نتائج البحث عن (نَفَاهَا)

1-موسوعة الفقه الكويتية (استنجاء 1)

اسْتِنْجَاء -1

التَّعْرِيفُ:

1- مِنْ مَعَانِي الِاسْتِنْجَاءِ: الْخَلَاصُ مِنَ الشَّيْءِ، يُقَالُ: اسْتَنْجَى حَاجَتَهُ مِنْهُ، أَيْ خَلَّصَهَا.وَالنَّجْوَةُ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ فَلَمْ يُعْلِهَا السَّيْلُ، فَظَنَنْتَهَا نَجَاءَكَ.

وَأَنْجَيْتُ الشَّجَرَةَ وَاسْتَنْجَيْتُهَا: قَطَعْتُهَا مِنْ أَصْلِهَا.

وَمَأْخَذُ الِاسْتِنْجَاءِ فِي الطَّهَارَةِ، قَالَ شِمْرٌ: أَرَاهُ مِنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِمَعْنَى الْقَطْعِ، لِقَطْعِهِ الْعَذِرَةَ بِالْمَاءِ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: مَأْخُوذٌ مِنَ النَّجْوَةِ وَهِيَ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ إِذَا أَرَادَ قَضَاءَ الْحَاجَةِ اسْتَتَرَ بِهَا.

وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ الِاسْتِنْجَاءِ اصْطِلَاحًا، وَكُلُّهَا تَلْتَقِي عَلَى أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ إزَالَةُ مَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ، سَوَاءٌ بِالْغَسْلِ أَوِ الْمَسْحِ بِالْحِجَارَةِ وَنَحْوِهَا عَنْ مَوْضِعِ الْخُرُوجِ وَمَا قَرُبَ مِنْهُ.

وَلَيْسَ غَسْلُ النَّجَاسَةِ عَنِ الْبَدَنِ أَوْ عَنِ الثَّوْبِ اسْتِنْجَاءً.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الِاسْتِطَابَةُ:

2- الِاسْتِطَابَةُ هِيَ بِمَعْنَى الِاسْتِنْجَاءِ، تَشْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ وَالْحِجَارَةِ.وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، فَتَكُونُ حِينَئِذٍ أَخَصَّ مِنْ الِاسْتِنْجَاءِ.وَأَصْلُهَا مِنَ الطِّيبِ، لِأَنَّهَا تُطَيِّبُ الْمَحَلَّ بِإِزَالَةِ مَا فِيهِ مِنَ الْأَذَى، وَلِذَا يُقَالُ فِيهَا أَيْضًا الْإِطَابَةُ.

ب- الِاسْتِجْمَارُ:

3- الْجِمَارُ: الْحِجَارَةُ، جَمْعُ جَمْرَةٍ وَهِيَ الْحَصَاةُ.

وَمَعْنَى الِاسْتِجْمَارِ: اسْتِعْمَالُ الْحِجَارَةِ وَنَحْوِهَا فِي إزَالَةِ مَا عَلَى السَّبِيلَيْنِ مِنَ النَّجَاسَةِ.

ج- الِاسْتِبْرَاءُ:

4- الِاسْتِبْرَاءُ لُغَةً: طَلَبُ الْبَرَاءَةِ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ: طَلَبُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْخَارِجِ بِمَا تَعَارَفَهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَشْيٍ أَوْ تَنَحْنُحٍ أَوْ غَيْرِهِمَا إِلَى أَنْ تَنْقَطِعَ الْمَادَّةُ، فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ مَاهِيَّةِ الِاسْتِنْجَاءِ، لِأَنَّهُ مُقَدِّمَةٌ لَهُ.

د- الِاسْتِنْقَاءُ:

5- الِاسْتِنْقَاءُ: طَلَبُ النَّقَاوَةِ، وَهُوَ أَنْ يَدْلُكَ الْمَقْعَدَةَ بِالْأَحْجَارِ، أَوْ بِالْأَصَابِعِ حَالَةَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ حَتَّى يُنَقِّيَهَا، فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الِاسْتِنْجَاءِ، وَمِثْلُهُ الْإِنْقَاءُ.قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: هُوَ أَنْ تَذْهَبَ لُزُوجَةُ النَّجَاسَةِ وَآثَارُهَا.

حُكْمُ الِاسْتِنْجَاءِ:

6- فِي حُكْمِ الِاسْتِنْجَاءِ- مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ- رَأْيَانِ لِلْفُقَهَاءِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ وَاجِبٌ إِذَا وُجِدَ سَبَبُهُ، وَهُوَ الْخَارِجُ، وَهُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْغَائِطِ فَلْيَذْهَبْ مَعَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، يَسْتَطِيبُ بِهِنَّ، فَإِنَّهَا تُجْزِي عَنْهُ» وَقَوْلِهِ: «لَا يَسْتَنْجِي أَحَدُكُمْ بِدُونِ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي لَفْظٍ لَهُ: «لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِدُونِ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ»، قَالُوا: وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ أَمْرٌ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ.وَقَالَ: «فَإِنَّهَا تُجْزِي عَنْهُ» وَالْإِجْزَاءُ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاجِبِ، وَنَهَى عَنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، وَإِذَا حَرَّمَ تَرْكَ بَعْضِ النَّجَاسَةِ فَجَمِيعُهَا أَوْلَى.

7- الرَّأْيُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَسْنُونٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ.وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ.فَفِي مُنْيَةِ الْمُصَلِّي: الِاسْتِنْجَاءُ مُطْلَقًا سُنَّةٌ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ مِنْ كَوْنِهِ بِالْحَجَرِ أَوْ بِالْمَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.وَنَقَلَ صَاحِبُ الْمُغْنِي مِنْ قَوْلِ ابْنِ سِيرِينَ فِيمَنْ صَلَّى بِقَوْمٍ وَلَمْ يَسْتَنْجِ، قَالَ: لَا أَعْلَمُ بِهِ بَأْسًا.

قَالَ الْمُوَفَّقُ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَرَ وُجُوبَ الِاسْتِنْجَاءِ.

وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ بِمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- «مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ» قَالَ فِي مَجْمَعِ الْأَنْهُرِ: لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا انْتَفَى الْحَرَجُ عَنْ تَارِكِهِ.

وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّهُ نَجَاسَةٌ قَلِيلَةٌ، وَالنَّجَاسَةُ الْقَلِيلَةُ عَفْوٌ.

وَفِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ لِلْحَنَفِيَّةِ: الِاسْتِنْجَاءُ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ.أَرْبَعَةٌ فَرِيضَةٌ: مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْجَنَابَةِ، وَإِذَا تَجَاوَزَتِ النَّجَاسَةُ مَخْرَجَهَا.وَوَاحِدٌ سُنَّةٌ، وَهُوَ مَا إِذَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ قَدْرَ الْمَخْرَجِ.

وَقَدْ رَفَضَ ابْنُ نُجَيْمٍ هَذَا التَّقْسِيمَ، وَقَرَّرَ أَنَّ الثَّلَاثَةَ هِيَ مِنْ بَابِ إِزَالَةِ الْحَدَثِ، وَالرَّابِعُ مِنْ بَابِ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْعَيْنِيَّةِ عَنِ الْبَدَنِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاسْتِنْجَاءِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ الْقِسْمُ الْمَسْنُونُ.

وَأَقَرَّ ابْنُ عَابِدِينَ التَّقْرِيرَ.

وَقَالَ الْقَرَافِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الِاسْتِنْجَاءَ وَصَلَّى بِالنَّجَاسَةِ أَعَادَ، قَالَ: وَلِمَالِكٍ- رحمه الله- فِي الْعُتْبِيَّةِ: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ: «مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ» وَقَالَ: الْوِتْرُ يَتَنَاوَلُ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ، فَإِذَا نَفَاهَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ، وَلِأَنَّهُ مَحَلٌّ تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَيُعْفَى عَنْهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ عِنْدَ مَالِكٍ قَوْلًا بِعَدَمِ الْوُجُوبِ.

ثُمَّ هُوَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِمُوَاظَبَتِهِ- صلى الله عليه وسلم-.

وَبَنَى ابْنُ عَابِدِينَ عَلَى ذَلِكَ كَرَاهَةَ تَرْكِهِ، وَنَقَلَهُ أَيْضًا عَنِ الْبَدَائِعِ.وَنَقَلَ عَنِ الْخُلَاصَةِ وَالْحِلْيَةِ نَفْيَ الْكَرَاهَةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لَا سُنَّةٌ، بِخِلَافِ النَّجَاسَةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْحَدَثِ فَتَرْكُهَا يُكْرَهُ.

وَقْتُ وُجُوبِ الِاسْتِنْجَاءِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِهِ:

8- إِنَّ وُجُوبَ الِاسْتِنْجَاءِ إِنَّمَا هُوَ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ.وَلِذَا قَالَ الشَّبْرَامَلُّسِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَجِبُ الِاسْتِنْجَاءُ عَلَى الْفَوْرِ، بَلْ عِنْدَ الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، بِأَنْ دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ فِعْلَهَا فِي أَوَّلِهِ.فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَجَبَ وُجُوبًا مُوَسَّعًا بِسَعَةِ الْوَقْتِ، وَمُضَيَّقًا بِضِيقِهِ.

ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ، إِنْ قَضَى حَاجَتَهُ فِي الْوَقْتِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ، وَجَبَ اسْتِعْمَالُ الْحَجَرِ فَوْرًا.

عَلَاقَةُ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْوُضُوءِ، وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَهُمَا:

9- الِاسْتِنْجَاءُ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ قَبْلَهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالرِّوَايَةُ الْمُعْتَمَدَةُ لِلْحَنَابِلَةِ، فَلَوْ أَخَّرَهُ عَنْهُ جَازَ وَفَاتَتْهُ السُّنِّيَّةُ، لِأَنَّهُ إِزَالَةُ نَجَاسَةٍ، فَلَمْ تُشْتَرَطْ لِصِحَّةِ الطَّهَارَةِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ الْفَرْجِ.

وَصَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ، وَإِنِ اسْتَحَبُّوا تَقْدِيمَهُ عَلَيْهِ.

أَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: فَالِاسْتِنْجَاءُ قَبْلَ الْوُضُوءِ- إِذَا وُجِدَ سَبَبُهُ- شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ.فَلَوْ تَوَضَّأَ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ لَمْ يَصِحَّ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ اقْتَصَرَ صَاحِبُ كَشَّافِ الْقِنَاعِ.

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَهَذَا فِي حَقِّ السَّلِيمِ، أَمَّا فِي حَقِّ صَاحِبِ الضَّرُورَةِ- يَعْنُونَ صَاحِبَ السَّلَسِ وَنَحْوِهِ- فَيَجِبُ تَقْدِيمُ الِاسْتِنْجَاءِ عَلَى الْوُضُوءِ.

وَعَلَى هَذَا، فَإِذَا تَوَضَّأَ السَّلِيمُ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ، يَسْتَجْمِرُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْأَحْجَارِ، أَوْ يَغْسِلُهُ بِحَائِلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَا يَمَسُّ الْفَرْجَ.وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الْأُخْرَى لَا تَأْبَى ذَلِكَ التَّفْصِيلَ.

عَلَاقَةُ الِاسْتِنْجَاءِ بِالتَّيَمُّمِ، وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَهُمَا:

10- لِلْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ اتِّجَاهَانِ:

الِاتِّجَاهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمُ الِاسْتِجْمَارِ عَلَى التَّيَمُّمِ، وَهَذَا رَأْيُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَحَدُ احْتِمَالَيْنِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

وَعَلَّلَ الْقَرَافِيُّ ذَلِكَ بِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَّصِلَ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا تَيَمَّمَ ثُمَّ اسْتَنْجَى فَقَدْ فَرَّقَهُ بِإِزَالَةِ النَّجْوِ.

وَعَلَّلَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى ذَلِكَ بِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، وَإِنَّمَا تُسْتَبَاحُ بِهِ الصَّلَاةُ، وَمَنْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ يُمْكِنُهُ إِزَالَتُهَا لَا تُبَاحُ لَهُ الصَّلَاةُ، فَلَمْ تَصِحَّ نِيَّةُ الِاسْتِبَاحَةِ، كَمَا لَوْ تَيَمَّمَ قَبْلَ الْوَقْتِ.

وَالِاتِّجَاهُ الثَّانِي: أَنَّ التَّرْتِيبَ هُنَا لَا يَجِبُ، وَهُوَ الِاحْتِمَالُ الثَّانِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِلْحَنَابِلَةِ.قَالَ الْقَرَافِيُّ: كَمَا لَوْ تَيَمَّمَ ثُمَّ وَطِئَ نَعْلَهُ عَلَى رَوْثٍ، فَإِنَّهُ يَمْسَحُهُ وَيُصَلِّي.وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ فَأَشْبَهَتِ الْوُضُوءَ، وَالْمَنْعُ مِنَ الْإِبَاحَةِ لِمَانِعٍ آخَرَ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ التَّيَمُّمِ، كَمَا لَوْ تَيَمَّمَ فِي مَوْضِعٍ نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ، أَوْ تَيَمَّمَ وَعَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ.

وَقِيلَ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: لَا يَصِحُّ تَأْخِيرُهُ عَنِ التَّيَمُّمِ قَوْلًا وَاحِدًا.

حُكْمُ اسْتِنْجَاءِ مَنْ بِهِ حَدَثٌ دَائِمٌ:

11- مَنْ كَانَ بِهِ حَدَثٌ دَائِمٌ، كَمَنْ بِهِ سَلَسُ بَوْلٍ وَنَحْوِهِ، يُخَفَّفُ فِي شَأْنِهِ حُكْمُ الِاسْتِنْجَاءِ، كَمَا يُخَفَّفُ حُكْمُ الْوُضُوءِ.

فَفِي قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يَسْتَنْجِي وَيَتَحَفَّظُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ.فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ لَمْ يَلْزَمْهُ إِعَادَةُ الِاسْتِنْجَاءِ وَالْوُضُوءِ بِسَبَبِ السَّلَسِ وَنَحْوِهِ، مَا لَمْ يَخْرُجِ الْوَقْتُ عَلَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الْحَنَابِلَةِ.أَوْ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى عَلَى الْمُعْتَمَدِ مِنْ قَوْلَيِ الْحَنَابِلَةِ.

وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْمَالِكِيَّةِ: فَلَا يَلْزَمُ مَنْ بِهِ السَّلَسُ التَّوَضُّؤُ مِنْهُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، بَلْ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ مَا لَمْ يَشُقَّ، فَعِنْدَهُمْ أَنَّ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَدَثِ إِذَا كَانَ مُسْتَنْكِحًا- أَيْ كَثِيرًا يُلَازِمُ كُلَّ الزَّمَنِ أَوْ جُلَّهُ، بِأَنْ يَأْتِيَ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً فَأَكْثَرَ- فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ غَسْلُ مَا أَصَابَ مِنْهُ وَلَا يُسَنُّ، وَإِنْ نَقَضَ الْوُضُوءَ وَأَبْطَلَ الصَّلَاةَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ غَائِطًا، أَمْ بَوْلًا، أَمْ مَذْيًا، أَمْ غَيْرَ ذَلِكَ.

مَا يُسْتَنْجَى مِنْهُ:

12- أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ الْمُعْتَادَ النَّجِسَ الْمُلَوِّثَ يُسْتَنْجَى مِنْهُ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ.أَمَّا مَا عَدَاهُ فَفِيهِ خِلَافٌ، وَتَفْصِيلٌ بَيَانُهُ فِيمَا يَلِي:

الْخَارِجُ غَيْرُ الْمُعْتَادِ:

13- الْخَارِجُ غَيْرُ الْمُعْتَادِ كَالْحَصَى وَالدُّودِ وَالشَّعْرِ، لَا يُسْتَنْجَى مِنْهُ إِذَا خَرَجَ جَافًّا، طَاهِرًا كَانَ أَوْ نَجِسًا.

أَمَّا إِذَا كَانَ بِهِ بِلَّةٌ وَلَوَّثَ الْمَحَلَّ فَيُسْتَنْجَى مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يُلَوِّثِ الْمَحَلَّ فَلَا يُسْتَنْجَى مِنْهُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْمُقَدَّمُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

وَالْقَوْلُ الْآخَرُ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: يُسْتَنْجَى مِنْ كُلِّ مَا خَرَجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ غَيْرِ الرِّيحِ.

الدَّمُ وَالْقَيْحُ وَشَبَهُهُمَا مِنْ غَيْرِ الْمُعْتَادِ:

14- إنْ خَرَجَ الدَّمُ أَوِ الْقَيْحُ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ كَسَائِرِ النَّجَاسَاتِ، وَلَا يَكْفِي فِيهِ الِاسْتِجْمَارُ.وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّجَاسَةِ الْغَسْلُ، وَتَرْكُ ذَلِكَ فِي الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا، لِنُدْرَةِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْخَارِجِ.

وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ أَيْضًا بِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- «أَمَرَ بِغَسْلِ الذَّكَرِ مِنَ الْمَذْيِ» وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ.قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: اسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْآثَارَ كُلَّهَا عَلَى اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهَا وَأَسَانِيدِهَا لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الِاسْتِجْمَارِ، إِنَّمَا هُوَ الْغَسْلُ.كَالْأَمْرِ بِالْغَسْلِ مِنَ الْمَذْيِ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُجْزِئُ فِيهِ الِاسْتِجْمَارُ، وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَقَوْلٌ لِكُلٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَهَذَا إنْ لَمْ يَخْتَلِطْ بِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ.

وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ، أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَشُقَّ فِيهِ الْغَسْلُ لِعَدَمِ تَكَرُّرِهِ، فَهُوَ مَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ.وَأَمَّا الْمَذْيُ فَمُعْتَادٌ كَثِيرٌ، وَيَجِبُ غَسْلُ الذَّكَرِ مِنْهُ تَعَبُّدًا، وَقِيلَ: لَا يَجِبُ.

مَا خَرَجَ مِنْ مَخْرَجٍ بَدِيلٍ عَنِ السَّبِيلَيْنِ:

15- إِذَا انْفَتَحَ مَخْرَجٌ لِلْحَدَثِ، وَصَارَ مُعْتَادًا، اسْتَجْمَرَ مِنْهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَلَا يَلْحَقُ بِالْجَسَدِ، لِأَنَّهُ أَصْبَحَ مُعْتَادًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِذَا انْسَدَّ الْمَخْرَجُ الْمُعْتَادُ وَانْفَتَحَ آخَرُ، لَمْ يُجْزِئْهُ الِاسْتِجْمَارُ فِيهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ السَّبِيلِ الْمُعْتَادِ.وَفِي قَوْلٍ لَهُمْ: يُجْزِئُ.

وَلَمْ يُعْثَرْ عَلَى قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

الْمَذْيُ:

16- الْمَذْيُ نَجِسٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، فَهُوَ مِمَّا يُسْتَنْجَى مِنْهُ كَغَيْرِهِ، بِالْمَاءِ أَوْ بِالْأَحْجَارِ.وَيُجْزِئُ الِاسْتِجْمَارُ أَوْ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ مِنْهُ.وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي قَوْلٍ هُوَ خِلَافُ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.

أَمَّا فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَيَتَعَيَّنُ فِيهِ الْمَاءُ وَلَا يُجْزِئُ الْحَجَرُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا- رضي الله عنه- قَالَ: «كُنْت رَجُلًا مَذَّاءً، فَاسْتَحْيَتْ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِمَكَانِ ابْنَتِهِ، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيْهِ وَيَتَوَضَّأُ».وَفِي لَفْظٍ «يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ».

وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْغُسْلُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا خَرَجَ بِلَذَّةٍ مُعْتَادَةٍ، أَمَّا إِنْ خَرَجَ بِلَا لَذَّةٍ أَصْلًا فَإِنَّهُ يَكْفِي فِيهِ الْحَجَرُ، مَا لَمْ يَكُنْ يَأْتِي كُلَّ يَوْمٍ عَلَى وَجْهِ السَّلَسِ، فَلَا يُطْلَبُ فِي إِزَالَتِهِ مَاءٌ وَلَا حَجَرٌ، بَلْ يُعْفَى عَنْهُ.

الْوَدْيُ:

17- الْوَدْيُ خَارِجٌ نَجِسٌ، وَيَجْزِي فِيهِ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ أَوْ بِالْأَحْجَارِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ.

الرِّيحُ:

18- لَا اسْتِنْجَاءَ مِنَ الرِّيحِ.صَرَّحَ بِذَلِكَ فُقَهَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ.فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: هُوَ بِدْعَةٌ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ عِنْدَهُمْ مُحَرَّمٌ، وَمِثْلُهُ مَا قَالَهُ الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، بَلْ يَحْرُمُ، لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ فَاسِدَةٌ.

وَيُكْرَهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.قَالَ الدُّسُوقِيُّ: لِقَوْلِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ مِنَّا مَنِ اسْتَنْجَى مِنْ رِيحٍ» وَالنَّهْيُ لِلْكَرَاهَةِ.وَقَالَ صَاحِبُ نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَجِبُ وَلَا يُسْتَحَبُّ الِاسْتِنْجَاءُ مِنَ الرِّيحِ وَلَوْ كَانَ الْمَحَلُّ رَطْبًا.وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ الْمَكِّيُّ: يُكْرَهُ مِنَ الرِّيحِ إِلاَّ إِنْ خَرَجَتْ وَالْمَحَلُّ رَطْبٌ.

وَاَلَّذِي عَبَّرَ بِهِ الْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ مِنْهَا، وَمُقْتَضَى اسْتِدْلَالِهِمُ الْآتِي الْكَرَاهَةُ عَلَى الْأَقَلِّ.

قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: لِلْحَدِيثِ «مَنِ اسْتَنْجَى مِنْ رِيحٍ فَلَيْسَ مِنَّا» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الصَّغِيرِ.

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}.الْآيَةَ إِذَا قُمْتُمْ مِنَ النَّوْمِ.وَلَمْ يَأْمُرْ بِغَيْرِهِ، يَعْنِي فَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لأَمَرَ بِهِ، لِأَنَّ النَّوْمَ مَظِنَّةُ خُرُوجِ الرِّيحِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ، وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ مِنَ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَرِدْ بِالِاسْتِنْجَاءِ هَاهُنَا نَصٌّ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ شُرِعَ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَلَا نَجَاسَةَ هَاهُنَا.

الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ:

19- يُسْتَحَبُّ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ.وَقَدْ وَرَدَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إنْكَارُ الِاسْتِنْجَاءِ بِهِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَطْعُومٌ.

وَالْحُجَّةُ لِإِجْزَاءِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ مَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- يَدْخُلُ الْخَلَاءَ، فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلَامٌ نَحْوِي إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ وَعَنَزَةً، فَيَسْتَنْجِيَ بِالْمَاءِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.وَعَنْ «عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مُرْنَ أَزْوَاجَكُنَّ أَنْ يَسْتَطِيبُوا بِالْمَاءِ فَإِنِّي أَسْتَحْيِيهِمْ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَفْعَلُهُ».

وَقَدْ حَمَلَ الْمَالِكِيَّةُ مَا وَرَدَ عَنِ السَّلَفِ مِنْ إِنْكَارِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ بِأَنَّهُ فِي حَقِّ مَنْ أَوْجَبَ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ.

وَحَمَلَ صَاحِبُ كِفَايَةِ الطَّالِبِ مَا وَرَدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مِنْ قَوْلِهِ: وَهَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلاَّ النِّسَاءُ؟ عَلَى أَنَّهُ مِنْ وَاجِبِهِنَّ.

الِاسْتِنْجَاءُ بِغَيْرِ الْمَاءِ مِنَ الْمَائِعَاتِ:

20- لَا يُجْزِئُ الِاسْتِنْجَاءُ بِغَيْرِ الْمَاءِ مِنَ الْمَائِعَاتِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ: الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ تُعَدُّ ضَعِيفَةً فِي الْمَذْهَبِ.

قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: بَلْ يَحْرُمُ الِاسْتِنْجَاءُ بِمَائِعٍ غَيْرِ الْمَاءِ لِنَشْرِهِ النَّجَاسَةَ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَتِمَّ الِاسْتِنْجَاءُ- كَمَا فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ- بِكُلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ مُزِيلٍ، كَالْخَلِّ وَمَاءِ الْوَرْدِ، دُونَ مَا لَا يُزِيلُ كَالزَّيْتِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ تَحَقَّقَ، وَهُوَ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ.

ثُمَّ قَدْ قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: يُكْرَهُ الِاسْتِنْجَاءُ بِمَائِعٍ غَيْرِ الْمَاءِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ بِلَا ضَرُورَةٍ.

أَفْضَلِيَّةُ الْغَسْلِ بِالْمَاءِ عَلَى الِاسْتِجْمَارِ:

21- إِنَّ غَسْلَ الْمَحَلِّ بِالْمَاءِ أَفْضَلُ مِنْ الِاسْتِجْمَارِ، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِنْقَاءِ، وَلِإِزَالَتِهِ عَيْنَ النَّجَاسَةِ وَأَثَرَهَا.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: الْأَحْجَارُ أَفْضَلُ، ذَكَرَهَا صَاحِبُ الْفُرُوعِ.وَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنِ اسْتَجْمَرَ ثُمَّ غَسَلَ كَانَ أَفْضَل مِنَ الْكُلِّ بِالِاتِّفَاقِ.

وَبَيَّنَ النَّوَوِيُّ وَجْهَ الْأَفْضَلِيَّةِ بِقَوْلِهِ: تَقْدِيمُ الْأَحْجَارِ لِتَقِلَّ مُبَاشَرَةُ النَّجَاسَةِ وَاسْتِعْمَالُ الْمَاءِ، فَلَوِ اسْتَعْمَلَ الْمَاءَ أَوَّلًا لَمْ يَسْتَعْمِلِ الْحِجَارَةَ بَعْدَهُ، لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ.وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ التَّرْتِيبُ بِتَقْدِيمِ الِاسْتِجْمَارِ عَلَى الْغَسْلِ مُسْتَحَبٌّ، وَإِنْ قَدَّمَ الْمَاءَ وَأَتْبَعَهُ الْحِجَارَةَ كُرِهَ، لِقَوْلِ عَائِشَةَ: «مُرْنَ أَزْوَاجَكُنَّ أَنْ يُتْبِعُوا الْحِجَارَةَ الْمَاءَ فَإِنِّي أَسْتَحْيِيهِمْ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَفْعَلُهُ».وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قِيلَ: الْغَسْلُ بِالْمَاءِ سُنَّةٌ، وَقِيلَ: الْجَمْعُ سُنَّةٌ فِي زَمَانِنَا.وَقِيلَ: سُنَّةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى كَمَا فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ.

هَذَا وَقَدِ احْتَجَّ الْخَرَشِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْحَجَرِ بِأَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَهُمَا، فَمَدَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} وَحَقَّقَ النَّوَوِيُّ أَنَّ الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ فِيهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا فِيهَا أَنَّهُمْ يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ.

مَا يُسْتَجْمَرُ بِهِ:

22- الِاسْتِجْمَارُ يَكُونُ بِكُلِّ جَامِدٍ إلاَّ مَا مُنِعَ مِنْهُ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَمِنْهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الرِّوَايَةِ الْمُعْتَمَدَةِ عَنْهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ: لَا يُجْزِئُ فِي الِاسْتِجْمَارِ شَيْءٌ مِنَ الْجَوَامِدِ مِنْ خَشَبٍ وَخِرَقٍ إِلاَّ الْأَحْجَارَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِالْأَحْجَارِ، وَأَمْرُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلِأَنَّهُ مَوْضِعُ رُخْصَةٍ وَرَدَ فِيهَا الشَّرْعُ بِآلَةٍ مَخْصُوصَةٍ، فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا، كَالتُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ.

وَالدَّلِيلُ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ: مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ خُزَيْمَةَ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ الِاسْتِطَابَةِ فَقَالَ: بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ لَيْسَ فِيهَا رَجِيعٌ» فَلَوْلَا أَنَّهُ أَرَادَ الْحَجَرَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ لَمْ يَسْتَثْنِ الرَّجِيعَ، لِأَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ لِذِكْرِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الرَّجِيعِ بِالذِّكْرِ مَعْنًى.

وَعَنْ «سَلْمَانَ قَالَ: قِيلَ لَهُ: قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَ قَالَ: فَقَالَ: أَجَلْ، لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ.أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ عَظْمٍ».

وَفَارَقَ التَّيَمُّمَ، لِأَنَّ الْقَصْدَ هُنَا إزَالَةُ النَّجَاسَةِ، وَهِيَ تَحْصُلُ بِغَيْرِ الْأَحْجَارِ، أَمَّا التَّيَمُّمُ فَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى.

الِاسْتِجْمَارُ هَلْ هُوَ مُطَهِّرٌ لِلْمَحَلِّ؟

23- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَحَلَّ يَصِيرُ طَاهِرًا بِالِاسْتِجْمَارِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الشَّرْعِ طَهَارَتُهُ أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- «نَهَى أَنْ يُسْتَنْجَى بِرَوْثٍ أَوْ عَظْمٍ، وَقَالَ: إِنَّهُمَا لَا يُطَهِّرَانِ» فَعُلِمَ أَنَّ مَا أُطْلِقَ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ يُطَهِّرُ، إِذْ لَوْ لَمْ يُطَهِّرْ لَمْ يُطْلَقْ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ.وَكَذَلِكَ قَالَ الدُّسُوقِيُّ الْمَالِكِيُّ: يَكُونُ الْمَحَلُّ طَاهِرًا لِرَفْعِ الْحُكْمِ وَالْعَيْنِ عَنْهُ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِكُلٍّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَقَوْلُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الْمَحَلَّ يَكُونُ نَجِسًا مَعْفُوًّا عَنْهُ لِلْمَشَقَّةِ.قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ: ظَاهِرُ مَا فِي الزَّيْلَعِيِّ أَنَّ الْمَحَلَّ لَا يَطْهُرُ بِالْحَجَرِ.وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ لِلْحَنَابِلَةِ: أَثَرُ الِاسْتِجْمَارِ نَجِسٌ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ فِي مَحَلِّهِ لِلْمَشَقَّةِ.

وَفِي الْمُغْنِي: وَعَلَيْهِ لَوْ عَرَقَ كَانَ عَرَقُهُ نَجِسًا.

24- وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الرُّطُوبَةَ إِذَا أَصَابَتِ الْمَحَلَّ بَعْدَ الِاسْتِجْمَارِ يُعْفَى عَنْهَا.

قَالَ ابْنُ نُجَيْمٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَحَلَّ بَعْدَ الِاسْتِجْمَارِ نَجِسٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَتَنَجَّسُ السَّبِيلُ بِإِصَابَةِ الْمَاءِ.وَفِيهِ الْخِلَافُ الْمَعْرُوفُ فِي مَسْأَلَةِ الْأَرْضِ إِذَا جَفَّتْ بَعْدَ التَّنَجُّسِ ثُمَّ أَصَابَهَا الْمَاءُ، وَقَدِ اخْتَارُوا فِي الْجَمِيعِ عَدَمَ عَوْدِ النَّجَاسَةِ، فَلْيَكُنْ كَذَلِكَ هُنَا.ثُمَّ نُقِلَ عَنِ ابْنِ الْهُمَامِ قَوْلُهُ: أَجْمَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ- أَيْ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ- عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْجَسُ الْمَحَلُّ بِالْعَرَقِ، حَتَّى لَوْ سَالَ الْعَرَقُ مِنْهُ، وَأَصَابَ الثَّوْبَ وَالْبَدَنَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا يَمْنَعُ (أَيْ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ).

وَنَقَلَ الْقَرَافِيُّ عَنْ صَاحِبِ الطِّرَازِ وَابْنِ رُشْدٍ: يُعْفَى عَنْهُ لِعُمُومِ الْبَلْوَى.قَالَ: وَقَدْ عُفِيَ عَنْ ذَيْلِ الْمَرْأَةِ تُصِيبُهُ النَّجَاسَةُ، مَعَ إمْكَانِ شَيْلِهِ، فَهَذَا أَوْلَى، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ- رضي الله عنهم- كَانُوا يَسْتَجْمِرُونَ وَيَعْرَقُونَ.

وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: قَالَهُ الشَّافِعِيَّةُ، وَابْنُ الْقَصَّارِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لَا يَنْجَسُ إِنْ لَمْ تَتَعَدَّ الرُّطُوبَةُ مَحَلَّ الِاسْتِجْمَارِ، وَيَنْجَسُ إِنْ تَعَدَّتْ النَّجَاسَةُ مَحَلَّ الْعَفُوِّ.

الْمَوَاضِعُ الَّتِي لَا يُجْزِئُ فِيهَا الِاسْتِجْمَارُ:

أ- النَّجَاسَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْمَخْرَجِ مِنْ خَارِجِهِ:

25- إِنْ كَانَ النَّجَسُ طَارِئًا عَلَى الْمَحَلِّ مِنْ خَارِجٍ أَجْزَأَ فِيهِ الِاسْتِجْمَارُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْحَجَرَ لَا يُجْزِئُ فِيهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ بِالْمَاءِ.وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ.وَمِثْلُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، مَا لَوْ طَرَأَ عَلَى الْمَحَلِّ الْمُتَنَجِّسِ بِالْخَارِجِ طَاهِرٌ رَطْبٌ، أَوْ يَخْتَلِطُ بِالْخَارِجِ كَالتُّرَابِ.وَمِثْلُهُ مَا لَوِ اسْتَجْمَرَ بِحَجَرٍ مُبْتَلٍّ، لِأَنَّ بَلَلَ الْحَجَرِ يَتَنَجَّسُ بِنَجَاسَةِ الْمَحَلِّ ثُمَّ يُنَجِّسُهُ.

وَكَذَا لَوِ انْتَقَلَتِ النَّجَاسَةُ عَنِ الْمَحَلِّ الَّذِي أَصَابَتْهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ، فَلَا بُدَّ عِنْدَهُمْ مِنْ غَسْلِ الْمَحَلِّ فِي كُلِّ تِلْكَ الصُّوَرِ.

ب- مَا انْتَشَرَ مِنَ النَّجَاسَةِ وَجَاوَزَ الْمَخْرَجَ:

26- اتَّفَقَتِ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ إِنْ جَاوَزَ الْمَخْرَجَ وَانْتَشَرَ كَثِيرًا لَا يُجْزِئُ فِيهِ الِاسْتِجْمَارُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ.وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِجْمَارَ رُخْصَةٌ لِعُمُومِ الْبَلْوَى، فَتَخْتَصُّ بِمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَيَبْقَى الزَّائِدُ عَلَى الْأَصْلِ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْغَسْلِ.

لَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ الْكَثِيرِ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْكَثِيرَ مِنَ الْغَائِطِ هُوَ مَا جَاوَزَ الْمَخْرَجَ، وَانْتَهَى إِلَى الْأَلْيَةِ، وَالْكَثِيرُ مِنَ الْبَوْلِ مَا عَمَّ الْحَشَفَةَ.

وَانْفَرَدَ الْمَالِكِيَّةُ فِي حَالِ الْكَثْرَةِ بِأَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ الْكُلِّ لَا الزَّائِدِ وَحْدَهُ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ الْكَثِيرَ هُوَ مَا زَادَ عَنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ، مَعَ اقْتِصَارِ الْوُجُوبِ عَلَى الزَّائِدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، حَيْثُ وَافَقَ الْمَالِكِيَّةَ فِي وُجُوبِ غَسْلِ الْكُلِّ.

ج- اسْتِجْمَارُ الْمَرْأَةِ:

27- يُجْزِئُ الْمَرْأَةَ الِاسْتِجْمَارُ مِنَ الْغَائِطِ بِالِاتِّفَاقِ، وَهَذَا وَاضِحٌ.

أَمَّا مِنَ الْبَوْلِ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا يُجْزِئُ الِاسْتِجْمَارُ فِي بَوْلِ الْمَرْأَةِ، بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا.قَالُوا: لِأَنَّهُ يُجَاوِزُ الْمَخْرَجَ غَالِبًا.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: يَكْفِي فِي بَوْلِ الْمَرْأَةِ- إِنْ كَانَتْ بِكْرًا- مَا يُزِيلُ عَيْنَ النَّجَاسَةِ خِرَقًا أَوْ غَيْرَهَا، أَمَّا الثَّيِّبُ فَإِنْ تَحَقَّقَتْ نُزُولَ الْبَوْلِ إِلَى ظَاهِرِ الْمَهْبِلِ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ، لَمْ يَكْفِ الِاسْتِجْمَارُ، وَإِلاَّ كَفَى.

وَيُسْتَحَبُّ الْغَسْلُ حِينَئِذٍ.

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَفِي الثَّيِّبِ قَوْلَانِ

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَكْفِيهَا الِاسْتِجْمَارُ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهُ.وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ غَسْلُ الدَّاخِلِ مِنْ نَجَاسَةٍ وَجَنَابَةٍ وَحَيْضٍ، بَلْ تَغْسِلُ مَا ظَهَرَ، وَيُسْتَحَبُّ لِغَيْرِ الصَّائِمَةِ غَسْلُهُ.

وَمُقْتَضَى قَوَاعِدِ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُجَاوِزِ الْخَارِجَ الْمَخْرَجَ كَانَ الِاسْتِنْجَاءُ سُنَّةً.وَإِنْ جَاوَزَ الْمَخْرَجَ لَا يَجُوزُ الِاسْتِجْمَارُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْمَائِعِ أَوِ الْمَاءِ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ.وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِكَيْفِيَّةِ اسْتِجْمَارِ الْمَرْأَةِ.

مَا لَا يُسْتَجْمَرُ بِهِ:

28- اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِيمَا يُسْتَجْمَرُ بِهِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ:

(1) أَنْ يَكُونَ يَابِسًا، وَعَبَّرَ غَيْرُهُمْ بَدَلَ الْيَابِسِ بِالْجَامِدِ.

(2) طَاهِرًا.

(3) مُنَقِّيًا.

(4) غَيْرَ مُؤْذٍ.

(5) وَلَا مُحْتَرَمٍ.

وَعَلَى هَذَا فَمَا لَا يُسْتَنْجَى بِهِ عِنْدَهُمْ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ:

(1) مَا لَيْسَ يَابِسًا.

(2) الْأَنْجَاسُ.

(3) غَيْرُ الْمُنَقِّي، كَالْأَمْلَسِ مِنَ الْقَصَبِ وَنَحْوِهِ.

(4) الْمُؤْذِي، وَمِنْهُ الْمُحَدَّدُ كَالسِّكِّينِ وَنَحْوِهِ.

(5) الْمُحْتَرَمُ وَهُوَ عِنْدَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ:

أ- الْمُحْتَرَمُ لِكَوْنِهِ مَطْعُومًا.

ب- الْمُحْتَرَمُ لِحَقِّ الْغَيْرِ.

ج- الْمُحْتَرَمُ لِشَرَفِهِ.

وَهَذِهِ الْأُمُورُ تُذْكَرُ فِي غَيْرِ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا، إِلاَّ أَنَّهُمْ لَا يَذْكُرُونَ فِي الشُّرُوطِ عَدَمَ الْإِيذَاءِ، وَإِنْ كَانَ يُفْهَمُ الْمَنْعُ مِنْهُ بِمُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ لِلشَّرِيعَةِ.

وَهُمْ وَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى هَذِهِ الِاشْتِرَاطَاتِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ يَخْتَلِفُونَ فِي التَّفَاصِيلِ، وَقَدْ يَتَّفِقُونَ.وَيُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ إِلَى كُتُبِ الْفِقْهِ.

هَلْ يُجْزِئُ الِاسْتِنْجَاءُ بِمَا حَرُمَ الِاسْتِنْجَاءُ بِهِ:

29- إِذَا ارْتَكَبَ النَّهْيَ وَاسْتَنْجَى بِالْمُحَرَّمِ وَأَنْقَى، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَابْنِ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، كَمَا فِي الْفُرُوعِ: يَصِحُّ الِاسْتِنْجَاءُ مَعَ التَّحْرِيمِ.قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: لِأَنَّهُ يُجَفِّفُ مَا عَلَى الْبَدَنِ مِنَ الرُّطُوبَةِ.

وَقَالَ الدُّسُوقِيُّ: وَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ فِي الْوَقْتِ وَلَا فِي غَيْرِهِ.

أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فَلَا يُجْزِئُ الِاسْتِنْجَاءُ بِمَا حَرُمَ لِكَرَامَتِهِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ كُتُبِ عِلْمٍ، وَكَذَلِكَ النَّجِسُ.

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فَلَا يُجْزِئُ الِاسْتِجْمَارُ بِمَا حَرُمَ مُطْلَقًا، لِأَنَّ الِاسْتِجْمَارَ رُخْصَةٌ فَلَا تُبَاحُ بِمُحَرَّمٍ.

وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِجْمَارِ بِالْيَمِينِ- فَإِنَّهُ يُجْزِئُ الِاسْتِجْمَارُ بِهَا مَعَ وُرُودِ النَّهْيِ- بِأَنَّ النَّهْيَ فِي الْعَظْمِ وَنَحْوِهِ لِمَعْنًى فِي شَرْطِ الْفِعْلِ، فَمَنْعُ صِحَّتِهِ، كَالْوُضُوءِ بِالْمَاءِ النَّجِسِ.أَمَّا بِالْيَمِينِ فَالنَّهْيُ لِمَعْنًى فِي آلَةِ الشَّرْطِ، فَلَمْ يُمْنَعْ، كَالْوُضُوءِ مِنْ إنَاءٍ مُحَرَّمٍ.وَسَوَّوْا فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ الِاسْتِجْمَارِ بِهِ كَالْعَظْمِ، وَبَيْنَ مَا كَانَ اسْتِعْمَالُهُ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ مُحَرَّمًا كَالْمَغْصُوبِ.

قَالُوا: وَلَوْ اسْتَجْمَرَ بَعْدَ الْمُحَرَّمِ بِمُبَاحٍ لَمْ يُجْزِئْهُ وَوَجَبَ الْمَاءُ، وَكَذَا لَوِ اسْتَنْجَى بِمَائِعٍ غَيْرِ الْمَاءِ.وَإِنِ اسْتَجْمَرَ بِغَيْرِ مُنَقٍّ كَالْقَصَبِ أَجْزَأَ الِاسْتِجْمَارُ بَعْدَهُ بِمُنَقٍّ.وَفِي الْمُغْنِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يُجْزِئَهُ الِاسْتِجْمَارُ بِالطَّاهِرِ بَعْدَ الِاسْتِجْمَارِ بِالنَّجِسِ، لِأَنَّ هَذِهِ النَّجَاسَةَ تَابِعَةٌ لِنَجَاسَةِ الْمَحَلِّ فَزَالَتْ بِزَوَالِهَا.

كَيْفِيَّةُ الِاسْتِنْجَاءِ وَآدَابُهُ:

أَوَّلًا: الِاسْتِنْجَاءُ بِالشِّمَالِ:

30- وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عِنْدَ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا أَتَى الْخَلَاءَ فَلَا يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ».

فَقَدْ نَهَى الرَّسُولُ- صلى الله عليه وسلم- عَنِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْيَمِينِ، وَحَمَلَ الْفُقَهَاءُ هَذَا النَّهْيَ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَهِيَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، كَمَا اسْتَظْهَرَ ابْنُ نُجَيْمٍ.

وَكُلُّ هَذَا فِي غَيْرِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ أَوِ الْحَاجَةِ، لِلْقَاعِدَةِ الْمَعْرُوفَةِ: الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ.

فَلَوْ يُسْرَاهُ مَقْطُوعَةً أَوْ شَلاَّءَ، أَوْ بِهَا جِرَاحَةٌ جَازَ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ.هَذَا، وَيَجُوزُ الِاسْتِعَانَةُ بِالْيَمِينِ فِي صَبِّ الْمَاءِ، وَلَيْسَ هَذَا اسْتِنْجَاءً بِالْيَمِينِ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ مُجَرَّدُ إِعَانَةِ الْيَسَارِ، وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالِاسْتِعْمَالِ.

ثَانِيًا: الِاسْتِتَارُ عِنْدَ الِاسْتِنْجَاءِ:

31- الِاسْتِنْجَاءُ يَقْتَضِي كَشْفَ الْعَوْرَةِ، وَكَشْفُهَا أَمَامَ النَّاسِ مُحَرَّمٌ فِي الِاسْتِنْجَاءِ وَغَيْرِهِ، فَلَا يَرْتَكِبُ لِإِقَامَةِ سُنَّةِ الِاسْتِنْجَاءِ، وَيَحْتَالُ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ مِنْ غَيْرِ كَشْفٍ لِلْعَوْرَةِ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَةِ النَّاسِ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: مِنَ الْآدَابِ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ حِينَ يَفْرُغُ مِنْ الِاسْتِنْجَاءِ وَالتَّجْفِيفِ، لِأَنَّ الْكَشْفَ كَانَ لِضَرُورَةٍ وَقَدْ زَالَتْ.

وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي التَّكَشُّفِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ رِوَايَتَانِ: الْكَرَاهَةُ، وَالْحُرْمَةُ.

وَعَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الِاسْتِنْجَاءِ مُسْتَحَبًّا عَلَى الْأَقَلِّ.

ثَالِثًا: الِانْتِقَالُ عَنْ مَوْضِعِ التَّخَلِّي:

32- إِذَا قَضَى حَاجَتَهُ فَلَا يَسْتَنْجِي حَيْثُ قَضَى حَاجَتَهُ.كَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ- قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا كَانَ اسْتِنْجَاؤُهُ بِالْمَاءِ- بَلْ يَنْتَقِلُ عَنْهُ، لِئَلاَّ يَعُودَ الرَّشَاشُ إلَيْهِ فَيُنَجِّسَهُ.وَاسْتَثْنَوُا الْأَخْلِيَةَ الْمُعَدَّةَ لِذَلِكَ، فَلَا يُنْتَقَلُ فِيهَا.وَإِذَا كَانَ اسْتِنْجَاؤُهُ بِالْحَجَرِ فَقَطْ فَلَا يَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانِهِ، لِئَلاَّ يَنْتَقِلَ الْغَائِطُ مِنْ مَكَانِهِ فَيَمْتَنِعَ عَلَيْهِ الِاسْتِجْمَارُ.

أَمَّا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْ مَكَانِهِ الَّذِي قَضَى فِيهِ حَاجَتَهُ لِلِاسْتِجْمَارِ بِالْحِجَارَةِ أَيْضًا، كَمَا يَتَحَوَّلُ لِلِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ، وَهَذَا إِنْ خَشِيَ التَّلَوُّثَ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


2-موسوعة الفقه الكويتية (جذام)

جُذَامٌ

التَّعْرِيفُ:

1- الْجُذَامُ: عِلَّةٌ تَتَآكَلُ مِنْهَا الْأَعْضَاءُ وَتَتَسَاقَطُ.

وَلَا يَخْرُجُ الِاسْتِعْمَالُ الْفِقْهِيُّ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى

وَنَقَلَ ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْقُهُسْتَانِيِّ أَنَّهُ دَاءٌ يَتَشَقَّقُ بِهِ الْجِلْدُ وَيَنْتُنُ وَيَقْطَعُ اللَّحْمَ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

الْبَرَصُ:

2- الْبَرَصُ: بَيَاضٌ فِي ظَاهِرِ الْجِلْدِ لِعِلَّةٍ، يُبَقِّعُ الْجِلْدَ.

الْبَهَقُ:

3- الْبَهَقُ: فِي اللُّغَةِ بَيَاضٌ دُونَ الْبَرَصِ يَعْتَرِي الْجَسَدَ بِخِلَافِ لَوْنِهِ

وَاصْطِلَاحًا تَغَيُّرٌ فِي لَوْنِ الْجِلْدِ، وَالشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَيْهِ أَسْوَدُ، بِخِلَافِ النَّابِتِ عَلَى الْبَرَصِ فَإِنَّهُ أَبْيَضُ.

فَالْجُذَامُ وَالْبَرَصُ وَالْبُهَاقُ عِلَلٌ فِي الْجِلْدِ

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْجُذَامِ:

التَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِسَبَبِ الْجُذَامِ:

4- يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ ثُبُوتَ خِيَارِ الْفَسْخِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا وَجَدَ بِصَاحِبِهِ الْجُذَامَ، لِأَنَّهُ يُثِيرُ نَفْرَةً فِي النَّفْسِ تَمْنَعُ قُرْبَانَهُ وَيُخْشَى تَعَدِّيهِ إِلَى النَّفْسِ وَالنَّسْلِ فَيَمْنَعُ الِاسْتِمْتَاعَ.

وَيَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ لِثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلزَّوْجَيْنِ بِعَيْبِ الْجُذَامِ كَوْنَهُ مُحَقَّقًا وَلَوْ قَلَّ، أَمَّا الْجُذَامُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ عِنْدَهُمْ.

وَحَكَى إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ- مِنَ الشَّافِعِيَّةِ- عَنْ شَيْخِهِ أَنَّ أَوَائِلَ الْجُذَامِ لَا تُثْبِتُ الْخِيَارَ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ إِذَا اسْتَحْكَمَ، وَأَنَّ اسْتِحْكَامَ الْجُذَامِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالتَّقَطُّعِ.

وَتَرَدَّدَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي هَذَا وَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يُكْتَفَى بِاسْوِدَادِ الْعُضْوِ، وَحُكْمِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِاسْتِحْكَامِ الْعِلَّةِ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ خِيَارُ فَسْخِ النِّكَاحِ بِجُذَامِ الْآخَرِ، وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو زِيَادٍ وَأَبُو قِلَابَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْخَطَّابِيُّ.

وَفِي الْمَبْسُوطِ أَنَّهُ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنهما-.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: لَا خِيَارَ لِلزَّوْجِ بِعَيْبِ الْجُذَامِ فِي الْمَرْأَةِ، وَلَهَا هِيَ الْخِيَارُ بِعَيْبِ الْجُذَامِ فِي الزَّوْجِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا، كَمَا فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ، بِخِلَافِ جَانِبِ الزَّوْجِ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ بِالطَّلَاقِ.

وَلِلتَّفْصِيلِ: (ر: طَلَاقٌ، عَيْبٌ، فَسْخٌ، نِكَاحٌ).

اخْتِلَاطُ الْمَجْذُومِ بِالنَّاسِ:

5- ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى مَنْعِ مَجْذُومٍ يُتَأَذَّى بِهِ مِنْ مُخَالَطَةِ الْأَصِحَّاءِ وَالِاجْتِمَاعِ بِالنَّاسِ لِحَدِيثِ «فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ».

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: لَا يَحِلُّ لِمَجْذُومٍ مُخَالَطَةُ صَحِيحٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِ.فَإِذَا أَذِنَ الصَّحِيحُ لِمَجْذُومٍ بِمُخَالَطَتِهِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ.لِحَدِيثِ «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ».

وَلَمْ نَرَ لِلْحَنَفِيَّةِ نَصًّا فِي الْمَسْأَلَةِ.

وَإِذَا كَثُرَ عَدَدُ الْجَذْمَى فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: يُؤْمَرُونَ أَنْ يَنْفَرِدُوا فِي مَوَاضِعَ عَنِ النَّاسِ: وَلَا يُمْنَعُونَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي حَوَائِجِهِمْ.

وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُ الِانْفِرَادُ.

وَلَوِ اسْتَضَرَّ أَهْلُ قَرْيَةٍ فِيهِمْ جَذْمَى بِمُخَالَطَتِهِمْ فِي الْمَاءِ فَإِنْ قَدَرُوا عَلَى اسْتِنْبَاطِ مَاءٍ بِلَا ضَرَرٍ أُمِرُوا بِهِ وَإِلاَّ اسْتَنْبَطَهُ لَهُمُ الْآخَرُونَ، أَوْ أَقَامُوا مَنْ يَسْتَقِي لَهُمْ وَإِلاَّ فَلَا يُمْنَعُونَ.

وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْآثَارُ عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- فِي مُخَالَطَةِ الْمَجْذُومِ الْأَصِحَّاءَ، فَجَاءَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ «فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الْأَسَدِ» وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ الثَّقَفِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ».

وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «كَلِّمِ الْمَجْذُومَ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَيْدُ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ».

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُ فِي الْقَصْعَةِ ثُمَّ قَالَ: كُلْ بِاسْمِ اللَّهِ ثِقَةً بِاللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَى اللَّهِ».

6- وَقَدْ أَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنِ الِاخْتِلَافِ فِي تِلْكَ الْآثَارِ بِطُرُقٍ مِنْهَا:

التَّرْجِيحُ، وَقَدْ سَلَكَهُ فَرِيقَانِ:

أَحَدُهُمَا: سَلَكَ تَرْجِيحَ الْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى نَفْيِ الْعَدْوَى وَتَضْعِيفِ الْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ.

وَالْفَرِيقُ الثَّانِي: سَلَكُوا فِي التَّرْجِيحِ عَكْسَ هَذَا الْمَسْلَكِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْأَخْبَارَ الدَّالَّةَ عَلَى الِاجْتِنَابِ أَكْثَرُ مَخَارِجَ وَأَكْثَرُ طُرُقًا فَالْمَصِيرُ إِلَيْهَا أَوْلَى.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّ طَرِيقَ التَّرْجِيحِ لَا يُصَارُ إِلَيْهَا إِلاَّ مَعَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ.وَهُوَ مُمْكِنٌ فَهُوَ أَوْلَى.

7- وَفِي طَرِيقِ الْجَمْعِ مَسَالِكُ أَهَمُّهَا:

1- نَفْيُ الْعَدْوَى جُمْلَةً وَحَمْلُ الْأَمْرِ بِالْفِرَارِ مِنَ الْمَجْذُومِ عَلَى رِعَايَةِ خَاطِرِ الْمَجْذُومِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا رَأَى الصَّحِيحَ الْبَدَنِ السَّلِيمَ مِنَ الْآفَةِ، تَعْظُمُ مُصِيبَتُهُ وَتَزْدَادُ حَسْرَتُهُ.

2- إِثْبَاتُ الْعَدْوَى فِي الْجُذَامِ وَنَحْوِهِ مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومِ نَفْيِ الْعَدْوَى، فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: «لَا عَدْوَى» أَيْ إِلاَّ مِنَ الْجُذَامِ مَثَلًا.

بِهَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ وَقَدْ حَكَى ذَلِكَ ابْنُ بَطَّالٍ أَيْضًا.

3- إِنَّ الْأَمْرَ بِالْفِرَارِ مِنَ الْمَجْذُومِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْعَدْوَى فِي شَيْءٍ، بَلْ هُوَ لِأَمْرٍ طَبِيعِيٍّ وَهُوَ انْتِقَالُ الدَّاءِ مِنْ جَسَدٍ لِجَسَدٍ بِوَاسِطَةِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُخَالَطَةِ وَشَمِّ الرَّائِحَةِ، وَلِذَلِكَ يَقَعُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرَاضِ فِي الْعَادَةِ انْتِقَالُ الدَّاءِ مِنَ الْمَرِيضِ إِلَى الصَّحِيحِ بِكَثْرَةِ الْمُخَالَطَةِ.

4- إِنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ الْعَدْوَى أَنَّ شَيْئًا لَا يُعْدِي بِطَبْعِهِ، نَفْيًا لِمَا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَعْتَقِدُهُ أَنَّ الْأَمْرَاضَ تُعْدِي بِطَبْعِهَا مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَأَبْطَلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- اعْتِقَادَهُمْ ذَلِكَ، وَأَكَلَ مَعَ الْمَجْذُومِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُمْرِضُ وَيَشْفِي، وَنَهَاهُمْ عَنِ الدُّنُوِّ مِنْهُ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ هَذَا مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِأَنَّهَا تُفْضِي إِلَى مُسَبَّبَاتِهَا، فَفِي نَهْيِهِ إِثْبَاتُ الْأَسْبَابِ، وَفِي فِعْلِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا لَا تَسْتَقِلُّ، بَلِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي إِنْ شَاءَ سَلَبَهَا قُوَاهَا فَلَا تُؤَثِّرُ شَيْئًا، وَإِنْ شَاءَ أَبْقَاهَا فَأَثَّرَتْ.وَعَلَى هَذَا جَرَى أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ.

وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ أَكْلُهُ مَعَ الْمَجْذُومِ أَنَّهُ كَانَ بِهِ أَمْرٌ يَسِيرٌ لَا يُعْدِي مِثْلُهُ فِي الْعَادَةِ، إِذْ لَيْسَ الْجَذْمَى كُلُّهُمْ سَوَاءً وَلَا تَحْصُلُ الْعَدْوَى مِنْ جَمِيعِهِمْ.

5- الْعَمَلُ بِنَفْيِ الْعَدْوَى أَصْلًا وَرَأْسًا وَحَمْلُ الْأَمْرِ بِالْمُجَانَبَةِ عَلَى حَسْمِ الْمَادَّةِ، وَسَدِّ الذَّرِيعَةِ لِئَلاَّ يَحْدُثَ لِلْمُخَالِطِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَيَظُنَّ أَنَّهُ بِسَبَبِ الْمُخَالَطَةِ فَيُثْبِتَ الْعَدْوَى الَّتِي نَفَاهَا الشَّارِعُ.

إِمَامَةُ الْمَجْذُومِ:

8- ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْمَجْذُومِ.

وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ إِمَامَةَ مَنْ قَامَ بِهِ دَاءُ الْجُذَامِ، إِلاَّ أَنْ يَشْتَدَّ جُذَامُهُ بِحَيْثُ يَضُرُّ بِالنَّاسِ فَيُنَحَّى وُجُوبًا عَنِ الْإِمَامَةِ وَكَذَا عَنِ الْجَمَاعَةِ، فَإِنْ أَبَى أُجْبِرَ عَلَى التَّنَحِّي.

هَذَا وَلَمْ نَجِدْ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصًّا صَرِيحًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلاَّ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِمَنْعِ مَجْذُومٍ يُتَأَذَّى بِهِ مِنْ حُضُورِ مَسْجِدٍ وَجَمَاعَةٍ.

مُصَافَحَةُ الْمَجْذُومِ:

9- تُكْرَهُ مُصَافَحَةُ وَتَقْبِيلُ وَمُعَانَقَةُ مَنْ بِهِ دَاءُ الْجُذَامِ.

بِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


3-موسوعة الفقه الكويتية (عادة)

عَادَة

التَّعْرِيفُ

1- الْعَادَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعَوْدِ، أَوِ الْمُعَاوَدَةِ، بِمَعْنَى التَّكْرَارِ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: الْأُمُورُ الْمُتَكَرِّرَةُ مِنْ غَيْرِ عَلَاقَةٍ عَقْلِيَّةٍ.

وَعَرَّفَهَا بَعْضُهُمْ: بِأَنَّهَا تَكْرَارُ الشَّيْءِ وَعَوْدُهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى تَكْرَارًا كَثِيرًا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ وَاقِعًا بِطَرِيقِ الصُّدْفَةِ وَالِاتِّفَاقِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: عِبَارَةٌ عَمَّا اسْتَقَرَّ فِي النُّفُوسِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُتَكَرِّرَةِ الْمَقْبُولَةِ عِنْدَ الطَّبَائِعِ السَّلِيمَةِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْعُرْفُ:

2- الْعُرْفُ فِي اللُّغَةِ: ضِدُّ النُّكْرِ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: مَا اسْتَقَرَّ فِي النُّفُوسِ مِنْ جِهَةِ شَهَادَةِ الْعُقُولِ وَتَلَقَّتْهُ الطِّبَاعُ بِالْقَبُولِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ، أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ مِنْ حَيْثُ الْمَاصَدَقُ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْمَفْهُومِ.

الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَادَةِ:

3- لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْعَادَةَ مُسْتَنَدٌ لِكَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ وَاللَّفْظِيَّةِ، وَأَنَّهَا تُحَكَّمُ فِيمَا لَا ضَابِطَ لَهُ شَرْعًا، كَأَقَلِّ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَفِي أَقَلِّ سِنِّ الْحَيْضِ وَالْبُلُوغِ، وَفِي حِرْزِ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ، وَفِي ضَابِطِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي الضَّبَّةِ مِنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، وَفِي قَصْرِ الزَّمَانِ وَطُولِهِ عِنْدَ مُوَالَاةِ الْوُضُوءِ، وَفِي الْبِنَاءِ عَلَى الصَّلَاةِ، وَكَثْرَةِ الْأَفْعَالِ الْمُنَافِيَةِ لِلصَّلَاةِ، وَفِي التَّأْخِيرِ الْمَانِعِ مِنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَفِي الشُّرْبِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ مِنَ الْجَدَاوِلِ وَالْأَنْهَارِ الْمَمْلُوكَةِ الْمَجْرَى إِذَا كَانَ لَا يَضِيرُ مَالِكَهَا، فَتُحَكَّمُ الْعَادَةُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ إِقَامَةً لَهَا مَقَامَ الْإِذْنِ اللَّفْظِيِّ، وَكَذَا الثِّمَارُ السَّاقِطَةُ مِنَ الْأَشْجَارِ الْمَمْلُوكَةِ، وَفِي عَدَمِ رَدِّ ظَرْفِ الْهَدِيَّةِ إِذَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِرَدِّهِ.

وَمَا جُهِلَ حَالُهُ فِي الْوَزْنِ وَالْكَيْلِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ رُجِعَ فِيهِ إِلَى عَادَةِ بَلَدِ الْبَيْعِ.

وَقَالَ الشَّاطِبِيُّ: الْعَوَائِدُ الْجَارِيَةُ ضَرُورِيَّةُ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا، سَوَاءٌ كَانَتْ شَرْعِيَّةً فِي أَصْلِهَا، أَوْ غَيْرَ شَرْعِيَّةٍ.

دَلِيلُ اعْتِبَارِ الْعَادَةِ فِي الْأَحْكَامِ:

4- الْأَصْلُ فِي اعْتِبَارِ الْعَادَةِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه- مَوْقُوفًا: مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ.

وَفِي كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَكُتُبِ الْقَوَاعِدِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَادَةَ مِنَ الْمُعْتَبَرِ فِي الْفِقْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ:

أ- قَوْلُهُمْ: الْعَادَةُ مُحَكَّمَةٌ.

ب- الْمُمْتَنِعُ عَادَةً كَالْمُمْتَنِعِ حَقِيقَةً.

ج- الْحَقِيقَةُ تُتْرَكُ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ.

د- إِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْعَادَةُ إِذَا اطَّرَدَتْ أَوْ غَلَبَتْ.

وَقَلَّمَا يُوجَدُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ لَيْسَ لِلْعَادَةِ مَدْخَلٌ فِي أَحْكَامِهِ.

أَقْسَامُ الْعَادَةِ:

تَنْقَسِمُ الْعَادَةُ إِلَى أَقْسَامٍ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ

5- فَبِاعْتِبَارِ مَصْدَرِهَا تَنْقَسِمُ إِلَى: عَادَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَعَادَةٍ جَارِيَةٍ بَيْنَ الْخَلَائِقِ.

فَالْعَادَةُ الشَّرْعِيَّةُ: هِيَ الَّتِي أَقَرَّهَا الشَّارِعُ أَوْ نَفَاهَا، أَيْ: أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ أَمَرَ بِهَا إِيجَابًا أَوْ نَدْبًا، أَوْ نَهَى عَنْهَا تَحْرِيمًا أَوْ كَرَاهِيَةً، أَوْ أَذِنَ فِيهَا فِعْلًا أَوْ تَرْكًا.

وَالثَّانِيَةُ: هِيَ الْعَادَةُ الْجَارِيَةُ بَيْنَ الْخَلَائِقِ بِمَا لَيْسَ فِي نَفْيِهِ وَلَا إِثْبَاتِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ.

فَالْعَادَةُ الشَّرْعِيَّةُ: ثَابِتَةٌ أَبَدًا، كَسَائِرِ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْأَمْرِ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَاتِ، وَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعَوَائِدِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ النَّاسِ: أَمَرَ الشَّارِعُ بِهَا أَوْ نَهَى عَنْهَا، فَهِيَ مِنَ الْأُمُورِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، فَلَا تَبْدِيلَ لَهَا، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْمُكَلَّفِينَ فِيهَا، فَلَا يَنْقَلِبُ الْحَسَنُ مِنْهَا قَبِيحًا لِلْأَمْرِ بِهِ، وَلَا الْقَبِيحُ حَسَنًا لِلنَّهْيِ عَنْهُ حَتَّى يُقَالَ مَثَلًا: إِنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ لَيْسَ بِعَيْبٍ الْآنَ وَلَا قَبِيحٍ، إِذْ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَكَانَ نَسْخًا لِلْأَحْكَامِ الْمُسْتَقِرَّةِ الْمُسْتَمِرَّةِ، وَالنَّسْخُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- بَاطِلٌ.

أَمَّا الثَّانِيَةُ فَقَدْ تَكُونُ ثَابِتَةً، وَقَدْ تَتَبَدَّلُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهِيَ أَسْبَابٌ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَحْكَامٌ.

فَالثَّابِتَةُ هِيَ الْغَرَائِزُ الْجِبِلِّيَّةُ كَشَهْوَةِ الطَّعَامِ، وَالْوِقَاعِ، وَالْكَلَامِ، وَالْبَطْشِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.

وَالْمُتَبَدِّلَةُ مِنْهَا مَا يَكُونُ مُتَبَدِّلًا مِنْ حَسَنٍ إِلَى قَبِيحٍ وَبِالْعَكْسِ، مِثْلُ: كَشْفِ الرَّأْسِ، فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِقَاعِ، فَهُوَ لِذَوِي الْمُرُوآتِ قَبِيحٌ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ، وَغَيْرُ قَبِيحٍ فِي بَعْضِهَا، فَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ بِاخْتِلَافِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ قَادِحًا فِي الْعَدَالَةِ، مُسْقِطًا لِلْمُرُوءَةِ، وَفِي بَعْضِهَا غَيْرُ قَادِحٍ لَهَا، وَلَا مُسْقِطٌ لِلْمُرُوءَةِ.

وَمِنْهَا مَا يَخْتَلِفُ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَقَاصِدِ، فَتَنْصَرِفُ الْعِبَارَةُ عَنْ مَعْنًى إِلَى مَعْنَى عِبَارَةٍ أُخْرَى، وَمِنْهَا مَا يَخْتَلِفُ فِي الْأَفْعَالِ فِي الْمُعَامَلَاتِ.

وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (عُرْف).

6- وَتَنْقَسِمُ الْعَادَةُ بِاعْتِبَارِ وُقُوعِهَا إِلَى: عَامَّةٍ وَخَاصَّةٍ.

فَالْعَادَةُ الْعَامَّةُ: هِيَ الَّتِي تَكُونُ فَاشِيَةً فِي جَمِيعِ الْبِقَاعِ بَيْنَ جَمِيعِ النَّاسِ، وَلَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ، كَالِاسْتِصْنَاعِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا النَّاسُ فِي كُلِّ الْأَمَاكِنِ- وَفِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ- كَالْأَحْذِيَةِ وَالْأَلْبِسَةِ وَالْأَدَوَاتِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهَا فِي بَلَدٍ مِنَ الْبُلْدَانِ وَلَا فِي زَمَنٍ مِنَ الْأَزْمَانِ.

أَمَّا الْخَاصَّةُ: فَهِيَ الَّتِي تَكُونُ خَاصَّةً فِي بَلَدٍ، أَوْ بَيْنَ فِئَةٍ خَاصَّةٍ مِنَ النَّاسِ، كَاصْطِلَاحِ أَهْلِ الْحِرَفِ الْمُخْتَلِفَةِ بِتَسْمِيَةِ شَيْءٍ بِاسْمٍ مُعَيَّنٍ فِي مُحِيطِهِمُ الْمِهَنِيِّ، أَوْ تَعَامُلِهِمْ فِي بَعْضِ الْمُعَامَلَاتِ بِطَرِيقَةٍ مُعَيَّنَةٍ حَتَّى تَصِيرَ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ الْمُتَعَارَفُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَهَذِهِ تَخْتَلِفُ الْأَحْكَامُ فِيهَا بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ وَالْبِقَاعِ.

مَا تَسْتَقِرُّ بِهِ الْعَادَةُ:

7- يَرَى الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْعَادَةَ يَخْتَلِفُ اسْتِقْرَارُهَا بِحَسَبِ الشَّيْءِ، فَالْعَادَةُ فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ تَسْتَقِرُّ بِمَرَّةٍ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَبِثَلَاثِ مَرَّاتٍ عِنْدَ آخَرِينَ.

انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (حَيْض فِقْرَةُ 16)

وَاخْتِبَارُ الْجَارِحَةِ فِي الصَّيْدِ لَا بُدَّ مِنْ تَكْرَارِ عَدَمِ الْأَكْلِ مِنَ الصَّيْدِ تَكْرَارًا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ حُصُولُ التَّعَلُّمِ، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ مَرْجِعَ ذَلِكَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ.

انْظُرْ مُصْطَلَحَ: (صَيْد) وَمُصْطَلَحَ: (كَلْب)

وَلِلْعَادَةِ جُمْلَةُ أَحْكَامٍ مُرْتَبِطَةٍ بِالْعُرْفِ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ: (عُرْف).

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


4-موسوعة الفقه الكويتية (قسمة 1)

قِسْمَةٌ -1

التَّعْرِيفُ:

1- الْقِسْمَةُ لُغَةً: النَّصِيبُ، جَعْلُ الشَّيْءِ أَوِ الْأَشْيَاءِ أَجْزَاءً أَوْ أَبْعَاضًا مُتَمَايِزَةً.

قَالَ الْفَيُّومِيُّ: قَسَمْتُهُ قَسْمًا، مِنْ بَابِ ضَرَبَ: فَرَزْتُهُ أَجْزَاءً فَانْقَسَمَ، وَالْمَوْضِعُ مَقْسِمٌ مِثْلُ مَسْجِدٍ، وَالْفَاعِلُ قَاسِمٌ، وَقَسَّامٌ مُبَالَغَةٌ، وَالِاسْمُ الْقِسْمُ (بِالْكَسْرِ) ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْحِصَّةِ وَالنَّصِيبِ، فَيُقَالُ: هَذَا قَسْمِي، وَالْجَمْعُ أَقْسَامٌ، مِثْلُ حِمْلٍ وَأَحْمَالٍ، وَاقْتَسَمُوا الْمَالَ بَيْنَهُمْ، وَالِاسْمُ الْقِسْمَةُ، وَأُطْلِقَتْ عَلَى النَّصِيبِ أَيْضًا.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: جَمْعُ نَصِيبٍ شَائِعٍ فِي مُعَيَّنٍ: أَيْ فِي نَصِيبٍ مُعَيَّنٍ وَإِنَّمَا كَانَتْ جَمْعًا لِلنَّصِيبِ بَعْدَ تَفَرُّقٍ، لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مُوَزَّعًا عَلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْمُشْتَرَكِ، مَا مِنْ جُزْءٍ- مَهْمَا قَلَّ- إِلاَّ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشُّرَكَاءِ فِيهِ بِنِسْبَةِ مَا لَهُ فِي الْمَجْمُوعِ الْكُلِّيِّ، ثُمَّ صَارَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ مُنْحَصِرًا فِي جُزْءٍ مُعَيَّنٍ لَا تَتَخَلَّلُهُ حُقُوقُ أَحَدٍ مِنْ بَقِيَّةِ الشُّرَكَاءِ، وَلَوْ كَانَتِ الْجُزْئِيَّةُ بِاعْتِبَارِ الزَّمَانِ، كَمَا فِي الْمُهَايَأَةِ الزَّمَانِيَّةِ.

الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ- الْبَيْعُ:

2- الْبَيْعُ لُغَةً: مُقَابَلَةُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، أَوْ دَفْعُ عِوَضٍ وَأَخْذُ مَا عُوِّضَ عَنْهُ.

وَاصْطِلَاحًا: مُقَابَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ: أَنَّ الْقِسْمَةَ أَعَمُّ، فَقَدْ تَكُونُ بَيْعًا وَقَدْ تَكُونُ غَيْرَ ذَلِكَ

ب- الْإِفْرَازُ:

3- الْإِفْرَازُ لُغَةً: التَّنْحِيَةُ أَيْ عَزْلُ شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ وَتَمْيِيزُهُ.

وَلَا يَخْرُجُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

وَالصِّلَةُ: أَنَّ الْقِسْمَةَ قَدْ تَكُونُ بِالْإِفْرَازِ، وَقَدْ يُقْصَدُ بِهَا بَيَانُ الْحِصَصِ دُونَ إِفْرَازٍ، كَمَا فِي الْمُهَايَأَةِ فَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الْإِفْرَازِ.

ج- الشَّرِكَةُ:

4- الشَّرِكَةُ لُغَةً: اسْمُ مَصْدَرِ شَرِكَ، وَهِيَ خَلْطُ النَّصِيبَيْنِ وَاخْتِلَاطُهُمَا، وَالْعَقْدُ الَّذِي يَتِمُّ بِسَبَبِهِ خَلْطُ الْمَالَيْنِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا.

وَمِنْ مَعَانِيهَا فِي الِاصْطِلَاحِ: أَنْ يَخْتَصَّ اثْنَانِ فَصَاعِدًا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ أَوْ مَا هُوَ فِي حُكْمِهِ.

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْقِسْمَةِ وَالشَّرِكَةِ التَّضَادُّ.

مَشْرُوعِيَّةُ الْقِسْمَةِ:

5- الْقِسْمَةُ مَشْرُوعَةٌ، وَدَلِيلُ مَشْرُوعِيَّتِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ.

أَمَّا الْكِتَابُ: فَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيِ: مِنْ مِثْلِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا} وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَوْلُهُ (((وَفِعْلُهُ وَتَقْرِيرُهُ:

فَمِنْ قَوْلِهِ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-: «إِذَا قُسِّمَتِ الْأَرْضُ وَحُدَّتْ، فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا»، وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ جَابِرٍ- رضي الله عنه-: «قَضَى النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ، وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ، فَلَا شُفْعَةَ».

وَمِنْ فِعْلِهِ: «أَنَّهُ- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقْسِمُ الْغَنَائِمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ»، وَفِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ- رضي الله عنه-: «قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- خَيْبَرَ نِصْفَيْنِ: نِصْفًا لِنَوَائِبِهِ وَحَاجَاتِهِ، وَنِصْفًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، قَسَمَهَا بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا».

وَأَمَّا تَقْرِيرُهُ: فَلَا شَكَّ أَنَّ قِسْمَةَ الْمَوَارِيثِ وَغَيْرِهَا كَانَتْ تَقَعُ عَلَى عَهْدِهِ (((، فَيُسَدِّدُ وَلَا يُنْكِرُ.

وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَقَدْ كَانَ النَّاسُ- وَمَا زَالُوا- مُنْذُ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَوْمِنَا هَذَا يَتَعَامَلُونَ بِالْقِسْمَةِ فِي الْمَوَارِيثِ وَفِي غَيْرِ الْمَوَارِيثِ، دُونَ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ.قَالَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ: فَكَانَتْ شَرْعِيَّتُهَا مُتَوَارَثَةً.

وَيَقُولُ الْفُقَهَاءُ: إِنَّ الْقِسْمَةَ تُوَفِّرُ عَلَى كُلِّ شَرِيكٍ مَصْلَحَتَهُ كَامِلَةً، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى: إِنَّهَا لِتَكْمِيلِ نَفْعِ الشَّرِيكِ

تَكْيِيفُ الْقِسْمَةِ:

6- اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقِسْمَةِ هَلْ هِيَ بَيْعٌ أَمْ مَحْضُ تَمْيِيزِ حُقُوقٍ؟ يَذْهَبُ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ مَذَاهِبَ أَرْبَعَةً:

الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ:

أَنَّهَا بَيْعٌ بِإِطْلَاقٍ، وَعَلَيْهِ مَالِكٌ وَبَعْضُ أَصْحَابِهِ، لَكِنَّهُ خِلَافُ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَصَحَّحَهُ جَمْعٌ مِنْ قُدَامَى أَصْحَابِهِمْ، وَالرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ.

وَقَالُوا: إِنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنَ الْمَالِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ، فَإِذَا أَخَذَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ الْجَمِيعِ فَقَدْ بَاعَ مَا تَرَكَ مِنْ حَقِّهِ بِمَا أَخَذَ مِنْ حَقِّ صَاحِبِهِ أَوْ كَمَا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لِأَنَّهُ يُبَدِّلُ نَصِيبَهُ مِنْ أَحَدِ السَّهْمَيْنِ بِنَصِيبِ صَاحِبِهِ مِنَ السَّهْمِ الْآخَرِ، وَهَذَا حَقِيقَةُ الْبَيْعِ.

الْمَذْهَبُ الثَّانِي:

أَنَّهَا مَحْضُ تَمْيِيزِ حُقُوقٍ بِإِطْلَاقٍ، وَعَلَيْهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مَعَهُمُ الْمَجْدُ بْنُ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَكَذَلِكَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِذَا لَمْ تَقَعِ الْقِسْمَةُ جُزَافًا.

وَقَالُوا: إِنَّ لَوَازِمَ الْقِسْمَةِ تُخَالِفُ لَوَازِمَ الْبَيْعِ، وَاخْتِلَافُ اللَّوَازِمِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَلْزُومَاتِ.

الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ:

أَنَّهَا تَمْيِيزُ حُقُوقٍ فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْمَالِكِيَّةِ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْمُدَوَّنَةِ عَنْ مَالِكٍ تَمْيِيزُ حُقُوقٍ فِيمَا تَمَاثَلَ- أَيْ كَانَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ، مَعَ تَسَاوِي الرَّغَبَاتِ وَالْقِيمَةِ: كَالدُّورِ وَالْفَدَادِينِ الْمُتَقَارِبَةِ فِي الْمَسَافَةِ عُرْفًا الْمُتَسَاوِيَةِ فِي الْقِيمَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْخِبْرَةِ وَفِي الرَّغْبَةِ لَدَى الشُّرَكَاءِ- أَوْ تَقَارَبَ (وَقَدْ يُقَالُ: تَجَانَسَ)- كَكُلِّ مَا يُلْبَسُ مِنَ الثِّيَابِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَهَمَّ هُوَ اللُّبْسُ فَالْقُطْنُ وَالصُّوفُ وَالْحَرِيرُ وَغَيْرُهَا، مِنْ مَخِيطٍ وَغَيْرِ مَخِيطٍ، تَدْخُلُ فِي عِدَادِ الْمُتَقَارِبِ- إِذَا وَقَعَتْ قِسْمَتُهُ بِطَرِيقِ الْقُرْعَةِ، أَمَّا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ فَبَيْعٌ.

وَعِنْدَ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ: تَمْيِيزُ حُقُوقٍ فِي قِسْمَةِ الْمُتَشَابِهَاتِ- وَذَلِكَ حَيْثُ تَتَسَاوَى الْأَنْصِبَاءُ صُورَةً وَقِيمَةً، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمِثْلِيُّ كَالْحُبُوبِ وَالنُّقُودِ وَغَيْرِهِ كَالدَّارِ الْمُتَّفِقَةِ الْأَبْنِيَةِ: فِي كُلٍّ مِنْ جَانِبَيْهَا مِثْلُ مَا فِي الْآخَرِ مَعَ انْقِسَامِ الْعَرْصَةِ (السَّاحَةِ) الْفَاصِلَةِ بَيْنَ الْمَبْنِيَّيْنِ، وَالْأَرْضُ الزِّرَاعِيَّةُ وَغَيْرُ الزِّرَاعِيَّةِ الَّتِي تَتَشَابَهُ أَجْزَاؤُهَا كَذَلِكَ- بَيْعٌ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ.

وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ: تَمْيِيزُ حُقُوقٍ فِيمَا عَدَا قِسْمَةَ الرَّدِّ، أَمَّا فِي قِسْمَةِ الرَّدِّ فَبَيْعٌ.

وَقِسْمَةُ الرَّدِّ- كَمَا سَيَجِيءُ- هِيَ الَّتِي يُسْتَعَانُ فِي تَعْدِيلِ أَنْصِبَائِهَا بِمَالٍ أَجْنَبِيٍّ: كَأَرْضٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي أَحَدِ جَانِبَيْهَا مَا لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ- كَمَعْدِنٍ أَوْ بِنَاءٍ أَوْ بِئْرِ مَاءٍ- وَرُبَّمَا كَانَتْ قِيمَتُهُ وَحْدَهُ تَعْدِلُ قِيمَةَ الْأَرْضِ كُلَّهَا أَوْ تَزِيدُ.

فَمِنْ وُجْهَةِ نَظَرِ الْحَنَابِلَةِ وَمُوَافِقِيهِمْ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الرَّادَّ إِنَّمَا بَذَلَ مُقَابِلَ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ حَقِّ شَرِيكِهِ عِوَضًا عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْبَيْعِ أَمَّا فِي غَيْرِ قِسْمَةِ الرَّدِّ فَيَتَمَسَّكُ بِتَغَايُرِ اللَّوَازِمِ، كَمَا تَمَسَّكَ أَرْبَابُ الْمَذْهَبِ الثَّانِي.

وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ- الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَرْبَابِ الْمَذْهَبِ الثَّالِثِ- لَا يُنَازِعُونَ فِي أَنَّ قِسْمَةَ الرَّدِّ بَيْعٌ، وَلَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ كَذَلِكَ أَيْضًا: كُلُّ قِسْمَةٍ أُخْرَى يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى تَعْدِيلِ الْأَنْصِبَاءِ بِوَاسِطَةِ التَّقْوِيمِ، لِيَصِيرَ مَا يَأْخُذُهُ بِهَا كُلُّ شَرِيكٍ حَقًّا خَالِصًا لَهُ، إِذِ التَّقْوِيمُ تَخْمِينٌ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ: كَمَا فِي دَارٍ بَعْضُهَا لَبِنٌ، وَبَعْضُهَا حَجَرٌ، وَأَرْضٌ بَعْضُهَا جَيِّدٌ وَبَعْضُهَا رَدِيءٌ، وَبُسْتَانٍ بَعْضُهُ نَخْلٌ وَبَعْضُهُ كَرْمٌ (وَتُسَمَّى قِسْمَةَ تَعْدِيلٍ)- وَرُبَّمَا قِيلَ: لَوْ كَانَتْ قِسْمَةُ التَّعْدِيلِ بَيْعًا لَمَا قَبِلَتِ الْإِجْبَارَ كَقِسْمَةِ الرَّدِّ. وَقَدْ قِيلَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ بِعَدَمِ قَبُولِهَا الْإِجْبَارَ فِعْلاً وَلَكِنَّهُ خِلَافُ مَا اعْتَمَدُوهُ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا- فِي مُعْتَمَدِهِمْ- لِكَوْنِهَا بَيْعًا إِلْحَاقًا لِتَسَاوِي الْأَجْزَاءِ قِيمَةً بِتَسَاوِيهَا حَقِيقَةً، وَلِدُعَاءِ الْحَاجَةِ، فَإِنَّ الرَّغَبَاتِ تَتَعَلَّقُ بِتَخْلِيصِ الْحَقِّ مِنَ الْمُزَاحَمَةِ وَسُوءِ الْمُشَارَكَةِ، وَكَمَا يَبِيعُ الْحَاكِمُ مَالَ الْمَدْيُونِ جَبْرًا، وَلَمْ تُحَكَّمْ هَذِهِ الْحَاجَةُ فِي قِسْمَةِ الرَّدِّ؛ لِأَنَّ الْإِجْبَارَ فِيهَا يَكُونُ إِجْبَارًا عَلَى دَفْعِ مَالٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ.

وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْمُتَسَاوِيَ فِي الْمَقْصُودِ الْأَهَمِّ يُعْتَبَرُ كَالْمُتَسَاوِي مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لِإِمْكَانِ التَّجَاوُزِ عَنِ الْفَرْقِ حِينَئِذٍ، سِيَّمَا وَهُوَ يَعْدِلُ بِالْقِيمَةِ: فَالَّذِي يَأْخُذُ نَصِيبَهُ مِنْ هَذَا أَوْ مِنْ ذَاكَ يَكُونُ آخِذًا لِعَيْنِ حَقِّهِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى تَمْيِيزِ الْحُقُوقِ.

الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ:

الْقِسْمَةُ لَا تَخْلُو مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ، إِلاَّ أَنَّهُ فِي قِسْمَةِ الْمِثْلِيِّ يُغَلَّبُ مَعْنَى تَمْيِيزِ الْحُقُوقِ (الْإِفْرَازُ) وَفِي قِسْمَةِ الْقِيَمِيِّ يُغَلَّبُ مَعْنَى الْبَيْعِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ لَا يَخْتَلِفُونَ عَلَيْهِ.

وَقَالُوا: إِنَّهُ مَا مِنْ جُزْءٍ- مَهْمَا قَلَّ- مِنَ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ إِلاَّ وَنِصْفُهُ لِهَذَا وَنِصْفُهُ لِذَاكَ، فَإِذَا اسْتَقَلَّ أَحَدُهُمَا بِنِصْفِ الْمَجْمُوعِ فَشَطْرُ مَا اسْتَقَلَّ بِهِ كَانَ لَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَإِنَّمَا اجْتَمَعَ وَتَمَيَّزَ بَعْدَ شُيُوعٍ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى تَمْيِيزِ الْحُقُوقِ، وَشَطْرُهُ الْآخَرُ كَانَ لِشَرِيكِهِ أَخَذَهُ مِنْهُ عِوَضًا عَمَّا تَرَكَهُ لَهُ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا غُلِّبَ فِي قِسْمَةِ الْمِثْلِيِّ مَعْنَى تَمْيِيزِ الْحُقُوقِ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ فِيهَا عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاوَضَةِ هُوَ عَيْنُ الْمَتْرُوكِ حُكْمًا، إِذْ هُوَ مِثْلُهُ يَقِينًا فَضَعُفَ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، وَلَا كَذَلِكَ قِسْمَةُ الْقِيَمِيِّ، فَلَمْ يَضْعُفْ فِيهَا مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، إِذِ الْمَأْخُوذُ لَيْسَ عَيْنَ الْمَتْرُوكِ وَلَوْ حُكْمًا، وَمِنْ ثَمَّ يَكُونُ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِي قِسْمَةِ الْقِيَمِيِّ أَقْوَى مِنْهُ فِي قِسْمَةِ الْمِثْلِيِّ.

الْآثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَكْيِيفِ الْقِسْمَةِ:

7- تَتَلَخَّصُ هَذِهِ الْآثَارُ فِي أَنَّهُ: إِنْ كَانَتِ الْقِسْمَةُ بَيْعًا، فَإِنَّهَا تُعْطَى أَحْكَامَهُ- مَعَ مُلَاحَظَةِ مَا مَرَّ مِنَ الْمُسْتَثْنَيَاتِ فِي أَشْبَاهٍ لَهَا- وَإِنْ كَانَتْ مَحْضَ تَمْيِيزِ حُقُوقٍ فَإِنَّهَا لَا تُعْطَى أَحْكَامَ الْعُقُودِ أَصْلاً.فَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ:

أ- (الْخِيَارَاتُ): تَدْخُلُ الْخِيَارَاتُ الْقِسْمَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا بَيْعٌ، وَلَا تَدْخُلُهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا تَمْيِيزُ حُقُوقٍ، هَكَذَا نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ

وَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ إِلاَّ أَنَّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ مَنْ نَفَى فِيهَا خِيَارَ الشَّرْطِ عَلَى أَيَّةِ حَالٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ خِيَارَ الْمَجْلِسِ وَخِيَارَ الشَّرْطِ عَلَى أَيَّةِ حَالٍ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ الْخِيَارَ لَمْ يُشْرَعْ خَاصًّا بِالْبَيْعِ، بَلْ لِلتَّرَوِّي وَتَبَيُّنِ أَيِّ الْأَمْرَيْنِ أَرْشَدُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْقِسْمَةِ.

وَنَظَرًا إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ قَائِمٌ فِي كُلِّ قِسْمَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَمْ يُرَدِّدُوا هَذَا التَّرْدِيدَ، بَلْ أَطْلَقُوا دُخُولَ الْخِيَارَاتِ فِي جَمِيعِ أَقْسَامِهَا، وَلَكِنْ عَلَى تَفَاوُتٍ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى آخَرَ.

فَقِسْمَةُ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ- وَهِيَ قِسْمَةُ تَرَاضٍ لَا إِجْبَارَ فِيهَا- تَدْخُلُهَا الْخِيَارَاتُ الثَّلَاثَةُ: خِيَارُ الشَّرْطِ، وَخِيَارُ الْعَيْبِ، وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ.

وَقِسْمَةُ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمِثْلِيَّاتِ- وَهِيَ تَقْبَلُ الْإِجْبَارَ- لَا يَدْخُلُهَا سِوَى خِيَارِ الْعَيْبِ.

وَقِسْمَةُ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ، كَالْبَقَرِ أَوِ الْغَنَمِ أَوِ الثِّيَابِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ- وَهِيَ تَقْبَلُ الْإِجْبَارَ أَيْضًا- يَدْخُلُهَا خِيَارُ الْعَيْبِ بِلَا خِلَافٍ، كَمَا يَدْخُلُهَا خِيَارُ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمُفْتَى بِهِ.

ب- الشُّفْعَةُ: إِنْ كَانَتِ الْقِسْمَةُ تَمْيِيزَ حُقُوقٍ لَمْ تَثْبُتْ فِيهَا الشُّفْعَةُ قَوْلاً وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَتْ بَيْعًا: فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِثُبُوتِهَا، وَصَوَّرُوهَا بِمَا إِذَا تَقَاسَمَ شَرِيكَانِ مِنْ ثَلَاثَةِ شُرَكَاءَ، وَتَرَكَا نَصِيبَ الثَّالِثِ مَعَ أَحَدِهِمَا بِإِذْنِ هَذَا الثَّالِثِ، فَإِنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ لِهَذَا الثَّالِثِ وَقَدْ أَنْكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِي الْمُبَادَلَةِ الْمَحْضَةِ، وَالْقِسْمَةُ لَيْسَتْ مُبَادَلَةً مَحْضَةً.

أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهَا عَلَى الْأَصْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَاهَا لِمَانِعٍ خَاصٍّ بِالْقِسْمَةِ، إِذْ تَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الشُّفْعَةُ عَلَى الْآخَرِ، إِذْ لَوْ ثَبَتَتْ لِهَذَا عَلَى ذَاكَ لَثَبَتَتْ لِذَاكَ عَلَى هَذَا فَيَتَنَافَيَانِ، وَوَصَفَهُ الْمِرْدَاوِيُّ بِأَنَّهُ الصَّوَابُ.

ج- التَّقَايُلُ: إِنْ كَانَتِ الْقِسْمَةُ بَيْعًا قَبِلَتِ التَّقَايُلَ، وَإِنْ كَانَتْ مُجَرَّدَ تَمْيِيزِ حُقُوقٍ لَمْ تَقْبَلْهُ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ.وَيُؤْخَذُ أَيْضًا مِنْ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ وَجَرَى ابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ قِسْمَةَ الْمِثْلِيَّاتِ لَا تَقْبَلُ التَّقَايُلَ، لِغَلَبَةِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ، وَقِسْمَةُ الْقِيَمِيَّاتِ تَقْبَلُهُ، فَإِنْ خَلَطَ الْمُقْتَسِمُونَ مَا اقْتَسَمُوهُ مِنَ الْمِثْلِيِّ كَانَتْ شَرِكَةً جَدِيدَةً، مَعَ أَنَّ الْعَلَائِيَّ وَصَاحِبَ تَنْوِيرِ الْأَبْصَارِ عَلَى تَعْمِيمِ الْقَبُولِ.

أَقْسَامُ الْقِسْمَةِ:

8- تَنْقَسِمُ الْقِسْمَةُ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ إِلَى التَّقْوِيمِ وَعَدَمِهِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:

قِسْمَةُ إِفْرَازٍ-

وَقِسْمَةُ تَعْدِيلٍ-

وَقِسْمَةُ رَدٍّ.

أَوَّلاً: قِسْمَةُ الْإِفْرَازِ:

9- وَهِيَ تُوجَدُ عِنْدَمَا لَا تَكُونُ ثَمَّ حَاجَةٌ إِلَى تَقْوِيمِ الْمَقْسُومِ- أَعْنِي مَا يُرَادُ قَسْمُهُ- لِعَدَمِ تَفَاوُتِ الْأَغْرَاضِ، أَوْ لِأَنَّهُ تَفَاوُتٌ مِنَ التَّفَاهَةِ بِحَيْثُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، فَتَكُونُ الْقِسْمَةُ قِسْمَةَ إِفْرَازٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَطَلَّبُ أَكْثَرَ مِنْ إِفْرَازِ كُلِّ نَصِيبٍ عَلَى حِدَةٍ بِمِعْيَارِهِ الشَّرْعِيِّ: كَيْلاً أَوْ وَزْنًا أَوْ ذَرْعًا أَوْ عَدًّا، وَتُسَمَّى أَيْضًا قِسْمَةَ الْمُتَشَابِهَاتِ: لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلاَّ فِيمَا تَشَابَهَتْ أَنْصِبَاؤُهُ حَتَّى لَا تَفَاوُتَ يُذْكَرُ، أَوِ الْقِسْمَةُ بِالْأَجْزَاءِ: لِأَنَّ نِسْبَةَ الْجُزْءِ الَّذِي يَأْخُذُهُ كُلُّ شَرِيكٍ هِيَ بِعَيْنِهِ نِسْبَةُ حَقِّهِ إِلَى الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمِثْلِيَّاتِ الْمُتَّحِدَةِ النَّوْعِ- كَدَنَانِيرِ بَلَدٍ بِعَيْنِهِ، وَكَالْقَمْحِ الْهِنْدِيِّ، وَالْأَرُزِّ الْيَابَانِيِّ، وَكَالْأَدْهَانِ الْمُتَمَاثِلَةِ مِنْ شَيْرَجٍ أَوْ زَيْتٍ أَوْ عُطُورٍ أَوْ مَا إِلَيْهَا- وَفِيمَا شَاكَلَهَا مِنَ الْقِيَمِيَّاتِ الْمُتَّحِدَةِ النَّوْعِ كَذَلِكَ: كَالْمَنْسُوجَاتِ الصُّوفِيَّةِ أَوِ الْحَرِيرِيَّةِ أَوِ الْقُطْنِيَّةِ، وَكَالْكُتُبِ، وَالْأَقْلَامِ، وَالسَّاعَاتِ، وَالْأَحْذِيَةِ، وَكَالدَّارِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي فِي كُلٍّ مِنْ جَانِبَيْهَا مِثْلُ مَا فِي الْآخَرِ مِنَ الْأَبْنِيَةِ تَصْمِيمًا، وَأَدَوَاتِ بِنَاءٍ، وَإِحْكَامِ صَنْعَةٍ، وَعَدَدِ حُجَرٍ مَعَ إِمْكَانِ قِسْمَةِ السَّاحَةِ الْفَاصِلَةِ بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ.وَبِالْجُمْلَةِ عِنْدَمَا تَتَسَاوَى الْأَنْصِبَاءُ صُورَةً وَقِيمَةً.

ثَانِيًا: قِسْمَةُ التَّعْدِيلِ:

10- وَتَكُونُ عِنْدَمَا لَا تَتَعَادَلُ الْأَنْصِبَاءُ بِذَاتِهَا، وَإِنَّمَا تَتَعَادَلُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، يُوَضِّحُهُ: أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ الْمَالُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ اثْنَيْنِ مُنَاصَفَةً.وَلَكِنَّ قِيمَةَ ثُلُثِهِ- لِمَا اخْتُصَّ بِهِ مِنْ مَزَايَا- تُسَاوِي قِيمَةَ ثُلُثَيْهِ؛ فَيُجْعَلُ فِي الْقِسْمَةِ الثُّلُثُ الْمَذْكُورُ سَهْمًا بِحَقِّ النِّصْفِ، وَالثُّلُثَانِ سَهْمًا آخَرَ بِحَقِّ النِّصْفِ الْآخَرِ، كَمَا أَنَّ السَّاعَةَ قَدْ تُجْعَلُ سَهْمًا بِحَقِّ النِّصْفِ، وَالْكِتَابُ وَالْقَلَمُ سَهْمًا آخَرَ بِحَقِّ النِّصْفِ الْآخَرِ، إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا تُسَاوِي قِيمَتَيْهِمَا.

ثَالِثًا: قِسْمَةُ الرَّدِّ:

11- وَتَكُونُ إِذَا لَمْ تَعْدِلِ الْأَنْصِبَاءُ، بَلْ تُرِكَتْ مُتَفَاوِتَةَ الْقِيمَةِ اخْتِيَارًا أَوِ اضْطِرَارًا، وَبِحَيْثُ يَكُونُ عَلَى الَّذِي يَأْخُذُ النَّصِيبَ الزَّائِدَ أَنْ يَرُدَّ عَلَى شَرِيكِهِ قِيمَةَ حَقِّهِ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ.

وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِمَكَانِ الْحَاجَةِ فِيهَا إِلَى رَدِّ مَالٍ أَجْنَبِيٍّ عَنْ مَالِ الشَّرِكَةِ إِلَى بَعْضِ الشُّرَكَاءِ- وَهِيَ قِسْمَةُ تَعْدِيلٍ أَيْضًا- وَلَكِنْ يُشَارُ إِلَيْهَا بِفَصْلِهَا الْمُمَيَّزِ، وَإِذَا أُطْلِقَتْ قِسْمَةُ التَّعْدِيلِ فَإِنَّمَا تَنْصَرِفُ إِلَى مَا لَا رَدَّ فِيهَا، وَهَاكَ مِثَالَيْنِ لِقِسْمَةِ الرَّدِّ: أَحَدُهُمَا يُمَثِّلُهَا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ، وَالْآخَرُ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ:

الْمِثَالُ الْأَوَّلُ: أَرْضٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ مُنَاصَفَةً.وَفِي أَحَدِ جَانِبَيْهَا بِئْرٌ لِرَيِّهَا لَا تُمْكِنُ قِسْمَتُهَا، فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ تُقْسَمَ الْأَرْضُ نِصْفَيْنِ عَلَى سَوَاءٍ، وَيَكُونَ عَلَى الَّذِي يَأْخُذُ النِّصْفَ الَّذِي فِيهِ الْبِئْرُ نِصْفُ قِيمَتِهَا لِلَّذِي يَأْخُذُ النِّصْفَ الْآخَرَ، وَهَذِهِ قِسْمَةُ رَدٍّ.

وَيُمْكِنُ أَنْ تُقَوَّمَ الْأَرْضُ وَالْبِئْرُ مَعًا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ مَثَلاً، لِلْبِئْرِ مِنْهَا ثُلُثُهَا: فَيَأْخُذُ أَحَدُهُمَا الْبِئْرَ وَرُبْعَ الْأَرْضِ، وَيَأْخُذُ الْآخَرُ الثَّلَاثَةَ الْأَرْبَاعِ الْبَاقِيَةِ، وَهَذِهِ قِسْمَةُ تَعْدِيلٍ لَا رَدَّ فِيهَا.

فَإِذَا قُسِمَتْ عَلَى النَّحْوِ الْأَوَّلِ فَهِيَ قِسْمَةُ رَدٍّ يُؤْثِرَانِهَا اخْتِيَارًا دُونَ أَنْ تُلْجِئَ إِلَيْهَا ضَرُورَةٌ.

وَمِثْلُ الْبِئْرِ غَيْرُهَا كَشَجَرَةٍ أَوْ بِنَاءٍ لَا يُقْسَمُ أَوْ مَنْجَمٍ (مَعْدِنٍ) كَذَلِكَ.

الْمِثَالُ الثَّانِي: لَوْ فَرَضْنَا فِي الْمِثَالِ السَّابِقِ أَنَّ قِيمَةَ الْبِئْرِ تُسَاوِي أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْأَرْضِ كُلِّهَا، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ بُدٌّ مِنْ أَنْ يَرُدَّ آخُذُهَا عَلَى الْآخَرِ قِيمَةَ مَا بَقِيَ لَهُ فِي تِلْكَ الْبِئْرِ بَعْدَ التَّعْدِيلِ بِالْقِيمَةِ، فَإِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْأَرْضِ أَلْفًا، وَقِيمَةُ الْبِئْرِ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ، فَإِنَّ نَصِيبَ كُلٍّ مِنْهُمَا يَكُونُ مَا قِيمَتُهُ أَلْفٌ وَمِائَةٌ، فَإِذَا أَخَذَ أَحَدُهُمَا الْأَرْضَ كُلَّهَا وَتَرَكَ الْبِئْرَ، رَدَّ عَلَيْهِ الْآخَرُ مِائَةً، وَإِذَا أَخَذَ بَعْضَ الْأَرْضِ فَقَطْ رَدَّ عَلَيْهِ الْآخَرُ أَيْضًا قِيمَةَ مَا تَرَكَ لَهُ مِنْهَا.

وَهَذَا التَّقْسِيمُ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَيُلَخِّصُونَهُ بِأَنَّ الْمَقْسُومَ إِنْ تَسَاوَتِ الْأَنْصِبَاءُ مِنْهُ صُورَةً وَقِيمَةً فَالْإِفْرَازُ، وَإِلاَّ فَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى رَدِّ شَيْءٍ آخَرَ فَالتَّعْدِيلُ، وَإِلاَّ فَالرَّدُّ وَقَدْ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِمِثْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يُبْرِزُوهُ إِبْرَازَ الشَّافِعِيَّةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ مُفْلِحٍ فِي الْفُرُوعِ: وَتُعْدَلُ السِّهَامُ بِالْأَجْزَاءِ إِنْ تَسَاوَتْ، وَبِالْقِيمَةِ إِنِ اخْتَلَفَتْ، وَبِالرَّدِّ إِنِ اقْتَضَتْهُ.

وَلَا بُدَّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ مِنَ التَّقْوِيمِ، وَيَقُومُ مَقَامَهُ التَّحَرِّي، أَيِ الْخَرْصُ فِي قِسْمَةِ الزَّرْعِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ، وَكَذَا فِيمَا يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ مِنْ غَيْرِ الْمَزْرُوعَاتِ وَذَلِكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ تُرَادُ قِسْمَتُهُ بِالْقُرْعَةِ عَقَارًا أَوْ مَنْقُولاً، بِاسْتِثْنَاءِ شَيْئَيْنِ اثْنَيْنِ عَلَى خِلَافٍ عِنْدَهُمْ فِي اسْتِثْنَائِهِمَا:

أ- الْمِثْلِيَّاتُ- وَهِيَ الْمَكِيلَاتُ وَالْمَوْزُونَاتُ وَالْمَعْدُودَاتُ «الْمُتَّفِقَةُ الصِّفَةِ» فَإِنَّهَا تُقْسَمُ كَيْلاً أَوْ وَزْنًا أَوْ عَدًّا، وَالِاسْتِثْنَاءُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْقَوْلِ بِقَبُولِهَا الْقُرْعَةَ، فَإِنَّ ابْنَ عَرَفَةَ فِي فَتَاوِيهِ، تَبَعًا لِلْبَاجِيِّ، لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقِيَمِيَّاتِ وَعِبَارَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ: قَالَ مَالِكٌ: تُقْسَمُ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا عَلَى الْقِيمَةِ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِالسِّهَامِ.

ب- الْعَقَارُ الْمُتَّفِقُ الْمَبَانِي: بِأَنْ يَكُونَ فِي كُلٍّ مِنْ جَانِبَيْهِ مِثْلُ مَا فِي الْآخَرِ عَيْنًا وَمَنْفَعَةً، فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ بَهْرَامَ أَنْ يُقْسَمَ بِالْمِسَاحَةِ، وَجَرَى الْخَرَشِيُّ عَلَى عَدَمِ اعْتِمَادِهِ وَاعْتَمَدُوهُ فِي حَوَاشِي التُّحْفَةِ.

فَأَنْتَ تَرَى قِسْمَةَ الْإِفْرَازِ وَاضِحَةً لَائِحَةً عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَمُوَافِقِيهِمْ فِي قِسْمَةِ الْمِثْلِيَّاتِ الْمُتَّفِقَةِ الصِّفَةِ وَفِي قِسْمَةِ الْعَقَارِ الْمُتَّفِقِ الْمَبَانِي: الْأَوَّلُ عَلَى مُعْتَمَدِهِمْ، وَالثَّانِي عَلَى قَوْلِ بَهْرَامَ وَمُعْتَمِدِيهِ، وَقِسْمَةُ التَّعْدِيلِ فِيمَا عَدَاهُمَا.

هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِقِسْمَةِ الْقُرْعَةِ، أَمَّا قِسْمَةُ التَّرَاضِي فَقَدْ تَكُونُ بِتَقْوِيمٍ وَتَعْدِيلٍ وَقَدْ تَكُونُ بِدُونِهِمَا.

أَمَّا قِسْمَةُ الرَّدِّ، فَالْمَالِكِيَّةُ يُثْبِتُونَهَا عَلَى التَّرَاضِي مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ؛ لِانْطِوَاءِ الْقُرْعَةِ فِيهَا عَلَى الْغَرَرِ الْكَثِيرِ، إِذْ قَدْ يُرِيدُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَخْذَ الْأَحَظِّ وَتَحَمُّلَ الْفَرْقِ أَوْ عَكْسَهُ، وَلَكِنَّ الْقُرْعَةَ تُخْرِجُ لَهُ مَا لَا يَشْتَهِي، وَقَدْ أَثْبَتَهَا خَلِيلٌ فِي قِسْمَةِ الْقُرْعَةِ أَيْضًا لَكِنْ فِي الشَّيْءِ الْقَلِيلِ، إِلاَّ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَمِدُوهُ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ النَّفْرَاوِيُّ: وَلَا يُؤَدِّي أَحَدُ الشُّرَكَاءِ ثَمَنًا لِشَرِيكِهِ لِزِيَادَةٍ فِي سَهْمِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَكُ فِيهِ ثَوْبَيْنِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا يُسَاوِي دِينَارَيْنِ، وَالْآخَرُ يُسَاوِي دِينَارًا، وَاقْتَرَعَا عَلَى أَنَّ مَنْ صَارَ لَهُ الَّذِي يُسَاوِي الدِّينَارَيْنِ يَدْفَعُ نِصْفَ دِينَارٍ لِيَحْصُلَ التَّعَادُلُ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِمَا يَلْزَمُ مِنْ دُخُولِ قِسْمَةِ الْقُرْعَةِ فِي صِنْفَيْنِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي قِسْمَةِ الْقُرْعَةِ، قَالَ خَلِيلٌ- بِالْعَطْفِ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ- «أَوْ فِيهِ تَرَاجُعٌ، إِلاَّ أَنْ يَقِلَّ» وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ الْجَوَازِ، وَلَوْ قَلَّ مَا بِهِ التَّرَاجُعُ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ: «وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ الَّذِي دَخَلَا عَلَيْهِ تَرَاجُعٌ لَمْ يَجُزِ الْقَسْمُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ إِلاَّ بِتَرَاضٍ مِنْهُمَا فَيَجُوزُ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْمُرَاضَاةِ يَجُوزُ دُخُولُهَا فِي الْجِنْسَيْنِ» وَحِينَئِذٍ فَمَا يَقَعُ بَيْنَ الْعَوَامِّ مِنْ (الْفِصَالِ)- وَهُوَ قِسْمَةُ الْمَوَاشِي- مِنْ جَعْلِ نَحْوِ الْبَقَرَةِ قِسْمًا، وَبِنْتِهَا مَعَ بَعْضِ دَرَاهِمَ قِسْمًا آخَرَ، وَيَدْخُلَانِ عَلَى الْقُرْعَةِ، فَاسِدٌ- وَإِنِ اسْتَحْسَنَهُ اللَّخْمِيُّ بِالشَّيْءِ الْقَلِيلِ، وَمَشَى عَلَيْهِ الْعَلاَّمَةُ خَلِيلٌ، فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ- كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ الْمَنْعُ مُطْلَقًا.

وَأَمَّا بِالْمُرَاضَاةِ بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِ الصَّغِيرَةِ وَتَأْخُذُ كَذَا، أَوِ الْكَبِيرَةِ وَتَدْفَعُ كَذَا- مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ- فَيَجُوزُ وَمِثْلُهُ فِي التُّحْفَةِ وَحَوَاشِيهَا وَمَثَّلُوا بِدَارَيْنِ إِحْدَاهُمَا بِمِائَةٍ وَالْأُخْرَى بِسِتِّينَ أَوْ تِسْعِينَ: لَا يَجُوزُ بِالْقُرْعَةِ أَنْ يَسْتَقِلَّ كُلٌّ بِدَارٍ، عَلَى أَنْ يَرُدَّ مَنْ أَخَذَ أَفْضَلَ الدَّارَيْنِ عِشْرِينَ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى، أَوْ خَمْسَةً فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ، وَرَخَّصَ فِي هَذِهِ الْأَخِيرَةِ اللَّخْمِيُّ، أَيْ وَفِي كُلِّ حَالَاتِ الْقِلَّةِ، وَقَدَّرُوهَا بِنِصْفِ الْعُشْرِ أَوْ نَحْوِهِ وَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ جَوَازُ قِسْمَةِ الرَّدِّ بِإِطْلَاقٍ، وَإِنْ كَانَ كَلَامُهَا فِي الْعَقَارِ.

تَقْسِيمُ الْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ إِرَادَةِ الْمُتَقَاسِمِينَ:

12- الْقِسْمَةُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ قِسْمَانِ: قِسْمَةُ تَرَاضٍ، وَقِسْمَةُ إِجْبَارٍ، وَلَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى الْإِجْمَاعِ.ذَلِكَ أَنَّ الشُّرَكَاءَ قَدْ يَرْغَبُونَ جَمِيعًا فِي قِسْمَةِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ، أَوْ يَرْغَبُ بَعْضُهُمْ وَيُوَافِقُ الْبَاقُونَ عَلَى أَصْلِ الْقِسْمَةِ وَعَلَى كَيْفِيَّةِ تَنْفِيذِهَا، فَلَا تَكُونُ بِهِمْ حَاجَةٌ إِلَى اللُّجُوءِ إِلَى الْقَضَاءِ، وَتُسَمَّى الْقِسْمَةُ حِينَئِذٍ قِسْمَةَ تَرَاضٍ.

وَقَدْ يَرْغَبُ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ، وَيَأْبَى غَيْرُهُ، فَإِذَا لَجَأَ الرَّاغِبُ إِلَى الْقَضَاءِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَتَوَلَّى قِسْمَةَ الْمَالِ وَفْقَ الْأُصُولِ الْمُقَرَّرَةِ شَرْعًا، وَتَكُونُ الْقِسْمَةُ حِينَئِذٍ قِسْمَةَ إِجْبَارٍ.

فَقِسْمَةُ التَّرَاضِي: هِيَ الَّتِي تَكُونُ بِاتِّفَاقِ الشُّرَكَاءِ. وَقِسْمَةُ الْإِجْبَارِ: هِيَ الَّتِي تَكُونُ بِوَاسِطَةِ الْقَضَاءِ، لِعَدَمِ اتِّفَاقِ الشُّرَكَاءِ.

ثُمَّ لَيْسَ حَتْمًا فِي قِسْمَةِ الْإِجْبَارِ أَنْ يَتَوَلاَّهَا الْقَاضِي بِنَفْسِهِ، أَوْ بِمَنْ يَنْدُبُهُ لِذَلِكَ، بَلْ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْمُمْتَنِعَ مِنَ الْقِسْمَةِ حَتَّى يُجِيبَ إِلَيْهَا، وَيُحَدِّدَ لَهُ الْقَاضِي مُدَّةً مَعْقُولَةً لِإِتْمَامِهَا بِصُورَةٍ عَادِلَةٍ.

وَفِي كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ إِشَارَةٌ صَرِيحَةٌ إِلَى نَحْوٍ مِنْ هَذَا، إِذْ يَقُولُونَ: لَيْسَتِ الْقِسْمَةُ بِقَضَاءٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، حَتَّى لَا يُفْتَرَضَ عَلَى الْقَاضِي مُبَاشَرَتُهَا، وَإِنَّمَا الَّذِي يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ جَبْرُ الْآبِي عَلَى الْقِسْمَةِ.

13- وَقَدْ عَلِمْنَا فِيمَا سَلَفَ أَنَّ قِسْمَةَ النَّوْعِ الْوَاحِدِ تَقْبَلُ الْإِجْبَارَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مِثْلِيًّا كَانَ كَالْحُبُوبِ أَوِ الْأَدْهَانِ أَوِ الْجَوْزِ أَوِ الْبَيْضِ، (وَيَكْفِي تَقَارُبُ الْمِثْلِيِّ الْعَدَدِيِّ) أَمْ قِيَمِيًّا كَالْإِبِلِ أَوِ الْبَقَرِ أَوِ الْغَنَمِ، وَكَذَا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ الدُّورُ أَوِ الْحَوَانِيتُ فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ، وَالْأَرَاضِي الزِّرَاعِيَّةُ أَوِ الْبَسَاتِينُ كَذَلِكَ، أَمَّا قِسْمَةُ الْأَنْوَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ- كَخَلِيطٍ مِنَ الْأَمْثِلَةِ الْآنِفِ ذِكْرُهَا- قِسْمَةُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ، حَتَّى يَسْتَقِلَّ الشَّرِيكُ بِنَوْعٍ أَوْ أَكْثَرَ (وَهِيَ مِنْ قِسْمَةِ الْجَمْعِ) فَهَذِهِ لَا تَقْبَلُ الْإِجْبَارَ، لِمَكَانِ فُحْشِ تَفَاوُتِهَا وَتَفَاوُتِ الرَّغَبَاتِ فِيهَا: فَيَتَعَذَّرُ تَعْدِيلُهَا، وَيَنْطَوِي الْإِجْبَارُ عَلَيْهَا عَلَى الْجَوْرِ وَالضَّرَرِ، فَإِذَا تَرَاضَى الشُّرَكَاءُ عَلَيْهَا فَلَا مَانِعَ مِنْهَا حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ مَا عَسَاهُ يَكُونُ قَدْ فَاتَ بِهَا مِنْ حَقِّ أَحَدِهِمْ فَإِنَّمَا فَاتَ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ، وَالَّذِي يَمْلِكُ الْحَقَّ يَمْلِكُ إِسْقَاطَهُ، مَا دَامَ حَقًّا خَالِصًا لَهُ نَعَمْ، إِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْوُصُولُ إِلَى الْحَقِّ إِلاَّ جَبْرًا عَلَى هَذِهِ الْمُبَادَلَةِ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَيْهَا كَقَضَاءِ الدَّيْنِ.

لَكِنْ شَرِيطَةُ الْإِجْبَارِ بَعْدَ طَلَبِ الْقِسْمَةِ: انْتِفَاءُ الضَّرَرِ، وَالْمُرَادُ بِالضَّرَرِ هُنَا: هُوَ فَوَاتُ الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنَ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ.وَهُنَاكَ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ فِي تَحْدِيدِ مَدَاهُ:

الرَّأْيُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الضَّرَرُ الْعَامُّ فَحَسْبُ، أَيِ الَّذِي لَا يَخُصُّ شَرِيكًا دُونَ آخَرَ: بِأَنْ بَطَلَتْ بِالنِّسْبَةِ لِكُلِّ شَرِيكٍ الْمَنْفَعَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنَ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ، كَمَا لَوْ كَانَ حَجْمُ الْبَيْتِ أَوِ الْحَمَّامِ أَوِ الطَّاحُونِ صَغِيرًا، لَا يَنْقَسِمُ بِعَدَدِ الشُّرَكَاءِ بُيُوتًا وَحَمَّامَاتٍ وَطَوَاحِينَ، وَكَمَا فِي قِسْمَةِ الْجَوْهَرَةِ، وَالثَّوْبِ الْوَاحِدِ، وَالْحِذَاءِ، وَالْجِدَارِ وَالْبَقَرَةِ، وَالشَّاةِ، فَهَذَا الضَّرَرُ هُوَ الَّذِي يَمْنَعُ مِنَ الْإِجْبَارِ عَلَى الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهَا لِتَكْمِيلِ الْمَنْفَعَةِ، وَلَيْسَ هُنَا إِلاَّ تَفْوِيتُهَا، فَيَكُونُ مِنْ قَلْبِ الْمَوْضُوعِ، وَهَكَذَا كُلُّ مَا تَحْتَاجُ قِسْمَتُهُ إِلَى كَسْرٍ أَوْ قَطْعٍ، وَلِذَا قَالُوا: لَوْ كَانَ مَعَ مَا لَا يُقْسَمُ- لِمَا فِي قِسْمَتِهِ مِنَ الضَّرَرِ الْعَامِّ لِلْمُقْتَسِمَيْنِ، مِنْ عَيْنٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ نَهْرٍ أَوْ قَنَاةٍ- أَرْضٍ، قُسِمَتِ الْأَرْضُ وَتُرِكَتِ الْبِئْرُ وَالْقَنَاةُ وَمَا إِلَيْهِمَا عَلَى الشَّرِكَةِ، أَمَّا عَلَى التَّرَاضِي فَلَا مَانِعَ مِنَ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ الْإِضْرَارَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَالْقَاضِي لَا يَمْنَعُ بِالْقَضَاءِ مَنْ يَقْدَمُ عَلَى إِتْلَافِ مَالِهِ.

أَمَّا الضَّرَرُ الْخَاصُّ بِبَعْضِ الشُّرَكَاءِ دُونَ بَعْضٍ- كَمَا لَوْ كَانَ نَصِيبُ وَاحِدٍ فَحَسْبُ فِي الْبَيْتِ أَوِ الْحَمَّامِ أَوِ الطَّاحُونِ هُوَ الَّذِي يَتَّسِعُ لِمِثْلِ ذَلِكَ- فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْإِجْبَارَ عَلَى الْقِسْمَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُسْتَضِرُّ هُوَ طَالِبُ الْقِسْمَةِ أَمْ غَيْرُهُ، ذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُسْتَضِرُّ هُوَ طَالِبُ الْقِسْمَةِ، فَقَدْ رَضِيَ بِضَرَرِ نَفْسِهِ، وَبِذَا صَارَتِ الْقِسْمَةُ كَالْخَالِيَةِ مِنْ شَوْبِ الضَّرَرِ، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ، فَإِنَّ الضَّرَرَ اللاَّحِقَ بِالْمُسْتَضِرِّ مِنَ الْقِسْمَةِ لَيْسَ- إِذَا أَمْعَنَّا النَّظَرَ- بِضَرَرٍ حَقِيقِيٍّ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَفُوتُ بِهِ حَقٌّ لَهُ، وَإِنَّمَا كُلُّ مَا هُنَالِكَ أَنَّهُ بِسَبَبِ قِلَّةِ نَصِيبِهِ يُرِيدُ لِنَفْسِهِ اسْتِمْرَارَ الِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِ شَرِيكِهِ، وَهَذَا يَأْبَى عَلَيْهِ، وَيُطَالِبُ بِاسْتِخْلَاصِ حَقِّهِ، وَتَكْمِيلِ مَنَافِعِ مِلْكِهِ، وَلِهَذَا شُرِعَتِ الْقِسْمَةُ، وَوَظِيفَةُ الْقَاضِي الْقِيَامُ بِوَاجِبِ الْإِنْصَافِ، وَإِعْطَاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ هُنَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَرَّرَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ.

الرَّأْيُ الثَّانِي: أَنَّهُ الضَّرَرُ الَّذِي لَا يَخُصُّ الطَّالِبَ، فَيَشْمَلُ الضَّرَرَ الْخَاصَّ بِالْمُمْتَنِعِ وَالضَّرَرَ الْعَامَّ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ طَالِبِ الْقِسْمَةِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ بِطَلَبِهِ، إِذْ مَعْنَاهُ رِضَاهُ بِضَرَرِ نَفْسِهِ، أَمَّا ضَرَرُ الْآخَرِ (وَهُوَ الْمُمْتَنِعُ) فَلَيْسَ ثَمَّ مَا يُسْقِطُ اعْتِبَارَهُ، وَالطَّالِبُ لَا يُسَلَّطُ عَلَى الْإِضْرَارِ بِغَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجَصَّاصُ.

الرَّأْيُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ الضَّرَرُ الَّذِي لَا يَخُصُّ الْمُمْتَنِعَ فَيَشْمَلُ الضَّرَرَ الْخَاصَّ بِطَالِبِ الْقِسْمَةِ، وَالضَّرَرَ الْعَامَّ أَيْ عَكْسَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ ضَرَرَ الْمُمْتَنِعِ لَيْسَ ضَرَرًا حَقِيقِيًّا- كَمَا أَوْضَحْنَاهُ- فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ فِي ضَرَرِ الطَّالِبِ: فَإِذَا انْتَفَى فَلَيْسَ ثَمَّ مَانِعٌ مَا مِنَ الْإِجْبَارِ عَلَى الْقِسْمَةِ، وَإِذَا لَمْ يَنْتَفِ، كَانَ مُتَعَنِّتًا بِطَلَبِ الْقِسْمَةِ، وَالْمُتَعَنِّتُ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَقِسْمَةُ الْإِجْبَارِ لَا تَكُونُ بِدُونِ طَلَبٍ مُعْتَدٍّ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَرَّرَهُ الْخَصَّافُ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْقُدُورِيُّ، وَقَالَ فِي الْهِدَايَةِ: إِنَّهُ الْأَصَحُّ. 14- أَمَّا قِسْمَةُ التَّرَاضِي: فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا انْتِفَاءُ الضَّرَرِ، بَلِ الرِّضَا بِهِ مِمَّنْ يَقَعُ عَلَيْهِ، وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ حَتَّى لَوْ كَانَتِ الْقِسْمَةُ ضَارَّةً بِجَمِيعِ الشُّرَكَاءِ لَكِنَّهُمْ رَضَوْا بِهَا فَهَذَا شَأْنُهُمْ وَحْدَهُمْ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ لَا يَعْدُوهُمْ، وَهُمْ أَدْرَى بِحَاجَاتِهِمْ، فَلَا يَكُونُ ثَمَّ مَانِعٌ مِنْهَا وَقَدْ رَضُوا بِضَرَرِ أَنْفُسِهِمْ.

15- وَلَا يُخَالِفُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى الْإِجْمَاعِ فِي أَنَّ الْقِسْمَةَ تَتَنَوَّعُ إِلَى: قِسْمَةِ تَرَاضٍ وَقِسْمَةِ إِجْبَارٍ، وَلَكِنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ.

فَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ لَمْ تَتَّفِقْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى قَبُولِ الْقِسْمَةِ لِلْإِجْبَارِ إِلاَّ فِي قِسْمَةِ الْإِفْرَازِ (قِسْمَةِ الْمُتَشَابِهَاتِ)- بِالْمَعْنَى الَّذِي سَبَقَ (ف9)؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ يُرِيدُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَالِهِ عَلَى الْكَمَالِ، وَأَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ سُوءِ الْمُشَارَكَةِ، دُونَ إِضْرَارٍ بِأَحَدٍ.

كَمَا لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى امْتِنَاعِ الْإِجْبَارِ إِلاَّ فِي قِسْمَةِ الرَّدِّ؛ لِأَنَّهُ فِيهَا تَمْلِيكُ مَا لَا شَرِكَةَ فِيهِ، وَالشَّأْنُ فِيهِ أَلاَّ يَقْبَلَ الْإِجْبَارُ أَمَّا فِي قِسْمَةِ التَّعْدِيلِ بِمَعْنَاهَا السَّابِقِ (ف 10) فَمِنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ نَفْسِهِ، مَنْ يَمْنَعُ قَبُولَهَا لِلْإِجْبَارِ مَنْعًا مُطْلَقًا لَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ أَنَّ الْأَنْصِبَاءَ غَيْرُ مُتَسَاوِيَةٍ بِنَفْسِهَا.بَلْ بِقِيمَتِهَا، وَالْأَغْرَاضُ وَالْمَنَافِعُ تَتَفَاوَتُ رَغْمَ اسْتِوَاءِ الْقِيمَةِ، فَلَيْسَتْ حَدِيقَةُ الْبُرْتُقَالِ كَحَدِيقَةِ الْعِنَبِ، فِي نَفْسِهَا وَلَا فِي عَائِدَتِهَا وَجَدْوَاهَا، وَلَا فِي مُلَاقَاةِ رَغَبَاتِ النَّاسِ وَحَاجَاتِهِمْ- وَلَوْ أَنَّ كُلًّا مِنْ هَذِهِ وَتِلْكَ يُسَاوِي أَلْفَ دِينَارٍ مَثَلاً، وَلَا الْمِسَاحَةُ الصَّغِيرَةُ الْجَيِّدَةُ التُّرْبَةِ أَوِ الْمُطِلَّةُ عَلَى النَّهْرِ كَالْمِسَاحَةِ الْفَسِيحَةِ الرَّدِيئَةِ أَوِ الْخَلْفِيَّةِ- وَإِنْ تَسَاوَتْ قِيمَتَاهَا.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسِيغُهُ؛ لِأَنَّ لِطَالِبِ الْقِسْمَةِ غَرَضًا صَحِيحًا، وَلَنْ يَفُوتَ الْآخَرَ شَيْءٌ مِنْ حَقِّهِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُهُمْ تَنْزِيلاً لِلتَّسَاوِي فِي الْقِيمَةِ مَنْزِلَةَ التَّسَاوِي فِي الْأَجْزَاءِ وَمَا عَسَاهُ يَفُوتُ عَيْنًا يُعْتَاضُ عَنْهُ بِالتَّخَلُّصِ مِنْ مَسَاوِئِ الشَّرِكَةِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ الْمُمْتَنِعُ مِنَ الْقِسْمَةِ سَيِّئَ النِّيَّةِ، يُرِيدُ الْجَوْرَ وَالِاغْتِصَابَ بِالْإِبْقَاءِ عَلَى شَرِكَةٍ غَيْرِ مُتَوَازِنَةٍ، كَمَا لَوْ كَانَ لَا يَمْلِكُ فِيهَا إِلاَّ بِنِسْبَةِ الْعُشْرِ، وَتَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ إِيضَاحُهُ (ف 13) وَهَذَا قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيِّ، وَعَلَيْهِ مُعَوَّلُ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ لَا يَخْتَلِفُونَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَبْدَوُا احْتِمَالاً بِمِثْلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِلشَّافِعِيِّ فِي خُصُوصِ الْمَنْقُولَاتِ إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ عَادُوا بَعْدَمَا أَطْلَقُوهُ، فَذَكَرُوا فُرُوعًا يُسْتَفَادُ مِنْهَا تَقْيِيدُهُ، وَفَعَلَ الْحَنَابِلَةُ مِثْلَ ذَلِكَ أَيْضًا، وَزَادُوا التَّصْرِيحَ بِبَعْضِ الشَّرَائِطِ.

موسوعة الفقه الكويتية-وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت-صدرت بدءًا من: 1404هـ/1984م


5-تاج العروس (شفع)

[شفع]: الشَّفْعُ: خِلافُ الوَتْرِ، وهو الزَّوْج، وبخَطِّ الجَوْهَرِيِّ: خلافُ الزَّوْجِ، وهو الوَتْرُ.

وِقد شَفَعَهُ شَفْعًا، كَمَنَعَه أَي كان وَتْرًا فصَيَّرَه زَوْجًا.

وِالشَّفْع: يَوْمُ الأَضْحَى؛ أَي من حَيثُ إِن له نظِيرًا يَلِيه، والوَتْرُ: يومُ عَرَفة، وهكَذَا قِيل في تَفْسِيرِ قوْلِه تعالى: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وهو قَوْلُ الأَسْوَدِ بنِ يَزِيدَ، وقالَ عَطاءٌ: الوَتْرُ: هو الله تَعالَى، والشَّفْعُ: الخلْقُ لِقوْله تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْ‌ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ وقالَ الرّاغِبُ: هو الله من حَيْثُ ماله، وهُو الوَحْدَةُ من كُلِّ وَجْهٍ، والشَّفْعُ: المَخْلُوقاتُ من حَيْث إِنّهَا مُرَكَّبَاتٌ. أَو الشَّفْع: هُوَ الله عَزَّ وَجَلَّ، لِقَوْلهِ تَعالَى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلّا هُوَ رابِعُهُمْ وقِيلَ: الوَتْر: آدَمُ عليه‌السلام، والشَّفْعُ: شُفِعَ بزَوْجِه، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ. وقِيلَ: الشَّفْعُ: وَلَدُه، وقِيلَ: الشَّفْعُ: يَوْمَانِ بعدَ الأَضْحَى، والوَتْرُ: اليومُ الثّالِثُ، وقِيلَ: الشَّفْعُ والوَتْرُ: الصَّلَوَاتُ، منها شَفْعٌ، ومِنْهَا وَتْرٌ، وقِيلَ: فِي الشَّفْعِ والوَتْرِ: إِنّ الأَعْدَادَ كُلَّها شَفْعٌ ووَتْرٌ. قال الصّاغَانِيُّ: وفي الشَّفْعِ والوَتْرِ عِشْرُونَ قَوْلًا، وليس هذا مَوْضِعَ ذِكْرِ أَقاوِيلِهم.

وِعَيْنٌ شافِعَةٌ: تَنْظُرُ نَظَرَيْنِ، وأَنْشَدَ ابنُ الأَعْرَابِي:

ما كان أَبْصَرَنِي بغِرّاتِ الصِّبَا *** فاليَوْمَ قد شُفِعَتْ لِيَ الأَشْبَاحُ

بالضَمِّ: أَي: أَرَى الشَخْصَ شَخْصَيْنِ؛ لضَعْفِ بَصَرِي وانْتِشَارِه وأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ:

لِنَفْسِي حَدِيثٌ دُونَ صَحْبِي وأَصْبَحَت *** تَزِيدُ لِعَيْنَيَّ الشُّخُوصُ الشَّوَافِعُ

ولم يُفَسِّرْه، وهو عِنْدِي مثلُ الَّذِي تَقَدَّم.

وِبَنُو شافِعٍ: من بَنِي المُطَّلِبِ بنِ عَبْدِ مَنَاف، وهو شافِعُ بنُ السّائبِ بنِ عُبَيْدِ بنِ عَبْدِ يَزِيدَ بن هاشِمِ بنِ المُطَّلِبِ، له رُؤْيَةٌ، كما ذَكَرَه ابنُ فَهْد، وأَبُوهُ السّائِبُ كانَ يُشبَّهُ بالنَّبِيِّ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم، يُقَالُ: لُه صُحْبَةٌ وأَنَّه أَسْلَمَ يومَ بَدْر بعدَ أَنْ أُسِرَ، وفَدَى نَفْسَه، كذا قالَهُ الطَّبَرِيُّ، مِنْهُم إِمامُ الأَئِمَةِ، ونَجْمُ السُنَّةِ، أَحَدُ المُجْتَهِدِينَ، عالِمُ قُرَيْشٍ وأَوْحَدُهَا الإِمامُ أَبو عُبْدِ الله مُحَمَّدُ بنُ إِدْرِيس بن عُثْمَانَ بنِ شافِعٍ الشّافِعِيُّ القُرَشِيُّ رَحِمَه الله تَعالَى ورَضِيَ عنه، وأَرْضَاه عَنّا، والنِّسْبَةُ إِليه رضِيَ الله عنه شافِعِيٌّ أَيْضًا، ولا يُقَالُ: شَفْعَويٌّ، فإِنَّه لَحْنٌ، وإِن كانَ وَقَعَ في بَعْض كُتُبِ الفِقْهِ للخُرَاسانِيَّين، كالوَسِيطِ وغَيْره، وهو خَطَأٌ، فليُجْتَنَبْ، نَبَّه عليه النَّوَوِيُّ، كما في الإِعَارَاتِ لابْنِ المُلَقّنِ، حَقَّقَه شَيْخُ مَشَايِخِنا الشّهابُ أَحْمَدُ بنُ أَحْمَدَ العَجَمِيُّ في ذَيْلِ اللُّبِّ، وُلِدَ الإِمَامُ رضي ‌الله‌ عنه في سَنَةِ مِائةٍ وخَمْسِينَ، نَهَارَ الجُمْعَةِ آخر يَوْمٍ من شَهْرِ رَجَب، وتُوُفِّيَ سنَةَ مائِتَيْنِ وأَربع، وحُمِلَ على الأَعْنَاقِ من فُسطاطِ مصْرَ حَتَّى دُفِنَ في مَقْبَرَةِ بَنِي زُهْرَةَ، وتُعْرَفُ أَيْضًا بُتْربَةِ ابنِ عَبْدِ الحَكَم، وقالَ الشّاعِرُ في مَدْحِهِ:

أَكْرِمْ بهِ رَجُلًا ما مِثْلُه رَجُلٌ *** مُشَارِكٌ لرَسُولِ الله في نَسَبِهْ

أَضْحَى بمِصْرَ دَفِينًا في مُقَطَّمِها *** نِعْمَ المُقَطَّمُ والمَدْفُونُ في تُرَبِهْ

ولله دَرُّ الأَبِي صِيرِيِّ حيثُ يقولُ:

بِقُبَّةِ قَبْرِ الشّافِعِيِّ سَفِينَةٌ *** رَسَتْ من بِنَاءٍ مُحْكَمٍ فَوْقَ جُلْمُودِ

وِإِذْ غاضَ طُوفَانُ العُلُومِ بقَبْرِه اسْ *** تَوَى الفُلْكُ مِنْ ذاكَ الضَّرِيح عَلَى الجُودِي

وِقد نَظَمَ نَسَبَه الشَّرِيف الإِمَامُ أبو القاسِمِ عَبْدُ الكَرِيم الرّافِعِيُّ، فقَالَ:

مُحَمَّدٌ ادْرِيسُ عَبّاسٌ ومِنْ *** بَعْدِهِمُ عُثْمَانُ بنُ شافِعْ

وِسائِبُ بنُ عُبَيْدٍ سابعٌ *** عَبْدُ يَزِيدَ ثامِنٌ والتاسِعْ

هاشِمٌ المَوْلُودُ ابنُ المُطَّلِبْ *** عَبْدُ مَنَافٍ للجَمِيعِ تابِعْ

وِيُقَال: إِنَّهُ لَيَشْفَعُ عَلَيَّ، وفي العُبَاب: لي بالعَداوَة؛ أَي يُعينُ عَلَيَّ ويُضارُّنِي، وفي اللِّسَانِ: يُضادُّنِي، وهو مَجازٌ. وفِي الأَسَاسِ: فلانٌ يُعَادِيني وله شافِعٌ؛ أَي مُعِينٌ يُعِينُه عَلَى عَداوَتِي، كما يُعِينُ الشافِعُ المَشْفُوعَ له، وأَنْشَدَ الصّاغَانِيُّ للنّابِغَةِ الذُّبْيانِيِّ يَعْتَذِرُ إلى النُّعْمَانِ بنِ المُنْذِرِ ممّا وَشَتْ به بَنُو قُرَيْعٍ:

أَتاكَ امْرُؤٌ مُسْتَبْطِنٌ لِيَ بِغْضَةً *** لَهُ من عَدُوٍّ مثلُ ذلِكَ شافِعُ

وقال الأَحْوَصُ:

كأَنَّ مَنْ لامَنِي لأَصْرمهَا *** كانُوا عَلَيْنَا بلَوْمِهِمْ شَفَعُوا

أَي تَعَاوَنُوا، ويقال: إِنَّ حَثَّهُم إِيّاي على صَرْمِهَا، ولَوْمَهُم إِيّاي في مُوَاصَلَتِهَا، زادَها في قَلْبي حُبًّا، فكأَنَّهُم شَفَعُوا لَهَا، من الشَّفَاعَةِ.

وِقولُه تَعَالَى: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً {يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها}: أَي مَنْ يَزِدْ عَمَلًا إِلى عَمَلٍ، من الشَّفْعِ، وهو الزِّيَادَةُ، كما في العُبَابِ، وقال الرّاغِبُ: أَي مَنِ انْضَمَّ إلى غَيْرِه وعاوَنَه، وصارَ شَفْعًا له أَو شَفِيعًا في فِعْل الخَيْرِ أَو الشَّرِّ، فعَاوَنَهَ أَو شَارَكَه في نَفْعِه وضُرِّه، وقِيلَ: الشَّفَاعَةُ هُنَا: أَنْ يُشْرِع الإِنْسَانُ للآخِرَةِ طَرِيقَ خَيْرِ أَو شَرٍّ، فيُقْتَدَى به، فصارَ كَأَنَّهُ شفَع له، وذلِكَ كما قَالَ عليه الصّلاةُ والسَّلَام: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فله أَجْرُها وأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بها، ومَنْ سَنَّ سُنَّةً قَبِيحَةً فله إِثْمُها وإِثْمُ من عَمِلَ بِهَا» وقولُه تَعَالى: {فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشّافِعِينَ}.

وقولُه عَزَّ وجَلَّ: وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وكذا قَوْلُه تعالَى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} وكَذا كَقَوْلِه تَعَالَى: {لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئًا} قال ابنُ عَرَفَةَ: نَفْيٌ للشافِعِ؛ أَي مالَهَا شافِعٌ فَتَنْفَعَها شَفاعَتُه، وإِنَّمَا نَفَى الله تَعَالَى في هذِه المواضِعِ الشافِعَ لا الشَّفَاعَةَ.

وِالشَّفِيعُ كأَمِيرٍ: الشَّافِعُ، وهو صاحِبُ الشَّفَاعَةِ والجَمْعُ شُفَعَاءُ، وهو الطّالِبُ لِغَيْرِه يَتَشَفَّعُ به إِلى المَطْلُوبِ.

وِالشَّفِيعُ أَيْضًا: صاحِبُ الشُّفْعَةِ، بالضَّمِّ، تَكُونُ فِي الدّارِ والأَرْضِ.

وسُئلَ أَبُو العَبّاسِ ثَعْلَبٌ عن اشْتِقَاقِ الشُّفْعَةِ في اللُّغَةِ، فقال: اشْتِقاقُهَا من الزِّيادَةِ وهي: أَنْ تَشْفَعَ، هكَذَا في العُبَابِ، والّذِي في اللِّسَان: «يُشَفِّعك» فِيما تَطْلُبُ فتَضُمَّهُ إِلى ما عنْدَك، فتَشْفعَهُ أَي تَزِيدَه؛ أَي أَنَّهُ كانَ وَتْرَا وَاحِدًا، فضَمَّ إِليه ما زَادَه، وشَفَعَهُ به. وقال الرّاغِبُ: الشُّفْعَةُ: طَلَبُ مَبِيعٍ في شَرِكَتِه بِما بِيعَ به، لِيَضُمَّه إِلى مِلْكِه. فهو من الشَّفْعِ.

وقال القُتَيْبيُّ ـ في تَفْسِير الشُّفْعَة ـ: كانَ الرَّجُلُ في الجاهِلِيَّةِ إِذا أَرادَ بَيْعَ مَنْزِلٍ، أَتاهُ رَجُلٌ، فشَفَعَ إِليهِ فيما باعَ، فشَفَّعَه، وجَعَلَهُ أَوْلَى بالمَبِيعِ مِمَّن بَعُدَ سَبَبُه، فسُمِّيَتْ شُفْعَةً، وسُمِّيَ طَالِبُهَا شَفِيعًا.

وِالشُّفْعَة عِنْدَ الفُقَهَاءِ: حَقُّ تَمَلُّكِ الشّخصِ عَلَى شَرِيكهِ المُتَجَدِّدِ مِلْكُه قَهْرًا بِعِوَضٍ وفي الحَدِيث: «الشُفْعَةُ فيما لا يُقْسَم، فإِذا وَقَعَت الحُدُودُ، وصُرِفَت الطُّرُقُ، فلا شُفْعَةَ» وفي هذا دَلِيلٌ على نَفْيِ الشُفْعَةِ لغَيْرِ الشَّرِيكِ، وأَمَّا قولُه: «فإِذا وَقَعَت الحُدُود... إِلى آخره» فقد يَحْتَجُّ بكلِّ لَفْظَةٍ منها قَوْمٌ، أَما اللَّفْظَة الأُولَى: ففيها حُجَّةٌ لمن لم يَرَ الشُّفْعَة في المَقْسُوم، وأَمّا اللَّفْظَةُ الأُخْرُى: فقد يَحْتَجُّ بها من يُثْبِتُ الشَّفْعَةَ بالطَّرِيقِ وإِنْ كانَ المَبِيعُ مَقْسُومًا، وهذِه قد نَفَاهَا الخَطّابِيُّ بما هُوَ مَذْكُورٌ فِي غَرِيبه، ثم إِنّه عَلَّقَ الحُكْمَ فيه بمَعْنَيْنِ: وُقُوع الحُدُودِ، وصَرْف الطُّرُق مَعًا، فليسَ لهم أَنْ يُثْبِتُوه بأَحَدِهما، وهو نَفْيُ صَرْفِ الطُّرُق دُونَ نَفْي وقُوعِ الحُدُودِ.

وِقَوْلُ الشَّعْبِيِّ رحِمَهُ الله تَعَالَى: الشُّفْعَةُ على رُؤُوسِ الرِّجَالِ؛ أَي إِذا كانَتْ الدَّارُ بَيْنَ جَمَاعَةِ مُخْتَلِفِي السِّهَامِ، فبَاعَ وَاحِدٌ مِنْهُم نَصِيبَهُ، فيكونُ ما بَاع لِشُرَكائِه بَيْنَهُم سَوَاءً على رُؤُوسِهِم، لا عَلَى سِهَامِهِم، كَذَا في النِّهَايَةِ والعُبَابِ.

وِقالَ أَبُو عَمْرٍو: الشُّفْعَةُ أَيْضًا: الجُنُونُ وجَمْعُها: شُفَعٌ.

وِالشُّفْعَةُ من الضُّحَى: رَكْعَتاه ومنه‌الحَدِيثُ: «مَنْ حافَظَ عَلَى شُفْعَةِ الضُّحَى غُفِرَت له ذُنُوبُه» ويُفْتَحُ، فيهما، كالغُرْفَةِ والغَرْفَةِ، سَمّاهَا شُفْعَةً لأَنَّهَا أَكْثَرُ من وَاحِدَةٍ، ونُقِلَ الفَتْح في الشُّفْعَةِ بمَعْنَى الجُنُونِ عن ابْنِ الأَعْرَابِيِّ.

قال: يُقالُ: فِي وَجْهِهِ شَفْعَةٌ، وَسَفْعَةٌ، وشُنْعَةٌ، ورَدَّةٌ، ونَظْرَةٌ، بمَعْنًى واحِدٍ، وأَمّا الفَتْحُ في شَفْعَةِ الضُّحَى، فقالَ القُتَيْبِيُّ: الشَّفْعُ: الزَّوْجُ، ولم أَسْمَعْ به مؤنِّثًا إلّا هُنَا. قالَ: وأَحْسَبُه ذَهَب بتَأْنِيثِه إلى الفَعْلَةِ الوَاحِدَةِ، أَو إِلى الصَّلاةِ.

وِالمَشْفُوعُ: المَجْنُونُ وإِهْمَالُ السِّينِ لُغَةٌ فيه.

وِمن المَجَازِ: ناقَةٌ شافِعٌ أَوْ شاةٌ شافِعٌ أَي في بَطْنِها وَلَدٌ يَتْبَعُهَا آخَرُ، كما في الصّحاحِ، وهو قَوْلُ الفَرّاءِ، ونَحْوُ ذلِكَ قال أَبو عُبَيْدَةَ، وأَنْشَدَ:

وِشافِعٌ في بَطْنِها لها وَلَدْ *** وِمَعَها من خَلْفِها لها وَلَدْ

وقال:

ما كانَ في البَطْنِ طَلاها شافِعُ *** وِمَعَها لها وَلِيدٌ تابِعُ

سُمِّيَتْ شافِعًا، لأَنَّ وَلَدَهَا شَفَعَهَا، أَو هي شَفَعَتْه، كَمَنَع، شَفْعًا، فصارَا شَفْعًا، وفي الحَدِيثِ عن سِعْرِ بن دَيْسَم ـ رضي ‌الله‌ عنه ـ قال: «كُنْتُ في غَنَم لي، فجاءَ رَجُلانِ عَلَى بَعِيرٍ، فقالا: إِنَّا رَسُولا رَسُولِ الله صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم لِتُؤَدِّيَ صَدَقَةَ غَنَمِكَ، فقلتُ: ما عَلَيَّ فيها؟ فقالا: شاةٌ. فأَعْمِدُ إِلى شاةٍ قد عَرَفْتُ مَكَانَها مُمْتَلئةً مَحْضًا وشَحْمًا، فأَخْرَجْتُها، فقالا: هذه شاةٌ شافِعٌ، وقَدْ نَهانَا رَسُولُ اللهِ صلى ‌الله‌ عليه ‌وسلم أَنْ نَأْخْذَ شَافِعًا»، أَو المَصْدَرُ من ذلِكَ الشِّفْعُ، بالكسْرِ، كالضِّرِّ من الضَّرَّةِ، كما في العُبَاب.

وِالشافِعُ: التَّيْسُ بعَيْنِه، أَو هُو بن الضَّأْن، كالتَّيْسِ من المِعْزى، أَو هو الَّذِي إِذا أَلْقَحَ أَلْقَحَ شفْعًا لا وِتْرًا، كما في العُبَاب.

وِمن المَجَازِ: نَاقَةٌ شَفُوعٌ، كصَبُور: تَجْمَعُ بينَ مِحْلَبَيْن في حَلْبَةٍ وَاحِدَة، وهي القَرُون.

وِشَفِيعٌ، كأَمِيرٍ: جَدُّ عَبْد العَزيز بنِ عَبْدِ المَلِك المُقْرئِ، مات بعد الخَمْسِمائة.

وِشُفَيْعٌ، كزُبَيْر، هو أَبُو صالِح بنُ إِسْحَاقَ المُحْتَسِبُ المُحَدِّثُ عن مُحَمَّدِ بن سَلّام، والبُخَاريّ، مات سنة مائتَيْنِ وسَبْعٍ وخَمْسين.

وِالشَّفَائِعُ: أَلْوَانُ الرِّعْيِ يَنْبُتُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، عن ابْنِ عَبّادٍ.

وِشَفَّعْتُه فيه تَشْفِيعًا حِينَ شَفَع، كمَنَع، شَفَاعَةً؛ أَي قَبِلْتُ شَفَاعَتَه، كما في العُبَاب. قال حاتِمٌ يُخَاطِبُ النُّعْمَانَ:

فكَكْتَ عَدِيًّا كُلَّهَا مِنْ إِسَارِهَا *** فأَفْضِلْ وشَفِّعْنِي بقَيْسِ بنِ جَحْدرِ

وفي حَدِيثِ الحُدُود: «إِذا بَلَغَ الحَدُّ السُّلْطَانَ، فلَعَنَ اللهُ الشّافِعَ والمُشَفِّعَ» وفي حَدِيثِ أَبي مَسْعُود رضِيَ اللهُ عنه: «القُرْآنُ شافِعٌ مُشَفَّعٌ، ومَاحِلٌ مُصَدَّقٌ» أَي من اتَّبَعَه، وعَمِلَ بما فِيهِ، فهو شَافِعٌ له، مَقْبُولُ الشَّفاعَةِ من العَفْو عن فَرَطَاتِه، ومَنْ تَرَكَ العَمَل به نَمَّ على إِساءَتِه، وصُدِّقَ عليه فيما يُرْفَعُ من مَساوِيه، فالمُشَفِّعُ: الذِي يَقْبَلُ الشَّفَاعَةَ، والمُشَفَّعُ: الذي تُقْبَلُ شَفَاعَتُه، ومنه حَدِيثُ الشَّفَاعَة: «اشْفَعْ تُشَفَّعْ».

وِاسْتَشْفَعَهُ إِلَيْنَا، وعِبَارةُ الصّحاح: واسْتَشْفَعَه إلى فُلان؛ أَي سَأَلَهُ أَنْ يَشْفَعَ له إِلَيْه. وأَنشدَ الصاغانيُّ للأَعْشَى:

تَقولُ بِنْتِي وقد قَرَّبْتُ مُرْتَحِلًا: *** يا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الأَوْصَابَ والوَجَعَا

وِاسْتَشْفَعَتْ من سَراةِ الحَيِّ ذا شَرَفٍ *** فقد عَصاها أَبُوها والَّذِي شَفَعَا

يُريدُ: والَّذِي أَعانَ وطَلَبَ الشَّفَاعَةَ فيها، وأَنْشَدَ أَبُو لَيْلَى:

زَعَمَتْ مَعاشِرُ أَنَّنِي مُسْتَشْفِعٌ *** ـ لَمّا خَرَجْتُ أَزُورُه ـ أَقْلامَها

قالَ: زَعَمُوا أَنِّي اسْتَشْفِعُ بأَقْلامِهم في المَمْدُوح؛ أَي بكُتُبِهِم.

* وممّا يُسْتَدْرَكُ عليه:

الشَّفِيعُ، من الأَعْدَادِ: ما كانَ زَوْجًا. والشَّفْع: ما شُفِعَ به، سُمِّيَ بالمَصْدر، وجَمْعه شِفَاعٌ، قال أَبو كَبِيرٍ:

وِأَخُو الأَبَاءَةِ إِذْ رَأَى خِلّانَه *** تَلَّى شِفَاعًا حَوْلَه كالإذْخِرِ

شَبَّهَهم بالإِذْخِرِ، لأَنَّهُ لا يَكَادُ يَنْبُتُ إِلَّا زَوْجًا زَوْجًا.

وشاةٌ شَفُوعٌ، كشَافِعٍ، ويُقَالُ: هذِه شاةُ الشَّافِعِ، كقولِهِم، صَلاةُ الأُولَى، ومَسْجِدُ الجَامِعِ، وهكَذَا، رُوِيَ فِي الحَدِيثِ الَّذِي تَقَدَّم عن سِعْرِ بن دَيْسَمٍ، رضِيَ الله عنه.

وشاةٌ مُشْفِعٌ، كمُكْرِم: تُرْضِعُ كُلَّ بَهيمَةٍ. عن ابْنِ الأَعْرَابِيِّ.

وِتَشَفَّع إِلَيْهِ في فُلانٍ: طَلَبَ الشَّفَاعَة. نقَله الجَوْهرِيُّ.

وِتَشفَّعَهُ أَيْضًا: مُطَاوِعُ اسْتَشْفَعَ بهِ، كما في المُفْردَات.

وِتَشَفَّعَ: صارَ شافِعِيَّ المَذْهَبِ، وهذِه مُوَلَّدةٌ.

وِالشَّفَاعَةُ، ذَكَرَهَا المُصَنف، ولم يُفسِّرْها، وهي: كلامُ الشَّفِيع للمَلِك في حَاجَةٍ يَسْأَلُها لِغَيْره.

وِشَفَعَ إِليْه: في مَعْنَى طَلَبَ إِليه.

وقال الرّاغِبُ: الشَّفْع: ضَمُّ الشَّيْ‌ءِ إِلى مِثْلهِ، والشَّفَاعَةُ، والإنْضِمامُ إِلى آخَرَ ناصرًا له، وسائلًا عنه، وأَكْثَرُ ما يسْتعْمَلُ في انْضِمام مَنْ هو أَعْلَى مَرْتَبَةً إِلى مَنْ هو أَدْنَى، ومنه الشَّفاعَةُ في القِيَامَة.

وقال غيْرُه: الشَّفَاعَةُ: التَّجَاوُزُ عن الذُّنُوبِ والجَرَائِمِ.

وقال ابنُ القَطّاعِ: الشَّفَاعَةُ: المُطَالَبَةُ بوَسِيلَةٍ أَو ذِمَامٍ.

وِالشُّفُعَةُ، بضمَّتَيْنِ: لُغَةٌ في الشُّفْعَةِ في الدّارِ والأَرْضِ.

وِالشَّفائِع: قوامُ النَّبْتِ، قال قَيْسُ بنُ العَيْزارَةِ الهُذَلِيُّ.

إِذا حَضَرَتْ عنه تَمَشَّتْ مَخَاضُها *** إِلى السِّرِّ يَدْعُوهَا إِليه الشَّفائعُ

السِّرُّ: موضعٌ.

وِالشُّفْعَةُ، بالضَّمِّ: العَيْنُ. وامْرَأَةٌ مَشْفُوعَةٌ: مُصَابَةٌ من العَيْنِ، ولا يُوصَفُ به المُذَكَّر، كما في اللِّسَان، وقال ابنُ القَطّاعِ: شُفِعَ الإِنْسَانُ، كعُنِيَ: أَصَابَتْه العَيْنُ، وقال ابنُ فارِسٍ: امْرَأَةٌ مَشْفُوعَةٌ، وهي الَّتِي أَصَابَتْهَا شُفْعَةٌ، وهي العَيْنُ. قالَ: قد قِيلَ ذلِكَ، وهو شاذٌّ من هذَا التَّرْكِيبِ، ولا نَعْلمُ كيفَ صِحَّتُه، ولعله بالسَّيْنِ غيرِ مُعْجَمة، كما في العُبَابِ.

وِالأَشْفَعُ: الطَّوِيلُ، كما في اللِّسَانِ. زادَ ابنُ القَطّاع: وقد شَفِعَ شَفَعًا، إِذا طَالَ.

وِالشَّفْعُ والشَّفَاعَةُ: الدُّعاءُ، وبه فَسَّرَ المُبَرِّدُ وثعْلبٌ قولَه تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلّا بِإِذْنِهِ}.

تاج العروس-مرتضى الزَّبيدي-توفي: 1205هـ/1791م


6-لسان العرب (فيظ)

فيظ: فَاظَ الرجلُ، وَفِي الْمُحْكَمِ: فاظَ فَيْظًا وفُيوظًا وفَيْظُوظةً وفَيَظانًا وفَيْظانًا؛ الأَخيرة عَنِ اللِّحْيَانِيِّ: مَاتَ؛ قَالَ رؤْبة:

والأَزْدُ أَمسَى شِلْوُهُم لُفاظا، ***لَا يَدْفِنُون منهمُ مَن فَاظَا،

إِن مَاتَ فِي مَصيفِه أَو قَاظَا أَي مِنْ كثرةِ القَتْلى.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنه أَقطَع الزُّبَيْر حُضْرَ فرَسِه فأَجْرَى الفرَسَ حَتَّى فَاظَ، ثُمَّ رَمَى بسوطِه فَقَالَ: أَعْطُوه حَيْثُ بلَغ السوْطُ»؛ فَاظَ بِمَعْنَى مَاتَ.

وَفِي حَدِيثِ قَتْل ابْنِ أَبي الحُقَيْقِ: «فاظَ والِهُ بَني إِسرائيل».

وَفَاظَتْ نفسُه تَفِيظُ أَي خرَجتْ رُوحُه، وكَرِهَها بعضُهم؛ وَقَالَ دُكَيْنٌ الرَّاجِزُ:

اجتَمَعَ الناسُ وقالوا: عُرْسُ، ***فَفُقِئَتْ عَيْنٌ، وفاظَتْ نَفْسُ

وأَفاظه اللهُ إِياها وأَفاظه اللَّهُ نفسَه؛ قَالَ الشَّاعِرُ:

فهَتَكْتُ مُهْجةَ نَفسِه فأَفَظْتُها، ***وثأَرْتُه بمُعَمّم الحِلْم

اللَّيْثُ: فَاظَتْ نفسُه فَيْظًا وفَيْظُوظةً إِذا خرَجَت، وَالْفَاعِلُ فائظٌ، وَزَعَمَ أَبو عُبَيْدَةَ أَنها لغةٌ لِبَعْضِ تَمِيمٍ، يَعْنِي فَاظَتْ نفسُه وَفَاضَتْ.

الْكِسَائِيُّ: تَفَيَّظُوا أَنفسَهم، قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ لأُفِيظَنَّ نفسَك، وَحُكِيَ عَنْ أَبي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ أَنه لَا يُقَالُ فَاظَتْ نَفْسُهُ وَلَا فَاضَتْ، إِنما يُقَالُ فَاظَ فُلَانٌ، قَالَ: وَيُقَالُ فَاظَ المَيِّتُ، قَالَ: وَلَا يُقَالُ فَاضَ، بِالضَّادِ، بَتَّةً.

ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقَالُ فَاظَ الميتُ يَفيظ فَيْظًا ويَفُوظُ فَوْظًا، كَذَا رَوَاهَا الأَصمعي؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَمِثْلُ فَاظَ الميتُ قولُ قَطَرِيّ:

فَلَمْ أَرَ يَوْمًا كَانَ أَكثَرَ مَقْعَصًا، ***يُبِيحُ دَمًا، مِنْ فائظٍ وكَلِيم

وَقَالَ الْعَجَّاجُ:

كأَنَّهم، مِنْ فائظٍ مُجَرْجَمِ، ***خُشْبٌ نَفاها دَلْظُ بَحْرٍ مُفْعَمِ

وَقَالَ سُراقةُ بْنُ مِرْداس بنِ أَبي عَامِرٍ أَخو الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْداس فِي يَوْمِ أَوْطاسٍ وَقَدِ اطَّرَدَتْه بَنُو نَصْرٍ وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ الحَقْباء:

وَلَوْلَا اللهُ والحَقْباءُ فَاظَتْ ***عِيالي، وَهِيَ بادِيةُ العُروقِ

إِذا بَدَتِ الرِّماحُ لَهَا تَدَلَّتْ، ***تَدَلِّيَ لَقْوةٍ مِنْ رأْسِ نِيقِ

وَحَانَ فوْظُه أَي فَيْظُه عَلَى المعاقَبة؛ حكاه اللحياني.

وَفَاظَ فلانٌ نفسَه أَي قاءَها؛ عَنِ اللِّحْيَانِيِّ.

وَضَرَبَتْهُ حَتَّى أَفَظْتُ نفسَه.

الْكِسَائِيُّ: فاظَت نفسُه وَفَاظَ هُوَ نفسَه أَي قاءَها، يتعدَّى وَلَا يتعدَّى، وتَفَيَّظُوا أَنفسَهم: تَقَيَّؤُوها.

الْكِسَائِيُّ هُوَ تَفِيظُ نفسُه.

الْفَرَّاءُ: أَهلُ الْحِجَازِ وطَيِءٌ يَقُولُونَ فَاظَتْ نفسُه، وقُضاعة وَتَمِيمٌ وَقَيْسٌ يَقُولُونَ فَاضَتْ نفسُه مثل فاضت دَمْعَتُه.

وقال أَبو زَيْدٍ وأَبو عُبَيْدَةَ: فَاظَتْ نفسُه، بِالظَّاءِ، لُغَةُ قَيْسٍ، وَبِالضَّادِ لُغَةُ تَمِيمٍ.

وَرَوَى الْمَازِنِيُّ عَنْ أَبي زَيْدٍ أَن الْعَرَبَ تَقُولُ فَاظَتْ نفسُه، بِالظَّاءِ، إِلَّا بَنِي ضَبَّةَ فإِنهم يَقُولُونَهُ بِالضَّادِ؛ وَمِمَّا يُقوِّي فَاظَتْ، بِالظَّاءِ، قولُ الشَّاعِرِ:

يَداكَ: يَدٌ جُودُها يُرْتَجَى، ***وأُخْرَى لأَعْدائها غَائِظَهْ

فأَما الَّتِي خيرُها يُرْتَجَى، ***فأَجْوَدُ جُودًا مِنَ اللافِظه

وأَما الَّتِي شَرُّها يُتَّقَى، ***فنَفْسُ العَدُوِّ لَهَا فَائِظَهْ

وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْآخَرِ:

وسُمِّيتَ غَيَّاظًا، ولستَ بغائظٍ ***عَدُوًّا، وَلَكِنْ للصَّدِيقِ تَغِيظ

فَلَا حَفِظ الرحمنُ رُوحَك حَيَّةً، ***وَلَا وهْيَ فِي الأَرْواحِ حِينَ تفِيظ

أَبو الْقَاسِمِ الزَّجَّاجِيُّ: يُقَالُ فاظَ الميتُ، بِالظَّاءِ، وَفَاضَتْ نفسُه، بِالضَّادِ، وَفَاظَتْ نفسُه، بِالظَّاءِ، جَائِزٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ إِلَّا الأَصمعي فإِنه لَا يَجْمَعُ بَيْنَ الظَّاءِ وَالنَّفْسِ؛ وَالَّذِي أَجاز فَاظَتْ نَفْسُهُ، بِالظَّاءِ، يَحْتَجُّ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:

كَادَتِ النفسُ أَن تَفِيظَ عَلَيْهِ، ***إِذ ثَوَى حشْوَ رَيْطةٍ وبُرُودِ

وَقَوْلِ الْآخَرِ:

هَجَرْتُك، لَا قِلًى مِنِّي، ولكنْ ***رأَيتُ بَقاءَ وُدِّك فِي الصُّدُودِ

كهَجْرِ الحائماتِ الوِرْدَ، لمَّا ***رأَتْ أَنَّ المَنِيَّةَ فِي الوُرودِ

تَفِيظُ نفوسُها ظَمَأً، وتَخْشَى ***حِمامًا، فَهِيَ تَنْظُرُ مِنْ بَعِيدِ

لسان العرب-ابن منظور الإفريقي-توفي: 711هـ/1311م


7-المحيط في اللغة (رذل)

رذل: الرَّذْلُ: الدُّوْنُ من النّاسِ في حَالاتِه، رَذُلَ رَذَالَةً؛ ورَذِلَ.

وثَوْبٌ رَذْلٌ: وَسِخٌ، ورَذِيْلٌ: رَدِيْءٌ.

ورَذَلَه فهو مَرْذُوْلٌ.

وأرْذَلَ من غَنَمِه كذا: أي نَفَاها.

والمُرْذِلُ: الذي أصْحَابُه أرْذَالٌ أو دَابَّتُه رَذْلَةٌ.

والرُّذَالَةُ: النُّفَايَةُ.

ورُدَّ إلى أرْذَلِ العُمرِ: أي أسْوَئِه.

المحيط في اللغة-الصاحب بن عباد-توفي: 385هـ/995م


انتهت النتائج

أشعار

الزاد

تزوّدْ في الحياةِ بخيرِ زادٍ *** يُعينُكَ في المماتِ وفي النُّشورِ

صلاةٍ أو صيامٍ أو زكاةٍ *** ولا تركنْ إلى دارِ الغرورِ

تزوّدْ بالصلاحِ وكنْ رفيقًا *** لأهلِ البرّ لا أهْلِ الفجورِ

فهذي الدارُ تُهلكُ طالبيها *** وإنْ سهُلتْ ستأتي بالوُعورِ

ألستْ ترى الحياةَ تروقُ يومًا *** فتبدو في المحاجرِ كالزهورِ

وترجعُ بعد ذلكَ مثلَ قيحٍ *** بما تلقاهُ فيها من أمورِ

فتجعلُ من فتيّ اليومِ كهلًا *** على مَرِّ الليالي والشهورِ

تفكّرْ في الذين خلَوْا قديمًا *** وعاشُوا في الجنانِ وفي القصورِ

فقدْ ماتوا كما الفقراءُ ماتوا *** ودُسوا في الترابِ وفي القبورِ

فلا تسلكْ طريقًا فيه بغْيٌ *** طريقُ البغْيِ يأتي بالشرورِ

ولا تحملْ من الأحقادِ شيئًا *** يكونُ كما الجِبالُ على الصدورِ

وَوَدَّ الناسَ أجمعَهمْ فترقى*** إلى العَلْيا وتنعمَ بالسرورِ

ولا تيأسْ من الغفرانِ يومًا *** إذا ما أُبْتَ للهِ الغفورِ

شعر: حمادة عبيد

1995م

حمادة عبيد أحمد إبراهيم

00966501251072

almougem@gmail.com