمَنِهِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ.وَإِنْ هَلَكَ الْكُلُّ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ.

وَلَوْ هَلَكَ الشَّيْئَانِ مَعًا بَعْدَ الْقَبْضِ لَزِمَ الْمُشْتَرِي نِصْفُ ثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِشُيُوعِ الْبَيْعِ وَالْأَمَانَةِ، فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِكَوْنِهِ الْمَبِيعَ مِنَ الْآخَرِ.

وَتَقَدَّمَ كَلَامُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ. تَوْقِيتُ خِيَارِ التَّعْيِينِ:

16- يُشْتَرَطُ فِي الْأَرْجَحِ تَوْقِيتُ هَذَا الْخِيَارِ بِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ إِنْ لَمْ يَتَضَمَّنْ خِيَارَ الشَّرْطِ عَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ وُرُودِهِ بِدُونِهِ، أَمَّا إِنْ تَضَمَّنَ خِيَارَ الشَّرْطِ فَمُدَّةُ الْخِيَارِ صَالِحَةٌ لَهُمَا، وَفَائِدَةُ التَّوْقِيتِ أَنْ يُجْبَرَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ عَلَى التَّعْيِينِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْآخَرِ إِذَا مَاطَلَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ فِي التَّعْيِينِ.قَالَ ابْنُ قَاضِي سَمَاوَةَ: (وَخِيَارُ التَّعْيِينِ لَمْ يَجُزْ إِلاَّ مُؤَقَّتًا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ خِيَارُ الشَّرْطِ).

وَقَدْ سَبَقَ فِي الشَّرَائِطِ بَيَانُ مَا يَتَّصِلُ بِمَعْلُومِيَّةِ الْمُدَّةِ، صِلَةُ هَذَا الْخِيَارِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ.

سُقُوطُ خِيَارِ التَّعْيِينِ:

17- تَوَارَدَتْ أَقْوَالُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ خِيَارَ التَّعْيِينِ يَسْقُطُ بِمَا يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الشَّرْطِ.

وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الشَّرْطِ فِي مُصْطَلَحِ: (خِيَارُ الشَّرْطِ)

انْتِقَالُ خِيَارِ التَّعْيِينِ:

18- خِيَارُ التَّعْيِينِ يَنْتَقِلُ بِالْمَوْتِ إِلَى وَارِثِ صَاحِبِ الْخِيَارِ فَيَقُومُ مَقَامَهُ فِي تَعْيِينِ مَا يَخْتَارُهُ مِنْ مَحَلِّ الْخِيَارِ، وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ لِمُوَرِّثِهِ مَالًا ثَابِتًا ضِمْنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْخِيَارِ فَوَجَبَ عَلَى الْوَارِثِ أَنْ يُعَيِّنَ مَا يَخْتَارُهُ وَيَرُدَّ مَا لَيْسَ لَهُ إِلَى مَالِكِهِ.

وَيَكُونُ أَدَاءُ الثَّمَنِ مِنَ التَّرِكَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَدَّى حَالَ الْحَيَاةِ، ذَلِكَ أَنَّهُ انْتَقَلَ إِلَيْهِ مِلْكُ الْمُوَرِّثِ وَلَمْ يَكُنْ مُتَمَيِّزًا بَلْ مُخْتَلِطًا بِمِلْكِ غَيْرِهِ وَهُوَ الْبَائِعُ مَثَلًا، فَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ لِتَعْيِينِ مِلْكِهِ وَإِفْرَازِهِ عَنْ مِلْكِ غَيْرِهِ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


24-موسوعة الفقه الكويتية (سكوت)

سُكُوت

التَّعْرِيفُ:

1- السُّكُوتُ خِلَافُ النُّطْقِ، وَهُمَا مَصْدَرَانِ.يُقَالُ: سَكَتَ الصَّائِتُ سُكُوتًا: إِذَا صَمَتَ.

وَالِاسْمُ السُّكْتَةُ وَالسِّكْتَةُ.يَقُولُ الرَّاغِبُ الْأَصْفَهَانِيُّ: السُّكُوتُ مُخْتَصٌّ بِتَرْكِ الْكَلَامِ.

وَرَجُلٌ سِكِّيتٌ: كَثِيرُ السُّكُوتِ.

وَفِي النِّهَايَةِ لِابْنِ الْأَثِيرِ: تَكَلَّمَ الرَّجُلُ ثُمَّ سَكَتَ، بِغَيْرِ أَلِفٍ، فَإِذَا انْقَطَعَ كَلَامُهُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ قِيلَ: أَسْكَتَ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الصَّمْتُ:

2- الصَّمْتُ هُوَ السُّكُوتُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَكَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ أَمْ لَا.وَجَاءَ فِي الْمُغْرِبِ أَنَّ الصَّمْتَ هُوَ السُّكُوتُ الطَّوِيلُ.وَمِثْلُهُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ النَّهْرِ حَيْثُ قَالَ: السُّكُوتُ ضَمُّ الشَّفَتَيْنِ، فَإِنْ طَالَ يُسَمَّى صَمْتًا.

وَفِي الْحَدِيثِ: قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- «لَا صُمَاتَ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ».

ب- الْإِنْصَاتُ:

3- الْإِنْصَاتُ هُوَ السُّكُوتُ لِلِاسْتِمَاعِ، يُقَالُ: أَنْصَتَ: إِذَا سَكَتَ سُكُوتَ مُسْتَمِعٍ.

وَأَنْصَتَهُ: إِذَا أَسْكَتَهُ، فَهُوَ لَازِمٌ وَمُتَعَدٍّ.يَقُولُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} الْإِنْصَاتُ هُوَ السُّكُوتُ لِلِاسْتِمَاعِ، وَالْإِصْغَاءُ وَالْمُرَاعَاةُ.

وَعَلَى ذَلِكَ فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ السُّكُوتِ.

حُكْمُ السُّكُوتِ:

4- تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ لِحُكْمِ السُّكُوتِ فِي مُخْتَلَفِ الْمَسَائِلِ: وَفِيمَا يَلِي نَذْكُرُ أَحْكَامَهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، بَادِئِينَ بِالْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ، ثُمَّ حُكْمِ السُّكُوتِ وَأَثَرِهِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْعُقُودِ وَالدَّعَاوَى وَالْبَيِّنَاتِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ نُبَيِّنُ مَا ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ إِجْمَالًا مَعَ التَّعَرُّضِ لِحُكْمِ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

5- السُّكُوتُ مُبَاحٌ غَالِبًا، وَتَعْتَرِيهِ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ الْأُخْرَى حَسَبَ الْأَحْوَالِ، وَقَدْ تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لِحُكْمِ السُّكُوتِ التَّكْلِيفِيِّ فِي مَسَائِلَ، مِنْهَا:

سُكُوتُ الْمُقْتَدِي:

6- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ السُّكُوتُ عَلَى الْمُقْتَدِي عِنْدَ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا، فَيَسْتَمِعُ إِذَا جَهَرَ الْإِمَامُ، وَيُنْصِتُ إِذَا أَسَرَّ.فَإِنْ قَرَأَ كُرِهَ تَحْرِيمًا، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «كُنَّا نَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ فَنَزَلَ {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} » قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْبَحْرِ: الْمَطْلُوبُ بِالْآيَةِ أَمْرَانِ: الِاسْتِمَاعُ وَالسُّكُوتُ، فَيُعْمَلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا.وَالْأَوَّلُ يَخُصُّ الْجَهْرِيَّةَ، وَالثَّانِي لَا، فَيُجْرَى عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَيَجِبُ السُّكُوتُ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا.ا هـ.وَقَالَ الْكَاسَانِيُّ: الِاسْتِمَاعُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا عِنْدَ الْمُخَافَتَةِ بِالْقِرَاءَةِ فَالْإِنْصَاتُ مُمْكِنٌ عِنْدَ الْمُخَافَتَةِ بِالْقِرَاءَةِ، فَيَجِبُ بِظَاهِرِ النَّصِّ.وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ مَشْهُورٍ: «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ.فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا».وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ قِرَاءَةٌ لَهُ».

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: لَا تَجِبُ عَلَى الْمُقْتَدِي الْقِرَاءَةُ، سَوَاءٌ أَكَانَتِ الصَّلَاةُ جَهْرِيَّةً أَمْ سَرِيَّةً، لَكِنَّهُمْ قَالُوا بِاسْتِحْبَابِ الْقِرَاءَةِ فِيمَا لَا يُجْهَرُ فِيهِ.كَمَا أَنَّ الْحَنَابِلَةَ قَالُوا بِاسْتِحْبَابِهَا لِلْمُقْتَدِي فِي الْجَهْرِيَّةِ عِنْدَ سَكَتَاتِ الْإِمَامِ.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَالُوا: يَجِبُ عَلَى الْمُقْتَدِي قِرَاءَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِيمَا رَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ».

أَمَّا فِيمَا يُجْهَرُ فِيهَا فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَدِيمُ أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ بَلْ يُنْصِتُ، وَذَلِكَ لِلْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ.وَفِي الْجَدِيدِ: تَتَعَيَّنُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ، حِفْظًا أَوْ نَظَرًا فِي مُصْحَفٍ، أَوْ تَلْقِينًا، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، لِكُلٍّ مِنَ الْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ وَالْمُقْتَدِي، سَرِيَّةً كَانَتِ الصَّلَاةُ أَوْ جَهْرِيَّةً، وَذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ».

وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (قِرَاءَة).

السُّكُوتُ لِاسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ:

7- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ) إِلَى أَنَّ السُّكُوتَ وَالْإِنْصَاتَ لِاسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ وَاجِبٌ، فَيَحْرُمُ الْكَلَامُ إِلاَّ لِلْخَطِيبِ أَوْ لِمَنْ يُكَلِّمُهُ الْخَطِيبُ، وَذَلِكَ لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا}.وَلِمَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ».

وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ تَحْذِيرَ مَنْ خِيفَ هَلَاكُهُ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ لِحَقِّ آدَمِيٍّ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، وَالْإِنْصَاتُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ.وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ قَلِيلَ الذِّكْرِ سِرًّا، كَالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-.وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُشِيرَ بِرَأْسِهِ، أَوْ يَدِهِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ مُنْكَرًا.

وَقَيَّدَ الْحَنَابِلَةُ وُجُوبَ السُّكُوتِ بِمَا إِذَا كَانَ الْإِمَامُ قَرِيبًا، بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْإِنْصَاتِ لِلِاسْتِمَاعِ، وَالْبَعِيدُ لَيْسَ بِمُسْتَمِعٍ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا بِوُجُوبِ السُّكُوتِ حِينَ الْخُطْبَةِ بِلَا فَرْقٍ بَيْنَ قَرِيبٍ وَبَعِيدٍ، فِي الْأَصَحِّ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ: لَا يَجِبُ الْإِنْصَاتُ، وَلَا يَحْرُمُ الْكَلَامُ حِينَ الْخُطْبَةِ؛ لِمَا صَحَّ أَنَّ «أَعْرَابِيًّا قَالَ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: هَلَكَ الْمَالُ وَجَاعَ الْعِيَالُ فَادْعُ لَنَا.فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَدَعَا وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ مَوْعِدِ السَّاعَةِ، فَأَوْمَأَ النَّاسُ إِلَيْهِ بِالسُّكُوتِ، فَلَمْ يَقْبَلْ، وَأَعَادَ الْكَلَامَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا».وَالْأَمْرُ فِي الْآيَةِ لِلنَّدْبِ، فَيُسَنُّ السُّكُوتُ وَالْإِنْصَاتُ وَيُكْرَهُ الْكَلَامُ، وَذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.

سَكَتَاتُ الْإِمَامِ:

8- ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْكُتَ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَالتَّأْمِينِ قَدْرَ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ الْفَاتِحَةَ.وَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ؛ لِيَتَمَكَّنَ الْمَأْمُومُ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ مَعَ الْإِنْصَاتِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ.

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ حِينَئِذٍ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالذِّكْرِ أَوِ الدُّعَاءِ أَوْ الْقِرَاءَةِ سِرًّا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَ فِيهَا سُكُوتٌ حَقِيقِيٌّ لِلْإِمَامِ.

وَقَالُوا: إِنَّ السَّكَتَاتِ الْمَنْدُوبَةَ فِي الصَّلَاةِ أَرْبَعٌ: سَكْتَةٌ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ يَفْتَتِحُ فِيهَا، وَسَكْتَةٌ بَيْنَ: وَلَا الضَّالِّينَ وَآمِينَ، وَسَكْتَةٌ لِلْإِمَامِ بَعْدَ التَّأْمِينِ فِي الْجَهْرِيَّةِ بِقَدْرِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَسَكْتَةٌ قَبْلَ تَكْبِيرِ الرُّكُوعِ.

وَجَاءَ فِي الْمُغْنِي: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لِلْإِمَامِ سَكْتَتَانِ، فَاغْتَنِمُوا فِيهِمَا الْقِرَاءَةَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ: إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، وَإِذَا قَالَ: {وَلَا الضَّالِّينَ}.

وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَمَّا أَنَا فَأَغْتَنِمُ مِنَ الْإِمَامِ اثْنَتَيْنِ: إِذَا قَالَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فَأَقْرَأُ عِنْدَهَا، وَحِينَ يَخْتِمُ السُّورَةَ، فَأَقْرَأُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ.

وَلَا يَقُولُ بِاسْتِحْبَابِ هَذِهِ السَّكَتَاتِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ.وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مُصْطَلَحِ: (صَلَاة، وَقِرَاءَة).

السُّكُوتُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمُنْكَرِ:

9- الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ- أَيْ مَا عُرِفَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ- وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ مَا فِيهِ غَضَبُ اللَّهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ- أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ كَمَا يَقُولُ الْغَزَالِيُّ، وَهُوَ وَاجِبٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَحَكَى النَّوَوِيُّ وَابْنُ حَزْمٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ.فَالسُّكُوتُ عِنْدَ رُؤْيَةِ ارْتِكَابِ الْمُنْكَرِ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَحْرِيمِهِ حَرَامٌ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ حِينَ تَوَفُّرِ شُرُوطِهِ وَالْمَرَاتِبِ وَالْوَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه- مَرْفُوعًا: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ.

وَفِي بَيَانِ شُرُوطِهِ وَأَرْكَانِهِ وَمَرَاتِبِهِ، وَالْوَسَائِلِ الَّتِي يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ اتِّخَاذُهَا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهَلْ هُوَ فَرْضُ عَيْنٍ أَوْ كِفَايَةٍ- تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ، يُنْظَرُ مُصْطَلَحُ: (الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ الْمُنْكَرِ) ف 3- 5 (6 248- 250).

السُّكُوتُ عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ:

10- تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ وَأَدَاؤُهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَيَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ بِالطَّلَبِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ.وَهَذَا إِذَا عَلِمَ الشَّاهِدُ بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ، وَكَانَ الْقَاضِي عَادِلًا، وَيَكُونُ الْمَكَانُ قَرِيبًا، وَلَا يَعْلَمُ بُطْلَانَ الشُّهُودِ بِهِ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ خَوْفًا.

فَإِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ يَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ السُّكُوتُ؛ لِأَنَّ فِي سُكُوتِهِ تَضْيِيعًا لِلْحَقِّ وَهُوَ مُحَرَّمٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وَهَذَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ.

أَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْوَقْفِ وَالرَّضَاعِ فَيَجِبُ الْأَدَاءُ حِسْبَةً بِلَا طَلَبٍ.

إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا: يُخَيَّرُ فِي الْحُدُودِ، وَسَتْرُهَا فِي بَعْضِ الْحُدُودِ أَبَرُّ، فَالْأَوْلَى فِيهَا الْكِتْمَانُ إِلاَّ لِمُتَهَتِّكٍ وَمَنِ اشْتُهِرَ بِالْفِسْقِ وَالْمَعَاصِي.

هَكَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى، مَعَ تَفْصِيلٍ فِي بَعْضِ الشُّرُوطِ، وَخِلَافٍ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ.

وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (شَهَادَة).

حُكْمُ السُّكُوتِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْعُقُودِ:

11- الْمُعَامَلَاتُ وَالْعُقُودُ أَسَاسُهَا الرِّضَا الَّذِي يَتَحَقَّقُ غَالِبًا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ الْقَوْلِيِّ.

وَالْأَصْلُ أَنَّ السُّكُوتَ لَا يُعْتَبَرُ رِضًا فَالْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ تَقُولُ: (لَا يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ) وَلِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ نُجَيْمٍ وَالسُّيُوطِيُّ فِي أَشْبَاهِهِمَا مِنْ أَنَّ الثَّيِّبَ لَوْ سَكَتَتْ عِنْدَ الِاسْتِئْذَانِ فِي النِّكَاحِ لَمْ يَقُمْ مَقَامَ الْإِذْنِ.وَلَوْ رَأَى أَجْنَبِيًّا يَبِيعُ مَالَهُ فَسَكَتَ وَلَمْ يَنْهَهُ عَنِ الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا بِسُكُوتِ الْمُوَكِّلِ، وَلَوْ سَكَتَ عَنْ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْهُ أَوْ إِتْلَافِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَنْعِ لَمْ يَسْقُطْ ضَمَانُهُ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَ كُفْءٍ فَسُكُوتُ الْوَلِيِّ عَنْ مُطَالَبَةِ التَّفْرِيقِ لَيْسَ بِرِضًا مَا لَمْ تَلِدْ.

وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ بَعْضِ هَذِهِ الْفُرُوعِ وَنَظَائِرِهَا فِيمَا بَعْدُ مَعَ الْأَدِلَّةِ.هَذَا هُوَ الْأَصْلُ.

لَكِنْ قَدْ يَتَحَقَّقُ الرِّضَا بِالْفِعْلِ وَالتَّعَاطِي، أَوِ الْقَوْلِ مِنْ طَرَفٍ وَالْفِعْلِ مِنْ طَرَفٍ آخَرَ، أَوِ الْقَوْلِ مِنْ جَانِبٍ وَالسُّكُوتِ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا، كَمَا فُصِّلَ فِي مُصْطَلَحِ (عَقْد)

وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَمْثِلَةً لِمَا يَدُلُّ السُّكُوتُ فِيهَا عَلَى الرِّضَا وَالْإِذْنِ وَفْقًا لِقَاعِدَةِ: إِنَّ السُّكُوتَ فِي مَعْرِضِ الْحَاجَةِ بَيَانٌ، كَمَا ذَكَرُوا أَمْثِلَةً لِمَا لَا يَدُلُّ فِيهِ السُّكُوتُ عَلَى الرِّضَا بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ.

وَفِيمَا يَلِي نَذْكُرُ أَهَمَّ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِالتَّفْصِيلِ:

أ- سُكُوتُ الْمَالِكِ عِنْدَ تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ

12- إِذَا تَصَرَّفَ الْفُضُولِيُّ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِبَيْعٍ فِي حُضُورِ الْمَالِكِ، فَسَكَتَ فِي حَالِ كَوْنِهِ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ الْبَيْعِ، فَهَلْ يُعْتَبَرُ سُكُوتُهُ رِضًا وَإِذْنًا بِالْبَيْعِ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ: فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَا يُعْتَبَرُ هَذَا السُّكُوتُ إِذْنًا وَلَا يَلْزَمُ بِهِ الْبَيْعُ، وَذَلِكَ لِقَاعِدَةِ: لَا يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ.وَعَلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ الْبَيْعُ صَحِيحًا، لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ الصَّرِيحَةِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ بِيعَ مَالُهُ بِحَضْرَتِهِ وَهُوَ سَاكِتٌ لَزِمَهُ الْبَيْعُ، وَلَا يُعْذَرُ بِسُكُوتِهِ إِذَا ادَّعَاهُ.فَإِنْ مَضَى عَامٌ وَهُوَ سَاكِتٌ سَقَطَ حَقُّهُ فِي الثَّمَنِ أَيْضًا.

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُمْ بَيْعُ الْفُضُولِيِّ أَصْلًا، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ بَاعَ مَالَ غَيْرِهِ بِحَضْرَتِهِ وَهُوَ سَاكِتٌ لَمْ يَصِحَّ قَطْعًا وَمِثْلُهُ مَا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، قَالَ الْبُهُوتِيُّ: إِنْ بَاعَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَلَوْ بِحَضْرَتِهِ وَسُكُوتِهِ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ وَلَوْ أَجَازَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ أَيِ الْمِلْكِ وَالْإِذْنِ.

أَمَّا شِرَاءُ الْفُضُولِيِّ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (فُضُولِيّ).

ب- سُكُوتُ الْوَلِيِّ عِنْدَ بَيْعِ أَوْ شِرَاءِ مَنْ تَحْتَ وِلَايَتِهِ:

13- إِذَا رَأَى الْوَلِيُّ مُوَلِّيَهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَسَكَتَ وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ التَّصَرُّفِ يُعْتَبَرُ سُكُوتُهُ رِضًا وَإِذْنًا فِي التِّجَارَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ.قَالَ الْمُوصِلِيُّ: لِأَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ دَلِيلُ رِضًا، كَسُكُوتِ الشَّفِيعِ عِنْدَ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْهُ يَتَصَرَّفُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَالْوَلِيُّ سَاكِتٌ، يَعْتَقِدُونَ رِضَاهُ بِذَلِكَ، وَإِلاَّ لَمَنَعَهُ، فَيُعَامِلُونَهُ مُعَامَلَةَ الْمَأْذُونِ.فَلَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ سُكُوتُهُ رِضًا يُفْضِي ذَلِكَ إِلَى الْإِضْرَارِ بِهِمْ.

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلْمَالِكِيَّةِ: السُّكُوتُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يُعْتَبَرُ رِضًا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الرِّضَا وَالسَّخَطَ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا لِلْإِذْنِ عِنْدَ الِاحْتِمَالِ.

وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ سُكُوتَ الْقَاضِي فَقَالُوا: إِذَا رَأَى الْقَاضِي الصَّبِيَّ أَوِ الْمَعْتُوهَ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَسَكَتَ، لَا يَكُونُ سُكُوتُهُ إِذْنًا فِي التِّجَارَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي مَالِ الْغَيْرِ حَتَّى يَكُونَ الْإِذْنُ إِسْقَاطًا لِحَقِّهِ.

ج- سُكُوتُ الشَّفِيعِ:

14- سُكُوتُ الشَّفِيعِ عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ وَالثَّمَنِ يُعْتَبَرُ رِضًا بِالْعَقْدِ وَإِقْرَارًا بِالتَّنَازُلِ عَنِ الشُّفْعَةِ، فَيَسْقُطُ حَقُّهُ عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ: (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ).فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ الشَّفِيعَ أَنْ يَقُولَ كَلَامًا يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ الشُّفْعَةِ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي سَمِعَ فِيهِ عَقْدَ الْبَيْعِ فِي الْحَالِ، ثُمَّ يَطْلُبُ طَلَبَ التَّقْرِيرِ وَالْإِشْهَادِ، فَإِنْ سَكَتَ وَأَخَّرَ الطَّلَبَ يَسْقُطُ حَقُّ شُفْعَتِهِ.

وَمِثْلُهُ مَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، قَالَ الْخَطِيبُ: الْأَظْهَرُ أَنَّ الشُّفْعَةَ عَلَى الْفَوْرِ، لِأَنَّهَا حَقٌّ ثَبَتَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ، فَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ كَرَدِّ الْمَبِيعِ، وَإِذَا كَانَ مَرِيضًا أَوْ غَائِبًا أَوْ خَائِفًا مِنْ عَدُوٍّ فَلْيُوَكِّلْ إِنْ قَدَرَ، وَإِلاَّ فَلْيُشْهِدْ عَلَى الطَّلَبِ.وَإِلاَّ بَطَلَ حَقُّهُ فِي الْأَظْهَرِ لِتَقْصِيرِهِ، وَلِإِشْعَارِ السُّكُوتِ- مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْإِشْهَادِ- بِالرِّضَا.

وَقَالَ الْبُهُوتِيُّ: إِنِ اشْتَغَلَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ بِكَلَامٍ آخَرَ، أَوْ سَلَّمَ عَلَى الْمُشْتَرِي، ثُمَّ سَكَتَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ.

أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمُ الطَّلَبُ فَوْرًا، لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ سَكَتَ الشَّفِيعُ مَعَ عِلْمِهِ بِهَدْمٍ أَوْ بِنَاءٍ فِي الْأَرْضِ مِنْ قِبَلِ الْمُشْتَرِي، وَلَوْ لِإِصْلَاحٍ، أَوْ سَكَتَ بِلَا مَانِعٍ شَهْرَيْنِ، إِنْ حَضَرَ الْعَقْدُ تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ.

وَإِلاَّ فَتَسْقُطُ بِحُضُورِهِ سَاكِتًا بِلَا عُذْرٍ سَنَةً.

فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ وَهُوَ حَاضِرٌ فِي الْبَلَدِ سَاكِتٌ بِلَا مَانِعٍ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ.

د- السُّكُوتُ فِي الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ:

15- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْوَدِيعَةَ كَمَا تَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ صَرَاحَةً تَنْعَقِدُ كَذَلِكَ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ دَلَالَةً.فَإِذَا وَضَعَ رَجُلٌ مَالَهُ فِي دُكَّانٍ مَثَلًا، فَرَآهُ صَاحِبُ الدُّكَّانِ وَسَكَتَ، ثُمَّ تَرَكَ الرَّجُلُ ذَلِكَ الْمَالَ وَانْصَرَفَ صَارَ ذَلِكَ الْمَالُ عِنْدَ صَاحِبِ الدُّكَّانِ وَدِيعَةً، لِأَنَّ سُكُوتَ صَاحِبِ الدُّكَّانِ حِينَ وَضَعَ الْمَالَ يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ حِفْظِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا فَرَّطَ فِي حِفْظِهِ يَكُونُ ضَامِنًا كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الْأَمَانَاتِ.

أَمَّا السُّكُوتُ فِي الْعَارِيَّةِ فَلَا يُعْتَبَرُ رِضًا وَإِذْنًا مِنَ الْمُعِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَلَوْ طَلَبَ شَخْصٌ مِنْ آخَرَ إعَارَةَ شَيْءٍ، فَسَكَتَ صَاحِبُ ذَلِكَ الشَّيْءِ ثُمَّ أَخَذَهُ الْمُسْتَعِيرُ كَانَ غَاصِبًا.

وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَيْضًا حَيْثُ قَالُوا: الْأَصَحُّ فِي النَّاطِقِ اشْتِرَاطُ لَفْظٍ يُشْعِرُ بِالْإِذْنِ أَوْ بِطَلَبِهِ، كَأَعَرْتُكَ هَذَا وَنَحْوَهُ.وَفِي مُقَابِلِ الْأَصَحِّ لَا يُشْتَرَطُ اللَّفْظُ.

وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحَيْ: (وَدِيعَة، عَارِيَّةً).

هـ- الصُّلْحُ عَلَى السُّكُوتِ:

16- الصُّلْحُ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ، وَهُوَ انْتِقَالٌ عَنْ حَقٍّ أَوْ دَعْوَى بِعِوَضٍ لِرَفْعِ نِزَاعٍ، أَوْ خَوْفِ وُقُوعِهِ، كَمَا عَرَّفَهُ الْمَالِكِيَّةُ، أَوْ عَقْدٌ يَرْفَعُ النِّزَاعَ بِالتَّرَاضِي، كَمَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ.

وَقَدْ قَسَّمَهُ الْفُقَهَاءُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ، وَالصُّلْحُ عَنْ إِنْكَارٍ وَالصُّلْحُ عَنْ سُكُوتٍ، بِأَنْ يَسْكُتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ إِجَابَةِ دَعْوَى الْمُدَّعِي فَيُصَالِحَهُ بِدَفْعِ شَيْءٍ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ الْمُدَّعِي الدَّعْوَى.

وَحُكْمُ الصُّلْحِ عَلَى السُّكُوتِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ هُوَ حُكْمُ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ.

قَالَ الْبُهُوتِيُّ: إِنِ ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِهِ أَوْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، فَيُنْكِرُهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ يَسْكُتُ وَهُوَ يَجْهَلُهُ، ثُمَّ يُصَالِحُ عَلَى مَالٍ، يَصِحُّ الصُّلْحُ، وَيَكُونُ الْمَالُ الْمُصَالَحُ بِهِ بَيْعًا فِي حَقِّ الْمُدَّعِي وَإِبْرَاءً فِي حَقِّ الْمُنْكِرِ.

وَنَظِيرُهُ مَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ حَيْثُ نَصُّوا بِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ أَوِ السُّكُوتِ هُوَ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي مُعَاوَضَةٌ، وَفِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَلَاصٌ مِنَ الْيَمِينِ وَقَطْعٌ لِلْمُنَازَعَةِ.

أَمَّا الرَّاجِحُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَحُكْمُ السُّكُوتِ فِي الصُّلْحِ حُكْمُ الْإِقْرَارِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ وَتَجْرِي فِيهِ الصُّوَرُ الَّتِي تَجْرِي فِي الْإِقْرَارِ، مِنْ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ هِبَةٍ.

وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ: (صُلْح).

سُكُوتُ الْمَرْأَةِ عِنْدَ اسْتِئْذَانِهَا لِلنِّكَاحِ:

17- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ سُكُوتَ الْبِكْرِ عِنْدَ اسْتِئْذَانِهَا لِلنِّكَاحِ يُعْتَبَرُ رِضًا وَإِذْنًا، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «اسْتَأْمِرُوا النِّسَاءَ فِي أَبْضَاعِهِنَّ، قِيلَ: إِنَّ الْبِكْرَ تَسْتَحِي وَتَسْكُتُ، قَالَ: هُوَ إِذْنُهَا».وَفِي رِوَايَةٍ: «الْبِكْرُ رِضَاهَا صُمَاتُهَا».وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهَا إِنْ بَكَتْ بِغَيْرِ صَوْتٍ أَوْ ضَحِكَتْ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ سُكُوتِهَا.

لَكِنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَالُوا: سُكُوتُ الْبِكْرِ فِي النِّكَاحِ إِذْنٌ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ قَطْعًا، أَمَّا لِسَائِرِ الْعَصَبَةِ وَالْحَاكِمِ فَقَوْلَانِ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ إِذْنٌ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ لَا بُدَّ مِنَ الْكَلَامِ كَالثَّيِّبِ.

أَمَّا الثَّيِّبُ فَسُكُوتُهَا عِنْدَ الِاسْتِئْذَانِ فِي النِّكَاحِ لَا يُعْتَبَرُ إِذْنًا عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْإِذْنِ الصَّرِيحِ بِالْكَلَامِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي أَنَّ إِذْنَهَا الْكَلَامُ لِخَبَرِ: «الثَّيِّبُ تُعْرِبُ عَنْ نَفْسِهَا».ا هـ.وَلِأَنَّ السُّكُوتَ إِنَّمَا جُعِلَ إِذْنًا فِي الْبِكْرِ لِمَكَانِ الْحَيَاءِ الْمَانِعِ مِنَ النُّطْقِ الْمُخْتَصِّ بِالْأَبْكَارِ، لِأَنَّ الْحَيَاءَ يَكُونُ فِيهِنَّ أَكْثَر، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ الثَّيِّبُ، كَمَا قَالَ الْمُوصِلِيُّ.

وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (نِكَاح، وَاسْتِئْذَان).

سُكُوتُ الزَّوْجِ عِنْدَ وِلَادَةِ الْمَرْأَةِ:

18- ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي بَحْثِ اللِّعَانِ أَنَّهُ لَوْ نَفَى الْوَلَدَ فِي مُدَّةِ التَّهْنِئَةِ، أَوْ عِنْدَ شِرَاءِ آلَةِ الْوِلَادَةِ كَالْمَهْدِ وَنَحْوِهِ، صَحَّ نَفْيُهُ.أَمَّا بَعْدَ التَّهْنِئَةِ أَوْ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّتِهَا فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ دَلِيلٌ عَلَى رِضَاهُ وَإِقْرَارٌ عَلَى النَّسَبِ، فَلَا يَصِحُّ نَفْيُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ التَّهْنِئَةِ: فَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ سَبْعَةُ أَيَّامٍ، وَبَعْضُهُمْ قَدَّرَهَا بِمُدَّةِ النِّفَاسِ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ أَخَّرَ الزَّوْجُ نَفْيَ الْحَمْلِ يَوْمًا بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْوَضْعِ أَوِ الْحَمْلِ بِلَا عُذْرٍ، امْتَنَعَ لِعَانُهُ وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ.وَمِثْلُهُ مَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْأَظْهَرِ، حَيْثُ قَالُوا: يُشْتَرَطُ النَّفْيُ عَلَى الْفَوْرِ، فَلَوْ سَكَتَ مُدَّةً مَعَ إِمْكَانِ الرَّدِّ يُعْتَبَرُ سُكُوتُهُ رِضًا وَإِقْرَارًا، كَحَقِّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَخِيَارِ الشُّفْعَةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: مَنْ سَمِعَ إِنْسَانًا يُقِرُّ بِنَسَبٍ، وَسَكَتَ الْمُقَرُّ لَهُ جَازَ لِلسَّامِعِ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِهِ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ فِي النَّسَبِ إِقْرَارٌ، لِأَنَّ مَنْ بُشِّرَ بِوَلَدٍ فَسَكَتَ لَحِقَهُ كَمَا لَوْ كَانَ أَقَرَّ بِهِ.وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحَيْ: (لِعَان وَنَسَب).

19- هَذَا، وَقَدْ تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لِحُكْمِ السُّكُوتِ فِي مَسَائِلَ أُخْرَى، وَذَكَرُوا أَنَّ السُّكُوتَ فِيهَا وَأَمْثَالِهَا يُعْتَبَرُ رِضًا وَإِذْنًا، كَالْقَبُولِ بِالسُّكُوتِ فِي الْإِجَارَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْإِذْنِ بِالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ، وَسُكُوتِ الْمُحْرِمِ حِينَ حَلَقَ رَأْسَهُ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَسَائِلِ.فَقَدْ ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ السُّكُوتَ فِي الْإِجَارَةِ يُعَدُّ قَبُولًا وَرِضًا، فَإِذَا قَالَ صَاحِبُ الدَّارِ: اسْكُنْ بِكَذَا وَإِلاَّ فَاخْرُجْ، فَسَكَتَ وَسَكَنَ، كَانَ مُسْتَأْجَرًا بِالْمُسَمَّى بِسُكْنَاهُ وَسُكُوتِهِ.كَذَلِكَ لَوْ قَالَ صَاحِبُ الدَّارِ: اسْكُنْ بِمِائَةٍ، وَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ: ثَمَانِينَ، فَسَكَتَ الْمَالِكُ وَأَبْقَى الْمُسْتَأْجِرَ سَاكِنًا يَلْزَمُ ثَمَانُونَ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ مِنْ قِبَلِ الْمَالِكِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُعَدُّ قَبُولًا.

وَكَذَا لَوْ قَالَ الرَّاعِي لِلْمَالِكِ: لَا أَرْضَى بِمَا سَمَّيْتَ وَإِنَّمَا أَرْضَى بِكَذَا، فَسَكَتَ الْمَالِكُ فَرَعَى الرَّاعِي لَزِمَ الْمَالِكَ مَا سَمَّاهُ الرَّاعِي بِسُكُوتِ الْمَالِكِ.

وَقَالُوا: سُكُوتُ الْوَكِيلِ قَبُولٌ وَيَرْتَدُّ بِرَدِّهِ.وَسُكُوتُ الْبَائِعِ الَّذِي لَهُ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حِينَ رَأَى الْمُشْتَرِيَ قَبَضَ الْمَبِيعَ إِذْنٌ بِقَبْضِهِ.وَإِذَا رَأَى الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ يَبِيعُ الرَّهْنَ فَسَكَتَ يَكُونُ رِضًا مِنَ الْمُرْتَهِنِ، وَيَبْطُلُ الرَّهْنُ فِي الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَنَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَلَقَ الْحَلاَّقُ رَأْسَ مُحْرِمٍ وَهُوَ سَاكِتٌ فَلَمْ يَمْنَعْهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ إِذْنًا، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: الْأَصَحُّ أَنَّهُ كَمَا لَوْ حَلَقَ بِأَمْرِهِ فَتَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ.

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الْقِرَاءَةُ عَلَى الشَّيْخِ وَهُوَ سَاكِتٌ، فَإِنَّهَا تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ النُّطْقِ.وَاشْتَرَطَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنَّهُ لَوْ عَرَضَ مِنَ الْقَارِئِ تَصْحِيفٌ وَتَحْرِيفٌ لَرَدَّهُ الشَّيْخُ، فَسُكُوتُهُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ قِرَاءَتِهِ.وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي أَشْبَاهِهِ، وَالْكَمَالُ بْنُ الْهُمَامِ، وَابْنُ عَابِدِينَ وَالزَّرْكَشِيُّ فُرُوعًا أُخْرَى يَنْزِلُ فِيهَا السُّكُوتُ مَنْزِلَةَ النُّطْقِ وَالْإِذْنِ.

كَمَا ذَكَرُوا أَمْثِلَةً أُخْرَى لَا يَدُلُّ السُّكُوتُ فِيهَا عَلَى الرِّضَا وَالْإِذْنِ وَفْقًا لِقَاعِدَةِ: (لَا يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ) وَمِنْ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ:

لَوْ سَكَتَ عَنْ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْهُ فَلَا يَسْقُطُ ضَمَانُهُ.وَلَوْ سَكَتَ عَنْ إِتْلَافِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الدَّفْعِ لَمْ يَسْقُطْ ضَمَانُهُ.وَلَوْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَ كُفْءٍ فَسَكَتَ الْوَلِيُّ عَنْ مُطَالَبَةِ التَّفْرِيقِ لَا يُعَدُّ رِضًا مَا لَمْ تَلِدْ، وَكَذَا سُكُوتُ امْرَأَةِ الْعِنِّينِ لَيْسَ بِرِضًا وَلَوْ أَقَامَتْ مَعَهُ سِنِينَ.وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ خِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا وَفِي مَظَانِّهَا مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ

السُّكُوتُ فِي الدَّعَاوَى:

20- ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِذَا كُلِّفَ بِالْيَمِينِ فَنَكَلَ صَرَاحَةً، كَأَنْ قَالَ: لَا أَحْلِفُ، أَوْ حُكْمًا كَأَنْ سَكَتَ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَمِنْ غَيْرِ آفَةٍ (كَخَرَسٍ وَطَرَشٍ) يُعْتَبَرُ سُكُوتُهُ نُكُولًا يَحْكُمُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ.

وَإِذَا قَالَ: لَا أُقِرُّ وَلَا أُنْكِرُ، لَا يُسْتَحْلَفُ بَلْ يُحْبَسُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، وَكَذَا لَوْ لَزِمَ السُّكُوتَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْبَدَائِعِ أَنَّ الْأَشْبَهَ أَنَّ هَذَا السُّكُوتَ إِنْكَارٌ فَيُسْتَحْلَفُ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا سَكَتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ قَالَ: لَا أُخَاصِمُهُ، قَالَ لَهُ الْقَاضِي: إِمَّا خَاصَمْتَ وَإِمَّا أَحَلَفْتُ هَذَا الْمُدَّعِيَ عَلَى دَعْوَاهُ وَحَكَمْتُ لَهُ.فَإِنْ تَكَلَّمَ وَإِلاَّ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ بَعْدَ يَمِينِ الْمُدَّعِي.وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَشْهَبَ وَجَرَى بِهَا الْعَمَلُ: إِنْ قَالَ: لَا أُقِرُّ وَلَا أُنْكِرُ، لَمْ يَتْرُكْهُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ.فَإِنْ تَمَادَى فِي امْتِنَاعِهِ حَكَمَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَصَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى السُّكُوتِ عَنْ جَوَابِ الْمُدَّعِي لِغَيْرِ دَهْشَةٍ أَوْ غَبَاوَةٍ جُعِلَ حُكْمُهُ كَمُنْكِرٍ لِلْمُدَّعَى بِهِ نَاكِلٌ عَنِ الْيَمِينِ، وَحِينَئِذٍ فَتُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي بَعْدَ أَنْ يَقُولَ لَهُ الْقَاضِي: أَجِبْ عَنْ دَعْوَاهُ وَإِلاَّ جَعَلْتُكَ نَاكِلًا، فَإِنْ كَانَ سُكُوتُهُ لِدَهْشَةٍ أَوْ جَهَالَةٍ أَوْ غَبَاوَةٍ شَرَحَ لَهُ ثُمَّ حَكَمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ.وَسُكُوتُ الْأَخْرَسِ عَنِ الْإِشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ لِلْجَوَابِ كَسُكُوتِ النَّاطِقِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي اعْتِبَارِ سُكُوتِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ نُكُولًا رِوَايَتَانِ: فَقَدْ جَاءَ فِي الْمُغْنِي أَنَّهُ إِنْ سَكَتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ جَوَابِ الدَّعْوَى حَبَسَهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يُجِيبَ، وَلَا يَجْعَلُهُ بِذَلِكَ نَاكِلًا.ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ.

وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ قَوْلًا آخَرَ مُوَافِقًا لِمَا قَالَهُ الْبُهُوتِيُّ مِنْ أَنَّهُ إِنْ سَكَتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَمْ يُقِرَّ وَلَمْ يُنْكِرْ أَوْ قَالَ: لَا أُقِرُّ وَلَا أُنْكِرُ، أَوْ قَالَ: لَا أَعْلَمُ قَدْرَ حَقِّهِ: قَالَ لَهُ الْقَاضِي: احْلِفْ وَإِلاَّ جَعَلْتُكَ نَاكِلًا وَقَضَيْتُ عَلَيْكَ.وَإِنْ لَمْ يَحْلِفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: إِنْ حَلَفْتَ وَإِلاَّ قَضَيْتُ عَلَيْكَ بِالنُّكُولِ وَيُكَرِّرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَجَابَ وَإِلاَّ جَعَلَهُ نَاكِلًا وَحَكَمَ عَلَيْهِ.

وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي مُصْطَلَحِ: (قَضَاء).

السُّكُوتُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ:

تَعَرَّضَ الْأُصُولِيُّونَ لِحُكْمِ السُّكُوتِ فِي مَوْضِعَيْنِ: الْأَوَّلُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَنْ أَقْسَامِ الْبَيَانِ وَمِنْهَا بَيَانُ الضَّرُورَةِ، وَالثَّانِي عِنْدَ الْكَلَامِ عَنِ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ.وَفِيمَا يَلِي إِجْمَالُ مَا قَالُوا:

21- أَوَّلًا: مِنْ أَقْسَامِ الْبَيَانِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ بَيَانُ الضَّرُورَةِ وَهُوَ الْبَيَانُ الَّذِي يَقَعُ بِسَبَبِ الضَّرُورَةِ بِمَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ وَهُوَ السُّكُوتُ، فَيَقَعُ السُّكُوتُ فِيهِ مَقَامَ الْكَلَامِ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ:

(الْأَوَّلُ): مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمَنْطُوقِ مِثْلُ قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمِّهِ الثُّلُثُ} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ لِلْأَبِ، فَصَارَ بَيَانًا لِقَدْرِ نَصِيبِهِ بِدَلَالَةِ صَدْرِ الْكَلَامِ، لَا بِمَحْضِ السُّكُوتِ.وَنَظِيرُ ذَلِكَ الْمُضَارَبَةُ فَإِنَّ بَيَانَ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ وَالسُّكُوتَ عَنْ نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ صَحِيحٌ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْبَيَانِ.كَذَلِكَ بَيَانُ نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ وَالسُّكُوتُ عَنْ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ وَعَلَى هَذَا حُكْمُ الْمُزَارَعَةِ.

(الثَّانِي): مَا يَثْبُتُ بِدَلَالَةِ حَالِ الْمُتَكَلِّمِ كَسُكُوتِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ أَمْرٍ يُعَايِنُهُ عَنِ التَّغْيِيرِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ حَقًّا، مِثْلُ مَا شَاهَدَ مِنْ بِيَاعَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ كَانَ النَّاسُ يَتَعَامَلُونَهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَمَآكِلَ وَمَشَارِبَ وَمَلَابِسَ كَانُوا يَسْتَدِيمُونَ مُبَاشَرَتَهَا، فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُنْكِرْهَا عَلَيْهِمْ، فَدَلَّ أَنَّ جَمِيعَهَا مُبَاحٌ فِي الشَّرْعِ، إِذْ لَا يَجُوزُ مِنَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُقِرَّ النَّاسَ عَلَى مُنْكَرٍ مَحْظُورٍ، فَكَانَ سُكُوتُهُ بَيَانًا.وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ سُكُوتُ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ فِي النِّكَاحِ يُجْعَلُ بَيَانًا لِحَالِهَا الَّتِي تُوجِبُ ذَلِكَ، وَهُوَ الْحَيَاءُ، فَجُعِلَ سُكُوتُهَا دَلِيلًا عَلَى الْإِجَازَةِ وَالرِّضَا.وَكَذَلِكَ النُّكُولُ جُعِلَ بَيَانًا لِحَالِ النَّاكِلِ، وَهُوَ امْتِنَاعُهُ عَنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالْمُدَّعَى.

(الثَّالِثُ): مَا جُعِلَ بَيَانًا لِضَرُورَةِ دَفْعِ الْغُرُورِ، كَسُكُوتِ الْمَوْلَى حِينَ يَرَى عَبْدَهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي، فَجُعِلَ هَذَا السُّكُوتُ إِذْنًا؛ دَفْعًا لِلْغُرُورِ عَنِ النَّاسِ.

وَكَذَا سُكُوتُ الشَّفِيعِ، جُعِلَ رَدًّا لِهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ دَفْعُ الْغُرُورِ عَنِ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ سُكُوتُ الشَّفِيعِ عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ إِسْقَاطًا لَهَا فَإِمَّا أَنْ يَمْتَنِعَ الْمُشْتَرِي عَنِ التَّصَرُّفِ أَوْ تَصَرَّفَ ثُمَّ يَنْقُضُ الشَّفِيعُ عَلَيْهِ تَصَرُّفَهُ، وَكِلَاهُمَا ضَرَرٌ عَلَى الْمُشْتَرِي.

(الرَّابِعُ): مَا ثَبَتَ لِضَرُورَةِ الْكَلَامِ، كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَدِرْهَمٌ، أَوْ أَلْفٌ وَدِينَارٌ أَوْ مِائَةٌ وَقَفِيزُ حِنْطَةٍ، فَإِنَّ الْعَطْفَ جُعِلَ بَيَانًا لِلْأَوَّلِ، فَجُعِلَ الْأَوَّلُ مِنْ جِنْسِ الْمَعْطُوفِ.

ثَانِيًا: الْإِجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ:

22- الْإِجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ هُوَ أَنْ يَقُولَ بَعْضُ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ بِقَوْلٍ وَيَنْتَشِرَ ذَلِكَ فِي الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ فَيَسْكُتُونَ، وَلَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ تَصْرِيحٌ بِالْقَوْلِ وَلَا الْإِنْكَارِ.

وَشُرُوطُ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ الَّذِي اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ فِي حُكْمِهِ هِيَ:

(1) أَنْ يَكُونَ السُّكُوتُ مُجَرَّدًا عَنْ أَمَارَةِ الرِّضَا وَالسَّخَطِ، فَإِذَا كَانَ السُّكُوتُ مُقْتَرِنًا بِالرِّضَا فَإِنَّهُ إِجْمَاعٌ قَطْعًا، أَوْ بِالسَّخَطِ فَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ قَطْعًا.

(2) أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ قَدْ بَلَغَتْ كُلَّ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ.

(3) أَنْ يَكُونَ قَدْ مَضَى عَلَى الْحُكْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ زَمَنُ مُهْلَةِ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ عَادَةً، وَلَا تَقِيَّةَ هُنَاكَ لِخَوْفٍ أَوْ مَهَابَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا.

(4) أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ وَلَا تَكُونَ قَطْعِيَّةً، وَإِلاَّ فَلَا يَكُونُ مِنْ مَحَلِّ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ.

وَاخْتَلَفُوا فِي حُجِّيَّتِهِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَأَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ قَالُوا: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ قَطْعِيٌّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ شُرِطَ قَوْلُ كُلٍّ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ لَمْ يَتَحَقَّقْ إِجْمَاعٌ أَصْلًا، لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي كُلِّ عَصْرٍ إِفْتَاءُ الْأَكَابِرِ وَسُكُوتُ الْأَصَاغِرِ تَسْلِيمًا.قَالَ الْجَلَالُ الْمَحَلِّيُّ: سُكُوتُ الْعُلَمَاءِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ يُظَنُّ مِنْهُ الْمُوَافَقَةُ عَادَةً.

وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، أَخْذًا مِنْ قَاعِدَةِ: (لَا يُنْسَبُ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ) وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ السُّكُوتُ لِغَيْرِ الْمُوَافَقَةِ، كَالْخَوْفِ وَالْمَهَابَةِ وَالتَّرَدُّدِ فِي الْمَسْأَلَةِ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ قَطْعِيٌّ فِي الْفُتْيَا فَقَطْ أَمَّا الْقَضَاءُ فَلَا إِجْمَاعَ فِيهِ أَصْلًا.

وَقِيلَ: إِنَّهُ إِجْمَاعٌ قَطْعِيٌّ إِذَا كَثُرَ السُّكُوتُ وَتَكَرَّرَ فِيمَا يَعُمُّ فِيهِ الْبَلْوَى.وَذَهَبَ الْآمِدِيُّ وَالْكَرْخِيُّ إِلَى أَنَّهُ إِجْمَاعٌ ظَنِّيٌّ.

قَالَ ابْنُ السُّبْكِيِّ بَعْدَمَا نَقَلَ أَقْوَالَ وَآرَاءَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ حُجَّةٌ مُطْلَقًا.

وَتَفْصِيلُ الْمَوْضُوعِ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ.

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


25-موسوعة الفقه الكويتية (علم)

عِلْمٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْعِلْمُ فِي اللُّغَةِ: يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْرِفَةِ وَالشُّعُورِ وَالْإِتْقَانِ وَالْيَقِينِ، يُقَالُ: عَلِمْتُ الشَّيْءَ أَعْلَمُهُ عِلْمًا عَرَفْتُهُ، وَيُقَالُ: مَا عَلِمْتُ بِخَبَرِ قُدُومِهِ أَيْ: مَا شَعَرْتُ، وَيُقَالُ: عَلِمَ الْأَمْرَ وَتَعَلَّمَهُ: أَتْقَنَهُ.

وَاصْطِلَاحًا: هُوَ حُصُولُ صُورَةِ الشَّيْءِ فِي الْعَقْلِ.

وَاخْتَارَ الْعَضُدُ الْإِيجِيُّ بِأَنَّهُ: صِفَةٌ تُوجِبُ لِمَحَلِّهَا تَمْيِيزًا بَيْنَ الْمَعَانِي لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْكُلِّيَّاتِ: وَالْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ لِلَفْظِ الْعِلْمِ هُوَ الْإِدْرَاكُ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى مُتَعَلَّقٌ وَهُوَ الْمَعْلُومُ، وَلَهُ تَابِعٌ فِي الْحُصُولِ يَكُونُ وَسِيلَةً إِلَيْهِ فِي الْبَقَاءِ وَهُوَ الْمَلَكَةُ، فَأُطْلِقَ لَفْظُ الْعِلْمِ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا؛ إِمَّا حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً أَوِ اصْطِلَاحِيَّةً أَوْ مَجَازًا مَشْهُورًا.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْجَهْلُ:

2- الْجَهْلُ لُغَةً: نَقِيضُ الْعِلْمِ، وَيُطْلَقُ عَلَى السَّفَهِ وَالْخَطَأِ، يُقَالُ: جَهِلَ عَلَى غَيْرِهِ سَفِهَ وَأَخْطَأَ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْإِضَاعَةِ، يُقَالُ: جَهِلَ الْحَقَّ أَضَاعَهُ، فَهُوَ جَاهِلٌ وَجَهُولٌ، وَتَجَاهَلَ: أَظْهَرَ الْجَهْلَ.

وَالْجَهْلُ اصْطِلَاحًا: هُوَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ.

فَالْجَهْلُ ضِدُّ الْعِلْمِ.

ب- الْمَعْرِفَةُ:

3- الْمَعْرِفَةُ لُغَةً: اسْمٌ مِنْ مَصْدَرِ عَرَفَ، يُقَالُ: عَرَفْتُهُ عِرْفَةً بِالْكَسْرِ وَعِرْفَانًا: عَلِمْتُهُ بِحَاسَّةٍ مِنَ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ.

وَاصْطِلَاحًا: إِدْرَاكُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ.

قَالَ صَاحِبُ التَّعْرِيفَاتِ: وَهِيَ مَسْبُوقَةٌ بِجَهْلٍ بِخِلَافِ الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى الْحَقُّ تَعَالَى بِالْعَالِمِ دُونَ الْعَارِفِ.

أَقْسَامُ الْعِلْمِ:

4- يَنْقَسِمُ الْعِلْمُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ إِلَى قَدِيمٍ وَحَادِثٍ.

فَالْقَدِيمُ: هُوَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْعِلْمُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ الْأَزَلِيَّةِ، وَهِيَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ تَنْكَشِفُ الْمَعْلُومَاتُ عِنْدَ تَعَلُّقِهَا بِهَا.

وَالْعِلْمُ الْحَادِثُ: هُوَ عِلْمُ الْعِبَادِ، وَهُوَ نَوْعَانِ: ضَرُورِيٌّ، وَاكْتِسَابِيٌّ.

فَالضَّرُورِيُّ مَا يَحْصُلُ فِي الْعَالَمِ بِإِحْدَاثِ اللَّهِ وَتَخْلِيقِهِ مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ وَكَسْبٍ مِنْ جِهَتِهِ.

وَعَرَّفَهُ الْجُرْجَانِيِّ بِأَنَّهُ: مَا لَا يَكُونُ تَحْصِيلُهُ مَقْدُورًا لِلْمَخْلُوقِ، وَيُقَابِلُهُ الْعِلْمُ الِاكْتِسَابِيُّ وَهُوَ الْعِلْمُ الْمَقْدُورُ تَحْصِيلُهُ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

5- يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ تَبَعًا لِفَائِدَةِ الْعِلْمِ وَالْحَاجَةِ إِلَيْهِ، فَمِنْهُ مَا تَعَلُّمُهُ فَرْضٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ، وَالْفَرْضُ مِنْهُ مَا هُوَ فَرْضُ عَيْنٍ، وَمِنْهُ مَا هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ.

6- فَمِنِ الْعُلُومِ الَّتِي تَعَلُّمُهَا فَرْضُ عَيْنٍ تَعَلُّمُ مَا يَحْتَاجُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ عِلْمِ الْفِقْهِ وَالْعَقِيدَةِ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْعَلاَّمِيِّ: مِنْ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ تَعَلُّمُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعَبْدُ فِي إِقَامَةِ دِينِهِ وَإِخْلَاصِ عَمَلِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَمُعَاشَرَةِ عِبَادِهِ، وَفَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ وَمُكَلَّفَةٍ بَعْدَ تَعَلُّمِهِ عِلْمَ الدِّينِ وَالْهِدَايَةِ تَعَلُّمُ عِلْمِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَعِلْمِ الزَّكَاةِ لِمَنْ لَهُ نِصَابٌ، وَالْحَجِّ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ، وَالْبُيُوعِ عَلَى التُّجَّارِ لِيَحْتَرِزُوا عَنِ الشُّبُهَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ فِي سَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ، وَكَذَا أَهْلُ الْحِرَفِ وَكُلُّ مَنِ اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ يُفْرَضُ عَلَيْهِ عِلْمُهُ وَحُكْمُهُ لِيَمْتَنِعَ عَنِ الْحَرَامِ فِيهِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مِنْ أَقْسَامِ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ مَا هُوَ فَرْضُ عَيْنٍ، وَهُوَ تَعَلُّمُ الْمُكَلَّفِ مَا لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ الَّذِي تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ إِلاَّ بِهِ، كَكَيْفِيَّةِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهِمَا، وَأَمَّا أَصْلُ وَاجِبِ الْإِسْلَامِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقَائِدِ فَيَكْفِي فِيهِ التَّصْدِيقُ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَاعْتِقَادُهُ اعْتِقَادًا جَازِمًا سَلِيمًا مِنْ كُلِّ شَكٍّ، وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ حَصَلَ لَهُ هَذَا تَعَلُّمُ أَدِلَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي أَطْبَقَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْفُقَهَاءُ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يُطَالِبْ أَحَدًا بِشَيْءٍ سِوَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ تَشَكَّكَ فِي شَيْءٍ مِنْ أُصُولِ الْعَقَائِدِ مِمَّا لَا بُدَّ مِنَ اعْتِقَادِهِ وَلَمْ يَزُلْ شَكُّهُ إِلاَّ بِتَعَلُّمِ دَلِيلٍ مِنْ أَدِلَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَجَبَ تَعَلُّمُ ذَلِكَ لِإِزَالَةِ الشَّكِّ وَتَحْصِيلِ ذَلِكَ الْأَصْلِ.

وَلَا يَلْزَمُ الْإِنْسَانَ تَعَلُّمُ كَيْفِيَّةِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَشِبْهِهَا إِلاَّ بَعْدَ وُجُوبِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَأَمَّا الْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ وَشِبْهِهِمَا- مِمَّا لَا يَجِبُ أَصْلُهُ- فَيَحْرُمُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ إِلاَّ بَعْدَ مَعْرِفَةِ شَرْطِهِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: عِلْمُ الْقَلْبِ هُوَ مَعْرِفَةُ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ كَالْحَسَدِ، وَالْعُجْبِ، وَشِبْهِهِمَا، فَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ إِلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ حُدُودِهَا وَأَسْبَابِهَا وَطِبِّهَا وَعِلَاجِهَا فَرْضُ عَيْنٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنْ رُزِقَ الْمُكَلَّفُ قَلْبًا سَلِيمًا مِنْ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ الْمُحَرَّمَةِ كَفَاهُ ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَعَلُّمُ دَوَائِهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْلَمْ نَظَرَ: إِنْ تَمَكَّنَ مِنْ تَطْهِيرِ قَلْبِهِ مِنْ ذَلِكَ بِلَا تَعَلُّمٍ لَزِمَهُ التَّطْهِيرُ، كَمَا يَلْزَمُهُ تَرْكُ الزِّنَا وَنَحْوِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمِ أَدِلَّةِ التَّرْكِ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ التَّرْكِ إِلاَّ بِتَعَلُّمِ الْعِلْمِ الْمَذْكُورِ تَعَيَّنَ حِينَئِذٍ.

7- وَأَمَّا الْعُلُومُ الَّتِي هِيَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فَهِيَ الْعُلُومُ الَّتِي لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْهَا فِي إِقَامَةِ دِينِهِمْ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، كَحِفْظِ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ، وَعُلُومِهِمَا وَالْأُصُولِ، وَالْفِقْهِ، وَاللُّغَةِ وَالتَّصْرِيفِ، وَمَعْرِفَةِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالْخِلَافِ.

وَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ أَيْضًا: الْعُلُومُ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي قِوَامِ أَمْرِ الدُّنْيَا كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَالصَّنَائِعِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ قِيَامِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا كَالْخِيَاطَةِ وَالْفِلَاحَةِ وَنَحْوِهِمَا.

8- وَالْعُلُومُ الْمَنْدُوبَةُ هِيَ التَّوَسُّعُ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَآلَاتِهَا، وَالِاطِّلَاعُ عَلَى غَوَامِضِهَا

9- وَأَمَّا الْعُلُومُ الْمُحَرَّمَةُ فَمِنْهَا: الشَّعْوَذَةُ، وَهِيَ: خِفَّةٌ فِي الْيَدِ كَالسِّحْرِ تَرَى الشَّيْءَ بِغَيْرِ مَا عَلَيْهِ أَصْلُهُ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَأَفْتَى ابْنُ حَجَرٍ فِي أَهْلِ الْحِلَقِ فِي الطُّرُقَاتِ الَّذِينَ لَهُمْ أَشْيَاءُ غَرِيبَةٌ كَقَطْعِ رَأْسِ إِنْسَانٍ وَإِعَادَتِهِ وَجَعْلِ نَحْوِ دَرَاهِمَ مِنَ التُّرَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ فِي مَعْنَى السَّحَرَةِ إِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْهُمْ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ ذَلِكَ، وَلَا لِأَحَدٍ أَنْ يَقِفَ عَلَيْهِمْ.

وَمِنَ الْعُلُومِ الْمُحَرَّمَةِ: الْكِهَانَةُ وَالسِّحْرُ وَالرَّمْلُ وَبَعْضُ أَنْوَاعِ التَّنْجِيمِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.

وَأَمَّا عِلْمُ الْفَلْسَفَةِ فَيَرَى ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهُ لَفْظٌ يُونَانِيٌّ وَتَعْرِيبُهُ الْحِكَمُ الْمُمَوَّهَةُ أَيْ: مُزَيَّنَةُ الظَّاهِرِ فَاسِدَةُ الْبَاطِنِ، كَالْقَوْلِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُكَفِّرَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ.

وَذَكَرَ فِي الْإِحْيَاءِ أَنَّهَا لَيْسَتْ عِلْمًا بِرَأْسِهَا بَلْ هِيَ أَرْبَعَةُ أَجْزَاءٍ.

أَحَدُهَا: الْهَنْدَسَةُ وَالْحِسَابُ وَهُمَا مُبَاحَانِ.

وَالثَّانِي: الْمَنْطِقُ وَهُوَ بَحْثٌ مِنْ وَجْهِ الدَّلِيلِ وَشُرُوطِهِ وَوَجْهِ الْحَدِّ وَشُرُوطِهِ وَهُمَا دَاخِلَانِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: مَنْطِقُ الْإِسْلَامِيِّينَ الَّذِي مُقَدِّمَاتُهُ قَوَاعِدُ إِسْلَامِيَّةٌ فَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِحُرْمَتِهِ، بَلْ سَمَّاهُ الْغَزَالِيُّ مِعْيَارَ الْعُلُومِ، وَقَدْ أَلَّفَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ.

وَالثَّالِثُ: الْإِلَهِيَّاتُ، وَهُوَ بَحْثٌ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، انْفَرَدُوا فِيهِ بِمَذَاهِبَ بَعْضُهَا كُفْرٌ وَبَعْضُهَا بِدْعَةٌ.

الرَّابِعُ: الطَّبِيعِيَّاتُ، وَبَعْضُهَا مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ، وَبَعْضُهَا بَحْثٌ عَنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ وَخَوَاصِّهَا وَكَيْفِيَّةِ اسْتِحَالَتِهَا وَتَغَيُّرِهَا.

وَأَمَّا عِلْمُ الْمُوسِيقَى: فَهُوَ عِلْمٌ رِيَاضِيٌّ يُعْرَفُ مِنْهُ أَحْوَالُ النَّغَمِ وَالْإِيقَاعَاتِ، وَكَيْفِيَّةُ تَأْلِيفِ اللُّحُونِ، وَإِيجَادِ الْآلَاتِ.

وَلِلْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ تَعَلُّمِهِ أَقْوَالٌ تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (اسْتِمَاع- غِنَاء- مَعَازِف)

10- وَأَمَّا الْعُلُومُ الْمَكْرُوهَةُ فَهِيَ أَشْعَارُ الْمُوَلَّدِينَ مِنَ الْغَزَلِ وَالْبَطَالَةِ.

قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: الْمَكْرُوهُ مِنْهُ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ وَجَعَلَهُ صِنَاعَةً لَهُ حَتَّى غَلَبَ عَلَيْهِ وَأَشْغَلَهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَبِهِ فُسِّرَ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» فَالْيَسِيرُ مِنْ ذَلِكَ لَا بَأْسَ بِهِ إِذَا قَصَدَ بِهِ إِظْهَارَ النِّكَاتِ وَاللِّطَافَاتِ، وَالتَّشَابِيهِ الْفَائِقَةِ، وَالْمَعَانِي الرَّائِقَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي وَصْفِ الْخُدُودِ وَالْقُدُودِ، أَمَّا الزَّهْرِيَّاتُ الْمُجَرَّدَةُ عَنْ ذَلِكَ الْمُتَضَمِّنَةُ وَصْفَ الرَّيَاحِينِ وَالْأَزْهَارِ وَالْمِيَاهِ فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ.

11- وَالْعُلُومُ الْمُبَاحَةُ كَأَشْعَارِ الْمُوَلَّدِينَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا سُخْفٌ، وَلَا شَيْءَ مِمَّا يُكْرَهُ، وَلَا مَا يُنَشِّطُ إِلَى الشَّرِّ، وَلَا مَا يُثَبِّطُ عَنِ الْخَيْرِ، وَلَا مَا يَحُثُّ عَلَى خَيْرٍ أَوْ يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَيْهِ

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


26-موسوعة الفقه الكويتية (فداء)

فِدَاء

التَّعْرِيفُ:

1- الْفِدَاءُ- بِكَسْرِ الْفَاءِ وَالْمَدِّ، وَبِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ مَعَ الْقَصْرِ- فِي اللُّغَةِ: فَكَاكُ الْأَسِيرِ، يُقَالُ: فَدَاهُ يَفْدِيهِ، وَفَادَى الْأَسِيرَ: اسْتَنْقَذَهُ مِنَ الْأَسْرِ، وَفَدَتْ وَافْتَدَتْ وَفَادَتِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْ زَوْجِهَا: بَذَلَتْ لَهُ مَالًا لِيُطَلِّقَهَا، وَقَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ نَقْلًا عَنِ الْوَزِيرِ بْنِ الْمَعَرِّيِّ: يُقَالُ: فَدَى: إِذَا أَعْطَى مَالًا وَأَخَذَ رَجُلًا، وَأَفْدَى: إِذَا أَعْطَى رَجُلًا وَأَخَذَ مَالًا، وَفَادَى: إِذَا أَعْطَى رَجُلًا وَأَخَذَ رَجُلًا، وَالْفِدَاءُ وَالْفِدْيَةُ وَالْفَدَى كُلُّهُ بِمَعْنًى، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْفِدْيَةُ اسْمٌ لِلْمَالِ الَّذِي يُفْتَدَى بِهِ الْأَسِيرُ، وَنَحْوُهُ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ) الْفِدْيَةُ:

2- الْفِدْيَةُ: مَا يَقِي بِهِ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ مِنْ مَالٍ يَبْذُلُهُ فِي عِبَادَةٍ قَصَّرَ فِيهَا، كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَكَفَّارَةِ الصَّوْمِ، نَحْوُ قوله تعالى {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}.

وَالْفِدْيَةُ أَعَمُّ مِنَ الْفِدَاءِ

ب- الْفَكَاكُ:

3- الْفَكَاكُ: - بِالْفَتْحِ وَقَدْ يُكْسَرُ- مِنْ فَكَكْتُ الشَّيْءَ فَانْفَكَّ.وَفَكَّ الشَّيْءَ: خَلَّصَهُ، يُقَالُ: فَكَّ الرَّهْنَ يَفُكُّهُ فَكًّا، وَالْأَسِيرَ: خَلَّصَهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَطْلَقْتَهُ فَقَدْ فَكَكْتَهُ.

وَبَيْنَ الْفِدَاءِ وَالْفَكَاكِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَجْهِيٌّ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْفِدَاءِ:

فِدَاءُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ:

4- الْأَصْلُ أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ مُسْلِمٌ فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ أَسِيرًا لَزِمَ الْمُسْلِمِينَ النُّهُوضُ لِتَخْلِيصِهِ مِنْ يَدِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلُوا دَارَنَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وُجُوبَ عَيْنٍ النُّهُوضُ لِدَفْعِ الْمُشْرِكِينَ إِذَا دَخَلُوا بَلَدًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَحُرْمَةُ الْمُسْلِمِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الدَّارِ، هَذَا إِنْ رُجِيَ إِمْكَانُ تَخْلِيصِهِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ تَخْلِيصُهُ بِالْقِتَالِ وَجَبَ فِدَاؤُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لِمَا رَوَى سَعِيدٌ- رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي فَيْئِهِمْ أَنْ يُفَادُوا أَسِيرَهُمْ، وَيُؤَدُّوا عَنْ غَارِمِهِمْ» وَلِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ مَوْضُوعٌ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا مِنْ أَهَمِّهَا، فَإِنْ تَعَذَّرَ فِدَاؤُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، بِأَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَالٌ، أَوْ تَعَذَّرَ الْوُصُولُ إِلَيْهِ، فَمِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى قَدْرِ وُسْعِهِ، وَيَتَوَلَّى الْإِمَامُ جِبَايَتَهُ، وَالْأَسِيرُ كَأَحَدِهِمْ، وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، لِحَدِيثِ: «أَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَعُودُوا الْمَرِيضَ وَفُكُّوا الْعَانِيَ».

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا اضْطُرِرْنَا لِبَذْلِ مَالٍ لِفِدَاءِ أَسْرَى يُعَذِّبُونَهُمْ أَوْ لِإِحَاطَتِهِمْ بِنَا، وَخِفْنَا اسْتِئْصَالَهُمْ لَنَا وَجَبَ بَذْلُهُ، قَالَ الشُّبْرَامِلْسِيُّ: يُبْذَلُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إِنْ وُجِدَ فِيهِ، وَإِلاَّ فَمِنْ مَيَاسِيرِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَأْسُورِ مَالٌ، وَإِلاَّ قُدِّمَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَقَالُوا يُنْدَبُ فَكُّ الْأَسْرَى غَيْرِ الْمُعَذَّبِينَ إِذَا أُمِنَ قَتْلُهُمْ.فَإِنْ لَمْ يَفْدِ الْإِمَامُ وَالْمُسْلِمُونَ أَثِمُوا جَمِيعًا، لِأَنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ الَّتِي تَسْقُطُ بِقِيَامِ الْبَعْضِ بِهَا، وَعَلَى الْأَسِيرِ فِي هَذَا الْحَالِ أَنْ يَفُكَّ نَفْسَهُ مِنْ مَالِهِ، وَإِذَا افْتَدَاهُ مُسْلِمٌ بِأَمْرِ الْأَسِيرِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا افْتَدَاهُ بِهِ قَلِيلًا كَانَ أَمْ كَثِيرًا.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (أَسْرَى ف 56- 61).

فِدَاءُ أَسْرَى الْكُفَّارِ:

5- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْأَسْرَى الرِّجَالَ الْأَحْرَارَ الْعُقَلَاءَ مِنَ الْكُفَّارِ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَخْذُ الْفِدْيَةِ بِالْمَالِ عَنْهُمْ، إِذَا رَأَى فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً، لقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً}.

أَمَّا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ مِنَ الْكُفَّارِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِدَاؤُهُمْ بِالْمَالِ، لِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ رَقِيقًا بِالسَّبْيِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ فِدَاءُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ بِالْمَالِ.

وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِدَاءُ الْأَسْرَى.وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ: لَا بَأْسَ بِالْفِدَاءِ إِذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ اسْتِدْلَالًا بِأَسْرَى بَدْرٍ.

فِدَاءُ الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ، بِآلَاتِ الْحَرْبِ، وَالْكُرَاعِ:

6- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ فِدَاءِ الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ بِسِلَاحٍ نَدْفَعُهُ لِلْعَدُوِّ.

فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي أَصَحِّ وَجْهَيْنِ عِنْدَهُمْ: يَجُوزُ ذَلِكَ.

وَفِي جَوَازِهِ وَعَدَمِ جَوَازِهِ قَوْلَانِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لِابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ: فَالْمَنْعُ لِابْنِ الْقَاسِمِ، وَالْجَوَازُ لِأَشْهَب، مَا لَمْ يَكُنِ الْخَيْلُ وَالسِّلَاحُ أَمْرًا كَثِيرًا يَكُونُ لَهُمْ بِهِ الْقُدْرَةُ الظَّاهِرَةُ.

وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا رَأْيَانِ.

وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ:

وَلَا يَجُوزُ رَدُّ أَسْلِحَتِهِمُ الَّتِي اسْتَوْلَيْنَا عَلَيْهَا بِمَالٍ يَبْذُلُونَهُ لَنَا، لِأَنَّا لَا نَبِيعُهُمْ سِلَاحًا، لَكِنَّهُ يَجُوزُ فِي الْأَوْجَهِ عِنْدَهُمْ مُفَادَاةُ أَسْرَانَا بِسِلَاحِهِمُ الَّذِي غَنِمْنَاهُ مِنْهُمْ.

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْإِمَامِ فِدَاءُ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ بِخَمْرٍ وَخِنْزِيرٍ، وَطَرِيقُ ذَلِكَ أَنْ يَأْمُرَ الْإِمَامُ أَهْلَ الذِّمَّةِ بِدَفْعِ ذَلِكَ لِلْعَدُوِّ، وَيُحَاسِبَهُمْ بِقِيمَةِ ذَلِكَ مِمَّا عَلَيْهِمْ مِنَ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ جَازَ شِرَاءُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لِافْتِدَاءِ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ لِلضَّرُورَةِ، وَقَالُوا: وَمَحَلُّ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَرْضَوْا إِلاَّ بِذَلِكَ، أَمَّا إِذَا رَضُوا بِغَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ الْفِدَاءُ بِهِمَا.

فِدَاءُ أَسْرَى الْعَدُوِّ بِأَسْرَى مُسْلِمِينَ:

7- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ فِدَاءَ أَسْرَى الْمُشْرِكِينَ بِأَسْرَى مُسْلِمِينَ أَوْ ذِمِّيِّينَ، وَلَوْ وَاحِدًا فِي مُقَابِلِ جَمْعٍ مِنْ أَسْرَاهُمْ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: رِجَالًا، أَوْ نِسَاءً، أَوْ خَنَاثَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ، إِنْ رَأَى الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ.لقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّافِدَاءً}.وَلِمَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ- رضي الله عنه-، «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَدَى رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ بِرَجُلَيْنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي بَنِي عَقِيلٍ، وَصَاحِبَ الْعَضْبَاءِ بِرَجُلَيْنِ».

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْهُ: لَا مُفَادَاةَ بِالْأَسْرَى، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَعُونَةً لِلْكُفْرِ، لِأَنَّ أَسْرَاهُمْ يَعُودُونَ حَرْبًا عَلَيْنَا، وَدَفْعُ شَرِّ حِرَابَتِهِمْ خَيْرٌ مِنَ اسْتِنْقَاذِ الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ، لِأَنَّهُ إِذَا بَقِيَ فِي أَيْدِيهِمْ كَانَ ابْتِلَاءً فِي حَقِّهِ غَيْرَ مُضَافٍ إِلَيْنَا، وَالْإِعَانَةُ بِدَفْعِ أَسِرْهُمْ إِلَيْهِمْ مُضَافٌ إِلَيْنَا، وَهُوَ مِنْ بَابِ تَحَمُّلِ الضَّرَرِ الْخَاصِّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}.وَفِي الْمُفَادَاةِ تَرْكُ الْقَتْلِ وَهُوَ فَرْضٌ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ إِقَامَتِهِ بِحَالٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِجَوَازِ ذَلِكَ.وَجَاءَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ: وَهِيَ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: أَنَّ تَخْلِيصَ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ وَاجِبٌ وَلَا يُتَوَصَّلُ إِلَى ذَلِكَ إِلاَّ بِطَرِيقِ الْمُفَادَاةِ وَلَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ تَرْكِ قَتْلِ أَسَارَى الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ جَائِزٌ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ تَخْلِيصَ الْمُسْلِمِ أَوْلَى مِنْ قَتْلِ الْكَافِرِ وَمِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ عَظِيمَةٌ.

وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (أَسْرَى ف 25)

8- وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ مُفَادَاةِ الْأَسْرَى مِنْ صِبْيَانِ الْمُشْرِكِينَ بِمَالٍ أَوْ بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ.وَوَجَّهَ الْحَنَابِلَةُ عَدَمَ الرَّدِّ بِأَنَّ الصَّبِيَّ يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ سَابِيهِ، فَلَا يَجُوزُ رَدُّهُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ.وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ ذَلِكَ بِمَا إِذَا أُسِرَ الصِّبْيَانُ وَحْدَهُمْ بِدُونِ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ وَأُخْرِجُوا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ يَصِيرُونَ مُسْلِمِينَ تَبَعًا لِلدَّارِ، فَلَا يَجُوزُ رَدُّهُمْ لِدَارِ الْكُفْرِ لِذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّ ابْنَ عَابِدِينَ قَالَ: وَلَعَلَّ الْمَنْعَ فِيمَا إِذَا أُخِذَ الْبَدَلُ مَالًا وَإِلاَّ فَلَا.

فِدَاءُ أَسْرَى الْمُشْرِكِينَ إِذَا أَسْلَمُوا:

9- قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنْ أَسْلَمَ أَسْرَى الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ أَنْ يُفَادَى بِهِمْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ، لِأَنَّهُمْ صَارُوا كَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَلَا يَجُوزُ تَعْرِيضُهُمْ لِلْفِتْنَةِ بِطَرِيقِ الْمُفَادَاةِ، إِلاَّ إِذَا أُمِنَ عَلَى إِسْلَامِهِمْ وَطَابَتْ أَنْفُسُهُمْ بِذَلِكَ. وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْإِمَامِ مُفَادَاتُهُمْ بِالْأَسْرَى، وَبِالْمَالِ إِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، إِذَا كَانَ الْأَسِيرُ لَهُ ثَمَّ عَشِيرَةٌ يَأْمَنُ مَعَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَدِينِهِ، وَإِلاَّ فَلَا يَجُوزُ، لِحُرْمَةِ الْإِقَامَةِ بِدَارِ الْحَرْبِ عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ عَشِيرَةٌ تَمْنَعُ عَنْهُ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَسْلَمَ الْأَسِيرُ صَارَ رَقِيقًا كَالْمَرْأَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَادَى إِلاَّ بِإِذْنِ الْغَانِمِينَ، لِأَنَّهُ صَارَ مَالًا لَهُمْ، لِأَنَّهُ أَسِيرٌ يَحْرُمُ قَتْلُهُ فَصَارَ رَقِيقًا كَالْمَرْأَةِ، وَقِيلَ: يَحْرُمُ الْقَتْلُ، وَيُخَيَّرُ فِيهِمُ الْأَسِيرُ بَيْنَ رِقٍّ وَمَنٍّ وَفِدَاءٍ.

وَيَحْرُمُ رَدُّهُ إِلَى الْكُفَّارِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَنْ يَمْنَعُهُ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ عَشِيرَةٍ وَنَحْوِهَا، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ: «أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: أَسَرُوا رَجُلًا فَأَسْلَمَ، وَفَادَى بِهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ».

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَادِيَ بِالْأَسِيرِ، وَإِنْ وَقَعَ فِي سَهْمِ أَحَدِ الْغَانِمِينَ، رَضِيَ أَمْ أَبَى، وَيُعَوِّضَهُ قِيمَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِأَنَّ تَخْلِيصَ الْمُسْلِمِ مِنَ الْأَسْرِ فَرْضٌ عَلَيْهِ وَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ وَالْإِمْكَانِ، فَإِنِ امْتَنَعَ عَنْهُ نَابَ عَنْهُ الْأَمِيرُ وَعَوَّضَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، كَمَا لَوِ اسْتُحِقَّ سَهْمٌ.

أَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَلَا يُجِيزُ الْمُفَادَاةَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.

فِدَاءُ الْمَمْلُوكِ الْجَانِي:

10- إِذَا جَنَى مَمْلُوكٌ جِنَايَةَ خَطَأٍ أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ، أَوْ عَمْدًا وَعُفِيَ عَلَى مَالٍ، فَلِسَيِّدِهِ الْخِيَارُ، بَيْنَ فِدَائِهِ بِالْمَالِ، وَتَسْلِيمِهِ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ فَإِنِ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَاهُ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ، وَإِحْدَى رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ إِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ.

وَفِي الْقَوْلِ الْجَدِيدِ لِلشَّافِعِيِّ يَفْدِيهِ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ.

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: إِنْ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ فَمَا دُونَهَا فَالسَّيِّدُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ، أَوْ يُسَلِّمَهُ إِلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ فَفِيهِ عِنْدَهُمْ رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ سَيِّدَهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِقِيمَتِهِ أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَهُ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ، إِلاَّ أَنْ يَفْدِيَهُ بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ. وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (رِقٌّ ف 120)

فِدَاءُ أُمِّ الْوَلَدِ:

11- يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَوْلِدِ فِدَاءُ أُمِّ وَلَدِهِ إِذَا جَنَتْ بِمَا يُوجِبُ الْمَالَ، وَإِنْ مَاتَتْ عَقِبَ الْجِنَايَةِ لِمَنْعِهِ بَيْعَهَا بِالْإِيلَادِ كَمَا لَوْ قَتَلَهَا.

وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِيلَادٌ ف 14)

(

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


27-موسوعة الفقه الكويتية (مياه 1)

مِيَاهٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْمِيَاهُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ مَاءٍ، وَالْمَاءُ مَعْرُوفٌ، وَالْهَمْزَةُ فِيهِ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْهَاءِ وَأَصْلُهُ مَوَهَ بِالتَّحْرِيكِ تَحَوَّلَتِ الْوَاوُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا فَقُلِبَتْ أَلِفًا ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْهَاءُ هَمْزَةً.

وَيُجْمَعُ عَلَى أَمْوَاهٍ جَمْعَ قِلَّةٍ، وَعَلَى مِيَاهٍ جَمْعَ كَثْرَةٍ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْمَاءُ جِسْمٌ لَطِيفٌ سَيَّالٌ بِهِ حَيَاةُ كُلِّ نَامٍ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الطَّهَارَةُ

2- الطَّهَارَةُ فِي اللُّغَةِ: النَّظَافَةُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: عِبَارَةٌ عَنْ غَسْلِ أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ بِصِفَّةٍ مَخْصُوصَةٍ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمِيَاهِ وَالطَّهَارَةِ أَنَّ الْمِيَاهَ تَكُونُ وَسِيلَةً لِلطَّهَارَةِ.

أَقْسَامُ الْمِيَاهِ

يُمْكِنُ تَقْسِيمُ الْمِيَاهِ بِاعْتِبَارِ وَصْفِهَا إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:

مُطْلَقٍ، وَمُسْتَعْمَلٍ، وَمُسَخَّنٍ، وَمُخْتَلَطٍ.

الْمَاءُ الْمُطْلَقُ:

3- الْمَاءُ الْمُطْلَقُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ هُوَ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ اسْمُ مَاءٍ بِلَا قَيْدٍ.

وَقِيلَ: الْمَاءُ الْمُطْلَقُ هُوَ الْبَاقِي عَلَى وَصْفِ خِلْقَتِهِ.

وَقَدْ أَجَمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُطْلَقَ طَاهِرٌ فِي ذَاتِهِ مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ.

وَعَبَّرَ الْفُقَهَاءُ عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمَاءِ بِالطَّهُورِ، إِلاَّ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالطَّهُورِ.

فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ الطَّاهِرُ الْمُطَهِّرُ.

وَاسْتَدَلُّوا بِمَا يَلِي:

أَوْلًا: أَنَّ لَفْظَةَ طَهُورٍ جَاءَتْ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ لِلْمُطَهِّرِ، وَمِنْ هَذَا:

أ- قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا}.فَقَوْلُهُ: (طَهُورًا) يُرَادُ بِهِ مَا يُتَطَهَّرُ بِهِ، يُفَسِّرُ ذَلِكَ قوله تعالى {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} فَهَذِهِ الْآيَةُ مُفَسِّرَةٌ لِلْمُرَادِ بِالْأُولَى.

ب- وَمَا وَرَدَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ- رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحَلَّ لِأَحَدِ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً».

فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ ظَاهِرَةٌ، إِذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالطَّهُورِ الطَّاهِرُ فَقَطْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِزْيَةٌ، لِأَنَّهُ طَاهِرٌ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، وَالْحَدِيثُ إِنَّمَا سِيقَ لِإِثْبَاتِ الْخُصُوصِيَّةِ، فَقَدِ اخْتَصَّ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- وَأُمَّتُهُ بِالتَّطَهُّرِ بِالتُّرَابِ.

ج- وَمَا رَوَاهُ أَنَسٌ مَرْفُوعًا: «جُعِلَتْ لِي كُلُّ أَرْضٍ طَيِّبَةً مَسْجِدًا وَطَهُورًا».

فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِأَنَّ كُلَّ أَرْضٍ طَيِّبَةٍ جُعِلَتْ لَهُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَالطَّيِّبَةُ الطَّاهِرَةُ، فَلَوْ كَانَ مَعْنَى طَهُورًا: طَاهِرًا لَلَزِمَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، وَتَحْصِيلُ الْحَاصِلِ بِالنِّسْبَةِ لَهُ مُحَالٌ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُطَهِّرُ لِغَيْرِهِ.

د- وَمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ التَّوَضُّؤِ بِمَاءِ الْبَحْرِ فَقَالَ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ».

فَقَدْ أَجَابَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِقَوْلِهِ هَذَا عَنْ سُؤَالِهِمْ عَنْ حُكْمِ التَّطَهُّرِ بِمَاءِ الْبَحْرِ، فَلَوْلَا أَنَّهُمْ يَفْهَمُونَ مِنَ الطَّهُورِ أَنَّهُ الْمُطَهِّرُ، لَمْ يَحْصُلْ لَهُمُ الْجَوَابُ.

ثَانِيًا: أَنَّ الْعَرَبَ فَرَّقَتْ بَيْنَ اسْمِ الْفَاعِلِ وَصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فَقَالَتْ: قَاعِدٌ لِمَنْ وُجِدَ مِنْهُ الْقُعُودُ، وَقُعُودٌ: لِمَنْ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الطَّهُورِ وَالطَّاهِرِ مِنْ حَيْثُ التَّعَدِّي وَاللُّزُومِ، فَالطَّهُورُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُتَعَدِّيَةِ وَهُوَ الَّذِي يُطَهِّرُ غَيْرَهُ، وَالطَّاهِرُ مِنَ الْأَسْمَاءِ اللاَّزِمَةِ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الطَّهُورَ هُوَ الطَّاهِرُ وَهُوَ مَا حُكِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْريِّ وَسُفْيَانَ وَأَبِي بَكْرِ الْأَصَمِّ وَابْنِ دَاوُدَ.

وَاحْتَجُّوا بِمَا يَلِي:

أَوَّلًا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا}.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى التَّطْهِيرِ مِنْ حَدَثٍ وَلَا نَجَسٍ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّهُورِ هُوَ الطَّاهِرُ.

ثَانِيًا: قَوْلُ جَرِيرٍ فِي وَصْفِ النِّسَاءِ:

عِذَابُ الثَّنَايَا رِيقُهُنَّ طَهُورٌ

وَالرِّيقُ لَا يُتَطَهَّرُ بِهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الطَّاهِرَ.

ثَالِثًا: وَالطَّهُورُ يُفِيدُ التَّطْهِيرَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لِلْمُبَالَغَةِ، فَإِنَّ فِي الشَّكُورِ وَالْغَفُورِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ مَا لَيْسَ فِي الْغَافِرِ وَالشَّاكِرِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي الطَّهُورِ مَعْنًى زَائِدٌ لَيْسَ فِي الطَّاهِرِ، وَلَا تَكُونُ تِلْكَ الْمُبَالَغَةُ فِي طَهَارَةِ الْمَاءِ إِلاَّ بِاعْتِبَارِ التَّطْهِيرِ لِأَنَّ فِي نَفْسِ الطَّهَارَةِ كِلْتَا الصِّفَّتَيْنِ سَوَاءٌ، فَتَكُونُ صِفَّةُ التَّطْهِيرِ لَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، لَا أَنَّ الطَّهُورَ بِمَعْنَى الْمُطَهَّر.

أَنْوَاعُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ

4- أَنْوَاعُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ كَمَا ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ هِيَ:

الْأَوَّلُ: مَاءُ السَّمَاءِ: أَيِ النَّازِلُ مِنْهَا، يَعْنِي الْمَطَرَ، وَمِنْهُ النَّدَى، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}.

وَالثَّانِي: مَاءُ الْبَحْرِ: وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَاهُ أَبُو هُرِيرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ».

وَالثَّالِثُ: مَاءُ النَّهْرِ

وَالرَّابِعُ: مَاءُ الْبِئْرِ: وَالْأَصْلُ فِيهِ: مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَتَوَضَّأُ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ» وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الْحِيَضُ وَلُحُومُ الْكِلَابِ وَالنَّتِنُ (أَيْ كَانَتْ تَجْرُفُهَا إِلَيْهَا السُّيُولُ مِنَ الطُّرُقِ وَالْأَفْنِيَةِ وَلَا تُطْرَحُ فِيهَا قَصْدًا وَلَا عَمْدًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ».

الْخَامِسُ: مَاءُ الْعَيْنِ وَهُوَ مَا يَنْبُعُ مِنَ الْأَرْضِ.

السَّادِسُ: مَاءُ الثَّلْجِ وَهُوَ مَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَائِعًا ثُمَّ جَمَدَ أَوْ مَا يَتِمُّ تَجْمِيدُهُ بِالْوَسَائِلِ الصِّنَاعِيَةِ الْحَدِيثَةِ.

السَّابِعُ: مَاءُ الْبَرَدِ وَهُوَ مَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ جَامِدًا ثُمَّ مَاعَ عَلَى الْأَرْضِ، وَيُسمَّى حَبُّ الْغَمَامِ وَحَبُّ الْمُزْنِ.

وَالْأَصْلُ فِي مَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ: حَدِيثُ أَبِي هُرِيرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَسْكُتُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَبَيْنَ الْقِرَاءَةِ إِسْكَاتَةً- قَالَ: أَحْسِبُهُ قَالَ: هُنَيَّةً-، فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِسْكَاتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرَ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ».

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِعْمَالِ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، فَمِنْ قَائِلٍ بِالْكَرَاهَةِ، وَآخَرُ بِعَدِمِهَا، وَمِنْ قَائِلٍ بِصِحَّتِهَا وَآخَرُ بِعَدِمِ صِحَّتِهَا، وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ تَتَمَثَّلُ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلًا- مَاءُ الْبَحْرِ

5- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جِوَازِ اسْتِعْمَالِ مَاءِ الْبَحْرِ فِي الطَّهَارَةِ مِنَ الْأَحْدَاثِ وَالْأَنْجَاسِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.

يَقُولُ التِّرْمِذِيُّ: أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَرَوْا بَأْسًا بِمَاءِ الْبَحْرِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» وَلِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْمَاءِ يُطْلَقُ عَلَى مَاءِ الْبَحْرِ فَيَقَعُ التَّطَهُّرُ بِهِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَحُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْد اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ الْعَاصِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ كَرَاهَةُ التَّطَهُّرِ بِهِ.

ثَانِيًا- مَاءُ الثَّلْجِ

6- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جِوَازِ التَّطَهُّرِ بِمَاءِ الثَّلْجِ إِذَا ذَابَ.

وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي اسْتِعْمَالِهِ قَبْلَ الْإِذَابَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى عَدِمِ جِوَازِ التَّطَهُّرِ بِالثَّلْجِ قَبْلَ الْإِذَابَةِ مَا لَمْ يَتَقَاطَرْ وَيَسِلْ عَلَى الْعُضْوِ.

يَقُولُ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: «يُرْفَعُ الْحَدَثُ مُطْلَقًا بِمَاءٍ مُطْلَقٍ، وَهُوَ مَا يَتَبَادَرُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ كَمَاءِ سَمَاءٍ وَأَوْدِيَةٍ وَعُيُونٍ وَآبَارٍ وَبِحَارٍ وَثَلْجٍ مُذَابٍ بِحَيْثُ يَتَقَاطَرُ».

وَيَقُولُ صَاحِبُ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ: وَهُوَ- أَيِ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ- مَا صَدَقَ عَلَيْهِ اسْمُ مَاءٍ بِلَا قَيْدٍ وَإِنْ جُمِعَ مِنْ نَدًى أَوْ ذَابَ أَيْ تَمَيَّعَ بَعْدَ جُمُودِهِ كَالثَّلْجِ وَهُوَ مَا يَنْزِلُ مَائِعًا ثُمَّ يَجْمُدُ عَلَى الْأَرْضِ.

وَيَقُولُ صَاحِبُ الْمُغْنِي الذَّائِبُ مِنَ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ طَهُورٌ، لِأَنَّهُ مَاءٌ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، وَفِي دُعَاءِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ».

فَإِنْ أَخَذَ الثَّلْجَ فَمَرَّرَهُ عَلَى أَعْضَائِهِ لَمْ تَحْصُلِ الطَّهَارَةُ بِهِ، وَلَوِ ابْتَلَّ بِهِ الْعُضْوُ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْغُسْلُ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ يَجْرِيَ الْمَاءُ عَلَى الْعُضْوِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا فَيَذُوبُ، وَيَجْرِي مَاؤُهُ عَلَى الْأَعْضَاءِ فَيَحْصُلُ بِهِ الْغَسْلُ، فَيُجْزِئُهُ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: ذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْأَوْزَاعِيُّ إِلَى جِوَازِ التَّطَهُّرِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَقَاطَرْ.

يَقُولُ الطَّحْطَاوِيُّ: قَوْلُهُ (بِحَيْثُ يَتَقَاطَرُ) هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَتَقَاطَرْ.

وَيَقُولُ النَّوَوِيُّ: وَحَكَى أَصْحَابُنَا عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ جَوَازُ الْوُضُوءِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَسِلْ وَيُجْزِيهِ فِي الْمَغْسُولِ وَالْمَمْسُوحِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ إِنْ صَحَّ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى غَسْلًا وَلَا فِي مَعْنَاهُ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: فَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ سَيْلِ الثَّلْجِ عَلَى الْعُضْوِ لِشِدَّةِ حَرِّ وَحَرَارَةِ الْجِسْمِ وَرَخَاوَةِ الثَّلْجِ، وَبَيْنَ عَدَمِ سَيْلِهِ.فَإِنْ سَالَ عَلَى الْعُضْوِ صَحَّ الْوُضُوءُ عَلَى الصَّحِيحِ لِحُصُولِ جَرَيَانِ الْمَاءِ عَلَى الْعُضْوِ، وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى غَسْلًا، حَكَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالدَّارِمِيُّ، وَإِنْ لَمْ يَسِلْ لَمْ يَصِحَّ بِلَا خِلَافٍ فِي الْمَغْسُولِ، وَيَصِحُّ مَسْحُ الْمَمْسُوحِ مِنْهُ وَهُوَ الرَّأْسُ وَالْخُفُّ وَالْجَبِيرَةُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ.

ثَالِثًا- مَاءُ زَمْزَمَ

7- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ اسْتِعْمَالِ مَاءِ زَمْزَمَ فِي الطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ أَوْ إِزَالَةِ النَّجَسِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَابْنُ شَعْبَانَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى جِوَازِ اسْتِعْمَالِ مَاءِ زَمْزَمَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ فِي إِزَالَةِ الْأَحْدَاثِ، أَمَا فِي إِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ فَيُكْرَهُ تَشْرِيفًا لَهُ وَإِكْرَامًا.

الثَّانِي: ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جِوَازِ اسْتِعْمَالِ مَاءِ زَمْزَمَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ أَكَانَ الِاسْتِعْمَالُ فِي الطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ أَمْ فِي إِزَالَةِ النَّجَسِ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: ذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ إِلَى كَرَاهَةِ اسْتِعْمَالِهِ مُطْلَقًا أَيْ فِي إِزَالَةِ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه-: «لَا أُحِلُّهَا لِمُغْتَسَلٍ يَغْتَسِلُ فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ لِشَارِبٍ وَمُتَوَضِّئٍ حِلٌّ وَبِلٌّ».

رَابِعًا- الْمَاءُ الْآجِنُ

8- وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي تَغَيَّرَ بِطُولِ مُكْثِهِ فِي الْمَكَانِ مِنْ غَيْرِ مُخَالَطَةِ شَيْء وَيَقْرُبُ مِنْهُ الْمَاءُ الْآسِنُ.

(ر: مُصْطَلَحُ آجِنٌ فِقْرَة 1، وَمُصْطَلَحُ طَهَارَةٍ فِقْرَة 10).

وَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى جِوَازِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْآجِنِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ.

يَقُولُ صَاحِبُ مُلْتَقَى الْأَبْحُرِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: وَتَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ كَمَاءِ السَّمَاءِ وَالْعَيْنِ وَالْبِئْرِ وَالْأَوْدِيَةِ وَالْبِحَارِ، وَإِنْ غَيَّرَ طَاهِرٌ بَعْضَ أَوْصَافِهِ كَالتُّرَابِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالْأُشْنَانِ وَالصَّابُونِ أَوْ أَنْتَنَ بِالْمُكْثِ.

وَيَقُولُ صَاحِبُ أَقْرَبِ الْمَسَالِكِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَلَا يَضُرُّ تَغَيُّرُ الْمَاءِ بِشَيْءِ تَوَلَّدَ مِنْهُ كَالسَّمَكِ وَالَدُودِ وَالطُّحْلُبِ (بِفَتْحِ اللاَّمِ وَضَمِّهَا)، وَكَذَا إِذَا تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِطُولِ مُكْثِهِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أُلْقِيَ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ.

وَيَقُولُ الرَّمْلِيُّ الْكَبِيرُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَلَا يُقَالُ الْمُتَغَيِّرُ كَثِيرًا بِطُولِ الْمُكْثِ أَوْ بِمُجَاوَرٍ أَوْ بِمَا يَعْسُرُ صَوْنُ الْمَاءِ عَنْهُ غَيْرَ مُطْلَقٍ، بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ.

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ الْمُطْلَقَةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فَأَشْبَهَ بِمَا يُتَعَذَّرُ صَوْنُهُ عَنْهُ.

وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ الْقَوْلُ بِكَرَاهَةِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْآجِنِ.

يَقُولُ صَاحِبُ بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُغَيِّرُ الْمَاءَ مِمَّا لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا أَنَّهُ لَا يَسْلُبُهُ صِفَةَ الطَّهَارَةِ وَالتَّطْهِيرِ، إِلاَّ خِلَافًا شَاذًّا رُوِيَ فِي الْمَاءِ الْآجِنِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ.

وَيَقُولُ النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا الْمُتَغَيِّرُ بِالْمُكْثِ فَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ، إِلاَّ ابْنَ سِيرِينَ فَكَرِهَهُ.

الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَحُكْمِهِ وَذَلِك عَلَى التَّفْصِيلِ الْآتِي:

الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:

9- الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ: هُوَ الْمَاءُ الَّذِي أُزِيلَ بِهِ حَدَثٌ أَوِ اسْتُعْمِلَ فِي الْبَدَنِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ، كَالْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ بِنِيَّةِ التَّقَرُّبِ أَوْ لِإِسْقَاطِ فَرْضٍ.

وَعِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ: هُوَ الْمَاءُ الَّذِي اسْتُعْمِلَ لِإِقَامَةِ قُرْبَةٍ.

وَعِنْدَ زُفَرَ: هُوَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ لِإِزَالَةِ الْحَدَثِ.

وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْمَاءَ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِمُجَرَّدِ انْفِصَالِهِ عَنِ الْبَدَنِ.

وَيَظْهَرُ أَثَرُ هَذَا الْخِلَافِ عِنْدَهُمْ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِيمَا يَلِي:

أ- إِذَا تَوَضَّأَ بِنِيَّةِ إِقَامَةِ الْقُرْبَةِ نَحْوَ الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِهَا.

فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِلَا خِلَافٍ لِوُجُودِ السَّبَبَيْنِ، وَهُمَا: إِزَالَةُ الْحَدَثِ وَإِقَامَةُ الْقُرْبَةِ.

وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْدِثٍ يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ الثَّلَاثَةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وُمُحَمَّدٍ لِوُجُودِ إِقَامَةِ الْقُرْبَةِ، لِكَوْنِ الْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ نُورٌ عَلَى نُورٍ، وَعِنْدَ زُفَرَ: لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لِانْعِدَامِ إِزَالَةِ الْحَدَثِ.

ب- إِذَا تَوَضَّأَ أَوِ اغْتَسَلَ لِلتَّبَرُّدِ، فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ لِوُجُودِ إِزَالَةِ الْحَدَثِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لِعَدَمِ إِقَامَةِ الْقُرْبَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالِاتِّفَاقِ.

ج- إِذَا تَوَضَّأَ بِالْمَاءِ الْمُقَيَّدِ كَمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ التَّوَضُّؤَ بِهِ مُخَيَّرٌ جَائِزٌ، فَلَمْ يُوجَدْ إِزَالَةُ الْحَدَثِ وَلَا إِقَامَةُ الْقُرْبَةِ.

د- إِذَا غَسَلَ الْأَشْيَاءَ الطَّاهِرَةَ مِنَ النَّبَاتِ وَالثِّمَارِ وَالْأَوَانِي وَالْأَحْجَارِ وَنَحْوِهِ، أَوْ غَسَلَتِ الْمَرْأَةُ يَدَهَا مِنَ الْعَجِينِ أَوِ الْحِنَّاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَا يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا.

وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَيْسَ بِطَهُورٍ لِحَدَثٍ بَلْ لِخَبَثٍ عَلَى الرَّاجِحِ الْمُعْتَمَدِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ بِهِ.

الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:

10- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ:

هُوَ مَا اسْتُعْمِلَ فِي رَفْعِ حَدَثٍ أَوْ فِي إِزَالَةِ حُكْمِ خَبَثٍ، وَأَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ فِي رَفْعِ حَدَثٍ: هُوَ مَا تَقَاطَرَ مِنَ الْأَعْضَاءِ أَوِ اتَّصَلَ بِهَا أَوِ انْفَصَلَ عَنْهَا- وَكَانَ الْمُنْفَصِلُ يَسِيرًا- أَوْ غَسَلَ عُضْوَهُ فِيهِ.

وَحُكْمُهُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ لَكِنْ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي رَفْعِ حَدَثٍ أَوِ اغْتِسَالَاتٍ مَنْدُوبَةٍ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ إِذَا كَانَ يَسِيرًا، وَلَا يُكْرَهُ عَلَى الْأَرْجَحِ اسْتِعْمَالُهُ مَرَّةً أُخْرَى فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ أَوْ غَسْلِ إِنَاءٍ وَنَحْوِهِ.

قَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَالْكَرَاهَةُ مُقَيَّدَةٌ بِأَمْرَيْنِ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ قَلِيلًا كَآنِيَّةِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَأَنْ يُوجَدَ غَيْرُهُ، وَإِلاَّ فَلَا كَرَاهَةَ، كَمَا أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ إِذَا صُبَّ عَلَى الْمَاءِ الْيَسِيرِ الْمُسْتَعْمَلِ مَاءٌ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ، فَإِنْ صُبَّ عَلَيْهِ مُسْتَعْمَلٌ مِثْلُهُ حَتَّى كَثُرَ لَمْ تَنْتَفِ الْكَرَاهَةُ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ لِلْأَجْزَاءِ يَثْبُتُ لِلْكُلِّ، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ نَفْيَهَا.

وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: الْمَاءُ الْيَسِيرُ الَّذِي هُوَ قَدْرُ آنِيَةِ الْغَسْلِ فَأَقَلُّ الْمُسْتَعْمَلِ فِي حَدَثٍ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَدَثٍ بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ: أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا، وَأَنْ يَكُونَ اسْتُعْمِلَ فِي رَفْعِ حَدَثٍ لَا حُكْمَ خَبَثٍ، وَأَنْ يَكُونَ الِاسْتِعْمَالُ الثَّانِي فِي رَفْعِ حَدَثٍ.

وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي حُكْمِ خَبَثٍ لَا يُكْرَهُ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ، وَأَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي حَدَثٍ لَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي حُكْمِ خَبَثٍ، وَالرَّاجِحُ فِي تَعْلِيلِ الْكَرَاهَةِ أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي طَهُورِيَّتِهِ.

الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:

11- الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: هُوَ الْمَاءُ الْقَلِيلُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي فَرْضِ الطَّهَارَةِ عَنْ حَدَثٍ كَالْغَسْلَةِ الْأُولَى فِيهِ، أَوْ فِي إِزَالَةِ نَجَسٍ عَنِ الْبَدَنِ أَوِ الثَّوْبِ، أَمَّا نَفْلُ الطَّهَارَةِ كَالْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثَةِ فَالْأَصَحُّ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ طَهُورٌ.

وَيُفَرِّقُ الشَّافِعِيَّةُ بَيْنَ الْقَلِيلِ الَّذِي لَا يَبْلُغُ قُلَّتَيْنِ، وَبَيْنَ الْكَثِيرِ الَّذِي يَبْلُغُ قُلَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ.

فَيَرَوْنَ فِي الْمَذْهَبِ الْجَدِيدِ: أَنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ، فَلَا يَرْفَعُ حَدَثًا وَلَا يُزِيلُ نَجَسًا لِأَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ كَانُوا لَا يَحْتَرِزُونَ عَنْهُ وَلَا عَمَّا يَتَقَاطَرُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ.

فَعَنْ جَابِرٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- يَعُودُنِي وَأَنَا مَرِيضٌ لَا أَعْقِلُ فَتَوَضَّأَ وَصَبَّ عَلَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ فَعَقَلْتُ».

وَلِأَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ- مَعَ قِلَّةِ مِيَاهِهِمْ- لَمْ يَجْمَعُوا الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ لِلِاسْتِعْمَالِ ثَانِيًا بَلِ انْتَقَلُوا إِلَى التَّيَمُّمِ، كَمَا لَمْ يَجْمَعُوهُ لِلشُّرْبِ لِأَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ.

فَإِنْ جُمِعَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فَبَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَطَهُورٌ عَلَى الْأَصَحِّ.

وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ مَنْعِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، قَالَ الشِّرْبِينِيُّ: وَهُوَ الْأَصَحُّ: لِأَنَّهُ غَيْرُ مُطْلَقٍ كَمَا صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ.

فَإِنْ جُمِعَ الْمُسْتَعْمَلُ عَلَى الْجَدِيدِ فَبَلَغَ قُلَّتَيْنِ فَطَهُورٌ فِي الْأَصَحِّ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ أَشَدُّ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ، وَالْمَاءُ الْمُتَنَجِّسُ لَوْ جُمِعَ حَتَّى بَلَغَ قُلَّتَيْنِ أَيْ وَلَا تَغَيُّرَ بِهِ صَارَ طَهُورًا قَطْعًا، فَالْمُسْتَعْمَلُ أَوْلَى، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ لَا يَعُودُ طَهُورًا لِأَنَّ قَوَّتَهُ صَارَتْ مُسْتَوْفَاةً بِالِاسْتِعْمَالِ فَالْتَحَقَ بِمَاءِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنُ سُرَيْجٍ.

وَيَقُولُ الشِّيرَازِيُّ: الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ ضَرْبَانِ: مُسْتَعْمَلٌ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ، وَمُسْتَعْمَلٌ فِي طَهَارَةِ النَّجَسِ.

فَأَمَّا الْمُسْتَعْمَلُ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ فَيُنْظَرُ فِيهِ: فَإِنِ اسْتُعْمِلَ فِي رَفْعِ حَدَثٍ فَهُوَ طَاهِرٌ، لِأَنَّهُ مَاءٌ طَاهِرٌ لَاقَى مَحَلًّا طَاهِرًا، فَكَانَ طَاهِرًا، كَمَا لَوْ غُسِلَ بِهِ ثَوْبٌ طَاهِرٌ.

ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الْمُسْتَعْمَلُ فِي النَّجَسِ فَيُنْظَرُ فِيهِ: فَإِنِ انْفَصَلَ مِنَ الْمَحَلِّ وَتَغَيَّرَ فَهُوَ نَجِسٌ لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا غَلَبَ عَلَى رِيحِهِ وَطَعْمِهِ وَلَوْنِهِ».

وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ وَأَبِي إِسْحَاقَ لِأَنَّهُ مَاءٌ لَا يُمْكِنُ حِفْظُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ فَلَمْ يَنْجُسْ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ كَالْمَاءِ الْكَثِيرِ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَنْجُسُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ لِأَنَّهُ مَاءٌ قَلِيلٌ لَاقَى نَجَاسَةً، فَأَشْبَهَ مَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنِ انْفَصَلَ وَالْمَحَلُّ طَاهِرٌ فَهُوَ طَاهِرٌ، وَإِنِ انْفَصَلَ وَالْمَحَلُّ نَجِسٌ، فَهُوَ نَجِسٌ.وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْقَاصِّ لِأَنَّ الْمُنْفَصِلَ مِنْ جُمْلَةِ الْبَاقِي فِي الْمَحَلِّ: فَكَانَ حُكْمُهُ فِي النَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ حُكْمَهُ.

الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:

12- قَالَ الْحَنَابِلَةُ: الْمَاءُ الَّذِي اسْتُعْمِلَ فِي رَفْعِ حَدَثٍ أَوْ إِزَالَةِ نَجَسٍ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ أَحَدُ أَوْصَافِهِ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ لَا يَرْفَعُ حَدَثًا وَلَا يُزِيلُ نَجِسًا وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ.

وَعِنْدَ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ.

أَمَا الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي طَهَارَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ كَتَجْدِيدِ الْوُضُوءِ وَالْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فِيهِ وَالْغُسْلِ لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ كَالْمُسْتَعْمَلِ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ مَشْرُوعَةٌ أَشَبَهَ مَا لَوِ اغْتَسَلَ بِهِ مِنْ جَنَابَةٍ.

وَالثَّانِيَةُ: لَا يَمْنَعُ الطُّهُورِيَّةَ لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مَانِعًا مِنَ الصَّلَاةِ أَشَبَهَ مَا لَوْ تَبَرَّدَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الطَّهَارَةُ مَشْرُوعَةً لَمْ يُؤَثِّرِ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِيهَا شَيْئًا كَالْغَسْلَةِ الرَّابِعَةِ فِي الْوُضُوءِ لَمْ يُؤَثِّرِ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِيهَا شَيْئًا وَكَانَ كَمَا لَوْ تَبَرَّدَ أَوْ غَسَلَ بِهِ ثَوْبَهُ، وَلَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ أَنَّ مَا اسْتُعْمِلَ فِي التَّبَرُّدِ وَالتَّنْظِيفِ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا.

وَأَمَّا الْمُسْتَعْمَلُ فِي تَعَبُّدٍ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ كَغَسْلِ الْيَدَيْنِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ، فَإِنْ قُلْنَا لَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ لَمْ يُؤَثِّرِ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَاءِ، وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِهِ فَقَالَ القْاضِي: هُوَ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ، وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ إِطْلَاقِهِ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَهَارَةِ تَعَبُّدٍ أَشَبَهَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى أَنْ يَغْمِسَ الْقَائِمُ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ غَسْلِهَا»،، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُفِيدُ مَنْعًا.

وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْفَعْ حَدَثًا، أَشَبَهَ الْمُتَبَرَّدَ بِهِ.

الْمَاءُ الْمُسَخَّنُ

وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَخَّنًا بِتَأْثِيرِ الشَّمْسِ فِيهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَخَّنًا بِتَأْثِيرِ غَيْرِهَا.

أ- الْمَاءُ الْمُسَخَّنُ بِتَأْثِيرِ الشَّمْسِ فِيهِ (الْمُشَمَّسُ):

13- يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْمَاءِ الْمُسَخَّنِ بِتَأْثِيرِ الشَّمْسِ فِيهِ اسْمَ الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ

وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ اسْتِعْمَالِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: جِوَازُ اسْتِعْمَالِهِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ فِي الْبَدَنِ أَمْ فِي الثَّوْبِ.

وَبِهَذَا قَالَ الْحَنَابِلَةُ وَجُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ لِبَعْضِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ كَالنَّوَوِيِّ وَالرُّويَانِيِّ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: كَرَاهَةُ اسْتِعْمَالِهِ: وَذَهَبَ إِلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ.

يَقُولُ الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيِّ: وَيُكْرَهُ شَرْعًا تَنْزِيهًا الْمَاءُ الْمُشَمَّسُ أَيْ مَا سَخَّنَتْهُ الشَّمْسُ، أَيْ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْبَدَنِ فِي الطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا كَأَكْلٍ وَشُرْبٍ، لِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ عُمَرَ- رضي الله عنه- أَنَّهُ: كَانَ يَكْرَهُ الِاغْتِسَالَ بِالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ، وَقَالَ: يُورِثُ الْبَرَصَ.

لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بِبِلَادٍ حَارَّةٍ أَيْ تَقْلِبُهُ الشَّمْسُ عَنْ حَالَتِهِ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى، كَمَا نَقَلَهُ فِي الْبَحْرِ عَنِ الْأَصْحَابِ فِي آنِيةٍ مُنْطَبِعَةٍ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ وَهِيَ كُلُّ مَا طُرِقَ كَالنُّحَاسِ وَنَحْوِهِ، وَأَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي حَالِ حَرَارَتِهِ، لِأَنَّ الشَّمْسَ بِحِدَّتِهَا تَفْصِلُ مِنْهُ زُهُومَةً تَعْلُو الْمَاءَ، فَإِذَا لَاقَتِ الْبَدَنَ بِسُخُونَتِهَا خِيفَ أَنْ تَقْبِضَ عَلَيْهِ فَيَحْتَبِسَ الدَّمُ فَيَحْصُلُ الْبَرَصُ.

وَقَالَ الدَّرْدِيرُ: يُكْرَهُ الْمُشَمَّسُ أَيِ الْمُسَخَّنُ بِالشَّمْسِ فِي الْأَقْطَارِ الْحَارَّةِ كَأَرْضِ الْحِجَازِ لَا فِي نَحْوِ مِصْرَ وَالرُّومِ.

وَعَقَّبَ الدُّسُوقِيُّ عَلَى قَوْلِ الدَّرْدِيرِ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ «وَالْمُعْتَمَدُ الْكَرَاهَةُ» بِقَوْلِهِ: هُوَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ الْفُرَاتِ عَنْ مَالِكٍ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ.

وَهَذِهِ الْكَرَاهَةُ طِبِّيَّةٌ لَا شَرْعِيَّةٌ لِأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ مِنْ إِكْمَالِ الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ كَرَاهَتُهُ لِشِدَّةِ حَرَارَتِهِ فَإِنَّهَا شَرْعِيَّةٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكَرَاهَتَيْنِ: أَنَّ الشَّرْعِيَّةَ يُثَابُ تَارِكُهَا بِخِلَافِ الطِّبِّيَّةِ.

وَيَقُولُ ابْنُ عَابِدِينَ: قَدَّمْنَا فِي مَنْدُوبَاتِ الْوُضُوءِ أَنَّ مِنْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ بِمَاءٍ مُشَمَّسٍ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْحِلْيَةِ مُسْتَدِلًّا بِمَا صَحَّ عَنْ عُمَرَ مِنَ النَّهْيِ عَنْهُ، وَلِذَا صَرَّحَ فِي الْفَتْحِ بِكَرَاهَتِهِ، وَمِثْلُهُ فِي الْبَحْرِ.

وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَفِي الْقُنْيَةِ: وَتُكْرَهُ الطَّهَارَةُ بِالْمُشَمَّسِ، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَائِشَةَ- رضي الله عنها- حِينَ سَخَّنَتِ الْمَاءَ بِالشَّمْسِ: «لَا تَفْعَلِي يَا حُمَيْرَاءُ فَإِنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ»،، وَفِي الْغَايَةِ: يُكْرَهُ بِالْمُشَمَّسِ فِي قُطْرٍ حَارٍّ فِي أَوَانٍ مُنْطَبِعَةٍ.

ب- الْمَاءُ الْمُسَخَّنُ بِغَيْرِ الشَّمْسِ

14- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسَخَّنَ بِالنَّارِ لَا يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ لِعَدَمِ ثُبُوتِ نَهْيٍ عَنْهُ وَلِذَهَابِ الزُّهُومَةِ لِقُوَّةِ تَأْثِيرِهَا، وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: وَلَوْ كَانَ التَّسْخِينُ بِنَجَاسَةٍ مُغَلَّظَةٍ وَإِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ فِيهِ وَقْفَةٌ.

وَأَمَّا شَدِيدُ السُّخُونَةِ أَوِ الْبُرُودَةِ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ فِي الطَّهَارَةِ لِمَنْعِهِ الْإِسْبَاغَ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسَخَّنَ بِالنَّجَاسَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُتَحَقَّقَ وُصُولُ شَيْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ إِلَى الْمَاءِ فَيُنَجِّسَهُ إِذَا كَانَ يَسِيرًا.

وَالثَّانِي: أَلاَّ يُتَحَقَّقَ وُصُولُ شَيْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ إِلَى الْمَاءِ، وَالْحَائِلُ غَيْرُ حَصِينٍ فَالْمَاءُ عَلَى أَصْلِ الطَّهَارَةِ وَيُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ.

الثَّالِثُ: إِذَا كَانَ الْحَائِلُ حَصِينًا فَقَالَ الْقَاضٍي يُكْرَهُ، وَاخْتَارَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَقِيلُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَرَدَّدٍ فِي نَجَاسَتِهِ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا.

وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي كَرَاهَةِ الْمُسَخَّنِ بِالنَّجَاسَةِ رِوَايَتَيْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.

الْمَاءُ الْمُخْتَلِطُ:

وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخْتَلِطًا بِطَاهِرٍ، أَوْ يَكُونَ مُخْتَلِطًا بِنَجَسٍ.

أَوَّلًا- حُكْمُ الْمَاءِ الْمُخْتَلِطِ بِطَاهِرٍ

15- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِذَا اخْتَلَطَ بِهِ شَيْءٌ طَاهِرٌ- وَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ لِقِلَّتِهِ- لَمْ يَمْنَعِ الطَّهَارَةَ بِهِ، لِأَنَّ الْمَاءَ بَاقٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ.

كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إِذَا خَالَطَهُ طَاهِرٌ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ- كَالطُّحْلُبِ وَالْخَزِّ وَسَائِرِ مَا يَنْبُتُ فِي الْمَاءِ، وَكَذَا أَوْرَاقُ الشَّجَرِ الَّذِي يَسْقُطُ فِي الْمَاءِ أَوْ تَحْمِلُهُ الرِّيحُ فَتُلْقِيهِ فِيهِ، وَمَا تَجْذِبُهُ السُّيُولُ مِنَ الْعِيدَانِ وَالتِّبْنِ وَنَحْوِهِ كَالْكِبْرِيتِ وَغَيْرِهِ- فَتَغَيَّرَ بِهِ يَجُوزُ التَّطْهِيرُ بِهِ، لِأَنَّهُ يَشُقُّ التَّحَرُّزُ مِنْهُ.

أَمَّا الْمَاءُ الَّذِي خَالَطَهُ طَاهِرٌ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ- كَزَعْفَرَانٍ وَصَابُونٍ وَنَحْوِهِمَا- فَتَغَيَّرَ بِهِ أَحَدُ أَوْصَافِهِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِهِ إِلَى فَرِيقَيْنِ:

الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ: وَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: يَرَوْنَ أَنَّهُ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ، إِلاَّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَشْتَرِطُونَ أَنْ لَا يَكُونَ التَّغْيِيرُ عَنْ طَبْخٍ، أَوْ عَنْ غَلَبَةِ أَجْزَاءِ الْمُخَالِطِ حَتَّى يَصِيرَ ثَخِينًا.قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَتَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِمَاءٍ خَالَطَهُ شَيْءٌ طَاهِرٌ فَغَيَّرَ أَحَدَ أَوْصَافِهِ، كَمَاءِ الْمَدِّ، وَالْمَاءِ الَّذِي اخْتَلَطَ بِهِ اللَّبَنُ أَوِ الزَّعْفَرَانُ أَوِ الصَّابُونُ أَوِ الْأُشْنَانُ...إِلَى أَنْ يَقُولَ:

وَلَا يَجُوزُ- أَيِ التَّطَهُّرُ- بِمَاءٍ غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَأَخْرَجَهُ عَنْ طَبْعِ الْمَاءِ، كَالْأَشْرِبَةِ وَالْخَلِّ وَمَاءِ الْبَاقِلاَّ، لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مَاءً مُطْلَقًا، وَالْمُرَادُ بِمَاءِ الْبَاقِلاَّ وَغَيْرِهِ: مَا تَغَيَّرَ بِالطَّبْخِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ بِدُونِ الطَّبْخِ يَجُوزُ التَّوَضُّؤُ بِهِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَنَقَلَ عَنْ أَحْمَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، مِنْهُمْ أَبُو الْحَارِثِ وَالْمَيْمُونِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ جَوَازَ الْوُضُوءِ بِهِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}.فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ- مُنَكَّرًا- عِنْدَ إِرَادَةِ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يُبِحِ التَّيَمُّمَ إِلاَّ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى طَهُورِيَّتِهِ وَعَدَمِ جَوَازِ التَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَاقِعُ فِيهِ مِسْكًا أَمْ عَسَلًا أَمْ نَحْوَ ذَلِكَ.

وَبِمَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ- رضي الله عنها- قَالَتْ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- اغْتَسَلَ هُوَ وَمَيْمُونَةُ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ فِي قَصْعَةٍ فِيهَا أَثَرُ الْعَجِينِ».

فَهَذَا الْحَدِيثُ وَاضِحُ الدَّلَالَةِ فِي جَوَازِ التَّطَهُّرِ بِالْمَاءِ إِذَا خَالَطَهُ شَيْءٌ طَاهِرٌ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اخْتِلَاطٌ يَمْنَعُ التَّطَهُّرَ لَمَا اغْتَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بِمَاءٍ فِيهِ أَثَرُ الْعَجِينِ فَدَلَّ هَذَا عَلَى طُهُورِيَّتِهِ وَلِأَنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ بِأَصْلِ خِلْقَتِهِ، وَقَدْ خَالَطَهُ طَاهِرٌ لَمْ يَسْلُبْهُ اسْمَ الْمَاءِ وَلَا رِقَّتَهُ وَلَا جَرَيَانَهُ، فَأَشْبَهَ الْمُتَغَيِّرَ بِالدُّهْنِ، أَوِ الْمُخْتَلَطَ بِالطُّحْلُبِ وَشِبْهَهُ.

وَالْفَرِيقُ الثَّانِي: وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٌ.قَالَ صَاحِبُ أَسْهَلِ الْمَدَارِكِ: وَالْمُتَغَيِّرُ بِالطَّاهِرِ كَاللَّبَنِ طَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ طَهُورٍ، يُسْتَعْمَلُ فِي الْعَادَاتِ كَالطَّبْخِ وَالشُّرْبِ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْعِبَادَاتِ كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَنْعُ الطَّهَارَةِ بِالْمُتَغَيِّرِ بِمُخَالَطَةِ مَا لَيْسَ بِمُطَهِّرٍ وَالْمَاءُ يَسْتَغْنِي عَنْهُ هُوَ مَذْهَبُنَا.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: مَا خَالَطَهُ طَاهِرٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ فَغَيَّرَ إِحْدَى صِفَاتِهِ- طَعْمَهُ أَوْ لَوْنَهُ أَوْ رِيحَهُ- كَمَاءِ الْبَاقِلاَّ وَمَاءِ الْحِمَّصِ وَمَاءِ الزَّعْفَرَانِ، اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْوُضُوءِ بِهِ، وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ إِمَامِنَا- رحمه الله- فِي ذَلِكَ.فَرُوِيَ عَنْهُ: لَا تَحْصُلُ الطَّهَارَةُ بِهِ...قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: وَهِيَ الْأَصَحُّ وَهِيَ الْمَنْصُورَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فِي الْخِلَافِ وَقَالَ الْمِرْدَاوِيُّ وَهِيَ الْمَذْهَبُ.

وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُ مَاءٌ تَغَيَّرَ بِمُخَالَطَةِ مَا لَيْسَ بِطَهُورٍ، وَيُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، فَلَمْ يَجُزِ الْوُضُوءُ بِهِ كَمَاءِ الْبَاقِلاَّ الْمَغْلِيِّ، وَبِأَنَّ اخْتِلَاطَ الْمَاءِ بِطَاهِرٍ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِهِ يَمْنَعُهُ الْإِطْلَاقُ، وَلِهَذَا لَا يَحْنَثُ بِشُرْبِهِ الْحَالِفُ عَلَى أَلاَّ يَشْرَبَ مَاءً، وَلِقِيَاسِهِ عَلَى مَاءِ الْوَرْدِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


28-الغريبين في القرآن والحديث (شطب)

(شطب)

في حديث أم زرع (مضجعه كمسل شطبة) قال أبو عبيد: الشطبة ما شطب من جريد النخل، وهو سعفه وذلك أنه يشقق منه قضبان دقاق ينسج منه الحصر أرادت أنه ضرب اللحم دقيق الخضر شبهته بتلك الشطبة، وقال الحربي: نحوا منه، وقال ابن الأعرابي: أرادت بمسل الشطبة سيفا سل من غمده شبهته.

وفي الحديث (فحمل عامر بن ربيعة على عامر بن الطفيل فشطب الرمح عن مقتله) قال ابن الأعرابي: شطب وشطف أي عدل وقال الحربي: أراد لم يبلغه.

(شطر).

قوله تعالى: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} أي نحوه ونصب شطر على الظرف المعنى إلى شطر المسجد الحرام.

وفي حديث القاسم بن محمد (لو أن رجلين شهدا على رجل بحق أحدهما شطير) أي غريب، والجمع شطر وهم البعداء، ومنه أخذ الشاطر، لأنه يغيب عن منزله، يقال: شطر عنا يشطر شطورًا إذا تباعد وقال ابن عرفة: إنما سمي شاطرًا لأنه شطر نحو البطالة وتباعد عن السكون والقرار، و

وروى بهز عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من منع صدقة [118 1] فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات الله تعالى) وقال الحربي: غلط بهز في لفظ الرواية وإنما قال (وشطر ماله) يعني أنه يجعل شطرين فيتخير عليه المصدق فيأخذ الصدقة من خيار الشطرين عقوبة لمنعه الزكاة، فأما ما لا يلزمه فلا.

وفي الحديث (من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة) قال سفيان: هو أن يقول في أقتل أق كما يقول كفى بالسيف شا.

الغريبين في القرآن والحديث-أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي-توفي: 401هـ/1010م


29-المغرب في ترتيب المعرب (‏حدد-‏الحد‏)

‏ (‏حدد‏) ‏‏

(‏الْحَدُّ‏) ‏ فِي الْأَصْلِ الْمَنْعُ وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ طَلَبَ وَالْحَدُّ الْحَاجِزُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ تَسْمِيَةً بِالْمَصْدَرِ ‏ (‏وَمِنْهُ‏) ‏ حُدُودُ الْحَرَمِ وَقَوْلُهُ مُسْلِمَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى حَدِّ الْحَرَامِ أَيْ عَلَى شَرَفِ أَنْ يَطَأَهَا كَافِرٌ وَكَذَا مُسْلِمٌ مَوْقُوفٌ عَلَى حَدِّ كُفْرٍ أَيْ يُلْجَأُ بِالضَّرْبِ أَوْ بِالْقَتْلِ كَيْ يَكْفُرَ بِاَللَّهِ وَقَوْلُ الْعُلَمَاءِ لِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ حَدٌّ لِأَنَّهُ جَامِعٌ مَانِعٌ ‏ (‏وَالْحَدَّادُ‏) ‏ الْبَوَّابُ لِمَنْعِهِ مِنْ الدُّخُولِ وَسُمِّيَتْ عُقُوبَةُ الْجَانِي حَدًّا لِأَنَّهَا تَمْنَعُ عَنْ الْمُعَاوَدَةِ أَوْ لِأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّ التَّعْزِيرَ وَإِنْ كَانَ عُقُوبَةً لَا يُسَمَّى حَدًّا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَقْدُورٍ قَوْلُ عُمَرَ لِابْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا لَوْ رَأَيْتَهُ عَلَى حَدٍّ أَيْ عَلَى أَمْرٍ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ إلَّا مَجْلُودًا فِي حَدٍّ أَرَادَ حَدَّ الْقَذْفِ ‏ (‏وَالْحَدَّادُ‏) ‏ الَّذِي يُقِيمُ الْحَدَّ فَعَّالٌ مِنْهُ كَالْجَلَّادِ مِنْ الْجَلْدِ ‏ (‏وَمِنْهُ‏) ‏ قَوْلُهُ أُجْرَةُ الْحَدَّادِ عَلَى السَّارِقِ وَقِيلَ هُوَ السَّجَّانُ لِأَنَّهُ فِي الْغَالِبِ يَتَوَلَّى الْقَطْعَ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ وَأَظْهَرُ ‏ (‏وَحُدُودُ اللَّهِ‏) ‏ أَحْكَامُهُ الشَّرْعِيَّةُ لِأَنَّهَا مَانِعَةٌ عَنْ التَّخَطِّي إلَى مَا وَرَاءَهَا ‏ (‏وَمِنْهُ‏) ‏ ‏ {‏تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا‏} ‏ وَيُقَالُ لِمَحَارِمِهِ وَمَنَاهِيهِ حُدُودٌ لِأَنَّهَا مَمْنُوعٌ عَنْهَا ‏ (‏وَمِنْهُ‏) ‏ ‏ {‏تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا‏} ‏ ‏ (‏وَالْمَحْدُودُ‏) ‏ خِلَافُ الْمَجْدُودِ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ الرِّزْقِ ‏ (‏وَحِدَادُ الْمَرْأَةِ‏) ‏ تَرْكُ زِينَتِهَا وَخِضَابِهَا وَهُوَ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا لِأَنَّهَا مُنِعَتْ عَنْ ذَلِكَ أَوْ مَنَعَتْ نَفْسَهَا عَنْهُ وَقَدْ أَحَدَّتْ إحْدَادًا فَهِيَ مُحِدٌّ وَحَدَّتْ تَحُدُّ بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا حِدَادًا وَالْحِدَادُ أَيْضًا ثِيَابُ الْمَأْتَمِ السُّودُ ‏ (‏وَأَمَّا الِاسْتِحْدَادُ‏) ‏ لِحَلْقِ الْعَانَةِ فَمُشْتَقٌّ مِنْ الْحَدِيدِ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي ذَلِكَ وَكَأَنَّهُ سُمِّيَ حَدِيدًا لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ لِصَلَابَتِهِ ‏ (‏وَمِنْهُ‏) ‏ وَحَوَافِرُهَا حَدِيدًا أَيْ صُلْبَةٌ كَأَنَّهَا حَدِيدٌ ‏ (‏وَبِهِ سُمِّيَ‏) ‏ وَالِدُ عُمَارَةَ بْنِ حَدِيدٍ الْبَجَلِيِّ فِي بَابِ السَّرَايَا ‏ (‏وَالْحِدَادَةُ‏) ‏ بِالْكَسْرِ صِنَاعَةُ الْحَدَّادِ وَهُوَ الصَّانِعُ فِي الْحَدِيدِ ‏ (‏وَقَوْلُهُ‏) ‏ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيمَا بَدَا لَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ مَا خَلَا الرَّحَى وَالْحَدَّادَ وَالْقَصَّارَ الصَّوَابُ مَا خَلَا وَضْعَ الرَّحَى وَالْحِدَادَةَ وَالْقِصَارَةَ لِأَنَّ تِلْكَ الْأَعْيَانَ لَيْسَتْ مِنْ أَعْمَالِهِ ‏ (‏وَحُدَّانُ‏) ‏ بِالضَّمِّ اسْمٌ مُرْتَجَلٌ مِنْ حُرُوفِ الْحَدِيدِ ‏ (‏وَمِنْهُ‏) ‏ سَعِيدُ بْنُ ذِي حُدَّانِ فِي السِّيَرِ يَرْوِي عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ‏.

المغرب في ترتيب المعرب-ناصر بن عبدالسيد أبى المكارم ابن على، أبو الفتح، برهان الدين الخوارزمي المُطَرِّزِىّ-توفي: 610هـ/1213م


30-المعجم الغني (حِجامٌ)

حِجامٌ- [حجم]. "حِجامُ الكَلْبِ": جِلْدَةٌ تُوضَعُ في فَمِ الكَلْبِ أَوْ أَيِّ حَيَوانٍ لِمَنْعِهِ مِنَ العَضِّ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


31-المعجم الغني (فِدَامٌ)

فِدَامٌ- الجمع: فُدُومٌ. [فدم]:

1- "وَضَعَ الْفِدَامَ فِي فَمِ الْبَعِيرِ": مَا يُوضَعُ عَلَى فَمِهِ لِمَنْعِهِ مِنَ الأَكْلِ أَوِ الْعَضِّ.

2- "وَضَعَ الْفِدَامَ

فِي فَمِ الإِبْرِيقِ": الْمِصْفَاة الصَّغِيرَة الَّتِي يُصَفَّى بِهَا مَا يَنْزِلُ مِنْ حُثَالَةٍ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


32-المعجم الغني (كَلاَّ)

كَلاَّ-

1- حَرْفُ جَوَابٍ مُخْتَصّ بِنَفْيِ الجَوَابِ: "هَلْ حَضَرَ الزَّائِرُ": كَلاَّ لَمْ يَحْضُرْ، وَكَلاَّ: حَرْفٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ لَا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإِعْرَابِ.

2- حَرْفُ زَجْرٍ وَرَدْعٍ: "سَأَخْرُجُ لَيْلًا مَهْمَا كَانَ الأَمْرُ": كَلاَّ: أَيْ تُفِيدُ الزَّجْرَ وَالرَّدْعَ لِمَنْعِهِ مِنَ الخُرُوجِ لِمَا يُمْكِنُ أَنْ يَلْحَقَهُ مِنْ سُوءٍ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


33-المعجم الغني (مُكَمَّمٌ)

مُكَمَّمٌ(مُكَمَّمَةٌ )- الجمع: (مُكَمَّمُونَ، مُكَمَّمَاتٌ ). [كمم]، (اسم مفعول مِن: كَمَّمَ):

1- "رَفَضَ أَنْ يَظَلَّ مُكَمَّمَ الفَمِ": مَمْنُوعًا مِنَ الكَلَامِ، وَمِنْ حُرِّيَّةِ التَّعْبِيرِ.

2- "حَيَوَانٌ مُكَمَّمٌ": مَكْمومٌ أَيْ وُضِعَتِ الكِمامَةُ على خَطْمِهِ لِمَنْعِهِ مِنَ العَضِّ.

3- "زَهْرَةٌ مُكَمَّمَةٌ": مُغْلَقَةٌ.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


34-المعجم الغني (مَكْمُومٌ)

مَكْمُومٌ(مَكْمُومَةٌ )- [كمم]، (اسم مفعول مِن: كَمَّ):

1- "حَيَوَانٌ مَكْمُومٌ": مُكَمَّمٌ، أي وُضِعَتِ الكِمامَةُ على خَطْمِهِ لِمَنْعِهِ مِنَ العَضِّ.

2- "ظَلَّتِ الْحَقِيقَةُ مَكْمُومَةً": مَسْتُورَةً، مَخْفِيَّةً.

الغني-عبدالغني أبوالعزم-صدر: 1421هـ/2001م


35-معجم الرائد (فدام)

فدام:

1- مصفاة تجعل على فم الإبريق ليصفى بها ما فيه.

2- ما يوضع على فم الجمل لمنعه من الأكل أو العض.

3- خرقة تشدها العجم والمجوس على أفواهها عند السقي.

الرائد-جبران مسعود-صدر: 1384هـ/1965م


36-معجم الرائد (فدامة)

فدامة: ما يوضع على فم الجمل لمنعه من الأكل أو العض.

الرائد-جبران مسعود-صدر: 1384هـ/1965م


37-طِلبة الطلبة (حطم)

(حطم):

وَطُفْ مِنْ وَرَاءِ الْحَطِيمِ وَهُوَ مَا كَانَ فِي الْأَصْلِ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ حُطِمَ أَيْ كُسِرَ مِنْ حَدِّ ضَرَبَ وَأُزِيلَ مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ وَلَهُ اسْمَانِ آخَرَانِ أَحَدُهُمَا الْحِجْرُ بِكَسْرِ الْحَاءِ مِنْ الْحَجْرِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَهُوَ الْمَنْعُ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ مُنِعَ عَنْ الْإِدْخَالِ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ وَاسْمُهُ الْآخَرُ الْحَظِيرَةُ وَهِيَ مِنْ الْحَظْرِ أَيْ الْمَنْعِ مِنْ حَدِّ دَخَلَ لِمَنْعِهِ عَنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ.

طلبة الطلبة-أبوحفص النسفي-توفي: 537هـ/1142م


38-تاج العروس (شيأ)

[شيأ]: شِئْتُه أَي الشي‌ءَ أَشَاؤُه شَيْأً ومَشِيئَةً كخَطِيئَة وَمَشَاءَةً كَكَراهة ومشَائِيَةً كعَلانِية: أَردْتُه قال الجوهريُّ: المشِيئَة: الإرادة، ومثلُه في المِصباح والمُحكم، وأَكثرُ المتكلّمين لم يُفرِّقوا بينهما، وإن كانتا في الأَصل مُخْتَلِفَتَيْنِ فإِن المَشيئَة في اللُّغة: الإيجاد، والإرادةُ: طلبٌ، أَوْمَأَ إليه شيخُنا ناقلًا عن القُطْب الرَّازِي، وليس هذا مَحَلَّ البسْطِ والاسمُ منه الشِّيئَة كَشِيعة عن اللِّحيانيّ، ومثله في الرَّوض للسُّهَيْلِي وقالوا: كلُّ شَيْ‌ءٍ بِشِيئَةِ اللهِ تعالى بكسر الشين؛ أَي بمَشيئَته، وفي الحديث: أَنّ يَهودِيًّا أَتَى النبِيَّ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم فقال: إِنكم تَنْذِرُون وتُشْرِكُون فتقولون: ما شاءَ اللهُ وشِئْتُ، فأَمرهم النبيُّ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم بأَن يقولوا: «ما شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئْتُ» وفي لسان العرب وشرح المُعلَّقات: المشيئَةُ، مهموزة: الإِرادة، وإنما فَرَقَ بين قولِه: ما شَاءَ اللهُ وشِئْتُ، «وما شَاءَ اللهُ ثُمَّ شِئْتُ» لأَن الواو تُفيد الجمْعَ دون الترتيبِ، وثُمَّ تَجْمعُ وتُرتِّب، فمع الواوِ يكون قد جمعَ بينَ الله وبينَه في المشيئَةِ، ومع ثُمَّ يكون قد قدَّمَ مَشيئَةَ اللهِ على مَشِيئَتِه.

والشي‌ءُ معروف بين الناسِ، قال سيبويه حين أَراد أَن يجعل المُذكَّر أَصلًا للمؤنث: أَلَا تَرى أَن الشْي‌ءَ مُذكَّرٌ، وهو يقع على كُلِّ ما أُخْبِرَ عنه، قال شيخنا: والظاهر أَنه مصدرُ بمعنى اسم المفعول؛ أَي الأَمر المَشِي‌ءُ أَي المُرادُ الذي يتَعَلَّق به القَصْدُ، أَعمُّ مِن أَن يكون بِالفِعْل أَو بِالإِمْكانِ، فيتناوَلُ الوَاجِبَ والمُمْكِنَ والمُمْتَنِعَ، كما اختاره صاحبُ الكشَّاف، وقال الراغبُ: الشيْ‌ءُ: عِبارة عن كُلِّ موْجودٍ إمَّا حِسًّا كالأَجسام، أَو مَعْنًى كالأَقوالِ، وصرَّح البَيْضاوِيُّ وغيرُه بأَنه يَخْتَصُّ بالموجود، وقد قال سِيبويهِ: إِنه أَعمُّ العَامِّ، وبعض المُتكلِّمينَ يُطلِقه على المعدوم أَيضًا، كما نُقِلَ عن السَّعْدِ وضُعِّفَ، وقالوا: من أَطلقَه مَحجوجٌ بعدم استعمالِ العرب ذلك، كما عُلِم باستقْرارٍ كلامِهم وبنحْوِ {كُلُّ شَيْ‌ءٍ هالِكٌ إِلّا وَجْهَهُ} إِذ المعدومُ لا يَتَّصِفُ بالهَلاكِ، وبنحْوِ {وَإِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} إِذ المعدوم لا يُتَصَوَّرُ منه التسبيحُ. انتهى. الجمع: أَشياءُ غير مصروف وأَشْيَاوَاتٌ جمعُ الجمعِ لشيْ‌ءٍ، قاله شيخنا وكذا أَشَاوَاتٌ وأَشَاوَى بفتح الواو، وحُكِي كَسْرُها أَيضًا، وحكى الأَصمعيُّ أَنه سمع رجلًا من أَفصح العرب يقول لِخَلَف الأَحمرِ: إِنَّ عِندك لأَشَاوِي وأَصلُه أَشَابِيُّ بثلاثِ ياآتٍ خُفِّفت الياءُ المشدّدة، كما قالوا في صَحَاريّ صَحارٍ فصار أَشايٍ ثم أُبدل من الكسرة فتحة ومن الياءِ أَلف فصار أَشايا كما قالوا في صَحَارٍ صَحَارَى، ثم أَبدلُوا من الياءِ واوًا، كما أَبدلوا في جَبَيْت الخَراجَ جبَايةً وجِبَاوَةً، كما قاله ابن بَرّيّ في حواشي الصِّحاح وقولُ الجوهريِّ إِنّ أَصله أَشَائِيُّ بياءَين بالهمز أَي همز الياء الأُولى كالنُّون في أَعناقِ إِذا جمعته قلت أَعانِيق، والياءُ الثانِية هي المُبدلة من أَلف المدّ في أَعناقٍ تُبْدَل ياءً لكسر ما قبلها، والهمزةُ هي لامُ الكلمة، فهي كالقاف في أَعانِيق، ثم فلِبَت الهمزةُ لتطَرُّفِها، فاجتمعتْ ثلاثُ ياآتٍ، فتوالَتِ الأَمثالُ فاستُثْقِلت فحُذِفت الوُسْطَى وقُلِبت الأَخيرةُ أَلفًا، وأُبْدلَت من الأُولى واوًا، كما قالوا: أَتَيْتُه أَتْوَةً، هذا ملخص ما في الصحاح قال ابن بَرّيّ: وهو غَلَطٌ منه لأَنه لا يصِحُّ همْزُ الياءِ الأُولى لكَوْنِها أَصلًا غيرَ زائدة وشرْطُ الإِبدال كونها زائدةً كما تَقولُ في جمع أَبْياتٍ أَبايِيتُ ثَبتت ياؤُها لعدم زِيادتها، وكذا ياء مَعَايِشَ فلا تَهْمِزُ أَنت الياءَ التي بعد الأَلِف لأَصالتها، هذا نص عِبارة ابن بَرِّيّ. قال شيخنا: وهذا كلام صحيح ظاهر، لكنه ليس في كلام الجوهريّ الياءُ الأُولى حتى يردّ عليه ما ذكر، وإنما قال: أَصله أَشائيّ فقُلبت الهمزة ياء فاجتمعت ثلاثُ ياآت. قال: فالمراد بالهمزة لام الكلمة لا الياء التي هي عين الكلمة، إلى آخر ما قال.

قلت: وبما سقناه من نصّ الجوهري آنفًا يرتفع إِيراد شيخنا الناشي‌ء عن عدم تكرير النظر في عبارته، مع ما تحامل به على المصنِّف عفا اللهُ وسامح عن جسارته ويُجْمَع أَيضًا على أَشايَا بإِبقاء الياء على حالها دون إِبدالها واوًا كالأُولى، ووزنه على ما اختاره الجوهريّ أَفَائِلُ، وقيل أَفَايَا وحُكِي أَشْيَايَا أَبْدلوا همزتَه ياء وزادوا أَلفًا، فوزنه أَفعَالًا، نقله ابنُ سيده عن اللَّحيانيّ وأَشَاوِهُ بإِبدال الهمزة هاءً، وهو غَرِيبُ أَي نادر، وحَكَى أَن شيخًا أَنشد في مجلس الكِسائيِّ عن بعض الأَعراب:

وذَلِكَ مَا أُوصِيكِ يَا أَمَّ مَعْمَرٍ *** وبَعْضُ الوَصَايَا فِي أَشَاوِهَ تَنْفَعُ

قال اللحيانيُّ: وزعم الشيخ أَن الأَعرابي قال: أُرِيد أَشَايَا، وهذا من أَشَذِّ الجَمْع لأَنَّه ليس في الشي‌ءِ هاءٌ وعبارة اللحيانيِّ، لأَنه لا هاءَ في الأَشياءِ وتصغيره شُيَيْ‌ءٌ مضبوط عندنا في النسخة بالوجهين معًا، أي بالضمّ على القياس، كَفلْسٍ وفُليْسٍ، وأَشار الجوهريُّ إلى الكَسر كغيرهِ، وكأَنّ المؤلف أَحال على القياس المشهور في كُلِّ ثُلاثِيِّ العَيْنِ، قال الجوهريُّ ولا تقل شُوَيّ بالواو وتشديد الياء أَو لُغيَّةٌ حكيت عن إدريسَ بن مُوسى النَّحْوِيِّ بل سائر الكوفيين، واستعمَلها المُولَّدُون في أَشعارهم، قاله شيخنا، وحِكايةُ الإِمام أَبي نصر الجوهريِّ رحمه ‌الله تعالى عن إمام المذهب الخَليلِ بن أَحمد الفراهِيدِيّ أَن أَشياءَ فَعْلاءُ، وأَنها معطوف على ما قبله جَمْعٌ على غيرِ واحدِهِ كشاعرٍ وشُعَراءَ كون الواحد على خِلاف القياس في الجَمْع إلى آخِره أَي آخر ما قال وسَرَد حِكَايةٌ مُختَلَّة وفي بعض النسخ بدون لفظ «حكاية» أَي ذات اختلالٍ وانحلالٍ ضَرَبَ فيها أَي في تلك الحكاية مَذهَبَ الخليلِ على مذْهب أَبي الحسن الأَخْفَشِ ولم يُمَيِّزْ بينَهما أَي بين قولَى الإِمامين وذلك أَن أَبا الحسن الأَخْفَشَ يَرَى ويذهب إِلى أَنها أَي أَشياءَ وزْنُها أفْعِلَاء كما تقول هَيْنٌ وأَهْوِنَاء، إلا أَنه كان في الأَصل أَشْيِئَاء كَأَشْيِعَاع، فاجتمعت همزتان بينهما أَلف فَحُذِفت الهمزةُ الأُولى، وفي شرح حُسام زادَه على منظومةِ الشافِيَة: حُذِفت الهمزةُ التي هي اللام تخفيفًا كراهة همزتين بينهما أَلف: فوزنها أَفْعَاء، انتهى. قال الجوهريّ: وقال الفراءُ: أَصل شَيْ‌ءٍ شَيِّ‌ءٌ على مثال شَيِّعٍ، فجُمع على أَفْعِلَاءَ مثل هَيِّنٍ وأَهْيِنَاءَ ولَيِّنٍ وأَلْيِنَاءَ، ثم خُفِّفَ فقيل شيْ‌ءٌ، كما قالوا: هَيْنٌ ولَيْنٌ، فقالوا أَشْيَاءَ، فحذفوا الهمزَةَ الأُولى، وهذا قول يَدْخُل عليه أَن لا يُجْمَع على أَشَاوَى وهي جَمْعٌ على غير واحِدِهِ المُستعْمَل المَقِيس المُطَّرِد كشاعِرٍ وشُعَراءَ، فإنّه جُمِعَ عَلى غيرِ واحدِه قال شيخنا: هذا التنظيرُ ليس من مذهب الأَخفش كما زعم المُصنّف، بل هو من تَنْظير الخَليل، كما جزم الجوهريُّ وأَقرَّه العَلَم السَّخاوِيُّ، وبه صَرَّح ابنُ سيده في المُخَصّص وعزاه إلى الخَليل.

قلت: وهذا الإيراد نصّ كلام ابن بَرّيّ في حواشيه، كما سيأْتي، وليس من كلامه، فكان ينبغي التنبيهُ عليه لأَنَّ فاعِلًا لا يُجْمَع على فُعَلَاءَ لكن صرَّح ابنُ مالكٍ وابنُ هِشامٍ وأَبو حيّانَ وغيرُهم أَن فُعَلَاءَ يَطَّرِد في وَصْفٍ على فعيل بمعنى فاعِلٍ غير مُضاعَفٍ ولا معتَلٍّ كَكَرِيم وكُرماء وظَرِيف وظُرفاء، وفي فاعلِ دالٍّ على مَعْنًى كالغَرِيزة كَشاعِرٍ وشُعراء وعاقِل وعُقَلَاء وصالِح وصُلَحاء وعالم وعُلَماء، وهي قاعِدَةٌ مُطَّرِدة، قال شيخنا: فلا أَدْري ما وَجْه إقرار المصَنّف لذلك كالجوهريّ وابنِ سيده وأَمّا الخليلُ بن أَحمد فيرى أَنها أَي أَشياءَ اسمُ الجمع وزنها فَعْلَاءُ أَصْله شَيْئَاءُ، كحمْراء فاستُثقِل الهمزتانِ، فقلبوا الهمزةَ الأُولى إلى أَوَّل الكلمةِ، فجُعِلت لَفْعَاء، كما قَلبوا أَنْوُق فقالوا أَيْنُق، وقلبوا أَقْوُس إِلى قِسِيٍّ، قال أَبو إِسحاق الزجاج: وتصديقُ قولِ الخليل جمْعهم أَشياء على أَشَاوى وأَشَايا وقولُ الخليلِ هو مذهبُ سِيبويهِ والمازِنِّي وجميعِ البصريِّينَ إلا الزيادِيَّ منهم، فإنه كان يمِيل إلى قولِ الأَخفشِ، وذُكِر أَن المازنيَّ ناظر الأَخفشَ في هذا فقطعَ المازِنيُّ الأَخفَشَ، قال أَبو منصور: وأَما الليث فإنه حكى عن الخليل غير ما حكى عنه الثِّقاتُ، وخَلَّط فيما حكَى وطَوَّل تَطْوِيلًا دلَّ على حَيْرَته، قال: فلذلك تركْتُه فلم أَحْكِه بِعَيْنِه. نائبةٌ عن أَفْعَالٍ وبَدَلٌ منه قال ابنُ هشامٍ: لم يرِد منه إِلَّا ثلاثةُ أَلفاظٍ: فَرْخٌ وأَفْرَاخ، وزَنْد وأَزْناد وحَمْل وأَخْمال، لا رابع لها، وقال غيره: إنه قليل بالنسبة إلى الصحيح، وأَما في المعتل فكثير وجَمْعٌ لِوَاحِدِها وقد تقدّم من مذهب سِيبويهِ أَنَّها اسمُ جمعٍ لا جَمْعٌ فليُتَأمَّلْ، المُستَعْمَل المطَّرِد وهو شيْ‌ءٌ وقد عرفت أَنه شاذٌّ قليلٌ وأَمَّا الكسائِيُّ فيرى أَنها أَي أَشياءَ أَفعالٌ كَفَرْخٍ وأَفْرَاخٍ أَي من غير ادَّعاء كُلْفةٍ، ومن ثم اسْتَحْسَنَ كثيرُون مَذهبَه، وفي شرح الشافية، لأَن فَعْلًا مُعْتَلَّ العينِ يُجمع على أَفعال.

قلت: وقد تقدّمت الإشارة إليه، فإن قلت: إذا كان الأَمر كذلك فكيف مُنِعَت من الصرف وأَفْعَال لا مُوجِب لِمَنْعه.

قلت: إِنما تُرِك صَرْفُها لِكَثرةِ الاستعمالِ فخَفَّتْ كثيرًا، فقابلوا خِفَّتها بالتثقيل وهو المنع من الصرف لأَنها أَي أَشياءَ شُبِّهَتْ بِفَعْلَاءَ مثل حمْراءَ في الوزن، وفي الظاهر، وفي كَوْنِها جُمِعَتْ على أَشْيَاوَات فصَارَتْ كخَضْرَاءَ وخَضْراوَاتٍ وصَحْرَاءَ وصَحْرَاوات، قال شيخُنا: قوله: لأَنها شُبِّهت، إلخ من كلام المُصَنِّف جوابًا عن الكسائي، لا من كلام الكسائيِّ.

قلت: قال أَبو إسحاق الزجّاج في كتابه في قوله تعالى: {لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ} [أشياء] في موضِع الخفض إلّا أَنّها فُتِحت لأَنها لا تنصرِف، قال: وقال الكسائيُّ: أَشبَه آخِرُها آخِرَ حَمراءَ وكثُرَ استعمالُها فلم تُصْرَف. انتهى، فعُرِف من هذا بُطْلان ما قاله شَيْخُنا، وأَن الجوهريّ إنما نَقله من نصِّ كلام الكسائيّ، ولم يأْتِ من عِنْده بشي‌ءٍ فحِينئذٍ لا يَلْزَمُهُ أَي الكسائيَّ أَن لا يصْرِفَ أَبْنَاءٌ وأَسْمَاءَ كما زعم الجوهريُّ قال أَبو إسحاق الزجّاج: وقد أَجمع البصريّونُ وأَكثرُ الكُوفِيِّين على أَن قول الكسائيِّ خطأٌ في هذا، وأَلزموه أَن لا يصرِف أَبناءً وأَسماءً. انتهى، فقد عرفْتَ أَنَّ في مثل هذا لا يُنْسب الغلطُ إلى الجوهريّ كما زعم المؤلّفُ لأَنهم لم يَجْمَعُوا أَبناءً وأَسماءً بالأَلف والتَّاءِ فلم يَحْصُل الشَّبَهُ. وقال الفراءُ: أَصلُ شَيْ‌ءٍ شَيِّي‌ءٌ على مِثال شيِّعٍ، فجُمِع على أَفْعِلاء مثل هَيِّنْ وأَهْيِنَاء وليِّن وأَلْيِنَاء، ثم خُفِّف فقيل شَيْ‌ءٌ كما قالوا هَيْنٌ ولَيْنٌ، فقالوا أَشياء، فحذفوا الهمزة الأُولى، كذا نصُّ الجوهريّ، ولما كان هذا القولُ راجعًا إلى كلام أَبي الحسن الأَخفش لم يَذْكُرْهُ المؤلف مستقلًّا، ولذا تَرى في عبارة أَبي إسحاق الزجّاج وغيرِهِ نِسبةَ القوْلِ إِليهما معًا، بل الجارَبَرْدِي عَزَا القَولَ إلى الفَرَّاء ولم يَذكر الأَخفش، فلا يقال: إن المؤلّف بَقِيَ عليه مذهبُ الفرَّاء كما زعم شيخُنا، وقال الزجّاج عند ذِكر قوْلِ الأَخفش والفرَّاءِ: وهذا القولُ أَيضًا غلطٌ، لأَنَّ شَيْئًا فَعْلٌ، وفَعْلٌ لا يُجْمَع على أَفْعِلاءَ، فأَمَّا هَيْن فأَصلُه هَيِّن فجُمِع على أَفْعِلَاء كما يُجْمَع فَعِيلٌ على أَفعِلاء مثل نَصِيب وأَنْصِباء انتهى.

قلت، وهذا هو المذهب الخامِس الذي قال شيخنا فيه إنه لم يَتَعَرَّض له اللُّغَوِيُّون، وهو راجعٌ إلى مذهب الأَخفش والفرَّاء، قال شيخنا في تَتِمَّات هي للمادَّة مُهِمَّات: فحاصلُ ما ذُكِر يَرْجع إلى ثلاثة أَبْنِيَة تُعْرَف بالاعتبار والوَزْنِ بعد الحَذف فتصير خَمْسةَ أَقْوالٍ، وذلك أَن أَشْياء هل هي اسمُ جَمعٍ وَزْنُها فَعْلاء أَو جَمْع على فَعْلَاء ووزنه بعد الحَذْفِ أَفْعاء أَو أَفْلَاء أَو أَفْياء أَو أَصلها أَفْعَال، وبه تعلَم ما في القاموس والصحاح والمحكم من القُصور، حيث اقتصر الأَوّل على ثلاثة أَقوال، مع أَنه البحر، والثاني والثالث على أَربعة، انتهى.

وحيث انجرَّ بنا الكلام إلى هنا ينبغي أَن نعلم أَيّ المذاهب مَنْصورٌ مما ذُكِر.

فقال الإمام علم الدين أَبو الحسن عليّ بن محمد بن عبد الصمد السَّخاوِيّ الدِّمشقيّ في كتابه سِفْر السَّعادة وسفير الإِفادة: وأَحسنُ هذه الأَقوالِ كلَّها وأَقربُها إلى الصوابِ قولُ الكسائيّ، لأَنه فَعْلٌ جُمِع على أَفْعال، مثل سَيْفٍ وأَسْياف، وأَمّا منعُ الصَّرْف فيه فعلى التشبيه بِفَعْلاء، وقد يشتبه الشي‌ءُ بالشي‌ءِ فيُعْطَى حُكْمه، كما أَنهم شَبَّهوا أَلف أَرْطَى بأَلف التأْنيث فمنعوه من الصرف في المعرفة، ذكر هذا القول شيخُنا وأَيَّدَه وارْتضاه.

قلت: وتقدم النقلُ عن الزجّاج في تخطِئَة البَصرِيّيّن وأَكثرِ الكُوفيّين هذا القَول، وتقدم الجوابُ أَيضًا في سِيَاق عِبارة المؤلّف، وقال الجَاربَرْدِي في شرح الشَّافِية: ويلْزم الكسائيَّ مخالفةُ الظاهرِ من وجْهينِ: الأَول مَنْع الصرْفِ بغير عِلَّة، الثاني أَنها جُمِعَت على أَشَاوَى. وأَفعال لا يُجْمَع على أَفاعل.

قلت: الإِيراد الثاني هو نصُّ كلام الجوهريّ، وأَما الإِيراد الأَول فقد عرفتَ جوابَه.

وذكر الشّهاب الخَفاجي في طِراز المجالس أَن شِبْهَ العُجْمة وشِبْه العَلَمِيَّة وشِبْه الأَلِف مما نَصَّ النُّحاة على أَنه من العِلَل، نقلَه شيخُنا وقال: المُقرَّر في عُلوم العربية أَن من جُمْلة موانع الصرْف أَلِفَ الإِلحاق، لشَبَهِها بأَلف التأْنيث، ولها شرطان: أَن تكون مَقصورةً، وأَما أَلِفُ الإِلحاق الممدودةُ فلا تَمْنَع وإن ضُمَّت لِعِلَّةِ أُخْرى، الثاني أَن تقع الكلمةُ التي فيها الأَلف المقصورةُ علمًا، فتكون فيها العَلَمِيّةُ وشِبْهُ أَلفِ التأْنيث، فأَما الأَلف التي للتأْنيث فإنها تَمنعُ مطلقًا، ممدودةً أَو مقصورةً، في معرفةِ أَو نكرةِ، على ما عُرِف. انتهى.

وقال أَبو إسحاق الزجّاج في كتابه الذي حَوَى أَقَاويلَهم واحتجَّ لأَصوبها عنده وعزاه للخليل فقال: قوله تعالى: {لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ} في موضعِ الخَفْضِ إلَّا أَنّها فُتِحت لأَنها لا تَنْصرف.

ونص كلام الجوهريّ: قال الخليل: إنما تُرِك صَرْفُ أَشياءَ لأن أَصلَه فَعْلَاء، جُمِعَ على غير واحدهِ، كما أن الشُّعَراء جُمع على غير واحدِهِ، لأَن الفاعِل لا يُجْمع على فُعَلَاء، ثم استثْقَلُوا الهمزتَيْنِ في آخِره نَقَلُوا الأُولى إلى أَوّل الكلِمة فقالوا أَشْياء، كما قالوا أَيْنُق وقِسِيّ فصار تقديرُه لَفْعاء، يدُلُّ على صِحّة ذلك أَنه لا يُصْرَف، وأَنه يُصَغَّرُ على أَشيَاء، وأَنه يُجْمَع على أَشَاوَى، انتهى. قال الجاربردي بعد أَن نقل الأَقوال: مذهبُ سِيبويه أَوْلى، إذ لا يَلزمه مخالَفةُ الظاهرِ إلَّا من وَجْهٍ واحدٍ، وهو القَلْبُ، مع أَنه ثابِتٌ في لُغتهم في أمثِلة كثيرةٍ.

وقال ابن بَرِّيّ عند حِكاية الجوهريّ عن الخليل إنّ أَشياءَ فَعْلَاءُ جُمِع على غير واحدِهِ كما أَنّ الشُّعَراءَ جُمِع على غير واحده: هذا وَهَمٌ منه، بل واحدُها شيْ‌ءٌ، قال: وليست أَشياءُ عِنده بجمْعٍ مكَسَّر، وإِنما هي اسمٌ واحدٌ بمنزلةِ الطَّرْفَاءِ والقَصْباءِ والحلْفَاءِ، ولكنه يجعلُها بدلًا من جَمْعٍ مُكَسَّرٍ بِدلالةِ إضافةِ العدَد القليل إليها، كقولهم: ثَلاثَةُ أَشْياءَ، فأَما جَمْعُها على غير واحِدِها فذلك مَذهبُ الأَخفشِ، لأَنه يرى أَنَّ أَشياءَ وَزْنُهَا أَفْعِلاء، وأَصلها أَشْيِئَاء فحُذِفت الهمزةُ تخفيفًا، قال: وكان أَبو عَلِيٍّ يُجِيز قولَ أَبي الحسن على أَن يكون واحِدُها شَيْئًا، ويكون أَفْعِلاء جَمْعًا لِفَعْلٍ في هذا، كما جُمِع فَعْلٌ على فُعَلَاءُ في نَحْو سَمْحٍ وسُمَحَاء، قال: وهو وَهَمٌ من أَبي علِيٍّ، لأَن شَيْئًا اسمٌ، وسَمْحًا صفة بمعنى سَمِيح، لأَن اسم الفاعل من سَمُحَ قياسه سَمِيح، وسَمِيح يُجمَع على سُمَحاءَ، كَظرِيف وظُرفاء، ومثله خَصْمٌ وخُصَمَاء، لأَنه في معنى خَصِيم، والخَليلُ وسيبويهِ يقولان أَصلها شيئاء، فقُدِّمت الهمزة التي هي لامُ الكلمةِ إلى أَوَّلها فصارت أَشياءَ، فوزنها لَفْعَاء، قال: ويدُلُّ على صِحَّة قولهما أَن العرب قالت في تَصغيرها أُشَيَّاء، قال: ولو كانت جَمْعًا مُكسَّرًا كما ذهبَ إليه الأَخفش لَقِيل في تصغيرها شُيَيْئَات كما يُفْعل ذلك في الجُموع المُكَسَّرة، كجِمَال وكِعَاب وكِلَاب، تقول في تصغيرها: جُمَيْلَات وكُعَيْبَات وكُلَيْبَات، فتَردّها إلى الواحد ثُمَّ تَجمعها بالأَلف والتاء.

قال فخر الدين أَبو الحسن الجابربردي: ويلزم الفرَّاء مخالفةُ الظاهرِ مِن وُجوهٍ: الأَول أَنه لو كان أَصلُ شَيْ‌ءٍ شَيِّئًا كَبيِّن، لكان الأَصل شائعًا كثيرًا، أَلا تَرى أَن بَيِّنًا أَكثَرُ مِن بَيْنٍ وَميِّتًا أَكثرُ من مَيْت، والثاني أَن حذف الهمزة في مِثلها غيرُ جائزٍ إِذ لا قِياس يُؤَدِّي إلى جَواز حذف الهمزة إذا اجتمع هَمزتانِ بينهما أَلف. الثالث تصغيرُها على أُشَيَّاءَ، فلو كانت أَفْعِلاءَ لكانت جَمْعَ كَثرةٍ، ولو كانت جَمْعَ كثرةِ لوجبَ رَدُّها إلى المُفرد عند التصغير، إذ ليس لها جَمْعُ القلَّة. الرابع أَنها تُجمَع على أَشَاوَى، وأَفعِلَاء لا يُجْمع على أَفاعلَ، ولا يلزمُ سِيبويهِ من ذلك شَيْ‌ءٌ، لأَنّ مَنْعَ الصَّرْفِ لأَجلِ التأْنِيثِ، وتصغيرُها على أُشَيَّاء لأَنها اسمُ جَمْعٍ لا جَمْعٌ، وجَمْعُهَا على أَشَاوَى لأَنها اسمٌ على فَعْلَاءَ فيُجمع على فَعَالَى كصحارٍ أَو صَحَارَى، انتهى.

قلت: قوله ولا يلزم سيبويهِ شي‌ءٌ من ذلك على إِطلاقه غير مُسَلّم، إِذ يَلزمه على التقرير المذكور مثلُ ما أَورد على الفرّاء من الوجه الثاني، وقد تقدم، فإِن اجتماع هَمزتين بينهما أَلف واقعٌ في كلامِ الفُصحاء، قال الله تعالى: {إِنّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ} وفي الحديث: «أَنا وأَتْقِياءُ أُمَّتي بُرَآءُ من التَكلُّف» قال الجوهري: إن أَبا عُثمَانَ المازِنيَّ قال لأَبي الحسن الأَخفشِ: كيف تُصَغِّر العَربُ أَشياءَ؟ فقال: أُشَيَّاءَ، فقال له: تَركتَ قولَك، لأَن كلَّ جَمْع كُسِّر على غيرِ واحدِه وهو من أَبنِيَة الجمْعِ فإِنه يُرَدُّ بالتصغير إلى واحده، قال ابنُ برِّيّ: هذه الحكاية مُغَيَّرة، لأَن المازنيّ إِنما أَنكر على الأَخفش تَصغير أَشياء، وهي جَمْعٌ مُكَسَّرٌ للكثير من غيرِ أَن يُرَدَّ إِلى الواحد، ولم يقل له إِن كلَّ جمع كُسِّر على غيرِ واحدِهِ، لأَنه ليس السَّببُ المُوجِبُ لردِّ الجمع إِلى واحده عند التصغير هو كَوْنه كُسِّر على غير واحده، وإِنما ذلك لكونه جَمْعَ كثرة لا قِلَّة.

وفي هذا القدْرِ مَقْنَعِ للطالب الراغبِ فتأَمَّلْ {وَكُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ}، وبعد ذلك نَعود إِلى حَلِّ أَلفاظ المَتْن، قال المؤلف:

والشَّيِّآنُ أَي كَشَيِّعَان تَقَدَّم ضبطُه ومعناه؛ أَي أَنه واوِيُّ العين ويائِيُّها، كما يأْتي للمؤلف في المعتَلّ إِيمَاء إِلى أَنه غير مهموز، قاله شيخُنا، ويُنْعَت به الفَرسُ، قال ثَعْلَبَةُ بن صُعَيْرٍ:

ومُغِيرَة سَوْمَ الجَرادِ وَزَعْتُها *** قَبْلَ الصَّبَاحِ بِشَيِّآن ضَامِرِ

وأَشاءَهُ إِليه لُغة في أَجاءَه أَي أَلْجَأَهُ، وهو لُغة تَميمٍ يقولون: شَرٌّ ما يُشِيئُكَ إِلى مُخَّةِ عُرْقُوبٍ؛ أَي يُجِيئُك ويُلْجِئُك، قال زُهَيْر بن ذُؤَيْب العَدَوِيُّ:

فَيَالَ تَمِيمٍ صَابِرُوا قَدْ أُشِئْتُمُ *** إِلَيْهِ وكُونُوا كالمُحَرِّبَةِ البُسْلِ

والمُشَيَّأُ كمُعَظَّم هو المُخْتَلِف الخَلْقِ المُخْتَلّةُ القبيح، قال الشاعر:

فَطَيِّئٌ مَا طَيئٌ مَا طَيِّئ *** شَيَّأَهُمْ إِذْ خَلَقَ المُشَيِّئ

وما نقله شَيخُنا عن أُصول المحكم بالباء الموحَّدة المُشدَّدة وتَخفيف اللام فتصحِيفٌ ظاهرٌ، والصحيح هو ما ضَبطناه على ما في الأُصول الصحيحة وجدناه، وقال أَبو سعيد: المُشَيَّأُ مثلُ المُوَبَّنِ، قال الجعديُّ:

زَفِيرَ المُتِمِّ بِالمُشَيَّإِ طَرَّقَتْ *** بِكَاهِلِهِ ممَّا يَرِيمُ المَلَاقِيَا

ويَا شَيْ‌ءَ: كَلِمَةٌ يُتَعَجَّبُ بِهَا قال:

يَا شَيْ‌ءَ مَالِي! مَنْ يُعَمَّرْ يُفْنِهِ *** مَرُّ الزَّمانِ عَلَيْهِ والتَّقْليبُ

ومعناهُ التأَسُّفُ على الشي‌ءِ يفوت وقال اللِّحيانيُّ: معناه: يا عَجَبي، و«ما» في موضع رفعٍ تَقولُ: يا شَيْ‌ءَ مَالِي، كَيا هَيْ‌ءَ مالِي، وسيأْتي في باب المعتلّ إن شاءَ اللهُ تعالى نظرًا إِلى أَنَّهما لا يهمزان، ولكن الذي قال الكسائي يا فَيَّ مَالِي ويَا هَيَّ مالِي، لا يُهْمَزَانِ، ويا شي‌ءَ مالي يُهْمَز ولا يُهمز، ففي كلام المؤلّف نظرٌ، وإِنما لم يذكر المؤلف يا شَيَّ مالي في المُعتل لما فيه من الاختلاف في كونه يُهمز ولا يُهمز، فلا يَرِد عليه ما نَسبه شيخُنا إلى الغَفْلَة، قال الأَحمر: يا فَيْ‌ءَ مالي، ويا شَي‌ءَ مالي، ويا هَيْ‌ءَ مالي معناه كُلِّه الأَسف والحُزن والتَلهُّف، قال الكسائي: و«ما» في كلّها في موضع رَفْعٍ، تأْويله يا عجبًا مالي، ومعناه التلهُّف والأَسى، وقال: ومن العرب من يقول شَيْ‌ءَ وَهيْ‌ءَ وفَيْ‌ءَ ومنهم من يزيد ما فيقول: يا شَيْ‌ءَ ما، ويا هي‌ءَ ما ويا فيْ‌ءَ ما؛ أَي ما أَحسن هذا.

وشِئْتهُ كجئْته على الأَمْر: حَمَلْتُه عليه، هكذا في النسخ، والذي في لسان العرب شَيَّأْتُه بالتشديد، عن الأَصمعي وقد شَيَّأَ اللهُ تعالى خَلْقَه ووَجْهَهُ أَي قَبَّحَه وقالت امرأَةٌ من العرب:

إنِّي لأَهْوَى الأَطْوَلِينَ الغُلْبَا *** وَأُبْغِضُ المُشَيَّئِينَ الزُّغْبَا

وتَشَيَّأَ الرجل إذا سَكَن غَضَبُه، وحكى سيبويهِ عن قولِ العرب: ما أَغْفَلَه عنك شَيْئًا أَي دَعِ الشكَّ عنك، قال ابنُ جِنّي: ولا يجوز أَن يكون شيئًا هنا منصوبًا على المصدر حتى كأَنه قال: ما أَغفلَهُ عنك غُفُولًا ونحو ذلك، لأَن فِعل التعجُّب قد استغنَى بما حصلَ فيه من معنى المُبالغةِ عن أَن يُؤَكَّد بالمصدر، قال: وأَما قولُهم: هو أَحسنُ منك شيئًا فإنه منصوب على تقدير بِشَيْ‌ءٍ، فلما حذف حرف الجر أُوصل إليه ما قبله، وذلك أَن معنى: هو أَفْعَلُ منه، في المبالغة، كمعنى ما أَفْعَلَه، فكما لم يَجُزْ ما أَقْوَمه قِيامًا، كذلك لم يَجُزْ هو أَقْوَمُ منه قِيامًا، كذا في لسان العرب، وقد أَغفله المُصنِّف. وحُكِيَ عن الليث: الشَّيْ‌ءُ: الماءُ، وأَنشد:

تَرَى رَكْبَهُ بِالشَّيْ‌ءِ فِي وَسْطِ قَفْرَةٍ

قال أَبو منصور: لا أَعرف الشَّيْ‌ءَ بمعنى الماءِ ولا أَدري ما هو [ولا أَعرف البيتَ] وقال أَبو حاتم: قال الأَصمعي: إذا قال لك الرجُل ما أَردْتَ؟ قلتَ لا شيئًا، وإن قال [لك] لم فعَلْتَ ذلك؟ قلت: لِلَاشَيْ‌ءٍ، وإن قال: ما أَمْرُكَ؟ قلت: لا شَيْ‌ءٌ، يُنَوَّنُ فيهن كُلِّهن. وقد أَغفله شيخُنا كما أَغفله المُؤَلف.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


39-تاج العروس (عذب)

[عذب]: العَذْبُ مِنَ الطَّعَامِ والشَّرَابِ، وفي بَعْضِ النُّسَخ تقديمُ الشَّرَابِ عَلَى الطَّعَام: كُلُّ مُسْتَسَاغٍ.

والعَذْبُ: المَاءُ الطَّيِّبُ. مَاءَةٌ عَذْبَةٌ ورَكِيَّةٌ عَذْبَةٌ. وفي القُرْآنِ: {هذا عَذْبٌ فُراتٌ} وعَذُبَ المَاءُ يَعْذُبُ عُذُوبَة فهو عَذْبٌ، طَيِّبٌ والجَمْعُ عِذَابُ، بالكَسْرِ وعُذُوبٌ، بالضَّمِّ. قَالَ أَبُو حَيَّة النُّمَيْرِيّ:

فَبَيَّتْنَ مَاءً صَافِيًا ذَا شَرِيعَةٍ *** لَهُ غَلَلٌ بَيْنَ الإِجَامِ عُذُوبُ

قال ابْنُ مَنْظُور: أَرَادَ بِغَلَلٍ الجنْسَ، فَلِذَلك جَمَعَ الصِّفَةَ. وَفِي حَدِيث الحجَّاجِ «مَاءٌ عِذَابٌ». يُقَالُ مَاءَةٌ عَذْبَةٌ، وَمَاءٌ عِذَابٌ، عَلَى الجَمْعِ؛ لأَنَّ المَاءَ جِنْسٌ لِلْمَاءَةِ.

والعَذْبُ والعُذُوبُ، بالضَّمِّ: تَرْكُ الرَّجُلِ والحِمَارِ والْفَرَسِ الأَكْل مِنْ شِدَةِ العَطَشِ فهو لَا صَائِمٌ ولا مُفْطر، وهو عَاذِبٌ، والجَمْعُ عُذُوبٌ بالضَّمّ، وعَذُوبٌ، كَصَبُور، والجَمْع عُذُبٌ، بِضَمَّتَيْنِ. ويُقَالُ لِلْفَرسِ وغَيْرِه: بَاتَ عَذُوبًا، إِذَا لَمْ يَأْكُلْ شيئًا ولم يَشْرَبْ، قَالَ الأَزْهَرِيُّ: القَوْلُ في العَذُوبِ والعَاذِبِ أَنه الذِي لَا يَأْكُلُ ولا يَشْرَبُ أَصْوَبُ مِنَ القَوْلِ في العَذُوفِ أَنَّه الَّذِي يَمْتَنِع عَنِ الأَكْلِ لِعَطَشِه.

وأَمَّا قَوْلُ أَبِي عُبَيْد: وجَمْعُ العَذُوبِ عُذُوبٌ فخَطَأٌ، لأَنَّ فَعُولًا لا يُكَسَّر عَلَى فُعُولِ. قُلْتُ: هُوَ مِنْ غَرَائِبِ اللُّغَةِ وفَوَائِد الأَشْبَاهِ والنَّظَائِر وَمَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ على مَن لم يَحْفَظ.

ثُم قَالَ: والعَاذِبُ مِنْ جَمِيع الْحَيَوانِ: الَّذِي لَا يَطْعَمُ شَيْئًا، وقد غَلَب عَلَى الخَيْلِ والإِبِلِ، والجَمْع عُذُوبٌ كَسَاجِدٍ وسُجُود. وقَالَ ثَعْلَب: العَذُوبُ مِنَ الدَّوَابِّ وغَيْرِهَا: القَائِمُ الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَه فلا يَأْكُلُ ولا يَشْرَبُ، وكذَلِكَ العَاذِبُ والجَمْع عُذُبٌ. والعَاذِبُ: الذِي يَبِيتُ لَيْلَة لَا يَطْعَمُ شَيْئًا.

والعَذْبُ: المَنْعُ، كالإِعْذَابِ والتَّعْذِيبِ، عَذَبَه عَنْه عَذْبًا، وأَعْذَبَه إِعْذَابًا، وعَذَّبَه تَعْذِيبًا: مَنَعَه وفَطَمَه عَنِ الأَمْرِ، وكُلُّ مَنْ مَنَعْتَه شَيْئًا فَقَد أَعْذَبْتَه وعَذَّبْتَه. والعَذْبُ: الكَفُّ، يُقَالُ: عَذَبه عَنِ الطَّعَامِ إِذَا كَفَّه، والتَّرْكُ، كالإِعْذَابِ والاسْتِعْذَابِ، يُقَال: أَعْذَبَه عَنِ الطَّعَامِ إِذَا مَنَعَه وكَفَّه، واسْتَعْذَبَ عَنِ الشَّيْ‌ءِ: انْتَهَى. وعَذَبَ عَن الشَّيْ‌ءِ وأَعْذَبَ واسْتَعْذَبَ كُلُّه: كَفَّ وأَضْرَبَ. وأَعْذَبَه عَنْه: منَعَه.

ويُقَالُ: أَعْذِب نَفْسَكَ عَنْ كَذَا؛ أَي اظْلِفْهَا عَنْهُ. وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَه «أَنَّهُ شَيَّعَ سَرِيَّةً فَقَالَ: أَعْذِبُوا عَنْ ذِكْرِ النِّسَاءِ أَنْفُسَكم فَإِنَّ ذَلِكَ يَكْسِرُكُم عَنِ الغَزْوِ» أي امْنَعُوهَا عَنْ ذِكْرِ النِّسَاءِ وشَغْلِ القُلُوبِ بِهِنّ. وكُلُّ مَنْ مَنَعْتَه شَيئًا فقد أَعْذَبْتَه. وأَعْذَبَ لَازِمٌ ومُتَعَدٍّ.

وفي التَّهْذِيبِ: أَعْذَبَ عَنِ الشَّيْ‌ءِ: امْتَنَعَ. وأَعْذَبَ غَيْرَه: مَنَعَه، فَيَكُونُ لَازِمًا وَوَاقِعًا، مِثْلَ أَمْلَقَ إِذَا افتَقَر وأَملَقَ غَيْرَه.

وفي الأَسَاس: يُقَالُ: أَعْذَبَ عَن الشَّيْ‌ءِ واسْتَعْذَبَ [عنه]: امْتَنَع. ويُقَالُ: أَعْذِبُوا عَنِ الآمَالِ أَشَدَّ الإِعْذَابِ فإِنَّهَا تُورِثُ الغَفْلَة وتُعْقِبُ الحَسْرَة. يَعْذِبُ كيَضْرِب في الكُلِّ مِمَّا ذُكِرَ غَيْر عَذَبَ المَاءُ والطَّعَامُ فإِنَّ مُضَارِعَهُمَا يَعْذُب بالضَّمِّ.

والعَذَبُ بالتَّحْرِيك: القَذَى يَعْلُو المَاءَ ومَا يَخْرُجُ في، وَفي نُسْخَة عَلَى أَثَرِ الوَلَدِ مِنَ الرَّحِم.

والعَذَبُ: شَجَرٌ مِنَ الدِّقِّ، قَالَهُ أَبُو حَنِيفَة وأَنْشَد:

مُنْهَتِكُ الشَّعْرَانِ نَضَّاخُ العَذَبْ

والعَذَبُ: مآلِي بالمَدِّ النَّوَائِح، كالمَعَاذب؛ أَي في الأَخيرِ وَاحِدَتُهَا معْذَبَةٌ. ويُقَالُ لِخِرْقَةِ النَّائِحَة عَذَبَةٌ ومِعْوَزٌ، وجَمْعُ العَذَبَة مَعَاذِبُ، على غَيْرِ قِيَاسِ قَالَه أَبُو عَمْرو.

والعَذَبُ: الخَيْطُ الَّذِي يُرْفَع بِهِ المِيزَانُ.

والعَذَبُ: طَرَفُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ.

ومنَ البَعِيرِ: طَرَفُ قَضِيبه، قَالَهُمَا ابن سيدَه. وقال غَيْره: هو أَسَلَتُه المُسْتَدقُّ في مُقَدَّمه. والعَذَبُ: الجِلْدَةُ المُعَلَّقَة خَلْفَ مُؤَخَّرَةِ الرَّحْلِ منْ أَعْلَاه.

ومِنَ الرُّمْح: خرْقة تُشَدُّ عَلَى رَأْسِه، ومنه يُقَالُ: خَفَقَتْ عَلَى رَأْسِه العَذَبُ، كَمَا في الأَسَاسِ.

ومِنَ النَّعْلِ: المُرْسَلَةُ مِنَ الشِّرَاكِ.

ومنَ العمَامَة: ما سُدلَ بَيْنَ الكَتِفَيْنِ منْهَا.

ومِنَ السَّوْط: علَاقَتُهُ وطَرَفُه.

ومِنَ اللِّسَانِ: طَرَفُه الدَّقِيقُ.

والعَذَبُ: أَطرافُ السُّيُور؛ وهي العَذَبَاتُ. قال ذو الرُّمَّة:

غُضْفٌ مُهَرَّتَةُ الأَشْدَاقِ ضَارِيَةٌ *** مِثْلُ السَّرَاحِينِ في أَعنَاقهَا العَذَبُ

يَعْنِي أَطْرَافَ السُّيورِ.

وَعَذَّبْتُ السَّوْطَ فهو مُعَذَّبٌ إِذَا جَعَلْتَ له علَاقَةً. والَّذِي في الأَسَاس: وعذَّب سَوْطَه وهَدَّبَه جَعَلَ لَهُ علاقَةً.

والعَذَبُ مِنَ الشَّجَرِ: غُصْنُه، الوَاحدَة بِهَاءٍ في الكُلِّ ممَّا ذُكِرَ.

واسْتَعْذَبَ الرَّجُلُ مَاءَه: اسْتَقَى عَذْبًا. واسْتَعْذَبَه: عَدَّه عَذْبًا. واسْتَعْذَبَه: شَرِبَه عَذْبًا. واسْتَعْذَبَ لِأَهْله: طَلَب لَهُم مَاءً عَذْبًا، ويَسْتَعْذب لِفُلَانٍ مِنْ بِئْرِ كَذَا أَي يَسْتَقِي لَهُ. وَفِي الحَدِيثِ «أَنَّه كَانَ يُسْتَعْذَب لَهُ المَاءُ مِنْ بُيُوتِ السُّقْيَا» أَي يُحْضَر لَهُ مِنْهَا المَاءُ العَذبُ. وَهُوَ الطَّيِّبُ الَّذِي لا مُلُوحَةَ فيه. وفي حَدِيثِ أَبي التَّيِّهَانِ أَنَّه خَرَجَ يَسْتَعْذبُ المَاءَ» أَي يَطْلُبُ المَاءَ العَذْبَ.

والعَذُوبُ والعَاذبُ: الَّذِي لَيْسَ بَيْنَه وبَيْنَ السَّمَاءِ ستْرٌ، وفي نُسْخَة: «سُتْرَة» أَوْرَدَه ابْنُ السيِّد في الفَرقْ. وقَالَ الجَعْدِيُّ يَصفُ ثَوْرًا وَحْشِيًّا بَات فَرْدًا لَا يَذُوقُ شَيْئًا:

فَبَاتَ عَذوبًا لِلسَّمَاءِ كَأَنَّهُ *** سُهَيْلٌ إِذَا مَا أَفْردَتْهُ الكَوَاكبُ

وشَاهدُ العَاذِب انْظُره فِي الفَرْق.

والعذْبَةُ بِالفَتْحِ والعَذَبَةُ بالتَّحْرِيكِ والعَذِبَةُ بكَسْرِ الثَّانِيَة، الأَوْجُه الثَّلَاثَةُ في لِسَانِ العَرَب ونُقل عنِ ابْنِ الأَعْرَابِيِّ الوَجْهُ الأَوَّلُ وقَالَ: هِيَ الكُدْرَةُ مِنَ الطُّحْلُب والعَرْمَض ونَحْوِهِمَا، وقِيلَ: هي الطُّحْلُب نَفْسُه والدِّمْن يَعْلُو المَاءَ. ويُقَالُ مِنْه: مَاءٌ عَذِبٌ كَكَتِف وذُو عَذَب أَي مُطَحْلِبٌ أَي كَثِيرُ القَذَى والطُّحْلُبِ. قَالَ ابْن سِيدَه: أُرَاهُ عَلَى النَّسَبِ، لأَنِّي لَمْ أَجِد لَهْ فِعْلًا.

وأَعْذَبَه أَي الحَوْضَ نَزَعَ طُحْلُبَه ومَا فِيهِ مِنَ القَذَى وكَشَفَه عَنْهُ. والأَمْرُ مِنْهُ: أَعْذِبْ حَوْضَك. ويُقَال: اضْربْ عَذَبَةَ الحَوْضِ حَتَّى يَظْهَرَ المَاءُ؛ أَي اضْرِب عَرْمَضَه.

وأَعْذَبَ القَوْمُ عَذُبَ مَاؤُهُم.

والعَذِبَةُ بِكَسْرِ الذَّالِ المُعْجَمَة عَن اللِّحْيَانِيّ، وَهُوَ أَرْدَأُ مَا يَخْرُجُ مِن الطَّعَامِ فَيُرْمَى بِهِ. والعَذِبَة والعَذْبَةُ بالوَجْهَين: القَذَاةُ، وقِيلَ: هي القَذَاة تَعْلُو المَاءَ، ويُقَالُ: مَاءٌ لا عَذِبَةَ فِيهِ؛ أَي لا رِعْيَ فِيهِ وَلَا كَلأَ. وكُلُّ غُصْنٍ عَذَبةٌ وعَذِبَةٌ.

والعَذِبَةُ: ما أَحَاطَ مِنَ الدِّرَّةِ بِكَسْرِ الدَّالِ المُهْمَلَةِ وتَشْدِيدِ الرَّاءِ، هكَذَا في نُسْخَتِنا. وفي أُخْرَى: مَا أَحَاطَ بالدَّبْرَةِ، بفَتْح فَسُكُون، وهكَذَا في المُحْكَمِ وغَيْرِهِمَا.

والعَذَبَةُ: أَحَدُ عَذَبَتِي السَّوْطِ.

ويقال: فُلَانٌ مَفْتونٌ بالأَعْذَبَيْنِ، الأَعْذَبَان: الطَّعَامُ والنِّكَاحُ أَوِ الرِّيقُ وفي الأَسَاسِ: الرُّضَابُ والخَمْرُ، قال ابْنُ مَنْظُور: وذلِكَ لِعُذُوبَتِهَما.

والعَذَابُ: النَّكَالُ والعُقُوبَة. وقولهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ} قَالَ الزَّجَّاجُ: الَّذِي أُخِذُوا بِهِ الجُوعُ.

وقَالَ شَيْخُنَا نَقْلًا عَنْ أَهْلِ الاشْتِقَاق: إِنَّ العَذَابَ في كَلَامِ العَرَب مِنَ العَذْب وَهُوَ المَنْع، يقال: عَذَبْتُه عَنْه أَي مَنَعْتُه، وعَذَب عُذُوبًا أَي امْتَنَعَ، وسُمِّيَ المَاءُ الحُلْوُ عَذْبًا لمَنْعِه العَطَش، والعَذَابُ عَذَابًا لمَنْعِهِ المُعَاقَبَ من عَوْدِهِ لِمِثْلِ جُرْمِه، ومَنْعِه غَيْرَه مِنْ مِثْلِ فِعْلِه. قلت: وهو كَلَام حَسَنٌ الجمع: أَعْذِبَةٌ، هَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ وسَيَأْتِي للمُصَنِّف في «ن ه ز» أَنَّ العَذَابَ لا يُجْمع بالكُلِّيَّة وإِن قَالَ بَعْضٌ: إِنَّ جَمْعَه كذلِك قِيَاسِيٌّ، كَطَعَام وأَطْعِمَة، لا يَتَوَقَّف عَلَى سَمَاع، فَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِر، لأَنَّ الطَّعَامَ أَصْلُه مَصْدَر، وصَارَ اسْمًا لِمَا يُؤْكَلُ، ولَيْسَ العَذَابُ كَذلِك، قَالَهُ شَيْخُنَا. قلتُ: وإِذَا كَانَ العَذَابُ اسْمًا لِمَا يُعَذَّب بِهِ، كَالْجُوعِ، عَلَى مَا قَدَّمْنَا عَن الزَّجَّاج، فلا مَانعَ عَنْ أَنْ يُجْمَعَ عَلَى أَعْذِبَةٍ، فَتَأَمَّل. قال الزَّجَّاجُ في قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ} قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: تُعَذَّبُ ثَلَاثَةَ أَعْذِبَةٍ. قَالَ ابْنُ سِيدَه. فلا أَدْرِي أَهَذَا نَصُّ قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ أَم الزَّجَّاج استَعْمَلَه وقد عَذَّبَه تَعْذِيبًا ولم يُسْتَعْمَل غَيْر مَزِيدٍ. قَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ: واسْتَعَارَ الشَّاعِر التَّعْذِيب فِيمَا لَا حِسَّ لَهُ فَقَالَ:

لَيْسَتْ بِسَودَاءَ مِن مَيْثَاءَ مُظْلِمَةٍ *** ولم تُعَذَّبْ بإِدْنَاءٍ مِنَ النَّارِ

وَفِي الحَدِيثِ «أَنَّ المَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِه عَلَيْهَ». قال ابنُ الأَثِيرِ: يُشْبه أَنْ يَكُونَ هَذَا مِن حَيْثُ إِنَّ العَرَب كَانُوا يُوصُون أَهْلَهم بالبُكَاءِ والنَّوْح عَلَيْهم وإِشَاعَة النَّعْيِ في الأَحْيَاء، وكَانَ ذلِكَ مَشْهُورًا مِنْ مَذَاهِبهم، فالمَيِّتُ تَلْزَمُهُ العُقُوبَةُ في ذلِكَ، بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِهِ بِه. وقال ابن بُزُرْج: عَذَّبْتُه عَذَابَ عِذَبِينَ.

وأَصَابَه مِنِّي عَذَابُ عِذَبِينَ كبِلَغِينَ أَي بِكَسْرِ فَفَتْح فَكَسْر، وكَذلِك أَصَابَه العَذَبُوب أَي لا يُرْفَع عَنْه العَذَابُ.

والعَذَّابُ كَكَتَّان: فَرَسُ البَدَّاء بْنِ قَيْس، وفي نُسْخَةٍ البَرَاء بِالرَّاءِ والأُولَى الصَّوَابُ.

والعُذَيْبُ والعُذَيْبَةُ مُصَغَّرَيْنِ ماءانِ الأَخِيرُ بالقُرْبِ مِنْ يَنْبُعَ. وقَالَ الأَزْهَرِيَّ: العُذَيْبُ: مَاءٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ القَادِسِيَّة ومُغِيثَةَ. وَفِي الحَدِيثِ ذِكْرُ العُذَيْب وَهُوَ مَاءٌ لِبَنِي تَمِيم عَلَى مَرْحَلَةٍ مِنَ الكُوفَةِ، مُسَمًّى بِتصْغِيرِ العَذْبِ، وقِيل سُمِّي بِهِ لأَنَّه طَرَفُ أَرْضِ العَرَب، من العَذَبة، وَهِي طَرَفُ الشَّيْ‌ء.

وقَال كُثَيِّر:

لعَمْرِي لَئِنْ أُمُّ الحَكِيمِ تَرَحَّلَت *** وأَخْلَتْ لخَيْمَاتِ العُذَيْبِ ظِلَالَهَا

قال ابْنُ جِنِّي: أَرَادَ العُذَيْبَةَ، فَحَذَف الهَاءَ.

وعَيْذَابُ [كمِيدَانٍ] * بالفَتْح: بلد بالصَّعِيد ونُسِبَت إِلَيْهَا الصَّحْرَاءُ، دُفِنَ فِيهزا السَّيِّدُ القُطْبُ الرَّبَّانِيُّ الإِمَامُ أَبُو الحَسَن الشَّاذِلِيُّ قُدِّسَ سِرُّهُ.

والعَذْبُ: شَجَرٌ وقد تَقَدَّمَ في العَذَب المُتَحَرِّك، وَهُمَا وَاحِدٌ، فَهُوَ كالتَّكْرَارِ لِمَا قَبْلَه. وبالتَّحْرِيكِ قَيَّدَهُ أَبُو حَنِيفَة في كِتَاب النَّبَاتِ.

والعَذَابَة كَسَحَابَة هي العَدَابَةُ وَهِيَ الرَّحِمُ، رَوَاهُ أَبُو الهَيْثَمِ، وأَنْشَدَ البَيْتَ السابِقَ الذِّكْر في المُهْمَلَة هُنَا.

وفي الصَّحَاح: العُذَبِيُّ: الكَرِيمُ الأَخْلَاق، بالذَّالِ المُعْجَمَة وأَنْشَدَ البَيْتَ الَّذِي سَبَقَ في المُهْمَلَة؛ أَي كالعُدَبِيِّ**. وهَذَا الحَرْفُ في التَّهْذِيبِ في تَرْجَمَة عَدَبَ بالدَّالِ المَهْمَلَة وقالَ: هُوَ العُذَبِيّ، وضَبَطَه كَذلِكَ، وقد تَقَدَّمَتِ الإِشَارَةُ إِلَيْه.

والعَذْبَةُ بِفَتْحِ فَسُكُونٍ: شَجَرَةٌ تُمَوِّتُ البُعْرَانَ، بالضَّمِّ، جَمْع بَعِير؛ أَي إِذَا أَكَلَت مِنها، نَقَلَه الصَّاغَانِيّ. ودَوَاءٌ معروف أَي مَعْرُوفٌ.

وذَاتُ العَذْبَةِ: موضع.

وعَاذِبٌ: اسْمُ مَوْضِعٍ آخَر. قَالَ النَّابِغَةُ الجَعْدِيُّ.

تَأَبَّدَ مِنْ لَيْلَى رُماحٌ فَعَاذِبُ *** فأَقْفَرَ مِمَّن حَلَّهُنَّ التَّنَاضِبُ

كَذا في لِسَانِ العَرَب.

والاعْتِذَابُ: أَن تُسْبِلَ لِلْعِمَامَة عَذَبَتَيْنِ، مُحَرَّكَةً، مِنْ خَلْفِهَا، وَهُمَا طَرَفَا الْعِمَامَة، نَقَلَه الصَّاغَانِيُّ.

العَذَبَات، مُحَرَّكَةً: أَطْرَافُ السُّيُورِ. والحَقُّ عَلَى عَذَبَاتِ أَلْسِنَتَهِم، جَمْعُ عَذَبَة. وعَذَبَاتُ الناقةِ: قَوَائِمُهَا.

وفَرَسُ يَزِيدَ بْنِ سُبَيْع. ويَوْمُ العَذَبَاتِ: مِنْ أَيَّامِهِم.

وفي الأَسَاس: وفلان لا يَشْرَب المُعَذَّبَةَ؛ أَي الخَمْرَ المَمْزُوجَةَ.

* واسْتدرَكَ شَيخُنَا على المُؤَلِّف: أَنَّه يقال: اعذَوْذَبَ المَاءُ، كاحْلَوْلَى، إِذَا صَارَ عَذْبًا، ذكره جماعَةٌ، وأَغْفَلَه الجَمَاهِيرُ كالمُصَنِّف. قلت: وهو وَارِدٌ في كلامِ سَيِّدنِا علِيٍّ رضي ‌الله‌ عنه يَذُمُّ الدُّنيا: «اعْذَوْذَبَ جَانِب مِنْهَا واحْلَوْلَى».

قال ابْنُ مَنْظُور: هُمَا افْعَوْعَلَ، من العُذُوبَة والحَلَاوَة، وهو مِن أَبْنِيَة المُبَالَغَة، وقد ذكره غيرُ وَاحِدٍ من أَئِمَّة اللُّغَة، وذكره اللَّبلِيُّ مع أَخَوَاتِه في بُغْيَةِ الآمال، فلا أَدْرِي مَاذَا أَرْاد بالجَمَاهِير.

* ومما يُسْتَدْرَكُ عَلى المؤلف: امرَأَةٌ مِعْذَابُ الرِّيقِ: سَائِغَتُه حُلْوَتُه. قال أَبو زُبَيْد.

إِذَا تَطَيَّبْت بَعْدَ النَّوْم عِلَّتَها *** نَبَّهْتَ طَيِّبَةَ العِلَّات مِعْذَابَا

ويُقَالُ: إِنَّه لَعَذْبُ اللِّسَان، عَنِ اللِّحْيَانِيّ. قال: شُبِّه بالعَذْبِ مِن المَاءِ. ويقال: مررتُ بمَاءٍ مَا بِه عَذِبَةٌ كفَرِحَة؛ أَي لا رِعْيَ فِيهِ ولا كَلأَ. وأَبُو عَذَبَة، مُحَرَّكةً، تَابِعِيٌّ، عن عمرو، عنه شِريح بن عُبيد.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


40-تاج العروس (حد حدد حدحد)

[حدد]: الحَدُّ: الفَصْلُ الحَاجِزُ بَيْنَ الشيئينِ لئلّا يَختلِط أَحدُهما بالآخَرِ، أَو لئلّا يَتعدَّى أَحدُهما على الآخَرِ، وجمعُه حُدُودٌ. وفَصْلُ ما بَيْنَ كُلِّ شَيْئيْنِ حَدٌّ بينهما.

والحَدُّ: مُنْتَهَى الشَّيْ‌ءِ، ومنه أَحدُ حُدودِ الأَرضينَ وحُدُود الحَرَم، وفي الحدِيث فِي صِفَة القُرآنِ «لكُلّ حَرْفٍ حَدٌّ، ولكُلِّ حَدٍّ مَطْلَعٌ» قيل: أَرادَ لكُلِّ مُنْتَهًى لَه نهَايَةٌ.

والحَدُّ مِن كُلّ شَيْ‌ءٍ: حِدَّتُه، ومنه‌حديثُ عُمَر «كُنْتُ أُدَارِي من أَبي بَكْرٍ بَعْضَ الحَدِّ» وبعضهم يَرويه بالجيم من الجِدِّ ضِدّ الهَزْلِ. وحَدُّ كلِّ شيْ‌ءٍ: طَرَفُ شَبَاتِه، كحَدِّ السِّكّينِ والسَّيْفِ والسِّنَانِ والسَّهْمِ، وقيل: الحَدُّ مِن كُلِّ ذلكَ: مَا رَقَّ منْ شَفْرَتِه، والجمْع حُدودٌ.

والحدُّ منْكَ: بَأْسُكَ ونَفَاذُكَ في نَجْدَتِك، يقال: إِنه لَذُو حَدٍّ، وهو مَجازٌ.

والحَدُّ من الخَمْرِ والشَّرَابِ: سَوْرَتُه وصَلابَتُه. قال الأَعشى:

وكأْسٍ كعَيْنِ الدِّيكِ بَاكَرْتُ حَدَّهَا *** بِفْتِيَانِ صِدْقٍ والنَّواقِيسُ تُضْرَبُ

والحَدُّ: الدَّفْعُ والمَنْعُ، وحَدَّ الرَّجُلَ عن الأَمْر يَحُدُّه حَدًّا: مَنَعَهُ وحَبَسَهُ، تقول: حَدَدْتُ فُلانًا عن الشّرِّ أَي مَنَعْتُه، ومنه قولُ النابغة:

إِلَّا سُلَيْمَانَ إِذْ قَالَ الإِلهُ لَهُ *** قُمْ في البَرِيَّةِ فاحْدُدْهَا عَنِ الفَنَدِ

كالحَدَدِ، محرَّكَةً، يقال: دُونَ ما سَأَلْتَ عنه حَدَدٌ؛ أَي مَنَعٌ. ولا حَدَدَ عنه؛ أَي لا مَنْعَ ولا دَفْعَ، قال زيدُ بنُ عَمْرو بن نُفَيْلٍ.

لَا تَعْبُدُنَّ إِلهًا غَيْرَ خَالِقِكمْ *** وإِنْ دُعِيتُم فقُولُوا دُونَه حَدَدُ

وهذا أَمْرٌ حَدَدٌ أي مَنِيعٌ حرامٌ لا يَحِلُّ ارْتكابُه.

والحَدُّ: تَأْدِيبُ المذْنِب، كالسارِق والزَّانِي وغيرِهما بما يَمْنَعُه عن المُعَاوَدَةِ ويَمْنَعُ أَيضًا غَيْرَه عن إِتْيَانِ الذَّنْبِ، وجَمْعُه حُدُودٌ. وحَدَدْتُ الرَّجُلَ: أَقَمْتُ عَلَيْهِ الحَدَّ. وفي التهذيب: فَحُدُودُ اللهِ عَزّ وجلّ ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ منها حُدُودٌ حدَّها للنَّاسِ في مَطَاعِمِهم ومَشارِبهم ومَنَاكِحِهِم وغيرها ممّا أَحَلّ وحَرَّم، وأَمَرَ بالانتِهَاءِ عمّا نَهَى عنه منها ونَهَى عن تَعَدِّيهَا، والضَّرْب الثانِي: عُقوباتٌ جُعِلَتْ لمنْ رَكِبَ ما نَهَى عنْه، كحَدّ السّارِق وهو قَطْعُ يَمِينِه في رُبْع دِينارٍ فصاعدًا، وكحَدِّ الزَّانِي البِكْر، وهو جَلْدُ مائةٍ وتَغْرِيبُ عامٍ، وكحَدِّ المُحْصَنِ إِذَا زَنَى وهو الرَّجْمُ، وكحَدِّ القاذِف وهو ثَمَانُونَ جَلْدَةً، سُمِّيَتْ حُدودًا لأَنَّهَا تَحُدُّ أَي تَمْنَع مِن إِتيانِ ما جُعِلَتْ عُقوباتٍ فيها، وسُمِّيَت الأُولى حُدُودًا، لأَنها نِهاياتٌ نَهَى اللهُ عن تَعدِّيها.

والحَدُّ: ما يَعْتَرِي الإِنْسانَ من الغَضَبِ والنَّزَقِ، كالحِدَّةِ بالكسر، وقد حَدَدْتُ عليه أَحِدُّ، بالكسر، حِدَّةً وحَدَّا، عن الكسائيّ.

وفي الحديث «الحِدَّةُ تَعتَرِي خِيارَ أُمَّتي»، الحِدَّةُ، كالنشاطِ والسُّرْعَةِ في الأُمورِ والمضَاءِ فيها، مأْخوذٌ من حَدِّ السَّيْفِ، والمُرَاد بالحِدَّة هنا المَضَاءُ في الدِّين والصَّلابةُ والمَقْصِد إِلى الخَيْرِ، ويقال: هو من أَحدِّ الرحال، وله حَدٌّ وحِدَّةٌ، واحْتَدَّ عليه، وهو مجازٌ.

والحَدُّ: تَمْيِيزُ الشَّيْ‌ءِ عَن الشَّيْ‌ءِ وقد حَدَدْتُ الدَّارَ أَحُدُّهَا حَدًّا، والتَّحْدِيدُ مثلُه، وحَدَّ الشي‌ءَ من غَيْرِه يَحُدُّه حَدًّا وحَدَّدَه: مَيَّزَه، وحَدُّ كُلِّ شيْ‌ءٍ مُنتهاه، لأَنّه يَرُدُّه ويَمنَعه عن التّمادِي، والجَمْع الحُدُودُ، وفي حاشيةِ البَدْرِ القَرَافِيّ: لو قال: تَمْيِيزُ شيْ‌ءٍ عن شيْ‌ءٍ كانَ أَوْلَى، لأَن المعرفةَ إِذا أُعِيدتْ كانتْ عَيْنًا فكأَنّه قال تمييزُ الشيْ‌ءِ عن نَفْسِه، بخلاف النَّكِرةِ، فإِنها تكون غيْرًا. انتهى.

ويقال: فلانٌ حَدِيدُ فُلانٍ، إِذا كانَ دَارُه إِلى جانبِ دَارِه أَو أَرْضُه إِلى جانبِ أَرْضِه.

ودَارِي حَدِيدَةُ دَارِه ومُحادَّتُهَا، إِذا كان حَدُّهَا كحَدِّهَا.

والحَدِيدُ، م؛ أَي معروفٌ، وهو هذا الجَوْهرُ المعروفُ، لأَنه مَنِيعٌ، القِطْعَةُ منه حَديدةٌ: الجمع: حَدائدُ وحَدِيدَاتٌ، هكذا في النُّسخ، والصواب حَدَائِداتٌ، وهو جمعُ الجمعِ، قال الأَحْمَرُ في نَعْتِ الخَيْلِ.

وهُنَّ يَعْلُكْنَ حَدَائِدَتِهَا

والحَدَّادُ، ككَتَّان: مُعَالِجُه؛ أَي الحدِيدِ؛ أَي يُعالج ما يَصْطَنِعُه مِن الحِرَفِ. ومن المَجاز. الحَدَّادُ: السَّجَّانُ لأَنّه يَمنَع من الخُرُوج، أَو لأَنّه يُعَالِج الحَديدَ مِن القُيُودِ، قال:

يَقُولُ ليَ الحَدَّادُ وهْوَ يَقُودُني *** إِلى السِّجْنِ لا تَفْزَعْ فَما بِكَ مِنْ بَاسِ

والحَدَّادُ: البَوَّابُ، لأَنّه يَمنَع مِن الخُروج، وهو مَجاز أَيضًا.

والحَدَّادُ: البَحْرُ. وقيل نَهْرٌ بعَيْنِه، قال إِياسُ بنُ الأَرَتِّ:

ولو يكونُ عَلَى الحَدَّادِ يَمْلِكُه *** لمْ يَسْقِ ذَا غُلَّةٍ مِن مَائِه الجَارِي

وفي الحديث «حينَ قَدِمَ منْ سَفَرٍ فأَرادَ النَّاسُ أَنْ يَطْرُقُوا النِّساءَ لَيْلًا فقال: أَمْهِلُوا كي تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وتَسْتَحِدَّ المُغِيبَةُ

قال أَبو عُبَيْدٍ:

الاسْتِحدادُ استفعالٌ من الحَدِيدَةِ، يعني الاحْتِلَاق بالحَديد استعمله على طريقِ الكِناية والتَّوْرِيَة.

وحَدَّ السِّكِّينَ والسَّيْفَ وكُلَّ كَلِيلٍ يَحُدُّها حَدًّا وأَحَدَّهَا إِحدَادًا وحَدَّدَهَا، شَحَذَها ومَسَحَهَا بحَجَرٍ أَو مِبْرَد، وحَدَّدَه فهو مُحَدَّدٌ مثْلُه، قال اللِّحْيَانيّ: الكلام: أَحَدَّها بالأَلف، واقتصر القَزَّازُ على الثُّلاثيّ والرُّباعي بالأَلف، وأَغْفَلَ الجوهَرِيُّ الثلاثيّ، واقتصَر ابنُ دُريد على الثُّلاثيّ فقط، فحَدَّتْ تَحِدُّ حِدَّةً، المُتَعدِّي منهما كنَصَر، واللازم كضَرَبَ، واحْتَدَّتْ فهي حَدِيدٌ بغير هاءٍ، وبهاءٍ كما في اللسان.

وحُدَادٌ، كغُرَاب، نقلَه الجوهريّ عن الأَصمعيّ. وزعمَ ابنُ هِشَامٍ أَنَّ الحِدَادَ جَمْعٌ لحَدِيدٍ كظَرِيف وظِرَاف وكَبِيرٍ وكِبَار. قال: وما أتى على فَعِيلٍ فهذا معناه، وضَبطَه ابنُ هِشامٍ اللَّخْمِيُّ في شَرْح الفَصِيح بالكَسْرِ ككِتَابٍ ولِبَاس، وحكى أَبو عَمْرٍو: سَيْفٌ حُدَّادٌ، مثل رُمّانٍ، وقد حكاهما ابنُ سيدَهْ في المُحْكَم وابنُ خَالَوَيْه في الأَفق واللّبْليّ في شرح الفصيح، قال ابنُ خالوَيْه: ولا يُقال سِكِّينٌ حادٌّ، وهو قولُ الأَكثَر، قال شيْخُنَا وجَوَّزه بعض قياسًا.

الجمع: حَديداتٌ وحَدائدُ وحِدادٌ.

وحَدَّ نَابُه يَحِدُّ حِدَّةً ونَابٌ حَدِيدٌ وحَدِيدَةٌ، كما تقدَّم في السِّكّين، ولم يُسْمَع فيها حُدادٌ. وَحدّ السيفُ يَحِدّ حِدَّة واحتَدَّ فهو حادٌّ حديدٌ، وأَحدَدْته وسُيوف حِدَادٌ وأَلسِنة حِدادٌ ورَجُلٌ حَدِيدٌ وحُدَاد كغُرَابٍ، مِن قَوْمٍ أَحِدَّاءَ وأَحِدَّة وحِدَاد، بالكسر، يكون في اللِّسَنِ، محرَّكَةً، والفَهْمِ والغَضَبِ. والفِعْل من ذلك كُلِّه حدَّ يَحِدُّ حِدَّة، وحَدَّ عَلَيْه يَحِدُّ، من حَدِّ ضَرَبَ حَدَدًا محرّكَةً، وحَدَّدَ مشدّدًا، وقد سقط هذا من بعض النسخ واحْتَدَّ فهو مُحْتَدٌّ، واسْتَحَدَّ إِذا غَضِبَ.

وحادَّه مُحَادَّةً: غاضَبَه وعَادَاه مثل شاقَّه وخالَفَه ونازَعَه ومَنعَ ما يَجِبُ عَلَيْه كتحادَّه، وكأَنّ اشتقاقَه من الحَدّ الّذي هو الحَيِّزُ والنّاحِيَةُ، كأَنه صارَ في الحَدّ الّذي فيه عَدُوُّه، كما أَن قولَهُم: شاقَّه: صارَ في الشِّقِّ الّذي فيه عَدُوُّه. وفي التهذيب: اسْتَحدَّ الرَّجلُ واحْتَدّ حِدَّةً، فهو حَدِيدٌ، قال الأَزهريّ: والمسموع في حِدَّةِ الرّجلِ وطَيْشِه احْتَدَّ، قال:

ولم أَسمعْ فيه اسْتَحَدَّ، إِنما يقال اسْتَحدَّ واستَعَان، إِذا حلَق عَانَتَه.

ونَاقَةٌ حَدِيدَةُ الجِرَّةِ، بكسر الجيم، إِذا كان يُوجَد منها؛ أَي الجرَّةِ رائحةٌ حادَّةٌ، وذلك ممّا يُحمَد. وقولهم: رائحةٌ حادَّةٌ؛ أَي ذَكِيَّةٌ، على المَثل.

وحَدَّدَ الزَّرْعُ تَحدِيدًا إِذا تَأَخَّرَ خُروجُه لِتَأَخُّرِ المَطَرِ، ثم خَرجَ ولم يُشَعِّبْ، وحَدَّدَ إِليه وله: قَصَدَ ويُقال حَدَّدَ فُلانٌ بَلدًا؛ أَي قَصَدَ حُدُودَه، قال القُطَامِيّ:

مُحَدِّدِينَ لِبَرْق صابَ مِنْ خَلَلٍ *** وبالقُرَيَّةِ رَادُوهُ بِرَدَّادِ

أَي قاصِدينَ.

وحَدَادِ حُدَيَّة مبنيًّا على الكسْرِ كَقَطَامِ، كلمةٌ تُقَالُ لمَنْ تُكْرَه طَلْعَتُه، عن شَمِرٍ، وقولهم:

حَدَادِ دُونَ شَرِّهَا حَدَادِ

وقال مَعقِل بنُ خُوَيلدٍ الهُذليّ:

عُصَيْمٌ وعَبْدُ اللهِ والمَرْءُ جَابِرٌ *** وحُدِّي حَدَادِ شَرَّ أَجْنحَة الرُّخْمِ

أَراد: اصْرِفِي عَنَّا شَرَّ أَجْنحة الرَّخَم، يَصفُه بالضَّعْفِ، واستِدْفاعِ شَرِّ أجْنحة الرَّخمِ على ما هي عليه من الضَّعْفِ.

والحَدُّ الصَّرْفُ عن الشَّيْ‌ءِ مِن الخيرِ والشَّرِّ.

والمحدود [المحروم و] المَمْنُوع من الخَيْرِ وغيرِه، وكُلُّ مَصْرُوفٍ عن خيرٍ أَو شَرٍّ: مَحدودٌ كالحُدِّ، بالضّمّ، وعن الشَّرِّ، وقال الأَزهريّ: المَحْدُودُ: المَحْرُومُ، قال:

ولم أَسمعْ فيه: رَجُلٌ حُدٌّ، لغير اللّيْث، وهو مثل قولهم رَجُلٌ جُدٌّ إِذا كان مَجدودًا. وقال الصّاغَانيّ: هو ازْدِوَاجٌ لقولِهِم رَجلٌ جُدٌّ.

والحَادُّ، من حَدَّتْ ثُلاثيًّا، والمُحِدُّ، مِنْ أَحَدَّتْ رُبَاعِيًّا، وعلى الأَخِيرِ اقتصرَ الأَصمعيُّ، وتَجْرِيدُ الوَصفينِ عن هَاءِ التأْنيثِ هو الأَفصحُ الّذي اقتصرَ عليه في الفَصِيح وأَقرّه شُرَّاحُه. وفي المصباح: ويقال مُحِدَّةٌ، بالهاءِ أَيضًا: تَارِكَةُ الزِّينَةِ والطِّيب، وقال ابن دُريدِ: هي المرأَةُ التي تَتركُ الزِّينةَ والطِّيبَ بعد زَوْجِها لِلْعِدَّةِ، يقال حَدَّتْ تَحِدُّ، بالكسر، وتَحُدُّ بالضَّمّ، حَدًّا، بالفتح، وحِدَادًا، بالكسر، وفي كتاب اقتطاف الأَزَاهِرِ للشَهاب أَحمدَ بنِ يُوسفَ بن مالكٍ عن بعض شُيُوخ الأَندلُس: أَنّ حَدَّت المرأَةُ على زَوْجها بالحاءِ المهملة والجيم، قال: والحاءُ أَشهرُهما، وأَما بالجيم فمأْخُوذٌ من جَدَدْتُ الشَّي‌ءَ، إِذا قَطَعْتُه، فكأَنها أَيضًا قد انقطعتْ عن الزِّينةِ وما كَانَتْ عَلِيه قبل ذلك. وأَحَدَّتْ إِحدادًا، وأَبَى الأَصمعِيُّ إِلّا أَحَدَّتْ تُحِدُّ فهِي مُحِدٌّ، ولم يَعْرِف حَدَّتْ.

وفي الحديث: «لا تُحِدُّ المرْأةُ فوقَ ثلاثٍ ولا تُحِدُّ إِلّا على زَوْج» قال أَبو عُبيد: وإِحدادُ المرأَةِ على زَوْجها: تَرْكُ الزِّينةِ. وقيل: هو إِذَا حَزِنَتْ عليه ولَبِسَتْ ثِيَابَ الحُزْنِ وتَركَتِ الزّينةَ والخِضَابَ، قال أَبو عُبيدِ: ونُرَى أَنّه مأْخُوذٌ من المَنْعِ، لأَنّهَما قد مُنِعَتْ من ذلك، ومنه قيل للبوّابِ حَدَّادٌ لأَنّه يَمْنَع النَّاسَ من الدُّخُولِ وقال اللِّحيانيّ في نوادره: ومن أَحدّ بالأَلف، جاءَ الحديثُ، قال: وحكَى الكسائيُّ عن عُقَيْلٍ: أَحَدَّتِ المرأَةُ على زَوْجها بالأَلف.

قال أَبو جعفرٍ: وقال الفَرَّاءُ في المصادر، وكان الأَوَّلون منَ النَّحْوِيّين يُؤْثِرون أَحَدَّت فهي مُحِدٌّ، قال: والأُخْرَى أَكثَرُ في كلامِ العَربِ.

وأَبو الحَدِيدِ رَجلٌ من الحَرُورِيَّةِ قَتَل امرَأَةً مِن الإِجماعِيّين كانت الخَوَارِجُ قد سبَتْهَا فغَالَوْا بها لحُسْنِهَا، فلما رأَى أَبو الحَدِيد مُغَالاتَهم بها خَافَ أَن يَتفاقَم الأَمْرُ بينهم، فوَثب عليها فقَتَلَهَا. ففي ذلك يقولُ بعضُ الحَرورِيَّةِ يَذكُرها:

أَهَابَ المُسلمونَ بهَا وقالُوا *** ـ عَلَى فَرْط الهَوَى: هَلْ مِن مَزِيدِ؟

فزَادَ أَبو الحَدِيدِ بنَصْلِ سَيْفٍ *** صَقيلِ الحَدِّ فِعْلَ فَتًى رَشِيدِ

وأُمُّ الحَدِيدِ امرأَةُ كَهْدَلٍ الراجزِ كجعْفَرٍ، وإِيّاهَا عَنَى بقوله:

قَدْ طَرَدتْ أُمُّ الحَيِد كَهْدَلَا *** وابْتَدَرَ البَابَ فكَانَ الأَوَّلَا

وحُدٌّ بالضّمّ: موضع بِتِهامَةَ، حكاه ابنُ الأَعرابيّ، وأَنشدَ:

فلَوْ أَنّهَا كانَتْ لِقَاحِي كَثيرةً *** لَقَدْ نَهِلَتْ مِن ماءِ حُدٍّ وعَلَّتِ

وعن أَبي عمروٍ: الحُدَّةُ، بالضّمّ: الكُثْبَةُ والصُّبَّةُ.

ويقال دَعْوَةٌ حَدَدٌ، محرَّكَةً؛ أَي باطِلَةٌ. وأَمْرٌ حَدَدٌ: مُمتَنِعٌ باطلٌ، وأَمْرٌ حَدَدٌ. لا يَحِلّ أَن يُرْتَكَبَ.

وحَدَادَتُك، بالفتح، امْرأَتُك، حَكاه شَمِرٌ.

وحَدادُكَ، بالضّمّ، أَنْ تَفْعَل كذا؛ أَي قُصَارَاكَ ومُنْتَهَى أَمْرِك.

وما لِيَ عَنْه مَحَدٌّ، بالفتح، كما هو بخطّ الصاغانيّ، ويوجد في بعض النُّسخ بالضّمّ، ومُحْتَدٌّ، وكذا حَدَدٌ ومُلْتَدٌّ؛ أَي بُدٌّ ومَحِيدٌ ومَصْرِفٌ ومَعْدِلٌ، كذا عن أَبي زيد وغيرِه.

وبَنُو حَدَّانَ بنِ قُرَيْعِ بن عَوْفِ بن كَعْبٍ، جاهِليٌّ ككتّانٍ: بَطْنٌ مِن تَمِيمٍ من بني سَعْدٍ منهم أَوْسُ بْنُ مَغْرَاءَ الحَدَّانِيُّ الشاعر، قاله الدّارقُطْنِيّ والحافظُ. وبالضَّمِّ الحَسَنُ بنُ حُدَّانَ المُحَدِّث الرّاوِي عن جَسْرِ بن فَرْقَدٍ، وعنه ابن الضَّرِيسِ.

وذُو حُدّانَ بنُ شَرَاحِيلَ في نَسب هَمْدَانَ والأَزْدِ حُدَّان بن شَمْس بضم الشّين المُعجمة، ابن عَمْرِو بن غالِبِ بن عَيْمَانَ بن نَصْر بن زَهرانَ، هكذا في النُّسخ وقيَّدَه الحافظُ وغيرُه.

وسَعِيدُ بنُ ذِي حُدَّانَ التّابِعِيّ يَرْوِي عن عليٍّ رضي ‌الله‌ عنه.

وحُدَّانُ بنُ عَبْدِ شَمْس حَيٌّ من الأَزد، وأَدخَل عليه ابنُ دُرَيدٍ اللَّام. قلْتُ هو بعَينِه حُدَّان بن شمْسٍ الّذي تقدّم ذِكْرُه وذُو حُدَّان أَيضًا في أَنْسَابِ هَمْدَان، وهو بِعَيْنِه الّذي تقدَّم ذِكْرُه آنِفًا، قال ابنُ حبيب: وإِليه يُنْسَب الحُدَّانِيُّون.

وَحَدَّةُ، بالفتح: موضع بين مَكَّة المشَرَّفةِ وجُدَّةَ، وكانَتْ قَبْلُ تُسَمَّى حَدَّاءَ وهو وَادٍ فيه حِصْنٌ ونَخْلٌ. قال أَبو جُنْدَب الهُذَلِيّ.

بَغَيْتُهُمُ ما بَيْنَ حَدَّاءَ والحَشَى *** وأَوْرَدْتُهُمْ مَاءَ الأُثَيْل فَعَاصِمَا

وحَدَّة: قرية قُرْبَ صَنْعَاء اليمنِ نقلَه الصاغانيّ، ووَادٍ بتِهَامَةَ.

والحَدَادَةُ: قرية بين بَسْطَامَ ودَامِغَانَ، وقيل بين قُومِسَ والرّيّ من منازِل حاجِّ خُرَاسانَ، منها عليُّ بنُ محمَّد بنِ حاتمِ بن دِينَارٍ القُومسِيّ الحَدَادِيُّ، عن جَعفَرِ بنِ محمّدٍ الحَدَادِيّ، وعنه ابنُ عَدِيٍّ والإِسماعيليّ، وأَبو عبدِ الله طاهرُ بنُ محمّدِ بنِ أَحمدَ بنِ نصرٍ الحَدَادِيّ صاحب كتابِ عُيون المجالس، رَوَى عن الفقيه أَبي اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيّ، وعنه كثيرون، والحسنُ بن يُوسف الحَدَادِيّ، عن يُونس بنِ عبدِ الأَعْلَى وغير هؤلاءِ، وقد استوفاهم الحافظُ في التَّبْصِير.

والحَدَّادِيَّةُ: قرية بِوَاسِط العراقِ، وأُخْرى من أَعمالِ مِصر.

وحَدَدٌ، محرّكةً: جَبَلٌ بتَيْمَاءَ مُشْرِفٌ عليها يبتدِئُ به المُسَافر، وأَرْضٌ لكلْبٍ، نقله الصاغانيّ.

وحَدَوْدَاءُ، بفتح الحاءِ والدّالِ وتُضمّ الدّال أَيضًا: موضع ببلادِ عُذْرَة، وضبطه البَكريّ بدالين مفتوحتين. وفي التكملة: حَدَوْدَى وحَدْوَدَاء؛ أَي بالقصر والمَدّ، والدالاتُ مفتوحة فيهما، فتأَمَّلْ.

والحَدْحَدُ، كفَرْقَد: القَصيرُ من الرِّجالِ أَو الغَلِيظُ.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

الحَدَّادُ: الزّرّادُ، وعن الأَصمعيّ: استَحَدّ الرَّجلُ، إِذا أَحَدَّ شَفْرَتَه بحَديدةٍ وغيرِهَا، وحَدَّ بَصرَه إِليه يَحُدُّه وأَحَدَّه، الأُولَى عن اللِّحْيَانيّ، كلاهما حَدَّقَه إِليه ورَمَاه به، ورجلٌ حَدِيدُ الناظِر، على المَثل، لا يُتَّهَمُ برِيبَة فيكون عليه غَضَاضةٌ فيها فيكون كما قال تعالى {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} والحَدّادُ الخَمّارُ، قال الأَعشى يصف الخمْر والخَمّارَ:

فقُمْنَا ولمَّا يَصِحْ دِيكُنَا *** إِلى جوْنَةٍ عنْد حَدَّادِهَا

فإِنّه سمَّى الخَمَّارَ حدَّادًا، وذلك لمَنعِه إِيّاهَا وحِفْظِه لها وإِمْسَاكِهِ لها حتّى يُبْذل له ثَمَنُها الذي يُرْضِيه.

وحُدَّ الإِنسانُ: مُنِعَ من الظَّفَرِ.

وقولِهِ تعالى {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} أَي رأْيُك اليومَ نافِذٌ.

وحَدَّ اللهُ عنَّا شرَّ فُلانٍ حَدًّا: كَفَّه وصَرَفَه، ويُدْعَى علَى الرّجُلِ فيُقَال: الّلهُمْ احْدُدْهُ؛ أَي لا تُوَفِّقْه لإِصابَةٍ. وفي التهذيب: تقول للرّامِي: الّلهمّ احْدُدْه؛ أَي لا تُوفِّقْه للْإِصابةِ.

وقال أَبو زيدٍ: تَحَدَّدَ بهم؛ أَي تَحَرَّش.

والحِدَادُ: ثِيابُ المأْتم السُّودُ.

ويقال: حَدَدًا أَنْ يكون كذا، كقولِك: معاذَ اللهِ، وقد حدَّد الله ذلك عَنَّا.

وفي الأَمثال «الحديدُ بالحديدِ يُفْلَج».

وبنو حديدةَ قبيلَةً من الأنصار.

والحُديدةُ، مصغَّرًا: قريةٌ على ساحلِ بحْرِ اليمن، سمعْتُ بها الحديث.

وأَقام حدَّ الرَّبِيع: فَصلَه، وهو مجاز.

وفي عبد القيس حَدَّادُ بنُ ظالم بن ذُهْلٍ، وعبدُ المَلكِ بن شَدّادٍ الحَدِيدِيّ شيخٌ لعَفّانَ بنِ مُسلِم، وأَبو بكرِ بنُ أَحمد بنِ عثمانَ بن أَبي الحَدِيد وآلُ بيتِه بدِمشْق. وأَبو عليِّ الحَدَّادُ الأَصبهانيّ وآلُ بيتِه مَشهورُون.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


41-تاج العروس (حبر)

[حبر]: الحِبْرُ، بالكسر: النِّقْسُ وَزْنًا ومعنًى. قال شيخُنا: وهذا من باب تفسيرِ المشهورِ بما ليس بمشهورٍ؛ فإِن الحبْرَ معروفٌ أَنه المِدَادُ الذي يُكْتَبُ به، وأما النِّقْسُ، فلا يعرفُه إِلّا مَن مارَسَ اللغةَ وعَرَفَ المُطَّرِدَ منها، وتَوَسَّع في المُتَرادِفِ، فلو فَسَّرَه كالجَمَاهِير بالمِداد لكان أَوْلَى. واخْتُلِفَ في وَجْه تَسْمِيَتِه، فقيل: لأَنه ممّا تُحَبَّرُ به الكتبُ؛ أَي تُحَسَّنُ، قالَه محمّدُ بنُ زَيْد. وقيل: لتَحْسِينه الخَطَّ وتَبْيينِه إِيّاه، نَقَلَه الهَرَوِيُّ عن بعضٍ. وقيل: لتأْثيرِه في الموضعِ الذي يكونُ فيه، قالَه الأَصمعيُّ. ومَوْضِعُه المَحْبَرَةَ، بالفتح لا بالكسر، وغَلِطَ الجوهريُّ؛ لأَنَّه لا يُعرَفُ في المكانِ الكسر ـ وهي الآنِيَةُ التي يُجْعَلُ فيها الحِبْرُ، مِن خَزَفٍ كان أَو مِن قَوارِيرِ. والصحيحُ أَنّهما لغتان أَجودُهما الفتح، ومَن كسر المِيم قال إِنها آلَةٌ، ومثلُه مَزْرَعَةٌ ومِزْرَعَةٌ، وحَكاها ابنُ مالكٍ وأَبو حَيّانَ. وحُكِيَ مَحْبُرَةٌ، بالضَّمِّ، كمَقْبُرَةٍ ومَأْدُبَةٍ. وجمْعُ الكلِّ مَحابِرُ، كمَزَارِعَ ومَقَابِرَ. وقال الصَّاغانيُّ: قال الجوهريُّ الْمِحْبَرَةُ، بكسر الميم، وإِنما أَخَذَها من كتاب الفارابيِّ، والصَّوابُ بفتح الميمِ وضمِّ الباءِ ثم ذَكَرَ لها ثلاثِينَ نَظَائِرَ ممّا وَردتْ بالوَجْهَيْن: المَيْسرَةُ، والمَفْخرَةُ، والمَزْرعَةُ، والمَحْرمَةُ، والمَأْدبَةُ، والمَعْركَةُ، والمَشْرقَةُ، والمَقْدرَةُ، والمَأْكلَةُ، والمَأْلكَةُ، والمَشْهدَةُ، والمَبْطخَةُ، والمَثْقأَةُ، والمَقْنأَةُ والمَقْمأَةُ، والمَزْبلَةُ، والمَأْثرةُ، والمَخْرأَةُ، والمَمْلكَةُ، والمَأْربَةُ، والمَسْربَةُ، والمَشْربةُ، والمَقْبرَةُ، والمَخْبرَةُ، والمَقْربَةُ، والمَصْنعَةُ، والمَخْبزَةُ، والمَمْدرَةُ، والمَدْبغَةُ.

وقد تُشَدَّدُ الرّاءُ في شعرٍ ضرورةً.

وبائِعُه الحِبْرِيُّ لا الحَبّار، قاله الصّاغانيُّ، وقد حكاه بعضُهُم. قال آخَرُون: القِياسُ فيه كافٍ. وقد صَرَّحَ كثيرٌ من الصَّرْفِيِّين بأَن فَعّالا كما يكونُ للمبالغة يكونُ للنَّسَب، والدَّلالة على الحِرَفِ والصَّنائِعِ، كالنَّجّار والبَزّاز، قاله شيخُنَا.

والحِبْرُ: العالِمُ، ذِمِّيًّا كان، أَو مُسْلِمًا بعد أَن يكونَ مِن أَهل الكِتَابِ. وقيل: هو للعالِم بِتَحْبِير الكلامِ، قاله أَبو عُبَيْدٍ، قال الشَّمّاخ:

كما خَطَّ عِبْرَانِيَّةً بِيَمِينِه *** بتَيْماءَ حَبْرٌ ثم عَرَّضَ أَسْطُرَا

رَوَاه الرُّواةُ بالفَتْح لا غير، أَو الصّالِحُ، ويُفْتَحُ فيهما؛ أَي في معنى العالِم والصّالحِ، ووَهِمَ شيخُنَا فَرَدَّ ضَمِيرَ التَّثْنِيَةِ إلى المِدَاد والعالِم. وأَقامَ عليه النَّكِيرَ بجَلْبِ النُّقُولِ عن شُرّاح الفَصِيح، بإنكارهم الفتحَ في المِدَاد. وعن ابن سِيدَه في المُخَصص ـ نَقْلًا عن العَيْن ـ مثْلُ ذلك، وهو ظاهرٌ لمَن تَأَمَّلَ. وقال الأَزْهَرِيُّ: وسَأَلَ عبدُ الله بنُ سَلام كَعْبًا عن الحِبْرِ فقال: هو الرجُلُ الصّالحُ. الجمع: أَحْبارٌ وحُبُورٌ.

قال كَعْبُ بنُ مالك:

لقَد جُزِيَتْ بغَدْرَتِهَا الحُبُورُ *** كذاك الدَّهْرُ ذو صَرْفٍ يَدُورُ

قال أَبو عُبَيْد: وأَمّا الأَحْبَارُ والرُّهْبَانُ فإِنَّ الفُقَهاءَ قد اختلفوا فيهم، فبعضُهم يقولُ: حَبْرٌ، وبعضُهُم يقول: حِبْرٌ، وقال الفَرّاءُ: إِنما هو حِبْرٌ ـ بالكسر ـ وهو أَفصحُ؛ لأَنه يُجْمَعُ على أَفعالٍ، دُونَ فَعْلٍ؛ ويُقَال ذلك للعالِم. وقال الأَصمعيُّ لا أَدْرِي أَهو الحِبْرُ أَو الحَبْرُ للرَّجلِ العالمِ. قال أَبو عُبَيْد: والذي عندي أَنه الحَبْرُ ـ بالفتح ـ ومعناه العالِمُ بتَحْبِيرِ الكلامِ والعِلْمِ وتَحْسِينه، قال: وهكذا يَرْوِيه المُحَدِّثُون كلُّهم بالفتح، وكان أَبو الهَيْثَمِ يقول: واحِدُ الأَحْبَارِ حَبْرٌ لا غيرُ، ويُنْكِرُ الحِبْرَ. وقال ابن الأَعرابيّ: حِبْرٌ وحَبْرٌ للعالم، ومثلُه بِزْرٌ وبَزْرٌ، وسِجْفٌ وسَجْفٌ. وقال ابن دُرُسْتَوَيْهِ: وجَمْعُ الحِبْرِ أَحبارٌ، سواءٌ كان بمعنى العالِم أَو بمعنى المِدَاد.

والحِبْرُ: الأَثَرُ من الضَّرْبَة إِذا لم يَدم ـ ويُفْتَحُ ـ كالحَبَارِ ـ كسَحَابٍ ـ وحَبَرٍ، محرَّكةً. والجمع أَحبارٌ وحُبُورٌ.

وسيأْتي في كلام المصنّف ذِكْرُ الحَبَارِ والحَبْرِ مفرَّقًا، ولو جَمَعَهَا في مَحَلٍّ واحدٍ كان أَحسنَ، وأَنشدَ الأَزهريُّ لمُصَبِّحِ بنِ مَنْظُورٍ الأَسَدِيِّ، وكان قد حَلَقَ شَعْرَ رَأْسِ امرأَتِه فرَفَعَتْه إِلى الوالِي، فجَلَدَه واعتَقَلَه، وكان له حِمَارٌ وجُبَّةٌ فدَفَعَهُما للوالِي، فسَرَّحه:

لقَد أَشْمَتَتْ بي أَهْلَ فَيْدٍ وغادَرَتْ *** بجِسْمِيَ حِبْرًا بِنْتُ مَصّانَ بَادِيَا

وما فَعَلَتْ بي ذاك حتّى تَرَكْتُهَا *** تُقَلِّبُ رَأْسًا مثْلَ جُمْعِيَ عارِيَا

وأَفْلَتَنِي منها حِمَارِي وجُبَّتي *** جَزَى الله خَيرًا جُبَّتِي وحِمَارِيَا

والحِبْرُ: أَثَرُ النِّعْمَةِ.

والحِبْرُ: الحُسْنُ والبَهَاءُ. وفي الحديث: «يَخْرُجُ رجلٌ مِن أَهل النّارِ قد ذَهَبَ حِبْرُه وسِبْرُه»؛ أَي لونُه وهَيْئتُه، وقيل: هيئتُه وسَحْنَاؤُه؛ مِن قولُهم: جاءَتِ الإِبلُ حَسَنَةَ الأَحْبَارِ والأَسبارِ. ويقال: فلانٌ حَسَنُ الحَبْرِ والسَّبْرِ، إِذا كان جَميلًا حَسَنَ الهيئةِ، قال ابن أَحمرَ، وذَكَرَ زمانًا:

لَبِسْنَا حِبْرَه حتى اقْتُضِينَا *** لأَعْمَالٍ وآجالٍ قُضِينَا

أَي لَبِسْنَا جمالَه وهيئتَه، ويُفْتَحُ. قال أَبو عُبَيْدَةَ: وهو عندي بالحَبْرِ أَشْبَهُ؛ لأَنه مصدرُ حَبَرْتُه حَبْرًا، إِذا حَسَّنْته، والأَولُ اسمٌ. وقال ابن الأَعرابيِّ. رجلٌ حَسَنُ الحِبْرِ والسِّبْرِ؛ أَي حَسَنُ البَشَرَةِ.

والحِبْرُ: الوَشْيُ، عن ابن الأَعرابيّ:

والحِبْرُ: صُفْرَةٌ تَشُوبُ بَيَاضَ الأَسنانِ كالحَبْرِ، بالفتح، والحَبْرَةِ، بزيادة الهاءِ، والحُبْرَةِ، بالضمِّ، والحِبِرِ والحِبِرَةِ، بكسرتين فيهما. قال الشاعر:

تَجْلُو بأَخْضرَ مِن نَعْمَانَ ذا أُشُرِ *** كعَارِضِ البَرْقِ لم يَسْتَشْرِبِ الحِبِرَا

وقال شَمِرٌ: أَوّلُه الحَبْرُ، وهي صُفْرَةٌ، فإِذا اخْضَرَّ فهو القَلَحُ، فإِذا أَلَحَّ علَى اللِّثَةِ حتَّى تَظْهَرَ الأَسْنَاخُ فهو الحَفَرُ والحَفْرُ، وفي الصّحاح: الحِبِرَةُ، بكسر الحاءِ والباءِ: القَلَحُ في الأَسْنَانِ. والجمعُ بطَرْحِ الهاءِ في القِياس.

وقد حَبِرَتْ أَسنانُه ـ كفَرِحَ تَحْبَرُ حَبَرًا ـ أَي قَلِحَتْ.

الجمع: أَي جمع الحبْر ـ بمعنى الأَثَرِ، والنِّعْمَةِ، والوَشْيِ، والصُّفْرَةِ ـ حُبُورٌ. وفي الأَول والثاني أَحبارٌ أَيضًا.

والحِبْرُ: الْمِثْلُ والنَّظِيرُ.

والحَبْرُ، بالفَتْح: السُّرُورُ، كالحُبُورِ وَزْنًا ومعنًى، والحَبْرَةِ، بفتحٍ فسكونٍ، والحَبَرَةِ، محرَّكةً، والحَبَرِ أَيضًا، وقد جاءَ في قول العجَّاج:

الحمدُ لله الذي أَعْطَى الحَبَرْ

وهكذا ضبطُوه بالتَّحْرِيك، وفَسَّرُوه: بالسُّرُور.

وأَحْبرَه الأَمرُ، وحَبَرَه: سَرَّه.

والحَبْرُ: النَّعْمَةُ، كالحَبْرَةِ وفي الكتاب العزيز: {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} أَي يُسرُّون. وقال اللَّيْث: أَي يُنَعَّمُونَ ويُكْرَمُون. وقال الأَزهَرِيُّ: الحَبْرَةُ في اللُّغَة: النَّعْمَةُ التّامَّةُ. وفي الحديث في ذِكْر أَهل الجَنَّة: «فَرَأَى ما فيها مِن الحَبْرَةِ والسُّرُور». قال ابن الأَثير: الحَبْرَةُ، بالفتح: النَّعْمَةُ وسَعَةُ العَيشِ، وكذلك الحُبُورُ. ومن سَجَعات الأَساسِ: وكلُّ حبْرَة بعدهَا عَبْرَة.

والحَبَرُ، بالتَّحْرِيك: الأَثَرُ من الضَّرْبَةِ إِذا لم يَدم، أَو العَملُ.

كالحَبَارِ والحِبَارِ، كسَحَابٍ وكِتَابٍ، قال الرّاجِز:

لا تَمْلإِ الدَّلْوَ وعَرِّقْ فيها *** أَلَا تَرَى حبَارَ مَنْ يَسْقِيها

وقال حُمَيْدٌ الأَرْقَطُ:

ولم يُقَلِّبْ أَرضَها البَيْطارُ *** ولا لِحَبْلَيْه بها حبَارُ

والجمعُ حباراتٌ ولا يُكَسّرُ.

وقد حُبِرَ جِلْدُه، بالضَّمّ: ضُرِبَ فَبَقِيَ أَثَرُه ـ أَو أَثَرُ الجُرْحِ ـ بعد البُرْءِ.

وقد أَحْبَرَتِ الضَّرْبَةُ جِلْدَه، وبجِلْدِه: أَثَّرَتْ فيه.

ومن سَجَعات الأَساسِ: وبِجلْدِه حَبَارُ الضَّرْب، وبيَدِه حَبَارُ العَمَلِ، وانظر إِلى حَبَارِ عَملِه، وهو الأَثَرُ.

وحَبَرَتْ يَدُه: بَرئَتْ على عُقْدَةٍ في العَظْم؛ مِن ذلك.

والحَبِرُ، ككَتِفٍ: الناعِمُ الجَدِيدُ، كالحَبِيرِ، وشيْ‌ءٌ حَبِرٌ: ناعمٌ، قال المَرّارُ العَدَوِيُّ:

قد لَبِسْتُ الدَّهْرَ مِن أَفْنَانِه *** كلَّ فَنٍّ ناعِمٍ منه حَبِرْ

وثَوْبٌ حَبِيرٌ: ناعِمٌ جَدِيدٌ، قال الشَّمَّاخ يَصفُ قَوْسًا كريمةً على أَهلها:

إِذا سَقَطَ الأَنْداءُ صِينَتْ وأُشْعِرَتْ *** حَبِيرًا ولم تُدْرَجْ عليها المعَاوِزُ

وكعِنَبَة، أَبو حِبَرةَ شِيحَةُ بنُ عبدِ الله بنِ قَيْسٍ الضُّبَعِيُّ: تابِعِيٌّ مِن أَصْحاب عليٍّ رضيَ اللهُ عنه، روَى عنه أَهلُ البَصرةِ؛ شِبْلُ بنُ عَزرةَ وغيرُه، ذَكَره ابنُ حِبَّانَ.

وحِبَرَةُ بنُ نَجْمٍ: محدِّثٌ، عن عبد الله بنِ وَهْب.

والحِبَرَةُ: ضَرْبٌ مِن بُرُودِ اليَمَنِ مُنَمَّرَةٌ، ويُحَركُ.

الجمع: حِبَرٌ وحِبَرَاتٌ، وحَبَرٌ وحَبَرَاتٌ. قال اللَّيْثُ: يقال: بُرْد حِبَرَة ـ على الوَصف والإِضافة ـ وبُرُود حِبَرَة، قال: وليس حِبَرَةٌ مَوضعًا أَو شيئًا معلومًا، إِنما هو وَشْيٌ، كقولك: ثوبٌ قِرْمِزٌ، والقِرْمِزُ صِبْغُه. وفي الحديث: «مثَلُ الحَوامِيمِ في القرآنِ كمَثَل الحِبَرَاتِ في الثِّيَابِ». وبائِعُها حِبَرِي لا حَبّارٌ، نَقَلَه الصَّاغانيُّ، وفي ما مَرّ أَن فَعّالًا مَقِيس في الصِّناعات، قاله شيخُنا.

والحَبِير، كأَمِيرٍ: السَّحاب، وقيل: الحَبيرُ مِن السَّحاب: المُنمَّر الذي تَرَى فيه كالتَّنْمير؛ مِن كَثْرة مائِه، وقد أَنكره الرِّياشيّ.

والحَبِير: البُرْدُ المُوَشَّى المُخطّطُ، يقال: بُرْد حَبير، على الوصف والإِضافة. وفي حديث أَبي ذَرٍّ: «الحمدُ لله الذي أَطْعَمَنا الخمِير، وأَلْبَسَنا الحَبير». وفي آخَرَ: «أَن النبيَّ صلى ‌الله‌ عليه‌وسلم لمّا خطَبَ خَديجةَ رضيَ الله عنها، وأَجابته، استأْذنتْ أَباها في أَن تَتزوّجه، وهو ثَمِلٌ فأَذن لها في ذلك، وقال: هو الفَحْلُ لا يُقْرَعُ أَنفُه، فنحَرتْ بَعِيرًا، وخَلَّقتْ أَباها بالعَبِير، وكَسَتْه بُرْدًا أَحمرَ، فلمّا صَحَا من سُكْرِه قال: ما هذا الحَبِيرُ، وهذا العَبِير وهذا العَقيرُ؟».

والحَبِيرُ: الثَّوْبُ الجَدِيدُ النّاعِمُ، وقد تقدّم أَيضًا في قوله؛ فهو تَكرار. الجمع: حُبْرٌ، بضمٍّ فسكونٍ.

والحبِيرُ: أَبو بَطْنٍ، وهم بَنُو عَمْرِو بنِ مالكِ بنِ عبدِ الله بنِ تَيْمِ بنِ أُسَامَة بنِ مالكِ بنِ بكرِ بنِ حُبَيِّبٍ؛ وإِنما قيل لهم ذلك لأَن حَبَرَه بُرْدَانِ، كان يُجَدِّدُ في كلّ سَنة بُرْدَيْنِ، قاله السمْعانِيّ.

والحَبِيرُ: لَقبُ شاعرِ، هو الحَبِيرُ بنُ بَجْعَرةَ الحَبَطِيُّ؛ لتحْسِينه شِعْره وتَحْبِيرِه.

وقولُ الجوهريِّ: الحَبِيرُ: لُغَامُ البَعِيرِ، وتَبِعَه غيرُ واحدٍ من الأَئِمَّةِ، غَلَطٌ، والصّوابُ الخَبِيرُ، بالخاءِ المُعْجَمَةِ، غَلّطَه ابنُ بَرِّيٍّ في الحواشي والقَزّاز في الجامع، وتَبِعَهما المصنِّف. وقال ابن سِيدَه: والخاءُ أَعْلَى. وقال الأَزهريُّ عن الليْث: الحَبِيرُ مِن زَبَدِ اللُّغَام، إِذا صار على رأْس البَعِير، ثمّ قال الأَزهريُّ: صحّفَ الليْث هذا الحَرْفَ، قال: وصوابُهُ بالخَاءِ، لزَبَدِ أَفواهِ الإِبلِ، وقال: هكذا قال أَبو عُبَيْدٍ والرِّيَاشِيُّ.

ومطَرِّفُ بنُ أَبي الحُبَيْرِ، كزُبَيْرٍ نَقلَه الصّاغانيُّ، ويَحْيى بنُ المُظَفَّرِ بنِ عليِّ بنِ نُعَيْم السَّلاميُّ، المعروف با بنِ الحُبَيْرِ، متأَخِّر، مات سنةَ 639، محدِّثانِ.

قلْتُ: وأَخوه وأَبو الحَسَن عليُّ بن المظفَّر بنِ الحُبَيْرِ السّلاميُّ التاجرُ، عن أَبي البَطِّيِّ، توفِّي سنة 626، ذَكَرَه المُنْذِريُّ.

والحُبْرَة، بالضمّ: عُقْدَةٌ مِن الشَّجَر، وهي كالسِّلْعَةِ تَخرجُ فيه تُقْطَعُ قطعًا، ويُخْرَطُ منها الآنِيَةُ، مُوَشّاةً كأَحْسَنِ الخَلَنْجِ، أَنشدَ أَبو حنيفةَ.

والبَلْطُ يَبْرِي حُبَرَ الفَرْفارِ

والحَبْرَةُ، بالفتح: السَّمَاعُ في الجَنَّة، وبه فَسَّرَ الزَّجّاجُ الآيةَ، وقال أَيضًا: الحَبْرَةُ في اللغة: كُلُّ نَغْمَةٍ حَسَنَةٍ مُحَسَّنَة.

والحَبْرَةُ: المبالغةُ فيما وُصِفَ بجَمِيلٍ.

ومعنَى يُحْبَرُونَ؛ أَي يُكْرَمُون إِكرامًا يُبَالَغُ فيه.

والحُبَارَى، بالضمّ: طائرٌ طَوِيلُ العُنُقِ، رَمَادِيُّ اللَّوْنِ، على شَكْل الإِوَزَّةِ، في مِنْقارِه طُولٌ، ومن شَأْنِهَا أَن تُصَادَ ولا تَصِيدَ. يقالُ للذَّكَرِ والأُنثَى والواحِدِ والجَمْعِ، وأَلفُه للتأْنِيث، وغَلِطَ الجَوْهَرِيُّ، ونَصُّه في كتابه: وأَلِفُه ليستْ للتأْنيث ولا للإِلْحاقِ، وإِنما بُنِيَ الاسمُ لها فصارتْ كأَنها مِن نفس الكلمةِ، ولا تَنْصَرفُ في معرفةٍ ولا نَكِرَةٍ؛ أَي لا تُنَوَّنُ، انتَهَى. وهذا غريبٌ، إِذْ لو لم تكُنِ الأَلفُ له ـ أَي للتأْنيث ـ لانْصَرَفَتْ، وقد قال إِنها لا تَنصرفُ. قال شيخُنَا: ودَعْوَاه أَنها صارتْ مِن الكلمة، مِن غَرائبِ التَّعبيرِ، والجوابُ عنه عَسِيرٌ، فلا يحتاجُ إِلى تَعَسُّفٍ.

كَفَى المَرْءَ نُبْلًا أَن تُعَدَّ مَعَايِبُهْ

الجمع: حُبَارَيَاتٌ، وأَنشدَ بعضُ البَغْدَادِيِّين في صِفة صَقْر:

حَتْف الحُبَارَياتِ والكَراوِين

قال سِيبَوَيْه: ولم يُكَسَّر على حَبَارِيّ ولا عَلى حَبَائِرَ، ليُفَرِّقُوا بينها وبين فَعْلَاءَ وفَعَالَةٍ وأَخَواتها.

والحُبْرُورُ، بالضمّ، والحِبْرِيرُ، بالكسر، والحَبَرْبَرُ، بفتحتين، والحُبُرْبُورُ، بضمّتين، واليَحْبُورُ، يفْعُول، والحُبُّورَ، بضمّ اوَّلِه مع التشدِيد؛ فَرْخُه؛ أَي وَلَدُ الحُبَارَى. الجمع: حَبارِيرُ وحَبابِيرُ. قال أَبو بُرْدَةَ:

بازٌ جَرِي‌ءٌ على الخِزّانِ مُقْتَدِرٌ *** ومن حَبَابِيرِ ذي مَاوَانَ يَرْتَزِقُ

وقال زُهَيْرٌ:

تَحِنُّ إِلى مِثْلِ الحَبابِيرِ جُثَّمًا *** لَدَى سَكَنٍ مِن قَيْضِها المُتَفَلِّقِ

قال الأَزهريُّ: والحُبَارَى لا يَشربُ الماءَ، ويَبِيضُ في الرِّمال النّائِيَةِ، قال: وكُنَّا إِذا ظَعَنّا نَسِيرُ في حِبَال الدَّهْنَاءِ، فرُبَّمَا التَقَطْنَا في يومٍ واحدٍ مِن بَيْضِهَا ما بين الأَربعة إِلى الثَّمَانية، وهي تَبِيضُ أَربعَ بَيْضَاتٍ، ويَضْرِبُ لونُهَا إِلى الزُّرْقَة، وطَعْمُهَا أَلَذُّ مِن طَعْم بَيْضِ الدَّجَاج وبَيْضِ النَّعَامِ.

وفي حديث أَنَس: «إِن الحُبَارَى لتَمُوتُ هُزَالا بذَنْب بَنِي آدَمَ» يَعْنِي أَن الله يَحْبِسُ عنها القَطْرَ بشُؤْمِ ذُنُوبِهِم؛ وإِنما خَصَّها بالذِّكْر لأَنها أَبْعَدُ الطَّيْرِ نُجْعَةً، فرُبَّمَا تُذبَحُ بالبَصْرَة، فتُوجَدُ في حَوْصَلَتِها الحِبّةُ الخَضْراءُ، وبين البصرةِ ومَنَابِتِهَا مَسِيرَةُ أَيامٍ كثيرة.

وللعَرَب فيها أَمثالٌ جَمَّةٌ، منها قولُهم: «أَذْرَقُ مِن الحُبارَى»، و«أَسْلَحُ مِن حُبَارَى»؛ لأَنها تَرْمِي الصَّقْرَ بسَلْحِهَا إِذا أَراغَهَا ليَصِيدَهَا، فتُلَوِّث رِيشَه بلَثَق سَلْحِهَا، ويقال إِن ذلك يَشتدُّ على الصَّقْر؛ لمَنْعِه إِيّاه من الطَّيَرَان.

ونَقَلَ المَيْدَانِيُّ عن الجاحظِ أَن لها خِزَانَةً في دُبُرِهَا وأَمعائها، ولها أَبدًا فيها سَلْحٌ رَقيقٌ، فمتَى أَلَحَّ عليها الصقْرُ سَلَحَتْ عليه، فيَنْتَتِفُ رِيشُه كلُّه فيَهْلِكُ، فمِن حِكْمَة الله تعالَى بها أن جَعَلَ سِلَاحَها سَلْحَها، وأَنشدوا:

وهم تَرَكُوه أَسْلَحَ مِن حُبارَى *** رَأَى صَقْرًا وأَشْرَدَ مِن نَعَامِ

ومنها قولُهم: «أَمْوَقُ من الحُبَارَى قبل نَبَاتِ جَنَاحَيْه»، فتَطِيرُ مُعَارِضَةً لفَرْخِها، ليتَعَلَّمَ منها الطَّيَرانَ.

ومنها: كلُّ شيْ‌ءٍ يُحِبُّ وَلَدَه.

حتى الحُبَارَى وتَذِفُّ عَنَدَه.

أَي تَطِيرُ عَنَدَه؛ أَي تُعَارِضُه بالطَّيَرَان ولا طَيَرَانَ لهُ؛ لضَعْف خَوَافِيه وقَوَائِمِه، ووَرَدَ ذلك في حديثِ عُثْمَانَ رضيَ الله عنه.

ومنها: «فلانٌ مَيِّتٌ كَمَدَ الحُبَارَى»؛ وذلك أَنَّهَا تَحْسِرُ مع الطَّيْرِ أَيامَ التَحْسِيرِ، وذلك أَن تُلْقِيَ الرِّيشَ، ثم يُبْطِئ نَباتُ رِيِشها، فإِذا طار سائِرُ الطَّيْرِ عَجَزَتْ عن الطيَران فتموت كَمَدًا، ومنه قولُ أَبي الأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ:

يَزِيدٌ مَيِّتٌ كَمَدَ الحُبَارى *** إِذَا طَعَنَتْ أُمَيَّةُ أَو يُلمُّ

أَي يَموتُ أَو يَقرُب من المَوت.

ومنها: «الحُبَارَى خَالةُ الكَرَوَانِ» يُضْرَبُ في التَّنَاسُب، وأَنْشَدُوا:

شَهِدْتُ بأَنّ الخُبْزَ باللَّحْمِ طَيِّبٌ *** وأَنّ الحُبَارَى خالَةُ الكَروانَ

وقالُوا: «أَطْيبُ مِن الحُبَارَى»، و«أَحْرَصُ مِن الحُبَارَى»، و«أَخْصَرُ مِن إِبْهامِ الحُبَارَى»، وغيرُ ذلك ممّا أَوردَها أَهلُ الأَمثالِ.

واليَحْبُورُ بفتحِ التحتَّيةِ وسكونِ الحاءِ: طائرٌ آخَرُ، أَو هو ذَكَرُ الحُبَارَى، قال:

كأَنَّكُمُ رِيشُ يَحْبُورَةٍ *** قَلِيلُ الغَناءِ عن المُرْتَمِي

أَو فَرْخُه، كما ذَكَرَه المصنِّف، وسَبَقَ.

وحِبْرٌ، بالكسر: بلد ويقالُ هو بتشديدِ الرّاءِ، كما يأْتي.

وحِبْرِيرٌ، كقِنْدِيلٍ: جَبَلٌ معروفٌ بالبَحْرَيْنِ لعَبْدِ القَيْس، بِتُؤَامَ، يَشْتَرِكُ فيه الأَزْدُ وبنو حنيفةَ.

والمَحُبَّرُ، كمُعَظَّمٍ؛ فَرَسُ ضِرارِ بنِ الأَزْوَرِ الأَسديِّ، قاتلِ مالِكِ بنِ نُوَيْرَةَ أَخِي مُتَمِّمٍ، القائلِ فيه يَرثِيه:

وكُنّا كنَدْمانَيْ جَذِيمَةَ حِقْبَةً *** مِن الدَّهْرِ حتى قِيلَ لن يَتَصَدَّعَا

فلمّا تَفَرَّقنا كأَنِّي ومالكًا *** لطُولِ افتراقٍ لم نَبِتْ ليلةً مَعَا

قال شيخُنَا: والمشهورُ في كُتُب السِّيَرِ أَن الذي قَتَلَه خالدُ بنُ الوَلِيد، ومثلُه في شَرْح مَقْصُورةِ ابنِ دُرَيْدٍ لابن هِشامٍ اللَّخْمِيِّ.

والمُحَبَّرُ: مَن أَكَلَ البَرَاغِيتُ جِلْدَه، فبَقِيَ فيه حَبَرٌ؛ أَي آثارٌ. وعبارة التَّهْذِيب: رجلٌ مُحَبَّرٌ، إِذا أَكَلَ البَرَاغِيثُ جِلْدَه، فصارَ لَه آثارٌ في جِلْدَه.

ويقال: به حُبُورٌ؛ أَي آثارٌ.

وقد أَحْبَرَ به؛ أَي تَرَكَ به أَثَرًا.

والمُحَبَّرُ: قِدْحٌ أُجِيدَ بَرْيُه.

وقد حَبَّرَه تَحْبِيرًا: أَجادَ بَرْيَه وحَسَّنَه.

وكذلك سَهْمٌ مُحَبَّرٌ، إِذا كان حَسَنَ البَرْيِ.

والمُحَبِّرُ، بكسر الباءِ لَقَبُ رَبيعةَ بنِ سُفْيَانَ، الشَّاعرِ الفارِسِ لتَحْبِيرِه شِعْرَه وتَزْيِينه، كأَنه حُبِّرَ. وكذلك لَقَبُ طُفَيْل بنِ عَوْفٍ الغَنَوِيِّ، الشَّاعرِ، في الجاهِليَّة، بَدِيع القَولِ.

وحِبِرَّى، كزِمِكَّى: وادٍ.

ونارُ إِحْبِيرٍ، كإِكْسِيرٍ: نارُ الحُبَاحِبِ، وذَكَرَه صاحبُ اللِّسَان في الجمع: ب ر، وقد تَقَدَّمت الإِشارة إِليه.

وحُبْرانُ، بالضمّ: أَبو قبيلةٍ باليَمن وهو حُبْرَانُ بنُ عَمْرِو بنِ قَيْسِ بنِ مُعاوِيَةَ بنِ جُشَمَ بنِ عبدِ شَمْسٍ، منهم: أَبو راشِدٍ، واسمُه أَخْضَرُ، تابِعِيٌّ، عِدَادُه في أَهل الشّام، رَوَى عنه أَهلُها، مشهورٌ بكُنْيَتِه.

وطائفةٌ، منهم: أَبو سعيدٍ عبدُ الله بنُ بِشْرٍ الحُبْرانِيُّ السَّكْسَكيُّ، عِدَادُه في الشّامِيّين، وهو تابِعِيٌّ صغيرٌ، سَكَنَ البَصْرَةَ.

وأَحمدُ بنُ محمّدِ بنِ عليٍّ الحُبْرَانِيُّ، عن محمّدَ بن إِبراهيمَ بنِ جعفرٍ الجُرْجانِيِّ.

وأَحمدُ بنُ عليٍّ الحُبْرَانِيُّ، عن عبدِ الله بنِ أَحمدَ بن خَوْلَةَ.

ومحمودُ بنُ أَحمدَ أَبو الخَيْرِ الحُبْرَانِيُّ، عن رِزْقِ الله التَّمِيمِيِّ، وعنه ابنُ عَساكِرَ.

وعَمْرُو بنُ عبدِ الله بنِ أَحمَدَ الحُبْرَانِيُّ التَّمِيمِيُّ، عن أَبي بِشْرٍ المَرْوَزِيِّ، وعنه ابنُ مرْدَوية في تاريخِه، وقال: مات سنة 377.

ويُحَابِرُ ـ كيُقَاتِلُ: مُضَارِع قاتلَ ـ بنُ مالكِ بنِ أُدَدَ أَبو مُرَادٍ القبيلةِ المشهورةِ، ثم سُمِّيَتِ القبيلَةُ يُحَابِر، قال الشاعر:

وقد أَمَّنَتْنِي بعدَ ذاك يُحَابِرٌ *** بما كنتُ أُغْشِي المُنْدِياتِ يُحَابرَا

ويقال: ما أَصَبْتُ منه حَبَنْبَرًا ـ كذا في النُّسخ بمُوحَّدَتَيْن، وفي التَّكْمِلَة: حَبَنْتَرًا، بموحَّدةٍ فنونٍ فمُثَنّاةٍ ـ ولا حَبَرْبَرًا، كلاهما كسَفَرْجَل؛ أَي شيئًا. لا يُستَعمل إِلا في النَّفْي. التَّمْثِيلُ لسِيبَوَيْهِ، والتَّفْسِيرُ للسِّيرافِيِّ، ومثلُه قولُ الأَصمعيِّ. وكذلك قولُهم: ما أَغْنَى عَنِّي حَبَرْبَرًا؛ أَي شَيئًا.

وحَكَى سِيبَوَيْهِ: ما أَصابَ منه حَبَرْبَرًا، ولا تَبَرْبَرًا، ولا حَوَرْوَرًا؛ أَي ما أَصاب منه شيئًا.

ويقال: ما في الَّذِي يُحَدِّثُنا به حَبَرْبَرٌ؛ أَي شيْ‌ءٌ.

وقال أَبو سعيدٍ: يقال: ماله حَبَرْبَرٌ ولا حَوَرْوَرٌ.

وقال أَبو عَمْرٍو: ما فيه حَبَرْبَرٌ ولا حَبَنْبَرٌ؛ وهو أَن يُخْبِرَكَ بشيْ‌ءٍ، فتقول: ما فيه حَبَنْبَرٌ ولا حَبَرْبَرٌ.

ويقال: ما على رَأْسِه حَبَرْبَرَةٌ؛ أَي ما على رَأْسِه شَعرَةٌ.

وحِبِرٌّ، كفِلِزٍّ؛ موضع معروفٌ بالبَادِيَة، وأَنشدَ شَمِرٌ عَجُزَ بيت:

... فقَفَا حِبِرٍّ

وأَبو حِبْرانَ الحِمَّانِيّ ـ بالكسرِ ـ موصوفٌ بالجَمال وحُسْنِ الهَيْئَةِ، ذَكَره المَدائنيُّ، ويُوجَدُ هنا في بعض النُّسَخ زيادةٌ:

وأَبو حِبَرَةَ ـ كَعِنَبَةٍ ـ شِيحَةُ بنُ عبدِ الله، تابِعِيٌّ. وهو تكرارٌ مع ما قبله.

وأَرْضٌ مِحْبارٌ: سريعةُ النَّبَاتِ حَسَنَتُه، كثيرةُ الكَلإِ، قال:

لنَا جِبَالٌ وحِمًى مِحيَارُ *** وطُرُقٌ يُبْنَى بها المَنَارُ

وقال ابن شُمَيْلٍ: الْمِحْبَارُ: الأَرضُ السَّرِيعةُ النَّبَاتِ، السَّهْلَةُ، الدَّفِئَةُ، التي ببُطُونِ الأَرضِ وَسرارتِها، وجمعُه مَحَابِيرُ.

وقد حَبِرَتِ الأَرضُ، كفَرِحَ: كَثُرَ نَبَاتُها، كأَحْبَرَتْ، بالضمّ. وحَبِرَ الجُرْحُ حَبَرًا: نُكِسَ، وَغَفِرَ، أَو بَرَأَ وبَقِيَتْ له آثَارٌ بَعْدُ.

والحَابُورُ: مَجْلسُ الفُسّاق، وهو مِن حَبَرَه الأَمرُ: سَرَّه، كذا في اللِّسَان.

وحُبْرُ حُبْرُ، بضمٍّ فسكونٍ فيهما: دُعَاءُ الشّاةِ للحَلْب، نقلَه الصَّاغانيُّ.

وتَحْبِيرُ الخَطِّ والشِّعْر وغيرهما كالمَنْطق والكلام: تَحْسِينُه وتَبْيينُه، وأَنشد الفَرّاءُ فيما رَوَى سَلَمَةُ عنه:

كتَحْبِيرِ الكتابِ بخَطِّ ـ يَومًا ـ *** يَهُوديٍّ يُقَارِبُ أَو يَزِيل

قيل: ومنه سُمِّيَ كَعْبُ الحِبْرِ؛ لتَحْسِينِه، قالَه ابنُ سِيدَه، ومنه أَيضًا سُمِّيَ المِدادُ حِبْرًا لتَحْسِينه الخَطَّ وتَبْيِينِه إِيّاه، نقَلَه الهَرَوِيُّ، وقد تَقَدَّم. وكُلُّ ما حَسُنَ مِن خَطٍّ أَو كلام أَو شعرٍ فقدْ حُبِرَ حَبْرًا وحُبِّرَ. وفي حديث أَبي موسى: «لو عَلِمْتُ أَنك تَسْمَعُ لقِراءَتِي لحَبَّرْتُها لكَ تَحْبِيرًا»؛ يُرِيدُ تَحْسِينَ الصَّوْتِ.

وحِبْرَةُ، بالكسر فالسكونِ: أُطُمٌ بالمدينةِ المشرَّفةِ، صلَّى الله على ساكِنها، وهي لليهودِ في دار صالح بنِ جعفر.

وحِبْرَةُ بنتُ أَبي ضَيْغَمٍ الشَّاعرةُ: تابِعِيَّةٌ، وقد ذَكَرَهَا المصنِّف أَيضًا في الجمع: ب ر، وقال إِنها شاعِرَةٌ تابِعِيَّة.

واللَّيْثُ بنُ حَبْرَوَيْهِ البُخَارِيُّ الفَرّاءُ، كحَمْدَوَيْهِ: محدِّثٌ، كُنْيَتُه أَبو نَصْر، عن يَحْيَى بنِ جعفرٍ البِكَنْدِيِّ، وطَبَقَتِه، مات سنة 286.

وسُورةُ الأَحْبَارِ: سورةُ المائدةِ، لقولِه تعالَى فيها: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ} وفي شِعْر جَرِير:

إِنّ البَعِيثَ وعَبْدَ آلِ مُقَاعِسٍ *** لَا يَقْرآنِ بسُورةِ الأَحْبَارِ

أَي لا يَفِيانِ بالعُهُود؛ يَعْنِي قولَه [تعالى]: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}.

وعن أَبي عَمْرو: الحَبَرْبَرُ: والحَبْحَبِيُّ: الجَمَلُ الصَّغِيرُ.

وفي التهذِيب في الخُماسِيِّ: الحَبَرْبَرَةُ، بهاءٍ: المرأَةُ القَمِيئَةُ المُنافِرَةُ، وقال: هذه ثُلاثِيَّةُ الأَصل أُلْحِقَتْ بالخُماسِيِّ، لتَكْرِيرِ بعضِ حُرُوفِهَا.

وأَحمدُ بنُ حَبْرُونَ، بالفتح: شاعرٌ أَنْدَلُسِيٌّ، كَتَبَ عنه ابنُ حَزْمٍ.

وشاةٌ مُحَبَّرَةٌ: في عَيْنَيْها تَحْبِيرٌ مِن سَوادٍ وَبياضٍ، نقلَه الصَّاغانيّ.

وحَبْرَى كسَكْرَى، وحَبْرُونُ كَزيْتُون اسمُ مدينةِ سيِّدنا إِبراهِيمَ الخَلِيل، صلى ‌الله‌ عليه‌وسلم بالقُرْب من بيت المَقْدِس، وقد دَخلتُهَا، وبها غارٌ يقال له: غارُ حَبْرُونَ، فيه قَبْرُ إِبراهيمَ، وإِسحاقَ، ويعْقُوبَ، عليهم‌السلام، وقد غَلَبَ على اسْمِها الخَلِيلُ، فلا تُعْرَفُ إِلّا به، وقد ذَكَرَ اللُّغَتَيْن فيها ياقُوتٌ وصاحبُ المَرَاصِدِ. قال شيخُنَا: والأَوْلَى «وزِيْتُونٍ» فالكافُ زائدةٌ، ومثلُه يَذْكُرُه في الخُرُوج مِن معْنًى لغيرِه، وليس كذلك هنا. ورُوِيَ عن كَعْبٍ أَن البناءَ الذي بها مِن بناءٍ سُلَيْمَانَ بنِ داوودَ عليهما‌السلام.

قلتُ: وقرأْتُ في كتاب المَقْصُور لأَبي عليٍّ القالِي في باب ما جاءَ من المَقْصُور على مثال فِعْلَى بالكسر، وفيه: وحِبْرَى وعيْنُون: القَرْيَتَان اللَّتَانِ أَقْطَعَهما النبيُّ صلى ‌الله‌ عليه‌وسلم تَمِيمًا الدّارِيِّ وأَهلَ بيتِه.

وكَعْبُ الحَبْرِ، بالفتح ويُكْسَرُ، ولا تَقُل: الأَحبارُ: معروف أَي معروفٌ، وهو كَعْبُ بنُ ماتِعٍ الحِمْيَرِيُّ، كُنْيَتُه أَبو إِسحاقَ: تابِعِيٌّ مُخَضْرَمٌ، أَدْرَكَ النبيَّ صلى ‌الله‌ عليه‌وسلم، وما رآه. مُتَّفَقٌ على عِلْمِه وتَوْثِيقِهِ، سَمِعَ عُمَرَ بنَ الخَطّابِ والعَبَادِلَةَ الأَرْبَعَةَ، وسَكَنَ الشَّأْمَ، وتُوُفِّيَ سَنَة 32 في خِلافة سيِّدِنا عُثْمَانَ، رضيَ الله عنه. وقد جاوَزَ المِائَةَ. خَرَّجَ له السِّتَّةُ إِلّا البُخَارِيَّ. ونُقِلَ عن ابن دُرُسْتَوَيْهِ أَنه قال: رَوَوْا أَنه يقال: كَعْب الحِبْر ـ بالكسر ـ فمَن جَعَلَه وَصْفًا له نَوَّنَ كَعْبًا، ومَن جَعَلَه المِدادَ لم ينَوِّن وأَضافَه إِلى الحِبْر. وفي شَرْح نَظْمِ الفَصِيح: الظاهرُ أَنه يقال: كَعْبُ الأَحْبَارِ؛ إِذْ لا مانعَ منه، والإِضافةُ تَقعُ بأَدْنَى سَبَبٍ، والسبب هنا قَوِيٌّ؛ سواءٌ جَعَلْنَاه جَمْعًا لِحَبْرٍ، بمعنى عالِمٍ، أَو بمعنَى المِدَاد. وقال النَّوَويّ في شَرْح مُسْلِم: كَعْبُ بنُ ماتِعٍ، بالميم والمُثَنّاةِ الفَوْقِيَّةِ بعدَهَا عَيْنٌ. والأَحْبارُ: العُلماءُ، واحدُهم حَبْرٌ، بفتح الحاءِ وكسرها، لُغَتَان؛ أَي كَعْبُ العُلماءِ. كذا قالَه ابنُ قُتَيْبَةَ وغيرُه. وقال أَبو عُبَيْد: سُمِّيَ كَعْب الأَحْبارِ؛ لكَونِه صاحِبَ كُتُبِ الأَحبارِ، جَمع حِبْرٍ، مكسور، وهو ما يُكْتَبُ به. وكان كَعْبٌ مِن علماءِ أَهلِ الكتابِ، ثم أَسْلَمَ في زَمَنِ أَبي بكْرٍ أَو عُمَرَ، وتُوُفِّيَ بحِمْصَ سنة 32 في خلافة عثمانَ، وكان مِن فُضَلاءِ التّابِعين، رَوَى عنه جُمْلَةٌ مِن الصَّحَابة. ومثلُه في مَشَارِق عِياضٍ، وتَهْذِيب النَّوَوِيِّ، ومُثَلَّثِ ابنِ السِّيد، ونَقَلَ بعضَ ذلك شيخُ مشايخِنا الزُّرقانيّ في شَرْح المَواهِب. قال شيخُنا. فما قالَه المَجْدُ مِن إِنكاره الأَحبارَ فإِنها دَعْوَى نَفْيٍ غير مَسْمُوعةٍ.

* وممّا يُستدرَك عليه:

كان يُقال لابن عَبّاس: الحَبْرُ والبَحْرُ، لعِلْمِه.

ويقال: رجلٌ حِبْرٌ نِبْرٌ.

وقال أَبو عَمْرٍو: الحِبْرُ من النّاس: الدّاهِيَةُ.

ورجلٌ يَحْبُورٌ ـ يَفْعُولٌ ـ مِن الحُبُورِ.

وقال أَبو عَمْرٍو: اليَحْبُورُ: النَّاعِمُ مِن الرِّجال. وجَمْعُه اليَحابِيرُ.

وحَبَرَه فهو مَحْبُورٌ.

وفي حديث عبدِ الله: «آلُ عِمْرَانَ غِنًى والنِّسَاءُ مَحْبَرَةٌ»؛ أَي مَظِنَّةٌ للحُبُورِ والسُّرُور.

والحَبَارُ: هَيْئَةُ الرَّجلِ. عن اللِّحْيَانِيِّ، حَكَاه عن أَبي صَفْوَانَ، وبه فسّر قوله:

أَلَا تَرَى حَبَارَ مَنْ يَسْقِيها

قال ابن سِيدَه: وقيل: حَبَارُ هنا اسمُ ناقَةٍ، قال: ولا يُعْجِبُنِي.

والمُحَبَّرُ: كمُعَظَّمٍ أَيضًا: فَرَسُ ثابِتِ بنِ أَقْرَمَ، له ذِكْرٌ في غَزْوَةِ مُؤْتَةَ.

والحَنْبريت، صَرَّحَ ابن القَطَّاعِ وغيرُه أَنه فَنْعِليت؛ فموضعُ ذِكْره هنا، وقد ذَكَرَه المصنِّف في التاءِ بناءً على أَنه فَنْعليل، ومَرَّ الكلام هناك، قالَه شيخُنَا.

وبَدَلُ بنُ المُحَبَّرِ ـ كمُعَظَّمٍ ـ من شُيُوخِ البُخَارِيّ.

والمُحَبَّرُ بنُ قَحْذَمٍ، عن هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ، وابنُه داوودُ بنُ المُحَبَّر، مُؤَلِّفُ كتابِ العَقْل.

وأَبَانُ بنُ المُخَبَّر، واهٍ. قال ابن ماكُولا: وليس بين داوودَ وأَبانٍ وبَدَل قَرابَةٌ.

وأَبو عليّ أَحمدُ بنُ محمّدِ بن المحبَّر، شاعرٌ، حدَّث عنه محمّدُ بنُ عبدِ السميعِ الواسِطِيُّ.

ومِن المَجَاز: لبِسَ حَبِيرَ الحُبُور، واسْتوَى على سَرِيرِ السُّرُور.

ومحمّدُ بنُ جامعٍ الحَبّارُ، يَرْوِي عن عبد العزيزِ بنِ عبد الصَّمدِ. وأَبو عبدِ اللهِ محمّدُ بنُ محمّدِ بنِ أَحمدَ الحبّارُ، شيخُ السَّمْعَانِيِّ: مَنْسُوبانِ إِلى بَيْع الحِبْرِ الذي يُكْتبُ به.

وأَبو الحَسَنِ محمّدُ بنُ عليِّ بنِ عبدِ الله بنِ يَعْقُوبَ بنِ إِسماعيل بن عُتْبَة بنِ فَرْقَد السُّلمِيُّ، الوَرّاقُ الحِبْرِيّ، ثِقَةٌ، ذكرَه الخطيبُ في تاريخ بغداد.

وحِبْرانُ، بالكسر: جَبَلٌ، ذكره البَكْرِيٌّ.

وحَبِيرٌ، كأَمِير: مَوضعٌ بالحِجاز. والحِبَرِيُّ ـ إِلى بَيْعِ الحِبَرِ، وهي البُرُود ـ سَيْفُ بنُ أَسْلم الكُوفِيُّ، حدَّث عن الأَعْمَشِ، صالحُ الحديثِ.

والحُسَيْنُ بنُ الحَكمِ الحِبْرِيُّ.

وأَبو بكرٍ محمّدُ بنُ عُثْمَان المُقْرِئُ الحِبَرِيُّ، الأَصْبَهانِيُّ، ترْجَمه الخطيبُ.

والمُحبِّريُّ ـ بكسر الموحَّدةِ ـ محمّدُ بنُ حَبِيب، اللغويُّ، نُسِبَ إِلى كتابٍ أَلَّفه سَمّاه المحبِّرَ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


42-تاج العروس (شطر)

[شطر]: لشَّطْرُ: نِصْفُ الشَّيْ‌ءِ، وجُزْؤُه، كالشَّطِيرِ، ومِنْهُ المَثَلُ «أَحْلُبُ حَلَبًا لك شَطْرُه». وحديث سعد: «أَنّه اسْتَأْذَنَ النبيَّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم أَنْ يَتَصَدّقَ بمالِه، قال: لا، قال: فالشَّطْرُ، قال: لا، قالَ: الثُّلُث فقال: الثُّلُثُ، والثُّلُثُ كثيرٌ». وحديثُ عائشَة: «كَانَ عِنْدَنَا شَطْرٌ مِنْ شَعِير» وفي آخر: «أَنّه رَهَنَ دِرْعَه بشَطْر مِنْ شَعِير»، قيل: أَرادَ نِصْفَ مَكُّوكٍ، وقيلَ: نصْفَ وَسْقٍ، وحَدِيثُ الإِسْراءِ: «فَوَضَعَ شَطْرَهَا». أَي الصَّلاة أَي بَعْضَها. وكذا حديثُ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمانِ»؛ لأَنّ الإِيمانَ يَظْهَرُ بحاشِيَةِ الباطنِ، والطُّهُور يَظْهَرُ بحاشيةِ الظَّاهِر.

الجمع: أَشْطُرٌ وشُطُورٌ.

والشَّطْرُ: الجِهَةُ والنَّاحِيَةُ ومنه قولُه تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} وإِذَا كانَ بهذا المَعْنَى فلا يَتَصَرَّفُ الفِعْلُ مِنْه قال الفَرّاءُ: يريدُ: نَحْوَه وتِلْقَاءَهُ، ومثله في الكلام: وَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَه وتُجَاهَهُ، وقال الشَّاعِرُ:

إِنّ العَسِيرَ بها دَاءٌ مُخَامِرُها *** فَشَطْرَهَا نَظَرُ العَيْنَيْنِ مَحْسُورُ

وقال أَبو إِسْحَاق: الشَّطْرُ: النَّحْوُ، لا اختلافَ بينَ أَهلِ اللُّغَة فيه، قال: ونُصِبَ قولُه عزّ وجلّ: {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} على الظَّرْفِ.

أَو يُقَالُ: شَطَرَ شَطْرَه؛ أَي قَصَدَ قَصْدَه ونَحْوَه.

والشَّطْرُ: مصْدَر شَطَرَ النّاقَةَ والشّاةَ يَشْطُرُها شَطْرًا: أَنْ تَحْلُبَ شَطْرًا، وتَتْرُكَ شَطْرًا، وللنَّاقةِ شَطْرانِ: قادِمَانِ، وآخِرانِ، وكُلُّ* خِلْفَيْنِ شَطْرٌ والجمع أَشْطُرٌ.

وشَطَّرَ بِنَاقَتِه تَشْطِيرًا: صَرَّ خِلْفَيْها، وتَرَك خِلْفَيْنِ، فإِنْ صَرَّ خِلْفًا واحدًا قِيلَ: خَلَّفَ بها، فإِنْ صَرَّ ثلاثَةَ أَخْلافٍ، قيل ثَلَث بها، فإِذا صَرَّها كُلَّها قيل: أَجْمعَ بها، وأَكْمَشَ بها.

وشَطَّرَ الشَّيْ‌ءَ تَشْطِيرًا: نَصَّفَه، وكل ما نُصِّفَ فقد شُطِرَ.

وشَاةٌ شَطُورٌ، كصَبُورٍ: يَبِسَ أَحدُ خِلْفَيْهَا.

ونَاقَةٌ شَطُورٌ: يَبِسَ خِلْفَانِ من أَخْلافِها؛ لأَنّ لها أَرْبَعَةَ أَخْلاف، فإِنْ يَبِسَ ثلاثَةٌ فهي ثَلُوثٌ.

أَو شاةٌ شَطُورٌ، إِذا صارَتْ أَحَدُ طُبْيَيْهَا أَطْوَلَ من الآخَرِ، وقد شَطرَت، كنَصَرَ وكَرُمَ شِطَارًا.

وثَوْبٌ شَطُورٌ؛ أَي أَحَدُ طَرَفَيْ عَرْضِه كذلِكَ؛ أَي أَطْوَلُ من الآخر، قال الصّاغاني: ويقال له بالفارسيّة «كُوسْ»، بضَمّةٍ غير مُشْبَعَة.

ومن المَجَاز: قولُهُم: حَلَبَ فُلانٌ الدَّهْرَ أَشْطُرَه؛ أَي خَبَرَ ضُرُوبَه، يعنِي مَرَّ بِه خَيْرُه وَشَرُّه وشِدَّتُه ورَخَاؤُه، تَشْبِيهًا بحَلْبِ جميعِ أَخْلافِ النّاقَةِ ما كان منها حَفِلًا وغير حَفِل، ودَارًّا وغيرَ دَارٍّ، وأَصلُه من أَشْطُرِ النّاقَة، ولها خِلْفَانِ قادمَان وآخَرَان، كأَنَّه حَلَبَ القَادِمَيْنِ، وهما الخَيْرُ، والآخِرَيْنِ، وهما الشَّرّ. وقيل: أَشْطُرُه: دِرَرُه.

ويُقَال أَيضًا: حَلَبَ الدَّهْرَ شَطْرَيْه.

وفي الكامل للَمُبَرّد: يُقَال للرَّجُل المُجَرِّب للأُمورِ: فلانٌ قد حَلَبَ [الدَّهَر] أَشْطُرَه؛ أَي قد قاسَى الشَّدَائِدَ والرّخاءَ، وتصَرّفَ في الفَقْرِ والغنَى، ومعنَى قوله: أَشْطُره، فإِنما يُريدُ خُلُوفَه، يقول: حَلَبْتُها شَطْرًا بعد شَطْر، وأَصلُ هذا من التَّنْصِيفِ؛ لأَنَّ كلَّ خِلْفٍ عَدِيلٌ لصاحِبِه. وإِذا كانَ نِصْفُ وَلَدِكَ ذُكُورًا ونِصْفُهُم إِناثًا فَهُمْ شِطْرَةٌ، بالكَسْرِ يقال: وَلَدُ فُلانٍ شِطْرَة.

وإِناءٌ شَطْرَانُ، كسَكْرَانَ: بَلَغَ الكَيْلُ شَطْرَهُ، وقَدَحٌ شَطْرانُ؛ أَي نَصْفَانُ وكذلك جُمْجُمَةٌ شَطْرَى، وقَصْعَةٌ شَطْرَى.

وشَطَرَ بَصَرُهُ يَشْطِرُ شُطُورًا بالضَّمّ، وشَطْرًا: صار كأَنَّهُ يَنْظُر إِليكَ وإِلى آخَرَ، رواه أَبُو عُبَيْد عن الفَرّاءِ، قاله الأَزهريّ، وقد تقَدَّم قريبًا.

والشَّاطِرُ: مَنْ أَعْيَا أَهْلَهُ ومُؤَدِّبَه خُبْثًا ومَكْرًا، جمعُه الشُّطّارُ، كرُمّان، وهو مأْخُوذٌ من شَطَرَ عنهم، إِذا نَزَحَ مُرَاغِمًا، وقد قيل: إِنّه مُوَلّد.

وقد شَطرَ، كَنصَرَ وكَرُمَ، شَطَارَةً، فيهِمَا؛ أَي في البابين، ونقل صاحبُ اللسان: شُطُورًا أَيضًا.

وشَطَرَ عنهُم شُطُورًا وشُطُورَةً، بالضمّ فيهما، وشَطَارَةً، بالفَتْحِ إِذا نَزَحَ عَنْهُمْ وتَركَهُم مُراغِمًا أَو مُخالِفًا، وأَعياهُم خُبْثًا.

قال أَبو إِسحاق: قَوْلُ الناس: فلانٌ شاطِرٌ: معناه أَنه آخِذٌ في نَحْوٍ غيرِ الاستواءِ، ولذلك قيل له: شاطِرٌ؛ لأَنه تَبَاعَدَ عن الاسْتِواءِ.

قلْت: وفي جَواهِرِ الخمس للسَّيّد محمّد حَمِيد الدّين الغَوْث ما نصُّه: الجَوْهَرُ الرابِع مَشْرَبُ الشُّطَّار، جمع شاطِر؛ أَي السُّبَّاقِ المُسْرِعِينَ إِلى حَضْرة الله تعالَى وقُرْبِه، والشَّاطِرُ: هو السّابِقُ، كالبَرِيدِ الذي يَأْخُذُ المَسَافَةَ البعيدَةَ في المُدَّةِ القَريبةِ، وقال الشيخُ في مَشْرَبِ الشُّطّار: يَعْنِي أَنه لا يَتَوَلّى هذِه الجهَةَ إِلّا مَنْ كَانَ مَنْعُوتًا بالشّاطر الذي أَعْيَا أَهْلَه ونَزَحَ عنهُم، ولو كانَ معهم، إِذْ يَدْعُونَه إِلى الشَّهَوات والمَأْلُوفاتِ، انتهى.

والشَّطِيرُ كأَمِير: البَعِيدُ يقال: مَنْزِلٌ شَطِيرٌ، وحَيٌّ شَطِيرٌ، وبَلَدٌ شَطِيرٌ.

والشَّطِيرُ: الغَرِيبُ، والجمع الشُّطُرُ، بضمّتين، قال امرُؤُ القَيْس:

أَشَاقَكَ بيْنَ الخَلِيطِ الشُّطُرْ *** وفِيمَنْ أَقامَ من الحَيِّ هِرّ

أَرادَ بالشُّطُرِ هنا المُتَغَرِّبينَ، أَو المُتَعَزِّبينَ، وهو نَعْتُ الخَلِيطِ.

ويقالُ للغَرِيب: شَطِيرٌ؛ لِتَبَاعُدِه عن قَوْمه، قال:

لا تَدَعَنِّي فيهِمُ شَطِيرَا *** إِنِّي إِذًا أَهْلِكَ أَو أَطِيَرا

أَي غَرِيبًا، وقال غَسَّانُ بنُ وَعْلة:

إِذَا كُنْتَ في سَعْدٍ وأُمُّكَ مِنْهُمُ *** شَطِيرًا فلا يَغْرُرْكَ خالُكَ من سَعْدِ

وإِنَّ ابنَ أُخْتِ القَوْمِ مُصْغًى إِناؤُه *** إِذا لَمْ يُزَاحِمْ خَالَهُ بأَبٍ جَلْدِ

يقول: لا تَغْتَرَّ بخُؤلَتِكَ؛ فإِنَّك منقُوصُ الحَظِّ ما لم تُزَاحِمْ أَخوالَك بآباءٍ شِرافٍ، وأَعمامٍ أَعِزَّة، وفي حديث القاسِمِ بنِ مُحمّد: «لو أَنّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا على رَجُلٍ بحَقٍّ، أَحدُهُما شَطِيرٌ أَي غَرِيبٌ، يعني: لو شَهِدَ له قَرِيبٌ من أَبٍ أَو ابْنٍ أَو أَخٍ، ومعه أَجْنَبِيٌّ صَحَّحَت شهادَةُ الأَجْنَبِيّ شهادَةَ القَرِيبِ، ولعلّ هذا مذهَبُ القاسِمِ، وإِلّا فشهادَةُ الأَبِ والابنِ لا تُقْبَلُ.

والمَشْطُورُ: الخُبْزُ المَطْلِيُّ بالكامَخِ أَورده الصّاغاني في التَّكْمِلَةِ.

والمَشْطُورُ من الرَّجَزِ والسَّرِيعِ: ما ذَهَبَ شَطْرُه، وذلِكَ إِذا نَقَصَتْ ثلَاثَةُ أَجزاءٍ من سِتَّتِه، وهو على السَّلْبِ، مأْخُوذُ من الشَّطْرِ بمعنَى النِّصْفِ، صرَّح به المُصَنّف في البَصائِر.

ونَوًى شُطُرٌ، بضمَّتَيْنِ: بعِيدَةٌ.

ونِيَّةٌ شَطُورٌ؛ أَي بَعيدَةٌ.

وشَطَاطِيرُ: كُورَةٌ غَرْبيَّ النّيلِ بالصَّعِيدِ الأَدْنَى، وهي التي تُعرَف الآنَ بشَطُّورات، وقد دَخلْتُها، وقد تُعَدّ في الدِّيوان من الأَعمال الأَسْيوطِيّة الآن.

وشاطَرْتُه مالِي: ناصَفْتُه، أي قاسَمْتُه بالنِّصف، وفي المُحْكَمِ: أَمْسَكَ شَطْرَه وأَعطاه شَطْرَه الآخَر.

ويقال: هُمْ مُشَاطِرُونَا؛ أَي دُورُهُم تَتَّصِلُ بدُورِنَا، كما يقال: هؤُلاءِ مُنَاحُونَا، أي نَحْنُ نَحْوَهم وهم نَحْوَنا.

وفي حَدِيثِ مانِع الزَّكاة قَوْلُه صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم «مَنْ مَنَعَ صَدقَةً فإِنّا آخِذُوهَا وشَطْرَ مالِهِ، عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا».

قال ابنُ الأَثِيرِ: قال الحَرْبِيّ: هكَذَا رَواه بَهْزٌ راوِي هذا الحَدِيثِ، وقَدْ وُهِّمَ. ونصُّ الحَرْبِيّ: غَلِطَ بَهْزٌ في لفْظِ الرّوَايَة، إِنَّمَا الصّوابُ «وشُطِرَ مالُه»، كعُنِيَ، أي جُعِلَ مالُه شَطْرَيْنِ، فيتَخَيَّرُ عليه المُصَدِّقُ، فيأْخُذُ الصَّدَقَةَ من خَيْرِ الشَّطْرَينِ أَي النِّصْفَيْن عُقُوبَةً لمَنْعِه الزَّكاةَ، فأَمّا ما لا يَلْزَمُه فلا، قال: وقالَ الخَطّابِيّ ـ في قَوْلِ الحَرْبِيّ ـ: لا أَعْرِفُ هذا الوَجْهَ. وقيل: معناه أَنَّ الحَقَّ مُسْتَوْفًى منه غير مَتْرُوكٍ عليه وإِنْ تَلِفَ شَطْرُ مالِه، كرَجلٍ كان له أَلْفُ شاة فتَلفَتْ حتّى لم يَبْقَ له إِلّا عِشْرُون، فإِنّه يُؤْخَذُ منه عَشْرُ شياهٍ لصدَقِة الأَلفِ، وهو شَطْرُ ماله الباقي، قال: وهذا أَيضًا بعيدٌ؛ لأَنّه قالَ: «إِنَّا آخِذُوها وشَطْرَ ماله»، ولم يقل «: إِنَّا آخِذُو شَطْرِ مالِه». وقيل: إِنه كانَ في صَدْرِ الإِسلامِ يَقْعُ بعضُ العُقُوباتِ في الأَموالِ ثمّ نُسِخَ، كقولِه في الثَّمَرِ المُعَلَّقِ: «مَنْ خَرَج بشْي‌ءٍ منه فعليهِ غَرامَةُ مِثْلَيْه والعُقْوبة» وكقوله في ضالَّةِ الإِبِلِ المَكْتُومَةِ «غَرَامَتُهَا ومِثْلُها مَعَها»، فكان عُمَر يَحْكم به فَغَرَّمَ حاطِبًا ضِعْفَ ثَمَنِ ناقَةِ المُزَنِيّ لمَّا سَرَقَهَا رَقِيقُه ونَحَرُوهَا، قال: وله في الحديثِ نظائِرُ. قال: وقد أَخَذَ أَحمدُ بنُ حَنْبَلٍ بشيْ‌ءٍ من هذا وعَمِلَ به.

وقال الشّافِعِيّ في القديم: مَنْ منَعَ زكَاةَ مَالِه أُخِذَت منه، وأُخِذَ شَطْرُ مالِهِ عُقُوبَةً على مَنْعِه. واستدَلّ بهذا الحديثِ، وقال في الجَدِيدِ: لا يُؤْخَذُ منه إِلّا الزَّكَاةُ لا غَيْرُ، وجعَلَ هذا الحديثَ منْسُوخًا وقال: كان ذلك حيثُ كانَت العُقُوبَاتُ في الأَموالِ، ثم نُسِخَت.

ومَذْهبُ عامّةِ الفقهاءِ أَنْ لا وَاجِبَ على مُتْلفِ الشيْ‌ء أَكثَرُ مِنْ مثْلِه أَو قِيمَته.

وإِذا تأَمّلْتَ ذلك عَرفْتَ أَنّ ما قَالَه الشيخُ ابنُ حَجَرٍ المَكِّيّ ـ في شرح العُبَاب، وذكر فيه: في القاموس ما فيه نَظَرٌ ظاهرٌ فاحْذَرْه، إِذْ يَلْزَمُ على تَوْهِيمِه لبَهْزٍ راوِيه تَوْهِيم الشَّافِعِيّ الآخذِ به في القديم، وللأَصحابِ فإِنّهُم مُتَّفقُون على أَنّ الروايَةَ كما مَرّ من إِضافَةِ شَطْرٍ، وإِنما الخلافُ بينهم في صِحَّةِ الحديثِ وضَعْفِه، وفي خلوّه عن مُعَارِضٍ وعدمه، انتهى ـ لا يخلُو عن نَظَرٍ من وُجُوهٍ، مع أَنّ مثلَ هذا الكلام لا تُرَدُّ به الرّوايات، فتأَمّل.

* ومّما يُسْتَدْرَكُ عليه:

شَطَرْتُه: جَعلْتُه نِصْفَيْن.

ويقال: شِطْرٌ وشَطِيرٌ مثْل نِصْفٍ ونَصِيفٍ.

وشَطْرُ الشَّاةِ: أَحَدُ خِلْفَيْهَا، عن ابن الأَعرابيّ.

والشَّطْرُ: البُعْدُ.

وأَبو طَاهِرٍ محمّدُ بنُ عبدِ الوَهّابِ بنِ مُحَمَّد، عُرِفَ بابنِ الشَّاطِرِ، بغدادِيّ، عن أَبِي حَفْصِ بنِ شاهِين، وعنه الخَطِيب.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


43-تاج العروس (عزر)

[عزر] العَزْرُ: اللَّوْمُ، يُقَال: عَزَرَه يَعْزِرُه، بالكَسْر، عَزْرًا، بالفَتح، وعَزَّرَهُ تَعْزِيرًا: لامَهُ ورَدَّهُ.

والعَزْرُ، والتَّعْزِيرُ: ضَرْبٌ دُونَ الحَدِّ، لمَنْعِهِ الجَانِيَ عن المُعاوَدَةِ، ورَدْعِهِ عن المَعْصِيَة. قال:

ولَيْسَ بتَعْزِيرِ الأَمِيرِ خَزَايَةٌ *** عَليَّ إِذَا ما كُنْتُ غَيْرَ مُرِيبِ

أَو هُوَ أَشَدُّ الضَّرْبِ. وعَزَّرَهُ: ضَرَبَه ذلك الضَّرْبَ، هكذا في المُحْكَم لابْن سِيدَه.

وقال الشَّيْخُ ابنُ حَجَر المَكّيُّ في «التُّحْفَة على المِنْهَاج»: التَّعْزِيرُ لُغَةً من أَسْمَاءِ الأَضْداد، لأَنّه يُطْلَقُ على التَّفْخِيمِ والتَّعْظِيمِ، وعلى أَشدِّ الضَّرْبِ، وعلى ضرْب دُونَ الحَدِّ، كذا في القاموس. والظَّاهِرُ أَنَّ هذا الأَخيرَ غَلطٌ، لأَنَّ هذا وَضْعٌ شَرْعِيٌّ لا لُغَوِيٌّ، لأَنّه لم يُعْرَفْ إِلّا من جِهَة الشَّرْع، فكَيْفَ يُنْسَبُ لأَهْلِ اللُّغَةِ الجاهِلِينَ بذلِكَ من أَصْلِه: والذي في الصّحاح بَعْدَ تَفْسِيره بالضَّرْب؛ ومنهُ سُمِّيَ ضَرْبُ ما دُونَ الحَدِّ تَعْزِيرًا. فأَشَارَ إلى أَنَّ هذه الحَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ منقولَةٌ عن الحَقِيقَةِ اللُّغَوِيّة بزِيادةِ قَيْدٍ، وهو كَوْنُ ذلك الضَّرْبِ دُونَ الحَدِّ الشَّرْعِيّ، فهو كلَفْظِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ ونَحْوِهما المَنْقُولَة لوُجُودِ المَعْنَى اللُّغَوِيّ فيها بزِيَادَةٍ.

وهذه دَقيقةٌ مُهمة تَفَطَّن لها صاحبُ القاموس. وقد وَقعَ له نَظِيرُ ذلك كَثِيرًا. وكُله غَلَطٌ يَتَعَيَّن التَّفطُّنُ له. انتهى.

وقال أَيضًا في «التُّحْفَة» في الفِطْرَة: مُولَّدةٌ، وأَمّا ما وَقَعَ في القَاموسِ من أَنَّهَا عَرَبِيَّةٌ فغَيْرُ صَحيح، ثمّ ساق عِبارَةً: وقال: فأَهْلُ اللُّغَة يَجْهَلونَه، فكيف يُنْسَبُ إِليهم. ونظيرُ هذا مِنْ خَلْطِه الحَقَائقَ الشَّرْعِيّةَ بالحَقَائقِ اللُّغَوِيّةِ ما وَقَع لَهُ في تفسير التَّعْزِيرِ بأَنَّه ضَرْبٌ دُونَ الحَدِّ. وقد وَقَع له مِنْ هذا الخَلْطِ شي‌ءٌ كثيرٌ، وكُلُّه غَلَطٌ يجب التَّنْبِيه عليه. وكذا خَلَط الحَقِيقةَ الشّرْعيّةَ باللُّغَوِيّةِ انتهى.

قلتُ: وقد نَقَلَ الشِّهَابُ في «شَرْح الشِّفاءِ» العِبَارَة الأُولَى التي في التَّعْزير بِرُمَّتِهَا، ونَقَلَه عنهُ شَيْخُنَا بنَصّ الحروف، وزادَ الشِّهَابُ عند قوله: فكيف يُنْسَب، الخ: قال شيخُنَا ابن قاسم: لا يُقَالُ: هذا لا يَأْتِي عَلَى أَنَّ الواضِعَ هو الله تَعَالَى، لأَنَّا نَقولُ: هو تَعَالَى إِنّمَا وَضَعَ اللُّغَةَ باعْتِبَارِ تعَارُفِ الناسِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عن الشَّرْعِ. انتهى.

قال شيخُنَا: ثُمَّ رَأَيتُ ابنَ نُجَيْم نقَلَ كلام ابنِ حَجَرٍ في شَرْحِهِ على الكَنْزِ المُسَمَّى «بالنَّهْر الفَائق» برُمَّتِه، ثم قال: وأَقُولُ؛ ذَكَرَ كثيرٌ من العُلماءِ أَنّ صاحبَ القاموس كثيرًا ما يَذْكُرُ المَعْنى الاصْطِلاحِيّ مع اللغوِيّ، فلِذلك لا يُعْقَد عليه في بيان اللغة الصِّرْفة. ثم ما ذكرُه في الصّحاح أَيضًا لا يكون مَعنًى لُغَوِيًّا على ما أَفادَ صاحِبُ «الكَشَّاف» فإِنّه قال: العَزْرُ: المَنعُ، ومنه التَّعْزِير، لأَنه مَنْعٌ عَنْ مُعَاوَدَة القَبِيحِ.

فعَلى هذا يكون ضَرْبًا دُونَ حَدٍّ، مِنْ إِفرادِ المَعنَى الحَقِيقيّ، فلا وُرُودَ على صاحِب القامُوس في هذه المادَّة. انتهى.

قال شيخُنَا: قُلْتُ: وهذا من ضِيق العَطَنِ وعَدَم التمْيِيز بين المُطْلَقِ والمُقَيَّدِ. فتأَمّل.

قلتُ: والعَجَبُ منهم كيْفَ سَكَتُوا على قَوْلِ الشَّيْخ ابنِ حَجَر، وهو: فكَيْفَ يُنْسَبُ لأَهْلِ اللُّغَةِ الجاهِلِينَ بذلك مِنْ أَصْله؟: فإِنّه إِنْ أَرادَ بأَهْل اللُّغَة الأَئمةَ الكِبَارَ كالخَلِيلِ والكِسَائيّ وثَعْلَب وأَبِي زَيْدٍ والشَّيْبَانِيّ وأَضْرابهم، فلَمْ يَثْبُت ذلك عَنْهُم خَلْطُ الحَقَائق أَصْلًا، كما هو مَعْلُومٌ عند من طالَع كتاب «العَيْن» و«النوادِر» و«الفَصِيح» وشُرُوحَه وغَيْرَها. وإِنْ أَرادَ بهم مَنْ بَعْدَهُم كالجَوْهرِيّ والفارَابِيّ والأَزْهَرِيّ وابن سِيدَه والصَّاغَانِيّ، فإِنّهُم ذَكَرُوا الحَقَائِقَ الشَّرْعيَّة المُحْتَاجَ إِلَيْهَا، ومَيَّزُوهَا من الحَقَائقِ اللُّغَوِيّة إِمّا بإِيضاح، كالجوهَرِيّ في الصحاح، أَو بإِشارَة، كبيَانِ العِلَّة التي تُمَيِّز بينهما، وتارَةً بِبَيَان المَأْخَذِ والقَيْدِ، كابنِ سِيدَه في المُحْكَم والمُخَصّص، وابنِ جِنِّي في سِرِّ الصناعَةِ، وابنِ رَشِيق في العُمْدَةِ، والزَّمَخْشَرِيِّ في الكَشَّاف. وكَفاكَ بواحدٍ منهم حُجَّةً للمُصَنّف فِيما رَوَى ونَقَل. والمَجْدُ لمَّا سَمَّى كتابه البَحْر المُحِيط تَرَك فيه بَيَانَ المآخِذِ وذِكْر العِلَلِ والقُيُودات الَّتي بها يَحْصُل التَّمْيِيزُ بين الحَقِيقَتَيْن، وكذا بَيْنَ الحَقِيقَةِ والمَجَازِ، لِيَتِمَّ له إِحاطَةُ البَحْرِ فهو يُورِدُ كَلامَهم مُخْتَصَرًا مُلْغزًا مَجْمُوعًا مُوجَزًا، اعْتِمَادًا على حُسْنِ فَهْمِ المُتَبَصِّرِ الحاذِق المُمَيِّزِ بين الحقيقة والمَجَازِ وبَيْنَ الحقائقِ، ومُرَاعَاةً لسُلُوك سبِيلِ الاخْتِصَار الذي راعاه، واسْتِغراقِ الأَفْرَاد الّذِي ادَّعَاه.

وقوله: وهي دَقِيقَةٌ مهمّة تَفطَّنَ لها صاحِبُ الصحاح وغَفَلَ عنها صاحب القاموسِ قلتُ: لم يَغْفَلْ صاحِبُ القامُوسِ عن هذه الدَّقِيقَة، فإِنّه ذَكَرَ في كتابه «بَصائر ذَوِي التَّمْيِيز في لطَائِف كتابِ الله العَزِيز» مُشِيرًا إِلى ذلك بقَوْلِه ما نَصُّه: التَّعْزِيرُ: من الأَضْداد، يكونُ بمَعْنَى التَّعْظِيم وبمَعْنَى الإِذْلال، يقال: زمانُنا العَبْدُ فيه مُعزَّرٌ مُوَقَّر، والحُرّ فيه مُعزَّرٌ مُوَقَّر، الأَوّلُ بمعنَى المنْصُورِ المُعَظَّم، والثانِي بمَعْنَى المضْرُوبِ المُهَزَّم. والتَّعْزِيرُ دُونَ الحَدّ، وذلك يَرْجِع إِلى الأَوَّلِ لأَنّ ذلك تأْدِيبٌ، والتَأْدِيب نُصْرَةٌ بقهْر ما. انتهى.

فالظَّاهِرُ أَنّ الذِي ذَكَرَهُ الشيخُ ابنُ حَجَر إِنّمَا هو تَحامُلٌ مَحْضٌ على أَئمةِ اللُّغَة عُمُومًا، وعلى المَجْدِ خُصوصًا، لتَكْرارِه في نِسْبتهم للجَهْلِ في مَواضِعَ كثيرة من كتابه: التُّحْفَة، على ما مَرَّ ذِكُرُ بَعْضِها. وشَيْخُنا رحمه ‌الله تعالى لمَّا رَأَى سبيلًا للإنكار على المَجْدِ كما هو شِنْشِنَتُه المَأْلُوفَةُ سَكَتَ عنه، ولم يُبْدِ له الانْتِصَارَ، ولا أَدْلَى دَلْوَه في الخَوْضِ، كأَنّه مُرَاعَاةً للاختصار. واللهِ يَعْفُو عن الجَمِيع، ويَتَغَمَّدُهم برَحْمتِه، إِنّه حَلِيمٌ سَتّار.

والتَّعْزيرُ أَيضًا: التَّفْخِيم والتَّعْظِيمُ فهو، ضِدّ، صَرَّحَ به الإِمامُ أَبو الطَّيِّب في كتاب الأَضداد وغَيْرُه من الأَئمة.

وقيل: بين التَأْدِيب والتَّفْخِيم شِبْهُ ضِدّ. والتَّعْزِيرُ: الإِعَانَة، كالعَزْرِ، يقال: عَزَرَه عَزْرًا وعَزَّرَه تعْزِيرًا؛ أَي أَعانَه.

والتَّعْزِيرُ: التَّقْوِيَةُ، كالعَزْرِ أَيضًا. يقال: عَزَرَه وعَزَّرَه، إِذا قَوّاهُ. والتَّعْزِير: النَّصْرُ بالسيف، كالعَزْرِ أَيضًا، يقال: عزَرَهُ وعَزَّرَه، إِذَا نَصَرَهُ، قال الله تَعَالَى: {وَتُعَزِّرُوهُ} جاءَ في التَّفْسِير: أَي لِتَنْصُرُوه بالسَّيْف: {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} عَظَّمْتُموهُم. قال إِبراهيمُ بن السَّريّ: وهذا هو الحقُّ، والله أَعلم، وذلك لأَنْ العَزْر في اللُّغَة الرَّدُّ والمَنْعُ، وتأْويل: عَزَرْتُ فُلانًا؛ أَي أَدَّبْتُه، إِنّما تأْويلُه فَعلْتُ به ما يَرْدعُهُ عن القَبيح، كما أَنّ نَكَّلْتُ به تَأْويلُه فَعلْتُ به ما يجبُ أَن يَنْكُلَ مَعَهُ عن المُعَاوَدَة، فتَأْويلُ عَزَّرْتُمُوهُم: نَصَرْتُموهم بأَنْ تَرُدُّوا عنهم أَعْداءَهم، ولو كانَ التَّعْزيرُ هو التَّوْقيرَ لكان الأَجْوَدُ في اللّغة الاستغناء به. والنُّصْرَة إِذا وَجَبَتْ فالتَّعْظِيمُ داخلٌ فيها، لأَن نُصْرَةَ الأَنبياءِ هي المُدافَعَةُ عنهم، والذَّبُّ عن دِينهم، وتَعْظيمُهم وتَوْقيرُهم. والتَّعزيرُ في كلامِ العرَب: التَّوْقير، والنَّصْرُ باللّسان والسَّيْف، وفي حديث المبْعَث: قال وَرَقَةُ بنُ نَوْفَل: «إِنْ بُعِث وأَنا حَيٌّ فسَأُعَزِّرُه وأَنْصُرُه»، التَّعزير هنا: الإِعانَةُ والتَّوْقِير والنَّصْر مَرَّةً بعد مَرَّة.

والعَزْر عن الشيْ‌ءِ كالضَّرْبِ: المنْعُ والرَّدُّ، وهذا أَصْل مَعْناه. ومنه أُخِذ مَعْنَى النَّصْرِ، لأَنّ مَنْ نَصَرْتَه فقد رَدَدْت عنه أَعْدَاءَه ومَنَعْتهم من أَذاه؛ ولهذا قيل للتَأْدِيب الّذِي دُونَ الحدّ: تعْزيرٌ، لأَنّه يَمْنَعُ الجَانِي أَنْ يُعَاوِدَ الذَّنْبَ.

وفي الأَبْنِيَةِ لابْنِ القطّاع: عَزَرْتُ الرَّجُلَ عَزْرًا: مَنَعْتَه من الشيْ‌ءِ. والعَزْرُ: النِّكَاحُ، يُقَال: عَزَرَ المَرْأَةَ عَزْرًا، إِذا نَكَحَها. والعَزْرُ: الإِجْبَارُ على الأَمرِ. يُقال: عَزَرَهُ على كذا، إِذَا أَجْبرَهُ عليه، أَورَدَه الصاغانيّ. والعَزْرُ: التَّوْقيفُ على باب الدِّين، قال الأَزهريّ: وحديثُ سَعْدٍ يَدُلّ على ذلك، لأَنّه قال: «قدْ رَأَيْتُنِي مع رَسُولِ الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم وما لنا طعَامٌ إِلا الحُبْلَةَ ورَوَقَ السَّمُرِ، ثمَّ أَصْبحَتْ بنو أَسَدٍ تُعَزِّرُني على الإِسلامِ، لقد ضَلَلْتُ إِذًا وخابَ عَملِي»، أَيَ تُوَقِّفني عَليْه. وقيل: تُوَبِّخُني على التَقْصِير فيه.

والتَّعْزيرُ: هو التَّوْقِيفُ على الفرائضِ والأَحْكَام، وأَصلُه التَّأْدِيبُ ولهذا يُسَمَّى الضَّرْب دونَ الحَدّ تعزيرًا، إِنما هو أَدبٌ، يقال: عَزَرْتُه وعَزَّرْتُه.

والعَزْر: ثَمَنُ الكَلإِ إِذا حُصِدَ وبِيعَتْ مَزارِعُه، كالعَزِيرِ، على فَعِيلٍ، بلُغة أَهلِ السَّوَادِ، الأَخيرُ عن اللَّيْث، والجَمْعُ العَزَائرُ، يقولون: هَلْ أَخذْتَ عَزِيرَ هذا الحَصِيدِ؟ أَي هل أَخذْتَ ثَمن مَرَاعِيها، لأَنهم إِذا حَصَدُوا باعُوا مَرَاعيَهَا.

والعَزائرُ والعَيَازِرُ: دُونَ العِضَاهِ وفَوْقَ الدِّقِّ، كالثُّمَام والصَّفْراءِ والسَّخْبَرِ. وقيل أُصولُ ما يَرْعُونَه من شَرِّ الكلإِ، كالعَرْفجِ والثُّمَامِ والضَّعَةِ والوَشِيجِ والسَّخْبَرِ والطَّرِيفَة والسَّبَطِ، وهو شَرّ ما يَرْعَوْنه.

والعَيَازِرُ: العِيدَانُ، عن ابنِ الأَعْرابيّ.

والعَيَازِيرُ: بَقايَا الشَّجَرِ، لا وَاحِدَ لها، هكذا أَورده الصاغانيّ.

والعَيْزارُ: الصُّلْبُ الشَّدِيدُ من كلِّ شيْ‌ءٍ، عن ابن الأَعرابيّ. ومنه يُقال: مَحَالَةٌ عَيْزَارَةٌ، إِذا كانتْ شدِيدَةَ الأَسْرِ، قد عَيْزَرَهَا صاحِبُها. وأَنشد أَبو عَمْرٍو:

فابْتَغِ ذاتَ عَجَلٍ عيَازِرَا *** صَرَّافَةَ الصَّوْتِ دَمُوكًا عاقِرَا

والعَيْزارُ أَيضًا: الغُلامُ الخَفِيف الرُّوحِ النَّشِيطُ، وهو اللَّقِنُ الثَّقِفْ، هكذا في التّكْمِلَة، وزاد في اللسان: وهو الرِّيشَةُ والمُمَاحِلُ والمُمَانِي. والعَيْزَارُ: ضرْبٌ من أَقْدَاحِ الزُّجاجِ، كالعَيْزَارِيَّة الأَخِيرَةُ في التكملة، وهُمَا جَمِيعًا في اللّسَان. والعَيْزارُ شجَرٌ، في اللّسَان: وهو ضَرْبٌ من الشَّجَرِ، الواحِدَة عَيْزَارَةٌ. وفي الصّحَاح: أَبو العَيْزار كُنْيَة طائر طَوِيل العُنُق تراه في الماءِ الضَّحْضاحِ أَبَدًا، يُسَمَّى السَّبَيْطَرَ، أَو هو الكُرْكِيّ.

وقال أَبو حَنيفة: العَوْزَرُ: نَصِيُّ الجَبَلِ، قال: كذا نُسَمِّيه، وأَهلُ نَجْدٍ يُسَمُّونَه النَّصِيَّ، هكذا أَوْرَدَه الصاغانيُّ.

وعَيْزَارٌ وعَيْزَارَةُ، بفتحهما، وعَزْرَةُ، كطَلْحَةَ، وعَزْرارٌ، كسَلْسالٍ، هكذا بالراءِ في آخره، وفي بعض الأُمَّهات: عَزْرَانُ، كسَحْبَانَ، ولعَلَّه الصَّوابُ وكذا عازِرٌ وعازَرُ كقاسِمٍ وهاجَرَ: أَسماءٌ.

والعَزْوَرُ، كجعْفَر: السَّيِّئُ الخُلُقِ، كالعَزَوَّر، كعمَلَّس والحَزَوَّر، وقد تقدّم. والعَزْوَر: الدَّيُّوثُ، وهو القَوَّاد.

والعَزْوَرَةُ بهاءٍ: الأَكَمَةُ، قال ابن الأَعْرَابِيّ: هي العَزْوَرَةُ والحَزْوَرَة والسَّرْوَعَةُ والقَائِدَةُ: للأَكمَةِ.

وعَزْوَرَةُ، بلا لامٍ: موضع، قُرْبَ مَكَّةَ زِيدَتْ شرَفًا. وقيل: هو جَبَلٌ عن يَمْنَةِ طريق الحاجِّ إِلى مَعْدِن بني سُلَيم، بينهما عَشَرَةُ أَمْيَال، أَو عَزْوَرة: ثَنِيَّةٌ المَدَنِيِّينَ إِلى بَطْحَاءِ مَكَّةَ، زِيدَتْ شرَفًا. وفي الحديث ذِكْر عَزْوَر كجَعْفَر، وهو ثَنِيَّةُ الجُحْفَة، وعليها الطَّرِيقُ من المَدِينَة إِلى مَكَّة، ويقال فيه عَزُورا.

وعازَرُ، كهاجَرَ: اسمُ رَجُل أَحْياه سيّدنا عِيسَى عَلَيْه السَّلام.

وعُزَيرٌ، تصغير عَزْر: اسم نَبِيّ مُخْتَلَف في نُبوَّته، يَنصرِفُ لِخِفَّته وإِنْ كان أَعْجَمِيًّا، مثل لُوط ونُوح، لأَنَّه تصْغِير عَزر.

وَقيْسُ بنُ العَيْزَارَةِ، وهي أَي العَيْزَارَةُ اسم أُمّه: شاعِرٌ من شُعَرَاءِ هُذَيْل، وهو قيْسُ بنُ خُوَيْلِد.

* ومّما يُسْتدْرك عليه:

عَزَرْتُ البَعِيرَ عَزْرًا: شَدَدْتُ على خَياشِيمهِ خَيْطًا ثم أَوْجَرْتُه.

وعَزَّزْتُ الحِمَارَ: أَوقْرْتُه.

ومُحَمّدُ بنُ عَزّارِ بن أَوْسِ بن ثعْلبة، ككتّان، قتله مَنْصُورُ بنُ جُمْهُورٍ بالسِّند. ويَحْيَى بن عُقْبَة بن أَبي العَيْزَارِ، عن محَمّد بن جحادة، ضَعَّفه يحيى بن مُعين. ومُحَمّد بن أَبي القاسم بن عَزْرة الأَزْدِيّ، راويةٌ مشهور. وعُزَيرُ بنُ سُلَيْم العامِرِيّ النَّسَفي. وعُزَيْرُ بن الفَضْل وعُزَيْرُ بنُ عبدِ الصَّمَد. وحِمَارُ العُزَيْر هو أَحْمَدُ بنِ عُبَيْد الله الأَخْبَاريّ.

وعَبْدُ الله بنُ عُزَيْر السَّمَرْقَنْدِيّ. وعَبّاسُ بن عُزَيْرٍ، وعُزَيْرُ بنُ أَحْمَدَ الأَصْبَهَانيّ، وحَفيده عُزَيْرُ بن الرّبِيع بنِ عُزَيْر، ونافِلَتُه مَحْفُوظُ بنُ حامِدِ بنِ عبدِ المُنْعِم بن عُزَيْر: مُحَدِّثون.

واسْتَدْرَك شَيْخُنَا عِزْرائِيلَ، ضَبَطُوه بالكَسْر والفَتْح: مَلَكٌ مشهورٌ، عليه‌السلام.

قلتُ: والعَيَازِرَةُ: قَرْيَةٌ باليَمَنِ، ومنها القاضِي العَلّامةُ أُستاذُ الشُّيُوخِ الحَسَنُ بنُ سَعِيد العَيْزَرِينِيّ، من قُضَاة الحَضْرَة الشريفة أَبي طالِب أَحْمَدَ بنِ القَاسمِ مَلِكِ اليَمَنِ، تُوُفِّي بالعَيازِرَة سنة 1038.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


44-تاج العروس (تيع)

[تيع]: تَاعَ القَيْ‌ءُ يَتِيعُ تَيْعًا، بالفَتْحِ، وتَيَعًا، وتَيَعَانًا، مُحَرَّكَتَينِ، وكذلِكَ تَوْعًا: خَرَجَ.

وِتَاعَ الشَّيْ‌ءُ كالماءِ ونَحْوِهِ يَتِيعُ: سالَ وانْبَسَطَ علَى وَجْهِ الأَرْضِ، تَيْعًا وتَوْعًا، الأَخِيرَةُ نادِرَةٌ.

وِقال الزَّجّاج: تاعَ الشَّيْ‌ءُ، إِذا ذَابَ.

وِقالَ ابنُ عَبّاد: تَاعَ تَيَعَانًا وتَيْعًا وتَيَعًا، إِذا تاقَ.

وِتاعَ الطَّرِيقَ يَتِيعُهُ تَيْعًا: قَطَعَهُ.

وِتاعَ إِلَيْهِ: عَجِلَ، ومنه اشْتِقَاقُ التَّيَّعانِ كما يَأْتِي، ومِنْهُ تَاعَ إِلَيْهِ: ذَهَبَ.

وِتَاعَ السَّمْنَ يَتِيعُه تَيْعًا وتَوْعًا: رَفَعَهُ بقِطْعَةِ خُبْزٍ كتَيَّعَهُ.

وِقالَ ابْنُ شُمَيْلٍ: التَّيْعُ: أَنْ تَأَخُذَ الشَّيْ‌ءَ بيَدِكَ. يُقَالُ: تَاعَ به يَتِيعُ تَيْعًا، وتَيَّعَ به، إِذا أَخَذَهُ بِيَدِهِ، وأَنْشَد:

فأَعْطَيْتُها عُودًا وتِعْتُ بتَمْرةٍ *** وِخَيْرُ المَرَاغِي ـ قد عَلِمْنَا ـ قِصارُهَا

قالَ: هذا رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنَّه أَكَلَ رَغْوَةً مَعَ صاحِبَةٍ له، فقال: أَعْطَيْتُها عُودًا تَأْكُلُ به، وتِعْتُ بِتَمْرَةٍ أَيْ أَخَذْتُهَا آكُلُ بِها. والمِرْغاةُ: العُودُ أَو التَّمْرُ أَو الكَسْرَة يُرْتَغَى بها، وجَمْعُهَا المَرَاغِي. قال الأَزْهَرِيّ: رَأَيْتُه بخَطِّ أَبِي الهَيْثَمِ.

وِتِعْتُ بتَمْرَةٍ قالَ: ومِثْلُ ذلِكَ تَيَّعْتُ بها. قالَ: وأَعْطَانِي فُلانٌ دِرْهَمًا، فتِعْتُ به، أَيْ أَخَذْتُه.

وِالتِّيعَةُ، بالكَسْرِ: الأَرْبَعُونَ من الغَنَمِ، نَقَلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ في شَرْحِ، حَدِيثِ وائلِ بنِ حُجْرٍ: «عَلَى التِّيعَةِ شاةٌ، والتِّيمَةُ لصاحِبها» ومِنْهُم مَنْ خَصَّهُ بغَنَمِ الصَّدَقَةِ، وحَكَى شَمِرٌ عن ابنِ الأَعْرَابِيّ قالَ: «التِّيعَةُ: لا أَدْرِي ما هي، وبَلَغَنا عن الفَرّاءِ أَنَّهُ قال: التِّيعَةُ من الشاءِ: القِطْعَةُ التَّي تَجبُ فِيهَا الصَدَقَةُ تَرْعَى حَوْلَ البُيُوتِ» أَو التِّيعَةُ: أَدْنَى ما يَجِب مِن الصَّدَقَةِ كالأَرْبَعِينَ فيها شاةٌ، وكخَمْسٍ من الإِبِلِ يها شَاةٌ، قالَهُ أَبُو سَعِيدٍ الضَّرِيرُ، قالَ: وإِنَّمَا تَيَّع التِّيعَةَ الحَقُّ الَّذِي وَجَبَ للمُصَدِّق فِيهَا، لأَنَّهُ لَوْ رامَ أَخْذَ شَيْ‌ءٍ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ عَدَدُهَا ما يَجِبُ فِيه التِّيعَةُ لمَنَعَهُ صاحِبُ المالِ، فلَمَّا وَجَبَ فيه الحَقُّ تاعَ إِلَيْه المُصَدِّقُ، أَيْ عَجِلَ. وتاعَ رَبُّ المالِ إِلى إِعْطَائهِ فجادَ به. قالَ: وأَصْلُه من التَّيْعِ، وهو القَيْ‌ءُ.

وقَال أَبُو عُبَيْدٍ: التَّيعَةُ: اسْمٌ لأَدْنَى ما يَجِبُ فيه الصَّدَقَةُ؛ أَي الزَّكَاةُ مِن الحَيَوَانِ، وكَأَنَّهَا الجُمْلَةُ الَّتِي للسُّعَاةِ إِلَيْهَا ذَهَابٌ، ونَصُّ أَبِي عُبَيْدٍ: عَلَيْهَا سَبِيلٌ، مِنْ تاعَ يَتِيعُ، إِذا ذَهَبَ إِلَيْهِ، كالخَمْسِ مِنَ الإِبِلِ، والأَرْبَعِينَ مِنَ الغَنَمِ.

وِقال ابنُ الأَعْرَابِيّ: التّاعَةُ: الكُتْلَةُ من اللَّبَاءِ الثَّخِينَةِ، نَقَلَهُ الصّاغَانِيّ.

وِفي نَوَادِرِ الأَعْرَابِ: رَجُلٌ تَيِّع ككَيِّسٍ، وتَيَّعانُ مُحَرَّكَةً مُشَدَّدَةً، وكَذلِكَ تَيِّحٌ وتَيَّحان، وتَيِّقٌ وتَيَّقَان، أَيْ مُتَسَرِّعٌ إِلَى الشَّرِّ أَوْ إِلَى الشَّيْ‌ءِ مِنْ قَوْلِهِمْ: تَاعَ إِلَى الشَّيْ‌ءِ، أَيْ عَجِلَ إِلَيْهِ.

وِالأَتْيَعُ: المُتَتايعُ؛ أَي المُتَسَارعُ في الحُمْقِ، أَو الذَّاهِبُ فيه.

وِالأَتْيَعُ من الأَمَاكِنُ: ما يَجْرِي السَّرَابُ عَلَى وَجْهِهِ.

وِأَتَاعَ الرَّجُلُ إِتاعَةً فهو مُتِيعٌ: قاءَ، والْقَيْ‌ءُ مُتَاعٌ. نَقَلَهُ الجَوْهَرِيّ، وأَنْشَدَ للقُطَامِيّ يَذْكُرُ الجِرَاحَاتِ:

وِظَلَّتْ تَعْبِطُ الأَيْدِي كُلُومًا *** تَمُجُّ عُرُوقُها عَلَقًا مُتَاعًا

وِأَتاعَ القَي‌ءَ: أَعَادَهُ، وكَذلِكَ أَتاعَ دَمَهُ فتَاعَ تُيُوعًا.

وِالتَّتَايُعُ: رُكُوبُ الأَمْرِ عَلَى خِلافِ النّاسِ، عَن ابْنِ شُمَيْل.

وِقالَ أَبُو عُبَيْدٍ: التتَايُع: التَّهَافُتُ في الشَّيْ‌ءِ، والمُتَايَعَةُ عَلَيْه، يُقَالُ للقَوْم: قد تَتَايَعُوا في الشَّيْ‌ءِ إِذا تَهَافَتُوا فيه، وسارَعُوا إِلَيْه، وبه فُسِّرَ الحَدِيثُ: «ما يَحْمِلُكُمْ عَلَى أَنْ تَتايَعُوا في الكذبِ كما يتَايعُ الفَرَاشُ فِي النّارِ».

وِقيلَ: هو الإِسْرَاعُ فِي الشَّرِّ، ولا يَكُونُ إِلّا فِي الشَّرِّ، كما في الصّحاح.

وقال الأَزْهَرِيّ: ولم نَسْمَعِ التَّتَايُعَ في الخَيْرِ، وقِيلَ: التَّتَايُع في الشَّرِّ كالتَّتَايُعِ في الخَيْرِ، ويقال في التَّتَايُعِ: إِنَّهُ اللَّجَاجَةُ، وقِيلَ: هو التَّهَافُتُ فيه، كما في الصّحاح، كالتَّتَيُّع، عن ابن عَبّادٍ، وهو في نَوَادِرِ الأَعْرَابِ. يُقَالُ: تَتَيَّع عَلَيَّ فُلانٌ. قالَ: وتَتَايَعَ لِلْقِيَامِ، إِذَا اسْتَقَلَّ له، وأَنْشَدَ:

فلَهَّفَ أُمَّه لَمَّا رَآهَا *** تَنُوءُ ولا تَتَايَعُ لِلْقِيَامِ

وِاتَّايَعَتِ الرِّيحُ بالوَرَقِ: إِذا ذَهَبَتْ به. قال الأَزْهَرِيّ: وِأَصْلُه تَتَايَعَت به. قال أَبُو ذُؤَيْبٍ يَذْكُرُ عَقْرَهُ نَاقَتَهُ، وأَنَّهَا كَاسَتْ فخَرَّتْ علَى رَأْسها:

وِمُفْرِهَةٍ عَنْسٍ قَدَرْتُ لسَاقِها *** فخَرَّتْ كَمَا تَتَّايَعُ الرِّيحُ بالقَفْلِ

لِحَيٍّ جِيَاعٍ أَو لِضَيْفٍ مُحَوَّلٍ *** أُبَادِرُ حَمْدًا أَنْ يُلَجَّ به قَبْلِي

وقال الأَخْفَشُ: تَتَّايَعُ: تَذْهبُ به.

وِلا أَسْتَتِيع بمَعْنَى: لا أَسْتَطِيعُ، عن ابنِ عَبّادٍ، وهِيَ لُغَةٌ، أَو لُثْغَةٌ، أَو بَدَلٌ.

* وممّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْه:

التَّيْعُ: ما يَسِيلُ علَى وَجْهِ الأَرْضِ مِن جَمَدٍ ذَائبٍ ونَحْوِهِ.

وشَيْ‌ءٌ تَائعٌ: مَائعٌ.

وِتَتَيَّعَ المَاءُ: انْبَسَطَ علَى وَجْهِ الأَرْض.

وِتَاعَ السُّنْبُلُ: يَبِسَ بَعْضُهُ وبَعْضُهُ رَطْبٌ.

والسَّكْرَانُ يَتَتَايَعُ: يَرْمِي بنِفْسِهِ سَرِيعًا مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ، وكَذا الحَيْرَانُ وقِيلَ: والتَّتابُعُ: الوُقُوعُ في الشَّرِّ مِن غَيْرِ فِكْرَةٍ ولا رَوِيَّةٍ.

وِتَتَايَعَ الجَمَلُ في مَشْيِهِ فِي الحَرِّ، إِذا حَرَّكَ أَلْواحَهُ حَتَّى يَكاد يَنْفَكُّ.

وِتَتَايَعَ القَوْمُ في الأَرْضِ، أَيْ تَبَاعَدُوا فِيهَا عَلَى عيٍّ وشِدَّةٍ.

وقال الصّاغَانِيّ: التَّرْكِيبُ يَدُلُّ على اضْطِرَابِ الشَّيْ‌ءِ، وقد شَذَّ عَنْهُ التِّيعَةُ.

قُلْتُ: وإِذا تَأَمَّلْتَ في قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي تَقَدَّم فيه عَلِمْتَ أَنَّهُ لا شُذُوذَ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


45-تاج العروس (ثهل)

[ثهل]: ثَهْلانُ: جَبَلٌ في بلادِ بَنِي تَمِيمٍ كذا وَقَعَ في العُبَابِ. والصَّوابُ لبَنِي نُمَيْرٍ كما في كتابِ نَصْر وسَيَأْتي قالَ الفَرَزْدَقُ:

فادفع بكَفّكَ إنْ أردتَ بِنَاءَنا *** ثهلانَ ذا الهضبات هل يَتَحَلْحَلُ؟

وقال جَحْدَرُ اللِّصُّ:

ذكرتُ هندًا وما يُغْنِي تَذَكُّرُها *** والقوم قد جاوز الثَّهْلانَ والنِّيَرا

وقال نَصْر: ثَهْلانُ جَبَلٌ لبَنِي نُمَيْرٍ بناحِيَةِ الشُّرَيفِ به ماءٌ ونَخْلَ لنُمَيْر بن عامِرِ بنِ صَعْصَعَة. وثَهْلانُ رجُلُ. وقالَ الأَحْمر: يقالُ هو الضَّلالُ بنُ ثَهْلَلَ مَمْنوعًا مِنَ الصَّرفِ كجَعْفَرٍ، وزَادَ غيرُه: مِثْلُ قُنْفُذٍ وجُنْدَبٍ وكذلِكَ بَهْلَلَ بالموحَّدةِ على ما تقدَّمَ، ويُرْوَى بالفاءِ أَيْضًا كما سَيَأْتي الذي لا يُعْرَفُ، أو من أَسْمَاءِ الباطِلِ قالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ.

وقالَ شيْخُنا: لا مُوجِبِ لمنْعِهِ، والعِلْمِيَّة الجِنْسِية وحْدُها ليْسَتْ ممَّا يُمْنَعُ وأَوْزَانُ لغَاتِه كلُّها ليْسَتْ من خَوَاصِّ الأَفْعَالِ بلْ ولا من أَوْزَانِها ولا عجْمَة ولا دَاعِي للمَنْعِ فليُحَرَّرَ، فالظاهِرُ أَنَّهُ غَلَطٌ كما وَقَعَ له في أَمْثَالِه.

قلْتُ: الذي صَرَّحَ به الصَّاغانيُّ وغيرُه من أَئمَّةِ اللغَةِ في بَهْلَلَ وثَهْلَلَ أَنَّهما مَمْنُوعان من الصَّرفِ، ونَقَلَ ذلِكَ عن الأَحمرِ وغَيْرِه من الأَئمَّةِ فلا يقالُ في مِثْلِه وأَمْثالِه إِنَّه غَلَطٌ فتأمَّلْ.

وقالَ ابنُ دُرَيْدٍ الثَّهَلُ محرِّكةً الانْبِساطُ على وجْهِ الأَرْضِ. والذي في الجَمْهَرةِ: الثَّهلُ بالفتحِ وثَهْلَلٌ كجَعْفَرٍ موضع قُرْبَ سيفِ كاظِمَةَ قالَ مُزَاحِمٌ العقُيْليُّ:

نواعمُ لم يأَكُلْنَ بطّيخَ قرية *** ولَمْ يَتَجَنَّبْنَ العِرَارَ بثَهْللِ

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


46-تاج العروس (جأل)

[جأل]: جَأَلَ كَمَنَعَ ذَهَبَ وجَاءَ عن الفرَّاءِ.

وقالَ ابنُ عُبَّادٍ: جَأَلَ الصَّوفَ جَمَعَهُ وكذلِكَ الشَّعَرَ.

وقالَ ابنُ بُزُرْجَ: جَأَلَ إذا اجْتَمَعَ فهو لازِمٌ مُتَعَدِّ.

وجَئِلَ كفَرِحَ جَألانًا محرَّكَةً عَرَجَ عن ابنِ عَبَّادٍ.

والاجْئِلالُ والجِئْلالُ الفَزَعُ والوجَلُ قال امْرُؤُ القَيْسِ:

وغائِطٍ قد هَبَطْتُ وَحْدي *** لِلْقَلْب من خَوْفِه اجْئِلالُ

وجَيْأَلُ كفَيْعَلُ وجَيْأَلَةُ بزيادَةِ الهاءِ وهذه عن الكِسَائيّ مَمْنوعَتَيْنِ من الصَّرْفِ.

وجَيَلٌ محرَّكةً بلا هَمْزٍ قال أَبُو عليِّ وربَّما قالُوا ذلِكَ ويترْكُون الياءَ مصَحَّحَة لأَنَّ الهَمْزَةَ وإنْ كانَتْ مُلْقاةً من اللفْظِ فهي مُبْقاةٌ في النِّيَةِ ومُعَامَلَةٌ مُعَاملَةَ المُثْبَتَةِ غَيْر المَحْذُوفةِ. أَلا تَرَى أَنَّهُم لم يقْلِبُوا الياءَ أَلفًا كما قَلَبُوها في نَابَ ونَحْوِه لأَنَّ الياءَ في نِيَّةِ سُكُونٍ؟.

والجَيْأَلُ مِثْل الأَوَّلِ إِلَّا أَنَّه بالأَلفِ واللَّامِ قالَ شيْخُنا: كأَنَّه أَشَارَ إلى أَنَّ الحُكْم عَلَيه بالعِلْمِيةِ لا يَمْنعه دُخُول الأَلفِ واللامِ للمحِ الأَصْلِ كُلُّه الضَّبُعُ قالَ الشَّنْفَرَى:

ولي دُونَكُمْ أَهْلُونَ سِيد عَمَلّسٌ *** وأَرقطُ زُهلُولٌ وعَرْفاءُ جيأْلُ

وقالَ آخَرُ:

قد زَوَّجُوني جَيْأَلًا فيها حَدَبْ *** دَقِيقَةَ الرُّفْغَيْنِ ضَخْماءَ الرَّكَبْ

وقالَ شيْخُنا: المَنْعُ في جيالة ظاهِرٌ لاجْتِمَاعِ العِلْمِية والتأْنِيثِ فهو كثُعالةٍ وذؤَالةٍ ونَحْوهما. وأمَّا جيال فلا مُوجِب لمَنْعِه ولا قائِل به على كَثْرةِ مَنْ ذَكَرَه من أَهْلِ اللغَةِ والصَّرْفُ في النَّقلِ ونَحْوِه ولعلَّه تَوَهَّم أَنَّه رُباعِيٌّ على وَزْنِ الفَعْلِ كما تَوَهّمه قَبْله وفي غيرِ موضِعٍ وفيه نَظَرٌ.

قلْتُ: قد اشْتَبَه على شيْخِنا ضَبْطَ الكَلِمَتَيْن فضَبَطَ جيالة كثُعَالةٍ وذُؤَالةٍ وهو غَلَطٌ ظاهِرٌ، والصَّوابُ أَنَّه على فَيْعَلةٍ وهكذا ضَبَطَه الكِسَائيُّ، وضَبَطَ جُيَالِ على وَزْنِ غُرَابٍ كما يدلُّ له كَلَامَه وجَعَلَ كَوْنه على وَزْنِ فَيْعل مُتَوهّمًا وهو أَيْضًا خِلافُ ما نَقلُوه. فقد صَرَّحَ الصَّاغَانيُّ وغَيْرُه من الأَئمَّةِ أنَّ جَيْأَلَ على وَزْنِ فَيْعَل مَعْرُوفَةٌ بلا أَلفٍ ولامٍ فتأَمَّلْ ذلِكَ.

وجَيْأَلَةُ الجُرْحِ غَثيثُهُ، عن الفرَّاءِ.

* وممَّا يُسْتَدْرَكُ عليه:

جَيْأَلٌ: وادٍ بنَجْدٍ.

والجَيْأَلُ: الذَّئبُ، نَقَلَه ابنُ السَيِّدِ في شَرْحِ أَبْياتِ المَعَاني واسْتَغْرَبَه شيْخُنا.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


47-تاج العروس (عقل)

[عقل]: العَقْلُ: العِلْمُ، وعليه اقْتَصَرَ كَثِيرُونَ.

وفي العُبَابِ: العَقْلُ الحِجْر والنّهْيَة، ومِثْلُه في الصِّحاحِ.

وفي المُحْكَمِ: العَقْلُ: ضِدُّ الحُمْقِ أَو هو العِلْمُ بصِفاتِ الأَشْياءِ من حُسْنِها وقُبْحِها وكَمالِها ونُقْصانِها. أَو هو العِلْمُ بخَيْرِ الخَيْرَيْنِ وشَرِّ الشَّرَّيْنِ، أَو مُطْلَقٌ لأُمورٍ أَو لقُوَّةٍ بها يكونُ التمييزُ بينَ القُبْح والحُسْن ولِمَعَانٍ مُجْتَمِعةٍ في الذّهْنِ يكونُ بمُقَدِّماتٍ يَسْتَتِبُّ بها الأَغْراضُ والمصالِحُ، ولهَيْئَةٍ مَحْمودةٍ للإنْسانِ في حَرَكاتِه وكَلامِه، هذه الأَقْوالُ التي ذَكَرَها المصنِّفُ كُلُّها في مصنَّفاتِ المَعْقُولات لم يعرج عليها أَئِمّة اللّغَةِ، وهناك أَقْوالٌ غيرُها لم يَذْكُرها المصنِّفُ.

قالَ الرَّاغبُ: العَقْلُ يقالُ للقُوَّةِ المُتَهَيِّئَةِ لقُبُول العِلْمِ، ويقالُ للذي يَسْتَنْبطُه الإنْسانُ بتِلْك القُوَّةِ عَقْلٌ، ولهذا قالَ عليٌّ، رَضِيَ اللهُ تعالى عنه: العَقْل عَقْلان مَطْبوعٌ ومَسْموعٌ، فلا يَنْفع مَطْبوع إذا لم يَكُ مَسْموع، كما لا يَنْفَعُ ضَوْء الشَّمْس وضَوْء العَيْن مَمْنوع، وإلى الأوَّلِ أَشَارَ النبيُّ، صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم، «ما خَلَقَ اللهُ خَلْقًا أَكْرَمَ مِنَ العَقْلِ»، وإلى الثاني أَشَارَ بقولِه: «ما كسبَ أَحدٌ شيئًا أَفْضَل مِنْ عَقْل يَهْديه إلى هُدًى أَو يَردّه عن رَدًى». وهذا العَقْل هو المَعْنيُّ بقوله عزّ وجلّ: {وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ}، وكلُّ مَوْضع ذمَّ اللهُ الكُفَّار بعَدَمِ العَقْل فإشَارَة إلى الثاني دوْنَ الأوَّل كقَوْلِه تعالَى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ}، ونَحْو ذلِكَ من الآياتِ، وكلُّ مَوْضِعٍ رُفِعَ التَّكْلِيفُ عن العَبْدِ لعَدَمِ العَقْل فإشارَةٌ إلى الأوَّلِ، انتَهَى.

وفي شَرْح شيْخنا قالَ ابنُ مَرْزوقٍ: قالَ أَبو المَعَالي في الإرْشادِ: العَقْل هو عُلُوم ضرورية بها يَتَميَّز العاقِلُ من غيرِه إذا اتَّصَفَ، وهي العِلْم بوُجُوب الوَاجِبات واسْتِحالَةِ المُسْتَحِيلات وجَوَاز الجائِزَات، قالَ: وهو تفْسِيرُ العَقْل الذي هو شَرْطٌ في التَّكْلِيف، ولَسْنا نَذْكُرُ تَفْسِيرَه بغيرِ هذا، وهو عنْدَ غيرِه من الهَيْئاتِ والكَيْفِيات الرَّاسِخَة من مَقُولةِ الكَيْف، فهو صفَةٌ رَاسِخةٌ تُوجِب لمَنْ قامت به إدْرَاك المُدْرَكات على ما هي عليه ما لم تَتَّصف بضدِّها. وفي حَوَاشِي المطالعِ: العَقْلُ جَوْهر مُجَرَّد عن المادَّةِ لا يَتَعَلَّق بالبَدَنِ تَعَلُّق التَّدْبير بل تَعَلُّق التَّأْثِير.

وفي العَقائِدِ النَّسْفية: أَمَّا العَقْل وهو قُوَّةٌ للنَّفْس بها تَسْتَعِدّ للعُلُومِ والإدْرَاكاتِ وهو المَعْنِيّ بقَوْلِهم: غَرِيزَة يتبعها العِلْمُ بالضَّرُورِيَّات عنْدَ سَلامَةِ الآلاتِ وقيلَ. جَوْهَرٌ يُدْركُ به الغَائِبات بالوَسَائِطِ والمُشَاهَدَات بالمشاهَدَةِ.

وفي المَواقِفِ: قالَ الحُكَماءُ الجَوْهَر إن كانَ حالًا في آخرَ فصُورَةٌ وإن كانَ محلًا لها فهَيُولَى، وإن كان مُرَكَّبًا منهما فجِسْم وإلَّا فإن كان مُتَعَلِّقًا بالجِسْم تَعَلُّق التَّدْبِير والتَّصَرُّف فنَفْس وإلَّا فعقل، انتَهَى.

وقالَ قومٌ: العَقْلُ قُوَّةٌ وغَرِيزَةٌ أَوْدَعَها اللهُ سُبْحانه في الإنْسانِ ليَتَميَّز بها عن الحَيَوان بإدْرَاكِ الأُمُورِ النَّظِرِيَّة، والحَقُّ أَنَّه نورٌ رُوحانِيٌّ يُقْذَف به في القَلْب أَو الدِّماغِ، به تُدْرِكُ النَّفسُ العلومَ الضَّرورِيَّةَ والنَّظَرِيَّةَ، واشْتِقَاقه من العَقْل وهو المَنْع لمنْعِهِ صاحِبِه ممَّا لا يليقُ أَو من المعقل وهو المَلْجأ لالْتِجَاء صاحِبِه إليه كذا في التَّحْريرِ لابنِ الهمام.

وقالَ بعضُ أَهْلِ الاشْتِقَاقِ: العَقْلُ أَصْلٌ معْناه المَنْعُ، ومنه العقالُ للبَعيرِ سُمِّي به لأنّه يُمْنَعُ عمَّا لا يليقُ قالَ:

قد عَقَلْنا والعَقْل أَيّ وثاقِ *** وصَبَرْنا والصَّبْر مُرّ المَذَاق

وفي الإرْشادِ لإمامِ الحَرَمَيْن: العَقْلُ من العُلُومِ الضَّرُوريَّةِ، والدَّلِيلُ على أَنَّه من العُلومِ اسْتِحالَة الاتِّصاف به مع تَقْدِيرِ الخُلُوِّ من جَمِيع العُلومِ، وليسَ العَقْل من العُلوم النَّظَرِيَّةِ إذ شَرْط النَّظَر تَعَذّر العَقْل، وليسَ العَقْل جَمِيْع العُلوم الضَّرُورِيَّة فإنَّ الضَّرِيرَ ومن لا يُدْرِكُ يَتَّصِفُ بالعَقْلِ مع انْتِفاءِ عُلُومٍ ضَرُورِيَّةٍ عنه، فبَانَ بهذا أَنَّ العَقْلَ من العُلومِ الضَّرُورِيَّةِ وليسَ كُلّها، انتهَى.

وقالَ بعضُهم: اخْتلفَ الناسُ في العَقْلِ من جِهَات هل له حَقِيقَة تُدْرَكُ أَو لا قولان، وعلى أَنَّ حَقِيقَةً هل هو جَوْهَر أَو عَرْض قولان، وهل مَحَلّه الرأْس أَو القَلْب قولان، وهل العُقُولُ مُتَفاوِتَة أَو مُتَساوِيَة قولان، وهل هو اسمُ جنْس أَو جنْسٌ أَو نَوْعٌ ثلاثَة أَقْوالٍ، فهي أَحَد عَشَر قَوْلًا. ثم القائِلُونَ بالجَوْهريَّة أَو العَرضيَّة اخْتَلَفوا في اسْمِه على أَقْوالٍ أَعْدَلها قَوْلان، فعلى أَنَّه عَرضٌ هو مَلَكَةٌ في النَفْسِ تُسْتَعَدُّ بها للعُلومِ والإدْرَاكاتِ وعلى أَنَّه جَوْهَر هو جَوْهَر لَطِيفٌ تُدْرَكُ به الغَائِباتُ بالوَسَائِطُ والمَحْسُوسَات بالمشاهَدَات خَلَقَه الله تعالَى في الدِّماغِ وجَعَل نورهُ في القَلْبِ، نَقَله الأبْشيطي.

وقالَ ابنُ فَرْحون: العَقْلُ نورٌ يُقْذَفُ في القَلْبِ فيَسْتعدّ لإدْراكِ الأَشْياءِ، وهو مِنَ العُلومِ الضَّرُورِيَّة، ولهم كَلامٌ في العَقْل غَيْر ما ذَكَرْنا لم نُورِدْه هنا قَصْدًا للاخْتِصارِ.

قالُوا: وابْتِداءُ وُجودِه عند اجْتِنانِ الوَلَدِ ثم لا يَزالُ يَنْمو ويَزيدُ إلى أن يَكْمُلَ عند البُلوغِ، وقيلَ إلى أَنْ يبلغَ أَرْبَعِين سَنَة فحيْنئِذٍ يَسْتَكْمِل عَقْله كما صَرَّحَ به غيرُ واحِدٍ. وفي الحدِيثِ: «ما مِن نَبيٍّ إلَّا نُبئَ بعدَ الأَرْبَعِين»، وهو يُشِير إلى ذلِكَ. وقَوْلُ ابن الجوزي إنَّه مَوْضوعٌ لأنَّ عيسَى نَبيٌّ ورُفِعَ وهو ابنُ ثلاثَ وثلاثِيْن سَنَة كما في حدِيثٍ، فاشْتِراطُ الأَرْبَعِين ليسَ بشَرْطٍ مَرْدودٍ لكَوْنِه مُسْتندًا إلى زَعْمِ النَّصَارَى. والصَّحيحُ أَنَّه رُفِعَ وهو ابنُ مائَة وعِشْرِين، وما وَرَدَ فيه غيرُ ذَلِكَ فلا يَصحُّ. وأَيْضًا كلُّ نَبيٍّ عاشَ نِصْف عُمْر الذي قَبْله، وأَنَّ عيسَى عاشَ مائَةِ وعِشْرِيْن وَنَبِيَّنا، صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم عاشَ نِصْفها كذا في تَذْكرة المَحْدولي.

الجمع: عُقولٌ، وقد عَقَلَ الرجُلُ يَعْقِل عَقْلًا ومَعْقولًا، وهو مَصْدرٌ، وقالَ سِيْبَوَيْه: هو صِفَةٌ، وكانَ يقولُ إنَّ المَصْدَرَ لا يَأْتي على وَزْن مَفْعولٍ البَتَّة ويُتأَوَّلُ المَعْقُول فيقولُ: كأنَّه عُقِلَ له شي‌ءٌ أَي حُبِسَ عليه عَقْلُه وأُيِّد وشُدِّدَ، قالَ: ويُسْتَغْنَى بهذا عن المَفْعَل الذي يكونُ مَصْدرًا، كذا في الصِّحاحِ والعُبَابِ، وأَنْشَدَ ابنُ بَرِّي:

فَقَدْ أَفادَتْ لَهُم حِلْمًا ومَوْعِظَةً *** لِمَنْ يَكُون له إرْبٌ ومَعْقول

ومن سَجَعاتِ: الأسَاسِ: ذَهَبَ طُولًا وعَدِم مَعْقولًا، وما لفُلانٍ مَقول ولا مَعْقول، وما فَعَلْته منْذُ عَقَلْتُ. وقيلَ: المَعْقولُ: ما تَعْقِلُه بقَلْبِك. وعَقَّلَ تَعقِيلًا، شُدِّدَ للكَثْرةِ، فهو عاقِلٌ من قومٍ عُقَلاءَ وعُقَّال، كرُمَّانٍ.

قالَ ابنُ الأنْبارِيّ: رجُلٌ عَاقِلٌ وهو الجامِعُ لأمْرِه ورَأْيه، مَأْخوذٌ من عَقَلْتُ البَعيرَ إذا جَمَعْتَ قَوَائِمَهُ، وقيلَ، هو الذي يَحْبِس نَفْسَه ويَرُدُّها عن هَوَاها.

وعَقَلَ الدَّواءُ بَطْنَه يَعْقِلُه ويَعْقُلُه، من حَدَّيْ ضَرَبَ وَنَصَرَ، عَقْلًا: أَمْسَكَه، وخَصَّ بعضُهم: بعْدَ اسْتِطْلاقِهِ.

قالَ ابنُ شُمَيْل: إذا اسْتَطْلَقَ بطنُ الإنْسانِ ثم اسْتَمْسَك فقد عَقَلَ بطنُه: وعَقَلَ الشي‌ءَ يَعْقِلِهُ عَقْلًا: فَهِمَه فهو عَقولٌ، يقالُ: لفُلانٍ قَلْبٌ عَقولٌ، ولسانُ سَؤُول؛ أَي فَهِمٌ.

وقالَ الزِّبْرِقان: أَحَبُّ صِبْيانِنا إلَيْنا الأَبْلَهُ العَقُول.

قالَ ابنُ الأثيرِ: هو الذي يُظَنُّ به الحُمْقُ فإذا فُتِّش وُجِد عاقِلًا، والعَقُول فَعُولٌ منه للمُبالَغَةِ.

وعَقَلَ البعيرَ يَعْقِلُه عَقْلًا: شَدَّ وَظيفَه إلى ذِراعِه.

وفي الصِّحاحِ: قالَ الأَصْمَعِيُّ: عَقَلْت البَعيرَ أَعْقِلُه عَقْلًا: وهو أَنْ تُثْنِي وَظِيفه مع ذِراعِه فتَشدَّهما جَمِيعًا في وسطِ الذِّراعِ، كعَقَّلَه تَعْقيلًا شُدِّدَ للكَثْرةِ، كما في الصِّحاح.

وفي حدِيثِ عُمَرَ، رضي ‌الله‌ عنه: أَنَّه قَدِمَ رجُلٌ من بعضِ الفُروجِ عليه فنَثَرَ كنانَتَه فسَقَطَتْ صَحِيفَة فإذا فيها أَبْياتٌ منه، وهي من أَبيات أَبي المِنْهال بُقَيْلَة الأكْبر:

فما قُلُصٌ وُجِدْنَ مُعَقَّلاتٍ *** قَفا سَلْعٍ بمُخْتَلَفِ التِّجار

يُعَقِّلُهنَّ جَعْدٌ شَيظَميٌّ *** وبِئْسَ مُعَقِّلُ الذَّوْدِ الظُّؤَارِ

يعْنِي نساءً مُعَقَّلات لْأَزْواجِهِن كما تُعَقَّل النُّوقُ عنْدَ الضِّرَاب، ويُرْوَى:

يُعَقِّلُهُنَّ * جَعْدَة من سُلَيْم *** معيدًا يبتقي سَقْط العَذَارى

أَرَادَ أَنَّه يَتَعرَّض لهنَّ فكَنَّى بالعَقْلِ عن الجماع أَي أَنَّ أَزْواجهنَّ يُعَقِّلُونَهُنَّ وهو يَعْقِلهنّ أَيْضًا، كأَنَّ البَدْء للْأَزْواجِ والإعادَة له.

* قلْتُ: وهذا الرجُلُ صاحِبُ الأَبْياتِ كانَ وَجَّهه عُمَرُ، رضي ‌الله‌ عنه، إلى إحْدَى الغَزَواتِ بنَوَاحِي فارِسَ وكانَ تَرَكَ عيَالَه بالمدِينَةِ فبَلَغَه أَنَّ رَجُلًا من بَنِي سُلَيْم اسْمُه جَعْدَة يَخْتلف إلى النِّساءِ الغَائِبات أَزْواجَهُن فكَتَبَ إلى سَيِّدنا عُمَر يَشْكُو منه.

وفي الحدِيثِ: «القُرْآنُ كالإبِلِ المُعَقَّلة» أَي المَشْدُودة بالعِقالِ، والتَّشدِيدُ للتكْثِير.

واعْتَقَلَه اعْتِقالًا مِثْلُ عَقَّلَه.

وعَقَلَ القَتيلَ يَعْقِلُه عَقْلًا: ودَاهُ أَي أَعْطَاه العَقْل، وهو الدية.

وعَقَلَ عنه عَقْلًا أَدّى جِنَايَتَهُ، وذلِكَ إذا لَزِمَتْه دِيَّةٌ فأَعْطَاها عنه، قالَ الشاعِرُ:

فإنْ كانَ عَقْل فاعْقِلا عن أَخِيكما *** بَناتِ المَخاضِ والفِصَالِ المَقَاحِما

عَدَّاه بعَنْ لأنَّ في قَوْلِه اعْقِلوا معْنَى أَدُّوا وأَعْطُوا حتى كأَنَّه قالَ: فأَعْطِيا عن أَخِيكُما.

وعقَلَ له دَمَ فُلانٍ عَقْلًا: تَرَكَ القَوَدَ للدِّيَةِ، قالَتْ كَبْشَة أُخْت عَمْرو بن مَعْدِيكرِب:

وأَرْسَلَ عبدُ الله إذْ حانَ يومُه *** إلى قَوْمِه لا تَعْقِلُوا لَهُمُ دَمِي

فهذا هو الفَرْقُ بين عَقَلْته وعَقَلْت عنه وعَقَلْتُ له، كذا في المُحْكَم والتَّهْذِيب لابنِ القَطَّاعِ وسَيَأْتي قَرِيبًا.

وعَقَلَ الظَّبْيُ عَقْلًا وعُقولًا، بالضمِ: صَعِدَ.

وفي الصِّحاحِ: عَقَلَ الوَعِلُ أَي امْتَنَعَ في الجَبَلِ العالِي يَعْقِلُ عُقولًا، وبه سُمِّي الوَعِلُ عاقِلًا أَي على حَدِّ التَّسْمِية بالصفَةِ. ويقالُ: وعِلٌ عاقِلٌ إذا تَحَصَّنَ بَوَزَرِهِ عن الصَّيَّادِ. وعَقَلَ الظِّلُّ عَقْلًا: قامَ قَائِمُ الظَّهيرةِ وذِلكَ عنْدَ انْتِصاف النَّهارِ، قالَ لَبِيدٌ، رضِيَ اللهُ تعالَى عنه:

تسلُبُ الكانِسَ لم يورأ بها *** شُعْبَةَ السَّاقِ إذا الظِّلُّ عَقَلْ

وعَقَلَ إليه عَقْلًا وعُقولًا إذا لَجَأَ.

وعَقَلَ فُلانًا إذا صَرَعَه الشَّغْزَبِيَّةَ وهو أَنْ يَلْوي رِجْلَه على رِجْلِه كاعْتَقَلَهُ، والاسمُ العُقْلةُ، بالضمِ، قالَ:

عَلّمنا إخْوَاننَا بَنُو عِجْلْ *** شُرْبَ النبيذِ اعتِقَالًا بالرّجلْ

وعَقَلَ البعيرُ: أَكَلَ العاقولَ، اسمُ نَبْتٍ يَأْتي ذِكْرُه، يَعْقِلُ، بالكسرِ من حَدِّ ضَرَبَ، عَقْلًا في الكلِّ.

والعَقْلُ: الدِّيَةُ، وقد عَقَلَه إذا وَدَاهُ كما تقدَّمَ، ومنه الحدِيثُ: «العَقْل على المُسْلِمِين عامَّة ولا يُتْرَكُ في الإسْلامِ مفرجٌ.

قالَ الأصْمَعِيُّ: وإنَّما سُمِّيَت بذلِكَ لأَنَّ الإبِلَ كانت تُعْقَل بفناءِ وَلِيِّ المَقْتولِ كَثُر اسْتِعْمالُهم هذا اللَّفْظ حتى قالُوا: عَقَلْت المَقْتول إذا أَعْطَيْت دِيَّته دَرَاهِم أَو دَنَانِير، قالَ أَنَسُ بنُ مُدْرِكَة:

إنِّي وقتلى سُلَيْكًا ثم أَعْقله *** كالثَّورِ يضربُ لما عافَتِ البَقَر

والعَقْلُ: الحِصْنُ، وأَيْضًا المَلْجَأُ، والجَمْعُ عُقولٌ، قالَ أُحَيْحة:

وقد أَعْدَدْت للحِدْثانِ حِصْنًا *** لو أَنَّ المرءَ تَحْرزُهُ العُقولُ

قالَ اللَّيْثُ: وهو المَعْقِلُ.

قالَ الأَزْهَرِيُّ: أُراهُ أَرَادَ بالعُقولِ التَّحَصُّن في الجَبَلِ، ولم أَسْمَع العَقْلَ بمعْنَى المَعْقِل لغيرِ اللَّيْث.

وقالَ ابنُ الأَعْرَابيِّ: العَقْلُ القَلْبُ، والقَلْبُ العَقْل.

قلْتُ: وبه فسَّرَ بعضٌ قَوْلَه تعالَى: {لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ}.

والعَقْلُ: ثَوْبٌ أَحْمرُ يُجَلَّلُ به الهَوْدَجُ، قالَ عَلْقمةُ:

عَقْلًا ورَقْمًا تَكادُ الطيرُ تَخْطَفُه *** كأَنَّه مِنْ دَمِ الأَجوافِ مَدْمومُ

أَو ضَرْبٌ من الوَشْيِ، وفي المُحْكَم: مِنَ الوَشْيِ الأَحْمر، وقيلَ: ضَرْبٌ من البُرُودِ.

وأَيْضًا: إسقاطُ اللامِ مِن مُفاعَلَتُنْ، هكذا في سائِرِ النسخِ، وفي نسخةٍ إسْقاطُ الياءِ قالَ شيْخُنا: وهو غَلَطٌ ظاهِرٌ فإسْقاطُ الياءِ وكلّ خامِسٍ ساكِن من الجزْءِ إنَّما يقالُ له القَبْض، والعَقْل إنَّما هو حَذْفَ الخامِسِ المُتَحرِّكِ، انتَهَى.

قلْتُ: وفي المُحْكَم: العَقْلُ في العَرُوضِ إسْقاطُ الياءِ من مَفاعِيلُن بعْدَ إسْكانِها في مُفاعَلَتُنْ فيَصِير مَفاعِلُنْ، وبَيْتُه:

مَنازِلٌ لفَرْتَنى قِفارٌ *** كأَنَّما رسُومُها سُطور

والعَقَلُ، بالتحريكِ: اصْطِكاكُ الرُّكْبَتَيْن أَو التواءٌ في الرِّجلِ، وقيلَ: هو أن يُفْرِطَ الرَّوَحُ في الرِّجْلَين حتى يَصْطَكَّ العُرْقوبانِ، وهو مَذْمومٌ، قالَ الجعْدِيُّ يِصَفُ ناقَةً:

مَطْوِيَّةِ الزَّوْرِ طَيَّ البِئْر دَوْسَرةٍ *** مَفْروشةِ الرِّجل فَرْشًا لم يَكُنْ عَقَلا

يقالُ: بعيرٌ أَعْقَلُ وناقةٌ عَقْلاءُ بَيِّنة العَقَلِ، وقد عَقِلَ، كفَرِحَ، عَقلًا: وهو التواءٌ في رِجلِ البَعيرِ واتِّساعٌ.

وتَعاقَلوا دَمَ فلانٍ: عَقَلوه بَيْنهم، وفي حدِيثِ عُمَرَ، رضي ‌الله‌ عنه: «إنَّا لا نَتَعاقَلُ المُضَغَ بَيْننا»؛ أَي أَنَّ القُرى لا يَعْقِلُون عن أَهْلِ البادِيَةِ، ولا أَهْلُ البَادِيَةِ عن أَهْلِ القُرى في مِثْل المُوْضِحَة أَي لا نَعْقِل بَيْننا ما سَهُل مِنَ الشِّجاجِ بل نُلْزِمه الجانِي.

ويقالُ: دَمُه مَعْقُلَةٌ، بضم القافِ، على قَومِه؛ أَي غُرمٌ عليهم يُؤَدُّونه مِن أَمْوالِهم.

والمَعْقُلَةُ أَيْضًا: الدِّيَةُ نفسُها، يقالُ: لنا عنْدَ فلانٍ ضَمَدٌ من مَعْقُلة؛ أَي بَقِيَّةٌ من دِيَّةٍ كانت عليه.

ومَعْقَلةٌ: خَبْراءُ بالدهناء تَمْسِكُ المَاءَ، حَكَاها الفارِسِيُّ عن أَبي زَيدٍ.

قالَ الأَزْهَريُّ: وقد رَأَيْتها وفيها حَوَايا كَثِيرة تُمْسِك ماءَ السَّماءِ دَهْرًا طويلًا، وإنَّما سُمِّيَت مَعْقُلة لأَنّها تُمْسِك الماءَ كما يَعْقِل الدواءُ البَطْنَ، قالَ ذُو الرُّمَّةِ:

حُزَاوِيَّةٍ أَو عَوْهَجٍ مَعْقُلِيَّةٍ *** تَرُودُ بأَعْطافِ الرِّمالِ الحَرَائِر

ويقالُ: هم على مَعاقِلِهم الأُولَى؛ أَي على حالِ الدِّياتِ التي كانت في الجاهِلِيَّةِ يُؤَدُّونها كما كانوا يُؤَدُّونها في الجاهِلِيَّةِ واحِدَتُه مَعْقُلَةٌ أَو على مَعاقِلِهم: على مَراتِبِ آبائِهِم، وأَصْلُه من ذلِكَ، وفي الحدِيثِ: كتبَ بَيْن قُرَيْش والانْصار كتابًا فيه: المُهاجِرُون مِن قُرَيْش على رَباعَتِهم يَتَعاقَلُون بَيْنهم مَعاقِلَهم الأُولَى أَي يكونُون على ما كانوا عليه من أَخْذِ الدِّياتِ وإِعْطائِها.

وهو عِقالُ المِئينَ، ككِتابٍ؛ أَي الشريفُ الذي إذا أُسِرَ فُدِيَ بمئينَ من الإِبِلِ. ويقالَ: فلانٌ قَيْدُ مائةٍ وعِقالُ مائةٍ إذا كان فِداؤُه إذا أُسِرَ مائةً من الإبِلِ، قالَ يَزيدُ بنُ الصَّعِق:

أُساوِرُ بيضَ الدَّارِعِينَ وأَبْتَغِي *** عِقالَ المِئِينَ في الصياع وفي الدَّهْرِ

واعْتَقَلَ رُمْحَه جَعَلَه بَيْن رِكابِه وساقِه. وفي حدِيثْ أُمِّ زَرْعٍ: واعْتَقَلَ خَطِّيًّا.

قالَ ابنُ الأثيرِ: اعْتِقالُ الرُّمْح: أَنْ يَجْعلَه الرَّاكِب تَحْتَ فخذِه ويَجُرَّ آخِرَه على الأَرْضِ وراءه.

واعْتَقَلَ الشاةَ: وَضَعَ رجْلَيْها بينَ ساقِهِ وفخذِهِ فَحَلَبها، ومنه حدِيثُ عُمَرَ، رَضِيَ اللهُ تعالَى عنه: «من اعْتَقَلَ الشاةَ وحَلَبَها وأَكَلَ مع أَهْلِه فقد بَرِئَ من الكِبْر» ويقالُ: اعْتَقَلَ الرِّجْلَ إذا ثَنَاها فَوضَعَها على الوَرِكِ، كذا في النسخِ، والصَّوابُ: على المَوْرِك، قالَ ذو الرُّمّة:

أَطَلْتُ اعْتِقالَ الرّجل في مُدْلَهِمَّةٍ *** إذا شَرَكُ المَوْماةِ أَوْدى نِظامُها

أَي خَفِيَتْ آثارُ طُرُقها كتَعَقَّلَها، يقالُ: تَعَقَّل فلانٌ قادِمَة رَحْله بمعْنَى اعْتَقَلَه، ومنه قَوْلُ النابِغَةِ:

مُتَعَقِّلينَ قَوادِمَ الأَكْوارِ

واعْتَقَلَ من دَمِ فلانٍ ومِن دَمِ طائِلَتِه إذا أَخَذَ العَقْلَ؛ أَي الدِّيَّة.

والعِقالُ، ككِتابٍ: زَكاةُ عامٍ مِنَ الإِبِلِ والغَنَمِ، ومنه قَوْلُ عَمْرو بن العَدَّاء الكَلْبي:

سَعَى عِقالًا فلم يَتْرُكْ لنا سَبَدًا *** فَكَيفَ لوْ قد سَعى عَمرٌو عِقالَينِ؟

لأَصْبَحَ الحيُّ أَوْبادًا ولم يَجِدُوا *** عِندَ التَّفَرُّقِ في الهَيْجا جِمالَيْنِ

قالَ ابنُ الأثيرِ: نصَب عِقالًا على الظَّرف، أَرادَ مُدَّةَ عِقَال، ومنه قَوْلُ أَبي بكرٍ الصِّدِّيق، رَضِيَ اللهُ تعالَى عنه، حين امْتَنَعَتِ العَرَبُ عن أَدَاءِ الزَّكاةِ إليه: «لو مَنَعونِي عِقالًا كانُوا يُوَدُّونه إلى رسولِ اللهِ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم، لقاتَلْتُهم عليه».

قالَ الكِسائيُّ: العِقالُ صَدَقة عامٍ.

وقالَ بعضُهم: أَرادَ أَبو بكْرٍ، رَضِىَ اللهُ تعالَى عنه، بالعِقالِ الحَبْل الذي كان يُعْقَل به الفَرِيضَة التي كانت تُؤْخذُ في الصَّدقةِ إذا قَبَضَها المُصَدِّق، وذلِكَ أَنَّه كان على صاحِبِ الإِبِلِ أَنْ يُؤَدِّي مع كلِّ فَرِيضةٍ عِقالًا تُعْقَل به، ورِواءً أَي حَبْلًا، وقيلَ: أَرادَ ما يُساوِي عِقالًا مِن حقوقِ الصَّدَقةِ، وقيلَ: إذا أَخَذَ المصَدِّقُ أَعيانَ الإِبِلِ قيلَ أَخَذَ عِقالًا، وإذا أَخَذَ أَثْمانَها قيلَ أَخَذَ نَقْدًا، وقيلَ: أَرادَ بالعقال صَدَقَةَ العام واخْتَارَهُ أَبو عُبَيدٍ وعليه اقتصر المصنِّفُ وقال أَبو عبيدٍ وهو أشبه عندي.

قالَ الخَطابيُّ: إِنَّما يُضْربُ المَثَلُ في مِثْلِ هذا بالأَقلِّ لا بِالأَكْثَرِ، وليسَ بسائرٍ في لسانِهم أَنَّ العِقالَ صدَقَةُ عامٍ، وفي أَكْثر الرِّوايَاتِ: لو مَنَعوني عَناقًا، وفي أَخْرَى: جَدْيًا، وقد جَاءَ في الحدِيثِ ما يدلُّ على القَوْلَيْن: قلْتُ: ووَرَدَ في بعضِ طرقِ الحدِيثِ: لو مَنَعوني عِقالَ بَعيرٍ، وهو بَعيدٌ عن التّأْوِيلِ.

وعِقالُ: اسمُ رجُلٍ.

والعِقالُ: القَلوصُ الفَتِيَّةُ.

وذُو العُقَّالِ، كرُمَّانٍ: فَرَسٌ، وسِياقُ المصنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّ اسمَ الفَرَسِ عقالٌ وهو غَلَطٌ.

ووَقَعَ في الصِّحاحِ: وذو عُقَّال: اسمُ فَرَسٍ.

قالَ ابنُ بَرِّي: والصَّحيحُ ذو العُقَّالِ، بِلامِ التَّعْريفِ، وهو فَحْلٌ من خيولِ العَرَبِ يُنْسَب إِليه، قالَ حَمْزة سَيِّد الشُّهَداءِ، رَضِيَ اللهُ تعالى عنه:

لَيْسَ عنْدِي إِلَّا سِلاحٌ وَوَرْدٌ *** قارِحٌ من بَناتِ ذي العُقَّالِ

أَتقِي دونه المَنايا بنَفْسِي *** وهْوَ دُوني يَغْشَى صُدُورَ العَوالي

وقالَ ابنُ الكَلْبي: هو فَرَسُ حَوطِ بنِ أَبي جابرٍ الرِّياحيّ من بَنِي ثَعْلبةَ بنِ يَرْبوعٍ، وهو أَبو دَاحِسٍ وابنُ أَعْوَج لصُلْبه ابن الدِّينارِيّ بنِ الهُجَيْسِيِّ بنِ زادِ الرَّكْبِ، قالَ جَرِيرٌ:

إِنَّ الجِيادَ يَبِتْنَ حَوْلَ قبابِنا *** من نَسْلِ أَعْوَجَ أَو لذي العُقَّال

ومَرَّ للمصنف اسْتِطْرَادُه في «د ح س»، فرَاجِعْه.

وفي الحدِيثِ: أَنَّه كانَ للنبيِّ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم، فَرَسٌ يُسَمَّى ذا العُقَّال.

والعُقَّالُ: داءٌ في رِجلِ الدابَّةِ إذا مَشَى ظَلَعَ ساعَةً ثم انْبَسَطَ وأَكْثَر ما يَعْتَرِي في الشاءِ، ويَخُصُّ أَبو عُبَيْد بالعُقَّالِ الفَرَسَ.

وفي الصِّحاحِ: العُقَّالُ ظَلعٌ يأْخُذُ في قوائمِ الدابَّةِ، وقالَ أُحَيْحة:

يا بَنِيَّ التَّخُومَ لا تَظْلِموها *** إِنَّ ظلْم التُّخُوم ذو عُقَّال

وعَقَّالُ، كشَدَّادٍ: اسمُ أَبي شَيْظَمِ بنِ شَبَّةَ المحدِّثِ، عن الزّهْرِيّ. والعَقِيلَةُ من النِّساءِ، كسَفينَةٍ الكَريمَةُ المُخَدَّرَةُ النَّفِيْسة، هذا هو الأصْلُ ثم اسْتُعْمِل في الكَريمِ من كلِّ شي‌ءٍ من الذَّواتِ والمَعَاني، ومنه عَقائِلُ الكَلامِ.

والعَقِيلةُ من القومِ: سَيِّدُهُم.

والعَقِيلَةُ من كلِّ شي‌ءٍ أَكرمُهُ، قالَ طرفَةُ:

أَرَى المَوْتَ يَعْتام الكِرَامِ ويَصْطَفي *** عَقِيلَة مالِ الفاحِشِ المُتَشَدِّدِ

ومنه قَوْلُ علَيِّ، رضي ‌الله‌ عنه المُخْتَص بعَقائِل كَرامَاتِه.

وعَقِيلةُ البَحْرِ: الدُّرُّ، وقيلَ: هي الدُّرَّةُ الكبيرَةُ الصافِيَةُ.

وقالَ ابنُ بَرِّي: هي الدُّرَّةُ في صَدَفتها.

وقالَ الأَزْهَرِيُّ: العَقِيلةُ كَريمةُ النِّساءِ والإِبِلِ وغيرِهما، والجَمْعُ العَقائِلُ، وأَنْشَدَ الصَّاغانيُّ لطَرَفَة أَيْضًا:

فمرّتْ كهاةٌ ذاتُ خَيْفٍ جُلالةٌ *** عقيلةُ شيخِ كالوبيل يَلَنْدَد

والعاقولَ: مُعْظَمُ البَحْرِ، أو مَوْجُه، وأَيْضًا: مَعْطِفُ الوادِي والنَّهْرِ، وقيلَ: عاقولُ النَّهْرِ والوادِي والرَّمْلِ ما اعْوَجَّ منه، وكلُّ مَعْطِفِ وادٍ عاقولٌ، والجَمْعُ عَواقِيلٌ.

وقيلَ: عَواقِيلُ الأَوْديةِ: دَراقِيعُها في مَعاطِفِها واحِدُها عاقُولٌ.

والعَاقولُ: جَمْعُه عَواقِيلُ ما التَبَسَ من الأُمورِ. وأَيْضًا: الأَرْض لا يُهْتَدَى لها لكَثْرةِ مَعاطِفِها.

والعَاقولُ: نَبْتٌ معروف مَعْرُوفٌ له شَوْكٌ تَرْعاه الإِبِلُ، ويقالُ له شَوْكُ الجمالِ يطلُع على الجسورِ والتّرعِ وله زَهْرةٌ بِنَفْسَجِيَّة، وأَغْفَلَه أَبو حَنِيفَةَ في كتابِ النَّباتِ.

ودَيْرُ عاقولٍ: د، بالنَّهْرَوانِ بَيْنها وبَيْن المَدَائِن مَرْحَلة، منه عبدُ الكريمِ بنُ الهَيْثَمِ أَبو يَحْيى العَاقوليُّ عن أَبي اليَمَانِ الحَكَم بنِ نافعٍ، وعنه أَبو العبَّاس محمدُ بنُ إِسحاقَ الثَّقَفيّ، قالَهُ الحاكِمُ.

وأَيْضًا: بلد بالمَغْرِبِ منه أَبو الحَسَنِ عليُّ بنُ إِبراهيمَ.

وعَاقولُ: قرية بالمَوصِلِ، كما في العُبَابِ.

وعَاقولَى، مَقْصورةً: اسْمُ الكوفَةِ في التَّوْرَاةِ، كما في العُبَابِ.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


48-تاج العروس (فهل)

[فهل]: فَهْلَلُ، كجَعْفَرٍ مَمْنوعًا مِن الصّرْفِ في قَوْلِهم: هو الضّلالُ بنُ فَهْلَلَ مِن أَسْماءِ البَّاطِلِ مِثْلُ ثَهْلَل، كما في الصِّحاحِ والعُبابِ.

ورَوَى ابنُ السِّكِّيت فيه الضمّ أَيضًا، وقالَ: هو الذي لا يُعْرَفُ، ثم كَوْنه مَمْنوعًا صَرَّحَ به الجوْهرِيُّ والصَّاغانيُّ وقَبْلهما ابن السِّكِّيت قالَ: لا يَنْصَرفُ.

وقالَ شيْخُنا: لا وَجْه لمنْعِه بل ولا قَائِل به، لأنَّ العِلْمِيَّة على تَسْلِيمها فيه لا تَسْتقل وَحْدها بالمنْعِ، ولا عِلَّة أُخْرى تُوجِبُ المنْعَ فتأَمَّل انتَهَى.

وقد تَقَدَّم مِثْلُ ذلِكَ في ث هـ ل، وب هـ ل.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

الفَهْلَويَّةُ: مَنْسوبَة إلى فَهْلَة مُعَرَّبُ پهلة، اسْمٌ يَقَعُ على خَمْسة بُلْدان: أَصْبَهان والرّيّ ومَاه ونَهاوَنْد وأَذَرْبِيجان.

وكَلامُ الفُرْس قَدِيمًا كانَ يجْرِي على خَمْسة أَلْسِنَة: الفَهْلَويَّة والدّريَّة والفارِسِيَّة والخَوْزيَّة والسِّرْيانيَّة، حَقَّقَه ابنُ الكَمالِ والشيخُ عبْدُ القادِرِ البَغْدادِيُّ.

والفَهْلَوانُ: الشَّديدُ المَصارِعِ، وقد سُمِّي هكذا جماعَةٌ مِن المُحَدِّثين.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


49-تاج العروس (حصن)

[حصن]: حَصُنَ المَكَانُ، ككَرُمَ، يَحْصُنُ حَصانةً: مَنُعَ، فهو حَصِينٌ.

وأَحْصَنَهُ غيرُهُ وحَصَّنه.

والحِصْنُ، بالكسْرِ: كلُّ مَوْضِعٍ حَصِينٍ لا يُوصَلُ إِلى ما في جَوْفِهِ، الجمع: حُصونٌ؛ ومنه قَوْلُه تعالَى: {مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ}، وأَحْصانٌ وحِصَنَةٌ، بكسْرٍ ففتحٍ.

والحِصْنُ: الهَلاكُ؛ كذا في النُّسخِ، وصَوابُه الهِلالُ.

ومِن المجازِ: الحِصْنُ: السِّلاحُ. يقالُ: جاءَ يَحْمِل حِصْنًا؛ أَي سِلاحًا.

والحِصْنُ: أَحدٌ وعِشْرونَ مَوْضِعًا ما بينَ بَرِّيِّ وبَحْريِّ منها: ثنيةٌ بمكَّةَ بَيْنَها وبينَ دَارِ يَزِيد بن مَنْصورٍ فَضاءٌ يقالُ له المُفْجَرُ؛ قالَهُ نَصْر.

* قُلْت: وحِصْنُ المَهْدي بالعِرَاقِ، وحِصْنُ مَنْصورٍ بالشَّامِ، وحِصْنُ مَسْلَمَةَ بالجَزِيرَةِ، وحِصْنُ كيفا بها أَيْضًا والنِّسْبَةُ إِلى هذا حِصْنيٌّ وحِصْفكيٌّ.

والحِصْنُ: قَرْيَةٌ بمِصْرَ، حَرَسَها اللهُ تعالَى، مِن حَوْفِ رَمْسِيْس.

وبَنُو حِصْنٍ: حَيٌّ مِن بَني فَزارَةَ، وهو بَنُو حِصْن بنِ حُذَيْفَةَ، ومنه قَوْل زُهَيْرٍ:

وما أَدْرِي وسَوْفَ إِخالُ أَدْرِي *** أَقومٌ آلُ حِصْنٍ أَم نِساءُ

ودِرْعٌ حَصِينٌ وحَصِينَةٌ: مُحْكَمَةٌ؛ قالَ ابنُ أَحْمَر:

همُ كانوا اليَدَ اليُمْنى وكانوا *** قِوامَ الدَّهْرِ والدِّرْعَ الحَصِينا

وقالَ الأَعْشَى:

وكلُّ دِلاصٍ كالأَضاةِ حَصِينةٍ *** ترى فَضْلَها عن رَبِّها يَتَذَبْذَبُ

وقالَ الرَّاغِبُ: دِرْعٌ حَصِينَةٌ لكَوْنِها حِصْنًا للبَدَنِ.

وقالَ شَمِرٌ: الحَصِينَةُ مِن الدّروعِ الأَمِينَةُ المُتَدانِيَةُ الحِلَقِ التي لا يَحِيكُ فيها السِّلاح.

وقوْلُه تعالَى: {وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ}.

قالَ الفرَّاءُ: قُرِئَ لنحْصِنَكم بالنُّونِ والتاءِ والياءِ، فمن قَرَأَ بالياءِ فالتَّذْكِير لِلَّبُوسِ، ومَنْ قَرَأَ بالتاءِ ذَهَبَ إِلى الصَّنْعَةِ، وإِنْ شِئْتَ جَعَلْته للدِّرْعِ لأَنَّها هي اللَّبُوسُ وهي مؤَنَّثَةٌ؛ أَي ليَمْنَعَكم ويَحْذِرَكم، ومَنْ قَرَأَ بالنُّونِ فالفِعْل للهِ، عزَّ وجَلَّ.

وامْرَأَةٌ حَصانٌ، كسَحابٍ: عَفيفَةٌ عن الرِّيبَةِ؛ عن شَمِرٍ؛ قالَ حَسَّان يَمْدَحُ عائِشَةَ، رضِيَ اللهُ تعالَى عنها:

حَصَانٌ رَزانٌ ما تُزَنُّ بِرِيبةٍ *** وتُصْبِحُ غَرْثَى من لُحومِ الغَوافِلِ

أَو امْرأَةٌ حَصانٌ: مُتَزَوِّجَةٌ، الجمع: حُصُنٌ، بضَمَّتَيْنِ، وحَصاناتٌ، وقد حَصُنَتْ، ككَرُمَتْ، حَصانَةً وحِصْنًا، مُثَلَّثَةٌ، اقْتَصَرَ الجَوْهرِيُّ على الضمِّ؛ وأَنْشَدَ ابنُ بَرِّي:

الحُصْنُ أَدْنى لو تآيَيْتِهِ *** مِنْ حَثْيِكِ التُّرْبَ على الرَّاكِبِ

وأَنْشَدَ يونس:

زَوْجٌ حَصان حُصْنُها لم يُعْقَم

قالَ: حُصْنُها تَحْصِينُها نَفْسَها.

وتَحَصَّنَتْ تحصُّنًا، وفي الصِّحاحِ: حصنت، فهي حاصِنٌ.

* قُلْت: ومثْلُه: حمض فهو حامض، ونَقَلَه شَمِرٌ أَيْضًا.

وحاصِنَةٌ وحَصْناءُ، وهذه عن الجَوْهرِيُّ أَيْضًا: الجمع: حواصِنُ وحاصِناتٌ؛ وأَنْشَدَ شَمِرٌ:

وحاصِن منْ حاصِنات مُلْسِ *** مِنَ الأَذَى ومن قِرافِ الوَقْسِ

وأَحْصَنَها البَعْلُ وحَصَّنَها وأَحْصَنَتْ هي بنفْسِها، وفي التَّنْزيلِ: {الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها}، فهي مُحْصِنَةٌ ومُحْصَينَةٌ، بكسْرِ الصَّادِ وفتْحِها: عَفَّتْ أَو تَزَوَّجَتْ.

وأَصْلُ الإِحْصانِ: المَنْعُ.

والمرأَةُ تكونُ مُحْصَنَة بالإِسْلامِ والعَفافِ والحرِّيةِ والتَّزْويجِ.

ونَقَلَ الجَوْهرِيُّ عن ثَعْلَب: كلُّ امْرأَةٍ عَفِيفةٍ مُحْصَنةٌ ومُحْصِنةٌ، وكلُّ امْرأَةٍ مُتَزَوِّجةٍ مُحْصَنةٌ لا غَيْر.

أَو أَحْصَنَتْ: إِذا حَمَلَتْ، فكأنَّ الحَمْلَ أَحْصَنَها مِن الدّخولِ بها.

والحَواصِنُ مِنَ النِّساءِ: الحَبالَى لأَجْلِ ذلِكَ؛ قالَ:

تُبِيلُ الحَواصِنُ أَبْوالَها

ورَجُلٌ مُحْصَنٌ، كمُكْرَمٍ، يكونُ بمعْنَى الفاعِلِ والمَفْعولِ؛ وقد أَحْصَنَهُ التَّزَوُّجُ.

وأَحْصَنَ الرَّجُلُ: إِذا تَزَوَّجَ؛ قالَ الشاعِرُ:

أَحْصَنُوا أُمَّهُمْ مِنْ عَبْدِهم *** تلكَ أَفْعالُ القِزام الوَكَعهْ

أي زَوَّجُوا.

وأَمَّا قَوْله تعالَى: {فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ}.

فإِنَّ ابنَ مَسْعودٍ، رضِيَ اللهُ تعالَى عنه، قَرَأَ: فإِذا أَحْصَنَّ، وقالَ؛ إِحْصانُ الأَمَةِ إِسْلامُها.

وكانَ ابنُ عبَّاسٍ، رضِيَ اللهُ تعالَى عنهما، يَقْرأُها {فَإِذا أُحْصِنَّ}، على ما لم يسمَّ فاعِلُه، ويفسِّرُه: فإِذا أُحْصِنَّ بزَوْجٍ، وكانَ لا يَرى على الأَمةِ حدًّا ما لم تزوَّجْ، وبقَوْلِه يقولُ فُقهاءُ الأَمْصارِ، وهو الصَّوابُ.

وقَرَأَ ابنُ كَثيرٍ ونافِعٌ وأَبو عَمْرٍو وعبدُ اللهِ بنُ عامِرٍ ويَعْقوبُ: {فَإِذا أُحْصِنَّ}، بضمِّ الأَلفِ، وقَرَأَ حفْص عن عاصِمٍ مِثْلَه، وأَمَّا أَبو بَكْرٍ عن عاصِمٍ فبفتحِ الأَلفِ، وقَرَأَ حَمْزةُ والكِسائيُّ بفتحِ الأَلفِ.

وقالَ الزَّجَّاجُ في قوْلِهِ تعالَى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ} أَي مُتَزَوِّجِينَ غَيْرَ زُناةٍ، قالَ: والإحْصانُ إِحْصانُ الفَرْجِ وهو إِعْفافُه؛ ومنه قوْلُه تعالَى: {أَحْصَنَتْ فَرْجَها}؛ أَي أَعفَّتْه.

قالَ الأَزْهرِيُّ: والأَمَةُ إِذا زُوِّجَتْ جازَ أَنْ يُقالَ قد أُحْصِنَتْ، لأَنَّ تَزْوِيجها قد أَحْصَنَها، وكَذلِكَ إِذا أُعْتِقَتْ فهي مُحْصَنَةٌ، لأَنَّ عِتْقَها قد أَعَفَّها، وكَذلِكَ إذا أَسْلَمت فإِنَّ إِسْلامَها إِحْصانٌ لها.

قالَ سِيْبَوَيْه: وقالوا بناءٌ حَصِينٌ وامرأَةٌ حَصَانٌ، فَرَّقوا بينَ البِنَاءِ والمرأَةِ حينَ أَرادُوا أَنْ يَخْبروا أَنَّ البِنَاءَ مُحْرِزٌ لمَنْ لجأَ إِليه، وأَنَّ المرْأَةَ مُحْرِزة لفَرْجِها.

وقالَ أَبو عُبَيْدٍ: أجْمَعَ القُرَّاء على نَصْبِ الصَّاد في الحَرْفِ الأَوَّل مِن النِّساء، فلم يَخْتلِفوا في فتْحِ هذه لأَنَّ تأَوِيلَها ذَوَات الأَزْواج يُسْبَيْنَ فيُحِلُّهنَّ السِّباءُ لمَنْ وَطِئها مِن المالِكِين لها، وتَنْقطِع العِصْمةُ بينهنَّ وبينَ أَزْواجهنَّ بأنْ يَحِضْنَ حَيْضَة ويَطْهُرْنَ منها، فأَمَّا سِوَى الحَرْف الأَوَّل فالقُرَّاء مُخْتَلِفونَ: فمنهم مَنْ يَكْسِر الصَّاد، ومنهم مَنْ يَفْتَحها، فمَنْ نَصَبَ ذَهَبَ إِلى ذَواتِ الأَزْواجِ اللَّاتي قد أَحْصَنَهُنَّ أَزْواجُهنَّ، ومَنْ كَسَر ذَهَبَ إِلى أَنَّهنَّ أَسْلَمْنَ فأَحْصَنَّ أَنْفسهنَّ فهُنَّ مُحْصِنات.

قالَ الفرَّاءُ: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ}، بنَصْبِ الصَّاد أَكْثَر في كَلامِ العَرَبِ.

وهو مُحْصَنٌ، كمُسْهَبٍ؛ عن ابنِ الأَعْرَابيِّ، وهو نادِرٌ، وكذا أَلْفَجَ فهو مُلْفَجٌ، لا ثالِثَ لهما.

زادَ ابنُ سِيْدَه: وأَسْهَمَ فهو مُسْهَم؛ وقد تَقَدَّمَ البَحْثُ في ذلِكَ في سَهَبَ.

والحَصانُ، كسَحابٍ: الدُّرَّةُ لتَحصّنِها في جَوْفِ الصَّدَفِ.

والحِصَانُ، ككِتابٍ: الفَرَسُ الذَّكَرُ لكَوْنِه حِصْنًا لِراكِبِه.

قالَ ابنُ جنيِّ: مُشْتَقّ مِن الحَصانَةِ لأَنَّه مُحْرِز لفارِسِه، كما قالوا في الأُنْثى: حِجْرٌ، وهو مِن حَجَرَ عليه أَي مَنَعَه.

أَو هو الكَرِيمُ المَضْنونُ بمائِهِ.

وفي الصِّحاحِ: ويقالُ إِنَّه سُمِّي حِصانًا لأَنَّه ضُنَّ بمائِهِ فلم يُنْزَ إِلَّا على حجرِ كَريمَةٍ حتى سَمَّوا كلَّ ذَكَرٍ مِنَ الخَيْلِ حِصانًا؛ الجمع: حُصُنٌ ككُتُبٍ.

وتَحَصَّنَ الفَرَسُ: صارَ حِصانًا.

وقالَ الأَزْهرِيُّ: تَحَصَّنَ إِذا تَكَلَّفَ ذلك. بَينَ التَّحَصُّنِ والتَّحْصِينِ؛ كما في الصِّحاحِ.

والمِحْصَنُ كمِنْبَرٍ: القُفْلُ.

وأَيْضًا: الكتلة التي هي الزَّبيلُ، ولا يُقالُ مِحْصَنَةٌ.

ومِحْصَنُ بنُ وَحْوَحٍ الأَنْصارِيُّ الأَوْسيُّ: صَحابيٌّ قُتِلَ هو وأَخُوه حُصَيْن بالقادِسِيَّةِ، رضِيَ اللهُ تعالَى عنهم.

* وفاتَهُ:

محْصَنٌ أَبو سلمَةَ الأَنْصارِيُّ، ومِحْصَنُ بنُ أَبي قَيْسٍ، صَحابِيَّانِ.

وأَبو الحِصْنِ، بالكَسْرِ، وأَبو الحُصَيْنِ، كزُبَيْرٍ: الثَّعْلَبُ؛ الأُولَى عن ابنِ سِيْدَه، والثانِيَة في الصِّحاحِ؛ وأَنْشَدَ ابنُ بَرِّي:

للهِ دَرُّ أَبي الحُصَيْنِ لقَدْ بَدَتْ *** منه مَكايِدُ حُوَّلِيِّ قُلَّبِ

وأَبو الحَصِينِ، كأَمِيرٍ: عُثْمانُ بنُ عاصِمٍ الأَسَديُّ تابِعِيٌّ عن ابنِ عبَّاسٍ، رضِيَ اللهُ تعالَى عنهما، وشُرَيْحٍ، وعنه شعْبَةُ والسُّفْيانان، وكان ثِقَةً ثَبْتًا، تُوفي سَنَة 118. وأَبو الحَصِينِ: عبدُ اللهِ بنُ أَحْمدَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ يونسَ اليَرْبوعيُّ الكوفيُّ، شَيْخٌ للنَّسائِيِّ وابنِ صاعدٍ وابنِ ماجَه والتَّرمذيِّ، وقد رَوَى عن عِشْر بنِ القاسِمِ وأَبيهِ.

* قُلْت: وأَبُوه مِنَ الحفَّاظِ رَوَى عن ابنِ أَبي ذئْبٍ وعاصِمِ بنِ محمدٍ، وعنه البُخارِيُّ ومُسْلمُ وأَبو دَاود، قالَ أَحْمدُ بنُ حَنْبلٍ لرجُلٍ: اخْرُجْ إِلى أَحْمَد بنِ يونسَ فإِنَّه شَيْخُ الإِسْلامِ؛ مَاتَ سَنَة 227.

وأَبو الحَصِينِ الوَداعِيُّ مَشْهورٌ؛ نَقَلَهُ الذهبيُّ رَحِمَه اللهُ تعالَى.

ومحمدُ بنُ إِسْحاقَ بنِ أَبي حَصِينٍ عن الديميِّ؛ وعنه أَبو عُبَيْدَةَ المدينيُّ، مُحَدِّثونَ.

وسَمَّوْا حِصْنًا، بالكسْرِ، منهم: الحِصْنُ الشَّيْبانيُّ يُنْسَبُ إِليه جَماعَةٌ وسُمِّي به لمنعه. وحُصَيْنًا، كزُبَيْرٍ وأَميرٍ، منهم: عُبَيْدُ بنُ حُصَيْنٍ النُّمَيْرِيُّ الشاعِرُ في الحماسَةِ، وهو أَبو الرَّاعِي، نَقَلَهُ الجَوْهرِيُّ.

والحَصانِيَّاتُ: طَيْرٌ.

والأَحْصِنَةُ: النِّصالُ؛ قالَ ساعِدَةُ بنُ جَؤَيَّةَ الهُذَليُّ:

وأَحْصِنَةٌ ثُجْرُ الظُّبات كأَنَّها *** إِذا لم يُغَيِّبْها الجفيرُ جَحِيمُ

* قُلْت: وهي رِوايَةُ الأَخْفَشِ؛ ورَواهُ غيرُهُ: وأَحْصَنَه.

وحِصْنانِ، بالكسْرِ: بلد؛ كما في الصِّحاحِ، والنُّونُ الثَّانِيَةُ مَكْسورَةٌ.

وأَيْضًا: قَلْعَةٌ بوادِي لِيَّةَ، وهو حِصْنِيٌّ في النِّسْبَةِ أَيْضًا، كما في الصِّحاحِ.

قالَ اليَزيدِيُّ: سأَلَني والكِسائيَّ المَهْديُّ عن النِّسْبةِ إِلى البَحْرينِ وإِلى حِصْنَين لِمَ قالوا حِصْنِيٌّ وبَحْرانِيٌّ؟ فقالَ الكِسائيُّ: كَرِهُوا أَن يقولوا حِصْنانِيٌّ لاجْتِماعِ النُّونَيْن، وقُلْتُ أَنا: كَرِهوا أَن يقولوا بَحْرِيٌّ فيُشْبه النِّسْبة إِلى البَحْرِ.

* قُلْت: وقالَ سِيْبَوَيْه: قالوا حِصْنِيٌّ كَرَاهيَّة اجْتِماعِ إِعْرابَيْنِ.

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

حَصَّنْتُ القَرْيَة: بَنَيْت حَوْلَها.

وقُرًى مُحَصّنةٌ: مَجْعولَة بالأَحْكامِ كالحُصُونِ.

وتَحَصَّنَ العَدُوُّ: دَخَلَ الحِصْنَ واحْتَمَى به، أَو اتَّخَذَ الحِصْنَ مَسْكنًا، ثم تجوز به في كلِّ تحرز.

وحصنَهُ حصْنًا: حرزه في مَواضِع حَصِينَةٍ، جارِيَة مَجْرى الحصْن.

والمِحْصَنُ، كمِنْبَرٍ: القَصْرُ والحِصْنُ، مَدِينَةٌ حَصِينَةٌ.

وخَيْلُ العَرَبِ: حُصونُها، ذُكُورُها وإِناثُها، وهو مجازٌ.

وقالَ رجُلٌ لعُبَيْدِ اللهِ بنِ الحَسَنِ: أَوْصَى أَبي بثلث مالِهِ للحُصونِ، فقالَ له: اشْتَرِ به خَيْلًا، فقالَ: إِنَّما ذَكَر الحُصونَ، فقالَ: أَما سَمِعْتَ قَوْلَ الأَشعر الجُعْفيّ:

ولقد عَلِمْتُ على تَوَقّي الرَّدَى *** أَنَّ الحُصونَ الخَيْلُ لا مَدَرُ القُرَى

كما في الأَساسِ.

وفي المُحْكَم: اشْتَرِ به خَيْلًا واحْمِل عليها في سَبيلِ اللهِ.

وحُصَيْنٌ، كزُبَيْرٍ: مَوْضِعٌ، عن ابنِ الأَعْرابيِّ.

والحِصْنُ، بالكسْرِ: لَقَبُ ثَعْلَبَةَ بنِ عُكابَةِ وتَيْم واللاتِ وذُهْل.

ودارَةُ مِحْصَنٍ، كمِنْبَرٍ: مَوْضِعٌ؛ عن كُراعٍ.

والحِصانُ، ككِتابٍ وسَحابٍ: جَبَلٌ أَو قارةٌ مِن أَعْراضِ المَدِينَةِ، على ساكِنِها أَفْضَل الصَّلاة والسَّلام.

وعُمَرُ بنُ عبْدِ الرَّحْمن بنِ مُحَيْصن، بالتَّصْغيرِ، قارِئُ مكَّةَ؛ وقيلَ: اسْمُه محمدٌ، وقيلَ: عبْدُ اللهِ، قَرَأَ على مُجاهِد.

وكزُبَيْرٍ: أَبو الحُصَيْنِ السّلميُّ صَحابيٌّ؛ وأَبو الحُصَيْنِ الهَيْثَمُ بنُ شُفَيِّ تابِعيٌّ؛ وأَبو الحُصَيْنِ: عُبَيْدُ اللهِ بنُ أَبي زِيادٍ القداحُ، وحُميدُ بنُ الحَكَمِ، ومَرْوانُ بنُ رُؤْبَة، وإِبْراهيمُ، وابنُ إِسْماعيل بنِ أَبي خالِدٍ، والمَكِّيُّ القارِئُ، والكُوفيُّ قاضِي الرَّيِّ، والعَلاءُ بنُ الحُصَيْنِ، وسَوادَةُ بنُ عليِّ الأَحمسيُّ، مُحدِّثونَ.

وأَبو الحُصَيْنِ: عبدُ اللهِ بنُ لَقْمان شاعِرٌ.

وأَبو الحُصَيْنِ بنُ هُبَيْرَةَ المَخْزوميُّ، أَخُو جَعْدَةَ.

وعليُّ بنُ محمدٍ الحرَّانيُّ الحُصَينيُّ المُحدِّثُ، وابْنُه صالِح، رَوَى عنه الحافِظُ عبْدُ الغنيّ، وحَفِيدُه جَعْفرُ بنُ صالِحِ بنِ عليِّ بنِ عبيد الله بنِ الحُسَيْن الصَّابُونيُّ.

وأَبو القاسِمِ هبةُ اللهِ بنُ محمدِ بنِ عبْدِ الواحِدِ بنِ الحُصَيْنِ الحصينيُّ الشَّيْبانيُّ مُسْنِدُ العِرَاقِ مَشْهورٌ.

وأَبو عبد الله محمدُ بنُ عليِّ بنِ سَعيدِ الحصينيُّ الضَّريرُ شَيْخُ المُسْتَنْصريَّةِ ببَغْدادَ، أَخَذَ عن أَبي البَقاءِ النّحوي، مَاتَ سَنَة 639.

وأَبو مَنْصورٍ عبد الواحِدِ إِبراهيمُ بنُ أَبي الفَضْل الحصنيُّ البَغْداديُّ عن خطيبِ المَوْصِلِ، وعنه مَنْصورُ ابنُ سليمٍ في ذَيْلِهِ.

وحاصِنَةُ الرَّجُلِ: امْرَأَتُه؛ والضاد لغة فيه.

والحصنُ: قَرْيةٌ بمِصْرَ مِن حوْفِ رَمْسِيس.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


50-تاج العروس (قبو)

[قبو]: وقَبَاهُ قَبْوًا: جَمَعَهُ بأصابِعِه، نقلَهُ ابنُ سِيدَه.

وقَبَا البِناءَ: رَفَعَهُ، ومنه السَّماءُ مَقْبُوَّةٌ: أَي مَرْفُوعَةٌ، ولا يقالُ مَقْبُوبَةٌ من القبَّةِ ولكنْ مُقَبَّبَة، نقلَهُ الأزْهري.

وقَبَا الزَّعْفَرانَ والعُصْفُر: جَنَاهُ، نقلَهُ الأزْهرِي عن أَبي عَمْرٍو.

والقَبَا، بالقَصْرِ: نَبْتٌ.

وقالَ الأزْهرِي: ضَرْبٌ من الشَّجَرِ.

وأَيْضًا: تَقْوِيسُ الشَّي‌ءِ، وقد قَباهُ قَبًا.

والقَبْوَةُ انْضِمامُ ما بينَ الشَّفَتَيْنِ. قالَ ابنُ سِيدَه: ومنه القَباءُ، كسَحابٍ، مِن الثِّيابِ لاجْتِماعِ أَطْرَافهِ، وأَنْشَدَ أَبُو عليٍّ القالِي لأبي النجْمِ:

تَمَشَّى الرَّامحُ في قَبائِه

وفي المِصْباح: أَنَّه مُشْتَقٌّ مِن قَبَوْتُ الحَرْفَ قَبْوًا إذا ضَمَمْته.

وقال شَيْخُنا: القَباءُ يُمَدُّ ويُقْصَرُ ويُؤَنَّثُ ويُذَكَّر، قيلَ: فارِسِيٌّ، وقيلَ: عَرَبيٌّ مِن قَبَوْتُ الشي‌ءَ إذا ضَمَمْتَ عليه أَصابِعَك، سُمِّي به لانْضِمام أَطْرافِهِ، ورَوَى كَعْبٌ: أَنَّ أَوَّل مَنْ لَبِسَه سُلَيْمان، عليه‌السلام.

وأَغْرَبَ بعضُ أَهْلِ الغَريبِ فقالَ: ويُصْرَفُ ويُمْنَعُ فإنَّه لا يظْهرُ وَجْهٌ لمنْعِه، ولو صارَ عَلَمًا إلَّا أن يكونَ عَلَمَ امْرأَةٍ، فتأَمَّل.

قُلْتُ: أَما كَوْنه فارِسيًّا أَو عربيًّا فقد نَقَلَهُما ابنُ الجَوالِيقي في المُعَرَّب.

وقالَ القاضِي المعافى: هو مِن مَلابِسِ الأعاجِمِ في الأغْلب، ومَنْ قالَ إنَّه عَرَبيٌّ فإمَّا لمَا فيه مِن الاجْتِماعِ، وإمَّا لجمْعِه وضمِّه إيَّاهُ عنْدَ لبْسِه، ومنه قولُ سحيم عبْد بَني الحَسْحاس:

فإن تهزئي منِّي فيا ربّ لَيْلة *** تركتك فيها كالقَباءِ المفرّجِ

الجمع: أَقْبِيَةٌ.

وقَبَّاهُ تَقْبِيةً: عَبَّاهُ، كذا في النُّسخِ، ونَصّ الأزْهري عن أَبي تُرابٍ: وعَبَا الثِّيابَ يَعْباها وقَبَاها يَقْباها: عَباها، وهذا على لُغةِ مَنْ يَرى تَلْيِين الهَمْزةِ. فقوْلُه: تَقْبيةً غَيْرُ مَعْروفٍ.

كاقْتَباهُ. يقالُ: اقْتَبَى المَتاعَ واعْتَباهُ إذا جَمَعَه، نقلَهُ الأزْهري.

وقَبَّا عليه: إذا عَدَا عليه في أمْره، وهذا أَيْضًا بالتّخْفِيف.

وقَبَّى الثَّوبَ: جَعَلَ منه قَبَاءً، وهذا بالتَّشْديدِ عن اللّحْياني.

وفي المُحْكم: قَطَعَ منه قَباءً، عن اللّحْياني.

وتَقَبَّاهُ: لَبِسَهُ، وأَنْشَدَ أبو عليٍّ القالي لذي الرُّمّة:

تَجْلُو البوارقُ عن مجرٍ مزلهق *** كأنه مُتَقَبِّي يَلْمقٍ عَزَبُ

وتَقَبَّى زَيْدًا: أَتاهُ مِن قِبَلِ قَفاهُ، نقلَهُ الأزْهرِي.

وتَقَبَّى الشَّي‌ءُ: صارَ كالقُبَّةِ في الارْتِفاعِ والانْضِمامِ.

وامْرأَةٌ قَابِيَةٌ: تَلْقُطُ العُصْفُرَ وتَجْمَعُه، وأَنْشَدَ ابنُ سِيدَه للشَّاعِرِ يصِفُ قَطًا مُعْصَوْصِبًا في الطَّيرانِ:

دَوامِكَ حِينَ لا يَخْشَينَ رِيحًا *** مَعًا كبَنانِ أَيْدِي القَابِياتِ

والقابِياءُ: اللَّئِيمُ لكَزازَتِه، كذا في المُحْكم.

وقالَ الأزْهري: يقالُ للَّئِيمِ قابِياءُ وقابِعاءُ.

وبَنُو قابِياءَ: المُجْتَمعونَ لشُرْبِ الخَمْرِ، نقلَهُ ابنُ سِيدَه، وكذلكَ بَنُو قَوْبَعَة.

وقُباءُ، بالضَّمِّ مَمْدودًا يُؤَنَّثُ ويُذَكَّرُ ويُقْصَرُ ويُصْرَفُ ولا يُصْرَفُ، قالَ أَبو عليٍّ القالِي: قالَ أَبو حاتِمٍ مِن العَرَبِ مَنْ يَصْرِفه ويَجْعَلُه مُذكَّرًا، ومنهم مَنْ يُؤَنِّثه فلا يَصْرِفه: موضع قُرْبَ المدِينَةِ المشرَّفَةِ بظاهِرِها من الجَنُوبِ نَحْو مِيلَيْن، كما في المِصْباح، أَو سِتَّة، كما في الأنْسابِ للسَّمْعاني، به المَسْجدُ المُؤَسَّس على التَّقْوى، نَزلَهُ رَسُولُ اللهِ صلى ‌الله‌ عليه‌ وسلم، قَبْل أَن يَسِيرَ إلى المَدِينَةِ، وقد نُسِبَ إليه أَفْلَح بنُ سعيدٍ وعبدُ الرحمنِ بنُ أَبي شُمَيْلَةَ الأنْصارِيٌّ وعبدُ الرحمنِ بنُ عبَّاس الأنْصارِيُّ، وبِشْرُ ابنُ عِمْران بنِ كَيْسان القَبائِيُّون المحدِّثُونَ.

وأَيْضًا: موضع بينَ مكَّةَ والبَصْرَةِ، أَنْشَدَ أَبو عليٍّ القالِي لعبدِ اللهِ بنِ الزَّبْعَرى:

حين حلَّت بقباء بركها *** واستحرَّ القَتْل في عبدِ الأَشَل

وقُبَا، بالقَصْرِ مع الضَّمِّ: بلد بفَرْغانَةَ يُنْسَبُ إليه الخلِيلُ بنُ أَحمدَ القُباوِيُّ الفَرْغانيُّ حدَّثَ ببُخارَى، ذَكَرَه ابنُ السَّمعاني، ومسعدَةُ بنُ اليسع القُبَاوِيُّ عن يَحْيى ابنِ إبراهيم، ذَكَرَه المَالِينِي لكنَّه ذَكَره بالهَمْزِ كالأوّلِ وقالَ: إنَّه من قُبا فَرْغانَةَ، قالَ الحافِظُ: فكأَنَّه يجوزُ فيها ما يجوزُ في الأولى مِن المدِّ والقَصْر.

وانْقَبَى عنَّا فلانٌ: اسْتَخْفَى، نقلَهُ الأزْهرِي.

وقِبْيُ قَوْسَيْن، بالكسرِ، وقِباءُ قَوْسَيْن، ككِساءٍ، وفي التكْمِلَةِ، بالفَتْح مَقْصورًا؛ أَي قابُ قَوْسَيْنِ: لُغاتٌ.

والمَقْبِيُّ، كمَرْمِيٍّ: الكثيرُ الشَّحْمِ، نقلَهُ الأزْهرِي، وبه فَسَّر شَمِرٌ قولَه:

مِن كلِّ ذاتِ ثَبَجٍ مُقَبِّي

والقَبايَةُ، كسَحابَةٍ: المَفازَةُ، بلُغَةِ حِمْيَر، نقلَهُ الأزْهرِي وأَنْشَدَ:

وما كان عَنْزٌ تَرْتَعِي بقَبايةٍ

* وَمِمَّا يُسْتَدْرَكُ عَلَيْهِ:

القُبْوةُ: الضمَّةُ، بلُغةِ أَهْلِ المدِينَةِ.

وقالَ الخليلُ: نَبْرةٌ مَقْبوَّةٌ؛ أَي هَمْزَةٌ مَضْمومَةٌ.

والقَبْوُ: الطاقُ المَعْقودُ بعضُه إلى بعضٍ، عن ابنِ الأثيرِ.

وقُبَا، بالضمِّ: قَرْيةٌ باليَمَنِ دُونَ زَبيدٍ، ومَدينَةٌ بقُرْب الشَّاش، منها: أَبو المَكارِمِ رزقُ اللهِ بنُ محمدِ القُباوِيُّ نزِيلُ بُخَارَى كَتَبَ عنه ابنُ السّمعانيُّ، وهي غَيْر التِي في فَرْغانَةَ.

وقالَ نَصْر: قُبَا في شِعْرِ عبدِ الرحمنِ بنِ عُوَيْمر، قَرْيةٌ لبَني عَمْرِو بنِ عَوْفٍ.

وبفَتْح القافِ: حفصُ بنُ دَاودٍ القَبَائِيُّ البُخارِي، وأَبو نَصْر أَحمدُ بنُ سَهْلِ بنِ حَمْدَوَيْه القَبَائِيُّ، ذَكَرَهُما المَالِيني هكذا.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


51-لسان العرب (حدد)

حدد: الحَدُّ: الْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ أَحدهما بِالْآخَرِ أَو لِئَلَّا يَتَعَدَّى أَحدهما عَلَى الْآخَرِ، وَجَمْعُهُ حُدود.

وَفَصْلُ مَا بَيْنَ كُلِّ شَيْئَيْنِ: حَدٌّ بَيْنَهُمَا.

وَمُنْتَهَى كُلِّ شَيْءٍ: حَدُّه؛ وَمِنْهُ: أَحد حُدود الأَرضين وحُدود الْحَرَمِ؛ وَفِي الْحَدِيثِ فِي صِفَةِ الْقُرْآنِ:

لِكُلِّ حَرْفٍ حَدّ وَلِكُلِّ حَدّ مَطْلَعٌ؛ قِيلَ: أَراد لِكُلِّ مُنْتَهًى نِهَايَةٌ.

وَمُنْتَهَى كُلِّ شيءٍ: حَدّه.

وَفُلَانٌ حديدُ فُلَانٍ إِذا كَانَ دَارُهُ إِلى جَانِبِ دَارِهِ أَو أَرضه إِلى جَنْبِ أَرضه.

وَدَارِي حَديدَةُ دَارِكَ ومُحادَّتُها إِذا كَانَ حدُّها كَحَدِّهَا.

وحَدَدْت الدَّارَ أَحُدُّها حَدًّا وَالتَّحْدِيدُ مِثْلُهُ؛ وحدَّ الشيءَ مِنْ غَيْرِهِ يَحُدُّه حَدًّا وحدَّدَه: مَيَّزَهُ.

وحَدُّ كُلِّ شيءٍ: مُنْتَهَاهُ لأَنه يَرُدُّهُ وَيَمْنَعُهُ عَنِ التَّمَادِي، وَالْجَمْعُ كَالْجَمْعِ.

وحَدُّ السَّارِقِ وَغَيْرِهِ: مَا يَمْنَعُهُ عَنِ الْمُعَاوَدَةِ وَيَمْنَعُ أَيضًا غَيْرَهُ عَنْ إِتيان الْجِنَايَاتِ، وَجَمْعُهُ حُدُود.

وحَدَدْت الرَّجُلَ: أَقمت عَلَيْهِ الْحَدَّ.

والمُحادَّة: الْمُخَالَفَةُ ومنعُ مَا يَجِبُ عَلَيْكَ، وَكَذَلِكَ التَّحادُّ؛ وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: «إِن قَوْمًا حَادُّونَا لَمَّا صَدَّقْنَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ»؛ المُحادَّة: الْمُعَادَاةُ وَالْمُخَالَفَةُ وَالْمُنَازَعَةُ، وَهُوَ مُفاعلة مِنَ الْحَدِّ كأَنّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُجَاوِزُ حَدَّهُ إِلى الْآخَرِ.

وحُدُود اللَّهِ تعالى: {الأَشياء الَّتِي بيَّن تَحْرِيمَهَا وَتَحْلِيلَهَا}، وأَمر أَن لَا يُتعدى شَيْءٌ مِنْهَا فَيَتَجَاوَزُ إِلى غَيْرِ مَا أَمر فِيهَا أَو نَهَى عَنْهُ مِنْهَا، وَمَنَعَ مِنْ مُخَالَفَتِهَا، واحِدُها حَدّ؛ وحَدَّ القاذفَ ونحوَه يَحُدُّه حَدًّا: أَقام عَلَيْهِ ذَلِكَ.

الأَزهري: وَالْحَدُّ حَدُّ الزَّانِي وَحَدُّ الْقَاذِفِ وَنَحْوُهُ مِمَّا يُقَامُ عَلَى مَنْ أَتى الزِّنَا أَو الْقَذْفَ أَو تَعَاطَى السَّرِقَةَ.

قَالَ الأَزهري: فَحُدود اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، ضَرْبَانِ: ضَرْبٌ مِنْهَا حُدود حَدَّها لِلنَّاسِ فِي مَطَاعِمِهِمْ وَمَشَارِبِهِمْ وَمَنَاكِحِهِمْ وَغَيْرِهَا مِمَّا أَحل وَحَرَّمَ وأَمر بِالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى عَنْهُ مِنْهَا وَنَهَى عَنْ تَعَدِّيهَا، وَالضَّرْبُ الثَّانِي عُقُوبَاتٌ جُعِلَتْ لِمَنْ رَكِبَ مَا نَهَى عَنْهُ كَحَدِّ السَّارِقِ وَهُوَ قَطْعُ يَمِينِهِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا، وَكَحَدِّ الزَّانِي الْبِكْرِ وَهُوَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَكَحَدِّ الْمُحْصَنِ إِذا زَنَى وَهُوَ الرَّجْمُ، وَكَحَدِّ الْقَاذِفِ وَهُوَ ثَمَانُونَ جَلْدَةً، سُمِّيَتْ حُدُودًا لأَنها تَحُدّ أَي تَمْنَعُ مِنْ إِتيان مَا جُعِلَتْ عُقُوبَاتٍ فِيهَا، وَسُمِّيَتِ الأُولى حُدُودًا لأَنها نِهَايَاتٌ نَهَى اللَّهُ عَنْ تَعَدِّيهَا؛ قَالَ ابْنُ الأَثير: وَفِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ الحَدِّ والحدُود فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَهِيَ مَحَارِمُ اللَّهِ وَعُقُوبَاتُهُ الَّتِي قَرَنَهَا بِالذُّنُوبِ، وأَصل الحَدِّ الْمَنْعُ وَالْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، فكأَنَّ حُدودَ الشَّرْعِ فَصَلَت بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَمِنْهَا مَا لَا يُقْرَبُ كَالْفَوَاحِشِ الْمُحَرَّمَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها}؛ وَمِنْهُ مَا لَا يُتَعَدَّى كَالْمَوَارِيثِ الْمُعَيَّنَةِ وَتَزْوِيجِ الأَربع، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها}؛ وَمِنْهَا الْحَدِيثُ: «إِني أَصبت حَدًّا فأَقمه عَلَيَّ» أَي أَصبت ذَنْبًا أَوجب عَلَيَّ حَدًّا أَي عُقُوبَةً.

وَفِي حَدِيثِ أَبي الْعَالِيَةِ: «إِن اللَّمَمَ مَا بَيْنَ الحَدَّيْن حَدِّ الدُّنْيَا وحَدِّ الْآخِرَةِ»؛ يُرِيدُ بِحَدِّ الدُّنْيَا مَا تَجِبُ فِيهِ الحُدود الْمَكْتُوبَةُ كَالسَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَالْقَذْفِ، وَيُرِيدُ بِحَدِّ الْآخِرَةِ مَا أَوعد اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ الْعَذَابَ كَالْقَتْلِ وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وأَكل الرِّبَا، فأَراد أَن اللَّمَمَ مِنَ الذُّنُوبِ مَا كَانَ بَيْنَ هَذَيْنِ مِمَّا لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ حَدًّا فِي الدُّنْيَا وَلَا تَعْذِيبًا فِيالْآخِرَةِ.

وَمَا لِي عَنْ هَذَا الأَمر حَدَدٌ أَي بُدٌّ.

وَالْحَدِيدُ: هَذَا الْجَوْهَرُ الْمَعْرُوفُ لأَنه مَنِيعٌ، الْقِطْعَةُ مِنْهُ حَدِيدَةٌ، وَالْجَمْعُ حَدَائِدُ، وحَدائدات جَمْعُ الْجَمْعِ؛ قَالَ الأَحمر فِي نَعْتِ الْخَيْلِ:

وَهُنَّ يَعْلُكْن حَدائِداتها

وَيُقَالُ: ضَرَبَهُ بِحَدِيدَةٍ فِي يَدِهِ.

وَالْحَدَّادُ: مُعَالِجُ الْحَدِيدِ؛ وَقَوْلُهُ:

إِنِّي وإِيَّاكمُ، حَتَّى نُبِيءَ بهِ ***مِنْكُمُ ثمانِيةً، فِي ثَوْبِ حَدَّادِ

أَي نَغْزُوكُمْ فِي ثِيَابِ الحَديد أَي فِي الدُّرُوعِ؛ فإِما أَن يَكُونَ جَعَلَ الْحَدَّادَ هُنَا صَانِعَ الْحَدِيدِ لأَن الزَّرَّادَ حَدّادٌ، وإِما أَن يَكُونَ كَنَى بالحَدَّادِ عَنِ الْجَوْهَرِ الَّذِي هُوَ الْحَدِيدُ مِنْ حَيْثُ كَانَ صَانِعًا لَهُ.

والاستِحْداد: الِاحْتِلَاقُ بِالْحَدِيدِ.

وحَدُّ السِّكِّينِ وَغَيْرِهَا: مَعْرُوفٌ، وَجَمْعُهُ حُدودٌ.

وحَدَّ السيفَ والسِّكِّينَ وكلَّ كليلٍ يَحُدُّها حَدًّا وأَحَدَّها إِحْدادًا وحَدَّدها: شَحَذَها ومَسَحها بِحَجَرٍ أَو مِبْرَدٍ، وحَدَّده فَهُوَ مُحدَّد، مِثْلُهُ؛ قَالَ اللِّحْيَانِيُّ: الْكَلَامُ أَحدَّها، بالأَلف، وَقَدْ حَدَّتْ تَحِدُّ حِدَّةً واحتَدَّتْ.

وَسِكِّينٌ حَدِيدَةٌ وحُدادٌ وحَديدٌ، بِغَيْرِ هَاءٍ، مِنْ سَكَاكِينَ حَديداتٍ وحَدائدَ وحِدادٍ؛ وَقَوْلُهُ:

يَا لَكَ مِنْ تَمْرٍ وَمِنْ شِيشاءِ، ***يَنْشَبُ فِي المَسْعَلِ واللَّهاءِ،

أَنْشَبَ مِنْ مآشِرٍ حِداءِ

فإِنه أَراد حِداد فأَبدل الْحَرْفَ الثَّانِيَ وَبَيْنَهُمَا الأَلف حَاجِزَةً، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَاجِبًا، وإِنما غَيَّرَ اسْتِحْسَانًا فَسَاغَ ذَلِكَ فِيهِ؛ وإِنها لَبَيِّنَةُ الحَدِّ.

وحَدَّ نابُهُ يَحِدُّ حِدَّة ونابٌ حديدٌ وحديدةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي السِّكِّينِ وَلَمْ يُسْمَعْ فِيهَا حُدادٌ.

وحَدّ السيفُ يَحِدُّ حِدَّة وَاحْتَدَّ، فَهُوَ حَادٌّ حديدٌ، وأَحددته، وسيوفٌ حِدادٌ وأَلْسِنَةٌ حِدادٌ، وَحَكَى أَبو عمرٍو: سيفٌ حُدّادٌ، بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيدِ، مِثْلُ أَمر كُبَّار.

وتحديدُ الشَّفْرة وإِحْدادُها واستِحْدادُها بِمَعْنًى.

وَرَجُلٌ حَديدٌ وحُدادٌ مِنْ قَوْمٍ أَحِدَّاءَ وَأَحِدَّةٍ وحِدادٍ: يَكُونُ فِي اللَّسَنِ والفَهم وَالْغَضَبِ، وَالْفِعْلُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ حَدَّ يَحِدُّ حِدّةً، وإِنه لَبَيِّنُ الحَدِّ أَيضًا كَالسِّكِّينِ.

وحَدَّ عَلَيْهِ يَحِدُّ حَدَدًا، واحْتَدَّ فَهُوَ مُحْتَدٌّ واستَحَدَّ: غَضِبَ.

وَحَادَدْتُهُ أَي عَاصَيْتُهُ.

وحادَّه: غَاضَبَهُ مِثْلُ شاقَّه، وكأَن اشْتِقَاقَهُ مِنَ الحدِّ الَّذِي هُوَ الحَيّزُ وَالنَّاحِيَةُ كأَنه صَارَ فِي الْحَدِّ الَّذِي فِيهِ عَدُوُّهُ، كَمَا أَن قَوْلَهُمْ شاقَّه صَارَ فِي الشِّقِّ الَّذِي فِيهِ عَدُوُّهُ.

وَفِي التَّهْذِيبِ: استحَدَّ الرجلُ واحْتَدَّ حِدَّةً، فَهُوَ حَدِيدٌ؛ قَالَ الأَزهري: وَالْمَسْمُوعُ فِي حِدَّةِ الرَّجلِ وطَيْشِهِ احْتَدَّ؛ قَالَ: وَلَمْ أَسمع فِيهِ استَحَدَّ إِنما يُقَالُ اسْتَحَدَّ وَاسْتَعَانَ إِذا حَلَقَ عَانَتَهُ.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: والحِدَّةُ مَا يَعْتَرِي الإِنسان مِنَ النَّزقِ وَالْغَضَبِ؛ تَقُولُ: حَدَدْتُ عَلَى الرَّجُلِ أَحِدُّ حِدَّةً وحَدًّا؛ عَنِ الْكِسَائِيِّ: يُقَالُ فِي فُلَانٍ حِدَّةٌ؛ وَفِي الْحَدِيثِ: «الحِدَّةُ تَعْتَرِي خِيَارَ أُمتي»؛ الحِدَّةُ كَالنَّشَاطِ والسُّرعة فِي الأُمور والمَضاء فِيهَا مأْخوذ مِنْ حَدِّ السَّيْفِ، وَالْمُرَادُ بالحِدَّةِ هَاهُنَا المَضاءُ فِي الدِّينِ والصَّلابة والمَقْصِدُ إِلى الْخَيْرِ؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ عُمَرَ: كُنْتُ أُداري مِنْ أَبي بَكْرٍ بعضَ الحَدِّ؛ الحَدُّ والحِدَّةُ سَوَاءٌ مِنَ الْغَضَبِ، وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ بِالْجِيمِ، مِنَ الجِدِّ ضِدِّ الْهَزْلِ، وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ بِالْفَتْحِ مِنَ الْحَظِّ.

والاستحدادُ: حلقُ شَعْرِ الْعَانَةِ.

وَفِي حَدِيثِ خُبيبٍ: «أَنه اسْتَعَارَ مُوسَى اسْتَحَدَّ بِهَا لأَنه كَانَ أَسيرًا عِنْدَهُمْ وأَرادوا قَتْلَهُ فاستَحَدَّ لِئَلَّا يَظْهَرَ شَعْرُ عَانَتِهِ عِنْدَ قَتْلِهِ».

وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ فِي عَشْرٍ مِنَ السُّنَّةِ: الاستحدادُ مِنَ الْعَشْرِ، وَهُوَ حَلْقُ الْعَانَةِ بِالْحَدِيدِ؛ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ حِينَ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فأَراد النَّاسُ أَن يَطْرُقُوا النِّسَاءَ لَيْلًا فَقَالَ:

أَمْهِلوا كَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وتَسْتَحِدَّ المُغِيبَةُ

أَي تَحْلِقُ عَانَتَهَا؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: وَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الْحَدِيدَةِ يَعْنِي الِاسْتِحْلَاقَ بِهَا، اسْتَعْمَلَهُ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ وَالتَّوْرِيَةِ.

الأَصمعي: استحدَّ الرجلُ إِذا أَحَدَّ شَفْرته بِحَدِيدَةٍ وَغَيْرِهَا.

وَرَائِحَةٌ حادَّةٌ: ذَكِيَّةٌ، عَلَى الْمِثْلِ.

وَنَاقَةٌ حديدةُ الجِرَّةِ: تُوجَدُ لِجِرَّتها رِيحٌ حَادَّةٌ، وَذَلِكَ مِمَّا يُحْمَدُ.

وَحَدُّ كَلِّ شَيْءٍ: طَرَفُ شَبَاتِهِ كَحَدِّ السِّكِّينِ وَالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ وَالسَّهْمِ؛ وَقِيلَ: الحَدُّ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ مَا رَقَّ مِنْ شَفْرَتِهِ، وَالْجَمْعُ حُدُودٌ.

وحَدُّ الْخَمْرِ وَالشَّرَابِ: صَلابَتُها؛ قَالَ الأَعشى:

وكأْسٍ كَعَيْنِ الدِّيكِ باكَرْت حَدَّها ***بِفتْيانِ صِدْقٍ، والنواقيسُ تُضْرَبُ

وحَدُّ الرجُل: بأْسُه ونفاذُهُ فِي نَجْدَتِهِ؛ يُقَالُ: إِنه لَذُو حَدٍّ؛ وَقَالَ الْعَجَّاجُ:

أَم كَيْفَ حَدُّ مَطَرِ الفطيم

وحَدَّ بَصَرَه إِليه يَحُدُّه وأَحَدَّه؛ الأُولى عَنِ اللِّحْيَانِيِّ: كِلَاهُمَا حَدَّقَهُ إِليه وَرَمَاهُ بِهِ.

وَرَجُلٌ حَدِيدُ النَّاظِرِ، عَلَى الْمِثْلِ: لَا يُتَّهَمُ بِرِيبَةٍ فَيَكُونُ عَلَيْهِ غَضاضَةٌ فِيهَا، فَيَكُونُ كَمَا قَالَ تعالى: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ}؛ وَكَمَا قَالَ جَرِيرٌ:

فَغُضَّ الطَّرْفَ إِنك مِنْ نُمَيْرٍ

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: هَذَا قَوْلُ الْفَارِسِيِّ.

وحَدَّدَ الزرعُ: تأَخر خُرُوجُهُ لتأَخر الْمَطَرِ ثُمَّ خَرَجَ وَلَمْ يَشْعَبْ.

والحَدُّ: المَنْعُ.

وحدَّ الرجلَ عَنِ الأَمر يَحُدُّه حَدًّا: مَنَعَهُ وَحَبَسَهُ؛ تَقُولُ: حَدَدْتُ فُلَانًا عَنِ الشَّرِّ أَي مَنَعْتُهُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:

إِلَّا سُلَيْمانَ إِذْ قَالَ الإِلهُ لَهُ: ***قُمْ في البرية فاحْدُدْها عن الفَنَدِ

والْحَدَّادُ: البَوَّابُ والسَّجَّانُ لأَنهما يَمْنَعَانِ مَنْ فِيهِ أَن يَخْرُجَ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

يَقُولُ ليَ الحَدَّادُ، وَهُوَ يَقُودُنِي ***إِلى السِّجْنِ: لَا تَفْزَعْ، فَمَا بِكَ مِنْ بَاسِ

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: كَذَا الرِّوَايَةُ بِغَيْرِ هَمْزٍ بَاسِ عَلَى أَن بَعْدَهُ: وَيَتْرُكُ عُذْري وَهُوَ أَضحى مِنَ الشَّمْسِ

وَكَانَ الْحُكْمُ عَلَى هَذَا أَن يَهْمِزَ بأْسًا لَكِنَّهُ خَفَّفَ تَخْفِيفًا فِي قُوَّةِ التَّحْقِيقِ حَتَّى كأَنه قَالَ فَمَا بِكَ مِنْ بأْس، وَلَوْ قَلَبَهُ قَلْبًا حَتَّى يَكُونَ كَرَجُلٍ مَاشٍ لَمْ يَجُزْ مَعَ قَوْلِهِ وَهُوَ أَضحى مِنَ الشَّمْسِ، لأَنه كَانَ يَكُونُ أَحد الْبَيْتَيْنِ بِرِدْفٍ، وَهُوَ أَلف بَاسِ، وَالثَّانِي بِغَيْرِ رِدْفٍ، وَهَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ؛ وَيُقَالُ لِلسَّجَّانِ: حَدَّادٌ لأَنه يَمْنَعُ مِنَ الْخُرُوجِ أَو لأَنه يُعَالِجُ الْحَدِيدَ مِنَ الْقُيُودِ.

وَفِي حَدِيثِ أَبي جَهْلٍ لَمَّا قَالَ فِي خزَنة النَّارِ وَهُمْ تِسْعَةَ عَشَرَ مَا قَالَ، قَالَ لَهُ الصَّحَابَةُ: «تَقِيسُ الْمَلَائِكَةَ بالْحَدَّادين»؛ يَعْنِي السَّجَّانِينَ لأَنهم يَمْنَعُونَ المُحْبَسينَ مِنَ الْخُرُوجِ، وَيَجُوزُ أَن يَكُونَ أَراد بِهِ صُنَّاع الْحَدِيدِ لأَنهم مِنْ أَوسخ الصُّنَّاع ثَوْبًا وَبَدَنًا؛ وأَما قَوْلُ الأَعشى يَصِفُ الْخَمْرَ والخَمَّار:

فَقُمْنَا، ولمَّا يَصِحْ ديكُنا، ***إِلى جُونَةٍ عِنْدَ حَدَّادِها

فإِنه سَمَّى الخَمَّار حَدَّادًا، وَذَلِكَ لِمَنْعِهِ إِياها وَحِفْظِهِ لَهَا وإِمساكه لها حتى يُبْدَلَ له ثمنها الذي يرضيه.

وَالْجَوْنَةُ: الْخَابِيَةُ.

وَهَذَا أَمر حَدَدٌ أَي مَنِيعٌ حَرَامٌ لَا يَحِلُّ ارْتِكَابُهُ.

وحُدَّ الإِنسانُ: مُنِعَ مِنَ الظفَر.

وكلُّ مَحْرُومٍ.

محدودٌ.

وَدُونَ مَا سأَلت عَنْهُ حَدَدٌ أَي مَنْعٌ.

وَلَا حَدَدَ عَنْهُ أَي لَا مَنْعَ وَلَا دَفْعَ؛ قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نفيل:

لَا تَعْبُدُنّ إِلهًا غيرَ خَالِقِكُمْ، ***وإِن دُعِيتُمْ فَقُولُوا: دونَهُ حَدَدُ

أَي مَنْعٌ.

وأَما قَوْلُهُ تعالى: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}؛ قَالَ: أَي لِسَانُ الْمِيزَانِ.

وَيُقَالُ: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ أَي فرأْيك الْيَوْمَ نَافِذٌ.

وَقَالَ شَمِرٌ: يُقَالُ للمرأَة الحَدَّادَةُ.

وحَدَّ اللَّه عَنَّا شَرَّ فُلَانٍ حَدًّا: كَفَّهُ وَصَرَفَهُ؛ قَالَ:

حَدَادِ دُونَ شَرِّهَا حَدادِ

حَدَادِ فِي مَعْنَى حَدَّه؛ وَقَوْلُ مَعْقِلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ الْهُذَلِيِّ:

عُصَيْمٌ وعبدُ اللَّه والمرءُ جابرٌ، ***وحُدِّي حَدادِ شَرَّ أَجنحةِ الرَّخَم

أَراد: اصْرِفِي عَنَّا شَرَّ أَجنحة الرَّخَمِ، يَصِفُهُ بِالضَّعْفِ، وَاسْتِدْفَاعِ شَرِّ أَجنحة الرَّخَمِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الضَّعْفِ؛ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَبطئي شَيْئًا، يهزأُ مِنْهُ وَسَمَّاهُ بِالْجُمْلَةِ.

والحَدُّ: الصَّرْفُ عَنِ الشَّيْءِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.

وَالْمَحْدُودُ: الْمَمْنُوعُ مِنَ الْخَيْرِ وَغَيْرِهِ.

وَكُلُّ مَصْرُوفٍ عَنْ خَيْرٍ أَو شَرٍّ: مَحْدُودٌ.

وَمَا لَكَ عَنْ ذَلِكَ حَدَدٌ ومَحْتَدٌّ أَي مَصْرَفٌ ومَعْدَلٌ.

أَبو زَيْدٍ: يُقَالُ مَا لِي مِنْهُ بُدُّ وَلَا محتدٌّ وَلَا مُلْتَدٌّ أَي مَا لِي مِنْهُ بُدٌّ.

وَمَا أَجد مِنْهُ مَحتدًّا وَلَا مُلْتَدًّا أَي بُدًّا.

اللَّيْثُ: والحُدُّ الرجلُ المحدودُ عَنِ الْخَيْرِ.

وَرَجُلٌ مَحْدُودٌ عَنِ الْخَيْرِ: مَصْرُوفٌ؛ قَالَ الأَزهري: الْمَحْدُودُ الْمَحْرُومُ؛ قَالَ: وَلَمْ أَسمع فِيهِ رَجُلٌ حُدٌّ لِغَيْرِ اللَّيْثِ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ رَجُلٌ جُدٌّ إِذا كَانَ مَجْدُودًا.

وَيُدْعَى عَلَى الرَّجُلِ فَيُقَالُ: اللَّهُمَّ احْدُدْهُ أَي لَا تُوَفِّقُهُ لإِصابة.

وَفِي الأَزهري: تَقُولُ لِلرَّامِي اللَّهُمَّ احْدُدْهُ أَي لَا تُوَفِّقُهُ للإِصابة.

وأَمر حَدَدٌ: مُمْتَنِعٌ بَاطِلٌ، وَكَذَلِكَ دَعْوَةٌ حَدَدٌ.

وأَمر حَدَدٌ: لَا يَحِلُّ أَن يُرْتَكَبَ.

أَبو عَمْرٍو: الحُدَّةُ العُصبةُ.

وَقَالَ أَبو زَيْدٍ: تَحَدَّدَ بِهِمْ أَي تَحَرَّشَ بِهِمْ.

ودعوةٌ حَدَدٌ أَي بَاطِلَةٌ.

والحِدادُ: ثِيَابُ الْمَآتِمِ السُّود.

والحادُّ والمُحِدُّ مِنَ النِّسَاءِ: الَّتِي تَتْرُكُ الزِّينَةَ وَالطِّيبَ؛ وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: هِيَ المرأَة الَّتِي تَتْرُكُ الزِّينَةَ وَالطِّيبَ بَعْدَ زَوْجِهَا لِلْعِدَّةِ.

حَدَّتْ تَحِدُّ وتَحُدُّ حَدًّا وحِدادًا، وَهُوَ تَسَلُّبُها عَلَى زَوْجِهَا، وأَحَدَّتْ، وأَبى الأَصمعي إِلا أَحَدَّتْ تُحِدُّ، وَهِيَ مُحِدٌّ، وَلَمْ يَعْرِفْ حَدَّتْ؛ والحِدادُ: تركُها ذَلِكَ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تُحِدُّ المرأَةُ فَوْقَ ثَلَاثٍ وَلَا تُحِدُّ إِلَّا عَلَى زَوْجٍ».

وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يَحِلُّ لأَحد أَن يُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ أَكثر مِنْ ثَلَاثَةِ أَيام إِلا المرأَة عَلَى زَوْجِهَا فإِنها تُحِدُّ أَربعة أَشهر وعشرًا».

قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: وإِحدادُ المرأَة عَلَى زَوْجِهَا تَرْكُ الزِّينَةِ؛ وَقِيلَ: هُوَ إِذا حَزِنَتْ عَلَيْهِ وَلَبِسَتْ ثِيَابَ الْحُزْنِ وَتَرَكَتِ الزِّينَةَ وَالْخِضَابَ؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: وَنَرَى أَنه مأْخوذ مِنَ الْمَنْعِ لأَنها قَدْ مُنِعَتْ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْبَوَّابِ: حدّادٌ لأَنه يَمْنَعُ النَّاسَ مِنَ الدُّخُولِ.

قَالَ الأَصمعي: حَدَّ الرجلُ يَحُدُّ حَدًَّا إِذا جَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ حَدًّا، وحَدّه يَحُدُّه إِذا ضَرَبَهُ الْحَدَّ وحَدَّه يَحُدُّه إِذَا صَرَفَهُ عَنْ أَمر أَراده.

وَمَعْنَى حَدَّ يَحدُّ: أَنه أَخذته عَجَلَةٌ وطَيْشٌ.

وَرُوِيَ عَنْهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنه قَالَ: خِيَارُ أُمتي أَحِدّاؤها؛ هو جَمْعُ حَدِيدٍ كَشَدِيدٍ وأَشداء.

وَيُقَالُ: حَدَّد فُلَانٌ بَلَدًا أَي قَصَدَ حُدودَه؛ قَالَ الْقَطَامِيُّ:

مُحدِّدينَ لِبَرْقٍ صابَ مِن خَلَلٍ، ***وبالقُرَيَّةِ رَادُوه بِرَدَّادِ

أَي قَاصِدِينَ.

وَيُقَالُ: حَدَدًا أَن يَكُونَ كَذَا كَقَوْلِهِ مَعَاذَ اللَّه؛ قَالَ الْكُمَيْتُ:

حَدَدًا أَن يَكُونَ سَيْبُك فِينَا ***وتَحًا، أَو مُجَبَّنًا مَمْصُورَا

أَي حَرَامًا كَمَا تَقُولُ: مَعَاذَ اللَّه قَدْ حَدَّدَ اللَّه ذَلِكَ عَنَّا.

والحَدَّادُ: الْبَحْرُ، وَقِيلَ: نَهْرٌ بِعَيْنِهِ، قَالَ إِياس بْنُ الأَرَتِّ:

ولم يكونُ عَلَى الحَدَّادِ يَمْلِكُهُ، ***لَمْ يَسْقِ ذَا غُلَّةٍ مِنْ مَائِهِ الْجَارِي

وأَبو الحَديدِ: رَجُلٌ مِنَ الْحَرُورِيَّةِ قَتَلَ امرأَة مِنَ الإِجْماعِيين كَانَتِ الْخَوَارِجُ قَدْ سَبَتْهَا فَغَالَوْا بِهَا لِحُسْنِهَا، فَلَمَّا رأَى أَبو الحَديد مُغَالَاتَهُمْ بِهَا خَافَ أَن يَتَفَاقَمَ الأَمر بَيْنَهُمْ فَوَثَبَ عَلَيْهَا فَقَتَلَهَا؛ فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ بَعْضُ الْحَرُورِيَّةِ يَذْكُرُهَا:

أَهابَ الْمُسْلِمُونَ بِهَا وَقَالُوا، ***عَلَى فَرْطِ الْهَوَى: هَلْ مِنْ مَزِيدِ؟

فَزَادَ أَبو الحَدِيدِ بِنَصْل سَيْفٍ ***صَقِيلِ الحَدّ، فِعْلَ فَتىً رَشِيدِ

وأُم الحَديدِ: امرأَةُ كَهْدَلٍ الرَّاجِزِ؛ وإِياها عَنَى بِقَوْلِهِ:

قَدْ طَرَدَتْ أُمُّ الحَديدِ كَهْدَلا، ***وَابْتَدَرَ البابَ فَكَانَ الأَوّلا،

شَلَّ السَّعالي الأَبلقَ المُحَجَّلا، ***يَا رَبِّ لَا تُرْجِعْ إِليها طِفْيَلا،

وَابْعَثْ لَهُ يَا رَبِّ عَنَّا شُغَّلا، ***وَسْوَاسَ جِنٍّ أَو سُلالًا مَدْخَلا،

وجَرَبًا قِشْرًا وَجُوعًا أَطْحَلا

طِفْيَلٌ: صَغِيرٌ، صَغَّرَهُ وَجَعَلَهُ كَالطِّفْلِ فِي صُورَتِهِ وَضَعْفِهِ، وأَراد طُفَيْلًا، فَلَمْ يَسْتَقِمْ لَهُ الشِّعْرُ فَعَدَلَ إِلى بِنَاءِ حِثْيَلٍ، وَهُوَ يُرِيدُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّصْغِيرِ.

والأَطْحَلُ: الَّذِي يأْخذه مِنْهُ الطَّحْلُ، وَهُوَ وَجَعُ الطِّحَالِ.

وحُدٌّ: مَوْضِعٌ، حَكَاهُ ابْنُ الأَعرابي؛ وأَنشد:

فَلَوْ أَنها كَانَتْ لِقَاحِي كَثِيرةً، ***لَقَدْ نَهِلَتْ مِنْ مَاءِ حُدٍّ وَعَلَّت

وَحُدَّانُ: حَيٌّ مِنَ الأَزد؛ وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: الحُدَّانُ حَيٌّ مِنَ الأَزد فَأُدْخِلَ عَلَيْهِ اللامُ؛ الأَزهري: حُدَّانُ قَبِيلَةٌ فِي الْيَمَنِ.

وَبَنُو حُدَّان، بِالضَّمِّ: مِنْ بَنِي سَعْدٍ.

وَبَنُو حُدَّاد: بطن من طيّ.

والحُدَّاء: قبيلة؛ قَالَ الْحَرِثُ بْنُ حِلِّزة:

لَيْسَ مِنَّا المُضَرّبُون، ولا قَيس، ***وَلَا جَنْدَلٌ، وَلَا الحُدَّاءُ

وَقِيلَ: الحُدَّاء هُنَا اسْمُ رَجُلٍ، وَيَحْتَمِلُ الحُدَّاء أَن يَكُونَ فُعَّالًا مِنْ حَدَأَ، فإِذا كَانَ ذَلِكَ فَبَابُهُ غَيْرُ هَذَا.

وَرَجُلٌ حَدْحَدٌ: قصير غليظ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


52-لسان العرب (حبر)

حبر: الحِبْرُ: الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ وَمَوْضِعُهُ المِحْبَرَةُ، بِالْكَسْرِ.

ابْنُ سِيدَهْ: الحِبْرُ الْمِدَادُ.

والحِبْرُ والحَبْرُ: العالِم، ذِمِّيًّا كَانَ أَو مُسْلِمًا، بَعْدَ أَن يَكُونَ مِنْ أَهل الْكِتَابِ.

قَالَ الأَزهري: وَكَذَلِكَ الحِبْرُ والحَبْرُ فِي الجَمالِ والبَهاء.

وسأَل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ كَعْبًا عَنِ الحِبْرِ فَقَالَ: هُوَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، وَجَمْعُهُ أَحْبَارٌ وحُبُورٌ؛ قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ:

لَقَدْ جُزِيَتْ بِغَدْرَتِها الحُبُورُ، ***كذاكَ الدَّهْرُ ذُو صَرْفٍ يَدُورُ

وَكُلُّ مَا حَسُنَ مِنْ خَطٍّ أَو كَلَامٍ أَو شِعْرٍ أَو غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَدْ حُبِرَ حَبْرًا وحُبِّرَ.

وَكَانَ يُقَالُ لطُفَيْلٍ الغَنَوِيِّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: مُحَبِّرٌ، لِتَحْسِينِهِ الشِّعْرَ، وَهُوَ مأْخوذ مِنَ التَّحْبِيرِ وحُسْنِ الخَطِّ والمَنْطِقِ.

وَتَحْبِيرُ الْخَطِّ والشِّعرِ وَغَيْرِهِمَا: تَحْسِينُهُ.

اللَّيْثُ: حَبَّرْتُ الشِّعْر والكلامَ حَسَّنْتُه، وَفِي حَدِيثِ أَبي مُوسَى: «لَوْ عَلِمْتُ أَنك تَسْمَعُ لِقِرَاءَتِي لحَبَّرْتُها لَكَ تَحْبِيرًا»؛ يُرِيدُ تَحْسِينَ الصَّوْتِ.

وحَبَّرتُ الشَّيْءَ تَحْبِيرًا إِذا حَسَّنْتَه.

قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: وأَما الأَحْبارُ والرُّهْبان فإِن الْفُقَهَاءَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِمْ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ حَبْرٌ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ حِبْرٌ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنما هُوَ حِبْرٌ، بِالْكَسْرِ، وَهُوَ أَفصح، لأَنه يُجْمَعُ عَلَى أَفْعالٍ دُونَ فَعْلٍ، وَيُقَالُ ذَلِكَ لِلْعَالِمِ، وإِنما قِيلَ كَعْبُ الحِبْرِ لِمَكَانِ هَذَا الحِبْرِ الَّذِي يَكْتُبُ بِهِ، وَذَلِكَ أَنه كَانَ صَاحِبَ كُتُبٍ.

قَالَ: وَقَالَ الأَصمعي لَا أَدري أَهو الحِبْرُ أَو الحَبْر لِلرَّجُلِ الْعَالِمِ؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: وَالَّذِي عِنْدِي أَنه الحَبر، بِالْفَتْحِ، وَمَعْنَاهُ الْعَالِمُ بِتَحْبِيرِ الْكَلَامِ وَالْعِلْمِ وَتَحْسِينِهِ.

قَالَ: وَهَكَذَا يَرْوِيهِ الْمُحَدِّثُونَ كُلُّهُمْ، بِالْفَتْحِ.

وَكَانَ أَبو الْهَيْثَمِ يَقُولُ: وَاحِدُ الأَحْبَارِ حَبْرٌ لَا غَيْرُ، وَيُنْكِرُ الحِبْرَ.

وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: حِبْرٌ وحَبْرٌ لِلْعَالِمِ، وَمِثْلُهُ بِزرٌ وبَزْرٌ وسِجْفٌ وسَجْفٌ.

الْجَوْهَرِيُّ: الحِبْرُ والحَبْرُ وَاحِدُ أَحبار الْيَهُودِ، وَبِالْكَسْرِ أَفصح؛ وَرَجُلٌ حِبْرٌ نِبْرٌ؛ وقال الشماخ:

كَمَا خَطَّ عِبْرانِيَّةً بِيَمِينِهِ ***بِتَيْماءَ حَبْرٌ، ثُمَّ عَرَّضَ أَسْطُرَا

رَوَاهُ الرُّوَاةُ بِالْفَتْحِ لَا غَيْرُ؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: هُوَ الْحَبْرُ، بِالْفَتْحِ، وَمَعْنَاهُ الْعَالِمُ بِتَحْبِيرِ الْكَلَامِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «سُمِّيَتْ سُورةَ الْمَائِدَةِ وسُورَةَ الأَحبار لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهَا: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ»؛ وَهُمُ الْعُلَمَاءُ، جَمْعُ حِبْرٍ وحَبْر، بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ، وَكَانَ يُقَالُ لِابْنِ عَبَّاسٍ الحَبْرُ والبَحْرُ لِعِلْمِهِ؛ وَفِي شِعْرِ جَرِيرٍ:

إِنَّ البَعِيثَ وعَبْدَ آلِ مُقَاعِسٍ ***لَا يَقْرآنِ بِسُورَةِ الأَحْبَارِ

أَي لَا يَفِيانِ بِالْعُهُودِ، يَعْنِي قَوْلَهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}.

والتَّحْبِيرُ: حُسْنُ الْخَطِّ؛ وأَنشد الْفَرَّاءُ فِيمَا رَوَى سَلَمَةُ عَنْهُ:

كَتَحْبِيرِ الكتابِ بِخَطِّ، يَوْمًا، ***يَهُودِيٍّ يقارِبُ أَوْ يَزِيلُ

ابْنُ سِيدَهْ: وَكَعْبُ الحِبْرِ كأَنه مِنْ تَحْبِيرِ الْعِلْمِ وَتَحْسِينِهِ.

وسَهْمٌ مُحَبَّر: حَسَنُ البَرْي.

والحَبْرُ والسَّبْرُ والحِبْرُ والسِّبْرُ، كُلُّ ذَلِكَ: الحُسْنُ وَالْبَهَاءُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ أَهل الْبَهَاءِ قَدْ ذَهَبَ حِبْرُه وسِبْرُه»؛ أَي لَوْنُهُ وَهَيْئَتُهُ، وَقِيلَ: هَيْئَتُهُ وسَحْنَاؤُه، مِنْ قَوْلِهِمْ جَاءَتِ الإِبل حَسَنَةَ الأَحْبَارِ والأَسْبَارِ، وَقِيلَ: هُوَ الْجَمَالُ وَالْبَهَاءُ وأَثَرُ النِّعْمَةِ.

وَيُقَالُ: فُلَانٌ حَسَنُ الحِبْر والسَّبْرِ والسِّبْرِ إِذا كَانَ جَمِيلًا حَسَنَ الْهَيْئَةِ؛ قَالَ ابْنُ أَحمر وَذَكَرَ زَمَانًا:

لَبِسْنا حِبْرَه، حَتَّى اقْتُضِينَا ***لأَعْمَالٍ وآجالٍ قُضِينَا

أَي لَبِسْنَا جَمَالَهُ وَهَيْئَتَهُ.

وَيُقَالُ: فُلَانٌ حَسَنُ الحَبْر والسَّبْرِ، بِالْفَتْحِ أَيضًا؛ قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: وَهُوَ عِنْدِي بالحَبْرِ أَشْبَهُ لأَنه مَصْدَرُ حَبَرْتُه حَبْرًا إِذا حَسَّنْتَهُ، والأَوّل اسْمٌ.

وَقَالَ ابْنُ الأَعرابي: رَجُلٌ حَسَنُ الحِبْر والسِّبْر أَي حَسَنُ الْبَشَرَةِ.

أَبو عَمْرٍو: الحِبْرُ مِنَ النَّاسِ الدَّاهِيَةُ وَكَذَلِكَ السِّبْرُ.

والحَبْرُ والحَبَرُ والحَبْرَة والحُبُور، كُلُّهُ: السُّرور؛ قَالَ الْعَجَّاجُ: " الحمدُ للهِ الَّذِي أَعْطى الحَبَرْ "وَيُرْوَى الشَّبَرْ مِن قَوْلِهِمْ حَبَرَني هَذَا الأَمْرُ حَبْرًا أَي سَرَّنِي، وَقَدْ حُرِّكَ الْبَاءُ فِيهِمَا وأَصله التَّسْكِينُ؛ وَمِنْهُ الحَابُورُ: وَهُوَ مَجْلِسُ الفُسَّاق.

وأَحْبَرَني الأَمرُ: سَرَّني.

والحَبْرُ والحَبْرَةُ: النَّعْمَةُ، وَقَدْ حُبِرَ حَبْرًا.

وَرَجُلٌ يَحْبُورٌ يَفْعُولٌ مِنَ الحُبُورِ.

أَبو عَمْرٍو: اليَحْبُورُ النَّاعِمُ مِنَ الرِّجَالِ، وَجَمْعُهُ اليَحابِيرُ مأْخوذ مِنَ الحَبْرَةِ وَهِيَ النِّعْمَةُ؛ وحَبَرَه يَحْبُره، بِالضَّمِّ، حَبْرًا وحَبْرَةً، فَهُوَ مَحْبُور.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ}؛ أَي يُسَرُّونَ، وَقَالَ اللَّيْثُ: يُحْبَرُونَ يُنَعَّمُونَ وَيُكْرَمُونَ؛ قَالَ الزَّجَّاجُ: قِيلَ إِن الحَبْرَةَ هَاهُنَا السَّمَاعُ فِي الْجَنَّةِ.

وَقَالَ: الحَبْرَةُ فِي اللُّغَةِ كُلُّ نَغْمَةٍ حَسَنَةٍ مُحَسَّنَةٍ.

وَقَالَ الأَزهري: الحَبْرَةُ فِي اللُّغَةِ النَّعمَةُ التَّامَّةُ.

وَفِي الْحَدِيثِ فِي ذِكْرِ أَهل الْجَنَّةِ: فرأَى مَا فِيهَا مِنَ الحَبْرَة وَالسُّرُورِ "؛ الحَبْرَةُ، بِالْفَتْحِ: النَّعْمَةُ وسعَةُ العَيْشِ، وَكَذَلِكَ الحُبُورُ؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" عَبْدِ اللَّهِ: آلُ عِمْرَانَ غِنًى والنِّساءُ مَحْبَرَة أَي مَظِنَّةٌ للحُبُورِ وَالسُّرُورِ.

وَقَالَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ}؛ مَعْنَاهُ تُكْرَمُونَ إِكرامًا يُبَالَغُ فِيهِ.

والحَبْرَة: الْمُبَالَغَةُ فِيمَا وُصِفَ بِجَمِيلٍ، هَذَا نَصُّ قَوْلِهِ.

وشَيْءٌ حِبرٌ: ناعمٌ؛ قَالَ المَرَّارُ العَدَوِيُّ:

قَدْ لَبِسْتُ الدَّهْرَ مِنْ أَفْنَانِهِ، ***كُلَّ فَنٍّ ناعِمٍ مِنْهُ حَبِرْ

وَثَوْبٌ حَبِيرٌ: جَدِيدٌ نَاعِمٌ؛ قَالَ الشَّمَّاخُ يَصِفُ قَوْسًا كَرِيمَةً عَلَى أَهلها:

إِذا سَقَطَ الأَنْدَاءُ صِينَت وأُشْعِرَتْ ***حَبِيرًا، وَلَمْ تُدْرَجْ عَلَيْهَا المَعَاوِزُ

وَالْجَمْعُ كَالْوَاحِدِ.

والحَبِيرُ: السَّحَابُ، وَقِيلَ: الحَبِيرُ مِنَ السَّحَابِ الَّذِي ترى فيه كالتَّثْمِيرِ مِنْ كَثْرَةِ مَائِهِ.

قَالَ الرِّياشي: وأَما الحَبِيرُ بِمَعْنَى السَّحَابِ فَلَا أَعرفه؛ قَالَ فإِن كَانَ أَخذه مِنْ قَوْلِ الْهُذَلِيِّ:

تَغَذَّمْنَ فِي جَانِبَيْهِ الخَبِيرَ ***لَمَّا وَهَى مُزْنُه واسْتُبيحَا

فَهُوَ بِالْخَاءِ، وسيأْتي ذِكْرُهُ فِي مَكَانِهِ.

والحِبَرَةُ، والحَبَرَةُ: ضَرْبٌ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ مُنَمَّر، وَالْجَمْعُ حِبَرٌ وحِبَرات.

اللَّيْثُ: بُرُودٌ حِبَرةٌ ضَرْبٌ مِنَ الْبُرُودِ الْيَمَانِيَةِ.

يُقَالُ: بُرْدٌ حَبِيرٌ وبُرْدُ حِبَرَة، مِثْلُ عِنَبَةٍ، عَلَى الْوَصْفِ والإِضافة؛ وبُرُود حِبَرَةٌ.

قَالَ: وَلَيْسَ حِبَرَةٌ مَوْضِعًا أَو شَيْئًا مَعْلُومًا إِنما هُوَ وَشْيٌ كَقَوْلِكَ ثَوْب قِرْمِزٌ، والقِرْمِزُ صِبْغُهُ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَطَبَ خَدِيجَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وأَجابته استأْذنت أَباها فِي أَن تَتَزَوَّجَهُ، وَهُوَ ثَمِلٌ، فأَذن لَهَا فِي ذَلِكَ وَقَالَ: هُوَ الفحْلُ لَا يُقْرَعُ أَنفُهُ، فَنَحَرَتْ بَعِيرًا وخَلَّقَتْ أَباها بالعَبيرِ وكَسَتْهُ بُرْدًا أَحْمَرَ، فَلَمَّا صَحَا مِنْ سُكْرِهِ قَالَ: مَا هَذَا الحَبِيرُ وَهَذَا العَبِيرُ وَهَذَا العَقِيرُ؟ أَراد بِالْحَبِيرِ الْبُرْدَ الَّذِي كَسَتْهُ، وَبِالْعَبِيرِ الخَلُوقَ الَّذِي خَلَّقَتْهُ، وَبِالْعَقِيرِ البعيرَ المَنْحُورَ وَكَانَ عُقِرَ ساقُه».

وَالْحَبِيرُ مِنَ الْبُرُودِ: مَا كَانَ مَوْشِيًّا مُخَطَّطًا.

وَفِي حَدِيثِ أَبي ذَرٍّ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطعمنا الخَمِير وأَلبسنا الْحَبِيرَ».

وَفِي حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ: «حِينَ لَا أَلْبَسُ الحَبيرَ».

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَثَلُ الْحَوَامِيمِ فِي الْقُرْآنِ كَمَثَلِ الحِبَرَاتِ فِي الثِّيَابِ.

والحِبْرُ: بِالْكَسْرِ: الوَشْيُ؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي.

والحِبْرُ والحَبَرُ: الأَثَرُ مِنَ الضَّرْبَة إِذا لَمْ يَدُمْ، وَالْجَمْعُ أَحْبَارٌ وحُبُورٌ، وَهُوَ الحَبَارُ والحِبار.

الْجَوْهَرِيُّ: والحَبارُ الأَثَرُ؛ قَالَ الرَّاجِزُ:

لَا تَمْلإِ الدَّلْوَ وَعَرِّقْ فِيهَا، ***أَلا تَرى حِبَارَ [حَبَارَ] مَنْ يَسْقِيها؟

وَقَالَ حميد الأَرقط:

وَلَمْ يُقَلِّبْ أَرْضَها البَيْطَارُ، ***وَلَا لِحَبْلَيْهِ بِهَا حَبَارُ

والجمعُ حَبَاراتٌ وَلَا يُكَسَّرُ.

وأَحْبَرَتِ الضَّرْبَةُ جِلْدَهُ وَبِجِلْدِهِ: أَثرت فِيهِ.

وحُبِرَ جِلْدُه حَبْرًا إِذا بَقِيَتْ لِلْجُرْحِ آثَارٌ بَعْدَ البُرْء.

والحِبَارُ والحِبْرُ: أَثر الشَّيْءِ.

الأَزهري: رَجُلٌ مُحَبَّرٌ إِذا أَكلت الْبَرَاغِيثُ جِلْدَه فَصَارَ لَهُ آثَارٌ فِي جِلْدِهِ؛ وَيُقَالُ: بِهِ حُبُورٌ أَي آثَارٌ.

وَقَدْ أَحْبَرَ بِهِ أَي تَرَكَ بِهِ أَثرًا؛ وأَنشد لمُصَبِّحِ بْنِ مَنْظُورٍ الأَسَدِي، وَكَانَ قَدْ حَلَقَ شَعْرَ رأْس امرأَته، فَرَفَعَتْهُ إِلى الْوَالِي فَجَلَدَهُ وَاعْتَقَلَهُ، وَكَانَ لَهُ حِمَارٌ وجُبَّة فَدَفَعَهُمَا لِلْوَالِي فَسَرَّحَهُ:

لَقَدْ أَشْمَتَتْ بِي أَهْلَ فَيْدٍ، وغادَرَتْ ***بِجِسْمِيَ حِبْرًا، بِنْتُ مَصَّانَ، بادِيَا

وَمَا فَعَلتْ بِي ذَاكَ، حَتَّى تَرَكْتُها ***تُقَلِّبُ رَأْسًا، مِثْلَ جُمْعِيَ، عَارِيَا

وأَفْلَتَني مِنْهَا حِماري وَجُبَّتي، ***جَزَى اللهُ خَيْرًا جُبَّتي وحِمارِيَا

وثوبٌ حَبِيرٌ أَي جَدِيدٌ.

والحِبْرُ والحَبْرُ والحَبْرَةُ والحُبْرَةُ والحِبِرُ والحِبِرَةُ، كُلُّ ذَلِكَ: صُفْرة تَشُوبُ بياضَ الأَسْنَان؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

تَجْلُو بأَخْضَرَ مِنْ نَعْمَانَ ذَا أُشُرٍ، ***كَعارِضِ البَرْق لَمْ يَسْتَشْرِبِ الحِبِرَا

قَالَ شَمِرٌ: أَوّله الحِبْرُ [الحَبْرُ] وَهِيَ صُفْرَةٌ، فإِذا اخْضَرَّ، فَهُوَ القَلَحُ، فإِذا أَلَحَّ عَلَى اللِّثَةِ حَتَّى تَظْهَرَ الأَسْناخ، فَهُوَ الحَفَرُ والحَفْرُ.

الْجَوْهَرِيُّ: الحِبِرَة، بِكَسْرِ الْحَاءِ وَالْبَاءِ، القَلَح فِي الأَسنان، وَالْجَمْعُ بِطَرْحِ الْهَاءِ فِي الْقِيَاسِ، وأَما اسْمُ الْبَلَدِ فَهُوَ حِبِرٌّ، بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ.

وَقَدْ حَبِرتْ أَسنانه تَحْبَرُ حَبَرًا مِثَالُ تَعِبَ تَعَبًا أَي قَلِحَتْ، وَقِيلَ: الحبْرُ الْوَسَخُ عَلَى الأَسنان.

وحُبِرَ الجُرْحُ حَبْرًا أَي نُكسَ وغَفَرَ، وَقِيلَ: أَي بَرِئَ وَبَقِيَتْ لَهُ آثَارٌ.

والحَبِيرُ: اللُّغام إِذا صَارَ عَلَى رأْس الْبَعِيرِ، وَالْخَاءُ أَعلى؛ هَذَا قَوْلُ ابْنِ سِيدَهْ.

الْجَوْهَرِيُّ: الحَبِيرُ لُغامُ الْبَعِيرِ.

وَقَالَ الأَزهري عَنِ اللَّيْثِ: الحَبِيرُ مِنْ زَبَدِ اللُّغامِ إِذا صار عَلَى رأْس الْبَعِيرِ، ثُمَّ قَالَ الأَزهري: صَحَّفَ اللَّيْثُ هَذَا الْحَرْفَ، قَالَ: وَصَوَابُهُ الْخَبِيرُ، بِالْخَاءِ، لِزَبَدِ أَفواه الإِبل، وَقَالَ: هَكَذَا قَالَ أَبو عُبَيْدٍ.

وَرَوَى الأَزهري بِسَنَدِهِ عَنْ الرِّياشِي قَالَ: الْخَبِيرُ الزَّبَدُ، بِالْخَاءِ.

وأَرض مِحْبَارٌ: سَرِيعَةُ النَّبَاتِ حَسَنَتُهُ كَثِيرَةُ الكلإِ؛ قَالَ:

لَنَا جِبَالٌ وحِمًى مِحْبَارُ، ***وطُرُقٌ يُبْنَى بِهَا المَنارُ

ابْنُ شُمَيْلٍ: الأَرض السريعةُ النباتِ السهلةُ الدَّفِئَةُ الَّتِي بِبُطُونِ الأَرض وسَرَارتِها وأَراضَتِها، فَتِلْكَ المَحابِيرُ.

وَقَدْ حَبِرَت الأَرض، بِكَسْرِ الْبَاءِ، وأَحْبَرَتْ؛ والحَبَارُ: هَيْئَةُ الرَّجُلِ؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ، حَكَاهُ عَنْ أَبي صَفْوانَ؛ وَبِهِ فَسَّرَ قَوْلَهُ: " أَلا تَرى حَبَارَ مَنْ يَسْقيها "قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَقِيلَ حَبَارُ هُنَا اسْمُ نَاقَةٍ، قَالَ: وَلَا يُعْجِبُنِي.

والحُبْرَةُ: السِّلْعَةُ تَخْرُجُ فِي الشَّجَرِ أَي العُقْدَةُ تُقْطَعُ ويُخْرَطُ مِنْهَا الْآنِيَةُ.

والحُبَارَى: ذَكَرُ الخَرَبِ؛ وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: الحُبَارَى طَائِرٌ، وَالْجَمْعُ حُبَارَيات.

وأَنشد بَعْضُ الْبَغْدَادِيِّينَ فِي صِفَةِ صَقْرٍ: " حَتْف الحُبَارَياتِ والكَراوين "قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَلَمْ يُكَسَّرْ عَلَى حَبَارِيَّ وَلَا حَبَائِرَ ليَفْرُقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ فَعْلاء وفَعَالَةٍ وأَخواتها.

الْجَوْهَرِيُّ: الحُبَارَى طَائِرٌ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ والأُنثى، وَاحِدُهَا وَجَمْعُهَا سَوَاءٌ.

وَفِي الْمَثَلِ: كُلُّ شَيْءٍ يُحِبُّ ولَدَهُ حَتَّى الحُبَارَى، لأَنها يُضْرَبُ بِهَا المَثلُ فِي المُوقِ فَهِيَ عَلَى مُوقها تُحِبُّ وَلَدَهَا وَتُعَلِّمُهُ الطَّيَرَانَ، وأَلفه لَيْسَتْ للتأْنيث.

وَلَا للإِلحاق، وإِنما بُنِيَ الِاسْمُ عَلَيْهَا فَصَارَتْ كأَنها مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ لَا تَنْصَرِفُ فِي مَعْرِفَةٍ وَلَا نَكِرَةٍ أَي لَا تُنَوَّنُ.

والحبْرِيرُ والحُبْرور والحَبَرْبَرُ والحُبُرْبُورُ واليَحْبُورُ: وَلَدُ الحُبَارَى؛ وَقَوْلُ أَبي بردة:

بازٌ جَرِيءٌ عَلَى الخَزَّانِ مُقْتَدِرٌ، ***وَمِنْ حَبَابِيرِ ذِي مَاوَانَ يَرْتَزِقُهْ

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ: هُوَ جَمْعُ الحُبَارَى، وَالْقِيَاسُ يَرُدُّهُ، إِلا أَن يَكُونَ اسْمًا لِلْجَمْعِ.

الأَزهري: وَلِلْعَرَبِ فِيهَا أَمثال جَمَّةٌ، مِنْهَا قَوْلُهُمْ: أَذْرَقُ مِنْ حُبَارَى، وأَسْلَحُ مِنْ حُبَارَى، لأَنها تَرْمِي الصَّقْرَ بسَلْحها إِذا أَراغها لِيَصِيدَهَا فَتُلَوِّثُ رِيشَهُ بِلَثَقِ سَلْحِها، وَيُقَالُ: إِن ذَلِكَ يَشْتَدُّ عَلَى الصَّقْرِ لِمَنْعِهِ إِياه مِنَ الطَّيَرَانِ؛ وَمِنْ أَمثالهم فِي الْحُبَارَى: أَمْوَقُ مِنَ الحُبَارَى؛ ذَلِكَ أَنَّهَا تأْخذ فَرْخَهَا قَبْلَ نَبَاتِ جَنَاحِهِ فَتَطِيرُ مُعَارِضَةً لَهُ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهَا الطَّيَرَانَ، وَمِنْهُ الْمَثَلُ السَّائِرُ فِي الْعَرَبِ: كُلُّ شَيْءٍ يُحِبُّ وَلَدَهُ حَتَّى الْحُبَارَى ويَذِفُّ عَنَدَهُ.

وَوَرَدَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ يَذِفُّ عَنَدَهُ أَي تَطِيرُ عَنَدَهُ أَي تُعَارِضُهُ بِالطَّيَرَانِ، وَلَا طَيَرَانَ لَهُ لِضَعْفِ خَوَافِيهِ وَقَوَائِمِهِ.

وَقَالَ ابْنُ الأَثير: خَصَّ الْحُبَارَى بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ حَتَّى الْحُبَارَى لأَنها يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ فِي الحُمْق، فَهِيَ عَلَى حُمْقِهَا تُحِبُّ وَلَدَهَا فَتُطْعِمُهُ وَتُعَلِّمُهُ الطَّيَرَانَ كَغَيْرِهَا مِنَ الْحَيَوَانِ.

وَقَالَ الأَصمعي: فُلَانٌ يُعَانِدُ فُلَانًا أَي يَفْعَلُ فِعْلَهُ وَيُبَارِيهِ؛ وَمِنْ أَمثالهم فِي الْحُبَارَى: فلانٌ مَيِّتٌ كَمَدَ الحُبارَى، وَذَلِكَ أَنها تَحْسِرُ مَعَ الطَّيْرِ أَيام التَّحْسير، وَذَلِكَ أَن تُلْقِيَ الرِّيشَ ثُمَّ يُبْطِئُ نَبَاتُ رِيشِهَا، فإِذا طَارَ سَائِرُ الطَّيْرِ عَجَزَتْ عَنِ الطَّيَرَانِ فَتَمُوتُ كَمَدًا؛ وَمِنْهُ قَوْلُ أَبي الأَسود الدُّؤَلي:

يَزِيدُ مَيّتٌ كَمَدَ الحُبَارَى، ***إِذا طُعِنَتْ أُمَيَّةُ أَوْ يُلِمُ

أَي يَمُوتُ أَو يَقْرُبُ مِنَ الْمَوْتِ.

قَالَ الأَزهري: وَالْحُبَارَى لَا يَشْرَبُ الْمَاءَ وَيَبِيضُ فِي الرِّمَالِ النَّائِيَةِ؛ قَالَ: وَكُنَّا إِذا ظَعَنَّا نَسِيرُ فِي جِبَالِ الدَّهْنَاءِ فَرُبَّمَا الْتَقَطْنَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ بَيْضِهَا مَا بَيْنَ الأَربع إِلى الثَّمَانِي، وَهِيَ تَبِيضُ أَربع بَيْضَاتٍ، وَيَضْرِبُ لَوْنُهَا إِلى الزُّرْقَةِ، وَطَعْمُهَا أَلذ مِنْ طَعْمِ بَيْضِ الدَّجَاجِ وَبَيْضِ النَّعَامِ، قَالَ: وَالنَّعَامُ أَيضًا لَا تَرِدُ الْمَاءَ وَلَا تَشْرَبُهُ إِذا وَجَدَتْهُ.

وَفِي حَدِيثِ أَنس: «إِن الْحُبَارَى لَتَمُوتُ هُزالًا بِذَنْبِ بَنِي آدَمَ»؛ يَعْنِي أَن اللَّهَ تَعَالَى يَحْبِسُ عَنْهَا الْقَطْرُ بِشُؤْمِ ذُنُوبِهِمْ، وإِنما خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لأَنها أَبعد الطَّيْرِ نُجْعَةً، فَرُبَّمَا تُذْبَحُ بِالْبَصْرَةِ فَتُوجَدُ فِي حَوْصَلَتِهَا الْحَبَّةُ الْخَضْرَاءُ، وَبَيْنَ الْبَصْرَةِ وَبَيْنَ مَنَابِتِهَا مَسِيرَةُ أَيام كَثِيرَةٍ.

واليَحبُورُ: طَائِرٌ.

ويُحابِرٌ: أَبو مُرَاد ثُمَّ سُمِّيَتِ الْقَبِيلَةُ يُحَابِرُ؛ قَالَ:

وَقَدْ أَمَّنَتْني، بَعْدَ ذَاكَ، يُحابِرٌ ***بِمَا كنتُ أُغْشي المُنْدِيات يُحابِرا

وحِبِرٌّ، بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ: اسْمُ بَلَدٍ، وَكَذَلِكَ حِبْرٌ.

وحِبْرِيرٌ: جَبَلٌ مَعْرُوفٌ.

وَمَا أَصبت مِنْهُ حَبَرْبَرًا أَي شَيْئًا، لَا يُسْتَعْمَلُ إِلا فِي النَّفْيِ؛ التَّمْثِيلُ لِسِيبَوَيْهِ وَالتَّفْسِيرُ لِلسِّيرَافِيِّ.

وَمَا أَغنى فلانٌ عَنِّي حَبَرْبَرًا أَي شَيْئًا؛ وَقَالَ ابْنُ أَحمر الْبَاهِلِيُّ: " أَمانِيُّ لَا يُغْنِينَ عَنِّي حَبَرْبَرا وَمَا عَلَى رأْسه حَبَرْبَرَةٌ أَي مَا عَلَى رأْسه شَعْرَةٌ.

وَحَكَى سِيبَوَيْهِ: مَا أَصاب مِنْهُ حَبَرْبَرًا وَلَا تَبَرْبَرًا وَلَا حَوَرْوَرًا أَي مَا أَصاب مِنْهُ شَيْئًا.

وَيُقَالُ: مَا فِي الَّذِي تَحَدَّثْنَا بِهِ حَبَرْبَرٌ أَي شَيْءٌ.

أَبو سَعِيدٍ: يُقَالُ مَا لَهُ حَبَرْبَرٌ وَلَا حَوَرْوَرٌ.

وَقَالَ الأَصمعي: مَا أَصبت مِنْهُ حَبَرْبَرًا وَلَا حَبَنْبَرًا أَي مَا أَصبت مِنْهُ شَيْئًا.

وَقَالَ أَبو عَمْرٍو: مَا فِيهِ حَبَرْبَرٌ وَلَا حَبَنْبَرٌ، وَهُوَ أَن يُخْبِرَكَ بِشَيْءٍ فَتَقُولُ: مَا فِيهِ حَبَنْبَرٌ.

وَيُقَالُ لِلْآنِيَةِ الَّتِي يُجْعَلُ فِيهَا الحِبْرُ مِنْ خَزَفٍ كَانَ أَو مِنْ قَوارِير: مَحْبَرَةٌ ومَحْبُرَةٌ كَمَا يُقَالُ مَزْرَعَة ومَزْرُعَة ومَقْبَرَة ومَقْبُرَة ومَخْبَزَة ومَخْبُزَةٌ.

الْجَوْهَرِيُّ: مَوْضِعُ الحِبْرِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ المِحْبَرَة، بِالْكَسْرِ.

وحِبِرٌّ: مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ فِي الْبَادِيَةِ.

وأَنشد شَمِرٌ عَجُزَ بَيْتٍ: فَقَفا حِبِرّ.

الأَزهري: فِي الْخُمَاسِيِّ الحَبَرْبَرَةُ القَمِيئَةُ المُنافِرَةُ، وَقَالَ: هَذِهِ ثُلَاثِيَّةُ الأَصل أُلحقت بِالْخُمَاسِيِّ لِتَكْرِيرِ بَعْضِ حُرُوفِهَا.

والمُحَبَّرُ: فَرَسُ ضِرَارِ بْنِ الأَزوَرِ الأَسَدِيِّ.

أَبو عَمْرٍو: الحَبَرْبَرُ والحَبْحَبِيُّ الجمل الصغير.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


53-لسان العرب (شطر)

شطر: الشَّطْرُ: نِصْفُ الشَّيْءِ، وَالْجَمْعُ أَشْطُرٌ وشُطُورٌ.

وشَطَرْتُه: جَعَلْتُهُ نِصْفَيْنِ.

وَفِي الْمَثَلِ: أَحْلُبُ حَلَبًا لكَ شَطْرُه.

وشاطَرَه مالَهُ: ناصَفَهُ، وَفِي الْمُحْكَمِ: أَمْسَكَ شَطْرَهُ وأَعطاه شَطْره الْآخَرَ.

وَسُئِلَ مَالِكُ بْنُ أَنس: مِنْ أَين شاطَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عُمَّالَهُ؟ فَقَالَ: أَموال كَثِيرَةٌ ظَهَرَتْ لَهُمْ.

وإِن أَبا الْمُخْتَارِ الْكِلَابِيَّ كَتَبَ إِليه:

نَحُجُّ إِذا حَجُّوا، ونَغْزُو إِذا غَزَوْا، ***فَإِنِّي لَهُمْ وفْرٌ، ولَسْتُ بِذِي وَفْرِ

إِذا التَّاجِرُ الدَّارِيُّ جاءَ بِفَأْرَةٍ ***مِنَ المِسْكِ، راحَتْ فِي مَفارِقِهِمْ تَجْرِي

فَدُونَكَ مالَ اللهِ حَيْثُ وجَدْتَهُ ***سَيَرْضَوْنَ، إِنْ شاطَرْتَهُمْ، مِنْكَ بِالشَّطْرِ

قَالَ: فَشاطَرَهُمْ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَموالهم.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَن سَعْدًا استأْذن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يتصدَّق بِمَالِهِ، قَالَ: لَا، قَالَ: فالشَّطْرَ، قَالَ: لَا، قَالَ الثُّلُثَ، فَقَالَ: الثُّلُثُ والثُّلُثُ كَثِيرٌ»؛ الشَّطْرُ: النِّصْفُ، وَنَصَبَهُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ»؛ أي أَهَبُ الشَّطْرَ وَكَذَلِكَ الثُّلُثُ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: «كَانَ عِنْدَنَا شَطْرٌ مِنْ شَعير.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه رَهَنَ دِرْعَهُ بشَطْر مِنْ شَعِيرٍ»؛ قِيلَ: أَراد نِصْفَ مَكُّوكٍ، وَقِيلَ: نصفَ وسْقٍ.

وَيُقَالُ: شِطْرٌ وشَطِيرٌ مِثْلُ نِصْفٍ ونَصِيفٍ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمان لأَن الإِيمان يَظْهَرُ بِحَاشِيَةِ الْبَاطِنِ، والطُّهُور يَظْهَرُ بِحَاشِيَةِ الظَّاهِرِ».

وَفِي حَدِيثِ مَانِعِ الزكاةِ: «إِنَّا آخِذُوها وشَطْرَ مالِهِ عَزْمَةٌ مِنْ عَزَماتِ رَبِّنا».

قَالَ ابْنُ الأَثير: قَالَ الحَرْبِيُّ غَلِطَ بَهْزٌ الرَّاوِي فِي لَفْظِ الرِّوَايَةِ إِنما هُوَ: وشُطِّرَ مالُهُ أَي يُجْعَل مالُهُ شَطْرَيْنِ ويَتَخَيَّر عَلَيْهِ المُصَدّقُ فيأْخذ الصَّدَقَةَ مِنْ خَيْرِ النِّصْفَيْنِ، عُقُوبَةً لِمَنْعِهِ الزَّكَاةَ، فأَما ما لَا يَلْزَمُهُ فَلَا.

قَالَ: وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي قَوْلِ الْحَرْبِيِّ: لَا أَعرف هَذَا الْوَجْهَ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَن الحقَّ مُسْتَوْفًى مِنْهُ غَيْرُ مَتْرُوكٍ عَلَيْهِ، وإِن تَلِفَ شَطرُ مَالِهِ، كَرَجُلٍ كَانَ لَهُ أَلف شَاةٍ فَتَلِفَتْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ "إِلا عِشْرُونَ، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ عَشْرُ شِيَاهٍ لِصَدَقَةِ الأَلف، وَهُوَ شَطْرُ مَالِهِ الْبَاقِي، قَالَ: وَهَذَا أَيضًا بَعِيدٌ لأَنه قَالَ لَهُ: إِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّا آخِذُو شَطْرَ مَالِهِ، وَقِيلَ: إِنه كَانَ فِي صَدْرِ الإِسلام يَقَعُ بَعْضُ الْعُقُوبَاتِ فِي الأَموال ثُمَّ نُسِخَ، كَقَوْلِهِ فِي الثَّمَرِ المُعَلَّقِ: مَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غرامةُ مِثْلَيْهِ والعقوبةُ، وَكَقَوْلِهِ فِي ضَالَّةِ الإِبل الْمَكْتُومَةِ: غَرامَتُها ومثْلُها مَعَهَا، وَكَانَ عُمَرُ يَحْكُمُ بِهِ فَغَرَّمَ حَاطِبًا ضِعْفَ ثَمَنِ ناقةِ المُزَنِيِّ لَمَّا سَرَقَهَا رَقِيقُهُ وَنَحَرُوهَا؛ قَالَ: وَلَهُ فِي الْحَدِيثِ نَظَائِرُ؛ قَالَ: وَقَدْ أَخذ أَحمد بْنُ حَنْبَلٍ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا وَعَمِلَ بِهِ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: مَنْ مَنَعَ زَكَاةَ مَالِهِ أُخذت مِنْهُ وأُخذ شَطْرُ مَالِهِ عُقُوبَةً عَلَى مَنْعِهِ، وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: " لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ إِلا الزَّكَاةُ لَا غَيْرَ "، وَجَعَلَ هَذَا الْحَدِيثَ مَنْسُوخًا، وَقَالَ: كَانَ ذَلِكَ حَيْثُ كَانَتِ الْعُقُوبَاتُ فِي الأَموال، ثُمَّ نُسِخَتْ، وَمَذْهَبُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ أَن لَا واجبَ عَلَى مُتْلِفِ الشَّيْءِ أَكْثَرُ مِنْ مِثْلِهِ أَو قِيمَتِهِ.

وَلِلنَّاقَةِ شَطْرَانِ قادِمان وآخِرانِ، فكلُّ خِلْفَيْنِ شَطْرٌ، وَالْجَمْعُ أَشْطُرٌ.

وشَطَّرَ بِنَاقَتِهِ تَشْطِيرًا: صَرَّ خِلْفَيْها وَتَرَكَ خِلْفَيْنِ، فإِن صَرَّ خِلْفًا وَاحِدًا قِيلَ: خَلَّفَ بِهَا، فإِن صَرَّ ثلاثةَ أَخْلَافٍ قِيلَ: ثَلَثَ بِهَا، فإِذا صَرَّها كُلَّهَا قِيلَ: أَجْمَعَ بِهَا وأَكْمَشَ بِهَا.

وشَطْرُ الشاةِ: أَحَدُ خِلْفَيها؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي، وأَنشد:

فَتَنَازَعَا شَطْرًا لِقَدْعَةَ واحِدًا، ***فَتَدَارَآ فيهِ فكانَ لِطامُ

وشَطَرَ ناقَتَهُ وَشَاتَهُ يَشْطُرُها شَطْرًا: حَلَبَ شَطْرًا وَتَرَكَ شَطْرًا.

وَكُلُّ مَا نُصِّفَ، فَقَدْ شُطِّرَ.

وَقَدْ شَطَرْتُ طَلِيِّي أَي حَلَبْتُ شَطْرًا أَو صَرَرْتُهُ وتَرَكْتُهُ والشَّطْرُ الْآخَرَ.

وشاطَرَ طَلِيَّهُ: احْتَلَبَ شَطْرًا أَو صَرَّهُ وَتَرَكَ لَهُ الشَّطْرَ الْآخَرَ.

وَثَوْبٌ شَطُور: أَحدُ طَرَفَيْ عَرْضِهِ أَطولُ مِنَ الْآخَرِ، يَعْنِي أَن يَكُونَ كُوسًا بِالْفَارِسِيَّةِ.

وشَاطَرَنِي فلانٌ المالَ أَي قاسَمني بالنِّصْفِ.

والمَشْطُورُ مِنَ الرَّجَزِ والسَّرِيعِ: مَا ذَهَبَ شَطْرُه، وَهُوَ عَلَى السَّلْبِ.

والشَّطُورُ مِنَ الغَنَمِ: الَّتِي يَبِسَ أَحدُ خِلْفَيْها، وَمِنَ الإِبل: الَّتِي يَبِسَ خِلْفانِ مِنْ أَخلافها لأَن لَهَا أَربعة أَخلاف، فإِن يَبِسَ ثَلَاثَةٌ فَهِيَ ثَلُوثٌ.

وَشَاةٌ شَطُورٌ وَقَدْ شَطَرَتْ وشَطُرَتْ شِطارًا، وَهُوَ أَن يَكُونَ أَحد طُبْيَيْها أَطولَ مِنَ الْآخَرِ، فإِن حُلِبَا جَمِيعًا والخِلْفَةُ كَذَلِكَ، سُمِّيَتْ حَضُونًا، وحَلَبَ فلانٌ الدَّهْرُ أَشْطُرَهُ أَي خَبَرَ ضُرُوبَهُ، يَعْنِي أَنه مرَّ بِهِ خيرُه وَشَرُّهُ وَشِدَّتُهُ ورخاؤُه، تَشْبِيهًا بِحَلْبِ جَمِيعِ أَخلاف النَّاقَةِ، مَا كَانَ مِنْهَا حَفِلًا وَغَيْرَ حَفِلٍ، ودَارًّا وَغَيْرَ دَارٍّ، وأَصله مِنْ أَشْطُرِ الناقةِ وَلَهَا خِلْفان قَادِمَانِ وآخِرانِ، كأَنه حَلَبَ القادمَين وَهُمَا الْخَيْرُ، والآخِرَيْنِ وَهُمَا الشَّرُّ، وكلُّ خِلْفَيْنِ شَطْرٌ؛ وَقِيلَ: أَشْطُرُه دِرَرُهُ.

وَفِي حَدِيثِ الأَحنف قَالَ لِعَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقْتَ التَّحْكِيمِ: «يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ إِني قَدْ حَجَمْتُ الرجلَ وحَلَبْتُ أَشْطُرَهُ فَوَجَدْتُهُ قريبَ القَعْرِ كَلِيلَ المُدْيَةِ، وإِنك قَدْ رُميت بِحَجَر الأَرْضِ»؛ الأَشْطُرُ: جَمْعُ شَطْرٍ، وَهُوَ خِلْفُ النَّاقَةِ، وَجَعْلُ الأَشْطُرَ مَوْضِعَ الشَّطْرَيْنِ كَمَا تُجْعَلُ الْحَوَاجِبُ مَوْضِعَ الْحَاجِبَيْنِ، وأَراد بِالرَّجُلَيْنِ الحَكَمَيْنِ الأَوَّل أَبو مُوسَى وَالثَّانِي عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ.

وإِذا كَانَ نِصْفُ وَلَدِ الرَّجُلِ ذُكُورًا وَنِصْفُهُمْ إِناثًا قِيلَ: هُمْ شِطْرَةٌ.

يُقَالُ: وَلَدُ فُلانٍ شِطْرَةٌ، بِالْكَسْرِ، أَي نصفٌ" ذكورٌ ونصفٌ إِناثٌ.

وقَدَحٌ شَطْرانُ أَي نَصْفانُ.

وإِناءٌ شَطْرانُ: بَلَغَ الكيلُ شَطْرَهُ، وَكَذَلِكَ جُمْجُمَةٌ شَطْرَى وقَصْعَةٌ شَطْرَى.

وشَطَرَ بَصَرُه يَشْطِرُ شُطُورًا وشَطْرًا: صَارَ كأَنه يَنْظُرُ إِليك وإِلى آخَرَ.

وَقَوْلُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَعان عَلَى دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَكْتُوبًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ: يَائِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ "؛ قِيلَ: تَفْسِيرُهُ هُوَ أَن يَقُولَ: أُقْ، يُرِيدُ: أُقتل كَمَا" قَالَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَفَى بِالسَّيْفِ شَا "، يُرِيدُ: شَاهِدًا؛ وَقِيلَ: هُوَ أَن يَشْهَدَ اثْنَانِ عَلَيْهِ زُورًا بأَنه قَتَلَ فكأَنهما قَدِ اقْتَسَمَا الْكَلِمَةَ، فَقَالَ هَذَا شَطْرَهَا وَهَذَا شَطْرَهَا إِذا كَانَ لَا يُقْتَلُ بِشَهَادَةِ أَحدهما.

وشَطْرُ الشَّيْءِ: ناحِيَتُه.

وشَطْرُ كُلِّ شَيْءٍ: نَحْوُهُ وقَصْدُه.

وقصدتُ شَطْرَه أَي نَحْوَهُ؛ قَالَ أَبو زِنْباعٍ الجُذامِيُّ:

أَقُولُ لأُمِّ زِنْباعٍ: أَقِيمِي ***صُدُورَ العِيسِ شَطْرَ بَني تَمِيمِ

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ}؛ وَلَا فِعْلَ لَهُ.

قَالَ الْفَرَّاءُ: يُرِيدُ نَحْوَهُ وَتِلْقَاءَهُ، وَمِثْلُهُ فِي الْكَلَامِ: ولِّ وَجْهَكَ شَطْرَه وتُجاهَهُ؛ وَقَالَ الشَّاعِرُ:

إِنَّ العَسِيرَ بِهَا داءٌ مُخامِرُها، ***فَشَطْرَها نَظَرُ العَيْنَيْنِ مَحْسُورُ

وَقَالَ أَبو إِسحاق: الشَّطْرُ النَّحْوُ، لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَهل اللُّغَةِ فِيهِ.

قَالَ: وَنَصَبَ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ}، عَلَى الظَّرْفِ.

وَقَالَ أَبو إِسحاق: أُمر النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يستقبل وهو بالمدينة مَكَّةَ وَالْبَيْتَ الْحَرَامَ، وأُمر أَن يَسْتَقْبِلَ الْبَيْتَ حَيْثُ كَانَ.

وشَطَرَ عَنْ أَهله شُطُورًا وشُطُورَةً وشَطارَةً إِذا نَزَحَ عَنْهُمْ وَتَرَكَهُمْ مُرَاغِمًا أَو مُخَالِفًا وأَعياهم خُبْثًا؛ والشَّاطِرُ مأْخوذ مِنْهُ وأُراه مولَّدًا، وَقَدْ شَطَرَ شُطُورًا وشَطارَةً، وَهُوَ الَّذِي أَعيا أَهله ومُؤَدِّبَه خُبْثًا.

الْجَوْهَرِيُّ: شَطَرَ وشَطُرَ أَيضًا، بِالضَّمِّ، شَطارة فِيهِمَا، قَالَ أَبو إِسحاق: قَوْلُ النَّاسِ فُلَانٌ شاطِرٌ مَعْنَاهُ أَنه أَخَذَ فِي نَحْوٍ غَيْرَ الِاسْتِوَاءِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُ شَاطِرٌ لأَنه تَبَاعَدَ عَنِ الِاسْتِوَاءِ.

وَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ مُشاطرُونا أَي دُورهم تَتَّصِلُ بِدُورِنَا، كَمَا يُقَالُ: هَؤُلَاءِ يُناحُونَنا أَي نحنُ نَحْوَهُم وَهُمْ نَحْوَنا فَكَذَلِكَ هُمْ مُشاطِرُونا.

ونِيَّةٌ شَطُورٌ أَي بَعِيدَةٌ.

وَمَنْزِلٌ شَطِيرٌ وَبَلَدٌ شَطِيرٌ وحَيٌّ شَطِيرٌ: بَعِيدٌ، وَالْجَمْعُ شُطُرٌ.

ونَوًى شُطْرٌ، بِالضَّمِّ، أَي بَعِيدَةٌ؛ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

أَشاقَك بَيْنَ الخَلِيطِ الشُّطُرْ، ***وفِيمَنْ أَقامَ مِنَ الحَيِّ هِرْ

قَالَ: والشُّطُرُ هاهنا لَيْسَ بِمُفْرَدٍ وإِنما هُوَ جَمْعُ شَطِير، والشُّطُرُ فِي الْبَيْتِ بِمَعْنَى المُتَغَرِّبِينَ أَو المُتَعَزِّبِينَ، وَهُوَ نَعْتُ الْخَلِيطِ، وَالْخَلِيطُ: الْمُخَالِطُ، وَهُوَ يُوصَفُ بِالْجَمْعِ وَبِالْوَاحِدِ أَيضًا؛ قَالَ نَهْشَلُ بنُ حَريٍّ:

إِنَّ الخَلِيطَ أَجَدُّوا البَيْنَ فابْتَكَرُوا، ***واهْتَاجَ شَوْقَك أَحْدَاجٌ لَها زَمْرُ

والشَّطِيرُ أَيضًا: الْغَرِيبُ؛ قَالَ:

لَا تَدَعَنِّي فِيهمُ شَطِيرا، ***إِنِّي إِذًا أَهْلِكَ أَوْ أَطِيرَا

وَقَالَ غَسَّانُ بنُ وَعْلَةَ:

إِذا كُنْتَ فِي سَعْدٍ، وأُمُّكَ مِنْهُمُ، ***شَطِيرًا فَلا يَغْرُرْكَ خالُكَ مِنْ سَعْدِ

وإِنَّ ابنَ أُخْتِ القَوْمِ مُصْغًى إِناؤُهُ، ***إِذا لَمْ يُزاحِمْ خالَهُ بِأَبٍ جَلْدِ

يقول: لا تَغْتَرَّ بخُؤُولَتِكَ فإِنك مَنْقُوصُ الْحَظِّ مَا لَمْ تُزَاحِمْ أَخوالك بِآبَاءٍ أَشرافٍ وأَعمام أَعزة.

والمصغَى: المُمالُ: وإِذا أُميل الإِناء انصبَّ مَا فِيهِ، فَضَرَبَهُ مَثَلًا لِنَقْصِ الْحَظِّ، وَالْجَمْعُ الْجَمْعُ.

التَّهْذِيبِ: والشَّطِيرُ الْبَعِيدُ.

وَيُقَالُ لِلْغَرِيبِ: شَطِيرٌ لِتَبَاعُدِهِ عَنْ قَوْمِهِ.

والشَّطْرُ: البُعْدُ.

وَفِي حَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: «لَوْ أَن رَجُلَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بحقٍّ أَحدُهما شَطِيرٌ فإِنه يَحْمِلُ شَهَادَةَ الْآخَرِ»؛ الشَّطِيرُ: الْغَرِيبُ، وَجَمْعُهُ شُطُرٌ، يَعْنِي لَوْ شَهِدَ لَهُ قَرِيبٌ مِنْ أَب أَو ابْنٍ أَو أَخ وَمَعَهُ أَجنبي صَحَّحَتْ شهادةُ الأَجنبي شهادَةَ الْقَرِيبِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ حَمْلًا لَهُ؛ قَالَ: وَلَعَلَّ هَذَا مَذْهَبُ الْقَاسِمِ وإِلا فَشَهَادَةُ الأَب وَالِابْنِ لَا تُقْبَلُ؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" قَتَادَةَ: شَهَادَةُ الأَخ إِذا كَانَ مَعَهُ شَطِيرٌ جَازَتْ شَهَادَتُهُ، وَكَذَا هَذَا فإِنه لَا فَرْقَ بَيْنَ شَهَادَةِ الْغَرِيبِ مَعَ الأَخ أَو الْقَرِيبِ فإِنها مَقْبُولَةٌ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


54-لسان العرب (عزر)

عزر: العَزْر: اللَّوْم.

وعَزَرَهُ يَعْزِره عَزْرًا وعَزَّرَه: ردَّه.

والعَزْرُ والتَّعْزِيرُ: ضَرْبٌ دُونَ الْحَدِّ لِمَنْعِه الجانِيَ مِنَ المُعاودَة ورَدْعِه عَنِ الْمَعْصِيَةِ؛ قَالَ:

وَلَيْسَ بتعزيرِ الأَميرِ خَزايةٌ ***عليَّ، إِذا مَا كنتُ غَيرَ مُرِيبِ

وَقِيلَ: هُوَ أَشدُّ الضَّرْبِ.

وعَزَرَه: ضَربَه ذَلِكَ الضَّرْب.

والعَزْرُ: الْمَنْعُ.

والعَزْرُ: التَّوْقِيفُ عَلَى بَابِ الدِّين.

قَالَ الأَزهري: وَحَدِيثُ سَعْدٍ يَدُلُّ عَلَى أَن التَّعْزِيرَ هُوَ التَّوْقِيفُ عَلَى الدِّينِ لأَنه قَالَ: لَقَدْ رأَيْتُني مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا لَنَا طعامٌ إِلَّا الحُبْلَةَ ووَرقَ السَّمُر، ثُمَّ أَصبَحتْ بَنُو سَعْدٍ تُعَزِّرُني "عَلَى الإِسلام، لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وخابَ عَمَلي؛ تُعَزِّرُني عَلَى الإِسلام أَي تُوَقِّفُني عَلَيْهِ، وَقِيلَ: تُوَبِّخُني عَلَى التَّقْصِيرِ فِيهِ.

والتَّعْزِيرُ: التوقيفُ عَلَى الْفَرَائِضِ والأَحكام.

وأَصل التَّعْزير: التأْديب، وَلِهَذَا يُسَمَّى الضربُ دُونَ الْحَدِّ تَعْزيرًا إِنما هُوَ أَدَبٌ.

يُقَالُ: عَزَرْتُه وعَزَّرْتُه، فَهُوَ مِنَ الأَضداد، وعَزَّرَه: فخَّمه وعظَّمه، فَهُوَ نحْوُ الضِّدِّ.

والعَزْرُ: النَّصْرُ بِالسَّيْفِ.

وعَزَرَه عَزْرًا وعَزَّرَه: أَعانَه وقوَّاه وَنَصَرَهُ.

قال الله تعالى: {تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}، وَقَالَ اللَّهُ تعالى: {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ}؛ جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَي لِتَنْصُروه بِالسَّيْفِ، وَمَنْ نَصَرَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ نَصَرَ اللَّهَ عزَّ وَجَلَّ.

وَعَزَّرْتُمُوهُمْ: عَظَّمْتموهم، وَقِيلَ: نصَرْتُموهم؛ قَالَ إِبراهيم بْنُ السَّريّ: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعلم، وَذَلِكَ أَن العَزْرَ فِي اللُّغَةِ الرَّدُّ وَالْمَنْعُ، وتأْويل عَزَرْت فُلَانًا أَي أَدَّبْتُه إِنما تأْويله فَعَلْتُ بِهِ مَا يَرْدَعُه عَنِ الْقَبِيحِ، كَمَا أَنَّ نَكَّلْت بِهِ تأْويله فَعَلْتُ بِهِ مَا يَجِبُ أَن يَنْكَل مَعَهُ عَنِ المُعاودة؛ فتأْويل عَزَّرْتُموهم نصَرْتُموهم بأَن تردُّوا عَنْهُمْ أَعداءَهم، وَلَوْ كَانَ التَّعْزيرُ هُوَ التَّوْقِير لَكَانَ الأَجْوَدُ فِي اللُّغَةِ الاستغناءَ بِهِ، والنُّصْرةُ إِذا وَجَبَتْ فالتعظيمُ داخلٌ فِيهَا لأَن نُصْرَةَ الأَنبياء هِيَ الْمُدَافَعَةُ عنهم والذب عن دِينِم وتعظيمُهم وتوقيرُهم؛ قَالَ: وَيَجُوزُ تَعْزِرُوه، مِنْ عَزَرْتُه عَزْرًا بِمَعْنَى عَزَّرْته تَعْزِيرًا.

وَالتَّعْزِيرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: التوقيرُ، والتَّعْزِيرُ: النَّصْرُ بِاللِّسَانِ وَالسَّيْفِ.

وَفِي حَدِيثِ الْمَبْعَثِ: «قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: إِنْ بُعِثَ وأَنا حيٌّ فسَأُعَزِّرهُ وأَنْصُرُه»؛ التَّعْزيرُ هَاهُنَا: الإِعانةُ والتوقيرُ والنصرُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وأَصل التَّعْزِيرِ: المنعُ والردُّ، فكأَن مَن نصَرْتَه قَدْ رَدَدْتَ عَنْهُ أَعداءَه وَمَنَعْتَهُمْ مِنْ أَذاه، وَلِهَذَا قِيلَ للتأْديب الَّذِي هُوَ دُونَ الْحَدِّ: تَعْزير، لأَنه يَمْنَعُ الجانيَ أَن يُعاوِدَ الذَّنْبَ.

وعَزَرَ المرأَةَ عَزْرًا: نكَحَها.

وعَزَرَه عَنِ الشَّيْءِ: منَعَه.

والعَزْرُ والعَزيرُ: ثمنُ الكلإِ إِذا حُصِدَ وبِيعَتْ مَزارِعُه سَواديّة، وَالْجَمْعُ العَزائرُ؛ يَقُولُونَ: هَلْ أَخذتَ عَزيرَ هَذَا الْحَصِيدِ؟ أَي هَلْ أَخذت ثَمَنَ مَرَاعِيهَا، لأَنهم إِذا حَصَدُوا بَاعُوا مراعِيَها.

والعَزائِرُ والعَيازِرُ: دُونَ العِضَاه وَفَوْقَ الدِّق كالثُّمام والصَّفْراء والسَّخْبر، وَقِيلَ: أُصول مَا يَرْعَوْنَه مِنْ سِرّ الكلإِ كالعَرفَج والثُّمام والضَّعَة والوَشِيج والسَّخْبَر وَالطَّرِيفَةِ والسَّبَطِ، وَهُوَ سِرُّ مَا يَرْعَوْنَه.

والعَيزارُ: الصُّلْبُ الشَّدِيدُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي.

ومَحالةٌ عَيْزارَةٌ: شديدةُ الأَسْرِ، وَقَدْ عَيْزَرَها صاحِبُها؛ وأَنشد:

فَابْتَغِ ذاتَ عَجَلٍ عَيَازِرَا، ***صَرَّافةَ الصوتِ دَمُوكًا عاقِرَا

والعَزَوَّرُ: السيء الخلُق.

والعَيزار: الغلامُ الْخَفِيفُ الرُّوحِ النشيطُ، وَهُوَ اللَّقِنُ الثَّقِفُ اللَّقِفُ، وَهُوَ الرِّيشَةُ.

والمُماحِل والمُماني.

والعَيزارُ والعَيزارِيَّةُ: ضَرْبٌ مِنْ أَقداح الزُّجاج.

والعَيازِرُ: العِيدانُ؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي: والعَيزارُ: ضَرْبٌ مِنَ الشَّجَرِ، الْوَاحِدَةُ عَيزارةٌ.

والعَوْزَرُ: نَصِيُّ الْجَبَلِ؛ عَنْ أَبي حنيفة.

وعازَرٌ [عازِرٌ] وعَزْرة وعَيزارٌ وعَيزارة وعَزْرانُ: أَسماء.

والكُرْكيّ يُكْنَى أَبا العَيزار؛ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وأَبو العَيزار كُنْيَةُ طَائِرٍ طَوِيلِ الْعُنُقِ تَرَاهُ أَبدًا فِي الْمَاءِ الضَّحْضاح يُسَمَّى السَّبَيْطَر.

وعَزَرْتُ الحِمارَ: " أَوْقَرْته.

وعُزَيرٌ: اسْمُ نَبِيٍّ.

وعُزَيرٌ: اسْمٌ يَنْصَرِفُ لِخِفَّتِهِ وإِن كَانَ أَعجميًّا مِثْلَ نُوحٍ وَلُوطٍ لأَنه تَصْغِيرُ عَزْر.

ابْنُ الأَعرابي: هِيَ العَزْوَرةُ والحَزْوَرةُ والسَّرْوَعةُ والقائِدةُ: للأَكَمة.

وَفِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ عَزْوَر، بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَفَتْحِ الْوَاوِ، ثَنِيَّةُ الجُحْفَة وَعَلَيْهَا الطَّرِيقُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلى مَكَّةَ، وَيُقَالُ فيه عَزُورا.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


55-لسان العرب (تيع)

تيع: التَّيْعُ: مَا يَسيل عَلَى وَجْهِ الأَرض مِنْ جَمَد ذَائِبٍ وَنَحْوِهِ؛ وَشَيْءٌ تَائِعٌ مَائِعٌ.

وتاعَ الماءُ يَتِيعُ تَيْعًا وتَوْعًا، الأَخيرة نَادِرَةٌ، وتَتَيَّعَ كِلَاهُمَا: انْبَسَطَ عَلَى وَجْهِ الأَرض.

وأَتاعَ الرجلُ إِتاعة، فَهُوَ مُتِيع: قَاءَ.

وأَتاع قَيْأَه وأَتاعَ دَمَه فتاعَ يَتِيعُ تُيُوعًا.

وتاعَ القَيْءُ يَتِيع تَوْعًا أَي خَرَجَ، والقَيءُ مُتاعٌ؛ قَالَ القُطامي وَذَكَرَ الْجِرَاحَاتِ:

فظَلَّتْ تَعْبِطُ الأَيْدي كُلُومًا، ***تَمُجُّ عُرُوقُها عَلَقًا مُتاعا

وتاعَ السُّنْبُلُ: يَبِس بعضُه وبعضُه رَطْب، والريحُ تَتَّايَعُ باليَبِيسِ؛ قَالَ أَبو ذُؤَيْبٍ يَذْكُرُ عَقْره نَاقَةً وأَنها كاسَتْ فخَرَّتْ عَلَى رأْسها:

ومُفْرِهةٍ عَنْسٍ قَدَرْتُ لِساقِها ***فخَرّتْ، كَمَا تَتَّايَعُ الرِّيحُ بالقَفْلِ

قَالَ الأَزهري: يُقَالُ اتَّايَعَتِ الريحُ بِوَرَقِ الشَّجَرِ إِذا ذهَبت بِهِ، وأَصله تَتايَعت بِهِ.

والقَفْلُ: مَا يَبِسَ مِنَ الشَّجَرِ.

والتَّتايُع فِي الشَّيْءِ وَعَلَى الشَّيْءِ: التَّهافُت فِيهِ والمُتايَعةُ عَلَيْهِ والإِسْراعُ إِليه.

يُقَالُ: تَتايَعُوا فِي الشَّرِّ إِذا تَهافَتُوا وسارَعُوا إِليه.

والسكْرانُ يَتَتايَعُ أَي يَرْمِي بِنَفْسِهِ.

وَفِي حَدِيثِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يحمِلُكم عَلَى أَن تَتايَعُوا فِي الكَذِب كَمَا يَتتايَعُ الفَراشُ فِي النَّارِ؟»التَّتايُعُ: الْوُقُوعُ فِي الشَّرِّ مِنْ غَيْرِ فِكْرةٍ وَلَا رَوِيّةٍ والمُتايَعةُ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ فِي الخيْر.

وَيُقَالُ فِي التَّتايُع: إِنه اللَّجاجةُ، قَالَ الأَزهري: وَلَمْ نَسْمَعِ التَّتايُع فِي الْخَيْرِ وإِنما سَمِعْنَاهُ فِي الشَّرِّ.

والتتايُع: التهافُت فِي الشَّرِّ واللَّجاج وَلَا يَكُونُ التَّتَايُعُ إِلا فِي الشَّرِّ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ" الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا: إِنَّ عليًّا أَراد أَمْرًا فتَتايَعَتْ عَلَيْهِ الأُمور فَلَمْ يَجِد مَنْزَعًا، يَعْنِي فِي أَمْرِ الجَمَل.

وَفُلَانٌ تَيِّعٌ ومُتتيِّعٌ أَي سَرِيعٌ إِلى الشَّرِّ، وَقِيلَ: التتايُع فِي الشَّرِّ كالتتايُع فِي الْخَيْرِ.

وتَتايَعَ الرَّجُلُ: رَمَى بِنَفْسِهِ فِي الأَمر سَرِيعًا.

وتَتايَعَ الحَيْرانُ: رَمى بِنَفْسِهِ فِي الأَمر سَرِيعًا مِنْ غَيْرِ تثبُّت.

وَفِي الْحَدِيثِ: «لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تعالى: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ}، قَالَ سَعْد بنُ عُبادة: إِنْ رأَى رَجُلٌ مَعَ امرأَته رَجُلًا فيَقْتُله تَقْتُلونه، وإِن أَخْبر يُجْلَد ثَمَانِينَ جَلْدة، أَفلا نَضْرِبه بِالسَّيْفِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَفَى بِالسَّيْفِ شَا»؛ أَراد أَن يَقُولَ شَاهِدًا فأَمسك ثُمَّ قَالَ: " لَوْلَا أَن يَتتايَعَ فِيهِ الغَيْرانُ والسّكْرانُ، وَجَوَابُ لَوْلَا مَحْذُوفٌ أَراد لَوْلَا تَهافُتُ الغَيْرانِ والسكْرانِ فِي القَتْل لتَمَّمْتُ عَلَى جَعْلِهِ شَاهِدًا أَو لحكَمْت بِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ لَوْلَا أَن يَتَتَايَعَ فِيهِ الْغَيْرَانُ وَالسَّكْرَانُ أَي يَتهافَت وَيَقَعَ فِيهِ.

وَقَالَ ابْنُ شُمَيْلٍ: التتايُع رُكُوبُ الأَمر عَلَى خِلَافِ النَّاسِ.

وتَتايَعَ الجملُ فِي مَشْيِه فِي الْحَرِّ إِذا حرَّك أَلواحه حَتَّى يَكَادَ يَنْفَكُّ.

والتِّيعةُ، بِالْكَسْرِ: الأَربعون مِنْ غَنَم الصدَقة، وَقِيلَ: التِّيعَةُ الأَربعون مِنَ الْغَنَمِ مِنْ غَيْرِ أَن يُخص بِصَدَقَةٍ وَلَا غَيْرِهَا.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه كتَب لِوَائِلِ بنُ حُجْرٍ كِتَابًا فِيهِ عَلَى التِّيعةِ شاةٌ والتِّيمةُ لِصَاحِبِهَا»؛ قَالَ الأَزهري: قَالَ أَبو عُبَيْدٍ التِّيعةُ الأَربعون مِنَ الْغَنَمِ لَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، والتِّيمة مَذْكُورَةٌ فِي مَوْضِعِهَا، قَالَ: وَالتِّيعَةُ اسْمٌ لأَدنى مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وكأَنها الْجُمْلَةُ الَّتِي للسُّعاة عَلَيْهَا سَبِيل مِنْ تاعَ يَتِيعُ إِذا ذهَب إِليه كَالْخَمْسِ من الإِبلوالأَربعين مِنَ الْغَنَمِ.

وَقَالَ أَبو سَعِيدٍ الضَّرِيرُ: التِّيعةُ أَدنى مَا يَجِبُ مِنَ الصَّدَقَةِ كالأَربعين فِيهَا شَاةٌ وَكَخَمْسٍ مِنَ الإِبل فِيهَا شَاةٌ، وإِنما تَيَّعَ التِّيعةَ الحَقُّ الَّذِي وَجَبَ للمصدِّق فِيهَا لأَنه لَوْ رامَ أَخْذ شَيْءٍ مِنْهَا قَبْلَ أَن يبلُغ عَدَدُهَا مَا يَجِبُ فِيهِ التِّيعةُ لمنَعَه صاحبُ الْمَالِ، فَلَمَّا وجَب فِيهِ الْحَقُّ تاعَ إِليه المصدِّق أَي عَجِل، وتاعَ رَبُّ الْمَالِ إِلى إِعْطائه فَجَادَ بِهِ، قَالَ: وأَصله مِنَ التَّيْعِ وَهُوَ القَيْءُ.

يُقَالُ: أَتاعَ قَيْأَه فَتاعَ.

وَحَكَى شَمِرٌ عَنِ ابْنِ الأَعرابي قَالَ: التِّيعة لَا أَدري مَا هِيَ، قَالَ: وَبَلَغَنَا عَنِ الْفَرَّاءِ أَنه قَالَ: التِّيعَةُ مِنَ الشَّاءِ القِطْعة الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الصَّدَقَةُ تَرْعَى حَوْلَ الْبُيُوتِ.

ابْنُ شُمَيْلٍ: التيْعُ أَن تأْخذ الشَّيْءَ بِيَدِكَ، يُقَالُ: تاعَ بِهِ يَتِيع تَيْعًا وتَيَّع بِهِ إِذا أَخذه بِيَدِهِ؛ وأَنشد:

أَعْطَيْتُها عُودًا وتِعْتُ بتَمْرةٍ، ***وخَيْرُ المَراغِي، قَدْ عَلِمْنا، قِصارُها

قَالَ: هَذَا رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنه أَكل رَغْوة مَعَ صَاحِبَةٍ لَهُ فَقَالَ: أَعطيتها عُودًا تأْكل بِهِ وتِعْت بِتَمْرَةٍ أَي أَخَذْتها آكُل بِهَا.

والمِرْغاة: الْعُودُ أَو التَّمْرُ أَو الْكَسْرَةُ يُرْتَغى بِهَا، وَجَمْعُهُ المَراغِي.

قَالَ الأَزهري: رأَيته بِخَطِّ أَبي الْهَيْثَمِ: وتِعْت بِتَمْرَةٍ، قَالَ: وَمِثْلُ ذَلِكَ وتَيَّعْتُ بِهَا، وأَعطاني تَمْرَةً فتِعْت بِهَا وأَنا فِيهِ وَاقِفٌ، قَالَ: وأَعطاني فُلَانٌ دِرْهَمًا فتِعت بِهِ أَي أَخذته، الصَّوَابُ بِالْعَيْنِ غَيْرِ مُعْجَمَةٍ.

وَقَالَ الأَزهري فِي آخِرِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ: اليَتُوعاتُ كُلُّ بَقْلَةٍ أَو وَرَقَةٍ إِذا قُطِعَت أَو قُطِفَت ظَهَرَ لَهَا لَبَنٌ أَبيض يَسِيل مِنْهَا مثلُ ورَق التِّينِ وبُقُول أُخر يُقَالُ لَهَا اليَتُوعات.

حَكَى الأَزهري عَنِ ابْنِ الأَعرابي: تُعْ تُعْ إِذا أَمرته بالتواضُع.

وتتايَعَ القومُ فِي الأَرض أَي تَباعَدوا فِيهَا عَلَى عَمًى وشِدَّة.

قَالَ ابْنُ الأَعرابي: التاعةُ الكُتْلةُ من اللِّبَإِ الثَّخينةُ.

وَفِي نَوَادِرِ الأَعراب: تتيَّع عَلَيّ فُلَانٌ، وَفُلَانٌ تَيَّعانُ وتَيِّعانُ وتَيَّحانُ وتَيِّحانُ وتيِّعٌ وتَيّحٌ وتَيَّقانُ وتَيِّقٌ مثله.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


56-لسان العرب (حرم)

حرم: الحِرْمُ، بِالْكَسْرِ، والحَرامُ: نَقِيضُ الْحَلَالِ، وَجَمْعُهُ حُرُمٌ؛ قَالَ الأَعشى:

مَهادي النَّهارِ لجاراتِهِمْ، ***وَبِاللَّيْلِ هُنَّ عليهمْ حُرُمْ

وَقَدْ حَرُمَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ حُرْمًا وحَرامًا وحَرُمَ الشيءُ، بِالضَّمِّ، حُرْمَةً وحَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وحَرُمَتِ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَرْأَةِ حُرُمًا وحُرْمًا، وحَرِمَتْ عليها "حَرَمًا وحَرامًا: لُغَةٌ فِي حَرُمَت.

الأَزهري: حَرُمَت الصَّلَاةُ عَلَى الْمَرْأَةِ تَحْرُمُ حُرومًا، وحَرُمَتِ المرأةُ عَلَى زَوْجِهَا تَحْرُمُ حُرْمًا وحَرامًا، وحَرُمَ عَلَيْهِ السَّحورُ حُرْمًا، وحَرِمَ لغةٌ.

والحَرامُ: مَا حَرَّم اللهُ.

والمُحَرَّمُ: الحَرامُ.

والمَحارِمُ: مَا حَرَّم اللهُ.

ومَحارِمُ الليلِ: مَخاوِفُه الَّتِي يَحْرُم عَلَى الجَبان أَن يَسْلُكَهَا؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي؛ وأَنشد:

مَحارِمُ اللَّيْلِ لهُنَّ بَهْرَجُ، ***حِينَ يَنَامُ الوَرَعُ المُحَرَّجُ

وَيُرْوَى: محارِمُ اللَّيْلِ أَي أَوائله.

وأَحْرَمَ الشَّيْءَ: جَعله حَرامًا.

والحَريمُ: مَا حُرِّمَ فَلَمْ يُمَسَّ.

والحَريمُ: مَا كَانَ المُحْرِمون يُلْقونه مِنَ الثِّيَابِ فَلَا يَلْبَسونه؛ قَالَ:

كَفى حَزَنًا كَرِّي عَلَيْهِ كأَنه ***لَقىً، بَيْنَ أَيْدي الطائفينَ، حَريمُ

الأَزهري: الحَريمُ الَّذِي حَرُمَ مَسُّهُ فَلَا يُدْنى مِنْهُ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا حَجَّت الْبَيْتَ تَخْلَعُ ثِيَابَهَا الَّتِي عَلَيْهَا إِذَا دَخَلُوا الحَرَمَ وَلَمْ يَلْبسوها مَا دَامُوا فِي الحَرَم؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: " لَقىً، بَيْنَ أَيدي الطائفينَ، حَريمُ "وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}؛ كَانَ أَهل الْجَاهِلِيَّةِ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُراةً وَيَقُولُونَ: لَا نَطُوفُ بِالْبَيْتِ فِي ثِيَابٍ قَدْ أَذْنَبْنا فِيهَا، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَطُوفُ عُرْيانَةً أَيضًا إِلّا أَنَّهَا كَانَتْ تَلْبَس رَهْطًا مِنْ سُيور؛ وَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْعَرَبِ:

اليومَ يَبْدو بعضُه أَو كلُّهُ، ***وَمَا بَدا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ

تَعْنِي فَرْجَهَا أَنه يَظْهَرُ مِنْ فُرَجِ الرَّهْطِ الَّذِي لَبِسَتْهُ، فأَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بَعْدَ ذِكْرِهِ عُقوبة آدمَ وَحَوَّاءَ بأَن بَدَتْ سَوْآتُهما بالاستتار فقال: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ؛ قَالَ الأَزهري: والتَّعَرِّي وظهور السوءة مَكْرُوهٌ، وَذَلِكَ مُذْ لَدُنْ آدَمَ.

والحَريمُ: ثَوْبُ المُحْرم، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَطُوفُ عُراةً وثيابُهم مطروحةٌ بَيْنَ أَيديهم فِي الطَّوَافِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَن عِياضَ بْنَ حِمار المُجاشِعيّ كَانَ حِرْميَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ إِذَا حَجَّ طَافَ فِي ثِيَابِهِ»؛ كَانَ أَشراف الْعَرَبِ الَّذِينَ يتَحَمَّسونَ عَلَى دِينِهِمْ أَي يتشدَّدون إِذَا حَج أَحَدُهُمْ لَمْ يَأْكُلْ إِلّا طعامَ رجلٍ مِنَ الحَرَم، وَلَمْ يَطُفْ إلَّا فِي ثِيَابِهِ فَكَانَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْ أَشرافهم رجلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَيَكُونُ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمَا حِرْمِيَّ صَاحِبَهُ، كَمَا يُقَالُ كَرِيٌّ للمُكْري والمُكْتَري، قَالَ: والنَّسَبُ فِي النَّاسِ إِلى الحَرَمِ حِرْمِيّ، بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ.

يُقَالُ: رَجُلٌ حِرْمِيّ، فَإِذَا كَانَ فِي غَيْرِ النَّاسِ قَالُوا ثَوْبٌ حَرَمِيّ.

وحَرَمُ مَكَّةَ: مَعْرُوفٌ وَهُوَ حَرَمُ اللَّهِ وحَرَمُ رَسُولِهِ.

والحَرَمانِ: مَكَّةُ والمدينةُ، وَالْجَمْعُ أَحْرامٌ.

وأَحْرَمَ القومُ: دَخَلُوا فِي الحَرَمِ.

وَرَجُلٌ حَرامٌ: دَاخِلٌ فِي الحَرَمِ، وَكَذَلِكَ الِاثْنَانِ وَالْجَمْعُ وَالْمُؤَنَّثُ، وَقَدْ جَمَعَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى حُرُمٍ.

وَالْبَيْتُ الحَرامُ وَالْمَسْجِدُ الحَرامُ وَالْبَلَدُ الحَرام.

وَقَوْمٌ حُرُمٌ ومُحْرِمون.

والمُحْرِمُ: الدَّاخِلُ فِي الشَّهْرِ الحَرام، والنَّسَبُ إِلَى الحَرَم حِرْمِيٌّ، والأُنثى حِرْمِيَّة، وَهُوَ مِنَ الْمَعْدُولِ الَّذِي يَأْتِي عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، قَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ امْرَأَةٌ حِرْمِيَّة وحُرْمِيَّة وأَصله مِنْ قَوْلِهِمْ: وحُرْمَةُ الْبَيْتِ وحِرْمَةُ الْبَيْتِ؛ قَالَ الأَعشى:

لَا تأوِيَنَّ لحِرْمِيّ مَرَرْتَ بِهِ، ***يَوْمًا، وإنْ أُلْقِيَ الحِرْميُّ فِي النَّارِ

وَهَذَا الْبَيْتُ أَورده ابْنُ سِيدَهْ فِي الْمُحْكَمِ، وَاسْتَشْهَدَ بِهِ ابْنُ بَرِّيٍّ فِي أَماليه عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، وَقَالَ: هَذَا الْبَيْتُ مُصَحَّف، وإِنما هُوَ:

لَا تَأوِيَنَّ لِجَرْمِيّ ظَفِرْتَ بِهِ، ***يَوْمًا، وإِن أُلْقِيَ الجَرْميُّ فِي النَّارِ

الباخِسينَ لِمَرْوانٍ بِذِي خُشُبٍ، ***والدَّاخِلين عَلَى عُثْمان فِي الدَّار

وَشَاهِدُ الحِرْمِيَّةِ قَوْلُ النَّابِغَةِ الذُّبْيَانِيِّ:

كادَتْ تُساقِطُني رَحْلي ومِيثَرَتي، ***بِذِي المَجازِ، وَلَمْ تَحْسُسْ بِهِ نَغَما

مِنْ قَوْلِ حِرْمِيَّةٍ قَالَتْ، وَقَدْ ظَعنوا: ***هَلْ فِي مُخْفِّيكُمُ مَنْ يَشْتَري أَدَما؟

وَقَالَ أَبو ذُؤَيْبٍ:

لَهُنَّ نَشيجٌ بالنَّشيلِ، كأَنها ***ضَرائرُ حِرْميّ تفاحشَ غارُها

قَالَ الأَصمعي: أَظنه عَنى بِهِ قُرَيْشًا، وَذَلِكَ لأَن أَهل الحَرَمِ أَول مَنِ اتَّخَذَ الضَّرَائِرَ، وَقَالُوا فِي الثَّوْبِ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ حَرَمِيّ، وَذَلِكَ لِلْفَرْقِ الَّذِي يُحَافِظُونَ عَلَيْهِ كَثِيرًا وَيَعْتَادُونَهُ فِي مِثْلِ هَذَا.

وَبَلَدٌ حَرامٌ وَمَسْجِدٌ حَرامٌ وَشَهْرٌ حَرَامٌ.

والأَشهُر الحُرُمُ أَربعة: ثَلَاثَةٌ سَرْدٌ أَي متتابِعة وَوَاحِدٌ فَرْدٌ، فالسَّرْدُ ذُو القَعْدة وَذُو الحِجَّة والمُحَرَّمُ، والفَرْدُ رَجَبٌ.

وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: {مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}؛ قَوْلُهُ مِنْها، يُرِيدُ الْكَثِيرَ، ثُمَّ قَالَ: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ لَمَّا كَانَتْ قَلِيلَةً.

والمُحَرَّمُ: شَهْرُ اللَّهِ، سَمَّتْه الْعَرَبُ بِهَذَا الِاسْمِ لأَنهم كَانُوا لَا يستَحلُّون فِيهِ الْقِتَالَ، وأُضيف إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِعظامًا لَهُ كَمَا قِيلَ لِلْكَعْبَةِ بَيْتُ اللَّهِ، وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لأَنه مِنَ الأَشهر الحُرُمِ؛ قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ.

الْجَوْهَرِيُّ: مِنَ الشُّهُورِ أَربعة حُرُمٌ كَانَتِ الْعَرَبُ لَا تَسْتَحِلُّ فِيهَا الْقِتَالَ إِلا حَيّان خَثْعَم وطَيِءٌ، فَإِنَّهُمَا كَانَا يستَحِلَّان الشُّهُورَ، وكان الذين يَنْسؤُون الشُّهُورَ أَيام الْمَوَاسِمِ يَقُولُونَ: حَرّمْنا عَلَيْكُمُ القتالَ فِي هَذِهِ الشُّهُورِ إلَّا دِمَاءَ المُحِلِّينَ، فَكَانَتِ الْعَرَبُ تَسْتَحِلُّ دِمَاءَهُمْ خَاصَّةً فِي هَذِهِ الشُّهُورِ، وَجَمْعُ المُحَرَّم مَحارِمُ ومَحاريمُ ومُحَرَّماتٌ.

الأَزهري: كَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي شَهْرَ رَجَبٍ الأَصَمَّ والمُحَرَّمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ وأَنشد شَمِرٌ قَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْر:

رَعَيْنَ المُرارَ الجَوْنَ مِنْ كُلِّ مِذْنَبٍ، ***شهورَ جُمادَى كُلَّها والمُحَرَّما

قَالَ: وأَراد بالمُحَرَّمِ رَجَبَ، وَقَالَ: قَالَهُ ابْنُ الأَعرابي؛ وَقَالَ الْآخَرُ:

أَقَمْنا بِهَا شَهْرَيْ ربيعٍ كِليهما، ***وشَهْرَيْ جُمادَى، واسْتَحَلُّوا المُحَرَّما

وَرَوَى الأَزهري بإِسناده عَنْ أُم بَكْرَةَ: أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فِي صِحَّته فَقَالَ: أَلا إنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ السموات والأَرض، السَّنَة اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَربعة حُرُمٌ، ثلاثةٌ مُتَوالِياتٌ: ذُو القَعْدة وَذُو الحِجَّة والمحَرَّمُ، ورَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمادَى وَشَعْبَانَ.

والمُحَرَّم: أَول الشُّهُورِ.

وحَرَمَ وأَحْرَمَ: دَخَلَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ؛ قَالَ:

وإذْ فَتَكَ النُّعْمانُ بِالنَّاسِ مُحْرِمًا، ***فَمُلِّئَ مِنْ عَوْفِ بْنِ كعبٍ سَلاسِلُهْ

فَقَوْلُهُ مُحْرِمًا لَيْسَ مِنْ إِحْرام الْحَجِّ، وَلَكِنَّهُ الدَّاخِلُ فِي الشَّهْرِ الحَرامِ.

والحُرْمُ، بِالضَّمِّ: الإِحْرامُ بِالْحَجِّ.

وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ، رَضِيَ الله عنها: «كُنْتُ أُطَيِّبُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحِلِّهِ ولِحُرْمِه»أَي عِنْدَ إِحْرامه؛ الأَزهري: الْمَعْنَى أَنها كَانَتْ تُطَيِّبُه إِذَا اغْتسل وأَراد الإِحْرام والإِهْلالَ بِمَا يَكُونُ بِهِ مُحْرِمًا مِنْ حَجٍّ أَو عُمْرَةٍ، وَكَانَتْ تُطَيِّبُه إِذَا حَلّ مِنْ إِحْرامه؛ الحُرْمُ، بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ: الإِحْرامُ بِالْحَجِّ، وَبِالْكَسْرِ: الرَّجُلُ المُحْرِمُ؛ يُقَالُ: أَنتَ حِلّ وأَنت حِرْمٌ.

والإِحْرامُ: مَصْدَرُ أَحْرَمَ الرجلُ يُحْرِمُ إِحْرامًا إِذَا أَهَلَّ بِالْحَجِّ أَو الْعُمْرَةِ وباشَرَ أَسبابهما وَشُرُوطَهُمَا مِنْ خَلْع المَخِيط، وأَن يَجْتَنِبَ الأَشياء الَّتِي مَنَعَهُ الشَّرْعُ مِنْهَا كَالطِّيبِ وَالنِّكَاحِ وَالصَّيْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، والأَصل فِيهِ المَنْع، فكأَنَّ المُحْرِم مُمْتَنِعٌ مِنْ هَذِهِ الأَشياء.

وَمِنْهُ حَدِيثُ" الصَّلَاةِ: تَحْرِيمُها التَّكْبِيرُ "، كأَن الْمُصَلِّيَ بِالتَّكْبِيرِ وَالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ صَارَ مَمْنُوعًا مِنَ الْكَلَامِ والأَفعال الْخَارِجَةِ عَنْ كَلَامِ الصَّلَاةِ وأَفعالِها، فَقِيلَ لِلتَّكْبِيرِ تَحْرِيمٌ لِمَنْعِهِ الْمُصَلِّيَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ تكبيرَة الإِحْرام أَي الإِحرام بِالصَّلَاةِ.

والحُرْمَةُ: مَا لَا يَحِلُّ لَكَ انْتِهَاكُهُ، وَكَذَلِكَ المَحْرَمَةُ والمَحْرُمَةُ، بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا؛ يُقَالُ: إِنَّ لِي مَحْرُماتٍ فَلَا تَهْتِكْها، وَاحِدَتُهَا مَحْرَمَةٌ ومَحْرُمَةٌ، يُرِيدُ أَنَّ لَهُ حُرُماتٍ.

والمَحارِمُ: مَا لَا يَحِلُّ اسْتِحْلَالُهُ.

وَفِي حَدِيثِ الحُدَيْبية: «لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يعَظِّمون فِيهَا حُرُماتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطيتُهم إِياها»؛ الحُرُماتُ جَمْعُ حُرْمَةٍ كظُلْمَةٍ وظُلُماتٍ؛ يُرِيدُ حُرْمَةَ الحَرَمِ، وحُرْمَةَ الإِحْرامِ، وحُرْمَةَ الشَّهْرِ الْحَرَامِ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ}؛ قَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ مَا وَجَبَ القيامُ بِهِ وحَرُمَ التفريطُ فِيهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الحُرُماتُ مَكَّةُ وَالْحَجُّ والعُمْرَةُ وَمَا نَهَى اللَّهُ مِنْ مَعَاصِيهِ كُلِّهَا، وَقَالَ عَطَاءٌ: حُرُماتُ اللَّهِ مَعَاصِي اللَّهِ.

وَقَالَ اللَّيْثُ: الحَرَمُ حَرَمُ مَكَّةَ وَمَا أَحاط إِلى قريبٍ مِنَ الحَرَمِ، قَالَ الأَزهري: الحَرَمُ قَدْ ضُرِبَ عَلَى حُدوده بالمَنار الْقَدِيمَةِ الَّتِي بَيَّنَ خليلُ اللَّهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مشَاعِرَها وَكَانَتْ قُرَيْش تَعْرِفُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ والإِسلام لأَنهم كانوا سُكان الحَرَمِ، ويعملون أَن مَا دُونَ المَنارِ إِلى مَكَّةَ مِنَ الحَرَمِ وَمَا وَرَاءَهَا لَيْسَ مِنَ الحَرَمِ، وَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقرَّ قُرَيْشًا عَلَى مَا عَرَفُوهُ مِنْ ذَلِكَ، " وَكَتَبَ مَعَ ابْنِ مِرْبَعٍ الأَنصاري إِلَى قُرَيْشٍ: أَن قِرُّوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ فَإِنَّكُمْ عَلَى إرْثٍ مِنْ إرْثِ إِبْرَاهِيمَ، فَمَا كَانَ دُونَ الْمَنَارِ، فَهُوَ حَرَم لَا يَحِلُّ صَيْدُهُ وَلَا يُقْطَع شَجَرُهُ، وَمَا كَانَ وَرَاءَ المَنار، فَهُوَ مِنَ الحِلّ يحِلُّ صَيْدُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ صَائِدُهُ مُحْرِمًا.

قَالَ: فإِن قَالَ قَائِلٌ مِنَ المُلْحِدين فِي قَوْلِهِ تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}؛ كَيْفَ يَكُونُ حَرَمًا آمِنًا وَقَدْ أُخِيفوا وقُتلوا فِي الحَرَمِ؟ فَالْجَوَابُ فِيهِ أَنه عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَهُ حَرَمًا آمِنًا أَمرًا وتَعَبُّدًا لَهُمْ بِذَلِكَ لَا إِخبارًا، فَمَنْ آمَنَ بِذَلِكَ كَفَّ عَمَّا نُهِي عَنْهُ اتِّبَاعًا وَانْتِهَاءً إِلى مَا أُمِرَ بِهِ، وَمَنْ أَلْحَدَ وأَنكر أَمرَالحَرَمِ وحُرْمَتَهُ فَهُوَ كَافِرٌ مباحُ الدمِ، وَمَنْ أَقَرَّ وَرَكِبَ النهيَ فَصَادَ صَيْدَ الْحَرَمِ وَقَتَلَ فِيهِ فَهُوَ فَاسِقٌ وَعَلَيْهِ الكفَّارة فِيمَا قَتَلَ مِنَ الصَّيْدِ، فإِن عَادَ فإِن اللَّهَ يَنْتَقِمُ مِنْهُ.

وأَما الْمَوَاقِيتُ الَّتِي يُهَلُّ مِنْهَا لِلْحَجِّ فَهِيَ بَعِيدَةٌ مِنْ حُدُودِ الحَرَمِ، وَهِيَ مِنَ الْحِلِّ، وَمَنْ أَحْرَمَ مِنْهَا بِالْحَجِّ فِي الأَشهر الحُرُمِ فَهُوَ مُحْرِمٌ مأْمور بِالِانْتِهَاءِ مَا دَامَ مُحْرِمًا عَنِ الرَّفَثِ وَمَا وراءَه مِنْ أَمر النِّسَاءِ، وَعَنِ التَّطَيُّبِ بالطيبِ، وَعَنْ لُبْس الثَّوْبِ المَخيط، وَعَنْ صَيْدِ الصَّيْدِ؛ وَقَالَ اللَّيْثُ فِي قَوْلِ الأَعشى: " بأَجْيادِ غَرْبيِّ الصَّفا والمُحَرَّمِ "قَالَ: المُحَرَّمُ هُوَ الحَرَمُ.

وَتَقُولُ: أَحْرَمَ الرجلُ، فَهُوَ مُحْرِمٌ وحَرامٌ، وَرَجُلٌ حَرامٌ أَي مُحْرِم، وَالْجَمْعُ حُرُم مِثْلُ قَذالٍ وقُذُلٍ، وأَحْرَم بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لأَنه يَحْرُم عَلَيْهِ مَا كَانَ لَهُ حَلالًا مِنْ قبلُ كَالصَّيْدِ وَالنِّسَاءِ.

وأَحْرَمَ الرجلُ إِذا دَخَلَ فِي الإِحْرام بالإِهلال، وأَحْرَمَ إِذا صَارَ فِي حُرَمِه مِنْ عَهْدٍ أَو مِيثَاقٍ هُوَ لَهُ حُرْمَةٌ مِنْ أَن يُغار عَلَيْهِ؛ وأَما قَوْلُ أُحَيْحَة أَنشده ابْنُ الأَعرابي:

قَسَمًا، مَا غيرَ ذِي كَذِبٍ، ***أَن نُبيحَ الخِدْن والحُرَمَه

قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: فَإِنِّي أَحسب الحُرَمَةَ لُغَةً فِي الحُرْمَةِ، وأَحسن مِنْ ذَلِكَ أَن يَقُولَ والحُرُمَة، بِضَمِّ الرَّاءِ، فَتَكُونَ من باب طُلْمة وظُلُمَةٍ، أَو يَكُونَ أَتبع الضَّمَّ الضَّمَّ لِلضَّرُورَةِ كَمَا أَتْبَعَ الأَعشى الْكَسْرَ الْكَسْرَ أَيضًا فَقَالَ:

أَذاقَتْهُمُ الحَرْبُ أَنْفاسَها، ***وَقَدْ تُكْرَهُ الحربُ بَعْدَ السِّلِمْ

إِلَّا أَن قَوْلَ الأَعشى قَدْ يَجُوزُ أَن يَتَوَجَّه عَلَى الْوَقْفِ كَمَا حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بالعِدِلْ.

وحُرَمُ الرجلِ: عِيَالُهُ وَنِسَاؤُهُ وَمَا يَحْمِي، وَهِيَ المَحارِمُ، وَاحِدَتُهَا مَحْرَمَةٌ ومَحْرُمة.

ورَحِمٌ مَحْرَمٌ: مُحَرَّمٌ تَزْويجُها؛ قَالَ:

وجارةُ البَيْتِ أَراها مَحْرَمَا ***كَمَا بَراها اللَّهُ، إِلا إِنما

مكارِهُ السَّعْيِ لِمَنْ تَكَرَّمَا "كَمَا بَراها اللَّهُ أَي كَمَا جَعَلَهَا.

وَقَدْ تَحَرَّمَ بصُحْبته؛ والمَحْرَمُ: ذَاتُ الرَّحِم فِي الْقَرَابَةِ أَي لَا يَحِلُّ تَزْوِيجُهَا، تَقُولُ: هُوَ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَهِيَ ذاتُ رَحِمٍ مَحْرَمٍ؛ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ هُوَ ذُو رَحِمٍ مِنْهَا إِذا لَمْ يَحِلَّ لَهُ نكاحُها.

وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تُسَافِرِ امْرَأَةٌ إِلا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ مِنْهَا، وَفِي رِوَايَةٍ: مَعَ ذِي حُرْمَةٍ مِنْهَا»؛ ذُو المَحْرَمِ: مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا مِنَ الأَقارب كالأَب وَالِابْنِ وَالْعَمِّ وَمَنْ يَجْرِي مَجْرَاهُمْ.

والحُرْمَة: الذِّمَّةُ.

وأَحْرَمَ الرجلُ، فَهُوَ مُحْرِمٌ إِذا كَانَتْ لَهُ ذِمَّةٌ؛ قَالَ الرَّاعِي:

قَتَلوا ابنَ عَفّان الخليفةَ مُحْرِمًا، ***ودَعا فَلَمْ أَرَ مثلَهُ مَقْتولا

وَيُرْوَى: مَخْذولا، وَقِيلَ: أَراد بِقَوْلِهِ مُحْرِمًا أَنهم قَتَلُوهُ فِي آخِرِ ذِي الحِجَّةِ؛ وَقَالَ أَبو عَمْرٍو: أَي صَائِمًا.

وَيُقَالُ: أَراد لَمْ يُحِلَّ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا يوقِعُ بِهِ فَهُوَ مُحْرِمٌ.

الأَزهري: رَوَى شَمِرٌ لعُمَرَ أَنه قَالَ الصِّيَامُ إِحْرامٌ "، قَالَ: وإِنما قَالَ الصيامُ إِحْرام لَامْتِنَاعِ الصَّائِمِ مِمَّا يَثْلِمُ صيامَه، وَيُقَالُ لِلصَّائِمِ أَيضًا مُحْرِمٌ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: لَيْسَ مُحْرِمًا فِي بَيْتِ الرَّاعِي مِنَ الإِحْرام وَلَا مِنَ الدُّخُولِ فِي الشَّهْرِ الحَرام، قَالَ: وإِنما هُوَ مِثْلُ الْبَيْتِ الَّذِي قَبْلَهُ، وإِنما" يُرِيدُ أَن عُثْمَانَ فِي حُرْمةِ الإِسلام وذِمَّته لَمْ يُحِلَّ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا يُوقِعُ بِهِ، وَيُقَالُ لِلْحَالِفِ مُحْرِمٌ لتَحَرُّمِه بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَسَنِ فِي الرَّجُلِ يُحْرِمُ فِي الْغَضَبِ "أَي يَحْلِفُ؛ وَقَالَ الْآخَرُ:

قَتَلُوا كِسْرى بليلٍ مُحْرِمًا، ***غادَرُوه لَمْ يُمَتَّعْ بكَفَنْ

يُرِيدُ: قَتَلَ شِيرَوَيْهِ أَباه أَبْرَوَيْز بنَ هُرْمُزَ.

الأَزهري: الحُرْمة المَهابة، قَالَ: وإِذا كَانَ بالإِنسان رَحِمٌ وَكُنَّا نَسْتَحِي مِنْهُ قُلْنَا: لَهُ حُرْمَةٌ، قَالَ: وَلِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حُرْمةٌ ومَهابةٌ.

قَالَ أَبو زَيْدٍ: يُقَالُ هُوَ حُرْمَتُك وَهُمْ ذَوو رَحِمِه وجارُه ومَنْ يَنْصره غَائِبًا وَشَاهِدًا وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقُّه.

وَيُقَالُ: أَحْرَمْت عَنِ الشَّيْءِ إِذا أَمسكتَ عَنْهُ، وَذَكَرَ أَبو الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيُّ عَنِ الْيَزِيدِيِّ أَنه قَالَ: سَأَلْتُ عَمِّي عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كلُّ مُسْلم عَنْ مُسْلِمٍ مُحْرِمٌ، قَالَ: المُحْرِمُ الْمُمْسِكُ "، مَعْنَاهُ أَن الْمُسْلِمَ مُمْسِكٌ عَنْ مَالِ الْمُسْلِمِ وعِرْضِهِ ودَمِهِ؛ وأَنشد لمِسْكين الدَّارِمِيِّ:

أَتتْني هَناتٌ عَنْ رجالٍ، كأَنها ***خَنافِسُ لَيْلٍ لَيْسَ فِيهَا عَقارِبُ

أَحَلُّوا عَلَى عِرضي، وأَحْرَمْتُ عنهُمُ، ***وَفِي اللهِ جارٌ لَا ينامُ وطالِبُ

قَالَ: وأَنشد الْمُفَضَّلُ لأَخْضَرَ بْنِ عَبَّاد المازِنيّ جَاهِلِيٌّ:

لَقَدْ طَالَ إِعْراضي وصَفْحي عَنِ الَّتِي ***أُبَلَّغُ عنْكم، والقُلوبُ قُلوبُ

وَطَالَ انْتِظاري عَطْفَةَ الحِلْمِ عنكمُ ***ليَرْجِعَ وُدٌّ، والمَعادُ قريبُ

ولستُ أَراكُمْ تُحْرِمونَ عَنِ الَّتِي ***كرِهْتُ، وَمِنْهَا فِي القُلوب نُدُوبُ

فَلَا تأمَنُوا مِنّي كَفاءةَ فِعْلِكُمْ، ***فيَشْمَتَ قِتْل أَو يُساءَ حبيبُ

ويَظْهَرَ مِنًّا فِي المَقالِ ومنكُمُ، ***إِذا مَا ارْتَمَيْنا فِي المَقال، عُيوبُ

وَيُقَالُ: أَحْرَمْتُ الشَّيْءَ بِمَعْنَى حَرَّمْتُه؛ قَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ:

إِلى شَجَرٍ أَلْمَى الظِّلالِ، كَأَنَّهَا ***رواهِبُ أَحْرَمْنَ الشَّرابَ عُذُوبُ

قَالَ: وَالضَّمِيرُ فِي كَأَنَّهَا يَعُودُ عَلَى رِكابٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا.

وتَحَرَّم مِنْهُ بحُرْمَةٍ: تَحَمّى وتَمَنَّعَ.

وأَحْرَمَ القومُ إِذا دَخَلُوا فِي الشَّهْرِ الحَرامِ؛ قَالَ زُهَيْرٌ:

جَعَلْنَ القَنانَ عَنْ يَمينٍ وحَزْنَهُ، ***وَكَمْ بالقَنانِ مِنْ مُحِلّ ومُحْرِمِ

وأَحْرَمَ الرجلُ إِذا دَخَلَ فِي حُرْمة لَا تُهْتَكُ؛ وأَنشد بَيْتَ زُهَيْرٍ: " وَكَمْ بالقنانِ مِنْ مُحِلّ ومُحْرِمِ "أَيْ مِمَّنْ يَحِلُّ قتالُه وَمِمَّنْ لَا يَحِلُّ ذَلِكَ مِنْهُ.

والمُحْرِمُ: المُسالمُ؛ عَنِ ابْنِ الأَعرابي، فِي قَوْلِ خِداش بْنُ زُهَيْرٍ:

إِذا مَا أصابَ الغَيْثُ لَمْ يَرْعَ غَيْثَهمْ، ***مِنَ النَّاسِ، إِلا مُحْرِمٌ أَو مُكافِلُ

هَكَذَا أَنشده: أَصاب الغَيْثُ، بِرَفْعِ الْغَيْثِ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وأَراها لُغَةً فِي صابَ أَو عَلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ "كَأَنَّهُ إِذا أَصابَهُم الغَيثُ أَو أَصاب الْغَيْثُ بلادَهُم فأَعْشَبَتْ؛ وأَنشده مَرَّةً أُخرى: " إِذا شَرِبوا بالغَيْثِ "والمُكافِلُ: المُجاوِرُ المُحالِفُ، والكَفيلُ مِنْ هَذَا أُخِذَ.

وحُرْمَةُ الرَّجُلِ: حُرَمُهُ وأَهله.

وحَرَمُ الرَّجُلِ وحَريمُه: مَا يقاتِلُ عَنْهُ ويَحْميه، فَجَمْعُ الحَرَم أَحْرامٌ، وَجَمْعُ الحَريم حُرُمٌ.

وَفُلَانٌ مُحْرِمٌ بِنَا أَي فِي حَريمنا.

تَقُولُ: فُلَانٌ لَهُ حُرْمَةٌ أَي تَحَرَّمَ بِنَا بصحبةٍ أَو بِحَقٍّ وذِمَّةِ.

الأَزهري: والحَريمُ قَصَبَةُ الدارِ، والحَريمُ فِناءُ الْمَسْجِدِ.

وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ وَاصِلٍ الْكِلَابِيِّ: حَريم الدَّارِ مَا دَخَلَ فِيهَا مِمَّا يُغْلَقُ عَلَيْهِ بابُها وَمَا خَرَجَ مِنْهَا فَهُوَ الفِناءُ، قَالَ: وفِناءُ البَدَوِيِّ مَا يُدْرِكُهُ حُجْرَتُه وأَطنابُهُ، وَهُوَ مِنَ الحَضَرِيّ إِذا كَانَتْ تُحَاذِيهَا دَارٌ أُخرى، ففِناؤُهما حَدُّ مَا بَيْنَهُمَا.

وحَريمُ الدَّارِ: مَا أُضيف إِلَيْهَا وَكَانَ مِنْ حُقُوقِهَا ومَرافِقها.

وحَريمُ الْبِئْرِ: مُلْقى النَّبِيثَة والمَمْشى عَلَى جَانِبَيْهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ الصِّحَاحُ: حَريم الْبِئْرِ وَغَيْرِهَا مَا حَوْلَهَا مِنْ مَرافقها وحُقوقها.

وحَريمُ النَّهْرِ: مُلْقى طِينِهِ والمَمْشى عَلَى حَافَّتَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «حَريمُ الْبِئْرِ أَربعون ذِرَاعًا»، هُوَ الْمَوْضِعُ الْمُحِيطُ بِهَا الَّذِي يُلْقى فِيهِ ترابُها أَي أَن الْبِئْرَ الَّتِي يَحْفِرُهَا الرَّجُلُ فِي مَواتٍ فَحريمُها لَيْسَ لأَحد أَن يَنْزِلَ فِيهِ وَلَا يُنَازِعَهُ عَلَيْهَا، وَسُمِّيَ بِهِ لأَنه يَحْرُمُ مَنْعُ صَاحِبِهِ مِنْهُ أَو لأَنه مُحَرَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ التصرفُ فِيهِ.

الأَزهري: الحِرْمُ الْمَنْعُ، والحِرْمَةُ الحِرْمان، والحِرْمانُ نَقيضه الإِعطاء والرَّزْقُ.

يُقَالُ: مَحْرُومٌ ومَرْزوق.

وحَرَمهُ الشيءَ يَحْرِمُهُ وحَرِمَهُ حِرْمانًا وحِرْمًا وحَريمًا وحِرْمَةً وحَرِمَةً وحَريمةً، وأَحْرَمَهُ لغةٌ لَيْسَتْ بِالْعَالِيَةِ، كُلُّهُ: مَنَعَهُ الْعَطِيَّةَ؛ قَالَ يَصِفُ امْرَأَةً:

وأُنْبِئْتُها أَحْرَمَتْ قومَها ***لتَنْكِحَ فِي مَعْشَرٍ آخَرِينا

أَي حَرَّمَتْهُم عَلَى نَفْسِهَا.

الأَصمعي: أَحْرَمَتْ قَوْمَهَا أَي حَرَمَتْهُم أَن يَنْكِحُوهَا.

وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه قَالَ: كُلُّ مُسلمٍ عَنْ مُسْلِمٍ مُحْرِمٌ أَخَوانِ نَصيرانِ "؛ قَالَ أَبو الْعَبَّاسِ: قَالَ ابْنُ الأَعرابي يُقَالُ إِنَّهُ لمُحْرِمٌ عَنْكَ أَي يُحَرِّمُ أَذاكَ عَلَيْهِ؛ قَالَ الأَزهري: وَهَذَا بِمَعْنَى الْخَبَرِ، أَراد أَنه يَحْرُمُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَن يُؤْذي صاحبَهُ لحُرْمة الإِسلام المانِعَتِه عَنْ ظُلْمِه.

وَيُقَالُ: مُسلم مُحْرِمٌ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُحِلَّ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا يُوقِعُ بِهِ، يُرِيدُ أَن الْمُسْلِمَ مُعْتَصِمٌ بالإِسلام مُمْتَنِعٌ بحُرْمتِهِ مِمَّنْ أَراده وأَراد مَالَهُ.

والتَّحْرِيمُ: خِلَافُ التَّحْليل.

وَرَجُلٌ مَحْروم: مَمْنُوعٌ مِنَ الْخَيْرِ.

وَفِي التَّهْذِيبِ: المَحْروم الَّذِي حُرِمَ الخيرَ حِرْمانًا.

وَقَوْلُهُ تعالى: {فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}؛ قِيلَ: المَحْروم الَّذِي لَا يَنْمِي لَهُ مَالٌ، وَقِيلَ أَيضًا: إِنه المُحارِفُ الَّذِي لَا يَكَادُ يَكْتَسِبُ.

وحَرِيمةُ الربِّ: الَّتِي يَمْنَعُهَا مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ.

وأَحْرَمَ الرجلَ: قَمَرَه، وحَرِمَ فِي اللُّعبة يحْرَمُ حَرَمًا: قُمِرَ وَلَمْ يَقْمُرْ هُوَ؛ وأَنشد: " ورَمَى بسَهْمِ حَريمةٍ لَمْ يَصْطَدِ ويُخَطُّ خَطٌّ فَيَدْخُلُ فِيهِ غِلمان وَتَكُونُ عِدَّتُهُمْ فِي خَارِجٍ مِنَ الخَطّ فيَدْنو هَؤُلَاءِ من الخط ويصافحُ "أَحدُهم صاحبَهُ، فإِن مسَّ الداخلُ الخارجَ فَلَمْ يَضْبُطْهُ الداخلُ قِيلَ لِلدَّاخِلِ: حَرِمَ وأَحْرَمَ الخارِجُ الداخلَ، وإِن ضَبَطَهُ الداخلُ فَقَدْ حَرِمَ الخارِجُ وأَحْرَمَه الداخِلُ.

وحَرِمَ الرجلُ حَرمًا: لَجَّ ومَحَكَ.

وحَرِمَت المِعْزَى وغيرُها مِنْ ذَوَاتِ الظِّلْف حِرامًا واسْتحْرَمَتْ: أَرادت الْفَحْلَ، وَمَا أَبْيَنَ حِرْمَتَها، وَهِيَ حَرْمَى، وَجَمْعُهَا حِرامٌ وحَرامَى، كُسِّرَ عَلَى مَا يُكَسَّرُ عَلَيْهِ فَعْلَى الَّتِي لَهَا فَعْلانُ نَحْوُ عَجْلان وعَجْلَى وغَرْثان وغَرْثى، وَالِاسْمُ الحَرَمةُ والحِرمةُ؛ الأَول عَنِ اللِّحْيَانِيِّ، وَكَذَلِكَ الذِّئْبَةُ وَالْكَلْبَةُ وَأَكْثَرُهَا فِي الْغَنَمِ، وَقَدْ حُكِيَ ذَلِكَ فِي الإِبل.

وَجَاءَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ: «الَّذِينَ تَقُومُ عَلَيْهِمُ الساعةُ تُسَلَّطُ عَلَيْهِمُ الحِرْمَةُ» أَي الغُلْمَةُ ويُسْلَبُون الحياءَ، فاسْتُعْمِل فِي ذُكُورِ الأَناسِيِّ، وَقِيلَ: الاسْتِحْرامُ لِكُلِّ ذَاتِ ظِلْفٍ خَاصَّةً.

والحِرْمَةُ، بِالْكَسْرِ: الغُلْمةُ.

قَالَ ابْنُ الأَثير: وَكَأَنَّهَا بِغَيْرِ الْآدَمِيِّ مِنَ الْحَيَوَانِ أَخَصُّ.

وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ آدَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَنَّهُ اسْتَحْرَمَ بَعْدَ مَوْتِ ابْنِهِ مائةَ سنةٍ لَمْ يَضْحَكْ»؛ هُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَحْرَمَ الرجلُ إِذا دَخَلَ فِي حُرْمَةٍ لَا تهْتَكُ، قَالَ: وَلَيْسَ مِنِ اسْتِحْرام الشاة.

الجوهري: والحِرْمةُ فِي الشَّاءِ كالضَّبْعَةِ فِي النُّوقِ، والحِنَاء فِي النِّعاج، وَهُوَ شَهْوَةُ البِضاع؛ يُقَالُ: اسْتَحْرَمَت الشاةُ وَكُلُّ أُنثى مِنْ ذَوَاتِ الظِّلْفِ خَاصَّةً إِذا اشْتَهَتِ الْفَحْلَ.

وَقَالَ الأُمَوِيُّ: اسْتَحْرَمتِ الذِّئبةُ والكلبةُ إِذا أَرادت الْفَحْلَ.

وَشَاةٌ حَرْمَى وَشِيَاهٌ حِرامٌ وحَرامَى مِثْلُ عِجالٍ وعَجالى، كأَنه لَوْ قِيلَ لمذكَّرِهِ لَقِيل حَرْمانُ، قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: فَعْلَى مُؤَنَّثَةُ فَعْلان قَدْ تُجْمَعُ عَلَى فَعالَى وفِعالٍ نَحْوُ عَجالَى وعِجالٍ، وأَما شَاةٌ حَرْمَى فَإِنَّهَا، وإِن لَمْ يُسْتَعْمَلْ لَهَا مذكَّر، فَإِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ مَا قَدِ اسْتُعْمِلَ لأَن قِيَاسَ الْمُذَكَّرِ مِنْهُ حَرْمانُ، فَلِذَلِكَ قَالُوا فِي جَمْعِهِ حَرامَى وحِرامٌ، كَمَا قَالُوا عَجالَى وعِجالٌ.

والمُحَرَّمُ مِنَ الإِبل مِثْلُ العُرْضِيِّ: وَهُوَ الذَلُول الوَسَط الصعبُ التَّصَرُّفِ حِينَ تصَرُّفِه.

وَنَاقَةٌ مُحَرَّمةٌ: لَمْ تُرَضْ؛ قَالَ الأَزهري: سَمِعْتُ الْعَرَبَ تَقُولُ نَاقَةٌ مُحَرَّمَةُ الظهرِ إِذا كَانَتْ صَعْبَةً لَمْ تُرَضْ وَلَمْ تُذَلَّلْ، وَفِي الصِّحَاحِ: نَاقَةٌ مُحَرَّمةٌ أَي لَمْ تَتِمَّ رياضتُها بَعْدُ.

وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: «إِنه أَراد البَداوَة فأَرسل إليَّ نَاقَةً مُحَرَّمةً»؛ هِيَ الَّتِي لَمْ تُرْكَبْ وَلَمْ تُذَلَّل.

والمُحَرَّمُ مِنَ الْجُلُودِ: مَا لَمْ يُدْبَغْ أَو دُبغ فَلَمْ يَتَمَرَّن وَلَمْ يُبَالِغْ، وجِلد مُحَرَّم: لَمْ تَتِمَّ دِباغته.

وَسَوْطٌ مُحَرَّم: جَدِيدٌ لَمْ يُلَيَّنْ بعدُ؛ قَالَ الأَعشى:

تَرَى عينَها صَغْواءَ فِي جنبِ غَرْزِها، ***تُراقِبُ كَفِّي والقَطيعَ المُحَرَّما

وَفِي التَّهْذِيبِ: فِي جَنْبِ مُوقِهَا تُحاذر كفِّي؛ أَراد بالقَطيع سَوْطَهُ.

قَالَ الأَزهري: وَقَدْ رأَيت الْعَرَبَ يُسَوُّون سياطَهم مِنْ جُلُودِ الإِبل الَّتِي لَمْ تُدْبَغْ، يَأْخُذُونَ الشَّريحة الْعَرِيضَةَ فَيَقْطَعُونَ مِنْهَا سُيورًا عِراضًا وَيَدْفِنُونَهَا فِي الثَّرَى، فإِذا نَدِيَتْ وَلَانَتْ جَعَلُوا مِنْهَا أَربع قُوىً، ثُمَّ فَتَلُوهَا ثُمَّ علَّقوها مِنْ شِعْبَي خشبةٍ يَرْكُزونها فِي الأَرض فتُقِلُّها مِنَ الأَرض مَمْدُودَةً وَقَدْ أَثقلوها حَتَّى تَيَبَّسَ.

وَقَوْلُهُ تعالى: {وحِرْم عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنهم لَا يَرْجِعُونَ}؛ رَوَى قَتادةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ واجبٌ عَلَيْهَا إِذا هَلَكَتْ أَن لَا تُرْجَعُ إِلى دُنْياها؛ وَقَالَ أَبو مُعاذٍ النَّحْوِيُّ: بَلَغَنِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنه قرأَها" وحَرمَ عَلَى قَرْيَةٍ أَي وَجَب عَلَيْهَا، قَالَ: وحُدِّثْت عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنه قرأَها: وحِرْمٌ على قَرْيَةٍ أَهلكناها "؛ فَسُئِلَ عَنْهَا فَقَالَ: عَزْمٌ عَلَيْهَا.

وَقَالَ أَبو إِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ تعالى: {وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها}؛ يَحْتَاجُ هَذَا إِلى تَبْيين فَإِنَّهُ لَمْ يُبَيَّنْ، قَالَ: وَهُوَ، وَاللَّهُ أَعلم، أَن اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا قَالَ: فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ، أَعْلَمنا أَنه قَدْ حَرَّمَ أَعْمَالَ الْكُفَّارِ، فَالْمَعْنَى حَرامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهلكناها أَن يُتَقَبَّل مِنْهُمْ عَمَلٌ، لأَنهم لَا يَرْجِعُونَ أَي لَا يَتُوبُونَ؛ وَرُوِيَ أَيضًا" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنه قَالَ فِي قَوْلِهِ: وحِرْمٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهلكناها، قَالَ: واجبٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهلكناها أَنه لَا يَرْجِعُ مِنْهُمْ رَاجِعٌ "أَي لَا يَتُوبُ مِنْهُمْ تَائِبٌ؛ قَالَ الأَزهري: وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ، وَرَوَى الْفَرَّاءُ بإِسناده" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وحِرْمٌ "؛ قَالَ الْكِسَائِيُّ: أَي وَاجِبٌ، قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: إِنما تَأَوَّلَ الْكِسَائِيُّ وَحَرامٌفِي الْآيَةِ بِمَعْنَى وَاجِبٍ، لِتَسْلَمَ لَهُ لَا مِنَ الزِّيَادَةِ فَيَصِيرَ الْمَعْنَى عِنْدَهُ واجبٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهلكناها أَنهم لَا يَرْجِعُونَ، وَمِنْ جَعَلَ حَرامًا بِمَعْنَى الْمَنْعِ جَعَلَ لَا زَائِدَةً تَقْدِيرُهُ وحَرامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهلكناها أَنهم يَرْجِعُونَ، وَتَأْوِيلُ الْكِسَائِيِّ هُوَ تأْويل ابْنِ عَبَّاسٍ؛ وَيُقَوِّي قَوْلَ الْكِسَائِيِّ إِن حَرام فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى وَاجِبٌ قولُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُمانَةَ المُحاربيّ جَاهِلِيٌّ:

فإِنَّ حَرامًا لَا أَرى الدَّهْرَ باكِيًا ***عَلَى شَجْوِهِ، إِلَّا بَكَيْتُ عَلَى عَمْرو

وَقَرَأَ أَهل الْمَدِينَةِ وَحَرامٌ "، قَالَ الْفَرَّاءُ: وحَرامٌ أَفشى فِي الْقِرَاءَةِ.

وحَرِيمٌ: أَبو حَيّ.

وحَرامٌ: اسْمٌ.

وَفِي الْعَرَبِ بُطون يُنْسَبُونَ إِلى آلِ حَرامٍ بَطْنٌ من بني تميم وبَطْنٌ فِي جُذام وَبَطْنٌ فِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ.

وحَرامٌ: مَوْلَى كُلَيْبٍ.

وحَريمةُ: رَجُلٌ مِنْ أَنجادهم؛ قَالَ الكَلْحَبَةُ اليَرْبوعيّ:

فأَدْرَكَ أَنْقاءَ العَرَادةِ ظَلْعُها، ***وَقَدْ جَعَلَتْني مِنْ حَريمةَ إِصْبَعا

وحَرِمٌ: اسْمُ مَوْضِعٌ؛ قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:

حَيِّ دارَ الحَيِّ لَا حَيَّ بِهَا، ***بِسِخالٍ فأُثالٍ فَحَرِمْ

والحَيْرَمُ: الْبَقَرُ، وَاحِدَتُهَا حَيْرَمة؛ قَالَ ابْنُ أَحمر: " تَبَدَّلَ أُدْمًا مِنْ ظِباءٍ وحَيْرَما قَالَ الأَصمعي: لَمْ نَسْمَعْ الحَيْرَمَ إِلا فِي شِعْرِ ابْنِ أَحمر، وَلَهُ نَظَائِرُ مَذْكُورَةٌ فِي مَوَاضِعِهَا.

قَالَ ابْنُ جِنِّي: والقولُ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَنَحْوِهَا وجوبُ قَبُولِهَا، وَذَلِكَ لِمَا ثبتتْ بِهِ الشَّهادةُ مِنْ فَصاحة ابْنِ أَحمر، فإِما أَن يَكُونَ شَيْئًا أَخذه عَمَّنْ نَطَقَ بِلُغَةٍ قَدِيمَةٍ لَمْ يُشارَكْ فِي سَمَاعِ ذَلِكَ مِنْهُ، عَلَى حَدِّ مَا قُلْنَاهُ فِيمَنْ خَالَفَ الْجَمَاعَةَ، وَهُوَ فَصِيحٌ كَقَوْلِهِ فِي الذُّرَحْرَح الذُّرَّحْرَحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وإِما أَن يَكُونَ شَيْئًا ارْتَجَلَهُ ابْنُ أَحمر، فإِن الأَعرابي إِذا قَوِيَتْ فصاحتُه وسَمَتْ طبيعتُه تصرَّف وَارْتَجَلَ مَا لَمْ يَسْبِقْهُ أَحد قَبْلَهُ، فَقَدْ حُكِيَ عَنْ رُؤبَة وأَبيه: أَنهما كَانَا يَرْتَجِلان أَلفاظًا لَمْ يَسْمَعَاهَا وَلَا سُبِقا إِليها، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبو عُثْمَانَ: مَا قِيس عَلَى كَلَامِ العَرَب فَهُوَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ.

ابْنُ الأَعرابي: الحَيْرَمُ الْبَقَرُ، والحَوْرَمُ الْمَالُ الْكَثِيرُ مِنَ الصامِتِ وَالنَّاطِقِ.

والحِرْمِيَّةُ: سِهام تُنْسَبُ إِلى الحَرَمِ، والحَرَمُ قَدْ يَكُونُ الحَرامَ، وَنَظِيرُهُ زَمَنٌ وزَمانٌ.

وحَريمٌ الَّذِي فِي شِعْرِ امْرِئِ الْقَيْسِ: اسْمُ رَجُلٍ، وَهُوَ حَريمُ بْنُ جُعْفِيّ جَدُّ الشُّوَيْعِر؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ يَعْنِي قَوْلَهُ:

بَلِّغا عَنِّيَ الشُّوَيْعِرَ أَني، ***عَمْدَ عَيْنٍ، قَلَّدْتُهُنَّ حَريما

وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ شِعْرٍ.

والحرَيمةُ: مَا فَاتَ مِنْ كُلِّ مَطْموع فِيهِ.

وحَرَمَهُ الشَّيْءَ يَحْرِمُه حَرِمًا مِثْلُ سَرَقَه سَرِقًا، بِكَسْرِ الرَّاءِ، وحِرْمَةً وحَريمةً وحِرْمانًا وأَحْرَمَهُ أَيضًا إِذا مَنَعَهُ إِياه؛ وَقَالَ يَصِفُ امْرَأَةً:

ونُبِّئْتُها أَحْرَمَتْ قَوْمَها ***لتَنْكِحَ فِي مَعْشَرٍ آخَرِينا

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وأَنشد أَبو عُبَيْدٍ شَاهِدًا عَلَى أَحْرَمَتْ بَيْتَيْنِ مُتَبَاعِدٌ أَحدهما مِنْ صَاحِبِهِ، وَهُمَا فِي قَصِيدَةٍ تُرْوَى لشَقِيق بْنِ السُّلَيْكِ، وَتُرْوَى لَابْنِ أَخي زِرّ ابن حُبَيْشٍ الْفَقِيهِ الْقَارِئِ، وَخَطَبَ امرأَة فَرَدَّتْهُ فَقَالَ:

ونُبِّئْتُها أَحْرَمَتْ قَوْمَهَا ***لتَنكِح فِي معشرٍ آخَرينا

فإِن كنتِ أَحْرَمْتِنا فاذْهَبي، ***فإِن النِّساءَ يَخُنَّ الأَمينا

وطُوفي لتَلْتَقِطي مِثْلَنا، ***وأُقْسِمُ باللهِ لَا تَفْعَلِينا

فَإِمَّا نَكَحْتِ فَلَا بالرِّفاء، ***إِذا مَا نَكَحْتِ وَلَا بالبَنِينا

وزُوِّجْتِ أَشْمَطَ فِي غُرْبة، ***تُجَنُّ الحَلِيلَة مِنْهُ جُنونا

خَليلَ إماءٍ يُراوِحْنَهُ، ***وللمُحْصَناتِ ضَرُوبًا مُهِينا

إِذا مَا نُقِلْتِ إِلى دارِهِ ***أَعَدَّ لظهرِكِ سَوْطًا مَتِينا

وقَلَّبْتِ طَرْفَكِ فِي مارِدٍ، ***تَظَلُّ الحَمامُ عَلَيْهِ وُكُونا

يُشِمُّكِ أَخْبَثَ أَضْراسِه، ***إِذا مَا دَنَوْتِ فتسْتَنْشِقِينا

كأَن المَساويكَ فِي شِدْقِه، ***إِذا هُنَّ أُكرِهن، يَقلَعنَ طِينَا

كأَنَّ تَواليَ أَنْيابِهِ ***وَبَيْنَ ثَناياهُ غِسْلًا لَجِينا

أَراد بالمارِدِ حِصْنًا أَو قَصرًا مِمَّا تُعْلى حيطانُه وتُصَهْرَجُ حَتَّى يَمْلاسَّ فَلَا يَقْدِرُ أَحد عَلَى ارْتِقَائِهِ، والوُكُونُ: جَمْعُ واكِنٍ مِثْلُ جَالِسٍ وجُلوسٍ، وَهِيَ الجاثِمة، يُرِيدُ أَن الْحَمَامَ يَقِفُ عَلَيْهِ فَلَا يُذْعَرُ لِارْتِفَاعِهِ، والغِسْل: الخطْمِيُّ، واللَّجِينُ: الْمَضْرُوبُ بِالْمَاءِ، شبَّه مَا رَكِبَ أَسنانَه وأَنيابَه مِنَ الْخُضْرَةِ بالخِطميّ الْمَضْرُوبِ بِالْمَاءِ.

والحَرِمُ، بِكَسْرِ الرَّاءِ: الحِرْمانُ؛ قَالَ زُهَيْرٌ:

وإِنْ أَتاه خليلٌ يَوْمَ مَسْأَلةٍ ***يقولُ: لَا غائبٌ مَالِي وَلَا حَرِمُ

وإِنما رَفَعَ يقولُ، وَهُوَ جَوَابُ الْجَزَاءِ، عَلَى مَعْنَى التَّقْدِيمِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ كأَنه قَالَ: يَقُولُ إِن أَتاه خَلِيلٌ لَا غَائِبٌ، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ عَلَى إِضْمَارِ الْفَاءِ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الحَرِمُ الْمَمْنُوعُ، وَقِيلَ: الحَرِمُ الحَرامُ.

يُقَالُ: حِرْمٌ وحَرِمٌ وحَرامٌ بِمَعْنًى.

والحَريمُ: الصَّدِيقُ؛ يُقَالُ: فُلَانٌ حَريمٌ صَريح أَي صَديق خَالِصٌ.

قَالَ: وَقَالَ العُقَيْلِيُّونَ حَرامُ اللَّهِ لَا أَفعلُ ذَلِكَ، ويمينُ اللَّهِ لَا أَفعلُ ذَلِكَ، مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ.

قَالَ: وَقَالَ أَبو زَيْدٍ يُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا هُوَ بحارِم عَقْلٍ، وَمَا هُوَ بعادِمِ عَقْلٍ، مَعْنَاهُمَا أَن لَهُ عَقْلًا.

الأَزهري: وَفِي حَدِيثِ بَعْضِهِمْ" إِذا اجْتَمَعَتْ حُرْمتانِ طُرِحت الصُّغْرى للكُبْرى "؛ قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: «يَقُولُ إِذا كَانَ أَمر فِيهِ مَنْفَعَةٌ لعامَّة النَّاسِ ومَضَرَّةٌ عَلَى خَاصٍّ مِنْهُمْ قُدِّمت مَنْفَعَةُ الْعَامَّةِ، مِثَالُ ذَلِكَ: نَهْرٌ يَجْرِي لشِرْب الْعَامَّةِ، وَفِي مَجْراه حائطٌ لِرَجُلٍ وحَمَّامٌ يَضُرُّ بِهِ هَذَا النَّهْرُ، فَلَا يُتْرَكُ إِجْرَاؤُهُ مِنْ قِبَلِ هَذِهِ المَضَرَّة، هَذَا وَمَا أَشبهه، قَالَ: وَفِي حَدِيثِ» عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فِي الحَرامِ كَفَّارةُ يمينٍ "؛ هُوَ أَن يَقُولَ حَرامُ اللَّهِ لَا أَفعلُ كَمَا يَقُولُ يمينُ اللهِ، وَهِيَ لُغَةُ العقيلِييّن، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَن يُرِيدَ تَحْريمَ الزَّوْجَةِ وَالْجَارِيَةِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الطَّلَاقِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}، ثُمَّ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ}؛ وَمِنْهُ حَدِيثُ" عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عنها: إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نِسَائِهِ وحَرَّمَ فَجَعَلَ الحَرامَ حَلَالًا، تَعْنِي مَا كَانَ حَرّمهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ نِسَائِهِ بالإِيلاء عَادَ فأَحَلَّهُ وَجَعَلَ فِي الْيَمِينِ الكفارةَ.

وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ: «أَنتِ عليَّ حَرامٌ»، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ حَرّمَ امرأَته فَلَيْسَ بشيءٍ، وَحَدِيثُهُ الْآخَرُ: إِذا حَرَّمَ الرَّجُلُ امرأَته فَهِيَ يمينٌ يُكَفِّرُها.

والإِحْرامُ والتَّحْريمُ بِمَعْنًى؛ قَالَ يَصِفُ بَعِيرًا:

لَهُ رِئَةٌ قَدْ أَحْرَمَتْ حِلَّ ظهرِهِ، ***فَمَا فِيهِ للفُقْرَى وَلَا الحَجِّ مَزْعَمُ

قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ وَلَّاد وَغَيْرُهُ: لَهُ رَبَّة، وَقَوْلُهُ مَزْعَم أَي مَطْمع.

وَقَوْلُهُ تعالى: {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ المُحارِف.

أَبو عَمْرٍو: الحَرُومُ النَّاقَةُ المُعْتاطةُ الرَّحِمِ، والزَّجُومُ الَّتِي لَا تَرْغُو، والخَزُوم الْمُنْقَطِعَةُ فِي السَّيْرِ، والزَّحُوم الَّتِي تزاحِمُ عَلَى الْحَوْضِ.

والحَرامُ: المُحْرِمُ.

والحَرامُ: الشَّهْرُ الحَرامُ.

وحَرام: قَبِيلَةٌ مَنْ بَنِي سُلَيْمٍ؛ قَالَ الْفَرَزْدَقُ:

فَمَنْ يَكُ خَائِفًا لأَذاةِ شِعْرِي، ***فَقَدْ أَمِنَ الهجاءَ بَنُو حَرامِ

وحَرَام أَيضًا: قَبِيلَةٌ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ.

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


57-مجمل اللغة (حد)

حد: الحدًّ: الحاجز بين الشيئين.

وفلان محدود، إذا كان ممنوعًا.

ويقال للبواب: حداد لمنعه من:

الدخول.

قال الأعشى.

[فقمنا ولما يصحْ ديكُنا]

إلى جونةٍ عند حدادها

وحددت فلانًا، (أي): منعتُهُ، [وهو] في قول النابغة:

[إلا سليمان إذ قال المليكُ له]

قمْ في البريةِ فاحْدُدها عن الفندِ وأنشدنا القطان عن ثعلب:

يارب من كتمني الصَعادا

فهبْ له حليلةً مغدادا

كان لها ما عمرت حدّادا

أي: يكون بوابها كي لا تهرب.

والحديدُ معروف، لأنه منيع.

والاستحدادُ: استعمال الحديد.

وأحدت المرأة على بعلها وحدت؛ لامتناعها من الزينةِ والخضاب.

والمحادَّةُ: المخالفة ومنع ما يجبُ عليك.

والحدةُ: ما يعتري الإنسان من النَزَقِ.

ويقولون: ححدتُ أحدُّ من الحدةِ.

وحدُّ الشراب: صلابته.

قال الأعشى:

وكأس كعين الديك باكرتُ حدها

وحدُّ الرجل: بأسُهُ.

ومالي عن هذا الأمر حددٌ ومحتدُّ، أي: معدل.

ويقولون: حددًا كما يقولون: معاذ الله، وأصله ما ذكرناه من المنع.

قال الكميت:

حددًا أن يكون سيبُك فينا

زرمًا أو يجيئنا تمصيرا

وحدُّ العاصي سمي لأنة شيء يمنعه عن المعاودة.

قال ابن دريد: هذا أمر حدد، أي: ممتنعٌ.

مجمل اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م


58-مقاييس اللغة (حد)

(حَدَّ) الْحَاءُ وَالدَّالُ أَصْلَانِ: الْأَوَّلُ الْمَنْعُ، وَالثَّانِي طَرَفُ الشَّيْءِ.

فَالْحَدُّ: الْحَاجِزُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ.

وَفُلَانٌ مَحْدُودٌ، إِذَا كَانَ مَمْنُوعًا.

وَ إِنَّهُ لَمُحَارَفٌ مَحْدُودٌ، كَأَنَّهُ قَدْ مُنِعَ الرِّزْقَ.

وَيُقَالُ لِلْبَوَّابِ حَدَّادٌ، لِمَنْعِهِ النَّاسَ مِنَ الدُّخُولِ.

قَالَ الْأَعْشَى:

فَقُمْنَا وَلَمَّا يَصِحْ دِيكُنَا *** إِلَى جَوْنَةٍ عِنْدَ حَدَّادِهَا

وَقَالَ النَّابِغَةُ فِي الْحَدِّ وَالْمَنْعِ:

إِلَّا سُلَيْمَانَ إِذْ قَالَ الْمَلِيكُ لَهُ *** قُمْ فِي الْبَرِيَّةِ فَاحْدُدْهَا عَنِ الْفَنَدِ

وَقَالَ آخَرُ:

يَا رَبِّ مَنْ كَتَمَنِي الصِّعَادَا *** فَهَبْ لَهُ حَلِيلَةً مِغْدَادَا

كَانَ لَهَا مَا عَمِرَتْ حَدَّادَا.

أَيْ يَكُونُ بَوَّابَهَا لِئَلَّا تَهْرُبَ.

وَسُمِّيَ الْحَدِيدُ حَدِيدًا لِامْتِنَاعِهِ وَصَلَابَتِهِ وَشِدَّتِهِ.

وَالِاسْتِحْدَادُ: اسْتِعْمَالُ الْحَدِيدِ.

وَيُقَالُ حَدَّتِ الْمَرْأَةُ عَلَى بَعْلِهَا وَأَحَدَّتْ، وَذَلِكَ إِذَا مَنَعَتْ نَفْسَهَا الزِّينَةَ وَالْخِضَابَ.

وَالْمُحَادَّةُ: الْمُخَالَفَةُ، فَكَأَنَّهُ الْمُمَانَعَةُ.

وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَصْلِ الْآخَرِ.

وَيُقَالُ: مَا لِي عَنْ هَذَا الْأَمْرِ حَدَدٌ وَمُحْتَدٌّ، أَيْ مَعْدَلٌ وَمُمْتَنَعٌ.

وَيُقَالُ حَدَدًا، بِمَعْنَى مَعَاذَ اللَّهِ.

وَأَصْلُهُ مِنَ الْمَنْعِ.

قَالَ الْكُمَيْتُ:

حَدَدًا أَنْ يَكُونَ سَيْبُكَ فِينَا *** زَرِمًا أَوْ يَجِيئَنَا تَمْصِيرًا

وَحَدُّ الْعَاصِي سُمِّيَ حَدًّا لِأَنَّهُ يَمْنَعُهُ عَنِ الْمُعَاوَدَةِ.

قَالَ الدُّرَيْدِيُّ: يُقَالُ هَذَا أَمْرٌ حَدَدٌ، أَيْ مَنِيعٌ.

وَأَمَّا الْأَصْلُ الْآخَرُ فَقَوْلُهُمْ: حَدُّ السَّيْفِ وَهُوَ حَرْفُهُ، وَحَدُّ السِّكِّينِ.

وَحَدُّ الشَّرَابِ: صَلَابَتُهُ.

قَالَ الْأَعْشَى:

وَكَأْسٍ كَعَيْنِ الدِّيكِ بَاكَرْتُ حَدَّهَا.

وَحَدُّ الرَّجُلِ: بَأْسُهُ.

وَهُوَ تَشْبِيهٌ.

وَمِنَ الْمَحْمُولِ الْحِدَّةُ الَّتِي تَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنَ النَّزَقِ.

تَقُولُ حَدَدْتُ عَلَى الرَّجُلِ أَحِدُّ حِدَّةً.

مقاييس اللغة-أحمد بن فارس-توفي: 395هـ/1005م


59-تهذيب اللغة (تاع)

تاع: رُوي عن النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم أنه كتب لوائل بن جُحْر كتابًا فيه «على التِيعة شاة والقِيمة لصاحبها».

قال أبو عبيد: التِيعة: الأربعون من الغنم، لم يزد على هذا التفسير.

وقال أبو سعيد الضرير: التِيعة: أدنى ما يجب من الصدقة؛ كالأربعين فيها شاة وكخمس من الإبل فيها شاة إنما يتَعَ التِيعة الحقّ الذي وجب لِلمُصَدِّق فيها؛ لأنه لو رام أخذ شيء منها قبل أن يبلغ عدده ما تجب فيه التِيعة لمنعه صاحب المال، فلمَّا وجب فيها الحقّ: تاع إليه المصدِّق أي عَجِلَ، وتاع ربّ المال إلى إعطائه فجاد بِه، وأصله من التَيْع وهو القَيء، يقال: أتاع قيئه فتاع.

وقال أبو عبيد: أتاع الرجل إتاعة، إذا قاء.

وقال القطاميّ:

* تمجّ عروقُها عَلقًا مُتَاعا*

وقال ابن الأعرابي في أتاع إذا قاء مثله.

وقال ابن شميل التِّيْع: أن تأخذ الشيء بيدك.

يقاله: تاع به يتيع تيعًا وتَيَّعَ به إذا أخذه بيده وأنشد:

أعطيتها عُودًا وتِعْت بتمرة *** وخير المراغي قد علمنا قصارُها

قال: وهذا رجل زعم أنه أكل رغوة مع صاحبة له، فقال: أعطيتها عودًا تأكل به وتعت بتمرة أي أخذتها آكل بها.

والمِرغاة: العود أو التمر أو الكِسْرة يُرتغى بها وجمعها المراغي.

ورأيت بخطّ أبي الهيثم: وتِعت بتمرة.

قال: ومثل ذلك تيَّغْت بها، وأعطاني تمرة فتِغت بها.

قال: وأعطاني فلان درهمًا فتِعْتُ به أي أخذته وأنا فيه واقف.

والصواب تِعت بالعين غير معجمة.

ويقال أتاع قيئه، وأتاع دمه فتاع يتيع تُيُوعًا.

والتَيُّوعات: كل بقلة أو ورقة إذا قطِعت أو قُطفت ظهر لها لبن أبيض يسيل منها؛ مثل ورق التين، ويقول آخر يقال لها اليتوعات.

وقال الليث: التَوْع: كسرك لِبَأ أو سمنًا بكسرة خبز ترفعه بها.

تقول منه: تُعته وأنا أتوعه تَوْعًا قال: وتاع الماء يتيع تيعًا إذا تتَيَّع على وجه الأرض أي انبسط.

وفي حديث النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم «كما يتتايَعُ الفَرَاشُ في النار».

قال أبو عبيد: التتابع: التهافت في الشيء والمتابعة عليه، يقال قد تتابعوا في الشرّ إذا تهافتوا فيه وسارعوا إليه.

وفي حديث آخر «لولا أن يتتايع فيه الغَيْران والسكران»، أي يتهافت ويقع فيه.

قال أبو عبيد: ويقال في التتايع: إنه اللجاجة، وهو يرجع إلى هذا المعنى.

قال: ولم نسمع التتايع في الخير، إنما سمعناه في الشر.

وقال الليث: الرجل يتتايع أي يرمي بنفسه في الأمر سريعًا، والبعير يتتايع في مشيه إذا حرك ألواحه كأنما يتفكّك.

ويقال: أتّايعتت الريح بورق الشجر إذا ذهبت به، وأصله تتايعت به.

وقال أبو ذؤيب يذكر عقره ناقته، وأنها كاست على رأسها فخرّت:

* فخرّت كما تَتَّايعُ الريحُ بالقَفْل*

والقَفْل: ما يبس من الشجر.

ثعلب عن ابن الأعرابي: تُعْ تُع إذا أمرته بالتواضع.

شمر عن ابن الأعرابي قال: التِيعة لا أدري ما هي، وبلغنا عن الفراء أنه قال: التِيعة من الشاء القطعة التي تجب فيها الصدقة، ترعى حول البيوت.

وقال ابن شميل: التتايع ركوب الأمر على خلاف الناس.

وتتايع القوم في الأرض إذا تباعدوا فيها على عمى وشَدَةٍ.

وقال ابن الأعرابي: التاعة، الكُتْلة من اللِّبأ الثخينة.

وفي «نوادر الأعراب»: يتيع عليَّ فلانٌ وفلان تيَّعَان وتَيَّحان تيَّع تَيِّح وتَيِّقَان وتيِّق مثله.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


60-تهذيب اللغة (حبر)

حبر: روي عن النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم أنه قال «يخرج رجلٌ من النار قد ذهب حِبْرُه وسِبْرُه» قال أبو عبيد، قال الأصمعي: حِبْرُه وسِبْرُه هو الجمالُ والبَهاءُ.

يقال فلان حَسَن الحِبْرِ والسِّبْرِ.

وقال ابنُ أَحمر وذَكَر زَمَانًا:

لَبِسْنَا حِبْرَهُ حتى اقْتُضِينَا *** لأجيال وأعمال قُضِينَا

أي: لبسنا جماله وهيبته وقال أبو عبيد قال غيره: فلان حَسَنُ الحَبْرِ والسَّبْر إذا كان جميلًا حسَن الهَيْئة بالفتح.

قال أبو عبيد: هو عندي بالحَبْر أشبهُ، لأنه مصدر حَبَرْتُه حَبْرًا إذا حسَّنْتَه.

وقال الأصمعي: كان يقال للطُّفَيْلِ الغَنَوِيِّ: مُحَبِّر، في الجاهليّة، لأنه كان يُحَسِّن الشعر.

قال وهو مأخُوذ من التحبير وحُسْنِ الخطِّ والمنطِق.

شمر عن ابن الأعرابيّ: هو الحِبْر والسِّبْر بالكسر.

قال وأخبرَني أبو زيادٍ الكلابيُّ أنه قال: وقفت على رَجُلٍ من أهل البادية بعد مُنْصَرَفي منَ العراق، فقال: أمّا اللسان فَبدَويُّ، وأما السِّبْرُ فحضريٌّ.

قال: والسِّبْرُ: الزِّيُّ والهيئةُ.

قال: وقالت بدوية: أعجبَنَا سِبْرُ فلانٍ أي حُسْنُ حَالِه وخصْبُهُ في بدنه، وقالت: رأيته سيِّيءَ السِّبْر إذا كان شاحبًا مضرورًا في بدنه فجعلت السِّبْرَ بمعنيين.

وقال الليث: الحَبَارُ والحِبَرُ أَثَرُ الشَّيْء.

وقال أبو عبيد عن الأصمعي: الحَبَارُ أَثَرُ الشَّيْء وأنشد:

لا تملأ الدَّلوَ وعرِّقْ فيها *** ألا ترَى حَبَارَ مَنْ يَسْقيها

قال أبو عبيد: وأمَّا الأحْبَارُ والرُّهبان فالفُقَهاءُ قد اختلفوا فيه فبعضهم يقول: حَبْرٌ وبعضهم: حِبْرٌ.

قال، وقال الفراء: إنما هو حِبْر.

يقال ذلك للعالِم.

وإنما قيل كعب الحِبْر لمكان هذا الحِبْرِ الذي يُكْتَبُ به؛ وذلك أَنه كان صاحِبَ كُتُبٍ.

قال وقال الأصمعيُّ: لا أدري أهو الحِبْرُ أو الحَبْرُ للرجل العالمِ.

وكان أبو الْهَيْثَمِ يقول: وَاحِدُ الأحْبَار حَبْرٌ لا غيرُ، وينكر الْحِبرَ.

وأخبرني المُنْذِريُّ عن الحرّانِيّ عن ابن السكيت عن ابن الأعرابي قال: حَبْرٌ وحِبْرٌ للعالمِ.

ومثله بَزْر وبِزْرٌ وسَجْف وسِجْفٌ.

وقال ابن السكيت: ذهب حِبْرُه وسِبْرُه أي هيْئَتُهُ وسَحْناؤه.

وقال ابنُ الأعرابي: رجل حَسَنُ الْحِبْرِ والسِّبر: أي حسن البشرة.

وروى عمرو عن أبيه قال الحِبْرُ من الناس: الداهيةُ وكذلك النِّبْرُ.

ورجل حِبْرٌ نِبْرٌ.

وقال الشَّمَّاخ:

كما خَطّ عِبْرَانِيَّةً بِيَمِينهِ *** بِتَيْمَاءَ حَبْرٌ ثم عَرَّض أَسْطُرَا

رواه الرُّواة بالفتح لا غيرُ.

وقال الليث: هو حِبْر وَحَبْرٌ لِلْعالِم ذِمِّيًّا كان أو مُسلمًا، بعد أن يكون من أهل الكتاب.

قال: وكذلك الحِبْر والحَبْر في الجمَال والبَهاء.

قال والتحبيرُ: حسن الخطّ.

وأنشد الفراءُ فيما روى سلمة عنه:

كتحبير الكتابِ بخَطِّ ـ يَوْمًا ـ *** يهودِيٍّ يُقَارِبُ أو يَزِيل

وقال الليث: حَبَّرْتُ الشعرَ والكلامَ، وحَبَرْته: حسَّنْتُه.

وقَالَ ابنُ السكيت في قول الله جلّ وعزّ: {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم: 15] يُسَرُّون.

قال: والحَبْر: السُّرورُ.

وأنشد:

الحمد لله الذي أعطى الحَبَرْ

وقال الزجّاج (فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) أي يُكْرَمُون إكْرامًا يُبَالَغُ فيه.

قال: والحَبْرَةُ المبالغة فيما وُصِفَ بجميلٍ.

وقال الليثُ: يحبرون يُنَعَّمون.

قال: والحَبْرَةُ النعمة.

وقد حُبِرَ الرجلُ حَبْرَةً وحَبَرًا فهو محبور.

وقال المزار العدوي:

قد لَبِسْتُ الدَّهر منْ أَفْنَانِه *** كُلَّ فَنٍّ ناعمٍ منه حَبِر

وقال بعض المفسرين في قوله (فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) قال: السَّمَاعُ في الجنة.

والْحَبْرَةُ في اللُّغة النِّعْمَةُ التَّامَّة.

وقال شمر: الحَبَرُ صُفْرَةٌ تَرْكَبُ الإنسانَ وهي الحِبْرَةُ أيضًا.

وأنشد:

تجلو بأخْضَر من نَعْمَانَ ذا أُشُرٍ *** كعارض البرْقِ لم يستشرب لِحَبَرا

ونَحوَ ذلك قال الليث في الحبر.

وقال شَمِر: أوله الحِبَر، وهو صُفْرَةٌ، فإذا اخضرّ فهو قَلَحٌ، فإذا ألحّ على اللثة حتى تظهرَ الأسْنَاخُ فهو الحَفَر والحَفْرُ.

وقال الليث: برودُ حِبَرَةٍ ضرب من البُرُود اليمانية.

يقال بُرْدُ حبرة وبُرُودُ حِبَرَةٍ.

قال: وليس حِبَرَةُ موضعًا أو شيئًا معلومًا.

إنما هو وَشْيٌ كقولك ثوبُ قِرْمِزٍ، والقِرْمِزُ صِبْغَةٌ.

وقال الليث: الحبيرُ من السحاب ما يُرَى فيه التَّنْميرُ من كثرة الماء.

قال: والحبير من زَبَدِ اللُّغام إذا صار على رأس البعير.

قلت صحّف الليثُ هذا الحرفَ وصوابه الخبير بالخاء لزَبَد أفْواهِ الإبل هكذا قال أبو عبيدٍ فيما رواه الإيادي لنا عن شمر، عن أبي عُبيد.

وأخبرني المنذريُّ عن أبي الحسن الصيداوي عن الرياشي.

قال: الخبير الزَّبَدُ بالخاء وأما الحَبيرُ بمعنى السحاب فلا أعرفه وإن كان أخذه من قول الهذلي:

تَغَذَّمْنَ في جانبيه الحَبيرَ *** لَمَّا وهَى مُزْنُهُ واستُبِيحا

فهو بالخاء أيضًا وسنقف عليه في كتاب الخاء مُشْبَعًا إن شاء الله.

وروَى شَمِر عن أبي عمرو قال: المحْبَارُ الأرض السريعةُ الكلأ.

وقال عنترةُ الطائي:

لنا جِبَالٌ وحمى مِحْبَارُ *** وطُرُق يُبْنَى بها المَنَار

ويقال للمِحْبَارِ من الأرض حَبِرٌ أيضًا وقال:

ليس بِمِعْشَابِ اللِّوى ولا حَبِر *** ولا بعيدٍ من أَذًى ولا قَذَر

قال، وقال ابن شميل: المِحْبَارُ الأرضُ السريعةُ النَّبَاتِ السهلةُ الدفِيئَةُ التي ببطون الأرض وسَرَارَتِها وأَرَاضتها فتلك المحابير.

وقد حَبِرَت الأرضُ وأَحْبَرَتْ.

وفي الحديث أن النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وسلم لما خطب خديجَةَ وأجابَتْهُ استأذنت أباها في أن تَتَزَوَّجَهُ وهو ثَمِلٌ فأذن لها في ذلك، وقال: هو الفحل لا يُقْرَعُ أَنْفُه فنَحَرتْ بعيرًا، وخلَّقت أباها بالعبِير، وكسَتْه بُرْدًا أحمرَ، فلمّا صحا من سُكُرِه قال: ما هذا الحبِيرُ وهذا العقير وهذا العبير؟ أراد بالحبيرِ البُرْدَ الذي كستْهُ، وبالعبير الخَلُوقَ الذي خلّقته، وأراد بالعقيرِ البعيرَ المنحورَ، وكان عُقر ساقه.

والحُبَارَى ذكرها الحَرَبُ، وتجمع حُبارَيَات.

وللعرب فيها أمثال جمّة، منها قولُهم أَذْرَقُ من حُبَارى، وأَسْلَحُ من حُبارَى، لأنَّها ترمي الصقر بسَلْحِها إذا أَرَاغها ليصيدَها فتلوث ريشه بِلَثَق سَلْحِها.

ويقال إنّ ذلك يشتد على الصقر لمنعه إيّاه من الطيران، ومن أَمْثَالِهم في الحُبَارى: أَمْوَقُ من الحُبَارى، وذلك أَنّها تعلّم ولدها الطيرانَ قَبْلَ نَبَاتِ جَنَاحه، فتطير مُعَارِضَةً لفَرْخِها ليتعلّم منها الطيران، ومنه المثلُ السائِر للعرب «كل شيء يحبُّ ولده حتى الحُبَارى وتَدِفُّ عَنَدَهُ» ومعنى قولِهم «تَدِفُّ عَنَدَه» أي تطير عَنَدَه أي تُعَارضه بالطَّيران ولا طيران له لضعف حِفَافَيه وقَوَادِمه.

وقال الأصمعيُّ: فلان يعانِدُ فلانًا أي يفعل فعله ويباريه.

ومن أمثالِهم في الحُبارى قولهم: «فلان ميت كَمَدَ

الحُبارى» وذلك أنها تُحَسِّر مع الطير أيام التَّحْسِير أي تُلقي الريش ثُمَّ يُبْطِىءُ نباتُ رِيشها فإذا سار سائِرُ الطير عجزت عن الطيران، فتموت كَمَدًا، ومنه قول أبي الأسود الدؤلي:

يزيدٌ ميّتٌ كَمَدَ الحُبارى *** إذا ظَعَنَتْ أُمَيَّةُ أو يُلِمُ

أي: يَمُوت أو يقْرُب من الموتِ.

والحبَابِيرُ فِراخُ الحُبَارى، واحدتُها حُبُّورة جاء في شعر كعب بن زهير وقيل اليَحْبُور ذَكَرُ الحُبَارى وقال:

كأنّكُمُ ريش يَحْبُورَةٍ *** قليلُ الغناءِ عن المُرْتَمى

قلت: والحُبَارَى لا تشربُ الماء، وتبيضُ في الرمال النائِية، وكنَّا إذا ظَعَنَّا نُسيرُ في حِبَالِ الدَّهْنَاء، فربما التَقَطْنَا في يوم وَاحِدٍ من بَيْضِها ما بين الأَرْبعة إلى الثمانية، وهي تبيض أَرْبَعَ بَيْضَاتٍ، وَيضْرِبُ لَوْنُها إلى الوُرْقَةِ وطَعْمُها أَلَذُّ من طَعْم بَيْضِ الدَّجاج وبَيْضِ النَّعَامِ، والنعامُ أيضًا لا تردُ الماءَ ولا تشربهُ إذا وجدته.

عمرو عن أبيه قال: اليَحْبُور: الناعمُ من الرجال.

ونَحْوَ ذلك قال شَمِرُ.

وجمعه اليَحابير مأخوذ من الحَبَرَة وهي النعْمة.

أبو العباس عن ابن الأعرابي: يقال: ما أَغْنَى فلانٌ عني حَبَرْبَرًا، وهو الشيءُ اليسيرُ من كل شيء، وقال شمر: ما أغْنَى فلانٌ عني حَبَرْبَرًا: أي شيئًا.

وقال ابنُ أحمر الباهلي:

أَمَانيُّ لا يُغنين عنها حَبَرْبَرًا

وقال الليث: يُقالُ ما عَلَى رأسه حَبَرْبَرَةٌ: أي ما على رأسه شَعْرَةٌ.

وقال أبو عمرو: الحَبَرْبَرُ والحَبْحَبِيُّ: الجملُ الصغير.

وقال شمر: رجل مُحَبَّر إذا أكل البراغيثُ جِلْدَه فصار لها أَثَرٌ في جِلْدِه.

ويقال للآنية التي يجعل فيها الحِبْرُ من خَزَفٍ كانَ أو من قَوَارِيرَ مَحْبُرة ومحبَرة، كما يقال مَزْرُعة، ومَزْرَعة، ومَقْبُرَة ومَقْبَرَة ومخبُزَة ومخبَزَة.

وحِبِرٌّ موضعٌ معروفٌ في البادية.

وأنشد شمر عجز بيت:

.

.

.

فَقَفَا حِبرّ.

تهذيب اللغة-أبومنصور الأزهري-توفي: 370هـ/980م


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com