نتائج البحث عن (نَبْعَثَ)
1-العربية المعاصرة (عتب)
عتَبَ يَعتُب ويَعتِب، عَتْبًا، فهو عاتِب، والمفعول مَعْتوب.* عتَب المكانَ: تخطَّى عتبتَه ودخلَه (ما عتَب المقهى قطّ- مات ولم يعتِب بابَ جاره).
عتَبَ على يَعتُب ويَعتِب، عَتْبًا وعِتابًا، فهو عاتِب، والمفعول معتوبٌ عليه.
* عتَب على صديقه: لامه برفق على قيامه بعمل أو عدم قيامه به (عرّض نفسَه للعتاب- كثرة العِتاب تُورث البغضاءَ- العِتاب خيرٌ من مكتوم الحِقْد- لا تعتب عليَّ لتقصيري في السُّؤال عنك).
أعتب يُعتِب، إعتابًا، فهو مُعتِب، والمفعول مُعتَب.
* أعتب فلانًا: أرضاه بعد العتاب {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [قرآن].
استعتبَ يستعتب، استعتابًا، فهو مُستعتِب، والمفعول مُستعتَب.
* استعتب فلانًا:
1 - استرضاه، طلب منه الرِّضا (استعتبته فأعتبني: استرضيته فأرضاني).
2 - أعطاه الرِّضا وترك ما في نفسه من موجدة عليه {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [قرآن].
تعاتبَ يتعاتب، تعاتُبًا، فهو مُتعاتِب.
* تعاتبَ الصَّديقان: لامَ كلٌّ منهما الآخر برفق.
عاتبَ يعاتب، عِتابًا ومعاتبةً، فهو مُعاتِب، والمفعول مُعاتَب.
* عاتبَ ولدَه: عتَب عليه؛ لامه برفقٍ ولين على قيامه بعمل أو عدم قيامه به (عاتبته على تصرفاته- معاتبة الإخوان خير من فقدهم- إذا كنت في كلّ الأمور معاتبًا.. صديقَك لم تلقَ الذي لا تُعاتبه).
عِتاب [مفرد]: مصدر عاتبَ وعتَبَ على.
عَتْب [مفرد]: مصدر عتَبَ وعتَبَ على.
عَتَبَة [مفرد]: جمعه عَتَبَات وأَعْتاب وعَتَب:
1 - قطعة من الحجرِ أو الخشبِ أو المعدنِ تكون تحت الباب (استشهد على عتبة الأقصى- وقف الإمامُ على عتبة المنبر) (*) أبْدِل عَتَبَةَ بابك: كناية عن استبدال الزَّوجة بأخرى- تمسَّح بأعتابه: تقرَّب إليه وتذلَّل، تملَّقه- عَتَبَة الشُّعور: مستوى الخبرة في منطقة الشُّعور- على عتبة الشَّباب: في أوَّله، في نقطة البداية- لزم عتبةَ بابه: لم يبرحْه.
2 - [في الهندسة] جسمٌ محمولٌ على دعامتين أو أكثر.
عُتْبى [مفرد]:
1 - تسليمٌ بالذّنب واعترافٌ بالخطَأ إرضاءً لمن يُعاتِب (لَكَ العُتْبَى حَتَّى تَرْضَى وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِكَ) [حديث].
2 - رضا (أنتظر منك العُتْبَى).
مُسْتَعْتب [مفرد]: مصدر ميميّ من استعتبَ: (ما بعد الموت من مُستعتَب: استرضاء).
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
2-العربية المعاصرة (كر)
كَرَّ/كَرَّ على كَرَرْتُ، يَكُرّ، اكْرُرْ/كُرَّ، كَرًّا وكُرورًا، فهو كارّ، والمفعول مَكْرور.* كرَّ عليه الحديثَ أو السّؤالَ: أعاده.
* كرَّ الفارسُ على عدوِّه: رجَع لقتاله بعد أن فرَّ منه.
تكرَّرَ/تكرَّرَ على يتكرَّر، تكرُّرًا، فهو مُتكرِّر، والمفعول مُتكرَّر عليه.
* تكرَّرتْ زياراتُه: تتابعت، حدَثت مرّة بعد أخرى (آمُل أن لا يتكرّر الخطأُ).
* تكرَّر النِّفطُ ونحوُه: تمَّت تصفيتُه.
* تكرَّر عليه الشَّيءُ: أُعيد عليه مرَّة بعد أخرى.
كرَّرَ يكرِّر، تَكْرارًا وتكريرًا، فهو مُكَرِّر، والمفعول مُكَرَّر.
* كرَّر كلامًا/كرَّر سؤالًا: أعاده مرَّة بعد أخرى أو مِرارًا.
* كرَّر حرفًا: شدَّده أو ضاعفه.
كرَّرَ يكرِّر، تكريرًا، فهو مُكرِّر، والمفعول مُكرَّر.
* كرَّر السّكَّرَ ونحوَه: خلَّصه من الشّوائب وصفّاه.
تَكْرار [مفرد]: جمعه تَكْرارات: مصدر كرَّرَ (*) تكرار مُغاير: تَرْديد، جناس مُتَشابه- مِرارًا وتكرارًا: لعدّة مرّات.
* التَّكرار: [في البلاغة] الإتيان بعناصر متماثلة في مواضع مختلفة من العمل الفنِّيّ، وهو أساس الإيقاع بجميع صوره، فنجده في الموسيقى كما نجده أساسًا لنظريَّة القافية في الشِّعر (انتشرت ظاهرة التكرار بصورة واضحة في أعماله الرّوائيَّة).
تكراريَّة [مفرد]: اسم مؤنَّث منسوب إلى تَكْرار: (توزيعات/حركات تكراريّة).
* حلقة تكراريَّة: [في الحاسبات والمعلومات] مجموعة تعليمات متتالية يتكرّر تنفيذُها حتّى يتمَّ تحقيق شرط معيَّن.
تكرير [مفرد]:
1 - مصدر كرَّرَ وكرَّرَ.
2 - [في البلاغة] إعادة الألفاظ عينها؛ لتقرير المعنى في ذهن السامع أو للترغيب أو للترهيب، كقوله تعالى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [قرآن] التكاثر/3، 4.
تكريريَّة [مفرد]: اسم مؤنَّث منسوب إلى تكرير: (عمليات/مصافٍ تكريريَّة).
* طاقة تكريريَّة: قدرة آلات معينة على تصفية النِّفط الخام واستخراج مشتقّاته منه.
كَرّ [مفرد]: مصدر كَرَّ/كَرَّ على (*) الكرّ والفرّ: الهجوم والتراجع- على كرِّ الدُّهور/على كرِّ الأيّام/على كرِّ الزَّمان: على مدى الأيَّام/على مرِّ الزمن.
كَرَّة [مفرد]:
1 - اسم مرَّة من كَرَّ/كَرَّ على: رَجْعة {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [قرآن] (*) أعاد الكَرَّة: حاول مرَّةً ثانية- كرَّة بعد كرَّة: مرَّة بعد مرَّة.
2 - هجوم وحملة في الحرب (أعاد عليهم الكَرَّةَ- انتصر الجيشَ في الكرَّة الثانية).
3 - بعث وتجديد للخلق بعد الفناء ({وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} [قرآن]: لو أنّنا نبعث من جديد ونعود إلى الدنيا).
4 - نفوذ وغلبة {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} [قرآن].
كُرور [مفرد]: مصدر كَرَّ/كَرَّ على.
مُتكرِّر [مفرد]: اسم فاعل من تكرَّرَ/تكرَّرَ على.
* حمَّى متكرِّرة: [في الطب] عدوى متميِّزة بالقشعريرة، تحدث بسبب البكتريا الملتوية أو اللّولبيَّة التي تنقلها القملة أو القرادة.
مِكرّ [مفرد]: كثير أو جيِّد الهجوم يصلح لأن يُكرَّ عليه (فرسٌ مكرٌّ مفرٌّ: مؤدٍّ طيِّع خفيف يحسن الكرَّ (الهجوم) والفرّ- *مِكرٍّ مِفَرٍّ مُقبل مُدبِرٍ معًا*).
مُكرَّر [مفرد]: اسم مفعول من كرَّرَ وكرَّرَ.
* طلبيَّة مكرَّرة: طلبيَّة إضافيّة من البضائع ذاتها ومن الموزَّع ذاته.
مُكرِّرة [مفرد]: [في الكيمياء والصيدلة] جهاز يُستعمل لتكرير السَّوائل (مُكرِّرة كحول).
العربية المعاصرة-أحمد مختار عمر وآخرون-صدر: 1429هـ/2008م
3-شمس العلوم (الإِمُ)
الكلمة: الإِمُ. الجذر: ءمم. الوزن: فِعْل.[الإِمُ]: لغة في الأُم، حكاها سيبويه.
وقرأ حمزة والكسائي: فلإمّه الثّلث، وكذلك قوله: في إمّ الكتاب وقوله: أو بيوت إمّهاتكم وقوله: في بطون إمّهاتكم وقوله: حتّى نبعث في إمّها رسولا.
قال الكسائي: هي لغةُ كثيرٍ من هوازن وهذيل.
شمس العلوم-نشوان بن سعيد الحميري-توفي: 573هـ/1177م
4-المعجم الجغرافي للسعودية (مناع)
مناع: ـ قال ياقوت: بوزن نزال، وحكمه حكمه، من المنع ـ: اسم هضبة في جبل طيّء، ويقال: المناعان وهما جبلان.وفي «القاموس» وشرحه: مناع كقطام أي امنع، معدول عنه وأنشد سيبويه لرجل من بكر بن وائل، وقال أبو عبيدة في كتاب «أيام العرب» إنه لرجل من بني تميم.
«مناعها من إبل مناعها! ! ***أما ترى الموت لدى أرباعها؟»
كما في «العباب» وزعم الكسائيّ أن بني أسد يفتحون مناعها ودراكها، وما كان من هذا الجنس.
وفي كتاب «المناسك»: وفد زيد الخيل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فدخل المسجد، والنبي صلىاللهعليهوسلم يخطب فقال: «إني خير لكم من العزّى وأمهّاتها، وما حازت مناع، كلّ ضارّ غير نفّاع، ومن الجبل الأسود الذي تعبدونه من دون الله»
وأقول: يظهر أن اسم مناع كان يطلق على جبل أجا لمنعته، وامتناع أهله من أعدائهم، كما يفهم من الحديث: «وما حازت مناع» ثم ذكر الجبل الذي يعبدونه، وهو الفلس أنف في أجا ـ كما تقدم ـ ثم أطلق الاسم على بعض جباله ـ كما سيأتي عن المناعين ـ
وقال البكريّ: مناع هضبة في جبال طىّء، ثم أورد الحديث المتقدم: «أنا خير لك من مناع» وقال: مناع اسم لأجا سمّى بذلك لامتناعهم فيه من ملوك العرب والعجم.
وبعد أن يورد موزل قول البكري عن أجا ويترجمه بما نصه: (إن جبال أجا مشهورة بمناخها الصحيّ، كانت ملجأ لقبيلة طيّء من هجمات ملوك الحيرة والفرس ـ يضيف: كانت قبيلة شمّر تبحث عن الملجإ في ممرّات أجا الضيقة إلى يومنا هذا، من هجمات الأعداء التي تفوقها قوة، وكان لممر عقدة شهرته من هذه الناحية، فهو يقع إلى الغرب من حايل، ومدخله محصن بالبناء، بطريقة تمكن رجالا قليلي العدد من صدّ الأعداء من الدخول فيه. انتهى.
ويدل على إطلاق مناع على جبل أجا ما أورده ابن جرير في تاريخه أن الطّرمّاح بن عديّ الطائيّ قال للحسين بن علي ـ رضياللهعنه ـ لما خرج: إني والله لأنظر فما أرى معك أحدا، فإن أردت أن تنزل بلدا يمنعك الله به حتى يستبين لك ما أنت صانع، فسر حتّى أنزلك مناع، جبلنا الذي يدعى أجا، امتنعنا به والله من ملوك غسان وحمير، ومن النعمان بن المنذر، ومن الأسود والأحمر، والله إن دخل علينا ذلّ قطّ، فأسير معك حتى أنزلك القريّة، ثم نبعث إلى الرجال ممن بأجإ وسلمى من طىّء فو الله لا يأتي عليك عشرة أيام حتى تأتيك طىّء رجالا وركبانا، ثم أقم فينا ما بدا لك فإن هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائىّ، يضربون بين يديك بأسيافهم، والله لا يوصل إليك. انتهى.
المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية-حمد الجاسر-صدر: 1398هـ/1978م
5-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (الماتريدية-الفرق العقائدية في الإسلام)
الماتريديةالتعريف:
الماتريدية: فرقة كلامية (بدعية)، تُنسب إلى أبي منصور الماتريدي، قامت على استخدام البراهين والدلائل العقلية والكلامية في محاججة خصومها، من المعتزلة والجهمية وغيرهم، لإثبات حقائق الدين والعقيدة الإسلامية.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
مرت الماتريدية كفرقة كلامية بعدة مراحل، ولم تُعرف بهذا الاسم إلا بعد وفاة مؤسسها، كما لم تعرف الأشعرية وتنتشر إلا بعد وفاة أبي الحسن الأشعري، ولذلك فإنه يمكن إجمالها في أربع مراحل رئيسية كالتالي:
مرحلة التأسيس: [000ـ333هـ] والتي اتسمت بشدة المناظرات مع المعتزلة وصاحب هذه المرحلة:
ـ أبو منصور الماتريدي: [000ـ333هـ]: هو محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي، نسبة إلى (ماتريد) وهي محلة قرب سمرقند فيما وراء النهر، ولد بها ولا يعرف على وجه اليقين تاريخ مولده، بل لم يذكر من ترجم له كثيرًا عن حياته، أو كيف نشأ وتعلم، أو بمن تأثر. ولم يذكروا من شيوخه إلا العدد القليل مثل: نصير بن يحيى البلخي، وقيل نصر وتلقى عنه علوم الفقه الحنفي وعلوم الكلام.
ـ أطلق عليه الماتريدية، ومن وافقهم عدة ألقاب تدل على قدره وعلو منزلته عندهم مثل: "إمام المهدى"، "إمام المتكلمين".
قال عبد الله المرائي في كتاب الفتح المبين في طبقات الأصوليين: "كان أبو منصور قوي الحجة، فحما في الخصومة، دافع عن عقائد المسلمين، ورد شبهات الملحدين.." (1/193، 194). وقال عنه الشيخ أبو الحسن الندوي في كتابه رجال الفكر والدعوة "جهبذ من جهابذة الفكر الإنساني، امتاز بالذكاء والنبوغ وحذق الفنون العلمية المختلفة" (ص 139) بل كان يرجِّحه على أبي الحسن الأشعري في كتاب تاريخ الدعوة والعزيمة (1/114ـ115).
ـ عاصر أبا الحسن الأشعري، وعاش الملحمة بين أهل الحديث وأهل الكلام من المعتزلة وغيرهم، فكانت له جولاته ضد المعتزلة وغيرهم، ولكن بمنهاج غير منهاج الأشعري، وإن التقيا في كثير من النتائج غير أن المصادر التاريخية لا تثبت لهما لقاء أو مراسلات بينهما، أو إطلاع على كتب بعضها.
ـ توفي عام 333هـ ودفن بسمرقند، وله مؤلفات كثيرة: في أصول الفقه والتفسير. ومن أشهرها: تأويلات أهل السنة أو تأويلات القرآن وفيه تناول نصوص القرآن الكريم، ولا سيما آيات الصفات، فأوَّلها تأويلات جهمية. و من أشهر كتبه في علم الكلام كتاب التوحيد وفيه قرر نظرياته الكلامية، وبيَّن معتقده في أهم المسائل الاعتقادية، ويقصد بالتوحيد: توحيد الخالقية والربوبية، وشيء من توحيد الأسماء والصفات، ولكن على طريقة الجهمية بتعطيل كثير من الصفات بحجة التنزيه ونفي التشبيه؛ مخالفًا طريقة السلف الصالح. كما ينسب إليه شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة، وله في الردود على المعتزلة رد الأصول الخمسة وأيضًا في الرد على الروافض رد كتاب الإمامة لبعض الروافض، وفي الرد على القرامطة الرد على فروع القرامطة.
مرحلة التكوين: [333ـ500هـ]: وهي مرحلة تلامذة الماتريدي ومن تأثر به من بعده، وفيه أصبحت فرقة كلامية ظهرت أولًا في سمرقند، وعملت على نشر أفكار شيخهم وإمامهم، ودافعوا عنها، وصنفوا التصانيف متبعين مذهب الإمام أبي حنيفة في الفروع (الأحكام)، فراجت العقيدة الماتريدية في تلك البلاد أكثر من غيرها. ومن أشهر أصحاب هذه المرحلة: أبو القاسم إسحاق بن محمد بن إسماعيل الحكيم السمرقندي (342هـ)، عرف بأبي القاسم الحكيم لكثرة حكمه ومواعظه، وأبو محمد عبد الكريم بن موسى بن عيسى البزدوي (390هـ).
ثم تلى ذلك مرحلة أخرى تُعتبر امتدادًا للمرحلة السابقة. ومن أهم وأبرز شخصياتها:
ـ أبو اليسر البزدوي [421ـ493هـ]: هو محمد بن محمد بن الحسين ابن عبد الكريم، والبزدوي نسبة إلى بزدوة ويقال بزدة، ولقب بالقاضي الصدر، وهو شيخ الحنفية بعد أخيه الكبير علي البزودي، ولد عام (421هـ).
ـ تلقى العلم على يد أبيه، الذي أخذه عن جده عبد الكريم تلميذ أبي منصور الماتريدي، قرأ كتب الفلاسفة أمثال الكندي، وغيره، وكذلك كتب المعتزلة أمثال الجبائي، والكعبي، والنّظام، وغيرهم، وقال فيها: "لا يجوز إمساك تلك الكتب والنظر فيها؛ لكي لا تحدث الشكوك، وتوهن الاعتقاد"، ولا يرى نسبة الممسك إلى البدعة. كما اطلع على كتب الأشعري، وتعمق فيها، وقال بجواز النظر فيها بعد معرفة أوجه الخطأ فيها، كما اطلع على كتابي التأويلات، والتوحيد للماتريدي فوجد في كتاب التوحيد قليل انغلاق وتطويل، وفي ترتيبه نوع تعسير، فعمد إلى إعادة ترتيبه وتبسيطه مع ذكر بعض الإضافات عليه في كتاب أصول الدين.
ـ أخذ عن الشيخ أبو اليسر البزدوي جمٌّ غفير من التلاميذ؛ ومن أشهرهم: ولده القاضي أبو المعاني أحمد، ونجم الدين عمر بن محمد النسفي صاحب العقائد النسفية، وغيرهما.
ـ توفي في بخارى في التاسع من رجب سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة.
مرحلة التأليف والتأصيل للعقيدة الماتريدية: [500ـ700هـ]: وامتازت بكثرة التأليف وجمع الأدلة للعقيدة الماتريدية؛ ولذا فهي أكبر الأدوار السابقة في تأسيس العقيدة، ومن أهم أعيان هذه المرحلة:
ـ أبو المعين النسفي [438ـ508هـ]: وهو ميمون بن محمد بن معتمد النسفي المكحولي، والنسفي نسبة إلى نسف وهي مدينة كبيرة بين جيحون وسمرقند، والمكحولي نسبة إلى جده الأكبر، ولكن نسبته إلى بلده غلبت نسبته إلى جده، وله ألقاب عدة أشهرها: سيف الحق والدين.
ـ ويعد من أشهر علماء الماتريدية، إلا أن من ترجم له لم يذكر أحدًا من شيوخه، أو كيفية تلقيه العلم، يقول الدكتور فتح الله خليف: "ويعتبر الإمام! أبو المعين النسفي من أكبر من قام بنصرة مذهب الماتريدي، وهو بين الماتريدية كالباقلاني والغزالي بين الأشاعرة، ومن أهم كتبه تبصرة الأدلة، ويعد من أهم المراجع في معرفة عقيدة الماتريدية بعد كتاب التوحيد للماتريدي، بل هو أوسع مرجع في عقيدة الماتريدية على الإطلاق، وقد اختصره في كتابه التمهيد، وله أيضًا كتاب بحر الكلام، وهو من الكتب المختصرة التي تناول فيها أهم القضايا الكلامية".
ـ توفي في الخامس والعشرين من ذي الحجة سنة ثمانٍ وخمسمائة، وله سبعون سنة.
ـ نجم الدين عمر النسفي [462ـ537هـ]: هو أبو حفص نجم الدين عمر بن محمد ابن أحمد بن إسماعيل … بن لقمان الحنفي النسفي السمرقندي، وله ألقاب عدة أشهرها: نجم الدين، ولد في نسف سنة إحدى أو اثنتين وستين وأربعمائة.
ـ كان من المكثرين من الشيوخ، فقد بلغ عدد شيوخه خمسمائة رجلًا ومن أشهرهم: أبو اليسر البزدوي، وعبد الله بن علي بن عيسى النسفي. وأخذ عنه خلقٌ كثير، وله مؤلفات بلغت المائة، منها: مجمع العلوم، التيسير في تفسير القرآن، النجاح في شرح كتاب أخبار الصحاح في شرح البخاري وكتاب العقائد المشهورة بالعقائد النسفية، والذي يعد من أهم المتون في العقيدة الماتريدية وهو عبارة عن مختصر لتبصرة الأدلة لأبي المعين النسفي قال فيه السمعاني في ترجمة له: "كان إمامًا فاضلًا متقنًا، صنَّف في كل نوع من التفسير والحديث.. فلما وافيت سمرقند استعرت عدة كتب من تصانيفه، فرأيت فيها أوهامًا كثيرة خارجة عن الحد، فعرفت أنه كان ممن أحب الحديث، ولم يرزق فهمه".
ـ توفي بسمرقند ليلة الخميس ثاني عشر من جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين وخمسمائة.
مرحلة التوسع والانتشار: [700ـ1300هـ]: وتعد من أهم مراحل الماتريدية حيث بلغت أوجَ توسعها وانتشارها في هذه المرحلة؛ وما ذلك إلا لمناصرة سلاطين الدولة العثمانية، فكان سلطان الماتريدية يتسع حسب اتساع سلطان الدولة العثمانية، فانتشرت في: شرق الأرض، وغربها، وبلاد العرب، والعجم، والهند، والترك، وفارس، والروم.
وبرز فيها أمثال: الكمال بن الهمام صاحب المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة، والذي ما زال يدرَّس في بعض الجامعات الإسلامية. وفي هذا الدور كثرت فيها تأليف الكتب الكلامية من: المتون، والشروح، والشروح على الشروح، والحواشي على الشروح.
وهناك مدراس مازالت تتبنى الدعوة للماتريدية في شبه القارة الهندية وتتمثل في:
ـ مدرسة ديوبند و الندوية [1283هـ ـ …] وفيها كثر الاهتمام بالتأليف في علم الحديث وشروحه، فالديوبندية أئمة في العلوم النقلية والعقلية؛ إلا أنهم متصوفة محضة، وعند كثير منهم بدعٌ قبورية، كما يشهد عليهم كتابهم المهنَّد على المفنَّد لـ الشيخ خليل أحمد السهارنفوري أحد أئمتهم، وهو من أهم كتب الديوبندية في العقيدة، ولا تختلف عنها المدرسة الندوية في كونها ماتريدية العقيدة.
ـ مدرسة البريلوي [1272هـ ـ…] نسبة إلى زعيمهم أحمد رضا خان الأفغاني الحنفي الماتريدي الصوفي الملقب بعبد المصطفي [1340هـ] وفي هذا الدور يظهر الإشراك الصريح، والدعوة إلى عبادة القبور، وشدة العداوة للديوبندية، وتكفيرهم فضلًا عن تكفير أهل السنة.
ـ مدرسة الكوثري [1296هـ ـ …] و تنسب إلى الشيخ محمد زاهد الكوثري الجركسي الحنفي الماتريدي (1371هـ) ويظهر فيها شدة الطعن في أئمة الإسلام ولعنهم، وجعلهم مجسمة ومشبهة، وجعل كتب السلف ككتب: التوحيد، الإبانة، الشريعة، والصفات، والعلو، وغيرها من كتب أئمة السنة، كتب وثنيةٍ وتجسيمٍ وتشبيهٍ، كما يظهر فيها أيضًا شدة الدعوة إلى البدع الشركية وللتصوف من تعظيم القبور والمقبورين تحت ستار التوسل. انظر تعليقات الكوثري على كتاب الأسماء والصفات للبيهقي، وكتاب مقالات الكوثري.
أهم الأفكار والمعتقدات:
من حيث مصدر التلقي: قسّم الماتريدية أصول الدين حسب التلقي إلى:
ـ الإلهيات [العقليات]: وهي ما يستقل العقل بإثباتها والنقل تابع له، وتشمل أبواب التوحيد والصفات.
ـ الشرعيات [السمعيات]: وهي الأمور التي يجزم العقل بإمكانها ثبوتًا ونفيًا، ولا طريق للعقل إليها مثل: النبوات، و عذاب القبر، وأمور الآخرة، علماُ بأن بعضهم جعل النبوات من قبيل العقليات.
ولا يخفي ما في هذا من مخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة حيث أن القرآن والسنة وإجماع الصحابة هم مصادر التلقي عندهم، فضلاُ عن مخالفتهم في بدعة تقسيم أصول الدين إلى: عقليات وسمعيات، والتي قامت على فكرة باطلة أصّلها الفلاسفة من: أن نصوص الدين متعارضة مع العقل، فعملوا على التوسط بين العقل والنقل، مما اضطرهم إلى إقحام العقل في غير مجالات بحثه؛ فخرجوا بأحكام باطلة تصطدم مع الشرع ألجأتهم إلى التأويل والتفويض، بينما لا منافاة عند أهل السنة والجماعة بين العقل والسليم الصريح والنقل الصحيح.
بناءً على التقسيم السابق فإن موقفهم من الأدلة النقلية في مسائل الإلهيات [العقليات] كالتالي:
ـ إن كان من نصوص القرآن الكريم والسنة المتواترة مما هو قطعي الثبوت قطعي الدلالة عندهم، أي مقبولًا عقلاُ، خاليًا من التعارض مع عقولهم؛ فإنهم يحتجون به في تقرير العقيدة. وأما إن كان قطعي الثبوت ظني الدلالة عندهم أي: مخالفًا لعقولهم، فإنه لا يفيد اليقين، ولذلك تُؤوَّل الأدلة النقلية بما يوافق الأدلة العقلية، أو تفويض معانيها إلى الله عز وجل. وهم في ذلك مضطربون، فليست عندهم قاعدة مستقيمة في التأويل والتفويض؛ فمنهم من رجّح التأويل على التفويض، ومنهم من رجّح التفويض، ومنهم من أجاز الأمرين، وبعضهم رأى أن التأويل لأهل النظر والاستدلال، والتفويض أليق للعوام.
والملاحظ أن القول بالتأويل لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحاب القرون المفضلة، وإنما هي بدعة دخلت على الجهمية والمعتزلة من اليهود والنصارى، وإلى التأويل يرجع جميع ما أُحدث في الإسلام من بدع فرَّقت شمل الأمة، وهو أشرُّ من التعطيل؛ حيث يستلزم التشبيه، والتعطيل، واتهامًا للرسول صلى الله عليه وسلم بالجهل، أو كتمان بيان ما أنزل الله.
وأما القول بالتفويض فهو من أشر أقوال أهل البدع لمناقضته ومعارضته نصوص التدبر للقرآن، واستلزام تجهيل الأنبياء والمرسلين برب العالمين.
ـ وإن كان من أحاديث الآحاد فإنها عندهم تفيد الظن، ولا تفيد العلم اليقيني، ولا يعمل بها في الأحكام الشرعية مطلقًا، بل وفق قواعدهم وأصولهم التي قرروها، وأما في العقائد فإنه لا يحتج بها، ولا تثبت بها عقيدة، وإن اشتملت على جميع الشروط المذكورة في أصول الفقه، وإن وردت مخالفة للعقل ولا تحتمل التأويل رُدَّت بافتراء ناقله أو سهوه أو غلطة، وإن كانت ظاهرة فظاهرها غير مراد، وهذا موقف الماتريدية قديمًا وحديثًا؛ حتى أن الكوثري ومن وافقه من الديوبندية طعنوا في كتب السنة بما فيها الصحيحين، وفي عقيدة أئمة السنة بما فيها الصحيحين، وفي عقيدة أئمة السنة مثل: حماد بن سلمة راوي أحاديث الصفات، والإمام الدارمي عثمان بن سعيد صاحب السنن. وهذا قول مبتدع محدث ابتدعته القدرية والمعتزلة، لأن الأحاديث حجة عليهم وهو مخالف لفعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يبعث الرسل إلى الملوك والرؤساء فُرادَى يدعونهم إلى الإسلام. وكذلك فإن تقسيم ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى متواتر وآحاد لم يكن معروفًا في عصر الصحابة والتابعين.
ـ كما رتبوا على ذلك وجوب معرفة الله تعالى بالعقل قبل ورود السمع، واعتبروه أول واجب على المكلف، ولا يعذر بتركه ذلك، بل يعاقب عليه ولو قبل بعثة الأنبياء والرسل. وبهذا وافقوا قول المعتزلة: وهو قول ظاهر البطلان، تعارضه الأدلة من الكتاب والسنة التي تبين أن معرفة الله تعالى يوجبها العقل، ويذم من يتركها، لكن العقاب على الترك لا يكون إلا بعد ورود الشرع، يقول الله تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا) [سورة الإسراء الآية 15] وأن أول واجب على المكلف، وبه يكون مسلمًا: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والبراءة من كل دين يخالف دين الإسلام على الإجمال، ولهذا لما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن لم يأمره بغير ذلك. وكذلك الأنبياء لم يدعوا أقوامهم إلا بقول (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) [سورة الأعراف الآية 59].
ـ وقالوا أيضًا بالتحسين والتقبيح العقليين، حيث يدرك العقل حسن الأشياء وقبحها، إلا أنهم اختلفوا في حكم الله تعالى بمجرد إدراك العقل للحسن والقبح. فمنهم من قال: إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة ولو لم يبعث إليهم رسول؛ كما سبق، ومنهم من قال بعكس ذلك.
ـ وذهبت كذلك الماتريدية كغيرها من الفرق الكلامية إلى أن المجاز واقع في اللغة والقرآن والحديث؛ ويقصدون بالمجاز بأنه اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، وهو قسيم الحقيقة عندهم. ولذلك اعتمدوا عليه في تأويل النصوص دفعًا ـ في ظنهم ـ لشبه التجسيم والتشبيه. وهو بهذا المعنى: قول مبتدع، محدث، لا أصل له في اللغة ولا في الشرع. ولم يتكلم فيه أئمة اللغة: كالخليل بن أحمد، وسيبويه فضلًا عن أئمة الفقهاء والأصوليين المتقدمين.
ـ مفهوم التوحيد عند الماتريدية هو: إثبات أن الله تعالى واحد في ذاته، لا قسيم له، ولا جزء له، واحد في صفاته، لا شبيه له، واحد في أفعاله، لا يشاركه أحد في إيجاد المصنوعات، ولذلك بذلوا غاية جهدهم في إثبات هذا النوع من التوحيد باعتبار أن الإله عندهم هو: القادر على الاختراع. مستخدمين في ذلك الأدلة والمقاييس العقلية والفلسفية التي أحدثها المعتزلة والجهمية، مثل دليل حدوث الجواهر والأعراض، وهي أدلة طعن فيها السلف والأئمة وأتباعهم وأساطين الكلام والفلسفة وبينوا أن الطرق التي دل عليها القرآن أصح. بيّن ذلك أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر، وابن رشد الحفيد في مناهج الأدلة. وشيخ الإسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل. وأيضًا خالفوا أهل السنة والجماعة بتسويتهم بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، فالإله عند أهل السنة: المألوه المعبود الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له. وما أرسلت الرسل إلا لتقرير ذلك الأمر، ودعوة البشرية إلى توحيد الله تعالى في ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته.
ـ أثبتوا لله تعالى أسماءه الحسنى، وقالوا: لا يسمَّى الله تعالى إلا بما سمى به نفسه، وجاء به الشرع. وفي ذلك وافقوا أهل السنة والجماعة في القول بالتوقيف في أسمائه تعالى إلا أنهم خالفوهم فيما أدخلوه في أسمائه تعالى: كالصانع، القديم، الذات … حيث لم يفرقوا بين باب الإخبار عن الله تعالى وباب التسمية.
ـ وقالوا بإثبات ثماني صفاتٍ لله تعالى فقط، على خلاف بينهم وهي: الحياة، القدرة، العلم، الإرادة، السمع، البصر، الكلام، التكوين. وعلى أن جميع الأفعال المتعدية ترجع إلى التكوين، أما ما عدا ذلك من الصفات التي دل عليها الكتاب والسنة [الصفات الخبرية] من صفات ذاتية، أو صفات فعلية، فإنها لا تدخل في نطاق العقل، ولذلك قالوا بنفيها جميعًا. أما أهل السنة والجماعة فهم كما يعتقدون في الأسماء يعتقدون في الصفات وأنها جميعًا توقيفية، ويؤمنون بها " بإثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل، مع تفويض الكيفية وإثبات المعنى اللائق بالله ـ تعالى ـ لقوله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير).
ـ قولهم بأن القرآن الكريم ليس بكلام الله تعالى على الحقيقة، وإنما هو كلام الله تعالى النفسي، لا يسمع، وإنما يسمع ما هو عبارة عنه، ولذلك فإن الكتب بما فيها القرآن مخلوقة؛ وهو قول مبتدع محدث لم يدل عليه الكتاب ولا السنة، ولم يرد عن سلف الأمة. وأول من ابتدعه ابن كلاب. فالله تعالى يتكلم إذا شاء متى شاء بما شاء، ولا يزال يتكلم كما كلم موسى، ويكلم عباده يوم القيامة، والقرآن كلام الله تعالى على الحقيقة، غير مخلوق. وكذلك التوراة والإنجيل والزبور. وهذا ما عليه أهل السنة والجماعة من سلف الأمة الصالح ومن تبعهم بإحسان.
ـ تقول الماتريدية في الإيمان أنه التصديق بالقلب فقط، وأضاف بعضهم الإقرار باللسان، ومنعوا زيادته ونقصانه، وقالوا بتحريم الاستثناء فيه، وأن الإسلام والإيمان مترادفان، لا فرق بينهما، فوافقوا المرجئة في ذلك، وخالفوا أهل السنة والجماعة، حيث إن الإيمان عندهم: اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، و عمل بالأركان. يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية. ويجوز الاستثناء فيه [والمقصود عدم تزكية النفس] والإيمان والإسلام متلازمان، إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.
وافقت الماتريدية أهل السنة والجماعة في الإيمان بالسمعيات مثل: أحوال البرزخ، وأمور الآخرة من: الحشر، والنشر، والميزان، والصراط، والشفاعة، والجنة، والنار؛ لأنهم جعلوا مصدر التلقي فيها السمع، لأنها من الأمور الممكنة التي أخبر بها الصادق صلى الله عليه وسلم، وأيدتها نصوص الكتاب والسنة.
ـ وبالتالي فإنهم أثبتوا رؤية الله تعالى في الآخرة؛ ولكن مع نفي الجهة والمقابلة. وهذا قول متناقض حيث أثبتوا ما لا يمكن رؤيته، ولا يخفي مخالفته لما عليه أهل السنة والجماعة.
كما وافقت الماتريدية أهل السنة والجماعة في القول في الصحابة على ترتيب خلافتهم، وأن ما وقع بينهم كان خطأ عن اجتهاد منهم؛ ولذا يجب الكف عن الطعن فيهم، لأن الطعن فيهم إما كفر، أو بدعة، أو فسق. كما يرون أن الخلافة في قريش، وتجوز الصلاة خلف كل برٍ وفاجرٍ، ولا يجوز الخروج على الإمام الجائر.
وأيضًا وافقوا أهل السنة والجماعة في القول: بالقدر، والقدرة، والاستطاعة، على أن كل ما يقع في الكون بمشيئة الله تعالى وإرادته، وأن أفعال العباد من خير وشر من خلق الله تعالى وأن للعباد أفعالًا اختيارية، يثأبون عليها، ويعاقبون عليها، وأن العبد مختار في الأفعال التكليفية غير مجبور على فعلها.
قالت الماتريدية بعدم جواز التكليف بما لا يُطاق موافقة المعتزلة في ذلك، والذي عليه أهل السنة والجماعة هو: التفضيل، وعدم إطلاق القول بالجواز أو بالمنع.
الجذور الفكرية والعقائدية:
يتبين للباحث أن عقيدة الماتريدية فيها حق وباطل؛ فالحق أخذوه عن أهل السنة من الحنفية السلفية، وغيرهم؛ لأن المستقرىء للتاريخ يجد أن الحنفية بعد الإمام أبي حنيفة رحمه الله تفرقوا فرقًا شتى في وقت مبكر، ولم يَسٍر على سيرة الإمام أبي حنيفة وصاحبيه إلا من وفقه الله عز وجل. وقد كانت الغلبة في ذلك للأحناف المنتسبين للفرق المبتدعة من: جهمية، ومعتزلة. ولأن المصادر التاريخية لم تُشِر إلى كيفية تلقي أبي منصور الماتريدي العلم أو من تأثر بهم من العلماء، نستطيع ترجيح الآتي:
ـ تأثُّر أبو منصور الماتريدي مباشرة أو بواسطة شيوخه بعقائد الجهمية من الإرجاء والتعطيل؛ وكذلك المعتزلة والفلاسفة في نفي بعض الصفات وتحريف نصوصها، ونفي العلو والصفات الخبرية ظنًا منه أنها عقيدة أهل السنة.
ـ تأثر بابن كلاب (240هـ) أول من ابتدع القول بالكلام النفسي لله عز وجل في بدعته هذه، وأن لم يثبت لهما لقاء، حيث توفي ابن كلاب قبل مولده، بل صرح شيخ الإسلام ابن تيمية أن أبا منصور الماتريدي تابع ابن كلاب في عدة مسائل: الصفات، وما يتعلق بها، كمسألة القرآن هل سبحانه يتكلم بمشيئته وقدرته؟ ومسألة الاستثناء في الإيمان. (مجموع الفتاوى 7/433، منهاج السنة 2/362).
الانتشار ومواقع النفوذ:
انتشرت الماتريدية، وكثر أتباعها في بلاد الهند وما جاورها من البلاد الشرقية: كالصين، وبنغلاديش، وباكستان، وأفغانستان. كما انتشرت في بلاد تركيا، والروم، وفارس، وبلاد ما وراء النهر، والمغرب حسب انتشار الحنفية وسلطانهم، وما زال لهم وجود قوي في هذه البلاد، وذلك لأسباب كثيرة منها:
1 ـ المناصرة والتأييد من الملوك والسلاطين لعلماء المذهب، وبخاصة سلاطين الدولة العثمانية.
2 ـ للمدارس الماتريدية دورٌ كبير في نشر العقيدة الماتريدية، وأوضح مثال على ذلك: المدارس الديوبندية بالهند وباكستان وغيرها؛ حيث لا زال يدرَّس فيها كتب الماتريدية في العقيدة على أنها عقيدة أهل السنة والجماعة.
3 ـ النشاط البالغ في ميدان التصنيف في علم الكلام، وردهم على الفرق المبتدعة الأخرى، مثل الجهمية الأولي، والمعتزلة، والروافض.
4 ـ انتسابهم للإمام أبي حنيفة ومذهبه في الفروع.
يتضح مما سبق:
أن الماتريدية فرقة كلامية نشأت بسمرقند في القرن الرابع الهجري، وتنسب إلى أبي منصور الماتريدي، مستخدمة الأدلة والبراهين العقلية والفلسفية في مواجهة خصومها من المعتزلة، والجهمية وغيرهما من الفرق الباطنية، في محاولة لم يحالفها التوفيق للتوسط بين مذهب أهل السنة والجماعة في الاعتقاد ومذاهب المعتزلة والجهمية وأهل الكلام، فأعْلَوا شأن العقل مقابل النقل، وقالوا ببدعة تقسيم أصول الدين إلى عقليات وسمعيات مما اضطرهم إلى القول بالتأويل والتفويض، وكذا القول بالمجاز في القرآن الكريم، والسنة النبوية، وعدم الأخذ بأحاديث الآحاد، وبالقول بخلق الكتب ومنها: القرآن الكريم؛ وعلى أن القرآن الكريم كلام الله تعالى النفسي. مما قربَّهم إلى المعتزلة والجهمية في هذا الباب، وإلى المرجئة في أبواب الإيمان، وأهل السنة والجماعة في مسائل: القدر، وأمور الآخرة وأحوال البرزخ، وفي القول في الإمامة، والصحابة رضي الله عنهم. ولما كان مفهومهم للتوحيد أنه يقتصر على: توحيد الخالقية، والربوبية، مما مكن التصوف الفلسفي بالتغلغل في أوساطهم، فغلب على كبار منتسبيهم وقوي بقوة نفوذ وانتشار المذهب؛ لوجود أكثر من دولة تحميه وتؤيده مثل: الدولة العثمانية؛ فضلًا عن وجود جامعات ومدارس مشهورة تعمل على نشره، وكان لانتسابهم لمذهب الإمام أبي حنيفة في الفروع أثره البالغ في انتشار المذهب الماتريدي إلى اليوم. ومع هذا فإن للماتريدية خدمات في الرد على: المعتزلة والباطنية والفلاسفة الملحدين والروافض، ولهم جهود في خدمة كتب الحديث لا تخلو من ملحوظات.
مراجع للتوسع:
أ ـ كتب المذهب:
ـ كتاب التوحيد، أبو منصور الماتريدي.
ـ تأويلات أهل السنة، أبو منصور الماتريدي.
ـ تبصرة الأدلة، أبو المعين النسفي.
ـ بحر الكلام في علم التوحيد، أبو المعين النسفي.
ـ شرح العقائد النسفية، لنجم الدين عمر النسفي / التفنازاني.
ـ المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة، ابن الهمام مع شرحه المسامرة لابن أبي شريف، شرح قاسم بن قطلويغا.
ـ رسالة التوحيد، الشيخ محمد عبده.
ـ رسالة في الخلافات بين الأشعرية والماتريدية والمعتزلة، مستحي زاده عبد الله بن عثمان.
ـ مقالات الكوثري ومعها مقدمة البنوري الديوبندي، لأحمد خيري.
ـ تاريخ الدعوة الإسلامية وتطورها في شبه القارة الهندية، د. محيى الدين الألوائي.
ـ العلماء العُزاب، الشيخ عبد الفتاح أبو غدة.
ـ الأجوبة الفاضلة، للكنوي، تعليقات الشيخ عبد الفتاح أبي غدة.
ـ عقيدة الإسلام والإمام الماتريدي، د. أبو الخير محمد أيوب البنغلاديشي.
ـ الفتاوى الرشيدية، للشيخ رشيد أحمد الكنكوهي الديوبندي.
ب ـ كتب ومراجع لغير المذاهب:
ـ شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، أبو القاسم هبة الله بن الحسن ابن منصور الطبري اللالكائي.
ـ الأسماء والصفات، البيهقي.
ـ الإيمان، [مجموع الفتاوى: 7/4 ـ 421] شيخ الإسلام ابن تيمية.
ـ الإكليل في المتشابه والتأويل [مجموع الفتاوى: 13/270 ـ 314] شيخ الإسلام ابن تيمية.
ـ درء تعارض العقل والنقل، شيخ الإسلام ابن تيمية ـ تحقيق د. رشاد محمد سالم.
ـ اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، ابن قيم الجوزية، تحقيق د. عبد الله المعتق.
ـ ذم التأويل، ابن قدامة المقدسي.
ـ التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل، عبد الرحمن بن يحيى اليماني المعلمي.
ـ البريلوية عقائد وتاريخ، إحسان إلهي ظهير.
ـ الماتريدية، رسالة ماجستير، أحمد بن عوض الله اللهيبي الحربي.
ـ الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات، رسالة ماجستير، لشمس الأفغاني السلفي.
ـ منهج الماتريدية في العقيدة، د. محمد بن عبد الرحمن الخميس.
ـ مناهج الأدلة في عقائد الملة، ابن رشد الحفيد [أبو الوليد الأصفر محمد ابن أحمد الفلسفي].
ـ براءة أهل السنة من الوقيعة في علماء الأمة، د. أبو زيد بكر بن عبد الله أبو زيد.
ـ مقدمة شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ـ محمد ناصر الدين الألباني.
ـ الاستقامة، شيخ الإسلام ابن تيمية.
ـ الصفات الإلهية في الكتاب والسنة النبوية في ضوء الإثبات والتنزيه ـ محمد آمان بن علي الجامي.
(page)
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م
6-الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (الفراخانية-جماعات عنصرية)
الفراخانيةالتعريف:
هي إحدى الفرق الباطنية السائدة في الولايات المتحدة الأمريكية التي مازالت تتبع منهج اليجا محمد.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
ـ ولد مؤسسها لويس والكت لعائلة تشتغل بالتمثيل والغناء، وأصولها من جزر البحر الكاريبي.
ـ في عام 1956م دخل فرقة اليجا محمد الذي ادعى النبوة وأن معلمه فرد محمد هو الله المتجسد. ولما فتح مالكوم معبد محمد للإسلام رقم 11 في بوسطن عين له لويس أكس واعظًا ومديرًا.
ـ ألَّف لويس أكس بعض الأغاني والمسرحيات التي عرضت في جميع المعابد لأهميتها في بيان تعاليم اليجا محمد مما أكسبه شهرة واسعة.
ـ لما فصل اليجا محمد مالكوم أكس عين لويس في منصب الناطق الأول باسم الفرقة ولقبه بفراح خان ثم جعله واعظًا في أكبر المعابد وأخطرها، معبد محمد للإسلام رقم 7 الذي كان يديره مالكوم قبل طرده.
ـ ولكن بعد هلاك اليجا محمد وتولي ولاس الزعامة عزل فراح خان من جميع مناصبه وجعله في منصب صوري في شيكاغو، وأثناء هذه الفترة كان لويس ينكر نبوة اليجا وألوهية فرد محمد تماشيًا مع إنكار ولاس لهما.
ـ ولكن فرح خان استقال من ذلك المنصب ومن الفرقة إثر انسحاب المتنبئ سايلس في عام 1977م.
ـ وعاد إلى نيويورك وجمع أتباعه السابقين تحت الدعوة إلى العودة إلى تعاليم اليجا الأصلية، وفتح له معابد في نيويورك وشيكاغو ولوس أنجلوس وجمع أتباعًا فيها. وجعل لويس فراح خان شيكاغو مركزًا رسميًا لفرقته، وأصدر جريدة الفرقة التي سماها النداء الأخير، لإعادة بناء أمة الإسلام بالعودة إلى تعاليم اليجا محمد.
ـ أخذ فراح خان يتجول في الولايات المتحدة الأمريكية لإلقاء المحاضرات في الجامعات والتحدث في جميع مناسبات السود وكثر ظهوره على التلفزيون والإذاعة.
ـ ولما كانت دعوته إلى إعادة بناء منظمة اليجا (أمة الإسلام) وإحياء تعاليمه صافية خالية من دعاوى خاصة لنفسه ـ كما فعل المتنبئ (سايلس) فقد استجاب له معظم أفراد أسرة اليجا.
ـ في عام 1981م أعاد نظام توزيع الأسماء المقدسة وافترض على الجميع أن يكتب كل شخص في الفرقة (رسالة المخلِّص) يشهد فيها أن لا إله إلا الله الذي جاء في صورة السيد فرد محمد وأن المكرم اليجا محمد رسول الله.
ـ اكتسب فراح خان شهرة كبيرة بمساندته للقس الأسود جيسي جاكسون في حملاته الانتخابية.
الأفكار والمعتقدات:
عقائد الفراخانية:
أثبت فراح خان تعاليم اليجا محمد كلها، ما عدا تغييرات بسيطة، دأب أن يذكر في آخر صفحة من جميع أعداد جريدة الفرقة النداء الأخير بابين تحت عنواني ماذا يريد المسلمون وماذا يعتقد المسلمون؟!، يضمنها أهداف الفرقة الاليجية ومعتقداتها حرفيًا كما كانت ترد في كل عدد من أعداد جريدة محمد يتكلم في عهد اليجا، كما يذكر في كل عدد مقالات اليجا المنقولة من أعداد محمد يتكلم القديمة.
بعض عقائد الأليجية الأساسية التي أحياها فراح خان:
ـ أن الله قد خلق نفسه.
ـ أن جميع السود آلهة ويولد بينهم إله مطلق كل 25 ألف سنة.
ـ أحد الآلهة السود المسمى يعقوب قد خلق الإنسان الأبيض نتيجة لبعض التجارب الوراثية.
ـ أن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أُرسل للعرب فقط واليجا أرسله الله إلى سود أمريكا وأنه آخر المرسلين.
ـ ويعتقد فراح خان أنه هو المقصود بالحواري بطرس المعروف في المسيحية ويعتقد أنه لا يملك قوة الإحياء ولكن بواسطة صوت اليجا محمد سوف يحيي الأمة بأسرها.
ـ الإنسان الأبيض شيطان.
ـ الإنسان الأسود هو الذي ألَّف جميع الكتب السماوية.
ـ معظم تعاليم القرآن موجهة إلى الرسول اليجا محمد والسود في أمريكا.
ـ لا قيامة للأجساد بعد الموت، والبعث والقيام عبارة عن يقظة روحية لمن هم نيام من السود في قبور الأوهام، ولا يتأتى ذلك إلا بمعرفة اليجا وإلهه والإيمان بهما.
ـ يقولون إذا كان العرب يعتقدون أن محمدًا خاتم النبيين يقينًا فيمكن أن نجتمع ونتناقش في الأدلة حتى نصل إلى كلمة سواء. إلا أنكم أيها العرب عنصريون ولم تتجاوزوا هذا الجانب من طبيعتكم التي تماثل طبيعة الإنسان الأبيض الذي هو شيطان، أنتم واليهود والبيض كلكم شياطين.
إضافات فراح خان:
ـ أما معتقدات فراخ خان الجديدة حول اليجا فإنه ألَّه اليجا كما ألَّه المسيحيون عيسى، بل ادعى فراح أن اليجا هو عيسى المسيح.
ـ وادعى أن اليجا لم يمت بل بعثه الله حيًّا مع أن اليجا أنكر البعث الجسدي إنكارًا شديدًا مطلقًا.
ـ يقول فراح خان: " إنما أنا هنا لأشهد أن المكرم اليجا محمد قد رفع وأن عيسى الذي كنتم تبحثون عنه وتنتظرون عودته كان بين ظهرانيكم لمدة أربعين سنة، ولكنكم لم تعلموا من هو ".
ـ ويقول: " إن المكرم اليجا محمد حيُّ وهو مع الإله سوية وعودته وشيكة الحدوث، وأشهد أن أحد إخوانكم اليجا من بينكم قد رفع إلى مقام محمود يمين الإله، وجعل رب العالمين فيه السلطة التامة على طاقات الطبيعة".
ـ ويقول: " قد علمنا المكرم اليجا محمد أننا (الرجل الأسود): مالك الأرض وخالقها وصفوة كائناته وإله الكون كله، فإن لم يكن المكرم اليجا محمد إلهًا فلا يمكن أن نصل إلى درجة الألوهية، وإن لم يبعث حيًا فلا أمل فينا أن نبعث أحياء من موتنا الذهني والروحي والسياسي والاجتماعي ".
نماذج من تأويلات فراح خان:
ـ بنى لويس فراح خان دعاويه في اليجا على تأويل آيات قرآنية وفقرات من الكتاب المقدس تأويلًا عجيبًا منها:
ـ يقول فراح خان ممهدًا لدعواه أن اليجا محمد هو عيسى ابن مريم وذلك تأويلًا للآية 44 من سورة آل عمران.
ـ أوَّل مريم البتول إلى رمز يقصد به السود في أمريكا حيث قال: أين نبحث عن عيسى هذا إن العبارة سوف تحمل بتول هي المفتاح لاكتشاف السر فإن كلمة (بتول) كما نفهمها في عالم المادة تعني امرأة لم يمسها رجل ولكن كلمة (بتول) في الكتاب المقدس ترمز إلى أناس لم يلقحهم الإله، والسود في أمريكا هم أناس بتوليون كما هو واضح من تصرفاتنا.
ـ وانتهت به تأويلاته إلى القول برفع اليجا اعتمادًا على الآيات 157ـ 158 من سورة النساء.
ـ ويقول: " أعلم أنكم تظنون أن اليجا محمد قد مات ولكنني أقف لكي أشهد للعالم أنه حي وبصحبة جيدة وهو ذو نفوذ ".
"
إنني شاهد له وإننا شهداء له. وهو مكتوب في القرآن: (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلىّ ومطهرك من الذين كفروا..) الخ. وفي مكان آخر يقول القرآن: (شُبِّه لهم) أنه مات، وهذا هو مكر الله فوق مكر أعداء الله الأشرار في إشارة إلى قوله تعالى في الآية 157 من سورة النساء.
محاولات لإصلاح فكر فراح خان:
قام بزيارة إلى المملكة العربية السعودية، وعُقد لقاء بينه وبين بعض المسؤولين عن الدعوة في المملكة. وقد وعد خيرًا وأظهر توجهًا للفهم وللمراجعة. ولكن عندما عاد إلى أمريكا بقيت نفس أفكاره وسلوكياته دون تغيير يذكر. وإن كان قد أصبح أقل إعلانًا لها، والذي يظهر أن الرجل غير مخلص ويبحث عن الزعامة وتتجاذبه عوامل عديدة. نسأل الله له ولكل ضال الهداية والعودة إلى الطريق المستقيم.
الحركات الباطنية
1- اليزيدية
2- القرامطة
3-الإسماعيلية
4-النصيرية
5-الدروز
6-الحشاشون
7-البابية والبهائية
8-القاديانية
9-الحزب الجمهوري في السودان
10-الأحباش
11- الأنصار
12-الخمينية
13-أمل «أفواج المقاومة اللبنانية»
اليزيدية
التعريف:
اليزيدية: فرقة منحرفة نشأت سنة 132هـ إثر انهيار الدولة الأموية. كانت في بدايتها حركة سياسية لإعادة مجد بني أمية ولكن الظروف البيئية وعوامل الجهل انحرفت بها فأوصلتها إلى تقديس يزيد بن معاوية وإبليس الذي يطلقون علية اسم (طاووس ملك) وعزازيل.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
البداية: عندما انهارت الدولة الأموية في معركة الزاب الكبرى شمال العراق سنة 132هـ هرب الأمير إبراهيم بن حرب بن خالد بن يزيد إلى شمال العراق وجمع فلول الأمويين داعيًا إلى أحقية يزيد في الخلافة والولاية، وأنه السفياني المنتظر الذي سيعود إلى الأرض ليملأها عدلًا كما ملئت جورًا.
ويرجع سبب اختيارهم لمنطقة الأكراد ملجأ لهم إلى أن أم مروان الثاني ـ الذي سقطت في عهده الدولة الأموية ـ كانت من الأكراد.
عدي بن مسافر: كان في مقدمة الهاربين من السلطة العباسية، فقد رحل من لبنان إلى الحكارية من أعمال كردستان، وينتهي نسبه إلى مروان بن الحكم، ولقبه شرف الدين أبو الفضائل. لقي الشيخ عبد القادر الجيلاني وأخذ عنه التصوف، ولد سنة 1073 م أو 1078م وتوفي بعد حياة مدتها تسعون سنة ودفن في لالش في منطقة الشيخان في العراق.
صخر بن صخر بن مسافر: المعروف بالشيخ أبو البركات رافق عمه عديًا وكان خليفته ولما مات دفن بجانب قبر عمه في لالش.
عدي بن أبي البركات: الملقب بأبي المفاخر المشهور بالكردي، توفي سنة 615 هـ / 1217 م.
خلفه ابنه شمس الدين أبو محمد المعروف بالشيخ حسن: المولود سنة 591هـ /1154م وعلى يديه انحرفت الطائفة اليزيدية من حب عدي ويزيد بن مسافر إلى تقديسهما والشيطان إبليس، وتوفي سنة 644هـ / 1246م بعد أن ألف كتاب الجلوة لأصحاب الخلوة وكتاب محك الإيمان وكتاب هداية الأصحاب وقد أدخل اسمه في الشهادة كما نجدها اليوم عند بعض اليزيدية.
الشيخ فخر الدين أخو الشيخ حسن: انحصرت في ذريته الرئاسة الدينية والفتوى.
شرف الدين محمد الشيخ فخر الدين: قتل عام 655هـ / 1257م وهو في طريقه إلى السلطان عز الدين السلجوقي.
زين الدين يوسف بن شرف الدين محمد: الذي سافر إلى مصر وانقطع إلى طلب العلم والتعبد فمات في التكية العدوية بالقاهرة سنة 725هـ.
بعد ذلك أصبح تاريخهم غامضًا بسبب المعارك بينهم وبين المغول والسلاجقة وبين الفاطميين.
ظهر خلال ذلك الشيخ زين الدين أبو المحاسن: الذي يرتقي بنسبه إلى شقيق أبي البركات، عين أميرًا لليزيدية على الشام ثم اعتقله الملك سيف الدولة قلاوون بعد أن أصبح خطرًا لكثرة مؤيديه، ومات في سجنه.
جاء بعده ابنه الشيخ عز الدين، وكان مقره في الشام، ولقب بلقب أمير الأمراء، وأراد أن يقوم بثورة أموية فقبض عليه عام 731ه ومات في سجنه أيضًا.
استمرت دعوتهم في اضطهاد من الحكام وبقيت منطقة الشيخان في العراق محط أنظار اليزيديين، وكان كتمان السر من أهم ما تميزت به هذه الفرقة.
استطاع آخر رئيس للطائفة الأمير بايزيد الأموي أن يحصل على ترخيص بافتتاح مكتب للدعوة اليزيدية في بغداد سنة 1969م بشارع الرشيد بهدف إحياء عروبة الطائفة الأموية اليزيدية ووسيلتهم إلى ذلك نشر الدعوة القومية مدعمة بالحقائق الروحية والزمنية وشعارهم عرب أموي القومية، يزيديي العقيدة.
وآخر رئيس لهم هو الأمير تحسين بن سعد أمير الشيخان.
ونستطيع أن نجمل القول بأن الحركة قد مرّت بعدة أدوار هي:
ـ الدور الأول: حركة أموية سياسية، تتبلور في حب يزيد بن معاوية.
ـ الدور الثاني: تحول الحركة إلى طريقة عدوية أيام الشيخ عدي بن مسافر الأموي.
ـ الدور الثالث: انقطاع الشيخ حسن ست سنوات، ثم خروجه بكتبه مخالفًا فيها تعاليم الدين الإسلامي الحنيف.
ـ الدور الرابع: خروجهم التام من الإسلام وتحريم القراءة والكتابة ودخول المعتقدات الفاسدة والباطلة في تعاليمهم.
الأفكار والمعتقدات:
أولًا: مقدمة لفهم المعتقد اليزيدي:
حدثت معركة كربلاء في عهد يزيد بن معاوية وقتل فيها الحسين بن علي رضي الله عنه وكثيرون من آل البيت ـ رضوان الله عنهم جميعًا.
أخذ الشيعة يلعنون يزيدًا و يتهمونه بالزندقة وشرب الخمر.
بعد زوال الدولة الأموية بدأت اليزيدية على شكل حركة سياسية.
أحب اليزيديون يزيد واستنكروا لعنه بخاصة.
ثم استنكروا اللعن بعامة.
وقفوا أمام مشكلة لعن إبليس في القرآن فاستنكروا ذلك أيضًا وعكفوا على كتاب الله يطمسون بالشمع كل كلمة فيها لعن أو لعنة أو شيطان أو استعاذة بحجة أن ذلك لم يكن موجودًا في أصل القرآن وأن ذلك زيادة من صنع المسلمين.
ثم أخذوا يقدسون إبليس الملعون في القرآن، وترجع فلسفة هذا التقديس لديهم إلى أمور هي:
ـ لأنه لم يسجد لآدم فإنه بذلك ـ في نظرهم ـ يعتبر الموحد الأول الذي لم ينس وصية الرب بعدم السجود لغيره في حين نسيها الملائكة فسجدوا، إن أمر السجود لآدم كان مجرد اختبار، وقد نجح إبليس في هذا الاختبار فهو بذلك أول الموحدين، وقد كافأه الله على ذلك بأن جعله طاووس الملائكة، ورئيسًا عليهم! !.
ـ ويقدسونه كذلك خوفًا منه لأنه قوي إلى درجة أنه تصدى للإله وتجرأ على رفض أوامره ! !.
ـ ويقدسونه كذلك تمجيدًا لبطولته في العصيان والتمرد! !.
أغوى إبليس آدم بأن يأكل من الشجرة المحرمة فانتفخت بطنه فأخرجه الله من الجنة.
إن إبليس لم يطرد من الجنة، بل إنه نزل من أجل رعاية الطائفة اليزيدية على وجه الأرض! !.
ثانيًا: معتقداتهم:
جرَّهم اعتبار إبليس طاووس الملائكة إلى تقديس تمثال طاووس من النحاس على شكل ديك بحجم الكفِّ المضمومة وهم يطوفون بهذا التمثال على القرى لجمع الأموال.
وادي لالش في العراق: مكان مقدس يقع وسط جبال شاهقة تسمى بيت عذري، مكسوة بأشجار من البلوط والجوز.
المرجة في وادي لالش: تعتبر بقعة مقدسة، واسمها مأخوذ من مرجة الشام، والجزء الشرقي منها فيه ـ على حد قولهم ـ جبل عرفات ونبع زمزم.
لديهم مصحف رش (أي الكتاب الأسود) فيه تعاليم الطائفة ومعتقداتها.
الشهادة: أشهد واحد الله، سلطان يزيد حبيب الله.
الصوم: يصومون ثلاثة أيام من كل سنة في شهر كانون الأول وهي تصادف عيد ميلاد يزيد بن معاوية.
الزكاة: تجمع بواسطة الطاووس ويقوم بذلك القوالون وتجبى إلى رئاسة الطائفة.
الحج: يقفون يوم العاشر من ذي الحجة من كل عام على جبل عرفات في المرجة النورانية في لالش بالعراق.
الصلاة: يصلون في ليلة منتصف شعبان، يزعمون أنها تعوضهم عن صلاة سنة كاملة.
الحشر والنشر بعد الموت: سيكون في قرية باطط في جبل سنجار، حيث توضع الموازين بين يدي الشيخ عدي الذي سيحاسب الناس، وسوف يأخذ جماعته ويدخلهم الجنة.
يقسمون بأشياء باطلة ومن جملتها القسم بطوق سلطان يزيد وهو طرف الثوب.
يترددون على المراقد والأضرحة كمرقد الشيخ عدي والشيخ شمس الدين، والشيخ حسن وعبد القادر الجيلاني، ولكل مرقد خدم، وهم يستخدمون الزيت والشموع في إضاءتها.
يحرمون التزاوج بين الطبقات، ويجوز لليزيدي أن يعدد في الزواج إلى ست زوجات.
الزواج يكون عن طريق خطف العروس أولًا من قبل العريس ثم يأتي الأهل لتسوية الأمر.
يحرمون اللون الأزرق لأنه من أبرز ألوان الطاووس.
يحرمون أكل الخس والملفوف (الكرنب) والقرع والفاصوليا ولحوم الديكة وكذلك لحم الطاووس المقدس عندهم لأنه نظير لإبليس طاووس الملائكة في زعمهم، ولحوم الدجاج والسمك والغزلان ولحم الخنزير.
يحرمون حلق الشارب، بل يرسلونه طويلًا وبشكل ملحوظ.
إذا رسمت دائرة على الأرض حول اليزيدي فإنه لا يخرج من هذه الدائرة حتى تمحو قسمًا منها اعتقادًا منه بأن الشيطان هو الذي أمرك بذلك.
يحرمون القراءة والكتابة تحريمًا دينيًا لأنهم يعتمدون على علم الصدر فأدى ذلك إلى انتشار الجهل والأمية بينهم مما زاد في انحرافهم ومغالاتهم بيزيد وعدي وإبليس.
لديهم كتابان مقدسان هما: الجلوة الذي يتحدث عن صفات الإله ووصاياه والآخر مصحف رش أو الكتاب الأسود الذي يتحدث عن خلق الكون والملائكة وتاريخ نشوء اليزيدية وعقيدتهم.
يعتقدون أن الرجل الذي يحتضن ولد اليزيدي أثناء ختانه يصبح أخًا لأم هذا الصغير وعلى الزوج أن يحميه ويدافع عنه حتى الموت.
اليزيدي يدعو متوجهًا نحو الشمس عند شروقها وعند غروبها ثم يلثم الأرض ويعفر بها وجهه، وله دعاء قبل النوم.
لهم أعياد خاصة كعيد رأس السنة الميلادية وعيد المربعانية وعيد القربان وعيد الجماعة وعيد يزيد وعيد خضر إلياس وعيد بلندة ولهم ليلة تسمى الليلة السوداء (شفرشك) حيث يطفئون الأنوار ويستحلون فيها المحارم والخمور.
يقولون في كتبهم: (أطيعوا وأصغوا إلى خدامي بما يلقنونكم به ولا تبيحوا به قدام الأجانب كاليهود والنصارى وأهل الإسلام لأنهم لا يدرون ماهيته، ولا تعطوهم من كتبكم لئلا يغيروها عليكم وأنتم لا تعلمون).
الجذور الفكرية والعقائد:
اتصل عدي بن مسافر بالشيخ عبد القادر الجيلاني المتصوف، وقالوا بالحلول والتناسخ ووحدة الوجود، وقولهم في إبليس يشبه قول الحلاج الذي اعتبره إمام الموحدين.
يحترمون الدين النصراني، حتى إنهم يقبلون أيدي القسس ويتناولون معهم العشاء الرباني، ويعتقدون بأن الخمرة هي دم المسيح الحقيقي، وعند شربها لا يسمحون بسقوط قطرة واحدة منها على الأرض أو أن تمس لحية شاربها.
أخذوا عن النصارى (التعميد) حيث يؤخذ الطفل إلى عين ماء تسمى (عين البيضاء) ليعمد فيها، وبعد أن يبلغ أسبوعًا يؤتى به إلى مرقد الشيخ عدي حيث زمزم فيوضع في الماء وينطقون اسمه عاليًا طالبين منه أن يكون يزيديًا ومؤمنًا (بطاووس ملك) أي إبليس.
عندما دخل الإسلام منطقة كردستان كان معظم السكان يدينون بالزرادشتية فانتقلت بعض تعاليم هذه العقيدة إلى اليزيدية.
داخلتهم عقائد المجوس والوثنية فقد رفعوا يزيد إلى مرتبة الألوهية، والتنظيم عندهم (الله ـ يزيد ـ عدي).
(طاووس ملك) رمز وثني لإبليس يحتل تقديرًا فائقًا لديهم. · أخذوا عن الشيعة (البراءة) وهي كرة مصنوعة من تراب مأخوذة من زاوية الشيخ عدي يحملها كل يزيدي في جيبه للتبرك بها، وذلك على غرر التربة التي يحملها أفراد الشيعة الجعفرية. وإذا مات اليزيدي توضع في فمه هذه التربة وإلا مات كافرًا.
عمومًا: إن المنطقة التي انتشروا بها تعج بالديانات المختلفة كالزرادشتية وعبدة الأوثان، وعبدة القوى الطبيعية، واليهودية، والنصرانية، وبعضهم مرتبط بآلهة آشور وبابل وسومر، والصوفية من أهل الخطوة، وقد أثرت هذه الديانات في عقيدة اليزيدية بدرجات متفاوتة وذلك بسبب جهلهم وأميتهم مما زاد في درجة انحرافهم عن الإسلام الصحيح.
الانتشار ومواقع النفوذ:
تنتشر هذه الطائفة التي تقدس الشيطان في سوريا وتركيا وإيران وروسيا والعراق ولهم جاليات قليلة العدد نسبيًا في لبنان وألمانيا الغربية ـ سابقًا ـ وبلجيكا.
ويبلغ تعدادهم حوالي 120 ألف نسمة، منهم سبعون ألفًا في العراق والباقي في الأقطار الأخرى، وهم مرتبطون جميعًا برئاسة البيت الأموي.
هم من الأكراد، إلا أن بعضهم من أصل عربي.
لغتهم هي اللغة الكردية وبها كتبهم وأدعيتهم وتواشيحهم الدينية. · ولهم مكتب رسمي مصرح به وهو المكتب الأموي للدعوة العربية في شارع الرشيد ببغداد.
ويتضح مما سبق:
أن اليزيدية فرقة منحرفة ضالة، قدست يزيد بن معاوية وإبليس وعزرائيل، ويترددون على المراقد والأضرحة ولهم عقيدة خاصة في كل ركن من أركان الإسلام، ولهم أعياد خاصة كعيد رأس السنة الميلادية، ويجيزون لليزيدي أن يعدد في الزوجات حتى ست إلى غير ذلك من الأقوال الكفرية.
مراجع للتوسع:
ـ اليزيدية، تأليف سعيد الديوه جي.
ـ اليزيديون في حاضرهم وماضيهم، تأليف عبد الرزاق الحسني.
ـ اليزيدية، أحوالهم ومعتقداتهم، تأليف الدكتور سامي سعيد الأحمد.
ـ اليزيدية وأصل عقيدتهم، تأليف عباس الغزَّاوي.
ـ اليزيدية ومنشأ نحلتهم، تأليف أحمد تيمور.
ـ اليزيدية، تأليف صديق الدملوجي.
ـ اليزيديون، تأليف هاشم البناء.
ـ ما هي اليزيدية؟ ومن هم اليزيديون؟ تأليف محمود الجندي ـ مطبعة التضامن ط1 ـ بغداد 1976م.
ـ كرد وترك وعرب، تأليف ادموندز ـ ترجمة جرجس فتح الله.
ـ مباحث عراقية، تأليف يعقوب سركيس.
ـ الأكراد، تأليف باسيل نيكتن.
ـ مجموعة الرسائل والمسائل، تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية.
ـ رحلتي إلى العراق، تأليف جيمس بكنغهام ـ رجمة سليم طه التكريتي.
ـ جريدة التآخي العراقية، بغداد 16/9/1974م.
ـ العراق الشمالي، تأليف الدكتور شاكر خصباك.
ـ تاريخ الموصل، تأليف سليمان الصايغ.
القرامطة
التعريف:
القرامطة حركة باطنية هدامة تنتسب إلى شخص اسمه حمدان بن الأشعث ويلقب بقرمط لقصر قامته وساقيه وهو من خوزستان في الأهواز ثم رحل إلى الكوفة. وقد اعتمدت هذه الحركة التنظيم السري العسكري، وكان ظاهرها التشيع لآل البيت والانتساب إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق وحقيقتها الإلحاد والإباحية وهدم الأخلاق والقضاء على الدولة الإسلامية.
التأسيس وأبرز الشخصيات:
يتضح لنا تطور الحركة من خلال دراسة شخصياتها الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون المجوسية وتركوا أثرًا بارزًا على سيرهم وتشكلها عبر مسيرة طويلة من الزمن:
ـ بدأ عبد الله بن ميمون القداح رأس الأفعى القرمطية بنشر المبادئ الإسماعيلية في جنوب فارس سنة 260هـ.
ـ ومن ثم كان له داعية في العراق اسمه الفرج بن عثمان القاشاني المعروف بذكرويه الذي أخذ يبث الدعوة سرًا.
ـ وفي سنة 278 هـ نهض حمدان قرمط بن الأشعث يبث الدعوة جهرًا قرب الكوفة ثم بنى دارًا سماها دار الهجرة وقد جعل الصلاة خمسين صلاة في اليوم.
ـ هرب ذكرويه واختفي عشرين عامًا، وبعث أولاده متفرقين في البلاد يدعون للحركة.
ـ استخلف ذكرويه أحمد بن القاسم الذي بطش بقوافل التجار والحجاج وهزم في حمص وسيق ذكرويه إلى بغداد وتوفي سنة 294هـ.
ـ التف القرامطة في البحرين حول الحسن بن بهرام ويعرف بأبي سعيد الجنابي الذي سار سنة 283هـ البصرة فهزم.
قام بالأمر بعده ابنه سليمان بن الحسن بن بهرام ويعرف بأبي طاهر الذي استولى على كثير من بلاد الجزيرة العربية ودام ملكه فيها 30 سنة، ويعتبر مؤسس دولة القرامطة الحقيقي ومنظم دستورها السياسي الاجتماعي، بلغ من سطوته أن دفعت له حكومة بغداد الإتاوة ومن أعماله الرهيبة أنه:
ـ فتك هو ورجاله بالحُجاج حين رجوعهم من مكة ونهبوهم وتركوهم في الفقر حتى هلكوا.
ـ ملك الكوفة أيام المقتدر 295ـ 320هـ لمدة ستة أيام استحلها فيها.
ـ هاجم مكة عام 319هـ، وفتك بالحجاج، وهدم زمزم، وملأ المسجد بالقتلى، ونزع الكسوة، وقلع البيت العتيق، واقتلع الحجر الأسود، وسرقه إلى الأحساء، وبقي الحجر هناك عشرين سنة إلى عام 339هـ.
توفي سليمان فآلت الأمور لأخيه الحسن الأعصم الذي قوي أمره واستولى على دمشق سنة 360هـ، ثم توجه إلى مصر ودارت معارك له مع الخلافة الفاطمية، لكن الأعصم ارتد وانهزم القرامطة وتراجعوا إلى الأحساء.
خلع القرامطة الحسن لدعوته لبني العباس، أسند الأمر إلى رجلين هما جعفر وإسحاق اللذان توسعا ثم دار الخلاف بينهما وقاتلهم الأصفر التغلبي الذي ملك البحرين والأحساء وأنهى شوكتهم ودولتهم.
وللمجتمع القرمطي ملامحه المتميزة إذ تشكلت في داخله أربع طبقات اجتماعية متميزة:
ـ الطبقة الأولى: وتسميهم رسائل إخوان الصفا الإخوان الأبرار الرحماء "" وتشمل الشبان الذين تتراوح أعمارهم بين خمس عشرة وثلاثين سنة. وهم ممن على استعداد لقبول الأفكار القرمطية عقيدة وتمثلًا في نفوسهم."
ـ الطبقة الثانية: ويعرفون بـ "الإخوان الأخيار الفضلاء " وتشمل من كانت أعمارهم بين الثلاثين والأربعين سنة وهي مرتبة الرؤساء ذوي السياسات، ويكلفون بمراعاة " الإخوان " وتعهدهم وإظهار العطف عليهم ومساعدتهم.
ـ الطبقة الثالثة: وتشمل أولئك الذين هم بين الأربعين والخمسين من العمر، ممن يعرفون الناموس الإلهي وفق المفهوم القرمطي ويتمتعون بحق الأمر والنهي ودعم الدعوة القرمطية ودفع خصومها، وهؤلاء هم الذين ألفوا الرسائل العقائدية القرمطية وعمموها في الآفاق.
ـ الطبقة الرابعة: ويطلق على أصحاب هذه الطبقة اسم " المريدون " ثم " المعلمون " ثم " المقربون " إلى الله وتشمل من تجاوزت أعمارهم الخمسين سنة؛ وهي أعلى المراتب القرمطية، من يبلغها يكون في نظر هذه الفرقة من الناموس والطبيعة ويصبح من أهل الكشف اللدني إذ يستطيع رؤية أحوال القيامة من البعث والنشور والحساب والميزان …
الأفكار والمعتقدات:
حينما قام القرامطة بحركتهم أظهروا بعض الأفكار والآراء التي يزعمون أنهم يقاتلون من أجلها، فقد نادوا بأنهم يقاتلون من أجل آل البيت، وإن لم يكن آل البيت قد سلموا من سيوفهم.
ثم أسسوا دولة شيوعية تقوم على شيوع الثروات وعدم احترام الملكية الشخصية.
يجعلون الناس شركاء في النساء بحجة استئصال أسباب المباغضة فلا يجوز لأحد أن يحجب امرأته عن إخوانه وأشاعوا أن ذلك يعمل زيادة الألفة والمحبة (وهذا ما كان عليه المزدكيون الفارسيون من قبل).
إلغاء أحكام الإسلام الأساسية كالصوم والصلاة وسائر الفرائض الأخرى.
استخدام العنف ذريعة لتحقيق الأهداف.
يعتقدون بإبطال القول بالمعاد والعقاب وأن الجنة هي النعيم في الدنيا والعذاب هو اشتغال أصحاب الشرائع بالصلاة والصيام والحج والجهاد.
ينشرون معتقداتهم وأفكارهم بين العمال والفلاحين والبدو الجفاة وضعفاء النفوس وبين الذين يميلون إلى عاجل اللذات، وأصبح القرامطة بذلك مجتمع ملاحدة وسفاكين يستحلون النفوس والأموال والأعراض.
يقولون بالعصمة وإنه لا بد في كل زمان من إمام معصوم يؤول الظاهر ويساوي النبي في العصمة، ومن تأويلاتهم:
ـ الصيام: الإمساك عن كشف السر.
ـ البعث: الاهتداء إلى مذهبهم.
ـ النبي: عبارة عن شخص فاضت عليه من الإله الأول قوة قدسية صافية.
ـ القرآن: هو تعبير محمد عن المعارف التي فاضت عليه ومركب من جهته وسمي كلام الله مجازًا.
يفرضون الضرائب على أتباعهم إلى حد يكاد يستغرق الدخل الفرديَّ لكل منهم.
يقولون بوجود إلهين قديمين أحدهما علة لوجود الثاني، وأن السابق خلق العالم بواسطة التالي لا بنفسه، الأول تام والثاني ناقص، والأول لا يوصف بوجود ولا عدم فلا هو موصوف ولا غير موصوف.
يدخلون على الناس من جهة ظلم الأمة لعلي بن أبي طالب وقتلهم الحسين.
يقولون بالرجعة وأن عليًا يعلم الغيب فإذا تمكنوا من الشخص أطلعوه على حقيقتهم في إسقاط التكاليف الشرعية وهدم الدين.
يعتقدون بأن الأئمة والأديان والأخلاق ليست إلا ضلالًا.
يدعون إلى مذهبهم اليهود والصابئة والنصارى والمجوسية والفلاسفة وأصحاب المجون والملاحدة والدهريين، ويدخلون على كل شخص من الباب الذي يناسبه.
الجذور الفكرية والعقائدية:
فلسفتهم مادية تسربت إليها تعاليم الملاحدة والمتآمرين من أئمة الفرس.
تأثروا بمبادئ الخوارج الكلامية والسياسية ومذاهب الدهرية.
يتعلقون بمذاهب الملحدين من مثل مزدك وزرادشت.
أساس معتقدهم ترك العبادات والمحظورات وإقامة مجتمع يقوم على الإباحية والشيوع في النساء والمال.
فكرتهم الجوهرية هي حشد جمهور كبير من الأنصار ودفعهم إلى العمل لغاية يجهلونها.
الانتشار ومواقع النفوذ:
دامت هذه الحركة قرابة قرن من الزمان، وقد بدأت من جنوبي فارس وانتقلت إلى سواد الكوفة والبصرة وامتدت إلى الأحساء والبحرين واليمن وسيطرت على رقعة واسعة من جنوبي الجزيرة العربية والصحراء الوسطى وعمان وخراسان. وقد دخلوا مكة واستباحوها واحتلوا دمشق ووصلوا إلى حمص والسلمية. وقد مضت جيوشهم إلى مصر وعسكرت في عين شمس قرب القاهرة ثم انحسر سلطانهم وزالت دولتهم وسقط آخر معاقلهم في الأحساء والبحرين. هذا ومما يلاحظ الآن أن هناك كتابات مشبوهة تحاول أن تقدم حركة القرامطة وغيرها من حركات الردة على أنها حركات إصلاحية وأن قادتها رجال أحرار ينشدون العدالة والحرية.
ويتضح مما سبق:
أن هذه الحركة كان هدفها محاربة الإسلام بكل الوسائل وذلك بارتكاب الكبائر وهتك الأعراض وسفك الدماء والسطو على الأموال وتحليل المحرمات بين أتباعهم حتى يجمعوا عليهم أصحاب الشهوات والمراهقين وأسافل الناس، وتعتبر عقائدها نفسها عقائد الإسماعيلية في خلاف في بعض النواحي التطبيقية التي لم يستطيع الإسماعيلية تطبيقها خوفًا من ثورة الناس عليهم ويخرجهم من الإسلام عقائدهم التالية:
أولًا: اعتقادهم باحتجاب الله في صورة البشر.
ثانيًا: قولهم بوجود إلهين.
ثالثًا: تطبيقهم مبدأ إشاعة الأموال والنساء.
رابعًا: عدم التزامهم بتعاليم الإسلام في قليل أو كثير.
خامسًا: فساد عقيدتهم في الوحي والنبوة والرسالة.
سادسًا: انتهاكهم حرمات الإسلام بالاعتداء على الحجيج واقتحام الكعبة ونزع الحجر الأسود ونقله إلى مكان آخر.
سابعًا: إنكارهم للقيامة والجنة والنار.
الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة-الندوة العالمية للشباب الإسلامي-صدرت: 1418هـ/1997م
7-معجم البلدان (رغال)
رِغالٌ:بكسر أوّله، وآخره لام، كأنّه جمع رغل:
وهو نبت من الحمض ورقه مفتول، وقال الليث:
الرّغل نبات تسمّيه الفرس السّرمق، وقبر أبي رغال يرجم قرب مكّة، وكان وافد عاد جاء إلى مكّة يستسقي لهم وله قصة، وقيل: إن أبا رغال رجل من بقية ثمود وإنّه كان ملكا بالطائف وكان يظلم رعيته فمرّ بامرأة ترضع صبيّا يتيما بلبن عنز لها فأخذها منها فبقي الصبي بلا مرضعة فمات، وكانت سنة مجدبة فرماه الله بقارعة أهلكته فرجمت العرب قبره وهو بين مكّة والطائف، وقيل: بل كان قائد الفيل ودليل الحبشة لما غزوا الكعبة فهلك فيمن هلك منهم فدفن بين مكّة والطائف فمرّ النبيّ، صلى الله عليه وسلّم، بقبره فأمر برجمه فصار ذلك سنّة، وقيل: إن ثقيفا واسمه قسي كان عبدا لأبي رغال وأصله من قوم نجوا من ثمود فهرب من مولاه ثمّ ثقفه فسمّاه ثقيفا وانتمى ولده بعد ذلك إلى قيس، وقال حمّاد الراوية: أبو رغال أبو ثقيف كلّها وإنّه من بقيّة ثمود، ولذلك قال حسّان بن ثابت يهجو ثقيفا:
«إذا الثّقفيّ فاخركم فقولوا *** هلمّ فعدّ شأن أبي رغال»
«أبوكم أخبث الأحياء قدما، *** وأنتم مشبهوه على مثال»
«عبيد الفزر أورثه بنيه *** وولّى عنهم أخرى اللّيالي»
وكان الحجّاج يقول: يقولون إنّنا بقية ثمود وهل مع صالح إلّا المقرّبون؟ وقال السكري في شرح قول جرير:
«إذا مات الفرزدق فارجموه *** كما ترمون قبر أبي رغال»
قال: أبو رغال اسمه زيد بن مخلف، كان عبدا لصالح النبيّ، صلى الله عليه وسلّم، بعثه مصدّقا، وإنّه أتى قوما ليس لهم لبن إلّا شاة واحدة ولهم صبيّ قد ماتت أمّه فهم يعاجونه بلبن تلك الشاة، يعني يغذونه، والعجيّ: الذي يغذى بغير لبن أمّه، فأبى أن يأخذ غيرها، فقالوا: دعها تحايي هذا الصبي، فأبى، فيقال: إنّه نزلت به قارعة من السماء، ويقال: بل قتله ربّ الشاة، فلمّا فقده صالح، عليه السلام، قام في الموسم فنشد الناس فأخبر بصنيعه فلعنه، فقبره بين مكّة والطائف ترجمه الناس، وقد ذكر ابن إسحاق في أبي رغال ما هو أحسن من جميع ما تقدم: وهو أن أبرهة بن الصباح صاحب الفيل لما قدم لهدم الكعبة مرّ بالطائف فخرج إليه مسعود بن معتّب في رجال ثقيف فقالوا له: أيّها الملك إنّما نحن عبيدك سامعون
لك مطيعون وليس لك عندنا خلاف وليس بيتنا هذا الذي تريده، يعنون اللات، إنّما تريد البيت الذي بمكّة ونحن نبعث معك من يدلّك عليه، فتجاوز عنهم وبعثوا معه بأبي رغال رجل منهم يدلّه على مكّة، فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله بالمغمّس، فلمّا نزله مات أبو رغال
«إذا مات الفرزدق فارجموه *** كما ترمون قبر أبي رغال»
معجم البلدان-شهاب الدين أبو عبدالله ياقوت بن عبدالله الرومي الحموي-توفي: 626هـ/1229م
8-موسوعة الفقه الكويتية (إعذار 1)
إِعْذَارٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- مِنْ مَعَانِي الْإِعْذَارِ لُغَةً: الْمُبَالَغَةُ، يُقَالُ: أَعْذَرَ فِي الْأَمْرِ، إِذَا بَالَغَ فِيهِ، وَفِي الْمَثَلِ: أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ، يُقَالُ ذَلِكَ لِمَنْ يَحْذَرُ أَمْرًا يُخَافُ، سَوَاءٌ حَذَّرَ أَمْ لَمْ يُحَذِّرْ، وَأَعْذَرَ أَيْضًا: صَارَ ذَا عُذْرٍ، قِيلَ: وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ.وَعَذَرْتُ الْغُلَامَ وَالْجَارِيَةَ عُذْرًا: خَتَنْتُهُ فَهُوَ مَعْذُورٌ، وَأَعْذَرْتُهُ لُغَةً فِيهِ، وَالْإِعْذَارُ أَيْضًا: طَعَامٌ يُتَّخَذُ لِسُرُورٍ حَادِثٍ، وَيُقَالُ: هُوَ طَعَامُ الْخِتَانِ خَاصَّةً، وَهُوَ مَصْدَرٌ مُسَمًّى بِهِ، يُقَالُ: أَعْذَرَ إِعْذَارًا: إِذَا صَنَعَ ذَلِكَ الطَّعَامَ.
وَلَا يَخْرُجُ مَعْنَاهُ فِي الِاصْطِلَاحِ عَنِ الْمَعَانِي السَّابِقَةِ.
قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَالْإِعْذَارُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الْعُذْرِ، وَمِنْهُ أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ، أَيْ قَدْ بَالَغَ فِي الْإِعْذَارِ مَنْ تَقَدَّمَ إِلَيْكَ فَأَنْذَرَكَ، وَمِنْهُ إِعْذَارُ الْقَاضِي إِلَى مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ حَقٌّ يُؤْخَذُ مِنْهُ، فَيُعْذِرُ إِلَيْهِ فِيمَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْإِنْذَارُ:
2- الْإِنْذَارُ: الْإِبْلَاغُ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي التَّخْوِيفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} أَيْ خَوِّفْهُمْ عَذَابَ هَذَا الْيَوْمِ.فَيَجْتَمِعُ مَعَ الْإِعْذَارِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إِبْلَاغٌ مَعَ تَخْوِيفٍ إِلاَّ أَنَّ فِي الْإِعْذَارِ الْمُبَالَغَةَ.
ب- الْإِعْلَامُ:
3- الْإِعْلَامُ: مَصْدَرُ أَعْلَمَ.يُقَالُ أَعْلَمْتُهُ الْخَبَرَ: أَيْ عَرَّفْتُهُ إِيَّاهُ، فَهُوَ يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِعْذَارِ فِي أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا تَعْرِيفًا، إِلاَّ أَنَّ فِي الْإِعْذَارِ الْمُبَالَغَةَ.
ج- الْإِبْلَاغُ:
4- الْإِبْلَاغُ: مَصْدَرُ أَبْلَغَ، وَالِاسْمُ مِنْهُ الْبَلَاغُ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْإِيصَالِ.يُقَالُ: أَبْلَغْتُهُ السَّلَامَ: أَيْ أَوْصَلْتُهُ إِيَّاهُ.فَهُوَ يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِعْذَارِ فِي أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إِيصَالًا لِمَا يُرَادُ، لَكِنَّ الْإِعْذَارَ يَنْفَرِدُ بِالْمُبَالَغَةِ.
د- التَّحْذِيرُ:
5- التَّحْذِيرُ: التَّخْوِيفُ مِنْ فِعْلِ الشَّيْءِ.يُقَالُ: حَذَّرْتُهُ الشَّيْءَ فَحَذِرَهُ: إِذَا خَوَّفْتُهُ فَخَافَهُ، فَهُوَ يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِعْذَارِ فِي التَّخْوِيفِ، وَيَنْفَرِدُ الْإِعْذَارُ بِأَنَّهُ لِقَطْعِ الْعُذْرِ.
هـ- الْإِمْهَالُ:
6- الْإِمْهَالُ لُغَةً: مَصْدَرُ أَمْهَلَ، وَهُوَ التَّأْخِيرُ.وَلَا يَخْرُجُ مَعْنَاهُ فِي الِاصْطِلَاحِ عَنْ ذَلِكَ.وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِعْذَارِ: أَنَّ الْإِعْذَارَ قَدْ يَكُونُ مَعَ ضَرْبِ مُدَّةٍ وَقَدْ لَا يَكُونُ.وَالْإِمْهَالُ لَا يَكُونُ إِلاَّ مَعَ ضَرْبِ مُدَّةٍ.كَمَا أَنَّ الْإِمْهَالَ لَا تُلَاحَظُ فِيهِ الْمُبَالَغَةُ-
و- التَّلَوُّمُ:
7- التَّلَوُّمُ لُغَةً: الِانْتِظَارُ وَالتَّمَكُّثُ، وَالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ لَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ، إِذْ يُرَادُ بِهِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَدَمُ الْفَوْرِيَّةِ فِي الْأَمْرِ، بَلْ يُطْلَقُ الِانْتِظَارُ فِي كُلِّ أَمْرٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ.
وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَحْثِ خَاصٌّ بِالْإِعْذَارِ بِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي قَطْعِ الْعُذْرِ.أَمَّا بِمَعْنَى الْخِتَانِ أَوِ الطَّعَامِ الْمَصْنُوعِ لِسُرُورٍ حَادِثٍ فَيُنْظَرُ الْكَلَامُ فِيهِمَا تَحْتَ عِنْوَانَيْ: (خِتَانٌ، وَوَلِيمَةٌ).
حُكْمُهُ التَّكْلِيفِيُّ:
8- مَوَاطِنُ الْإِعْذَارِ مُتَعَدِّدَةٌ، وَلَيْسَ لَهَا حُكْمٌ وَاحِدٌ يَجْمَعُهَا، لَكِنَّهُ فِي الْجُمْلَةِ مَطْلُوبٌ، وَيَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِحَسَبِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَرَاهُ وَاجِبًا فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَاهُ مُسْتَحَبًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ عَلَى نَحْوِ مَا يَأْتِي.
دَلِيلُ الْمَشْرُوعِيَّةِ:
9- الْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْإِعْذَارِ قوله تعالى فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وقوله تعالى فِي سُورَةِ النَّمْلِ فِي قِصَّةِ الْهُدْهُدِ: {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأُولَى: أَنَّ اللَّهَ لَا يُهْلِكُ أُمَّةً بِعَذَابٍ إِلاَّ بَعْدَ الرِّسَالَةِ إِلَيْهِمْ وَالْإِنْذَارِ، وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلْعَذَابِ.
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِالثَّانِيَةِ: أَنَّ فِيهَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَ عُذْرَ رَعِيَّتِهِ، وَيَدْرَأَ الْعُقُوبَةَ عَنْهُمْ فِي ظَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ بِبَاطِنِ أَعْذَارِهِمْ، لِأَنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يُعَاقِبِ الْهُدْهُدَ حِينَ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ.
الْإِعْذَارُ فِي الرِّدَّةِ (الِاسْتِتَابَةُ):
10- (الرِّدَّةُ): الرُّجُوعُ عَنِ الْإِسْلَامِ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا عَلَى خِلَافٍ وَتَفْصِيلٍ فِيمَا يَكُونُ رِدَّةً أَوْ لَا يَكُونُ، يُنْظَرُ تَحْتَ عِنْوَانَيْ: (إِسْلَامٌ، رِدَّةٌ).
حُكْمُ الْإِعْذَارِ إِلَى الْمُرْتَدِّ:
11- مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ اسْتِتَابَةَ الْمُرْتَدِّ مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ وَاجِبَةً، فَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: مَنِ ارْتَدَّ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ اسْتِحْبَابًا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَتُكْشَفُ شُبْهَتُهُ وَيُحْبَسُ وُجُوبًا، وَقِيلَ: نَدْبًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا إِنْ طَلَبَ الْمُهْلَةَ لِيَتَفَكَّرَ، فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ مُهْلَةً بَعْدَ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ وَكَشْفِ شُبْهَتِهِ قُتِلَ مِنْ سَاعَتِهِ، إِلاَّ إِذَا رُجِيَ إِسْلَامُهُ فَإِنَّهُ يُمْهَلُ، قِيلَ: وُجُوبًا، وَقِيلَ: اسْتِحْبَابًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ.
وَإِذَا ارْتَدَّ ثَانِيًا ثُمَّ تَابَ ضَرَبَهُ الْإِمَامُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ، وَإِنِ ارْتَدَّ ثَالِثًا ضَرَبَهُ الْإِمَامُ ضَرْبًا وَجِيعًا وَحَبَسَهُ حَتَّى تَظْهَرَ عَلَيْهِ آثَارُ التَّوْبَةِ، وَيَرَى أَنَّهُ مُخْلِصٌ ثُمَّ يُخَلِّي سَبِيلَهُ، فَإِنْ عَادَ فُعِلَ بِهِ هَكَذَا.
لَكِنْ نَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنْ آخَرِ حُدُودِ الْخَانِيَّةِ مَعْزِيًّا لِلْبَلْخِيِّ مَا يُفِيدُ قَتْلَهُ بِلَا اسْتِتَابَةٍ، لِحَدِيثِ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»، وَكُرِهَ تَنْزِيهًا قَتْلُهُ قَبْلَ الْعَرْضِ عَلَيْهِ، فَإِنْ قَتَلَهُ قَبْلَ الْعَرْضِ فَلَا ضَمَانَ، لِأَنَّ الْكُفْرَ مُبِيحٌ لِلدَّمِ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ وُجُوبِ الِاسْتِتَابَةِ بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وَلَمْ يَذْكُرِ اسْتِتَابَتَهُ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُقْتَلُ حَتَّى يُسْتَتَابَ وُجُوبًا، وَمُدَّةُ الِاسْتِتَابَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا، وَفِي قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، أَنَّهُ يُسْتَتَابُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَالْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ، هِيَ مِنْ يَوْمِ الثُّبُوتِ لَا مِنْ يَوْمِ الْكُفْرِ، وَلَا يُحْسَبُ يَوْمُ الرَّفْعِ إِلَى الْحَاكِمِ، وَلَا يَوْمُ الثُّبُوتِ إِنْ كَانَ الثُّبُوتُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلَا يُعَاقَبُ بِجُوعٍ وَلَا عَطَشٍ وَلَا بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِقَابِ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ بِالتَّوْبَةِ فَإِنْ تَابَ تُرِكَ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ فِي الْحَالِ بِلَا اسْتِتَابَةٍ.
دَلِيلُ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ:
12- احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الِاسْتِتَابَةِ بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ أَنْ يُسْتَتَابَ الْمُرْتَدُّ، وَبِمَا رَوَى الْإِمَامُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْقَارِيَّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ رَجُلٌ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: هَلْ مِنْ مُغْرِبَةِ خَبَرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ.رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، فَقَالَ: مَا فَعَلْتُمْ بِهِ؟ قَالَ: قَرَّبْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ.فَقَالَ عُمَرُ: فَهَلاَّ حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا، فَأَطْعَمْتُمُوهُ رَغِيفًا كُلَّ يَوْمٍ وَاسْتَتَبْتُمُوهُ لَعَلَّهُ يَتُوبُ أَوْ يُرَاجِعُ أَمْرَ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَحْضُرْ، وَلَمْ أَرْضَ إِذْ بَلَغَنِي.
وَلَوْ لَمْ تَجِبِ اسْتِتَابَتُهُ لَمَا بَرِئَ مِنْ فِعْلِهِمْ، وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَ اسْتِصْلَاحُهُ فَلَمْ يَجُزْ إِتْلَافُهُ قَبْلَ اسْتِصْلَاحِهِ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ، وَأَمَّا الْأَمْرُ بِقَتْلِهِ فِي قَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ».فَالْمُرَادُ بِهِ قَتْلُهُ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ.
الْإِعْذَارُ إِلَى الْمُرْتَدَّةِ:
13- مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ أَوِ الْمُرْتَدَّةِ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ إِنْ لَمْ يَرْجِعُوا إِلَى الْإِسْلَامِ عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ فِي وُجُوبِ الْإِعْذَارِ أَوِ اسْتِحْبَابِهِ.رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ- رضي الله عنهما-، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَمَكْحُولٌ وَحَمَّادٌ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ أَنَّهَا تُسْتَرَقُّ وَلَا تُقْتَلُ، لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَرَقَّ نِسَاءَ بَنِي حَنِيفَةَ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهَا تُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ وَلَا تُقْتَلُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَقْتُلُوا امْرَأَةً» وَلِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ بِالْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ فَلَا تُقْتَلُ بِالطَّارِئِ.
وَلِلْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ إِذْ قَالُوا: إِنَّهَا تُقْتَلُ إِنْ لَمْ تَرْجِعْ إِلَى الْإِسْلَامِ، لَكِنْ تُسْتَبْرَأُ قَبْلَ الْقَتْلِ بِحَيْضَةٍ، خَشْيَةَ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا، فَإِنْ حَاضَتْ أَيَّامَ الِاسْتِتَابَةِ انْتُظِرَ تَمَامُهَا فَيُنْتَظَرُ أَقْصَرُ الْأَجَلَيْنِ، فَإِنْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ أُخِّرَتْ حَتَّى تَضَعَ.
وَمُقْتَضَى مَا ذُكِرَ أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ تُسْتَتَابُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنْ رَجَعَتْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَإِلاَّ قُتِلَتْ، وَأَنَّ مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ جَبْرُهَا عَلَى الْعَوْدَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ.
الْإِعْذَارُ فِي الْجِهَادِ:
14- الْحَرْبِيُّونَ هُمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ بِبِلَادِ الْكُفْرِ، وَلَا صُلْحَ لَهُمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ.فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يُحَارَبُونَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}.وَشَرْطُ مُحَارَبَتِهِمْ بُلُوغُ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِمْ فَلَا تَجُوزُ مُحَارَبَتُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ أَمْرٌ أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}
وَلَكِنْ هَلْ يَجِبُ تَكْرَارُ دَعْوَتُهُمْ إِذَا تَكَرَّرَتْ مُحَارَبَتُهُمْ؟ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَكْرَارُ دَعْوَتِهِمْ، بَلْ يُسْتَحَبُّ.
قَالَ الْكَاسَانِيُّ: وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَجِبُ عَلَى الْغُزَاةِ الِافْتِتَاحُ بِهِ حَالَةَ الْوَقْعَةِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ، فَإِنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَةُ قَدْ بَلَغَتْهُمْ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ، فَإِنْ كَانَتِ الدَّعْوَةُ لَمْ تَبْلُغْهُمْ فَعَلَيْهِمُ الِافْتِتَاحُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِاللِّسَانِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {اُدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وَلَا يَجُوزُ لَهُمُ الْقِتَالُ قَبْلَ الدَّعْوَةِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ، فَاسْتَحَقُّوا الْقَتْلَ بِالِامْتِنَاعِ، لَكِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَرَّمَ قِتَالَهُمْ قَبْلَ بَعْثِ الرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام-، وَبُلُوغِ الدَّعْوَةِ إِيَّاهُمْ فَضْلًا مِنْهُ وَمِنَّةً، قَطْعًا لِمَعْذِرَتِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ كَانَ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ، لَمَّا أَقَامَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنَ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي لَوْ تَأَمَّلُوهَا حَقَّ التَّأَمُّلِ وَنَظَرُوا فِيهَا لَعَرَفُوا حَقَّ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْهِمْ، لَكِنْ تَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ ( ( ( (، لِئَلاَّ يَبْقَى لَهُمْ شُبْهَةُ عُذْرٍ فَيَقُولُونَ: {رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلِأَنَّ الْقِتَالَ مَا فُرِضَ لِعَيْنِهِ، بَلْ لِلدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ.
وَالدَّعْوَةُ دَعْوَتَانِ: دَعْوَةُ بِالْبَنَانِ وَهِيَ الْقِتَالُ، وَدَعْوَةُ بِالْبَيَانِ وَهِيَ اللِّسَانُ، وَذَلِكَ بِالتَّبْلِيغِ، وَالثَّانِيَةُ أَهْوَنُ مِنَ الْأُولَى، لِأَنَّ فِي الْقِتَالِ مُخَاطَرَةَ الرُّوحِ وَالنَّفْسِ وَالْمَالِ، وَلَيْسَ فِي دَعْوَةِ التَّبْلِيغِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا احْتَمَلَ حُصُولُ الْمَقْصُودِ بِأَهْوَنِ الدَّعْوَتَيْنِ لَزِمَ الِافْتِتَاحُ بِهَا، هَذَا إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَةُ لَمْ تَبْلُغْهُمْ.فَإِنْ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ جَازَ لَهُمْ أَنْ يَفْتَتِحُوا الْقِتَالَ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْحُجَّةَ لَازِمَةٌ، وَالْعُذْرُ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْقَطِعٌ، وَشُبْهَةُ الْعُذْرِ انْقَطَعَتْ بِالتَّبْلِيغِ مَرَّةً، لَكِنْ مَعَ هَذَا الْأَفْضَلُ أَلاَّ يَفْتَتِحُوا الْقِتَالَ إِلاَّ بَعْدَ تَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ لِرَجَاءِ الْإِجَابَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَكُنْ يُقَاتِلُ الْكَفَرَةَ حَتَّى يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ.فِيمَا كَانَ دَعَاهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ.دَلَّ أَنَّ الِافْتِتَاحَ بِتَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ أَفْضَلُ، ثُمَّ إِذَا دَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَسْلَمُوا كَفُّوا عَنْهُمُ الْقِتَالَ، لِقَوْلِهِ- عليه الصلاة والسلام-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا» وَقَوْلُهُ- عليه الصلاة والسلام- «مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي دَمَهُ وَمَالَهُ» فَإِنْ أَبَوِا الْإِجَابَةَ إِلَى الْإِسْلَامِ دَعَوْهُمْ إِلَى الذِّمَّةِ إِلاَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ (لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِلاَّ الْإِسْلَامُ) فَإِنْ أَجَابُوا كَفُّوا عَنْهُمْ، وَإِنْ أَبَوْا اسْتَعَانُوا بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى قِتَالِهِمْ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَى أَنَّهُمْ يُدْعَوْنَ وُجُوبًا سَوَاءٌ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ أَمْ لَا، مَا لَمْ يُعَاجِلُونَا بِالْقِتَالِ أَوْ يَكُونُ الْجَيْشُ قَلِيلًا، قَالُوا: وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَانَتْ إِغَارَةُ سَرَايَاهُ- عليه الصلاة والسلام-.
وَلِلْحَنَابِلَةِ تَفْصِيلٌ بَيَّنَهُ ابْنُ قُدَامَةَ بِقَوْلِهِ: أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسُ لَا يُدْعَوْنَ قَبْلَ الْقِتَالِ، لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قَدِ انْتَشَرَتْ وَعَمَّتْ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ إِلاَّ نَادِرًا بَعِيدًا.وَأَمَّا عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ فَإِنَّ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ مِنْهُمْ لَا يُدْعَوْنَ، وَإِنْ وُجِدَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ دُعِيَ قَبْلَ الْقِتَالِ، قَالَ أَحْمَدُ: كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَدْعُو إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُحَارِبَ حَتَّى أَظْهَرَ اللَّهُ الدِّينَ وَعَلَا الْإِسْلَامُ، وَلَا أَعْرِفُ الْيَوْمَ أَحَدًا يُدْعَى، قَدْ بَلَغَتِ الدَّعْوَةُ كُلَّ أَحَدٍ، فَالرُّومُ قَدْ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ وَعَلِمُوا مَا يُرَادُ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الدَّعْوَةُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ دَعَا فَلَا بَأْسَ. الْإِعْذَارُ إِلَى الْبُغَاةِ:
15- الْبُغَاةُ: هُمُ الْخَارِجُونَ عَلَى الْإِمَامِ الْحَقِّ بِتَأْوِيلٍ، وَلَهُمْ مَنَعَةٌ.وَقَدِ اتَّفَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِمُ الْإِمَامُ أَمِينًا فَطِنًا نَاصِحًا يَسْأَلُهُمْ مَا يَنْقِمُونَ، فَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلَمَةً أَوْ شُبْهَةً أَزَالَهَا، فَإِنْ أَصَرُّوا بَعْدَ الْإِعْذَارِ نَصَحَهُمْ، بِأَنْ يَعِظَهُمْ وَيَأْمُرَهُمْ بِالْعَوْدَةِ إِلَى طَاعَتِهِ، فَإِنِ اسْتَمْهَلُوهُ اجْتَهَدَ فِي الْإِمْهَالِ، وَفَعَلَ مَا رَآهُ صَوَابًا.
وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يُعَاجِلُوا بِالْقِتَالِ، فَإِنْ عَاجَلُوا قُوتِلُوا.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ دَعْوَتَهُمْ إِلَى طَاعَةِ الْإِمَامِ وَكَشْفَ شُبْهَتِهِمْ أَمْرٌ مُسْتَحَبٌّ وَلَيْسَ وَاجِبًا، وَلَوْ قَاتَلَهُمْ بِلَا دَعْوَةٍ جَازَ.
الْإِعْذَارُ فِي الدَّعْوَى:
16- الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ كُلُّ مَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ حَقٌّ، إِمَّا بِإِقْرَارٍ، إِنْ كَانَ مِمَّنْ يَصِحُّ إِمْرَارُهُ، وَإِمَّا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ عَجْزِهِ عَنْ دَفْعِ الدَّعْوَى وَبَعْدَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِ قَبْلَ الْحُكْمِ، وَإِمَّا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِ الِاسْتِبْرَاءِ، إِنْ كَانَ الْحَقُّ عَلَى مَيِّتٍ أَوْ عَلَى غَائِبٍ، وَإِمَّا بِلَدَدِهِ وَتَغَيُّبِهِ عَنْ حُضُورِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَقِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَإِمَّا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ وَلَدَدِهِ عَنِ الْجَوَابِ عَنِ الدَّعْوَى.
وَالْمَقْضِيُّ عَلَيْهِمْ أَنْوَاعٌ: مِنْهُمُ الْحَاضِرُ الْمَالِكُ أَمْرَهُ، وَمِنْهُمُ الْغَائِبُ الصَّغِيرُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمُ السَّفِيهُ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَمِنْهُمُ الْوَرَثَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ فِي مَالِ الْمَيِّتِ وَفِيهِمُ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ.
فَإِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَاضِرًا بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَادُّعِيَتِ الدَّعْوَى وَكَانَتْ مُسْتَوْفِيَةَ الشُّرُوطِ، طَلَبَ الْقَاضِي مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْجَوَابَ عَنْهَا، وَسَارَ الْقَاضِي فِيهَا حَسْبَمَا هُوَ مُدَوَّنٌ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ.
فَإِنْ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْحَقِّ الْمُدَّعَى، فَهَلْ يَحْكُمُ الْقَاضِي بِمُقْتَضَى الْإِقْرَارِ حَالًا، أَوْ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ إِجْرَاءً آخَرَ جَائِزًا أَوْ وَاجِبًا؟
قَالَ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ: يُقْضَى عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ آخَرَ كَالْإِعْذَارِ وَنَحْوِهِ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ: لَا بُدَّ لِلْحُكْمِ بِمُقْتَضَى الْإِقْرَارِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْإِقْرَارِ شَاهِدَانِ.
وَفِي الْمَذَاهِبِ تَفْصِيلَاتٌ فِي الْإِعْذَارِ إِلَى الْغَائِبِ عَنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، فِي حُكْمِ الْإِعْذَارِ وَفِي وَقْتِهِ، وَفِي الْمَسَافَةِ الَّتِي يُعْذَرُ إِلَيْهِ فِيهَا، وَفِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الَّذِي يَمْتَنِعُ الْإِعْذَارُ إِلَيْهِ.
وَفُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ عَنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ إِلاَّ بَعْدَ الْإِعْذَارِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُقْضَى عَلَيْهِ.وَتَخْتَلِفُ الْمَذَاهِبُ فِي زَمَنِ الْإِعْذَارِ وَكَيْفِيَّتِهِ.
مَا يَسْقُطُ بِهِ الْإِعْذَارُ:
17- قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: كُلُّ مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِحَقٍّ مِنْ مُعَامَلَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، أَوْ دَعْوَى بِفَسَادٍ أَوْ تَعَدٍّ أَوْ غَصْبٍ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِ قَبْلَ الْحُكْمِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ الظَّاهِرِ، أَوْ مِنَ الزَّنَادِقَةِ الْمَشْهُورِينَ بِمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِمْ، فَلَا يُعْذَرُ إِلَيْهِمْ فِيمَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِمْ.كَمَا حَدَثَ بِالنِّسْبَةِ لِأَبِي الْخَيْرِ الزِّنْدِيقِ، لَمَّا شَهِدَ عَلَيْهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَاهِدًا أَمَامَ قَاضِي الْجَمَاعَةِ مُنْذِرِ بْنِ سَعِيدٍ بِأَنَّهُ يُصَرِّحُ بِالْكُفْرِ وَالِانْسِلَاخِ مِنَ الْإِيمَانِ، فَأَشَارَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنْ يُعْذَرَ إِلَيْهِ فِيمَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ، وَأَشَارَ قَاضِي الْجَمَاعَةِ وَبَعْضٌ آخَرُ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّهُ يُقْتَلُ بِغَيْرِ إِعْذَارٍ، لِأَنَّهُ مُلْحِدٌ كَافِرٌ، وَقَدْ وَجَبَ قَتْلُهُ بِدُونِ مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ فَقُتِلَ بِغَيْرِ إِعْذَارٍ، فَقِيلَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَذْكُرَ لَهُمْ وَجْهَ الْحُكْمِ، فَذُكِرَ أَنَّ الَّذِي اعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي الْفُتْيَا بِالْقَتْلِ بِدُونِ إِعْذَارٍ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ قَطْعُ الْإِعْذَارِ عَمَّنِ اسْتَفَاضَتْ عَلَيْهِ الشَّهَادَاتُ فِي الظُّلْمِ، وَعَلَى مَذْهَبِهِ فِي السَّلاَّبَةِ وَالْمُغَيِّرِينَ وَأَشْبَاهِهِمْ، إِذَا شَهِدَ عَلَيْهِمُ الْمَسْلُوبُونَ وَالْمُنْتَهَبُونَ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْهِمْ- إِذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ- بِدُونِ إِعْذَارٍ.وَكَذَلِكَ لَا يُعْذَرُ فِي مِثْلِ رَجُلٍ يَتَعَلَّقُ بِرَجُلٍ، وَجُرْحُهُ يُدْمِي، فَيُصَدَّقُ بِقَوْلِهِ.وَفِي الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالرَّجُلِ فِي الْمَكَانِ الْخَالِي وَقَدْ فَضَحَتْ نَفْسَهَا بِإِصَابَتِهِ لَهَا، فَتُصَدَّقُ بِفَضِيحَةِ نَفْسِهَا.وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الرَّسُولَ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ» وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ وَلَا إِعْذَارَ فِيهِ.وَكَذَلِكَ كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَإِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ- رضي الله عنهم-، وَهُمَا أَيْضًا مَلَاذُ الْحُكَّامِ فِي الْأَحْكَامِ، وَلَا إِعْذَارَ مِنْهُمَا وَلَا إِقَالَةَ مِنْ حُجَّةٍ وَلَا كَلِمَةٍ، غَيْرَ أَنَّ الْإِعْذَارَ فِيمَا يَتَحَاكَمُ فِيهِ النَّاسُ مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِ الدِّيَانَاتِ اسْتِحْسَانٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، فَأَمَّا فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ فِي الْإِلْحَادِ وَالزَّنْدَقَةِ وَتَكْذِيبِ الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ- عليه الصلاة والسلام- فَلَمْ يَرِدْ فِيهِ شَيْءٌ عِنْدَهُمْ.قَالُوا: وَمَا يَمْتَنِعُ فِيهِ الْإِعْذَارُ كَثِيرٌ وَلَمْ يُعْثَرْ عَلَى أَقْوَالٍ فِي الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى فِي مِثْلِ هَذَا.
التَّأْجِيلُ فِي الْإِعْذَارِ:
18- الْإِعْذَارُ يَكُونُ إِلَى الْمُدَّعِي، فَيَقُولُ لَهُ الْقَاضِي: أَبَقِيَتْ لَكَ حَجَّةٌ؟ وَقَدْ يَكُونُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَسْأَلُهُ الْقَاضِي: أَلَكَ دَفْعٌ فِيمَا ادَّعَى بِهِ عَلَيْكَ؟ فَإِذَا أَعْذَرَ الْقَاضِي إِلَى مَنْ تَوَجَّهَ الْإِعْذَارُ إِلَيْهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُدَّعِيًا أَمْ مُدَّعًى عَلَيْهِ.وَقَالَ: نَعَمْ، وَسَأَلَهُ التَّأْجِيلَ، ضَرَبَ لَهُ أَجَلًا بِحَسَبِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ حَسَبَ اجْتِهَادِهِ فِي بُلُوغِ مَنْ أُجِّلَ لَهُ الْوُصُولُ إِلَى قَصْدِهِ بِغَيْرِ إِضْرَارٍ بِخَصْمِهِ، فَإِنْ كَانَ التَّأْجِيلُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَأَتَى بِدَفْعٍ فِيمَا شَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ، وَسَأَلَ الْمُدَّعِي التَّأْجِيلَ أَيْضًا، وَزَعَمَ أَنَّ لَهُ دَفْعًا فِيمَا جَاءَ بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، ضَرَبَ لَهُ أَجَلًا أَيْضًا، وَتَلَوَّمَ عَلَيْهِ (انْتَظَرَ) حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْحَقُّ، وَيَظْهَرَ عَجْزُ أَحَدِهِمَا، فَيُقْضَى عَلَى نَحْوِ مَا ثَبَتَ.وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ.
آجَالٌ مُقَدَّرَةٌ مِنَ الشَّارِعِ:
19- هُنَاكَ آجَالٌ لَا يَدْخُلُهَا اجْتِهَادُ الْحَاكِمِ، بَلْ هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالشَّرْعِ لِأَجْلِ الْإِعْذَارِ، مِنْهَا: تَأْجِيلُ الْعِنِّينِ، وَسَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي (أَجَلٌ) وَيَأْتِي فِي (عُنَّةٌ).
إِعْذَارُ الْمُولِي:
20- فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، عَرَّفُوا الْإِيلَاءَ بِأَنَّهُ: الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ الزَّوْجِ وَطْءَ زَوْجَتِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ.
وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ وَطْءِ الزَّوْجَةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ، فَالْخِلَافُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ فِي أَقَلِّ الْمُدَّةِ الَّتِي يَحْلِفُ عَلَى التَّرْكِ فِيهَا، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَالْإِعْذَارُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمُولِي يَقِفُهُ (يُحْضِرُهُ) الْقَاضِي بَعْدَ تَمَامِ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ، إِذَا رَافَعَتْهُ امْرَأَتُهُ فَيَأْمُرُهُ بِالْفَيْئَةِ، فَإِنْ أَبَى أَمَرَهُ بِالطَّلَاقِ، وَلَا تَطْلُقُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَهَذَا هُوَ رَأْيُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةَ وَمُجَاهِدٍ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَقْرَبْهَا، فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِنْشَاءِ تَطْلِيقٍ، أَوِ الْحُكْمِ بِالتَّفْرِيقِ.
وَالْمُرَادُ بِالْأَشْهُرِ الْأَشْهُرُ الْقَمَرِيَّةُ، وَتَبْدَأُ مِنْ تَارِيخِ الْحَلِفِ وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ.وَيُنْظَرُ أَيْضًا مُصْطَلَحُ (أَجَلٌ) وَمُصْطَلَحُ (إِيلَاءٌ).
إِعْذَارُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ وَطْءِ زَوْجَتِهِ:
21- الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي مَذْهَبَيِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، أَنَّ الزَّوْجَةَ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْوَطْءِ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً يَسْتَقِرُّ بِهَا الْمَهْرُ وَهَذَا فِي الْقَضَاءِ، وَأَمَّا دِيَانَةً فَلَهَا الْحَقُّ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مَرَّةً، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهَا أَجَلًا لِمَنْ آلَى مِنِ امْرَأَتِهِ.
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: إِنَّ الْوَطْءَ وَاجِبٌ عَلَى الزَّوْجِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ.وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: لَا يَجِبُ إِلاَّ أَنْ يَتْرُكَ لِلْإِضْرَارِ، وَقَدْ بَيَّنَ الْمَوَّاقُ أَنَّ مَنْ وَاصَلَ الْعِبَادَةَ وَتَرَكَ الْوَطْءَ لَمْ يُنْهَ عَنْ تَبَتُّلِهِ، وَقِيلَ لَهُ: إِمَّا وَطِئْتَ أَوْ فَارَقْتَ.قَالَ مَالِكٌ: وَأَرَى أَنْ يُقْضَى بِذَلِكَ.قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: إِنْ كَانَ زَاهِدًا قَاضَتْهُ امْرَأَتُهُ، وَقِيلَ لَهُ: تَخْلُو مَعَهَا فِي كُلِّ أَرْبَعِ لَيَالٍ لَيْلَةً، وَهُوَ قَسْمُ الْمَرْأَةِ مَعَ ضَرَائِرِهَا، قَالَ خَلِيلٌ: بِلَا أَجَلٍ عَلَى الْأَصَحِّ.وَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ يُضْرَبُ لَهُ أَجَلٌ بِمِقْدَارِ أَجَلِ الْإِيلَاءِ.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ (فِي حَادِثَةِ غَيْبَةِ أَحَدِ الْغُزَاةِ غَيْبَةً طَوِيلَةً عَنْ زَوْجَتِهِ) سَأَلَ حَفْصَةَ- زَوْجَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَمْ تَصْبِرُ الْمَرْأَةُ عَنِ النِّكَاحِ؟ فَقَالَتْ: أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَبَعْدَهَا يَفْنَى صَبْرُهَا أَوْ يَقِلُّ، فَنَادَى حِينَئِذٍ أَلاَّ تَزِيدَ غَزْوَةٌ عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَفِي حَاشِيَةِ سَعْدِي جَلَبِي: وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَهَا حَقًّا فِي الْجِمَاعِ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مَرَّةً لَا أَقَلَّ، يُؤَيِّدُهُ قِصَّةُ عُمَرَ- رضي الله عنه- حِينَ سَمِعَ مِنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ مَا سَمِعَ.
وَاسْتَدَلُّوا «بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ: أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ.صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ.فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا»
فَأَخْبَرَ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ عَلَيْهِ حَقًّا.وَقَدِ اشْتَهَرَتْ قِصَّةُ كَعْبِ بْنِ سُورٍ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ الزَّوْجَيْنِ، وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا، وَهُوَ مُفْضٍ إِلَى دَفْعِ ضَرَرِ الشَّهْوَةِ عَنِ الْمَرْأَةِ، كَإِفْضَائِهِ إِلَى دَفْعِ ذَلِكَ عَنِ الرَّجُلِ، فَيَجِبُ تَعْلِيلُهُ بِذَلِكَ، وَيَكُونُ النِّكَاحُ حَقًّا لَهُمَا جَمِيعًا.وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِيهِ حَقٌّ لَمَا وَجَبَ اسْتِئْذَانُهَا فِي الْعَزْلِ.
الْإِعْذَارُ إِلَى الْمُمْتَنِعِ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى زَوْجَتِهِ:
22- الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ عَلَى الزَّوْجِ الْإِنْفَاقَ عَلَى زَوْجَتِهِ مَتَى تَحَقَّقَتِ الشُّرُوطُ الْمُوجِبَةُ لِذَلِكَ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْإِنْفَاقِ فَفِي كُلِّ مَذْهَبٍ شُرُوطٌ وَتَفْصِيلَاتٌ.
قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: إِذَا طَلَبَتِ الْمَرْأَةُ مِنَ الْقَاضِي أَنْ يَفْرِضَ لَهَا النَّفَقَةَ، فَفَرَضَ وَهُوَ مُعْسِرٌ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَأْمُرُهَا بِالِاسْتِدَانَةِ، ثُمَّ تَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ إِذَا أَيْسَرَ، وَلَا يَحْبِسُهُ فِي النَّفَقَةِ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُعْسِرٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْقَاضِي أَنَّهُ مُعْسِرٌ، وَسَأَلَتِ الْمَرْأَةُ حَبْسَهُ بِالنَّفَقَةِ، لَا يَحْبِسُهُ الْقَاضِي فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، وَلَكِنْ يَأْمُرُهُ بِالْإِنْفَاقِ وَيُعْذَرُ إِلَيْهِ، بِأَنْ يُخْبِرَهُ أَنَّهُ يَحْبِسُهُ إِنْ لَمْ يُنْفِقْ.فَإِنْ عَادَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا حَبَسَهُ الْقَاضِي، وَكَذَا فِي دَيْنٍ آخَرَ غَيْرِ النَّفَقَةِ.وَإِذَا حَبَسَهُ الْقَاضِي شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً أَوْ أَرْبَعَةً يُسْأَلُ عَنْهُ.وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ، بَلْ هُوَ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي، إِنْ كَانَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَضْجَرُ وَيُؤَدِّي الدَّيْنَ يُخَلَّى سَبِيلُهُ، وَلَا يُمْنَعُ الطَّالِبُ عَنْ مُلَازَمَتِهِ، وَلَا يَمْنَعُهُ عَنِ التَّصَرُّفِ.وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا لَا يُخْرِجُهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ الدَّيْنَ وَالنَّفَقَةَ إِلاَّ بِرِضَى الطَّالِبِ.فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ أَخَذَ الْقَاضِي الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ مِنْ مَالِهِ، وَيُؤَدِّي مِنْهَا النَّفَقَةَ وَالدَّيْنَ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ لَوْ ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، وَكَذَا إِذَا ظَفِرَ بِطَعَامٍ فِي النَّفَقَةِ.وَالْعَجْزُ عَنِ الْإِنْفَاقِ لَا يُوجِبُ حَقَّ الْفِرَاقِ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ لِلزَّوْجَةِ الْفَسْخَ بِطَلْقَةٍ رَجْعِيَّةٍ، إِنْ عَجَزَ زَوْجُهَا عَنْ نَفَقَةٍ حَاضِرَةٍ، وَلَهَا أَنْ تَبْقَى مَعَهُ، وَإِنْ عَلِمَتْ فَقْرَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ.وَإِذَا أَرَادَتِ الْفَسْخَ رَفَعَتِ الْأَمْرَ لِلْحَاكِمِ فَيَأْمُرُهُ- إِنْ لَمْ يَثْبُتْ عُسْرُهُ بِبَيِّنَةٍ، أَوْ تَصْدِيقِهَا بِالنَّفَقَةِ أَوِ الْكِسْوَةِ إِنْ شَكَتْ عَدَمَهَا، أَوِ الطَّلَاقَ- وَيَقُولُ لَهُ: إِمَّا أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهَا أَوْ تُطَلِّقَهَا.وَإِنْ أَثْبَتَ عُسْرَهُ ابْتِدَاءً، أَوْ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالطَّلَاقِ، تَصْبِرُ لَهُ بِالِاجْتِهَادِ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ بِيَوْمٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَزِيدَ فِي مُدَّةِ التَّلَوُّمِ إِنْ مَرِضَ أَوْ سُجِنَ بَعْدَ إِثْبَاتِ الْعُسْرِ، لَا فِي زَمَنِ إِثْبَاتِهِ، فَيُزَادُ بِقَدْرِ مَا يُرْجَى لَهُ شَيْءٌ، وَهَذَا إِذَا رُجِيَ بُرْؤُهُ مِنَ الْمَرَضِ وَخَلَاصُهُ مِنَ السِّجْنِ عَنْ قُرْبٍ، وَإِلاَّ طَلَّقَ عَلَيْهِ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ غِيَابُ الزَّوْجِ أَوْ حُضُورُهُ، وَالزَّوْجُ الْغَائِبُ الَّذِي يُتَلَوَّمُ لَهُ هُوَ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُ مَا يُقَابِلُ النَّفَقَةَ، وَلَمْ يُعْلَمْ مَوْضِعُهُ، أَوْ زَادَتْ غَيْبَتُهُ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ.
وَأَمَّا قَرِيبُ الْغَيْبَةِ كَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِنَّهُ يُرْسِلُ إِلَيْهِ الْحَاكِمُ، إِمَّا أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهَا أَوْ يُطَلِّقَ عَلَيْكَ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ مِنَ الْإِنْفَاقِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا.
فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَعِنْدَهُمْ قَوْلَانِ، أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ لَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ حَاضِرًا كَانَ الزَّوْجُ أَوْ غَائِبًا، لِانْتِفَاءِ الْإِعْسَارِ الْمُوجِبِ لِلْفَسْخِ، وَهِيَ مُتَمَكِّنَةٌ مِنْ تَحْصِيلِ حَقِّهَا بِالرَّفْعِ إِلَى الْحَاكِمِ.وَالثَّانِي: أَنَّ لَهَا الْفَسْخَ لِتَضَرُّرِهَا بِالْمَنْعِ.
وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا، فَإِنْ صَبَرَتْ، وَأَنْفَقَتْ مِنْ مَالِهَا أَوِ الْقَرْضِ صَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَإِلاَّ فَلَهَا الْفَسْخُ فِي الْأَظْهَرِ، كَمَا تَفْسَخُ بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ، بَلْ هَذَا أَوْلَى، لِأَنَّ الصَّبْرَ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِمْتَاعِ أَسْهَلُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى عَدَمِ النَّفَقَةِ، وَالثَّانِي: لَا فَسْخَ لَهَا لِأَنَّ الْمُعْسِرَ مُنْظَرٌ، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وَلَا فَسْخَ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَ قَاضٍ إِعْسَارُهُ بِالْإِقْرَارِ أَوِ الْبَيِّنَةِ.
ثُمَّ فِي قَوْلٍ يُنَجَّزُ الْفَسْخُ لِلْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ وَقْتَ وُجُوبِ تَسْلِيمِهَا وَهُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ، وَلَا يَلْزَمُ الْإِمْهَالُ، وَالْأَظْهَرُ إِمْهَالُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِيَتَحَقَّقَ عَجْزُهُ، وَهِيَ مُدَّةٌ قَرِيبَةٌ يُتَوَقَّعُ فِيهَا الْقُدْرَةُ بِقَرْضٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَهَا الْفَسْخُ صَبِيحَةَ الرَّابِعِ بِنَفَقَتِهِ إِلاَّ أَنْ يُسَلِّمَ نَفَقَتَهُ.
وَلَوْ رَضِيَتْ بِإِعْسَارِهِ الْعَارِضِ، أَوْ نَكَحَتْهُ عَالِمَةً بِإِعْسَارِهِ فَلَهَا الْفَسْخُ بَعْدَهُ.وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ فِي أَنَّ زَوْجَةَ الْمُعْسِرِ مُخَيَّرَةٌ بَيْنَ الصَّبْرِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ فِرَاقِهِ.رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَرَبِيعَةُ وَحَمَّادٌ وَغَيْرُهُمْ- رضي الله عنهم- أَجْمَعِينَ.
وَلَمْ يُعْثَرْ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى نَصٍّ فِي لُزُومِ الْإِعْذَارِ لِلْإِعْسَارِ عَنِ النَّفَقَةِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ يُطَلِّقُ عَلَى الْفَوْرِ.
وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فِي مُصْطَلَحَيْ (إِعْسَارٌ، وَنَفَقَةٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
9-موسوعة الفقه الكويتية (تيسير 2)
تَيْسِيرٌ -2مَوَاضِعُ الْيُسْرِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ:
28- الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ خَمْسَةٌ: الْإِبَاحَةُ، وَالنَّدْبُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالْإِيجَابُ، وَالتَّحْرِيمُ.
فَأَمَّا الْمُبَاحَاتُ فَلَا مَشَقَّةَ فِيهَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ فِي فِعْلِهَا أَوْ تَرْكِهَا إِلَى الْمُكَلَّفِ، وَالشَّارِعُ لَمْ يَدْعُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا إِلَى فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ.
وَأَمَّا الْمَنْدُوبَاتُ وَالْمَكْرُوهَاتُ فَنَظَرًا إِلَى عَدَمِ اسْتِلْزَامِ فِعْلِهَا أَوْ تَرْكِهَا لِعُقُوبَةٍ يُعْلَمُ أَنَّ لِلْمُكَلَّفِ فِيهَا خِيَارًا كَذَلِكَ، وَإِنْ حَثَّ الشَّارِعُ عَلَى فِعْلِ الْمَنْدُوبِ وَتَرْكِ الْمَكْرُوهِ لِتَحْصِيلِ الْأَجْرِ، إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ إِذَا شَقَّ عَلَى الْمُكَلَّفِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْمَنْدُوبَ أَوْ يَفْعَلَ الْمَكْرُوهَ رِفْقًا بِنَفْسِهِ كَمَا يَأْتِي فِي النَّوْعِ الثَّالِثِ.
هَذَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَنَّ الْفِعْلَ الْمُكَلَّفَ بِهِ فِي الْمَنْدُوبَاتِ فِي الشَّرِيعَةِ لَيْسَ فِيهِ مَشَقَّةٌ لِذَاتِهِ، بَلِ الَّذِي نَدَبَ الشَّارِعُ إِلَى فِعْلِهِ مِنْ صَلَاةٍ، أَوْ صَوْمٍ، أَوِ اعْتِكَافٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يَخْرُجُ عَنِ الْمُعْتَادِ فِي الْمَشَقَّاتِ، وَكَذَا مَا كَرِهَ لَنَا فِعْلَهُ لَيْسَ فِي تَرْكِهِ مَشَقَّةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْعَادَةِ.
وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ الْمَشَقَّةُ فِيمَا أَلْزَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِفِعْلِهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، أَوْ أَلْزَمَ بِتَرْكِهِ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، فَإِنَّهَا بِالْإِلْزَامِ وَفَرْضِ الْعُقُوبَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، أَوِ الْأُخْرَوِيَّةِ، أَوْ كِلَيْهِمَا عَلَى الْمُخَالِفِ لَا يَكُونُ لِلْمُكَلَّفِ فِيهِمَا خِيَارٌ.
فَأَمَّا بَابُ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّ التَّيْسِيرَ فِيهِ وَاضِحٌ، فَإِنَّ الشَّارِعَ الْحَكِيمَ بِرَحْمَتِهِ ضَيَّقَ بَابَ التَّحْرِيمِ جِدًّا، حَتَّى إِنَّ مُحَرَّمَاتِ الْأَطْعِمَةِ يُورِدُهَا الْقُرْآنُ غَالِبًا عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ، كَمَا فِي قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِّلَ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} فَالْأَصْلُ فِي الْمَطْعُومَاتِ وَنَحْوِهَا الْإِبَاحَةُ، وَالتَّحْرِيمُ اسْتِثْنَاءٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُحَرِّمْ مَا يَشُقُّ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ كَالْمَاءِ أَوِ الْهَوَاءِ أَوِ اللِّبَاسِ أَوِ الْمَسْكَنِ.وَإِنَّمَا انْصَبَّ التَّحْرِيمُ عَلَى أَشْيَاءَ مُعَيَّنَةٍ مِمَّا لَا يَشُقُّ تَرْكُهُ.وَتِلْكَ الْمُحَرَّمَاتُ إِنَّمَا حَرَّمَهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْأَضْرَارِ عَلَى صِحَّةِ الْإِنْسَانِ، أَوْ عَلَى تَصَرُّفَاتِهِ كَمَا فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَلَمْ يُحَرِّمْ إِلاَّ شَيْئًا مُتَمَحِّضًا لِلضَّرَرِ، أَوْ ضَرَرُهُ أَغْلَبُ مِنْ نَفْعِهِ.وَهَذَا الَّذِي قَدْ يَكُونُ فِيهِ نَفْعٌ يَكُونُ فِي الْحَلَالِ عِوَضٌ عَنْهُ.ثُمَّ إِن اُضْطُرَّ الْإِنْسَانُ إِلَى الْمُحَرَّمِ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ، كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الشُّعْبَةِ الثَّانِيَةِ.
وَأَمَّا الْفَرَائِضُ وَالْوَاجِبَاتُ فَلَمْ يُكَلِّفْنَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ، وَلَا تَرَكَ الْعِبَادَ مِنْ غَيْرِ تَكْلِيفٍ، بَلْ كَانَتِ الشَّرِيعَةُ فِي هَذَا الْأَمْرِ جَارِيَةً عَلَى الطَّرِيقِ الْوَسَطِ الْأَعْدَلِ: لَا تَمِيلُ إِلَى فَرْضِ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ تَبْهَظُ الْمُكَلَّفَ أَوْ تُقْعِدُهُ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْحَالِ أَوِ الْمَآلِ، أَوْ تُدْخِلُ عَلَيْهِ الْخَلَلَ فِي نَفْسِهِ أَوْ عَقْلِهِ أَوْ مَالِهِ.
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: مَا تَرَكَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِنْسَانَ دُونَ تَكْلِيفٍ يَحْصُلُ بِهِ الِابْتِلَاءُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ عَبَثًا وَلَمْ يُتْرَكْ سُدًى، بَلْ كَلَّفَتْهُ بِتَكَالِيفَ تَقْتَضِي فِيهِ غَايَةَ التَّوَسُّطِ وَالِاعْتِدَالِ، كَتَكَالِيفِ الصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ.
وَهَذَا لَا يُنَاقِضُ الْيُسْرَ، فَإِنَّ الْيُسْرَ يُنَاقِضُهُ الْعُسْرُ، أَمَّا الْوَسَطُ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْيُسْرِ؛ إِذْ لَا عُسْرَ فِيهِ.
وَالْوَسَطُ- كَمَا قَالَ الشَّاطِبِيُّ- هُوَ مُعْظَمُ الشَّرِيعَةِ، فَهِيَ وَسَطٌ بَيْنَ التَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ.
فَمُعْظَمُهَا مَحْمُولٌ عَلَى التَّوَسُّطِ، لَا عَلَى مُطْلَقِ التَّخْفِيفِ وَلَا عَلَى مُطْلَقِ التَّشْدِيدِ.
فَالصَّلَاةُ مَثَلاً: خَمْسُ مَرَّاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، كُلُّ صَلَاةٍ مِنْهَا رَكَعَاتٌ مَعْدُودَةٌ، لَا تَتَضَمَّنُ فِعْلاً شَاقًّا، بَلْ مَا فِيهَا مِنَ الْقِيَامِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَالْأَذْكَارِ كُلُّهَا أُمُورٌ مُيَسَّرَةٌ، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَفْتَرِضْ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِيهَا إِلاَّ الْقَلِيلَ، وَلَا مِنَ الْأَذْكَارِ إِلاَّ الْقَلِيلَ، وَتَعَلُّمُهَا وَحِفْظُهَا أَمْرٌ مَيْسُورٌ.وَلَكِنْ قَدْ تَأْتِي الْمَشَقَّةُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ جِهَةِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى إِقَامَتِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَمْثَلِ وَمِنْ جِهَةِ الِاسْتِمْرَارِ وَالدَّوَامِ عَلَيْهَا، مَعَ مُخَالَفَتِهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِرَاحَةِ الْبَدَنِ؛ وَلِلِانْطِلَاقِ مَعَ الْأَعْمَالِ وَهَوَى النُّفُوسِ، لَكِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَشَقَّةٍ فِي الْحَقِيقَةِ عِنْدَ أَهْلِ التَّقْوَى.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.
وَالزَّكَاةُ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ تُفْرَضُ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي مَالِهِ مَرَّةً كُلَّ عَامٍ، وَذَلِكَ مَيْسُورٌ غَيْرُ مَعْسُورٍ، وَلَمْ تُفْرَضْ إِلاَّ فِي الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ أَوِ الْقَابِلَةِ لِلنَّمَاءِ دُونَ مَا لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَاكِنِ وَالْأَثَاثِ وَالْمُمْتَلَكَاتِ الَّتِي هِيَ لِلِاسْتِعْمَالِ الْخَاصِّ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ عَلَى الْمُؤْمِنِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ».وَفُرِضَتْ بِنِسَبٍ يَسِيرَةٍ تَتَفَاوَتُ غَالِبًا تَبَعًا لِلْجُهْدِ الْمَبْذُولِ.
فَالْخُمُسُ فِي الرِّكَازِ؛ لِأَنَّ الْجُهْدَ فِيهِ يَسِيرٌ جِدًّا مَعَ عِظَمِ مَا يَحْصُلُ بِهِ، وَالْعُشْرُ فِي الْخَارِجِ مِنِ الْأَرْضِ إِنْ كَانَتْ بَعْلاً، وَنِصْفُ الْعُشْرِ إِنْ سُقِيَتْ بِالنَّضْحِ، وَرُبُعُ الْعُشْرِ فِي الْأَمْوَالِ النَّاضَّةِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ أَوْ أَقَلُّ مِنْهُ فِي السَّائِمَةِ، حَتَّى إِنَّ الْغَنَمَ الَّتِي تَبْلُغُ (400) إِلَى (499) شَاةٌ، فِيهَا فِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ وَاحِدَةٌ وَذَلِكَ وَاحِدٌ بِالْمِائَةِ أَوْ أَقَلُّ، بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا فِي فَرِيضَةِ الزَّكَاةِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّيْسِيرِ الَّتِي تُعْلَمُ بِتَتَبُّعِ أَحْكَامِهَا فِي كُتُبِ الشَّرِيعَةِ.
وَهَكَذَا غَيْرُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مِنْ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ تُعْرَفُ أَوْجُهَ مَا فِيهَا مِنَ الْيُسْرِ، وَأَنَّهَا أَفْعَالٌ، وَأَقْوَالٌ، وَتَكَالِيفُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى قَدْرِ طَاقَةِ الْبَشَرِ دُونَ مُبَالَغَةٍ وَلَا تَشْدِيدٍ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الشَّرِيعَةُ لِتَسْهِيلِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ بِهَا وَالْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَتِهَا فَهِيَ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: التَّوْسِيعُ فِي الْوَاجِبَاتِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ، كَصَلَوَاتِ الْفَرَائِصِ، فَإِنَّ فِعْلَهَا لَا يَسْتَغْرِقُ إِلاَّ جُزْءًا يَسِيرًا مِنْ وَقْتِهَا، فَيَكُونُ لَدَى الْمُكَلَّفِ الْفُرْصَةُ لِأَدَائِهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَمِنْهَا مَا يَجِبُ عَلَى التَّرَاخِي.
وَمِنْهَا التَّخْيِيرُ فِي الْأَدَاءِ بَيْنَ أُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَهُوَ أَيْسَرُ مِنْ أَدَاءِ شَيْءٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ.
وَمِنَ التَّيْسِيرِ أَيْضًا مَا يَقْبَلُ التَّدَاخُلَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، فَمِنْ ذَلِكَ الْعُمْرَةُ تَدْخُلُ فِي الْحَجِّ لِمَنْ قَرَنَ.
وَمَوَاضِعُ الْيُسْرِ فِي الشَّرِيعَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، وَمَا ذُكِرَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا الْحَصْرِ.وَيُنْظَرُ: (تَخْيِيرٌ، وَتَدَاخُلٌ، وَتَرَاخِي).
الشُّعْبَةُ الثَّانِيَةُ: الْيُسْرُ التَّخْفِيفِيُّ:
29- وَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَرِدَ التَّكْلِيفُ الْعَامُّ بِمَا مَشَقَّتُهُ فِي الْأَصْلِ مُعْتَادَةٌ، وَلَكِنْ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّخْفِيفِ بَعْضُ الصُّوَرِ الَّتِي فِيهَا مَشَقَّةٌ فَوْقَ الْمُعْتَادِ.
حُكْمُ الْأَخْذِ بِالتَّخْفِيفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ:
30- التَّثْقِيلُ الَّذِي يَعْتَرِي الْمُكَلَّفَ فِي عِبَادَاتِهِ أَوْ مُعَامَلَاتِهِ، يُقَابِلُهُ تَخْفِيفٌ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ.
وَالتَّخْفِيفُ حُكْمٌ طَارِئٌ عَلَى الْأَصْلِ، رُوعِيَ فِي تَشْرِيعِهِ ضَرُورَاتُ الْعِبَادِ وَأَعْذَارُهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ فُسْحَةً لَهُمْ فِي مُقَابَلَةِ التَّضْيِيقِ، بِحُصُولِ الْجَوَازِ لِلْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ.
وَالتَّخْفِيفُ قَدْ يُوجِبُ الشَّارِعُ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْأَخْذَ بِهِ، وَقَدْ يَجْعَلُهُ مَنْدُوبًا فِي حَقِّهِ، وَقَدْ يَجْعَلُ الْأَخْذَ بِهِ خِلَافَ الْأَوْلَى كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ، وَقَدْ يُبِيحُهُ لَهُ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِهِ أَوْ يَتْرُكَهُ عَلَى السَّوَاءِ.
وَمِنَ التَّخْفِيفِ الَّذِي يُنْدَبُ الْأَخْذُ بِهِ، قَصْرُ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ، لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ يُوجِبُ الْقَصْرَ عَلَى الْمُسَافِرِ.وَيُنْدَبُ الْإِفْطَارُ فِي السَّفَرِ وَالْمَرَضِ لقوله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
وَمِنَ التَّخْفِيفِ الَّذِي هُوَ مَكْرُوهٌ، أَوْ خِلَافُ الْأَوْلَى، الْفِطْرُ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ إِذَا لَمْ يُجْهِدْهُ الصَّوْمُ، وَكَذَا الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ، وَمِنْهُ التَّيَمُّمُ لِمَنْ وَجَدَ الْمَاءَ يُبَاعُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الثَّمَنِ.وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الصُّوَرِ خِلَافٌ فِي حُكْمِهَا، فَيُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي أَبْوَابِهَا.
وَمِنَ التَّخْفِيفِ الْمُبَاحِ مَا رُخِّصَ فِيهِ مِنْ أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ كَبَيْعِ السَّلَمِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ قَدْ رَخَّصَ فِيهِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ؛ إِذِ الْأَصْلُ مَنْعُهُ، لَكِنْ رَخَّصَ فِيهِ تَخْفِيفًا عَلَى النَّاسِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ، وَكَذَا الْمُسَاقَاةُ، وَالْقِرَاضُ، وَبَيْعُ الْعَرَايَا.
أَسْبَابُ التَّخْفِيفِ:
31- لِلتَّخْفِيفِ أَسْبَابٌ بُنِيَتْ عَلَى الْأَعْذَارِ.وَقَدْ رَخَّصَ الشَّارِعُ لِأَصْحَابِهَا بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ: فِي الْعِبَادَاتِ، وَالْمُعَامَلَاتِ، وَالْبُيُوعِ، وَالْحُدُودِ وَغَيْرِهَا.
فَكُلُّ مَا تَعَسَّرَ أَمْرُهُ، وَشَقَّ عَلَى الْمُكَلَّفِ وَضْعُهُ، يَسَّرَتْهُ الشَّرِيعَةُ بِالتَّخْفِيفِ، وَضَبَطَهُ الْفُقَهَاءُ بِالْقَوَاعِدِ الْمُحْكَمَةِ.
وَمِنْ أَهَمِّ هَذِهِ الْأَعْذَارِ الَّتِي جُعِلَتْ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ عَنِ الْعِبَادِ: الْمَرَضُ، وَالسَّفَرُ، وَالْإِكْرَاهُ، وَالنِّسْيَانُ، وَالْجَهْلُ، وَالْعُسْرُ، وَعُمُومُ الْبَلْوَى.
السَّبَبُ الْأَوَّلُ: الْمَرَضُ:
32- الْمَرِيضُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ بَدَنُهُ عَنْ حَدِّ الِاعْتِدَالِ وَالِاعْتِيَادِ فَيَضْعُفُ عَنِ الْقِيَامِ بِالْمَطْلُوبِ مِنْهُ.
وَقَدْ خَصَّتِ الشَّرِيعَةُ الْمَرِيضَ بِحَظٍّ وَافِرٍ مِنَ التَّخْفِيفِ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ مَظِنَّةٌ لِلْعَجْزِ.فَخَفَّفَ عَنْهُ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ فِي حَالَةِ عَجْزِهِ عَنِ الْوُضُوءِ، أَوْ خَوْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، أَوْ خَوْفِهِ زِيَادَةَ الْمَرَضِ، وَكُلُّ مَا كَانَ الْمَاءُ سَبَبًا فِي الْهَلَاكِ أَوْ تَأَخُّرِ شِفَائِهِ، أَوْ زِيَادَةِ الْمَرَضِ، رَخَّصَ لَهُ فِي تَرْكِ الْوُضُوءِ تَخْفِيفًا، وَالِانْتِقَالِ إِلَى التَّيَمُّمِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمِ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}.
كَمَا خَفَّفَ عَنْهُ غَسْلَ الْعُضْوِ الْمُجَبَّرِ، إِلَى الْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ، مَوْقُوتًا بِالْبُرْءِ.وَخَفَّفَ عَنْهُ فِي حَالَةِ عَجْزِهِ عَنِ الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ، فِي أَدَائِهَا قَاعِدًا، أَوْ مُضْطَجِعًا، أَوْ مُومِئًا، أَوْ مَا يَتَنَاسَبُ مَعَ عَجْزِهِ الَّذِي سَبَّبَهُ الْمَرَضُ، يَقُولُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِمَنْ أَصَابَهُ الْمَرَضُ: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ».وَخَفَّفَ عَنِ الْمَرِيضِ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ.وَخَفَّفَ عَنْهُ بِإِجَازَةِ التَّدَاوِي بِالنَّجَاسَاتِ، وَإِبَاحَةِ نَظَرِ الطَّبِيبِ لِلْعَوْرَةِ وَلَوْ لِلسَّوْأَتَيْنِ.
وَخَفَّفَ أَيْضًا عَنِ الْمَرِيضِ فِي حَالَةِ عَجْزِهِ عَنِ الصِّيَامِ، بِإِبَاحَةِ الْفِطْرِ، وَقَضَاءِ مَا فَاتَهُ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
وَخَفَّفَ عَنِ الشَّيْخِ الْهَرِمِ، فَخَصَّهُ بِجَوَازِ إِخْرَاجِ الْفِدْيَةِ بَدَلاً عَنِ الصِّيَامِ الَّذِي عَجَزَ عَنْ أَدَائِهِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}.
وَأُجِيزَ لِلْمَرِيضِ الْخُرُوجُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ.
وَخَفَّفَ الشَّرْعُ عَنِ الْمَرِيضِ أَيْضًا بَعْضَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَنَاسِكِ الْحَجِّ، فَأَجَازَ لَهُ التَّحَلُّلَ عِنْدَ الْإِحْصَارِ، مَعَ ذَبْحِ هَدْيٍ، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ فَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ.
وَأَجَازَ لَهُ الِاسْتِنَابَةَ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ، وَأَبَاحَ لَهُ فِعْلَ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، مِنْ لُبْسِ الْقَمِيصِ وَنَحْوِهِ، كَمَا أَبَاحَ لَهُ حَلْقَ رَأْسِهِ إِنْ كَانَ بِهِ جِرَاحَةٌ أَوْ قَمْلٌ وَاحْتَاجَ إِلَى الْحَلْقِ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}.
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَرَضَ سَبَبًا فِي التَّخْفِيفِ عَنِ الْمَرِيضِ يَوْمَ الْحِسَابِ، وَذَلِكَ بِتَكْفِيرِ ذُنُوبِهِ، بِمَا يُصِيبُهُ فِي الدُّنْيَا، وَمَا يَلْحَقُهُ مِنْ أَلَمٍ، أَوْ هَمٍّ، أَوْ غَمٍّ.
يَقُولُ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلَا وَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ، وَلَا حُزْنٍ، وَلَا أَذًى، وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ».
هَذَا بَعْضٌ مِنْ كُلٍّ، مِمَّا وَرَدَ فِي التَّخْفِيفِ عَنِ الْمَرِيضِ فِي الْعِبَادَاتِ.
وَهُنَاكَ تَخْفِيفَاتٌ أُخْرَى وَرَدَتْ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ فِي غَيْرِ الْعِبَادَاتِ، يَضِيقُ الْمَقَامُ عَنْ ذِكْرِهَا.
وَالِاسْتِحَاضَةُ، وَالسَّلَسُ، مِنْ قَبِيلِ الْمَرَضِ، وَلَهُمَا تَخْفِيفَاتُهُمَا الْمَعْرُوفَةُ
.السَّبَبُ الثَّانِي: السَّفَرُ:
33- السَّفَرُ سَبَبٌ لِلتَّخْفِيفِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَشَقَّةٍ؛ وَلِحَاجَةِ الْمُسَافِرِ إِلَى التَّقَلُّبِ فِي حَاجَاتِهِ، وَقَضَاءِ مَآرِبِهِ مِنْ سَفَرِهِ؛ وَلِذَا شُرِعَ التَّخْفِيفُ عَنِ الْمُسَافِرِ فِي الْعِبَادَاتِ.
قَالَ السُّيُوطِيّ نَقْلاً عَنِ النَّوَوِيِّ: وَرُخَصُ السَّفَرِ ثَمَانٍ: فَمِنْهَا الْقَصْرُ لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}.
وَمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ- رضي الله عنه- قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى مَكَّةَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ».
وَمِنْهَا: رُخْصَةُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
وَمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: «كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ».
وَمِنْهَا: الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا.
وَقَدِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِلسَّفَرِ الْمُجَوِّزِ لِلتَّخْفِيفِ شُرُوطًا مِنْهَا- عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ- أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ مَشْرُوعًا- وَلَوْ مُبَاحًا- كَالسَّفَرِ لِلْحَجِّ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَالتِّجَارَةِ لِئَلاَّ يَكُونَ التَّخْفِيفُ إِعَانَةً لِلْعَاصِي عَلَى مَعْصِيَتِهِ.
السَّبَبُ الثَّالِثُ: الْإِكْرَاهُ:
34- الْإِكْرَاهُ هُوَ حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى أَمْرٍ لَا يَرْضَاهُ وَذَلِكَ بِتَهْدِيدِهِ بِالْقَتْلِ، أَوْ بِقَطْعِ طَرَفٍ، أَوْ نَحْوِهِمَا، إِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا يُطْلَبْ مِنْهُ (وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ إِكْرَاهٌ)، وَقَدْ عَدَّ الشَّارِعُ الْإِكْرَاهَ بِغَيْرِ حَقٍّ عُذْرًا مِنَ الْأَعْذَارِ الْمُخَفِّفَةِ، الَّتِي تَسْقُطُ بِهَا الْمُؤَاخَذَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَتُخُفِّفَ عَنِ الْمُكْرَهِ مَا يَنْتُجُ عَمَّا أُكْرِهَ عَلَيْهِ مِنْ آثَارٍ دُنْيَوِيَّةٍ، أَوْ أُخْرَوِيَّةٍ، بِحُدُودِهِ.
وَشَبِيه بِمَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ مَسْأَلَةُ التَّقِيَّةِ فَإِنَّ التَّقِيَّةَ أَنْ يَرْتَكِبَ الْمُحَرَّمَ عِنْدَ الْخَوْفِ مِنْ مَكْرُوهٍ دُونَ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَيْهِ إِكْرَاهٌ مُعَيَّنٌ، أَوْ يَتْرُكَ الْوَاجِبَ لِأَجْلِ ذَلِكَ.وَلَهَا ضَوَابِطُ فِيمَا يَحِلُّ بِهَا (ر: تَقِيَّةٌ).
السَّبَبُ الرَّابِعُ: النِّسْيَانُ:
35- النِّسْيَانُ هُوَ عَدَمُ اسْتِحْضَارِ الْإِنْسَانِ مَا كَانَ يَعْلَمُهُ، بِدُونِ نَظَرٍ وَتَفْكِيرٍ، مَعَ عِلْمِهِ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ.وَقَدْ جَعَلَتْهُ الشَّرِيعَةُ عُذْرًا وَسَبَبًا مُخَفِّفًا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ لقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}.فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ رَفَعَ عَنَّا إِثْمَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ، وَالْخَطَأِ غَيْرِ الْمَقْصُودِ.فَفِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ يُعْذَرُ النَّاسِي وَيُرْفَعُ عَنْهُ الْإِثْمُ مُطْلَقًا.
فَالنِّسْيَانُ- كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ السُّيُوطِيّ-: مُسْقِطٌ لِلْإِثْمِ مُطْلَقًا.وَذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».
أَمَّا النِّسْيَانُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَلَا يُعَدُّ عُذْرًا مُخَفِّفًا؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُشَاحَّةِ وَالْمُطَالَبَةِ، فَلَا يَكُونُ النِّسْيَانُ عُذْرًا فِيهَا.
السَّبَبُ الْخَامِسُ: الْجَهْلُ:
36- الْجَهْلُ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ بِأَسْبَابِهَا.
وَالْجَهْلُ عُذْرٌ مُخَفِّفٌ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ اتِّفَاقًا، فَلَا إِثْمَ عَلَى مَنْ فَعَلَ الْمُحَرَّمَ أَوْ تَرَكَ الْوَاجِبَ جَاهِلاً، لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}.
أَمَّا فِي الْحُكْمِ فَكَمَا تَقَدَّمَ فِي النِّسْيَانِ، إِنْ وَقَعَ الْجَهْلُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ بِتَرْكِ مَأْمُورٍ لَمْ يَسْقُطْ بَلْ يَجِبُ تَدَارُكُهُ، وَلَا يَحْصُلُ الثَّوَابُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ تَدَارُكٍ، أَوْ وَقَعَ فِي فِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِتْلَافِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ، أَوْ فِيهِ إِتْلَافٌ لَمْ يَسْقُطِ الضَّمَانُ، كَمَا فِي قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ أَوْ قَطْعِ شَجَرِهِ.وَإِنْ كَانَ الْجَهْلُ فِي فِعْلِ مَا فِيهِ عُقُوبَةٌ كَانَ شُبْهَةً فِي إِسْقَاطِهَا، وَلَا يُؤَثِّرُ الْجَهْلُ فِي إِسْقَاطِ حُقُوقِ الْعِبَادِ.
وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى الْجَهْلِ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَالْقَاعِدَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَنْ جَهِلَ تَحْرِيمَ شَيْءٍ مِمَّا يَشْتَرِكُ فِي الْعِلْمِ بِهِ غَالِبُ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُقْبَلْ، مَا لَمْ يَكُنْ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ يَخْفَى فِيهَا مِثْلُ ذَلِكَ، كَتَحْرِيمِ الزِّنَى، وَالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَالْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ.
وَقَدْ يَكُونُ الْجَهْلُ فِيمَا يَخْفَى حُكْمُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْعَامِّيِّ دُونَ الْعَالِمِ، فَتُقْبَلُ فِيهِ دَعْوَى الْجَهْلِ مِنَ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، كَكَوْنِ الْقَدْرِ الَّذِي أَتَى بِهِ مِنَ الْكَلَامِ مُفْسِدًا لِلصَّلَاةِ، أَوْ كَوْنِ النَّوْعِ الَّذِي دَخَلَ جَوْفَهُ مُفْسِدًا لِلصَّوْمِ، فَالْأَصَحُّ فِيمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ عَدَمُ الْبُطْلَانِ.
وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْجَهْلِ بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ مِنْ قَدِيمِ الْإِسْلَامِ لِاشْتِهَارِهِ، وَتُقْبَلُ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ إِلاَّ الْخَوَاصُّ.
وَكُلُّ مَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ شَيْءٍ وَجَهِلَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ لَمْ يُفِدْهُ ذَلِكَ، كَمَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الزِّنَى وَالْخَمْرِ وَجَهِلَ وُجُوبَ الْحَدِّ، فَإِنَّهُ يُحَدُّ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَمَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الطِّيبِ فِي الْإِحْرَامِ وَجَهِلَ وُجُوبَ الْفِدْيَةِ فِيهِ، فَتَجِبُ الْفِدْيَةُ.
السَّبَبُ السَّادِسُ: الْخَطَأُ:
37- الْخَطَأُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْفِعْلِ أَوْ فِي الْقَصْدِ.فَكُلُّ مَنْ أَخْطَأَ فِي فِعْلِهِ: كَمَنْ يَرْمِي صَيْدًا فَيُصِيبُ إِنْسَانًا، أَوْ فِي قَصْدِهِ: كَمَنْ يَرْمِي شَخْصًا يَظُنُّهُ غَيْرَ مَعْصُومِ الدَّمِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ.وَكَمَنِ اجْتَهَدَ فِي التَّعَرُّفِ عَلَى الْقِبْلَةِ فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا خِلَافُهَا.وَالْخَطَأُ بِنَوْعَيْهِ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُخَفِّفَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».وَلَيْسَ الْخَطَأُ مُسْقِطًا حُقُوقَ الْعِبَادِ، فَلَوْ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ خَطَأً فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ.
وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مُخَفِّفًا فِي الْجِنَايَاتِ، دَارِئًا لِلْحُدُودِ، فَيُخَفِّفُ عَنِ الْقَاتِلِ خَطَأً مِنَ الْقِصَاصِ إِلَى الدِّيَةِ، وَيَدْرَأُ الْحَدَّ عَنِ الْوَاطِئِ غَيْرَ زَوْجَتِهِ خَطَأً.
أَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ فَيَسْقُطُ الْإِثْمُ، وَقَدْ تَسْقُطُ مُطَالَبَةُ الشَّارِعِ بِإِعَادَةِ الْعِبَادَةِ مَرَّةً أُخْرَى.
هَذَا وَإِنَّ قَوَاعِدَ التَّخْفِيفِ الْمَذْكُورَةَ فِي أَبْوَابِ النِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ وَالْخَطَأِ هِيَ قَوَاعِدُ غَالِبِيَّةٌ يَقَعُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الِاسْتِثْنَاءَاتِ، وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُ أَصْحَابِ كُتُبِ الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ، وَكُتُبِ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ، حَصْرَهَا فَيُرْجَعُ إِلَيْهَا هُنَاكَ.وَانْظُرْ أَيْضًا (نِسْيَانٌ.جَهْلٌ.خَطَأٌ).
السَّبَبُ السَّابِعُ: الْعُسْرُ وَعُمُومُ الْبَلْوَى:
38- يَدْخُلُ فِيهِ الْأَعْذَارُ الْغَالِبَةُ الَّتِي تَكْثُرُ الْبَلْوَى بِهَا وَتَعُمُّ فِي النَّاسِ، دُونَ مَا كَانَ مِنْهَا نَادِرًا، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّرْعَ فَرَّقَ فِي الْأَعْذَارِ بَيْنَ غَالِبِهَا وَنَادِرِهَا، فَعَفَا عَنْ غَالِبِهَا لِمَا فِي اجْتِنَابِهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ الْغَالِبَةِ.وَإِنَّمَا تَكُونُ غَالِبَةً لِتَكَرُّرِهَا، وَكَثْرَتِهَا وَشُيُوعِهَا فِي النَّاسِ، بِخِلَافِ مَا كَانَ مِنْهَا نَادِرًا فَالْأَكْثَرُ أَنَّهُ يُؤَاخَذُ بِهِ، وَلَا يَكُونُ عُذْرًا لِانْتِفَاءِ الْمَشَقَّةِ غَالِبًا، فَإِنْ كَانَ فِيهِ عُسْرٌ كَمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ عَمَّا لَا يُدْرِكُهُ الطَّرَفُ مِنْ رَشَاشِ الْبَوْلِ فَيُعْفَى عَنْهُ أَيْضًا.وَمَثَّلَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِمَنْ أَتَى بِمَحْظُورِ الصَّلَاةِ نِسْيَانًا، فَإِنَّهُ إِنْ قَصُرَ زَمَانُهُ يُعْفَى عَنْهُ اتِّفَاقًا لِعُمُومِ الْبَلْوَى، وَإِنْ طَالَ زَمَانُهُ فَفِيهِ مَذْهَبَانِ: أَحَدُهُمَا: يُعْفَى عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْتَهِكِ الْحُرْمَةَ، وَالْآخَرُ: لَا يُعْفَى عَنْهُ لِأَنَّهُ نَادِرٌ.
وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي بَابِ الْحَيْضِ، فَإِنَّهُ يُسْقِطُ الصَّلَاةَ حَتَّى لَا تَجِبَ وَلَا يَجِبَ قَضَاؤُهَا؛ لِتَكَرُّرِهَا كُلَّ شَهْرٍ، بِخِلَافِ قَضَاءِ مَا تُفْطِرُهُ مِنْ رَمَضَانَ، فَيَجِبُ لِأَنَّهُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً.وَأَيْضًا «قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْهِرَّةِ إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ» فَقَدْ عَلَّلَ طَهَارَتَهَا بِكَثْرَةِ طَوَافِهَا أَيْ لِعُسْرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهَا لِكَثْرَةِ مُلَابَسَتِهَا لِثِيَابِ النَّاسِ وَآنِيَتِهِمْ، مَعَ كَوْنِهَا تَأْكُلُ الْفَأْرَ وَالْمَيْتَةَ.وَمَا رُوِيَ أَنَّ «أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: إِنِّي امْرَأَةٌ أُطِيلُ ذَيْلِي وَأَمْشِي فِي الْمَكَانِ الْقَذِرِ؟ قَالَ: يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ» وَقَالَ: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيَنْظُرْ فِي نَعْلَيْهِ فَإِنْ وَجَدَ فِيهِمَا أَذًى أَوْ قَذَرًا فَلْيَمْسَحْهُ وَلِيُصَلِّ فِيهِمَا».
وَالتَّخْفِيفُ بِالْعُسْرِ وَعُمُومِ الْبَلْوَى يَدْخُلُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَبْوَابِ الشَّرِيعَةِ.وَلِلتَّفْصِيلِ يُنْظَرُ مَا جَمَعَهُ السُّيُوطِيّ وَغَيْرُهُ فِي الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ مِنَ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ فِي الْمُعَامَلَاتِ: بَيْعُ الرُّمَّانِ وَالْبَيْضِ وَنَحْوِهِمَا فِي الْقِشْرِ، وَبَيْعُ الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ السَّلَمُ، مَعَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَالِاكْتِفَاءُ بِرُؤْيَةِ ظَاهِرِ الصُّبْرَةِ، وَأُنْمُوذَجِ الْمُتَمَاثِلِ.
السَّبَبُ الثَّامِنُ: النَّقْصُ:
39- إِنَّ الْإِنْسَانَ إِنْ كَانَتْ قُدُرَاتُهُ نَاقِصَةً يَعْسُرُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَمَّلَ مِثْلَ مَا يَحْمِلُهُ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ، فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ التَّخْفِيفَ.
فَمِنْ ذَلِكَ عَدَمُ تَكْلِيفِ الصَّبِيِّ.
وَمِنْهُ عَدَمُ تَكْلِيفِ الْأَرِقَّاءِ بِكَثِيرٍ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْأَحْرَارِ، كَالْجُمُعَةِ، وَتَنْصِيفِ الْحُدُودِ وَالْعَدَدِ.
وَمِنْهُ التَّخْفِيفَاتُ الْوَارِدَةُ فِي شَأْنِ النِّسَاءِ.فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ خَفَّفَتْ عَنْهُنَّ بَعْضَ الْأَحْكَامِ، فَرَفَعَتْ عَنْهُنَّ كَثِيرًا مِمَّا أُلْزِمَ بِهِ الرِّجَالُ مِنْ أَحْكَامٍ.وَمِنْ ذَلِكَ الْجَمَاعَةُ، وَالْجُمُعَةُ، وَأَبَاحَتْ بَعْضَ مَا حُرِّمَ عَلَى الرَّجُلِ كَلُبْسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ.
السَّبَبُ التَّاسِعُ: الْوَسْوَسَةُ:
40- الْمُوَسْوِسُ هُوَ مَنْ يَشُكُّ فِي الْعِبَادَةِ وَيَكْثُرُ مِنْهُ الشَّكُّ فِيهَا حَتَّى يَشُكَّ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلِ الشَّيْءَ وَهُوَ قَدْ فَعَلَهُ.وَالشَّكُّ فِي الْأَصْلِ مُوجِبٌ لِلْعَوْدِ لِمَا شَكَّ فِي تَرْكِهِ، كَمَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ وَشَكَّ هَلْ رَكَعَ أَمْ لَا، فَإِنَّ عَلَيْهِ الرُّكُوعَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مَا شَكَّ فِيهِ، وَلْيَبْنِ عَلَى الْيَقِينِ.وَمَنْ شَكَّ أَنَّهُ صَلَّى ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا جَعَلَهَا ثَلَاثًا وَأَتَى بِوَاحِدَةٍ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ.لَكِنْ إِنْ كَانَ مُوَسْوِسًا فَلَا يَلْتَفِتُ لِلْوَسْوَاسِ لِأَنَّهُ يَقَعُ فِي الْحَرَجِ، وَالْحَرَجُ مَنْفِيٌّ فِي الشَّرِيعَةِ، بَلْ يَمْضِي عَلَى مَا غَلَبَ فِي نَفْسِهِ.تَخْفِيفًا عَنْهُ وَقَطْعًا لِلْوَسْوَاسِ.قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَالِاحْتِيَاطُ حَسَنٌ مَا لَمْ يُفِضْ بِصَاحِبِهِ إِلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ، فَإِذَا أَفْضَى إِلَى ذَلِكَ فَالِاحْتِيَاطُ تَرْكُ هَذَا الِاحْتِيَاطِ.
السَّبَبُ الْعَاشِرُ: التَّرْغِيبُ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَحَدَاثَةُ الدُّخُولِ فِيهِ:
41- وَهَذَا سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّيْسِيرِ يُعْلَمُ بِتَتَبُّعِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، وَمِمَّا شُرِعَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الدَّاخِلَ فِي الْإِسْلَامِ يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ بِالتَّحْرِيمِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً تَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُدُودِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي السَّبَبِ الْخَامِسِ.
وَمِنْهُ سُقُوطُ الْعِبَادَاتِ وَسَائِرِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى السَّابِقَةِ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَلَا يُطَالَبُ بِقَضَائِهَا: حَتَّى عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ؛ تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ؛ وَلِئَلاَّ تَكُونَ مَشَقَّةُ الْقَضَاءِ حَائِلاً بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِسْلَامِ.
وَمِنْهُ إِعْطَاءُ الزَّكَاةِ لِلْكَافِرِ الَّذِي يُرْجَى إِسْلَامُهُ تَرْغِيبًا لَهُ فِي الْإِسْلَامِ لِتَمِيلَ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَإِعْطَاءُ مَنْ أَسْلَمَ حَدِيثًا إِذَا كَانَ فِي إِعْطَائِهِ قُوَّةٌ لِلْإِسْلَامِ، أَوْ تَرْغِيبٌ لِنُظَرَائِهِ لِيُسْلِمُوا.
وَمِنْهُ تَوْرِيثُ الْكَافِرِ مِنْ قَرِيبِهِ الْمُسْلِمِ إِنْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ قَبْلَ قِسْمَةِ التَّرِكَةِ، عَلَى قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ انْفَرَدُوا بِهِ؛ تَرْغِيبًا لَهُ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ.
الْمَشَاقُّ الْمُوجِبَةُ لِلتَّيْسِيرِ:
42- الْمَشَاقُّ عَلَى قِسْمَيْنِ: مَشَاقَّ لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا التَّكْلِيفُ غَالِبًا كَمَشَقَّةِ الْبَرْدِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَمَشَقَّةِ الصَّوْمِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَطُولِ النَّهَارِ، وَمَشَقَّةِ السَّفَرِ الَّتِي لَا انْفِكَاكَ لِلْحَجِّ وَالْجِهَادِ عَنْهَا غَالِبًا، وَمَشَقَّةِ أَلَمِ الْحُدُودِ كَرَجْمِ الزُّنَاةِ، وَقَتْلِ الْجُنَاةِ، وَقِتَالِ الْبُغَاةِ، فَلَا أَثَرَ لِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمَشَقَّاتِ فِي إِسْقَاطِ حَقِّ اللَّهِ الْوَاجِبِ، فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، أَيْ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَهُ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ لِمَصَالِحَ يَعْلَمُهَا، فَيَكُونُ إِسْقَاطُهَا دَائِمًا لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَشَقَّاتِ الْمُلَازِمَةِ إِلْغَاءً لِمَا اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ.
وَالْقِسْمِ الثَّانِي: مَشَاقَّ يَنْفَكُّ عَنْهَا التَّكْلِيفُ غَالِبًا، فَمَا لَا يُطَاقُ مِنْهَا اقْتَضَى التَّخْفِيفَ بِالْإِسْقَاطِ أَوْ غَيْرِهِ اتِّفَاقًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِلاَّ فَإِنْ كَانَتْ عَظِيمَةً فَادِحَةً كَالْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ، أَوِ الْأَعْضَاءِ، فَهِيَ مُوجِبَةٌ لِلتَّخْفِيفِ؛ لِأَنَّ حِفْظَ النُّفُوسِ، وَالْأَطْرَافِ لِإِقَامَةِ مَصَالِحِ الدِّينِ أَوْلَى مِنْ تَعْرِيضِهَا لِلْفَوَاتِ فِي عِبَادَةٍ أَوْ عِبَادَاتٍ يَفُوتُ بِهَا أَمْثَالُهَا، وَإِنْ كَانَتِ الْمَشَقَّةُ خَفِيفَةً كَأَدْنَى وَجَعٍ فِي أُصْبُعٍ، أَوْ سُوءِ مِزَاجٍ خَفِيفٍ، فَهَذَا لَا أَثَرَ لَهُ، وَلَا يَتَرَخَّصُ بِهِ؛ لِأَنَّ تَحْصِيلَ مَصَالِحِ الْعِبَادَاتِ أَوْلَى مِنْ دَفْعِ مِثْلِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي لَا أَثَرَ لَهَا، وَالْمَشَقَّةُ الْمُتَوَسِّطَةُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الدَّرَجَتَيْنِ مَا دَنَا مِنْهَا مِنَ الرُّتْبَةِ الْعُلْيَا أَوْجَبَ التَّخْفِيفَ، أَوْ مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يُوجِبْهُ، كَحُمَّى خَفِيفَةٍ، وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَهُمَا فَهُوَ مِمَّا يُخْتَلَفُ فِيهِ غَالِبًا.وَلَا ضَبْطَ لِهَذِهِ الْمَرَاتِبِ إِلاَّ بِالتَّقْرِيبِ.
قَالَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَتَخْتَلِفُ الْمَشَاقُّ بِاخْتِلَافِ الْعِبَادَاتِ فِي اهْتِمَامِ الشَّرْعِ.فَمَا اشْتَدَّ اهْتِمَامُهُ بِهِ شَرَطَ فِي تَخْفِيفِهِ الْمَشَاقَّ الشَّدِيدَةَ أَوِ الْعَامَّةَ، وَمَا لَمْ يَهْتَمَّ بِهِ خَفَّفَهُ بِالْمَشَاقِّ الْخَفِيفَةِ، وَقَدْ تُخَفَّفُ مَشَاقُّهُ مَعَ شَرَفِهِ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ لِتَكَرُّرِ مَشَاقِّهِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إِلَى الْمَشَاقِّ الْعَامَّةِ الْكَثِيرَةِ الْوُقُوعِ.
وَمِنْ هُنَا جَاءَتِ الْقَاعِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ الْمَشْهُورَةُ (الْمَشَقَّةُ تَجْلُبُ التَّيْسِيرَ) وَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ قَوَاعِدِ الْفِقْهِ الْإِسْلَامِيِّ، يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْمُجْتَهِدُ وَالْمُفْتِي كَثِيرًا.
وَقَدْ قَالَ السُّيُوطِيّ: يَرْجِعُ إِلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ غَالِبُ أَبْوَابِ الْفِقْهِ.
وَمِثْلُهَا قَاعِدَةُ (إِنَّ الْأَمْرَ إِذَا ضَاقَ اتَّسَعَ) وَالْمُرَادُ بِالِاتِّسَاعِ التَّرَخُّصُ عَنِ اتِّبَاعِ الْأَقْيِسَةِ وَطَرْدِ الْقَوَاعِدِ فِي آحَادِ الصُّوَرِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الضِّيقِ وَهُوَ الْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ.
غَيْرَ أَنَّ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ مُقَيَّدَتَانِ بِقَاعِدَةٍ أُخْرَى هِيَ أَنَّ (الْمَيْسُورَ لَا يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ) وَدَلِيلُهَا قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ».قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: «هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مِنَ الْأُصُولِ الشَّائِعَةِ الَّتِي لَا تَكَادُ تُنْسَى مَا أُقِيمَتْ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ».وَوَجْهُهَا أَنَّ الْعُسْرَ هُوَ سَبَبُ التَّخْفِيفِ، فَإِنْ كَانَ الْبَعْضُ مَيْسُورًا لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْفِيفِ فِيهِ مَوْضِعٌ.
وَمِنْ فُرُوعِهَا: إِذَا كَانَ مَقْطُوعَ بَعْضِ الْأَطْرَافِ غَسَلَ الْبَاقِيَ جَزْمًا.وَالْقَادِرُ عَلَى سَتْرِ بَعْضِ عَوْرَتِهِ دُونَ بَعْضٍ سَتَرَ الْقَدْرَ الْمُمْكِنَ.وَالْقَادِرُ عَلَى بَعْضِ الْفَاتِحَةِ دُونَ بَعْضٍ يَأْتِي بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ.وَمَنْ وَجَدَ مَاءً لَا يَكْفِي لِكُلِّ طَهَارَتِهِ اسْتَعْمَلَهُ.وَمَنْ وَجَدَ بَعْضَ صَاعٍ فِي الْفِطْرَةِ أَخْرَجَهُ.
وَهِيَ قَاعِدَةٌ غَالِبِيَّةٌ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهَا فُرُوعٌ مِنْهَا: وَاجِدُ بَعْضِ الرَّقَبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ لَا يُعْتِقُهَا، بَلْ يَنْتَقِلُ إِلَى الْبَدَلِ.وَمِنْهَا: الْقَادِرُ عَلَى صَوْمِ بَعْضِ يَوْمٍ دُونَ كُلِّهِ لَا يَلْزَمُهُ إِمْسَاكُهُ، وَإِذَا وَجَدَ الشَّفِيعُ بَعْضَ الثَّمَنِ لَا يَأْخُذُ قِسْطَهُ مِنَ الشِّقْصِ.
تَعَارُضُ قَاعِدَةِ رَفْعِ الْحَرَجِ وَالنَّصِّ:
43- ذَكَرَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ ابْنُ نُجَيْمٍ فِي أَشْبَاهِهِ.
وَنَقَلَ عَنِ السَّرَخْسِيِّ قَوْلَهُ: «إِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْبَلْوَى فِي مَوْضِعٍ لَا نَصَّ فِيهِ بِخِلَافِهِ، فَأَمَّا مَعَ وُجُودِ النَّصِّ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ».ثُمَّ قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: وَلِذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ ( بِحُرْمَةِ رَعْيِ حَشِيشِ الْحَرَمِ وَقَطْعِهِ إِلاَّ الْإِذْخِرَ.
وَمِنْ فُرُوعِهَا أَيْضًا قَوْلُ ابْنِ نُجَيْمٍ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: بِتَغْلِيظِ نَجَاسَةِ الْأَرْوَاثِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الرَّوْثَةِ: «إِنَّهَا رِكْسٌ» أَيْ نَجَسٌ، وَلَا اعْتِبَارَ عِنْدَهُ بِالْبَلْوَى فِي مَوْضِعِ النَّصِّ.
وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُتَّفَقًا عَلَيْهَا؛ وَلِذَا خَالَفَ فِي الْفَرْعِ الْأَوَّلِ أَبُو يُوسُفَ، فَأَجَازَ رَعْيَ حَشِيشِ الْحَرَمِ؛ لِلْحَرَجِ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْهُ.وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: يَجُوزُ رَعْيُهُ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ كَانَتْ تَدْخُلُ الْحَرَمَ فَتَكْثُرُ فِيهِ، فَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ كَانَتْ تُسَدُّ أَفْوَاهُهَا؛ وَلِأَنَّ بِهِمْ حَاجَةً إِلَى ذَلِكَ، أَشْبَهَ قَطْعَ الْإِذْخِرِ.
أَنْوَاعُ التَّخْفِيفِ وَالتَّيْسِيرِ:
44- أَوْرَدَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّخْفِيفَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الشَّرِيعَةِ سِتَّةَ أَنْوَاعٍ ثُمَّ زَادَ عَلَيْهَا غَيْرُهُ: فَالسِّتَّةُ هِيَ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: تَخْفِيفُ الْإِسْقَاطِ، فَيَسْقُطُ الْفِعْلُ عَنِ الْمُكَلَّفِ، كَإِسْقَاطِ الْجُمُعَةِ عَنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ، وَالْحَجِّ عَنْ غَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ، وَالْجِهَادِ عَنِ الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَمَقْطُوعِ الْيَدِ، وَكَإِسْقَاطِ الصَّلَاةِ عَنِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: تَخْفِيفُ تَنْقِيصٍ، كَقَصْرِ الصَّلَاةِ لِلْمُسَافِرِ وَالِاكْتِفَاءِ بِرَكْعَتَيْنِ لِدَفْعِ مَشَقَّةِ السَّفَرِ، وَتَنْقِيصِ مَا عَجَزَ عَنْهُ الْمَرِيضُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَوَاتِ عَنِ الْحَدِّ الْأَدْنَى الْمُجْزِئِ لِغَيْرِ الْمَرِيضِ، كَتَنْقِيصِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إِلَى الْحَدِّ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: تَخْفِيفُ إِبْدَالٍ، كَإِجَازَةِ الشَّارِعِ لِلْمَرِيضِ إِبْدَالَ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ بِالتَّيَمُّمِ، وَإِبْدَالَ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ بِالْقُعُودِ، أَوِ الِاضْطِجَاعِ، وَإِبْدَالَ الصِّيَامِ لِلشَّيْخِ الْفَانِي بِالْإِطْعَامِ، وَإِبْدَالَ بَعْضِ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ بِالْكَفَّارَاتِ عِنْدَ قِيَامِ الْأَعْذَارِ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ: تَخْفِيفُ تَقْدِيمٍ، كَإِجَازَةِ جَمْعِ التَّقْدِيمِ فِي الصَّلَاةِ لِلْمُسَافِرِ وَالْحَاجِّ، وَإِجَازَةِ تَعْجِيلِ تَقْدِيمِ الزَّكَاةِ عَنِ الْحَوْلِ لِدَاعٍ، وَتَقْدِيمِ زَكَاةِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ قَبْلَ يَوْمِ الْعِيدِ بِيَوْمٍ أَوْ بِيَوْمَيْنِ، وَأَجَازَ الْبَعْضُ تَقْدِيمَهَا لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
10-موسوعة الفقه الكويتية (جهاد 2)
جِهَادٌ -2د- الذُّكُورَة:
19- تُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ لِوُجُوبِ الْجِهَادِ، لِمَا رَوَتْ «عَائِشَةُ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ فَقَالَ: جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ».
وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِنَّ الْجِهَادُ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
أَمَّا إِخْرَاجُ النِّسَاءِ مَعَ الْمُجَاهِدِينَ فَيُكْرَهُ فِي سَرِيَّةٍ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضَهُنَّ لِلضَّيَاعِ، وَيَمْنَعُهُنَّ الْإِمَامُ مِنَ الْخُرُوجِ لِلِافْتِتَانِ بِهِنَّ، وَلَسْنَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ لِاسْتِيلَاءِ الْخَوَرِ وَالْجُبْنِ عَلَيْهِنَّ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ ظَفَرُ الْعَدُوِّ بِهِنَّ، فَيَسْتَحِلُّونَ مِنْهُنَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِاسْتِثْنَاءِ امْرَأَةِ الْأَمِيرِ لِحَاجَتِهِ، أَوِ امْرَأَةٍ طَاعِنَةٍ فِي السِّنِّ لِمَصْلَحَةٍ فَقَطْ، فَإِنَّهُ يُؤْذَنُ لِمِثْلِهِمَا؛ لِمَا رَوَتْ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: «كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَنَسْقِي الْقَوْمَ وَنَخْدُمَهُمُ الْمَاءَ، وَنَرُدُّ الْجَرْحَى وَالْقَتْلَى إِلَى الْمَدِينَةِ».
وَلَكِنْ لَا بَأْسَ بِإِخْرَاجِ النِّسَاءِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا كَانُوا عَسْكَرًا عَظِيمًا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ السَّلَامَةُ، وَالْغَالِبُ كَالْمُتَحَقَّقِ.
وَلَا يَجِبُ الْجِهَادُ عَلَى خُنْثَى مُشْكِلٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ ذَكَرًا، فَلَا يَجِبُ مَعَ الشَّكِّ فِي شَرْطِهِ.
هـ- الْقُدْرَةُ عَلَى مُؤْنَةِ الْجِهَادِ:
20- يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْجِهَادِ الْقُدْرَةُ عَلَى تَحْصِيلِ السِّلَاحِ.
وَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ الَّذِي لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ فِي طَرِيقِهِ فَاضِلًا عَنْ نَفَقَةِ عِيَالِهِ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ}.
فَإِنْ كَانَ الْقِتَالُ عَلَى بَابِ الْبَلَدِ أَوْ حَوَالَيْهِ وَجَبَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نَفَقَةِ الطَّرِيقِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى وَسِيلَةٍ تَنْقُلُهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ؛ لقوله تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}.
وَإِنْ بَذَلَ لَهُ الْإِمَامُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ وَسِيلَةِ نَقْلٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَ وَيُجَاهِدَ؛ لِأَنَّ مَا يُعْطِيهِ الْإِمَامُ حَقٌّ لَهُ، وَإِنْ بَذَلَ لَهُ غَيْرُ الْإِمَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ.
و- السَّلَامَةُ مِنَ الضَّرَرِ:
21- لَا يَجِبُ الْجِهَادُ عَلَى الْعَاجِزِ غَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ يَنْفِي الْوُجُوبَ، وَالْمُسْتَطِيعُ هُوَ الصَّحِيحُ فِي بَدَنِهِ مِنَ الْمَرَضِ.
وَمِنْ ثَمَّ فَلَا يَخْرُجُ الْمَرِيضُ الدَّنَفُ الَّذِي يَمْنَعُهُ مَرَضُهُ مِنَ الرُّكُوبِ أَوِ الْقِتَالِ، بِأَنْ تَحْصُلَ لَهُ مَشَقَّةٌ لَا تُحْتَمَلُ عَادَةً.
وَلَا يَسْقُطُ وُجُوبُ الْجِهَادِ بِالْمَرَضِ إِنْ كَانَ يَسِيرًا لَا يَمْنَعُهُ، كَوَجَعِ ضِرْسٍ، وَصُدَاعٍ خَفِيفٍ، وَنَحْوِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ مَعَهُمَا الْجِهَادُ.
وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْخُرُوجِ دُونَ الْقِتَالِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ لِتَكْثِيرِ السَّوَادِ إِرْهَابًا.
وَكَالْمَرِيضِ مَنْ لَهُ مَرِيضٌ لَا مُتَعَهِّدَ لَهُ غَيْرُهُ.
وَلَا يَخْرُجُ الْأَعْمَى، وَلَا الْأَعْرَجُ، وَلَا الْمُقْعَدُ، وَلَا الْأَقْطَعُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْذَارَ تَمْنَعُهُمْ مِنَ الْجِهَادِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}.
وَقَالَ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}.
فَأَمَّا الْأَعْمَى فَمَعْرُوفٌ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْقِتَالِ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، وَكَالْأَعْمَى ذُو رَمَدٍ، وَضَعِيفُ بَصَرٍ لَا يُمْكِنُهُ اتِّقَاءُ السِّلَاحِ، فَإِنْ كَانَ يُدْرِكُ الشَّخْصَ وَمَا يَتَّقِيهِ مِنَ السِّلَاحِ وَجَبَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ.
وَيَجِبُ عَلَى الْأَعْوَرِ وَالْأَعْشَى، وَهُوَ الَّذِي يُبْصِرُ فِي النَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّهُ كَالْبَصِيرِ فِي الْقِتَالِ.
وَأَمَّا الْعَرَجُ فَالْمَقْصُودُ بِهِ الْعَرَجُ الْفَاحِشُ الَّذِي يَمْنَعُ الْمَشْيَ الْجَيِّدَ وَالرُّكُوبَ كَالزَّمَانَةِ وَنَحْوِهَا، وَهُوَ عَرَجٌ بَيِّنٌ، وَلَوْ كَانَ فِي رِجْلٍ وَاحِدَةٍ، فَإِذَا كَانَ يَسِيرًا يَتَمَكَّنُ مَعَهُ مِنَ الرُّكُوبِ وَالْمَشْيِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ شِدَّةُ الْعَدُوِّ، فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ وُجُوبَ الْجِهَادِ، لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ فَشَابَهَ الْأَعْوَرَ.
وَمِثْلُ الْأَعْرَجِ الْأَقْطَعُ وَالْأَشَلُّ وَلَوْ لِمُعْظَمِ أَصَابِعِ يَدٍ وَاحِدَةٍ، إِذْ لَا بَطْشَ لَهُمَا وَلَا نِكَايَةَ، وَمِثْلُهُمَا فَاقِدُ الْأَنَامِلِ.
وَلَا تَأْثِيرَ لِقَطْعِ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ إِذَا أَمْكَنَ مَعَهُ الْمَشْيُ مِنْ غَيْرِ عَرَجٍ بَيِّنٍ.
مَنْ يَمْنَعُهُ الْإِمَامُ مِنَ الْخُرُوجِ فِي الْجِهَادِ:
22- صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُسَنُّ لِلْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ مَنْعُ مُخَذِّلٍ وَمُرْجِفٍ مِنَ الْخُرُوجِ وَحُضُورِ الصَّفِّ وَإِخْرَاجِهِ مِنْهُ مَا لَمْ يَخْشَ فِتْنَةً، بَلْ يُتَّجَهُ وُجُوبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَيْثُ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ حُصُولُ ذَلِكَ مِنْهُ وَأَنَّ بَقَاءَهُ مُضِرٌّ بِغَيْرِهِ.
وَالْمُخَذِّلُ مَنْ يَصُدُّ غَيْرَهُ عَنِ الْغَزْوِ وَيُزَهِّدُهُمْ فِي الْخُرُوجِ إِلَيْهِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: الْحَرُّ أَوِ الْبَرْدُ شَدِيدٌ، وَالْمَشَقَّةُ شَدِيدَةٌ، وَلَا تُؤْمَنُ هَزِيمَةُ الْجَيْشِ وَأَشْبَاهُ هَذَا.يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالًا وَلأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ}.
قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: لأَوْقَعُوا بَيْنَكُمُ الِاخْتِلَافَ، وَقِيلَ: لأَسْرَعُوا فِي تَفْرِيقِ جَمْعِكُمْ.
وَالْمُرْجِفُ هُوَ الَّذِي يَقُولُ: هَلَكَتْ سَرِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَمَا لَهُمْ مَدَدٌ وَلَا طَاقَةَ لَهُمْ بِالْكُفَّارِ وَنَحْوُ هَذَا؛ لقوله تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ}.
وَلَا يَأْذَنُ لِمَنْ يُعِينُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالتَّجَسُّسِ لِلْكُفَّارِ، وَإِطْلَاعِهِمْ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَمُكَاتَبَتِهِمْ بِأَخْبَارِهِمْ، وَدَلَالَتِهِمْ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ، أَوْ إِيوَاءِ جَوَاسِيسِهِمْ، وَلَا مَنْ يُوقِعُ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَيَسْعَى بِالْفَسَادِ، للآية: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ}؛ وَلِأَنَّ هَؤُلَاءِ مَضَرَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَلْزَمُهُ مَنْعُهُمْ.
وَإِنْ خَرَجَ مَعَهُ أَحَدُ هَؤُلَاءِ لَمْ يُسْهَمْ لَهُ، وَلَمْ يُرْضَخْ، وَإِنْ أَظْهَرَ عَوْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَظْهَرَهُ نِفَاقًا وَقَدْ ظَهَرَ دَلِيلُهُ، فَيَكُونُ مُجَرَّدَ ضَرَرٍ فَلَا يَسْتَحِقُّ مِمَّا غَنِمُوا شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ الْأَمِيرُ أَحَدَ هَؤُلَاءِ لَمْ يُسْتَحَبَّ الْخُرُوجُ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا مَنَعَ خُرُوجَ الْمُخَذِّلِ، وَالْمُرْجِفِ، وَالْجَاسُوسِ وَنَحْوِهِمْ، تَبَعًا فَمَتْبُوعًا أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُ لَا تُؤْمَنُ الْمَضَرَّةُ عَلَى مَنْ صَحِبَهُ.
هَذَا، وَكُلُّ عُذْرٍ مَنَعَ وُجُوبَ الْحَجِّ مَنَعَ وُجُوبَ الْجِهَادِ إِلاَّ خَوْفَ طَرِيقٍ مِنْ كُفَّارٍ، فَإِنَّهُ وَإِنْ مَنَعَ وُجُوبَ الْحَجِّ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْجِهَادِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْجِهَادِ عَلَى رُكُوبِ الْمَخَاوِفِ.
الْقِتَالُ عَلَى جُعْلٍ:
23- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ أَخْذُ الْجُعْلِ عَلَى الْجِهَادِ، مَا دَامَ لِلْمُسْلِمِينَ فَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ، وَمَالُ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَرَاهَةَ تَحْرِيمِيَّةٌ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْأَجْرِ عَلَى الطَّاعَةِ حَرَامٌ، فَمَا يُشْبِهُهُ مَكْرُوهٌ.
وَقَدْ نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهِيَتُهُ الشَّدِيدَةُ لِلْقِتَالِ عَلَى جُعْلٍ.
وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ لَا يُكْرَهُ الْجُعْلُ لِلضَّرُورَةِ، وَهُوَ دَفْعُ الضَّرَرِ الْأَعْلَى- أَيْ تَعَدِّي شَرِّ الْكُفَّارِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ- بِالْأَدْنَى وَهُوَ الْجُعْلُ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: فَيُلْتَزَمُ الضَّرَرُ الْخَاصُّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ.
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَشْتَرِطُونَ فِي جَوَازِ الْجُعْلِ أَنْ تَكُونَ الْخُرْجَةُ وَاحِدَةً، كَأَنْ يَقُولَ الْجَاعِلُ لِلْخَارِجِ عَنْهُ: أُجَاعِلُكَ بِكَذَا عَلَى أَنْ تَخْرُجَ بَدَلًا عَنِّي فِي هَذِهِ السَّنَةِ، أَمَّا لَوْ تَعَاقَدَ مَعَهُ عَلَى أَنَّهُ كُلَّمَا حَصَلَ الْخُرُوجُ لِلْجِهَادِ خَرَجَ نَائِبًا عَنْهُ فَلَا يَجُوزُ لِقُوَّةِ الْغَرَرِ، فَالْمُرَادُ بِالْخُرْجَةِ الْمَرَّةُ مِنَ الْخُرُوجِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْجِهَادِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ لَزِمَهُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَخْذُ الْجُعْلِ.وَإِذَا قَالَ الْقَاعِدُ لِلْغَازِي، خُذْ هَذَا الْمَالَ لِتَغْزُوَ بِهِ عَنِّي لَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ عَلَى الْجِهَادِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: فَاغْزُ بِهِ.
وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لَا يُجَاهِدُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ بِعِوَضٍ، أَوْ غَيْرِ عِوَضٍ؛ لِأَنَّهُ إِذَا حَضَرَ الْقِتَالُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْفَرْضُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَا يُؤَدِّيهِ عَنْ غَيْرِهِ.
وَلَا يَصِحُّ مِنَ الْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ اسْتِئْجَارُ مُسْلِمٍ لِلْجِهَادِ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَنِ الْمُبَاشِرِ عَنْ نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَمَا يَأْخُذُهُ الْمُجَاهِدُونَ مِنَ الدِّيوَانِ مِنَ الْفَيْءِ، وَمَا يَأْخُذُهُ الْمُتَطَوِّعُ مِنَ الزَّكَاةِ إِعَانَةٌ لَا أُجْرَةٌ.
وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْغَزْوِ لَا أُجْرَةَ لَهُ إِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ، وَإِلاَّ اسْتَحَقَّهَا مِنْ خُرُوجِهِ إِلَى حُضُورِهِ الْوَاقِعَةِ.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ قَالَ الْخِرَقِيُّ: إِذَا اسْتَأْجَرَ الْأَمِيرُ قَوْمًا يَغْزُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ لِمَنَافِعِهِمْ لَمْ يُسْهَمْ لَهُمْ وَأُعْطُوا مَا اسْتُؤْجِرُوا بِهِ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ، فَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَحَنْبَلٍ: فِي الْإِمَامِ يَسْتَأْجِرُ قَوْمًا يَدْخُلُ بِهِمْ بِلَادَ الْعَدُوِّ لَا يُسْهِمُ لَهُمْ، وَيُوَفِّي لَهُمْ بِمَا اسْتُؤْجِرُوا عَلَيْهِ، وَقَالَ الْقَاضِي: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى اسْتِئْجَارِ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ كَالْعَبِيدِ وَالْكُفَّارِ.
أَمَّا الرِّجَالُ الْمُسْلِمُونَ الْأَحْرَارُ فَلَا يَصِحُّ اسْتِئْجَارُهُمْ عَلَى الْجِهَادِ؛ لِأَنَّ الْغَزْوَ يَتَعَيَّنُ بِحُضُورِ الْغَزْوِ عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ، فَإِذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْفَرْضُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْعَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ، كَمَنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ.ثُمَّ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي صِحَّةِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْغَزْوِ لِمَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ، لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لِلْغَازِي أَجْرُهُ وَلِلْجَاعِلِ أَجْرُهُ».وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- «مَثَلُ الَّذِينَ يَغْزُونَ مِنْ أُمَّتِي وَيَأْخُذُونَ الْجُعْلَ، وَيَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَى عَدُوِّهِمْ، مَثَلُ أُمِّ مُوسَى تُرْضِعُ وَلَدَهَا وَتَأْخُذُ أَجْرَهَا» وَلِأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ فَصَحَّ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، أَوْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْجِهَادُ فَصَحَّ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ كَالْعَبْدِ، وَيُفَارِقُ الْحَجَّ حَيْثُ إِنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ، وَأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهِ، وَفِي الْمَنْعِ مِنْ أَخْذِ الْجُعْلِ عَلَيْهِ تَعْطِيلٌ لَهُ وَمَنْعٌ لَهُ مِمَّا فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ نَفْعٌ وَبِهِمْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ بِخِلَافِ الْحَجِّ.
وَأَمَّا الِاسْتِفَادَةُ مِنَ الْجُعْلِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهِ فِي غَيْرِ الْجِهَادِ، فَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْغَازِي أَنْ يَتْرُكَ بَعْضَ الْجُعْلِ لِنَفَقَةِ عِيَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَهَيَّأُ لَهُ الْخُرُوجُ إِلاَّ بِهِ.وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَتْرُكُ لِأَهْلِهِ مِنْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمِلْكِهِ إِلاَّ أَنْ يَصِلَ إِلَى رَأْسِ مَغْزَاهُ فَيَكُونُ كَمَالِهِ، فَيَبْعَثُ إِلَى عِيَالِهِ مِنْهُ، وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ قَبْلَ الْخُرُوجِ لِئَلاَّ يَتَخَلَّفَ عَنِ الْغَزْوِ، فَلَا يَكُونُ مُسْتَحِقًّا لِمَا أَنْفَقَهُ، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ سِلَاحًا أَوْ آلَةً لِلْغَزْوِ.
وَمَنْ أُعْطِيَ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ يَسْتَعِينُ بِهِ فِي غَزْوَةٍ بِعَيْنِهَا فَمَا فَضَلَ بَعْدَهَا فَهُوَ لَهُ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَابِلَةُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا أَعْطَى شَيْئًا فِي الْغَزْوِ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: إِذَا بَلَغْتَ وَادِيَ الْقُرَى فَشَأْنُكَ بِهِ.وَلِأَنَّهُ أَعْطَاهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاوَنَةِ وَالنَّفَقَةِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِجَارَةِ، فَكَانَ الْفَاضِلُ لَهُ، وَإِنْ أَعْطَاهُ شَيْئًا لِيُنْفِقَهُ فِي الْغَزْوِ مُطْلَقًا، فَفَضَلَ مِنْهُ فَضْلٌ، أَنْفَقَهُ فِي غَزْوَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ أَعْطَاهُ الْجَمِيعَ لِيُنْفِقَهُ فِي جِهَةِ قُرْبَةٍ فَلَزِمَهُ إِنْفَاقُ الْجَمِيعِ فِيهَا.
الدَّعْوَةُ قَبْلَ الْقِتَالِ
24- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ دَارَ الْحَرْبِ فَحَاصَرُوا مَدِينَةً أَوْ حِصْنًا دَعَوُا الْكُفَّارَ إِلَى الْإِسْلَامِ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رضي الله عنه- «مَا قَاتَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- قَوْمًا حَتَّى دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ» فَإِنْ أَجَابُوا كَفُّوا عَنْ قِتَالِهِمْ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَقَدْ قَالَ- صلى الله عليه وسلم-: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ».
وَإِنِ امْتَنَعُوا دَعَوْهُمْ إِلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، وَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ تُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ، وَأَمَّا مَنْ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ كَالْمُرْتَدِّينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَرَبِ فَلَا فَائِدَةَ فِي دَعْوَتِهِمْ إِلَى قَبُولِ الْجِزْيَةِ.وَهَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الرِّسَالَةُ لِقَطْعِ حُجَّتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمُ الْإِسْلَامُ قَبْلَ الْعِلْمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، وَلَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ عَلَى مَا لَا يَلْزَمُهُمْ، وَلِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ: إِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ: ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ، إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوَا فَسَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ، فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ، فَإِنَّكُمْ إِنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ، أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ، فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَلَا تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ».
وَلِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم- فِي وَصِيَّةِ أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ: «فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ؛ وَلِأَنَّهُمْ بِالدَّعْوَةِ يَعْلَمُونَ أَنَّا نُقَاتِلُهُمْ عَلَى الدِّينِ لَا عَلَى سَلْبِ الْأَمْوَالِ وَسَبْيِ الذَّرَارِيِّ، فَلَعَلَّهُمْ يُجِيبُونَ فَنُكْفَى مُؤْنَةَ الْقِتَالِ».
قَالَ الْمَالِكِيَّةُ.وَدَعْوَةُ الْكُفَّارِ وُجُوبًا إِلَى الْإِسْلَامِ تَسْتَمِرُّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً، فَإِذَا دُعُوا أَوَّلَ الثَّالِثِ قُوتِلُوا فِي أَوَّلِ الرَّابِعِ بَعْدَ دَعْوَتِهِمْ فِيهِ لِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ وَامْتِنَاعِهِمْ، وَلَا تَجِبُ دَعْوَتُهُمْ لِلْإِسْلَامِ لَا فِي بَقِيَّةِ الثَّالِثِ، وَلَا فِي أَوَّلِ الرَّابِعِ.ثُمَّ إِنْ أَبَوْا قَبُولَ الْإِسْلَامِ دُعُوا إِلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ إِجْمَالًا، إِلاَّ أَنْ يَسْأَلُوا عَنْ تَفْصِيلِهَا بِمَحَلٍّ يُؤْمَنُ فِيهِ غَدْرُهُمْ لِكَوْنِهِمْ تَنَالُهُمْ فِيهِ أَحْكَامُنَا، وَإِلاَّ بِأَنْ لَمْ يُجِيبُوا أَوْ أَجَابُوا وَلَكِنْ بِمَحَلٍّ لَا تَنَالُهُمْ أَحْكَامُنَا فِيهِ، وَلَمْ يَرْتَحِلُوا لِبِلَادِنَا قُوتِلُوا وَقُتِلُوا.وَلَوْ قَاتَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ الدَّعْوَةِ أَثِمُوا لِلنَّهْيِ، وَلَا يَضْمَنُ الْمُسْلِمُونَ شَيْئًا مِمَّا أَتْلَفُوهُ مِنَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مَعَ الْإِثْمِ، وَهَذَا لِعَدَمِ الْعَاصِمِ وَهُوَ الدِّينُ، أَوِ الْإِحْرَازُ بِالدَّارِ، فَصَارَ كَقَتْلِ النِّسْوَانِ وَالصِّبْيَانِ.
هَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَذَلِكَ إِنْ وُجِدَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ دُعُوا قَبْلَ الْقِتَالِ.
أَمَّا مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ، فَإِنَّهُ لَا تَجِبُ دَعْوَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ قَدِ انْتَشَرَتْ وَعَمَّتْ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ إِلاَّ نَادِرٌ بَعِيدٌ.
ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْفَتْحِ: أَنَّ الْمَدَارَ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ.
قَالَ أَحْمَدُ: إِنَّ الدَّعْوَةَ قَدْ بَلَغَتْ وَانْتَشَرَتْ، وَلَكِنْ إِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ قَوْمٌ خَلْفَ الرُّومِ وَخَلْفَ التُّرْكِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُمْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى بُرَيْدَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ...» الْحَدِيثَ.
وَقَالَ مَالِكٌ: أَمَّا مَنْ قَارَبَ الدُّرُوبَ فَالدَّعْوَةُ مَطْرُوحَةٌ لِعِلْمِهِمْ بِمَا يُدْعَوْنَ إِلَيْهِ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبُغْضِ وَالْعَدَاوَةِ لِلدِّينِ وَأَهْلِهِ، وَمِنْ طُولِ مُعَارَضَتِهِمْ لِلْجُيُوشِ وَمُحَارَبَتِهِمْ لَهُمْ، فَلْتَطْلُبْ غِرَّتَهُمْ.وَلَا تُحْدِثُ لَهُمُ الدَّعْوَةَ إِلاَّ تَحْذِيرًا وَأَخْذَ عِدَّةٍ لِمُحَارَبَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْعًا لِمَا رَجَاهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الظُّهُورِ عَلَيْهِمْ.
قَالَ مَالِكٌ: إِذَا عَاجَلَكَ أَهْلُ الْحَرْبِ عَنْ أَنْ تَدْعُوَهُمْ فَقَاتِلْهُمْ، وَسُئِلَ عَنْ قَوْمٍ أَتَوْا إِلَى قَوْمٍ فِي دِيَارِهِمْ فَأَرَادُوا قَتْلَهُمْ وَأَخْذَ أَمْوَالِهِمْ.قَالَ مَالِكٌ: نَاشِدُوهُمْ بِاللَّهِ فَإِنْ أَبَوْا وَإِلاَّ فَالسَّيْفُ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: لَا بَأْسَ بِابْتِغَاءِ عَوْرَةِ الْعَدُوِّ لَيْلًا وَنَهَارًا؛ لِأَنَّ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ قَدْ بَلَغَتْهُمْ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ إِلَى خَيْبَرَ فَقَتَلُوا أَمِيرَهُمُ ابْنَ أَبِي الْحَقِيقِ غِيلَةً وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِقَوْمٍ إِنْ جَلَسْتَ بِأَرْضِكَ أَتَوْكَ، وَإِنْ سِرْتَ إِلَيْهِمْ قَاتَلُوكَ.
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَ عَدُوٌّ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ وَلَا أَمْرُ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّهُمْ يُدْعَوْنَ وَيُعْرَضُ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامُ، وَتَسِيرُ إِلَيْهِمُ الْأَمْثَالُ، وَتُضْرَبُ لَهُمُ الْعِبَرُ، وَيُتْلَى عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْعُذْرُ فِي دُعَائِهِمْ وَأَبَوْا طُلِبَتْ عَوْرَتُهُمْ، وَالْتُمِسَتْ غَفْلَتُهُمْ، وَكَانَ الدُّعَاءُ فِيمَنْ أُعْذِرَ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ بَعْدَ الْإِعْذَارِ تَحْذِيرًا لَهُمْ، وَفِي هَذَا ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنَّ وُجُوبَ الدَّعْوَةِ قَبْلَ الْقِتَالِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِي بَدْءِ الْأَمْرِ قَبْلَ انْتِشَارِ الدَّعْوَةِ وَظُهُورِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدِ انْتَشَرَتِ الدَّعْوَةُ، فَاسْتُغْنِيَ بِذَلِكَ عَنِ الدُّعَاءِ عِنْدَ الْقِتَالِ.
قَالَ أَحْمَدُ: كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَدْعُو إِلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُحَارِبَ، حَتَّى أَظْهَرَ اللَّهُ الدِّينَ وَعَلَا الْإِسْلَامُ، وَلَا أَعْرِفُ الْيَوْمَ أَحَدًا يُدْعَى، قَدْ بَلَغَتِ الدَّعْوَةُ كُلَّ أَحَدٍ، فَالرُّومُ قَدْ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ وَعَلِمُوا مَا يُرَادُ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الدَّعْوَةُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ.وَلَكِنْ إِذَا دُعِيَ مَنْ بَلَغَتْهُمُ الدَّعْوَةُ فَلَا بَأْسَ.
وَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي الْإِنْذَارِ لِمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِعَلِيٍّ يَوْمَ خَيْبَرَ: انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ» إِلاَّ إِذَا تَضَمَّنَتْ دَعْوَتُهُمْ ضَرَرًا وَلَوْ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ كَأَنْ يَسْتَعِدُّوا أَوْ يَتَحَصَّنُوا فَلَا يَفْعَلُ.
وَلَكِنَّ دَعْوَتَهُمْ لَيْسَتْ وَاجِبَةً؛ لِأَنَّهُ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ» وَالْغَارَةُ لَا تَكُونُ بِدَعْوَةٍ.
وَقَيَّدَ ابْنُ الْقَيِّمِ وُجُوبَ الدَّعْوَةِ لِمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ، وَاسْتِحْبَابُهَا لِمَنْ بَلَغَتْهُ بِمَا إِذَا قَصَدَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْكُفَّارُ قَاصِدِينَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ فَلِلْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُمْ مِنْ غَيْرِ دَعْوَةٍ دَفْعًا عَنْ نُفُوسِهِمْ وَحَرِيمِهِمْ.
الْأَمَانُ فِي حَالِ الْقِتَالِ:
25- الْأَصْلُ أَنَّ إِعْطَاءَ الْأَمَانِ لِلْكُفَّارِ مِنَ الْإِمَامِ أَوْ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ طَلَبَهُ مُبَاحٌ، وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا إِذَا كَانَ يُؤَدِّي إِلَى ضَرَرٍ أَوْ إِخْلَالٍ بِوَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ.
وَحُكْمُ الْأَمَانِ ثُبُوتُ الْأَمْنِ لِلْكَفَرَةِ عَنِ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، وَغَنْمِ أَمْوَالِهِمْ، فَيَحْرُمُ بِوُجُودِ الْأَمَانِ قَتْلُ رِجَالِهِمْ، وَسَبْيُ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، وَاغْتِنَامُ أَمْوَالِهِمْ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (أَمَانٌ) (وَمُسْتَأْمَنٌ).
الِاسْتِعَانَةُ بِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى قِتَالِ الْعَدُوِّ:
26- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى قِتَالِ الْعَدُوِّ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالشَّافِعِيَّةُ مَا عَدَا ابْنَ الْمُنْذِرِ، وَابْنَ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ إِلَى جَوَازِ الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِ الْمُسْلِمِ عِنْدَ الْحَاجَةِ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ الْإِمَامُ حُسْنَ رَأْيِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَأْمَنَ خِيَانَتَهُمْ، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يَكْثُرَ الْمُسْلِمُونَ بِحَيْثُ لَوْ خَانَ الْمُسْتَعَانُ بِهِمْ وَانْضَمُّوا إِلَى الَّذِينَ يَغْزُونَهُمْ، أَمْكَنَهُمْ مُقَاوَمَتُهُمْ جَمِيعًا.
وَشَرَطَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَنْ يُخَالِفُوا مُعْتَقَدَ الْعَدُوِّ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ- مَا عَدَا ابْنَ حَبِيبٍ- وَجَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْجُوزَجَانِيُّ: لَا تَجُوزُ الِاسْتِعَانَةُ بِمُشْرِكٍ.
وَتَفْصِيلُ الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ قَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي: (اسْتِعَانَةٌ) وَفِي: (أَهْلُ الْكِتَابِ).
أَمَّا اسْتِئْجَارُ الْكَافِرِ لِلْجِهَادِ فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِئْجَارُ ذِمِّيٍّ، وَمُسْتَأْمَنٍ، وَمُعَاهَدٍ، بَلْ حَرْبِيٍّ لِلْجِهَادِ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ، حَيْثُ تَجُوزُ الِاسْتِعَانَةُ بِهِ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ دُونَ غَيْرِهِ أَيْ مِنَ الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ لَا يَقَعُ عَنْهُ فَلَا يَأْخُذُ مِنَ الْغَنِيمَةِ؛ وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ فِي مُعَاقَدَةِ الْكُفَّارِ مَا لَا يُحْتَمَلُ فِي مُعَاقَدَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لِغَيْرِ الْإِمَامِ ذَلِكَ؛ لِاحْتِيَاجِ الْجِهَادِ إِلَى مَزِيدٍ مِنْ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ.
مُحَرَّمَاتُ الْجِهَادِ وَمَكْرُوهَاتُه:
أ- الْقِتَالُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ:
27- الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ هِيَ رَجَبٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَمُحَرَّمٌ.
وَكَانَ الْبَدْءُ بِالْقِتَالِ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مُحَرَّمًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ} وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}.
وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ بَدْءَ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مَنْسُوخٌ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَنَاسِخُهُ قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وَبِغَزْوِهِ- صلى الله عليه وسلم- الطَّائِفَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ.
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: أَنَّهُ لَا يَزَالُ مُحَرَّمًا، وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لَا يَغْزُو فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِلاَّ أَنْ يُغْزَى، فَإِذَا حَضَرَهُ أَقَامَ حَتَّى يَنْسَلِخَ».
وَأَمَّا الْقِتَالُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ دَفْعًا فَيَجُوزُ إِجْمَاعًا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ.
ب- مَنْعُ إِخْرَاجِ الْمُصْحَفِ وَكُتُبِ الشَّرْعِ فِي الْجِهَادِ:
28- ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ السَّفَرُ بِالْمُصْحَفِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَالْغَزْوُ بِهِ، كَمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ» وَلِأَنَّ إِخْرَاجَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى وُقُوعِهِ فِي يَدِ الْعَدُوِّ، وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ لِاسْتِخْفَافِهِمْ بِهِ وَهُوَ حَرَامٌ، فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ فَهُوَ حَرَامٌ.وَلَكِنْ لَا يُكْرَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِخْرَاجُ الْمُصْحَفِ فِي جَيْشٍ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ، وَأَقَلُّهُ عِنْدَ الْإِمَامِ أَرْبَعُمِائَةٍ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْعَسْكَرُ الْعَظِيمُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَنْ تُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ».
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ يَحْرُمُ السَّفَرُ بِالْمُصْحَفِ لِأَرْضِهِمْ وَلَوْ مَعَ جَيْشٍ كَبِيرٍ، وَقَاسَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْمُصْحَفِ كُتُبَ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ.
وَإِذَا دَخَلَ مُسْلِمٌ إِلَيْهِمْ بِأَمَانٍ جَازَ حَمْلُ الْمُصْحَفِ مَعَهُ إِذَا كَانُوا يُوفُونَ بِالْعَهْدِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ تَعَرُّضِهِمْ لَهُ.
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَمَانٌ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ إِرْسَالُ الْمُصْحَفِ إِلَيْهِمْ وَلَوْ طَلَبُوهُ لِيَتَدَبَّرُوهُ خَشْيَةَ إِهَانَتِهِمْ لَهُ، وَلَا يَنْطَبِقُ هَذَا عَلَى الْكِتَابِ الَّذِي فِيهِ الْآيَةُ وَنَحْوُهَا.
ج- مَنْ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ فِي الْجِهَادِ:
29- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْجِهَادِ قَتْلُ النِّسَاءِ، وَالصِّبْيَانِ، وَالْمَجَانِينِ، وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنه-: «أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مَقْتُولَةً، فَنَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ».
وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ قَتْلُ الشُّيُوخِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «لَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا، وَلَا طِفْلًا، وَلَا امْرَأَةً» وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله تعالى: {وَلَا تَعْتَدُوا} يَقُولُ: «لَا تَقْتُلُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ، وَالشَّيْخَ الْكَبِيرَ» وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ- رضي الله عنهما-.وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ فَلَا يُقْتَلُ كَالْمَرْأَةِ، وَقَدْ أَوْمَأَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ فِي «الْمَرْأَةِ الَّتِي وُجِدَتْ مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَقَالَ: مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ».
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَظْهَرِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يَجُوزُ قَتْلُ الشُّيُوخِ؛ لِعُمُومِ قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «اقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَحْيُوا شَرْخَهُمْ».وَلِأَنَّهُمْ أَحْرَارٌ مُكَلَّفُونَ فَجَازَ قَتْلُهُمْ كَغَيْرِهِمْ.وَالْخِلَافُ فِي قَتْلِ الزَّمِنِ وَالْأَعْمَى وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمَا كَيَابِسِ الشِّقِّ، وَمَقْطُوعِ الْيُمْنَى، أَوِ الْمَقْطُوعِ مِنْ خِلَافٍ، كَالْخِلَافِ فِي الشَّيْخِ.
وَلَا يُقْتَلُ الرَّاهِبُ فِي صَوْمَعَتِهِ، وَلَا أَهْلُ الْكَنَائِسِ الَّذِينَ لَا يُخَالِطُونَ النَّاسَ، فَإِنْ خَالَطُوا قُتِلُوا كَالْقِسِّيسِ، وَلَا سَائِحٌ فِي الْجِبَالِ لَا يُخَالِطُ النَّاسَ.
وَالَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ، يُقْتَلُ فِي حَالِ إِفَاقَتِهِ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلْ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْمَرِيضَ يُقْتَلُ إِذَا كَانَ مِمَّنْ لَوْ كَانَ صَحِيحًا قَاتَلَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِجْهَازِ عَلَى الْجَرِيحِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَأْيُوسًا مِنْ بُرْئِهِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الزَّمِنِ لَا يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخَافُ مِنْهُ أَنْ يَصِيرَ إِلَى حَالٍ يُقَاتِلُ فِيهَا.
وَكَذَلِكَ الْفَلاَّحُ الَّذِي لَا يُقَاتِلُ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ- رضي الله عنهما-: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي الْفَلاَّحِينَ الَّذِينَ لَا يَنْصِبُونَ لَكُمُ الْحَرْبَ».
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يُقْتَلُ، لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ الْمُشْرِكِينَ.
وَصَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُ رَسُولِ الْكُفَّارِ.
وَيَجُوزُ قَتْلُ مَنْ قَاتَلَ مِمَّنْ ذَكَرْنَا وَلَوِ امْرَأَةً؛ لِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَتَلَ يَوْمَ قُرَيْظَةَ امْرَأَةً طَرَحَتِ الرَّحَا عَلَى خَلاَّدِ بْنِ سُوَيْدٍ فَقَتَلَتْهُ».
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «مَرَّ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِامْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَقَالَ: مَنْ قَتَلَ هَذِهِ؟ قَالَ رَجُلٌ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: نَازَعَتْنِي قَائِمَ سَيْفِي.قَالَ: فَسَكَتَ».
وَلِأَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- وَقَفَ عَلَى امْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ فَقَالَ: مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنْ قَتْلِ الْمَرْأَةِ إِذَا لَمْ تُقَاتِلْ.
وَكَذَلِكَ يُقْتَلُ كُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ إِذَا كَانَ مَلِكًا، أَوْ ذَا رَأْيٍ يُعِينُ فِي الْحَرْبِ؛ لِأَنَّ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ قُتِلَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَهُوَ شَيْخٌ لَا قِتَالَ فِيهِ، وَكَانُوا خَرَجُوا بِهِ يَتَيَمَّنُونَ بِهِ وَيَسْتَعِينُونَ بِرَأْيِهِ، فَلَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- قَتْلَهُ وَلِأَنَّ الرَّأْيَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَعُونَةِ فِي الْحَرْبِ.
أَمَّا الْأَخْرَسُ وَالْأَصَمُّ، وَأَقْطَعُ الْيَدِ الْيُسْرَى، أَوْ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ فَيُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَاتِلَ رَاكِبًا.
وَلَوْ قَتَلَ مَنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ مِمَّنْ ذُكِرَ، فَعَلَيْهِ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ فَقَطْ كَسَائِرِ الْمَعَاصِي، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ؛ لِأَنَّ دَمَ الْكَافِرِ لَا يَتَقَوَّمُ إِلاَّ بِالْأَمَانِ، وَلَمْ يُوجَدْ.وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي: (جِزْيَةٌ).
د- قَتْلُ الْقَرِيبِ:
30- اخْتَلَفَتِ آرَاءُ الْفُقَهَاءِ فِي قَتْلِ الْقَرِيبِ أَثْنَاءَ الْمُحَارَبَةِ مَعَ الْكُفَّارِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْفَرْعِ أَنْ يَبْدَأَ بِقَتْلِ أَصْلِهِ الْمُشْرِكِ، بَلْ يَشْغَلُهُ بِالْمُحَارَبَةِ؛ لقوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} وَلِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إِحْيَاؤُهُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ فَيُنَاقِضُهُ الْإِطْلَاقُ فِي إِفْنَائِهِ، فَإِنْ أَدْرَكَهُ امْتَنَعَ عَلَيْهِ حَتَّى يَقْتُلَهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ اقْتِحَامِهِ الْمَأْثَمَ.وَأَمَّا إِنْ قَصَدَ الْأَبُ قَتْلَهُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعَهُ إِلاَّ بِقَتْلِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الدَّفْعُ وَهُوَ يَجُوزُ مُطْلَقًا، وَلِأَنَّهُ لَوْ شَهَرَ الْأَبُ الْمُسْلِمُ سَيْفَهُ عَلَى ابْنِهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ إِلاَّ بِقَتْلِهِ، يَقْتُلُهُ، فَهَذَا أَوْلَى.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُكْرَهُ تَنْزِيهًا لِغَازٍ أَنْ يَقْتُلَ قَرِيبَهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَوْعًا مِنْ قَطْعِ الرَّحِمِ، وَقَتْلُ قَرِيبٍ مَحْرَمٍ أَشَدُّ كَرَاهَةً؛ لِأَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- مَنَعَ أَبَا بَكْرٍ مِنْ قَتْلِ ابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَوْمَ أُحُدٍ.إِلاَّ أَنْ يَسْمَعَهُ يَسُبُّ اللَّهَ تَعَالَى، أَوْ يَذْكُرَهُ أَوْ يَذْكُرَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَوْ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِسُوءٍ فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ أَوْ عَلِمَهُ مِنْهُ فَلَا كَرَاهَةَ حِينَئِذٍ فِي قَتْلِهِ تَقْدِيمًا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ أَنْبِيَائِهِ، وَإِلَيْهِ مَالَ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَتَلَ أَبَاهُ، وَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: سَمِعْتُهُ يَسُبُّكَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ.
هـ- الْغَدْرُ، وَالْغُلُولُ، وَالْمُثْلَة:
31- صَرَّحَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ يَحْرُمُ فِي الْجِهَادِ الْغَدْرُ وَالْغُلُولُ، وَالتَّمْثِيلُ بِالْقَتْلَى، لِقَوْلِهِ- صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا».
وَالْغُلُولُ فِي الْجِهَادِ الْخِيَانَةُ فِي الْمَغْنَمِ بِأَنْ يُخْفِيَ مَا وَقَعَ فِي يَدِهِ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ لِنَفْسِهِ مِمَّا غَنِمَ شَيْئًا، خَيْطًا فَمَا فَوْقَهُ، بَلْ يَضُمُّهُ إِلَى الْمَغَانِمِ.
وَأَمَّا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الطَّعَامِ وَعَلَفِ الدَّوَابِّ وَالسِّلَاحِ، فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ.وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (غَنِيمَةٌ) (وَغُلُولٌ).
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
11-موسوعة الفقه الكويتية (حلال)
حَلَالٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْحَلَالُ لُغَةً: نَقِيضُ الْحَرَامِ وَمِثْلُهُ الْحِلُّ وَالْحَلَالُ وَالْحَلِيلُ، وَهُوَ مِنْ حَلَّ يَحِلُّ حِلًّا.
وَيَتَعَدَّى بِالْهَمْزِ وَالتَّضْعِيفِ فَيُقَالُ أَحَلَّهُ اللَّهُ وَحَلَّلَهُ.كَمَا يُقَالُ هَذَا لَكَ حِلٌّ وَحَلَالٌ، وَيُقَالُ لِضِدِّهِ حِرْمٌ وَحَرَامٌ أَيْ مُحَرَّمٌ.
وَالْحَلَالُ اصْطِلَاحًا: هُوَ الْجَائِزُ الْمَأْذُونُ بِهِ شَرْعًا.وَبِهَذَا يَشْمَلُ الْمَنْدُوبَ وَالْمُبَاحَ وَالْمَكْرُوهَ مُطْلَقًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَتَنْزِيهًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، مِنْ حَيْثُ جَوَازُ الْإِتْيَانِ بِهَا وَعَدَمُ امْتِنَاعِهِ شَرْعًا، مَعَ رُجْحَانِ الْفِعْلِ فِي الْمَنْدُوبِ، وَتَسَاوِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ فِي الْمُبَاحِ، وَرُجْحَانِ التَّرْكِ فِي الْمَكْرُوهِ.
وَالْحَلَالُ مُتَضَمَّنٌ فِي الْوَاجِبِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْوَاجِبَ مُرَكَّبٌ مِنْ جَوَازِ الْفِعْلِ بِمَعْنَى رَفْعِ الْحَرَجِ مَعَ الْمَنْعِ مِنَ التَّرْكِ، فَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْوُجُوبِ يَدُلُّ تَضَمُّنًا عَلَى الْجَوَازِ.فَيَكُونُ الْحَلَالُ فِي مُقَابَلَةِ الْحَرَامِ مِنْ حَيْثُ الْإِذْنُ فِي الْأَوَّلِ وَعَدَمُ امْتِنَاعِهِ شَرْعًا، وَعَدَمُ الْإِذْنِ فِي الْحَرَامِ وَامْتِنَاعُهُ شَرْعًا.
وَالْوُجُوبُ مُتَعَلِّقٌ بِالْحَلَالِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ مَأْمُورٌ شَرْعًا بِالْتِزَامِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَمُجَانَبَةِ مَا حَرَّمَهُ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ.
وَقَدْ يُطْلَقُ الْفَرْضُ وَيُرَادُ بِهِ الْحِلُّ لُغَةً، وَمِنْهُ قوله تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} أَيْ أَحَلَّ لَهُ.
وَمِمَّا فَرَّقَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ الْمَكْرُوهِ تَنْزِيهًا وَالْمَكْرُوهِ تَحْرِيمًا، أَنَّ الْأَوَّلَ مَا كَانَ لِلْحِلِّ أَقْرَبَ، وَالثَّانِي مَا كَانَ إِلَى الْحَرَامِ أَقْرَبَ، أَوْ مَا ثَبَتَ تَحْرِيمُهُ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ.
مِنَ الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْحَلَالِ:
يَتَعَلَّقُ بِمُصْطَلَحِ حَلَالٍ جُمْلَةٌ مِنَ الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
هَلِ الْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ- الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا- الْحِلُّ أَوِ الْحُرْمَةُ؟
2- وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ: فَمُخْتَارُ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْأَصْلَ الْحِلُّ، وَعِنْدَ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْأَصْلَ التَّوَقُّفُ، وَيُنْسَبُ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْأَصْلَ الْحُرْمَةُ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي حَدِّ الْحَلَالِ: فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَا لَا دَلِيلَ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى حِلِّهِ.
دَلِيلُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} وقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}.
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ: قَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلَالٌ وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَافِيَةٌ فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ عَافِيَتَهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ نَسِيًّا».
وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا وَحَرَّمَ حُرُمَاتٍ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا».
وَدَلِيلُ قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَمَا نُسِبَ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَا يَجُوزُ، فَيَبْقَى الْأَصْلُ عَلَى الْحُرْمَةِ حَتَّى يَرِدَ دَلِيلُ الْحِلِّ.
وَدَلِيلُ مَنْ قَالَ بِالتَّوَقُّفِ أَنَّ طَرِيقَ ثُبُوتِ الْأَحْكَامِ سَمْعِيٌّ وَعَقْلِيٌّ، وَالْأَوَّلُ غَيْرُ مَوْجُودٍ، وَكَذَا الثَّانِي، فَلَا يَقْطَعُ بِأَحَدِ الْحُكْمَيْنِ وَهَذَا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ.
وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْخِلَافِ فِي الْكَثِيرِ مِنَ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ مِنْهَا:
الْحَيَوَانُ الْمُشْكِلُ أَمْرُهُ كَالزَّرَافَةِ، وَالنَّبَاتِ الْمَجْهُولِ تَسْمِيَتُهُ، وَمِنْهَا مَا إِذَا لَمْ يُعْرَفْ حَالُ النَّهْرِ هَلْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ مَمْلُوكٌ، وَمِنْهَا مَا لَوْ دَخَلَ بُرْجَهُ حَمَامٌ وَشَكَّ هَلْ هُوَ مُبَاحٌ أَوْ مَمْلُوكٌ.وَكَذَلِكَ لَوْ شَكَّ فِي كِبَرِ الضَّبَّةِ مِنَ الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ.
وَيُرَاجَعُ تَفْصِيلُ هَذِهِ الْفُرُوعِ فِي مُصْطَلَحَيْ «أَطْعِمَةٌ» «وَآنِيَةٌ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ غُلِّبَ الْحَرَامُ.
3- خَصَّ الشَّافِعِيَّةُ الْحَلَالَ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ بِالْمُبَاحِ، أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَهُوَ عِنْدَهُمْ شَامِلٌ لِلْمُبَاحِ وَالْوَاجِبِ.وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَوِ اخْتَلَطَ الْوَاجِبُ بِالْمُحَرَّمِ رُوعِيَ مُقْتَضَى الْوَاجِبِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ عِنْدَهُمُ اخْتِلَاطُ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِالْكُفَّارِ يَجِبُ غَسْلُ الْجَمِيعِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ الْهِجْرَةُ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ بِلَادِ الْكُفَّارِ وَاجِبَةٌ وَإِنْ كَانَ سَفَرُهَا وَحْدَهَا حَرَامًا، وَنَحْوُهَا.
وَقَدْ خَرَّجَ الْحَنَفِيَّةُ هَذِهِ الْفُرُوعَ عَلَى قَاعِدَةِ إِذَا تَعَارَضَ الْمَانِعُ وَالْمُقْتَضِي قُدِّمَ الْمَانِعُ.
وَدَلِيلُ قَاعِدَةِ- إِذَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ غُلِّبَ الْحَرَامُ- أَنَّ فِي تَغْلِيبِ الْحَرَامِ تَقْلِيلًا لِلتَّغْيِيرِ فِي الْأَحْكَامِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا انْتَفَعَ بِشَيْءٍ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ بِمَا يُحَرِّمُهُ أَوْ يُبِيحُهُ فَإِنَّهُ لَا يُعَاقَبُ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}.فَإِذَا وَرَدَ مَا يُفِيدُ التَّحْرِيمَ فَقَدْ غُيِّرَ الْأَمْرُ وَهُوَ عَدَمُ الْعِقَابِ عَلَى الِانْتِفَاعِ، ثُمَّ إِذَا وَرَدَ مَا يُفِيدُ الْإِبَاحَةَ فَقَدْ نُسِخَ ذَلِكَ الْمُحَرَّمُ فَيَلْزَمُ هُنَا تَغْيِيرَانِ.وَأَمَّا إِذَا جَعَلْنَا الْمُبِيحَ هُوَ الْمُتَقَدِّمَ فَيَكُونُ مُؤَكِّدًا لِلْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ لَا مُغَيِّرًا لَهَا، فَإِذَا جَاءَ الْمُحَرَّمُ كَانَ نَاسِخًا لِلْإِبَاحَةِ وَمُغَيِّرًا لَهَا، فَيَلْزَمُ مِنْهُ تَغْيِيرٌ وَاحِدٌ فَفِيهِ تَقْلِيلٌ لِلتَّغْيِيرِ.
وَهَذَا الدَّلِيلُ يُوَافِقُ الْحَنَفِيَّةَ مِنْ أَنَّ الْحَلَالَ شَامِلٌ لِلْمُبَاحِ وَلِلْوَاجِبِ.
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَقَدِ اسْتَدَلُّوا لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ بِأَنَّ تَرْجِيحَ التَّحْرِيمِ أَحَبُّ، لِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ مُبَاحٍ لِاجْتِنَابِ مُحَرَّمٍ وَذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْوَطُ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَتَطْبِيقَاتِهَا: تَعَارُضُ حَدِيثِ: «لَكَ مِنَ الْحَائِضِ مَا فَوْقَ الْإِزَارِ» مَعَ حَدِيثِ: «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ النِّكَاحَ» فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي إِبَاحَةَ مَا عَدَا الْوَطْءَ فَيُرَجَّحُ التَّحْرِيمُ احْتِيَاطًا.
وَكَذَلِكَ لَوِ اشْتَبَهَتْ مَحْرَمٌ بِأَجْنَبِيَّاتٍ مَحْصُورَاتٍ لَمْ تَحِلَّ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتِ الشَّجَرَةُ بَعْضُهَا فِي الْحِلِّ وَبَعْضُهَا فِي الْحَرَمِ حَرُمَ قَطْعُهَا.
وَغَيْرُهَا مِنَ الْأَمْثِلَةِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ صُوَرٌ مِنْهَا: إِذَا رَمَى سَهْمًا إِلَى طَائِرٍ فَجَرَحَهُ وَوَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فَمَاتَ فَإِنَّهُ يَحِلُّ، وَإِنْ أَمْكَنَ إِحَالَةُ الْمَوْتِ عَلَى الْوُقُوعِ عَلَى الْأَرْضِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْهُ فَعُفِيَ عَنْهُ.
وَمِنْهَا مَا ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ مِنْ أَنَّ: مُعَامَلَةُ مَنْ أَكْثَرُ مَالِهِ حَرَامٌ إِذَا لَمْ يُعْرَفْ عَيْنُهُ لَا تَحْرُمُ، وَلَكِنْ تُكْرَهُ.
وَمِنْهَا: لَوِ اعْتَلَفَتِ الشَّاةُ عَلَفًا حَرَامًا لَمْ يَحْرُمْ لَبَنُهَا وَلَحْمُهَا وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ أَوْرَعُ.وَغَيْرُهَا مِنَ الْأَمْثِلَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَسْبَابُ التَّحْلِيلِ وَأَنْوَاعُهُ:
4- يُحْكَمُ بِالْحِلِّ لِسَبَبَيْنِ:
الْأَوَّلُ: ذَاتِيٌّ، كَالِانْتِفَاعِ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الْمُبَاحَةِ.
الثَّانِي: عَرَضِيٌّ، كَالْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ الْمُبِيحَةِ.وَالْحَلَالُ بِوَصْفِهِ الْقَائِمُ بِهِ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ مَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُحَرِّمَةِ.أَوْ يَعْرِضُ لَهُ مَا لَا يُوصَفُ مَعَهُ بِالْحِلِّ كَالشَّبَهِ.وَلِهَذَا كَانَ الْحَلَالُ دَرَجَاتٍ أَعْلَاهَا مَا كَانَ خَالِصًا مِنْ جَمِيعِ الشُّبَهِ كَالِاغْتِرَافِ مِنَ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ الْخَالِيَةِ عَنِ الِاخْتِصَاصِ، وَأَدْنَاهَا مَا قَرُبَتْ دَرَجَتُهُ الْأَخِيرَةُ مِنَ الْحَرَامِ الْمَحْضِ، كَمَالِ مَنْ لَا كَسْبَ لَهُ إِلاَّ الْمُكُوسُ الْمُحَرَّمَةُ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ مَا فِي يَدِهِ حَصَلَ لَهُ مِنْ جِهَةٍ حَلَالٍ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمُلْحَقِ الْأُصُولِيِّ فِي الْمُصْطَلَحَاتِ «حَرَامٌ» «وَمُبَاحٌ».وَكَمَا تَقَدَّمَ جَانِبٌ مِنْهُ فِي مُصْطَلَحِ «تَحْلِيلٌ» «وَاشْتِبَاهٌ».
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
12-موسوعة الفقه الكويتية (دعوة 1)
دَعْوَةٌ -1التَّعْرِيفُ:
1- الدَّعْوَةُ مَصْدَرُ (دَعَا) تَقُولُ: دَعَوْتُ زَيْدًا دُعَاءً وَدَعْوَةً، أَيْ نَادَيْتُهُ.
وَقَدْ تَكُونُ لِلْمَرَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} أَيْ دَعَاكُمْ مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَالدَّعْوَةُ تَأْتِي فِي اللُّغَةِ لِمَعَانٍ مِنْهَا:
أ- النِّدَاءُ، تَقُولُ دَعَوْتُ فُلَانًا أَيْ نَادَيْتُهُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي مَعْنَى (دَعَا) مُطْلَقًا وَلَوْ مِنَ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى، وَمِنْهُ قوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ}
ب- الطَّلَبُ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، وَمِنْهُ قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} وَاسْتِعْمَالُ لَفْظِ الدُّعَاءِ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنَ (الدَّعْوَةِ).وَمِثْلُهُ (الدَّعْوَى) كَمَا فِي قوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيْ آخِرُ دُعَائِهِمْ، وَقَدْ يُخَصُّ بِطَلَبِ الْحُضُورِ، تَقُولُ: (دَعَوْتُ فُلَانًا) أَيْ قُلْتُ لَهُ تَعَالَ.
ج- وَالدَّعْوَةُ الدِّينُ أَوِ الْمَذْهَبُ، حَقًّا كَانَ أَمْ بَاطِلاً، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَدْعُو إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ}.
د- وَالدَّعْوَةُ مَا دَعَوْتَ إِلَيْهِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ.
وَخَصَّهَا اللِّحْيَانِيُّ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْوَلِيمَةِ، وَهِيَ طَعَامُ الْعُرْسِ.
هـ- وَالدَّعْوَةُ الْحِلْفُ، أَيْ لِأَنَّهُ يُدْعَى بِهِ لِلِانْتِصَارِ.
و- وَالدَّعْوَةُ النَّسَبُ، تَقُولُ: فُلَانٌ يُدْعَى لِفُلَانٍ، أَيْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لآِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} وَالْمَنْسُوبُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ يُقَالُ لَهُ: الدَّعِيُّ، وَأَكْثَرُ الْعَرَبِ يَقُولُونَ فِي النَّسَبِ (الدَّعْوَةُ) وَقَالَ ابْنُ شُمَيْلٍ: الدِّعْوَةُ (بِكَسْرِ الدَّالِ) فِي النَّسَبِ، وَالدَّعْوَةُ فِي الطَّعَامِ، وَعَدِيُّ بْنُ الرَّبَابِ عَلَى الْعَكْسِ يَفْتَحُونَ الدَّالَ فِي النَّسَبِ وَيَكْسِرُونَ فِي الطَّعَامِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّ الدَّعْوَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِالضَّمِّ.
ز- وَالدَّعْوَةُ الْأَذَانُ أَوِ الْإِقَامَةُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «الْخِلَافَةُ فِي قُرَيْشٍ، وَالْحُكْمُ فِي الْأَنْصَارِ، وَالدَّعْوَةُ فِي الْحَبَشَةِ» جَعْلُ الْأَذَانِ فِي الْحَبَشَةِ تَفْضِيلاً لِمُؤَذَّنِ بِلَالٍ، وَإِنَّمَا قِيلَ لِلْأَذَانِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ دَعْوَةٌ إِلَى الصَّلَاةِ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْمُجِيبُ: «اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ...إِلَخْ».
وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّ الدَّعْوَةَ لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ.
2- وَسَنَقْصِرُ الْبَحْثَ فِي هَذَا الْمُصْطَلَحِ عَلَى الْمَعَانِي التَّالِيَةِ:
أ- الدَّعْوَةُ: بِمَعْنَى طَلَبِ الدُّخُولِ فِي الدِّينِ وَالِاسْتِمْسَاكِ بِهِ.
ب- وَالدَّعْوَةُ: بِمَعْنَى الْمُنَادَاةِ وَطَلَبِ الْحُضُورِ إِلَى الدَّاعِي.
وَأَمَّا الدَّعْوَةُ: بِمَعْنَى الدُّعَاءِ.وَهُوَ الرَّغْبَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْ يُجِيبَ سُؤَالَ الدَّاعِي وَيَقْضِيَ حَاجَتَهُ فَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي (دُعَاءٌ).
وَأَمَّا الدَّعْوَةُ بِمَعْنَى النَّسَبِ فَتُنْظَرُ أَحْكَامُهَا فِي: (نَسَبٌ).
أَوَّلاً:
الدَّعْوَةُ بِمَعْنَى الدِّينِ «أَوِ الْمَذْهَبِ» أَوْ بِمَعْنَى الدُّخُولِ فِيهِمَا:
3- أَمَّا بِالْمَعْنَى الثَّانِي فَوَاضِحٌ مَأْخَذُهُ لُغَةً، فَإِنَّ الدَّاعِيَ يَطْلُبُ مِنْ غَيْرِهِ أَنْ يُتَابِعَهُ عَلَى دِينِهِ، وَالطَّلَبُ دَعْوَةٌ.
وَأَمَّا إِطْلَاقُ الدَّعْوَةِ عَلَى الدِّينِ نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى الْمَذْهَبِ، فَلِأَنَّ صَاحِبَهُ يَدْعُو إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) قَالَ الزَّجَّاجُ: جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَيْ لِأَنَّهَا يُدْعَى إِلَيْهَا أَهْلُ الْمِلَلِ الْكَافِرَةِ.وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِلَى هِرَقْلَ: «إِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ» وَفِي رِوَايَةٍ «دَاعِيَةِ الْإِسْلَامِ».قَالَ ابْنُ مَنْظُورٍ: أَيْ بِدَعْوَتِهِ.
وَيُطْلَقُ عَلَى الْأَدْيَانِ وَالْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ أَنَّهَا دَعَوَاتٌ، كَدَعَوَاتِ الْمُتَنَبِّئِينَ، وَأَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ الْمُبْتَدَعَةِ، كَالدَّعَوَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ الَّتِي أَكْثَرَتْ مِنِ اسْتِعْمَالِ هَذَا الْمُصْطَلَحِ وَمُشْتَقَّاتِهِ، غَيْرَ أَنَّ «الدَّعْوَةَ» إِذَا أُطْلِقَتْ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ فَالْمَعْنِيُّ بِهَا دَعْوَةُ الْحَقِّ وَهِيَ الدَّعْوَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ، كَقَوْلِهِمْ فِي أَبْوَابِ الْجِهَادِ: «لَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نُقَاتِلَ مَنْ لَا تَبْلُغُهُ الدَّعْوَةُ إِلَى الْإِسْلَامِ».
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
4- أ- الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ:
الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْسَعُ دَلَالَةً مِنَ «الدَّعْوَةِ»، إِذْ أَنَّ «الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ» أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ الْأَكْبَرِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ وَالصَّلَاحُ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ الْأَكْبَرِ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ وَالْإِشْرَاكُ بِهِ وَمَعْصِيَتُهُ.
(وَالدَّعْوَةُ) تَهْدُفُ إِلَى الْإِقْنَاعِ وَالْوُصُولِ إِلَى قُلُوبِ الْمَدْعُوِّينَ لِلتَّأْثِيرِ فِيهَا حَتَّى تَتَحَوَّلَ عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِعْرَاضِ أَوِ الْعِنَادِ، إِلَى الْإِقْبَالِ وَالْمُتَابَعَةِ، أَمَّا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ فَقَدْ يَهْدُفُ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدْ يَهْدُفُ إِلَى مُجَرَّدِ وُجُودِ الْمَعْرُوفِ وَزَوَالِ الْمُنْكَرِ، سَوَاءٌ أَحَصَلَ الِاقْتِنَاعُ وَالْمُتَابَعَةُ أَمْ لَمْ يَحْصُلَا.
وَعَلَى هَذَا فَالدَّعْوَةُ أَخَصُّ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.
ب- الْجِهَادُ:
5- الْجِهَادُ الْقِتَالُ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْجِهَادُ فِعْلٌ، وَالْجِهَادُ لَيْسَ هُوَ الدَّعْوَةُ، بَلِ الدَّعْوَةُ مُطَالَبَةُ الْكَافِرِ وَنَحْوِهِ بِالْإِيمَانِ وَالِاتِّبَاعِ، وَالدَّعْوَةُ وَاجِبَةٌ قَبْلَ الْقِتَالِ، كَمَا سَيَأْتِي.
ج- الْوَعْظُ:
6- الْوَعْظُ وَالْعِظَةُ: النُّصْحُ وَالتَّذْكِيرُ بِالْعَوَاقِبِ، قَالَ ابْنُ سِيدَةَ: هُوَ تَذْكِيرُكَ لِلْإِنْسَانِ بِمَا يُلَيِّنُ قَلْبَهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الدَّعْوَةِ، إِذِ الدَّعْوَةُ تَكُونُ أَيْضًا بِالْمُجَادَلَةِ وَالْمُحَاوَرَةِ وَكَشْفِ الشُّبَهِ وَتَبْلِيغِ الدِّينِ مُجَرَّدًا.
حُكْمُ الدَّعْوَةِ:
7- الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَرْضٌ لَازِمٌ، لقوله تعالى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} وَقَوْلِهِ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ هَلْ هُوَ عَيْنِيٌّ أَمْ كِفَائِيٌّ.
وَتَفْصِيلُهُ ذُكِرَ فِي مُصْطَلَحِ: «أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ».
فَضْلُ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى:
8- يَتَبَيَّنُ فَضْلُ الْقِيَامِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ وُجُوهٍ: 9- الْوَجْهُ الْأَوَّلُ:
أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَوَلاَّهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَأَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكُتُبَ وَأَيَّدَهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَأَمَرَ بِالتَّقْوَى، وَأَمَرَ النَّاسَ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا أَنَّهُ فِي مَخْلُوقَاتِهِ نَصَبَ الْأَدِلَّةَ عَلَى كَوْنِهِ الرَّبَّ الْخَالِقَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعْبَدَ، وَفِي كُتُبِهِ ذَكَرَ الْبَرَاهِينَ الَّتِي تُثْبِتُ ذَلِكَ، ثُمَّ بَشَّرَ وَحَذَّرَ وَأَنْذَرَ، وَقَالَ: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
وَتَوَلَّى الدَّعْوَةَ أَيْضًا رُسُلُهُ ((بِتَكْلِيفٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ مَضْمُونَ الرِّسَالَةِ الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وَقَالَ: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}.
وَآخِرُ الرُّسُلِ مُحَمَّدٌ- صلى الله عليه وسلم- بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَحَدَّدَ لَهُ مَهَامَّ الرِّسَالَةِ وَمِنْهَا الدَّعْوَةُ إِلَيْهِ تَعَالَى، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًّا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}.
فَوَظِيفَةُ الدَّاعِيَةِ إِذَنْ مِنَ الشَّرَفِ فِي مَرْتَبَةٍ عَالِيَةٍ، إِذْ أَنَّهَا تَبْلِيغُ دَعْوَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمُتَابَعَةُ مُهِمَّةِ الرُّسُلِ، وَالسَّيْرُ عَلَى طَرِيقِهِمْ، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مِنْ دُعَاءِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ أَنْ يَقُولُوا: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} قَالَ قَتَادَةُ: «أَيْ قَادَةً فِي الْخَيْرِ، وَدُعَاةَ هُدًى يُؤْتَمُّ بِنَا فِي الْخَيْرِ».
10- الْوَجْهُ الثَّانِي:
مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الدُّعَاءَ إِلَى اللَّهِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، هُوَ أَحْسَنُ الْقَوْلِ، وَأَعْلَاهُ مَرْتَبَةً، وَمَا ذَلِكَ إِلاَّ لِشَرَفِ غَايَاتِهِ وَعِظَمِ أَثَرِهِ.
11- الْوَجْهُ الثَّالِثُ:
مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} وَقَوْلُهُ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ}، إِلَى قَوْلِهِ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فَالْآيَةُ تُبَيِّنُ أَفْضَلِيَّةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى غَيْرِهَا، وَأَنَّهُ هُوَ دَعْوَةُ النَّاسِ، وَالتَّسَبُّبُ فِي إِيمَانِهِمْ، وَفِي مُسَارَعَتِهِمْ إِلَى الْمَعْرُوفِ وَانْتِهَائِهِمْ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ: حَصَرَتِ الْفَلَاحَ فِي الدُّعَاةِ الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ النَّاهِينَ، عَنِ الْمُنْكَرِ.
12- الْوَجْهُ الرَّابِعُ:
مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- : «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يُنْقِصُ ذَلِكَ لَهُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ» فَفِيهِ عِظَمُ أَجْرِ الدُّعَاةِ إِذَا اهْتَدَى بِدَعْوَتِهِمْ أَقْوَامٌ قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ، وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- رضي الله عنه- لَمَّا أَعْطَاهُ الرَّايَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَوَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ».
أَهْدَافُ الدَّعْوَةِ وَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهَا:
13- يَهْدُفُ تَشْرِيعُ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَى تَحْقِيقِ أَغْرَاضٍ سَامِيَةٍ مِنْهَا:
1- إِرْشَادُ الْبَشَرِيَّةِ إِلَى أَعْلَى حَقٍّ فِي هَذَا الْوُجُودِ، إِذْ بِدُونِ الدَّعْوَةِ لَا يَتَمَكَّنُ الْبَشَرُ مِنْ مَعْرِفَةِ رَبِّهِمْ، وَيَبْقَوْنَ فِي تَخَبُّطٍ مِنْ أَمْرِ أَصْلِ الْخَلْقِ وَالْغَرَضِ مِنْهُ، وَمَآلِهِ، وَوَضْعِ الْإِنْسَانِ فِي هَذَا الْكَوْنِ، فَتَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَاتُ وَالْأَوْهَامُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ}: أَيْ بِالْكِتَابِ وَهُوَ الْقُرْآنِ، أَيْ بِدُعَائِكَ إِلَيْهِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ بِتَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ وَلُطْفِهِ بِهِمْ، وَأُضِيفَ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- لِأَنَّهُ الدَّاعِي، وَالْمُنْذِرُ الْهَادِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ.
2- إِنْقَاذُ الْبَشَرِيَّةِ مِنْ أَسْبَابِ الدَّمَارِ وَالْهَلَاكِ، فَإِنَّ الْبَشَرَ إِذَا سَارُوا فِي حَيَاتِهِمْ بِمُجَرَّدِ عُقُولِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ وَغَرَائِزِهِمْ، لَا يَسْتَطِيعُونَ تَوَقِّي مَا يَضُرُّهُمْ، وَيُؤَدِّي بِهِمْ إِلَى الْفَسَادِ فِي الْغَالِبِ، وَالشَّرَائِعُ الْإِلَهِيَّةُ جَاءَتْ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْقَوَاعِدِ الَّتِي تَكْفُلُ لِمُتَّبِعِيهَا السَّعَادَةَ وَالصَّلَاحَ وَاسْتِقَامَةَ الْأُمُورِ.قَالَ تَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} أَيْ يُحْيِي دِينَكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ، أَوْ إِلَى مَا يُحْيِي بِهِ قُلُوبَكُمْ فَتُوَحِّدُوهُ، وَهَذَا إِحْيَاءٌ مُسْتَعَارٌ، لِأَنَّهُ مِنْ مَوْتِ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْجُمْهُورُ: اسْتَجِيبُوا لِلطَّاعَةِ وَمَا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ، فَفِيهِ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ وَالنِّعْمَةُ السَّرْمَدِيَّةُ.
3- تَحْقِيقُ الْغَايَةِ مِنَ الْخَلْقِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْكَوْنَ وَمَهَّدَهُ لِلنَّاسِ لِيُعْبَدَ فِيهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونَ}
قَالَ عَلِيٌّ- رضي الله عنه- : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لآِمُرَهُمْ بِالْعِبَادَةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِلاَّ لِيَعْرِفُونِي.قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخْلُقْهُمْ لَمَا عُرِفَ وُجُودُهُ وَتَوْحِيدُهُ.
وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالدَّعْوَةِ، لِيَتَمَكَّنَ الْخَلْقُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْوُجُوهِ الَّتِي يُرِيدُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يُعْبَدَ بِهَا، فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يَهْتَدِي لِذَلِكَ مِنْ دُونِ أَنْ يُبَلَّغَ بِهِ مِمَّنْ يُعَلِّمُهُ.
4- إِقَامَةُ حُجَّةِ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ، بِأَنَّ دِينَهُ وَشَرَائِعَهُ قَدْ بَلَغَتْهُمْ حَتَّى إِنْ عَذَّبَهُمْ لَمْ يَكُنْ عَذَابُهُ ظُلْمًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}.
5- تَحْقِيقُ الْهِدَايَةِ وَالرَّحْمَةِ الْمَقْصُودَةِ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} وَقَالَ عَنْ كِتَابِهِ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} فَالدَّعْوَةُ هِيَ الْوَسِيلَةُ إِلَى إِطْلَاعِ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالرَّسُولِ وَالْكِتَابِ عَلَى حَقِيقَتِهِمَا وَحَقِيقَةِ مَا جَاءَا بِهِ، فَتَعُمُّ الرَّحْمَةُ وَالْهِدَايَةُ إِلَى الْمَدَى الَّذِي يَشَاءُ إِلَيْهِ.
6- تَكْثِيرُ عَدَدِ الْأَقْوَامِ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ، وَتَحْقِيقُ عِزَّةِ شَأْنِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ.
7- مَا تَقَدَّمَ هُوَ فِي دَعْوَةِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، أَمَّا الدَّعْوَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَالْهَدَفُ مِنْهَا تَذْكِيرُ الْغَافِلِينَ وَالْعُصَاةِ، وَالْعَوْدَةُ بِالْمُنْحَرِفِينَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَتَقْلِيلُ الْمَفَاسِدِ فِي الْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ، وَإِزَالَةُ الشُّبَهِ الَّتِي يَنْشُرُهَا أَعْدَاءُ الدِّينِ، وَتَكْثِيرُ الْمُلْتَزِمِينَ الْمُتَمَسِّكِينَ بِتَعَالِيمِ الدِّينِ لِيَعِيشَ الْمُؤْمِنُونَ- وَمِنْهُمُ الدُّعَاةُ أَنْفُسُهُمْ- فِي عِزَّةٍ وَقُوَّةٍ، وَفِي أَمْنٍ وَرَخَاءٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَثُرَ الْمُنْكَرُ وَأَهْلُهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى ضَعْفِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَذُلِّهِمْ بَيْنَ أَقْوَامِهِمْ، وَإِذَا كَثُرَ الْمُنْكَرُ وَأَهْلُهُ حَتَّى غَلَبُوا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْفِتَنِ وَالْعُقُوبَةِ الَّتِي قَدْ لَا يَسْلَمُ مِنْهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنْفُسُهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}.
الدَّعْوَةُ إِلَى الْبَاطِلِ:
14- حَرَّمَ الْإِسْلَامُ الدَّعْوَةَ إِلَى الْبَاطِلِ، وَشَدَّدَ النَّكِيرَ عَلَى دُعَاةِ الْبَاطِلِ فِي آيَاتٍ صَرِيحَةٍ وَأَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ، كَمَا حَذَّرَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مِنْ مُسَانَدَةِ الدَّاعِينَ إِلَى الْبَاطِلِ أَوْ تَسْهِيلِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ.فَحَذَّرَ اللَّهُ مِنْ دَعْوَةِ شَيْطَانِ الْجِنِّ الْإِنْسَانَ إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، بِأَنْ أَخْبَرَنَا بِمَقَالَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلضَّالِّينَ وَلِلْعُصَاةِ الَّذِينَ أَضَلَّهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَكَذَلِكَ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ يَقُولُ لَهُمُ الْمَدْعُوُّونَ الَّذِينَ ضَلُّوا بِسَبَبِهِمْ: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا} وَحَذَّرَ مِنْ مَصِيرِ دُعَاةِ الْبَاطِلِ وَأَتْبَاعِهِمْ فَقَالَ فِي فِرْعَوْنَ وَآلِهِ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}
وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ عَلَى أَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى الْبَاطِلِ يَحْمِلُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى وِزْرِ نَفْسِهِ أَوْزَارَ مَنْ ضَلُّوا بِدَعْوَتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّ الدُّعَاةَ عَلَيْهِمْ إِثْمُ ضَلَالِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَإِثْمٌ آخَرُ، بِسَبَبِ مَا أَضَلُّوا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِ أُولَئِكَ شَيْءٌ، وَهَذَا مِنْ عَدْلِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- : «مَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْءٌ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ بَيَّنَ هَذَا الشَّرَّ فَقَالَ: دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا قَالَ حُذَيْفَةُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا» الْحَدِيثَ.وَكُلُّ هَذَا يُوجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْحَذَرَ مِنْ دَعْوَةِ الْبَاطِلِ وَمِمَّنْ يَحْمِلُ تِلْكَ الدَّعْوَةَ.
بَيَانُ مَا يُدْعَى إِلَيْهِ:
15- أَوَّلُ مَا يُدْعَى إِلَيْهِ الْكَافِرُ الَّذِي لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، الْإِيمَانُ بِوُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَوْحِيدُهُ، وَالتَّصْدِيقُ بِكِتَابِهِ، وَالْإِيمَانُ بِرَسُولِهِ- صلى الله عليه وسلم- وَالْإِيمَانُ بِسَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمُتَابَعَةُ أَوَامِرِ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ، وَاتِّبَاعُ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُهُ- صلى الله عليه وسلم- وَتَعْظِيمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالِالْتِزَامُ بِسَائِرِ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ وَوَاجِبَاتِهِ، وَتَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمُسْتَحَبَّةِ، وَعَلَى مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ، وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ مِنْ شَوَائِبِ النِّفَاقِ وَالرِّيَاءِ، وَتَرْكُ مَا كَرِهَهُ الشَّرْعُ، وَتَعَلُّمُ الْقُرْآنِ وَالْأَحْكَامِ.
16- وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ «النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: إِنَّكَ تَقْدُمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ- وَفِي رِوَايَةٍ: فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ- فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ»- وَفِي رِوَايَةٍ: «فَإِنْ أَطَاعُوا بِذَلِكَ- فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ.فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا، فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ» قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بَدَأَ بِالشَّهَادَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا أَصْلُ الدِّينِ الَّذِي لَا يَصِحُّ شَيْءٌ غَيْرُهُ إِلاَّ بِهِمَا، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ غَيْرَ مُوَحِّدٍ فَالْمُطَالَبَةُ مُتَوَجِّهَةٌ إِلَيْهِ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّهَادَتَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَمَنْ كَانَ مُوَحِّدًا فَالْمُطَالَبَةُ لَهُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ: بَدَأَ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، وَذَلِكَ مِنَ التَّلَطُّفِ فِي الْخِطَابِ لِأَنَّهُ لَوْ طَالَبَهُمْ بِالْجَمِيعِ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ لَمْ يَأْمَنِ النُّفْرَةَ.
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ- صلى الله عليه وسلم- بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ فَقَالَ: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ}.
وَفِي بَعْضِ الْآيَاتِ عَبَّرَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} وَهَذَا أَعْظَمُ مَا دَعَا إِلَيْهِ الرُّسُلُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ نُوحٍ ((: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ} وَقَوْلُ كُلٍّ مِنْ هُودٍ وَصَالِحٍ- عليهما السلام- : {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.
وَاجِبُ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ إِلَى الْحَقِّ:
17- مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى قَبُولِهِ، وَالرِّضَا بِهِ، وَمُتَابَعَةُ الدَّاعِي إِلَيْهِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَفَتَحَ لَهُ بِهِ بَابًا لِيَدْخُلَ إِلَى مَأْدُبَتِهِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «جَاءَتْ مَلَائِكَةٌ إِلَى النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ نَائِمٌ إِلَى أَنْ قَالَ: فَقَالُوا: مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا، وَحَمَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً، وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ، وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ» فَأَوَّلُوا الرُّؤْيَا فَقَالُوا:
«الدَّارُ الْجَنَّةُ، وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ- صلى الله عليه وسلم- فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا- صلى الله عليه وسلم- فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا- صلى الله عليه وسلم- فَقَدْ عَصَى اللَّهَ» وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ الْمَدْعُوُّ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ لَهُ بِصُورَةٍ وَاضِحَةٍ فَقَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ حُجَّةُ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ اسْتَحَقَّ عُقُوبَةَ الْمُشْرِكِينَ وَالْكَافِرِينَ، لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وَقَوْلُ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- : «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ».
وَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَكْتَفِيَ بِالتَّسَمِّي بِالْإِسْلَامِ، بَلْ عَلَيْهِ الْعِلْمُ بِأَحْكَامِهِ وَالْعَمَلُ بِهَا، وَالتَّخَلُّقُ بِالْأَخْلَاقِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَالْمُبَادَرَةُ إِلَى التَّخَلُّصِ مِمَّا يُنَافِي الْإِسْلَامَ مِنَ الِاعْتِمَادَاتِ وَالْعَادَاتِ.
مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ:
18- مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ لَا يُكَلَّفُونَ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، أَمَّا إِذَا رَغِبَ أَحَدٌ مِنَ الْكُفَّارِ فِي دُخُولِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ لِيَسْمَعَ الْقُرْآنَ، وَيَعْلَمَ مَا جَاءَ بِهِ، وَيَفْهَمَ أَحْكَامَهُ وَأَوَامِرَهُ وَنَوَاهِيَهُ، فَيَجِبُ إِعْطَاؤُهُ الْأَمَانَ لِأَجْلِ ذَلِكَ، فَإِنْ قَبِلَ فَهُوَ حَسَنٌ، وَإِلاَّ وَجَبَ رَدُّهُ إِلَى مَأْمَنِهِ.قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ}.
أَمَّا مِنْ حَيْثُ النَّجَاةُ فِي الْآخِرَةِ، فَقَدْ قَسَّمَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ النَّاسَ فِي شَأْنِ دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ: مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا بِالْمَرَّةِ، قَالَ: وَهَؤُلَاءِ نَاجُونَ.
الثَّانِي: مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ عَلَى وَجْهِهَا وَلَمْ يَنْظُرْ فِي أَدِلَّتِهَا اسْتِكْبَارًا أَوْ إِهْمَالاً أَوْ عِنَادًا، قَالَ: وَهَؤُلَاءِ مُؤَاخَذُونَ.
الثَّالِثُ: مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، كَمَنْ بَلَغَهُ اسْمُ مُحَمَّدٍ- صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَبْلُغْهُمْ نَعْتُهُ وَصِفَتُهُ، بَلْ سَمِعُوا مُنْذُ الصِّبَا بِاسْمِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ مُتَّهَمًا بِالتَّدْلِيسِ وَالْكَذِبِ وَادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ قَالَ: فَهَؤُلَاءِ فِي مَعْنَى الصِّنْفِ الْأَوَّلِ.
الْمُكَلَّفُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ:
19- الْإِمَامُ أَوْلَى النَّاسِ بِإِقَامَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، وَذَلِكَ لأُِمُورٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِمَامَةَ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ إِنَّمَا هِيَ لِحِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا، وَحِرَاسَةُ الدِّينِ تَتَضَمَّنُ الْحِرْصَ عَلَى نَشْرِهِ، وَتَقْوِيَتِهِ، وَقِيَامِ الْعَمَلِ بِهِ، وَاسْتِمْرَارِ كَلِمَتِهِ عَالِيَةً، وَتَتَضَمَّنُ الدِّفَاعَ عَنْهُ ضِدَّ الشُّبُهَاتِ، وَالضَّلَالَاتِ، الَّتِي يُلْقِيهَا وَيَبُثُّهَا أَعْدَاءُ الدِّينِ.قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: «وَلِيُّ الْأَمْرِ إِنَّمَا نُصِّبَ لِيَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَذَلِكَ هُوَ مَقْصُودُ الْوِلَايَةِ» كَمَا أَنَّ مِنْ وَاجِبِ الْإِمَامِ إِقَامَةُ الْجِهَادِ لِنَشْرِ الْإِسْلَامِ، وَالْجِهَادُ فِي ذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ.
الثَّانِي: أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى اللَّهِ هُوَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الرَّاجِحِ، وَفُرُوضُ الْكِفَايَاتِ عَلَى الْإِمَامِ الْقِيَامُ بِهَا أَوْ تَكْلِيفُ مَنْ يَقُومُ بِهَا، كَتَكْلِيفِهِ لِلْقُضَاةِ، وَالْأَئِمَّةِ، وَالْمُؤَذِّنِ، وَأَهْلِ الْجِهَادِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
الثَّالِثُ: أَنَّ مَا حَصَلَ لِلْإِمَامِ مِنَ التَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ وَنُفُوذِ الْكَلِمَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ صَالِحًا فِي نَفْسِهِ مُحَاوِلاً الْإِصْلَاحَ جَهْدَهُ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}.
20- وَالدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ مُكَلَّفٌ بِهَا كُلُّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ الْكِفَائِيِّ أَوِ الْعَيْنِيِّ، فَلَيْسَتْ خَاصَّةً بِالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ بَلَغُوا فِي الْعِلْمِ الْمَرَاتِبَ الْعَالِيَةَ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي عَالِمًا بِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- : «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ».وَقَوْلِهِ:
«بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» وَقَالَ بَعْدَ أَنْ خَطَبَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ».
فَالْمُسْلِمُ يَدْعُو إِلَى أَصْلِ الْإِسْلَامِ، وَإِلَى أَصْلِ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ مِنْهُ كَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَكَفِعْلِ الصَّلَاةِ، وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِلَى نَحْوِ تَرْكِ الْمَعَاصِي الظَّاهِرَةِ مِنَ الزِّنَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالْعُقُوقِ، وَالْفُحْشِ فِي الْقَوْلِ.وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى شَيْءٍ يَجْهَلُهُ، لِئَلاَّ يَكُونَ عَلَيْهِ إِثْمُ مَنْ يُضِلُّهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَيَخْتَصُّ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى تَفَاصِيلِ ذَلِكَ، وَكَشْفِ الشُّبَهِ، وَجِدَالِ أَصْحَابِهَا، وَرَدِّ غُلُوِّ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالِ الْمُبْطِلِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِغَيْرِ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا الدَّعْوَةُ إِلَى مَسَائِلَ جُزْئِيَّةٍ إِذَا عَلِمُوهَا وَأَصْبَحُوا بِهَا عَلَى بَصِيرَةٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ لِذَلِكَ التَّبَحُّرُ فِي الْعِلْمِ الدِّينِيِّ بِجَمِيعِ أَقْسَامِهِ، فَكُلٌّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ يَدْعُو إِلَى مَا هُوَ عَالِمٌ بِهِ.قَالَ الْغَزَالِيُّ: «وَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ وَمَحَلَّةٍ مِنَ الْبَلَدِ فَقِيهٌ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ، وَكَذَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ» ثُمَّ قَالَ: «وَكُلُّ عَامِّيٍّ عَرَفَ شُرُوطَ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعَرِّفَ غَيْرَهُ، وَإِلاَّ فَهُوَ شَرِيكٌ فِي الْإِثْمِ..وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُولَدُ عَالِمًا بِالشَّرْعِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ التَّبْلِيغُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ.فَكُلُّ مَنْ تَعَلَّمَ مَسْأَلَةً وَاحِدَةً فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا.وَالْإِثْمُ- أَيْ فِي تَرْكِ التَّبْلِيغِ- عَلَى الْفُقَهَاءِ أَشَدُّ لِأَنَّ قُدْرَتَهُمْ فِيهِ أَظْهَرُ، وَهُوَ بِصِنَاعَتِهِمْ أَلْيَقُ».
شُرُوطُ الدَّاعِيَةِ:
21- يُشْتَرَطُ فِي الدَّاعِيَةِ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا (أَيْ مُسْلِمًا عَاقِلاً بَالِغًا) وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا عَادِلاً، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ مُكَلَّفَةٌ بِالدَّعْوَةِ، مُشَارِكَةٌ لِلرَّجُلِ فِيهَا.
وَرَاجِعْ هُنَا مُصْطَلَحَ: (الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ) (ف 4).
أَخْلَاقُ الدَّاعِيَةِ وَآدَابُهُ:
22- يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَخْلَاقُ الدَّاعِيَةِ مُنْسَجِمَةٌ وَمُتَّفِقَةٌ مَعَ مَضْمُونِ الدَّعْوَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَمَثَّلُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَفِي السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَمُنَاسَبَةُ ذَلِكَ تَظْهَرُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ فِي التَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْخَيْرَ كُلَّهُ، مِنَ الْكَرَمِ، وَالسَّمَاحَةِ، وَالْوَفَاءِ، وَالصِّدْقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْإِسْلَامِيَّةِ.
الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْتَارَ مُحَمَّدًا- صلى الله عليه وسلم- لِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ أَدَّبَهُ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهُ، وَجَعَلَهُ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، وَكَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ.
الثَّالِثُ: أَنَّ تَخَلُّقَ الدَّاعِي بِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ وَاصْطِبَاغَهُ بِصِبْغَتِهِ، يُعِينُهُ عَلَى الدَّعْوَةِ، فَإِنَّهُ يُيَسِّرُ عَلَى الْمَدْعُوِّينَ قَبُولَ الدَّعْوَةِ، إِذْ يَرَوْنَ دَاعِيَهُمْ مُمْتَثِلاً لِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِذَا أَمَرَ بِأَمْرٍ بَدَأَ فِيهِ بِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ، كَمَا قَالَ فِي خُطْبَتِهِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَلَا وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ وَمَالٍ وَمَأْثَرَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ يُوضَعُ دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.ثُمَّ قَالَ: أَلَا وَإِنَّ كُلَّ رِبًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَإِنَّ اللَّهَ قَضَى أَنَّ أَوَّلَ رِبًا يُوضَعُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ».
الرَّابِعُ: أَنَّ مُوَافَقَةَ أَخْلَاقِ الدَّاعِي لِمَضْمُونِ دَعْوَتِهِ يُؤَكِّدُ مَضْمُونَ الدَّعْوَةِ وَيُقَوِّيهِ فِي نُفُوسِ الْمَدْعُوِّينَ وَالْأَتْبَاعِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مَثَلاً حَيًّا لِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ، وَنَمُوذَجًا عَمَلِيًّا يَحْتَذِيهِ الْأَتْبَاعُ، وَيَخْرُجُ فِي أَنْفُسِهِمْ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونُ الدَّعْوَةِ أَمْرًا خَيَالِيًّا بَعِيدًا عَنِ الْوَاقِعِ.هَذَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَنَّ الْمَدْعُوَّ يَتَعَلَّمُ مِنْ أَخْلَاقِ الدَّاعِيَةِ مِنَ التَّفَاصِيلِ مَا قَدْ لَا تُبَلِّغُهُ الدَّعْوَةُ الْقَوْلِيَّةُ.
وَلَوْ أَنَّ أَخْلَاقَ الدَّاعِي كَانَتْ عَلَى خِلَافِ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ تَكْذِيبًا ضِمْنِيًّا لِدَعْوَتِهِ، وَإِضْعَافًا لَهَا فِي نُفُوسِ الْمَدْعُوِّينَ وَالْأَتْبَاعِ، وَالْمَعْصِيَةُ قَبِيحَةٌ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَلَكِنَّهَا مِنَ الدَّاعِيَةِ أَشَدُّ قُبْحًا وَسُوءًا.وَهُوَ مُهْلِكٌ لِدَعْوَتِهِ، قَاطِعٌ لِلنَّاسِ عَنِ الْقَبُولِ مِنْهُ.
وَهَذَا الْقَوْلُ صَادِقٌ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ.
الْخَامِسُ: التَّحَلِّي بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنِ الصِّفَاتِ.
عَلَى الدُّعَاةِ أَنْ يَزِيدُوا عِنَايَتَهُمْ بِأَخْلَاقٍ وَصِفَاتٍ مُعَيَّنَةٍ خَاصَّةٍ، لِمَا لَهَا مِنْ مِسَاسٍ بِالدَّعْوَةِ يُؤَدِّي إِلَى نَجَاحِهَا، كَالصَّبْرِ وَالتَّوَاضُعِ، وَالرَّحْمَةِ وَاللِّينِ، وَالرِّفْقِ بِالْمَدْعُوِّينَ، وَالصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ، وَالْحُنْكَةِ وَالْفِطْنَةُ فِي التَّعَامُلِ مَعَ مَنْ يَدْعُوهُمْ، وَمَعَ ظُرُوفِ الدَّعْوَةِ، وَرِعَايَةِ الضُّعَفَاءِ وَالْعَامَّةِ عِنْدَ التَّعَامُلِ مَعَهُمْ، وَالْفِطْنَةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ أَهْلِ النِّفَاقِ. وَكَذَلِكَ التَّعَاوُنُ وَعَدَمُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الدُّعَاةِ، مَعَ التَّحَابِّ وَالتَّوَاصُلِ وَالتَّنَاصُحِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، حَتَّى تُؤْتِيَ الدَّعْوَةُ أُكُلَهَا، وَالْحَذَرُ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ، وَمِمَّنْ يُحَاوِلُونَ إِفْسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ بَيْنَ الدُّعَاةِ.
طُرُقُ الدَّعْوَةِ وَأَسَالِيبُهَا:
23- طُرُقُ الدَّعْوَةِ وَأَسَالِيبُهَا تَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ ظُرُوفِ الدَّعْوَةِ، وَبِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمَدْعُوِّينَ وَالدُّعَاةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ تَعَامُلٌ مَعَ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ، وَالنُّفُوسُ الْبَشَرِيَّةُ مُخْتَلِفَةٌ فِي طَبَائِعِهَا وَأَمْزِجَتِهَا، وَمَا يُؤَثِّرُ فِي إِنْسَانٍ قَدْ لَا يُؤَثِّرُ فِي غَيْرِهِ، وَمَا يُؤَثِّرُ فِي إِنْسَانٍ فِي حَالٍ قَدْ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ فِي حَالٍ أُخْرَى، فَلَا بُدَّ لِلدَّاعِيَةِ مِنْ مُرَاعَاةِ ذَلِكَ كُلِّهِ وَالْعَمَلِ بِحَسَبِهِ، وَيَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} وَالْحَكِيمُ- كَمَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ- الْمُتْقِنُ لِلْأُمُورِ.
24- وَمِنَ الْأَسَالِيبِ الرَّئِيسِيَّةِ فِي الدَّعْوَةِ الَّتِي سَارَ عَلَيْهَا النَّبِيُّونَ وَعَمِلَ بِهَا السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَدَلَّتْ عَلَيْهَا حُجَجُ التَّجَارِبِ:
1- التَّمَسُّكُ بِالْحَقِّ وَالصَّوَابِ فِي وَسَائِلِ الدَّعْوَةِ، فَلَا يَسْلُكْ وَسَائِلَ غَيْرَ مَشْرُوعَةٍ.
2- التَّدَرُّجُ فِي الدَّعْوَةِ.
3- التَّرَيُّثُ وَالتَّمَهُّلُ وَعَدَمُ اسْتِعْجَالِ النَّتَائِجِ قَبْلَ أَدَائِهَا.
4- التَّصَدِّي لِلشُّبُهَاتِ الَّتِي يَطْرَحُهَا أَعْدَاءُ الدِّينِ لِلتَّشْكِيكِ فِي الدَّعْوَةِ، أَوِ الدُّعَاةِ، وَإِزَالَةُ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ.
5- تَنْوِيعُ أَسَالِيبِ الدَّعْوَةِ بِاسْتِخْدَامِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ.
6- الِاسْتِفَادَةُ مِنَ الْفُرَصِ الْمُتَاحَةِ لِتَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ.
7- تَقْدِيمُ النَّفْعِ، وَبَذْلُ الْمَعْرُوفِ لِكُلِّ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، كَإِطْعَامِ الْمِسْكِينِ، وَكِسْوَةِ الْعَارِي، وَرِعَايَةِ الْيَتِيمِ، وَمَعُونَةِ الْمُضْطَرِّ.
8- إِنْشَاءُ الْمَرَاكِزِ التَّعْلِيمِيَّةِ لِيُتَابَعَ الدَّاخِلُ فِي الْإِسْلَامِ، بِالتَّرْبِيَةِ، وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَسِيرَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَتَفْقِيهِهِ فِي الدِّينِ، وَاسْتِئْصَالِ بَقَايَا الشِّرْكِ وَالْجَاهِلِيَّةِ، وَأَخْلَاقِهِمَا، وَعَدَاتِهِمَا، وَآدَابِهِمَا، الْمُخَالِفَةِ لِدِينِ اللَّهِ.
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
13-موسوعة الفقه الكويتية (مشقة)
مَشَقَّةٌالتَّعْرِيفُ:
1- الْمَشَقَّةُ فِي اللُّغَةِ: بِمَعْنَى الْجُهْدِ وَالْعَنَاءِ وَالشِّدَّةِ وَالثِّقَلِ، يُقَالُ: شَقَّ عَلَيْهِ الشَّيْءُ يَشُقُّ شَقًّا وَمَشَقَّةً إِذَا أَتْعَبَهُ وَمِنْهُ قوله تعالى: {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} مَعْنَاهُ: إِلاَّ بِجُهْدِ الْأَنْفُسِ، وَالشِّقُّ: الْمَشَقَّةُ، وَقَالَ فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: وَشَقَّ الْأَمْرُ عَلَيْنَا يَشُقُّ مِنْ بَابِ قَتَلَ أَيْضًا فَهُوَ شَاقٌّ، وَشَقَّ عَلَيَّ الْأَمْرُ يَشُقُّ شَقًّا وَمَشَقَّةً أَيْ ثَقُلَ عَلَيَّ وَالْمَشَقَّةُ اسْمٌ مِنْهُ.
وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ- الْحَرَجُ:
2- الْحَرَجُ فِي اللُّغَةِ: بِمَعْنَى الضِّيقِ، وَحَرِجَ صَدْرُهُ حَرَجًا مِنْ بَابِ تَعِبَ: ضَاقَ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْحَرَجُ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ فَوْقَ الْمُعْتَادِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ هِيَ: أَنَّ الْحَرَجَ أَخَصُّ مِنَ الْمَشَقَّةِ.
ب- الرُّخْصَةُ:
3- الرُّخْصَةُ فِي اللُّغَةِ: الْيُسْرُ وَالسُّهُولَةُ يُقَالُ: رَخُصَ السِّعْرُ إِذَا تَرَاجَعَ وَسَهُلَ الشِّرَاءُ.
وَاصْطِلَاحًا: عِبَارَةٌ عَمَّا وُسِّعَ لِلْمُكَلَّفِ فِي فِعْلِهِ لِعُذْرٍ وَعَجْزٍ عَنْهُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ: كَتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ، وَجَوَازِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ لِلْمُسَافِرِ.
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَشَقَّةِ وَالرُّخْصَةِ: هِيَ أَنَّ الْمَشَقَّةَ سَبَبٌ لِلرُّخْصَةِ.
ج- الضَّرُورَةُ:
4- الضَّرُورَةُ اسْمٌ مِنَ الِاضْطِرَارِ.
وَفِي الشَّرْعِ: بُلُوغُ الْإِنْسَانِ حَدًّا إِنْ لَمْ يَتَنَاوَلِ الْمَمْنُوعَ هَلَكَ أَوْ قَارَبَ.
وَالصِّلَةُ هِيَ أَنَّ الْمَشَقَّةَ أَعَمُّ مِنَ الضَّرُورَةِ.
د- الْحَاجَةُ
5- الْحَاجَةُ تُطْلَقُ عَلَى الِافْتِقَارِ، وَعَلَى مَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ مَعَ مَحَبَّتِهِ.
وَاصْطِلَاحًا: مَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ التَّوْسِعَةُ وَرَفْعُ الضِّيقِ الْمُؤَدِّي فِي الْغَالِبِ إِلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ اللاَّحِقَةِ بِفَوْتِ الْمَطْلُوبِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَشَقَّةِ وَالْحَاجَةِ أَنَّ الْحَاجَةَ وَإِنْ كَانَتْ حَالَةَ جُهْدٍ فَهِيَ دُونَ الْمَشَقَّةِ وَمَرْتَبَتُهَا أَدْنَى مِنْهَا.
الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَشَقَّةِ:
أَوَّلًا: أَوْجُهُ الْمَشَقَّةِ
6- يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمَشَقَّةِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ وَرُخَصٌ مُتَعَدِّدَةٌ، تَعْتَمِدُ عَلَى نَوْعِ الْمَشَقَّةِ وَدَرَجَتِهَا.
وَلَا تَخْلُو جَمِيعُ التَّكَالِيفِ فِي الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ جِنْسِ الْمَشَقَّةِ أَصْلًا، بَلْ إِنَّ التَّكْلِيفَ مَا سُمِّيَ بِهَذَا إِلاَّ لِأَنَّهُ طَلَبُ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ، فَلَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنَ التَّكَالِيفِ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي أَنَّ أَوْجُهَ الْمَشَقَّةِ أَرْبَعَةٌ.
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: مَشَقَّةُ مَا لَا يُطَاقُ
7- وَهِيَ الْمَشَقَّةُ الَّتِي لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَى حَمْلِهَا أَصْلًا، فَهَذَا النَّوْعُ لَمْ يَرِدِ التَّكْلِيفُ بِهِ فِي الشَّرْعِ أَصْلًا، إِذْ لَا قُدْرَةَ لِلْمُكَلَّفِ عَلَيْهِ فِي الْعَادَةِ فَلَا يَقَعُ التَّكْلِيفُ بِهِ شَرْعًا، وَإِنْ جَازَ عَقْلًا، فَتَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ يُسَمَّى مَشَقَّةً مِنْ حَيْثُ كَانَ تَكَلُّفُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِحَمْلِهِ مُوقِعًا فِي عَنَاءٍ وَتَعَبٍ لَا يُجْدِي، كَالْمُقْعَدِ إِذَا تَكَلَّفَ الْقِيَامَ، وَالْإِنْسَانُ إِذَا تَكَلَّفَ الطَّيَرَانَ فِي الْهَوَاءِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَحِينَ اجْتَمَعَ مَعَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ الشَّاقُّ الْحَمْلُ إِذَا تَحَمَّلَ فِي نَفْسِ الْمَشَقَّةِ سُمِّيَ الْعَمَلُ شَاقًّا وَالتَّعَبُ فِي تَكَلُّفِ حَمْلِهِ مَشَقَّةٌ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: الْمَشَقَّةُ الَّتِي تُطَاقُ لَكِنْ فِيهَا شِدَّةٌ:
8- الْمَشَقَّةُ الَّتِي تُطَاقُ وَيُمْكِنُ احْتِمَالُهَا، لَكِنْ فِيهَا شِدَّةٌ، وَهَذَا الْوَجْهُ يَكُونُ خَاصًّا بِالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الْمُعْتَادِ فِي الْأَعْمَالِ الْعَادِيَةِ، بِحَيْثُ يُشَوِّشُ عَلَى النَّفُوسِ فِي تَصَرُّفِهَا وَيُقْلِقُهَا فِي الْقِيَامِ بِمَا فِيهِ تِلْكَ الْمَشَقَّةُ.
إِلاَّ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْمَشَقَّةُ مُخْتَصَّةً بِأَعْيَانِ الْأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ بِهَا، بِحَيْثُ لَوْ وَقَعَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً لَوُجِدَتْ فِيهَا، وَهَذَا هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي وُضِعَتْ لَهُ الرُّخَصُ الْمَشْهُورَةُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ، كَالصَّوْمِ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، وَالْإِتْمَامِ فِي السَّفَرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا تَكُونَ مُخْتَصَّةً وَلَكِنْ إِذَا نَظَرَ إِلَى كُلِّيَّاتِ الْأَعْمَالِ وَالدَّوَامِ عَلَيْهَا صَارَتْ شَاقَّةً وَلَحِقَتِ الْمَشَقَّةُ الْعَامِلَ بِهَا، وَيُوجَدُ هَذَا فِي النَّوَافِلِ وَحْدَهَا إِذَا تَحَمَّلَ الْإِنْسَانُ مِنْهَا فَوْقَ مَا يَحْتَمِلُهُ عَلَى وَجْهٍ مَا إِلاَّ أَنَّهُ فِي الدَّوَامِ يُتْعِبُهُ.
وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى التَّكْلِيفِ بِالشَّاقِّ وَالْإِعْنَاتِ فِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ- رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم-: «مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا» وَإِنَّمَا قَالَتْ: «مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا» لِأَنَّ تَرْكَ الْإِثْمِ لَا مَشَقَّةَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ كَانَ مُجَرَّدَ تَرْكٍ إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى وَلَوْ كَانَ قَاصِدًا لِلْمَشَقَّةِ لَمَا كَانَ مُرِيدًا لِلْيُسْرِ وَلَا لِلتَّخْفِيفِ وَلَكَانَ مُرِيدًا لِلْحَرَجِ وَالْعُسْرِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ.
كَمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا ثَبَتَ أَيْضًا مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الرُّخَصِ، وَهُوَ أَمْرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ وَمِمَّا عُلِمَ مِنْهُ دِينُ الْأُمَّةِ بِالضَّرُورَةِ: كَرُخَصِ السَّفَرِ، وَالْفِطْرِ، وَالْجَمْعِ، وَتَنَاوُلِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الِاضْطِرَارِ فَإِنَّ هَذَا نَمَطٌ يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى مُطْلَقِ رَفْعِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، وَكَذَلِكَ بِمَا جَاءَ فِي النَّهْيِ عَنِ التَّعَمُّقِ وَالتَّكَلُّفِ وَالتَّسَبُّبِ فِي الِانْقِطَاعِ عَنْ دَوَامِ الْأَعْمَالِ، وَلَوْ كَانَ الشَّارِعُ قَاصِدًا لِلْمَشَقَّةِ فِي التَّكْلِيفِ لَمَا كَانَ ثَمَّ تَرْخِيصٌ وَلَا تَخْفِيفٌ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُنَازَعُ فِي أَنَّ الشَّارِعَ قَاصِدٌ لِلتَّكْلِيفِ بِمَا يَلْزَمُ فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ مَا، وَلَكِنْ لَا تُسَمَّى فِي الْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ مَشَقَّةً كَمَا لَا يُسَمَّى فِي الْعَادَةِ مَشَقَّةً طَلَبُ الْمَعَاشِ بِالتَّحَرُّفِ وَسَائِرِ الصَّنَائِعِ، لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ مُعْتَادٌ لَا يَقْطَعُ مَا فِيهِ مِنَ الْكُلْفَةِ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْغَالِبِ الْمُعْتَادِ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يَرْجِعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَشَقَّةِ الَّتِي لَا تُعَدُّ مَشَقَّةً عَادَةً، وَالَّتِي تُعَدُّ مَشَقَّةً، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْعَمَلُ يُؤَدِّي الدَّوَامُ عَلَيْهِ إِلَى الِانْقِطَاعِ عَنْهُ أَوْ عَنْ بَعْضِهِ وَإِلَى وُقُوعِ خَلَلٍ فِي صَاحِبِهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالٍ، أَوْ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ فَالْمَشَقَّةُ هُنَا خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ فَلَا يُعَدُّ فِي الْعَادَةِ مَشَقَّةً وَإِنْ سُمِّيَتْ كُلْفَةً.
فَمَا تَضَمَّنَ التَّكْلِيفَ الثَّابِتَ عَلَى الْعِبَادِ مِنَ الْمَشَقَّةِ الْمُعْتَادَةِ أَيْضًا لَيْسَ بِمَقْصُودِ الطَّلَبِ لِلشَّارِعِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِ الْمَشَقَّةِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَائِدَةِ عَلَى الْمُكَلَّفِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: الزِّيَادَةُ فِي الْفِعْلِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ:
9- وَهُوَ إِذَا كَانَ الْفِعْلُ خَاصًّا بِالْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي تَعَبِ النَّفْسِ خُرُوجٌ عَنِ الْمُعْتَادِ فِي الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ، وَلَكِنَّ نَفْسَ التَّكْلِيفِ بِهِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَاتُ قَبْلَ التَّكْلِيفِ شَاقٌّ عَلَى النَّفْسِ، وَلِذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ التَّكْلِيفِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ يَقْتَضِي مَعْنَى الْمَشَقَّةِ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: كَلَّفْتُهُ تَكْلِيفًا إِذَا حَمَّلْتَهُ أَمْرًا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَأَمَرْتُهُ بِهِ، وَتَكَلَّفْتُ الشَّيْءَ: إِذَا تَحَمَّلْتَهُ عَلَى مَشَقَّةٍ، وَحَمَلْتُ الشَّيْءَ تَكَلَّفْتُهُ: إِذَا لَمْ تُطِقْهُ إِلاَّ تَكَلُّفًا، فَمِثْلُ هَذَا يُسَمَّى مَشَقَّةً بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، لِأَنَّهُ إِلْقَاءٌ بِالْمَقَالِيدِ وَدُخُولُ أَعْمَالٍ زَائِدَةٍ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مُلْزِمًا بِمَا قَبْلَهُ:
10- وَهُوَ أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ خَاصًّا بِمَا يَلْزَمُ مَا قَبْلَهُ، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ إِخْرَاجُ الْمُكَلَّفِ عَنْ هَوَى نَفْسِهِ، وَمُخَالَفَةُ الْهَوَى شَاقَّةٌ عَلَى صَاحِبِ الْهَوَى مُطْلَقًا، وَيَلْحَقُ الْإِنْسَانَ بِسَبَبِهَا تَعَبٌ وَعَنَاءٌ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ فِي الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ فِي الْخَلْقِ، وَذَلِكَ أَنَّ مُخَالَفَةَ مَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ شَاقٌّ عَلَيْهَا، وَالشَّارِعُ إِنَّمَا قَصَدَ بِوَضْعِ شَرِيعَةٍ إِخْرَاجَ الْمُكَلَّفِ عَنِ اتِّبَاعِ هَوَاهُ حَتَّى يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ، فَإِذًا مُخَالَفَةُ الْهَوَى لَيْسَتْ مِنَ الْمَشَقَّاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي التَّكْلِيفِ.
ثَانِيًا: الْقَوَاعِدُ الْفِقْهِيَّةُ الْمُنَظِّمَةُ لِأَحْكَامِ الْمَشَقَّةِ:
11- وَضَعَ الْفُقَهَاءُ مَجْمُوعَةً مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ لِضَبْطِ أَحْكَامِ الْمَشَقَّةِ، وَمِنْ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ (الْمَشَقَّةُ تَجْلُبُ التَّيْسِيرَ) يَعْنِي أَنَّ الصُّعُوبَةَ تَصِيرُ سَبَبًا لِلتَّسْهِيلِ، وَيَلْزَمُ التَّوْسِيعُ فِي وَقْتِ الْمُضَايَقَةِ.
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ كَالْقَرْضِ وَالْحَوَالَةِ وَالْحَجْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا جَوَّزَهُ الْفُقَهَاءُ مِنَ الرُّخَصِ وَالتَّخْفِيفَاتِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ:
وَتُعْتَبَرُ الْمَشَقَّةُ سَبَبًا هَامًّا مِنْ أَسْبَابِ الرُّخَصِ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ، وَبِحَسَبِ قُوَّةِ الْعَزَائِمِ وَضَعْفِهَا، وَبِحَسَبِ الْأَعْمَالِ، فَلَيْسَ لِلْمَشَقَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي التَّخْفِيفَاتِ ضَابِطٌ مَخْصُوصٌ، وَلَا حَدٌّ مَحْدُودٌ يَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ النَّاسِ، وَلِذَلِكَ أَقَامَ الشَّرْعُ السَّبَبَ مَقَامَ الْعِلَّةِ وَاعْتَبَرَ السَّفَرَ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَظَانِّ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ.وَلَيْسَتْ أَسْبَابُ الرُّخَصِ بِدَاخِلَةٍ تَحْتَ قَانُونٍ أَصْلِيٍّ، وَلَا ضَابِطٍ مَأْخُوذٍ بِالْيَدِ، بَلْ هِيَ إِضَافِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مُخَاطَبٍ فِي نَفْسِهِ.
وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وَقَوْلُهُ- صلى الله عليه وسلم-: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَاءِ»،، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: «أَحَبُّ الْأَدْيَانِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ».
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- وَغَيْرُهُ قَوْلَهُ- صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ».
وَقَالَتْ عَائِشَةُ- رضي الله عنها-: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا».
وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ جَمِيعُ رُخَصِ الشَّرْعِ وَتَخْفِيفَاتِهِ.
هَذَا وَقَدْ خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا نُصَّ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَشَقَّةٌ وَعَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى، قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: الْمَشَقَّةُ وَالْحَرَجُ إِنَّمَا يُعْتَبَرَانِ فِي مَوْضِعٍ لَا نَصَّ فِيهِ وَأَمَّا مَعَ النَّصِّ بِخِلَافِهِ فَلَا.
وَبِمَعْنَى قَاعِدَةِ: الْمَشَقَّةُ تَجْلُبُ التَّيْسِيرَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ- رحمه الله-: «إِذَا ضَاقَ الْأَمْرُ اتَّسَعَ» وَمَعْنَاهَا: إِذَا ظَهَرَتْ مَشَقَّةٌ فِي أَمْرٍ يُرَخَّصُ فِيهِ وَيُوَسَّعُ، فَعَكْسُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ «إِذَا اتَّسَعَ الْأَمْرُ ضَاقَ»، وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي الْحَمَّامَاتِ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا يَحْضُرُهَا الرِّجَالُ دَفْعًا لِحَرَجِ ضَيَاعِ الْحُقُوقِ.
وَمِنْهَا قَبُولُ شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ
الْمَشَاقُّ الْمُوجِبَةُ لِلتَّخْفِيفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ
قَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: الْمَشَاقُّ ضَرْبَانِ:
12- أَحَدُهُمَا: مَشَقَّةٌ لَا تَنْفَكُّ الْعِبَادَةُ عَنْهَا كَمَشَقَّةِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ، وَكَمَشَقَّةِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَلَا سِيَّمَا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَكَمَشَقَّةِ الصَّوْمِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَطُولِ النَّهَارِ، وَكَمَشَقَّةِ السَّفَرِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ الَّتِي لَا انْفِكَاكَ عَنْهَا غَالِبًا، وَكَمَشَقَّةِ الِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَالرِّحْلَةِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْمَشَقَّةُ فِي رَجْمِ الزُّنَاةِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْجُنَاةِ وَلَا سِيَّمَا فِي حَقِّ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مَشَقَّةً عَظِيمَةً عَلَى مُقِيمِ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ بِمَا يَجِدُهُ مِنَ الرِّقَّةِ وَالْمَرْحَمَةِ بِهَا لِلسُّرَّاقِ وَالزُّنَاةِ وَالْجُنَاةِ مِنَ الْأَجَانِبِ وَالْأَقَارِبِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ وَلِمِثْلِ هَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» وَهُوَ- صلى الله عليه وسلم- أَوْلَى بِتَحَمُّلِ هَذِهِ الْمَشَاقِّ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَصَفَهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ بِقَوْلِهِ: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} فَهَذِهِ الْمَشَاقُّ كُلُّهَا لَا أَثَرَ لَهَا فِي إِسْقَاطِ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ.
13- الضَّرْبُ الثَّانِي: مَشَقَّةٌ تَنْفَكُّ عَنْهَا الْعِبَادَاتُ غَالِبًا وَهِيَ أَنْوَاعٌ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ فَادِحَةٌ كَمَشَقَّةِ الْخَوْفِ عَلَى النَّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ وَمَنَافِعِ الْأَطْرَافِ، فَهَذِهِ مَشَقَّةٌ مُوجِبَةٌ لِلتَّخْفِيفِ وَالتَّرْخِيصِ لِأَنَّ حِفْظَ الْمُهَجِ وَالْأَطْرَافِ لِإِقَامَةِ مَصَالِحِ الدَّارَيْنِ أَوْلَى مِنْ تَعْرِيضِهَا لِلْفَوَاتِ فِي عِبَادَةٍ أَوْ عِبَادَاتٍ ثُمَّ تَفُوتُ أَمْثَالُهَا.
النَّوْعُ الثَّانِي: مَشَقَّةٌ خَفِيفَةٌ كَأَدْنَى وَجَعٍ فِي إِصْبَعٍ أَوْ أَدْنَى صُدَاعٍ أَوْ سُوءِ مِزَاجٍ خَفِيفٍ، فَهَذَا لَا أَثَرَ لَهُ وَلَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِ لِأَنَّ تَحْصِيلَ مَصَالِحِ الْعِبَادَةِ أَوْلَى مِنْ دَفْعِ هَذِهِ الْمَشَقَّةِ الَّتِي لَا أَثَرَ لَهَا.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَشَاقُّ وَاقِعَةٌ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَشَقَّتَيْنِ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْخِفَّةِ وَالشِّدَّةِ فَمَا دَنَا مِنْهَا مِنَ الْمَشَقَّةِ الْعُلْيَا أَوْجَبَ التَّخْفِيفَ، وَمَا دَنَا مِنْهَا مِنَ الْمَشَقَّةِ الدُّنْيَا لَمْ يُوجِبِ التَّخْفِيفَ.
كَمَرِيضٍ فِي رَمَضَانَ يَخَافُ مِنَ الصَّوْمِ زِيَادَةَ مَرَضٍ أَوْ بُطْءَ الْبُرْءِ، فَيَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ، وَهَكَذَا فِي الْمَرَضِ الْمُبِيحِ لِلتَّيَمُّمِ وَالْحُمَّى الْخَفِيفَةِ وَوَجَعِ الضُّرُوسِ الْيَسِيرِ وَمَا وَقَعَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الرُّتْبَتَيْنِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، مِنْهُمْ مَنْ يُلْحِقُهُ بِالْعُلْيَا وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْحِقُهُ بِالدُّنْيَا، وَتُضْبَطُ مَشَقَّةُ كُلِّ عِبَادَةٍ بِأَدْنَى الْمَشَاقِّ الْمُعْتَبَرَةِ فِي تَخْفِيفِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ فَإِنْ كَانَتْ مِثْلَهَا أَوْ أَزْيَدَ ثَبَتَتِ الرُّخْصَةُ وَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ فِي مَشَقَّةِ الْمَرَضِ الْمُبِيحِ لِلْفِطْرِ فِي الصَّوْمِ أَنْ يَكُونَ كَزِيَادَةِ مَشَقَّةِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ عَلَيْهِ فِي الْحَضَرِ.
وَكَذَلِكَ الْمَشَاقُّ فِي الْحَجِّ وَفِي إِبَاحَةِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ: أَنْ يَحْصُلَ بِتَرْكِهَا مِثْلُ مَشَقَّةِ الْقُمَّلِ الْوَارِدِ فِيهِ الرُّخْصَةُ، وَأَمَّا أَصْلُ الْحَجِّ فَلَا يُكْتَفَى بِتَرْكِهِ بِذَلِكَ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مَشَقَّةٍ لَا يُحْتَمَلُ مِثْلُهَا كَالْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَعَدَمِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَفِي إِبَاحَةِ تَرْكِ الْقِيَامِ إِلَى الْقُعُودِ: أَنْ يَحْصُلَ بِهِ مَا يُشَوِّشُ الْخُشُوعَ وَإِلَى الِاضْطِجَاعِ أَشَقُّ، لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِتَعْظِيمِ الْعِبَادَاتِ.
وَالْمَشَاقُّ فِي الْحَجِّ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: مِنْهَا مَا يَعْظُمُ فَيَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَجِّ، وَمِنْهَا مَا يَخِفُّ وَلَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ، وَمِنْهَا مَا يَتَوَسَّطُ فَيُرَدَّدُ فِيهِ، وَمَا قَرُبَ مِنْهُ إِلَى الْمَشَقَّةِ الْعُلْيَا كَانَ أَوْلَى بِمَنْعِ الْوُجُوبِ، وَمَا قَرُبَ مِنْهُ إِلَى الْمَشَقَّةِ الدُّنْيَا كَانَ أَوْلَى بِأَنْ لَا يَمْنَعَ الْوُجُوبَ.
وَتَخْتَلِفُ الْمَشَاقُّ بِاخْتِلَافِ الْعِبَادَاتِ فِي اهْتِمَامِ الشَّرْعِ، فَمَا اشْتَدَّ اهْتِمَامُهُ بِهِ شَرَطَ فِي تَخْفِيفِهِ الْمَشَاقَّ الشَّدِيدَةَ أَوِ الْعَامَّةَ، وَمَا لَمْ يَهْتَمَّ بِهِ خَفَّفَهُ بِالْمَشَاقِّ الْخَفِيفَةِ، وَقَدْ تُخَفَّفُ مَشَاقُّهُ مَعَ شَرَفِهِ وَعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ لِتَكَرُّرِ مَشَاقِّهِ، كَيْلَا يُؤَدِّيَ إِلَى الْمَشَاقِّ الْعَامَّةِ الْكَثِيرَةِ الْوُقُوعِ.
مِثَالُهُ: تَرْخِيصُ الشَّرْعِ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ تُقَامُ مَعَ الْخَبَثِ الَّذِي يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَمَعَ الْحَدَثِ فِي حَقِّ الْمُتَيَمِّمِ وَالْمُسْتَحَاضَةِ، وَمَنْ كَانَ عُذْرُهُ كَعُذْرِ الْمُسْتَحَاضَةِ.
أَمَّا الصَّلَاةُ فَيَنْتَقِلُ فِيهَا الْقَائِمُ إِلَى الْقُعُودِ بِالْمَرَضِ الَّذِي يُشَوِّشُ عَلَيْهِ الْخُشُوعَ وَالْأَذْكَارَ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الضَّرُورَةُ وَلَا الْعَجْزُ عَنْ تَصْوِيرِ الْقِيَامِ اتِّفَاقًا، وَيُشْتَرَطُ فِي الِانْتِقَالِ مِنَ الْقُعُودِ إِلَى الِاضْطِجَاعِ عُذْرًا أَشَقَّ مِنْ عُذْرِ الِانْتِقَالِ مِنَ الْقِيَامِ إِلَى الْقُعُودِ، لِأَنَّ الِاضْطِجَاعَ مُنَافٍ لِتَعْظِيمِ الْعِبَادَاتِ وَلَا سِيَّمَا وَالْمُصَلِّي مُنَاجٍ رَبَّهُ.
وَأَمَّا الْأَعْذَارُ فِي تَرْكِ الْجَمَاعَاتِ وَالْجُمُعَاتِ فَخَفِيفَةٌ، لِأَنَّ الْجَمَاعَاتِ سُنَّةٌ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ، وَالْجُمُعَاتِ بَدَلٌ.
وَأَمَّا الصَّوْمُ فَالْأَعْذَارُ فِيهِ خَفِيفَةٌ كَالسَّفَرِ وَالْمَرَضِ الَّذِي يَشُقُّ الصَّوْمُ مَعَهُ لِمَشَقَّةِ الصَّوْمِ عَلَى الْمُسَافِرِ، وَهَذَانِ عُذْرَانِ خَفِيفَانِ، وَمَا كَانَ أَشَدَّ مِنْهُمَا كَالْخَوْفِ عَلَى الْأَطْرَافِ وَالْأَرْوَاحِ كَانَ أَوْلَى بِجَوَازِ الْفِطْرِ.
وَأَمَّا التَّيَمُّمُ: فَقَدْ جَوَّزَهُ الشَّافِعِيُّ- رحمه الله- تَارَةً بِأَعْذَارٍ خَفِيفَةٍ، وَمَنَعَهُ تَارَةً عَلَى قَوْلٍ بِأَعْذَارٍ أَثْقَلَ مِنْهَا، وَالْأَعْذَارُ عِنْدَهُ رُتَبٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْمَشَقَّةِ.
الرُّتْبَةُ الْأُولَى: مَشَقَّةٌ فَادِحَةٌ كَالْخَوْفِ عَلَى النَّفُوسِ وَالْأَعْضَاءِ، وَمَنَافِعِ الْأَعْضَاءِ فَيُبَاحُ بِهَا التَّيَمُّمُ.
الرُّتْبَةُ الثَّانِيَةُ: مَشَقَّةٌ دُونَ هَذِهِ الْمَشَقَّةِ فِي الرُّتْبَةِ كَالْخَوْفِ مِنْ حُدُوثِ الْمَرَضِ الْمَخُوفِ فَهَذَا مُلْحَقٌ بِالرُّتْبَةِ الْعُلْيَا عَلَى الْأَصَحِّ.
الرُّتْبَةُ الثَّالِثَةُ: خَوْفُ إِبْطَاءِ الْبُرْءِ وَشِدَّةُ الضَّنَى فَفِي إِلْحَاقِهِ بِالرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ خِلَافٌ وَالْأَصَحُّ الْإِلْحَاقُ.
الرُّتْبَةُ الرَّابِعَةُ: خَوْفُ الشَّيْنِ إِنْ كَانَ بَاطِنًا لَمْ يَكُنْ عُذْرًا، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فَفِيهِ خِلَافٌ وَالْمُخْتَارُ الْإِبَاحَةُ، وَقَدْ جَوَّزَ الشَّافِعِيُّ التَّيَمُّمَ بِمَشَاقَّ خَفِيفَةٍ دُونَ هَذِهِ الْمَشَاقِّ.
14- وَلَا تَخْتَصُّ الْمَشَاقُّ بِالْعِبَادَاتِ بَلْ تَجْرِي فِي الْمُعَامَلَاتِ مِثَالُهُ: الْغَرَرُ فِي الْبُيُوعِ وَهُوَ أَيْضًا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا يَعْسُرُ اجْتِنَابُهُ كَبَيْعِ الْفُسْتُقِ وَالْبُنْدُقِ وَالرُّمَّانِ وَالْبِطِّيخِ فِي قُشُورِهَا فَيُعْفَى عَنْهُ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَا يَعْسُرُ اجْتِنَابُهُ فَلَا يُعْفَى عَنْهُ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَقَعُ بَيْنَ الرُّتْبَتَيْنِ وَفِيهِ اخْتِلَافٌ، مِنْهُمْ مَنْ يُلْحِقُهُ بِمَا عَظُمَتْ مَشَقَّتُهُ لِارْتِفَاعِهِ عَمَّا خَفَّتْ مَشَقَّتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْحِقُهُ بِمَا خَفَّتْ مَشَقَّتُهُ لِانْحِطَاطِهِ عَمَّا عَظُمَتْ مَشَقَّتُهُ، إِلاَّ أَنَّهُ تَارَةً يَعْظُمُ الْغَرَرُ فِيهِ فَلَا يُعْفَى عَنْهُ عَلَى الْأَصَحِّ كَبَيْعِ الْجَوْزِ الْأَخْضَرِ فِي قِشْرَتِهِ.
15- وَإِذَا كَانَتِ الْمَشَاقُّ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا هُوَ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الشِّدَّةِ وَإِلَى مَا هُوَ فِي أَدْنَاهَا، وَإِلَى مَا يَتَوَسَّطُ بَيْنَهُمَا، فَكَيْفَ تُعْرَفُ الْمَشَاقُّ الْمُتَوَسِّطَةُ الْمُبِيحَةُ الَّتِي لَا ضَابِطَ لَهَا، مَعَ أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ رَبَطَ التَّخْفِيفَاتِ بِالشَّدِيدِ وَالْأَشَدِّ وَالشَّاقِّ وَالْأَشَقِّ، مَعَ أَنَّ مَعْرِفَةَ الشَّدِيدِ وَالشَّاقِّ مُتَعَذِّرَةٌ لِعَدَمِ الضَّابِطِ؟ وَأَجَابَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِقَوْلِهِ: لَا وَجْهَ لِضَبْطِ هَذَا وَأَمْثَالِهِ إِلاَّ بِالتَّقْرِيبِ، فَإِنَّ مَا لَا يُحَدُّ ضَابِطُهُ لَا يَجُوزُ تَعْطِيلُهُ وَيَجِبُ تَقْرِيبُهُ، فَالْأَوْلَى فِي ضَابِطِ مَشَاقِّ الْعِبَادَاتِ أَنْ تُضْبَطَ مَشَقَّةُ كُلِّ عِبَادَةٍ بِأَدْنَى الْمَشَاقِّ الْمُعْتَبَرَةِ فِي تِلْكَ الْعِبَادَةِ، فَإِنْ كَانَتْ مِثْلَهَا أَوْ أَزْيَدَ ثَبَتَتِ الرُّخْصَةُ بِهَا، وَلَنْ يُعْلَمَ التَّمَاثُلُ إِلاَّ بِالزِّيَادَةِ، إِذْ لَيْسَ فِي قُدْرَةِ الْبَشَرِ الْوُقُوفُ عَلَى تَسَاوِي الْمَشَاقِّ، فَإِذَا زَادَتْ إِحْدَى الْمَشَقَّتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى عُلِمَا أَنَّهُمَا قَدِ اسْتَوَتَا، فَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْمَشَقَّةُ الدُّنْيَا مِنْهُمَا كَانَ ثُبُوتُ التَّخْفِيفِ وَالتَّرْخِيصِ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ أَنَّ التَّأَذِّي بِالْقَمْلِ مُبِيحٌ لِلْحَلْقِ فِي حَقِّ النَّاسِكِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ تَأَذِّيهِ بِالْأَمْرَاضِ بِمِثْلِ مَشَقَّةِ الْقَمْلِ.
كَذَلِكَ سَائِرُ الْمَشَاقِّ الْمُبِيحَةِ لِلُّبْسِ وَالطِّيبِ وَالدُّهْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تُقَرَّبَ الْمَشَاقُّ الْمُبِيحَةُ لِلتَّيَمُّمِ بِأَدْنَى مَشَقَّةٍ أُبِيحَ بِمِثْلِهَا التَّيَمُّمُ، وَفِي هَذَا إِشْكَالٌ، فَإِنَّ مَشَقَّةَ الزِّيَادَةِ الْيَسِيرَةِ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ وَمَشَقَّةَ الِانْقِطَاعِ مِنْ سَفَرِ النُّزْهَةِ خَفِيفَةٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ بِهَا الْأَمْرَاضُ، وَأَمَّا الْمُبِيحُ لِلْفِطْرِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُقَرَّبَ مَشَقَّتُهُ بِمَشَقَّةِ الصِّيَامِ فِي الْحَضَرِ، فَإِذَا شَقَّ الصَّوْمُ مَشَقَّةً تُرْبِي عَلَى مَشَقَّةِ الصَّوْمِ فِي الْحَضَرِ فَلْيَجُزِ الْإِفْطَارُ بِذَلِكَ.
وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا مَقَادِيرُ الْإِغْرَارِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَمِنْهَا تَوَقَانُ الْجَائِعِ إِلَى الطَّعَامِ وَقَدْ حَضَرَتِ الصَّلَاةُ، وَمِنْهَا التَّأَذِّي بِالرِّيَاحِ الْبَارِدَةِ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ، كَذَلِكَ التَّأَذِّي بِالْمَشْيِ فِي الْوَحْلِ.
ضَابِطُ الْمَشَقَّةِ
16- يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْمَشَقَّةُ عَامَّةً، وَوُقُوعُهَا كَثِيرًا، فَلَوْ كَانَ وُقُوعُهَا نَادِرًا لَمْ تُرَاعَ الْمَشَقَّةُ، وَالْمَشَقَّةُ يَخْتَلِفُ ضَابِطُهَا بِاخْتِلَافِ أَعْذَارِهَا، كَمَا فِي التَّيَمُّمِ، إِذْ يُعْدَلُ عَنِ الْمَاءِ إِذَا خِيفَ إِتْلَافُ عُضْوٍ أَوْ بُطْءُ الْبُرْءِ أَوْ شَيْنٌ فَاحِشٌ.
قَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: إِنْ قِيلَ مَا ضَابِطُ الْفِعْلِ الشَّاقِّ الَّذِي يُؤْجَرُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا يُؤْجَرُ عَلَى الْخَفِيفِ؟ قُلْتُ: إِذَا اتَّحَدَ الْفِعْلَانِ فِي الشَّرَفِ وَالشَّرَائِطِ وَالسُّنَنِ وَالْأَرْكَانِ- وَكَانَ أَحَدُهُمَا- شَاقًّا فَقَدِ اسْتَوَيَا فِي أَجْرِهِمَا لِتَسَاوِيهِمَا فِي جَمِيعِ الْوَظَائِفِ وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ لِأَجْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَأُثِيبَ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ لَا عَلَى عَيْنِ الْمَشَاقِّ، إِذْ لَا يَصِحُّ التَّقَرُّبُ بِالْمَشَاقِّ لِأَنَّ الْقُرَبَ كُلَّهَا تَعْظِيمٌ لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَيْسَ عَيْنُ الْمَشَاقِّ تَعْظِيمًا وَلَا تَوْقِيرًا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَحَمَّلَ مَشَقَّةً فِي خِدْمَةِ إِنْسَانٍ فَإِنَّهُ يَرَى ذَلِكَ لَهُ لِأَجْلِ كَوْنِهِ شَقَّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَرَاهُ لَهُ بِسَبَبِ تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ الْخِدْمَةِ لِأَجْلِهِ.
وَيَخْتَلِفُ أَجْرُ تَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ بِشِدَّةِ الْمَشَاقِّ وَخِفَّتِهَا.
وَقَالَ الشَّاطِبِيُّ: كَمَا أَنَّ الْمَشَقَّةَ تَكُونُ دُنْيَوِيَّةً، كَذَلِكَ تَكُونُ أُخْرَوِيَّةً، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ إِذَا كَانَ الدُّخُولُ فِيهَا يُؤَدِّي إِلَى تَعْطِيلِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ فَهُوَ أَشَدُّ مَشَقَّةً- بِاعْتِبَارِ الشَّرْعِ- مِنَ الْمَشَقَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُخِلَّةٍ بِدِينٍ، وَاعْتِبَارُ الدِّينِ مُقَدَّمٌ عَلَى اعْتِبَارِ النَّفْسِ وَالْأَعْضَاءِ وَغَيْرِهَا فِي نَظَرِ الشَّارِعِ، فَالْمَشَقَّةُ الدِّينِيَّةُ مُقَدَّمَةٌ فِي الِاعْتِبَارِ عَلَى الدُّنْيَوِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ لِلشَّارِعِ قَصْدٌ فِي إِدْخَالِ الْمَشَقَّةِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ.
فَالْمَشَقَّةُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ تَكُونُ غَيْرَ مَطْلُوبَةٍ وَلَا الْعَمَلُ الْمُؤَدِّي إِلَى الْمَشَقَّةِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْمُعْتَادِ مَطْلُوبًا، فَقَدْ نَشَأَ هُنَا نَظَرٌ فِي تَعَارُضِ مَشَقَّتَيْنِ، فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ إِنْ لَزِمَ مِنِ اشْتِغَالِهِ بِنَفْسِهِ فَسَادٌ وَمَشَقَّةٌ لِغَيْرِهِ فَيَلْزَمُ أَيْضًا مِنَ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهِ فَسَادٌ وَمَشَقَّةٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَصَدَّى النَّظَرُ فِي وَجْهِ اجْتِمَاعِ الْمَصْلَحَتَيْنِ مَعَ انْتِفَاءِ الْمَشَقَّتَيْنِ إِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّرْجِيحِ، فَإِذَا كَانَتِ الْمَشَقَّةُ الْعَامَّةُ أَعْظَمَ اعْتُبِرَ جَانِبُهَا وَأُهْمِلَ جَانِبُ الْخَاصَّةِ.
ثُمَّ إِنَّ الْمَشَقَّةَ فِي الْأَعْمَالِ الْمُعْتَادَةِ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ فَلَيْسَتِ الْمَشَقَّةُ فِي صَلَاةِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ كَالْمَشَقَّةِ فِي رَكْعَتَيِ الصُّبْحِ، وَلَا الْمَشَقَّةُ فِي الصَّلَاةِ كَالْمَشَقَّةِ فِي الصِّيَامِ وَلَا الْمَشَقَّةُ فِي الصِّيَامِ كَالْمَشَقَّةِ فِي الْحَجِّ، وَلَا الْمَشَقَّةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَالْمَشَقَّةِ فِي الْجِهَادِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ التَّكْلِيفِ وَلَكِنْ كُلُّ عَمَلٍ فِي نَفْسِهِ لَهُ مَشَقَّةٌ مُعْتَادَةٌ فِيهِ، تُوَازِي مَشَقَّةَ مِثْلِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ.
الْمَوَاطِنُ الَّتِي تُظَنُّ فِيهَا الْمَشَقَّةُ وَالْأَحْكَامُ الْمَنُوطَةُ بِهَا:
17- شَرَعَ الْإِسْلَامُ أَنْوَاعًا مِنَ الرُّخَصِ لِظُرُوفٍ تُوجِدُ لِلْمُكَلَّفِ نَوْعًا مِنَ الْمَشَقَّةِ الَّتِي تُثْقِلُ كَاهِلَهُ وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَسْبَابَ التَّخْفِيفِ فِي الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا الَّتِي بُنِيَتْ عَلَى الْأَعْذَارِ وَقَدْ رَخَّصَ الشَّارِعُ لِأَصْحَابِهَا بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَالْحُدُودِ وَغَيْرِهَا، فَكُلُّ مَا تَعَسَّرَ أَمْرُهُ وَشَقَّ عَلَى الْمُكَلَّفِ وَضْعُهُ خَفَّفَتْهُ الشَّرِيعَةُ وَمِنْ أَهَمِّ هَذِهِ الْأَعْذَارِ الَّتِي جُعِلَتْ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ عَنِ الْعِبَادِ وَالْمَوَاطِنِ الَّتِي تُظَنُّ فِيهَا الْمَشَقَّةُ هِيَ: السَّفَرُ- الْمَرَضُ- الْحَمْلُ- الْإِرْضَاعُ- الشَّيْخُوخَةُ وَالْهَرَمُ- الْإِكْرَاهُ- النِّسْيَانُ- الْجَهْلُ- الْعُسْرُ وَعُمُومُ الْبَلْوَى- النَّقْصُ.
أ- السَّفَرُ:
18- السَّفَرُ سَبَبٌ لِلتَّخْفِيفِ، لِمَا فِيهِ مِنْ مَشَقَّةٍ، وَلِحَاجَةِ الْمُسَافِرِ إِلَى التَّقَلُّبِ فِي حَاجَاتِهِ، وَيُعْتَبَرُ السَّفَرُ مِنْ أَسْبَابِ الْمَشَقَّةِ فِي الْغَالِبِ فَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ نَفْسُ السَّفَرِ سَبَبًا لِلرُّخَصِ وَأُقِيمَ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (سَفَرٌ ف 5 وَمَا بَعْدَهَا)، وَمُصْطَلَحَاتِ: (صَلَاةُ الْمُسَافِرِ، وَصَوْمٌ، وَتَطَوُّعٌ، وَتَيَمُّمٌ).
ب- الْمَرَضُ:
19- قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمَرِيضُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ بَدَنُهُ عَنْ حَدِّ الِاعْتِدَالِ وَالِاعْتِيَادِ فَيَضْعُفُ عَنِ الْقِيَامِ بِالْمَطْلُوبِ.
وَقَدْ خَصَّتِ الشَّرِيعَةُ الْمَرِيضَ بِحَظِّ وَافِرٍ مِنَ التَّخْفِيفِ لِأَنَّ الْمَرَضَ مَظِنَّةٌ لِلْعَجْزِ فَخَفَّفَ عَنْهُ الشَّارِعُ.
وَلِلْمَرِيضِ رُخَصٌ كَثِيرَةٌ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَيْسِيرٌ ف 32).
ج- الشَّيْخُوخَةُ وَالْهَرَمُ:
20- لَقَدْ خَفَّفَ الشَّارِعُ عَنِ الشَّيْخِ الْهَرَمِ، فَخَصَّهُ بِجَوَازِ إِخْرَاجِ الْفِدْيَةِ بَدَلًا عَنِ الصِّيَامِ الَّذِي عَجَزَ عَنْ أَدَائِهِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاء ِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ وَأَنَّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ إِذَا كَانَ الصَّوْمُ يُجْهِدُهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ مَشَقَّةً شَدِيدَةً.
5- جَوَازُ الْفِطْرِ لِلْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ فِي رَمَضَانَ
21- اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْحَامِلَ وَالْمُرْضِعَ لَهُمَا أَنْ تُفْطِرَا فِي رَمَضَانَ بِشَرْطِ أَنْ تَخَافَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ عَلَى وَلَدِهِمَا الْمَرَضَ أَوْ زِيَادَتَهُ أَوِ الضَّرَرَ أَوِ الْهَلَاكَ وَالْمَشَقَّةَ.
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى كَرَاهَةِ صَوْمِهِمَا كَالْمَرِيضِ.
وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْحَمْلَ مَرَضٌ حَقِيقَةً، وَالرَّضَاعُ فِي حُكْمِ الْمَرَضِ وَلَيْسَ مَرَضًا حَقِيقَةً.
هـ- الْإِكْرَاهُ:
22- الْإِكْرَاهُ هُوَ حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى أَمْرٍ لَا يَرْضَاهُ، وَذَلِكَ بِتَهْدِيدِهِ بِالْقَتْلِ أَوْ بِقَطْعِ طَرَفٍ أَوْ نَحْوِهِمَا إِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا يُطْلَبُ مِنْهُ.
وَقَدْ عَدَّ الشَّارِعُ الْإِكْرَاهَ بِغَيْرِ حَقٍّ عُذْرًا مِنَ الْأَعْذَارِ الْمُخَفَّفَةِ الَّتِي تَسْقُطُ بِهَا الْمُؤَاخَذَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَتُخَفِّفُ عَنِ الْمُكْرَهِ مَا يُنْتَجُ عَمَّا أُكْرِهَ عَلَيْهِ مِنْ آثَارٍ دُنْيَوِيَّةٍ أَوْ أُخْرَوِيَّةٍ بِحُدُودِهِ.
وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (إِكْرَاهٌ ف 6 و 12).
وَنَصَّ السُّيُوطِيُّ عَلَى أَنَّ الْفِطْرَ فِي رَمَضَانَ مُبَاحٌ بِالْإِكْرَاهِ بَلْ يَجِبُ عَلَى الصَّحِيحِ.
و- النِّسْيَانُ:
23- النِّسْيَانُ هُوَ جَهْلٌ ضَرُورِيٌّ بِمَا كَانَ يَعْلَمُهُ، لَا بِآفَةٍ مَعَ عِلْمِهِ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ.
وَقَدْ جَعَلَتْهُ الشَّرِيعَةُ عُذْرًا وَسَبَبًا مُخَفَّفًا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَفَعَ عَنَّا إِثْمَ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ غَيْرِ الْمَقْصُودِ، فَفِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ يُعْذَرُ النَّاسُ وَيُرْفَعُ عَنْهُمُ الْإِثْمُ مُطْلَقًا فَالنِّسْيَانُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ السُّيُوطِيُّ: مُسْقِطٌ لِلْإِثْمِ مُطْلَقًا وَذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَيَقُولُ الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم-: «تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».
أَمَّا النِّسْيَانُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَلَا يُعَدُّ عُذْرًا مُخَفَّفًا، لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ، وَحُقُوقَ الْعِبَادِ مَبْنَاهَا عَلَى الْمُشَاحَّةِ وَالْمُطَالَبَةِ، فَلَا يَكُونُ النِّسْيَانُ عُذْرًا فِيهَا.
وَلِلتَّفْصِيلِ انْظُرْ مُصْطَلَحَ (نِسْيَانٌ).
ز- الْجَهْلُ:
24- الْجَهْلُ هُوَ: عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ بِأَسْبَابِهَا.
وَيُعْتَبَرُ الْجَهْلُ عُذْرًا مُخَفَّفًا فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ، فَلَا إِثْمَ عَلَى مَنْ فَعَلَ الْمُحَرَّمَ أَوْ تَرَكَ الْوَاجِبَ جَاهِلًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ: (جَهْلٌ ف 5) ح- الْعُسْرُ وَعُمُومُ الْبَلْوَى:
25- يَدْخُلُ فِي الْعُسْرِ الْأَعْذَارُ الْغَالِبَةُ الَّتِي تَكْثُرُ الْبَلْوَى بِهَا وَتَعُمُّ فِي النَّاسِ دُونَ مَا كَانَ مِنْهَا نَادِرًا.
وَالتَّفْصِيلُ فِي مُصْطَلَحِ (تَيْسِيرٌ ف 38).
ط- النَّقْصُ:
26- النَّقْصُ نَوْعٌ مِنَ الْمَشَقَّةِ، إِذِ النَّفُوسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ الْكَمَالِ وَيُنَاسِبُ النَّقْصَ التَّخْفِيفُ فِي التَّكْلِيفَاتِ، فَمَنْ ذَلِكَ عَدَمُ تَكْلِيفِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَفُوِّضَ أَمْرُ أَحْوَالِهِمَا إِلَى الْوَلِيِّ وَتَرْبِيَتِهِ، وَحَضَانَتِهِ إِلَى النِّسَاءِ رَحْمَةً بِهِ وَلَمْ يُجْبِرُهُنَّ عَلَى الْحَضَانَةِ، وَمِنْهُ عَدَمُ تَكْلِيفِ النِّسَاءِ بِكَثِيرٍ مِمَّا وَجَبَ عَلَى الرِّجَالِ كَالْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ وَالشَّهَادَةِ وَالْجِزْيَةِ وَتَحَمُّلِ الْعَقْلِ وَإِبَاحَةِ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَحُلِيِّ الذَّهَبِ، وَعَدَمِ تَكْلِيفِ الْعَبِيدِ بِكَثِيرٍ مِمَّا وَجَبَ عَلَى الْأَحْرَارِ لِكَوْنِهِ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الْحُرِّ فِي الْحُدُودِ وَالْعَدَدِ.
(
موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م
